ولو كانوا وكلوه معها لكانت الأجرة له عليها وعليهم على قدر مواريثهم من القرية خلاف المعروف من قوله في المدونة وغيرها في أن أجرة المقسم على عدد الرؤوس لا على قدر الأنصباء؛ لأن العمل والمئونة في القسمة والخصام سواء في قلة النصيب وكثرته، فلا فرق بين المسألتين. والذي ههنا في أن أجرة الخصام على قدر الأنصباء هو مثل قول أصبغ في نوازله من كتاب السداد والأنهار في أن أجرة الخصام على قدر الأنصباء لا على عدد الرؤوس، وهو القياس، وإياه اختار محمد بن عبد الحكم، إذ قد يصير على الحظ اليسير من الأجرة إذا كانت على عدد الرؤوس أكثر من قيمته فيذهب حقه في القسمة وهو بعيد أن يلزم أحد مثل هذا أو يحكم عليه به.
وأما قوله: ولا شيء له عليهم أيضا لأنهم لم يستأجروه، فقيل معناه إذا كان ممن يخاصم بنفسه أو له من يخاصم عنه من عبيده حتى لا يحتاج إلى الاستئجار على ذلك على ما قال في سماع أبي زيد من كتاب الجعل والإجارة فيمن أخطأ فحصد زرعا لغيره إن له عليه قيمة عمله إذا لم يكن له عبيد وأجراء يحصدونه له ولم يكن له بد من الاستئجار عليه. وقد قال في سماع أبي زيد المذكور أيضا في الرجل يستأجر الأجراء يحرثون له أرضا فيحرثون أرضا لغيره إلى جنبها إن على صاحب الأرض الذي حرث أجرة حرثها إن زرعها وانتفع بذلك الحرث، فقيل أيضا معناه إذا لم يكن له عبيد يحرثونها له ولم يكن له بد من الاستئجار على حرثها. فعلى هذا تتفق الروايات كلها ولا يخالف بعضها بعضا. ومن الناس من حملها على ظاهرها ولم يفسر بعضها ببعض فقال إن في المسألة ثلاثة أقوال: إيجاب الأجرة على كل حال على ظاهر مسألة الحرث المذكورة، وسقوطها على كل حال على ظاهر مسألة الخصام هذه؛ والفرق بين أن يكون له عبيد فلا يحتاج إلى الاستئجار على ذلك أو لا يكون له عبيد فيحتاج إلى الاستئجار على ظاهر مسألة الحصاد من سماع أبي زيد المذكور.
[مسألة: أبضع مع رجل بمال يشتري له به رأسا فابتاع له بماله]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن رجل أبضع مع رجل بمال(8/202)
يشتري له به رأسا فابتاع له بماله ذلك ثم باعه لصاحبه نقدا أو إلى أجل وفات العبد. قال: إذا تعدى فقد ضمن. فإذا باع بغير أمره وفات العبد فقد لزمته القيمة، فإن كان باع بالنقد فالمبضع بالخيار إن شاء أغرمه القيمة وبرئ من الثمن، وإن شاء قبض الثمن معجلا. فإن أحب المبضع إن كان باع المبضع معه بالدين أن يأخذ الثمن إلى أجل لم يصلح له ذلك إذا كان الذي باع به أكثر من القيمة؛ لأن الدين بالدين يدخله. ألا ترى أن القيمة قد وجبت له فهو يتحول عنها إلى شيء لا يتعجل قبضه لزيادة يزدادها. قال: وإن كان الذي باع به والقيمة سواء فلا بأس أن يتحول على المشتري؛ لأن ذلك مرفق أدخله على المتعدي ولم يزدد به شيئا، وليس ذلك ذمة بذمة، وإن كان الثمن أكثر من القيمة فإنه يباع الذي بيعت به السلعة إن كان باعها بغير الطعام فإنه يباع بالنقد، فإن كان في ذلك قدر قيمة السلعة فأكثر فهو للمبضع لأنه ثمن سلعته، وإن بيع نقدا بأقل من القيمة التي لزمت المتعدي غرم تمام القيمة لتعديه. قال: وإن كان باعها بطعام غرم القيمة معجلة وانتظر بالطعام استيفاؤه، فإذا قبض بيع فإن أخرج أكثر من القيمة التي غرم المتعدي فالزيادة لرب السلعة، وإن لم يخرج إلا القيمة فأدنى فهو للمتعدي لأنه قد غرم القيمة.
قلت: أرأيت إن كان باعها بأكثر من القيمة فرضي المتعدي أن تجعل لرب السلعة التي لزمه غرمها ويقبض ذلك لنفسه من مشتري السلعة إلى أجل ويكون ما زاد الثمن على القيمة لرب السلعة عند الأجل للذي يخاف من انكسار الثمن إن بيع بالنقد لأنه يضمن ما نقص من القيمة، أيجبر رب السلعة على ما دعا إليه المتعدي من هذا الوجه؟ فقال: إذا أعطى القيمة التي كانت(8/203)
تباع به لم يجب صاحب السلعة إلى بيع الدين لأنه لا منفعة له حينئذ في بيعها، وذلك أنه يريد الضرر، وفي تأخيرها منفعة له وللمتعدي.
قال محمد بن رشد: قوله في المبضع معه إذا تعدى فباع السلعة التي اشترى للمبضع ببضاعة وفاتت إن القيمة قد وجبت عليه للمبضع، فإن كان باع بالنقد فالمبضع بالخيار إن شاء أغرمه القيمة وبرئ من الثمن وإن شاء قبض الثمن معجلا إنما شرط أن يكون قبض الثمن معجلا إذا كان أكثر من القيمة لأنه يكون قد تحول إلى أكثر مما وجب له دون انتجاز، فدخله فسخ دراهم أو دنانير في أكثر منها. ولو كان الثمن مثل القيمة التي وجبت له على المتعدي أو أقل لكان بالخيار في أن يختار أخذ الثمن وإن لم ينجز قبضه، بل لو كان الثمن إلى أجل وهو مثل القيمة فأدنى لكان له أن يختاره ولم يدخله شيء لأنه لم يتحول من قليل إلى كثير، وإنما تحول في مثل ما وجب له أو في أقل منه على أن يترك الزائد للمتعدي أو يتبعه به، ذلك كله جائز؛ لأنه إن تركه له فقد رضي بأخذ ثمن سلعته وأسقط عنه ما وجب له عليه من القيمة بحكم الفداء، وإن اتبعه به فقد اختال من دينه ببعضه، وذلك جائز لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن أتبع على مليء فليتبع» وكذلك لو كان الثمن إلى أجل وهو أقل من القيمة لجاز أن يتحول إليه على أن يتبعه بما نقص من القيمة، فيأخذ ذلك منه معجلا أو مؤخرا أو على أن يترك ذلك كله له. وأما إن كان الثمن مؤجلا وهو أكثر من القيمة التي وجبت له على المتعدي فلا يجوز له أن يختاره؛ لأنه يدخله فسخ دنانير في أكثر منها إلى أجل. وكذلك لو كان الثمن عرضا مؤجلا لما جاز أن يتحول إليه بالقيمة التي وجبت له؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين. وقد يباع العرض المؤجل بأكثر من القيمة التي وجبت له فيكون قد باع القيمة التي(8/204)
وجبت له بأكثر منها إلى أجل، وذلك مما لا خفاء في تحريمه.
وأما قوله إذا كان الثمن إلى أجل فرضي المتعدي أن يعجل القيمة التي لزمته ويترك الثمن ولا يباع حتى يحل ويقبض فيأخذ منه المتعدي القيمة التي عجل ويكون الفضل لصاحب السلعة إن ذلك من حق المتعدي الذي يخاف من انكسار الثمن إن بيع بالنقد لأنه يضمن النقص. ولا يجاب رب السلعة إلى بيع الدين لأن في تأخيره منفعة له وللمتعدي، فإنه خلاف ما مضى في رسم حبل حبلة من سماع عيسى. وقد مضى الكلام على ذلك هنالك وأنها مسألة يتحصل فيها أربعة أقوال: قول ابن القاسم في هذه الرواية أحدها، فلا معنى لإعادتها، والله تعالى هو الموفق بفضله.
[يعطي الرجل من التجار أو غيرهم أو يبعث إليه بالنفقة يشتري له متاعا]
ومن كتاب الصبرة وسألته عن الرجل يعطي الرجل من التجار أو غيرهم أو يبعث إليه بالنفقة يشتري له متاعا فيدفعه المرسل به إليه إلى بعض غلمانه أو من يلي اشتراء جهاز متاعه ليشتري للمبضع فتلف. فقال: إن كان الذي أرسل بالنفقة قد علم أن هذا الرجل الذي أرسل إليه ماله ممن لا يلي اشتراء مثل هذا المبتاع الذي أمر أن يشتري له ولا يباشره وإنما يشتريه له بعض من يفوض إليه ذلك فلا ضمان عليه إذا دفع إلى من عرف بالاشتراء له والقيام في مثل ذلك من أموره وفي خاصته، وإن كان المرسل لا يعرفه بشيء من هذا فخرج المال من يديه الذي بعث إليه ضمنه، كان ممن يلي اشتراء مثل ذلك أو ممن لا يليه.
قال محمد بن رشد: طرد ابن القاسم القياس في هذه المسألة على أصله في أنه ليس للوكيل أن يوكل غيره إلا بإذن الموكل له، فأوجب عليه الضمان إذا دفع المال إلى من وكله فتلف إن كان ممن لا يلي بنفسه اشتراء ما وكل على اشترائه، إلا أن يعلم بذلك الذي وكله. والأظهر ألا يلزمه(8/205)
الضمان إذا كان ممن لا يلي بنفسه اشتراء مثل ذلك المبتاع وإن لم يعلم الذي وكله بذلك من حاله لأنه فرط إذ لم يتحسس عنه حتى يعلم إن كان ممن يلي بنفسه اشتراء ما وكله على اشترائه أم لا، لا سيما في المشهور حاله، فهو يقول لم أقبض المال على أن أتولى الشراء بنفسي، وذلك معلوم من حالي، وليس جهل الذي بعث إلي بالمال بحالي مما يوجب علي الضمان. وهو قول له وجه يمنع من طرد القياس على مقتضاه؛ لأن طرد القياس إذا كان يقتضي يؤدي إلى غلو ومبالغة في الحكم كان العدول عنه في موضع لمعنى يختص به ذلك الموضع أولى. وهذا عندهم من الاستحسان الذي هو أغلب من القياس. فقد روي عن مالك أنه قال: تسعة أعشار العلم الاستحسان. وقد مضى من الكلام على هذه المسألة من نوازل عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.
[يبضع معه بالبضاعة ويخبره أن ذلك المال مما تقاضاه من غرماء المرسل إليه]
ومن كتاب الصلاة
وسئل عن الرجل يبضع معه الرجل بالبضاعة يأمره بدفعها إلى رجل ويخبره أن ذلك المال مما تقاضاه المرسل من غرماء المرسل إليه، فلما قدم به على المرسل إليه بالمال قام غرماء الذي أرسل به وقالوا هذا مال لغريمنا، فقال الرجل إنما أمرني أن أدفعه إلى فلان وأخبرني أنه ماله تقاضاه من غرمائه. فقال: سمعت مالكا يقول في رجل دفع إليه رجل مالا وهو متوجه إلى سفر ثم لحقه في البلد الذي توجه إليه فقال له: أين مالي الذي دفعته إليك؟ فقال: هو ذا وقد كنت أمرتني أن أدفعه إلى فلان وأخبرتني أنه صدقة منك عليه، فقال مالك إن كان الذي زعم أنه صدقة عليه حاضرا حلف مع شاهده الذي المال عنده وأخذ المال، وإن كان غائبا لم تجز شهادته ورد المال إلى الذي دفعه إليه. فأنا أرى الذي سألت عنه من أمر الغرماء والمرسل إليه(8/206)
بالمال مثل ما قال لمالك: إن كان الذي زعم الرسول أنه أرسل إليه بالمال أو أنه سمع المرسل يقول هو ماله تقاضيته من غرمائه حاضرا حلف مع شهادته وكان أحق به من الغرماء. وإن كان غائبا أسلم إلى الغرماء؛ لأنه يتهم أن تكون شهادته ليقر المال في يده. وإذا علم الناس أن مثل هذا يقبل منهم نسبوه إلى رجل بعيد الغيبة فدفع بذلك القول أهل الحق عن أموال غرمائهم.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في الشهادات من المدونة في مسألة الصدقة، وزاد فيها: وذلك إذا كان المشهود له غائبا هي الغيبة التي يدفع بها بالمال. وقياسه المسألة التي سئل عنها عليها صحيح لأنها مثلها في المعنى. ولا اختلاف في إجازة شهادته له ما لم يدفع المال. واختلف إن دفع المال، فظاهر ما في كتاب الوديعة من المدونة أن شهادته له جائزة بالصدقة وإن كان قد دفع إليه المال أن يحلف القابض مع شهادته ويستحقه، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه. قال في كتاب ابن المواز: وهذا إذا ثبت دفع الرسول ببينة، يريد أو إقرار بالقبض وهو مليء لا يكون الرسول مطلوبا بشيء. وقال سحنون: إنما يحلف مع شهادته إذا كان المال بيديه، فأما إن دفعه إليه فهو ضامن ولا يكون مقام شاهد لأنه غارم، وهو قول أشهب، وقاله ابن الماجشون وأصبغ، ورواه مطرف عن مالك، وقال فضل: وهو أصح من قول ابن القاسم. وعلى هذا حمل حمدين مسألة كتاب الوديعة من المدونة فقال: معناها أن الآمر والمأمور والمدعي للصدقة حضور ولم يدفع الرسول المال؛ لأنه إذا دفعه إليه فإنما يشهد على إجازة فعل نفسه، وإن كان غائبا اتهم في شهادته لانتفاعه بالمال إلى قدومه. وقد اختلف إذا لم يجد شهادة الرسول لأنه غير معروف العدالة أو لأنه قد دفع على القول بأن شهادته لا تجوز إذا دفع المال فأغرم المال هل له أن يرجع على الذي دفعه إليه أم لا، فاضطرب في ذلك قول أشهب: مرة رأى أنه يرجع على الذي دفعه إليه لأنه يقول له بسببك وصل إلى تغريمي، ومرة لم ير له أن يرجع عليه لأنه يقر له أنه مظلوم، وهو مذهب(8/207)
ابن القاسم؛ لأنه يقول فيمن استحقت من يده دابة وهو يقر أنها نتجت عند بائعها منه وأن بينة مستحقها زور إنه لا رجوع له عليه لأنه يعلم أنه مظلوم، وبالله تعالى التوفيق.
[وكل وكيلا أن يقتضي من رجل دنانير كانت له عليه فصارفه فيها]
ومن كتاب أوله:
يشتري الدير والمزارع وسألته عن رجل وكل وكيلا أن يقتضي من رجل دنانير كانت له عليه فصارفه فيها أو أخذ منه عرضا لرب المال. قال: إن رضي رب المال فذلك جائز، وإلا فهو مفسوخ. قلت: ولا يضمن الوكيل الدنانير ويجوز الصرف واشتراء العرض بينه وبين الغريم؟ قال: ليس ذلك له عليه؛ لأنه إنما قبض ذلك لصاحبه ولم يشتر منه شيئا لنفسه. قلت: فإن صارفه لنفسه فقال أنا أقضي صاحبي دنانيره أيجوز ذلك؟ فقال: لا؛ لأنه يصير صرفا إلى أجل.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إذا صارف في الدنانير لرب المال أو أخذ منه فيها عرضا له إن رب المال بالخيار في ذلك، فإن أجازه جاز وإلا فهو مفسوخ، هو مثل ما مضى في سماع أشهب من هذا الكتاب؛ لأنه لم ير الخيار الذي يوجبه الحكم لصاحب الدنانير يبطل الصرف إذا لم تنعقد المصارفة بينهما عليه، فلم ير ذلك نظرة عليه. وقال ابن أبي حازم فيه فلا بأس به، فلا تشددوا على الناس، هكذا جرى فليس كما تشددون، خلاف ما في سماع أشهب من كتاب الصرف من أنه صرف فيه نظرة فلا يجوز. ولو صارفه في الدنانير على أن رب المال في ذلك بالخيار لما جاز باتفاق. وقد مضى القول على هذا في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم وفي أول رسم من سماع أشهب أيضا.
وقوله في الرواية: ولا يضمن الوكيل الدنانير ويجوز الصرف واشتراء العرض بينه وبين الغريم، قال ليس ذلك عليه لأنه إنما قبض ذلك لصاحبه(8/208)
ولم يشتر منه شيئا لنفسه، معناه أنه لا يضمن المصارفة لمن صارفه إذ لم يرض الموكل بالصرف فيضمن الدنانير لصاحبها. ويجوز الصرف واشتراء العرض بينه وبين الغريم، والوكيل ضامن لما أخذ في المصارفة لأنه متعد، فإن ضاع المال ضمنه. قال ذلك ابن دحون وهو صحيح.
وفي قوله في الرواية ليس ذلك عليه لأنه إنما قبض ذلك لصاحبه ولم يشتر منه شيئا لنفسه دليل بين على أنه لو صارفه لنفسه أو أخذ منه بالدنانير عرضا لنفسه لضمن الدنانير لصاحبها ولم يكن له أخذ الدراهم ولا العرض، وهو خلاف قوله بعد ذلك إنه إن صارفه لنفسه لم يجز لأنه يصرف صرفا إلى أجل. ولا فرق في القياس بين أن يصارفه في الدنانير لنفسه أو لصاحبها. لأن الحكم يوجب الخيار له في المسألتين جميعا، فينبغي أن يدخل فيهما الاختلاف دخولا واحدا. ويحتمل أن يكون فرق بينهما بأنه إذا صارفه فيها لصاحبها فقد فعل ذلك نظرا له فكان الأظهر في فعله أنه يرضى به، فلم يراع الخيار الذي أوجبه الحكم له؛ وإذا صارف فيها لنفسه فإنما فعل ذلك له لا لصاحبها فكان الأظهر في فعله أنه لا يرضى به فراعى فيه الخيار الذي أوجبه الحكم له وفسخ الصرف به، والله تعالى هو الموفق المعين.
[يوكل رجلين على تقاضي دين فيموت أحدهما]
ومن كتاب المكاتب قال: وسألته عن الرجل يوكل رجلين على تقاضي دين فيموت أحدهما فيقوم الآخر، أيتقاضى جميع الدين أم يتقاضى نصفه؟ قال: لا أرى ذلك له دون رأي القاضي. قلت: وما ترى للقاضي أن يأمره به؟ فقال: كنت أحب أن يوكل رجلا مرضيا مأمونا يتقاضى معه مكان الميت إن وجد رضى في حاله وأمانته من أهل بلد المستخلف إن خاف القاضي أن يتلف ماله ورأى التوكيل له وجها. وإن كان مكان المستخلف قريبا وديونه مأمونة أمر الباقي من الوكيلين أن يستوثق من الغرماء حتى يأمن على(8/209)
الدين التلف ثم يستأنى به حتى يحدث وكالة يجددها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة لا وجه للاجتهاد فيها للغائب سوى ما ذكره، فلا تفتقر إلى تفسير ولا تحتاج إلى شرح وتبيين.
[مسألة: أوصى إلى رجلين فمات أحد الوصيين]
مسألة وقال سحنون: وكذلك لو أن رجلا أوصى إلى رجلين فمات أحد الوصيين إنه لا يجوز لمن مات منهما أن يوصي بما جعل إليه من تلك الوصية إلى غيره يقوم في ذلك مقامه، وتنفسخ في ذلك وكالته بموته، ولا يجوز للباقي النظر إلا أن ينظر السلطان، إن رأى أن يقره وحده أقره، وإن رأى أن يستخلف معه غيره كان ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها في نوازل عيسى بن دينار ولا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.
[يكون وكيلا لقوم على قبض حقوقهم ثم يموت]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى: وسألت ابن وهب عن الرجل يكون وكيلا لقوم على قبض حقوقهم أو النظر لهم في رباعهم والقيام لهم فيها ثم يموت الوكيل ويترك ولدا، أيكون ولده على مثل ما كان عليه أبوه من الوكالة حتى ينقضها الذين وكلوا أباه؟ وقلت: هل يكون لولد الوصي أن يقوم مقامه فيما أوصي به إلى أبيه؟ فقال: إن الوكالة والوصية لا يورثان عمن أوصي إليه ووكل، وليس للوكيل أن يوكل ما جعل إليه أحدا غيره حيي أو مات، ولا أن يوصي بها إلى أحد إلا أن يكون فوض إليه، فإن كان مفوضا إليه أن يوكل غيره في " حياته أو أن يوصي بما جعل إليه إن حدث به حادث فذلك جائز(8/210)
له لما جعل إليه من التفويض. فأما من لم يفوض إليه ذلك من الوكلاء فليس لهم أن يوكلوا أحدا ما حيوا ولا أن يوصوا بذلك إلى أحد عند موتهم، ولا يورث عنهم ذلك. فمن مات عن شيء بيده وكل عليه فأمر ذلك الشيء إلى الإمام العدل يوكل عليه من رضي نظره ووثق بحسن حاله فيما يوليه من ذلك فيليه الغائب حتى يرى فيه رأيه. قال: وأما الوصي فإنما نقول إن له أن يوصي بما أوصي إليه إلى من رضيه واختاره، فيكون أمر وصي الوصي جائزا فيما كان بيد الوصي على مثل ما كان يجوز فيه للوصي، فيكون في ذلك بمنزلته. فإن لم يوص إلى أحد لم تورث تلك الوصية عنه ولم يكن ولده أحق بالقيام فيما كان يلي أبوهم من أحد إلا بأمر السلطان.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب هذا في أن الوصية والوكالة لا يورثان عمن أوصي إليه أو وكل، وأن للوصي أن يوصي بما أوصي إليه في حياته وعند وفاته، وأن الوكيل ليس ذلك له لا في حياته ولا عند وفاته صحيح " لا اختلاف في شيء منه أحفظه في المذهب، إلا في الوصيين المشتركين في النظر، فإنه اختلف هل لأحدهما أن يوصي بما كان إليه من الإيصاء حسبما مضى القول عليه في نوازل عيسى بن دينار، فلا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.
[المتفاوضين إذا باع أحدهما سلعة من رجل بدين إلى أجل ثم افترقا]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب قال سحنون: وسألت أشهب عن الشريكين المتفاوضين إذا باع أحدهما سلعة من رجل بدين إلى أجل ثم افترقا قبل حلول أجل الدين فعلم الغريم بافتراقهما فقضي الذي باع منه السلعة. قال: لا شيء عليه للآخر؛ لأن البائع باع على أنه وكيل الشريك، وهو على ذلك حتى يؤمر ألا يتقاضى.(8/211)
قيل لأشهب: فإن أمره بأن لا يتقاضى إلا نصيبه ولم يعلم الذي عليه الدين بما أمره به؟ فقال: إن كان قضى الذي عليه الدين الذي باع منه بعد ما نهي الذي باع أن يقتضي من الذي عليه الدين فعليه غرم نصيب الشريك الآخر؛ لأن البائع هنا متعد في القبض.
قيل لأشهب: فإن قضى الذي لم يبعه وقد علم الذي عليه الدين بافتراقهما أو لم يعلم؟ فقال: هو ضامن لنصيب الذي باعه؛ لأن الذي لم يبع إنما كان وكيلا لصاحبه في أن يقبض نصيبه إذا كانا شريكين، فإذا افترقا فقد سقطت الوكالة، فليس له أن يقتضي، فإذا اقتضى فهو متعد ولا يبرئ الذي عليه الدين.
قلت لأشهب: وكذلك الرجل يوكل الرجل على تقاضي دينه وقبضه ثم يفسخ وكالة الوكيل ولا يعلم الذين عليهم الدين، ويعلم الوكيل بفسخ وكالته ثم يقتضي بعد ذلك. قال: إذا علم الوكيل أنه قد فسخ وكالته ثم يقتضي فإن ذلك لا ينجي الذين عليهم الدين من أن يقضوا ما عليهم؛ لأن الوكيل متعد. وهذا إذا قامت البينة على أنه قد فسخت وكالته وعلم ذلك الوكيل.
قيل لأشهب: وإن لم يعلم الوكيل أنه قد فسخت وكالته ولم يعلم الذين عليهم الدين أو علموا؟ فقال أما الذين لم يعلموا فلا شيء عليهم وقد أجزأهم ما أعطوا، وأما الذين علموا أن وكالته قد فسخت فعليهم القضاء ثانية. وكذلك الرجل يوكل الرجل يبيع عبده فيذهب ثم يفسخ وكالته قبل أن يبيعه ثم يبيعه الوكيل، إن الوكيل إن علم بفسخ الوكالة فهو بمنزلة من تعدى على عبد رجل فباعه بغير أمره، وإن لم يعلم الوكيل بفسخ وكالته(8/212)
ولا الذي اشتراه أنها فسخت فالبيع جائز للمشتري وليس له إلى العبد سبيل وإن لم يفت العبد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة تشتمل على مسألتين: إحداهما انعزال الشريك عن وكالة شريكه بانفصالهما عن الشركة، والثانية عزل الموكل وكيله عن الوكالة. فأما مسألة انعزال الشريك عن وكالة شريكه بانفصالهما عن الشركة فقول أشهب في هذه الرواية أنه ينعزل بانفصالهما عن الشركة عن الوكالة فيما باعه شريكه، ولا ينعزل عنها فيما باعه هو حتى يؤمر بألا يتقاضى، هو نحو قول أصبغ من رواية رأيه في أول رسم من سماعه بعد هذا أن الوكيل لا يعزل عن الوكالة بموت الموكل فيما باعه هو، وينعزل بموته فيما باعه الموكل، وذلك خلاف مذهب ابن القاسم في المسألتين جميعا؛ لأن من مذهبه أنه ينعزل عن الوكالة بموت الموكل فيما باعه هو وفيما باعه الموكل على ما قال له في السماع المذكور، وينعزل عنها بانفصالهما عن الشركة فيما باعه هو أيضا وفيما باعه الشريك على ما قاله في كتاب الشركة من المدونة، غير أنه لم ير على الغريم ضمانا فيما دفع إلى أحدهما إذا لم يعلم بانفصالهما عن الشركة. فقوله مخالف لقول أشهب في موضعين: أحدهما قوله إن الغريم لا يضمن ما دفع إلى الذي باع منه وإن علم بافتراقهما من الشركة إلا أن يدفع إليه بعد أن أمره شريكه ألا يتقاضى؛ والثاني أنه يضمن ما دفع إلى الذي لم يبع منه علم بافتراقهما أو لم يعلم؛ لأن ابن القاسم لا يرى عليه ضمانا إذا لم يعلم بانفصالهما عن الشركة، دفع إلى الذي باع منه أو إلى الذي لم يبع منه. فقول أشهب في مسألة الشريكين على أصله في أن الوكالة لا تنفسخ بنفس العزل حتى يعلم الوكيل بعزله، فإذا علم بذلك انفسخت الوكالة في حقه وحق من دفع إليه، ولذلك قال إن الغريم إن قضى الذي لم يبعه فهو ضامن لنصيب الذي باعه، إذ قد انفسخت وكالته بمفاصلة شريكه في الشركة. وكذلك إن قضى الذي باعه بعد أن أمره الذي لم يبع منه ألا يتقاضى فهو ضامن لنصيبه.(8/213)
وقول ابن القاسم في مسألة الشريكين على أن الوكالة تنفسخ بالعزل في حق الوكيل بوصول العلم إليه، وفي حق الغريم الدافع بوصول العلم إليه أيضا، ولذلك قال إن الغريم إذا لم يعلم بانفصالهما من الشركة فلا ضمان عليه في الدفع، دفع إلى الذي بايعه أو إلى الذي لم يبايعه.
وأما مسألة عزل الوكيل عن الوكالة فقول أشهب فيها في هذه الرواية وفي المدونة على أصله. في أن الوكالة لا تنفسخ بنفس العزل حتى يعلم الوكيل بذلك، فإذا علم بذلك انفسخت في حقه وحق من دفع إليه من الغرماء، وكان صاحب الحق بالخيار في الرجوع على من شاء منهما. فإن رجع على الوكيل برئ الغريم، وإن رجع على الغريم كان للغريم أن يرجع على الوكيل. وظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة أن الوكالة منفسخة بنفس العزل وإن لم يعلم الوكيل بذلك فيضمن من دفع من الغرماء إلى الوكيل بعد عزله وإن لم يعلم واحد منهما بعزله لأنه أخطأ في دفع مال الرجل إلى غير وكيل.
فيأتي على هذا في عزل الوكيل عن وكالته ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يكون معزولا بنفس العزل حتى يصل العلم بذلك إلى الوكيل، وهو قول أشهب، والثاني أنه لا يكون معزولا إلا بوصول العلم بعزله فيكون معزولا في حق الوكيل بوصول العلم بعزله إليه أيضا، وهو قول ابن القاسم في مسألة الشريكين أيضا في كتاب الشركة من المدونة على ما ذكرناه؛ والثالث أنه يكون معزولا بنفس العزل وإن لم يصل العلم بذلك إلى الوكيل ولا إلى الغريم الدافع، وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الشركة من المدونة حسبما وصفناه.
ومن الناس من تأول قول ابن القاسم في كتاب الشركة من المدونة في مسألة عزل الوكيل فصرفه بالتأويل إلى مذهب أشهب فقال: معناه أن الوكيل علم بعزله، ولذلك قال إن الغريم ضامن لما دفع إليه، وهو فيه محتمل والأول هو الظاهر من قوله، وعلى ذلك حمله الأكثر من أهل النظر، إلا أنه بعيد في المعنى. وقد أجمعوا في الرجل يوكل الرجل على بيع(8/214)
سلعته ثم يبيعها هو ويبيعها الوكيل بعده وهو لا يعلم بيع صاحبها أنها تكون للثاني إذا قبضها. وفي إجماعهم على هذا دليل على أن الوكالة لا تنفسخ بنفس الفسخ حتى يعلم الوكيل بفسخه إياها أو يعلم بذلك المشتري. وكذلك اختلف أيضا في تأويل قول مالك وابن القاسم في مسألة موت الموكل الواقعة في أول كتاب الوكالة من المدونة، فقيل: إن قولهما فيها مثل قول أشهب تنفسخ الوكالة في حقهما جميعا بمعرفة الوكيل بموت موكله، وقيل إن قولهما فيها مثل قول ابن القاسم في مسألة انفصال الشريكين عن الشركة الواقعة في كتاب الشركة من المدونة تنفسخ الوكالة في حق الوكيل بمعرفته بموت موكله، وفي حق من بايعه أو دفع إليه بمعرفته بموت الموكل أيضا. فالثلاثة الأقوال كلها التي ذكرناها في عزل الوكيل عن الوكالة داخلة في انفصال الشريكين عن الشركة؛ لأن الانفصال عنها يقتضي فسخ الوكالة، وفي مسألة موت الموكل على القول بأن الوكالة تنفسخ بموته؛ إذ قيل إنها لا تنفسخ بموته وهي باقية حتى يفسخها الورثة، وهو قول مطرف وابن الماجشون؛ وقيل إنها تفسخ فيما وليه الموكل من البيع ولا تنفسخ فيما وليه الوكيل وله قبض ثمن ما باعه ما لم يفسخ الورثة وكالته، وهو قول أصبغ في سماعه بعد هذا من هذا الكتاب. ومن الدليل على هذا أن محمد بن المواز قد ساوى بين عزل الوكيل وموت الموكل فقال: أجمع أصحاب مالك أن ما فعله الوكيل بعد علمه بموت الآمر أو عزله إياه أنه ضامن لما قبض، ولا يبرأ من دفع إليه إذا علم بعزله أو بموت الآمر. وإن دفع قبل علمه بموت الآمر أو عزله فمذهب ابن القاسم أنه لا يبرأ من دفع إليه. قال محمد: وهذا لا يصلح، إذ لا يشاء أحد أن يوكل على تقاضي حقه ببلد آخر ثم يشهد بعزله بعد خروجه، أو بدفعه إليه مالا يدفعه إلى رجل صدقة أو غير صدقة ثم يفسخ وكالته ولا علم له، فهذا غير معتدل. وقال ابن القاسم من رأيه إنه إذا ولي الوكيل البيع ثم فسخ الآمر وكالته فقبض الثمن قبل علمه وعلم المشتري، قال لا يبرأ المشتري وأبى ذلك أصحاب ابن القاسم ولم يروه، وخالفه ابن عبد الحكم وقال نحو ما قلنا. وما حكى ابن المواز من الإجماع فيه لا يصلح؛ إذ قد قيل إن الوكالة لا تنفسخ(8/215)
بموت الموكل، وهو قول مطرف وابن الماجشون. ومن الناس من فرق على مذهب ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك بين موت الموكل وعزل الوكيل فقال إن الوكالة تنفسخ بنفس العزل وإذا لم يعلم الوكيل بذلك على مذهب، ولا تنفسخ بموت الموكل إلا أن يعلم الوكيل بذلك، إذ قد قيل إن الوكالة لا تنفسخ بموته وإنها باقية حتى يفسخها الورثة، وهو قول مطرف وابن الماجشون على ما ذكرناه.
[مسألة: قال له اشتر لي دابة فلان بغلامي هذا]
مسألة وسمعته يقول: إذا قال الرجل للرجل اشتر لي دابة فلان بغلامي هذا أو اشتر لي دابة موصوفة بغلامي هذا، فباع الغلام ثم اشترى به حمارا ثم اشترى بالحمار الدابة التي أمر بها دابة فلان أو الدابة التي وصفت له فإنه متعد والذي أمره بالخيار إن شاء أخذ قيمة غلامه وإن شاء أخذ منه الذي باعه به، وإن شاء أخذ منه قيمة الحمار، وإن شاء أخذ الدابة التي اشترى له دابة فلان أو الدابة التي وصفت.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه متعد لأنه باع غلامه بما باعه من الثمن وهو لم يأمره إلا أن يشتري له به ما أمره بشرائه. فقوله إن الذي أمره بالخيار إن شاء أخذ قيمة غلامه، وإن شاء أخذ ثمنه الذي باعه به، معناه إن كان الغلام قد فات. ولو وجد غلامه عند المشتري لم يكن له إلا أن يأخذ غلامه أو الثمن الذي باعه به، كمن تعدى على غلام رجل فباعه فوجده صاحبه عند المشتري قائما لم يفت. وقوله: وإن شاء أخذ منه قيمة الحمار، وإن شاء أخذ الدابة التي اشترى له، معناه أنه اشترى الحمار لرب(8/216)
البضاعة وكان قد فات. ولو كان اشتراه لرب البضاعة ووجده عند المشتري له بالدابة التي وصفت له أوامره بشرائها بعينها لم يكن له أن يضمنه قيمة الحمار، وإنما له أن يأخذ حماره بعينه أو الدابة التي اشترى له. وهذا إذا علم أنه اشتراه له. وأما لو لم يعلم ذلك إلا بقوله بعد أن اشترى به الحمار لكان بمنزلة إذا فات، فلا يكون له إلى أخذ الحمار سبيل، وإنما له قيمته أو الدابة التي اشترى به لما تعلق بذلك من حق المشتري له. ولو كان اشترى الحمار لنفسه وباعه ثم قدم لم يكن لرب البضاعة في الحمار شيء إلا أن يقدم به فيكون رب البضاعة مخيرا، فإن شاء أخذ الحمار، وإن شاء ضمنه ما دفع إليه. وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم ما فيه بيان لهذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبضع مع الرجل ببضاعة يشتري له جارية فاشتراها ثم وطئها فحملت]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يبضع مع الرجل ببضاعة يشتري له جارية فاشتراها ثم وطئها فحملت. فقال: إن وطئها على أنه يأخذها ويشتري له غيرها احتج بذلك وكان هو الذي أراد ولم يطأها على وجه الفسق منه بها، فسيدها مخير. إن شاء أخذها ويأخذ قيمة ولدها ويدرأ عنه الحد، وإن أحب أخذ قيمتها يوم وطئها ولا شيء له في ولدها. قلت له: فإن لم تحمل؟ قال: إن أحب أخذها ولا شيء له في النقصان، وإن شاء ضمنه قيمتها.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم القطعان ورسم العتق من سماع عيسى ومضى القول عليها هناك بما لا مزيد عليه، وبينا أن ما في هذه الرواية من قوله وإن أحب أخذ قيمتها يوم وطئها فلا شيء له في ولدها مفسر لقوله في رسم العتق وإن شاء أسلمها إليه بقيمتها، وأن ما زاده في كل واحد من الرسميين على ما في الآخر وعلى ما في هذه(8/217)
الرواية في حكم الجارية التي أمسكها المبضع معه ووطئها مفسر له، وأن الخلاف فيما بين الرسميين إنما هو في حكم الجارية التي بعث بها المبضع معه إلى المبضع.
وقوله في هذه الرواية في الجارية التي أمسكها المبضع معه ووطئها إنها إن لم تحمل فسيدها بالخيار، إن أحب أخذها ولا شيء له في النقصان، وإن شاء ضمنه قيمتها، هو القول بأن الغاصب يضمن قيمة الجارية بالغيبة عليها، خلاف المعلوم من مذهب ابن القاسم. وقد ذكرنا الاختلاف في ذلك في نوازل عيسى بن دينار من كتاب الغصب، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبضع مع الرجل يشتري له سلعة فلا يجدها فيشتري له شيئا آخر]
مسألة قال وسألت ابن القاسم عن الذي يبضع مع الرجل يشتري له سلعة فلا توجد السلعة ويشتري له بها شيئا آخر. قال: هو بمنزلة المتعدي في الوديعة. ولو كان يوجد تلك السلعة فتركها واشترى غيرها كان المبضع بالخيار: إن أحب أخذ المال الذي بعث به، وإن أحب أخذ منه ما اشترى بالدنانير.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، ومضت المسألة أيضا في آخر رسم أوصى من سماع عيسى.
وقوله في هذه الرواية إن المبضع معه إذا لم يجد السلعة التي أبضع معه فاشترى غيرها إنه بمنزلة المتعدي في الوديعة، هو مثل قول أصبغ في رسم الكراء والأقضية من سماعه، خلاف ما تأول على ابن القاسم؛ لأن الحكم فيمن تعدى على وديعة رجل فاشترى بها سلعة فإن كان اشتراها لنفسه فليس لرب الوديعة أخذها، وإن كان اشتراها لرب الوديعة فهو بالخيار بين أن يأخذ أو يضمنه وديعته. وأما إذا وجد السلعة التي أمره بها فاشترى(8/218)
غيرها لنفسه فصاحب البضاعة بالخيار بين أن يأخذها أو يتركها أو يضمنه ماله بمنزلة ما لو اشتراها له.
[مسألة: يقول له ابتع لي هذه السلعة بعشرة دنانير وهي لي باثني عشر دينارا]
مسألة قال سحنون قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول وسئل عن الرجل يقول للرجل ابتع لي هذه السلعة بعشرة دنانير وهي لي باثني عشر دينارا. قال مالك: إن كان استوجبها للآمر والثمن من عنده نقدا فلا بأس به؛ لأن الربح كان جعلا له، وأنا أرى ذلك إذا كان لم ينقد هو الثمن من عنده. فإن نقد الثمن من عنده من غير شرط فهو مثله، وإن نقده بشرط رد إلى أجر مثله في ابتياعه السلعة له بغير سلف، إلا أن تكون أجرته أكثر مما سأله من الربح. كذلك قال ابن القاسم في البيع والسلف إذا وقع والأجرة في السلف مثله. قال: وإن كان قال له اشترها لي إيجابا على الآمر على أن يكون ثمنها إلى أجل باثني عشر ففعل فإنما هو رجل ازداد في سلفه، فإن لم تفت السلعة فسخ البيع، وإن فاتت كانت للآمر لازمة بالعشرة ويلزم مكانه ردها ولا يؤخر عنه إلى أجل ويطرح عنه ما أربى؛ لأنه كان ضامنا لها حين قال اشترها لي وازداد على الأمر فيما أسلفه. وإن كان قال له اشترها لي بخمسة عشر إلى أجل على أن أدفع إليك عشرة نقدا لم يكن في ذلك خير ولزمت الآمر خمسة عشر إلى أجل ولم يتعجل منه العشرة النقد ولم يلزمه ذلك. وإن قال اشتر سلعة كذا وكذا أو سلعة فلان بعشرة دنانير وأنا أشتريها منك باثني عشر دينارا إلى سنة ففعل فاشتراها منه لزمه الثمن إلى الأجل؛ لأن المشتري المأمور كان ضامنا لها لو تلفت في يديه قبل أن يشتريها منه الآمر.(8/219)
وقد نزلت بمالك وأنا عنده قاعد واستأثره السلطان فيها فأمره أن يلزمه الثمن، ثم أتى بعد ذلك المشتري وكلمه إرادة أن يطرح عنه ما ازداد علية فلم ير ذلك وألزمه الثمن قال أن يلزمه الثمن وأحب إلى التورع له ألا يأخذ منه إلا ما نقد في سلعته، ولست أقضي به عليه إن أبى وأنا أقضي له بالحق كله، وكذلك سمعت مالكا قضى به.
ولو أن رجلا سأل رجلا أن يبتاع طعاما أو متاعا بعينه إلا أنه لم يسم له ما اشترى به ولم يسم له ما يربحه فيه، فإني سمعت مالكا أيضا يقول فيها إني أكره أن يعمل به، فأما أن أبلغ به الفسخ فلا، وأمضاه. قال: هو رأي على مثل قول مالك. قال: ولو كان رجلا قال لرجل اشتر لي بعير فلان بخمسة عشر دينارا إلى أجل عليه، أن أدفع إليك عشرة نقدا لم يكن في ذلك خير، ولزمت الآمر خمسة عشر دينارا إلى أجل ولم يتعجل منه العشرة النقد، ولم يلزمه إذا قال اشترها لي وكان استيجابها له ولزمته الخمسة عشر التي إلى الأجل لأن ضمانها كان منه. ولو قال: اشترها بخمسة عشر إلى أجل وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا أو كان وجوبها للمشتري الأول ففات ذلك لم أرده ولم يكن عليه أكثر من العشرة، وأحب إلي أن لو أرده الخمسة الباقية، فإن أبى لم أضمنه الخمسة عشر؛ لأن المشتري إنما اشترى لنفسه وضمن، ولو هلكت قبل أن يشتريها منه الآمر لكانت للمأمور، فلذلك أنفذت البيع بينهما بمنزلة ما أنفذه مالك حين اشترى المأمور بعشرة نقدا وباعها من الآمر باثني عشر إلى أجل لأن العقدة الأولى كانت للمأمور، ولو شاء المشتري لم يشتر، فكذلك إذا أمره أن يشتري لنفسه بدين فيشتري منه بنقد لم يكن على صاحب(8/220)
النقد الآمر إلا ما نقد في وجه القضاء، فهذا تفسير ما سمعت من مالك، ورأيي، وما يستحسن، والله أعلم.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة من مسائل العينة المحظورة تتفرع إلى ست مسائل: ثلاث في قوله اشتر لي: أحدها أن يقول له اشتر لي سلعة كذا وكذا نقدا بعشرة وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، والثانية أن يقول له اشتر لي سلعة كذا وكذا بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل، والثالثة عكسها وهي أن يقول له اشتر لي سلعة كذا وكذا باثني عشر إلى أجل وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا، وثلاث في قوله اشتر لنفسك أو يقول اشتر ولا يقول لي ولا لنفسك وذلك سواء: إحداها أن يقول اشتر سلعة كذا وكذا بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا، والثانية أن يقول اشتر سلعة كذا وكذا بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل، والثالثة عكسها وهي أن يقول له اشتر سلعة كذا وكذا باثني عشر إلى أجل وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا. وقد مضى شرحها وبيان الحكم فيها إذا وقعت مستوفى في رسم حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، فمن أحب الوقوف على ذلك تأملها هناك. ومن العينة جائزة ومكروهة: فالجائزة أن يمر الرجل بالرجل فيقول له هل عندك سلعة كذا تبيعها مني بدين؟ فيقول له: لا، فيذهب عنه على غير موعد، فيبتاع لنفسه تلك السلعة ثم يلقاه فيقول عندي ما سألت فيبيع ذلك منه بدين. والمكروهة التي إذا وقعت مضت على ما وقعت هي أن يقول الرجل للرجل عندك سلعة كذا تبيعها مني بدين؟ فيقول له لا، فيقول له اشترها وأنا أشتريها منك إلى أجل وأربحك فيها. وقد مضى ذلك أيضا في الرسم المذكور من الكتاب المذكور.
[مسألة: وكل رجلا على طلب غلامه فلان أو على أمته]
مسألة وسئل عن رجل وكل رجلا على طلب غلامه فلان أو على أمته، فإذا لم يشهدوا على الصفة لم تجز الوكالة. قلت:(8/221)
وكذلك لو وكله على طلب دابة؟ قال: نعم، هو كذلك في جميع الأشياء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الشهادة على الصفة في التوكيل على طلب العبد الآبق والجمل الشارد والدابة الضالة والمسروقة أو السلعة المسروقة تنوب مناب الشهادة على العين لتعذر الشهادة على العين حسبما ذكرناه في نوازل عيسى بيانا لقوله فيها إن الوكيل على طلب العبد الآبق والخصومة فيه لا يمكن من إيقاع البينة عليه أنه للذي وكله حتى يشهد له الشهود إنه وكل على طلب هذا العبد بعينه والخصومة فيه.
[مسألة: أبضع مع رجل مالا فخرج إليه اللصوص فلما رمقوه ألقى البضاعة]
مسألة وسئل سحنون عن رجل أبضع مع رجل مالا فخرج إليه اللصوص فلما رمقوه ألقى البضاعة في شجرة ليحرزها على صاحبها فذهبت. قال: لا ضمان عليه. قيل: فإن دفعها المستودع إلى فارس ينجو بها ويحرزها حين رأى اللصوص هل يكون ضامنا؟ قال: إذا كان هكذا فلا ضمان عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن خروج اللصوص إليه في السفر كخراب منزله في الحضر. وقد مضى هذا المعنى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، وبالله سبحانه التوفيق.
[المبضوع معه إذا أراد الإقامة فاشترى له ما أمره به ثم سيره مع من يثق به]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم قال محمد بن خالد: سألت ابن القاسم فقلت له: أرأيت المبضوع معه إذا بدا له في الإقامة سنته تلك فاشترى له ما أمره به ثم سيره مع من يثق به من أهل الأمانة فذهب ذلك الشيء من يديه؟ قال لا ضمان على واحد منهما، ورواه عيسى عن ابن القاسم في كتاب أسلم وله بنون صغار.(8/222)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم شك في طوافة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[يبضع معه البضاعة هل يستسلف منها]
من سماع عبد الملك بن الحسن وسؤاله القاسم وأشهب قال عبد المالك: سألت ابن وهب عن الرجل يبضع معه البضاعة، هل ترى بأسا أن يستسلف منها؟ قال: إن كان مليا فلا بأس به، وإن كان غير ملي فلا يستسلف منها.
محمد بن أحمد: قوله في الملي لا بأس أن يستسلف من البضاعة التي عنده، يريد مع أن يشهد مع ذلك، قاله في سماع أشهب من كتاب الوديعة بعد أن روجع في ذلك لما سئل عنه فقال: ترك ذلك أحب إلي. وأما غير الملي الذي لا وفاء عنده فلا إشكال في أنه لا يجوز أن يستسلف منها. واختلف إن استسلف منها هل يصدق في أنه ردها على أربعة أقوال قد ذكرناها في سماع أشهب من كتاب الوديعة، إلا أن يقول له صاحبها إن احتجت إلى شيء منها فتسلفه فلا يصدق في ردها قولا واحدا.
[يكون له الوكيل في البلد يبيع له متاعه فيموت صاحب المتاع قبل قبض الثمن]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيوع والعيوب قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الرجل يكون له الوكيل في البلد يبيع له متاعه فيبيع له ثم يأتي موت صاحب المتاع قبل أن يقبض الثمن إنه لا يدفع إليه ذلك الثمن إلا بوكالة تثبت له بعد ذلك من الورثة وإن كان هو البائع؛ لأن المال قد صار مال الورثة. قال ولأن مالكا قد قال فيمن وكل رجلا لاقتضاء دين له وثبتت له الوكالة ثم مات الذي وكل وهو صاحب المال قبل أن يقبض هذا الوكيل الدين إن وكالته تفسخ ولا يمكن من شيء؛ لأن المال قد صار للورثة. قال أصبغ: مسألة مالك صواب، والتي ناظر ليست لها بنظير، والمسألتان مفترقتان: الأول(8/223)
هو العامل للمشتري وإليه يدفع المشتري وإن دفع إلى غيره لم يبرئه لأنه هو مبايعه ولا يدري المشتري باعه له أو لغيره. وليس عليه كشف ذلك ولا له علة تنجيه، إذا لذهبت أموال الناس وتبطل وتحبس عن أربابها بالعلل، والثانية الميت هو العامل فهي وكالة بالقبض فقط فهو ما لم يتم حتى صار لغيره وانتقض قضاؤه، ووكالته فيه قضاء من قضائه ينقض إذا صار لغيره إن شاء الله. فهما مفترقتان، وليس للمشتري حبس ذلك عن البائع وهو القابض ما لم يوكل غيره يقبضه بعد موت الميت، ثم السلطان الناظر فيه بعد قبضه إياه لأهله يحسن النظر فيه والتوثيق.
قال محمد بن رشد: في الواضحة لمطرف وابن الماجشون أن الوكالة لا تنفسخ بموت الموكل، وأنه على وكالته ويجوز قبضه وخصومته ودفعه حتى يعزله الوارث أو يوكل غيره. وقال أصبغ تنفسخ الوكالة بموت الآمر ولا يجوز خصومته ولا القيام بضيعته حتى يوكله الوارث، إلا أن يموت عندما أشرف الوكيل على تمام الخصومة بالحكم له أو عليه بحيث لو أراد الميت فسخ وكالته ويخاصم هو أو يوكل غيره لم يكن له ذلك. وما كان من يمين كانت تجب على الميت حلفها الوارث إن كان فيهم من قد بلغ علم ذلك، وبقول أصبغ قال ابن حبيب، وهو مثل قول ابن القاسم في هذه الرواية. تفرقة أصبغ فيها قول ثالث في المسألة، وهي تفرقة ضعيفة إذا ثبت أن المال للميت أو علم بذلك الوكيل، وهي نحو قول أشهب المتقدم في سماع سحنون في انفصال الشريكين عن الشركة إن وكالة البائع منهما لا تنفسخ بالانفصال عنها. فإن قضى غريم من الغرماء الوكيل بعد موت الموكل على القول بأن الوكالة تنفسخ بموته وهو عالم بموته ضمن باتفاق؛ لأنه متعلم بالدفع إلى من علم أنه غير وكيل. وأما إن لم يعلم بموته ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه يضمن علم الوكيل بموته أو لم يعلم، وهو الذي يأتي على قياس ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الشركة من المدونة وفي عزل الوكيل؛ والثاني أنه لا يضمن علم الوكيل بموته أو لم(8/224)
يعلم، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في كتاب الشركة في مسألة انفصال الشريكين عن الشركة؛ والثالث أنه يضمن إن علم الوكيل بموت الموكل ولا يضمن إن لم يعلم بموته، وهو قول أشهب. وقد تأول ذلك على ابن القاسم في مسألة عزل الوكيل في المدونة. وقد مضى تحصيل هذا الخلاف وتوجيهه في سماع سحنون فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إلى رجل ثوبا يبيعه له بعشرة فقطعه على نفسه]
مسألة قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن رجل دفع إلى رجل ثوبا يبيعه له بعشرة فقطعه على نفسه. قال: يغرم قيمته إن كان أكثر من العشرة وإلا فالعشرة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت والقول عليها مستوفى في رسم استأذن من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يدفع إلى الرجل السلعة يبيعها له ولا يسمي له شيئا فيبيعها له بدراهم]
مسألة قال أصبغ وسئل أشهب عن الرجل يدفع إلى الرجل السلعة يبيعها له ولا يسمي له شيئا فيبيعها له بدراهم قال: ذلك جائز. قلت: فإن كانت السلعة نقد مثلها والذي تباع به الدنانير؟ قال لا بأس به، أي لا ضمان عليه. قال أصبغ: مثله إذا باع من الدراهم بصرف ما يباع مثله من الدنانير استحسانا لأن الدراهم عين كالدنانير.
قال محمد بن رشد: أجاز أشهب بيعه السلعة بالدراهم ولم يشترط ما اشترط أصبغ من أن يكون باعها من الدراهم بصرف ما تباع به من الدنانير، فظاهره خلاف لقوله وأنه إذا باعها بقيمتها من الدراهم أو بأقل من قيمتها بما يتغابن الناس فيه في البيوع لم يكن عليه ضمان وإن كان ذلك أقل من صرف ما يباع به من الدنانير، ولم يجزه أصبغ أيضا وإن باعها من(8/225)
الدراهم بصرف ما تباع به من الدنانير إلا استحسانا من أجل أن الدنانير والدراهم عين، والقياس عنده ألا يجوز ذلك إذا كان البلد لا تباع السلع فيه إلا بالدنانير أو كانت السلعة لا يباع مثلها إلا بالدنانير. وقد رأيت لابن دحون أنه قال في هذه المسألة معناها إذا كان ببلد تباع فيه السلع بالدراهم، فأما إن كان البلد لا تباع فيه السلع بالدراهم فلا يجوز ذلك على الآمر. وليس قوله عندي بصحيح؛ لأن الكلام وموضع السؤال إنما هو إذا كان البلد لا تباع السلع فيه بالدراهم أو كانت السلع لا تباع مثلها إلا بالدنانير، فأجاز ذلك أشهب لوجهين: أحدهما أن الدنانير والدراهم عين، والعين هو الثمن، فإذا باع سلعته بما تباع به من العين لم يكن عليه ضمان، والثاني أن صرف الدراهم ليس مما يغبن فيه، وقد كان يقول مالك إنه إذا باع الرجل سلعة الرجل بما يشبه الذهب والورق من العرض التي لا يعنى في بيعها نفذ البيع ولم يرد. وقد قال إنه إذا كان الذي باع به مما يعنى في بيعه فعلى المتعدي بيعه، ثم رجع مالك بعد ذلك فقال إنه لا ينفذ بيعه إذا باع بغير الذهب والورق. وقع هذا الاختلاف في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع في بعض الروايات. وأما إذا كانت البلد تباع فيه السلع بالدراهم فلم يتعد المأمور إذا باع بالدراهم.
ويتخرج على ما ذكرناه في بيع السلعة بالدراهم في البلد الذي لا تباع فيه إلا بالدنانير ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك لا يلزم رب السلعة ويأخذ سلعته إن لم يرد أن يجيز البيع إلا أن يفوت فيكون له على المتعدي قيمتها من الدنانير؛ والثاني أن البيع يلزمه وينفذ عليه ويكون من حقه على المتعدي أن يصرف له الدراهم بدنانير، والثالث أن البيع يلزمه وينفذ عليه ولا يكون له فيه كلام؛ لأن الدراهم عين كالدنانير، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأمر الرجل يشتري له سلعة فلان بخمسة عشر فيشتريها بستة عشر]
مسألة وسئل أشهب عن الرجل يأمر الرجل يشتري له سلعة فلان بخمسة عشر فيشتريها بستة عشر ويقول أبى البائع أن يبيع بخمسة(8/226)
عشر فاشتريتها لنفسي بستة عشر وتركتك. قال: القول قوله وهي له. قال أصبغ: أرى أن يحلف ويكون القول قوله، واستحسن أن يكون الأمر عليه بالخيار إن شاء زاده الدينار وأخذها ولم يصدقه أنه اشتراها لنفسه كما لا يصدق إذا اشتراها بالذي أمره، وإن شاء تركها وضمنه ماله.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ وأرى أن يحلف خلاف ظاهر وقول أشهب، وهي يمين تهمة، فالاختلاف فيها على الاختلاف المعلوم في لحوق يمين التهمة. وأما استحسانه أن يكون الأمر عليه فيها بالخيار، إن شاء زاده الدينار وأخذها فهو بعيد، إذ لا يلزمه أن يشتريها له بأكثر مما أمره به ويزيد عنه من ماله، وإنما له أن يفعل ذلك إن شاء فلا يكون من حق الآمر أن يلزم المأمور فعل معروف لم يطع به ولا أقر أنه فعله. وقد اختلف إن اشتراها بالذي أمره أن يشتريها به دون زيادة فقال اشتريتها لنفسي وفسخت وكالتك عني، فقيل ليس ذلك له وتكون السلعة للآمر إلا أن يعلمه قبل أن يشتريها أنه لا يشتريها له وإنما يشتريها لنفسه، وهو قول ابن القاسم وأصبغ في الثمانية، وقيل إن السلعة تكون له وإن لم يتبرأ إليه من وكالته إياه إذا أشهد قبل الشراء أنه إنما يشتريها لنفسه. وقع هذا القول في الثمانية أيضا. وروى محمد بن يحيى السبائي عن مالك أن السلعة تكون له إذا زعم أنه اشتراها لنفسه وإن لم يشهد على ذلك قبل الشراء، ويحلف على ذلك إن اتهم. وقد ذكرنا هذا الاختلاف في نوازل عيسى، وبالله تعالى التوفيق.
[وكل وكيلا يقبض ثمن طعام له فلما حل الأجل قبض الوكيل الثمن وأنفقه]
من كتاب البيع والصرف وسمعته يقول فيمن وكل وكيلا يقبض ثمن طعام له باعه إلى أجل فلما حل الأجل قبض الوكيل الثمن أنفقه، فلما اقتضاه إياه الموكل دعاه الوكيل إلى أن يدفع إليه فيما قبض طعاما أو إداما.(8/227)
قال: لا بأس بذلك، قد كان يجوز له أن يشتري من الوكيل أو من غيره بثمن ذلك الطعام طعاما وإداما.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لا إشكال في جوازه؛ لأنه إنما أخذ الطعام من غير الذي باعه منه بالثمن الذي قبضه له من الطعام الذي باعه، فلا يدخل ذلك وجه من وجوه المكروه في بيوع الآجال، وبالله تعالى التوفيق.
[وكيل لرجل في ضياعه يكرى ويبيع قدم عليه وكيل آخر بعزله فأراد محاسبته]
ومن كتاب الكراء والأقضية أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عن وكيل لرجل في ضياعه له المساكن والمزارع والضياع يكرى ويبيع قدم عليه وكيل آخر بعزله فأراد محاسبته وأخذ ما بقي في يديه من ذلك المال. قال: ذلك له، فزعم الوكيل الأول أن ناسا ممن يقبل منه ادعوا فسخ ما تقبلوا منه وأنهم تقبلوا حراما ويريدون خصومته، وقال: لا أدفع ما بيدي من المال الناض حتى يناقدني القوم. قال: ينظر فإن كان إن خاصموا كانت لهم التباعة فيما في يديه فالقول قوله وذلك له، وإن كان إن خاصموه كانت التباعة له قبلهم أو كانوا كفافا لا فضل لهم عنده كان عليه أن يعطي الوكيل القادم ما في يديه من المال إن شاء وإن أبى ويحمله على ما بقي قبل الناس السكان والمزارعين ويجمع بينهم، فإن أقروا له برئ، وإن لم يقروا له كان على الوكيل الأول البينة. فإن أقام البينة عليهم برئ أيضا وإلا ضمن؛ لأنه أتلف مال الرجل وقد أقر به أنه قبل هؤلاء وهؤلاء يجحدون، فهو ضامن لأنه أتلف حين لم يشهد، بمنزله سلعة دفعها إليه يبيعها له فقال بعتها من فلان بكذا وكذا أو جحد فلان.(8/228)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة بينة لا إشكال فيها ولا لبس في شيء من معانيها يفتقر إلى بيان وتفسير.
[مسألة: أبضع من رجل بعشرة دنانير يشتري له بها قمحا فاشترى شعيرا]
مسألة وسألت ابن القاسم وسئل عن رجل أبضع من رجل بعشرة دنانير يشري له بها قمحا فاشترى شعيرا وقدم به وقال اشتريته لنفسي وضمنت الدنانير إن صاحب الدنانير إن شاء أن يأخذ الشعير أخذه لأنه اشتراه بدنانيره. قال أصبغ: هذا خطأ، إنما يكون ذلك لو اشتراه لصاحب الدنانير على النظر له والتعدي منه والقمح موجود حيث أمره بالاشتراء أو غير موجود. فأما إن اشتراه لنفسه والقمح موجود فهو له؛ لأنه إنما تعدى على دنانير غيره ولم يخالف وهو لحد فيستغل ماله عليه لنفسه دونه.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول ابن القاسم أنه اشترى الشعير لنفسه وهو يجد القمح الذي أبضع معه فيه، ولذلك قال: إن صاحب البضاعة إن شاء أن يأخذ الشعير أخذه. ولو لم يجد القمح فاشترى بالبضاعة الشعير لنفسه لم يكن لصاحب البضاعة أن يأخذه؛ لأنه كالمعتدي على الوديعة. وقد نص على ذلك ابن القاسم في سماع سحنون، فليس قوله في هذه المسألة بخلاف لقول أصبغ إلا بما تأول عليه لا بما ظهر من قوله ولا هو معلوم من مذهبه، بل المنصوص له مثل قول أصبغ فلا يلزمه تخطيئة أصبغ له، وبالله التوفيق.
[تحاكم الواضع والمشتري إلى بعض أهل المشرق فألزم الواضع الوضيعة]
ومن كتاب محض القضاء قال أصبغ: سمعت أشهب يقول في الذي يبعث إلى الرجل وقول أشهب في الرواية ولو تحاكم الواضع والمشتري إلى بعض أهل المشرق فألزم الواضع الوضيعة في ماله لأنفذت له الوضيعة على البائع كما(8/229)
بالسلعة ليبيعها فيبيعها ثم يستوضعه المشتري فيضع له إن الوضيعة باطلة، وإن ربها بالخيار: إن شاء أجاز وإن شاء رجع على المشتري بماوضع له ولم يرجع على البائع الواضع بشيء. ويقول: ولو تحاكما الواضع والمشتري إلى بعض أهل المشرق فألزم الواضع الوضيعة في ماله لأنفذت له الوضيعة على البائع كما حكم ولم أرد حكمه ولم أر لربها على المشتري شيئا. ونزلت هذه به في نفسه وهو المشتري فتحاكما فحكم له على ما وصفنا ثم قدم ربها فتورع أشهب فيها بعد حين فصالح ربها بنصف الوضيعة أو أكثر قليلا وقال تخلج في نفسي شيء منها وإن كنت أراها لازمة للبائع الواضع كما حكم لي، وأعطى صاحبها ما صالحه به بحضرتنا وتحلله وأشهدنا عليه.
قال محمد بن رشد: قول أشهب في هذه المسألة إن الوضيعة باطلة وإن ربها بالخيار إن شاء أجاز وإن شاء رجع على المشتري بما وضع له ولم يرجع على البائع الواضع بشيء، يريد إلا يجد عند المشتري فاتبعه به، هو مثل قول غير ابن القاسم في مسألة المحاباة في الكراء إن الأخ يرجع على المحابى مال فيرجع على الأخ المحابي، يريد فيغرم ويتبع بما غرم المحابي، فهو قول أشهب بدليل قوله هذا والله أعلم. ومثل قول ابن القاسم في كتاب الشركة خلاف المشهور المعلوم من مذهبه في كتاب الاستحقاق وكتاب الخصب من المدونة وكتاب كراء الدور منها. وفي رسم العرية من سماع عيسى في الغاصب يغصب الشاة يهديها لقوم ويقوم صاحبها وقد أكلها الذين أهديت إليهم أن الغاصب إن كان بها مليا فهي عليه غرم وليس على الذين أهديت إليهم شيء، يريد وإن كان الغاصب معدما يرجع على الذين أهديت إليهم اتبع الذين أهديت إليهم بذلك الغاصب.(8/230)
حكم ولم أرد حكمه ولم أر لربها على المشتري شيئا صحيح لأنه حكم باجتهاد فيما لا نص فيه. وهذا الذي حكى عن بعض أهل المشرق من الحكم على الواضع بالوضيعة هو المشهور من مذهب ابن القاسم الذي حكيناه. وفي قول أشهب وإن كنت أراها لازمة للبائع الواضع كما حكم لي وإن كان مذهبه خلاف ذلك دليل واضح على اعتقاده لتصويب المجتهدين فيما اختلفوا فيه باجتهادهم.
[يوكل الرجل على حق له ببلد فيذهب إليه يخاصم له فيه الذي هو عليه]
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ وقال أصبغ في الرجل يوكل الرجل على حق له ببلد فذهب إليه يخاصم له فيه الذي هو عليه، فخاصمه وثبت عليه الحق، فقال الذي عليه الحق إني قد قضيته الحق وليس له قبلي شيء فاكتب إلى البلد الذي هو فيه ليوقفه السلطان فيحلفه ما اقتضى مني شيئا، فإن حلف أخذ مني وإن نكل سقط الحق عني. قال أصبغ: ليس ذلك له وأرى أن يقضي عليه الحق وترجأ له اليمين يحلفها إياه إذا شاء ويقضي عليه الساعة بغرم ما ثبت عليه.
قلت: فإذا قضيت عليه الساعة بالغرم ثم وجد صاحبه بعد ذلك أيحلف له؟ قال نعم. قيل: فإن نكل عن اليمين؟ قال: إن نكل حلف المطلوب الذي غرم ويبرأه من الحق ويعدى عليه بالذي كان قبض منه وكيله. وإن حلف تم حقه وكان قضاء قد مضى.
قيل له: فإن مات الذي كان له الحق قبل أن يحلفه المطلوب الذي غرم وقد كان له أن يحلفه ففاته بالموت؟ قال: يحلف ورثته على علمهم أنهم ما علموه قضاه.
قال محمد بن رشد: قوله فخاصمه وثبت عليه الحق يدل على أنه كان منكرا حتى ثبت عليه. وإيجاب اليمين على الطالب له في دعوى(8/231)
القضاء بعد إنكار الدين أصل قد اختلف فيه قول مالك، من ذلك مسألة رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك في الذي يقول لامرأته أمرك بيدك فتقول قد طلقت نفسي ثلاثا فيقول لم أرد الطلاق ثم يقول بعد ذلك أردت واحدة إنه يحلف على نيته ويلزمه تطلقة واحدة. وأنكر ذلك هناك أصبغ فقال: هذا عندنا وهم من السماع، ولا تقبل منه نيته بعد أن قال لم أرد شيئا، والقضاء ما قضت المرأة من البتات. فإيجابه اليمين على الطالب في هذه المسألة بقوله ويرجأ له اليمين يحلفها إياه إن شاء اختلاف من قوله في هذا الأصل، وهو أصل قد اختلف فيه قول مالك. من ذلك الذي يدعي عليه الوديعة فيجحدها فتقوم عليه البينة بها فيدعي ضياعها أو ردها. والقولان قائمان من المدونة من كتاب اللعان وكتاب العتق الأول.
وقوله إنه يقضي عليه بالحق وترجأ له اليمين يحلفها إياه معناه في البعيد الغيبة على ما قاله محمد بن عبد الحكم، فإنه فرق في ذلك بين قريب الغيبة وبعيدها. ولا اختلاف عندي في القريب الغيبة. وأما البعيد الغيبة فيتحصل فيها أربعة أقوال حسبما مضى القول فيه في رسم حمل صبيا من سماع عيسى قبل هذا، ومضى بيان ذلك أيضا في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الأقضية، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك.
وقوله: وإن نكل الطالب حلف المطلوب الذي غرم وبرئ من الحق ويعدى عليه بالذي كان قبض وكيله إن كان قد دفعه إليه، وأما إن كان لم يدفعه إليه فقال في رسم حمل صبيا من سماع عيسى: ولا يرجع على الوكيل بشيء مليا كان أو معدما. ومعناه لا يلزمه أن يرجع عليه ويترك الرجوع على صاحب الحق، بل له أن يرجع عليه إن أحب، فإن رجع على صاحب الحق رجع صاحب الحق على الوكيل.
أما قوله إذا مات الطالب قبل أن يحلف فإن له أن يحلف ورثته على علمهم أنهم ما علموه قضاه، قيل وإن لم يدع المطلوب عليهم العلم، وهو ظاهر قول أصبغ في هذه الرواية وقول مالك في رسم الطلاق من سماع(8/232)
أشهب من كتاب الطلاق؛ وقيل بل إذا ادعى عليهم العلم على ما في كتاب النكاح الثاني وكتاب بيع الغرر من المدونة. وإنما يجب عليهم اليمين إذا كانوا ممن يظن بهم العلم على ما قال في كتاب العيوب والأقضية من المدونة، فإن نكلوا عن اليمين حلف المطلوب على ما يدعي معرفته من أنه قد دفعه لا على أن الورثة يعلمون أنه قد دفع، فهذه اليمين ترجع على غير الصفة التي نكل عنها الورثة. ولها نظائر كثيرة، فيختلف في لحوق هذه اليمين إذا لم يدع المطلوب عليهم العلم لأنها يمين تهمة، ولا يختلف في رجوعها على المطلوب لعلمه بما يحلف عليه كما يختلف في رجوع يمين التهمة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أبضع مع رجل دنانير فضاعت بعد بلوغه]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل أبضع مع رجل دنانير فضاعت بعد بلوغه، فقال المبضع إنما أرسلتها معك تدفعها إلى فلان فلم تدفعها إليه، وفلان ذلك معروف هناك قائم، وقال المبضع معه إنما أرسلتها معي أشتري لك بها ثوبا فضاعت قبل أن أشتري بها أو اشتريت بها فعطب أو غرق. قال أصبغ: أرى القول قول رب الدنانير مع يمينه، وأرى الرسول ضامنا إن لم تكن له بينة، وأرى البينة عليه، وأراه هو المدعي لأنه قد أقر بوصول الدنانير وقبضها منه ودفعه إليه إياها وأنها له، وادعى ما أتلفها عليه، فهو المدعي، والسنة أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. فأرى المدعى عليه صاحب الدنانير لأنه قد ثبتها قبل الدعوة بالإقرار بها. وهذا رأيي فيما فسرت، وقياس على قول كان يقوله ابن القاسم فيمن دفع إلى رجل دنانير يشتري له بها طعاما فاشترى له شعيرا وقال بهذا أمرتني وقال الآخر بالقمح أمرتك. وكنت أعرفه دهره يقول القول قول رب الدنانير لأن هذا قد أقر له بها(8/233)
وادعى عليه فيه ما ينقضه وما يضره، وادعى حين تعدى ما لم يأمره فهو المدعي، ثم رجع عنه بعد حين وقال بقول أشهب إن القول قول المأمور ولا يكون القول قول الآمر. ولا يعجبني أنا ذلك، وقوله الأول به أقول: القول قول الآمر وعليه أقيس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم باع شاة من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يبضع مع الرجل بالبضاعة من العروض ليبلغها إلى موضع أمره به]
مسألة وسئل عن الرجل يبضع مع الرجل بالبضاعة من العروض ليبلغها إلى موضع أمره به، فيقدم على الموضع فيسأل عن البضاعة فيزعم أنه تركها بموضع سماه في بعض الطريق مع متاع له أيضا، ويزعم أنه خاف عليها وعلى متاعه فتركها وترك بعض متاعه أو متاعه كله وتخلص ببدنه، وذلك بقوله لا يعرف مما قال منه شي، هل ترى عليه يمينا فيما صنع وتراه مصدقا في قوله؟
وأرأيت إن أمره المبضع أن يبيع البضاعة في بعض الطريق بموضع سماه له ويبلغ بالثمن إلى أهله، فلما أتى الموضع لم يعط بها ثمنا يرضيه فجعلها في الموضع نفسه عند رجل أمره ببيعها ومضى إلى بلده، وهذا كله بقوله، أتراه ضامنا في تركه البيع وتركه البضاعة ولم يؤمر بذلك فضاعت؟ وكيف لو لم يتركها ومضى إلى بلده، وهذا كله بقوله، أتراه ضامنا في تركه البيع وتركه البضاعة ولم يؤمر بذلك فضاعت؟ وكيف لو لم يتركها ومضى إلى بلده حيث أمره بدفع المال فأصيب في الطريق فذهبت منه، أتراه ضامنا أم لا ترى عليه شيئا إذا زعم، أنه إنما أراد النظر لصاحب البضاعة والتوفير عليه إذ لم يجد ثمنا يرضاه؟ وكيف إن(8/234)
أمره بثمن معلوم فلم يجد لها ذلك الثمن فخرج بها إلى بلده كما أعلمتك؟ وما الذي ترى له أن يصنع إن أتى الموضع الذي أمره بالبيع فيه فلم يجد فيه ثمنا يرضاه أو لم يجد الثمن الذي أمره به إن أمره بثمن؟ وكيف إن أشهد على جميع ما ذكرت لك وكان ما قال معروفا؟ قال أصبغ: أما الأمر الأول في تخليفه إياها ببعض الطريق كما ذكر من عجز أو خوف فلا أرى عليه شيئا، وأرى القول قوله إذا حلف على ذلك وخلفها عند مستودع اختيارا منه وحرزا عنده واجتهادا مع شيته أو غير شيته، كل ذلك سواء، وأراه بريئا على هذا هنا إن شاء الله، وخيرها لصاحبها وشرها عليه. وأما الذي أمره ببيعها فلم يبعها فأرى إن كان سأله ثمنا فلم يجده فلا شيء عليه، وهو مثل الأول إذا عجز وخلفها عن عجز أو عن أمر من صاحبها ألا يتجاوز بها؛ وإن كان لم يسم له ثمنا وقد أمره بالبيع ولا يجاوزه فترك ذلك وجاوزه بالسلعة إلى موضع آخر فأراه ضامنا وإن كان ذلك منه نظرا فيما يقول فلا يصدق. وإن كان لما ترك البيع أقرها بمكانها نظرا ليعاود البيع به ولم يجاوزها لما يرجوه فيما بعد ذلك، فقد لا يبيع الرجل عند أول سوم ويرجو غيره ويترك البيع به ثم لا يجد بعد ذلك بيعا فلا ضمان على هذا إذا كان على هذا هكذا وإنما خلفها لهذا وشبهه. وإن كان إنما أمره بالبيع به ولم يأمره بالتخلف وأهمل له المضي به إن لم يستبع له هناك فخلفها من غير عجز عنها ولا خوف لوجه بين لا يقدر معه على المضي بها وعذر بين فأراه ضامنا أيضا؟
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة تشتمل على ثلاث مسائل: أحدها أن يبضع معه البضاعة من العروض ليبلغها إلى موضع سماه فيقدم الموضع دونها ويزعم أنه خاف عليها فتركها في الطريق مع متاعه أو بعض(8/235)
متاعه فخلص ببدنه، ولا يعلم ذلك إلا بقوله، فهذه المسألة جوابه فيها أنه مصدق مع يمينه أنه خلفها ببعض الطريق كما ذكر من عجزه أو خوف عند مستودع اختيارا منه وحرزا عنده واجتهادا مع شية أو غير شية ولا شيء عليه. فأما تصديقه أنه خاف عليها فاستودعها في الطريق نظرا لصاحبها فصواب لا اعتراض فيه، واليمين في ذلك إذا لم يكذبه صاحبه يمين تهمة يجري الأمر فيها على الاختلاف المعلوم في لحوقها من غير تحقيق الدعوى. وأما تصديقه أنه تركها في الطريق لعجزه عن حملها أو إسقاطه عنه الضمان بذلك فهو مثل قول ابن القاسم في رسم شك في طوافة من سماع ابن القاسم في الذي يبضع معه البضاعة إلى بلد آخر فلا يجد لها محملا معه فيعطيها لبعض من يثق به معه أنه لا ضمان عليه، وفيه نظر لأنه شبهه بالحاضر يستودع الوديعة فيستودعها غيره من خراب منزل أو عورة بيت أو ليس عنده من يحفظ منزله أنه لا ضمان عليه، وهي لمسألة المسافر أشبه؛ لأنه إذا دفعها إليه في السفر إنما دفعها إليه لتكون عنده ولا يستودعها غيره. فالذي يأتي فيها على مذهب مالك قياسا على قوله في المدونة في المسافر إنه ضامن للبضاعة إذا دفعها إلى غيره ليحملها وإن لم يجد هو لها محملا. ولهذا الذي ذكرناه لم ير سحنون قول ابن القاسم حسنا على ما قاله في الرسم المذكور. وكذلك يأتي على مذهبه في هذه المسألة أنه إن كان أخذها ليحملها فعجز عن حملها واستودعها في الطريق فتلفت له أنه ضامن لها.
وأما المسألة الثانية وهي أن يأمره أن يبيع البضاعة بالطريق بثمن سماه ويبلغ بالثمن إلى أهله فلم يجد الثمن الذي سماه له في ذلك الموضع، فجوابه فيها أنه لا شيء عليه إذا تركها في ذلك الموضع عن عجز أو عن أمر من صاحبها ألا يجاوز بها ذلك المكان، يريد بعد يمينه أنه لم يجد بها في ذلك الموضع ذلك الثمن الذي سماه له، فإن لم يأمره صاحبها ألا يجاوز بها ذلك المكان فتركها فيه وهو غير عاجز عن حملها فتلفت ضمنها، فسواء قال له إن لم تستبع فاحملها أو سكت عن ذلك هو ضامن لها إن تركها في ذلك الموضع وهو قادر على حملها، إلا أن يخاف عليها(8/236)
في حملها. وإنما ذلك من أجل أنه أمره إن باعها أن يحمل الثمن، فدل ذلك من أمره على أنه أراد إن لم يبعها أن يحملها. ولو أمره أن يبيعها في الطريق ويدفع الثمن هناك إلى من سماه له لوجب أن يكون ضامنا لها إن لم تستبع فحملها مع نفسه إلا ألا يجد من يودعها عنده في ذلك الموضع فيكون ذلك عذرا يسقط عنه الضمان في حملها.
وأما المسألة الثالثة وهي أن يأمره أن يبيع البضاعة بالطريق ويحمل الثمن مع نفسه إلى أهله ولا يسمى ما يبيعها به، فهذا جوابه فيها أنه لا شيء عليه في تركه إياها في ذلك الموضع ليعاود بها البيع إذ قد لا يبيع الرجل في أول سوم لما يرجوه من الزيادة وإن كان قد لا يجد فيها ذلك الثمن الذي تركه، وإن كان قال له إن لم تستبع فاحملها مع نفسك أو سكت عن ذلك. وأما إن قال له لا تحملها إن لم تستبع واتركها هناك فحملها فتلفت فهو ضامن لها. ولم يجب على ما سأله عنه إذا لم يجد بها ما يرضاه من الثمن فتركها عند رجل أمره ببيعها ومضى إلى بلده. والجواب في ذلك أنه ضامن لها إن تلفت؛ لأن الوكيل على البيع ليس له أن يوكل غيره عليه. وقد مضى الكلام على هذا في رسم الصرف من سماع يحيى. وقد مضى الكلام إذا لم يستبع فتركها في ذلك الموضع مودعة وأن الحكم في ذلك أن يكون ضامنا لها إن تلفت إلا أن يكون أمره ألا يحملها ولا يتجاوز بها ذلك الموضع أو خاف عليها في حملها. فهذا تفسير قول أصبغ في هذه المسألة، وهو كله صحيح على أصولهم لا اعتراض فيه، إلا فيما ذكرناه في المسألة الأولى.
[مسألة: يوكله على مخاصمة ويشهد أنه جعله فيما أقر به عليه لخصمه كنفسه]
مسألة قيل لأصبغ: أرأيت الرجل يوكل وكيلا على مخاصمة ويشهد أنه جعله فيما أقر به عليه لخصمه كنفسه، فيقر الوكيل بأشياء. قال أصبغ: إن وكله على خصومة ولم يفسر شيئا فهو وكيل على المرافعة وحدها، وليس له صلح ولا إقرار، وهو وجه(8/237)
الوكالة أبدأ إذا أبهمت حتى يستثني فيها، فإذا استثنى فيها وكان الاستثناء أن جعل له الصلح أو الإقرار وجعل بمثابة نفسه في الصلح، أو الإقرار إفصاحا كان كذلك، وإلا لم تعد الخصومة إلى الصلح ولا إلى الإقرار لم يجز ذلك عليه ولا يلزمه ذلك إن فعل، كتب في ذلك أنه بمثابته أو لم يكتب، فيحمل مثابته ومحمل نفسه إن جعله في مثابته محمل الخصومة وحدها لا يعدوه ذلك كذلك يكون القضاء وكذلك يعمل عليه الحاكم ويقبل الوكالة ولا يردها ثم ينظر في أمورهم لصاحب الوكالة وعليه كما يكون لخصمه وعليه من جميع وجوه الخصومات والدفاع والثبت والاستحقاق والحكومات والفصل ما عدا الإقرار والمصالحة فلا تلحق الموكل.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إن وكله على الخصومة ولم يفسر شيئا فهو وكيل على المدافعة وحدها وليس له صلح ولا إقرار وهو وجه الوكالة إذا أبهمت، يريد إذا أبهمت في الخصومة فلم ينص فيها على ما سواها من صلح ولا إقرار.
وقوله حتى يستثني فيها، يريد حتى يتبين فيها أنه جعل إليه مع الخصومة ما سوى المرافعة من الصلح أو الإقرار أو غير ذلك، فعبر عن التسمية بالاستثناء على سبيل التجوز في الكلام. وكذلك قوله في آخر المسألة ما عدا الإقرار والمصالحة فلا يلحق الموكل، معناه ولا يلحق الموكل الإقرار المصالحة فعبر عن ذلك بلفظ الاستثناء تجوزا.
وقوله إن الحاكم يقبل الوكالة ولا يردها وإن لم يجعل إليه فيها إلا المرافعة فهو خلاف ما ذهب إليه ابن العطار في وثائقه من أن الوكالة لا تقبل منه على الخصام حتى يجعل إليه فيها مع الإنكار والإقرار. ونزلت فقضى فيها لا يقبل منه الوكالة على ذلك إلا أن يحضر مع وكيله ليقر بما وقعه عليه حكمه أو يكون في وقت الحكم قريبا من مجلس القاضي. وقد(8/238)
مضى في نوازل عيسى ورسم أسلم من سماعه ما فيه بيان لهذه المسألة، وبالله تعالى التوفيق، لا إله إلا هو ولا معبود سواه.
تم الجزء الثاني من البضائع والوكالات والحمد لله، وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد المصطفى وعلى آله وصحبه وسلم.(8/239)
[كتاب العيوب الأول]
[اشترى جارية فأقامت عنده سنين ثم قالت قد ولدت مع سيدي الذي باعني منك]
كتاب العيوب الأول(8/241)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على محمد، عونك يا الله من سماع ابن القاسم
من مالك من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه قال فيمن اشترى جارية فأقامت عنده سنين ثم قالت قد ولدت مع سيدي الذي باعني منك، فقال لا يحرمها ذلك على سيدها، وذلك عيب ترد منه إن باعها وكتمه. قال سحنون: قال ابن القاسم: يريد إذا باعها للمشتري الذي زعمت له ذلك، فإنه إذا لم يبين ذلك لمشتريها منه أنها قد ذكرت له أنها قد ولدت مع سيدها الأول كان عيبا ترد منه؛ لأن أهل الورع لا يقدمون على مثل هذا.
قال محمد بن رشد: قوله إن الجارية لا تحرم على سيدها بقولها(8/243)
له بعد سنين قد ولدت من سيدي الذي باعني صحيح لأنها تدعي الحرية أو عقد عتق إن كان سيدها الذي باعها حيا، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» وتتهم أيضا على إرادة الرجوع إليه وأن ذكرت ذلك بحدثان شرائه إياها، فكيف إذا لم تذكره إلا بعد سنين، إلا أن يرع هو في خاصة نفسه إذا لم تظهر له تهمتها فيما قالته فهو حسن، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه» الحديث، وأخبر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن رضاع امرأة فتبسم وقال: «كيف وقد قيل» ، وذلك بين من قوله إنه عيب إن باعها ولم يبين من أجل أن أهل الورع لا يقدمون على مثل هذا. ولو أخبره قبل أن يشتريها مخبر صدق أنها حرة من أصلها وأن سيدها أعتقها أو أنها ولدت منه لما حل له أن يشتريها من جهة قبول خبر الواحد لا من طريق الشهادة. ولو قالت ذلك في عهدة الثلاث أو في الاستبراء لكان له ردها به على قياس قوله إن ذلك عيب يجب عليه أن يبين به إذا باعها؛ لأن ما حدث من العيوب في العهدة والاستبراء فضمانه من البائع، وبذلك أفتى ابن لبابة وابن مزين وعبد الله بن يحيى وغيرهم من نظرائهم، وقع ذلك في أحكام ابن زياد، خلاف ما روي عن مالك من رواية المدنيين عنه بأن ذلك ليس بعيب ترد منه إذ لا يقبل ذلك منها. وقد روى داود بن جعفر عن مالك نحوه، قال إذا سرق العبد في عهدة الثلاث رد بذلك، وإن أقر على نفسه بالسرقة لم يرد لأنه يتهم على إرادة الرجوع إلى سيده. ومعنى ذلك عندي إذا كانت سرقته التي أقر بها لا يجب عليه القطع فيها، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: يبيع العبد ويقول عهدتك وتباعتك على]
مسألة وقال في الذي يبيع العبد ويقول عهدتك وتباعتك على(8/244)
الذي اشتريته منه، ولعله ليس من أهل البلد ولا المعروف وهو حاضر يشير إليه أو غائب وهو معروف. قال مالك: إن كان معروفا وهو غائب أو حاضر فهو سواء، وشرطه باطل إلا أن يكون عند مواجبة البيع، وهو أحب ما فيه إلي. وقال مالك: كل من اشترط عهدة لم تكن عند الصفقة فهو باطل وتباعته على بائعه.
قال محمد بن رشد: قوله: وهو أحب ما فيه إلي دليل على الاختلاف، وفي ذلك ثلاثة أقوال: قيل إن الشرط عامل، وقيل إنه غير عامل، وقيل إنه عامل بالقرب دون البعد. وإذا لم يكن عاملا فقيل إن البيع به فاسد، وقيل يبطل الشرط ويصح البيع، وهو قوله في هذه الرواية، وقد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم سلم دينارا في ثوب إلى أجل من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال، وسيأتي أيضا في هذا الرسم من سماع عيسى من هذا الكتاب.
[مسألة: اشترى عبدا فأبق عنده فزعم العبد أنه أبق عند سيده الأول]
مسألة قال مالك فيمن اشترى عبدا فأبق عنده فزعم العبد أنه أبق عند سيده الأول، قال: إن كان بائعه أخبره أنه لغيره فلا يمين عليه، وإن لم يكن أخبره فلا بد من اليمين.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم في هذه المسألة إيجاب اليمين على البائع وإن لم يعلم أنه أبق عند المشتري إلا بقوله، مثل ظاهر روايته هذه عن مالك في قوله: وإن لم يكن أخبره فلا بد من اليمين، إذ لم يفرق فيما بين أن يثبت إباقه عند المشتري أو لا يثبت ذلك عنده، خلاف ما في المدونة، ومذهب أشهب أنه لا يمين عليه في ذلك، مثل(8/245)
روايته عن مالك في رسم الأقضية الثاني من سماعه بعد هذا، ومثل ما في المدونة، حكى ذلك ابن المواز عنها وقال هو من رأيه قولا ثالثا إنه لا يمين عليه إلا أن يظهر العيب عند المشتري، فالذي في المدونة إنما هو لأشهب لا لابن القاسم. وكذلك القول في السرقة والزنا والعيوب التي تكون في الأخلاق، وأما [العيوب] التي تكون في الأبدان ويمكن أن تكون حادثة عند المشتري فلا اختلاف في وجوب اليمين فيها على البائع، وإنما يختلف في صفه اليمين، فقيل إنه يحلف علي البت في الظاهر والخفي، وهو قول ابن نافع ورواية يحيى عن ابن القاسم بعد هذا في رسم أول عبد ابتاعه فهو حر، وقيل إنه يحلف على العلم في الظاهر والخفي، وهو قول أشهب، وقيل إنه يحلف على البت في الظاهر وعلى العلم في الخفي، وهو مذهب ابن القاسم. وأختلف قوله إن نكل عن اليمين فقال في المدونة إنها ترجع علي المبتاع على نحو ما كانت على البائع، وإلى هذا ذهب ابن حبيب وقال في رسم الفصاحة من سماع عيسى إنه يحلف على العلم في الوجهين جميعا. وقد كان بعض الشيوخ يقول ليست هذه الرواية بخلاف لما في المدونة؛ لأنه إنما أوجب فيها اليمين على البائع من أجل قول العبد إنه أبق عند سيده، فهي شبهة وجبت بها اليمين عليه، وذلك غلط ظاهر، لا تأثير لقول العبد في ذلك؛ لأنه يتهم على إرادة الرجوع إلى سيده. [وبالله التوفيق] .
[مسألة: اشترى عبدا فوجد به عيبا يرد منه]
مسألة قال مالك فيمن اشترى عبدا فوجد به عيبا يرد منه فرأى(8/246)
صاحبه فأخبره بذلك وأشهد عليه أنه غير راض به وأنه بريء به، فأقبل ليأخذ عبده فوجده قد هلك بعد قول المشتري أو أبى البائع أن يقبضه فذهب المشتري يستأدي عليه فهلك العبد، قال: العبد من المشتري حتى يرده إلى البائع بقضاء السلطان أو بأمر يعرفه صاحب العبد فيقبض عبده. قال ابن القاسم: قال لي مالك إذا قضى به السلطان فهو من البائع وإن لم يقبضه من المشتري.
قال محمد بن رشد: قول مالك في آخر المسألة إن السلطان إذا قضى برده فهو من البائع وإن لم يقبضه من المشتري مبين لقوله قبل ذلك حتى يرثه إلى البائع بقضاء من السلطان. وقد اختلف بماذا تدخل السلعة المردودة بالعيب في ضمان البائع علي أربعة أقوال: أحدها أنها تدخل في ضمانه بإشهاد المبتاع على العيب وأنه غير راض به وإن لم يرض البائع بقبض عبده ولا حكم عليه به حاكم، وهو قول أصبغ؛ والثاني أنها لا تدخل في ضمانه حتى يرضى بقبض عبده أو يثبت العيب عند السلطان وإن لم يحكم بعد برده، وهو الذي يأتي على قول مالك في موطأه وعلى قول غير ابن القاسم في الشهادات من المدونة؛ والثالث أنه لا يدخل في ضمانه وإن رضي بقبضه حتى يمضي من المدة ما يمكنه فيه قبضه، وإن ثبت العيب عند السلطان فحتى يقضي برده ويمضي من المدة أيضا ما يمكنه فيه قبضه، وهو معنى قول مالك في هذه الرواية، فإذا قضى برده ومضى من المدة ما يمكنه فيه قبضه دخل في ضمان البائع بالحكم وإن لم يقبضه من المشتري، ولا خلاف في هذا؛ لأن حكم الحاكم لا يفتقر إلى قبض وحيازة، وإنما يختلف إذا رضي البائع بأخذ عبده دون حكم هل يدخل في ضمانه بنفس الرضي دون القبض؟ أو لا يدخل في ضمانه بنفس الرضي حتى يقبضه [أو يمضي من المدة ما يمكنه فيه قبضه؟ أو لا يدخل في ضمانه حتى يقبضه وإن مضى من المدة ما يمكنه فيه قبضه؟ فقيل إنه يدخل في ضمانه بنفس الرضى دون القبض، وقيل إنه لا يدخل في ضمانه بنفس(8/247)
الرضى حتى يقبضه أو يمضي من المدة ما يمكنه فيه قبضه] وقيل إنه لا يدخل في ضمانه حتى يقبضه وإن مضى من المدة ما يمكنه فيه قبضه، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية أو بأمر يعرفه صاحب العبد فيقبض عنده وهذا هو القول الرابع، وهو علي قياس القول بأن الرد بالعيب ابتداء بيع، وأن على البائع في البيع حق توفيه. ووجه القول الأول أن المبتاع لما كان بالخيار بين أن يرد بالعيب أو يمسك شاء البائع أو أبى لم يكن للاعتبار برضاه معنى ووجب إذا أشهد المبتاع أنه قد رد أن ينتقض البيع فتكون المصيبة من البائع؛ والقول الثاني على قياس القول بأن الرد بالعيب نقض بيع فإذا وجب بثبوت العيب أو بإقرار البائع به وجب أن يكون الضمان من البائع؛ والقول الثالث على قياس القول بأن الرد بالعيب ابتداء بيع وأن البائع ليس عليه حق توفيه، فإذا مضى من المدة ما يمكنه فيه القبض فالمصيبة منه وإن لم يقبض؛ والقول الرابع على قياس القول بأن الرد بالعيب ما لم يقبض المبتاع وإن مضى من المدة ما كان يمكنه فيه القبض. والاختلاف في هذا جار على اختلافهم في المكيال إذا سقط من يد المشتري وهو يكيل لنفسه بعد أن امتلأ وقبل أن يفرغه في وعائه، فروى يحيى عن ابن القاسم في رسم يشتري الدور والمزارع للتجارة من كتاب جامع البيوع أن ضمانه من البائع، وعلى هذا يأتي قوله في هذه الرواية فيقبض عبده. وقال سحنون في نوازله من الكتاب المذكور: مصيبة ما في المكيال من المشتري، فعلى قوله يدخل العبد المردود بالعيب في ضمان البائع بنفس رضاه بقبضه. وقد قيل إن على البائع في العروض حق توفية وأنها في ضمانه وإن طال الأمد وكان قد قبض الثمن ما لم يقبضها المبتاع أو يدعوه البائع إلى قبضها فيأبى، وهو قول أشهب في ديوانه، وعلى قياس قوله يأتي القول الرابع حسبما بيناه. وقد قال ابن دحون: قوله في هذه(8/248)
الرواية ويقبض العبد قول غريب يوجب أن كل من اشترى شيئا بعينه فمات قبل قبض المشتري له أنه من بائعه، ولا اختلاف في ذلك إلا في هذه القولة النادرة، وليس قوله بصحيح، إذ قد بينا وجه دخول الاختلاف فيه، وأنه قول من رأى على البائع حق توفية في العروض. قال ابن دحون: وإنما الاختلاف إذا احتبسه البائع بالثمن، فابن القاسم يقول حكمه حكم الرهن، وغيره يقول هو من البائع.
قال محمد بن رشد: والقولان لمالك في كتاب العيوب من المدونة، قوله فيه: وقد قال مالك بقولهما جميعا بعد أن ذكر اختلاف سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار في ذلك، فلو كان البائع لما رضي بقبض عبده بالعيب أبى المبتاع أن يرجعه إليه حتى يرد إليه الثمن فهلك فيما بين ذلك لجرى الأمر فيه على هذا الاختلاف. [وبالله التوفيق] .
[مسألة: تصدق بعبد أو ثوب ثم اطلع على عيب فيه]
مسألة قال وسمعت مالكا [يقول] قال فيمن تصدق بعبد أو ثوب ثم اطلع على عيب فيه، قال يأخذ قيمة العبد كما لو أعتقه لأنه قد فات فلا يستطيع رده. قال سحنون وعيسى: قيمة العيب للمتصدق به.
محمد بن أحمد: قوله إنه يأخذ قيمة العيب إذا تصدق به أو أعتقه هو المشهور في المذهب، وقد قيل إنه إذا تصدق به أو أعتقه فهو فوت ولا رجوع له بقيمة العيب، روى ذلك زياد عن مالك، ففي قياسه الصدقة على العتق نظر، إذ لا فرق بينهما، الاختلاف فيهما سواء ومن حق القياس أن يقاس ما اختلف فيه على ما اتفق عليه. وفي تعليله أيضا بقوله لأنه قد(8/249)
فات فلا يستطيع رده نظر؛ لأنه يفوت بالبيع ولا يستطيع رده ولا يرجع للعيب بشيء على مذهبه، فكان وجه القياس أن يقول يأخذ قيمة العيب كما لو فات لأنه قد خرج من يده بغير عوض. وقول سحنون وعيسى إن قيمة العيب للمتصدق به صحيح على معنى ما في الشفعة من المدونة في الذي يهب العبد لرجل ثم يستحق فيأخذ له ثمنا أنه لا شيء للموهوب له من الثمن، وبالله التوفيق.
[باع عبدا له أو وليدة وبه عيب غره أو دلسه]
ومن كتاب القبلة قال ابن القاسم وسمعت مالكا قال من باع عبدا له أو وليدة وبه عيب غره أو دلسه إنه يعاقب البائع ويرد عليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن الواجب على من غش أخاه المسلم أو غره أو دلس له بعيب أن يؤدب على ذلك مع الحكم عليه بالرد؛ لأنهما حقان مختلفان، أحدهما لله ليتناهى الناس عن حرمات الله، والآخر للمدلس له بالعيب، فلا يتداخلان ولا ينوب أحدهما عن الآخر، كالقطع في السرقة الذي يجب مع رد السرقة إلى المسروق منه.
[مسألة: ابتاع عبدا فأبق منه ثم وجد من يشهد له أنه كان أبق عند الذي باعه]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: من ابتاع عبدا فأبق منه ثم وجد من يشهد له أنه كان أبق عند الذي باعه، فقال الذي باعه لم يأبق منك ولكنك غيبته أو بعته، قال: يحلف بالله ما بعته ولقد أبق مني ثم يأخذ ثمنه من البائع.
قال محمد بن رشد: إنما كان القول قول المبتاع إنه أبق عنده،(8/250)
لأن مصيبته في الإباق من البائع إذا أثبت أنه باعه إياه وهو آبق. وهذا مثل ما حكى بعض الرواة عن سحنون أنه سئل عن الرجل يشتري العبد أو الأمة فيدعي أنه أبق في العهدة ولا بينة له في إباقه، فقال إن ادعى ذلك في الأيام الثلاثة حلف على ذلك، وإن لم يدع ذلك إلا بعد العهدة لم يقبل إلا ببينة، فجعل القول قول المبتاع في إباق العبد بالموضع الذي لو ثبت أنه أبق فيه لكانت مصيبته من البائع، فهو أصل واحد، والله تعالى ولي التوفيق.
[يبيع الميراث فيبيع الجارية ويقال إن الجارية تزعم أنها عذراء]
ومن كتاب حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها وسئل عن الذي يبيع الميراث فيبيع الجارية ويصاح عليها ويقول الذي يصيح عليها إنها تزعم أنها عذراء ولا يكون ذلك شرطا منهم في ذلك إنما يقولون إنها تزعم ثم يجدها غير عذراء فيريد أن يردها. قال: ذلك له. فقيل له: إنهم يزعمون أنا لم نشترط وإنما قلنا ذلك بأمر زعمته، قال: أرى أن يردها إلا أن يكونوا لم يقولوا له شيئا فأما أن يقولوا مثل هذا ثم يشتري المشتري وهو يظن ذلك فأرى أن يردها، وكذلك إن قال إنها تنصب القدور وتخبز، ويقولون إنها تزعم ولا يشترطون ذلك، فإذا هي ليست كذلك، فإني أرى أن يردها إلا ألا يخبروا شيئا فلا أرى عليهم شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في رسم البيوع من سماع أصبغ بعد هذا، وفي رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب النكاح، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه، سواء قال في الجارية أبيعها منك على أنها عذراء أو(8/251)
على أنها رقامة أو خبازة أو وصفها بذلك فقال أبيعها منك وهي عذراء أو رقامة أو خبازة، وذلك كله كالشرط لأنه إذا قال: إنها تزعم أنها على صفة كذا وكذا، أو قالت هي عند البيع إني على صفة كذا وكذا ولم يكذبها في قولها ولا تبرأ منه فقد أوهم أنها صادقة فيما زعمت، فكأنه قد باع على ذلك وشرطه للمبتاع. وإنما يفترق الشرط من الوصف في النكاح حسبما مضى القول عليه في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب النكاح فلا معنى لإعادته. [وبالله التوفيق] .
[مسألة: يشتري العبد فيجده أعسر]
مسألة وسئل عن الرجل يشتري العبد فيجده أعسر أتراه عيبا؟ قال نعم أراه عيبا وأرى أن يرده به. قال ابن القاسم وإن كان أيسر وانتفع بيديه جميعا فلا أرى أن يرد.
قال محمد بن رشد: في حديث عمر أنه كان أعسر أيسر. قال أبو عبيدة هو الذي يعمل بيديه جميعا، وقال والمحدثون يقولون أعسر أيسر وهو خطأ، قال ابن لبابة: الأعسر الذي لا يعمل إلا باليد اليسرى، والأيسر الذي يعمل بيديه جميعا. فإذا كان يعمل بيديه جميعا فليس ذلك بعيب كما قال لأنها زيادة منفعة إلا أن تنقص يمناه في قوتها والبطش بها عن يمنى من لا يعمل بيسراه فيكون ذلك عيبا، قاله ابن حبيب في الواضحة في الأعسر الذي هو أعسر أيسر يعمل بيديه جميعا. وقوله صحيح مفسر لقول ابن القاسم، وبالله التوفيق.(8/252)
[باع غلاما من رجل فأقام عنده ما شاء الله ثم وجد به عيبا كان عند بائعه]
ومن كتاب أوله
الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل عمن باع غلاما من رجل فأقام عنده ما شاء الله ثم وجد به عيبا كان عند بائعه، وبالعبد عيب يحدث مثله يكون عند الأول والآخر ولا يدرى متى حدث، قال أرى أنه مردود بالعيب الأول، وليس على الآخر في العيب الذي حدث شيء، وإنما هو مدع فيه أن يقول حدث عندك ومن يعلم ذلك، وليس على المبتاع أكثر من أن يحلف بالله ما علمت أنه حدث عندي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة صحيحة، إنما كان القول قول المبتاع في العيب الذي يقدم ويحدث إنه ما حدث عنده من أجل أنه قد وجب له أن يرد بالعيب القديم ويأخذ جميع الثمن، فالبائع يريد أن ينتقصه من الثمن بأن يقول حدث عندك العيب فلا ترده إلا أن ترد ما نقصه ذلك، فهو مدع عليه في ذلك، إن نكل المبتاع عن اليمين حلف البائع أنه ما يعلم العيب كان عنده أو ما كان عنده إن كان من العيوب الظاهرة على مذهب ابن القاسم، ثم كان المشتري بالخيار بين أن يرد ويرد ما نقصه العيب، أو يمسك ويرجع بقيمة العيب؛ فإن نكل البائع أيضا لزمه العيبان جميعا، وكان المبتاع مخيرا بين أن يمسك ولا شيء له أو يرد ولا شيء عليه، قاله ابن القاسم بعد هذا في رسم الفصاحة من سماع عيسى، وهو صحيح. [وبالله التوفيق] .
[مسألة: الجارية تشترى فتوجد غير مخفوضة]
مسألة وسئل عن الجارية تشترى فتوجد غير مخفوضة، أترى أن(8/253)
ترد؟ قال قد سئلت عن ذلك قبل اليوم، فقيل له فماذا قلت فيه؟ قال: رأيت أنها إن كانت من جواري العرب الذين يخفضون فإنه يردها، وإن كانت من رقيق العجم الذين لا يخفضون لم أر أن ترد منه. فقيل له: فالخدم؟ فقال: لا، ليس الخدم مثل المرتفعات، لا يرد الخدم من رقيق العجم ولا من رقيق العرب.
قال محمد بن رشد: وكذلك العبد يشترى فيوجد غير مختون، قاله ابن القاسم بعد هذا في رسم الجواب من سماع عيسى، وزاد أن من طال مكثه في أيدي العرب فهو بمنزلة ما ولد عندهم. وقال في سماع محمد بن خالد بعد هذا: إن الجارية الرائعة ترد إذا وجدت غير مخفوضة، ولم يفرق بين أن تكون من رقيق العرب ولا من رقيق العجم، وينبغي أن يحمل على أن هذا تفسير له، ولا يحمل على ظاهره من الخلاف؛ لأنه يبعد أن يرد رقيق العجم بذلك. وذهب ابن حبيب إلى أنه يرد بترك الختان والخفاض الرفيع والوضيع من بلاد المسلمين، وقال إن ما طال لبثه في أيدي المسلمين من رقيق العجم فهو بمنزلة ما ولد عندهم، يرد بذلك الرفيع والوضيع إلا أن يكونا من الصغر بحيث لم يفت ذلك منهما. وهذا كله في المسلمين من الرقيق، وأما النصارى منهم فلا يردون بترك الختان ولا الخفاض، قاله ابن حبيب. وقال في سماع محمد بن خالد في العبد المسلم يوجد غير مختون إنه يرد بذلك ولم يفرق بين وضيع ولا رفيع، مثل قول ابن حبيب في الواضحة، خلاف ما في رسم الجواب من سماع عيسى.
والصحيح في القياس والنظر ألا يفرق في الختان بين رفيع ولا وضيع بخلاف الجواري في الخفاض، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن يرد الرفيع والوضيع من الغلمان والجواري بترك الختان والخفاض، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، والثاني أنه لا يرد بذلك إلا(8/254)
الرفيع دون الوضيع من الجواري والغلمان جميعا، وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى، والثالث الفرق بين الجواري والغلمان على ما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.
[الغلام يبيعه الرجل ويتبرأ من الإباق في عهدة الثلاث ثم يموت]
ومن كتاب طلق بن حبيب وسئل مالك عن الغلام يبيعه الرجل ويتبرأ من الإباق في عهدة الثلاث ثم يموت ولا يعلم أنه مات في العهدة أو بعد ذلك، فقال البائع هو منك وقال المبتاع لا بل هو منك، فقال: أراه من المبتاع ضامنا حتى يأتي عليه ببينة أنه مات في عهدة الثلاث، فإن لم يعلم ذلك وجهل فهو من المبتاع. فقيل له: والعور وغير ذلك من العيوب؟ قال نعم هو من المبتاع إلا أن يعلم أن ذلك أصابه في العهدة. وأخبرني العتبي قال: قال ابن نافع عن مالك: إن المصيبة من البائع حتى تعلم البينة أنه خرج سالما من عهدة الثلاث.
قال محمد بن رشد: رواية ابن نافع هذه وقعت في بعض الروايات مختصرة، وهي في المدونة وفي أول سماع أشهب كاملة، قال فيها: إن المصيبة من البائع حتى يعلم أنه خرج من العهدة سالما، ووقع في آخر سماع أشهب أن المصيبة من المبتاع حتى يعلم أنه مات في العهدة مثل رواية ابن القاسم هذه. والخلاف إنما هو إذا عمي أمره فلم تعلم حياته ولا موته أو علم أنه مات ولم يعلم إن كان موته في عهدة الثلاث أو بعدها. وأما إن علم أنه مات في عهدة الثلاث فمصيبته من البائع بلا خلاف، فإن عمي أمره فترادا الثمن على إحدى روايتي أشهب وابن نافع عن مالك في أن المصيبة من البائع، ثم أتى العبد، كان للبائع ولم يرد إلى المبتاع، ولو أتى قبل أن يترادا الثمن كان للمبتاع، حكى ذلك محمد(8/255)
ابن المواز عن أشهب. ومعنى ذلك عندي إذا تراضيا على ذلك بغير حكم، وأما لو حكم بذلك عليهما لوجب أن يرد العبد إلى المبتاع لانكشاف خطأ الحكم في ذلك بما لا اختلاف فيه، وبالله التوفيق.
[يبيع السفينة من الرقيق من السند والزنج فتباع جملة فتوجد بينهم جارية حاملة]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل عن الرجل يبيع السفينة من الرقيق من السند والزنج فتباع جملة فتوجد بينهم جارية حاملة أترد؟ قال: ما أرى ذلك لهم؛ لأنهم وخش.
قال محمد بن رشد: قوله فتباع جملة يريد صفقة واحدة وقد عرف عددهم، إذ لا يجوز بيع الرقيق جزافا. ولم ير أن ترد الحامل منهن بعيب الحمل إذ لا ينقص الحمل من جملة الثمن شيئا من أجل أنهم وخش. ولو اشتراها وحدها لكان له أن يردها، قال ذلك في آخر سماع أصبغ على قوله في المدونة وغيرها إن الحمل عيب في الوخش والمرتفعات. وكان القياس إذا كان له أن يردها إذا اشتراها وحدها أن يكون له أن يردها بما ينوبها من الثمن إذا اشتراها مع غيرها جملة كما قال في المدونة وغيرها في السلع تشترى جملة فيوجد ببعضها عيب أن المعيب يرد منها بما ينوبه من الثمن، إلا أنه استحسن هذا في الحمل خاصة مراعاة لقول من لا يرى الحمل عيبا في وخش الرقيق. وممن قال بذلك ابن كنانة، ورآه ابن حبيب فيهن عيبا
[اشترى جارية من رجل فسأله عن حيضتها]
ومن كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسئل عن رجل اشترى جارية من رجل فسأله عن حيضتها، فقال إنها صغيرة ولم تحض بعد وكانت قصيرة فطمع المشتري أن يكون لها نشوز عند حيضتها، فلما اشتراها لم تقم إلا عشرا أو(8/256)
نحوها حتى حاضت.
قال: قال مالك: إن كانت قد بلغت ومثلها تحيض ويخاف أن تكون تحيض، فأرى أن يستحلفه أنها ما حاضت عنده، وإن كانت صغيرة فقد ائتمنه على ما قال، ولا أرى أن يستحلفه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كانت قد بلغت ومثلها تحيض، معناه: إن كانت قد بلغت في حالها مبلغا يشبه أن يحيض مثلها ويخاف أن تكون [قد] حاضت عنده استحلف ما حاضت عنده، واليمين ههنا يمين تهمة، فيدخل في ذلك من الاختلاف ما يدخل في لحوق يمين التهمة، وكذلك إن نكل عن اليمين لجرى الحكم في ذلك على الاختلاف في رد يمين التهمة، ترد عليه في أحد القولين بالنكول دون رد يمين، وفي القول الثاني لا ترد عليه إلا بعد يمين المشتري، والقول الأول هو المشهور، وقوله: وإن كانت صغيرة أي وإن كانت فيما يظهر من حالها أنها صغيرة لا يحيض مثلها فلا يمين عليه، وذلك بيّن على ما قال: لأن حيضتها وهي على هذه الحال علة فيها ومصيبة دخلت عليه، فلا حجة له في ذلك على البائع. [وبالله تعالى التوفيق] .
[مسألة: اشترى من رجل جارية مثلها لا توطأ فوجدها مفتضة]
مسألة قيل لسحنون: ولو أن رجلا اشترى من رجل جارية مثلها لا توطأ فوجدها مفتضة، قال: إن كانت من وخش الرقيق فليس ذلك بعيب، وإن كانت من علية الرقيق فذلك عيب يردها به، وإن كانت مثلها توطأ فليس ذلك بعيب كانت من علية الرقيق أو من وخشها.(8/257)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الجارية التي يوطأ مثلها محمولة على أنها قد وطئت فليس له أن يردها إذا وجدها مفتضة، والتي لا يوطأ مثلها محمولة على أنها لم توطأ، وليس ذلك كالشرط فيها، فإذا وجدها مفتضة كان له أن يرد الرفيعة بذلك؛ لأن الافتضاض ينقص من قيمتها، ولم يكن له أن يرد الوخش بذلك؛ إذ لا ينقص الافتضاض من قيمتها إلا أن يشتريها على أنها غير مفتضة بشرط، وذلك قائم من قوله في المدونة: إنه إذا اشترى الجارية البكر فافتضها فليس له أن يبيعها مرابحة يبين إلا أن تكون من الوخش اللواتي لا ينقصهن الافتضاض شيئا فليس عليه أن يبين، وبالله التوفيق.
[عبد ابتاعه رجل فخرج بائعه إلى مكة ووجد المشتري بالعبد عيبا]
ومن كتاب أخذ يشرب خمرا قال: وسئل مالك: عن عبد ابتاعه رجل فخرج بائعه إلى مكة، ووجد المشتري بالعبد عيبا توقيفا في يده فأتى به السلطان فأشهد عليه، ثم إن الرجل قدم من مكة والعبد مريض، أترى أن يرده؟ قال: نعم، أرى أن يرده إلا أن يكون مرضا مخوفا.
قال عيسى بن دينار: قال لي ابن القاسم: فإن كان مرضا مخوفا استؤني به ما لم يدخل في ذلك ضرر، فإن كان برؤه قريبا رده، وإن كان مرضا يتطاول به أو هلك رد إليه قدر قيمة العيب.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه في المرض المخوف إنه يستاني به يريد إن رجي برؤه إلى مدة قريبة لا يكون في الاستيناء إليه ضرر، تفسير لقول مالك فإن برئ بالقرب رد، وهو معنى قوله: وإن كان برؤه قريبا رده، وإن لم يبرأ بالقرب وتطاول أمره أو هلك رد إليه قيمة العيب، [ولو كان مرضه مرضا لا يرجى برؤه منه إلى مدة قريبة لم(8/258)
يستأن به على قياس قوله ورجع بقيمة العيب] وفي نوازل سحنون في بعض الروايات أنه يرده مريضا، وإن كان مرضه مرضا مخوفا رده ورد معه ما نقصه عيب المرض المخوف، فقيل: إن الاختلاف في هذا جار على اختلافهم في جواز بيع المريض، وليس ذلك عندي بصحيح؛ لأن الاختلاف في ذلك إنما هو مع تراضي المتبايعين على ذلك، والمردود عليه بالعيب لا يرضى أن يأخذ عبدا مريضا يخشى عليه الموت، ويدل على ذلك أيضا قول مالك: إن المرض المخوف فوت في الرد بالعيب، مع أن مذهبه جواز بيعه، فهو دليل قوله في المدونة في كتاب بيع الخيار في الأمة تشترى بالخيار فتلد في أيام الخيار.
وظاهر قوله في كتاب الاستبراء منها وفي رسم الجواب من سماع [عيسى بعد هذا وفي سماع] ، سحنون أيضا، ونص قول أصبغ في الثمانية قال: لا بأس ببيع المريض ما لم يقارب الموت أو ينزل به أسبابه من شدة المرض أو البلاء في جسده، مثل السل والمد ونحو ذلك، خلاف قول ابن الماجشون، واختيار ابن حبيب في أن بيعه لا يجوز إذا بلغ منه المرض مبلغا لو كان حرا لم يجز القضاء له إلا في ثلث ماله، وسحنون يميل أبدا إلى قول ابن الماجشون، فوجه قوله: إنه يرد بالعيب وإن كان مريضا مرضا مخوفا مراعاة قول من يرى الرد بالعيب نقض بيع، وأنه يرجع به إلى البائع المالك الأول. [وبالله تعالى التوفيق] .
[مسألة: ابتاع جارية من رجل فزوجها فولدت له أولادا ثم وجد بها عيبا]
مسألة وسئل عن رجل ابتاع جارية من رجل فزوجها فولدت له أولادا، ثم وجد بها عيبا كان عند الأول، أترى ولادتها فوتا أو يردها بولدها إن شاء أو يمسك؟ فتفكر فيها، ثم قال: أرى إن أحب أن يردها ردها بولدها، وإن أحب أن يمسك أمسك، ولا أرى له(8/259)
في العيب شيئا.
قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن هذا فقال: ذلك رأيي لم يكن قول ابن القاسم في كتاب سحنون.
قال محمد بن رشد: الزيادة في الرقيق في الرد بالعيب تنقسم على قسمين: زيادة في الحال، وزيادة في العين، فأما الزيادة في الحال مثل العبد والجارية يتخرجان أو يتعلمان الصناعات أو يفيدان الأموال، فهذا لا اختلاف فيه أنه ليس بفوت، والمشتري مخير بين أن يرد أو يمسك ولا شيء له؛ وأما الزيادة في العين، فتنقسم على ثلاثة أقسام: زيادة الولد، وزيادة الكبر، وزيادة السمن.
فأما زيادة الولد ففيها قولان؛ أحدهما: أن ذلك ليس بفوت وهو مخير بين أن يرد الجارية وولدها إن كانوا على ما قال في هذه الرواية، أو يردها ويجمع ثمنهم إن كان قد باعهم، على ما قال في رسم باع شاة من سماع عيسى، وبين أن يسمك ولا شيء له؛ والثاني: أنه فوت يكون فيه مخيرا بين أن يرد ويرد الأولاد أو ثمنهم إن كان باعهم وبين أن يسمك ويرجع بقيمة العيب، قاله ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية إذا كان قد باع الأولاد، ولا فرق بين أن يبيعهم أو يكونوا قياما على هذا القول، كما لا فرق بين ذلك في القول الأول، وأصبغ يقول: إنه إذا باع الأولاد رد الأم وأخذ حصتها من الثمن كأن البيع وقع عليها معهم يوم ولدوا، وهو بعيد.
وأما زيادة الكبر ففيها أيضا قولان؛ أحدهما: أن ذلك فوت يكون المبتاع فيه مخيرا بين أن يرد أو يمسك ويرجع بقيمة العيب، وهو قول ابن حبيب في الواضحة وحكاه عن مالك؛ والثاني: أنه فوت يوجب له الرجوع بقيمة العيب، وليس له أن يرده إلى البائع إلا أن يرضاه، وهو الذي في المدونة، ولا فرق بين زيادة الولد، وزيادة الكبر فيحمل كل واحد منهما على صاحبه، ويدخل فيه من الاختلاف ما دخل فيه، فيكون في زيادة الولد ثلاثة أقوال وفي زيادة الكبر ثلاثة أقوال.
وأما زيادة السمن في الجواري فلم يره ابن القاسم فوتا إلا أن فيه أيضا قولين؛ لأن ابن حبيب يراه فوتا يوجب التخيير للمبتاع بين أن يرد أو يمسك ويرجع بقيمة العيب، ويدخل فيه القول الثالث بالمعنى، والله الموفق.(8/260)
[بيع الرجل الأعداد من الكتان والبز]
ومن كتاب يسلف في المتاع والحيوان وسئل مالك: عن بيع الرجل الأعداد من الكتان والبز، تفتح فينظر إلى ثوبين أو ثلاثة أو رطل من الكتان أو رطلين، فيوجد الذي بعده لا يشبهه، قال مالك: إن الأعدال يكون أولها أفضل من آخرها، فإذا فتح العدل فجاء ذلك صنف واحد أو بعضه قريب من بعض، فإن كان الأول الذي نظر إليه هو أجود إلا أنه صنفه أو قريب منه، فإني أرى البيع جائزا عليه، ومثل ذلك الرجل يشتري البيت فيه تمر أو قمح فيكون أوله خيرا من آخره، فإذا جاء في ذلك تغير قريب رأيت ذلك جائزا، وإن جاء أمر فاسد رأيت أن يرد عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة مبينة لما في المدونة وغيرها؛ لأن العرف كالشرط عليه يدخل المتبايعان فلا قيام للمبتاع إلا فيما تفاحش وخرج عن العرف.
[مسألة: يقدم البلد بالكتان وما أشبهه من المتاع فتكون تلك السلعة من سلع الفسطاط]
مسألة وسئل: عن الذي يقدم البلد بالكتان وما أشبهه من المتاع فتكون تلك السلعة من سلع الفسطاط، ويكون لها عمال معروفون بأعمالهم فيقدم بها الرجل البلد، فيقول له بعض من يشتري منه من عمل من اشتريت؟ فيقول: من عمل فلان، وهو عمل قد عرفوه، فيشترونه منه ولا يفتحونه ولا ينظرون إليه.
قال مالك: لا أحب لهم أن يشتروا حتى يفتحوه وينظروا إلى شيء منه.(8/261)
محمد بن أحمد: وهذا كما قال: إن الاختيار ألا يشتروه حتى يفتحوه وينظروا إليه، فإن لم يفعلوا جاز؛ لأنهم إنما اشتروا على ما قد عرفوه وعاينوه، فلا يشبه شراء ذلك على الصفة؛ لأن الشراء على الصفة غرر، إذ لا تقوم الصفة مقام العيان، وإنما جاز عند الضرورة لبيع السلعة الغائبة إذ لا يمكن فيها المعاينة، وكبيع الأحمال على البرنامج [لما في حلها ونشرها على السوام من الضرر على أرباب المتاع] ، [وبالله التوفيق] .
[مسألة: بيع الثياب في الجراب بالبراءة]
مسألة وقال مالك في بيع الثياب في الجراب بالبراءة: لا خير فيه، وهو مما لا يستطاع أن تدرك معرفته، فلذلك رأيت البراءة لا ينتفع بها فيه إلا أن يكون الشيء غير المضر ولا المفسد.
قال محمد بن رشد: يحتمل أن يريد ببيع الثياب في الجراب بيع الأعدال في لفائفها أو أوعيتها على صفة البرنامج، ويحتمل أن يريد بذلك بيع الثوب الرفيع في جرابه الذي يفسده ويغيره إخراجه من جرابه ونشره؛ لأن هذا أجيز بيعه على الصفة لهذه الضرورة على اختلاف في ذلك، وقال: إنه لا خير في البراءة في ذلك من أجل أن معرفته غير مدركة، والمعنى في ذلك: أنه لما كان بيع البراءة إنما جاز من أجل أنه يلزمه أن يبين ما علم ولا يبرأ إلا مما لم يعلم، كره أن يبيع بالبراءة ما يجهل عيوبه، ورأى عيوب الثياب المبيعة على هذه الصفة مما يخفى على البائع ولا تدرك معرفتها فكره البراءة فيها لذلك، وقال: إنها إن وقعت برئ من الشيء اليسير مراعاة لقول من رأى أن البراءة نافعة فيها في القليل والكثير، وهو قول جماعة من السلف وقول ابن وهب من أصحاب مالك واختيار ابن حبيب، وقد كان مالك يراها في الرقيق والحيوان، قاله في موطأه، ثم رجع إلى أنها لا تجوز إلا في الرقيق [وحده] ، وبالله التوفيق.(8/262)
[أيام العهدة في الاستبراء متى هي]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية وسئل مالك: عن أيام العهدة في الاستبراء متى هي، أبعد الاستبراء أم قبله؟ قال: من يوم تباع تدخل في الاستبراء، ليس بعد الاستبراء عهدة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في رسم الأقضية من سماع أشهب، وإنما هذا إذا أقامت في الحيضة ثلاث ليال أو أزيد، وأما إن كان الاستبراء أقل من ثلاث فلا بد من تمام عهدة الثلاث، ولا تدخل عهدة الثلاث في عهدة السنة، قاله مالك في رسم الأقضية المذكور من سماع أشهب.
والفرق على قوله بين دخولها في الاستبراء، ودخولها في عهدة السنة أن عهدة الثلاث والاستبراء يتفقان في أن الضمان فيهما من البائع في كل شيء، فوجب أن يدخل الأقل منهما في الأكثر، وعهدة السنة إنما هي من الجنون والجذام خاصة فلم يدخل فيها الاستبراء ولا عهدة الثلاث.
وقد قال مالك في الواضحة إن عهدة السنة من يوم عقد البيع، وقاله ابن الماجشون في كتاب ابن المواز، ووجه هذا القول أنه لما كان الاستبراء وعهدة الثلاث وعهدة السنة يتفقان في الجذام والبرص وجب أن يدخل الأقل من ذلك في الأكثر فيما يتفقان فيه، وذهب المشايخ السبعة إلى أن عهدة الثلاث بعد الحيضة، فأحرى على قولهم أن تكون عهدة السنة بعد الاستبراء وبعد عهدة الثلاث، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن العهدتين والاستبراء لا يدخل شيء من ذلك في شيء ويبدأ بالاستبراء، ثم عهدة الثلاث ثم عهدة السنة، وهو قول المشايخ السبعة، والثاني: أنهن يتداخلن جميعا فيكون الاستبراء وعهدة الثلاث وعهدة السنة كلها من يوم عقد البيع، وهو قول مالك في الواضحة، وقول ابن الماجشون في كتاب ابن المواز، والثالث: أن الاستبراء وعهدة الثلاث يتداخلان جميعا فيكونان من يوم البيع وعهدة السنة بعد تمامها جميعا، وهو قول مالك في سماع أشهب ودليل قوله في هذه الرواية، وبالله التوفيق.(8/263)
[يشتري الجارية الفاره فإذا هي لقية]
ومن كتاب البز وسئل مالك: عن الرجل يشتري الجارية الفاره فإذا هي لقية أتراه عيبا ترد به؟ قال لي: نعم أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله: أن غير الفاره لا ترد بذلك، ومثله في رسم الأقضية الآخر من سماع أشهب، وفي رسم الأقضية الثاني منه أن الرد لا يجب بذلك إلا أن يشترط الرشدة، وابن القاسم يرى الرد في ذلك في الفاره، وغير الفاره وإن لم يشترط، فهي ثلاثة أقوال.
[مسألة: باع ثوبا فوجد به المبتاع خرقا فزعم البائع أنه قد بينه له وأنكر المبتاع]
مسألة وسئل مالك: عن رجل باع ثوبا فوجد به المبتاع خرقا فزعم البائع أنه قد بينه له وأنكر المبتاع، أترى أن يحلف في هذا عند المنبر؟ قال: لا أرى أن يحلف عند المنبر إلا في ربع دينار فصاعدا.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذا أنه لا يحلف عند المنبر إلا أن تكون قيمة العيب ربع دينار، وقد روي ذلك عن ابن المواز، وهو بعيد؛ لأنه يجب عليه إذا اختلف المتبايعان فقال البائع: بعت بعشرة دراهم وقال المبتاع: بل ابتعت بتسعة دراهم ألا يحلفا عند المنبر، وذلك لا يصح؛ لأن اليمين إنما هي في فسخ بيع الثوب وثمنه أكثر من ربع دينار، فكذلك الثوب المعيب إنما ينظر إلى قيمته؛ لأنه هو الذي يرد لا إلى قيمة عيبه، فينبغي أن يعدل بالكلام عن ظاهره فيقال: معنى قوله: إلا في ربع دينار فصاعدا، أن تكون قيمة الثوب الذي فيه العيب ربع دينار فصاعدا لا قيمة العيب، أو يقال: معناه إذا فات الثوب ووجب الرجوع بقيمة العيب، وبالله التوفيق.(8/264)
[يشتري الدابة فيسافر عليها فيجد بها عيبا في سفره]
ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها وسئل مالك: عن الرجل يشتري الدابة فيسافر عليها فيجد بها عيبا في سفره، ثم يقدم بها وهي على حالها، أله أن يردها؟ قال: نعم ذلك له.
قيل له: وإن ركبها؟ قال: نعم.
قيل: أفترى عليه في ركوبها شيئا؟ قال: لا، الحاضر قد يركب فيجد العيب فلا يكون عليه في ركوبها شيء، يريد قبل أن يجد.
قال ابن القاسم: وأما المسافر يجد العيب في سفره فليس عليه في ركوبها شيء وليس عليه أن يتكارى عليها من يقودها، ولكن إذا أتى بها على حالها ردها ولم يضره ركوبها، فإن عجفت في سفره كان بالخيار، إن أحب أن يردها ويغرم ما نقص العجف منها، أو يمسكها ويأخذ قيمة العيب.
وأما الحاضر فإنه إن ركبها ركوب احتباس لها بعد أن يجد العيب وإقامته عليها لزمته؛ لأن ذلك رضي منه بالعيب، فأما إن كان يركبها ليردها عليه وما أشبهه فلا شيء عليه في ركوبها وليردها.
قال محمد بن رشد: ابن القاسم يجيز للمشتري إذا وجد العيب بالدابة اشتراها في سفره أن يمضي في سفره ويركبها ولا يوجب عليه الرجوع بها إلا أن يكون قريبا لا مؤنة عليه في الرجوع، ويستحب له أن يشهد أن ركوبه إياها ليس برضى منه بالعيب، فإن لم يفعل لم يضره ذلك وكان له ردها، هو ظاهر قول مالك في هذه الرواية ومعناه.
وابن كنانة يقول: إنه إذا وجد العيب بالدابة في سفره فليشهد عليه ويردها ولا يركبها في ردها ألا أن يكون بين قريتين فيبلغ عليها إلى القرية ليشهد؛ وابن نافع يقول في المدنية: إنه لا يركبها ولا يحمل عليها إلا ألا يجد من ركوبها أو الحمل عليها بدا في السفر أو الغزو، فليشهد على ذلك ويركب أو يحمل حتى إلى الموضع الذي لا يجوز له أن يركبها فيه، يعني حتى يجد حكما وبينة تشهد له بذلك الموضع(8/265)
بما يستوجب ردها به، فاعرف أنها ثلاثة أقوال في ركوبها إذا وجد العيب بها في السفر، وأما في الحضر فليس له أن يركبها بعد وجود العيب بها إلا في ردها.
وقال ابن حبيب: إن ألجأ بائعها إلى الخصومة فيها فلا بأس أن يركبها في مكانه بالمعروف حتى يحكم له بردها؛ لأن عليه النفقة ومنه الضمان، وكذلك العبد والأمة له أن يستخدمهما بالمعروف، وليس له أن يطأ الأمة ولا يتلذذ بشيء من أمرها ولا يلبس الثوب إن كان الذي وجد العيب به ثوبا، فإن فعل كان رضى منه بالعيب، وليس على من وجد عيبا بدابة اشتراها في غير البلد الذي اشتراها فيه أن يردها إلى البلد الذي فيه صاحبها إلا ألا يجد السبيل إلى ردها عليه حيث هي لعدم بينة أو حكم، والسلعة بخلاف ذلك لما لزمه عن الكراء عليها في حملها من بلد إلى بلد.
وروى أبو قرة عن مالك أنه إن دعاه صاحبها إلى ردها كان بالخيار بين أن يردها أو يأخذ قيمة العيب، وكذلك من اشترى سلعة ثقيلة لا بد من الكراء عليها فلما حملها من دار البائع أو من الموضع الذي اشتريت فيه للبيع إلى داره وجد بها عيبا كان مخيرا بين أن يردها إلى الموضع الذي اشتراها فيه أو يمسكها ويرجع بقيمة العيب، إلا أن يرضى البائع أن يأخذها حيث هي ويؤدي إليه ما غرم في حملها فلا يكون للمبتاع أن يمسكها ويرجع بقيمة العيب، وإن كان البائع دلس له بالعيب لزمه أن يأخذها من دار المبتاع ويؤدي إليه أيضا ما غرم على حملها؛ لأنه غره في ذلك، وسواء في حمل السلعة من بلد إلى بلد دلس له بالعيب أم لم يدلس.
والفرق بين الموضعين أن الذي يشتري الخابية وشبهها إنما يشتريها لحملها إلى داره قد علم ذلك البائع، فوجب أن يفرق في ذلك بين التدليس وغير التدليس، كالذي يشتري الثوب فيقطعه قطعا يقطع مثله، ثم يجد به عيبا وقد نقصه القطع، وبالله تعالى التوفيق.
[باع متاعا بالبراءة]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق قال مالك: من باع متاعا بالبراءة لم تنفعه البراءة فيه إلا أن يكون الشيء التافه غير المضر ولا المفسد يوجد في الثوب أو في(8/266)
العكم فلا أرى أن يرد، فأما كل شيء مفسد مثل الخرق وما أشبهه، وكل ما كان مضرا بالثياب فإني أرى أن ترد عليه، وإن تبرأ منه بائعه، ولا ينفعه فيه، والجواب مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام في هذه المسألة في رسم يسلف في المبتاع فلا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق. [لا إله إلا الله ولا معبود سواه] .
[الثياب إذا بيعت بالبراءة]
ومن كتاب مرض وله أم ولد فحاضت قال مالك في الثياب إذا بيعت بالبراءة مثل الأعكام وغيرها فتوجد فيها عيوب، [قال] : إن كانت عيوب مفسدة، فلا أرى البراءة تنفعه، وإن كان خفيفا رأيت ذلك ينفعه في البيع.
قال محمد بن رشد: إنما خففه في اليسير؛ لأن ربيعة وغيره أجازه في القليل والكثير المفسد وغير المفسد، وقد مضى ذلك في رسم يسلف فلا معنى لإعادته والحمد لله.
[يبيع الفرس فيجد المشتري به رهصة فيريد رده]
ومن كتاب مساجد القبائل وسئل مالك: عن الرجل يبيع الفرس فيجد المشتري به رهصة فيريد رده ويقول البائع: اركبه فإنها تذهب إلى يوم أو يومين [قال] : ليس به عيب، قال ابن القاسم: يركب ويرده إن شاء.(8/267)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله أنه لا يلزمه أن ينتظر زوال العيب ولعله لا يزول، فإن زال قبل أن يحكم له برده لزمه إلا أن يكون عيبا تخشى عاقبته بعد برئه فيكون له أن يرده وإن برئ.
[بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. رب أعن]
[يشتري العبد بالبراءة]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب البيوع الأول قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع قالا: سئل مالك: عن الذي يشتري العبد بالبراءة أيبيعه بيع الإسلام وعهدة الإسلام ولا يخبرهم أنه اشتراه بالبراءة؟ قال: لا حتى يخبرهم أنه اشتراه بالبراءة.
قال محمد بن رشد: الاختيار أن يبيع بالبراءة من اشترى بالبراءة، وأن يبيع بيع الإسلام وعهدة الإسلام من اشترى بيع الإسلام وعهدة الإسلام، فإن باع بيع الإسلام وعهدة الإسلام من اشترى بالبراءة دون أن يبين أنه اشترى بالبراءة فهو مدلس بعيب؛ لأنه إن أعدم ووجد المشتري بالعبد عيبا لم يكن له أن يرده على الذي باعه منه من أجل أنه باع بيع براءة، فذلك عيب فيما اشترى يكون فيه مخيرا بين أن يمسكه أو يرده ولا خلاف في هذا الوجه.
وأما إذا باع بالبراءة وقد اشترى بيع الإسلام وعهدة الإسلام فهو بيع فيه غرر؛ لأنه ترك أن يكشف عما بالعبد الذي اشترى من العيوب التي يجب له بها القيام على من باعه ليلزم ذلك من باع منه بيع براءة فأضر من باع منه ونفع من ابتاع بمجهول لا يعلم قدره، واختلف في ذلك قول(8/268)
مالك، فله قرب آخر هذا الرسم أنه بيع فاسد يفسخ، وله في نوازل سحنون من كتاب الاستبراء إن ذلك يكره ولا يرد إذا وقع، ووقع ذلك أيضا في نوازل سحنون من هذا الكتاب في بعض الروايات.
[مسألة: ابتاع سمنا بدينار واستوجبه فإذا هو سمن بقر]
مسألة وسئل مالك: عمن ابتاع سمنا بدينار واستوجبه فإذا هو سمن بقر فقال: والله ما أردت إلا سمن غنم، أله أن يرده؟ قال: نعم له أن يرده.
قال محمد بن رشد: إنما أوجب له الرد؛ لأنه رأى أن سمن الغنم أطيب وأفضل من سمن البقر، وكذلك قال في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب جامع البيوع إن سمن الغنم ولبنها وزبدها أجود وأطيب من الذي من البقر، وذلك خلاف ما عندنا من أن سمن البقر أفضل من سمن الغنم.
فعلى ما عندنا ليس له أن يرد؛ لأنه وجد أفضل الصنفين، وهذا إذا كان سمن الغنم هو الغالب في البلد أو كانا متساويين فيه، فعلى رواية أشهب هذه كل شيء يباع من جنسين متساويين في البلد فالبيع يقع على أفضلهما، فإن وجد الأدنى كان له أن يرده، وإن وجد الأفضل لم يكن له أن يرده إلا أن يكون اشترى على أنه من الصنف الأدنى فوجده من الصنف الأعلى، فيكون له أن يرده بشرطه إذا كان لاشتراطه وجه، كمن اشترى عبدا على أنه نصراني فوجده مسلما فيكون له أن يرده إن قال: إنما اشترطت نصرانيا لأزوجه أمة لي نصرانية أو ليمين علي ألا أشتري مسلما وما أشبه ذلك مما يذكره ويكون له وجه على ما قال في رسم الجواب من سماع عيسى.
ولابن حبيب في الواضحة خلاف رواية أشهب هذه، قال: ومن اشترى أمة أو عبدا فألفاه روميا وما أشبهه من الأجناس التي يكرهها الناس ولم يكن ذكر له جنسه، فليس له أن يرده إلا أن يكون البائع نسبه إلى جنس فألفاه من جنس غيره أدنى عند الناس فله أن يرده، وبالله التوفيق.(8/269)
[مسألة: باعوا رقيقا في ميراث فأرادوا أن يكتبوا على أحد البائعين دون أصحابه]
مسألة وسئل مالك: عن قوم باعوا رقيقا في ميراث فأراد المشترون أن يكتبوا على أحد البائعين دون أصحابه فأبى ذلك عليهم، وقال: إنما بعناكم جميعا فلا أكتب لكم إلا جميعا.
فقالوا: إنا نريد أن تكتب لنا نصيبك من ذلك، فقال مالك: ما وجه ما كنا نعرف إلا أن يكتبوا عليهم جميعا.
قال محمد بن رشد: الذي يوجبه القياس والنظر أن لا امتناع له من أن يكتبوا عليه ما يصيبه من الثمن الذي قبضه؛ لأن من حقهم أن يقولوا: نحن نثق بسواك من البائعين فلا حاجة بنا إلى الإشهاد عليهم، ومن حقنا أن نشهد عليك بما يصيبك من الثمن، ولا يضرك ترك إشهادنا على سواك ممن باع معك ببقيته.
ووجه ما ذهب إليه مالك أنه قد يطرأ غريم بدين له على الميت، فإذا وجد الكتاب عليه بما ابتاع من تركة الميت كان من حقه أن يأخذ حقه منه ويقول له: ارجع على من باع معك ولعلهم ينكرونه، فإذا وجد الكتاب عليهم جميعا أخذ دينه منهم جميعا، وهذا استحسان؛ لأن من حقهم أن يقولوا له: إن كنت تخاف هذا فحصن لنفسك بالإشهاد على من باع تركة الميت معك، وأما نحن فلا حاجة لنا في الإشهاد عليهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يباع بيع الإسلام وعهدة الإسلام]
مسألة وسألت مالكا: عن العبد يباع بيع الإسلام وعهدة الإسلام(8/270)
بالبراءة من الإباق فيأبق في عهدة الثلاث، فقال لي: أراه من البائع حتى يعلم أن قد خرج من الثلاث ولم يصبه عطب؛ لأني لا أدري لعله مات في عهدة الثلاث التي يكون فيها من البائع، فأما إباقه في الثلاث فليس له على البائع حجة في ذلك، فأراه من البائع حتى يعلم أنه قد خرج من الثلاثة سالما فإذا علم ذلك كان من المبتاع.
ومن ذلك أن يوجد بعد الثلاث بيوم أو يومين فلا يكون للمبتاع رده على البائع وتكون عهدة الثلاث قد مضت على البائع وبرئ منها، وليس عليه أن يضرب فيه عهدة ثلاث أخرى من يوم يوجد، وكذلك لو وجده بعد شهر أراه يرجع إلى المبتاع ولا يكون له في الإباق على البائع شيء؛ لأنه قد تبرأ من الإباق.
قال: فقلت له: أرأيت إذا أبق في عهدة الثلاث فرأيته من البائع؛ لأنك لا تدري لعله قد تلف في الثلاثة أيرجع عليه بالثمن من ساعته فيؤخذ منه أم يضرب لذلك أجل حتى يعلم خروج العبد من الثلاثة سالما أو عطبا؟ فقال لي: بل أرى أن يضرب لذلك أجل حتى يتبين من أمر العبد، فإن علم أنه قد خرج من الثلاثة سالما لم يكن على البائع منه شيء وكان ضمانه من المشتري، وإن لم يعلم ذلك كان من البائع؛ لأنه لا يدري لعله عطب في الثلاثة، فهو أبدا في الثلاثة من البائع حتى يعلم أنه قد خرج منها سالما.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ابتاع رأسا وقبضه وصار منه وضمنه]
مسألة وسألت مالكا: كمن ابتاع رأسا وقبضه وصار منه وضمنه، أو(8/271)
كانت جارية فتواضعاها، ثم قبضها حين حاضت، فبقيت عند المشتري ما شاء الله من الزمان، ثم ظهر منها أو منه على عيب يرد منه، فرده أو ردها بذلك العيب، أيكون على الذي رد ذلك العبد أو الجارية في واحد منهما عهدة؟ قال لي: أما عهدة فلا عهدة عليه في واحد منهما، فإن كان ذلك عبدا رده على البائع ولا عهدة فيه وهو من البائع، وإن كانت جارية فلا عهدة فيها أيضا إلا أن ينتظر بها الحيضة [ثم يدفع إليه، ولا عهدة عليه في ذلك، وإنما ينتظر بها الحيضة] إذا كانت من الجواري المرتفعات ذوات الأثمان اللاتي إنما يبتعن للوطء، فأما إن كانت من وخش الرقيق ليست من المرتفعات ردت على البائع ولم ينتظر بها حيضة ولا غيرها.
قال: قلت لمالك: أرأيت إن كانت من الجواري المرتفعات فوضعت للحيضة فتلفت قبل الحيضة، ممن ترى ضمانها؟ قال: أرى ضمانها من البائع الذي ردت عليه، [وإنما وضعت ليعلم أحامل هي أم لا، فإذا ماتت ولم يتبين بها حمل فأراها من البائع الذي ردت عليه] ، وإن لم تحض حتى ماتت أو تلفت، قال: فقلت لمالك: إنها إنما أقامت عند المشتري أشهرا، ثم علم بالعيب فردها فوضعت للحيضة، فقال: نعم لا عهدة فيها على المشتري، وضمانها من البائع الذي ردت عليه، إلا أنها توقف حتى يعلم أنها حبلى أم لا، فإن ماتت فضمانها من البائع الذي ردت عليه، قيل له: أرأيت إن كان المشتري قد أصاب الجارية، ثم ظهر منها على عيب فردها على البائع على من(8/272)
ضمانها؟ فقال: ضمانها على البائع المردودة عليه الجارية إن ماتت قبل أن تحيض، إنما توضع فإن كانت غير حامل فإنما هي للبائع وضمانها عليه، وإن كانت حاملا لزمت المشتري ويرد عليه ما نقص العيب من ثمنها.
قال محمد بن رشد: رواية أشهب هذه عن مالك مثل قوله في كتاب الاستبراء من المدونة: إن الرد بالعيب نقض بيع وليس هو ابتداء بيع؛ لأنه لم ير على المبتاع في الجارية مواضعة، وإن وطئ، ورأى ضمانها من البائع، وجعله ابن القاسم فيه ابتداء بيع؛ لأنه رأى المواضعة على المبتاع في الجارية إذا ردها بالعيب بعد أن خرجت من الحيضة وإن لم يطأ، وروي ذلك عن مالك، فكذلك تكون عليه عهدة الثلاث والسنة على قياس هذا القول.
وقد رأيت لابن دحون أنه قال: لم يختلف ابن القاسم وأشهب في أن الراد ليست عليه عهدة ثلاث ولا سنة، وإنما اختلفا في الاستبراء على من هو، فابن القاسم يقول: هو على الراد، وأشهب يقول: هو على المردود عليه، فكأنه ذهب إلى أنه لا اختلاف بينهما في أن الرد بالعيب نقض بيع إذ لم يختلفوا على زعمه في أنه لا عهدة ثلاث ولا سنة على المبتاع، وإنما أوجب ابن القاسم المواضعة عليه وجعل الضمان منه إذا ردها بعد أن خرجت من الحيضة، وإن كان لم يطأ فقد حكم له بحكم البائع ابتداء، هذا مما لا إشكال فيه.
ومما يدل على صحة الاختلاف في الرد بالعيب هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع اختلافهم؛ في الذي يعتق عبده وعليه دين يغترقه فيرد السلطان عتقه ويبيعه عليه في الدين، ثم يجد المشتري به عيبا قديما قد علمه البائع فيرده عليه وقد أفاد مالا، هل يعتق عليه بالعتق الذي كان أعتقه أم لا؟ فمن رأى الرد بالعيب نقض بيع قال: إنه يعتق عليه؛ لأنه قد رجع إليه على الملك الأول وانتقض البيع فكأن لم يكن، قال ذلك ابن القاسم في المدونة، وهو رجوع منه إلى مذهب(8/273)
أشهب، ومن رأى الرد بالعيب ابتداء بيع قال: إنه لا يعتق عليه؛ لأنه ملك مبتدأ حادث، روي ذلك عن أشهب، وهو رجوع منه إلى مذهب ابن القاسم، فهو أصل اضطربا فيه جميعا، ويأتي الاختلاف أيضا في غير ما مسألة، ووجه قول مالك في رواية أشهب هذه عنه أن ضمان الجارية من البائع إذا ماتت في استبرائها قبل أن يظهر بها حمل، وإن كان المبتاع قد وطئها هو أنه يحملها على السلامة من الحمل، وابن القاسم يخالفه في ذلك ويحملها على الحمل من ذلك الوطء حتى تظهر البراءة منه، فيرى الضمان منه إذا ماتت في استبرائها، وإن كان الملك قد صح وثبت لغيره، قاله في سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق في الذي يستحق أمة له عند رجل اشتراها ويقيم عليها البينة فتموت بعد ذلك أن مصيبتها منه ويرجع المبتاع بالثمن على البائع إلا أن يكون قد وطئ فتكون المصيبة منه من أجل أن ماءه فيها، ويرجع المستحق على البائع بالأكثر من القيمة والثمن إن كان غاصبا فلا يختلف قول ابن القاسم في أن ضمان الجارية المردودة بالعيب من المبتاع إذا كان قد وطئها وماتت في استبرائها، وإن كان قد اختلف قوله في الرد بالعيب هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع على ما بيناه، ويلزم على قياس قول أشهب فيمن اشترى جارية رفيعة أو وضيعة وقد وطئها البائع فماتت في المواضعة قبل أن يظهر بها حمل أن ضمانها من المبتاع، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: يقول للرجل قد أوقف عبده للبيع بكم عبدك هذا فيقول بعشرين]
مسألة وسئل: عن الرجل يقول للرجل: قد أوقف عبده للبيع بكم عبدك هذا؟ فيقول: بعشرين دينارا، فيقول: قد أخذته بذلك، فيقول البائع مجيبا مكانه: لا أبيعه بذلك، أترى البيع لازما له؟ قال: نعم إني لأرى ذلك له لازما، وليس له أن يأبى أن يعطيه إياه بعشرين(8/274)
دينارا.
وكذلك أصحاب الإبل يوقف أحدهم بعيره في السوق فيقال له: بكم بعيرك؟ فيقول: بعشرين دينارا، فيقول السائم: ضع لي دينارا، فيقول: لا، فيقول: قد أخذته، فأراه له إذا قال أخذته، وليس لصاحب البعير في ذلك قول.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو قال السائم: أنا آخذه بكذا وكذا، فقال البائع: قد بعتكه بذلك، فقال السائم: لا آخذه بذلك للزمه الشراء على قول مالك هذا، خلاف ما في كتاب بيع الغرر من المدونة من أن ذلك لا يلزم البائع ولا المشتري بعد أن يحلف كل واحد منهما أنه ما ساومه على الإيجاب والإمكان، وإنما كان ذلك منه على وجه كذا وكذا لأمر يذكره وقال أبو بكر الأبهري: إن كان ذلك قيمة السلعة وكانت تباع بمثله لزمهما البيع، وإن كان لا يشبه أن يكون ذلك ثمن السلعة حلف أنه كان لاعبا ولم يلزمه البيع.
وهذا الاختلاف إنما هو في السلعة الموقوفة للبيع، وأما إن لقي رجل رجلا في غير السوق فقال له: بكم عبدك هذا أو ثوبك هذا لشيء لم يوقفه للبيع، فقال له: بكذا وكذا، فقال: قد أخذته بذلك فقال رب السلعة: لا أرضى بذلك وإنما كنت لاعبا وما أشبه ذلك، فإنه يحلف على ذلك ولا يلزمه البيع إلا أن يتبين صدق قوله فيسقط عنه اليمين قولا واحدا على ما يقتضيه ما في هذا الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب جامع البيوع.
وقد ذهب بعض الناس إلى أن الخلاف أيضا في ذلك وإن لم تكن السلعة موقوفة للبيع على ظاهر ما وقع في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع، إذ لم يذكر فيه أن السلعة كانت موقفة للبيع، وإلى أنه يتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن البيع لا يلزم وإن كانت السلعة موقوفة للبيع على ما في المدونة.
والثاني: أنه يلزم وإن لم تكن السلعة موقفة للبيع على ظاهر ما في رسم سلعة سماها المذكور.
والثالث: الفرق بين أن تكون السلعة موقفة للبيع أو لا تكون موقفة له على ما يقتضيه ما وقع في سماع أشهب من كتاب جامع البيوع، وليس ذلك عندي بصحيح؛ لأن مسألة رسم سلعة سماها وإن لم تكن السلعة موقفة للبيع(8/275)
فذهاب المشتري بها ليستشير فيها بإذن البائع يخرجها من الخلاف، وقد بين هذا في تفسير ابن مزين.
وأما إن قال البائع: قد بعتك بكذا وكذا، وقال المشتري: قد اشتريت منك بكذا وكذا فلا اختلاف في أن ذلك لازم لكل واحد منهما إن أجابه صاحبه بالإمضاء والقبول في المجلس قبل التفرق، واختلف إذا قال المشتري: بعني بكذا وكذا فلما أراد البائع أن يلزمه ذلك أباه، أو قال البائع: خذها بكذا وكذا أو اشترها بكذا وكذا فلما أراد المشتري أن يأخذها بذلك أبى، فقيل: إن ذلك كالمساومة يدخل في ذلك الاختلاف المذكور، وهو الذي يأتي على ما في المدونة؛ لأنه ساوى فيها بين الوجهين، وقيل: إن قول المشتري بعني بكذا بمنزلة قوله: قد اشتريت بكذا، وإن قول البائع: خذها بكذا أو اشترها بكذا بمنزلة قوله: قد بعتك بكذا، يلزم ذلك كل واحد منهما إذا أجابه صاحبه بالقبول والإمضاء في المجلس قبل التفرق، وهو قول ابن القاسم وعيسى بن دينار في كتاب ابن مزين، والقولان لمالك أيضا في كتاب ابن المواز [المذكور] ، وسنذكر ذلك إن شاء الله في سماع أشهب من جامع البيوع. وبالله التوفيق.
[مسألة: يباع من الرجل وله زوجة قد دلس له بها ولا يعلم المشتري بذلك]
مسألة وسألت مالكا فقلت له: قلت في العبد يباع من الرجل وله زوجة قد دلس له بها ولا يعلم المشتري بذلك حتى يطلق العبد الزوجة أو تموت، ثم يعلم بذلك فيريد رده بذلك على البائع، أله أن يرده بذلك على البائع؟ فقال: نعم قد قلته، وهو الذي أرى ولم يكن مما سئلت عنه قديما فنظرت فيه وما أدرى ما هو إلا أني كذلك أرى.
فقيل لمالك: أفرأيت الذي يبتاع الجارية وقد دلس له فيها بالوعك ثم لا يعلم بذلك المشتري حتى تبرأ من ذلك ثم يعلم فيريد ردها، فقال: لا أرى ذلك مثل الأول وهو أخف عندي.(8/276)
قال محمد بن رشد: أما الوعك فلا اختلاف في أنه إذا لم يعلم به المشتري حتى تبرأ منه أنه ليس له أن يرد؛ لأن عيبه يذهب بالبرء منه.
وأما عيب الزوجية في الأمة والعبد فاختلف هل يذهب بارتفاع العصمة بموت أو طلاق أم لا على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا يذهب بذلك، ولمشتري العبد أن يرده، وإن كان لم يعلم بأن له زوجة حتى ماتت أو طلقها؛ لأنها إن كانت ماتت فاعتياده أن يكون له زوجة عيب به، وإن كان طلقها فهو أشد لما يخشى من تعلق نفسه بها.
وكذلك لمشتري الأمة أن يردها، وإن كان لم يعلم بأن لها زوجا حتى مات عنها أو طلقها لبقاء العيب فيها بعد الموت أو الطلاق بما ذكرناه، وهو قول مالك في هذه الرواية.
والثاني: أن العيب يذهب بارتفاع العصمة بالموت دون الطلاق، وهو قول أشهب في ديوانه وإليه ذهب ابن حبيب، قال: إلا أن تكون الأمة رائعة فيكون الزوج عيبا فيها وإن مات عنها، وهو أعدل الأقوال.
والثالث: أن العيب يذهب بارتفاع العصمة بالموت أو الطلاق، وهذا القول تأوله الفضل على ابن القاسم في قوله في المدونة إذا اشترى الأمة وهي في عدة من طلاق، فلم يعلم بذلك حتى انقضت العدة أنه لا رد له، وليس بتأويل بين، لاحتمال أن يكون قد علم أنه كان لها زوج ولم يعلم أنها في عدة منه.
وهذا القول اختار أبو إسحاق التونسي، وقال: لأن العصمة إذا ارتفعت بموت أو طلاق فلم يبق إلا عيب اعتيادها الوطء، وهو لو وهبها لعبده يطؤها ثم انتزعها منه ما كان عليه أن يبين ذلك، ولم ير بين اعتيادها الوطء بالزوجية والتسري فرقا، ولعمري إن بينهما لفرقا؛ لأن للزوجة حقا على زوجها في الوطء إذ لا تكون الزوجية إلا للوطء، ولا حق للأمة على سيدها في الوطء، فهي تسكن إلى زوجها ما لا تسكن إلى سيدها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري القلنسوة السوداء فإذا ذهب بها وجدها من ثوب ملبوس]
مسألة وسئل مالك: عن الذي يشتري القلنسوة السوداء فإذا(8/277)
ذهب بها وجدها من ثوب ملبوس، فأراد ردها، فقال: إن القلانس لتعمل من الخلقان فأراها له لازمة إلا أن تكون فاسدة جدا، ولقد كان ينبغي للبائع أن يبين مثل هذا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن العرف فيها إذا كان أنها تعمل من الثياب الملبوسة فلا يلزم البائع أن يبين بذلك ويحمل المشتري على العلم به فيلزمه ولا يكون له أن يردها إلا أن يكون الثوب الذي صنعت منه منهوكا جدا ومعفونا ومحروقا فيكون به عيبا يجب به الرد، إلا أن يبين البائع بذلك، ولو بين أنها من ملبوس، وإن لم يكن منهوكا ولا معفونا لكان أحسن مخافة أن يكون المشتري ممن يجهل العرف في ذلك فيشتري وهو يظن أنها من ثوب جديد. وبالله التوفيق.
[مسألة: ابتاع عبدا بيع الإسلام وعهدة الإسلام فزعم البائع أنه باعه بالبراءة]
مسألة وسئل مالك فقيل له: إني ابتعت عبدا بيع الإسلام وعهدة الإسلام، فلما وجب لي وصار إلي قام علي البائع فجاءني فقال لي: إني كنت ابتعت هذا الغلام بالبراءة فلم أعلمك بذلك وبعتكه بيع الإسلام وعهدة الإسلام، وهذا بيع مفسوخ فقال: ما أرى ذلك، وأرى البيع جائزا، وإنما الذي أكره أن يبتاع رجل بالبراءة ويبيعه بيع الإسلام وعهدة الإسلام ويكتمه أنه ابتاعه بالبراءة.
فأما من ابتاع بالبراءة وباع بيع الإسلام وعهدة الإسلام فلا بأس بذلك وأراه جائزا وأرى عليه أن يعلمه أنه ابتاعه بالبراءة، ولا أرى أن يكتمه ذلك، فقال له صاحب السوق: إنك كنت أمرتني ألا يبيع من ابتاع بالبراءة إلا بالبراءة، وألا يبيع من ابتاع بيع الإسلام وعهدة الإسلام إلا بيع الإسلام وعهدة الإسلام ولا يبيع بالبراءة، فقال له مالك: أما من ابتاع بالبراءة فلا أرى بأسا أن يبيع بيع الإسلام وعهدة الإسلام إذا بين له أنه ابتاع بالبراءة؛ لأنه إنما(8/278)
يحكم على نفسه ويكون هو المتبع، وأما من ابتاع بيع الإسلام وعهدة الإسلام فلا يبع بالبراءة؛ لأنه إنما يحكم على غيره يعمد إلى العبد فيشتريه بيع الإسلام وعهدة الإسلام، ولا يجب أن يخبر بشيء من عيوبه ولا يقيم في يديه كبير شيء حتى يعهد إليه فيبيعه بالبراءة فيحكم على المشتري بما لا يدري كيف هو، فامنعهم من ذلك أشد المنع وافسخ ذلك بينهم، من ابتاع منهم بيع الإسلام وعهدة الإسلام، فلا تدعه يبيع بالبراءة؛ لأن هذا يكون في مثله التدليس، وإنما يبيع بالبراءة، وقد ابتاع بيع الإسلام وعهدة الإسلام لسوء يريده، فأرى أن يمنعهم من ذلك أشد المنع، إلا رجل باع في دين عليه أو ميراث ورثه أو بيع سلطان أو ما أشبه هذا من العذر فلا أرى به بأسا أن تدعهم يبيعوا بالبراءة، وإن كانوا إنما ابتاعوا بيع الإسلام وعهدة الإسلام.
قال مالك: وبيع الناس الذي كان فيهم ماضيا يتبايعون بيع الإسلام وعهدة الإسلام، فقال له صاحب السوق: أرأيت الذي يبيع العبد بالبراءة على ألا يمين على البائع، ثم يجد المشتري بالعبد عيبا قبيحا فيريد أن يستحلف له البائع ما علم هذا العيب، قال: ما أرى ذلك له عليه؛ لأنه قد اشترط عليه ألا يمين عليه ثم قال له مالك: وقد كنت أمرتك ألا تبيح هؤلاء الجلاب الذين يجلبون الرقيق في السفن من مصر أن يبيعوا شيئا من ذلك إلا بيع الإسلام وعهدة الإسلام ولا يبيعوا ذلك بالبراءة قال: قد فعلت فجاء علي وابن علي وأصحاب له برقيق لهم فأمرتهم ألا يبيعوا إلا بيع(8/279)
الإسلام وعهدة الإسلام، فقال له مالك: فإنه بلغني أنهم يتبايعون بالبراءة، فقال: باطل، قد منعتهم من ذلك، فقال له: فنعم امنعهم أن يبيعوا بالبراءة فإنهم يبيعون ما لا يعرفون، إنما يقدم عليهم [الرقيق] اليوم ويبيعون من الغد، فامنعهم من ذلك فإنهم يبيعون ما لا يعرفون وهم يجهلونهم.
قال محمد بن رشد: إذا باع على ما اشترى من عهدة أو براءة فلا كلام في جواز ذلك، وإذا اشترى بالبراءة جاز أن يبيع بيع الإسلام وعهدة الإسلام إذا بين قولا واحدا.
وإذا اشترى بيع الإسلام وعهدته فلا يجوز أن يبيع بالبراءة واختلف إن فعل، فقيل: يفسخ وهو قول مالك هنا، وقيل: لا يفسخ وهو قوله في نوازل سحنون من كتاب الاستبراء، وقد مضى ذلك كله في أول مسألة من السماع.
وأما إذا اشترط الذي باع بالبراءة ألا يمين عليه فأعمل ههنا شرطه عموما في المأمون وغير المأمون وفي الذي يبيع لنفسه أو لغيره، إذ لم يفرق بين شيء من ذلك، ولم يعمله في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات إلا في الوصي والوكيل الذي يبيع لغيره، وفي الرجل المأمون، فحصل الاختلاف بين الروايتين في الرجل الذي ليس بمأمون إذا باع لنفسه.
وكان من أدركنا من الشيوخ يذهبون إلى أن المعنى في هذه المسألة وفي التي في رسم سلعة سماها من كتاب المديان والتفليس في أن الشرط في التصديق في اقتضاء الدين دون يمين غير عامل، وأن له أن يحلفه سواء لحمل كل واحدة منهما على صاحبتها، فيأتي فيهما جميعا ثلاثة أقوال: إعمال الشرط، وإبطاله، والفرق بين المأمون والذي يبيع لغيره وبين الذي ليس بمأمون ويبيع لنفسه.
والصواب: أنهما مسألتان مفترقتا المعنى لا تحمل إحداهما على الأخرى؛ لأن هذه اشترط فيها إسقاط يمين إن كانت قد وجبت حين الشرط ولم يعلما(8/280)
بوجوبها، ومسألة سلعة سماها في اشتراط التصديق في اقتضاء الدين دون يمين اشترط فيها إسقاط يمين يعلم أنها لم تجب بعد، فالأولى بمثابة أن يقول الرجل: إن كان فلان قد اشترى هذا الشقص بكذا، فقد سلمت له الشفعة، فهذا يلزمه التسليم إن كان قد اشترى؛ والثانية بمثابة أن يقول: إن اشترى فلان الشقص فقد سلمت له الشفعة فهذا لا يلزمه التسليم إن اشترى؛ لأنه أسقط حقه قبل أن يجب له، فلا يدخل الاختلاف في مسألة التصديق في اقتضاء الدين دون يمين من مسألة العيوب هذه ولا فيها نص خلاف.
قال في الواضحة: وكل من وضع يمينا قبل أن تجب فهي غير موضوعة، وإنما يدخل الاختلاف فيها بالمعنى؛ لأن إسقاط الحق قبل وجوبه أصل مختلف فيه، من ذلك اختلافهم فيمن شرط لامرأته إن تزوج عليها فأمرها بيدها فأسقطت عنه الشرط وأذنت له بالتزويج، فلما تزوج أرادت أن تقضي، وقد مضى القول على هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح. [وبالله تعالى التوفيق] .
[مسألة: الرقيق يبعث إلينا بهم نصيح عليهم ثلاثا]
مسألة وقال له صاحب السوق: أرأيت الرقيق يبعث إلينا بهم نصيح عليهم ثلاثا، فأصيح عليهم وأبين لهم أني أصيح ثلاثا، فأصيح يومين فإذا كان اليوم الثالث شغل أهلوهم فلم يرسلوهم إلينا اليوم واليومين والثلاثة، ثم يرسلونهم فيقول الذين كانوا عليهم: قد حبسوا عنا وقد مضت أيام الصياح ولا حاجة لنا بهم، فقال مالك: إذا كان اليوم واليومان وما أشبه ذلك فأرى أن يلزمهم ذلك، وأما إذا كان العشرين ليلة وما أشبه ذلك فلا، فقال له: إن طلحة بن بلال بعث إلي برقيق أبيعهم وأصيح عليهم ثلاثا، فصحت عليهم يومين ثم مات فشغل أهله بموته فلم يبعثوا بهم إلا بعد يومين فأراد الذين كانوا عليهم تركهم، وقالوا: قد حبسوا عنا(8/281)
ومضت أيام الصياح، فقال له: لا أرى ذلك لهم، وأرى أن يلزمهم إياهم، فقيل له: أيلزم ما كان مثل هذا؟ فقال له: أما اليوم واليومان وشبه ذلك فأرى أن يلزمهم إياهم والعذر عذر، وأرى لمثل هؤلاء عذرا، وأما الشيء الكثير فلا أراه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على ما في المدونة في الذي يشتري السلعة على أنه بالخيار ثلاثا أن البيع لا يلزمه بمغيب الشمس من آخر أيام الخيار، وأن له أن يردها بعد انقضاء أيام الخيار ما لم يتباعد ذلك؛ لأنه إذا صاح على العبد وبين أنه يصيح عليه ثلاثا يطلب الزيادة فكل من أعطى فيه عطاء فقد لزمه الشراء على أن صاحب العبد عليه، بالخيار ما لم تنقض أيام الخيار فلصاحب العبد أن يلزمه الشراء، وإن انقضت أيام الصياح ما لم يتباعد ذلك، وقد قيل: إنه ليس له أن يرد السلعة التي اشترى بالخيار بعد انقضاء أيام الخيار، فعلى هذا ليس له أن يلزمه الشراء في العبد بعد انقضاء أيام الصياح.
ولو كان الذي يصاح عليه في بيع المزايدة مما العرف فيه أن يمضي أو يرد في المجلس ولا يشترط أن يصيح عليه أياما لما كان له أن يلزمه الشراء بعد أن ينقلب بالسلعة عن المجلس، وقد روي ذلك عن ابن القاسم سئل عن الرجل يحضر المزايدة فيزيد، ثم يصاح عليها فينقلب بها إلى أهلها، ثم يأتونه من الغد فيقولون له: خذها بما زدت هل يلزمه ذلك؟ فقال ابن القاسم: أما مزايدة الميراث أو متاع الناس فلا يلزمه ذلك إذا انقلبوا بالسلعة أو تركوها في المجلس وباعوا بعدها أخرى، وإنما يلزم هذا في بيع السلطان الذي يباع على أن يستشار السلطان فإن ذلك يلزمه إذا أمضاه السلطان، وجدت هذه المسألة لابن القاسم بخط يد أبي عمر الإشبيلي، وهي صحيحة على أصولهم.
ومعنى قوله: إن ذلك يلزمه إذا أمضاه السلطان يريد ما لم يتباعد على ما مضى من قول مالك في مسألة الصياح، وبالله التوفيق.(8/282)
[ابتاع عبدا بالبراءة بيع الميراث]
ومن كتاب الأقضية وسئل مالك: عمن ابتاع عبدا بالبراءة بيع الميراث لا عهدة فيه، فأقام عنده ما شاء الله، ثم باع بيع الإسلام وعهدة الإسلام ولم يخبرهم أنه كان اشتراه بالبراءة، فأراد المشتري أن يرده بذلك، فقال: ما أرى البائع إلا بئس ما صنع، وأن للمشتري أن يرده [بذلك] إن أحب ما لم يبين ذلك له ولو علم المشتري بهذا لم يشتره فأرى له أن يرده إن أحب، قيل له: إنه قد أقام عنده فلم ير إلا خيرا، قال: فما له لم يبين ذلك له، أرى أن يرده إن أحب.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في أول الرسم الذي قبل هذا وفى آخره فلا معنى لتكراره، وبالله التوفيق.
[مسألة: عهدة السنة هل هي بعد الثلاث]
مسألة وسئل مالك: عن عهدة السنة أمن بعد الثلاث؟ قال: نعم، فقلت له: عهدة السنة إنما هي من بعد الثلاث؟ فقال لي: نعم، وسألت مالكا عن عهدة الثلاث أتدخل في الحيضة أم تكون بعد الحيضة؟ فقال لي: بل أراها تدخل في الحيضة، وذلك أنه يواضعها إياه المشتري حتى تحيض، فإذا حاضت قبضها وخلا بها فصارت منه، فلذلك تدخل الأيام الثلاثة في الحيضة، فقيل لمالك: أفرأيت عهدة السنة؟ فقال: إذا قبضها استقبل السنة، قلت له: فإذا قبضها بعد الحيضة استقبل عهدة السنة؟ فقال لي: نعم، إنما يستقبل عهدة السنة إذا قبضها بعد الحيضة.(8/283)
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته ههنا، وبالله التوفيق.
[عهدة الثلاث والسنة هل يحمل أهل الآفاق عليها]
ومن كتاب الأقضية الثاني قال أشهب: وسألته عن عهدة الثلاث والسنة أترى أن يحمل أهل الآفاق عليها؟ فقال: ما أرى ذلك، وأرى أن يتركوا على حالهم، وليس في هذا شيء، وهذا مثل بيع البراءة عندنا، وهم ههنا بمكة أقرب إلينا لا يعلمون به، فأرى أن يقروا، وذلك مثل بيع البراءة عندنا، قيل له: أرأيت الجواري؟ فقال: لا أرى أن يبعن كذلك، وأرى فيهن المواضعة في الحيضة بمنى وغيرها.
قال محمد بن رشد: عهدة الثلاث والسنة ثابتة معمول بها في بلد الرسول قديما وحديثا، واختلف منها إذا لم تكن جارية في البلد في موضعين؛ أحدهما: وجوب حمل الناس عليها.
والثاني: وجوب الحكم بها بينهم، فأما وجوب حمل الناس عليها ففيه قولان؛ أحدهما: رواية أشهب هذه أنه لا يحمل الناس عليها.
والثاني: أنه يحمل الناس عليها، وهو قول المدنيين وروايتهم عن مالك، وحكى ذلك ابن حبيب في الواضحة، ومثله في سماع ابن القاسم من كتاب السلطان قوله: وددت ذلك، وأما وجوب الحكم عليهم بها فيما تبايعوه حيث لا يعمل بها قبل أن يحملوا عليها ففيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يحكم عليهم بها، وإن لم يشترطوها، وهو قول المدنيين وروايتهم عن مالك؛ والثاني: أنه لا يحكم بها بينهم إلا أن يشترطوها، وهي رواية المصريين عن مالك؟ والثالث: أنه لا يحكم بها بينهم وإن اشترطوها، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز، ومحمد بن عبد الحكم يرى عهدة السنة حراما لا يعمل بها، فالعهدة في الرقيق مخالفة للأصول إلا أنها عند مالك سنة سلفه فيها أهل بلده فهو متبع لهم فيها، وسائر فقهاء الأمصار يرون المصيبة في كل ما يحدث بالرقيق بعد الشراء من(8/284)
المشتري قياسا على سائر الحيوان وعلى العروض، وما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية عقبة بن عامر الجهني أنه قال: «عهدة الرقيق ثلاث ليال» منهم من يضعفه، وأصحاب الشافعي يقولون: معناه في الخيار المشروط، وما اتصل عليه العمل بالمدينة فهو عند مالك أصل يقدمه على القياس، فرواية المدنيين عنه في أنه يحمل الناس عليها ويحكم بها عليهم وإن جهلوها ولم يشترطوها هو الذي يأتي على أصل مذهبه، وسائر ما ذكرناه من الأقوال في ذلك فإنما هي استحسان ومراعاة للخلاف فمن أصل مذهبه مراعاته، فإن باع بالبراءة في بلد قد عرفت فيه العهدة برئ من عهدة الثلاث والسنة ومن كل عيب قديم لم يعلم به البائع، وإن باع بالبراءة في بلد لا تعرف فيه العهدة فمعناه البراءة من كل عيب قديم لم يعلم به البائع.
وأما المواضعة: فهي واجبة عند مالك وجميع أصحابه في الأمة التي وطئها سيدها ولم يستبرئها رفيعة كانت أو وضيعة، وفي التي لم يطأها أو وطئها واستبرأها إذا كانت رفيعة يخشى أن تكون حاملا، إلا أن تكون ذات زوج أو زانية؛ لأنها تنفي الخطر والغرر من أجل أن الأمة الرفيعة ينقص الحمل من ثمنها كثيرا إذا لم تكن ذات زوج ولا زانية؛ لأنها إن كانت ذات زوج أو زانية فقد دخل المشتري على أن الحمل لا يؤمن منها فارتفع الغرر منها فيجب الحكم بها على الحاضر والمسافر لم يختلف قول مالك في ذلك كما اختلف في العهدة.
وقد سئل عن ذلك في أهل منى وأهل مصر عند الخروج إلى الحج في الغرباء الذين يقدمون فرأى أن يحملوا على ذلك على ما أحبوا أو كرهوا.
وإنما وجبت المواضعة فيمن كانت هذه صفتها من الإماء مخافة الحمل إن ظهر بها كسائر ما يظهر من العيوب بالمبيع فيكون المشتري مخيرا بين الرد والإمساك، أو كالجنون والجذام والبرص الذي إن ظهر بالعبد أو الأمة في السنة رد به وجاز البيع من غير(8/285)
مواضعة؛ لأن الجنون والجذام والبرص أمر نادر، وفي توقيف الأمة أو العبد حولا كاملا لاستبراء ذلك ضرر بالمتبايعين، وأما الحمل فليس بنادر بل هو أمر عام؛ لأن جل النساء على الحمل، ومدة إيقافها للمواضعة يسيرة لا ضرر فيها على المتبايعين [وهي تنفي الغرر والخطر وغير ذلك مما لا يجوز من السلف الذي يجر نفعا إن] نقد الثمن، فوجب أن يجب الحكم بذلك [وبالله التوفيق] .
[مسألة: بعت وصيفة مولدة من رجل بالبراءة فسئلت الوصيفة عن أبيها فلم تعرفه]
مسألة وسئل فقيل له: بعت وصيفة مولدة من رجل بالبراءة فسئلت الوصيفة عن أبيها فلم تعرفه، فسألني أن أكتب له لطيبة وأنا لا أدري لطيبة أم لا وإنما اشتريتها من رجل من أهل اليمامة، فقال: أراك قد شرطت له مولدة، وليست المولدة إلا الطيبة، فأرى أن تحلف بالله لقد بعته وما تدري أمولدة أم لا؛ لأنه يتهمك أن تكون ندمت فيها، فإذا حلفت فإن شاء ردها، وإن شاء أمسكها، قلت: أرأيت إن قال البائع: هو ندم واستغلاها وقد بعته إياها وإنما ابتعتها من قوم لا علم لي بهم؟ فقال: هذا الذي أرى.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه لما باع منه على أنها مولدة، ومعنى المولدة التي هي لرشدة وهي التي تعرف أمها وهي أمة لولادتها في الإسلام، وذلك لا يحل إلا بالتزويج، فقد باع منه على أنه يعرف ذلك فاشترى المشتري على الثقة بقوله، فلما قال له بعد ذلك: إنه لا يعرف ذلك اتهم على أنه أراد أن يزهده فيها بقوله: إنه لا يعرف أنها لرشدة وهو يعرف ذلك، فهي يمين تهمة فيها للمشتري منفعة وهي أنه إن نكل عن اليمين تبين له بنكوله عنها أنه يعرف أنها لرشدة وأنه إنما أراد أن يزهده فيها(8/286)
رجاء أن يردها عليه فتطيب حينئذ نفسه على إمساكها إن شاء، وجبر على أن يكتب له أنها لرشدة ليقوم عليه بذلك متى ثبت أنها لغير رشدة، وإن حلف لم يجبر على ذلك وكان بالخيار أيضا بين أن يردها من ساعته أو يمسكها فلا يردها إلا أن يثبت أنها لغير رشدة.
ومعنى لطيبة أي لأم طيبة المنكح، وأصله التشديد، ولكن يخفف كهين وميت. [وبالله التوفيق] .
[مسألة: ابتاع وصيفا فوجده ولد زنى أله أن يرده]
مسألة وسئل: عمن ابتاع وصيفا فوجده ولد زنى أله أن يرده؟ قال: نعم إذا كان شرط له لطيبة، فقيل له: ماذا؟ فقال: إن كان شرط له لطيبة ثم وجده ولد زنى فله أن يرده.
قال محمد بن رشد: لم ير له الرد في هذه الرواية بذلك ألا إذا اشترى وشرط الرشدة، وابن القاسم يرى الرد في ذلك، وإن لم يشترط الرشدة، وقد مر في رسم البز من سماع ابن القاسم أن العلية ترد بذلك، ومثله في آخر سماع أشهب هذا، فهي ثلاثة أقوال.
[مسألة: وقف جارية بالسوق وليس عليها إلا إزار]
مسألة وسأله صاحب السوق: عمن وقف جارية بالسوق وليس عليها إلا إزار، فقال للسوام: إني لا أبيعها إلا عريانة أنزع هذا الإزار عنها، فاشتريت على ذلك، فأراد نزع الإزار عنها وقال: هو شرطي عليكم في بيعي فهاتوا ما تلبس جاريتكم حتى آخذ الإزار عنها، أفترى ذلك أم ترى أن يفسخ البيع؟ فقال: بل أراه بيعا جائزا لا يفسخ، ولا أرى له أن يعطيهم إياها عريانة، عليه أن يعطيهم إياها بما يواريها إما بذلك الإزار الذي باعها به وهو عليها، وإما أن(8/287)
يعطيهم إياها بثوب غيره مما يواريها، وليس له أن يعطيهم إياها عريانة، وإن كان قد اشترط ذلك عليهم، فقال له: فإنه قد أبى أن يعطيهم، وقال: على ذلك بعتهم الجارية، فقال له: أرى البيع ماضيا وأرى أن يكلفه [أن يعطيهم ثوبا يواريها به إزارا أو غيره، فإن أبى فالشرط أرى ذلك عليه وأرى أن يكلفه] إياه، فقال له: فإن رجلا أيضا أتى بجارية فباعها على أن الثياب التي عليها عارية، وأن لها في المنزل خلق ثوبين وإنما أبيعكموها بهما ليس لكم علي غيرهما، فباعها بذلك من الشرط ثم جاء بالثوبين، فإذا هما لا يواريانها، فقال له: ذلك لا أراه له وإن اشترطه، وأرى أن يجاز البيع بينهما ولا يفسخ، ويلزمه أن يعطيها ثوبا يواريها به، فأما خلقا لا يواريها فلا أرى ذلك له، وأرى أن يكلف أن يعطيها إزارا، فقال له: فالقميص؟ فقال: لا أرى ذلك عليه، وأرى أن يعطيها إزارا يواريها وليس له أن يعطيها ذلك الثوبين الخلقين إذا لم يكونا يواريانها، وليس الأخلاق كلها سواء رب ثوب خلق يواري، فأما إذا كان لا يواريها فلا أرى أن تجيز ذلك له، وأرى أن تلزمه أن يعطيها ثوبا أو إزارا يواريها، فقال له: فألزمهم هذا؟ فقال له: نعم، تلزمهم هذا فإن هذا رأيي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مخالفة للأصول؛ لأن الشروط المشترطة في البيوع على مذهب مالك تنقسم على أربعة أقسام: قسم يبطل فيه البيع والشرط، وهو ما آل البيع به إلى الإخلال بشرط من الشروط(8/288)
المشترطة في صحة البيع؛ ومنها ما يفسخ به البيع ما دام مشترط الشرط متمسكا بشرطه؛ وقسم يجوز فيه البيع والشرط، وهو ما كان الشرط فيه جائزا لا يؤول إلى فساد ولا يجر إلى حرام، وقسم يجوز فيه البيع ويفسخ الشرط وهو ما كان الشرط فيه حراما إلا أنه خفيف فلم يقع عليه حصة من [جملة] الثمن، فالذي يوجبه القياس والنظر في الذي باع الجارية على أن ينتزع ما عليها من الثياب ويبيعها عريانة أن يكون البيع جائزا والشرط عاملا جائزا؛ لأنه شرط جائز لا يؤول إلى غرر ولا خطر في ثمن ولا مثمون ولا يجر إلى ربا، ولا حرام، فوجب أن يجوز ويلزم؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون على شروطهم» ، وعلى مذهب جابر بن عبد الله وهو قول عيسى بن دينار في المدنية وروايته عن ابن القاسم أن الرجل إذا اشترط أن يبيع جارية عريانة فذلك له، وبه مضت الفتوى بالأندلس.
وأما الذي باع الجارية على أن ينتزع الثياب التي عليها عنها ولا يكون لها إلا ثوبان خلقان في المنزل، فكان القياس والنظر فيها على المذهب أن يكون البيع فاسدا؛ لأن الأخلاق من الثياب تختلف، فوقع البيع على غرر، إذ لم ير المشتري خلق الثوبين ولا وصفا له ولو وصفا له لما وجب أن يجوز البيع على ذلك إلا على اختلاف، إذ ليسا بغائبين عن البلد.
فرواية أشهب هذه مضاهية لقول ابن أبي ليلى في أن البيع والشرط إذا وقعا يجاز البيع ويفسخ الشرط جملة من غير تفصيل على ظاهر حديث بريرة. [وبالله التوفيق] .
[مسألة: ابتاع عبدا بيع الإسلام وعهدة الإسلام فلم يقم عنده إلا شهرا]
مسألة وسئل: عمن ابتاع عبدا بيع الإسلام وعهدة الإسلام فلم يقم عنده إلا شهرا] حتى أبق منه، فأراد أن يستحلف البائع ما أبق(8/289)
عنده، فقال: أرى عليه يمينا لعله أن يكون ضربه أو أساء إليه فأبق من ذلك، ما أرى له عليه من يمين إلا أن يأتي بشبهة أو أمر يتهم عليه، فقيل له: ليس إلا أنه اشتراه فلم يقم عنده إلا شهرا حتى سرق أو أبق فاتهمه أن يكون قد كان يفعل عنده مثل هذا فأراد استحلافه على هذا، فقال: ما أرى ذلك له عليه، وذلك يختلف عندي.
أما الجليب الذي إنما جلب ثم باعه فإني لا أرى له عليه يمينا، وأما [الغلام] الذي نشأ عنده اعتاده، فإن ذلك عندي مختلف، قيل له: فإنه غلام نشأ بالمدينة وكان بها ليس بجليب باعه هذا من هذا بيع الإسلام وعهدة الإسلام فلم يقم عنده إلا شهرا حتى سرق أو أبق، أفترى له عليه يمينا لما فعل عنده من ذلك شيئا قبل أن يبيعه؟ فقال: ما أرى ذلك عليه إلا أن يكون لذلك شبهة أو أمر يستبين.
قال محمد بن رشد: قال: إن الجليب يختلف عنده من غير الجليب في إيجاب اليمين على البائع، ثم رجع عند تحقيق الجواب إلى أنه لا يمين عليه في الوجهين جميعا إلا بشهبة أو أمر يستبين وقد مضت هذه المسألة، والقول عليها في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته. [وبالله التوفيق] .
[مسألة: الصبي الصغير يكون في الكتاب فيأبق فيقيم اليوم واليومين]
مسألة وسئل [مالك] عن الصبي الصغير يكون في الكتاب فيأبق فيقيم اليوم واليومين، فإذا بلغ وكبر باعه سيده ولم يبين إلى المشتري من ذلك ويعلمه إياه، ثم يعلم المشتري بعد ذلك(8/290)
بأمره، أترى له رد العبد على البائع بذلك؟ فقال: نعم، أرى ذلك له عليه ولمثل هذا من الإباق عادة وهو عيب فأرى له رده.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن العيوب في الأخلاق عوائد تبقى عاقبتها، فعلى البائع أن يبين بما كان من ذلك عنده وإلا كان مدلسا. [وبالله التوفيق] .
[مسألة: يبيع الجارية ولا يعرف أبكر هي أم ثيب]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يبيع الجارية فيقال له: أبكر هي أم ثيب؟ فيقول: والله ما أدري ولكني أبيعكموها بكرا كانت أو ثبيا، فقال: لا أرى بذلك بأسا، قيل له: لا ترى بذلك بأسا؟ قال: نعم لا أرى بذلك بأسا، لا سيما في الجارية الدنية التي لا ثمن لها، قيل له: من جواري الخدمة واللاتي لا بال لهن؟ فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الجارية التي يوطأ مثلها محمولة على أنها قد وطئت، فإنما يشتري المشتري على ذلك، وإن سكت البائع ولم يذكر شيئا من ذلك، فكيف إذا تبرأ من معرفة ذلك، وإنما يجب للمشتري أن يردها إذا ألفاها ثيبا واشتراها على أنها بكر، أو كانت ممن لا يوطأ مثلها، وهي من غير الوخش على ما مضى في رسم سن من سماع ابن القاسم. وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: أوقف جارية له بالسوق فسيم بها]
مسألة وسئل: عمن أوقف جارية له بالسوق فسيم بها فقال: لا أنقص فيها من ثلاث وعشرين دينارا، فقال له رجل: إن جاريتك عريانة(8/291)
فضع لي نصف دينار في كسوتها، ففعل، ثم إن الذي اشتراها باعها فقالت الجارية: للذي ابتاعها قد كان لي عند الذي باعني نصف دينار، قال ابن كنانة: قلت له: إن مالكا قد قال فيها يستحلف الذي باعها لقد باعها وهو نازع للنصف دينار منها.
قال مالك وأنا أسمع: صدق ابن كنانة قد قلته، ثم أخبرني ابن كنانة بعد أن مالكا نزع عنها وقال: أرى أن يؤخذ من البائع النصف دينار فيدفع إلى الجارية.
قال محمد بن رشد: حكم لما وضع البائع للمشتري في كسوة الجارية بحكم كسوتها ولم يحكم له بحكم مالها، إذ حكم مال العبد أن يكون بنفس البيع للبائع إلا أن يشترطه المبتاع على ما جاء في السنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولا أراه مالا من مال المشتري الذي وضعه له، وذلك نحو ما في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، فيقوم من قوله الأول الذي قال فيه: إن البائع يستحلف لقد باعها وهو نازع للنصف دينار منها أن من باع عبدا وله عنده كسوة تشبه لبسته أنها لا تكون إلا بعد يمينه لقد باعها وهو منتزع لها، وكان القياس أن يكون له إذا باعه كسائر ماله إلا أن يشترطه المبتاع أو يشترط ماله فيدخل فيه على ما حملنا عليه ما وقع في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد، وما وقع في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب التجارة لأرض الحرب، ووجه القول الذي رجع إليه أنه حكم للنصف دينار الموضوع في كسوتها بحكم ما كان عليها من الكسوة التي يبتذل مثلها عند البيع فيكون ذلك للمبتاع، وإن لم يشترطه على ما قال في أول سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع، وهو في القياس بعيد أبعد من القول الأول، وبالله التوفيق.(8/292)
[حضر جارية تباع في السوق فقال له رجل كف عني فيها فإن لي بها حاجة]
ومن كتاب أوله مسائل بيوع ثم كراء وسئل: عمن حضر جارية تباع في السوق فقال له رجل: كف عني فيها فإن لي بها حاجة، فقال: أما الرجل الخاص يقول لصاحبه إن لي بهذه الجارية حاجة [فكف عني فيها] فليس بذلك بأس، أرجو ذلك، فأما الأمر العام فلا أحبه، إن تواطأ الناس بهذا فسدت السلع، فأما الرجل الواحد الخاص فأرجو ألا يكون به بأس. [قيل له: أرأيت إن قال: اكفف عني ولك نصفها؟ فقال: لا، والأول أعجب إلي] .
قال محمد بن رشد في المبسوط من رواية ابن نافع عن مالك: أنه كره ذلك في الواحد وقال: لا أراه حسنا؛ لأنه لو قال: لكل من يراه يريد أن يزيد عنه كف عني أضر بذلك بالبائع وأخذ السلعة بحكمه فلا أرى ذلك جائزا لأحد، وذلك قريب مما في الكتاب؛ لأنه إنما كره الواحد من ناحية الذريعة لئلا يتطرق به إلى استجازة ذلك في الجماعة، ولو قال للواحد: كف عني ولك دينار جاز ذلك ولزمه، اشترى أو لم يشتر، ولو كان قوله كف عني ولك نصفها على طريق الشركة لجاز أيضا، وإنما لم يجز ذلك في الرواية إذا أعطاه النصف على طريق العطية، فكأنه أعطاه على ألا يزيد عليه ويكف عنه ما لا يملك فلذلك لم يجزه، والله أعلم، قاله ابن دحون، وهو صحيح إن شاء الله.
ولو اشتراها للتجارة فوقف عليه رجل من التجار بها فكف عنه فيها ثم سأله الشركة فيها للزمه ذلك على اختلاف سنذكره إن شاء الله في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع وبالله التوفيق.(8/293)
[مسألة: يبيع الجارية على أن يتخذها أم ولد فيعلم بمكروه ذلك]
مسألة قال: وسئل مالك عن الذي يبيع الجارية على أن يتخذها أم ولد فيعلم بمكروه ذلك، فقال البائع: أنا أضع عنك الشرط، أترى أن يمضي البيع إذا وضع عنه؟ قال: لا أرى ذلك، وأرى أن يفسخ البيع ويرد، وليس ذلك مثل الذي يبيع ويشترط سلف عشرة دنانير فيدع السلف، وأرى إذا باعها منه على أن يتخذها أم ولد فيعلم بذلك وقد حملت أن تكون للمشتري بقيمتها يوم اشتراها، والله أعلم.
قال محمد بن أحمد: قد ساوى في المدونة بين المسألتين فقال: إنه إذا رضي بترك الشرط جاز البيع كالبيع والسلف، وهو المشهور في المذهب، وجعل في هذه الرواية البيع والسلف أخف من الذي يبيع الأمة على أن يتخذها أم ولد وقد قيل: إنه أشد منه، فيفسخ البيع والسلف على كل حال في القيام، وتكون فيه القيمة في الفوات، بالغة ما بلغت، ولا يفسخ البيع في الذي يبيع الأمة على أن يتخذها أم ولد إذا رضي البائع بإسقاط الشرط، فإن فات البيع كان فيه الأكثر من القيمة أو الثمن على حكم بيوع الثنيا.
وقد مضى وجه الفرق بينهما عند من رآهما مفترقين وذكر الاختلاف في ذلك في سماع يحيى من كتاب السلم والآجال، فلا معنى لإعادة ذكر ذلك، وقوله بقيمتها يوم اشتراها معناه إذا كان الشراء والقبض في يوم واحد، وأما إن تأخر القبض عن الشراء فإنما يكون عليه قيمتها يوم قبضها، وبالله تعالى التوفيق.
[يبتاع العبد بالبراءة ثم يظهر منه على بياض]
ومن كتاب الأقضية وسئل مالك: عن الرجل يبتاع العبد بالبراءة ثم يظهر منه على(8/294)
بياض فيقول للبائع: احلف ما علمت به هذا البياض، فيقول: لا أحلف ولكن احلف أنت بالله الذي لا إله إلا هو ما رأيته فرضيته بعد الروية، فقال: لا أرى ذلك للبائع على المبتاع، لا أرى له عليه يمينا.
قال محمد بن رشد: قال إن البائع يحلف ما علم بالبياض، يريد وإن كان ظاهرا من أجل أنه بيع بيع براءة، وقد نص على ذلك في سماع يحيى، وإنما يختلف إذا لم يكن البيع بيع براءة حسبما مضى القول فيه في أول رسم من سماع ابن القاسم، ولم يبين هل ثبت قدم البياض الذي ظهر عليه أم لا، وقد اختلف في إيجاب اليمين عليه إن لم يثبت قدمه، فقيل: إنه لا يحلف في بيع البراءة إلا في الموضع الذي يجب الرد به في غير بيع البراءة، وهو أن يثبت قدم العيب عنده، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، ومثله في كتاب ابن المواز، وقيل: إنه يحلف كما يحلف إذا لم يكن البيع بيع براءة وهو ظاهر هذه الرواية، ونص قول ابن القاسم في رسم أول عبد أبتاعه من سماع يحيى بعد هذا، وكذلك اختلف أيضا إن نكل عن اليمين، فقيل: إنه يرد عليه دون يمين، وهو قول مالك في كتاب ابن المواز، ومثله في الواضحة، وهو دليل قوله في هذه الرواية لا أرى له عليه يمينا؛ لأن ظاهره ألا يمين له عليه بحال على ظاهر ما جاء في حديث قضاء عثمان على عبد الله بن عمر من قوله فيه: فأبى عبد الله بن عمر أن يحلف وارتجع العبد.
وأما قوله في الرواية: إنه لا يمين له عليه أنه ما رآه فرضيه بعد الروية، فهذا مثل ما في المدونة، قال فيها: إنه لا يحلف له إلا أن يدعي أنه بلغه ذلك أو أن مخبرا أخبره بذلك، قال في العشرة بعد أن يحلف على ذلك فتكون يمينه على ذلك توجب له اليمين.
قال بعض المتأخرين: ويحلف لقد أخبره بذلك مخبر صدق، فإن كانت له بينة على إخباره إياه أو أتى بالمخبر فقال: هذا أخبرني سقطت عنه اليمين، وإن كان المخبر الذي أتى به غير عدل.(8/295)
[مسألة: ابتاع من رجل جارية على أنها عذراء فقبضها بكرة وغاب عليها]
مسألة وسئل: عمن ابتاع من رجل جارية على أنها عذراء فقبضها بكرة وغاب عليها، فلما كان بالعشي جاءه بها فقال: لم أجدها عذراء، فقال له البائع: أما أنا فلم أبعك إلا عذراء وقد غبت عليها ولست أدري لعلك افترعتها أو غيرك، فقال مالك: أرأيت لو جاءه بها من ساعته أنه ليس بمثل هذا من خفاء، فأرى أن يريها النساء، فإن قلن: نرى أثرا قريبا من افتراعها حلف البائع بالله الذي لا إله إلا هو [ثم لزمت المبتاع، فإن قلن: ما نرى شيئا، إن هذا فيما نرى لقديم أحلف المبتاع بالذي لا إله إلا هو ثم] ردها؛ لأن النساء لم يشهدن على أنها لم تفترع عند هذا، وإنما قلن: لا نرى شيئا قريبا، فقلت له: افهمني يا عبد الله ما تقول إذا قال النساء: ما نرى أثرا قريبا [من افتراعها] ، وإن افتراعها لقديم غير حديث، فقيل للمبتاع: أحلف فأبى؟ فقال لي: إذا أبى أن يحلف ردت اليمين على البائع ثم لزمت الجارية المبتاع.
قال محمد بن رشد: جعل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - شهادة النساء، إذا لم يشهدن قطعا من جهة النظر أنها لم تفترع عند البائع ولا عند المبتاع وإنما قلن: نرى أثرا قريبا وإن افتراعها فيما نرى لقريب، أو نرى أثرا بعيدا وإن افتراعها فيما نرى لبعيد، دليلا يوجب أن يكون القول قول من شهدن له بذلك من البائع أو المبتاع مع يمينه، كالشاهد واليد والرهن وإرخاء الستر ومعرفة العفاص والوكاء وما أشبه ذلك من الأشياء، ولو كان ما رأى النساء من افتراعها أمرا بينا لا يشككن فيه أنه حديث لا يمكن أن يكون عند البائع، أو قديم لا يمكن أن يكون حدث عند المبتاع، فقطعن على ذلك وبتتن(8/296)
الشهادة فيه، إذ ذلك مما تدرك معرفة حقيقته بالنظر والعيان لكانت شهادتهن في ذلك عاملة دون يمين على ما نص عليه في رسم يدير ماله بعد هذا من سماع عيسى، وعلى ما دل عليه قوله أيضا في هذه الرواية أرأيت لو جاء بها من ساعته أنه ليس بمثل هذا من خفاء، وقد كان جميع من أدركنا من الشيوخ يحملون رواية أشهب هذه على الخلاف لرواية عيسى، وعلى ذلك يحملها أيضا من لم ندرك من الفقهاء المتقدمين فيما بلغنا عنهم، فكانوا يختلفون على ذلك في الحائط يكون بين الدارين لرجلين فيدعيه كل واحد منهما ملكا لنفسه ويشهد الشهود لأحدهما أنه من حقوق داره بدليل عقود البناء وما أشبه ذلك، فهل يقضى بشهادتهم لمن شهدوا أنه من حقوق داره بيمين أو بغير يمين؟ وهي عندي مسألة أخرى لا ينبغي أن يختلف في إيجاب اليمين فيها، إذ لا يمكن الشهود أن يشهدوا أنه ملك لأحدهما من جهته [دليل] البناء، إذ قد يكون لمن لا دليل له فيه بشرط في أصل مقاسمة الدار أو بيع أو هبة أو ما أشبه ذلك، وباليمين كان يفتي أبو عمر الأشبيلي، وهو نص قول عبد الملك بن الماجشون في الثمانية، ولو كان المتداعيان في الحائط، لا يدعيه كل واحد منهما لنفسه ملكا وإنما يقول: إنه من حقوق داره [لوجب أن يقضى به لمن شهدت البينة منهما له أنه من حقوق داره] دون يمين وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى جارية ليتخذها أم ولد فاخبر أنه لا يعرف أبوها]
مسألة وسئل مالك: عمن اشترى جارية ليتخذها أم ولد فاخبر أنه لا يعرف أبوها، أله أن يردها؟ فقال: ذلك له [إن كانت ذات ثمن] .
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم(8/297)
الأقضية الثاني من هذا السماع وفي رسم البز من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى جارية ليتخذها أم ولد فاخبر أن أحد جديها أسود]
مسألة قيل له: أرأيت إن أخبر أن أحد جديها أسود، أله أن يردها؟ فقال: لا أرى ذلك له.
قال محمد بن رشد: في الواضحة لمالك أن العلية ترد بذلك، وهو صحيح، لما يخشى من أن ينزع عرقه فيأتيه منها ولد أسود، والأصل في ذلك ما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أتاه رجل فقال: يا رسول الله، إن أهلي ولدت غلاما أسود وإني أنكرته، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها، قال: حمر، قال: فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقا، قال: فأنى ترى ذلك جاءها؟ قال: عرق نزعه، قال: فلعل ابنك نزعه عرق» ولم يرخص له في الانتفاء منه.
[مسألة: ابتاع جارية ثم جاء فزعم أنها تبول في الفراش]
مسألة وسئل: عمن ابتاع جارية ثم جاء فزعم أنها تبول في الفراش، فأنكر ذلك البائع وكذبه، أيهما يحلف؟ قال: هذا أمر يعرف يضعانها على يدي عدل حتى يعرفوا ذلك منها، وهذا مما يجوز فيه قول النساء، ومما يجوز فيه قول الرجال يجدون(8/298)
تحتها البول قيل: أفتراه مما يحدث؟ قال: لا ويسأل عن ذلك أصحاب الرقيق وهم أعرف بهذا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر؛ لأن الجارية تتهم على أن تفعل ذلك عند الذي وضعت عنده لترجع إلى سيدها، وقد قال ابن عبد الحكم في الكتاب المعروف بالمولدات لا يثبت مثل هذا إلا بإقرار البائع؛ لأن العبد يتهم على أن يبول عامدا أو يلقي ماء في فراشه، والصحيح فيها ما حكاه ابن حبيب في الواضحة قال: لا يردها حتى يقيم بينة أنها كانت تبول في الفراش عند البائع؛ لأنه مما يحدث في ليلة فأكثر، ويحلف البائع على علمه ولا يحلف بدعوى المبتاع حتى توضع بيد امرأة أو رجل له زوجة، فيذكر ذلك، ويقبل قول المرأة في ذلك وقول زوجها عليها، فتجب بذلك اليمين على البائع، وليس بمعنى الشهادة [ولو جاء المشتري بقوم ينظرون مرقدها بالغداة مبلولا فلا بد من رجلين؛ لأن هذا من معنى الشهادة] ثم يحلف حينئذ البائع.
قال: والغلام مثل هذا، وكذلك قال كل من كاشفت من أصحاب مالك.
[مسألة: عبد بيع بالبراءة من الإباق فعطب أو مات]
مسألة وسئل عن عبد بيع بالبراءة من الإباق، فعطب أو مات، فقال: إن أقام البينة أنه عطب في الثلاث فهو من البائع، قيل: من يكلف ذلك؟ قال: المشتري، وهو مثل ما لو غاب عليه فعليه البينة أنه مات في الثلاث.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف روايته عنه في أول السماع مثل رواية ابن القاسم عنه في رسم طلق من سماع ابن القاسم، وقد مضى هناك القول على ذلك فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.(8/299)
[ابتاع شاة فوجد جوفها فاسدا أخضر]
ومن كتاب البيوع الأول قال: وسئل عمن ابتاع شاة فوجد جوفها فاسدا أخضر فظن أنه من ضربة ضربت الشاة، أترى له أن يردها؟ فقال: لا والله ما أظن له أن يردها قد يشتري المشتري فيقال له: سمينة ثم تأتي عجفاء فيردها، ويقول: هات الثمن، ما أرى له عليه شيئا، قيل له: فيحلف؟ قال: إن جاء بوجه حلف.
قال محمد بن رشد: قوله: فظن أنه من ضربة ضربت الشاة، يدل على أنه لو علم أن ذلك من ضربة ضربت لكان له أن يردها، فلم ير له أن يردها حتى يعلم ذلك؛ لأنه حمل أمرها على أن ذلك بها من غير جناية عليها كالسوس في الخشب لا يعلم به إلا بعد القطع، ولم ير على البائع يمينا أنه ما ضربها ولا علم أنها مضروبة إلا أن يأتي بوجه شبهة، وذلك على القول بأن يمين التهمة لا تلحق دون شبهة.
وقوله: قد يشتري المشتري الشاة ويقال له: سمينة ثم تأتي عجفاء إنه لا رد له، معناه أن البائع لم يقل له ذلك، وإنما قاله له غيره فاشتراها وهو يظنها سمينة.
وإما لو قال ذلك له البائع وشرط أنها سمينة، فوجدها عجفاء لكان ذلك عيبا فيها يجب له الرجوع بقيمته من الثمن؛ لأن الذبح فيها فوت.
وفي المبسوطة لأشهب أنه يرد فيها إلى القيمة، ومعنى ذلك إذا كانت قيمتها سمينة والثمن الذي اشتراها به سواء، فيرجع قوله إلى أن له الرجوع بقيمة العيب من الثمن كما قلناه؛ لأنه لا يرد إلى القيمة بعد الفوات إلا البيع الفاسد، وليس هذا ببيع فاسد، وإنما هو بيع عيب، وقد كان الشيوخ يختلفون من هذا المعنى في الذي يشتري الضحية فيجدها عجفاء، فمنهم من كان لا يرى في ذلك للمبتاع حجة على البائع ويحتج بهذه الرواية، وممن كان يذهب إلى ذلك ابن الفخار وابن القطان، وكان ابن الفخار يقول: ولو رضي البائع أن يأخذها منه مذبوحة ويصرف عليه الثمن لم يجز(8/300)
له لأنه بيع الحيوان باللحم، وجواز هذا يتخرج على اختلاف قول مالك في سماع أشهب من كتاب السلم والآجال في الذي يبيع من الرجل الثمرة في رؤوس النخل بعد أن بدا صلاحها بدين إلى أجل، فإذا يبست واستجدت أخذها منه بماله عليه من الثمن أو أقل أو أكثر، ومنهم من كان يقول: له أن يردها عليه مذبوحة كمن دلس لرجل بعيب في ثوب ثم اطلع على العيب بعد أن قطع الثوب أنه يرده ولا شيء عليه في قطعه؛ ومنهم من كان يقول: القيام عليه بالعيب يريد فيرجع عليه بقيمته ويرى الذبح فوتا، وإلى هذا كان يذهب ابن عتاب، وقال بذلك ابن مالك وذكر أنه في كتاب ابن شعبان.
والذي أقول به في هذا: أنه إن أتى إلى رب الغنم فقال له: أخرج إلي شاة سمينة أضحي بها أو شاة أضحي بها ولم يقل سمينة، فأخرج إليه شاة فسامه فيها واشتراها منه، فلما ذبحها وجدها عجفاء لا تجوز في الضحايا، فله ردها مذبوحة وأخذ ثمنها، وأما إن أتى الغنم فوضع يده على شاة منها فقال له: بعني هذه الشاة أضحي بها فاشتراها منه فلما ذبحها وجدها عجفاء، لا تجوز في الضحايا، فلا قيام له عليه فيها، إلا أن يقر البائع أنه علم أنها كانت مهزولة لا تجوز في الضحايا فيكون له ردها عليه، وكذلك إن لم يقل: أضحي بها إذا كان ذلك في وقت شراء الضحايا وفي سوقها؛ لأن أمره إنما يحمل على أنه إنما اشتراها ليضحي بها إذا لم يكن من أهل التجارة بذلك مثل الجزارين وشبههم وبالله التوفيق.
[مسألة: ابتاع عبدا ولم يستثن ماله عند الاشتراء]
مسألة وسئل: عمن ابتاع عبدا ولم يستثن ماله عند الاشتراء، ثم جاء بعد الاشتراء إلى البائع فقال له: إنه قد كان لي أن استثني مال العبد فلم أفعل، فأنا أشتري منك الآن ماله ما كان بكذا وكذا، أيصلح ذلك؟ فقال: لا والله ما يصلح. قيل له: أفرأيت الذي يبتاع أصل الحائط وفيه ثمر قد أبر فلم يستثنه عند عقدة الشراء، ثم يجيء بعد ذلك فيريد أن يشتريه، أيجوز ذلك له؟ فقال: لا(8/301)
والله إذا باع الرجل أصل حائطه وثمره بلح جاز للمشتري أن يستثنيه، فإن لم يستثنه فإنه إنما جاء الآن يشتري بلحا في رؤوس النخل، لا يصلح هذا، وهذا بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، والنخل يباع وفي رؤوسها البلح فيكون للمشتري إذا استثناها، فإذا ذهب يشتريها بعد اشتراء الأصل فقد صار بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وسواء بعد ذلك أو قرب لا يصلح، والعبد بمنزلة ذلك في ماله قرب ذلك أو بعد.
قال محمد بن رشد: أجاز ذلك ابن القاسم في رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، ولم يفرق في ذلك بين قريب ولا بعيد، ومثل ذلك في الجوائح من المدونة في شراء الثمرة بعد الأصل، وفرق عيسى في ذلك بين القرب والبعد، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم، فمن الناس من يحمل رواية أصبغ عن ابن القاسم وقول عيسى على الخلاف لرواية عيسي ويقول في المسألة ثلاثة أقوال: المنع، والجواز، والتفرقة بين القرب والبعد، ومنهم من يقول: إن قول ابن القاسم في رواية أصبغ عنه مفسر لقوله في رواية عيسى عنه، وإن الاختلاف إنما هو في القرب ولا اختلاف في البعد؛ لأن الأمر إذا طال فليس الذي اشترى هو الذي كان يجوز له أن يستثني، [وقد كنت أقول بذلك ثم بان لي أنه قول ثالث في المسألة؛ لأن كل قول منها له وجه من النظر قد ذكرته وبينته في أول رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع] ، وقد أجاز أشهب في قول شراء ثمر النخل ولم يجز شراء مال العبد، في الجواز من إلحاق مال العبد بالأوإلحاق ثمر النخل بالأصل أبين صل؛ لأن المشتري يضمنها بالعقد؛ لأنها في أصوله، والحادث فيها من النماء إنما حدث بعد أن صارت في ضمانه وفي أصوله، وإنما نهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها لكونها في ضمان البائع وفي أصوله.
وقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أرأيت إذا منع الله الثمر ففيم يأخذ أحدكم مال أخيه» ، دليل على هذا.(8/302)
[اشترى من رجل عبدا فمات البائع والمبتاع فوجد ورثة المبتاع بالعبد عيبا]
ومن سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب نقدها نقدها وقال في رجل اشترى من رجل عبدا فمات البائع والمبتاع فوجد ورثة المبتاع بالعبد عيبا كان به عند البائع يشهد بذلك الشهود ولم يعرفوا عدة الثمن، جهلوا ذلك ولم يعلم، والعبد قائم بعينه أو فائت: إن مجهلة الثمن فوت وإن كان قائما، ويرجع بقدر العيب في الوجهين جميعا، ينظركم قيمته يوم قبضه المبتاع، مثل أن تكون أرفع القيمة يومئذ خمسين دينارا وأدناها أربعين دينارا فبين ذلك عشرة دنانير فالعشرة تنقسم بين القيمتين بنصفين، فيكون الثمن خمسة وأربعين، ثم ينظركم العيب من ذلك فيرجع به.
قال عيسى: أرى ألا ينظر في شيء من هذا إلى وسط القيمة، ولكن إلى قيمته يوم بيع فتجعل القيمة ثمنه، ثم يرجع بقدر العيب في القيمة، ومجهلة الثمن فوت.
قال محمد بن رشد: قد روي عن ابن القاسم أن مجهلة الثمن ليس بفوت، وأنه يرجع بقيمته يوم قبضه قيمة وسطه ويرد العبد، حكى القولين عنه ابن المواز، والقيمة إنما تكون في هذا يوم البيع لا يوم القبض، إذ ليس ببيع فاسد، فقوله: إنه ينظر إلى قيمته يوم قبضه المبتاع معناه إذا كان القبض والبيع في يوم واحد، ولم يذكر في هذا يمينا، واليمين في ذلك واجبة على القول بلحوق يمين التهمة، فلا يكون هذا الذي قاله ابن القاسم من رد العبد والرجوع بقيمته أو إمساكه والرجوع بقيمة العيب من القيمة على هذا القول إلا بعد أيمانهما أو نكولهما، فإن حلف ورثة البائع أنهم لا يعلمون عدة الثمن ونكل ورثة المشتري عن اليمين استبرئ بما يؤدي إليه اجتهاد الحاكم من السجن، ولو تجاهلوا معرفة(8/303)
الثمن وتصادقوا على أنه لم يقبض والسلعة قائمة لحلفوا جميعا ورد البيع على ما قاله في كتاب تضمين الصناع من المدونة، وإن فاتت كانت على ورثة المشتري بقيمتها، ثم ينظر في العيب بينهم على ما تقدم.
ووجه القول بأن مجهلة الثمن فوت هو أنه لما كان فوات العبد بالعيوب المفسدة فوتا في الرد بالعيب لئلا يظلم البائع بأن يؤخذ منه جميع الثمن ويرد إليه العبد معيبا، وزيادته في عينه كالصغير يكبر فوتا لئلا يظلم المبتاع، وجب أن يكون مجهلة الثمن فوتا لئلا يظلم ورثة البائع إن كانت القيمة أكثر من الثمن الذي قبض، أو يظلم ورثة المبتاع إن كانت القيمة أقل من الثمن الذي دفع.
ووجه القول بأن ذلك ليس بفوت هو أنه لما كان ذلك لا يحققه أحدهما على صاحبه ولا يدعيه عليه وجب ألا يلتفت إليه.
وقول عيسى بن دينار إنه لا ينظر في شيء من هذا إلى وسط القيمة يرجع إلى قول ابن القاسم في المعنى ولا يخالفه إلا في صفة التقويم؛ لأنه لا يقول إنه يقوم أعلى القيم التي لا توجد إلا في النادر على الطالب ولا أدنى القيم التي يبيع بها المحتاج المضطر إلى تعجيل البيع، وإنما يقول: إنه يقوم على الوسط من ذلك، فهو راجع إلى قوله في المعنى، وأما قوله: إنه يقوم يوم البيع فقد ذكرنا أنه معنى قول ابن القاسم وإرادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري الجارية من الرجل فيغيب البائع ويجد بها المشتري عيبا لم يعلم به]
مسألة وقال في الرجل يشتري الجارية من الرجل فيغيب البائع ويجد بها المشتري عيبا لم يعلم به وهو نقط برص في غير موضع ولم يطلع منها عند الاستبراء إلا على نقطة واحدة، والبائع غائب، كيف يصنع؟ قال: يقيم البينة عند الإمام أنه اشترى بيع الإسلام وعهدة الإسلام لا داء ولا غائلة، قال: فإذا أقام البينة عنده على(8/304)
ذلك باعها السلطان، وإن كان البائع غائبا، فإن كان نقصانا اتبع به البائع، وليس عليه في الوطء شيء؛ لأنه كان لها ضامنا إلا أن تكون بكرا فيكون عليه ما نقص إن نقص، قيل له: فعليه يمين أنه ما وطئها منذ اطلع على ذلك منها؟ قال: إن كان ممن لا يتهم لم يحلف، وإن كان ممن يتهم كان عليه اليمين أنه ما وطئها منذ رأى ذلك.
وسئل عنها سحنون فقال: أخبرني أشهب بن عبد العزيز وابن نافع عن مالك أنه سئل عن رجل يشتري الجارية فيجد بها عيبا فيردها على صاحبها فيريد صاحبها أن يستحلفه أنه ما وطئها منذ رأى العيب بها، فقال مالك: ليس له أن يستحلفه ولا أرى عليه يمينا، واستحسنها سحنون وقال: هي جيدة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يقيم البينة عند الإمام أنه اشترى بيع الإسلام وعهدة الإسلام لا داء ولا غائلة، يريد في يوم كذا وكذا من أجل العيوب التي تقدم وتحدث، ويريد: ويقيم البينة عنده أيضا أنه قد نقده الثمن، ويحلف ما بينه العيب الذي قام به، وحينئذ يكون ما قال من بيع العبد على الغائب ودفع الثمن إليه، فإن لم يقم البينة على أن البيع كان بيع الإسلام وعهدة الإسلام حلف على ذلك كما كان يحلف لو ادعى البائع أنه باع بيع براءة، وإن لم يقم البينة على دفع الثمن إلى البائع حلف على ذلك أيضا، وذلك إذا كان قد مضى من المدة ما لو أنكره البائع القبض كان القول قوله مع يمينه أنه قد دفعه إليه، وذلك العام والعامان على ما ذهب إليه ابن حبيب، والعشرون عاما ونحوها على مذهب ابن القاسم؛ لأن السلطان يستقضي للغائب حقوقه ويقوم له بحجته، وقوله: إنه لا يحلف أنه ما وطئها منذ اطلع على ذلك إلا أن يكون ممن يتهم صحيح؛ لأنها يمين تهمة، فلا يحلف فيها من لا يتهم، واحتجاج سحنون برواية أشهب عن مالك على أن الإمام لا يحلفه على ذلك صحيح؛ لأن الإمام إنما يحلفه فيما لو كان حاضرا وأراد أن يحلفه فيه لكان له أن يحلفه، وبالله التوفيق.(8/305)
[بتاع العبد ويشترط على البائع أنه إن أبق فهو منك فيأبق]
ومن كتاب أوله استأذن سيده في تدبير جاريته وسألت ابن القاسم عن الرجل يبتاع العبد ويشترط على البائع أنه إن أبق فهو منك فيأبق، قال: هو من المبتاع بالقيمة، وهو مثل ما لو اشترط عليه أنه إن مات في عهدة السنة فهو منك، فهو من المبتاع، قلت له: فلو أعتقه المبتاع؟ قال: إذا فات في يديه بوجه من وجوه الفوت كانت فيه القيمة. قلت: فإن كان العبد معروفا بالإباق أو لم يكن معروفا هو عندك سواء؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه بيع فاسد بما شرط من ذلك يجب فسخه، فإن فات بعد القبض بوجه من وجوه الفوت لزمه بقيمته يوم القبض، وستأتي هذه المسألة في رسم الجواب كاملة. وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري العبد وبه عيب لم يعلم به فيتصدق بنصفه ثم يعثر على العيب]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يشتري العبد وبه عيب لم يعلم به فيتصدق بنصفه ثم يعثر على العيب، قال: يرجع بقيمة العيب كله إذا لم يدخله من الفوت في نقصان جسده أكثر من الصدقة، ويكون البائع مخيرا في أن يعطيه قيمة العيب كله ويمضي البيع، وفي أن يعطيه نصف قيمة العيب ويسترد النصف الذي بقي في يد المشتري بنصف الثمن. قلت: ولا يكون المشتري مخيرا في هذا النصف الذي بقي في يديه بين أن يرده ويأخذ قيمة نصف العبد الذي تصدق به وبين أن يمسكه ويرجع بجميع قيمة العيب إذا دخله الفوت بهذه الصدقة؟ قال: لا يكون(8/306)
في هذا مخيرا، وإنما يكون الخيار فيه للبائع؛ لأنه يقول: إما أن ترد على جميعه، وإما أن تمسك الذي بقي في يديك وأنا أرد عليك ثمن العيب؛ لأني لا أرضى أن يرجع إلي نصف عبد وقد بعته تاما، ولم أكن أرضى أن يكون لي فيه شريك، فإنما الخيار في هذا إلى البائع إن شاء أسلم إليه جميعه وغرم ثمن العيب كله، وإن شاء أخذ النصف الذي بقي في يده وغرم نصف قيمة العيب، ولو في ذلك مخير؛ ألا ترى أنه لولا الصدقة التي دخلته لم يكن للمبتاع إلا أن يرده أو يمسك ولا شيء له في العيب إذا لم يدخله النقصان في بدن، ولو كان دخله مع الصدقة نقصان في بدن لم يكن في ذلك للبائع خيار ولزمه غرم قيمة العيب، وقد قال: لا أرى له خيارا، وكان مما احتج به فيه أن قال: إذا رد هذا النصف الذي بقي في يديه حتى صار أفضل منه كله قال: أنا آخذه وأرد نصف قيمة العيب في النصف الفائت بالصدقة، وإذا نقص قال: لا أرضى أن آخذه معيبا وأرد العيب كله، فلا أرى أن يكون الحكم فيه إلا واحدا، فعليه أن يرد نصف قيمة العيب للنصف المتصدق به فقط.
قال محمد بن رشد: أما النصف الذي فات بالصدقة فقد وجب على البائع أن يرد له نصف قيمة العيب لا كلام في ذلك، وأما النصف الذي بقي في يد المشتري لم يتصدق به ففيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن البائع فيه مخير بين أن يسترده بنصف الثمن، وبين أن يتركه ويرد قيمة نصف العيب الثاني، وهو قوله في المدونة وأول قوله ههنا، والثاني: أنه لا خيار له في أخذه ويلزمه رد جميع قيمة العيب، وهو الذي يدر عليه قوله في أول كلامه، وقد قال: لا أرى خيارا يريد في أخذه، ويلزمه أن يرد جميع قيمة العيب؛ والثالث: أنه لا خيار له في تركه، ويلزمه أن يسترده بنصف الثمن، ويغرم نصف قيمة العيب للنصف الذي تصدق به فقط، وهو ظاهر قوله في(8/307)
آخر كلامه. فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، ولا خيار للمبتاع في قول من الأقوال، والله ولي التوفيق.
[مسألة: يشتري العبد وبه عيب لم يعلم به ثم يبيع نصفه]
مسألة قال: ولو باع نصفه فقط، ثم ظهر على العيب فإنه إن رجع عليه بشيء فيما باع رجع بجميع قيمة العيب، وإن لم يرجع عليه بشيء لم يرجع إلا بنصف قيمة العيب في النصف الذي بقي في يديه، بمنزلة ما لو تصدق بنصفه وباع نصفه لم يرجع إلا بنصف قيمة العيب في النصف الذي تصدق به، ولم يرجع في النصف الآخر بشيء، إلا أن يرجع عليه.
قلت: فلو كان باع نصفه وتصدق بنصفه؟ قال: يرجع بنصف قيمة العيب الذي تصدق به، ولا يرجع فيما باع بقليل ولا كثير إلا أن يرجع عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا باع نصفه إنه إن رجع عليه بشيء فيما باع رجع بجميع قيمة العيب، يريد بجميع قيمة العيب من ثمنه الذي اشتراه به بالغا ما بلغ، وإن كان ذلك أكثر مما رجع به عليه وأكثر من بقية رأس ماله.
هذا ظاهر قوله في هذه الرواية، وقيل: إنه يرجع عليه بالأقل من قيمة العيب من ثمنه أو مما رجع به عليه، [وهو أحد قولي ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وقيل: إنه يرجع عليه بالأقل من قيمة العيب من ثمنه أو مما رجع به عليه أو من بقية العيب من ثمنه أو مما رجع به عليه] ، أو من بقية رأس ماله، وهو اختيار ابن المواز وأحد قولي ابن القاسم في كتابه، مثال ذلك أن يشتري العبد بمائة وبه عيب لم يعلم به، وقيمته من(8/308)
الثمن الذي اشتراه به يوم اشتراه فيه ثلاثة دنانير، فيبيعه بتسعة وتسعين، ويفوت عند المشتري فيطلع على العيب وقيمته من الثمن الذي اشتراه به في الوقت الذي اشتراه فيه ديناران، فيرجع عليه بالدينارين، فإنه يرجع على رواية عيسى على الذي باعه العبد بجميع قيمة العيب من ثمنه وذلك ثلاثة دنانير؛ ويرجع عليه في القول الثاني بالدينارين اللذين رجع بهما عليه لا أكثر، ويرجع عليه في القول الثالث الذي هو اختيار ابن المواز بدينار واحد؛ لأنه بقية رأس ماله وهو أقل الثلاثة الأشياء.
وقوله: وإن لم يرجع عليه بشيء لم يرجع إلا بنصف قيمة العيب في النصف الذي بقي في يديه، يريد على أحد الثلاثة الأقوال التي ذكرناها في المسألة التي قبل هذه، وعلى القول الثاني فيها يكون البائع مخيرا بين أن يسترد النصف الباقي في يده بنصف الثمن [وبين أن يرد نصف قيمة العيب، وعلى القول الثالث فيها يلزمه أن يسترد النصف الباقي في يدي المشتري بنصف الثمن] ولا خيار في ذلك لواحد منهما ومذهب أشهب، وهو اختيار ابن حبيب، أنه إن باع بأقل من الثمن الذي اشترى به قبل أن يعلم بالعيب رجع على البائع بالأقل من قيمة العيب أو من بقية رأس ماله، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: يبيع العبد وبه عيب لا يعلمه المشتري ثم باعه المشتري فحدث به عيب آخر عند مشتريه]
مسألة قلت: أرأيت الذي يبيع العبد وبه عيب لا يعلمه المشتري، ثم باعه المشتري فحدث به عيب آخر عند مشتريه من المشتري، ثم عثر على ذلك العيب، قال: مشتريه من المشتري مخير بين أن يرده ويرد ما نقصه العيب الذي حدث عنده به، وبين أن يحبسه ويرجع بقيمة العيب.
قلت: أرأيت إن اختار حبسه ورجع على مشتريه بقيمة العيب ثم يرجع هذا الذي رجع عليه(8/309)
على بائعه الأول؟ ينظر إلى قيمته صحيحا يوم باعه ثم ينظر إلى قيمته يوم باعه وبه ذلك العيب، فإن كانت قيمته صحيحا ذلك اليوم خمسين دينارا وقيمته معيبا ذلك اليوم أربعين دينارا فبين القيمتين عشرة، فعشرة من خمسين خمسها، فيرجع على بائعه الأول بخمس الثمن قل الثمن أو كثر، على حساب هذا يرجع عليه في الثمن، ولا ينظر فيما بين هذا الأوسط وبين بائعه الأول إلى هذا الثمن الذي باعه به هذا الأوسط، وكذلك يرجع هذا الآخر أيضا على هذا الأوسط ينظر إلى قيمته صحيحا يوم باعه هذا الأوسط من هذا الآخر وإلى قيمته يومئذ وبه هذا العيب، فإن كانت قيمته صحيحا ستين وقيمته معيبا خمسين، فبينهما عشرة فهي من الستين سدسها، فالآخر يرجع على الأوسط بسدس الثمن الذي ابتاعه به منه بالغا ما بلغ قل الثمن أو كثر، وإن اختار المشتري الآخر أن يرده ويرد ما نقصه العيب عنده كان ذلك له، وكان هذا الأوسط أيضا مخيرا بين أن يرده ويرد ما نقصه العيب وبين أن يمسكه ويرجع بقيمة العيب على ما وصفت لك.
قال محمد بن رشد: قد مضى في المسألة التي قبل هذه تحصيل مذهب ابن القاسم في هذه المسألة وأن له فيها ثلاثة أقوال قد بيناها وشرحناها فلا معنى لإعادة ذكرها وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: هزال الرقيق نقصانا ولا عيبا]
مسألة قال ابن القاسم: ولم ير مالك هزال الرقيق نقصانا ولا عيبا يرد معها مبتاعها قيمة الهزال إذا وجد به عيبا يرد به؛ لأن العبد النبيل التاجر قيمته مهزولا وقيمته سمينا واحدة، فكذلك الدابة على ما ذكرت لك من أمر العبد إذا سمنت عنده ثم وجد بها عيبا(8/310)
دلسه البائع أو لم يدلسه فهو مخير إن شاء ردها وأخذ الثمن الذي ابتاعها به ولا شيء له في زيادتها، وإن شاء أمسكها ولا شيء له في العيب، وأما إذا نقصت بعجف أو دبر أو نقصان بدن فإنه يقال له: إن شئت فردها ورد ما نقصها العجف أو العيب الذي أصابها عندك وخذ الثمن، وإن شئت فأمسك وخذ قيمة العيب الذي وجدت بها، والتدليس وغير التدليس في ذلك سواء.
قال محمد بن رشد: أما هزال الذكور من الرقيق وسمنهم فلا اختلاف في أن ذلك ليس بفوت، وأما سمن الجواري منهن وعجفهن فلم يختلف قول مالك وابن القاسم في أن ذلك ليس بفوت، ورأى ذلك ابن حبيب فوتا، يكون بذلك مخيرا بين أن يرد أو يمسك ويأخذ قيمة العيب.
واختلف قول مالك في سمن الدواب، فمرة رآه فوتا يكون المبتاع فيه مخيرا بين أن يرد أو يمسك ويرجع بقيمة العيب، ومرة لم يره فوتا، وقال: إنه ليس له إلا الرد، واختيار ابن القاسم أن ذلك فوت، وقع ذلك له في رسم أوصى بعد هذا، ولم يختلفوا في هزال الدواب أنه فوت يكون به مخيرا بين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، وبين أن يرد ويرد ما نقصه الهزال، فهذا تحصيل الاختلاف في هذه المسألة، وبالله تعالى التوفيق.
[عدا على غلام فخصاه فزاد في ثمنه]
ومن كتاب العرية قال ابن القاسم: من عدا على غلام فخصاه فزاد في ثمنه، قال: يقوم على قدر ما نقص منه الخصاء.
قال محمد بن رشد: يريد إن لم يرد تضمينه واختار حبسه، ومعنى قوله: على قدر ما نقص منه الخصاء، أي ما نقص منه عند غير أهل الطول من الأعراب وشبههم الذين لا رغبة لهم في الخصيان.
وقال سحنون: معناه أن ينظر إلى عبد دنيء ينقص من مثله(8/311)
الخصاء فما نقص منه كان على الجاني في هذا المجني عليه ذلك الجزء من قيمته، وقد تأول بعض الناس ما وقع لمالك في رسم القبلة [من سماع ابن القاسم] ، من كتاب الجراحات إن المعنى في ذلك أن ينظر [إلى] ، ما تقع الزيادة من قيمته فيجعل ذلك نقصانا منها يكون عليه غرمه، وذلك بعيد لا وجه له في النظر، والذي يوجبه النظر أن يكون عليه إن خصاه فقطع أنثييه أو ذكره جميع قيمته، وإن قطعهما جميعا فتبعته فكما يكون عليه في الحر إذا قطع ذكره وأنثييه ديتان قياسا على قول مالك في المأمومة والجائفة والمنقلة والموضحة أنه يكون عليه في ذلك من قيمته بحساب الحر من ديته.
وابن عبدوس يقول: إن زاده الخصاء فلا غرم على الجاني، ولا يصح ذلك على المذهب، وإنما يأتي على قياس قول من يقول: إنه لا شيء عليه في المأمومة والجائفة وشبههما مما لا نقصان فيه بعد البرء، والله سبحانه ولي التوفيق.
[العبد يحدث شرب خمر في عهدة الثلاث أو زنى أو سرقة]
ومن كتاب أوصى لمكاتبه وسئل ابن القاسم: عن العبد يحدث شرب خمر في عهدة الثلاث أو زنى أو سرقة، أيرده بذلك؟ قال: نعم يرده بكل ما أحدث أو أصابه في عهدة الثلاث.
قيل له: وكذلك الجارية تحدث شرب خمر في أيام الحيضة أو تزني أو نحو ذلك؟ قال: نعم هي في ذلك مثل العبد فيما أحدثته في حيضتها من هذه الوجوه فإنه يردها بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه في المذهب؛ لأن عهدة الثلاث من كل شيء، فلا فرق فيما يحدث فيها في الأبدان وفي الأديان أو في الأخلاق، إلا أن يتبرأ البائع بشيء من ذلك أنه(8/312)
فعله قبل البيع فبرئ منه، وإن أحدث مثله في العهدة أو بعدها.
وفرق أصبغ في ذلك بين الإباق والسرقة وبين الزنى وشرب الخمر فيما أحدثه العبد أو الأمة في الثلاث وفي الإستبراء.
قال فضل: وقول أصبغ على رواية أشهب وابن نافع [عن مالك] في الذي يبيع العبد ويتبرأ من الإباق ثم يأبق في عهدة الثلاث، وجعل السرقة مثله؛ لأنه لا يدري ما يؤول إليه من ذهاب الجسد. وبالله التوفيق.
[مسألة: السمانة في الدواب فوتا إذا وجد مشتريها بها عيبا]
مسألة قال ابن القاسم: أرى السمانة في الدواب فوتا إذا وجد مشتريها بها عيبا يمسكها إن شاء ويأخذ قيمة العيب وهو قول مالك، وقد قال: ليس بفوت، وأحب قوليه إلي أن يكون فوتا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في آخر رسم استأذن من هذا السماع، فلا وجه لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.
[باع عبدا واشترط الخيار ثلاثا]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وسئل: عمن باع عبدا واشترط الخيار ثلاثا، فلما مضت الثلاث أوجب له البيع، أتكون العهدة في أيام الخيار أم عهدة مبتدأة؟ قال: لا بد من العهدة ثلاثة أيام مبتدأة.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب في أن بيع الخيار إذا أمضي فإنما يقع يوم أمضي، ويأتي على ما وقع في كتاب الشفعة من المدونة من أنه إذا أمضى على العقد فكأنه وقع حينئذ في قوله في الذي يشتري شقصا بخيار ثم يباع الشقص الآخر ببيع بت فيختار(8/313)
الشراء إن الشفعة تكون له في الشقص المبيع بيع بت وإن العهدة تكون في أيام الخيار.
[مسألة: سام عبدا ليشتريه فأعطاه به مائة دينار فأبى صاحبه أن يبيعه بذلك]
مسألة وسئل: عمن سام عبدا ليشتريه فأعطاه به مائة دينار فأبى صاحبه أن يبيعه بذلك، فأتى رجل إلى صاحبه بغير علم من المشتري، فقال له: لم منعت فلانا غلامك وهو رجل لا بأس به يقع في ملك رجل حسن الملكة بعه منه بما أعطاك وأنا أعطيك عشرين دينارا، ففعل، فعلم بذلك المشتري بعد ذلك فأراد رده، هل تراه عيبا؟ قال: ليس هذا بعيب إلا أن يكون اشتراه على العتق.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا اشتراه للعتق فقد أعان فيه الرجل بعشرين دينارا، فمن حق المشتري أن يقول: لا أريد أن أعتق عبدا يعينني أحد في ثمنه بشيء، فإن علم بذلك قبل أن يعتقه كان له أن يرده، وإن لم يعلم بذلك حتى أعتقه ففي رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا لمالك وابن هرمز جميعا أن ذلك عيب من العيوب يرجع به المشتري على البائع فيأخذه من الثمن ولم يبينا وجه ذلك.
قال ابن القاسم: وتعبيره أن ينظركم ثمنه بغير شرط العتق، وكم ثمنه لو شرط فيه العتق، فينظركم بين القيمتين، فإن كان ذلك ربعا أو خمسا أو سدسا رجع إلى الثمن فأخذ بقدر ذلك من البائع، بمنزلة ما لو باعه وعليه دين أو له امرأة أو ولد أو به عيب، وهو تفسير لا وجه له بوجه، وإنما الذي يصح في ذلك ولا يجوز غيره أن ينظر ما تقع العشرون دينارا التي زادها الرجل من جميع الثمن الذي باعه به البائع وهو مائة وعشرون، فوجدنا ذلك السدس فيرجع المبتاع على البائع بسدس المائة التي دفع إليه؛ لأن الذي زاد العشرين قد شاركه في العبد الذي أعتق بسدسه إذ ودى سدس الثمن إلى البائع ولم يعلم بذلك، فصار بمنزلة من اشترى عبدا فأعتقه ثم استحق(8/314)
سدسه بحرية فإنه يرجع على البائع بسدس الثمن الذي دفع إليه، ولو اشتراه على غير العتق لم يكن له في ذلك حجة كما قال، إذ لم يستحق عليه من رقبة العبد شيئا ولا أضر به ما زاد البائع لرغبته في أن يقع العبد عنده لما رجاه له من الخير لحسن ملكته، إذا اشتراه للعتق، وأما إن لم يشتره بشرط العتق فليس له أن يرده إذا علم بما زاد الرجل البائع، ولا يصدق في أنه اشتراه للعتق؛ لأنه يتهم على أنه ندم في شرائه فادعى أنه اشتراه للعتق [ليرده على البائع، وأما إذا لم يعلم بذلك حتى أعتقه فيصدق أنه إنما اشتراه للعتق] ، بما ظهر من عتقه إياه، ويكون له الرجوع على البائع بما وصفناه. وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: اشترى جارية فباعها فوجد بها المشتري الثاني عيبا]
مسألة وقال في رجل اشترى جارية فباعها فوجد بها المشتري الثاني عيبا، فأتى بها يردها ويريد الخصومة فيها، فقال البائع الأول للمشتري الثاني: أنا أقيلك فيها فرضي وكان البائع الأول باعها بستين، واشتراها الثاني بثمانين، كم يكون له على البائع الأول الذي قال له أنا أقيلك؟ قال: زعم مالك أنه ليس له إلا ستون، قيل لابن القاسم: أفيرجع على البائع الثاني ببقية ماله؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: إنما هذا إذا كان المشتري قد علم أن البائع الأول كان باعها بستين؛ لأنه إذا علم بذلك فقد رضي أن يأخذ منه الستين، ولو لم يعلم بذلك وعلم هو أنه اشتراها بثمانين للزمه أن يدفع إليه الثمانين، ولو لم يعلم هو بذلك أيضا، وقال: ظننت أنها بستين كما بعتها أنا لحلف على ذلك ولم يلزمه إلا الستون، فإن أراد البائع الثاني أن يدفع إليه(8/315)
بقية ماله لزمته الإقالة، وإن أبى من ذلك انفسخت الإقالة وكان على خصومته معه، وبالله التوفيق.
[اشترى جارية فوجد المشتري في عينها شعرا فجاء ليردها]
ومن كتاب لم يدرك من صلاة الأمام إلا الجلوس. قال: وقال مالك في رجل اشترى جارية فوجد المشتري في عينها شعرا فجاء ليردها، فقال البائع للمشتري: احلف أنك لم تره، قال مالك: ليس ذلك عليه، وقال: يبيع ولا يبين ويقول: احلف ليس ذلك عليه.
قال محمد بن أحمد: هذا مثل ما في المدونة أنه ليس له أن يحلفه إذا لم يدع أنه أراه إياه.
قال محمد: أو أنه قد أقر عنده أنه قد رآه إلا أن يدعي أنه قد بلغه أنه رآه ورضيه أو أن مخبرا أخبره بذلك، فإن ادعى ذلك كان له أن يحلفه.
قال ابن القاسم في العشرة بعد أن يحلف هو على ذلك، وقد مضى هذا المعنى بزيادة عليه في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، ومعنى هذا إذا كان الشعر الذي وجد في عينها مما قد يخفى عند التقليب، وأما إن كان ظاهرا لا يخفى فلا قيام له به [عليه] على ما قال في المدونة وبالله التوفيق.
[مسألة: أراد بيع غلامه فأعطاه رجل يريده رقبة ثمن]
مسألة وقال في رجل أراد بيع غلامه فأعطاه رجل يريده رقبة ثمنا، فقال علي المشي إلى بيت الله إن باعه بذلك، فأتاه قوم فقالوا له: اكتب علينا عشرين دينارا نغرمها لك ولا تمنعه العتق، ففعل، فكتبوها هم على الغلام، فاشترى المشتري وهو لا يعلم فأعتقه ثم ظهر على ذلك، فقال: إن كان البائع قد علم أنها للذين تحملوا بها على الغلام سقطت عن الحميلين وعن الغلام، فإن لم(8/316)
يعلم بذلك وإنما ظن أنهم تحملوا بها في أموالهم كان ذلك له على الحملاء، وكان ذلك للحملاء على الغلام، ورجع مشتري الغلام على البائع بثمن عيب الدين الذي عليه، وهو وجه ما سمعته.
قال محمد بن رشد: أما إذا كتبوا العشرين دينارا على الغلام بعلم المشتري فهو عيب قد دخل عليه لا حجة له فيه، وسواء علم بذلك السيد أو لم يعلم، وأما إن لم يعلم المشتري بذلك وعلم به السيد فآل الأمر إلى أنها للسيد على العبد؛ لأنهم إنما كتبوها عليه ليأخذوها منه ويدفعوها إلى السيد بما التزموا له، فقوله: إنها تسقط عن الحميلين وعن الغلام نحوه في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع، وفي نوازل أصبغ منه. مسألة التحري، وذلك كله خلاف قوله في كتاب الكفالة من المدونة في الذي يبيع عبده وله عليه دين أنه لا يسقط عنه، وهو عيب بالعبد إن شاء أمسكه، وإن شاء رده، إلا أن يسقط عنه السيد دينه.
وعلى هذا الأصل كان الشيوخ يختلفون في الذي يبيع داره ومطمر مرحاضها مملوء رحاضة ولا يتبرأ بذلك إلى المبتاع، فمنهم من كان يقول: هو عيب في الدار إن شاء المشتري أمسك وإن شاء رد على حكم العيوب قياسا على مسألة كتاب الكفالة من المدونة في الذي يبيع عبده وله عليه دين، ومنهم من كان يقول: ليس ذلك بعيب في الدار، ويلزم البائع أن يخلي له المطمر قياسا على سائر المسائل المذكورة، وهو الأظهر، بمنزلة أللو كان له زبل في بيت من بيوت الدار.
وأما إذا لم يعلم بذلك المشتري ولا السيد، فقال: إنها تثبت لهم على الغلام ويكون عيبا فيه يرجع المشتري بقيمته على البائع إذ قد فات بالعتق، وكان القياس أن تثبت على الحملاء للسيد وتبطل عن الغلام، إذ ليس لهم أن يعيبوا عبده بدين يكتبونه عليه بغير إذنه، فانظر في ذلك، وقد قيل: إنها تسقط عن الغلام على كل حال ويكون البيع فاسدا إن وقع ذلك بعلم المشتري. وبالله التوفيق.(8/317)
[مسألة: أنكر أن يكون باعه بماله وقال المشتري اشتريته بماله]
مسألة قلت: فإن أنكر أن يكون باعه بماله، وقال المشتري اشتريته بماله، قال: القول قول البائع إلا أن يكون للمشتري بينة، قلت: فإن أقام المشتري بينة أنه أرسل إليه رسولا سامه فيه فقال له: إنما يشتريه لما في يديه وإنما يريد عتقه ويريد أن يستغني بماله عن الناس، فسكت البائع وباع على ذلك ولم يقل نعم ولا لا، قال: المال تبع للعبد إذا قال له مثل هذا فسكت وباع على ذلك.
قال. محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» فإذا قال له المبتاع: إنه اشتراه بماله فهو مدع على البائع في اشتراط المال، وقد حكمت السنة أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
وأما إذا قال المساوم إنما يشتريه لماله وليعتقه ويستغني فسكت وباع، فجعل سكوته على قوله رضي ببيعه إياه بماله، وقد روى أشهب عن مالك أن المال للبائع ولا شيء للمشتري فيه، وهذا على اختلافهم في السكوت هل هو كالإقرار أم لا، وهو اختلاف معلوم مشهور موجود في المدونة وغيرها. وبالله التوفيق.
[مسألة: ابتاع عبدا فجنى عنده ثم وجد به عيبا يرد بمثله]
مسألة وسئل: عن رجل ابتاع عبدا فجنى عنده ثم وجد به عيبا يرد بمثله، قال: المشتري ضامن للجناية إن شاء حملها ورد(8/318)
الغلام، وإن شاء أمسك الغلام وأخذ قيمة العيب الذي وجد به.
قال محمد بن رشد: قوله: المشتري ضامن للجناية معناه أن ما فداه به إن فداه ولم يسلمه بجنايته لا رجوع له به على البائع؛ لأنه يلزمه أن يضمن جنايته للمجني عليه، وقوله: إن شاء حملها ورد الغلام وإن شاء أمسك الغلام وأخذ قيمة العيب معناه إن شاء رد الغلام ولم يرجع بشيء مما فداه به، وإن شاء أمسكه وأخذ قيمة العيب، وسواء كانت الجناية خطأ أو عمدا على ما ذهب إليه ابن حبيب في قوله: إن العبد إذا زنى أو شرب أو سرق فوجد به المبتاع عيبا أنه ليس عليه أن يرد معه ما نقصه عيب الزنى والسرقة والشرب، بخلاف عيوب البدن، وأما على معنى ما في المدونة إذ لم يفرق في ذلك بين عيوب البدن والأخلاق، وقال: إنه يرد معها ما نقصها عيب النكاح، وإن لم يكن لذلك في البدن تأثير فإنما يكون له أن يرده إذا حمل الجناية خطأ، وأما إن كانت عمدا فلا يرده وإن حمل الجناية عنه حتى يرد معه ما نقصه عيبها فظاهر هذه الرواية يحملها على عمومها في العمد والخطأ مثل ما ذهب إليه ابن حبيب في الواضحة خلاف ما يحمل عليه ما في المدونة. وبالله التوفيق.
[مسألة: اشتراه على أن يكون فيه بالخيار ثلاثة أيام فجنى في تلك الثلاثة الأيام]
مسألة قيل له: فإن اشتراه على أن يكون فيه بالخيار ثلاثة أيام فجنى في تلك الثلاثة الأيام؟ قال: يرده ولا شيء عليه من الجناية.
[قال محمد بن رشد: قوله: إنه يرده ولا شيء عليه من الجناية] بين لا كلام فيه؛ لأن ضمانه من البائع إذ لم يتم البيع فيه، وإنما الكلام إذا اختار أخذه بعيب جنايته فيتخرج ذلك على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك(8/319)
لا يجوز له حتى يخير البائع، فإما أن يفتكه وأما أن يسلمه، والثاني: أن له أن يختار ثم يخير البائع، فإن افتكه أخذه المبتاع ولم يكن عليه شيء مما افتكه به، وإن أسلمه كان هو فيه بالخيار أيضا بين أن يفتكه أو يسلمه.
وهذان القولان على اختلافهم في استحقاق أكثر الجملة على العدد من يد المشتري هل يكون له أن يأخذ ما بقي بما ينوبه من الثمن أم لا، والثالث أنه إن اختار الأخذ كان هو المخير بين أن يفتك أو يسلم، وهذا على القول بأن بيع الخيار إذا أمضى على العقد فكأنه وقع حينئذ وقد مضى ذلك في رسم أوصى من هذا السماع.
[مسألة: المشتري حجمه أو حلقه في أيام الخيار]
مسألة قيل له: فإن المشتري حجمه أو حلقه في أيام الخيار، قال: ما أرى فعله ذلك إلا رضي منه به، وأراه ضامنا للجناية.
قال محمد بن رشد: قال ابن حبيب في الواضحة: وكذلك إن حلقه على المشط، وإن خضب يدي الأمة بالحك أو ضفر رأسها بالعسل فذلك رضي، إلا أن تفعل الجارية ذلك بغير أمره فلا يكون ذلك رضي، وهذا كله صحيح، على مذهب ابن القاسم في المدونة، فقد قال فيها: إنه إن أتى بالدابة إلى البيطار فهلها أو عزبها أو ودجها فذلك منه اختيار لها خلاف قول غيره فيها من أن السوم بها والرهن والتزويج وإسلامه إلى الصناعات ليس رضى، بعد يمينه أنه لم يفعل ذلك وهو مختار له، وبالله التوفيق.
[يقدم بالسلع فيبيعها ويشترط العهدة فيها على رجل يسميه]
ومن كتاب سلف دينارا في ثوب إلى أجل. وعن الرجل يقدم بالسلع من الحيوان والعروض فيبيعها ويشترط العهدة فيها على رجل يسميه، كان الرجل الذي سمي معروفا مقرا بالشرط أي غير ذلك أو منكرا فلا خير في هذا كله إلا(8/320)
أن يكون رجلا اشترى سلعة فولاها أو باعها عند مواجبة البيع فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: فولاها أو باعها يدل على أن هذه العهدة تكون عليه في التولية والبيع إلا أن يشترطها على الأول، مثل قول مالك في الموطأ وقول أصبغ في نوازله من كتاب جامع البيوع، خلاف قوله في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب السلم والآجال، وقد مضى القول هناك على هذه المسألة مستوفى لمن أحب الوقوف عليه. وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري المغنية ولا يريدها لعملها ذلك إلا للخدمة]
مسألة وقال ابن القاسم في الذي يشتري المغنية ولا يريدها لعملها ذلك إلا للخدمة وما أشبه ذلك إذا كان لم يزده في ثمنها لموضع غنائها فلا بأس به.
قيل لسحنون: فكيف يجوز بيع المغنية عندك وهو إن باع فبين لعل ذلك يوافق المشتري ويرغب فيه، وإن أمسك عن إعلامه كان مدلسا وكان عيبا؟ فأطرق فيها طويلا قال: كذلك يدخله، فأفضل ذلك أن يعلمه بعد البيع ووجوب الصفقة.
قال محمد بن أحمد: قوله في الذي يشتري المغنية ولا يريدها لعملها إلا لحاجته إليها للخدمة: إنه لا بأس بذلك إن لم يزده في ثمنها لموضع غنائها، يريد إذا لم يزده في ثمنها لرغبة في غنائها، وأما إن زاده في ثمنها لحاجته إليها ورغبته فيها لغير غنائها إذا لم يبع منه إلا بزيادة على ثمنها من أجل غنائها فذلك مكروه له من أجل أنه أضاع ماله وأعطاه لمن لا يحل له أخذه فصار بذلك معينا له على الإثم، وقد قال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2](8/321)
وقول سحنون في صفة بيع الجارية المغنية حسن صحيح، وإن كانت ممن عرفت بالغناء في ذلك البلد فلا يجوز له أن يبيعها فيه، وليخرجها منه إلى حيث لا تعرف فيه فيبيعها ثم يبين بعيب غنائها بعد البيع، وقد قيل: إن غناءها إذا كان يزيد في قيمتها فليس للمشتري ردها به، وقيل له: ردها إلا أن تكون دنية للخدمة، روى ذلك زياد عن مالك، والصحيح أن له أن يردها بعيب غنائها رفيعة كانت أو وضيعة؛ لأن ذلك عيب فيها ما دامت مقيمة عليه، إلا أن تكون قد تابت عنه فلا يكون له أن يرد بذلك إلا الرفيعة لما يخاف من أن يلحق ولده منها عار ذلك وبالله التوفيق.
[يشتري أمة على أنها بكر فيزعم أنه لم يجدها بكرا]
ومن كتاب أوله يدير ماله. وسألته عن الرجل يشتري أمة على أنها بكر فيزعم أنه لم يجدها بكرا، قال: ينظر إليها النساء، فإن كان افتضاضها حادثا بالأيام اليسيرة أو قديما فهن يعرفنه وليس يخفى وإنما هي قرحة نكيت فليس يخفى أثرها وهو معروف، فإن زعمن أن ذهاب عذرتها وافتضاضها يعرف أنه لمثل ما قبضها المشتري فهي منه، وإن كان يرى أنه قد كان قبل ذلك عند البائع ردها المشتري، قال: وليس في ذلك يمين على واحد منهما لزم البائع القضاء على ما وصفت لك أو لزم صاحبه، وإنما يقطع في هذا النساء.
قال محمد بن رشد: إنما لم يوجب اليمين في ذلك على واحد منهما إذا قطع النساء في شهادتهن، وذلك بين من قوله: وإنما يقطع في هذا النساء، وقد مضى القول على هذا المعنى في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب مستوفى لمن أحب الوقوف عليه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[باع عبدا فباعه مبتاعه من غيره فوجد به المشتري عيبا كان عند بائعه الأول]
ومن كتاب البراءة. قال ابن القاسم: ولو أن رجلا باع عبدا فباعه مبتاعه من(8/322)
غيره فوجد به المشتري عيبا كان عند بائعه الأول، وقد فلس بائعه الثاني، فأراد المبتاع أن يرده على بائعه الأول أو يرجع عليه بقيمة العيب إن كان قد فات العبد في يديه بعتق، فزعم البائع المفلس أنه ابتاعه بذلك العيب، وادعى البائع الأول أنه باعه به ولا بينة على ذلك، لم يقبل قوله إلا أن يكون له بينة على ما زعم أنه ابتاعه بذلك العيب أو على إقرار منه بذلك قبل التفليس، وأما بعد التفليس فلا يقبل قوله إلا ببينة، وهو يرجع على البائع الأول بقيمة العيب إن كان قد فات أو يرده إن كان لم يفت.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن للمبتاع الثاني أن يرجع على بائع بائعه إذا كان بائعه مفلسا؛ لأن غريم غريمه لو لم يكن مفلسا فرجع عليه لكان له هو أن يرجع عليه، ولا اختلاف في هذا، ونحوه في رسم الصبرة من سماع يحيى وفي رسم البيوع من سماع أصبغ، وقوله: إنه لا يقبل قول البائع الثاني بعد التفليس إن البائع الأول تبرأ إليه من العيب أو إنه باعه بيع براءة صحيح أيضا على أصولهم لا اختلاف فيه، إلا أنه إذا رده على الأول لا يأخذ منه إلا أقل الثمنين، فإن كان الأول باعه من المفلس بعشرة وباعه المفلس بخمسة عشر رجع على الأول بعشرة واتبع المفلس بالخمسة الباقية، وإن كان الأول باعه بخمسة عشر [من المفلس وباعه المفلس من هذا الثاني بعشرة] رجع على الأول بالعشرة التي كان له أن يرجع بها على المفلس، وكانت الخمسة للمفلس قبل الأول يأخذها منه غرماؤه من حقوقهم، وكذلك إن كان العبد قد فات لا يرجع على الأول إلا بالأقل من قيمة العيب من ثمنه الذي اشتراه به من المفلس يوم اشتراه منه أو الأقل من قيمة العيب من الثمن الذي باعه به من المفلس يوم باعه منه. هذا معنى قوله: وإرادته، وبالله تعالى التوفيق.(8/323)
[العيوب التي يرد بها العبد]
ومن كتاب أوله شهد على شهادة ميت. قال ابن القاسم: قال مالك: العبد يرد من ثلاثة أشياء: الولد والزوجة والدين.
قال محمد بن رشد: العيوب التي يرد بها العبد أكثر من أن تحصى بعدد، فيحتمل أن قول مالك هذا يكون خرج على سؤال سائل سأل مالكا هل يرد العبد من الولد والزوجة والدين؟ فقال له: نعم يرد من الثلاثة الأوجه: الولد والزوجة والدين فحكى عنه ابن القاسم ما سمع من قوله للسائل الذي سأله عن العيوب الثلاثة، ويحتمل أن يكون أراد به أنه يرد من ثلاثة أوجه يختص به من سبب غيره، وهم الولد والزوجة والدين، وبالله تعالى التوفيق.
[يشتري العبد فيجده أغلف هل يرده بذلك]
ومن كتاب الجواب. قال: وسألته عن الذي يشتري العبد فيجده أغلف هل يرده بذلك؟ قال ابن القاسم: العبد في ذلك بمنزلة الإماء إن ما كان من رقيق العجم الذين لا يختنون لم يرد، كان من علية الرقيق أو من وخثها، وإن كان من رقيق العرب رد إذا كان من علية الرقيق، قلت له: وأيهم رقيق العرب وما تفسيره عندك وما معناه؟ أهو على تلادهم وما طال مكثه عندهم وفي يديهم؟ قال: نعم تلادهم وما طال مكثه في أيديهم وحتى يستحق وما أشبه ذلك.
وأما المجلوب فليس كذلك وإن كان قد ملكته العرب إذا كان بحدثان ذلك ولم تطل إقامته عندهم.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.(8/324)
[مسألة: يشتري العبد النصراني فيجده مختونا هل هو عيب يرد به]
مسألة وسألته: عن الذي يشتري العبد النصراني فيجده مختونا هل هو عيب يرد به؟ قال ابن القاسم: لا يرد به وليس ذلك عيبا فيه.
قال محمد بن رشد: في رسم الكبش من سماع يحيى أن ذلك عيب يرد به إذا كان الناس في المجلوب الأغلف أرغب وثمنه أكثر لما يرتجى من تأديبه واستقامته ويخاف من غائلة المختون بأن يكون قد كان ببلد الإسلام ففر منه إلى أرض الحرب، وهو أصح في المعنى وأشبه في النظر.
[مسألة: يشتري الأمة على أنها نصرانية فيجدها مسلمة]
مسألة وعن الرجل يشتري الأمة على أنها نصرانية فيجدها مسلمة غره بها، هل يردها بذلك وهو يقول: أردت تزويجها غلاما لي نصرانيا أو غير ذلك؟ قال ابن القاسم: إن عرف ما قال وعرف لذلك وجه من حاجته إلى النصرانية ليزوجها عبده وما أشبه ذلك رأيته عيبا لردها به إن شاء؛ لأن ذلك يضطره إلى شراء غيرها لما لا بد له منها للحاجة إليها، وإنما اشتراها على ذلك ليكف عنه شراء غيرها، فأراه عيبا يرد به إن شاء، وإن لم يعرف تصديق ما قال، ولم يكن لذلك وجه لم أر أن يردها ولم أره عيبا.
قال أصبغ بن الفرج: أو ليمين عليه ألا يملك مسلمة وما أشبه ذلك واشترطه له فله شرطه، وهو عيب عند ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على ما قال في رسم الرهون من سماع عيسى من كتاب النكاح في المسلم يغر النصرانية فينكحها ويقول لها: أنا على دينك فتطلع بعد أن دينه غير ذلك أن فراقه بيدها.
وقد روى ابن نافع عن مالك: أن النكاح ثابت ولا خيار لها، وهو قول ربيعة إن الإسلام(8/325)
ليس بعيب، فعلى هذا لا يكون للرجل أن يرد الأمة إذا وجدها مسلمة وقد اشتراها على أنها نصرانية؛ لأنه إذا لم ير للنصرانية أن ترد الزوج إذا وجدته مسلما وقد كانت تزوجته على أنه نصراني فأحرى بألا يكون للمسلم أن يرد العبد إذا وجده مسلما وقد كان اشتراه على أنه نصراني، والصحيح أن له أن يرده بالشرط الذي شرط لغرضه الذي قصد، وإن كان أدنى عن الذي وجد، وكذلك من اشترى أمة على أنها من جنس فوجدها من جنس آخر أرفع منه كان له أن يردها إذا كان لاشتراطه وجه، وقيل: ليس له أن يردها، وإن كان لاشتراطه وجه، وهو الذي يأتي على رواية ابن نافع المذكورة قبل، وقيل له أن يرد بالشرط، وإن لم يكن لاشتراطه وجه، روى ذلك جبلة عن سحنون، فهي ثلاثة أقوال.
[مسألة: يشتري العبد وهو آبق فيقول له البائع إن أبق عندك فأنا له ضامن]
مسألة وسألته: عن الرجل يشتري العبد وهو آبق معلوم فيقول له البائع: إن أبق عندك فأنا له ضامن، أو لعله لا يكون عرف بإباق فجعل له هذا الشرط أن ما حدث من إباق فهو ضامن له، أو يبيعه وهو مريض فيجعل له مثل هذا إن مات من ذلك المرض فهو له ضامن، أو بعينه ضرر فيزعم أنه من رمد فيجعل له هذا الشرط أن ما جر إليه ذلك من بياض أو غير ذلك فهو له ضامن، قال ابن القاسم: لا يحل هذا كله، وهذا كله بيع فاسد؛ لأن البائع لا يدري ما باع ولا المشتري ما اشترى، وهو الخطار أيضا بعينه [والغرر، ويدخله البيع والسلف أيضا إذا كان ينقد بمنزلة الذي يبيع السلعة الغائبة] ويشترط النقد، فإن سلمت السلعة أخذها، [وإلا رد عليه الثمن فهو من السلف الذي يجر المنافع،(8/326)
لأنه إن سلمت السلعة أخذها] وإن لم تسلم ردها فكان سلفا جر منفعة، ومسألتك على كل حال فاسدة؛ لأنها من بيع الخطار والغرر؛ لأنه يزيده في الثمن لمكان الضمان الذي شرطه عليه وضمنه له.
وقال أصبغ بن الفرج مثله، وقال: لا خير فيه انتقد أو لم ينتقد، ولا يحل على حال، ولا يترك إن نزل، ويفسخ متى ما علم به، سلم مما شرط له أو فعله، كان أو لم يكن، فإن أبق عند المشتري أو مات فالضمان منه؛ لأنه قد قبضه والبيع بينهما مردود، والقيمة على حالته يوم تبايعا آبقا كان أو مريضا أو غير ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى لا وجه للقول فيها، غير أن قوله فيها والقيمة على حالته يوم تبايعا آبقا كان أو مريضا، معناه إذا كان القبض والبيع في يوم واحد، ولو تأخر القبض عن العقد لكانت القيمة يوم القبض؛ لأنه بيع فاسد، فالقيمة فيه يوم القبض، بخلاف البيع الصحيح، وقد مضت هذه المسألة مختصرة في أول رسم استأذن، وفي قوله: أو يبيعه وهو مريض دليل على جواز بيع المريض، ومثله في سماع سحنون بعد هذا، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم.
[مسألة: الفرائين يعملون الفرى فإذا فرغوا منها تربوا وجوهها بالتراب]
مسألة وسألته: عن الفرائين يعملون الفرى فإذا فرغوا منها تربوا وجوهها بالتراب لتحسن وتزيد في أثمانها، وربما غيب ذلك بعض ما فيها من العيوب، والمشتري يعلم أو لا يعلم، هل ترى بذلك(8/327)
بأسا؟ قال ابن القاسم: لا يعجبني أن تترب وجوهها ولا أراه يحل ولا يصلح وأراه غشا إذا كان على ما وصفت لي، وأرى أن يزجروا على ذلك، وإن اشترى أحد منها على ما وصفت فإن كان ممن يعلم ذلك كما ذكرت أنها تترب وأن ذلك ربما غيب بعض ما فيها من العيوب فليس له أن يرد، وإن اشترى منها من لا يعلم ذلك ولا يعرفه رأيت له أن يرد إن شاء وجد عيبا أو لم يجد، علم أنه كان فيها قبل التتريب عيبا أو لم يعلم إذا كان التتريب يغيب بعض عيوبها كما ذكرت.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن ذلك من الغش الذي لا يحل ولا يجوز، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غشنا فليس منا» ، فإن لم يعلم المشتري بذلك كان بالخيار بين أن يمسك أو يرد، فإن فاتت قبل أن يعلم كان عليه فيها الأقل من القيمة أو الثمن على حكم الغش في البيوع، وإن علم المشتري بذلك ودخل عليه لم يكن له أن يرد كما قال: معناه بحكم الغش إذ قد علمه ودخل عليه، فإن وجد عيبا كان له الرد، وكذلك قال ابن القاسم في الواضحة، وذلك بين لا إشكال فيه والحمد لله.
[باع الرجل عبدا بيع الإسلام وعهدة الإسلام فوجد المشتري عيبا]
ومن كتاب الفصاحة قال عيسى بن دينار: قال ابن القاسم: إذا باع الرجل عبدا بيع الإسلام وعهدة الإسلام لا داء ولا غائلة فوجد المشتري عيبا لا يحدث في مثل ما كان فيه عند المشتري بمعرفة أهل البصر لقرب ذلك أو بينة قامت أنه كان به قديما عند بائعه أو اعتراف(8/328)
فإنه يرده، إلا أن يكون حدث به عند مشتريه عيب آخر مفسد فيخير، وإن وجد به المشتري عيبا مثله يحدث بطول ما كان في يد المشتري ولا يقدم مثله، فإنه لازم للمبتاع ولا يمين على البائع، وإن وجد به المشتري عيبا مثله يحدث ويقدم في مثل ما كان عند المشتري نظر، إن كان عيبا مثله يخفى حلف البائع بالله [لباعه] ، وما يعلم به هذا العيب ثم لا شيء عليه، وإن كان عيبا يرى أن مثله لا يخفى على البائع حلف بالله الذي لا إله إلا هو على البتات لباعه وما به هذا العيب، فإن نكل عن اليمين في الوجهين جميعا ردت اليمين على المشتري فحلف بالله ما يعلمه حدث عنده، ثم يكون مخيرا بين أن يرده ولا شيء عليه أو يمسكه ولا شيء له، وإن نكل المشتري عن اليمين بعد نكول البائع لزم المشتري أخذه.
قال ابن القاسم: وإن حدث به عند المشتري عيب مفسد ووجد به عيبا مثله يكون قديما ومثله يحدث في مثل ما كان فيه عند المبتاع فإنه يقول للبائع: احلف أنك ما بعت وأنت تعلم هذا العيب، فإن حلف لزم المشتري، وإن نكل قيل للمبتاع: احلف أنك لا تعلم هذا العيب حدث عندك، فإن حلف كان مخيرا بين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، وبين أن يرد ويرد قيمة العيب المفسد الذي حدث عنده، فإن نكل لزمه العيب. [قال ابن القاسم: قال مالك: إن وجد المشتري به عيبا قديما لا يحدث في مثل ما كان عنده أو مثله يحدث إلا أن البينة تشهد أنه كان به عند البائع، وحدث به عند(8/329)
المبتاع عيب آخر مثله يحدث ويقدم قيل للمبتاع: احلف فإن حلف رده، ولا شيء عليه، وإن نكل عن اليمين قيل للبائع: احلف أنك لا تعلم هذا العيب كان عندك فإن حلف لزم المبتاع ذلك العيب الذي نكل عنه المشتري أولا، وكان المشتري مخيرا بين أن يرده بالعيب ويرد قيمة العيب وبين أن يمسكه ويأخذ قيمة العيب القديم، وإن نكل البائع أيضا لزمه العيبان جميعا وكان المبتاع مخيرا بين أن يمسكه ولا شيء له وبين أن يرده ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة حسنة في المعنى، ولا اختلاف في شيء منها إلا في صفة اليمين في العيب الذي يحدث ويقدم هل يكون فيها على البت أو على العلم، وكيف ترجع على المبتاع إذا وجبت على البائع فنكل عنها حسبما مضى القول فيه في أول رسم من سماع ابن القاسم؛ لأن العيب القديم يجب الرد به، والحادث يلزم المشتري ولا كلام له فيه، والعيبان أحدهما قديم والآخر حديث يكون المشتري مخيرا بين أن يرد ويرد ما نقصه العيب الحادث عنده، وبين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، والعيب الذي يحدث ويقدم القول فيه قول البائع إلا أن يكون فيه عيب آخر قديم فيكون القول في الذي يحدث ويقدم قول المبتاع لوجوب الرد له بالعيب القديم، هذا قوله في هذا الرسم، وقد مضى مثله في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة، ولا اختلاف في شيء من هذا كله وبالله التوفيق.
[يبيع الجارية بلا ولد فتلد عند المبتاع أولادا فيبيع أولادها]
ومن كتاب أوله باع شاة واستثنى جلدها وسألته: عن الذي يبيع الجارية بلا ولد فتلد عند المبتاع أولادا فيبيع أولادها، ثم يجد بها عيبا فيريد ردها وثمن هل يردها ولدها أو لا يردها إلا وحدها؟ قال: يردها وثمن الولد؛ لأن مالكا قال لي: يردها(8/330)
وولدها ولم يره فوتا ووافقته عليه، فقلت له: أتراه فوتا؟ قال: لا، وقال: يردها وولدها إن أحب أو يمسكها ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قوله في آخر المسألة: أو يمسكها ولا شيء عليه، يريد ولا شيء على البائع، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم لمن أحب الوقوف منها على الشفاء، وستأتي أيضا في سماع موسى [بن معاوية] ، والله تعالى الموفق.
[باع عبدا فهو في وقف الثلاث إذا أصاب ربحا في صفقة أصابها]
ومن كتاب العتق قال عيسى: سئل ابن القاسم عن رجل باع عبدا فهو في وقف الثلاث إذا أصاب ربحا في صفقة أصابها، لمن يكون ذلك المال؟ أو أوصي له بوصية وهو في ذلك الوقف؟ قال: أما ما كان من ربح في صفقة أو ما أوصي له] ، به فهو للمشتري، وهو بمنزلة ما نما من ماله، وذلك إذا اشتراه بماله، وإن كان لم يشتره بماله فجميع ما حدث له من مال فهو للبائع ما كان في عهدة الثلاث؛ لأن مصيبته من البائع.
قال محمد بن رشد: أما ما ربح العبد في عهدة الثلاث في ماله فبين أن ذلك تبع للمال يكون للمشتري إن كان استثنى ماله وللبائع إن كان لم يستثنه.
وأما ما أوصي له به أو وهبه فكان القياس ألا يعتبر فيه بالمال، إذ ليس المال بسبب له كما هو للربح، وأن يكون للبائع؛ لأن الضمان منه، وإن استثنى المبتاع ماله. فقوله: إنه يكون للمبتاع إذا استثنى ماله استحسان(8/331)
مراعاة لقول من لا يرى العهدة ويرى الضمان من المبتاع في الرقيق بعقد البيع كالحيوان والعروض، وبالله التوفيق والحمد لله لا رب غيره ولا خير إلا خيره.
[تم كتاب العيوب الأول بحمد الله وعونه](8/332)
[كتاب العيوب الثاني]
[يشتري العبد على أنه إفرنجي بلغته ثم يتبين أنه فصيح بالعربية]
كتاب العيوب الثاني(8/333)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد
وآله وسلم تسليما من سماع يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش [قال] يحيى: وسألت ابن القاسم: عن الرجل يشتري العبد على أنه إفرنجي بلغته فيقيم أياما ثم يتبين له أنه فصيح بالعربية، هل ذلك عيب يرد به؟ أو وجده مختونا، وإنما اشتراه مجلوبا من أرض العدو فيما يرى؟ فقال: كل أمر إذا علم به المشتري كان عيبا عند أهل البصر في البيع والاشتراء فهو مردود، وإن كان الذي ظهر منه أفضل مما كان عليه حين اشترى، ولا حجة للبائع بأن يقول الفصيح أفضل من الأعجمي والمختون أفضل من الأغلف؛ لأن الناس لعلهم في المجلوب الأغلف أرغب لما يرجى من استقامته وصلاحه في تأديبهم إياه منهم في فصيح قد صار إلى أرض العدو بعد الفصاحة فيستراب بذلك وتخشى غائلته، والمختون كذلك، فإنما ينظر في مثل هذا إلى ما يكون عيبا عند أهل البصر مما ينقص الرقيق عندهم من أثمانها إذا علموا بالذي كتم المشتري مما ظهر له بعد في العبد.(8/335)
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم الجواب من سماع عيسى أن ذلك ليس بعيب، وهذا القول أظهر. [وبالله التوفيق] .
[مسألة: يشتري الجارية فيدعي أنها مجنونة فتوضع عند رجل ليستبرئ ذلك منها]
مسألة [قال] يحيى: وسألت ابن القاسم: عن الرجل يشتري الجارية فيدعي قبل السنة أنها مجنونة فتوضع عند رجل ليستبرئ ذلك منها فلا يظهر خنقها إلا بعد السنة وقد رفع أمرها إلى السلطان قبل انقضاء عهدة السنة، غير أن حقيقة الجن لم يتبين للعدول إلا بعد السنة، أيستوجب الرد برفعه أمرها إلى السلطان قبل السنة أم لا؟ فقال: ليس له أن يردها حتى يثبت له أنها جنت في عهدة السنة، ولا ينظر إلى رفعه أمرها ولكن ينظر إلى وقت خنقها، فإن كان بعد السنة فقد انقطعت العهدة عن البائع، ولا يضره دعوى المشتري ولا ما كان خفي عليها قبل السنة وادعى أنه بها مما لم يظهر حتى مضت العهدة وانقضى أجلها، قلت: أرأيت لو خاف المشتري على العبد أو الأمة أن يكون مجذوما أو ظهر به سبب من برص والذي يتهم به من الجذام والبرص قبل انقضاء السنة، فإذا سئل عنه أهل العدل من أهل البصر، قالوا: لا نشهد أنه جذام أو برص بين، ولكننا لا نشتري مثل هذا ولا نبيعه للخوف عليه ولما تبين من أسباب ذلك به، قال: ليس للمشتري أن يرده بما يخاف أو يتقى ولا بما يترك(8/336)
التجار من بيع مثله واشترائه، ولا يكون له الرد حتى يشهد فلان أنه جذام بين أو برص بين.
قال محمد بن رشد: قوله: غير أن حقيقة الخنق لم تتبين للعدول إلا بعد السنة دل أنه قد تبين لهم من أسبابه ما لم يتحققوا أنه خنق، ثم لم ير له ردة بتحققه بعد السنة، ويلزم مثل هذا في الجذام، [وقد حكاه ابن حبيب عن ابن كنانة وابن القاسم في الجذام] ، أيضا، وحكاه ابن المواز عن ابن القاسم أيضا خلاف ما في رسم الأقضية بعد هذا من هذا السماع، وخلاف ما ذهب إليه ابن المواز وابن حبيب وحكاه عن ابن وهب وأشهب وأصبغ ولا اختلاف في أنه لا يرد في السنة بما يستراب دون أن يتحقق من جنون أو جذام أو برص، ولا بما يتحقق من ذلك بقرب انسلاخ السنة إذا لم تظهر دلائله في السنة، ويرد على ما في المدونة من الجنون وذهاب العقل وإن لم يكن ذلك من مس جنون إذا لم يكن ذلك من جناية، وذهب ابن حبيب إلى أنه لا يجب رده إلا من الجنون، وذهب ابن وهب إلى أنه يرد بذهاب العقل، وإن كان ذهابه بجناية عليه، فهي ثلاثة أقوال، وبالله التوفيق.
[يبيع العبد وبه عيب قد علم به البائع وكتمه ثم باعه المشتري من رجل آخر]
ومن كتاب الصبرة وسئل: عن الرجل يبيع العبد وبه عيب قد علم به البائع وكتمه، ثم باعه المشتري من رجل آخر فأعتقه أو أحدث فيه ما يفوت به، كيف يترادون قيمة العيب؟ فقال: الذي غر والذي جهل في الغرم سواء، على كل واحد منهما أن يغرم لصاحبه ما بين قيمة العبد معيبا وقيمته صحيحا، قلت: أرأيت لو لم يتبع(8/337)
البائع الآخر بقيمة العيب أكان له أن يتبع [البائع] ، الأول بقيمة ذلك العيب؟ قال: لا؛ لأنه قد باعه، فإن لم يتبع لم يتبع.
قلت: أرأيت إن مات العبد من العيب الذي كان به كيف يترادون الثمن؟ فقال: يعدى المشتري الأول على البائع الأول بالثمن الذي أخذه منه ثم يدفعه إلى المشتري الآخر، فإن كان باعه بأكثر مما كان اشتراه به غرم ذلك للمشتري الآخر، فإن كان باعه بأقل مما اشتراه به حبس فضل ذلك لنفسه، قلت: فإن كان البائع الأول معدما فهل يعدى المشتري الآخر على بائعه بالثمن الذي أخذه منه؟ فقال: لا، ليس له عليه إلا قدر قيمة العيب، ويتبع المشتري الآخر البائع الأول بالثمن الذي أخذ من البائع الثاني حتى يستكمل الثمن الذي أخذ منه بائعه، وليس له على بائعه إذا كان البائع الأول معدما إلا قدر قيمة العيب.
قال محمد بن رشد: قوله: إن العبد إذا فوته المشتري الثاني بعتق أو ما أشبهه، يريد أو مات في يده من غير عيب التدليس إن الذي دلس والذي لم يدلس سواء، على كل واحد منهما أن يغرم لصاحبه ما بين قيمة العبد معيبا وقيمته صحيحا، يريد من الثمن الذي باعه به يوم باعه منه، صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن التدليس وغير التدليس سواء في وجوب الرد في القيام أو القيمة في الفوات، وإنما يفترق التدليس من غير التدليس في خمسة أشياء قد ذكرناها في غير هذا الكتاب؛ أحدها: موت العبد من العيب، وقوله: إنه إن لم يتبعه المشتري الثاني الذي اشترى منه بقيمة العيب لم يكن له هو أن يتبع البائع الأول الذي باع منه بشيء، هو المعلوم من مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها أن من باع ما اشترى قبل أن(8/338)
يعلم بالعيب فلا رجوع له فيه، إذ لم ينقص بسبب العيب شيئا، ولو نقص بسببه شيئا مثل أن يبين به وهو يظن أنه حدث عنده أو يبيعه وكيل له فبين به لكان له أن يرجع على بائعه بقيمة العيب، وإن كان قد باعه بمثل الثمن الذي كان اشتراه به أو أكثر، على قياس ما حملنا عليه قول ابن القاسم في رسم استأذن من سماع عيسى خلاف ما ذهب إليه ابن المواز من أنه يرجع [بالأقل مما نقص بسبب العيب أو من بقية رأس ماله وقد مضى هناك الاختلاف لما يرجع به] ، إذا رجع عليه، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا، وأشهب يرى إذا باع ولم يعلم بالعيب فله أن يرجع على البائع بالأقل من قيمة العيب أو من بقية رأس ماله [وقد مضى] ، وكان القياس أن يرجع عليه بقيمة العيب بالغة ما بلغت؛ لأنه قد بقي له عند البائع فلا يسقط رجوعه عليه بقيمة ربحه في الباقي، وإنما هو في التمثيل بمنزلة من اشترى خمسة أثواب فدفع إليه البائع أربعة وأوهمه أنه دفع إليه خمسة كما اشترى منه، فله أن يرجع عليه بما يجب للثوب الذي بقي عنده من الثمن الذي دفع إليه، وإن باع هو الأربعة الأثواب التي أخذ منه بمثل الثمن الذي اشترى به منه الخمسة أو أكثر.
[وأما إذا مات العبد عند المشتري الثاني من العيب الذي دلس به البائع الأول ففي ذلك أربعة أقوال؛ أحدها: قوله في هذه الرواية: إن المشتري الأول يعدى على البائع الأول بجميع الثمن الذي أخذ منه، فيدفع منه للمشتري الثاني جميع الثمن الذي أخذ منه، ويكون له الفضل إن كان باعه بأقل مما كان اشتراه به، فإن كان باعه بأكثر مما كان اشتراه به غرم ذلك أي تمام ما أخذ منه، يريد إلا أن يكون ذلك أكثر من قيمة العيب فليس عليه أن يدفع إليه أكثر من قيمة العيب؛ لأنه لم يدلس له، فإن كان الأول معدما فأخذ الثالث من الثاني قيمة العيب على ما ذكر ثم أيسر الأول فلم يتبعه الثالث ببقية الثمن لم يكن للثاني على الأول إلا قدر قيمة العيب؛ لأنه لا مطالبة له بالتدليس إذ لم يطالبه به الثالث
والثاني: أنه(8/339)
يؤخذ الثمن من المدلس فيدفع منه للثاني قيمة العيب لا أكثر، وهو قول أصبغ
والثالث: أن المشتري الثاني يرجع على المشتري الأول بقيمة العيب [من الثمن] ، الذي اشتراه به، ويرجع المشتري الأول على البائع الأول بالأقل مما رجع به عليه المشتري الثاني أو من جميع الثمن الذي باعه به، وهو قول محمد بن المواز.
والرابع: ما ذهب إليه أبو إسحاق التونسي، وقال: إنه القياس، هو أن يرجع الآخر بقيمة عيبه ويرجع المدلس عليه على المدلس بقيمة العيب من ثمنه أيضا أو بالأقل على القول الآخر.
والذي هو القياس عندي في هذه المسألة والنظر أن تكون مصيبة العبد إذا مات من العيب المدلس به من البائع الأول الذي دلس به، وتنتقض البيعتان جميعا، فإن كان الأول المدلس باعه بمائة [وباعه الثاني بمائة] وعشرين أخذت من الأول المائة التي أخذ، ومن الثاني العشرون التي استفضل، فيدفع ذلك إلى المشتري الثاني، وإن كان الأول المدلس باعه بمائة وباعه الثاني بثمانين أخذت من الأول المائة التي أخذ فدفع منها إلى البائع الثاني العشرون الذي خسر وإلى المشتري الثاني الثمانون التي وزن، والله تعالى هو الموفق.
[العبد يشترى وله مال فيصاب ماله في أيام العهدة فيريد المشتري أن يرده بذلك]
ومن كتاب الصلاة وقال في العبد يشترى وله مال فيصاب ماله في أيام العهدة فيريد المشتري أن يرده بذلك ويراه كالعيب يحدث به في العهدة إن ذلك ليس له، واشتراؤه له لازم، ولا يعيب العبد في مثل هذا شيء من ذهاب ماله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المال تبع للعبد ولا حصة له من الثمن لو استحق لم يجب للمبتاع بذلك رجوع على البائع،(8/340)
ولو تلف العبد في العهدة وبقي ماله انتقض البيع ولم يكن للمبتاع أن يختار البيع فيحبس المال ويدفع الثمن، وبالله التوفيق.
[يشتري الجارية فيتغير منظرها ويقبح حالها قبل السنة]
ومن كتاب الأقضية وسألته: عن الذي يشتري الجارية فيتغير منظرها ويقبح حالها قبل السنة حتى إذا نظر إليها الناظر ظن أن بها جذاما لخفة حاجبها وسوء منظرها، ثم ينظر إليها أهل البصر بها فيقولون: هو بها فيما نظن ولا نستيقن ذلك؛ لأن أول ما يبدأ لها فيشك الناظر إليها فيحول الحول وتمضي أيام عهدة السنة ولا يردها السلطان على بائعها لموضع الشك، ثم يصير أمرها إلى أن يتحقق بها جذام بين بعد السنة، فقال: أما إذا اشتريت في العهدة ورفع أمرها إلى القاضي ورأى أهل البصر أن الذي بدا بها سبب الجذام ويخاف عليها، فأرى إن استحق ذلك بها على قرب من انسلاخ السنة، وبحد ثان مضي العهدة أن يرد بالذي كان اشتريت [منه] لأن تلك التهمة اتصلت بالحقيقة، قال: وإن طال زمانها بعد انقضاء عهدة السنة لم أر أن ترد بتلك التهمة.
قال محمد بن رشد: هذا [مثل] ، ما ذهب إليه ابن المواز وابن حبيب خلاف ما حكي عن ابن القاسم وابن كنانة من أنه لا يجب ردها إلا أن يتحقق أنه جذام بين أو برص بين في داخل السنة، وقد مضى في رسم الكبش قبل هذا لابن القاسم دليل على ما حكى عنه ابن حبيب، وهو الذي يوجبه النظر، وذلك أنه لما كان يكمن ويخفى ولا يتحقق عند أول ما يبدأ جعلت السنة حدا لما يستتر فيه من أول ابتدائه إلى حين تحققه، فإذا تحقق في السنة حمل أمره على أن ابتداءه كان منذ سنة وهو في ملك البائع، وإذا(8/341)
لم يتحقق إلا بعد السنة وجب أن يحمل أمره على ابتدائه كان منذ سنة من يومئذ وهو في ملك المشتري، وبالله التوفيق لا رب سواه.
[العبد يشترى بالعهدة إلا أن البائع تبرأ من الإباق، فأبق العبد في الأيام الثلاثة]
ومن كتاب أوله أول عبد أبتاعه فهو حر وسئل: عن العبد يشترى بالعهدة إلا أن البائع تبرأ من الإباق، فأبق العبد في الأيام الثلاثة ثم لم يدر أمات في أيام العهدة أم لا وقد تبين أنه مات في إباقه ذلك، قال: سمعت مالكا يقول: هو من المشتري حتى يتبين أنه مات في أيام العهدة، قال: ولكن إن باعه بالعهدة ولم يتبرأ من إباقه فأبق في أيام العهدة فضمانه من البائع مات أو عاش، وذلك أنه لو وجده كان له رده، وإباقه في أيام العهدة من البائع.
قال محمد بن رشد: أما إذا باعه بالبراءة من الإباق فأبق في عهدة الثلاث ولم تعلم حياته من موته أو علم أنه مات ولم يعلم إن كان مات في العهدة أو بعدها، فقوله ههنا: إنه من المشتري هو مثل إحدى روايتي ابن نافع وأشهب عن مالك في سماعه، ومثل ما في رسم طلق من سماع ابن القاسم خلاف الرواية الثانية لأشهب وابن نافع عن مالك في [المدونة في أول] سماعه، وقد مضى القول على ذلك في المواضع المذكورة، فلا وجه لإعادته.
وأما إذا باعه بالعهدة ولم يتبرأ من الإباق فأبق في العهدة فضمانه من البائع كما قال؛ لأن ما أصاب العبد من العيوب في أيام العهدة فهو من البائع، والمبتاع فيه بالخيار، والإباق عيب من العيوب، فإذا أبق في العهدة فالمبتاع فيه بالخيار، فإذا مات قبل أن يختار وجب أن يكون ضمانه من البائع وإن كان موته بعد أيام العهدة كالعبد يموت في أيام الخيار، وكذلك إن غاب في العهدة ولم يرجع وجب على البائع أن يرد(8/342)
الثمن ويطلب عبده، وكذلك إن دلس له بالإباق فأبق بعد العهدة ولم يرجع. [وبالله التوفيق] .
[مسألة: يبيع العبد بالعهدة ثم يجد به المشتري عيبا بعد العهدة يرد منه ولا يجد البينة]
مسألة وسألته: عن الرجل يبيع العبد بالعهدة ثم يجد به المشتري عيبا بعد العهدة يرد منه ولا يجد البينة أنه كان بالعبد عند البائع، كيف يحلف البائع على البت أن ذلك العيب لم يكن بالعبد يوم باعه أم على علمه؟ فقال: أما كل عيب ظاهر يرى أنه لم يكن يخفى عليه وأنه قد دلس به فيما يرى وهو مما لا يحدث مثله في قدر ما كان عند المشتري، فإنه يرد بلا بينة ولا يقبل فيه يمين البائع إذا كانت معرفة ذلك ثابتة عند الناس أن العيب قديم وأنه بموضع لم يكن ليخفى مثله على البائع في طول ما ملكه وكان في يديه.
قال: وأما العيب الظاهر فإن رئي أن مثله لا يخفى غير أنه مما يحدث مثله في قدر ما كان العبد عند المشتري فإنه يحلف بالله لقد باعه وما به هذا العيب على البت، ولا ينفعه أن يقول ما علمت [به، فإن نكل حلف المشتري بالله الذي لا إله إلا هو ما حدث عندي على البت أيضا ولا ينفعه أن يقول: ما علمته حدث عندي] ثم يرده إن شاء، فإن نكل لزمه حبسه.
قال: وكذلك يحلف البائع أيضا فيما يخفى من العيوب التي تحدث على البت أيضا [ولا ينفعه أن يقول: ما علمته حدث عندي ثم يرده إن شاء] ، فإن نكل حلف المشتري أنها لم تحدث عنده على(8/343)
البت أيضا، وأما ما يخفى مما يرى أنه بالعبد قديم فهو مثل ما يظهر مما يرى أنه بالعبد قديم إذا ثبت معرفة ذلك عند الناس رده بلا بينة، ولا يقبل للبائع في ذلك يمين.
قال محمد بن رشد: رواية يحيى هذه في وجوب اليمين على البت فيما يخفى مما يحدث ويقدم من العيوب خلاف المشهور في المذهب، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم، ومضى طرف منه في رسم الفصاحة من سماع عيسى لمن أحب الوقوف عليه فلا معنى لإعادته. [وبالله التوفيق] .
[مسألة: يشتري العبد بالبراءة ثم يجد به عيبا]
مسألة قال: قلت: فالذي يشتري العبد بالبراءة ثم يجد به عيبا أو خفيا مما يحدث أو مما لا يحدث مثله كيف يحلف؟ فقال: كل عيب يوجد بعبد اشتري بالبراءة كان ظاهرا أو خفيا مما يرى أنه بالعبد قديم فإن البائع يحلف فيه على علمه بالله الذي لا إله إلا هو لباعه ولا يعلم به هذا العيب ثم يبرأ، فإن نكل حلف المشتري بالله ما علم أن هذا العيب حدث عنده ثم رده.
قال: وكذلك يحلف أيضا فيما يحدث ويقدم على علمه ثم لا شيء عليه؛ لأنه قد تبرأ عند البيع من عيوبه [كلها] فكل عيب لا يثبت عليه أنه علمه وإن كان بالعبد يوم باعه فإنه منه بريء، فلذلك لم يحلف إلا على علمه، قلت: أرأيت إن كان بالعبد شيء ظاهر لا يشك أنه قد علم به فيما يرى الناس، أتنفعه البراءة في مثله؟.(8/344)
قال محمد بن رشد: أما بيع البراءة فلا اختلاف أعلمه في أن الأيمان فيها إنما تكون على العلم سواء كانت العيوب مما تخفى أو مما لا تخفى، وإنما اختلف في بيع الإسلام وعهدته حسبما مضى القول فيه في أول سماع ابن القاسم، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب لمن أحب الوقوف عليه، وأما إذا كان العيب ظاهرا لا يشك أن البائع قد علمه وباع بالبراءة فلم يقع في ذلك في الرواية جواب، والجواب في ذلك: أن البراءة لا تنفعه في ذلك، كذلك روى زياد عن مالك، قال: ومن باع عبدا بالبراءة فوجده المشتري مقعدا أو قد ذهب يده أو رجله أو عينه أو وجده أعمى ونحو هذه العيوب التي يرى أن صاحبه قد علمها وكتمه لم تنفعه البراءة وكان بيعا مردودا، ومثله في كتاب أصبغ عن ابن القاسم، ومعنى هذا إذا كان غائبا فباعه على الصفة، وأما إذا كان حاضرا فرآه المشتري عند الشراء فليس شيء من هذا بعيب؛ لأنها ظاهرة ترى على ما قال في المدونة [وبالله التوفيق] .
[العبد يجرح موضحة فيبين سيده قبل أن يبرأ أو يحكم له بأرشها]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: وسألت ابن القاسم: عن العبد يجرح موضحة فيبين سيده قبل أن يبرأ أو يحكم له بأرشها، قال: هذا بيع فاسد إلا أن يكون قد باعه وقد برأ الجاني من الجرح، وأما إن لم يبرئه فمات العبد في يد المشتري أيرجع بالقيمة فهذا غرر لا يدري العبد اشترى أو ما يأخذ من القيمة؟ وإن كان البائع برأ الجاني لم أر به بأسا؛ لأنه قد باعه عبدا به عيب، فإن مات فهي مصيبة، وإن بقي فهو عبده، قلت له: فلو أراد سيده البائع قبل أن يبيعه أن يتعجل أرش الموضحة أكان ذلك له؟ قال: لا.
قال سحنون:(8/345)
وروى التونسيون في الرجل يشتري العبد المجروح موضحة أن البيع لا يجوز؛ لأنه إن سلم كان له العبد، وإن مات كانت له القيمة، فيدخله الخطر، وسألت ابن القاسم عنها فقال: البيع جائز وهو بمنزلة ما أصابه في عهدة الثلاث، وكلمت فيها أشهب فقال: البيع جائز ويوقف الثمن، فإن سلم كان للمشتري، وإن مات كان من البائع بمنزلة مواضعة الجارية للاستبراء، فكنت أستحسن قول أشهب، إلا أنه يدخله إلى أن الاستبراء له أمر معروف يوقف به، وإن زادت وتمادى بها الاستبراء كان عيبا وكان له الرد، وهذا لا أمد له ينتهي إليه إلا إلى البرء، ولعله يطول فيكون فيه ضرر؛ ولأن هذا اشترى فبان بما اشترى، وهذا باع فانتقد ثمن ما باع، فدخله هذا فوجدت الخطر أملك به.
قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم: أولا في العبد المجروح موضحة إن بيعه لا يجوز إلا أن يكون قد برأ الجاني من الجرح؛ لأنه إن باعه ولم يبرأ الجاني من الجرح كان غررا، إذ لا يدري هل يسلم العبد فيكون له أو يموت فتكون له القيمة مثل رواية التونسيين؛ وقال في القول الآخر: إن البيع جائز ويكون بمنزلة ما أصابه في عهدة الثلاث، يريد أنه إن مات كانت قيمته للبائع وانفسخ البيع، وإن سلم كان للمشتري، وكان الأرش للبائع، كما إذا أصابه ذلك في عهدة الثلاث فرضي المشتري بأخذه إن مات كانت قيمته للبائع وانفسخ البيع، وإن سلم كان للمشتري وكان الأرش للبائع، فلا يجوز النقد في ذلك بشرط، كما لا يجوز في المواضعة ولا في عهدة الأيام الثلاث ولا في أيام الخيار، وقول أشهب: إن الثمن(8/346)
موقف [هو على] معنى الاختلاف في وجوب توقيف الثمن في الاستبراء، وسيأتي القول على هذا في أول سماع ابن القاسم من كتاب الاستبراء إن شاء الله، ولو وقع البيع على أنه إن سلم أخذه المبتاع، وإن مات كانت القيمة على الجاني لم يجز باتفاق، وإنما الاختلاف إذا وقع البيع على غير بيان أو على أنه إن مات كانت القيمة للبائع على الجاني وانفسخ البيع، فمرة أجيز البيع قياسا على مواضعة الجارية في الاستبراء، ومرة لم يجز وفرق بين الموضعين من أجل أن الاستبراء له أمد معروف وهذا لا أمد له إلا إلى البرء، وقد تكون السنة أو أكثر من السنة، ولا نص خلاف في أن ذلك إذا أصابه في عهدة الثلاث يكون المشتري مخيرا بين أن يرده من ساعته أو يأخذه إن سلم ويكون الأرش للبائع.
وقال الفضل: الصواب ألا يكون للمشتري أن يقبل العبد مجنيا عليه إلا أن يسقط البائع تبعته عن الجاني، وإلى هذا ذهب ابن عبدوس فقال: كل ما لا يجوز ابتداؤه فلا يجوز أخذه بعد الخيار وكأنه ابتداء شراء.
وقد أنكر سحنون على ابن القاسم قوله في الكافر يشتري العبد الكافر على أنه بالخيار فيسلم العبد في أيام الخيار إنه إن اختار بيع عليه، وقال: لا يجوز أن يختار الشراء بعد إسلام العبد؛ لأن يصير مشتريا لعبد مسلم، وهذا أصل مختلف فيه، فمنه اختلافهم في الذي يشتري العبيد جملة فيستحق أكثرهم هل له أن يأخذ ما بقي بما ينوبهم من الثمن أم لا؟ اختلف في ذلك قول ابن القاسم، وفي إجازة شراء العبد المجروح موضحة إذا أبرأ السيد الجارح جواز شراء المريض، وقد مضى مثل هذا في رسم الجواب من سماع عيسى، ومضى ذكر الاختلاف في هذا في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم لمن أحب الوقوف عليه.
وأما قوله: إنه ليس له أن يتعجل أرش الموضحة ففي ذلك اختلاف، قيل: إن له أن يتعجلها، فإن مات العبد منها وفي تمام قيمته، وهو مذهب(8/347)
ابن الماجشون وسحنون.
فهذا حكم الجناية على العبد في عهدة الثلاث، وأما جنايته فيها على غيره ففيها تفصيل على معنى ما في [الأمهات] ، المدونة والواضحة وغيرهما، سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الجنايات، وبالله التوفيق.
[العهدة في العبد المقرض والعبد المسلف فيه]
من نوازل سئل عنها سحنون [بن سعيد] قال سحنون: لا عهدة ثلاث ولا سنة في العبد المقرض ولا في العبد المسلف فيه ولا المصالح به، ولا في العبد الغائب يشترى على صفة، ولا العبد المأخوذ من دين، ولا في العبد المنكح به، ولا في العبد المخالع به، ولا العبد المقاطع به من كتابة المكاتب، ولا العبد المأخوذ من دم عمد، وهذا كله على مذهب ابن القاسم؛ قال: وعلى ما روى أشهب في العبد المنكح به أن فيه عهدة الثلاث وعهدة السنة.
قال محمد بن رشد: أما العبد المقرض فلا اختلاف في أنه لا عهدة فيه إذ ليس ببيع، والعهدة إنما جاءت فيما اشتري من الرقيق.
وأما العبد المسلف فيه فابن حبيب يرى فيه العهدة؛ لأنه مشترى، ووجه قول ابن القاسم: أنه ليس مشترى بعينه وإنما هو ثابت في الذمة بصفته فأشبه القرض.
وأما المصالح به فمعناه المصالح به على الإنكار، وأما المصالح به على الإقرار فهو بيع من البيوع تكون فيه العهدة، وإنما لم تكن في المصالح به على الإنكار عهدة؛ لأنه أشبه الهبة في حق الدافع؛ ولأنه(8/348)
يقتضي المناجزة؛ لأنه أخذه على ترك خصومة فلا يجوز لهما التأجيل فيه، ولو استحق لما رجع بالعرض على حكم البيوع.
وأما المأخوذ من دين أو دم عمد فإنما لم تكن في ذلك العهدة لوجوب المناجزة في ذلك اتقاء الدين بالدين.
أما العبد المشترى على الصفة، فإنما لم يكن فيه عهدة؛ لأن وجه البيع يقتضي إسقاطها لاقتضائه التناجز إذا كان الناس يتبايعون الغائب على ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من المبتاع، فإن اشترط الصفقة لم تكن فيه عهدة؛ لأن بيع الصفقة موجز قاطع للضمان والعهدة، وإن لم يشترطها فمرة حمل مالك البيع على ذلك، ومرة رأى السلعة في ضمان البائع حتى يقبضها المبتاع فيكون قبضه لها على هذا القول قبضا ناجزا لا عهدة فيه.
وأما العبد المنكح به فوجه وجوب العهدة فيه قياسه على البيوع، وقد قال مالك: أشبه شيء بالبيوع النكاح.
ووجه إسقاطها فيه هو أن طريقه المكارمة، ويجوز فيه من الغرر والجهول ما لا يجوز في البيوع، وقد سماه الله نحلة، والنحلة ما لم يعتض عليه، فوجب ألا تكون فيه عهدة.
وأما العبد المخالع به: فإنما لم تكن به عهدة؛ لأن طريقه المناجزة؛ لأن المرأة لما كانت تملك نفسها بالخلع ملكا تاما ناجزا لا يتعقبه رد ولا فسخ وجب أن يملك الزوج في العرض ملكا ناجزا [لا يتعقبه رد ولا فسخ] .
وأما العبد المقاطع به: فإنما لم تكن فيه عهدة؛ لأنه إن كان عبدا بيعنه فكأنه انتزعه منه وأعتقه، وإن كان بغير عينه فأشبه المسلم فيه الثابت في الذمة فسقطت فيه العهدة.
وقد اختلف في العهدة في العبد المستقال منه، فقال ابن حبيب وأصبغ: فيه العهدة، وقال سحنون: لا عهدة فيه، وهذا(8/349)
عندي إذا لم ينتقد، وأما إذا كان قد انتقد فلا عهدة في ذلك قولا واحد؛ لأنه كالمعبد المأخوذ من دين.
وقال ابن العطار: إنه لا عهده في العبد إذا كان رأس مال المسلم، وقوله صحيح؛ لأن السلم يقتضي المناجزة، وقد قيل: لا يجوز أن ينعقد السلم على أن يتأخر رأس مال السلم اليوم واليومين والثلاثة، وإنما يجوز أن يتأخر إلى هذا المقدار إذا وقع على المناجزة، وهذا القول قائم من المدونة [بدليل] ، وعلى قياس قوله: لا عهدة فيما بيع من الرقيق بدين إلى أجل، واعترض ابن الهندي على ابن العطار قوله ورأى فيه العهدة، وحكى ابن حبيب في الواضحة أنه لا عهدة في العبد الموهوب على الثواب.
والوجه في ذلك أنه بيع على المكارمة لا على المكايسة، فأشبه العبد المنكح به يدخل فيه من الاختلاف ما دخل في العبد المنكح به، والله أعلم، [وبالله عز وجل التوفيق] .
[يشتري الشاة وهي حامل فتلد عنده فيأكل لبنها وسخلتها ثم يجد بها عيبا ترد منه]
من سماع موسى بن معاوية من ابن القاسم قال موسى بن معاوية: قال ابن القاسم في الرجل يشتري الشاة وهي حامل فتلد عنده فيأكل لبنها وسخلتها ثم يجد بها عيبا ترد منه، قال: إن أحب أن يردها ويقاص بقيمة ولدها الذي أكل من ثمنها فذلك له، وإن أحب أن يمسكها ويأخذ قيمة العيب من بائعها فذلك له، وإنما كان له أن يأخذ قيمة العيب ويمسكها؛ لأن، الولد ربما جاء من ثمنه ما هو أكثر من ثمنها الذي ابتاعها به، فيصير إن قاصه لم يرجع على البائع بشيء حينئذ، فلذلك يكون له أن يحبسها ويأخذ قيمة العيب، وما أكل من لبن أو لبإ أو شعر انتفع به لم يقاص بشيء منه؛ لأنه كان له بالضمان، وهو بمنزلة الغلة؛ لأنه لو فلس صاحبها فأدركها وولدها أخذهما، ولو وجد لها لبنا أو شعرا قد أخذ منها لم يكن له منه شيء.(8/350)
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم لمن أحب أن يتأمله فلا وجه لإعادته، ومضى أيضا في رسم باع شاة من سماع عيسى، والله المعين.
[الفصوص يشتريها الرجل فيحكها فيظهر بها عيوب]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم [قال] محمد بن خالد: سألت ابن القاسم عن الفصوص يشتريها الرجل فيحكها فيظهر بها عيوب عند الحك لم يكن بها قبل ذلك في الظاهر، فقال: قال مالك: المبتاع لها ضامن، وكذلك كل ما يباع فكان المبتاع والبائع في معرفته سواء لا يظن أن البائع قد عرف من سلعته ما لم يعرف المبتاع، فإن المبتاع لما اشترى من ذلك ضامن ليس له إلى رده سبيل، قال: ومن ذلك الخشب والجوز والرانج، قال مالك: والبيض مخالف لهذا، وذلك؛ لأن فسادها يعرف، فما وجد فيه من فاسد رده.
قال مالك: [وإن الناس ليردون القثاء إذا وجدوه مرا كأنه يراه بمنزلة ما ذكرنا مما معرفة المبتاع فيه والبائع سواء] .
وقال ابن نافع وداود مثل ذلك، غير أن ابن نافع قال في الجوز إذا اشتراه الرجل فوجد عامته فاسدا: إنه يرده ويأخذ الثمن من بائعه، وإن كان فساده يسيرا لم يرده ولزمه ما اشترى، وقال محمد بن خالد: وقوله في الجوز أحب إلينا.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذا أنه لا يرد من العيوب إلا ما يمكن أن يعرفه الناس، فيكون البائع غارا به ومدلسا فيه، فأما ما لا يمكن(8/351)
أن يعرفه الناس ويستوي في الجهل بمعرفته البائع والمبتاع ولا يمكن الوصول إلى العلم به بوجه من وجوه الاختبار، ولا كان من سبب حادث يمكن أن يعلم ولا من سوء صنعة، فإنه لا يجب الرد بشيء من ذلك ولا القيام به، مثل العفن يكون في داخل العود والخشبة من قبل القطع لا يعلم به إلا بعد نشره وشقه، ومثل الجذري يكون في الجلود لا يتبين إلا بعد إدخالها في الدباغ، ومثل الجوز والرانج يباع فيوجد فيه إذا كسر فاسدا أو معفونا، ومثل القثاء يباع فيوجد فيها مرا وما أشبه ذلك، فأما ما أمكن معرفته بالاختبار مثل القثاء والقثاتين توجد مرة فإنها ترد؛ لأنها يوصل إلى معرفة مرارتها من غير أن تقطع بالعود يدخل فيها، فإن الرد يجب بذلك، قاله أشهب، أو مثل الأحمال من القثاء توجد مرة كلها أو الجوز يوجد فاسدا كله فإنها ترد؛ لأن هذا مما لا يمكن أن يخفى على البائع، أو كان فساده من سبب حادث مثل الجلود تفسد من حرارة الشمس أو قلة الملح، أو ماء بحر يصيبها، على ما قال ابن حبيب، أو سوء صنعة مثل العره أو الجبنة على ما قال ابن مزين، فإن الرد يجب بذلك كله، وكذلك كل ما كان القدم يفسده مثل البيض وما أشبهه فإن الرد يجب بذلك كله، وهذا كله لا اختلاف فيه، فقول ابن نافع ليس بخلاف لقول ابن القاسم، وإنما قال ابن خالد: وقوله: أحب إلينا؛ لأنه رأى قول من فسر أحسن من قول من أجمل، ويتخرج في المذهب قولان فيما كان الفساد فيه لا يعرف ولم يكن من الأصل ولا كان حادثا بسبب يعلم، فعلى ما ذهب إليه ابن حبيب يحب الرد بذلك، قال: لأن هذا مما يمكن أن يعلمه بعض الناس، وعلى ظاهر ما في هذه الرواية وغيرها لا يجب به الرد، والله أعلم. [وبالله التوفيق] .
[مسألة: الجارية تشترى وهي لم تخفض]
مسألة قال: وقال ابن القاسم: قال مالك في الجارية تشترى وهي(8/352)
لم تخفض يريد أنها لم تختن إنها إذا كانت فارهة ردت؛ لأنه عيب من العيوب.
قال محمد بن أحمد: معناه إذا كانت من رقيق العرب الذين يخفضون على ما مضى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم وفي رسم الجواب من سماع عيسى.
[مسألة: يشتري العبد المسلم فيجده أغلف]
مسألة قال: وسألت ابن نافع عن الرجل يشتري العبد المسلم فيجده أغلف، قال يرده بذلك عليه؛ لأنه عيب.
قال محمد بن رشد: معناه إذا كان من رقيق العرب الذين يختنون ولم يكن مجلوبا من رقيق العجم على ما مضى أيضا في سماع ابن القاسم وفي سماع عيسى، وظاهر قوله أن الرفيع والوضيع في ذلك بمنزلة سواء مثل قول ابن حبيب في الواضحة خلاف ما مضى في سماع عيسى، وقد مضى تحصيل القول في هذا في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[يبيع البقرة على أنها حامل]
من سماع عبد الملك بن الحسن من أشهب قال عبد الملك: سئل أشهب عن الذي يبيع البقرة على أنها حامل، فقال: إذا لم توجد حاملا ردت، قيل: فالجارية تباع على أنها حامل فتوجد غير حامل، فقال: ذلك يختلف إن كانت من الجواري المرتفعات اللاتي ينقصهن الحمل فإنما ذلك تبري وليس عليه شيء، [وإن كانت من الجواري اللاتي يزيدهن الحمل فوجدها غير حامل ردها] .(8/353)
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا في بيع البقرة والجارية التي يزيدها الحمل على أنها حامل إن البيع جائز ويردها إن لم تكن حاملا خلاف قول ابن القاسم وروايته عن مالك، لا يجوز على مذهبهما بيع الشاة ولا البقرة ولا الجارية الدنية التي يزيدها الحمل على أنها حامل وإن كانت ظاهرة الحمل، والبيع على ذلك مفسوخ، وذلك بين من قوله في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع، وأجاز ذلك سحنون إذا كانت ظاهرة الحمل، وقال ابن أبي حازم في المدنية: البيع جائز ولا يردها إن لم يجدها حاملا، قال ذلك في الذي يبيع الرمكة ويشترط أنها عقوق إذا باعها وهو يرى أنها كما قال، قال: ولو باعها وهو يعلم أنها على غير ذلك بمعرفته أن الفحل ينزو عليها لكان للمشتري أن يردها؛ لأنه قد غره بما أطمعه من عقاقها، فإذا لم يعلم بأنها عقوق فشرط له أنها عقوق فالبيع جائز ولا يلزمه ما شرط إذ لا علم له به ولا للمشتري، فكلاهما في عمى، فالبيع ماض ولا ينتقض، فتحصل في المسألة أربعة أقوال: أظهرها قول سحنون: أن البيع فاسد إلا أن يكون الحمل ظاهرا، وقال ابن عبد الحكم: لا خير في أن بيع الرجل الدابة ويشترط عقاقها، ولو قال: هي عقوق ولم يشترط ذلك لم يكن به بأس.
[يشتري العبد ثم يظهر منه على عيب يرد منه]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب البيوع قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل يشتري العبد ثم يظهر منه على عيب يرد منه، فيقول البائع: بعته بعشرين، ويقول المشتري: بل بثلاثين، وكيف إن قال البائع: بعتكه بعرض؟ قال: القول قول البائع في جميع ذلك مع يمينه إلا أن يأتي بما لا(8/354)
يشبه. قال أصبغ: فيرجع القول قول المشتري إذا أتى بما يشبه، فإن أتى أيضا هو بما لا يشبه ولا يعادل ولا يقارب رأيت الثمن بقدر قيمة العبد يوم قبضه معيبا يرد ذلك البائع على المشتري ويرد عليه العبد، وما سمعت فيه شيئا وهو رأيي.
قال محمد بن أحمد: قوله: إنهما إذا اختلفا في الثمن عند وجود العيب إن القول قول البائع إذا أتى بما يشبه صحيح؛ لأنه مدعى عليه منكر لما ادعى عليه المشتري، وقد أحكمت السنة أن البينة على المدعي واليمين على من أنكره، وقول أصبغ: فإن أتى بما لا يشبه رجع القول قول المشتري إذا أتى بما يشبه صحيح أيضا لا إشكال فيه ولا اختلاف، وأما قوله: فإن أتى أيضا بما لا يشبه رأيت الثمن بقدر قيمة العبد يوم قبضه معيبا، فإنه كلام ليس على ظاهره؛ لأن البائع لم يقبض الثمن فيه إلا على أنه صحيح فإنما تكون القيمة فيه على أنه صحيح، فمعنى قوله: إن الثمن يكون بقدر قيمة العبد صحيحا يوم قبضه معيبا أي يوم باعه معيبا، إلا أن يكون البيع والقبض في يوم واحد، وذلك أيضا بعد أيمانهما جميعا أو نكولهما جميعا، فإن حلف أحدهما، ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما، وإن كان لا يشبه؛ لأن صاحبه قد مكنه من دعواه بنكوله وبالله التوفيق.
[مسألة: باع من رجل سلعة ثم باعها المشتري من آخر ثم غاب]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن رجل باع من رجل سلعة، ثم باعها المشتري من آخر ثم غاب ثم أتى من استحق السلعة، فقال المشتري الثاني للبائع الأول: أنت بعتها من بيعي هذا، هل يعدى(8/355)
عليه أم لا؟ قال: نعم يرجع عليه، وقاله أصبغ، قال أصبغ: وكذلك العيوب إلا أن عليه في العيوب أن يقيم البينة أنه اشترى بيع الإسلام وعهدة الإسلام بغير براءة، فإن أقام ذلك رجع على البائع الأول ورد عليه ماله حتى يقيم هو البينة أنه بايع صاحبه بيع البراءة أو تبرأ إليه منه؛ لأن الأوسط لو كان حاضرا فرد عليه لكان له الرد على صاحبه حتى يثبت عليه التبرئة والمعاملة عليها فهو في مقامه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الأول غريم غريمه فيكون عليه في الاستحقاق والرد بالعيب ما كان يكون لغريمه عليه لو رجع عليه، فيرجع عليه في الاستحقاق بأقل الثمنين، وكذلك إذا رد عليه بالعيب إنما يأخذ منه أقل الثمنين، فإن كان ثمنه أكثر من الثمن الذي باعه به الأول اتبع الذي باعه هو ببقية ثمنه، وكذلك إذا كان قد فات فإنما يرجع عليه بالأقل من قيمة العيب من الثمن الذي باعه [يوم باعه، أو الأقل من قيمة العيب من الثمن الذي باعه] به الأول يوم باعه، وقد مضى هذا في رسم البراءة من سماع عيسى [لمن أحب الوقوف عليه فلا وجه لإعادته] .
وقال أصبغ: إن عليه أن يقيم البينة على أنه اشترى بيع الإسلام وعهدته، وسكت عما يجب عليه من إقامة البينة على أنه نقد الثمن، وقد مضى ذلك والحكم فيه إذا عجز عن إقامته في رسم نقدها من سماع عيسى لمن أحب الوقوف عليه فلا وجه لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: باع من رجل ثوبا بنصف دينار وأحال على المشتري غريما له بالنصف]
مسألة قال ابن القاسم في رجل باع من رجل ثوبا بنصف دينار وأحال على المشتري غريما له بالنصف فأعطاه فيه عشرة دراهم،(8/356)
ثم وجد المشتري بالثوب عيبا بم يرجع على البائع؟ قال: بنصف دينار وليس بالدراهم، وقاله أصبغ إتباعا، وفيه غمز وضعف.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه يرجع عليه بالدراهم، وقد مضت هذه المسألة، ووجه الاختلاف فيها مستوفى في أول مسألة من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف فلا معنى لإعادته [هنا مرة أخرى، وبالله تعالى التوفيق] .
[مسألة: باع عبدا وبه عيب إباق دلسه فباعه مشتريه فأبق عند المشتري الثاني]
مسألة وسألت ابن القاسم: عمن باع عبدا وبه عيب إباق دلسه فباعه مشتريه فأبق عند المشتري الثاني، فمات في ذلك الإباق أو لم يمت والبائع الأول والثاني قيام بأعينهما، إلا أن البائع الثاني عديم، فقال: إن الثمن يؤخذ من البائع الأول المدلس، يؤخذ منه قدر الثمن الذي اشترى به الثاني، فيدفع إلى المشتري الثاني، ثم إن شاء المشتري الأول اتبعه ببقية ماله إن كان فيه فضل، وإن شاء ترك، فإن كان البائع الأول قد فات رجع المشتري الثاني على المشتري الأول بما بين القيمتين، ولا يرجع بالثمن كله؛ لأنه لم يدلس؛ فإن وجد البائع الأول يوما ما أخذ منه الثمن فأتم للمشتري الثاني منه بقيمة حقه الذي اشتراه به، وكان ما بقي للمشتري الأول.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الصبرة من سماع يحيى، وذكرنا أنه يتحصل في ذلك خمسة أقوال، فلا معنى لإعادة شيء منها ههنا. وبالله التوفيق.(8/357)
[مسألة: باع جارية وشرط البائع أنها حامل]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل باع جارية وشرط البائع أنها حامل، قال: لا يجوز هذا الشرط والبيع مفسوخ.
قال محمد بن رشد: معناه إذا كانت الجارية غير رائعة مما يكون الحمل زيادة في ثمنها، وقد مضى ذلك وتحصيل القول فيها في سماع عبد الملك فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: باع جارية وقال إنها تزعم أنها بكر فألفيت ثيبا]
مسألة وإن باع جارية، وقال: إنها تزعم أنها بكر فألفيت ثيبا، فإن مالكا قال: ترد لأنه قد قال قولا رغب الناس فيها وازداد في ثمنها.
قال أصبغ: وكذلك لو قال: إنها تزعم أنها طباخة أو رقامة فلم توجد كذلك فإنها ترد.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وقد مضى القول على ذلك هناك فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يشترى فيوجد ضرسه منزوعة أو به كي]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، وسئل عن العبد يشترى فيوجد ضرسه منزوعة أو به كي أن الضرس خفيف إلا أن ينقص من ثمنه، مثل الجارية الرائعة وما أشبهها فيكون ذلك ينقص من ثمنها فيكون عيبا ترد منه.
وأما الكي فهو خفيف إلا أن يخالف اللون فيرد به، وقاله أصبغ. قال أصبغ: ويكون الكي الفاحش أو الكثير المترق، وإن لم يخالف اللون وفي المواضع التي يراد من(8/358)
الجارية الفرج وما والاه أو في الوجه يسمج مما يخاف فإذا ظهر كان سمجا ونقصانا فهذه عيوب كلها ترد بها، وإلا فلا.
قال محمد بن رشد: قال في السن الواحدة الناقصة: إنها عيب في الجارية الرائعة، زاد ابن حبيب وسواء كان في مقدم الفم أو في مؤخره، قال: وليس هو عيب في غير الرائعة ولا في العبد إن كان في مؤخر الفم، وما زاد على السن الواحدة فهو عيب في كل العبيد والإماء كان في مقدم الفم أو في مؤخره، وهو تفصيل حسن، قال: وأما السن الزائدة فهو عيب في العبد والجارية رفيعين كانا أو وضيعين.
وقوله فتي الكي نحو ما في الواضحة، حكى ابن حبيب فيها عن مالك أنه قال: ما كان من العيوب لا ينقص ثمنا ولا يخاف عاقبته مثل الكي غير الفاحش يكون بالعبد أو الأمة فلا يرد به، وإن كان عند النخاسين عيبا، قال: وإنما يرد العبد والأمة من كل عيب ينقص الثمن أو يخاف عاقبته، وقال هو من رأيه في الكية الواحدة إنه عيب في الأمة الرائعة إن كان لها أثر قبيح، وليس بعيب في غير الرائعة وفي العبد إلا أن يكون كيا كثيرا منتثرا، وقال ابن دحون: من اشترى عبدا فوجد به كيا، فقال أهل المعرفة: إنه كوي لعلة لم يرده إن كان بربريا ويرده إن كان روميا؛ لأن الروم لا يكتوون إلا لعلة، وهو حسن من القول، وبالله التوفيق.
[باع عبدا بالبراءة فباعه المشتري فظهر منه الثالث على عيب]
ومن كتاب البيع والصرف قال أصبغ: قال ابن القاسم فيمن باع عبدا بالبراءة، فباعه المشتري فظهر منه الثالث على عيب قامت عليه به البينة عند الأول إن المشتري يرده على الأوسط، وليس على الأول إلا اليمين ما علمه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، وهو مما لا إشكال فيه ولا وجه للقول.(8/359)
[مسألة: بيع ولد المجذومين]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن ولد المجذومين يباع، هل تراه عيبا إذا كان] ، يرد به؟ أو هل يختلف إذا كان أبواه جميعا أو أحدهما؟ قال: نعم أراه عيبا يرد به؛ لأن الناس يكرهونه كراهية شديدة، وليس كل الناس يقدم عليه، فأراه عيبا كانا جميعا الأبوان أو أحدهما، وهو أمر يخاف والناس له كارهون إذا علموا به، فكل أمر إذا علمه الناس كانت فيه الكراهة عندهم فأراه عيبا، وقاله أصبغ [بن الفرج] ، وقال: هو مما يخاف وإن لم يخف خوفا عاما في الناس فأراه عيبا، وقال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب عن مالك: أنه عيب في الرائعة وغير الرائعة، خلاف ما حكى عنه في التي يوجد أحد أبويها أسود أنه لا ترد بذلك إلا الرائعة، وقد ذكرنا ذلك، والأصل فيه في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب، وقد روى داود بن جعفر [عن مالك] في ولد المجذومين أنه ليس بعيب ولا يوضع عنه شيء، وبه قال ابن كنانة، ووجه ذلك التعلق بظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا عدوى» ولا وجه للتعلق به في هذا؛ لأن المعنى إبطال ما كانوا يعتقدون من أن المريض يعدي الصحيح، ولم ينف وجود مرض الصحيح عند حلول المريض عليه غالبا بقضاء الله تعالى وقدره دون أن يكون للمريض في ذلك تأثير فعل، ألا ترى أنه لما قيل له: يا رسول الله، «إن الإبل تكون في(8/360)
الرمل مثل الظباء فيرد عليها البعير الأجرب فتجرب كلها» ، لم يكذب قول من قال ذلك، وقال له: فمن أعدى الأول يريد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله تبارك وتعالى الذي أجرب الأول هو الذي أجرب جميع الإبل عند حلول الجرب عليها من غير تأثير كان له فيها، فإذا كان الأمر على هذا كان للمبتاع أن يرد العبد أو الأمة إذا علم أن أبويه أو أحدهما كان مجذوما لما يخشى من أن يصيبه الجذام بقضاء الله وقدره إذا كان أبوه مجذوما وإن لم يكن لجذام أبويه أو أحدهما في ذلك تأثير، إذ قد أبطل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك بقوله: «لا عدوى» . وقال محمد بن دينار: سئل أهل العلم عن ذلك، فإن كان ذلك مرضا يعم الأقارب حتى لا يخطئ أحدا وخيف عليها ولم يؤمن ذلك عليها فأرى أن يردها، وإن كان مرضا لا يعم النسب وربما أصاب وربما لم يصب فإني لا أرى له سبيلا إلى ردها، والصحيح: أنه عيب من أجل أن الناس يكرهونه فينقص ذلك من قيمته، وإن قال أهل المعرفة بذلك إن ذلك لا يخشى ولا يتقى ولا يخاف، وبالله التوفيق.
[الدابة تباع فتوجد عثورا]
ومن كتاب الكراء والأقضية قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الدابة تباع فتوجد عثورا، قال: إن قامت له بينة أنها كانت عثورا ردها، وإن لم تكن له بينة وكان في مثل ما غاب عليها المشتري مما يقول أهل المعرفة والعلم أنه يحدث في مثله حلف البائع أنه ما علمه عنده، فإن نكل حلف المشتري بالله ما علمه ويردها، وإن كان في مثل ما غاب عليها لا يحدث في مثله في معرفة الناس أو يكون بها أثر في قوائمها أو غير ذلك يعرف أن ذلك من أثره ويستدل به ردها،(8/361)
فقد يشتري الرجل الدابة فينصرف بها أو لعله يركبها ساعة فيجد ذلك بها من قريب، فإن قال أهل المعرفة: إن مثل هذا في قربه لا يحدث ردها، وإن كان يرى أن مثله يحدث حلف على ما فسرت لك وقاله أصبغ كله وهو الصواب [إن شاء الله] .
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا في عثار الدابة إن البائع يحلف ما علمه كان بها عنده إن أمكن أن يكون حادثا عند المشتري على حكم العيب الذي يحدث ويقدم، هو على أصل قوله وروايته عن مالك في العبد يأبق عند المبتاع إن له أن يحلف البائع ما أبق عنده خلاف رواية أشهب عن مالك، فعلى قياس روايته عنه لا يمين على البائع في عثار الدابة إذا أمكن أن يكون حادثا عند المشتري، وقد قال ابن كنانة في المدنية: إن علم أنها كانت عثورة عند البائع فهي رد عليه، وإن لم يعلم ذلك وكان عثارها قريبا من بيعها حلف البائع بالله ما علم بها عثارا.
قال: وإن كان عثارها بعد البيع بزمان وفي مثل ما يحدث العثار في مثله فلا يمين على بائعها، وقول ابن كنانة هذا في تفرقته بين القرب والبعد قول ثالث في المسألة.
[مسألة: يشتري جملة من الرقيق الوغد]
مسألة قال أصبغ: أخبرني ابن القاسم عن مالك في الذي يشتري جملة من] ، هذا الرقيق الوغد مثل السودان أو السند فيجد فيهم جارية حاملا ليس له أن يردها وهي تلزمه، ولو اشتراها وحدها رأيت أن يردها.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم مستوفى لمن أحب الوقوف عليه فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.(8/362)
[مسألة: يشتري العبد فيقبضه وينقد ثمنه ثم يأتي به يرده بعيب ظهر مثله]
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ قال أصبغ بن الفرج في الرجل يشتري العبد فيقبضه وينقد ثمنه ثم يأتي به يرده بعيب ظهر مثله يحدث في الشهر وما أشبهه ولا يحدث فيما هو أقل منه، فيزعم البائع أنه باعه منذ سنة، ويقول المشتري إنما اشتريته منك منذ عشرة أيام، أو يأتي به مجنونا أو مجذوما فيزعم أنه في داخل السنة ويقول البائع بل بعتكه منذ سنين، أو يموت فيدعى أنه مات في العهدة، أو الجارية تشترى فتموت في يد المشتري فيزعم المشتري أنها لم تحض وأنها لم تقم عنده بعد الاستبراء إلا أياما لا يكون في مثلها الاستبراء، ويقول البائع بعتكها منذ أشهر، هل يكون القول قول البائع في جميع ما ذكرت مع يمينه؟ وهل يختلف عندك إن لم ينقد؟ قال: القول في كل ما سألت عنه سواء أمر واحد، والقول قول البائع مع يمينه؛ لأنها دعوى بينهما، والمدعى عليه ههنا هو البائع؛ لأنه المدعى عليه النقصان للاسترجاع منه أو الرد والضمان، فكلها دعوى عليه، والمشتري مدعيها، فهو المدعي، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر وهو المدعى عليه، فاحمل كل شيء تجده من الدعوى خالصا على ذلك، فمسألتك من ذلك وليس في هذا كلام.
وسواء في مسألتك انتقد أو لم ينتقد، وأظنك في النقد وغير النقد وحيرك مسألة ابن القاسم في العيب يوجد وقد فات الرأس فيرجع فيه إلى قيمة العبد لمعرفة قيمة العيب، فإن ابن القاسم قال فيها: إن كان انتقد فالقول قول البائع في الصفة؛ لأنه رأى أن البائع ههنا المدعى عليه(8/363)
ليسترجع منه، وهو صواب، وزعم أنه إذا لم ينتقد فالقول قول المشتري [وهذا خطأ. وكذلك قال أيضا في مسألة العبدين يبيعهما صفقة واحدة ففات أحدهما من يد المشتري ووجد بالآخر عيبا فجاء ليرده بما يصيبه من الثمن مع صاحبه إن القول في قيمة الفائت وصفته زعم قول المشتري] إذا لم يكن نقد؛ لأنه رأى أن المشتري ههنا مدعى عليه وهو خطأ من قوله، وجعل المدعى عليه مدعيا وهو المشتري إذا كان قد نقد، وليس ذلك المدعي ههنا هو المشتري على كل حال والمدعى عليه البائع؛ لأن البائع وإن لم يكن انتقد فقد وجب له الثمن الذي تبايعا به، والمشتري ينتقصه منه، وقد سألت عنها أشهب فخالفه فقال مثل قولي، وإنما بنيت مسألتك على قول ابن القاسم هذا وأردت أن أبين فأرى أن قد أصبت في سؤالك ووقوفك على ما اشتبه عليك إلى علمه، والله الموفق لنا ولك.
قال محمد بن رشد: قد قال أصبغ في هذه المسألة: إن القول قول المبتاع؛ لأن العهدة قد لزمت البائع فهو مدع أنها قد انقضت، روى ذلك عنه عبد الأعلى، وعلى ذلك يأتي قوله في نوازله من كتاب طلاق السنة في النصرانية تسلم تحت النصراني ثم يسلم زوجها بعدها فيريد رجعتها فتزعم أنها قد حاضت ثلاث حيض بعد إسلامها وأن إسلامها كان أكثر من أربعين يوما لما يحاض في مثل ذلك ثلاث حيض، ويزعم الزوج أن إسلامها كان منذ عشرين ليلة لما لا يحاض في مثله ثلاث حيض؛ وفي الذي يطلق امرأته واحدة ثم يريد رجعتها ويقول: إنما طلقتها أمس تقول هي: بل طلقتني منذ شهرين وقد حضت ثلاث حيض أن القول قول الزوج، إذ(8/364)
لا فرق بين دعوى انقضاء العهدة ودعوى انقضاء العدة، وإلى هذا القول ذهب سحنون فقال في قول أصبغ في هذه النوازل: إن القول قول البائع، هذا خلاف ما أجمع عليه سلفنا في معرفة المدعي من المدعى عليه، ومن لزمته العهدة والاستبراء فزعم أنهما قد انقضتا فمثله طلب المخرج منهما؛ لأن من قال قد كان فهو المدعي، وقد احتج بقوله في نوازله هذه، ولكلا القولين حظ من النظر، وقول سحنون أظهر.
ومن حجته على أصبغ أنه قد خطأ قول ابن القاسم في قوله: إن القول قول المبتاع إذا لم ينقد، فقال: وإن كان لم ينقد فقد وجب عليه النقد فهو مدع فيما يسقطه، فيقال له وكذلك البائع عليه العهدة ولزمه رد الثمن فيما ظهر من موت العبد أو جنونه أو جذامه فهو مدع فيما يسقط ذلك عنه، وسواء على مذهب سحنون نقد أو لم ينقد، القول قول المبتاع، وهو الظاهر من قول ابن القاسم في كتاب الوكالات من المدونة في الذي رد نصف حمل طعام اشتراه بعيب وجد به فقال البائع: بل بعتك حملا كاملا أن القول قول المبتاع، والظاهر أنه قد نقد لقوله إذا حلف البائع لم يرد من الثمن إلا نصفه، وإن كان قد تؤول أن معنى قوله يرد بحكم الحاكم في النصف، فالتفرقة بين النقد وغير النقد في هذه المسألة قول ثالث. وبالله التوفيق.
[مسألة: يبتاع العبد بيع الإسلام وعهدة الإسلام فيعتقه المشتري]
مسألة قال أصبغ عن ابن القاسم في الرجل يبتاع العبد بيع الإسلام وعهدة الإسلام فيعتقه المشتري، أو يشتري الجارية فيطؤها فتحمل ثم يظهر بها جنون أو جذام أو برص في عهدة السنة لا أرى أن يرجع بما بين القيمتين وأن عتقه العبد(8/365)
وإيلاده الجارية قطع منه للعهدة. قال أصبغ: أرى أن يرجع بالعيب؛ لأن عيب العهدة كعيب كان به عند البائع في السنة لازما فيصرف به المبتاع على البائع. ألا ترى أنه لو لم يعتقه ولم تحمل الجارية رده به وهو حادث ولم يكن عليه أيضا لنقصانه شيء يرده معه، فالحمل فوت والعتق فوت لا رد معهما، وله الأرش بعدهما، وكذلك لو أعتقه في عهدة الثلاث لم يكن عتقه قطعا لتلك العهدة إن أصابه فيها أمر قد كان يرد بمثله ويلزم البائع أرشه، وهذا رأي، قال سحنون مثله. وقال: أصل ما أحدث له عهدة الثلاث الحمى الربع، وأصل عهدة السنة استقصاء الجنون والجذام والبرص والعيوب القديمة.
قال أصبغ: وكان ابن كنانة يقول في العبد يشتريه الرجل فيعتقه فيجذم في داخل السنة، قال: ينظر فيه فإن كان له ثمن معروف عرفت ثمنه ثم رجع المشتري على البائع بما بين ثمنه أجذم وثمنه صحيحا، وإن كان ليس له ثمن أصلا رجع بجميع الثمن ومضى فيه العتق، فإن مات العبد المعتق عن مال أخذ منه البائع الثمن الذي غرم للمبتاع وكان ما بقي بعد ثمنه للمبتاع، وإن كان المشتري لم يرجع بجميع الثمن وبقي له في العبد درهم فما فوقه فجميع ميراثه له.
وسئل ابن كنانة: عن الرجل يبتاع العبد بيع الإسلام وعهدة الإسلام فيعتقه ثم يظهر به جذام قبل السنة، قال: يرجع عليه بما بين القيمتين، وكذلك الجارية إذا حملت من سيدها أنه يرجع بما بين القيمتين.
قال ابن القاسم: وقد كان مالك يقول: يرد العتق(8/366)
ويأخذ المشتري الثمن كله، ولست أرى هذا القول ولا قول ابن كنانة، ولا أرى عتقه إلا قطعا لعهدة السنة، ولا أرى أن يرجع عليه بشيء، ولو كنت أقول أحد القولين لقلت برد عتقه ويأخذ جميع الثمن، ولكني لست أرى ذلك، وأرى عتقه قطعا لعهدة السنة.
قال محمد بن رشد: معنى قول مالك الذي حكاه عنه ابن القاسم من أن العتق يرد ويأخذ المشتري الثمن كله إنما هو إذا لم يكن للعبد مجنونا أو مجذوما ثمن أصلا، وأما إذا كان له ثمن فيرجع على البائع بما بين القيمتين من الثمن ويمضي العتق كما قال ابن كنانة، وإنما يخالف مالك لابن كنانة إذا لم يكن له ثمن أصلا، وإنما وقع الإشكال في قول مالك لوقوعه إثر قول ابن كنانة قبل كماله، وكان من حقه أن يقع إثره بعد كماله على ما وقع أولا متصلا بقوله فجميع ميراثه له.
فالذي يتحصل في هذه المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن عتقه العبد وإيلاده الجارية قطع لعهدة الثلاث ولعهدة السنة ولا يرجع على البائع بشيء وهو قول ابن القاسم في رواية أصبغ عنه.
والثاني: أن عتقه العبد وإيلاده الجارية لا يكون قطعا لعهدة الثلاث ولا لعهدة السنة ويرجع على البائع بقيمة العيب، وهو قول أصبغ وسحنون ههنا، إلا أن يكون لا ثمن له أصلا، فقال ابن كنانة: يرجع المبتاع على البائع بجميع الثمن ويمضي فيه العتق، فإن مات العبد المعتق عن مال أخذ البائع منه الثمن الذي دفع إلى المبتاع وكانت بقيته للمبتاع، وقال مالك: يرد العتق ويأخذ المشتري الثمن كله.
والثالث: أن عتقه العبد وإيلاده الجارية في عهدة الثلاث قطع لعهدة الثلاث ولا رجوع له على البائع بما أصابه فيما بعد العتق، وأن ذلك لا يكون قطعا لعهدة السنة، ويرجع على البائع بما أصابه في السنة بعد العتق من الجنون والجذام والبرص، يقوم صحيحا أو مجنونا أو مجذوما أو مبروصا فيرجع(8/367)
على البائع بقدر ما بين القيمتين من الثمن، وهو قول سحنون في نوازله من هذا الكتاب في بعض الروايات، فإن لم يكن له ثمن أصلا فعلى ما تقدم من قول مالك وابن كنانة، وبالله التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[تم كتاب العيوب بحمد الله وحسن عونه](8/368)
[كتاب المرابحة]
[نصراني ابتاع لرجل سلعة ثم احتاج إلى بيعها مرابحة]
كتاب المرابحة(8/369)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم كتاب المرابحة من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك في نصراني ابتاع لرجل سلعة ثم احتاج إلى بيعها مرابحة أن عليه أن يبين لمن ابتاعها منه أن نصرانيا ابتاعها له وغاب على أمرها، قال سحنون وعيسى: لا يحل لمسلم أن يوكل نصرانيا يشتري له سلعة ولا يبيعها، وقال مالك: ولا أحب لمسلم أن يبيع سلعة مرابحة اشتراها له مسلم حتى يبين أن غيره اشتراها له.
قال محمد بن رشد: أما إذا ابتاع النصراني للمسلم سلعة وغاب على أمرها [فلا ينبغي له أن يبيعها مرابحة ولا مساومة حتى يبين أن نصرانيا ابتاعها له وغاب على أمرها] لأنه إذا لم يحل للمسلم أن يوكل نصرانيا يشتري له سلعة ولا يبيعها له كما قال سحنون وعيسى وعلى ما في المدونة وغيرها، لقول الله عز وجل: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] فمن حجة(8/371)
المشتري أن يقول: لا أريد سلعة ابتاعها نصراني فلعله قد اشتراها شراء حراما أربى فيه وأنا لا أستبيح مثل هذا فيكون ذلك له؛ لأن أهل الورع من الناس يجتنبون مثل هذا ويتقونه، ولا يقام من قول مالك إن عليه أن يبين إذا احتاج إلى بيعها مرابحة دليل على أنه ليس عليه أن بين إذا باعها مساومة ويجعل جوابه على أنه خرج على سؤال سائل سأله عن بيع المرابحة فأجاب عليه، ولو سئل عن بيع المساومة لقال أيضا: عليه أن يبين والله أعلم، إلا أن ذلك عليه في بيع المرابحة آكد على قوله: إن عليه أن يبين فيها إذا ابتاعها له مسلم أنه لم يل هو شراءها؛ لأن من حجة المشتري على هذا القول أن يقول له: إنما اشتريتها منك مرابحة بما ذكرت من الثمن لعلمي ببصرك في الشراء، وأنك لا تخدع فيه، ولو علمت أنها ليست من شرائك لما اشتريتها منك، وقد استخف ذلك في رواية أشهب عنه في هذا الكتاب وفي كتاب البضائع والوكالات فلم ير عليه أن يبين أن غيره اشتراها له [إذا اشتراها له] مسلم، وقال: أرأيت كل من ابتاع شيئا أهو الذي يشتريه لنفسه؟ فلم يجعل على هذه الرواية شراء المشتري مرابحة على أن البائع هو الذي ولي شراء ذلك حتى يشترطه، فإن باع مرابحة أو مساومة ما ابتاعه له نصراني وغاب عليه ولم يبين ذلك أو باع مرابحة ما ابتاعه له مسلم ولم يبين على القول بأن عليه أن يبين، وهو قوله في هذه الرواية، كان المشتري مخيرا ما كانت السلعة قائمة بين أن يمسك أو يرد، فإن فاتت بوجه من وجوه الفوات الذي يفوت به البيع الفاسد رد فيها إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن، وهو حكم الغش في البيوع، وبالله التوفيق.
[يشتري المتاع فتحول السوق فيريد أن يبيع مرابحة]
ومن كتاب حلف ألا يبيع سلعة سماها وسئل مالك: عن الرجل يشتري المتاع فتحول السوق فيريد أن يبيع مرابحة، قال: لا يعجبني ذلك إلا أن يتقارب ذلك، يريد من اختلاف الأسواق، قيل له: أفيبيع مساومة؟ قال: أما إن تطاول(8/372)
ذلك من شأن شراء المتاع فلا أرى ذلك؛ لأن الرجل قد يأتي في الزمان قد رخص فيه المتاع وقد طال شراؤه وحال عن حاله فيساومه فيظن أنه من شراء ذلك اليوم فلا يعجبني في المساومة ولا في المرابحة إذا كان على ما وصفت لك إلا أن يبين ذلك.
قال محمد بن رشد: تحصيل هذا أنه إن كان طال مكث المتاع عنده فلا يبيع مرابحة ولا مساومة حتى يبين، وإن لم تحل أسواقه؛ لأن التجارة في الطري أرغب وهم عليه أحرص من أجل أنه إذا طال مكثه لبث وحال عن حاله وتغير، وقد يتشاءمون بها لثقل خروجها، هذا وجه ما ذهب إليه من المدونة، وكرهه ههنا مخافة نقصان قيمتها بتغيرها وحوالة أسواقها؛ لأن البائع إنما يسامح في البيع على قدر رخص السلع عنده، فلو علم المبتاع أن سلعة غالية من شراء غير ذلك الوقت لما اشترى منه شيئا مرابحة ولا مساومة، وهذا بين إن كانت الأسواق حالت بنقصان، وأما كانت حالت بزيادة فلعل زيادة أسواقها لا تفي بتغيرها بطول مقامها، وإن وفت بذلك أو زادت عليه فمنع منه بكل حال للذريعة.
وأما إن كان لم يطل مكث المتاع عنده فإنما عليه أن يبين في بيع المرابحة إن كانت الأسواق قد حالت بنقصان، وليس عليه أن يبين فيها إن كانت الأسواق حالت بزيادة ولا في بيع المساومة أصلا، فإن باع مرابحة أو مساومة وقد طال مكث المتاع عنده ولم يبين فهو بيع غش وخديعة يكون المبتاع مخيرا في قيام السلعة بين الرد والإمساك، فإن فاتت رد فيها إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن، وإن باع مرابحة وقد حالت الأسواق بنقصان ففي ذلك قولان؛ أحدهما: أنه يخير في القيام بين الرد والإمساك، ويرد في الفوات إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن على حكم الخديعة والغش في البيع، وهو مذهب ابن القاسم، والثاني: أنه يحكم له بحكم من باع وزاد في الثمن وكذب فيه، وتكون القيمة في ذلك يوم البيع كالثمن الصحيح في بيع الكذب، فتكون فيه القيمة إذا فات يوم القبض، إلا أن يكون أقل من قيمتها يوم البيع فلا ينقص من ذلك، أو أكثر من الثمن الذي باع به فلا يزاد عليه، وهو مذهب سحنون.(8/373)
وفي ذلك من قوله نظر، والقياس فيه إذا حكم له بحكم الكذب أن تقوم السلعة يوم اشتراها البائع وتقوم يوم باعها هذا البائع وينظر ما بين القيمتين فيهما من أكثر القيمتين ويحط ذلك الجزء من الثمن، فما بقي بعد ذلك كان هو الثمن الصحيح، فإن كانت السلعة قائمة كان المبتاع بالخيار بين الرد والإمساك، إلا أن يشاء البائع أن يلزمها إياه بما قلنا فيه إنه هو الثمن الصحيح، وإن كانت قد فاتت وأبى البائع أن يردها إلى الثمن الصحيح كانت فيه القيمة إلا أن تكون القيمة أكثر من الثمن الذي باع به فلا يزاد البائع عليه، أو تكون أقل من الثمن الصحيح فلا ينقص المبتاع منه شيئا، وبالله التوفيق.
[يقدم بالمبتاع فيعطي القوم البرنامج فيقول هذا برنامجي ولا أبيعكم مرابحة]
ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما مال وسئل [مالك] عن الرجل يقدم بالمبتاع فيعطي القوم البرنامج فيقول هذا برنامجي ولا أبيعكم مرابحة، قال مالك: لا أحب أن يعطيهم البرنامج إذا كان شأنه ألا يبيعهم مرابحة لأنه يدخل في ذلك الخديعة.
قال محمد بن رشد: الخديعة التي خشي في ذلك هي أنهم يقتدون ببرنامجه فيبلغونه بسببه من الثمن ما لم يكونوا يبلغوه إياه لولاه، ولعل متاعه لا يبلغ تلك القيمة وإنما يفعل ذلك إذا خشي ألا يساوي ما اشتراه به، ولعله أيضا لما عزم أن يبيع مساومة ولا يبيع مرابحة لم يتثبت فيما كتب في برنامجه فزاد أو نقص، فيكون بمنزلة من رقم على ثيابه أكثر من شرائها وباع مساومة، وذلك من الغش والخديعة، فإن أعطاهم البرنامج وباعهم مساومة كان ذلك من البيع المكروه، ولم يجب فيه فسخ ولا خيار، إلا أن يكون البرنامج كتبه على غير صحة فيكون حكم البيع حكم بيع الخديعة والغش، وقد وصفناه في الرسم الذي قبل هذا، وبالله التوفيق.(8/374)
[يشتري الثوبين جميعا بثمن في صفقة واحدة]
ومن سماع أشهب وابن نافع من كتاب البيوع قال سحنون: قال ابن نافع وأشهب: سئل مالك عن الرجل يشتري الثوبين جميعا بثمن في صفقة واحدة، أيجوز أن يبيع أحدهما مرابحة؟ قال: نعم إذا بين ذلك للمبتاع، أرأيت الذي يبتاع العدل كما هو أليس يبيعه ثوبا ثوبا، أيبيعه جميعا؟ فقال: لا بأس به أن يبيعه مرابحة إذا بين ذلك للمبتاع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه يجوز أن يبيع أحدهما مرابحة إذا بين ولا يكون للمبتاع في ذلك خيار إلا أن يتبين أنه وضع على أحدهما من الثمن أكثر مما ينوبه منه وباعه على ذلك، فيكون حكمه حكم الكذب في بيع المرابحة في القيام والفوات، ويكون ما نابه من الثمن على صحة هو الثمن الصحيح الذي إذا أراد البائع أن يلزم المبتاع البيع به لزمه ولم يكن له خيار، والذي لا ينقص للمبتاع منه في الفوات إن كانت القيمة أقل، وأما إن لم يبين فيكون الحكم فيه حكم البيع بالغش والخديعة على مذهب ابن القاسم، وحكم الكذب في زيادة الثمن على مذهب سحنون، وتكون قيمته يوم اشتراه البائع هو الثمن الصحيح؛ لأن الجملة قد يزاد فيها، وإن وضع على أحد الثوبين أكثر مما ينوبه من الثمن وباع مرابحة ولم يبين شيئا من ذلك فيجتمع في البيع على هذا الوجه عند ابن القاسم غش وكذب، فإن كانت السلعة قائمة كان مخيرا بين الرد والإمساك، ولم يكن للبائع أن يلزمه إياها بأن يحط عنه الكذب؛ لأنه يحتج عليه بالغش، وإن فاتت طالب المبتاع البائع بحكم الغش؛ لأنه أفضل له من المطالبة بحكم الكذب، فترد له السلعة إلى قيمتها إن كانت القيمة أقل من الثمن، وبالله التوفيق.(8/375)
[مسألة: يبضع بالبضاعة يشتري له بها ثم يريد أن يبيع مرابحة]
مسألة وسئل [مالك] عن الرجل يبضع بالبضاعة يشتري له بها ثم يريد أن يبيع مرابحة، أعليه أن يبين ذلك إذا باع مرابحة؟ فقال: أرأيت كل من ابتاع شيئا أهو الذي يشتري لنفسه؟ لا أرى ذلك عليه إذا كان أمرا صحيحا لا دخل فيه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[اشترى سلعة مرابحة للعشرة أحد عشر وكان أصل اشتراء السلعة مائة دينار]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب استأذن سيده [في تدبير جاريته] قال عيسى: سألت ابن القاسم عن رجل اشترى سلعة] مرابحة للعشرة أحد عشر، وكان أصل اشتراء] السلعة مائة دينار فصارت مائة وعشرة، فالربح للعشرة أحد عشر، ثم إن بائعها مرابحة استوضع صاحبه فوضع عنه عشرة دنانير، قال: إن شاء بائعها رد عليه العشرة التي وضعت له وثبت البيع؛ لأن السلعة قد صارت بتسعة وتسعين حين وضع عنه عشرة صار رأس ماله تسعين والربح تسعة، للعشرة أحد عشر، فإن أبى أن يرد عليه أحد عشر، وقال: لا أرد عليه شيئا ولو كنت أعلم أن صاحبي يضع عني عشرة لم أرض أن أبيعها للعشرة أحد عشر، قيل للمشتري: إن شئت(8/376)
فأمسك ولا شيء لك، وإن شئت فرد السلعة وخذ رأس مالك دنانيرك، قلت: فإن كانت السلعة فاتت من يد المشتري؟ قال: يقال للبائع: رد الأحد عشر التي وضعت لك، فإن أبى وقال: لا أفعل ولم أكن أرضى أن أبيع سلعتي للعشرة أحد عشر لو علمت أن عشرة توضع عني، قيل له: فلا بد إذا من القيمة فتقوم السلعة، فإن كانت قيمتها عشرة ومائة فلا شيء له، وان كانت قيمتها خمسة ومائة رد عليه خمسة، وإن كانت قيمتها مائة رد عليه عشرة، وإن كانت قيمتها تسعة وتسعين رد عليه أحد عشر، وإن كانت قيمتها أدنى من تسعة وتسعين ما كان ليرد عليه إلا أحد عشر؛ لأنه قد رضي أولا أن يأخذها للعشرة أحد عشر، وهو لو رد عليه في أول أحد عشر لزمه البيع ولم يكن عليه غيرها.
قال محمد بن رشد: قوله: إن وضع البائع عن [المبتاع] عشرة وما ينوبها من الربح لزمت المشتري، وإن أبى كان له أن يردها، وكذلك إن فاتت فأبى أن يضع عنه العشرة التي وضعت له وما ينوبها من الربح، وإلا كانت فيه القيمة إلا أن تكون أقل من تسعة وتسعين فلا ينقص المبتاع أكثر من أحد عشر، أو تكون أكثر من مائة وعشرة فلا يزاد، خلاف ظاهر ما في المدونة، لا يلزم البائع على ظاهر ما في المدونة أن يضع عن المبتاع إلا ما وضع عنه خاصة، وهو عشرة، فإن فعل لزم المبتاع البيع، فإن أبى كان له الرد، وإن فاتت وأبى البائع أن يضع عنه العشرة كانت فيها القيمة ما بين مائة وعشرة ومائة، ولا يزاد البائع على عشرة ومائة إن كانت القيمة أكثر، ولا ينقص المبتاع من مائة إن كانت القيمة أقل، وقد حكى ابن المواز القولين جميعا عن ابن القاسم واختار ما في المدونة، وقال: إن القول الآخر إغراق، وإياه اختار ابن سحنون عن أبيه، واختار ابن حبيب قوله في(8/377)
هذه الرواية، ولم يبين فيها متى تكون القيمة ولا بما تفوت السلعة، ومذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أنها تفوت بما يفوت به البيع الفاسد من حوالة الأسواق فما فوقه، وتكون فيها القيمة يوم القبض.
وقوله في رواية علي بن زياد عن مالك فيها: إنها تفوت بالنماء والنقصان، وتكون القيمة فيها يوم البيع، وهذا إذا كان الذي وضع عن البائع ما يحط مثله في البيوع، وأما إن حط عنه ما لا يحط في البيوع مثله فهي هبة له لا يلزمه فيها للمبتاع شيء، قاله في المدونة، ولا اختلاف في ذلك، وبالله التوفيق.
[اشترى جرار سمن أو زيت موازنة فوزنت له ثم أراد أن يبيعها مرابحة]
ومن كتاب العتق قال عيسى: سمعت ابن القاسم يقول: اشترى جرار سمن أو زيت موازنة فوزنت له ثم أراد أن يبيعها مرابحة أو غيرها قبل أن تفرغ وتوزن ظروفها فذلك حلال لا بأس به؛ لأن ضمانها منه، ولأنه قد قبضها ووزنها وزن قبض ليس في هذا شك، فإن انكسر منها ظرف فضمان ما فيه منه، إلا إن وزن الظروف بوزن فخارها فيطرح ذلك منه فلا بأس أن يبيعها مرابحة أو غيرها، وهي على الوزن في ذلك كله إن باعها يزنها للمشتري منه أيضا ذلك عليه إلا أن يكون بيعه على أن يأخذها بوزنها الأول ويصدقه في ذلك، وقال أصبغ عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: قوله: اشترى جرار سمن أو زيت موازنة معناه أنه اشترى سمن الجرار [كل رطل بكذا، فهذا جائز مثل شراء الصبرة على الكيل كل قفيز بكذا، فإن شاء إذا اشترى سمن جرار] على هذا أن(8/378)
يفرغ السمن ويزنه، وإن شاء أن يزنه بجراره ثم يزن الجرار فيطرح وزنها من وزن الجميع فيعلم بذلك وزن السمن كل ذلك جائز، وهو مثل ما في كتاب الغرر من المدونة.
وقوله: إنه إن وزن السمن بجراره على أن يزن الجرار فيطرح وزنها من وزن الجميع جاز أن يبيعه مرابحة أو غير مرابحة قبل أن يزن الظروف، يريد ولا يكون ذلك بيعا له قبل استيفائه؛ لأنه قد استوفاه بوزنه بظروفه وصار ضمانه منه.
وقوله: إن ضمانه منه وإن لم يعلم وزنه حتى توزن الظروف بعد ذلك يأتي على ما في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع في الذي باع عشرة فدادين من قمح زمن زرعه وواجبه، فذهب إلى غد ليقيسه له فأصيب الزرع بنار فاحترق أن المصيبة منهما، وعلى ما روى ابن أبي أويس عن مالك في الذي يبتاع الزرع وقد استحصد مزارعة وهو قائم كذا وكذا ذراعا بدينار، وإنما يذارعه بعد أن يحصده، ثم يخلي بينه وبينه فتصيبه جائحة قبل أن يحصده أن المصيبة من المشتري، قال: وكذلك روايا الزيت يبتاعها الرجل وزنا فيفرغها حتى يزن الظرف بعد ذلك فيطرح وزنها من وزن الزيت بظروفه، وهو خلاف ما في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع في الذي يشتري الحائط على عدد نخل تعدله أو الدار على أدرع مسماة تدرع له أن ضمانها من البائع، وقعت هذه المسألة على نصها من هذا الرسم بعينها من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، وزاد فيها قال أصبغ: ويحلفان جميعا.
ومعنى قوله: إنه يحلف المشتري الأول والمشتري من المشتري إذا انكسرت الظروف عنده أن الظروف ظروف البائع إذا أنكرها، وقال: إنها ظروفه على ما في المدونة أنهما إن اختلفا في الظروف أن القول قول من كانت الظروف عنده، وإذا لم يفت السمن أعيد وزنه على المشتري إن كانت الظروف عند البائع، وعلى البائع إن كانت الظروف عند المشتري؛ لأن من كانت عنده الظروف منهما يقول: أنا مصدق أن هذه هي الظروف، فإن كنت تقول أنت إني ابتدلتها فأعد وزن السمن،(8/379)
فإن أعاد وزنه ثم انكشف أن الآخر كان أبدل الظروف رجع عليه بإجارة إعادة وزنه إن احتاج في ذلك إلى استئجار؛ لأنه أوجب عليه ببدل الظروف ما لم يكن واجبا عليه.
وقوله: إنها على الوزن في ذلك كله صحيح؛ لأن من اشترى طعاما فاكتاله أو وزنه فباعه فعليه أن يكيله على المشتري أو يزنه، إلا أن يصدقه في كيله أو وزنه، فيجوز ذلك إن باعه بالنقد ولم يبعه بالدين، قاله في كتاب بيوع الآجال من المدونة. فإن أراد أن يرجع إلى الكيل بعد أن اشتراه على التصديق لم يكن ذلك له، واختلف إن اشتراه على التصديق هل يبيعه على التصديق أو على الكيل؟ حكى الاختلاف في ذلك ابن حبيب، وقد مضى القول على ذلك في هذا الرسم من كتاب جامع البيوع بما يغني عن إعادته، ولو اشترى السمن أو الزيت وظروفه معه في الوزن جاز ذلك في الزقاق ولم يجز في الجرار؛ لأنها قد تختلف في الرقة والخشانة اختلافا متباينا، قاله في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.
[ما يشترى من جميع الأشياء مما لا يوزن أو يكال فيباع بعضه مرابحة]
ومن كتاب حبل حبلة قال ابن القاسم: ما اشتريت من جميع الأشياء مما لا يوزن أو يكال فبعت بعضه فلا تبع ما بقي منه ولا جزءا مما بقي منه مرابحة حتى تبين أنك قد بعت منه، فإن لم تفعل وبعت مرابحة وكتمت للمشتري أنك قد بعت منه كان بيعا مردودا يرده إن أحب، وإن فات كانت فيه القيمة، وما اشتريت من جميع الأشياء مما يكال أو يوزن من الطعام أو غيره كيلا أو وزنا فبعت بعضه فلا(8/380)
بأس أن تبيع ما بقي مرابحة ولا تبين أنك قد بعت منه شيئا وليس عليك أن تبين.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه إذا اشترى ما لا يكال ولا يوزن فباع بعضه إنه لا يجوز له أن يبيع الباقي مرابحة حتى يبين صحيح؛ لأنه في معنى من اشترى سلعتين في صفقة واحدة، أنه لا يجوز له أن يبيع إحداهما بما ينويها من الثمن إلا أن بين، وقد مضى [ذلك] في سماع أشهب فلا معنى لإعادة القول فيه، وأما قوله: إن من اشترى ما يكال أو يوزن فباع بعضه إنه لا بأس أن يبيع ما بقي مرابحة ولا يبين، فهو مثل ما في المدونة، وعلى ما ذهب إليه ابن عبدوس من أن الجملة قد يزاد فيها لا يجوز بيع الباقي أيضا إلا أن يبين، وبالله التوفيق.
[يستولي الرجل السلعة فيقول قد وليتك على دينارين فيعطيه دينارين ويأخذ السلعة]
ومن كتاب باع شاة وسألته: عن الرجل يستولي الرجل السلعة فيقول: قد وليتك فيقول كم رأس مالك؟ فيقول ديناران فيعطيه دينارين ويأخذ السلعة، ثم يعثر عليه أنه ما أخذها إلا بدينار وقد فاتت السلعة أو لم تفت، أو قال له: قد وليتكها بدينارين، أذلك كله سواء، افترق الكلام فيه أو لم يفترق؟ أو الرجل يبيع مرابحة فيزيد في رأس ماله أو يقول: أبيعك كما بعت فلانا فيبيعه على ذلك فيجده قد كذب وقد فاتت السلعة أو لم تفت؟ قال ابن القاسم: إن لم تفت السلعة فهو بالخيار إن شاء حبسها بالدينارين وإن شاء ردها وإن فاتت نظر إلى قيمتها، فإن كانت قيمتها أدنى من دينارين(8/381)
رد عليه ما بين قيمتها والدينارين، وإن كانت قيمتها دينارين فأكثر فلا شيء عليه، وسواء قال: وليتك ثم سأله بعد ذلك عن رأس ماله فأخبره أو قال له: قد وليتك بدينارين في كلمة واحدة، والكذب وبيع المرابحة كله سواء مثل هذا من أجل أنه لو قال: قد وليتك وقد وجبت عليك لم يحل ولم تلزمه التولية حتى يخبره برأس ماله ويرضى، فإنما كان البيع والوجوب حين أخبره برأس ماله، فسواء عليه قدم القول أو آخر.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، لا فرق بين أن يبيع السلعة مرابحة على أكثر من شرائها، أو يوليها على أكثر من شرائها، أو يقول: أبيعك كما بعت فلانا فيبيعه بأكثر من ذلك، إن الحكم في ذلك كله حكم من زاد في الثمن في بيع المرابحة بخطإ أو عمد، إن كانت السلعة قائمة كان المشتري بالخيار بين أن يرد أو يمسك إلا أن يحط عنه البائع الكذب وما ينوبه من الربح في المرابحة، أو ما زاد على الثمن في التولية، أو ما زاد على ما كان باع به من فلان، فيلزمه البيع؛ فإن فاتت أو أبى أن يحط ذلك كانت فيها القيمة ما بين الأمرين، لا يزاد البائع على ما باع ولا ينقص المبتاع من الثمن الصحيح، وبالله التوفيق.
[اشترى طعاما بعينه غائبا عنه غيبة قريبة]
من سماع يحيى بن يحيى [من ابن القاسم] ، من كتاب الصلاة قال يحيى: قال ابن القاسم: لا يجوز للرجل إذا اشترى طعاما بعينه غائبا عنه غيبة قريبة أن يولي منه آخر، وإنما تجوز التولية في الطعام الحاضر يراه المولي أو من تسليف مضمون إلى(8/382)
أجل. قلت له: أرأيت إن كان المتولي قد رأى الطعام الغائب كما رآه المشتري المولي أو وصف له كما وصف للمشتري، أذلك عندك في الكراهة مثل الذي لم يره ولم يوصف له إلا أنه يتولاه من المشتري على معرفة المشتري به؟ قال: ذلك عندنا سواء، لا تجوز التولية من الطعام الغائب.
قال محمد بن رشد: إنما لم تجز التولية في الطعام الغائب المشترى في الصفة لاختلاف الذمم؛ لأن المشتري لم ينقد؛ إذ لا يجوز له النقد لغيبة الطعام؛ لأن معنى قوله غيبة قريبة مما [لا] يجوز النقد فيه.
وكذلك ذكر ابن حبيب في الواضحة أنه لا يجوز التولية إذا كانت غيبة بعيدة لا يصلح فيها النقد، أو يكون إنما تكلم في هذه الرواية على أن النقد لا يجوز في الغائب وإن قربت غيبته، وهذا التأويل أشبه بظاهر الكتاب، ثم لما ولاه رجلا لم ينتقد الثمن، والاختلاف الذي في مسألة من اشترى طعاما بثمن إلى أجل فولاه رجلا قبل استيفائه داخل في هذه المسألة، والله أعلم، وقد وقع في التفسير الأول.
[مسألة: تولية الطعام الغائب الذي اشتري بعينه]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عما كره مالك من تولية الطعام الغائب الذي اشتري بعينه لم كرهه؟ فقال: لأن الدين بالدين يدخله، ألا ترى أنه قد وجب للمشتري وصار أحق به من البائع إن سلم، فهو بمنزلة دين له قد وجب، فإذا ولاه رجلا لم يجز النقد فيه؛ لأنه غائب بعينه، واشتراء الغائب لا يصلح فيه النقد، فإذا صار يبيع غائبا قد وجب له بثمن لا يتعجل قبضه فقد صار(8/383)
بيعهما دينا بدين، قال: وكذلك لو استقال منه يدخله الدين بالدين؛ لأنه قد وضع عن نفسه ثمنا قد وجب عليه بسلعة قد وجبت له غائبة لم يقبضها، فإذا لم يجز له أن يقبل منه ودخله الدين بالدين، فالتولية أحرى أن يدخلها الدين بالدين، وكذلك البيع قال فلا يجوز بين البائع والمشتري في ذلك إقالة ولا بيع في العروض ولا في الطعام لما يدخله من الدين بالدين وبيع الطعام قبل أن يستوفى في الطعام؛ قال: ولا بأس في العروض أن يبيعها المشتري أو يوليها أو يشرك فيها، وإنما يكره ذلك في الطعام لما يدخله من بيع الطعام قبل أن يستوفى.
قال محمد بن رشد: هذا الذي وقع في التفسير متناقض غير صحيح: قال أولا: إن تولية الطعام الغائب المشترى على الصفة يدخله الدين بالدين من أجل أن الطعام قد وجب للمشتري وهو غائب فصار دينا له باعه من الذي ولاه إياه بدين، إذا لم ينتقد من أجل أن النقد لا يجوز فيه؛ لأنه غائب.
ولو كان هذا دينا بدين لكان بيع الرجل سلعته الغائبة دينا بدين، فلم يجز بيع الشيء الغائب الذي لا يجوز النقد فيه بحال، ولو كان دينا بدين لوجب ألا يجوز ذلك في العروض، وقد أجاز ذلك فيها في آخر قوله، وأجاز فيها الشركة والبيع أيضا، قال: وإنما لم يجز ذلك في الطعام لما يدخله من بيع الطعام قبل أن يستوفى، وهذا تناقض بيّن لا خفاء فيه: قال أولا: إنه يدخله الدين بالدين، وقال آخرا: إنه لا يدخله إلا بيع الطعام قبل أن يستوفى، ولا يتصور دخول بيع الطعام قبل أن يستوفى فيها إلا على الوجه الذي ذكرناه من اختلاف الذمم، وقوله: إذا لم تجز الإقالة فأحرى ألا تجوز التولية وَهْمٌ بَيِّن؛ لأن الإقالة يدخلها فسخ الدين بالدين من أجل أن الثمن قد وجب للبائع على المبتاع إن كانت السلعة سليمة يوم البيع، فإذا أقاله منها فقد قبض البائع فيما وجب له على المبتاع من الثمن سلعة غائبة لم يتنجز قبضها، وهذا بيّن لا إشكال فيه على القول بأن السلعة الغائبة(8/384)
تدخل في ضمان المشتري بالعقد إن كانت سليمة يوم وقوعه، وأما على القول بأنها في ضمان البائع حتى يقبضها المبتاع، فسحنون يجيز الإقالة فيها؛ لأن البائع لم يتحول من الثمن الذي وجب له على المبتاع إلا إلى سلعة هي في ضمانه بعد، فقد تنجز قبضها، وابن القاسم لا يجيز ذلك؛ إذ ليس في ضمانه باتفاق، فهو يراعي في ذلك الاختلاف، والتولية لا يدخلها شيء من ذلك؛ لأنها إنما هي بيع من غير الذي اشترى منه بالثمن الذي اشترى به، فكما يجوز له أن يبيع العرض الغائب من غير الذي اشتراه منه قبل أن يقبضه، فكذلك يجوز له أن يولي الطعام الغائب قبل أن يقبضه إذا انتقد من الذي ولاه مثل ما نقد، فلا وجه لما كره مالك من تولية الطعام الغائب سوى ما ذكرناه، وبالله التوفيق.
[أراد أن يشتري سلعة مرابحة]
من نوازل سئل عنها سحنون وسئل سحنون عن رجل أراد أن يشتري سلعة مرابحة، فقال للبائع: بكم اشتريتها؟ فقال: اشتريتها بستة عشر، ولم يقل: قامت علي، وإنما كان اشتراها بثمانية، وصبغها بثمانية، ثم علم بذلك المشتري، فقال: إن كانت السلعة لم تفت، فإن المشتري بالخيار أن يأخذها ويضرب له الربح على ستة عشر فيها وبين أن يردها، فإن كانت قد فاتت فلا بد من أن يضرب له الربح على ستة عشر درهما.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة لم يجر فيها سحنون على أصل؛ لأنه إذا أوجب عليه أن يبين ذلك ورآه إن لم يفعل غاشا من أجل أن السلعة قد تشترى مقامة تامة بما لا تقام به، فأوجب للمبتاع الخيار بين الرد والإمساك في القيام، وجب على قياس ذلك إذا فاتت السلعة أن(8/385)
يرد المبتاع فيها إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن. وفي قوله: ولم يقل: قامت علي؛ دليل على أنه لو قال قامت علي لم يكن للمشتري حجة وعمل فيه على ما يجب من ألا يحسب رأسا أو يحسب ولا يحسب له ربح، أو يحسب ويحسب له ربح على ما في كتاب ابن المواز، والصواب أن العقد يكون فاسدا إذا أبهم ولم يبين، وبالله التوفيق.
[اشترى بدينار قائم قمحا فلما وجب البيع لم يجد إلا دينارا ناقصا]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب الوصايا والأقضية قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: وسئل مالك عن رجل اشترى بدينار قائم قمحا، فلما وجب البيع لم يجد إلا دينارا ناقصا، فأراد أن يضع بقدر النقصان، ويأخذ منه دينارا ناقصا، فكره ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت في مواضع من كتاب الصرف، قال فيها في رسم القبلة، من سماع ابن القاسم: لا ينبغي ذلك، وقال في رسم المحرم منه: لا خير في ذلك، وقال في رسم إن خرجت، من سماع عيسى: هذا حرام لا خير فيه، وقال هاهنا: أكره ذلك، والمكروه فيها بين، وقد يتجوز في العبارة فيعبر عما لا يجوز، والتحريم فيه بين بالكراهة. وقال ابن حبيب: إنه يدخل ذلك أربعة أوجه: التفاضل بين الذهبين، والتفاضل بين الطعامين، وبيع الطعام قبل أن يستوفى، والأخذ من ثمن الطعام طعاما، يريد إن كان الطعام قد قبضه المبتاع وافترقا.
وأما إن قبضه ولم يفترقا فلا يدخله الأخذ من ثمن الطعام طعاما، ولا بيع الطعام قبل أن يستوفى. والعلتان الثابتتان إنما هو التفاضل بين الذهبين وبين الطعامين، وأما الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما، والبيع قبل الاستيفاء، فلا(8/386)
يجتمعان؛ لأن الطعام إن كان قبض، فلا يدخله البيع قبل الاستيفاء، وإن كان لم يقبض، فلا يدخله الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما، وإن كان قد قبض ولم يفترقا فلا يدخله واحدة منهما، وقد ذكرنا ذلك كله في رسم القبلة، من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف، بزيادات تتعلق بالمسألة لمن أحب الوقوف عليها، وبالله التوفيق.
[اشترى من عبده جارية هل يبيعها مرابحة]
من سماع أبي زيد بن
أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم في رجل اشترى من عبده جارية، أترى أن يبيعها مرابحة؟ قال: إن كان العبد يعمل بمال نفسه فلا بأس به، وإن كان يعمل بمال سيده، فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: أما إذا كان العبد يعمل بمال سيده، فبين أنه لا يجوز له أن يبيعها مرابحة؛ لأن شراءها منه ليس بشراء، فهو كمن ورث سلعة، ثم باعها مرابحة بثمن سماه فيها، فإن فعل ذلك وكانت السلعة قائمة خُير المشتري بين الرد أو التماسك، وإن فاتت رد فيها إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن؛ لأنه غش وخديعة في البيع، وأما إذا كان العبد يعمل بمال نفسه فقال: إنه لا بأس أن يبيعها مرابحة على أصل المذهب في أن العبد يملك، وفي ذلك نظر؛ لأنه لا يملك ملكا مستقرا، ولسيده انتزاع ماله إذا شاء، فقد لا يبالي السيد بما يشتري منه الجارية من أجل أن له أن ينتزع منه ماله متى شاء، فكان الأظهر أن يكون عليه أن يبين، والله أعلم.
[مسألة: قامت عليه سلعة بعشرة فقال له أربحك فيها دينارا قال لا إلا أن تشرك فلانا]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل قامت عليه سلعة بعشرة(8/387)
دنانير فقال له رجل: أربحك فيها دينارا، قال: لا إلا أن تشرك فلانا يكون معك فيها شريكا، كم يأخذ من هذا؟ قال: يأخذ من كل واحد منهما خمسة ونصفا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه لما شرط عليه أن يشركه قبل البيع فكأنه إنما باع منهما جميعا، فيأخذ من كل واحد منها نصف الثمن.
تم كتاب المرابحة والحمد لله.(8/388)
[كتاب بيع الخيار] [يشتري منه ثوبا ثم يشتري من رجل آخر ثوبا ثم يشترط عليهما](8/389)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم من سماع ابن القاسم من كتاب
الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه قال في الرجل يشتري من الرجل ثوبا، ثم يشتري من رجل آخر ثوبا، ثم يشترط عليهما أن ينظر منهما فينقلب بثوبيهما فيخلطهما، فلا يعرف ثوب هذا من ثوب هذا، وينكر أحدهما أو كلاهما، قال: أرى أن يلزماه بالثمن إلا أن يعرف ثوب كل واحد منهما بعينه، فيحلف ويرده، أو يعرفه غيره.
قال محمد بن رشد: قوله: وينكر أحدهما؛ معناه أن يقول أحدهما: ليس ثوبي واحدا من هذين الثوبين، ويدعي الآخر أحدهما، وقوله: أو كلاهما؛ معناه أن يقول كل واحد منهما: ليس ثوبي واحدا من هذين الثوبين اللذين جئت بهما. فأما إذا أنكر كل واحد منهما أن يكون له واحد من هذين الثوبين، فعليه أجاب بقوله: أرى أن يلزماه بالثمن، يريد بعد أن يحلف كل واحد منهما أن ثوبه ليس واحدا من هذين الثوبين، فإن حلفا أخذ(8/391)
الثوبين وأدى إلى كل واحد منهما الثمن الذي أخذ به ثوبه، وإن نكلا عن اليمين حلف هو أن الثوبين هما اللذان أخذ منها إلا أنه لا يعرف أيهما لهذا، ولا أيهما لهذا، وبرئ لهما من الثوبين، فكانا فيهما شريكين بقدر أثمان ثيابهما، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين، دفع إلى الذي حلف الثمن الذي أخذ به ثوبه، وحلف أن هذين الثوبين هما اللذان أخذ منهما، وقيل للذي نكل عن اليمين: ليس لك إلا أن تأخذ أيهما شئت.
وأما إذا أنكر أحدهما أن يكون ثوبه واحدا من هذين الثوبين، وادعى الآخر أحدهما، فلم يجب في الرواية على ذلك، والجواب في ذلك أن يغرم للذي أنكر الثمن الذي أخذ به ثوبه، ويأخذ الذي ادعى أحد الثوبين الثوب الذي ادعاه، ولا يمين على واحد منهم.
هذا تمام جواب ما وقع عنه في المسألة، وسيأتي في رسم يشتري الدور والمزارع، من سماع يحيى إذا تداعيا جميعا في أحدهما، وأما إن قال كل واحد منهما: لا أدري أيهما ثوبي؛ لأنك خلطتهما، فيحلف كل واحد منهما أنه ما يدري أيهما ثوبه، ويأخذ منه الثمن الذي دفع إليه به ثوبه، وأما إن قال أحدهما: هذا ثوبي لأحدهما، وقال الآخر: لا أدري أيهما ثوبي، أخذ الذي عرف ثوبه ثوبه، وحلف الآخر أنه لا يدري أيهما ثوبه، وأخذ منه الثمن الذي دفعه به إليه، وبالله التوفيق.
[يأتي البزاز في ابتياع ثوب بدينار]
من سماع عيسى بن دينار من كتاب العرية قال عيسى: وسألته عن الذي يأتي البزاز في ابتياع ثوب بدينار، فيخرج إليه ثيابا، فيأخذ ثوبين؛ كلاهما بدينار دينار، فيقول البزاز: اذهب بهما وقد وجب عليك أحدهما، فيذهب بهما فيضيع الثوب الواحد، ويزعم أنه قد كان اختار هذا الباقي ورضيه، أو قال: لم أكن اخترت شيئا. قال: إن قال: قد كنت اخترت هذا الباقي ورضيته، أحلف بالله على ما قال، وسقط عنه ضمان الذاهب؛(8/392)
لأنه كان أمينا.
وإن قال: لم أكن اخترت شيئا؛ فإنه يتهم ولا يقبل قوله، فأرى أن يغرم نصف الثوب الذاهب؛ لأنه لو ذهب الثوبان جميعا، وادعى أنه لم يختر؛ لم يصدق، وكان ضامنا لنصف كل ثوب؛ لأنه كان أمينا في نصف كل ثوب؛ فكل من اشترى على أن يستشير، أو على أنه بالخيار، فغاب عليه، فذهب فهو ضامن، قلت: فلو كان أخذ ثوبين بيعا حراما أحدهما بدينار، والآخر بدينارين، قد وجب عليه أحدهما، فضاع أحد الثوبين، قال: العمل فيهما أيضا كذلك؛ لأن كل من اشترى بيعا حراما فهو ضامن له حتى يرده، إنما يضمن في ذلك أيضا واحدا.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم فيمن أخذ ثوبين على أن يختار أحدهما، قد وجب عليه بثمن سماه، ويرد الآخر أنه ضامن لأحدهما بالثمن الذي سماه إن تلفا جميعا قبل أن يختار أحدهما، وضامن لنصف التالف منهما إن تلف أحدهما قبل أن يختار أيضا، وسواء قامت بينة على ما تلف، أو لم تقم هو مصدق في ذلك؛ لأنه أخذ واحدا منهما على الشراء، والآخر على الأمانة، إلا أن يقر على نفسه أنه كان اختار الذي تلف، وإن أشهد أنه قد اختار أحدهما ثم تلف الآخر بعد ذلك، فلا ضمان عليه فيه.
وقول ابن القاسم في هذه الرواية: إنه مصدق مع يمينه؛ على أنه قد كان اختار هذا الثاني قبل تلف الآخر، هو مثل قوله وروايته عن مالك في الرجل يملك امرأته أمرها؛ فتقول: قضيت فيما ملكتني، ويناكرها ذلك: إن القول قولها خلاف قول أشهب، وقد ذكر في المدونة أنها نزلت فاختلف فيها أهل المدينة، ومن هذا المعنى هو تصديق المأمور فيما أمره به الآمر من إخلاء ذمته، أو تعمير ذمة الآمر، فذهب أشهب إلى أن المأمور لا يصدق في ذلك، وجوابه في مسألة المرأة تدعي أنها قضت فيما ملكت فيه على أصله.
واختلف قول ابن القاسم في ذلك، فجوابه في مسألة المرأة المملكة؛ تدعي(8/393)
القضاء، وفي هذه المسألة على أحد قوليه في هذا الأصل، من ذلك قوله في كتاب السلم الثاني، من المدونة، فيمن له على رجل طعام من سلم، فقال له: كله واجعله في غرائرك، أو في ناحية من بيتك، فقال: قد فعلت وضاع: إنه لا يصدق على أنه قد كاله، حتى يقيم البينة على ذلك؛ وقال فيمن كان له على رجل دين فقال: ابتع لي به حيوانا أو سلعة فقال: قد فعلت وتلف ذلك: إنه مصدق في ذلك، وذلك مثل قوله في مسألة اللؤلؤ، من كتاب الوكالات من المدونة، ومثل قوله في مسألة الرسول، من كتاب الرواحل والدواب، ومثل قوله في مسألة البنيان، من آخر كتاب الدور خلاف قول أشهب فيهما.
وأما قوله: وإن قال: لم أكن اخترت شيئا، فإنه يتهم ولا يقبل قوله، فأرى أن يغرم نصف الثوب الذاهب؛ لأنه لو ذهب الثوبان جميعا وادعى أنه لم يختر لم يصدق، وكان ضامنا لنصف ثوب كل واحد منهما؛ لأنه كان أمينا في نصف كل ثوب، فإنه وهم منه؛ لأنه إنما يضمن الواحد إذا تلفا جميعا، ونصف التالف إن تلف أحدهما على مذهبه، من أجل أنه أخذ الثوب الواحد على الشراء والضمان، والآخر على الأمانة؛ فلا معنى للتهمة في هذا الموضع عنده، وإنما ذهب وهمه إلى مسألة الذي يشتري الثوب من الثوبين، على أن يختار أحدهما، وهو فيه بالخيار يردهما جميعا إن شاء، فهاهنا يضمن بالتهمة، ولا يصدق أن التلف كان بعد أن لم يختر واحدا منهما، وكان على صرفهما، ولو كان الضمان ساقطا عنه فيما تلف قبل أن يختار؛ لوجب أن يصدق في ذلك، وسقط عنه الضمان على قياس قوله في أنه يصدق إذا ادعى أنه قد كان اختار هذا الباقي، فهذا ما لا إشكال فيه.
وسحنون يذهب إلى أن ما تلف في هذه المسألة قبل الاختيار، وقامت على تلفه بينة، فالمصيبة فيه من البائع، بمنزلة الثوب المشترى بالخيار يضيع في أيام الخيار؛ لأنه جعل ذلك، وإن كان قد وجب على المبتاع أحدهما بمنزلة من اشترى شيئا على الكيل، فتلف قبل الكيل، يقوم ذلك من قوله في المدونة؛(8/394)
ومعناه إن تلف الدينار لم يعلم إلا بقوله في مسألة الذي أخذ ثلاثة دنانير ليقتضي واحدا منها، ويرد الاثنين، فتلف أحدهما: إنهما شريكان، وسواء - على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك - علم تلف الدينار ببينة قامت على التلف، أو لم يعلم ذلك إلا بقوله، وبالله التوفيق.
[باع سلعة وادعى البائع أو المبتاع فيها الخيار]
ومن كتاب جاع فباع امرأته وسألته عن رجل باع سلعة، وادعى البائع أو المبتاع فيها الخيار، قال: يلزمهما البيع، وقولهما باطل، وقال أصبغ عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: هكذا وقع في هذه الرواية، وادعى البائع أو المبتاع، وسقط الألف في أصل السماع، وكذلك هي ساقطة في سماع أصبغ، وفي سماع أبي زيد، وثبوتها وهم؛ إذ لا يأتي على ثبوتها الجواب، وذيل أصبغ في سماعه بعد هذا روايته هذه، عن ابن القاسم بكلام فيه إشكال، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في ذلك الموضع إن شاء الله، وبالله التوفيق.
[يأخذ الثوبين من الرجلين ثوب أحدهما بعشرة والآخر بخمسة على أنه فيهما بالخيار]
من سماع يحيى بن يحيى من
ابن القاسم من كتاب يشتري الدور للتجارة قال: وسئل ابن القاسم عن الرجل يأخذ الثوبين من الرجلين؛ ثوب أحدهما بعشرة، والآخر بخمسة، على أنه فيهما(8/395)
بالخيار، فردهما وقد خلطهما، فتداعيا في الأجود، فقال: إن نص لكل واحد منهما ثوبه حلف وبرئ إليه منه، وإن قال: لا أدري أيهما لهذا، ولا أيهما لهذا، غير أن هذا لأحدهما، إنما أخذت ثوب هذا بعشرة، وثوب الآخر بخمسة، نصهما نصا، ولست أدري أي الثوبين ثوب هذا من ثوب هذا، فإنه يقال له: قد ضمنتهما جميعا بخمسة عشر دينارا، فإن شئت فادفع إلى أحدهما أيهما شئت الثوب الرفيع، وأعط الآخر ثمن الثوب الذي أقررت به، فإن أعطى الثوب الرفيع الذي كان يزعم أنه أخذ منه ثوبه بعشرة، دفع إلى الآخر خمسة دنانير وبرئ، فإن أعطى الثوب الرفيع الذي أخذ ثوبه بخمسة احتياطا على نفسه، وخوفا من أن يكون ثوبه، غرم لصاحب الثوب الآخر العشرة التي أقر أنه أخذ ثوبه بها. قال: وإن قال: لا أدري أيهما ثوب هذا، ولا ثوب هذا، ولا أدري أيهما أخذت ثوبه بخمسة، قيل له: اغرم إلى كل واحد منهما عشرة، وشأنك بثوبيك؛ لأنك قد أقررت أنك قد أخذت من أحدهما ثوبا بعشرة، فلما ادعياه جميعا، ولم تنص لأحد منهما ثوبه، فتبرأ بذلك من ضمانه باليمين، ولا أنت نصصت كل واحد منهما في دعواهما حتى يجعل صاحب الخمسة أحدهما، فتبرأ مما ادعى عليك من الفضل مع يمينك، فكلا دعواهما في عشرة عشرةٍ، وأنت غير مكذب لهما؛ إذ لا تنص أيهما ادعى أكثر من حقه فتحلف وتبرأ.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه إذا نص لكل واحد منهما ثوبه، يحلف ويبرأ إليه منه صحيح؛ لأنه مؤتمن لكل واحد منهما، فالقول(8/396)
قوله فيما يقر أنه قبض منه، فإن نكل عن اليمين حلف كل واحد منهما، وأخذ منه ما دفع إليه به ثوبه، وأما إذا تداعيا في الأجود، ولم يعلم المشتري لمن هو منهما، وعلم بما دفع إليه كل واحد منهما ثوبه، فقال: إنه يضمن الثوبين بالثمنين، ويكون له أن يعطي الثوب الأجود لمن شاء منهما، ويعطي الآخر ما أقر أنه دفع إليه به ثوبه بعد يمينه، وإن نكل عن يمينه حلف الآخر وأخذ منه عشرة.
وقال: إنه إذا لم يعلم لمن هو منهما، ولا علم ثوب من كان منهما أكثر ثمنا من ثوب الآخر؛ أنه يضمنهما جميعا، ويعطي لكل واحد منهما أكثر الثمنين، ولم يقل: إن له أن يعطي الثوب الأجود لمن شاء منهما، كما قال في المسألة الأولى، ولا فرق بين المسألتين.
له أيضا إن شاء أن يعطي الثوب الجيد لمن شاء منهما، ويعطي الآخر الأكثر من الثمنين، ولا حجة لواحد منهما في ذلك عليه؛ لأن كل واحد منهما يدعي أن الثوب الجيد ثوبه، فإذا أعطاه إياه لزمه، وإن أعطى الآخر أكثر الثمنين لزمه أيضا، ولم يكن له كلام.
ولابن كنانة في المدنية أنهما إذا تداعيا في أحدهما، وجهل لمن هو منهما، يحلفان جميعا على الثوب الذي تداعيا فيه، ويقتسمانه فيما بينهما، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر؛ كان الثوب لمن حلف منهما، وقد برياه من الثوب الآخر، فليذهب به حتى يطلب على وجهه.
وسحنون في نوازله من كتاب القراض، في الذي يأخذ من الرجلين مالا قراضا، ويشتري بمال كل واحد منهما سلعة في إحداهما ربح، وفي الثانية وضيعة، فتداعى صاحبا المال في السلعة التي فيها الربح، وجهل هو بمال من اشتراها منهما، أنه لا ضمان عليه لهما، وتكون السلعة التي تداعيا فيها بينهما بعد أيمانهما، وذلك نحو قول ابن كنانة، وقول ابن القاسم في سماع أبي زيد، من الكتاب المذكور: إنهما إن شاءا أن يضمّناه أموالهما، ويتركا له السلعتين؛ فعلا، وإن شاءا أن يأخذا السلعتين جميعا، ويعطي كل(8/397)
واحد منهما رأس ماله، ويعطي المقارض ربحه، وهذا على أصله في هذه المسألة، وسنتكلم على مسألتي القراض المذكور في موضعهما إن أعاننا الله على الوصول إليهما برحمته وفسحته في الأجل، وهو الموفق.
[يشتري الغنم وفيها شاة بها علة فيقول المشتري أنا بالخيار في هذه العليلة عشرة أيام]
ومن كتاب المكاتب قال يحيى: وسئل ابن القاسم عن الرجل يشتري الغنم، وفيها شاة بها علة، فيقول المشتري: أنا بالخيار في هذه العليلة عشرة أيام، فإن صحت فهي لي، وإن لم تصح رددتها بما يصيبها من الثمن، فقال: هذا بيع غير جائز؛ فقلت له: ولم؟ قال: لأنه لو اشترى شاة واحدة عليلة على أنها له إن صحت إلى عشرة أيام، وإن لم تصح ردها لكان بيعا مفسوخا غير جائز. قيل له: فإنها غير عليلة، إلا أنه استثنى الخيار في شاة منها أياما، فقال: وهذا أيضا غير جائز. قلت: ولم كرهت هذا؟ قال: لأنه لو اشترى شاة، إن حبسها تم البيع بجميع الثمن الذي اشتريت به الغنم كلها، وإن ردها بالقيمة، والقيمة لا تعرف حتى تقوم الشاة والغنم، فكأنه لا يدري إن رد الشاة بكم تبقى عليه الغنم الباقية، فهي أحيانا بجميع الثمن، وأحيانا بثمن لا يدري كم هو.
قال محمد بن رشد: قد بين ابن القاسم وجه فساد البيع عنده بما لا مزيد عليه من أن المبتاع لا يدري بكم تبقى عليه الغنم بعد رد الشاة العليلة بما يصيبها من الثمن إن ردت، وبأن الشاة العليلة لا يجوز شراؤها(8/398)
على أنها إن صحت إلى عشرة أيام لزمه البيع فيها، ولا على أنه فيها بالخيار عشرة أيام، وإن كانت صحيحة، يريد من أجل أن الخيار في الشاة لا يجوز إلى هذا الأمد، وأحسب أن أبا إسحاق التونسي ذهب إلى أنه بيع جائز على القول بأن جمع الرجلين سلعتيهما في البيع جائز؛ لأن جملة الثمن معلوم، وما ينوب كل واحد منهما مجهول، وكذلك هذه المسألة، جملة الثمن فيها معلوم، وما ينوب باقي الغنم إن ردت الشاة مجهول، وليس ذلك عندي بصحيح؛ لأن الفساد فيها من وجهين؛ أحدهما: الجهل بما تبقى به الغنم عليه من الثمن إن ردت الشاة، والثاني: هو شراؤه هذه الشاة العليلة على أنها إن صحت إلى عشرة أيام لزمه البيع فيها، وهذا لا اختلاف في أنه لا يجوز، وإذا جمعت الصفقة الواحدة ما يجوز وما لا يجوز لم تجز، فكيف إذا جمعت ما لا يجوز، وما يختلف في جوازه؟ وإنما كان يجوز هذا البيع على ذلك المذهب لو اشترى الغنم على أنه بالخيار في شاة منها اليوم واليومين، بين أن يأخذها أو يردها بما ينوبها من الثمن، أو على أن البائع يأخذ منها شاة بما ينوبها من الثمن، وبالله التوفيق.
[اشترى الرجل السلعة في الحيوان أو غيره على أنه بالخيار إلى أربعة أشهر وقبضها]
من سماع سحنون من ابن القاسم قال سحنون: وقال ابن القاسم: إذا اشترى الرجل السلعة في الحيوان أو غيره على أنه بالخيار إلى أربعة أشهر وقبضها، واشترط عليه النقد أو لم يشترط عليه فيها نقدا، فماتت بعد، فمصيبها من البائع؛ لأنه وإن كان فاسدا، فإن البيع لم يكن تم فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن البيع الفاسد إنما يدخل في ضمان المشتري بالقبض إذا لم يكن فيه خيار، والضمان من البائع في بيع الخيار إذا كان صحيحا، فكيف إن كان فاسدا، وبالله التوفيق.(8/399)
[يشتري قرية يشترط البائع الخيار للمشتري ثلاث سنين أو أربعا]
ومن كتاب نوازل سئل عنها سحنون وعن الرجل يشتري قرية أو دارا، يشترط البائع الخيار للمشتري ثلاث سنين أو أربعا مما لا يجوز فيه الخيار من طول الوقت، فبنى المشتري وغير ببناء، أو غرس في هذه السنين التي جعلا فيها الخيار، هل يكون في ذلك فوت؟ فقال: إذا كان الخيار للبائع على المشتري، فلا يكون ما بنى في الخيار فوتا ولا ما هدم، والبائع يرتجعها، والبيع فيها منقوض. قيل له: فهل يرجع عليه المشتري بقيمة ما بنى؟ فقال: لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه فعل ما لا يجوز له؛ لأنه لم يكن له ليبني فيها حتى يمضي أمد الخيار الذي جعلاه بينهما، ولا يأخذه إلا منقوضا.
قيل له: فإن بنى بعدما خرج أمد الثلاث التي جعلا إليها الخيار؟ قال: يكون هذا الذي بنى فوتا، ويرجعان جميعا إلى القيمة يوم خرج وقت الخيار، وقال: وكذلك إن اشترى جارية بالخيار أياما، يجوز له، واشترط النقد ثم لم يعلم بمكروه ذلك حتى خرجت أيام الخيار، وحتى فاتت الجارية بنماء أو نقصان، إنما يرجعان إلى قيمتها يوم خرجت أيام الخيار؛ لأنه كان له حينئذ صار ضامنا، وكذلك تكون المصيبة من البائع حتى تمضي أيام الخيار؛ لأنه أدخل في الخيار شرطا يفسد البيع باشتراط النقد.
قال محمد بن رشد: هذا كله صحيح بين على ما قال في المدونة وغيرها: إن الخيار إذا كان للبائع والبيع فاسد إما بشرط النقد فيه، وإما بأن(8/400)
يكون أمده بعيدا، لا يجوز الخيار إليه، أو بما سوى ذلك مما يفسد البيع، فلا يكون ما أحدثه المشتري في أيام الخيار فوتا في البيع الفاسد، كما لا يكون إذا لم يكن في البيع فساد اختيارا منه للبيع، ولا يكون له فيما بنى إلا قيمته منقوضا؛ لأنه متعد بالبناء فيما لا خيار له فيه، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» ، وإنما يكون ذلك تفويتا له إذا فعله بعد انقضاء أيام الخيار، وتكون القيمة فيه يوم انقضت أيام الخيار؛ لأن بيع الخيار إنما يتم حين يمضي لا حين يعقد، وبالله التوفيق.
[مسألة: باع من رجل جارية فلم يقبض منه الثمن وخرج في سفر]
مسألة وسئل عن رجل باع من رجل جارية، فلم يقبض منه الثمن، وخرج في سفر، وقد كان المشتري بالخيار ثلاثا، فمرضت الجارية فلم يأت السلطان، ولم يشهد أنه لا يريد أخذ الجارية حتى ماتت بعد عشرة أيام، قال ابن القاسم: إذا قبض المشتري الجارية والخيار له، ثم أقامت في يديه بعد وقت الخيار، ولم يشهد على القبول ولا الرد؛ أن كونها في يديه رضا منه بها. قال سحنون: وهذا في وخش الرقيق.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها من أن السلع المبيعة بالخيار إذا كانت بيد المبتاع والخيار له، فلم يردها حتى مضت أيام الخيار، ولا أشهد على ردها، فقد لزمته ودخلت في ضمانه بانقضاء أيام الخيار، كما أنها إذا كانت بيد البائع والخيار له حتى انقضت أيام الخيار، ولم يشهد على إمضائها، فقد بطل البيع وبقيت ملكا له، وقول سحنون: وهذا في وخش الرقيق صحيح، يريد إذ لا مواضعة فيها بعد زوال الخيار، فيكون الضمان فيها من البائع، وبالله التوفيق.(8/401)
[اشترى منه سلعة فاختلفا في وقت شرط الخيار]
من سماع أصبغ بن الفرج من عبد الرحمن بن القاسم
من كتاب القضاء العاشر قال أصبغ: وسئل ابن القاسم عمن اشترى سلعة، فادعى البائع أنه شرط الخيار حين باع، وادعى المشتري أنه شرط الخيار حين اشترى، قال: البيع بينهما ثابت لازم لهما، والخيار ساقط عنهما. قال أصبغ: ويحلفان جميعا، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا فهو ذلك، فإن حلف واحد ونكل الآخر، فالقول قول الحالف مع يمينه، ولا أبالي بأيهما بدأ في الحكم باليمين، وأعجب إلي أن يبدأ المشتري هاهنا؛ لأنه كأنه أوكد في الدعوى، وكلاهما مدع، فإن حلف تم له الأخذ، وكان البائع بالخيار أن يحلف ويسقط، أو لا يحلف فيسلمه، كما لو تداعيا في الثمن، وكان البائع هو المدعى عليه أولا؛ لأن البيع قد ثبت ووجب له الأخذ، فهو يحلف ويتم له حتى يحلف صاحبه فيسقط، أو لا يحلف فيعطيه الثمن.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم البيع بنيهما ثابت لازم لهما، والخيار ساقط عنهما، معناه بعد يمين الذي أراد إمضاء البيع منهما أن الخيار كان له دون صاحبه؛ لأنهما إن اجتمعا على رد أو إجازة، فلا تنازع بينهما، ولا موضع لليمين، فإن اختلفا فأراد أحدهما إمضاء البيع، وأراد الآخر رده، فالذي أراد منهما إمضاء البيع مسقط لدعواه الخيار؛ إذ لا يريد الرد به،(8/402)
والذي أراد رد البيع منهما متمسك بدعواه الخيار؛ لأنه يريد الرد به، فرجعت المسألة إلى أنها بمنزلة إذا ادعى أحدهما أن البيع بت، وقال الآخر: بل كان على أن الخيار لي. ومذهب ابن القاسم في ذلك أن القول قول مدعي البت؛ لأن الآخر يريد رد البيع بما يدعي من أن له فيه الخيار، فعليه يأتي قوله في رواية أصبغ هذه.
وروى أبو زيد بعد هذا في هذا الكتاب، ومثله في سماعه، من جامع البيوع: أن البيع ينتقض ولا يقبل دعوى البائع ولا المشتري، ومعناه أيضا بعد يمين الذي أراد الرد منهما أن الخيار كان له دون صاحبه؛ لأنهما إن اجتمعا أيضا على رد أو إجازة، فلا تنازع بينهما، وإن أراد أحدهما الرد، والآخر الإجازة، فقد رجعت المسألة إلى أنها بمنزلة إذا ادعى أحدهما أن البيع كان بيع بت، وقال الآخر: بل كان على أن لي الخيار حسبما بيناه، ومذهب أشهب في ذلك أن القول قول مدعي الخيار، فرواية أبي زيد هذه على قول أشهب في هذه المسألة، ورواية أصبغ وعيسى المتقدمة على قول ابن القاسم فيها، فهي أصلها.
وقول أصبغ: ويحلفان جميعا إنما معناه إذا لم تنقض أيام الخيار، وأراد كل واحد منهما أن يوجب لنفسه الرأي والنظر إلى انقضاء أيام الخيار دون صاحبه، فإن حلفا جميعا، أو نكلا جميعا سقط خيار كل واحد منهما، ولزمه البيع على مذهب ابن القاسم في المسألة التي ذكرنا أنها أصل هذه المسألة، وثبت الخيار لكل واحد منهما على مذهب أشهب فيها. ورواية أبي زيد في هذه المسألة أن البيع ينتقض حسبما بيناه، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر ثبت الخيار للحالف منهما دون صاحبه، وكان له الارتياء والنظر إلى انقضاء أيام الخيار.
وأما إذا انقضت أيام الخيار، فإنما يحلف أحدهما، إما الذي يريد إمضاء البيع على رواية أصبغ، وهي رواية عيسى المتقدمة؛ لأن الألف فيها وهم حسبما ذكرناه؛ وإما الذي يريد رده على رواية أبي زيد التي ذكرنا على أصل مذهب أشهب، فإن نكل(8/403)
حلف الآخر على حكم المدعي والمدعى عليه، ولا يتصور أن يحلفا جميعا على حكم المتداعيين، إلا إذا كانت أيام الخيار لم تنقض حسبما بيناه، فهو وجه القول في هذه المسألة، ومعنى قول أصبغ فيها، وقد كان الشيوخ يعترضونه ويقولون: إنه لا وجه له يصح، وإن تنظيره هذه المسألة باختلاف المتبايعين تنظير فاسد، وبالله تعالى التوفيق.
[باع سلعة، فقال البائع بعتك وأنا بالخيار ولست أنت بالخيار وعارضه المشتري]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: قال عبد الرحمن بن القاسم في رجل باع سلعة، فقال البائع: بعتك وأنا بالخيار، ولست أنت بالخيار، وقال المشتري: اشتريت منك بالخيار، ولست أنت بالخيار، قال: ينتقض البيع، ولا أقبل دعوى البائع ولا المشتري.
قال محمد بن رشد: قوله: ينتقض البيع؛ معناه بعد يمين الذي أراد الرد إذا لم يتفقا على رد ولا إجازة، حسبما ذكرناه قبل هذا في سماع أصبغ، وبينا أنه يأتي على مذهب أشهب. وقوله: ولا يقبل دعوى البائع، ولا المشتري؛ صحيح لأن أيام الخيار إذا كانت لم تنقض، فليس أحدهما أحق من صاحبه بأن يكون القول قوله، والحكم في ذلك أن يحلفا جميعا، ويثبت الخيار لكل واحد منهما على قوله في هذه الرواية، وقياس قول أشهب. وإن كانت قد انقضت، ولم يتفقا على رد ولا إجازة، حلف الذي أراد الرد، ورد على هذه الرواية خلاف رواية أصبغ المتقدمة.
[مسألة: بيع الفقع بالقمح]
مسألة قال: ولا بأس بالفقع بالقمح.
قال محمد بن رشد: يحتمل أن يريد بالفقع شراب الفقع الذي(8/404)
كان يعمل في الأعراس، وروي عن مالك: أنه كره شربه، إلا أن يكون الذي يعمله مأمونا في دينه. وقال ابن وهب: هو حلال لا بأس به، قد شربه السلف وأجازوه، ورأيت الليث بن سعد يشربه كثيرا ويجيزه، ويقول: ليس من الخليطين في شيء، ولا يدخل تحت النهي.
وقال سحنون وأصبغ: لا بأس به، ومن كرهه إنما كرهه من جهة الطب، لا من جهة العلم، وهو عندي من الحلال البين، وهو شراب أصله من العسل، ويجعل فيه خمير القمح وأفاوه من الطيب، وأجاز بيعه بالقمح يدا بيد، ولم يعتبر بما فيه من خمير القمح؛ لكونه يسيرا فيه، مستهلكا في حيز اللغو والتبع، ويحتمل أن يريد بذلك الذي يتولد في زمان الربيع في أصول الشجر والمواضع الرطبة، ويأكله النساء وبعض الناس نيئا ومشويا، وإن كان أراد ذلك فمعناه أنه لا بأس به بالقمح يدا بيد أو إلى أجل؛ لأنه وإن كان يوكل فأكلا ضعيفا لا يحكم له بحكم الطعام، والأول أظهر، والله أعلم، وبه التوفيق.
تم كتاب الخيار، والحمد لله.(8/405)
[كتاب الجعل والإجارة] [استأجر عاملا من العمال وقد عرف أنه يعمله بيده أو اشرط عليه أنه يعمله بيده](8/407)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم من سماع ابن القاسم من مالك
رواية سحنون
من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: حدثني ابن القاسم قال: سمعت مالكا يقول فيمن استأجر عاملا من العمال: إما نساجا، وإما خياطا، أو ما يشبه ذلك من الأعمال، وقد عرف أنه يعمله بيده، أو اشرط عليه أنه يعمله بيده، فسأله أن يقدم له أجرة، وهو يقول: لا أعمل في عمله إلى شهر، قال: إذا كان إنما يعمل بيده فيما يعرف منه، أو اشترط ذلك عليه، فلا يصلح له أن يقدم إليه أجرة حتى يبدأ في عمله، فإن بدأ في عمله فليقدم إليه أجرة إن شاء، فإن مات قبل أن يفرغ من عمله أخذ منه بقية رأس ماله على حساب ما عمل وما استأجره عليه، ولم يكن له في مال العامل تمام ذلك العمل استأجره عليه أياما مسماة، أو قاطعه عليه مقاطعة.
قال محمد بن رشد: الإجارة على عمل شيء بعينه، كنسج الغزل وخياطة الثوب تنقسم على قسمين؛ أحدهما: أن يكون العمل مضمونا في(8/409)
ذمة الأجير. والثاني: متعينا في عينه.
فأما إذا كان مضمونا في ذمته، فلا يجوز إلا بتعجيل الأجر أو الشروع في العمل؛ لأنه متى تأخرا جميعا كان الدين بالدين، فلا يجوز إلا تعجيل أحد الطرفين أو تعجيلهما جميعا، وأما إذا كان متعينا في عينه، فيجوز تعجيل الأجر وتأخيره، على أن يشرع في العمل، وإن لم يشرع في العمل إلى أجل لم يجز النقد إلا عند الشروع في العمل.
فإن وقعت الإجارة بتصريح على أن العمل في ذمة الأجير مضمونا عليه مثل أن يقول له: أستأجرك على خياطة هذا الثوب أو نسج هذا الغزل إجارة ثابتة في ذمتك، إن شئت عملته بيدك، وإن شئت استعملته غيرك، وما أشبه ذلك من صريح الألفاظ، أو متعينا في عينه مثل أن يقول له: أستأجرك على أن تخيط لي هذا الثوب، أو تنسج لي هذا الغزل بنفسك، وما أشبه ذلك من صريح الألفاظ؛ كان للمضمون حكم المضمون، وللمعين حكم المعين، على ما وصفناه.
وإن لم يقع على تصريح، وكان اللفظ الذي وقعت به ظاهره المضمون، مثل أن يقول له: أعطيك كذا وكذا على خياطة هذا الثوب، فلا اختلاف في أنه يحمل على المضمون، إلا أن يكون قد عرف منه أنه يعمله بيده، أو يكون إنما قصده بالعمل لرفقه وإحكامه. وأما إن لم يقع على تصريح، وكان اللفظ الذي وقعت به ظاهره التعيين، مثل أن يقول له: أستأجرك على خياطة هذا الثوب، أو على أن تخيطه، ولا يقول: أنت، ففي ذلك قولان؛ أحدهما: أنه محمول على المضمون، إلا أن يعلم أنه يعمله بيده، أو يكون إنما قصد بالعمل لرفقه وإحكامه، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية، وحكاه ابن حبيب في الواضحة، عن أصبغ، وقال: إنه مذهب مالك، وهو المشهور في المذهب على الذي يأتي على ما في النذور من المدونة، وعلى ما في سماع يحيى، من كتاب الأيمان بالطلاق، وعلى ما في رسم القبلة، من سماع ابن القاسم، من كتاب الرواحل والدواب، والثاني: أنه محمول على ظاهر اللفظ من التعيين، وهو الذي يأتي على ما في رسم لم يدرك، من سماع عيسى، من كتاب الأيمان بالطلاق.
وتنفسخ الإجارة في المعين بموت الأجير، ولا تنفسخ في المضمون بموته، ويكون العمل في ماله، أو ما بقي منه، واختلف هل ينفسخ في الوجهين جميعا بهلاك المتاع(8/410)
المستأجر عليه أم لا؟ فالمشهور أنها تنفسخ على ما يأتي في هذا الكتاب، في رسم المحرم، من هذا السماع، خلاف ما في رسم يشتري الدور والمزارع، من سماع يحيى منه.
وقوله: فإن بدأ في عمله، فليقدم إليه أجره إن شاء، يدل على أنه لا يجب عليه تقديم الأجرة إلا بشرط أو عرف، فإن لم يكن شرط ولا عرف لم يلزمه دفع الأجرة إلا بعد تمام العمل، قاله في كتاب الجعل والإجارة من المدونة، وذلك بخلاف الأكرية.
وقوله: إنه إذا لم يعمل في عمله إلى شهر، فلا يجوز أن يقدم إليه إجارته يدل على جواز الإجارة، إذا لم يقدم الإجارة، وهو نحو ما في كتاب الرواحل والدواب من المدونة، من أنه يجوز كراء الراحلة بعينها على أن يركبها إلى شهر إذا لم ينقد، وقد قال ابن حبيب: إن من استأجر أجيرا حرا أو عبدا على أن يشرع في عمله إلى أيام، فلا يجوز من ذلك إلا الأيام القلائل، مثل الجمعة وما لا يطول، فيحتمل أن يكون معنى ذلك مع النقد، فتتفق الأقوال.
وفي قوله: استأجره عليه أياما مسماة، أو قاطعه عليه مقاطعة نظر؛ لأن من استأجر أجيرا على شيء بعينه كخياطة ثوب أو نسج غزل أو طحن قمح وما أشبه ذلك، مما الفراغ منه معلوم؛ فلا يجوز أن يستأجره عليه إلى أجل معلوم خوفا أن ينقضي الأجل قبل تمام العمل، فإن كان الأمر في ذلك مشكلا، فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز، وإن كان لا إشكال في أن العمل يمكن تمامه قبل انقضاء الأجل، فقد قيل: إن ذلك جائز، وهو ظاهر قوله في هذا اللفظ الواقع هاهنا، وقول ابن القاسم في سماع عيسى بعد هذا، في رسم العرية، ودليل قوله في المدونة في الذي استأجر ثورا على أن يطحن له كل يوم إردبين، فوجده لا يطحن إلا إردبا، أن له أن يرده؛ لأنه جعل له في الإردب الذي طحن ما ينوبه، ولم تنفسخ الإجارة، وهو قول ابن حبيب في الواضحة؛ لأنه أجاز فيها أن يشارط المعلم في تعليم الغلام القرآن على الحدقة، نظرا أو ظاهرا، سميا في ذلك أجلا أو لم يسمياه، وعزاه إلى مالك(8/411)
وحكاه عن أصبغ، والمشهور أن ذلك لا يجوز كذلك، قال: وهذا في هذا السماع، في رسم سلف، ورسم المحرم، وفي أول سماع أشهب، وفي غير ما موضع، ويحتمل أن يريد بقوله: استأجره عليه أياما مسماة، أي استأجره فيه، وأن يريد به أنه استأجره به عليه أياما مسماة، ولا يريد به التعيين له، وإنما يريد أنه ضمنها بعمله الأيام المسماة، فإن أكمله قبل تمام الأيام استعمله في مثله، وبالله التوفيق.
[مسألة: تكارى غلمانا يخيطون الثياب في كل شهر بشيء مسمى]
مسألة وقال مالك فيمن تكارى غلمانا يخيطون الثياب في كل شهر بشيء مسمى، وهو يقاضي عليها الناس، ويقطعها وهم يخيطون، فربما طرح على إنسان منهم شيئا من الثياب ليخيطها في يوم على إن فرغ منها في يوم أو بعض يوم، فله بقية يومه ذلك، وإن لم يفرغ منها في يومه كان عليه في يوم آخر لا يحسبه في شهوره. قال: إن كان ذلك شيئا يسيرا يوما، وما أشبهه والعمل يعرف أنه إن اجتهد فيه فرغ منه في يوم، وإن فرط لم يفرغ من ذلك، لم أر بذلك بأسا، وإن كثر ذلك، فإني أكرهه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن ذلك خفيف لا بأس به في اليسير، ومكروه في الكثير. والكراهية فيه بينة؛ لأنه إذا استأجره في الشهر مثلا بثلاثين درهما، ثم أعطاه ثيابا فقال له: إن خطتها في أقل من عشرة أيام فبقيتها لك، وإن خطتها في أكثر من عشرة أيام لم يحسب له في شهوره ما زاد على العشرة الأيام، كان ذلك غررا بينا؛ لأنه إن خاطها في خمسة أيام استوجب ثلاثين درهما في عمل خمسة وعشرين يوما، وإن خاطها في خمسة عشر يوما لم يستوجب ثلاثين درهما، إلا في خمسة وثلاثين يوما، فعادت أجرته مجهولة؛ إذ لا يدرى في كم من يوم يستوجب الثلاثين درهما.(8/412)
فإن وقع ذلك وخاطها في أقل من عشرة أيام، لم يلزمه أن يعمل بقيتها للمستأجر؛ لأنه يقول: إنما أتممتها في أقل من عشرة أيام؛ لأني أجهدت نفسي ما لم يكن يلزمني لك في استئجارك إياي، وبكرت في الابتداء، وأخرت في الانتهاء، وكذلك إن خاطها في أكثر من عشرة أيام، لم يلزم المستأجر أن يحسب له تلك الأيام الزائدة على العشرة الأيام؛ لأنه يقول له: فرطت وتوانيت، ولذلك لم تتمها في العشرة الأيام، ولو اجتهدت الاجتهاد الذي كان يلزمك لي في إجارتك لفرغت منها في أقل من عشرة أيام، وكان وجه الحكم في ذلك أن ينظر إلى تلك الأثواب، فإن قال أهل البصر والمعرفة بالعمل: إنها تتم على الاجتهاد المعروف في خمسة أيام؛ لزم الأجير أن يعمل لرب العمل بقيمة العشرة الأيام، وإن قالوا: إنها لا تتم في أقل من عشرة أيام على الاجتهاد المعروف، لم يلزمه أن يعمل له ما بقي منها؛ وكذلك إن عملها في أكثر من عشرة أيام، فقال أهل البصر والمعرفة: إنها لا تتم في أقل مما خاطها فيه على الاجتهاد المعروف، لزم المستأجر أن يحسب له تلك الأيام الزائدة على العشرة الأيام، وإن قالوا: إنها تتم في العشرة الأيام، أو في أقل منها لم يلزمه أن يحسب له تلك الأيام في شهوره.
ولو أعطاه الثياب فقال له: إن خطتها في أقل من عشرة أيام، فبقيتها لك، وإن لم تتمها في عشرة أيام، لم يلزمك شيء، لجرى ذلك على الاختلاف في الرسول يزاد بعد عقد الإجارة على الإسراع في السير والبلوغ إلى البلد في وقت كذا وكذا حسبما يأتي القول فيه في رسم سلف من هذا السماع بعد هذا.
ووجه تخفيف ذلك اليسير اليوم ونحوه الذي يعلم أنه إن اجتهد فيه فرغ منه بين؛ لأنه إن لم يفرغ منه علم أنه فرط، ولم يجتهد الاجتهاد الذي كان يلزمه، فكان من حق المستأجر ألا يحسب له من اليوم الآخر ما أتمه فيه، وإن فرغ قبل تمامه علم أنه كان لإجهاده نفسه، فكان له بقية يومه، وبالله التوفيق.(8/413)
[مسألة: بعث رجلا ليقتضي له دينا على أن له من كل شيء اقتضاه منه نصفه أو ثلثه]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال في رجل بعث رجلا، ليقتضي له دينا على أن له من كل شيء اقتضاه منه نصفه أو ثلثه، قال: لا بأس بذلك على وجه الجعل، ومثل ذلك الرجل يقول للرجل: اخرج في طلب عبيد لي أبقوا، أو إبل لي ضلت، فما جئتني به من عبد أو بعير فلك فيه دينار، وليس يشبه قوله: ما جئتني به من عبد أو بعير فلك نصفه؛ لأن العبد والبعير يزيدان وينقصان، وأن الدنانير لا تزيد ولا تنقص ما اقتضى من دينار فله نصفه أو ثلثه، فهذا باب لا يزول.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي بعث رجلا ليقتضي له دينا، على أن له من كل شيء اقتضاه منه نصفه أو ثلثه: إن ذلك لا بأس به على وجه الجعل؛ صحيح لأن المعاملة على اقتضاء الدين بجزء منه إذا لم يسم له عدده لا يجوز إلا على وجه الجعل.
وقوله: اقبض مالي على فلان، ولك من كل شيء تقتضي منه نصفه أو ثلثه محمول على الجعل، وإن لم يصرحا بذلك لا يلزم المجعول له، وإن شرع في التقاضي، وله أن يترك متى شاء، ويلزم الجاعل قيل بالعقد، وقيل بشروع المجعول له في الاقتضاء على ما سيأتي القول فيه في رسم العتق، من سماع عيسى، وأما إذا سمى عدده، فتجوز المعاملة على اقتضائه بجزء منه على وجه الإجارة، بأن يقول: أستأجرك على اقتضاء مائة دينار لي على فلان بنصفها أو بثلثها؛ فتكون إجارة لازمة لهما، ليس لأحدهما أن يرجع عنها بعد العقد، إلا أن يشترط أن يترك متى شاء، فتكون إجارة له فيها الخيار.
وهذا إذا كان قدر العمل في اقتضائها معروفا، وأما إن لم يكن معروفا، فلا تجوز الإجارة في ذلك إلا بضرب الأجل: يقول أستأجرك شهرا على أن تقتضي لي مائة دينار لي على فلان بنصفها، أو بكذا وكذا، فإن مضى الشهر وجب له أجره اقتضى الجميع أو بعضه، أو لم يقتض شيئا، وإن(8/414)
اقتضاها قبل الأجل، كان له من أجره بحساب ما مضى منه على حكم الاستئجار، على بيع السلعة سواء في جميع الوجوه.
ويجوز أيضا على وجه الجعل بأن يقول: أجاعلك على أن تقتضي لي مائة دينار لي على فلان بنصفها أو بثلثها، وما اقتضيت من شيء فبحساب ذلك، فإن لم يقل: فما اقتضيت من شيء فبحساب ذلك لم يجز، وكان جعلا فاسدا. واختلف إذا لم يصرح بذكر الإجارة ولا الجعل، وقال: اقتض لي مائة دينار على فلان، ولك نصفها، فقيل: إن ذلك محمول على الإجارة، وقيل: إنه محمول على الجعل، فمن حمله على الإجارة قال: ذلك جائز؛ لأنه يجوز للرجل أن يستأجر الرجل على أن يقتضي له مائة دينار له على فلان بنصفها أو بجزء منها، وهو معنى قول ابن القاسم في أول رسم، من سماع أصبغ، ودليل قول ابن وهب فيه؟ ومن حمله على الجعل قال: ذلك غير جائز، قيل: لأنه جعل فاسد؛ إذ لم يقل فيه: وما اقتضيت من شيء فبحسابه، وقيل: لأن الجعل على اقتضاء الديون بالجزء منها، لا يجوز على حال، وهو قول أشهب في سماع أصبغ، وأما إن قال: اقتض لي مائة على فلان، ولك نصفها، وما اقتضيت من شيء منها فعلى حسابه، فلا اختلاف بينهم في أن ذلك محمول على الجعل، وأن ذلك جائز إلا على مذهب أشهب الذي لا يرى المجاعلة على اقتضاء الديون جائزة، وإن سمى عددها، وشرط أن له مما يقتضي منها بحساب ذلك.
وقوله: إنه يجوز أن يقول الرجل للرجل: اخرج في طلب عبيد لي أبقوا، أو إبل لي ضلت، فما جئتني به من ذلك فلك نصفه بين لا إشكال فيه، ولا اختلاف؛ لأن الجعل في المجاعلة لا يكون مجهولا، وإنما يجوز المجهول فيها في العمل، وفي إجازتهم المجاعلة على حصاد الزرع وجذاذ النخل واقتضاء الديون، ولقط الزيتون على أن له من كل ما يحصد، أو يجذ، أو(8/415)
يقتضي، أو يلتقط جزءا نصفا أو ثلثا نظر، فقد رأيت في مسائل منتخبة لابن لبابة، قال ابن القاسم: كل ما جاز بيعه جاز الاستئجار به، وجاز أن يجعل جعلا، وما لم يجز بيعه، لم يجز الاستئجار به، ولا أن يجعل جعلا لرجل إلا خصلتان في الذي يجعل لرجل على أن يغرس له أصولا، حتى تبلغ حد كذا، ثم هي والأصل بينهما، فإن نصف هذا لا يجوز بيعه؛ وفي الذي يقول: القط زيتوني، فما لقطت من شيء فلك نصفه، فإن هذا يجوز، يريد وبيعه لا يجوز. قال: وقد روي عن مالك: أنه لا يجوز، ولم يختلف قوله في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار، فيقول: ما اقتضيت من شيء من ديني فلك نصفه، وهما سواء.
قال محمد بن رشد: ما هما سواء، والفرق بينهما أن اللقط أوله أسهل وأيسر من آخره؛ لأنه كلما خف وقر الزيتون قل ما يلتقط منه في اليوم، ألا ترى أنه إذا كان كثير الوقر لقط على العشر وأقل من ذلك، وإذا كان خفيف الوقر لقط على النصف وأكثر من ذلك، فإذا جاعله على أن يلقط منه ما شاء بالثلث أو الربع كان غررا؛ لأنه لا يدري إن كان يستوفي لقط جميعه، أو يترك له منه بعضه، وهو إن ترك له منه اليسير لم يستأجر على لقطه إلا بالكثير، ولعل الإجارة على لقطه تستغرقه، فالأظهر من القولين ألا تجوز المجاعلة على لقطه بالجزء منه على حال، ولا تجوز في ذلك إلا الإجارة على جميعه بأن يقول: القطه كله ولك نصفه أو ثلثه.
وأما المجاعلة على اقتضاء الدين بجزء مما يقتضي منه، فأشهب لا يجيزه، والأظهر أنه جائز؛ إذ لا فرق بين أوله وآخره في العناء في اقتضائه.
وأما الحصاد والجذاذ، فلا خلاف بينهم في جواز المجاعلة فيه على الجزء منه، بأن يقول له: جذ من نخلي ما شئت، أو احصد من زرعي ما شئت على أن لك من كل ما تحصد أو تجذ جزءا كذا لجزء يسميه، ووجه جواز ذلك باتفاق هو أن الحكم فيه أن الجعل عليه لا يلزم واحدا منهما، للمجعول له أن يخرج متى شاء، وللجاعل أن يخرجه متى شاء؛ إذ لو كان الحكم فيه أن يلزم الجاعل، ولا يلزم المجعول له لما جاز؛ لأن الجعل كان(8/416)
يكون فيه ما لا يجوز بيعه، وذلك غرر لو أراد رجل أن يبيع نصف ما يحصد رجل في يوم أو يومين، أو نصف ما يجذ في ذلك، لم يجز. وكذلك الحكم في قوله: القط زيتوني هذا، فما لقطت منه من شيء فلك نصفه، فإنما لم يجز على القول بأنه لا يجوز لما ذكرناه من أنه لما كان للمجعول له أن يترك متى شاء، وأوله أيسر في اللقط من آخره، دخله الغرر؛ إذ لا يدري الجاعل هل يستوفي المجعول له لقط جميعه، أو يترك منه بعضه، فيلزم على ما قلناه في المجاعلة على اقتضاء الديون بالجزء مما يقتضي منها، إذا كان الحكم فيها أن يلزم الجعل للجاعل بشروع المجعول له، ألا يجوز الجعل في ذلك؛ لأن الجعل فيه يكون غررا؛ ألا ترى أنه لو أراد بيع ما يقتضي المجعول له في يوم أو يومين لم يجز، ولهذه العلة لم يجز ذلك أشهب، والله أعلم، لا لما قاله أصبغ من أنه رآه من باب الجعل في الخصام؛ إذ قد يكون مقرا بالديون، فلا يكون فيه خصام، وإن كان الحكم في ذلك ألا يلزم واحدا منهما كالحصاد واللقط، وإنما لم يجز ذلك أشهب؛ لأنه رأى اقتضاء أول الدين أيسر من آخره، فأشبه اللقط عنده، ولذلك لم يجزه، وهذا أظهر من التأويل الأول، وبالله التوفيق.
[مسألة: جعل لرجل في عبد له أبق جعلا إن جاء به وقد أنفق عليه نفقة]
مسألة قال ابن القاسم، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من جعل لرجل في عبد له أبق جعلا إن جاء به، وقد أنفق عليه نفقة، فالنفقة من الذي جاء به، والجعل له فقط، وإن أرسله بعد أن أخذه تعمدا ضمن العبد.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن الجعل إنما جعله(8/417)
له على أن يأتيه به ويوصله إليه، فلا يلزم الجاعل للمجعول له إذا أتاه بعبده سوى الجعل الذي جعل له فيه، وإن وجده في مكان بعيد من سيده يستغرق الإنفاق عليه إلى أن يصل إلى سيده الجعل الذي جعل له فيه، أو لعله يزيد على ذلك، فليرفع ذلك إلى قاضي ذلك الموضع ينظر فيه لسيده بما يراه من سجنه أو بيعه، ويحكم له بجعله، فإن لم يفعل وأرسله بعد أن أخذه ضمن كما قال؛ لأنه قد أتلفه عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعطى رجلا متاعا يبيعه فيها على أنه إن باعه فله جعل قد سماه]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك فيمن أعطى رجلا متاعا يذهب به إلى بلد آخر يبيعه فيها على أنه إن باعه فله جعل قد سماه، وإن لم يبع فلا شيء له، قال: لا خير في هذا إلا بأجر معلوم، ولا يشبه هذا أن يدفع رجل متاعا إلى رجل معه في بلد واحد، فيتعرض به في السوق، فإن باعه فله جعل مسمى، وإن لم يبع فلا شيء له، فهذا لا بأس به؛ لأن هذا متى ما شاء أن يرد السلعة ردها، ولا يلزمه بيعها، ولم يدخل عليه في ردها مئونة، وأن الذي يخرج بالبز أو الطعام أو الدواب إلى بلد آخر، إن بدا له في تركها لم يخرج منها إلا بمئونة وعلاج حتى يردها إلى صاحبها أو إلى من أمره، فلا أحب هذا إلا بأجر معلوم ثابت، ولا يجوز في الحاضر في الثياب الكثيرة مثل العكام وما أشبهه، وأما الثوبان أو الثلاثة وما أشبه ذلك، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز الجعل على بيع الثياب في بلد(8/418)
آخر؛ لأن حكم الجعل ألا يلزم المجعول له التمادي على العمل، وإن شرع فيه من أجل أنه غرر، ومن شروطه ألا يجوز فيما يكون للجاعل فيه منفعة قبل تمام العمل، فإن خرج بالثياب إلى ذلك البلد، ثم أراد ترك بيعها انتفع الجاعل بحمله إياها إلى ذلك البلد، وإن ردها لزمه في ردها مئونة وعلاج فيما لا منفعة له فيه، فكان الغرر والفساد حاصلا على أي وجه كان من الوجهين، فوجب ألا يجوز، وإنما لم يجز الجعل على بيع الثياب الكثيرة في البلد؛ لأنه إن بدا له في بيعها وردها إلى صاحبها كان قد انتفع بحفظه لها طول كونها في يديه، ليس من أجل أن الجعل لا يجوز في الكثير، وإن كان قد قال ذلك عبد الوهاب وغيره، فليس بصحيح، والصحيح أن الجعل يجوز في الكثير من الأعمال التي لا يكون للجاعل فيها منفعة إلا بتمام العمل، كطلب الإباق وحفر الآبار، ولذلك قال ابن المواز: إن المجاعلة على حفر الآبار لا تكون إلا فيما لا يملك من الأرضين، ولا يجوز في القليل منها التي يكون للجاعل فيها منفعة قبل تمام العمل، فهذا هو الأصل الذي يطرد ولا ينخرم، ألا ترى أنه لا تجوز المجاعلة على خياطة الثوب، ولا عمل اليوم، ولا على اقتضاء الدين اليسير بجزء منه إذا لم يكن له من كل ما يقتضيه بحسابه، من أجل أنه إذا لم يتم العمل انتفع الجاعل بما مضى منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: استؤجر على رقيق يأتي بهم فلم يجدهم]
مسألة وقال مالك: من استؤجر على رقيق يأتي بهم، فلم يجدهم فقد وجب حقه، وإن وجدهم ببعض الطريق، فللذي استأجره أن يبعثه إلى ذلك المكان أو يستأجره في مثله. قال مالك: وكذلك الرجل يتكارى الدابة إلى حاجة، فتأتيه الحاجة، فيلزمه(8/419)
الكراء، وتكون له الدابة يكريها إلى الموضع الذي تكاراها إليه إن شاء الله.
قال ابن القاسم: ومن استؤجر على مثل هذا، واشترط عليه النقد على أن يحاسبه إن جاء برقيقه، أو وجد متاعه ببعض الطريق، فلا خير فيه. قال ابن القاسم: وإن لم يشترط شيئا من ذلك فالكراء لهما جميعا لازم إلى ذلك الموضع.
قال محمد بن رشد: قوله فيمن استأجر على رقيق يأتي بهم فلم يجدهم إن حقه وجب، معناه إن كان استؤجر على أن يأتي بهم مشاة أو على دواب المستأجر، وأما إن كان استؤجر على أن يأتي بهم على دوابه، فلم يجدهم فالحكم في ذلك حكم من أكرى دابة على أن يسوق له طعاما من بلد آخر وسيره إلى وكيله، فذهب الكري فلم يجد الوكيل. وفي وجه الحكم في ذلك تفصيل سيأتي القول عليه إن شاء الله في موضعه، وهو أول رسم من سماع ابن القاسم، من كتاب الرواحل والدواب.
وأما قوله: إنه إن وجدهم ببعض الطريق، فللذي استأجره أن يبعثه إلى ذلك المكان، أو يواجره في مثله، فمساواته فيه بين أن يبعثه إلى ذلك المكان أو يواجره في مثله؛ خلاف أصله في المدونة، في أن من أكرى دابة إلى موضع، فليس له أن يركبها إلى غيره إلا برضا المكتري، فعلى قوله في المدونة، ليس له أن يواجره في مثله إلا برضاه، فإن لم يرض بذلك ولم يبعثه إلى ذلك المكان بعينه رجع، وكان له كراؤه كاملا، وعلى قول غيره في المدونة: لا يجوز أن يواجره في غيره، وإن رضي بذلك؛ لأنه فسخ دين في دين، فإما أن يبعثه إلى ذلك الموضع بعينه، وإلا رجع وكان له كراؤه كاملا، وعلى هذا(8/420)
اختلفوا فيمن اكترى دابة إلى بلد، فرجع من الطريق، هل له أن يركبها في مثل ما بقي منه، فقال ابن نافع: ليس ذلك له، وعليه الكراء كاملا، وقال ابن القاسم: إن كان إنما سار البريد والبريدين وما أشبههما، فله أن يركبها أو يكريها إلى مثل ما قصر عنه من سفره، إلا أن يتراضيا على شيء معلوم، وإن كان سار جل الطريق، ثم ردها رأيت جميع الكراء لصاحبها.
وقع قول ابن نافع، وابن القاسم هذا، في آخر سماع عيسى، من كتاب كراء الرواحل والدواب في بعض الروايات، وقد اختلفوا على هذا الأصل فيمن استعار دابة إلى موضع، فركبها إلى موضع غيره مثله في الحزونة والسهولة والبعد فهلكت، روى علي بن زياد، عن مالك، في سماع سحنون، من كتاب العارية، أنه لا ضمان عليه، وقاله عيسى بن دينار في المبسوطة، وقال ابن القاسم فيها: إنه ضامن، وقوله: إنه إن اشترط عليه النقد على أن يحاسبه إن جاء برقيقه أو وجد حاجته في بعض الطريق؛ أنه لا خير فيه بين لا إشكال فيه على أصولهم؛ لأنه يدخله الأجرة والسلف، ولو اشترط عليه النقد، ولم يشترط المحاسبة سكت عنها لجاز على كلا القولين؛ لأن ما يوجبه الحكم من المحاسبة على أحد القولين، إذا لم يشترطاه لا يتهمان عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى أخا له أن يشتري له شيئا بالمديونة فابتاعه بدرهم ونصف]
مسألة وقال مالك: من أوصى أخا له أن يشتري له شيئا بالمديونة، فابتاعه بدرهم ونصف، وأعطى في النصف حنطة، قال: يأخذ منه في النصف درهم فلوسا أو عروضا، فإن أخذ حنطة، فلا يأخذ إلا مثل كيل طعامه الذي أعطى.(8/421)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن الحنطة التي أعطى في نصف الدرهم إنما هي سلف منه له، فهو يجوز له أن يأخذ منه فيها ما شاء من الفلوس أو العروض أو الطعام المخالف للحنطة، فإن أخذ منه طعاما من صنف الحنطة، فلا يأخذ إلا مثل كيلها، وبالله التوفيق.
[الخلالة تجمع على النصف]
ومن كتاب قطع الشجر وسئل عن الخلالة تجمع على النصف، فكره ذلك، ونهى عنه وقال: هذا غرر لا يدري كم ذلك، ولا ما هو؛ لأنه لا يراه ولا يعرفه، وليس هذا مثل الزرع والثمر الذي ينظر إليه، فيقول: ما حصدت من شيء أو جنيته فلك ربعه. والخلالة ما سقط من التمر، ووجد بين الكرانيف والسعف، فهو يخرج ويجمع ويسقط فيه تمر، وهذا الباب والباب الأول مختلف.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن ما لا يجوز بيعه فلا يجوز الاستئجار عليه بالجزء منه، ولا المجاعلة عليه بجزء منه، ولا إشكال في أن بيعه لا يجوز؛ إذ لا يحاط بقدره لاختفائه بين الكرانيف والسعف، فهو من بيع الغرر، فكذلك الاستئجار عليه بجزء منه، والمجاعلة عليه بجزء منه؛ إذ من شرط صحة المجاعلة أن يكون الجعل فيها معلوما.
فإن قيل: أليس يجوز أن يقول الرجل للرجل ما اقتضيت من مالي الذي لي على فلان، فلك نصفه أو ثلثه، ولا يسمي مبلغه؟ فإذا جاز أن يقتضي الدين على جزء منه مع الجهل بمبلغه جاز أن تجمع الخلالة على الجزء منها مع الجهل بمبلغها. قيل له: الدين وإن لم يعلم مبلغه عند المجاعلة على اقتضائه بجزء منه لغيبة ذكر الحق عنهما حينئذ، وما أشبه ذلك، فهو لا(8/422)
يعمل في الاقتضاء حتى يعلم مبلغه؛ إذ لا يصح أن يقتضي مجهولا، والخلالة مجهولة أبدا، فهو لا يعمل فيها إلا على مجهول يطبه أبدا فافترقا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قوم اشتروا سلعة ثم أرادوا يتبايعونها فأرادوا أن يكتبوا من حضرهم]
مسألة وسئل مالك عن قوم اشتروا سلعة، ثم أرادوا يتبايعونها، فأرادوا أن يكتبوا من حضرهم، فقال رجل منهم: اجعلوا لي حظا مثل حظي، أو مثل حظ رجل من الربح، وأنا أكتب لكم الناس، فقال: هذا مكروه بين، وذلك أنه يصير أجيرا بشيء لا يدري ما هو بربح، إن كان في السلعة ربح، وإن لم يكن ربح، فليس له شيء، وذلك أن الربح أيضا يقل ويكثر، فهذا غرر لا يصلح.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: لا إشكال فيه ولا وجه للقول، وبالله التوفيق.
[الخياط الذي بيني وبينه الخلطة ولا يكاد يخالفني]
ومن كتاب سلعة سماها وسئل مالك عن الخياط الذي بيني وبينه الخلطة، ولا يكاد يخالفني أستخيطه الثوب، فإذا فرغ منه وجاء به أراضيه على شيء أدفعه إليه، قال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه مما قد استجازه الناس ومضوا عليه، وهو من نحو ما يعطى الحجام من غير أن يشارط على عمل قبل أن يعمله، وما يعطى في الحمام، والمنع من مثل هذا وشبهه تضييق على الناس، وحرج في الدين وغلو فيه؛ قال الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78](8/423)
، وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77] ، ومما يدل على جوازه من السنة ما ثبت من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه» . وقد كره النخعي أن يستعمل الصانع حتى يقاطع على عمله بشيء مسمى، وكره ذلك ابن حبيب أيضا، وقال: إنه لا يبلغ به التحريم، والأمر في ذلك واسع إن شاء الله، وبه التوفيق.
[رجل يهلك ويترك ميراثا فيشارط رجل على بيعه وتقاضيه ويجعل له فيه جعل]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك عن رجل يهلك ويترك ميراثا فيشارط رجل على بيعه وتقاضيه، ويجعل لي فيه جعل، قال: إني لأكره ذلك، ولعل ثمنه يكثر، وليس تقاضي ما كثر منه مثل تقاضي ما يقل، ولا يعجبني أن يعمل به وكرهه.
قال محمد بن رشد: المكروه في هذه المجاعلة بين، والفساد فيها ظاهر، والمنع منها واجب. وقوله فيها: أكره ذلك، ولا يعجبني أن يعمل به، تجوز منه في العبارة على عادته في قوله، في كثير من مسائله، أكره هذا، ولا أحبه، ولا يعجبني فيما لا يجوز عنده ولا يحل.
والعلة في أن ذلك لا يجوز ما مضى القول فيه في أول رسم من أن الجعل لا يجوز فيما يكون للجاعل فيه منفعة قبل تمام العمل الذي يجب به الجعل للمجعول له؛ لأن المجعول له لا يلزمه التمادي على العمل من أجل أنه لا يدري، هل يتم له(8/424)
أم لا يتم، فإذا لم يلزمه وتركه أخذ الجاعل ما مضى من عمله باطلا بغير شيء، وذلك من أعظم الغرر، وبيان ذلك أنه إذا شارطه على بيع جميع الميراث، وتقاضى ثمنه، وهو غير ما شيء من عروض وأثاث وأصول، وما أشبه ذلك بجعل يسميه له على ذلك، قد يبيع الأكثر ويتقاضى ثمنه، ثم يكره بيع الباقي، أو يعجز عنه، أو يموت فيذهب عناؤه باطلا، ويحصل الورثة عليه دون شيء يلزمهم؛ إذ لا شيء للمجعول له من الجعل إلا بتمام العمل، فهذه العلة في أن ذلك لا يجوز.
وقوله: ولعل ثمنه يكثر، وليس تقاضي ما كثر منه مثل تقاضي ما يقل، معناه أن الغرر في الكثير من ذلك أكثر من الغرر في القليل، لا أن ذلك يجوز في القليل، بل لو جاعله على بيع أشياء كثيرة يسيرة الثمن لا تباع صفقة واحدة بجعل واحد لما جاز؛ لأنه إن باع الأكثر، وعجز عن الأقل لم يكن له شيء، وحصل الجاعل على ما مضى من عمل باطلا بغير شيء.
وإنما يجوز الجعل على أشياء كثيرة إذا سمى في كل شيء منها جعلا معلوما، وكذلك لو جاعله على بيع أشياء كثيرة، وسمى لكل شيء بيع منها جعلا مسمى؛ لجاز إن لم تكن عنده، فكان يستقل بها عن حوائجه، ويكفي ربها مؤنتها، وكانت عند ربها كلما باع منها شيئا بما سمى له فيه من الثمن، أو بما رآه استوجب فيه جعله، وأخذ سواه فعرضه للبيع، فإن باعه استوجب فيه جعله أيضا حتى يأتي على آخرها، إلا أن يشاء أن يترك فيكون ذلك له، وبالله التوفيق.
[يجعل للرجل يصيح على الرقيق يبيعهم فيمن يزيد]
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان وسئل مالك عن الرجل يجعل للرجل يصيح على الرقيق يبيعهم فيمن يزيد، فما باع فله في كل رأس درهم، قال: أرأيت إن لم يبع فهل له شيء؟ قيل: لا، قال: فهذا لا يصلح إلا أن يجعل له شيئا معلوما باع أو لم يبع في ساعة أو يوم أو يومين. قيل له: أفرأيت الثوب يبيعه على أن له درهما؟ قال: ليس الثوب(8/425)
مثله، هو ينتفع بمنافع غيره عسى أن يكون معه أثواب غيرها يبيعها وينتفع بغير ذلك، وإن هذا لا ينتفع بشيء وهو يشغله عن حوائجه كلها، فلا يصلح إلا بإجارة معلومة باع أو لم يبع إلى أجل معلوم يبيعه في ساعة أو يوم أو يومين، ولم يره مثل الدابة والثوب يقول الرجل للرجل: صح عليه وإن بعته فلك درهم، قال: لا بأس بهذا، قال سحنون جيدة جدا.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز أن يجعل الرجل للرجل الجعل في الصياح على الرقيق، فيمن يزيد على أن له في كل رأس يبيعه درهما لوجهين؛ أحدهما: أن الرقيق الكثير يشتغل بحفظها فتمنعه من حوائجه، ويكون قد كفى صاحبها مئونتها في ذلك، فإن ردها ولم يبعها كان صاحبها قد انتفع بذلك، والجعل لا يجوز فيما يكون للجاعل فيه منفعة قبل تمام العمل الذي يجب به الجعل للمجعول له؛ والثاني أنه لم يسم له ثمنا، ولا فوض ذلك إلى اجتهاده، فهو يصيح عليها في مناداتها، ولا يدري هل يعطى فيها ما يرضى به ربها أم لا، فلذلك قال: إن ذلك لا يجوز إلا على الإجارة في ساعة أو ساعتين، أو يوم أو يومين، باع أو لم يبع، وأجاز أن يعطيه الدابة أو الثوب، فيقول له: صح عليه، فإن بعته فلك درهم، ومعناه إذا سمى له ثمنا أو فوض إليه الاجتهاد في ذلك، ولم يكن على يقين من إمكان بيعه في الحين، وأما إن كان على يقين من وجود الثمن فيه، وبيعه في الحين فلا يجوز في ذلك الجعل؛ لأن الجعل لا يكون إلا في المجهول من الأعمال، أو ما طال منها مما لا منفعة للجاعل فيها إلا بتمامها، وسيأتي هذا من قول ابن القاسم، في سماع محمد بن خالد، وبالله التوفيق.(8/426)
[الصياح على رأس يبيعه على جعل معلوم]
ومن المدنية من كتاب أوله الرجل يحلف بطلاق امرأته
قلت: عندنا ربما واجرنا الصياح على رأس يبيعه على جعل معلوم، يقال له: صح حتى أرضى بالبيع، وأبيع فردده أياما، قال: لا خير في هذا، يقوله ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: هذا الرسم والمسألة الواقعة فيه وقعت في بعض الروايات، والمعنى فيها صحيح، وهي تدل على صحة تأويلنا في المسألة التي قبلها، فإن وقع ذلك كان له أجر مثله باع أو لم يبع، وبالله التوفيق.
[الآبق يجعل فيه الرجل الجعل]
من كتاب حديث طلق بن حبيب وسئل مالك عن الآبق يجعل فيه الرجل الجعل، يقول: إن وجدته فلك كذا وكذا، وإن لم تجده فلك نفقتك وطعامك وكسوتك، فقال: لا خير في هذا. قال ابن القاسم: فإن وقع هذا رأيت أن يعطى جعل مثله إذا وجده. قال ابن القاسم: وإن لم يجده فله أجر مثله، أصبغ عن ابن القاسم: لا أجرة فيه.
قال محمد بن رشد: اختلف في الجعل الفاسد إذا وقع على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يرد إلى حكم نفسه فيكون له جعل مثله إن أتى به، ولا يكون له شيء إن لم يأت به، وهي رواية أصبغ، عن ابن القاسم هذه. والثاني: أنه يرد إلى حكم غيره، وهي الإجارة التي هي الأصل، فيكون له أجر مثله أتى به أو لم يأت به؛ والثالث: أنه إن كان لم يخيبه إن لم يأت به كنحو هذه المسألة التي قال له فيها، فإن لم تجده فلك نفقتك، وإن وجدته(8/427)
فلك كذا وكذا، كان له إجارة مثله أتى به أو لم يأت به، وإن كان لم يسم له شيئا إلا في الإتيان به، كان له جعل مثله إن أتى به، ولم يكن له شيء إن لم يأت به.
وجه القول الأول: أن الجعل لما جوزته السنة صار أصلا في نفسه، فوجب أن يرد فاسده إلى صحيحه قياسا على سائر العقود الجائزة من البيع والإجارة.
ووجه القول الثاني: أن الجعل إجارة بغرر جوزته السنة، ويخصص من أصله إذا وقع على الشروط التي أجازته بها، فإذا لم يقع عليها رجع إلى أصله، فكان إجارة فاسدة، يحكم فيها بحكم الإجارة الفاسدة.
ووجه القول الثالث: أنه إنما هو جعل إذا جعل له الجعل على الإتيان به خاصة، وأما إن جعل له في الوجهين، فليس بجعل، وإن سمياه جعلا، وإنما هو إجارة، فيحكم له بحكم الإجارة الفاسدة، وهذا القول أظهر الأقوال، وإياه اختار ابن حبيب، وحكاه عن مالك، وعن مطرف، وابن الماجشون.
وهذه الثلاثة الأقوال راجعة على الأصل، وجارية على قياس، وأما قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن له جعل مثله إذا لم يجده، فليس يرجع إلى أصل، ولا يجري على قياس، وكذلك قوله في المدونة في الذي يقول للرجل: إن جئتني بعبدي الأبق فلك نصفه أنه يكون له إجارة مثله إن أتى به، وإن لم يأت به، فلا جعل له ولا إجارة لا حظ له في القياس والنظر، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبعث مع الرجل بالخادم يبلغها إلى موضع ويجعل له في ذلك جعلا]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يبعث مع الرجل بالخادم يبلغها إلى موضع، ويجعل له في ذلك جعلا، فينام في بعض الطريق فتهرب فتأبق منه، أترى عليه ضمانا؟ قال: لا ضمان عليه. قيل له: أتكون له أجرة؟ قال: يكون له بحساب ما بلغ.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنها إجارة، ولذلك أوجب له من أجرته بحساب ما بلغ؛ لأن الجعل في ذلك لا يجوز على ما مضى في أول رسم من السماع، ولو كانت جعلا لم يجب له فيما سار(8/428)
شيء إلا على القول بأن الجعل الفاسد، إذا فات يرد فيه إلى إجارة مثله. وكذلك من استأجر رجلا على تبليغ كتاب، فسقط منه في الطريق يكون له من أجرته بحساب ما سار، ولو كان جعلا لم يكن له فيما سار شيء، ولو قال له: إن بلغته في يوم كذا وكذا، فلك كذا وكذا، فهذا إن بلغه في ذلك اليوم وجب له جعله، وإن قصر عنه لم يكن له شيء.
قال ابن حبيب: إلا أن يكون تقصيره عنه بالأمر القريب الذي لا ينقطع فيه انتفاع الجاعل بالتبليغ، فتكون له إجارة مثله. قاله ابن حبيب، وهو على أحد الأقوال في الذي يجعل للرجل في حفر بئر، فيحفر بعضها ثم يتركها، فيتم صاحبها حفرها بإجارة أو مجاعلة حسبما يأتي القول فيه في الرسم الذي بعد هذا. ولو وقع الجعل على هذا أي الإجارة، فنام في بعض الطريق، فذهبت الخادم لم يكن له شيء فيما مضى من الطريق؛ لأن له سببا في ذهابها، ولو ماتت في بعض الطريق لوجب له من جعله بحساب ما مضى منه؛ إذ لا سبب له في موتها، فمعنى قوله في المسألة: ويجعل له في ذلك جعلا؛ أي ويسمي له في ذلك أجرا؛ لأنها إجارة على ما ذكرناه. وقوله: إنه لا ضمان عليه في إباقها منه صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن الأجير لا يضمن ما تلف مما استؤجر عليه، إلا أن يضيع أو يفرط، وهو محمول على غير التفريط حتى يثبت عليه التفريط والتضييع، فإن لم يثبت ذلك عليه فالقول قوله مع يمينه أنه ما ضيع ولا فرط.
وأما قوله: إنه يكون له من أجره بحساب ما بلغ؛ ففيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن له الأجرة كلها ماتت أو أبقت، ويستعمله المستأجر في مثل ما بقي من الطريق، وهو قول ابن القاسم وأصبغ في أول رسم من سماع أصبغ بعد هذا؛ والثاني: أن الإجارة تنفسخ ماتت أو أبقت، ويكون له من إجارته بقدر ما سار من الطريق، وهو قول ابن وهب في أول رسم من سماع أصبغ بعد هذا، وقول ابن القاسم وأصبغ في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ، من كتاب الرواحل والدواب؛ لأنهما قالا فيها: إن الإجارة تنفسخ بتلف الشيء المستأجر على حمله، وإن لم يكن للأجير في تلفه(8/429)
سبب، فهو إذا كان له في تلفها سبب من نوم أو غفلة أحرى أن ينفسخ. والثالث: الفرق بين أن تموت أو تأبق، وهو قول مالك في أول رسم من سماع أصبغ بعد هذا، وينبغي أن يحمل على التفسير؛ لقوله في هذه الرواية؛ لأنه تكلم فيها على الإباق وسكت عن الموت، وهذه التفرقة نحو تفرقته في المدونة بين أن يأتي تلف الحمل الذي استؤجر على حملانه من قبل الله تعالى، أو من قبل ما عليه استعمل، إلا أنه قال: لا ضمان عليه ولا كراء له، فهو قول رابع في المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يستأجر الرجل يحرس له بيتا فينام فيسرق من البيت شيء]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يستأجر الرجل يحرس له بيتا، فينام فيسرق من البيت شيء، أترى عليه ضمانا؟ قال: لا. قيل له: أفترى له إجارة؟ قال: نعم. وكذلك الذي يستأجر يحرس النخل والغنم والإبل، ليس عليه ضمان وله أجرته. قيل لابن القاسم: فما الذي يضمن الأجير؟ قال: لا يضمن إلا ما ضيع أو فرط أو تعدى. قيل له: فما ترى الضيعة؟ قال: من الضيعة أن يترك ما وكل به ويذهب إلى غير ذلك حتى يذهب ما وكل به ونحو هذا من الضيعة، وأما الرقاد يغلبه أو الغفلة يغفلها، فليس هذا من الضيعة.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الأجير لا يضمن إلا أن يفرط أو يضيع أو يتعدى صحيح لا اختلاف فيه، وهو محمول على غير التضييع حتى يثبت عليه التضييع حسبما ذكرناه في المسألة التي قبل هذه. وأما قوله: إن له أجرته فمعناه أن له أجرته كلها، ويستعمله المستأجر بقية المدة في مثل ما استأجره عليه، ولا اختلاف في هذا، بخلاف المسألة التي قبلها؛ لأن(8/430)
الاستئجار على الحمل بخلاف الاستئجار على الحراسة والرعي، يختلف في الإجارة على الحمل في انتقاض الإجارة بتلف الشيء المستأجر على حمله، ولا يختلف في أنه لا يحتاج في شيء من ذلك إلى اشتراط الخلف، ولا يختلف في الاستئجار على الحراسة والرعي في انتقاض الإجارة بتلف الشيء المستأجر على حراسته ورعيه، ويختلف في وجوب اشتراط الخلف في عقد الإجارة على ذلك إذا عين، ولم يتكلم في هذه الرواية على ذلك، فيحتمل أن يكون تكلم فيها على غير التعيين. وأما إن كان متاع البيت أو الغنم أو النحل - بالحاء غير المعجمة - معينا فلا تجوز الإجارة على حراسة شيء من ذلك على مذهب ابن القاسم في المدونة إلا بشرط الخلف، خلاف قول سحنون وابن حبيب، وقول أشهب في سماع أصبغ، وأما الاستئجار على حراسة أصول النخل، فلا يحتاج فيها إلى شرط؛ لأنها مأمونة لا يخشى عليها التلف، وبالله التوفيق.
[يستأجر الرجل بدينار في السنة ويقدم إليه الدينار ثم لا يتفقان وقد عمل عنده الشهر]
ومن كتاب الشريكين وسئل مالك عن الرجل يستأجر الرجل بدينار في السنة، ويقدم إليه الدينار ثم لا يتفقان، وقد عمل عنده الشهر فيتحاسبان، ويرد إليه بقية ما عليه دراهم، قال: لا يعجبني مثل هذا، ثم قال بعد ذلك: أرجو أن يكون خفيفا إذا صح أمرهما. وقال ابن القاسم: وهذا الآخر أحب إلي.
قال محمد بن رشد: اختلف قول ابن القاسم في استئجار الرجل بعينه وكراء الراحلة بعينها، والدار والأرض وما أشبه ذلك، فمرة حمله محمل السلم الثابت في الذمة، ومحمل الإجارة المضمونة من أجل أن المنافع تقتضي شيئا بعد شيء، فهي غير معينة في أن الإقالة فيها لا تجوز، وإن لم يكن فيها بمجردها فساد إذا ظهر المكروه فيها بإضافتها إلى الصفقة الأولى؛ لأنه اتهمهما على القصد إلى ذلك، والعمل عليه، فمنع من ذلك حماية للذرائع. وعلى هذا يأتي قوله الأول في الرجل يستأجر الرجل بدينار في(8/431)
السنة، ويقدم إليه الدينار ثم لا يتفقان، وقد عمل عنده الشهر فيتحاسبان، ويرد إليه بقية ما عليه دراهم؛ أن ذلك لا يعجبه؛ لأن الأمر آل بينهما إلى أن دفع المستأجر إلى الأجير دينارا، وأخذ منه فيه عمل شهر ودراهم، فيتهمان على القصد إلى ذلك والعمل عليه، ومرة حمله محمل العروض المعينات في أن الإقالة فيها جائزة إلا أن تنعقد بمجردها على ما لا يجوز، وعلى هذا يأتي قوله الآخر بعد ذلك في المسألة المذكورة أرجو أن يكون خفيفا؛ إذ لا فساد في الإقالة بمجردها، وإنما يوجد المكروه فيها باجتماع الصفقتين على ما بيناه، فلم يتهمهما في هذا القول على القصد إلى ذلك من أجل أنه أجير بعينه، كما لا يتهمهما في ذلك في السلعة المعينة.
وفي قوله: إذا صح أمرهما نظر؛ لأن الأمر إذا صح منهما، ولم يقصدا إلى ذلك، ولا عملا عليه، فلا اختلاف في أنه لا حرج عليهما في ذلك فيما بينهما وبين خالقهما، وكذلك إذا ظهر من أمرهما ما يدل على صحة فعلهما؛ لا ينبغي أن يختلف في أن ذلك لا يفسخ، مثل أن يظهر من الأجير خيانة وما أشبه ذلك، فيعلم أن تقايلهما إنما كان بسبب ما ظهر منه على ما قاله بعد هذه في رسم العرية، من سماع عيسى، وقد ذكرنا في غير هذا الكتاب ما يجوز الإقالة في ذلك مما لا يجوز ملخصا مستوفيا، وبالله التوفيق.
[شارط رجلا على عين يحفرها على خمسة آلاف ذراع]
ومن كتاب أوله
أخذ يشرب خمرا وسئل مالك عن رجل شارط رجلا على عين يحفرها على خمسة آلاف ذراع، وما وجد في الأرض من صفا، فعلى صاحب العين أن يشقه، فعمل فيها فوجد في الأرض نحو مائة ذراع فشقها(8/432)
الرجل، فلما فرغ قال له الرجل: اعمل لي بدلها، وموضعه الذي يعمل هو أكثر عملا من الموضع الذي وجد فيه الصفا، فقال: لقد دخلت في أمر لا خير فيه، فأرى عليك قدر ذلك الموضع الذي شقه ذلك الرجل تغرمه، وليس عليك أن تعمل له بذلك، يريد أن ينظر إلى قدركم ذلك من الأرض من قدر العمل، فيرد منه بقدر ذلك مما أخذ. قال ابن القاسم: لست آخذ فيه بقول مالك، فأرى أن يعطى أجرة مثله. قال سحنون: وهو رأيي، وقوله فيها أفضل وأجود.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مشكلة، وقد التبس على كثير من الناس معناها، فوهم في تأويلها منهم ابن لبابة، فإنه ذهب إلى أن ابن القاسم أخطأ على مالك في تفسيره بجوابه لقوله يريد أن ينظر إلى قدر كم ذلك من الأرض من قدر العمل، فيرد منه بقدر ذلك مما أخذ. قال: لأن مالكا إنما أجاب على أن رب العين جعل للرجل جعلا على حفر خمسة آلاف ذراع في التراب، وما خرج في الأرض من صفا شقه رب العين، فخرج في الأرض مائة ذراع من صفا فشقها العامل، فأوجب له مالك على رب العين قيمة عمله في شق الصفا، إذ لم يكن ذلك عليه، ولم يوجب له عليه أن يعمل له مثله في التراب، وسكت عما يجب للعامل في بقية عمله، وإن كان يجب عليه حفر بقية الخمسة آلاف ذراع في تراب أم لا. قال: فتأول ابن القاسم على مالك أنه أجاب على أن صاحب الأرض هو الذي حفر الصفا، وأن حفرها كان مشترطا على العامل، فلما عمل ذلك صاحب العين وجب أن يحط من الجعل قدره، ولذلك قال: يريد أن ينظر إلى قدركم ذلك من الأرض من قدر العمل، فيرد منه بقدر ذلك مما أخذ. قال: وهذا محال من التأويل، إنما كان شق الصفا على رب الأرض، وذلك فسر في السؤال(8/433)
قوله فيه، فشق ذلك العامل، وليس هو عليه، فطلب من رب الأرض أن يشق له من الأرض بعد الصفا مثل الذي شق العامل.
قال محمد بن رشد: وإنما المحال ما تأول هو على ابن القاسم، من أنه حمل عليه قول مالك؛ إذ يبعد في القلوب أن يكون مالك أجاب على غير ما سئل عنه، وأن يكون ابن القاسم تأول ذلك عليه، إذ قد بين في السؤال أن المعاملة إنما وقعت بينهما على أن يشق رب الأرض ما وجد فيها من صفا، وأن العامل هو شقها، بدليل قوله: فلما فرغ قال: اعمل لي بدلها؛ إذ لو كان رب الأرض هو الذي شقها على ما اشترط على نفسه، لم يكن له في شقها شيء على أحد.
ووجه جواب مالك على السؤال، وتفسير ابن القاسم له بين، وذلك أن المعنى في المسألة أنها إجارة لا جعل، وأن معنى قوله شارط رجلا على عين يحفرها على خمسة آلاف ذراع: استأجر رجلا على عين يحفرها على خمسة آلاف ذراع، وشرط له على نفسه أنه ما وجد فيها من صفا شقه، ولم يبين في عقد الإجارة إن كان أراد أن يشق رب الأرض ما وجد في الأرض من صفا، وتكون للعامل أجرته كاملة، وإن كان أراد أن يشقها، ويحط عنه من الإجارة بحسابها من الخمسة آلاف ذراع، فكره مالك الإجارة ابتداء لما وقعت عليه من إبهام، ومراعاة لقول من يرى الإجارة فاسدة، وإن وقعت ببيان أن يحط عنه من الإجارة بقدر ما يقع الصفا الموجودة فيها إن وجدت من الخمسة آلاف ذراع من أجل الجهل بما انعقدت عليه الإجارة من عدد الأذرع؛ إذ لا يدري ما يجد فيها من الصفا التي لم تقع عليه الإجارة، فصار ذلك كشراء الصبرة جزافا على الكيل، وعبد العزيز بن أبي سلمة لا يجيز ذلك، وكالذي يتكارى الكري على بز يسوقه له من بلد كذا على أنه إن وجده في الطريق رجع، وكان له من إجارته بحسابه ما سار من الطريق، وسحنون لا يجيز ذلك وإن لم ينقد، وقال لهما: لقد دخلتما في أمر لا خير فيه، وحملهما لما وقعت وفاتت بالعمل على أنهما أرادا أن يشق رب الأرض ما وجد فيها من صفا، ويحط عنه من الإجارة بحسابها، فأمضاها(8/434)
على أصله في جواز شراء الصبرة على الكيل وما أشبه ذلك، وقال: أرى عليك - يريد على رب الأرض - قدر ذلك الموضع، يريد قيمة عمل ذلك الموضع الذي شقه ذلك الرجل، يريد الذي شقه العامل يغرمه له، ولم ير عليه أن يعمل له بدله، ولو رضي بذلك لما جاز؛ لأنه إنما وجبت له عليه القيمة، فلا يجوز له أن يأخذ منه فيها عملا؛ لأنه فسخ الدين في الدين.
وسكت مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن تمام الحكم في المسألة، وفسره ابن القاسم على ما فهم من مذهبه في إمضاء الإجارة إذا فاتت فقال: يريد أن ينظر إلى قدركم ذلك الموضع من قدر العمل، فيرد منه بقدر ذلك مما أخذ، ومعنى ذلك أن ينظر ما تقع الصفا التي شقها العامل من جملة الخمسة الآلاف ذراع، فيرد من الأجرة التي قبض ذلك الجزء؛ إذ لا فرق بين أن يشق صاحب العين الصفا على ما شرطه على نفسه أو يشقها العامل فيأخذ حقه في شقها.
وإن كان ما وجب للعامل في شقه الصفا من جنس الأجرة التي قبض قاصه بذلك فيما يجب عليه رده منها، فمن كان له منهما في ذلك فضل رجع به على صاحبه. وحمل ابن القاسم وسحنون الإجارة لما وقعت مبهمة على ظاهرها من أنهما أرادا أن يشق رب الأرض ما وجد في الأرض من صفا، ولا يحط عنه بذلك من الإجارة شيء فقالا: إن الإجارة فاسدة، والفساد فيها إذا حملت على هذا الوجه بين، وقد تحتمل المسألة وجوها من التأويل غير هذا قد ذكرته في غير هذا الكتاب، وهذا أولى ما حملت عليه.
وأما ما ذهب إليه ابن لبابة، فهو بعيد على ما قد بينته، وكذلك قوله: إنها جعل لا يصح؛ إذ لو كان جعلا لما أمضاه مالك إذا وقع؛ لأنه جعل فاسد من وجهين: أحدهما أن الجعل لا يكون فيما يملك من الأرضين، وذلك غير جائز على المشهور في المذهب، وقد نص على ذلك ابن المواز قال: لا يكون الجعل في شيء إذا أراد المجعول له ترك العمل بعد أن شرع فيه يبقى من عمله شيء ينتفع به الجاعل، مثل البناء والحفر فيما(8/435)
يملك من الأرضين. وقد وقع في كتاب ابن حبيب ما يدل على إجازة الجعل على حفر البئر فيما يملك من الأرضين. والثاني: الغرر المقصود إليه فيه؛ لأن معناه إن حفرت لي ما وجدت من تراب في هذه الخمسة آلاف ذراع فلك كذا وكذا، وذلك ما لا يجوز في الجعل. وقد يحتمل أن يكون ابن القاسم وسحنون حملا المسألة على هذا، ولذلك قالا: إن له أجرة مثله. ولولا تأويل ابن القاسم على مالك؛ لكان الأظهر من قوله قد دخلتما في أمر لا خير فيه أن العقد فاسد، ويكون للعامل أجرة مثله في شق الصفا، وفي سائر عمله، ويرد جميع الأجرة إن كان قبضها، وتسقط عنه إن كان لم يقبضها؛ لأنه إنما تكلم على ما يجب للعامل في شق الصفا وسكت عن تمام الحكم في المسألة، إلا أن ابن القاسم أحق بتبيين إرادة مالك في المسألة لمشافهته إياه فيها، وقد بينا وجه قوله على ما فهم ابن القاسم من إرادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول للرجل احفر لي هاهنا بئرا حتى أدرك الماء ولك كذا وكذا]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يقول للرجل: احفر لي هاهنا بئرا حتى أدرك الماء، ولك كذا وكذا، فيعمل فيها ما شاء الله، ثم يبدو له فيترك العمل، ثم يستأجر عليه صاحب البئر آخر، أترى للأول شيئا فيما عمل؟ قال: إن انتفع الآخر بها حتى يخرج الماء رأيت أن يعطى في ذلك. فقيل له: ما الذي يعطى في ذلك؟ قال: على قدر ما يرى مما انتفع به، يجتهد في ذلك، وليس لذلك حد؛ رب أرض شديدة تكون حجرا، وأخرى رخوة فيكون ربما يحفر الحجر أولا، والذي احتفر يعد ذلك رخوة، أو يكون حفر رخوا والذي حفر بعده حجرا، فإنما يعطى في ذلك على قدر ما انتفع به فيما يجتهد له من ذلك(8/436)
[يجعل للرجل على حفر بئر فيحفر فيها أذرعا ثم يعجز عنها ثم يحفرها آخر]
من سماع عيسى بن دينار، من كتاب المكاتب وسألت ابن القاسم عن الرجل يجعل للرجل على حفر بئر، فيحفر فيها أذرعا، ثم يعجز عنها، ثم يحفرها آخر بعد ذلك حتى يخرج الماء، قال مالك: يكون للآخر جعله كله، ويكون للأول الجعل بقدر ما انتفع بحفره في البئر، ولقد كنت قلت أنا: يكون له قيمة ما عمل يوم عمل. وقال ابن كنانة: بل قيمة ما عمل اليوم، فدخلنا على مالك فقال: بل يعطى على قدر ما انتفع بحفره.
قلت: أرأيت جعلهما جميعا في الجعل الأول؟ قال: بل يعطى الآخر جميع ما جعل له، وينظر قيمة ما انتفع به من عمل الأول فيعطاه، ولا يلتفت إلى الجعل الأول. قلت: أرأيت إن كان الجعل الأول عشرة دنانير، فلما نظرنا إلى ما انتفع به من عمله كانت قيمته خمسة عشر دينارا؟ قال: فله ذلك، زاد الجعل الأول أو نقص، ولا يلتفت إلى الجعل الأول.
قال محمد بن رشد: معنى قول مالك ينظر إلى قيمة ما انتفع به من عمل الأول فيعطاه، هو أن ينظر إلى ما جعل على تمامها للثاني، وإلى ما كان يجعل على حفرها كلها لو لم يتقدم فيها حفر لأحد يؤخذ ذلك، فيكون للأول ما زاد على ما جعل على تمامها للثاني؛ لأن ذلك هو الذي انحط عنه بعمل الأول فانتفع به.
وكذلك إن استأجر على تمامها، ولم يجاعل على ذلك، فينظر إلى ما استأجر به على تمامها، وإلى ما كان يستأجر به على جميعها، فيكون للأول ما زاد الاستئجار على جميعها على الاستئجار على بقيتها؛ لأن ذلك هو الذي انتفع به، قل ذلك أو كثر، وإن كان أكثر(8/437)
من الجعل الأول، وهو أظهر من قول ابن القاسم وابن كنانة؛ لأنه لما كان لا يجب عليه شيء إذا لم ينتفع وجب ألا يكون عليه إذا انتفع إلا قدر ما انتفع، وإنما يشبه أن يكون عليه قيمة عمله يوم انتفع به أو يوم عمله، إذ انتفع به كما هو دون أن يتمه بإجارة أو مجاعلة في وجه من وجوه المنافع؛ من كنيف يحدثه فيه أو ما أشبه ذلك.
والقياس أن يكون له في هذا الحساب ما عمل من جعله الذي كان جعل له فيه، ومما يشبه هذا الدلال يجعل له الجعل على بيع الرأس من الرقيق فيسوقه، ثم يبيعه صاحبه بغير حضرته، ولو باعه له دلال آخر بجعل أخذه منه؛ لوجب أن يكون الجعل بين الدلال الأول والثاني على قدر عنائهما؛ لأن الدلال الثاني هو المنتفع بتسويق الأول دون صاحب السلعة؛ إذ قد أدى إلى الثاني جعلا كاملا، لم ينحط عنه منه شيء بسبب الأول، وذلك على قياس ما وقع في سماع عيسى، من كتاب اللقطة، في الرجل يجعل للرجل الجعل في طلب عبد أبق فيجده، ثم يأتي به فينفلت منه ويذهب ويجعل صاحبه عليه جعلا آخر لرجل آخر فيأتي به، أنه إن كان أفلت بعيدا من مكان سيده، فالجعل كله للثاني ولا شيء للأول، وإن كان أفلت قريبا من مكان سيده، فالجعل بينهما على قدر شخوص كل واحد منهما بما يرى، وبالله التوفيق.
[يستخيط الثوب بدرهم ثم يقول له هل لك أن تعجل لي ثوبي وأزيدك]
ومن كتاب أوله سلف في المتاع والحيوان وسئل مالك عن الرجل يستخيط الثوب بدرهم، ثم يقول له بعد ذلك: هل لك أن تعجل لي ثوبي اليوم وأزيدك نصف درهم؟ قال مالك: لا أرى به بأسا، وأرجو أن يكون خفيفا، ولم يره مثل الرسول يزاد لسرعة السير بعد إيجاب أجرته.
وسئل مالك عن الرجل يتكارى الرجل على أن يسير له(8/438)
بكتاب إلى ذي المروة على أن يسير له في يومين، ويدفع إليه دينارين، فكره ذلك وقال: لا يعجبني هذا الكراء، أرأيت إن تأخر كيف يصنع؟ ما يعجبني هذا. قال ابن القاسم: ويعطيه على اجتهاده. وكذلك الإبل تتكارى والدواب ليس يضرب في ذلك أجل.
وسألته عن الرجل يتكارى الرجل بدينار على أن يبلغ له كتابا إلى بلد، فيقول: أما الدينار فلك ثابت، وإن بلغته يوم كذا وكذا فلك زيادة نصف دينار، قال: لا أحب ذلك وكرهه. قال سحنون: لا بأس بذلك بعد وجوب الكراء.
قال محمد بن رشد: أما الذي يستخيط الرجل الثوب بأجر مسمى ثم يزيده بعد ذلك على أن يعجله له، فلا إشكال في أن ذلك جائز؛ لأن تعجيله ممكن له، ولا ينبغي له أن يتعمد تأخيره ومطله إضرارا به لغير سبب، وله أن يتسع في عمله ويؤخره لعمل غيره قبله، أو للاشتغال بما يحتاج إليه من حوائجه على ما جرى من عرف الصناع في التراخي في أعمالهم، فإذا زاده على أن يتفرغ له ويعجله جاز؛ لأنه أخذ ما زاده على فعل ما يقدر عليه ويجوز له، ولا يلزمه.
وأما الذي يزيد الأجير على تبليغ الكتاب بعد عقد الإجارة زيادة على أن يسرع السير، فيبلغه في يوم كذا وكذا، فكرهه مالك ورآه بخلاف الزيادة على تعجيل الثوب، ومعناه إذا لم يكن على يقين من أنه يدرك الوصول به ذلك اليوم إذا أسرع السير؛ لأنه يجهد نفسه في الإسراع ما لا يلزمه على غير يقين من حصول الزيادة له في ذلك، وهو غرر، ولو كان على يقين من أنه يدرك إذا أسرع لجاز بمنزلة الثوب. ولو قال له في الثوب: إن أتممت خياطته اليوم فلك زيادة نصف درهم، وهو لا يدري إذا أجهد نفسه في(8/439)
إتمامه هل يتم أم لا؛ لكان ذلك مكروها على ما قاله في الرسول، وبين ذلك قوله في التفسير ليحيى: إن ذلك مكروه إذا كانت الثياب كثيرة؛ إذ لا فرق في الثياب الكثيرة والثوب الواحد إلا أن الثياب الكثيرة لا يدري إذا اجتهد فيها هل يفرغ منها قبل الوقت الذي وقته له في الأغلب من الأحوال، بخلاف الثوب الواحد، فالمسألتان، تحمل كل واحدة منهما على صاحبتها، وإجازة سحنون ذلك في الرسول معناه، والله أعلم، إذا كان على يقين من أنه يدرك الموضع في ذلك اليوم إذا أسرع، فعلى هذا ينبغي أن تحمل أقوالهما، ولا يجعل ذلك اختلافا من القول.
وأما قوله في استئجار الرسول على أن يسير له بالكتاب إلى ذي المروة في يومين ويدفع إليه دينارين: إن ذلك لا يعجبه وهو مكروه، وكذلك ضرب الأجل في اكتراء الدواب إلى البلدان، فهو المشهور في المذهب، وقد مضى القول فيه في أول رسم، وبالله التوفيق.
[قال له: دل على من يشتري مني جاريتي ولك كذا وكذا]
ومن كتاب البز قال ابن القاسم: قال مالك: من قال: دل على من يشتري مني جاريتي ولك كذا وكذا، فدل عليه، فذلك لازم له. ولو قال: دلني على من أواجره نفسي ولك كذا وكذا فذلك له. ومن قال: دلني على امرأة أتزوجها ولك كذا وكذا، فلا شيء له. قال سحنون: كل ذلك عندي واحد ليس بينها فرق، وأرى أن يلزمه في النكاح مثل ما يلزمه في البيع والأجرة، وقال أصبغ في كتاب البيع والصرف من سماعه، مثل قول سحنون.
قال محمد بن رشد: إنما فرق مالك بين أن يجعل الرجل(8/440)
للرجل جعلا على أن يدل عليه من يشتري منه سلعة أو يبيعها منه أو يواجره نفسه، وبين أن يجعل له جعلا على أن يدله على امرأة يتزوجها من أجل أنه لا يلزمه أن يدل عليه من يشتري منه، ولا من يبيع منه، ولا من يواجره نفسه ولا شيئا من الأشياء، ويلزمه هو أن يدله على امرأة تصلح له؛ لأن معنى قوله: دلني على امرأة أتزوجها، أي أشر علي بامرأة تعلم أنها تصلح لي وانصح لي في ذلك، وهذا لو سأله إياه دون جعل للزمه أن يفعله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدين النصيحة؛ قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأيمة المسلمين وعامتهم» ، ألا ترى أنه لو قال رجل لرجل: دلني على امرأة تصلح لي أتزوجها، فإني محتاج إلى النكاح، فقال له: أنا أعلمها، ولكن لا أعلمك بها، ولا أدلك عليها إلا أن تعطيني كذا وكذا لما حل ذلك له.
ولو قال له: دل علي امرأة أتزوجها، أو دل علي رجلا أزوجه ابنتي، ولك كذا وكذا، فدل عليه لكان له الجعل، فالأصل في هذا أن الجعل لا يجوز فيما يلزم الرجل أن يفعله، وإنما يجوز فيما لا يلزمه أن يفعله، مثل أن يقول: دلني على امرأة أتزوجها واسع لي في نكاحها على ما يأتي في رسم البراءة من سماع عيسى، وإنما قال سحنون وأصبغ: إن الجعل يلزم في قوله: دلني على امرأة أتزوجها، كما يلزم في قوله: دل على من يشتري مني جاريتي أو أواجره نفسي؛ لأنهما حملا قوله، والله أعلم، دلني على امرأة أتزوجها أنه أراد بذلك ابحث لي على امرأة تصلح لي، ودلني عليها، ولك كذا وكذا، فأوجبا له الجعل؛ إذ لا يلزم الرجل أن يبحث للرجل على من يصلح له من النساء فيدله عليها، ويلزمه إذا استرشده في أمر قد علمه أن يدله وينصح له ولا يكتمه. ولو قال له: دلني على من أبيع منه سلعتي، أو أواجره نفسي، ولك كذا وكذا لكان له الجعل، بخلاف قوله: دلني على امرأة أتزوجها، ففي هذا يفترق البيع من النكاح؛ إذ لا يلزم الرجل أن يدل الرجل على من يشتري منه سلعة إذا سأله ذلك، وإن كان عالما بمن يصلح له، ويمكن أن يشتريها منه، ويلزمه أن يدله على امرأة يتزوجها إذا سأله ذلك، وكان عالما بامرأة(8/441)
تصلح له ويمكن أن تتزوجه. والفرق في هذا بين النكاح والبيع أن البيع مباح، والنكاح مندوب إليه، وقد يكون واجبا. ولو اضطر الرجل الغريب في موضع لا سوق فيه إلى بيع سلعة في أمر لا بد له منه، فقال لرجل: دلني على من يشتري مني سلعتي، وهو يعلم من يمكن أن يشتريها منه لما حل له أن يقول: لا أدلك إلا أن تعطيني كذا وكذا لوجوب ذلك، فهذا وجه القول في هذه المسألة، وعلى هذا تتفق الروايات ولا يكون بين النكاح والبيع فرق، وإن كان ابن حبيب قد حكى من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك أن الجعل في الدلالة على النكاح لا يلزم، وحكى عن غير واحد من أصحاب مالك إجازته، وأنه سمع ابن الماجشون يجيزه، ويروي إجازته عن مالك، فذلك تأويل منه في أن ذلك اختلاف من القول، وتأويلنا أظهر، والله أعلم، وبه التوفيق.
[البناء يستأجر على البناء مقاطعة]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل مالك عن البناء يستأجر على البناء مقاطعة، قال: لا بأس بذلك، لم يزل بذلك عمل الناس، فإن طال لك ضرب له أجل أيام.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا بأس بالاستئجار على البناء مقاطعة صحيح، ولا يصح فيما قل، وكان يفرغ منه في بعض اليوم إلا مقاطعة، وأما فيما كثر فيجوز مقاطعة إذا وصف العمل بغير النقد، وبالنقد إذا شرع في العمل على ما مضى في أول السماع، ويجوز أن يستأجره فيه بالأيام. فمعنى قوله فإن طال ذلك ضرب له أجل أيام، أي فإن طال ذلك، جاز أن يستأجره فيه بالأيام، لا أنه إذا طال يجوز أن يستأجره على عمله إلى تمامه ويضرب له في ذلك أجل أيام؛ لأنه قد منع من ذلك في(8/442)
المسألة التي بعدها، وفيما مضى في رسم سلف، وفي ذلك اختلاف قد مضى القول فيه في أول السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: استأجر أجيرا على عمل بعينه هل يجوز فيه الأجل]
مسألة قال: ومن استأجر أجيرا على عمل بعينه، فلا يجوز فيه الأجل؛ لأن الفراغ من العمل هو الأجل، فلا يستقيم أن يستأجره إلى أجلين بشيء واحد، وإن تلف ما استأجره عليه لم يجبر الأجير على أن يعمل مثله، ولم يلزم رب العمل أن يأتي بمثله، ولا بأس بالنقد في مثل هذا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه من استأجر أجيرا على عمل بعينه، فلا يجوز فيه الأجل هو المشهور في المذهب، وقد مضى في أول مسألة من السماع ما فيه من الخلاف، فلا معنى لإعادته.
وقوله: إنه إن تلف ما استأجره عليه لم يجبر الأجير على أن يعمل مثله، ولم يلزم رب العمل أن يأتي بمثله، يدل على أنهما إن رضيا بذلك جاز، ومعناه إذا لم يكن نقد؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين إن كان نقدا، وهذا هو المشهور في المذهب، وقد قيل: إنه يستعمله في مثل ما استأجره فيه ولا تنفسخ الإجارة، وهو قول ابن القاسم في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى بعد هذا، وبالله التوفيق، اللهم عونك.
[يتكارى الخياط على أن يخيط له ثيابا يسميهما]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسئل مالك عن الرجل يتكارى الخياط على أن يخيط له ثيابا يسميهما، فقال مالك: أما الملاحف وما أشبهها فإنه يعرف نحوها، وأما الخز فإنه يكون فيها المرتفع ثمن الخمسة عشر،(8/443)
فأحب إلي أن يريه ثوبا يخيط عليه، إلا أن يكون صفة قد عرفها، فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا يجوز أن يستأجره على أن يخيط له صنفا من الثياب يسميه إذا كان الصنف يختلف فتكون خياطة بعضه أسهل من خياطة بعض؛ إذ لا بد في الاستئجار على الأعمال من وصف العمل أو عرف يقوم مقام الوصف، وإن أراه ثوبا يخيط عليه فهو أبلغ من الوصف وأتم، والدليل على أن العرف يقوم مقام الوصف؛ ظاهر قول الله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استأجر أجيرا فليواجره بأجر معلوم إلى أجل مسمى» ، فذكر الأجرة والأجل وسكت عن وصف العمل؛ إذ قد يستغني عنه بالعرف المعهود فيه، وبالله التوفيق.
[يقول للرجل اعمل لي في هذا التراب لبنا بيني وبينك]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك رواية سحنون من كتاب البيوع الأول قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع قالا: سئل مالك عن الرجل يقول للرجل: اعمل لي في هذا التراب لبنا بيني وبينك، فقال: ما يعجبني ذلك. قال أشهب: رأيت السائل يسأله، وسمعت من مالك الجواب، ولم أفهم ما سأل السائل عنه؛ لأنه أخفى من صوته، فسألت عما سأل، فقيل لي عن هذا.(8/444)
قال محمد بن رشد: إنما كره مالك هذه الإجارة في هذه الرواية من أجل أنه لا يدري كيف يخرج اللبن، فكأنه استأجره بشيء لا يدري ما هو، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استأجر أجيرا فليعلمه أجره» ، وقال: «من استأجر أجيرا فليواجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم» ، فلا يجوز للرجل أن يستأجر الرجل إلا بما يجوز بيعه، ولا يجوز على هذه الرواية بيع اللبن قبل أن يعمل، كما لا يجوز بيع الثوب قبل أن ينسج، ولا أن يستأجر على عملها بنصفها، كما أنه لا يجوز أن يستأجر الرجل الرجل على دباغ الجلود بنصفها، ولا على نسج الغزل بنصفه. وسواء قال له: اعمل هذا التراب لبنا يكون بيني وبينك، أو قال له: اعمل فيه لبنا، فما عملت فهو بيني وبينك؛ لأن الأول إجارة وهذا جعل، والجعل في المجاعلة لا يكون إلا معلوما، كما أن الأجرة في الإجارة لا تكون إلا معلومة، فإن وقع ذلك وفات بالعمل كانت اللبن لصاحب التراب، وكان عليه للعامل أجر مثله في عمله، وإن لم يعثر على ذلك حتى قبض الأجير نصفها، وفاتت في يديه بما يفوت به البيع الفاسد؛ لزمته قيمته يوم خروجها من العمل؛ لأنه حينئذ كان قابضا لنصفها، ويكون له أجر مثله في عملها كلها.
وكراهية مالك في هذه الرواية لهذه الإجارة خلاف أصل ابن القاسم في أن ما لا يعرف وجه خروجه، ويمكن إعادته للعمل بمنزلة ما يعرف وجه خروجه في أنه يجوز بيعه قبل أن يعمل على أن يعمله البائع، وفي أنه يجوز الاستئجار على عمله بالجزء منه، فقد أجاز في رسم أسلم، من سماع عيسى: أن يستأجر الرجل الرجلَ على بناء البقعة بنصفها؛ لأن البناء تمكن إعادته إن لم يخرج على الصفة، وذلك لا يجوز على قياس قول مالك في هذه الرواية، وعلى قياس قول مالك في هذه الرواية يأتي قول سحنون أن كل بيع وأجرة تكون الأجر فيه في نفس المبيع لا يجوز، وبالله التوفيق.(8/445)
[مسألة: الحجام أيشارط على عمله]
مسألة وسئل مالك عن الحجام أيشارط على عمله؟ قال: لا بأس بذلك أن يشارط، فيقول: أحجمك بدرهم، أحجمك بنصف درهم.
قال محمد بن رشد: قوله: لا بأس بذلك، أي لا بأس بالأجرة المأخوذة في ذلك؛ لأن السؤال إنما وقع عن ذلك؛ لما جاء في كسب الحجام، فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه سحت وأنه خبيث، وأنه حرام» والمعنى فيه فيما روي عنه من ذلك أنه كسب دنيء ينبغي التنزه عنه في مكارم الأخلاق، بدليل ما ثبت من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «احتجم وأعطى الحجام أجرة» ، ولو كان حراما لما أعطاه إياه.
وقد قيل: إن ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك منسوخ بما روي عن محيصة بن مسعود الأنصاري، أحد بني حارثة أنه «استأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إجارة الحجام فنهاه عنها، فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى قال: أعلفه نضاحك» يعنى رقيقك، والأول أظهر أنه إنما نهاه أولا عنها على سبيل التنزيه له عنها لدناءتها، لا لأنها حرام، فلما ألح عليه في الاستئذان أذن له في أن يطعمه رقيقه ونضاحه. وفي إذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يطعمه نضاحه ورقيقه، دليل بين على أنها ليست بحرام؛ لأن ما لا يحل للرجل أكله لا يحل له أن يطعمه رقيقه ولا نضاحه. فقول مالك: لا بأس به؛ معناه أنه لا إثم عليه، ولا حرج في أكله، وإن كان التنزه عنه أفضل؛ لحض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، ولم يرد أنه لا بأس باستئجار الحجام على هذا الوجه؛ إذ لا وجه لاستئجاره على الحجامة سواه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يستخيط الخياط الثوب يقول له إن أعطيتنيه بعد غد فلك فيه ثلاثة دراهم]
مسألة وسئل مالك عن الذي يستخيط الخياط الثوب، يقول له: إن(8/446)
أعطيتنيه بعد غد، فلك فيه ثلاثة دراهم، فقال: لا خير فيه، وليس هذا من بيوع الناس. فقل له: إن هذا من عمل الناس، فقال: لا والله إلا أن يكونوا بالإسكندرية، وما هذا من بيوع الناس، وهذا باب عظيم يأتيه فيقول له: خط لي ثوبي هذا بثلاثة دراهم، وتعطينيه غدا، فلا يعطيه إياه غدا، فكيف يصنع إذا لم يعطه إياه غدا؟ فليس هذا من بيوع الناس.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور أن الإجارة على هذا غير جائزة، هو قوله في رسم المحرم، ورسم سلف، من سماع ابن القاسم، وقد قيل: إن ذلك جائز إذا كان لا إشكال في أن العمل يمكن تمامه قبل الأجل، وقد ذكرنا ذلك في أول مسألة من سماع ابن القاسم، فعلى القول بأن ذلك لا يجوز يكون للأجير إن فاتت الإجارة بالعمل إجارة مثله بالغة ما بلغت على تعجيلها أو تأخيرها.
وأما على القول بأن ذلك جائز، فإن فرغ منه في اليوم الذي سمى كانت له الإجارة المسماة، وإن لم يفرغ منه إلا بعد ذلك كانت له إجارته على غير التعجيل؛ لأن المستأجر إنما رضي بما رضي به من الأجرة على التعجيل، فإذا أخطأه ذلك لم ينبغ أن يؤخذ ماله باطلا، قال ذلك أصبغ في الواضحة، وقال: إنه ليست الإجارة على هذا من شرطين في شرط، إذ لم يعاقده على أنه إن أعطاه إياه غدا، فإجارته كذا، وإن لم يعطه إياه غدا فله إجارة مثله.
وقد تحدث في الإجارات والبيوع أحداث كثيرة تردهما إلى غير الثمن الأول والأجرة الأولى. إنما أراد بقوله: لا والله إلا أن يكونوا بالإسكندرية استنقاص أهل الإسكندرية؛ لأنها محرس تشبه البادية، وبالله التوفيق.(8/447)
[مسألة: العامل بيده يقول للرجل العامل مثله أعني خمسة أيام وأعينك خمسة أيام]
مسألة وسئل مالك عن العامل بيده يقول للرجل العامل مثله: أعني خمسة أيام، وأعينك خمسة أيام، قال: لا بأس بذلك؛ لأن الناس يسألون عن مثل هذا كثيرا، يأتي الرجل إلى أخيه فيقول له: أعني على حصاد زرعي وعمله أياما، وأعينك مثل ذلك على حصاد زرعك ودراسه وعمله، فلا أرى بذلك بأسا تستعينه في أيام شغلك حتى يفرغ، ثم تعينه بعد فراغك في أيام شغل هذا الآخر أيضا، فلا أرى بهذا بأسا، والناس يتعاونون على الأعمال، إذا كثر عمل هذا أعانه هذا، وإذا كثر عمل هذا أعانه هذا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه جائز لا بأس به؛ لما في ذلك من الرفق بالناس للتعاون على أعمالهم، وقد يكون العمل مما لا يقدر الواحد على عمله منفردا، فلو منع من هذا لأضر ذلك بالناس، وتعطلت عليهم أعمالهم إذا كان الكثير منهم لا يقدر على الاستئجار على عمله، وإن قدر مما استغرقته الإجارة، فكانت هذه ضرورة تبيح ذلك، وإنما يجوز ذلك فيما قل وقرب من الأيام، وإن اختلفت الأعمال، ففي رسم البيع والصرف من سماع أصبغ عن أشهب أنه قال: لا بأس أن يقول الرجل للرجل: أعطني عبدك النجار يعمل لي اليوم، وأعطيك عبدي الخياط يخيط لك غدا.
وقد سئل سحنون عن الرجل يقول للرجل: احرث لي اليوم، وأحرث لك غدا، قال: لا بأس بذلك. قيل له: فإن قال له: احرث لي في الصيف وأحرث لك في الشتاء؟ قال: لا خير فيه. قيل له: فالمرأة تقول للمرأة: انسج لي اليوم، وأنسج لك غدا، قال: لا بأس به، وإن قالت: انسج لي اليوم، وأغزل لك غدا. قال: إذا وصفت المغزل الذي تغزل به فلا بأس بذلك، وإلا لم يجز، وبالله التوفيق.(8/448)
[مسألة: يكون له الزرع قد طاب وحل بيعه يأتيه الرجل فيقول له احصده لي وادرسه على النصف]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يكون له الزرع قد طاب وحل بيعه، يأتيه الرجل فيقول له: احصده لي وادرسه على النصف، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما في الجعل والإجارة من المدونة، وفي رسم يشتري الدور والمزارع، من سماع يحيى بعد هذا، من أنه لا يجوز أن يقول الرجل للرجل: احصد زرعي هذا، وادرسه واذره، ولك نصفه، وإنما يجوز إذا قال له: احصده ولك نصفه، وعلى رواية أشهب هذه يأتي ما ذهب إليه أصبغ في آخر رسم البيع والصرف من سماعه، من كتاب جامع البيوع، وقد تكلمنا على ذلك هنالك.
وقد ذهب ابن لبابة إلى أن الخلاف إنما هو إذا قال له: احصده وادرسه ولك نصفه، وأنه لا خلاف إذا قال له: احصده وادرسه واذره، في أن ذلك لا يجوز، كما أنه لا خلاف إذا قال له: احصد ولك نصفه، في أن ذلك جائز، وليس ذلك بصحيح، لا فرق بين أن يشترط عليه الذر مع الدرس، أو لا يشرط عليه معه، والجواز في ذلك أظهر؛ لأن نصف الزرع يجب له بعقد الإجارة بعمل النصف الآخر، فسواء كان الحصاد وحده، أو الحصاد والدرس، أو الحصاد والدرس والذرو؛ لأن ذلك كله معلوم، لو استأجر عليه بالدنانير والدراهم لجاز، فكذلك إذا استأجر عليه بنصف الزرع.
فإن قيل: إنه إذا اشترط عليه الدرس والذرو صار كأنه استأجره بما يخرج منه، وذلك غرر. قيل له: لا يلزم هذا؛ إذ لو لزم لما جاز، وإن لم يشترط عليه إلا الحصاد وحده؛ إذ قد علم أنه لا يأخذ أجرته إلا حبا؛ إذ لا يصح قسمة الزرع محصودا حتى يدرس ويذرى ويصفى، وهذا لو وعى، ويتبع لما جاز بيع نصف الزرع بالدنانير والدراهم؛ إذ قد علم أنه لا يأخذه إلا حبا بعد التصفية، ولكنه جاز ذلك؛ لأنه بنفس الشراء يجعلان فيه شريكين كما لو(8/449)
زرعاه أو وهب لهما، فكذلك يحصلان فيه شريكين بعقد الإجارة بالعمل، كان الحصاد وحده أو الحصاد والدرس والذرو.
ولا اختلاف بينهم في أنه لا يجوز أن يبيع الرجل زرعه على أن عليه حصاده ودرسه أو حصاده ودرسه وذروه. وقد ذهب أبو إسحاق التونسي إلى ما يتخرج عليه جواز ذلك، وذلك أنه قال: قد أجازوا أن يبيع الرجل زرعه على أن عليه حصاده، ومن قولهم: إنه لا يجوز أن يباع القمح بعد أن يحصد في سنبله، فإن قيل: إن ذلك جائز من أجل أنه قد رآه قائما قبل أن يحصد، قيل له: يلزم على هذا أن يجوز بيعه على أن على البائع حصاده ودرسه وذروه، وهذا الذي قال أبو إسحاق التونسي غير صحيح؛ لأن بيع القمح بعد أن يحصد في سنبله جائز؛ لأنه إذا جاز بيعه وهو قائم قبل أن يحصد، فأحرى أن يجوز بيعه وهو في سنبله بعد أن حصد، وإنما الذي لا يجوز أن يباع بعد أن يحصد ويدرس، وبالله التوفيق.
[مسألة: استأجر أجيرا خمسة عشر عاما]
مسألة وسئل مالك عمن استأجر أجيرا خمسة عشر عاما، فقال: هذا كثير، فلا أرى هذا يصلح، ولكن لا بأس أن يستأجره سنة وينقده إجارته.
قال محمد بن رشد: قوله: ولكن لا بأس أن يستأجره سنة، وينقده إجارته، دليل على أنه إنما كره الخمسة عشر عاما مع النقد، وظاهر ما في كتاب الجعل والإجارة من المدونة، من قوله: إجارة النقد في الخمسة عشر عاما خلاف قول غيره فيه: إنه لا يجوز إجارة العبيد السنين(8/450)
الكثيرة؛ لأنه غرر، والدواب أكثر غررا؛ لأنها تتغير، فلا يجوز كراؤها السنين، وبالله التوفيق.
[قوم يتكارون الدليل للطريق فيخطئ بهم ويريد أن يأخذ أجرته]
ومن كتاب الأقضية وسئل مالك عن قوم يتكارون الدليل للطريق، فيخطئ بهم، ويريد أن يأخذ أجرته، فقال مالك: أما الرجل العالم بذلك فما أرى عليه شيئا، وأرى له الكراء، وأما الجاهل الذي لا يعرف يغرهم فيقول لي دلالة ومعرفة، وليس كذلك، فوالله ما أرى له شيئا. قال أشهب: ليس لهما جميعا شيء.
قال محمد بن رشد: الاختلاف في هذه المسألة كالاختلاف في أجرة الذي يستأجر على انتقاد الدراهم، فيخطئ ولا يغر من نفسه، وقد مضى القول على هذا المعنى مشروحا مبينا مستوفى في رسم أخذ يشرب خمرا، من سماع ابن القاسم، من كتاب الصرف، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حفار القبور يستحفر القبر بشيء معلوم وينهار]
مسألة وسألته عن حفار القبور يستحفر القبر بشيء معلوم وينهار، فيأتي ويطلب ما جعل له؟ قال لي: أما إن كان انهار قبل أن يفرغ منه؛ فإن عليه أن يحفر لهم قبرا ثانيا، وأما إن كان انهار بعد فراغه منه، فأرى جعله له، ولا شيء عليه؛ لأنه قد فرغ من عملهم، وبرئ منهم، فإن شاءوا أبطئوا بصاحبهم، وإن شاءوا عجلوا به.(8/451)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا اختلاف فيها على أصولهم في أن المجعول له لا شيء له إلا بتمام العمل، وبالله التوفيق.
[إجارة المعلمين]
ومن كتاب البيوع الأول قال: وسئل مالك على إجارة المعلمين، فقال: لا بأس بذلك يعلم الخير. قيل: إنه يعلم مشاهرة، ويطلب ذلك، فقال: لا بأس به ما زال المعلمون عندنا بالمدينة. وسألته عن تعليم أبناء اليهود والنصارى الكتاب بغير قرآن، فقال: لا والله ما أحب ذلك يصيرون إلى أن يقرءوا القرآن. قال: وسألته عن تعليم المسلم عند المعلم النصراني كتاب المسلمين أو كتاب الأعجمية، فقال: لا والله، وكرهه، لا يتعلم مسلم عند النصراني، ولا النصراني عند المسلمين؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] .
قال محمد بن رشد: قوله: لا بأس بإجارة المعلمين معلوم من مذهبه ومذهب أصحابه في المدونة وغيرها. وقد أجمع على ذلك أهل المدينة. فهم الحجة على من سواهم ممن خالف في ذلك، فلم يجز أخذ الثواب على تعليم القرآن، ولا اشتراط الأجرة في ذلك، وأجاز أخذ الثواب ومنع من اشتراط الأجرة. والحجة لمالك ومن تابعه من جهة الأثر إباحة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الجعل للذي اشترطه على الرقي بكتاب الله تعالى، على ما جعل في النفر من أصحابه الذين مروا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فلدغ سيدهم فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فأتوهم فقالوا لهم: إن سيدنا لدغ، وقد سعينا بكل شيء لا ينفعه شيء، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال أحدهم: نعم والله، إني لراق، ولكنا قد استضفناكم فلم(8/452)
تضيفونا، فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا له قطيعا من الغنم، فجعل يتفل عليه، ويقرأ بأم الكتاب، فبرئ كأنما أنشط من عقال. فأقبل بالغنم يسوقها، فسأله أصحابه أن يقتسموها فأبى حتى يسأل عن ذلك النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فسألوه فقال: «اقسموا، واضربوا لي معكم بسهم» . وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للذي سأله أن يزوجه المرأة التي وهبت له نفسها: «قد أنكحتكها بما معك من القرآن» إذ لم يجد شيئا يصدقها إياه، على ما جاء في بعض الآثار من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فعلمها إياه» .
ومن جهة النظر أنه لما كان الجلوس لتعليمهم القرآن غير واجب على الرجل، ولا لازم له، جاز له أخذ الأجرة عليه، وإن كان فيه قربة؛ أصل ذلك الاستئجار على بناء المساجد، وما أشبه ذلك، وحديث عبادة الذي استدل به المخالف قال: «كنت أعلم ناسا من أهل الصفة القرآن، فأهدى إلي رجل منهم قوسا على أن أقبلها في سبيل الله، فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "إن أردت أن يطوقك الله به طوقا من نار فاقبلها» تأويله في مبتدأ الإسلام، وحين كان تعليم القرآن فرضا على الأعيان؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «بلغوا عني ولو آية» ، وأما إذ قد حصل التبليغ، وفشا القرآن، وصار مثبتا في المصاحف، محفوظا في الصدور، فليست الأجرة على تعليمه أجرة على تبليغه، وإنما هو أجرة على الجلوس لتعليمه، والاشتغال بذلك عن منافعه. وقوله: إن ذلك كالأجرة على تعليم الصلاة، ليس بصحيح؛ لأن تعليم(8/453)
الجاهل الصلاة واجب، وليس بواجب على أحد الجلوس لتعليم القرآن، وهذا بين والحمد لله، فالأجرة على تعليم القرآن جائزة مشاهرة ومقاطعة على جميع القرآن، أو على جزء معلوم منه نظرا أو ظاهرا، ووجيبة لمدة معلومة من الشهور أو الأعوام، فالمشاهرة غير لازمة لواحد منهما، لأب الصبي أن يخرج ابنه متى شاء، وللمعلم مثل ذلك أيضا.
وأما الوجيبة والمقاطعة فلازمتان لكل واحد منهما، ليس للأب أن يخرج ابنه قبل انقضاء الوجيبة، أو قبل تمام المقاطعة، إلا أن يؤدي إليه جميع الأجر، وأجاز ابن حبيب أن يسمي في المقاطعة أجلا، وحكاه عن مالك، وذلك خلاف المشهور من قوله على ما مضى القول فيه، في أول رسم من سماع ابن القاسم وفي غيره، وقال: إنه يقضى للمعلم بالحذقة في النظر، والظاهر قدر حال الأب ويسره، وقوة حفظ الصبي وتجويده؛ لأنها مكارمة جرى الناس عليها، إلا أن يشترط الأب أنه لا شيء عليه سوى الخراج، فإن أخرج الأب ابنه، وقد تدانت الحذقة لزمته، وإن كان بينه وبينها ماله بال مثل السدس ونحوه، لم تكن عليه الحذقة، ولا على حساب ما مضى منها.
وأما إن اشترط المعلم الحذقة، فلا تجوز منبهمة دون تسمية، ومتى أخرج الأب ابنه قبل البلوغ إليها لزمه منها بحساب ما مضى قل أو كثر، وسيأتي في نوازل سحنون من هذا المعنى، وقال: إنه لا يقضى بالأخطار في الأعياد، وإن كان ذلك مستحبا فعله في أعياد المسلمين، ومكروه في أعياد النصارى مثل النيروز والمهرجان، فلا يجوز لمن فعله، ولا يحل لمن قبله؛ لأنه من تعظيم الشرك. ووجه تفرقة ابن حبيب بين الأخطار والحذقات، وإن كان القياس ألا فرق بينهما إذا جرى العرف بهما، هو أن الحذقة إنما بلغ الصبي إليها بتعليم المعلم واجتهاده، فكان لمكافأته على ذلك وجه، وبلوغ الصبي عنده إلى العيد لا عمل فيه للمعلم، فلم يكن لمكافأته على ذلك وجه، والله أعلم.
وأما تعليم المسلم أبناء اليهود والنصارى، أو تعلمه عندهم؛(8/454)
فالكراهة في ذلك بينة، وقد قال ابن حبيب: إن ذلك سخطة فيما فعله، مسقطة لإمامته وشهادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أكل خراج الحجام]
مسألة قال: وسئل مالك عن أكل خراج الحجام، فقال: لا بأس به، وما زال الناس بالمدينة يأكلونه ويتخذونهم.
قال محمد بن رشد: قول مالك: هذا صحيح على أصله في أن العمل المتصل يقضي على أخبار الآحاد العدول، فقد حكى عن ربيعة أنه كان يقول في كسب الحجام وما جاء فيه النهي: إنهم كانوا في ذلك الزمان، والذي في أيديهم الشيء اليسير، فلما وسع الله، وكثر العبيد، اتخذهم الناس، وحكى عن الليث عنه أنه قال: لا بأس به، وقد كان للحجامين سوق معلومة على عهد عمر بن الخطاب، ولولا أن يأنف رجال لأخبرتك بآبائهم كانوا حجامين، وما أقره عمر بن الخطاب، ولم ينكره بمحضر الصحابة، فقد حصل أصلا بإجماع الصحابة عليه، فوجب القول به، والمصير إليه، وقد مضى في أول سماع أشهب بيان في هذا المعنى، وبالله التوفيق.
[مسألة: كسب البيطار]
مسألة وسئل مالك عن كسب البيطار، فقال: ما أرى به بأسا، يعالج الدواب.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا بأس بذلك؛ لما في معالجتها من الأدواء التي تنزل من استدامة الانتفاع بها، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء» ، والله الموفق.(8/455)
[مسألة: آجر عبده شهرا بعشرة دراهم على أن للعبد راحة يومين]
مسألة وسئل مالك عمن آجر عبده شهرا بعشرة دراهم على أن للعبد راحة يومين، فيبطل العبد أياما سوى اليومين، فأراد سيد العبد أن يعطيه قيمة تلك الأيام من ثلاثين يوما، وقال المتكاري: لا بل من ثمانية وعشرين يوما. فقال: الذي أرى الآن، ويأخذ بقلبي، وما هو عندي بالبين أنه إن كان اشترط عليه طعام اليومين اللذين يطلبهما حسب على الشهر، وإن كان ليس عليه طعام اليومين حسب، على ثمانية وعشرين يوما، وإنما ذلك إذا اشترط عليه طعام اليومين اللذين يبطلهما حسب على الشهر، وإن كان ليس عليه طعام اليومين قال: فإنما ذلك إذا اشترط طعام اليومين حسب على ثمانية وعشرين، كقوله: أواجرك اليوم تتركه بعض النهار سويعة.
قال محمد بن رشد: هذه التفرقة استحسان لا يحملها القياس، والذي يوجبه القياس أن يحسب بطالة الأجير من ثمانية وعشرين يوما على كل حال، كانت عليه نفقة اليومين أو لم تكن، فإن كانت عليه نفقة اليومين كانت قيمة النفقة فيهما مضافة إلى الأجرة. مثال ذلك أن يستأجره للشهر بسته وعشرين درهما، ونفقته في جميع الشهر على أن له راحة يومين ينفق عليه فيهما ولا يخدهما، فينظر إلى قيمة نفقة اليومين، فإن كانت درهمين كان كأنه استجاره ثمانية وعشرين يوما بثمانية وعشرين درهما ونفقته فيها، فإن تبطل سوى اليومين، ولم يأخذ في الأيام التي تبطل فيها نفقة حاسبه من إجارة الثمانية وعشرين درهما بدرهم عن كل يوم، وإن كان أخذ في الأيام التي تبطلها نفقة حاسبة بدرهم عن كل يوم وبقيمة نفقته فيه، وبالله التوفيق.(8/456)
[مسألة: عصر الجلجلان والفجل بكناسهما]
مسألة وسئل مالك عن عصر الجلجلان والفجل بكناسهما، وعن طحن القمح بنخالته، أيصلح ذلك؟ قال: لا يعجبني، ووجه مكروه ذلك، لا يدري كم يصل إليه من ذلك، ويكون بعض ذلك أجود من بعض، النخالة هاهنا تباع وبعضها أجود من بعض.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله أن ذلك لا يجوز؛ لأنها أجرة مجهولة القدر والصفة، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استأجر أجيرا فليواجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم» ، وبالله التوفيق.
[يقول أستأجرك شهرا بعشرة دنانير على أن تبيع لي كل ما جاءني]
من سماع عيسي من ابن القاسم
من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: قال ابن القاسم في الذي يقول: أستأجرك شهرا بعشرة دنانير على أن تبيع لي كل ما جاءني، فإن لم يجئني شيء، فلك العشرة إجارتك كما هي، إنه لا خير فيه، ولا يصلح حتى يكون شيئا ثابتا، يقول: أستأجرك شهرا على أن تبيع لي، فإن جاءه ما يبيع له باع، وإلا كان له أن يواجره في مثل ذلك، لا خير فيه حتى يكون هذا، ورآه من الغرر إذا كان على غير شرط.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا اشترط عليه ألا يبيع له إلا ما جاءه، فإن لم يجئه شيء لم يكن له أن يستعمله في شيء، ووجبت له أجرته كاملة كان غررا، وإن لم يقع في الإجارة شرط ولا تسمية؛ لما جاء كانت جائزة؛ لأن الحكم يوجب أن يستعمله في مثل ما استأجره فيه، ولا(8/457)
خلاف في ذلك؛ إذ لم يستأجره لشيء معين. فقوله: وأراه من الغرر إذا كان على غير شرط، معناه إذا عين له ما يبيع له بقوله ما جاءني.
ولو قال: ما يأتي من بلد كذا، أو من عند رجل سماه؛ لكان أبين في التعيين، ولم يجز على غير شرط، وهذا على أصله في استئجار الأجير لرعاية الغنم بأعيانها؛ أن ذلك لا يجوز إلا بشرط الخلف، وسحنون يجيزها، ويرى أن الحكم يوجب الخلف، فإن اشترط الخلف جاز باتفاق، وإن اشترط ألا خلف، وأن تكون له الأجرة كاملة، لم يجز باتفاق، وإن لم يشترط الخلف جاز على الاختلاف، ولو اشترط ألا يبيع له إلا ما جاءه، فإن انقطع المجيء عنه أو قل كان له من الأجرة بحساب ما جاءه، فإن نقد لم يجز باتفاق، وإن لم ينقد جاز على قول ابن القاسم في الذي يكتري الجمال على أن يسوق له بزا من بلد كذا، فإن وجده في الطريق رجع، وكان له من الأجر بحسابه إن ذلك جائز، ولم يجز على قول سحنون إن ذلك لا يجوز، وبالله التوفيق.
[يستأجر الأجير سنة بعينها أو شهرا بعينه فيروغ عنه]
ومن كتاب العرية وسألته عن الرجل يستأجر الأجير سنة بعينها، أو شهرا بعينه، أو يوما بعينه، يعمل له عملا مثل الخياطة والجزارة والبناء واستقاء الماء والطحين ونحو ذلك، فيروغ عنه في تلك السنة بعينها، أو الشهر بعينه، أو اليوم بعينه، ثم يأتي بعد ذلك. قال: يفسخ العمل ويرد عليه ما أخذ منه، وإن كان عمل له شيئا حاصه بقدر ذلك. وإنما الذي يلزمه من ذلك، وإن راغ ثم جاء مثل أن يقول له: اطحن لي هذا اليوم ويبة، أو اطحن لي في هذا الشهر كل يوم ويبة، أو في هذه السنة، فإن هذا وإن كانت سنة بعينها أو شهرا بعينه، أو يوما بعينه، فإنه إذا راغ في ذلك، ثم جاء لزمه عمل(8/458)
الذي سمى؛ لأن هذا لم يقع على اليوم كله، ولا على السنة كلها، ولا على الشهر كله، وإنما وقع على عمل مسمى، فهذا يضمن ما سمى إذا أخذ، وإن كان قد راغ في تلك الأيام بعينها، وهو مثل أن يقول الرجل للسقاء: اسكب لي في هذا الشهر ثلاثين قلة في كل يوم قلة، فيغيب في ذلك الشهر، ثم يقدم، فإنما عليه ثلاثون قلة، ولا تفسخ الإجارة.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يستأجر الأجير سنة بعينها، أو شهرا بعينه لخدمة أو عمل، فيروغ في تلك السنة بعينها، أو الشهر بعينه: إن الإجارة تنفسخ في الأيام التي راغ فيها، ويرد من الإجارة ما نابها صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن من استأجر أجيرا لشهر بعينه، فمرضه أو مرض بعضه، أو راغ فيه لا يلزمه أن يقضيه في يوم آخر، بل لا يجوز وإن رضيا به إذا كان قد نقد إلا فيما قل؛ لأنه فسخ دين في دين.
وأما قوله: وإنما الذي يلزمه من ذلك، وإن راغ ثم جاء مثل أن يقول له: اطحن لي هذا اليوم ويبة، أو اطحن لي في هذا الشهر كل يوم ويبة، أو في هذه السنة إلى آخر قوله في المسألة، فإنه خلاف المشهور في المذهب من أنه لا يجوز في الإجارة مدتان في مدة؛ لأن اليوم أو الشهر أو السنة التي سمى مدة، وما شرط عليه أن يطحنه في ذلك الأجل الذي سمى من عدد الويبات، أو يسكبه له فيه من عدد القلال مدة، فأجاز ذلك، وجوازه إنما يأتي على قول ابن القاسم في المدونة، في الذي استأجر الثور على أن يطحن له كل يوم إردبين، فوجده لا يطحن إلا إردبا؛ لأنه أجاز الإجارة على ذلك؛ إذ جعل له في الإردب الذي طحن ما يجب له بحساب ما اكترى،(8/459)
ولم يقل: إن له فيه كراء مثله، وعلى ما قاله ابن حبيب، وحكاه عن مالك وأصبغ في إجارة المعلمين. ومن حق المستأجر علي هذا القول ألا يلزمه فيما يأخذ من ذلك، وراغ عنه إلا بعد الأجل إلا القيمة إن كانت أقل من الثمن؛ لأن من حقه أن يقول: إنما رضيت بالزيادة على القيمة من أجل التعجيل حسبما ذكرناه، في أول رسم من سماع أشهب، والذي يأتي في هذه المسألة على المشهور في المذهب من أنه لا يجوز في الإجارة مدتان في مدة، وهو قول مالك في رسم سلف ورسم المحرم، من سماع ابن القاسم، وأول رسم من سماع أشهب، أن تفسخ الإجارة فيما بقي، وتصحح بالقيمة فيما مضى، وبالله التوفيق.
[مسألة: استأجر عبدا من رجل شهرا بقمح]
مسألة وعن رجل استأجر عبدا من رجل شهرا بقمح، فلما عمل عنده نصف شهر سأله أن يقاصه ويأخذ نصف الحنطة، أو يأخذ منه ثمن نصف ما عمل عنده غلامه. قال: إن كان قد نقد القمح، فلا يصلح ذلك بمنزلة الدنانير؛ لأنه إجارة وسلف، إلا أن تجيء من الأجير خيانة أو ما أشبه ذلك، فأرجو أن يكون خفيفا، لا يبيع الأجير ما أجر به نفسه من الطعام حتى يستوفيه، وإن كان لم ينقد، فلا بأس به، ولا يأخذ إلا قمحا.
قال محمد بن رشد: مساواته بين الطعام والدنانير في أن الإقالة من نصف الشهر الثاني لا تجوز إذا كان قد نقد صحيح؛ لأن ما يرد من الشهر إجارة، فيدخله في الوجهين جميعا إجارة، وسلف دخولا واحدا، فيتهمان على القصد إلى ذلك، والتحيل لإجازته بينهما بما أظهراه من الإجارة والإقالة، إلا أن يظهر في أمرهما ما يرفع التهمة عنهما في القصد إلى ذلك من خيانة تجيء من الأجير، أو ما أشبه ذلك من الأسباب التي تكون سببا(8/460)
للإقالة، وهذا على القول بأن محمل الإجارة المعينة محمل الإجارة المضمونة، ومحمل السلم الثابت في الذمة، وقد مضى ذكر اختلاف قول مالك في هذا الأصل في رسم الشريكين، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وأما إذا لم ينقد فجائز أن يقيله من نصف الشهر الثاني، ويأخذ منه نصف الحنطة في نصف الشهر الذي عمل، ولا يجوز له أن يأخذ منه في نصف الشهر الذي عمل إذا أقاله فيما بقي منه غير الطعام، لا يأخذ منه دنانير ولا دراهم ولا عروضا ولا طعاما مخالفا للطعام الذي استأجره به، ولا مثله أقل مما وجب له ولا أكثر؛ لأنه يدخله في ذلك كله بيع الطعام قبل أن يستوفى.
وإنما يجوز أن يقيله من نصف الشهر الباقي على نصف الطعام إذا كانت قيمة عمل نصف الشهر الأول وقيمة عمل نصفه الآخر متساويين، وأما إن كانت قيمة أحدهما أكثر من الآخر، فلا يجوز إلا على ما يجب لما عمل، ولما بقي من الطعام على اختلاف في ذلك؛ لما قد يدخل من الغلط في التقويم فيكون بيع الطعام قبل أن يستوفى، بين هذا مسألة سماع أبي زيد، من كتاب السلم والآجال، وقد مضت والقول عليها، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لرجل أعطني عرصتك هذه أبنيها بعشرة دنانير]
مسألة قال ابن القاسم في رجل قال لرجل: أعطني عرصتك هذه أبنيها بعشرة دنانير، أو بما دخل فيها على أن أسكنها في كل سنة بدينار حتى أوفي ما غرمت فيها وأصلحت. قال: إن سمى عدة ما يبنيها به، وما يكون عليه في كل سنة، فذلك جائز، وإن لم يسم فلا خير فيه.(8/461)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في رسم البز، من سماع ابن القاسم، من كتاب كراء الدور، وهو كما قال؛ لأنه إن سمى عدة ما يبنيها به، ولم يسم ما يكون عليه في كل سنة؛ كان كراء مجهولا، وإن سمى ما يكون عليه في كل سنة، ولم يسم ما يبنيها به، كان الكراء معلوما، وأمده مجهولا، وإذا سمى الوجهين كان كراء معلوما إلى أجل معلوم فجاز، وإنما جاز وإن لم يبين هيئة بناء العرصة، والأغراض في ذلك مختلفة، من أجل أن المكتري كالوكيل له على ذلك، فإذا بنى العرصة على الهيئة التي تشبه أن تبنى عليها لزمه، كمن وكل رجلا أن يشتري له ثوبا أو جارية، فاشترى له ما يشبه أن يشتري له من ذلك لزمه. ولو وصف البنيان وعدد ما يسكنها من السنين لجاز، وإن لم يسم عدة ما يبنيه به، ولا ما يكون عليه في كل سنة، بل لا يجوز إذا اكتراها منه سنين معلومة ببناء موصوف أن يسمي للبنيان عددا معلوما؛ لأنه يعود بذلك غررا، ويكون من بيعتين في بيعة، وبالله التوفيق.
[يقول من جاءني بعبدي الآبقين فله عشرة دنانير فيؤتى بأحدهما]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول: من جاءني بعبدي الآبقين، فله عشرة دنانير، فيؤتى بأحدهما. قال ابن القاسم: لا أحب هذا الجعل حتى يجعل في كل واحد منهما جعلا معروفا. قلت: فإذا وقع؟ قال: إذا وقع وكانت أثمانهما سواء، رأيت له نصف العشرة، وإن اختلفت أثمانهما كان له من العشرة بقدر ثمن الذي جاء به من ثمن صاحبه؛ لأنه إذا جاء بأدناهما ثمنا، قال صاحبه: لم أكن أرضى أن أجعل في هذا خمسة دنانير، وإنما ثمنه عشرة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: هذا خلاف قوله في المدونة أنه جعل فاسد، ويكون له في الذي أتى به منهما قيمة عمله على قدر عنائه(8/462)
وطلبه، وخلاف قول ابن نافع فيها: إنه يكون له في الذي أتى به منهما نصف العشرة، وجعل مجاعلة الرجل الرجل في العبدين الآبقين جعلا واحدا، لا يخلو من أربعة أوجه؛ أحدها: أن يجعل له فيهما جعلا واحدا عشرة في التمثيل على أنه إن أتى بهما فله العشرة، ولا شيء له إن أتى بأحدهما دون الآخر. والثاني: أن يجعل له فيهما عشرة دنانير على أنه إن جاء بأحدهما فله نصف العشرة، أو على أنه إن أتى بفلان منهما فله من العشرة كذا وكذا، وإن أتى بفلان منهما فله كذا وكذا. والثالث: أن يجعل له فيهما عشرة على أنه إن جاء بأحدهما، فله فيه من العشرة على قدر ثمنه من ثمن صاحبه. والرابع: أن يجعل له فيهما عشرة دنانير دون بيان ما يكون له إن أتى بأحدهما دون الآخر.
فأما الوجه الأول فلا اختلاف في أن الجعل فيه فاسد، ويكون له فيه إن أتى بأحدهما إجارة مثله، أو جعل مثله، على ما مضى في رسم طلق ابن حبيب، من سماع ابن القاسم، من الاختلاف في الجعل الفاسد إذا وقع وفات بالعمل، هل يرد إلى حكم نفسه وهو الجعل؟ أو إلى حكم غيره وهو الإجارة؟
وأما الوجه الثاني فهو جعل جائز على سنة الجعل الجائز.
وأما الوجه الثالث فاختلف فيه، فقيل: إنه جعل فاسد، وهو قول مالك في المبسوطة، وقيل: إنه جعل جائز. والاختلاف في هذا مبني على اختلافهم في إجازة جمع الرجلين سلعتيهما في البيع؛ لأن جملة الثمن معلوم، وما يقع لكل سلعة منهما لا يعلم إلا بعد التقويم، كما أن جملة الجعل في العبدين معلوم، وما يقع لكل عبد منهما لا يعلم إلا بعد التقويم.
وأما الوجه الرابع وهو أن يقع الجعل منهما دون بيان ما يكون له إن جاء بأحدهما، فاختلف على ما يحمل من الأوجه الثلاثة، فحمله ابن القاسم في المدونة على ظاهره، من أنه لا شيء له من العشرة إلا أن يأتي بهما جميعا، وحكم له بحكم الجعل الفاسد، وحمله في هذه الرواية إذا وقع، وأتى بأحدهما مع كراهيته لوقوعه ابتداء دون بيان على أنهما إنما قصدا إلى أن يكون له فيمن جاء به منهما ما يقع له من الجعل على قدر قيمته من قيمة صاحبه، فأوجب له في الذي أتى به منهما ما يقع له من الجعل، على ما ظهر إليه من قصدهما على أحد قوليه في إجازة جمع الرجلين(8/463)
سلعتيهما في البيع. وحمله ابن نافع في المدونة إذا وقع وفات على أنهما إنما قصدا إلى ما يجوز من أن يكون له إذا أتى بأحدهما نصف العشرة، فأوجب ذلك له، فهذا وجه الاختلاف في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لرجل إن بعت هذه السلعة بعشرة دنانير فلك من كل دينار سدسه]
مسألة قلت: فرجل قال لرجل: صح على هذه السلعة، فإن بعتها بعشرة دنانير، فلك من كل دينار سدسه. قال: هذا حلال لا بأس به؛ لأنه قال له: إن بعت هذه السلعة بعشرة دنانير فلك دينار وثلثان. قلت: فإن باعها بأكثر من عشرة؟ قال: فليس له إلا الدينار والثلثان الذي جعل له أولا، وإن باعها بعشرين. قلت: أفيجوز له أن يقول: بع وصح على هذه السلعة، فما بعتها به من دينار، فلك من كل دينار سدسه، ولم يوقت له ثمنا؟ قال: هذا حرام لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن من شروط صحة الجعل أن يكون الجعل معلوما، فإذا كان الجعل ثابتا لا يزيد بزيادة الثمن، ولا ينقص بنقصانه جاز، وإن كان يزيد بزيادته وينقص بنقصانه لم يجز؛ لأنه مجهول، وبالله التوفيق.
[استأجر أجيرا ينسج له أو يعمل له عملا من الأعمال فينجز عمله]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده قال ابن القاسم: من استأجر أجيرا ينسج له أو يعمل له عملا من الأعمال، فينجز عمله؛ أنه لا بأس أن يرسله يعمل للناس، ويأتيه بما عمل أو يكريه في مثل ما استأجره عليه.(8/464)
قال محمد بن أحمد: هذا كما قال: إنه إذا استأجره على عمل غير معين، فينجز عمله، كان من حقه أن يواجره من غيره، ويأخذ إجارته؛ لأنه قد استحق منافعه بالاستئجار، فله أن يستعملها في عمل نفسه، وفي عمل غيره، ولا يلزم الأجير أن يذهب فيواجر نفسه من الناس، ويأتيه بالأجر إذا لم يستأجره على ذلك، فإن رضي بذلك لم يكن به بأس كما قال. ولا اختلاف في شيء من هذا، وإنما اختلف إذا استأجره على عمل بعينه، فتلف ما استأجره عليه، على ما مضى القول فيه في رسم طلق، من سماع ابن القاسم، ولا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ينزي البغل على البغلة إذا استودفت]
مسألة وقال ابن القاسم: لا أرى بأسا أن ينزي البغل على البغلة إذا استودفت، ورأيته كأنه يكره الإجارة في نزوه؛ لأنه لا يعق له، وقال: ليس فيه منفعة، ثم قال: لا أدري ما هو. قال عيسى: لا أرى به بأسا إذا كانت قدادته، وإن استأجره إذا كان لا يجد من ينزي له باطلا.
قال محمد بن رشد: لم يستبن لابن القاسم أولا وجه المنفعة في ذلك، فكره الإجارة فيه، ثم ظهرت له ولم يتحققها فقال: لا أدري ما هو. وقول عيسى هو البين؛ لأن المنفعة في ذلك معلومة للمستأجر بصلاح بغلته، وإن لم تعق، والله تعالى الموفق.
[مسألة: أجر القابلة على من هو]
مسألة وسئل عن أجر القابلة على من هو أعلى الرجل، أم على(8/465)
المرأة؟ قال: إن كان أمرا لا يستغني عنه النساء فهو على الرجل، وإن كان أمرا يستغني عنه النساء، فهو على المرأة، ولا شيء على الزوج منه. قال أصبغ: قيل لابن القاسم: فإن كانت المنفعة لهما جميعا، والمضرة عليهما جميعا على المرأة والصبي؟ قال: هذا عليهما جميعا على المرأة وعلى الزوج. قيل له: بالنصف والنصف؟ قال: لا، كأنه يقول فيه على قدر منفعة كل واحد منهما في ذلك. قال أصبغ: أراه على الأب كله، قال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، ففرض لهن ذلك بالولد، والولد هبة منهما لهما جميعا، وكذلك نوائب الولد ومخرجه ومصالحه كلها التي يخرج بها، ويحتاج إليها.
قال محمد بن رشد: في آخر أول رسم من سماع أشهب، من كتاب طلاق السنة، من قول مالك ما يقتضي أنه على المرأة، فهي ثلاثة أقوال في المسألة، لكل قول منها حظ من النظر، قاس ذلك أصبغ على نفقة الحمل، فرآه على الأب، وإن كانت فيها منفعة للمرأة، كما أن النفقة عليه بسبب الولد، وإن كانت فيها منفعة للمرأة؛ ولم يقس ذلك ابن القاسم على نفقة الحمل، ورآه على من يستبد بمنفعته منهما، فإن اشتركا في المنفعة به كان عليهما جميعا؛ إذ قد كان القياس في نفقة الحمل أن يكون عليهما جميعا لانتفاع كل واحد منهما بها لولا النص، فيتبع النص في موضعه ويرجع إلى القياس فيما سواه.
ووجه قول مالك اتباع ظاهر القرآن؛ لأن الله عز وجل يقول: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15] ، فأخبر تعالى أنها هي تحمله وتضعه، فوجب أن تكون مؤنة ذلك كله عليها، ولا يكون على الأب منه إلا ما أوجب الله عليه من النفقة عليها إلى أن تضعه، وبالله تعالى التوفيق.(8/466)
[جعل في عبد له عشرة دنانير لمن جاء به فجاء به رجل لم يسمع بالجعل]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار
قال ابن القاسم في رجل جعل في عبد له عشرة دنانير لمن جاء به، فجاء به رجل لم يسمع بالجعل. قال: إن كان ممن يأتي بالأباق فله جعل مثله، وإن كان ممن لا يأتي بالأباق، فليس له إلا نفقته، وإن سمع فكان ممن لا يأخذ الأباق، أو ممن يأخذ الأباق فله العشرة.
قال محمد بن رشد: حكى ابن حبيب في الواضحة: أن له الجعل المسمى، علم به أو لم يعلم إذا وجده بعد أن يجعل فيه تكلف طلبه، أو لم يتكلف عن ابن الماجشون وأصبغ وغيرهما من أصحاب مالك، وذكر أنه قول مالك.
ووجه قول ابن القاسم أن الذي أتى به لم يعمل على طلبه، على الجعل المسمى؛ إذ لم يعلم به فوجب ألا يجب له، ووجه ما حكى ابن حبيب أن الجاعل قد أوجب على نفسه ما سمى من الجعل لمن جاء به، فوجب أن يكون له وإن لم يطلبه، أو كان أكثر من جعل مثله إن طلبه، وكان ممن يطلب الأباق. وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن الجاعل أراد بقوله: من جاءني بعبدي فله عشرة دنانير تحريض من يسمع قوله على طلبه، فوجب ألا تجب العشرة الدنانير إلا لمن سمع قوله، فطلبه بعد ذلك لا لمن لم يسمع قوله، ولا لمن سمعه، فوجد العبد دون أن يطلبه، فلا اختلاف في أنه لا حق في الجعل لمن وجد العبد قبل أن يجعل فيه الجعل؛ إذ قد وجب عليه رده إلى صاحبه قبل أن يجعل فيه الجعل، واختلف فيمن وجده بعد أن جعل فيه الجعل على قولين؛ أحدهما: أنه لا شيء له فيه إلا أن يسمع الجعل ويطلب العبد، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أن الجعل يكون له، وإن لم يسمع الجعل ولا طلب العبد، وهو القول الذي حكى ابن حبيب، وبالله التوفيق.(8/467)
[مسألة: تكون له شجرة التين فيقول له احرسها واجنها ولك نصفها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل تكون له شجرة التين قد طابت، فيقول لرجل: احرسها واجنها واحتفظ بها، ولك نصفها، أو ثلثها، أو جزء منها. فقال: لا بأس بذلك؛ لأنه لا بأس أن يكرى بما حل بيعه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أعرفه؛ لأنه إذا كان ذلك في الزرع جائزا، وإن كان لا يمكن أن يقسم إلا بالكيل بعد أن يدرس ويصفى على ما مضى القول فيه، في أول رسم من سماع أشهب، فهو في هذا أجوز، وبالله التوفيق.
[جعلت لرجل دينارا على أن يتقاضى لي من غريم لي ستة دنانير كانت لي عليه]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
قال عيسى: سأل رجل ابن القاسم وأنا جالس فقال: إني جعلت لرجل دينارا على أن يتقاضى لي من غريم لي ستة دنانير كانت لي عليه. قال: لا خير في هذا إلا أن يجعل له مما يتقاضى له من ذلك الحق من قليل أو كثير بقصاص الدينار من ذلك الحق. قال الرجل: فإن كنت جعلت له مما يتقاضى بقصاص ذلك من الدينار، فأردت أن أوخره بالحق، أو أتحول به على غيره، أيكون له من الدينار شيء؟ فقال: له الدينار كله. فقال: إنه لم يقم عليه إلا اليوم. قال: وإن.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه لا يجوز أن يجعل الرجل للرجل دينارا على أن يتقاضى له ستة دنانير، إلا أن يجعل له فيما(8/468)
يتقاضى ما يجب له من الدينار؛ لأنه إن لم يجعل له فيما يتقاضى ما يجب له من الدينار، لم يجب للمجعول له شيء إلا بتقاضي جميع الستة دنانير، فإن تقاضى بعضها، وبقي بعضها، كان الجاعل قد انتفع قبل أن يتم المجعول له العمل؛ ولا يجوز الجعل فيما يكون للجاعل فيه منفعة قبل تمام العمل، هذا ما لا خلاف فيه، ويجوز أن يستأجره على تقاضي الستة دنانير بدينار، وإن لم يشترط أن له فيما يتقاضى منها ما يجب له من الدينار؛ لأن الحكم يوجب ذلك في الإجارة التي هي لازمة لهما جميعا، وإن لم يشترطاه، وقد مضى القول على هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم.
وأما قوله: إن الجعل يلزم الجاعل إن أخر الذي عليه الدين، أو تحول به على غيره، فصحيح على أصولهم في أن الجعل لازم للجاعل، فليس له أن يبطله على المجعول له إلا أن يوفيه جميع جعله، وهذا من قول ابن القاسم يبين ما وقع في رسم الأقضية الثاني، من سماع أشهب، من كتاب تضمين الصناع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يعطيه العرصة يبني فيها بيوتا بذرع معروفة على نصف ذلك بأصله]
مسألة وقال ابن القاسم: لا بأس أن يعطي الرجل الرجلَ العرصة يبني فيها بيوتا بذرع معروفة وصفة معروفة، على نصف ذلك بأصله، أو ثلثه، أو جزء منه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا مثل قوله في رسم شهد من سماع عيسى، من كتاب السداد والأنهار، مثل قول عيسى بن دينار في نوازله منه، في الرحى الخربة، يعامل صاحبها فيها رجلا على بنائها بجزء منها، وعلى أصله في المدونة في جواز الاستئجار على حصاد الزرع(8/469)
وجذاذ النخل بجزء منه، وقوله في رسم إن خرجت قبل هذا، في مسألة شجرة التين. وإنما جاز بناء العرصة بجزء منها، ولم يجز نسج الغزل بجزء منه، ولا دبغ الجلود بجزء منها من أجل أنه لا يعرف وجه خروج الثوب من النسج، ولا وجه خروج الجلود من الدباغ والبناء إن لم يخرج على ما وصفاه، يقدر على إعادته حتى يخرج على الصفة.
والأصل في هذه المسألة أن كل ما يجوز من العمل اشتراطه على البائع في الشيء المبيع، يجوز الاستئجار عليه بالجزء منه، وذلك جائز عند ابن القاسم فيما يعرف وجه خروجه، وفيما لا يعرف وجه خروجه مما يمكن إعادته للعمل إن خرج على غير الصفة. وسحنون لا يجيز ذلك على حال، فيأتي على مذهبه أن الاستئجار على بناء العرصة بالجزء منها لا يجوز، وهو الذي يأتي على قول مالك في أول سماع أشهب، في مسألة الذي يقول للرجل: اعمل لي بناء في هذا التراب بيني وبينك، وقد تقدم القول عليها هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: لم موضع دابة رجل ضالة فيقول اجعل لي فيها كذا وكذا وآتيك بها]
ومن كتاب العشور قال عيسى: سئل ابن القاسم عن الرجل يعلم موضع دابة رجل ضالة، فيقول: اجعل لي فيها كذا وكذا وآتيك بها، ولم يخبره علمه بمكانها، فجعل له جعلا فأخبره قال: لا ينبغي ذلك، وإنما ذلك في المجهول، ولا أراه يثبت له هذا الجعل، ولا ينبغي له أن يكتمه موضعها، وأرى أن يعطى قيمة عنائه إلى ذلك الموضع إن جاء بها، ولا جعل له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن طلب الآبق مجهول، فلا يجوز الجعل فيه إلا مع استوائهما في الجهل بموضعه، ومتى علم أحدهما موضعه، وجهل الآخر، كان العالم منهما قد غر صاحبه، كالصبرة لا يجوز(8/470)
بيعها جزافا، إلا مع استوائهما في الجهل بكيلها. فإن علم أحدهما كيلها، وجهل الآخر، كان العالم بكيلها قد غر الآخر، فيكون المغرور منهما الذي لم يعلم بكيلها، بالخيار بين أن يرد أو يجيز. فإن فاتت كان فيها الأكثر من القيمة أو الثمن، إن كان المبتاع هو الذي علم كيلها، والأقل من القيمة أو الثمن إن كان البائع هو الذي علم كيلها وغر المبتاع بذلك.
وكذلك مسألة الجعل في طلب الضالة والآبق، إن كان المجعول له علم بموضعها، فغر الجاعل بذلك، فعلم قبل أن يخرج في طلبه، كان بالخيار بين أن يمضي الجعل أو يرده، وإن لم يعلم بذلك حتى جاء بالعبد كان عليه الأقل من قيمة عنائه إلى ذلك الموضع أو الجعل الذي جعل له، هذا معنى قوله، لا أنه يكون له قيمة عنائه إلى ذلك الموضع، كان أقل من الجعل أو أكثر؛ إذ ليس بجعل فاسد فيرد فيه إلى إجارة مثله بالغا ما بلغ، وإنما هو جعل غبن المجعول له الجاعل بما كتمه من علمه بمعرفة موضع العبد. ولو كان الجاعل هو الذي علم بموضع العبد أو الضالة، فكتم المجعول له ذلك، كان له الأكثر من قيمة عنائه في طلبه أو الجعل الذي جعل له، وبالله التوفيق.
[أبق منه غلام له فبلغه أنه ببلد فاستأجر رجلا بكراء معلوم إلى تلك البلدة في طلبه]
ومن كتاب النسمة
وسئل ابن القاسم عن رجل أبق منه غلام له، فبلغه أنه ببلد، فاستأجر رجلا بكراء معلوم إلى تلك البلدة في طلبه، فقال له: إن جئتني به أو بخبره فلك تلك الإجارة، فلما خرج الأجير خالفه العبد إلى مولاه من قبل أن يبلغ الأجير البلدة، فانصرف حيث بلغه أن العبد رجع، ماذا له من الإجارة؟ قال ابن القاسم: له الكراء التام ويرسله إن شاء في مثل ما قصر من الطريق.
قال محمد بن رشد: قوله فاستأجر رجلا بكراء معلوم إلى تلك البلدة، يقضي على قوله: إن جئتني به أو بخبره فلك تلك الإجارة، ويبين أن(8/471)
معناه، ولك الإجارة كاملة وجدته في البلد، أو لم تجد فيها إلا خبره، فهو شرط جائز في الإجارة؛ لأنه هو الذي يوجبه الحكم فيها، وليس معناه أنه لا شيء له من الإجارة إن لم يأته به أو بخبره، ولو اشترط ذلك بإفصاح أو حمل الشرط عليه؛ لكانت الإجارة فاسدة.
وأما قوله إذا انصرف الأجير من حيث بلغه أن العبد رجع؛ أن له الإجارة كاملة، ويرسله المستأجر إن شاء فيما قصر من الطريق، فقد قيل: إنه ليس له أن يرسله في مثل ما قصر فيه من الطريق إلا برضاه، وقد قيل: إن ذلك لا يجوز، وإن رضي بذلك الأجير؛ لأنه فسخ دين بدين، وإنما له أن يبعثه في بقية الطريق بعينه أو يعطيه إجارته كاملة، وقد مضى القول على هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم.
فإذا لم يجز له أن يبعثه في مثل ذلك الطريق على القول بأن ذلك لا يجوز، أو لم يرض الأجير بذلك على القول بأن ذلك لا يلزمه إلا برضاه، فيكون له من إجارته بقدر ما سار من الطريق إلى الموضع الذي رجع منه؛ إذ قد فات برجوعه أن يسير له في بقية الطريق بعينه. ولو عثر على ذلك قبل أن يرجع من الطريق لما كان للمستأجر على هذين القولين إلا أن يسيره في بقية الطريق بعينه، أو يدفع إليه إجارته كاملة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الطبيب يشارط المريض يقول أعالجك فإن برئت فلي من الأجر كذا وكذا]
مسألة وسئل ابن القاسم، وابن وهب عن الطبيب يشارط المريض يقول: أعالجك، فإن برئت فلي من الأجر كذا وكذا، وإن لم تبرأ غرمت لي ثمن الأدوية التي أعالجك بها إذا أخبره بالثمن قبل أن يعالجه. فقالا: الناس ينهون عن كل بيع، وأجرة(8/472)
يكون فيه شرطان؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى عن بيعتين في بيعة» . وقد أجاز لنا مالك علاج الطبيب إذا شارطه على شيء معلوم، فإن صح أعطاه ما سمى له، وإن لم يصح من علاجه لم يكن له شيء. قال ابن القاسم: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن ذلك لا يجوز من أجل أنه دخل تحت «نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيعتين في بيعة» ، والذي يدخله من المكروه الجهل بالإجارة والغرر فيها؛ لأن الطبيب لا يدري ما يحصل له إن كان الجعل الذي سمى له أو ثمن أدويته، فإن وقع ذلك فسخ متى ما عثر عليه، وكان له ثمن أدويته التي عالجه بها، وقيمة عمله هو في علاجه، والله الموفق.
[قال اسع لي في نكاح بنت فلان اشخص لي في ذلك ولك كذا وكذا]
ومن كتاب البراءة قال عيسى: قلت لابن القاسم: فإن قال: اسع لي في نكاح بنت فلان، اشخص لي في ذلك، ولك كذا وكذا؟ قال: إذا سعى في ذلك، وكان حيث هو في حاضرته، ولم يشخص فيها إلى بلد، فلا بأس به إن شاء الله، وذلك يلزمه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن الجعل في ذلك جائز ولازم؛ لأنه جعل في أمر مباح لا يلزم المجعول له فعله، وقد مضى بيان هذا المعنى في رسم البز، من سماع ابن القاسم، ومضى في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب جامع البيوع، ورسم الجواب من سماع عيسى، من كتاب النكاح القول على قوله: ولني إنكاح وليتك، ولك كذا وكذا؛ أن الجعل في ذلك جائز ولازم؛ لأنه جعل في أمر مباح، لا يلزم المجعول(8/473)
له فعله، أو ولني بيع دارك ولك كذا وكذا، وبينا المعنى في الفرق في ذلك بين النكاح والبيع، فإن المعنى في ذلك خلاف المعنى في هذه، فلا معنى لإعادة ذلك.
وأما شرطه في هذه المسألة أن يكون ذلك في حاضرته، ولا يشخص فيه إلى بلد آخر، فلا وجه له؛ إذ لا منفعة للجاعل في شخوصه إلى بلد آخر إن لم يتم له النكاح، وهو يشخص في ذلك رجاء أن يصح له الجعل بتمامه كما يشخص في طلب الآبق من بلد إلى بلد رجاء أن يجده، فيجب له بتمامه كما يشخص في طلب الآبق من بلد إلى بلد، رجاء أن يجده، فيجب له الجعل الذي جعل له فيه. وذلك بخلاف الرجل يجاعل الرجل على أن يبيع له ثوبه ببلد آخر؛ لأنه إن لم يقدر على بيعه بذلك البلد انتفع الجاعل بحمله سلعته إلى ذلك البلد. فهذه هي العلة في أن ذلك لا يجوز حسبما مضى القول فيه في أول رسم من سماع ابن القاسم، وهي معدومة في مسألة النكاح هذه، فوجب أن تجوز، وبالله التوفيق.
[يحضرون بيع الميراث فيمن يزيد فيزيد الرجل في الثوب]
ومن كتاب القطعان وسئل ابن القاسم عن القوم يحضرون بيع الميراث فيمن يزيد فيزيد الرجل في الثوب، فيقول المنادي بدينار ودرهم، فينادي عليه بذلك، ولا يصفق ويطلب الزيادة، ثم يبدو للذي زاد. قال: البيع يلزمه. قيل له: فالرجلان يزيدان في الثوب، فيقول: هذا بدينار، وهذا بدينار يقع عليهما بشيء واحد، فيطلب الصائح الزيادة، فلا يزاد، فوجب لهما فيبدو لهما. قال: أرى البيع لهما لازما وأراهما فيه شريكين، وقال عيسى: لا يعجبني هذا من قوله، وأراه للأول، ولا أرى للصائح أن يقبل من أحد مثل الثمن الذي قد أعطاه(8/474)
غيره، وإنما يقبل الزيادة، ولها ينادي، فهو للأول حتى يزاد إلا أن يكونا جميعا قد أعطياه دينارا معا، هما فيه شريكان.
قال محمد بن رشد: البيع على المزايدة جائز خارج عما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أن يسوم الرجل على سوم أخيه. والأصل في جوازه ما روي «أن رجلا من الأنصار أتى إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فشكا إليه الفاقة، ثم عاد فقال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد جئت من عند أهل بيت ما أرى أن أرجع إليهم حتى يموت بعضهم. قال: انطلق هل تجد من شيء، فانطلق فجاء بحلس وقدح، فقال: يا رسول الله، هذا الحلس كانوا يفترشون بعضه ويلتفون ببعضه، وهذا القدح كانوا يشربون فيه، فقال: من يأخذهما مني بدرهم؟ فقال رجل: أنا؛ فقال: من يزيد على درهم؟ فقال رجل آخر: أنا آخذهما بدرهمين، فقال: هما لك، فدعا بالرجل فقال: اشتر بدرهم طعاما لأهلك، وبدرهم فأسا، ثم ايتني ففعل، ثم جاء فقال: انطلق إلى هذا الواعي، فلا تدعن فيه شوكا ولا حطبا، ولا تأتي إلا بعد عشر، ففعل، ثم أتاه فقال: بورك فيما أمرتني به، فقال: هذا خير لك من أن تأتي يوم القيامة في وجهك نكت من المسألة، أو خموش من المسألة» ، الشك من بعض رواة الحديث.
والحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له بما أعطى فيها ما لم يسترد سلعته، فيبيع بعدها(8/475)
أخرى، أو يمسكها حتى ينقضي مجلس المناداة، وهو مخير في أن يمضيها لمن شاء ممن أعطى فيها ثمنا، وإن كان غيره قد زاد عليه.
هذا الذي أحفظ في هذا من قول الشيخ أبي جعفر بن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو صحيح في المعنى؛ لأن حق صاحب السلعة أن يقول للذي أراد أن يلزمها إياه، إن أبى من التزامها، وقال له: بع سلعتك من الذي زاد علي فيها؛ لأنك إنما طلبت الزيادة وقد وجدتها: أنا لا أحب معاملة الذي زاد في السلعة عليك، وليس طلبي الزيادة فيها، وإن وجدتها إبراء مني لك فيها. فمعنى قول ابن القاسم: أرى البيع لهما لازما، وأراهما شريكين فيها، إذا أسلم البائع السلعة لهما، ولم يكن له اختيار في أن يلزمها أحدهما دون صاحبه. وكذلك قال أصبغ: إنها للأول، معناه إذا قال: قد أمضيتها لمن هو منكما أحق بها.
وقول ابن القاسم هو القياس؛ لأن الأول لا يستوجب السلعة بما أعطى فيها إلا أن يمضيها له صاحبها. وكذلك الثاني فلا مزية فيها لأحدهما على الآخر. وقول أصبغ استحسان. والوجه فيما ذكره من أنه إنما طلب الزيادة لا ما قد أعطى فيها، فالاختيار له ألا يقبل الزيادة. فإذا قبل من الثاني مثل ما أعطاه الأول كانا في وجه القياس سواء. وقد مضى من معنى هذه المسألة في آخر أول رسم من سماع أشهب، من كتاب العيوب، وبالله التوفيق.
[حمل شيئا فصدم أو رمي فانكسر ما عليه]
ومن كتاب العتق وقال ابن القاسم في حمال حمل شيئا: إنه إن صدم أو رمي فانكسر ما عليه، فالذي رماه أو صدمه ضامن لما عليه، وللأجير أجرته، ويسيره فيما بقي.(8/476)
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب أن من استأجر أجيرا على حمل شيء بعينه، فتلف، أن الإجارة لا تنقض، وهو قول ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة، وإليه ذهب محمد بن المواز فقال: تعبير الحمل إنما هو صفة لما يحمل. ومثله في رسم القبلة، من سماع ابن القاسم، من كتاب الرواحل والدواب، وفي رسم طلق، من سماع ابن القاسم، من هذا الكتاب، وفي أول رسم من سماع أصبغ منه. وقد قيل: إن الإجارة تنتقض بتلفه، وهو قول أصبغ وروايته عن ابن القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماعه، من كتاب كراء الرواحل والدواب. وقد مضى تحصيل القول في الاختلاف فيها، في رسم طلق، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال أستأجرك بدينار على أن تذهب إلى إفريقية تبيع دابتي هذه]
مسألة قلت: أرأيت إن قال: أستأجرك بدينار على أن تذهب إلى إفريقية تبيع دابتي هذه، أو ثيابي، أو رقيقي، فقال: إن كان استأجره على أنها إن هلكت أو ذهب الثوب انفسخ الكراء بينهما، فلا خير فيه، وإن كان إن تلف هذا كان عليه أن يسيره في مثله، وإن هلكت الدابة أخلف له مكانها أخرى، وكان ذلك إلى أجل معلوم، فلا بأس به.
قال ابن القاسم في الرجل يستأجر الأجير يعمل له سنة على دابة بعينها. قال: لا خير فيه، إلا أن يكون إن نفقت الدابة أخلف(8/477)
له مكانها أخرى. قلت له: أرأيت الرجل يتكارى الدابة بعينها إلى المكان؟ قال: لا بأس بذلك. قلت: أرأيت إن هلكت الدابة؟ قال: يرجع على صاحبه بما بقي من الطريق، فيأخذ حصته من ذلك من الكراء. وكذلك إن استأجر الخادم تخدمه سنة، فتموت هو مثل الدابة. قلت: فما فرق بين هذا وبين الأول؟ قال: لأن هذا إنما هلك الذي استأجر بعينه، والأول إنما هلك غير المستأجر، وغير المستأجر يقول: إنما هلك ثوب لم أكركه، أو دابة لم أكركها؛ وهاهنا إنما هلكت الدابة بعينها والغلام بعينه، فكل إجارة تكون إذا مات غير المستأجر أو المواجر انفسخت، فلا خير فيها.
قال محمد بن رشد: الاستئجار على الأعمال في الأشياء المعينات تنقسم على أربعة أقسام:
أحدها: أن يستأجره على عمل في شيء بعينه، لا غاية له إلا بضرب الأجل فيه، وذلك مثل أن يستأجره على أن يرعى له غنما بأعيانها، أو يتجر له في مال بعينه شهرا أو سنة، وما أشبه ذلك، فهذا اختلف في حد جواز الإجارة فيه، فقيل: إنها لا تجوز إلا بشرط الخلف، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وقيل: إنها تجوز بغير شرط الخلف، والحكم يوجب الخلف، وهو قول سحنون، وابن حبيب، وأشهب في رسم البيوع والصرف، من سماع أصبغ. فهذا حكم هذا الوجه، إلا في أربع مسائل؛ فإن الإجارة تنفسخ فيها بموت المستأجر له؛ أحدها: موت الصبي المستأجر على رضاعه. والثانية: موت الصبي المستأجر على تعليمه. والثالث: موت الدابة المستأجر على رياضتها. والرابعة: من استأجر رجلا على أن ينزي له أكواما معروفة على رمكته، فتعق الرمكة قبل تمام الأكوام؛ فإن الإجارة(8/478)
تنفسخ فيما بقي منها، ولا يقال للمستأجر: جئني بمثل الرمكة؛ لما بقي من الأكوام.
والثاني: أن يستأجره على عمل شيء بعينه لا غاية له إلا بتسمية الموضع، وهو الاستئجار على حمل شيء بعينه، فهذا الاختلاف في جواز الإجارة فيه، وإن لم يشترط الخلف، واختلف إن تلف على ثلاثة أقوال قد مضى تحصيلها في رسم طلق، من سماع ابن القاسم، المشهور منها: أن الحكم يوجب الخلف، ولا تنتقض الإجارة حسبما ذكرناه في المسألة التي قبل هذه.
والثالث: أن يستأجره على عمل شيء بعينه له غاية مجهولة، فلا بد فيه من ضرب الأجل. وذلك مثل أن يستأجره على أن يبيع له هذا العبد، أو هذا الثوب، أو هذه الأثواب في هذا الشهر في ذلك البلد، أو بلد آخر بثمن سماه أو بما رآه، فهذا قال فيه في هذه الرواية: إنه إن استأجره على أنه إن تلف العبد أو الثوب انفسخت الإجارة لم يجز، وإن استأجره على أنه إن تلف العبد أو الثوب كان عليه الخلف جاز.
وسكت عن حكم الإجارة إن وقعت مبهمة، والظاهر من مذهبه في المدونة جواز الإجارة ووجوب الخلف، والذي يأتي فيها على قياس قوله في الاستئجار على رعي غنم بأعيانها أن الإجارة لا تجوز إلا بشرط الخلف، فإن باع العبد أو الثوب قبل تمام الأجل انفسخت الإجارة فيما بقي من الشهر، وكان له من إجارته بحساب ما مضى منه. هذا قوله في المدونة، والنقد في هذه الإجارة بشرط لا يجوز، والذي يأتي على مذهب سحنون في هذه المسألة أن الإجارة لا تنفسخ فيما بقي من المدة، ويستعمله بقية الشهر فيما يشبه ذلك من العمل، فإن اشترط أن تنفسخ الإجارة فيما بقي من الشهر إن باع قبل تمامه لم يجز عنده، وإن لم ينقد على ما قاله في الرجل يكتري الدابة في حاجة إلى بلد، ويشترط إن وجد حاجته في الطريق رجع، وكان عليه بحساب ما مضى من(8/479)
الكراء.
ولو استأجره على أن يبيع له الدابة أو الثوب بذلك البلد أو ببلد آخر على أن له أجرته باع أو لم يبع لجاز، وإن لم يسم للتسويق والبيع أجلا؛ لأن قدر ذلك معروف، قاله أشهب في آخر أول رسم من سماع أصبغ، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وهو نحو ما يأتي في سماع محمد بن خالد.
والرابع: أن يستأجره على عمل شيء بعينه له غاية معلومة، فلا يجوز ضرب الأجل فيه؛ لأنه مدتان في مدة، ويضارع ما نهي عنه من بيعتين في بيعة إلا على وجه ما قد مضى بيانه في أول سماع ابن القاسم. وذلك مثل أن يستأجره على خياطة ثوب بعينه، أو على طحن قمح بعينه، أو على حصاد زرع بعينه وما أشبه ذلك.
فهذا الاختلاف في جواز الإجارة فيه دون شرط الخلف، وإن تلف قبل العمل أو بعد أن مضى بعضه، فالمشهور في المذهب أن الإجارة تنفسخ فيه، أو فيما بقي منه، وهو قول مالك في رسم المحرم، من سماع ابن القاسم، وفي رسم الدور والمزارع من سماع يحيى في مسألة الزرع أن الإجارة لا تنفسخ ويستعمله في مثله، وهو شذوذ. والنقد في هذه الإجارة جائز؛ لأن التلف نادر فلا يعتبر به، وأما من استأجر عبدا بعينه، أو تكارى دابة بعينها، أو ثوبا بعينه، وما أشبه ذلك، فلا اختلاف في أن الإجارة تنفسخ بالموت والتلف، والنقد فيها جائز، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال جذ نخلي هذه ومتى شئت أن تخرج فاخرج ولك نصف ما عملت]
مسألة قلت: أرأيت إن قال: جذ نخلي هذه يوما أو يومين، ومتى شئت أن تخرج فاخرج ولك نصف ما عملت. قال: لا خير فيه. قلت: لم؟ قال: لأنهما سميا يوما، ثم جعل له الخروج متى شاء، فكان الأجر قد وقع على اليوم بعينه، فإذا وقع على اليوم بعينه لم يحل إلا بشيء ثابت لا يزول. ألا ترى أنه لو قال: تقاض لي مالي الذي لي على فلان إلى شهر ولك نصفه، فما تقاضيت منه(8/480)
فبحسابه لم يصلح. أرأيت أنه لم يتقاضه إلى رأس الشهر، وهو متى شاء أن يخرج خرج، أليس يبطل عمله ويذهب عناؤه، ولعله أن يكون قد أشفى عليه، فإذا ضرب له أجلا فلا خير فيه، وإن لم يضرب له أجلا فإنما هو جعل، وليس بأجر، فمن قبل ذلك جاز؛ لأنه ليس لرب المال أن يمنع العامل العمل فيه، وللعامل أن يخرج متى شاء، والمستأجر ليس للذي استؤجر أن يخرج، وليس له إن انقضى الشهر أن يعمل فيه، فيكون العمل قد ذهب باطلا.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز أن يقول الرجل للرجل: جذ نخلي هذه يوما أو يومين، ومتى شئت أن تخرج خرجت، ولك نصف ما علمت؛ لأن قوله: جذ نخلي هذه يوما أو يومين، ولك نصف ما جذذت إجارة فاسدة؛ لأنه استأجره يوما أو يومين بنصف ما يجذ في ذلك، وهو مجهول. ألا ترى أنه لو أراد أن يبيع ما يجذ يوما أو يومين لم يجز لأنه مجهول، وما لا يجوز بيعه لا يجوز الاستئجار به.
فإذا كانت الإجارة على هذا فاسدة، فلا يصلحها اشتراط الخروج متى شاء بنصف ما جذ؛ لأن ذلك خيار اشترطه لنفسه في الإجارة الفاسدة، والعقد الفاسد لا يصلحه اشتراط الخيار فيه، وهذا التعليل بين من قوله؛ لأنهما سميا يوما، ثم جعل له الخروج متى شاء، فكأن الأجر وقع على اليوم بعينه إلى آخر قوله، ولو قال له: إن جذذت في هذا اليوم، أو في هذين اليومين من نخلي هذه شيئا، فما جذذت منها فلك نصفه؛ لكان ذلك جائزا، والفرق بينهما أن هذا جعل له حكم الجعل، والأول إجارة له حكم الإجارة.
فإن قال قائل: إن هذه الإجارة إذا اشترط فيها الخيار على هذا الوجه عادت جعلا؛ لأنه في الوجهين جميعا لا يلزمه العمل، وإن عمل فله نصف ما عمل.
قيل له: إن استويا في هذا فيفترقان في وجه آخر، وهو أن الإجارة لا تنفسخ بتلف الشيء المستأجر عليه إلا على اختلاف، والجعل ينفسخ بتلف(8/481)
الشيء المجعول فيه باتفاق، فوجب ألا تعود الإجارة بشرط الخيار فيها جعلا، وأن تبقى إجارة على حالها. وإذا بقيت إجارة، وكانت فاسدة، فلا يصلحها الخيار. وقد كان من أدركنا من الشيوخ، ومن لم ندرك منهم فيما بلغنا عنهم، يحملون هذه المسألة على أن قول ابن القاسم فيها خلاف قوله في المدونة في الذي يقول للرجل: بع لي هذا الثوب اليوم، ولك درهم: إن ذلك جائز إذا اشترط أن يترك متى شاء، وليس ذلك بصحيح من قولهم؛ لأن استئجار الرجل الرجلَ يوما بدرهم على أن يبيع له فيه ثوبا جائز؛ لأن الأجر فيه معلوم، فإذا جازت الإجارة في ذلك جاز اشتراط الخيار فيها، بأن يترك متى شاء، ويكون له من الدراهم بحساب ما مضى من اليوم، إذا لم ينقد، وقد نص على جواز هذا في أول كتاب الجعل والإجارة من المدونة.
وأما المسألة التي نظرها بهذه، وهي أن يقول له: تقاض لي مالي الذي لي على فلان إلى شهر ولك نصفه، فما تقاضيت فبحسابه، فلا يجوز فيها مع تسمية الأجل إجارة ولا جعل، أو قال: إن قبضت لي في هذا الشهر شيئا من ديني الذي لي على فلان، فلك نصفه لم يجز؛ لأنه قد يتقاضاه ويشفي عليه، فينقضي الأجل قبل أن يقبض، فيذهب عناؤه باطلا، فيجوز أن يستأجر الرجل الرجلَ على حصاد زرعه بنصفه، وأن يشترط أن يتركه متى شاء، ويكون له نصف ما حصد، ولا يجوز أن يستأجره على حصاد يوم بنصف ما يحصد فيه، وإن اشترط أن يترك متى شاء، ويكون له نصف ما حصد.
ولا يجوز له أن يجاعله على حصاد زرعه بنصفه إلا أن يشترط أن يكون له إن ترك نصف ما حصد، وكذلك لا يجوز أن يجاعله على حصاد يوم بنصف ما يحصد فيه، إلا أن يشترط أن يكون له إن ترك نصف ما حصد، والمواجرة والمجاعلة على بيع الثوب بدرهم خلاف ذلك، لا يجوز أن يواجره على بيع الثوب بدرهم إلا أن يضرب لذلك أجلا، والمجاعلة عكس ذلك، لا يجوز أن يجاعله بدرهم على بيع الثوب إذا لم يضرب لذلك أجلا، فحمل ابن القاسم قول الرجل: بع لي هذا الثوب، ولك درهم على الجعل، فأجازه إذا لم يضرب أجلا، ولم يجزه إذا ضرب أجلا إلا أن(8/482)
يشترط متى شاء أن يتركه تركه، يريد ويكون له من الدرهم بحساب ما مضى من الأجل؛ لأنه إذا اشترط ذلك، فقد أفصحا بأنها إجارة صحيحة بخيار فجازت. وقد أجاز ذلك، وإن لم يشترط متى شاء أن يتركه تركه. وقال سحنون في المدونة: إنه جل قوله الذي يعتمد عليه. فالوجه في ذلك أنه حمل قوله: بع لي هذا الثوب اليوم، ولك درهم على الإجارة. وقد قيل في تأويل ذلك غير ما قول قد ذكرته في غير هذا الكتاب.
وقوله: إنه ليس لرب المال أن يمنع العامل العمل فيه، يقتضي ظاهره أن الجعل لازم للجاعل بالعقد، وإن لم يشرع المجعول له في العمل، وهو أحد قولي ابن حبيب في الواضحة، خلاف قول سحنون في سماعه، ورواية علي بن زياد، عن مالك فيه، ورواية أشهب عنه في سماعه، من تضمين الصناع من أن الجعل لا يلزم الجاعل حتى يشرع المجعول له في العمل.
وجه القول الأول أن الجاعل لما كان ما أخرج معلوما، ولم يجز أن يكون مجهولا لزمه، وأن المجعول له لما كان ما أخرج يجوز أن يكون مجهولا لم يلزمه، ألا ترى أن الإجارة لما كانت معلوما في معلوم لزمتهما جميعا، ولم يكن لواحد منهما الرجوع، ووجه القول الثاني: أن المجعول له لما كان لا يلزمه الجعل، وجب ألا يلزم الجاعل إلا أن يشرع المجعول له في العمل، فيلزمه؛ لئلا يبطل عليه ما مضى من عمله، وهذا القول أظهر، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون له العبد الخياط أو النجار فيستأجره الرجل في غير عمله]
مسألة ولقد سئل مالك عن الرجل يكون له العبد الخياط أو النجار، فيستأجره الرجل في غير عمله، إما يستحمله شيئا، أو ينتقل لبناء أو غير ذلك من الأعمال، فيصاب فيه العبد، هل على من استأجره(8/483)
ضمان؟ قال: لا ضمان على من استأجره. وذلك أن الرجل قد يرسل عبده يعمل في البنيان، ويضرب عليه الخراج، فلا يجد العبد العمل، فيستأجره رجل في غير عمله، فلا أرى عليه ضمانا إن أصابه شيء في ذلك، إلا أن يستعمله في عمل مخوف فيه غرر ومخاطرة، فلا يفعل ذلك إلا بإذن سيده. قال ابن القاسم: أو يبعثه سفرا.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا: إنه لا ضمان على من استأجر العبد بغير إذن سيده في غير عمله، فعطب فيه، إلا أن يكون العمل الذي استعمله فيه مخوفا فيه غرر ومخاطرة، مثل قول ربيعة في المدونة، ومالك في رواية ابن وهب عنهما، خلاف قوله فيها وروايته عن مالك في أنه ضامن، إذا كان العمل يعطب في مثله، وإن لم يكن مخوفا ولا غررا.
وقوله في هذه الرواية على ما ذهب إليه ربيعة ومالك في رواية ابن وهب عنهما، أنه لا ضمان عليه، وإن كان العمل يعطب في مثله، ما لم يكن مخوفا وغررا هو الصحيح في النظر؛ لأنه لم يتعد على سيد العبد في استئجاره عبده فيما زعم العبد أنه أذن له فيه، وإنما المتعدي عليه في ذلك عبده. فهو كمن استأجر عبدا من غاصب، وهو لا يعلم، فتلف فيما استأجره فيه. وإنما يضمن إذا استعمله عملا مخوفا فيه غرر؛ لأنه كأنه قصد إلى إتلافه، وذلك إذا كان العبد لا يعمل في مثل ذلك العمل، وأما إن كان يعمل مثل ذلك العمل، فلا ضمان عليه فيه؛ حكى ابن حبيب عن ربيعة أنه سمع رجلا، قال لسعيد بن المسيب: استأجر معاوية بن عبد الله بن جعفر غلاما، فأنزله في بئر له، فأسر الغلام فيها فمات، فخاصمه سيد الغلام إلى عمر بن عبد العزيز، فقال له سعيد: فماذا قضى به عمر؟ قال: أغرمه إياه. قال سعيد: فهل كان يعمل مثل ذلك العمل؟ قال: لا لم يكن يعمله. قال سعيد: فقد أصاب عمر. وقد كان يشبه ألا يضمن، وإن كان لا يعمل مثل ذلك إذا لم يعلم ذلك من حاله، وقال له العبد: إني أعمل مثل هذا العمل، وسيدي أذن لي في إيجار نفسي فيه فصدقه؛ لأن له في ذلك شبهة.
ووجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أنه ضامن له إذا(8/484)
عطب فيما يعطب في مثله من الأعمال، وإن لم يكن عملا مخوفا هو أنه أخطأ على سيده في استعماله فيما لم يأذن فيه من الأعمال، وأموال الناس تضمن بالعمد والخطأ، وفارق ذلك من استأجر عبدا من غاصب أو اشتراه منه فتلف في عمله، أن السيد ليس له على من يرجع إذا أجر العبد نفسه؛ إذ لا يضمن العبد لسيده، وله في الغصب على من يرجع على الغاصب، وكان يلزم على قياس هذا أن يضمن، ولو كان العمل لا يعطب في مثله؛ لأنه وضع عليه يده خطأ في موضع ليس فيه من يضمن لسيده، فوجب أن يضمن؛ لأن من تعدى أو أخطأ يضمن بمجرد النقل دون الاستعمال، إلا أن يقال: إن هذا القدر من النقل، يمكن أن يتصرف فيه العبد لو لم يواجر، فصار المستأجر له كأنه ما نقله من موضع إلى موضع، وإنما استعمله في موضعه، فوجب ألا يضمن إلا أن يكون عملا يعطب في مثله، وسواء على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة استأجره أو استعمله، لا يضمن إلا أن يكون العمل يعطب في مثله خلاف قول ربيعة فيها: إنه يضمن إذا استعانه في أمر تنبغي فيه الإجارة، وإن كان قد أذن له في الإجارة، وهو أظهر؛ لأنه وإن كان قد أذن له في الإجارة، فلم يؤذن له في هبة منافعه، وقد اختلف فيمن استأجر عبدا، وهو يظنه حرا، ودفع إليه إجارته فاستحقه سيده، وقد أتلف الإجارة، فحكى عبد الحق عن بعض شيوخه القرويين أنه لا رجوع له بالإجارة على المستأجر، إذا كان العبد ظاهر الحرية؛ لأنه لم يتعد في الدفع إليه، وقال ذلك غيره إذا طالت إقامة العبد بالبلد، واستفاضت حريته، قال: وإن لم تطل إقامته، فليغرم المستأجر الأجرة ثانية، وخالف ذلك غيره، وقال: إنه يغرم الأجرة ثانية على كل حال؛ لأن العبد بائع لسلعة مولاه وهي خدمته، وهو غير ما دون له بذلك، فلا يبرأ من دفع إليه؛ لأنه دفع لغير مستحق.
قال محمد بن رشد: يريد إذا كانت الأجرة مساوية لقيمة العمل.(8/485)
وأما إن كانت أقل أو أكثر، فليأخذ منه القيمة. قال عبد الحق: وهو عندي أقيس، والأول أشبه بمذهبه في المدونة، قياسا على من مات فأنفذت وصاياه، وبيعت تركته، ثم استحقت رقبته، وقد كان معروفا بالحرية أو غير معروف.
قال محمد بن رشد: وهو كما قال عبد الحق: القياس أن يغرم المستأجر الأجرة ثانية لسيد العبد؛ لأن منافع العبد الذي بذل له العوض فيها قد استهلكها، وانتفع بها، فوجب أن يغرم قيمتها لسيده قياسا على قولهم فيمن اشترى طعاما فأكله، أو ثوبا فاستهلكه، ثم استحق أن سيده مخير بين أن يضمن المبتاع قيمة ذلك لاستهلاكه إياه، وبين أن يجيز البيع، فيأخذ الثمن من البائع. وقد قال في كتاب الغصب من المدونة فيمن استأجر ثوبا فاستعمله، ثم استحق أن للمستحق أن يضمنه ما نقصه استعماله وله، على قياس ما ذكرناه، أن يأخذ منه قيمة الاستعمال، وبالله التوفيق.
[انقطع إلى رجل فأقام معه مدة يقوم في حوائجه ثم مات فطلب المنقطع أجرا]
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته وكتب إليه صاحب الشرطة، يسأله عن رجل انقطع إلى رجل، فأقام معه ثلاثة أشهر يقوم في حوائجه، ثم مات المنقطع إليه وقام المنقطع يطلب أجر ما أقام معه، وله بينة على عدد الشهور، فكتب إليه إن كان يرى أن مثله إنما ينقطع إليه، رجاء أن يثيبه في قيامه ونظره، فأحلفه ما أتى به بشيء، ثم أعطه أجرة مثله في أمانته وقيامه وجرأته، فإن الناس قد يكونون في الأمانة سواء، وبعضهم أجرأ من بعض، وأكفأ وأحسن نظرا، فأعطه بعد أن يحلف أجر مثله في حاله.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن له أن يرجع عليه بإجارة مثله بعد يمينه أنه ما أتى به على شيء من تصرفه له، يريد ويزيد في يمينه ما كان قيامه معه، وتصرفه له احتسابا، إلا ليرجع عليه بحقه إن لم(8/486)
يثبه على ذلك، يبين هذا قوله في أول مسألة من سماع يحيى بعد هذا، ونحو هذا في رسم طلق، من سماع ابن القاسم، من كتاب الرهون، وبالله التوفيق.
[الوصيفة تكون للرجل وأبوها حر فيتركها السيد عند أبيها حتى تكبر ثم يريد أخذها]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الصبرة قال يحيى: وسألته عن الوصيفة تكون للرجل وأبوها حر فيتركها السيد عند أبيها حتى تكبر، ثم يريد أخذها فيطلب أبوها السيد بما أنفق عليها، أيكون ذلك له؟ قال: أرى أن يحلف بالله ما كان إنفاقه عليها احتسابا، ولا أراد وضع ذلك عن السيد، ثم يعدى به عليه. قلت: فإذا كان له أن يأخذ السيد بما أنفق عليها، أيكون للسيد أن يأخذ الأب بأجرة مثلها؟ قال: لا أرى ذلك على الأب.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى أن يحلف بالله ما كان إنفاقه عليها احتسابا، ولا أراد وضع ذلك عن السيد، يبين اليمين في مسألة رسم جاع قبل هذا. وقوله: إنه لا أجرة لسيدها على أبيها، معناه إذا لم يستعملها لنفسه في مثل الغزل والصناعة، وإنما كان ينتفع بها في تصرفها له في حوائجه في البيت الذي لو لم تتصرف له فيها، لم يحتج إلى الاستئجار عليها، وهو استحسان.
والقياس أنه إذا رجع على سيدها بالنفقة رجع سيدها عليه بقيمة انتفاعه بها؛ لأن من حقه أن يقول: إنما تركتها له ينتفع بها ليكفيني مئونة نفقتها كالمخدمة التي تكون نفقتها على المخدم، فإذا قال: ذلك حلف على هذا، ورجع عليه بقيمة انتفاعه بها، وأما إذا استعملها لنفسه في مثل الغزل والصناعة، فلا إشكال في أن له الرجوع عليه بالأجرة في ذلك، يبين ذلك ما وقع في سماع زونان، من كتاب الرهون، وبالله التوفيق.(8/487)
[يستأجره في حصاد الزرع فيقول له احصد هذا الزرع كله على أن لك نصفه]
ومن كتاب أوله يشتري البذور والمزارع
وقال ابن القاسم في الرجل يستأجر أجيرا في حصاد الزرع فيقول له: احصد هذا الزرع كله على أن لك نصفه، فيحصده أو بعضه، ثم تصيبه نار فتحرقه، أو بعض ما يتلفه: إن ضمانه منهما جميعا. وعلى الأجير إن كان لم يحصده كله أن يستعمله رب الزرع في حصاد مثل ما كان بقي منه؛ لأن الإجارة قد كانت ثبتت عليه في حصاد نصف الزرع بنصفه.
قال: وإن قال له: احصد منه ما شئت، فما حصدت فلك نصفه، فيحصد بعضه، ثم هلك الزرع، فضمان ما حصد منهما، وضمان ما بقي من صاحبه، ولا يتبع واحد منهما صاحبه بشيء؛ لأنه لم تجب عليه إجارة في شيء بعينه، وإنما كان له أن يحصد ما شاء، ويترك ما شاء.
قال: وإن قال له: احصده كله، وادرسه كله، وصفه كله، ولك نصفه، فيحصده أو بعضه، ثم هلك الزرع، فضمانه كله من صاحبه، وللأجير أجرة مثله فيما عمل؛ لأن الإجارة كانت فاسدة. ولا يصلح لرجل أن يستأجر أجيرا في شيء من الأعمال بنصف ما يخرج من زرعه بعد أن يصفيه؛ لأن ذلك بيع لا يحل.
قال محمد بن رشد: أما إجازته الاستئجار على حصاد الزرع بعد يبسه بنصفه أو بجزء منه معلوم، فمثله في المدونة ولا اختلاف فيه. وقوله: إن مصيبته منهما جميعا إن تلف بنار أو غيره مما يتلف به الفدان(8/488)
بعد أن يحصد بعضه، يريد أو قبل أن يحصد شيء منه صحيح؛ لأن نصفه يجب للأجير بعقد الإجارة، ويحصلان فيه شريكين.
وأما قوله: وعلى الأجير إن كان لم يحصده كله أن يستعمله رب الزرع في حصاد مثل ما كان بقي منه؛ لأن الإجارة قد كانت ثبتت عليه في حصاد نصفه بنصفه، فهو خلاف المشهور في المذهب، من أن الإجارة تفسخ بتلف الشيء المستأجر على عمله بعينه حسبما مضى في رسم المحرم، من سماع ابن القاسم، ورسم العتق من سماع عيسى. والواجب في هذه المسألة على المشهور في المذهب من أن الإجارة تنفسخ بتلف الشيء المستأجر عليه بعينه إذا تلف الزرع أن يكون على الأجير قيمة نصفه، أو قيمة نصف ما بقي منه إن كان تلفه بعد حصاد بعضه؛ لأنه يدخل في ضمانه بعقد الإجارة، فإذا تلف جميعه وجب أن يرد قيمة نصفه كما لو اشترى نصفه بعرض فتلف جميعه بعد الشراء، ثم استحق العرض.
وأما قوله: إنه إن استأجره على حصاده ودرسه وتصفية نصفه، فهي إجارة فاسدة، فهو مثل قوله في المدونة، خلاف ما مضى في أول رسم من سماع أشهب. وقد مضى القول على ذلك هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته.
وإذا كانت الإجارة فاسدة، فالضمان من البائع ما لم يحصد؛ لأن الفساد فيه لا في الثمن، ولو كان الفساد في الثمن لدخل بالعقد في ضمان المبتاع، على ما مضى في آخر سماع سحنون، من كتاب جامع البيوع. هذا هو المشهور في المذهب.
وقد قيل: إن البيع الفاسد ضمانه من البائع، وإن قبضه المبتاع، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، من جامع البيوع، فقوله في هذه الرواية: إن الزرع إذا هلك بعد أن يحصده أو يحصد بعضه، فضمانه كله من صاحبه، وللأجير أجرته فيما عمل؛ لأن الإجارة كانت فاسدة، إنما يأتي على رواية أبي زيد هذه الشاذة في المذهب. والذي يأتي في هذه المسألة على المشهور فيه من دخول المبيع في البيع الفاسد، في ضمان(8/489)
المشتري بالقبض، أن يكون على الأجير نصف قيمة ما هلك من الزرع بعد حصاده، ويكون له نصف أجرة مثله في حصاده، وإن كان أخذ منه شيئا كان عليه نصف مكيلته، أو نصف قيمته إن لم تعرف مكيلته، وكذلك وقع لابن القاسم في الدمياطية، وبالله التوفيق.
[يقول للرجل: قم لي بطلب شفعتي ولك إن استحققتها نصف سهمي]
ومن كتاب أوله أول عبد أبتاعه فهو حر قال: وسألته عن الرجل يقول للرجل: قم لي بطلب شفعتي ولك إن استحققتها نصف سهمي، ونصف ما تأخذ لي بالشفعة في قيامك لي. قال: لا يصلح الجعل في الخصومة، وذلك أنه لا يعرف للفراغ منها قدر، فأنا أحب لمن استأجر رجلا يطلب حقا له بالخصومة أن يقطع لذلك أجرة وزمانا ينتهي إليه قيامه بطلب ذلك الحق، وإلا لم يصلح ما يتجاعلان عليه.
قال: وأما الذي سألت عنه في صاحب الشفعة فهو مكروه؛ لأن الجعل في الخصومة إن كان حلالا لم يجز له أن يجعل جعله ما لا يملك بعد، والجعل من باب الإجارة، والإجارة بيع، ولا يجوز لأحد أن يبيع ما لا يملك، وما ليس في يديه ألا ترى أن طالب الشفعة وإن كانت ثابتة فهو لا يبيعها قبل أن يحكم له بها؛ لأن ضمانها من الذي هي في يديه، فمن استأجر بها رجلا فهو كمن باعها؛ لأنه قد باعها لأجير بعمله وقيامه بالذي تعاملا به غير جائز من غير وجه واحد.
قال محمد بن رشد: أما الجعل في الخصومة على إن أفلح فله(8/490)
جعل مثله، وإن لم يفلح فلا شيء له، فإن اختلاف قول مالك في جواز ذلك، واقع في آخر كتاب الجعل والإجارة من المدونة، وقد اختلف في ذلك أيضا قول ابن القاسم: روى يحيى عنه في أول رسم من سماع يحيى، من كتاب البضائع والوكالات إجازة ذلك، خلاف قوله في هذه الرواية، وفي سماع يحيى من كتاب الصدقات والهبات.
والأظهر إجازة ذلك؛ لأن الجعل على المجهول جائز، وإنما كرها ذلك في أحد قوليهما إذا كثر الجهل فيه استحسانا، وأما إذا قل وكان الشيء الذي يخاصم فيه شيئا معروف القدر، خفيف الخطب، وجه الشخوص فيه لا يكاد يختلف فهو جائز، كذلك قال ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب الصدقات والهبات.
وقوله: فأنا أحب لمن استأجر رجلا على طلب حق له بالخصومة أن يقطع لذلك أجرة وزمانا ينتهي إليه قيامه بذلك الحق، صحيح على ما قال، لا بد في الإجارة على ذلك من ضرب الأجل، كالذي يستأجر الرجل على بيع الثوب، لا بد فيه من ضرب الأجل، فإذا بلغه استوجب أجرته ظفر أو لم يظفر، قاله مالك في كتاب ابن المواز، وهو صحيح على معنى ما في المدونة. قال ابن القاسم: ثم ليس له تركه حتى يستخرجه. وقال أصبغ: يجوز وإن لم يضرب أجلا إذا كان لذلك وقت قد عرفه الناس، كالإجارة على بيع السلعة، والأجل على كل حال أحسن.
وأما قوله: ولو كان الجعل في الخصومة حلالا لم يجز له أن يجعل جعله ما لا يملك ففيه نظر؛ لأنه إنما لم يجز للرجل أن يبيع ما لا يملك أو يستأجر به؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد باعه أو استأجر به على أن يتخلصه للمبتاع أو للأجير من ربه، وذلك غرر بين؛ إذ لا يدري بما يتخلصه به، ولعله لا يقدر على أن يتخلصه، فيرد إلى المبتاع ماله إن كان قد نقده، فيكون مرة بيعا ومرة سلفا؛ والجعل لا ينقد فيه، ولا يستحق إلا بتمام العمل.(8/491)
وإذا تم العمل في هذه المسألة تقرر الملك في الجعل للجاعل، ووجب للمجعول له. فلما كان لا يجب الجعل على الجاعل إلا بعد تقرر الملك له فيه، وجب أن يجوز لعدم التخليص الذي هو العلة في أنه لا يجوز للرجل بيع ما لا يملك، ولقد أجاز في رسم المكاتب، من سماع يحيى، من كتاب جامع البيوع أن يبيع ما لم يملك بعد إذا كان قد أعطى صاحبه فيه ثمنا وقارب أن يشتريه منه، فكيف بهذا؟! وبالله التوفيق.
[يستأجر الرجل شهرا يحرث له فينكسر المحراث أو يموت الزوج]
من سماع سحنون بن سعيد من عبد الرحمن بن القاسم قال ابن القاسم في الرجل يستأجر الرجل شهرا يحرث له، فينكسر المحراث، أو يموت الزوج، أو يمطر فيحتبس اليوم وما أشبهه. قال: أما كسر المحراث وموت الزوج فإن الكراء فيه لازم؛ لأن حبسه جاء من قبل المحراث، ورب الزوج. وأما المطر فهو منع من الله، وهو بمنزلة المرض، فليس للأجير في ذلك إجارة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن المستأجر كان يقدر أن يعد زوجا غيرها، أو محراثا غيره، فإذا لم يفعل وجب للأجير أجره كاملا؛ لأن الحبس جاء من قبله، بخلاف المطر الذي هو من الله لا صنع لأحد فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: جعل لرجل جعلا في اقتضاء دين له في القرية التي هو فيها]
مسألة قال سحنون: قال علي بن زياد، سئل مالك عن رجل(8/492)
جعل لرجل جعلا في اقتضاء دين له في القرية التي هو فيها، ثم قدم صاحب الدين، فأراد أن ينزع عما جعل له، ويجعل لغيره، فقال مالك: لا أرى ذلك له إذا أخذ المجعول له في التقاضي والعمل.
قال سحنون: كل من جعل لرجل جعلا، فشرع المجعول له في ذلك الشيء، فليس للجاعل أن يخرجه على حال، وللمجعول له أن يخرج متى شاء، ولا يلزمه شيء.
قال محمد بن رشد: هذا بين أنه ليس له أن ينزع بعد أن شرع المجعول له في التقاضي والعمل؛ لأنه يبطل بذلك ما مضى من عمله، وإنما الخلاف هل له أن ينزع قبل أن يشرع المجعول له في العمل، أو ليس ذلك له، ويلزمه الجعل بالعقد؟ وقد مضى القول على ذلك في رسم العتق من سماع عيسى. وأما المجعول له فلا يلزمه التمادي على العمل، وإن شرع فيه؛ إذ لا ضرر على الجاعل في تركه العمل بعد شروعه فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إلى رجل فرسا على أن يعلفه سنة بستة دنانير]
مسألة وقال سحنون: سئل ابن القاسم عن رجل دفع إلى رجل فرسا على أن يعلفه سنة بستة دنانير، هل يجوز له؟ قال: نعم، لا بأس بذلك في الفرس، وفي العبد يعطيه سيده رجلا على أن يكفيه الرجل عوله من عنده سنة بكذا وكذا، فذلك جائز لا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة من(8/493)
إجازة كراء الدابة بعلفها، والأجير بطعامه، وإن لم توصف النفقة، ولا سيما كيل علف الدابة؛ لأن ذلك معروف عند الناس، فاستغني فيه عن الوصف بالعرف، وبالله التوفيق.
[مسألة: خاصم في القرية على أن له ثلثا ثم تصدق عليه بذلك الثلث]
مسألة قال ابن القاسم في مسألة الجعل في الذي خاصم في القرية على أن له ثلثا، ثم تصدق عليه بذلك الثلث، وقبضه وحازه، ثم قاموا عليه فقالوا: إن الجعل لا يجوز، وقال: إنما هي صدقة، فأقام البينة على صدقته، وأقاموا البينة على أنه أقر أنه إنما أخذه على جعله في الخصومة، وهم مقرون بالصدقة، وذلك أنهم قالوا: إنما فعلنا؛ لأنا ظننا أن ذلك يلزمنا، وإنما قاموا عليه بعد سنين.
فرأى أن إقراره لم يضره، ولم ير ما ادعوا من الجهالة في الصدفة ما ينتفعون به، وقال: كأنهم أعطوه إذ تصدقوا به عليه فيما كان وجب له من جعله. وذلك أنه إذا كانت تصير له إجارة، فكأنهم أعطوه هؤلاء الإجارة، ولم يعذرهم بالجهالة؛ لأنه قد أقام يحوزها سنين.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة هاهنا ملخصة محذوفة السؤال والجواب، ووقعت في رسم الأقضية، من سماع يحيى، من كتاب الصدقات والهبات بكمالها، وبعض ألفاظها مخالفة لما لخصت به هنا، والمعنى فيها أن الرجل خاصم في القرية لأربابها، فلما استحقها(8/494)
لهم تصدقوا عليه بثلثها، فقبض الثلث وحازه، ثم إنهم قاموا عليه بعد سنين فقالوا: إنا كنا جاعلناك على الخصام في القرية بثلثها الذي دفعناه إليك، وذلك لا يجوز لك؛ لأنه جعل فاسد لا يجوز، وأقاموا البينة على إقراره بأنه أخذه على جعله، وقال: هو إنما أخدته بالصدقة، وأقام البينة على الصدقة، فأقروا بها، وقالوا: إنما تصدقنا عليك به؛ لأننا ظننا أن ذلك يلزمنا بالجعل الذي شارطنا عليه، فلم ير ابن القاسم إقراره بأنه أخذه على جعله ضائرا له؛ لأن بإزائه إقرارهم له بالصدقة التي ادعى، ولم يعذرهم فيها بالجهالة مع احتمال إقراره بأنه أخذه على جعله أنه أخذه فيما وجب له من الجعل، لا على أنه جاعلهم على ذلك.
واستظهر على ذلك في سماع يحيى، من كتاب الصدقات والهبات باليمن، على أنه لم يقاطعهم بالثلث قبل الخصومة، وإنما طاعوا له بها بعدها شكرا ومكافأة عليها، من أجل ما تضمنه السؤال من أنه شهد عليه أنه ادعى عند القاضي أنه جاعلهم على الخصام عنهم في القرية على ثلثها، فلا يعد ذلك اختلافا من قوله، وسنتكلم على رواية يحيى إذا مررنا بها إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصياح على المتاع في السوق على جعل]
مسألة قال سحنون في الرجل يستأجر على الصياح على المتاع في السوق على جعل: إن ذلك الجعل فاسد؛ لأنه يصيح النهار كله، وليس إليه إمضاء البيع وإمضاؤه إلى رب المتاع، فهذا جعل فاسد لا يدري أيعطى في السلعة ما يرضى به صاحب السلعة أم لا. ولو كان إمضاء البيع والنظر إلى الصائح، لم يكن بالجعل بأس، وقال سحنون: وهذه المسألة جيدة.(8/495)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة جيدة على ما قال سحنون، ولا يجوز الجعل على البيع إلا على أحد وجهين؛ إما أن يسمي له ثمنا، أو يفوض إليه البيع بما يراه، ولا اختلاف في هذا، ومثله لابن القاسم في بعض الروايات، في رسم حلف من سماع ابن القاسم، ذكر ذلك في المدنية من كتاب أوله الرجل يحلف بطلاق امرأته، وبالله التوفيق.
[مسألة: البيع والإجارة في الشيء المبيع]
مسألة وسئل سحنون عن البيع والإجارة، فقال: جائز في غير ذلك الشيء، ولا يجوز في ذلك الشيء بعينه.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم مشهور من مذهب سحنون، أن البيع والإجارة في الشيء المبيع لا يجوز عنده على حال، وهو جائز على مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك فيما يعرف وجه خروجه بعد العمل كالثوب، على أن على البائع خياطته وما أشبه ذلك، وفيما لا يعرف وجه خروجه إذا كان يمكن إعادته للعمل، كالصفر على أن يعمل منه البائع قدحا، وما أشبه ذلك. وأما ما لا يعرف وجه خروجه، ولا يمكن إعادته للعمل كالغزل على أن على البائع نسجه، أو الزيتون على أن على البائع عصرها، أو الزرع على أن على البائع حصده ودرسه، وما أشبه ذلك فلا يجوز باتفاق، وقد مضى هذا المعنى في غير ما موضع من هذا الكتاب، ومن كتاب جامع البيوع، والله الموفق.
[يعلم الصبيان الكتاب ولا يشارط]
ومن كتاب جامع البيوع
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون بن سعيد وسئل سحنون عن الرجل يعلم الصبيان الكتاب، ولا يشارط(8/496)
على شيء من تعليمه، فيجري له في الشهر الدرهم والدرهمين، ثم يحذقه المعلم فيطلب منه الحذقة، ويأبى الأب أن يغرم، ويقول: إن حقك فيما قبضت. قال سحنون: إنما ينظر في هذا إلى حال البلد وسنتهم في ذلك، فيحملون على ذلك، إلا أن يكون رجلا اشترط شيئا فله شرطه. وأما الحذقة فليس فيها شيء معروف، إلا على قدر الرجل وحاله.
قال محمد بن رشد: إنما سئل أولا عن الحذقة، هل يقضي بها، فقال: إنه ينظر في ذلك إلى حال البلد وسنتهم، فيحملون على ذلك، فقوله بعد ذلك: وأما الحذقة فليس بوجه الكلام؛ إذ عليها تكلم أولا، فكان من حق الكلام أن يقول: وليس فيها شيء معروف إلا على قدر الرجل وحاله. وإيجابه القضاء بالحذقة إذا كانت جارية بالبلد، وإن لم تشترط هو على أحد قولي مالك في رسم القبائل، من سماع ابن القاسم، من كتاب النكاح، وفي رسم لم يدرك، من سماع عيسى منه، في أن هدية العرس يقضى بها، وإن لم تشترط إذا كانت جارية بالبلد، ولم يحكم بها في قوله: إنه يقضى بها بحكم الصداق كالمشترطة، ولا بحكم الهبة، وإنما حكم لها بحكم الصلة التي يراد بها عين الموصول، فأبطلها بموت من مات منهما. وكذلك يجب في الحذقة على قياس قوله ألا يقضى بها لورثته إن مات على الأب، ولا على ورثة الأب إن مات المعلم، وإنما يقضى بها للمعلم على الأب في حياتهما، وعلى هذا يأتي قول ابن حبيب؛ لأنه فرق بين الحذقة المشترطة والواجبة بالعرف في موت الصبي أو إخراجه قبل بلوغه إلى الحذقة حسبما مضى القول فيه في رسم البيوع الأول من سماع أشهب، وبالله التوفيق.(8/497)
[مسألة: حمل طعاما في سفينة فغرقت بعد أن بلغت الساحل]
مسألة وقال في رجل حمل طعاما في سفينة، فلما انتهت السفينة نصف البحر غرقت بعد أن بلغت الساحل. قال: لا كراء لصاحب السفينة. قلت: فلو حمل طعاما من الإسكندرية إلى الفسطاط في سفينة، فغرقت في بعض الطريق، فاستخرج بعض الطعام، فحمل على غيرها إلى الفسطاط؟ قال: لرب السفينة التي غرقت من كراء الطعام الذي أخرج بقدر ما انتفع به صاحبه من بلوغه إلى الموضع الذي غرقت فيه السفينة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما قال ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة في أن كراء السفن على البلاغ، وعلى هذا يأتي ما في رسم أخذ يشرب خمرا، من سماع ابن القاسم، من كتاب الرواحل والدواب، في أنه لا كراء لصاحب المركب فيما ألقى من المتاع في البحر لهو له، وإليه ينحو قول أصبغ في نوازله من الكتاب المذكور.
وسيأتي الكلام عليه في موضعه إن شاء الله. والقياس قول ابن نافع في المدونة أن لها بحساب ما بلغت؛ لأن الكراء على البلاغ أخذ بشبه من الجعل والإجارة، وليس بجعل محض، ولا بإجارة محضة، فهو استحسان. وكذلك قول ابن القاسم في المدونة: إن ما عثرت به الدابة أو الحمال على ظهره فتلف؛ أنه لا ضمان عليه، ولا كراء له هو استحسان أيضا، والقياس قول غيره أن له كراء ما سار من الطريق؛ لأن الضمان إذا سقط عنه، فهو بمنزلة ما تلف بأمر السماء، وبالله التوفيق.
[مسألة: استأجروا أجيرا يحرس لهم أعدال متاع]
مسألة وسئل عن قوم استأجروا أجيرا يحرس لهم أعدال متاع لكل(8/498)
رجل منهم العشرة الأعدال، والخمسة، والثلاثة، هل تكون الإجارة على قدر عدد ما لكل رجل منهم من الأعدال، أو تكون على عدد القوم؟ قال: الإجارة في مثل هذا تكون على عدد الرجال، ولا تكون على عدد الأعدال؛ لأن الحارس يتمون في القليل من المتاع، أو في النظر إليه، ويرد النوم عنه، كما يتمون في الكثير.
قيل له: وكذلك لو استأجروا أجيرا يحرس لهم حبال مقاثي، وهي مختلفة الطول والعرض والعدد، يكون لأحدهم حبلان، وللآخر ثلاثة، والكرم يكون لهم على هذه الحال، وبعضها أكبر من بعض، وأكثر عددا؟ قال: نعم، الجواب واحد في المسألتين جميعا. قلت: أرأيت إن استأجروه على أن يجمع لهم ثمر هذه الكروم والحمال والمقاثي، أو على أن يحرسها ويجمع ثمرتها، وهي في القرب واحد بعضها قريبة من بعض، بدراهم مسماة جملة واحدة؟ قال: إذا استأجر قوم أجيرا على عمل مختلف مثل أن يكون لأحدهم عشرة فدادين، ولآخر خمسة، ولآخر واحد، فهذا عمل، وعمل القليل والكثير ليس بسواء، وهو عندنا فاسد؛ لأن عمله يكون على كل قوم بقدر قيمة ماله فيقسم الكراء على ذلك، فلا يدري ما أجر نفسه به من كل واحد إلا من بعد القيمة، مثل الرجلين يبيعان العبدين بمائة دينار من رجل، وهما مختلفا القيمة، فيكون كل واحد منهما لا يدري بما باع به سلعته إلا بعد القيمة، فكذلك الأجير لا يدري ما يتبع به كل واحد إلا من بعد القيمة، وقد(8/499)
قال ابن القاسم في مسألة العبدين: إنه جائز، وذكر عن مالك ما يشبه، وهو قول أشهب: إنه جائز في الشراء.
قال محمد بن رشد: قوله في أجرة الأجير على حرز الأعدال للجماعة من الناس: إنها تكون على عدد الرءوس لا على عدد الأعدال، هو على قول ابن القاسم في كتاب الأقضية من المدونة في أجرة القيام: إنها تكون على عدد الرءوس لا على قدر الأنصباء، وهو أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم، فروى يحيى عنه في أول سماعه من كتاب البضائع والوكالات في أجرة الأجير على الخصام، أنها تكون على قدر الأنصباء لا على عدد الرءوس، وهو الأظهر، وإليه ذهب أصبغ في نوازله، من كتاب السداد والأنهار.
وقال به محمد بن عبد الحكم، واحتج بقوله: إن الأجرة إن جعلت على عدد الرءوس ربما صار على القليل النصيب من الأجرة أكثر من قيمته، وهو كما قال. وأما إذا استأجره جماعة على جمع ثمار كرومهم، فقوله: إن ذلك غير جائز، وهو فاسد عندئذ، جار على اختلافهم في إجازة جمع الرجلين سلعتيهما في البيع، فهو بين على ما قال، فلا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: كراء أحواض الملح أشهرا معلومة بالدنانير والدراهم أو العروض]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل يكون له الأحواض من الملح، ويكون له شرب معروف من بين، فيريد أن يقبلها لأشهر معلومة بالدنانير والدراهم، قال: إذا كان كما ذكرت من معرفة شربها، فلا بأس بذلك.
قلت: فإن أراد يقبلها أشهرا بملح يكون عليه مضمونا،(8/500)
أترى بذلك بأسا؟ قال: إذا كان مضمونا على المستأجر، فلا بأس بذلك.
قلت: فلو استأجره بثلث ما يرفع فيها أو النصف؟ قال: ذلك جائز.
قال محمد بن رشد: هذه المسائل الثلاث عابها الناس قديما وحديثا، واعترضوها وقالوا: إنها مخالفة للأصول، والأولى أخفها. ووجه الاعتراض فيها أنه قد علم أن الحر إذا اشتد كثر عقد الملح، وإذا خف قل عقده، فكراؤها أشهرا معلومة بالدنانير والدراهم أو العروض ينبغي ألا يجوز، كما لا يجوز شراء ما أطعمت المقثاة أشهرا؛ لأنه إذا اشتد الحر كثر حملها، وإذا كان البرد قل حملها. ووجه تفرقة سحنون بين المسألتين أن نبات المقثاة لا عمل للمشتري فيه، وإنما يكون على قدر ما يكون في تلك المدة من الحر أو البرد، وأما عقد الملح، فإن كان يكثر بشدة الحر، ويقل بقلته، فإن لخدمة المكتري في ذلك تأثيرا، فقد تقل الملاحة بكثرة الخدمة مع قلة الحر، أكثر مما تقل مع كثرة الحر، وقلة الخدمة، وإن تركت خدمتها أصلا، ولم يجلب الماء إلى أحوضها، لم يكن فيها من الملح قليل ولا كثير. وهو فرق بين، والإجازة فيها أظهر من المنع.
أو أما كراؤها لجميع مدة الملح من العام بالدنانير والدراهم والعروض نقدا وإلى أجل، فلا اعتراض في ذلك، ولا إشكال في أن ذلك جائز، وأما كراؤها أشهرا مسماة بكيل من الملح، يكون على المكتري مضمونا، أو بجزء مما يخرج منها، فأجاز سحنون ذلك في هذه الراوية، وروى زياد عن مالك أنه قال: أكره أن يعطي الرجل ملاحته على النصف أو الثلث، أو ببعض ما يخرج منها.
ووجه رواية زياد في كراهيته لكرائها أشهرا معلومة بكيل من الملح(8/501)
يكون على المكتري مضمونا، هو أن الملح الذي يأخذه المكري من المكتري، هو من الماء الذي دفع إليه، فأشبه ذلك من سلف كتانا في ثوب كتان أو صوفا في ثوب صوف.
ووجه ما ذهب إليه سحنون من إجازة ذلك، وتفرقته بين المسألتين، هو أن جل الكراء إنما وقع على الأحواض؛ إذ لا منفعة له في الماء دونها والماء تبع لها؛ إذ لو اكترى منه الأحواض دون الماء على أن يسوق إليها الماء، لم ينتفع صاحب الماء بمائه؛ إذا لم تكن له أحواض يسيره إليها، فكان ذلك بخلاف الذي أسلم كتانا في ثوب كتان أو صوفا في ثوب صوف؛ لأنه يعطيه الثياب من عين ما دفع إليه من الكتان أو الصوف، وإنما تشبه المسألتان لو باع منه شرب الملاحة دون الأحواض على أن يسوقه المبتاع إلى أحواض نفسه بكيل من الملح يكون عليه مضمونا.
وأما كراؤها بالجزء منها، فوجه الكراهة فيها أنه كراء بثمن مجهول؛ لأن الجزء قد يقل ما يحصل فيه من الملح وقد يكثر، ووجه ما ذهب إليه سحنون من إجازة ذلك، هو أن المعنى في ذلك أنه لم يعتبر لفظ الإجارة، ورآها شركة كالمزارعة، جعل صاحب الملاحة أحواضه وشربه من الماء، وجعل الآخر خدمته في ذلك على أن يكون ما أخرج الله فيها من الملح بينهما بنصفين، أو على الثلث، أو الثلثين، أو ما أشبه ذلك، فوجب أن يجوز؛ لأن الشرب من الماء كالبذر في المزارعة، وهو توجيه فيه ضعف لإفصاحهما بلفظ الإجارة، ولو لم يفصحا بلفظ الإجارة، وأفصحا بلفظ الشركة لوجب أن يجوز، كما لو تزارع الرجلان على أن يجعل أحدهما الأرض، والبذر والآخر العمل وحده؛ لكانت مزارعة جائزة، فكذلك الملاحة.
فتحصيل القول في هاتين المسألتين أنهما إن أفصحا فيهما بلفظ الإجارة لم يجز، وإن أفصحا في مسألة الملاحة بلفظ الشركة، وفي الثانية(8/502)
بلفظ المزارعة جازتا جميعا، وإن أتيا في كل واحدة منهما بلفظ محتمل للوجهين، تخرج ذلك على قولين، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي بدابته لينزي عليها فيقول لصاحب الفحل أنزه على هذه الدابة مرتين بدرهم]
مسألة وسئل عن الرجل يأتي بدابته لينزي عليها، فيقول لصاحب الفحل: أنزه على هذه الدابة مرتين بدرهم، فيرضى صاحب الفحل فينزيه له ضربة فتعق الدابة، أترى له عليه نزوة أخرى إن أراد أن يأتي بدابة أخرى، أم ماذا له في ذلك؟ قال سحنون: أرى أن يرجع عليه بنصف الأجرة؛ لأن ذلك عندي بمنزلة المرضع تستأجر على رضاع صبي سنة فترضع ستة أشهر، ثم يموت الصبي، فإنها تأخذ بحساب ما أرضعت، ولا يكون لها ولا لهم أن يأتوها بصبي آخر.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة إحدى المسائل الأربع التي تنفسخ الإجارة فيها بذهاب الشيء المستأجر له. وقد مضى القول في هذا المعنى مقسما ملخصا مستوفى في رسم العتق، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعطى رجلا ثوبا ليبيعه له بجعل فلما قبض الدنانير ضاعت من عنده]
مسألة وسئل سحنون عن رجل أعطى رجلا ثوبا ليبيعه له بجعل، فلما قبض الدنانير ضاعت من عنده. هل يكون له الجعل الذي جعل له؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا بين كما قال؛ لأنه لما باع الثوب وجب له الجعل، فليس ضياع الثمن منه بعد ذلك بالذي يسقط له ما وجب له من(8/503)
الجعل. ووقع في رسم طلق، من سماع ابن القاسم، من كتاب الرواحل والدواب، فيمن تكارى حمالا، وبعث معه بدنانير إلى موضع ليبتاع له بها طعاما، فرجع وزعم أن الدنانير ضاعت منه أنه يحلف لقد ضاعت منه الدنانير، ولا يكون له فيها مواجرة.
فذهب بعض الناس إلى أن المسألتين متعارضتان، وليس ذلك بصحيح؛ لأن مسألة سحنون جعل على بيع، فوجب للمجعول له جعله بالبيع، ومسألة مالك إجارة على الذهاب بالمال إلى بلد آخر، وشراء سلعة به، فلما ضاع منه المال بالطريق قبل الشراء لم يكن له فيما مضى منه أجرة؛ لأن تلف المال جاء منه، وذلك على أصله في المدونة في الذي يستأجر الحمال على حمل شيء بعينه، فيعتر به فيذهب، أنه لا ضمان عليه ولا كراء له، خلاف قول غيره، وبالله التوفيق.
[الصائح على الدقيق والعقار يقال له صح عليه فإن بعت فلك كذا وكذا]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم قال محمد بن خالد: سألت ابن القاسم عن الصائح على الدقيق والعقار يقال له: صح عليه، فإن بعت فلك كذا وكذا، وإن لم تبع فلا شيء لك. قال ابن القاسم: ذلك مختلف، أما مثل الرأس الذي يؤمر ببيعه، أو الدار تباع، فإن ذلك يجوز فيه هذا؛ لأنه قد صاح فيه أياما كثيرة، وهو ينظر في حوائجه في خلال ذلك. قال ابن القاسم: وأما كل ما يباع من عاجل، فذلك لا يكون إلا بأجرة.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم شك في طوافه، وفي رسم حلف، من سماع ابن القاسم بيان وجه الكراهة في المجاعلة على الصياح، على الرقيق والثياب الكثيرة، فلا معنى لإعادة ذلك، وكذلك العقار الكثير، وأما الثوب والثوبان، والرأس والرأسان، فالمجاعلة على بيع ذلك جائز، إذا سمى لكل ثوب أو رأس منها جعلا، وكان مما لا يباع من عاجل؛ إذ ما يباع من عاجل ويتيقن وجود الثمن فيه، لا يجوز فيه الجعل على ما قال؛ لأن الجعل إنما يكون فيما إن بلغه المجعول له استحق جعله، وإن قصر عنه لم يكن له شيء، وبالله التوفيق.(8/504)
[قال لرجل اقتض ما لي على فلان ولك ثلثه أو نصفه]
من سماع أصبغ من كتاب البيوع الثاني قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن رجل قال لرجل: اقتض ما لي على فلان وهو كذا وكذا، فما اقتضيت من شيء فلك ثلثه أو نصفه، فمات المجعول له، وقد اقتضى بعض المال، أو لم يقتض شيئا، أو مات الجاعل، أو مات الذي عليه الحق. فقال: إن مات الذي جعل له، وقد عمل فورثته مكانه، يقومون مقام أبيهم إن كانوا أمناء، ما دام صاحب الحق حيا، وإن كان المجعول له مات قبل أن يقتضي شيئا، فلا حق لورثته بمنزلة القراض سواء، يريد إذا لم يعمل الميت بالقراض، ولم يشغله، ولا شيئا منه، فلا شيء لورثته، فهذا مثله، وإن مات رب المال الجاعل، لم يكن للذي جعل له استتمام ما لقي، ولا لورثته إن هو مات؛ لأنه أمر إنما كان يلزم الجاعل ما دام حيا، فإذا مات فقد صار المال لغيره، وانفسخ عنه ما جعل له؛ لأنها لم تكن إجارة لازمة، وقد كان المجعول له متى شاء أن يخرج خرج.
ومما يبين ذلك، أن لو هلك رب المال، وعليه دين يحيط بماله، فأراد المجعول له أن يقوم بالتقاضي كما هو، وأبى ذلك الغرماء، وقالوا: قد صار المال مالنا، وليس لك أن تنقصنا من أموالنا لما جعل لك، فإن ذلك لهم. وكذلك لو فلس رب المال الجاعل(8/505)
لسقط جعل الأجير، يريد من ذي قبل فيما لم يقبض، وكان لغرمائه يقتسمونه، وكذلك الورثة بمثابتهم؛ لأن المال خرج إلى ورثة رب المال.
قال: وإن مات الذي عليه الحق، وقد اقتضى المجعول له بعض الحق قبل أن يموت، وفات أو مات الذي عليه الجعل، فهو على جعله الذي جعل له صاحب الحق، يقوم بتقاضيه إن أحب، كان اقتضى قبل ذلك شيئا أو لم يقتض، وهو بمنزلة ما لو أراد صاحب الحق أو غيره من غرماء الميت الذي عليه الحق أن يفلسوه، كان المجتعل على جعله، فالموت في هذا والفلس واحد، وورثة الأجير هاهنا بمنزلته إذا كانوا أمناء مثل القراض. قاله أصبغ كله على الاتباع والاستحسان، وفي بعضها بعض المغمز والانكسار على القياس والكلام.
قال محمد بن رشد: تفرقته في موت المجعول له بين أن يموت قبل أن يقتضي شيئا، يريد قبل أن يعمل في الاقتضاء، وبين أن يموت، وقد عمل في الاقتضاء، يريد وإن لم يقتض شيئا بعد، وتنظيره إياه بالقراض صحيح على القول بأن الجاعل يلزمه الجعل بالعقد، وإن لم يشرع المجعول له في العمل؛ فيكون لورثة المجعول له إن كانوا أمناء، أو أتوا بأمين أن يقوموا مقام مورثهم.
وأما قوله: إنه إن مات رب المال الجاعل لم يكن للذي جعل له(8/506)
استتمام ما بقي، ولا لورثته إن هو مات، فالمعنى في ذلك عندي إذا كان قد اقتضى البعض، وبقي البعض، لأن ما اقتضى قد وجب له فيه جزؤه، فلم يخسر عناءه جملة. وهذا الموضع هو الذي قال فيه أصبغ: إنه استحسان، وإن فيه مغمزا وانكسارا على وجه القياس. وهو كما قال؛ لأنه إذا اقتضى البعض، فقد لزم الجاعل الجعل، وإذا لزمه لم يسقط عنه بموته، ولزم ورثته من ذلك ما لزمه في وجه النظر والقياس على الأصل.
وأما لو مات الجاعل بعد أن عمل المجعول له في الطلب والشخوص والقيام، وقبل أن يقتضي شيئا، لما صح أن يبطل حقه في ذلك بموت الجاعل فيذهب عناؤه باطلا، ولوجب أن يكون له ولورثته إن مات القيام مكانه في اقتضاء ما كان قام عليه فيه، وأشرف على اقتضائه منه دون خلاف، كما أنه لو كان الجعل في غير اقتضاء الديون، مثل أن يجعل له جعلا في طلب آبق، أو في حفر بئر، فمات الجاعل بعد أن حفر المجعول له بعض البئر، أو خرج في طلب الآبق؛ للزم ذلك ورثته، ولم يقع في ذلك خلاف.
ولو كان الجعل في مثل الحصاد، واللقط بأن يقول له: ما حصدت من زرعي هذا، أو لقطت من زيتوني هذا، فلك نصفه أو ثلثه، فمات الجاعل بعد أن حصد بعض الزرع، أو لقط بعض الزيتون، لم يكن للمجعول له التمادي على الحصاد، ولا على اللقط دون رضا ورثة الجاعل بلا خلاف؛ لأن ما حصد أو لقط قد وجب له حقه فيه، وما لم يحصد ولم يلقط، فليس له فيه عمل يذهب بخروجه، فقف على افتراق أحكام هذه المسائل الثلاث لافتراق معانيها، والجعل على الاقتضاء يكون لورثة الجاعل أن يمنعوا المجعول له من التمادي على الاقتضاء في الاستحسان دون القياس. والجعل على الحفر وطلب الآبق وشبهه ليس لهم أن يمنعوه من التمادي على الحفر والطلب في استحسان ولا قياس. والجعل على الحصاد(8/507)
واللقط وشبهه لهم أن يمنعوه من التمادي على الحصاد واللقط في الاستحسان والقياس.
وقوله: إن الجعل على الاقتضاء لا ينفسخ بموت الذي عليه الدين، ولا بتفليسه صحيح لا وجه للقول فيه، والله الموفق.
[مسألة: يقول اقتض لي مائة على فلان ولك نصفها]
مسألة قال أشهب في كتاب البيع والصرف في الرجل يقول: اقتض لي مائة على فلان، ولك نصفها، فقال: لا يعجبني. فقيل له: فإن قال: وما اقتضيت من شيء فعلى حسابه؟ قال أشهب: لا يعجبني على حال. قال أصبغ: كرهه لأنه من باب الجعل في الخصومة. وقال ابن وهب مثل قول ابن القاسم إذا قال: اقبض لي مائة دينار على فلان ولك نصفها أو ما اقتضيت من شيء، فلك نصفه فلا بأس به. وقال ابن وهب: إذا قال: اقبض ما لي على فلان، ولم يقل: فهي كذا وكذا، ولك نصفها، فلا خير فيه، أو هو بمنزلة الرجل يعطي الرجل الثوب، فيقول له: بعه بما وجدت، ولك من كل دينار درهم، فلا خير فيه، وهذا مثله.
وإن قال له: بعه بخمسة دنانير، ولك في كل دينار درهم لم يكن به بأس. قال أصبغ: والذي آخذ به قول ابن القاسم فيها، سمى عدة الدنانير أو لم يسم. قال أصبغ: وسواء في موت رب المال عمل المجعول، وكان اقتضى شيئا، أو لم يقتض ينفسخ ما بقي إن كان عمل بعضه(8/508)
أو كله، أو لم يكن عمل في قول ابن القاسم. وهذا رأيي كله.
قال محمد بن رشد: هكذا وقع في هذه المسألة من قول ابن وهب، وابن القاسم إذا قال: اقبض لي مائة دينار على فلان، ولك نصفها، أو ما اقتضيت من شيء فلك نصفه. ووقع في بعض الكتب، وما اقتضيت من شيء بإسقاط الألف. فإذا ثبتت الألف اقتضى ثبوتها أنه يجوز عند ابن القاسم، وابن وهب أن يقول الرجل للرجل: اقبض لي مائة دينار على فلان، ولك نصفها، وإن لم يقل، وما اقتضيت من شيء فلك نصفه.
وإذا أسقطت الألف اقتضى سقوطها أنه لا يجوز عندهما أن يقول الرجل للرجل: اقبض لي مائة دينار على فلان، ولك نصفها، إلا أن يقول: وما اقتضيت من شيء فلك نصفه، والاختلاف في هذا إنما يرجع إلى الاختلاف فيما يحمل عليه اللفظ؛ إذ ليس بصريح في الجعل ولا في الإجارة، فمن حمله على الإجارة أجازه، ومن حمله على الجعل لم يجزه.
وأما إن قال: وما اقتضيت من شيء، فلك نصفه، فلا اختلاف بينهم في أن ذلك محمول على الجعل، وأن ذلك جائز إلا على مذهب أشهب، الذي لا يرى المجاعلة على اقتضاء الديون جائزة على حال، وإن سمى عددها، وشرط أن له مما اقتضى منها بحساب ذلك. وأما إن لم يسم عدد الدين، فلا تجوز المعاملة على اقتضائه بجزء منه، إلا على وجه الجعل بأن يجعل له من كل شيء يقتضيه بحساب ذلك، فلا يجوز أن يقول: اقبض ما لي على فلان، إذا لم يقل: وهو كذا وكذا، ولك نصفه إلا أن يقول: وما اقتضيت من شيء فلك نصفه، فإذا قال ذلك حمل على الجعل باتفاق وجاز. وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي هذا بيان، وبالله التوفيق.(8/509)
[مسألة: استؤجر على خادم يبلغه فمات في بعض الطريق أو أبق]
مسألة قال: وقول مالك فيمن استؤجر على خادم يبلغه، فمات في بعض الطريق أو أبق، فإن أبق حوسب، وإن مات فله الأجرة كلها، وقال ابن القاسم فيه الموت والإباق عندي واحد، نرى أن تكون له الأجرة كلها. قال ابن وهب: له من الأجرة إلى حيث بلغ فقط، وقاله أصبغ، إلا أن للمستأجر أن ير يستعمله في مثل ذلك حتى يبلغ ويتم، أو يواجره في مثله حتى يتمه.
قال محمد بن رشد: قول مالك: إن له الأجرة كلها في الموت، وقول ابن القاسم: إن له الأجرة كلها في الموت والإباق، معناه: ويكون للمستأجر أن يستعمله في مثل ذلك على ما قاله أصبغ. فالصواب في قوله أن يكون متصلا بقول ابن القاسم على سبيل التفسير له، لا بقول ابن وهب.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الإجارة لا تنفسخ لا في الموت ولا في الإباق، ويستعمله المستأجر في مثل ما بقي، وتكون له أجرته كاملة، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنها تنفسخ فيهما جميعا، ويكون له من الأجرة إلى حيث ما بلغ فقط، وهو قول ابن وهب هاهنا، وقول ابن القاسم وأصبغ في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ، من كتاب الرواحل والدواب. والثالث: الفرق بين الموت والإباق، وهو قول مالك. ويتخرج في المسألة قول رابع: أنها تنفسخ في الإباق، ولا يكون له فيما مضى من الطريق شيء، ولا تنفسخ في الموت، وذلك على ما في المدونة لمالك في تلف الشيء المستأجر على حمله من قبل ما عليه استحمل؛ لأن الإباق للأجير فيه سبب بترك التوثق والتعاهد. وقد مضى القول على هذا في رسم طلق من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.(8/510)
[مسألة: قال من يحفر لي بئرا طولها وعرضها كذا فله كذا فحفر رجل نصفها]
مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عمن قال: من يحفر لي بئرا طولها كذا وكذا، وعرضها كذا وكذا فله كذا وكذا، فحفر رجل نصف ذلك، ثم يعتل. قال: لا أرى له حقا إلا أن ينتفع بها صاحبها، فإن انتفع بها أخذ قدر ما عمل مما انتفع به. قيل له: فلو قال: من جاءني بخشبة من موضع كذا وكذا فله كذا، فحملها رجل إلى نصف الطريق؟ قال: هو مثله لا أرى له شيئا إلا أن يحملها صاحبها فينتفع بها، فإذا انتفع بها فله أجره على قدر ما حملها من الطريق.
قال محمد بن رشد: قال في البئر: إنه يكون للمجعول له فيما حفر من البئر إذا انتفع بذلك صاحبها قدر ما عمل مما انتفع به، ولم يبين وجه العمل في ذلك، وفيه تفصيل، وقد مضى بيانه في رسم أخذ يشرب خمرا، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وكذلك قال أيضا في الخشبة: إنه يكون له أجره على قدر ما حملها من الطريق، فأجمل القول في ذلك دون بيان، وقد مضى بيانه في الرسم المذكور، من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يستأجر بدينار على دابة يبيعها له وله الدينار باع أو لم يبع]
مسألة قال أصبغ: سمعت أشهب، وسئل عن الذي يستأجر بدينار على دابة يبيعها له بالإسكندرية، وله الدينار باع أو لم يبع. قال: لا بأس بذلك. قيل له: وإن لم يسم للتسويق والبيع هناك أجلا؟ قال: نعم. قيل له: فما البيع؟ قال: على قدر بيع مثلها. ثم قال:(8/511)
أرأيت لو أعطاه هاهنا ثوبا يبيعه بخمسة دراهم، فالقيام بالبيع معروف في كل سلعة وفي كل بند، وقال هو معروف.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا صحيح، وهو نحو ما مضى لابن القاسم، في سماع محمد بن خالد، فليس بخلاف لما في المدونة، ولا فيما مضى في رسم العتق، من سماع عيسى، وقد مضى القول على ذلك هناك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[استأجر أجيرا أشهرا في علوفة دواب فماتت قبل الشهر فأراد أن يستعمله في غيره]
ومن كتاب البيع والصرف وسئل أشهب عن رجل استأجر أجيرا أشهرا في علوفة دواب، فماتت قبل الشهر، فأراد أن يستعمله في غيره. قال: ليس ذلك له، إما جاءه بمثل تلك الدواب يقوم بعلوفتها، وإلا فلا شيء للمستأجر على الأجير، والإجارة له كلها.
قيل له؛ فإن رضي الأجير أن يتحول إلى عمل آخر غيره؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: أجاز أشهب الإجارة على علوفة دواب بأعيانها، وإن لم يشترط الخلف، ورأى أن الحكم يوجبه، وذلك خلاف مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها، مثل قول سحنون وابن حبيب، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم العتق، من سماع عيسى.
وأما قوله: إنه إن رضي الأجير أن يتحول إلى عمل آخر غيره، فلا بأس به، معناه فيما يشبه العلوفة لا يتباعد. قال ذلك ابن أبي زيد، وهو صحيح على معنى ما في المدونة أن من اكترى دابة إلى موضع، فليس له أن يركبها إلى موضع غيره، وإن كان مثله في الحزونة والسهولة، إلا أن يرضى بذلك الكري، خلاف قول مالك في آخر أول رسم من سماع ابن(8/512)
القاسم، وخلاف ما في الواضحة من أن من اكترى أجيرا لعمل يسميه، فله أن يستعمله فيه، وفيما يشبهه من الأعمال؛ إلا أن يشترط الأجير ألا يستعمله إلا في العمل الذي سمى بعينه. وأما فيما لا يشبه العلوفة، فلا يجوز وإن رضيا؛ لأنه فسخ دين في دين، وسواء كان قد انتقد، أو لم ينتقد في هذه المسألة؛ لأن الخلف فيها واجب، والكراء بينهما قائم، فيدخله فسخ الدين في الدين، وإن كان لم ينتقد. ولو استأجره شهرين على أن يعمل الشهر الأول في عمل سماه، والشهر الآخر بعده في عمل آخر سماه بعيد منه، جاز على مذهب ابن القاسم إن لم ينتقد، ولم يجز على مذهب ابن الماجشون. والقولان قائمان من المدونة من مسألة: من أكرى راحلة بعينها فركبها بعد شهر، وبالله التوفيق.
[مسألة: استأجر أجيرا يخدمه واشترط عليه السفر إن احتاج إليه]
مسألة وسئل أشهب عمن استأجر أجيرا يخدمه، واشترط عليه إن احتجت إلى سفر شهرا أو شهرين في السنة سافرت بك. قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز إذا استأجر الأجير لخدمته أن يشترط عليه أن يسافر به من أجل أنه قد وقت السفر شهرا أو شهرين، وإذا قال شهرا أو شهرين، فالمشترط عليه إنما هو شهران؛ لأن الأجير إنما يدخل على الأكثر الذي يلزمه بالشرط. ولا يضر أن يكون المستأجر بالخيار في أن يسافر به أقل من شهرين، وفي إلا يسافر به أصلا؛ لأن ذلك حق له تركه بعد انعقاد الأجرة على شيء معلوم. والأصل في جواز هذا، وما كان في معناه قول الله عز وجل: {أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص: 27](8/513)
لأن الأجير هاهنا يقول: قد أجرتك نفسي على أن أسافر معك شهرين، إلا أن تخفف عني السفر أو بعضه، فذلك من عندك تفضل منك علي. واشتراطه عليه السفر به شهرين من السنة دون أن يسميهما يتخرج على قولين؛ فيجوز على مذهب ابن القاسم الذي يجيز أن يشترط عليه السفر في أول السنة، أو بعد مضي بعضها، ولا يجوز على مذهب ابن الماجشون، الذي لا يجيز أن يشترط عليه السفر إلا في أول السنة، أو فيما قرب من أولها، ولا يجوز بعد مضي شهر منها أو أكثر، ولو شرط عليه أن يسافر به إن احتاج إلى السفر، ولم يوقت مقداره، لم يجز عند جميعهم، وهو قوله في المدونة وغيرها: إن ما تباعد من الأعمال لا يجوز أن يستأجره عليها دون بيان، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول للرجل أعطني عبدك يعمل لي اليوم وأعطيك عبدي غدا]
مسألة وسئل أشهب عن الذي يقول للرجل: أعطني عبدك النجار يعمل لي اليوم، وأعطيك عبدي الخياط يخيط لك غدا. قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة، والقول فيها في أول رسم من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[يجعل جعلا لرجل في طلب عبد له أبق فيأتي به فيستحقه مستحق]
ومن كتاب محض القضاء وسئل أشهب عن الذي يجعل جعلا لرجل في طلب عبد له أبق، فيأتي به فيستحقه مستحق، قبل أن يقبض الجعل، وقبل(8/514)
أن يقبض العبد ربه، على من ترى الجعل؟ قال: على الجاعل، وليس على المستحق شيء. قيل له: وكذلك إن استحق بحرية؟ قال: نعم. فقيل له: فإن استحق بحرية كانت من الأصل ألا يرجع به عليه، أو قال السائل على مستحقه من الأصل. قال: لا. قال أصبغ: ولا على أحد ويبطل.
قال محمد بن رشد: في كتاب ابن المواز بإثر هذه المسألة: قال محمد: وأجوز ذلك عندي أن يكون الجعل على الجاعل ثابتا عليه يغرمه، ويكون على مستحقه جعل مثله يغرمه للجاعل، إلا أن يكون أكثر مما غرمه الجاعل، وقد ناظرت فيها من أرضى فقال لي مثله.
قال محمد بن المواز: وهو بين إن شاء الله؛ لأن كل آبق جاء به من تكلف طلبه لم يصل إليه حتى يدفع جعل مثله، ولا نفقة له في ذلك، وإن جاء به من لم يطلبه، فلا جعل له ولا نفقة. وقول ابن المواز: وإن جاء به من لم يطلبه، فلا جعل له، ولا نفقة خلاف ما في المدونة من أنه ليس له إلا نفقته. وقد بين محمد بن المواز وجه ما ذهب إليه من الرجوع على المستحق بجعل مثله، والأظهر ما روى أصبغ عن ابن القاسم أن الجعل على الجاعل؛ لأن المنفعة فيه له من أجل أن ضمان العبد منه، فلو لم يوجد لخسر الثمن الذي أدى فيه، وإذا وجده فأخذه صاحبه المستحق له، رجع على البائع الذي أدى فيه، والمستحق إن لم يجد العبد لا تكون مصيبته منه؛ لأن له أن يجيز البيع، فيأخذ الثمن من البائع.
وهذا الاختلاف إنما هو إذا أخذ المستحق العبد، وأما إن أجاز البيع، وأخذ الثمن، فالجعل على الجاعل قولا واحدا، وروى ابن أبي جعفر الدمياطي، عن ابن القاسم فيمن دفع إليه ثوب يبيعه، بجعل فباعه، ثم استحق أنه لا جعل له. وهذا بيّن على ما قال؛ لأن المستحق إذا أخذ ثوبه انتقض البيع، فوجب رد الجعل، وأما إن أجاز البيع، وأخذ الثمن، فينبغي أن يكون الجعل للمجعول له على الجاعل، ويرجع الجاعل به على المستحق، وقد مضى في رسم الفصاحة، من سماع عيسى، من كتاب جامع البيوع من معنى هذه المسألة ما فيه بيان لهذه، وبالله التوفيق.(8/515)
[مسألة: بعث رجلا إلى المعدن ينفق عليه ويعمل له وما أصاب له ثلثه]
مسألة وسمعت أصبغ، وسئل عن رجل بعث رجلا إلى المعدن ينفق عليه، ويعمل له، فما أصاب كان له منه ثلثه أو نصفه، أو جزء مما يتراضيان عليه، وإن لم يصب شيئا ذهبت نفقته باطلا. قال أصبغ: لا يصلح ذلك، وذلك فاسد لا شك فيه، وهو من الغرر، وهو منقوض ما لم يفت بالعمل والخروج، فإن فات فهو مثل ما كانوا يتعاملون به في معدن الزبرجد قديما، مما قد عرفتم، وعرف الناس عندكم كيف كانوا يبعثون، ويخرجون عليه على مثل هذا.
ونزل عندنا في أيامه كثيرا، ونحن حينئذ نتبع أصحابنا ومشايخنا الفقهاء في زمان ابن القاسم وأشهب، وابن وهب كانوا يسألون عنه ويتكلمون فيه مما ينزل، ويختلفون ويختلف فيها القول من الناس، فكان الذي استقر عليه قولنا كقول أكثرهم وأكابرهم أنها أجرة، وهي أجرة فاسدة، يكون المكتسب فيها، والنيل إن فات وعمل، ووجد للباعث الذي عليه النفقة، كمن استأجر أجيرا على أن ما اكتسب في عمله فهو له، فالإصابة له والحرمان عليه، وليس للأجير إلا إجارة مثله في شخوصه، وفي عمله، وإقامته وكثرته. فإن وفرت عليه إجارة مثله على أن مئونته على نفسه حوسب بما أكل وشرب وأنفق. وإن شاءوا قوموا الإجارة على أن طعامه وشرابه على المستأجر، فكان له في القضاء أقل من القيمة الأولى، ودخل هذا في هذا المعنى، فعلى أي الوجهين قومت به، فهو سواء، وهو صواب، وله إجارة مثله على كل حال أصاب أو لم يصب؛ لأنه لو أصاب الكثير كان للأول الباعث، وكذلك إذا لم(8/516)
يصب إلا القليل، أو لم يصب شيئا، فعليه مثل الذي له، ولهذا إجارته كاملة على قدر عمله. فإجارة مثله ليس بمثل ما سمى له، إن كان سمى له تسمية مع ما يصيب؛ لأن الإجارة فسدت بالجزء الذي استثنى مما يصيب، فلا يدري أيصيب أم لا؟ فصارت مخاطرة؛ كالذي يستأجر في الزرع، وعمله بجزء مما يخرج، وصار حراما فاسدا، وكذلك هذا. ولو كانت الإجارة من نفقته وطعامه وشرابه فقط أو تسمية مسماة من العين دونها أو معها، وليس له في الإصابة شيء كان حلالا، وكان جائزا، وكان مما يبين أن الكسب كله للباعث، وكان بمنزلة الأجير يستأجر بقدر له، ويعمل بشيء مسمى فذلك جائز، وبمنزلة الرجل يستأجر الأجير يوما على أن يصيد له صيد البحر أو البر بشيء مسمى، فذلك له جائز، ما أصاب فهو له، وما لم يصب ليس عليه فيه غرم، وليس عليه إلا اجتهاده؛ لأنه إنما استأجره على أن يعمل ما يعمل الصائد من نصب، وإلقاء شبكة، أو نصب حبالة أو غيره مما يعرف، فهو كالصانع فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: أما إذا استأجره على أن يعمل في المعدن بجزء مما يخرج منه على أن له نفقته، فالمكروه فيها بين، والفساد فيها ظاهر؛ لأن الغرر فيها موجود في جهة كل واحد منهما؛ لأن الأجير يعمل على شيء مجهول، لا يدري ما هو، ولا ما يحصل له فيه، والمستأجر ينفق على أن يأخذ في نفقته جزءا مما يخرج من المعدن، فكأنه باع نفقته بذلك، وهو غرر بين. فقول أصبغ: إنها إجارة فاسدة، يكون النيل للمستأجر، ويكون للأجير أجرة مثله إن فاتت الإجارة بالعمل صحيح، والاختلاف الذي ذكر أنه وقع فيها بعيد. وإنما الاختلاف المعلوم في ذلك إذا استأجره على(8/517)
العمل فيه بجزء مما يخرج منه على أن نفقته على نفسه، فقيل - وهو المشهور -: إنها إجارة فاسدة؛ لأن الأجير يعمل فيها على شيء مجهول لا يعلم قدره، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استأجر أجيرا فليؤاجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم» وقيل: إنها إجارة جائزة؛ لأن ما لا يجوز بيعه يجوز الاستئجار عليه بالجزء منه قياسا على المساقاة والقراض؛ لأن الثمرة لما لم يجز بيعها قبل بدو صلاحها، جازت فيها المساقاة، ولأن العين لما لم يجز فيه الكراء جاز فيه القراض، وهو قول ابن القاسم في أصل الأسدية، قال فيها: إن ما ظهر في أرض الصلح من المعادن، إن لهم أن يمنعوها الناس، ولهم أن يأذنوا لهم في عملها، ويكون لهم ما يصالحون الناس عليه من الخمس أو غير ذلك. وكذلك قال في كتاب ابن المواز: إن لهم أن يعاملوا الناس فيها بالثلث والربع، وأنكر محمد معاملتهم فيها بالثلث والربع، ووقف عنه، وبالله التوفيق.
[استأجر حصادين على أن يحصدوا له زرعا فذهبوا فحصدوا زرعا لغيره]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر
من عبد الرحمن بن القاسم
وسئل ابن القاسم عن رجل استأجر حصادين على أن يحصدوا له زرعا، فذهبوا فحصدوا زرعا لغيره، وهو قريب من زرعه. قال: إن كان الخطأ جاء من قِبل الأجراء، فإنه ينظر إلى صاحب ذلك الزرع، فإن كان له عبيد أو أجراء، ويريد أنه لا يحتاج إلى الإجارة في حصاد زرعه، لم يكن عليه شيء وبطل عملهم، وإن كان لا أجراء له ولا عبيد ولا يجد بدا من أن يستأجر على حصاد زرعه كان عليه قيمة ما حصدوا. وإن كان الخطأ جاء(8/518)
من قبل صاحب الزرع قال لهم: احصدوا لي هذا الزرع، وهو يظن أنه زرعه، وكان صاحب الزرع لا أجراء له ولا عبيد، ولا يجد بدا من أن يستأجر على حصاد زرعه، فإن عليه أن يدفع للذي استأجر الحصادين قيمة عمل الأجراء، ويكون للأجراء على الذي استأجرهم أجرتهم التي استأجرهم عليها.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب في الواضحة سواء. وقد قيل: إنهم لا شيء لهم عليه، وإن لم يكن له عبيد ولا أجراء؛ إذ لم يستأجرهم، وهو ظاهر قول ابن القاسم في أول مسألة من سماع يحيى، من كتاب البضائع والوكالات والخصام. وقال محمد بن جعفر: إنه إن كان له عبيد وأجراء، فله أن يستعملهم في مثل ما عملوا له، وهو قول له وجه، وبالله التوفيق.
[مسألة: استأجر أجراء يحرثون له أرضا فذهبوا يحرثون أرضا لغيره]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل استأجر أجراء يحرثون له أرضا، فذهب الأجراء يحرثون أرضا إلى جنب أرضه وهم لا يعلمون، وإنما جاء الخطأ من قبل الأجراء، أترى على صاحب الأرض الذي حرثت له أرضه أجرة ما عملوا؟ قال: إن زرعها وانتفع بذلك الحرث كان ذلك عليه، وإن لم ينتفع به، وقال: لم أرد أن أزرعها، وإنما أردت أن أكريها، فلا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: قال في هذه المسألة: إنه إن زرع الأرض وانتفع بحرثها كان عليه الأجرة للذي أخطأ في حرثها. ومعنى ذلك إذا لم يكن له بقر وعبيد وأجراء على ما قاله في المسألة التي قبلها، وقد مضى القول فيها. ومن الناس من حمل هذه المسألة على ظاهرها، فقال في المسألة ثلاثة أقوال؛ إيجاب الأجرة على كل حال، وسقوطها على كل(8/519)
حال، والفرق بين أن يكون له عبيد وأجراء، أو لا يكون، وبالله التوفيق.
[مسألة: استأجر بنّاء يبني له دارا فيذهب البنّاء فيجد البقعة قد استحقت]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل استأجر بنّاء يبني له دارا بالريف بموضع معروف على صفة معروفة، فيذهب البنّاء إلى الريف، فيجد البقعة قد استحقت فيرجع. قال: أرى له إجارته ذاهبا، ولا أرى له شيئا في رجوعه.
قال محمد بن رشد: وكذلك من استأجر أجيرا أياما على عمل بعينه في غير الموضع الذي استأجره فيه، فله الأجرة في ذهابه؛ لأنه ذهب إلى عمله، ولا أجرة له في انصرافه؛ لأنه انصرف إلى غير عمله، حكى ذلك ابن حبيب عن ابن الماجشون، وحكى عن أصبغ: أنه لا شيء له إلا منذ يبلغ الموضع الذي فيه العمل. قال الفضل: ولو انصرف لمحاسبة بينه وبين المستأجر؛ لكانت له الأجرة في منصرفه، وهذا إذا لم يكن عند الناس في ذلك عرف، فإن كان فيه عندهم عرف وجب الحكم به، وبالله التوفيق.
تم كتاب الجعل والإجارة، والحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه وعبده، وعلى آله وصحبه وسلم.
يتلوه إن شاء الله كتاب كراء الدور والأرضين.(8/520)
[كتاب كراء الدور والأرضين] [: تكارى أرضا ثلاث سنين ليزرعها فزرع سنة أو سنتين]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
كتاب كراء الدور والأرضين(9/3)
من سماع ابن القاسم من مالك رواية سحنون
من كتاب القبلة
قال سحنون: أخبرني ابن القاسم، قال: سمعت مالكا يقول: من تكارى أرضا ثلاث سنين يزرعها فزرع سنة أو سنتين ثم استقال صاحبه فأقاله وفيها زرع لم يبلغ صلاحه، فأراد صاحب الأرض أن يقلع زرعه، قال: ليس ذلك له، ولكن يقر زرعه ويسقي من الماء ما يصلحه حتى يدرك ويحسب ذلك عليه من حساب الثلاث سنين وكرائها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا استقال صاحبه فيما بقي من أمد اكترائه وفي الأرض زرع قد زرعه أن الإقالة إنما تقع على ما بقي من المدة بعد خروج الزرع الذي في الأرض؛ لأن الأرض قد فاتت في تلك المدة بالزرع الذي زرعه فيها.
ألا ترى أنه لو اكترى منه الأرض مسانهة(9/5)
أو مشاهرة كل سنة بكذا، أو كل شهر بكذا فزرع فيها لكان الكراء قد لزمهما جميعا إلى خروج الزرع، ليس لرب الأرض أن يقول للمكتري اقلع زرعك واخرج، ولا للمكتري أن يقلع زرعه ويخرج إذا أبى من ذلك رب الأرض، فكذلك إذا تقايلا فيما بقي من المدة وفي الأرض زرع، ليس لرب الأرض أن يقول للمكتري اقلع زرعك واخرج لأنك قد استقلت في الأرض، ولا للمكتري أيضا أن يقلع زرعه ويخرج إذا أبى من ذلك رب الأرض.
فإن وقعت الإقالة بينهما على ذلك بإفصاح جازت ولزمهما إلا أن يكون الزرع قد قارب أن يأخذ الحب فيمنعان من ذلك لمنفعة العامة، كما يمنع من بيع الفتى من البقر للذبح وما أشبه ذلك.
وإن اختلفا ولم يبلغ الزرع الحد الذي يمنعان من قلعه فقال أحدهما: إنما وقعت الإقالة بيننا من وقت الإقالة على قلع الزرع بإفصاح، وأنكر ذلك الآخر وادعى الإبهام، أو أن الإقالة إنما وقعت بينهما من بعد خروج الزرع، فالقول قول المنكر منهما مع يمينه.
وهذا إذا لم ينقد، وأما إن كان قد نقد فلا تجوز الإقالة في ذلك إلا على اختلاف سيأتي القول فيه في رسم الشريكين من هذا السماع، ورسم حمل صبيا من سماع عيسى.
وقوله: ويحسب ذلك عليه من حساب الثلاث سنين وكرائها، معناه: من حسابها على القيمة لا على عدد الشهور.
وهذا إذا كانت الأرض على السقي يعمل فيها الشتاء والصيف؛ لأن الكراء في ذلك مختلف. وكذلك قال في(9/6)
المدونة.
وأما إن كانت الأرض للزرع فانقضاء السنة رفع الزرع منها.
فإن تكاراها ثلاث سنين فاستقاله بغد أن زرع في أول سنة فالإقالة تقع في السنتين الباقيتين، وإن استقاله بعد أن زرع في السنة الثانية فالإقالة إنما تقع في السنة الثالثة.
وقال في المدونة: إن الكراء لا يقسم فيها على السواء وإنما يقسم على قدر النفاق والتشاح، وذلك بين إن كان الكراء نقدا أو مؤخرا كله؛ لأن ما يتعجل منفعته من الأرض أكثر كراء مما يتأخر منه.
وأما إن لم يكن الكراء نقدا ولا مؤخرا وكان الحكم فيه أن ينقده كراء كل سنة عند تمام الزرع فيها، فقال في كتاب ابن المواز: إنه ينقده في كل سنة ثلث الكراء إن كان الكراء لثلاثة أعوام خلاف ظاهر ما في المدونة أن الكراء يفض على قدر النفاق والتشاح، وهو الأظهر؛ لأن السنة الأولى تعجلت منفعتها وتعجل نقدها، وكل سنة بعدها تتأخر منفعتها بقدر تأخر النقد فيها، فوجب أن يقسم الكراء عليها بالسواء إذا حدث ما يوجب سقوطه من إقالة أو غرق أو عطش وما أشبه ذلك.
ووجه ما في المدونة أنه قد يكون ما تعجل عقده وقبضه ونقده أنفق مما تعجل عقده وتأخر قبضه ونقده، وهو صحيح إن كان ذلك عند الناس كذلك، وبالله التوفيق.
[: كراء الأرض من أرض الجزية والزيادة فيها]
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها وسئل: عن الرجل يتكارى الأرض من أرض الجزية ويزداد(9/7)
في أرضها أشياء يكتمها، أتحب أن يشترى من قمحه؟ قال: إني لأكره ذلك وما يعجبني، وأكره هذه القطائع التي في أرض مصر التي أقطعها من أقطعها.
ولم ير أن يقطع لأحد فيها ولا أن يشترى من قمحها.
قال محمد بن رشد: أما أخذ المسلم من الذمي أرض الجزية بما عليها من الخراج يكتبه على نفسه فلا ينبغي ذلك ولا يحل، وقد سئل ابن عمر عن ذلك فقال: لا يحل لمسلم أن يكتب على نفسه الذلة والصغار، وروى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من خلع رقبة ذمي فجعلها في عنقه فقد استقال هجرته وولى الإسلام ظهره» وأما اكتراؤه إياها منه كراء صحيحا دون أن يأخذها بما عليها من الجزية فكره ذلك مالك لما فيه من معنى ذلك، ولقد قال: لا أحب لأحد أن يزرعها بعارية وأرى ذلك من باب حماية الذرائع، وأما كراهيته لشراء قمح الذي يكتري أرض الجزية ويزداد فيها ما ليس منها، فالمعنى فيه بين، وذلك أن الذي يكتم من الأرض ويزرعه مع أرض الجزية الذي اكتراه على أنه منها وهو يعلم أنه ليس منها في حكم المغصوب من الأرض.(9/8)
وقد قال جماعة من أهل العلم أن من غصب أرضا فزرعها لنفسه بطعامه أن الزرع لصاحب الأرض؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليس لعرق ظالم حق» فمن ذهب إلى هذا لم يحل عنده شراء ذلك الطعام منه؛ لأنه في حكم العين المغصوب، ومن لم ير للمغصوب منه الأرض إلا كراء أرضه يكره شراء ذلك الطعام منه حتى يصلح شأنه مع رب الأرض لمخالطة الحرام ماله ومراعاة لقول المخالف وهو قول مالك.
وأما كراهيته الإقطاع في أرض مصر فالمعنى في ذلك أنها افتتحت عنده عنوة، ومن مذهبه أنه لا يجوز الإقطاع في أرض العنوة، وهو قول ابن حبيب في باب زكاة المعادن من كتاب الزكاة، وإنما يجوز للإمام أن يقطع على مذهب مالك فيما جلى عنه أهله بغير قتال، وفي الفيافي البعيدة من العمران وحده، ما لم تنله أخفاف الإبل للمرعى.
وعند أبي حنيفة أن يصيح صائح في طرف العمران فلا يسمعه، وأما ما قرب من العمران من الموات، فقيل: إنه لمن أحياه، وقيل: ليس لأحد أن يحييه إلا بإذن الإمام، وهو قول مالك في المدونة، واختلف إن أحياه بغير إذنه على هذا القول، فقيل: يكون الإمام مخيرا بين أن يمضيه له أو يعطيه قيمته منقوضا ويخرجه منه، وقيل: إن له أن يمضي له مراعاة للاختلاف فيه وهو ظاهر المدونة،(9/9)
وقيل: إنه بين أهل القرى هم أحق به، وقد قيل في مصر: إنها افتتحت صلحا.
حكى ذلك الليث عن يزيد بن أبي حبيب، وعبيد الله بن أبي جعفر، يعني أن الصلح وقع على أن تكون الأرض للمسلمين كما فعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ببعض أرض أهل الحجاز، لا على أنها تركت لأهلها، فعلى هذا يجوز الإقطاع فيها.
وقد اختلف في سبب دخول الليث فيها.
فقيل بالاشتراء، وقيل بالاكتراء، وقيل بالإقطاع، وإنكار الليث أن تكون أخذت عنوة يدل على أن مذهبه في أرض العنوة أن تخمس وتقسم، وقيل: إنها افتتحت صلحا، ثم نقضوا فأخذها عمرو بن العاص عنوة.
ورأيت للخمي أن إقطاع أرض العنوة جائز على مذهب مالك وذلك خلاف هذه الرواية وبالله التوفيق.
[: كرى داره بدينار في السنة ثم أراد بعد ذلك أخذ دراهم]
ومن كتاب أوله سلف في المتاع والحيوان وسئل مالك: عمن أكرى داره بدينار في السنة ثم أراد بعد ذلك بشهر أو شهرين أن يأخذ دراهم فكره ذلك، وقال: لا يأخذ منه أكثر مما حل عليه، ولكن ينظر إلى قدر ما سكن من السنة، فيأخذ به دراهم جزءا، وما لم يسكن فلا يأخذ منه ورقا قبل أن يحل، ولكن إن حل فليأخذه أجزاء مقطعة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال إنه لا يجوز له أن يأخذ منه دراهم بأكثر مما حل له عليه من الدينار؛ لأنه إذا فعل ذلك كان قد باع ما لم يحل له من الذهب بدراهم معجلة، فدخله الصرف المتأخر، وأنه يجوز له أن يأخذ منه دراهم بالجزء الذي حل له عليه من الدينار، ويبقى له(9/10)
عليه ما بقي من الدينار.
فإذا حل أخذ به منه ما شاء ولا يجوز له أن يأخذ به منه قبل أن يحل إلا عرضا معجلا، أو مثل الذهب الذي له عليه في عينه ووزنه وطيبه، أو أفضل من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجلان في منزل ضاق بهما هل يخرج الآخر مقابل عوض]
مسألة وسئل مالك: عن رجلين كانا في منزل من منازل الإمارة فضاق بهما، فقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن أعطيك كذا وكذا وتخرج عني؟ فقال مالك: لا أراه يحسن وكرهه؛ لأنه لا يدري متى يخرج منه، يعني بذلك أنه يعطي ولا يدري متى يخرج منه ليس إلى أجل، ثم قال: لو كان لك لم أر به بأسا. وأما منازل الإمارة فلا أراه لموضع الأجل.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه لا يدري كل واحد منهما متى يعزل عن الإمارة فيخرج عن الدار باشتراء المشتري ما لا يدري ما لا يدوم له وباع البائع ما كان لا يدري ما لا يدوم له، والذي يجوز لهما أن يفعلاه في ذلك إذا ضاقت عن سكناهما جميعا أن يكروها - قليلا قليلا ويقتسما الكراء أو يتقاومانها فيما بينهما كذلك لمدة قريبة العام والعامين ونحوهما على معنى ما في الوصايا الثاني من المدونة فإن انقضت قبل أن يخرجا منها تقاوماها ثانية، وإن أخرجا(9/11)
منها قبل انقضاء الأمد الذي تقاوماها إليه رجع الباقي في الدار بالمقاومة على الخارج عنها بما ينوب ما بقي من المدة، ويجوز أن يكرياها السنين الكثيرة ويتقاوماها السنين الكثيرة بغير نقد على معنى ما في رسم الأقضية الرابع من سماع أشهب من كتاب الصدقات والهبات، وبالله التوفيق.
[: الرجل يتكارى الدار وينقد كراءها فيسكن أشهرا ثم يبدو له الفسخ]
ومن كتاب أوله الشريكان لهما مال وسألت مالكا: عن الرجل يتكارى الدار وينقد كراءها فيسكن أشهرا ثم يبدو لهما أن يتفاسخا ويرد صاحب الدار على المكتري ما بقي له.
قال مالك: لا خير فيه.
قلت له: أليس يشبه الرجل يتكارى للحمولة ثم يحملها حتى إذا كان في بعض الطريق فأراه مثل الرجل يحج أو ما أشبه ذلك؟ فقال مالك: لا، هو مخالف.
وسئل ابن القاسم عما فرق بينهما، فقال: لأنه ليس يتهم أحد ممن يحمل مثل أن يدبر إبله أو يفلس أو يقع بينهم الشراء ويهلك الكري أو المتكاري فرخص في ذلك؛ لأنه ليس فيه تهمة، فلذلك أرخص فيه، قال: فأما ما لا عمل فيه فإنه إنما هو بمنزلة السلع المضمونة إلى الآجال فيصير بيعا وسلفا إلا ألا ينتقد فيها فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك وابن القاسم في استئجار الرجل بعينه وكراء الراحلة بعينها والدار والأرض وما أشبه ذلك، فمرة حمله محمل السلم الثابت في الذمة ومحمل الإجارة المضمونة من أجل أن(9/12)
المنافع تقتضي شيئا بعد شيء فهي غير معينة في أن الإقالة فيها لا تجوز، وإن لم يكن فيها بمجردها فساد إذا ظهر المكروه فيها بإضافتها إلى الصفقة الأولى؛ لأنه اتهمهما على القصد إلى ذلك والعمل عليه فمنع من ذلك حماية للذرائع، وهو قوله في هذه الرواية، ومرة حمله محمل العروض المعينات في أن الإقالة فيها جائزة إلا أن تنعقد بمجردها على ما لا يجوز.
وقع اختلاف قول مالك في ذلك في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الجعل والإجارة، واختلاف قول ابن القاسم فيه في رسم حمل صبيا من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب، وهذا الاختلاف إنما هو إذا تقايلا بغير سبب يرفع التهمة عنهما، وأما إذا وقعت الإقالة بينهما لسبب يعلم أنهما لم يقصدا في عقد الكراء إليه كالتفليس أو الموت أو الشراء أو دبر البعير أو ما أشبه ذلك مما يرفع التهمة عنهما، فالإقالة بينهما جائزة إذا سلمت في نفسها من الفساد، فلا فرق في شيء من ذلك كله بين كراء الدار والراحلة والأجير، وبالله التوفيق.
[: رجلان تكاريا أرضا ليزرعاها فبدا لأحدهما كراء حصته منها]
ومن كتاب اغتسل على غير نية
وقال في رجلين تكاريا أرضا ليزرعاها فبدا لأحدهما أن يكري حصته منها، قال: أرى شريكه أولى بها، وكذلك لو أن رجلين وهبت لهما ثمرة شجر عشر سنين حبسا عليهما، ثم أراد أحدهما أن يبيع حصته من ذلك بعدما تطيب، قال: أرى(9/13)
شريكه أولى بها ممن أراد شراءها بالذي بذلها به.
قال سحنون: قال مالك: لا شفعة في الأكرية، وقاله ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: قول مالك أرى شريكه أولى بها في مسألة الكراء وفي مسألة الثمرة، يريد أولى بها من المشتري بالثمن الذي بذل فيها، لا أنه يأخذ الثمرة من المشتري بالشفعة بعد تمام الشراء والكراء من المكتري بالشفعة بعد تمام الكراء، فليس ما قاله مالك في مسألة الثمرة والكراء بخلاف لما حكى سحنون عن مالك وابن القاسم من أنه لا شفعة في الأكرية؛ لأنهما مسألتان.
فالمسألة الأولى: وهي أن الشريك أولى بالثمرة وبالكراء بما بذل المشتري والمكتري فيها من الثمن والكراء لا خلاف فيها، وكذلك يجب في كل شيء مشترك لا شفعة فيه، ومثله قول مالك في الذي تكون تحته الأمة لقوم فتلد منه فيبيعونها وولدها أنه أحق بها بما يعطى فيها، وقد مضى القول في ذلك في رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب النكاح.
والمسألة الثانية: وهي هل تكون له الشفعة في الكراء بعد تمامه وفي الثمرة بعد الشراء أم لا؟ فيها اختلاف، اختلف في ذلك قول مالك، وقع اختلاف قوله في الثمرة في المدونة وفي الكراء في الواضحة، وأخذ بوجوب الشفعة في ذلك ابن الماجشون وابن عبد الحكم، وبأن لا شفعة في ذلك ابن القاسم ومطرف وأصبغ، وبه أخذ ابن حبيب، وكذلك اختلف قول مالك أيضا في الشفعة في الكتابة والدين يباعان، هل يكون للمكاتب والذي عليه الدين الشفعة في ذلك أم لا؟ فقال مرة: إن لهما الشفعة في ذلك، وأخذ به مطرف وابن الماجشون وابن وهب، وأشهب(9/14)
وأصبغ وابن عبد الحكم، وإليه ذهب ابن حبيب، وحكى في ذلك حديثا من مراسيل سعيد بن المسيب أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشفعة في الكتابة والدين» ، وحكي عن مالك من رواية ابن القاسم عنه: أنه استحسن الشفعة في ذلك، ولم ير القضاء بها، وبالله التوفيق.
[مسألة: تكارى أرضا فنبت الزرع فيها ثم جاء سيل فذهب به]
مسألة وقال مالك في رجل تكارى أرضا فزرعها فنبت الزرع فيها، ثم جاء سيل فذهب به، قال: لا أرى للمتكاري أن يرجع إلى صاحب الأرض يأخذ منه كراءه، وإنما ذلك بمنزلة الزرع تصيبه الجائحة.
قال محمد بن رشد: إنما هذا إذا ذهب به السيل بعد إبان الحرث أو في إبان الحرث فانكشف السيل عن الأرض في وقت يمكنه فيه إعادة الزرع، وأما لو ذهب به في إبان الحرث فلم ينكشف السيل عنها حتى فاته أن يعيد زرعه لكان له أن يرجع بكرائه على صاحب الأرض على معنى ما في المدونة.
وبالله التوفيق.
[كراء الدار التي فيها خراب مدة سنين مع اشتراط إعمارها]
ومن كتاب البز وسئل مالك: عن رجل أكرى من رجل دارا له وفيها خراب وأكراها إياه سنين فاشترط المتكاري على صاحب الدار مواضع أراها إياه يعمرها من كرائها، فلما وجب ذلك بينهما ندم صاحب الدار، وقال للذي تكارى: قد بدا لي، لا أريد أن أعمر شيئا، فإن بدا لك أن تسكن بغير عمران فاسكن.
قال مالك: أليس قد أراه(9/15)
ذلك؟ قال: بلى، قال مالك: فإن ذلك لازم له في الكراء، وهو جائز.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة من أنه يجوز أن يكتري الرجل الدار بعشرين دينارا على أنها إن احتاجت إلى مرمة رمها من العشرين دينارا، زاد في النوادر في هذه المسألة، قال محمد: إذا عرف البناء؛ لأن البناء ليس كالمرمة، يريد محمد: أن ذلك لا يجوز إلا أن يصف البناء الذي يبني به تلك المواضع ويعمرها به من الكراء بخلاف المرمة، والذي أقول به أن ذلك جائز وإن لم يصف البناء كالمرمة، سواء من أجل أن المكتري كالوكيل له على ذلك، فإذا بنى تلك المواضع وعمرها بالبناء على الهيئة التي تشبه أن تبنى عليها لزمه، كمن وكل رجلا أن يشتري له ثوبا أو جارية فاشترى له ما يشبه أن يشتري له من ذلك لزمه، ولو وصف البنيان لكان أتم وأحسن، وقد مضى هذا المعنى في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الجعل والإجارة، وبالله التوفيق.
[مسألة: كراء العرصة الخربة على أن ينفق عليها]
مسألة وسئل مالك: عن رجل تكارى عرصة خربة على أن ينفق عليها ويكون كراؤها كذا وكذا، قال مالك: أرى أن يسمى ما ينفق فيها ويقاصه بذلك في كراء ما تكارى به من السنين، فقيل له: أفيجعل كراءها دراهم؟ قال: بل أجزاء يجعل نفقته عشرة دنانير وكراءه إياها عشرين سنة في كل سنة نصف دينار، أو أقل من ذلك أو أكثر من السنين والأجزاء، فعلى هذا يتكارى المتكاري ويكري صاحب الدار.(9/16)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى؛ لأن مآلها إن أكراه العرصة عشر سنين سنة بعشرة دنانير على أن يبني بها العرصة لربها، إذا شرط أن يقاصه بالنفقة في الكراء، ولو لم يشترط أن يقاصه بالنفقة في الكراء لم يجز؛ لأنه إذا لم يكن الكراء بالنقد لم يوجب الحكم المقاصة به، ووجب أن يتبعه بنفقته سلفا حالا عليه ويؤدي إليه الكراء بقدر ما سكن شيئا بعد شيء على ما يوجبه الحكم في ذلك.
قال ابن المواز: وهذا إذا كان البناء لرب العرصة ويسمى ما بنى به وكان ذلك من الكراء لا يزيد عليه، وشرط ابن المواز أن يكون ذلك من الكراء لا يزيد عليه صحيح مثل ما في المدونة (لأنه إن شرط أن ينفق في العرصة أكثر من كرائها كان الزائد على الكراء سلفا منه لرب العرصة، فدخله كراء وسلف.
قال ابن المواز: وأما إن كان البناء للمكتري فلا يحتاج إلى تسمية ما يبنى، ولا ما ينفق، ولا أحب شرطه في أصل الكراء إلا) أنه إن بنى فمتى ما خرج فلرب العرصة أن يعطيه قيمته مقلوعا أو يأمره بقلعه.
وقول ابن المواز إن البناء إذا كان للمكتري فلا أحب اشتراطه في أصل الكراء صحيح بين؛ لأنه إذا اشترط ذلك عليه فقد وقع الكراء على أن يأخذ المكري من المكتري بنيانه بقيمته مقلوعا عند انقضاء أمد الكراء، وذلك غرر لا يجوز، وإنما لم ير في الرواية أن يجعل كراءها دراهم إذا كان ينفق فيها دنانير ويقاصه بها في الكراء لأنه يدخله عدم المناجزة في الصرف، إذ لا يحل الكراء عليه إلا بالسكنى شيئا بعد شيء، ولو قال:(9/17)
أكتري منك العرصة لعشرين سنة بعشرة دنانير نصف مثقال لكل سنة على أن أنفق فيها مائة درهم من مالي تكون مقاصة بالكراء، أو قال: أكتري منك العرصة بمائة درهم لعشرين سنة على أن أنفق فيها عشرة دنانير تكون مقاصة بالكراء لجاز ذلك، وإن سمج القول؛ لأن الأمر يئول فيه إلى صحة الفعل، وهو كراء العرصة عشرين عاما بالعدد الذي سمى أنه ينفق فيها، وبالله التوفيق.
[: العبد يستأجره الرجل شهر بعشرة وشهر بخمسة]
ومن كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسئل مالك: عن العبد يستأجره الرجل هذا الشهر بعشرة دراهم وهذا الشهر بعده بخمسة دراهم، قال مالك: إن كان ذلك شيئا واحدا فلا بأس به، كأنه كل شهر بسبعة دراهم ونصف، وإن كان أراد أن يجعل هذا الشهر بعشرة دراهم إن أصاب العبد أمر حاسبه على ذلك ويرد عليه خمسة بحسابه فلا خير فيه إن ثبت هذا الأول بعشرة والآخر بخمسة حتى يكونا جميعا في كراء واحد، ويكون الكراء كله على الشهرين نصفين.
قال ابن القاسم: وهذا من وجه بيعتين في بيعة؛ لأن العبد لو هلك في الشهر الأول غبن الكري المستكري، فإن هلك في الشهر الآخر غبن المستكري الكري، فهذا خطر لا يصلح، قال ابن القاسم: وكذلك الأرضون والدور والدواب وكل ما يتكارى.(9/18)
قال محمد بن رشد: أما إذا سمى لأحد الشهرين اللذين جمعتهما الصفقة أقل مما ينوبه من الإجارة أو الكراء وللثاني أكثر مما ينوبه من ذلك أو لأحد الثوبين اللذين اشتراهما صفقة واحدة أقل مما ينوبه من جملة الثمن وللآخر أكثر مما ينوبه منه على أنه متى وقع استحقاق في أحدهما أو ما يوجب الرجوع بمنابه من الثمن رجع بما سمى له من الثمن فلا اختلاف في أن البيع فاسد، وأما إن وقع البيع بينهما بالتسمية على أنه إن وقع استحقاق في أحدهما أو بما يوجب الرجوع بمنابه من الثمن إذا فض على قيمتهما لا بما سمى له منه، فلا اختلاف في أن البيع جائز.
واختلف إذا عري الأمر من بيان، فقيل: إن التسمية لغو والبيع صحيح، وإن وقع استحقاق في أحدهما فض الثمن عليهما ورجع بما ينوبه، ولم يلتفت إلى التسمية، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وقول سحنون وأصبغ، وقيل: إن التسمية مراعاة والبيع فاسد إن كان سمى لأحدهما أقل مما ينوبه من جملة الثمن وللآخر أكثر مما ينوبه منه، وهو أحد قولي مالك في رواية ابن القاسم عنه في رسم باع غلاما من هذا الكتاب في بعض الروايات، وقال: سئل: عمن تكارى دارا سنتين فتكارها هذه السنة بستة وهذه بأربعة وكراؤه مختلف في السنتين، قال: الكراء فاسد وقد سكن سنة.
قال: يرد الكراء ويكون لصاحب الدار قيمة سكناه في تلك السنة وأراه فاسدا.
قال سحنون: الكراء جائز لا بأس به، ووقع الاختلاف في ذلك أيضا في الدمياطية، قال: وسئل ابن القاسم عن(9/19)
قول مالك في الرجل يتكارى الدار أو الحمام أو العبد شهرين في صفقة واحدة بكراءين مختلفين شهرا بعشرة وشهرا بعشرين، لم كرهه مالك وقد بيع الرجل الثوبين صفقة واحدة، والعبدين والدارين بثمنين مخلفين؟ قال: إنما كره مالك من ذلك ما كان بيعتين في بيعة، وذلك أن يكون الكراء في الشهرين متقاربا، فلما أراد أن يجمعهما بسعر واحد خاف المكتري أن يجيء فيما اكترى دعوى تخرجه من يده في بعض أجل الكراء فخاطره بأن يجعل كراء هذا الشهر الأول بعشرة، وكراؤه المعروف بخمسة عشر، فإن سكن الدار شهرا فاستحقت فأخرج أو أصابها هدم أو حريق كان كراء الشهر الماضي بعشرة، وسقط عنه الشهر الثاني عشرون، ولو جمعهما كان من الكراء عليه خمسة عشر، وعسى أن يحدث في الدار أو الحمام في الشهر الأول ما يمنعه منه ثم ينتفع به الشهر الثاني فيغرم له عشرين فيكون قد حمل عليه خمسة دنانير فوق كراء ذلك الشهر للمخاطرة التي أدخلا، فلهذا نهى عنه مالك ورآه من بيعتين في بيعة.
قيل: ويدخل مثل هذا في بيع الثوبين والدارين؟ قال: نعم، انظر أبدا إلى كل ما جمع في البيوع فأضيف بعضه إلى بعض في الصفقة واختلف فيه الأثمان، فإن كان ما وضع على كل صنف ما يرى أنه ثمنه أو كراؤه لو أفرد دون صاحبه فلا بأس به، وإن جمعته الصفقة فليس يدخله بيعتان في بيعة، وإن رأيت أنه قد وضع على أحدهما مالا يسوى وخفف عن الآخر حتى يأتي من ذلك أمر(9/20)
بين يدل على أنهما أرادا الخطار على مثل ما وصفت لك من أمر الكراء فلا خير فيه، وهو من بيعتين في بيعة.
قال الوليد: وسألت أصبغ عن بيع الدارين والثوبين، فقال: لا بأس بالبيع فيهما على حال صفقة واحدة سمى لهما ثمنا أو لم يسمه، كان الثمن يشبه ما سمى لكل واحد منهما أو أقل منهما أو أكثر فهو سواء، والبيع جائز، وإن وجد عيبا فض الثمن على قيمتهما، ولم يلتفت إلى التسمية على حال، وليس تفسد التسمية في هذا ولا يلتفت إليها؛ لأنه يرجع إلى أن يفض وليس في هذا عندنا اختلاف.
هذا نص ما وقع في الدمياطية، وهو يبين موضع الاختلاف في المسألة على ما ذكرناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل كان يسكن منزلا فأنفق فيه مالا ثم أرادوا إخراجه]
مسألة وسئل مالك: عن رجل كان يسكن منزل رجل فأنفق فيه مائتي درهم ثم أرادوا أن يخرجوه فلم يكن عند صاحب المنزل الدراهم، فقال رجل: أنا أقضي عنك فأعطاه فيها ثلاثة عشر دينارا، ثم قال له بعد ذلك أنا آخذ منك هذا المنزل بدرهمين كل شهر حتى ينفد مالي عليك، قال مالك: لا خير في هذا الكراء، وأرى أن يفسخ وأرى أن يكون له على صاحب البيت ثلاثة عشر دنانير ويقوم كراء مسكنه فيما سكن ثم يدفع إلى صاحب المنزل.
قال محمد بن رشد: قوله إنه كراء لا خير فيه يفسخ بين؛ لأنه فسخ دين في دين، فسخ ما له عليه من الذهب التي أدى عنه في سكنى(9/21)
منزل لا ينتجز قبضه، وذلك جائز على مذهب أشهب الذي يرى أن قبض الشيء المكترى ليستوفي فيه الكراء قبض لجميع الكراء، فيجيز لمن له على رجل دين أن يأخذ منه به عبدا يخدمه إلى أجل ما، أو دابة يركبها إلى أجل ما.
وقد اختلف قول مالك في هذا الأصل وقع اختلاف قوله في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، وسيأتي القول على ذلك هنالك إن شاء الله.
وأما قوله إذا فسخ الكراء إنه يكون له على صاحب البيت ثلاثة عشر دينارا فهو كما قال، إن كان دفع عنه الدنانير بأمره، وأما إن كان أمره أن يقضي عنه المائتي درهم فأعطاه فيها ثلاثة عشر دينارا، فقيل: إن ذلك لا يجوز، ويفسخ القضاء ويرجع بما دفع، ويبقى الدين على صاحب المنزل كما كان، وقيل: إن ذلك جائز، ويرجع بالأقل من ذلك يكون الآمر مخيرا بين أن يدفع إليه ما دفع، أو ما أمره بدفعه، وقد مضى تحصيل القول في هذا المعنى في أول مسألة من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف.
وأما قوله إنه يكون عليه كراء المسكن لصاحب المنزل على ما يقوم به فهو بين لا إشكال فيه؛ لأنه سكنه على كراء فاسد فيكون عليه فيه القيمة.
[: كراء الأرض بالحنطة ليزرعها قمحا]
ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها وسئل مالك: عن الرجل يتكارى الأرض بالحنطة فيزرعها، فيزرعها قمحا، أترى أن يشتري منه ذلك القمح؟ قال: تركه أحب إلي.
قال محمد بن رشد: إنما كره مالك أن يشتري منه ذلك القمح؛ لأن مكتري الأرض بالحنطة كأنه مشتر للقمح الذي رفع من الأرض بالحنطة(9/22)
التي دفع إذ عرضه في اكتراء الأرض ما يخرج له منها فوجب على قياس هذا أن يكون القمح لرب الأرضين، والصحيح على الأصول أن يكون القمح للمكتري ويكون عليه قيمة كراء الأرض ذهبا أو ورقا ويرجع بحنطته بشراء القمح منه على هذا جائز، وإنما كره مالك شراءه منه تورعا للمعنى الذي ذكرناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: كراء الدار سنة بعشرة واشتراط المحاسبه بما سكن إن لم يكمل المدة]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يتكارى الدار سنة بعشرة دنانير ويشترط على صاحبها إن بدا له أن يخرج قبل السنة حاسبه بما سكن، إلا أنه يشترط عليه سنة، قال: لا بأس بذلك إذا لم ينقد في كرائه، فإذا نقد فلا خير فيه، قال: وكذلك الرجل يتكارى سنين، ويقول: متى ما بدا لي أن أخرج خرجت فيقيم سنتين أو ثلاثا. قلت له: أفتراه مثله؟ فقال: نعم، قال: وكذلك الدواب.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه كراء بخيار، فلا يجوز إذا نقد؛ لأنه إن خرج قبل انقضاء الأمد رد عليه كراء ما بقي من الأمد، فدخله كراء وسلف، ويجوز إذا لم ينقد، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، وقول ابن القاسم وروايته عن مالك في أول كتاب الجعل والإجارة من المدونة، وقول مالك في رسم الشجرة، ورسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب كراء الرواحل والدواب، قياسا(9/23)
على البيع الذي يجوز أن يكون أحد المتبايعين فيه بالخيار.
وقال سحنون: لا يجوز؛ لأنه كراء إلى أجل مجهول، وقول ابن القاسم وروايته عن مالك أظهر؛ لأنه بمنزلة أن يقول الرجل للرجل قد بعتك من صبرتي هذه ما شئت، كل قفيز بدرهم، وبالله التوفيق.
[: كراء البئر لسقي الزرع حتى حصاده فتهورت بعد السقي]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك رواية سحنون من كتاب الأقضية الأول قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع، قالا: سألنا مالكا عمن أكرى بيره رجلا سنة يسقي بها زرعه، أو أكراه إياها حتى يحصد زرعه، فتهورت بيره بعدما يسقي، فقال: يكون له من الكراء بقدر ما سقى من السنة أو من الأيام التي يحصد فيها زرعه، مثل العبد يؤاجره شهرا فيعمل بعضه ثم يموت، فكذلك بير الزرع إذا سقى به بعض السنة ثم تهور البير أخذ مما آجره به إياها بقدر ما سقى من السنة إن كان انتفع بما سقى من زرعه استكراها صيفة وشتاء، فسقى صيفة وحصد زرعه ثم هارت البير فله كراء الصيفة بحسب ما أكراه من الصيفة والشتاء؛ وإن كان سقى زرعه ثم هارت البير ولم يحصد شيئا من زرعه، ولم ينتفع به فمات الزرع لم يكن له(9/24)
عليه فيما سقى شيء، ورد عليه الكراء كله؛ لأنه لم ينتفع به، وأما إذا انتفع بمائه وسقى عليه وحصد ثم هارت البير فإنه يأخذ منه من الكراء بحسب ما آجره السنة بعشرة دنانير فسقى ستة أشهر ثم هارت البير فإنه يرد عليه نصف كرائه ويأخذ كراءه على ما أحب أو كره، ليس عليه أن يرد إلا ذلك قط.
وعمارة البير شديدة، وربما أنفق عليها المال الكثير والعين كذلك، فإن قال الذي كان له الزرع هات العشرة دنانير من كراء البير أعمر بها البير فذلك له، فإن زاد من عنده عشرين دينارا فليس له على صاحب البير من ذلك شيء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة جيدة صحيحة على معنى ما في المدونة وغيرها؛ لأن الحكم في تهور البير المكتراة لسقي الزرع كالحكم في تهور البير في الأرض المكتراة للزرع في أن جميع الكراء يبطل، وإن سقى بعض السنة إذا بطل الزرع ولم ينتفع بما سقى، وفي أن له أن ينفق في إصلاح البير كراء سنة واحدة؛ لأنه يحيي بذلك زرعه ولا ضرر فيه على رب البير أو الأرض، وفي أنه إن سقى بعض السنة فانتفع بما سقى كان عليه من الكراء بحساب ذلك.
وقوله فإن زاد من عنده عشرين دينارا فليس له على رب البير من ذلك شيء، يريد: إلا أن يكون له فيه نقض قائم من حجر أو آجر وشبهه فله قيمته مقلوعا، إلا أن يخلي بينه وبين قلعه، وبالله التوفيق.(9/25)
[: تهور البئر المؤجرة قبل انقضاء المدة ورفض صاحب الأرض تعميرها]
ومن كتاب الأقضية قال: وسألته عمن تكارى أرضا ونقد كراءها فزرع في الأرض فبلغ الزرع حتى سنبل ثم تهور البير فأبى صاحب الأرض أن يعمرها، فقال لي: إن شاء المتكاري أخذ منه كراء سنة واحدة مما دفع إليه فعمر به البير وليس له أن يأخذ كراء السنين كلها، ليس له أن يأخذ إلا كراء سنة، فإن كره ذلك ترك الزرع يبطل وأخذ كراءه كله، ولم يكن لصاحب الأرض شيء.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة أن البير إذا تهورت بعد أن يزرع المكتري فأبى رب الأرض من إصلاح البير كان من حق المكتري أن ينفق فيها كراء تلك السنة وحدها، وإن كان قد نقده فيؤخذ من رب الأرض وينفق في إصلاح البير، وإن كان قد استهلكه ولم يوجد له مال، كان للمكتري أن ينفقه عنه، ويكون له سلفا عليه، وإن لم يكن في كراء السنة ما يقوم بإصلاح البير، وأراد المكتري أن يزيد فهو متطوع بالزيادة، لا شيء له فيها إلا أن يكون فيما أخرج من ذلك شيء قائم فيكون له أن يأخذه إلا أن يعطيه رب الأرض قيمته مقلوعا، وإن انهارت البير قبل أن يزرع وأبى رب الأرض من إصلاح البير انفسخ الكراء ولم يكن للمكتري أن ينفق من كراء الأرض في البير شيئا، فإن أنفق فهو متطوع فيما أنفق يكون لرب الأرض كراؤه كاملا للسنين كلها التي كان الكراء إليها أو لما كفى الماء الذي عاد في البير بنفقة المكتري فيها منها، أعني من السنين المكتراة ولا شيء له فيما أنفق إلا في نقض قائم(9/26)
من حجر أو آجر أو شبه ذلك، فيكون له أن يأخذه إلا أن يعطيه رب البير والأرض قيمة ذلك مقلوعا، هذا معنى ما في كتاب ابن المواز والمدونة وغيرهما والذي يأتي على أصولهم، وبالله التوفيق.
[: بناء المؤجر الدار التي تهدمت قبل انقضاء المدة بما عليه من الكراء]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب العرية قال عيسى بن دينار: سئل ابن القاسم: عن الرجل يكتري داره من الرجل سنة فلم يقم فيها إلا شهرين حتى تهدمت فقام الذي تكارها فبناها بما عليه من الكراء وصاحب الدار غائب فلما سكن السنة جاءه صاحب الدار يطلب منه الكراء، وادعى الآخر أنه بناها ما ترى فيها؟ قال ابن القاسم: يكون لصاحب الدار من الكراء بقدر ما سكن المتكاري قبل أن تهدم، ويكون له كراء العرصة فيما بعد الهدم وليس للمتكاري إلا نقض بنيانه إلا أن يعطى قيمته نقضا.
فإن كان ليس فيه نقض ينتفع به مثل الجص والتزويق والتراب، فليس له فيه شيء، وكل نقض لا ينتفع به إذا قلع مثل الجص والتزويق والتراب فلا شيء فيه.
قال محمد بن رشد: الذي يأتي على أصولهم في الدار المكتراة ينهدم منها ما يذهب أكثر منافعها أو منفعة البيت الذي هو وجهها أو يكشفها بانهدام حائطها وما أشبه ذلك أن المكتري يكون في ذلك مخيرا بين(9/27)
أن يسكن بجميع الكراء أو يخرج، فإن أراد أن يسكن على أن يحط عنه ما ينوب ما انهدم من الكراء لم يكن ذلك له إلا أن يرضى بذلك رب الدار فإن رضي بذلك رب الدار جرى جوازه على الاختلاف في جمع الرجلين سلعتهما في البيع، وإن بنى المكري الدار قبل أن يخرج المكتري منها لزمه الكراء ولم يكن له أن يخرج، وإن بناها بعد أن خرج لم يكن عليه الرجوع إليها إلا أن يشاء، وإن سكت وسكن الدار مهدومة لزمه جميع الكراء.
هذا الذي يأتي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة.
فقوله في هذه الرواية إنه يكون لصاحب الدار كراء العرصة فيما بعد الهدم خلاف مذهبه في المدونة.
وأما قوله وليس للمتكاري إلا نقض بنيانه إلى آخر قوله فهو صحيح على مذهبه.
والهدم في الدار المكتراة ينقسم على قسمين: أحدهما: أن يكون يسيرا، والثاني: أن يكون كثيرا، واليسير على ثلاثة أقسام: يسير لا مضرة فيه على الساكن ولا ينقص من كراء الدار شيئا، ويسير لا مضرة فيه على الساكن، إلا أنه ينقص من قيمة كراء الدار، ويسير فيه مضرة على الساكن إلا أنه لا يبطل من منافع الدار شيئا.
والكثير على ثلاثة أقسام أيضا: كثير يعيب السكنى وينقص من قيمة الكراء، ولا يبطل من المنافع شيئا، وكثير يبطل اليسير من منافع الدار كالبيت ينهدم منها وهي ذات بيوت، وكثير يذهب أكثر منافعها أو منفعة البيت الذي هو وجهها أو يكشفها بانهدام حائطها، أو ما أشبه ذلك، وقد ذكرنا حكم هذا الوجه، وأما حكم سائر الأقسام فلها موضع غير هذا تذكر فيه، وبالله التوفيق.(9/28)
[: كراء منازل فيها علو ليس له سلم]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه وسئل: عن رجل اكترى منازل سنة، وفي المنازل علو ليس له سلم، فقال لصاحب المنازل اجعل للعلي سلما فإنا لا نخلص إليه فتوانى فيه فلم يجعل له سلما ولم ينتفع به المتكاري حتى انقضت السنة، قال: ينظر إلى ما يصيب ذلك العلو من الكراء، فيطرح عن المتكاري.
قال محمد بن رشد: إنما قال إنه إذا لم يجعل المكري للمكتري سلما يخلص به إلى الانتفاع بالعلو حتى انقضت السنة أنه لا كراء عليه فيه؛ لأنه باع منه جميع منافع الدار، فعليه أن يسلمها إليه، وإسلامه للعلو هو بأن يجعل له سلما يرقى عليه، والكراء في هذا بخلاف الشراء، لو باع منه الدار، وفيها علو لا يرتقى إليه إلا بسلم لم يكن عليه أن يجعل له سلما يرتقي عليه، كما لا يلزمه أن يجعل له دلوا وحبلا يصل به إلى ماء البير؛ لأن ما باع منه قد أسلمه إليه فهو إن شاء أسكنه وإن شاء هدمه وإن شاء باعه وفعل به ما يفعله ذو الملك في ملكه، لا يمنعه من التصرف فيه بما شاء من هذه الوجوه كونها دون سلم.
وقد ذهب ابن العطار في وثائقه قياسا على هذه المسألة إلى أن من باع دارا لها علو وفيها سلم ينقل من موضع إلى موضع أنه للمشتري وإن لم يشترطه، وليس قوله بصحيح، بل لا يكون للمشتري إلا أن يكون سلما من خشب في هيئة الدرج متخذا لذلك العلو، ولو صح قياس الشراء على الكراء لوجب أن يكون على البائع أن يأتيه بسلم للعلو من الدار وإن لم يكن في الدار سلم يوم البيع، وهذا ما لم يقله ابن العطار، فما أصاب في قوله ولا في قياسه، ولا يلزم في الكراء أن يأتيه بدلو وحبل لاستقاء الماء من البير، كما يلزمه أن يأتيه بسلم(9/29)
يرقى عليه إلى علية الدار.
فالفرق بين الموضعين أنه باع منه منافع العلية ولم يبع منه ماء البير، وإنما أكرى منه دارا فيها بير لها ماء ينتفع بما شاء منه إن شاء، وذهب ابن العطار أيضا إلى أن من باع دارا وفيها مطاحن مبنية يكون للمبتاع السريد والحجر الأسفل وللبائع الحجر الأعلى قياسا على ما قاله بعض الشيوخ أن معنى قوله في المدونة: لا شفعة في الأرحى، إنما يعني بذلك الحجر الأعلى، وأما الحجر الأسفل ففيه الشفعة؛ لأنه من البناء كقدر الحمام، وهي تفرقة لا وجه لها، إذ لا ينتفع بأحد الحجرين دون الآخر، فعلى ما في المدونة لا شفعة فيهما، وعلى رواية عيسى عن ابن القاسم في رقيق الحائط فيهما الشفعة، وأما المطاحن المبنية في الدار المبيعة فالصواب أنها للبائع، ولا يعتبر بكونها مبنية في الدار إذ ليست من بناء الدار ولا من أنقاضه، وإنما هي عروض للبائع لا يستحقها المبتاع بكونها منصوبة في الدار التي ابتاع، وبالله التوفيق.
[مسألة: كراء الدار سنة واختلاف المتكاريين في دفع الأجرة]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: إذا تكارى الرجل الدار سنة بعينها فسكن سنة ثم جاء صاحب الدار عند انسلاخ السنة يطلب منه الكراء، فقال: قد قبضته مني، لم يقبل قوله عليه، وعليه كراء تلك السنة، إلا أن يأتي منه ببراءة إذا قام عليه بحدثان ذلك، وإن طال ذلك بعد انسلاخ السنة ثم جاءه بعد ذلك يطلب منه كراء السنة، فقال: قد دفعته إليه، كان القول قوله، ولم يكن لصاحب(9/30)
الدار عليه إلا يمينه بالله لقد قضى إليه دنانيره، فلا يبالي خرج من الدار أو كان فيها إذا طال ذلك، القول قوله مع يمينه ويبرأ، ولو كان أكراه السنة بعينها فسكن بعد ذلك تسع سنين وصاحب الدار ينظر إليه لم يواجبه على كراء، ثم جاء بعد عشر سنين يطلب كراء السنة الأولى وكراء التسع سنين التي كانت بعد السنة فلا شيء له في كراء السنة الأولى، إذا قال قد دفعته، وله قيمة كراء التسع سنين إذا قام بحدثان انسلاخها إلا أن يأتي الساكن ببراءة تبرئه من الكراء، وإلا لم يقبل قوله.
وإن خرج من الدار وطال ذلك ثم جاء يطلب الكراء فلا شيء له لا كراء السنة، ولا كراء التسع سنين، إذا زعم أنه قد دفع ذلك ويحلف ويبرأ، فإذا قام يطلب ذلك بحدثان ذلك، فله كراء التسع سنين وإن كان قد خرج من الدار، وإذا سكن الدار عشر سنين، وكان صاحب الدار يجدد عليه الكراء كل سنة ويشهد عليه ثم جاء بعد ذلك يطلب كراء تلك العشر سنين كلها فلا شيء له إذا زعم أنه قد دفع ذلك إليه إلا كراء السنة الأخيرة إن كان قام بحدثان ذلك، وإن كان قد خرج وطال ذلك ثم قام يطلب فلا كراء له فيما مضى ولا في السنة الأخيرة.
وإنما يكون له كراء السنة الأخيرة إذا قام بحدثان انسلاخها، وأما إذا طال ذلك فلا(9/31)
شيء له، وتجديد كراء السنة بعد السنة براءة من التي قبلها مع يمين الساكن.
وأما إذا أكراها عشر سنين مسجلة فلما انسلخت جاء يطلب الكراء فإنه إن جاء يطلبه بحدثان انسلاخ العشر سنين فله الكراء إلا أن يأتي الساكن منه ببراءة تبرئه، فإن قام يطلب ذلك بعد طول زمان، فالقول قول الساكن مع يمينه ويبرأ.
قلت: فلو استكرى منه سنة، فلما سكن ستة أشهر جاءه يطلب الكراء، فقال: قد دفعت إليك جميع كراء السنة، أيكون القول قوله أم ماذا العمل فيه؟ ولأي شيء جعلت القول قول رب الدار إذا قام يطلب ذلك بحدثات السكنى؛ قال: لا يقبل قوله في السنة ولا بحدثان ذهابها، وكذلك قال مالك؛ لأنه أمر ليس فيه فوت.
قال محمد بن رشد: مراعاة العرف في دعوى المتكاري دفع الكراء أصل متفق عليه في المذهب لا اختلاف فيه عند مالك وأصحابه، فجوابه في هذه الرواية على أن العرف كان عندهم أن من اكترى دارا سنة بكذا، أو كل سنة بكذا، ولم يقل كل شهر بكذا أو سنين مسماة بكذا، ولم يقل كل شهر بكذا أو كل سنة بكذا أن الكراء إنما يدفعه عند انقضاء السنة التي اكترى، أو عند انقضاء السنين التي اكترى، ولذلك قال: إنه لا يصدق إذا ادعى دفع كراء السنة التي اكترى أو السنين التي اكترى بحدثان انسلاخها، وإنما يصدق إذا ادعى دفع ذلك بعد طول زمان، خرج من الدار أو كان ساكنا فيها، ولو كان العرف بالبلد دفع الكراء شهرا بشهر وإن كان اكترى منه سنة أو سنتين على ما هو العرف عندنا لوجب أن يكون(9/32)
القول قول المكتري في دفع كراء ما مضى من الأشهر، والقول قول رب الدار في الشهر الآخر ما لم يطل الأمر بعد انقضائه.
والذي جرى به العمل أنه إذا مضى أكثر الشهر كان القول قول المكتري في دفع كراء الشهر الذي قبله، وإذا لم يمض منه أكثره كان القول قول رب الدار إنه ما قبض كراء الشهر الذي قبله، وقيل: إن القول قوله ما قبض كراء الشهر الفارط ما لم ينقض الشهر الذي هما فيه.
وأما قوله في هذه الرواية إذا أكرى منه السنة بعينها ثم سكن بعد ذلك تسع سنين وصاحب الدار ينظر إليه لم يواجبه فيها على كراء، ثم قام بعد انقضاء العشر سنين يطلبه بكراء السنة الأولى وكراء التسع سنين أنه إن قام بحدثان انسلاخها فله قيمة كراء التسع سنين، ولا شيء له من كراء السنة الأولى، وإن قام بعد طول فلا شيء له، لا كراء السنة ولا كراء التسع سنين، إذا زعم أنه قد دفع ويحلف ويبرأ.
فقوله فيها إن له قيمة كراء التسع سنين لا على حساب كراء السنة الأولى، وهو مثل قوله في كتاب كراء الرواحل والدواب من المدونة فيمن اكترى دابة يوما فبحسبها شهرا أن عليه في التسعة وعشرين يوما كراء مثلها على قدر ما استعملها لا على حساب كراء اليوم، ومثل ما اختاره في رسم إن خرجت بعد هذا، ولا يعتبر في هذه المسألة على هذا القول بالعرف إن كان العرف بالبلد تأدية الكراء فيه سنة بسنة إذا لم يواجبه في التسع سنين على كراء معلوم، ويعتبر به على القول الآخر وعلى مذهب غيره، وهو أشهب الذي يرى عليه الكراء في التسع سنين(9/33)
على حساب كراء السنة، لكونه حاضرا معه لأنه كأنه قد واجبه في كراء التسع سنين على مثل كراء السنة الأولى، وهو نص قوله في الدمياطية، قال: القول قول المكتري لما مضى من السنين، ويغرم السنة التي هو فيها.
ولو سكن التسع سنين وصاحب الدار غائب لم يواجبه فيها على كراء لكان القول قول صاحب الدار أنه ما قبض كراء التسع سنين إذا قام بحدثان انقضائها وإن كان العرف بالبلد قبض الكراء فيه سنة بسنة على قولهما جميعا، وإنما يختلفان فيما يجب على الساكن في التسع سنين.
فمذهب أشهب أنه يجب عليه فيها الأكثر من كراء مثلها أو على حساب كراء العام الأول، ومذهب ابن القاسم أنه يجب عليه فيها كراء مثلها بالغا ما بلغ كان أكثر من كراء السنة أو أقل، وهذا على أصل قد اختلف فيه قوله على ما سنذكره في رسم إن خرجت بعد هذا، إن شاء الله، وبه التوفيق.
[: سكوت المكري عن الأجر الذي أخبره به المؤجر]
ومن كتاب أوله أوصى بعتق أمهات أولاده وسئل: عمن استكرى بيتا يسكنه، فقال المكري: هو بدينار ونصف في السنة، وقال المستكري: لا والله لا أعطيك إلا دينارا، فإن رضيت سكنت على هذا، وإلا انتقلت، فسكت ولم يجبه بشيء، فلما انقضت السنة لزمه بدينار ونصف، قال ابن القاسم: لا أرى له إلا دينارا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جيدة تبين ما مضى في نوازل(9/34)
سحنون من كتاب جامع البيوع، وقد مضى القول عليها هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: كراء الدار مدة أخرى بدون اتفاق مع صاحبها]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وسئل: عن رجل أكرى من رجل دارا سنة فلما انقضت السنة سكن الداخل في الدار بعد السنة ستة أشهر ولم يواجب صاحب الدار على كراء، ثم طلب صاحب الدار الكراء ماذا يأخذ منه؟ أبحساب ما تكارى منه للسنة الماضية؟ أم قيمة كراء الستة أشهر؟ فقال: قد قيل فيها القولين جميعا، وأحب إلي أن يقوم كراء الستة أشهر التي سكن ويعطي كراءها.
قال محمد بن رشد: الاختلاف في هذه المسألة جار على اختلاف قوله: هل السكوت كالإقرار أم لا؟ فعلى القول بأن السكوت كالإقرار إذا علم رب الدار بسكناه في الدار بعد انقضاء العام، كان عليه فيما سكن بحساب كراء العام؛ لأنه يحمل كل واحد منهما على الرضا به، وإن لم يعلم رب الدار بسكناه فيها بعد انقضاء العام، مثل أن يكون غائبا، فيكون على الساكن فيما سكن بعد انقضاء العام الأكثر من كراء المثل، أو على حساب كراء العام؛ لأنه يحمل على الساكن الرضا بحساب كراء العام إن كان كراء المثل أقل، وهو أحد قولي ابن القاسم وقول غيره في المدونة، وقول ابن الماجشون في الواضحة، قال: أما ما كان مما يرجع به إلى ربه، فيحوزه بغلق من دار وبيت وحانوت، ورب ذلك ساكت حاضر عالم لا ينكر(9/35)
فله بحساب الكراء الأول، وما قال مثل المزرعة وما إذا فرغ من الوجيبة بقي براحا لا جدار عليه ولا غلق ولا آلة ترد إلى صاحبها، فله فيما زاد الأكثر من القيمة أو الوجيبة؛ لأنه تعدى عليه بغير أمره ولا علمه، واختار ذلك ابن حبيب وعلى القول بأن السكوت لا يكون كالإقرار يكون على الساكن فيما سكن بعد انقضاء العام كراء المثل بالغا ما بلغ، كان أقل من حساب كراء العام أو أكثر، كان رب الدار حاضرا أو غائبا، وهو أحد قولي ابن القاسم واختياره في هذه الرواية، وبالله التوفيق.
[: يكتري الأرض فإذا استحصد زرعه أتاه برد فأوقع حبه كله في الفدان]
ومن كتاب الثمرة وقال، في رجل يكتري الأرض فيزرعها، فإذا استحصد زرعه أتاه برد فأوقع حبه كله في الفدان فأخلف وصار فيه زرع، لمن يكون الزرع؟ قال: الزرع لرب الأرض وليس للمتكاري فيه قليل ولا كثير؛ لأن سنته قد انقضت؛ لأن مالكا سئل عن رجل بذر أرضه، فأتى سيل فذهب بالبذر كله إلى أرض غيره، فنبت وصار زرعا، قال: الزرع لرب الأرض، وليس لصاحب البذر قليل ولا كثير، فمسألتك مثله.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في مسألة الذي انتثر زرعه في أرض اكتراها لسنة فنبت فيها في عام قابل: إنه لصاحب الأرض - هو مثل قوله في كتاب كراء الأرضين من المدونة، وقياسه لذلك على قول مالك في الذي يبذر أرضه فيجر السيل بذره إلى أرض جاره فينبت فيه: إنه لصاحب الأرض صحيح، إذ لا فرق بين المسألتين؛ لأن البذر مستهلك(9/36)
في المسألتين لا يقدر صاحبه على أخذه من أرض صاحب الأرض، وهذا مثل ما في المدونة سواء؛ لأن معنى قوله فيها فحمل السيل زرعه إلى أرض رجل آخر، فنبت فيه، معناه: فحمل السيل بذره إلى أرض رجل آخر فنبت فيه، إذ لا ينبت الزرع وإنما ينبت البذر، وبدليل هذه الرواية أيضا؛ لأنه نص فيها على أن السيل إنما ذهب بالبذر لا بالزرع بعد نباته، وقد اختلف إذا ذهب السيل بالزرع إلى أرض الرجل بعد أن نبت وظهر على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لصاحب الأرض أيضا، وعليه قيمته مقلوعا، إن كانت له قيمة، روي ذلك عن سحنون.
والثاني: أنه لربه، وعليه كراء الأرض ما لم يجاوز كراؤها الزرع فلا يكون عليه أكثر منه، يريد أنه يكون مخيرا بين أن يتركه لرب الأرض، وبين أن يكون له ويكون عليه كراء الأرض.
قاله سحنون في كتاب المزارعة، وقال في كتاب ابنه: ولا يكون كالمخطئ، والمخطئ كالعامد، ولا يكون أسوأ حالا من المكتري للأرض مدة فتتم المدة، وله فيها زرع أخضر، وقد علم حين زرع أنه لا يطيب في المدة. فقال مالك: له الزرع وعليه كراء زيادة المدة.
والثالث: أنه إذا لم يكن فيه منفعة فهو للذي جره السيل إليه، وإن كانت فيه منفعة وله قيمة فهو لصاحبه وعليه كراء الأرض، روى ذلك ابن وضاح عن سحنون، وقد قيل: إنه إذا جره السيل وهو بذر قبل أن ينبت أنه لصاحبه وعليه كراء الأرض وهو بعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: أجَّر الحمَّام برقيقه فمات الرقيق قبل انقضاء المدة]
مسألة وسئل: عن الرجل يكون له الحمام، وفيه الرقيق يقومون بأمره، فأكراه رجلا سنة برقيقه فماتت الرقيق إلى ستة أشهر،(9/37)
هل يفسخ جميع الكراء، أو انهدم الحمام وبقيت الرقيق؟ قال: إن ماتت الرقيق قبل السنة وبقي الحمام كان الكراء بحاله في الحمام إلى تمام السنة ونظر إلى كراء الرقيق من جملة الكراء، فإذا عرف كراؤهم قوم كراؤهم فيما عملوا من السنة، فكان لسيدهم ورد ما بقي، وإن كان الحمام انهدم والرقيق باقية انفسخ الكراء في الرقيق والحمام، ونظركم كراء الحمام والرقيق فيما مضى من السنة ففض على جميع الكراء الثمن فكان ذلك له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا اكترى الحمام برقيقه ليقوموا له بأمره فانهدم الحمام لم ينتفع بالرقيق، فسواء انهدم الحمام في أول السنة أو بعد أن مضى أكثرها، له رد الرقيق، وينفسخ الكراء في الجميع لما بقي من المدة، ولا يقال إذا انهدم الحمام بعد أن مضت أكثر السنة إنه ليس له أن يرد الرقيق فيما بقي من السنة وإن كان قد سلمت له جل صفقته، إذ لا منفعة له فيهم إذا انهدم الحمام؛ لأنه إنما هو بمنزلة من اكترى دارا فلما سكن أكثر المدة انهدم منها بيت يضر به في سكناه، فله أن يرد الدار لما بقي من المدة، ولو كان اكترى الحمام ورقيق صاحب الحمام ليخدموه في غير الحمام فانهدم الحمام بعد أن مضت أكثر المدة لم يكن له أن يرد الرقيق؛ لأنه قد سلمت له جل صفقته فنال وجه ما طلب، كما أنه لو اكترى حمامين أو دارين فانهدم أحدهما وقد مضت أكثر المدة لم يكن له أن يرد الآخر، وإن كان الذي انهدم منهما هو جلهما من أجل أنه قد سلمت له جل صفقته إذ قد مضت أكثر المدة فنال وجه ما طلب.
ويدخل في هذا الوجه اختلاف بالمعنى من مسألة من اشترى عبدين في صفقة(9/38)
واحدة، أحدهما تبع لصاحبه، فاستحق جل الأدنى منهما؛ لأن ابن القاسم يرى له رده، خلاف ما ذهب إليه سحنون فتدبر ذلك.
وأما إذا مات الرقيق الذين اكتراهم مع الحمام لخدمة الحمام وبقي الحمام فلا ينفسخ الكراء في الحمام إلا أن يكونوا ماتوا في أول السنة وهم الجل في الكراء، مثل أن يكون كراء الحمام برقيقه خمسين، ودون الرقيق عشرة، وما أشبه ذلك، وبالله التوفيق.
[: كراء الدار التي فيها نخل إلى سنة ثم انهدمت الدار]
ومن كتاب حمل صبيا على دابة قال ابن القاسم: إذا اكترى الرجل دارا إلى سنة وفيها نخل تبع للدار واشترطها المكتري فسكن ستة أشهر ثم انهدمت الدار فإنه يقوم كراء الدار، فإذا عرف قيمتها نظر ما قيمة النخل من تلك القيمة إن كانت ثلثا أو ربعا أو أدنى من ذلك فيأخذ من كراء السنة ذلك الاسم، ثم ينظر ما قيمة كراء تلك الستة الأشهر التي سكن، وقيمة كراء الستة الأشهر الباقية، فيفض ما بقي من الكراء بعد إخراج قيمة النخل على الستة الأشهر التي سكن والستة التي بقيت.
قال محمد بن رشد: يريد وتكون الثمرة للمكتري إن كانت قد طابت ويكون عليه ما وقع عليها من الكراء مع ما يجب للستة الأشهر التي سكن، وأنها ترجع لرب الدار إن كانت لم تطب ويحط عن المكتري ما يقع عليها من الكراء وعلى ما بقي من المدة، فإن كانت الثمرة تقع في الثلث من الكراء وانهدمت الدار بعد أن سكن ستة أشهر كانت الثمرة للمكتري إن كانت قد طابت، وكان عليه ثلثا الكراء، وإن كانت لم تطب(9/39)
رجعت إلى رب الدار، وكان على المكتري ثلث الكراء على ما يأتي له في سماع أبي زيد.
وذهب محمد بن المواز إلى أن الثمرة ترجع إلى ربها طابت فيما مضى من المدة أو لم تطب، ويكون على المكتري من الكراء إن كان سكن ستة أشهر نصف ما يقع منه على الدار إذا فض عليه وعلى الثمرة.
يريد محمد: إلا أن تكون الثمرة قد طابت في الستة الأشهر التي سكن وهي تبع لها، وذلك بأن تكون الثمرة تقع من كراء السنة السدس فأقل، فتكون للمكتري ويكون عليه ما نابها من الكراء مع ما يجب لما سكن.
وقول محمد بن المواز أظهر، ومثله حكى ابن حارث عن أشهب، ووجه قول ابن القاسم أن أصل العقد لم يكن فيه تهمة إذ كانت الثمرة حينئذ تبعا، ولا يعتبر بما يطرأ من الهدم بعد صحة العقد، وقد كان يجب على هذا أن تكون الثمرة له وإن لم تطب، وذلك ما لا يقوله ابن القاسم ولا غيره، فهو دليل على صحة قول محمد وأشهب.
ولو استحقت الدار إلا موضع الشجرة لرجعت الثمرة إلى المكتري طابت أو لم تطب، بخلاف الهدم؛ لأنه بمنزلة من باع ثمرة قبل طيبها حين ضمها إلى ما ليس له، قاله ابن حبيب، وقد قال في الذي يشتري الأرض ويستثني الزرع ثم تستحق الأرض وقد استحصد الزرع: إنه يكون للمشتري ويمضي البيع فيه؛ لأن أصله كان جائزا، ولا فرق بين الشراء والكراء، فعلى هذا تكون الثمرة إذا طابت للمكتري في الهدم والاستحقاق، وعلى قول محمد وأشهب ترجع الثمرة إلى ربها وإن طابت في الهدم والاستحقاق، وتفرقة ابن حبيب بين الهدم والاستحقاق قول ثالث، فقف على ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكتري الدار سنة وفيها نخل أو دالية غلتها أدنى من الثلث فيشترطها]
مسألة قال ابن القاسم، في الرجل يكتري الدار سنة وفيها(9/40)
نخل أو دالية غلتها أدنى من الثلث فيشترطها فيسكن ستة أشهر ثم يستقيله صاحب الدار أو المتكاري وقد نقد الكراء أو لم ينقد، والثمر بحالها لم تطب، إنه سواء نقده أو لم ينقد أيهما استقال فلا بأس به إذا كانت الثمرة يوم يستقيله تبعا لكراء الستة الأشهر التي يقيله منها بمنزلة أصل الكراء فيكون كله كأنه كراء حادث، فإن كانت الثمرة قد طابت فليصنعا ما أحبا، وسواء نقده أو لم ينقده في الدار، وليس ينزل النقد في الدور بيعا وسلفا، رجع ابن القاسم، وقال: هذا إذا لم ينقده، فإن كان نقده كان بيعا وسلفا، كذلك قال لي مالك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة تحصيل القول فيها أن الثمرة لا تخلو أن تكون في حين الإقالة قد طابت أو لم تطب، فإن كانت قد طابت وتركها لرب الدار، فذلك جائز بكل حال، وإن أبقاها لنفسه فذلك جائز إن كانت تبعا للستة الأشهر التي سكن، مثل أن يكون السدس من جميع كراء السنة فأقل، فيكون الثلث من الستة الأشهر التي سكن أو أقل، وإن كانت لم تطب وأبقاها لنفسه فلا يجوز بحال، وإن تركها لرب الدار جاز إن كانت تبعا لما بقي؛ لأنه يصير كابتداء كراء اكتراه المكري من المكتري، ولم يجز إن لم يكن تبعا للستة الأشهر الباقية، وقد مضى في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم وجه الاختلاف في الإقالة من بقية السكنى بعد النقد، وإن إجازة ذلك قياسا على السلع المعينة وكراهيته تشبيها بما في الذمم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(9/41)
[: اكترى دارا سنة ولم ينقد الكراء فسكن شهرين ثم سأله المكتري أن يقيله فأبى]
ومن كتاب حبل حبلة وسئل: عن رجل اكترى دارا سنة باثني عشر دينارا ولم ينقد الكراء فسكن شهرين، ثم سأله المكتري أن يقيله فيما بقي من السنة فأبى، فقال: أقلني وأنا أعطيك في الشهرين ستة دنانير كراء نصف سنة، قال: لا خير فيه، وهذا من وجه ضع وتعجل، ورواها أصبغ، وقال: يفسخ إن وقع عملهما على هذا.
قال محمد بن رشد: قوله: وهذا من وجه ضع وتعجل صحيح، إذ ليس بحقيقة ضع وتعجل، وإنما هو فعل قد يدخله ما يدخل ضع وتعجل من الزيادة في السلف، ويدخله أيضا البيع والسلف، وبيع عرض وذهب بذهب إلى أجل، وذلك إذا كان الكراء مؤخرا بشرط، أو كانت سنة الكراء عندهم على التأخير؛ لأنه إذا أكرى منه داره سنة باثني عشر دينارا مؤخرة عليه إلى انقضاء السنة فأقاله بعد شهرين على أن يعطيه ستة دنانير في الشهرين كان رب الدار قد أخذ منه دينارين واجب الشهرين اللذين سكنهما وتعجل أربعة دنانير من العشرة الباقية عليه من كراء العام إلى انقضائه، على أن يأخذ منه في تمام العشرة داره لبقية العام، ولعل كراءها لبقية العام لا يساوي إلا أربعة دنانير، فيكون كأنه قد تعجل ثمانية دنانير من عشرة مؤجلة، وإن كان كراء العشرة الأشهر الباقية قيمته ستة دنانير فأكثر لم يدخله ضع وتعجل؛ لأنه لم يضع شيئا، ويدخله بيع وسلف وذهب وعرض بذهب إلى أجل على كل حال؛ لأنه أخذ منه سكنى الدار عشرة أشهر بستة دنانير من العشرة التي بقيت له عليه إلى أجل على أن عجل له أربعة دنانير سلفا منه له، وباعه العشرة دنانير التي له عليه إلى أجل بأربعة دنانير معجلة وسكنى داره العشرة الأشهر التي بقيت من السنة.
وأما لو كان الكراء على النقد بشرط، أو على أنه يحل عليه شيئا بعد شيء بقدر ما سكن أو مبهما(9/42)
مما يكون الحكم فيه هذا فسكن أشهرا ثم استقال من زيادة لم يكن به بأس؛ لأن ما حل له من الكراء ليس بمحسوب له في الإقالة، ولا من الزيادة، وهذا كله بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول له أؤاجرك داري أو إبلي كل سنة أو كل شهر بكذا وكذا]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول في الرجل، يقول للرجل: أؤاجرك داري أو إبلي أو غلماني كل سنة أو كل شهر بكذا وكذا، أو في السنة أو في الشهر بكذا وكذا: إن ذلك كله لا يلزم واحدا منهما، ومتى ما أحب المتكاري أن يخرج خرج، أو متى ما أحب المكري أن يخرجه أخرجه، قال مالك: إلا أن يقول: أكريك سنة بكذا وكذا أو شهرا بكذا وكذا، فليس لأحدهما أن يترك الكراء، ليس للمتكاري أن يخرج، وليس للمكري أن يخرجه حتى تنقضي سنة.
قال ابن القاسم: وأنا أرى في الذي يقول أكريك السنة بكذا وكذا، مثل ما قال مالك في وكل.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها؛ لأن الكراء في الرباع على وجهين: أحدهما: أن يعقده المتكاريان لمدة معينة معلومة، والثاني: أن يسميا الكراء ويتفقان عليه ولا يتواجبان على مدة معينة معلومة، فإذا عقداه لمدة معينة معلومة لزمهما جميعا ولم يكن للمكتري أن(9/43)
يخرج ولا للمكري أن يخرجه حتى تنقضي المدة، وهي تتعين بأربعة ألفاظ:
أحدها: أن يقول: أكري منك هذا الشهر أو هذه السنة.
والثاني: أن يقول: أكري منك شهر كذا، أو سنة كذا.
والثالث: أن يقول: أكري منك شهرا أو سنة.
والرابع: أن يقول: أكري منك إلى وقت كذا.
وما تفترق فيه هذه الألفاظ مع تساويها في لزوم الكراء بها مذكور في غير هذا الكتاب، وإذا اتفقا على الكراء وسمياه ولم يتواجبا على مدة معلومة معينة وذلك مثل أن يقول أكري منك الشهر بكذا، أو السنة بكذا، أو يقول: أكري منك في كل شهر بكذا، أو كل سنة بكذا، أو يقول: أكري منك في الشهر بكذا، أو في السنة بكذا، كان للمكتري أن يخرج متى شاء وللمكري أن يخرجه متى شاء كان في أول الشهر أو وسطه، ويؤدي من الكراء بحساب ما سكن، ولا يلزم واحدا منهما الكراء في الشهر الأول، ولا فيما بعده، إلا أن يقع بينهما شرط ألا يخرج أو ألا يخرجه أو يعجل الكراء، وهذا على مذهب ابن القاسم.
وذهب ابن الماجشون إلى أنهما يلزمهما الكراء في الشهر الأول إذا قال: الشهر بكذا، أو في كل شهر بكذا، وكذلك على مذهبه السنة الأولى إذا قال: السنة بكذا، أو كل سنة بكذا.
وروى ابن أبي أويس عن مالك في البيوت التي تكرى شهرا بشهر فيخرج قبل ذلك أن كراء ذلك الشهر عليه، وإنما يكون عليه بحساب ما سكن إذا(9/44)
تكارى كل يوم بدرهم، ففي كراء الدار مشاهرة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يلزم الشهر الأول، ولا ما بعده، والثاني: أنه يلزم فيه الشهر الأول ولا يلزم ما بعده من الشهور، والثالث: أنه يلزمه الشهر الأول، وكراء ما بعده من كل شهر بسكنى بعضه.
وقول ابن القاسم: وأنا أرى في الذي يقول أكريك السنة بكذا وكذا، مثل ما قال مالك في وكل صحيح، ومعناه: أن السنة لا تتعين عنده بقوله أكريك السنة بكذا وكذا، كما لا يتعين عند مالك بقوله أكريك في السنة بكذا وكذا أو أكريك في كل سنة بكذا وكذا، وإنما لم تتعين السنة بقوله أكريك السنة بكذا وكذا لأن الألف واللام لم يدخلا على السنة لتخصيصها من غيرها في لزوم الكراء فيها، وإنما دخلا عليها لتخصيص السنة من غيرها في مقدار ما يجب لها من الكراء، وهذا هو معنى الكلام الذي يسبق إلى فهم السامع ولا يصح فيه خلاف بوجه من الوجوه.
وقد حكى ابن سهل في أحكامه أنه رأى في حاشية كتاب بعض شيوخه أنه إن قال أكريك السنة بكذا - بنصف السنة - كان سنة لازمة، وإن قال أكريك السنة بكذا - بالرفع - كان مثل قوله: كل سنة بكذا، على رواية ابن القاسم، واستحسنه، ولا وجه عندي لاستحسانه إياه؛ لأنه إذا قال أكريك السنة بكذا بنصب السنة احتمل أن يريد بذلك أكريك داري هذه السنة بكذا، وأن يريد بذلك أكريك داري هذه ما سكنت من حساب السنة بكذا، وإذا كان الكلام محتملا لهذين الوجهين وأحدهما يلزم به كراء السنة، والثاني لا يلزم به كراؤها لم يصح أن يحمل إلا على الوجه الذي لا يلزم به كراؤها؛ لأن الأصل براءة الذمة من لزوم الكراء، فلا يلزم إلا بيقين.
وأما إذا قال أكريك السنة كذا بالرفع فليست بمسألة يتكلم عليها، إذ لا إشكال في أن كراء السنة لا يلزم بذلك، وما تكلم ابن القاسم عليها، وإنما تكلم على الذي قال أكريك السنة بكذا بالنصب فرأى الكراء بذلك غير لازم في(9/45)
السنة للمعنى الذي قلناه، ولما كان الكراء لازما في السنة لمن قال أكريك سنة بكذا ولم يكن لازما فيها لمن قال: أكريك السنة بكذا، للمعنى الذي ذكرناه، قال: من أراد أن يغرب إن الكراء إذا عرف تنكر، وإذا نكر تعرف، وذلك قول فيه نظر؛ لأنه لو قال أكريك السنة كل شهر بكذا للزم كراء السنة لتعرفها بالألف واللام.
وإنما لزم الكراء في السنة لمن قال أكريك سنة، بكذا وكذا، وإن كانت منكرة، من أجل أن الكراء لا يجوز عقده على سنة غير معينة، فيحمل أمرهما على أنهما أرادا سنة كاملة من يوم العقد، وبالله التوفيق.
[مسألة: كراء الأرض بمثل نظيرتها دون تحديد قدر الأجرة]
مسألة ومن سماع سحنون من عبد الرحمن بن القاسم، قال سحنون: سئل ابن القاسم: عن الرجل يكري الأرض يزرعها بمثل ما يزرع غيرها وهما لا يعرفان كم كراء تلك الأرض الأخرى، قال: لا خير فيه، وعلى الزارع مثل كراء تلك الأرض، قيل له: فإن أراد حارث الأرض أن يأخذ مثل طعامه أو دراهم أو عرضا أو دنانير من رب الأرض ويترك له الزرع، قال: لا خير فيه، وهو بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن الكراء على هذا لا يجوز لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيع الغرر، وإنه لا يجوز للمكتري أن يأخذ من رب الأرض مثل طعامه الذي زرع، أو دراهم أو دنانير أو عرضا من العروض ويترك له الزرع لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيع الحب في سنبله حتى يبيض في أكمامه، فكيف يبيعه وهو زرع قبل أن يسنبل؛ لأن الزرع له، وعليه كراء المثل في الأرض، فلا يجوز له أن يبيعه من رب الأرض، كما لا يجوز له أن(9/46)
يبيعه من غير رب الأرض، وبالله التوفيق.
[مسألة: انفضاض ماء البئر المكتراة أثناء الإجارة]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يكتري العين أو البير فينقص ماؤهما، قال: إن كان ذلك يسيرا مثل ما يعرف من نقصان الماء مع قلة الأمطار وزيادته مع كثرة المطر فإن ذلك لازم لهما إلا أن يأتي من نقصان الماء ما يضر بالمكتري لقلته وعوزه فتنتقض به الإجارة، وكذلك نقصان اللبن من قلة الخصب مثل نقصان العين من قلة المطر أمرهما واحد، فخذ هذا على هذا الباب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع الأول وهو مبين لما في المدونة؛ لأن النقصان المعروف قد دخل عليه المبتاع فلا رجوع له به، وإنما يرجع بالنقصان المتفاحش الخارج عما جرت به العادة، وقد مضى القول على هذا في سماع أشهب من الكتاب المذكور، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: إرادة المؤجر أخذ الأجرة المؤجلة قبل موعدها]
من سماع أصبغ من كتاب الكراء والأقضية قال أصبغ: سألت ابن القاسم: عمن تكارى منزلا بأربعة دنانير سنة واشترط المكري نقد دينارين، وأخذ نصف الكراء، فأراد بعد شهر أن يأخذ ما حل له في ذلك أيضا.
قال: ذلك له ويفض الديناران على السنة كلها، فينظر ما يصيب كل شهر(9/47)
يفض ما قبضه، ويفض ما بقي على السنة كلها، فينظر ما يصيب كل شهر من ذلك، فيأخذه كلما حل له شهر، وذلك نصف كراء الشهر من جميع الكراء، فيكون ما قبض، ويعجل على ما سكن وما لم يسكن، وما تأخر بمنزلة ذلك، ومما يبين ذلك أرأيت لو قبض دينارين وسكن ستة أشهر ثم فلس المتكاري، أليس يرد دينارا ويكون الديناران اللذان قبض على السنة كلها ويأخذ الأشهر الباقية؛ لأنها سلعته بعينها، فكذلك هذا، وإنما هو شيء اشترط تعجيله فلا يكون فيما سكن وحده، وهو على السنة كلها، وسواء اشترط نقد دنانير سماها، فكانت نصف الكراء، أو اشترط نصف الكراء مسمى فهو سواء.
قال أصبغ: جيدة كلها وإنما يلغى ما قبض عندما يحل عليه شيء فيصير الباقي من الكراء الذي لم يقبضه كأنه كراء السنة كلها، يقسم ويفض عليها فيأخذ لكل شهر ما يصيبه منها بحسابه.
وقول ابن القاسم يرجع إلى هذا، وهذا يرجع إليه، وهو وجه واحد لا يزول.
وإن قسمت السنة على الدينارين اللذين قبض، والدينارين اللذين لم يقبض صار كراء كل شهر ثلث دينار فقد أخذ لكل شهر سدسا في الدينارين اللذين اشترط تعجيلهما ويبقى من كراء كل شهر سدس.
وإن قسمت السنة على الدينارين الباقيين فقط، وجعلاهما الكراء لأنهما بقية الكراء، فإنما يصير لكل شهر سدس يأخذه، فهذا هو، وهذا كله واحد، وإنما هو رجل اشترط من كراء كل شهر تعجيل سدس لجميع الأشهر مكانه، ويبقى من كراء كل شهر سدس إذا حل شهره.(9/48)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قالا؛ لأنه إذا اشترط تعجيل بعض الكراء ولم يسمه لشهر أو لشهور بأعيانها من أول العام أو من آخره وجب أن يحمل على جميعها ويفض عليها كلها، ويأخذه عند انقضاء كل شهر ببقية واجبة، وبالله التوفيق.
[: نبت الحب المخبوء في الأرض بعد انقضاء الإجارة]
ومن كتاب المجالس وسأله رجل من أهل الريف، فقال: إني كنت زرعت أرضا لي كمونا فلم ينبت، وأبطأ نباته عن إبانه حتى لم يشك الناس أنه قد هلك البذر الذي بذرت من بعض غمرات الماء، أو برد، أو غير ذلك، ويئست من نباته، وأكريت، أرضي تلك من رجل غرس فيها مقثاة فنبتت المقثاة والكمون معا نباتا واحدا، ما ترى في ذلك؟ قال أصبغ: أرى الكمون لك والمقثاة لغارسها، ويفض الكراء الذي اكتريت به الأرض على قدر انتفاعكما بها، أنت في كمونك، والمكتري في مقثاته، فما أصاب الكمون من ذلك سقط عن المكتري من الكراء.
قيل له: أرأيت إذا أضر الكمون بالمقثاة وغمها حتى نقصها في نباتها وحملها، فقال ربها: اقلع عني الكمون فإنه قد أضر بي، وأبطل مقثاتي، أذلك له؟ قال: ليس ذلك له، فإن كان ذلك كذلك ونقصت المقثاة من سبب الكمون وضع عنه من حصته من الكراء مقدار ما نقص من المقثاة من قليل أو كثير؛ لأن هذا من سبب الأرض، قال: وكذلك إن أبطلها كلها وأحرقها كان مصيبتها منه، ورجع بالكراء كله فأخذه، أو سقط عنه بمنزلة ما لو غرسها فلم تنبت أصلا فلا كراء لرب الأرض؛ لأن الهلاك جاء من سبب الأرض.(9/49)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جيدة حسنة صحيحة مبنية على أصولهم؛ لأن رب الأرض لما أكرى أرضه وهو يرى أن كمونه قد بطل وجب ألا يكون للمكتري أن يقلعه، إذ لم يغره، وإنما فعل ما يجوز له، كمن زرع في أرض اكتراها وهو يظن أنه يتم قبل انقضاء أمده، فانقضى الأمد قبل تمام الزرع.
لا يكون لرب الأرض أن يقلع زرعه، وإذا لم يكن له أن يقلعه وجب أن يحط عنه من الكراء بقدر ما أضر به الكمون في مقثاته، وإن أبطل الكمون المقثاة سقط عنه جميع الكراء؛ لأن بطلانها جاء من قبل الأرض بالكمون الذي عابها، ولم يكن من قبل رب الأرض، إذ لم يتعد فيما صنع، فأشبه نقصان الزرع في الأرض المكتراة، أو بطلانه من قبل القحط وقلة الماء.
ومن هذا المعنى مسألة وقعت في سماع عيسى من كتاب المزارعة في بعض الروايات؛ قال ابن القاسم: من أعطى رجلا أرضا له عارية فزرع فيها قطنا فأثمر في عامه، وجناه وبقيت أصوله فنما وأثمر في عام قابل فتنازعاه، فقال رب الأرض: إني لم أمنحك إلا العام الأول، وقال زارع القطن: هو لي ومن زريعتي.
قال: إن كان القطن في البلد يزرع كل عام كالزرع فحكمه حكم الزرع وهو لرب الأرض.
ثم قال بعد ذلك: إن القطن لمن غرسه. وعليه كراء ما شغل القطن من الأرض، إلا أن يكون الكراء أكثر من القطن، فلا يلزمه أكثر منه، وثبت على هذا، وقال: لأنه أصول، وقال بعد ذلك، في الزرع إذا لم ينبت في أول سنة ونبت في الثانية: إنه كالغاصب في حاله كله، إلا أن يكون الكراء أكثر من الزرع، فليس عليه أكثر من الزرع، قال: وإن كان القطن أصولا تنبت في الأرض السنين الكثيرة، كما ينبت في السواحل، فأراه لرب القطن، فإن أراد رب الأرض إخراجه ولم تقم له بينة أنه أعاره سنة واحدة، وحلف رب القطن على دعوى رب الأرض، فليعط رب الأرض لرب القطن قيمة الأصول، وذكر هذه المسألة من أولها ابن سحنون عن أبيه مثله.(9/50)
قال أبو محمد في النوادر: أراه جعل اختلافهما في مدة العارية شبهة أوجب له بها قيمته أصولا لا مقلوعا بعد يمين المستعير، وكان الغرس كالحيازة بخلاف اختلافهما في مدة سكنى الدار، وبالله التوفيق.
[: طلب صاحب الأرض من الزارع المتعدي قلع الزرع]
نوازل أصبغ بن الفرج وسئل أصبغ: عن رجل تعدى على أرض رجل فزرعها فجاء رب الأرض وقد فات أوان الحرث، وقد اشتد الزرع وكبر، فقال للزارع: اقلع زرعك فإني أحتاج إلى أرضي أغرسها مقثاة أو أزرعها بقلا فأنتفع بها، والأرض أرض سقي وهو يمكنه الانتفاع بها. فهل ترى ذلك له؟
فقال: لا أرى ذلك له، وليس فيها إلا الكراء؛ لأنه قد فات إبان الزرع وهو إن قلع زرعه لم يستطع أن يزرع فيها زرعا آخر، لفوات إبان الزرع، فليس له أن يقلع زرعه وأرى هذا من الضرر بعد أن خرج من إبان الزرع، قلت: أرضه هذه ليست من أرض المطر، إنما هي من أرض السقي وهو يسقيها متى ما أحب، وقد بقيت له فيما بقي من السنة منفعة عظيمة من مقثاة يضعها أو بقل يزرعه، أو ما أشبه ذلك، ومع ذلك أيضا أنه يريد قلبها ليزرعها من قابل فهو إن ترك زرع هذا فيها لم يقدر على أن يزرعها من قابل؛ لأن الأرض إذا لم تقلب عندنا لم يتنعم زرعها ولم يجد ولم يخاطر الزارع فيها إلا بزريعة علوفة البقر والدواب وعليه في ذلك أعظم المضرة.
قال: إذا ذهب إبان يزرع فيها مثل الزرع الذي هو فيها اليوم فليس له أن يقلعه ليزرع فيها بقلا ولا مقثاة، وليس له إلا الكراء.
قال: وأما ما ذكرت من القليب الذي(9/51)
يفوته فيها فإن الذي يفوته من ذلك يستوفيه في كرائها؛ لأن كراءها إنما يحسب على قدر ما حبسها عنه وما منعه من منفعتها، وعلى قدرها وكرمها فهو يستوفي جميع ذلك في الكراء.
قال محمد بن رشد: قوله إنه ليس له أن يقلع زرع الغاصب من أرضه بعد خروج إبان الزرع وإن كانت له في أرضه منفعة بقلعه من مقثاة يضعها أو بقل يزرعه هو ظاهر ما في المدونة وغيرها من أن زرع الغاصب لا يقلع بعد خروج إبان الحرث، والقياس أن يكون ذلك له إذا كان الأرض مما تصلح للمقاثي والبقل، وتبين أن رب الأرض لم يقصد إلى الإضرار بالغاصب بقلع زرعه، وأنه إنما رغب في الانتفاع بأرضه للمقثاة أو البقل، إذ قد تكون المنفعة بذلك أكثر من المنفعة بالزرع، وقد يدل على ذلك قول ابن الماجشون في المجموعة عن مالك، وقول المغيرة: إذا سنبل الزرع فلا يقلع؛ لأن قلعه من الفساد العام للناس، ويمنع من ذلك، كما يمنع من ذبح الفتايا مما فيه الحمولة من الإبل، والحرث من البقر، وذوات الدر من الغنم؛ لأن الزرع إذا كان يقلع عندهما ما لم يسنبل، ولا شك في أن إبان حرث الزرع ينقضي قبل أن يسنبل الزرع بكثير، فقد أوجبا قلع الزرع بعد خروج الإبان، وذلك لا يكون إلا لمنفعة تكون لصاحب الأرض في أرضه بقية العام من مقثاة يضعها فيها أو بقل أو ما أشبه ذلك، والله أعلم.
وقد روى ابن وهب،(9/52)
عن مالك: أن له أن يقلع الزرع سواء قدر أن يزرع أم لا، قال: والأول أحب إلينا، وظاهر قوله أن له أن يقلع الزرع وإن لم يقدر أن يزرع في الأرض شيئا أصلا، ومعنى ذلك عندي إذا كان ينتفع بذلك لحمام أرضه، أو لوجه من وجوه المنافع غير الزرع؛ لأنه إذا لم يكن له في ذلك منفعة بحال فهو بقلعه قاصد إلى الإضرار، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» ، وإذا لم يكن للغاصب في زرعه إذا قلعه منفعة فليس له أن يقلعه ويكون لصاحب الأرض؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليس لعرق ظالم فيه حق» وإذا كانت له في قلعه منفعة إن قلعه فيلزمه أن يقلعه، وليس له أن يتركه لرب الأرض إلا برضاه، إذ من حقه ألا يقبل معروفه.
واختلف إن أراد رب الأرض أن يعطيه قيمته مقلوعا ويأخذه، فقيل: إن ذلك غير جائز؛ لأنه بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه، وهو دليل ما في سماع سحنون من كتاب المزارعة، وقيل: إن ذلك له، وهو جائز؛ لأنه في أرضه ويدخل بالعقد في ضمانه وهو ظاهر ما في كتاب كراء الأرضين من المدونة، ولو رضي المستحق أن يترك الزرع للغاصب بكراء يواجبه عليه الغاصب لم يحل، قاله ابن المواز، إذا كان الزرع صغيرا جدا لا منفعة فيه للغاصب إن قلعه؛ لأنه قد وجب لرب الأرض فيدخله بيع زرع لم يحل مع كراء.
قال ابن أبي زيد: ولو كان الزرع ينتفع به الغاصب لو قلعه لجاز ذلك؛ لأن الزرع قد(9/53)
وجب للغاصب، فجاز أن يكتري الأرض من ربها على أن يقر زرعه فيه ولا يقلعه، وبالله التوفيق.
[مسألة: استثناء الشجر من الأرض المؤجرة]
مسألة وسئل أصبغ عن الرجل يكتري الدار أو الأرض وفيها شجر هي تبع لكراء الدار وكراء الأرض فأراد أن يستثني الشجر مع الأرض ولم تطب، قال: إن كانت الشجر تطيب قبل أن ينقضي كراء الدار أو الأرض فلا بأس أن يستثنيها وإن كانت الثمرة لا تطيب إلا بعد أن يمضي أمد الكراء الذي أكرى فلا يجوز استثناؤه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله في الواضحة، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأنه إنما أجيز للمكتري أن يستثني ثمر الشجر قبل طيبها للضرورة التي تدخل عليه في دخول البائع عليه لاجتناء الثمرة، فإذا كانت لا تطيب إلا بعد انقضاء أمد الكراء ارتفعت علة الجواز فوجب المنع، قال ابن حبيب في الواضحة، وإن اكتراها لأعوام، واستثنى ثمرتها فانقضت السنون، وفيها ثمرة قد طابت أو لم تطب، فهي للمكتري بشرطه، ولا أعرف ما يخالف قوله، ووجهه أن الكراء قد صح على الشرط من أجل ما يطيب من الثمرة في مدة الكراء، فوجب أن يكون له ما يطيب بعد انقضائه، وبالله التوفيق.
[: كراء مبذر أردب من الأرض]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
قال أبو زيد: وقال ابن القاسم في رجل تكارى من رجل(9/54)
مبذر إردب من أرضه، قال: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن مساحة مبذر الإردب من الأرض غير معلومة، ولذلك قال في الكراء: إنه لا خير فيه، يبين هذا رواية عيسى عن ابن القاسم في المدنية والمبسوطة فيمن اشترى من أرض الرجل مبذر أمداد مسماة أنه إن كان بذر الأمداد معروفا عند الناس ليس فيه زيادة ولا نقصان وكانت الأرض في الكرم واحدا ليس بينها تفاضل فلا بأس به، يريد: إذا وقع الشراء على أن يأخذ من حيث أحب ولو كانت مساحة مبذر الإردب معلومة عندهم لجاز الكراء وإن اختلفت الأرض إذا وقف المكتري على الأرض وأحاط علما بطيبها من دنيئها إذا وقع مسكوتا عليه ولم يشترط أن يأخذ من حيث أحب، وأما إن وقع على أن يأخذ من حيث أحب، فيجوز عند ابن القاسم على قوله في المدونة: إن كانت الأرض مستوية ولا يجوز عند غيره فيها، وإن كانت مستوية؛ لأن معنى ما تكلمنا عليه فيها إذا وقع الكراء، على أن يأخذ المكتري حيث أحب، فاختلفا على اختلافهم في الرجل يشتري عشرة ثياب يختارها من مائة، فابن القاسم لا يجيز ذلك إذا كانت الثياب أصنافا مختلفة، ويجيزه إذا كانت صنفا واحدا وإن كان بعضها أفضل من بعض، وغيره لا يجيز ذلك، وإن كانت صنفا واحدا إلا أن تكون مستوية؛ لأن الأرض وإن استوت في الكرم فقد تختلف أغراضها في النواحي، وبالله التوفيق.(9/55)
[مسألة: ثمرة النخل في الدار المؤجرة إذا انقطعت الإجارة]
مسألة قال ابن القاسم في رجل اكترى دارا وفيها نخل هي الثلث فاشترط ثمرتها فسكن نصف سنة ثم انهدمت الدار، قال: إن كانت الثمرة قد طابت قومت الدار بالثمرة، وقومت بغير ثمرة، فإن وجدت الثمرة الثلث أخذ الساكن الثمرة وغرم ثلثي الكراء، وإن كانت لم تطب الثمرة أسلمها إلى رب الدار وأدى إليه ثلث الكراء على هذا يحسب.
قال محمد بن رشد: هذه الرواية تبين ما مضى في رسم حمل صبيا من سماع عيسى، وقد مضى القول عليها هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: اختلاف المتكاريين في قدر الأجرة أثناء الإجارة]
مسألة وقال فيمن تكارى منزلا بعشرة دنانير، فسكن ثلاثة أشهر، ثم قال الساكن: إنما أكريت منك السنة بخمسة، وقد نقد الخمسة، قال: يتحالفان ويتفاسخان على كراء عشرة في السنة ولا يستتم السكنى ستة أشهر، وهذا مخالف لكراء الحمولة، وكذلك الذي يسلف دينارين في مائتي سلٍّ فيأخذ بعضها، ثم يقول البائع إنما بعتك مائة بدينارين وقد قبض دينارا وأخذ أربعين سلًّا: إنهما يتحالفان ويتفاسخان، ويرد عليه من الدينار بقدر ما أخذ من حساب مائة بدينارين، والسلفة تشبه كراء الدور.(9/56)
قال محمد بن رشد: في بعض الكتب والسلفة تشبه كراء الدور وهو أحسن، ويريد أنه يشبهها في أن البيع ينتقض في السلعة إذا تخالفا فيما زاد على الأربعين سلا التي قبض، كما ينتقض في كراء الدار إذا تخالفا فيما زاد على الستة الأشهر التي سكن، بخلاف كراء الحمولة، للضرر الداخل على المكتري في انتقاض الكراء في بعض الطريق.
ولو كان اختلافهما في بلدة لا يعدم فيه الكراء لانتقض إذا تخالفا فيما بقي من الطريق كالسلعة وككراء الدار.
وقوله: إنهما يتحالفان ويتفاسخان على كراء عشرة في السنة - لفظ وقع على غير تحصيل؛ لأن الواجب على أصولهم أن يتحالفا ويتفاسخا على كراء خمسة في السنة، كما ادعى الساكن إذا أشبه ما قال، أشبه ما قال رب الدار أو لم يشبه، فتقسم الخمسة على ما سكن وما لم يسكن، فيرد حصة ما بقي، فلا يلزم الساكن في الستة الأشهر التي سكن إلا ديناران ونصف؛ لأنه مدعى عليه في الزائد، وإنما يتحالفان ويتفاسخان على كراء عشرة في السنة كما ادعى رب المنزل إذا أشبه ما قال، ولم يشبه ما قال الساكن، فتقسم العشرة على ما سكن وما لم يسكن، فلا يرد الدار شيئا من الخمسة التي قبض؛ لأنها واجبة له في الستة الأشهر التي سكن على حساب عشرة في السنة، ولو لم يشبه قول واحد منهما لكان لرب الدار بعد أيمانهما كراء المثل في الستة الأشهر التي سكن، ويرد الزائد على ذلك من الخمسة التي قبض.
وكذلك قوله في مسألة السلفة: إنه يرد عليه من الدينار بقدر ما أخذ من حساب مائة بدينارين لفظ وقع على غير تحصيل؛ لأن الواجب أن يرد من الدينار ما زاد على ما يجب للأربعين التي قبضها المشتري على حساب مائتي سل بدينارين إذا أشبه ما قال، أشبه ما قال البائع أو لم يشبه، فيقسم الدينار على المائتي سل، فلا يلزم المبتاع في الأربعين التي قبض إلا خمسا دينار.
وإنما يرد من الدينار على حساب مائة سل بدينارين، كما ادعى البائع إذا أشبه ما قال، ولم يشبه ما قال المبتاع، فيلزم المبتاع على هذا في الأربعين التي قبض أربعة أخماس دينار، وبالله التوفيق.(9/57)
[مسألة: أخذ الأجرة ذهبا مكان الطعام]
مسألة وسئل: عن رجل حمل على نوتي طعاما ودفع إليه الكراء فنقص الطعام فأراد أن يأخذ من النوتي ذهبا. قال: لا خير فيه؛ لأنه يصير ذهبا وطعاما بذهب، إلا أن لا يكون دفع إليه من الكراء شيئا، فلا يكون به بأس، ولكن ليأخذ منه إذا ذهب من قمحه شيء وقد دفع إليه الكراء قمحا أو شعيرا إن كان شعيرا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال على أصله في الحكم بالمنع من الذرائع لأنهما يتهمان على أنهما عملا على أن يكون ما دفع إليه من الكراء بعضه ثمنا لحمل الطعام، وبعضه سلفا يرده إليه فيدخله البيع والسلف، ولا حرج على فاعل ذلك فيما بينه وبين الله إذا لم يقصد إلى ذلك، ولا عقدا أمرهما عليه، ولو أخذ منه في النقصان عرضا معجلا أو صنفا آخر من الطعام لجاز. وبالله التوفيق.
[مسألة: تلف البعير المؤجر بسبب تجاوز المكتري في الحمل]
مسألة وقال في رجل اكترى بعيرا يحمل عليه ثلاثمائة رطل إلى بلد، فحمل عليه أربعمائة رطل، فقدم البلد وقد عجف البعير فنحره صاحبه، ثم علم بالزيادة التي حملت عليه، قال: فصاحب البعير مخير بين أن يكون له كراء ما زاد، أو يكون له ما بين القيمتين، يريد: فيما رأيت ما بين قيمته يوم تعدى، أو ما بين قيمته يوم قدم به.
قال محمد بن رشد: قوله ما بين قيمته يوم تعدى، قال بعض(9/58)
الشيوخ: معناه في الموضع الذي تعدى فيه، وذلك غير صحيح، إذ لا تصح أن تكون القيمة في ذلك يوم تعدى، ولا في الموضع الذي تعدى فيه، إذ قد تكون قيمته يوم تعدى وفي الموضع الذي تعدى فيه غير عجف مثل قيمته يوم قدم أعجف أو أكثر من ذلك، فيذهب عداؤه باطلا لا يجب عليه فيه شيء، وإنما الواجب أن يكون عليه ما بين قيمته يوم قدم على الحال التي كان عليها يوم تعدى عليه وبوم قدم به، فيقوم على الحالتين جميعا يوم قدم به فيغرم ما بين القيمتين، وبالله التوفيق.
[مسألة: سكنى المكتري في الدار بعد انقضاء المدة بلا إجارة]
مسألة وقال في رجل اكترى بدينار منزلا في السنة فانقضت السنة ثم سكن فيها عشر سنين أخر من غير أن يكون أكراه ولا تكارى منه إلا السنة الأولى، قال: كراء السنة دينار على ما أكرى منه ويلزمه قيمة كراء التسع سنين، ولا يحسب كراء التسع سنين على السنة الأولى.
قال: والساكن مصدق إذا قال قد دفعت إليك الكراء إذا كانت السنة قد انقضت.
وقال ابن القاسم: كتابة كراء السنة الثانية براءة للساكن، إذا قال: قد دفعت إليك كراء السنة الأولى.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم يوصي لمكاتبه، ورسم إن خرجت من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل دفع لرجل دابة له يعمل عليها يوما لصاحب الدابة ويوما للعامل]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل دفع إلى رجل دابة له، يعمل عليها يوما لصاحب الدابة، ويوما للعامل.
قال: لا بأس(9/59)
به، قيل: أرأيت لو أن العامل أخذ الدابة فعمل عليها أول يوم لنفسه فنفقت الدابة من الغد قبل أن يعمل عليها اليوم الذي لصاحب الدابة؟ قال: أرى على العامل لصاحب الدابة كراء دابته ذلك اليوم، قال: وإن كان أول يوم عمل عليها لصاحب الدابة (فنفقت الدابة) قبل أن يعمل عليها اليوم الذي له؟ قال: أرى على صاحب الدابة أن يدفع إلى العامل أجرته فيما عمل ذلك اليوم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة أجازها ابن القاسم، وفي إجازته إياها نظر من وجهين: أحدهما: أنه لم يبينا في عقدهما إن كان يبدأ العامل بيومه أو بيوم صاحب الدابة، والأعراض في ذلك تختلف، فكان ينبغي إذا عري الأمر في ذلك من بيان أو نية أن يتبع ظاهر اللفظ في أن يقدم من بدأ بتقديمه فيه، وإن كانت الواو لا توجب رتبة، إذ قد قيل: إنها توجب الرتبة، وإن اختلفا في ذلك بتصريح يدعيه كل واحد منهما، أو نية تحالفا على دعواهما، أو على نياتهما.
فإن حلفا أو نكلا انفسخ الأمر بينهما، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما.
والظاهر من قوله أنه حمل أمرهما على أنهما قصدا في تعاملهما أن يكون الخيار للعامل في أن يقدم يوم من شاء منهما، فهو الذي يدل عليه قوله إن عمل عليها أول يوم لنفسه، فالحكم في ذلك كذا، وإن عمل عليها أول يوم لرب الدابة فالحكم في ذلك كذا.
والوجه الثاني: أن المعنى في تعاملهما أن صاحب الدابة أكرى من العامل دابته يوما يعمل فيه عليها لنفسه على أن يعمل له عليها يوما آخر، فكأنه قال (له) : انتفع بدابتي اليوم وانتفع بعملك غدا(9/60)
عليها، فكان القياس إما ألا يجوز ذلك إلا بشرط الحلف، وإما أن يكون الحكم يوجب الحلف وإن لم يشترطه، فقوله إنه إن عمل عليها أول يوم لنفسه فنفقت الدابة من الغد قبل أن يعمل عليها اليوم الذي لصاحب الدابة أن على العامل لصاحب الدابة كراء ذلك اليوم، ليس بصحيح على أصولهم، إذ لا اختلاف بينهم في أن من استأجر أجيرا ليعمل له على دابة بعينها أو ليرعى له غنما بأعيانها لا تنتقض الإجارة بموت الدابة أو الغنم، فالصحيح الذي يأتي على أصولهم أن الدابة إذا نفقت قبل أن يعمل عليها اليوم الذي لصاحب الدابة أن على صاحب الدابة أن يأتيه بدابة يعمل عليها اليوم الذي له.
وقد ذكر ذلك ابن أبي زيد في النوادر عن ... وكذلك لو نفقت قبل أن يعمل عليها يأتيه بدابة يعمل عليها لنفسه ولرب الدابة.
وأما قوله: إنها إن نفقت قبل أن يعمل عليها اليوم الذي له، فعلى صاحب الدابة أن يدفع إلى العامل أجرته فيما عمل ذلك اليوم فهو صحيح؛ لأن من اكترى دابة بعينها فنفقت قبل أن يركبها انتقض الكراء ورجع به إن كان قد دفعه أو في قيمته إن كان عرضا مستهلكا، كإجارته فيما عمل ذلك اليوم، وكذلك الحكم في هذا لو قال له: اعمل عليها يومين لك ويومين لي أو ثلاثة أيام لي، وثلاثة أيام لك، أو ما أشبه ذلك من الأمد القريب، ولو قال له: اعمل عليها شهرا لنفسك وشهرا لي لوجب أن يجوز ذلك إن بدأ بالشهر الذي لنفسه وأن لا يجوز إن بدأ بالشهر الذي لصاحب الدابة؛ لأنه بمنزلة من اكترى دابة بكراء نقده على أن يركبها بعد شهر، وذلك ما لا يجوز عند جميعهم.
وقد ذهب بعض الناس إلى أن هذه المسألة معارضة لما في المدونة من أنه لا يجوز أن يقول الرجل للرجل: اعمل على هذه الدابة ولك نصف ما تكسب عليها إذ لم يقل فيها إنها إجارة وكراء،(9/61)
كأنه أكرى منه نصفها بنصف عمله على نصفها فيكون الكسب بينهما كأنهما فيه شريكان، وليس ذلك بصحيح، والمسألتان مفترقتان؛ لأنه فصل في هذه المسألة ما يعمل على الدابة لنفسه مما يعمل عليها لرب الدابة، فوجب أن يجعل كراء الدابة في يوم العامل ثمنا لأجرته في يوم رب الدابة، ولم يفصل بين ذلك في مسألة المدونة فوجب ألا يجوز؛ لأنه إما أن يكون صاحب الدابة أكرى دابته بنصف ما يكسب العامل عليها، وإما أن يكون استأجر العامل ليعمل عليها بنصف ما يكسب في عمله، وذلك غرر بين في الوجهين، والله الموفق.
[مسألة: ضمان الجرة التي تنكسر من المكتري]
مسألة وقال، في الذي يستحمل الجرة فيعثر فتكسر وهو قوي على حملها: لا ضمان عليه ولا جعل له وإن لم يكن معه صاحبه فهو مصدق أنه عثر بها، وقد يكون معه فيعثر ولا يعلم بذلك صاحبه، فهو مصدق على قوله إنه عثر، قال: وإن كان كسرها معروفا فلا أجرة له ولا ضمان عليه، وإن كان غير معروف فله الأجرة إذا ضمن.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن ما أتى تلفه من قبل ما عليه استحمل من عثار إنسان أو دابة لم يغرمها فلا ضمان على الأجير فيه ولا كراء له؛ لأنه حمل ذلك على البلاغ كالسفينة، وقد قيل: إنه إذا سقط عنه الضمان لزم رب(9/62)
المتاع أو الطعام أن يأتي بمثله يحمله ويكون له كراؤه، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة وهو أشهب، وقيل: إن له بحساب ما بلغ ولا يلزم رب المتاع والطعام أن يأتي بمثله، وهو الذي يأتي على قول ابن نافع في المدونة في السفن أن له بحساب ما بلغت، وإذا ظهر الكسر فهو مصدق في العثار كما قال.
وأما إذا لم يظهر الكسر وكان غير معروف فقوله إن له الأجرة إذا ضمن، معناه: أنه لا يصدق فيما ادعاه من العثار والتلف، ويضمن مثله في أقصى الغاية وتكون له أجرته كاملة، وهذا في الطعام، وأما في المتاع فالقول قوله في دعواه تلفه، وإن لم يعلم ذلك إلا بقوله، وابن الماجشون لا يصدقه في أنه عثر به وإن ظهر الكسر، وقد مضى القول على ذلك في نوازل سحنون من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.
[مسألة: ضياع العين المستأجر حملها من الأجير]
مسألة وقال، في رجل تكارى من نوتي على أن يذهب إلى الريف فيحمل له قمحا بذهب فحمل ثم أقبل فلقيه لصوص في بعض الطريق فأخذوا القمح.
قال ابن القاسم: أرى للنوتي أن يرفع ذلك إلى السلطان ثمة حتى يكون هو الذي ينظر في أمره، فإن جاء وقدم ولم يرفع ذلك إلى الوالي رأيت أن يرجع إلى الموضع الذي أصيب فيه فيحمل من ذلك الموضع بمثل ما حمل عليه.(9/63)
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة أنه إن انصرف فارغا وترك الرفع إلى السلطان أو التلوم والإشهاد إن كان في موضع لا سلطان فيه فيلزمه الرجوع إلى ذلك الموضع ليحمل (له) مثل ذلك القمح.
وسواء على مذهب ابن القاسم، كان الكراء موجودا بذلك المكان أو غير موجود، وقال ابن وهب: إن كان الكراء بذلك الموضع موجودا انفسخ الكراء فلم يكن له كراء ولا كان عليه أن يرجع ثانية، وإن كان الكراء بذلك الموضع غير موجود كان له كراؤه ولم يكن عليه أن يرجع ثانية، وسيأتي القول على هذه المسألة مستوفى في (أول) سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.
[مسألة: تعذر بلوغ المكان المحدد لأمر خارج عن إرادة الأجير]
مسألة وقال، في رجل تكارى من نوتي إلى الإسكندرية، فلما بلغ المليوس وقف المركب من قلة الماء، قال: يحاسبه على قدر ما بلغ من الكراء، قيل له: فإن النوتي ظن أنه يلزمه حمولته إلى الإسكندرية، فاكترى على ذلك المتاع من المليوس بمثل كرائه حتى بلغ به الإسكندرية، قال: لا شيء للنوتي لو شاء لم يفعل؛ لأن ذلك ليس عليه هو في موضع يجد السلطان فيخاصمه إليه حتى يفسخ عنه، قيل له: أرأيت لو أن المركب وقف في موضع ليس فيه أحد ولا يجد فيه سلطانا فخشي أن يهلك ذلك المتاع(9/64)
واكترى عليه؟ قال: لعل هذا وهذا لا يشبه عندي الأول؛ لأنه في موضع يخشى وهو لا يجد السلطان.
قال محمد بن رشد: إذا كان الحكم إذا وقف المركب في الطريق من قلة الماء أن يأخذ صاحب المتاع متاعه بذلك الموضع ويحاسب الكري فيكون له من كرائه على قدر ما سار من الطريق، فالنوتي في كرائه على المتاع وحمله محط على صاحبه فيه، فإذا كان صاحب المتاع لا بد له من الكراء على المتاع من حيث وقف المركب إلى حيث أكرى عليه النوتي. فقول ابن القاسم: إنه لا شيء له فيما حمله لو شاء لم يفعل - معارض لقوله في الذي يكري على حمل الحمل، فيخطئ ويحمل غيره أنه (إن) أراد أخذ الحمل لم يكن له إلا أن يغرم له الكراء، وفي الذي استأجر حصادين على أن يحصدوا زرعا له، فحصدوا زرعا لغيره أو استأجر أجراء ليحرثوا له أرضا فحرثوا أرضا لغيره أن على الذي حُصد زرعه أو حُرثت أرضه أن يغرم للأجراء قيمة عملهم إن كان لا بد له من الاستيجار على ذلك، مثل قول أشهب في نوازل أصبغ في مسألة الكري يخطئ فيحمل غير الحمل الذي اكترى على حمله.
وأما إن كان المركب وقف في موضع ليس فيه سلطان ولا أحد، وخشي النوتي أن يهلك المتاع فأكرى عليه، فوجوب الكراء له على صاحب المتاع بيّن، على قول مالك في المدونة وغيرها في الذي يلتقط المتاع، فيحمله إلى موضع من المواضع، أن ربه لا يأخذه إلا أن يدفع إلى الذي حمله الكراء الذي حمله به، وبالله التوفيق.
[مسألة: الزيادة والنقص في مدة الإجارة]
مسألة قال ابن القاسم، في رجل تكارى دارا سنة بدينار فإن زاد(9/65)
فبحسابه، وإن نقص من السنة فبحسابه، قال: لا بأس بهذا ما لم ينقد الدينار.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول عليها في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: خطأ الحمال في الحمل]
مسألة قال ابن القاسم، فيمن تكوري منه على حمولة متاع فأخطأ الحمال فحمل غيره، فصاحب المتاع مخير بين أن يدفع الكراء أو يكون له قيمة متاعه في البلد الذي حمل منه، قال: فإن كان ذلك من الحمال تعديا كان صاحب المتاع مخيرا بين قيمة متاعه أو يأخذ متاعه بالبلد الذي حمل إليه، ولا كراء للحمال على صاحب المتاع.
قال محمد بن رشد: أما إذا تعدى الحمال فحمل ما لم يستأجر على حمله فلا اختلاف في أن صاحب الحمل بالخيار بين أن يضمن الحمال قيمة الحمل بالموضع الذي حمله منه، وبين أن يأخذه في الموضع الذي حمله إليه ولا يكون للحمال في حمله كراء لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليس لعرق ظالم حق» ، وأما إذا أخطأ في حمله وظن أنه هو الذي استحمل إياه فلصاحب الحمل أن يضمنه قيمته بالموضع الذي حمله منه، واختلف إن أراد أن يأخذه في الموضع الذي حمله إليه، هل عليه أن يغرم للحمال كراءه أم لا؟ - على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يأخذه إلا أن يغرم الكراء للحمال، وهو(9/66)
قول ابن القاسم هاهنا، وفي نوازل أصبغ من كتاب الرواحل والدواب، وقول ابن وهب ومطرف فيه.
والثاني: أن له أن يأخذه ولا شيء عليه من غرم الكراء، وهو قول أشهب في نوازل أصبغ من كتاب الرواحل والدواب، وقياس قول ابن القاسم فوق هذا في مسألة المركب يقف في بعض الطريق من قلة الماء، وظاهر قوله في أول مسألة من سماع يحيى من كتاب البضائع والوكالات في مسألة الخصام.
والثالث: أن له أن يأخذه ولا كراء عليه إلا أن يكون عازما على أن يبلغه إلى ذلك المكان فيكون عليه إذا اختار أخذه كراء مثله إلى ذلك المكان لا الكراء الذي أكراه به، وهو قول ابن حبيب في الواضحة وقياس قول ابن القاسم بعد هذا في مسألة الذي يستأجر الأجراء لحصاد زرعه أو حرث أرضه فيخطئون فيحصدون زرعا لغيره، أو يحرثون أرضا لغيره، وحكى ابن حبيب عن أصبغ أن لرب الحمل أن يكلف الحمال رد الحمل الذي أخطأ به إلى البلد الذي حمله منه، ويكون في ضمانه حتى يرده إلى موضعه.
ولا اختلاف بينهم أن على الحمال أن يرجع فيحمل الحمل الذي تكوري على حمله، وبالله التوفيق.
[مسألة: كنس مراحيض الدور المكتراة على من يكون]
مسألة وقال: كنس المراحيض على السكان إلا أن تكون دور الفنادق فإن كنس مراحيضها على المكري.
قال محمد بن رشد: اختلف في كنس مراحيض الدور المكتراة، فقيل: إنها على السكان، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية.
وقيل: إنها(9/67)
على أصحاب الدور، وهو قول ابن القاسم في رواية ابن أبي جعفر عنه أن كنس التراب والمرحاض على صاحب المنزل، إلا أن يكون اشترط ذلك على الساكن.
قال: ولا يجوز أن يشترطه عليه إلا أن يكون نقيا وهو قول أشهب إنه على صاحب الدار إذا لم يكن لهم في ذلك سنة يحملون عليها، ولم يختلف في هذا قول أشهب ولا اضطرب في أصله، وقد ذكرنا ذلك في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، وفي المدونة دليل على القولين جميعا.
وأما دور الفنادق التي تكرى مشاهرة إلى غير أمد معين من المسافرين وغيرهم، فلا اختلاف في أنه لا شيء من ذلك على السكان فإن أكرى صاحب الفندق فندقه جملة لعام أو أعوام من متقبل يكريه من السكان فيه دخل الاختلاف المذكور في ذلك، هل يكون الكنس على صاحب الفندق؛ أم على المتقبل له للعام أم للأعوام؟ وبالله التوفيق.
[مسألة: تأجير القارب على قدر غير معلوم من الصيد]
مسألة وعن رجل كان له قارب وشبكة فدفعها إلى صياد على أن يصيد له يومين ولنفسه يوما، قال: أرجو أن يكون خفيفا إن كان ذلك قريبا، قيل: شهرين، فرأيته يستكثر شهرين.
قال محمد بن رشد: قد مضى قبل هذا في هذا السماع من(9/68)
تكلمنا على الذي يدفع دابته إلى الرجل على أن يعمل عليها يوما له ويوما لصاحب الدابة - ما يغني عن القول في هذه المسألة لاتفاقهما في المعنى، وبالله التوفيق.
[مسألة: أخطأ الحصادون فحصدوا زرعا غير محل الإجارة]
مسألة وسئل: عن رجل استأجر حصادين على أن يحصدوا زرعا له فذهبوا فحصدوا زرعا لغيره هو قريب من زرعه.
قال: إن كان الخطأ جاء من قبل الأجراء فإنه ينظر إلى صاحب ذلك الزرع، فإن كان له أجراء وعبيد، يريد أنه لا يحتاج إلى الإجارة في حصاد زرعه لم يكن عليه شيء وبطل عملهم، وإن كان الخطأ جاء من قبل صاحب الزرع، قال لهم: احصدوا لي هذا الزرع، وهو يظن أنه زرعه، وكان صاحب ذلك (الزرع) لا أجراء له ولا عبيد، ولا بد له من أن يستأجر على حصاد زرعه، فإن عليه أن يدفع إلى الذي استأجر الحصادين قيمة عمل الأجراء، ويكون للأجراء على الذي استأجرهم أجرتهم التي استأجرهم عليها.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة والقول فيها في آخر كتاب الجعل والإجارة فلا معنى لإعادة القول فيها، والله الموفق.(9/69)
[مسألة: أخطأ الحراثون فحرثوا زرعا غير محل الإجارة]
مسألة وسئل: عن رجل استأجر أجراء يحرثون له أرضا فذهب الأجراء فحرثوا أرضا إلى جنب أرضه وهم لا يعلمون وإنما جاء الخطأ من قبل الأجراء، أترى على صاحب الأرض التي حرثت أرضه أجر ما عملوا؟ قال: إن زرعها وانتفع بذلك الحرث كان عليه ذلك، وإن لم ينتفع به وقال لم أرد زرعها وإنما أردت أن أكريها، فلا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: وهذه أيضا قد تقدمت في آخر كتاب الجعل والإجارة متكررة والقول فيها، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: تعذر البناء في البقعة محل الإجارة]
مسألة وسئل: عن رجل استأجر له بنّاء يبني له دارا بالريف بموضع معروف على صفة معروفة، فذهب البناء إلى الريف فيجد البقعة قد استحقت فيرجع، قال: أرى له إجارته ذاهبا، ولا أرى له في رجوعه شيئا.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة أيضا قد مضت متكررة في آخر كتاب الجعل والإجارة، ومضى القول عليها هناك، فلا معنى لإعادته وبالله تعالى التوفيق لا شريك له.
تم كتاب كراء الأرضين بحمد الله تعالى.(9/70)
[: كتاب الرواحل والدواب] [: الإجارة على رد الضالة أو الآبق](9/71)
من سماع ابن القاسم من مالك رواية سحنون من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم، قال: سمعت مالكا قال في رجل تكارى دابة في طلب ضالة أو آبق وسمى بلدة من البلدان بكراء مسمى على أنه إن وجد دابته أو غلامه دون ذلك الموضع رجع، وكان عليه بحساب ذلك من الكراء بقدر ما تكارى وقدر ما سار من الطريق.
قال: لا أرى به بأسا إذا لم ينقد، فأما إن قال: إن وجدت حاجتي بمكان كذا وكذا فلك كذا وكذا، وإن لم أجدها بمكان كذا وكذا فلك كذا وكذا، وذلك بحثان فأنا أكرهه وأراه مخاطرة.
قال محمد بن رشد: أما إذا اكترى الدابة إلى بلد مسمى في حاجة أو طلب دابة أو آبق على أنه إن وجد حاجته أو ضالته بالطريق(9/73)
رجع وسقط عنه من الكراء بحساب ما بقى من الطريق.
فقوله: إن ذلك جائز إذا لم ينقد - هو عند مالك على مذهبه بترك الاعتبار بعلة الأطماع مثل قوله في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم من كتاب كراء الدور والأرضين في الذي يكتري الدار سنة على أنه إن خرج قبل السنة حاسبه بما سكن، ومثل قوله بعد هذا في هذا الكتاب في رسم الشجرة، ورسم باع غلاما من هذا السماع، ومثل ما في المدونة أيضا من قول ابن القاسم وروايته عن مالك في الذي يستأجر الأجير شهرا على أن يبيع له ثوبا، على أن المستأجر متى شاء أن يترك ترك، إن ذلك جائز إذا لم ينقد لأنها إجارة بخيار.
وسحنون لا يجيز هذه المسألة على ما قاله في رسم الشجرة بعد هذا، وإن لم ينقد، ولا مسألة المدونة، بخلاف مسألة الذي يكتري الدار سنة على أنه متى شاء أن يخرج خرج، هذا جائز عنده وعند الجميع ما لم ينقد، وإنما لم تجز هذه المسألة عند سحنون ولا مسألة المدونة المذكورة؛ لأنه يراه مجهلة في الكراء والإجارة.
وقال الفضل في مسألة المدونة: إنما لم يجز ذلك عند سحنون؛ لأنه كراء بخيار إلى أمد بعيد، وليس كما قال؛ لأنه إنما هو بالخيار في الجميع الآن، وكلما مضى من الشهر شيء كان بالخيار فيما بقي، فليس كالسلعة التي يشتريها على أنه بالخيار فيها مدة طويلة؛ لأنه يحتاج إلى توقيفها إلى انقضاء أمد الخيار، فلذلك لا يجوز، وليس ذلك في الإجارة والكراء، إلا أن يكتري الدابة على أن يركبها بعد شهر، أو يستأجر الأجير على أن يخدمه بعد شهر على أنه بالخيار في الإجارة والكراء إلى انقضاء الشهر، وإنما لم يجز ذلك عند سحنون لأنه عنده غرر وإن لم ينقد لانفساخ الإجارة فيما بقي من الشهر ببيع الثوب، كما أن كراء الدابة عنده إلى بلد في حاجة على أنه إن(9/74)
وجد حاجته دون البلد (رجع) وكان له بحساب ما سار غرر لانفساخ الكراء فيما بقي من الأمد، فهذه هي العلة عنده في المسألتين جميعا، لا الخيار إلى أمد بعيد كما قال الفضل؛ لأنه إذا جاز أن يكتري الرجل الدار سنة بكذا على أن كل واحد منهما بالخيار يخرج المكتري متى ما أراد ويخرجه رب الدار متى ما أراد جاز على أن أحدهما بالخيار قياسا على البيع الذي يجوز على أن أحد المتبايعين فيه بالخيار كما يجوز على أنهما جميعا فيه بالخيار، وأما إذا اشترط في كراء الدابة إلى البلد المسمى أنه إن لم يجد حاجته بالبلد الذي تكارها إليه تقدم بها إلى موضع آخر، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز إلا أن يسمى الموضع الذي شرط أنه بالخيار في أن يتقدم إليه ويكون تبعا للكراء الأول وبحسابه، فإن لم يكن تبعا للكراء الأول أو كان بخلافه أرخص أو أغلى أو مبهما لا يدرى إن كان بحسابه أم لا؟ إلا بعد (النظر) لم يجز.
وهو مذهب ابن الماجشون لعلة الأطماع، وذلك أنه لم يكر منه الوجيبة الأولى إلا رجاء في الثانية، وليس على يقين منها لكون المكتري بالخيار فيها.
والثاني: أن ذلك جائز إذا سمى الموضع الذي شرط أن يتقدم إليه إن شاء أو كان وجهه معروفا وإن لم يسمه وكان بحساب الكراء الأول، وإن لم يكن تبعا وهو ظاهر قول مالك في أول رسم من سماع أشهب بعد هذا، وما في رسم أوصى من سماع عيسى بعد هذا. ووجه هذا: أن علة الإطماع عنده ضعيفة فلم يعتبرها إلا مع اختلاف الكراء.
والثالث: أن ذلك جائز إذا سمى الموضع الذي شرط أن يتقدم إليه إن شاء أو كان وجهه معروفا وإن كان بخلاف الكراء الأول وغير تبع له، وهذا مذهب ابن القاسم على أصله في ترك الاعتبار بعلة الإطماع، وقد اختلف في علة المنع من اجتماع الجعل(9/75)
والإجارة في صفقة واحدة، فقيل: إنها جارية على هذا الأصل، وإن الاختلاف يدخل منه فيها بالمعنى؛ لأن الإجارة لازمة بالعقد، والجعل غير لازم، وقد وقع لسحنون في المغارسة إجازة اجتماعهما في صفقة، وقيل: إنه إنما لم يجز اجتماعهما في صفقة من أجل أنهما أصلان مفترقا الأحكام، كالبيع والنكاح والصرف، لا من جهة علة الأطماع، والله أعلم به.
[مسألة: اشتراط شرط جزائي في الإجارة]
مسألة وقال، في الرجل يتكارى الدابة ويقول الذي اكترى الدابة: إن تأخرت بها عني عن يوم سماه فكل يوم بعد ذلك بدرهم ما أقمت، قال: هذا مكروه من الكراء، والشرط مفسوخ، فإن فات فتأخر عن ذلك لم يكن له إلا كراء ذلك، ولم ينظر في شرطه، وكذلك المتعدي ضامن وليس على هذا خيار ولا ضمان.
قال محمد بن رشد: قوله: هذا مكروه من الكراء والشرط مفسوخ - يدل على أنه إنما فسخ الشرط لا العقد، والوجه في ذلك: أنه رأى أنه لن(9/76)
يقصد بالشرط إلا ألا يحبس عنه الدابة بعد انقضاء الكراء إلا إلى المغاررة فيه فوجب أن يمضي إذ لم يكن للشرط الفاسد فيه تأثير، كما قالوا في الذي يبيع الثمرة ويشترط البراءة من الجائحة؛ لأن الشروط المقترنة بالبيوع (تنقسم) عند مالك على أربعة أقسام: شرط فاسد له تأثير في الثمن يفسخ به البيع، وشرط فاسد لا تأثير له في الثمن، يفسخ دون البيع، وشرط صحيح يجوز فيه البيع والشرط، وشرط يقتضي التحجير على المشتري فيما اشترى يفسخ فيه البيع ما دام مشترط الشرط متمسكا بشرطه، فإن رضي بترك الشرط جاز البيع، وإن فات كان فيه الأقل من الثمن أو القيمة إن كان المبتاع هو مشترط الشرط، أو الأكثر من القيمة أو الثمن إن كان البائع هو مشترط الشرط، وقد فسرنا هذه الوجوه وما فيها من الاختلاف في غير هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
[مسألة: نقصان شيء من مال أحد المتكارين بعد استيفاء أولهم ماله]
مسألة وقال مالك، في النفر يتكارون السفينة فيحملون فيها طعاما لهم، فإذا بلغوا قال أول من يمر بمنزله منهم: أنا آخذ طعامي، فأخذ طعامه، ثم إن السفينة غرقت، قال: ليس عليه تبعة لأصحابه أذنوا في ذلك أو لم يأذنوا، وليس عليه أن يبلغ معهم بطعامه ثم يرجع إلا أن يكتالوا فينقص الكيل فيكون عليه بقدر طعامه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنهم اكتروا السفينة على أن يحملوا فيها الطعام إلى منازلهم، فوجب كلما مر أحد منهم(9/77)
بمنزله أن يأخذ طعامه؛ لأنه على ذلك حمله معهم، فإن نقص الطعام بعد ذلك كان عليه من النقصان بحساب طعامه يرجع به عليه؛ لأنه حمله معهم على سبيل الشركة، وكذلك لو وجد أسفل القمح قد اسود وفسد لموج ركبه، إلا أن يعلم أن فساده إنما كان بعد أخذه طعامه فلا يكون عليه في ذلك تبعة كما لو غرق المركب بعد أن أخذ طعامه فذهب بما فيه.
وأما لو حملوا الطعام في سفينة إلى بلد واحد لتجارة أو لغير تجارة فخلطوه أو اختلط لم يكن لواحد منهم أن يأخذ طعامه بالطريق إلا برضا أصحابه، مخافة أن يكون أسفل الطعام فاسدا أو يفسد بعد ذلك، أو ينقص في الكيل، فإن أخذ طعامه في الطريق برضا أصحابه لم يكن لهم عليه تابعة إن ألفوه فاسدا أو نقص كيله على ما قاله في رسم الأقضية الثاني من سماع (أشهب) من كتاب الشركة وما يأتي له بعد هذا في رسم حلف وفي رسم أخذ يشرب خمرا، ومن الناس من ذهب إلى أن رواية أشهب في كتاب الشركة معارضة لرواية ابن القاسم هذه، والصحيح أنه لا تعارض بينهما ولا اختلاف على ما بيناه، وبالله التوفيق.
[: كرى الوكيل لنفسه بلا إذن من موكله]
مسألة وسئل مالك: عن رجل تكارى ظهرا ثم سيره إلى وكيل له يحمل له من عنده طعامه فذهب الكري بظهره فلم يجد الوكيل فكري لنفسه، ثم رجع فقال لصاحبه: لم أجد وكيلك(9/78)
فأكريت لنفسي، فقال الذي اكتراه: أنا أحق بالكراء الذي أكريت منك لأني أرسلتك.
قال: الكراء لصاحب الظهر، وعليه أن يرجع لصاحبه مرة أخرى، ولو أنه إذ لم يجده تلوم وطلبه وكلم إمام ذلك البلد، وأشهد على ذلك من أمره لم يكن عليه أن يعود ثانية، ولو لم يفعل ذلك فأكرى ظهره لصاحبه، وقال: طلبت وكيلك فلم أجده وأكريت أنا لك، فهذا كراؤك، لوجب ذلك على صاحب الطعام، فأخذ ما جاء به من الكراء ولم يكن له عليه غير ذلك.
قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: إذا كان في الكراء فضل إذا أكراه صاحب الظهر لصاحبه رأيته للمكري، فإن كان في الكراء نقصان كان على المتكاري.
قال ابن القاسم: وكأني رأيته وجه ما ذهب إليه من فضل ما قد أعطاه أن يأخذ منه أكثر من ذلك، ولو أن إماما أكرى ذلك له بعد أن رفعه إليه لكان للمكتري غنمه وعليه نقصانه.
قال ابن القاسم من قول مالك: لو أن السلطان تلوم له وطلب له الكراء فلم يجده خلى سبيله، فكان له الكراء كله الذي تكارى عليه وإن لم يحمل على ظهره شيئا، ومما يبين ذلك أن الرجل يتكارى إلى الحج فيهلك في بعض الطريق، فإنه يتلوم له في شقه ساعة فيطلب له كراء، فإن وجد له كراء أكرى شق الميت، وإن لم يوجد له كراء لم ينقص الكري من حقه شيئا.
قال سحنون: إذا أكرى صاحب الظهر على وجه(9/79)
النظر له بأكثر مما كان أكرى منه أو بأقل فإنه ينظر، فإن كان أكرى بأكثر كان المتكاري بالخيار، إن شاء أخذ منه قدر رأس ماله وأعطاه الفضل فتكون إقالة، وإن شاء رده وكان الكراء كله للمتكاري، وإن كان أكرى بأقل لم يضمن، وكان له كراؤه، وكان عليه الرجوع ثانية، إلا أن يتراضيا على شيء فيكونان على ما اصطلحا عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة وقعت هاهنا، وفي الرواحل والدواب من المدونة وهي تتفرع إلى وجوه تنقسم إليها في بعضها اختلاف.
وتحصيل القول فيها: أنه إن ترك الكري الرفع إلى السلطان أو التلوم والإشهاد في موضع ليس فيه سلطان فلا يخلو أمره من أن يكون أكرى إبله راجعا أو رجع بها فارغا، فإن أكراها راجعا فلا يخلو من أن يكون أكراها لنفسه أو للمكتري، وإن رجع بها فارغا فلا يخلو أيضا من أن يكون الكراء موجودا أو غير موجود، فأما إذا أكرى لنفسه فالكراء له، وعليه الرجوع ثانية قولا واحدا، وأما إذا أكرى للمكتري، فقيل: إن المكتري مخير، إن شاء أخذ الكراء كله إن كان لم ينقد أو قدر رأس ماله منه إن كان نقد، وإن شاء رده على الطعام وهو قول سحنون هاهنا. ومذهب ابن القاسم وروايته عن مالك على ما في المدونة.
وقيل: يفسخ الكراء الأول ويلزم المكتري الكراء الثاني، إلا أنه لا يأخذ الفضل إن كان نقد وهو ظاهر رواية ابن وهب عن مالك في المدونة.
وظاهر هذه الرواية أيضا، وإن كان(9/80)
قد قال أبو إسحاق التونسي: (إن) معناها إذا رضي بما فعل، ولو لم يرض بفعله لكان (الكراء) الأول قائما بينهم وهو صحيح في المعنى، غير أن ظاهر اللفظ لا يساعده.
وأما إذا انصرف بإبله فارغا والكراء موجود، فقيل: يلزمه الرجوع عن الطعام وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وقيل: يفسخ الكراء ولا يكون له شيء، وهو ظاهر رواية ابن وهب عن مالك في المدونة.
وأما إذا انصرف بإبله فارغا والكراء غير موجود، فعلى مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك: يلزمه الرجوع ثانية، وعلى رواية ابن وهب عن مالك: لا يلزمه الرجوع ويكون له جميع الكراء.
والتلوم والإشهاد في موضع لا سلطان فيه يقوم مقام الرفع إلى السلطان إذا أكرى (الكري) للمكتري، أو لم يجد كراء فانصرف فارغا بغير كراء.
فأما إن أكرى لنفسه، فقال ابن حبيب: إن المكتري مخير، إن شاء أسلم إليه الكراء ورده بحمل متاعه، وإن شاء أخذ الكراء، فإن شاء أخذه، فانظر فإن كان فيه فضل فالفضل للمكري، وإن كان فيه نقصان فعلى المتكاري وهو صحيح في النظر على أصولهم ولا تأثير للتلوم والإشهاد في موضع يكون فيه سلطان يمكن الرفع إليه. وإذا انصرف بإبله فارغا، وقال: لم أجد كراء - فيلزمه إقامة البينة على ذلك عند مالك على رواية ابن وهب.
[: عطب الدابة أو السفينة المكتراه قبل بلوغ المحل]
ومن كتاب القبلة قال مالك، في رجل تكارى من رجل وله دابة أو سفينة لا يعلم له غيرها، فتكارى منه إلى بلد مسمى، ولم يشترط عليه(9/81)
أنك تحملني في سفينتك أو على دابتك، ثم تصاب السفينة أو الدابة بعدما يركب، قال: لا أرى إلا أنه ضامن، على الكري أن يبلغ المتكاري إلى حيث يشترط عليه إلا أن يكون قال: دابتي هذه، أو سفينتي هذه.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب أن الكراء محمول على المضمون، وإن قال: دابتك أو سفينتك حتى يعينها بالتسمية لها أو الإشارة إليها، فيقول: دابتك الفلانية أو دابتك هذه، وهو معنى ما في نذور المدونة، وفي سماع يحيى من كتاب الإيمان بالطلاق خلاف ما يقوم من رسم لم يدرك من سماع عيسى منه، وقد مضت هذه المسألة مستوفاة في أول سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، وبالله التوفيق.
[مسألة: سرقة المتاع قبل بلوغ الحمال به المحل]
مسألة وقال مالك، فيمن تكارى على حمل متاع بعينه يريد المكري إلى بلد معلوم، فسرق ذلك المتاع قبل أن يخرج به أو بعدما سار به بعض الطريق، إن ذلك سواء خرج أو لم يخرج، الكراء له لازم، إن شاء جاء بمثل ذلك المتاع، وإن شاء أكرى ذلك البعير لمن يحمل عليه، وسواء كان ذلك قبل أن يخرج أو بعدما خرج إن كان صاحبه معه.
قال محمد بن رشد: هذا قول ابن القاسم وروايته عن مالك في(9/82)
المدونة، أن الكراء لا يفسخ بتلف الشيء المستأجر على حمله وهو المشهور في المذهب، خلاف ما في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ من هذا الكتاب أن الكراء يفسخ.
وهذه المسألة يتحصل فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يفسخ بتلفه جملة من غير تفصيل.
والثاني: أنه لا يفسخ بتلفه جملة أيضا من غير تفصيل.
والثالث: الفرق بين أن يتلف بأمر من الله، أو من قبل ما عليه استحمل، فإن تلف بأمر من الله لم يفسخ الكراء، وإن تلف من قبل ما عليه استحمل انفسخ الكراء فيما بقي ولم يكن له شيء فيما مضى.
وقيل: (إنه) بحساب ما سار، وقد مضى هذا في سماع أبي زيد من كتاب كراء الدور، وقد مضى أيضا تحصيل هذا في غير ما موضع من كتاب الجعل والإجارة، من ذلك ما وقع في رسم طلق من سماع ابن القاسم، ورسم العتق من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[: النفقة على البعير المتخلف عن الكري]
ومن كتاب حلف ألا يبيع سلعة سماها وسئل: عن قوم تكاروا من كري تخلف عنهم ببعض الطريق فأنفقوا على إبله في علفها، أو مات بعير فتكاروا عليه،(9/83)
أترى ذلك يلزمه؟ فقال: نعم أرى أن يلزمه ذلك إذا كان الذي صنعوا يشبه ما ينفق عليها، ثم قال: أرأيت لو كان معهما، أليس (كان) ينفق عليها ويتكارى؟ فقيل له: إنهم اشتروا بعيرا، قال: لا أدري ما الاشتراء، أرأيت لو ماتت كلها أكانوا يشترون إبلا؛ إنكارا أن يكون عليه شيء.
قال ابن القاسم: وذلك رأيي في الاشتراء.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن الكري إذا تخلف عن المكتري فأنفق على إبله أن له أن يرجع (عليه) بما أنفق عليها؛ لأنه لما غاب وترك إبله عنده، فكأنه قد أذن له في الإنفاق عليها، إذ قد علم أنها لا تستغني عن الإنفاق عليها، وأنه إذا اشترى عليه بعيرا لا يلزمه، إذ لا يجب الحكم عليه بذلك لو رفعه إلى السلطان.
وأما إذا اكترى عليه فإن كان بعد أن تلوم وأشهد في موضع لا سلطان فيه فبين أنه يرجع عليه بما اكترى به عليه.
وأما إن كان اكترى عليه دون أن يرفع إلى السلطان أو دون أن يتلوم ويشهد إن كان في موضع ليس فيه سلطان، فيتخرج ذلك على قولين:
أحدهما: أنه يلزمه الأقل مما أكرى به عليه أو قيمة ذلك، ويكون له كراؤه.
والثاني: أنه لا يلزمه ذلك، ولا يكون له كراء.
والقولان يقومان من الاختلاف الذي ذكرناه في مسألة (الكري) لا يجد وكيل المكتري فيكري الإبل له دون أن يرفع ذلك إلى السلطان، أو دون أن يتلوم له ويشهد إن كان في بلد ليس فيه سلطان.(9/84)
[مسألة: الشركة في المتبقي من الطعام التالف من الحمال]
مسألة وسئل: عن رجل حمل طعاما من الريف في سفينته فمر بأخ له في قرية أخرى، فقال: أفي سفينتك فضل تحمل لي مائة إردب؟ قال: نعم، وقد كان الأول حمل فيها خمسمائة إردب فألقى قمحه من فوق طعام صاحبه فانخرق المركب، فدخل الماء من أسفله فأصاب منه نحوا من خمسين إردبا. وهو يعلم أنه لم يصل إلى طعام الرجل الذي كان حمله فوق طعامه الأول.
قال: أراهما في ذلك شريكين. قلت: إنه لم يصل إلا إلى الأول، قال: قد حملاه على وجه الشركة وخلطاه.
قال محمد بن رشد: قد مضى من القول في معنى هذه المسألة في أول رسم من السماع ما يغني عن القول فيها، ويوضح معناها، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: تخفيف أحمال السفينة لينجو أهلها]
مسألة وسئل: عن المركب يخاف أهله الغرق فيطرحون مما فيه شيئا لينجوا؟
قال: أراهم فيه إسوة. قلت: أفعلى قيمته يوم حمل؟ أو ثمنه الذي اشتري به؟ أو قيمته حين يطرح؟ قال: بل على ثمنه الذي اشْتُرِيَ به إذا كان إنما اشترى بمكان واحد بصنعاء أو بالفسطاط، فالثمن أعجب إلي، وقال: ابتداء منه في قيمته بموضعه الذي طرح فيه، كم قيمته في ذلك الموضع؟ وهل يشتري أحد ثمة وليس له ثمة قيمة؟ قيل له: أفترى على جرم المركب شيئا؛ لأنهم يقولون لو لم نطرح منه شيئا لهلك في ذلك وغرق، قال: لا شيء عليه، ولو ذهبوا تحاصوه لكان جل الغرم(9/85)
عليه، مثل أن يكون قسيمة المركب الشيء الكثير فيريدون أن يحاصوه بقيمة ذلك، فلا أرى عليه شيئا.
قال ابن القاسم: ليس على من في المركب من قومته غرم، كانوا عبيدا أو أحرارا، وإن كانوا عبيدا للتجارة فعليهم.
قال سحنون: سألت ابن القاسم عن تفسير قول مالك في المتاع الذي يكون في المركب فيخاف أهله الغرق فيطرح بعضه أن الذي يطرح متاعه يكون شريكا لهؤلاء في متاعهم بثمن متاعه الذي اشتراه به، قلت: ما معنى قوله الذي اشتراه به؟ قال: إن كان المتاع إنما هو شراء من موضع واحد مثل أن يكون من الفسطاط نفسها.
وأما أن يكون اشترى بعضهم بالفسطاط وبعضهم من أسواق أو من بعض نواحي مصر، فإن هذا ليس مثل الأول، فإذا كان مثل هذا فإنما ينظر إلى ما يشترى به، هذا كله ما طرح وما بقي مما لم يطرح، بكم يُشترى مثل هذا المتاع التالف، والباقي في الموضع الذي حمل منه في البحر مثل القلزم وجدة ونحو ذلك، فيكون شريكا بقدر ما يُشترى به متاعه في ذلك الموضع على قدر ما يصيب متاعه ومتاعهم، واختلاف الأزمنة مثل اختلاف البلدان في الشراء، مثل أن يشتري منذ سنة، وهذا منذ شهر، فينظر إلى ثمن مثله منذ شهر فيكون شريكا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن لمن طرح من المركب متاعه في البحر رجاء نجاته أن يرجع على من لم يطرح متاعه فيشاركهم(9/86)
فيه بقدر متاعه ومتاعهم، إذ ليس بعضهم أولى بطرح متاعه من بعض مع انتفاع جميعهم بذلك، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب، وإنما اختلف قول مالك في صفة التقويم في الاشتراك، فقال في المختصر مرة: إنه ينظر إلي قيمة المتاع المطروح والباقي في الموضع الذي حمل منه، وقال مرة: في الموضع الذي يحمل إليه، وقال مرة: في الموضع الذي طرح فيه، ورواه أشهب عنه، وقوله هاهنا: إنهم يشتركون فيه على الثمن الذي اشتروه به، وذلك إذا اشْتُرِيَ في وقت واحد وموضع واحد، وصفة واحدة من النقد والدين، وعلى غير محاباة، فإن اختلف شراؤهم في شيء من ذلك اشتركوا بقيمة متاعهم يوم حملوه في الموضع الذي حملوه منه على ما فسر به ابن القاسم قوله، والقول قولهم فيما زعموا أنهم اشتروه به دون يمين إذا تبين صدقهم إلا أن يتهم أحد منهم فيحلف، قاله سحنون بعد هذا في رسم أخذ يشرب خمرا.
وقوله: إنه لا يمين عليهم إذا تبين صدقهم - صحيح، كما أنه إذا تبين كذبهم وأتوا بما لا يشبه لا يمكنون من اليمين، وينظر إلى قيمة ذلك يوم الشراء فيكون شريكا بذلك.
وأما إذا لم يتبين صدقهم ولا كذبهم، فيتخرج تحليفهم إذا دعا إلى ذلك بعضهم على الاختلاف في لحوق يمين التهمة، وبالله التوفيق.
[: اشتراط أيام مسماة لتوصيل الحمل لمحله]
ومن كتاب شك في طوافه وسئل: عن رجل يتكارى الأجير يخرج له بكتاب يحمله(9/87)
إلى بلد ويشترط عليه أياما مسماة، قال مالك: ما هذا من كراء الناس وما يعجبني.
قال محمد بن رشد: أما إذا كان الوصول إلى البلد إلي الأجل الذي اشترط على الأجير مشكلا يمكن أن يبلغه وألا يبلغه - فلا اختلاف في فساد الأجرة على ذلك، وأما إذا كان أجلا يعلم أنه يبلغ فيه إلى البلد، فالمشهور أن الإجارة غير جائزة، وقد قيل: إنها جائزة، وقد مضي القول في هذه المسألة مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، وفي أول رسم من سماع أشهب منه، وفي غير ما موضع سواه من الكتاب المذكور، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: اشتراط شرط قاطع لمدة الإجارة]
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل: عن رجل يتكارى الدابة إلى الإسكندرية أو إلى الموضع ويضرب له في ذلك أجرا مسمى فيشترط إن عثر على الرجل في الطريق رجع وكان له بحساب ما بلغ على حساب ما تكارى منه.
قال: لا بأس بذلك، وهذا يكون عندنا في الإباق وغير ذلك، فلا بأس به إذا لم ينقد، أنكرها سحنون، وقال: كيف يجوز هذا وقد أكرى دابته بما لا يدري.(9/88)
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في أول مسألة من السماع، فلا معنى لإعادته.
[: الرجل يتكارى بدينار ونصف فيعطي الكري دينارين ويأخذ منه نصفا]
ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا وسئل مالك: عن الرجل يتكارى بدينار ونصف فيعطي الكري دينارين ويأخذ منه نصفا.
قال: ما أرى بذلك بأسا.
قال ابن القاسم: وقد كان ثقله ثم رجع إلى هذا، وقال: لا بأس به إذا انتقد حمولته وهو أحب ما فيه إلي.
قال محمد بن رشد: الاختلاف في جواز هذا الكراء جار على اختلافهم فيمن كان له على رجل دين، هل يجوز له أن يأخذ منه به دابة يركبها، أو غلاما يخدمه أو دارا يسكنها، ويكون قبض الدابة أو الغلام أو الدار ليستوفي ركوبها، أو استخدامه أو سكناها - استيفاء للركوب أو الاستخدام أو السكنى أم لا؟ وقد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف، وفي سماع أبي زيد منه، فلا معنى لإعادة ذلك، والله الموفق.
[مسألة: رجوع الأجير فيما اتفق عليه مع المؤجر]
[مسألة قال: وسئل مالك: عن الكري يرى غرائر الرجل، فيقول له صاحب الغرائر: زنها، فيأبى ذلك، ويحملها حتى إذ كان ببعض الطريق أراد أن يزن عليه، قال: لا أرى ذلك له، قد حملها ورضي بها.(9/89)
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال، إذ ليس له أن يرجع فيما قد سلمه ورضي به] .
[مسألة: دفع عربون لحين حضور الظهر المؤجر]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يتكارى من الحمال، ويكون كراؤه مضمونا ويعربن الدينار إلى أن يأتي الظهر، قال: لا بأس بذلك، وقال في ذلك: كم من كري قد أعطي كراءه فهرب وترك أصحابه.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز أن يؤخر النقد في الكراء المضمون إلى أن يأتيه بالظهر وإن بعد الأمد للضرورة إلى ذلك، إذ ليس بحرام بين، كفسخ الدين في الدين الذي يضاهي الربا المحرم بالقرآن.
ألا ترى أنه يجوز فيه تأخير رأس مال السلم اليوم واليومين والثلاثة، فأما في غير الكراء فلا يجوز تأخيره فوق الثلاث؛ لأنه الدين بالدين، وبالله التوفيق.
[: دعوى الأجير ضياع مال استؤجر على الشراء به]
ومن كتاب طلق ابن حبيب وسئل مالك: عن حمال تكوري وبعث معه بدنانير إلى موضع(9/90)
ليبتاع بها طعاما لمن استأجره فرجع فزعم أن تلك الدنانير ضاعت منه، أتراه ضامنا؟ قال: لا ضمان عليه فيها، وإنما هو إلى أمانته، وأرى أن يحلف في ذلك لقد ضاعت منه، قيل له: أفترى له فيما عني أجرة؟ قال: لا أرى له شيئا، قد ضاعت الدنانير، ويريد أن يأخذ أجرا، ما أرى له في ذلك شيئا.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير له أجرة فيما شخص إذا ضاعت الدنانير من أجل أنه استوجر على حملها إلى ذلك البلد وشراء الطعام بها، وجاء تلفها من قبله، وذلك على أصله في المدونة في الذي يستأجر الحمال على حمل شيء فيعثر به فيذهب أنه لا ضمان عليه ولا كراء له، خلاف قول غيره فيها، فليس قول مالك هذا بمعارض لقول سحنون في نوازله من كتاب الجعل والإجارة في الذي يعطي رجلا ثوبا ليبيعه له بجعل، فلما قبض الدنانير ضاعت منه أن له جعله لأن هذا في مسألة سحنون جعل على بيع فوجب للمجعول له جعله بالبيع، وبالله التوفيق.
[مسألة: تضمين الأكرياء]
مسألة قيل له: لِمَ ضَمِنَ الأكرياءُ الطعامَ الذي يحملونه؟ قال: إنهم مثل الصناع الصباغ والخياط، فلذلك ضمنوا إلا أن يأتوا(9/91)
فيما تلف منهم على هلاكه بأمر يعرف، فلا يكون عليهم ضمان، مثل أن ينشق زق زيت، أو تهلك راحلته، أو ما أشبه هذا من الوجوه التي (يدل) على هلاكها أمر يعرف، فلا شيء عليه.
قيل: فالخياط والصباغ إذا سرق بيته، أيصدق؟ قال: ما أدركت الناس إلا على أنهم يضمنونهم، ولا يجعلونه في مثل هذا مثل ما ينشق من الحمال أو يهلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إنما ضمن الأكرياء الطعام لحاجة الناس إليهم في ذلك كالصناع، إلا أن يظهر الهلاك بانشقاق زق أو عثار راحلة وما أشبه ذلك، وليس ذلك كدعوى الصناع السرقة؛ لأن ذلك لا يعرف إلا بقولهم، وإنما هو كالفران يأتي بالخبز محروقا، أو الصباغ يأتي بالثوب محروقا فيسقط عنه الضمان؛ لأن النار تغلبه، فأشبه عثار الأجير الذي لا يقصده، وبالله التوفيق.
[: دعوى المكتري ضياع الدابة المكتراة]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال مالك، في دابة تكاراها رجل إلى موضع ثم أتى فزعم أنها نفقت - قال مالك: إن كان في جماعة رأيت أن يكلف البينة، وإن كان وحده أحلف ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، فلا معنى لإعادته.(9/92)
[: ما يترتب على طرح الأمتعة من السفينة]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا قال: وقال مالك، في السفينة التي طرحوا منها متاعا، وفسد بعض القمح وبقي بعض لم يصبه شيء، وكراء ما طرح: إنه ليس على الجرم شيء مما طرحوا.
قال: ولو كان جرمه ظرفا فارغا نجا، وإنما كان طرحهم نجاة لمتاعهم، فلا أرى عليه فيه شيئا، وقال فيما طرح: لا أرى لأهل المركب فيه كراء ما أكروهم فيه، وإنما لهم على حساب ما بقي مما أكروا، وقال في الطعام الذي فسد بعضه ولم يفسد بعض: إن كان محجوزا كل واحد منهم طعامه على حدته، قد حازه بشيء جعله حجزا فيما بين القمح، فأرى أن من سلم منهم فله ما سلم، وما أصيب منه بما أصابه، أو اسود لموج ركبه فمصيبته من صاحبه، وإن كانت تلك التي حجزوا بها قد انخرق بعضها إلى بعض حتى اختلط الطعام كانوا شركاء جميعا فيما فسد لهم وصلح، يأخذ كل واحد منهم بحصة طعامه.
وأما ما ذكرت في أثمان متاعهم بأي شيء يتراجعون في ذلك؛ فإنما يتراجعون بالثمن الذي ابتاعوه بالقلزم، ولا ينظر إلى ثمنه في الجار، ولا قيمته في الموضع الذي طرح فيه، ولكن ثمنه بالقلزم الذي ابتاعوه به، إلا أن يكون أحد منهم اشترى شيئا بدين فزاد لذلك، فإنما يحسب له على النقد لا زيادة فيه، أو يكون حوبي أحد في شراء خفف(9/93)
عنه، فلا يحمل عليه ما حوبي به من ذلك، ولكن يتم له ثمنه الذي يسوى بالقلزم.
وسئل عنها سحنون: هل يقبل قول كل واحد منهم في ثمن ما قام عليه متاعه من غير بينة ولا يمين؟ فقال لي: نعم، يقبل قولهم، ولا بينة عليهم، ولا يمين إذا تبين صدق قولهم، إلا أن يتهم أحد منهم فيحلف.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه ليس على جرم المركب شيء فيما طرحوا من المتاع للنجاة على ما قاله، وقد بين العلة في ذلك أنه لو كان ظرفا فارغا لنجا، وكذلك ليس على صاحب السفينة شيء في القلوع والأطراف التي تخلص بها السفينة.
وأما ما كان في جوف المركب من قارب وحبال ومواجل فإن ذلك أيضا يقوم على صاحب السفينة، قاله بعض أهل العلم، وهو صحيح على أصل مذهب مالك، في أنه ليس على جرم المركب شيء.
وأما قوله: إنه لا كراء لصاحب المركب فيما طرح من المتاع، فهو على قوله في المدونة، أن كراء السفن على البلاغ، خلاف قول ابن نافع فيها، أن لها بحساب ما بلغت.
وقوله: إن الطعام إذا انخرق ما حجز به بين طعام كل واحد منهم من طعام صاحبه فاختلط، أنه يحكم بينهم فيما فسد منه بحكم الشركة فهو صحيح، إذ لا فرق بين أن يحملوه على الشركة، أو يختلط بغير اختيارهم فيما يجب من أن يكونوا فيه شركاء بحساب ما لكل واحد منهم.
وقد مضى في رسم حلف ذكر اختلاف قول مالك إن كانوا يشتركون فيما طرحوا على الأثمان، أو على القيم، ومتى تكون القيمة في ذلك، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.(9/94)
[: اشتراط رجوع الدابة المكتراة حيث وجد ما يدعو لذلك]
ومن كتاب أوله باع غلاما وسئل مالك: عن الرجل يكون له بالإسكندرية البز فيستبطئه فيتكارى الدابة من الفسطاط بدينار إلى الإسكندرية، ويقول لصاحب الدابة: أشترط عليك إن لقيت بزي في الطريق رجعت معه وأعطيتك بحساب ما ركبت، قال: لا بأس بذلك، ولا أحب النقد فيه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول السماع، فلا معنى لإعادة ذلك، وتكررت أيضا في رسم الشجرة.
[: إعطاء المكتري دابة أخرى بدل التي تلفت]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت وسئل مالك: عن الرجل يتكارى الدابة بعينها إلى موضع، فتهلك الدابة في موضع في بعض الطريق فيريد أن يعطيه بها دابة أخرى يركبها مكان الدابة التي هلكت، قال: لا أحب ذلك، وأراه بمنزلة الدين بالدين.
قال ابن القاسم: قال لي مالك بعد ذلك: إلا أن يكون أصابه ذلك بفلوات الأرض والصحاري والموضع الذي لا يوجد فيه كراء فلا أرى به بأسا.
وأما في الموضع الذي يوجد فيه الكراء فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: إنما لا يجوز هذا إذا كان قد نقد؛ لأن الكراء ينفسخ في الراحلة بعينها بموتها، ويجب للمكتري الرجوع على الكري بما ناب ما بقي من المسافة فإن أخذ منه بذلك دابة أخرى غير معينة كان قد فسخ ما وجب له به عليه الرجوع من الكراء في ركوب لا يتعجله، وكان(9/95)
ذلك حراما لا يحل ولا يجوز بإجماع، وإن أخذ منه في ذلك دابة معينة يركبها إلى انقضاء كرائه جاز على مذهب أشهب، وأحد قولي مالك في رسم حلف المتقدم، ولم يجز على المشهور في المذهب.
قال ابن حبيب: إلا حيث لا يجد غنى عن ذلك إلى الموضع الذي يجد فيه غنى عنه، كالمضطر إلى أكل الميتة، وهو كما قال إذا فسخ ما بقي له من الكراء في راحلة بغير عينها، وأما إذا فسخه في راحلة بعينها ففيه بعض السعة لما ذكرته من الاختلاف في ذلك، وعلى هذا تكلم في هذه الرواية، والله أعلم، ولذلك قال فيها: لا أحب ذلك، وأراه من الدين بالدين، ولو تكلم على أنه فسخ ما بقي له في دابة بغير عينها، لقال: لا يحل ذلك ولا يجوز؛ لأنه فسخ الدين بالدين، وهو أشد من الدين بالدين.
وقوله: ثم قال (لي) بعد ذلك: إلا أن يكون أصابه ذلك بفلوات الأرض والصحاري، ليس بقول آخر، وإنما هو تفسير لقوله الأول، إذ لا اختلاف في جواز ذلك عند الضرورة.
ولو كان لم ينقد لجاز ذلك من غير ضرورة باتفاق، وبالله التوفيق.
[: سأل المتكاري كراء جديدا بما له عند الآخر من مال]
ومن كتاب المحرم يتخذ الخرقة لفرجه
وسئل مالك: عن رجل أكرى رجلا فبقي له عنده بقية كراء، فسأل الكري رجلا آخر أن يحمله بالكراء الذي له عليه ويزيده مع ذلك زيادة.
قال: هذا مكروه وأرجو أن يكون خفيفا.
قال ابن القاسم: ما أراه بضيق وفيه شيء، وأرجو أن يكون خفيفا.
قال ابن القاسم: وإن سأل المتكاري أن يحتال على المكري الأول ورضي بذلك المكري أن يحتال عليه ويزيده مع ذلك فلا خير في ذلك أنكرها سحنون ورآها دينا بدين.(9/96)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مشكلة، إذ لم يبين فيها هل كان الكراء الذي بقيت منه البقية مضمونا أو معينا؛ ولا هل كانت البقية منه ركوبا على المكري، أو كراء علي المكتري، وتأويلها يصح على الوجهين، من أن الكراء مضمون ومعين.
فأما إن كان الكراء مضمونا فالمعنى فيها أن المكري عجز عن توصيل المكتري إلى البلد الذي أكراه إليه، وله على المكتري بقية من كرائه لم يستوفها منه، فأكرى له من يوصله إلى ذلك البلد بالبقية التي بقيت له على المكتري وبزيادة يزيده إياها من عنده، فكره ذلك مالك وابن القاسم وخففاه جميعا، ووجه الكراهة في ذلك أنه دين بدين؛ لأن المكتري انتقل في كرائه من ذمة المكري الأول إلى ذمة المكري الثاني.
ووجه التخفيف فيه: أن المكري الأول لما كان هو الذي سأل المكري الثاني أن يحمله بما كان له وعليه وبما زاده، فكأنه اكترى منه ذلك لنفسه، ووجب الكراء له، فلم ينتقل المكتري بذلك عن ذمته إلى ذمة المكري الثاني.
وقول ابن القاسم: وإن سأل المتكاري أن يحتال على المكري الأول إلى آخر قوله، معناه: أنه عجز عن توصيله إلى ذلك البلد، وقد انتقد، فاكترى المكتري من يوصله إلى ذلك البلد بالركوب الذي بقي له على المكري الأول، يحتال به عليه وبزيادة زاده إياها، فلم يجز ذلك؛ لأنه الدين بالدين كما قال سحنون؛ لأن المكتري اكترى ركوبا غير ناجز بالركوب الذي بقي له على المكري الأول وهو غير ناجز أيضا.
وقد قيل: إن المعني في ذلك أن المكري عجز عن توصيله إلى ذلك البلد، وقد انتقد فاكترى المكتري من يوصله إلى ذلك البلد ولم يشترط النقد، ولا كانت سنة الكراء على النقد، فأراد أن يحيله على المكاري الأول بما وجب له به الرجوع عليه، لعجزه عن حمله، فلم(9/97)
يجز ذلك؛ لأنه يستحيل بما لم يحل له، وهذا تأويل ابن لبابة، والأول هو الصواب؛ لأن الكراء المضمون لا ينفسخ بالعجز، وهو ثابت ما لم يفسخ بالحكم، لضرر يكون على المكتري في إمضائه بفوت الإبان كالحج وشبهه، فعلى هذا التأويل يكون ابن القاسم إنما تكلم على غير المسألة التي تكلم عليها مالك؛ لأنه تكلم على المكري قد انتقد، فلم يبق له بقية من الكراء وبقيت عليه بقية من الركوب، وتكلم مالك على أنه لم ينتقد جميع الكراء، فبقيت له بقية منه، وبقيت عليه بقية من الركوب.
وأما إن كان الكراء معينا فالمعنى فيما كرهه مالك وابن القاسم وخففاه جميعا أن الدابة المكتراة بعينها هلكت قبل الوصول إلى البلد الذي اكتريت إليه، وقد انتقد المكتري كراءه، فوجب أن يرد منه نوب ما بقي من المسافة فاكترى للمكتري دابة بعينها لما بقي من الركوب إلى ذلك البلد بما وجب عليه أن يرده من الكراء وبزيادة زادها، فكرها ذلك جميعا؛ لأن المكتري فسخ ما وجب له به الرجوع على المكري في ركوب دابة إلى ذلك البلد، وخففاه جميعا لانتقاد الدابة وهي معينة، وهذا على ما مضى من اختلاف قول مالك في أول مسألة من رسم حلف.
والمعنى في قول ابن القاسم وإن سأل المتكاري أن يحتال على المكري الأول ورضي بذلك الكري أن يحتال عليه، ويزيده مع ذلك فلا خير فيه، أن المكتري لما ملكت الدابة اكترى دابة لنفسه على ذمته بمقدار ما يجب له به الرجوع على المكري وبزيادة، ثم أحاله على المكري بما وجب له به الرجوع عليه، فوجب ألا تجوز الحوالة؛ لأنه احتال بما لم يحل، إذ لا يجب تعجيل الكراء إلا بشرط أو عرف، وهو معنى الدين بالدين، كما قال سحنون، ولو اكترى المكتري الدابة لنفسه بالدين الذي له على المكري(9/98)
وبزيادة لجاز، إذ يجوز لمن له دين على رجل أن يبيعه من رجل بتمر لم يبد صلاحه، وبجارية تتواضع، وبركوب دابة، وسكنى دار، وما أشبه ذلك، فعلى هذا يكون ابن القاسم إنما تكلم على المسألة التي تكلم عليها مالك، لا على مسألة أخرى، فهذا وجه القول في هذه المسألة مستوفى وتأويلها على الوجه الأول من أن الكراء مضمون أظهر وأولى، والله أعلم وبه التوفيق.
[مسألة: الكري تكون له الإبل يحمل عليها وهو يدملها تحتهم بحملهم عليها فيفلس]
مسألة وسئل مالك: عن الكري تكون له الإبل يحمل عليها وهو يدملها تحتهم بحملهم عليها فيفلس، وتحت أحدهم بعير منها، أتراه أحق به من سائرهم؟ قال: نعم، أرى ذلك له.
قال ابن القاسم: وذلك رأيي.
وسئل عنها سحنون، فقال: جيدة، قيل له: سواء كان الكراء في إبل بأعيانها أو كراء مضمونا يكون كل رجل أولى بما تحته من صاحبه إذا فلس الجمال؟ قال: نعم، من أجل أنه لما قدم الكري إلى رجل جملا فكأن كراءه وقع عليه، قلت: فلو أن الجمال تسلف من بعضهم أو تعاين ورهنه ما تحته وتحت أحماله، أترى المرتهن أحق به من سائر أصحابه؟ قال: نعم، قلت: فلو رهنه بعض ما تحت غيره من الجمال، أتراه رهنا جائزا، ويكون أولى به من الغرماء؟ قال: نعم، وهو كالرهن يوضع على يدي عدل.
قيل لسحنون: هل يكون أصحاب الأحمال أولى بما تحت أحمالهم من الإبل كما يكون في(9/99)
المحامل؟ قال: نعم، قيل له: فإن أراد الحمال أن ينقل تلك الإبل ويديلها بينهم، وأبى ذلك أصحاب الأحمال والمحامل.
قال: لا يكون ذلك للجمال إلا عن رضا من أصحاب الحمولة والمحامل (وهذا في الكراء المضمون وغيره سواء، وكل واحد من أصحاب الحمولة والمحامل) أولى بما في يديه من غيره.
قلت: فلو أن الحمال احتاج فأراد أن يتسلف من بعض الحمولة على أن يرهنه ما بيديه من الإبل أيجوز ذلك؛ وتراه رهنا مقبوضا؟ قال: نعم، ألا ترى إلى قول مالك في الجمال يفلس أن كل واحد منهم أولى بما تحته من غيره من الغرماء ومن أصحابه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إن الجمال إذا فلس فالمكتري منه كراء مضمونا أحق بالجمل الذي أسلم إليه لركوبه، أو لحمل متاعه من غيره من المكترين ومن الغرماء، ومثله في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس، وفي الرواحل والدواب من المدونة للعلة التي ذكرها من أنه إذا أسلم إليه، فكأن كراءه وقع عليه، إذ ليس له أن يعوضه منه بغيره، فصار كالرهن بيده، فوجب أن يكون أحق به، وهذا إذا كان قد نقد، وأما إذا لم يكن نقد فهو مخير بين أن ينقد ويكون أحق بالجمل، وبين أن يفسخ الكراء عن نفسه ويكون أحق بما عليه.
ولو فلس الجمال قبل أن يسلم إليه الجمل كان إسوة الغرماء إن(9/100)
كان قد نقد، فما صار له في المحاصة أكرى له به ما بلغ، واتبعه ببقية حقه، ويكون مخيرا إن كان لم ينقد بين أن ينقد ويحاص الغرماء، وبين أن يفسخ الكراء عن نفسه ويكون أحق بما عليه، وهذا ما لا أعلم فيه اختلافا إلا ما وقع من قول غير ابن القاسم في المدونة، وليس الراحلة بعينها كالمضمون، إذ قد قيل: إنه أراد ليست المضمونة كالمعينة في أنه يكون أحق بها في التفليس، وقيل: إنه إنما أراد ليست كالمعينة في اختلافهما في الكراء.
والظاهر أنها ليست عنده كالمعينة في كلا الوجهين. وأما المعينة فالمكتري إذا فلس الجمال أحق بها قبضها أو لم يقبضها، نقد أو لم ينقد، وهو إذا لم ينقد بالخيار بين أن ينقد ويكون أحق بها، وبين أن يفسخ الكراء ويكون أحق بما عليه.
وأما إجازته أن يرهنه ما تحته وتحت أحماله بما أسلفه فهو بعيد، لكونه في منفعة الراهن، وإجازته أن يرهنه ما تحت غيره من الجمال أبعد؛ لأنه في منفعة الراهن وفي أجرة غيره.
وقوله فيه: إنه كالرهن يوضع على يد عدل ليس ببين، وقد نص في المدونة على أنه لا يكون قبض المستأجر قبضا للموهوب له، فهو أحرى أن لا يكون قبضا للمرتهن، وبالله التوفيق.
[: تداخل الكراء]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من الكتاب الأول من البيوع قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع، قال: سئل مالك: عن الرجل يتكارى من الكري بمصر إلى الحج، فإذا ركب موجها، قال للكري: أكر لي إلى مصر، فيتكارى منه وينقده الكراء، فإن بعض أصحابنا تكارى من هاهنا إلى إيلة.(9/101)
أفرأيت إن بدا لهم أن يتكاروا منه في الطريق إلى مصر وينقدوه الكراء فيما بينهم وبين أن يبلغوا إلى إيلة؟ فقال: لا أرى بذلك بأسا، قيل له: لا ترى بذلك بأسا؟ قد: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا جاز أن يكتري منه من مصر إلى الحج ذاهبا وراجعا في صفقة واحدة جاز إذا اكترى منه أولا للذهاب خاصة أن يكتري منه للرجوع وهو في الطريق قبل أن يبلغ الحج، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه، وبالله التوفيق.
[مسألة: كراء الدواب يوما بيوم]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يتكارى الدابة إلى مكة، كل يوم بدرهم؟ فقال: ما هذا من بيوع الناس، لعله سيمكث بذلك شهرين، فليس هذا من بيوع الناس، ولكن لو ضرب لذلك أجلا لم يكن بذلك بأس، قيل لمالك: أرأيت لو قال له أتكاراها منك شهرا كل يوم بدرهم؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: أما إذا تكاراها شهرا كل يوم بدرهم فلا كلام ولا إشكال في جواز ذلك، وأما إذا أكراها منه إلى مكة كل يوم بدرهم فلم يجز ذلك هاهنا، وأجاز في المدونة كراء الراحلة بعلفها إلى موضع، وذلك اختلاف من القول، إذ لا فرق بين المسألتين؛ لأنه إن أبطأ في السير كثر عليه العلف، وإن عجل فيه قل العلف، فآل ذلك إلى الجهل بمبلغ(9/102)
الكراء.
ولو أكرى منه الدابة إلى مكة بعلفها، أو كل يوم بدرهم أسرع في السير أو أبطأ فيه، لم يجز باتفاق؛ ولو أكراها منه إلى مكة بعلفها، أو كل يوم بدرهم على أن يسير سير الناس المعتاد لجاز ذلك باتفاق، فالخلاف إنما هو إذا وقع الكراء مبهما دون بيان، فحمله في هذه الرواية على الظاهر من الوصول إلى مكة، قرب أو بعد فلم يجزه، وحمله في المدونة على الوصول على السير المتعارف فأجازه؛ لأنه إذا كان المعروف عند الناس أن الوصول إلى مكة على السير المتعارف يكون على التمثيل في شهر، فكأنه إنما أكرى منه إلى مكة بثلاثين درهما أو بعلف ثلاثين ليلة، فوجب أن يكون ذلك جائزا، وبالله التوفيق.
[مسألة: احتساب أجرة ما انقضى من كراء المنزل]
مسألة قيل له: أرأيت من تكارى منزلا شهرا بكذا وكذا، فما سكن فبحساب ذلك؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله فما سكن فبحساب ذلك، يريد أن له أن يخرج متى ما شاء، ويلزمه فيما سكن بحساب ذلك، فعلى هذا يكون الكراء في الشهر لازما لصاحب المنزل غير لازم للساكن، وفي ذلك اختلاف قد مضى القول فيه في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم الشجرة، وفي رسم باع غلاما منه، ولو لم يكن الكراء لازما لواحد منهما في الشهر لجاز باتفاق، كمن أكرى داره مشاهرة، وقد مضى القول على هذا في رسم حبل حبلة من سماع عيسى من كتاب كراء الدور والأرضين، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(9/103)
[مسألة: كراء شق محمل ثم التحول منه إلى الشق الآخر]
مسألة وسئل مالك: عمن تكارى من جمال شق محمل بدنانير دفعها إليه ثم أراد أن يتحول من الشق المحمل إلى الزاملة ويرد عليه الجمال من كرائه دنانير، قال: أرجو أن يكون هذا خفيفا.
قيل لمالك: إنه قد كان هذا اكترى شق محمل فطلب منه الكراء كله، فأراد بيع بعض متاعه فلم يجد ثمنا. فقال له: حولني في زاملة فإنها أقل كراء بدينار، قال: لا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: خفف في هذه الرواية لمن اكترى شق محمل بدنانير فنقدها - أن يتحول من الشق إلى زاملة ويرد عليه الكري من الكراء الذي انتقد دنانير، وهذا في الكراء المعين على ما مضى من اختلاف قوله وقول ابن القاسم في هذا الأصل في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب كراء الدور والأرضين، ورسم حمل صبيا من سماع عيسى منه، ولو كان الكراء مضمونا لم يجز ذلك باتفاق على ما يأتي في رسم العرية من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب.
وأما إذا لم ينقد فجائز أن يتحول من الزاملة إلى المحمل، ومن المحمل إلى الزاملة بزيادة ممن كانت منهما، كان الكراء مضمونا أو معينا، وبالله التوفيق.(9/104)
[مسألة: كراء دابة لموضع معين والأجر على قدر العمل]
مسألة وسألت مالكا: عمن تكارى دابة إلى موضع بعينه يسميه له على إن تقدم بها فبحساب ما تكارى منه، قال: لا بأس بذلك إذا كان موضعا يسميه، يقول له: إن تقدمت إلى موضع كذا وكذا فبحساب ما تكاريت منك أو كان أمرا معروفا، فهذا لا بأس به.
فقلت له: فكيف يعرف؟ فقال له: يقول له: إنه بلغني أن عبدا لي أبق فهو بذي المروة، فأكر لي إليها دابتك بكذا وكذا، وما تقدمت فبحساب ذلك، أو يقول أكر لي دابتك إلى السفرة ألتقي الأمير عليها، فما تقدمت فبحساب ذلك، فهذا لا بأس به؛ لأنه أمر له وجه يعرف، فلا بأس بما تكارى هكذا إذا كان له وجه يعرف به، أو تكارى على أنه إن تقدم إلى موضع كذا وكذا فبحساب ذلك.
فهذان جميعا لا بأس بهما إن سمى، وإن لم يسم إذا كان لما لم يسم من ذلك وجه يعرف. فأما أن يقول: أتكارى منك دابتك إلى موضع كذا وكذا بدينارين على أني ما بلغت من الأرض كلها بحساب ذلك، فأرى هذا لا خير فيه، مرة يذهب إلى العراق، ومرة يذهب إلى المغرب، فهذا لا خير فيه، ولا يصلح حتى يكون إلى موضع معلوم إذا بلغه كان بحساب ما تكارى منه، أو يكون أمر له وجه يعرف به، مثل أن يقول: ألتقي الأمير إلى ذي خشب بكذا وكذا، فإن تقدمت فبحساب ذلك، فهذا له وجه يعرف، لا بأس به وإن لم يسم موضعا يعرف بعينه؛ لأن وجه(9/105)
ذلك ونحوه معروف لا بأس به.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: نقص الطعام من الحمال الذي يحمله]
ومن كتاب الأقضية الثاني وسئل: عن رجل يحمل الطعام فينقص عليه، قال: أرى أن يترك لهم من ذلك ما ينقص من بين الكيلين من الطعام، قيل له: أرأيت إن جاءه به ينقص أكثر مما ينقص بين الكيلين فأراد أن يستحلفه ويغرمه فضل ذلك؟ فقال: ليس له ذلك، إذا أراد أن يغرمه فلا يستحلفه.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال: إنه إذا نقص الطعام فليس له أن يرجع عليه إلا بما نقص زائدا على ما يعرف أنه ينقص بين الكيلين.
وقوله: إنه إن أغرمه فليس له أن يستحلفه - صحيح؛ لأن الطعام لا يعرف بعينه إذا غيب عليه، فهو لو نكل عن اليمين لم يكن عليه إلا المثل، فلما كان نكوله ويمينه بمنزلة سواء، لم يكن ليمينه معنى، بخلاف من وجب عليه ضمان ما يعرف بعينه إذا غيب عليه من العروض، هذا يحلف ويغرم؛ لأنه يتهم على أنه أراد أن(9/106)
يأخذ العرض بقيمته، فإن حلف غرم القيمة، وإن نكل عن اليمين حبس حتى يحلف أو يرد العرض بعينه، ولا كان حمله في مركب فجاء به مبلولا ضمن إن كان بللا مفسدا، ولو لم يكن مفسدا لم يلزمه ضمانه، وكان عليه تجفيفه، وإن كان بلله يزيد فيه لزمته اليمين إنه ما تعمد بله؛ لأنه يتهم أن يكون قد سرق منه، ثم بله ليزيد فيه ما سرق منه، وإن كان البلل لا يزيد فيه فلا يمين عليه ولا ضمان عليه، إلا أن يكون البلل مفسدا، والرواية بذلك كله موجودة عن مالك، ذكرها ابن أبي زيد في النوادر، وبالله تعالى التوفيق.
[: كراء الدابة لطائفة لا يدرون متى انصرافهم]
وفي كتاب أوله مسائل بيوع ثم كراء وسئل مالك: عن الرجل يكري دابته إلى الصائفة وهم لا يدرون متى ينصرفون، فقال: قد عرفوا وجه ذلك وأرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز الكراء في الصائفة إلى رجوعها؛ لأنه رأى ذلك معروفا على عادة قد جروا عليها لا تختلف في أغلب الأحوال، فإن وقع الكراء على ما يعرفون فتأخرت عن القدر المعروف أو تعجلت عنه لأمر عرض كان له كراء مثله فيما زاد، وحط من كرائه بقدر ما نقص.
والصائفة: العسكر الذي يغزو بلاد العدو في الصائفة، وبالله التوفيق.
[: مخالفة المكترين لشرط الكراء]
ومن كتاب الأقضية وسئل مالك: عن الرجل يتكارى من أكرياء أهل مصر إلى(9/107)
الحج ولا يشترط عليهم أن يمروا به على المدينة، ثم يريد منهم ذلك ويأبوا إلا أن يتساحلوا، أترى ذلك للمتكاري عليهم؟ قال: نعم، في رأيي إلا أن يخاف فوات الحج.
قال محمد بن رشد: إنما رأى ذلك للمتكاري عليهم بالعرف الجاري في ذلك، والله أعلم وبه التوفيق.
[مسألة: نقص الطعام من الحمال الذي يحمله]
مسألة قال: وسئل: عمن استحمل كريا طعاما فنقص عليه أكثر من الذي يوضع في النقصان بصاعين أو ثلاثة، فقال رب الطعام: أنا آخذ هذا النقصان وأستحلف حامل الطعام على ما نقص من نقصان الناس ما خانه، فقال: إن أغرمته فلا تحلفه، وإن أحب رب الطعام أن يحلفه ولا يأخذ شيئا فذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه ليس له أن يحلفه في النقصان المعروف ما خانه؛ لأن ذلك معروف، فلا يلزمه فيه غرم ولا يمين.
وأما الزائد على النقصان المعروف فواجب عليه غرمه، ولا يحلف مع الغرم للمعنى الذي قد ذكرناه قبل هذا في رسم الأقضية الثاني، ولا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: كراء السفينة]
ومن البيوع الأول وسئل: عمن أكرى سفينة بكذا وكذا دينارا، وله عليه(9/108)
ضربتان: ضربة في الشتاء، وضربة في الصيف، قال: لا بأس بذلك، قيل له: يا أبا عبد الله، إنما مسيرها بالريح فإن طابت الريح أسرعت، وإن ركدت أبطأت، حتى ربما أقامت في المرسى العشرة الأيام، فقال لي: إن كان ذلك شيئا يختلف فلا خير فيه، وإن كان لا يختلف فلا بأس به.
قلت له أيضا: إنما مسيرها بالريح، فإن طابت الريح أسرعت وإن ركدت أبطأت. فقال: إن كان هكذا فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه أكرى سفينة للعام بكذا وكذا، واشترط على المكتري أن يسافر بها سفرتين إلى موضع معلوم، سفرة في الشتاء، وسفرة في الصيف، فوجب ألا يجوز الكراء إلا أن يكون مقدار ما تقيم السفينة في السفرتين معلوما كما قال؛ لأن المعلوم متى استثني منه مجهول كان الباقي مجهولا، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجوع مكتري الدابة من بعض الطريق]
مسألة قال: وسئل: عن الذي يتكارى الدابة من المدينة إلى مكة فيسير بعض الطريق ثم يبدو له أن يرجع إلى المدينة، أيكون لصاحب الدابة الكراء كله؟ قال: إي لعمري، قيل له: أرأيت إن أراد أن يركبها إلى موضع آخر مثل مكة؟ فقال: إن كان مثل الموضع الذي تكارى إليه في السهولة فذلك له، ربما كان المكانان أحدهما أقرب من الآخر، وهو أعلى كراء للحزونة والحجارة، فإن كان مثله فذلك له.
قال محمد بن رشد: أوجب في هذه الرواية على المتكاري الكراء كله إذا رجع من الطريق، وقال: إن له أن يركبها إلى موضع آخر مثل مكة(9/109)
يريد مثل ما قصر عنه من البلوغ إلى مكة في طريق مثله في السهولة، ولم يفرق بين أن يكون قد سار قبل أن يرجع أقل الطريق أو أكثره، خلاف قول ابن القاسم في رسم كتاب المدينين من آخر سماع عيسى في تفرقته بين أن يكون رجع بعد أن سار من الطريق الشيء اليسير، مثل البريد والبريدين، أو بعد أن سار جله، وهذا الاختلاف مبني على القول بأن من أكرى دابة إلى موضع فله أن يركبها إلى موضع آخر إذا كان مثله في السهولة أو الحزونة، والقياس على ذلك قول مالك.
وجعل ابن القاسم رجوعه بعد أن سار جل الطريق رضا منه بترك باقي حقه. وليس ذلك ببين في القياس؛ لأنه يقول ما تركت بقية حقي ولا رجعت إلا على أن أركب في طريق آخر مثل ما قصرت عنه إلى البلد الذي اكتريت إليه، ونهاية ما عليه أن يحلف ما رجع إلا على ذلك، ولا رضي بترك بقية حقه على القول بلحوق يمين التهمة، إذ لا يمكن للمكري أن يدعي علم نيته.
وأما على القول بأن من اكترى دابة إلى موضع فليس له أن يركبها إلى موضع آخر وإن كان مثله في السهولة والحزونة إلا برضا صاحب الدابة وهو قول ابن القاسم في المدونة، أو بأنه ليس له أن يركبها إلى موضع آخر وإن رضي بذلك صاحب الدابة؛ لأنه دين بدين، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة، فيلزمه جميع الكراء إذا رجع من الطريق وإن لم يسر منه إلا يسيرا، وليس له أن يركب الدابة ولا(9/110)
يستعملها في شيء، وهو قول ابن نافع في رسم المدينين المذكور، وقد مضى هذا المعنى في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشتراط الضمان على الحمال]
مسألة وسئل: عمن حمل على جمال من الفسطاط إلى القلزم مائة إردب، وقال له: أضمنها، فقال: لا أفعل المائة تنقص أربعة أرادب، وهو بالنقصان الذي يحاز لهم، فيقول له صاحب الطعام: فأنا أعطيك الأربعة الأرادب النقصان، وتضمن المائة الأرادب توفينيها بالقلزم وأكتبها عليك، (وقال) - بعد إطراقه -: أرأيت إن نقصت المائة (الأرادب) إردبا واحدا، أيربح الكري لنفسه ثلاثة أرادب يذهب بها إلى بيته. لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن ذلك لا يجوز؛ لأنه أخذ للضمان ثمنا وهو ما استوفر له من الأربعة الأرادب التي زاده على المائة من أجل النقصان المعروف فيما بين الكيلين، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصلح في الكراء]
مسألة وسئل: عمن تكارى من كري ظهرا إلى الحج فلما كان(9/111)
من أمر حميس ما كان وأرادوا الخروج إلى مكة، وتراجع الناس من الطريق جاءه الكري، فدعاه إلى الخروج فأبى أن يخرج معه، فذهب الرجل إلى السلطان، فقال له: اخرج مع كريك بعض المناهل أو دعه لي حتى تجتمعا، فخاف أن يقضي عليه السلطان فصالح الكري على أن يقيله ويؤخره بالكراء إلى الجذاذ، هل له أن يأخذ كراءه الآن؛ لأنه خاف من حميس وخاف أن يقضي عليه بذلك السلطان؟
فقال: ما أرى ذلك له، وأرى ذهبه إلى أجلها الذي أخذها إليه؛ لأنه لم يقض عليه سلطان، فجاء يخاصم في قضائه، إنما صالحه طائعا بذلك، فأرى ذلك له لازما، وهو رجل صالح صلحا فهو له لازم، وأنا أرى ذلك الكراء غير لازم لهما في مثل هذه الفتنة، أتقحمهم على الفتن؟ فلذلك رأيت ألا بأس عليه أن يؤخره دنانيره إلى الجذاذ، إنما له دنانيره يأخذها إلى الجذاذ فلا بأس به.
ولو كان الكراء عندي لازما لم يصلح أن يفسخ كراؤه في دنانيره إلى الجذاذ، ولكن إنما رأيت له دنانيره فأخذها إلى الجذاذ.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن الحكم يوجب فسخ الكراء من أجل الفتنة الواقعة المانعة من الخروج، وأن يأخذ دنانيره التي نقده إياها معجلة، فتأخيره إياها معروف صنعه ليس له أن يرجع فيه، ولا عذر له فيما اعتذر به مما خاف من جور السلطان في أن يقضي عليه بالخروج، ولعله لا يفعل.
وإنما كان يكون له الرجوع في التأخير لو أخره بعد أن قضى عليه بالخروج، وبالله تعالى التوفيق لا رب غيره.(9/112)
[: اختلاف المتكاريين في رد العين المؤجرة]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب استأذن سيده في تدبير جاريته وسئل ابن القاسم: عن الرجل يستكري الدابة أو الشيء ثم يدعي أنه قد رده ويدعي صاحبه أنه لم يرده، قال: إذا دفعه إليه ببينة فهو له لازم إلا أن يرده ببينة، وإن كان دفعه إليه بغير بينة فقوله مقبول ولا غرم عليه، وهو بمنزلة المؤتمن.
قيل له: فلو قال المكتري: ذهب مني، قال: إذا يصدق ولا يكون عليه غرم شيء، كان مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه؛ لأنه لا ضمان عليه فيه، وفي العارية إذا ادعى الرد فإن كان مما يغاب عليه فهو ضامن، قبضه ببينة أو بغير بينة، وإن كان مما لا يغاب عليه فادعى الرد، فقوله مقبول إذا كان قبضه بغير بينة، فإذا كان قبضه ببينة لم يبرئه إلا بالبينة، وقد سمعت مالكا، وسئل: عن رجل اكترى حمارا وعليه سرج ولجام فزعم أن السرج واللجام سرقا، وقال: لا شيء عليه.
وقال ابن القاسم: ولو أن رجلا استعار دابة بسرجها ولجامها ثم زعم أنها هلكت أو سرقت كان ضامنا لسرجها ولجامها ولم يكن عليه ضمان في الدابة، قال ابن القاسم: والعارية مخالفة للكراء إذا كان مما يغاب عليه فادعى الهلاك في العارية غرم ولم يصدق.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة كلها على معنى ما في المدونة من قول ابن القاسم وروايته عن مالك.
وتحصيل القول فيها: أن الأشياء المقبوضة من أربابها على غير وجه الملك لا تخلو من أن تكون(9/113)
قبضت لمنفعة أربابها خاصة كالودائع والبضائع وشبه ذلك، أو لمنفعة القابضين لها خاصة؛ كالعواري والرهون، أو لمنفعتهما جميعا كالقراض، والشيء المستأجر.
فأما ما قبض لمنفعة أربابها خاصة فالقابض فيها مؤتمن مصدق في دعوى التلف دون يمين إلا أن يتهم فيستحلف، عينا كان أو عرضا أو حيوانا لا يغاب عليه، وكذلك ما قبض لمنفعتهما جميعا كالقراض، والشيء المستأجر؛ لأنه تغلب فيه منفعة أربابها من أجل أنه أملك بمتاعه لو شاء لم يدفعه.
وأما ما قبض لمنفعة القابض كالعواري والرهون فالقابض ضامن لما يغاب عليه من ذلك، إلا أن يقيم البينة على التلف، ومصدق فيما لا يغاب عليه من الحيوان يدعي أنه قد تلف مع يمينه إلا أن يتبين كذبه.
وما كان من ذلك يصدق فيه في دعوى التلف من الوديعة والبضاعة والقراض والشيء المستأجر، وما لا يغاب عليه من الرهون والعواري فالقول فيه قوله في دعوى الرد مع يمينه، إلا أن يكون قبضه ببينة.
وقد روى أصبغ عن ابن القاسم في أول سماعه بعد هذا أن القول قول المستأجر في أنه قد رد ما استأجر وإن كان قبضه ببينة، وكذلك يلزم على قوله في القراض والوديعة خلاف ما تأول عليه أصبغ، وما كان من ذلك لا يصدق فيه في دعوى التلف مما يغاب عليه من العواري والرهون، فلا يكون القول فيه قوله في دعوى الرد، وعليه إقامة البينة في ذلك إلا ما يدل عليه ما وقع في آخر سماع أبي زيد من كتاب الوديعة من أنه يصدق في رد الرهن إذا قبضه بغير بينة، وأشهب يراه ضامنا لما يغاب عليه من العواري والرهون وإن أقام البينة على التلف، وقد روى ذلك عن مالك، وكذلك يلزم على قياس قوله فيما لا يغاب عليه من الحيوان، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشتراك متكاريين في دابة بالتناوب]
مسألة وسئل: عن رجلين تكاريا شق محمل واشتريا حمارا على أن(9/114)
يركبا الحمار بالدول: هذا يوم وهذا يوم، فأتى يوم واحد منهم في عقبة إيلة فأكرى الحمار ومشى راجلا، لمن يكون الكراء وصاحب المحمل قد مشى أيضا راجلا؟ قال: الكراء للذي كان يومه في ركوب الحمار، وليس لصاحب المحمل في الكراء شيء وإن كان مشى راجلا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه حقه في ذلك اليوم في ركوب الحمار، فإن شاء ركبه وإن شاء أكراه وأخذ كراءه، وبالله التوفيق.
[مسألة: جعل المكتري مالا لمن يأتيه الدابة الضالة]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يكري دابته الرجل أو يعيرها فتضل منه فيجعل المكتري جعلا لمن يأتيه بها فيأتيه بها، على من يكون ذلك الجعل؟ قال: على صاحبها إلا أن يشاء أن يسلمها بجعلها.
قال محمد بن رشد: يريد أنه يكون الجعل للمجعول له على المكتري الجاعل، ويكون صاحب الدابة بالخيار، إن شاء أخذ دابته وأدى الجعل، وإن شاء أسلمها له بجعلها، وهذا إذا كان الجعل الذي جعل للرجل فيها جعل مثله فأقل، وأما إن كان جعل له أكثر من جعل مثله فيلزمه(9/115)
للمجعول له ما جعل، ولا يكون له على صاحب الدابة إلا جعل مثله إن أراد أن يفتك دابته.
وقد مضى في رسم القضاء المحض من سماع أصبغ من كتاب الجعل والإجارة لمحمد بن المواز ما يدل على هذا، فقف على ذلك وتدبره، وبالله التوفيق.
[: سؤال المكتري الحمال الزيادة والتغيير في الحمل]
ومن كتاب العرية وسئل: عن الرجل يتكارى الزاملة إلى مصر، فلما ركبها سأل الجمال أن يحوله في محمل ويزيده دينارا، أو كان تكارى محملا فسأل الجمال أن يحوله إلى زاملة ويرد عليه دينارا، أو الحمال هو الذي سأله ذلك ويكون قد نقد الكراء أو لم ينقد، ويكون قد ركب أو لم يركب، قال ابن القاسم: لا بأس بكل ذلك، إلا أن يكون نقد، فإن كان نقد لم يصلح للجمال أن يزيد شيئا إلا أن يكون ركب وسار بعض الطريق فلا بأس بزيادة الجمال؛ لأن الجمال إذا زاد شيئا قبل الركوب كان سلفا وكراء، وإذا ركب وسار بعض الطريق خرجا من التهمة.
فأما أن يزيده الراكب ويحمل على محمل فلا بأس به، ركب أو لم يركب، نقد أو لم ينقده.
قال محمد بن رشد: في بعض الروايات: فإن كان نقد لم يصلح للجمال أن يرد شيئا، وفي رواية ابن لبابة: أن يزيد كما وقع هاهنا،(9/116)
والمعنى في ذلك سواء؛ لأنه إذا زاد فهو يرد الزيادة مما قبض، وهذا لا يجوز في الكراء المضمون باتفاق، ويجوز في المعين على اختلاف.
فإن كان تكلم في هذه الرواية على كراء معين فهو خلاف ما مضى من قول مالك في أول رسم من سماع أشهب، والأولى أن يحمل هذا على الكراء المضمون، فلا يكون خلافا لما مضى في سماع أشهب؛ ولم ير انتقاله من المحمل إلى الزاملة، ومن الزاملة إلى المحمل فسخ دين في دين؛ لأنه ركوب في الوجهين جميعا، فيقرب بعضه من بعض، ولو أراد أن يتحول من الزاملة أو المحمل إلى جمل الأحمال والأعكام أو من جمل الأحمال والأعكام إلى ركوب زاملة أو محمل بزيادة من أحدهما أو من غير زيادة لم يجز؛ لأنه فسخ دين في دين على ما قاله في أول سماع أصبغ بعد هذا، ويجوز ذلك على مذهب ابن الماجشون فيما حكى عنه ابن حبيب من أنه يجوز أن يتكارى الرجل من المدينة إلى مكة دواب بأعيانها صفقة واحدة لمحامل وركبان ورجعته بأحمال مجلدة، أو الأحمال المجلدة هي الأول، والمحامل والركبان في الرجعة؛ لأن ذلك كله مشتبه، ولا يجوز أن يتكارى منه ظهرا بعينه لسقي شجر أو زرع مدة معلومة ومن بعدها حجة أو عمرة، أو لحجة وعمرة ومن بعدها سقي زرع أو شجرة وجيبة واحدة؛ لأنهما شيئان متباينان مختلفان.
وتحصيل هذا أن الكراء ثلاثة أجناس متوالية: أولها الركوب، ثم الحمل، ثم السقي والحرث، فيجوز أن يحول الركوب بعضه في بعض وإن اختلفت صفاته فكان بعضه زوامل وبعضه محامل، والحمل بعضه في بعض وإن اختلفت صفاته فكان بعضه أخفى من بعض وأكثر كراء، والحرث والسقي بعضه في بعض وإن اختلفت أيضا؛ لأن كل جنس منها يقرب بعضه من بعض، ولا يجوز على مذهب ابن القاسم تحويل جنس من هذه الأجناس في الآخر، ويجوز على مذهب ابن الماجشون تحويل الركوب في الحمل لقرب ما بينهما، وتحويل الحمل في السقي والحرث لقرب ما بينهما أيضا، ولا يجوز عنده تحويل الركوب في السقي والحرث لبعد ما بينهما.
وهذا في الكراء المضمون، ولا يجوز شيء منه في الكراء المعين إلا على القول بأن قبض أوائل الكراء قبض(9/117)
لجميع الكراء، وهو أصل قد اختلف فيه قول مالك على ما مضى في رسم حلف من سماع ابن القاسم، وسواء في ذلك كله كان بزيادة أو بغير زيادة إلا أن تكون الزيادة من المكري على اختلاف حسبما ذكرناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: زيادة حمل أدى إلى عطب البعير بدون علم صاحبه]
مسألة وقال في رجل اكترى بعيرا له من رجل يحمل عليه فزاد على حمله ما يعطب في مثله، ثم رد البعير إلى صاحبه وقد أنقصه وأهزله، فلما رأى صاحبه نحره، ثم علم بعد بزيادة الرجل وعطب البعير إلى صاحبه من ذلك، فما ترى؟
قال ابن القاسم: ينظر إلى قيمة البعير يوم أتى به، وينظر إلى فضل ما بين قيمته يوم تعدى ويوم رده إليه، فيكون صاحب البعير مخيرا إن أحب أن يرجع بفضل ما بين القيمتين فذلك له، وإن أحب أن يكون له الكراء ما تعدى مما زاد فذلك له، وذلك أن مالكا قال في الرجل يكتري من الرجل بعيره على حمولة فيزيد عليها فيعطب - قال: إن كانت تلك الزيادة لا يعطب في مثلها فليس له إلا كراء ما زاد مع الكراء الأول، وإن كان يعطب في مثلها فهو مخير في قيمة البعير يوم تعدى، أو كراء ما زاد، فمسألتك إذا نحره قبل أن يعلم فله فضل ما بين القيمتين، أو كراء ما زاد إن أحب، ورواها أصبغ.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في سماع أبي زيد من كتاب كراء الدور والأرضين، وتقدم القول عليها هناك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(9/118)
[مسألة: تلف الحمل بسبب عثر الدابة أو عطبها]
مسألة وسئل: عن الرجل يكري للبان يحمله على الإبل والدواب أو لحمولة شيء فتعثر الدابة أو ينقطع الحبل، أو تربض الدابة فينكسر ما عليها؟
قال مالك: كل ما جاء من سبب الحمال من قطع حبل أو عثر دابة أو ربضها أو نحو ذلك أو سفينة تغرق، فكل هذا إذا وقع فلا شيء للكري على رب المتاع فيما حمل ولا فيما بقي ويفسخ الكراء فيما بينهما، فإن كان غر الكري من دابته وهو يعرفها عثورا أو ربوضا أو نحو ذلك، أو غر من حبله فهو ضامن لما تلف ولا كراء له، وكل شيء أصاب المتاع من غير سبب الحمال من لصوص ذهبوا بالمتاع، أو سيل أو حرق فإن جميع الكراء لازم لرب المتاع فيما حمل وفيما بقي، ويقال له: احمل مثل متاعك الذي ذهب إلى المكان الذي اكتريت إليه، فإن شاء حمل، وإن شاء ترك، وجميع الكراء لازم له.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في بعض الروايات وهي صحيحة على قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وقد مضى في سماع أبي زيد من كتاب كراء الدور والأرضين من القول عليها ما فيه كفاية، وبالله التوفيق.
[: طرء الكراء على الكراء]
ومن كتاب أوصى أنه ينفق على أمهات أولاده قال ابن القاسم: ولا بأس أن يكتري الرجل إلى طرابلس(9/119)
بشيء مسمى لكل حمل أو كل محمل وينقد كراء طرابلس فقط، ويشترط أنه إذا جاء طرابلس فإن بدا له أن يبلغ إلى إفريقية فبحساب ذلك، وذلك لازم للكري إن أراد ذلك المستكري، فإن بدا له أن يتاركه تاركه.
وأما أن يكتري إلى إفريقية وينقد كراء إفريقية ويشترط إذا جاء طرابلس فتركه حاسبه، أو يكتري إلى طرابلس ويشترط إذا جاءها فإن بدا له أن يمضي إلى إفريقية مضى، وإن أراد أن يتاركه تاركه وينقد الكراءين جميعا: كراء طرابلس، وكراء إفريقية، فهذا لا يحل، وهذا بيع وسلف إلا ألا ينقد الكري شيئا، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في أول سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ضمان العطب الناشئ عن زيادة الحمل]
مسألة وقال في الذي يكتري على حمولة أرطال مسماة فيزيد عليها زيادة يعطب في مثلها: إنه ضامن في الإبل كلها، وإنما مثل ذلك كرجل اكترى دابة إلى الإسكندرية، ثم تعدى بها يريد إلى ترنوط فهلكت فهو ضامن، يريد: ولو خطوة واحدة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة أن التعدي في الزيادة، بخلاف التعدي في المسافة، لا يضمن إذا عطب في الزيادة، إلا أن تكون زيادة يعطب في مثلها، ويضمن إذا عطب في الزيادة في المسافة وإن قلت، وكان لا يعطب في مثلها؛ لأن ذلك عداء صرف لم يؤذن له فيه، بخلاف إذا عطبت من الزيادة؛ لأنه مأذون له في تسييرها حيث(9/120)
عطبت.
وقد قال أبو إسحاق التونسي: إنه لا فرق بين الموضعين على التحقيق؛ لأنه إنما أذن له في تسييرها على صفة فوجب أن يضمنها إذا سيرها على غير الصفة التي أذن له في تسييرها عليها، وهو مخير بين أن يضمنه القيمة أو يأخذ منه كراء ما زاد في المسافة بالغة ما بلغت، أو كراء الزيادة بالغة ما بلغت بأن يقوم كراء الحمل دون زيادة وبالزيادة، فيكون له عليه ما بين القيمتين إن أراد أن يترك تضمينه، قاله في المدونة وغيرها، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يريد أن يعقب الرجل في شق محمله ويأبى الحمال]
مسألة وقال، في الرجل يريد أن يعقب الرجل في شق محمله ويأبى الحمال ذلك، قال: ذلك له إذا حمل مثله وليس للحمال أن يمنعه.
قال أصبغ: إن أعقب راكبا مريحا، كان ذلك له؛ لأنه مثله، وإن أعقب ماشيا فليس ذلك له؛ لأن ركوبهما مختلف، هو يكون أضر على البعير وأثقل عليه.
قال محمد بن رشد: الظاهر من قول ابن القاسم أن له أن يعقب ماشيا إذ لا غرض لأحد في أن يعقب راكبا، وقول أصبغ هو القياس، ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم أن ذلك أمر معروف قد جرى عليه الناس، فكأن الكري قد دخل عليه، وذلك إذا فعله المرة بعد المرة في الفرط على ما جرت به العادة، وكذلك قال مالك في كتاب ابن المواز: إذا كان عقبة بعد العقبة، وبالله التوفيق.
[: اختلاف المتكاريين في محل انتهاء الكراء]
ومن كتاب سلف دينارا في ثوب إلى أجل وقال في الذي يتكارى من الرجل، فيختلفان، فيقول الكري:(9/121)
أكريتك إلى المدينة، ويقول المتكاري: تكاريت منك إلى المغرب - إن القول قول الكري ويتحالفان ويفسخ الكراء بينهما، وذلك إذا كانا في البلد لم يخرجا، وإن قال: تكاريت منك إلى مكة، وقال الكري: أكريتك إلى المدينة تحالفا وفسخ الكراء بينهما إلا أن يشاء المتكاري أن يركب إلى حيث سمى الحمال، وإن قال: أكريت منك إلى مكة، وقال الحمال: أكريتك إلى المدينة، وقد خرجا وسارا بعض الطريق فإن كان الحمال قد قبض الكراء فالقول قوله يمضي به حيث قال الحمال، ليس للمتكاري غير ذلك.
وإن كان لم يقبض الكراء فالقول قول المتكاري، وعلى الحمال أن يحمله إلى المدينة ويتحالفان ويتفاسخان من ذلك المكان، ثم يقسم الكراء فينظر كم بين المدينة إلى مكة، وكم هو من البلدة التي اكتري فيها إلى البلد الذي قال الحمال وتحالفا فيها، فإن كان الذي ركب ثلاثة أرباع الطريق دفع إلى الحمال ثلاثة أرباع الكراء وحبس الربع، فعلى هذا يحسب.
قلت: فإذا تناكرا في الكراء، فقال هذا: عشرة، وقال صاحب الظهر: خمسة عشر، وقد سارا أو لم يسيرا، فقال: إن كانا لم يسيرا تحالفا وتفاسخا، وإن كانا قد سارا فالقول قول المتكاري، وصاحب الظهر مدع؛ لأن المتكاري قد انتقد حمولته، قال: فإن قال: أكريتك إلى المدينة، وقال المتكاري: أكريت منك إلى مكة، وذلك في أيام الحج، فالقول قول المتكاري إذا كان في أيام الحج، ويحلف إذا كانت حمولته محامل وزوامل، فأما إن كان عكوما وأعدالا فالقول قول الكري إذا كان قد انتقد.
وإن تكارى منه كراء مضمونا إلى أجل ثم اختلفا بحضرة إيجاب(9/122)
الكراء، أو قرب ذلك في عدة الرواحل تحالفا وتفاسخا، وإن لم يختلفا حتى حل الأجل الذي يركب إليه فاختلفا، فقال: أكريت منك عشرة رواحل بمائة دينار، وقال الآخر: بل أكريت منك خمس رواحل بمائة دينار، فالقول قول الكري إذا كان يشبه، وكذلك لو سلف مائة دينار في قمح إلى أجل، فلما حل الأجل قال: إنما أسلفتكها في ثلاثمائة إردب. وقال البائع: بل في مائتي إردب، فالقول قول البائع إذا كان يشبه، فإن لم يكن يشبه فالقول قول المشتري إذا جاء أيضا بما يشبه، فإن لم يشبه نظر إلى سلم الناس يوم تبايعا فحملا عليه.
قال محمد بن رشد: قال: إذا اختلف المتكاريان في غاية المسافة، مثل أن يقول الكري أكريتك إلى المدينة، ويقول المتكاري: تكاريت منك إلى المغرب، يريد: والمدينة في طريق المغرب، أو يقول الكري: أكريتك إلى المدينة، ويقول المتكاري: تكاريت منك إلى مكة أنهما يتحالفان ويتفاسخان إذا كانا في البلد لم يخرجا، يريد: وكذلك إن خرجا إلى موضع قريب لا ضرر عليهما في الرجوع منه، وصفة أيمانهما أن يحلف الكري ما أكرى منه إلى المغرب، وما أكرى منه إلى مكة وليس عليه أن يزيد في يمينه، ولقد أكرى منه إلى المدينة، ولا أن يحلف ما أكرى منه إلا إلى المدينة، إلا أن يشاء ذلك، رجاء أن ينكل صاحبه عن اليمين، فلا يحتاج أن يحلف مرة أخرى، فإن حلف حلف المكتري، ما أكرى منه إلى المدينة، وليس عليه أن يزيد في يمينه ولقد اكترى منه إلى مكة أو إلى المغرب، ولا أن يحلف ما اكتريت منه إلا إلى مكة أو ما اكتريت منه إلا إلى المغرب، إذ لا فائدة لحلفه على ذلك، فإن حلفا جميعا انفسخ الكراء بينهما، وكذلك إن نكلا جميعا على مذهب ابن القاسم وهو قول شريح في المدونة فإن حلفا ترادا، وإن نكلا ترادا، وعلى ما ذهب إليه ابن(9/123)
حبيب أنهما إن نكلا كان القول قول المكري دون يمين على حكم المدعي والمدعى عليه أن القول قول المدعى عليه دون يمين إذا نكل المدعي بعد نكوله، وكما يكون القول قول من أقام شاهدا على حقه دون يمين إذا نكل المدعى عليه بعد نكوله بعد أن يحلف لقد أكرى منه إلى المدينة وهو صحيح من التأويل؛ لأن اليمين التي نكل عنها إنما هي التي ألزم إياها، وهي ما أكرى منه إلى مكة، وأما يمينه لقد أكرى منه إلى المدينة فلم ينكل عنها إذا لم يمكن منها، ولا ألزم إياها، وإنما يحلفها باختياره، نظرا لنفسه حسبما ذكرناه، وقد ذكرنا هذا المعنى في رسم الصبرة من سماع يحيى من كتاب جامع البيوع.
وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما، إن نكل المكري أولا حلف المكتري لقد اكترى منه إلى مكة أو إلى المغرب ووجب له ذلك، وإن حلف المكري أولا ثم نكل المكتري عن اليمين لزمه الكراء إلى المدينة إن كان المكري حلف أولا أنه أكراه إلى المدينة أو أنه ما أكراه إلا إلى المدينة.
وأما إن كان حلف ما أكراه إلى مكة أو إلى المغرب فلا بد له أن يحلف إذا نكل المكتري ثانية بالله لقد أكراه إلى المدينة، وسواء في هذا على مذهب ابن القاسم انتقد المكتري الكراء أو لم ينتقد.
وقال غيره في المدونة: إن كان انتقد فالقول قوله، وسواء في هذا أتيا بما يشبه (أو بما لا يشبه) أو أتى أحدهما بما يشبه والثاني بما لا يشبه على المشهور في المذهب، وقال ابن وهب: إن أتى أحدهما بما يشبه والثاني بما لا يشبه كان القول منهما قول من أتى بما يشبه، وقد روى هذا القول عن مالك، ويقوم ذلك من قول ابن القاسم في هذه الرواية أنهما إذا اختلفا فقال الكري: أكريتك إلى المدينة، وقال المكتري: اكتريت منك إلى مكة - إن القول قول المكتري، إذا كان ذلك في أيام الحج، وكانت حمولته(9/124)
محامل وزوامل، ولم تكن عكوما وأعدالا لأنه رأى بذلك قول أشبه، وقول الكري لا يشبه، واختلف هل ينفسخ الكراء بينهما بتمام التحالف أم لا ينفسخ حتى يفسخه الحاكم بينهما اختلافا كثيرا قد ذكرناه مستوفى في رسم الصبرة من سماع يحيى، من كتاب جامع البيوع، وأما إن كانا قد خرجا وسارا من الطريق ما يكون عليهما في الرجوع منه ضرر، فقال في الرواية: إن الحمال إن كان قبض الكراء فالقول قوله، يمضي به إلى المدينة، وليس للمتكاري غير ذلك، ومعنى ذلك إذا كانا جميعا قد أتيا بما يشبه، أو كان الكري منهما قد أتى بما يشبه، فإن نكل حلف المكتري، وكان القول قوله في الركوب بما نقد إلى الغاية التي ادعى، وأما إن أتيا جميعا بما لا يشبه فإنهما يتحالفان ويتفاسخان في الغاية التي اختلفا فيها وهي ما بين المدينة إلى مكة أو إلى المغرب، ويكون للمكري على المكتري في ركوبه إلى المدينة كراء المثل، فإن كان ذلك أكثر مما نقده وفاه البقية، وإن كان أقل مما نقده رد عليه المكري الزيادة، وكذلك إن نكلا جميعا، فإن نكل أحدهما وحلف الآخر كان القول قول الحالف منهما.
وأما إن أتى المكتري بما يشبه والمكري بما لا يشبه، فإنهما يتحالفان ويفض الكراء المنقود على المسافتين، فما ناب المسافة التي اتفقا عليها كان للمكري، وما ناب المسافة التي اختلفا فيها صرفه الكري على المكتري، وكذلك إن نكلا جميعا.
فإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما.
وقال في الرواية: إن الحمال إذا كان لم يقبض الكراء فالقول قول المتكاري، وعلى الحمال أن يحمله إلى(9/125)
المدينة، ويتحالفان ويتفاسخان من ذلك المكان، ثم يقسم الكراء، فينظر كم بين المدينة إلى مكة، كم هو من البلدة التي اكتري فيها إلى البلد الذي قال الحمال ويتحالفان فيها، فإن كان الذي ركب ثلاثة أرباع الطريق دفع إلى الجمال ثلاثة أرباع الكراء وحبس الربع، فعلى هذا يحسب.
وكذلك الحكم إذا نكلا جميعا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما، فإن كان المكتري هو الذي نكل كان الكراء كله للكري فيما أقر به من المسافة، وإن كان المكري هو الذي نكل كان للمكتري الركوب إلى حيث ادعى، ومعنى ذلك إذا كانا جميعا قد أتيا بما يشبه، أو كان المكتري منهما قد أتى بما يشبه، وأما إذا لم يشبه قول واحد منهما فإنهما يتحالفان ويتفاسخان في المسافة التي اختلف فيها، ويكون للمكري في المسافة التي اتفقا عليها كراء مثلها، وكذلك الحكم أيضا إن نكلا جميعا، فإن نكل أحدهما وحلف الآخر كان القول قول الحالف منهما وإن لم يشبه؛ لأن صاحبه قد أمكنه من دعواه بنكوله عن اليمين.
وأما إن أشبه قول الكري دون المكتري فالقول قوله مع يمينه على دعوى المكتري، فإن نكل المكري عن اليمين كان القول قول المكتري، ويركب إلى حيث ادعى وإن لم يشبه؛ لأن الكري قد أمكنه من ذلك بنكوله.
وقال بعد ذلك: إذا اختلفا في الكراء واتفقا على المسافة إنهما يتحالفان ويتفاسخان إن لم يسيرا إلا يسيرا، وإن كانا قد سارا كثيرا فالقول قول المتكاري، وصاحب الظهر مدع لأن المتكاري قد انتقد حمولته وذلك صحيح، مثل قوله في المدونة وعلى أصل قوله فيها، وروايته عن مالك في اختلاف المتبايعين؛ لأن المتكاريين إذا اختلفا في الكراء ولم يسر المكتري أو سار يسيرا بمنزلة المتبايعين إذا اختلفا في ثمن السلعة ولم يقبض المشتري السلعة فوجب أن يتحالفا ويتفاسخا، وإذا اختلفا بعد أن(9/126)
سار المكتري كثيرا وإن لم يبلغ المسافة فهو بمنزلة إذا اختلف المتبايعان في ثمن السلعة بعد أن قبضها وفاتت، وإنما كان الركوب الكثير فوتا بمنزلة بلوغ المسافة من أجل أن التفاسخ لا يمكن في بعض الطريق إلا بضرر يدخل عليهما.
وهو معنى ما أراد بقوله؛ لأن المتكاري قد انتقد حمولته، يقول: لأنه قد وجب له الركوب إلى تمام غايته، وسواء كان الكراء مضمونا أو معينا، قاله في المدونة، ولغيره فيها ليس الراحلة بعينها كالمضمون. يريد، والله أعلم: أن القول قول المكتري في الكراء في الراحلة بعينها إذا قبضها وإن لم يسر إلا يسيرا، كما يكون القول قول المشتري في الثمن إذا قبض السلعة وإن لم تفت على قياس رواية ابن وهب عن مالك، وأنه لا يكون القول قوله في الكراء في الراحلة بغير عينها إلا فيما مضى من الطريق، ويكون القول قول الكري فيما بقى منه.
وإن كان دفع إليه جملا يركبه فلا يكون أحق به من الغرماء إن فلس، خلافا لابن القاسم في الموضعين.
وقوله: وإن قال: أكريتك إلى المدينة، وقال المتكاري: أكريت منك إلى مكة وذلك في أيام الحج، فالقول قول المتكاري، ويحلف إذا كان في أيام الحج وكانت حمولته محامل وزوامل يقوم منه أن المتبايعين إذا اختلفا في ثمن السلعة قبل القبض، وأتى أحدهما بما يشبه دون الآخر، وأن المتكاريين إذا اختلفا في الكراء أو في المسافة قبل الركوب، وأتى أحدهما بما يشبه دون الآخر أن القول قول الذي أتى منهما بما يشبه، ولا يتحالفان ويتفاسخان، وهو خلاف المشهور في المذهب.
وقد روي ذلك عن مالك، وهو قول ابن وهب في الدمياطية،(9/127)
قال في الذي يقول: اكتريت إلى الإسكندرية، ويقول المكري: أكريتك إلى الكريون، قال: ينظر، فإن كان الكراء يشبه كراء الإسكندرية حلف المتكاري، وكان القول قوله، وإن كان يشبه الكريون حلف المكري وكان القول قوله، وهو قول ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات، وإليه ذهب ابن حبيب في بعض مسائله، منها إذا اختلفا في صفة النقد، وإذا ادعى أحدهما حلالا والآخر حراما.
وأما قوله: فأما إن كان عكوما أو أعدالا فالقول قول الكري إذا كان قد انتقد، فهو من قوله خلاف قوله في المدونة مثل قول غيره فيها: إن النقد المقبوض فوت، ومثل ما في رسم الصبرة من سماع يحيى من جامع البيوع، والمعنى في ذلك: إذا كانت حمولته عكوما وأعدالا، أشبه قول كل واحد منهما؛ لأن كونهما في إبان الحج يشهد للمكتري، وصفة الأحمال تشهد للكري، فوجب أن يتحالفا ويتفاسخا إلا أن يكون قد انتقد الكراء فيكون القول قوله، وذلك نص قول غير ابن القاسم في المدونة: إن النقد المقبوض فوت.
وقوله: إذا تكارى منه كراء مضمونا ثم اختلفا في عدة الرواحل إنهما يتحالفان ويتفاسخان إن كان ذلك بحضرة إيجاب الكراء أو قربه، وأنه يكون القول قول الكري إن كان اختلافهما بعد حلول الأجل، وأن ذلك بمنزلة من سلف دنانير في قمح فاختلفا في عدد المسلم فيه من القمح - هو نص ما في المدونة، وفي ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أن النقد المقبوض فوت.
والثاني: أنه لا يكون فوتا إلا بعد الغيبة عليه.
والثالث: أنه لا يكون فوتا إلا بعد الطول في السلع المعينات وحلول الآجال في السلم والكراء المؤجل.
والرابع: أنه لا يكود فوتا وإن طال وحل الأجل؛ لأن رد مثله كرد عينه. وقد(9/128)
مضى القول على هذا وبيانه في رسم الصبرة من سماع يحيى من كتاب جامع البيوع، وفي نوازل سحنون الثانية منه. وأما قوله فإن لم يشبه نظر إلى سلف الناس يوم تبايعا فحملا عليه، فمثله في أصل الأسدية، وفي كتاب ابن المواز، دليل ما في المدونة أنهما يتحالفان ويتفاسخان إذا أتيا جميعا بما لا يشبه، ويرد مثل الدنانير التي قبض وهو القياس والنظر؛ لأنه لا يقال إذا اختلفا في ثمن السلعة وقد فاتت، فقال البائع: بعتها بعشرة إلى شهر، وقال المشتري: اشتريتها بخمسة إلى شهر، وأتيا جميعا بما لا يشبه أنه يكون على المبتاع ما يباع به مثل تلك السلعة إلى شهر، وإنما تكون عليه قيمتها يوم قبضها، فكما يكون عليه قيمة السلعة، ولا يراعى الأجل الذي اتفقا عليه، فكذلك يكون عليه في السلم أن يرد الدنانير التي قبض ولا يراعي الأجل، والله أعلم وبه التوفيق.
[: اشتراط المقاصة عند موت أحد المتكاريين]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار
وقال ابن القاسم: لا خير في أن يكتري الرجل الدابة أو البعير أو غيره ويشترط على صاحب الدابة أو البعير أنه إن مات ببعض الطريق قاصه بما ركب وأخذ دابته أو بعيره.
قال محمد بن رشد: إنما قال: لا خير في ذلك من أجل أنه شرط فاسد مخالف للسنة في أن الكراء لا ينفسخ بموت أحد المتكاريين وإن كان ابن دينار يرى أن الكراء ينفسخ بموت المكتري فهو شذوذ، فالحكم فيه إذا وقع أن يفسخ الشرط ويجوز الكراء؛ إذ لا يؤول الكراء على الشرط إلا إلى الجهل بمبلغ مدة الكراء، لا إلى الجهل بقدر الكراء؛ لأنه يأخذ بحساب ما سار، وذلك في القياس كالصبرة تُشترى جزافا كل(9/129)
قفيز بدرهم؛ لأن الثمن معلوم، وعدد المبيع من الأقفزة مجهول، وعبد العزيز بن أبي سلمة لا يجيز ذلك، فعلى قياس قوله الكراء على هذا الشرط فاسد يفسخ، وتكون فيه القيمة إن لم يعثر عليه حتى فات والله أعلم.
وهذه المسألة تشبه في المعنى مسألة الرجل يكون له البز في البلد فيكري الدابة إليه، على أنه إن وجد بزه في الطريق رجع وكان له بحسابه، إلا أنها عند ابن القاسم أشد منها من أجل أنه شرط في الكراء خلاف سنته، ولذلك قال: لا خير فيه في هذه وأجاز تلك، وسحنون لا يجيز تلك فأحرى ألا يجيز هذه، ويأتي على مذهبه فيها أن يفسخ الكراء، فإن فات كانت فيه القيمة، ويشبه أن يكون الحكم فيها على مذهب ابن القاسم أن يفسخ ما لم يفت بالركوب؛ لقوله فلا خير في ذلك، فإن فات بالركوب مضى بالثمن وفسخ الشرط، وبالله التوفيق.
[: دعوى المكتري صيال الدابة عليه]
ومن كتاب حمل صبيا على دابة
قال ابن القاسم: ومن اكترى دابة فقال: قامت علي بالطريق فتركتها فهو مصدق ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله ولا شيء عليه، أي لا غرم عليه؛ لأنه إنما يصدق مع يمينه إلا أن يتبين كذبه، مثل أن يكون في رفقة وجماعة من الناس فلا يعلم أحد ما يقول على ما مضى في رسم "سن" من سماع ابن القاسم، وقد مضى في رسم "باع شاة" من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع القول في هذا المعنى مستوفى فلا وجه لإعادته هنا مرة أخرى، وبالله تعالى التوفيق.
[: طلب المكتري الإقالة من المؤجر]
ومن كتاب جاع فباع امرأته وسألته عن الرجل يكتري الظهر وينقد الكراء، ثم يبدو له(9/130)
فيستقيل صاحب الظهر، فيقول صاحب الظهر: أنا أقيلك على أن تؤخرني. قال: لا خير فيه إلا أن ينقده ركب أو لم يركب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه وجب عليه ركوب، فإذا أقاله على أن يؤخره بما نقده كان قد فسخ الركوب الذي وجب له عليه في دنانير إلى أجل، وسواء ركب أو لم يركب كما قال؛ لأن الفساد في نفس الإقالة، وإنما يفترق ذلك فيما لا يوجد الفساد فيه إلا بمجموع الكراء والإقالة، فيتهمان على العمل على ذلك والقصد إليه إذا كان ذلك قبل الركوب، وإن كان بعد الركوب ارتفعت التهمة بينهما عند ابن القاسم، خلافا لأشهب، وما يجوز فيه الإقالة من الكراء مما لا يجوز يتفرع إلى اثنى عشر وجها في الكراء المضمون، وأربعة وعشرين وجها في المعين.
وقد فرغنا من تفسير ذلك في المقدمات فأغنى ذلك عن ذكره هنا، وبالله التوفيق.
[: سقوط شيء من الحمل أدى لتلف الدابة المؤجرة]
ومن كتاب النسمة
وسئل ابن وهب عن رجل استأجر دابة يحمل عليها خشبة فحمل عليها الخشبة فانفلتت من يد المتكاري فسقطت وهي على الدابة فكسرت رجل الدابة، هل يضمن؟ قال: أرى عليه ضمان تلك الدابة إن كانت بطلت، وإن كان الذي أصابها شيئا خفيفا ينقص من ثمنها، فأرى عليه ما نقص من ثمنها؛ لأن ذلك من الخطأ الذي جاء على يديه.(9/131)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنها جناية منه، وخطأ جاء على يديه، وأموال الناس تضمن بالعمد والخطأ، وإنما يفترق العمد من الخطأ في العقوبة يؤدب من تعمد، ولا يؤدب من أخطأ، ولو ضرب الدابة ضربا يجوز له فجاء من ذلك ما جر إلى عطبها لم يكن عليه ضمان، ولو أخطأ في ضربها فضرب عينها ففقأها، ونحو هذا عليه الضمان؛ لأنها جناية منه، وبالله التوفيق.
[: تعذر الوصول إلى محل الكراء]
ومن كتاب أوله إن أمكنتني وقال في الرجل يكري السفينة إلى الإسكندرية فيركب ويحمل عليها ويأتي الخليج فيجده ليس فيه ماء، قال: يكون له من الكراء على قدر ما سار. قيل لسحنون: وكذلك الذي يتكارى الدابة إلى موضع فإذا سار نصف الطريق بلغه عن الموضع الذي يريده فتنة وأنه لا يستطيع دخولها؟ قال لي: نعم هي مثلها، ينفسخ الكراء بينهما ويكون له من الكراء بقدر ما سار من الطريق.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أنه إذا حال بينه وبين الوصول إلى البلد الذي اكترى إليه، خوف لا يختص به من فتنة وما أشبه ذلك، أو قلة ماء منع المركب من المسير أن له بحساب ما مضى وينفسخ الكراء فيما بقي. وقد مضى هذا في آخر سماع أشهب، وفي سماع أبي زيد من كتاب كراء الدور والأرضين، وبالله التوفيق.
[: الكراء على شرط طرح ما ينتقص منه]
ومن كتاب القطعان
قال ابن القاسم في الذي يستحمل الحمال مائة إردب(9/132)
على أن يوفيه بالقلزم سبعة وتسعين، ويطرح عنه ثلاثة أرادب لما ينقص في المركب، على ذلك يعقدون الكراء: إن ذلك مكروه لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال، وقد تقدم مثله في رسم البيوع الأول من سماع أشهب، ومضى القول فيه فلا معنى لإعادته.
[: طلب تعجيل الحمولة بزيادة قبل بلوغ الأجل]
ومن كتاب العتق وقال فيمن سلف في حمولة إلى شهر، ثم سأل المتكاري الكري قبل محل الشهر أن يعجل له الحمولة ويزيده: إن ذلك لا يحل من قبل ضع وتعجل.
قال محمد بن رشد: قوله إن ذلك لا يحل من قبل ضع وتعجل، يريد أن ذلك يدخله من المكروه ما يدخل ضع وتعجل بالمعنى؛ لأن ضع وتعجل إنما لم يجز؛ لأن الذي عليه الدين عجل للذي له الدين بعض دينه قبل أن يحل أجله، فكأنه أسلفه إياه على أن يقتضيه من نفسه لنفسه في دينه إذا حل أجله على أن يحط عنه بقيته، وحطيطته إياه عنه عطية منه له، فكان ذلك الزيادة في السلف محضا، فكما لا يجوز أن يعجل له بعضه على أن يعطيه بقيته، فكذا لا يجوز له أن يعجل له جميعه على أن يزيده زيادة؛ إذ لا فرق في المعنى بين أن يعجل له بعض دينه على أن يضع عنه بقيته، وبين أن يعجله له على أن يعطيه شيئا آخر، فإذا لم يجز أن يعجل له بعض دينه على أن يعطيه شيئا آخر، كان أحرى ألا يجوز أن يعجل له جميعه على أن يعطيه شيئا من الأشياء يزيده إياه، وبالله التوفيق.(9/133)
[مسألة: طلب تعجيل الحمولة بزيادة قبل بلوغ الأجل]
مسألة وقال فيمن كانت له حمولة حالة فسأله الكري أن يحمل وأقلقه، فقال له: أخر عني ذلك شهرا أو أياما ولك عشرة دنانير: إن ذلك لا خير فيه لمكان الضمان، زاده على أن يضمن له بمنزلة رجل سلف في ثوب إلى شهر، فلما حل قال له: أزيدك دينارا أو درهما وأخره عني إلى شهر تضمنه لي إلى ذلك الأجل لأسواق يرجوها عنده، أو نفاق وما أشبه ذلك. ولكن لو كان صاحب الحمولة (قد حمل وسار) بعض الطريق، فسأله أن يقيم عليه بالموضع أياما وما أشبه ذلك ويزيده لم يكن بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: لأن من حق من كان عليه دين حال أن يقضيه فتبرأ ذمته منه، فلا يجوز للذي له الدين أن يعطيه شيئا على أن يبقيه في ذمته، ويحرزه في ضمانه كائنا ذلك الدين ما كان. كما أنه لا يجوز لمن عليه عرض مؤجل أن يعطي صاحب الدين شيئا على أن يقبض دينه منه قبل محل الأجل فيبرئ ذمته منه ويحط ضمانه عنه. وأما إعطاء الذي عليه الدين صاحب الدين شيئا على أن يؤخره بدينه فذلك الربا المحرم بالقرآن، وعكس ذلك إعطاء صاحب الدين الذي عليه الدين شيئا على أن يعجل له دينه قبل حلول أجله على ما مضى في المسألة التي قبل هذه وبالله التوفيق.
[: رجوع المكتري من بعض الطريق]
ومن كتاب المدينين
قال: وسئل ابن القاسم عن الرجل يكري الدابة من المدينة(9/134)
إلى مكة فيركبها، ثم يرجع قبل أن يبلغ إلى مكة، هل عليه جميع الكراء؟ وهل له أن يركبها في مثل ما قصر عن مكة؟ فقال ابن نافع: قد لزمه جميع الكراء، وليس له أن يركبها في مثل ما قصر عن مكة. وقال ابن القاسم: إن كان إنما سار البريد والبريدين وما أشبههما فله أن يركبها ويكريها إلى مثل ما قصر عنه من سفره، إلا أن يتراضيا على شيء معلوم، وإن كان سار جل الطريق ثم ردها، رأيت جميع الكراء لصاحبها.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في بعض الروايات، وقد مضى القول عليها مستوفى في رسم البيوع الأول من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته والله الموفق.
[: تعدي الحمال ببيع الطعام الذي يحمله]
من سماع يحيى من ابن القاسم من كتاب الصبرة قال يحيى: سئل ابن القاسم عن الرجل يستكري السفينة أو الإبل على حمل طعام فدفعه إلى الجمال أو إلى صاحب السفينة ويكيله عليه فتعدى الحمال، أو صاحب السفينة في بعض الطريق فباع الطعام، ماذا يجب لصاحب الطعام؟ فقال: يخير، فإن شاء أخذ الثمن الذي باعه به، أو مكيلة طعامه، هو في ذلك بالخيار. قلت: فإن اختار مكيلة طعامه فأين يجب له أخذه؟ أحيث تعدى عليه المتعدي؟ أم في البلد الذي كان عليه أن يحمله إليه؟ فقال: بل في البلد الذي كان عليه أن يحمله إليه. قيل: فإن اختار أخذ الثمن أيأخذ الثمن الذي باعه بعينه أو يأخذ قيمة طعامه حيث تعدى عليه المتعدي؟ قال: بل الثمن بعينه، وليست له القيمة؛ لأنه إذا كره أخذ الثمن لم يكن له إلا المكيلة، وإذا رجع إلى أخذ المكيلة وجب له أخذها في البلد الذي استكراه أن يحمل له(9/135)
إليه. قيل: أرأيت إن اختار أخذ الثمن أيغرم الكراء كله أم بقدر ما حمله المتعدي؟ قال: بل الكراء (كله) وله أن يستحمل مثله من الموضع الذي تعدى فيه على بيع الطعام إلى الموضع الذي كان له استحمله الطعام أولا.
قال محمد بن رشد: قوله في الكري يتعدى على الطعام فيبيعه في بعض الطريق إن رب الطعام مخير بين أن يأخذ الثمن الذي باع به طعامه أو مثل مكيلة طعامه، وأنه يجب له أخذ مكيلة طعامه إن اختار أخذ المكيلة في البلد الذي كان عليه أن يحمله إليه، معناه عندي على القول بأن الكراء لا ينفسخ بتلف الشيء المستأجر على حمله إذا دعا إلى ذلك الجمال؛ لأن الواجب أن يغرم له مثل الطعام في الموضع الذي تعدى عليه فيه، ويحمله له إلى غايته، فإذا قال له الكري: خذ مني مثل طعامك في البلد الذي علي أن أحمله إليه لم يكن لامتناع رب الطعام من ذلك وجه؛ لأن في ذلك ضررا عليه وعلى الجمال.
أما هو فوجه الضرر الداخل عليه في ذلك أنه قد يتلف في الطريق ببينة على تلفه فيخسره. وأما الجمال فوجه الضرر الداخل عليه في ذلك أنه قد يتلف في الطريق فلا تقوم له بينة على تلفه فيغرمه، وقد يشتريه أيضا في الموضع الذي تعدى عليه فيه بأكثر مما يشتريه في الموضع الذي كان عليه أن يحمله إليه، وهو إن قام عليه في البلد الذي استكري إليه أمن في الضرر على كل واحد منهما.
فإذا كان ما دعا إليه الجمال جائزا وما دعا إليه رب الطعام جائزا أيضا، إلا أن فيه ضررا على كل واحد منهما وجب أن يجاب الجمال لما دعا إليه؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لا ضرر ولا ضرار» ". وأما إذا أراد الجمال أن يغرم لرب الطعام مثل طعامه في الموضع الذي تعدى عليه فيه ويحمله له إلى غايته(9/136)
فذلك له؛ لأنه هو الذي يوجبه الحكم، وليس لرب الطعام أن يضمنه إياه في البلد الذي كان عليه أن يحمله إليه. وأما على القول بأن الكراء يفسخ بتلف الشيء المستأجر على حمله فلا يجوز أن يأخذ منه مثل الطعام في البلد الذي كان عليه أن يحمله إليه وإن رضيا بذلك جميعا؛ لأنه يكون قد اشترى منه الطعام بذلك البلد بالطعام الذي وجب له حيث تعدى عليه، وبالكراء الذي يجب له به الرجوع عليه. وقد قيل: إن قول ابن القاسم في هذه المسألة على القول بأن الثوب إذا تلف عند القصار قبل أن يقصره أو بعد أن قصره يغرم قيمته مقصورا، ويكون له أجر قصارته خلاف مذهبه في المدونة؛ لأنه قال فيها: إنه ليس لرب الثوب أن يضمنه قيمته مقصورا ويغرم له أجر قصارته، فأنزل الجمال على حمل الطعام منزلة الصانع لكونه ضامنا له، فقال: إنه يضمن مثل الطعام في البلد الذي كان عليه أن يحمله إليه، ويكون له الكراء كما يكون على الصانع قيمة الثوب مصنوعا ويكون له أجره. ومثله قول ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب تضمين الصناع أن الطحان يضمن ما نقص من الدقيق دقيقا، ويكون له أجرته، ويأتي القول على هذا مستوفى في موضعه من السماع المذكور إن شاء الله، والتأويل الأول في مسألتنا أصح وأظهر من جهة المعنى، والتأويل الثاني أسعد بظاهر اللفظ إلا أنه بعيد من جهة المعنى.
[: بيع الدابة المكتراه]
ومن كتاب الصلاة وسئل عن رجل باع دابة له من رجل وقد كان البائع أكراها من مصر إلى الرقة واشترط البائع على المبتاع أن عليك(9/137)
حمل ما وجب على الذي استكرى مني الدابة ضامنا عليك لحمله على أي دوابك شئت، قال: أرى هذا بيعا جائزا، إنما باعه الدابة بالثمن الذي أخذ منه وبحمولة مضمونة، وليس هذا عندي بمنزلة الذي يبيع الدابة ويستثني ظهرها مكانا بعيدا.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه كان أكراها إلى مصر ولم يعينها بالإشارة إليها فكان الكراء مضمونا، وإن كان قال له: أكري منك دابتي على ما مضى في رسم القبلة وهو المشهور في المذهب حسبما مضى به القول هناك.
[: تعذر الوصول لموضع الكراء بسبب اللصوص]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن القاسم قال عبد المالك بن الحسن سئل ابن القاسم عن الرجل يتكارى الدابة إلى موضع يسميه فيقطع به اللصوص أو يسرق له متاع، أو يقطع به شيء لا يقدر من أجله على المسير، قال: الكراء لصاحب الدابة، فإن شاء المتكاري أن يسير وإن شاء فليقم، وله أن يستكريها في مثل ذلك، وسئل عنها سحنون، فقال: إنما هذا في الذي يقطع به اللصوص أو يسرق له المتاع فالكراء له لازم كما قال، وأما الذي يتكارى الدابة إلى موضع فيبلغه عنه شيء لا يقدر على دخوله ولا التخلص إليه فالكراء ينفسخ بينهما.
قال محمد بن رشد: قول سحنون صحيح، مفسر لقول ابن القاسم، وقد مضى مثله في آخر سماع أشهب، وفي رسم إن أمكنتني من سماع عيسى، وفي سماع أبي زيد من كتاب كراء الدور والأرضين.(9/138)
[مسألة: هلاك الدابة المكتراه في الطريق]
مسألة قال عبد الملك: وسألت ابن وهب عن الذي يتكارى دابة بعينها فتهلك ببعض الطريق، فقال ابن وهب: قال مالك: إذا هلكت بموضع يجد فيه كراء حاسبه ورد عليه ما بقي من كرائه، وإن ماتت بموضع لا يجد فيه كراء ويخاف على نفسه أن يضيع وتدخل عليه ضرورة، فأرى أن يحمله على بعض ما معه من الدواب فذلك جائز.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم مرض من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته والله الموفق.
[: الزيادة على الأجرة من أجل التحول من شق لشق]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيوع والعيوب قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يكتري زاملة يركبها بخمسة دنانير فيزيد شيئا على أن يتحول إلى شق محمل أنه لا بأس به، وأنه إن تكارى على حمل الأعكام ثم أراد أن يحول ذلك إلى محمل ويزيده، قال: لا خير فيه. وقاله أصبغ لأن الذي يتحول من الأعدال إلى المحامل أمر يبعد بعضه من بعض، ولا يتقارب خفته، فهو كالذي يسلف في شقة بصفة ثم يتحول إلى رابطة ينسجها ويزيده، وقد كرهه مالك وابن القاسم، والذي يتحول من الزاملة إلى المحمل كالذي يتحول من رابطة ست في ثلاث، إلى سبع في أربع، فهو الأصل كما هو، فهو خفيف، وقد أجازه مالك.(9/139)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم العارية من سماع عيسى فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: دعوى المكتري رد الشيء الذي اكتراه]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يكتري الشيء مما يغيب عليه، أو مما لا يغيب عليه، ثم يدعى أنه قد رده إليه أنه مصدق، دفع ذلك إليه ببينة أو بغير بينة، وليس بمنزلة العارية ولا الصناع يدعون الرد؛ لأن أولئك عليهم الضمان لو ادعوا تلفا، فكل من كان يكون عليه الضمان إذا ادعى التلف فلا يصدق إذا قال رددت، وكل من لا ضمان عليه إذا ادعى تلفا وكان يصدق فهو مصدق إذا ادعى الرد. قال أصبغ: بئس ما قال ولا (يعجبني) هذا، وأراه خطأ من الحجة، والرأي الوديعة والقراض لا يكون عليه فيهما ضمان إذا ادعى تلفا، وإذا أنذر فيهما بالبينة فدفعا إليه بالبينة لم يخرجه من الرد إلا البينة وهو قول مالك فيهما، فكذلك الاكتراء إذا أنذر بالبينات ودفع بالإشهاد رد كذلك، وإلا ضمن ولم يصدق، وهذا أصل خطأ يبنى عليه.
قال محمد بن رشد: قوله إنه مصدق في رد الشيء المكترى قبضه ببينة أو بغير بينة خلاف ما مضى في أول سماع عيسى أنه إذا قبضه ببينة فعليه أن يرده ببينة، وخلاف قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها أنه يلزمه أن يرد الوديعة ببينة إذا قبضها ببينة؛ لأن الذي يأتي على قول ابن القاسم في هذه الرواية أن يكون مصدقا في رد الوديعة والقراض إن كان قبضهما ببينة، إذ لا فرق بين القراض وبين(9/140)
الشيء المستأجر؛ لأنهما قبض كل واحد منهما لمنفعة الدافع والقابض، ولأنه إذا كان يصدق في رد الشيء المستأجر وإن كان قبضه ببينة فأحرى أن يصدق في رد الوديعة وإن كان قبضها ببينة؛ لأن الشيء المستأجر قبض لمنفعة القابض والدافع، والوديعة لم تقبض إلا لمنفعة الدافع وحده، وقد كان يشبه أن يفرق بين الوديعة والشيء المستأجر، بأن الإشهاد على الشيء المستأجر يحتمل أن يكون القصد به إنما هو الإشهاد على الأجرة لا على الشيء المستأجر، بخلاف الوديعة التي لا تحتمل أن يكون الإشهاد فيها على ما سوى الشيء المودع، لولا أن هذا ينتقض بالقراض، لاحتمال أن يكون الإشهاد فيه إنما قصد به الإشهاد على جزء القراض، فلا يلزم ابن القاسم اعتراض أصبغ عليه بالقراض والوديعة، إذ لا يفرق بين شيء من ذلك، وإن كان قد وقع لابن القاسم في النوادر ما ظاهره أنه فرق بين الشيء المستأجر وبين الوديعة والقراض، مثل ما تأول عليه أصبغ في هذه الرواية وهو بعيد، وقد مضى تمام القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع عيسى.
[: يقول أكتري منك المواد إلى مكة بخمسة دنانير فإن بدت لي الرجعة فبذلك الكراء]
ومن كتاب البيع والصرف قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الذي يقول: أكتري منك المواد إلى مكة بخمسة دنانير فإن بدت لي الرجعة فبذلك الكراء، قال: لا بأس بذلك إذا كان الوزن والحمولة والكراء واحدا، وليس في شيء من ذلك زيادة، وقاله أصبغ ما لم يقدم شيئا من كراء الرجعة على أنه إن رجع فيه وإن لم يرجع استرده، فإذا كان هكذا فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في رسم أوصى من(9/141)
سماع عيسى، ومضت أيضا والقول عليها مستوفى في أول سماع ابن القاسم. وبالله التوفيق.
[مسألة: موت الدابة المكتراه ببعض الطريق]
مسألة قال أصبغ فيمن تكارى دابة إلى موضع بنصف ثوب أو ثوب، فركب الدابة فماتت ببعض الطريق، أو بلغ عليها إلى الموضع الذي أكراها إليه، فماتت واستحق نصف الثوب. قال: إذا استحق نصف الثوب وركب الدابة نصف الطريق فإن الكري يأخذ ربع النصف الباقي الذي بيده، ويرجع على المكتري بربع كراء دابته إلى الموضع الذي ركب إليه كراء مثله، وكذلك النصف على هذا القياس.
قال محمد بن رشد: قوله فإن الكري يأخذ ربع النصف الباقي بيده ويرجع على المكتري بربع كراء دابته إلى الموضع الذي ركب إليه كراء مثله غلط بين لا يصح، وإنما يأخذ نصف النصف الباقي بيده ويرجع على المكتري بنصف قيمة ما سار من الطريق، وذلك أنه لما ماتت الدابة بنصف الطريق استوجب نصف الثوب الذي وقع الكراء به ورجع نصفه إلى المكتري فصارا فيه شريكين، فلما استحق نصفه على الإشاعة دخل الاستحقاق على الكري في نصفه، فوجب أن يرجع على المكتري بما يقابله من الركوب الفائت، وهو نصف قيمة كراء دابته إلى الموضع الذي ماتت فيه، إلا أن يشاء أن يرد ما بقي بيده من الثوب ويرجع بجميع قيمة ما سار من الطريق فيكون ذلك له، للضرر الداخل عليه باستحقاق نصف الثوب من يده. وقوله: وكذلك النصف على هذا القياس، يريد(9/142)
وكذلك إذا أكرى منه دابته بنصف ثوب فماتت الدابة بنصف الطريق، واستحق نصف الثوب، والواجب في ذلك على قياس ما قلناه وصححنا عليه المسألة أن يكون للمكتري من الثوب نصف ما بقي بيده منه بعد الاستحقاق، وهو الثمن بركوب المكتري دابته بنصف الطريق، ويرجع عليه بنصف قيمة ما سار من الطريق إلا أن يشاء أن يرد ويرجع بجميع الركوب؛ ولو استحق نصف ما وقع الكراء به من جميع الثوب أو من نصفه قبل الركوب؛ لانتقض نصفه، وكان للمكتري أن يركب نصف الطريق، إلا أن يشاء أن يرد النصف ويفسخ الكراء عن نفسه للضرر الداخل عليه بالاستحقاق فيكون ذلك له؛ ولو استحق جميعه قبل الركوب لانتقض جميع الكراء وبالله التوفيق.
[: تكارى دابة مشاهرة فسافر عليها فاعتلت في السفر ولم يستطع ركوبها]
ومن كتاب القضاء العاشر قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم، وسئل عمن تكارى دابة مشاهرة فسافر عليها فاعتلت في السفر ولم يستطع ركوبها، قال: إن كانت له بينة بذلك فما أقامت في ذلك سقط عنه وحوسب بما قبل ذلك من قدر الكراء.
قال محمد بن رشد: قوله اكتراها مشاهرة فسافر عليها معناه أنه سافر عليها بإذن ربها بعد وجوب الكراء وانعقاده على الصحة بينهما، إذ لا يجوز للرجل أن يكري الدابة مشاهرة للتصرف والركوب على أن يسافر بها سفرا يسميه، وإنما يجوز أن يكريها للركوب والتصرف ويشترط أن يسافر عليها سفرا يسميه إذا أكراها لسنة أو لمدة معروفة مؤقتة فيعرف مقدار ما يقع منها السفر الذي اشترطه، ولو اشترط أن يسافر عليها إن احتاج إلى(9/143)
السفر ولم يؤقت مقدار السفر لم يجز، وقد مضى بيان هذا في رسم البيع والصرف من كتاب الجعل والإجارة، ولو اكتراها لمدة معلومة أو مشاهرة للاختلاف بها في الأسفار إلى بلاد يسميها لجاز. وقوله: إنه إن كانت له بينة على اعتلالها سقط عنه من كرائها قدر ما اعتلت فيه من مدة الكراء صحيح لا إشكال فيه؛ لأن المصيبة في مرض الأجير واعتلال الدابة المكتراة على الأجير والمكري، لا على المستأجر والمكتري.
[مسألة: كراء دابة برقيق ثم ظهر استحقاقه للغير]
مسألة قال أصبغ فيمن تكارى دابة إلى موضع بعبد أو بجارية فلما سار بعض الطريق استحق العبد أو الجارية، قال أصبغ: فإن له من الكراء بقدر ما حمله وسار به من الطريق بكراء مثله؛ لأنها سلعته، والثمن الذي أعطاه في العبد والجارية وجده فائتا فليرجع بقيمته هو، والدليل على ذلك أن لو بلغ الموضع كله ثم استحق العبد أو الجارية أكان يرجع بقيمتها؟ لا، ولكن بقيمة الكراء، كما لو لم يسر شيئا حتى استحقها بطل الكراء؛ لأنها سلعته اشتراها بسلعة بعينها فلم يتم له البيع فرجع إلى سلعته، ولم يكن له أن يقول: آخذك بقيمة العبد أو الجارية التي استحقت من يدي على ما أحببت وكرهت، وليس في هذا كلام.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة ليس فيها كلام ولا إشكال ولا اختلاف، والمسألة التي مضت في الرسم الذي قبل هذا تزيدها بيانا وبالله التوفيق.
[: مال حمل شيئا فصدم أو رمي فانكسر ما عليه]
ومن كتاب الكراء والأقضية
وسمعته يقول في حمال حمل شيئا فصدم أو رمي فانكسر ما(9/144)
عليه، فالذي رماه أو صدمه ضامن لما عليه، وللأجير أجرته بقدر ما بلغ من الطريق. وقاله أصبغ وليس على صاحبه أن يأتيه بمثله ويكمل له الأجرة؛ لأنه شيء محمول بعينه.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف المشهور في المذهب من أن الإجارة لا تنفسخ بتلف الشيء المستأجر على حمله، وقد مضت هذه المسألة وتحصيل القول فيها في رسم القبلة من سماع ابن القاسم، وفي المواضع المذكورة فيه، فلا وجه لإعادة ذلك.
[: طلب المتكاري العدل بالحمل من مكان لآخر]
ومن كتاب محض القضاء
وسئل عن كري حمل أحمالا من الشام إلى مصر إلى الفسطاط، فلما بلغ الفرماء قال له المتكاري: اعدل بأحمالي إلى الأشتوم أحملها في البحر ففعل، ثم أراد أن يرجع على الكري بما بين الفرماء إلى الفسطاط. قال: ليس ذلك له إلا أن يكون المتكاري استثنى ذلك عليه، فقال له: اطرح أحمالي هاهنا وحاسبني وأعطني ما بقي، فإن لم يكن كذلك فلا شيء له على الكري والكراء كله للمكري، أرأيت لو قال له في بعض الطريق: ضع لي بعض متاعي هاهنا، فوضعه ألم يكن له كراؤه كله؟ .
قال محمد بن رشد: قوله إنه إذا أخذ أحماله في بعض الطريق فليس له أن يرجع على الكري بما يجب لما بقي من الطريق صحيح لا اختلاف فيه، وإنما الخلاف هل له أن يحمل على الإبل مثل تلك الأحمال(9/145)
في مثل ما بقي من الطريق أو يكريها في مثله؟ أم ليس ذلك له؟ على حسب ما مضى في رسم المدنيين من سماع عيسى وتقدم القول عليه في رسم البيوع الأول من سماع أشهب. وأما قوله إلا أن يكون استثنى ذلك عليه، يريد المحاسبة، فإنما يجوز ذلك إن كان المكري لم ينتقد الكراء، وأما إن كان قد انتقد فلا يجوز ذلك في الكراء المضمون باتفاق. ولكن الكري يرد عليه مما قبض منه ما يجب لما بقي من الطريق، فيكون ذلك سلفا ومعه كراء. فمعنى قوله: وأعطني ما بقي أي أسقطه عني ولا تأخذني به، ويجوز ذلك في الكراء المعين على اختلاف حسبما مضى القول فيه، في أول سماع أشهب وفي غيره من المواضيع.
[: اكترى شق محمل إلى مكة فمات بالطريق]
ومن كتاب الجامع وسئل عن رجل اكترى شق محمل إلى مكة فمات بالطريق فلم يجد وليه كراء فأراد أن يطرح في شقه حجارة. قال: ليس ذلك له، وهذا مضار به، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار، ومن ضار أضر الله به» ، فهذا مضار، إلا أن يكون له في تلك الحجارة منفعة، فإن لم تكن له فيها منفعة فليس ذلك له. قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه إذا لم يجد وليه كراء شق محمل وليه فهي مصيبة دخلت عليه، فليس له أن يضار الكري بحمل ما لا منفعة له فيه للحديث الذي ذكره، فهو أصل جليل في هذا المعنى وشبهه. ومحمد بن دينار يرى المحاسبة واجبة بموت المكتري. وقع قوله في المدنية. قال سئل محمد بن دينار عن الرجل يتكارى الدابة إلى بلد فيموت الذي اكتراها في بعض الطريق. قال: يحاسب بما(9/146)
ركبها على ما كان اكتراها فيعطيه بقدر ذلك وهو شذوذ من القول، ويحتمل أن يكون معناه إذ رضي بالمفاسخة، فلا يكون ذلك مخالفا لقولهم وبالله التوفيق.
[: القوم يكترون السفن ويريدون الرجوع فتردهم الريح بعد مدة للموضع الذي خرجوا منه]
نوازل أصبغ وسئل أصبغ عن القوم يكترون السفن تجارا ويريدون الرجوع إلى بلدهم فتردهم الريح بعد شهر أو أقل أو أكثر إلى الموضع الذي خرجوا منه، فيطلب أصحاب المركب كراء ما ساروا ويحتج الركاب بأن الريح ردتهم إلى الموضع الذي ركبوا منه، وقالوا: نحن بمنزلة من لم يسر شيئا، وهل يختلف عندك إن كانوا لم يزالوا ملججين في البحر منذ ضجوا لم يرسوا إلى قرية ولم يحاذوها؟ أو كيف إن أرسوا بقرية ثم قلدوا منها فردتهم الريح؟ أو كيف لو حاذوا قرية وعرفوا الموضع الذي حاذوه، وكانوا قادرين على الإرساء بالقرية أو لا يقدرون لشدة الريح، فعصفت الريح فردتهم إلى موضعهم الذي خرجوا منه؟ قال أصبغ: أما الذين ذكرت أنهم لم يزالوا ملججين في البحر منذ خرجوا حتى ردتهم الريح إلى موضعهم فليس يلزم هؤلاء كراء؛ لأنهم لم ينتفعوا بشيء، ولا بلغوا مكانا انتفعوا بركوبهم إليه فيلزمهم لذلك الكراء إلى ذلك الموضع، وأما الذين أرسوا بقرية ثم قلدوا بعد، فأرى على هؤلاء أن يحاسبوا بقدر الموضع الذي أرسوا به؛ لأنهم قد كان لهم سعة على المركب ومندوحة وقادرون على(9/147)
النزول والذهاب حيث شاءوا فلما رفعوا من ذلك الموضع فكأنهم ابتدأوا الركوب الساعة من ذلك الموضع، فيجب عليهم الكراء بقدر الموضع الذي بلغوه، وهم عندي بمنزلة ما لو انكسر المركب في هذا الموضع الذي ذكرت فسلم متاعهم أو بعضه فيجب عليهم من الكراء بقدر ذلك وبقدر ما انتفعوا به، فهذا هو ما فهمه. وأما الذين حاذوا قرية ولم ينزلوا وكانوا قادرين على النزول أو لا يقدرون، فإن كانوا بقرب البر جدا وصاروا إلى موضع الأمن لا يخافون فيه من الريح شيئا قد أمنوا لقربهم من البر، وتعلقهم بالمرسى، ولو شاءوا أن يرسوا لأرسوا، ثم قلدوا فردتهم الريح فهؤلاء عندي بمنزلة من أرسى يحاسبون أيضا. وأما إن كانوا حاذوا ولم يكونوا بهذه المنزلة من القرب والأمن، غير أنهم يخافون ويرجون فلا أرى عليهم كراء؛ لأن البحر سلطانه عظيم، ولا يؤمن تقلبه. قيل: أرأيت إن كانت الريح غير غالبة لهم ولكن ردهم فزع اللصوص أو الروم، وكانوا ملججين أو غير ملججين قد عرفوا موضعهم أو لا يعرفون موضعهم؟ أو كيف إن كان الركاب بدالهم في الرجوع فغلبوا أصحاب المركب وقهروهم على الرد إلى موضعهم على ما وصفت لك من المسألة؟ قال أصبغ: أما إذا رجع أصحاب المركب فإن كان ذلك بسؤال من الركاب وطلب ردهم فالكراء عليهم، وإن كان على إكراه من أصحاب المركب فلا شيء لهم من الكراء، وإذا كان الركاب هم الطالبون الرجوع فالكراء كله عليهم وافر، وإن كان الركاب هم الطالبون لذلك(9/148)
لعذر غلب من عدو أو بحر أو فزع اللصوص أو الروم فإن الكراء كله يبطل، ويصير بذلك كمن لم ينتفع ولم يرح، وذلك إذا كان ليس دون مرجعهم إلى حيث ركبوا مستعتب ينزلون فيه من مأمن ومنتفع به فيما خرجوا له، فإن كان كذلك فليس لهم في البدء أن يرجعوهم إلى مخرجهم إذا لم يكن يقدر على التقدم بهم وأنزلوا هناك وأعطوا أصحاب المركب قدر ما انتفعوا به في حمولته وتجارته، وإذا كان الركاب هم الذين مضوا بالمركب حين خافوا على أنفسهم إلى موضعهم الأول وأكرهوهم ألا يطرحوهم دونه، فأرى عليهم عند ذلك الكراء واجبا، وأحب إلي أن يكون كراء الذهاب إلى حيث انتهوا بقدره من الكراء الأول، وكراء الرجعة بالقيمة، وإن كان الأكرياء هم الذين أكرهوا الركاب ولم ينزلوهم إلا إلى مخرجهم الأول فلا كراء لهم أيضا.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أن كراء السفن على البلاغ كالجعل الذي لا يجب للمجعول له إلا بتمام العمل، وسواء على مذهبه كان الكراء على قطع الموسطة أو الريف وذلك معلوم من مذهبه فيما روي عنه أن من أكرى سفينة من الإسكندرية إلى الفسطاط فغرقت في بعض الطريق فأخرج نصف القمح فحمل في غيرها أن لصاحب السفينة من كراء ما أخرج من القمح بقدر ما انتفع به ربه في بلوغه إلى الموضع الذي غرقت فيه؛ لأن الكراء من الإسكندرية إلى الفسطاط إنما هو في النيل الشط، فلم ير لصاحب السفينة كراء فيما ذهب من الطعام ورأى له فيما سلم منه بقدر ما انتفع صاحبه ببلوغه إلى حيث بلغ، وذلك على قياس ما قالوا في الجعل على(9/149)
حمل خشبة إلى بلد يوصل إلى بعض الطريق ثم يحملها صاحبها فينتفع بما حملها المجعول له، فعلى مذهب ابن القاسم إذا غرقت السفينة أوردها الريح إلى الموضع الذي خرجت منه أو خوف اللصوص أو العدو وإن كان ذلك بطلب الركاب من أجل الخوف فلا كراء لصاحب السفينة كانوا ملججين أو غير ملججين، محاذين لقرية أو غير محاذين، قادرين على النزول فيها أو غير قادرين. وقال ابن نافع في المدونة: لها بحسب ما بلغت، ورواه ابن أبي جعفر عن ابن القاسم، فعلى هذا إن غرقت السفينة في لجة البحر، أوردتها الريح أو خوف العدو أو اللصوص إلى حيث أقلعت منه يكون لها من الكراء بحساب ما بلغت كان الكراء على قطع البحر أو الريف الريف. وذهب يحيى بن عمر إلى أنها إذا أكريت على قطع البحر فهي على البلاغ، وإن أكريت الريف الريف على الساحل فلها بحساب ما بلغت. وتفرقة أصبغ في نوازله هذه بين أن يكونوا ملججين في البحر أو غير ملججين، محاذين لقرية قادرين على النزول فيها أو غير قادرين قول رابع في المسألة، وسواء على الظاهر من قوله كان كراؤهم على قطع البحر أو الريف الريف، وهو استحسان على غير قياس، وكذلك تفرقة يحيى بن عمر. وقول ابن نافع ورواية ابن أبي جعفر عن ابن القاسم أظهر في القياس من قول ابن القاسم في المدونة لأن رد الكراء إلى حكم الإجارة أولى من رده إلى حكم الجعل، وقد اختلف في جواز النقد في كراء السفن على القول بأنها على البلاغ، فقيل: إن ذلك لا يجوز، كما لا يجوز نقد الجعل في المجاعلة بشرط. وقيل: إن ذلك جائز. والوجه في ذلك أن الغالب فيه السلامة فلم يتهموا في ذلك على القصد إلى الكراء والسلف إن غرقت السفينة، كما لا يتهمون على ذلك في موت الدابة والأجير وبالله التوفيق.(9/150)
[مسألة: اكترى على طعام فقال الكري بعني هذا الطعام وافسخ الكراء]
مسألة قيل لأصبغ: أرأيت رجلا اكترى على طعام ليحمله إلى بلد فلما كال صاحب الطعام على الكري الطعام قال الكري: بعني هذا الطعام وافسخ الكراء فيما بيني وبينك، ففعل ذلك وباعه الطعام بكيله بنقد أو مؤخر. قال: إن كان الكراء كان بنقد ولم ينقد حتى باعه وفاسخه على نقد فلا بأس به، وإن كان الكراء بتأخير فلا يجوز لأنه بمنزلة من باع عوضا معجلا ودينا له مؤخرا بذهب معجلة أو مؤخرة، فللعرضين من الدنانير حصة، وللدنانير من العرضين حصة، فصار ما أصاب العرض المؤخر وهي الحمولة إلى دنانير مؤخرة إلى أن يقبضها، فصار كالئا بكالئ، وإن كان الكراء كان نقدا وانتقد فهو زيادة في السلف فلا خير فيه، كان البيع بنقد أو بتأخير؛ لأن ما يزيده من ثمن الطعام زيادة في نقد الكراء الذي قبضه وانتفع به ورده مع ثمن الطعام، وإن كان الثمن بتأثير فهو أشد، ويدخله ما فسرت لك.
قال محمد بن رشد: أما إذا كان الكراء بنقد ولم ينقد حتى باعه وفاسخه على نقد فلا إشكال في أن ذلك جائز على ما قال؛ لأن المكتري باع من الكري الحمولة التي له عليه وهي مؤجلة، والطعام الذي أعطاه بالدنانير التي أخذ منه في الطعام أو بالدنانير التي وجبت له قبله من الكراء حالة، فصار إلى أن باع طعاما مؤجلا وحمولة مؤجلة بدنانير معجلة، قبض بعضها من نفسه، وبعضها من الكري فجاز ذلك. وأما إذا كان الكراء بنقد وانتقد فلا إشكال في أن ذلك لا يجوز، كان الثمن نقدا أو مؤخرا؛ لأنه الزيادة في السلف؛ لأن المكتري إذا كان قد نقد الكري الكراء فباع(9/151)
منه الطعام على أن يقيله صار المكتري قد دفع إلى الكري دنانير وطعاما وأخذ منه دنانير أكثر من التي دفع إليه، بعضها قضاء للدنانير التي دفع إليه، وبعضها ثمن للطعام، فدخله البيع والسلف، كان ثمن الطعام نقدا أو مؤجلا ويدخله في المؤجل مع البيع والسلف الدين في الدين على مذهبه، ولذلك قال: فهو أشد. وأما إذا كان الكراء بتأخير يعرف أو شرط، فقوله إن ذلك لا يجوز يأتي على القول بأن انحلال الذمم بمنزلة انعقادها في مراعاة آجالها، وذلك أن المكتري باع الحمولة التي له وهي مؤجلة، والطعام المؤجل بالكراء الذي عليه وهو مؤجل، وبالثمن الذي قبضه بالطعام فيدخله الدين بالدين. وأما على القول بأن انحلال الذمم بخلاف انعقادها لا يراعى فيها الآجال لأن الذمم تبرأ ولا يكون لواحد منهما قبل صاحبه شيء، فيجوز ذلك؛ لأنه بفسخ هذه الإقالة تسقط الحمولة عن المكري، والكراء عن المكتري وتبرأ ذمتهما، ولا يكون لواحد منهما على صاحبه شيء يطلبه به إلى أجل فتكون دينا بدين، وهذا أظهر القولين. وقد اختلف في ذلك قول ابن القاسم وابن حبيب، وقد بينا هذا المعنى في غير ما موضع، ومن ذلك ما ذكرناه في رسم القبلة من سماع ابن القاسم كتاب السلم والآجال فقف على ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: التنازع بين المتكاريين في تعيين الحمل]
مسألة قال إسماعيل الغافقي: نزلت بقوم من أهل طرابلس مسألة تشاجروا فيها، وذلك في رجل اكترى من رجل على حمل بعينه يحمله له من طرابلس إلى مصر فأخطأ الجمال فأخذ غير الحمل الذي اكتري عليه فحمله إلى مصر فلما أتوا مصر عثر على(9/152)
ذلك من أمره وتنازعوا في ذلك، وكان فتيان القائم بأمورهم، والسائل عن مسألتهم، فسئل عن ذلك أشهب، فقال: أما الحمل الأول الذي اكتري الجمال على حمله فأرى على الجمال حملانه إلى مصر يرجع إليه صاغرا فيحمله كما اشترط عليه وليس خطؤه بالذي يضع عنه حملانه، وأما هذا الحمل الذي أخطأه الجمال فأرى صاحبه مخيرا إن أحب أن يأخذه بمصر بلا غرم عليه من كرائه كان ذلك له، وإن أحب أن يضمنه بمصر قيمته بطرابلس فعل وأخذه بالقيمة، وليس للجمال في ذلك قول إن قال: أنا أرد الحمل إلى طرابلس، وليس لصاحب الحمل أن يلزم الحمال حملان الحمل ورده إلى اطرابلس، وإنما له الخيار فيما وصفنا (قال) : وسئل ابن وهب وابن القاسم عن ذلك فاجتمعا جميعا على أن صاحبه مخير إن أحب أن يغرمه بمصر قيمة الحمل باطرابلس كان ذلك له ولم يكن للجمال في ذلك قول، وإن أحب أن يأخذ الحمل بمصر لم يكن له بد من أن يغرم كراءه للجمال؛ لأن قيمته وجبت عليه ساعة أخطأ. قال: واجتمعوا كلهم: ابن القاسم وابن وهب وأشهب على أنه ضامن لقيمته قد وجبت عليه لصاحب الحمل، قالوا: والقيمة اللازمة عليه قيمة الحمل بالموضع الذي أخطأ به، وليس بالموضع الذي حمله إليه. وسئل عنها مطرف فقال: صاحب الحمل مخير إن شاء ضمنه قيمة الحمل يوم أخطأ به، وإن شاء أخذ الحمل وغرم كراءه للحمال، وليس للحمال أن يقول: أنا أرده للموضع الذي حملته منه؛ لأن القيمة قد لزمته، وليس(9/153)
لصاحب الحمل بد من غرم الكراء إن رضي بأخذ الحمل، وأخذ قيمته بالموضع الذي حمله منه. مثل قول ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: إنما خالف أشهب ابن القاسم وابن وهب ومطرفا في هذه المسألة في موضع واحد، وهو إذا أراد صاحب الحمل أن يأخذ حمله بمصر، فقال أشهب: يأخذه ولا كراء عليه فيه إذ لم يكره عليه، وقال ابن القاسم وابن وهب ومطرف: ليس له أن يأخذه إلا أن يغرم كراءه؛ لأنه لما ترك أن يضمنه قيمته باطرابلس، واختار أخذه بمصر، فكأنه قد أذن له في حمله إليها، وحكى ابن حبيب عن أصبغ في ذلك قولا ثالثا قد ذكرته في سماع أبي زيد من كتاب كراء والأرضين، واتفقوا كلهم أن على الجمال أن يرجع فيحمل الذي تكوري على حمله، ولا اختلاف أيضا بينهم أنه ليس للحمال أن يقول أنا أرد الحمل الذي أخطأت فيه إلى اطرابلس، وإنما لم يكن ذلك له؛ لأن الحكم قد تعين عليه بالقيمة، فلا يلزم أن يؤخر ما يوجبه الحكم من ذلك بما يدعو إليه، ولو بادر فرد الحمل إلى اطرابلس قبل أن يقدم عليه صاحبه لم يكن له إلا أن يأخذ حمله؛ لأن المعنى الذي من أجله كان يلزم القيمة فيه قد ذهب، كما لو غصب الحمل فحمله إلى بلد آخر ثم رده إلى موضعه، لم يجب للمغصوب منه إلا أخذ حمله؛ لأنه بحاله، وكما لو غصب رجل عبدا فحدث به عيب ثم ذهب العيب لسقطت القيمة عن الغاصب، ولم يجب للمغصوب منه إلا أخذ عبده، وقد مضى في سماع أبي زيد من كتاب كراء الدور والأرضين في هذه المسألة ما فيه زيادة بيان وبالله التوفيق.
[مسألة: هلاك الدابة بعد بلوغها موضع الكراء]
مسألة وقال مطرف: من تكارى دابة من مصر إلى مكة فلما بلغ المدينة هلكت الدابة، وقال المكتري: اكتريت منك هذه الدابة بعينها وقد انقضى الكراء بيني وبينك لموتها فاردد علي من الكراء بقدر ما قصرت الدابة عنه، وقال صاحب الدابة: لا أرد عليك(9/154)
شيئا، وإنما لك علي أن أبلغك إلى مكة؛ لأني لم أكرك دابة بعينها، وإنما أكريتك كراء مضمونا علي وهذه دابة أخرى فاركبها، إن القول قول الراكب المكتري، وعلى صاحب الدابة أن يرد عليه بقدر ما قصرت عنه الدابة. ووجه الحجة في ذلك أن الكراء ينقطع بينهما بموت الدابة إذا اكتريت بعينها، فهذه الدابة لما هلكت فقد انقطع الكراء بينهما، ووجب للراكب من الكراء بقدر ما قصرت عنه الدابة، فإن قال صاحب الدابة: لم أكركها بعينها وإنما أكريتك كراء مضمونا علي، قلنا له: أنت مدع فيما تقول، فهات البينة على أن الأمر كما ذكرت، فأما الأمر عندنا فقد تبين لنا أن الكراء بينهما قد بطل. ألا ترى أن الراكب لو قال لصاحب الدابة: لم أكتر منك هذه الدابة بعينها ولكني أكتريت منك كراء مضمونا عليك أن تبلغني مكة، وقال صاحب الدابة: إنما أكريتك هذه الدابة بعينها وقد انقضى الكراء بيني وبينك، إن الراكب مدع فيما يقول إن ادعى هذا؛ لأن الكراء قد انفسخ بينهما لموت الدابة، فلما ادعى ركوبا مضمونا قلنا له: أنت مدع فيما تقول فهات البينة، والحجة أيضا في ذلك أن رجلا لو اكتري دابة ثم اختلفا فقال صاحبها: أكريتك هذه الدابة بعينها وهذه الدابة الأخرى، وقال المتكاري: بل إنما أكريت منك هذه الدابة وحدها لإحدى تينك الدابتين أنهما يتحالفان ويتفاسخان، فكذلك الذي أكرى دابته فلما هلكت قال: أكريتك كراء مضمونا إنما هو رجل قال: أكريتك تلك الدابة ودابة أخرى، وقال الآخر: بل أكريت منك تلك الدابة بعينها. فلا بد من أن يتحالفا ويتفاسخا(9/155)
ويدل على هذه ويبين صوابها قول مالك في الذي اكترى من مصر إلى مكة، فلما بلغا المدينة اختلفا، فقال الجمال: لم أكرك إلا إلى المدينة. وقال الراكب: بل إلى مكة، فانظر في قول مالك فيها فإنك تستدل به على هذا القول ويتبين لك صوابه إن شاء الله وبه التوفيق.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن الدابة إذا ماتت فقال المكتري إنه اكترى كراء مضمونا صار مدعيا، على الكري ركوبا في ذمته والكري ينكره في ذلك، والأصل براءة الذمة، فوجب أن يكون القول قوله، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» . فإن قال المكري لما هلكت الدابة: أكريتك كراء مضمونا وهذه دابة أخرى فاركبها صار مدعيا على المكتري في أن يلزمه ركوب دابة ينكر أن يكون اكتراها، فوجب أن يكون القول قوله في ذلك مع يمينه. ألا ترى أنهما إذا اختلفا قبل الركوب فادعى أحدهما كراء مضمونا، وادعي الثاني كراء دابة بعينها، وجب أن يتحالفا ويتفاسخا؛ لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه، كان المكري هو الذي ادعى المضمون والمكتري هو الذي ادعى المعين، أو الكري هو الذي ادعى المعين والمكتري هو الذي ادعى المضمون، فيحلف كل واحد منهما على تكذيب صاحبه. فإذا ماتت الدابة التي ادعى أحدهما أن الكراء وقع عليها بعينها حلف الذي ادعى منهما أن الكراء كان مضمونا؛ لأنه هو المدعي عليه وحده، كان الكري أو المكتري، ولم يجب على الذي ادعى منهما أن الكراء وقع على الدابة المعينة يمين إذ قد ماتت الدابة فانفسخ الكراء فيها بموتها، وهذا بين لا إشكال فيه وبالله التوفيق، لا رب غيره ولا خير إلا خيره.(9/156)
[: كتاب الأقضية الأول] [: موت القاضي قبل بلوغ الكتاب إلى من أرسله له](9/157)
من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب أوله حلف
يرفعن أمرا إلى السلطان أخبرني محمد بن عمر قال: أخبرنا محمد بن أحمد العتبي عن سحنون عن ابن القاسم قال: سئل مالك عن رجل يأتي بكتاب من والي مكة إلى والي المدينة مثل القاضي والأمير وما أشبهه فلا يصل إلى المدينة حتى يموت الذي كتب له الكتاب وقضى له بالحق، قال مالك: فأرى لصاحب المدينة أن ينفذ ذلك الكتاب، ويقضي له بما فيه، أرأيت لو أن قاضيا قضى لرجل ثم هلك لجاء آخر بعده أكان ينقض مم قضى ذلك؟ .
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة جارية على الأصول مثل ما في المدونة والواضحة وغيرهما لا اختلاف فيها ولا إشكال في معناها؛ لأنه لما كان الأصل أن القاضي ينفذ ما يثبت عنده من قضاء حكام البلاد وإن كانوا قد ماتوا أو عزلوا كما ينفذ ما ثبت عنده من(9/159)
قضاء الحاكم قبله ببلدة الميت أو المعزول، وجب أن تنفذ كتبهم وإن كانوا قد ماتوا أو عزلوا قبل وصول كتبهم إليه وقبل انفصالها عن ذلك البلاد، فيصل حكمه بحكمهم ويبنيه عليه، كما ينفذ ما ثبت عنده أنه مضى من عمل الحاكم قبله الميت أو المعزول فيصل حكمه بحكمه ويبنيه عليه، ولا يأمر الخصمين باستيناف الخصام عنده إن كان الشهود قد شهدوا عند الميت أو المعزول فأشهد على ذلك أو كتب به إلى حاكم بلد آخر ثم مات أو عزل، نظر الذي ولي بعده أو المكتوب إليه فيما شهدوا به، كما كان ينظر في ذلك الميت أو المعزول، ولم يأمر بإعادة الشهادة عنده، وإن كانوا قد شهدوا عنده قبلهم أعذر إلى المشهود عليه فيما شهدوا به دون أن ينظر في عدالتهم، وإن كانوا قد شهدوا عنده فأعذر في شهادتهم إلى المشهود عليه فعجز عن الدفع فيما أمضى الحكم عليه بها دون أن يستأنف الإعذار إليه مرة أخرى وهذا بين، إذ لا فرق إذا ثبت عند القاضي حق لرجل على رجل بين أن يشهد شهودا أنه قد ثبت عندي لفلان على فلان كذا وكذا، بشهادة فلان وفلان فشهد أولئك الشهود بما أشهدهم به من ثبوت ذلك الحق عنده عند قاضي بلد آخر بعد موته أو عزله، وبين أن يكتب بذلك إلى قاضي بلد آخر، فلا يصل إليه الكتاب إلا بعد موته أو عزله، فيما يجب من إعمال الأمرين إذا كان الكتاب قد ثبت عنده بشهادة شاهدين أنه كتابه. قاله ابن القاسم وابن الماجشون، وقال أشهب: لا تجوز شهادتهما أنه كتابه حتى يشهدا أنه قد أشهدهما عليه، ولا يكتفي في ذلك بالشاهد الواحد، ولا بالشهادة على أن الكتاب بخط القاضي، ولا أن الختم ختمه. وهذا في الكتب التي تأتي من كورة إلى كورة، ومن مثل المدينة إلى مكة، ومثل مكة إلى المدينة. وأما إذا جاء من أعراض المدينة إلى قاضي المدينة كتاب بغير بينة فإنه يقبله بمعرفة الخط وبمعرفة الختم، وبالشاهد الواحد إذا لم يكن هو صاحب القضية، لقرب المسافة واستدراك ما يخشى من التعدي. قاله ابن حبيب في الواضحة، وقال ذلك أيضا ابن(9/160)
كنانة وابن نافع في الحقوق اليسيرة خلاف ظاهر قول ابن حبيب، وقد كان يعمل فيما مضى كتاب القاضي بمعرفة الخط والختم دون بينة حتى حدث ما حدث من اتهام الناس فأحدثت الشهادة على كتاب القاضي، قال في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب الوصايا أول من أحدثه أمير المؤمنين وأهل بيته. وفي البخاري أن أول من سأل البينة على كتاب القاضي ابن أبي ليلى، وسوار بن عبد الله العنبري. والأصل في هذا أن قول القاضي مقبول فيما أخبر أنه ثبت عنده أو قضى به، ينفذ ما أشهد به من ذلك على نفسه ما دام قاضيا لم يعزل، فإذا كتب بذلك إلى قاض غيره وجب على المكتوب إليه أن ينفذه ويصل نظره به إذا كتب إليه بذلك؛ لأنه في كتابه إليه به في معنى المخبر لا في معنى الشاهد، ولو خاصم الرجل عند القاضي فكلفه إثبات الشيء من الأشياء فأتاه بكتاب قاض أنه قد ثبت عنده ذلك الشيء، أو أنه قد قضى له به لم يجز ذلك؛ لأنه هاهنا شاهد، وشهادته لا تجوز فيما حكم به إلا أن يشهد على حكمه به عنده شاهدان سواه وذلك بين من قول ابن القاسم وأصبغ في رسم محض القضاء من سماع أصبغ بعد هذا، وهو معنى ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وابن وهب وأصبغ من أن القاضي لا يمكن المشهود له من أن يعدل شهوده عند قاضي بلد من البلدان، فيكتب إليه بعدالتهم، إلا أن يكتب هو إلى ذلك القاضي يسأله عنهم. وقد ذكر أيضا في أول ذلك الباب أن القاضي إذا كتب بعدالة شاهد من أهل عمله إلى القاضي الذي شهد عنده شاهد جاز، وإن كان المشهود له سأله ذلك فكتب له به ابتداء دون أن يكتب إليه القاضي الذي شهد عنده الشاهد يسأله عنه، وحكى ذلك أيضا عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ وهو بعيد. وإذا كتب إليه يسأله عن الشاهد الذي شهد عنده اكتفى في جوابه إليه بمعرفة الخط دون الشهادة على الكتاب، قاله ابن حبيب في الواضحة، ما لم يكن فيما سأله عنه فكتبه إليه فيه قضية قاطعة، والقياس لا يكتفي في شيء من ذلك(9/161)
بمعرفة الخط إلا فيما قرب من أعراض المدينة على ما تقدم، وسيأتي من معنى هذه المسألة في آخر سماع عيسى وبالله التوفيق.
[مسألة: الانتفاع بالمقابر التي اندرست]
مسألة وسئل عن فناء قوم كانوا يرمون فيه، وفيه عرض لهم، ثم إنهم غابوا عن ذلك فاتخذ مقبرة ثم جاءوا فقالوا: نريد أن نسوي هذه المقابر ونرمي على حال ما كنا نرمي فيه، قال مالك: أما ما قدم منها فأرى ذلك لهم، وأما كل شيء جديد فلا أحب لهم درس ذلك.
قال محمد بن رشد: أفنية الدور المتصلة بطريق المسلمين ليست بملك لأرباب الدور كالأملاك المحوزة التي لأربابها تحجيرها عن الناس لما للمسلمين من الارتفاق بها في مرورهم إذ ضاق الطريق عنهم بالأحمال وشبهها، إلا أنهم أحق بالانتفاع بها فيما يحتاجون إليه من الرمي وغيره، فمن حقهم إذا اتخذت مقبرة في مغيبهم أن يعودوا إلى الانتفاع بها بالرمي فيها إذا قدموا، إلا أنه يكره لهم درسها إذا كانت جددا مسنمة لم تدرس ولا عفت، لما جاء في درس القبور، روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لأن يمشي أحدكم على الرضف خير له من أن يمشي على قبر أخيه» . وقال: «إن الميت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته» .
وقال ابن أبي زيد: إنما كره درسها لأنها من الأفنية، ولو كانت من الأملاك المحوزة لم يكره ذلك، وكان لهم الانتفاع بظاهرها. وروي عن(9/162)
علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: واروا في بطنها وانتفعوا بظاهرها. قال الإمام: ولو كانت من الأملاك المحوزة فدفن فيها بغير إذنهم لكان من حقهم نبشهم منها وتحويلهم إلى مقابر المسلمين، وقد فعل ذلك بقتلى أحد لما أراد معاوية إجراء العين التي إلى جانب أحد. روي عن جابر بن عبد الله قال: لما أراد معاوية إجراء العين التي إلى جانب أحد أمر مناديا فنادى في المدينة، من كان له قتيل فليخرج إليه ولينبشه وليحوله، قال جابر: فأتيناهم فأخرجناهم من قبورهم رطابا يبتسمون، يعني شهداء أحد وبالله التوفيق اللهم عونك يا معين.
[: من كانت له شجرة في أرض رجل فله موضعها من الأرض]
ومن كتاب أوله حديث طلق بن حبيب وسئل مالك عن رجل كانت له شجرة في أرض رجل فسقطت فنبتت لها خلوف أتراها لصاحبها؟ قال: نعم، قيل له: أفترى لصاحبها أن يغرس مكانها شجرة أخرى؟ قال: نعم، أرى ذلك له.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الخلوف التي نبتت من الشجرة التي سقطت لصاحب الشجرة صحيح، ومعناه إذا نبتت في موضع الشجرة؛ لأن من كانت له شجرة في أرض رجل فله موضعها من الأرض، وليس لقدر ذلك حد معروف مؤقت عند مالك، وهو بقدر ما يحتاج إليه الشجرة في شربها، وما «روي أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حريم نخلة فقطع منها جريدة ثم ذرعها فإذا هي خمسة أذرع. قال أبو طوالة أحد رواه الحديث أو سبعة أذرع فجعلها حريمها» ، معناه عند من أخذ بالحديث(9/163)
(من) أهل العلم في النخلة التي يغرسها الرجل في الموات الذي يجوز له استحياؤه، فيستحق بذلك منه القدر المذكور في الحديث، وهو ما تحتاج إليه النخلة من الأرض، وحمل الحديث على عمومه في الموات وغير الموات أولى والله أعلم. وأما إن نبت الخلوف خارجة عن قدر حق صاحب الشجرة من الأرض، فإن كان لصاحب الشجرة فيها منفعة ليغرسها في حقه كان له أن يقلعها، وإن لم تكن له فيها منفعة لغرسها لم يكن له أن يقلعها، وكانت لرب الأرض بقيمتها حطبا إن كانت لها قيمة، أو باطلا بغير شيء إن لم تكن لها قيمة، إلا أن يكون إقرارها مضرا بأهل الشجرة فيكون له أن يقلعها على كل حال، إلا أن يشاء الذي ظهرت في أرضه أن يقطع العروق المتصلة بالشجرة حتى لا يضربها فيفعل ذلك ويعطيه قيمتها حطبا إن كانت لها قيمة، وهذا معنى قول ابن القاسم في رسم الثمرة من سماع عيسى من كتاب السداد والأنهار، وفي المجموعة. وقوله: إن له أن يغرس مكانها شجرة أخرى صحيح، ومعناه شجرة لا تكون أكثر انتشارا وأضر بالأرض من التي سقطت على ما قال في القسمة من المدونة وبالله التوفيق.
[مسألة: رفض العبد المبعض السفر مع مالك نصفه]
مسألة وسئل مالك عن العبد يكون نصفه حرا ونصفه مملوكا فيريد الذي له فيه الرق أن يسافر به ويأبى الغلام ذلك، ويقول: تقطعني على عملي، قال: إن كان سفرا قريبا رأيت ذلك له، وإن كان سفرا بعيدا رأيت أن يكتب له بذلك القاضي كتابا يكون معه إن خاف في ذلك أن يباع أو يركب بظلم يكون معه وثيقة له، وقد أشرت بذلك على قاض كان عندنا استشارني فيه فأمرته أن يكتب(9/164)
لهم بذلك كتابا وهو عثمان بن طلحة. قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن قول مالك في العبد يكون نصفه حرا ونصفه مملوكا، قال: إذا أراد به سيده سفرا سافر به، فإن كان بعيدا كتب له كتابا لئلا يسترق. قلت: ولأي شيء ألزمه ذلك؟ قال: لأن مالكا يقول ويرى الحرية تبعا للرق وهذا عنده من الأصول.
قال محمد بن رشد: قوله: رأيت أن يكتب له بذلك القاضي كتابا يكون معه وثيقة له، كلام ليس على ظاهره؛ لأن العبد لا ينتفع في المكان الذي يذهب إليه بكتاب يكون بيده لا بينة عليه، إذ لا يحكم له بكتاب القاضي دون بينة تنقله إليه وتشهد عليه، فالمعنى في ذلك أن يكتب له الكتاب إلى قاضي البلد الذي يسافران إليه مع شاهدين ممن يسافر مع العبد، فيشهدهما على الكتاب وعلى عين العبد. وفي سماع أشهب عن مالك من كتاب الشركة، أن السيد إذا لم يكن مأمونا لم يكن له أن يخرج به، وإذا قضي له بالخروج به كانت عليه النفقة والكراء في سفره حتى يقر قراره في موضع يكون له فيه عمل ومكتسب، فتكون له أيام وللسيد أيام، وروى البرقي عن أشهب أنه ليس له أن يخرج به وإن كان مأمونا وكان العبد متعديا؛ لأنه ملك من نفسه ما يملك الشريك، فصار شريكا في نفسه، ولا ينكحه إلا برضاه كالشريك، وحكى ذلك أيضا عنه ابن المواز وابن حبيب، قال ابن حبيب: وأما لو أراد الانتقال به إلى قرية يسكنها فإن كانت من الحواضر فذلك له وإن كره العبد ففي سفره به إلى غير الانتقال ثلاثة أقوال: أحدها أنه ليس له أن يسافر به وإن كان مأمونا، وهو قول أشهب ومحض القياس. والثاني أن له أن يسافر به ويكتب له كتابا إن لم يكن مأمونا، وهو قول مالك في هذه الرواية. ووجه ما استدل به من أن الحرية تبع للرق، بدليل إجماعهم أن أحكامه أحكام الرق ما كانت فيه شعبة من الرق. والثالث أنه إذا كان مأمونا كان له أن يسافر به، وإن لم(9/165)
يكن مأمونا لم يكن له أن يسافر به، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه استحسان على غير حقيقة قياس والله الموفق.
[: معاقبة القاضي للخصم الألد]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء في الحرس وسئل مالك عن الرجلين إذا اختصما وألد أحدهما بصاحبه فعرف ذلك القاضي منه أترى أن يعاقبه؟ قال: نعم إذا تبين ذلك منه ونهاه فأرى أن يعاقبه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن إلداد أحد الخصمين بصاحبه إذاية له وإضرار به، وواجب على الإمام أن يكف أذى بعض الناس بعضا ويعاقب عليه بما يؤديه إليه اجتهاده، ومثله في آخر أول رسم من سماع أشهب وفي سماع أصبغ وبالله التوفيق.
[مسألة: للقاضي الفاضل العدل الحكم لنفسه بالعقوبة على من يتناوله بالقول وأذاه]
مسألة فقيل له: أرأيت الذي يتناول القاضي بالكلام فيقول: لقد ظلمني، فقال: إن ذلك يختلف ولم يجد فيه تفسيرا إلا أن وجه ما قال إذا أراد بذلك أذاه وكان القاضي من أهل الفضل أن يعاقبه، وما ترك ذلك حتى خاصم أهل الشرف في العقوبة في الإلداد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن للقاضي الفاضل العدل أن يحكم لنفسه بالعقوبة على من يتناوله بالقول وأذاه بأن نسبه إلى الجور والظلم مواجهة بحضرة أهل مجلسه، بخلاف ما شهد به عليه أنه أذاه به وهو غائب عنه؛ لأن ما واجهه به من ذلك هو من قبيل الإقرار، وله(9/166)
أن يحكم بالإقرار على من انتهك ماله فيعاقبه به ويتحول المال بإقراره، ولا يحكم بشيء من ذلك بالبينة. والأصل في ذلك قطع أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يد الأقطع الذي سرق عقد زوجته أسماء لما اعترف بسرقته، وإن كان في حديث الموطأ فاعترف به الأقطع أو شهد عليه على الشك فالصواب ما في غير الموطأ أنه اعترف من غير شك، إذ لو لم يعترف ويقر على نفسه لما قطعه بالبينة، كما لو كان المسروق له، إذ لا فرق بين كونه له أو لزوجته في هذا؛ لأن متاعها كمتاعه، والدليل على ذلك قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لعبد الله بن عمرو الحضرمي لما جاء بغلامه، فقال: إن هذا سرق مرآة لامرأتي. فقال له: لا قطع عليه، خادمكم سرق متاعكم. ألا ترى أن الرجل لا يجوز له أن يشهد لزوجته كما لا يجوز أن يشهد لنفسه، فإذا كان يحكم بالإقرار في ماله كما يحكم به في مال غيره كان أحرى أن يحكم بالإقرار في عرضه كما يحكم به في عرض غيره، لما يتعلق في ذلك من الحق لله؛ لأن الاجتراء على القضاة والحكام بمثل هذا توهين لأمرهم، وداعية إلى الضعف عن استيفاء الحقائق في الأحكام، فالمعاقبة في مثل هذا أولى من التجافي عنه والعفو فيه، وهو دليل قوله: وما ترك ذلك حتى خاصم أهل الشرف في العقوبة في الإلداد، وكذلك قال ابن حبيب في الواضحة: إن العقوبة في هذا أولى من العفو فيه وبالله التوفيق.
[مسألة: للقاضي أن يقف على الحقوق بنفسه وبمن معه من أهل العلم فيما التبس]
مسألة وكان بين رجلين خصومة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قريبا من المدينة في أرض لهما حتى ارتفع الشأن بينهما فركب عثمان(9/167)
في ذلك وكانت خصومتهما في زمن عثمان وركب معه رجال فلما ساروا قال رجل: إن عمر قد قضى فيها. فقال عثمان: لا أنظر في أمر قد قضى فيه عمر ورجع.
قال القاضي: وقعت هذه الحكاية في آخر الزكاة الأول من المدونة وفائدتها والذي فيها من الفقه أن القاضي يستحسن له أن يركب ويقف على الحقوق بنفسه وبمن معه من أهل العلم فيما التبس وأشكل، وقد يكون هذا كثيرا في الضرر وشبهه، ولو أمكنه أن يقف على جميع الأمور بنفسه لكان أحسن، ولكن هذا لا يمكنه فيستنيب من يوجهه مكانه لذلك في الحيازات وشبهها، والواحد في ذلك يجزئ كما قال في المدونة في الذي يرسله لتحليف المرأة، والاثنان أحسن. وإنما رجع عثمان وترك ذلك لأن المحكوم عليه كان يريد فسخ قضاء عمر فيه، وذلك ما لا يجوز. ففي الحديث من الفقه أن القاضي إذا بلغه أن قاضيا قضى في أمر لم يكن له أن ينظر فيه، وهذا ما لا اختلاف فيه إذا كان القاضي الذي قضى في ذلك الأمر عدلا، والذي قال ذلك لعثمان هو معاوية، وكانت الخصومة بين علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله في ضفير بين ضيعتيهما كان علي يحب أن يثبت، وطلحة يحب أن يزال، فوكل علي عبد الله بن جعفر فتنازعا الخصومة في ذلك بين يدي عثمان وهو خليفة، فقال لهما: إذا كان غدا ركبت في الناس معكما حتى أقف على الضفير فأقضي فيه بينكما معاينة، فركب في المهاجرين والأنصار، وجاء معهم معاوية، فقال وهما يتنازعان الخصومة في الطريق: لو كان منكرا لأزاله عمر، فكان قوله سبب توجه الحكم لعبد الله على طلحة، فوقف عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والناس معه على الضفير فقال: يا هؤلاء أخبرونا أكان هذا أيام عمر؟ فقالوا: نعم، قال: فدعوه كما كان أيام عمر وانصرف. قال(9/168)
عبد الله: فجئت من فوري إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقصصت عليه القصة حتى بلغت إلى كلام معاوية فضحك ثم قال: أتدري لما أعانك معاوية؟ قال: قلت: لا. قال: أعانك بالمنافسة، قم الآن إلى طلحة، فقل له: إن الضفير لك فاصنع به ما بدا لك، فأتيته فأخبرته فسر بذلك، ثم دعا بردائه ونعليه وقام معي حتى دخلنا على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرحب به، وقال: الضفير لك أصنع به ما شئت، فقال: قد قبلت، وإنما جئت شاكرا ولي حاجة ولا بد من قضائها، فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سل حتى أقضيها لك، فقال طلحة: أحب أن تقبل الضيعة مع من فيها من الغلمان والآلة والدواب، فقال علي: قد قبلت، ففرح طلحة وتعانقا وتفرقا. قال عبد الله: فوالله ما أدري أيهما أكرم في ذلك المجلس، أعلي إذ جاد بالضفيرة؟ أم طلحة إذ جاد بالضيعة بعد ضنه بمسقاة؟ روى الشعبي أنه قال: أول من جرى جريا أي وكل وكيلا من الصحابة علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكل عبد الله بن جعفر، فقيل له: لم وكلت عبد الله بن جعفر وأنت سيد من سادات الناطقين؟ فقال: إن للخصومات فحما. قال عبد الله: فنازعني طلحة في ضفير كان بين ضيعة لعلي وضيعة لطلحة، ثم ساق بقية الحكاية وإن كان فيها بعض الخلاف لحكاية مالك، فالمعنى المقصود منها وهو استحسان ركوب القاضي فيما أشكل، ووجوب إمضاء أحكام من قبله لا خلاف فيه وبالله التوفيق.
[مسألة: تنازع الورثة على أرض مع الاختلاف في الحدود]
مسألة وسئل مالك عن رجل هلك وله ورثة وولد وترك أرضا فخاصم ولده قوم فيها فأقاموا البينة أنها أرضهم، ولم يشهدوا على الحدود، وشهد قوم على حدود تلك الأرض ولم يشهدوا على(9/169)
أنها لهم، وقالوا: لا علم لنا لمن هي. قال مالك: إذا شهدوا على الحدود ثبتت شهادة الذين شهدوا أنها لهم ورأيتها لهم.
قال القاضي: هذا كما قال من أن الشهادة في الأرض على الملك تلفق إلى الشهادة فيها على الحد؛ لأن المعنى في ذلك إنما هو في الأرض المشهورة المعلومة المسماة المنسوبة التي تتميز بالنسبة والتسمية عن سواها عند من عرف حدودها، فإذا قال الشهود: نعلم الأرض الفلانية لفلان ولا نحدها. وقال غيرهم: نحن نعلم حدودها ولا ندري لمن هي وجب أن تلفق الشهادة في ذلك، إذ لا يقدح في علم من شهد أنها لفلان جهله بحدودها، ولا يقدح في علم من شهد بمعرفة حدودها جهله بمالكها، وهذا في التمثيل كالحرم الذي يعلم الفقهاء تحريمه والحكم بما يلزم فيه مما لا يلزم، ويجهلون حدوده، ويعلم غير الفقهاء من أهل الحرم حدوده، ويجهلون أحكامه، فيصح امتثال أمر الله تعالى فيه بتلفيق شهادتهم، إذ لا يقدح في معرفة من علم أحكامه الجهل بحدوده، ولا في معرفة من علم حدوده الجهل بأحكامه، فكذلك مسألتنا في الأرض يصح الحكم بها لمن شهد بملكها بتلفيق الشهادة على الملك إلى الشهادة على الحدود، وهذا بين لا خفاء به وبالله التوفيق.
[: حرق كتب الخصومات التي طال عهدها]
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها قال مالك: وقد كان قاض في زمن أبان بن عثمان بن عفان رفع إليه كتب قد تقادم أمرها والتبس الشأن فيها، فأخذها فأحرقها بالنار، فقيل لمالك: أيحسن ذلك؟ قال: نعم، إني لأراه حسنا، هذه أمور لا أدري ما هي.(9/170)
قال محمد بن رشد: معنى هذه الكتب أنها كتب في الخصومة طالت المحاضر فيها والدعاوي، وطالت الخصومة حتى التبس أمرها على الحاكم، فإذا أحرقت قيل لهم: بينوا الآن ما تدعون، ودعوا ما تلبسون به من طول خصوماتكم واستأنفوا العمل، وهو حسن من الحكم على ما استحسنه مالك وبالله التوفيق.
[: التنازع على ملكية حائط موروث]
ومن كتاب أوله سلف في المتاع والحيوان
وسئل عن رجلين ورثا دارا أو حائطا، ثم إن أحد الرجلين تزوج امرأة وهلك عنها، فقال أخوه الباقي: إنما له من الدار كذا وكذا، فقالت له امرأته: لأي شيء كان لك سائرها؟ أنحلك إياها أبوك؟ فقال: هي لي وليس لزوجك منها إلا كذا وكذا، قال: لا يقبل قوله في ذلك.
قال القاضي: هذا بين على ما قال؛ لأن ذلك محمول على أنه بينهما على حسب ما ورثاه، فلا يقبل قول الذي ادعى أن له من ذلك أكثر من أخيه الهالك، إلا ببينة تقوم له على تحقيق ما يدعي، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «البينة على من ادعى» " وبالله التوفيق.
[مسألة: النظر في قضاء أنفذه قاض قبله]
مسألة قال: ورأيته كتب إلى عامل في قضاء كان قد أمضاه عاملان قبله، فنظر فيه العامل الثالث، فجاءه رجل يستعين بالكتاب إليه فيه، فكتب إليه إن كان من قبلك أمضاه بحق فأنفذه لصاحبه.
قال محمد بن رشد: هذا يدل على أن للفقيه المقبول القول أن(9/171)
يكتب إلى الحاكم بالفتوى ويعلمه ما يصنع وإن لم يسأله الحاكم، وهذا في غير القضاة، وأما القضاة فلا ينبغي أن يكتب إليهم بما يفعلون إلا أن يسألوه؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى أنفة تؤذي، وفي كتابه إليه أن ينفذ ما أمضاه من قبله إن كان ما أمضاه بحق دليل على أنه أمران ينظر فيما أمضاه من قبله، فإن كان أمضاه بحق أنفذه، فحمل على هذا أحكام العمال على الرد حتى يتبين أنها كانت أمضيت بحق فتجاز. وهذا خلاف ما وقع من قوله في المدونة فيما قضت به ولاة المياه أن ذلك جائز، إلا أن يكون جورا بينا لأن ذلك من قوله يقتضي أن تكون أحكامهم على الإجازة فلا ينظر فيها ولا تتعقب وتجاز ما لم يتبين فيها الجور البين. وهذا الاختلاف إنما يصح في غير العدل من الولاة، فمرة رأى أحكامهم جائزة ما لم يتبين فيها الجور وهو مذهب أصبغ، وتارة رآها مردودة ما لم يتبين فيها الحق وهو اختيار ابن حبيب قياسا على الشهادة، وأما العدل منهم فلا اختلاف في أن أحكامهم محمولة على الجواز، وأنه لا يرد منها إلا ما يتبين فيه الجور، ويحتمل أن يحمل ما في المدونة على العدل، وما في هذه الرواية على غير العدل، فلا يكون في هذا اختلاف من قول مالك، وإن جهل حاله. فالذي أقول به أن ينظر إلى الأمير الذي ولاه، فإن كان عدلا فهو محمول على العدالة، وإن كان جائرا يولي غير العدول فهو محمول على غير العدالة، وإن كان غير عدل إلا أنه لا يعرف بالجور في أحكامه ولا بتوليته غير العدل جرى ذلك على الاختلاف في جواز أحكامه، واختلف الشيوخ عندنا في أحكام ولاة الكور مثل القواد، وتنازعوا في ذلك، فأمضاها أبو إبراهيم ولم يجزها اللؤلؤي حتى يجعل إليه مع القيادة والنظر في أمور الكورة النظر في الأحكام، واستحسن ابن أبي زمنين إذا كان للكورة قاض قد أفرد للنظر في الأحكام ألا يجوز حكم الولاة، وإن لم يكن لها قاض أن يجوز حكمهم لما في ذلك للناس من الرفق والانتصاف، وهو أحسن الأقوال وأولاها(9/172)
بالصواب؛ لأنه إذا ولى مع القائد حكم في الكورة فقد بان بذلك أنه قد حجر عليه الحكم في الأحكام، وإذا لم يول معه فيها حكم وجب أن يجوز حكمه كما قال مالك في ولاة المياه، وسيأتي من معنى هذه المسألة في رسم أسلم من سماع عيسى وفي رسم الصبرة ورسم المكاتب من سماع يحيى، وفي رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ وبالله التوفيق.
[مسألة: رمي الغير بالكفر]
مسألة وقال عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا قال أحدكم لأخيه كافرا فقد باء بها أحدهما» .
قال محمد بن رشد: هذا حديث يحتاج وجوها من التأويل: أحدها أن يكون معناه أن من قال لصاحبه يا كافر معتقدا أن الذي هو عليه هو الكفر، فأحدهما على كل حال كافر، إما المقول له إن كان كافرا، وإما القائل إن كان المقول له مؤمنا؛ لأنه إذا قال للمؤمن يا كافر معتقدا أن الإيمان الذي هو عليه كفر فقد حصل هو كافر باعتقاده إيمان صاحبه كفرا، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] وأما إن قال لمؤمن يا كافر وهو يظنه كافرا ولا يعلم أنه مؤمن فليس بكافر، وإنما هو غلط. والثاني أن يكون معناه النهي عن أن يكفر الرجل صاحبه باعتقاد ما لا يتحقق أنه باعتقاده كافر؛ لأنه إن لم يكن باعتقاده ذلك كافرا كان القائل له قد باء بإثم ما رماه به من الكفر. والثالث أن يكون معناه النهي عن أن يظن المسلم بأخيه المسلم أنه يعتقد الكفر ويظهر(9/173)
الإسلام فيقول له يا كافر؛ لأنه إن لم يكن كذلك باء بإثم تكفيره، وهذا التأويل أشبه بمراد مالك؛ لأن الظاهر أنه احتج بالحديث على كتابه إلى العامل أن ينظر فيما أمضاه من قبله، إذ لم ير أن يكتب إليه برد ذلك من فعله مخافة أن يبوء بإثم حمله حكمه على الجور دون بغي وبالله التوفيق.
[: رجل كانت بينه وبين أبيه خصومة فأراد أن يحلفه]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات
وسئل مالك عن رجل كانت بينه وبين أبيه خصومة فأراد أن يحلفه فكره ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا من قول مالك يدل على أن له أن يحلفه، ولا يكون عاقا له بتحليفه إياه، إذ لا إثم في فعل المكروه، وإنما يستحب تركه، وهو قول ابن الماجشون في الثمانية أن تحليفه إياه في حقه ليس بعقوق له، وهو ظاهر قول ابن القاسم وأصبغ في المبسوطة أنه يقضى له بتحليفه إياه، ولا يكون عاقا بذلك، وقال مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وسحنون: إنه لا يقضى له بتحليفه إياه، ولا يمكن من ذلك إن دعا إليه، ولا من أن يحده في حد يقع له عليه؛ لأنه من العقوق وهو مذهب مالك في المدونة في اليمين في كتاب المديان، وفي الحد في كتاب القذف وهو أظهر الأقوال، لقوله عز وجل: {وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] . ولما جاء من أنه ما بر والديه من شد النظر إليهما أو إلى أحدهما. وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمين للولد على والده، ولا للمملوك على سيده» ويشهد لصحته قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك» . قد روى أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الشهادات أنه(9/174)
يقضى له أن يحلفه في حق يدعيه عليه، وأن يحده في حد يقع له عليه، ويكون عاقا بذلك ولا يعذر فيه بجهل وهو بعيد؛ لأن العقوق من الكبائر، فلا ينبغي أن يمكن أحد من ذلك، وهذا فيما يدعيه الولد عليه، وأما إن ادعى الوالد عليه دعوى فنكل عن اليمين وردها عليه، أو كان له شاهد على حقه عليه، فلا اختلاف في أنه لا يقضي له عليه في الوجهين إلا بعد يمينه، وكذلك إن تعلق بيمينه حق لغير ابنه فإنه يلزمه اليمين باتفاق، كالأب يدعي تلف صداق ابنته والزوج يطلبه بالجهاز أو كالرجل يدعي على أب زوجته نحلة انعقد عليها نكاحه وهو منكر، وانظر إذا قام الأب طالبا لابنه بالنفقة عليه وأثبت العدم هل يقضي له بالنفقة عليه دون يمين من أجل أنه لا يمين للولد على والده؟ أو لا يقضي له عليه بها إلا بعد يمينه؛ لأنها يمين الحكم، وهي يمين يأخذ بها؟ والأمر في ذلك محتمل، وأحسب أني قد رأيت الخلاف في ذلك، والأظهر في ذلك عندي وجوب الحكم عليه باليمين وبالله التوفيق.
[مسألة: طلب الجار من جارهنزع الخشب من جداره]
مسألة وسئل عن رجل كانت له خشب في حائط رجل أدخلها بإذن منه، ثم إن الذي له الحائط وقع بينه وبين الذي له الخشب شحناء، فقال: أخرج خشبك من حائطي. قال مالك: ليس ذلك له، على مثل هذا يخرجها على وجه الضرر، ولكن ينظر في ذلك، فإن كان احتاج إلى حائطه ليهدمه أو لينتفع به فهو أولى به.
قال محمد بن رشد: لم ير مالك في هذه الرواية لمن أذن لجاره أن يضع خشبة على جداره أن يرجع فيما أذن له من ذلك ويأمره برفع خشبته عن جداره إلا أن يحتاج إلى حائطه ليهدمه أو لينتفع به، ومثله في سماع(9/175)
أشهب من كتاب العارية، وقال في المدونة وغيرها إن من أذن لرجل أن يبني في أرضه أو يغرس فيها فلما بنى وغرس فيها أراد أن يخرجه إن ذلك له ويعطيه قيمة ما أنفق في بنيانه وغرسه. فذهب ابن لبابة وابن أيمن وغيرهما من الشيوخ إلى أن ذلك اختلاف من القول، إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى. وحكى العتبي عن سحنون أنه قال: إنما فرق بين المسألتين لحديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يمنعن أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره» . يريد أن من أهل العلم من يرى القضاء بالحديث، ويحمله على ظاهره في الوجوب، وهو قول ابن كنانة من أصحاب مالك، وإن لم يأذن صاحب الجدار، فكيف إذا أذن؟ وحكى ابن حبيب عن مالك وغيره من رواية مطرف وابن الماجشون أنه إذا أرفق جاره بوضع خشبة على جداره فليس له إلى رفعها ولا إلى هدم الحائط سبيل، طال الزمان أو قصر، احتاج إليه أو استغنى عنه، لا هو ولا ورثته بعده، ولا أحد ممن اشترى منهم إلا أن يهدم الجدار ثم يعيده صاحبه لهيئته فليس لصاحبه أن يعيد خشبة عليه إلا بإذن مستأنف، قالوا: وكذلك كل ما أذن فيه مما يقع فيه العمل والإنفاق من البنيان في حق الإذن والغرس والإرفاق بالماء من العيون أو البيار لمن ينشئ عليه غرسا ويبتدئ عليه عملا فلا رجوع فيه، عاش أو مات، باع أو ورث احتاج أو استغنى، وهو كالعطية. ولو اشترط أن يرجع في ذلك متى شاء لبطل الإذن على هذا الشرط قبل العمل، ولبطل الشرط بعد العمل، لما فيه من الضرر بالعامل. قالوا: وما كان لا يتكلف فيه عمل ولا كبير إنفاق، مثل فتح باب أو فتح طريق إلى مختلف في فناء الأذن، أو أرضه، أو إرفاق بماء لشفه أو لسقي شجر قد أنشئت وغرست قبل ذلك فنضب ماؤها، أو غارت آبارها، فهذا مما للآذن فيه الرجوع إذا شاء، إلا أن يكون يوم أذن له بهذه الأشياء قد حد له حدا، ووقت له وقتا من(9/176)
الأجل فيلزمه إلى مدته، أو يكون المأذون له قد باع واشترط للمشتري فيما أذن له فيه بعلم الآذن فيكون ذلك لازما له، إلا أنهم قالوا فيمن أذن لرجل أن يسوق على أرضه ماءه أو ماء من النهر، أو من ماء الآذن إلى أرض المأذون له، فليس له أن يرجع في ذلك وإن كان المأذون له لم يتكلف في ذلك كبير نفقة، مراعاة لإلزام ذلك عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة لعبد الرحمن بن عوف بغير إذنه وعلى غير طوعه، وإن كان العمل ليس عليه، واختار هذا ابن حبيب، وحكى عن أصبغ أن ذلك كله عنده سواء ما تكلف فيه عمل وإنفاق، وما لم يتكلف فيه ذلك، للآذن أن يرجع فيه إذا أتى عليه من الزمان ما يكون إلى مثله عارية مثل هذا، إلا في الذي أذن لرجل أن يغرس غرسا على مائة، فلما غرسه أراد أن يقطع الماء عنه فلا يكون ذلك له، قال: وهو على مذهب ابن القاسم. فيتحصل في هذه المسألة ستة أقوال: أحدها أنه ليس للآذن في شيء من ذلك كله أن يرجع فيه إلا أن يحتاج، وهو الذي يأتي على ما حكيناه على ابن لبابة وابن أيمن في تأويل الرواية. والثاني أنه ليس له أن يرجع في شيء من ذلك وإن احتاج. والثالث أن له أن يرجع في ذلك وإن لم يحتج ويدفع إلى المأذون له فيما كان له من ذلك عمل قيمة نفقته. والرابع أن للآذن أن يرجع في ذلك إذا مضى له ما يعار إلى مثله. والخامس الفرق بين الإذن في وضع الخشب على الجدار وبين سائر ذلك للحديث الوارد بالنهي عن المنع من ذلك. والسادس الفرق بين ما تكلف المأذون له فيه نفقة، وبين ما لم يتكلف فيه نفقة، وهذا الاختلاف كله إنما هو في الإذن المبهم الذي لم يصرح فيه بذكر هبة ولا عارية، فمنهم من حمله على الهبة فلم ير فيه رجوعا، ومنهم من حمله على العارية فرأى فيه الرجوع إذا مضى من الأمد ما يكون عارية ذلك الشيء إلى مثله، ومنهم من جعله من ناحية العدة التي لا تلزم، فرأى الرجوع فيه متى شاء، ومنهم من حمله فيما فيه نفقة على الهبة، وفيما لا نفقة فيه على العارية، على اختلافهم في العارية إذا لم يسم لها(9/177)
أجلا، هل تلزم أو لا تلزم؟ ومنهم من فرق بين الإذن في وضع الخشب على الجدار، وبين سائر الأشياء للحديث. ويختلف إذا غرس على مائه وهو ساكت، ثم أراد أن يقطع عنه الماء. قيل ذلك له بعد أن يحلف أن سكوته لم يكن رضى، وقيل: إن سكوته كالإذن ويجري الأمر في ذلك على ما ذكرناه من الاختلاف في الإذن المبهم وبالله التوفيق.
[مسألة: مؤنة إصلاح السقف المنكسر بين الشريكين]
مسألة وسئل مالك عن الرجلين يكون بينهما المنزل، لأحدهما الأسفل وللآخر العلو، فينكسر السقف الأدنى الذي هو سقف البيت الأسفل، على من ترى إصلاحه؟ قال: على الأسفل. فقلت له: الخشب تريد؟ قال: نعم، قيل له: إن الأسفل يحتج فيقول: هو أرضك للأعلى، وأنت الذي تمشي عليها. قال: بل هو سقفه، وعليه أن يبنيه وهو مثل جداره الأسفل، وكذلك لو انهدم كان عليه أن يبنيه من أسفله حتى يسقفه يكون ذلك عليه كله. فقيل له: والحجر عليه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة مثل ما في المدونة وغيرها ولا اختلاف أعلمه فيها، والدليل على صحتها قول الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] . فلما أضاف عز وجل السقف إلى بيوتها وجب أن يحكم بالسقف لصاحب البيت إذا اختلف فيه مع صاحب الأعلى فادعاه كل واحد منهما لنفسه، وأن يحكم عليه أنه له، فيلزم بنيانه إذا نفاه كل واحد منهما عن نفسه وادعى أنه لصاحبه ليوجب عليه بنيانه، فإما أن يبني وإما أن(9/178)
يبيع ممن يبني على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وقال سحنون: يجبر على أن يبني ولا يجوز أن يبيع ممن يبني إلا أن يعجز عن بنيانه لأن في البيع على هذا الشرط عنده غررا فلا يجوز إلا عند الضرورة وبالله التوفيق.
[: تجديد دعوى بعد موت من قضى فيها بحكم]
ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها وسئل مالك عن الرجلين يختصمان في الدار ويحضرهما رجال، فيقول القاضي لأحدهما: قد نظرت في أمرك فلا أرى لك حقا، فانصرفا وأقاما حتى مات، أترى ذلك قضاء؟ ثم قام بعد ذلك أولادهما يختصمون في ذلك، فأقام ولد الذي خاصمه البينة أنه قال له القاضي: لا أرى لك حقا. قال مالك: إن مما يبين ذلك عندي أن يكون ذلك في يد الميت حتى مات. فقلت له: لم يزل ذلك في يده حتى مات. قال: فأرى ذلك قضاء ولا أرى لهم شيئا.
قال محمد بن رشد: لا يفتقر حكم القاضي إلى حيازة على ما يأتي في رسم أسلم من سماع عيسى، وفي رسم المكاتب من سماع يحيى، إلا أنه لما لم يكن قول القاضي لأحد الخصمين قد نظرت في أمرك فلا أرى لك حقا إفصاحا منه بالقضاء عليه بالتعجيز، استدل على ذلك بكون الدار في يد خصمه إلى أن توفي، فأمضى عليه الحكم بالتعجيز، ولم ير لورثته بعد ذلك قياما. وقد اختلف فيمن أتى ببينة بعد الحكم عليه بالتعجيز هل تقبل منه أم لا؟ على ثلاثة أقوال -: أحدها أنها لا تقبل منه كان الطالب أو المطلوب، وهو قول ابن القاسم في رسم النكاح من سماع أصبغ كتاب النكاح في تعجيز الطالب، وإذا قاله في الطالب فأحرى أن يقوله في المطلوب، ودليله قول مالك في هذه الرواية. والقول الثاني أنها تقبل منه كان الطالب أو المطلوب إذا كان لذلك وجه،(9/179)
وهو ظاهر ما في المدونة إذ لم يفرق فيها بين تعجيز الطالب والمطلوب، وقال: إن القاضي يقبل منه ما أتى به بعد التعجيز إذا كان لذلك وجه. والقول الثالث أن ذلك يقبل من الطالب ولا يقبل من المطلوب، وهو ظاهر قول ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات؛ لأنه إنما قال ذلك في الطالب، والمطلوب بخلافه، إذ المشهور فيه أنه إذ عجز فعجز وقضي عليه مضى الحكم، ولم يسمع منه ما أتى به بعد ذلك، وإلى هذا ذهب ابن الماجشون في المطلوب، وفرق في الطالب بين أن يعجز في أول قيامه قبل أن يجب على المطلوب عمل، وبين أن يعجز بعد أن وجب على المطلوب عمل، ثم رجع عليه، ففي تعجيز المطلوب قولان، وفي تعجيز الطالب ثلاثة أقوال قيل: هذا في القاضي الحاكم دون من بعده من الحكام. وقيل: ذلك فيه وفيمن بعده من الحكام، وهذا الاختلاف إنما هو إذ أعجزه القاضي بإقراره على نفسه بالعجز، وأما إذا عجزه السلطان بعد التلوم والإعذار وهو يدعي أن له حجة فلا يقبل منه ما أتى به بعد ذلك من حجة؛ لأن ذلك قد رد من قوله قبل نفوذ الحكم عليه، فلا يسع بعد نفوذه عليه وبالله التوفيق.
[: القضاء على الغائب]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وسئل مالك عن الرجل الغائب هل يقضى عليه؟ فقال مالك: أما الدين فإنه يقضي عليه، وأما كل شيء كانت فيه حجج فإنه لا يقضى عليه. قال سحنون: والدين مثله يكون فيه الحجج.
قال القاضي: الغائب في مذهب مالك على ثلاثة أقسام:
أحدها غائب قريب الغيبة على مسيرة اليوم واليومين والثلاثة، فهذا يكتب إليه وبعذر إليه في كل حق. فإما وكل وإما قدم، فإن لم يفعل(9/180)
حكم عليه في الدين، وبيع فيه ماله من أصل وغيره، وفي استحقاق العروض والحيوان والأصول وجميع الأشياء من الطلاق والعتاق وغير ذلك، ولم يرج له حجة في شيء من ذلك. والثاني غائب بعيد الغيبة على مسيرة العشرة الأيام وشبهها، فهذا يحكم عليه فيما عدا استحقاق الرباع والأصول من الديون والحيوان والعروض، وترجى له الحجة في ذلك. والثالث غائب منقطع الغيبة مثل مكة من إفريقية والمدينة من الأندلس وخراسان، فهذا يحكم عليه في كل شيء من الديون والعروض والحيوان والرباع والأصول، وترجى له الحجة في ذلك، فالغائب الذي تكلم عليه في المدونة هو الغائب على مسيرة العشرة الأيام وشبهها؛ لأن هذه الغيبة هي التي يقضى عليه فيها عند مالك في الديون والحيوان والعروض، ولا يقضى عليه فيها في الرباع والأصول التي تكون فيها الحجج، ولم يتكلم في الرواية على الحيوان والعروض، وإرادته أنه يحكم عليه فيها كالديون، وهو نص قول ابن القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ، وترجى له الحجة عند مالك فيما يقضي به عليه من ذلك، فإن جرح البينة التي حكم عليه بها بإسفاه أو عداوة رجع فيما حكم به عليه من الحيوان والعروض، وفيما قضى عنه من الديون، ولم يرد ما بيع عليه فيها؛ لأنه بيع بوجه شبهة. وذهب سحنون إلى مذهب ابن الماجشون في أنه يقضى عليه في هذه الغيبة في الرباع وغيرها، وإلى مذهبه هذا نحا بقوله: والدين مثله يكون فيه الحجج. يقول: إنه يقضى عليه في الرباع وإن كانت فيها الحجج كما يقضى في الدين، إذ قد يكون فيه الحجج ولا يرجع في شيء من ذلك عندهما بتجريح البينة التي حكم عليه بها بعداوة أو إسفاه، إلا أن ينكشف أنهم عبيد، أو على غير(9/181)
الإسلام، أو مولى عليهم، فإن انكشف أنهم على شيء من هذه الأحوال، رجع فيما قضى به عليه من الأصول والعروض والحيوان، وفيما قضى عنه من الديون، ولم يرد ما بيع عليه فيها من ماله؛ لأنه بيع بوجه شبهة، فعلى قولهما يوكل للغائب وكيل يحتج عنه، ويعذر إليه، فلا يرجى له حجة، وعلى مذهب ابن القاسم لا يوكل له وكيل، وترجى له الحجة. وأهل العراق لا يرون أن يقضى على الغائب في شيء من الأشياء، وسيأتي في نوازل سحنون الحجة عليهم في ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: ما تغلظ فيه اليمين من الأموال]
مسألة قال: مالك: إذا كان على القوم ربع دينار بذكر حق واحد لم أر أن يحلفوا عند المنبر.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها من أنه لا يحلف عند المنبر إلا في ربع دينار فصاعدا، وهذا ما لا إشكال فيه ولا اختلاف؛ لأن يمين كل واحد منهم إنما هي على ما يصير عليه من ربع الدينار، وهذا إذا لم يكونوا شركاء، ولا كان بعضهم حميلا ببعض، وأما لو كان ربع الدينار لقوم على رجل واحد من ذكر حق واحد لوجب إن قاموا عليه جميعا أن يحلفوه يمينا واحدة عند المنبر، وإن افترقوا حلف لكل من قام عليه منهم فيما ينوبه من ربع الدينار حيث ما قضى عليه لا عند المنبر، هذا معنى قول ابن المواز عندي في مساواته بين أن يكون ربع الدينار لرجلين أو لرجل على رجلين في أن اليمين في ذلك لا يكون في المسجد الجامع ولا عند المنبر، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه لا(9/182)
يحلف عند المنبر وإن قاموا عليه جميعا فحلفوه يمينا واحدة، وهو ظاهر قول ابن المواز، والذي يوجبه النظر أن يحلف يمينا واحدة عند المنبر، قاموا عليه معا أو مفترقين على قياس ما قالوا في الرجل يدعي عليه ورثة الرجل أنه غاب لهم من تركة الميت على شيء أنه يحلف لجميعهم يمينا واحدة، وأنه إن قام أحدهم عليه فحلفه كانت اليمين لجميعهم، ولم يكن لمن بقي منهم أن يحلفه ثانية؛ لأن اليمين إذا كانت بأمر حكم فهو حكم ماض وفصل، وممن نص على ذلك ابن الهندي في وثائقه. وقوله: عند المنبر يريد منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأنه لا يرى الاستحلاف عند المنبر إلا في منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لقوله: «من حلف على منبري إثما تبوأ مقعده من النار» وأما في غير المدينة فإنما يحلف في المسجد الجامع عند المنبر، لحرمة موضعه من المسجد لا لحرمته في نفسه، إذ لو نقل عن موضعه إلى موضع سواه من المسجد أو غيره لم تنقل اليمين عن موضعها إلى حيث المنبر، بخلاف منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك، فاليمين في المدينة عند منبره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حيث ما كان من المسجد، وليس هو عند محرابه؛ لأنه زيد في قبلته فبقي المنبر في موضعه، وفي غير المدينة من جوامع الأمصار عند المحراب، وفي مكة ما بين الركن والمقام. والشافعي لا يرى اليمين عند المنبر بالمدينة ولا بين الركن والمقام بمكة إلا في عشرين دينارا فصاعدا، وحجته ما روي أن عبد الرحمن بن عوف أبصر قوما يحلفون بين الركن والمقام، فقال: أعلى دم؟ قيل: لا، قال: أفعلى أمر عظيم؟ قيل: لا، قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام. وفي بعض الروايات أن يهات الناس بهذا المقام أي يأنس الناس به، يقال يهات به إذا أنست به. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أنه لا يجب(9/183)
الاستحلاف عند منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولا فيما بين الركن والمقام على أحد في قليل الأشياء ولا كثيرها، ولا في الدماء ولا في غيرها. قالوا: وإنما يحلف الحكام من وجبت عليه اليمين في مجالسهم. قالوا: وقد أبى زيد بن ثابت أن يحلف على المنبر، فالأخذ بمذهبه أولى من اتباع مروان على رأيه. وليس قولهم بصحيح؛ لأن زيدا علم أن ما حكم به مروان عليه هو الحق، وكره أنه يصير يمينه عند المنبر، ولو كانت اليمين عنده لا تجب عند المنبر لأنكر على مروان قضاءه عليه بذلك، كما أنكر عليه غير ذلك من الأشياء والله أعلم وبه التوفيق.
[: التغليظ بالحلف في المسجد الجامع على الأموال]
ومن كتاب القبلة
قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: يحلف في المسجد الجامع في الأيمان إذا كان ذلك يبلغ ربع دينار فصاعدا. وأما الشيء التافه فإنه يحلف في مقامه، وحيث ما قضي عليه باليمين. قال مالك: ويحلفون قياما. قال محمد بن رشد: هذه مسألة وقعت في بعض الروايات، وقوله فيها: إنه يحلف في المسجد الجامع إذا كان ربع دينار فصاعدا خلاف ظاهر ما في المدونة. لأنه إنما ذكر فيها ربع الدينار في الحلف عند منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقال: إنه يحلف في المسجد الجامع فيما له بال، معناه وإن كان أقل من ربع دينار على تأويل الشيوخ فيه. وقوله: ويحلفون قياما يحتمل أن يحمل على مما في التفسير لما في المدونة؛ لأنه إنما قال فيها: إن الحالف لا يستقبل به القبلة. وفي المبسوطة لمالك أنه يحلف قائما دبر الصلاة. وقد قيل: إنه يحلف قائما مستقبل القبلة، وهو مذهب ابن الماجشون، وقيل: ليس عليه أن يحلف قائما. وهو قول ابن كنانة، وفي صفة اليمين أيضا اختلاف كثير، والمشهور ما في المدونة أنه يحلف(9/184)
بالله الذي لا إله إلا هو، لا يزيد على ذلك. وقد قيل: إنه يزيد في يمينه عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم. وهو قول ابن كنانة في المدونة. وفي مختصر ابن شعبان أن من حلف عند المنبر فليقل: ورب هذا المنبر، وقد روي عن مالك وابن القاسم أن الحالف في القسامة يقول: أقسم بالله الذي أحيا وأمات. وقع ذلك في النوادر، وقاله ابن حبيب، ولو حلف والذي لا إله إلا هو وحده لم يجز، قاله أشهب في كتاب ابن المواز.
[: خلط القمح الجيد بالرديء]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب البيوع
قال سحنون: قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عن الرجل تكون معه السفينة فيشتري القمح الأسمر المتغير ويشتري القمح الأبيض فيصب بعضه على بعض. قال: ما أحب ذلك، قال: كل واحد منهما على حدته أحب إلي.
قال القاضي: هذا ما لا اختلاف فيه أنه لا يجوز خلط الجيد بالرديء من الطعام كله، ولا مما يكال أو يوزن من غير الطعام، وإن سن ذلك عند البيع؛ لأنه من الغش، وقد قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من غشنا فليس منا» . قال مالك في كتاب ابن المواز: ويعاقب فاعله، وكذلك البر والشعير، والسمن والعسل، فإن خلط ذلك لقوته كره له بيع ما فضل منه وإن قل. وقال ابن القاسم: إذا لم يتعمد خلطه للبيع فأرجو أن يكون خفيفا. وقاله مطرف وابن الماجشون في الواضحة. فقوله في هذه الرواية: ما أحب ذلك، كل واحد منهما على حدته أحب إلي(9/185)
هو على عادته في أن يقول في الحرام الذي لا يحل ولا يجوز: أكره ذلك ولا أحبه؛ لأنه كان يكره أن يقول حرام إلا على ما نص على تحريمه في الكتاب والسنة. وستأتي المسألة في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب السلطان ونتكلم عليها بأوعب من هذا الكلام إن شاء الله عز وجل وبه التوفيق.
[مسألة: الشهادة على السماع بالقضاء]
مسألة وسئل عن فريقين اختصموا فقضي على أحد الفريقين فخرج المقضى عليهم يحدثون الناس علانية أنه قد قضي عليهم، ثم احتيج إلى قضاء ذلك القاضي فلم يوجد عند أحد منهم علم إلا الذين كان المقضي عليهم يقولون عندهم قد قضي علينا فيسألوا الشهادة بذلك، فقالوا: أما أنه لا يشهد بها. قال: أرى أن يشهدوا بذلك على وجه يقولون سمعناهم يذكرون ذلك، فلا ندري أكان ذلك أم لا؟ قال: ولربما قال المرء قد قضي علي وما قضي عليه، وإني لأرى هذه الشهادة ضعيفة.
قال محمد بن رشد: وقع في هذه المسألة في بعض الروايات أمانة لا يشهد بها، وفي بعضها أم أنه لا يشهد بها وهو أظهر في المعنى. وقوله فيها: إنهم يشهدون بما سمعوا منهم على وجه ما سمعوه منهم صحيح، لا يجوز لهم سوى ذلك وهي ضعيفة على ما قال، لا يصح الحكم بها، إذ ليس بإقرار صريح منهم على تنفيذ الحكم عليهم، إذ قد يقول المرء قضي علي لما يرى من أسباب وجوه تنفيذ القضاء عليه وقرب ذلك عنده وإن لم يكن بعد، على عادة العرب في تسمية الشيء باسم ما قرب منه ألا(9/186)
ترى أنه قد سمي المأمور بذبحه من ابني إبراهيم ذبيحا ولما يذبح لقربه من الذبح، وهو في اللسان أشهر من أن يخفى. ووجه قوله: إنهم يشهدون بها وإن كانت ضعيفة لا يحكم بها عنده، هو أنه قد يكون الحاكم ممن يرى إجازتها. وهذا مثل قوله في المدونة في الذي يرى خطه ولا يذكر الشهادة أنه يؤديها كما علم ولا ينتفع، وهو يدل من مذهبه على تصويب المجتهدين، وللقول على هذا موضع غير هذا وبالله التوفيق.
[مسألة: الهروب من تولي منصب القضاء]
مسألة قال: وقال عمر بن حسين: ما أدركت قاضيا استقضي بالمدينة إلا كآبة القضاء وكراهيته في وجهه إلا قاضيين سماهما.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه الحكاية بين؛ لأن القضاء محنة ومن دخل فيه فقد ابتلي بعظيم؛ لأنه قد عرض نفسه للهلاك إذ التخلص منه على من ابتلي به عسير، روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " وددت أني أنجو من هذا الأمر كفافا لا لي، ولا علي " وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين» . وقال أبو قلابة: مثل القاضي العالم كالسابح في البحر، فكم عسى أن يسبح حتى يغرق، وأحق ما اغتم به المسلم وبدت الكراهة والكآبة فيه عليه ما علم أنه مرتهن به، ومسؤول عنه، ومشدد عليه المسألة فيه. روي أنه «ما من قاض يأتي يوم القيامة إلا ويداه مغلولتان إلى عنقه فلا(9/187)
يحلهما إلا عدله» . وقال رسول الله: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته» الحديث وبالله التوفيق.
[مسألة: حظير الحائط المشتمل على مال للغير]
مسألة وسئل عمن له ممر في حائط رجل إلى مال له وراء ذلك الحائط، ولم يكن الحائط محظرا، فأراد صاحب الحائط أن يحظر حائطه ويجعل عليه بابا. فقال: ما أرى ذلك له إلا أن يرضى بذلك الذي له الممر في الحائط؛ لأنه إذا كان محظرا مبوبا لم يكن يدخل الذي له الممر في الحائط متى شاء، ويوشك أن يأتي ليلا فلا يفتح له، ويقال له: مثل هذه الساعة لا نفتح لأحد، وإذا كان المطر لم يقعد صاحبه الثاني حتى يأتي، فما رأى ذلك إلا أن يرضى صاحب الممر. قيل له: أرأيت إن حظر ولم يجعل على الحائط بابا يغلق؟ قال: إذا حظر ولم يجعل له بابا يغلق، كيف يدخل منه ويخرج ولا يغلق، فيوشك أن يأتي من يريد الممر إلى حائط هذا الذي له الممر ممن كان يمر فيه ويأتيه منه، فإذا رأى الحائط قد حظر لم يمر، ويوشك أن يطول هذا فينسى حق هذا، ويجعل على ذلك الباب بابا (ويقال)(9/188)
للذي له الممر هل تعلم أحدا يشهد على أن ذلك علينا ممرا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، قد أوضح مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجه قوله فيها إيضاحا ارتفع به منها الإشكال، واستغنى به فيها عن الشرح والكلام. وفي قوله في آخر المسألة: فيوشك أن يأتي من يريد الممر إلى حائط هذا الذي له الممر إلى آخر قوله دليل على أن من أحدث بابا أو ممرا أو أضلاعا فوجب قطع ذلك أنه لا يترك لشيء من ذلك أثر دليل على شيء منه، ولا يجزئ في ذلك قطع الضرر إذا بقيت آثاره، وفي هذا اختلاف؛ لأن ما اعتل به من الطول يقدر على رفعه بالإشهاد على ما قاله في رسم الأقضية الرابع من سماع أشهب من كتاب الصدقات والهبات وبالله التوفيق.
[مسألة: جلد الخصم الألد]
مسألة قال ابن نافع: قال مالك: أخبرني رجل صالح قديم، قال: أدركت الناس وإذا خاصم الرجل الظالم الرجل الملد جلده.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة تقدمت والقول فيها في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[: قضاء القاضي بفهمه]
ومن كتاب الأقضية الثالث قال: وسئل مالك عن القاضي إذا اختصم إليه الخصمان، أترى أن يقضي بينهما بما حضر ساعتئذ من الفهم؟ فقال: ذلك يختلف، أما الأمر الذي عرفه ومر عليه وقضى به فذلك يقضي فيه(9/189)
بما رأى، وأما الأمر الذي لا يدري ما هو ولم يقبله بفهمه فلا أرى ذلك حتى يثبت فيه وينظر. وقال عمر بن عبد العزيز: لا ينبغي للقاضي أن يقضي إلا أن يكون عالما بما مضى من أقضية الناس مستشيرا لأولي الأمر.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن الأمر الذي قد مر عليه، وقضى به وعرف وجه الحكم فيه يقضي بما قد تقرر عنده من نص كتاب أو سنة أو إجماع أو اجتهاد، وليس عليه فيما علم الحكم فيه من طريق النظر والاجتهاد إعادة النظر، والاجتهاد كلما تكررت عليه النازلة بعينها، وأما ما نزل به مما لم يمر عليه فالواجب عليه أن يطلب وجه الحكم فيه في محكم كتاب الله، فإن لم يجده ففي ما جاء عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صحبته الأعمال، فإذا كان خيرا صحبت غيره الأعمال قضى بما صحبته الأعمال، وهذا معلوم من أصول مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العمل مقدم على أخبار الآحاد العدول، وكذلك القياس مقدم عنده على أخبار الآحاد العدول على ما ذهب إليه أبو بكر الأبهري، فإن لم يجد في السنة في ذلك شيئا نظر في أقوال الصحابة فقضى بما اتفقوا عليه، فإن اختلفوا قضى بما صحبته الأعمال من ذلك، فإن لم يصح عنده أيضا اتصال العمل بقول بعضهم تخير من أقوالهم ولم يخالفهم جميعا. وقد قيل: إن له أن يجتهد وإن خالفهم جميعا، وكذلك الحكم في إجماع التابعين بعد الصحابة، وفي كل إجماع ينعقد في كل عصر من الأعصار إلى يوم القيامة، فإن لم يجد في النازلة إجماعا قضى فيها بما يؤديه إليه النظر والاجتهاد في القياس على الأصول بعد مشورة أهل العلم، فإن اجتمعوا على شيء أخذ به، وإن(9/190)
اختلفوا نظر إلى أصح أقوالهم عنده، وإن رأى خلاف رأيهم قضى بما رأى إذا كان نظيرا لهم، وإن لم يكن من نظرائهم فليس ذلك له. قاله ابن حبيب، والصواب له أن يقضي بما رأى وإن كانوا أعلم منه إذا كان من أهل الاجتهاد؛ لأن التقليد لا يصح للمجتهد فيما يرى خلافه بإجماع، وإنما يصح له التقليد عند من يرى التقليد ما لم يتبين له في النازلة حكم، ولا خلاف في هذا، وإنما الخلاف هل للمجتهد أن يترك النظر والاجتهاد ويقلد من قد نظر واجتهد أم ليس ذلك له؟ فقيل: إن ذلك له، وقيل: إن ذلك ليس له إلا أن يخاف فوات النازلة. وأما إن لم يكن من أهل الاجتهاد ففرضه المشورة والتقليد، فإن اختلف عليه العلماء قضى بقول أعلمهم. وقيل: بقول أكثرهم على ما وقع في المدونة من اختلاف الرواية في الحكاية عن الفقهاء السبعة، والأول أصح. وقيل: إن له أن يحكم بقول من شاء منهم إذا تحرى الصواب بذلك ولم يقصد الهوى، أو له أن يكتفي بمشورة واحد من العلماء، فإن فعل ذلك فالاختيار أن يشاور أعلمهم، فإن شاور من دونه في العلم وأخذ بقوله فذلك جائز إذا كان المشاور من أهل النظر والاجتهاد وبالله التوفيق.
[مسألة: القضاء على الغائب في الأرض المتنازع عليها]
مسألة قال سحنون: أخبرنا أشهب قال: كتب ابن غانم إلى مالك بن أنس سأله عن الخصمين يختصمان إليه في الأرض فيقيم أحدهما على الآخر بينة بأنها له، فإذا علم بذلك الذي قامت عليه البينة هرب وتغيب فطلب فلم يوجد، أيقضي عليه وهو غائب؟ فقال مالك: اكتب إليه إذا ثبتت عندك الحجة وسألته عن كل(9/191)
ما تريد أن تسأله عنه واستقر علم كل ما تريد أن تسأله عنه عندك فلم ينض له حجة فتغيب فاقض عليه وهو غائب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إنه إذا تغيب بعد أن استوفى جميع حججه وهرب فرارا من القضاء عليه أنه يقضي عليه ويعجزه، ولا يكون له إذا قدم أن يقوم بحجته، بمنزلة أن لو قضى عليه وهو حاضر، إلا على القول بأن المحكوم عليه إذا أتى بحجة لها وجه بعد الحكم عليه يسمع منه. وقد مضى تحصيل القول في هذا في رسم نذر سنة يصومها من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وأما إن هرب وتغيب قبل أن يستوفي جميع حججه، فالواجب في ذلك أن يتلوم له، فإن لم يخرج وتمادى على مغيبه واختفائه قضى عليه من غير أن يقطع حجته وبالله التوفيق.
[مسألة: النزاع في دعوى المال للغائب]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يموت ويترك زوجته فيكون بيديها ماله ورباعه ودوابه وكل قليل له وكثير، وللهالك أخ غائب فيقوم ابن الأخ الغائب فيقول: أنا أثبت أن هذا المال الذي بيدها كله لعمي ليس لها منه شيء، وإني وارثه فأنا أريد خصومتها، فيقول له: أقم وكالة، فيقول: أنا أثبت ذلك لعمي، فإذا قضي له به وثبت، فضعوه على يدي عدل ولا تدفعوه إلي، أو يقوم في ذلك الرجل بمنزلة ابنه، فيقول مثل مقالته، فقال: أما الابن فإنني أرى أن يمكن من ذلك، فإذا ثبت ما قال لم يدفع إليه، ووضع على يدي عدل إن كان أبوه حيا يوم مات عمه، فأما الرجل غير ذلك(9/192)
فلا أدري ما هذا، ولكني أرى ذلك للابن إن كان أبوه حيا يوم مات عمه، فما ثبت لم يدفع إليه ووضع على يدي عدل.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية للابن أن يخاصم عن أبيه الغائب في رباعه وحيوانه وجميع ما له دون توكيل، وكذلك الأب فيما ادعي لابنه وقع ذلك في الجدار. وقال في الواضحة: إن ذلك في الأب أبين منه في الابن، ولم يجز ذلك لمن سوى الأب والابن من القرابة والعشيرة على ما يأتي له في الرسم الذي بعد هذا، وفي رسم الكبش من سماع يحيى، غير أنه زاد فيه أنه يمكن من إيقاع البينة وإثبات الحق لا أكثر، فليس ما في رسم الكبش مخالفا لهذه الرواية، وقد حملها بعض أهل النظر على الخلاف، وليس ذلك بصحيح، فإذا أثبت ذلك لأبيه أو لابنه ووضع له على يدي عدل، فجاء فادعاه أخذه بلا يمين، ولا فرق في هذا بين الربع والحيوان وغيره، كما لو كان حاضرا فنازعته زوجته فيه وأقام البينة عليه أنه له، بخلاف ما يدعيه وهو بيد غيره، ذلك لا يتم له استحقاقه إلا بعد يمينه أنه ما باع ولا وهب حاشى الأصول على اختلاف في ذلك، وإن جاء فأقر أنه لا حق له في شيء من ذلك رد إلى المرأة، إلا أن يكون عليه دين يغترق ماله، فلا يجوز إقراره أنه لا حق له فيه، وإن مات قبل قدومه ورث ذلك عنه ورثته، وإن قام عليه غرماؤه قبل قدومه قضي لهم به وأعدوا فيه، وكذا يجب في أحد الورثة يدعي دارا لموروثه وسائر الورثة غيب، فيثبتها على القول بأنه يقضى له بحصته ويوقف حصص الغيب، وهو قول مالك في الرسم الذي بعد هذا، ورواية ابن غانم عنه في الشهادات من المدونة وكتاب الولاء والمواريث منها، خلاف قول ابن القاسم فيهما أنه لا يقضي له إلا بحصته خاصة، ولا يوقف للغيب شيء، وقد اختلف في هذا على أربعة أقوال: أحدها ما حملنا عليه هذه الرواية،(9/193)
وما في رسم الكبش من سماع يحيى من التفرقة بين الأب والابن، وبين سائر القرابة والأجنبيين. والثاني أنه يمكن من قام عن غائب يطلب حقا له من المخاصمة عنه في ذلك دون توكيل وإن كان أجنبيا، ذهب إلى هذا سحنون، وإلى أن القاضي يوكل من يقوم للغائب بحقه، وتأول ما روي عن مالك من أنه لا يمكن من ذلك أحد إلا بوكالة، فقال: معناه فيما طال من الزمن ودرس فيه العلم، وهو أحد قولي ابن الماجشون، وروي ذلك عن أصبغ. والثالث أنه لا يمكن من إقامة البينة، ولا يمكن من الخصومة. والرابع أنه لا يمكن من إقامة البينة ولا من الخصومة، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة ومطرف، وقد قيل: إن القريب والأجنبي يمكن من المخاصمة في العبد والدابة والثوب دون توكيل؛ لأن هذه الأشياء تفوت وتحول وتغيب، ولا يمكن من المخاصمة فيما سوى ذلك من الدين وغيره إلا الأب والابن. حكى هذا ابن حبيب في الواضحة عن مطرف، وهو قول خامس في المسألة. واختلف إذا أمكن القائم عن الغائب من المخاصمة عنه فيما يدعيه له دون توكيل على القول بأنه يمكن من ذلك. هل ذلك في القريب الغيبة دون البعيد؟ أو في القريب والبعيد؟ فقيل: إن ذلك في القريب والبعيد سواء، وهو الظاهر من رواية أشهب هذه، إذ لم يفرق فيها بين قرب الغيبة من بعدها، وكذلك حكى أبو زيد عن ابن الماجشون في الحيوان يدعيه للغائب ابنه أو أجنبي، ويقيم عليه البينة أن السلطان يوقفه له على يدي عدل ويكتب إليه، قال: لا لأن السلطان ينظر للناس حاضرهم وباديهم ولم يميز قريبا من بعيد. وقيل: إن ذلك في القريب الغيبة دون البعيد، وإلى هذا ذهب سحنون وابن حبيب فيما حكى عن مطرف، وذلك أنه روي عن مالك أن الابن يمكن من طلب دين أبيه دون توكيل. فقال: وذلك إذا كان المدعي له قريبا، فإذا أتى بالبينة أعدى(9/194)
السلطان عليه بالمال فأتى به ووقفه للغائب، وضرب له أجلا. فإن جاء وطلبه أخذه، وإن قال: قد كنت تقاضيه، أو لم يأت إلى الأجل رد إلى الغريم، وإن كان بعيدا لم يوقف له شيء ولم يعوض للغريم إلا بتوكيل. قال: ولو كان حين جحده الغريم فأمكن من إقامة البينة عليه أقام شاهدا واحدا وعجز عن آخر حلف الغريم وبرئ إلى قدوم الغائب، فإن قدم حلف مع شاهده وأخذ حقه، وإن نكل لم يكن له شيء، وإن نكل الغريم أولا أخذ منه الحق معجلا ووقف للغائب فإذا قدم أخذه بلا يمين، كالصغير والسفيه يقوم له على حقه شاهد واحد، وكذلك قال في الحيوان والعروض إنه لا يمكن أحد من طلب ذلك للغائب دون توكيل إلا فيما قربت غيبته. قال: ولو كان المطلوب بالدين مقرا به ترك، ولم يعرض له كانت غيبة الأب قريبة أو بعيدة إلا بتوكيل. وقول مطرف هذا في الدين هو نحو ما حكى ابن عبدوس عن سحنون أن من غاب في سفره وترك ماله أو عقاره بيد أحد أن السلطان لا يعرض له، قال: ولو كان لم يتركه بيد أحد فقام عليه رجل فأخذه، فإن القاضي ينتزعه منه ويوكل عليه، ولا يمكن أهل العداء من عدائهم، وقال ابن كنانة: ذلك إلى اجتهاد السلطان.
قال محمد بن رشد: وإنما لا يعرض السلطان لمن غاب وترك مالا له بيد رجل أو دينا له قبله إذا سافر كما يسافر الناس، وأما إذا طالت غيبته وانقطع خبره فالسلطان ينظر له ويحرز عليه ماله، على ما وقع في كتاب طلاق السنة من المدونة. وأما قول سحنون: إذا لم يكن المال في يديه بخلافه أن السلطان ينتزعه منه ويوكل عليه فهو على أصله في أن الأجنبي يمكن من الخصومة عن الغائب دون توكيل. وقد مضى القول في تحصيل الاختلاف في ذلك وبالله التوفيق.(9/195)
[مسألة: القضاء بقول وكيل القاضي]
مسألة وسألته عن القاضي يأتيه القوم بينهم الخصومة في قسم شيء بينهم فيولي رجلا حساب ذلك بينهم وهو عنده عدل رضى ثقة فيأتيه فيخبره بما صار لكل واحد منهم، أفيجوز له أن يقسم بينهم بقوله؟ أو لا يجوز ذلك حتى يعلم مثل ما علم الحاسب؟ فإن ذلك قد كان عندنا ولم أقبل إلى أن كتبت إليك بأن أكون دفعت شيئا من ذلك بقول أحد من القسام حتى أعلم منه مثل الذي علموا، فإن كان ذلك شيئا لا بد منه صبرت عليه، وإن كان شيئا لي منه سعة فإن ذلك أرفق بي، فقال: اكتب إليه، إنه ليس على القضاة تفتيش مثل هذا ولا علمه، فأرجو أن يكون من مثل هذا في سعة إذا كان الرجل عدلا، وليكن من شأنك أن تدعو الورثة فتأمرهم يرتضون رجلا، فإذا ارتضوه وليته أمرهم يحسب بينهم، فإني قد رأيت بعض من عندنا يفعل ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن القاضي يقبل قول القاسم الذي قدمه للحساب والقسمة بين القوم فيما أخبره أنه صار لكل واحد منهم، فيمضي ذلك ويقضي به ويشهد عليه، وإن لم يعلم صحته إلا بما أخبره به ولا حضر ذلك ولا شاهده، إذ ليس ذلك عليه ولعله ليس من أهل الحساب، فلو حضر وشاهد لم ينتفع بحضوره، وكذلك كل ما لا يباشره القاضي من الأمور بنفسه، فقول مأموره في ذلك مقبول عنده؛ لأن يده في ذلك كيده، وفعله كفعله، ولو اختلف الورثة في القسمة وتنازعوا في حدودها بعد أن قضى القاضي بها ونفذها بينهم على ما أخبره به القاسم الذي قدمه للقسمة فدعاهم القاضي بأصل القسمة التي أشهد عليها وقضى بها فلم توجد، أو وجدت وشهودها قد بادوا أو لم يتبين منها ما(9/196)
تنازعوا فيه، والقاسم حي لقبل قوله، وأمضى شهادته وحده؛ لأنه بمنزلته في ذلك لو كان هو الذي ولي القسمة [التي أشهد عليها وقضى بها] ، بينهم بنفسه، ولو كان القاضي الذي أمره بالقسمة بالقسمة قد مات أو عزل فشهد عند غيره على ما قسم لم تجز شهادته في ذلك وحده ولا مع غيره، كما لا تجوز شهادة القاضي بعد عزله على ما مضى من حكمه. وهذا معنى ما وقع في الأقضية من المدونة، من أنه لا تجوز شهادة القسام فيما قسموا. وقوله: وليكن من شأنك أن تدعو الورثة فتأمرهم يرتضون رجلا، فإذا ارتضوه وليته أمرهم، هو أمر يستحب له أن يفعله، وليس ذلك بواجب عليه وجوبا يكون شرطا في صحة قضائه بالقسمة، إذ قد لا يجتمعون على الرضى بأحد، فإذا قدم القاضي من يرضاه جاز، وإن لم يرتضوا به كلهم أو بعضهم، وإنما يقدم القاضي قاسما يقسم بين القوم إذا تنازعوا في القسمة فدعى إليها بعضهم وأباها بعضهم، أو كان فيهم صغير أو غائب. وأما إن كانوا كبارا حضورا راضين بالقسمة فليس على القاضي أن يقدم لهم قاسما إن دعوا إلى ذلك، وليقدموا لأنفسهم من يقسم بينهم محتسبا أو بإجارة، وإذا قدم القاضي قاسما يقسم بين القوم لإباية بعضهم، أو لصغره أو لمغيبه فقسم فلا ينبغي للقاضي أن يشهد على إمضاء فعله حتى يعرضه على الكبار منهم، وعلى من قدمه للصغير، أو للغائب إن كان فيهم صغير أو غائب فيسلموه ولا يعترضوا فيه، ويراه هو صوابا في ظاهره وإن لم يقف على صحة باطنه، فإن اعترضوا فيه جميعا، أو أحدهم نظر في ذلك،(9/197)
وكذلك إنما يقدم من يحسب لهم إذا كانوا لا يقومون بالحساب، أو كان بعضهم لا يقوم به، أو كان فيهم الصغير أو الغائب. وأما إن كانوا كبارا يقومون به فإنهم يؤمرون أن يجتمعوا على الحساب ولا يقدم لهم حاسبا إلا أن يختلفوا في الحساب ويتنازعوا فيه مع اتفاقهم على أصول المواريث وبالله التوفيق.
[: تعديل بعض الشهود وترك الآخرين]
ومن كتاب الأقضية لابن غانم قال ابن القاسم: وسأل ابن كنانة مالكا عن الرجلين يختصمان إلى القاضي في الأرض فيقيم هذا بينة من أهل قراه معروفين فيعدلوا على أنها له، ويقيم هذا بينة من أهل قرى وجبال حولها منتحية عنها ولا يأتي لهم بتعديل فيقول هم معروفون في مواضعهم بالعدالة، وهم عندنا غرباء ليس أحد يعرفهم. فقال: إن كانت مواضعهم من عمله فليكتب إليهم فيهم. قال له ابن كنانة: ألا يقضي لهذا الذي جاء بالبينة العادلة؟ فقال: وهذا أيضا قد جاء ببينة. فقال له ابن كنانة: ولكنهم لم يعدلوا. فقال مالك: يقول الخصم هم عدول حيث يعرفون، أكتب إليه إن كان هؤلاء في عمله عليهم وال، فليكتب إليه في أمرهم، وإن كان غير ذلك فليدعهم ولا يقضي بينهم بشيء. فقال له ابن كنانة: إن هؤلاء قد عدلوا ولم يعدل هؤلاء. فقال: إن الأحب إلى أن يدعهم ولا يقضي بشيء.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الأرض ليست(9/198)
في يد واحد منهما، ولو كانت في يد أحدهما لكان هو المدعى عليه، ولوجب أن تبقى الأرض في يده مع تكافؤ البينتين، أو إلى أجل يضرب له في تعديل بينته إذا عدلت بينة صاحبه. وقيل: إنها توقف إذا عدلت بينة صاحبه حتى يعدل هو بينته. وقوله: فليدعهم ولا يقضي بينهم بشيء، يريد ما لم يطل على ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ أنه قال: وهذا أحسن؛ لأن خصومتهم في ربع، ولا أرى أن يدعهم هملا أبدا، وليكشف وليستأن، فإذا طال ذلك ولم يأت صاحب البينة المجهولين بشيء قضى لصاحب البينة المعروفين المعدلين. ولو كان الاختصام في غير ربع لم أر أن يبلغ به هذا الاستيناء، ورأيت أن يقضي لصاحب البينة المعروفين بعد تلوم ليس بطويل، وفي قوله: إن كانت مواضعهم من عمله فليكتب إليه فيهم، دليل على أنه إن لم تكن مواضعهم من عمله لم يلزمه أن يكتب إلى قاضي موضعهم في تعديلهم، ومثله في رسم الأقضية من سماع يحيى من كتاب الشهادات نصا، وهو عندي ظاهر ما وقع في رسم الكبش منه، وفي سماع زونان من كتاب الشهادات المذكور، وقد حمل بعض أهل النظر ما في رسم الكبش وما في سماع زونان على أنه يلزمه أن يكتب في تعديلهم إلى قاضي موضعهم، وإن لم يكن من عمله كما لو كان من عمله، وهو من التأويل البعيد؛ لأنه إنما يلزمه أن يكتب إلى قاضي موضعهم في تعديلهم إذا كان المطلب في حق هو لله، من طلاق أو(9/199)
عتاق وشبهه؛ لأنه يلزمه أن يحتاط في الفروج بما يجد إليه السبيل من الكتاب إلى من يعلم عدالته من القضاة. وأما ما لم يكن فيه حق لله فلا يلزمه السؤال عن الشاهد إلا في موضعه، ويستحب له أن يكتب فيه إلى أهل عمله على ما جاء في هذه الرواية وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل ورثه أربعة فخاصم رجل منهم في دار حتى استحقها وإخوته غيب]
مسألة وسئل مالك عن رجل ورثه أربعة ولد له فخاصم رجل منهم في دار حتى استحقها هو، وإخوته غيب، أتخرج من يد المقضي عليه، وتدفع إلى الذي قضي له بها؟ فقال: لا تدفع إلى الذي قضى له بها، إلا بوكالة، فقيل له: إنهم إخوته، فقال: لا تدفع لأحد إلا بالوكالة، ولكن تنتزع من يد الذي قضي عليه فتوضع على يدي عدل اكتب إليه بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله إنه ينزع من يد الذي قضي عليه حظ إخوته الغيب فيوقف لهم على يدي عدل هو مثل رواية ابن غانم عنه في الشهادات والولاء والمواريث من المدونة وهو على قياس القول بأن الحكم يتم في استحقاق الأصول دون يمين، وقول ابن القاسم في المدونة: إنه لا يوقف للغيب شيء، يأتي على قياس القول بأن الاستحقاق لا يتم في ذلك للمستحق إلا بعد يمينه ما باع ولا وهب كالعروض والحيوان، فإذا وقفت لهم حظوظهم على هذه الرواية أعدي فيها غرماؤهم، وكانت لهم إن جاءوا فادعوها وورثت عنهم إن ماتوا، وإن جاءوا فأقروا أنه لا حق لهم فيها ردت إلى الذي كانت بيديه إلا أن يكون عليهم من الديون(9/200)
ما يغرقها فلا يجوز إقرارهم؛ لأن ذلك من ناحية الهبة. وأما على القول بأنه لا يقضي للقائم إلا بحقه ويترك حظ الغيب بيد المدعى عليه يبيع ويغتل ويفعل فيه ما شاء، وهو مذهب ابن القاسم، فلا يعدى فيه غرماؤهم، ولا يورث عنهم إن ماتوا قبل أن يعلم ادعاؤهم له، واختلف على قياس هذا القول إن جاءوا فادعوه أو ماتوا فادعاه ورثتهم على ثلاثة أقوال: أحدها أن يكون ذلك لهم ولورثتهم بالحكم المتقدم دون بينة ولا استيناف خصومة، وهو قول ابن الماجشون، والثاني أنه يكون ذلك لهم بالحكم المتقدم دون بينة ولا استيناف خصومة، ولا يكون ذلك لورثتهم إلا باستيناف الحكم بعد الخصومة، وهو ظاهر ما في كتاب الولاء والمواريث من المدونة. وقول أصبغ فيما حكى عنه ابن حبيب. والثالث أنه لا يكون ذلك لهم، ولا لورثتهم بعدهم بالحكم المتقدم دون استيناف الخصام وإعادة البينة وهو القياس، إلا في إعادة البينة، فإنه لا وجه له. وقد أنكر ذلك سحنون في كتاب ابنه. وإن جاءوا فقالوا: لا حق لنا في ذلك، فقد قال ابن الماجشون: إن ذلك يترك بيد المطلوب، إلا أن يكون أحدهم مفلسا قام عليه غرماؤه، فلا ينظر إلى قوله، بخلاف ما يوجب للمفلس، والذي يوجبه القياس والنظر أن يترك حظ الغائب بيد المطلوب، إذا أقر أنه لا حق له فيه وإن كان إقراره بذلك بعد التفليس، إلا أن يدعي الغرماء ذلك له فيستأنف به الحكم لهم وبالله التوفيق.
[مسألة: بيع بعض الورثة أرضهم دون الآخرين]
مسألة وسئل مالك عن رجل توفي عن أرض كانت عفاء براحا: لا ماء فيها ولا غراس فاقتسمها الورثة فباعوا من غير واحد وخرجت من أيديهم على ذلك، فاغترس المشترون، ومنهم من اشترى ماء(9/201)
فساقه، ومنهم من اكترى، فأقاموا بذلك نحوا من أربعين سنة أو أكثر حتى حيي ذلك وبلغت النخيل، ثم إن بعضهم باع حظه، فقال المشتري حيث اشترى لمن يمر منهم عليه بمائه: لا أدعك تمر به علي، وقال الذي يمر به عليه: هذا الماء لم يزل هكذا منذ أربعين سنة، لا نعرف إلا ذلك. فهل للمالك يمر بمائه في أرضه؟ فقال: نعم، فقال مالك: أرى أن يدعوهم القاضي بأصل قسم ما قاسموا عليه، فإن أتوا به حملهم عليه، وإن لم يكن إلا ما هم عليه أقروا على ذلك، ولم يكن له أن يمنعه. أرأيت الذي باعه لو جاء الآن يمنعهم؟ ما أرى شيئا الآن أمثل أن يقروا على حالهم إذا لم يكن قسم معروف.
قال محمد بن رشد: قوله أرى أن يدعوهم القاضي بأصل قسم ما قاسموا عليه، فإن أتوا به حملهم عليه، يريد أنه إن كان في أصل ما اقتسموا عليه مرور الماء على البائع لزمه، ولم يكن للمشتري في ذلك كلام، إلا أن يكون لم يعلم بذلك فيكون عيبا فيما اشتري، إن شاء أن يمسك وإن شاء أن يرد به؛ وإن لم يكن في أصل ما اقتسموا أن يمر الماء عليه لم يلزمه ذلك، وكان للمشتري أن يمنع منه، فلم ير على هذا في هذه الرواية مرور الماء على البائع في أرضه أربعين سنة حيازة عليه، وهذا على القول بأن الضرر لا يحاز، وقد مضى الاختلاف في ذلك في نوازل أصبغ من جامع البيوع في مسألة المجرى في العرصة، ولا جعل بيعه للأرض رضى منه بترك القيام على المار بمائه فيها، وذلك خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ في أن من أحدث عليه ضرر فلم يتكلم فيه حتى باع لزم المشتري، ولم يكن له فيه قيام، فأحل المشتري محل البائع في القيام عليه بما كان للبائع أن يقوم(9/202)
به عليه، إذ قال: إن القاضي ينظر له بما كان ينظر به للبائع من أن يدعو بأصل القسم فيحملهم عليه. ويدخل في هذا اختلاف بالمعنى؛ لأنه إذا لم يجعل بيعه رضي بترك القيام فهو بمنزلة ما إذا باع ولم يعلم بما أحدث عليه، أو باع بعد أن علم في حال الخصام قبل أن يقضى له، وقد قال في كتاب النكاح الأول من المدونة في الذي يتزوج عبده بغير إذنه فيبيعه قبل أن يعلم، إن المشتري بالخيار بين أن يمسك أو يرد، ولا يكون له من الخيار في التفرقة ما كان للبائع، وحكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ أنه إذا باع في حال الطلب والخصام قبل أن يتم له القضاء أن المشتري ينزل منزلة البائع، ويكون له من الطلب ما كان له. فما في كتاب النكاح الأول معارض لهذه الرواية ولما في الواضحة. ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن بيعه بعد العلم رضى بترك القيام. والثاني أنه ليس برضى، ويقوم المشتري بما كان للبائع أن يقوم به. والثالث أنه ليس برضى من البائع، ولا قيام للمشتري، وإنما له الرد على البائع بالعيب، إن لم يعلم به، فإن رد عليه كان للبائع القيام، وكذلك إن باع السيد العبد الذي تزوج بغير إذنه بعد أن علم بتزويجه يدخل في ذلك الثلاثة الأقوال وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعى دارا ومنزلا له في يده لطول غيبة المالك أتأذن لعشيرته في مخاصمته]
مسألة وسألته عن عشيرة رجل أتوك فذكروا لك أن رجلا منهم بالأندلس، وأن في يد رجل منهم لصاحبهم منزلا ودارا. وأنه قد ادعى ذلك لنفسه لطول غيبة صاحبهم، وينكر الذي في يده الدار والمنزل الذي ادعوا من ذلك أن يكون لصاحبهم في يده حق، ويسألك عشيرة الرجل الغائب أن تأذن لهم لمخاصمته وإثبات البينة(9/203)
عليه بحق الغائب قبل هلاك من يعلم ذلك ويشهد عليه، وليست في أيديهم منه خلافة. قال: هل ترى أن يأذن لهم في ذلك؟ فقال: أرى ألا يأذن لهم في ذلك، وألا يخليهم إلا بوكالة أو أمر يعرفه.
قال القاضي: هذا مثل ما حكى ابن حبيب في الواضحة من رواية ابن غانم عن مالك، ومن رواية أصبغ عن ابن القاسم عن مالك. وزاد عن ابن القاسم أنه قال: فإن جهل القاضي فأمره بالمخاصمة فحكم عليه أو له لم يجز ذلك عليه ولا له. قال: وقال ابن نافع مثله. وقد مضى القول على هذه المسألة محصلا مستوفى في الرسم الذي قبل هذا، فلا معنى لإعادة شيء منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: ضرب الأجل للمحكوم عليه فيما يدعي من إقامة البينة على حجته]
مسألة وسألته عن الرجل يدعي المنزل في يد الرجل ويأتيه ببينة على ما يستحقه به فيما يحضرنا، فسأل الذي المنزل في يديه عن حجته فذكر حجة لو جاء عليها بالبينة كان أولى بالمنزل من المدعي، وسألنا أن نضرب له أجلا يجلب بينته على ما احتج به فأؤجله الأجل الواسع الشهر والشهرين والثلاثة، فيمضي الأجل ولا يحضرنا شيئا، ويذكر غيبة شهوده وتفرقهم، هل ترى أن يضرب له أجل آخر أم يقضى عليه؟ قال: أما الرجل المصدق المؤمن الذي لا يتهم على أن يدعي باطلا ولا يقوله فإني أرى أن تزيده في الأجل، ويستأنى له. وأما الرجل الملد الذي يرى أنه إنما يريد الإضرار بخصمه وتأخير حقه عنه، فلا(9/204)
أرى له أن يمكنه من ذلك إلا أن يذكر أمدا تقارب شأنه، ثم يختبر كذبه في مثله فيستبرئ ذلك الأمر، القريب، ثم يقضي عليه بما يرى.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن ضرب الأجل للمحكوم عليه فيما يدعي من إقامة البينة على حجته مصروف إلى اجتهاد القضاة بحسب ما يظهر إليه من حال المضروب له الأجل وصدقه فيما يدعي، والأصل في ذلك ما في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري من قوله: واجعل لمن ادعى حقا غائبا، أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى والذي مضى عليه عمل الحكام في التأجيل في الأصول ثلاثون يوما، يضرب له عشرة أيام، ثم عشرة، ثم يتلوم له بعشرة؟ أو ثمانية، ثم ثمانية، ثم ثمانية، ثم يتلوم له بستة؟ أو خمسة عشر يوما، ثم ثمانية ثم أربعة، ثم يتلوم له بثلاثة تتمم ثلاثين يوما، أو يضرب له أجلا قاطعا من ثلاثين يوما يدخل فيه التلوم، والآجال. كل ذلك قد مضى من فعل القضاة والحكام، وهذا مع حضور بينة في البلد. وأما إذا كانت غائبة عن البلد فأكثر من ذلك على ما تضمنته هذه الرواية من اجتهاد الحكام وبالله التوفيق.
[مسألة: احتكم إلى القاضي خصوم أعاجم فلا بد أن يترجم عنهم رجل ثقة مسلم]
مسألة (وقال) : إذا احتكم إلى القاضي خصوم يتكلمون بغير(9/205)
العربية ولا يفقه كلامهم فإنه ينبغي له أن يترجم عنهم رجل ثقة مأمون مسلم، واثنان أحب إلي في ذلك من الواحد، والواحد يجزئ، ولا تقبل ترجمة أحد عنهم من أهل الكفر ولا العبيد ولا المسخوطين، ولا بأس أن تقبل ترجمة المرأة إذا كانت من أهل العدل، وكان الحق مما يقبل فيه شهادة النساء، وامرأتان ورجل أحب إلي؛ لأن هذا موضع شهادة؛ لأن القاضي إذا لم يفهم كلام الخصوم كان بمنزلة من لم يسمعه.
قال محمد بن رشد: هو كما قال؛ لأن كل ما يبتدئ به القاضي فيه بالبحث والسؤال كقياس الجراحات والنظر إلى العيوب والاستحلاف والقسم بين الورثة واستنكاه من أنكر سكره وما أشبه ذلك من الأمور يجزئ فيه الواحد كذا قال في المدونة في الذي يحلف المرأة أنه يجزئ فيه رسول واحد، وكذلك قال في سماع أصبغ من كتاب الحدود في الاستنكاه وهو مما لا اختلاف فيه، والاختيار في ذلك كله اثنان عدلان ويجزئ فيه الواحد العدل. وقوله: إنه لا يقبل ترجمة أحد من أهل الكفر ولا العبيد ولا المسخوطين معناه مع وجود العدول المرضيين. ولو اضطر إلى ترجمة الكافر أو المسخوط أو العبد لأعمل قوله وحكم به، كما يحكم بقول الطبيب النصراني وغير العدل فيما يضطر فيه إلى قوله من جهة معرفته بالطب، وقد حكى فضل عن سحنون أنه قال: لا تقبل ترجمة الرجل الواحد، واحتج بقول مالك: القاضي إذا لم يفقه لسانه كان(9/206)
بمنزلة من لم يسمع، ومعناه أنه لا ينبغي له أن يكتفي بترجمة الرجل الواحد ابتداء، لا أنه إن فعل ذلك لم يجز، وكان حكمه بترجمة الواحد مردودا هذا ما لا يصلح أن يكون أراده والله أعلم به.
[مسألة: لا يكلف العبد من العمل إلا ما يطيق]
مسألة قال مالك: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف العبد من العمل إلا ما يطيق» . قيل لمالك: أفترى أن يقضى على سيده ألا يكلفه من العمل إلا ما يطيق؟ قال: أرى أن يقضي بذلك عليهم ألا يكلفوا من العمل إلا ما يطيقون.
قال محمد بن رشد: قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف» الحديث، هو حديث الموطأ من رواية أبي هريرة، ومعنى قوله فيه بالمعروف أي غير إسراف ولا إقتار، وعلى قدر سعة مال السيد وما يشبه حال العبد أيضا. فليس الوغد الأسود الذي هو للخدمة والحرث كالنبيل التاجر الفاره فيما يجب لهما على سيدهما من الكسوة سواء، وفي هذا دليل ظاهر على أنه لا يلزم الرجل أن يساوي بين عبده ونفسه في المطعم والملبس على ما ذهب إليه بعض أهل العلم لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون» . وقد روي(9/207)
عن أبي اليسر الأنصاري، وأبي ذر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهما كانا يفعلان ذلك، وهو محمول منهما على الرغبة في فعل الخير، لا على أن ذلك واجب عليهما، إذ لم يقل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطعموهم مثل ما تأكلون، واكسوهم مثل ما تلبسون، وإنما قال: مما تأكلون ومما تلبسون، فإن أطعمه وكساه بالمعروف من بعض ما يأكل من الخبز والإدام ويلبس من الصوف والقطن والكتان، فقد شاركه في مطعمه وملبسه، وامتثل بذلك قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وإن تفضل عليه في ذلك فلم يكن ملبسه مثل ملبسه، ومطعمه مثل مطعمه سواء. فعلى هذا تحمل الآثار ولا يكون بينها تعارض. وقد سئل مالك في سماع أشهب من كتاب الجامع أيصلح أن يأكل الرجل من طعام لا يأكل منه عياله ورقيقه، ويلبس ثيابا لا يكسوهم مثلها؟ قال: إي والله، إني لأراه من ذلك في سعة. فقيل له: أرأيت ما جاء من حديث أبي الدرداء؟ قال: كان الناس يومئذ ليس لهم ذلك القوت. ويقضى للعبد على سيده إن قصر عما يجب له عليه بالمعروف في مطعمه وملبسه، بخلاف ما يملكه من البهائم، فإنه يؤمر بتقوى الله في ترك إجاعتها، ولا يقضى عليه بعلفها. وقد روي عن أبي يوسف أنه يقضى على الرجل بعلف دابته، كما يقضى عليه بنفقة عبده، لما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل حائط رجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رق له وذرفت عيناه فمسح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدره وذفراه حتى سكن، ثم قال: من رب هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار، فقال: هو لي يا رسول الله. فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أفلا تتقي الله في البهيمة التي ملكك إياها؟ فإنه شكا إلي أنك(9/208)
تجيعه ".» والفرق بين العبد والدابة، أن العبد مكلف تجب عليه الحقوق من الجنايات وغيرها، فكما يقضى عليه يقضى له، والدابة ليست بمكلفة، لا يجب عليها حق ولا يلزمها جناية؛ فكما لا يقضى عليها لا يقضى لها. وكذلك يقضى للعبد على سيده ألا يكلفه من العمل إلا ما يطيق، على ما جاء في الحديث. والأصل في ذلك ما ثبت (من) أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " كان يذهب إلى العوالي كل يوم سبت، فإذا وجد العبد في عمل ثقيل لا يطيقه وضع منه عنه " على ما وقع في الجامع من الموطأ وبالله التوفيق.
[مسألة: للمرأة المتزوجة التصرف في ثلث مالها]
مسألة وسئل مالك فقيل له: أليس أمر المرأة المتزوجة جائزا في ثلث مالها؟ قال: بلى لذلك وجوه إلا أن تكون ضارة.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك هذا أنها إذا قصدت بما فعلت الضرر لم يجز، وإن كان أقل من الثلث، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك واختاره، وقد قيل: إن الثلث فما دونه جائز وإن قصدت الضرر، وهو قول سحنون ورواية يحيى عن ابن القاسم، ورواية يحيى عن غير ابن القاسم، وسحنون عن ابن القاسم أنها إذا قصدت بالثلث الضرر لم يجز، بخلاف ما دون الثلث، فلا اختلاف في المذهب أن فعلها في أكثر من ثلث مالها لا يجوز دون إذن زوجها، وإن لم تقصد بذلك ضررا. واختلف إن قصدت بالثلث فما دونه ضررا على ثلاثة أقوال: أحدها(9/209)
أن ذلك لا يجوز. والثاني أن ذلك جائز. والثالث أنه يجوز فيما دون الثلث، ولا يجوز في الثلث. فهذا تحصيل الاختلاف في هذه المسألة. واختلف هل فعلها محمول على الجواز حتى يرده الزوج؟ أو على الرد حتى يجيزه؟ فحكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون أنه محمول على الرد حتى يجيزه الزوج، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يجوز للمرأة قضاء في ذي بال من مالها إلا بإذن زوجها» . وهو ظاهر قول مالك في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب العتق، فعلى قياس هذا إذا تصدقت أو أعتقت أكثر من الثلث فلم يعلم بذلك زوجها حتى مات عنها أو طلقها لم يلزمها ذلك، وقد روى ذلك عن بعض أصحاب مالك، وإن ادعت أنه الثلث أو أقل من الثلث كان عليها إقامة البينة، وحكي عن ابن القاسم أنه محمول على الإجازة حتى يرده الزوج، وهو قول سحنون في سماع ابن القاسم، فعلى قياس هذا إذا لم يرده الزوج حتى مات عنها أو طلقها لزمها، وإن ادعى الزوج أنه أكثر من الثلث كان عليه إقامة البينة. ومن أهل العلم من لا يجيز للمرأة قضاء في شيء من مالها قل أو كثر بغير إذن زوجها، لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجوز للمرأة أمر في مالها إلا بإذن زوجها» . ومنهم من يجيز لها القضاء في جميع مالها بغير إذن زوجها استدلالا بظواهر آثار مروية في هذا المعنى، تركت ذكرها اختصارا، فما ذهب إليه مالك في مراعاة الثلث عدل بين القولين وبالله التوفيق.
[مسألة: ضمان ما أفسدت المواشي من حوائط الغير]
مسألة وسئل عما أفسدت المواشي بالليل والنهار من الحوائط التي يحرسها أهلها بالليل أو قد عطلوها لا تحرس أذلك عندك سواء؟(9/210)
فقال: نعم، هو سواء، ما أفسدت المواشي من الحوائط ومن الزرع محظورا عليه أو غير محظور، تحرس أو لا تحرس، فعلى أهل المواشي ما أفسدت بالليل، وما أفسدت بالنهار فليس عليهم فيه شيء، وما أفسدت المواشي أو الدواب بالليل فهو ضمان على أهلها وإن كان ذلك أكثر من قيمة المواشي يغرم له قيمة ما أفسدت بالغا ما بلغ. قيل: أرأيت إن كانت لم يبد صلاحها؟ قال: يغرم قيمتها يوم أصيبت وأفسدت لا يوم تصلح. قيل له: أرأيت الدابة لو أفلتت فوطئت على رجل نائم بليل أيغرم صاحبها؟ قال: لا، إنما أريد بهذا الحديث الحوائط الزرع والحرث.
قال محمد بن رشد: هذا كله كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه في المذهب، والأصل فيه ما جاء من أن «ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أهل الحوائط حفظها بالنهار» ، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها، وإنما يسقط على رب الماشية ضمان ما أفسدت ماشيته بالنهار من الزرع والحوائط إذا أخرج ماشيته عن جملة الزرع والحوائط بذائد يذودها إلى مراعيها فشذ منها شيء ورجع إلى الزرع أو الحائط فأفسد فيها أو رعى بها فيما بين الزرع والحائط بذائد يذودها عنها فوقع منها شيء في الزرع أو الحوائط دون تفريط ولا تضييع من ذائدها. وأما إن أهملها بين الزروع والحوائط دون راع أو براع فضيع أو فرط حتى أفسدت فهو ضامن لما أفسدت، والضمان في ذلك على الراعي المضيع المفرط لا على رب(9/211)
الماشية، إذ ليس على رب الماشية أكثر مما صنع. وقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها ليس على عمومه في جميع ما أفسدت أو قتلت بالليل، وإنما المراد به الحوائط والزرع والحرث، كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. إما لأنه رأى الحديث مقصورا على سببه، وإما بدليل الإجماع أنها لو هدمت حائطا أو قتلت رجلا لم يضمن صاحبها شيئا؛ لأن الإجماع يخصص العموم، وما بقي من عموم هذا الحديث بعد التخصيص وهو ما أفسدت المتفلتة بالليل بالرعي من الحوائط والزرع والحرث مخصص من عموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جرح العجماء جبار» . فهذا تحصيل القول على مذهب مالك في ترتيب هذين الأثرين. وأهل العراق لا يرون على أهل المواشي ضمان ما أصابت ماشيتهم المنفلتة بالليل والنهار في شيء من الأشياء، ويجعلون قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جرح العجماء جبار» ناسخا لقضائه أن ما أفسدت المواشي بالليل ضمان على أهلها. والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن النسخ إنما يكون بما يتعارض، ولا يمكن الجمع بينه بتخصيص بعضه ببعض وبيانه له. وقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن ما أفسدت المواشي ضامن على أهلها على ما قصه الله علينا في محكم كتابه من شرع داود وسليمان في قوله: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] لأن النفش بالليل والهمل بالنهار لأنهما حكما جميعا بالتضمين، فإنما خالف شرعنا شرعهما في صفة التضمين، كما اختلف اجتهادهما - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - في ذلك، فقضى داود بالغنم لصاحب الحرث، وقضى سليمان لصاحب الحرث بأن يأخذ الغنم فيستغلها حتى يستوفي من غلتها ما كان يخرج له ما أفسد من حرثه، فقضاء سليمان الذي أثنى الله تعالى عليه بقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] مخالف لشرعنا بعيد منه، لا يحتمل أن يصرف بالتأويل إليه. وأما قضاء داود فيحتمل أن يكون ذلك موافقا لشرعنا، بأن(9/212)
يكون ما أفسدت مستغرقا لقيمة الغنم ولا يكون له مال سواها. وقوله: إن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها وإن كان ذلك أكثر من قيمتها، يريد وليس له أن يسلم المواشي بقيمة ما أفسدت، بخلاف العبيد فيما جنوا؛ والفرق بين المسألتين أن العبد هو الجاني؛ لأنه مخاطب مكلف مأمور منهي، فلا يلزم السيد من جنايته أكثر من أن يسلمه، والماشية ليست هي الجانية، إذ ليست بمخاطبة، وإنما الجاني هو، إذ لم يتوثق منها حتى لا يمكنها الانفلات، وإن أفسدت الزرع وهو صغير أخضر فيكون على ربها قيمته لو كان يحل بيعه على الرجاء والخوف، قاله في رسم نقدها بعد هذا من سماع عيسى، وهذا مما لا اختلاف فيه، إذ كان لا يرجى أن يعود إلى هيئته. وأما إن كان رعيه صغيرا يرجى أن يعود إلى هيئته، فحكى ابن حبيب عن مطرف أن القيمة تكون في ذلك، ولا يستأنى به إن نبت كما يصنع بسن الصغير، ويأتي على مذهب سحنون أنه لا يستأنى به؛ لأنه قال في كتاب ابنه في الذي يقطع شجرة الرجل من فوق أصلها أنه لا يقضى عليه الساعة، ولكن ينتظر الشجرة فإن عادت لهيئتها كما كانت أولا فلا شيء على القاطع، وإن هي عادت ولم تتم على حالها الأول غرم ما نقص. . قال: ولا يرجع عليه بأجر السقي والعلاج كالجرح الخطأ إذا عاد على غير عثم فلا شيء على الجارح، ولا يغرم أجر المداوي، خلاف قول الفقهاء السبعة أن عليه أجر المداوي (قال مطرف) : فإن عاد الزرع لهيئته بعد الحكم مضت القيمة لصاحب الزرع ولم يرد، وهو الذي يأتي على قول أشهب في سماع أصبغ من كتاب الديات في الذي يضرب فيذهب عقله فيقضى له بالدية بعد الاستيناء ثم يعود عليه عقله أنه حكم قد مضى، وقد قيل: إن القيمة ترد، وهو الذي يأتي على(9/213)
ما في الجراحات من المدونة في الذي يعود إليه بصره بعد أن قضي له بالدية إنه يردها. قال مطرف: فإن تأخر الحكم حتى عاد الزرع إلى هيئته سقطت القيمة، ولم يكن على المفسد إلا الأدب، إلا أن يكون ما أفسد من ذلك يرعى وينتفع به فيكون عليه قيمته ناجزا علي ما ينتفع به، وليس على الرجاء والخوف، وقال أصبغ: يقوم على الرجاء والخوف نبت أو لم ينبت، كان ذلك قبل الحكم أو بعده وبالله التوفيق.
[: للقاضي يسمع من البينة قبل وقت وجوب الحكم بها]
من سماع عيسى بن دينار من كتاب أوله نقدها نقدها قال عيسى: وسئل عيسى ابن القاسم عن رجل ادعى وكالة ولم يثبتها بعد، وشهود الحق الذي وكل فيه حضور، أيقبل القاضي شهادتهم؟ قال: إن خاف أن يخرجوا إلى موضع وكان لذلك وجه قبل القاضي شهادتهم ثم ثبتت الوكالة بعد، وإلا فلا حتى تثبت الوكالة.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها من قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن القاضي يسمع من البينة قبل وقت وجوب الحكم بها. من ذلك قوله في كتاب طلاق السنة منها: إن القاضي يسمع البينة على المفقود بأنه أوصى بوصية أو أوصى إلى رجل قبل الحكم بتمويته. ويأتي على قول مطرف وابن الماجشون أن القاضي لا يقبل من أحد بينة ولا يسمعها إلا في حال يحكم بها للطالب أو يدفع بها عن المطلوب أنه لا يسمع من بينته حتى تثبت وكالته، وإن خشي مغيب بينته أشهد على شهادتهم وبالله التوفيق.(9/214)
[مسألة: إخراج المدعى به من اليد عند انعدام البينة]
مسألة وعن رجل أتى إلى القاضي فقال: إن الحاكم قبلك حكم بدار كذا لي على فلان، وأثبت ذلك بشهيدين، والدار في أيدي قوم غير المسمى الذي حكم عليه، فقالوا: لا علم عندنا بما يقول، وهذه الدار في أيدينا منذ كذا وكذا قبل الحكم وهي لنا. قال: أرى أن يخرجها القاضي من أيديهم ويدفعها إلى الذي قامت له البينة إذا كان الشهيدان عدلين، وأرى أن ينفذ قضاء الحاكم الذي قبله إذا كان قد شهد على ذلك شهيدان عدلان.
قال محمد بن رشد: إنما يدفعها إلى من أثبت الحكم فيها بعد الإعذار إلى من هي في يديه، وهذا إذا كان الحكم الأول بغير إقرار من الذي حكم عليه، وأما إن كان بإقرار من المحكوم عليه أولا فلا تخرج من يدي من هي الآن في يديه إلا بحكم موثق، وهذا بين قائم من المسألة التي تحتها وبالله التوفيق.
[مسألة: إقرار الرجل بمال لغيره]
مسألة وعن الحاكم يأتيه الرجلان فيدعي كل واحد منهما أرضا بالصحراء، ثم يقر أحدهما أنها لصاحبه من غير بينة، كيف ينبغي للحاكم أن يشهد؟ أيشهد أنه حكم بهذه الأرض لفلان وهو لا يدري أهي في يديه أم لا؟ قال: بل يشهد له أن فلانا أقر لفلان بهذه الأرض، ولا يشهد أنه قضى له بها، وإنما يشهد على إقراره بما أقر له به، ولا يحكم فيها بشيء إلا أن يقيم البينة له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة المعنى، إذ قد يقر الرجل للرجل بمال غيره، فإن قضى له عليه بإقراره وأشهد أنه قضى له ولم يذكر أنه إنما قضى له عليه بإقراره اقتضى إشهاده أنه قضى له ببينة تثبت عنده أن(9/215)
ذلك الشيء له، فأدى ذلك إلى أن يؤخذ من الرجل ماله باطلا بغير حق وبالله التوفيق.
[مسألة: كيفية ضمان ما اأتلفته البهائم]
مسألة وسئل عن الزرع الصغير الأخضر تفسده البهائم كيف غرمه؟ قال: يغرم قيمته لو كان يحل بيعه على الرجاء فيه والخوف.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في آخر رسم من سماع أشهب قبل هذا، فلا معنى لإعادة شيء منه ولله التوفيق.
[: رجل وجد جبا في أرضه وباب الجب في أرض غيره]
ومن كتاب أوله استأذن سيده في تدبير جاريته وسئل عن رجل وجد جبا في أرضه، وباب الجب في أرض غيره، قال: الجب لمن الباب في أرضه؛ لأن منفعته له كانت وهي خطته، وكذلك العلي يكون للرجل، والسفل لآخر، وباب ذلك إلى ناحية [وباب ذا إلى ناحية] أخرى، فليس بالعلى يستحق السفل، فالجب لصاحب الباب، وما عليه لصاحب الأرض، وهذا بين إن شاء الله. وقال في غير هذا الكتاب من سماع عيسى بن دينار وهو في كتاب العتق: إن لكل واحد أن يأخذه من أرضه وينتفع به ويسده فيما بينه وبين صاحبه ولا يستحقه بالباب.
قال محمد بن رشد: اختلاف قول ابن القاسم في هذه المسألة جار على اختلافهم فيمن اشترى أرضا أو دارا فوجد فيها شيئا لم يعلم(9/216)
به هو ولا البائع من صخر أو رخام أو عمد وما أشبه ذلك، هل يكون له أم لا؟ فالمعلوم من مذهب ابن القاسم أنه لا حق في ذلك للمبتاع، وهو للبائع إن ادعاه وأشبه أن يكون له بميراث، وإلا كان سبيله سبيل اللقطة، وذهب سحنون وابن حبيب وابن دينار إلى أنه للمبتاع، فقول ابن القاسم في هذه المسألة: إن الجب لصاحب الباب ولا حق فيه لصاحب الأرض وهو على مذهبه المعلوم في أن المبتاع لا حق له فيما وجد في الأرض الذي ابتاع، وأنه للبائع إذا أشبه أن يكون له، وإذا حكم بالجب لصاحب الباب بدليل كون الباب في أرضه وجب أن يكون الذي الجب في أرضه مخيرا في رد الدار على من اشتراها منه إن كانت في يديه بشراء؛ لأنه عيب فيها، وإن شاء حبسها ورجع بقيمة ما استحق من أرضه، وهو موضع الجب منها، وإن كان الذي حكم له بالجب بدليل كون الباب في أرضه ابتاع الأرض ولم يعلم بالجب الذي وجد بابه فيها كان للبائع أن يرجع في البيع؛ لأنه يقول: لو علمت بالجب لم أبعها بهذا الثمن. وقوله الثاني إن له أن يأخذ الجب من أرضه وينتفع به ويسده فيما بينه وبين صاحبه هو على مذهب سحنون وابن حبيب وابن دينار، وإذا حكم له بما قابل أرضه من الجب على هذا القول لم يكن له على البائع منه رجوع إن كان الجب يعيب أرضه ولا للبائع عليه رجوع إن كان الجب يزيد في ثمن الدار، ولو تقاسم رجلان أرضا فوجد تحت حظ أحدهما جب بابه في حظ صاحبه انتقضت القسمة على القول بأن الجب لصاحب الباب، كما لو وجد الجب ببابه في أرض أحدهما، وعلى القول الآخر تنبت القسمة بينهما ويكون الجب للذي وجد في حظه، وإن كان بابه في حظ صاحبه. هذا الذي أقول به في معنى هذه المسألة، وقد مضى في آخر مسألة من جامع البيوع بيانه. وقد رأيت لابن دحون أنه قال: إذا اقتسم رجلان أرضا فوجد تحت حظ أحدهما جب بابه في حظ صاحبه، فقيل: إن القسمة(9/217)
تنتقض على القول بأن الجب لمن الباب في أرضه، وعلى القول بأن لكل واحد منهما ما تحت أرضه، وقيل: إنها لا تنتقض على القولين جميعا. والصحيح ما ذهبنا إليه من أنها تنتقض على القول بأن الجب لصاحب الباب، ولا تنتقض على القول بأن لكل واحد منهما ما تحت أرضه منه؛ لأنه لا يكون لكل واحد منهما ما تحت أرضه منه إلا على القول بأنه لو وجد أحدهما في حظه جبا أو بيرا أو صخرا أو عمدا أو ما أشبه ذلك كان له، ولم يكن لصاحبه نقض القسمة وبالله التوفيق.
[مسألة: درء الحد عمن وطىء جارية بشبهة ملك]
مسألة وسئل عن الرجل يدعي جارية في يد رجل فيقول: اشتريتها من سوق المسلمين ويقيم البينة المدعى أنها له، ويقر الذي هي في يديه بوطئها ويزعم أنه اشتراها في سوق المسلمين ولا بينة له، هل يحد؟ قال: يدرأ عنه الحد، قيل له: فلو قال: اشتريتها منك ولا بينة له، قال: أرى أن يدرأ عنه الحد إذا كان ممن لا يتهم.
قال محمد بن رشد: أما الذي يدعي الجارية في يد رجل ويقيم البينة أنها له ويقر الذي هي في يديه بوطئها، أو تقوم عليه بينة بوطئها ويزعم أنه اشتراها في سوق المسلمين فلا اختلاف في أن الحد يدرأ عنه في الوجهين، وإن عجز عن إقامة البينة على ما ادعى من شرائها في سوق المسلمين، وقضى لمدعيها بها بالبينة التي أقامها أنها له. وأما الذي يقر بوطء أمة الرجل ويدعي أنه اشتراها من سيدها ولا بينة له على ذلك،(9/218)
والسيد منكر فإنه يحلف ما باعها منه، ويحد عند ابن القاسم، هذا قوله في المدونة وغيرها - وقال أشهب: يدرأ عنه الحد؛ لأنه لم يقر بزنى وإنما أقر بوطء حلال، وهو على أصله في أنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما أقربه على نفسه، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وحديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يرد ذلك في الذي أقر بوطء جارية امرأته، وادعى أنها وهبتها له فقال: لتأتيني بالبينة أو لأرمينك بأحجارك، فاعترفت المرأة بذلك فخلى سبيله، إذ لا يحتاج على هذه الرواية وعلى قول أشهب إلى اعتراف المرأة. وأما إن أقر له سيدها بما ادعاه من اشترائها أو نكل عن اليمين فحلف هو أو استحقها فلا اختلاف في أنه يدرأ عنه الحد فيها. وأما إن شهد عليه بوطئها فادعى أنه اشتراها من سيدها، وسيدها منكر، فلا اختلاف في أنه يحد إذا حلف سيدها أنه ما باعها منه، واختلف إن صدقه فيما ادعى من شرائه إياها منه، أو نكل عن اليمين، يحلف هو واستحقها. فقال ابن القاسم: إنه يدرأ عنه الحد؛ لأن الوطء مما يستخفى به، بخلاف الذي تقوم عليه البينة بالسرقة فيدعي أن المتاع متاعه فيصدقه رب المتاع، أو ينكل عن اليمين فيحلف هو ويستحق المتاع، إذ لا يأخذ أحد متاعه سرا على وجه السرقة، وفي ذلك اختلاف، وقال أشهب: يحد إن لم تقم بينة على ما ادعى من الشراء ولا يسقط عنه الحد بتصديق السيد على الشراء ولا بنكوله على اليمين وحلفه هو، ولا بشاهد على الشراء مع يمينه، ولا يلحق به الولد، وتكون الأمة أم ولد إن استوجبها بشيء من ذلك لإقراره لها بذلك: واستحسن أشهب إن أقام رجلا وامرأتين أن يلحق به الولد ويدرأ عنه الحد وليس بالقياس وبالله التوفيق.
[: أجر المعازف واللهو إذا اختصم فيه أيقضى به]
ومن كتاب أوله أوصى وسئل عن أجر المعازف واللهو إذا اختصم فيه أيقضى به؟(9/219)
قال: أما للهو الذي يجوز ورخص فيه مثل الدف، فأرى أن يقضى به، وأما مثل المزمار والعود فلا أرى الإجارة به يقضى به.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال إن ما يجوز من اللهو ورخص فيه يقضى فيه بالإجارة، وإن ما لا يجوز منه لا يقضى فيه بإجارة، وقوله: إنه لا يقضى فيه بإجارة، كلام فيه إجمال يفتقر إلى تفصيل وشرح وبيان. أما إذا عثر على ذلك قبل استيفاء الإجارة بالعمل، فلا اختلاف في أن الإجارة تفسخ وتبطل الأجرة عن المستأجر، ولا يكون عليه منها شيء إن كان لم يدفع، ويتخرج الأمر إن كان قد دفع على وجهين: أحدهما أنها ترد عليه، والثاني أنها تؤخذ من الأجير فيتصدق بها على المساكين أدبا له، وأما إن لم يعثر على ذلك حتى فاتت الإجارة بالعمل فيؤدبان جميعا ويتصدق بالإجارة على المساكين على كل حال، قبضت أو لم تقبض، إذ لا يحل للأجير ولا ينبغي أن يترك للمستأجر إن كان لم يدفعها، ولا أن ترد إليه إن كان دفعها، إذ قد قبض عوضها. هذا وجه القول في هذه المسألة على أصولهم في المسلم يشتري الخمر والخنزير من المسلم، وقد مضى القول على ذلك في رسم نقدها نقدها من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع وغيره وبالله التوفيق.
[: هدم الحائط الساتر للغير للضرورة]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار قال ابن القاسم: وإذ كان حائط لرجل سترة لرجل آخر فليس له أن يهدمه إلا لوجه يرى أن لهدمه وجها لم يلتمس به ضرره، فإن انهدم من أمر من السماء فقال له صاحب الدار: ابن(9/220)
حائطك واستر علي فإنه إن شاء بنى وإن شاء ترك، ولا يجبر على ذلك، وقيل للذي يطلب السترة: إن شئت فاستر على نفسك، وإن شئت فدع، قال عيسى: وإن هدمه للضرورة وترك أن يبنيه رأيت للسلطان أن يجبره على إعادته كما كان، لا يسوغه الضرر، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» فإن هدمه لوجه منفعة أو لتجديده، ثم عجز عن ذلك فاستغنى عنه فليس بجبر على إعادته، ويقال لجاره: إن شئت فاستر على نفسك في أرضك، وإن شئت فدع، قال سحنون: يجبر على كل حال.
قال محمد بن رشد: قول عيسى بن دينار: وإن هدمه للضرورة رأيت للسلطان أن يجبره على إعادته، يريد كان له مال أو لم يكن له مال، كالحائط بين الشريكين. إما أن يبني، وإما أن يبيع ممن يبني، وهو مفسر لقول ابن القاسم. فتحصيل قوله في هذه الرواية، أنه إن انهدم من أمر من السماء أو هدمه خوف سقوطه، لم تلزمه إعادته وإن كان له مال، وقيل لجاره: استر على نفسك في حظك أو دع، وإن هدمه ليجدده أو لوجه منفعة أجبر على إعادته إن كان له مال، ولم يلزمه شيء إن لم يكن له مال، وإن هدمه للمضرة بجاره أجبر على إعادته كان له مال أو لم يكن له مال كالحائط بين الشريكين. إما أن يبني أو يبيع ممن يبني، وهذا أمثل ما في سماع يحيى من كتاب السلطان، وسوى في رسم الصلاة من سماع يحيى من هذا الكتاب بين أن ينهدم أو يهدمه لوجه منفعة في أنه إنما يجبر على إعادته إن كان له مال. وحكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون أنه كالحائط بين الشريكين، سواء هدمه أو انهدم يجبر على أن يبنيه أو يبيعه ممن يبنيه إن لم يكن له مال، وهو ظاهر قول(9/221)
سحنون: يجبر على كل حال. قال ابن الماجشون في الثمانية: فإن لم يكن له مال بيع عليه من داره ما يقيمه به، وإن لم تكن الدار ملكا له، وكانت صدقة. أو عمرى كان لصاحبه أن يبنيه من ماله، ويتبعه به دينا في ذمته.
قال ابن رشد: ومعنى ذلك عندي إذا أبى أن يسلم إليه ماله في الدار من سكناها حياته. وأما إن رضي بذلك فلا يلزمه أكثر من ذلك، فإذا استوفى من كرائها نفقته رجعت الدار إليه على ما كانت. وقال أصبغ: لا يجبر صاحب الجدار أن يبنيه على حال، وله أن يهدمه إن شاء ويجعلها عرصة، وإن شاء صاحبه ستر، وإن شاء ترك. قال: وهو قول مالك.
قال محمد بن رشد: والقياس قول أصبغ، وتفرقة ابن القاسم استحسان، وقول ابن الماجشون إغراق وبالله التوفيق.
[مسألة: هدم العوج الضار بجدار الجار]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يبني بنيانا مستعليا فيعوجه في العلو ويميله على هواء غيره، فيبني الذي له الهواء في أرضه، فإذا انتهى إلى العوج منه ولم يستطيع أن يقوم حائطه إلا بهدم العوج هل ترى أن يهدم ذلك؟ قال: نعم يهدم وليس له أن يدخل في هواء غيره. قيل له: إن الهدم يكون فيه تلف نفقة(9/222)
عظيمة قد أنفق على ذلك البنيان. قال: نعم يهدم كانت النفقة ما شاءت أن تكون.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة، لا اختلاف فيها ولا إشكال في شيء من معانيها؛ لأن من ملك بقعة من الأرض فهو يملك ما فوقها من الهواء وما تحتها من الثرى، فليس لأحد أن يدخل عليه في شيء من ذلك بغير رضاه، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» وبالله التوفيق.
[: استئناف الخصومة بعد موت من قضى فيها]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
وسئل عن القاضي يقضي لرجل فلا يحوز المقضي له ما قضي له به حتى يموت القاضي أو يعزل، هل يستأنف الخصومة في ذلك الأمر أم لا ينفعه ما كان قضي له به؟ وإن لم يكن حازه أو إن قضى له به، ثم أقام سنة أو أكثر من ذلك حتى يموت القاضي أيضا أو يعزل؟ قال ابن القاسم: يمضي القضاء الذي قضى به القاضي الأول، ولا ينظر فيه القاضي الثاني، إلا أن يكون جورا بينا فينقضه، وهذا أمر قد بلغنا أنه كانت منكم فيه زلة عظيمة، فالقضاء ماض ولا يستأنف فيه قضاء، وهذا أمر لا اختلاف فيه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال من أن حكم القاضي لا يفتقر إلى حيازة، وهو مما لا اختلاف فيه، وقد مضى نحوه والقول فيه في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، ويأتي أيضا في رسم المكاتب من سماع(9/223)
يحيى، وفي رسم الصبرة منه القول على ما يفسخ القاضي من أقضية من قبله من القضاة مما لا يفسخ مستوفى إن شاء الله تعالى.
[: طلب تعديل من يعلم القاضي بجرحه]
ومن كتاب أوله يدير ماله قال ابن القاسم في قاض شهد عنده رجل وهو يعلم منه الجرحة وغير العدالة أيأمره أن يأتي بمن يعدله؟ قال: لا ينبغي له أن يقبل ذلك ولا يلتفت إلى شيء من ذلك إذا كان يعلم منه غير العدالة. قال: وتفسير ذلك عندي أن ذلك إذا شهد عنده بحدثان ما علم منه فلا يسأله تعديلا، ولا يقبل له شهادة. فأما إذا كان زمان ذلك قد طال أو تقادم ولا يدري حالته في اليوم الذي شهد عنده عنه، فلا أرى أن تطرح شهادته بما علم منه إذا كان على ما وصفت، وأنا أرى أن يسأل عنه، فلعله قد تاب وظهرت توبته، وعرف منه التزيد في البر واجتهاد في الخير والتزيد فيه.
قال محمد بن رشد: هو كما قال؛ لأن أمر الشهود في عدالتهم وجرحتهم إلى القاضي هو يعمل في أمرهم بعلمه فيهم، لقول الله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] فالرضى في هذا إنما هو إلى الحاكم، فإذا كان الحاكم عالما بعدالة الشاهد حتى لو لم يكن حاكما لزمه أن يعدله وجب عليه قبول شهادته، ولا يستعدله سرا ولا علانية، وإن سأله ذلك المشهود عليه، وإن جرح عنده لم يقبل التجريح فيه إلا بعداوة، قاله محمد. وإنما يقبل التجريح فيمن لم يعرفه بعدالة حتى عدل عنده، وإذا كان عالما بجرحة الشاهد لم يقبل فيه التعديل، إلا أن يكون الأمر الذي علمه من الجرحة به قد طال، فيسأل عنه، ويقبل فيه التعديل كما قال في التفسير، ومعنى ذلك إذا ثبت عنده توبته من الجرحة التي علمه بها بشهادة(9/224)
شاهدين عدلين، وإخبار ممن يوثق بقوله، وقال ابن كنانة: إذا عرفه القاضي بجرحة ووجد من يعدله فليرفع ذلك إلى الإمام يكون هو الناظر فيه؛ لأنه يستشنع من القاضي أن يرد شهادته وهو يجد من يعدله. وقال عيسى بن دينار: لا يرفع شهادته ويردها كما قال ابن القاسم، ولا يحكم بشهادة الشاهدين، وإن علم أنهما شهدا بحق، إذا علم بجرحتهما؛ لأنه إذا فعل ذلك كان قد حكم بعلمه لا بشهادة الشهيدين وبالله التوفيق.
[: تصرف الحامل في مالها في حدود الثلث]
ومن كتاب الجواب وسئل عن الحمل بأي شيء يعلم أن لحملها ستة أشهر حتى تحجب عن القضاء في مالها بمنزلة المريض، وفي غير ذلك، أبقولها أم بماذا؟ قال ابن القاسم: نعم بقولها، ولا يرى ذلك النساء، ولا يسألن عنه، ولا يلتفت إلى قولهن فيه، القول قولها، وهي بنفسها أعلم، قال أصبغ: وبإثقالها إذا أثقلت، قال عز وجل: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} [الأعراف: 189] . فهو مرض.
قال محمد بن رشد: هذا مثل قول مالك في موطأه إن الحامل إذا مضى لحملها ستة أشهر لم يجز لها قضاء إلا في ثلث مالها، وإنما تصدق في الإثقال إذا أقرت به على نفسها قبل الصدقة وما أشبهها مما لا يجوز للمريض فعله. وأما إذا ادعت ذلك بعد، فلا تصدق إلا أن يعلم صدق قولها، وقد مضى في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب التخيير والتمليك زيادة في معنى هذه المسألة وبالله التوفيق.(9/225)
[مسألة: أقر لجارية بمهر وصدقة]
مسألة قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن رجل ابتاع جارية فولدت منه أولادا. وقد كان الرجل يخبر الناس أنها امرأته تزوجها، وقد كان يحلف بطلاقها ثم مرض الرجل فأشهد لها أن لها قبله خمسين دينارا بقية من مهرها، وتصدق عليها بأشياء في مرضه، ثم صح الرجل فعاش بعد ذلك نحوا من سنة، ولا يذكر من ذلك شيئا، ثم مرض فمات. قال ابن القاسم: لها ثمنها في ماله، وهي امرأته، يرثها وترثه، ولها ما كان أقر لها به في مرضه الأول من بقية مهرها، تأخذه من ماله إذا كان قد صح من مرضه الأول كما ذكرت، وأما ما كان تصدق به عليها في مرضه الأول فليس لها منه قليل ولا كثير، إلا أن تكون قد قبضته منه في صحته وحازته فهو لها. قال: وإن مات في مرضه الأول الذي أقر لها فيه بما أقر، وتصدق عليها به بما تصدق، فلا مهر لها ولا صدقة. إلا أن يجيزهما الورثة، ولها الميراث بما كان شهد لها عليه من إقراره قبل ذلك في صحته أنها امرأته، وأنه قد كان يحلف بطلاقها.
قال محمد بن رشد: في قول ابن القاسم في هذه المسألة لها ثمنها في ماله، وهي امرأته يرثها وترثه، نص جلي على أنه رآهما زوجين يتوارثان بإقراره في صحته بنكاحها إلى ما كان يحلف به من طلاقها مع كونها في ملكه وتحت حجابه، وأنها قد ولدت له أولادا بعد إقراره بنكاحها وإن لم يعلم منها في حياته إقرار له بالنكاح. وقد قيل: إن(9/226)
الميراث إنما وجب لظهور الولد بينهما بعد إقراره بنكاحها، لا لكونها في ملكه وتحت حجابه لكونها على ذلك في الأصل لحق الملك وهو صحيح من التأويل، ولو كانت بائنة عنه في مسكنها لم يرث واحد منهما صاحبه إذا لم تقم بينة على أصل النكاح إلا أن يكونا متقاررين جميعا على النكاح في صحتهما مع طول الأمر واشتهاره. قاله ابن القاسم في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب النكاح، وفي ذلك اختلاف قد ذكرناه هناك وسيأتي تحصله في رسم الأقضية من سماع يحيى من كتاب الشهادات إذا مررنا به إن شاء الله. وقوله: إن لها الخمسين دينارا التي أقر لها بها في مرضه من بقية مهرها إذا لم يمت من ذلك المرض صحيح، إذ لا فرق بين أن يقر لها به وهو صحيح، وبين أن يقر لها به وهو مريض ثم يصح بعد ذلك وقوله: إنها لا شيء لها مما تصدق به عليها وهو مريض، وإن صح بعد ذلك إلا أن تقبض ذلك في صحته صحيح؛ لأن الصدقة تفتقر إلى الحيازة في صحة المتصدق، كانت على وارث أو أجنبي، بخلاف الإقرار بالدين، ذلك ينفذ في الصحة للوارث وغير الوارث، وفي المرض إلا لمن يتهم عليه من الورثة، ففي قوله وإن مات من مرضه الأول الذي أقر لها فيه بما أقر وتصدق عليها به بما تصدق فلا مهر لها نظر، لما في المسألة من أنه قد ولد له منها أولاد، وإن لها الثمن، والولد يرفع التهمة عنه في إقراره لها ببقية الصداق إذا لم يتهم فيها بصبابة وميل إليها، إلا أن يكون بعضهم صغيرا منها وبعضهم كبيرا، أو جميعهم صغار منها وهن إناث، ويبعد أن يكون أراد ذلك، فمعنى ما تكلم عليه والله أعلم، إذا كان الولد الذي ولد له منها قد مات فورث بغير ولد وبالله التوفيق.(9/227)
[مسألة: إنكار المقر بعد إقراره المكتوب]
مسألة وسألته عن القاضي يقر عنده الرجل فيكتب إقراراه، ثم ينكر الرجل أن يكون أقر عنده بشيء، وهل يقضي عليه بإقراره عنده؟ أو هل يختلف إن قال القاضي: أقر عندي من قبل أن استقضى؟ قال ابن القاسم: رأيي والذي آخذ به في ذلك وهو الذي سمعت، أنه لا يقضي عليه حتى يشهد على إقراره عنده شاهدان عدلان سوى القاضي، وإلا لم يقض عليه بشيء، وإنما هو بمنزلة ما اطلع فيه عليه من الحدود يعلمها، فهو لا يقيمها عليه إلا أن يكون معه شاهدان عدلان سواه، فإن لم يكن كذلك رفعه إلى من هو فوقه، وكان هو شاهدا، وسواء في هذا أقر عنده فيما زعم القاضي وهو قاض، أو قبل أن يستقضي، وإن عزل القاضي فشهد عليه بإقراره عنده، فهي شهادة يعمل بها، كما يعمل بها لو شهد بها عليه عنده غيره قبل أن يعزل، إن كان معه أحد سواه ثمت، وإن لم يكن غيره سقطت، إلا أن يكون من الأشياء التي تكون فيها اليمين مع الشاهد، فيحلف المشهود له مع شهادته أن حقه حق، ثم يستحق حقه، وهو بمنزلة شاهد من المشهود، وإن جهل القاضي فقضى عليه بإقراره عنده، فإني أرى له أن يرد ذلك ما كان على القضاء بحاله ويرجع فيه، فإن عزل لم أر أن يرد ذلك من يكون بعده ولا يفسخ قضيته، كان جهل ذلك أو تعمده؛ لأن مما يختلف إلا أن يكون إقراره عنده إنما هو من قبل أن يستقضي، فلما استقضى حكم عليه بذلك الإقرار،(9/228)
فإن هذا يرد ويفسخ على كل حال، وهو في غير هذا يختلف؛ لأن إقراره عنده وهو قاض قد اختلف الناس فيه، والآخر لم يختلف الناس فيه، إنه ليس بشيء ولا يقطع به.
قال محمد بن رشد: حكم القاضي على الرجل بما أقر به عنده دون بينة تشهد عليه بإقراره عنده، ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها أن يقر عنده قبل أن يستقضي. والثاني أن يقر عنده في غير مجلس الحكم بعد أن استقضى. والثالث أن يقر بين يديه لخصمه في مجلس حكمه، فأما إذا أقر عنده قبل أن يستقضي فلا اختلاف بين أحد من أهل العلم في أنه لا يجوز له أن يحكم عليه بذلك الإقرار، فإن فعل رد ذلك الحكم وفسخه هو ومن بعده من القضاة والحكام، وأما ما أقر به عنده بعد أن يستقضي في غير مجلس القضاء فلا اختلاف في المذهب في أنه لا يجوز له أن يحكم عليه بذلك الإقرار دون بينة تشهد به عليه. وأهل العراق يقولون إنه يقضي عليه بذلك الإقرار دون بينة، بخلاف الحدود على ما قال في المدونة من أن أهل العراق فرقوا بين الإقرار والحدود، فقالوا: ينفذ الإقرار في ولايته، ولا ينفذ الحدود، وقد حكى عنهم أنه يقضي بعلمه في الحدود وهو بعيد، فإن قضى عليه بذلك الإقرار نقض حكمه بذلك ما لم يعزل على المشهور في المذهب، ولم يرده من بعده من القضاة والحكام مراعاة لقول أهل العراق. وأما ما أقر به عنه أحد الخصمين في مجلس قضائه ثم جحده ولا بينة عليه فالاختلاف فيه موجود في المذهب، وإن كان ابن المواز قد ذكر أنه لا اختلاف في ذلك بين أصحاب مالك. قال ابن الماجشون: الذي عليه قضاتنا بالمدينة، وقاله علماؤنا، ولا أعلم مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال غيره، أنه يقضي عليه بما سمع منه وأقر به عنده، وإليه ذهب مطرف وأصبغ وسحنون.(9/229)
قال محمد بن رشد: وهو بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحديث الصحيح «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون. الحديث إلى قوله: فأقضي له على نحو ما أسمع منه» لأنه قال: على نحو ما أسمع منه، ولم يقل على ما يثبت عندي من قوله. والمشهور في المذهب أنه لا يقضي عليه إذا جحد، وهو قوله في هذه الرواية، إلا أن يشهد عليه عنده من حضر مجلسه فيحكم عليه بالشهادة دون إعذار، قاله ابن العطار (وفي ذلك اختلاف) . وقوله: فإن جهل القاضي فقضى عليه بإقراره عنده فإني أرى له أن يرد ذلك ما كان على القضاء بحاله، معناه إن ظن ذلك هو الصواب لجهله بالنظر، فقضى بذلك دون اجتهاد إذ ليس من أهل الاجتهاد، ودون تقليد أيضا، إذ لا يقال فيمن قضى باجتهاده وهو من أهل الاجتهاد فيما سبيله الاجتهاد إنه جهل وإن خالفه في ذلك مخالف، وإنما يقال لمن خالفه إنه أخطأ لتقصيره في الاجتهاد، كما لا يقال أيضا فيمن لم يكن من الاجتهاد فقضى بتقليد إنه أخطأ إذ لم يكن منه الخطأ، وإنما كان من الذي قلده، واختلف إذ رأى ذلك باجتهاده فقضى به ثم رأى خلافه، فالمشهور في المذهب أن القاضي إذا قضى بقضاء، ثم رأى ما هو أحسن منه فإنه ينقضه ويرجع إلى ما رأى ما دام على ولايته وإن كان الذي قضى به أولا مما اختلف الناس فيه. وقال ابن عبد الحكم: لم أسمع أحدا من أصحابنا اختلف في ذلك، وأنا لا أراه، وأرى قضاءه وقضاء غيره سواء، لا يرجع عما اختلف فيه إلى ما هو أحسن منه حتى يكون الأول خطأ بينا صراحا. واستحسن ابن حبيب ما أجمع عليه أصحاب مالك، ولم يعجبه ما انفرد به ابن عبد الحكم، وقد اختلف في تأويل ما وقع (في)(9/230)
المدونة من قول ابن القاسم، وإنما لا يرجع فيما قضت فيه القضاة مما اختلف الناس فيه، هل هو مثل الذي قال ابن عبد الحكم؟ أو مثل ما أجمع عليه أصحاب مالك سواه؟ فذهب الفضل إلى أنه ملائم لقول ابن عبد الحكم، وقال غيره: إنه مخالف له مثل ما أجمع عليه أصحاب مالك سواه، والأمر محتمل على رواية من روى وإنما لا يرجع - بفتح الياء - وأما على رواية من روى يرجع بضم الياء على ما لم يسم فاعله، فلا يحتمل أن يكون مثل قول ابن عبد الحكم. قال سحنون: إنما يرجع في قضائه بما اختلف فيه إذا قضى به وهما أو نسيانا وهو يرى خلافه. وأما إن كان ذلك رأيه يوم قضائه فلا يرجع فيه ويقضي في المستقبل بما رأى.
قال القاضي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والذي أقول به إن الخلاف في رجوعه عنه ما دام على القضاء بحاله إنما هو إذا قضى به وهو يراه باجتهاده يوم قضى به، وإن الخلاف في هذا جار على اختلافهم في تصويب المجتهدين، وأما إذا قضى بذلك وهلا أو جهلا أو نسيانا فلا يقع الخلاف في أنه يجب عليه أن يرجع عنه إلى ما رأى إذ قد تبين له خطؤه أولا، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد وقضى بذلك بتقليد فلا يسع الخلاف في أنه لا يصح له الرجوع عنه إلى تقليد آخر، فقف على أنها ثلاثة أوجه: وجه يرجع فيه، ووجه لا يرجع فيه، ووجه يختلف رجوعه فيه. ولا اختلاف في أنه يرجع ما دام على قضائه فيما قضى به مما لم يختلف فيه على أي وجه، كان من اجتهاد أو جهل، أو وهل أو نسيان، وكذلك لا اختلاف في أنه يرجع فيما قضى به من قبله من القضاة إذا كان الذي قضى به خطأ لم يختلف فيه، فإن كان الذي قضي به مما قد اختلف فيه لم يرده من بعده.(9/231)
وقيل: إنه يرده إن كان الخلاف فيه شاذا. وذهب ابن الماجشون إلى أنه يرده وإن كان الخلاف فيه قويا مشهورا إذا كان ذلك خلاف سنة قائمة، واختلف في الحكم بترك الأمر وتجويزه، هل هو كالحكم في أنه لا يكون لمن بعده من الحكام أن يعرض فيه إلا أن يكون خطأ صراحا لم يختلف فيه أم لا؟ فذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أنه كالحكم، لا يكون لمن بعده من القضاة أن يرده إلا أن يكون خطأ بينا لم يختلف فيه. وقع ذلك في النكاح الأول منها، وذهب ابن حبيب إلى أنه ليس كالحكم، ولمن بعده أن يرده، وإن كان قد اختلف فيه. وقد روي عن أشهب أن القاضي إذا قضى على الرجل بإقراره عنده بعد أن يستقضي فهو بمنزلة قضائه عليه بإقراره عنده قبل أن يستقضي في أنه حكم مفسوخ يرده هو ومن بعده من القضاة وهو بعيد، لا سيما ولم يفرق بين أن يكون إقراره عنده بعد أن استقضى في مجلس القضاء، أو في غير مجلس القضاء. وقال في هذه الرواية: إن القاضي يكون شاهدا عليه عند غيره بما أقر (به) . عنده على نفسه لخصمه، وفي ذلك اختلاف. ذكر محمد بن المواز في كتابه أن قول ابن القاسم اختلف في ذلك، فقال: لا يجوز، وقال: يجوز، والأول أحب إلينا لأنه كأنه يثبت حكم نفسه. وأما شهادته عليه بإقراره عنده في غير المخاصمة فلم يختلف في إجازتها.
قال القاضي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يريد أن قول ابن القاسم لم يختلف في إجازتها. وقد اختلف قول مالك في ذلك، روى عنه ابن الماجشون أن الرجل لا يشهد على الرجل بما سمح من إقراره على نفسه وإن استوعبه إلا أن يشهده على نفسه، وإلى هذا الاختلاف أشار في المدونة بقوله: وأما قول مالك الأول. فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها لا يشهد بما أقر به عنده في المخاصمة ولا في غير المخاصمة.(9/232)
والثاني أنه يشهد عليه في الوجهين. والثالث أنه يشهد (عليه) بما أقر عنده في غير المخاصمة، ولا يشهد عليه فيما أقر به عنده في المخاصمة، وهو اختيار محمد بن المواز، وبالله التوفيق.
[: ما يرفع للقضاة من أموال اليتامى هل يستودعها لهم أم يضمنها لهم]
ومن كتاب العتق قال عيسى: وسألت ابن القاسم عما رفع إلى القضاة من أموال اليتامى، هل يستودعها لهم أم يضمنها لهم؟ فقال: إن الضمان الذي يصنع بعض الناس وأهل العراق أن يضمنوه أقواما يكون لهم ربحها وعليهم ضمانها حرام لا يحل، والسنة فيها أن يستودعها من يثق به إذا لم يكن لهم أوصياء، فإن كان (لهم) وصي لم تخرج من يده إن كان ثقة، وإن كان غير ثقة أخذها القاضي واستودعها من يثق به، وأرى أن يدفعها إلى من يتجر لهم بها، ويكون ذلك نظرا لهم، إذا لم يكن لهم وصي والقاضي وصي من لا وصي له.
قال القاضي: هذا بين على ما قال إن الوجه في أموال اليتامى أن ينظر لهم فيها بأن تدفع إلى من يتجر لهم فيها تطوعا ابتغاء الأجر والثواب، أو على سبيل القراض إن لم يوجد من يتطوع بذلك لهم، لقول عمر بن الخطاب: " اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة " فإن لم يكن ذلك أودعت عند من يوثق به، فإن تعدى عليها المودع فتسلفها ضمنها، وسقطت عن اليتامى زكاتها، ولم يحل أن يضمن أحدا على أن يكون للذي يضمنها ربحها؛ لأن ذلك سلف لغير الله، لم يبتغ به المقرض إلا منفعة لنفسه لا(9/233)
منفعة المقرض، فحرم ذلك «لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن سلف جر منفعة» . . . . " إذ هو في معنى الربا المحرم بنص التنزيل، وهو أن يكون للرجل على الرجل الدين فإذا حل قال له: إما أن تقضي، وإما أن تربي، فإذا لم يحل أن يؤخره بدينه على أن يزيده فيه؛ لأنه سلف قصد به منفعة نفسه، فكذلك لا يحل أن يسلف الرجل الرجل الذهب ليحرزه في ضمانه، ومن فعل ذلك فهو مُرْب آثم.
[مسألة: الرجل يجحد نسب رجل أنه أخوه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يجحد نسب رجل أنه أخوه، فقال: ينبغي للقاضي أن يسأله، فإن أنكر وجحد ثم ثبت له ذلك قبله ببينة أخذ له بحقه، ولا عقوبة على هذا في إنكاره.
قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: إنما سقط الحد عن الأخ المنكر له؛ لأنه لم يقصد قصد القذف، وإنما دفعه عن مال، فكان معنى جحوده إياه أي ليس لك معي في هذا المال حق، وليس ذلك بصحيح، وإنما معنى المسألة أنه قال ذلك في أخ طرأ عليه، لم يكن مقرا به قبل، ولذلك قال: إنه لا عقوبة على هذا في إنكاره، ولو جحد نسب أخ كان مقرا به قبل لوجب عليه الحد، ولم يكن له عذر في أنه لم يقصد القذف، وإنما دفعه عن مال، وكذلك قد قال محمد وهو بين، فقد قال في المدونة: إن من قال لرجل: لست أعرف أباك وهو يعرفه فعليه الحد، وهذا بين منه، وقد أوجبوا في التعريض الحد، فكيف بهذا وهو تصريح وبالله التوفيق.(9/234)
[مسألة: الوكالة في الخصومة عن الغائب]
مسألة وسئل عن الشريكين يدعيان قبل رجل شيئا فأمرهما القاضي أن يستخلفا أو يخاصمه أحدهما يوصيان بذلك فيقولان من حضر منا فهو خليفة الغائب أينما حضر، فهو يخاصم عن صاحبه، قال: لا يمكنهما من ذلك؛ لأني سمعت مالكا، وسئل عن رجل خاصم رجلا في حق له، وقاعده عند السلطان ثم أراد أن يوكل، قال: ليس ذلك له إلا من علة؛ وسئل عن ورثة رجل ادعوا منزلا بيد رجل وهم جماعة، أيخاصمه كل واحد منهم لنفسه؟ قال: بل يرتضون جميعا بمن يخاصمه، ويدلوا إليه بحججهم يخاصم عنهم، وليس يخاصمه هذا وهذا؛ لأنه أمر واحد، أو يحضرون إليه جميعا فيدلون بحججهم، فأرى ذلك لهم، فأما أن يتعاوروه، هذا يوم وهذا يوم، فليس ذلك لهم.
قال القاضي: هذا بين على ما قال؛ لأن الورثة فيما يطلبون عن موروثهم، والشركاء فيما يطلبون عن أنفسهم بمنزلة الرجل الواحد، فكما لا يجوز للرجل الواحد أن يوكل وكيلين على الخصام يتعاوران خصمه إذا غاب أحدهما حضر الآخر، ولا أن يوكل وكيلا يخاصم معه إذا غاب حضر وكيله، وإذا غاب وكيله حضر هو، فكذلك لا يجوز للشركاء (ولا للورثة) أن يتعاوروا خصمهم بالخصام؛ لما في ذلك من الإضرار به؛ لأنه يخاصم أحدهم حتى إذا انتفى عليه ويوجه له القضاء غاب عنه، وأتى صاحبه بحجة يستحدثها. ولهذا المعنى لم يكن لمن ناشب خصمه الخصام وقاعده عند السلطان أن يوكل من يخاصم عنه، ولا أن يعزل وكيلا قد وكله فيوكل غيره، أو يتولى هو الخصام بنفسه، إلا أن يكون له عذر من(9/235)
سفر حضر، أو مرض حدث، أو يكون خصمه قد أسرع إليه واستطال عليه، فيحلف ألا يخاصمه فيكون له أن يوكل، أو يكون قد ظهر إليه من وكيله ميل مع خصمه ومسامحة في حقه، فيكون له أن يعزله ويولي غيره، أو يخاصم لنفسه. وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه، ومعنى قوله: وقاعده عند السلطان، يريد المرات الثلاث ونحوها أو يكون قد انتفى عليه فيما دونها. هذا معنى قوله الذي حمله عليه كل من ألف في الأحكام من المتأخرين، وبالله التوفيق.
[مسألة: تسمية القاضي للشهود العدول]
مسألة وسئل عن القاضي يكتب إلى القاضي في الحقوق والأنساب والمواريث وما أشبه ذلك، فيكتب أتاني فلان بشهود عدلوا عندي، وقبلت شهادتهم، ولا يسميهم في كتابه، أيجوز؟ قال: نعم يجوز، وهذا قضاء القضاة. أرأيت إن سماهم له ليعرفهم؟ أم يبتغي عدالة أخرى ويسأل عنهم؟ أم يستأنف فيهم حكما غير ما قد حكم فيه وفرغ منه؟ ليس ذلك كذلك. قال العتبي: قد قيل: إنه ينبغي له أن يسمي البينة في الحكم على الغائب ليجد سبيلا إلى دفع شهادتهم عنه، وهو عندي بيّن إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قوله، إنه ليس على القاضي إذا كتب إلى القاضي بما ثبت عنده من الحقوق والأنساب والمواريث أن يسمي له في كتابه الشهود الذين ثبت بهم ذلك عنده صحيح؛ إذ لا ينظر القاضي المكتوب إليه في عدالتهم، وإنما يمضي ما أخبره به في كتابه من ثبوت ذلك عنده فيقضي به على المحكوم عليه عنده، إلا أنه يجب عليه إذا خاطب بذلك أن ينفذه عند نفسه بتسمية الشهود، ويضع ذلك في ديوانه؛ لأن من حق المحكوم عليه إذا قضى عليه القاضي المكتوب إليه أن يذهب(9/236)
إلى القاضي الكاتب فيعذر إليه في الشهود الذين ثبت عنده بهم ذلك الحق الذي خاطب به، فإن جرحهم وأبطل شهادتهم رجع فيما حكم به عليه، هذا الذي ينبغي له أن يعمل إن كان لم يثبت عنده ما خاطب به في عقد. وأما إن ثبت ذلك عنده في عقد، فوجه الحكم أن يدرج إليه ذلك العقد أي كتابه، وبذلك جرى العمل، فيأخذ المحكوم عليه ذلك العقد، أو نسخته، فيذهب به إلى القاضي الكاتب ليبطل عنده البينة عن نفسه فيرجع بما حكم به عليه إذا أراد ذلك وقدر عليه. وقول العتبي قد قيل إنه ينبغي أن يسمي البينة في الحكم على الغائب إلى آخر قوله، وقع في بعض الروايات، ويسمى فيه في هذا الموضع على المسألة المتقدمة غلط، إذ ليس فيها أن البينة لا تسمى في الحكم على الغائب؛ لأن كتاب القاضي إلى القاضي بما يثبت عنده على رجل في بلد المكتوب إليه ليس بحكم على غائب، فهي مسألة أخرى، والحكم فيها ما قد ذكرته بلا خلاف. وأما الحكم على الغائب فلا بد من تسمية البينة فيه على القول بأن الحجة ترجى له، ليجد سبيلا على رد القضية على نفسه بتجريح البينة وهو المشهور في المذهب المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، فإن لم يسم البينة في الحكم عليه فالقضية مردودة تفسخ ويستأنف الخصام فيها، قال ذلك أصبغ في الواضحة وغيرها، وهو صحيح على قولهم أن الحجة ترجى له. وأما الحكم على الحاضر فلا يحتاج إلى تسمية الشهود فيه، إذ قد أعذر فيهم إلى المحكوم عليه إلا أن تسميتهم أحسن. قاله أصبغ، وبذلك مضى العمل. قال ابن أبي زمنين: الذي عليه الحكام تسمية الشهود، وهذا في الحاضر، وأما الغائب والصغير فلا بد من تسميتهم. وقد روي عن سحنون في المجموعة أن تسميتهم أيضا في الحكم على الغائب لا يلزم، وإن كان ذلك أحسن، وهذا من قوله إنما يأتي على مذهب ابن الماجشون في أن الغائب إذا حكم عليه لا(9/237)
ترجى له حجة، ولا مخرج له مما حكم به عليه بجرحة الشهود، إلا أن يكونوا نصارى أو عبيدا أو مولى عليهم. وقد مضى ذلك في رسم سن من سماع ابن القاسم، وقد روى عن سحنون أن ترك تسميه الشهود في الحكم على الغائب أفضل، قال: لأنه قد يحكم القاضي بشهادتهم وهم عدول، ثم يحدث منهم أحوال قبيحة يعودون معها إلى الجرحة، فإذا عزل ذلك القاضي أو مات ادعى المحكوم عليه أن القاضي جار عليه وقبل غير عدول، وهذا على الأصل في أن الغائب المحكوم عليه لا ترجى له حجته، واستحسان أصبغ الذي جرى به العمل من تسمية الشهود في الحكم على الحاضر، معناه على القول بأنه يعجز، ولا تسمع له بينة بعد الحكم إن أتى بها مراعاة لقول من يقول لا يعجز ويسمع له ببينة لم يعلم بها، وهذا من نحو قول مالك في الذي يرى خطه في الكتاب ولا يذكر الشهادة أنه يؤديها ولا تنفع، وأما على القول بأن بينته يسمع منه بعد الحكم عليه فلا بد من تسمية البينة وبالله التوفيق.
[مسألة: تسمية القاضي الشهود المجروحين لغيره]
مسألة قال عيسى: وسئل ابن القاسم فقيل: لأي شيء وضعوا تسمية من يجرح من الشهود في كتابه، قال: لا أعرف من قضاء أحد أن قاضيا كتب إلى قاض بتسمية من يجرح عنده ولا سمعت به.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن القاضي ليس عليه أن يكتب في حكمه على الغائب إذا خاطب بذلك إلى قاضي موضع وكان قد شهدت له بينة فجرحت، وذلك مثل أن يثبت رجل(9/238)
دينا على ميت وأحد ورثته غائب فيدعي الحاضر أن الميت قد قضاه ويقيم على ذلك بينة فيجرحها المدعي فيقضي له القاضي بحقه بعد اليمين أنه ما قضاه ويكتب له إلى موضع الوارث الغائب بتسمية من يجرح عنده من الشهود إن كانوا قد جرحوا عنده لأن الشهود إذا جرحوا لا يعمل فيهم التعديل؛ لأن شهادة المجرحين أعمل من شهادة المعدلين، فلم يكن للمحكوم عليه في تسميتهم وجه منفعة، وإذا عدل الشهود عمل فيهم التجريح، فلذلك يجب أن يكتب أسماء الذين عدلوا ولا تكتب أسماء الذين جرحوا، وجب عليه أن يكتب أسماء المجرحين لهم؛ لأنه إذا سماهم في الحكم عليه وجد سبيلا إلى تجريحهم فسقطت الجرحة بذلك على شهوده وبقوا على أصل العدالة، وهذا في الحكم على الغائب، وفي كتابه إلى القاضي بذلك. وأما في الحكم على الحاضر فقد مضى في المسألة التي قبل هذه أن تسمية الشهود الذين عدلوا لا تجب في ذلك، إذ لم يحكم عليه إلا بعد الإعذار إليه، فكيف في تسمية الذين جرحوا، وبالله التوفيق.
[مسألة: وجود أكثر من شاهد بنفس الإسم والصفة]
مسألة وسئل عن القاضي يكتب إلى القاضي في رجل بصفته واسمه ونسبه في حق عليه، فيجد القاضي رجلين أو ثلاثة في ذلك البلد أسماؤهم وصفاتهم متفقة، أيختار صاحب الكتاب ويأخذ من ذكر أنه منهم أم ماذا يصنع فيه؟ فقال: لا يختار صاحب الكتاب أحدا منهم، ولا يكون له شيء حتى يثبت أنه أحدهم، أو لا يكون في ذلك البلد أحد غيره كذلك، فحينئذ يستوجبه عليه حقه، إلا أن تكون له حجة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو مما لا اختلاف فيه أنه إذا وجد بالبلد رجلين أو ثلاثة على تلك الصفة أنه لا يصدق في الذي يدعي منهم إلا أن يثبت ذلك؛ واختلف إن سأل من الذي يدعى عليه منهم أنه هو حميلا حتى يأتي بالبينة. فقيل: إنه لا يعدي عليه بحميل. وهو قول ابن(9/239)
القاسم في المدونة. وقيل: إنه يعدي عليه إن لم يؤمن غيبته، ولم يكن من أهل الوفر والملإ، وهو قول مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وإذا وجد بالبلد رجل واحد على تلك الصفة كشف القاضي على الأمر، فإن لم يوجد بالبلد على تلك الصفة غيره أعداه عليه، وإن وجد به سواه لم يكن له على واحد منهما سبيل إلا أن يثبت على أحدهما أنه هو، وإن ترك القاضي ما يؤمر به من الكشف عن ذلك، فقيل: إنه لا يؤخذ بالحق حتى يثبت الطالب أنه ليس بالبلد من هو على تلك الصفة سواه، وهو دليل قول ابن وهب في سماع زونان، والشهادة في هذا لا تكون إلا على العلم، وقيل: إنه يؤخذ به إلا أن يثبت هو أن بالبلد من هو على تلك الصفة، وهو ظاهر قول أشهب في سماع زونان بعد هذا، ورواية عيسى عن ابن القاسم في المدونة وسيأتي هناك بقية الكلام على المسألة إن شاء الله.
[مسألة: استحلاف صاحب الحق حين خروجه أو توكيله]
مسألة وسئل عن الرجل يثبت حقا له عند القاضي على رجل غائب ويريد الخروج في ذلك أو يوكل، أيستحلفه؟ قال: يستحلفه في الوجهين جميعا خرج أو وكل أنه ما اقتضى ولا أحال ولا قبضه بوجه من الوجوه، ثم يكتب له بوكالته إن وكل ويثبت عنده. وقاله أصبغ بن الفرج عن ابن القاسم.(9/240)
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد قيل: إنه ليس على الإمام أن يستحلفه في الوجهين جميعا خرج أو وكل، ويكتب له دون يمين؛ لأنه يقول للإمام لا تحلفني فلعله لا يدعي علي أنه قضى لي منه شيئا، وهو ظاهر ما في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب البضائع والوكالات، وما في نوازل أصبغ منه، فإن كتب لوكيله على هذا القول دون أن يستخلفه فقدم عليه، فادعى أنه قد دفع إليه جميع الدين أو بعضه، فإن كانت غيبته قريبة على مسيرة اليومين ونحوهما أخر حتى يكتب إليه فيحلف، وإن كانت غيبته بعيدة لم يؤخر، وقضى عليه بالدين، ولم يؤخر إلى لقاء صاحبه، وهو نص قول محمد بن عبد الحكم، ومعنى قول ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب البضائع والوكالات، وقول أصبغ في نوازله منه، وعلى ما في نوازل عيسى من كتاب البضائع والوكالات في الذي يوكل الرجل على طلب عبد له في بلدة أخرى فيقيم عليه البينة أنه للذي وكله أن الإمام لا يقضي له به حتى يحلف الموكل أنه ما باع، ولا وهب، فإن كان قريبا أمر أن يأتي به حتى يحلف، وإن كان بعيدا كتب إلى إمام بلده الذي ثبت عنده توكيله، وأمره أن يحلفه، فإذا أتاه جواب كتابه بأنه قد حلفه قضى به لوكيله، لا يقضي للوكيل بالدين حتى يكتب إليه فيحلف في موضعه الذي هو فيه. وقد ذهب بعض المتأخرين إلى التفرقة بين المسألتين بأن قال: إن اليمين في مسألة العبد من تمام الشهادة فهي يمين يوجبها الحكم فلا يقضى له بالعبد إلا بعد اليمين، وفي مسألة الدين ليس اليمين من تمام الشهادة ولا مما يوجبها الحكم، وإنما تجب بدعوى الغريم القضاء، فيقال له: أد الدين إلى الوكيل واستحلف صاحبك، إذ الغيبة بدعواك. وذهب ابن أبي زيد إلى حمل المسألتين بعضهما على بعض، وهو بين من مذهب أصبغ؛ لأن ابن حبيب حكى عنه في الواضحة في مسألة العبد أنه يقضى به للوكيل في غيبة الموكل إذا كانت بعيدة، ولا(9/241)
يحبس عنه من أجل اليمين. فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أنه يقضى للوكيل في المسألتين جميعا ولا يؤخر القضاء له بسبب اليمين. والثاني أنه لا يقضي له في المسألتين جميعا حتى يكتب إليه فيحلف. والثالث الفرق بين مسألة العبد، ومسألة الدين؛ وفي المسألة قول رابع أن الوكيل يحلف على العلم وحينئذ يقضي له، قاله ابن كنانة في المجموعة، وابن القاسم في المدونة وهذا كله في الغيبة البعيدة، وأما الغيبة القريبة فلا اختلاف في أنه لا يقضى له إلا بعد يمينه في المسألتين جميعا هذا تحصيل القول عندي في هذه المسألة وبالله التوفيق.
[مسألة: كتاب القاضي كتابا لصاحب الحق]
مسألة وسئل عن الرجل يثبت حقه عند القاضي، أيعطيه كتابا إلى أي قضاة الآفاق كان ولا يسمى فيه أحدا، لا قاضيا بعينيه ولا بلدا بعينه؟ قال: نعم، وأرى ذلك يجوز إذا أثبت البينة عند القاضي الذي دفع إليه الكتاب أنه كتاب القاضي الذي بعث به وكتبه، مثل الرجل يطالب غريمه ولا يدري بأي الآفاق هو أو أين يلقاه، أو العبد الآبق وما أشبه ذلك، وقاله أصبغ عن ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أنه إذا لم يدر حيث هو غريمه الذي أثبت دينه قبله، أو حيث يجد عبده الآبق فإن الإمام يكتب له دون تسمية، يقول في كتابه: كتابي إلى من ورد عليه كتابي هذا من القضاة والحكام بأي بلد كان من البلدان، فيكون حقا على كل من ورد عليه ذلك الكتاب من القضاة أن يقضي به وحمله دون خلاف، كما لا(9/242)
اختلاف أيضا (أنه) إذا كتب له إلى قاضي موضع فوجد ذلك القاضي قد مات أو عزل وولى غيره مكانه أنه يجب له إنفاذ ذلك الكتاب والعمل به. واختلف إذا كتب له إلى قاضي بلد بعينه وهو يظن غريمه بذلك البلد فألفاه بغير ذلك البلد، ورفع ذلك الكتاب إلى قاضي ذلك البلد، وهو غير القاضي المكتوب إليه. فروى أصبغ عن ابن القاسم أنه لا ينظر له فيه، وقال أصبغ: إنما معنى ذلك أنه لا يعرف بذلك البلد، ولو أثبت المدعي بينة في ذلك البلد أنه الرجل الذي حكم عليه القاضي الكاتب أنفذه هذا.
قال محمد بن رشد: والمعنى الذي ذهب إليه أصبغ أن من تمام الصفة أن يقول فيه الساكن ببلد كذا، أو الملتزم في صناعته كذا، فلا يوجد بذلك البلد، وفي تلك الصناعة بتلك الصفة والنسبة والتسمية سواه فيلزمه، فإذا رفع الكتاب إلى قاض بغير ذلك البلد لم يدر لعل صاحبه في بلد المكتوب إليه، فوجب ألا يحكم له على من وافقت صفته من أهل بلده الصفة المذكورة في الكتاب حتى يثبت عنده أنه هو بعينه، وهو معنى صحيح، والظاهر من مذهب ابن القاسم أنه لا ينظر (له) بحال؛ لأن الذي كتب إليه الكتاب حتى يثبته عنده ويخاطبه به وبالله التوفيق.(9/243)
[: كتاب الأقضية الثاني] [: كرم بين أشراك تساقطت حيطانه فدعا بعضهم إلى إصلاحه وكره بعضهم](9/245)
من سماع يحيى بن يحيى من كتاب الكبش قال يحيى: سألت ابن القاسم عن كرم بين أشراك تساقطت حيطانه فخافوا عليه الفساد فدعا بعضهم بعضا إلى العمل وإصلاح ما تساقط من حدوده وكره بعضهم. فقال: إن كان لكل رجل منهم حصة معروفة إلا أن الغلق كان واحدا فانهدم، فإن العمل لا يلزم من كرهه، ويقال لمن خاف الفساد وأحب العمل: إن شئت فحصن كرمك ودع ما ليس لك، وإن شئت فدع. ولا يجبر الكاره للعمل على شيء بحصته، قال: وإن كان مشاعا غير مقسوم فإنه يقال لهم إذا اختلفوا في إصلاحه ومرمة حيطانه اقتسموا ويجبروا على الاقتسام إذا دعا إلى ذلك بعضهم، ثم شأن كل واحد منهم وحصته ليحصنها أو ليدع، قلت له: فإن كان انهدم الحائط وهو مشاع، وفي الكرم ثمرة تمنعهم من الاقتسام وترك إصلاح الحيطان ذهاب للثمرة وفساد للكرم، ما الأمر فيه؟ قال: إن كانت الثمرة قد طابت قيل له: حصن معهم أو(9/247)
بع حصتك من الثمرة ممن يحصن، فإن كانت الثمرة لم تطب، قيل لهم: إن شئتم فحصنوا وتكونوا أملك بحظه من الثمرة حتى تستوفوا من ذلك ما أنفقتم، فإن كان ما أنفقوا أكثر من ثمن الثمرة لم يكن لهم عليه شيء سوى الثمرة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، إنه إن كانت حصة كل واحد منهم معروفة فلا يلزم العمل من كرهه، إذ لا ضرر في ذلك على سواه، لقدرته على تحصين حصته، وإنه إن كان مشاعا ينقسم ولم تكن فيه ثمرة تمنعهم من الاقتسام أجبروا على الاقتسام، وكان كل رجل منهم بالخيار في حصته، إن شاء حصنها، وإن شاء تركها. وأما إذا كان في الحائط ثمرة تمنعهم من الاقتسام ففي قوله: إن كانت الثمرة قد طابت قيل له: حصن معهم أو بع حظك من الثمرة ممن يحصن نظر؛ لأن الظاهر من قوله: إنه لا يلزمه أكثر من أن يبيع حظه من الثمرة في التحصين، أو يسلمها إليهم، وقد لا يكون في ثمن حظه من الثمرة ما ينوبه من نفقة التحصين. والقياس إذا لم يف حظه من الثمرة بما يلزمه في التحصين أن يقال له: لا بد لك من أن تحصن مع أشراكك أو تبيع حظك من الأصل والثمرة ممن يحصن معهم، فإن لم يف حظه من الأصل والثمرة بما يلزمه من التحصين لم يلزمه أكثر من أن يسلم إليهم أصل الحائط بثمرته فيما يلزمه من التحصين معهم. وكذلك قوله: إن الثمرة إذا لم تطب يقال لهم: إن شئتم حصنوا وتكونوا أملك بحظه من الثمرة إلى آخر قوله: الظاهر منه أنه إذا أبى أن يحصن معهم لم يلزمه ذلك، ولم يكن عليه أكثر من أن يسلم إليهم حظه من الثمرة فيكونوا أملك بها حتى يستوفوا منها نفقتهم، فإن لم يف ثمن الثمرة بالنفقة لم يكن عليه شيء سوى ذلك، وهو على قياس قوله: إذا طابت الثمرة من أنه لم يلزمه في التحصين أكثر منها،(9/248)
والقياس إذا لم تطب الثمرة أن يقال له: إما أن تحصن معهم، وإما أن تبيع حظك من الأصل والثمرة ممن يحصن معهم، وكذلك قال في أول سماع ابن القاسم من كتاب السداد والأنهار في الحائط يكون بين القوم فينهار ماؤه وفيه زرع وشجر مثمر فيمنعهم من الاقتسام أن من أبى أن يعمل يجبر على ما أحب أو كره أن يعمل أو يبيع ممن يعمل، فهو خلاف لرواية يحيى هذه، وقد اختلف إذا أبى أن يعمل هل يجبر على أن يبيع ممن يعمل، أو لا يجبر على ذلك؟ فقيل: إنه يجبر على ذلك، ويباع عليه من حظه بقدر ما يلزمه من العمل فيما بقي من حقه بعدما بيع عليه منه، وهو قول مالك في رسم الصلاة من سماع (يحيى) بعد هذا، ودليل ما في كتاب القسمة من المدونة. وقيل: إنه يجبر على ذلك، وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب السداد والأنهار، خلاف قول يحيى فيه، من رأيه أنه لا يباع عليه. وأصح القولين في القياس أنه لا يجبر على ذلك، وعليه ينبغي أن يتأول ما في سماع ابن القاسم من كتاب السداد والأنهار، فيقال قوله فيه يجبر على ما أحب أو كره أن يبيع ذلك ممن يعمل معهم، معناه أنه يجبر على العمل إلا أن يبيع ذلك ممن يعمل، يريد فإن أبى من الوجهين جميعها، ولا مال له بيع عليه من حظه بقدر ما يجب عليه في العمل بغير شرط، فإن أبى المبتاع أيضا من العمل حكم بما حكم على البائع، وهو قول سحنون: إن البيع على الشرط إنما جاز على وجه الضرورة إذا لم يكن للبائع مال، وليس قوله ببين، إذ لا ضرورة تدعو إلى ذلك؛ لأنه يقدر على أن يباع عليه من حظه دون شرط بقدر ما يلزمه من الإنفاق في عمل ما بقي عليه من نصيبه وبالله التوفيق.(9/249)
[مسألة: امرأة وإخوتها ورثوا عن أبيهم منزلا فباع أحد إخوتها المنزل كله]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن امرأة وإخوتها ورثوا عن أبيهم منزلا فباع أحد إخوتها المنزل كله وهو غير وصي فباع ذلك على إخوته وأخواته وتعدى عليهم، فأقام المنزل في يد مشتريه زمانا، أو مات مشتريه وبقي المنزل في يدي ورثته، وأخت البائع يوم باع المنزل أخوها بكر فتزوجت بعد، وأقامت بعد تزويجها زمانا، أو هي يوم باع أخوها متزوجة والمنزل في جوارها أو على أميال يسيرة، الثلاثة ونحوها، فادعت حقها من المنزل بعد عشر سنين أو خمس عشرة سنة أو أكثر من ذلك، وزعمت أنها لم تعلم ببيع حظها، أو أقرت أنها علمت بالبيع ولم تجد من يتوكل لها بطلب حقها، أو ادعت أن زوجها ممن لم يكن يدخل على عياله أحد لشرفه وشدة غيرته، وهو ممن لا يتوكل مثله على طلب حقوق امرأته، ولا يلتفت إلى ما ضاع من حقوقها وأموالها، أترى أن تعذر في طلب حقها في نصيبها؟ قال: أما التي ادعت وهي بكر أو غير بكر أنها لا علم لها أن حقها بيع، فإنها تحلف على ما ادعت من الجهالة ببيع حقها إذا جاءت بأمر يستدل به على صدق قولها، ثم تكون أحق بنصيبها، إلا أن يأتي المشتري بالبينة على علمها بيع أخيها حظها، ويطول سكوتها على طلب حقها زمانا طويلا، وهي قادرة على الطلب والتوكيل ليست في حجاب يمنعها من اتخاذ وكيل يطلب لها، ولا ممنوعة من(9/250)
الخروج أو الإرسال إلى من أحبت، فإن كانت بهذه الحال وطال تركها لطلب حقها فلا شيء لها، إلا أن يكون سكوتها زمانا يسيرا. قلت: أترى العشر سنين ونحوها التي لا عذر لها طويلا؟ قال: نعم، لا عذر لها. قال: وأما الذي ذكرت من شرف زوجها وشدة حجابه وتهاونه بالنظر لها، فإن بلغ من شأن زوجها ما يتبين به للناظر في أمرها عذرها نظر لها وإن طال الزمان، فلا يضرها أن تكون عالمة ببيع أخيها إذا كان الزوج يبلغ من حجابه ما ذكرت واعتذرت به وكان بذلك معروفا.
قال القاضي: قوله في هذه الرواية: أما التي ادعت وهي بكر أو غير بكر أنها لا علم لها أن حقها بيع فإنها تحلف على ما ادعت من الجهالة، كلام وقع على غير تحصيل والله أعلم؛ لأن البكر لا يمين عليها أنها لم تعلم، إذ لو أقرت أنها علمت لم يلزمها ذلك عند ابن القاسم، فإنما أراد أن البكر وغير البكر سواء في أن البيع لا يلزمها إلا في وجوب اليمين عليها، وإنما تستوي البكر وغير البكر في وجوب اليمين عليها على مذهب سحنون الذي يرى أفعال البكر اليتيمة جائزة عليها ولازمة لها. وقوله: إذا جاءت بأمر يستدل به على صدق قولها. كلام ليس على ظاهره ومعناه إذا لم تأت بأمر يستدل به على كذبها؛ لأنها محمولة على غير العلم حتى يثبت عليها العلم. وقد روى أشهب عن مالك في كتاب الاستحقاق في التي باع عليها زوجها وأبوها دارها فأقامت أربعة عشر عاما ترى الدار بيد المشتري يهدم ويبني، ثم قامت فقالت: لم أعلم بالبيع، وظننت أنه كان اكتراها، إن القول قولها في ذلك مع يمينها. وقوله: إلا أن يأتي المشتري(9/251)
بالبينة على علمها ببيع أخيها حظها وبطول سكوتها عن طلب حقها الزمان الطويل وهي قادرة على الطلب، معناه إذا علمت بالبيع بعد أن وقع، فلم تقم حين علمت حتى طال الأمر دون عذر يمنعها من القيام، وقال في العشرة الأعوام: إنها طول يبطل قيامها في الدار لما سأله عن ذلك، فلا دليل في ذلك على أن ما دون العشرة الأعوام ليس بطول؛ لأن الكلام إنما خرج على السؤال، فبطل بذلك الدليل، والعام في مثل هذا طول. روي ذلك عن أصبغ في نحو هذه المسألة، وقد ذهب بعض الشيوخ إلى أن الشهر والشهرين في هذا طول، وإذا طال الأمر العام ونحوه لزمها البيع، وكان لها الثمن على أخيها البائع، ولو ادعى أخوها البائع أن الدار داره، قد كانت (خلصت) له بقسمة وما أشبه ذلك لم يصدق في ذلك إلا أن تسكت بعد علمها بالبيع مدة تكون فيها الحيازة أقلها عشرة أعوام، ولو كان أخوها قد باع الدار وهي حاضرة ساكتة، فلما فرغ من البيع أنكرت وقالت: إنما سكت لأني علمت أن ذلك لا يلزمني، كان القول في ذلك قولها مع يمينها على معنى مسألة كتاب النكاح الأول من المدونة، ولو سكتت بعد البيع حتى انقضى المجلس ثم قالت بعد ذلك في مجلس آخر أو بعد يوم أو يومين لم أرض بالبيع، لم يكن لها في ذلك قول، ولزمها البيع، وكان لها الثمن. ولو ادعى أخوها البائع أن الدار له انفرد بها دونها بمقاسمة أو بيع لم يصدق في ذلك، إلا أن يطول الأمر، والطول في هذه السنة ونحوها، بخلاف التي لم تشاهد الصفقة، وإنما أعلمت بالبيع بعد وقوعه، هذا إن ادعى البائع أن الدار له لم يصدق في ذلك، إلا إن سكتت عن القيام إلى مقدار ما تكون فيه الحيازة من المدة على ما ذكرناه، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة وبالله التوفيق.(9/252)
[مسألة: الرجل يرفع للسلطان أن حقا لقوم غيب في دار ونحوها]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يرفع إلى السلطان أن حقا لقوم غيب من قرابته أو غيرهم في دار، أو في أرض، أو في غير ذلك بأيدي قوم يخاف على ذلك الحق الهلاك لتقادمه في أيديهم، وطول مغيب أهله عنه، ويخاف موت من علم ذلك قبله، أو نسيانهم لطول الزمان، هل يجوز للسلطان أن يوكله على الغيب فيقوم لهم باستحقاق حقوقهم، وإحيائه لهم، والخصومة عنهم؟ قال: أما الخصومة عنهم ومواضعة الحجج فلا أرى أن يوكل على ذلك وكيلا يقوم به عن الغائب، وذلك أنه إذا قضى للذي ادعى الحق قبله على هذا الذي وكله السلطان عن الغائب لم يلزم ذلك الغائب إذا قدم، وكان له أن يخاصم في حقه ويبتدئ له النظر في طلبه، فإذا كان ما يقع على الوكيل لا يلزم الغائب فيما له وعليه، فلا ينبغي للقاضي أن يشخص هذا الذي الحق في يديه فيطول عناؤه، ويطول اختلافه، فإذا قضى عليه فلعل الغيب أن يقروا بخلاف ما طلب هذا لهم، وإن قضى له ثم جاء الغيب لم ينتفع هذا بالقضاء له، وعاد في خصومة مبتدأة. قال: ولكن إن كان الذي رفع مثل هذا إلى السلطان خاف هلاك هذا الحق بموت الشهود أو نسيانهم لطول الزمان فلا بأس أن يأذن له السلطان ويأمره أن يأتي بأولئك الشهود فيسمع منهم ويوقع شهادتهم، فإن كانوا عدولا أشهد القاضي(9/253)
رجالا أنه قد أجاز شهادتهم وقبلها لعدالتهم عنده، ويطبع على الكتاب الذي أوقع فيه شهادتهم، ويشهد العدول أنه كتابه وأنهم عدول عنده، يجيز شهادتهم، فإن جاء الغائب يوما (ما) أو وكيله فخاصم عنده وقد مات الشهود فاحتاج إلى علمهم اكتفى بالذي كانوا شهدوا به عنده فقطع الحق بهم، وإن جاء الغائب أو وكيله يوما لطلب ذلك الحق، وقد مات القاضي أو عزل، أو مات الشهداء كان حقا على القاضي الذي خلف مكانه إذا جاء الغائب أو وكيله بالكتاب الذي كتب القاضي الأول فيه شهادة الذين شهدوا عنده على إثبات حق الغيب، فأثبتوا عند القاضي الثاني أنه كتاب الماضي الأول بعينه (وأن القاضي الأول) قد أجاز شهادتهم ورضي عدالتهم، أجاز ذلك القاضي الثاني، ولم يسألهم تعديلهم، واكتفى بالذي كان ثبت عند الأول، وأشهد به للغيب، ثم أجاز شهادتهم. قال أصبغ بن الفرج: وإن رأى القاضي الأول إذا صحت هذه الأشياء عنده للغيب شهادة قاطعة وأمورا ثابتة، ولم يكن للحاضر فيها حجة ولا مدفع أن يوقفها عنه أوقفها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى موعبا محصلا في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[: أيستأنف النظر فيما حكم فيه القاضي المعزول]
ومن كتاب الصبرة وسألته عن القاضي يعزل لسوء حال يظهر منه أو يموت، وقد كان معروفا بالجور في أحكامه، أيستأنف النظر فيما كان(9/254)
حكم به؟ فقال: نعم، ولا يحل لأحد من القضاة أن ينفذ له حكما إذا كان من غير أهل العدل، قلت: وكيف يكشف القاضي الذي ولي بعده أحكامه؟ أيتصفح قراءة ما كان سجل به للناس، وأشهد لهم عليه مما كان حكم به لهم؟ أم يقال للخصماء: استأنفوا الخصومة؟ فقال: إذا كان من غير أهل العدل، وخيف أن يكون كان يقبل من الشهداء غير العدول، أو يجور في أحكامه أو ما أشبه هذا، نقضت أحكامه، وأمر الخصوم باستئناف الخصام، وذلك أن القاضي إذا كان جائرا فإنه لا يكاد يكتب للناس كتب أقضيته لهم إلا صحيحة الظاهر، مستقيمة الحكم، قال: ولكن إذا كان القاضي ممن لا يتهم بتعمد الجور، ولا تجويز شهادة غير العدول وهو مجتهد في العدل، غير أنه جاهل بالسنن، تارك للاستشارة لأهل العلم يحكم باستحسانه، ويقطع الأحكام برأيه، فهذا الذي يتصفح أحكامه ويقرأ ما أشهد للناس عليه في سجلاته لهم، فإن كانت صوابا في ظاهرها أنفذت للذي أمن جوره وعرف من صلاح حاله، وإن كان منها خلاف كتاب الله، أو سنة ماضية غير مختلف فيها فسخ ذلك من أحكامه للذي عرف منه من الجهالة، وحكم به بخلاف السنة، وإن كان الذي حكم به أمرا قد اختلف فيه أهل العلم حمل من ذلك ما يحمل للذي جاء فيه من الاختلاف إذا كان أخذ بأحد الأقاويل، ولم يرد مثل هذا من أحكامه.(9/255)
قال القاضي: هذا كما قال إن القاضي المعلوم بالجور في أحكامه تنقض أحكامه كلها، ويؤمر الخصمان باستئناف الخصام، وإن كانت مستقيمة في ظاهرها، إلا أن يثبت في شيء منها أنها كانت صحيحة مستقيمة في الباطن حسبما هي عليه في الظاهر، وإن القاضي العدل الذي لا يتهم بتعمد الجور إلا أنه جاهل، يحكم برأيه دون مشورة أهل العلم تتصفح أحكامه، فما كان منها صوابا في ظاهرها، أو خطأ قد اختلف فيه أنفذت، وما كان منها خطأ لم يختلف فيه نقضت، وذلك أن القضاة ثلاثة: قاض لا تتصفح أحكامه ولا ينظر فيها إلا على وجه التجويز لها إن احتيج إلى النظر إليها لعارض يعرض من وجه خصومة أو اختلاف في حد لا على وجه الكشف عنها والتعقب لها إن سأل ذلك المحكوم عليه فتنفذ كلها، إلا أن يظهر في شيء منها عند النظر إليها على الوجه الجائز أنه خطأ ظاهر لم يختلف فيه، فيرد ذلك من حكمه، وهو القاضي العدل العالم. وقاض لا تتصفح أحكامه، وترد كلها، وإن كانت مستقيمة في ظاهرها إلا أن يثبت صحة باطنها، وهو القاضي الجائر. وقاض تتصفح أحكامه كلها فما كان منها صوابا أو خطأ فيه اختلاف نفذت، وما كان منها خطأ لا اختلاف فيه ردت، وهو القاضي العدل الجاهل، ويختلف في أحكام القضاة الذين لا ترضى أحوالهم ولا تجوز شهادتهم إذا لم يعلموا بالجور في أحكامهم، وفي أحكام أهل البدع والأهواء، فحكم لها ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون بحكم القاضي الجائر في أنها تفسخ كلها، ولا يمضي منها إلا ما علم صحة باطنه بالبينة العدلة، وحكم لها أصبغ بحكم القاضي العدل الجاهل في أنها تتصفح فينفذ منها ما كان صحيحا في الظاهر. وحكى الفضل عن ابن الماجشون أن القاضي الجائر تتصفح أحكامه كالقاضي الجاهل، وهو شذوذ وبالله التوفيق.(9/256)
[مسألة: أيجوز لقاضي الجماعة الأعلى أن ينفذ أحكام القاضي غير العدل]
مسألة قلت: أرأيت القاضي يوليه الأمير في بعض الكور، وهو غير عدل ولا رضا، ولا يؤمن جَوْره ولا جهله، أيجوز لقاضي الجماعة الذي هو فوقه أن ينفذ أحكامه، ويرد إليه من أراد الخصومة عنده من أهل الكورة؟ قال: لا أرى أن يدفع إليه خصما، ولا يكتب إليه في تعديل شاهد، ولا يمضي له حكما، ولا أراه في سعة من ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن من لم يكن من أهل العدل والرضا، فلا يؤتمن في شيء من الأشياء؛ لقول الله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، وبالله التوفيق.
[: النزاع في إقامة حائط منهدم بين جارين]
ومن كتاب الصلاة وسئل عن حائط لرجل يكون فاصلا ما بينه وبين جاره فينهدم، فيقول صاحبه: ما أنا محتاج إلى الاستتار به ولا رفعه، ويقول جاره: اردده كما كان، فإنه سترة فيما بيني وبينك. قال: سمعت مالكا يقول: إن كان هو الذي هدمه، وهو قوي على رده بحاله، وإنما يترك عمله للضرر بجاره، فعليه عمله، وإن كان انهدم وهو على عمله قوي فكذلك أيضا، وإن هدمه أو انهدم، فضعف عن رفعه عذر، وقيل لجاره: استر على نفسك وضع جدراك في حظك ودارك، أو اترك.(9/257)
قال محمد بن رشد: ساوى في هذه الرواية بين أن ينهدم أو يهدمه لوجه منفعة، في أنه إنما يجبر على إعادته إذا كان له مال، وذلك خلاف لما مضى في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، وقد مضى هناك تحصيل القول في ذلك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: البيت يكون بين الرجلين ينهدم أو البير تكون بين حائطين فتنهدم]
مسألة قيل له: فالبيت يكون بين الرجلين ينهدم، أو البير تكون بين حائطين فتنهدم قال: قال لي مالك: أما البيت وما أشبه ذلك، فإن كان مما ينقسم اقتسماه فبنى من شاء، وترك من كره، وإن كان مما لا ينقسم مثل البير وما أشبهها، فإنه يقال للذي لا يريد العمل: إما أن تعمل مع شريكك، وإما أن تقاومه، أو تبيع ممن يعمل، وإلا بعنا عليك من حقك بقدر ما ينفق في عمل ما بقي من حقك، ولا يمنع شريكك من الانتفاع بحظه ضررا منك له وتضييقا عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يقال لمن أبى العمل إذا كان لا ينقسم إما أن تعمل مع شريكك، وإما أن تقاومه أو تبيع ممن يعمل، وإلا بعنا عليك يبين أنه لا يحكم عليه بالبيع، كما لا يحكم بالمقاومة على من أباها منهما، وأن الذي يوجبه الحكم إذا لم يتفقا على المقاومة، وأبى هو البيع أن يباع عليه من حظه بقدر ما ينفق في عمل ما بقي منه، وهو صحيح في المعنى، على معنى ما في كتاب القسمة من المدونة، خلاف ما في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب السداد والأنهار، وقد مضى القول على هذا قبل هذا في أول مسألة من هذا السماع، فلا معنى لإعادته.(9/258)
وقول مالك في هذه الرواية: أما البيت وما أشبهه فإن كان مما يقسم اقتسماه، فيبني من شاء، ويترك من كره، ينحو إلى مذهب ابن القاسم في المدونة أن البيت لا ينقسم إلا أن يكون في نصيب كل واحد من الشركاء بقدر ما ينتفع به، خلاف قول مالك فيها، وبالله التوفيق.
[: القاضي يحكم للرجل فيستأني في الحوز بالقضاء حتى يموت القاضي أو يعزل]
ومن كتاب المكاتب وسألته عن القاضي يحكم للرجل، ويسجل له بذلك، ويشهد له به عدول، فيستأني في الحوز بالقضاء حتى يموت القاضي أو يعزل، فقال: القضاء له جائز تام، ولا يضره إلا أن يكون قبض. قلت له: ذو العذر عندك فيما أخر من حيازة ما قضى له به، ومن لا عذر له سواء. قال: نعم، لا يقطع حقه تأخير الحوز، ولا موت القاضي الحاكم له، ولا عزله. قلت: أرأيت إن مات المقضي له قبل أن يحوز ما قضى له به أيكون ورثته بمنزلته؟ قال: نعم، قلت: وإن مات المقضي عليه قبل أن يقبض الحق منه، أو يؤخذ من ورثته، وقد طال ترك المقضي له ذلك الحق في يد المقضي عليه، قال: نعم، ليس في موت واحد منهما، ولا موت القاضي، ولا عزله قطع لحق المقضي له، إلا أن يكون تركا طويلا جدا حتى يكون كقبض ما يستحق بالتقادم وما أشبه ذلك. قلت له: وما طول ذلك؟ قال: قدر ما يخشى أن يكون من يعرف ذلك الحق قد هلك، أو ينسى لطول زمنه.(9/259)
قال القاضي: قوله: إن حكم القاضي لا يفتقر إلى حيازة، وإنه إذا قضى، وأشهد لرجل بالقضاء، فلم يمض ولا حاز حتى مات أو عزل أن حقه لا يبطل بموت القاضي ولا عزله، صحيح لا اختلاف فيه، وقد مضى هذا المعنى في رسم نذر سنة، من سماع ابن القاسم، ورسم أسلم من سماع عيسى، وكذلك قوله: إن المقضي عليه لا ينتفع بحيازة ما قضى به عليه السنين الكثيرة التي تكون بها الحيازة قام عليه المقضي له في حياته أو ورثته بعد وفاته، إلا أن يطول ذلك جدا؛ صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن الحيازة لا ينتفع الحائز بها إلا أن يجهل أصل دخوله فيها، وأما إذا علم أن أصل دخوله فيها كان على وجه ما، من غصب أو عارية أو إسكان أو إرفاق أو إمساك ما حكم عليه به، فهو محمول على ذلك لا ينتفع في طول حيازته له، إلا أن يطول زمان ذلك جدا، ولم يحد في هذه الرواية في ذلك حدا، إلا أنه قال: قدر ما يخشى أن يكون من يعرف ذلك الحق قد هلك، أو نسي لطول زمنه، فقد يتأول في هذا أن الطول عشرون عاما على ما وقع في سماع عيسى، من كتاب القسمة أن في عشرين سنة يبيد الشهود، وحد ابن حبيب فيه الخمسين سنة، وحكاه عن مطرف وأصبغ، ويأتي على مذهب ابن الماجشون في إجازة شهادة السماع أن الطول في ذلك خمسة عشر عاما، وهذا عندي إذا ادعى بعد هذا الطول أنه قد صار إليه بعد الحكم عليه بوجه كذا، لوجه يذكره مما يصح به انتقال الأملاك، وأما أن يكون طول مقامه بيده يحق له ملكه دون أن يدعى تصييره إليه ملكا فلا.
والبيع والهبة والإصداق، والصدقة والبناء والغرس على ما حكى ابن حبيب، ومطرف، وابن الماجشون، وأصبغ كالطول في ذلك. واختلف إذا مات المقضي عليه، وأورث ذلك ورثته، فلم يقم عليهم المقضي له السنين الكثيرة، فقيل: إنهم في ذلك عليه سواء، لا شيء لهم إلا أن يطول زمانه في أيديهم، أو يحدثوا فيه بيعا أو صدقة أو إصداقا، قال ابن الماجشون: لو(9/260)
قسمه، في أحد قوليه، والمقضي له حاضر، فيدعوه ملكا لهم بوجه حق غير الوراثة، ويحتجوا عليه بالحيازة، فيكون لهم، وهو قول ابن الماجشون، وأصبغ، ومذهب ابن القاسم فيما حكى عنه ابن عبدوس، ودليل قوله في هذه الرواية، وقيل: إنهم في ذلك بخلاف المقضي عليه، ويستحقونه على المقضي له بحيازتهم إياه بحضرته مدة الحيازة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يكون أندره لاصقا بأرض رجل فيريد أن يبني دارا تضر بالأندر]
مسألة وسألته عن الرجل يكون أندره لاصقا بأرض رجل، فيريد صاحب الأرض أن يبني فيها دارا، والبنيان يضر بالأندر، ويمنع صاحبها من الريح عند الذري، حتى يكون في ذلك إبطاله، أيجوز ذلك لصاحب الأرض؟ قال: لا يجوز له أن يبني بموضع يبطل به أندر رجل قد تقادم انتفاعه به ودراسته فيه، ولا أن يضر به في قطع المنفعة عنه. قلت: أفيمنع الرجل من البناء في أرضه لموضع الضرر بصاحب الأندر؟ قال: نعم، يمنع من ذلك إذا أضر ذلك بصاحب الأندر، وإنما الأنادر المتقادمة عندنا كالأفنية وما أشبهها، لا يجوز لأحد التضييق على أهلها، ولا قطع منفعتهم منها.
وسئل سحنون عن الرجل يكون له الأندر يدرس فيه، وفي جوار أندره أرض لرجل، فيبني الرجل في أرضه دارا أو بيوتا، فأضر ذلك بصاحب الأندر، وأكنه من الريح، ويمنعه ذلك من أن يدرس فيه، وكيف إن كان البناء قبل الأندر، ثم أحدث هذا الأندر فأضر ذلك بصاحب البنيان، ووقع تبنه في داره؟ وكيف(9/261)
إن كانت جنانا أو مقصلة، فأضر تبنه بجنان هذا أو مقصلته؟ قال: ليس لصاحب الأندر أن يحدث على صاحب البنيان أندرا، إذا كان ذلك يضر به كما وصفت لك، وهو مثل الذي يحدث في جوار الرجل الأفران والحدادين، فيضر ذلك بجاره، فإنه يمنع من ذلك، ويقضى عليه بذلك، ثم ينظر في صاحب الأندر، فإن كان الأندر قبل البنيان، فلا يغير الأندر عن حاله، ولصاحب البنيان أن يبني، ولا يمنع من البنيان بما ذكرت من ريح ولا دراس، وإنما نظيرتها عندي لو بنى رجل، فرفع بنيانه حتى يمنع جاره الضوء والريح والشمس، لم يمنع من رفع بنيانه، قيل: فلو أن أندر الرجل في جوار أندر رجل نصب فيه قشاقيره، فقال له جاره: إن قشاقيرك تمنعني من الريح في أندري، فاقلعها عني، إن ذلك ليس له، ولا يقلع عنه زرعه إذا كان، إنما ينازعه في أرضه بعضه فوق بعض، وهو الصواب إن شاء الله.
وقال ابن نافع: لا أرى لأحد ممن لا حق له في الأندر أن يحدث عليه بنيانا يضر فيه بأصحاب الأندر، وليس للرجل أن يحدث على جاره بنيانا يضر به في أندره، ولينح ذلك إلى مكان لا ضرر فيه على صاحب الأندر. وقال عبد الله بن نافع: وسواء احتاج إلى البنيان، أو لم يحتج إليه؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ضرر ولا ضرار» ، قال سحنون مثل هذا القول يمنع من أراد أن يبني دارا من ناحية الريح، إذا كان الأندر قديما قبل بناء هذا، وهو أحسن من قوله الأول.(9/262)
قال محمد بن رشد: ما يحدثه الرجل في ملكه مما يضر بغيره؛ ينقسم على ثلاثة أقسام؛ منه ما يمنع باتفاق، ومنه ما لا يمنع باتفاق، ومنه ما يختلف في وجوب الحكم بالمنع منه، فما يمنع باتفاق أن يحدث الرجل الأندر في جوار دار الرجل، أو جنانه فيضر به ما يقع في داره، أو جنانه من تبن أندره عند الذرو، ومن ذلك ضرر الدخان، مثل أن يحدث بقرب داره حماما، أو فرنا.
ومنه ضرر الروائح القبيحة مثل الدباغ يؤذي جاره بما يحدثه عليه من الدباغ، ومنه ما يضر بالجدرات، مثل أن يحدث كنفا إلى جانب حائط جاره، أو أرحية تضر بجدراته وما أشبه ذلك، ومنه ضرر الاطلاع، مثل أن يحدث كوة أو بابا يطلع منه على دار جاره، أو يتخذ عليه قصبة يشرف منها على عياله، وفي هذا اختلاف شاذ، قيل: إنه لا يمنع، ويقال لجاره: استر على نفسك في حقك إن شئت، روي ذلك عن أشهب وابن الماجشون، ومحمد بن مسلمة المخزومي، ومحمد بن صدفة الفدكي، من أصحاب مالك.
ومما لا يمنع باتفاق أن يحدث فرنا على مقربة من فرن آخر أو حماما على مقربة من حمام آخر، فيضر به في قلة عمارته وانتقاص غلته، ومن ذلك أن يبني في داره بناء يمنع به الضوء والشمس والريح عن دار جاره، ومن ذلك ضرر الأصوات كالحداد، والكماد، والنداف؛ حكى ابن حبيب: أنه لا يمنع، وقاله مالك في رواية مطرف عنه، وفي هذين الوجهين اختلاف شاذ. روى ابن أبي دينار، عن ابن نافع أنه يمنع من ضرر منع الضوء والريح والشمس، وذهب بعض الفقهاء(9/263)
المتأخرين إلى أنه يمنع من ضرر الأصوات، واستدل بما روى من قول سعيد بن المسيب لبرد: اطرد هذا القارئ عني، فقد آذاني، يعني عمر بن عبد العزيز، وهذا لا دليل فيه، وقد مضى القول عليه في سماع أشهب، من كتاب الصلاة.
ومما يختلف في وجوب المنع منه أن يحدث الرجل في أرضه بناء بقرب أندر جاره، يمنعه به الريح عند الذرو، فقال ابن القاسم وابن نافع: إنه يمنع، واختلف فيه قول سحنون على ما وقع هاهنا، والأصل في هذا الاختلاف ما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اجتمع ضرران نفى الأصغر الأكبر» ومنع الرجل من البناء في أرضه ضرر به، وإباحة ذلك له إذا حبس به الريح عن أندر جاره ضرر بجاره، فمن رأى باجتهاده ترك الرجل الانتفاع بالبناء في أرضه أحق عليه من ترك صاحب الأندر الانتفاع بأندره منعه من ذلك، ومن رآه أشد عليه لم يمنعه منه، والأظهر ألا يمنع من ذلك؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قال فيما روي عنه: «كل ذي مال أحق بماله، وكل ذي حق أحق بحقه، وكل ذي ملك أحق بملكه» ، فوجب ألا يمنع أحد من البناء في حقه، والانتفاع بملكه، إلا بيقين أن ذلك يضر بجاره أكثر مما يضر به هو؛ ترك ذلك.
ولا يقين في ذلك، بل الأظهر أن الضرر عليه في ذلك أشد؛ لأن المنفعة بالبنيان في البقعة متصل في جميع الأزمان، والانتفاع بالأندر إنما هو في زمان خاص من الأزمان، ووجه القول الآخر أن صاحب الأندر قد حاز منفعته بالسبق إليها، فليس لأحد أن يبطلها عليه، وقد رأيت لابن دحون أنه قال: لم يختلف في الكماد(9/264)
والطحان بجوار الرجل أنهما لا يمنعان، وإن كان ذلك محدثا، يضر بأسماع الجيران، فإن أضر بالبناء منعا.
قال: وكذلك الدباغ والدقاق لا يمنعان، وإن أضرت الرائحة بالجيران، فإن أضرت بالبناء منعا. قال: فأما الفرن والحمام فإنهما يمنعان إذا كانا محدثين؛ لأن الدخان يسود الحيطان والأبواب والسقف، ولم يمنعا من أجل الضرر بأنوف الجيران، وإنما منعا من أجل الضرر بفناء الدار، وعلى هذا قياسه. فأما من أحدث بناء يستر عن جاره الضوء والريح وغيره، فلا يمنع من ذلك، إنما الريح حق في الأندر وحده. هذا نص قوله، وليس بصحيح على ما قد بان بما أوردته، وبالله التوفيق.
[: يقضي له القاضي بقرية ثم يموت القاضي أو يعزل قبل حوز المقضي به]
ومن كتاب الأقضية قال: وسألته عن الرجل يقضي له القاضي بنصف قرية أو بجزء من أجزائها، ثم يموت ذلك القاضي، أو يعزل قبل أن يحوز المقضي له بذلك القضاء، وإنما قضى له بجزء مفروز معروف ينسب إلى رجل كان المقضي له بذلك اشتراه من ذلك الرجل، فلما أراد الحوز والقبض لم يجد بينة تحوز له ذلك الجزء بعينه، وينكر أهل تلك القرية أن يكون للمقضي له أو المقضي عليه في تلك القرية حق، فيقوم له البينة أن ذلك الجزء كان معروفا للمقضي عليه إلى أن باعه من المقضي له، فيريد أن يقاسم أهل القرية كلهم؛ إذ لا يجد من يحوز جزءه ذلك، وقد ثبت له به(9/265)
القضاء والاشتراء، قال: نعم، أرى له أن يقاسمهم، فيكون شريكا في جميع القرية بحسب ذلك الجزء، قلت له: أرأيت أهل القرية الذين بيد كل واحد منهم حق له معروف؛ إذ أمرت هذا المقضي له بمقاسمة أهل القرية كلهم أيأخذ من كل إنسان منهم سدس ما بيده إن كان الذي ثبت له من جميع القرية سدسها؟ أو على هذا الحساب في قدر ما قضي له به؟ وكيف إن خلطت الأرض كلها، فيقسم له منها الجزء الذي قضي له به، فوقع في ذلك الجزء الذي قسم له حظوظ رجال من أهل القرية، وبقي سائرهم لم يؤخذ مما في يديه شيء؟ فلم يجب في ذلك بشيء، ولم يفسر لي فيها وجها يقسم به.
قال القاضي: المعنى في هذه المسألة أن المقضي عليه كان له في القرية جزء مشاع سدس أو ربع أو نصف، أو ما كان من الأجزاء، فقاسم أشراكه في القرية، وقبض جزءه مفروزا، وحازه وباعه من رجل، ثم أنكر البيع فحاكمه إلى القاضي، وأثبت عنده ملك البائع لذلك الجزء بعينه، وأنه كان معروفا له وفي يديه، إلى أن باعه منه، فحكم له بذلك الجزء بعينه على ما يجب، وأشهد له على حكمه، فتوانى في القبض والحوز إلى أن مات القاضي أو عزل، فلما قام بعد موته أو عزله ليقبض ذلك الجزء الذي حكم له القاضي به أنكره أهل القرية، وقالوا: لم يكن للمقضي عليه في هذه القرية حق، فأقام البينة على حكم القاضي له بذلك الجزء بعينه على المقضي عليه بما ثبت عنده من أنه كان له إلى أن باعه منه، ولم يجد بينة تحوز له، فوجب أن يقاسمهم كما قال، فيكون شريكا لهم في جميع القرية بحساب ذلك الجزء، وكان وجه العمل في ذلك أن يكون شريكا(9/266)
لكل واحد منهم بما بيده من القرية بحساب ذلك الجزء، على ما قاله في الرسم الذي بعد هذا، ولا تعاد القسمة في الجميع؛ إذ لم تنتقض القسمة فيما بينهم، وإنما وجب له منهم في القرية بوجه لا مدفع لهم فيه، فوجب أن يأخذ مما بيد كل واحد منهم سدسه، إن كان السهم السدس أو ما كان، كان أقل من ذلك أو أكثر، وإن كان بعض أهل القرية ورثة المقضي عليه، وفي أيديهم من القرية مثل ذلك الجزء، فأكثر أخذ المقضي له ذلك الجزء مما في أيديهم، ولم يكن له دخول على من سواه من أهل القرية على ما قاله أيضا في الرسم الذي بعد هذا.
وذهب سحنون في هذه المسألة إلى أنه لا شيء للمقضي له فيما في يد الأجنبيين إلا من كان في يده منهم زيادة على ذلك الجزء، أخذ المقضي له تلك الزيادة، فلو كانت القرية لرجلين بيد كل واحد منهما نصفها لم يقض له على واحد منهما بشيء، وكذلك لو كانت لثلاثة أنفس لكل واحد منهم ثلثها، والجزء الذي حكم له به الثلث فأقل لم يقض له على واحد منهم بشيء. هذا قول سحنون، ووجه ما ذهب إليه أن كل واحد منهم يقول: لا تأخذ مما بيدي شيئا إلا أن يثبت أن حقك فيه؛ إذ لعل حقك إن كان لك حق إنما هو في يد غيري، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأنه قد ثبت أن حقه في القرية، فلا بد أن يوصل إليه، وليس بعضهم بأحق أن يؤخذ ذلك منه من بعض، فوجب أن يؤخذ من جميعهم، وبالله التوفيق.
[خاصم لبني أخيه في شيء فلم يحوزوا بذلك القضاء حتى مات القاضي]
ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر قال: وسألته عن رجل خاصم لبني أخيه في نصف منزل كان لهم حتى قضي به، فلم يحوزوا بذلك القضاء حتى مات القاضي الذي حكم لهم به، ومات المقضي عليه، فلما طلب بنو أخي الرجل قبض ما قضي لهم به منعهم رجل من أهل القرية، وقال:(9/267)
لم يكن للخصم الذي قضي عليه عندنا في هذه القرية قليل ولا كثير، فإن كان قضي لكم عليه بشيء كان بيده، فهاتوا بينة تحوز لكم وشأنكم به، وقال المقضي لهم: قد ثبت لنا القضاء بنصف المنزل، فإذا غيرتم حوزنا، ولا نجد من يقوم بحوزه لنا، فنحن أشراك لكم في جميع المنزل بالنصف.
فقال ابن القاسم: ينظر في القضاء الذي قضي به لهم، فإن كان قضي لهم بنصف المنزل، وهو معروفا في يد المقضي عليه وله، فقد ثبت لهم ما كان له، فإن كان الذي في يد المقضي عليه في يد ورثته، أو قوم قد اشتروه منهم دفع ذلك النصف الذي كان في يد الخصم المقضي عليه إلى هذا المقضي له، فإن تجاهل فيه أهل القرية وأخفوا حوزه نظر في أمرهم، فإن كان بعضهم ورثة الميت، وفي أيديهم مما ورثوا عنه نصف جميع المنزل فأكثر، أعطى المقضي له نصف جميع المنزل مما في أيدي ورثة المقضي عليه، وإن كانوا كلهم أجنبيين، وقد ثبت عليهم أن نصف المنزل الذي قضي لهؤلاء به كان معروفا في يد المقضي عليه حتى استحقه هؤلاء بالقضاء، فإنه شريك في جميع حوز المنزل الذي قضي به لهؤلاء، ولا يجمع له النصف في إحدى ناحيتي المنزل، ولكن يؤخذ من كل رجل من أهل تلك القرية نصف ما في يديه؛ لأنا لو جمعنا له النصف استوعب ما في أيدي بعضهم، ورجع بعضهم على بعض بأمر عسير في القسمة لا يحاط به، فأعدل ذلك أن يأخذ من كل رجل نصف ما بيده، حتى يوقعه على نصفه(9/268)
بإقرار منهم وإظهار لحوزه، قال: وإن لم تقم له بينة أن نصف ذلك المنزل كان في يد المقضي عليه، ولا معروفا له يوم حكم به عليه، فلا شيء له في المنزل؛ لأنه إنما قضي له حينئذ على رجل بحق لا يملكه، وليس بشريك لأهل المنزل فيه، ولو جاز مثل هذا عند القضاة لم يشأ رجل أن يصنع لنفسه خصما، فيقضى له عليه بما ليس في يديه من أموال الناس ورباعهم إلا فعل، فلا أرى أن يلزم أهل القرية ما فسرت لك من مقاسمة المقضي له، حتى يثبت البينة أن ذلك الحق كان في يد الخصم وهو يوم قضي عليه.
قال محمد بن رشد: القول في هذه المسألة كالقول في التي قبلها، وما فيها من الزيادات عليها فنبينها، وإنما قال: إنه لا شيء للمقضي له بهذا الحكم، إلا أن تقوم بينة أن ذلك كان في يد المقضي عليه معروفا له يوم الحكم عليه به؛ لأن القضاء عليه إنما كان ما به باعه منه، إما ببينة قامت عليه بذلك، وهو منكر، وإما بإقراره به على نفسه، والبيع لا يوجب الملك للمشتري؛ إذ قد يبيع البائع ما ليس له، فإذا لم يجب الملك للمشتري بالشراء إلا بعد ثبوت ملك البائع لما باع يوم باع لم يتم القضاء للمحكوم له بالشراء إلا بعد ثبوت الملك للمحكوم عليه يوم الحكم، وقد مضى بيان هذا في أول رسم من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[: الجارية أو العبد يدعي الحرية وشهوده غير حضور]
من سماع عبد الملك بن الحسن وسؤاله
ابن القاسم وابن وهب وأشهب قال عبد الملك بن الحسن: سئل ابن القاسم عن الجارية أو العبد يدعي الحرية فيقال له: إيت بشهودك، فيقول: شهودي(9/269)
في موضع كذا وكذا، وبها قاض فارفعني وإياه، فيقول صاحب الغلام أو الجارية: لا أرتفع معك، ولكن إيت بشهودك هاهنا، فيقول العبد: أنا أضعف عن ذلك، وليس أحد يقوم لي، ولا تأتيني ببينة، فهل يرفع إلى موضع بينته كان قريبا أو بعيدا، أحب ذلك السيد أو كره؟ وكيف الأمر في ذلك؟ قال ابن القاسم: لا أرى أن يرفع مع العبد، ولو جاز هذا للعبيد خرجوا من أيدي أربابهم بالتبطل عن أعمالهم، ولكن إن كان الذي ذكره العبد قريبا مسيرة اليوم ونحوه، فعسى به إن جاء بأمر يعرف، فلعل هذا يكتب له، أو يأتي بشاهد عدل وحميل بقيمته كتب له برفع بينته، وكذلك سمعت مالكا يقول: وإن لم يأت بحميل لم يمكن من ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة ناقصة ملتبسة، وتلخيص وجه الحكم فيها يفتقر إلى تفصيل، وذلك أنه لا يخلو ما ادعت الجارية أو العبد من الحرية أن يسببا له سببا، مثل الشاهد الواحد العدل، أو الشهود غير العدول، أو لا يسببان لذلك سببا.
فأما إذا سببا لذلك سببا؛ فإن السيد يوقف عن الجارية، ويؤمر أن يكف عن وطئها، إن كان مأمونا، وإن لم يكن مأمونا وضعت على يدي امرأة، ويضرب في ذلك أجل الشهرين أو الثلاثة، قاله مالك في رسم سلف، من سماع ابن القاسم، من كتاب الاستحقاق، وإن سألت أن ترفع مع سيدها إلى موضع بينتها، كان ذلك لها إن كان الموضع قريبا، وإن ادعت أن بينتها بموضع بعيد، فقيل: ترفع مع سيدها إلى موضع بينتها. وهو قول أصبغ في الواضحة، وقيل: إنه لا يلزم سيده أن يرفع معه إلى موضع بينته، ويقال له: ضع حميلا بقيمتك، واذهب إلى موضع بينتك، وهو ظاهر قول ابن وهب في رسم الأقضية، من سماع يحيى، من كتاب الشهادات، وإن لم يأت بحميل(9/270)
طرح في السجن، ووكل من يقوم بأمره، قاله مالك فيما سأل عنه ابن كنانة لابن غانم، ومعناه إذا دعا لذلك السيد، وقال: أخشى أن يهرب لادعائه الحرية، وأما إذا لم يسبب لذلك سببا من بينة، ولم يأتيا بسوى الدعوى، فلا يخلو من أن يكون لما ادعيا وجه يشبه، ويعرف مثل أن يدعيا أنهما من أهل بلد، قد عرف واليه بالتعسف على أهل ذمة ذلك البلد وبيعه لهم، أو ينتسب إلى قوم معروفين، ويأتي على ذلك بأمارة ظاهرة وما أشبه ذلك، أو لا يكون لدعواهما وجه يشبه ويعرف، ولا يخلو من أن يكون موضع بينتهما قريبا، فإن الإمام يأخذ من سيدهما حميلا ألا يخرج به ولا يفوته، ويكتب له كتابا إلى ذلك الموضع.
فإن جاءه جواب كتابه بما يستوجب به الرفع مع سيده، أو الذهاب بحميل يأخذه منه بقيمته حكم بذلك، وإن لم يكن لما ادعيا وجه يعرف، وكان موضع بينتهما بعيدا لم يلزم سيدهما بشيء. واختلف إن لم يكن لما ادعيا وجه، وكان الموضع قريبا، فقيل: لا يلزم السيد بشيء، وهو دليل ابن القاسم في هذه الرواية، إن كان الذي ذكره العبد قريبا على مسيرة اليوم ونحوه، فعسى به إن جاء بأمر يعرف، فلعل هذا يكتب له، يريد ويؤخذ من سيده حميل، وهو قول ابن الماجشون، وقيل: يكتب لهما ويتخذ على سيدهما حميل ألا يفوتهما، وهو قول عيسى في كتاب الجدار.
واختلف أيضا إن كان لما ادعيا وجه، وكان الموضع بعيدا، فقيل: إنه لا يلزم السيد شيء، وهو دليل هذه الرواية؛ لأنه لم ير أن يكتب له إلا أن يكون الموضع قريبا، ويأتي بأمر يعرف، وقيل: إنه يكتب لهما، ويؤخذ من سيدهما حميل بهما، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، عن مطرف وأصبغ. وانظر إذا أخذ من العبد حميل بقيمته، فذهب إلى موضع بينته فهرب أو مات في الطريق، أو قتل، أو حدث به عيب، ولم يصح له من دعواه شيء ما يكون الحكم في ذلك؟ والذي أراه فيه على ما يوجبه النظر والقياس أن يضمن الحميل قيمته إن أبق، أو قتل وما حدث به من العيوب بسبب سفره، ولا(9/271)
يكون عليه شيء فيما حدث به من العيوب بغير سبب سفره، ولا في موته إن مات، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل أراد أن يطلب حقا له من مورث أو غيره ببلد غير بلده]
مسألة وسألت عبد الله بن وهب عن رجل أراد أن يطلب حقا له من مورث أو غيره ببلد غير بلده، فخاف أن يجهل أمره، ويكلف البينة على معرفته بعينه واسمه ونسبه، وله بينة يعرفونه على مسيرة يومين أو ثلاثة، ممن لا يعرف بالبلد الذي أراد الخصومة فيه، فذهب إلى موضع بينته تلك، وبها قاض من قضاة المسلمين، فأتى بشهوده أولئك الذين يعرفونه باسمه وعينه، ونسبه إلى قاضي ذلك البلد، فشهدوا عنده على معرفة الرجل بعينه ونسبه، وعلى أنه ورث الذي يطلب المورث من قبله، فقبلهم ذلك القاضي بمعرفة، أو بعدالة من عدلهم عنده، ثم كتب له بما ثبت عنده من نسبه بشهادة أولئك الشهود إلى القاضي الذي يطلب ببلده مورثه أو حقه، وذلك على مسيرة يومين أو ثلاثة، هل يرى القاضي الذي ورد عليه بذلك الكتاب أن يقبل ما أتاه به من ذلك الكتاب، ويكون ذلك الرجل بكتابه ذلك ثابت المعرفة والنسب، وخصمه الذي يطلب قبله ذلك الحق الذي ثبت له بذلك النسب، يقول للقاضي الذي ينظر في أمرهما: إن البينة التي أثبتت نسب هذا حتى جاز له بهم مخاصمتي، لم أحضر شهادتهم، ولعلي أن أدفع علمهم لو حضرته، ويقول له خصمه: إن بينتي لا تعرف إلا ببلدهم، وإنما هو نسبه أثبته عند ذلك القاضي، وكتب به إلى القاضي الذي أنا وأنت نختصم إليه؛ أترى على القاضي الذي يخاصمه إليه أن يكلفه البينة على معرفته ونسبه عنده، حتى تشهد(9/272)
البينة بحضرة خصمه، ولا يكتفي بالكتاب الذي أتاه به؟ وكيف إن كانت تلك البينة التي شهدت على معرفته بعينه ونسبه، إنما يشهدون أن قاضيا من القضاة مثل قاضي إفريقية، أشهدهم أنه قد ثبت عنده معرفة فلان بن فلان بعينه ونسبه، وهم من موضع القاضي الذي يختصم إليه في هذا الأمر بمنزلة الإسكندرية من مصر، فشهد أولئك الشهود عند قاضي الإسكندرية أن قاضي إفريقية أشهدنا على أنه قد ثبت عنده معرفة فلان بن فلان بعينه ونسبه، وعرفهم به، فلما قدم عليهم ذلك الرجل، واحتاج إلى علمهم الذي أشهدهم عليه قاضي إفريقية، قاموا بشهادتهم عند قاضي الإسكندرية، فكتب بعلمهم قاضي الإسكندرية إلى قاضي مصر، فهل يثبت نسبه ومعرفته بذلك الكتاب؟ أو حتى يشهد أولئك الشهود بأعيانهم عند قاضي أهل مصر، حيث الخصومة وموضع الطلب بحضرة الخصوم؟ أو يكتفي القاضي بما أتاه في هذا وأشباهه بكتب القضاة، ويكون في إنفاذها سعة له؟
قال له: قد فهمت ما ذكرت، والشأن فيه أن يقبل القاضي ما جاءه به من ذلك، ويثبت عنده من ذلك، وأن يكتب له به حيث أحب، وأن يجيز ذلك المكتوب إليه به، ويحكم به إن كان الحكم فيه عنده، أو يكتب به أيضا إلى غيره إن كان إليه هكذا وإن كثر، وهذا أمر القضاة، وشأن الإسلام، لا يختلف في هذا أهل العلم ولا ينكرونه، وليس لمن جاءه بمثل هذا من القضاة أن يعنت بأن يقول: لا أعرف من شهد لك أو ثبتهم عندي، أو أشخصهم إلي كما ذكرت مما طلب الخصم وسأل، بل يمضي له ما كتب إليه به على ما كتب به القاضي(9/273)
الكاتب أنه ثبت عنده، ثم شأن الخصم المقضي عليه بعد ذلك إن كان عنده مدفع لأولئك الشهود بدفع الحق، ويخرج إليه ما قضى له به، ثم يشخص إلى بلد الشهود والقاضي الكاتب، فيبطل ذلك عن نفسه إن شاء إن كان عنده مدفع، فإن فعل رجع في بينته، وإلا لم تكن له حجة، ولم يحبس هذا بحقه، ويظلم فيه حتى يجلب بينته كما قال الخصم، وسواء أقام ذلك عند قاضي إفريقية بما ثبت له عنده، فيكتب له به، أو أقام ذلك عنده، على الشهادة على قاضي مصر أنه أشهدهم أنه قد ثبت ذلك له عنده على ما سمى وفسر أنفذه له، فيحكم بذلك قاضي إفريقية، ويكتب له بذلك إلى حيث شاء يطلب صاحبه به.
وقال أشهب: إذا ثبت عند قاض من القضاة معرفة رجل بعينه ونسبه ببينة عدول، أنه فلان ابن فلان، فكتب بذلك القاضي إلى القاضي الذي بلده كذا طلبه الرجل أو مورثه، فإنه ينبغي للقاضي الذي ورد عليه بذلك الكتاب أن يكون بكتابه إليه ذلك الرجل ثابت المعرفة والنسب عنده، لا يكلفه إحضار بينة عنده إذا أتاه بكتاب من يرضاه من القضاة، ولا يبالي كان إثبات معرفته بعينه ونسبه عند قاضي إفريقية، وعند قاضي الإسكندرية إذا شهدت البينة عند قاضي الإسكندرية أن قاضي إفريقية أشهدنا أنه قد ثبت عنده معرفة فلان ابن فلان ونسبه، وعرفهم به كتب قاضي الإسكندرية إلى قاضي مصر بما ثبت عنده من شهادة الشهود الذين أشهدهم قاضي إفريقية، فكان ذلك الرجل عند قاضي مصر بكتاب قاضي الإسكندرية ثابت المعرفة والنسب، لا ينبغي للقاضي إذا أتاه كتاب(9/274)
من يرضى من القضاة على معرفة رجل أن يقول له: أحضر البينة عندي، حتى يشهد بمحضر خصمك.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا مثل قول ابن وهب سواء، فلو قال فيه: وقال أشهب مثله؛ لكان أحسن، وهو كله صحيح لا إشكال فيه، ولا اختلاف بين أحد من أهل العلم في أن القاضي يعمل بخطاب غيره من القضاة، ويحكم بما خاطبه به أنه ثبت عنده، أو أنه خاطبه به غيره، كان ذلك القاضي الذي خاطب من خاطبه قد ثبت ذلك عنده، أو خاطبه به أيضا غيره، وإن كثرت المخاطبات في ذلك من قاض إلى قاض، وليس للذي ورد عليه الخطاب بثبات حق لرجل على رجل أن يكلف الذي له الحق بشهادة البينة عنده بمحضر خصمه، بل يلزمه أن يقضي له عليه بحقه، إلا أنه يقول له: إن كان عندك مدفع فيمن شهد على الكتاب فادفع، فإن دفع بأمر تسقط به شهادتهم لم يحكم عليه، وإن لم يدفع حكم عليه، ويقول له أيضا: إن كان عندك مدفع في الذين شهدوا بنسب الطالب لك أو بحقه عليك، فائت بهم، فإن جاء بأمر تسقط به شهادتهم لم يحكم عليه، وإن ادعى المدفع في البلد الذي كتب فيه الكتاب بثبات النسب أو ثبوت الحق، قيل له: أد هاهنا ما ثبت عليك وامض، فإن دفعت شهادة من شهد لخصمك رجعت بما حكم به عليك، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يأبق منه العبد فيقضى فيه في بلد آخر]
مسألة وقال: سألت ابن وهب عن الرجل يأبق منه العبد، فيقع ببلده على مسيرة الأيام ثلاثة أو نحو ذلك، فيبلغ ذلك سيده، فيأتي إلى(9/275)
قاضي بلده فيعلمه بإباق عبده، وبموضعه الذي هو به، ويأتيه ببينة عدول، يشهدون أنهم يعرفون له غلاما، يسمى فلانا من صفته كذا وكذا، ويصفون صفته يعرفونه في يديه حتى نشده آبقا.
هل ترى لذلك القاضي إذا شهد عنده العدول بهذا أن يكتب إلى قاضي البلد الذي به ذلك العبد إن وافقت صفته ما وصفه به الشهود أن يدفعه إلى سيده الذي يشهدون له أنه أبق منه، وإن كان العبد منكرا هنالك؛ لأن يكون الذي لحقه بموضعه ذلك كان سيده؟ أو لا ترى شهادتهم قاطعة حتى ينظروا إلى العبد فيعرفونه بعينه؟ وكيف إن ادعى العبد الحرية بالموضع الذي ألفي فيه، وقال: هذه بينتي على حريتي، وأقر أنه سيده، وقال سيده: لا أخاصمك هاهنا؛ لأنك إنما خرجت من يدي آبقا، فأنا أردك إلى مكاني الذي كنت به في يدي، ثم إن كانت لك بينة أو حجة فقم بها عند قاضينا؟
هل ترى أن يرد العبد في يد سيده حتى يرده إلى مكانه؟ أو يؤمر بمخاصمة العبد حيث أدركه، وحيث يزعم أن بينته به على حريته؟ وهل المعرفة به، وهو إن رد إلى مكان سيده لعله ألا يجد بينة تتبعه، وإن اتبعته لا يجد البينة من يعرفها، ولا يعدلها هنالك؟ ففسر لنا هذا الأمر فإنه كثير ببلدنا، أو يلفى العبد في يد رجل يزعم أنه غلامه، هل ينتفع طالبه بالبينة التي شهدت على صفة العبد واسمه، وهو غائب عن البينة، ويرد بذلك في يد سيده الذي أبق منه؟ فقال: نعم، إذا شهدوا عنده(9/276)
على صفة وتحلية وجنس واسم، وكانوا عدولا، وشهدوا أن العبد الذي بهذه الصفة عبد لفلان ابن فلان، هذا المشهود له، لا يعلمونه باع ولا وهب ولا خرج من يده بوجه من وجوه الملك، أحلفه مع ذلك ما خرج من يده بوجه من وجوه الملك، ثم يكتب له إلى قاضي البلد الذي يزعم أنه بها، وأشهد له على الكتاب، وأنه قد أمضى له الحكم فيه، فإذا أتى الكتاب القاضي المكتوب إليه نظر، فإن لم يكن في البلد من هو بتلك الصفة والجنس والحلية غيره أمكنه منه ودفعه إليه، وإن كان العبد عبدا لرجل غيره بتلك البلدة أو حرا، يدعي الحرية كما ذكرت، فينظر له القاضي المكتوب إليه الذي هو بين ظهرانه في حجته وبينته، ولا يلجئه إلى غيره ولا يشخصه معه إن كانت له بينة، فإن صحت له بينة بحريته أعتقه وأطلقه حرا، وأبطل كتاب المستحق، وما ثبت له عند القاضي، وإن لم يثبت له ذلك دفعه إليه إن لم يكن في البلد بتلك الحالة التي كتب بها أحد غيره كما وصفت، فإن كان بها غيره بتلك الصفة لم يستحق شيئا، ولم يكن له شيء حتى يشهد له الشهود على بعضهم بعينه، وإنما مثل ذلك مثل الدين يثبته الرجل عند قاضي مصر على رجل بإفريقية يسمونه باسمه ونسبه وصفته، فيكتب له بذلك إلى قاضي إفريقية، فإن قاضي إفريقية إذا جاءه ذلك الكتاب كشف، فإن لم يجد بها أحدا غيره على ذلك الاسم والنسب والصفة أعداه عليه وأخذ له بحقه منه، وإن كان(9/277)
بها غيره لم يعده على أحد منهم حتى يثبت حقه بإثبات من هذا من بينة تقدم له على رجل بعينه وما أشبه ذلك، وقال أشهب: أراه له إلا أن يكون بذلك البلد عبد يسمى بذلك الاسم، وله تلك الصفة، فلا يكون ذلك له، أو يدعي العبد الحرية من الذي استحقه في كتاب القاضي، فيقيم على ذلك البينة فيعتق.
قال القاضي: قول ابن وهب هذا: إن القاضي يكتب له بما أثبت عنده من صفة عبده الآبق، كما يكتب له في الدين يكون له على الغائب باسمه ونسبه وصفته، فتقوم الشهادة في ذلك على الصفة مقام الشهادة على العين، ويحكم له بها المكتوب إليه هو قول مالك وجميع أصحابه، حاشا ابن كنانة في المدنية: فإنه لم يجز في شيء من ذلك كله الشهادة على الصفة، وأجازها ابن دينار في الدين، ولم يجزها في الآبق، والفرق بينهما عنده أن الآبق لا يعرف موضعه، ومن تمام الصفة ذكر الموضع؛ ليستحسن هل في ذلك الموضع على تلك الصفة سواه أم لا؟ ولا تتم الشهادة حتى يقولوا: إنهم يعرفونه في يديه ملكا له، لم يزل ملكه عنه في علمهم حتى أنشده آبقا، ثم يحلفه القاضي أنه ما باع ولا وهب ولا تصدق، ثم يكتب له عند ذلك كتابا باستحقاقه لعبد صفته كذا وكذا، فإن كتب له ولم يحلفه حلفه القاضي وقضى له، وإن مضى بالكتاب وكيله لم يقض له به القاضي المكتوب إليه حتى يكتب إلى قاضي بلده، فيحلفه ويأتيه بذلك كتابه.
وقد مضى تحصيل القول في هذا في رسم العتق، من سماع عيسى، وإذا وصل بالكتاب إلى قاضي الموضع الذي هو به العبد؛ فإن الأمر لا يخلو من أربعة أحوال؛ أحدها: أن يجد العبد محبوسا، قد حبسه(9/278)
القاضي بما ثبت عنده أنه آبق، أو غير محبوس إلا أنه يقر بالإباق، وينكر أن يكون هذا الذي لحقه هو سيده ولا يسمى سيده. والثاني: أن يقول: أنا عبد لفلان رجل حاضر أو غائب. والثالث: أن يقر للذي لحقه أنه عبده، ويدعي عليه أنه أعتقه. والرابع: أن يدعي الحرية.
فأما الوجه الأول فلا اختلاف في أن القاضي يحكم له به، ويدفعه إليه، على مذهب من يجيز الشهادة على الصفة، وعلى مذهب من لا يجيزها؛ لأنه لو ادعاه ووصفه دون بينة لأعطاه إياه بعد التلوم له واليمين؛ لأنه كاللقطة، وعلى ما في الآبق من المدونة في الأمتعة المسروقة.
وأما الوجه الثاني وهو أن يقول: أنا عبد لفلان رجل حاضر أو غائب، فإن كان حاضرا فقال: لا حق لي فيه، دفعه إلى طالبه، وإن ادعاه قيل له: إيت بالبينة، فإن أتى بها كان أحق به، وإن لم يأت ببينة قضي به للطالب، وإن كان غائبا كتب السلطان إلى ذلك الموضع، فإن كان كما قال، وإلا أسلم إليه العبد.
وأما الوجه الثالث فكما قال، إن كانت له بينة بحريته أعتقه، وأبطل كتاب المستحق، وإلا دفع إليه عبده.
وأما الوجه الرابع وهو أن يدعي الحرية، فقال في المدونة: إن القاضي المكتوب إليه الذي هو بين ظهرانيه ينظر له في حجته وبينته، ولا يلجئه إلى غيره.
ووجه العمل في ذلك أن ينظر، فإن كان واقعا بالبلد، ولم يكن من أهله معروفا بالحرية من أصله، ولم يكن له بذلك البلد من يشبهه في صنفه وجنسه واسمه، سئل المخرج بما ثبت عليه من رق هذا، فإن أتى بالمخرج عن ذلك بأن يثبت أنه حر من أصله، أو أنه أعتقه من(9/279)
كان ملكا له بطل عنه الكتاب، وإن لم يأت بشيء دفع إلى هذا عبدا إلا أن يكون في البلد من يشبهه في صفته وجنسه واسمه، فلا ينتفع بالكتاب حتى تشهد البينة أنه هذا بعينه، ومثل هذا حكى ابن حبيب عن مطرف وأصبغ، وهو خلاف مذهب ابن القاسم؛ لأن من مذهبه على ما حكاه الفضل أن الشهادة على الصفة لا تتم إلا بذكر الموضع، والآبق لا يعرف له موضع.
وقوله: إن القاضي المكتوب إليه يكشف هل في ذلك البلد من هو على تلك الصفة والاسم سواه في الآبق والدين؛ صحيح لا اختلاف في أن هذا هو الذي يؤمر به أن يفعله، كما يؤمر بالسؤال والكشف عن أحوال الشهود عنده، فإن لم يفعل كان على المشهود له أن يعدل عنده شهوده الذين شهدوا له، فإن لم يكشف هو عن ذلك، فظاهر قول أشهب أن الحق لازم للموجود على تلك الصفة والاسم في البلد، إلا أن يثبت أن في البلد من هو على تلك الصفة سواه، وهو قول ابن القاسم في المدونة. وقيل: إنه لا يعدى طالب الحق عليه، إلا أن يثبت أنه ليس في البلد من هو على تلك الصفة سواه، وهو الذي يدل عليه قول ابن وهب، معناه على العلم. وقد مضى ذلك في رسم العتق، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: وكل رجلا على القيام له والخصومة عنه في حظ له ببلد من البلدان]
مسألة وسألته عن رجل وكل رجلا على القيام له والخصومة عنه في حظ له ببلد من البلدان، وفوض إليه ببيع حظه ذلك إذا استحقه له، وجعل لوكيله ذلك إن أحب أن يشتري ذلك الحظ بما يعطي فيه فذلك له، وإن كره أن يشتري باعه له واجتهد فيه،(9/280)
فيقدم وكيله ذلك البلد الذي فيه طلب الرجل الذي وكله، فألفى حانوتا مما كان فيه حق لذلك الغائب قد بيع، فأثبت وكالته من ذلك الغائب عند القاضي وتفويضه إليه، وإن سهم ذلك الغائب في ذلك الحانوت، وكان رجل قد ابتاع الحانوت من غير ذلك الغائب، فتداعيا وكيل الغائب، والذي ابتاع الحانوت إلى الصلح في الحانوت فاصطلحا على أن أخذ الوكيل للغائب نصف قاع الحانوت وعلو الحانوت كله، فلما أحضر الشهود لوثيقة أحدهما من صاحبه، أشهدهم الوكيل أنه صالح على أنه أخذ لصاحبه نصف قاع الحانوت وعلو الحانوت، وأسلم للذي كان الحانوت في يديه نصف القاع، وشهد له بذلك الوكيل، وأشهد في ذلك المجلس أنه أخذ لنفسه ما صالح عليه الذي وكله من نصف القاع والعلو بكذا وكذا دينارا مع الصلح، فقال: إنني أصالحه على أن آخذ لصاحبي ما سميت، وإني اشتريت ذلك لنفسي بكذا وكذا، ولم يكن فيه شرط مصالحة، ثم أشهد أني أخذته لنفسي بكذا وكذا، فزعم الذي صولح على نصف القاع أنه قد صار شريكا لذلك الغائب بوكالته إياه، فهل ترى أن تكون الشفعة فيما اشترى صاحبه من حظ الغائب بنصف قاع الحانوت، وأن له في مثل هذا شفعة على ما فسرت لك في الوجهين جميعا أم لا؟ فقال: قد فهمت ما ذكرته، والشفعة لازمة للشريك ثابتة وهو عندي بين، وقال أشهب: لا أرى الشفعة فيه، وإنما منعه من الشفعة أنه بيع مفسوخ، إلا أن يجيز الذي له نصف الحانوت، ولو كان البيع جائزا؛ لكانت الشفعة للشريك في الحانوت، ولم(9/281)
تكن له شفعة في علوه؛ وذلك لأن الشركة بينهما في بطن الحانوت، ولم تكن بينهما في علوه، وإن كان الصلح بينهما إنما وقع على أن يأخذه لنفسه، والصلح بينهما أيضا منتقض؛ لأن الشريك إنما رضي بمصالحته ليأخذ بالشفعة، فصار الوكيل قد أخذ لما أسلم إليه من الشفعة ثمنا، وذلك غير جائز.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر من قول ابن القاسم، وقول أشهب في مواضع، منها أنه أمضى الصلح على الموكل، ولم يذكر في التوكيل، ومن قولهم: إنه ليس للوكيل أن يتجاوز ما سمي له في التوكيل، ومنها أنه أمضى البيع عليه، وإنما أذن له أن يأخذه بما يعطي فيه، فأخذه بما أراد دون أن يسوقه أو يعطي فيه شيئا، ومن ذلك أنه أوجب للمصالح الشفعة إيجابا مجملا، ولم يخص سفلا من علو، والشفعة إنما تصلح أن تكون في السفلى الذي حصلت الشركة بينهما فيه بنفس الصلح، لا في العلو؛ إذ لا شركة بينهما فيه، فيصح قول ابن القاسم على أن يتأول على أنه أراد بقوله: إن الشفعة لازمة للشريك ثابتة، أي في نصف السفلى بما يقع عليه من الثمن إذا فض على العلو ونصف السفلى، فيصير للمصالح الشفيع جميع السفلى، نصفه بالصلح ونصفه بالشفعة، ويبقى للوكيل جميع العلو، ويكون معناه إذا أجاز الغائب للوكيل الصلح والبيع؛ لأن من حقه ألا يجيز شيئا من ذلك، وله أن يجيز جميعه، وله أن يجيز الصلح ويرد البيع، وهذا كله بين.
وقول أشهب: إنه لا شفعة في ذلك إلا أن يجيز الغائب البيع صحيح. وأما إجازته الصلح إذا تقدم البيع، ولم يكن معه في صفقة واحدة ففيه نظر على ما قلناه؛ إذ لم يذكر الصلح في التوكيل. وأما قوله: إنه إن وقع الصلح مع البيع في صفقة واحدة فهو منتقض، معناه إن أراد الغائب أن ينقض البيع، ولم يرد أن يجيزه للعلة التي ذكرها، وبالله التوفيق.(9/282)
[: الرجل يكون له الزرع فتعبر فيه دواب الناس فتفسده]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب الأقضية والحبس قال أصبغ بن الفرج: سألت ابن القاسم عن الرجل يكون له الزرع فتعبر فيه دواب الناس فتفسده، فيريد صاحب الزرع أن يحفر حول زرعه حفيرا لمكان الدواب، وقد تقدم إلى أصحابها وأنذرهم، فيحفر فيقع بعض تلك الدواب في ذلك الحفر فتموت، أترى عليه ضمانا؟ قال: لا شيء عليه، ولو لم ينذرهم، ولم يتقدم إليهم. وقاله أصبغ، وهو قول مالك إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إنما فعل ما يجوز له أن يفعله من الحفير في أرضه وحقه تحصينا على زرعه، لا لإتلاف دواب الناس، ولو فعل ذلك لإتلاف دواب الناس للزمه الضمان على ما قاله في المدونة، في الذي يصنع في داره شيئا ليتلف فيه السارق أو غير السارق أنه ضامن له، وبالله التوفيق.
[: الدار يكون لواحد سفلها وللآخر علوها على من يكون كنس تراب القاعة]
ومن كتاب الأقضية والوصايا قال أصبغ بن الفرج: سألت أشهب بن عبد العزيز عن الدار يكون لواحد سفلها، وللآخر علوها، على من يكون كنس تراب القاعة وما يجتمع فيها؟ قال: على الأسفل، وليس على الأعلى منه شيء. قال أصبغ: وإنما ذلك ما يجتمع فيها من كناستها من غير ما يطرحه الأعلى من عليته فيها، وليس للأعلى أن يلقي فيها من ترابه ولا كناسته شيئا ولا شيئا مما يلقيه، وكذلك قال لنا أشهب: إنه ليس له أن يطرح فيها شيئا، ولا إن كان يعز له(9/283)
في موضع من سفلها ليحمله، فليس ذلك له، هذا معناه، ولا يشغل منها موضعا على صاحب الأسفل، إلا أن يكون له في قسمته أو حقه المرتفق بالقاعة أو المنافع فيها. وقال أصبغ: سئل أشهب على من عليه غلق باب الدار، قال: على الأسفل، وليس على الأعلى منه شيء. قال أصبغ: وسئل أشهب عن كنس المرحاض إذا كان المرحاض واحدا. فقال: على الأسفل، وليس على الأعلى منه شيء؛ لأنه للأسفل، وإنما للأعلى الحق فيه يطرح سقاطته، وإنما هو بمنزلة السقف، على الأسفل إصلاحه؛ لأنه سقفه، وللأعلى الانتفاع به فقط. قال أصبغ: مثله كله إلا كنس الكنيف، فإنه على الأسفل والأعلى على قدر الجماجم والمستعمل. قال أصبغ مثله. وسألت ابن وهب عن كنس المرحاض، فقال: أراه بينهما على الجماجم، وهو أحب القولين، وما سمعت إلي.
قال محمد بن رشد: أما أشهب فجرى على أصل واحد في غلق الباب، وكنس الكنيف، وكنس قاعة الدار، يريد إن من حقه في أصل ما اقتسموا عليه أن يرتفق بطرح سقاطته في قاعة الدار، أن ذلك كله على صاحب الأسفل، وعلى أصله هذا أوجب تنقية كنيف الدار المكتراة على رب الدار، وأما تفرقة أصبغ بين غلق الباب وكنس الكنيف فليس بقياس؛ لأن غلق الباب منفعة لهما جميعا، كما أن الكنيف منتفع لهما جميعا، فوجب أن يكون عليهما جميعا، ألا ترى أنه لو ترك صاحب(9/284)
الأسفل غلق بابه لاستغنى به عنه؛ لكون أسفله خاليا من متاعه أو منه، ومن متاعه لم يجبر على ذلك عند أصبغ، وأما على مذهب أشهب فيجب عليه غلق الباب على كل حال، وقد قال ابن القاسم مثل قول أشهب في مسألة رسم باع شاة، من سماع عيسى، من كتاب جامع البيوع، وعليه يأتي ما روي عنه من أن كنس مراحيض الدور المكتراة على أرباب الدور. والمشهور عنه خلافه أن ذلك على المكتري، وهو على قياس قول أصبغ وابن وهب في هذه الرواية. وقد مضى القول على ذلك كله هناك، وبالله التوفيق.
[: القاضي يقضي بما يختلف فيه وينفذه ثم يريد بعد ذلك تغييره]
ومن كتاب الكراء والأقضية قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن القاضي يقضي بما يختلف فيه وينفذه، ثم يريد بعد ذلك تغييره، قال: ذلك له يغيره إذا رأى أحسن منه. قلت: فإن عزل وولي غيره أيكون له أن يغيره؟ قال: لا، قلت: فإن عزل هو ثم رد، فأراد تغييره؟ قال: ليس ذلك له، وقاله أصبغ كله. وقال: عزله ورده كعزله وتولية غيره فيما يرجع وما لا يرجع، تولى بعد ذلك فأقره غيره بعد عزله قبل رده، أو رد بولاية ثانية قبل غيره، فذلك سواء، وليس له تغييره بعد ذلك، ولا ذلك من الفقه.
قال القاضي: لا اختلاف في أن الحكم الخطأ الصراح الذي لم يختلف فيه يرثه هو ومن بعده من القضاة والحكام، وأما ما اختلف فيه، فيرده هو إذا رأى أحسن منه على مذهب أصحاب مالك كلهم، حاشا ابن عبد الحكم، ولا يرده من بعده إلا أن يكون خلاف سنة قائمة، أو يكون الخلاف شاذا فيختلف في ذلك، وقد مضى القول على هذا المعنى مستوفى في رسم الجواب، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
وقوله(9/285)
هاهنا: إن رده بعد عزله كتولية غيره فيما يرجع فيه، وما لا يرجع صحيح، لا أعلم فيه اختلافا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يخرج لسفر فيستخلف على ماله رجلا فيأتي مستحق له]
مسألة قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن الرجل يخرج إلى سفر، فيستخلف على داره وأرضه رجلا، أو يستودعه غلاما أو دابة، ثم يأتي من يستحق بعض ذلك، هل يمكن منه؟ قال: أما الدابة والغلام فنعم، ينتزع منه للمستحق إذا ثبت حقه، ويدفع إليه؛ لأن الفوت يدخل ذلك، وأما الدار والمنزل فيستأنى به، ويكتب إلى الموضع الذي هو به لعله يكون له فيه خصومة أو حجة؛ لأنه أمر مأمون، إلا أن يطول زمان ذلك جدا ولا يوجد، أو تكون غيبته بالموضع البعيد المنقطع من الأرض، مثل الأندلس وخراسان، وما أشبه ذلك من المواضع التي لا يطمع فيمن به، فإني أرى السلطان أن ينظر في ذلك. قال أصبغ: نظر السلطان عند ذلك أن يمكنه من إثبات حقه ويسمع منه، ويجعل للغائب وكيلا إن لم يكن له وكيل يدفع عنه، ويقضي للطالب وعليه كمثل الغريم، وكمثل القضاء على غائب في الأموال وغيرها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في رسم سن، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك. وقول أصبغ: إذا حكم على الغائب البعيد الغيبة في الأصول يقيم له وكيلا هو مذهب ابن الماجشون، وعلى أصله في أن الغائب إذا حكم عليه لا(9/286)
ترجى له حجة؛ لأنه قد أعذر إلى الوكيل الذي أقيم له، فكان ذلك كالإعذار إليه، خلاف ما ذهب إليه ابن القاسم أنه لا يقام له وكيل، ويكون على حجته، وكذلك على مذهبه يقيم للغائب المحكوم عليه في غير الأصول وكيلا يعذر إليه، فلا تكون له حجة إذا قدم، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن الوكيل المقدم له قد يجهل وجوه منافعه، فيكون الضرر الداخل عليه بانقطاع حجته إذا قدم أكثر من انتفاعه بالدفع عنه، وبالله التوفيق.
[: القاضي يشهد على قضاء قضائه وهو معزول أو غير معزول أتقبل شهادته]
ومن كتاب القضاء المحض قال أصبغ: وقال لي ابن القاسم في القاضي يشهد على قضاء قضائه وهو معزول أو غير معزول، أو يرفعه إلى إمام غيره: إن شهادته لا تقبل، ولا يجوز ذلك القضاء إلا بشهيدين عليه، غيره أنه قد قضى به، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة وقعت في بعض الروايات، وهي مسألة صحيحة، وفيها معنى خفي، وهو أن قول القاضي وهو على قضائه: حكمت لفلان بكذا لا يصدق إذا كان يعني الشهادة. قوله مثل أن يتخاصم الرجلان عند القاضي فيكون من حجته أن يقول: قد حكم لي قاضي بلد كذا وكذا بكذا وكذا، فيسأله البينة على ذلك، فيذهب إليه فيأتيه من عنده بكتابه: إني قد حكمت لفلان على فلان بكذا وكذا، أو أنه قد ثبت عندي لفلان على فلان كذا وكذا، فلا يجوز هذا، من أجل أنه على هذا الوجه شاهد. ولو أتى الرجل ابتداء إلى القاضي، فقال له: خاطب لي قاضي بلد كذا بما ثبت لي عندك على فلان، أو بما حكمت لي به عليه، فخاطبه بذلك؛ لجاز من أجل أنه مخبر، وليس بشاهد، كما يجوز قوله، وينفذ فيما يسجل له على نفسه ويشهد من الأحكام ما دام على قضائه.(9/287)
وقد روى لابن الماجشون ومطرف وأصبغ في الأقضية من الواضحة ما يعارض رواية أصبغ هذه، وقد ذكرنا ذلك في أول سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: المخالطة التي يستوجب بها المدعي على المدعى عليه اليمين ما هي]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، وسئل عن المخالطة التي يستوجب بها المدعي على المدعى عليه اليمين ما هي؟ قال: يسالفه فيبيعه ويشتري منه، فقيل: أرأيت إن ادعى عليه وجاء شهود يشهدون أنه باع منه أمس، واشترى منه سلعة بمائة دينار، فقبض هذا المائة وهذا السلعة وتفاصلا؟ قال: لا أرى هذا مخالطة، إلا أن يكون قد باعه مرة ومرة ومرارا، فأرى هذا مخالطة، وإن كانا يتقابضان في ذلك كله الثمن والسلعة، ويتفاصلان قبل أن يتفرقا، فإن شهد عليه بذلك فأراها مخالطة، وقاله أصبغ، قال: وكل ما خالطه فثبت بتاريخ قديم يمكن المعاملات بينهما، ليس بعدهما، وإن لم تتصل وانقطعت فهي عندي مخالطة، ويستحلف بها بالله إن شاء الله، وسئل عنها سحنون فقال مثله، قال سحنون: ولا تكون المخالطة إلا في البيع والاشتراء بين الرجلين، ولو ادعى أهل السوق بعضهم على بعض لم تكن مخالطة حتى يقع البيع بينهم، قيل: فمثل أهل منزلك ومسجدك يجتمعون فيه للصلوات والأنس والحديث، فادعى بعضهم على بعض؟ قال: لا تكون هذه مخالطة إلا بمثل ما وصفت لك.(9/288)
قال القاضي: مذهب مالك وكافة أصحابه: أن اليمين لا يحكم بها للمدعي على المدعى عليه بمجرد الدعوى دون خلطة، على ما جاء عن عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من أنه لم يكن يحلف من ادعى على رجل دعوى، إلا أن تكون بينهما مخالطة وملابسة، وهو قول جماعة من علماء المدينة. روي عن القاسم بن محمد منهم أنه قال: إذا ادعى الرجل الفاجر على الرجل الصالح شيئا يعلم الناس فيه أنه كاذب، ولا يعلم أنه كان بينهما أخذ ولا عطاء لم يستحلف، فلم يحملوا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» على عمومه، في أن كل من ادعى على أحد دعوى وجبت له عليه اليمين، وخصصوا من ذلك من لم تكن له خلطة، فلم يشبه قوله وغلب على الظن كذبه، كما خصصوا من ذلك يمين الزوج والسيد في دعوى الطلاق والعتق.
وقد قال إسماعيل القاضي: إن معنى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على من ادعى، واليمين على المدعى عليه» أنه لا يقبل قول المدعي فيما يدعيه مع يمينه، وأن المدعى عليه يقبل قوله مع يمينه، وإن لم تقم عليه بينة، لا أنه أراد بذلك العموم في كل من ادعى عليه دعوى أنه يجب عليه اليمين، فلا يجب اليمين على مذهب مالك وكافة أصحابه بمجرد الدعوى دون خلطة إلا في خمسة؛ الغريب في البلد يدعي أنه أودع الرجل الفاضل من أهل البلد وديعة؛ لأن الغريب يعمد إلى من بلغه عنه خير، فيودعه(9/289)
وإن لم يعرفه قبل، والمسافر يدعي أنه قد أودع أحدا من أهل رفقته؛ إذ قد يفزع في سفره إلى من لم يخالطه، فيستودعه لأمر يخافه من آفات السفر، والرجل يدعي على الصانع الذي قد نصب نفسه للعمل أنه دفع إليه متاعا يصنعه، والرجل الغريب، أو من أهل البلد يدعي على أحد من أهل الأسواق الذين قد نصبوا أنفسهم للبيع والشراء أنه عامله باع منه أو اشترى.
روي ذلك عن سحنون، وهو دليل قوله في هذه الرواية، ولو ادعى أهل الأسواق بعضهم على بعض، لم تكن مخالطة حتى يقع البيع بينهم؛ لأن في ذلك ما يدل على أن دعوى غير أهل الأسواق على أهل الأسواق، خلاف دعوى أهل الأسواق بعضهم على بعض؛ لأن أهل الحوانيت والأسواق إنما نصبوا أنفسهم للبيع والشراء من غير أهل الأسواق، لا من أهل الأسواق، والرجل يذكر في مرضه الذي مات منه أن له دينا على رجل، ويوصي أن يتقاضى منه، فإن لورثته أن يحلفوه إن أنكر دون خلطة؛ إذ لا يعرفون من يشهد لهم بها.
روي ذلك عن مالك، ومثله في سماع عيسى، من كتاب المديان والتفليس، وقال في هذه الرواية: إن المبايعة الواحدة ليست بخلطة توجب اليمين حتى يبايعه مرة ومرة ومرارا، وفي بعض الكتب مرة ومرة ومرَّة، وهو صواب الكلام، وفي رسم الصبرة من سماع يحيى، من كتاب الشهادات ما ظاهره أن المعاملة الواحدة خلطة توجب اليمين، خلاف هذه الرواية. وقيل: إن رواية يحيى تفسير لهذه، فيكون المعنى فيها أنها قد تضاف إلى معاملة قبلها، فيصير بذلك خلطة.
قال محمد بن رشد: ولا أقول: إنها مخالفة لها، ولا مفسرة لها، وإنما أقول: إنها مسألة أخرى؛ لأنه تكلم في هذه الرواية على أنهما تقابضا وتناجزا، وتكلم في سماع يحيى على المبايعة بالدين، والمبايعة الواحدة لا توجب الخلطة إذا كانت بالنقد والتناجز على ما هاهنا، وتوجبها إذا كانت(9/290)
المبايعة بالدين على ما في سماع يحيى، وإنما الخلاف عندي إذا كانت المبايعة الواحدة بالنقد، فلم يقع النقد ولا حصل التناجز، ففي الشهادات من المدونة: أنها ليست بخلطة، وفي كتاب ابن المواز: أنها خلطة، إلا أنه لم يوجب اليمين إذا لم يثبت ما قاله الغائب.
وقوله: وجاء بشهود يشهدون، الظاهر منه أن الخلطة لا توجب اليمين حتى يثبت بما يثبت به الحقوق من شاهدين أو شاهد وامرأتين، ومثله في نوازل سحنون من كتاب الشهادات، وفي المبسوطة لابن كنانة، وابن القاسم أن شهادة الشاهد الواحد بها توجب اليمين. وقال في سماع حسين بن عاصم، من كتاب الشهادات في بعض الروايات: إن شهادة شاهد واحد وامرأة واحدة بالخلطة توجب اليمين، وقد قيل: إنها توجب باليمين مع الشاهد.
وقد روي ذلك عن ابن نافع، وابن كنانة، وإذا ثبتت الخلطة، فلا يرتفع حكمها بانقطاعها على قول سحنون في هذه الرواية، وفي أحكام ابن زياد عن أصبغ وسحنون: أن اليمين لا تجب إلا بخلطة متصلة، وفي المبسوطة لابن نافع أنه قال: لا أدري ما الخلطة، ولا أراها، ولا أقول بها، وأرى الأيمان واجبة للمسلمين عامة بعضهم على بعض؛ لحديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكره» .
وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور؛ إلى أن اليمين واجبة بمجرد الدعوى في جميع الدعاوي من الأموال وغيرها، وحجتهم حديث ابن عباس: «لو يعطى ناس بدعواهم؛ لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» ؛ لأنهم تعلقوا بظاهره، فحملوه على عمومه، ولا حجة لهم(9/291)
على مالك في تعلقهم بعموم الحديث؛ إذ لا بد لهم من أن يخصصوه في بعض المواضع بالمعنى الذي خصصه به مالك حيث خصصه، وذلك في مثل أن تريد المرأة أن تحلف زوجها في يوم واحد مرارا أنه ما طلقها، وإذا كان ذلك على عمومه كذلك، فلم تبق لهم حجة إلا مجرد قولهم بأن نظرهم أصح من نظره، وهذا ينعكس عليهم، فلا يجدون عن الخروج عنه محيصا، وبالله التوفيق.
[مسألة: الملد من الخصوم يعاقب]
مسألة وقال أصبغ في الملد من الخصوم، وأخبر بمحضرنا عن أبي الطاهر بن حزم القاضي أنه علقه على رجل واحد، فقيل لأشهب: أترى ذلك؟ فقال: أما الملد الظالم فنعم.
قال القاضي: هذا كما قال؛ لأن إلداد أحد الخصمين بصاحبه إضرار به، وواجب على الإمام أن يمنع من ذلك، ويعاقب عليه بما يؤديه اجتهاده إليه، وقد تقدم مثل هذا في رسم تأخير صلاة العشاء، من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يحضر ببينة أيوقعها له القاضي بغير محضر الخصم]
مسألة وسئل عن الرجل يحضر ببينة أيوقعها له القاضي بغير محضر الخصم؟ فقال: ما أرى بذلك بأسا، قيل له: فإن أتى بعد ذلك الخصم، فقال للقاضي: اعرض علي شهادتهم، فإن كان فيها ما يضرني دفعته. فقال: أرى ذلك له. فقيل له: بغير محضر صاحبه؟ فقال: ما أبالي حضر أو لم يحضر، قال أصبغ: مثله، وهذا محض القضاء.(9/292)
قال القاضي: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن من حق المشهود عليه أن يعرض عليه ما شهد به عليه، ويعذر إليه فيه، ولا حق للمشهود له في أن يكون ذلك بحضرته، كما أنه لا حق للمشهود عليه في أن يشهد الشهود عليه بحضرته، والله الموفق لا شريك له، اللهم عونك.
[: تخاصم النصرانيان إلى الأسقف فأبى الحكم وردهما لحكم المسلمين]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون قال سحنون: إذا تخاصم النصرانيان إلى الأسقف، فأبى الأسقف أن يحكم بينهما، وردهما إلى حكم المسلمين؛ فإنه من الجور عليهما، إذا كان النصرانيان لا يريدان أن يحكم بينهما حكم المسلمين، فلا يكون ذلك للأسقف، ولا ينبغي لحاكم المسلمين أن يحكم بينهما، وإن رضي النصرانيان جميعا أن يحكم بينهما حكم المسلمين، وأبى الأسقف أن يردهما إلى حكم المسلمين لم يكن ذلك له، وكان للنصرانيين أن يحكم بينهما حكم المسلمين، ولا يحكم بينهما الأسقف.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه لا يجوز لحكم المسلمين أن يحكم بينهما برضا الأسقف إذا أبياهما من ذلك أو أحدهما، وأما إذا رضي النصرانيان أن يحكم بينهما حكم المسلمين، وأبى الأسقف، فقول سحنون: أنه لا يلتفت إلى إباية الأسقف، ولحكم المسلمين أن يحكم بينهما إذا رضيا وإن كره أسقفهما، وروى عيسى، عن ابن القاسم في رسم العارية من كتاب السلطان أنه لا يحكم بينهما إلا برضا منهما ومن أساقفتهما، وذلك يحمل على التفسير لما في المدونة؛ لأن تفسير قوله بقوله أولى(9/293)
من تفسيره بقول سحنون، وهذا في البيوع والطلاق والعتق والحدود.
وأما فيما يتظالمون به، فلا اختلاف بين أحد من أهل العلم في أنه يجب عليه أن يحكم بينهم فيه، وإن لم يتحاكموا إليه، ولا رضوا بحكمه، وقد ذهب بعض أهل العراق إلى أنه يجب عليه أن يحكم بينهم إذا جاءوه ورضوا بحكمه، ومنهم من قال: إنه يجب عليه أن يحكم عليهم في الحدود شاءوا أو أبوا، وإن لم يحكموه ولا رضوا بحكمه.
ففي الحدود التي يجب على الإمام أن يحكم فيها على المسلمين وإن لم يترافعوا إليه فثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يجب عليه أن يحكم عليهم فيها، وإن لم يحكموه. والثاني: أن ذلك لا يجب عليه إلا أن يحكموه. والثالث وهو مذهب مالك: أن ذلك لا يجب عليه وإن حكموه.
وفي البيوع والنكاح والمعاملات وما أشبه ذلك، مما لا يجب على الإمام أن يحكم فيه على المسلمين إلا أن يترافعوا إليه قولان؛ أحدهما: أنه يجب عليه أن يحكم بينهم فيما إذا ترافعوا إليه ورضوا بحكمه. والثاني وهو مذهب مالك: أن ذلك ليس عليه بواجب، وله أن يحكم؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] الآية وأما ما يتظالمون به، فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه يجب عليه أن يحكم عليهم فيه، ويمنع من التظالم بينهم، شاءوا أو أبوا. وقد مضى في رسم لم يدرك، من سماع عيسى، من كتاب التجارة إلى أرض الحرب في هذه المسألة زيادة بيان، وبالله التوفيق، وهذه المسألة وقعت في بعض الروايات في أول نوازل سحنون هذه.(9/294)
[مسألة: قامت المرأة طالبة النفقة على مال زوجها فيحكم لها بالنفقة وهو غائب]
مسألة قال سحنون: من الحجة على أهل العراق في القضاء على الغائب أن يقال لهم: أرأيت إذا قامت المرأة طالبة النفقة على مال زوجها، فمن قولهم: إنه يحكم لها بالنفقة وهو غائب، ومن الحجة عليهم أن الغائب لو وكل وكيلا على بيع ماله، فأقام الوكيل على وكالة الغائب إياه البينة، أيكون له البيع؟ فمن قولهم: أن نعم، فإذا أمكن الوكيل من البيع والتقاضي، فقد أجازوا الحكم على الغائب.
قال محمد بن رشد: أهل العراق لا يرون أن يحكم على الغائب، لا في الأصول، ولا في العروض، وسحنون يذهب إلى أنه يحكم عليه في جميع ذلك، وحجته على أهل العراق ما ذكره، ومالك يرى أن يحكم عليه في العروض، ولا يحكم عليه في الأصول، إلا أن تكون الغيبة بعيدة منقطعة، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في رسم سن، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، ومضى أيضا في رسم الكراء والأقضية، من سماع أصبغ، طرف من التكلم عليها، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل إذا أوجب نفقة أبوية أواجب عليه أن يضحي عنهما]
مسألة قلت: فالرجل إذا أوجب نفقة أبوية، أواجب عليه أن يضحي عنهما؟ قال: لا، وليس عليه أن يضحي عن امرأته، وذلك قول مالك.(9/295)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الضحية ليست من النفقة التي تجب عليه لأبويه إذا ألزم نفقتهما ولا لزوجته، وإنما هي سنة لا ينبغي له تركها، فإن أدخل زوجته في ضحيته أجزأها، وإلا كان عليها أن تضحي عن نفسها من مالها، وفي سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة أن السلطان لا يكره أحدا على أن يحجم أباه، ولا على أن ينكحه، وقد مضى القول على ذلك هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: القاضي يشهد عند ابنه أو ولد ولده على رجل]
مسألة قال سحنون في القاضي يشهد عند ابنه أو ولد ولده على رجل: لا أرى أن تجوز شهادته، إلا أن يكون الولد أو ولد الولد مبرز العدالة، بين الفضل، لا يشك فيه، فحينئذ أرى أن تجوز شهادته.
قال محمد بن رشد: شهادة الأب عند ابنه، أو الابن عند أبيه، وشهادة كل واحد منهما على شهادة صاحبه، وشهادة كل واحد منهما على حكم صاحبه، وشهادة كل واحد منهما مع شهادة صاحبه، هذه الأربعة مسائل الحكم فيها كلها سواء، والاختلاف فيها كلها واحد. قيل: إن ذلك جائز، وهو قول سحنون؛ لأنه أجاز في نوازله من كتاب الشهادات شهادة الأب على قضاء ابنه بعد عزله، وأجاز هنا شهادته عنده، إلا أنه شرط أن يكون مبرزا في العدالة، وذلك ينبغي أن يحمل على التفسير؛ لقوله في سائر المسائل المذكورة، فكذلك يجوز على مذهبه شهادته على شهادته،(9/296)
وشهادته مع شهادته إذا كان مبرزا في العدالة، وهو قول مطرف؛ لأنه أجاز في الواضحة شهادة كل واحد منهما مع شهادة صاحبه، وشهادته على قضائه بعد عزله، وشهادته على شهادته، فكذلك شهادته عنده، لا فرق بين ذلك. وقيل: إن ذلك لا يجوز، وهو قول أصبغ؛ لأنه لم يجز في نوازله من كتاب الشهادات شهادة واحد منهما على شهادة صاحبه، وذلك الذي يأتي على مذهبه في سائر المسائل المذكورة، وفرق ابن الماجشون بين شهادة كل واحد منهما مع صاحبه، وشهادته على شهادته، وبين شهادته على حكمه بعد عزله، فأجاز شهادته مع شهادته، ولم يتهم الآخر منهما على أنه إنما أراد إتمام شهادة ابنه وأبيه وتحقيقهما، وشهادته على شهادته، ولم يتهمه على أنه إنما أراد إحياء شهادته، ولم يجز شهادته على حكمه بعد عزله، وذلك تناقض من قوله.
وأما تعديل واحد منهما لصاحبه، فلا يجوز عند واحد من أصحاب مالك فيما علمت، إلا ابن الماجشون فإنه قال: إذا لم يكن التعديل نزعه، وليس له قام، وإنما الذي نزعه وقام به أحيا شهادته، فلا بأس أن يصفه بالذي تتم به شهادته من عدالته، وفيه بعد، والله أعلم.
[مسألة: القوم يكونون في المنزل فيحجر الرجل على حق له وأرض يغرسها]
مسألة وسألته عن القوم يكونون في المنزل، فيحجر الرجل على حق له، وأرض يغرسها، وقد كان أهل المنزل يسلكون طريقا فينهاهم وغيرهم، فقاموا عليه فقالوا: قطعت طريقنا فأنكر أن يكون طريقا لهم لازمة، فتنازعوا إلى الحكم، فأتى الذين زعموا أنها طريق لهم ببينة، فشهدوا أنهم يعرفونها طريقا يسلكها الناس منذ عشرين سنة، ويأتي الذي في أرضه الطريق ببينة، فشهدوا أنها طريق محدثة بلا حق، فأي البينتين أحق أن يقبل؟ قال(9/297)
سحنون: هذا كثير ما يكون بين المنازل، ويختصر الناس في الأراضي، وربما قطعها الحرث حتى ربما كانت القرية تؤتى من غير طريق، وربما تساهل الناس في أرضهم لاستبعادهم عن ذلك، فإذا ثبت أن هذه الطريق من تلك الأرض، فليست بلازمة لصاحب الأرض، إلا أن تكون الطريق الحاملة التي تركت من غير وجه، ويطول ذلك ويقطع مدة كونه الزرع في اتساعها، وطول زمانها الخمسين والستين سنة. فأما الطريق المختصرة فليست بحجة على صاحبها، إذا ثبت ذلك كما ذكرت لك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، لا أعرف ما يخالفها، ولا ما يعارضها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون له الداران على فيريد رفع غرفة على جداري داريه]
مسألة قال سحنون في الذي يكون له الداران عن يمين الطريق ويساره، فيريد أن يرفع على السكة غرفة، أو يتخذ عليها مجلسا على جداري داريه، فقال: ذلك له، وهذا ما لا يمنع منه أحد أن يتخذه، إنما يمنع من الإضرار في التضييق في السكة إذا أدخل عليها ما أضر بها أو يضيقها، فأما ما لا ضرر فيه على السكة، ولا على أحد من المسلمين فلا يمنع.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن ذلك له، ولا يمنع منه؛ إذ لا ضرر في ذلك على الطريق، ولا على المارين فيه إذا رفع البناء رفعا يتجاوز رءوس المارة فيه من الركبان، ونحو هذا في الزاهي لابن شعبان،(9/298)
قال: والأجنحة الشارعة ترفع عن رءوس الركبان رفعا بينا، وإذا اختلف البانيان المتقابلان في الفحص فيما يجعل للطريق أو تشاحا، فأراد كل واحد منهما أن يقرب جداره من جدار صاحبه جعلا الطريق سبع أذرع بالذراع المعروفة بذراع البنيان، فإن شاكل واحد منهما فيما يبني ميزابا على الطريق للمطر لم يمنع، وبالله التوفيق.
[مسألة: الذين يعتقون على الرجل إذا ملكهم هم أهل الفرائض في كتاب الله]
مسألة قال سحنون: الذين يعتقون على الرجل إذا ملكهم هم أهل الفرائض في كتاب الله هم: ولده، وولد ولده من قبل الرجال والنساء، والدراية يلزمه في ولده، وولد ولده، والتغليظ يلزمه في ولده وولد ولده من الرجال والنساء، ولا ينعقد نكاحه في كل ملك هو لهم، وينعقد نكاحهم في ملك هو له، ولا يكون لهم دراية في ماله، ولا يلزمهم تغليظ فيما فعلوا، وحالهم في هذا حال الأجنبي، ولا تجوز شهادته لمن ذكرت من ولده وولد ولده من قبل الرجال والنساء ولا شهادتهم له، وكذلك إذا كان قاضيا، ووقف موقف الشهادة.
قال محمد بن رشد: قوله الذين يعتقون على الرجل إذا ملكهم هم أهل الفرائض في كتاب الله: ولده وولد ولده من قبل الرجال والنساء، كلام غير محصل ولا صحيح؛ لأن قوله الذين: يعتقون عليه إذا ملكهم ولده وولد ولده من قبل الرجال والنساء يقتضي أنه لا يعتق عليه سواهم، ولا اختلاف عند الجميع في أنه يعتق عليه أبواه، ولا في مذهب مالك في أنه يعتق عليه جميع إخوته، فهو كلام خرج على غير تحصيل.
وقوله في ولده(9/299)
وولد ولده من قبل الرجال والنساء: إنهم أهل الفرائض في كتاب الله تعالى غير صحيح؛ لأن أولاد البنات لا يرثون عند الجميع؛ فليسوا من أهل الفرائض في كتاب الله، وقد وقع هذا اللفظ في المدونة؛ أعني قوله: وهم أهل الفرائض في كتاب الله، إلا أنه ذكره فيها بعد أن ذكر الإخوة فيصح قوله فيها، وهم أهل الفرائض في كتاب الله تعالى بإعادته إلى الآخر أقرب المذكرين إليه دون من سواهم ممن ذكر معهم ممن لا يرث، فكلام سحنون هذا، إنما يصح بإسقاط الذين، وإسقاط هم أهل الفرائض في كتاب الله، ويكون الوجه فيه على ما وقع أنه قاله بعد أن ذكر الآباء والأجداد والإخوة وهم أهل الفرائض، فأراد أن الذين يعتقون على الرجل سوى هؤلاء المذكورين ولده وولد ولده من الرجال والنساء.
وقوله: إنه يعتق عليه ولده وولد ولده من قبل الرجال والنساء، هو ظاهر ما في المدونة، ونص ما في سماع أشهب، من كتاب العتق، وكذلك يعتق عليه أجداده وجداته كلهم من قبل الأم، ومن قبل الأب على ما في المدونة والواضحة وغيرهما، وما في سماع أبي زيد من كتاب الولاء أنه يعتق عليه الجدات الأربع، وقوله: والدراية يلزمه في ولده وولد ولده، معناه أنه يدرأ عنه الحد إن وطئ أمة واحد منهم بالشبهة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك» ، وقوله: والتغليظ يلزمه في ولده وولد ولده من الرجال والنساء؛ يريد أنه يغلظ عليه الدية في جنايته عليهم عمدا، قيل في ماله، وقيل على العاقلة، ويدرأ عنه القصاص إلا أن يعمد إلى ذلك، مثل أن يضجعه فيذبحه، أو يأخذ منه سكينا فيقطع يده، وما أشبه ذلك، وهو مذهب ابن الماجشون.
ووقف ابن القاسم في الجد للأم، ورآه أشهب كالأجنبي في وجوب القصاص منه، فعلى قياس قوله: لا يعتق عليه، وينعقد نكاحه في ملكه، والله أعلم.(9/300)
[مسألة: القاضي يثبت عنده الحق للرجل فيريد أن يسجل له كتابا بما ثبت عنده]
مسألة قال سحنون في القاضي يثبت عنده الحق للرجل، فيريد أن يسجل له كتابا بما ثبت عنده بمحضر خروج الإمام غازيا، فيأمر القاضي بأن لا ينظر لأحد إلى انصرافه، فيكون من رأى القاضي الإشهاد والتسجيل لصاحب الحق، فيفعل بعد تقدم الإمام إليه، أذلك له جائز؟ أم لا ترى حكمه ماضيا؟ قال: نعم، أراه لازما ماضيا.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا بين على ما قال؛ لأنه لم يعزله، وإنما نهاه عن الحكم، والتسجيل ليس بحكم، فله أن يسجل بما قد تقدم حكمه قبل أن يأمره بالتوقف عن الحكم، وفي الواضحة أن الإمام إذا أمر القاضي أن يدع الحكم في أمر قد شرع فيه عنده، فله أن يدع ذلك إن لم يتبين له حق أحدهما، وإن تبين له حق أحدهما، فلا يدع ذلك إلا أن يعزل، وهو قول سحنون، هذا وبالله التوفيق.
[مسألة: القاضي يأتيه رجلان بكتاب مكتوب مختوم فيه شهادتهما]
مسألة وسألته عن القاضي يأتيه رجلان بكتاب مكتوب مختوم فيه شهادتهما، فيجد في داخله أن فلان ابن فلان أوصى إلى هذين الرجلين الذين أتياه بالكتاب بما كان له من مال أو غير ذلك، أترى للقاضي أن يجيز شهادتهما، ويقرهما على الوصية أم كيف الأمر فيه؟ قال سحنون: أرى أن يقول لهما القاضي أتقبلان الوصية؟ فإن قالا: نعم، لم تقبل شهادتهما، وإن قالا: لا، نقبلها، أمضى شهادتهما في الوصية، ووكل القاضي عليهما من رآه أهلا.(9/301)
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا صحيح بين على قياس القول بأنه لا تجوز شهادة الرجل أن الميت أوصى إليه بالنظر في تنفيذ وصيته، وهو المنصوص عليه في المدونة. قال فيها: لا تجوز شهادة الموصى إليه، وإن كان طالب المال غيره. وقال فيها أيضا: إن شهادة الشاهدين لا تجوز بأن الميت أوصى لابنه، وإذا لم تجز شهادتهما بأنه أوصى لابنه فشهادتهما بأنه أوصى إليه أحرى ألا تجوز، وقد قيل: إن شهادتهما بذلك جائزة، وهو دليل قوله في المدونة في الذي شهد أن الميت أوصى لقوم بوصايا، وأوصى للشاهد. قال ابن القاسم: فسمعت مالكا يقول: إن كان الذي شهد به لنفسه تافها يسيرا لا يتهم عليه، فشهادته جائزة، فأجاز شهادته إن كان الذي شهد به لنفسه يسيرا مع أنه أوصى إليه، فعلى هذا تجوز شهادتهما في الوصية قبلاها أو لم يقبلاها، فإن قبلاها نظرا فيها، وإن لم يقبلاها وكل القاضي عليها من رآه أهلا لها، والله الموفق لا رب غيره، تم الكتاب الثاني من الأقضية، بحمد الله.(9/302)
[: كتاب السلطان] [: ليس للرجل أن يبيع في السوق الذي يجلب إليه الطعام بدون بيع الناس](9/303)
من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سمعت مالكا، قال: لا أرى للرجل أن يبيع في السوق الذي يجلب إليه الطعام أن يبيع بدون بيع الناس، قال سحنون: يريد ما يباع من صنف سلعته في جودتها مما قد جرى سعره، وقام على شيء، وليس الرديء من هذا في شيء أن يبيع الجيد بسعر الرديء، ليس ذلك عليه، ولكن ذلك بمثله.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يجوز للرجل أن يبيع الطعام في السوق بدون بيع الناس، معناه بدون بيع الناس في المثمون لا في الثمن، وذلك مثل أن يكون الناس يبيعون مثل ذلك الطعام أربعة بدرهم، فلا يجوز له هو أن يبيع ثلاثة بدرهم، وقد بين ذلك في رسم باع شاة، من سماع ابن القاسم، وهو بين أيضا من تفسير سحنون. قوله يريد ما يباع من صنف سلعته في جودتها، وليس عليه أن يبيع الجيد بسعر الرديء، يقول: إنه إذا كان الناس يبيعون أربعة بدرهم، وكان طعامه هو أجود من طعامهم، فليس عليه أن يبيع طعامه الجيد بما يبيعون به طعامهم الرديء، وكذلك قال ابن(9/305)
حبيب: إنما ذلك إذا استوى الطعام أو تقارب، وأما إن اختلف فزاد صاحب الجيد على صاحب الرديء الدرهم والدرهمين في المدي، فلا يمنع من ذلك، وتحديده الدرهم والدرهمين في المدي فيما بين الجيد والرديء إنما هو على ما يعرف بالأندلس من أنه ليس بين قمحها من الاختلاف مثل ما بإفريقية، ولا مثل ما بمكة حيث يجتمع والمحمولة قاله الفضل وهو صحيح، وإذا كان الرديء كان الاختلاف بزيادة اليسير الواحد والاثنين والثلاثة ونحو ذلك، أقر الأكثر على ما يبيعون، فيضم الأقل إليهم حتى يكونوا كثيرا، فإن كانوا كثيرا قيل للباقين وإن كانوا أكثر منهم: إما أن تبيعوا كما يبيع هؤلاء، وإما أن ترفعوا من السوق، فلا يرد الكثير إلى القليل، ويرد إلى الكثير القليل، والكثير إذا كان الكل قليلا، فالأقل منهم تبع للأكثر إذا كان الأكثر يبيعون أرخص، وإن كان الأكثر هم الذين يبيعون أغلى، ترك كل واحد منهم على ما يبيع، وقد ذهب بعض الناس تأويلا على رواية ابن القاسم هذه، وما كان مثلها أن الواحد والاثنين من أهل السوق ليس لهم أن يبيعوا بأرخص مما يبيع أهل السوق؛ لأنه ضرر بهم. وممن ذهب إلى ذلك أبو محمد عبد الوهاب بن نصر البغدادي، وهو غلط ظاهر؛ إذ لا يلام أحد على المسامحة في البيع، والحطيطة فيه، بل يشكر على ذلك إن فعله لوجوه الناس، ويؤجر فيه إذا فعله لوجه الله، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ليجلدن امرأته خمسين سوطا]
مسألة وسئل مالك عمن حلف ليجلدن امرأته خمسين سوطا، قال: لو استشارني السلطان لأمرته أن يمنعه من ضربها، ولأمرته أن يطلقها، ولا آمره أن يجلدها أجعلها به.(9/306)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن يمينه كانت بطلاق امرأته ليجلدنها خمسين سوطا، فألزمه الطلاق الذي حلف به، ولم يمكنه من البر بضربها خمسين سوطا، وكذلك حكى ابن حبيب في الواضحة أن من حلف بطلاق امرأته ليضربنها أكثر من عشرة أسواط مثل الثلاثين أو نحوها أن السلطان يطلقها عليه إذا كان ذلك لغير شيء تستوجبه، وإن لم يرفع ذلك إليه حتى فعل بر، وعوقب بالزجر والسجن، ولم تطلق عليه إلا أن يكون بها من الضرر آثار كثيرة مشتهر بمثلها من الحرائر، فتطلق عليه للضرر إذا تبين ذلك وتفاحش، ولو حلف بطلاقها ليضربنها العشرة الأسواط ونحوها يريد ويصدق في أنها قد صنعت ما تستوجب به ذلك الأدب، لا أنه يكون له ذلك دون سبب، وكذلك من حلف بحرية عبد ليضربنه ضربا يسيرا دون شيء أذنبه، لم يمكن من ذلك، وقد قال ابن أبي زيد: إنه يمكن من ذلك، وهو بعيد، فلا يصح أن يقال ذلك في الحرة، والله أعلم.
وقول: أجعلها به معناه، أجعل به الطلاق الذي حلف به وألزمه إياه، وكذلك لو كانت يمينه بطلاق امرأة له أخرى، أو بعتق عبده أو ما أشبه ذلك، مما يقضى به عليه، لجعل السلطان ذلك به وحنثه، ولم يمكنه من البر بضرب خمسين سوطا، إلا أن يثبت عليها أنها فعلت ما تستوجب به ذلك، ولو كانت يمينه على ذلك بالله، أو بصيام، أو بمشي، أو صدقة، أو ما أشبه ذلك، مما لا يقضى به عليه إذا حنث فأبت المرأة من المقام معه، مخافة أن يضربها ليسقط عن نفسه بضربها ما حلف به من الصيام أو المشي أو الصدقة أو الكفارة؛ لوجب أن يكون ذلك لها من أجل أنه لا يؤمن على غيبها، وأن يطلقها عليه السلطان طلقة بائنة كالخلع، وقد وقع في بعض الكتب ولأمرته أن يطلقها، ولا آمره أن يجلدها أخلعها به، وهو يتأول على هذا؛ إذ لم يذكر في المسألة يمينه ما هي، وبالله التوفيق.(9/307)
[مسألة: ليس للرجل أن يعطي الحجام شعر رأسه]
مسألة قال: وسمعته قال: أكره أن يعطي الرجل الحجام شعر رأسه؛ لأنهم يجعلون منه القصص.
قال محمد بن رشد: يريد أنهم يصنعون منها القصص المنهي عنها في حديث معاوية؛ «إذ خطب الناس بالمدينة، فتناول قصة من شعر كانت بيد حرسي فقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ينهى عن مثل هذه، وقال: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم» ، وهي تشبه الجمة تضعها المرأة التي لا شعر لها على رأسها، ترى أنه شعرها، وقد لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الواصلة والمستوصلة» ، وهذا من ذلك المعنى، فإذا كان الحجام يأخذ منه الشعر ليصنع ذلك منه، فلا ينبغي أن يترك ذلك له، كما قال مالك؛ لأنه فعل ما نهى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن فعله، وذلك ما لا يحل ولا يجوز، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .
[: البدوي يقدم فيسأل الحاضر عن السعر هل يخبره]
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها وسئل عن البدوي يقدم فيسأل الحاضر عن السعر أترى أن يخبره؟ قال: يكره ذلك، قيل: أفترى أن يشري له؟ قال: لا بأس بذلك، إنما يكره أن يبيع له، فأما الاشتراء له فلا بأس.
قال محمد بن رشد: لم يختلف أهل العلم جميعهم في أن المعنى(9/308)
عن نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن أن يبيع حاضر لباد، إنما هو إرادة نفع أهل الحاضرة ليصيبوا من أهل البادية بجهلهم بالأسعار، وقد جاء هذا مفسرا في بعض الآثار أنه قال: «لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس، يرزق الله بعضهم من بعض» . فإذا كان المعنى في أنه لا يجوز أن يبيع الحاضر للبادي، إنما هو ليصيب أهل الحاضرة غرة أهل البادية لجهلهم بالأسواق، وجب أن لا يجوز أن يخبروا بالأسعار لما في ذلك من الضرر بأهل الحاضرة في قطع المرفق الذي جعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم في الإصابة منهم؛ لأنهم إذا لم يعلموا السعر لعلهم أن يرضوا بالبيع بأقل من القيمة، وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه في مذهب مالك، وذهب الأوزاعي إلى أنه لا بأس أن يخبره بالسعر، وإن لم يجز أن يبيع له، وأما أبو حنيفة وأصحابه فذهبوا إلى إجازة بيع الحاضر للبادي، وقالوا: قد عارض النهي عن ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدين النصيحة لكل مسلم» وهذا لا يلزم؛ لأن الخاص يقضي على العام، فقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يبع حاضر لباد» يخصص عموم قوله: «الدين النصيحة» ، ويبينه ولا يعارضه، وأجاز مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يشتري له؛ لأن النهي إنما ورد في البيع له، فلم يقس عليه الشراء، ومنع من ذلك ابن الماجشون قياسا على البيع، وإياه اختار ابن حبيب قال: لأن العرب تقول بعت في معنى اشتريت.
قال طرفة:
ويأتيك بالأنباء من لم تبع له لتاتا
يعني من لم تشتر له زادا.
وقال الحطيئة:
وبعت لذبيان العلاء بمالك
يقول اشتريت الشرف لقومك بمالك، قال مع أنه قد روي أيضا: «لا يشتر حاضر لباد» ، وقول مالك أولى؛ لأن الصحيح في الحديث «لا يبع حاضر(9/309)
لباد» ، والسنة إذا عارضها أصل وجب أن تستعمل في موضعها، ولا يقاس عليها. واختلف قول مالك في أهل البادية الذين لا يجوز للحضري أن يبيع لهم على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنهم أهل العمود خاصة دون أهل القرى المسكونة التي لا يفارقها أهلها، وهي رواية أبي قرة موسى بن طارق عنه. والثاني: أنهم أهل العمود، وأهل القرى دون أهل المدن. والثالث: أنه لا يجوز للحاضر أن يبيع للجالب، وإن كان من أهل المدن والحواضر، فرأى على هذا القول أن المعنى في النهي إنما هو على أن يبيع الحاضر للباد؛ ولأن قوله: «لا يبع حاضر لباد» ، إنما خرج على الأعم في أن أهل البادية هم الذين يجلبون إلى الحاضرة، وهذان القولان في رسم تأخير صلاة العشاء بعد هذا، واختلف أيضا في حكم بيع الحاضر للبادي إذا وقع، وسيأتي القول فيه في رسم يوصي، من سماع عيسى إن شاء الله، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل فجر في السوق بغش الميزان]
مسألة قال مالك: سألني صاحب السوق عن رجل فجر في السوق، يريد جعل في مكياله زفتا، فأمر به أن يخرجه منه ولا يتركه فيه، وذلك أشد عليه من الضرب.
قال محمد بن رشد: قوله: وذلك أشد عليه من الضرب، يريد أن ذلك أردع لهم؛ لأن أهل الفجور والغش قلما ينكلهم الضرب، وظاهر قوله: أنه يخرج من السوق أدبا له، وإن لم يكن معتادا للغش، خلاف ما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: أن من غش في أسواق المسلمين يعاقب بالسجن والضرب وبالإخراج من السوق إن كان معتادا للغش، ولا يرجع إلى السوق حتى تظهر توبته وتعرف. وقول ابن حبيب: إن المعتاد للغش، يريد الذي قد أدب عليه، فلم يردعه الأدب عنه، وعاد إليه(9/310)
يخرج من السوق، ولا يرجع إليه حتى تظهر توبته وتعرف، صحيح إذ لم يخرج من السوق أدبا له، وإنما أخرج لقطع ضرره عن الناس؛ إذ قد أدب فلم ينفع فيه الأدب، وأما إذا أخرج عنه أدبا له من غير أن يكون معتادا للغش على ظاهر قول مالك هذا، فلا يمتنع أن يرد إليه بعد مدة يرجى أن يكون قد تأدب بها، وإن لم تظهر منه توبة.
قال بعض أهل النظر: وإنما يؤدب الغاش بالإخراج من السوق إذا كان لا يمكن أن يرجع إليه دون أن يعرف، وأما إذا كان يمكن أن يرجع إليه، ولا يعرف ذلك لاتساع السوق؛ فإنه يؤدب بالضرب، والأصل في إخراج المعتاد بالغش عن السوق ما جاء من أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى أمير الأجناد ألا يتركوا النصارى بأعمالهم في أسواق المسلمين جزارين ولا صرافيين؛ لأنه يخشى من المعتاد للغش أن يغش المسلمين بما ظهر من استباحته له، كما يخشى من النصراني أن يربي مع المسلمين بما يعلم من استحلاله له، وقد قال سحنون قياسا على قول عمر بن الخطاب: إنه يمنع من السوق من لا يبصر البيع من المسلمين حياطة له وللمسلمين، فالذي يغش المسلمين، وقد اعتاد ذلك، وأدب عليه، فلم يردعه الأدب أحق بذلك وأولى، وبالله التوفيق.
[مسألة: نهي الناس عن التزوج على الشروط والاكتفاء بالدين والأمانة]
مسألة قال مالك: أشرت على قاض منذ دهر أن ينهى الناس أن يتزوجوا على الشروط، وألا يتزوجوا إلا على دين الرجل وأمانته، وأنه كان كتب بذلك كتابا، وصيح به في الأسواق وعابها عيبا شديدا.
قال محمد بن رشد: يريد الشروط اللازمة بيمين كطلاق الداخلة،(9/311)
وعتق السرية، وما أشبه ذلك، فهذه الشروط هي التي يكرهها مالك، فإذا وقع النكاح عليها مضى، ولم يفسخ قبل الدخول ولا بعده، ولزم الشرط. ووجه الكراهة في ذلك أن المرأة قد حطت من صداقها بسبب الشروط، ولا يدرى هل يفعل ذلك الزوج أم لا؟ فأشبه ذلك الصداق الفاسد، وقد روي عن سحنون لهذه العلة أنه نكاح فاسد يفسخ قبل الدخول، ويثبت بعده، ويكون فيه الصداق المسمى، وللخروج من هذا الاختلاف يعقد الناس هذه الشروط في صدقاتهم على الطوع، وذلك إذا وقع الشرط في أصل النكاح على تسمية الصداق، وأما إذا أنكحها نكاح تفويض على الشرط، فلا اختلاف في أن النكاح لا يفسخ.
وأما الشروط التي ليست مقيدة بيمين، فهي كلها غير لازمة، ومنها ما لا يفسد به النكاح، ومنها ما يفسد به فيفسخ قبل وبعد، ومنها ما يفسد به فيفسخ قبل ولا يفسخ بعد، ومنها ما يختلف في فساد النكاح بها، ومنها ما يختلف في الفسخ فيه، هل يكون قبل وبعد، أو إنما يفسخ قبل ويقر بعد، وليس هذا موضع ذكرها؛ إذ قد مضت في مواضعها من كتاب النكاح، ومن الشروط المقيدة بتمليك ما يختلف في فساد النكاح بها اختلافا كثيرا، وهي التي تتزوج على أنه إن لم يأت بصداقها إلى أجل كذا وكذا فأمرها بيدها، أو على إن رأت منه ما تكره فأمرها بيدها، وقد مضى القول على ذلك في سماع ابن القاسم، من كتاب النكاح في أول رسم منه، وفي رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه، فلا معنى لذكر شيء من ذلك هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: التبن يجعل تحت القمح عندما يخزن]
مسألة وسئل عن التبن يجعل تحت القمح عندما يخزن، فقال: لا(9/312)
بأس بذلك، وليس هذا مثل الذي يغشون به، وقد أخبرت أن أصحاب السفن يعملون ذلك عندما يحملون، ولم أر بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا بأس به؛ لأنه إنما يفعل للإصلاح، لا للغش والفساد، ومثله ما في سماع أشهب بعد هذا من طرح الماء في اللبن لاستخراج زبده، ومن طرح الماء في العصير ليتعجل به تحليله، ومضى مثله أيضا من قول مالك في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.
[مسألة: صاحب السوق يريد أن يسعر على الناس السوق]
مسألة وسئل مالك عن صاحب السوق يريد أن يسعر على الناس السوق، فيقول لهم: إما بعتم بكذا وكذا، بسعر يسميه لهم، وإما قمتم، قال: لا خير في هذا. قيل له: إنه يأتي الرجل يكون طعامه ليس بالجيد، وقد بدل سعرا فيقول لغيره: إما بعتم مثله، وإما رفعتم، قال: لا خير في ذلك، ولكن لو أن رجلا أراد بذلك فساد السوق، فحط عن سعر الناس لرأيت أن يقال له: إما لحقت بسعر الناس وإلا رفعت، فأما أن يقول للناس كلهم، فليس ذلك بالصواب، وذكر حديث عمر بن عبد العزيز في أهل أيلة حين حط سعرهم لمنع البحر، أن كتب في ذلك أن خل بينهم وبين ذلك، فإنما السعر بيد الله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا بأس به، أما الجلاب فلا اختلاف في أنه لا يسعر عليهم شيء مما جلبوه للبيع، وإنما يقال لمن(9/313)
شذ منهم، فحط من السعر، أو باع بأغلى مما يبيع به عامتهم: إما أن تبيع بما يبيع به العامة، وإما أن ترفع من السوق، كما فعل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بحاطب بن أبي بلتعة، إذ مر به وهو يبيع زبيبا له في السوق، فقال له: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا؛ لأنه كان يبيع بالدرهم أقل مما كان يبيع به أهل السوق، وأما أهل الحوانيت والأسواق الذين يشترون من الجلاب وغيرهم جملا، ويبيعون ذلك على أيديهم مقطعا مثل اللحم والأدم والفواكه، فقيل: إنهم كالجلاب لا يسعر عليهم شيء من بياعتهم، وإنما يقال لمن شذ منهم وخرج عن الجمهور: إما أن تبيع كما يبع الناس، وإما أن ترفع من السوق، وهو قول مالك في هذه الرواية، في رسم باع شاة، من سماع عيسى.
وممن روي ذلك عنه من السلف عبد الله بن عمر، وقيل: إنهم في هذا بخلاف الجلاب، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا غلوا على الناس ولم يقنعوا من الربح بما يشبه، كان على صاحب السوق الموكل على مصلحته أن يعرف بما يشترون، فيجعل لهم من الربح ما يشبه، وينهاهم أن يزيدوا على ذلك، ويتفقد السوق أبدا، فيمنعهم من الزيادة على الربح الذي جعل لهم كيف ما تقلب السعر من زيادة أو نقصان، فمن خالف أمره عاقبه بما يراه من الأدب، وبالإخراج من السوق إن كان معتادا لذلك مستسرا به، وهو قول مالك في رسم البيوع الأول، من سماع أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب، وقاله من السلف جماعة منهم: سعيد بن المسيب، ويحيى بن سعيد، وهو مذهب الليث، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم: لا تبيعوا إلا بكذا وكذا، ربحتم أو خسرتم من غير أن ينظر إلى ما يشترون به، ولا أن يقول لهم فيما قد اشتروه لا تبيعوه إلا بكذا وكذا مما هو مثل الثمن الذي اشتروه به أو أقل، وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون به،(9/314)
مثل أن يقول لهم: تربحون في المدي كذا وكذا، فلا يتركهم أن يغلوا في الشراء، وإن لم يزيدوا في الربح؛ إذ قد يفعلون ذلك، ويتساهلون فيه؛ إذ لا ينتقصهم بذلك من ربحهم شيئا، وإذا علم ذلك منهم ضرب لهم الربح على ما يعلم من مبلغ السعر، وقال لهم: لا سبيل لكم أن تبيعوا إلا بكذا وكذا، فلا تشتروا إلا على هذا، وهو قول مالك في رسم البيوع الأول، من سماع أشهب: ليس بأيديكم شيء تعتلون به، اشتروا على ثلث رطل يسعره عليكم من الضأن، وعلى نصف رطل يسعره عليكم من الإبل؛ لأن ذلك إنما يجوز له أن يفعله إذا علم أنهم يتساهلون في الشراء، ويزيدون على القيمة، ويقولون له: لا حجة لك علينا؛ إذ لا نربح أكثر مما سميت لنا، فهذا تأويل الرواية، والله أعلم.
[مسألة: خمر تعمل من القز ثم يبل لها الخبز فيرش عليها لتشتد وتصفق]
مسألة وسئل عن خمر تعمل من القز، ثم يبل لها الخبز، فيرش عليها لتشتد وتصفق. قال: لا خير في هذا، هذا غش ولا يعجبني.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إن ذلك من الغش؛ لأن المشتري يظن أن شدتها إنما هو من ذاتها وصفاقة نسجها، فإن علم المشتري أنها مرشوشة بماء الخبز، وأن ذلك يشدها ويصفقها لم يكن له كلام، وإن لم يعلم أنها مرشوشة بذلك كان بالخيار بين أن يمسك أو يرد، فإن فاتت ردت إلى القيمة إن كانت القيمة أقل من الثمن، وكذلك إن علم أنها مرشوشة بذلك، ولم يعلم أن ذلك يشدها ويصفقها.
وسيأتي في رسم البيوع الأول، من سماع أشهب نحو هذا، وهذا على ما قاله ابن حبيب من أن ما يصنعه حاكة الديباج من تصميغها غش؛ لأنه وإن كان التصميغ لا يخفى على المشتري، فقد يخفى عليه قدر ما أحدث فيه من الشدة(9/315)
والتصفيق، وقد قال في الفراء يترب وجوه الفراء ليحسنها، ويغيب ما فيها من العيوب أن المشتري إن علم بتتريبها، فليس له ردها إلا أن يجد بها عيبا. وقاله ابن القاسم في رسم الجواب، من سماع عيسى، من كتاب العيوب؛ لأنه رأى تأثير التتريب غير خاف على من علم التتريب، بخلاف التصميغ، والله أعلم، ومما يشبه هذا ما قاله ابن حبيب أن من الغش ما يفعل النعال من تغليظهم حواشيها قبل أن تحذا ليواروا بذلك رقتها، ويزيدوا في تحسينها. قال: وعلى الإمام العادل تأديب من فعله، وللمشتري أن يرد ما اشترى منها قبل حذوها وبعد حذوها، والله الموفق.
[مسألة: الرجل يبيع نصف الوصيفة أو نصف الدابة ويشترط عليه نفقتها سنة]
مسألة وسئل عن الرجل يبيع نصف الوصيفة أو نصف الدابة من الرجل، ويشترط عليه نفقتها سنة، وأن له عليه إن ماتت الدابة أخذ ذلك منه، أو باعهما أو ماتتا، فذلك له عليه ثابت، وإن بقيت إلى ذلك، فهو حقه استوفاه منه، قال: لا بأس بذلك. أنكرها سحنون.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة متكررة في هذا الرسم من هذا السماع، من كتاب جامع البيوع، ومضى القول عليها هناك مستوفى، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[: تلقي الركبان]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك عن النفر من التجار يخرجون إلى الريف، فيشترون أغناما فيأتون بها قريبا من الفسطاط على قدر الميل ونحوه، فيجعلونها في مراعٍ ترعى فيه، ويشتد عليهم دخولها(9/316)
الفسطاط، ويكون ذلك أرفق بهم، فيدخل الرجل المدينة، فيدعو رجلا منهم يأمنه فيبيعه إياها، ثم يدخل المشتري لها قليلا قليلًا فيبيعها هو، قال: إني أخاف أن يكون من التلقي، وعندنا رجال يفعلونه ببلدنا؛ قلت له: أفتكرهه؟ قال: نعم، أكره أن يعمل به، وأراه من تلقي السلع.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن ذلك من تلقي السلع؛ لأن المعنى في النهي عن تلقي السلع عند مالك، إنما أريد به نفع أهل الحاضرة، كما أريد بالنهي عن أن يبيع حاضر لباد نفع أهل الحاضرة بأن يكون البادي والجالب هو المتولي البيع في السوق على ما هو عليه من الجهل بالسوق، فيشتري أهل الحاضرة منه في السوق بما يرضى به من قليل الثمن وكثيره، فإذا باع الغنم الجالب لها من رجل من أهل الحاضرة قبل أن يصل إلى السوق، فكان هو الذي يقوم بها ويبيعها على معرفة، فقد قطع عن أهل الحاضرة الحق الذي جعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم في ذلك، والله الموفق.
[مسألة: العبد يشكو العزبة فيسأل سيده أن يبيعه لذلك]
مسألة وسئل عن العبد يشكو العزبة، فيسأل سيده أن يبيعه لذلك، ويقول: قد وجدت موضعا، قال: ليس ذلك على سيده، ولو جاز ذلك لقال ذلك الخدم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أنه ليس على الرجل واجبا أن يبيع عبده ممن يزوجه إذا سأله ذلك وشكا العزبة، وإنما يرغب في ذلك، ويندب إليه، وليس امتناعه منه من الضرر الذي يجب به بيعه عليه، كما ليس عليه أن يزوجه واجبا إذا سأله ذلك؛ لأن قول الله تعالى:(9/317)
{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ليس على الوجوب، إنما هو أمر بالإنكاح على سبيل الحض والترغيب، وإنما يباع عليه إذا تبين ضرره به في تجويعه وتعريته وتكليفه من العمل ما لا يطيق، وضربه في غير حق، إذا تكرر ذلك منه، أو كان شديدا منهكا. وسيأتي هذا المعنى في رسم حلف ليرفعن أمرا، ورسم صلى نهارا، وفي سماع أصبغ، عن أشهب، وهذا ما لا أعلم فيه اختلافا، والله أعلم.
[مسألة: الرجل يكتب ذكر الحق في المسجد]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يكتب ذكر الحق في المسجد، قال: أما ما كان خفيفا، فلا بأس به، وأما الشيء يطول فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن المساجد إنما وضعت لذكر الله والصلاة، قال الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] فواجب أن ترفع وتنزه عن أن تتخذ لغير ما وضعت له، وقد اتخذ عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رحبة بناحية المسجد، فقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا، أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة، وكان عطاء إذا مر به بعض من يبيع في المسجد دعاه فسأله ما معه، وما يريد، فإذا أخبره أنه يريد أن يبيعه، قال: عليك بسوق الدنيا، فإنما هذا سوق الآخرة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يشتري الزعفران فيجده مغشوشا هل يرده]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يشتري الزعفران فيجده مغشوشا؛(9/318)
أترى أن يرده؟ قال: نعم، أرى أن يرده، وليس عن هذا سألني صاحب السوق، إنما سألني أنه أراد أن يحرق المغشوش بالنار لما فيه من الغش، فنهيته عن ذلك.
وسئل مالك عما يغش من اللبن، أترى أن يراق؟ قال: لا، ولكن أرى أن يتصدق به على المساكين من غير ثمن إذا كان هو الذي غشه. قيل له: فالزعفران أو المسك أتراه مثله؟ قال: ما أشبهه بذلك إذا كان هو الذي غشه، فأراه مثل اللبن. وسئل ابن القاسم عن هذا، فقال: أما الشيء الخفيف من ذلك فلا أرى به بأسا، وأما إذا كثر ثمنه فلا أرى ذلك، وأرى على صاحبه العقوبة؛ لأنه يذهب في ذلك أموال عظام.
قال محمد بن رشد: لم ير مالك أن يحرق الزعفران المغشوش، ولا أن يراق اللبن المغشوش بالماء على الذي غشه، قال في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب: وأرى أن يضرب من أنهب أو انتهب، وأرى أن يتصدق بذلك على المساكين أدبا له، وسواء على مذهبه كان ذلك يسيرا أو كثيرا؛ لأنه ساوى في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك، والمسك قليله كثير، وخالفه ابن القاسم، فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا، وذلك إذا كان هو الذي غشه، وأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو، وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه، فلا اختلاف في أنه لا يتصدق بشيء من ذلك، والواجب أن يباع ممن يؤمن أن يبيعه من غيره مدلسا بذلك، وكذلك ما وجب أن يتصدق به من المسك والزعفران على الذي غشه، يباع ممن يؤمن أن يغش به ويتصدق بالثمن أدبا للغاش الذي غشه.
وقول ابن القاسم في أنه لا يتصدق من ذلك على الغاش إلا بالشيء اليسير أحسن من قول مالك؛ لأن الصدقة بذلك من العقوبات في الأموال،(9/319)
والعقوبات في الأموال أمر كان في أول الإسلام، من ذلك ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في مانع الزكاة: «إنما آخذها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا» ، وما روي عنه فيه: «حريسة الجبل أن فيها غرامة مثليها وجلدات نكال» ، وما روي عنه من «أن من أخذ بصيد في حرم المدينة شيئا، فلمن أخذه سلبه» ، ومن مثل هذا كثير، ثم نسخ ذلك كله بالإجماع على أن ذلك لا يجب، وعادت العقوبات في الأبدان، فكان قول ابن القاسم أولى بالصواب استحسانا، والقياس أن لا يتصدق من ذلك بقليل ولا كثير، وبالله التوفيق.
[مسألة: أصحاب القلانس يجعلون مع القطن صوفا يخلطونه به]
مسألة وسئل عن أصحاب القلانس، يجعلون مع القطن صوفا يخلطونه به، أو يجعلونه من تحته، قال: لا خير في هذا، وأراه من الغش، فقيل له: فالقطن الخلق مع الجديد، قال: لا خير فيه. قيل له: فإن أهل الحار يقدمون علينا بالقمح مغلوثا، يريد الكثير التبن، فيؤمرون بغربلته قبل أن يبيعوه، قال: هو من الحق، قال: وأرى أن يؤخذ الناس به.
قال محمد بن رشد: أما خلط الصوف مع القطن، أو القطن الخلق مع الجديد، أو جعله من تحته في القلانس أو غيرها، فلا إشكال في أن ذلك من الغش الذي لا يحل ولا يجوز، ولو اشترى رجل قلنسوة فوجد(9/320)
حشوها صوفا؛ لكان له أن يردها، وكذلك لو وجد حشوها قطنا باليا إلا أن تكون من القلانس التي العرف فيها أنها لا تحشى إلا بالقطن البالي، فلا يكون له أن يردها على قياس ما قال في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب العيوب، في الذي يشتري القلنسوة السوداء فيجدها من ثوب ملبوس، وقد مضى القول على ذلك هناك، وأما غربلة القمح من التبن والغلث عند البيع، فذلك واجب إن كان التبن والغلث فيه كثير، يقع في أكثر من الثلث؛ لأن بيعه على ما هو عليه من الغرر، ويستحب إن كان التبن والغلث فيه يسيرا، وبالله التوفيق.
[مسألة: البساتين تكون حوالي الفسطاط يشتريها التجار ويبيعونها في الفسطاط]
مسألة وسئل مالك عن أجنة النخيل والأعناب التي تكون حوالي الفسطاط، فيخرج التجار إليها فيشترونها، ويحملونها في السفن فيبيعونها في الفسطاط، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا خلاف قوله في رواية أشهب عنه في أول سماعه بعد هذا، مثل قول أشهب فيه من رأيه، ولكلا القولين وجه: فوجه قول مالك هذا اتباع ظواهر الآثار في أنها إنما وردت في تلقي الجلب قبل وصوله، ووجه قول أشهب مراعاة معنى الآثار في أن المعنى فيها نفع أهل الحاضرة، بأن يتولى الجالب إليها بيع ما يجلب، فيبيع بما يرضى به من قليل الثمن وكثيره، علم سعر الحاضرة أو جهله، وبالله التوفيق.(9/321)
[مسألة: الطحانون يشترون الطعام فيغلون بذلك أسعار الناس هل يمنعون]
مسألة وسئل مالك عن الطحانين يشترون الطعام فيغلون بذلك أسعار الناس، قال: أرى أن كل ما أضر بالناس في أسعارهم أن يمنعه الناس، فإن أضر ذلك بالناس منعوا منه.
قال محمد بن رشد: في شراء الطحانين الطعام جملة من الجلاب، وبيعه على أيديهم دقيقا، رفقا بعامة الناس؛ لمشقة الطحين عليهم إذا اشتروا القمح، فإن كان ذلك يغلي عليهم الأسعار، فالواجب أن ينظر السلطان في ذلك، فإن كان لا يفي المرفق الذي للعامة في ذلك بما يغليه من أسعارهم منع من ذلك، وإن كان يفي به أو يزيد عليه فيما يراه باجتهاده لم يمنع من ذلك، وأما شراء أهل الحوانيت الدقيق من الجلاب وبيعه على أيديهم من الناس، وشراء الطعام وبيعه على أيديهم غير مطحون، فلا وجه من الرفق في ذلك لعامة الناس، فينبغي أن يمنع من ذلك إذا كان فيه تغلية للأسعار، ويباح إذا لم يضر ذلك بالأسعار على مذهب من يجيز فيه الاحتكار، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وعليه يأتي إباحة ذلك في رسم يسلف بعد هذا، وقد قال ابن حبيب: إنه يمنع من ذلك في كل ما لا يجوز احتكاره من الطعام، وقد مضى تحصيل الاختلاف فيما يجوز احتكاره من الطعام مما لا يجوز في رسم البيوع الأول، من سماع أشهب، من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.
[: لبس الحزام للأنباط]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك عن الحزم للأنباط؛ أترى أن يلزموا ذلك؟ قال: إني أحب لهم الذلة والصغار، فقال: قد كانوا يلزمون ذلك فيما مضى. قيل له: أفيكنون؟ قال: إني لأكره أن نرفع بهم، وقد كان قبل ذلك يرخص فيه. قال ابن القاسم: وأنا أرجو أن(9/322)
يكون خفيفا.
وحدثني مالك، عن هشام بن حكيم بن حزام مثل ما حدثني به أول، قال كان عمر بن الخطاب إذا سئل الأمر الذي لا ينبغي يقول: أما ما بقيت أنا وهشام فلا يكون ذلك، وقال هشام لبعض أمراء الشام وقد رأى نبطيا قد أقيموا في الشمس لخراجهم، فقال لهم: أشهد لسمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله ليعذب في الآخرة الذين يعذبون الناس في الدنيا» ، وكان هشام قد تبتل وترك نكاح النساء، وكان في حاله شبيها بالسياحة، لا أهل له ولا مال.
قال محمد بن رشد: ما رأى مالك من أن يلزم الأنباط الحزم صحيح لوجهين؛ أحدهما: ما ذكره من استحباب الذلة والصغار لهم؛ لقوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . والثاني: أن يعرفوا بذلك من المسلمين حتى لا يبدءوا بالسلام؛ لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن ذلك، على ما جاء من أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنا راكبون غدا إن شاء الله إلى يهود، فلا تبدءوهم بالسلام، وإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم» ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها» ، وقال إبراهيم النخعي: لا بأس إذا كانت لك حاجة إلى النصراني الكحال، فأتيته أن تبدأه بالسلام، قال عبد(9/323)
الملك: هي رخصة عند الاضطرار، وكذلك ينبغي في سائر أهل الذمة من اليهود والنصارى أن يلزم النصارى منهم الحزم، واليهود علامة يعرفون بها، إذلالا لهم وصغارا، وحذرا للمسلمين من أن يظنوهم من المسلمين فيبدءوهم بالسلام.
روي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أمراء الأجناد يأمرهم أن يختموا في رقاب أهل الجزية بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ويركبوا على الآكاف عرضا، ولا يدعونهم يشبهون المسلمين في لباسهم، وكراهيته لتكنيتهم صحيح أيضا؛ لأن تكنيتهم إكرام لهم، وترفيع بهم، وذلك خلاف ما يستحب من إذلالهم وإصغارهم لمحادتهم الله ورسوله، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] .
وترخيصه قبل ذلك في ذلك قريب من كراهيته لذلك؛ لأن الترخيص إنما يكون في المكروه لا في المباح، وكذلك قول ابن القاسم: وأنا أرجو أن يكون خفيفا هذا نحو قول مالك من أجل أن المكروه لا إثم في فعله، ويؤجر تاركه على تركه، ولا حجة لأحد في إباحة ذلك دون كراهة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصفوان بن أمية: «انزل أبا وهب» ؛ لأنه إنما قال له ذلك استئلافا له رجاء إسلامه، وكذلك قوله للذي كان يقبل عليه بحديثه من عظماء المشركين؛ إذ دخل عبد الله بن أم مكتوم: «يا أبا فلان، هل ترى بما أقول بأسا؟» لأنه إنما أقبل عليه بحديثه وكناه رجاء إسلامه وإسلام من وراءه بإسلامه، وإنما تكون تكنية الكافر مباحة إذا لم يقصد بذلك ترفيعه، وكانت الكنية كالاسم الذي يعرف به، وقد قال الله في كتابه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] ، فذكره بكنيته، ولم يكن ذلك ثناء من الله عليه بذلك، ولا ترفيعا له، بل مقته بذلك، وأوعده بما أوعده به، وبالله التوفيق.(9/324)
[مسألة: الأدب للناس في حلفهم بالطلاق]
مسألة وسئل عن الأدب للناس في حلفهم بالطلاق، فقال: لقد سألني زياد عن الذي سألتني عنه، فقلت له: إنه الناس عن ذلك، فقال لي: إنهم لن ينتهوا إلا أن أضربهم، فقلت له: فافعل، اضربهم.
قال محمد بن رشد: الأدب في ذلك واجب لوجهين؛ أحدهما: ما ثبت من قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» ، وما روي عنه أنه قال: «لا تحلفوا بالطلاق والعتاق، فإنهما من أيمان الفساق» ، ذكر ذلك ابن حبيب في الواضحة. والثاني: أنه من اعتاد الحلف به لم يكد يخلص من الحنث به، فتكون زوجته تحته مطلقة من حيث لا يشعر، وقد قال مطرف وابن الماجشون: إن من لزم ذلك واعتاده فهو جرحة فيه، وإن لم يعرف حنثه، وقيل لمالك: إن هشام بن عبد الملك كتب أن يضرب في ذلك عشرة أسواط، فقال: أحسن إذ أمر فيه بالضرب، وروي أن عمر كتب أن يضرب في ذلك أربعين سوطا، وبالله التوفيق.
[مسألة: إتلاف الخمر لأهل الذمة]
مسألة قال سحنون: وحدثنا ابن القاسم قال: حدثنا مالك أن أبا أيوب الأنصاري نزل منزلا من قرى الشام وكان فيها مواليه، وكان ينهى عن الخمر فمرت به قطار تحمل الخمر، فقام إليها برمحه فبعج تلك الزقاق التي فيها الخمر فذهب ما فيها، فقال صاحب(9/325)
تلك الأرض: يا أبا أيوب، إن هذا يكسر خراجها، فقال أبو أيوب: لن أسكنها وخرج عنها.
قال محمد بن رشد: كان القطار التي مرت بأبي أيوب لأهل ذمة تلك القرية، والله أعلم، وإنما بعجها لإظهارهم الخمر في قرية يسكنها المسلمون معهم، وهذا هو الواجب ألا يباح لأهل الذمة إظهار الخمر والخنازير في موضع يسكنها المسلمون معهم، إلا أن يكونوا هم الغالبين عليهم، وإنما معهم من المسلمين الواحد والاثنان والقليل. وذلك فيما بعد من الحاضرة على ما يأتي بعد هذا، في رسم البيوع الثاني، من سماع أصبغ، وكذلك لا يباح لهم أن يحملوها من قرية من قراهم إلى قرية من قراهم، إلا بعد أن لا يسلكوا بها على شيء من حواضر الإسلام وقراهم.
وما ظهر إلى الإمام من خمرهم، فعليه أن يهرقها ويضرب حاملها، كان منهم أو من غيرهم، وإن خرج منهم رجل سكران في جماعة المسلمين كان عليه أن يضربه على ذلك، وكذلك يمنعون من إظهار صليبهم في أعيادهم واستسقائهم في جماعة المسلمين، فإن فعلوا كسرها وضربهم، قاله ابن حبيب وغيره. وقول صاحب الأرض لأبي أيوب: إن هذا يكسر خراجها، يقول: إذا فعل هذا بأهل القرية ضعفوا عن أداء ما لزمهم من الخراج، فأحفظه قوله غضبا لله، وحلف ألا يسكنها تنزها عن سكنى موضع تظهر فيه الخمر وتورعا عن ذلك رحمة الله عليه ورضوانه.
[مسألة: البيع على الوصف]
مسألة وسئل عن الرجل يبيع البز والطعام والغنم، وغير ذلك من(9/326)
السلع، فإذا كان ذلك على مسيرة اليوم واليومين جاءه خبر ذلك وصفته، فيخبر الناس بذلك فيقول له رجل بعينه: أفترى ذلك جائزا؟ قال: لا أراه جائزا، وأراه من التلقي، قيل له: فالبز من هذا. قال: نعم، البز مثل الطعام، ولا ينبغي أن يعمل في أمر واحد بأمرين مختلفين، وأكره ذلك، وأراه من تلقي السلع، ولا أرى أن يباع حتى يقدم به.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة كالمعنى في أول مسألة من رسم شك في طوافه، وقد مضى القول عليها هناك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: حكم نفخ اللحم كما يصنع الجزارون]
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان وسئل مالك عن نفخ اللحم كما يصنع الجزارون، فقال: إني لأكرهه، وأرى أن يمنعوا، وهو يغير طعمه، وقال أشهب في كتاب العتق: سمعت مالكا يقول: أرى أن يؤدب الجزارون الذين ينفخون اللحم، وأرى أن يمنعوا من ذلك.
قال محمد بن رشد: يعني بهذا النفخ، النفخ بعد السلخ الذي إنما يفعلونه ليظهر اللحم به سمينا، فيكره لوجهين؛ أحدهما: ما ذكره من أنه يغير طعم اللحم. والثاني: أنه من الغش المنهي عنه في البيوع؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غشنا فليس منا» ، أي ليس على هدينا وطريقتنا، ولو اشترى(9/327)
المشتري اللحم المنفوخ، ولم يعلم أنه منفوخ؛ لكان له أن يرده من ناحية الغش، ومن ناحية تغيير رائحته أيضا، ورده من جهة الغش أبين. وأما نفخ الذبيحة قبل السلخ، فلا كراهة فيه؛ لأنه يحتاج إليه، وفيه صلاح ومنفعة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الدراهم النقص يبتاع الناس بها في أسواقهم هل تغير]
مسألة وسئل مالك عن الدراهم النقص يبتاع الناس بها في أسواقهم، أترى أن تغير؟ فقال: بل أرى أن تترك، وأرى في ذلك رفقا للناس، حتى إن الرجل ليأتي بالدرهم الوازن، فما يعطى به إلا شبه ما يعطى بالناقص، والمرأة تأتي بغزلها وما أشبهه، فأرى أن يتركوا ولا يمنعوا، وهو مرفق بالناس.
قال محمد بن رشد: رأى تغيير الدراهم الناقصة ومنع الناس من التجارة بها تضييقا على الناس؛ لأنهم يتسامحون فيها، فإن قطعت بارت على الناس، فلم ينتفعوا بها، ولا سومحوا فيها، والمسامحة في البيع والشراء محمودة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله عبدا سمحا إن باع، سمحا إن ابتاع، سمحا إن قضى سمحا، إن اقتضى. . .» ، وقوله: والمرأة تأتي بغزلها يريد أن المرأة قد تأتي بغزلها تبيعه، وتأخذ الدينار الناقص لجوازه بجواز الوازن، أو قرب ما بينهما، فإن غيرت النواقص وقطع التجر بها بار عليها دينارها الناقص الذي أخذته في مغزلها، فأضر ذلك بها، فليس للإمام أن يمنع الناس من أن يتجروا بالناقص، ويأخذوه باختيارهم، ولا له(9/328)
أيضا أن يلزمهم أن يتجروا به، ويأخذوه بغير اختيارهم، وذلك بين في رسم يسلف بعد هذا من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: عجوز أكلت لحم جاريتها]
مسألة وقال مالك في عجوز أكلت لحم جاريتها قيل له: يا أبا عبد الله نيبته؟ قال: لا، ولكن مضغته وأثرت بجلدها - وأشار بيده - أثرا شديدا، فأمرت صاحب السوق أن يبيعها، ولم ير في ذلك عتقا.
قال محمد بن رشد: ولو نيبتها لم تعتق، قال ذلك أشهب وسحنون، ومثله في كتاب ابن المواز أن المثلة إنما تكون فيما لا ينجبر، وأما العضة والتنيب، فليس بمثلة تعتق بها، ولكن يؤدب السيد، وكذلك الحرق بالنار لا يكون مثلة إلا أن يتفاحش منظره، قاله في المدونة، وكذلك حلق رأس الجارية، ولحية الغلام ليس بمثلة، إلا في العبد النبيل التاجر، والأمة الرائعة.
قاله ابن الماجشون، عن مالك في الواضحة، وإن كتب في جبهة عبده بنار أو مداد وإبرة عبد فلان عتق عليه، وقال أشهب: لا يعتق عليه، ولا اختلاف في أنه يعتق عليه إذا قطع جارحة من جوارحه أنملة فما فوقها، إلا الضرس الواحدة والسن الواحدة، فإن أصبغ لم ير ذلك مثلة، وقال: لا يعتق عليه إلا في جل الأسنان وجل الأضراس، وأما بيعها عليه فهو صحيح؛ لأن ما فعلته بها ضرر بين بها، فالواجب أن تخرج عن ملك من أضربها، كما تطلق المرأة على زوجها إذا أضر بها ولم يؤمن على غيبها، وبالله التوفيق.(9/329)
[: ليس للرجل أن يجعل على الرحبة نجافا وبابا ليختص بمنفعتها]
ومن كتاب أوله حديث طلق وسئل مالك عن رجل له داران، وهما في رحبة وأهل الطريق ربما ارتفقوا بذلك الفناء إذا ضاق الطريق على الأحمال وما أشبهها، فدخلوا فيه، فأراد أن يجعل عليه نجافا وبابا حتى تكون الرحبة له فناء، ولم يكن على الرحبة باب، ولا نجاف، قال: ليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه ليس له أن يجعل على الرحبة نجافا وبابا ليختص بمنفعتها، ويقطع ما للناس من الحق في الارتفاق بها؛ لأن الأفنية لا تتحجر، إنما لأربابها الانتفاع بها، وكراؤها فيما لا يضيقها على المارة فيه من الناس، ولا يضر بهم فيه على ما يأتي في رسم تأخير صلاة العشاء بعد هذا، وقد اختلف أن يحجر من الفناء الواسع الشيء اليسير الذي لا يضر تحجيره بمن يمر في الطريق، هل يقر ذلك له أو يهدم عليه على ما يأتي في سماع زونان، وسماع أصبغ بعد هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: بيع العهدة أترى أن يحمل عليها أهل الأمصار]
مسألة وسألته عن بيع العهدة أترى أن يحمل عليها أهل الأمصار؟ فقال: وددت ذلك، ولكنهم لا يعبئون بها، ولقد كان ربيعة يقول: لوددت أن أمير المؤمنين جمع العلماء فاستشارهم في أمر الأحكام حتى يكتب لهم كتابا يجعله في الناس، يحملهم عليه كلهم حتى يكون ذلك أمرا واحدا، وقال مالك في بيع الجواري(9/330)
اللائي يراد بهن الوطء، ينبغي للإمام أن يتقدم إلى الناس في ذلك حتى يحملوا على المواضعة، وذكر ذلك عندما كلمته في بيع أهل منى، وأهل مصر عند الخروج إلى الحج في الغرباء الذين يقدمون فداء أن يحملوا على ذلك على ما أحبوا أو كرهوا.
وروى أشهب عن مالك في كتاب الأقضية الثاني، قال: سألت مالكا عن عهدة السنة والثلاث، أترى أن يحمل أهل الآفاق على ذلك؟ فقال: ما أرى ذلك، وأرى أن يتركوا على حالهم، وليس في مثل هذا شيء، وهذا مثل بيع البراءة عندنا، وهم هاهنا بمكة أقرب إلينا لا يعملون به، وأرى أن يقروا، وذلك مثل بيع البراءة عندنا، قلت له: أرأيت الجواري؟ قال: لا أرى أن يبعن كذلك، وأرى فيهن المواضعة في الحيضة بمنى وغيرها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الأقضية الثاني، من سماع أشهب، من كتاب العيوب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة تسأل زوجها أن تسلم على أخيها أو أبيها فيمنعها من ذلك]
مسألة وسئل مالك عن المرأة تسأل زوجها أن تسلم على أخيها أو أبيها، فيمنعها من ذلك، أترى ذلك له؟ قال: لا، ليس له أن يمنعها من ذلك، ما لم تكن تكثر، وللأمور التي يريد أن يمنعها(9/331)
لها وجوه، وليس كل النساء سواء، فأما المرأة المتجالة، فلا أرى ذلك له، ورب امرأة لا تؤمن في نفسها، فأرى ذلك له، فقيل له: أفتأذن له في ذلك وإن كره؟ قال: نعم، وإن هذا الأمر عندنا كثير يختصمون فيه، ولقد استشرت فيه، فرأيت أن يؤذن لهن إلا أن يكثرن من ذلك، أو يأتي من ذلك أمر لا يؤمن فيه، ولقد جاءني رجل فقال لي عن امرأة كان لها مال، وكانت تعطف به على زوجها، ثم إنها قطعت ذلك عنه، وأراد سفرا، وكانت في دار ليس معها فيها أحد إلا ذو محرم منها، فقال لها عند خروجه، وحرم عليها ألا تخرج من عتبة بيته، فأمرتها أن تخرج إليهم، ورأيت ذلك ضررا من فعله.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه ليس له أن يمنع زوجته من الخروج إلى أبيها وأخيها، وأنه يقضى عليه بذلك، هو مثل ما في رسم الطلاق الثاني، من سماع أشهب، من كتاب الأيمان بالطلاق، خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أنه لا يقضى عليه حتى يمنعها من الخروج إليهم، ويمنعهم من الدخول إليها، فحينئذ يقضى عليه بأحد الوجهين، كما أنه لا يحنث إذا حلف حتى يحلف على الطرفين، فيحنث في أحدهما، وهذا الخلاف عندي إنما هو في الشابة المأمونة، وأما المتجالة فلا اختلاف في أنه يقضى لها بالخروج إلى زيارة أبيها وأخيها، وأما الشابة غير المأمونة في نفسها فلا اختلاف في أنه لا يقضى لها بالخروج إلى ذلك ولا إلى الحج.
وروى ذلك ابن عبد الحكم عن مالك، والشابة محمولة على(9/332)
أنها مأمونة حتى يثبت عليها بأنها غير مأمونة، هذا تحصيل القول في هذه المسألة على ما تدل عليه هذه الرواية وغيرها، ويلزم الرجل أن يأذن لامرأته في أن يدخل عليها ذوات رحمها من النساء، ولا يكون ذلك من الرجال إلا في ذي المحرم منهم خاصة، وقد مضى في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب الصلاة، تحصيل القول في خروج النساء إلى الجنائز والمساجد والعيدين، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: للشرط المتصرفين بين أيدي القضاء في أمور الأحكام رزق من بيت المال]
مسألة قال مالك: كان زياد بن عبيد الله يبعث شرطا في الأمر يكون بين الناس في المناهل، ويجعل لهم في أموالهم؛ فنهيته عن ذلك، وقلت: إنما هذا على السلطان يرزقهم، قيل له: فإن صاحب السوق جعل لمن ولي عليهم شركا معهم فيما اشتروا، فقال: ما أشرت به ولا أمرته بذلك، ثم قال: إن هذه الأمور يخاف فيها ما يخاف، وفسر فيها تفسيرا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن الواجب أن يجعل للشرط المتصرفين بين أيدي القضاء في أمور الأحكام رزقا من بيت المال؛ لأن ذلك من المنافع التي تعم المسلمين، فإن لم يفعل كان جعل الغلام المتصرف بين الخصمين على الطالب في إحضار خصمه المطلوب، إلا أن يلد المطلوب ويختفي ويغيب تعنيتا بالطالب، فيكون الجعل في إحضاره عليه، وأما جعل صاحب السوق لمن ولى على أهل السوق شركا معهم فيما اشتروا فالمكروه فيه بين، وذلك أنه إذا كان له معهم شرك فيما اشتروا سامحهم في الفساد لما له فيه من النصيب، وبالله التوفيق.(9/333)
[: الاشتراء من أهل الذمة وهم يلزمون بالخراج]
ومن كتاب أوله سن رسول الله وسئل مالك عن الاشتراء من أهل الذمة، وهم يلزمون بالخراج، فقال: إني لأكره الاشتراء منهم على هذه الحال، وعلى وجه الضغطة، فأما إذا لم يكن على هذه الحال، فلا أرى به بأسا، وقال ابن القاسم: قال مالك في الذي يضغط في الخراج، فيبيع بعض متاعه على وجه الضغطة. قال ابن القاسم: أرى أن يرد عليه ما باع بغير ثمن يؤخذ منه إذا كان بيعه إياه على عذاب أو ما أشبهه من الشدة؛ لأن أخذه الذهب على تلك الحال ليس بأخذ، ولا أرى لمشتري ذلك أن يستحله، ولا يحبسه.
قال محمد بن رشد: إنما يرد عليهم ما اشترى منهم على وجه الضغطة إذا كان الذي يطلبون به ويضغطون فيه ظلما وتعديا، أو كانوا فقراء لا يلزمهم ما وجب عليهم حتى يوسروا، فيبيع عليهم ما لا يلزم بيعه، كثوب يستتر به وشبهه، فهذا يلزم مشتريه رده؛ لأنه بيع عليه ظلما، فأما أن يباع عليه شيء في حق واجب عليه من جزيته أو من غير جزيته تحت الضغط والإكراه، فلا يرد عليه، وهو سائغ لمن اشتراه منه، وقد كان ينبغي أن يترفق بهم في تقاضي ذلك منهم، وألا يعذبوا، وسبيل المضغوط من المسلمين على بيع متاعه في غير حق سبيل الذمي في رد ماله عليه بغير ثمن، بل هو في المسلم أشد؛ لأن حرمته أعظم، قال ذلك ابن حبيب، وحكاه عن مالك من رواية ابن القاسم عنه، وعن مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ.
وسواء علم المشتري في ذلك أنه مضغوط أو لم يعلم، قال ذلك ابن القاسم، عن مالك في المبسوطة، وسواء وصل الثمن من المبتاع إلى المضغوط، فدفعه المضغوط إلى الظالم، أو جهل هل دفعه إليه أو أدخله في منافعه، أو كان الظالم هو الذي تولى قبضه من المبتاع، للمضغوط في(9/334)
ذلك كله أن يأخذ ماله من المشتري، أو ممن اشتراه من المشتري بغير ثمن، ويرجع المشتري من المشتري من المضغوط على المشتري من المضغوط، والمشتري من المضغوط على الظالم الضاغط، إلا أن يعلم أن البائع أدخل الثمن في منافعه، ولم يدفعه إلى الظالم، فلا يكون له إلى ذلك سبيل حتى يدفع الثمن إلى المشتري.
قال ذلك كله ابن حبيب في الواضحة، وحكاه عن مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ، وذهب سحنون إلى أنه إذا كان المضغوط هو البائع القابض للثمن، فلا سبيل له إلى ما باع إلا بعد غرم الثمن، وحكاه عن مالك، وقال ابن كنانة: بيعه لازم له، غير مفسوخ عنه، وهو أحرى لوجوبه عليه ولزومه إياه؛ لأنه أنقذه مما كان فيه من العذاب والسجن، والذي مضى عليه عمل القضاة أنه من تصرف للسلطان في أخذ المال وإعطائه، أنه إذا أضغط فيه فبيعه جائز، ولا رجوع له فيه، وإن كان ممن لم يتصرف في أخذ المال وإعطائه، فلا يشتري منه إذا أضغطه، فإن اشترى منه، فله القيام، وهو صحيح؛ لأنه إذا ضغط فيما خرج عليه من المال الذي تصرف فيه، أو تبين أنه حصل عنده، فلم يضغط إلا فيما صار عنده من أموال المسلمين، وذلك حق، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا تترك المرأة الشابة تجلس إلى الصناع]
مسألة قال مالك: أرى للإمام أن يتقدم إلى الصناع في قعود النساء إليهم، وأرى ألا تترك المرأة الشابة تجلس إلى الصناع، فأما المرأة المتجالة، والخادم الدون التي لا تتهم على القعود، ولا يتهم من تقعد عنده، فإني لا أرى بذلك بأسا.(9/335)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال من أنه يجب على السلطان تفقد مثل هذا والنظر فيه؛ لأنه مسئول عنه، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والعبد راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته؛ ألا وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» ، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما تركت أضر على الرجال من النساء» ، وقال: «باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء» ، وبالله التوفيق.
[: يكره أن ينقش البسر بالمدية حتى يصير رطبا]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا وسئل مالك وكلم صاحب السوق في رطب يبيعونه مغمقا أن يتقدم إليهم إلا يبيعوه، وأن يضرب الذي استعمله عليهم إن غيب لهم في ذلك، وقد قال أيضا في كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان: وأنا أكره أن ينقش البسر بالمدية حتى يصير رطبا، وإنما كرهه لموضع الفساد للثمرة ورأى ذلك فسادا للثمرة، وقوله ينقش يعجلها عن إبلاغ طيبها من غير رش، وقوله مغمقا يرشونه بالخل، ويغمونه ليسرع طيبه.
قال محمد بن رشد: وقع هذا التفسير في بعض الكتب، وهو صحيح؛ لأن النقش هو أن يؤثر في البشرة أثرا كالجرح، فيسرع إليها الترطيب، والتغمم هو أن يرش البسر بالخل، ثم يغم فيسرع إليه الترطيب، وذلك كله فساد وغش للثمرة في الموضع الذي يرطب فيه البسر إذا(9/336)
ترك، وأما في مثل الأندلس الذي لا يرطب فيه البسر، ويفسد إن ترك فجائز أن يجد بسرا، ويغم بعد الرش بالخل، وأن ينقش؛ لأن ذلك صلاح له، وليس بغش فيه، لاستواء معرفة الناس في ذلك، وهذا نحو ما قال في سماع أشهب، من كتاب جامع البيوع، من أن الموز الذي لا يطيب حتى يقطع جائز أن يباع قبل أن يطيب، وقد مضى القول على ذلك هنالك، فلا معنى لإعادة ذكر ذلك، وبالله التوفيق.
[: الذين يبيعون على أيديهم يشترون الطعام والقطاني من أهل السوق فيبيعون]
ومن كتاب أوله يسلف في المتاع والحيوان وسئل مالك عن أهل السوق الذين يبيعون على أيديهم، يشترون الطعام والقطاني من أهل السوق فيبيعون؛ قال مالك؛ لم يزل ذلك من أمر الناس، ولا أرى به بأسا مثل أهل الحوانيت الذين يبيعون بالفلوس، ويشترون من أهل السواحل، أو أهل الجمل.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز ذلك، ولم ير به بأسا إذا كان ذلك لا يضر بالأسعار على أصل مذهبه في إباحة الاحتكار في الطعام في وقت كثرته، إذا لم يغل ذلك الأسعار على المسلمين، ولا كان فيه ضرر عليهم، وقد مضى هذا المعنى وذكر الاختلاف فيه في آخر رسم شك، فلا معنى لإعادته، والله الموفق.
[مسألة: كراهة تعليم الرجل ابنه كتاب العجم]
مسألة وقال مالك: أكره للرجل المسلم أن يحضر ابنه في كتاب العجم، فيتعلم الوقف كتاب الأعجمية، وأكره للمعلم المسلم أن يعلم أحدا من النصارى الخط أو غيره.(9/337)
قال الإمام القاضي أبو الوليد: الكراهية في هذا كله بينة، أما تعليم الرجل ابنه كتاب العجم، فللاشتغال بما لا منفعة فيه، ولا فائدة له، عما له منفعة وفائدة مع ما فيه من إدخال السرور عليهم بإظهار المنفعة بكتابهم والرغبة في تعليمه، وذلك من توليهم، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] ، وأما تعليم المسلم النصراني، فلما فيه من الذريعة إلى قراءتهم القرآن مع ما هم عليه من التكذيب له والكفر به، وقد قال ابن حبيب في الواضحة: إن ذلك ممن فعله مسقط لإمامته وشهادته، وقد مضى ذلك في سماع أشهب، من كتاب الجعل والإجارة، والله الموفق.
[مسألة: صياح الإمام في الناس بجواز ذهبهم كلها]
مسألة وسئل مالك عن صياح الإمام في الناس بجواز ذهبهم كلها، فقال: ما يعجبني ذلك، وما أرى أن يفعل ذلك بالناس، ولا أحب أن يكره الناس على ذلك، وأرى أن لا يكره الناس إلا بما أحبوا من النقد، فقلت له: يا أبا عبد الله: إن عندنا دنانير دمشقية توضع في عيونها درهم لكل دينار، وذلك أن الصيارفة ردوها ليأخذوا على عيوبها، وهي عندكم جارية، فلا ترى مثل هذا للإمام أن يقصر الناس عليه. قال مالك: لا أرى ذلك يبيع الرجل بأي نقد أحب، ولا يكره أحد على شيء.
قال محمد بن رشد: معنى ما سأله عنه من صياح الإمام في الناس بجواز ذهبهم كلها هو أن يجوزوا فيما بينهم جميع الأذهاب إذا لم تكن مغشوشة، ولا يردوا منها شيئا، وإن اختلفت أعيانها، فكره الصيارفة(9/338)
بعضها، وردوها إذا كان ردهم إياها لغير غش. وقوله في المنع من ذلك صحيح؛ إذ لا يلزم أحدا أن يبيع إلا بما يرضى به من النقد، قال تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وقد مضى هذا المعنى في رسم حلف، وبالله التوفيق.
[مسألة: أيام الحصاد يدخل الناس أطعماتهم بالفسطاط ويخزنونها]
مسألة وسألت مالكا عن أيام الحصاد يدخل الناس أطعماتهم بالفسطاط ويخزنونها، ثم يحتاج إليها بعد ذلك أهل الريف والسواحل، أترى أن يتركوا أن يشتروا من الفسطاط؟ فقال: إن كان عندهم ما يغنيهم، فلا أرى ذلك، وإن لم يكن عندهم ما يغنيهم، واحتاجوا إلى الطعام رأيت أن يشتروا.
قال محمد بن رشد: قوله في أهل الريف والسواحل: إنه إن كان عندهم ما يغنيهم، فلا أرى أن يتركوا أن يشتروا من الفسطاط؛ ظاهره أنه إن كان عندهم ما يغنيهم، فلا يتركوا أن يشتروا للحكرة من الفسطاط، وإن لم يضر ذلك بأهل الفسطاط، ولا غلى عليهم أسعارهم، ومذهبه في المدونة أنهم لا يمنعون أن يحتكروا من الفسطاط إن لم يضر ذلك بهم، ولا غلى عليهم أسعارهم، فعلى ما في المدونة يحتكر أهل الريف والسواحل من الفسطاط، إن لم يضر ذلك بهم، كما يحتكر أهل الفسطاط من الريف والسواحل، وعلى هذه الرواية لا يحتكر أهل السواحل والريف من الفسطاط، ويحتكر أهل الفسطاط من الريف والسواحل.
ووجه ذلك أن الحواضر فيها يوجد الطعام عند الشدائد، فهي غياث للبوادي، وقوله: وإن لم يكن عندهم ما يغنيهم، يريد أهل السواحل والريف واحتاجوا، رأيت أن يشتروا، يريد وإن أضر ذلك بأهل الفسطاط، وأما أهل القرى التي فيها الأسواق فحكمها حكم(9/339)
الفسطاط، وقد نص على ذلك في المدونة، فلا يحتكر هؤلاء من هؤلاء، ولا هؤلاء من هؤلاء، إذا أضر ذلك بهم، وغلى عليهم أسعارهم، ومن احتاج منهم، ولم يكن عنده ما يغنيه؛ كان له أن يشتري ما يحتاج إليه لقوت هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء، وإن أضر ذلك بهم، وغلى عليهم أسعارهم؛ لأن المواساة بين جميع المسلمين واجبة عند الحاجة، وبالله التوفيق.
[مسألة: كنائس الفسطاط المحدثة في خطط الإسلام هل تغير وتهدم]
مسألة وسئل مالك عن الكنائس التي في الفسطاط المحدثة في خطط الإسلام، إن أعطوهم العراض، وأكروها منهم يبنون فيها الكنائس، قال مالك: أرى أن تغير وتهدم، ولا يتركوا ذلك، ولا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه، والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترفعن فيكم يهودية ولا نصرانية» يعني البيع والكنائس، وإنما يكون لأهل الصلح أن يحدثوا الكنائس في قراهم التي صالحوا عليها، وأن يرموا كنائسهم القديمة، إذا كانوا منقطعين عن دار الإسلام وحريمه، ولم يسكن المسلمون معهم في موضعهم، وإن لم يشترطوه. قال ذلك ابن حبيب في الواضحة، وحكاه عن مطرف، وابن الماجشون، وما إذا كانت قراهم في بلاد الإسلام، فليس ذلك لهم، إلا أن يكون لهم أمر أعطوه، قاله مالك في المدونة، واختلف في أهل العنوة، فقال ابن القاسم: ليس ذلك(9/340)
لهم، وقال غيره: ذلك لهم، والقولان في الجعل والإجارة من المدونة، وبالله التوفيق.
[: المدني يقدم بتجارة لمصرأيقوم معه المصري في بيعها]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة الإمام في الحرس وسئل مالك عن الرجل من أهل المدينة يقدم بتجارة إلى مصر، أيقوم معه المصري في بيعها؟ قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيع حاضر لباد» قيل: أفترى مصريا باديا؟ قال: وكذلك المدني يقدم مصر، فيقوم معه في بيع سلعته، فلا أرى أن يقوم مصري مع مدني، ولا مدني مع مصري يبيع له، ولا يشير عليه، قيل له: أويبتاع له؟ قال: إني لأخفف أن يبتاع له، ولا أحب أن يبيع له، قال ابن القاسم: وقد قال لي مالك قبل ذلك: إنما أكره من المدنيين والمصريين غير أهل المدائن، فأما من كان منهم من القرى الذين يشبهون أهل البادية، فأولئك عندي مثل أهل البادية، ولا أرى أن يباع لهم، فأما في أهل المدائن، ويبيع بعضهم لبعض، فأرجو أن يكون ذلك خفيفا، وهو أحب قوله إلي. قال ابن القاسم: ومن كان من أهل البادية أو القرى الذين يشبهون أهل البادية، فلا يباع لهم، ولا يشار عليهم، ولا بأس أن يشترى لهم.(9/341)
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في أول رسم من كتاب حلف ليرفعن رجلا، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: كراء الأفنية التي في طريق المسلمين]
مسألة وسئل مالك عن الأفنية التي تكون في الطرق يكريها أهلها، أترى ذلك لهم، وهي طريق للمسلمين؟ فقال: أما كل فناء ضيق إذا وضع فيه شيء أضر ذلك بالمسلمين في طريقهم، فلا أرى أن يمكن أحد من الانتفاع به وأن يمنعوا، وأما كل فناء إن انتفع به أهله لم يضيق على المسلمين في ممرهم شيئا لسعته، لم أر بذلك بأسا. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» فإذا وضع في طريق المسلمين ما يضيق به عليهم، فقد أضر بهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن لأهل الأفنية أن يكروها ممن يضع فيها ما لا يضيق به الطريق على المارة فيه؛ لأنه إذا كان لهم أن ينتفعوا بها على هذه الصفة، وكانوا أحق بذلك من غيرهم، كان لهم أن يكروها؛ لأن ما كان للرجل أن ينتفع به كان له أن يكريه، وهذا ما لا أعلم فيه اختلافا، وإنما الذي لا يباح لصاحب الفناء أن يقتطعه ويدخله في داره، فإن فعل وكان ذلك يضر بالطريق هدم عليه، وأعيد إلى حاله، واختلف إن كان لا يضر، فقيل: إنه يهدم عليه أيضا، وهو قول أشهب وابن(9/342)
وهب في سماع زونان، وقيل: إنه لا يهدم عليه، وهو قول أصبغ وروايته عن أشهب في رسم الأقضية والحبس، من سماع أصبغ، وقد مضى ذكر هذا في رسم طلق قبل هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: النصراني يستكتب أي يُتخذ كاتبا]
مسألة وسئل عن النصراني يستكتب، فقال: لا أرى ذلك، إن الكاتب يستشار، فيستشار النصراني في أمور المسلمين وغير ذلك، فما يعجبني أن يستكتب.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، ومثله في الأقضية من المدونة، ولا ينبغي أيضا أن يستكتب القاضي من المسلمين إلا العدول المرضيين، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يقضي الرجل ذهبا في المسجد]
مسألة وسئل عن الرجل يقضي الرجل ذهبا في المسجد، فقال: لا أرى به بأسا، وأما ما كان على وجه التجارة والصرف، فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما مضى في رسم شك في طوافه، في كتاب ذكر الحق في المسجد، والمعنى فيه بين، على ما ذكرته هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: النظر في النجوم وعلم الحساب]
مسألة وسئل عن الرجل ينظر في النجوم فيقول: الشمس تكسف(9/343)
غدا، والرجل يقدم غدا، أو ما أشبه هذا. قال: أرى أن يزجر عن ذلك، فإن لم يفعل أدب في ذلك، ثم قال: وإني لأرى هؤلاء المعالجين الذين يعالجون المجانين، ويزعمون أنهم إنما يعالجون بالقرآن، وقد كذبوا ليس كما قالوا، ولو كانوا يعلمون ذلك لعلمته الأنبياء، قد صنع لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سم، فلم يعرفه حتى أخبرته الشاة، وإني لا أرى هذا ينظر في الغيب، وإنها عندي لمن حبائل الشيطان.
قال محمد بن رشد: ليس قول الرجل الشمس تكسف غدا، أو القمر ليلة كذا، من جهة النظر في النجوم وعلم الحساب بمنزلة قوله من هذا الوجه فلان يقدم غدا في جميع الوجوه؛ لأن الشمس والقمر مسخران لله تعالى في السماء، يجريان في أفلاكهما من برج إلى برج على ترتيب وقدر وحساب لا يتعديانه، قال الله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] ، وقال: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] ، وقال: {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] ؛ فالقمر سريع الذهاب يقطع جميع برج السماء في شهر واحد، ولا تقطعها الشمس إلا في اثني عشر شهرا، فهو يدرك الشمس في آخر كل شهر، ويصير بإزائها من البرج الذي هي فيه، ثم يخلفها، فإذا بعد عنها استهل، وكلما زاد بعده منها زاد ضوؤه، إلى أن ينتهي(9/344)
في البعد ليلة أربعة عشر، فتكمل استدارته وضوؤه لمقابلته الشمس، ثم يأخذ في القرب منها، فلا يزال ضوؤه ينقص إلى أن يدرك الشمس فيصير بإزائها على ما أحكمه خالق الليل والنهار، لا إله إلا هو.
فإذا قدر الله تعالى على ما أحكمه من أمره وقدره من منازله في مسيره أن يكون بإزاء الشمس في النهار فيما بين الأبصار وبين الشمس ستر جرمه عنا ضوء الشمس كله إن كان مقابله، أو بعضه إن كان منحرفا عنها، فكان ذلك هو الكسوف للشمس، آية من آيات الله تعالى، يخوف الله بها عباده، كما قال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] ، ولذلك أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالدعاء عند ذلك، وسن له صلاة الكسوف، فليس في معرفة وقت الكسوف بما ذكرناه من جهة النجوم وطريق الحساب ادعاء علم غيب، ولا ضلالة وكفر على وجه من الوجوه، ولكنه يكره الاشتغال به؛ لأنه مما لا يعني، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وفي الإنذار به قبل أن يكون ضرر في الدين؛ لأن من سمعه من الجهال يظن أن ذلك من علم الغيب، وأن المنجمين يدركون علم الغيب من ناحية النظر في النجوم، فوجب أن يزجر عن ذلك قائله، ويؤدب عليه كما قال؛ لأن ذلك من حبائل الشيطان.
وأما قوله: فلان يقدم غدا، فهو من التخرص في علم الغيب والقضاء بالنجوم، وقد اختلف في المنجم يقضي بتنجيمه، فيقول: إنه يعلم متى يقدم فلان، ووقت نزول المطر، وما في الأرحام، وما يستتر الناس به من الأخبار، وما يحدث من الفتن والأهوال، وما أشبه ذلك من المغيبات، فقيل: إن ذلك كفر يجب به القتل دون استتابة؛ لقول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} [الفرقان: 50](9/345)
ولقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: قال تعالى: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» . وقيل: إنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
روي ذلك عن أشهب، وقيل: إنه يزجر عن ذلك ويؤدب عنه، وهو قوله في هذه الرواية، والذي أقول به: إن هذا ليس باختلاف قول في موضع واحد، وإنما هو اختلاف في الأحكام بحسب اختلاف الأحوال، فإذا كان المنجم يزعم أن النجوم واختلافها في الطلوع والغروب هي الفاعلة لذلك كله، وكان مستسرا بذلك، فحضرته البينة قتل بلا استتابة، فهو كافر زنديق، وإن كان معلنا بذلك غير مستتر به يظهره ويحاج عليه استتيب، فإن تاب وإلا قتل كالمرتد سواء، وإن كان مؤمنا بالله تعالى مقرا بأن النجوم واختلافها في الطلوع والغروب لا تأثير لها في شيء مما يحدث في العالم، وأن الله تعالى هو الفاعل لذلك كله، إلا أنه جعلها أدلة ما يفعله، فهذا يزجر عن اعتقاده ويؤدب عليه أبدا حتى يكف عنه ويرجع عن اعتقاده ويتوب عنه؛ لأن ذلك بدعة يجرج بها، فتسقط إمامته وشهادته على ما قاله سحنون في نوازله، من كتاب الشهادات، ولا يحل لمسلم أن يصدقه في شيء مما يقول، وأنى يصح أن يجتمع في قلب مسلم تصديقه مع قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: 65] ، وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26](9/346)
{إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] ، وروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من صدق كاهنا أو عرافا أو منجما، فقد كفر بما أنزل على قلب محمد» ، ويمكن أن يصادف في بعض الجمل وذلك من حبائل الشيطان، فلا ينبغي أن يغتر أحد بذلك، ويجعله دليلا على صدقه فيما يقول، كما لا ينبغي أن يصدق المعالجون الذين يعالجون المجانين فيما يزعمون من أنهم يعالجون بالقرآن، فلا يعلم الأمور الغائبة على وجهها وتفاصيلها إلا علام الغيوب، أو من أطلعه عليها علام الغيوب؛ ليكون ذلك دليلا على صحة نبوته، قال عز وجل في كتابه حاكيا عن عيسى ابن مريم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49] .
فادعاء معرفة ذلك، والإخبار به على الوجه الذي تعرفه الأنبياء، وتخبر به تكذيب لدلالتهم، وفي دون هذا كفاية لمن شرح الله صدره وهداه، ولم يرد إضلاله وإغواءه، والذي ينبغي أن يعتقد فيما يخبرون من الجمل، فيصيبون مثل ما روي عن هرقل أنه أخبر أنه نظر في النجوم، فرأى ملك الختان قد ظهر إن ذلك إنما هو على معنى التجربة التي قد تصدق في الغالب، من نحو قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة» ، وبالله التوفيق.(9/347)
[: الطبيب يسقي النصراني أو المسلم الدواء فيموت منه]
ومن كتاب أوله كتاب عليه رجل ذكر حق وسئل مالك عن طبيب عالج رجلا فأتى على يديه فيه، قال: إن كان الطبيب ليس له علم، ووجد بينة أنه دخل في ذلك ظلما وجرأة، وأنه ليس ممن يعمل مثل هذا، وليست له به معرفة، فأرى أن يستأذن عليه، وإني لأحب للإمام أن يتقدم إلى هؤلاء الأطباء في قطع العروق وما أشبهه، ألا يقدم أحد منهم على عمله إلا بإذنه، فإني لا أزال أسمع بطبيب قد عالج رجلا فقطع عرقه أو صنع به شيئا، فأعنته فمات منه، ثم قال: أتى على يدي، ولم أره يجعل على الذي عرف بالعلاج فيعالج بما يعرف شيئا، ولكنه يستحب أن ينهى عن الأشياء التي فيها هلاك الناس إلا بإذن الإمام. قال عيسى: غر من نفسه أو لم يغر ذلك خطأ، وديته على عاقلته.
قال محمد بن رشد: تحصيل القول في هذه المسألة أن الطبيب إذا عالج الرجل فسقاه، فمات من سقيه، أو كواه فمات من كيه، أو قطع منه شيئا فمات من قطعه، أو الحجام إذا ختن الصبي فمات من ذلك، أو قلع ضرس الرجل فمات من ذلك، فلا ضمان على واحد منهما في ماله ولا على عاقلته إذا لم يخطئا في فعلهما، إلا أن يكون قد تقدم السلطان إلى الأطباء والحجامين ألا يقدموا على شيء مما فيه غرر إلا بإذنه، ففعلوا ذلك بغير إذنه، فأتى على أيديهم فيه بموت أو ذهاب حاسة أو عضو، فيكون عليهم الضمان في أموالهم، هذا ظاهر ما في رسم العقول بعد هذا في سماع أشهب.
وقال ابن دحون: إن ذلك يكون على العاقلة إلا(9/348)
فيما دون الثلث، وذلك خلاف الرواية المذكورة، وأما إذا أخطأ في فعلهما مثل أن يسقي الطبيب المريض ما لا يوافق مرضه، فيموت من ذلك، أو تزل يد الخاتن أو القاطع فيتجاوز في القطع، أو يد الكاوي فيتجاوز في الكي، أو يكون ما لا يوافقه الكي فيموت منه، أو يقلع الحجام غير الضرس التي أمر بها، وما أشبه ذلك، فإن كان من أهل المعرفة، ولم يغر مع نفسه فذلك خطأ يكون على العاقلة، إلا أن يكون أقل من الثلث فيكون ذلك في ماله، وأما إن كان لا يحسن وغر من نفسه، فعليه العقوبة من الإمام بالضرب والسجن، واختلف في الدية، فقيل: إنها تكون عليه في ماله، ولا يكون على العاقلة من ذلك شيء، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية، وقيل: إن كان ذلك خطأ يكون على العاقلة، إلا أن يكون أقل من الثلث، فيكون ذلك في ماله، وأما إن كان لا يحسن وغر من نفسه، فعليه العقوبة من الإمام بالضرب والسجن.
واختلف في الدية، فقيل: إنها تكون عليه في ماله، ولا يكون على العاقلة من ذلك شيء، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية، وقيل: إن كان ذلك خطأ يكون على العاقلة، إلا أن يكون أقل من الثلث، فيكون في ماله، وهو قول عيسى بن دينار هاهنا، وظاهر رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الديات؛ لأنه قال في الطبيب يسقي النصراني أو المسلم الدواء فيموت منه: إنه لا شيء عليه إلا أن يعلم أنه أراد قتله؛ لأن تأويل ذلك أن الدية على عاقلته مثل قول عيسى هاهنا، وظاهر رواية أصبغ عن ابن القاسم، والكفارة تابعة للدية، حيث ما لزمت الدية العاقلة؛ لكون القتل خطأ محضا أو في المال؛ لما فيه من شبهة العمد لزمت الكفارة، وحيث ما لم تلزم الدية لم تلزم الكفارة إلا استحسانا، حسبما قاله مالك في رسم البز، من سماع ابن القاسم، من كتاب الديات في الصبي تسقيه أمه الدواء، فيشربه فيموت.
وإذا تقدم السلطان إلى الأطباء ألا يداوي أحدهم ما يخاف منه، وفيه غرر إلا بإذنه، فوجه العمل في ذلك إذا استؤذن أن يجمع أهل تلك الصناعة، فإن رأوا أن يداوى العليل بذلك الدواء المخوف داواه به؛ لم يكن عليه شيء، ولا على عاقلته إن مات منه، وإن رأوا ألا يجبر عليه بذلك الدواء المخوف نهاه عن سقيه إياه، فإن تعدى ضمن في ماله، وقيل على العاقلة، وبالله التوفيق.(9/349)
[: التناجش أن يكون الرجل يعطي الرجل السوم وهو ليس من حاجته]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية وقال مالك: التناجش أن يكون الرجل يعطي الرجل السوم، وهو ليس من حاجته؛ لأن يقتدي به أحد من أهل الاشتراء، فيغتر به؛ فهذا التناجش.
قال محمد بن رشد: فإن فعل ذلك أحد ليس من قبل البائع، ولا كان له فيه سبب؛ لزم المشتري البيع، ولم يكن له فيه خيار، وباء الناجش بالإثم في ذلك، وأما إن كان البائع دس الناجش ليزيد في سلعته، أو كان من سببه مثل عبده أو أجيره أو شريكه، أو ما أشبه هؤلاء ممن هو من ناحيته، فالمشتري بالخيار في رد السلعة إن كانت قائمة أو التمسك بها بالثمن الذي اشتراها به، وإن فاتت في يديه ردت إلى القيمة إن كانت القيمة أقل من الثمن الذي اشتراها به، قال ذلك ابن حبيب في الواضحة، وهو صحيح على أصولهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: تفسير لا يبع حاضر لباد]
مسألة وقال مالك في تفسير «لا يبع حاضر لباد» : أهل البادية وأهل القرى، وأما أهل المدائن من أهل الريف؛ فإنه ليس بالبيع لهم بأس ممن يرى أنه يعرف السوم، إلا من كان منهم يشبه البادية، فإني لا أرى لأحد أن يبيع لهم.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والاختلاف فيها في رسم، أو له تأخير صلاة العشاء في الحرس، ومضى تحصيله في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.(9/350)
[: بيع المدر الذي يأكله الناس]
ومن كتاب البز وسئل مالك عن بيع المدر الذي يأكله الناس، فقال: ما يعجبني ذلك أن يباع ما يضر بالناس، فإنه ينبغي للإمام أن ينهى الناس عما يضرهم في دينهم ودنياهم، ثم قال يقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] أفالطين من الطيبات؟ إني لأرى لصاحب السوق أن يمنعهم من بيعه وينهى عنه.
قال الإمام القاضي أبو الوليد: هذا كما قال: إنه إذا كان الناس يأكلونه، وهو مضر بهم، فلا ينبغي أن يباع، ويجب على الإمام أن ينهى عن ذلك، وهذا إذا لم يكن له وجه إلا الأكل؛ لأنه إذا لم يكن له وجه إلا الأكل، وكان يضر الآكلين له بكل حال، فهو كالسم الذي قد أجمع الناس على تحريم بيعه، وقال سحنون في كتاب الشرح: لا يحل بيعه، ولا ملكه.
وأما إن كانت به منفعة لغير الأكل، فلا ينبغي أن يمنع بيعه جملة، وإنما ينبغي أن يباع ممن يصرفه في غير الأكل، ويؤمن أن يبيعه ممن يأكله. وقد قال ابن المواز: أكره أكله، فأما بيعه فلا أدري، قد يشترى لغير وجه. وقال ابن الماجشون: أكله حرام، وفي احتجاج مالك بالآية التي احتج بها على أنه لا يستباح إلا ما أحل الله نحو قول ابن الماجشون. وروى عنه ابن القاسم في الجامع قال: كل أمر أحله الله فاتبعوه، ونهي نهى الله عنه فاجتنبوه، وعفو عفا الله عنه فدعوه، وقد قيل: إن المسكوت عنه مباح، وإلى هذا ذهب أبو الفرج.
وجه القول الأول من طريق النظر أنه قد ثبت أن الأشياء ملك لمالك، والأصل أنه لا يستباح ملك أحد إلا بإذنه، ووجه القول الثاني: أن خلق الله تعالى له دليل على الإباحة؛ إذ لا يجوز أن يخلقه عبثا لغير وجه منفعة، وبالله التوفيق.(9/351)
[: إذا غلا الطعام واحتيج إليه وبالبلد طعام يأمر الإمام أهله فيخرجوه للسوق]
ومن كتاب أوله باع غلاما بعشرين دينارا قال مالك: إذا غلا الطعام، واحتيج إليه، وكان بالبلد طعام، فلا أرى بأسا أن يأمر الإمام أهله فيخرجوه إلى السوق، فيباع إذا احتاج الناس إليه، وإنما يكون ذلك عند حاجة الناس، وليس في كل زمان.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله في كتاب ابن المواز، وهو أمر لا أعلم فيه خلافا؛ لأن هذا وشبهه مما يجب الحكم فيه للعامة على الخاصة؛ إذ لا يصح أن يترك الناس يجوعون، وفي البلد طعام عند من لا يريده إلا للبيع، ومما يشبه هذا من منفعة العامة قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يبع حاضر لباد» ، «ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق» ، فلما رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك يصلح للعامة أمر فيه بذلك، ولما حكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة للشريك على المشتري، ووجب أن يؤخذ منه الشقص الذي اشترى بالثمن شاء أو أبى لمنفعة الشريك بذلك، وإزاحة ضرر الشركة عنه، كان أحق أن يؤخذ الطعام من الذي هو عنده بالثمن لمنفعة عامة الناس بذلك، وإزاحة الضرر عنهم، ولا ضرر في ذلك على البائع؛ إذ لم يؤخذ منه إلا بالثمن الذي يسوى في السوق، وبالله التوفيق.
[مسألة: يمنع من السوق كل من لا يبصر البيع من المسلمين]
مسألة قال مالك: كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الأجناد: إن(9/352)
الله قد أغنى بالمسلمين، فلا تجعلوا النصراني في أعمالكم، يريد ألا يكونوا جزارين ولا صرافين مع المسلمين؛ لأن الله قد أغنى بالإسلام وكثروا. وفي أهل الإسلام ما جزأ من تباعاتهم. قال سحنون: ويمنع من السوق كل من لا يبصر البيع من المسلمين.
قال محمد بن رشد: هذا من معنى ما تقدم في المسألة التي قبلها في الحكم على الخاصة بما فيه منفعة للعامة، وإزاحة الضرر عنهم؛ لأنه إذا كان يجب النظر لهم على الخاصة في أمور الدنيا كان في أمر الدين أولى؛ لأن النصارى يستحلون الربا والجهال يقعون فيه؛ إذ لا يمكنهم التوقي منه بجهلهم، وذلك يضر بعامة الناس، فوجب أن يحكم لهم بذلك عليهم، ولهذا المعنى يجب إخراج من تعود الغش من المسلمين، ولم يردعه الأدب عنه من السوق، وقد مضى هذا المعنى في رسم حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها، وبالله التوفيق.
[: الأمة إذا استباعت من ساداتها]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك عن الأمة إذا استباعت من ساداتها، قال: ينظر في ذلك، فإن كان ضررا بيعت، وإن كان ليس بضرر ما هي فيه لم تبع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ إذ ليس في مقدار الضرر الذي يجب به أن تباع على ساداتها حد إلا الاجتهاد، وقد مضى هذا المعنى في رسم شك، ورسم حلف ليرفعن أمرا ويأتي أيضا في سماع أصبغ، وبالله التوفيق.(9/353)
[: حكم قتل الكلاب]
ومن كتاب أوله مساجد القبائل وسئل مالك عن قتل الكلاب أترى أن تقتل؟ قال: نعم، أرى أن يقتل ما يؤذي منها في المواضع التي لا ينبغي أن يكون فيها. قلت له: في مثل قيروان الفسطاط، قال: نعم، أرى أن يؤمر بقتل ما يؤذي منها. وأما كلاب الماشية فلا أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قتل الكلاب إلى ما رواه في موطئه عن نافع بن عبد الله بن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتل الكلاب» ، ومعنى ذلك عنده وعند سواه ممن أخذ بالحديث في الكلاب المنهي عن اتخاذها، وقد جاء ذلك مفسرا في الأحاديث، فلا اختلاف في أنه لا يجوز قتل كلب الماشية، والصيد والزرع.
ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا يقتل من الكلاب إلا الكلب الأسود البهيم؛ لما روي عن عبد الله بن عقل قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها؛ فاقتلوا منها الأسود» وقال: من ذهب إلى هذا المذهب: الأسود البهيم من الكلاب أكثر أذى وأبعدها من تعلم ما ينفع. وروى أيضا أنه شيطان، أي بعيد من الخير والمنافع، قريب من الضرر والأذى، وهذا شأن الشياطين من الجن والإنس، وقد كره الحسن وإبراهيم صيد الكلب الأسود، وقال طائفة: إنه يقطع الصلاة، وذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يقتل من الكلاب أسود ولا غيره، إلا أن يكون عقورا(9/354)
مؤذيا، وقالوا: الأمر بقتل الكلاب منسوخ، بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا» فعم ولم يخص كلبا من غيره، واحتجوا بالحديث الصحيح في الكلب الذي كان يلهث عطشا، فسقاه الرجل فشكر الله له وغفر له، وقال: «في كل ذي كبد رطب أجر» قالوا: فإذا كان الأجر في الإحسان، فالوزر في الإساءة إليه، ولا إساءة إليه أعظم من قتله. قالوا: وليس في قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الكلب البهيم شيطان» ما يدل على قتله؛ لأن شياطين الإنس والجن كثير، ولا يجب قتلهم، وقد رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يتبع حمامة فقال: «شيطان يتبع شيطانة» ، وما ذهب إليه مالك أولى، فإن الأمر بقتلها قد جاء عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعبد الله بن عمر، وبالله التوفيق.
[: السوق إذا أفسده أهله حطوا سعره أترى لمن وليه أن يسعره]
ومن كتاب أوله نذر سنة بصومها وسئل مالك عن السوق إذا أفسده أهله حطوا سعره، أترى لمن وليه أن يسعره، ويخيرهم أن يبيعوا أو يقوموا، أو لا يلزم من ذلك؟ فكره التسعير، ولم يره، وأنكره.
قال محمد بن رشد: معنى قوله: حطوا سعره؛ أي حطوا من(9/355)
المثمون لا من الثمن؛ لأن إفساد السوق لا يكون إلا بذلك، لا بالحط من الثمن، وقد مضى القول على ذلك في أول مسألة من السماع، ومضى في الرسم الذي بعده التكلم على حكم التسعير، وما يجوز منه مما لا يجوز، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[: ما يعصر النصارى من الخمر فيتخلل أيوكل]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل مالك عما يعصر النصارى من الخمر فيتخلل أيوكل؟ قال: نعم. قيل له: أفبلغك أن عمر بن عبد العزيز كتب في كسر معاصير الخمر؟ قال: نعم. قيل: معاصير المسلمين وأهل الذمة. قال: لا أرى ذلك إلا في التي للمسلمين.
قال محمد بن رشد: قوله: إن ما تخلل من خمر النصارى يؤكل صحيح بين لا إشكال فيه؛ إذ لا اختلاف في أن الخمر إذا تخللت تؤكل، فسواء كانت لمسلم أو نصراني، إلا ما ذهب إليه ابن لبابة من أن الخمر مختلف في نجاستها، وأنها لا تؤكل إذا تخللت إلا على القول بأنها طاهرة لا تنجس ما وقعت فيه من ماء أو طعام، وهو غلط ظاهر، وقوله: في المعاصر التي كتب عمر بن عبد العزيز أن تكسر لا أراها إلا في التي للمسلمين صحيح؛ لأن معاصير أهل الذمة لا يجب كسرها عليهم؛ لأنهم إنما بذلوا الجزية على أن يقروا في ذمتهم على ما يجوز لهم في دينهم، فلا يمنعوا من عصر الخمر إذا لم يظهروها في جماعة المسلمين، وقد مضى هذا في رسم الشجرة، وبالله التوفيق.(9/356)
[: شراء الثمار في الحوائط وبيعها في المدينة]
ومن سماع أشهب وابن نافع عن مالك من كتاب الأقضية مسألة في شراء الثمار في الحوائط، وبيعها في المدينة، قال أشهب وابن نافع: قيل لمالك سئل الأمير عن منع هؤلاء الذين يشترون الثمار في الحوائط، ثم يدخلون بها المدينة يبيعونها على أيديهم، فأشار عليه بعضهم بمنعهم من ذلك، وأشار عليه بعضهم ألا يفعل، فقال مالك: بأي ذلك أخذ؟ فقال: بمنعهم، فقال مالك: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تلقي السلع حتى يهبط بها الأسواق» ، فمن التلقي أن يذهب هؤلاء إلى أهل الحوائط، فيشترون منهم، ثم يأتون به هاهنا فهذا منه، «ونهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيع حاضر لباد» ؛ فمنه أن يذهب هذا الحاضر إلى هذا البادي، فيشتري منه، ثم يأتي فيبيع، أرى أن يمنعوا من ذلك، قيل له: أفترى من التلقي أن يخرج أهل المدينة إلى أهل الحوائط فيشترون منهم؟ قال: ما أشبههم به، قال أشهب: لا بأس به، وليس هذا بتلق، ولكنه اشترى من موضعه، وإنما التلقي أن يتلقى الجلاب قبل أن يهبط بذلك الأسواق كائنا ذلك الجلب ما كان، طعاما أو حيوانا أو غير ذلك من الأشياء كلها.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم شك في طوافه، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(9/357)
[مسألة: حكم شراء الخصيان]
مسألة وسئل مالك عن شراء الخصيان، فقال: أما الرجل يشتري لنفسه الخصي والاثنين، فلا أرى بذلك بأسا، وأما أن ينفق لهم فلا أحبه، قد رغب فيهم الملوك، وأكثر الناس منهم. قيل لمالك: أفتكره أن يقف الرجل المسلم على الرومي، فيقول: أخص هذا؟ فقال: وما بأس هذا؟ قيل: إنهم يقولون: إذا قلت هذا ذهبوا بهم فخصوهم، قال: هم أعلم بهذا منك.
قال محمد بن رشد: قوله أن ينفق لهم معناه يشتريهم للتجارة، ويتخذهم متجرا، وهذا مثل ما في سماع أشهب، من كتاب جامع البيوع. قوله فيه ترك التجارة في الخصيان أحب إلي. وأما تحريمه فلا، قيل له: لأن شراءهم قوة على خصائهم، قال: نعم، وذلك بين على ما قاله، ولم ير شراء الرجل الواحد والاثنين مما ينفقهم، ويكون قوة على خصائهم، أي سببا للإكثار من ذلك؛ لأنه قد علم أنه لا يشتريهم ويتخذهم إلا القليل من الناس، فإذا كان القليل من الناس لا يشتري منهم إلا الواحد والاثنين لم يكن ذلك تنفيقا لهم، وقد كان لمالك خصي، ولعمر بن عبد العزيز، وبالله التوفيق.
[مسألة: خلط الناس اللبن بالماء لاستخراج زبدة]
مسألة وسئل عما يخلط الناس اللبن بالماء لاستخراج زبدة ما ترى به بأسا؟ قال: لا بأس بذلك، وذلك يصنع عندنا، وأما الذي أكره من ذلك الذي يخلط به الماء بعد ذلك، فأما هذا الذي يصلح به، فلا بأس به.(9/358)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن خلط الماء باللبن لاستخراج زبدة، وبالعصير ليتعجل تخليله لا بأس بذلك؛ لأنه إنما يفعل للإصلاح لا للغش والإفساد، وكذلك التبن يجعل تحت القمح عندما يخزن على ما مضى في رسم حلف، من سماع ابن القاسم، ولما صحت عند سحنون علة مالك في جواز خلط الماء باللبن، لاستخرج زبدة، قاس عليها خلط الماء بالعصير لاستعجال تخليلة، فإنما قاس على علته لا على مجرد قوله دون الاعتبار بعلته، فقوله قياسا على قول مالك معناه قياسا علة قول مالك، وقد وقع ذلك لمالك نصا في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب جامع البيوع، وهو دليل على صحة قياس قول سحنون، وبالله التوفيق.
[: إفراغ صاحب السوق اللبن الممزوج بماء وإنهابه متاع أهل السوق إذا خالفوه]
ومن كتاب الأقضية الثاني وسألته عن إفراغ صاحب السوق اللبن إذا مزج بماء، وإنها به متاع أهل السوق إذا خالفوا ما أمرهم به، فقال: لا يحل ولا ينبغي أن ينتهب مال أحد، ولا يحل ذلك في الإسلام، ولا يحل ذنب من الذنوب مال الإنسان ما يحل ماله، وإن قتل نفسا، وأرى أن يضرب من أنهب، ومن انتهب. قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى والقول فيه في رسم شك في طوافه، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(9/359)
[: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل مالك فقيل له: إن أمورا تكون عندنا علانية من حمل المسلم الخمر علانية، ومشيه مع المرأة الشابة في الطريق يحادثها، فإذا كلم فيها قال: هي مولاتي، أليس يجب أن يتقدم في مثل هذا، ويمنع منه؟ فقال: وددت أن يعض الناس يقوم في مثل هذا ويمنع منه، وإني لأحب ذلك وأراه. قيل له: أرأيت إن كان بعض من يريد القيام في مثل هذا لا يقوى عليه إلا بسلطان، فأتى سلطانا فأنهى ذلك إليه وأخبره بعظيمه، فقال له السلطان: ما أجد لهذا أحد أثق به فدونك، فقبل ذلك منه على أنه لا يجلس في موضع معروف، ولا ينظر في حد، ولا يوقع حدا، ولكن أمر ونهي؛ أتحب له أن يدخل في ذلك بأمر السلطان؟ فقال: إن قوي على ذلك، وأصاب العمل فما أحس ذلك فليفعل.
قال محمد بن رشد: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم بثلاثة شروط؛ أحدها: أن يكون عالما بالمعروف والمنكر؛ لأنه إن لم يكن عارفا بهما لم يصح له أمر ولا نهي؛ إذ لا يأمن أن ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر. والثاني: أن يأمن من أن يؤدي إنكاره المنكر إلى منكر أكبر منه، مثل أن ينهى عن شرب خمر فيئول نهيه عن ذلك إلى قتل نفس وما أشبه ذلك؛ لأنه إن لم يأمن ذلك لم يجز له أمر ولا نهي.
والثالث: أن يعلم أو يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له، وأن أمره بالمعروف مؤثر ونافع؛ لأنه إن لم يعلم ذلك، ولا غلب على ظنه لم يجب عليه أمر ولا نهي، فالشرطان الأول والثاني مشترطان في الجواز، والشرط الثالث مشترط في الوجوب، فإذا عدم الشرط الأول والثاني لم يجز(9/360)
أن يأمر ولا ينهى، وإذا عدم الشرط الثالث ووجد الشرطان الأول والثاني جاز له أن يأمر وينهى، ولم يجب ذلك عليه، والدليل على وجوب ذلك بالشرائط المذكورة قول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] ، وقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] ، وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليصرفن الله قلوب بعضكم على بعض، ويلعنكم كما لعن بني إسرائيل، كان إذا عمل العامل منهم بالخطيئة نهاه الناهي تغريرا، فإذا كان من الغد جالسه وآكله وشاربه، وكأنه لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله ذلك صرف قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى صلى الله عليهما {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78] » وحمل الرجل الخمر علانية ومشيه مع المرأة الشابة يحادثها وما أشبه ذلك من المناكر الظاهرة، لا يقدر عنى تغييرها جملة إلا السلطان، فواجب عليه أن ينكرها ويغيرها جهده، بأن يولي من يجعل إليه تفقد ذلك والقيام به، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا العقوبة كلهم» . ويستحب لمن دعاه الإمام إلى ذلك أن يجيبه إليه إذا علم أن فيه قوة عليه كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لما في ذلك من التعاون على فعل الخير، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2](9/361)
ومن لم يدع إلى ذلك، فيجب عليه أن ينكر من ذلك ما أطلع عليه مما مر به واعترضه في طريقه على الشرائط الثلاث.
وأما الانتداب إلى ذلك، والقيام بتفقده وتغيره، فلا يجب على أحد في خاصة نفسه سوى الإمام، وإنما يستحب ذلك له إذا قوي عليه، وهو قول مالك في هذه الرواية، وددت أن بعض الناس يقوم في مثل هذا ويمنع منه، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] معناه في الزمان الذي لا ينتفع فيه بالأمر بالمعروف ولا بالنهي عن المنكر، ولا يقوى من ينكره على القيام بالواجب في ذلك، فيسقط عنه الفرض فيه، ويرجع أمره إلى خاصة نفسه، ولا يكون عليه سوى الإنكار بقلبه، ولا يضره مع ذلك من ضل، يبين هذا ما روي عن أنس بن مالك قال: «قيل: يا رسول الله، متى نترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟ قال: إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، قيل: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهر الادهان في خياركم، والفاحشة في شراركم، وتحول الملك في صغاركم، والفقه في أراذلكم» .
والذي كان ظهر في بني إسرائيل هو ما تقدم في الحديث الذي قبل هذا، ويريد بالملك السلطان الذي إليه إقامة أمر الإسلام من إقامة الجمعة والجماعات، وجهاد العدو، وسائر ذلك مما يرجع أمر الشرع إلى الإمام، فليزم العامة الاقتداء به، وما روى عن أبي أمية قال: «سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت: كيف نصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فقال(9/362)
لي: أما والله، لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرا لا يدلك به، فعليك بنفسك، وإياك أمر العوام، إن من ورائكم أيام الصبر فيهن صبر على مثل قبض على الجمر، للعامل يومئذ منهم كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله» ، وما أشبه زماننا بهذا الزمان، تغمدنا الله بعفو منه وغفران، فإذا كان الزمان زمانا يوجد على الحق فيه معين لله، فلا يسع أحدا السكوت على المناكر وترك تغييرها، قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب» ، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا يتجر هؤلاء ولا يبيعون في سوقنا ينقصون المكيال والميزان]
مسألة قال مالك: وحدثني العلاء بن عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب قال: لا يتجر هؤلاء، ولا يبيعون في سوقنا ينقصون المكيال والميزان.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذا المعنى في رسم حلف ليبيعن رجلا سلعة سماها، ورسم باع غلاما من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، والله الموفق.(9/363)
[: الذي يكون منزله على طريق الجلاب يشتري منهم]
ومن كتاب مسائل البيوع قال: وسألته عن الذي يكون منزله على طريق الجلاب يشتري منهم، قال: لا يعجبني أن يشتري منهم إلا الضحايا، وما يريد أن يأكل، فأما أن يشتري ما يريد بيعه، فلا أرى ذلك، وذلك من التلقي. قلت له: أفرأيت الذي يخرج من المدينة، فيتلقى السلع فيشتري، ثم يقدم بها المدينة فيبيع أو يمسك؟ قال: لا خير فيه باع أو أمسك، إنما يجوز ذلك للذي يكون على طريقها منزله يشتري لغير البيع لنفسه، وإنما كره التلقي في أن يذهب الرجل من البلد قد عرف أسعارها فيشتري، ثم يقدم فيبيع على معرفة. وسألته عن تلقي السلع في داخل المدينة بأفواه الطرق، فقال: إن ذلك ليفعل بالمدينة يتلقون بأفواه الطرق، فلا أرى أن يصلح ذلك، وأرى أن يمنعوا منه حتى يهبط بها إلى السوق، وبعض من يحدث يقول في حديثه: حتى يهبط بها الأسواق: فلا أرى ذلك حتى يهبط بها إلى السوق فينالها الضعيف والقوي.
قال محمد بن رشد: أجاز للذي يكون منزله على طريق الجلاب وبينه، يريد أو بين المدينة والحاضرة. الأميال أن يشتري منهم ما يحتاج إليه ليأكله أو يضحي به؛ لما عليه من المشقة في النهوض إلى الحاضرة، ولم يجز لمن كان في الحاضرة أن يشتري ما مر به من ذلك؛ إذ لا مئونة عليه في النهوض إلى السوق لقربه منه، وكذلك لا يجوز له أن يتلقى شيئا منها بالمدينة بأفواه الطرق؛ لأن ذلك بمنزلة أن يخرج من الحاضرة إلى الطرق، فيشتري ما يأتي من الجلائب وهو التلقي المنهي عنه في الحديث.
وأما ما يريد به التجارة، فلا يشتريه بالطريق، وإن مر به(9/364)
في منزله بقريته، وبينه وبين الحاضرة التي توجه بالمتاع نحوها الأميال. قال ابن حبيب في الواضحة أو الأيام، وقد مضى بيان هذا، والقول فيه في رسم حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها، من كتاب الضحايا، وسيأتي في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى بعد هذا، من هذا الكتاب القول في الحكم في ذلك إذا وقع، وبالله التوفيق.
[: من يلقى الجزر أتحب أن يشتري من لحمها]
ومن كتاب البيوع الأول قال: وسألته عمن يلقى الجزر؛ أتحب أن يشتري من لحمها؟ قال: لا أحب أن يشتري من لحمها.
قال محمد بن رشد: إنما كره الشراء من لحمها مراعاة لقول من يرى أن البيع فاسد يجب فسخه، وأن البيع الفاسد كلا بيع، ولا ينتقل به ملك البائع، وتكون المصيبة منه إن تلف عند المشتري ببينة هو قول شاذ، إلا أنه موجود في المذهب، رواه أبو زيد عن ابن القاسم في كتاب جامع البيوع، ويقوم أيضا من سماع يحيى، من كتاب الجعل والإجارة، فيكون على هذا القول من اشترى منه كأنه اشترى لحم شاة مغصوبة، والقياس أن الشراء من لحمها جائز على المشهور في المذهب من أنها تعرض على أهل الأسواق؛ إذ قد فات ذلك فيها بالذبح، وعلى القول أيضا بأنه بيع فاسد لمطابقته للنهي؛ إذ قد فات بالذبح أيضا، ووجب أن يمضي بالثمن، أو ترد إلى القيمة، فإنما اشترى من لحم شاة قد صح ملكه لها، ودخلت في ضمانه، ولم يكن في عينها حق لبائعها، ولا لأهل السوق، وبالله التوفيق.
[مسألة: التجارة في عظام على قدر الشبر]
مسألة وسئل مالك عن التجارة في عظام على قدر الشبر يجعل لها(9/365)
وجوه، فقال الذي يشتريها ما يصنع بها؟ فقيل: يبيعها. فقيل: ما يصنع بها؟ قيل: يلعب بها الجواري يتخذنها بناتا. قال: لا خير في الصور، ولا هذا من تجارة الناس.
قال محمد بن رشد: قوله: لا خير في الصور، وليس هذا من تجارة الناس يدل على أنه كره ذلك ولم يحرمه؛ لأن ما هو حرام لا يحل، فلا يعبر عنه بأنه لا خير فيه؛ لأن ما لا خير فيه فتركه خير من فعله، وهذا هو حد المكروه؛ لأن المكروه ما في تركه ثواب، وليس في فعله عقاب، فهو لا خير فيه، ومعنى ذلك إذا لم تكن صورا مصورة مخلوقة مخروطة مجسدة على صورة الإنسان، وإنما كانت عظاما غير مخلوقة على صورة الإنسان، إلا أنه عمل فيها شبه الوجوه بالتزويق، فأشبه الرقم في الثوب، وإلى هذا نحا أصبغ في سماعه، من كتاب الجامع، فقال: ما أرى بأسا ما لم تكن تماثيل مصورة مخلوقة مخروطة، إلا أنه علل ذلك بعلة فيها نظر، قال: لأنها تبقى، قال: ولو كانت فخارا أو عيدانا تنكسر وتبلى رجوت أن تكون خفيفة إن شاء الله، كمثل رقوم الثياب بالصور لا بأس بها؛ لأنها تبلى وتمتهن، والصواب ألا فرق في ذلك بين ما يبقى أو ما يبلى، فلا يبقى مما هو تمثال فجسد، له ظل قائم مشبه بالحيوان الحي؛ لكونه على هيئته، وإنما استخفت الرقوم في الثياب من أجل أنها ليست بتماثيل مجسدة، لها ظل قائم تشبه الحيوان في أنها مجسدة على هيئتها، وإنما هي رسوم لا أجساد لها ولا تحيا في العادة ما كان على هيأتها، فالمحظور ما كان على هيئة ما يحيا ويكون له روح بدليل قوله في الحديث: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون، ويقال لهم يوم القيامة: أحيوا ما خلقتم» .
والمستخف ما كان(9/366)
بخلاف ذلك مما لا يحيا في العادة ما كان على هيئته، فالمستخف من هذه اللعب المصورة للعب الجواري؛ لما جاء من «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت تلعب بها بعلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا ينكر ذلك عليها» ، بل كان ينتدب الجواري إليها، ما كان مشبها بالصورة، وليس بكامل التصوير، وكلما قل الشبه قوي الجواز، وكلما جاز اللعب به جاز عمله وبيعه، قال ذلك أصبغ في سماعه من الجامع، وبالله التوفيق.
[مسألة: التسعير على أهل السوق]
مسألة وسأله صاحب سوق المدينة عنه إن جاء إلى أهل السوق فقال: ليس بأيديكم شيء تعتلون به علينا. اشتروا على ثلث رطل يسعره عليكم من الضأن، وعلى نصف رطل يسعره عليكم من الإبل، وإلا فأخرجوه من سوقنا، ولا تشتروا شيئا. فقال: والله ما كنت أرى بهذا بأسا إذا سعر عليهم شيئا يكون قدر لحمهم واشترائهم، ولم يشتط عليهم، وعلى قدر ما يقوم لهم، لا أرى بهذا بأسا، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى، في رسم سلعة سماهما من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: التسعير على أصحاب السفن]
مسألة وقيل لمالك: إن صاحب الجار أراد أن يسعر على أصحاب(9/367)
السفن، فذهبوا إلى جدة، فقال: بيس ما صنع صاحب الجار إن كان فعل.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أنه لا يسعر على الجلاب، وقد مضى ذلك في رسم سلعة سماها، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: الذي يسقيه الطبيب فيموت]
ومن كتاب العقول قال: وسألته على الذي يسقيه الطبيب فيموت، وقد سقى أمة بالمدينة، فماتت من ساعتها، أعليه غرم؟ فقال: ما أرى عليه غرما، ولكن لو تقدم إليهم الآن في ذلك ضمنوا؛ لكان نعم الشيء، يقال لهم: أيما طبيب سقى إنسانا أو بطة فمات فعليه الضمان، وأرى أن يفعل ذلك بهم، ويتقدم إليهم ألا يداوي أحد لا يعلم، يعمد أحدهم إلى الصحيح الذي ليس به بأس فيسقيه شيئا فيقتله، قال مالك: قال لي ربيعة غير مرة ولا مرتين: ولا تشرب من دواء هؤلاء الأطباء إلا شيئا تعرفه. قال مالك: وإني بذلك لمستوص. قال مالك: وإني لأرى للإمام أن لو نهى هؤلاء الأطباء عن الدواء إلا طبيبا معروفا، وأرى أن يقول لهم: من داوى إنسانا فمات فعليه ديته، وأرى ذلك عليهم إذا أنذر مثل أن يسقي إنسانا صحيحا فيموت مكانه فهذا سم، فأرى إذا تقدم إليهم أن يغرموا، ومثل الذي يقطع عرقا، فلا يزال يسيل دمه حتى يموت، فأما الذي يداوي المريض؛ فمنهم من يموت، ومنهم من(9/368)
يعيش فليس ذلك هذا، وهذا سقى جارحة بها بهق، فماتت من ساعتها، فهل هذا إلا سم؟
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في رسم كتب عليه ذكر حق، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يشتري المتاع فيه الخلل فيستأجر عليه فيكمدونه حتى ينسد الخلل ثم يبيعونه]
ومن كتاب البيوع الأول قال أشهب وابن نافع سئل مالك عن الذي يشتري المتاع فيه الخلل والسقط، فيستأجر عليه كما دين فيكمدونه حتى يصفق، فينسد كل خلل أو سقط، ثم يبيعونها أترى بذلك بأسا؟ قال: لا خير في الغش، وأنا أكره مثل هذا.
قيل له: أفرأيت الرجل يأتي بطعامه التمر وما أشبهه فيصبره صبرا، فيكون حشفة، داخله وظاهره، فيجمع ما على وجه الصبرة فيلقيه ناحية، لا يدخله في جوف الصبرة؟ قال: لا يفعل مثل هذا. هذا التزيين ولا يعجبني ذلك، قلت: أرأيت الذي يصب صبرته فيها الحشف فيكون في داخلها وعلى وجهها؟ قال: لا بأس بذلك إذا لم يزين أعلاها، فيكون داخلها مخالفا لخارجها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن كمد المتاع ليصفق وينسد ما فيه من سقط وخلل من الغش الذي لا ينبغي، فيكون للمشتري أن يرد إن لم يعلم أن الكمد يصفقه ويسد خلله وسقطه ما كان المتاع قائما، فإن فات رد إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن على ما مضى في رسم سلعة سماها في مسألة خمر القز ترش بماء الخبز لتشتد وتصفق، وكذلك تنقية ظاهر الصبرة من الحشف؛ لأن المشتري يظن أن باطنها في(9/369)
النقاء من الحشف مثل ظاهرها، وأما إذا لم ينق أعلى الصبرة من الحشف، فلا كلام للمشتري؛ لأنه يستدل بظاهرها على باطنها، وبالله التوفيق.
[: القضاة يتخذون رجلا لقياس جراحات الناس]
ومن كتاب أوله القراض وسأل ابن كنانة مالكا لابن غانم، فقال: إن القضاة كانوا قبلي يتخذون رجلا لقياس جراحات الناس، فما رفع إليهم قبلوه منه، أترى أن يجزي في ذلك رجل واحد، أم لا يجزي فيه إلا رجلان؟ فقال: اكتب إليه إن وجد رجلين فيجعلهما، ويقبل ذلك منهما، وإن لم يجد إلا رجلا واحدا، فأرى ذلك مجزئا عنه إذا كان عدلا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة في استخلاف المرأة، ومثل ما مضى في رسم الأقضية لابن غانم، من سماع أشهب، من كتاب الأقضية في الترجمان، ومثل ما في سماع أصبغ من كتاب الحدود في الاستنكاه، وهو مما لا اختلاف فيه، إن كان ما يبتدئ القاضي فيه بالسؤال، ولم يكن على وجه الشهادة، فيكتفي فيه بالواحد، والاثنان أولى وأحسن، وبالله التوفيق.
[: حكم حلاق الصبيان قصة وقفاء]
ومن كتاب الجامع وسئل مالك عن حلاق الصبيان قصة وقفاء، فقال: ما يعجبني، قلت له: من الجواري والغلمان. فقال: ما يعجبني من الجواري ولا من الغلمان إن كانوا يريدون أن يدعوا شعره كله فليدعوه، وإن كانوا يريدون أن يحلقوه فيحلقوه كله، وقد كاتبت(9/370)
في ذلك بعض الأمراء، وأمرته أن ينهى عن القصة، فسئل عن القصة وحدها بلا قفاء، فقال مثل قوله في القصة والقفاء.
قال محمد بن رشد: حلاق الصبي قصة وقفاء، هو أن يحلق وسط رأسه، ويبقى مقدمه مقصوصا على وجهه، ومؤخره مسدولا على قفاه، وحلاقة قصة بلا قفاء، هو أن يحلق وسط رأسه إلى قفاه، ويبقى مقدمه مقصوصا على وجهه، وذلك كله مكروه للصبيان كما قال، لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى عن القزع» ، وهو حلق بعض الرأس دون بعض، فعم ولم يخص صغيرا من كبير، ولم يكره مالك القصة للصغيرة إذا لم يحلق بعض رأسها على ظاهر هذه الرواية كما كرهه للكبيرة، ففي كتاب جامع المسائل والحديث لأصبغ قال: سمعت ابن القاسم يقول: كره مالك القصة لشعر المرأة كراهية شديدة. قال: وكان فرق الرأس أحب إلى مالك فيما أظن.
قال محمد بن رشد: وإنما كره ذلك لها، والله أعلم؛ لما جاء من أن أهل الكتاب كانوا يسدلون شعورهم، وكان المشركون يفرقون، «وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه، فسدل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناصيته ثم فرق بعد» ، "وروى عيسى، عن ابن القاسم، عن مالك قال: رأيت عامر بن عبد الله بن الزبير، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهشام بن عروة، يفرقون شعورهم، وكان لهشام جمة إلى كتفيه ".
وروي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسا يجزون كل من لم يفرق شعره، وقد روي: «أن شعر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان دون الجمة وفوق الوفرة» ، وروي: "أنه «كان إلى شحمة(9/371)
أذنه» . وروي: «أنه كان بين أذنه وعاتقه» ، وروي: «أنه كان يضرب منكبيه» ، وهذا يدل على أن اتخاذ الشعر أحسن من جزه وإحفائه، وذهب الطحاوي إلى أن جزه وإحفاءه أحسن من اتخاذه واستعماله، واحتج بما روي من «أن أبا وائل بن حجر "أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد جز شعره، فقال له: هذا أحسن» . قال: لأن ما قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه أحسن، فلا شيء أحسن منه، ومعقول أن قد صار إليه، وترك ما كان عليه قبل ذلك؛ إذ هو أولى بالمحاسن كلها من جميع الناس، وهذا في الرجال، وأما في المرأة فلا اختلاف في أن جز شعرها مثلة، وفي كتاب المدينين سئل ابن نافع هل كره للمسلمة أن تفرق قصتها كما يصنع نساء أهل الكتاب؟ قال: لا، وبالله التوفيق.
[مسألة: إحفاء الشوارب]
مسألة وسئل مالك عمن أحفى شاربه، فقال: يوجع ضربا، وليس هذا حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإحفاء، وكان يقال: يبدو حرف الشفتين الإطار. وقال: لم يحلق شاربه. هذه بدع تظهر في الناس، وذكر زيد بن أسلم أن عمر كان إذا أكربه أمر نفخ يقول: أواه أواه، قال: فجعل رجل يراده وهو يفتل شاربه بيده، قال: فلو كان شاربه منموصا ما وجد ما يفتل. هذه بدع قد ظهرت في الناس.
قال محمد بن رشد: إنما سئل مالك عمن أحفى شاربه لما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإعفاء اللحاء، وإحفاء الشوارب» ، والإحفاء الاستئصال بالحلق. وجمله جماعة من العلماء على ظاهره وعمومه، منهم أبو حنيفة(9/372)
والشافعي وأصحابهما. فقالوا: إحفاء الشوارب أفضل من قصها، وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل، فكان يحفي شاربه إحفاء شديدا. ويقول: السنة فيه أن يحفي كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحفوا الشوارب» ، وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن السنة فيه أن يقص ويؤخذ منه حتى يبدو طرف الشفة: الإطار، ولا يستأصل جميعه بالحلق؛ لأنه روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من لم يأخذ شاربه فليس منا» ، وأنه قال: «خمس من الفطرة؛ فذكر منها قص الشارب» ، فجعل ذلك من قوله مبينا لأمره بإحفاء الشوارب، فقال: معناه أن يقص حتى يحفي منه الإطار لا جميعه. وقوله صحيح؛ لأن استعمال الأحاديث وحمل بعضها على التفسير لبعض أولى من الأخذ ببعضها، والاطراح لسائرها، لا سيما وفي العمل المتصل من السلف بالمدينة بترك إحفاء الشوارب دليل واضح على أنهم فهموا عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه إنما أراد بإحفاء الشوارب قصها، والأخذ منها، وألا تعفى كما يفعل باللحاء، وهو دليل واضح، لذلك قال: إن حلق الشارب مثلة، وحكم له بأنه بدعة، ورأى أن يؤدب من فعل ذلك لما فيه من تقصير السلف المتقدم في مخالفتهم ظاهر الحديث والجهل به، وهم ما جهلوه ولا خالفوه، لكنهم تأولوه على ما تأوله عليه مالك، والله أعلم.
ولا يصح أن يكون المتأخر أعلم بمراد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من السلف المتقدم، وقد قال بعض المتأخرين: إن الشارب لا يقع إلا على ما يباشر به شرب الماء، وهو الإطار، فذلك الذي يحفى، والصحيح أن الشارب ما عليه الشعر من الشفة العليا، إلا أن المراد بإحفائها إحفاء بعضها، وهو الإطار منها لا إحفاء جميعها، بدليل الحديثين الآخرين، وقد روي عن ابن القاسم أنه كان يكره أن يؤخذ من أعلاه،(9/373)
ويقول تفسير حديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في إحفاء الشارب إنما هو الإطار، والأظهر أن ذلك ليس بمكروه، وأنه مستحسن، فيقص جميع الشارب؛ لما جاء في الحديث من أن قصه من السنة، ويحفى الإطار منه؛ لما جاء في الحديث من الأمر بإحفاء الشوارب.
[: حكم بيع وتداول المصحف بقراءة ابن مسعود]
من سماع عيسى بن دينار من كتاب نقدها نقدها قال: وسمعته يقول في المصحف بقراءة ابن مسعود التي تذكر عنه، قال: أرى أن يمنع الإمام من بيعه ويضرب من قرأ به يمنعهم أن يقرءوا به ويظهروه.
قال محمد بن رشد: إنما قال ذلك لأنها قراءة لم تثبت؛ إذ إنما نقلت نقل آحاد، ونقل الآحاد غير مقطوع به، والقرآن إنما يؤخذ بالنقل المقطوع به، وهو النقل الذي تنقله الكافة عن الكافة بما لم يقطع عليه أنه قرآن؛ لمخالفته مصحف عثمان المجتمع عليه، لا تباح قراءته على أنه قرآن؛ إذ حكمه حكم ما يروى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من الأحاديث والأخبار، فلا تجوز الصلاة به، وكذلك قال في المدونة أن من صلى خلف من يقرأ بقراءة ابن مسعود أعاد في الوقت وبعده، وإن علم وهو في الصلاة قطع وخرج، فوجب على الإمام من أجل هذا أن يمنع منه ويضرب عليه، ولا يثبت قراءة سوى ما ثبت بين اللوحين في مصحف عثمان، وقد قيل في القراءة التي تنسب إلى ابن مسعود: إنها قراءة كان يقرؤها على وجه التفسير لأصحابه، لا على أنها قرآن، فإن كان كذلك، فالمعنى في المنع من قراءة المصحف المكتوب على هذا، وبيعه بين لا يخفى، وبالله التوفيق.(9/374)
[: منع النصارى واليهود من الوصايا في أموالهم]
ومن كتاب أوله العرية قال عيسى: وقال ابن القاسم: لا أرى لحكم المسلمين أن يمنع النصارى واليهود من الوصايا في أموالهم، وإن أحاطت الوصايا بأموالهم ويتركون على شرائعهم، وإن تحاكموا إلى المسلمين، ورضي الخصمان وقساوستهم حكم بينهم بحكم الإسلام، ولم يجز وصاياهم إلا في الثلث، وكذلك مواريثهم، وكذلك كل شيء رضي به النصارى فيما بينهم بحكم الإسلام، فلا يكون ذلك، ولا يحكم بينهم إلا برضا من أساقفتهم، فإن كره أساقفتهم ذلك، فلا يحكم المسلمون بينهم، وإن رضي أساقفتهم بحكم الإسلام، وأبى ذلك الخصمان أو أحدهما لم يحكم المسلمون عليهم، وسئل عنها سحنون، وقيل له: النصراني أله أن يوصي بجميع ماله؟ فقال: ذلك يختلف، أما إذا كان من أهل العنوة، فليس ذلك له؛ لأن ورثته المسلمون إذا مات، فليس له أن يفر بميراثه وماله؛ لأنه من أهل العنوة، ومن كان أيضا من أهل الصلح ممن عليه الجزية على جمجمته، وكل واحد إنما عليه شيء يؤديه عن نفسه ليس يؤخذ غنيهم بمعدمهم، فإن ذلك أيضا ليس له أن يوصي بجميع ماله، وليس له أن يوصي إلا بثلثه إذا كان لا وارث له من أهل دينه؛ لأن ورثته المسلمون، وأما إذا كان من أهل الصلح صالحوا على أن عليهم وظيفة معلومة من الخراج، ليس ينقصون منه أبدا لموت من مات منهم، أو عدم من أعدم منهم، وبعضهم مأخوذ ببعض، فليس يعرض لهم في وصاياهم، وليس لنا أموالهم إن مات منهم أحد ولا وراث له، وكان لأهل خراجه يتقوون به في خراجهم؛ لأنهم هم المأخوذون بخراجه، وبعضهم قوة لبعض في الخراج.(9/375)
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: إنه لا يمنع النصارى ولا اليهود من الوصايا في أموالهم، وإن أحاطت بجميع أموالهم، معناه إذا كان لهم ورثة من أهل دينهم، وهو صحيح؛ إذ لا اختلاف في أن ميراثهم لورثتهم من أهل دينهم، فلا ضرر على المسلمين فيما يوصون به من أموالهم، وسواء كانوا من أهل الصلح أو من أهل العنوة على مذهب ابن القاسم، فهو نص قوله في سماع يحيى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، ومن كتاب الاستلحاق أنهم في مواريثهم، وأهل الصلح سواء، وهو على قياس رواية عيسى عنه في كتاب التجارة إلى أرض الحرب أن لهم حكم الأحرار في دية من قتل منهم، وفي تزويج نسائهم والنظر إلى شعورهن، ويأتي على قياس ما في سماع سحنون من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، من أنهم في حكم العبيد المأذون لهم في التجارة أن يكون ميراثهم للمسلمين، وإن كان لهم ورثة من أهل دينهم، وألا يجوز لهم وصية بثلث ولا غيره، وهو ظاهر قول سحنون؛ لأنه لم يقصد إلى التكلم على الوصية بجميع المال، فيكون في قوله دليل على إجازة الوصية بالثلث، وقد يتأول قوله على أنه لا وارث لهم من أهل دينهم، فلا يكون قوله خلافا لقول ابن القاسم.
وقوله: وإن تحاكموا إلى المسلمين، ورضي الخصمان وقساوستهم حكم بينهم بحكم الإسلام، ولم تجز وصاياهم إلا في الثلث، معناه إن شاء أن يحكم بينهم؛ إذ لا يلزمه ذلك على مذهب مالك؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] وإنما يخالف في هذا بعض أهل العراق، وقد مضى هذا في نوازل سحنون من كتاب الأقضية، ومضى تحصيل القول فيه في رسم لم يدرك، من سماع عيسى، من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، وشرط ابن القاسم رضا قساوستهم مع رضاهم يحمل على التفسير لما في المدونة، خلاف قول سحنون في نوازله من كتاب الأقضية: إنه لا يلتفت في ذلك إلى رضا أساقفتهم إذا رضوا هم بأن يحكم(9/376)
بينهم حكم المسلمين، وإذا لم يكن لليهودي أو النصراني ورثة من أهل دينه، فليس له أن يوصي بأكثر من ثلثه؛ لأن ورثته المسلمون. وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب الوصايا، قال: إذا أوصى النصراني بجميع ماله في الكنيسية ولا وارث له، قال: يدفع ثلثه إلى أساقفتهم، فيجعله حيث أوصى به، ويكون ثلثاه للمسلمين، وهذا إذا كان من أهل العنوة، أو من أهل الصلح والجزية على جماجمهم، وأما إن كان من أهل الصلح والجزية مجملة عليهم لا ينقصون عنها لموت من مات منهم، ولا لعدم من أعدم، فيجوز له أن يوصي بجميع ماله لمن شاء؛ لأن ميراثه لأهل دينه على مذهب ابن القاسم، وهو قول سحنون خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أن ميراثه للمسلمين إذا لم يكن له وارث من أهل دينه على كل حال، وبالله التوفيق.
[: الرجل يتلقى السلعة فيشتريها]
ومن كتاب أوله يوصى لمكاتبه وسئل عن الرجل يتلقى السلعة فيشتريها، قال ابن القاسم: إذا أدركت في يده، وكانت من السلع التي ليس لها أهل راتبون في السوق، فيشترونها في حوانيتهم ويبيعونها من الناس، وإنما جل أمرها وشأنها إنما يبيعها جالبها من الناس كافة، فإنها تؤخذ من يده، وتوقف للناس في السوق ليشتروها بما اشتراها به، لا يزيدونه شيئا، فإن لم يجدوا من يشتريها إلا بأنقص من ذلك الثمن ردت عليه، وإن كانت من السلع التي لها أهل راتبون في السوق يشترونها ممن يجلبها ويبيعونها من الناس، فإنها تؤخذ منه، ويشرك فيها أهل تلك السلعة الذين يشترونها من أهلها ويبيعونها(9/377)
من الناس إن أحبوها، وإن أبوها بالثمن ردت عليه. قلت: فإن فاتت بيده؟ قال: إن كان متعودا لذلك أدب وزجر، وإن كان ليس متعودا نهي وأمر ألا يعود. قلت: أفلا ترى أن يتصدق بربح إن كان فيها؟ قال: ما أراه بالحرام البين، ولو احتاط فتصدق به لم أر به بأسا. قال سحنون سألت ابن القاسم عن الذي يتلقى الركبان فيشتري منهم، قال: أرى أن تعرض السلعة على أهل الأسواق بالثمن الذي اشتراها به، فإن أخذوها به، وإلا ردوها عليه، ولم أردها على بائعها، وأود به ضربا وجيعا إلا أن يعد بالجهالة، وقال لي غير ابن القاسم يفسخ البيع في هذا، وفي بيع الحاضر للبادي، وفي الذي يسوم على سوم أخيه، وفي هذه الأشياء كلها، وترد السلع على أربابها.
قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عمن تلقى سلعة أو باع لباد، فقال: أما الذي تلقى فأرى أن تعرض في السوق لمن احتاج من أهل تلك السلعة أو غيرها ممن يشتري، فتباع لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تلقي السلع، وأما من باع لباد، فأرى أن يفسخ البيع؛ لأن المشتري ابتاع حراما، قد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه، وسئل عن البيع للبدوي هل يختلف عندك إن كان حاضرا معه أو غائبا؟ قال: البيع له مكروه، حضر البادي أو غاب عنه.
روى أصبغ عن ابن القاسم في كتاب البيوع والعيوب، قيل لابن القاسم: أترى أهل نبا، وأبو صير من أهل البوادي؟ قال: لا؛ لأنهما أهل مدائن، إنما يراد بها أهل القرى، يريد به الحديث الذي جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يبع حاضر لباد» . ونبا وأبو صير كورتان من كور أهل مصر.
قال عيسى: وقال ابن القاسم: إذا باع الحاضر للبادي فسخ البيع إن(9/378)
أدرك. قلت: فإن فات، قال: إن كان رجلا متعودا بذلك أدب وزجر، وإن كان على غير ذلك نهي عن ذلك، ولم يكن عليه شيء، وسئل عنها سحنون فقال: سألت عنها ابن القاسم، فقال: إذا باع حاضر لباد، فأرى أن يمضي البيع، وأن يؤدب أهله، قال زونان: وسئل ابن وهب عن الحاضر يبيع للبادي عالما بمكروهه، أو غير عالم، هل ترى للسلطان أن يؤدبه؟ فقال: لا يؤدب، ولكن يزجر عن ذلك.
قال الإمام القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فرق ابن القاسم في رواية عيسى وأصبغ عنه بين شراء المتلقي وبيع الحاضر للبادي، فأجاز شراء المتلقي، ولم يفسخه، إلا أنه رأى أن تعرض السلعة على أهل تلك التجارة بالثمن الذي اشتراها به إذا أدركت في يده، أو على جميع الناس بالسوق، إن لم يكن لها أهل.
وقوله: إن أدركت بيده معناه إذا أدركت بيده قائمة إن لم يكن لها أهل، واختلف بماذا تفوت في ذلك، فقيل: إنها تفوت فيه بما يفوت به البيع الفاسد، وقيل: إنها لا تفوت إلا بالعيوب المفسدة، ولم يجز بيع الحاضر للبادي، فقال: إنه يفسخ ما لم يفت، يريد ما يفوت به البيع الفاسد، وساوى في رواية سحنون عنه بين البيعتين أنهما لا يفسخان إذا وقعتا؛ إذ لا غرر فيهما، ولا فساد في ثمن ولا مثمون، إلا أنه رأى في شراء المتلقي أن تعرض السلعة على أهل الأسواق بالثمن الذي اشتراها به، ويلزم على قياس ذلك في بيع الحاضر للبادي، أن يكون للمشتري الرد إن شاء، إذا لم يعلم أن حاضرا باع له، وقال: ظننته باديا أشتري منه رخيصا، ولم ير ذلك له في ظاهر قوله، وذلك تعارض بين الوجهين، وساوى غير ابن القاسم بينهما في أنهما يفسخان، قال: وكذلك الذي يسوم على سوم أخيه، وهو قول مالك في رواية ابن نافع وأشهب عنه، فقول ابن القاسم في سماع سحنون عنه على القول بأن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه، وقول غيره ومالك في رواية أشهب، وابن نافع عنه على القول بأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، فقد قيل: إنه يقتضيه من جهة وضع اللغة؛ لأن(9/379)
النهي ضد الأمر، فلما كان الأمر يدل على الجواز والصحة، وجب أن يدل النهي على عدمهما ووجوب ضدهما، وهو البطلان والفساد، وقيل: إنما يقتضيه بدليل الشرع، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عمل عملا ليس على أمرنا فهو رد» . فوجب أن يرد كل بيع نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما لم تقترن به قرينة تدل على جوازه، وأما تفرقة ابن القاسم في رواية عيسى عنه، فلا يحملها القياس؛ لأنه جعل النهي مقتضيا للفساد في بيع الحاضر للبادي، ولم يجعله مقتضيا له في البيع من التلقي، فهي استحسان، ووجهها أن النهي عن أن يبيع حاضر لباد متناول للبيع نصا، والنهي عن تلقي الركبان لا يتناول البيع نصا، وإنما يتناوله بالمعنى، ولا يقوى المعنى قوة النص، مع أنه قد اختلف في فساد البيع بمجرد النص، وكذلك قول من قال: إن البيوع المطابقة للنهي دون أن يخل فيها شرط من شروط صحتها تفسخ ما لم تفت، فإن فاتت مضت بالثمن هو استحسان على غير قياس.
وتحصيل الاختلاف في هذا النوع من البيوع أن نقول فيها ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن البيع يفسخ فيها كلها. والثاني: أنه لا يفسخ في شيء منها. والثالث: أنه يفسخ فيما تناول النهي فيه منها البيع نصا، ولا يفسخ فيما تناوله منها بالمعنى.
واختلف على القول بأنه يفسخ إلى أي حد يفسخ؟ فقيل: إنه إنما يفسخ ما كان قائما، فإن فات بما يفوت به البيع الفاسد مضى بالثمن، وقيل: إنه يفسخ في القيام، ويرد إلى القيمة في الفوات، واختلف على القول بأنه لا يفسخ، هل يكون فيه حق لمن كان النهي بسببه أم لا؟ كالنهي عن تلقي الركبان، وعن أن يبيع حاضر لباد؛ لأن المعنى في النهي عن ذلك إنما هو الرفق على أهل الحاضرة عند مالك وجميع أصحابه. فقيل: إن له في ذلك حقا، وتعرض السلعة في التلقي على أهل الحاضرة في السوق بالثمن، فإن قبلوها وإلا ردت عليه،(9/380)
للحق الذي لهم في ذلك، ويكون المشتري في بيع الحاضر للبادي بالخيار بين أخذها وردها، إن لم يعلم أن حاضرا باعها منه للحق الذي له في ذلك أيضا. وقيل: إنه لا حق له في ذلك، فلا تعرض السلعة في التلقي على أهل السوق، ولا يكون للمشتري من البادي إذا باع منه حاضر، ولم يعلم خيار في ردها.
وقد حكى ابن حبيب أن بيع الحاضر للبادي يفسخ؛ لأن عقده وقع بما نهى عنه رسول الله إلا أن يشاء المشتري أن يتمسك، قال: وهو قول مالك، وقوله بعيد خارج عن الأصول؛ لأن العقد إذا كان فاسدا بالنهي، فلا يجوز للمشتري التمسك به، وإنما الكلام إذا لم يكن فاسدا بالنهي على القول بأن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه، فقيل: إنه يلزم المشتري ولا خيار له، وقيل: إنه يكون بالخيار إذا لم يعلم أن حاضرا باع منه على ما ذكرناه.
وقد ذهب بعض الشيوخ إلى أن يجعل قول ابن حبيب مفسرا لرواية أصبغ وعيسى عن ابن القاسم في هذا الرسم، وذلك غير صحيح؛ لأنه قد نص فيها أنه بيع حرام؛ لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عنه، فكيف يصح أن يقال في البيع الحرام: إن المشتري فيه بالخيار، فرواية سحنون عن ابن القاسم مخالفة لرواية عيسى وأصبغ عنه في ثلاثة مواضع؛ أحدها: أن بيع الحاضر للبادي لا يفسخ. والثاني: إيجاب الأدب فيه، وفي بيع التلقي إذا لم يعذر بجهل؛ لأن ابن القاسم في رواية عيسى وأصبغ عنه لا يرى في ذلك الأدب، إلا أن يكون معتادا بذلك، وهو قول ابن وهب في رواية زونان عنه. والثالث: ما ذكرته من تعارض قوله في وجوب عرض السلعة في التلقي على أهل السوق.
وأما قوله في رواية أصبغ في أهل نبا وأبو صير أنهما كورتان من كور أهل مصر، فهما كأهل المدائن في جواز البيع لهم، فقد مضى الاختلاف في ذلك، والقول فيه في رسم حلف، وفي رسم تأخير صلاة العشاء، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.(9/381)
[مسألة: الحضري يأتي البدوي في باديته فيسأله عن سعر السوق هل يخبره]
مسألة قال زونان: وسئل أشهب عن الحضري يأتي البدوي في باديته، فيسأله عن سعر السوق - سوق السلع - هل ترى للحضري أن يخبره ويشير عليه؟ قال: لا أرى ذلك، وسألت عنها ابن وهب فقال لي مثله.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ إذ لا فرق بين أن يخبره بذلك في باديته، أو في الحاضرة إذا قدم، وقد مضى القول على ذلك في رسم حلف، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: هل للحاضر أن يبيع سلعة البادي للضرورة]
مسألة وسئل أشهب وأنا أسمع عن رجل من أهل البادية أتى بسلعة إلى الحضر، فعرضت له علة؛ هل ترى للحاضر أن يبيع سلعته؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا أصابته علة يقدر على أن يتربص ببيع سلعته حتى تذهب علته، أو يدفع إلى من قدم معه من أهل البادية يبيعها له، إلا أن تكون من السلع التي تفسد إن بقيت، وليس معه من جيرانه ورفقائه من أهل البادية من يتولى بيعها له، فتكون هذه ضرورة تبيح للحاضر بيعها له إن شاء الله، وبالله التوفيق.
[: حكم بيع أشياء يغش بها المسلمون]
ومن كتاب أوله الرهون وسئل ابن القاسم عن بيع أشياء يغش بها المسلمون، قال:(9/382)
ما كان من ذلك ليس له وجه إلا الغش، فلا أحب لأحد أن يبيعه، وما كان من ذلك فيه منفعة؛ فمن أراد أن يغش به أحدا، فلا بأس أن يبيعه ممن لا يدري ما يصنع به، فإذا علم أنه يريد به الغش فلا يبيعه منه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن ما كان لا منفعة فيه إلا الغش به، فلا يجوز بيعه على حال، وذلك بخلاف الدرهم المغشوش بالنحاس؛ لأنه يمكن أن يسيله فيجعل فضته على حدة، ونحاسه على حدة، فيجوز أن يبيعه ممن يكسره، وممن يعلم أنه لا يغش به إلا على اختلاف ضعيف، ويكره أن يبيعه ممن لا يأمن أن يغش به، ويختلف هل يجوز أن يبيعه ممن لا يدري ما يصنع به، فأجاز ذلك ابن وهب وجماعة من السلف، ولم يجزه ابن القاسم، وقد مضى القول على ذلك كله في رسم النسمة، من سماع عيسى، من كتاب الصرف، وأما ما كان فيه منفعة، ويمكن أن يغش به، فجائز أن يباع ممن لا يدري ما يصنع به، ويكره أن يباع ممن يخشى أن يغش به، ولا يجوز أن يباع مما يعلم أنه يغش به، وبالله التوفيق.
ٍ
[: غش النساء يصنعنه فيضعنه على رءوسهن ثم ينزعنه كهيأة القلنسية ولكنه شعر]
ومن كتاب الجواب وسألته عن الغش غش النساء يصنعنه، فيضعنه على رءوسهن، ثم ينزعنه كهيأة القلنسية، ولكنه شعر، قال ابن القاسم: لا خير في ذلك كان من شعر أو وبر، فإن النساء يضعنه من وبر الإبل كما زعموا فلا خير فيه، كان من شعر أو وبر، قيل لأصبغ: فشيء يعمله النساء في رءوسهن يسمينه النونة، أترى به بأسا؟ قال: ما(9/383)
أرى به بأسا ما لم يعظمنه جدا كأسنة البخت العجاف، فهي إذا عظمت شبيهة بذلك، فأما ما كان مقتصدا، فلا بأس بذلك كان شكل النساء عندنا قديما ثم تركنه، وأراه من شكل نساء العرب قديما.
قال محمد بن رشد: أما الغش الذي ذكر أن النساء يضعنه، فالكراهة فيه بينة؛ لأنه القصة المنهي عنها في حديث معاوية؛ إذ خطب الناس بالمدينة، فتناول قصة من شعر كانت بيد حرسي، فقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن مثل هذه، وقال: «إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم» ، وهي شبه الجمة من الشعر أو الوبر، تضعها المرأة التي لا شعر لها، أو التي لها شعر لطيف على رأسها تراءى به أنه شعرها، وقد لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الواصلة والمستوصلة، هذا من ذلك المعنى.
وإنما النونة التي لم ير بها أصبغ بأسا للمرأة ما لم تعظمه جدا حتى يكون كسنام البعير الأعجف، فهو شيء كان النساء يصنعنه فيضعنه على رءوسهن تحت أخمرتهن هيئة من هيئاتهن، لا تشبه به أنه شعرها، فلا وجه للكراهة فيه، وإنما كره ما عظم منه لخروجه عن شكل نساء العرب، وكونه تشبه شكل نساء العجم، والتزيي بزي العجم مكروه للنساء كما هو للرجل، فهذا وجه قوله عندي، والله أعلم.
[مسألة: خلط اللحم السمين بالمهزول]
مسألة وسئل عن الجزار يكون عنده اللحم السمين، واللحم(9/384)
المهزول فيخلطهما جميعا فيبيعها بوزن واحد مخلوطا، والمشتري يرى ما فيه من المهزول والسمين، غير أنه لا يعرف وزن هذا من هذا، قال ابن القاسم: إذا كانت الأرطال اليسيرة الخمسة والستة، ومثل ما يشتري الناس على المجاز بالدرهم والدرهمين ونحو ذلك، فلا أرى به بأسا، وإن كثرت الأرطال مثل العشرين والثلاثين وما أشبه ذلك فلا خير فيه، وأرى أن يمنع الجزارون من مثل هذا أن يخلطوا السمين والمهزول، وأراه من الغش، ولا أرى ذلك يجوز لهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن البيوع لا تنفك عن الغرر اليسير فهو مستخف فيها مستجاز، ومن الدليل على ذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع الغرر،» والبيع لا يوصف بأنه بيع غرر حتى يكون الغرر ظاهرا فيه وغالبا عليه، وإنما يجوز شراء الأرطال اليسيرة من اللحم المخلوط السمين بالمهزول إذا اشتراه كله، فرأى ما فيه من السمين والمهزول، وإن لم يعرف حقيقة ما يقع من هذا؛ لأن الغرر في هذا خفيف يسير، فأما إن كان إنما يشتري منه وزنا معلوما على أن يعطيه إياه من السمين والمهزول وهو لا يدري قدر ما يعطيه من كل واحد منهما، ولا يراه حتى يزنه فلا يجوز قليلا كان أو كثيرا، إلا أن يقع شراؤه على أنه في الخيار فيه حتى يفرزه ويزنه، وعلى هذا المعنى يجوز عندنا شراء التين الأخضر على العد؛ لأنه لو اشترى منه من جملة تينه مائة تينة في التمثيل على أن يعدها له البائع، أو على أن يعدها المبتاع لنفسه ليختارها لم يجز(9/385)
لأن البيع إن وقع بينهما على أن يعدها له البائع كان غررا، إذ لا يدري المبتاع ما يعطيه البائع لأنه يتفاوت تفاوتا بعيدا في الصغر والكبر والنضج والطيب، وإن وقع بينهما على أن يعدها المبتاع لنفسه ويختار دخله التفاضل فيما لا يجوز التفاضل فيه، وبيع الطعام قبل استيفائه؛ لأنه مخير بين أن يأخذ الصغير أو الكبير فكأن قد باع أحدهما بالآخر، فلا يجوز البيع في ذلك إلا على أن يكون المبتاع بالخيار حتى (يعد) له ما يعد فإن رضي أخذ وإلا ترك، وهذه المسألة تحمل على جواز صبرتين صغيرتين مختلفتين في الجودة، أو في النوع على كل واحد، فإن كانتا كبيرتين لم تجز لأنه خطر، إذ لا يدرى قدر ما في كل واحدة، فإن كثرت الجيدة غبن البائع، وإن قلت غبن المشتري، فإن صغرتا حتى يعلم قدر كل واحدة جاز على ما قال في اللحم، فهو قياسه، وبالله التوفيق.
[مسألة: خلط الزيت الرديء بالجيد]
مسألة وسألته: عن الرجل يخلط الزيت الرديء بالجيد، والقمح الرديء بالجيد، هل يحل شيء من هذا؟ قال ابن القاسم: لا خير في هذا ولا يحل، وهذا من الغش فلا يحل، وإن كان يريد أن (يبين) إذا باع فلا خير في ذلك، ولا يحل له خلطه، ولا أدري كيف سألت عن هذا؟ وقال لي مالك مرة في شيء سألته عنه: أنت حتى الساعة هاهنا تسأل عن مثل هذا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن خلط الجيد بالرديء للبيع من الغش الذي لا يجوز لأحد أن يفعله، وإن بين عند البيع أنه مخلوط،(9/386)
وينبغي للإمام أن يمنع منه ويضرب عليه، فإن فعل كان للمشتري أن يرد وإن بين أنه مخلوط جيد برديء، إلا أن يبين مقدار الرديء الذي خلطه بالجيد وصفتهما جميعا قبل الخلط حتى يستوي علمهما فيه، فلا يكون للمشتري حينئذ أن يرد، ويكون هو قد باء بالإثم في خلطه، إذ قد يغش به غيره؛ لأنه مما يمكن الغش به، وإنما يجوز له أن يبيعه على هذا البيان التام ممن يعلم أنه لا يغش به، أو ممن لا يدري ما يصنع به، ويكره له أن يبيعه ممن يخشى أن يغش به، ولا يجوز له أن يبيعه ممن يعلم أنه يغش به على ما مضى القول فيه في رسم الرهون.
وهذا في الصنف الذي يختلط ولا يمتاز بعد الخلط جيده من رديئه كالزيت والسمن والعسل وشبه ذلك، وأما الصنفان اللذان يمتازان بعد الخلط إلا أنه لا يعلم مقدار كل واحد منهما من صاحبه كالقمح والشعير، أو السمن والعسل أو الغلث والطعام وما أشبه ذلك فإن كان أحد الصنفين منهما يسيرا جدا تبعا لصاحبه جاز أن يبيع ولا يبين؛ لأن المشتري يراه ويعرفه، وإن لم يكن أحدهما يسيرا ولا تبعا لصاحبه، فلا يخلو من أن يكون يمكن تمييزه أو لا يمكن تمييزه، فإن كان مما يمكن تمييزه كالغلث مع الطعام، واللحم السمين مع المهزول وما أشبه ذلك، فلا يجوز أن يباع الكثير من ذلك على ما هو عليه حتى يميز أحدهما عن صاحبه، ويجوز أن يباع القليل منه على ما هو عليه على ما قاله في المسألة التي قبل هذه في اللحم السمين والمهزول، وإن كان مما لا يمكن تمييز أحدهما من صاحبه كالسمن من العسل، والقمح من الشعير، والماء من اللبن، وما أشبه (ذلك) ممن يأكله ويؤمن أن يغش به.
قاله ابن حبيب في الواضحة في اللبن والعسل المغشوش بالماء، وقيل: إن ذلك لا يجوز، وهو قول مالك في الواضحة.
وكتاب ابن المواز: أن من خلط قمحا بشعير لقوته فيكره له أن يبيع ما فضل له منه، يريد إلا أن يبين مقدار الشعير فيه من القمح، وقيل: إن كان خلطه للبيع لم يجز أن يبيعه، وإن كان خلطه للأكل جاز له أن يبيعه، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن(9/387)
المواز، وقيل: إنه لا يجوز له أن يبيعه إلا أن يكون يسيرا خلطه للأكل، وهو قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: البدوي يبعث للحضري بمتاع يبيعه له هل يصح]
مسألة وسألته: عن البدوي يبعث إلى الحضري بمتاع يبيعه له، هل يصلح له ذلك؟ قال ابن القاسم: لا يصلح أن يبيعه له، ولا يشير عليه في البيع إن قدم، ولا بأس أن يشير عليه في الاشتراء، وأن يشتري له، وأن يجهز له عليه، ورواها أصبغ، وقال: لا بأس أن يشتري لرسوله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إنه لا يجوز له أن يبيع له متاعه الذي بعث به، كما لا يجوز (له) أن يبيعه له إذا قدم به؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى أن يبيع حاضر لباد» (فعم) ولم يخص حاضرا من غائب، فوجب أن يحمل على عمومه (في الوجهين) الاشتراء لرسوله يجوز كما يجور الاشتراء له، وقد مضى القول على ذلك في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: لا بأس أن يقطع الرجل الدنانير والدراهم حليا لنسائه]
ومن كتاب القطعان وقال ابن القاسم: لا بأس أن يقطع الرجل الدنانير والدراهم حليا لبناته ونسائه، وقال ابن وهب مثله.(9/388)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الكراهية في قطع الدنانير إنما هي لما يوجب ذلك من فساد النقود التي يبتاع الناس بها، وقد مضى في رسم شك في طوافه، ورسم تأخير العشاء من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف بيان ما لا يجوز من ذلك (وما يكره) وما يجوز منه وما يتفق عليه من ذلك، وما يختلف فيه، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك هاهنا، فقطعها ليعمل منها حلي خارج عن ذلك كله جائز باتفاق، ولا وجه للكراهية فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي يعمل الدوامات للصبيان يبيعها منهم]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الذي يعمل الدوامات للصبيان يبيعها منهم، فقال: أكرهها له.
قال محمد بن رشد: إنما كره ذلك له من أجل بيعه إياها من الصبيان، ولا يدري هل أذن لهم في ذلك آباؤهم أم لا؟ إلا أنه لما كان الأظهر أنهم مطلقون على ذلك ليسارة ثمنه، كرهه ولم يحرمه، ولو علم رضا آبائهم بذلك لم يكن لكراهيته وجه، وإن اللعب مباح لهم لا يمنعون منه، قال ذلك ابن شعبان وهو صحيح، لقول الله تعالى، حاكيا عن إخوة يوسف لأبيهم في يوسف أخيهم: (أرسله معنا غدا نرتع ونلعب) ، وبالله التوفيق.
[: السوق وما يباع فيه هل يقوَّّّّّّّّّم على أهله]
ومن كتاب أوله باع شاة وسئل عن السوق وما يباع فيه، هل يقوم على أهله؟ قال ابن القاسم؛ قال مالك: لا يقوم عليهم شيء، وإنما يصنع فيه(9/389)
كما صنع عمر بن الخطاب بحاطب بن أبي بلتعة، قلت: فالبقول والكراث والبصل والزيت والعسل واللحم وجميع الأشياء لا يقوم عليهم شيء من ذلك؟ قال: لا، قلت: لا على أصحاب الحوانيت ولا على غيرهم؟ قال: نعم، لا على أصحاب الحوانيت ولا غيرهم، وإنما يقال لمن حط السعر وأدخل على الناس فسادا: إما أن تلحق بأسعار الناس وإما أن ترفع من سوقنا.
قلت: فلو أن واحدا قام واللحم ثلاثة أرطال فباع أربعة، هل يقام له الناس؟ قال: لا يقام له الناس، لا لواحد ولا لاثنين ولا لثلاثة ولا لأربعة ولا لخمسة، ولو رفع لواحد لاشترى سلع الناس بحكمه، إذ لا يبيع معه أحد، فيدخل على الناس في ذلك ضرر، ولكن يبيع هو ويبيع الناس معه، ولا يقام لواحد، وإنما يقام الواحد والاثنان إذا كان جل الناس على سعر، فقام الواحد أو الاثنان فحطوا من السعر فأدخلوا الفساد فأولئك يقامون من السوق أو يلحقون بسعر الناس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته هنا مرة أخرى، وبالله التوفيق.
[: الأجذم الشديد الجذام أيحال بينه وبين وطء رقيقه]
ومن كتاب العتق وسئل ابن القاسم: عن الأجذم الشديد الجذام، أيحال بينه وبين وطء رقيقه؟ فقال: نعم، إذا كان في ذلك ضرر، رأيت أن يمنع من ذلك، وإنما فرق بينه وبين الحرة حين حدث ذلك به،(9/390)
وهي عنده لموضع الضرر، وسئل عنها سحنون غير مرة، فقال: لا أرى أن يحال بين الأجذم ووطء إمائه.
(قال محمد) بن رشد: قياس ابن القاسم الأمة في هذا على الحرة صحيح، فهو أظهر من قول سحنون، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا عدوى ولا هام ولا صفر ولا يحل الممرض على المصح وليحل المصح حيث شاء"، قالوا: يا رسول الله، وما ذاك؟ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه أذى» ، وما نهى عنه رسول الله، وقال فيه: إنه أذى فالمنع منه واجب، وقد مر عمر بن الخطاب بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت، فقال لها: "يا أمة الله، لا تؤذي الناس لو جلست في بيتك " فجلست.
وإذا وجب بهذا وما أشبهه من الأحاديث أن يحال بين المجذومين وبين اختلاطهم بالناس لما في ذلك من الإذاية لهم والضرر بهم كان منع الرجل المجذوم من وطء إمائه أوجب؛ لأن الضرر بذلك عليهن أكثر، ووجه قول سحنون إن المجذوم يحتاج إلى النساء، فرأى الضرر الداخل على المجذوم في ترك وطء إمائه أكثر من الضرر الداخل(9/391)
عليهن في وطئه إياهن، إذ قد يئول ذلك به إلى العنت، فرأى ألا يحال بينه وبين ذلك لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا اجتمع ضرران نُفِيَ الأصغر للأكبر» ، وبالله التوفيق.
[: الإجبار على هدم الجدار المائل]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن جدار رجل بين داره ودار جاره مال ميلا شديدا حتى خيف انهدامه، أترى للسلطان إذا شكا، ذلك (جاره) وما يخاف من ضرره وإذائه أن يأمر صاحبه بهدمه؟ فقال: نعم، ذلك واجب عليه أن يأمره بهدمه، قلت: فعلى من بنيانه؟ قال: يقال لجاره إن شئت فاستر على نفسك أو دع، ولا يجبر صاحب الجدار على بنيانه، قيل له: أيبني جاره ما يستتر به في موضع الجدار؟ فقال: ليس ذلك له، وإنما يقال له: إن شئت أن تبني في أرضك وحوز دارك وتستر وإلا فدع.
قيل: فإن شكا إليه ما يخاف من انهدام الجدار فلم يهدمه حتى انهدم على إنسان أو دابة أو بيت لضيق به، فقتل أو هدم ما سقط عليه أيضمن ذلك صاحب الجدار؟ قال: نعم، يضمن كل ما أصاب الجدار بعد الشكاية إليه والبيان له.
قال يحيى: وإن لم يكن ذلك بسلطان فإنه ضامن إذا تقدم إليه وأشهد عليه.
قال محمد بن رشد: قوله إن الحائط إذا هدمه بأمر السلطان خوف سقوطه أنه لا يلزمه إعادته، خلاف قوله في سماع يحيى من كتاب الأقضية، ومثل قوله في رسم إن خرجت من سماع عيسى منه، وقد مضى(9/392)
هناك تحصيل القول في هذا المعنى فلا وجه لإعادته.
وقول يحيى إنه ضامن لما أفسد الحائط إن انهدم بعد التقدم إليه والإشهاد عليه، وإن لم يكن ذلك بسلطان مفسر لقول ابن القاسم، ومثل ما في المدونة.
وقد قيل: إنه لا ضمان عليه إلا فيما فسد بانهدامه بعد أن قضى عليه السلطان بهدمه ففرط في ذلك، وهو قول عبد الملك، وقول ابن وهب في سماع زونان بعد هذا من هذا الكتاب، وقد قيل: إنه ضامن لما أصاب إذا تركه بعد أن بلغ حدا كان يجب عليه هدمه وإن لم يتقدم في ذلك إليه ولا أشهد عليه، وهو قول أشهب وسحنون.
وما أصاب الجمل الصئول والكلب العقور في الموضع الذي يجوز اتخاذه فيه يجري على هذا الاختلاف، والضمان في ذلك لا يتعدى المال إلى العاقلة عند ابن القاسم، كذلك روى عيسى عنه في رسم لم يدرك من كتاب الديات، وهو ظاهر قوله في ظاهر هذه الرواية، وروى زونان في سماعه عن ابن وهب أن العاقلة تحمل من ذلك الثلث فصاعدا، وهو قول مالك، رواه عنه أشهب وابن عبد الحكم، وبالله التوفيق.
[: الرجل يفتح في جداره الكوة إلى الدار فيحجبها آخر]
ومن كتاب المدينين قال: وسئل: عن الرجل يفتح في جداره الكوة إلى الدار أو الزقاق للضوء والشمس فيبني رجل آخر جداره فيرفعه حتى تظلم تلك الكوة أو لا تدخلها الشمس.
قال مالك: ذلك له، لا يحال بينه وبين ذلك، ولو كان ذلك لا يجوز كان أول ما يفتح الكوة تسد عليه.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة،(9/393)
وفي ذلك اختلاف قد مضى تحصيله وذكره في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الأقضية فأغنى ذلك عن إعادة ذكره هاهنا، وبالله التوفيق.
[: الذي يبيع على بيع أخيه أو يخطب على خطبته]
ومن سماع سحنون من ابن القاسم قال سحنون: سألت ابن القاسم: عن الذي يبيع على بيع أخيه، أو يخطب على خطبة أخيه، أو يتلقى الركبان فيشتري منهم، أو يبيع حاضر لباد.
قال: أما إذا باع على بيع أخيه أو خطب على خطبة أخيه لم أر أن يفسخ، ورأيته أن يؤدب صاحب هذا، وأما أن يبيع حاضر لباد، فأرى أن يمضي البيع وأن يؤدب أهله، وأما إذا تلقى الركبان فإني أرى أن تعرض السلعة على أهل الأسواق بالثمن الذي اشتراها به، فإن أخذوها وإلا ردوها عليه، ولم أردها على بائعها، وأؤدبه ضربا وجيعا إلا أن يغرر بالجهالة، وقال غيره: تفسخ هذه الأشياء كلها وترد السلع على أربابها.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم يوصي من سماع عيسى فلا معنى لإعادته مرة أخرى، وبالله التوفيق.
[مسألة: بيع العنب ممن يعصره خمرا]
مسألة وسئل: عن الذي يبيع العنب ممن يعصره خمرا أو يكري حانوته ممن يبيع الخمر، أو يكري دابته إلى الكنيسة، أو يبيع شاته ممن يذبحها لأعياد النصارى، قال: أما بيع العنب من يعصره خمرا، أو كراء البيت ممن يبيع الخمر، فأرى أن يفسخ(9/394)
الكراء ويرد البيع ما لم يفت، فإن فات تم البيع ولم أفسخه، وأما كراء الدابة، وبيع الشاة فإنه يمضي ولا يرد، وقد اختلف في كراء الدابة قول مالك، فمن ثم رأيت له ذلك.
وبلغني عن أشهب أنه سئل عن الذي يبيع كرمه من النصراني، فقال: أرى أن تباع على النصراني، بمنزلة شرائه العبد المسلم.
قال محمد بن رشد: إنما قال في الذي يبيع العنب ممن يعصره خمرا أو يكري حانوته ممن يبيع فيه الخمر إن الكراء يفسخ، والبيع يرد ما لم يفت، فإن فات مضى ولم يفسخ، من أجل أنه بيع وكراء لا غرر فيه ولا فساد في ثمن ولا مثمون، فأشبه البيع الذي طابقه النهي، كالبيع يوم الجمعة بعد النداء، وبيع الحاضر للبادي، وما أشبه ذلك من البيوع التي لا تجوز مع سلامتها من الغرر والمجهول، فيدخل في ذلك من الاختلاف ما يدخل في هذه البيوع، قيل: إنها تمضي بالثمن إذا فاتت، وقيل: إنها ترد إلى القيمة، وقيل: إنها لا تفسخ وإن كانت قائمة.
فعلى قياس هذا القول لا يفسخ بيع العنب ممن يعصر خمرا، ولا كراء الحانوت ممن يبيع فيه الخمر وإن أدرك قبل الفوت، فإن كان المشتري نصرانيا منع من بيع الخمر في الحانوت، وبيع عليه العنب، وإن كان مسلما منع من جميع ذلك ولم يفسخ منه شيء، وقال: إن البيع إذا فات تم ولم يفسخ، ولم يتكلم على ما يجب على البائع والمكري في الثمن والكراء، فأما ثمن العنب فيسوغ له، إلا أن يكون ازداد فيه بسبب بيعه للعصر فيجب أن يتصدق بالزيادة، وأما الكراء فيتصدق بجميعه، قيل: لأنه لا يحل له كثمن الخمر، وقيل: أدبا له، لا من أجل أنه عليه حرام كثمن الخمر، وهو ظاهر هذه الرواية.
وسواء في العنب باعه ممن يعصره خمرا بتصريح، أو باعه منه وهو يعلم أنه يعصره خمرا.
وأما كراء البيت فقال ابن حبيب فيه:(9/395)
إنه إن أكراه وهو يعلم أنه يبيع فيه الخمر لهم، يفسخ الكراء بخلاف العنب، والفرق بينهما عنده أن العنب يغاب عليه فلا يمكن (منعه) من عصره، بخلاف بيع الخمر في الحانوت، وقال ابن القاسم: يفسخ الكراء في الحانوت إذا أكراه وهو يعلم أنه يبيع فيه الخمر، كما يفسخ البيع في العنب إذا باعه ممن يعلم أنه يعصر خمرا، وقد مضى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح والصيد وجه اختلاف قول مالك في كراء الدابة وبيع الشاة والحكم في ذلك إذا وقع، فمن أحب الوقوف عليه هناك تأمله هناك، وقياس بيع الكرم من النصراني على بيع المسلم منه صحيح قاسه أشهب عليه، فقال: إنه يباع عليه على مذهبه في أنه يباع عليه العبد المسلم إذا اشتراه ولا يفسخ فيه البيع، وقاسه سحنون عليه في نوازله من كتاب جامع البيوع فقال: إن البيع يفسخ على مذهبه في أنه إذا اشترى العبد المسلم فسخ البيع فيه، وبالله التوفيق.
[: الوالي يلي بعد وال آخر كان قبله فيزيد في المكائل]
ومن سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم قال محمد: سألت ابن القاسم: عن الوالي يلي بعد وال آخر كان قبله فيزيد في المكائل، قال: إن كان في ذلك للمسلمين نظر بموافقة حق لا يكره الناس على البيع به فلا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إنه إذا كان في ذلك نظر للمسلمين بموافقة حق كان له أن يفعله، وأما قوله: لا يكره الناس على البيع به ففيه نظر؛
لأن له أن يحمل الناس على التبايع به إذا رأى ذلك نظرا للمسلمين،
فمعنى قوله لا يكره الناس على البيع به، أي: لا يحجره جملة حتى لا يجيز لأحد بيعا إلا به، وبالله التوفيق.(9/396)
[مسألة: الدابة الصئول تعدو على الصبي المملوك فتقتله]
مسألة من سماع عبد الملك بن الحسن قال عبد الملك: سألت ابن وهب: عن الدابة الصئول تعدو على الصبي المملوك فتقتله، وقد كان جيران صاحب الدابة شكوا إلى صاحبها أمر دابته وما كانوا خافوا منها على صبيانهم وأنفسهم قبل ذلك، وتقدموا واستنهوا منها فلم يبعها حتى عدت على صبي مملوك فقتلته، أو كانت مربوطة أو أفلتت من رباطها فقتلت الصبي، أو كان سلطان تقدم إلى صاحب الدابة حين استنهى جيرانه منها، وقال له: إن آذت بعد يومها هذا ضمنتك ما آذت فيه، فهل الأمران واحد إذا قدم السلطان إليه أو جيرانه أو أشهدوا عليه؟ وهل يضمن صاحب الدابة ما عقرت دابته بعد هذا؟ فقال: الدابة الصئول عندي في هذا بمنزلة الكلب العقور، لا ضمان على ربها حتى يتقدم إليه السلطان، فإذا تقدم إليه بعد المعرفة بالصئول والعقر فلم يحبسها عن الناس، أو يغربها عنهم فعقرت ضمن، وهو قول مالك في الكلب على ما وصفت لك، فإن كان دون الثلث ففي ماله، وما كان الثلث فصاعدا حملته العاقلة، وهو من الخطأ إن كان المعقور حرا، وإن كان عبدا ففي مال رب الدابة والكلب على كل حال.
وقول أشهب: لا ضمان على صاحب الدابة على أي الوجوه، كان تقدم السلطان إليه أو استنهى جيرانه (منه) .(9/397)
قال محمد بن رشد: قوله: لا ضمان على صاحبها حتى يتقدم إليه السلطان خلاف ما في المدونة وخلاف ما مضى في سماع يحيى قبل هذا من أنه يضمن إذا أنهى إليه وأشهد عليه وإن لم يكن ذلك بسلطان، وقيل: إنه ضامن وإن لم يتقدم إليه ولا أشهد عليه، قاله أشهب وسحنون في الحائط إذا بلغ مبلغا يجب عليه هدمه فتركه، وكذلك يجب على مذهبهما في الدابة الصئول والكلب العقور إذا علم بحالهما فلم يغربهما ولا حبسهما حتى عديا على أحد فقتلاه.
وقول أشهب هاهنا (في الدابة) قول رابع في المسألة. ووجهه: أنه حمل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جرح العجماء جبار» على عمومه في كل حال.
وهذا الاختلاف كله إنما هو إذا حبس الدابة الصئول حيث يجوز له حبسها فيه، واتخذ الكلب العقور حيث يجوز له اتخاذه فيه، وأما إن اتخذ الكلب العقور أو حبس الدابة الصئول حيث لا يجوز له فهو ضامن لما أصابا، وإن لم يتقدم إليه قولا واحدا، وقد مضى في سماع يحيى ذكر الاختلاف في هل تحمل العاقلة من ذلك في الأحرار ما بلغ الثلث، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: وجد في زرعه مهرين فساقهما إلى داره فأدخلهما داره فتلفا]
مسألة قال: وسألت ابن وهب: عن رجل وجد في زرعه مهرين فساقهما إلى داره فأدخلهما داره، فلما كان من جوف الليل خرقا داره أو خرقا زرب الدار فخرجا منها فعقرتهما السباع، فهل يضمنهما الذي ساقهما إلى داره؟ أو إن كانا في داره وعقرهما(9/398)
السبع في الدار أيضمنهما صاحب الدار؟ قال: أراه ضامنا إذا عقرا أو أصيبا في الأمر الذي سببه وأصله منه، ولم يكن له سوقهما وحبسهما في داره، وإنما له إتيان السلطان إذا كان السلطان قريبا والاستنهاء إلى صاحبهما أو ردهما عن زرعه، فإذا ترك ذلك وساقهما إلى داره وربطهما أو حبسهما فأراه متعديا، وأرى عليه ضمانهما إن أصيبا في ذلك، وقال أشهب: فهو ضامن لهما أبدا حتى يرجعا إلى صاحبهما ماتا في داره أو عقرا خارجا من داره.
قال محمد بن رشد: قول أشهب مثل قول ابن وهب، فلو قال فيه وقال أشهب مثله لكان أحسن، والمسألة كلها بينة لا موضع للقول فيها إلا قوله: إنما له إتيان السلطان إن كان السلطان قريبا.
فمعناه: إذا كان الإذاء والرعي في الليل أو بالنهار في موضع لا يصح إهمال الأنعام والمواشي فيها دون راع يذودها.
وأما إذا كان ذلك بالنهار في موضع لأصحاب المواشي إهمال مواشيهم فيه دون رعاة يرعونها وذواد يذودونها، فليس له إتيان السلطان ولا رفع الأمر إليه؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن على أهل الحوائط والزرع حفظهما بالنهار، وأن على أهل المواشي حفظها بالليل، فما أفسدت فيه ضمنوه، وقد مضى بيان هذا والقول فيه في رسم كتاب الأقضية لابن غانم من سماع أشهب من كتاب الأقضية فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يبني في داره غرفة فيفتح لها بابا على دار جاره فيشتكي جاره]
مسألة قال: وسألت ابن وهب: عن الرجل يبني في داره غرفة فيفتح لها بابا على دار جاره فيشتكي جاره ضرورة ذلك الباب، هل يمنع صاحب الغرفة من ذلك الباب ويؤمر بسده أم لا؟ قال: إن كان فتحه الباب مضرا لجاره مثل أن يكون ليس له مصرف ولا مدخل(9/399)
ولا مخرج إلا بالتشريف عليه والنظر في منزله والتطلع على عياله منع ولم يكن له فتحه.
وإن كان ليس كذلك، وإنما هو أمر يخاف أن يتطلع منه، وليس على ما وصفت لك لم يمنع من ذلك، وقيل له: استر على نفسك إن شئت، أو يعلم ما قلت من تطلعه فيمنع من ذلك ويزجر عنه ويؤدب عليه بعد التقدمة ولا يغلق بابه على حال، وإنما ذلك بمنزلة ظهر القصر وسطحه، والبنيان يرفعه عليه فيحتج أيضا فيقول: أخاف أن يتطلع عليَّ منه، أو الكوة يفتحها الرجل في منزله للضوء والروح فيحتج بمثل ذلك فليس له في ذلك حجة إذا كان على ما وصفت لك.
وقال أشهب: إذا كان يناله المار فأرى أن يمنع من ذلك حتى يرفع بقدر ما لا يناله، وإن نظر منه المار لم يكن ذلك له، فإن تطلع منه أو تشرف لغير حاجة فإنه يمنع من ذلك.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب إن كان فتحه الباب مضرا بجاره مثل أن يكون ليس له مصرف ولا مدخل إلا بالتشريف عليه والنظر في منزله والتطلع على عياله منع، هو مثل قول أشهب إن كان يناله المار فأرى أن يمنع، ومثل ظاهر ما في كتاب حريم البير من المدونة على معنى ما جاء عن عمر بن الخطاب أنه كتب في ذلك أن يوضع وراء تلك الكوة سرير ويقوم عليه رجل فإن كان ينظر إلى ما في دار الرجل منع من ذلك، وإن كان لا ينظر لم يمنع من ذلك؛ لأن الأسرة مما يتخذها الناس في بيوتهم، فإذا كان من قام عليها اطلع على جاره منع من ذلك، فالمعنى في هذا كله أن ما كان من الاطلاع لا يصل إليه المطلع إلا بكلفة ومئونة وقصد إلى الاطلاع بتكلف صعود لا وجه له إلا ذلك لم يمنع من ذلك،(9/400)
وقيل للذي يشكو الاطلاع: استر على نفسك، فإن أثبت عليه أنه اطلع عليه بقصد إلى ذلك كان حقا على الإمام أن يؤدبه على ذلك ويزجره حتى لا يعود إليه.
وقد أفتى الشيوخ عندنا فيمن فتح في قصبة له بابا لا يطلع منها على دار جاره إلا بأن يخرج رأسه من الباب (ليطلع) أو يخرج إلى السقف بين يدي الباب، أو يجعل على الباب شرجيا وثيقا يمنع من أن يخرج منه إلى السقف، أو يخرج أحد منه رأسه ليطلع، وهو حسن من الفتوى، فإذا ثبت الاطلاع فقيل: يحكم بسده وإزالة أثره لئلا يكون له بعد مدة دليلا على القدم فيكون له إعادته، يقوم ذلك من قول مالك في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الأقضية.
وقال ابن الماجشون في الواضحة: لا يلزمه سده، ويكون له أن يجعل أمام ذلك ما يستره ويواريه، وقد قيل: إن الاطلاع ليس من الضرر الذي يجب قطعه على حال، وعلى الذي يطلع عليه أن يستر على نفسه بما يقدر عليه، وقد ذكرنا ذلك في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الأقضية، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك.
وإنما يمنع من ضرر الاطلاع ما كان محدثا، قال في كتاب تضمين الصناع من المدونة: ومن كانت له على جاره كوة قديمة أو باب قديم فليس له سد ذلك عليه، وإن لم يكن له في ذلك منفعة وعليه فيه مضرة، وكذلك قال ابن الماجشون: إن الأبواب والكوى التي يطلع منها إن كانت قديمة قبل بناء الدار المطلع عليها لم يمنع من ذلك.
قال: ولو أراد صاحب العرصة أن يمنعه من فتح باب على عرصته قبل بنائها لضرر ذلك عليه إذا بنى لم يكن ذلك له، وقال مطرف: له أن يمنعه قبل البناء وبعده؛ لأنه حق له يذب عنه.
قال: ولو ترك أن يمنعه قبل أن يبني كان له أن يمنعه إذا بنى ولا يكون تركه الذب على حقه قبل أن يبني مانعا له(9/401)
منه إذا بنى إلا أن يكون صاحب العرصة اشتراها على ذلك، فليس له أن يسدها عليها، وإنما له أن يمنعه من الإحداث.
وقال أصبغ بقول مطرف، واختاره ابن حبيب، واختلف على معنى ما في المدونة إن أشكل هل هو قديم أو حادث؟ ففي أحكام ابن زياد أنه محمول على أنه محدث حتى يثبت أنه قديم، وفي كتاب ابن سحنون أنه محمول على أنه قديم حتى يثبت أنه محدث، والله تعالى الموفق.
[مسألة: الرجل تكون داره لاصقة بسكة فأراد تحويل باب داره من موضعه]
مسألة وسألت ابن وهب: عن الرجل تكون داره لاصقة بسكة نافذة أو غير نافذة، فأراد أن يحول باب داره من موضعه ذلك إلى موضع من داره هو أرفق به فمنعه جاره الذي يلي داره، وقال: إن ما بين بابك وبابي مجلس وموقف لدابتي ومنزل لأحمالي، فإذا أدنيت بابك مني لم أقدر على أن أقعد على بابك ولا تقف دابتي على بابك وانقطع عني المرفق الذي كنت أرتفق به فيما بين بابي وبابك، وقال الآخر: الجدار جداري كله لي، وهو لاصق بالطريق فأنا أفتح في جداري إلى طريق بابي، ولا أمنع من مرفقي لما تريد أنت أن توسع على نفسك في الفناء، وهما جميعا في ناحية واحدة من الطريق متجاوران، فهل يمنع فتح بابه حيث يريد؟ فقال: إن كانت السكة غير نافذة، وكان فتحه الباب قبالة باب صاحبه حتى يكون الداخل والخارج وما يكون بقاعة الدار وخلف الباب بعينه، أو كان الفتح قريبا من بابه وكان مضرا به(9/402)
ضررا بينا يعرف ويستبان منع من ذلك، ولم يكن له فتحه ولا تحويله عن حاله إلى مثل هذا، وإن كان طريقا سالكا وسكة واسعة حتى يكون هو وغيره من المارة في فتح داره وإن فتح والمرور بها والنظر سواء، ولا يكون مضرا به في غير ذلك لم يمنع من ذلك وخلي بينه وبينه.
وقال أشهب: إذا كان تقديمه ذلك يضر بجاره على ما وصفت فليس ذلك له، وإن كان إنما تقديمه تقديما يكون فيما بقي ما لا يقطع عليه فيه المرفق، ويتسع هو حتى لا يكون مضطرا إلى أكثر منه، فليس له أن يمنعه إذا سد الباب الأول، وذلك إذا كان في زقاق غير نافذ، فأما إن كان في سكة مسلوكة فله أن يفتح ما شاء من أبواب في جداره، ويقدم ما شاء من باب ويؤخره.
قال: وسألت ابن وهب: عن الرجل يفتح في ناحية من داره حوانيت إلى سكة من سكك الناس ولرجل مقابل تلك الحوانيت دار وباب مفتوح في ذلك الزقاق مقابل الحوانيت التي فتح عليها جاره فشكا أن الحوانيت تضره فيمن يخرج من خدمه وأهله إلى حوائجهم، وأهل الحوانيت قوم مرابطون لا يديمون، فهل له سبيل إلى ذلك أم يمنع منه؟ فقال: سبيل الحوانيت سبيل ما وصفت لك قبل ذلك في السكة النافذة وغير النافذة على ما فسرت لك، إن شاء الله.
قال أشهب: له أن يفتح ما شاء من حوانيت، ويفعل ما أراد إن كانت سكة نافذة.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب وأشهب هذا في تحويل الباب وفتحه في السكة النافذة وغير النافذة مثل قول ابن القاسم وروايته عن(9/403)
مالك في آخر كتاب القسمة من المدونة حاشا موضعين:
أحدهما: قول ابن وهب، وإن كان طريقا سالكا وسكة واسعة لم يمنع من ذلك، وخلَّى بينه وبينه إذ لم يشترط في المدونة سعة السكة، وإنما قال فيها: وإن كانت السكة نافذة فله أن يقيم ما شاء، ويحول بابه إلى أي موضع شاء.
والموضع الثاني: قول أشهب في الزقاق الذي ليس بنافذ: إن له أن يحول بابه إلى موضع لا يضر بجاره إذا سد الباب الأول؛ لأن في قوله إذا سد الباب الأول دليلا على أنه ليس له أن يفتح فيه بابا زائدا على حال، وإنما له أن ينقله من موضعه إلى موضع لا ضرر فيه ولا تضييق على جاره. ودليل ما في المدونة: أن له أن يفتح فيه بابا زائدا في موضع لا ضرر فيه على جاره، وأن ينقل بابه إليه، وقد قيل في الزقاق النافذ: إنه لا يجوز لأحد أن يفتح فيه بابا، ولا يتخذ مجلسا قبالة باب جاره إلا أن ينكب عن ذلك قليلا، وهو قول سحنون، روى ذلك (عنه) حبيب وابنه محمد، وذهب ابن زرب إلى أنه لا يجوز لأحد في الزقاق الذي ليس بنافذ أن يفتح فيه بابا ولا أن يحول بابه فيه من موضع إلى موضع على حال إلا بإذن جميع أهل الدرب، قال: لأنهم كلهم مشتركون فيه، بدليل ما قال في المدونة في الدارين تكون إحداهما في جوف الأخرى، ولأهل الدار الداخلة الممر في الدار الخارجة، فيقسم أهل الدار الداخلة دارهم فيريد كل واحد منهم أن يفتح لداره بابا في الدار الخارجة: إن ذلك ليس لواحد منهم، وإنما لهم الممر الذي كانوا يمرون عليه قبل القسمة.
فيتحصل في فتح الرجل الباب أو تحويله عن موضعه في الزقاق الذي ليس بنافذ ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال إلا بإذن جميع(9/404)
أهل الزقاق، وهو الذي ذهب إليه ابن زرب قياسا على مسألة المدونة المذكورة، وبه جرى العمل بقرطبة.
والثاني: أن ذلك له فيما لم يقابل دار جاره ولا قرب منه فقطع به مرفقا عنه وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقول ابن وهب هاهنا.
والثالث: أن له تحويل بابه على هذه الصفة إذا سد الباب الأول، وليس له أن يفتح فيه بابا لم يكن قبل بحال، وهو دليل قول أشهب هاهنا.
ويتحصل أيضا في فتح الرجل بابا أو حانوتا في مقابلة باب جاره في الزقاق النافذ ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك له جملة من غير تفصيل إلا أن ينكب عن ذلك وهو قول سحنون.
والثالث: أن ذلك له إذا كانت السكة واسعة، وهو قول ابن وهب هاهنا، والسكة الواسعة ما كان فيها سبعة أذرع فأكثر، لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الطريق سبعة أذرع» وقع ذلك في مسند ابن أبي شيبة من رواية ابن عباس، فوجب أن يكون ذلك حد سعة الطريق، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتزيد في داره من طريق المسلمين ذراعا أو ذراعين]
مسألة وسألته: عن الرجل يتزيد في داره من طريق المسلمين ذراعا أو ذراعين، فإذا بنى جدارا وأنفق فيه وجعله بيتا قام عليه جاره الذي هو مقابله من جانب الطريق فأنكر عليه ما يريد، ورفعه إلى السلطان وأراد أن يهدم ما زاد من الطريق، وزعم أن سعة الطريق كان رافقا به؛ لأن ذلك كان فناء له ومربطا لدابته، وفي بقية الطريق ممر للناس، وكان فيما بقي من سعة الطريق ثمانية أذرع أو تسعة أذرع، هل لذلك الجار إلى هدم بنيان جاره الذي بنى سبيل؟ أو رفع ذلك بعض من كان يسلك تلك الطريق وفي بقية(9/405)
سعته ما قد أعلمتك؟ فقال: نعم، يهدم ما بنى كان في سعة الطريق ثمانية أذرع أو تسعة على ما وصفت، لا ينبغي لأحد التزيد من طريق المسلمين، وينبغي للقاضي أن يتقدم في ذلك إلى الناس ويستنهي إليهم ألا يحدث أحد بنيانا في طريق المسلمين، وذكر أن عثمان بن الحكم الجذامى حدثه عن عبيد الله بن عمر عن أبي حازم أن حدادا ابتنى كيرا في سوق المسلمين قال: فمر عمر بن الخطاب فرآه، فقال: لقد انتقصتم السوق ثم أمر به فهدمه، قال أشهب: نعم يأمر السلطان بهدمه رفع ذلك إليه من كان يسلك الطريق أو رفع ذلك جيرانه، لا ينبغي لأحد التزيد من طريق المسلمين، كان في الطريق سعة أو لم تكن، كان مضرا ما تزيد أو لم يكن مضرا ويؤمر بهدمه، وينبغي للسلطان أن يتقدم في ذلك إلى الناس ألا يزيد أحد من طريق المسلمين.
قال محمد بن رشد: اتفق مالك وأصحابه فيما علمت أنه لا يجوز لأحد أن يقتطع من طريق المسلمين شيئا فيزيده ويدخله في بنيانه وإن كان الطريق واسعا جدا لا يضره ما اقتطع منه، ولم ير بذلك مالك بأسا في المسجد، وحكى ابن وهب عن ربيعة في المجموعة أنه لا يجوز لمن بنى مسجدا في طائفة من داره أن يتزيد فيه من الطريق.
واختلفوا إن تزيد في داره من الطريق الواسعة جدا ما لا يضر بها ولا يضيقها على المارة فيها.
فقال ابن وهب وأشهب هاهنا: إنه يهدم عليه ما تزيد من الطريق وتعاد على حالها، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه، وقول(9/406)
مطرف وابن الماجشون في الأبرجة يبنيها الرجل في الطريق ملصقة بجداره، واختار ابن حبيب على ظاهر ما جاء عن عمر بن الخطاب في الكير الذي ابتني في السوق فأمر به فهدم.
وقيل: إنه لا يهدم عليه ما يزيد من الطريق إذا كان ذلك لا يضر بها لسعتها لماله من الحق فيه، إذ هو فناؤه له الانتفاع به وكراؤه على ما مضى في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم.
والأصل في ذلك ما جاء من أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى بالأفنية لأرباب الدور، أفنيتها ما أحاط بها من جميع نواحيها، فلما كان أحق بالانتفاع به من غيره لم يكن لأحد أن ينتفع به إلا إذا استغنى هو عنه وجب أن لا يهدم عليه بنيانه، فيذهب هدرا ماله وهو أعظم الناس حقا في ذلك الموضع، بل لا حق لأحد معه فيه إذا احتاج إليه، فكيف إذا لم يوصل إلى أخذه منه مع حاجته إليه إلا بهدم بنيانه وتلف ماله، وهذا بين، لا سيما ومن أهل العلم من يبيح له ذلك ابتداء، في المجموعة من رواية ابن وهب عن ابن سمعان أن من أدرك من العلماء قالوا في الطريق يريد أهلها بنيان عرصتها أن الأقربين إليها يقتطعونها على قدر ما شرع فيها من رباعهم بالحصص، فيعطى صاحب الربع الواسع بقدره، وصاحب الصغير بقدره، ويتركون لطريق المسلمين ثمانية أذرع.
قال محمد بن رشد: وإنما قالوا ثمانية أذرع احتياطا والله أعلم ليستوفي فيها السبعة الأذرع المذكورة في الحديث على زيادة الذراع ونقصانه.
ووجه القول: أن الطريق حق لجميع المسلمين كالحبس، فوجب أن يهدم على الرجل ما يزيده في داره منها، كما يهدم عليه ما يزيد من أرض محبسة على طائفة المسلمين، أو من ملك لرجل بعينه، والقول الأول أظهر، والقائلون بالثاني أكثر، وكل مجتهد مصيب.
وقد نزلت بقرطبة قديما واختلف الفقهاء فيها فأفتى ابن لبابة وأبو صالح أيوب بن سليمان، ومحمد بن وليد بالقول الأول ألا يهدم ما تزيد من الطريق إذا كان ذلك لا يضر بها،(9/407)
وأفتى عبيد الله بن يحيى وابنه يحيى، ويحيى بن عبد العزيز، وسعد بن معاذ وأحمد بن بيطير بالقول الثاني أن يهدم ما تزيد منه على كل حال، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يغرس في داره شجرة فتطول حتى يشرف على دار جاره]
مسألة وسألت ابن وهب عن الرجل يغرس في داره شجرة فتطول حتى يشرف على دار جاره، فإذا طلع فيها من يجني ثمرها نظر إلى ما في دار جاره، أو يغرسها قريبا من جدار جاره فيزعم جاره أن موضع الشجرة مضر به، وهو يخاف أن يطرق من تلك الشجرة فيدخل عليه في داره، وهو يشتكي من يطل عليه منها، هل يقطع عنه ما يؤذيه من طولها؟ أو تقطع الشجرة التي يخاف أن يطرق منها لقربها من جداره أم لا؟ وتكون الشجرة قد تقادمت ومضى لها أعوام وهي تزيد في كل عام، فإذا رفع أمرها وما أضرت به إلى السلطان هل يؤمر بقطعها لما يؤذيه ويشرف منها على عياله؟
فقال: إن لم يكن ضرره إلا ما شكا وذكر مما يخاف من الطروق من ناحيتها، أو طلوع من يجنيها لم يكن ذلك شيئا ولم تكن له فيه حجة، ومنع من يجنيها من التطلع والإضرار إن علم ذلك منهم، وأما قطعها فليس له قطعها ولكن إن انتشرت وعظمت حتى تخرج فروعها من أرض صاحبها وحدوده وتقع في أرض جاره وحدوده ويضر به قطع ذلك الذي أضر به ووقع في حده وأذاه فقط.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن(9/408)
الرجل إذا غرس في داره شجرة فلجاره أن يقطع ما طال من أغصانها فأذاه في جداره ودخل في حصته وهوائه - له أن يقطع الشجرة أيضا إن كان غرسها بموضع يضر غرسها بالجدار لقربها منه، وأما ما يخاف من أن يطرق منها، أو من يطلع عليه منها من يجنيها فلا حجة له في ذلك، وأما إن كانت الشجرة قديمة من قبل بناء الجدار فليس له أن يقطعها وإن أضرت بالجدار.
واختلف هل له أن يقطع ما طال من أغصانها فأضر بجدار جاره؟ فقال ابن الماجشون: ليس ذلك له؛ لأنه قد علم أن هذا يكون من شأن الشجرة، فقد صار ذلك من حريمها وهوائها قبل بناء الجدار، وقال مطرف وأصبغ: ذلك له، وهو أظهر، وإياه اختار ابن حبيب، وإذا كانت لرجل شجرة في أرضه، وإلى جانبها أرض لجاره فله أن يقطع ما طال وانبسط وامتد من فرعها على أرضه، ومن كانت في أرضه شجرة لغيره فليس له أن يقطع ما طال وانبسط منها، قاله ابن القاسم وغيره.
[مسألة: مبتلى له في منزل سهم وله حظ في شرب فأراد من معه إخراجه منه]
مسألة وسئل: عن المبتلى يكون في منزل له فيه سهم، وله حظ في شرب فأراد من معه في المنزل إخراجه منه، وزعموا أن استسقاء الماء من مائهم الذي يشربون منه مضرة بهم فطلبوا إخراجه من المنزل؟
فقال ابن وهب: إذا كان له مال أمر بأن يشتري لنفسه من يقوم بأمره، ويخرج له في حوائجه ويلزم بيته ولا يخرج.
قيل: فإن لم يكن له مال؟ قال: يخرج من المنزل إذا لم يكن فيه شيء وينفق عليه من بيت مال المسلمين.(9/409)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا كان له مال أمر بأن يشتري لنفسه من يقوم بأمره ويخرج له ويستسقي له ماءه أو يستأجر له من يفعل له ذلك كله، فإن لم يكن له مال كان من الحق على الإمام أن يقوم له بذلك من بيت مال المسلمين؛ لأن استسقاءه الماء معهم من مائهم ضرر بهم، فإن لم يكن ثم إمام يقوم له بذلك لم يمنعوا من استسقاء الماء فيموتوا عطشاء، ولا من مخالطة الناس في مجتمعاتهم وأسواقهم لسؤالهم وقضاء حوائجهم فيهلكون ضياعا، وإنما اختلف في منعهم من المساجد والجوامع.
فقال عيسى بن دينار في نوازله من هذا الكتاب، وفي بعض الروايات: إنهم لا يمنعون من ذلك بحكم؛ لأن عمر بن الخطاب لم يعزم بالنهي على المرأة المجذومة التي رآها تطوف بالبيت مع الناس، وإنما قال لها: يا أمة الله لو جلست في بيتك كان خيرا لك. ونحو ذلك حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون: أنهم لا يمنعون من مساجد الجماعة لشهود الجمعة المفروضة لأنها على من قوي على شهودها، كما هي على غيرهم، قال: وأما غير الجمعة فلا بأس أن يمنعوا إلا الواحد بعد الواحد، وقال سحنون فيه: يمنعون من ذلك وتسقط إلا الواحد بعد الواحد، وقال سحنون فيه: يمنعون من ذلك وتسقط الجمعة عنهم، واستدل على ذلك بحديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مساجدنا يوفينا بريح الثوم» .
وبحديث عمر في قوله للمرأة المجذومة: لو جلست في بيتك كان خيرا لك؛ لأنه قضى في طلبها فجلست في بيتها، فلما مات قيل لها: إن الذي نهاك قد مات، فقالت: ما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا.
وقوله أظهر؛ لأن المنع من إذاية(9/410)
المسلمين واجب، وإذا كان المنع من إذايتهم بريح الثوم واجبا بالسنة، فأحرى أن يكون واجبا من إذايتهم بمخالطة الجذماء لهم، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حلول الممرض على المصح، وفي قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للمجذومة: يا أمة الله لا تؤذي الناس - دليل على أنه أراد بقوله لها: لو جلست في بيتك، الأمر لها بذلك والقضاء عليها به، لكنه رفق بها في الأمر رحمة بها وحنانا عليها، وتوسم فيها أنها تكتفي بذلك وتنتهي فلم تخب فراسته فيها وأطاعته حيا وميتا.
واختلف في إخراجهم عن الحاضرة إلى ناحية منها، قال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: أما الواحد والنفر القليل من المرضى فلا يخرجون عن حاضرة ولا عن قرية، ولا عن سوق ولا عن مسجد جامع ولا غير جامع، فإذا كثروا في الحاضرة اتخذوا لأنفسهم موضعا كما صنع بمرضى مكة عند النعيم موضعهم وبه جماعتهم، وأما مرضى القرى فإنهم لا يخرجون عنها وإن كثروا، إلا أنهم يمنعون من أذاهم في مسجدهم إذا شكوا ضرر ذلك بهم، وقال أصبغ: لا يقضى عليهم في الحاضرة بالخروج إلى ناحية منها ولكن إن كفوا مؤناتهم يجرى ذلك عليهم منعوا من مخالطة الناس بلزوم بيوتهم أو التنحي ناحية.
قال عبد الملك: والحكم عليهم بتنحيتهم ناحية إذا كثروا أحب إلي، وهو الذي عليه الناس.
قال مطرف وابن الماجشون: ولا يمنعون من الأسواق لتجارتهم وما يحتاجون إليه من حوائجهم والتطرق للمسألة إلا أن يجري عليهم الإمام أرزاقهم من فيء المسلمين، وبالله التوفيق.
[مسألة: بيع رقيق اليهود من النصارى والعكس]
مسألة وسئل ابن وهب: عن بيع رقيق اليهود من النصارى أو بيع رقيق النصارى من اليهود، فقال: أكرهه للعداوة التي بينهم، وسئل عنها سحنون فقال مثله.(9/411)
قال محمد بن رشد: قد مضى التكلم على قول ابن وهب في هذا السماع من كتاب جامع البيوع فإنه وقع هنالك أكمل وأبين، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك، والله الموفق لا رب غيره.
[: العبد يستبيع من سيده لضرورته]
من سماع أصبغ بن الفرج
قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن العبد يستبيع من سيده لضرورته، فقال: إن كان ضررا قد عرف وكثر بيع عليه، وإن كان إنما هي الزلة والفلتة من سيده كف عنه ونهى حسبة، قال: مرة بعد مرة، فإن عاد بيع عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله وقد مضى هذا المعنى في رسم شك في طوافه، ورسم حلف ليرفعن أمرا ورسم صلى نهارا ثلاث ركعات، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: المدبر يضربه سيده ويؤدبه]
مسألة وسئل: عن المدبر يضربه سيده ويؤدبه، قال: يخرج من يديه ويؤاجر عليه، قال أصبغ: ولا يباع لأن المدبر لا يباع على حال في الحياة، ولا تنقض الضرورة التدبير لأنه عتق.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله قياسا على مدبر النصراني يسلم أنه يؤاجر ولا يباع عليه، كما يباع عليه عبده إذا أسلم، وبالله التوفيق.
[: الرجل يهدم داره وله الفناء الواسع فيزيد فيها من الفناء]
ومن كتاب الأقضية والحبس قال أصبغ: سألت أشهب: عن الرجل يهدم داره وله الفناء الواسع فيزيد فيها من الفناء يدخله من بنيانه ثم يعلم بذلك، قال:(9/412)
لا يعرض له إذا كان الفناء واسعا رجراجا لا يضر الطريق، وقد كرهه مالك، وأنا أكرهه ولا آمر به، ولا أقضي عليه أن يهدمه إذا كان واسعا رجراجا ولا يضر ذلك بشيء منه ولا يحتاج إليه ولا يقاربه المشي، قال أصبغ في الرجل يبني دارا له فيأخذ من طريق المسلمين شيئا يزيده فيها، كان ذلك مضرا بطريق المسلمين أو لا يضر: أترى ذلك جائزا، وهل تجوز شهادة من فعل مثل هذا؟
قال أصبغ: إن كان اقتطعه اقتطاعا مما يضر بالطريق والمسلمين وأدخله في بنيانه، وكان إدخاله فيما يرى بمعرفة لا بجهالة، أو وقف عليه فلم ينته، فلا أرى أن تجوز شهادته ويهدم بنيانه إذا أضر جدا، وإن كانت الطريق واسعة جدا كبيرة، وكان الذي أخذ الشيء اليسير جدا الذي لا يضر ولا يكون فسادا في صغير ما أخذ وسعة الطريق وكثرته فلا أرى أن يهدم بنيانه ولا يعرض له، وقد سألت أشهب عنها بعينها ونزلت عندنا فكان هذا رأيي فيها، فسألته عنها فقال لي مثله.
قال محمد بن رشد: هذا من قول أصبغ وروايته عن أشهب خلاف ما مضى قبل هذا في سماع زونان، وقد مضى القول على ذلك هنالك مجودا مستوفى فلا وجه لإعادته هنا، والله الموفق.
[: النصارى يبيعون الخمر]
ومن كتاب البيوع الثاني قال أصبغ: وسمعته يقول: لا يترك النصارى يبيعون الخمر بالجزيرة؛ لأن الجزيرة من الفسطاط، قلت له: فالقنطرة؟ قال: لا ولا القنطرة.
قلت: فيتركون في قراهم يبيعونها، قال: نعم، قلت: وإن كان فيها مسلمون؟ قال: نعم، فمتى علم أنه يبيع من المسلمين منع، قال أصبغ: هذا في غير المدن من القرى التي(9/413)
هي مساكنهم، وهم الغالبون عليها، ليس للمسلمين فيها إلا قليل فلا يعرض لهم.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ سمعت أشهب يقول في رجل حلف، يحمل على التفسير لقول ابن القاسم، وتفسير قوله أن ما كان من مواضعهم قريبا من الفسطاط، كالجزيرة والقنطرة فلا يتركون أن يبيعوا فيها الخمر وإن لم يكن معهم فيها من المسلمين أحد مخافة أن يتناولها منهم أحد من الفسطاط.
وما بعد من قراهم عن الفسطاط، فكان منها على مثل الميل، وإن كان دون فرسخ فلا يمنعون من إدخالها وبيعها وشربها وبيعها بعضهم من بعض، وإن كان بين أظهرهم مسلمون. قال ذلك أصبغ في مجالسه، وهو قوله هاهنا.
وقال أيضا في مجالسه: إنه لا يباع لهم ذلك إلا ألا يسكن معهم في قراهم أحد من أهل الإسلام، وقد مضى هذا في رسم الشجرة من قول ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[: رجل حلف ليقضين رجلا حقه فيأبى أن يقبله]
ومن كتاب الجامع قال أصبغ: سمعت أشهب، يقول في رجل حلف ليقضين رجلا حقه فيأبى أن يقبله، أتراه في سعة من هذا؟ قال: هذا يأتي السلطان، قيل له: أفيجبر السلطان صاحبه على أخذه؟ قال: نعم، صاغرا ويقيمه.
قال محمد بن رشد: لا يخلو الحالف ليقضين رجلا حقه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون معنى ما حلف عليه وأراده أن يقضيه حقه ليبرئ ذمته من دينه.
والثاني: أن يكون معنى ما حلف عليه وأراده ألا يحبس عليه حقه ويمطله به، مثل أن يقضيه حقه فيقول: أقضيكه غدا، فيقول: أخشى(9/414)
ألا تفعل، فيحلف ليقضينه غدا وما أشبه ذلك.
والثالث: ألا يكون ليمينه بساط يحمل عليه، ولا يكون له فيها نية ولا إرادة، فأما الوجه الأول فلا يبر فيه إلا بأن يقبض منه حقه، فإن أبى من قبوله كان من حقه أن يجبر على ذلك ليبرئ ذمته من دينه فيبر في يمنيه.
وأما الوجه الثاني: فيبر فيه بأن يأتيه بحقه قبله أو لم يقبله، فإن كانت يمينه بطلاق أو عتاق أو ما أشبه ذلك مما يقضي به عليه القاضي فأتاه بحقه فأبى قبوله أشهد عليه بذلك ولم يلزمه شيء.
وأما الوجه الثالث: فيتخرج على قولين: أحدهما: أنه لا يبر إذا أبى من قبوله إلا بأن يرفع ذلك إلى السلطان يدفع إليه حقه شاء أو أبى.
والثاني: أنه يبر إذا أتاه بحقه فأبى أن يقبله منه دون أن يجبره على قبضه منه، وقد مضى ما يبين هذا المعنى في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن قدحًا بكساء ثم تنازع فيه]
مسألة وسئل: عن رجل أتى بمكة إلى زمزم فوجد رجلا معه قدح، فقال: ناولني قدحك هذا، فقال: إني أخاف عليه، فقال: هذا كسائي عندك حتى أعود إليك به، فوضع الكساء وأخذ القدح ثم رجع فلم يجد الرجل، قال: لو أتى السلطان حتى يأمره إن كان صادقا أن يبيع القدح ويقبض ثمنه من ثمن الثوب، قيل له: هو صادق، وهذا صحيح ألا يقبضه لنفسه دون السلطان؟ قال: لا، قيل له: ويأمره السلطان؟ قال: نعم، يأمره من غير حكم على الغائب، ويقول له: إن كنت صادقا فافعل، فإن جاء الرجل كان على خصومته.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة وقعت في بعض الروايات وهي صحيحة على أصولهم، وعلى معنى ما في كتاب طلاق السنة من المدونة،(9/415)
وعلى ما في نوازل سحنون من كتاب المديان والتفليس، فإن باع القدح بأمر السلطان وقبض ثمنه من ثمن كسائه، أي: من قيمته فقدم صاحب القدح بالكساء وأقر بما قال البائع للقدح بأمر السلطان لم يكن له إلا ما باع به القدح لبيعه إياه بأمر السلطان، ولو باعه بغير أمره كانت له قيمته، وإن ادعى القدح وأنكر رهن الكساء حلف في الكساء وأخذ قدحه، وإن أقر بالكساء وادعى القدح وأنكر الرهن فيه حلف على إنكار الرهن ورد الكساء، وأخذ قيمة قدحه أيضا، وهذا خلاف ما جرى به العمل من أن القاضي لا يحكم للمرتهن ببيع الرهن حتى يثبت عنده الدين والرهن وملك الراهن له ويحلف مع ذلك أنه ما وهب دينه ولا قبضه ولا أحال به وأنه لم يزل في ذمته إلى حين قيامه، والذي جرى به العمل من هذا هو على أصل مطرف وابن الماجشون في كتاب طلاق السنة من المدونة التي أشرنا إليها، وبالله التوفيق.
[فاسد يأوي إليه أهل الفسق والخمر ما يصنع به]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم: سئل مالك عن فاسد يأوي إليه أهل الفسق والخمر ما يصنع به؟ قال: يخرج من منزله وتحرز عليه الدار والبيوت، فقال: فقلت: لا تباع، قال: لا، فلعله يتوب فيرجع إلى منزله، قال ابن القاسم: يتقدم إليه مرة أو مرتين، فإن لم يتب أخرج وأكرى عليه.
قال محمد بن رشد: قد قال مالك في الواضحة: إنها تباع عليه، خلاف قوله في هذه الرواية، وقوله فيها يصح لما ذكره من أنه قد يتوب فيرجع إلى منزله، ولو لم تكن الدار له وكان فيها بكراء أخرج منها وأكريت(9/416)
عليه ولم يفسخ كراؤه فيها، قاله في كراء الدور من المدونة وقد روي عن يحيى بن يحيى أنه قال: أرى أن يحرق بيت الخمار، وقال: وقد أخبرني بعض أصحابنا أن مالكا كان يستحب أن يحرق بيت المسلم الذي يبيع الخمر، قيل: وقيل النصراني يبيع الخمر من المسلمين، قال: إذا تقدم إليه فلم ينته فأرى أن يحرق عليه بيته بالنار، قال: وحدثني الليث أن عمر بن الخطاب حرق بيت رويشد الثقفي لأنه كان يبيع الخمر، وقال له: أنت فويسق ولست رويشد، وبالله التوفيق.
تم الكتاب بحمد الله.(9/417)
[: كتاب الشهادات الأول]
[: شهد عليه رجال بحق فحلف بالطلاق إن كانوا شهدوا علي بحق وإنه لباطل]
كتاب الشهادات الأول(9/419)
من سماع ابن القاسم عن مالك بن أنس من كتاب أوله قطع الشجر قال: أخبرنا سحنون، عن ابن القاسم، عن مالك، أنه قال فيمن شهد عليه رجال بحق فحلف بالطلاق إن كانوا شهدوا علي بحق، وإنه لباطل، قال: لا يفرق بينه وبينها، فإن شهد عليه غيرهم طلقت عليه امرأته، قال ابن القاسم: وأصل قول مالك في هذا أن من حلف تكذيبا للشهود سموا أو لم يسموا، ثم شهدوا أنه لا يلزمه ذلك الطلاق، مثل أن يقال له: إن فلانا وفلانا يشهدان عليك، وإن ثم شهودا يشهدون عليك، فيقول: امرأته طالق البتة إن شهدوا علي إلا بزور، وإن لم تكن شهادتهم باطلا، أو كذبوا علي في شهادتهم، ثم شهدوا فلا شيء عليه، وإن شهدوا فقال هذا القول بعدما شهدوا فلا شيء عليه، فأما أن يقول امرأتي طالق البتة إن كنت تسألني حقا أو إن كنت شربت خمرا، ولا فعلت(9/421)
كذا وكذا، مثل أن يقول: لم أدخل دار فلان ولم أكلم فلانا، ثم شهد عليه قوم أنه فعله حنث.
قال ابن القاسم: قال لي مالك: ولو أنه أقر أنه فعل شيئا من ذلك عند نفر ثم حلف بطلاق امرأته البتة إن كان فعله دين ولم يكن عليه طلاق، ولو أنه أقر أنه حلف بطلاق امرأته على شيء ألا يفعله، ثم شهد عليه أنه قد فعله، ثم زعم أنه قد كذب بما أقر به طلق عليه ولم يصدق، ولو شهد عليه نفر في حق فحلف بعدما شهدوا أن امرأته طالق إن كان له علي شيء لم يلزمه طلاق، قال ابن القاسم: لأن يمينه هاهنا بعدما شهدوا تكذيبا للشهادة، وسمعت مالكا يقول: ولو سئل عن أمر ذكر له أنه حلف فيه بالطلاق ألا يفعله، وقد رئي يفعله فجحده ثم أقر بعد ذلك أنه قد كان قاله، يريد الذي قال إني قد كنت حلفت، لزمه الطلاق.
قال محمد بن رشد: هذه المسائل صحاح كلها، وأصلها في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة وتكررت في رسم يشتري الدور والمزارع للتجارة من سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق بزيادة اليمين في الموضع الذي يدين فيه منها، ومثله في المدونة ولا اختلاف في شيء أحفظه منها.
وتلخيصها أن اليمين على الفعل بالطلاق كان ببينة أو بإقرار إذا تقدم على الإقرار بالفعل أو الشهادة عليه به طلقت عليه امرأته، وإن تقدم الإقرار بالفعل أو الشهادة به عليه على اليمين كان ببينة أو بإقرار لم تطلق عليه، والفرق بين أن يتقدم اليمين على الفعل، أو الفعل على اليمين، هو أن اليمين إذا تقدم ببينة أو بإقرار فقد لزم حكمه، ووجب ألا(9/422)
يصدق في إبطاله، وإذا تقدم الفعل بيمينه أو بإقرار لم تثبت اليمين بتكذيب ذلك حكما إذا لم يقصد الحالف إلى إيجاب حكم الطلاق الذي حلف به على نفسه، وإنما قصد إلى تحقيق نفي ذلك الفعل، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الأخ لأخيه في الفرية]
مسألة قال مالك: لا تجوز شهادة الأخ لأخيه في الفرية، ولا في الحد وأشباه ذلك.
قال محمد بن رشد: يريد بالفرية هاهنا الفرية التي لا توجب الحد وإنما توجب الأدب، مثل أن يقول له: يا سارق أو يا شارب الخمر أو يا آكل الربا وما أشبه ذلك، بدليل قوله: ولا في الحد، يريد بالحد مثل أن يقذف في بدنه أو ينفى عن أبيه، وإن كان ليس بأخيه لأبيه، قال في رسم أول عبد ابتاعه من سماع يحيى: أو يقذف أمه وإن كان ليس بأخيه لأمه، ومعنى ذلك إذ قام بحدها إما بعد موتها وإما في حياتها بتوكيلها، وكما لا تجوز شهادته له في الحدود لا تجوز في نفيها عنه، مثل أن يشهد عليه أنه قذف رجلا فشهد هو أن ذلك الرجل عبد أو ما أشبه ذلك، ويريد بقوله: وأشباه ذلك ما يشبه في وقوع الحمية فيه والتهمة بالعصبية، مثل أن يجرح عمدا.
قال في الرسم المذكور من سماع يحيى أو يقتل، يريد عمدا وإن كان له أولاد فكان إنما يشهد لهم؛ لأن القتل مما تقع فيه الحمية، وأجاز أشهب في سماع زونان شهادة الأخ لأخيه في الجراح خطئها وعمدها، وإذا أجازها في جراح العمد ولم يراع ما يقع في ذلك من الحمية فيلزم على قياس قوله إجازتها في الحدود والقتل، وأما جراح الخطأ وقتل الخطأ فتجوز شهادته له في ذلك؛ لأنه مال ولا اختلاف في جواز شهادته له في الحقوق والأموال وإن عظمت، إذا لم يكن الشاهد منهما لأخيه في عيال المشهود له، ولا يضر أن يكون المشهود له في عيال الشاهد، وقيل: إذا كان مبرزا(9/423)
في العدالة وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقيل: إذا كان جائز الشهادة لا بأس بحاله وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه، ولم يفرقوا في شهادته له بالمال بين أن يكون أبواه حيين أو لا يكونا حيين، والذي يأتي على قياس قول ابن القاسم في أنه لا تجوز شهادة الرجل لزوجة ابنه، ولا لزوجة أبيه، ولا لابن زوجته، ولا لأبيها، ولا تجوز شهادته له إذا كان أبواه حيين أو أحدهما، أو أبوه إذا كان أخاه لأبيه، أو أمه إذا كان أخاه لأمه؛ لأنه يجر بذلك نفعا إلى أبويه، أو إلى أحدهما فيها فيدخل عليهما من السرور بالشهادة لابنهما، وهذا هو المعنى عنده في أنه لا تجوز شهادته لابن زوجته ولا لأبيها ولا لزوجة ابنه، خلاف مما ذهب إليه سحنون على ما يأتي من اختلاف قولهما في ذلك في رسم جاع من سماع عيسى.
وأجاز ابن القاسم شهادته له في النكاح، ومنع من ذلك سحنون إذا نكح إلى من يتزين بنكاحه إليهم، وهو يحمل على التفسير لقول ابن القاسم، وإلى هذا ذهب ابن دحون، وخالفه غيره في ذلك وذهب إلى أنه خلاف له، قال: لأنه يشهد له في المال وهو مما يشرف به، وليس بصحيح؛ لأنه لا يشرف هو بشرف أخيه بالمال ويشرف بشرفه بالنكاح، هذا مما لا يخفى الوجه به.
واختلف في تعديله ونفي التجريح عنه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعدله ويجرح من جرحه وهو الظاهر من مذهب ابن القاسم ومن قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة.
والثاني: أنه لا يعدله ولا يجرح من جرحه، وهو قول ابن نافع وأشهب وأصبغ وأحد قولي ابن الماجشون.
والثالث: أنه يعدله ولا يجرح من جرحه وهو قول ابن الماجشون في الواضحة، واختيار ابن حبيب.
وهذا إذا جرح بالإسفاه، وأما إذا جرح بالعداوة فيجوز أن يجرح من جرحه بها.
قال (ذلك) سحنون في نوازله، وهو صحيح على مذهب من يجيز تعديله، وبالله التوفيق.(9/424)
[مسألة: سئل عن شهادة عنده وهو مريض فأنكرها]
مسألة قال مالك، فيمن سئل عن شهادة عنده وهو مريض فأنكرها، وقال: كل شهادة أشهد بها بين فلان وفلان فهي باطل، ثم شهد بها بعد ذلك بينهما، قال: يسأل لم قال ذلك؟ فإن قال: كنت مريضا فخشيت ألا أكون أثبت ما أشهد به وما أشبه هذا من القول الذي له وجه يعرف، فأرى أن تجوز شهادته إذا كان عدلا لا يتهم.
قال القاضي: قوله إذا كان عدلا لا يتهم معناه إذا كان عدلا مبرزا في العدالة.
وهذا إذا كان إنما سئل في مرضه عن الشهادة لتنقل عنه إلى الحكم أو ليشهد على شهادته بها تحصينا لها، وكذلك إذا سئل عنها عند الحكم ليشهد بها فأنكرها، وقال: لا علم عندي منها، ثم جاء يشهد على ما في رسم الكبش من سماع يحيى.
وأما لو لقيه الذي عليه الحق فقال له: بلغني أنك تشهد علي بكذا، فقال: لا أشهد عليك بذلك ولا عندي منه علم، وإن شهدت به عليك فشهادتي باطلة، ثم جاء فشهد، لم يقدح ذلك في شهادته ولم يضرها، وإن كان على قوله بينة، قال ذلك ابن حبيب في الواضحة، وهو يحمل على التفسير لقول مالك هذا، ولقول ابن القاسم في سماع يحيى.
والفرق بين الموضعين أن له أن يقول في الوجه الثاني إنما قلت ذلك معتذرا ولم أزل عالما بما شهدت به، وفي الوجه الأول لا عذر له فيما أقر به على نفسه من الجهل بالشهادة فوجب أن تبطل شهادته، إلا أن يأتي بأمر يشبه من أنه تذكر الشهادة بعد ذلك، وأنه خشي ألا يقوم بها في مرضه فيصدق في ذلك إذا كان مبرزا في العدالة، وكذلك إذا زاد في شهادته أو نقص منها بعد أن شهد بها لا تجوز شهادته إلا أن يكون مبرزا(9/425)
في العدالة، وهذه إحدى المسائل الست التي يشترط فيها التبريز في العدالة على مذهب ابن القاسم.
والثانية: شهادة الأخ لأخيه.
والثالثة: شهادة الأجير لمن استأجره إذا لم يكن في عياله.
والرابعة: شهادة المولى لمن أعتقه.
والخامسة: شهادة الصديق الملاطف لصديقه.
والسادسة: شهادة الشريك المفاوض لشريكه في غير مال المفاوضة.
وسيأتي في أول رسم الكبش من سماع يحيى القول على الذي يزيد في شهادته أو ينقص منها قبل الحكم بها أو بعد ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى.
[مسألة: أقر الشاهد ببطلان شهادته]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت رجلا شهد عليه رجل فلقيه المشهود عليه فقال: بلغني أنك شهدت علي بكذا وكذا، فقال له الشاهد: إن كنت شهدت عليك بذلك فأنا فيه مبطل. وقد كان شهد بذلك، هل ترى شهادته ساقطة؟
قال: أرى هذا رجوعا إذا كان على قوله بينة، وتسقط شهادته، ولا تجوز ولا يثبت بها شيء إذا كان رجوعه قبل القضاء، وإن كانت هذه المعاملة منه بعد القضاء ضمن ما استهلك من المال.
قال محمد بن رشد: حكى ابن حبيب في هذه المسألة عن مطرف وابن الماجشون وأشهب وأصبغ أن قوله هذا لا يضره في شهادته ولا يكون رجوعا عنها، وإن كانت عليه بينة إلا أن يرجع عن شهادته رجوعا بينا، كما إذ قال ذلك له قبل أن يشهد لما وقفه على ما بلغه عنه من أنه يريد أن يشهد عليه، ووجه ما حكاه عنهم أن قوله لما كان محتملا أن يكون أراد به تكذيب نفسه في الشهادة والرجوع عنها، وأن يكون لم يرد به شيئا من ذلك، وإنما قاله معتذرا وجب ألا يبطل الحاكم شهادته إلا بيقين، ولم يجب عليه أن يسأله هل أراد بذلك الرجوع عن شهادته أم لا؟ إذ لو(9/426)
أراد ذلك لفعله، إذ لا ضرر عليه فيه؛ لأنه لا يضمن إذا رجع قبل نفوذ الحكم، ولم يصدقه سحنون أنه أراد بذلك الاعتذار، وجعله رجوعا يريد بعد الإعذار إلى المشهود له في البينة التي شهدت عليه بذلك القول، ولو شهد عليه أنه قال ذلك ابتداء دون أن يعاتب على الشهادة لكان ذلك رجوعا عنها باتفاق بعد الإعذار إلى المشهود له إن كان قبل الحكم، وإلى الشاهد إن كان ذلك بعد الحكم؛ لأنه ضامن، والحكم ماض على قوله في هذه الرواية، وفي المدونة خلاف ما في أول رسم من سماع عيسى من أنه لا يضمن إذا شبه عليه ولم يتعمد الزور، وسيأتي القول على ذلك هنالك إن شاء الله، وبه التوفيق.
[مسألة: رجل طلب من رجل حقا له عنده فشهد له رجل به وأنه حميل به]
مسألة وقال مالك: لو أن رجلا طلب من رجل حقا له عنده فشهد له رجل أنه ظل يسأله ذلك الحق وأنه حميل به، رأيت شهادته غير جائزة، ولا يبطل ما أقر به من الحمالة، ويغرم ما أقر به الحميل، قال ابن القاسم: إن كان هذا المدعي قبله الحق مليا جازت شهادة الحميل، وإن كان عديما لم تجز شهادة الحميل، وإنما بطلت شهادته لأن الحميل إذا غرم المال أعديناه عليه، فكانت تهمة.
قال محمد بن رشد: الاختلاف في جواز شهادة الحميل بالدين الذي أقر أنه تحمل به جار على اختلافهم في لزوم الحمالة له، إذا كان الذي عليه الدين منكرا، وقد اختلف في ذلك، فقيل: تلزمه الكفالة ويجب عليه الغرم ولا يكون له أن يرجع على الغريم إلا أن يثبت عليه الدين، وهو قول ابن القاسم في رواية يحيى عنه من كتاب الكفالة والحوالة، فعلى هذا إن(9/427)
شهد الحميل بالدين لم تجز شهادته؛ لأنه يشهد لنفسه ليسقط عنه الغرم، أو ليرجع على الغريم بما غرم، وهو قول مالك في هذه الرواية.
وقيل: إنه لا تلزمه الكفالة لإنكار الذي عليه الدين، وقد تأول ذلك على ما في كتاب الكفالة من المدونة وليس هو عندي بتأويل صحيح، فعلى هذا القول إن شهد الحميل بالدين جازت شهادته، إذ لا يجر إلى نفسه بها منفعة، بل يوجب عليها مضرة، وهي لزوم الحمالة له، وهي رواية أشهب عن مالك، وقيل: تلزمه الكفالة، ولا يؤخذ بها إلا في عدم الغريم، بمنزلة أن لو كان مقرا على ما اختاره ابن القاسم من قولي مالك في ذلك، فعلى هذا إن شهد الحميل بالدين جازت شهادته إن كان الغريم مليا، ولم تجز إن كان معدما، وهو قول ابن القاسم في الرواية، وقد تأول على ما في سماع عيسى من كتاب الكفالة والحوالة، أن الحوالة لا تلزمه وإن أقر الغريم بالحق حتى يثبت عليه، وأقامه بعض الناس من قوله في المدونة إذا أثبت ما بايعه به في مسألة من قال أنا ضامن لما بايعت به فلانا، وذلك كله عندي غير صحيح؛ لأنها مسائل مفترقة لا اختلاف من القول، فإذا قال الرجل أنا كفيل لفلان بمائة دينار له على فلان، وفلان منكر لزمه غرم المائة، وقيل: لا يلزمه غرمها إذا كان منكرا.
وقيل: يلزمه غرمها إذا كان معدما وإن كان منكرا، وإذا قال الرجل: لي على فلان مائة دينار، فقال له رجل: أنا لك بها كفيل، لم يلزمه غرمها بالكفالة إلا أن يقر بها المطلوب قولا واحدا، وإذا قال الرجل: لي على فلان حق، فقال له الرجل: أنا لك به كفيل، فقال المطلوب له: على مائة دينار لم يلزم الكفيل غرم المائة دينار بالكفالة إلا أن تثبت المائة على المطلوب بالبينة قولا واحدا أيضا، بمنزلة من قال لرجل: أنا ضامن لما بايعت به فلانا، فهذا تحصيل القول في هذه(9/428)
المسألة والله الموفق.
[مسألة: شهادة الوارث في العتاقة والصدقة]
مسألة قال عبد العزيز بن أبي سلمة في شهادة الوارث في العتاقة والصدقة: إنها جائزة في حصته منها، وإن كان عدلا جازت شهادته على من تصدق به عليه، فأما العتق فلا يحلف فيه ولا يقوم عليه، قال ابن القاسم، وقال مالك: لا يعتق منه شيء إلا أن يشتريه فيعتق عليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن العتق لا يحلف فيه العبد مع الذي شهد له بالعتق من ورثة سيده؛ لأن العتق لا يكون فيه شاهد ويمين، وقد اختلف فيما يلزم الشاهد في حظه من العبد إذا لم تجز شهادته لانفراده بها، أو لكونهما إن كانا اثنين غير جائز في الشهادة، أو متهمين في شهادتهما بجر الولاء إلى أنفسهما دون من يرث الميت ممن لا ولاء له على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يعتق عليه حظه منه، ويستحب له أن يبيعه فيجعله في عتق، فإن ملك العبد يوما ما عتق عليه إن حمله الثلث، أو كانت الشهادة في الصحة، وهو قول مالك هاهنا وفي المدونة.
والثاني: أنه يعتق عليه حظه منه، وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمة هاهنا، وقول المغيرة قرب آخر نوازل سحنون.
والثالث: أنه يعتق عليه حظه منه، ويقوم عليه حظوظ أشراكه فيه، وهو الذي يأتي على قول أصبغ في نوازله في الرجلين يشتريان العبد من الرجل ثم يشهد أحدهما على البائع أنه قد كان أعتقه، ولكل قول منها حظ من النظر، فوجه قول مالك أن العتق لا يصح تبعيضه للضرر الداخل في ذلك على العبد وعلى الأشراك فيه، فإذا لم يلزم أن يقوم على الشاهد نصيب أشراكه إذ ليس بمعتق لحظه وإنما هو شاهد على غيره وجب ألا يعتق عليه حظه لِمَا في ذلك من الضرر بالعبد(9/429)
وسائر الورثة.
ووجه قول عبد العزيز والمغيرة أن الحر لا يحل ملكه لمن علم أنه حر وهو مقر أن حظه من العبد حر، فوجب أن يعتق عليه، إذ لا يحل ملك الحر، ولم يلزم أن يقوم عليه بقيته إذ ليس بمعتق، وقول عبد العزيز على قياس القول بأن من أعتق حظه من عبد يقوم عليه حظ شريكه على أن نصفه حر، ووجه قول أصبغ أنه متهم في شهادته على أنه إنما أراد أن يعتق حظه من العبد، ولا يقوم عليه بقيته، والاختلاف في وجوب تقويم حظوظ أشراكه عليه جار عندي على اختلافهم في الولاء لمن يكون؟ هل له أو للمشهود عليه؟ وأما شهادة الوارث على الميت بالصدقة فلا اختلاف في أنها لازمة له في حظه إن كان مالكا لأمر نفسه، وجائزة على سائر الورثة للمتصدق عليه إن كان جائز الشهادة، يحلف معه ويستحق جميع الصدقة على ما قاله عبد العزيز.
ومعنى قوله: وإن كان عدلا جازت شهادته على من تصدق به عليه، أي جازت شهادته لمن تصدق به عليه، فحلف معه واستحق صدقته، والعرب قد تبدل حروف الخفض بعضها من بعض، فعلى هذا يخرج هذا اللفظ، والله تعالى هو الموفق المعين بفضله.
[: شهادة البدوي للحضري في الحقوق والجراح]
ومن كتاب القبلة وقال، في شهادة البدوي للحضري في الحقوق والجراح: أما في الحقوق فإني لا أراها جائزة، وذلك أن الناس لم يتركوا أن يتوثقوا لأنفسهم ويشهدون العدول، والذي يشهد بدويا ويترك جيرانه من أهل الحاضرة عندي مريب، وأما الجراح فإني أرى إن كان البدوي عدلا أن تجوز شهادته، وذلك لأن الجراح تلتمس لها الخلوة وموضع غير أهل العدل من الشهداء، ولا يستطيع من أصابه ذلك أن يحضر لذلك شهداء، فهذا موضع لشهادته، قال ابن القاسم: وتجوز شهادتهم -يريد: أهل البادية- في رؤية الهلال إذا كانوا عدولا.
وسئل مالك: عن قروي خرج إلى بادية فسكن فيها معهم، قال: إذا كان قد انقطع إليهم وسكن معهم فأرى شهادتهم(9/430)
له جائزة، فقيل له: إنه في معدن، فقال: أين أهل ذلك المعدن؟ فقال: انتقلوا وانقطع نيله وسكنه الأعراب، قال: إذا كان ذلك المعدن بهذه الحال فشهادتهم جائزة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن أهل البادية لا تجوز شهادتهم فيما يقصد إلى إشهادهم عليه دون أهل الحاضرة فيما يقع في الحاضرة من المبايعات والمناكحات والهبات والأكرية والإجارات والوصايا والعتق والتدبير وما أشبه ذلك؛ لأن القصد إلى إشهادهم دون أهل الحاضرة ريبة، فلا شهادة للبدوي في الحضر على حضري ولا على بدوي لحضري إلا في الجراح والقتل والزنا والشرب والضرب والشتم، وما أشبه ذلك مما لا يقصد إلى الإشهاد عليه، وتجوز شهادتهم فيما يقع في البادية من ذلك كله على الحضري، والبدوي للحضري والبدوي إذا كانوا عدولا لا ريبة في القصد إلى شهادتهم في البادية.
هذا تحصيل القول في هذه المسألة على معنى هذه الرواية مما حكاه ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وغيرهما من أصحاب مالك وعن مالك أيضا، فعلى هذا الأصل لو حضر أهل البادية شيئا مما يقع في الحاضرة بين أهلها وغيرهم من المعاملات وغيرها دون أن يحضروا لذلك أو يقصد إلى إشهادهم فشهدوا بما حضروه لجازت شهادتهم إذا كانوا عدولا، وقد وقع في المبسوطة من رواية ابن القاسم عن مالك، وقول ابن وهب من رأيه خلاف هذا، أنه لا تجوز شهادة البدوي على الحضري لما في ذلك من الظنة والتهمة، يريد والله أعلم إذا شهد على حضري لبدوي مثله في شيء من الأشياء كان في الحاضرة أو البادية.
قال ابن وهب فيها: وقد اختلف في شهادة الحضري على البدوي، فرأى قوم أنها لا تجوز، وأنا أرى أنها جائزة، إلا أن يدخلها ما دخل شهادة البدوي على الحضري من الظنة فلا(9/431)
تجوز حينئذ، ومن الدليل على هذا القول ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز شهادة البدوي على القروي» .
وقد قال بعض من أجاز شهادته عليه، وصحح الحديث: معناه في أهل البادية الذين لا يجيبون إذا دعوا، وليسوا على شرط أهل العدالة من أهل الحاضرة، وليس ذلك ببين، إذ لو كان معنى الحديث هذا، لقال فيه لا تجوز شهادة البدوي مطلقا.
ومن هذا المعنى شهادة العالم على العالم، وقع في المبسوطة من قول عبد الله بن وهب لا تجوز شهادة القارئ على القارئ؛ لأنهم أشد الناس تحاسدا وتباغيا، وقاله سفيان الثوري ومالك بن دينار.
[: غلام بالبادية ادعى على سيده الميت التدبير وأقام شهودا من البادية]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق وسئل مالك: عن رجل كان يتجر في البادية فهلك بها، فقام غلام له كان معه فادعى التدبير، وأقام شهودا من البادية، فقال: إذا كانوا عدولا جازت شهادتهم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال وهو مما لا اختلاف فيه، وقد مضى في المسألة التي قبل هذه بيان ذلك، فلا معنى لإعادته، بالله التوفيق.
[: الرجل يأتي بشهداء عدول على الرجل في حق فيجرحهم الآخر]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك: عن الرجل يأتي بشهداء عدول على الرجل في حق، ويأتي المشهود عليه بشهود على الذين شهدوا عليه أنه بينه وبينهم عداوة فترد شهادتهم عنه، أفترى أن يحلف؟ قال: إذا ردت شهادتهم فهم بمنزلة من لم يشهد عليه، وكأنه رأى أن لا يحلف، وقال سحنون مثله.(9/432)
قال محمد بن رشد: لم ير مالك في هذه الرواية البينة إذا سقطت بالتجريح شبهة توجب اليمين كالخلطة، ومثله في رسم العتق من سماع عيسى في نوازل سحنون، وقد قيل: إن ذلك آكد من الخلطة فيجب عليه به اليمين، ذكر ذلك ابن أبي زيد في المختصر، وبه قال أبو بكر بن محمد، والاختلاف في هذا عندي جار على اختلافهم في الخلطة هل لا تثبت إلا بما ثبت به الحقوق من شاهدين أو شاهد وامرأتين أو يجتزأ فيها بالشاهد الواحد والمرأة الواحدة حسبما مضى القول فيه في رسم القضاء المحض من سماع أصبغ من كتاب الأقضية، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد عليه وبينهما عداوة فاحتاج أهل الشهادة إليها فأخبرهم أنه عدو له]
مسألة وسئل مالك: عن رجل شهد على رجل بينه وبينه عداوة فاحتاج أهل الشهادة إليها فأخبرهم أنه عدو له، قالوا: فإنا نحب أن تشهد لنا، قال مالك: فإني أرى أن يشهد ويخبر مع شهادته بعداوته إياه لا يكتم ذلك.
قال القاضي: هذا مثل ما في رسم من سماع عيسى، خلاف ما في سماع سحنون ونوازله.
وأصح القولين في النظر أنه لا يجوز له أن يخبر بعداوته إياه؛ لأنه يجرح بذلك نفسه فتسقط شهادته، ويبطل حق ما يعلم صحته، ووجه القول الأول: أنه لا ينبغي له أن يقر الحكم بإعمال شهادة من لا تجوز شهادته، وهو ضعيف، وبالله التوفيق.
[مسألة: تنازعا في شيء يظنانه لهما وكل واحد منهما يظنه لنفسه]
مسألة وقال في الرجلين يدعيان الشيء فيقول أحدهما: قد رضيت(9/433)
بشهادة فلان بيني وبينك، فيشهد الرجل على أحدهما، فيقول المشهود عليه: ظننت أنك تقول الحق الذي تعلم أنه الحق، فأما إذ شهدت علي بغير الحق فلا أرضى فذلك له، والشهادة غير جائزة.
قال سحنون: وقال ابن دينار: إذا تنازع رجلان في شيء يظنانه لهما، وكل واحد منهما يظنه لنفسه من غير يقين، فيسألان الرجل فيشهد أنه لأحدهما، قال: ذلك جائز ولا يشبه ذلك مسألة مالك وهو الذي تعلمناه.
قال محمد بن رشد: حكى ابن عبدوس عن ابن كنانة نحو قول ابن دينار إنه إن كان نازعه في شيء ليس عنده علم مثل حدود أرض، أو دين على أبيه، أو ما أشبه ذلك، قال له: فلان يشهد لي، فقال: إن شهد لك فقد رضيت، فشهد لزمه، وإن كان نازعه في قول قاله، أو فعل فعله، زعم صاحبه أن فلانا رآه حين فعله أو سمعه حين قاله، فقال له: إن شهد علي فلان بذلك فقد رضيت على وجه التبكيت له والإنزاه عن الكذب، كالقائل: إن فلانا لا يقول ذلك فشهد عليه بذلك لم يلزمه.
وقال ابن القاسم في المبسوطة: لا يلزمه ذلك في الوجهين، وهو قول عيسى بن دينار، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عنه، وعن ابن الماجشون وأصبغ، وعليه يأتي ما في رسم يوصي من سماع عيسى من هذا الكتاب على ما نتأوله عليه إذا وصلنا إليه إن شاء الله، وحكى عن مطرف: أن له أن ينزع عن الرضا به ما لم يشهد، فإذا شهد عليه لم يكن له أن ينزع، ولزمه ما شهد به عليه، قال: وسواء نفر إليه لعلمه بما جهلاه مما اختصما فيه، أو لمعرفته بحدود ذلك إن كانت أرضا أو على أي وجه نفر إليه ما لم يكن على وجه التبكيت لصاحبه والتنزيه للشاهد عن الكذب.(9/434)
والذي يتحصل في هذه المسألة أنه إن قال ذلك على وجه التبكيت لصاحبه والإنزاه للشاهد عن الكذب فلا اختلاف في أنه لا يلزمه ما شهد به عليه، وإن لم يقل ذلك على وجه التبكيت، ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يلزمه ما شهد به عليه كان يحقق علم ما نازع فيه خصمه من ذلك أو لا يحققه إلا أن يحكم به عليه مع شاهد آخر أو مع يمين المدعي، وهو قول ابن القاسم وابن الماجشون وأصبغ وعيسى بن دينار.
والثاني: أنه يلزمه ما شهد به عليه نازعه فيه خصمه، ولا يلزمه إن كان يحقق معرفة ذلك، وهو قول ابن دينار وابن كنانة، واختيار سحنون هذا، وقوله في آخر نوازله: وسواء كان الشاهد في هذا كله عدلا أو مسخوطا أو نصرانيا، وقد قيل: لا يلزم الرضا بشهادة النصراني، بخلاف المسخوط، وإذا لم يتبين من صورة تراجعهما التبكيت من غير التبكيت فهو فيما نازعه فيه من قول قاله، أو فعل فعله محمول على التبكيت حتى يتبين منه الرضا بقوله، والتزام الحكم به على نفسه على كل حال، وفيما نازعه من حدود أرض أو دين على أبيه أو ما أشبه ذلك محمول على غير التبكيت حتى يتبين منه التبكيت.
ولا اختلاف في أن له أن يرجع على الرضا بقوله في جميع الوجوه قبل أن يشهد، وذلك بخلاف الرضا بالتحكيم في الوجهين، إذ لا يختلف في أنه ليس لواحد منهما أن ينزع بعد الحكم، ويختلف هل يكون لمن شاء منهما أن ينزع قبل الحكم؟ فقال مطرف: له النزوع قبل الحكم، وقال ابن الماجشون وأصبغ عن ابن القاسم: ليس ذلك له، ولا يجوز أن يحكم النصراني ولا الصغير الذي لا يعقل، واختلف في العبد والمرأة والمسخوط والمولى عليه، والصغير الذي يعقل، فأجاز أصبغ تحكيمهم كلهم، ومنع مطرف من تحكيمهم كلهم، وأجاز ابن الماجشون في أحد قوليه تحكيم المرأة والعبد منهم، وكذلك المولى عليه على قياس قوله، وأجاز أشهب تحكيم المرأة والعبد والمولى عليه والمسخوط. فلمن يصح تحكيمه - على مذهب مطرف - سبعة أوصاف، وهي: البلوغ، والعقل، والإسلام، والحرية، والعدالة، والذكورية، وعدم الولاية.
وعلى مذهب أصبغ وصفان، وهما: العقل،(9/435)
والإسلام. وعلى مذهب أشهب ثلاثة أوصاف وهي: البلوغ، والعقل، والإسلام. وعلى مذهب ابن الماجشون أربعة أوصاف، وهي: البلوغ، والعقل، والإسلام، والعدالة.
ومن معنى هذه المسألة أعني مسألة الرضا بشهادة الشاهد مسألة رسم العتق من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب في الذي يوصي أن ما شهد به عليه ابنه من دين أو شيء فهو فيه مصدق، وسيأتي الكلام عليها في موضعها إن شاء الله.
[مسألة: الذي يأتي بشاهد واحد في حق لأبيه كيف يحلف]
مسألة وسئل مالك: عن الذي يأتي بشاهد واحد في حق لأبيه كيف يحلف؟ أعلى البتات أم على العلم؟ قال: على البتات إنه حق، ولكن إن جاء بشاهدين أحلف بالله إن أباه اقتضاه، ويحلف مع الشاهد على الحق بالبتات، ومع الشاهدين على العلم.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يحلف مع الشاهد على البتات صحيح؛ لأن يمينه تقوم مقام الشاهد الآخر، فكما يشهد الشاهد على البت، كذلك يحلف هو على البت إن الحق حق، كما شهد به الشاهد، لا يحكم له بالحق إلا بذلك، ولا يقبل منه أن يحلف على العلم، فيقول: بالله ما نعلم الشاهد شهد لي بباطل، ولا يصح له فيما بينه وبين خالقه أن يحلف على البتات إلا أن يوقن بصحة ما شهد به الشاهد بأسباب يقع له اليقين بها هو أعلم بها فيدين في ذلك، ويمكن من اليمين. وقد مضى هذا في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق.
وأما قوله: إنه يحلف مع الشاهدين على العلم فلا يصح ذلك إذا كان المشهود عليه منكرا، وإنما يصح إذا أقر بما شهدا به عليه، وادعى أنه قد قضى الميت، وهذا كبير يظن أنه قد علم به، وقد قيل: إنه لا يمين عليه إلا(9/436)
أن يدعي عليه العلم، والقولان في المدونة، وإن كان الدين ثبت على ميت لميت وارثه كبير حلف على القول الأول، وإن لم يدع ورثة الذي ثبت الدين عليه أنه قد كان قضاه، وأن وارثه قد علم، ولم يحلف على القول الثاني إلا أن يدعوا قضاء وأن هذا قد علم، والاختلاف في هذا على اختلافهم في لحوق يمين التهمة دون تحقيق الدعوى، وفي المكان الذي يجب فيه اليمين مع الشاهدين ما علم أنه اقتضاه، لا بد أن نزيده في يمينه مع الشاهد الواحد، فهذا بيان هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجلان شهدا لرجل في مسكن له فشهد رجل أنه مسكنه والآخر أنه حيزه]
مسألة وسئل مالك: عن رجلين شهدا لرجل في مسكن له، فشهد رجل أنه مسكنه، وشهد آخر أنه حيزه، أترى هذه شهادة واحدة؟ فإن خصمه احتج بأن يقول له إن هذه شهادة مختلفة؟ قال مالك: أرى حيزه ومسكنه شهادة واحدة لا تفترق، وربما كانت الشهادة الكلام فيها مختلف، والمعنى فيها واحد، وأراها شهادة واحدة، ولا أرى أن يدفع عن حقه لما اختلف من الكلام والمعنى واحد، وأراها شهادة واحدة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة منصوصة في كتاب الغصب من المدونة بينة المعنى؛ لأن الأحكام إنما تتعلق بالمعاني، لا بالألفاظ، فإذا اختلف اللفظ في الشهادة واتفق المعنى فيها لفقت باتفاق، مثل أن يشهد الشاهدان للرجل، فيقول أحدهما: أشهد أن الدار(9/437)
داره، ويقول الآخر: أشهد أن المنزل منزله، أو يشهد في الطلاق على الرجل أحد الشاهدين ببراءة والثاني بخلية وما أشبه ذلك كثيرا، وإن اختلف اللفظ والمعنى، واتفق ما يوجبه الحكم مثل أن يشهد أحد الشاهدين في دار بيد رجل أنها لرجل، ويشهد آخر أنه غصبها إياه؛ لأن الحكم يتفق في كلتي الشهادتين على أن يقضي للمشهود له بالدار، وإن كان للغصب أحكام تختص به دون الاستحقاق من غير غصب، ومثل أن يشهد شاهد على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا، ويشهد آخر أنه صالحها؛ لأن الحكم يتفق في كلتي الشهادتين على إيجاب التفرقة بينهما. وإن اختلف فيما سوى ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا شهد عليه شاهدان أنه كتابه بيده يؤخذ منه الحق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل كتب عليه رجل ذكر حق، وأشهد فيه رجلين، فكتب الذي عليه الحق شهادته على نفسه بيده في ذكر الحق، فهلك الشاهدان، ثم جحد، فأتى رجلان فقالا: نشهد أنه كتابه بيده، قال مالك: إذا شهد عليه شاهدان أنه كتابه بيده، رأيت أن يؤخذ منه الحق، ولا ينفعه إنكاره، وإنما ذلك عندي بمنزلة ما لو أقر ثم جحد وشهد عليه رجلان بإقراره، فأرى أن يغرم، فقال له رجل: ألا ترى هذه تشبه رجلا يشهد عليه رجلان بشهادة فأنكرها فلم تجز شهادة الرجلين؟ قال: لا يشبه، قيل له: أترى عليه يمينا مع شهادة الرجلين على شهادته بكتابه بيده أنه كتابه؟ قال: لا يمين عليه، وإنما اليمين مع الشاهد، وهذا قد استوجب حقه، ولا يمين عليه، وأرى أن يغرم له.(9/438)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن شهادة الرجل على نفسه إقرار عليها، وإقراره على نفسه شهادة عليها، فإذا كتب الرجل شهادته في ذكر الحق المكتوب عليه، أو كتب ذكر الحق ولم يكتب فيه شهادته، فقد أقر على نفسه، إذ لا فرق بين أن يكتب لفلان علي كذا وكذا، أو لفلان على فلان كذا، ويسمي نفسه، وإن كتب ذكر الحق على نفسه بيده، فقال: فيه لفلان على فلان كذا وكذا ثم كتب فيه شهادته، فهو أقوى في الإقرار؛ لأنه إقرار بعد إقرار، وإنما يختلف إذا كتب شهادته في ذكر حق على أبيه، ثم مات أبوه، وهو وارثه، فقام صاحب الحق عليه بذكر الحق على أبيه، وفيه شهادته فأقر بالشهادة، وزعم أنه كتبها على غير حق، أو أنكرها، فشهد على خطه، فقال مطرف وأصبغ: يؤخذ بالحق؛ لأن مال أبيه لما صار إليه فكأن الشهادة على نفسه.
وقال ابن الماجشون: ليس ما شهد به على غيره وإن صار ماله إليه كما لو شهد على نفسه، ولا يؤخذ منه الحق إلا بإقرار سوى خط شهادته، ومحمله محمل الشهادة لا محمل الإقرار، واختار ابن حبيب قول مطرف وأصبغ، وقول ابن الماجشون أقيس.
والشهادة على خط المقر كالشهادة على إقراره، سواء عند من يجيز الشهادة في ذلك على الخط أن يشهد على خطه شاهد واحد كانت مع شهادته اليمين، وإن شهد على خطه شاهدان أخذ المشهود له حقه بشهادتهما دون يمين، والمشهور في المذهب أن الشهادة على الخط في ذلك جائزة عاملة لم يختلف في ذلك قول مالك ولا قول أحد من أصحابه فيما علمت، إلا ما يروى عن محمد بن عبد الحكم من أنه قال لا تجوز الشهادة على الخط مجملا، ولم يخص موضعا من موضع.
ونزلت هذه المسألة في أيام ابن لبابة فأفتى فيها جميع معاصريه بإعمال الشهادة، وقال هو: إنها لا تجوز، وحكى ذلك عن مالك من رواية ابن نافع، وفي المبسوط من قول ابن نافع وروايته عن مالك أنها جائزة، كالمعلوم من مذهبه، خلاف ما حكاه عنه ابن لبابة، فأرى حكايته غلطا، والله أعلم.
وأما الشهادة على خط الشاهد الميت أو الغائب، فلم يختلف في الأمهات المشهورة قول مالك في إجازتها وإعمالها، وقد قيل: إنها لا تجوز، وروي ذلك عن مالك، وإلى هذا ذهب محمد بن المواز،(9/439)
وجعل الشهادة على خطه كالشهادة على شهادته إذا سمعها منه ولم يشهده عليها بقول، فكما لا يجوز له أن يشهد على شهادته إذا سمعها يقول لفلان على فلان كذا وكذا حتى يشهده على قوله، إذ قد يخبر الرجل بما لا يتحقق تحققا يتقلد الشهادة به، فكذلك لا يجوز له أن يشهد إذا رأى شهادته بخط يده في وثيقة بحق لفلان على فلان حتى يشهده على خطه، إذ قد يكتب شهادته من لا يتقلد الشهادة بها، ومن إذا دعي إليها استراب فيها وتوقف عنها. ومن لا يعرف المشهود عليه إلا بعينه، وقد لا يعرفه بعينه ولا باسمه.
ووجه من أجاز الشهادة على خطه، وفرق بين ذلك وبين الشهادة على شهادته إذا سمعها منه ولم يشهده عليها: أن الرجل قد يخبر بما لا يتحققه، ولا ينبغي للرجل أن يكتب شهادته حتى يتحقق ما يشهد عليه ويعرف من أشهده بالعين والاسم، مخافة أن يموت أو يغيب فيشهد على خطه، فأشبه ذلك من سمع رجلا يؤدي شهادته عند الحكم، أو يشهد عليها غيره أنه يشهد على شهادته بما سمع منه، وإن لم يشهده عليها، والقول الأول أظهر، إذ قد قيل، وهو قول ابن المواز: إنه لا يجوز له أن يشهد على شهادته حتى يشهده عليها وإن سمعه يؤديها عند الحكم، أو يشهد عليها غيره، مع أن وضع الشاهد شهادته في الكتب لا تقوى قوة ذلك، وقد قال ابن زرب: لا تجوز الشهادة على خط الشاهد حتى يعرف أن المشهود على خطه كان يعرف من أشهده معرفة العين، وذلك صحيح لا ينبغي أن يختلف فيه، لما قد تساهل الناس فيه من وضع لشهادتهم على من لا يعرفون.
وقد اختلف في حد الغيبة التي تجوز فيها الشهادة على خط الشاهد عند من يجيزها، فقيل: ما تقصر فيه الصلاة، وهو قول ابن الماجشون، وقال ابن سحنون عن أبيه: الغيبة البعيدة، ولم يحد قدرها، وحدها أصبغ فيما حكى عنه ابن مزين، فقال: مثل أفريقية من مصر، أو مكة من العراق، أو نحو ذلك.
والذي جرى به العمل عندنا على ما اختاره الشيوخ إجازتها في الأحباس، وما جرى مجراها مما هو حق لله وليس بحد.
وأما شهادة الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة فكان مالك أول زمانه يقول: إنه يشهد إذا كان الكتاب نقيا ولم يكن فيه شيء ولا محو يريبه، ثم رجع فقال: لا يشهد وإن صف خطه حتى يذكر(9/440)
الشهادة أو بعضها، أو ما يدله على حقيقتها وينفي التهمة عنه فيها، فأخذ بقوله الأول عامة أصحابه: مطرف، وابن الماجشون، والمغيرة، وابن أبي حازم، وابن دينار، وابن وهب وإليه ذهب ابن حبيب، وهو اختيار سحنون في نوازله.
قال مطرف: وعليه جماعة الناس. قال مطرف وابن الماجشون: وليقيم بالشهادة تامة بأن يقول ما فيه حق، وإن لم يحفظ مما في الكتاب عددا ولا مقعدا ولا يعلم السلطان بأنه لا يعرف غير خطه، فإن أعلمه بذلك وأنه لم يرتب في شيء لزم الحاكم رده.
وروى ابن وهب عن مالك في موطأه أنه إذا قال: هذا كتابي ولا يذكر الشهادة أنه يجيزها ويحكم بها.
وأخذ ابن القاسم وأصبغ بقول مالك الآخر أنه لا يشهد وإن عرف خطه حتى يذكر الشهادة، واختلف على هذا القول، هل يرفع شهادته أم لا؟ فقال مالك في المدونة: إنه يؤديها كما علم ولا تنفع، وهذا من مذهبه يدل على القول بتصويب المجتهدين، وقال ابن المواز: إنه لا يرفعها، وهو القياس على قول من قال: إن المجتهد قد يخطئ الحق عند الله، وإن لم يقصر في اجتهاده وامتثل أمر الله فيه، واختلف كيف يؤديها؟ فقيل: إنه يقول: هذه شهادتي بخط يدي ولا أذكرها.
وفي رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب يقول: أرى كتابا يشبه كتابي، وأظنه إياه، ولست أذكر شهادتي، ولا متى كتبتها، وعلى معنى هذا الاختلاف يأتي اختلافهم في الشهادة على خط المقر؛ لأن المعنى في ذلك إنما هو هل الخط رسم يدرك بحاسة البصر أم لا؟ وهذه المسألة يتحصل في المذهب فيها خمسة أقوال: أحدها: أنها شهادة جائزة يؤديها ويحكم بها. والثاني: أنها شهادة غير جائزة فلا يؤديها ولا يحكم بها إن أداها. والثالث: أنها شهادة غير جائزة إلا أن يؤديها ولا يحكم بها. والرابع: أنها إن كانت في كاغد لم يجز له أن يشهد، وإن كانت في رق جاز له أن يشهد، يريد - والله أعلم - إذا كانت الشهادة في بطن الرق، ولم تكن(9/441)
على ظهره؛ لأن البشر في ظهر الرق أخفى منه في الكاغد، والخامس: أنه إن كان ذكر الحق والشهادة بخطه جاز له أن يشهد، وإن لم يكن بخطه إلا الشهادة لم يجز له أن يشهد، حكى هذين القولين ابن الحارث، وقد ذكر سحنون في نوازله أن جميع أصحاب مالك يقولون شهادته جائزة إذا كان هو خط الكتاب وكتب شهادته، وهذه التفرقة استحسان، والقياس أن لا فرق بين أن يكون بخطه ذكر الحق والشهادة، وبين ألا يكون بخطه إلا الشهادة على المعنى الذي ذكرناه في الخط، هل هو رسم يدرك بحاسة البصر أم لا؟
فالوجوه التي تختلف في إجازة الشهادة على الخط فيها ثلاثة: الشهادة على خط المقر وهو أقواها في جواز الشهادة، وتليها الشهادة على خط الشاهد، وتليها شهادة الشاهد على خط نفسه وهو أضعفها في إجازة الشهادة، فمن لا يجيز الشهادة على خط المقر لا يجيز الشهادة على الخط في شيء من الوجوه الثلاثة، ومن يجيز شهادة الشاهد على خط نفسه يجيز الشهادة علي الخط في الوجوه كلها.
ويتحصل في الجملة أربعة أقوال: أحدها: أن الشهادة على الخط لا تجوز في شيء من الأشياء، والثاني: أنها لا تجوز إلا على خط المقر على نفسه، والثالث: أنها لا تجوز إلا على خط المقر على نفسه وعلى خط الشاهد، والرابع: أنها تجوز في الثلاثة المواضع على خط المقر على نفسه، وعلى خط الشاهد الميت أو الغائب، وشهادة الشاهد على خط نفسه، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة المولى لمولاه جائزة]
مسألة وسئل مالك: عن رجل أشهد لمولى له هو أعتقه وعنده أخوات له، هل ترى أن موضع أخواته عنده ممالك مما يخرج شهادته؟ قال: إن كان غير متهم وهو عدل مرضي جازت شهادته.(9/442)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن شهادة المولى لمولاه جائزة على ما في المدونة وغيرها إذا كان مبرزا في العدالة، وهو معنى قوله في هذه الرواية إذا كان عدلا مرضيا غير متهم، ولا يقدح في شهادته له كون أخوات المشهود له مماليك له، إذ لا ينجر إليه بذلك منفعة، والله الموفق.
[مسألة: من صور الشهادة على الشهادة]
مسألة وسئل: عن الرجلين يشهدان على الرجل، فقال أحدهما: حرام علي ما حل لي إن فرق بيني وبينك إلا ابن أبي سلمة، فشهد واحد على هذه الشهادة، وشهد الآخر أنه قال: إن استأذنت عليك إلا ابن أبي سلمة، فأنكر وقال: إنما قلت إن فارقتني حتى تعطيني حقي، قال: أرى أن يحلف أن الذي قالا ليس بحق، ولا أعرفه؛ لأني إنما أردت ألا تفارقني حتى تعطيني حقي.
قال القاضي: وقع في هذه المسألة في الأم إن استأذنت عليك ابن أبي سلمة، فقال فيه ابن أبي زيد: إنه غلط وأصلحه إلا ابن أبي سلمة، وهو على ما قاله مسألة فيها نظر؛ لأن المعنى في قوله: إن فرق بيني وبينك إلا ابن أبي سلمة أو إن استأذنت عليك إلا ابن أبي سلمة سواء، وهو قد قال في السؤال: إن الحالف المشهود عليه أنكر الشهادة، وقال: إنما قلت إن فارقتني حتى تعطيني حقي، فكان الواجب في ذلك على أصولهم ألا ينفعه إنكاره، ويلزمه ما شهدا به عليه، وإن اختلف لفظهما في الشهادة، إذ قد اتفق المعنى فيها، فتحرم عليه امرأته إن فارق غريمه ولم يستأذن عليه ابن أبي سلمة، ولا يقبل منه نية إن كان قضاه قبل أن يفارقه، فقال: إنما(9/443)
نويت إن لم تقضني حقي من أجل أنه قد أنكر، إلا أنه قد قيل: إنه تقبل منه البينة بعد الإنكار، وهو قول مالك في كتاب التخيير والتمليك من المدونة، وفي رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم، وفي رسم الطلاق من سماع أشهب، وفي رسم الكبش من سماع يحيى منه، ومن كتاب الأيمان بالطلاق، فيحتمل أيضا أن يتأول جوابه في هذه المسألة على هذا القول؛ لأنه قال فيه: أرى أن يحلف أن الذي قالا ليس بجوابي الذي شهدا به علي من أني قد حنثت فيما حلفت به، إذ قد فارقت غريمي ولم أرفعه إلى ابن أبي سلمة ليس بحق؛ لأني إنما أردت ألا يفارقني حتى يعطيني حقي، فنواه في يمينه وهو قد أنكرها، وساق يمينه على المعنى، والنص فيها أن يقول: بالله ما أردت أن استئذاني عليه إلا إن لم يعطني، وذلك هو الذي نويت في يميني، وقد أعطاه إياه فلا حنث عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الأعمى]
مسألة وسئل مالك: عن شهادة الأعمى هل تجوز شهادته؟ قال: نعم، إذا عرف ذلك وأثبته، وقد كان ابن أم مكتوم رجلا أعمى إماما مؤذنا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا أثبت الأعمى ما شهد عليه جازت شهادته، قال مالك: وكذلك الرجل إذا شهد على المرأة من وراء الستر قد عرفها، وعرف صوتها، وأثبتها قبل ذلك فشهادته جائزة عليها.
قال مالك: وقد كان الناس يدخلون على أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد موته وبينهم حجاب يسمعون منهن ويحدثون عنهن، وقد سأل أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبوه، عائشة وأم سلمة، وهما من وراء الحجاب، ثم أخبرا عنهما.
قال الإمام القاضي: مثل هذا في كتاب اللعان من المدونة(9/444)
وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب، وما احتج به مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من إجازة شهادة الرجل على المرأة بما سمع منها من وراء الستر إذا كان قد عرف صوتها ليحدث أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعد موته بما سمعوا منهن من وراء الحجاب صحيح، لا خروج لأحد عنه، وكذلك احتجاجه على إجازة الشهادة على الصوت بكون ابن أم مكتوم مؤذنا إماما صحيح؛ لأن الإمام يقتدى بأذانه من يسمعه ولا يراه في أوقات الصلوات وطلوع الفجر في رمضان إذا علم عدالته، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» .
فألزم الناس الاعتبار بأذانهما على ما عرفوا من أصواتهما، ولا معنى لقوله: وقد كان ابن أم مكتوم رجلا أعمى؛ لأن الحجة إنما هي في كونه إماما مؤذنا يقتدي به في صلاته وأذانه من لا يراه إلا في كونه رجلا أعمى، وقد قال ربيعة: لو لم تجز شهادة الأعمى ما جاز له وطء أمته ولا زوجته، وقوله صحيح ظاهر؛ لأنه لا يعرفها إلا بكلامها.
قال المغيرة: وسواء ولد أعمى أو لم يولد، شهادته مقبولة، والله الموفق ولا رب غيره ولا خير إلا خيره.
[الرجل يشهد للرجل على رجل وللشاهد على المشهود له حق]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية وسئل مالك: عن الرجل يشهد للرجل على رجل وللشاهد على المشهود له حق، قال: لا يضر ذلك شهادته وهي جائزة، قال ابن القاسم: بلغني عنه أنه إذا كان المشهود له موسرا قبلت شهادته، وإن كان معدما لم تقبل؛ لأنه إنما شهد لنفسه. قال سحنون: قال ابن القاسم: وكذلك لو شهد رجل لرجل وللمشهود له على الشاهد حق أنه إن كان مليا جازت شهادته، وإن كان معدما لم تقبل ولم تجز.(9/445)
قال محمد بن رشد: ما بلغ ابن القاسم عن مالك من تفرقته إذا كان الدين للشاهد على المشهود له بين أن يكون المشهود له مليا أو معدما مفسر لما سمعه منه من إجازته شهادته له مجملا، إذ لا يصح أن يختلف في أن شهادته له لا تجوز إذا كان معدما؛ لأن شهادته إنما هي لنفسه، وهذا إذا كان الدين حالا أو كان حلوله قريبا، وأما إن كان حلوله بعيدا فشهادته له جائزة كما تجوز إذا كان مليا، وشهادته له جائزة، فيما عدا الأموال، قال ذلك بعض أهل النظر وهو صحيح.
وأما إن كان الدين للمشهود له على الشاهد فأجاز أشهب في سماع زونان شهادته له مليا كان أو معدما، خلاف قول ابن القاسم هاهنا: إن شهادته لا تجوز إذا كان معدما، يريد: والدين حال أو قريب الحلول؛ لأنه يتهم أن يكون إنما شهد له ليوسع عليه في الدين ويؤخره به، وسواء كانت شهادته له بمال أو بغير مال، ولم ير أشهب هذه تهمة ترد بها شهادة الشاهد العدل، وأما إن كان الدين للشاهد على المشهود عليه، أو للمشهود عليه على الشاهد، أو للمشهود له على المشهود عليه، أو للمشهود عليه على المشهود له، فلا يقدح شيء من ذلك في الشهادة.
واختلف في المال القراض يكون بيد المشهود له للشاهد، أو بيد الشاهد للمشهود له - على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن شهادة كل واحد منها لصاحبه جائزة، مليا كان العامل بالمال أو معدما، وهو ظاهر قول أشهب وقول ابن القاسم في سماع أصبغ عنه.
والثاني: أنه إن كان العامل بالمال مليا جازت شهادته لرب المال، وشهادة رب المال له، وإن كان معدما لم تجز شهادة واحد منهما لصاحبه، وهو الذي يأتي على قول ابن وهب.
والثالث: أن شهادة كل واحد منهما لا تجوز لصاحبه إن كانت قبل أن يحرك العامل المال وينشبه في سلع، ويجوز له إن كان قد حركه وشغله في سلع؛ لأن المال إن كان ناضا في يد العامل اتهم في شهادته لرب المال أن يقر المال بيده ولا يأخذه منه، واتهم رب المال في شهادته له أن يعمل(9/446)
بالمال ولا يصرفه عليه، وهو الذي يأتي على قياس قول سحنون، فهذا معنى ما وقع من ذلك كله في سماع زونان من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
[: شهادة الابن لأبيه على أمه]
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك قال سحنون: قال لي أشهب، وابن نافع: سئل مالك عن شهادة الابن لأبيه على أمه، فقال: لا يجوز ذلك؛ لأن الابن يهاب أباه ويتقيه، وربما ضربه، قيل له: فشهادته لأمه على أبيه، قال: لا تجوز أيضا شهادته على أبيه، لا تجوز لأبيه ولا لأمه، إلا أن يكون الرجل العدل المنقطع في الصلاح جدا، وإنما تجوز شهادته لهما إذا كان الوالد عدلا منقطعا في الصلاح إن كان الذي شهد عليه الشيء اليسير، وذلك يختلف في القليل والكثير.
قال محمد بن رشد: لا خلاف أعلمه من قول مالك وأصحابه أن شهادة الرجل لا تجوز لأبويه، ولا لأحد من أجداده وجداته وإن علوا، ولا لولده الذكور والإناث، ولا لأحد من أولادهم وإن سفلوا، والأصل في ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه» .
والظنين المتهم فرأى أهل العلم أن الرجل متهم في شهادته لأبويه وأجداده وجداته وإن علوا وولده وولد ولده، فإن سفلوا فلم يجيزوا شهادته لواحد منهم، ولا شهادة واحد منهم له، وأجازوا شهادته على كل واحد منهم، وشهادة كل واحد منهم عليه إذا لم يكن بين الشاهد والمشهود عليه(9/447)
عداوة تعرف، أو يكون يجر إلى نفسه بشهادته نفعا، مثل أن يشهد على أبيه أنه قتل عمدا، أو أنه زنى وهو محصن وله مال أو ليس له مال وهو فقير قد ألزمه السلطان نفقته؛ لأنه يتهم على إرادة ميراثه والاستراحة من النفقة عليه.
وأما شهادته بعضهم على بعض ففي ذلك تفصيل، قال في هذه الرواية: لا تجوز شهادة الرجل لأبيه على أمه، ولا لأمه على أبيه، إلا أن يكون الرجل العدل المنقطع في الصلاح جدا ويكون الذي شهد به لأحدهما على الآخر شيئا يسيرا؛ لأن معنى قوله: وإنما تجوز شهادته لهما، أي لأحدهما على الآخر، وأما شهادته لأحدهما على أجنبي فلا تجوز على حال يسير ولا كثير.
وحكى ابن عبدوس عن ابن نافع: أن شهادة الابن لأمه على أبيه أو لأبيه على أمه جائزة، إذا كان عدلا، إلا أن يكون الابن في ولاية الأب أو يكون الأب تزوج على الأم فأغارها فيتهم الابن، أو يكون غضب لأمه ووجد لها فلا تجوز شهادته حينئذ لها، وسيأتي في رسم يوصي من سماع عيسى القول في شهادته على أبيه بطلاق أمه أو غيرها من نسائه.
ولو شهد لأبيه على ولد أو لولده وليس في حجره على أبيه لتخرج ذلك على الاختلاف المذكور في شهادته لأحد أبويه على الآخر، ولو شهد لأبيه على جده أو لولده على ولد ولده لا ينبغي ألا تجوز شهادته قولا واحدا، ولو شهد لجده على أبيه أو لولد ولده على ولده لا ينبغي أن تجوز شهادته قولا واحدا، وقد اختلف في شهادته لبعض ولده على بعض إذا لم يكن المشهود له في ولايته، فقيل: إنها جائزة، وقيل: إنها لا تجوز على ما يأتي في رسم الجواب من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: يختصمان في خصومة ثم يمكثان مدة فيشهد أحدهما على صاحبه]
مسألة وسئل: عن الرجلين يختصمان في الخصومة ثم يمكثان بعد ذلك سنين، ثم يشهد أحدهما على صاحبه بشهادة، قال: إن كان(9/448)
أمرهما آل إلى سلامة وصلح، فذلك جائز.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن مجرد الخصومة في القليل والكثير توجب العداوة بين المتخاصمين وتسقط شهاده أحدهما عن صاحبه؛ لأنه لم يرها جائزة عليه وإن طال الأمد حتى يئول أمرهما إلى سلامة وصلح، وهو أن يرجعا إلى ما كانا عليه قبل الخصومة، ومثله في سماع سحنون ونوازل أصبغ.
ولو سلم كل واحد منهما على صاحبه، ولم يعودا إلى ما كان عليه قبل المحاكمة من التكلم لم تجز شهادة أحدهما على صاحبه، ولم يخرجه ذلك من الهجران إذا لم يكن مؤذيا له على ما يأتي في رسم باع شاة من سماع عيسى، وقال مطرف وابن الماجشون: إذا لم يكن الذي بينهما خاصا فيخرج بالسلام عن الهجرة وتجوز عليه شهادته وإن ترك كلامه، وقد قيل: إن شهادة كل واحد منهما على صاحبه بعد الخصومة جائزة في غير الشيء الذي تخاصما فيه، إلا أن تكون خصومتهما في الأمر الجسيم الذي يورث الحقد والعداوة، وهو قول ابن كنانة، قال: وهذا تفسير الحديث: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين» . واختلف في الظنين، فقيل: هو المتهم في دينه. وقيل: هو المتهم في شهادته.
وقد قيل: إن شهادة كل واحد منهما على صاحبه جائزة بعد الخصومة وإن لم يصطلحا ما لم يقع بينهما فيها مشاتمة، وهو قول يحيى بن سعيد في نوازل سحنون من هذا الكتاب، قال: وإذا كانت بينهما عداوة معلومة فاصطلحا جازت شهادة كل واحد منهما على صاحبه، وقال مطرف وابن الماجشون، وابن عبد الحكم وأصبغ: وذلك إذا طال الأمر واستحق الصلح وظهرت براءتهما من دخل العداوة؛ لأنه يتهم إذا شهد عليه بقرب ما صالحه على أنه إنما صالحه ليشهد عليه، فلا تجوز شهادته عليه، وسيأتي في رسم باع شاة من سماع عيسى إذا كان الشهود أعداء لا في المشهود(9/449)
عليه أو لوصيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: السؤال عن الشهود سرا]
مسألة وسئل: عن المسألة عن الشهود سرا، أترى ذلك؟ قال: نعم، ولكن لا يسأل إلا العدول.
قال محمد بن رشد: المسألة عن العدول في السر تعديل السر وهو مما ينبغي للقاضي أن يفعله، ولا يكتفي بتعديل العلانية دونه، وله أن يكتفي بتعديل السر دون تعديل العلانية، وحكى هذا ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، ومعناه في الاختيار دون اللزوم على ما في المدونة وغيرها.
وتعديل السر يفترق من تعديل العلانية في وجهين: أحدهما: أنه لا إعذار في تعديل السر. والثاني: أنه يجزي فيه الشاهد الواحد، وإن كان الاختيار اثنين بخلاف تعديل العلانية في الوجهين، وقد روي عن سحنون: أنه لا يقبل في تزكية السر إلا اثنان، وهو ظاهر ما في المدونة ومعناه في الاختيار، فلا اختلاف في أن الشاهد الواحد يجزي في تعديل السر، وإن كان الاختيار اثنين، وقد حمل ذلك بعض الناس على أنه اختلاف من القول وليس بصحيح، وإنما كان تعديل السر أقوى من تعديل العلانية؛ لأن الشاهد قد يسأل التزكية فيستحيي من التوقف عنها، وروي عن ابن شبرمة أنه قال: أنا أول من سأل في السر، كان الشاهد إذا أتى القوم ليزكوه استحيوا منه، وتعديل السر هو أن يبتدئ القاضي بالسؤال عن الشاهد، فيسأل عنه من يظن أنه خبير بحاله من جيرانه وأهل خلطته ومكانه، أو يتخذ رجلا يوليه السؤال عن الشهود فيقبل ما أخبره به وحده، ولا(9/450)
ينبغي له هو أن يكتفي بسؤال رجل واحد مخافة أن يكون بينه وبين الشاهد عداوة، وتعديل العلانية هو أن يقول القاضي للمشهود له: لا أعرف شهودك، فعدلهم عندي، فهذا لا يجوز فيه إلا شاهدان، ويلزم الإعذار فيهما إلى المشهود عليه، هذا معنى ما في المدونة والواضحة وغيرهما من الدواوين، ولا خلاف في شيء منه، والله الموفق.
[مسألة: المولى عليه هل تجوز شهادته وهو عدل]
مسألة وسئل عن المولى عليه، هل تجوز شهادته وهو عدل؟
فقال: إن كان عدلا فماله لم يدفع إليه ماله؟ قيل له: هو عدل وشهادته نزلت، فقال: إن كان عدلا جازت شهادته.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب ابن المواز لمالك من رواية ابن عبد الحكم عنه، وهو على قياس المعلوم من قول ابن القاسم في ترك الاعتبار بالولاية على اليتيم البالغ في جواز أفعاله وردها، والذي يأتي على المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك وأصحابه في أن المولى عليه لا تنفذ أفعاله وإن كان رشيدا في جميع أحواله ألا تجوز شهادته، وإن كان مثله لو طلب ماله أعطيه، وهو نص قول أشهب في المجموعة، ونحو قوله في سماع أصبغ من كتاب النكاح أنه لا يكون وليا في النكاح، وإن كان عدلا، وقد حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك وأصحابه أن القاضي إذا حكم بشهادة المولى عليه أو العبد ثم انكشف ذلك بعد الحكم ردت القضية، بخلاف إذا انكشف أنه مسخوط أو سفيه، وروى مثله أبو زيد عن ابن الماجشون، وقال أصبغ: إذا قضى بشهادته ثم تبين أنه مولى عليه مَارِقٌ فَاسِدٌ بَيِّنُ الفساد، أو مسخوط بين الفسق(9/451)
والفساد ردت قضيته كما ترد إذا تبين أنه عبد، والله الموفق.
[مسألة: الشاهد يعدله رجلان ويأتي المشهود عليه برجلين يجرحانه]
مسألة وسئل: عن الشاهد يعدله رجلان، ويأتي المشهود عليه برجلين يجرحانه بأي ذلك يؤخذ؟ قال: ينظر في ذلك إلى الشهود أيهم أعدل، اللذان عدلاه أم اللذان جرحاه؟ قيل له: ألا ترى أن شهادة اللذين جرحاه أثبت؛ لأنهما علما ما لم يعلم الآخران؟ قال: لا، هذا رجل عدل أيقبل قولهما؟ ولكن يقال لهما: أي شيء تجرحانه به؟ فينظر في ذلك أمعروف مشهور ذلك؟ ولعل الذي يجرحانه به شيء قديم، وقال ابن نافع: إذا كان هذان اللذان يجرحانه عدلين فهما أولى ويسقط التعديل، وقال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: قول ابن نافع وسحنون: هو دليل ما في كتاب السرقة من المدونة ورواية عيسى عن ابن القاسم عن مالك، وفي المسألة قول ثالث حكاه صاحب المبسوطة عن مطرف وابن وهب، وهو أن التعديل أولى من التجريح، والتزكية بالفضل أولى من القول بالشر، وهذا الاختلاف إنما هو إذا لم يبين المجرحون الجرحة وتعارضت الشهادة في الظاهر بأن يقول المعدلون: هو عدل جائز الشهادة، ويقول المجرحون: هو مسخوط غير جائز الشهادة، فأما إذا بين المجرحون الجرحة فلا اختلاف أن شهادتهم أعمل من شهادة المعدلين وإن كانوا أقل عدالة منهم، ولكل قول منها وجه، فوجه القول بأنه يؤخذ بأعدل البينتين هو أن الشاهد المجهول الحال ليس بمحمول على الجرحة ولا العدالة، إذ لو حمل على العدالة لجازت شهادته دون تعديل، ولو حمل على الجرحة لما جازت شهادته وإن(9/452)
عدل؛ لأن المعدل لا يقطع أنه لا جرحة فيه، وإنما يشهد بما يظهر إليه من عدالته، وإن جرح ردت شهادته. فوجب إذا قال قوم: إنه عدل، وقال آخرون: إنه مسخوط - أن ينظر إلى أعدل البينتين، فإن استوتا في العدالة سقطتا، وبقي على ما كان عليه قبل الشهادة من التوقيف في أمره. ووجه القول أن شهادة المجرحين أعمل: هو أن المجرحين كأنهما قد زادا في شهادتهما؛ لأنهما علما منه ما لم يعلم المعدلون، وهذا هو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب، ووجه القول بأن شهادة المعدلين أعمل: هو أن شهادتهم توجب حكما وهو قبول الشهادة، وشهادة المجرحين لا توجب حكما؛ لأن شهادة الشاهد المجهول الحال غير مقبولة حتى يُعَدَّل، فوجب أن تكون شهادة من أوجب الحكم أعمل من شهادة من نفاه، وبالله التوفيق.
[: الشهادة بما في كتاب يزاد فيه شهود]
ومن كتاب الأقضية الثاني قيل: أرأيت إن أُتيت بكتاب، فقيل لي: اشهد فيه، وذهب بالكتاب يزاد فيه شهود، ثم أقام عني يوما أو يومين، ثم أتيت به أشهد فيه؟ فقال: أليس تعرف الكتاب؟ قال: بلى، قال له: فاشهد فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لأن الكتاب عرض من العروض يعرف بعينه إذا غيب عليه، فإذا عرف أنه هو بعينه شهد فيه، وإن شك لم يشهد، وإن كان إنما يعرفه بالخط فيدخل في ذلك من الخلاف ما دخل في الشهادة على خط المقر، وقد مضى بيان ذلك في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم، والله الموفق.(9/453)
[مسألة: كيف يوقف الذي يشهد في ذكر الحق]
مسألة قال أشهب: وسئل مالك: كيف يوقف الذي يشهد في ذكر الحق؟ أيجزي عنه أن يقول هذه شهادتي أعرفها بخط يدي؟ فقال: يقال له: أتشهد أن حق هذا حق؟ فإما أن يقول إذا أشهد: إن هذه شهادتي بخط يدي، وإن هذا كتابي، فلا يقال له: إن كنت تحفظ شهادتك فاشهد أن حقه لحق، فإما أن تشهد أن هذا كتابه فلا، قال: مالك: وكان شريح القاضي إذا جاءه الشاهدان بشهادة، قال لهما: إني بشهادتكما أقضي أتشهدان الحق لهذا؟ فإذا قالا: نعم، أجاز شهادتهما.
قال محمد بن رشد: لم يجز مالك للشاهد في هذه الرواية أن يثبت الشهادة على الحق من جهة معرفته بالخط، ولا أجازها إن شهد على معرفة الخط ولم يثبت الشهادة، وهو الذي ذهب إليه شريح فيما حكى عنه مالك من قوله للشاهدين.
وقد اختلف في الوجهين جميعا، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدا في وصية أوصي لأحدهما فيها بستين دينارا وللآخر فيها بثوبين]
مسألة قال مالك، عن رجلين شهدا في وصية أوصي لأحدهما فيها بستين دينارا وللآخر فيها بثوبين، قال: أما الذي أوصي له بالستين فلا تجوز شهادته، وأما الذي أوصي له بالثوبين فإن كانا ثوبين لهما بال مرتفعين لم تجز شهادته أيضا إذا كان الشيء الذي له(9/454)
بال، وإن كان الشيء التافه اليسير فإنها جائزة، قيل له: فإن الذي أوصى له بالستين دينارا شهد في وصيته بعدما أحدثها الميت وأوصى فيها لناس ولم يوص فيها للشهداء بشيء، وقد أوصى لهم في الأولى، قال: ولا تجوز شهادتهما في الآخرة إذا كان قد أوصى لهم في الأولى، قيل له: إنه ليس لهما في الوصية الآخرة شيء، إنما وصيتهما في الأولى، فقال: لا تجوز شهادتهما في الآخرة كما لم تجز في الأولى، قيل له: إنه ليس لهما في الآخرة شيء، فقال: لكن في الأولى، فهو يقول أنا أشهد في أخرى، ثم في أخرى، قيل له: فإن الذي أوصى له بالثوبين معه شاهد عدل على تلك الوصية، فقال: إن كان الثوبان يسيري الثمن لا بال لهما، وكان الشاهد الذي معه عدلا فأرى الشهادة جائزة.
قال محمد بن رشد: قوله إن الذي أوصى له بالستين لا تجوز شهادته، وكذلك الذي أوصى له بالثوبين إن كانت قيمتهما مرتفعة يريد أنه لا تجوز شهادته لنفسه ولا لغيره، وهو المشهور من الأقوال، ويأتي على قياس قول أصبغ في نوازله في العبدين يشهدان بعد عتقهما أن الذي أعتقهما غصبهما من رجل مع مائة دينار، إن شهادتهما تجوز في المائة، ولا تجوز في غصب رقابهما؛ لأنهما يتهمان أن يريدا إرقاق أنفسهما أن تجوز شهادة الموصى له بالستين لغيره، ولا تجوز لنفسه.
وقوله: وإن كان الشيء التافه اليسير فإنها جائزة، يريد أن الوصية تثبت بشهادتهما ويأخذ هو ماله بغير يمين، فإن لم يكن على الوصية شاهد غيره حلف الموصى لهم مع شهادته أن ما شهد به من الوصية حق، فتثبت الوصية بشهادته مع أيمانهم، ويأخذ هو ماله فيها؛ لأنه يسير في حيز التبع لجملة الوصية، هذا معنى قوله، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، ورواية مطرف عن مالك(9/455)
في الواضحة، أن شهادته تجوز له ولغيره، وقد قيل: إن شهادته تجوز لغيره ولا تجوز لنفسه، فإن كان وحده حلف الموصي لهم مع شهادته، واستحقوا وصاياهم ولم يكن له هو شيء، وإن كان معه غيره ممن أوصى له فيها أيضا بيسير تثبت الوصية بشهادتهما لمن سواهما، فأخذوا وصاياهم بغير يمين، وحلف كل واحد منهم مع شهادة صاحبه فاستحق وصيته، وإن كان معه من لم يوص له فيها بشيء تثبت الوصية بشهادتهما لمن سواه وحلف هو مع شهادة صاحبه واستحق وصيته، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة، وقيل أيضا: إن شهادته تجوز له ولغيره إن كان معه شاهد غيره، ولا تجوز له، وتجوز لغيره إن لم يكن معه شاهد غيره، فإن كان معه شاهد غيره ثبتت الوصية بشهادتهما، وأخذ هو ماله فيها بغير يمين، فإن لم يكن معه شاهد غيره حلف غيره مع شهادته واستحق وصيته ولم يكن له هو شيء، وهو قول يحيى بن سعيد في المدنية.
وفي المسألة قول رابع: إن شهادته لا تجوز لنفسه ولا لغيره لأنه يتهم في اليسير كما يتهم في غير الوصية، وهي رواية ابن وهب عن مالك في المدونة، وهذا كله إذا كانت الشهادة على وصية مكتوبة في كتاب، وللشاهد فيها وصية، وأما إن كان الموصي أشهد على وصية لفظا بغير كتاب، فقال: لفلان كذا ولفلان كذا، ولفلان كذا، والشاهد أحدهم، فإن كان الذي شهد به لنفسه يسيرا لم تجز شهادته لنفسه وجازت لغيره، وقد يقال: إنه لا تجوز شهادته لنفسه ولا لغيره بتأويل ضعيف، وأما إذا كان الذي شهد به لنفسه كثيرا فلا تجوز شهادته لنفسه باتفاق، ولا لغيره على رواية أشهب هذه؛ لأنه قال فيها: إن الذي أوصى له بالستين لا تجوز شهادته في وصية بعدما أحدثها الميت، وهو قول ابن المواز: إنها لا تجوز في الثانية، إلا أن يشهد أنه نسخ الأولى، وتجوز لغيره على قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة.
وإذا جازت عندهما لغيره والوصية في مجلس واحد فأحرى أن تجوز لغيره في وصية أحدثها الميت بعد ذلك، وهو قول سحنون إن الشهادة إنما سقطت في الأولى بالظنة، فلا ينبغي أن تسقط في الثانية، خلاف رواية أشهب هذه، وبالله التوفيق.(9/456)
[مسألة: توهين الشهادة]
مسألة وسئل: أترى إذا شهد القوم عند القاضي وعدلوا أن يقول للذي شهدوا عليه دونك فجرح، فقال: إن فيها لتوهينا للشهادة، ولا أرى إذا كان عدلا أو عدل عنده أن يفعل، قال ابن نافع: أرى أن يقول ذلك للمشهود عليه، ويمكنه من التجريح؛ لأن الرجل ربما كان عدلا، فلعله أن يكون بينه وبين المشهود عليه عداوة أو ما أشبه ذلك.
قال الإمام القاضي: لم ير مالك للإمام أن يقول للمشهود عليه: دونك فجرح، لما في ظاهر قوله هذا من إغرائه بتجريحهم، وإنما الواجب أن يبيح له ذلك، ويمكنه منه بأن يقول له: قد شهد عليك فلان وفلان، فإن كان عندك ما تدفع بشهادتهم عن نفسك فجئ به وإلا حكمت عليك، ويعلمه بأن له أن يجرحهم إن كان ممن يجهله على ما قاله في كتاب السرقة من المدونة، وهذا ما لا اختلاف فيه، ولم ير ابن نافع قول القاضي للمشهود عليه دونك فجرح إغراء له بتجريحهم، فرأى أن يقول ذلك له على سبيل الإعلام بما يجب له من تجريحهم إن شاء، والتمكن له من ذلك، فحصل الخلاف بينه وبينه في جواز نص القول المذكور لا في شيء من معنى المسألة، والله أعلم.
ومن الدليل على ذلك أن في المجموعة لمالك مثل قول ابن نافع، وإذا كان الشاهد مبرزا في العدالة فلا يباح للمشهود عليه أن يجرحه بالإسفاه إن دعا إلى ذلك وإنما يباح له تجريحه بالعداوة والهجرة إذ قد يكون ذلك في الصالح(9/457)
البارز في الفضل والصلاح، قال ذلك أصبغ في الواضحة، وهو تفسير لقول من أجمل القول في ذلك كسحنون في نوازله وغيره من أصحاب مالك، وقد روي عن مالك: أنه لا يباح تجريح المبرز في العدالة بعداوة ولا غيرها وهو بعيد والله أعلم، ويجرح الشاهد بالعداوة من هو مثله وفوقه ودونه، واختلف في تجريحه بالإسفاه، فقال ابن الماجشون: لا يجرح به إلا من هو فوقه في العدالة، وهذا إذا نصوا في الجرحة على التجريح، وأما إن قالوا: هو غير عدل ولا جائز الشهادة فلا يجوز ذلك إلا للمبرزين في العدالة العارفين بوجوه التعديل والتجريح، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يشهد أيجرح شهادته رجل واحد]
مسألة وسئل: عن الرجل يشهد أيجرح شهادته رجل واحد؟ قال: لا.
قال الإمام القاضي: هذا كما قال وهو مما لا اختلاف فيه أن الحاكم إذا أعذر إلى المشهود عليه في شهادة من شهد عليه فلا يجرحه إلا بشاهدين عدلين، وإنما يجرح بالواحد ويعدل به إذا كان الحاكم هو الذي يبتدئ بالسؤال فيسأل عن الشاهد من يثق به، قال ذلك ابن حبيب في الواضحة وحكاه أصبغ عن ابن القاسم وهو صحيح على أصولهم، واختلف إن أراد الشاهدان على الجرحة أن يشهدا سرا لما يجر ذلك من العداوة بينهما وبين المجرح، فقال ابن حبيب: لا تقبل الشهادة منهما إلا علانية لأنهما شاهدان، ولا بد من الإعذار في شهادتهما إلى المشهود له الأول، وحكى ابن عبدوس عن ابن القاسم أن الشهادة تقبل منهما في السر لعلة العداوة، وهو قول سحنون، قال: التزكية علانية والتجريح سرا ولا آمرهم أن يسبوا الناس، وبالله التوفيق.(9/458)
[: امرأة حلفت بعتق رقيقها إن كلمت إنسانا سنة وكان عندها أربع نسوة]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل: عن امرأة حلفت بعتق رقيقها إن كلمت إنسانا سنة، وكان عندها أربع نسوة، فقلن لها: إنك قد استثنيت في يمينك، فقالت: إلا أن أرى خيرا من رأيي هذا، أترى أن تكلمه؟ فقال: لا أدري ما قولهن لها، لا أرى لها أن تعمل بشهادتهن في ذلك، ولا أرى أن يقبل قولهن، ولا أرى أن تعمل بشهادتهن.
قال الإمام: قوله: لا أرى أن يقبل قولهن، ولا أن تعمل بشهادتهن إن كانت لا تخشى أن يحكم عليها بالعتق إن كلمته - استحسان، لا إيجاب؛ لأن قولهن لها قبل أن تكلمه إنما هو إخبار لا شهادة، فلها أن تعمل بما أخبرنها به إن كن عدولا، أو واحدة منهن، وإنما كان يكون قولهن شهادة لو قلن ذلك لها بعد أن كلمته ووجب عليها العتق بكلامه؛ لأن العتق إذا وجب لم يصح رده إلا بشهادة شاهدين عدلين، ويحتمل أن يريد بقوله: لا أرى أن يقبل قولهن ولا يعمل بشهادتهن مخافة أن تؤخذ بالعتق إن كلمته فلا تنتفع بشهادة النساء، وقد مضى في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب النذور، وفي رسم العرية من سماع عيسى منه ما يشبه هذا المعنى ويؤيد تأويلنا في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يؤتى بخط يده على شهادة ولا يذكر منها شيئا]
مسألة وسئل: عن الرجل يؤتى بخط يده على شهادة ولا يذكر منها شيئا.
قال: أرى أن يرفع شهادته إلى السلطان على وجهها، قيل له: يقول هذه شهادتي بخط يدي إلا أني لا أذكر من(9/459)
الشهادة شيئا، قال: بل يقول أرى كتابا يشبه كتابي، وأظنه إياه ولست أذكر شهادتي ولا متى كتبتها فيرفع شهادته على وجهها.
قيل له: أرأيت إن كان جلدا أبيض لا محو فيه ولا شيء، وعرف خطه؟ قال: إنه ربما ضرب على الخط والكتاب، فأرى أن يرفع شهادته إلى السلطان على وجهها.
قال محمد بن رشد: يريد ولا يحكم بها إذا رفعها على هذه الصفة كذا قال في المدونة إنه لا يحكم بها إذا رفعها على هذه الصفة وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: امرأة تشهد بشهادة أيقبل في تزكيتها النساء]
مسألة وسئل: عن امرأة تشهد بشهادة، أيقبل في تزكيتها النساء؟ فقال: لا، في رأيي لا تقبل إلا تزكية الرجل.
قال القاضي مثل هذا في آخر سماع عيسى، وفي سماع سحنون، وفي كتاب الشفعة من المدونة أن النساء لا تقبل تزكيتهن في وجه من الوجوه لا فيما تجوز فيه شهادتهن، ولا فيما لا تجوز فيه، لا يزكين الرجال ولا النساء.
وإنما لم يجز أن يزكين الرجال فيما تجوز شهادتهن فيه على القول بأن شهادتهن جائزة فيما جر إلى المال، كالوكالة على المال وشبه ذلك؛ لأن الشاهد إذا زكي شهد في المال وغير المال فيئول ذلك إلى إجازة شهادتهن في غير المال، وقد قيل: إنهن يزكين الرجال إذا شهدوا فيما(9/460)
تجوز شهادتهن فيه، وهو قول ابن الماجشون، وابن نافع في المبسوطة.
وأما تزكيتهن النساء فكان القياس أن تجوز على قياس قول مالك بأن شهادتهن تجوز في الوكالات على الأموال وما جر إليها؛ لأن النساء إذا زكين لا يشهدن على عتق ولا طلاق فلا تئول تزكيتهن النساء إلى إجازة شهادتهن فيما لا تجوز فيه شهادة النساء على حال، والفرق عنده بين الموضعين أن التزكية يشترط فيها التبريز في العدالة، وهي صفة تختص بالرجال لنقصان مرتبة النساء في الشهادة، إذ جعلت شهادة امرأتين كشهادة رجل واحد، ولم تجز في عتق، ولا طلاق، ولا نكاح، ولا حد، وبالله التوفيق.
[مسألة: حكم شهادة النساء في الارتجاع]
مسألة وسئل: عن شهادة النساء في الارتجاع، أتجوز؟ قال: لا.
قال القاضي: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الارتجاع من ناحية النكاح، وشهادتهن في النكاح لا تجوز، وبالله التوفيق.
[مسألة: امرأة أشهدت على رقيق لها أنهم صدقة على ابنتها]
مسألة وسئل: فقيل له: إن امرأة دعتنا فشهدتنا على رقيق لها أنهم صدقة على ابنتها، وكتبنا شهادتنا على أنها أمانة عندنا بأمانة الله، لا نشهد بها أبدا ما دامت حية حتى تموت، فشهدنا على ذلك، وكتبنا شهادتنا على أنها أمانة فاحتاجت إلى تلك الشهادة ابنتها التي كانت الصدقة عليها. أترى لنا أن نقوم بها؟ قال: أراها قد قالت لكم لا تشهدوا بها حتى أموت، وهذه الشهادة لا تنفع ابنتها، فقيل: لا تنفع ابنتها، قال: لا.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في كتاب الصدقات والهبات، والمعنى في بطلان هذه الشهادة بين؛ لأنها لما تصدقت بالرقيق(9/461)
على ابنتها وأبت من الإشهاد لها إلا على هذا الشرط، دل على أنها لم ترد أن تبتلها لها في حياتها وإنما أرادت أن تصيرها إليها بعد موتها من رأس مالها: وذلك لا يحل لها ولا لابنتها، إذ ليس لها بعد موت أمها من مالها إلا ما فرضه الله لها من ميراثها، فلا يحل للشاهد أن يقوم بهذه الشهادة ولا يشهد بها في حياتها ولا بعد وفاتها، والله الموفق.
[مسألة: الرجل يشهد له الرجل والمرأة على أنه وارث أيحلف مع الشهادة]
مسألة وسئل: عن الرجل يشهد له الرجل والمرأة على أنه وارث فلان لرجل قد مات، أيحلف مع شهادتهما ويكون له الميراث؟ فقال: يستأني بمثل هذا حتى يأتي ببينة ويطلب، قيل له: فإذا طلب فلم يجد إلا هذين، أترى أن يحلف معهما ويكون ذلك له؟ قال: نعم، ذلك له أن يحلف ويكون ذلك له، قال أشهب: سمعت المسألة كلها، وجواب مالك إلا قول السائل يشهد أنه وارث فلان فإني لم أسمعه، فأخبرني السائل وغيره أنه هكذا سأل.
قال أشهب: وإنما يحلف الرجل في مثل هذا مع الشاهد الواحد، والشاهد والمرأة إذا كان نسبه قبل ذلك ثابتا لازما لهذا الهالك، فيكون هذا الشاهد يشهد أنه وارثه لا يعلم له وارثا غيره، فيحلف مع شهادته، ويكون ذلك له؛ لأنه إنما يشهد له على مال، ولم يشهد له على نسب، وأما لو شهد له على نسب لم يثبت له، ولم تجز له شهادته أبدا، ولو شهد مع الشاهد مائة امرأة؛ لأنه لا تجوز شهادة الرجل الواحد في الأنساب ولا شهادة النساء.(9/462)