الله الإشارة كلاما، فقال: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] وبالله التوفيق.
[ينكح المرأة فتحمل فيقول إنما نكحتك منذ خمسة أشهر وينكر الحمل]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من عبد الرحمن بن
القاسم قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عن الرجل ينكح المرأة فتحمل، فيقول: إنما نكحتك منذ خمسة أشهر، وتقول: بل نكحتني منذ تسعة أشهر، وينكر الحمل إنه يلاعنها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن العصمة متيقنة والفراش معلوم، فوجب أن يلحق به الولد إلا أن ينفيه بلعان.
[المرأة تلتعن قبل الرجل ثم تموت]
مسألة قال: وسئل عن المرأة تلتعن قبل الرجل ثم تموت.
قال: ينبغي أن يلتعن الرجل قبل ويقال للرجل: التعن وابرأ من الميراث ولا حد عليك، أو لا تلتعن فتحد ويكون لك الميراث، قال: ولو كانا جميعا حين التعنت المرأة قبل الرجل ولا يقال للمرأة التعني ثانية.
قال محمد بن رشد: لم ير ابن القاسم تبدئة الزوج في الأيمان باللعان قبل المرأة واجبا لاستوائهما في أن كل واحد منهما يدعي على صاحبه دعوى إن لم يثبتها وجب عليه حد، فالزوج يدعي على المرأة أنها زنت، وأن الولد غير لاحق به، فإن لم يثبت ذلك عليها وجب عليه حد القذف والمرأة تدعي على الزوج أنه وطأها الوطء الذي كان عنه ولدها وتريد إلحاقه به، فإن لم يثبت ذلك لها عليه وجب عليها حد الزنا، وإنما(6/420)
رأى ذلك متبعا لظاهر القرآن، إذ ليس فيه نص على وجوب الترتيب، فإنه بشهادة أحدهم أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فيحتمل أن يكون معنى قوله بعد ذلك: ويدرأ عنها العذاب إن كان الزوج هو الذي ابتدأ بالأيمان، فلهذا قال: إن المرأة إذا التعنت قبل الدخول وماتت يقال للرجل ما يقال للمرأة إذا التعن الرجل قبلها ثم مات: إما أن تلتعني فيسقط عنك الحد ولا يكون لك الميراث، وإما ألا تلتعني فتحد ويكون لك الميراث، إن المرأة إذا التعنت قبل الرجل ولم تمت التعن الرجل ولم تعد المرأة اللعان.
وذهب أشهب إلى أن ترتيب اللعان على ما ذكر الله في القرآن واجب فقال: إنه إن التعنت المرأة قبل الرجل التعن الرجل وأعادت المرأة اللعان، وإنما هو إذا حلفت المرأة أولا كما يحلف الرجل على تكذيب أيمانه، إذ لم يتقدم له يمين، فقالت: أشهد بالله إني لمن الصادقين ما زنيت وإن حملي هذا لمنه، وقالت في الخامسة: غضب الله عليها إن كانت من الكاذبين، فهاهنا قال ابن القاسم يلتعن الرجل فيقول: أشهد بالله إنها لمن الكاذبين ولقد زنت وما حملها هذا مني، ويقول في الخامسة لعنة الله علي إن كانت من الصادقين، ولا تعيد المرأة اللعان. وقال أشهب: يلغى لعان المرأة أولا ويبتدئ الرجل باللعان ثم تلتعن المرأة بعده.
وأما إن حلفت المرأة أولا فقالت: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة: غضب الله علي إن كان من الصادقين، فلا اختلاف بينهما في أن أيمان المرأة ملغاة؛ لأنها حلفت على تكذيب أيمان الزوج وهو لم يتقدم له يمين والله أعلم. وقول ابن القاسم هذا على أصله في الصبي يقوم له شاهد على حقه فيبدأ المدعى عليه باليمين ثم يبلغ الصبي(6/421)
فينكل على اليمين أنه يجتزأ بيمين المدعى عليه المتقدمة أولا، وعلى مذهب أشهب أن المرأة تعيد اللعان بعد الزوج، لا يجتزأ بيمين المدعى عليه في مسألة الصبي، [لأن العمد والخطأ في هذا سواء والله أعلم] .
[مسألة: نكح أمه أو أخته وهو لا يعلم فتحمل منه فينكر الحمل وأراد الملاعنة]
مسألة وسئل عن رجل نكح أمه أو أخته وهو لا يعلم فتحمل منه، فينكر الحمل وأراد الملاعنة ثم قامت بينة أنها أمه أو أخته، هل يلاعنها أو يلحقه الولد أو ماذا يصنع فيهما؟ .
قال ابن القاسم: يلاعنها وينفي الولد؛ لأن أصل نكاحه على وجه التزويج ويدرأ عنه الحد ويلحقه الولد ويلزمه الصداق وعليها العدة ولا بد من اللعان فيه فبه ينفي الولد، أو الحد ويلحقه الولد إنما هو قول يقوله أهل العراق وليس عليها حد عند أهل المدينة، وهم يقولون مع ذلك غير هذا: ليس بين العبد والحرة لعان، ولا بين المسلم والنصرانية لعان، ونحن نقول: إذا كان الحمل في الأمة والنصرانية من الحر والعبد ففيهن لعان وبين العبد والحرة لعان كان حمل أو لم يكن، وإنما يلاعن الحر الأمة والنصرانية في الحمل وليس في القذف فقد فسرنا لك هذا الوجه.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الكتب: وليس عليه حد عند أهل المدينة وهو صحيح، إذ ليس على واحد منهما حد في تناكحها إذا(6/422)
لم يعلما بالحرمة التي بينهما، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، وقوله: إن اللعان يكون بينهما كما يكون في النكاح الصحيح صحيح لأن حكمه حكم النكاح الصحيح في لحوق النسب ووجوب الصداق بالدخول ولزوم العدة فيه وإنما لم ير أهل العراق فيه لعانا تعلقا بظاهر قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] وليس بزوجين إذ لا ينعقد لأحد نكاح فيمن حرمه الله عليه من ذوات محارمه ومن قول فاسد؛ لأنه وإن لم يكن نكاحا منعقدا في الباطن فقد انعقد في الظاهر وترتبت أحكامه في الظاهر والباطن من لحوق النسب ووجوب الصداق والعدة، فكذلك اللعان.
وكذلك تعلقوا في إبطال اللعان بين العبدين، أو بين العبد والحرة، والحر تحته الأمة أو المسلم تحته النصرانية، لقول الله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] .
لأن الله سماهم شهداء إذ استثناهم من جنس الشهداء، والمستثنى من جنس المستثنى منه، فدل على أن اللعان شهادة، والعبد والمحدود والنصراني لا تجوز شهادته، وليس ذلك بشيء؛ لأن المستثنى منقطع، والمعنى فيه ولم يكن لهم شهداء غير قولهم الذي ليس بشهادة، كما قالوا: الصبر حيلة من لا حيلة له، والجوع زاد من لا زاد له وقد ناقضوا بقولهم: إن الفاسق المعلوم بالفسق يلاعن وشهادته لا تجوز، وبالله التوفيق.
[مسألة: تزوج أمة أو نصرانية ثم قال رأيتهما يزنيان]
مسألة قال ابن القاسم: في رجل تزوج أمة أو نصرانية ثم قال: رأيتهما يزنيان قال: فلا لعان عليه ولا حد فيهما جميعا إلا أن يقول:(6/423)
أخاف أن يأتي ولد فأنا أنفيه باللعان فإنه يلاعن إذا أراد أن ينفي عنه حملا يخافه، وتلاعن الأمة معه، ولا لعان على النصرانية.
ولو تزوج وصيفة لم تبلغ المحيض إلا أنها توطأ فقال: رأيتها تزني وأنا ألاعن مخافة أن تأتي بحمل فيلحقني، قال: يلاعن هو ولا لعان عليها وإن جاء حمل لم يلحق به، قيل له: ولا لعان عليها إذا كان زوجها لاعن قبل أن تحيض ثم بلغت المحيض؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قوله إن الرجل لا يلاعن الأمة ولا النصرانية إلا في نفي الحمل أو رؤية يخشى أن يكون منها ولد فيلحق به، صحيح مثل ما في المدونة وغيرها إذ لا حد عليه في قذفهما، وتلاعن الأمة لأنها تنفي الحد عن نفسها بلعانها، وتلاعن الصغيرة التي يوطأ مثلها في نفي الحمل وغيره؛ لأن قاذفها يلاعن وتحد هي إذ لا حد عليها في زناها وتبقى له زوجة على المشهور في المذهب من أن الفرقة لا تقع بين المتلاعنين إلا بالتعان المرأة بعد الزوج، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في رسم قطع الشجر من سماع ابن القاسم وفي غيره من المواضع، وكذلك النصرانية لا لعان عليها إذ لا حد عليها في زناها إلا أن تشاء أن تلتعن هي على ما قال في المدونة فتلتعن في كنيستها، فإن أبت أن تلتعن بقيت زوجة له، وإن التعنت وقعت الفرقة بينهما قاله سحنون في كتاب ابنه وبالله التوفيق.
[مسألة: امرأتين شهدتا أن هذا الولد من امرأتي ولدته وكان الولد صغيرا]
مسألة قال ابن القاسم في امرأتين شهدتا أن هذا الولد من امرأتي ولدته وكان الولد صغيرا أو كبيرا، وأنا منكر لذلك وأقول: ولدها ذلك قد مات أو أقول حملها ذلك قد انفش وكنت أنا حاضرا أو غائبا.(6/424)
قال: يلحق به الولد بشهادة المرأتين حاضرا كنت أو غائبا على ولد صغير أو كبير.
قيل له: ولا يكون في مثل هذا لعان؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن شهادة النساء في الولادة جائزة وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه، فيلحق به الولد بشهادتهما.
ولو لم يشهد على ولادته إلا امرأة واحدة أو لم يشهد على ولادته أحد فقالت هي: ولدته وهو ولدك، وقال هو: لم تلده ففي كتاب القذف من المدونة أن القول قولها أنها ولدته ويلحق به إلا أن ينكره ويدعي الاستبراء فيكون له أن ينفيه باللعان، وأن القول قول الأمة التي أقر سيدها بوطئها في الولادة إذا جاءت بالولد ويلزم السيد ولا يستطيع أن ينفيه ألا أن يدعي الاستبراء قبل الحمل، إلا أنها مسائل طرحها سحنون فأراه ذهب إلى أنه لا تصدق واحدة منهما في الولادة وإن جاءت بالولد لا الزوجة ولا الأمة، فلا يكون على الزوج إذا أنكر الولادة والولد أن ينفيه بلعان حتى تثبت الولادة، ولا تكون الأمة التي أقر سيدها بوطئها أم ولد وإن جاءت بالولد إلا أن تثبت الولادة فإن أثبتتها لحق به الولد، وكانت له أم ولد إلا أن يدعي الاستبراء قبل الحمل وتعلق به فيما ذهب إليهما، من أنهما يصدقان على الولادة إذا جاءت بالولد، فالظاهر من قول ابن القاسم في كتاب الشهادات وكتاب أمهات الأولاد من المدونة، والذي أقول به في هذا، أن الحرة بخلاف الأمة فتصدق الزوجة في الولادة إذا جاءت بالولد ويلزم زوجها إلا أن ينفيه بلعان إذ لا تهمة عليها في إقرارها بولادة الولد، ولا تصدق الأمة في ذلك؛ لأنها تتهم أن تأخذ لقيطا فتدعي أنها ولدته لتكون به أم ولد لسيدها ولعله قد مات فيلحق به نسب لا يدرى إقراره به وبالله التوفيق.
[ينتفي من حمل امرأته فيلاعنها فتنكل عن اللعان فلا يوجد سبيل إلى رجمها]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون وسئل عن الرجل ينتفي من حمل امرأته فيلاعنها فتنكل عن(6/425)
اللعان فلا يوجد سبيل إلى رجمها حتى تضع ثم يكذب الزوج نفسه قبل أن تضع وبعد أن نكلت عن اليمين هل له عليها رجعة؟ وهل بينهما ميراث؟ .
قال: ملاعنته إياها ونكولها قطع العصمة ولا يرثها ولا ترثه، وإذا وضعت رجمت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة ليست على الأصول، والصحيح ما مضى في رسم جاع من سماع يحيى أن العصمة بينهما باقية والميراث بينهما قائم، وعلى القول بأن العصمة تنقطع بتمام لعان الزوج لا ميراث بينهما نكلت أو لم تنكل، فمراعاة سحنون لنكولها في انقطاع العصمة بينهما خارج عن الأصول وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم.(6/426)
[كتاب الصرف الأول]
[قال لرجل ادفع إلى هذا نصف دينار فدفع إليه به دراهم]
كتاب الصرف الأول(6/427)
من سماع ابن القاسم من مالك
من كتاب الرطب باليابس أخبرني محمد بن عمرو بن لبابة قال: أخبرني العتبي محمد بن أحمد عن سحنون بن سعيد، قال: أخبرني ابن القاسم عن مالك في رجل قال لرجل: ادفع إلى هذا نصف دينار فدفع إليه به دراهم، قال ابن القاسم: ليس عليه إلا عدة الدراهم التي دفع يومئذ لأنه نصف دينار، وليس عليه أن يخرج دينارا فيصرفه وإنما الاختلاف إذا أمره بقضاء دينار تام، قال سحنون: قال ابن القاسم: يريد إذا كان المأمور إنما دفع إليه الدراهم، وأما إن كان إنما دفع إليه دينارا فصرفه فله نصف دينار بالغا ما بلغ.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في هذه المسألة قال ابن القاسم: وليس له إلا عدة الدراهم التي دفع وصوابه قال مالك، فإن المسألة في قوله بدليل تفسير ابن القاسم له بقوله يريد إذا كان المأمور إنما دفع إليه الدراهم.
وأما قوله وإنما الاختلاف إذا أمره بقضاء دينار تام فأراه قول سحنون؛ لأنه إنما أشار إلى اختلاف قول ابن القاسم وغيره في ذلك الواقع في كتاب(6/429)
الكفالة والحوالة من المدونة، وفي قوله وإنما الاختلاف إذا أمره بقضاء دينار تام دليل على خلاف أنه إذا أمره بقضاء نصف دينار فقضاه دراهم إنما يرجع عليه بعدة الدراهم التي قضاه، وذلك إنما يصح على القول بأن من وجب له على رجل جزء من دينار قائم يراعى في وجه المصارفة فيه ما يوجبه الحكم من أن يقضيه فيه دراهم بصرف يوم القضاء؛ لأنه إذا قال له ادفع عني إلى فلان نصف دينار فكأنه إنما أمره أن يدفع إليه صرفه إذ هو الذي يوجبه الحكم، فوجب إذا دفع إليه صرفه أن يرجع بما دفع لأنه الذي أمر إلا أن يكون حابى المدفوع إليه في الصرف فلا يرجع بالمحاباة.
وأما على القول بأن من وجب له على رجل جزء من دينار قائم يراعى في وجه المصارفة فيه ما ترتب في الذمة من الذهب لا ما يوجبه الحكم في القضاء فدخل إذا أمره بقضاء نصف دينار تام فقضاه دراهم فالأمر مخير بين أن يعطيه نصف دينار أو دراهمه، وعلى هذا يأتي قول أصبغ في سماعه من كتاب العيوب فيمن باع سلعة بنصف دينار فأحال على المشتري غريما له بنصف دينار وليس بالدراهم خلاف قول ابن القاسم فيه وفي رسم حبل حبلة من سماع عيسى من كتاب جامع العيون.
وتحصيل القول فيمن أمر رجلا أن يقضي دينا عليه لرجل آخر فقضى عنه خلاف ما أمره به أن ذلك ينقسم على قسمين أحدهما أن يقضي عنه خلافه مما تختلف فيه الأغراض والثاني أن يقضي عنه أدنى منه في الصفة أو أقل منه في العدد أو ما يؤول إلى ما هو أقل منه في العدد.
فأما إذا قضاه خلافه مما تختلف فيه الأغراض ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك جائز جملة من غير تفصيل، والثاني أن ذلك لا يجوز(6/430)
جملة من غير تفصيل، والثالث أن ذلك لا يجوز فيما لا تجوز فيه المبايعة إلا يدا بيد، مثل أن يأمره أن يقضي عنه دنانير فيقضي عنه دراهم، أو يأمره أن يقضي عنه دراهم فيقضي عنه دنانير أو يأمره أن يقضي عنه قمحا من قرض أو تمرا فيقضي عنه تمرا وما أشبه ذلك، وأن ذلك لا يجوز فيما تجوز المبايعة فيه إلى أجل، مثل أن يأمره أن يقضي عنه دنانير أو دراهم فيقضي ثمرا أو حبا أو كتانا أو قطنا وما أشبه ذلك مما يكال أو يوزن، فإذا قلنا إن ذلك لا يجوز فيما لا يجوز من ذلك على القول بأن ذلك لا يجوز فيفسخ القضاء ويرجع المأمور بما دفع ويبقى الدين كما كان عليه، وإذا قلنا أن ذلك جائز فيما يجوز من ذلك فيختلف بما يرجع به المأمور على الآمر على قولين: أحدهما أن المأمور يرجع على الآمر بما أمره به أن يدفع عنه، والثاني يرجع عليه بما دفع عنه إلا أن يشاء الآمر أن يدفع إليه ما كان عليه يكون مخيرا في ذلك، وهذا معنى قول مالك في كتاب المديان من المدونة أنه لا يربح في السلف.
وأما إذا قضاه دون ما أمره به في الصفة مثل أن يأمره أن يقضيه عنه دراهم محمدية فيقضيه يزيدية، أو دنانير هاشمية فيقضيه دمشقية أو سمرا فيقضيه محمولة أو أقل في العدد أو ما يؤول إلي ما هو أقل في العدة مثل أن يأمره أن يقضي عنه دنانير فيقضي عنه عرضا من العروض في بلد يبتاع فيه بالدنانير، أو يأمره أن يقضي عنه دراهم فيقضي عنه عرضا يبتاع فيه بالدراهم، فهذا الوجه الثالث لا اختلاف فيه أن القضاء جائز وأن المأمور يرجع على الآمر بما دفع إن كان الذي دفع أقل في العدد أو أدنى في الصفة أو بالأقل من قيمة العرض الذي دفع أو مما أمره الآمر أن يدفع(6/431)
عنه من الدنانير أو الدراهم، وكذلك الحكم في الكفيل يدفع من عنده الذي تكفل له عن المكفول به خلاف ما تكفل به عنه، وقد فرق ابن القاسم في أحد أقواله من كتاب الكفالة من المدونة بين المأمور والكفيل يقضيان الغريم خلاف ما له عندهما وسنزيد هذه المسألة بيانا إن شاء الله في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الحمالة إذا مررنا إن شاء الله بها، وأما إن اشترى الكفيل ما تحمل به ولم يخرجه من عنده فلا اختلاف في أنه يرجع بالثمن الذي اشترى به إذا لم يحاب البائع في اشترائه لأن المتحمل عنه كأنه قد أذن في الشراء، وكذلك المأمور أيضا وبالله التوفيق.
[مسألة: أخذ منه دراهم مقطعة في ذهب له فقال له غريمه إنما وضعتها حتى أصارفك]
مسألة وقال مالك: من كانت له ذهب على رجل فأخذ منه دراهم مقطعة، ثم قال له غريمه: إنما وضعتها على يديك حتى أصارفك (بالثمن الذي اشترى به) ، وقال الآخر: بل صارفتك: فالقول قول الذي قبض الدراهم إن كان جاء بأمر يعرف من الصرف، وإن جاء بأمر لا يعرف حلف الآخر، قال ابن القاسم: أحب إلي أن يحلف الذي عليه الذهب ويعطي الدراهم بالله ما باعه الدراهم ثم يتصارفان إن أحبا، فإن نكل عن اليمين حلف قابض الدراهم وكان القول قوله.
قال محمد بن رشد: وجه قول مالك في هذه المسألة أنه حمل قول الغريم: وضعتها على يديك حتى أصارفك بها على أنه أوجب على نفسه مصارفته بها من غير أن يتناجزا في الصرف، فوجب أن يكون القول قول الآخر الذي ادعى أنه قد صارفه بها؛ لأنه ادعى حلالا، إذ لا يحل(6/432)
الصرف إلا بالمناجزة ولو كان الدافع هو الذي ادعى المناجزة في الصرف، وقال القابض: إنما وضعتها على يدي حتى تناجزني فيها لكان القول قول الدافع عند مالك على أصله، ووجه قول ابن القاسم أنه حمل قوله وضعتها على يديك حتى أناجزك فيها على أنه إنما وعده بالمصارفة بها، ولم يوجب ذلك على نفسه، فوجب أن يكون القول قوله؛ لأن القابض مدعى عليه ما لم يقر له به من المصارفة، وهو أظهر من قول مالك.
ولو كان القابض هو الذي قال: إنما وضعتها على يدي حتى تصارفني بها وقال الدافع: بل صارفتك بها لكان القول قول القابض عند ابن القاسم على أصله.
ولو ادعى أحدهما القابض أو الدافع أنه صارفه بها مصارفة فاسدة مثل أن يقول: صارفتك بها على أن أحدنا بالخيار، أو على أن نبدل لك ما وجدت فيها من زائف وقال الآخر: بل ناجزتك فيها دون شرط لكان القول قول مدعي المناجزة منهما عندهما جميعا على أصولهم في أن القول قول مدعي الحلال من المتبايعين.
ولو قال أحدهما: صارفتني فيها، وقال الآخر: لم أصارفك فيها ولا ذكرنا صرفا وإنما كانت وديعة لكان القول قول من قال منهما إنما كانت وديعة عندهما جميعا، فهذا وجه القول في هذه المسألة، وقد كان بعض الشيوخ يصرفها إلى كتاب الكفالة من المدونة في الرجل يكون عليه للرجل مائة درهم من قرض ومائة درهم من كفالة، فيدفع إليه مائة درهم فيقول القابض: المائة التي قبضت هي الكفالة، ويقول الدافع: بل هي القرض، ويقول قول مالك في هذه المسألة مثل قول غير ابن القاسم في كتاب الكفالة وليس ذلك بصحيح؛ لأن المسألتين مفترقتان في المعنى فلا يصح حمل إحداهما على الأخرى، ألا ترى أن مسألة كتاب الكفالة قول ابن القاسم فيها أن المقبوض يقسم على الحقين، يريد بعد أيمانهما وذلك لا يصح في هذه المسألة لأنه حق واحد، وبالله التوفيق.(6/433)
[ابتاع حنطة بدينار وازن ثم إنه أعسر بالدينار الوازن]
ومن كتاب القبلة قال ابن القاسم: سمعت مالكا قال في رجل ابتاع حنطة بدينار وازن، ثم إنه أعسر بالدينار الوازن فقال للذي باع منه الحنطة: خذ مني دينارا ناقصا شعيرة وأرد عليك فضل الحنطة، قال مالك: إذا ثبت البيع بالوازن فلا ينبغي ذلك؛ لأنه قد ثبت عليه دينار وازن فأعطى مكانه ناقصا وزيادة حنطة. فذلك دينار بدينار وحنطة، وإن ثبت البيع بناقص فلا ينبغي له أن يعطي وازنا ويأخذ فضل شيء من الأشياء، فأما ما لم يثبت البيع إلا مراوضة منهما فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه إن ثبت البيع بينهما بالدينار الوازن بإيجاب كل واحد منهما إياه لصاحبه فلا يجوز أن يأخذ منه ناقصا ويأخذ من الحنطة ما وجب لنقصان الدينار، وقال ابن حبيب: إنه يدخله أربعة أوجه، التفاضل بين الفضتين، والتفاضل بين الطعامين، وبين الطعام قبل أن يستوفي، والأخذ من ثمن الطعام طعاما، يريد إن كان الطعام قد قبضه المبتاع وافترقا، وأما إن قبضه ولم يفترقا فلا يدخله الأخذ من ثمن الطعام طعاما ولا بيع الطعام قبل أن يستوفى فالعلتان الثانيتان إنما هما التفاضل بين الذهبين. والتفاضل بين الطعامين، وأما الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما، والبيع قبل الاستيفاء فلا يجتمعان؛ لأن الطعام إن كان قبض فلا يدخله البيع قبل الاستيفاء، وإن كان لم يقبض فلم يدخله الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما، وإن كان قد قبض ولم يفترقا لم يدخله واحدة منهما، وكذلك لا يجوز له أن يأخذه في نقصان(6/434)
الدينار فلوسا ولا شيئا من الأشياء، وقد فرق في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه بعد هذا في آخر السماع بين أن يأخذ منه في النقصان فلوسا أو يحاسبه به في الطعام فيأخذ منه لنفسه ما وجب له فمنع من ذلك بالفلوس وأجازه بالطعام، وقال: إن ذلك بعد الوجوب، ويحتمل ذلك وجهين من التأويل.
أحدهما أن يكون إنما تكلم فيه على أن المبتاع قد أوجب البيع للبائع ولم يوجبه البائع له، وذلك مثل أن يقول المبتاع للبائع كم تبيعني من طعامك بدينار وازن؟ فيقول: عشرة أرادب، فيقول المبتاع: قد أخذته بذلك، فيخرج الدينار فيجده ناقصا قبل أن يقول البائع قد بعتك، والوجه في ذلك أن المبتاع لما أوجب على نفسه الدينار للبائع بعشرة أرادب وجب للبائع إن أراد أن يمضي له البيع به فلا يجوز له أن يبيعه منه بدينار ناقص وفلوس، ولما كان كان البائع لم يوجب على نفسه الطعام للمبتاع جاز للمبتاع أن يعطيه منه في نقصان الدينار، ولم يكن ذلك بيعا له قبل استيعابه إذ لم يجب له بعد ويكون معنى قوله في الرواية: وإنما هو عندي بمنزلة رجل اشترى بدرهمين حنطة، ثم قال له بعد ذلك: أعطني بدرهم وأقلني من درهم أنه بمنزلة في الجواز لا في استواء العلة لأنه في الدرهم من الدرهمين إقالة جائزة بعد تمام البيع، وفي نقصان الدرهم فعل جائز إذ لم يتم البيع بينهما، وهذا جائز أن يقال هذا مثل هذه وإن لم يكن مثله إلا في وجه من وجوهه، قال عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] يريد مثلهن في العدد لا فيما سواه وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] يريد أمثالها في أنهم أمم لا فيما سوى ذلك، ويستدل على أنهم إنما أراد بقوله فيها(6/435)
بعد الوجوب بعد أن أوجب المبتاع البيع للبائع ولم يوجبه له البائع بقوله: كأنه حمله على وجه المساومة، وفيه تفسير من البيع يريد أنه أخذ بشبه من المساومة إذ لم يتم البيع بينهما، وأخذ بشبه من البيع، إذ قد لزم أحدهما، والقياس أن يغلب أحد الوجهين، أما الوجوب فلا يجوز أن يحاسبه بالنقصان بالطعام، كما لا يجوز أن يأخذه به فلوسا، وأما المساومة إذا لم يجب البيع بينهما بإيجاب كل واحد منهما إياه لصاحبه فيجوز أن يحاسبه بالنقصان في الطعام وأن يأخذ به منه فلوسا، وأما إن كان في المراوضة قبل أن يوجب البيع واحد منهما لصاحبه فذلك جائز لا بأس به كما قال؛ لأن البيع إنما تم بما عقدا عليه آخرا فلا إشكال في جواز ذلك، فالمسألة على هذا التأويل في الدينار الوازن الذي له فضل في عينيه على الناقص تنقسم على هذه الثلاثة الأقسام وهي أن يكون ذلك الفعل بعد أن أوجب كل واحد منهما البيع لصاحبه وأن يكون قبل أن يوجبه واحد منهما لصاحبه وأن يكون قد أوجبه أحدهما ولم يوجبه الآخر له، وقد مضى تفسير ذلك والحكم فيه.
والتأويل الثاني أن يكون تكلم في هذه المسألة على أن للدينار الوازن فضلا في عينه على الناقص، وتكلم في مسألة رسم المحرم على أن الدرهم الكيل الوازن للأفضل له في عينه على الناقص فأجاز لما لم يكن له في عينه فضل على الناقص أن يأخذ الناقص ويحاسبه بقدر النقصان في الطعام، وأشبه عنده من اشترى حنطة بدرهمين فأقاله من أحدهما، ولم يقو عنده قوة الدرهمين إذ يجوز لمن كان له على رجل درهمان وازنان أن يأخذ منه أحد درهميه وبالآخر فلوسا ولا يجوز لمن له علي رجل درهم وازن أن يأخذ منه نصف درهم وبالنصف الآخر فلوسا إلا أنه أجازه مراعاة لقول من يرى الخيار من المتبايعين ما لم يتقاضيا أو يتفارقا، وهو معنى قوله: كأنه حمله على وجه المساومة، وفيه تفسير من البيع.
وهذا التأويل أظهر وأولى وأحسن من التأويل الأول والله أعلم.(6/436)
ولو اشترى رجل حنطة بدينار من الذهب التي إنما تجري مجموعة مقطوعة بالميزان كالذهب العبادية والشرفية لجاز إذا وجد عنده أقل من مثقال أن يأخذ بما نقص فلوسا أو بما شاء من العروض وأن يحاسبه بالنقصان فيما له من الطعام.
فقف على أن الدينار الوازن الذي له فضل في عينه على الناقص لا يجوز له بعد الوجوب أن يأخذ بنقصانه فلوسا، ويجوز له أن يحاسبه به في الطعام، وأن الدينار الذي يجري بالميزان مجموعا مقطوعا إذا لم يشترط أن يأخذه صحيحا يجوز فيه الوجهان وبالله التوفيق.
[مسألة: باع سلعة بدنانير ثم دعاه الذي عليه الذهب إلى أن يستعير ذهبا]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال في رجل باع سلعة بدنانير قائمة أو وازنة أو ناقصة نقصانا معروفا قيراطا قيراطا أو نصف قيراط كل دينار، ثم دعاه الذي عليه الذهب إلى أن يستعير ذهبا مثل الذهب الذي له فيزن له بها ذهبا أخرى قائمة أو مخالفة لنقصانها، ثم يعطيه إياها مكانه فدخل في ذلك اختلاف في العدد إنه لا ينبغي أن يكون له وازنة فيأخذ مكانها ناقصة بوزنها، وقال مالك: لا أحب هذا لأن هذا يدخل اختلافا في الوزن، وإنما تجوز المصارفة إذا حضرت الذهبان أو الورقان وأن هذه إحداهما غائبة والأخرى حاضرة.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إن ذلك لا يجوز لأنه إنما أخذ ذهبا(6/437)
بوزن العدد الذي له هل يدري أخذ في الوزن أقل أو أكثر إذ لا بد من أن يزيد في الوزن أو ينقص، فهو يغتفر فضل العدد رجاء زيادة الوزن لا سيما والصرافون يزعمون أن الذهب إذا جمع نقص، فإذا فرق زاد، وهو مثل قوله في المدونة في مسألة الدرهمين الفردين يؤخذ بوزنهما فضة، ومثل قول ابن حبيب في الواضحة خلاف قوله في سماع أشهب أنه لا بأس أن يقتضي من الدينار القائم دينارا ناقصا خروبة وخروبة ذهب بوزنه، وقد قيل إنه ليس بخلاف، وإنما استخفه من أجل أنه دينار واحد، وأما إذا اقتضى من العدد الذي له ذهبا مجموعا في الوزن فإن كان أكثر من عدد الذهب الذي له لم يجر بحال؛ لأنه ترك فضل العين لزيادة الوزن، وإن كان أقل وزنا جاز إن كان أقل عددا ولم يجز إن كان أكثر عددا لأنه ترك فضل العين لزيادة القدر والله أعلم وبه التوفيق.
[مسألة: دفع إلى آخر له ذهبا أو ورقا ناقصا أو طعاما مأكولا فقال له أحسن إلي]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال في رجل دفع إلى آخر له ذهبا أو ورقا ناقصا أو طعاما مأكولا، فقال له: أحسن إلي أبدل لي هذا بأجود منه وأنفقه فيما تنفق.
قال مالك: إذا كان على وجه المعروف على غير شرط إن شاء تم على ذلك وإن شاء رد عليه مثل ما أخذ منه لم يلزمه غير ذلك، فلا أرى فيه بأسا يدا بيد.
قال محمد بن رشد: أجاز مبادلة الذهب أو الورق الناقصة بالذهب الوازنة والطعام المأكول بالطعام صحيح على وجه المعروف، ومعنى ذلك في الذهب والورق فيما قل منه مثل الدينار والثلاثة إلى الستة على ما(6/438)
في المدونة، وإن كان سحنون قد أصلح الستة وردها ثلاثة.
وقوله بأجود منه يدل على جواز بدلها بأوزن وأجود، خلاف قول مالك في المدونة مثل قول ابن القاسم.
وأما الطعام فيجوز مبادلة المأكول منه والمعفون بالصحيح السالم على وجه المعروف في القليل والكثير على ظاهر هذه الرواية وما وقع في رسم النسمة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، ومنع من ذلك أشهب كالدنانير الكثيرة النقص بالوازنة [فلم يجز المعفون بالصحيح ولا الكثير العفن بخفيف العفن، وهو دليل ما في كتاب القسمة من المدونة من أنه لا يجوز الطعام المعفون بالطعام المعفون إلا أن يشبه بعضه بعضا ولا يتفاوت، وأجاز ذلك سحنون في المعفون وقال: إنه لا يشبه الدنانير النقص بالوازنة؛ لأن بين الدنانير الكثيرة النقص بالوازنة] تفاضلا في الوزن، ولا تفاضل في الكيل بين المعفون بالصحيح. قال: وكره المعفون بالصحيح لكره القمح بالشعير والجيد بالرديء، وكره في المأكول إذا كانت الحبة قد ذهب أكثرها.
ومعنى قوله إذا كان ذلك على غير شرط، أي أنه لا يجوز له أن يقول له أبدله لك على أني إن قدرت على نفقته وإلا صدقته عليك أو ضربت عليك مثله إن شئت وأخذت منك ما أعطيتك.
[مسألة: بيع الذهب بالفضة]
مسألة وقال مالك في الشيء من الحلي، يكون الذهب والورق قد صيغ.
قال: إن كان ما فيه من الفضة ثلث ذلك أو أدنى بيع بالفضة، وإن كان الذهب هو الثلث في القيمة بيع بالذهب يدا(6/439)
بيد، وإن كان على غير ذلك لم يبع إلا بعرض أو فلوس أو شيء غير الذهب والورق، قال ابن القاسم: رجع مالك عن هذا وقال: لا يباع كله إلا بعرض أو فلوس، وقوله الذي رجع إليه أحب ما فيه إلي.
قال محمد بن رشد: قول مالك الأول هو قوله في المدونة في رواية علي بن زياد عنه واختيار أشهب، وقوله الثاني هو قوله في المدونة في رواية ابن القاسم عنه واختيار ابن القاسم هاهنا، وهو أقيس وأحوط لأن الذهب والورق لما كان كل واحد منهما أصلا في نفسه مضبوط القيمة إذ هما أصول الأشياء وقيم المتلفات لم يكن أحدهما تبعا لصاحبه وإن كان أقل من الثلث من أجل أن قيمته مضبوطة والغرض فيهما جميعا سواء إلا أن يكون الذي مع الفضة من الذهب أو مع الذهب من الفضة الشيء اليسير الذي لا يؤبه له فحينئذ يكون تبعا له، روى ذلك زياد عن مالك؛ بخلاف السيف والمصحف وما أشبههما يحليان بالذهب والفضة فتكون حليتهما الثلث فأقل لأن الغرض حينئذ إنما يكون في شراء الأصل المحلى لا في شراء حيليته فيجعل جميع الثمن له إذ ليست قيمته مضبوطة كقيمة الذهب والورق، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن القياس أن يكون كل واحد من الذهب أو الفضة ملغى مع صاحبه إذا كان الثلث فأقل كما يكون ملغى مع العرض وقد بينا الفرق بين ذلك.
وقوله: وإن كان على غير ذلك لم يبع إلا بعرض أو فلوس أو شيء غير الذهب والورق بين أنه لا يجوز أن يباع بأقلها إذا كان أقلها أكثر من الثلث على قول مالك الأول ومذهب أشهب، وإن كان ابن أبي زيد قد اختصره على غير ذلك فهو خلط والله أعلم.
[مسألة: بيع الذهب بالورق]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: لا يجوز في شيء من بيع الذهب بالورق تأخير ولا حول ولا حمالة ولا خيار إلا المناجزة(6/440)
يدا بيد لا يفارقه وبينهما شيء، هذا نص ما في كتاب الخيار من المدونة.
فقوله: إنه لا يجوز في ذلك تأخير صحيح لا اختلاف فيه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء» وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره. فإن انعقد الصرف بينهما على أن يتأخر منه شيء فسح، وإن وقع على المناجزة ثم أخر صاحبه بشيء منه انتقض الصرف فيما وقعت فيه النظرة باتفاق وإن كانت النظرة في أقل من صرف دينار لنتقض صرف دينار، وإن كانت في أكثر من دينار انتقض صرف دينارين، وإن كانت في أكثر من صرف دينارين انتقض صرف ثلاثة دنانير، هكذا أبدا، وفيما وقع فيه التناجز على اختلاف.
وإن وقع على المناجزة ثم تأخر شيء منه بغلط أو سرقة من الصراق أو نسيان مضى الصرف فيما وقع فيه التناجز من ذلك باتفاق، وفيما وقع فيه التأخير إن رضي الذي هو له بتركه على اختلاف، وسيأتي تفسير هذا وبيانه بعد هذا إن شاء الله.
وقوله: إنه لا يجوز في ذلك حول، ظاهره أن الحوالة في الصرف لا تجوز وإن قبض المحال من المحال عليه مكانه قبل مفارقته الذي أحاله، وهو مذهب ابن القاسم خلاف قول سحنون أنه يجوز ما أحيل به مكانه قبل مفارقة الذي أحاله.
وأما قوله إنه لا يجوز في ذلك حمالة فهو كما قال لأن(6/441)
الحمالة لا تكون إلا بما يتأخر قبضه والصرف لا يكون إلا بأجزاء إلا أن تكون الحمالة بالدنانير أن استحقت الدراهم أو بالدراهم إن استحقت الدنانير فتجوز، وكذلك الرهن.
وأما قوله إنه لا يجوز في ذلك خيار فهو كما قال؛ لأن الخيار لا يجوز فيه النقد، والصرف لا يجوز أن يتأخر فيه النقد، فالصرف على الخيار فاسد كان لأحدهما أو لغيرهما، غير أنه إن كان لهما جميعا فتمماه على العقد الأول وتناقدا بحضرة اتفاقها على إمضائه لم يفسخ، إذ لم يكن لازما لواحد منهما أو لغيرهما فسخ ما عثر عليه وإن طال، للزوم بيع الخيار للذي لم يشترطه منهما لنفسه، وبالله التوفيق.
[يأتي بفضة له إلى سكة بيت الضرب ضرب الدراهم فيعطيه فضته ويعطيه أجرة منها]
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع سلعة سماها وسئل عن الرجل يأتي بفضة له إلى سكة بيت الضرب: ضرب الدراهم، فيعطيه فضته ويعطيه أجرة منها ويأخذ منه أجرة مضروبة.
قال: إني لأرجو أن يكون ذلك خفيفا، وقد كان يعمل به بدمشق فيما مضى، وتركه أحب إلي، وأما أهل الورع من الناس فلا يفعل ذلك.
قال محمد بن رشد: التكلم في هذه المسألة على وجهين، أحدهما خلط أذهاب الناس في الضرب بعد تصفيتها ومعرفة وزنها، فإذا خرجت من الضرب أخذ كل إنسان منهم على حساب ذهبه، وأعطى الضرب أجرته، والثاني أن يأتي الرجل بذهبه ليضربها فيشق عليه المقام(6/442)
على ضربها ويريد أن يستعجل دنانير مضروبة من عند الضراب فيبادله إياها بذهبه ويزيد قدر أجرته على ضربها، وهما وجهان مذمومان لا خير فيهما، إلا أن الأول منهما أخف من الثاني فخففه في هذه الرواية لحاجة الناس إلى ذلك؛ لأن معنى قوله فيها: ويأخذ منه دراهم مضروبة أي يأخذ منه دراهم مضروبة إذا فرغ من ضربها مع غيرها على حساب فضته، وحكى أنه قد كان يعمل به بدمشق ورأى تركه أحب إليه، وقال: إن أهل الورع من الناس لا يفعله، وأجازه أيضا في رسم مسائل البيع، وكذا من سماع أشهب إذا كانوا يخلصون الأذهاب ولا يغشونها، ولم يكن في البلاد إلا سكة واحدة، وقال: إنه قد كان يعمل به في زمن بني أمية بدمشق؛ لأنها كانت سكة واحدة والتجار كثير، والناس مجتازون والأسواق متفاوتة، فلو جلس كل واحد منهم حتى يضرب ذهب صاحبه فاتت الأسواق، فلا أرى لذلك بأسا، قال: فأما اليوم فإن الذهب يغش، وقد صار لكل مكان سكة تضرب فلا أرى ذلك يصلح، وإلى هذا ذهب ابن المواز من رأيه أن ذلك لا يجوز اليوم؛ لأن الضرورة قد ارتفعت، وأجاز ذلك أيضا مالك في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب الشركة في عصير الزيتون، وقال سحنون: لا خير فيه، وإليه ذهب ابن حبيب، وحكى إنه سأل عن ذلك من لقي من المدنيين والمصريين فلم يرخصوا فيه على حال.
وأما الوجه الثاني وهو استعجال الدنانير ومبادلتها بالذهب بعد تجميعها وتصفيتها مع زيادة أجرة عمل مثلها فقال ابن حبيب: إن ذلك حرام لا يحل لمضطر ولا غيره، وهو قول ابن وهب وأكثر أهل العلم وخفف ذلك مالك في نذر سنة يصومها بعد هذا لما يصيب الناس في ذلك من الحبس مع خوفهم في ذلك، كما جوز للمعري شراء العرية بخرصها وكما جوز دخول مكة بغير إحرام لمن يكثر التردد إليها، ثم قال: ما هو من عمل الأبرار، وقال ابن القاسم فيه: أراه خفيفا للمضطر وذوي الحاجة، والصواب أن ذلك لا يجوز إلا مع الخوف على النفس الذي يبيح أكل الميتة، وإنما خفف ذلك مالك ومن تابعه على تخفيفه مع الضرورة التي لا تبيح أكل الميتة مراعاة لقول من لا يرى الربا إلا في النسيئة، روي ذلك عن ابن(6/443)
عباس، وقال به جماعة من أهل مكة، وإنما قاله ابن عباس لما حدثه به أسامة بن زيد، أنه سمع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «لا ربا إلا في النسيئة» ولم يتابع ابن عباس أحد من الصحابة على قوله وتأويله في حديث أسامة وهو عند أهل العلم محمول على أنه خرج على سؤال لسائل سأل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن التفاضل فيما يجوز فيه التفاضل يدا بيد فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ربا إلا في النسيئة» ، يريد فيما سئل عنه، فحكى أسامة بن زيد ما سمع من قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولم يسمع سؤال السائل، وقد روي أن ابن عباس رجع عن هذا إلى ما عليه الجماعة.
ولم يجز مالك ولا أحد من الصحابة شراء حلي الذهب أو الفضة بوزن الذهب أو الفضة وزيادة قدر الصياغة، وإن كان معاوية يجيز تبر الذهب بالدنانير متفاضلا، والصوغ من الذهب بالذهب متفاضلا لا ضرورة في ذلك فيرى ما فيه فورا والله أعلم.
[مسألة: يأتي إلى السقاط بدينار فيأخذ منه بربع زيتا وبربع تمرا وبربع سويقا]
مسألة وسئل عن الرجل يأتي إلى السقاط بدينار فيأخذ منه بربع زيتا وبربع تمرا وبربع سويقا ويخلف عنده الربع الآخر على غير شيء.
قال: لا بأس بذلك وكذلك الدرهم لا بأس به.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز أن يخلف عنده الربع الدينار وربع الدرهم إذا اشترى منه بثلاثة أرباعها لأنه إنما يبقى ذلك له عنده على سبيل الوديعة فيكون شريكا فيما يجريه، فإذا أراد أحدهما الانفصال من صاحبه أحضر الدينار أو الدرهم فباعه واقتسما ثمنه، فلا فساد في ذلك(6/444)
على مراعاة ما ثبت في الذمة؛ لأنه إنما وجب له عليه ثلاثة أرباع دينار فدفع ذلك إليه ولا يجوز مراعاة ما يوجبه الحكم له عليه صرف ثلاثة أرباع الدينار، إذ لا ينقسم، فصار قد صارفه في ذلك مصارفة غير ناجزة لشركته معه في الدينار، فيرد إليه الدينار ويأخذ منه صرف ثلاثة أرباعه، ولا ينقض البيع إلا أن يكون قد بايعه على ذلك فينتقض على هذا القول.
ولو دفع إليه الدينار على أن يكون الربع عنده سلفا على غير شرط في أصل البيع لجاز على مراعاة ما ترتب في الذمة من الذهب ولم يجز على مراعاة ما يوجبه الحكم لأنه صارفه في النصف على أن أسلفه النصف، فدخله البيع والسلف، ولو بايعه على غير شرط لكان بيعا وسلفا وبالله التوفيق.
[مسألة: عليه أثلاث دينار منجمة في كل شهر ثلث دينار فأيسر بدينار]
مسألة وسئل عن رجل عليه أثلاث دينار منجمة في كل شهر ثلث دينار فأيسر بدينار فأراد أن يعطيه إياه قبل محلها.
قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: جوابه في هذه المسألة صحيح على مراعاة ما ثبت في الذمة لأنه عجل ما عليه، فجاز ذلك، ولا يجوز على مراعاة ما يوجبه الحكم من أن يقضيه صرف كل ثلث إذا حل عليه لأنه كمن اقتضى من دراهم له مؤجلة ذهبا معجلا وهذا بين.
[مسألة: باع من رجل ثوبا بنصف دينار فقبض الثوب فلما كان من الغد جاء بدينار]
مسألة وسئل عن رجل باع من رجل ثوبا بنصف دينار فقبض الثوب فلما كان من الغد جاء بدينار فطلب منه النصف فقال: ما عندي فأقره عندي سلفا.(6/445)
قال: ما يعجبني.
قلت: فلا يعجبك؟ فقال: ما هذا بالبين ووقف عنه، قال ابن القاسم: أراه قضاء وسلفا إذا لم يكن شرطا في أصل البيع، وقد أخبرني من أثق به عن ربيعة مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا الاختلاف أيضا في هذه المسألة جار على ما ذكرناه قبل، فكراهة مالك له في أحد قوليه على مراعاة ما يوجبه الحكم خلاف مذهبه في المسألة التي فوقها، وقول ابن القاسم وأحد قولي مالك في إجازة ذلك على مراعاة ما ثبت في الذمة مثل قول مالك في المسألة التي فوقها وبالله التوفيق
[يكون عنده الدنانير المضروبة فيريد دنانير نقصا عتقا ولها نفاق في عيونها]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك عن الرجل يكون عنده الدنانير المضروبة القائمة ولها صروف في عيونها فيريد دنانير نقصا عتقا ولها نفاق في عيونها والقائمة في ذلك أفضل إلا أنه إذا رضي بذلك لمكان عدم العتق فهو يدخل في عددها زيادة الخمسة والعشرة القائمة على عدد القائمة بمراطلتها.
قال: إن كانت مضاربته مثلا بمثل فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة منصوصة في المدونة، وهي صحيحة على أصولهم في أن السكة والصياغة ملغتان في المراطلة فيجوز أن يراطل تبر ذهب بذهب دونها مصوغة أو مضروبة وإن كان قد علم أنه إنما رضي بترك فضل ذهبه على ذهب صاحبه من أجل الصياغة والسكة،(6/446)
والأصل في ذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تبيعوا الذهب إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا بعضها على بعض» ، وإنما الذي لا يجوز أن يراطل ذهبا بذهبين إحداهما أرفع والثانية أوضع، وسيأتي الكلام على هذا مستوفى في أصل البيع والصرف من سماع أصبغ وبالله التوفيق.
[مسألة: يقدم البلدة التي تجوز فيها الدراهم النقص ويكون معه دراهم كبار فيريد أن يقطعها]
مسألة وسئل مالك عن الذي يقدم البلدة التي تجوز فيها الدراهم النقص ويكون معه دراهم كبار فيريد أن يقطعها، قال ذلك يكره.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن ذلك مكروه مخافة أن يذهب بها إلى بلدة لا يجوز النقص فيها فيغش فيها، فذلك أشد في الكراهية من قطع الدنانير المقطوعة، وقد أجاز في أول رسم أشهب قطع الدنانير المقطوعة عند الحاجة إلى ذلك، وأجاز ابن القاسم في سماع أصبغ قطعها إجازة مطلقة إذا لم تكن صحاحا مدورة وأما قطع الدنانير الوازنة وردها ناقصة في البلد التي لا يجوز فيها الدنانير الناقصة فذلك لا يحل ولا يجوز، وسيأتي هذا المعنى أيضا في رسم تأخير صلاة العشاء وبالله التوفيق.
[مسألة: يجعل في فص خاتمه الحبة والحبتين من الذهب يخلطه معه يريد بذلك ألا تصدأ فضته]
مسألة وسئل عن الرجل يجعل في فص خاتمه الحبة والحبتين من الذهب يخلطه معه يريد بذلك ألا تصدأ فضته كرهه أيضا.
قال محمد بن رشد: مسمار الذهب في الخاتم كالعلم من الحرير(6/447)
يكون في الثوب فمالك يكره ذلك وغيره يجيزه ولا يرى فيه كراهة فمن تركه على مذهب مالك أبر، ومن فعله لم يأثم؛ لأن هذا هو حد المكروه وعلى مذهب غيره هو من المباح لا إثم في فعله ولا أجر في تركه أما خلط الشيء اليسير من الذهب في خاتم الفضة فهو يشبه الثوب المشوب بالحرير كالخز وشبهه فيكرهه مالك، وغيره يجيزه أيضا، وفرق ابن حبيب فيما كان مشوبا بالثياب بالحرير من الخز اتباعا على غير قياس، ومذهبه في ذلك شذوذ وبالله التوفيق.
[مسألة: معاملة الصيارفة]
مسألة وقيل لمالك: أيستحب للرجل أن يصرف من التجار ويدع الصيارفة.
قال: نعم هذا أحب إلي لموضع ما يربون؛ لأن الفساد قد كثر، فكلهم يعمل بما لا يصلح.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأن الغالب على الصيارفة العمل بالربا فيستحب تجنب معاملة أحد منهم وإن لم يعلم حاله؛ لأنه يحمل على الغالب من أهل صناعته، وقد قيل: إن معاملة من خالط ماله من ربا أو غيره لا يحل ولا يجوز، والصحيح أنها مكروهة وليست بحرام ولنا في هذا المعنى مسألة جامعة لمن أراد الشفاء منه طالعها وبالله التوفيق.
[مسألة: يصرف من صراف بذهب ورقا ثم يصرفها منه بذهب آخر]
مسألة قال مالك: يكره للرجل أن يصرف من صراف بذهب ورقا ثم يصرفها منه بذهب آخر، وقيل له: أرأيت إن استودعها إياه بعد أن صارفه؟ قال: لا خير فيه.(6/448)
قال محمد بن رشد: قوله إنه يكره للرجل أن يصرف من صراف بذهب ورقا ثم يصرفها منه بذهب آخر، معناه في المجلس أو يقرب ذلك بعد اليوم واليومين على ما في المدونة، وأما إذا طال الأمر فذلك جائز، وإنما يكره ذلك للتهمة ويفسخ من أجل الذريعة، فإذا ارتفعت التهمة وظهرت البراءة في فعلهما جاز ذلك وذلك مثل أن يبيع الدراهم منه في المجلس بحضرتهما قبل التفرق بذهب مثل عين ذهبه أقل منها أو أكثر أو مخالف لعينها في مثل وزنها؛ لأنه إذ أخذ منه مثل عين ذهبه أقل أو أكثر يبرأ من التهمة إذ لا يتهم أحد في دفع عشرة يأخذ عشرة يدا بيد وإذا أخذ منه ذهبا مخالفة لعينها في مثل وزنها كانت مراطلة، وإنما الذي لا يجوز له أن يأخذ منه بالحضرة قبل التفرق ذهبا مخالفة لذهبه في عينيها ووزنها، وأما بعد التفرق بالقرب فلا يجوز له أن يأخذ منه إلا مثل عين ذهبه في مثل وزنها أو أقل من وزنها، فإن طال الأمر بعد التفرق جاز أن يأخذ منه ما شاء.
وأما تركه الذهب عنده وديعة بعد المصارفة فيه فإنما لم يجز ذلك من أجل أنه إذا صرف الذهب إليه أن الأمر إلى الصراف المتأخر فإنهما على القصد إلى ذلك، ولو صح ذلك منهما لم يكن عليهما فيه حرج، وقد أجاز ذلك ابن وهب في سماع أبي جعفر إذا طبع عليها، وهو بعيد لأن الطبع عليها لا يرفع التهمة عنهما بخلاف رهن ما لا يعرف بعينيه إذا غيب عليه، وبالله التوفيق.
[يبتاع بمثقال الذهب دراهم فيجد الذهب غير جيدة فيرده عليه ويقول إني قد وجدته غير جيدة]
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك عن الذي يبتاع بمثقال الذهب دراهم فيجد الذهب غير جيدة فيرده عليه ويقول: إني قد وجدته غير جيدة،(6/449)
فيقول: أنا أعطيك به دينارا مضروبا بوزنه، قال: لا يعجبني هذا القول حتى يفسخ ذلك، فإذا فسخ فإن شاء أخذ به مثقال ذهب، وإن شاء أخذ به دراهم.
قال محمد بن رشد: معنى المسألة أنه ابتاع مثقال ذهب غير مضروب بدراهم فكره لما وجده غير جيد أن يأخذ منه به مثقالا مضروبا قبل فسخ الصرف ولم يبين من يفسخه، وأشهب يرى أن تراضيهما بفسخه كفسخ السلطان إياه خلاف ما ذهب إليه ابن المواز.
وقول مالك: لا يعجبني إلى آخر قوله، صحيح على أصله أن البدل في الصرف لا يجوز؛ لأنه إذا لم يجز أن يبدله له بمثله ورأى ذلك صرفا متأخرا فأحرى ألا يجوز له أن يبدله بخلافه، وذلك جائز على مذهب من يجيز البدل في الصرف لأنه بمنزلة من له على رجل دينار غير مضروب فأخذ به دينارا مضروبا بوزنه وعلى مثل جودته.
فإذا فسخ الصرف بينهما بحكم على مذهب ابن المواز أو تراضيا على فسخه بينهما بغير حكم على مذهب جاز أن يأخذ به دينارا مضروبا لأنه إنما له دراهم مثل الذي دفع فيجوز له أن يأخذ به ذهبا أو ما شاء من العروض وبالله التوفيق.
[قلادة اشتراها قوم من رجل بدراهم نقدا وقالوا لصاحبها ندفع إليك الثمن وأخروه]
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته وسئل مالك عن قلادة اشتراها قوم من رجل فيها لؤلؤ وذهب اشتروها بدراهم نقدا وقالوا لصاحبها ندفع إليك الثمن وأخروه(6/450)
بذلك وقطعوا القلادة وفصلوها وتقاوموا اللؤلؤ الذهب فوضعوا فيها فلما حلت الوضيعة وثبوا على صاحبهم وتقاوموا اللؤلؤ وباعوا الذهب يريدون أن يردوا البيع لاستنجاز النقد فيما بينهم ولم يذكروا استنجازا بشرط كان بينهم إلا أنهم اشتروا على النقد وأخروه.
قال: فلا أرى أن يلزمه أن يرد عليه ولا ينقض البيع لاستنجاز النقد قال سحنون: هي جيدة.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أن الذهب كان في القلادة يسيرا فلم يفسد البيع فيها لاستنجاز الثمن إذ لم يتأخر وإنما كان بغلبة من المشترين، وهو على قياس قوله في رسم أخذ يشرب خمرا فيمن ابتاع ثوبا أو طعاما أو غير ذلك بدينار لا درهمين فوجد أحد الدرهمين زائفا أنه يبدله، ولا ينقض البيع وعلى قياس قول من يرى أن البدل في الصرف لا ينقض الصرف إذا تأخر النقد فيه بالغلبة أو السرقة ويأخذ ما تأخر من النقد كما يأخذ ما وجد من الزائف وقد مضى شيء من هذا المعنى في آخر رسم القبلة.
[مسألة: ابتاع من رجل بدرهمين زيتا فلما وجب البيع بينهما استقاله من أحدهما]
مسألة قال مالك في رجل ابتاع من رجل بدرهمين زيتا فلما وجب البيع بينهما استقاله من أحدهما.
قال مالك: إن كانا لم يتفرقا فلا بأس به.(6/451)
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه نقد الدرهمين ولم يقبض الزيت أو قبض الزيت ولم ينقد الدرهمين فصار إذا افترقا بيعا وسلف طعام إن كان الزيت هو المقبوض أو بيعا وسلف درهم إن كان الدرهمان هما المقبوضان.
وإن لم يفترقا لم يكن ثم سلف فجازت الإقالة، فأما لو كانا قد تقابضا الزيت والدرهمين أو لم يتقابضا من ذلك شيئا لجاز أن يقيله بما تراضيا عليه افترقا أو لم يفترقا.
[يشتري الثوب بنصف دينار وثلث فيعطيه دينارا ينقص سدسا]
مسألة وسئل مالك عن الذي يشتري الثوب بنصف دينار وثلث، فيعطيه دينارا ينقص سدسا.
قال: لا بأس به، فقيل له: إنه إذا كان ينقض سدسا ينقص من عينيه؟ قال: وما بأسه؟ قال: أرأيت لو أعطاه دراهم؟ .
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه إذا اشترى ثوبا أو شيئا بدينار إلا سدس فإنما يجب للبائع عليه صرفه دراهم يوم يقضيه، فإذا أعطاه بها ذهبا جاز، كمن كان له على رجل دراهم حالة فأخذ بها منه ذهبا.
[مسألة: عشرة دنانير من سلف أو بيع إذا كانت مثاقيل مجموعة هي لرجل على رجل]
مسألة وقال مالك في عشرة دنانير من سلف أو بيع إذا كانت مثاقيل مجموعة هي لرجل على رجل فيكيلها فتنقض ثلثا أو نصفا: إنه لا بأس به أن يأخذ منه بعد أن يتفرقا بنصفه ورقا أو ما شاء من عرض أو غيره وأما في مجلسهما فإني أكره ذلك، قال ابن القاسم: إذا صح ذلك فلا بأس به أن يأخذ في مجلسه عرضا ولم(6/452)
يرد في قيمته العرض لمكان ما تجاوز عنه من الدنانير، قال مالك: إني أخاف أن تريده في الصرف لمكان ما تجاوز عنه حتى يبين بها ويصير صرفا مستأنفا، قال ابن القاسم: وإذا صح ذلك لا بأس به كان في مجلسهما أو افترقا.
قال محمد بن رشد: لمالك في أول سماع أشهب إجازة ذلك في المجلس خلاف قوله هاهنا وفي رسم صلى نهارا بعد هذا مثل قول ابن القاسم هاهنا وهو الأظهر أن الدنانير المجموعة كالطعام فلا فرق في القياس بين أن ينقصه من حقه دينارا فيأخذ له عرضا أو ورقا أو ينقصه من حقه بعض دينار فيأخذ منه عرضا ما وجد منه ويأخذ بالبقية عرضا أو ورقا في الدنانير القائمة، وقد اختلف أيضا في الدنانير المجموعة إذا وجد فضلا على حقه بعض دينار فأراد أن يأخذه ويعطيه به عرضا أو ورقا فأجازه في كتاب الصرف من المدونة وفي رسم صلى نهارا ثلاث ركعات بعد هذا ومنع في أول سماع أشهب وإجازته أظهر لأنه أخذ منه حقه كاملا وبايعه في الزائد بما تجوز المبايعة به والله أعلم.
[مسألة: يشتري بالدرهم فيقول كله وأعطني بما فيه]
مسألة وسئل مالك عن الذي يشتري بالدرهم فيقول: كله وأعطني بما فيه.
قال: أكره ذلك له، ولم أر كراهيته أنا عنده وجها فيه حجة إلا أنه قد لج فيه وقال لا أحبه، قال ابن القاسم: لا بأس به(6/453)
قال محمد بن رشد: وجه الكراهية في ذلك أن مبلغ ما انعقد عليه البيع بينهما غير معلوم حال العقد، وإنما يعلم بعد وزن الدراهم كشراء الصبرة كل قفيز بدرهم لأن السوم معلوم، ومقدار ما انعقد البيع عليه بينهما لا يعلم إلا بعد كيل الصبرة، وعبد العزيز بن سلمة لا يجيز ذلك، فقول مالك في هذه المسألة كقول عبد العزيز في مسألة الصبرة إذ لا فرق في المعنى بين المسألتين إذ يتقى من الجهل في الثمن ما يتقي منه في المثمون ويستجاز من الجهل فيه ما يستجاز من الجهل فيه، فإذا جاز شراء الصبرة على الكيل وإن لم يعلم ما فيها إلا بعد كيلها جاز الشراء بالدرهم وإن لم يعلم ما فيه إلا بعد قربة اللهم إلا أن يفرق بينهما أن الدراهم لفا لم يجز بيعها جزافا على الوزن وأن الطعام وشبهه مما يكال لما جاز بيعه جزافا جاز بيعه جزافا على الكيل وليس ذلك ببين إذ لا فرق بين أن يقول: كل هذا الدرهم وأعطني بما فيه وكل هذا التبر وأعطني بما فيه فهي جائزة على قياس قول مالك في مسألة الصبرة وغير جائزة على قياس عبد العزيز فيها وبالله التوفيق.
[كانت بينهما نقرة فضة فقال أحدهما لصاحبه إن لي بها حاجة فكله]
مسألة ومن كتاب أوله حديث طلق ابن حبيب وسئل مالك عن رجلين كانت بينهما نقرة فضة، فقال أحدهما لصاحبه: إن لي بها حاجة فكله، فما كان فيها أعطيك نصفها دراهم كيلا.
قال: إن كان بحضرة ذلك يدا بيد فلا بأس به.
محمد بن أحمد: مثل هذا في المدونة من قول ابن القاسم وروايته عن مالك لما في قسمتها من المؤنة، وروى أشهب عن مالك أن ذلك لا يجوز، وتقسم، إذ لا مضرة في قسمتها، وإنما لم يجز ذلك لأن(6/454)
الشيء إذا وزن مجتمعا ثم فرق زاد ونقص واستخف ابن القاسم هذا المعنى في هذه المسألة، واستثقله في مسألة الدرهمين الفردين يؤخذ بوزنهما تبر فضة فلم يجز ذلك، وقد مضى ذلك في رسم القبلة.
واتفقوا على أن ذلك جائز في الحلي أن يكون بين الشريكين لما في قسمته من المضرة والفساد، على أن ذلك لا يجوز في الدنانير تكون بينهما في كيس مطبوع عليه ولا مضرة في قسمتها.
[مسألة: وكل أحد الرجلين صاحبه على أن يشتري نقرة أو دراهم أو دنانير]
مسألة قال ابن القاسم: لا بأس أن يشتري الرجل النقرة الفضة أو الدراهم يوكل أحدهما صاحبه أن يقبضها وينصرف بها أو ينقلب بها أحدهما دون صاحبه ولا ينقلب بها الآخر.
قال محمد بن رشد: إذا وكل أحد الرجلين صاحبه على أن يشتري نقرة أو دراهم أو دنانير فاشترى ذلك لنفسه ولمن وكله وانصرف به فلا إشكال في جواز ذلك ولا كلام فيه؛ لأنه إذا جاز أن يوكل الرجل من يصرف له لنفسه جاز له، وإنما الكلام إذا اشترى الرجل نقرة أو دراهم أو دنانير بينهما، فذهب أحدهما ووكل الآخر على قبضها، فظاهر قوله هنا أو ينقلب بها أحدهما دون صاحبه أن ذلك جائز؛ لأن معنى المسألة أو ينقلب بها أحدهما دون صاحبه بعد أن اشتريا ذلك جميعا، ومثله في الظاهر في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ، بل هو أبين، وقد نص على جواز ذلك في سماع أبي زيد.
وظاهر ما في المدونة أن ذلك لا يجوز إلا أن يقبض ذلك بحضرته قبل أن يفارقه، ونص ما في المدونة على أن الرجل إذا صرف لا يجوز له(6/455)
أن يذهب ويؤكل من يقبض له، وإنما يجوز له توكيله إذا قبض الوكيل بحضرته قبل أن يفارقه فقيل: إن الاختلاف في مسألة الشريكين داخل في هذه، وقيل: إنه لا يدخل فيها، ويفرق بينهما على أحد القولين بعلة الاشتراك، والصواب أن الاختلاف داخل فيها إذ قد ساوى بينهما في المدونة، ولا فرق بين أن يوكل الرجل أجنبيا على قبض ما صرف لنفسه، أو يوكل شريكه على قبض حصته من الصرف.
فيحصل في المسألة ثلاثة أقوال أحدهما أنه يجوز ويوكل من يقبض له في المسألتين جميعا، والثاني أن ذلك لا يجوز إلا أن يقبض بحضرته قبل أن يفارقه في المسألتين جميعا، والثالث الفرق بين أن يصرف ويوكل من يقبض له أو يوكل شريكه على قبض ما صرفاه جميعا، فلا يجوز إذا وكل على قبض ما صرف لنفسه إلا أن يقبض الوكيل بحضرته، ويجوز إذا وكل على قبض ما صرف لنفسه إلا أن يقبض الوكيل بحضرته، ويجوز إذا وكل شريكه على قبض ما صرفاه أن يقبض بعد ذهابه.
[يشتري الرجل فضة ولا دراهم ولا حليا فتجب له ثم يسأله رجل أن يشركه فيها]
مسألة قال: ولا خير في أن يشتري الرجل فضة ولا دراهم ولا حليا فتجب له ثم يسأله رجل أن يشركه فيها وان كان الذي أشرك ينقلب به جميعا حتى يقاسمه ما أشركه فيه ويأخذ منه ذهبه فيقاسمه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة تخرج على ثلاثة أقوال: أحدهما هذا، ورواه ابن وهب أيضا عن مالك، وزاد أن ذلك صرف لا يحل ألا يدا بيد، وهو على القول بأن عهدة المشترك جميع ذلك لا حصته، وذلك على القول بأن عهدة المشترك على البائع الأول؟ والثالث أن ذلك لا يجوز إلا أن يقاسمه أو يدفع إليه الجميع يكون عنده حتى يبيعه إن كان إنما اشتراه(6/456)
لتجارة، روى ذلك أشهب عن مالك، وهو استحسان على غير قياس، إذ لا اختلاف في أنه لا يجوز للرجل أن يصرف نصف دينار من رجل وإن أسلمه إليه إذا لم يتناجزا فيه من أجل شركته له فيه.
[مسألة: سأل رجلا أن يسلفه ذهبا ويشتركان في دراهم يشتريانها]
مسألة ولو أن رجلا سأل رجلا أن يسلفه ذهبا ويشتركان في دراهم يشتريانها لم يكن بذلك بأس إذا كان السلف لا يجتر به من صاحبه عونا ولا مرفقا وينقلب بها من شاء منهما.
قال محمد بن رشد: قوله إذا كان السلف لا يجتر به من صاحبه عونا ولا مرفقا صحيح لأنه إذا اجتر به عونا فهو سلف جر منفعة، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سلف جر نفعا» . ومثله في أول سماع ابن القاسم من كتاب الشركة، وزاد قال ابن القاسم قال لي مالك بعد ذلك: لا خير فيه على حال ومعنى ذلك أنه لم يصدقه أنه لم يرد بذلك الوفق لنفسه إذا كان هو الذي سأله أن يسلفه ويشاركه الصدق أنه لم يرد بذلك منفعته قولا واحدا. وأما قوله: وينقلب بها من شاء منهما فمعناه بأمر صاحبه وحضرته باتفاق، أو بعد ذهابه على اختلاف. وقد مضى تحصيل القول في ذلك فوق هذا في هذا الرسم فلا معنى لإعادته هاهنا.
[يستأجر الصراف على أن ينتقد له دنانير ويزنها في بيع ميراث فيوجد فيها ذهب]
ومن كتاب أخذ يشرب خمرا قال: وسئل عن الرجل يستأجر الصراف على أن ينتقد له دنانير ويزنها في بيع ميراث فيوجد فيها ذهب قباح، أترى أن يضمن؟ قال: لا ضمان عليه إلا أن يكون غر من نفسه أن يكون يعرف أنه ليس من أهل البصر ولا التفرقة بالصرف. وأما إذا كان يعرف أنه غير عارف بذلك وأن مثله يبصر فلا أرى عليه(6/457)
شيئا، وقد يختلف الناس في البصر. قال سحنون: هذه أصح من التي تحتها حيث قال: إن غر فلا شيء له، وإن لم يغر فله الأجر.
قال: وسئل عن الصراف الذي يغر من نفسه فيأخذ زيفا أترى أن يضمن؟ فقال: لا ولكن أراه أن يؤدب وأن يمنع الأجر ولا أرى أن يغرم. قال ابن القاسم: فقلت لمالك: ما هو في الصراف إذا هو غر من نفسه؟ قال: يحرم أجره ويؤدب ولا أرى عليه غرما. قال ابن القاسم: وإذا هو لم يغر من نفسه وكان من أهل البصر أعطي أجره ولا غرم عليه؛ لأن البصير قد يزل بصره وقد اجتهد، الأول أصح رواية عندي وأصدق من هذه.
وسئل عن الذين يجعل لهم في بيع الرقيق والدواب فيبيع أحدهم الدابة فيأخذ جعله ثم يوجد بالدابة عيب فترد، أترى له جعله؟ قال: لا أرى له ذلك ولكن أرى أن يرد ما أخذ في جعله ولا أرى له شيئا إلا أن ينفذ ذلك. ثم قال: أرأيت لو باعها مرارا وهي ترد في كل مرة؟ أتريد أن يأخذ في ذلك في كل مرة جعلا؟ ليس هو كذلك، إنما يكون له على النفاد، فإن ردت رد ما أخذ من جعله. قال سحنون: هذه تبين لكل مسألة الصيرفي في أنه يرد ما أخذ من الأجر.
قال محمد بن رشد: قد تأول بعض الشيوخ أن الضمان الذي أراد مالك في قوله الأول لا ضمان عليه إلا أن يكون غر من نفسه، إنما هو أن يحرم الأجر على ما فسره، وفي قوله الآخر وأن ذلك باختلاف من(6/458)
قوله؛ وقيل معناه أن يغرم ما أخذ من الرديء وأن تفسيره الضمان في القول الثاني خلاف لقوله الأول إنه إن غر ضمن ما أخذ من الرديء وإذا ضمن وجبت له الأجرة، وإن لم يغر لم يضمن الرديء ولم يكن له أجرة، معناه إن كان الرديء مثل أجرته فأكثر. وأما إن كان الرديء أقل من أجرته فله تمام أجرته، وهو اختيار سحنون. وقوله الثاني إنه إن غر أدب ولم يضمن الرديء وحرم الأجر، معناه أيضا إن كان الرديء مثل أجرته فأكثر. وأما إن كان الرديء أقل من أجرته فله تمام أجرته، وهو مذهبه في المدونة. وإن لم يغر كان له الأجر مثل قول مالك في سماع أشهب في الدليل يكون للدلالة فيخطئ الطريق. وتحصيل الاختلاف في هذا أنه إن لم يغر فلا اختلاف في أنه لا يضمن الرديء، واختلف في أجرته على قولين: أحدهما أن لا يضمنه ولا تكون له أجرة كاملة، والثاني أنه لا أجرة له إلا أن يكون الرديء أقل من أجرته فيكون له تمام أجرته، والثاني أنه يضمنه ويحاسب في ذلك بأجرته، فمن كان له الفضل منهما على صاحبه رجع به عليه. وأما الذي يجعل له الجعل على البيع فيبيع ثم ترد الدابة من عيب، فإن كان علم بالعيب فغر به رد الجعل باتفاق، وإن كان لم يعلم به رد على اختلاف. وذهب ابن دحون إلى أنه يرد الجعل باتفاق لأنه جعل لا يجب إلا بالبيع، بخلاف هذه المسألة لأنها إجارة، والإجارة تجب باع أو لم يبع، وعاب على سحنون تنظيره بين المسألتين، والتنظير بين المسألتين عندي صحيح؛ لأن الذي جعل له الجعل عليه قد فعله وهو البيع، وخطؤه في العيب الذي لم يبين به كخطئه فيما استؤجر له، فإما أن يعذر بخطئه في الوجهين جميعا فيأخذ واجبه فيهما، أو لا يعذر به فيسقط فيهما. وقد قيل: إن الاختلاف في رد الجعل مبني على الرد بالعيب هل هو نقض بيع، أو ابتداء بيع؟(6/459)
[مسألة: ابتاع طعاما أو ثوبا أو غير ذلك بدينار إلا درهمين فدفع الدينار وأخذ الدرهمين]
مسألة سئل عن رجل ابتاع طعاما أو ثوبا أو غير ذلك بدينار إلا درهمين فدفع الدينار وأخذ الدرهمين وما اشترى وانقلب به، ثم وجد أحد الدرهمين زائفا أترى أن يبدله أو يرد البيع كما يرد الصرف إذا وجد درهما زائفا؟
قال: بل أرى أن يبدله وليس هذا مثل الصرف، إنما الدرهمان هنا تبع ألا ترى أنه قد كان لحاق صكوك الجاري مبتاع بالذهب إلا الدرهم والدرهمين فيتعجلون الذهب والدرهمين ويتأخر الصكوك، فلم يكن به بأس ولم يروا أن تأخير الصكوك من قبل الصرف فما أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: أجاز البدل في هذه المسألة، إذ ليس بصرف محض مراعاة لقول من أجازه في الصرف المحض، وقد روى ابن وهب عنه من رواية الحارث عنه خلافه، ولو كانت الدراهم أكثر من درهمين لانتقض ذلك كله ولم يجز البدل فيه؛ لأنه كالصرف المحض على ما في سماع أبي زيد منه والله الموفق للصواب لا رب سواه.
[باع بعض الورثة نصيبه من حلي الذهب من أجنبي بوزنه من الذهب]
ومن كتاب أوله يسلف في المتاع قال: وسئل عن قوم ورثوا حليا وكانت معهم أخت منهم وتركت أمها خلخالين من ذهب وسوارين ودملجين، فسألت إخوتها أن يكيلوا ذلك كيلا فتنظركم وزنها؟ فينظر إلى نصيبهم من ذلك فتكليه لهم دنانير تعطيهم إياها.
قال مالك: إن كان ذلك نقدا عند ما يكيلون فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، وهو مما لا اختلاف(6/460)
في جوازه إذا نقدت بالحضرة عند الوزن قبل التفرق، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم طلق.
وكذلك لو اشترت نصيبهم منه بدراهم نقدا لجاز، ولو باع بعض الورثة نصيبه من حلي الذهب من أجنبي بوزنه من الذهب لم يجز، ولو باع نصيبه من أجنبي بدراهم لم يجز عند ابن القاسم، وجاز عند أشهب إن قبض الحلي كله والله الموفق.
[مسألة: كان يسأل رجلا نصف دينار فجاءه يتقاضاه إياه فقال له إني مشغول]
مسألة وسئل عن رجل كان يسأل رجلا نصف دينار فجاءه يتقاضاه إياه، فقال له: إني مشغول، وهذا دينار فخذه فاذهب فصرفه فخذ نصفك وجئني بنصفي.
قال: لا بأس بذلك سحنون، قال ابن القاسم: وقد قيل لي: لا خير فيه، وهذا في الدينار أحب إلي، فأما ما كثر من الدنانير قال مالك: لا خير فيه قال ابن القاسم: وبه آخذ.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: وهذا في الدينار أحب إلي يريد قول مالك الأول أنه لا بأس بذلك، ولم يذكر ما كثر من الدنانير اختلافا من قول مالك إن ذلك لا يجوز، فأخذ به، ومثله في كتاب الصرف من المدونة يريد في الرجل يكون له على الرجل الدراهم فيدفع إليه دنانير ليصرفها ويستوفي حقه منها، والعلة في أن ذلك لا يجوز ما ذكر في المدونة من أنه يخشى أن يمسكها فيكون مصرفا ويكون صاحب الدنانير في إجازة ذلك بالخيار، فيدخله استيخار في الصرف، وأجاز فيها أن يدفع إليه طعاما أو سلعة ليبيع ذلك ويستوفي حقه منها ما لم يكن الذي باع منه بالدراهم التي له عليه طعاما إن كان دفع إليه أكثر منها مخافة أن يأخذ ذلك لنفسه(6/461)
فيكون الطعام بالطعام إلى أجل، وعروض في عروض مثلها إلى أجل.
ولم يراع ما للدافع من الخيار في ذلك إن أخذ بها لنفسه فيدخله عدم المناجزة في فسخ ما كان له عليه من الدراهم في السلعة فاعترضها سحنون بذلك.
وأما إن كان للرجل على الرجل نصف دينار قائم، فدفع إليه دينارا ليصرفه فيأخذ نصفه ويأتيه بنصفه، فإنما اختلف قول مالك في ذلك من أجل أن المترتب له في ذمته ذهب، والذي يوجب له الحكم في القضاء صرف نصف دينار من الدراهم، إذ لا ينقسم، فإن دفع إليه مثقالا أخذ منه وصرف منه نصفه جاز باتفاق لأنه قبض منه النصف الذي ترتب له في ذمته من الذهب وصارفه في النصف الثاني مصارفة ناجزة، وإن دفع إليه مثقالا على أن يكون نصفه قضاء من حقه ويبقى النصف الثاني عنده أمانة جاز أيضا على مراعاة ما ثبت في الذمة، ولم يجز على مراعاة ما يوجبه الحكم حسبما مضى في رسم حلف [ألا يبيع رجلا، فإن دفع إليه مثقالا على أن يكون نصفه له قضاء من حقه ويبقى النصف الثاني عنده سلفا جاز أيضا على مراعاة الثابت في الذمة لأنه قضى وسلف، قضى نصف دينار كما وجب له في ذمته وأسلفه نصف دينار، ولم يجز على مراعاة ما يوجب الحكم؛ لأنه صارفه في نصف المثقال على أن سلفه النصف الآخر، فدخل البيع والسلف حسبما ما مضى أيضا في رسم حلف المذكور، وقد مضى ذلك في رسم حلف] في بعض الروايات.
وكذلك إن دفع إليه دينارا نصفه قضاء من حقه، ونصفه يسلفه له في سلعة، يجري هذا على الاختلاف، وستأتي هذه المسألة في رسم أسلم من سماع عيسى، وكذلك لو أعطاه دينارا نصفه قضاء من حقه، ونصفه أخذ به منه، وستأتي هذه المسألة في سماع أبي زيد من بعض الروايات،(6/462)
وكذلك إذا دفع إليه الدينار على أن يصرفه فيأخذ نصفه ويأتيه بنصفه، يتخرج اختلاف قول مالك في ذلك على هذين الوجهين؛ لأنه على مراعاة ما ثبت في الذمة قضاه نصف الدينار فصار شريكا معه فيه وكله على تصريفه فجاز، وعلى مراعاة ما يوجب الحكم قضاه النصف الدينار الذي دفع إليه عن الدراهم التي تجب عليه له بالحكم، فصار مصارفة غير ناجزة لبقائه معه شريكا في الدينار إلى أن يصرف ويقسما صرفه فلم يجز، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري من البياع بالدانق والدانقين والثلاثة فتكون درهمان أو ثلاثة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يشتري من البياع بالدانق والدانقين والثلاثة فتكون درهمان، أو ثلاثة فيعطيه دراهم.
قال: لا أرى بذلك بأسا ودين الله يسر.
قال محمد بن رشد: إنما خفف ذلك وقال: لا أرى به بأسا ودين الله يسر ولم يطلق القول بإجازته لأن الدراهم التي قضاه إياها إنما اجتمعت له قبله من دوانق مقطعة شيئا بعد شيء، وهي لو جمعت بعد أن توزن مقطعة لم يكن بد من أن تنقص عن وزن الدراهم التي قضاه أو يزيد عليها، وقد أثنى هذا المعنى في غير هذه المسألة حسبما قد ذكرناه في رسم القبلة وغيره، وأجازه في هذه المسألة لأنها نفقات تكثر، وأمر يعم، فلا يقدر على التوقي منه بأن يقضيه فيما يجمع له قلبه من الدوانق ذهبا أو فلوسا أو عروضا إلا لمشقة تدخل على الناس في ذلك.
[مسألة: اقتضاء الطعام من ثمن الطعام]
مسألة قيل له: أفيأخذ منه بكسر فاكهة فيعطيه في ذلك حنطة بعد ذلك؟ .(6/463)
فقال: لا خير في هذا بيع الطعام إلى أجل.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن اقتضاء الطعام من ثمن الطعام كبيع الطعام بالطعام إلى آجل على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه في القول بالمنع من الذرائع ولا حول ولا قوة بالله.
[باع من رجل ثوبا بنصف دينار فلم يقبضه حتى باعه بسلعة أخرى بنصف دينار]
ومن كتاب تأخير صلاة العشاء وسئل مالك عن رجل باع من رجل ثوبا بنصف دينار فلم يقبضه حتى باعه بسلعة أخرى بنصف دينار، فلما أراد أن يقبضه قال له: تعالى أعطيك دراهم نصفين، فقال له البائع: لا، لي عليك دينار،
قال: أرى أن يغرم له دينارا قال ابن القاسم: وذلك رأيي أحب أو كره.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إنما يقضي لمن وجب له نصف دينار يصرفه من الدراهم من أجل أن الدينار القائم لا ينقسم، فإذا وجب له نصفان أعطاه دينارا قائما كما ثبت له في ذمته، ولم يكن له ليقطعه عليه ليعطيه دراهم إذا كان موسرا، ولو كان معسرا فأتاه بنصف دينار دراهم يجبر على أن يأخذه ويتبعه بالنصف الآخر، ولم يكن له أن يقول أنا أؤخره، حتى يوسر فيعطيني دينارا بمنزلة إذا كان له عليه ديناران فأتاه بدينار واحد وهو معسر.
ولو باع منه سلعة بدينار قائم فأتاه بنصف دينار دراهم وهو معسر فأبى أن يأخذه وقال: أنظره إلى أن يوسر فآخذ منه دينارا، لكان ذلك له، بخلاف إذا كان له عليه ديناران فأتاه بدينار وهو معسر فأبى أن يأخذه وقال: أنا أنظره إلى أن يوسر بالدينارين فآخذهما جملة.(6/464)
[قطع الدراهم المقطوعة]
مسألة وسئل مالك عن قطع الدراهم المقطوعة.
فقال: أكره ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في أول سماع أشهب لأنه أجاز قطعها عند الحاجة إلى ذلك، خلاف ما في رسم البيوع الثاني من سماع أصبغ من إجازته لقطعها إذا لم تكن صحاحا مدورة مختلف في كراهة قطعها.
والصحاح المدورة النقص التي لا تجوز إلا بالوزن متفق على كراهة قطعها.
وأما القائمة التي تجوز عمدا فقطع الزائد منها على وزنها المعلوم جائز لمن استضربها، ومكروه لمن بايع بها، وما ردها ناقصة بمكروه في البلد التي تجوز فيه ناقصة، وحرام في البلد الذي لا تجوز فيه ناقصة، وقد مضى هذا المعنى في رسم شك في طوافه.
[مسألة: اشترى بنصف دينار قمحا فدفع الدينار فقبض بنصفه دراهم وفارقه إلى أن يأتيه بالحمال]
مسألة وسئل عمن اشترى بنصف دينار قمحا فدفع الدينار فقبض بنصفه دراهم وفارقه إلى أن يأتيه بالحمال.
قال: لا أرى ذلك، وأراه من الصرف.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن من انضاف إلى الصرف من السلع فحكمه حكم الصرف في وجوب المناجزة مثله، ومثله في(6/465)
المدونة قال فيها في الذي يشتري السلعة إلى أجل بنصف دينار ثم يدفع دينارا ويأخذ صرف نصفه إن ذلك لا يجوز؛ لأنه صرف وسلعة متأخرة إلى أجل، ولو كان هذا الذي صرفه من الدينار قيمة درهم أو درهمين لجاز ذلك على قول أشهب وروايته عن مالك في المدونة خلاف قول ابن القاسم.
ولو اشترى السلعة بنصف دينار فقبضها فلما حل الأجل دفع إلى البائع دينارا وقبض منه صرف نصفه يدا بيد جاز ذلك عندهما جميعا.
[مسألة: يكون له على الرجل نصف دينار إلى شهر فيشتري منه ثوبا آخر بنصف دينار]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يكون له على الرجل نصف دينار إلى شهر فيشتري منه ثوبا آخر بنصف دينار على أن يعطيه دينارا إلى محل أجل النصف.
قال: ما يعجبني ولكن يبيع ولا يشترط، ويصنعان إذا حل الأجل ما أحبا فقلت له: فإذا اشترطا؟ قال: ما يعجبني ولكن يبيعه ولا يشترط، قال ابن القاسم في غير هذا الباب: ولو أراد المشتري أن يقطع عليه غير الثمنين ويعطيه بثمن كل ثوب دراهم وأبى البائع إلا أن يعطيه دينارا فإنما أجبر المبتاع بأن يعطيه دينارا قائما بوزنه.
قال محمد بن رشد: قوله ولكن يبيع ولا يشترط ويصنعان إذا حل الأجل ما أحبا، كلام فيه نظر؛ لأن الشرط لا يمنعهما أن يصنعا إذا حل الأجل ما أحبا، وإنما يمنع من اشترط عليه الشرط أن يخرج عما اشترط(6/466)
عليه، فكان حق الكلام أن يكون: ولكن يبيع ولا يشترط ويعطيه دينارا عند محل الأجل إن تشاحا وكراهيته لهذا الشرط هو نحو ما في المدونة لمالك من أنه كره أن يبيع الرجل سلعته بنصف دينار إلى أجل ويشترط أن يأخذ بذلك النصف الدينار إذا حل الأجل دراهم وهما إذا تشاحا إذا حل الأجل إنما يأخذ منه دراهم بصرف ذلك اليوم كما اشترط.
وظاهر هذا أنه لما اشترط ما يوجبه الحكم فكان بعض الناس يذهب إلى أن من الشروط التي يوجبها الحكم ما لا يجوز اشتراطه وهو ما كان منها مخالفا للقياس والنظر، ويقيم ذلك من هذه المسائل، وليس ذلك بصحيح، إذ لا كراهة في اشتراط ما يوجبه الحكم؛ لأن شرطه والسكوت عنه سواء، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث بربرة: «خذيها واشترطي لهم الولاء» أي عليهم، وذلك مما يوجبه الحكم وإن لم يشترط لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما الولاء لمن أعتق» ، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل» ، فدل ذلك على أن من اشترط شرطا هو في كتاب الله فهو جائز، فإنما كره مالك الشرط في هذه المسائل لما فيها من مخالفة ما يوجبه الحكم، وذلك أن الذي باع سلعة بنصف دينار إلى أجل من رجل ثم باع منه سلعة أخرى بنصف دينار إلى ذلك الأجل قد يحل الأجل وللمبتاع على البائع نصف دينار يكون من حقه أن يقاصه به، فلا يجب عليه أن يقضيه إلا صرف ما بقي قبله من المثقال، فيكون الشرط إن اتفق هذا وما أشبهه مخالفا لما يوجبه الحكم.
والذي باع سلعة بنصف دينار إلى أجل وشرط أن يقضيه فيه دراهم إذا حل الأجل بصرف ذلك اليوم قد يحل الأجل وللبائع على المبتاع نصف دينار آخر، فيجب عليه أن يقضيه دينارا فيكون الشرط أيضا إن اتفق هذا(6/467)
مخالفا لما يوجبه الحكم، وقد مضى القول في أول هذا الرسم على قوله: إنه ليس للمشتري أن يقطع عليه الثمنين، فلا معنى لإعادته هاهنا وبالله التوفيق.
[يبيع بمائة دينار متاعا فردى مجموعة فيعسر فيأخذ منه بها أكثر من عددها بكيلها]
ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما مال وسألت مالكا عن الرجل يبيع بمائة دينار متاعا فردى مجموعة فيعسر فيأخذ منه بها أكثر من عددها بكيلها.
قال: لا بأس بذلك، وقال مالك: كل ما اشترطت عدده وكيله كيلا فلا تأخذ به عددا، وما اشترطت مع العدد فلا بأس أن يأخذ به أكثر من عدده أو أقل من عدده إذا كان بكيله.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة وقعت في بعض الروايات.
وقوله فيها وما اشترطت كيلا فلا تأخذ به عددا معناه لا تأخذ به عددا يتحرى أن يكون بوزن مالك، أو عددا تعلم أنه أقل في الوزن مما لك؛ لأنه وإن علم أن العدد الذي أخذ أقل في الوزن مما كان له لم يجز، فإنه ترك زيادة الوزن لفضل العدد، وأما إن علم أن العدد الذي أخذ أكثر في الوزن مما كان له فذلك جائز؛ لأنه أخذ أكثر في الوزن وأفضل في العدد، فلم يكن ثم موضع للتهمة وسبب في المبايعة، فوجب أن يكون، وهو نص قوله في المدونة: إن القائمة يقتضي من المجموعة لأنها أكثر في الوزن وأفضل في العدد.
وأما قوله: وما اشترطت عددا فلا تأخذ به كيلا، فظاهره أنه لا تأخذ به(6/468)
كيلا مثل وزنه ولا أقل ولا أكثر مثل وزنه، فلا يجوز على حال، وأما أقل من وزنه فيجوز إن كان أقل عددا ولا يجوز إن كان أكثر عددا وقد مضى هذا في رسم القبلة.
[مسألة: شروط صحة المصارفة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يأتي إلى الصيرفي بدنانير فيصارفه بها، فيجعل دنانيره في كفة الميزان فيضربها بالحديدة فإذا احمرت نزعها، ثم يجعل دنانير مكانها فإذا اعتدلت بالحديدة أخذ وأعطى.
قال مالك: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إذ ليس من صحة شرط المصارفة أن يكون الذهبان هذه في كفة وهذه في كفة، وإنما من شرط صحتها أن يكون مثلا بمثل ويدا بيد، لكونها بالحديدة أي الصنجة بكفة واحدة أصح ليستقين المماثلة بذلك والتحرز من عدمها بعين يكون في الميزان؛ لأنه إن كان في الميزان عين فتراطلا بالكفتين كان قد أخذ أحدهما أكثر مما أعطى، وبالله التوفيق.
[ابتاع من رجل بنصف دينار حنطة فوجب البيع بينهما ثم أخرج الثاني دينارا]
ومن كتاب البز وسئل مالك عن رجل ابتاع من رجل بنصف دينار حنطة فوجب البيع بينهما، ثم أخرج الثاني دينارا قال له: كيف(6/469)
الصرف اليوم؟ . قال له: عشرون درهما، فدفع إليه الدينار وأخذ نصفه دراهم وأراد أن يؤخر القمح عنده لأنه قد كان يستوجبه قبل الصرف.
قال: لا خير فيه، وهو قد صار الساعة صرفا وهما يعملان به زيادة بهذا الوجه قبل البيع، فلا أرى فيه خيرا إلا أن يقبضهما جميعا. قال سحنون: معنى زيادة أيضا في هذا الموضع.
قال محمد بن رشد: قوله وهما يعملان به زيادة بهذا الوجه، معناه وهما يعملان أيضا بهذا الوجه قبل البيع، أي يقصدان قبل البيع إلى شراء قمح إلى أجل ودراهم بدينار نقدا فيقدمان البيع في القمح ثم يضيفان إليه الصرف ليجيز ذلك بينهما، فيقول: فلا يجوز أن تؤخر السلعة إذا انضاف الصرف إلى البيع قصدا ذلك قبل البيع أو لم يقصدا، فعبر على تكرار الفعل على هذا الوجه بالزيادة فجاء في الكلام إشكال، وزاد إشكاله إشكالا تفسير سحنون؛ لأنه تفسير [مظلم، ومعناه الذي أراد به هو ما ذكرناه؛ لأنه أراد أن عملهم به على هذا الوجه زيادة لعملهم به على الوجه الأخر، وهو لا يجوز في واحد منهما، والذي أراد أن يبين في الرواية أن الربا في المسألة واقع كيف ما كان، وإن تقدم البيع فيها على الشراء لوقوعهما معا فيما يحل ويحرم] بخلاف البيعتين اللتين إنما يحصل الربا فيهما بمجموع الصفقتين، فيمنع ذلك من باب حماية الذرائع، وقد مضى مثل هذه المسألة والقول فيها في رسم تأخير العشاء وفي المدونة أيضا وبالله التوفيق.
[يبيع السلعة بمائة دينار أو يسلفها]
ومن كتاب صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك عن الرجل يبيع السلعة بمائة دينار أو يسلفها(6/470)
رجلا وزنا بالمثاقيل، فيحل الأجل فيأتيه بمائة فإذا هي تزيد ثلثا أيأخذ بفضل ذهبه دراهم؟ .
قال: نعم لا بأس بذلك، فقيل له: أرأيت النقصان؟ . قال: لا يأخذ به في مكانه، وإن أخذ ذلك ثم أخذ به بعد لم أر بأسا، قال ابن القاسم: لا بأس بهذا كله إذا صح.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم حلف بطلاق امرأته فلا معنى لإعادته.
[مسألة: تكارى دابة بنصف دينار إلى موضع فأراد أن يدفع إليه النصف ويقبض منه الدابة]
مسألة وسئل عن رجل تكارى دابة بنصف دينار إلى موضع، فأراد أن يدفع إليه النصف ويقبض منه الدابة، فذهب يصرف له دينارا، فقال صاحب الدابة: أنا أدفع إليك نصفا وآخذ منك الدينار.
قال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة وقعت في بعض الروايات وليست على أصل ابن القاسم في أن من كان له على رجل دين فلا يجوز له أن يأخذ منه به دابة يركبها، والذي يأتي على أصله هذا أن ذلك لا يجوز لأنه صرف متأخر لتأخر ركوب الدابة، وإنما يأتي على مذهب أشهب الذي يرى أن قبض الشيء المكترى ليستوفى منه الكراء قبضا لجميع الكراء، فيجيز لمن كان له على رجل دين أن يأخذ به عبدا يخدمه إلى أجل ما، أو دابة يركبها إلى موضع ما، وقد اختلف قول مالك فيها، وقع اختلاف قوله في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، واختار ابن القاسم إجازة ذلك على خلاف أصله، واختار ذلك أيضا محمد بن المواز والله الموفق.
[بيت الضرب بالمال فيصفيه ثم بعد أن يعطيه أهل بيت الضرب دنانير بوزنه]
ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها وسئل عن رجل يأتي بيت الضرب بالمال فيصفيه ثم بعد أن(6/471)
يعطيه أهل بيت الضرب دنانير بوزنه ويعطيهم ضربها.
قال: إنه قد كره الذي يصيب الناس من الحبس فيها، فقيل له: ويخافون مع ذلك، قال: صدقت وأرجو ألا يكون به بأس، قال ابن القاسم: ثم أقول بعد ذلك: ما هو من عمل الأبرار قال عيسى: قال ابن القاسم: وسمعته يتكلم فيه غير مرة ولا يحرمه ويرجو أن يكون فيه سعة، وينحو إلى أن يعمل به الرجل في خاصة نفسه، قال عيسى: لا يعجبني، قال ابن القاسم: خفيفا للمضطر وذوي الحاجة.
وسئل مالك عن الرجل يأتي الصائغ بالورق يريد أن يعمل له خلخالا فيجد عنده خلخالا معمولا فيريد أن يأخذ منه ذلك الخلخال بوزنه من الورق ويعطيه من الورق أجره.
قال: لا خير في هذا، ولم يره مثل الضرب في مثل هذا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم ألا يبيع سلعة سماها فلا معنى لإعادته.
[صرف دينارا بتسعة عشر درهما فلم يجد عنده إلا ثمانية عشرة ونصفا]
ومن كتاب أوله المحرم يأخذ الخرقة لفرجه وسئل عن رجل صرف دينارا بتسعة عشر درهما فلم يجد عنده إلا ثمانية عشرة ونصفا، فأراد أن يضع بقية النصف ويأخذ ذلك من صرفه ذلك بعد وجوب الصرف.(6/472)
فقال: لا بأس بذلك أن يضعه ويأخذ من ذلك ما شاء.
قال محمد بن رشد: معناه ما لم يفارقه، قال ذلك محمد، وهو صحيح، ولو انقلب بالدراهم على أنها تسعة عشر درهما فوجدها تنقص نصف درهم أو أقل أو أكثر بغلط من الصراف أو خيانة منه لانتقض الصرف على مذهب ابن القاسم ولم يجاوز النقصان، وقال أشهب: إن الصرف يجوز إن تجاوز النقصان، وأما إن رضي أن يأخذ النقصان بعد أن فارقه فلا يجوز إلا على مذهب من أجاز البدل، وهو ابن شهاب والليث بن سعد وابن وهب، وقد مضى طرف من هذا المعنى في رسم القبلة، وسيأتي في سماع أبي زيد ما فيه بيان لهذا وزيادة عليه وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري بدرهم كيل الشيء فيخرج درهما فيدفعه إليه فيجده ينقض حبتين]
مسألة وسئل عن الرجل يشتري بدرهم كيل الشيء فيخرج درهما فيدفعه إليه فيجده ينقض حبتين أو ثلاثا فيعطيه في نقصانه فلوسا بقدر ما نقص.
قال: لا خير في ذلك، قلت له: فإنه يقول: أعطني ما فيه من وزنه وحاسبني بقدر ذلك، قال: لا بأس عندي. إنما هو عندي بمنزلة رجل اشترى بدرهمين حنطة ثم قال له بعد ذلك أعطني بدرهم وأقلني من درهم، فقلت له بعد الوجوب؟ قال: نعم، كأنه حمله على وجه المساومة وفيه تفسير من البيع.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في أول رسم القبلة فلا معنى لإعادته هنا وبالله التوفيق.(6/473)
[يبتاع العبد بثلاثين دينارا فيأتيه بدنانير فيزنها فيجد فيها تسعة وعشرين دينارا ونصفا]
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك من كتاب البيوع الأول قال سحنون وقال أشهب وعبد الله بن نافع: سئل مالك عن الذي يبتاع العبد بثلاثين دينارا مجموعة داخل المائة عشرة دنانير أو داخلها عشرون دينارا، فيأتيه بدنانير يقضيه إياها فيزنها فيجد فيها تسعة وعشرين دينارا ونصفا قال مالك: يأخذ منه النصف دراهم لا بأس بذلك، فقيل له: في مجلسهما ذلك؟ قال: نعم، لا بأس به، وإنما مثل ذلك مثل أن يفضل له دينار وديناران فلا بأس أن يأخذ منه بذلك دراهم، قلت له: أرأيت إن وجد في الدنانير فضلا عن حقه زيادة سدس أو نصف دينار فأراد رب الدينار أن يعطيه دراهم، قال: ما يعجبني ذلك، قيل له: إن دنانير الرفيق مجموعة داخل المائة خمسة عشر دينارا فإذا قضاه دنانيره وجد فيها فضلا عن حقه سدس دينار أو نصف دينار، فيعطيه به دراهم؟ فقال: ما يعجبني ذلك، ولكن يترك له منها دينارا ويأخذ هو منه بما فضل له دراهم، فروجع فيها أيضا فقال: لا يعجبني ذلك أنت تريد أن تأخذ منه دنانير بدنانيرك وتزيده دراهم، فلا يعجبني ذلك، ولكن أقطع من الدنانير التي أعطاك قطعة فردها عليه.
قيل له: أيقطع وقد كنت تخب أن قطعها من الفساد في الأرض، قال: نعم أقطع فضله فرده عليه إذا كانت دنانيركم مقطعة النقص فاقطع إذا لم تجد بدا لا بأس بذلك هي مقطعة.
قال محمد بن رشد: الدنانير التي قطعها من الفساد في الأرض هي الدنانير القائمة التي تجوز عددا بغير وزن، فإذا قطعت فردت ناقصة(6/474)
غش بها الناس فكان ذلك من الفساد في الأرض، وقد جاءت في تفسير قوله عز وجل قال: {يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87] أنهم أرادوا بذلك قطع الدنانير والدراهم لأنه كان نهاهم عن ذلك، وقيل: إنهم أرادوا بذلك تراضيهم فيما بينهم بالربا الذي كان نهاهم عنه، وقيل: إنهم أرادوا بذلك منعهم للزكاة، وأولى ما قيل في ذلك أنهم أرادوا بذلك جميع ذلك.
وأما قطع الدنانير المقطوعة فليس قطعها من الفساد في الأرض، وإنما هو مكروه فرأى قطعها للتوقي من الشبهة في الربا أفضل من تركها واستباح شبهة الربا لأنه وإن كان في ترك قطعها أجر على ما يوجبه حد المكروه فالأجر في التوقي من شبهة الربا أعظم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه» وهذا وما أشبه مما اختلف أهل العلم فيه من المشتبهات، " وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان من آخر ما أنزل الله على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آية الربا فتوفي ولم يفسرها فدعوا الربا والموقعة " وقد مضى القول فيما يجوز فيما وجد عند القضاء في الدنانير المجموعة من زيادة أو نقصان في رسم حلف من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادة ذلك، ومضت المسألة أيضا في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات منه، ومضى في رسم تأخير صلاة العشاء منه، ورسم شك في(6/475)
طوافة القول فيما يجوز من قطع الدنانير وبالله التوفيق.
[مسألة: مراطلة الذهب بالذهب والورق بالورق بالشاهين]
مسألة قالا: وسئل مالك عن مراطلة الذهب بالذهب والورق بالورق بالشاهين فقال: لا بأس بالمراطلة وإن كانت إحدى الذهبين أكثر عددا، فإن كان الشاهين عدلا فلا بأس به، وقيل: إنهم يزعمون أنه ليس شيء أعدل منه، فقال: إن لأهل العراق أيضا موازين أخر فلا أدري ما هذا؟ فإن كان الشاهين عدلا فلا بأس به.
قلت: يا أبا عبد الله، فإنهم يجعلون المثاقيل في إحدى الكفتين، ويجعلون أحد الذهبين في كفة أخرى، فإذا اعتدلت الدنانير والمثاقيل أخذها صاحب الذهب الآخر، ثم جعلت ذهبه في الكفة التي كانت فيها ذهب صاحبه فإذا اعتدلت المثاقيل أخذها صاحب الذهب الأول بذهبه التي وزنت أولا، وإنما يفعلون ذلك تحريا للعدل مخافة أن يكون في أحد الكفتين عين فإن كانت فيها عين أخذا ذهبيهما بوزن واحد في كفة واحدة،(6/476)
فقال له ابن كنانة: إنهم يقولون ليس المصارفة إلا أن يكون الذهبان جميعا هذه في كفة وهذه في كفة، فإذا اعتدلتا أخذا، فقال: لا بأس بذلك إذا كان معتدلا سواء.
قال محمد بن رشد: هذا كله كما قال، أما قوله إنه لا يراعى في المراطلة اختلاف عدد الدنانير فهو قوله في المدونة وغيرها أن السكة والصياغة والعدد في المراطلة، وقد مضى ذلك أيضا والقول في رسم شك من سماع ابن القاسم.
وأما إجازته المراطلة بالشاهين إذا كان عدلا فصحيح على ما قال، إذا لا فرق بين الشاهين وغيره في ذلك من الموازين، وقد روى عن وكيع أنه قال في قوله عز وجل: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الإسراء: 35] أنه قال الشاهين.
وأما إجازته المراطلة بكفة واحدة بمثاقيل نزنها بها أو بصنجة الحديد فصحيح أيضا لأنه أحسن من المراطلة بكفتين مخافة أن يكون في الميزان عيب وقد مضى ذلك في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يشتري الثوب بدينار وربع الدينار يعطيه الدينار ويبقى الربع أيعطيه به تبرا]
مسألة وسئل عن الرجل يشتري الثوب بدينار وربع الدينار يعطيه الدينار ويبقى الربع أيعطيه به تبرا.
قال: لا بأس بذلك، بلغني أن لكم دنانير صغارا أرباعا وأثلاثا وليس ذلك عندنا، فقيل له: فقد ذهب ذلك وإنما نحن اليوم مثلكم فما ترى أن يعطيه في الربع الدينار فإنه إنما هو جزء من الدينار؟ . فقال: دراهم، إنما هو دراهم، قيل له: أرأيت إن(6/477)
أعطاه ربع دينار تبرا ذهبا فقال: لا أرى بذلك بأسا إذا تراضيا إنما هو دراهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا اشترى ثوبا أو شيئا بدينار وربع، ولم يكن عندهم دنانير صغارا أثلاثا أو أرباعا فجائز أن يعطيه بالربع دينار تبرا أو ذهبا لأن الواجب عليه بالحكم صرفه من الدراهم، والثابت له في ذمته ذهب فيجوز له أن يعطيه ما يجوز له أن يعطى قضاء عن أحدهما ويعطى قضاء في الأخير على اختلاف في ذلك.
وتفسير هذا الذي ذكرناه أنه يجوز له أن يعطيه عرضا أو طعاما نقدا أنه يجوز أن يعطى ذلك قضاء عن كل واحد منهما ولا يجوز له أن يعطيه به شيئا إلى أجل لأن ذلك لا يجوز أن يعطى قضاء عن واحد منهما؛ لأنه فسخ الدين في الدين ويجوز أن يعطيه به تبرا ذهبا مثل تبر الربع أو أدنى منه بوزنه؛ لأن ذلك يجوز أن يقتضيه من الدنانير ومن الدراهم، ولا يجوز إن كان التبر أفضل من تبر الربع أو أكثر من وزنه إلا على اختلاف؛ لأن ذلك يجوز أن يقتضي من الدراهم ولا يجوز أن يقتضي من الذهب، فيجوز ذلك على القول باعتبار ما يوجبه الحكم في القضاء، ولا يجوز على القول باعتبار ما ثبت له في الذمة، ولا يجوز له أن يقضيه تبر فضة أفضل من تبر صرف الربع ولا يجوز أن يقتضي من الدراهم، فيجوز ذلك على القول باعتبار ما ثبت في الذمة من الذهب ولا يجوز على القول باعتبار ما يوجبه الحكم في القضاء.
[مسألة: يشتري من الصراف الدنانير بالدراهم فنعطاها ولا نبصرها ولا ندري أجياد هي أم لا]
مسألة وسئل مالك فقيل له: إنا نشتري من الصراف الدنانير(6/478)
بالدراهم فنعطاها ولا نبصرها ولا ندري أجياد هي أم لا؟ فيقول لي: هي جياد، فنأخذها منه بقوله، فقال: لا، والله فقيل له: أما أنا فلا أبصرها وليس عندي أحد يبصرها، وأنت تكره أن أفارقه أذهب أريها فكيف أصنع؟ .
فقال له: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] .
قال محمد بن رشد: كره أن يصدقه في قوله إنها جياد مخافة أن يجد فيها ردية بعد أن فارقه بحضرة بينة لم تفارقه، فينقص الصرف إن كان دينارا واحدا أو صرف دينار واحد إن كانت دنانير، أو يدعي أنه وجد فيها ردية فيقع بينهما في ذلك خصومة يؤول الأمر بها إلى انتقاض الصرف أو بعضه، فرآهما لهذه العلة قد انفصلا على غير تناجز صحيح في الصرف، وقد اختلف في ذلك فقال أشهب: لا يجوز التصديق في الصرف ولا في تبادل الطعامين، وهو قول المخزومي وإليه ذهب سحنون وابن المواز، وروى ابن نافع عن مالك إجازة ذلك في مبادلة الطعام بالطعام وهو قول ابن القاسم لأنه غاب على مالك كراهيته لشراء الزيت بالقمح على التصديق في أول رسم من سماعه من كتاب جامع البيوع، وقال: إنه لم يجد لكراهيته معنى، والمعنى فيه هو ما ذكرناه فإذا وقع لم يفسخ للاختلاف الحاصل في ذلك.
[مسألة: كانت بينهم دواب فباعوها بدراهم مخالفة الوزن منها الناقص والوازن ثم اقتسموها]
مسألة وسئل عن قوم كانت بينهم دواب فباعوها بدراهم مخالفة الوزن، منها الناقص والوازن، ثم اقتسموها عددا بغير وزن.
فقال: أرجو ألا يكون بهذا بأس.
قال محمد بن رشد: معنى هذا إذا كان الناقص منها يجوز بجواز(6/479)
الوازن فاقتسموها عددا دون أن يعرف الناقص من الوازن غرر لا يحل ولا يجوز والله أعلم.
كما لا يجوز أن يبيع سلعة بها على أن يأخذها على ما هي عليه ومنها الوازن والناقص الذي لا يجوز بجواز الوازن دون أن يعرف ما فيها من الناقص وفي رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع بيان هذا، قال في الرجل يبيع من الرجل بعشرين درهما وهي مختلفة في الوزن إن ذلك لا يجوز ورآه من بيع الدراهم جزافا.
[مسألة: يصرف من الرجل دنانير بدراهم ويقول له اذهب بها فزنها عند هذا الصراف]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يصرف من الرجل دنانير بدراهم ويقول له: اذهب بها فزنها عند هذا الصراف وأره وجوهها وهو قريب منه.
فقال: أما الشيء القريب فأنا أرجو ألا يكون به بأس، وهو يشبه عندي أن لو قاما إليه جميعا فأرجو ألا يكون به بأس.
فقيل لمالك: لعله أيضا يقول قبل أن يجب الصرف بينهما أصارفك على أن أذهب بها إلى هذا فيزنها لي وينظر إليها فيما بيني وبينك.
فقال: فهذا قريب فأرجو ألا يكون به بأس.
قال محمد بن رشد: استخف أن يقول الصراف للرجل بعد أن يصارفه: اذهب بدراهمك فزنها عند هذا الصراف وأره وجوهها إذا كان ذلك قريبا وأن يصارفه على ذلك للضرورة الداعية إلى ذلك إذ الغالب من الناس لا يميزون النقود، ولأن التقابض قد حصل بينهما قبل ذلك فلم يكونا بفعلهما هذا مخالفين لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذهب بالورق ربا إلا ها وها» .(6/480)
ولو كان المقدار لا يسامح فيه الصرف لوقع الناس في ذلك في حرج شديد والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
وأما قوله وهو يشبه عندي أن لو قاما إليه جميعا، فلا شك أن قيامها إليه جميعا بعد التقابض أخف من قيام أحدهما إليه وحده، وقد قيل: إن قوله هذا مخالف لكراهيته في المدونة أن يتصارفا في مجلس ثم يقومان فيزنان في مجلس آخر، وليس هو عندي خلافا له؛ لأن مسألة المدونة فإنما بعد عقد التصارف وقبل التقابض من مجلس إلى مجلس ولا ضرورة تدعو إلى ذلك وهذه مسألة إنما قاما فيها بعد التقابض للضرورة الماسة في ذلك.
[مسألة: يكون له على الرجل عشرة دنانير مجموعة فيزنها فيجدها تزيد خروبة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يكون له على الرجل عشرة دنانير مجموعة فيزنها فيجدها تزيد خروبة فقال له الغريم: لا تقطعها وأنا أعطيك الخروبة الآن ذهبا.
فقال: لا يعجبني هذا، فقيل له: لا يعجبك هذا؟ فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يجتمع فيها مراطلة وقضاء الدنانير المجموعة، وفيها ثلاثة أقوال: أحدهما أن ذلك لا يجوز كانت الدنانير من بيع أو قرض، وهي رواية ابن القاسم عن مالك في أصل السماع وأحد قولي أشهب، والثاني أن ذلك يجوز كانت من بيع أو قرض، والثالث أن ذلك يجوز إن كانت من قرض، وإن كانت من بيع لا يجوز، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وقد قيل: إن في المسألة قولا رابعا، وهو أن ذلك يجوز في البيع ولا يجوز في السلف، وهو قول ابن القاسم في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى، والصواب أن ذلك ليس بقول رابع لأنه إنما(6/481)
تكلم في الرواية على درهم قائم، فهي مسألة أخرى لا اختلاف فيها، ويدخله إذا كانت الدنانير من بيع على مذهب من لا يجيزه ذهب بذهب نقدا وسلعة إلى أجل لتقدم دفع السلعة، ويدخله إذا كانت الدنانير من سلف على مذهب من لا يجيزه ذهب بذهب إذا كانت الدنانير بالذهب نقدا وبذهب إلى أجل لتقدم دفع السلف، ومن أجاز ذلك في السلف ولم يجزه في البيع قال: لأن التهمة إنما تكون في البيع لا في السلف وهو الصحيح في القياس والنظر أنه لا تهمة في ذلك لا في البيع ولا في السلف؛ لأنه قضاء في الوجهين جميعا ما ترتب في ذمته، ووقعت المراطلة في الزائد على ذلك، فالعلة في ذلك أن الزائد الذي وقعت فيه المراطلة لم يوزن على حدته، وإنما وزن على جملة دنانير القضاء، والشيء إذا وزن مجتمعا ثم فرق زاد ونقص، وهذه العلة موجودة في البيع والسلف، فإما أن يستخف ذلك فيجاز في الوجهين، وإما أن يستثقل فلا يجاز، وعلى هذا المعنى اختلفوا في النقرة من الفضة تكون بين الشريكين فيأخذها أحدهما ويعطي صاحبه نصف وزنها دراهم، وقد مضى القول على ذلك في أول رسم طلق ابن حبيب.
[مسألة: يكون له على الرجل دينار ناقص فيأتيه بدينار قائم ويقول له هات فضله دراهم]
مسألة قيل له: أرأيت الرجل يكون له على الرجل دينار ناقص فيأتيه بدينار قائم ويقول له: هات فضله دراهم؟ .
قال: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح بين على ما قال: لأن للدينار القائم فضلا في عينه على الدينار الناقص، فكان المقتضي قد اشترى الدينار القائم من المقتضي منه بالدينار الناقص الذي كان له عليه وبدرهم فكان ذهبا وفضة بذهب، ولو كان له عليه دينار الأثمن من الذهب التي إنما تجري بالوزن كالذهب العبادلة والشرقية فأخذ منه في الثمن درهما لجاز لأنها مصارفة فيما زاد على حقه.(6/482)
[مسألة: يكون له على الرجل الدينار القائم فيأتيه بدينار ناقص خروبة وبخروبة ذهبا]
مسألة قيل له: أرأيت الرجل يكون له على الرجل الدينار القائم فيأتيه بدينار ناقص خروبة وبخروبة ذهبا فيزنها له فيعطيه إياها بديناره فرضي الغريم بأخذه ذلك بديناره القائم.
قال: إن كان من عين واحدة فأرجو ألا يكون به بأس، فقيل له: هما جميعا قائما الوجه فقيل له: قد يكونا قائمين أو أحدهما أجود عينا من الآخر فقال: إن أعيانهما سواء، فقال: أرجو ألا يكون به بأس.
قال محمد بن رشد: إنما شرط في إجازة ذلك أن يكونا من عين واحدة مخافة أن يكون عين الناقص أفضل من عين القائم فيكون إنما رضي لفضل عينه على عين القائم، ولم يراع زيادة العدد التي من أجلها لم يجز اقتضاء الدنانير المجموعة من القائمة وإن كانت أقل منها في الوزن فكيف إذا كانت بوزنها فهي مسألة لا يحملها القياس، وإنما جوزها استحسانا لأنه استخف المكروه فيها من أجل أنه دينار واحد وقد قال أبو إسحاق التونسي: إنه يقوم منها جواز اقتضاء المجموعة من القائمة، ولم يجزها مالك في كتاب ابن المواز، وهو القياس، وقد مضى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم ما فيه زيادة بيان على ما هاهنا.
[مسألة: كان يسأل رجلا دينارا فقطعه عليه فكان يأخذ منه مرة خمسة دراهم ومرة ثلاثة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل كان يسأل رجلا دينارا فقطعه عليه فكان يأخذ منه مرة خمسة دراهم ومرة ثلاثة دراهم، ومرة أربعة دراهم.
قال: يجمعها عندك فإذا أتمت دينارا ذهبا اجتمعا فصرفاها(6/483)
ثم استوفى ديناره فقال: على يدي من تكون؟ فقال: على يدي صاحب الدينار دون أن يختم عليها لئلا ينتفع بها فيكون إنما وسع عليه في الاقتضاء وقبضه منه مقطعا لينتفع بما يجتمع عنده منه إلى أن يكمل صرف الدينار، فيكون سلفا جر منفعة وقد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك.
[مسألة: اصطرف من رجل دراهم بدينار وقال إن وجدت فيها دينارا رديئا رددته]
مسألة وسئل عمن اصطرف من رجل دراهم بدينار، وقال: إن وجدت فيها دينارا رديئا رددته.
فقال: أصل هذا الصرف لا يصلح، فأرى أن يأخذها ويأخذ منه ديناره فقيل لمالك: إنه قد وجدها جيادا كلها، فقال: إن أصل الصرف لم يكن حسنا فأرى أن يردها كلها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الشرط يفسد العقد، فيكون منتقضا وجد رديا أو لم يجد، ولا اختلاف في هذا وبالله التوفيق.
[يأتي أهل بيت الضرب بمائة دينار يضربونها له ويعطيهم على ذلك دينارا]
ومن كتاب أوله مسائل بيوع وكراء قال: وسألته عن الرجل يأتي أهل بيت الضرب بمائة دينار يضربونها له ويعطيهم على ذلك دينارا.
قال: أما إذا كان يضرب له ذهبه بعينها فلا بأس بذلك، وقد كان في زمن بني أمية يأتي الرجل بمائة دينار وعشرة دنانير فيعطيها الضرابين بدمشق ويعطونه مائة دينار قد فرغ منها، وكانوا يأخذون على ضرب كل مائة عشرة دنانير، فجاءهم بمائة وعشرة وأخذ منهم مائة قد أخذوها وفرغوا منها، فلو كان الناس(6/484)
جميعا اليوم يخلصون الذهب كذلك ولا يغشونها لم أر بذلك بأسا، وإنما جاز يومئذ لأنها سكة واحدة والتجار كثير والأسواق متفاوتة فلو جلس حتى يضرب له ذهبه، ثم جلس هذا الآخر أيضا حتى يضرب له ذهب فاتت الأسواق وطال الأمر وحبس الناس فلا أرى بذلك بأسا إذا كان هكذا فأما اليوم فلا يخلص الذهب ويغش فيعطيكها مغشوشة، وقد صار لكل مكان سكة يضرب فيها الدنانير فلا أرى ذلك يصلح ولا أرى بأسا أن تأتيه بدنانيرك بعينها فيضربها لك وتعطيه عليها جعلا، وهو إذا ضرب ذهبك أخلصها لك.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته.
[أخذ بدرهمه بنصفه لحما وبنصفه درهما صغيرا]
ومن كتاب البيوع الأول وسئل مالك عمن أخذ بدرهمه بنصفه لحما وبنصفه درهما صغيرا.
فقال: قد كنا نكرهه وما نرى اليوم به بأسا، قيل له: أرأيت إن كان بمصر فأخذ بنصفه فلوسا وبنصفه درهما صغيرا؟ فقال: ما أحبه، ولو أخذ حنطة ما رأيت به بأسا.
قال محمد بن رشد: أما البلد الذي لا فلوس فيه فجائز للرجل أن يأخذ فيها بنصف درهمه أو أكثر طعاما أو عرضا وبالباقي فضة أو درهما صغيرا، وقد كان مالك يكره ذلك أولا على ما ذكر في هذه الرواية.
وأما في البلد الذي فيه الفلوس ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يجوز للرجل أن يأخذ فيها أيضا بنصف درهمه أو أكثر طعاما أو عرضا وفلوسا وبالباقي فضة، وهو قوله في المدونة، والثاني قوله في هذه الرواية إنه يجوز(6/485)
له أن يأخذ بنصفه أو أكثر طعاما وبالباقي فضة، والثالث قول أشهب أنه لا يجوز له شيء من ذلك كله في البلد الذي فيه الفلوس، فالقول الأول استحسان مراعاة للخلاف، إذ من أهل العلم وهم أهل العراق من يجيز شراء الذهب والعروض بالذهب والورق والعروض بالورق فيما قل أو كثر من غير ضرورة، ويجعلون الذهب التي مع العرض بمثل ذلك من الذهب الآخر وباقيها للعرض ولا يقولون في ذلك بالفض كانت الذهبان مستويتين في الطيب والسكة والصياغة أو غير مستويتين في شيء من ذلك، ووجه القول الثاني مراعاة ضرورة الناس وحاجتهم إلى الطعام، بخلاف الفلوس، وقول أشهب هو القياس على المذهب لأن ذلك إنما أجيز للضرورة، فإذا كان بلد فيه فلوس ارتفعت الضرورة.
[مسألة: أعطي دراهم وقيل له صرفها بدنانير فلما أراد أن يبيعها صرفها من نفسه]
مسألة وسئل مالك عمن أعطي دراهم وقيل له: صرفها بدنانير، فصار بها إلى الصراف فلما أراد أن يبيعها صرفها من نفسه ثم جاءه بالدنانير فأعلمه بالذي كان.
فكرهه وقال: ما ذلك بحسن، أرأيت لو قال: لا أجيزه أليس ذلك له؟ فقد صار هذا صرفا فيه استخيار.
قال محمد بن رشد: قد خفف ذلك مالك في رواية أشهب عنه من كتاب البضائع والوكالات، وقال ابن أبي حازم: وما كان الناس يشددون هذه الشدة، وإنما كرهه لهذه الرواية لما ذكره من أن صاحب الدراهم في ذلك بالخيار بين أن يجيز الصرف أو يرده، والخيار في الصرف لا يجوز، ووجه القول الثاني أنه خيار لم ينعقد عليه الصرف، وإنما هو خيار يوجبه الحكم، فلم يكن له تأثير في فساد العقد كالعبد يتزوج بغير إذن سيده، والسفيه بغير أمر وليه، فيكون سيد العبد وولي السفيه بالخيار في رد النكاح وإجازته والخيار في النكاح لا يجوز.(6/486)
[مسألة: احتاج إلى عشرة دراهم فيسلفها من رجل ورهن عنده رهنا دينارا]
مسألة وسئل عمن احتاج إلى عشرة دراهم فيسلفها من رجل ورهن عنده رهنا دينارا لا يذكر له صرفا، حتى إذا كان من الغد صارفه. فقال: أكره أن يصارفه ولكن يعطيه دراهمه ويأخذ ديناره.
قال محمد بن رشد: إنما كره مالك من أجل أن ترك الدينار عنده كالإطماع له أن يصرفه منه، ولعله قد نوى ذلك منه، فكأنه قد وعده به، والعدة في الصرف مكروهة، فإذا لم ينو ذلك ولا قصده ولا أراده، وإنما صرفه منه بنية حدثت له في تصريفه منه لم تتقدم منه وقت تركه عنده، لم يكن عليه في تصريفه منه حرج إن فعله، وإن كان الاختيار له ألا يفعل لا سيما إن كان ممن يقتدى به.
[مسألة: له على رجل عشرة دراهم مكتوبة عليه من صرف عشرين بدينار]
مسألة وسألته عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوبة عليه من صرف عشرين بدينار أو خمسة دراهم من صرف عشرة دراهم بدينار، فقال: أرى أن يعطيه نصف دينار ما بلغ كان أقل من ذلك أو أكثر إذا كانت تلك العشرة دراهم أو الخمسة المكتوبة عليه من بيع باعه إياه، فأما إن كانت من سلف أسلفه فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه.
فقيل له: أرأيت إن باعه ثوبا بثلاثة دراهم ولا يسمي له من صرف كذا وكذا، والصرف يومئذ تسعة دراهم بدينار.
قال: إذا لم يقل من صرف كذا وكذا أخذ بالدراهم الكبار ثلاثة دراهم، وإنما قال بثلاثة دراهم من صرف كذا وكذا بدينار فذلك جزء من الدينار ارتفع الصرف أو خفض، وقد كان بيع من بيوع أهل مصر يبيعون الثياب بكذا وكذا درهما من صرف كذا(6/487)
وكذا بدينار، فيسألون عن ذلك كثيرا فهو كذا.
قال محمد بن رشد: هذا كما ذكر وهو مما لا اختلاف فيه أنه إذا باع بكذا وكذا درهما ولم يقل من صرف كذا فله عدد الدراهم التي سمى ارتفع الصرف أو اتضع، وإذا قال بكذا وكذا درهما من صرف كذا وكذا فلا تكون له الدراهم التي سمى؛ إذ لم يسمها إلا ليبين بها الجزء الذي أراد البيع به من الدينار، فله ذلك الجزء، وكذلك إذا قال: أبيعك بنصف دينار من ضرب عشرين درهما بدينار، فإنما له عشرة دراهم إذ لم يسم نصف الدينار إلا ليتبين به الدراهم التي أراد البيع بها من الدينار، وسيأتي هذا في سماع رسم يحيى.
[مسألة: يبيع أثوابا كل ثوب بدينار إلا درهما وإلا درهمين ثم يجعل ذلك دنانير]
مسألة وسئل عن رجل يبيع أثوابا كل ثوب بدينار إلا درهما وإلا درهمين ثم يجعل ذلك دنانير يكتبها عليه إلى أجل.
فقال: لا يصلح هذا ولا خير فيه، هذا صرف إلى أجل ولكن يكتب عليه كذا وكذا دينارا إلا كذا وكذا درهما، ويحسب ذلك عليه قبل أن يبايعه ثم يبايعه عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها إجمال وبينها مسألة ما وقع في رسم مرض من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، وفي كتاب محمد قال: ومن ابتاع فيه خمسة عشرة جلدا كل جلد بدينار إلا درهما إلى أجل، ثم تحاسبا أو لم يتحاسبا لكثرة الدراهم بينهم فلا خير في هذا البيع قال محمد: تحاسبا أو لم يتحاسبا لكثرة الدراهم في المؤجل، قال مالك: ولو قطعوا صرف الدراهم قبل العقد ووقعت الصفقة بدنانير معلومة جاز ذلك نقدا ومؤجلا، قال محمد: مثل أن يقولوا: إن وقع بيننا بيع بدراهم فبيعوها كذا وكذا بدينار، فهو الجائز وإلا لم يجز نقدا ولا إلى أجل؛ لأنه صرف وبيع إلا في دراهم يسيرة، قال محمد: فإذا وقع(6/488)
البيع بينهم على أن يتقاضى من الدنانير فيما اجتمع من الدراهم المستثنيات بسوم سمياه فإنه فيما تبايعا به إن لم يفضل من الدراهم بشيء بعد المقاصة مثل أن يكون باع منه ستة عشر ثوبا كل ثوب بدينار إلا درهم على أن يحسب الدراهم بينهما ستة عشر درهما جاز كان البيع نقدا أو إلى أجل؛ لأن البيع إنما ينعقد إلى أجل بينهما على هذه الخمسة عشر دينارا، وكذلك إن فضل بعد المقاصة درهم أو درهمان؛ لأنه يجوز أن يبيع الرجل السلعة بدينار إلا درهم وإلا درهمين على أن يتعجل السلعة ويتأخر الدينار والدرهم أو الدرهمان إلى أجل واحد، وأما إن فضل بعد المحاسبة من الدراهم الكثيرة فيجوز البيع إن كان نقدا، ولا يجوز إن كان إلى أجل..
إن لم يقع البيع بينهما على شرط المحاسبة فيجوز إن كانت الدراهم المستثناة في الصفقة الدرهم والدرهمين نقدا أو إلى أجل ويجوز إن كانت الدراهم المستثناة كثيرة دون صرف دينار إن كان البيع نقدا، ولا يجوز إن كان إلى أجل، ولا يجوز إن كانت الدراهم المستثناة أكثر من صرف دينار كان البيع نقدا أو إلى أجل على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في أن البيع والصرف لا يجوز إلا فيما كان أقل من صرف دينار ولا ينتفع بالمحاسبة بعد البيع إذا لم يقع البيع بينهما على ذلك، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.(6/489)
[كتاب الصرف الثاني] [اشترى تبرا أو قراضة أو نقرا أو سبيكة بدراهم فوجد في الدراهم درهما زائفا](7/5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب نقدها نقدها
قال عيسى: قال ابن القاسم: من اشترى تبرا أو قراضة أو نقرا أو سبيكة بدراهم فوجد في الدراهم درهما زائفا رد من ذلك بقدر الدرهم، ينظر إلى الذهب فيقسم على عدة الدراهم، ثم يرد بقدر ما أصاب الدرهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه يمكن أن يرد من الذهب ما يجب للدرهم الزائف؛ إذ ليس بمسكوك، ولو كان مسكوكا لانتقض صرف دينار، إلا أن يكون الزائف أكثر مما يجب لدينارين فينتقض(7/7)
صرف دينارين دينارين، ثم ما زاد على هذا القياس، قال ابن دحون: ولو اجتمع في الشراء النقد والسبائك والقراضة والتبر، ثم وجد درهما زائفا لانتقض الكل؛ لأنا نحتاج أن نوزع الأثمان على هذه الأصناف لو لم ينقصه، وللمتبايعين أن يتداعيا في أي صنف من هذه الأصناف يقع الفسخ، فلا بد من فسخ الكل. وليس قوله بصحيح، إذ لا مانع يمنع أن يفسخ من كل صنف بحساب الدرهم الرديء، وإنما يفسخ الكل بوجود درهم زائف إذا اشترى دنانير مختلفة أو أصنافا من الحلي، أو إذا كان ما يجب من الدراهم لدينار من الدنانير فيه كسر من درهم؛ مثال ذلك: أن تصرف عشرة مثاقيل قائمة بمائة درهم وخمسة دراهم قائمة، فتجد فيها درهما زائفا، فإن الصرف كله ينتقض؛ إذ لا يمكن أن يرد بعض درهم في صرف الدينار، كما لا يمكن أن يرد بعض دينار في صرف الزائف.
[مسألة: دفع إلى صائغ عشرين درهما يعمل له بها سوارين فمطله]
مسألة وسئل: عن رجل دفع إلى صائغ عشرين درهما يعمل له بها سوارين، فمطله فاسترد دراهمه، فقال: ما هي عندي، ولكن خذ عشرة، وأخرني بالأخرى شهرا، ففعل، فلم يجد عنده إلا(7/8)
ثمانية، فأعطاه بالدرهمين الباقيين تبرا. فقال: إن كان ذلك بعد الإيجاب وكان ذلك صلحا قد وجب ومضى، حتى لو أراد أن يرجع فيه لم يكن ذلك له فلا بأس به، وإن كانت مراوضة فلا خير فيه. وقال أبو زيد: عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن كما قال، أما إن كان ذلك بعد وجوب الصلح وتمامه، فهو جائز؛ لأنه أخذ من العشرة التي وجبت له نقدا ثمانية، وصارفه في الدرهمين بعد أن ثبت التأخير ووجب في العشرة الأخرى، فلم يكن فيه وجه من الفساد، وأما إذا كان ذلك في المراوضة فيدخله من الفساد أنه صارفه بالدرهمين على أن أخره بالعشرة، وذلك لا يجوز «لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيع وسلف» ، وبالله التوفيق.
[يشتري النقرة من ورق جزافا بعشرة دنانير، فيجد في النقرة مسمار رصاص]
ومن كتاب استأذن سيده في تدبير جارية وسألته: عن الرجل يشتري النقرة من ورق جزافا بعشرة دنانير، فيجد في النقرة مسمار رصاص، قال: ينظر كم وزن النقرة بمسمار رصاص، ثم ينظر كم وزن المسمار، فإن كان وزنها بالمسمار مائة درهم ووزن المسمار درهم، وكانت الدنانير قائمة، انتقض صرف دينار واحد، وإن كانت مجموعة، انتقض صرف دينار من أدنى ما يكون من دنانيره المجموعة.
قلت: فلو أن رجلا قال لرجل أبيعك هذه النقرة وفيها مائة درهم بعشرة دنانير، كل دينار بعشرة دراهم، ثم وجد في النقرة مسمار رصاص، هل هو سواء؟(7/9)
وماذا ينتقض منها وليس في المسمار إلا درهم؟ قال: هذان الوجهان سواء، قد صار ثمن الدينار فيها عشرة دراهم، فإذا كان المسمار وزن درهم، فأرى أن ينتقض دينار منها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا إشكال فيه؛ لأن المسمار الموجود في النقرة المبيعة بدنانير، كالدرهم الزائف يوجد في صرف الدنانير، فيرد المسمار وتمام صرف دينار واحد من النقرة وينتقض صرف دينار واحد، كما يرد الدرهم الزائف وتمام صرف دينار واحد من الدراهم، وينتقض صرف دينار واحد لا أكثر، إلا أن يكون الزائف أكثر من صرف دينار فينتقض صرف دينارين، ثم ما زاد على هذا القياس، ولا فرق في تفريق النقرة والدراهم بالدنانير بين أن يسمى ما يقع لكل دينار من ذلك، أو يسكت عنه، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى سوارين فوجد رأس واحد منهما من نحاس]
مسألة قلت: فلو أن رجلا اشترى سوارين، فوجد رأس واحد منهما من نحاس؟ قال: يردهما جميعا. قلت: فلو كان اشترى أزواج أسورة فوجد في زوج منها نحاسا؟ قال: يردها كلها ولو كانت مائة زوج. قلت: فلو فات بعضها وبقي بعضها في يديه فوجد فيما بقي منها عيبا؟ قال: يرد ما بقي بالقيمة. قال محمد بن رشد: قوله: إنه إذا اشترى سوارين فوجد رأس(7/10)
واحد منهما من نحاس، أنه يردهما جميعا، صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن كل ما هو زوجان لا ينتفع بأحدهما دون صاحبه كالخفين، والنعلين، والسوارين، والقرطين، فوجود العيب بأحدهما كوجوده بهما جميعا.
وأما قوله إذا اشترى أزواج أسورة فوجد في واحد منها نحاسا، أنه يردها كلها ولو كانت مائة زوج، فهو صحيح إذا لم تكن مستوية، وأمكن أن تختلف فيها الأغراض، وأما إن كانت مستوية أثمانها سواء لا يمكن أن تختلف فيها الأغراض؛ فإنه يرد الذي وجد فيه النحاس مع صاحبه بما ينوبه من الثمن ولا يرد الجميع، وعلى هذا يحمل ما في سماع أبي زيد، فلا يكون ذلك اختلافا من القول.
وأما قوله: إن فات بعضها وبقي بعضها في يديه، فوجد فيما بقي في يديه عيبا، أنه يرد ما بقي بالقيمة، ففيه نظر؛ لأن القياس كان إذا كان ينتقض الصرف كله إذا كانت قائمة، أن ينتقض أيضا إذا فات بعضها، فيرد ما بقي وقيمة ما فات ويرجع بجميع الدراهم، إلا أن هذا يأتي على ما حكى عبد الحق عن بعض شيوخه فيمن اشترى عبدين فهلك أحدهما وألفى الآخر معيبا، أنه يرد المعيب بحصته من الثمن، وإن كان وجه الصفقة، إن كلف أن يرد قيمة الهالك، رد عينا وأخذ عينا، فلم يكن في ذلك فائدة، بخلاف إذا كان الثمن عرضا، والقياس أن يرد المعيب وقيمة الهالك ويرجع بجميع الثمن؛ لأن الصفقة قد وجب ردها كلها بوجود العيب في أرفع العبدين، فلا يمضي التغابن في الذي فات منهما على من كان وقع عليه، فقد يكون قيمته أكثر مما ينوبه من الثمن، فيكون من حجة البائع أن يأخذ القيمة ويرد الثمن؛ لئلا يمضي التغابن عليه، إذ قد وجب أن تنقض الصفقة كلها، وقد تكون قيمته أقل مما ينوبه من الثمن، فتكون(7/11)
حجة المبتاع أن يرد القيمة ويأخذ الثمن، لئلا يمضي التغابن عليه أيضا، إذ قد وجب نقض الصفقة كلها، وكذلك مسألة الأسورة على هذا القياس، وبالله التوفيق.
[صرف عند صراف دنانير فوزنها عند غيره فوجدها وهي تنقص]
ومن كتاب العرية وعن رجل صرف عند صراف دنانير فوزنها عند غيره فوجدها وهي تنقص، فرجع إلى الصراف، فقال الصراف: والله ما أدري لعل في موازيني شيئا، فذهب معه الصراف إلى حيث وزنها فوجدها تنقص ما ذكر له، تم أخرج الصراف أيضا الدنانير فوزنها أيضا عنده، فإذا هي لما وزنها تنقص مثل نقصان الدراهم. قال ابن القاسم: إن كانت الدنانير مجموعة انتقض من الصرف بقدر ما نقصت.
قال محمد بن رشد: قوله فإذا هي كما وزنها تنقص مثل نقصان الدراهم، يريد: أنه نقص من الذهب زنة ما نقص من الدراهم، فوجب أن ينتقض من الصرف تمام ما يجب لما نقص من الذهب، مثال ذلك: أن يكون صرف ثلاثة دنانير بأربعة وعشرين درهما، فنقص من الدراهم ربع درهم ومن الذهب ثمن مثقال وهو ربع درهم، فيرجع الصراف على الذي صارفه بثلاثة أرباع درهم؛ لأن ثمن المثقال الذي نقصه من الذهب يجب له درهم، عنده منه ربع درهم في نقصان الدرهم، فيرجع عليه(7/12)
بالباقي. وهذا إن كانت الدراهم مجموعة، وأما إن كانت قائمة فلا بد من انتقاض جميع الصرف، إلا أن تكون الدنانير مجموعة مقطوعة فينتقض منها ما يجب لتمام درهم، فيرد إليه درهما ويأخذ منه ما وجب لربع الدرهم الذي رده إليه - زائدا على ما وجب عليه فيما نقص ذهبه، وذلك حبتان وربع حبة من ذهب.
فقوله: إن كانت الدنانير مجموعة انتقض من الصرف بقدر ما نقصت، كلام وقع على غير تحصيل، وصوابه: إن كانت الدراهم مجموعة انتقض من الصرف بحساب ما نقصت. وحمل ابن أبي زيد هذه المسألة على أنه أراد بقوله فإذا هي لما وزنها تنقص مثل نقصان الدراهم، أي: أنها تنقص مثل ما يجب لما نقص من الدراهم. فقال: في هذه المسألة نظر، ولا ينتقض من الصرف شيء؛ لأن ما نقص من الذهب نقص جزاؤه من الدراهم بذلك الميزان، فلم يبق لأحدهما على الآخر شيء، والله الموفق.
[دراهم الخريطة إذا كانت مختلطة سودا ويزيدية فاشتراها كلها بسوم واحد]
ومن كتاب سلف دينارا وسئل: عن دراهم سود ودراهم يزيدية مختلطة في خريطة واحدة، وإحداهما ثلاثة وعشرون بدينار، والأخرى اثنان وعشرون بدينار، فقال: أنا آخذها منك كلها بعضها على بعض اثنين وعشرين، اثنين وعشرين بدينار، قال: لا خير فيه؛ لأنه خطار يتخاطران فلا خير فيه حتى يعرف كم في كل واحدة من صاحبتها، قيل له: فإن عرف كم في إحداهما ولم يعرف كم في الأخرى، قال: لا خير فيه حتى يعرف كم فيهما جميعا.(7/13)
قال محمد بن رشد: هذا بين، على ما قال: إن دراهم الخريطة إذا كانت مختلطة سودا ويزيدية، ولا يعلم مبلغ جملتها فشراؤها كلها بسوم واحد غرر، وإن عرف ما فيها من السود إذا لم يعرف ما فيها من اليزيدية أو ما فيها من اليزيدية إذا لم يعرف ما فيها من السود حتى يعرف ما فيها من السود ومن اليزيدية، وذلك في التمثيل إذا لم يعرف ما في واحدة منهما، كشراء صبرة حنطة وصبرة شعير بكيل واحد، وإذا عرف ما في واحدة منهما ولم يعلم ما في الأخرى، كشراء مدي قمح وصبرة شعير كل قفيز بدرهم، وأما شراء دراهم الخريطة كلها ما بلغت إذا كانت صفة واحدة يزيدية أو سود بسوم واحد عشرة دراهم بدينار أو أقل أو أكثر مما يتفقان عليه، فهو جائز على مذهب مالك في إجازة شراء الصبرة على الكيل، خلاف قول عبد العزيز بن أبي سلمة، ويدخل في ذلك عند مالك من الكراهة ما دخل في مسألة رسم من حلف بطلاق امرأته من سماع ابن القاسم في الذي يشتري بالدرهم فيقول: كله وأعطني بما فيه، وقد مضى القول على ذلك هناك.
[اشترى من رجل جبنا بدرهم قائم فوزن الدرهم فلم يجد فيه إلا درهما إلا حبتين]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار
وسئل: عن رجل اشترى من رجل جبنا بدرهم قائم فوزن الدرهم فلم يجد فيه إلا درهما إلا حبتين، فقال: خذ من الجبن تمام الدرهم، قال: هذا حرام لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في أول رسم القبلة من سماع ابن القاسم، ومضت أيضا في رسم المحرم منه، فلا معنى لإعادته.(7/14)
[عليه نصف دينار لرجل فيقول خذ نصف دينار في دينك والنصف سلف]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار وسئل: عن رجل يكون عليه نصف دينار لرجل فيأتيه بدينار فيقول خذ نصفه في دينك، والنصف أسلفكه في سلعة كذا وكذا إلى أجل كذا. فقال: لا بأس بهذا، وليس هذا صرفا وبيعا، إنما هو قضاء وبيع.
قال محمد بن رشد: جواز هذه المسألة إنما هو على القول في مراعاة ما ثبت في الذمة؛ لأنه قضاء ما ثبت له فيها من الذهب وأسلفه باقي المثقال في سلعة، فجاز ذلك، وعلى القول في مراعاة ما يوجبه الحكم في القضاء لا يجوز؛ لأنه أخذ منه نصف مثقال ذهبا فيما يجب له من الدراهم بالحكم، على أن أسلفه النصف الآخر في سلعة، فدخله ذهب بدراهم وسلعة إلى أجل، وذلك مما لا يجوز ولا يحل، وقد مضى القول في هذه المسألة ونظائرها مستوفى في رسم أوله تسلف في المتاع من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[راطل رجلا دنانير بذهب فذهب عني فوجد في دنانيره دينارا مغشوشا]
ومن كتاب أوله حمل صبيا على دابته قال ابن القاسم: أرأيت إن راطلت رجلا دنانير بذهب، فذهب عني فوجدت في دنانيره دينارا مغشوشا، هل تنتقض المراطلة بيننا أو أرد الدينار وآخذ وزنه ذهبا؟ قال: بل ترد الدينار وتأخذ وزنه ذهبا.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله دنانير بذهب، أي دنانير بتبر ذهب،(7/15)
فإذا وجد دينارا رديئا رد إليه زنته من التبر ولم تنتقض المراطلة، ولو راطله دنانير بحلي ذهب فوجد في دنانيره دينارا مغشوشا لانتقض الجميع، وكذلك لو راطله دنانير بدنانير مخالفة لها في الوزن أو في الوزن والعين، فوجد فيها دينارا رديئا لانتقض جميع المراطلة؛ إذ لا يمكن أن يرد الدينار المغشوش ويأخذ وزنه من الدنانير الآخر، إذ لا تنقسم ولا تتبعض، وهذا كله بين على معنى ما في المدونة وغيرها.
[يكون له على الرجل الدنانير القائمة]
ومن كتاب حبل حبلة وقال في الرجل يكون له على الرجل الدنانير القائمة: إنه لا يصلح أن يتقاضى كسر دينار ذهبا ويتقاضى بالبقية دراهم، مثل أن تكون له عشرة دنانير قائمة فيتقاضى منه تسعا ونصفا ذهبا، ويتقاضى بالنصف دراهم، فهذا لا يحل ولا يصلح، وإنما يجوز هذا في الدنانير المجموعة إذا كانت لك على رجل؛ لأنه يجوز لك أن تتقاضى منه النصف والثلث والثلثين؛ لأن المجموعة مقطوعة، فكل ما كان لا يجوز لك أن تأخذ منه مجموعا فلا يجوز لك أن تأخذ منه كسر ذهب ودراهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة وقد مضى القول فيها في رسم حلف بطلاق امرأته من سماع ابن القاسم، ومضت أيضا في رسم صلى نهارا من السماع المذكور، وفي أول سماع أشهب، فلا معنى لإعادة ذلك. ولما لم يجز أن يقتضي من القائمة مجموعة أكثر من عددها، وكان إذا فعل ذلك قد باع القائمة بالمجموعة بزيادة عدد المجموعة على عدد القائمة لفضل عينها، لم يجز أن يأخذ بالدينار القائم نصفا ذهبا ونصفا(7/16)
دراهم؛ لأنه إذا فعل ذلك كان قد باع الدينار القائم الباقي له من العشرة بذهب وورق، فحرم ذلك ولم يجز.
[مسألة: كان له على رجل ألف دينار مجموعة]
مسألة قال: وإذا كان لك على رجل مجموعة فلا بأس أن تأخذ منه قائمة بعددها؛ لأن القائمة أوزن من المجموعة. قال: ولو كان له على رجل ألف دينار مجموعة، فلا بأس أن يأخذ منها ألف دينار إلا دينارا قائمة، انظر أبدا إن لم تشك أن عدد القائمة أكثر وزنا من عدد كيل المجموعة التي عليه، فلا بأس أن يأخذ من عدد القائمة ما لا شك فيه أنه أكثر وزنا من المجموعة وإن اختلف العددان، وإن كان بغير وزن، وقاله أصبغ كله، والوزن أجل وأحسن يدخل في الوزن ما دخل، وإن كان أقل عددا فلا بأس به كما لو دخل فيه أكثر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى منصوصة في المدونة فلا وجه للقول فيها.
[مسألة: قاضى الرجل من الرجل يكون عليه الدينار القيراط والقيراطين دراهم]
مسألة قال عيسى: قال ابن القاسم: ولا بأس أن يتقاضى الرجل من الرجل يكون عليه الدينار القيراط والقيراطين دراهم؛ لأنه جزء معلوم من الدينار.(7/17)
قال محمد بن رشد: يريد أنه لا بأس أن يأخذ الرجل من الرجل يكون له عليه الدينار صرف قيراط أو صرف قراطين دراهم، ويبقى له عليه دينار إلا قيراطا وإلا قيراطين، ثم يجوز له أن يأخذ منه في بقية ديناره دراهم أو عرضا أو طعاما، ولا يجوز له أن يأخذ منه بالباقي ذهبا، قاله في المدونة. وهذا في الدينار القائم، وأما في الدينار المجموع فيجوز له أن يأخذ منه ببعضه ذهبا وببقيته ورقا في مجلسين باتفاق، وفى مجلس واحد على اختلاف، وقد مضى ذلك في رسم حلف بطلاق امرأته من سماع ابن القاسم.
[حكم بيع الفلوس مراطلة وفي العدد اختلاف]
ومن كتاب النسمة وسئل: عن الفلوس مراطلة وفي العدد اختلاف، قال: هذا حرام لا يحل، ولا يجوز أحد هذا من أهل العلم؛ لأن جواز الفلوس بعيونها وإن كان بعضها أثقل من بعض، فأحدهما يخاطر صاحبه، ولو جاز أن يباع الفلوس بالفلوس مراطلة، لجاز أن تباع الفلوس مراطلة بالدراهم والدنانير ولا يدري ما يدخل في عددها فهو غرر، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر» .
وسئل: عن الرجل يشتري رطل فلوس بدرهم أو رطل دراهم بدينار، لم لا يجيزه مالك، بين لي. قال ابن القاسم: أما الفلوس فلا خير(7/18)
فيه، وأما الورق فإن كان الرطل وزنا معروفا بمنزلة هذه الحديدة التي قد ضربت وجعلت للناس معيارا في وزنهم، فلا بأس به، وإن كانوا يعرفون ما يدخل فيه من دراهم ولم تجر معرفته بين الناس حتى تكون مثل هذه الحديدة فلا خير فيه، وقاله أصبغ أيضا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة في المعنى مثل ما في المدونة، أما الفلوس فإنما تجوز عددا وهو العرف، فالانتقال عن المعروف فيها من العدد إلى الوزن لا يجوز؛ لأنه غرر؛ كما أن ما العرف فيه أن يباع وزنا من جميع الأشياء، فلا يجوز أن يباع كيلا، وما العرف فيه أن يباع كيلا فلا يجوز أن يباع وزنا، وهذا منصوص عليه في المدونة وغيرها، فلا تجوز المراطلة فيها ولا بيعها بالوزن، وأما بيع الدراهم بالرطل، فكما قال: إن كان الرطل يعلم كم فيه من درهم فهو جائز، وإلا لم يجز.
[مسألة: يشتري السلعة بدراهم زيوف قد ظهر في بعضها النحاس]
مسألة وسئل: عن الرجل يشتري السلعة بدراهم زيوف قد ظهر في بعضها النحاس، هل ترى به بأسا إذا كانت معرفة البائع فيها كمعرفة المشتري ورضي بذلك؟ قال ابن وهب: إن كانت زيوفا فليخبر الذي يريد أن يشتري بها أنها زيوف حتى يتقدم البائع منهما على علم لأخذه إياها، وقد بلغنا ذلك عن عمر بن(7/19)
الخطاب، قال ابن القاسم: قال مالك: إذا كان ممن يغر بها الناس مثل الصيارفة وغيرهم، فلا أرى ذلك، وإن كان ممن يريد كسرها، فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب هذا خلاف قول مالك هنا وفي كتاب الصرف والصلح من المدونة. وتحصيل القول في هذه المسألة: أن الدراهم أو الدنانير المغشوشة بالنحاس، لا يحل لأحد أن يغش بها فيعطيها على أنها طيبة، ولا أن يبيعها ممن يعلم أنه يغش بها، ويكره له أن يبيعها ممن لا يأمن أن يغش بها، مثل الصيارفة وغيرهم من أشباههم. ويختلف هل يجوز له أن يبيعها ممن لا يدري ما يصنع بها، فأجاز ذلك ابن وهب هنا، وروي إجازة ذلك عن جماعة من السلف، وعمر بن الخطاب جاء عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الفضة بالفضة وزنا بوزن، والذهب بالذهب وزنا بوزن، أيما رجل زافت عليه ورقه، فلا يخرج يخالف الناس على أنها طيوب، ولكن ليقل من يبيعني بهذه الزيوف سحق ثوب رثيثا. وكرهه ابن القاسم ورواه عن مالك هنا وفي المدونة، وإنما الذي أجاز ابن وهب أن يباع ممن لا يدري ما يصنع بها ما كان فيه منفعة ويمكن الغش به لمن أراد، قاله في رسم الرهون من سماع عيسى من كتاب السلطان، ويجوز أن تباع باتفاق ممن يكسرها أو ممن يعلم أنه لا يغش بها، إلا على قياس قول سحنون في نوازله من كتاب السلم، فإن باعها(7/20)
ممن يخشى أن يغش بها لم يكن عليه إلا الاستغفار، وإن باعها ممن يعلم أنه يغش بها، فواجب عليه أن يستصرفها منه إن قدر على ذلك، وقد اختلف إذا لم يقدر على استصرافها فيما يجب عليه من التوبة فيما بينه وبين خالقه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجب عليه أن يتصدق بجميع الثمن. والثاني: أنه لا يجب عليه أن يتصدق إلا بالزائد على قيمتها لو باعها ممن لا يغش بها - إن كان يزيد فيها شيئا. والثالث: أنه لا يجب عليه أن يتصدق بشيء منه إلا على وجه الاستحباب مراعاة للاختلاف، وقد مضى توجيه هذا الاختلاف في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب التجارة إلى أرض الحرب.
[ابتاع سلعة بثلثي درهم ثم ذهب فأتاه بدرهم ورد عليه بائع السلعة ثلث درهم فضة]
ومن كتاب إن أمكنتني من حلق رأسك
وقال في رجل ابتاع سلعة بثلثي درهم ثم ذهب فأتاه بدرهم ورد عليه بائع السلعة ثلث درهم فضة، قال: لا بأس به.
قلت: فلو كان أسلفه ثلثي درهم فأتى بدرهم فرد عليه المسلف ثلث درهم فضة، قال: لا خير فيه.
قلت له: لم؟ قال: لأنه لو ابتدأ الشراء فاشترى بثلثي درهم وأخذ بثلثه فضة، لم يكن له بأس؛ ولأنه لو أخذ منه قطعة فضة بثلثين وثلث درهم بغير كيل افترقا أو كانا في مجلس واحد، لم يكن فيه خير، وهذا وجه ما سمعت.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة لو ابتدأ الشراء فاشترى بثلثي درهم وأخذ بثلثه فضة، معناه: فاشترى بثلثي درهم فدفع درهما، وأخذ بثلثه فضة، وتكلم في هذه المسألة على درهم قائم، فليست بخلاف لما في أول رسم سماع أشهب في الرجل يكون له على الرجل عشرة دنانير مجموعة فيأتيه بها فيجدها تزيد خروبة، أنه لا يجوز(7/21)
أن يأخذها ويعطيه بالخروبة ذهبا، وكان القياس والنظر في هذه المسألة ألا يجوز في البيع ولا في السلف، من أجل أنه درهم قائم، فلا يجوز فيه ما يجوز في المجموع من أن يأخذه ويعطي بالزائد فضة، إلا أنه استخف ذلك في البيع من أجل أنه درهم واحد قائم، وقد جوزوا له أن يأخذ به للضرورة بنصفه طعاما، وبنصفه فضة، وقد مضى القول على هذه المسألة في أول رسم من سماع أشهب، وأشرنا هناك إلى ما ذكرناه هاهنا من معنى هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[اشترى من رجل سلعة بثلثي دينار ثم أتاه بعد ذلك فاستسلفه دراهم فأسلفه]
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته وقال في رجل اشترى من رجل سلعة بثلثي دينار ثم أتاه بعد ذلك فاستسلفه دراهم فأسلفه، ثم جاءه بدينار، فقال له: هل لك أن تأخذه في الثلثين ومالك علي من الدراهم؛ قال: لا بأس به؛ لأنه كان يجوز له أن يعطيه دينارا ويرد عليه دراهم فلا بأس به. قال: ولو كان استسلفه دينارا فيه ثلثا دينار دراهم، ثم أتاه بدينار فيه وبالثلثي الدينار والدراهم، لم يكن فيه خير؛ لأنه صار ذهبا وورقا بذهب.
قال محمد بن رشد: هاتان المسألتان صحيحتان، أما المسألة الأولى فوجه جوازها أنه قضاه وصرف؛ لأنه قضاه ثلثي الدينار وصارفه في ثلثه، لما كان له عليه من الدراهم مصارفة ناجزة؛ لأن ما في الذمة على مذهب مالك كالعين الحاضرة، بمنزلة ما لو دفع إليه الدينار قبل أن يستسلف منه الدراهم، فأخذ منه صرف ثلثه كما قال. وأما المسألة الثانية فإنه أخذ بثلثي الدينار والدراهم دينارا قائما، فدخله ذهب وورق بذهب كما قال؛ لأن للدينار القائم فضلا في عينه على الناقص، ولو استسلف منه ثلثي دينار من ذهب مقطعة مجموعة لا يجوز إلا بالوزن، ثم استسلف(7/22)
منه دراهم فقضاه دينارا مقطعا مجموعا فيما كان أسلفه من الذهب والدراهم لجاز، لسقوط التهمة في السلف بخلاف البيع، والله أعلم.
[يقول أبيعك ثوبي هذا بعشرة دراهم من صرف عشرين درهما بدينار]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الصبرة
قال يحيى بن يحيى: وسئل ابن القاسم: عن الذي يقول أبيعك ثوبي هذا بعشرة دراهم من صرف عشرين درهما بدينار، وهذا الثوب الآخر بنصف دينار من صرف عشرة دراهم بدينار، أيجوز هذا؟ وما يلزم المشتري من الثمن في الثوبين؟ قال: أما الذي قال بعشرة دراهم من صرف الدينار بعشرين، فله نصف دينار تحول الصرف كيفما حال. وأما الذي قال بنصف دينار من صرف عشرة دراهم بدينار، فله خمسة دراهم تحول الصرف كيف حال، وذلك أن الذي باع بعشرة دراهم من صرف عشرين درهما بدينار، إنما أوجب له ثوبه بنصف دينار، إذ جعل العشرة التي باع بها من صرف عشرين بدينار. وأما الذي باع بنصف دينار من صرف عشرة بدينار، فإنما أوجب ثوبه بنصف العشرة التي جعلها صرف نصف دينار، وإنما يؤخذ في مثل هذا بالذي يقع به إيجاب البيع وإن سمح الكلام.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة في المعنى وقد تقدمت والقول فيها في رسم البيوع الأول من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته.
[صرف الفلوس بالتأخير]
ومن كتاب الأقضية قال: وسئل ابن نافع: عن صرف الفلوس بالتأخير يعجل(7/23)
الدينار والدراهم ويقبض الفلوس إلى أجل. فقال: كان مالك يكره ذلك إذا صارت سكة تجري ثمنا للأشياء، ولست آخذ به ولا أراه، وأنا أرى الفلوس عرضا من العروض، كالنحاس الذي لم يضرب فلوسا، ولا أرى بأسا بما تأخذ منها ولا عده صرفا.
قال محمد بن رشد: قول ابن نافع هذا مثل رواية عبد الرحيم عن مالك في كتاب القراض من المدونة، وإنما كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المشهور عنه التأخير في صرف الفلوس؛ لأن العلة عندهم في الربا في العين من الذهب والورق، هو أنه ثمن للأشياء وقيم للمتلفات، فرأى على هذا القول هذه العلة علة متعدية إلى الفلوس، لما كانت موجودة فيها إذا صارت سكة تجري بين الناس يتبايعون بها ويقومون كثيرا من المتلفات بها، ورآها على رواية عبد الرحيم عنه علة واقعة لا تتعدى إلى ما سوى الذهب والورق، ولكلا القولين وجه من النظر، وبالله التوفيق.
[يكون له على الرجل الدينار فيعطيه دينارا رديئا]
ومن سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيوع والعيوب
قال أصبغ: وسئل ابن القاسم: عن الرجل يكون له على الرجل الدينار، فيعطيه دينارا رديئا يغره به فيحتاج القابض إلى قطعه فيقطع منه فيجده رديئا. قال: يرد مثله صحيحا في رداءته ويرجع بديناره، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا وروايته عن ابن القاسم أنه يرد دينارا رديئا مثله صحيحا، لا يلتئم على المشهور في المذهب المعلوم(7/24)
من قول ابن القاسم وروايته عن مالك في أن الدينار المغشوش بالنحاس لا يجوز أن يباع ممن يغش به الناس؛ لأنه قد غر به، فالواجب ألا يرده إليه لئلا يغر به غيره، وأن يكسر أو يباع ممن يكسره؛ فإذا كان الواجب أن يكسر على الدافع أو يباع عليه ممن يكسره، ولا يترك له لئلا يغر به؛ فالواجب أن يرده القابض إليه مقطوعا، ولا يكون عليه في قطعه شيء، ولو استهلكه ثم علم بعد ذلك أنه مغشوش، لكان القياس أن يكون عليه فيه قيمته على أن يباع ممن يقطعه. وقد قال سحنون في نوازله من كتاب السلم والآجال: إنه يرد وزن ما كان فيه من الوزن والصفران علم ذلك؛ لأن من استهلك ما يوزن فعليه فيه المثل، وإن لم يعلم وزن ما فيه من الوزن والصفر، كان عليه في الورق قيمته من الذهب جزء من دينار يكون به شريكا معه فيه وفي الصفر قيمته من الورق؛ لأن القيمة لا تكون إلا بالذهب والورق، وهو بعيد خارج عن القياس، ويأتي على قياس قوله أن الحكم فيه أن يكسر على كل حال، ولا يحل أن يباع على حال ولا ممن يكسره، وذلك خلاف الموجود من قولهم، وقد مضى تحصيل القول في هذا المعنى في رسم النسمة من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[يشتري رجلان من رجل دينارا بينهما جميعا بدراهم]
ومن كتاب البيع والصرف قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: لا بأس أن يشتري رجلان من رجل دينارا بينهما جميعا يعني بدراهم، ويوكل أحدهما الآخر بقبضه، وينقلب ويقبضه أحدهما، والذهب كلها والحلي والورق كذلك.(7/25)
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم طلق من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: يكون لرجلين على رجل نصفان لكل واحد منهما نصف دينار]
مسألة قال: ولا بأس أن يكون لرجلين على رجل نصفان، لكل واحد منهما نصف دينار فيقضيهما دينارا جميعا، ولا بأس أن يكون لرجلين على رجل ثلثا دينار، لكل واحد منهما ثلث، فيأخذ من كل واحد منهما سدسا، سدسا، ويعطيهما دينارا بينهما جميعا؛ لأنه إنما قضاهما ثلثيه وباعهما جميعا الثلث الآخر، ولا خير في أن يكون لرجلين على رجل لأحدهما نصف دينار وللآخر ثلث دينار، فيأخذ من الذي له الثلث سدس دينار ويعطيهما الدينار بينهما؛ لأنه الحول في الصرف؛ لأنه قضى هذا ثلثا وهذا نصفا، وباع السدس الآخر من هذا فأحاله به، فلا خير فيه حتى يكون القضاء فيه كله والبيع فيه كله فيهما جميعا سواء.
قال محمد بن رشد: أجاز أن يكون لرجلين على رجل نصفان نصف لكل واحد منهما فيقضيهما جميعا دينارا؛ لأنه على مراعاة ما ثبت لكل واحد منهما في ذمته قضاء صرف فجاز، وإن قبض أحدهما الدينار لنفسه ولصاحبه بعد أن ذهب، وعلى مراعاة ما يجب لكل واحد منهما عليه أن يقضيه مصارفة صرف؛ لأنهما أخذا منه بما كان يجب لهما عليه من الدراهم دينارا ذهبا، فجاز أيضا إن قبضا الدينار جميعا أو قبضه أحدهما بحضرة صاحبه قبل أن يفارقه باتفاق، وإن وكل أحدهما صاحبه بقبضه فقام فذهب فقبضه بعد ذهابه على ما ذكرناه من الاختلاف في المسألة التي قبل هذه حيث تكلمنا عليها في رسم طلق من سماع ابن القاسم، وأجاز أيضا(7/26)
أن يكون لرجلين على رجل ثلثا دينار، ثلث لكل واحد منهما، فيأخذ من كل واحد منهما سدسا، سدسا، أي: صرف سدس سدس من الدراهم، ويعطيهما دينارا بينهما جميعا؛ لأنه على مراعاة ما ثبت لكل واحد منهما في ذمته قضاء في الثلثين وصرف في الثلث بينهما، فيجوز إن قبضا الدينار جميعا أو قبضه أحدهما بحضرة صاحبه قبل أن يفارقه باتفاق، وبعد أن فارقه على ما ذكرناه من الاختلاف فوق هذا في مسألة الرجلين يشتريان الدينار بينهما، وعلى مراعاة ما يجب لكل واحد منهما عليه أن يقبضه مصارفة صرفا؛ لأنهما قبضا الدينار بينهما فيما وجب لهما عليه من الدراهم، وفيما دفعا إليه من الدراهم أيضا، فجاز إن قبضا الدينار جميعا، أو قبضه أحدهما بأمر صاحبه قبل أن يفارقه باتفاق، أو بعد أن فارقه على ما ذكرناه من الاختلاف، لم يجز أن يكون لرجلين على رجل نصف لأحدهما وثلث للآخر، فيأخذ من الذي له عليه ثلث سدس دينار دراهم ويعطيهما دينارا بينهما.
قال في الرواية: لأنه الحول في الصرف، وفي ذلك من قوله نظر؛ لأنه إنما يكون حولا في الصرف، إذا قبض جميع الدينار الذي كان له منهما نصف دينار؛ ولأنه حينئذ يكون قد أحال بسدس دينار الذي وجب له في الدراهم التي دفع على شريكه الذي قبض جميع الدينار؛ وأما إذا قبضا الدينار جميعا، فإنما لم يجز من أجل أنه لم يبين بالسدس الذي وجب له من الدينار في الدراهم التي دفع لبقاء يد شريكه معه عليه؛ ولو قبض جميع الدينار الذي كان له ثلثه وصارف في سدسه، لجاز ذلك على مذهب أشهب، ولم يجز على مذهب ابن القاسم؛ أصل هذا الدينار يكون بين الرجلين فيصرف أحدهما نصفه من أجنبي، فلا يجوز ذلك عند ابن القاسم، وإن قبض جميع الدينار إذا لم يبين بنصيبه منه، من أجل الشركة التي فيه للشريك، ويجوز عند أشهب إن قبض جميع الدينار؛ لأنه قد ناجز من صارفه إذ لم يبق بينه وبينه شرك، ولا يضر عند شركته في الدينار مع الأجنبي إذا قبض جميع الدينار، وبالله التوفيق.(7/27)
[مسألة: يكون لرجل على رجلين على واحد منهما نصف وعلى الآخر ثلث]
مسألة ولا بأس أن يكون لرجل على رجلين على واحد منهما نصف، وعلى الآخر ثلث، فيعطي أحدهما سدسا ويأخذ منه دينارا، يكون ما بقي من الدينار سلفا منه لصاحبه وقضاء عنه.
قال محمد بن رشد: إنما جاز هذا لأنه قد انفصل بالدينار إذا اشترى سدسه وخلص له، ولا شركة ولا تباعة لأحد عليه فيه، ويرجع الذي دفع الدينار بنصفه على صاحبه؛ لأنه سلف منه له أداه عنه، وبالله التوفيق.
[مسألة: راطل ذهبا بذهب فرجحت إحدى الذهبين]
مسألة وسألت ابن القاسم: عمن راطل ذهبا بذهب فرجحت إحدى الذهبين، أيجعل مع الناقصة دينارا أو اثنين؟ أو راطل دنانير بدنانير فرجحت، أيجعل في الناقصة تبرا؟ فهل ذلك سواء في الوجهين جميعا؟ وما قليل ما يجوز أن يجعل مع قليله وكثيره؟
قال: إذا كان التبر الذي تراطلا به واحدا، فلا بأس أن يزيد من نقص تبره مع تبره دنانير، يعدلها به قل ما يزيد من الدنانير أو كثر، وإنما يكره هذا أن يكون أحد الذهبين أجود من الآخر، فيجعل الدنانير مع الرديئة من التبر، فيكون حينئذ هذا الذي جعل الدينار قد أخذ فضول دنانيره في فضل تبر صاحبه على تبره؛ وكذلك الدنانير يراطل بها فينقص إحداهما، لا بأس أن يزيد مع الناقصة ما شاء من التبر، قل أو كثر يعدلها به إذا كانت عيون(7/28)
الدنانير واحدة، فإن كانت النقص من الدنانير أفضل من الأخرى، لم يصلح أيضا أن يجعل التبر مع الجيدة من العين فيأخذ صاحبها فضل عيونها بما ألقي معها من التبر، فإن كان تبرا منفردا في إحدى الكفتين ليس معه غيرها، وفي الأخرى دنانير فلا بأس بذلك، كان التبر أفضل من تبر العيون، أو كان مثله إذا كان تبرا واحدا. وقال أصبغ مثله.
وسئل: عن الرجلين يراطلان يخرج أحدهما عشرة عتقاء ويخرج الآخر خمسة عتقاء، وخمسة هاشمية، قال: ليس بهذا بأس.
قال محمد بن رشد: هذا كله صحيح على ما في المدونة، جائز أن يراطل الرجل ذهبا بذهبين إذا كانت الذهب أدنى من الذهبين جميعا، أو أفضل منهما جميعا، أو مثل إحداهما؛ وذهب سحنون إلى أنه لا يجوز مراطلة ذهب بذهبين كانت أدنى منهما أو أفضل منهما جميعا، أو مثل أحدهما للذريعة، قياسا على ما قال مالك في المدونة من أنه لا يجوز مد قمح ومد شعير بمد قمح ومد شعير وإن استوى ذلك للذريعة.
وأما إذا كانت الذهب التي راطل بها الذهبين أفضل من إحداهما ودون الأخرى، فلا تجوز المراطلة باتفاق؛ لأن صاحب الذهبين لم يرض أن يراطله بذهبه التي هي أطيب من ذهبه لولا ما دخل معها من الذهب التي هي دون ذهبه، وأما إذا راطل ذهبا بذهب فذلك جائز باتفاق، وإن كانت إحدى الذهبين أفضل من الذهب الأخرى من وجه، وأدنى منها من وجه آخر، مثل أن يراطله بتبر ذهب أحمر طيب بحلي ذهب مصوغ، أو دنانير مضروبة تبرها دون تبر الذهب الإبريز؛ وإن كان قد علم أن صاحب التبر الإبريز لم(7/29)
يكن يرضي أن يراطله بتبره الجيدة إلى تبره التي هي دونها في الجودة لولا صياغتها أو سكتها؛ لأن الصياغة والسكة في المراطلة ملغاة. ورد ابن حبيب مسألة المبادلة في الطعامين بالطعام إلى مسألة المراطلة، فأجاز ذلك إذا كان الفضل من جهة واحدة، خلاف ما ذهب إليه سحنون من رده مسألة المراطلة في ذلك إلى مسألة المبادلة، وكان الشيوخ يختلفون في مراطلة الذهب الخالص بالذهب التي ليست بخالصة، كالمراطلة بالعبادية والعبادية بالنصفية ونحو ذلك، فمنهم من كان يجيز ذلك قياسا على قول أشهب في إجازته مبايعة الدراهم الستوق الزيوف بالدراهم الجياد وزنا بوزن، ومنهم من كان لا يجيز ذلك لما فيه من التفاضل بين الذهبين، ويقول: إنما معنى قول أشهب في اليسير من الدراهم قياسا على ما أجازوا من بذل الوازن بالناقص في العدد اليسير من الدنانير على وجه المعروف، وهو الصحيح من الأقوال والله أعلم.
وقد كان شيخنا أبو جعفر بن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: لا تجوز مراطلة الذهب العبادية بالذهب العبادية، ولا النصفية بالنصفية؛ لأنها ذهب وفضة بذهب وفضة، أو ذهب ونحاس بذهب ونحاس. وذلك إغراق لا أقول به، بل أرى ذلك جائزا؛ لأن الفضة التي مع هذه كالفضة التي مع هذه، والنحاس التي مع هذه، كالنحاس التي مع هذه، فلا يُتْقَى في هذا ما يُتْقَى من ذهب وفضة منفصلين بذهب وفضة منفصلين؛ لأنه لم يكن يراطله الذهب بالذهب، لولا ما أضاف إليها من الفضة.(7/30)
[مسألة: اشترى من رجل ثوبا بثلثي دينار ونصف قيراط]
مسألة قال أصبغ: سمعت أشهب، وسئل: عن الرجل اشترى من رجل ثوبا بثلثي دينار ونصف قيراط، فدفع إليه قطعة فيها ثلثا دينار، وأعطاه بالنصف قيراطا ورقا. قال: لا بأس بذلك فيما دون الدينار، وما دون الدينار فهو مجموع.
قال محمد بن رشد: أجاز هذا هاهنا واستثقله في رسم البيوع الثاني بعد هذا، وقوله وما دون الدينار فهو مجموع، يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما: أن يكون إنما قال فيه بأنه مجموع، إذ العرف في البلدان أن الناس يتبايعون فيما دون الدينار من الذهب بذهب مجموع موزون، والثاني: أن يكون أراد أن له حكم المجموع في جواز أن يأخذ ببعضه ذهبا، وبما نقص ورقا وإن لم يكن مجموعا، فالإجازة هاهنا على التأويل الأول بينة لا معنى للاستثقال فيه؛ لأن من له ذهب مجموعة فجاز له إذا اقتضاها أن يأخذ بما نقص من حقه دراهم أو ورقا، أو ما شاء من العروض.
وقول أصبغ فيما يأتي في رسم البيوع: وما كان دون الدينار فهو مجموع وبمنزلة المجموع، كلام غير محصل، إذ لا يصح أن يكون مجموعا وبمنزلة المجموع، إما أن يكون مجموعا على أحد التأويلين، أو غير مجموع على التأويل الثاني، وقد مضي بيانهما، وتفسير الحكم فيهما، والكراهة في رسم البيوع الثاني بعد هذا على التأويل الثاني؛ لأن الواجب له عليه أعني على التأويل الثاني صرفه من الدراهم، فإذا أخذ في الدراهم الواجبة له عليه ذهبا وورقا في مجلس واحد وجب أن لا يجوز، ولو كان ذلك في مجلسين لجاز، مثل أن يأتيه فيأخذ منه درهما أو درهمين من ورق، ثم ينصرف عنه ويأتيه في مجلس آخر فيأخذ منه بقية(7/31)
دراهمه ذهبا، ولو أخذ منه في مجلس واحد بعض ما له عليه من الدراهم وبقيتها ذهبا لجاز، وإنما استثقل على هذا التأويل أن يأخذ منه فيما دون المثقال ذهبا وبقيراط ورقا، ولم يقل إن ذلك لا يجوز؛ لأنه استخفه ليسارة القيراط، ورأى التهمة في ذلك عنه مرتفعة لقلته.
[مسألة: اشترى ثوبا بدينار إلا ثمنا فدفع إليه الدينار وأخذ عنه الثمن]
مسألة قيل له: فرجل اشترى ثوبا بدينار إلا ثمنا، فدفع إليه الدينار وأخذ عنه الثمن. قال: لا بأس بذلك، قيل له: فرجل اشترى بدينار إلا درهما أو درهمين، فدفع إليه الدينار وأخذ الدرهم أو الدرهمين، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هاتان المسألتان من قول أشهب مخالفتان لقوله في المدونة، ولقول ابن القاسم فيها وروايته عن مالك، وخارجة عن الأصول؛ لأنه ذهب بسلعة ودراهم إلى أجل في المسألتين جميعا، ولا أعلم من يجيز ذلك في المذهب إلا ابن عبد الحكم في أحد قوليه، والفساد في المسألة الأولى أشد؛ لأنه إذا اشترى ثوبا بدينار إلا ثمنا، فإنما وقع شراؤه بسبعة أثمان دينار، يجب عليه صرفها من الدراهم، فصار البائع قد اشترى من المبتاع الدينار الذي أخذ منه بالدراهم(7/32)
التي وجبت عليه، وبدراهم يزيده إياها إلى أجل، فهو صرف خارج عن البيع تأخر فيه بعض النقد، فيجب إذا وقع هذا أن يفسخ الصرف وينفذ البيع، إلا أن يكون باع منه السلعة بدينار إلا ثمنا على أن يدفع إليه دينارا ويؤخر صرف الثمن، فيفسخ البيع والصرف. وأما الذي اشترى السلعة بدينار إلا درهما أو إلا درهمين، فالمعنى في ذلك أنه اشترى السلعة ودرهما أو درهمين بدينار، فيجوز عند ابن القاسم إذا تعجلت السلعة أن يتأخر الدينار والدرهم أو الدرهمان إلى أجل واحد، ولا يجوز عنده أن يتعجل الدينار والدرهم أو الدرهمين وتتأخر السلعة؛ ويجوز ذلك عند أشهب، ولا يجوز عند واحد منهما أن يتأخر الدينار عن الدرهم، ويجوز ذلك عند ابن عبد الحكم في أحد قوليه. ويحتمل أن يكون إنما تكلم على أن البيع وقع بينهما على النقد ثم أخره بالدرهم أو الدرهمين على غير شرط كان في أصل عقد البيع فأجاز ذلك مراعاة للخلاف، كما أجاز في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم البدل في ذلك مراعاة للخلاف، وبالله التوفيق.
[اشترى ثوبا بنصف دينار فدخل في النصف دينار خمسة عشر درهما]
ومن كتاب الوصايا والأقضيات قال أصبغ: سمعت ابن وهب: وسئل: عن رجل اشترى ثوبا بنصف دينار، فدخل في النصف دينار خمسة عشر درهما، ودفع إليه فيه دراهم وباعه مرابحة وانتقض الصرف. قال: إن كان نقده فيه دراهم فله عدد الدراهم، وإن كان أعطاه دينارا فصرفه فأخذ نصفا(7/33)
ورد على المشتري نصفا، فله نصف دينار بالغا ما بلغ. قيل له: فإنه نقد فيه دراهم خمسة عشر درهما، ثم باع مرابحة وقد انتقض الصرف ولم يبين، قال: لو كان درهما واحدا بدينار إذا فات الثوب، فله ما نقد الخمسة عشر درهما، وإن كان الثوب لم يفت فهم على رأس أمرهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه باع على ما عقد عليه من الذهب ولم يبين ما نقد فيه من الدراهم، وقوله وإن كان نقد فيه يريد المشتري الذي اشترى مرابحة دراهم فله عدد الدراهم، وإن كان أعطاه دينارا فصرفه وأخذ نصفا ورد على المشتري نصفا فله نصف دينار بالغا ما بلغ، يريد: إذا كانت السلعة قائمة لم تفت صحيح؛ لأن الواجب فيها إذا كانت قائمة لم تفت، رد البيع إذا لم يرضه المبتاع؛ فإذا رد رجع بما دفع.
وأما قوله إنه إذا باع على ما عقد عليه من الذهب ولم يبين ما نقد فيه من الدراهم وقد حال الصرف بنقصان، أن له إذا فات الثوب ما نقد الخمسة عشر درهما- ولو كان الصرف قد حال إلى درهم واحد- بعيد في النظر، خارج عن الأصول، خلاف لما في المدونة والواضحة وغيرهما من الدواوين، فهو من الغلط الذي لا يعصم منه البشر، وإنما يكون له إذا فات الثوب ما نقد إذا حال الصرف بزيادة، فكان ما نقد خيرا للمشتري، وقد نص في المدونة على ذلك فقال: إن الثوب إذا فات يصرف له الربح على ما نقد إذا كان خيرا للمشتري، إذ لا يصح أن يلزم المشتري إذا فات الثوب ما نقد البائع فيه إذا كان ذلك أكثر مما اشترى عليه ورضي به إلا باختياره، وإنما الحكم في ذلك أن يكون عليه قيمة الثوب، إلا أن يكون أكثر مما نقد البائع فيه فلا يزاد عليه، أو يكون أقل(7/34)
مما اشترى عليه ورضي به فلا ينقص منه على حكم من باع سلعة بثمن ما مرابحة، ثم جاء بعد أن فات أنه اشتراها بأكثر من ذلك. وقد قال ابن دحون على إتباع ظاهر هذه الرواية أن الحكم فيها حكم من ابتاع سلعة بعشرة وصبغها بعشرة وباعها مرابحة بعشرين: إن المشتري يخير في القيام ويمضي بالثمن في الفوات، وهو غلط بين، إذ لا شبه بينها وبينها، فالحكم في هذه المسألة: إذا اشترى الرجل سلعة بنصف دينار فقد صرفه خمسة عشرة درهما، ثم باعها مرابحة على أن شراءها نصف دينار، ولم يبين ما نقد فيه من الدراهم، أن ينظر إلى صرف النصف الدينار من الدراهم يوم باعها مرابحة، فإن كان أقل من خمسة عشر درهما والسلعة قائمة، خير المشتري بين أن يأخذها على أن شراءها خمسة عشر درهما أو يتركها، إلا أن يشاء البائع أن يسلمها له على ما باعها عليه من أن شراءها نصف مثقال، وإن كانت السلعة قد فاتت ولم يرض المشتري أن يربحه على ما فقد فتكون عليه القيمة، إلا أن تكون أكثر من الخمسة عشر درهما وربحها، فلا يزاد البائع على ذلك، أو يكون أقل من صرف الدينار يوم اشتراها مرابحة، والربح على ذلك فلا ينقص من ذلك؛ لأنه قد رضي به، وإن كان صرف نصف الدينار يوم اشترى المشتري مرابحة أكثر من الخمسة عشر درهما التي نقد البائع فيها والسلعة قائمة، خير البائع بين أن يسلمها له بالخمسة عشر درهما التي نقد فيها أو يأخذ سلعة، إلا أن يرضى المبتاع بأخذها على ما اشتراها عليه من أن شراءها نصف دينار، فيؤدي صرفه بالغا ما بلغ، وما يجب لذلك من الربح؛ وإن كانت السلعة قد فاتت، فهنا قال في المدونة وغيرها: إنه يكون على المبتاع الخمسة عشر درهما التي نقد البائع فيها، وقد كان القياس أن يكون في ذلك القيمة معتبرة أيضا بالأقل والأكثر، إلا أنهم لم يقولوا ذلك. وقوله في الرواية: وباعه مرابحة وانتقض الصرف، معناه: وباعه مرابحة بعد أن انتقض الصرف على أن شراء نصف دينار ولم يبين ما نقد فيه، وعلى هذا أتى جوابه في المسألة، والله أعلم.(7/35)
[اشترى ثوبا أو سلعة باثنين وعشرين قيراطا]
ومن كتاب البيوع الثاني وسئل: عمن اشترى ثوبا أو سلعة باثنين وعشرين قيراطا، فأعطاه دينارا فيه أحد وعشرون قيراطا وأعطاه القيراط ورقا. قال: إنه لثقيل، قال أصبغ: لا بأس به فيما دون الدينار، وما كان دون الدينار فهو مجموع وبمنزلة المجموع، فلا بأس به في المجموع أن يعطي بعضها ذهبا وما نقص ورقا، وكذلك ما زاد على الدينار؛ قيل لابن القاسم: فلو أعطاه دينارا فيه الاثنان والعشرون قيراطا، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى قبل هذا في رسم البيع والصرف فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يشتري الدراهم بدينار ثم يبيعها في مقامه قبل أن يقبضها وقبل أن يستوفيها]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يشتري الدراهم بدينار، ثم يبيعها في مقامه قبل أن يقبضها وقبل أن يستوفيها. قال: لا بأس بذلك إذا قبضها هو ودفعها إلى مشتريها منه. فأما أن يقول له قبل أن يقبضها ادفعها إليه فلا خير فيه، قال أصبغ: ولو باعها المصرف نفسه من الصراف نفسه قبل أن يقبضها بما يجوز له بيعه، لم يكن به بأس.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يجوز أن يبيع الدراهم الواجبة له من صرف الدنانير قبل قبضها إلا أن يقبضها هو فيدفعها إلى المشتري، صحيح على مذهبه في أن الحوالة في الصرف لا تجوز وإن قبض المحال من المحال عليه قبل مفارقة الذي أحاله، خلاف قول سحنون؛ وقد مضى(7/36)
ذلك في آخر رسم القبلة من سماع ابن القاسم، ويأتي على قول سحنون في إجازة الحوالة في الصرف إذا قبض المحال من المحال عليه قبل مفارقة الذي أحاله، أن يجوز أن يبيع الدراهم التي وجبت له على الصراف من الصرف من غير الصراف فيحيله على الصراف ويقبضها منه بحضرته؛ وأما بيعه إياها من الصراف نفسه قبل أن يقبضها منه، فذلك جائز على ما قال، إذا باعها منه بما يجوز له به بيعها منه، وهو يجوز له أن يبيعها منه بما شاء من العروض يدا بيد، وبما شاء من الورق والدراهم مراطلة، وقد مضى في رسم شك ما يجوز له أن يبيعها به منه من الذهب مما لا يجوز، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: كل ما لم يكن عند الناس تسمية درهم فلا بأس بالقطع منه]
مسألة قال ابن القاسم: كل ما لم يكن عند الناس تسمية درهم، فلا أرى بأسا بالقطع منه. يريد: أنه لا بأس أن يقطع، يريد كل ما لم يكن منه مدورا، قال أصبغ: فيكره الصرف والبيع مخافة أن يئول إلى الصرف المتأخر باستحقاق السلعة بعد قبضها منه وقد جرى الصرف في الجميع فجرى الصرف في البيع والبيع في الصرف، ومكروه البيع مع النكاح أن يئول ذريعة إلى أن يكون الفرج أبيح بلا صداق، ويكون الثمن كله للسلعة وقدرها، ويبقى الفرج مرهونا بلا صداق وإن صح مرة فهو ذريعة ردا عنه، والنهي لجميع العام والخاص مخافة الذرائع؛ وأما الشركة والبيع فهو شركة بإفضال ونقصان، والشركة لا تجوز إلا باعتدال، وأما القراض والبيع فهو قراض بزيادة، وكذلك المساقاة وهي في أكثر النسخ.(7/37)
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم تأخير صلاة العشاء في الحرس من سماع ابن القاسم وغيره، فلا معنى لإعادته.
[كان له على رجل نصف دينار إلى أجل فدفع إليه الذي له الحق نصف دينار دراهم]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر
قال أبو زيد: سئل ابن القاسم: عن رجل كان له على رجل نصف دينار إلى أجل، فدفع إليه الذي له الحق نصف دينار دراهم، وأخذ منه دينارا قبل الأجل. قال: لا خير فيه، قيل له: فإن أعطاه عرضا بالنصف وهو لا يساوي إلا الثلث أو نصفا، قال مالك: لا أرى به بأسا. وكرهه ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: لم يجز مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يأخذ منه دينارا قبل الأجل على أن يعطيه بالنصف دراهم، وأجاز أن يأخذه منه قبل الأجل على أن يعطيه بالنصف عرضا، وساوى ابن القاسم بينهما فلم يجز ذلك في العرض ولا في الدراهم، وهو القياس، وإياه اختار ابن المواز؛ لأن تعجيل نصف الدينار سلف فلا يجوز أن يقارنه بيع، كما لا يجوز أن يقارنه صرف، ولابن القاسم فيما يأتي في هذا السماع مثل قول مالك، فإنما أجاز ذلك مالك وابن القاسم في أحد قوليه في البيع؛ لأنهما استخفاه فيه لقلته، ولم يستخفاه في الصرف؛ لأنه أضيق من البيع؛ ألا ترى أن البيع والسلف إذا ترك الذي اشترط السلف أو رده على الاختلاف في ذلك، جاز البيع، والسلف يفسخ باتفاق، ولا يجوز في قول قائل أن يمضي الصرف وإن رضي مشترط السلف بتركه.
[مسألة: أعطى صرافا دينارا قائما وأخذ دينارا بحبة وقطعة ذهب فيها حبة عينا بعين]
مسألة وسئل: عن رجل أعطى صرافا دينارا قائما وأخذ دينارا بحبة(7/38)
وقطعة ذهب فيها حبة عينا بعين، قال: لا بأس به. قيل له: فإن أعطاه ثلاثة دنانير قائمة ودينارا بخروبة، فأخذ أربعة بحبة حبة وازنة بها. قال: إذا لم يكن في عين الدينار الذي بخروبة فضل عن الذي أخذ أن لو كان الذي بخروبة قائما، لكان له فضل في عينه على الدينار التي أخذ لو كانت قائمة فلا بأس.
قال محمد بن رشد: أما الذي راطل دينارا قائما بدينار بحبة وقطعة ذهب فيها حبة، فذلك جائز كما قال، وإن كانت قطعة الذهب أفضل تبرا من المثقال القائم، أو الدينار الذي بحبة أدنى منه، أو قطعة الذهب أدنى، والدينار الذي بحبة أفضل؛ لأن الحبة يسيرة، إنما دخلت في المراطلة ليعدل بها الميزان، ولتحصل بها المماثلة، فلا يتهمان في ذلك. وأما الذي راطل ثلاثة دينار قائمة ودينارا بخروبة، فأخذ بها أربعة بحبة حبة موازنة بها، فإنه أجاز ذلك بشرط لا يستقيم أراه وهما، وذلك أن الدينار القائمة أفضل لا شك من الدنانير التي بحبة حبة، فلا يجوز أن تدخل مع الدنانير القائمة في مراطلته بها الدنانير التي بحبة حبة، إلا ما يكون مثل الدنانير التي بحبة حبة أو أفضل منها، ليكون الفضل من جهة واحدة؛ وأما إن دخل معها ما يكون دون الدنانير التي بحبة حبة، فلا تجوز المراطلة؛ لأنه حينئذ يكون قد أخذ فضل دنانيره القائمة على دنانير صاحبه التي بحبة حبة بما أدخل معها مما هو دون دنانير صاحبه التي بحبة حبة؛ فكان يجب على هذا أن يقول: إن ذلك جائز إذا لم يكن في عين الدينار الذي بخروبة نقصان عن الذي أخذ أن لو كان الذي بخروبة قائما، لكان له نقصان في عينه ... إلى آخر قوله، وأن يقول: إن ذلك جائز إذا كان في عين(7/39)
الدينار الذي بخروبة فضل إلى آخر قوله فتستقيم المسألة. وأما قوله إذا لم يكن في عين الدينار الذي بخروبه فضل إلى آخر قوله، فلا يستقيم ولا يصح، وقد خفف ذلك محمد بن المواز في ظاهر قوله. وتحصيل القول في هذه المسألة أن النقصان من أوزان الدنانير حبة حبة، أو خروبة خروبة إن كان لا يعيبها فلا ينقص من قيمتها إلا ما نقص من وزنها وكان يعيبها عيبا متساويا، فلا ينقص من قيمة الناقص خروبة إلا ما ينقص من قيمة الناقص حبة، فالمراطلة فيها جائزة؛ لأن النقصان إن كان لا يعيبها، فلا تفاضل في المراطلة بها وإن كان يعيبها عيبا متساويا بالتفاضل في المراطلة من ناحية واحدة. وأما إن كان عيب الناقص منها خروبة أكثر من عيب الناقص منها حبة فالمراطلة فيها غير جائزة؛ لأن صاحب الدنانير الثلاثة القائمة أخذ فضل دنانيره القائمة على دنانير صاحبه الناقصة حبة حبة بما جعل معها من الدينار الناقص خروبة.
[مسألة: يأتي بدنانير جعفرية ولعيونها فضل فيصارف بها دنانير مثاقيل]
مسألة وسئل: عن رجل يأتي بدنانير جعفرية ولعيونها فضل، فيصارف بها دنانير مثاقيل ويجعل مع الدنانير الجعفرية قراضة حتى يعتدل الميزان فيأخذ ويعطي، قال: إن كان صاحب الدنانير الجعفرية إنما جعل القراضة فيها ليعتدل بها فضل عيون دنانيره فلا خير فيه، وإن كان إنما جعل القراضة فيها ليعتدل بها عين الميزان، فلا بأس به مثل الثمن والسدس أو الثلث فلا بأس به. قيل له: فإن كان في القراضة دينار، قال: لا خير فيه ولا في أن يجعل في الجعفرية دينارا قبيحا.(7/40)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى لا يسع الخلاف فيها وتحديده في مقدار ما يستخف في ذلك مما يقصد به إلى تعديل الوزنة إلى اعتدال إدراك الفضل: الثمن والسدس والثلث، إنما معناه في مقدار ما يستخف فيه ذلك مما يقع فيه المراطلة من عدد الدنانير على قدر قلتها وكثرتها، فلا يستخف في الدينار الواحد إلا الحبة ونحوها، كما مضى في المسألة التي فوق هذه؛ والعشرة دنانير ونحوها يمكن أن يستخف فيها الحبتان والثلاث والثمن في مثل العشرين والثلاثين، والسدس في مثل الخمسين والستين، والثلث في مثل المائة والمائتين؛ وأما المثقال فهو كثير في نهاية ما يحمل في موازين الأذهاب المعروفة من الأوزان.
[مسألة: صرف من رجل دينارا بدراهم فوجد الصراف قد سرق من وزنها]
مسألة وسئل: عمن صرف من رجل دينارا بدراهم فذهب بوزنها فوجد الصراف قد سرق من وزنها أو غلط، فأراد أن يتجاوز النقصان مخافة أن ينتقض الصرف. قال: ليس ذلك له، قيل له: ولا الشيء اليسير، قال: لا. وقال: قد كان قبل ذلك يقول إذا كان الشيء اليسير قدر الدانق أو نصف الدانق، فلا بأس أن يتجوزه ولا ينتقض الصرف.
قال محمد بن رشد: قوله وقد كان يقول قبل ذلك إذا كان الشيء اليسير قدر الدانق أو نصف دانق فلا بأس أن يتجوزه ولا ينتقض الصرف، وليس باختلاف من قول ابن القاسم، وإنما يرجع ذلك إلى أن ما كان مما يمكن أن يختلف فيه الموازين، فجائز أن يتجاوزه ولا ينتقض الصرف، وما كان مما لا يمكن أن تختلف فيه الموازين فلا يجوز أن يتجاوزه، ولا(7/41)
ينتقض الصرف. فقوله أولا ولا الشيء اليسير، معناه: ولا الشيء اليسير الذي تتفق الموازين على نقصانه. وقوله آخرا إذا كان الشيء اليسير قدر الدانق ونصف الدانق، معناه: فيما كان من العدد يمكن أن تختلف فيه الموازين، وقد قاله أصبغ في الدرهم من الألف، وذلك أن الموازين قد تختلف على هذا المقدار؛ وأشهب يرى أن الصرف يجوز ولا ينتقض إذا تجاوز النقصان وإن كثر؛ وأما إذا أراد أن يرجع بالنقصان فيأخذه، فلا يجوز إلا على مذهب من أجاز البدل في الصرف، فهذا هو الحكم فيما تأخر من الصرف بغير قصد إلى ذلك بعد وقوعه على المناجزة؛ ولو علم بالغلط أو النقصان قبل أن يفارقه أو استحق منها شيئا قبل أن يفارقه، لجاز أن يأخذ النقصان، ولا ينتقض الصرف عند ابن القاسم، وقال أشهب: يلزمه ذلك.
وأما إن كانت دراهم بأعيانها فلا يلزمه ذلك إلا أن يشاء، فإن لم يرد أن يعطيه ما نقص أو استحق، انتقض الصرف، وقد مضى في آخر رسم القبلة من سماع ابن القاسم القول على الصرف إذا انعقد على المناجزة، ثم أخر أحدهما صاحبه بشيء منه، وإذا انعقد على أن يتأخر منه شيء، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: ان لي على رجل ثمانية قراريط فقضاني منها دراهم فوجدت درهما منها زائفا]
مسألة قال ابن القاسم: لو كان لي على رجل ثمانية قراريط فقضاني منها دراهم، فوجدت درهما منها زائفا، أينتقض قيراط من الثمانية ولا تنتقض القراريط كلها، وإن كان درهمين زائفين انتقض قيراطان.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة إذا كان إنما أخذ بالثمانية قراريط ثمانية دراهم، وأما لو أخذ بالثمانية قراريط أقل منها، أو أكثر من الدراهم الوازنة بسبعة أو تسعة، فوجد فيها درهما زائفا لانتقض من(7/42)
القراريط ما يجب للزائف؛ هذا إن كانت القراريط مجموعة مقطوعة تجري بالوزن، وأما إن كانت صحاحا لا تقطع، فلا سبيل إلا إلى انتقاض الصرف كله، إذ لا يتبعض درهم من الدراهم أيضا، وقد مضى بيان هذا في رسم نقدها ورسم العرية من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: كان لي على رجل عشرة دراهم فأعطاني بها عشر خراريب ذهب قراضة]
مسألة وقال: لو كان لي على رجل عشرة دراهم، فأعطاني بها عشر خراريب ذهب قراضة، فوجدت فيها قيراطا من ذلك التبر نحاسا أو رديئا، انتقض درهم واحد فقط، ولم ينتقض الدراهم كلها.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال لا فرق بين أن يصارف دنانير وازنة بدراهم مقطوعة أو تبر فضة، وبين أن يصارف دراهم وازنة بتبر ذهب أو دنانير مقطوعة مجموعة في أنه إذا وجد في صرف الدنانير الوازنة درهما رديئا انتقض صرف دينار، إلا أن يكون الذي وجد رديئا أكثر من صرف دينار، فينتقض صرف دينارين كذا أبدا، وفي أنه إذا وجد في صرف الدراهم الوازنة خروبة من التبر رديئا انتقض صرف درهم، إلا أن يكون الذي وجد رديئا من التبر أكثر من صرف درهم، فينتقض صرف درهمين كذا أبدا. وأما إذا صرف دنانير وازنة بدراهم وازنة لا تنقسم على عدد الدنانير إلا بكسر، فوجد في شيء من الدنانير أو الدراهم زائفا، فإن الصرف كله ينتقض على ما مضى القول فيه قبل هذا في الموضع المذكور فيه.
[مسألة: القراريط التي يتبايع الناس أربع وعشرون قيراطا بدينار]
مسألة قال ابن القاسم: كلمنا مالكا في القراريط التي يتبايع الناس(7/43)
أربع وعشرون قيراطا بدينار، فكرهه، وقال: لا أعرف هذا ولم يرخص لنا فيه، قال ابن القاسم: لا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: معناه في القراريط التي تضرب من الذهب كل قيراط من ثلاث حبات، فتكون زنة المثقال أربعة وعشرين قيراطا، فيعطي الرجل المثقال ويأخذ أربعة وعشرين قيراطا معدودة بغير مراطلة، فكره ذلك مالك، إذ لا يخلو من أن يزيد في وزنها على المثقال أو ينقص منه؛ لأن الشيء إذا وزن مجتمعا ثم فرق زاد أو نقص؛ فقول مالك في كراهية ذلك هو القياس، لا سيما والصرافون يزعمون أن الدراهم إذا وزنت مفرقة ثم جمعت نقصت، فيكون صاحب القراريط إنما ترك فضل عدد قراريطه بفضل عين الدينار الوازن، وما يرجو من زيادة وزنه على وزن قراريطه، وأجازه ابن القاسم استحسانا على وجه المعروف في الدينار الواحد، كما أجازوا مبادلة الدينار الناقص بالوزن على وجه المعروف.
[مسألة: يكون له علي ثلاثة أرباع الدينار فأدفع إليه دينارا فيه ثلثا دينار]
مسألة وقال في رجل يكون له علي ثلاثة أرباع الدينار فأدفع إليه دينارا فيه ثلثا دينار، وأدفع إليه قيراطين من ذهب، قال: أرجو أن يكون خفيفا وما هو بالبين.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة في الجواز لا إشكال فيها؛ لأنه قبض ذهبا من ذهب ترتبت له في ذمتك، فإن كانت مجموعة فقبض مجموعا من مجموع، وإن كانت قائمة غير مجموعة فقبض ذهبا من دراهم يجب له عليك في الثلاثة الأرباع التي لا تقدر على أن تقضيه إياها ذهبا.(7/44)
[مسألة: يصرف دينار من رجلين فيذهب أحدهما وتخلف الآخر على أخذ الدينار]
مسألة وقال: لا بأس بصرف دينار من رجلين فيذهب أحدهما وتخلف الآخر على أخذ الدينار.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم طلق من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته وقد تقدمت أيضا في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ.
[مسألة: كان لرجل علي نصف دينار ولآخر علي ثلث دينار]
مسألة قال: ولو كان لرجل علي نصف دينار، ولآخر علي ثلث دينار، فأردت أن آخذ من الذي له علي الثلث دينار سدس دينار، وأدفع الدينار إليهما، لم يكن فيه خير.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ فلا معنى لإعادته.
[مسألة: رجل له على رجل نصف دينار فأعطاه قراضة فيها نصف دينار]
مسألة وسئل: عن رجل له على رجل نصف دينار، فأعطاه قراضة فيها نصف دينار، قال: أرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: لا معنى لقوله في هذه أرجو؛ لأن الجواز فيها بين لا شبهة فيه ولا لبس؛ لأنه قضاه مجموعا عن مجموع أو عن دراهم يجب عليه في النصف إن كان غير مجموع.(7/45)
[مسألة: كان له على رجل دينار فأعطاه قراضة فيها دينار إلا قيراط]
مسألة قيل له: فكان له على رجل دينار فأعطاه قراضة فيها دينار إلا قيراط، قال: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز هذا؛ لأنه قضاه مجموعا عن قائم أقل وزنا، فاغتفر له زيادة الوزن وفضل العين لفضل العدد، وهذا على ما في المدونة وغيرها لا اختلاف فيه.
[مسألة: رجل كان لي عليه دينار فجئت لأقتضيه فدفع إلي عشرة دراهم]
مسألة وقال في رجل كان لي عليه دينار فجئت لأقتضيه، فدفع إلي عشرة دراهم، ثم جئت من الغد فقلت له: انظر كيف الصرف فقاضني بعشرة وادفع إلي ما بقي. قال: لا بأس به إذا كان أنفق العشرة وصارت دينا عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا أنفق العشرة وصارت دينا عليه، جاز أن يقاضه بالعشرة ويأخذ منه تمام صرف الدينار؛ لأن ما في الذمة كالعين الحاضرة، فقد أخذ منه في الدينار الذي كان له عليه عشرين درهما عشرة يقبضها من نفسه لنفسه، وعشرة يأخذها منه؛ وكذلك كان يجوز له إذا أنفق العشرة وصارت دينا عليه أن يقاضه بها من نصف دينار ويتبعه بالنصف الآخر؛ لأنه كان يجوز له أن يأخذ منه صرف نصفه ويبقى له عليه باقي ديناره، إلا أنه فعل ذلك فلا يجوز له أن يأخذ باقيه ذهبا.
ولا يجوز له أن يحاسبه بالعشرة قبل أن ينفقها وتصير دينا عليه وهي في بيته حتى يحضرها؛ وقد أدخل ابن أبي زيد هذه المسألة في النوادر ووصل بقوله وصارت دينا عليه - المسألة التي تأتي بعد هذا، فقال: ولو كان قبضها على وجه القضاء من غير صرف ثم علم مكروه ذلك فأراد أن يأخذ ما بقي ويحاسبه،(7/46)
فلا خير فيه وليرد الدراهم. قال: ولو فسخ الأمر بينهما حتى تصير الدراهم دينا عليه، جاز أن يصارفه مكانه ويحاسبه بها، وإن لم يردها وزاد فقال وهذا إذا كان الفسخ قد ثبت بقضاء فجعلهما مسألتين، ورأى أنه لا يصدق في أنه قد أنفقها إذا كان قبضها على وجه القضاء من غير صرف، بخلاف إذا قبضها على غير وجه القضاء، وليس بين الموضعين فرق بين، بل كان أحرى أن يصدق أنه قد أنفقها إذا قبضها على وجه الاقتضاء، ولم يقبضها على وجه الأمانة، وفي تراضيهما بالفسخ دون حكم حاكم اختلاف، وقد مضى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم.
[مسألة: اشترى حليا كثيرا ذهبا وأسورة وخلاخل وغير ذلك في صفقة واحدة بدراهم]
مسألة وقال فيمن اشترى حليا كثيرا ذهبا وأسورة وخلاخل وغير ذلك في صفقة واحدة بدراهم، فوجد فيها درهما زائفا، قال: يفسخ البيع كله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أنه إذا اشترى أصنافا من الحلي في صفقة واحدة، فوجد في الدراهم درهما زائفا، أن البيع يفسخ كله؛ لأن ما ينوب الدرهم الزائف شائع في جميع الحلي، ولا يصح أن ينصرف إلى شيء بعينه منه فينتقض دون غيره إلا مع تراضيهما على ذلك، لاختلاف الأغراض في ذلك، فيئول الأمر إلى التأخير في الصرف، ولو كان الحلي المشترى بالدراهم أعدادا من صنف واحد، فوجد في الدراهم درهم زائف لانتقض الجميع أيضا، إلا أن تستوي كاستواء الدنانير حتى لا تختلف الأغراض فيه فيفسخ منه شيء(7/47)
واحد على معنى ما قد ذكرناه في رسم استأذن من سماع عيسى، وما يأتي في هذا السماع أيضا في الذي يشتري خلاخل وأسورة فيجد في خلخال منها مسمار رصاص.
[مسألة: قال لرجل كيف تبيع الصرف قال أربعة وعشرون رطلا بدينار قائم]
مسألة وسئل: عن رجل قال لرجل كيف تبيع الصرف؟ قال: أربعة وعشرون رطلا بدينار قائم، قال: زن لي بدينار فوزن ما عنده فلم يجد عنده إلا اثنين وعشرين رطلا أو عشرين رطلا، فأعطاه دينارا ينقص قيراطين بحقه. قال: ما يعجبني ولو وجد فيه ثلاثة عشر رطلا أو عشرين رطلا، فأعطاه بها دينارا، ينقص سدسا أو دينارا فيه ثلثان لم يكن به بأس.
قال محمد بن رشد: ذكر ابن المواز مسألة الصرف في كتابه وقال في قوله لا يعجبني: هو عندي خفيف؛ لأنه من اشترى وزنا من شيء بعينه فلم يجد ذلك فيه، لم يجب على البائع أن يأتي بتمامه، ووجبت فيه المحاسبة؛ وكذلك قال فضل ليس لكراهيتها معنى، ومعنى الكراهية في ذلك عندي- هو أنه يأتي على مراعاة ما ثبت في الذمة من الذهب اقتضاء مجموع بالميزان من قائم لا ميزان فيه، وأما على مراعاة ما يوجبه الحكم من الواجب له صرف ما يجب لما وجد من الصرف من الذهب، فذلك جائز لا مغمز فيه لأنه وجبت له عليه دراهم حالة فأخذ بها ذهبا. وأما تفرقته بين أن يجد في الصرف اثنين وعشرين رطلا، وبين أن يجد فيه ستة عشر رطلا أو عشرين، فلا وجه له بوجه، وإنما هو اختلاف من القول على ما ذكرناه من مراعاة ما ثبت في الذمة من الذهب أو ما يوجبه الحكم من صرفه من الدراهم، قال ذلك مالك والله أعلم- في موطنين، فوجد(7/48)
المؤلف القولين فظنهما قولا واحدا بافتراق الوجهين يجمع بينهما على هذا، والله أعلم.
[مسألة: يكون له عليه نصف دينار إلى أجل فيدفع دينارا قبل الأجل]
مسألة وسئل: عن الرجل يكون له عليه نصف دينار إلى أجل فيدفع دينارا قبل الأجل إلى صاحبه ويأخذ بالنصف الباقي منه ثوبه، قال: لا بأس به، وهو قول مالك.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم خلاف قوله في أول السماع، وقد مضى هناك القول على المسألة فلا معنى لإعادته.
[مسألة: قال لرجل أسلفني نصف دينار قال له خذ هذا الدينار فاصرفه]
مسألة وقال في رجل قال لرجل أسلفني نصف دينار، قال له خذ هذا الدينار فاصرفه فخذ نصفه وائتني بنصفه، قال: أخشى أن لا يكون عليه إلا مثل تلك الدراهم التي أخذ، وإن كان قال خذ هذا الدينار فخذ نصفه وائتني بالنصف فله عليه نصف عين.
قار! محمد بن رشد: ذكر ابن المواز أن أبا زيد قال: لا يعجبني قوله: أخشى، ولا يكون له عليه إلا مثل تلك الدراهم التي أخذ؛ لأنه لو تلف الدينار لم يلزمه فيه شيء لقوله صرفه، وليس اعتراض أبي زيد على ابن القاسم -عندي- بصحيح، والمعنى الذي قال ابن القاسم من أجله أخشى ذلك ولم يحققه، لم يهتد إليه أبو زيد، وذلك أن قوله صرفه يحتمل أن يكون أراد صرفه لي فخذ نصفه وائتني بنصفه، فيكون الضمان في الدينار إن تلف من الدافع، ويكون على المستسلف الدراهم التي قبض في نصف الدينار. ويحتمل أن يكون أراد بقوله صرفه أي صرفه بيننا إذ قد(7/49)
أسلفتك نصفه على ما سألتني فخذ نصفه وجئني بنصفه، فيكون الضمان منهما جميعا في الدينار إن تلف قبل التصريف، ويكون على الذي سأل السلف نصف الدينار الذي قبض سلفا لا الدراهم؛ فلما لم يكن أحد الاحتمالين أظهر من صاحبه عند ابن القاسم، قال: أخشى ولم يحقق الجواب فيما يجب على المستسلف؛ وكذلك لو سئل عن الضمان لتوقف فيه أيضا للاحتمال، كما توقف فيما يجب على المستسلف، والحكم في ذلك إذا لم يغلب أحد الاحتمالين على الآخر أن يسأل المسلف عما أراد من الوجهين، فيصدق في ذلك، قيل: مع يمينه، وقيل: بدون يمين، على اختلافهم في لحوق يمين التهمة، إذ لا يمكن المستسلف أن يدعى على ما نواه، فيجري الحكم على ذلك في الضمان وفيما يجب له في السلف، وإن قال: لم تكن لي نية لم يحكم له بالضمان، وحكمنا له في السلف بالأقل من الدراهم التي قبض في صرف نصف الدينار، أو الأقل من صرفه يوم القضاء، ولو بين في حين الدفع أنه إنما أسلفه نصف الدينار بأن يقول خذ هذا الدينار قد أسلفتك نصفه فصرفه واقبض نصفه وجئني بنصفه، أو بأن يقول: خذ هذا الدينار، فخذ نصفه وجئني بنصفه، لجرى الحكم على ما بين في الضمان وفيما يرد من السلف ولم يكن فيه اختلاف؛ وكذلك لو بين في حين الدفع أنه إنما أسلفه نصف الدراهم بأن يقول: خذ هذا الدينار فصرفه لي وخذ النصف وجئني بالنصف، لجرى الحكم على ما بين أيضا في الضمان وما يرد في السلف، ولم يكن فيه اختلاف أيضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: كان له علي نصف دينار بحبتين فدفع إليه دينارا بحبة]
مسألة وسئل: عن رجل كان له علي نصف دينار بحبتين، فدفعت(7/50)
إليه دينارا بحبة، فقلت: له في دينار فضل فانظرْ كَمْ هو وصرفه فخذ نصف دينار ورد إلي ما بقي، قال: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم سلف في المتاع والحيوان من سماع ابن القاسم القول مستوفى في الرجل إذا كان له على الرجل نصف دينار فأعطاه دينارا ليصرفه ويأخذ نصفه، فأغنى ذلك عن التكلم في هذه، إذ لا فرق بينها وبينها في المعنى، والله الموفق.
[مسألة: اشترى سلعة بنصف درهم فدفع درهما فيه ثلثان وأخذ دانق فلوس]
مسألة وسئل: عن رجل اشترى سلعة بنصف درهم فدفع درهما فيه ثلثان وأخذ دانق فلوس، قال: ما أحب أن أتكلم في هذا، وأبى أن يرخصه، ورأيته في معنى قوله كأنه لا يجيزه، وقال: ما أحب أن أتكلم في مثل هذا فأضيق على الناس.
قلت له: أرأيت إن كان لرجل علي درهم كيل من سلعة اشتريتها منه فدفعت إليه درهما فيه درهم كيل ودانق فأخذت بالدانق منه فلوسا، قال: هذا بين أخبث عندي من الأول، وقال: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: أما المسألة الأولى فالمكروه فيها خفيف والإجازة فيها أظهر؛ لأنه قضاه نصف الدرهم للذي كان عليه، وأخذ منه بالزائد فلوسا، فوجب أن يكون ذلك جائزا؛ ووجه المكروه في ذلك أن الأمر آل بينهما إلى بيع سلعة وفلوس بثلثي درهم السلعة معجلة، والفلوس والدراهم مؤخرة، وذلك خفيف في الفلوس، إذ قد أجيز بيعها بالدنانير والدراهم نظرة.
وأما المسألة الثانية فالمكروه فيها بين ظاهر؛ لأنه فضة بفضة وفلوس إن كان الدرهم الكيل الذي له عليه درهما قائما، وإن لم يكن قائما وكان مجموعا فالإجازة فيها أظهر؛ لأنه قضاه ما كان له عليه وأخذ منه في الزائد فلوسا.(7/51)
[مسألة: يتكارى بدينارين إلا ثلثا دابة بعينها يركبها إلى مكان]
مسألة وعن الرجل يتكارى بدينارين إلا ثلثا دابة بعينها يركبها إلى مكان، فأعطاه صاحب الدابة ثلث دينار دراهم، وأخذ الدينارين ساعتئذ، قال: لا بأس به ولا يؤخر الدينارين إذا صارفه.
قلت: أرأيت إن ركب الدابة فماتت في بعض الطريق، كيف يرجع وقد صارفه الدينارين؟ قال: أرأيت لو بعتك عبدا بعشرين دينارا إلا ثلثا، فأعطيتك ثلثا دراهم وأخذت منك عشرين دينارا، ثم وجدت بالعبد عيبا، كيف ترجع؟ قال: أعطيه العبد والدراهم وآخذ الدنانير. قال: فهكذا يرجع المتكاري. قال ابن القاسم: يرد الكري الدينارين ويأخذ الدراهم ثم يرجع عليه بكراء ما ركب بحساب ما تكارى.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم القول في إجازة هذا الكراء على القول بإجازته، والاختلاف في ذلك، فلا معنى لإعادته. وقوله هاهنا: إن الدابة إذا ماتت ببعض الطريق يرد الكري الدينارين ويأخذ الدراهم، ثم يرجع عليه بكراء ما ركبه بحساب ما تكارى؛ كلام ملتبس يفتقر إلى البيان والتفسير، ووجه العمل في ذلك إذا ماتت الدابة ببعض الطريق، أن يقوم الركوب فيضاف إليه الدراهم، ثم ينظر ما يقع قيمة ما بقي من الركوب من جميع ذلك، فيرجع بقدره من الدينارين على المكري صاحب الدابة؛ وتفسير ذلك: أن يقوم الركوب ويعرف كم قيمته، فإن كان في التمثيل خمسة عشر(7/52)
درهما والدراهم التي أخذ المكتري في الثلث ثلاثة دراهم، فالجميع ثمانية عشر درهما، ثم ينظر إلى قيمة ما بقي من الركوب فيسمى من الثمانية عشر درهما، فما كان من الأجزاء ثلثا أو ربعا أو أقل من ذلك أو أكثر، رجع به في المثقالين على الكري.
[مسألة: يشتري الدراهم ألفا بكذا وكذا فيوزن له الألف ثم يريد أن يوزن ألف أخرى]
مسألة وقال في الرجل يشتري الدراهم ألفا بكذا وكذا، فيوزن له الألف ثم يريد أن يوزن ألف أخرى بعد ذلك، أو ألفان، ثم يرجع إليه جميع دنانيره والدنانير معه وهو جالس يزن له. فكره ذلك إلا أن يقضيه كلما وزن له ألفا صرفها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه يكره إذا صرف منه ألفا فوزنها أن يقول له زن لي ألفا أخرى قبل أن يزن له صرف الأولى وإن كان ذلك كله بالحضرة لما فيه من التراخي، ولو صرف منه ألفين فوزن له ألفا ثم وزن له الألف الأخرى قبل أن يزن صرف الألف الأولى لم يكره ذلك، والله أعلم.
[مسألة: النقري تكون من الفضة فيشتريها وزنا على أن فيها مائة درهم بعشرة دنانير]
مسألة وسئل: عن النقرى تكون من الفضة فيشتريها وزنا على أن فيها مائة درهم بعشرة دنانير، ولا يسمى لكل دينار شيئا، أو يسمى لكل دينار عشرة دراهم أو أحب أن يشتريها جزافا ولا(7/53)
يعرف لها وزنا ثم يجد في النقرة مسمار نحاس. قال: ينتقض في ذلك صرف دينار ذلك كله سواء..
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأنه إن اشتراها على أنها مائة درهم بعشرة دنانير، فقد علم أن لكل دينار عشرة دراهم، فسواء ذكر ذلك أو سكت عنه في حكم ما يوجد فيها من النحاس؛ وأما إن اشتراها كلها جزافا بكذا وكذا، أو ما بلغت إن كانت سواء كل كذا وكذا درهم بدينار، فذلك جائز وهو سواء أيضا في حكم ما يوجد فيها من النحاس؛ لأن الفض يكون فيها إذا اشتراها كلها بكذا وكذا على الوزن لا على القيمة. وأما إن لم تكن متساوية فلا يجوز أن يشتريها ما بلغت كل كذا وكذا درهم بدينار، فإن اشتراها كلها بكذا وكذا وهي مختلفة، ثم وجد في بعضها نحاسا انتقض الكل، ولو وجد من الدراهم درهمين أيضا، انتقض من كل نقرة بحسابه بخلاف الحلي المختلف حسبما ذكرناه في رسم نقدها نقدها من سماع عيسى.
[مسألة: النقرة تشترى جزافا ثم يوجد فيها مسمار نحاس]
مسألة وسئل: عن النقرة تشترى جزافا ثم يوجد فيها مسمار نحاس، قال: إن كان الذي وجد أقل من دينار، انتقض صرف دينار وليس ينتقض أقل من دينار، كيف يكون ذلك؟ أيكون شريكا بعشرة دنانير؟ قال: لا، ولكن ينتقض صرف دينار، وإذا كان(7/54)
اشترى جزافا فهو صرف، سمى الصرف أو لم يسمه.
قال محمد بن رشد: وهذا أيضا بين على ما تقدم، لا وجه للقول فيه ولا كلام.
[مسألة: الخلاخيل والأسورة الكثيرة يشترين جزافا]
مسألة قلت له: فالحلي الكثير الخلاخيل والأسورة الكثيرة يشترين جزافا، ثم يوجد في خلخال منها مسمار نحاس، قال: ليس هو بمنزلة النقرة، ينتقض منه أكثر مما ينتقض من النقرة.
قلت: وما تفسير ينتقض منه أكثر مما ينتقض من النقرة؟ قال: ينتقض ما في الخلخالين بما فيهما.
قال محمد بن رشد: قوله الخلاخيل والأسورة يريد الخلاخيل أو الأسورة؛ لأنه إن اشترى الخلاخيل والأسورة معا، ثم وجد في شيء منها نحاسا، فلا بد من انتقاض الجميع، وإنما ينتقض ما في الخلخالين بما فيهما، ولا ينتقض الكل إن كانت الخلاخيل كلها متساوية كالدنانير لا تختلف الأغراض فيها. وأما إن كانت مختلفة فينتقض الجميع على ما مضى في رسم استأذن من سماع عيسى.
[مسألة: يكون له على الرجل دينار فيتقاضاه]
مسألة وقال في رجل يكون له على الرجل دينار فيتقاضاه فيعطيه عشرة دراهم على وجه القضاء على غير صرف، ثم يعلم بمكروه ذلك، فيريد أن يحاسبه ويأخذ منه بقية ديناره، قال: لا خير فيه(7/55)
ولكن يرد الدراهم؛ قيل: لا يجد دراهم يردها، قال: إذا فسخ الأمر بينهم الذي صنعاه حتى تكون له العشرة قبله دينا، فلا بأس أن يصارفه ساعتئذ ويحاسبه بها وإن لم يقبضها.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة قبل هذا في هذا السماع والقول فيها، فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: يشتري نصف النقرة ويقبضها كلها أيكون قد قبض صرفه]
مسألة وسئل: عن الرجل يشتري نصف النقرة ويقبضها كلها، أيكون قد قبض صرفه؟ قال: لا خير فيه. وكذلك الذي يشتري نصف الدينار بدراهم ويقبض الدينار كله، قال: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا جائز عند أشهب في النقرة والدينار، قاله في المدونة وغيرها أنه يتناجز مع مصارفه، وتبقى الشركة بينه وبين من لم يصارفه؛ وأما إذا كانت النقرة أو الدينار لرجل، فلا يجوز أن يبيع بعضها من غير شريكه وإن قبضها كلها عندهما جميعا، لبقاء الشركة بينه وبين مصارفه فيما وقعت فيه المصارفة بينهما.
[مسألة: اشترى تبرا أو قراضة أو سبيكة بدراهم]
مسألة ومن اشترى تبرا أو قراضة أو سبيكة بدراهم، فوجد في الدراهم درهما زائفا رد من ذلك بقدر ما يصيب الدرهم، ينظر إلى الذهب فيقسم على عدة الدراهم ثم يرد بقدر ما أصاب الدرهم.(7/56)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، لا خلاف فيه ولا موضع للقول، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى ذهبا يعني التبر والقراضة والذهب وزنا بدراهم]
مسألة ومن اشترى ذهبا يعني التبر والقراضة والذهب وزنا بدراهم إذا كانت الدراهم تعدو- الذهب، توزن مجموعة كانت أو غير مجموعة ثم وجد في الدراهم درهما زائفا انتقض منها وزن دينار.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، إذ لا يجوز أن يشترى التبر والقراضة والذهب المسكوك في صفقة واحدة وَزْنًا بدراهم دون أن يعلم وزن كل صنف من ذلك على حدته، فالمعنى في المسألة أنه أراد فيها بقوله يعني التبر والقراضة والذهب، أي يعني التبر أو القراضة أو الذهب.
وقوله إنه إذا وجد فيها درهما زائفا انتقض منها وزن دينار، إنما يعود على شراء الذهب المسكوك وحده بالدراهم. وأما إذا اشترى تبرا أو قراضة بدراهم فوجد فيها درهما زائفا فإنما ينتقض من التبر أو القراضة ما يجب للدرهم لا أكثر، وهذا ما لا إشكال فيه.
[مسألة: اشترى خلخالين أو سوارين يعني المصوغ من ذلك وما أشبهه بدراهم]
مسألة ومن اشترى خلخالين أو سوارين يعني المصوغ من ذلك وما أشبهه بدراهم، فوجد في الدراهم درهما زائفا، انتقض ذلك كله أوله وآخره.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن ما ينوب الدرهم شائع في الجميع، فلا بد بمن انتقاضه كله، وقد مضى ذلك في غير ما موضع.(7/57)
[مسألة: دفع إلى صائغ عشرين درهما يعمل له بها سوارين فمطله فاسترد دراهمه]
مسألة وسئل: عمن دفع إلى صائغ عشرين درهما يعمل له بها سوارين، فمطله فاسترد دراهمه، فقال: ما عندي ولكن خذ عشرة وَأَنْظِرْنِي بالعشرة الأخرى شهرا ففعل، فلم يجد عنده إلا ثمانية دراهم، فأعطاه بالدرهمين الباقيين تبرا قليلا. قال: إن كان بعد الإيجاب وكان ذلك صلحا، وجب ومضى حتى لو أراد أن يرجع فيه لم يكن له، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة والقول فيها في رسم نقدها من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يشتري من الرجل دنانير بدنانير مراطلة فنقصت إحدى الذهبين]
مسألة وعن الرجل يشتري من الرجل دنانير بدنانير مراطلة، فنقصت إحدى الذهبين، قال ابن القاسم: إنما كره مالك من ذلك أن يجعل قراضة أو ذهبا هي أدنى من النقص مع التبر الجيد ليتخير بها ما زاد الجياد في وجوهها؛ فأما لو أن رجلا أتى بمائة دينار عين سليمانية، وأتى الآخر بخمسين أو ستين كوفية مقطعة ليست في عيون العتق، فجعلت معها ذهب قراضة أو ذهبا ليس بجيد، وراطل بها العتق الجياد لم يكن بذلك بأس. وأما الذي لا يجيزه مالك، أن يأتي رجل بمائة دينار عتق سليمانية، يجعل معها قراضة أو ذهبا ليس بجيد، ويأتي آخر بعشرين ومائة دينار كوفية مقطعة وتجعل مع العتق الجياد عشرين قراضة أو تبرا(7/58)
من تبر العمل، ليس ذلك عند الناس في نفاقه وجودته كالذهب النقص الكوفية، وإنما أدخلها معها الفضل عيون العتق فلا خير فيه، وهذا تفسير قول مالك.
وسئل: عن الرجل يراطل التبر بالتبر مع أحد التبرين دنانير؟ قال ابن القاسم: إن كان التبران سواء فلا بأس به، وإن كانت الدنانير مع أوضعهما تبرا فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، ومضى تحصيل القول فيها في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ، وفي أول هذا السماع أيضا وفي غيره من المواضع.
[مسألة: يشتري الرجل بدرهم كيل فتجمع له قطع]
مسألة وقال: لا بأس أن يشتري الرجل بدرهم كيل فتجمع له قطع، ولقد كنت أكرهه؛ لأنه لا يكون درهما مجموعا، فأجزته لما رأيت من حاجة الناس إليه.
قال محمد بن رشد: كره لمن اشترى بدرهم كيل ولم يشترط قائما أن يقضي مقطعا بالميزان وخشي أن يكون البائع قد اقتضى مجموعا من قائم فترك فضل العين لزيادة العدد، ثم خففه إذ لم يشترط قائما ولا كان العرف أن من باع بدرهم إنما يبيع بقائم، ولو(7/59)
اشترط قائما لم يجز أن يأخذ مقطعا مجموعا باتفاق، ولو اشترط مقطوعا أو كان العرف بذلك صحيحا لجاز باتفاق، والله أعلم.
[مسألة: يشتري دراهم وثوبا بدينار ثم يجد درهما زائفا]
مسألة وسئل: عن الذي يشتري دراهم وثوبا بدينار، ثم يجد درهما زائفا؟ قال: ينتقض البيع والصرف.
قال محمد بن رشد: قوله دراهم وثوبا، ظاهره ثلاثة دراهم فأكثر، فليس ذلك بخلاف لما في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من إجازته البدل لمن اشترى ثوبا بدينار إلا درهمين، فوجد أحد الدرهمين زائفا، وقد مضى القول على ذلك هناك.
[مسألة: يبتاع دراهم عددا]
مسألة وسئل: عن رجل ابتاع دراهم عددا، قال: لا خير فيه إلا أن لا يختلف وزنها، قال: فإن كانت كذلك، فلا بأس به. قيل له: فإن كانت الدراهم في بلد لا ميزان فيه، أترى أن تباع عددا؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن الدراهم لا تباع عددا إلا أن لا يختلف وزنها، فإن كانت يختلف وزنها لم يجز أن تباع عددا وإن كان ذلك في بلد لا ميزان فيه؛ لأن ذلك غرر، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر» .(7/60)
[مسألة: رجل كان له على رجل دينار فقضاه نصفين وازنين]
مسألة وسئل: عن رجل كان له على رجل دينار فقضاه نصفين وازنين، قال: لا خير فيه إلا أن يكون للدينار جريان معيار عنده.
قال محمد بن رشد: يعني بقوله جريان أن يكون للدينار عنده وزن معلوم فيأخذ نصفين وازنين بمثل وزنهما أو أفضل من وزنهما، فيكون إذا فعل ذلك قد أخذ أكثر عددا أو أكثر وزنا أو مثل وزنه، فجاز لكون الفضل من جهة واحدة؛ ومعنى ذلك إذا لم يكن لعين الدينار فضل على عين النصفين الوازنين، وأما إن كان له فضل في العين على عين النصفين، فلا يجوز؛ لأنه ترك فضل العين لزيادة العدد، أو لزيادة العدد والوزن إن كان أكثر وزنا من زنة الدينار الذي كان له، وفي آخر رسم القبلة من سماع ابن القاسم بيان هذا، فتدبره وقف عليه.
[مسألة: دفع إلى رجل تبرا يبيعه له ودفع إليه آخر دنانير يشتري له بها تبرا]
مسألة وسئل: عن رجل دفع إلى رجل تبرا يبيعه له ودفع إليه آخر دنانير يشتري له بها تبرا، فأراد أن يشتري لهذا ويبيع لهذا من نفسه، فذهب إلى الصراف فاشترى بالدنانير دراهم ثم باع التبر من نفسه بتلك الدراهم من ذلك الصراف الذي اشترى منه الدراهم بدنانير، قال: لا يصلح، ولا يصلح أيضا أن يعطيك رجل تبرا تبيعه له ويعطيك آخر دنانير تشتري له بها تبرا تشتري لهذا من نفسك، وتبيع لهذا من نفسك، إلا أن تحضر دراهم صاحب الدينار عند صاحب التبر، فيقول له أخذ هذه الدراهم بهذا التبر.(7/61)
قال محمد بن رشد: قوله بتلك الدراهم من ذلك الصراف، يريد بتلك الدراهم الذي أخذ من ذلك الصراف؛ لأنه إنما تكلم على أنه اشترى التبر من نفسه للذي أمره أن يشتري له تبرا، فاشترى تبر هذا لهذا بدراهمه التي باع بها ذهبه ولم يحضر واحد منهما فلم يجز ذلك ابن القاسم هاهنا حتى يحضر أحدهما، وحكى ذلك ابن المواز عنه أيضا، وله في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب البضائع والوكالات إجازة ذلك، وهو قول مالك في كتاب ابن المواز، وحكى عنه أنه قال: جائز أن يدفع إليك رجل دنانير وآخر دراهم للصرف، فتصرف لهذا من هذا؛ وقد أجاز مالك في أحد قوليه حسبما ذكرناه في رسم البيوع من سماع أشهب لمن وكل على الصرف أن يصرف له من نفسه وهو أشد من هذا.
قال ابن دحون: وإنما كرهه لأن الصرف يحتاج إلى دافع ومدفوع إليه هاء وهاء، وليس في هذا إلا واحد هو الدافع وهو المدفوع إليه، فخرج عن حد هاء، وهاء، وليست هذه عندي بعلة صحيحة؛ لأن المعنى في هاء وهاء، إنما هو المناجزة وإن لم يكن دفع ولا قبض، ألا ترى أنه يجوز أن يتقاضى الرجلان بالدنانير والدراهم إذا حلت وإن لم يكن في ذلك دفع ولا قبض ولا دافع ولا مدفوع إليه، وهاهنا قبض ودفع ودافع ومدفوع إليه؛ لأنه وكيل لكل واحد منهما فقبض لهذا ودفع عن هذا، إذ يرى الوكيل كيد موكله، وقد أجازوا أن يخرج الرجل وليته من نفسه فيكون هو الزوج وهو الولي مع قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا نكاح إلا بولي» .
وإنما المعنى في كراهة ذلك عندي أن كل واحد منهما إنما وكله على أن يبذل له مجهوده في المكايسة، وأن يفعل له في ذلك ما يفعل لنفسه، فإذا صرف(7/62)
من هذا لهذا، فقد ترك المكايسة التي أرادها كل واحد منهم منه وتوخى السداد فيما بينهما، فصار هذا معنى يشبه أن يكون لكل واحد منهما الخيار في فعله، كما إذا صرف لأحدهما من نفسه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أسلف رجلا درهما فيه نصف فجاء الذي تسلف بدرهم فأعطاه إياه]
مسألة وسئل: عن رجل أسلف رجلا درهما فيه نصف، فجاء الذي تسلف بدرهم فأعطاه إياه، وقال له فيه نصف قضاء لك فاعطني بالنصف الباقي تمرا، قال: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تكلمنا عليها في رسم سلف من سماع ابن القاسم، وذكرنا أنها تتخرج على قولين، فلا معنى لإعادة ذكر ذلك.
[مسألة: كان له على رجل دينار فطلبه فقال ما عندي إلا ثلاثة أرباع دينار قراضة]
مسألة وسئل: عن رجل كان له على رجل دينار، فجاءه يتقاضاه، فقال: ما عندي إلا ثلاثة أرباع دينار قراضة، فقال: آخذها بالدينار الذي لي عليك، قال: لا خير في ذلك. قال أبو زيد: إلا أن يكون دينارا عينا فيه ثلاثة أرباع دينار، فهذا إذا تجاوزه عنه فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز أن تأخذ من دينار ثلاثة أرباع دينار قراضة؛ لأنه اقتضاء مجموع من قائم فلم يجز؛ لأنه اغتفر الوزن والعين لعدد القراضة؛ لأنها كالمجموع المقطوع، فإذا أخذ ثلاثة أرباع دينار عينا مثل عينه أو أدنى جاز؛ لأنه اقتضاء أقل من وزنه لغير شيء اعتراه فجاز.(7/63)
[مسألة: له على رجل دينار ونصف إلى أجل فيريد الذي عليه الحق أن يخرج إلى سفر]
مسألة وعن رجل له على رجل دينار ونصف إلى أجل، فيريد الذي عليه الحق أن يخرج إلى سفر، فأتاه صاحب الحق يتقاضاه، فقضاه دينارا ونصف دينار بصرف يوم قضاء، أيجوز ذلك أم لا؟
قال: قال مالك: لا خير فيه أن يعطيه نصف دينار دراهم، ولا خير في أن يعطيه دينارا ويأخذ منه نصف دينار، ولا بأس أن يعطي دينارا ويأخذ بالنصف الباقي عرضا.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم ولا بأس أن يعطى دينارا ويأخذ بالنصف الباقي عرضا مثل ما تقدم له في أثناء هذا السماع، ومثل قول مالك في أوله وخلاف قوله هناك، وقد أتينا من القول على ذلك هنالك بما فيه مقنع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري الثوب بدينار ودرهمين فينقد الدرهمين ويؤخر الدينار]
مسألة وعن الرجل يشتري الثوب بدينار ودرهمين فينقد الدرهمين ويؤخر الدينار، هل بذلك بأس أم لا؟
قال: لا بأس بذلك. وأما إن اشترى ثوبا بدينار إلا درهمين، قال مالك: لا خير في أن ينقد الدينار ويؤخر الدرهمين، أو ينقد الدرهمين ويؤخر الدينار، ولا بأس أن يكون الدينار والدرهمان معا إذا انتقد الدينار دفع الدرهمين، وإن تأخر الثوب وانتقد الدينار ودفع الدرهمين فلا خير فيه.(7/64)
قال محمد بن رشد: هذا مثل قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وأجاز أشهب أن يتعجل الدينار والدرهم وتتأخر السلعة. وأجاز ابن عبد الحكم أن يتأخر الدرهمان ويتعجل الدينار، ومضى مثله لأشهب في آخر رسم البيع والصرف من سماع أصبغ، وقد مضى القول على ذلك هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
تم كتاب الصرف والحمد لله(7/65)
[كتاب السلم والآجال الأول] [رجل وكل على بيع طعام لغيره فجاءه رجل قد كان البائع يسأله طعاما سلفه فيه](7/67)
من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه قال في رجل وكل على بيع طعام لغيره، فجاءه رجل قد كان البائع يسأله طعاما سلفه فيه، فقال له: بعني من هذا الطعام بنقد أو إلى أجل لأقضيك، أو أرسل رسولا، فاشترى له منه، ثم جاءه فقضاه، فقال: أما قوله بعني أقضيك فلا خير فيه، وأما إن بعث رسولا فاشترى له، والمقتضي لا يعلم فلا بأس به، ولكني أكرهه للذي يقضي، قال ابن القاسم: سمعته منه فيما أعلم.
قال محمد بن رشد: إنما قال لا خير في أن يبيع الوكيل الطعام الذي وكل على بيعه ممن له عليه طعام من سلم، على أن يقضيه إياه، يريد لا بمثل الثمن ولا بأقل ولا بأكثر، نقدا ولا إلى أجل؛ لأنه إذا باعه الطعام على أن يقضيه إياه فقضاه، فكان قضاؤه إياه بيعا له قبل استيفائه بما شرط(7/69)
على نفسه من قضائه قبل أن يشتريه، إذ لا يجوز لمن عليه طعام من سلم أن يقضيه من طعام اشتراه قبل أن يستوفيه، هذا إذا أجاز صاحب الطعام للوكيل أن يبيعه ممن له عليه طعام على أن يقضيه إياه؛ لأن من حقه أن لا يجيز ذلك؛ لأنه يقول: سامحه في البيع ليقضيه إياه، فالحكم في ذلك إذا أجاز البيع أن يجوز البيع ويفسخ الشرط؛ لأنه شرط فاسد لا تأثير له في الثمن، فوجب أن يفسخ، ويجوز البيع كما قالوا فيمن باع ثمرة واشترط البراءة من الجائحة على حديث بريرة في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيه: «من اشترط شرطا ليس في كتاب الله، فهو باطل وإن كان مائة شرط ... » الحديث. فلا يحكم عليه أن يقضيه إياه بالشرط، ولا يجوز له هو أن يتعجل ذلك وإن اكتاله؛ لأن اكتياله لغو لا معنى له من أجل الشرط، وإن قضاه رد إليه واتبعه بطعامه على وجهه، ولو كان الطعام الذي للوكيل عليه من قرض، لجاز البيع والشرط لأنه جائز، فوجب أن يجوز على حديث جابر.
وأما إذا لم يجز صاحب الطعام البيع، فالحكم في ذلك أن يأخذ طعامه إن أدركه بعينه بيد المشتري أو يد الوكيل بعد إن رده إليه، ويفسخ البيع ويطلب الوكيل المبتاع بطعامه الذي له عليه؛ وإن لم يدرك طعامه بعينه وكان قد فات في يد الوكيل، رجع على الوكيل بمثله ونفذ البيع بين الوكيل والمشتري، يأخذ منه لنفسه الثمن الذي باعه به منه وفسخ القضاء في الطعام، فرد إليه مثله واتبعه بطعامه الذي كان له عليه؛ لأنه إن ترك الوكيل على ما كان قضاه إياه، دخل ذلك بيع الطعام قبل أن يستوفى؛ لأنا(7/70)
إن ألغينا بيع الوكيل للطعام من أجل أنه قد رجع إليه طعامه بما اشترط، كان الوكيل قد باع الطعام الذي كان له على المشتري بالثمن الذي أخذ منه في الطعام، وإن لم يلغه كان المبتاع قد قضى الطعام الذي ابتاع في الطعام الذي كان عليه من السلم قبل أن يستوفيه بما شرط على نفسه من أن يقضيه إياه؛ وأما إذا باعه من رسول لم يعلم أنه اشترى للذي كان له عليه الطعام، فجائز له أن يقضيه منه كما قال، ولا حجة لصاحب الطعام في ذلك، وإنما كره ذلك للذي يقضي مخافة أن يكون المقتضي قد علم أن الرسول له، ولو تحقق أنه لم يعلم أن الشراء له لم يكن في ذلك وجه من الكراهة، ولو كان الطعام للبائع فباعه ممن له عليه طعام من قرض على أن يقضيه إياه جاز إن كان ينقد، ولم يجز إن كان إلى أجل؛ لأن الطعام قد رجع إليه فآل الأمر إلى أن أخذ منه في الطعام الذي كان له عليه من القرض الثمن الذي باع به منه الطعام، فإن كان نقدا جاز، وإن كان إلى أجل لم يجز؛ لأنه فسخ الطعام في ذلك الثمن إلى ذلك الأجل، على ما قال بعد هذا في رسم القبلة؛ ولو باعه منه بثمن إلى أجل على غير شرط أن يقضيه إياه ولا رأي ولا عادة ولا رجاء، فلما تم شراؤه قضاه إياه لم يجز أيضا، وفسخ من باب الحكم بالذرائع، لا من أجل أنه حرام عليه فيما بينه وبين خالقه إن صح عمله فيه على غير شرط ولا عادة ولا رجاء، ولو اشتراه له منه رسول بثمن إلى أجل ولم يعلم أنه رسول له، لجاز أن يقتضيه منه، ولكره ذلك للذي يقضي، للوجه الذي ذكرناه في المسألة التي قبل هذه؛ ولو كان الطعام للبائع لم يجز له أن يبيعه ممن له عليه طعام من بيع قبل أن يقضيه إياه إلا بمثل الثمن الذي أسلم إليه في الطعام نقدا؛ لأنه إن كان بأقل أو بأكثر نقدا صار بيع الطعام قبل أن(7/71)
يستوفى؛ لأن طعامه رجع إليه، فكان لغوا وصار إلى أن أخذ منه فيما كان له عليه من الطعام الثمن الذي باع به منه الطعام وإن كان إلى أجل، دخله مع بيع الطعام قبل أن يستوفي فسخ الدين في الدين، وأما إن كان باعه منه بمثل الثمن الذي أسلم إليه فيه نقدا فهو جائز؛ لأن الأمر آل بينهما فيه إلى الإقالة، ولو باعه منه بثمن إلى أجل، أو بأقل، أو بأكثر من الثمن الذي أسلم له فيه على غير شرط أن يقضيه إياه ولا رأي ولا عادة ولا رجاء رجاه، فلما تم شراؤه قضاه إياه لم يجز أيضا، وفسخ من باب الحكم بالذرائع على ما ذكرناه في مسألة السلف؛ ولو اشتراه له منه رسول لم يعلم أنه له رسول، لجاز أن يقضيه منه؛ وإن كان اشتراه منه بثمن إلى أجل أو نقدا بأقل أو بأكثر من الثمن الذي كان أسلم إليه فيه على ما ذكرناه في مسألة السلف أيضا، وستأتي هذه المسألة في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى، وإنما ذكرتها هاهنا لتعلقها بهذه المسألة ومشابهتها لها.
[مسألة: اشترى طعاما إلى أجل ونقد ثمنه]
مسألة وقال مالك في رجل اشترى طعاما إلى أجل ونقد ثمنه، ثم إنه تصدق به على رجل آخر أو وهبه له، أو قضاه إياه من طعام كان تسلفه منه أو أسلفه رجلا جاء يستسلفه طعاما وذلك قبل أن يستوفيه المشتري، فأراد بعض من صار إليه الطعام على بعض هذه الوجوه أن يبيعه قبل أن يقبضه. قال: ما أحب أن(7/72)
يباع ذلك الطعام قبل أن يستوفى.
قال محمد بن رشد: من صار إليه الطعام المشترى بأي وجه كان من هبة أو صدقة أو قرض أو اقتضاء من قراض أو ميراث يحل محل المشتري الذي صار إليه الطعام من قبله في أنه لا يجوز (له) بيعه قبل استيفائه على معنى ما في المدونة وغيرها، وحكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك أنه خفف ذلك في الهبة والصدقة، وقد وقع لأشهب في كتاب ابن المواز أن للرجل بيع ما وهب له أو تصدق به عليه أو ورثه من الطعام قبل قبضه، وقاله عمر بن عبد العزيز في الميراث، ومعنى ذلك عندي فيما وهب له أو تصدق به عليه أو ورثه من الطعام الذي كان للموروث أن يبيعه قبل قبضه؛ وأما من اشترى طعاما فمات عنه قبل أن يقبضه، فلا اختلاف في أن الوارث يحل محله في أنه لا يجوز له بيعه قبل قبضه، وكذلك من أقرضه أو اقتضاه من قرض كان له، ويحتمل أن يدخل ذلك من الاختلاف ما دخل فيمن وهب له أو تصدق به عليه على ما حكاه ابن حبيب عن مالك.
[مسألة: الشاة اللبون باللبن إلى أجل]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: لا خير في الشاة اللبون باللبن إلى أجل أيهما عجل أو أخر صاحبه، وأما الطعام غير اللبن إلى أجل، فلا بأس به. قال سحنون: الذي عرفناه من قوله وقاله لي ابن القاسم غير مرة، أن اللبن بالشاة اللبون إلى أجل لا بأس به، وهو عندي أحسن. وأما قوله الشاة اللبون باللبن(7/73)
إلى أجل فذلك الذي لم يشك فيه قط، ولم يختلف علينا فيه قوله إنه حرام لا يجوز، وقال أصبغ مثله.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذه المسألة ما ثبت من «نهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المزابنة» ، والمزابنة مأخوذة من الزبن وهو الدفع، فمعنى المزابنة المغاررة، وهو أن يغار كل واحد من المتبايعين صاحبه في المعنى الذي غارره فيه؛ وهي تنقسم على قسمين: أحدهما: أن تكون في صنف واحد، والثاني: أن تكون في صنفين. فأما الصنف الواحد فالمزابنة تدخل فيه، كان بالنقد أو إلى أجل، وذلك مثل أن يبيع منه جزافا بجزاف أو جزافا بمكيل، فهذا لا يجوز نقدا ولا إلى أجل؛ وأما الصنفان فإن المزابنة لا تدخله إلا في النسيئة، وذلك على وجهين: أحدهما: أن يبيع منه شيئا بما يحول فيه عينه إلى أجل، والثاني: أن يبيع منه شيئا بما يتولد عنه مع بقاء عينه إلى أجل؛ فأما إذا باع منه شيئا بما تحول فيه عينه إلى أجل، فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز، وذلك مثل أن يبيع منه صوفا بثياب صوف إلى أجل أو كتانا بثياب كتان إلى أجل، أو شعيرا بقصيل إلى أجل يمكن أن يكون إلى ذلك الأجل من الصوف والكتان ثياب، ومن الشعير قصيل، وما أشبه ذلك.
وأما إذا باع منه شيئا بما يتولد منه مع بقاء عينه إلى أجل، فذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون أصل التولد فيه موجودا حال العقد، والثاني: لا يكون فيه وإنما يحدث بعده، فأما إذا كان أصل التولد موجودا فيه مثل أن يبيع منه شاة لبونا بلبن إلى أجل، أو دجاجة بياضة ببيض إلى أجل، وما أشبه ذلك، فهو وجه يتحصل فيه أربعة(7/74)
أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز، كانت الشاة هي المؤجلة أو المعجلة، وهو قول مالك هاهنا وظاهر ما في المدونة.
والثاني: أن ذلك جائز، كانت الشاة هي المؤجلة أو المعجلة، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع، ووقع ذلك أيضا في رسم حبل حبلة من سماع عيسى من هذا الكتاب: لا بأس بالدجاجة البياضة بالبيض إلى أجل، وهو أظهر الأقوال، بدليل اتفاقهم على إجازة بيع الشاة اللبون باللبن نقدا، وبالطعام نقدا وإلى أجل.
والثالث: أن ذلك جائز إن كانت الشاة هي المؤجلة، وغير جائز إن كانت هي المعجلة؛ وهو قول ابن القاسم هاهنا، واختيار سحنون، وهو مذهب ابن حبيب، وهو ضعيف في الشاة باللبن إلى أجل؛ لأن المزابنة لا تدخله، إذ لا يبقى اللبن إلى أجل دون أن يتغير، فإنما يعطيه عند الأجل من لبن غير تلك الشاة، وإنما يكون لهذه التفرقة وجه في بيع الشاة اللبون بالجبن إلى أجل؛ لأنه يمكن أن يجمع لبن الشاة فيعمل منه جبنا يعطيه إياه عند الأجل.
والرابع: عكس هذه التفرقة أن ذلك جائز إن كان الشاة هي المعجلة، وغير جائز إن كانت هي المؤجلة، وهو قول أشهب؛ ووجهه: إن كانت هي المعجلة، كان اللبن الذي فيها ملغى في حكم التبع لها، لاحتمال أن يكونا لم يقصداه، وإذا كانت هي المؤجلة، علم أنهما قصداه، إذ قد اشترطاه.
وأما إذا لم يكن أصل ذلك الشيء موجودا فيه حين العقد، وإنما يحدث بعده مثل أن يبيع منه شاة لا لبن لها بلبن إلى أجل يكون فيه للشاة لبن، أو(7/75)
دجاجة لا بيض فيها ببيض إلى أجل يكون فيه للدجاجة بيض، أو ذباب نحل بعسل إلى أجل يكون فيه للذباب عسل، أو نخلا لا تمر فيها بتمر إلى أجل يكون فيه للنخل تمر؛ ففي ذلك قولان:
أحدهما: أن ذلك جائز، وهو قول ابن حبيب في الواضحة في المسائل كلها، وقول ابن القاسم في رسم حبل حبلة من سماع عيسى في الدجاجة التي لا بيض فيها بالبيض إلى أجل، وفي كتاب كراء الدور من المدونة في النخل التي لا تمر فيها بتمر إلى أجل.
والثاني: أن ذلك لا يجوز وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في رسم نقدها من سماع عيسى من هذا الكتاب، ومن كتاب جامع البيوع. وأما إذا لم يكن للشاة لبن أو للنخل تمر أو للذباب عسل، أو للدجاج بيض إلى ذلك الأجل، فلا اختلاف في أن ذلك جائز.
[مسألة: يشتري الرجل الطعام بثمن إلى أجل ثم يقره عند صاحبه]
مسألة قال مالك: أكره أن يشتري الرجل الطعام بثمن إلى أجل ثم يقره عند صاحبه وإن اكتاله، وإن اشتراه بالنقد لم أر بذلك بأسا، وذلك أني أخاف أن يؤخره حتى يحل الحق فيكون النقد والكيل جميعا. قال سحنون: قال ابن القاسم: يخاف أن يقول: أبيعكه إلى شهر وأضمنه لك إلى شهر، فيكون النقد والكيل جميعا.
قال محمد بن رشد: كره أن يبتاع الرجل الطعام بثمن إلى أجل ثم يقره عند البائع وإن اكتاله، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى شرائه بشرط أن يبقى بيد البائع رهنا حتى يحل الأجل فيستوفي الثمن، فإن أقره عنده على غير شرط لم يفسخ البيع، قاله ابن المواز، ومثله في رواية عيسى. وأما إن(7/76)
وقع البيع على ذلك بشرط فهو فاسد يجب فسخه وإن كان شرط أن يقره عنده بعد أن اكتاله، إذ لا يجوز أن يبيع أحد شيئا من الحيوان والعروض التي لا يجوز أن يتأخر قبضها بثمن إلى أجل على أن يبقى بيده رهنا إلى ذلك الأجل إلا أن يجعله بيد عدل، وقد ذكرنا هذا المعنى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق. وأما إن اشترط أن يبقى عنده إلى محل الأجل دون كيل، فالمكروه في ذلك لائح؛ لأنه اشتراه على أن يكون في ضمانه إلى ذلك الأجل، وذلك حرام لا يحل، وبالله التوفيق.
[أقرض رجلا طعاما إلى أجل فلما حل الأجل قال له غريمه بعني طعاما أقضيك]
ومن كتاب القبلة قال ابن القاسم: سمعت مالكا قال في رجل أقرض رجلا طعاما إلى أجل، فلما حل الأجل قال له غريمه: بعني طعاما أقضيك. قال: إن ابتاع منه بنقد فلا بأس به، وإن ابتاع بدين فلا خير فيه. وتفسير ذلك: أنه إذا اشترى منه طعاما بذهب على أن يقضيه مكانه، كأنه إنما اشترى منه ما عليه من الطعام الذي أقرضه بذهب أو ورق نقدا، فليس بذلك بأس أن يبتاع رجل حنطة عليه من قرض بذهب أو ورق أو عرض أو غير ذلك معجل، وأنه إذا ابتاع منه بدين على أن يقضيه، رجع طعامه إليه فصار له عليه ما كان يسأله من الطعام ذهب أو ورق أو عرض أو غير ذلك مؤخرا، فذلك مضارع للربا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، ولو كان الطعام من بيع(7/77)
لم يجز له أن يشتري منه طعاما على أن يقضيه إياه إلا بمثل الثمن الذي أسلم إليه فيه نقدا لا أقل ولا أكثر، قاله في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى، وقد مضى بيان هذا كله في التكلم على أول مسألة من هذا السماع.
[مسألة: ذبح شاة ثم سلخها ثم دعا إليها الجزار فقال أسلفك لحم هذه الجزرة وزنا]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا، قال: من ذبح شاة ثم سلخها، ثم دعا إليها الجزار فقال: خذ مني هذه الجزرة، أسلفك لحمها وزنا على أن تعطيني في كل يوم رطلين أو أقل أو أكثر من ذلك، قال مالك: ما أحب ذلك؛ لأني أراه قد أخذ منه في سلفه زيادة لو أقام اللحم عنده صار يابسا، فأسلفه من ضمنه له غريضا مقطعا، ولو وقع هذا على غير صنعة، لم أر بذلك بأسا. فأما ما يصنعان لذلك وإن لم يشترطه أحدهما فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: وقوله ولو وقع هذا على غير صنعة لم أر بذلك بأسا، معناه: ولو فعل ذلك رفقا بالجزار لا لمنفعة يبتغيها لنفسه، ولعله لو باع الجزرة جملة، لأخذ فيها من الثمن ما يشتري به من اللحم المقطع أكثر من زنتها، جاز ولم يكن به بأس. وقد روى ابن أبي جعفر عن أشهب أنه قال: إن كان الجزار هو الذي جاءه فاستسلفه فلا بأس به، ظاهره: وإن كانت له في ذلك منفعة، ومعناه: إذا علم الله من قلبه أنه أسلفه إياها لما رأى من حاجة الجزار إلى ذلك، وأنه كان يفعل ذلك لو سأله ذلك ولا منفعة له فيه، وهذا ما لا ينبغي أن يختلف فيه، إذ لا يقدر على أن يسلفه(7/78)
إياها ويسقط المنفعة عن نفسه في ذلك، وذلك نحو ما روى زياد عن مالك في الرجل يكون عنده طعام يخشى عليه الفساد فيسالفه الرجل المحتاج إلى أن يسلفه إياه، فإنه أجاز ذلك إذا أسلفه إياه لحاجته من غير شرط ولا عادة، وإنما اختلف في الرجل المحتاج يسأل الرجل أن يسلفه الفدان يكون له من الزرع فيحصده ويدرسه ويعرف كيله فيعطيه إياه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك جائز إذا كان المتسلف هو الذي طلبه ليتقوت بذلك، ولم يكن صاحب الزرع هو يعرضه ليكتفي بمؤنته، وهو قول ابن حبيب في الواضحة عن مالك وغيره.
والثاني: أن ذلك لا يجوز إلا أن يكون الفدان من الزرع الكثير الذي لا يحط به عنه مئونة، وهو قول مالك في رسم الآجال من المدونة.
والثالث: أن ذلك يكره وإن كان الفدان من الزرع الكثير، إلا أن يكون هو الذي يحصده ويدرسه ويذريه وكذلك يسلفه إياه، روى ذلك زياد عن مالك.
[مسألة: ابتاع طعاما بثمن إلى أجل ثم ندم البائع قبل أن يفترقا]
مسألة وقال مالك: ومن ابتاع طعاما بثمن إلى أجل ثم ندم البائع قبل أن يفترقا، فاستقال بغرم يغرمه للمشتري عن العروض أو العين؛ ويدفع إليه طعامه. قال مالك: لا أرى بذلك بأسا إذا كان المبتاع قد اكتاله، قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: وإن ندم المبتاع فرد طعامه وزاده عليه طعاما آخر أو عرضا من العروض ولم يكونا تفرقا. قال: إذا اكتال فلا بأس به، وإن تفرقا فلا أحبه إذا كان الثمن إلى أجل.
قال محمد بن رشد: لا يراعى تفرقتهما وغيبة المبتاع على الطعام إلا في زيادة المبتاع، لا في زيادة البائع. فقوله: لا أرى بذلك بأسا إذا(7/79)
كان المبتاع قد اكتاله، يريد وإن كانا تفرقا على ما نبينه. وتحصيل القول في هذه المسألة أنهما إذا تقايلا قبل اكتيال الطعام، فلا تجوز الزيادة من واحد منهما لصاحبه على حال؛ لأن ذلك بيع الطعام قبل استيفائه، إلا أن يكون المبتاع هو المستقيل بزيادة مثل الثمن إلى ذلك الأجل فيجوز؛ لأنه يصير قد أدى الثمن ووهب الطعام، وإن تقايلا بعد اكتيال الطعام وقبل أن يقبضه المبتاع أو شيئا منه ويغيب عليه؛ وقبل أن يقبض البائع الثمن أيضا، أو شيئا منه ويغيب عليه؛ فالزيادة من كل واحد منهما لصاحبه جائزة، ما لم يكن في نفس الإقالة على الزيادة فساد، فيجوز على هذا أن يستقيل البائع من الطعام على أن يزيد المبتاع ما شاء من العروض والدنانير والدراهم نقدا وإلى أجل؛ لأنه يصير قد اشترى الطعام الذي استقال منه بالثمن الذي كان له على المبتاع، وبالزيادة التي زادها إياه، إلا أن تكون الزيادة من صنف الطعام الذي استقال منه، فلا يجوز على حال، أو من غير صنفه، فيجوز إذا كانت الزيادة نقدا والثمن حالا باتفاق؛ وإن كانت الزيادة نقدا والثمن مؤجلا فعلى قولين منصوص عليهما في الواضحة:
أحدهما: أن ذلك جائز على القول بأن انحلال الذمم بخلاف انعقادها، فلا يراعى في ذلك الأجل؛ لأنهما قد تباريا.
والثاني: أن ذلك لا يجوز على القول بأن انحلال الذمم كانعقادها، فيراعى في ذلك الأجل وإن كانا قد تباريا. ويجوز أن يستقيل المبتاع من الطعام قبل أن يحل أجل الثمن عليه على أن يزيده دنانير إن كان الثمن دنانير أو دراهم، إن كان الثمن دراهم إلى ذلك الأجل؛ لأنه أخذ منه طعامه ببعض الثمن ووفاه بقيته، ولا يجوز ذلك نقدا ولا إلى أبعد من الأجل؛ لأنه يدخله في النقد(7/80)
ضع وتعجل، وبيع وسلف، وعرض وذهب بذهب إلى الأجل، وفي التأخير إلى أبعد من الأجل بيع وسلف، وذهب وعرض بذهب إلى أجل. ويجوز على أن يزيده ما شاء من العروض والطعام نقدا، ولا يجوز ذلك إلى الأجل ولا إلى أبعد منه؛ لأنه إذا نقده الزيادة فقد اشتراها منه والطعام الذي استقاله منه بالثمن الذي كان له عليه فجاز، وإذا لم ينقده الزيادة فقد فسخ الثمن الذي كان له عليه في الزيادة التي زاده إياها إلى أجل فلم يجز؛ ولا يجوز أن يزيده دنانير إن كان الثمن دراهم، ولا دراهم إن كان الثمن دنانير نقدا ولا إلى أجل، ولا إلى أبعد منه؛ ويجوز أن يستقيل منه إن كان الثمن حالا أو بعد أن يحل عليه على أن يزيده ما شاء من العروض والدنانير والدراهم والطعام من صنف طعامه ومن غير صنفه نقدا، إلا أن تكون الزيادة التي زاده ورقا فلا يجوز، إلا أن يكون أقل من صرف دينار على مذهب ابن القاسم؛ ولا يجوز على أن يزيده شيئا من الأشياء إلى أجل؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين.
وأما إن كان المبتاع قد قبض الطعام أو بعضه وغاب عليه، فلا تجوز الإقالة في جميعه على أن يزيد المبتاع البائع شيئا من الأشياء؛ لأنه إذا رد الطعام بعد أن غاب عليه وزاده، كان سلفا بزيادة، فيتهمان على أنهما عملا على ذلك، وقصدا إلى استجازته بإظهار البيعة والاستقالة؛ وكذلك إذا كان البائع قد قبض الثمن أو بعضه، فلا تجوز الإقالة بينهما على أن يزيد البائع المبتاع شيئا من الأشياء؛ لأنه إذا رد الثمن الذي قبض بعد أن انتفع به وزاده، كان سلفا بزيادة، فيتهمان على القصد إلى ذلك فلا يجاز لهما ويفسخ عليهما حماية للذرائع على مذهب مالك، وهذا إذا كان البيع إلى أجل، وأما إذا كان البيع نقدا فذلك جائز، إذ لا يتهم في بيوع النقد إلا في أهل العينة على ما يأتي له في رسم كتب عليه ذكر حق من هذا السماع. وهو دليل قوله في هذه المسألة: وإن تفرقا فلا أحبه إذا كان الثمن إلى أجل، وحكم المكيل(7/81)
والموزون من غير الطعام في هذا كله كحكم الطعام إلا في مراعاة الكيل، إذ يجوز بيعه قبل استيفائه؛ وحكم العروض والحيوان في ذلك كله حكم المكيل والموزون، إلا في مراعاة القيمة عليه إذ يعرف بعينه بعد أن يغاب عليه.
[مسألة: يبتاع أحد دينا على ميت]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: لا أرى أن يبتاع أحد دينا على ميت، وذلك غرر لا يدري ما يلحق الميت من دين فينتزع منه ما اشترى، وليس اشتراء الدين الذي على الميت والحي سواء؛ لأن الحي قد ضمن ذلك في ماله وذمته، وأن الميت ليس كذلك.
قال محمد بن رشد: هذا قول مالك في موطئه، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه؛ لأن اشتراءه غرر وإن كان على الدين بينة وعرف ما ترك الميت من المال، إذ قد يلحقه من الديون ما يستغرق تركته، فلا يكون له مما اشترى إلا محاصة الغرماء ويبطل الباقي، إذ لا ذمة له يتبعها ببقية دينه؛ وإنما يجوز شراء الدين على الحاضر المقر؛ لأنه إن ثبت عليه دين حاص الغرماء، واتبع ذمته ببقية حق؛ واختلف في شراء الدين عليه إذا كان منكرا، فالمعلوم في المذهب المنصوص عليه في الموطأ وفي غيرما كتاب من المدونة، أن ذلك لا يجوز؛ لأنه ينقد الثمن، إذ لا يجوز إلا ذلك، ولا يدري هل يتم له ما اشترى أو يرجع إليه ماله، فمرة يكون بيعا، ومرة يكون سلفا، وذلك من أعظم الغرر، وتقوم إجازته من إجازة ابن(7/82)
القاسم بيع الدار التي فيها خصومة على ما وقع في بعض روايات المدونة. وكذلك اختلف أيضا في شراء الدين على الغائب، فالمشهور أن ذلك لا يجوز، إذ لا يدرى أحي هو أم ميت؛ ومقر هو أم منكر؛ وأجاز ذلك ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية من كتاب المدبر إذا كانت غيبته قريبة حيث يعرف حاله وملؤه، وقاله أصبغ في نوازله من كتاب جامع البيوع، ورواه ابن أبي زنبر عن مالك؛ (قال:) وذلك إذا كانت للبائع بينة على الحق، وعرفت حياة الذي عليه الدين.
[مسألة: اشترى الميراث الغائب فيه عين وعرض بعرض]
مسألة وقال مالك فيمن اشترى الميراث الغائب فيه عين وعرض بعرض، قال: لا يصلح اشتراء غائب بنقد وإن كان اشتراه على أنه له وجده أو لم يجده، انتقص أو زاد؛ فذلك غرر لا يصلح، وإن اشترط إن لم أجده على هيئته رجعت فأخذت عرضي أو قيمته، فإنه يدخله سلف وبيع ليس بمضمون، وأنه يغرر بأمر إن أدركه أدرك حاجته، وإن أخطأه ذهب عناؤه وأخذ منه عرضه بقيمته؛ ولعله لم يكن يرضى أن يبيعها بأضعاف ذلك، فذلك مكروه.(7/83)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من أن النقد في الغائب لا يجوز، كان الذي اشترى به عينا أو عرضا. وقوله إن ذلك لا يصلح، وإن كان اشتراه على كذا، وإن اشترط كذا - معناه: أن ذلك لا يصلح؛ لأنه إن اشتراه على كذا فهو غرر؛ وإن اشتراه على كذا فهو غرر. يقول: إن شراء الميراث الغائب فيه العين والعرض بعرض نقدا، لا يخلو من أحد هذين الوجهين، وكلاهما فاسد فلا يجوز؛ ولو اشتراه على أن يمسك العرض عنده ولا ينقده حتى يدري هل يجد الميراث على ما اشتراه عليه من الصفة لم يجز أيضا؛ لأنه إن مضى إلى موضع الميراث فوجده على ما اشتراه عليه لم يجز له أن يقبضه؛ لأنه يصير المشتري للميراث قد باع العرض الغائب الذي كان ثمنا للميراث بالميراث فانتقده فيصير نقدا في غائب.
والوجه الذي يجوز في ذلك: أن يتواضع العرض بيد أمين ويخرج إلى الميراث، فإن وجده على ما اشتراه، صح له قبضه على ما يأتي في رسم الجواب من سماع عيسى، وفي سماع أصبغ من جامع البيوع؛ وكذلك القول في كل غائب لا يجوز فيه النقد ويشترى بعرض. وأما إذا اشترى الغائب الذي لا يجوز فيه النقد بعين، فهو جائز إذا لم ينقده، ولو كان الميراث الغائب المشترى عينا موضوعا دون غيره، لجاز أن يشتريه بعرض على أن ينقده إذا اشترط أنه ضامن للعين الغائب؛ وقد قيل: إنه إذا اشتراه بعرض ونقده، كان البائع للعين الغائب ضامنا له وإن لم يشترط عليه الضمان؛ والقولان في الرواحل والدواب من المدونة، والقول بأنه ضامن وإن لم يشترط عليه الضمان على قياس القول بأن العين لا يتعين، والقول بجواز اشتراط ضمانه استحسان؛ لأن القياس فيه على القول بأن العين يتعين ألا يجوز اشتراط ضمانه كالعروض التي تتعين.(7/84)
[حلف ألا يبيع سلعة سماها]
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع سلعة سماها وسئل مالك: عن رجل باع طعاما أو زيتا أو غير ذلك، وهو ممن يعين، فباعه متاعا بثمن إلى أجل، فباعه الذي اشتراه، ثم جاءه بعد ذلك، فقال: إني قد وضعت فيما بعت وضيعة كثيرة، فخفف عني من الثمن الذي بعتني به، فوضع له من ذلك؛ قال: هذا لا خير فيه. فقلت له: فما مكروه ذلك؟ قال: إنه يبيعه حين يبيعه كأنه يقول له كم تربح علي؟ قال: على العشرة اثني عشر، أو أقل أو أكثر، فهو يراوضه على ذلك، فيذهب فيبيع السلعة، فإن نقصت، رجع إليه فوضع عنه ورده إلى ما كان راوضه عليه من العشرة اثني عشر، فكأنه إنما يبيع له على المرواضة في ذلك، وقال: إنما يعمل على شيء قد قاضاه إياه على العشرة اثني عشر، فهذا لا خير فيه. قال: وأخبرني داود بن دينار أن ابن هرمز كرهه.
قال محمد بن رشد: تفسير المكروه الذي وصفه في هذه المسألة، هو أن الرجل يأتي إلى الرجل من أهل العينة، فيقول له: أسلفني عشرة مثاقيل في أحد عشر مثقالا إلى شهر، فيقول له: لا أسلفك إياها إلا في ثلاثة عشر مثقالا، فيتراوضان حتى يتفق معه على أن يسلفه العشرة ويرد عليه اثني عشرة، ثم يقول له: إن هذا لا يحل، ولكن عندي سلعة قيمتها عشرة دنانير، أبيعها منك باثني عشر دينارا إلى شهر، فتبيعها أنت بعشرة فيتم لك ما أردت، فيأخذ منه السلعة على هذا، فيبيعها بثمانية مثاقيل، ثم يأتي إليه فيقول له: لم تساو السلعة عشرة دنانير وقد وضعت فيها وضيعة(7/85)
كبيرة من العشرة، فحط عني من الاثني عشر التي وضعتها وما يجب لها من الدينارين اللذين بنيت على أن تربح معي في العشرة، وذلك ديناران وخمسا دينار، فيحط ذلك عنه تتميما لما كان راوضه عليه من أن يربح معه في العشرة دينارين، فيأخذ منه في الثمانية التي باع السلعة بها تسعة وثلاثة أخماس، فيئول الأمر بينهما إلى أن أسلفه ثمانية مثاقيل في تسعة وثلاثة أخماس، فهذا مما يتهم فيه أهل العينة ويحملون عليه، لعلمهم بالربا واستحلالهم له.
[مسألة: رجال من أهل الفضل يتجرون في العينة ثم تركوها وهم يرون فضلها]
مسألة وقال مالك: كان رجال من أهل الفضل يتجرون في العينة ثم تركوها وهم يرون فضلها لما استرابوا منها.
قال محمد بن رشد: العينة على ثلاثة أوجه: جائزة، ومكروهة، ومحظورة؛ فالجائزة أن يأتي الرجل إلى الرجل منهم فيقول له: أعندك سلعة كذا وكذا تبيعها مني بدين؟ فيقول: لا، فيذهب عنه فيبتاع المسئول تلك السلعة، ثم يلقاه فيقول له: عندي ما سألت فيبيع ذلك منه. والمكروهة أن يقول له: عندك كذا وكذا تبيعه مني بدين؟ فيقول: لا، فيقول له: أتبيع ذلك وأنا أبتاعه منك بدين وأربحك فيه، فيشتري ذلك ثم يبيعه منه على ما تواعدا عليه، والمحظورة أن يقول الرجل للرجل: اشتر(7/86)
سلعة كذا وكذا بكذا وكذا، وأنا أشتريها منك بكذا وكذا، وهذا الوجه فيه ست مسائل تفترق أحكامها بافتراق معانيها:
إحداها: أن يقول له: اشتر سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، فهذا أجازه مالك مرة، إذا كانت البيعتان بالنقد وانتقد، وكرهه مرة للمراوضة التي وقعت بينهما في السلعة قبل أن تصير في ملك المأمور.
والثانية: أن يقول له: اشتر سلعة كذا بعشرة نقدا، وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فهذا لا يجوز، إلا أنه اختلف فيه إذا وقع على قولين: أحدهما: أن السلعة لازمة للآمر باثني عشر إلى أجل؛ لأن المأمور كان ضامنا لها لو تلفت في يده قبل أن يبيعها من الآمر، ويستحب له أن يتورع فلا يأخذ منه إلا ما نقد فيها، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب البضائع والوكالات وروايته عن مالك. والثاني: أن البيع يفسخ وترد السلعة إلى المأمور، إلا أن تفوت فتكون فيه القيمة معجلة كما يفعل في البيع الحرام؛ لأنه باعه إياها قبل أن يجب له فيدخله بيع ما ليس عندك.
والثالث: عكسها، وهو أن يقول له: اشتر سلعة كذا وكذا باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا، فهذا لا يجوز أيضا، إلا أنه يختلف فيه إذا وقع على القولين المذكورين، يلزم الآمر السلعة بالعشرة نقدا. ويستحب له أن يزيده الدينارين على القول الأول، ويفسخ البيع على القول الثاني، وترد السلعة إلى المأمور، إلا أن تفوت بيد الآمر فتكون عليه فيها القيمة، كما يفعل في البيع الحرام على القول الثاني، وهو قول ابن حبيب.
والرابع:(7/87)
أن يقول له: اشتر سلعة كذا بعشرة نقدا، وأنا أبتاعها منك باثني عشر، فهذا مرجع الأمر فيه إلى أن الآمر استأجر المأمور على أن يبتاع له السلعة بدينارين أجرة، فإن كان النقد من عند الآمر، أو من عند المأمور بغير شرط فهو جائز، وإن كان من عند المأمور بشرط كانت إجارة وسلفا؛ لأنه استأجره بدينارين على أن يشتري له السلعة وينقد عنه، فتكون له إجارة مثله، إلا أن يكون أكثر من الدينارين، فلا يزاد عليهما على مذهب ابن القاسم في البيع والسلف إذا كان السلف من عند البائع وفاتت السلعة، أن للبائع الأقل من القيمة أو الثمن، وإن قبض السلف، وتكون له إجارة مثله بالغة ما بلغت على مذهب ابن حبيب في البيع والسلف إذا قبض السلف وفاتت السلعة، أن فيها القيمة بالغة ما بلغت؛ والأصح ألا تكون له أجرة؛ لأنا إن أعطيناه الأجرة كان الثمن ثمنا للسلف، فكان ذلك تتميما للربا الذي عقدا عليه، وهو قول سعيد بن المسيب، وهذه الثلاثة الأقوال إذا عثر على الآمر بعد أن نقد المأمور الثمن وقبل أن يحل الأجل؛ لأن السلف وإن كان حالا فلا بد من الحكم فيه بأجل، ولو عثر على الآمر بعد أن ابتاع المأمور السلعة وقبل أن ينقد الثمن، لكان النقد على الآمر ولم يكن فيما يجب للمأمور من الأجرة إلا قولان: أحدهما: أن له الأجرة بالغة ما بلغت. والثاني: أن له الأقل، ولو لم يعثر على ذلك إلا بعد حلول الأجل، لم يكن فيما يجب للمأمور من الأجرة إلا قولان: أحدهما: أن له الأجرة بالغة ما بلغت. والثاني: أنه لا شيء له.
والخامسة: أن يقول له: اشتر لي سلعة كذا وكذا بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فهذا حرام لا يحل ولا يجوز؛ لأنه رجل ازداد في سلفه، فإن وقع ذلك لزمت السلعة للآمر؛ لأن الشراء كان له، وإنما أسلفه المأمور ثمنها ليأخذ منه أكثر منه إلى أجل، فيعطيه العشرة معجلة ويطرح عنه ما أربى، ويكون(7/88)
له أجرة مثله بالغة ما بلغت في قول، والأقل من أجرة مثله أو الدينارين في قول ولا يكون له شيء في قول؛ لئلا يكون ذلك تتميما للربا فيما بينهما على ما مضى من الاختلاف في المسألة التي قبلها.
وقال في سماع سحنون: إن لم تفت السلعة فسخ البيع وهو بعيد، فقيل: معنى ذلك إذا علم البائع الأول بعملهما.
والسادسة: أن يقول له: اشتر لي سلعة كذا باثني عشر إلى أجل، وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا، فهذا حرام لا يجوز، ومكروهة إذا استأجر المأمور على أن يبتاع له السلعة بسلف عشرة دنانير يدفعها إليه ينتفع بها إلى أجل ثم يردها إليه، فإذا وقع ذلك لزمت الآمر السلعة باثني عشر إلى أجل؛ لأن الشراء كان له ولا يتعجل المأمور منه العشرة النقد، وإن كان قد دفعها إليه صرفها عليه ولم تترك عنده إلى الأجل، وكان له جعل مثله بالغا ما بلغ في هذا الوجه باتفاق، والله أعلم.
[مسألة: رجل ممن يعين يبيع السلعة من الرجل بثمن إلى أجل]
مسألة وسئل مالك: عن رجل ممن يعين يبيع السلعة من الرجل بثمن إلى أجل، فإذا قبضها منه ابتاعها منه رجل حاضر، كان قاعدا معهما، فباعها منه؛ ثم إن الذي باعها الأول اشتراها منه بعد، وذلك في موضع واحد، قال: لا خير في هذا، ورآه كأنه محلل فيما بينهما، وقال: إنما يريدون إجازة المكروه. قال سحنون: وأخبرني ابن القاسم عن ابن دينار أنه قال: هذا مما يضرب عليه عندنا، وهو مما لا يختلف فيه أنه مكروه، وأرى أن(7/89)
يزجر عنه، وأن يؤدب من فعله؛ قال ابن القاسم: ورأيتها عند مالك من المكروه البين.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على طرد القياس في الحكم بالمنع من الذرائع؛ لأن المتبايعين إذا اتهما على أن يظهرا أن أحدهما باع سلعة من صاحبه بخمسة عشر إلى أجل ثم اشتراها منه بعشرة نقدا، ليتوصلا بها إلى استباحة دفع عشرة في خمسة عشر إلى أجل، وجب أن يتهما على ذلك، وإن اشتراها الذي باعها من غير الذي باعها منه إذا كان في مجلس واحد، لاحتمال أن يكونا إنما أدخلا هذا الرجل فيما بينهما لتبعد التهمة عن أنفسهما ولا تبعد عنهما به؛ لأن التحيل به ممكن بأن يقولا لرجل مثلهما في قلة الدعة: تعال تشتري من هذا الرجل هذه السلعة التي تبيعها منه بخمسة عشر إلى أجل بعشرة نقدا، وأنا أبتاعها منك بذلك، أو تربح دينارا فتدفع إليه العشرة التي تأخذ مني ولا تزد من عندك شيئا، فيكون إذا كان الأمر على هذا، قد رجعت إلى البائع الأول سلعته، ودفع إلى الذي باعها منه عشرة دنانير، يأخذ بها منه خمسة عشر إلى أجل؛ ويكون إذا كان قد ابتاعها من الثاني بربح دينار على الشرط المذكور، قد أعطاه ذلك الدينار ثمنا لمعونته إياه على الربا؛ ولو باع الرجل من الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم مات، لم يجز لورثته أن يشتروها منه بأقل من ذلك الثمن نقدا؛ لأنهم يتهمون على إتمام ما قصد إليه موروثهم من استباحة الربا، ولو مات المشتري لجاز للبائع أن يشتريها من(7/90)
ورثته؛ لأن الثمن قد دخل عليه بموته، قاله ابن القاسم في الدمياطية.
[مسألة: باع من رجل طعاما إلى أجل فاكتال الطعام وانتقله]
مسألة وسئل مالك: عن رجل باع من رجل طعاما إلى أجل فاكتال الطعام وانتقله، ثم إنه لقيه بعد ذلك، فسأله أن يقيله منه كله أو بعضه. فقال: أما كله فلا بأس به، وأما بعضه فإنه مكروه. قال ابن القاسم: وقال لي مالك: وذلك أنه يصير بيعا وسلفا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا استقاله من بعضه بعد أن انتقله وغاب عليه، يدخله بيع وسلف؛ لأن الطعام لا يعرف بعينه إذا غاب عليه فيكون ما أقاله منه كأنه قد أسلفه إياه، فرده إليه على أن باعه ما لم يقله منه؛ فيتهمان على أنهما أظهرا البيع في جميعه والإقالة من بعضه على أن يجيزا فيما بينهما البيع والسلف، فيمنعان من ذلك حماية للذرائع، ولو كان إنما باع منه الطعام بنقد، ثم استقاله من بعضه لجاز ولم يتهما في ذلك؛ إلا أن يكونا من أهل العينة، أو أحدهما؛ ولو باعه منه بنقد فانتقد، لجاز أن يقيله مما شاء منه وإن كان من أهل العينة، إذ قد انفصلا بالنقد ولم يبق بينهما سبب، وبالله التوفيق.
[سلف في طعام مضمون إلى أجل]
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا وسئل: عمن سلف في طعام مضمون إلى أجل، واشترط المشتري على البائع أن عليه حملانه من الريف إلى(7/91)
الفسطاط، وإنما كان اشتراه منه على أن يوفيه إياه بالريف، قال: ما أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال: إنه لا بأس به؛ لأنه بيع وإجارة؛ لأن السلم بيع من البيوع سلم إليه في الطعام على أن يوفيه إياه بالريف، واستأجره على أن يحمله له من الريف إلى الفسطاط في صفقة واحدة، والبيع والإجارة جائز أن يجتمعا في صفقة واحدة.
[مسألة: الصبرة بين الرجلين يشتريانها فيريد أحدهما أن يربح صاحبه فيها قبل أن ينتقلاها]
مسألة وسئل مالك: عن الصبرة بين الرجلين يشتريانها فيريد أحدهما أن يربح صاحبه فيها قبل أن ينتقلاها، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إذا جاز ذلك قبل أن ينتقلاها، فأحرى أن يجوز ذلك بعد أن ينتقلاها؛ وكذلك لو اشترى نصف الصبرة وبقي فيها شريكا مع البائع، أو ثمر نصف حائط رجل بعد أن أزهى، لجاز له أن يبيع ذلك قبل أن يستوفيه على هذا القول، وقد وقع ذلك في رسم سن من سماع ابن القاسم بعد هذا، ووقع في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع أن مالكا كان يقول قديما: إذا اشترى جزءا من صبرة، فليس له أن يبيعها حتى يستوفيه. ووجه هذا القول: أنه لما كان لا يقدر على أن يبين بحظه من الصبرة أو من الثمرة إلا بالقسمة بالكيل فيما يكال من ذلك، أو بالوزن فيما يوزن منه، أو العدد فيما يعد منه - أشبه من اشترى شيئا من الطعام كيلا أو وزنا أو عددا في أنه لا يبيعه حتى يستوفيه، والقول الآخر هو مقتضى القياس؛ لأن حظه من الصبرة أو الثمرة(7/92)
داخل في ضمانه بالعقد- وإن لم يستوفه كما تدخل جميع الصبرة والثمرة في ضمانه بعقد الشراء وإن لم يستوفهما.
[مسألة: اشترى ثوبا بثلثي دينار إلى أجل من رجل ثم اشترى منه ثوبا آخر إلى أجل أبعد]
مسألة وسئل مالك: عن رجل اشترى ثوبا بثلثي دينار إلى أجل من رجل، ثم اشترى منه ثوبا آخر إلى أجل أبعد من ذلك الأجل بثلثي دينار؛ فلما حل أجل الثوب الأول، قال البائع للمبتاع: أقر عندك الثلثي الدينار حتى يحل حق الثوب الآخر فتعطيني دينارا وثلثا، قال: لا خير فيه. قال ابن القاسم: وقد كرهته لمن سأل عنه، ثم أخبرني أنه سأل مالكا فقال مثله.
قال محمد بن رشد: الكراهة في ذلك بينة على مراعاة ما يوجبه الحكم في القضاء من أن يقضيه صرف الثلثي الدينار إذا حل أجل الثوب الأول بأخذه بما يجب له من صرف ثلثي الدينار من الدراهم، على أن يأخذ منه في ذلك ذهبا، ويتخرج إجازة ذلك على مراعاة ما ثبت له في الذمة؛ لأنه إنما له في ذمته ثلثا مثقال ذهب، فلا بأس أن يؤخره به ما شاء، ولا يدخله شيء من جهة الصرف، وقد مضى بيان هذا المعنى في رسم حلف ورسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف؛ والأظهر في هذه المسألة أن ذلك لا يجوز؛ لأنه وإن لم يدخله شيء من جهة الصرف على هذا القول، فيدخله سلف جر نفعا بما نواه مما يفسد نيته في السلف.
[مسألة: يبيع الزيت أرطالا كذا وكذا بكذا]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يبيع الزيت أرطالا كذا وكذا، بكذا(7/93)
وكذا دينارا إلى أجل، فيزن له فيفضل له عنده الرطلان ينقصان من وزنه، فيقول المشتري للبائع: هما لك. قال: ما أرى فيه من بأس، ولكن أخاف أن يكثر، فإن كثر فلا يعجبني؛ فأما الشيء اليسير مثل هذا فلا أرى به بأسا، قال سحنون: لا بأس به قليلا كان أو كثيرا.
قال محمد بن رشد: اتقى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا كثر ما نقص من الوزن فتركه له أن يكون إنما فعل ذلك رجاء أن يوسع له في الثمن إذا حل الأجل، فيدخله ما نهي عنه من هدية المديان؛ واستخف ذلك سحنون وإن كان كثيرا؛ لأنه من ناحية ما يندب إليه المتبايعان من السماحة في البيع، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله عبدا سمحا إن باع سمحا، إن قضى سمحا، إن اقتضى» ، فلا يقام من هذا أن سحنون يجيز هدية المديان إذا كانت مبتدأة على غير هذا الوجه، بل لا يحل عنده ولا عند أحد من أهل العلم لمن عليه دين أن يهدي لمن له الدين رجاء أن يؤخره بما له عليه من الدين، ولا يحل لمن له الدين أن يقبل منه الهدية إذا علم أن ذلك غرضه فيها، ولا حرج على من أهدى لصاحب دينه إذا صحت نيته في ذلك، وقد كان ابن شهاب تكون عليه الديون، فإذا جاءه غرماؤه، أجازهم ولم يقضهم بصحة نيته في ذلك، ويكره لمن يقتدي به أن يقبل ذلك منه، فقد رد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هديته على أبي بن كعب من أجل ماله عنده، لئلا يقتدي به في ذلك، فيكون ذريعة إلى استجازة ذلك والعمل به حتى يكثر فيوقع في المحظور منه، هذا وجه رد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليه هديته، إذ ليس من أهل التهم، والله أعلم.(7/94)
[مسألة: باع سلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها بنقد بأقل مما باعها به قبل محل الأجل]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك في رجل باع سلعة بثمن إلى أجل، ثم ابتاعها بنقد بأقل مما باعها به قبل محل الأجل، فلم يعلم بذلك حتى فاتت السلعة وحل الأجل، قال: يفسخ البيع بينهما ولا يكون له إلا ما نقده في ثمنها.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن السلعة إذا فاتت فسخت البيعتان جميعا، ولم يكن في ذلك قيمة، كانت القيمة أقل من الثمن الذي باعها به أولا أو أكثر، إذ لم يفرق بين ذلك، وقال: إنه لا يكون للبائع الأول إلا الثمن الذي نقده؛ وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي تأويلا على ابن القاسم، وذلك بين من قوله في رسم القطعان من سماع عيسى بعد هذا. وقد قيل: إنه لا تفسخ البيعة الأولى وتصحح البيعة الثانية بالقيمة، فإن كانت أقل من الثمن الذي نقد رد إليه الزائد، وإن كانت أكثر منه أدى تمامها؛ ثم ينظر إلى هذه القيمة، فإن كانت أكثر من الثمن الذي باعها به أولا، أخذ الثمن إذا حل الأجل؛ إذ لا تهمة في ذلك؛ وإن كانت القيمة أقل من الثمن الذي باعها به أولا، لم يكن له على المشتري الأول أكثر من ذلك؛ لئلا يكون قد دفع دنانير في أكثر منها، فيتم الربا بينهما؛ وهذا يأتي على ما في سماع يحيى وسحنون من هذا الكتاب.
وقيل: إنه إن كانت القيمة أقل من الثمن الذي باعها به أولا، فسخت البيعتان، ولم يكن للبائع على المبتاع إلا الثمن الذي دفع إليه، ولم يكن في ذلك قيمة، وإن كانت أكثر من الثمن، لم تفسخ البيعة الأولى وصححت الثانية بالقيمة على حسبما ذكرناه؛ فإذا حل الأجل، أخذ الثمن؛ وإلى هذا ذهب عبد الحق تأويلا على ابن القاسم، وهو قول سحنون أيضا، واختلف بما تفوت به السلعة، فقيل: إنها تفوت بحوالة الأسواق، وهو مذهب سحنون، والصحيح أنها لا تفوت إلا بالعيوب المفسدة، إذ ليس ببيع فاسد لثمن ولا(7/95)
مثمون، وإنما فسخ من أجل أنهما تطرقا به إلى استباحة الربا؛ وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي وغيره من المتأخرين. وأما إذا كانت السلعة لم تفت فلا تفسخ على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك إلا البيعة الأخيرة. وذهب ابن الماجشون إلى أن البيعتين جميعا يفسخان، وهو الصحيح في النظر؛ ودليله من جهة الأثر قول عائشة لزيد بن أرقم: "بئس ما شريت وبئس ما اشتريت"؛ لأنها عابت البيعتين جميعا على ما وقع في بيوع الآجال من المدونة. وقد رُوِيَ: "بئس ما شريت أو بئس ما اشتريت" على الشك من المحدث، فعلى هذا لا يكون لابن القاسم في الحديث حجة. وقد قيل: إن قوله في كتاب العيوب من المدونة، وإنما اختلف الناس في السلعة الأولى راجع إلى هذا الاختلاف.
[مسألة: الفول والعدس والحمص وحكم الفضل بينهما]
مسألة قال مالك، في الفول والعدس والحمص مثل ما قال لي عام الأول: لا يصلح الفضل بينهما، وسألت ابن القاسم عن هذا، فقال: لا بأس به، وبه قال أصحاب مالك كلهم.
قال محمد بن رشد: القطاني كلها عند ابن القاسم وسائر أصحاب مالك في البيوع أصناف مختلفة، واختلف قول مالك في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أصناف مختلفة، والثاني: أنها صنف واحد، والقولان له في السلم الثالث من المدونة، والثالث: أن ما كان منها يشبه بعضه(7/96)
بعضا، يريد في المنفعة كالحمص والعدس فهو صنف واحد لا يجوز فيه التفاضل؛ وما كان منها لا يشبه بعضه بعضا في ذلك فهو صنفان، يجوز التفاضل فيهما، وهو قول مالك في سماع أشهب من جامع البيوع، وروى ابن عبد الحكم عنه أن اللوبيا والحمص صنف واحد، وأن العدس والبسيلة صنف واحد. وفي كتاب الوقار: أن الجلبان والبسيلة صنف واحد، وليس ما في كتاب ابن عبد الحكم، وكتاب الوقار بخلاف لرواية أشهب؛ لأن الحمص واللوبيا والعدس والجلبان والبسيلة يقرب بعضه من بعض في المنفعة، والذي يتباعد بعضه من بعض، هو مثل الفول والحمص والترمس والكرسنة وما أشبه ذلك، ولا اختلاف بينهم في القطاني ألها صنف واحد في الزكاة، وبالله التوفيق.
[ابتاع طعاما إلى أجل من رجل فمات الذي عليه الحق]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء وسئل مالك: عن رجل ابتاع طعاما إلى أجل من رجل، فمات الذي عليه الحق، فقيل للذي له الحق: خذ حقك، فقال: ذلك له الورثة، قال: لا، حتى يحل حقي. قال: أرى أن يجبر على أخذه، وذلك أن مال الميت يباع، فلعله أن لا يكون فيه وفاء، فأرى أن يجبر على ذلك، قال ابن القاسم: في العروض يجبر على أخذها في الموت والفلس.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الميت إذا مات فقد وجب لورثته اقتسام ماله بعد تأدية الديون منه؛ لقوله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فلا يلزم الورثة أن(7/97)
يؤخروا ترك القسمة حتى يحل ما عليه من الدين إذا دعا إلى ذلك صاحب الدين، وإن كان الدين عرضا أو طعاما لم يكن للميت أن يعجله، كما لا يلزم صاحب الدين أن يؤخر دينه إلى حلول أجله إذا دعا إلى ذلك الورثة، وقالوا: نحن نؤخر قسمة التركة إلى أن يحل أجل حقه؛ لأن كل واحد منهم يحتج بما يخشى من تلف التركة فلا يؤخر الدين إلى حلول أجله، إلا بتراضي جميعهم على ذلك، وكذلك التفليس سواء، إلا أن يشاء صاحب الدين في التفليس أن يخلي بين الغرماء وبين اقتسام ماله ويؤخر بدينه فيتبعه به في ذمته إذا حل الأجل، فيكون ذلك له، ولا فرق في هذا بين العين والعرض، وإنما خص ابن القاسم العروض بالذكر على سؤال السائل، ولا إشكال في أن العين بذلك الحكم أحرى، وبالله التوفيق.
[يكون أجيره يسأله عشرة دراهم فيسأله الأجير أن يعطيه بها ثوبا فيقول ما عندي]
ومن كتاب أوله سن رسول الله وسئل مالك: عن رجل يكون أجيره يسأله عشرة دراهم فيسأله الأجير أن يعطيه بها ثوبا، فيقول: ما عندي، ولكن إن شئت اشتريت لك بها ثوبا. فكرهه مالك، وقال: أنا أخبرك في هذا بالصواب، يشتري الثوب لنفسه ثم يبيعه إياه بعد، يعني: الأجير.
قال محمد بن رشد: إنما كره ذلك مالك مخافة أن يعطيه الثوب من عنده ولا يشتريه له، فيدخله فسخ الدين في الدين، ولو اشتراه له بحضرته لجاز، وهذا ظاهر ما في المدونة، وروي ذلك عن سحنون، وقد قيل: إن ذلك جائز -وإن لم يشتره بحضرته- إذا كان معه حاضرا في البلد، وهو قول مالك وسحنون في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات، وفي إجازة ذلك وإن اشتراه بحضرته(7/98)
مغمز؛ لأنه كأنه أخره بحقه على أن يشتري له، فيدخله سلف جر منفعة؛ وأما إن لم يكن معه حاضرا في البلد فلا يجوز باتفاق. واختلف إن ادعى أنه اشتراه فتلف، هل يصدق أم لا - على قولين قائمين من المدونة من مسألة الغرائر واللؤلؤ، وروى ابن أبي جعفر الدمياطي عن ابن القاسم أنه إنما يصدق في الشراء والتلف فيما يجوز الشراء فيه - إذا كان حاضر البلد هو أو وكيله.
وأما إذا كان غائبا عن البلد حيث لا يجوز الشراء، فلا يصدق على التلف إلا أن يقيم البينة على الشراء، وفي رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب البضائع والوكالات، ومن كتاب جامع البيوع، أنه يصدق في دعواه الشراء والتلف، وإن كان غائبا عن البلد حيث لا يجوز الشراء. فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: يصدق في الوجهين جميعا، ولا يصدق في واحد منهما، والفرق بينهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول اشتر هذا الثوب بعشرة دنانير وهو لي بأحد عشر دينارا]
مسألة وقال مالك في الذي يقول اشتر هذا الثوب بعشرة دنانير، وهو لي بأحد عشر دينارا، قال: ليس هذا من بيوع الناس، وقد سمعت من يكرهه، ولكن أرى إما أن يقول اشتره لي ولك دينار فلا بأس به؛ لأن ضمانه من الذي يشتريه له.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم حلف ألا يبيع رجلا، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: اشترى خمسين صاعا بخمسين درهما على أن يعطيه عشرة آصع في كل شهر]
مسألة وسئل: عن رجل اشترى خمسين صاعا بخمسين درهما على(7/99)
أن يعطيه عشرة آصع في كل شهر، وعلى أن ينقده عند البيع عشرة دراهم، فكلما جاءه بعشرة آصع أعطاه عشرة دراهم، فكره ذلك، وقال: لا خير فيه؛ قال ابن القاسم: وذلك يدخله الدين بالدين.
قال محمد بن رشد: وهذا بيّن على ما قال: إن الدين يدخله، فلا وجه للقول فيه.
[مسألة: اشترى نصف ثمرة بعدما أزهت وبدا صلاحها]
مسألة وقال مالك: من اشترى نصف ثمرة بعدما أزهت وبدا صلاحها، فلا أرى بأسا ببيعها قبل أن يجدها. وقال مالك، في الذي يشتري صبرة أو نصفها فلا أرى ببيعها بأسا قبل أن تنقل، وأحب إليّ لو نقلت قبل أن تباع.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم حلف ليرفعن أمرا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[أسلف رجلا إردب قمح إلى أجل من الآجال]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا
وسئل مالك: عن رجل أسلف رجلا إردب قمح إلى أجل من الآجال، فاحتاج صاحب الطعام إلى أن يبيعه، فباعه من الذي هو عليه قبل محل الأجل بدينار إلا درهما، يتعجل الدينار والدرهم ويبرأ كل واحد منهما من صاحبه. قال: إن كان الأجل قد حل فلا بأس به. قال: وإن كان لم يحل فلا خير فيه. قال ابن القاسم: وأرجو أن يكون خفيفا، قال سحنون: قول مالك فيها أفضل، وهي صحيحة جدا.
قال محمد بن رشد: الاختلاف في هذا إذا كان الأجل لم يحل -(7/100)
جار على اختلافهم في انحلال الذمم، هل هي بمنزلة انعقادها في اعتبار الأجل في ذلك، أو ليست بمنزلتها في ذلك إذ قد تباريا؛ وقد ذكرنا هذا المعنى في رسم القبلة قبل هذا، والأظهر في هذه المسألة الإجازة؛ لأن أشهب يجيز أن يبيع الرجل سلعة بدينار إلا درهما، يتعجل الدينار والدرهم وتتأخر السلعة.
[مسألة: قلة الصير بالقلة الصير]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم: عن قلة الصير بالقلة الصير؟ قال: لا يصلح ذلك إلا بالتحري، يريد: الصير بالصير.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الصير بمنزلة الجبن واللبن، لا يجوز إلا مثلا بمثل، فلا يجوز جزافا بجزاف، ولا جزافا بمكيل؛ ولا يجوز إلا مثلا بمثل: إما بالوزن، وإما بالتحري؛ (لأن التحري) فيما يوزن جائز، قيل: فيما قل وكثر ما لم يكثر جدا حتى لا يستطاع تحريه، وهو ظاهر هذه الرواية. وقيل: لا يجوز ذلك إلا فيما قل، وإلى هذا ذهب ابن حبيب وعزاه إلى مالك. قيل: وإن لم تدع إلى ذلك ضرورة، وهو ظاهر ما في المدونة؛ لأنه أجاز فيها أن يباع اللحم باللحم تحريا، وأن يسلف فيه تحريا.
وقيل: إنه لا يجوز إلا عند عدم الميزان، وقيل: لا يجوز وإن عدم الميزان إلا في الطعام الذي يخشى فساده، إن ترك إلى أن يوجد ميزان، وهذا في المبايعة والمبادلة ابتداء. وأما من وجب له على رجل وزن من طعام لا يجوز فيه التفاضل، فلا يجوز له أن يأخذه منه تحريا إلا عند الضرورة لعدم الميزان على ما قاله في نوازل سحنون من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.(7/101)
[رجل عين رجلا فباعه طعاما بثمن إلى أجل على أن ينتقد من ثمنه دينارا]
ومن كتاب أوله يسلف في المتاع والحيوان وسئل مالك: عن رجل عين رجلا فباعه طعاما بثمن إلى أجل، على أن ينتقد من ثمنه دينارا، فكره ذلك؛ قال: وقال مالك: لست أول من كرهه، قد كرهه ربيعة وغيره.
قال محمد بن رشد: هذه بيعة واحدة صحيحة في ظاهرها، إذ يجوز للرجل أن يبيع سلعة بدينار نقدا ودينار إلى أجل؛ فلا يتهم بالفساد فيها إلا من علم ذلك من سيرته- وهم أهل العينة، والذي يخشى في ذلك أن يكون الذي تراوضا عليه وقصدا إليه أن يبيع منه الطعام على أن يبيع له منه بدينار، فيدفعه إليه ويكون الباقي له بكذا وكذا دينارا إلى أجل، وذلك غرر؛ إذ لا يدري ما يبقى له من الطعام إذا باع منه بدينار، فقد قال بعض أهل العلم: إنه لو دفع إليه الدينار من ماله، لم يكن به بأس؛ وفي سماع سحنون أن ذلك لا يجوز - وإن دفع إليه الدينار من عنده؛ لأنه يخلفه من الطعام - يريد: أن التهمة لا ترتفع عنه بذلك؛ لأنه إن كان البيع وقع على أن ينقده الدينار من الطعام، فلا يصلح أن يدفعه من عنده، كما أنه إذا وقع على الصحة لا يفسده أن ينقد الدينار من الطعام.
[مسألة: الرجل يبيع كرمه على أن ينتقد عشرين دينارا ثم يعطيه ثلث الثمن إذا قطف ثلثه]
مسألة وسئل: عن الرجل يبيع كرمه على أن ينتقد عشرين دينارا، ثم يعطيه ثلث الثمن إذا قطف ثلثه، ثم يعطيه البقية إذا قطف(7/102)
الثلثين، قال: لا خير في هذا، وهذا ما لا يعرف متى يقطف الثلث أو الثلثين، ولكن إن اشترط عليه إذا اقتطفه، لم أر بذلك بأسا، وكأنه جعله مثل الحصاد والجداد فيما رأيت.
قال محمد بن رشد: وجه ما ذهب إليه مالك في تفرقته بين أن يبيع كرمه على أن يأخذ ثلث الثمن إذا قطف المشتري ثلثه، والباقية إذا قطف الثلثين الباقيين؛ وبين أن يبيعه على أن يأخذ جميع ثمنه إذا قطفه؛ هو أنه إذا سمى الثلث أو الثلثين، فقد صرح أنه أراد ثلث ذلك الكرم بعينه وثلثيه، وذلك غرر، إذ لا يعرف متى يقطف الثلث أو الثلثين؛ لأنه قد يعجل قطافه وقد يؤخره، وإذا لم يسم ثلثه ولا جزءا منه، وإنما باعه على أن يعطيه ثمنه إذا قطفه.
كأن المعنى في ذلك عنده: أنهم لم يقصدوا إلى قطاف ذلك الكرم بعينه، وإنما أراد أن يعطيه الثمن إذا قطفه حين يقطف الناس، فجاز البيع عنده؛ كمن باع إلى الحصاد أو إلى الجداد، ولو بين أنه إنما يبيعه منه على أن يعطيه ثمنه؛ إذا قطفه بعينه عجله أو أخره، لما جاز البيع؛ وقد ذكر أصبغ أن أشهب أجازه فيمن شرط إذا جد ثلثه دفع إليه ثلث الثمن، وإذا جد بقيته دفع إليه البقية، وقال مالك: النصف غير معروف، قيل: إنه يعرف بعدة الفدادين، قال: لا أحب ذلك، وليبعه إلى فراغه؛ فحمل أشهب أمرهما على أن البيع إنما وقع بينهما فيما ظهر إليه من قصدهما، على أن يعطيه ثلث(7/103)
الثمن إذا جد ثلثه، والباقية إذا جد البقية - على تأن لا يتعجل عما جرت عادة الناس عليه في الجداد، ولا يتأخر عنه؛ وإلى هذا نحا مالك في هذا القول، إلا أنه رأى النصف والثلث غير معروف، إذ لا يعرف إلا بالخرص، والتحري إن تنازعا في ذلك، فلم يجزه، وأجازه في الكل؛ لأنه معروف لا يخفى.
وقال أبو إسحاق التونسي: إذا جاز أن يبيعه إلى فراغ جداده، جاز أن يبيعه إلى جداد نصفه؛ لأن النصف مقدر معروف لا يمكن أن يخفى. وقول مالك عندي أصح وأولى، فلم يختلف قول مالك: إنه إذا باعه إلى قطافه، إن ذلك جائز؛ لأنه حمله في القول الواحد، على أنهما إنما أرادا إلى قطاف الناس، لا إلى قطاف ذلك الكرم بعينه؛ وفي القول الثاني: على أنهما إنما أرادا إلى قطاف ذلك الكرم بعينه، على أن لا يتعجل عن قطاف الناس، ولا يتأخر عنه؛ ولا اختلف قوله أيضا في أنه إذا باعه إلى قطاف نصفه أو ثلثه أن ذلك لا يجوز؛ لأنهما إن كانا أرادا إلى قطاف نصفه أو ثلثه، على أن لا يتعجل عن قطاف الناس ولا يتأخر عنه، فالنصف والثلث غير مقدر ولا معروف، فربما تنازعا في ذلك وهو لا يعرف إلا بالخرص والتحري الذي لا يجب له حكم؛ وأجاز أشهب البيع في الوجهين جميعا، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة.
[مسألة: يقول له رجل: اكتب إلى شريكك يبتاع متاعا كذا وكذا وأبتاعه منك بدين]
مسألة وسئل مالك: عن رجل من أهل الفسطاط يكون له شريك بالإسكندرية، فيقول له رجل: اكتب إلى شريكك يبتاع متاعا كذا وكذا، وأبتاعه منك بدين؟ قال مالك: لا خير فيه، والحاضر مثله سواء، كتب فيه أو اشتراه حاضرا، ثم خففه بالنقد؛ فقال: لا أرى به(7/104)
بأسا. قال سحنون: وهذا خطأ، ولا خير فيه بالنقد ولا إلى أجل؛ إلا أن يكون إنما أوجبها الأمر وله اشتراها، فيكون ذلك جائزا، ويكون هذا أجيرا يعطى أجرته.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها، فلا معنى لإعادته.
[يأخذ الرجل النوى والقصب والتبن من ثمن طعام باعه إياه إلى أجل]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق
قال مالك: ولا بأس أن يأخذ الرجل النوى والقصب والتبن من ثمن طعام باعه إياه إلى أجل، وذلك أنه ثمن العلف وليس من الطعام.
قال محمد بن رشد: هذا بين؛ لأنه إذا لم يكن من الطعام، فجائز أن يباع بالطعام إلى أجل، فكيف باقتضائه من ثمن الطعام.
[مسألة: باع سلعة بخمسة عشر دينارا نقدا فانتقد عشرة ثم تقاضاه الخمسة فمطله]
مسألة وسئل مالك: عمن باع سلعة بخمسة عشر دينارا نقدا فانتقد عشرة، ثم تقاضاه الخمسة فمطله؛ فقال له بَيِّعُهُ: هل لك أن أربحك ثلاثة دنانير وتؤخرني شهرين؟ قال مالك: إن كان رجلا يعرف بالعينة فلا أحبه، وإن كان رجلا ممن لا يعمل بالعينة وإنما هو رجل باع بيعا صحيحا، فلا أرى به بأسا.(7/105)
قال محمد بن رشد: المكروه في هذه المسألة حاصل باجتماع الصفقتين؛ لأنه لما باع منه السلعة بخمسة عشر فانتقد منها عشرة ثم اشتراها منه بثمانية عشر إلى أجل، رجعت إليه سلعته فكانت لغوا، ويأخذ منه الخمسة التي بقيت له عليه، ويؤدي له ثمانية عشر إذا حل الأجل، فكان قد أخذ خمسة عشر في ثمانية عشر إلى أجل؛ وإن تقاضى من الثمانية عشر بالخمسة التي بقيت له عليه، كان قد أخذ عشرة في ثلاثة عشر إلى أجل، إلا أنه لما لم يبايعه أولا إلا بالنقد، لم يتهما، إلا أن يكونا من أهل العينة؛ لأن أهل العينة يتهمون فيما لا يتهم فيها أهل الصحة، لعملهم بالربا واستجازتهم له؛ وكذلك لو اشتراها منه بعد أيام ما لم يستوف منه الخمسة الباقية له عليه، وكذلك لو انتقد الخمسة عشر كلها منه، ثم ابتاعها منه إلى أجل بربح لم يجز في المجلس، ولا بقرب ذلك إن كانا من أهل العينة أو أحدهما حتى يطول الأمر ويبرءا من التهمة، والله الموفق.
[مسألة: أهل البيت يحتاجون العجين فيتسلفون من بعض جيرانهم]
مسألة وسئل مالك: عن أهل البيت يحتاجون العجين فيتسلفون من بعض جيرانهم، ثم يدفعون مكانه دقيقا يتحرون قدر ذلك؟ قال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: العجين ليس بصنعة، فلا يجوز بالدقيق متفاضلا باتفاق، ولا يمكن المماثلة فيه بالكيل ولا بالوزن؛ وقد اختلف: هل يجوز بالتحري؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك جائز، وهو قول ابن حبيب(7/106)
في الواضحة، وأحد قولي ابن القاسم في رسم حبل الحبلة من سماع عيسى بعد هذا.
والثاني: أن ذلك لا يجوز، وهو أحد قولي ابن القاسم في رسم حبل الحبلة المذكور؛ قيل: لأنه لا يستطاع تحري ذلك، وقيل: لأن الدقيق أصله الكيل، والعجين أصله الوزن؛ ولا يباع ما أصله الوزن بالكيل، ولا ما أصله الكيل بالوزن؛ ولا يتحرى ما أصله الكيل، إنما يتحرى ما أصله الوزن؛ قال ذلك سحنون، وليس قوله ببين؛ لأنه إنما لم يجز مبادلة ما لا يجوز فيه التفاضل مما يكال بالتحري، إذ لا يعدم المتبادلان ما يكملان ذلك له بقدح أو صحفة وإن لم يكن مكيالا معلوما فتحصل المماثلة (به) ، وقد يعدمان الميزان في تبادل ما لا يجوز فيه التفاضل مما يوزن؛ والعجين لا يمكن كيل ما فيه من الدقيق بحال، فينبغي أن يكون التحري فيه أجوز من تحري ما يوزن لعدم الميزان؛ ولهذه الضرورة التي هي أمس من ضرورة عدم الميزان، أجاز ابن القاسم في سماع أبي زيد من جامع البيوع خبز القمح بخبز الشعير، بأن يتحرى كيل ما في كل واحد منهما من الدقيق؛ وقد أجاز في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع - التمر المنثور بالمكتل على التحري، إذ لا يتأتي كيل التمر المكتل، فكيف هذا؟
والقول الثالث: أن ذلك يجوز في الشيء اليسير مثل الخميرة يتسلفها الجيران بعضهم من بعض فيردون فيها دقيقا، أو يتبادلون فيها بالدقيق؛ وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية، ونص قوله في كتاب ابن المواز، وقول أشهب، وبالله التوفيق.
[يكون له على الرجل عشرة دنانير من سلف أو بيع إلى أجل فحل الأجل]
ومن كتاب أوله الشريكين وسألت مالكا: عن الرجل يكون له على الرجل عشرة دنانير(7/107)
من سلف أو بيع إلى أجل، فحل الأجل، فيلزمه بحقه فيعسر به، فيعرض له رجل آخر على الذي له الحق أن ينظره على أن يسلفه عشرة دنانير؛ قال مالك: إن كان الذي يعطى يكون له على الذي له الحق فلا خير فيه، وإن كان قضى عن الذي عليه الحق سلفا منه ليس له فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن ذلك لا يجوز إذا لم يكن ذلك قضاء عن الذي عليه الحق سلفا منه له؛ لأنه تسلف الذي له الحق لغرض له في منفعة الذي عليه الحق، فهو سلف جر نفعا، إذ لا يحل السلف إلا أن يريد به المسلف منفعة الذي أسلفه خالصا لوجه الله خاصة، ولا لنفسه ولا لمنفعة من سواه.
[مسألة: قال أعطني جملك ببكرين هذين فقال صاحب الجمل لا حتى تزيدني]
مسألة وقال مالك، في رجلين حضرا السوق ومع أحدهما بكران، ومع الآخر بعير مسن. فقال صاحب البكرين: أعطني جملك ببكرين هذين، فقال صاحب الجمل: لا حتى تزيدني؛ وقال الآخر: لا أزيدك شيئا، فقال رجل من الناس لصاحب البكرين: زده وهو لي بخمسة عشر دينارا؟ قال مالك: إن كان نقدا فإني أراه خفيفا، وإن كان إلى أجل فلا خير فيه؛ كأنه قال له: اشتره بعشرة، وهو لي بخمسة عشر إلى أجل، فلا خير فيه. قال ابن القاسم: وهو رأيي.(7/108)
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضت في رسم سلف، ومضى القول عليها مستوفى في رسم حلف ألا يبيع، فلا معنى لإعادة ذلك.
[أعطى رجلا حناطا دينارا في أربعة آصع على أن يعطيه في كل يوم مدا من حنطة]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية
وسئل مالك: عن رجل أعطى رجلا حناطا دينارا في أربعة آصع على أن يعطيه في كل يوم مدا من حنطة؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إجازة مالك لهذا ينحو إلى أحد قوليه في إجازة السلم إلى اليومين والثلاثة؛ لأنه إذا قبض كل يوم مدا من ثاني يوم سلمه، فقد قبض جل ما سلم الدينار فيه قبل أن يمضي من الأمد ما تختلف فيه الأسواق.
[مسألة: بيع مصحف فيه فضة وإن كانت يسيرة بدنانير إلى أجل]
مسألة قال مالك: لا يباع مصحف فيه فضة، وإن كانت يسيرة بدنانير إلى أجل.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وربيعة يجيز بيعه بالفضة إلى أجل إذا كانت الفضة التي فيها أقل من الثلث، قياسا على جواز بيعه بالفضة نقدا، وهو مذهب ابن الماجشون. وقول سحنون: يبيعه بالدنانير إلى أجل - أجوز عندهم.(7/109)
[مسألة: السلم في الخرفان]
مسألة قال مالك: لا بأس بالسلم في الخرفان إذا كانت على صفة معلومة.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف في المذهب أن السلم جائز في الحيوان والعروض، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إن السلم والقرض في الحيوان لا يجوز؛ ولأهل الظاهر في قولهم: إن السلم لا يجوز فيما عدا المكيل والموزون.
[مسألة: يباع القمح في أندره بعدما يحصد في تبنه]
مسألة وسئل مالك: هل يباع القمح في أندره بعدما يحصد في تبنه؟ قال: لا أرى أن يباع، وهذا من الغرر، وما يدريه ما فيه. قال محمد بن رشد: يريد: وهو في تبنه بعدما يحصد ويدرس، وأما بيعه في أندره وهو زرع قبل أن يدرس فذلك جائز؛ لأنه من بيع الجزاف الجائز؛ لأنه يحزره ويرى سنبله، ويعرف قدره، فيجوز كما يجوز بيعه وهو في فدانه قبل أن يحصد، بل هو أجوز؛ لأن إحاطته به إذا رآه مجتمعا محصودا، أكثر من إحاطته به إذا رآه قائما في فدانه قبل أن يحصد.
وقد قيل: إن ذلك لا يجوز، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي؛ وقد تُئُوِّلَتْ هذه الرواية على ذلك، والصحيح ما تأولناها عليه؛ فبجواز ذلك قال مالك في رواية ابن نافع وأشهب عنه، وقد نص في كتاب ابن الجلاب على ما قلناه، قال: ويجوز أن يباع الزرع قائما إذا يبس وبعد أن يحصد حزما، ولا يجوز بيعه بعد أن يدرس في تبنه، وبالله التوفيق.(7/110)
[التجار يشترون من الزارعين وينقدونهم ذهبهم قبل أن يفرغوا من الحصاد]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك: عن التجار يخرجون في إبان الحصاد فيشترون من الزارعين والحصادين وهم على حصادهم، وينقدونهم ذهبهم وهم يقيمون في الحصاد خمسة عشر يوما ونحوها قبل أن يفرغوا وقد نقدوهم ذهبهم؟ قال: أرجو أن يكون إذا كان قريبا خفيفا. فقلت له: يا أبا عبد الله خمسة عشر يوما ونحوها؟ قال: إذا كان قريبا فأرجو أن يكون خفيفا، وكره أن يحد فيه حد، وكأني رأيته يخففه.
قال محمد بن رشد: يريد إذا اشترى منه كيلا مسمى أو اشتراه كله، كل قفيز بكذا، على ما في الجعل والإجارة من المدونة؛ وإنما جاز أن يتأخر ذلك إلى هذا المقدار، لحاجة البائع إلى المهلة في عمله؛ ولو كان الشراء بعد درس الطعام وتصفيته، لم يجز أن يتأخر الكيل والقبض فيه إلا اليوم واليومين ونحوهما، ولم يجز أكثر من ذلك، إذ لا يجوز شراء سلعة بعينها على أن يتأخر قبضها إلا اليوم واليومين والثلاثة ونحو ذلك.
[مسألة: سلف رجلا في مائة صاع مضمونة إلى أجل مسمى]
مسألة وسئل مالك: عن رجل سلف رجلا في مائة صاع مضمونة إلى أجل مسمى، فلما حل الأجل جاءه يتقاضاه فقضاه خمسة(7/111)
آصع، ثم أعسر بما بقي؛ فلما ألح عليه يتقضاه، قال له: أقلني وأرد عليك طعامك؛ قال: لا بأس به، فقيل له: يا أبا عبد الله، فإنه قد كان قضاه خمسين صاعا ثم سأله الإقالة على أن يرد عليه طعامه، قال: لا خير فيه؛ فقيل له: يا أبا عبد الله، لِمَ، أليس هو مثله؟ قال: لا، ذلك يسير، وأرجو -إن شاء الله- ألا بأس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يدخلها بمجموع البيع والإقالة، أسلفني وأسلفك؛ لأن ما رد المسلم من الطعام إلى البائع فكأنه أسلفه إياه؛ والثمن الذي رد البائع إلى المسلم، كأنه أسلفه إياه أيضا؛ فاستخف ذلك في اليسير، إذ بعد عنه أن يكونا قصدا إلى ذلك؛ ومنع منه في الكثير لقوة التهمة عنده فيه، ولو أقاله مما بقي، لما جاز في القليل ولا في الكثير؛ لأنه يدخله البيع والسلف، فالمكروه فيه أشد، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع وسلف.
[باع قمحا بدينار فأتى بَيِّعُهُ فوجد عنده تمرا فاشترى منه بدينار تمرا]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت
وسئل: عن رجل باع قمحا بدينار فأتى بَيِّعُهُ فوجد عنده تمرا فاشترى منه بدينار تمرا، ثم إنه لقيه بعد ذلك، فقال: إن لي عليك دينارا ولك عَلَيَّ دينار، فقاضني، قال مالك: لا أحبه، ولكني أرى أن يرد التمر الذي أخذ منه؛ قال ابن القاسم: لأنه إذا قاضاه كان قد قبض من ثمن الطعام طعاما.(7/112)
قال محمد بن رشد: قوله إنه يرد التمر الذي أخذ منه صحيح على أصله فيمن باع سلعه بثمن إلى أجل، ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن نقدا، أنه يفسخ البيع الثاني ويثبت البيع الأول؛ إلا أن تفوت السلعة فيفسخ البيعان جميعا على الظاهر من مذهب الذي قد تكلمنا عليه في رسم حلف ليرفعن أمرا أو في هذه المسألة، يقدر على رد التمر أو مثله، فلا يفسخ إلا البيع الثاني، ويأتي على مذهب ابن الماجشون في فسخ البيعتين جميعا أن يفسخ بيع الحنطة جميعا أيضا.
وقال ابن المواز: تفسخ المقاصة فقط، يأخذ منه الدينار ثم يرده إليه، وهذا لا معنى له؛ لأنه إذا أخذه منه ثم رده إليه في مقامه ذلك، فكأنه لم يأخذه منه، وقد حصلت المقاصة بينهما. وقد قيل: إنما قال ذلك محمد؛ لأنه لم يتهمهما على أنهما عملا ذلك؛ ولو اتهمهما لفسخ بيع الحنطة أيضا، وهو تعليل فاسد؛ لأنه لو لم يتهمهما على ذلك، لأجاز المقاصة بينهما؛ لأن الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما إنما يحرم إذا عملا على بيع طعام بطعام إلى أجل، فلا يفسخ إذا عثر عليه إلا من باب التهمة، والحكم بالمنع من الذرائع؛ وإذا اتهما فلا يصح، إلا أن يفسخ بيع التمر كما قال مالك، أو تفسخ البيعتان جميعا على قول ابن الماجشون.
[مسألة: اشترى من رجل تمرا جزافا ولم ينتقد ثمنه]
مسألة وسئل مالك: عمن اشترى من رجل تمرا جزافا ولم ينتقد ثمنه، ثم يشتري البائع منه كيلا أكثر من الثلث؟ قال مالك:(7/113)
لا يجوز له أن يشتري منه أكثر من الثلث كيلا نقدا ولم ينتقد، وإن اشترى إلى أجل، فلا يجوز له أن يشتري منه دون الثلث بنقد، قال سحنون: ولا شيئا منه بنقد؛ قال ابن القاسم: قال مالك: وإن تفرقا فلا يجوز له أن يشتري منه أقل من الثلث بنقد ولا بغير نقد، وإنما يجوز له أن يشتري منه أقل من الثلث إذا لم يتفرقا بغير نقد.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذه المسألة إجماعهم على أن من باع جزافا فلا يجوز له أن يستثني منه كيلا إلا الثلث فأقل، فإذا باع الرجل تمرا جزافا ولم يستثن منه شيئا، فلا يجوز له أن يشتري منه إلا ما كان يجوز له أن يستثنيه منه، وذلك الثلث فأقل، فإن اشترى منه أكثر من الثلث لم يجز نقدا وقاصه ولم ينقد؛ وإن اشترى منه الثلث فأقل مقاصة من الثمن جاز، وإن اشترى ذلك منه بنقد ولم يقاصه، جاز إن كان البيع بالنقد ولم يكن إلى أجل، وهو دليل قوله إنه لا يجوز له أن يشتري منه أكثر من الثلث كيلا نقد أو لم ينتقد؛ لأن مساواته بين أن ينقد أو لا ينقد إذا اشترى أكثر من الثلث، يدل على أن ذلك يفترق إذا اشترى أقل من الثلث؛ ومعنى ذلك إذا لم يكونا من أهل العينة؛ لأن أهل الصحة لا يتهمون إلا في بيوع الآجال؛ وكذلك لو غاب المبتاع على الطعام، لجاز أن يشتري منه أقل من الثلث نقدا ومقاصة إذا لم يكونا من أهل العينة، ولو كانا من أهل العينة، لم يجز أن يشتري منه شيئا بعد الغيبة عليه لا نقدا ولا مقاصة؛ وأما إن كان باع منه التمر أولا بثمن إلى أجل، فلا يجوز له أن يشتري منه أكثر من الثلث على حال، ويجوز له أن يشتري منه أقل من(7/114)
الثلث مقاصة من الثمن، ولا يجوز ذلك نقدا؛ لأنه إن اشترى ذلك بالنقد، دخله البيع والسلف؛ لأنه إذا حل الأجل يأخذ منه جميع الثمن، فيكون ما قابل منه الثمن الذي نقده في الطعام الذي اشتراه منه قضاء منه، كأنه أسلفه إياه وبقيته ثمنا للطعام الذي صار إليه؛ ويدخله أيضا طعام وذهب بذهب إلى أجل، وهذا ما لم يغب المبتاع على الطعام؛ وأما إن غاب على الطعام، فلا يجوز له أن يشتري منه شيئا قليلا ولا كثيرا نقدا ولا مقاصة؛ لأنه إن كان نقدا كان بيعا وسلفا دنانير وطعام، وإن كان مقاصة، كان بيعا وسلف طعام.
[مسألة: باع خمسة عشر جلدا كل جلد بدينار إلا درهما إلى أجل]
مسألة وقال مالك، في رجل باع خمسة عشر جلدا، كل جلد بدينار إلا درهما إلى أجل، فلما وجب البيع بينهما، قال له الرجل: تعال احسب هذا؛ قال: هذه أربعة عشر دينارا، قال: فاكتب بيني وبينك كتابا بأربعة عشر دينارا؟ فكره هذا البيع، وقال: لا خير فيه.
وفيه وجه آخر من مكروه البيع؛ قال ابن القاسم: وذلك لو أنه جاز، أخذ منه عند الأجل خمسة عشر درهما، وأعطاه خمسة عشر دينارا، فصار صرفا متأخرا، وإنما يجوز من هذا إلى أجل الدرهم والدرهمين الذي لا يقع فيه غرر في خفض صرف ولا في ارتفاعه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب الصرف.(7/115)
[يبتاع من الرجل طعاما إلى أجل فيأتيه عند الأجل فيقتضي منه نصفه ويبقى نصفه]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك: عن الرجل يبتاع من الرجل طعاما إلى أجل، فيأتيه عند الأجل فيقتضي منه نصفه ويبقى نصفه، ثم يأتي بعد ذلك فيطلبه ببقية حقه، فيقول ما عندي قضاؤك، ولكن إن أحببت أن ترد علي ما أعطيتك وأرد ذهبك كلها فعلت. فقال: لا خير فيه، وقال: أكرهه، وسمعته قبل ذلك يقول: إن كان الذي اقتضى منه يسيرا مما له عليه، لم أر بذلك بأسا أن يرده ويأخذ رأس ماله.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة فوق هذا في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات والقول فيها، فلا وجه لإعادته.
[يبيع الرجل نصف أندره جزافا]
من سماع أشهب وابن نافع من كتاب البيوع الأول قال أشهب، وسألته: أيصلح أن يبيع الرجل نصف أندره جزافا؟ قال: نعم في رأي.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة هاهنا في بعض الروايات، والمعنى فيها: أن يبيعه نصفه جزافا وهو في سنبله قبل أن يدرس؛ لأنه إذا جاز بيع جميعه قبل أن يدرس، جاز بيع نصفه، وأما بعد أن يدرس فلا(7/116)
يجوز على حال، وقد مضى بيان هذا، والقول فيه قبل هذا في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم.
[مسألة: يمنعون أن يباع الطعام حتى ينقل من مكانه]
مسألة
قال: وسألته عن قول عبد الله بن عمر كان يبعث إلينا رجال يمنعونا أن نبيع طعاما ابتعناه حتى ننقله من ذلك المكان، أعليه العمل؟ فقال: قد جاء هذا الحديث. قلت له: فأحب إليك أن يؤخذ به على وجه الاحتياط؟ قال: أحب إلي أن يؤخذ به فيما اشترى جزافا، لا يباع حتى ينقل من مكانه، فأما ما اشتري بكيل، فلم يأت هذا الحديث فيه.
قال محمد بن رشد: «نهى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيع الطعام قبل أن يستوفى» ، محمول عند مالك وعامة أصحابه على ما اشتري كيلا أو وزنا؛ لأنه لا يدخل في ضمانه حتى يستوفيه بالكيل أو الوزن، فإذا باعه قبل أن يستوفيه، كان قد ربح فيما لم يضمن؛ وهذا هو المعنى عند مالك في «نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيع الطعام قبل أن يستوفى» بدليل «نهيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن ربح ما لم يضمن» وإنما لم يحمل «نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن ربح ما لم يضمن» على عمومه في الطعام وغير الطعام، وقصره على الطعام؛ لأنه عموم عارضه عموم القرآن، قول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، وقوله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ،(7/117)
وقوله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] ، يريد: التجارة في مواسم الحج على ما جاء في تفسير ذلك، فوجب ألا يخرج من هذا العموم شيء إلا بيقين، وهو الطعام الذي قد نص عليه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دون ما سواه من المكيل أو الموزون، لاحتمال أن يكون مراد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بنهيه عن ربح ما لم يضمن، ما نهي عنه من بيع الطعام قبل أن يستوفى، فالطعام المصبر خارج عن هذا عند مالك؛ لأنه يدخل بالعقد في ضمان المشترى؛ إلا أنه استحب في هذه الرواية ألا تباع الصبرة المشتراة حتى تنقل من موضعها، لحديث عبد الله بن عمر المذكور، ولم يوجب ذلك، لاحتمال أن يكون معناه الندب حماية للذريعة.
وفي المدنية لمالك أن معناه فيما بيع بالدين. ووجه ذلك: أن الصبرة وإن دخلت بالعقد في ضمان المشتري، فلم يدخل ثمنها في ضمان البائع إذا كان مؤجلا لم يقبض، ففيه شيء من معنى الضمان، وفيه نظر؛ وابن حبيب يحمل «نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن ربح ما لم يضمن» على عمومه في كل ما يوزن من الطعام وغيره، وهو مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة وجماعة سواه؛ وقول مالك أصح على ما بيناه.
[مسألة: باع من رجل سلعة ودفعها إليه وقبضها بمائة دينار إلى أجل سنة]
مسألة قال: وسئل مالك: عمن باع من رجل سلعة ودفعها إليه وقبضها بمائة دينار إلى أجل سنة، فأقامت عنده بعد أن قبضها(7/118)
حتى حدث بها عيب عور أو عرج أو قطع أو أمر، حتى علم أنهما لم يعملا القبيح؛ أيجوز لبائعها أن يشتريها بأقل مما باعها به وينقده ثمنها بعدما حدث فيها هذه الأشياء؟
فقال: يبيعها بالدين ويشتريها بالنقد أقل منه، لا يصلح هذا ولا يؤمن الناس على مثله؛ ولو جاز هذا لهذا، لقال آخر في مثل هذا: فقد نقصت، فقد مرضت؛ لا يجوز هذا ولا يمكن الناس منه؛ وقال سحنون مثله، وهو خير من رواية ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: رواية ابن القاسم التي أشار إليها سحنون وقعت في كتاب ابن المواز: قال ابن القاسم: عن مالك في الدابة أو البعير يبتاعها بثمن إلى أجل فيسافر عليها المبتاع إلى مثل الحج وبعيد السفر، فيأتي وقد أنقصها، ثم يبتاعها منه بأقل من الثمن نقدا، فلا يتهم في مثل هذه أحد ولا بأس به، وكذلك الثوب يلبس فيبلى؛ وذهب كل واحد من ابن القاسم وأشهب في هذه المسألة إلى ما روي عن مالك فيها، وذلك من قوليهما في كتاب الرواحل والدواب من المدونة: أجاز ابن القاسم فيها أن يستقيل الكرى المتكارى فيقيله بزيادة بعد أن قبض الكراء وغاب عليه إذا كانا قد سارا من الطريق ما يسقط التهمة عنهما؛ ولم يجز ذلك أشهب قبل الركوب ولا بعده، ورأى التهمة بينهما باقية على حالها، وقول ابن القاسم وروايته عن مالك أظهر، والله أعلم؛ لأن ذلك ليس بحرام بين، وإنما يفسخ حماية للذرائع، ومن ناحية التهمة؛ وأكثر أهل العلم لا يقولون بذلك، فإذا ظهر ما يضعف التهمة انبغى ألا تحقق، وبالله التوفيق.(7/119)
[مسألة: باع من رجل طعاما بذهب إلى أجل]
مسألة وسئل: عمن باع من رجل طعاما بذهب إلى أجل، ثم باع تلك الذهب من رجل غيره بطعام مثل طعامه أو طعام غيره، ويحيله بالذهب على غريمه، فقال بعد إطراق: لا بأس بذلك إذا صح كان مثل طعامه، أو أقل منه، أو أكثر، أو غير طعامه طعام ليس من صنف طعامه الذي باع منه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا بأس بذلك، إذ ليس فيه وجه من وجوه المكروه؛ لأنه باع طعاما من رجل، وأخذ بالثمن طعاما من غيره نقدا؛ فجاز ذلك ولم يدخله اقتضاء من ثمن الطعام طعاما، إذ لم يأخذ الطعام من الذي باعه الطعام، وإذا بين.
[مسألة: باع تمر حائطه بمائة دينار وعشرين دينارا]
مسألة قال: وسئل: عمن باع تمر حائطه بمائة دينار وعشرين دينارا، فقضاه الغريم منها بخمسة عشر دينارا رطبا وتمرا من حائطه؛ فلما استجدت التمرة في رؤوس النخل، اشتروا ذلك كله منه في رؤوس النخل بسبعين دينارا مما لهم عليه، ويتبعونه ببقية المائة والعشرين التي كانت لهم عليه؛ فقال مالك له -وهو المبتاع-: اشتريت منهم جزافا وهو في رؤوس النخل، وبعتهم كذلك في رؤوس النخل؛ قال: نعم؛ فأطرق فيها مالك طويلا، ثم قال: لا أرى بذلك بأسا إذا كان التمر الذي تأخذون بالسبعين الدينار(7/120)
الآن، قد استجد ويبس؛ فأما لو لم يكن استجد فلا خير فيه، وذلك أنه دين بدين.
قال: وسألته عن الذي يبيع تمر حائطه رطبا بمائة وعشرين دينارا فيبس في رءوس النخل، ثم يشتريه منه بسبعين دينارا مما له عليه؛ قال: أنا أكرهه، ومما كرهته له أنه باعه رطبا وأخذه تمرا، والرطب بالتمر لا يصلح؛ قلت له: إنه لم يأخذ تمرا من غير حائطه الذي باعه، إنما أخذ حائطه بعينه تمرا، فسكت وكأنه كرهه، قال: وسئل: عن الذي يبيع تمر حائطه بمائة دينار إلى الجداد، فإذا كان الجداد اشتراه بعشرة دنانير ومائه دينار، وهو في رءوس النخل؛ فقال: لا خير فيه. فقيل له: فلو باعه إياه بذلك، ثم لم يقم إلا يومين أو ثلاثة حتى اشتراه بعشرين ومائة؛ قال: ولا خير فيه أيضا.
قال: وسألته: عن الذي يبيع تمر حائطه رطبا، فيبس في رءوس النخل ويصير تمرا، فيقول البائع: أنا آخذ نخلي بحقي؛ فقال: لا خير فيه؛ لأنه أعطاه رطبا وأخذ تمرا، والرطب بالتمر لا يصلح يدا بيد، فكيف إلى أجل؛ فقلت له: إنه رطبه بعينه صار تمرا في رءوس النخل، فقال: لا يصلح وإن كان بعينه؛ فقيل له: أرأيت لو أفلس الغريم وقد صار الرطب تمرا في رءوس النخل، أيكون له أن يأخذه بدينه؟ فقال: ذلك له، إلا أن يشاء الغرماء أن يأخذوه ويعطوه دينه، وإن أحب هو أن لا يأخذه ويحاصهم بدينه، فذلك له؛ وليس هذا مثل الذي يشتري منه هو متعمدا، إنما هو على غير وجه(7/121)
التبايع إنما أعطاه إياه القضاء؛ أرأيت العبد الآبق، أيجوز لأحد أن يشتريه؟ فقد يجوز لصاحبه الذي باعه أن يقول لا أحب أن أحاصص الغرماء وأنا أطلب عبدي، فذلك له؛ فإن وجده، كان أحق به، وإن لم يجده، رجع فحاص الغرماء؛ لأنه إن تلف أو مات، فهو من الذي عليه الحق.
قال محمد بن رشد: أجاز مالك أولا لمن باع تمر حائطه رطبا بدين إلى أجل، أن يأخذه إذا استجد وصار تمرا ببعض الثمن؛ وكذلك لو أخذه بجميع الثمن، أو بأكثر منه، ومنع من ذلك كله آخرا إلا في التفليس، فإنه يجوز له أن يأخذه ويترك محاصة الغرماء؛ وقد روى أشهب أيضا عن مالك أنه لا يجوز له أن يأخذه في التفليس؛ فيتحصل له في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: جواز ذلك في التفليس وغير التفليس، وهو قوله أولا؛ لأنه إذا جاز ذلك في غير التفليس، فأحرى أن يجيزه في التفليس. والثاني: أن ذلك لا يجوز في التفليس ولا في غير التفليس، وهو الذي حكاه عنه ابن حبيب؛ لأنه إذا لم يجز ذلك في التفليس، فأحرى أن لا يجيزه في غير التفليس. والثالث: الفرق بين التفليس وغير التفليس، والقول بإجازة ذلك في التفليس وغير التفليس أظهر الأقوال؛ لأن الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما ليس بحرام لذاته، وإنما يمنع منه مخافة أن يكون قد عمل معه على أن يبيع منه طعاما بطعام إلى أجل، وحماية للذرائع، فإذا أخذ الثمر الذي باع منه بعينه بعد أن صار تمرا واستجد، وجب أن يجوز، إذ قد صح بيعه بالسلامة من فسخ الدين في الدين، ومن أن يعطي طعاما في طعام غيره إلى أجل. ووجه المنع من ذلك: أنا نمنعه منه حماية للذرائع؛ لأنا نتهمه أن يكون قد عمل معه على أن يأخذ منه في الرطب الذي أعطاه تمرا إلى(7/122)
أجل، فأعطاه لما حل الأجل بالتمر الذي شرط عليه تمر حائطه، ووجه الفرق بين التفليس وغير التفليس: أن التفليس يرفع التهمة؛ لأنه أمر طارئ لم يعلماه؛ وأما الذي باع عبدا بثمن إلى أجل ففلس المشتري وقد أبق العبد، فقال هاهنا: إنه مخير بين أن يحاصص الغرماء، وبين أن يطلب العبد؛ فإن وجده كان أحق به، وإن لم يجده رجع فحاص الغرماء؛ وفي ذلك من قوله نظر، إذ لا حد لوقت طلبه يجب له بالبلوغ إليه الرجوع إلى محاصة الغرماء، أو الرجوع على كل واحد منهم بما كان يجب له في المحاصة لو حاصهم أن يحاصوا قبل أن يجده؛ وقال في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب المديان: إنه إن رضي بطلب العبد وترك المحاصة، فليس له أن يرجع إليها؛ إن لم يجد العبد، كما أنه إذا اختار محاصة الغرماء، فليس له إن وجد العبد أن يأخذه ويرد ما صار له في المحاصة، وقال أصبغ: ليس إلا المحاصة، ولا يجوز له أن يتركها ويتبع العبد؛ لأنه دين بدين وخطار، وهو أظهر الأقوال، وبالله التوفيق.
[سلف رجلا خمسة وعشرين دينارا فقضاه منها عشرين وبقيت له عليه خمسة]
ومن كتاب أوله مسائل كراء وبيوع
وسئل مالك: عمن سلف رجلا خمسة وعشرين دينارا، فقضاه منها عشرين، وبقيت له عليه خمسة؛ فطلب عينه فلم يجدها، فباعه الذي له عليه الخمسة دنانير بيعا إلى سنة، ثم وقع في نفسه أنه يعطيه الخمسة من ثمن ما باع منه، أيأخذها؟ قال: لا يأخذها، وأصل بيعها لا خير فيه، يبيعه وله عليه دين؛ فقيل له: إنه إنما كانت سلفا حالة، فقال: سواء كان سلفا أو ثمن(7/123)
متاع، ولكن إن ترك الخمسة إلى السنة، فأرجو أن لا يكون بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: الذي يدخل هذه المسألة من المكروه نصا هي الربا المحرم بالقرآن - وهو التأخير بالدين على أن يزيده فيه، وذلك أنه إذا كان له عليه في التمثيل عشرة مثاقيل حالة من قرض أو بيع، فباعه سلعة قيمتها عشرة مثاقيل باثني عشر مثقالا إلى أجل، فقضاه حقه من ثمنها، كانا الذي يقضيه إنما هو ثمن سلعة، كأنه باعها له وأسلم إليه الثمن وصار إن أخره بالعشرة التي كانت قد حلت له عليه، على أن يأخذ منه بها عند الأجل اثني عشر؛ وقد كره ابن القاسم وابن دينار في المدنية إذا كان لرجل دين حال على عبد رجل أن يأخذ من سيده شيئا بعينه إلى أجل، يستعين به في قضاء العبد؛ لأن العبد وماله لسيده، وقوله ولكن إن ترك الخمسة إلى السنة، فأرجو أن لا يكون به بأس، معناه: أنه تركها إلى السنة بغير شرط، ولو كان شرط لم يجز، ودخله البيع والسلف، قاله ابن المواز، هو صحيح.
[مسألة: أسلف مائة إردب قمحا فأخذ تسعين إردبا وعشرة أرادب شعيرا قبل محل الأجل]
مسألة وسئل ابن القاسم: عمن أسلف مائة إردب قمحا، فأخذ تسعين إردبا وعشرة أرادب شعيرا أو دقيقا قبل محل الأجل؟ قال: فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة؛ لأن الطعام من القرض(7/124)
جائز أن يباع قبل أن يقبض؛ فإذا كانت التسعون الأرادب التي قبض مثل المائة التي له لا أفضل ولا أدنى، جاز أن يأخذ في المجلس بالعشرة الباقية - عشرة أرادب شعيرا أو عشرة أرادب دقيقا؛ لأنها مبادلة في الوجهين؛ وجاز له أن يأخذ بها تمرا أو ما شاء؛ لأن البيع فيها جائز، ولو كانت التسعون الأرادب أدنى من حقه أو أفضل، لم يجز له أن يأخذ في المجلس بالعشرة الباقية شعيرا ولا دقيقا ولا شيئا من الأشياء على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك؛ ويأتي في ذلك على قول أشهب في كتاب الصرف من المدونة تفصيل، سنذكره في رسم أوصى من سماع عيسى - إن شاء الله.
ولو انصرف عنه ثم لقيه في مجلس آخر، لجاز له أن يأخذ منه بها شعيرا أو دقيقا بمثل كيلها أو تمرا أو ما شاء من العروض والعين. وحمل أبو إسحاق التونسي هذه المسألة على أن المائة الأردب من سلم، فقال: هذا جواز اقتضاء الدقيق من القمح في السلم، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه إنما قال: وسئل: عمن أسلف مائة إردب ولم يقل أسلف في مائة إردب، والله أعلم.
[سلف عشرة دنانير وعروضا في رأس إلى أجل فلما حل الأجل لم يأته بالرأس]
من سماع عيسى بن دينار
من ابن القاسم من كتاب أوله نقدها نقدها
قال عيسى: وسألت ابن القاسم: عن رجل سلف عشرة دنانير وعروضا في رأس إلى أجل، فلما حل الأجل لم يأته بالرأس؛ فأقاله منه وأخذ منه عشرين دينارا عشرة منها للعشرة التي أعطاه، وعشرة أخرى قيمة عرضه؛ قال: لا خير في هذا، هذا بيع وسلف حين أخذ بالعرض ذهبا؛ ولا ينبغي أن يأخذ في ذلك ذهبا ولا(7/125)
ورقا، قال: ولو أخذ عشرة دنانير وعروضا مثل عرضه أو أدنى من عرضه، لم يكن به بأس؛ ولو أخذ عشرة دنانير وعرضا مخالفا لعرضه، لم يكن فيه خير؛ لأنه يصير مثل الذي كرهنا من الدنانير كلها حين صارت بيعا وسلفا، وكذلك العرض صار ثمنا للعرض المخالف له، وصارت العشرة سلفا.
قلت: أرأيت إذا كان العرض مخالفا لعروضه - وهو أدنى منه أضعافا، أيكون به بأس؟ قال: إذا كان مخالفا للعرض الذي دفع إليه، وكان من غير صنفه، فلا يحل - وإن كان أدنى منه أضعافا؛ لأن يصير بيعا وسلفا.
قال محمد بن رشد: أما إذا أقاله على أن أخذ منه في العروض ذهبا أو ورقا أو عرضا مخالفة لها من غير صنفها، أرفع منها أو أدنى، أو عروضا من صنفها أفضل منها، فلا إشكال في أن ذلك لا يجوز؛ لأنه بيع وسلف، باع منه العروض بما أخذ منه فيها على أن أسلفه العشرة الدنانير التي صرف إليه؛ وأما إذا أخذ منه في العروض عروضا مثل عروضه، أو أدنى منها، إلا أنها من صنفها، فأجاز ذلك ابن القاسم في هذه الرواية.
واعترضها محمد بن المواز، فقال: ما هذه بجيدة، ولم يجزها أصبغ ورأى أن العروض بالعروض بيعا والمال سلفا. ووجه ما ذهب إليه ابن المواز وحكاه عن أصبغ: هو أنه يتهم على أنه إنما أسلفه العشرة دنانير على أن يحرز العروض في ذمته، وهي علة صحيحة، إلا أنها عند ابن القاسم ضعيفة من أجل أن الناس في أغلب أحوالهم لا يقصدون إلى ذلك؛ وهذا معنى قوله في كتاب بيوع الآجال من المدونة في الذي أسلم برذونا في عشرة أثواب إلى أجل، فأخذ منه قبل محل الأجل خمسة أثواب والبرذون، أنه يدخله: خذ في حقك قبل محل الأجل وأزيدك دخولا(7/126)
ضعيفا؛ وحكى ابن المواز عن أصبغ أنه قال: ولو كانت ثيابا كلها، فأخذ بعضها من صنفها، وبالبعض شيئا آخر لم يجز، ورأى ذلك تناقضا من قوله؛ فقال: وإذ جعل ما رد من صنفها سلفا، فلم أنكر على ابن القاسم إذ جعل كل شيء سلفا في المسألة؛ ولا يلزم عند أصبغ ما ألزمه ابن المواز من التناقض؛ لأنه لم يتناقض في قوله، بل جرى على أصله؛ وذلك أنه إنما منع من مسألة ابن القاسم؛ لأنه اتهمه على أنه أسلفه العشرة دنانير على أن يحرز العرض في ذمته، وكذلك إذا كانت عروضا كلها، فأخذ بعضها من صنفها وبالبعض شيئا آخر؛ اتهمه على أنه باع منه بعض العروض بما أخذ منه فيها، على أن يحرز بعضها في ضمانه؛ وابن القاسم يجيز هذا على أصله في تضعيف هذه العلة، فكلاهما لا يخرج عن أصله.
[مسألة: اشترى من رجل طعاما بعينه إلى أجل]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل اشترى من رجل طعاما بعينه إلى أجل، ثم غاب أحدهما من عذر أو غيره حتى مضى الأجل، فأحب أحدهما إتمام البيع وكرهه الآخر؛ قال: أرى البيع لازما لهما، وليس لأحدهما أن يتأخر عن صاحبه، ولا يتغيب عنه ليفسخ البيع فيما بينهما يكون ذلك ندما منه.
قال محمد بن رشد: قوله اشترى من رجل طعاما بعينه إلى أجل، معناه طعاما بعينه بثمن إلى أجل. وقوله: إن البيع لا يفسخ بينهما بتغييب أحدهما صحيح؛ لأن العقد إذا لم يشترط ذلك فيه فقد سلم من الفساد؛ وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وهذا بخلاف الصرف إذا غاب أحد المتصارفين عن صاحبه قبل التناجز، وقد مضى تفصيل القول في ذلك في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف.(7/127)
[مسألة: باع كبشا بصوف إلى أجل]
مسألة وسئل: عن رجل باع كبشا بصوف إلى أجل، قال: إن كان أجلا قريبا لا يكون للكبش صوف تجز في مثله، فلا بأس به؛ وإن كان أجلا بعيدا يكون للكبش صوف فلا خير فيه. قال مالك: ولا يصلح للرجل أن يبيع نخلا بثمر إلى أجل يكون للنخل ثمرة إلى ذلك الأجل.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: باع أرضا فيها زرع لم يطب بثمن إلى أجل واستثناه المشتري]
مسألة وسئل: عن رجل باع أرضا فيها زرع لم يطب بثمن إلى أجل واستثناه المشتري، فاستقال البائع على أن يمحو عنه الثمن ويترك له الزرع؛ قال ابن القاسم: وليس بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: وهذا بيّن على ما قال: إن ذلك جائز، إذ لا تهمة فيه؛ لأن الأمر آل بينهما إلى أن رجعت للبائع أرضه، وبقي الزرع للمبتاع موهوبا بغير ثمن فجاز، وكذلك لو استقال على أن يزيده ويترك له الزرع لجاز أيضا، ولو كان المبتاع هو المستقيل بزيادة لم يجز على حال؛ لأنهما يتهمان على أنهما قصدا إلى بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه بالزيادة التي زادها المبتاع، ولو كان البيع بالنقد لجاز ذلك، إلا أن يكونوا من أهل العينة على أصولهم في أن أهل الصحة لا يتهمون في بيع النقد.(7/128)
[باع طعاما غائبا أو غنما غائبة بموضع لا يجوز فيه النقد بثمن إلى أجل سنة]
ومن كتاب أوله أوصى
أن ينفق على أمهات أولاده
قال ابن القاسم: فيمن باع طعاما غائبا أو غنما غائبة بموضع لا يجوز فيه النقد بثمن إلى أجل سنة، على أن السنة من يوم يقبض الغنم؛ قال: لا يجوز هذا ولا يصلح، إلا أن يكون الأجل من يوم وقع البيع بمنزلة النكاح؛ يريد: بمنزلة الذي يتزوج بمائة دينار نقدا ومائة إلى سنة، فلا يصلح إلا أن تكون السنة من يوم عقد النكاح، وليس من يوم يدخل بها، وقاله أصبغ كله، ورواه في سماعه من ابن القاسم.
قال أصبغ: وإن كان الأجل من يوم وقع البيع وكانت بموضع لا يمكن قبضها إلا بعد مضي الأجل، مثل الأندلس وشبهها؛ أو كانت بغير ذلك وكان الأجل دون ذلك مما يمضي قبل قبض السلعة ويحل وينعقد فلا يحل ولا يجوز؛ لأنه يصير كبيع النقد في الغائب.
قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: ولو كان أحدهما بعينه والآخر مضمونا، لم يكن بذلك بأس إذا كانت غيبته قريبة ولم تكن بعيدة جدا، فيكون الكالئ بالكالئ؛ لأن ضمانه على البائع، فهو غير مقبوض، والتسليف لا يصلح إلا بتعجيل القبض؛ فإذا كان المضمون هو المقبوض أولا فلا يصلح، وإن كان الذي بعينه هو المقبوض أولا، فذلك جائز وإن بعد؛ ما لم يبعد جدا، فلا يصلح اشتراؤه؛ لأنه حيوان.
قال محمد بن رشد: لم يجز ابن القاسم في رواية عيسى هذه لمن اشترى سلعة غائبة بثمن إلى أجل أن يكون الأجل من يوم تقبض السلعة، وقاس ذلك على أن النكاح لا يجوز أن يكون أجل الكالئ فيه من يوم الدخول، وقياسه عليه صحيح؛ لأنه إذا لم يجز في النكاح، فأحرى ألا(7/129)
يجوز في البيع؛ لأنه أضيق من النكاح، إذ قد يجوز من الغرر في الصداق ما لا يجوز في ثمن البيع؛ وهو الذي يأتي على مذهبه في المدونة؛ لأن الظاهر من قوله فيها إنه لا يجوز - أن يسلم في طعام على أن يقتضي في بلد أخرى، إلا أن يضرب لذلك أجلا؛ خلاف قول أصبغ، وابن حبيب: أن ذلك جائز؛ لأن تسمية البلد كضرب الأجل؛ فعلى قولهما يجوز أن يشتري الرجل سلعة غائبة بدين إلى أجل على أن يكون الأجل من يوم تقبض السلعة.
وقد روى يحيى عنه في رسم يشتري الدور والمزارع من سماعه من كتاب النكاح - إجازة النكاح على ذلك، وهو على ما حكى عن مالك في المدونة في الذي تزوج امرأة بخمسين نقدا وخمسين تكون على ظهره، ولا يقاس البيع على النكاح في هذا، لما ذكرناه من أنه أضيق منه.
وأما قول أصبغ: إن السلعة إن كانت بموضع لا يمكن قبضها إلا بعد حلول أجل الثمن، فلا يحل ولا يجوز، فإنه خلاف ظاهر ما في كتاب الغرر من المدونة لابن القاسم؛ لأن الظاهر من قوله فيها أن البيع جائز وإن كان حلول الدين قبل قبض السلعة، ما لم يشترط عليه أن ينقده عند حلوله؛ فإن اشترط ذلك عليه لم يجز باتفاق؛ لأنه النقد في الغالب، ولو اشترط عليه أن لا ينقده إلا بعد القبض، لوجب ألا يجوز أيضا على أصولهم؛ لأنه بيع وسلف.
وأما قول ابن القاسم في رواية أصبغ عنه: ولو كان أحدهما بعينه والآخر مضمونا، لم يكن بذلك بأس إذا كانت غيبة قريبة، ولم تكن بعيدة جدا، فيكون الكالئ بالكالئ؛ لأن ضمانه على البائع وهو غير مقبوض، فإنه خلاف لقوله في المدونة في موضعين:
أحدهما: أن شراء الغائب بالدين دين في دين لا يجوز إذا كان في الموضع البعيد الذي يكون فيه الضمان من البائع؛ لأنه قد نص في المدونة على أن الدين(7/130)
بالدين إنما يكون في المضمونين جميعا، فعلى قوله فيها يجوز شراء الغائب البعيد الغيبة بالدين.
والثاني: قوله إن الضمان في الغائب القريب الغيبة من المبتاع؛ لأنه لما قال: إن ذلك لا يجوز في البعيد الغيبة؛ لأن الضمان على البائع، دل ذلك على أنه إنما يجوز في القريب الغيبة حيث يكون الضمان على المشتري؛ فلا يكون ابتياعه بدين دينا في دين، وذلك خلاف قوله في المدونة؛ لأنه قد نص فيها أنه أخذ بقول مالك الذي رجع إليه: أن الضمان في الغائب المشترى على الصفة من البائع وإن قربت غيبته جدا بحيث يجوز اشتراط النقد فيه؛ وقد حكى ابن حبيب: أنه لا اختلاف في أن الضمان من المبتاع فيما يجوز فيه النقد، وليس ذلك بصحيح لما قد نص عليه في المدونة.
[مسألة: باع من رجل طعاما بثمن إلى أجل]
مسألة وقال في رجل باع من رجل طعاما بثمن إلى أجل، ثم إن الذي عليه الحق احتاج إلى أخذ دنانير في طعام، فأراد الذي يسأله الدنانير من ثمن الطعام أن يسلفه ولم يقرب أجل الحق الذي له وبينه وبين ذلك أشهر: إنه لا بأس بذلك، قيل: فأراد أن يرتهن مع ذلك رهنا بالأول والآخر، قال: هذا حرام لا يحل.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا بأس أن يبيع الرجل من الرجل طعاما بثمن إلى أجل ثم يسلف إليه أيضا دنانير في طعام إلى أجل؛ لأنهما مبايعتان صحيحتان لا تقدح إحداهما في الأخرى، وإنما شرط أن تكون المبايعة الثانية قبل أن تحل الأولى أو بقرب حلولها، لئلا يقضيه الدنانير التي أسلفه في الطعام في ثمن الطعام الذي له عليه، فيكون(7/131)
قد رجعت إليه دنانيره وآل أمرهما إلى فسخ الثمن الذي كان له عليه في طعام إلى أجل، وقد مضى هذا المعنى في آخر رسم من سماع أشهب، وإنما لم يجز إذا أسلم إليه الدنانير في طعام قبل محل الأجل أن يرتهن منه رهنا بالأول والآخر؛ لأن ذلك غرر؛ إذ لا منفعة له في الرهن إلا أن يقوم الغرماء على الراهن وهو لا يدري هل يقومون عليه أم لا؛ ولا ما يكون قدر انتفاعه به إن قام عليه الغرماء؛ لأن كلما كثرت الديون عليه، كثر انتفاعه بالرهن، فهو يضع عنه من ثمن ما سلفه فيه، لا من غرر لا يدري قدره؛ فإن وقع ذلك فسخت معاملتهما ورد إليه دنانيره، وكان جميع الرهن رهنا بالأقل منها أو من الطعام الذي ارتهنه به، ولم يكن شيء منه في الدين الأول على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة.
وقد قيل: إن الرهن يبطل ولا يكون رهنا بشيء من الدين الثاني ولا الأول، وقيل: يقسم على الدينين، فيكون لكل واحد منهما ما ينوبه منه، فيبطل ما ناب منه الدين الأول، ويكون رهنا بالدين الثاني ما نابه منه، حكى ذلك ابن المواز عن بعض أصحاب مالك، ويأتي على ما في سماع أصبغ من كتاب الكفالة والحوالة أنه يجوز أن يعطي الرجل الرجل عشرة دنانير، على أن يعطيه حميلا أو رهنا بحق له عليه لم يحل أجله؛ لأنه لا بأس أن يبيع الرجل الرجل بيعا على أن يرهنه به رهنا وبدين له آخر لم يحل أجله، خلاف قوله هاهنا، وخلاف قوله في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الرهون.
[مسألة: أسلف ويبة قمح أيأخذ نصف ويبة قمح ونصف ويبة دقيق]
مسألة وقال، فيمن أسلف ويبة قمح: فلا بأس به أن يأخذ(7/132)
نصف ويبة قمح، ونصف ويبة دقيق أو شعير أو تمر؛ وإنما مثل ذلك مثل الرجل يكون له على الرجل ديناران فيأخذ منه دينارا عينا، ويأخذ منه بالدينار الآخر ما شاء قمحا ودراهم؛ فإن قال قائل: فالدينار لا يصلح أن يأخذ نصفه عينا ونصفه شيئا آخر، فالويبة بمنزلته فليس كذلك؛ لأن الدينار لا يتبعض، والويبة تتبعض في الكيل بمنزلة الدينارين.
قال: ولا بأس أن يأخذ أيضا من ويبة القمح نصف ويبة قمح، وبالنصف الآخر ما شاء من الكيل من التمر والزبيب، وكل ما كان يجوز أن يباع بالقمح متفاضلا؛ فأما ما لا يجوز أن يؤخذ إلا مثلا بمثل، فلا يأخذ إلا مثل ما بقي له من الكيل سواء؛ ولا يحل له أن يأخذ غير ماله عليه إن كان الذي له عليه ويبة محمولة، فلا خير في أن يأخذ نصف ويبة سمراء، ونصف ويبة شعير، أو شيئا من الأشياء في صفقة واحدة؛ ولو اقتضى منه في بعضها شعيرا أو دقيقا أو سمراء، ثم انصرف عنه؛ ثم جاءه بعد ذلك يتقاضاه بعين حقه فأعطاه به زبيبا أو غير ذلك من الطعام كله أو عرضا، لم يكن بذلك بأس، وإنما يكره من ذلك اجتماعهما.(7/133)
قال محمد بن رشد: قد بين ابن القاسم وجه قوله فيما أجازه من أن يأخذ الدين من ويبة قمح نصفها قمحا ونصفها دقيقا أو شعيرا أو تمرا، وجعل أشهب في رواية ابن أبي جعفر عنه الويبة الواحدة كالدينار الواحد، فلم يجز ذلك فيها؛ وقول ابن القاسم أصح؛ لأن الويبة الواحدة كالدنانير والدراهم المجموعة، ولا اختلاف عندهم في أنه يجوز أن يأخذ من ويبتي قمح ويبة قمح وويبة دقيق أو شعير أو تمر؛ وإنما لم يجز إذا كان له عليه ويبة محمولة أن يأخذ منه فيها نصف ويبة سمراء ونصف ويبة شعير؛ لأن السمراء أفضل من المحمولة، والشعير أدنى منها، فإذا فعل ذلك، آل الأمر بينهما إلى التفاضل بين السمراء والمحمولة، وبين المحمولة والشعير؛ لأن الذي عليه الويبة المحمولة، لم يكن ليعطيه في نصفها نصف ويبة من سمراء، لولا ما أخذ منه في النصف الآخر نصف ويبة من شعير.
وكذلك الذي له الويبة المحمولة، لم يكن ليأخذ منه في نصفها نصف ويبة من شعير، لولا ما أعطاه في نصف الآخر نصف ويبة من سمراء، فلا اختلاف في هذا، وكذلك لو أخذ منه نصف ويبة سمراء، وفي النصف الآخر صنفا آخر تمرا أو ما أشبهه، لم يجز باتفاق؛ ولو كان له عليه ويبة سمراء، فأراد أن يأخذ منه بها نصف ويبة محمولة، ونصف ويبة شعيرا، أو كان له عليه ويبة شعير، فأراد أن يأخذ منه نصف ويبة سمراء، ونصف ويبة محمولة، لجاز ذلك على أحد قولي ابن القاسم في المدونة؛ وقول أشهب فيها خلاف ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية؛ وفي رسم إن خرجت بعد هذا، دليل على القولين؛ فهي(7/134)
ثلاثة وجوه: وجه جائز باتفاق، ووجه لا يجوز باتفاق، ووجه يختلف في جوازه؛ فالاقتضاء يفترق من المبادلة والمراطلة في وجهين: أحدهما: أن من كان له على رجل ذهب أو طعام، فجائز له أن يأخذ منه بعضه على صفته التي وجبت له عليه، والباقية على صفة هي أرفع أو أدنى مما كان له باتفاق؛ ولا يجوز أن يبدل رجل لرجل قفيزي قمح بقفيزي قمح أحدهما مثله، والثاني أرفع منه أو أدنى، ولا أن يراطل رجل رجلا ذهبا بذهبين إحداهما مثله، والثانية أرفع منه أو أدنى، إلا على اختلاف؛ لأن ابن حبيب يجوزهما جميعا، وسحنون لا يجيز واحدة منهما؛ وابن القاسم يجيز المراطلة، ولا يجيز المبادلة.
والثاني: أن من كان له على رجل دين من ذهب أو طعام، فلا يجوز له أن يأخذ منه ذهبا أو طعاما أدنى مما كان له عليه في وجه، وأفضل في وجه آخر؛ وذلك جائز في المبادلة والمراطلة، وقد مضى في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ من كتاب الصرف القول على حكم المراطلة والمبادلة في هذا المعنى مستوعبا، فلا معنى لإعادته، والله الموفق.
[قال الرجل للرجل بعني بغلك على أن أعطيك فرسي]
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك قال ابن القاسم: إذا قال الرجل للرجل: بعني بغلك على أن أعطيك فرسي، قال: إن كان الثمنان حالين فلا بأس به؛ اتفق الثمنان أو اختلفا؛ وذلك أنه إذا اتفق الثمنان، فإنما هو بغل بفرس وألغيا الثمنين، فإن كان أحدهما أكثر ثمنا من صاحبه، الفرس(7/135)
بعشرين، والبغل بعشرة، فإنما هو بغل بفرس وزيادة عشرة دنانير؛ وكذلك قال مالك، وكان أجلهما واحدا، فهو بمنزلة واحدة في التفسير لا بأس به؛ وإن كان أحدهما نقدا، والآخر إلى أجل، أو كانا جميعا إلى أجل، واختلف الأجلان فلا خير فيه؛ لأنه بيع وسلف؛ لأنه أعطاه عشرة دنانير انتفع بها فردها عليه وأعطاه بغلا بفرس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بيّنة المعنى، مثل ما في المدونة وغيرها؛ وإنما جازت البيعتان إذا كان الثمنان حالّين، أو كانا إلى أجل واحد؛ لأن الحكم يوجب المقاصة بينهما، فيئول أمرهما إذا تقاصا إلى بيع فرس ببغل دون زيادة، أو فرس ببغل بزيادة؛ وإن تقاصا جاز البيع، وإن لم يتقاصا فسد البيع، إلا أن يشترطا ترك المقاصة، فيكون البيع فاسدا يجب فسخه- وإن تقاصا؛ ولو تبايعا على أن يتقاصا فلم يتقاصا وتناقدا الدنانير، لوجب على أصولهم أن يرد إلى كل واحد منهما دنانيره ولا يفسخ البيع بينهما، لوقوعه على صحة لا تخلو المسألة من أحد هذه الثلاثة الأحوال.
[مسألة: يحل له على الرجل طعام فيستسلفه إنسان طعاما فيحيله عليه فيتقاضاه]
مسألة وسألته: عن الرجل يحل له على الرجل طعام له عليه من سلم فيستسلفه إنسان طعاما، فيحيله عليه فيتقاضاه؛ هل ينبغي له أن يبيعه من المسلف؟ قال: لا يبيعه منه. قلت: لِِمَ؟ أليس هو بمنزلة الوكيل؟ قال: لا، ليس هو بمنزلة الوكيل؛ لأن الوكيل لو هلك عنده الطعام لم يكن عليه ضمان، وأن المتسلف لو هلك(7/136)
عنده الطعام كان ضامنا، فالطعام لم يقع في ضمان صاحب السلم بعد، فلا خير فيه؛ ولقد قال مالك إذا كان يسيرا فلا بأس به، ولكني لا أرى أن يجوز ذلك في القليل ولا في الكثير.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز لمن سلم في طعام فأسلفه رجلا أن يبيعه من الذي أسلفه إياه بعد أن تقاضاه؛ لأنه لا يدخل في ضمانه بقبض المستسلف إياه؛ فإذا باعه منه أو من غيره، فقد ربح فيه قبل أن يضمنه؛ وهذا هو المعنى في النهي عن بيع الطعام المشترى قبل الاستيفاء، وقد مضى المعنى في أول سماع أشهب؛ والقياس ألا يجوز ذلك في القليل ولا في الكثير؛ كما قال ابن القاسم، وما كان قال مالك من إجازته في اليسير، إنما هو استحسان؛ لأنه عدل عن اتباع مقتضى القياس وطرد العلة في القليل والكثير، إذ قد انتقل الطعام من البيع إلى القرض وبيع القرض من الطعام قبل أن يستوفى جائز، وأما بيعه من الوكيل بعد أن يقبضه فلا إشكال في جوازه؛ لأنه قد حصل في ضمانه بقبض الوكيل إياه؛ وهذا إذا تحقق أن الوكيل قد قبضه، وأما إن أتاه فقال له قد قبضته فبعه مني، فقد قال مالك في رسم أشهب من كتاب البضائع والوكالات لا أحب ذلك ولا يعجبني؛ ولو كان الوكيل هو الذي اشتراه له بدنانير أعطاه إياه، لما جاز له أن يبيعه منه، وإن كان قد قبضه بأكثر من الدنانير التي أعطاه، ولا بدراهم إن كان أعطاه دنانير.
[باع رجل طعاما بثمن نقدا أو إلى أجل]
ومن كتاب أوله أسلم دينارا في ثوب إلى أجل قال: وقال مالك إذا باع رجل طعاما بثمن نقدا أو إلى أجل،(7/137)
فلا بأس أن يأخذ به زيتا قبل أن يفترقا، كان الثمن نقدا أو إلى أجل؛ فإن كان تفرقا، فلا خير فيه، كان الثمن نقدا أو إلى أجل؛ قال عيسى: يصير كأنه باعه طعاما بطعام نقدا وكان ذكر الثمن لغوا.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال؛ لأن اقتضاء الطعام من ثمن الطعام، إنما كره من أجل أن أمرهما لما آل إلى أن أعطاه طعاما وأخذ منه طعاما بعد أن غاب عليه، اتهما على أنهما قصدا إلى بيع طعام بطعام إلى أجل؛ فإذا كان ذلك في المجلس قبل أن يتفرقا، لم يكن في ذلك وجه للتهمة.
[مسألة: سلف في سلعة مضمونة إلى أجل أو طعام فباع السلعة أو ولاها]
مسألة قال: وقال مالك فيمن سلف في سلعة مضمونة إلى أجل أو طعام، فباع السلعة أو ولاها، أو أشرك فيها؛ أو ولى الطعام، أو أشرك فيه؛ فإنما تباعة المبتاع الآخر أو المشرك على البائع الأول، وليس على الذي أشركه أو ولاه أو باعه من تباعتها شيء، وقد قال يحيى بن يحيى في كتاب كراء الدور والأرضين: وسواء عليه ولى ما اشترى من السلع، أو باعه من رجل بربح وانتقد، التباعة في جميع هذا على البائع الأول للمشتري الآخر؛ قال ولو اشترط المشتري الآخر أن البائع الثاني ضامن لحقه حتى يستوفيه من الذي سلف فيه أولا، كان ذلك مكروها لا يجوز.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن من اشترى من رجل سلعة مضمونة له على رجل، أو ولاه رجل طعاما أسلم فيه أو أشركه فيه؛(7/138)
فالتباعة في ذلك للمبتاع أو المولي أو المشرك على البائع الأول؛ لأنه إنما اشترى ما في الذمة، فوجب ألا يكون له إلا اتباعها كالحوالة؛ والأصل في هذا قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ومن أتبع على مليء فليتبع» . ولو اشترط أن تباعته على الذي باعه أو ولاه أو أشركه، لم يجز؛ لأنه غرر باع منه على أن يضمن له ما لا يلزمه ضمانه؛ وهو معنى قوله ولو اشترط المشتري الآخر أن البائع الثاني ضامن لحقه حتى يستوفيه من الذي سلف فيه أولا، كان ذلك مكروها لا يجوز؛ وكذلك لو اشترط عليه أنه ضامن للثمن الذي دفع إليه إن مات أو فلس لم يجز أيضا؛ لأنه قد أخذ للضمان ثمنا ولم يشترط في هذه المسألة أن يكون الذي عليه الطعام أو السلعة حاضرا مقرا؛ وقد اختلف في ذلك، فقيل: إنه لا يجوز إلا أن يكون حاضرا مقرا؛ وقيل: إنه يجوز إذا كان قريب الغيبة حتى يعلم ملؤه من عدمه، وحياته من موته؛ وقد مضى القول في هذا المعنى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم، وفرق ابن حبيب في هذا بين الطعام والبيع، فقال إنه في الطعام إذا لم يكن حاضرا ذريعة لبيعه قبل استيفائه، وليس ذلك ببين.
[مسألة: ابتاع سلعة بعينها أو طعاما فأشرك فيه عند مواجبة البيع أو ولاه]
مسألة قال عيسى قال ابن القاسم: ومن ابتاع سلعة بعينها أو طعاما، فأشرك فيه عند مواجبة البيع أو ولاه، فتباعته على البائع الأول؛ وإن باعه إياه فتباعته على المشترى الأول، إلا أن يشترط أن تباعته على البائع الأول بحضرة البيع الأول، فذلك جائز؛ ومن ابتاع سلعة فبان بها، يعني انقلب بها أو فارق بائعها، ثم أشرك فيها أو ولاها أو باعها، فتباعته على الذي ولاه أو أشركه أو باع منه.
قال محمد بن رشد: فرق في هذه الرواية بين التولية والشركة، وبين(7/139)
البيع في السلعة المعينات؛ فقال فيها: إن العهدة في التولية والشركة إذا كانت بحضرة البيع على البائع الأول، وإنها في البيع على البائع الثاني، إلا أن يشترط أنها على البائع الأول؛ وقد قيل: إن الشركة والتولية كالبيع، تكون العهدة فيهما على المولى والمشرك، إلا أن يشترط أنها على البائع الأول؛ وهو قول مالك في الموطأ، وقول أصبغ في نوازله من جامع البيوع، وظاهر ما في سماع عيسى من كتاب العيوب، وقول ابن حبيب في الواضحة؛ لأنه لم ير العهدة في التولية والشركة على البائع الأول، إلا أن يكون أشركه أو ولاه نسقا بالبيع قبل أن يثبت بينهما، ولا اختلاف في هذا الموضع؛ وتحصيل القول في هذه المسألة، أنه إذا باع بحضرة البيع، فلا خلاف في أن العهدة للمشتري على البائع الثاني الذي باع منه؛ واختلف إن اشترط البائع على المشتري أن عهدته على البائع الأول على قولين، أحدهما: أن ذلك جائز وهو للبائع لازم، وهو ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية؛ ومعنى ذلك عندي إذا كان قد باعها بمثل الثمن الذي اشتراها به أو أقل؛ فأما إن كان باعها بأكثر من الثمن الذي باعها به، فلا يلزم البائع الأول ذلك إلا برضاه؛ لأن من حجته أن يقول: إنما كانت العهدة لك علي بعشرة، فلا أرضى أن تكون علي باثني عشر؛ فإن رضي بذلك، كان حميلا عن البائع الثاني بالزائد- إن جاء استحقاق. والثاني أن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن حبيب في الواضحة؛ قال لأنها ذمة بذمة، إلا أن يشترطها عليه برضاه على وجه الحمالة فيجوز؛ فإن اشترطها عليه على وجه الحمالة، فجاء استحقاق، رجع المشترى الثاني بقدر الثمن الأول على من شاء منهما باتفاق؛ لأنه غريم غريمه إن رجع على الذي باعه، كان للذي باعه أن يرجع على البائع الأول؛ وأما الزائد على الثمن الأول، فلا يرجع به على الأول إلا في عدم الذي باعه على حكم الحمالة؛ وأما إذا(7/140)
ولاه أو أشركه بحضرة البيع، فقيل العهدة للمشرك أو المولي على الذي أشركه أو ولاه، إلا أن يشترط أنها على البائع الأول؛ وقيل إنها له على البائع الأول- وإن لم يشترط ذلك عليه؛ وأما إذا طال الأمر أو افترقا، فالمشهور أن العهدة على البائع الثاني للمبتاع وللمشرك وللمولي، ولا يجوز أن يشترط على البائع الأول إلا برضاه على وجه الحمالة، فيكون المبتاع الثاني أو المشرك أو المولى مخيرا في الرجوع على من شاء منهما بما للثاني أن يرجع به على الأول؛ ولا يرجع على الأول بما ليس للثاني أن يرجع به عليه إلا في عدمه على سبيل الحمالة حسبما تقدم ذكره، وقد كان روي عن مالك: أن اشتراط العهدة عليه جائز- وإن كان غائبا إذا كان معروفا.
يريد فلا يرجع عليه إن طرأ استحقاق إلا بما زاد على الثمن الأول، قال: وإن لم يكن معروفا فسخ البيع، ثم رجع فقال الشرط باطل إذا لم يكن بحضرة البيع؛ فيتحصل في اشتراط العهدة في البيع على البائع الأول ثلاثة أقوال، أحدها: أن ذلك جائز وهو للبائع لازم- وإن افترقا وطال الأمر. والثاني أن ذلك لا يجوز إن كان بحضرة البيع إلا برضاه على وجه الحمالة. والثالث الفرق بين أن يشترطها عليه بحضرة البيع، أو بعد الافتراق والطول؛ وفي الشركة والتولية قولان على من يكون بالحضرة، وقولان في جواز اشتراطها على البائع الأول بعد الافتراق والطول؛ وقيل أيضا إذا لم يطل فلا يراعى الافتراق، ويجوز أن يشترط العهدة على البائع الأول، وهو ظاهر قول أصبغ في نوازله من جامع البيوع؛ وسيأتي في أول كتاب الكفالة القول في اشتراط العهدة على رجل أجنبي.
[مسألة: سلف مائة دينار في مائة ثوب مضمونة موصوفة إلى أجل]
مسألة وسئل عن رجل سلف مائة دينار في مائة ثوب مضمونة موصوفة إلى أجل، فقبض المائة دينار، فلما حل الأجل دفع إليه(7/141)
خمسين كساء، فقبضها وقال إذا دفع إلي الخمسين الثوب الفسطاطي، وقال إنما أسلفتني في مائة كساء وأنا أدفع إليك تمامها؛ قال بل أسلفتك في خمسين كساء وخمسين ثوبا فسطاطيا، قال ابن القاسم إن كان لم يقبض شيئا رأسا، تحالفا وتفاسخا البيع بينهما، وإن كان قد قبض الأكسية الموصوفة، تحالفا ويقسم الثمن بينهما، فيرد بقدر ذلك يريد أن يقسم الثمن الذي اشترى به على قيمة الأكسية الموصوفة التي ادعاها، وقيمة الفسطاطي الموصوف الذي ادعى؛ فيقع على كل صنف ما وقع، فيرد في الفسطاطي بقدر ما وقع عليه من الثمن الذي اشترى به؛ لأنه حين قبض الأكسية صار مدعيا فيما بقي.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان لم يقبض شيئا رأسا، تحالفا وتفاسخا، صحيح لا اختلاف فيه؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أيما بيعين تداعيا فالقول ما قال البائع أو يترادان» . وأما تفسير ابن القاسم لقول مالك إن الأكسية إن قبضت يتحالفان ويقسم الثمن عليهما بقوله. يريد أن يقسم الثمن الذي اشترى به على قيمة الأكسية الموصوفة التي ادعاها، وقيمة الفسطاطي الموصوف إلى آخر قوله؛ فليس بصحيح على ما تداعيا فيه؛ لأن المسلم مدع في الفسطاطي؛ والمسلم إليه ينكره إياها ولا يقر له إلا بخمسين كساء؛ فالقول قوله مع يمينه فيما ناب الأكسية المقبوضة من المائة التي انتقد على ما يقر به، لا على ما يدعي المسلم؛ فيقال للمسلم إليه احلف أنك إنما انتقدت المائة في مائة كساء، فإن حلف على ذلك، قيل للمسلم: إن أردت أن تأخذ الخمسين كساء الباقية، وإلا فاحلف أنك(7/142)
ما دفعت إليه المائة الدينار، إلا في خمسين كساء وخمسين ثوبا فسطاطيا، (- فإن حلف على ذلك، فسخ السلم في الخمسين الباقية، وقبضت المائة دينار على ما يقر به المسلم إليه من أنه إنما قبضها على مائة كساء، فرد إليه منها خمسين دينارا، وإنما كان يصح تفسير ابن القاسم لو كان المسلم إليه هو الذي ادعى أنه أسلم إليه مائة دينار في خمسين كساء وخمسين ثوبا فسطاطيا) ، وقال المسلم: بل إنما أسلمت إليك المائة في مائة كساء، قال هكذا جرى وهم ابن القاسم، وعليه أتى تفسيره، وهذا بين.
[مسألة: الزنبق وما أشبه ذلك يباع بعضه ببعض إلى أجل متفاضلا]
مسألة وسئل عن الزنبق والدارني والخيري وما أشبه ذلك يباع بعضه ببعض إلى أجل متفاضلا، قال: ما يعجبني ذلك؛ لأن المنافع فيه واحدة، مثل البربني والشطري وما أشبهه.
قال محمد بن رشد: هذه أدهان يقرب بعضها من بعض في المنفعة، فحكم لها بحكم الصنف الواحد وإن اختلفت أسماؤها، وذلك صحيح على أصل مذهبه في مراعاة اختلاف المنافع دون الاعتبار بالأسماء، وبالله التوفيق.
[كان له على رجل قمح من سلف فقضاه نصفه شعيرا ونصفه دقيقا]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار وسئل عن رجل كان له على رجل قمح من سلف فقضاه نصفه شعيرا ونصفه دقيقا، قال: إن كان الدقيق أوضع ثمنا عند(7/143)
الناس من القمح، فلا بأس به؛ وإن كان الدقيق أرفع ثمنا عند الناس من القمح، فلا خير فيه؛ لأنه حينئذ يكون قمحا بشعير وزيادة دقيق؛ وإن كان أخذ منه الدقيق على أن يأخذ منه الشعير، فلا خير فيه؛ وقال: لا خير في أن تتقاضى ممن لك عليه قمح بنصف ذلك القمح تمرا، على أن يأخذ نصفه شعيرا أو نصفه سلتا أو نصفه عدسا؛ لأن الربى يدخله لأجل الشعير والسلت؛ لأنه لا يحل القمح بالشعير والسلت إلا مثلا بمثل؛ وكل ما لا يصلح إلا مثلا بمثل، مثل القمح والشعير والسلت؛ فلا ينبغي لك أن تأخذ ممن لك عليه ذلك نصف مالك عليه من صنف لا يصلح إلا مثلا بمثل، ونصفا من غير ذلك مما يجوز واحدا باثنين إذا كان تقاضيك ذلك معا، إلا أن يفترق تقاضيك ذلك، مثل أن تأتيه اليوم فتسأله قمحك ولك عليه ويبتان من قمح؛ فيقول: هل لك أن تأخذ مني ويبة تمر بويبة قمح؟ فتفعل ذلك ثم تتقاضاه بعد ذلك فيوفيك الويبة الباقية شعيرا، فلا بأس بهذا إذا صح ذلك.
قال محمد بن رشد: أجاز في أول المسألة أن تأخذ من القمح السلف نصفه دقيقا ونصفه شعيرا إذا كان الدقيق أوضع ثمنا عند الناس من القمح، ثم قال: إنه إن كان أخذ منه الدقيق على أن يأخذ منه الشعير فلا خير فيه؛ وذلك تناقض من قوله؛ لأن الدقيق إذا كان أوضع (ثمنا)(7/144)
عند الناس وأخذه مع الشعير في صفقة واحدة عن القمح، فإما أن يقال إن ذلك جائز؛ لأنهما جميعا أدنى من القمح- وإن كان إنما رضي أن يأخذ أحدهما لحاجته إلى الآخر، وإما أن يقال إن ذلك لا يجوز بحال؛ لأن الدقيق والشعير وإن كان كل واحد منهما أدنى من القمح، فقد يقل الشعير ويتعذر الطحين، فيكون كل واحد منهما أكثر ثمنا من القمح، فيتهمان على أنه إنما رضي أن يأخذهما وإن كانا جميعا أقل قيمة من القمح، لما رجاه من نفاق أحدهما وزيادة قيمته على القمح؛ وقد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم أوصى، فلا معنى لإعادته.
[سلف ثوبا ودينارا في ثوب مثله إلى أجل]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار وسئل ابن القاسم عن رجل سلف ثوبا ودينارا في ثوب مثله إلى أجل، فقال: إذا تأخر أحد الثوبين فلا خير فيه، تأخر الدينار أو انتقد.
قال محمد بن رشد: لم يجز أن يسلم الرجل الدينار وثوبا في ثوب مثله إلى أجل؛ لأنهما لما فعلا ذلك ابتداء، علم أنه إنما قصدا إلى أن يحرز الثوب. في ضمانه بدينار يدفعه إليه ثمنا لضمان الثوب، وذلك مما لا يحل ولا يجوز؛ ولو باع رجل من رجل دابة بثوب موصوف إلى أجل، ثم اشتراها منه بثوب مثله نقدا ودينارا نقدا لجاز ذلك؛ إذ لا يتهم أحد أن يدفع دينارا وثوبا في ثوب مثله إلى أجل، وإن كان لا يجوز أن يسلم الرجل إلى الرجل ثوبا ودينارا في ثوب مثله إلى أجل، للعلة التي ذكرناها فقف على ذلك ودبره، والله تعالى ولي التوفيق.(7/145)
[الصغير بالكبير إلى أجل من صنفه من البهائم كلها]
ومن كتاب أوله حمل صبيا على دابة قال ابن القاسم: لا خير في صغير بكبير إلى أجل من صنفه من البهائم كلها، ولا كبير بصغير؛ لأنك لا تجد أحدا يعطي كبيرا بصغير من صنفه إلى أجل إلا للضمان، ولا صغيرا بكبير من صنفه إلى أجل إلا للزيادة في السلف؛ ولا بأس به على وجه البيع أن يكون صغيران بكبير أو كبير بصغيرين، أو كبيران بصغير، فلا بأس به؛ لأنهم قد خرجوا من تهمة الضمان والزيادة في السلف وصار بيعا من البيوع.
قال محمد بن رشد: لم يجز ابن القاسم في هذه الرواية أن يسلم صغير في كبير، ولا كبير في صغير من جنس واحد من البهائم؛ وأجاز أن يسلم كبير في صغيرين، وسكت عن سلم صغير في كبيرين، وأراد به أن ذلك جائز، فهو منصوص من قوله بعد هذا في رسم باع شاة، ومثله في كتاب محمد؛ فعلى هذا إنما منع من سلم واحد في واحد، وأجاز ما سوى ذلك؛ ولمحمد بن المواز في مواضع أخر من كتابه أنه لا يجوز سلم صغير في كبيرين، ويجوز سلم كبير في صغيرين، فعلى هذا منع من سلم واحد في واحد كيفما كان قدم الصغير أو أخره، ومن سلم صغير في كبيرين، وأجاز ما سوى ذلك؛ وقال ابن لبابة تأويلا على(7/146)
ما روى أصبغ عن ابن القاسم من أنه لا يجوز سلم صغير في كبير، أنه لا يجوز سلم الواحد في الواحد، ولا الجماعة في الواحد، ولا الواحد في الجماعة كيفما كان، ويجوز ما سوى ذلك؛ وهذه الثلاثة الأقوال لا يحمل القياس شيئا منها؛ لأنه إذا جاز أن يسلم منها العدد في العدد، جاز أن يسلم منها الواحد في الواحد؛ لأن المكروه لو دخل في الواحد بالواحد لكان أكثر دخولا في العدد بالعدد؛ وما في رسم باع شاة من إجازته صغيرا من بني آدم في المهد بكبير تاجر، فصحيح معارض لها، فهو أصح، وعليه ينبغي أن يحمل ما في المدونة؛ لأنه أجاز فيها أن يسلم كبار الخيل في صغارها، وكبار الإبل في صغارها، وكبار البقر في صغارها، فجعل الكبار من ذلك كله صنفا، والصغار منه صنفا آخر؛ ولم يفرق في شيء من ذلك بين الواحد بالواحد، والعدد بالعدد؛ والتفرقة بين ذلك لا يحملها القياس على ما ذكرناه أيضا؛ فإنه أجاز فيها أن يسلم ثوبا من غليظ الكتان مثل الريقة وما أشبهه في ثوب قصبي إلى أجل، وثوب فرقبي معجل؛ فهذا إجازة سلم واحد في واحد من الصنفين من جنس واحد، إذ لا فرق بين سلم ثوب من غليظ الكتان في ثوب من رقيقه، وبين سلم صغير في كبير. وقوله فيها إنه لا يجوز أن يسلم الرأس في رأس دونه؛ إلى أجل، ولا الثوب في ثوب دونه، إلى أجل؛ إنما معناه فيما كان من صنفه لا يتفاوت تفاوتا بعيدا يخرج به الثوب، أو الرأس، إلا أن يكون صنفا آخر يجوز فيه التفاضل إلى أجل؛ ولا اختلاف في جواز سلم واحد في واحد من جنسين مثل بغل في فرس؛ وقد ذهب ابن أبي زيد إلى أن تفسير ما في المدونة برواية عيسى هذه، فقال: لا يجوز على مذهبه في المدونة سلم كبير في صغير، ولا صغير في كبير ولا في كبيرين؛ واستدل على ذلك بقوله فيها: لا يسلم ثوب في ثوب دونه، ولا رأس في رأس دونه، وقال في قوله فيها: إنه لا بأس أن يسلم ثوب من غليظ الكتان مثل الريقة وما أشبهه في ثوب قصبي إلى أجل، وثوب فرقبي معجل، أن ذلك شاذ، إنما يأتي(7/147)
على أحد قولي مالك في إجازة جمل في جمل مثله نقدا، وجمل مثله إلى أجل، والمشهور من قوله أن ذلك لا يجوز وهو الصحيح، وبالله التوفيق.
[مسألة: كبار الحمير في صغار البغال على حال من الأحوال إلى أجل كذلك]
مسألة ولا خير في كبار الحمير في صغار البغال على حال من الأحوال إلى أجل كذلك، قال لي مالك: ولا بأس بكبار البغال بصغار الحمير على ما وصفت لك اثنان بواحد إلى أجل؛ قلت: ولم كرهت كبار الحمير بصغار البغال؛ قال: لا أجد فيه إلا الإتباع؛ لأن مالكا قاله؛ قلت: فمن أي وجه أخذ؟ قال: كأنه من وجه أن الحمير تنتج البغال؛ قلت: فلو كان إلى أجل قريب ليس فيه تهمة؟ قال: لو كان مثل الخمسة الأيام وما أشبهها، لم أر به بأسا.
قال محمد بن رشد: الظاهر من هذه المسألة أن مالكا لم يجز أن يسلم كبار الحمير في صغار البغال، وأن ابن القاسم كره ذلك اتباعا لمالك، وتأول عليه أنه إنما لم يجز ذلك من أجل أن الحمير تنتج البغال، فأجاز ذلك إلى الأجل القريب الذي لا تهمة فيه الخمسة الأيام وشبهها، وأجاز أن يسلم كبار البغال في صغار الحمير، إذ لا ينتج البغال الحمير؛ وعلى هذا كان الشيوخ يحملون المسألة ويعترضونها، واعتراضهم لها على ما كانوا يحملونها عليه صحيح؛ لأن الكراهة لتسليم كبار الحمير في صغار البغال ضعيفة، وحجة ابن القاسم باتباع مالك عليها غير صحيحة؛ إذ لا يصح للعالم اتباع العالم في قول يرى أنه لا وجه له في الصحة، وتأويله عليه أنه قال ذلك من وجه أن الحمير تنتج البغال بعيد، لبعد المزابنة في ذلك؛ وإذ تأول هذا عليه واتبعه على قوله، فكان يلزمه أن يقول إن ذلك جائز إلى الأجل البعيد الذي لا يمكن أن يكون فيه من الحمير بغال،(7/148)
ولا يقول إن ذلك لا يجوز إلا إلى الخمسة الأيام ونحوها، وفي قوله إلا إلى الخمسة الأيام ونحوها إجازة السلم إلى الخمسة الأيام وهو خلاف المشهور من قوله في أن السلم لا يجوز إلا إلى الأجل الذي ترتفع فيه الأسواق وتنخفض، العشرة الأيام والخمسة عشر، ونحو ذلك؛ وكيف يصح أن يكون مراد مالك ما تأوله عليه وهو يجيز في المدونة وغيرها سلم كبار الخيل في صغارها، وكبار الإبل في صغارها، فلما كان يجيز كبار الخيل في صغارها، وكبار الإبل في صغارها؛ وكبار الحمير في صغارها على هذا القياس، وإن كانت الخيل تنتج الخيل، والإبل تنتج الإبل، والحمير تنتج الحمير، علم أنه لم يكره كبار الحمير في صغار البغال، من أجل أن الحمير تنتج البغال؛ كما تأول عليه، فلعل معنى قول مالك في هذه الرواية على هذا التأويل، أنه رأى الصغار والكبار من كل جنس من الحيوان صنفا واحدا كالصغار والكبار من بني آدم، ومن الضأن والمعز وهو قول ابن دينار في المدنية؛ فكره على طرد قوله هذا كبار الحمير بصغار البغال؛ لأن البغال والحمير عنده صنف واحد، ولو سئل على هذا القول عن كبار البغال بصغار الحمير، لكرهها أيضا، ولم يفرق بين ذلك كما فعل ابن القاسم؛ والذي أقول به في هذه المسألة، أن معنى قوله: ولا خير في كبار الحمير بصغار البغال على حال، أي لا خير في ذلك واحد بواحد، قدم الصغير في الكبير، أو الكبير في الصغير، كما قال في المسألة التي فوقها؛ وذلك صحيح على أصله في أن البغال والحمير صنف واحد. وقوله بعد ذلك ولا بأس بكبار البغال بصغار الحمير على ما وصفت لك: اثنان بواحد، يدل على هذا التأويل؛ لأنه أراد أنه لا بأس بذلك: اثنان بواحد على ما وصفت لك من أنه يجوز من الصغار بالكبار من(7/149)
جنس واحد: اثنان بواحد، ولا يجوز من ذلك واحد من واحد؛ فقال عيسى لابن القاسم: ولم كرهت كبار الحمير بصغار البغال؟ أي ولم كرهت كبار الحمير بصغار البغال واحد بواحد إلى أجل مع ما بينهما من البعد، لاختلافهما في الصغر والكبر، وفي الأجناس؟ فقال: ما أجد في ذلك إلا الاتباع؛ لأن مالكا قاله، يريد لأن مالكا قال: إن البغال والحمير جنس واحد؛ وقال: إن الجنس الواحد من البهائم لا يجوز الصغير منه بالكبير واحد بواحد إلى أجل، فقال له: فمن أي وجه أخذه؟ أي من أي وجه أخذ أن الحمير والبغال جنس واحد؟ فقال له: من وجه أن الحمير تنتج البغال، فقال له: فلو كان إلي أجل قريب، أي فلو سلم حمارا كبيرا في بغل صغير، وبغلا كبيرا في حمار صغير إلى أجل قريب ليس فيه تهمة، أي ليس يتهم فيه على الضمان أنه أراد أن يضمن له الكبير على أن يأخذ منه الصغير؛ فقال: لو كان إلى أجل قريب الخمسة الأيام ونحوها لم أر به بأسا. فعلى هذا التأويل تستقيم المسألة كلها، ويرتفع الالتباس منها؛ وقد تكلم ابن لبابة عليها في المنتخب فأطال القول فيها وخلطه، ومن جملة ما قال: إن ابن القاسم لم يفهم معنى ما قال مالك؛ لأنه قال قولا دقيقا، فتأول عليه ما لا يصح أن يكون أراده، وساق قوله على معنى ما تأوله عليه فزاد في لفظه ونقص، وقدم وأخر، ليفهم السامع معنى قول مالك الذي ظن أنه أراده فلبس المسألة. قال: والذي ذهب إليه مالك في قوله إنه إذا سلم كبار البغال في صغار الحمير، جاز من ذلك العدد في العدد، والواحد في الواحد، كالخيل في الحمير، إذ لا تخرج الحمير من البغال، كما لا تخرج من الخيل، وإذا سلم كبار الحمير في صغار البغال، جاز في ذلك العدد في العدد، ولم يجز فيه الواحد في الواحد، ككبار الحمير في صغار الحمير، إذ تخرج صغار البغال من الحمير، كما تخرج صغار الحمير من(7/150)
الحمير؛ هذا معنى قوله، وهو تعسف في التأويل، بعيد من اللفظ، غير بين في المعنى.
[مسألة: العصفر بالثوب المعصفر إلى أجل]
مسألة قال ابن القاسم: ولا خير في العصفر بالثوب المعصفر إلى أجل، إذا كان العصفر نقدا والثوب إلى أجل؛ لأنه غرر؛ ولا بأس بالثوب المعصفر بالعصفر إلى أجل؛ لأنه لا يخرج من الثوب المعصفر عصفر، ولا خير في البطيخ بزريعة البطيخ إلى أجل؛ يكون في مثل ذلك الأجل من الزريعة بطيخ، ولا زريعة البطيخ بالبطيخ إلى أجل، ولا تبالي أيهما أخرت أو قدمت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى، وقد مضى القول في المزابنة مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
تم الجزء الأول من كتاب السلم والآجال(7/151)
[كتاب السلم والآجال الثاني] [الدجاجة بالبيض إذا كان فيها بيض يدا بيد](7/153)
ومن كتاب حبل حبلة قال ابن القاسم لا بأس بالدجاجة بالبيض إذا كان فيها بيض يدا بيد، ولا خير فيه إلى أجل، ولا بأس بالدجاجة التي لا بيض فيها بالبيض إلى أجل؛ قلت وإن باضت قبل الأجل؟ قال نعم، وكذلك الشاة اللبون باللبن إذا كان للشاة لبن فلا بأس به يدا بيد، ولا خير فيه إلى أجل؛ قال ابن القاسم ولا بأس بها إلى أجل إذا لم يكن لها لبن، وإن صار لها لبن قبل الأجل فلا بأس به، كانت الشاة نقدا واللبن إلى أجل، أو اللبن نقدا والشاة إلى أجل، لا بأس به إذا لم يكن للشاة لبن، وكذلك قال لي مالك في الشاة غير مرة، وفي سماع أبي زيد لا بأس بالدجاجة البياضة بالبيض إلى أجل.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة من المزابنة مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: اللبن بجدي إلى أجل]
مسألة وسئل عن اللبن بجدي إلى أجل، قال إن كان الجدي(7/155)
يستحيى، فلا بأس به، وإن كان لا يستحيى، فلا خير فيه! لأنه طعام بطعام إلى أجل. ولو كأن يدا بيد لم يكن به بأس، قال ولا يحل بيع الكبش الخصي بالطعام إلى أجل، إلا أن يكون كبشا يقتنى لصوفه، فإن ههنا أكباشا تقتنى لصوفها؛ وأما إن لم يكن إلا اللحم، فلا خير فيه؛ وأما التيس الخصي بالطعام إلى أجل فلا يحل؛ لأن التيس الخصي لا يقتنى وليس فيه صوف، وإنما هو للذبح، فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة صحيح جار على أصله؛ لأنه لا يراعي الحياة فيما لا يقتنى إلا مع اللحم؛ لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الحيوان باللحم. فلا يجيز شيئا من ذلك باللحم من صنفه بحال؛ لأنه يحكم له معه بحكم الحي، ولا يجيز شيئا من ذلك بحي ما يقتنى ولا بشيء من الطعام إلى أجل، ولا بعضه ببعض، إلا مثلا بمثل على التحري؛ لأنه يحكم له في ذلك بحكم اللحم الحي، وأشهب يراعيها في كل حال، فلا يجيز شيئا من ذلك باللحم من صنفه بحال؛ للنهي الوارد عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في بيع الحيوان باللحم، ويجيز ذلك كله بعضها ببعض، وبالطعام وبحي ما يقتنى مثلا بمثل ومتفاضلا يدا بيد، وإلى أجل، وهو قول ابن نافع؛ قال ابن المواز وذلك بخلاف الشارف (والكبير) ، فكأنه ذهب إلى أن الشارف والكبير في حكم اللحم عند جميعهم.(7/156)
[مسألة: الرجل يسلف في مائة إردب قمح فلما حل الأجل تقاضى خمسين]
مسألة وسألته عن الرجل يسلف في مائة إردب قمح، فلما حل الأجل تقاضى خمسين، وبقيت له عليه خمسون؛ فأتاه رجل يستوليه الخمسين الباقية. قال لا بأس بهذا، وهذا حلال طيب.
قلت فإن أراد أن يوليه المائة كلها الخمسين التي تتقاضى، والخمسين الباقية. قال لا خير فيه، وهذا حرام بين. قلت لم؟ قال لأنه لو لم يأخذ الخمسين الباقية لم يعطه هذه التي تقاضى.
قال محمد بن رشد: لم يجز في كتاب ابن المواز أن يوليه الخمسين الباقية، ووجه ذلك أن ذمته قد تضعف بقبض الخمسين منه، فلا تكون فيه قيمة الخمسين الباقية إلا أقل من نصف ثمن الجميع؛ فإذا ولاه إياها بنصف الثمن، كان قد أخذ فيها أكثر مما يجب له؛ فيدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى، وهو قول له وجه ولم يراع في الكتاب هذا المعنى، ورأى أن كل جزء منه بجزئه من الثمن، وأن لا فضل لما قبض منه على ما بقي، فأجازه، وأما إذا ولاه جميع ما قبض وما بقي، فلا إشكال في أن ذلك لا يجوز، إذ لا شك أن قيمة المقبوض بعد قبضه أكثر من قيمته قبل قبضه، فإنما رضي أن يأخذ ما لم يقبض على أن يعطيه ما قبض فيدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى.
[مسألة: باع طعاما من رجل بثمن نقدا أو إلى أجل ثم استقال أحدهما]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل باع طعاما من رجل بثمن نقدا، أو إلى أجل، ثم استقال أحدهما البائع أو المبتاع، وقد نقد الثمن أو لم ينقد، وقد اكتال الطعام أو لم يكتل، وقد تفرقا أو لم يتفرقا بزيادة ما كانت الزيادة؛ قال أما إذا لم يكتل فلا تحل(7/157)
له الزيادة فيه على حال من واحد منهما ما كانت الزيادة لا نقدا ولا إلى أجل، كان الثمن نقدا أو إلى أجل؛ نقد أولم ينقد، افتراقا أو لم يفترقا؛ لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى، ولا يحل فيه إلا الإقالة برأس المال بعينه، لا ينفع فيه غير ذلك من زيادة ولا تأخير ولا غير نقده؛ قال وإن كان قد اكتاله ولم يتفرقا، ولم يغب عليه المبتاع، وكان الثمن نقدا ولم يكن انتقد، فلا يحل أن يستقيل منه المبتاع بزيادة شيء من الأشياء مؤخرة؛ لأنه إن كان الذي اشتراه به ذهبا وكان الذي يزيده ذهبا إلى أجل كان بيعا وسلفا من قبل أن البائع كأنه اشترى منه الطعام الذي باعه منه ببعض الثمن الذي وجب له عليه نقدا أو أسلفه بقيته إلى أجل، فكان بيعا وسلفا، قال: وإن كان الذي يزيده ورقا نقدا، فلا بأس؛ وإن كان إلى أجل فلا خير فيه؛ لأنه ذهب بورق إلى أجل، وطعام مع ذلك معجل؛ قال وإن كان الذي يزيده عرضا إلى أجل، كان ذلك دينا بدين؛ لأنه يحول من الثمن الذي وجب له عليه نقدا في طعام معجل وسلعة مؤخرة، وكان الدين بالدين لا شك فيه؛ قال ولا بأس أن يزيده شيئا معجلا من ذهب، أو ورق، أو عرض، أو حيوان، أو طعام من صنف طعامه، أو من غير صنفه، قال: وأما إذا كان قد نقد الثمن واكتال الطعام فليست تهمة، وهو بيع حادث يبتدئان فيه ما يبتدئان في غيره؛ فإن كان الثمن إلى أجل وقد اكتاله ولم يتفرقا، فلا بأس به أيضا أن يستقيل منه المبتاع بزيادة ما كانت الزيادة من شيء من عرض أو حيوان أو طعام من صنفه أو من غير صنفه- نقدا، ما لم تكن(7/158)
الزيادة من الثمن الذي عليه، فإن كانت كذلك، فلا خير فيه نقدا، ولا بأس به إلى أجل بعينه في عينه ونحوه، ووزنه وسكته، يجري مجرى العروض سواء؛ لأنه كأنه اشتراه منه ببعض ماله عليه، وبقيت عليه بقية إلى أجله، فلا بأس به؛ قال ولا يزيده ورقا نقدا، ولا إلى أجل أبعد من الأجل؛ لأنه ذهب بورق إلى أجل وطعام معجل؛ لأنه وإن كان الثمن ورقا، فهو مجرى الذهب أيضا، ولا يزيده شيئا من العروض، ولا الطعام، ولا الحيوان إلى الأجل؛ لأنه دين بدين؛ قال وإن كانا قد تفرقا وغاب عليه المبتاع، فلا يحل أن يستقيل منه المبتاع أيضا بزيادة شيء من الأشياء لا عين ولا عرض ولا طعام، لا من صنفه ولا من غير صنفه، ولا إدام، ولا غير ذلك نقدا، ولا إلى الأجل؛ لأن ذلك الزيادة في السلف، فذلك الربى. قال وإن كان البائع هو المستقيل بزيادة ولم ينتقد، فسواء كان الثمن نقدا أو إلى أجل، وسواء تفرقا أو لم يتفرقا؛ فإن كان قد اكتاله فلا بأس أن يزيده ما شاء من العين الذهب، والورق، والعروض، والحيوان، نقدا أو إلى أجل؛ لأنه كأنه اشترى ذلك الطعام بالثمن الذي كان له عليه وزيادة زاده إياها نقدا أو إلى أجل؛ إلا أن تكون الزيادة منه في الاستقالة من الطعام طعاما، فإنه إن كان طعاما وكان من غير صنفه ومما يحل متفاضلا يدا بيد، فلا بأس به نقدا، ولا خير فيه(7/159)
إلى أجل؛ لأنه طعام بطعام إلى أجل، وإن كان من صنف طعامه مما لا يجوز إلا مثلا بمثل؛ فلا يحل على حال نقدا ولا إلى أجل؛ لأنه إن كان نقدا كان قمحا وذهبا بقمح أو شعير، أو ذهبا بقمح، أو ذهبا وسلتا بقمح، فلا يحل على حال؛ وإن كان الثمن إلى أجل، فهو أشد، ويدخله غير وجه واحد، وهو حرام صراح.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة صحيحة، وقد مضى القول عليها في رسم القبلة ما فيه بيان لها؛ ولا اختلاف في شيء منها إلا في موضعين، أحدهما إن كان المبتاع هو المستقيل بزيادة ورق وكان الثمن حالا فإنه أجازه؛ ومعناه على مذهبه إذا كان ذلك أقل من صرف دينار، ويجوز على مذهب أشهب وإن كان أكثر من صرف دينار، والثاني قوله إذا كان البائع هو المستقيل بزيادة طعام من غير صنفه، فإنه أجاز ذلك إذا كانت الزيادة نقدا وإن كان الثمن إلى أجل؛ ولم يجز ذلك ابن حبيب إلا إذا كان الثمن حالا؛ وقد اختلف في هذا الأصل قوله فيمن باع طعاما بثمن إلى أجل، أنه يجوز له أن يشتريه منه قبل أن يغيب عليه وزيادة عليه بمثل الثمن إلى ذلك الأجل مقاصة، وطعام من غير صنفه يزيده إياه معجلا؛ لأنه اشترى منه طعاما قبل أن يغيب وزيادة عليه بالثمن الذي له عليه معجلا يزيده إياه، فجاز وإن كان الثمن إلى أجل؛ لأنه يسقط عنه بالمقاصة فيتباريان، مثل قول ابن القاسم في المسألة التي بعد هذه على أصله في هذه، وهذا الاختلاف جار على اختلافهم في مراعاة الأجل مع انحلال الذمم، فمرة راعاه واعتبره وإن سقط الدين ووقعت البراءة منه،(7/160)
ومرة لم يراعه إذ قد سقط الدين ووقعت البراءة منه، فجوابه في هذه المسألة وفي التي تأتي له بعدها على ترك الاعتبار.
[مسألة: كان الثمن إلى أجل وقد اكتاله المبتاع ولم يتفرقا]
مسألة قال وإن كان الثمن إلى أجل وقد اكتاله المبتاع ولم يتفرقا، فأراد البائع أن يشتري بعضه أو كله بنقد أو مقاصة، فلا بأس به أن يشتريه بمثل الثمن أو أكثر نقدا أو مقاصة؛ ولا خير في أن يشتريه كله بأدنى من الثمن نقدا؛ لأنه كأنه أعطاه قليلا في كثير، وكان القمح بينهما لغوا؛ ولا بأس به مقاصة من الثمن إذا كانا لم يتفرقا، ولا خير أيضا في أن يشتري بعضه ببعض الثمن نقدا وإن كانا لم يتفرقا؛ لأنه بيع وسلف؛ ولا بأس به مقاصة؛ ولا بأس أن يشتري بعضه بمثل الثمن أو أكثر نقدا أو مقاصة؛ لأنه ليس فيه تهمة؛ وهذا كله إذا لم يتفرقا، غير أنه إذا اشترى بعضه بنقد لم يحل له أن يشتري شيئا منه إلا بجميع الثمن؛ وإن اشترى مقاصة، فلا تبالي بأي ثمن اشتراه؛ وهذا كله إذا لم يتفرقا ولم يغب المبتاع عليه؛ وإن كان قد تفرقا وغاب المبتاع على الطعام، فلا يحل أن يشتري منه البائع بعضه ببعض الثمن نقدا ولا مقاصة؛ لأنه إن كان نقدا كان بيعا وسلف دنانير؛ وإن كان مقاصة كان بيعا وسلف طعام، كأنه باعه خمسين إردبا - إلى أجل على أن يسلفه خمسين إردبا، فانتفع بها ثم ردها إليه؛ ولا بأس أن يشتري منه مثل كيله في صفته بمثل الثمن، أو أكثر نقدا أو مقاصة(7/161)
ليس فيه تهمة، ولا خير في أن يشتري منه أدنى من كيله بمثل الثمن أو أكثر مقاصة؛ لأنه أخذ من ثمن الطعام طعاما، وهو قول مالك استثقالا منه له إذا كان أخذ أقل من كيله وهو سهل؛ ولو أن قائلا قاله وأجازه، لم أره خطأ، ولا بأس أن يشتري منه أقل من كيله بمثل الثمن، أو أكثر بنقد وليس فيه تهمة؛ ولا خير في أن يشتري منه أكثر من كيله، ولا كيله وزيادة معه ما كانت الزيادة بمثل الثمن، ولا بأكثر نقدا؛ لأن ذلك الزيادة في السلف، وذلك حرام؛ لأنه إن كان نقدا، كان بمنزلة رجل باع ثوبا بعشرة إلى شهر، ثم اشتراه وشيئا آخر معه بعشرة نقدا قبل الأجل، فذلك الزيادة في السلف لا شك فيه، رجعت إليه سلعة وأعطاه عشرة نقدا بعشرة يأخذها إلى شهر وسلعة يتعجلها فذلك حرام؛ وإن كان الثمن في الطعام مقاصة، صدر كأنه أعطاه طعاما في طعام أكثر منه إلى أجل، أو في طعام مثله وزيادة شيء آخر معه؛ وكان الثمن لغوا إذا كان مثل الثمن؛ وإن كان بأكثر من الثمن، كان قد وقع أيضا من ذلك لطعامه حصة من الزيادة التي يزدادها على كيل طعامه؛ فكان ذلك الزيادة في السلف لا شك فيه، ودخله أيضا أن يأخذ من ثمن الطعام طعاما؛ وإن كانا لم يتفرقا، فلا خير فيه أيضا، وإن كان قد اكتاله أو يشتري منه أكثر منه، ولا طعامه وزيادة شيء آخر معه بمثل الثمن، ولا بأكثر نقدا؛ لأنه إن كان بمثل الثمن؛ كان الزيادة في السلف ورجع إليه طعامه، وأعطاه مائة في مائة مثلها إلى أجل وزيادة تعجلها؛(7/162)
وإن كان بأكثر من الثمن، كان بيعا وسلفا رجع إليه طعامه واشترى منه الزيادة التي أخذ مع طعامه بالزيادة التي زاده على الثمن، وأسلفه الثمن برده إليه إلى الأجل فلا يحل؛ ولا بأس به مقاصة بمثل الثمن وأكثر، كانت الزيادة التي مع الثمن معجلة، أو مؤخرة؛ فليس فيه تهمة إذا كانا لم يتفرقا؛ لأنه إنما اشترى منه طعامه ولم يغب عليه المبتاع وزيادة معه بالثمن الذي كان له عليه أجلا وزيادة يزيدها معجلة أو مؤخرة ما كانت؛ فهو ههنا إذا لم يتفرقا يجري مجرى العروض، فلا بأس به ما لم تكن الزيادة المؤخرة طعاما؛ وإن كان من غير صنفه فيكون الطعام بالطعام إلى أجل، أو تكون الزيادة التي يزداد مع كيل الطعام مؤخرة إن كانت عرضا فيكون الدين بالدين؛ وإن كان نقدا فلا بأس به، ما لم تكن الزيادة من صنفه؛ ولا خير في أن يشتريه أيضا وزيادة معه من صنفه، ولا من غير صنفه، ولا ما كانت بأدنى من ثمنه ولا بثمنه نقدا؛ وإن كانا لم يتفرقا من قبل أنه كأنه أعطاه دنانير في أكثر منها إلى أجل وزيادة مع ذلك أيضا معجلة وهو بين؛ ولا بأس به مقاصة من الثمن؛ لأنه إنما اشتراه منه وزيادة معه ببعض الثمن الذي كان له عليه وبقي بقيته إلى أجل، فليس في هذا تهمة؛ لأنه لم يغب عليه المبتاع؛ والطعام ههنا إذا لم يكن يغيب عليه، فإنما هو بمنزلة العروض؛ لأن العروض وإن غاب عليها المبتاع فلا بأس أن يشتريها البائع إذا كان بعينه وعرضا آخر معه مقاصة ببعض الثمن الذي كان له عليه، ويبقى ما بقي(7/163)
إلى أجله، أو بالثمن كله الذي له عليه مقاصة؛ وليس يدخله الزيادة في السلف؛ لأنها سلعته بعينها، فليس فيه تهمة، وهو بيع حادث؛ وإنما يدخله ذلك إذا كان إنما يرد إليه عرضا من صنف عرضه، وعرضا آخر معه؛ فأما سلعته بعينها فليس فيه تهمة، وأما التهمه في الطعام إذا غاب عليه؛ لأنه لا يعرف أنه طعامه بعينه فتدخله الزيادة في السلف وغيره أيضا.
قال محمد بن رشد: قوله في آخر المسألة وإن كان الثمن إلى أجل، يريد وإن كان الثمن الذي باع به الطعام إلى أجل؛ لأنها معطوفة على المسألة التي قبلها، وهذه مسألة تنتهي في التفريع إلى أربع وخمسين مسألة، وثمان عشرة في الشراء بالنقد، وثمان عشرة في الشراء إلى الأجل مقاصة، وثمان عشرة في الشراء إلى أبعد من الأجل؛ وذلك أنه قد يشتري منه الطعام بعينه الذي باع منه قبل أن يغيب عليه بمثل الثمن وبأقل منه، وبأكثر نقدا؛ وقد يشتريه منه وزيادة عليه بمثل الثمن أيضا، وبأقل منه، وبأكثر نقدا وقد يشتريه منه بعضه بمثل الثمن أيضا، وبأقل منه وبأكثر نقدا؛ فهذه تسع مسائل إذا لم يغب المبتاع على الطعام، وتسع آخر إذا غاب عليه، فهو ثمان عشرة مسألة في الشراء نقدا، ومثلها في الشراء إلى أجل مقاصة، ومثلها أيضا في الشراء إلى أبعد من الأجل، فأما الست والثلاثون مسألة المتفرعة في الشراء بالنقد، وإلى الأجل، فمنها خمس عشرة مسألة لا تجوز، وهي أن يشتري منه بأقل من الثمن، نقد الطعام الذي باع منه بعينه قبل أن يغيب عليه، أو بعضه أو كله وزيادة عليه؛ وأن يشتري منه بأقل من الثمن أيضا مثل الطعام الذي باع منه بعد أن غاب عليه أو أقل منه، أو أكثر نقدا أو مقاصة؛ وأن يشتري منه الطعام بعينه الذي باع منه وزيادة عليه بمثل الثمن أو بأكثر منه نقدا، وأن يشتري منه مثل الطعام بعد أن غاب عليه وزيادة عليه بمثل الثمن، أو بأكثر منه نقدا ومقاصة؛ ومسألة يختلف في(7/164)
جوازها وهي أن يشتري منه أقل من الطعام بعد أن غاب عليه بمثل الثمن إلى الأجل؛ لأنه يكون مقاصة فيدخله الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما؛ فكرهه مالك في أحد قوليه، واتهمه في أن يكون دفع طعاما في أقل منه إلى أجل ليحرزه في طعامه إلى ذلك الأجل؛ واستخفه في القول الثاني لما بعدت التهمة عنده في ذلك؛ لأن الناس في الأغلب لا يقصدون إلى أن يدفعوا كثيرا في قليل للضمان؛ وعشرون جائزة وهي الباقية، وأصل ما يعرف به الجائز منها من غير الجائز وهو أن الشراء بأقل من الثمن لا يجوز، وشراء أكثر من الطعام لا يجوز؛ فهذان الوجهان لا يجوز ما تفرع منهما نقدا ولا مقاصة إن غاب على الطعام، ولا نقدا إن لم يغب على الطعام؛ ويعرف الفساد فيما لا يجوز منها بأن ينظر إلى ما خرج عن يد كل واحد منهما وما يرجع إليه؛ فتجد المكروه قد وقع بينهما، ومتى وجد المكروه قد وقع بين المتبايعين باجتماع الصفقتين أنهما على القصد إليه، والعمل عليه على مذهب مالك في الحكم بالمنع من الذرائع، ومن قال بقوله في ذلك، وأما الثمان عشرة مسألة المتفرعة في الشراء إلى أبعد من الأجل، فمنها ثلاث عشرة مسألة تجوز، ومسألة لا تجوز؛ ومسألة مختلف في جوازها، وهي أن يشتري منه مثل الطعام بمثل الثمن إلى أبعد من الأجل؛ لأنه يدخله أسلفني وأسلفك فاستخفه ابن القاسم، وكرهه ابن الماجشون؛ ولو لم يغب على الطعام، لجاز باتفاق؛ لأن طعامه رجع إليه بعينه فكان لغوا، وأسلف المبتاع الأول البائع الأول عشرة دراهم عند شهر يأخذها منه عند شهرين، فآل الأمر بينهما إلى قرض صحيح من المبتاع للبائع؛ وأربع جائزة، وأصل ما يعرف به الجائز منها من غير الجائز، هو أن الشراء بأكثر من الثمن لا يجوز، وشراء بعض الطعام لا يجوز؛ فهذان الوجهان لا يجوز ما تفرع منهما، غاب على الطعام أو لم يغب عليه؛ وما عدا هذين الوجهين يجوز إن لم يغب على الطعام، ولا يجوز إن غاب عليه حاشا المسألة المختلف فيها المتقدمة الذكر، ويعرف الفساد فيما لا يجوز منها بأن ينظر أيضا إلى ما خرج عن يد كل واحد منهما وما يرجع إليه؛ فتجد المكروه قد وقع بينهما، فيتهمان على القصد إليه والاستحلال له، لما(7/165)
أظهراه من البيعتين الصحيحتين في الظاهر؛ هذا إذا كان الطعام الذي يشتريه منه بعد أن غاب عليه من صفة الطعام الذي باع منه؛ فإن كان من غير صفته فله حكم غير هذا؛ وحكم العروض في ذلك حكم الطعام إذا لم يغب عليه، وقد أفردنا لهذه المسألة المتفرعة إلى هذه المسائل جزءا، أنزلنا فيه المسائل كلها مسألة مسألة؛ وذكرنا علل ما لا يجوز منها، ووجه جواز الجائز منها؛ وبسطنا القول في ذلك بسطا شافيا، فمن أحب الوقوف على ذلك طالعه وتأمله، وفيما ذكرناه ههنا وأصلناه كفاية لمن له فهم.
[مسألة: العجين بالدقيق هل يجوز فيه السلم]
مسألة وسئل ابن القاسم عن العجين بالدقيق فقال الأخير فيه على وجه من الوجوه. قلت وإن تحرى؟ قال الأخير فيه وإن تحرى، فرددته مرارا، فقال إن تحرى فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم.
[مسألة: باع طعاما بمائة دينار إلى شهر]
مسألة وسألته عن رجل باع طعاما بمائة دينار إلى شهر، فلما حل الشهر اشترى بائع الطعام من رجل آخر طعاما فأحاله عليه بالثمن. قال لا بأس بذلك، قال مالك: وإنما نهى سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وابن شهاب، عن أن يبيع الرجل حنطة بذهب ثم يشتري بالذهب قبل أن يقبض الذهب من بائعه الذي اشترى منه الحنطة؛ فأما أن(7/166)
يشتري بالذهب الذي باع به الحنطة إلى أجل تمرا من غير بائعه الذي باع منه الحنطة قبل أن يقبض منه الذهب، ويحيل الذي اشترى منه التمر على غريمه الذي باع منه الحنطة بالذهب الذي له عليه في ثمن التمر، فلا بأس بذلك؛ قال مالك: وقد سألت عن ذلك غير واحد من أهل العلم، فلم يروا به بأسا؛ قلت لابن القاسم فلو أحال الذي عليه المائة الدينار بائع الطعام على غريم له عليه مائة دينار، فيجوز لبائع الطعام أن يأخذ من الذي احتال عليه بالمائة دينار طعاما؟ قال لا يجوز ذلك، قلت أفيجوز للذي اشترى منه بائع الطعام تمرا وأحاله بثمن التمر على المشتري للطعام؟ أيجوز لبائع التمر أن يأخذ من مشتري الطعام طعاما في المائة التي أحيل بها عليه؟ قال لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: قوله فيمن باع طعاما بمائة إلى شهر، فلما حل الشهر اشترى من رجل آخر طعاما فأحاله عليه بالثمن، أنه لا بأس به صحيح؛ لأنه باع من رجل واشترى من غيره، فلم يكن في ذلك وجه من التهمة؛ ولو اشترى بمائة دينار بعينها طعاما من غيره لجاز أيضا، إذ لم يأخذ الطعام من الذي باع منه الطعام، فيتهم على أنه باع منه طعاما بطعام، فكيف إذا لم يشتر بها بعينها، وإنما اشترى على ذمته، ثم أحاله على ثمن الطعام؟ وليس في قوله في السؤال: فلما حل الشهر، دليل على أن ذلك لا يجوز قبل محل الشهر، بل جائز وإن لم يحل الشهر أن يشتري بها طعاما من غيره، وأن يشتري طعاما بمائة دينار حالة عليه ثم يحيل بها على المائة التي له من ثمن الطعام إلى شهر؛ لأنه يجوز للرجل أن يستحيل بما حل من دينه فيما حل وفيما لم يحل؛ ولما جاء النهي مجملا عن سعيد،(7/167)
وسليمان، وأبي بكر، وابن شهاب، أن يبيع الرجل حنطة بذهب، ثم يشتري بالذهب، قبل أن يقبضها تمرا؛ بين مالك أن معنى قولهم إنما هو إذا اشترى التمر من بيعه الذي باع منه الحنطة بالذهب التي له عليه؛ لأنه إذا فعل ذلك، كان قد أخذ من ثمن الحنطة تمرا، فاتهم على أنه باع منه الحنطة بالتمر إلى أجل؛ وأما إذا اشترى التمر من غير الذي باع منه الحنطة بتلك الذهب التي له عليه، - أي على الذي باع منه الحنطة واشترى التمر بثمن حال عليه، ثم أحال الذي باعه منه بثمنه على الذي باع منه الحنطة فذلك جائز، إذ لا تهمة في ذلك؛ وقول مالك فيما تأوله عليهم، هو نص قوله في موطئه، وهو صحيح على ما بيناه، وقول ابن القاسم إنه لا يجوز للذي وجبت له المائة دينار من ثمن الطعام إذا أحيل بها أن يأخذ من الذي استحال عليها بها فيها طعاما صحيح؛ لأنه غريم غريمه، فلا يجوز له أن يأخذ منه إلا ما كان يجوز له أن يأخذه من غريمه. وأما قوله إنه لا يجوز للذي استحال بثمن التمر على ثمن الطعام أن يأخذ ممن استحال عليه طعاما فذلك بين، إذ لم يكن يجوز أيضا للذي أحاله أن يأخذ من الذي أحاله عليه طعاما؛ وأصل هذا أن من أحال رجلا على رجل بحق له عليه كائنا ما كان، فلا يجوز للمحال أن يأخذ من الذي أحيل عليه إلا ما كان يجوز له أن يأخذ من الذي أحاله، وما كان يجوز للذي أحاله أن يأخذ من المحال عليه؛ إنه ينزل في الدين الذي أحمل به بمنزلة من أحاله، ومنزلته في الدين الذي أحيل به.
[مسألة: باع ثوبا بعشرة دنانير إلى شهر ثم استقال صاحبه فأبى إلا بشرط]
ومن كتاب النسمة قال ابن القاسم في رجل باع ثوبا بعشرة دنانير إلى شهر،(7/168)
ثم استقال صاحبه، فأبى أن يقيله إلا أن يسلفه عشرة دنانير إلى أبعد من الأجل، أو إلى دون الأجل؛ قال: لا خير فيه، ويدخله بيع وسلف؛ فإن كان إلى الأجل بعينه، فإن ناسا يجيزونه، وناسا يكرهونه؛ وقد كان مالك يتقيه، وأنا أكرهه وأتقيه ولا أحرمه.
قال محمد بن رشد: أما إذا أقاله على أن يسلفه عشرة دنانير حالة، أو إلى دون الأجل، أو إلى أبعد من الأجل، أو أقل من عشرة، أو أكثر؛ فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز، ولا إشكال في وجه الفساد فيه؛ لأنه بيع وسلف عن ظهر يد، فهو صريح البيع والسلف، وفي قوله إنه يدخله بيع وسلف نظر، إذ لا يقال إن هذا الفعل يدخله بيع وسلف، إلا إذا كان ظاهره الصحة ولم يصرح فيه بالبيع والسلف؛ إلا أن ذلك يؤخذ فيه بالاعتبار مثل أن يبيع الرجل سلعة بعشرة دنانير إلى أجل، ثم يقيله منها على أن يزيده المبتاع دينارا نقدا أو إلى أبعد من الأجل؛ وأما إذا أقاله على أن يسلفه عشرة إلى الأجل بعينه، فأجازه أشهب وحمله لما رجعت إليه سلعة بعينها، كأنه اشتراها منه بالعشرة التي دفع إليه؛ فإذا حل الأجل، أخذ منه العشرة التي كان باع بها منه السلعة، وكان ذكر السلف لغوا؛ ومن كرهه اعتبر فساد اللفظ وراعاه؛ وقول أشهب أظهر؛ لأن الفعل إذا كان مستقيما لم ينظر إلى قبيح اللفظ، وهو نص قول مالك في المدونة، وبالله التوفيق.
[باع سلعة بعشرة دنانير إلى شهر ثم اشتراها بخمسة نقدا وستة إلى ذلك الشهر]
ومن كتاب أوله يدير ماله وقال فيمن باع سلعة بعشرة دنانير إلى شهر، ثم اشتراها بخمسة نقدا، وستة إلى ذلك الشهر. قال لا بأس به؛ لأنه إذا كان الشهر قاصه بستة من العشرة التي له عليه، واسترجع منه أربعة، فليس في هذا تهمة أن يعطي خمسة ويأخذ أربعة، ولو كان باعها بخمسة نقدا وخمسة إلى شهر، ثم اشتراها بخمسة نقدا وبستة إلى شهر، لم يكن فيه خير، إلا أن يكونا في مجلسهما ذلك(7/169)
لم يتفرقا ولم يغب على الدينار، فلا بأس به؛ لأن هذا حينئذ باع سلعة ابتداء بستة إلى شهر، فإذا كان الشهر، قاصه بخمسة مما له عليه واسترجع دينارا، فكان ثمن السلعة إنما هو دينار، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قال؛ لأنهما بيعتان صحيحتان في الظاهر، فإذا ظهر فيهما بمجموعها فساد، اتهما على القصد إليه، فلم يجز ذلك من فعلهما؛ وإذا لم يظهر فيهما بمجموعها فساد، جاز ذلك من فعلهما؛ والمسألة الأولى آل الأمر فيها بينهما إلى أن رجعت للبائع سلعته بعينها، وكان قد دفع إلى المبتاع خمسة نقدا ويأخذ منه إذا حل الأجل أربعة؛ فلا يتهم أحد في دفع خمسة في أربعة، والمسألة الثانية معناها أنه باع السلعة بخمسة نقدا، وخمسة إلى شهر، فانتقد الخمسة وبان بها وغاب عليها، ثم لقيه بعد ذلك فاشتراها منه بخمسة نقدا وستة إلى شهر؛ فوجب ألا يجوز ذلك؛ لأن الأمر آل بينهما إلى أن رجعت إلى المبتاع سلعته بعينها، ودفع المبتاع إلى البائع خمسة نقدا؛ فانتفع بها وردها إليه ويعطيه دينارا إذا حل الأجل، فاتهما على أنهما قصدا إلى أن سلفه خمسة دنانير، على أن يعطيه دينارا إذا حل الأجل؛ فإن كان لم ينقده الخمسة الدنانير، أو كان قد نقده إياها، فلم يغب عليه جاز ذلك؛ لأن الأمر آل إلى أن سلعته بعينها، ويعطيه إذا حل الأجل دينارا دون أن يسلفه شيئا أو يغيب له عن شيء. وقوله فيها واسترجع دينارا، اللفظ وقع على غير تحصيل، إذ لم يدفع إليه شيئا يسترجع منه الدينار، وإنما كان حق الكلام أن يقول فإذا كان الشهر قاصه بالخمسة من الستة التي له عليه وأخذ منه الدينار الزائد. وكذلك قوله فكان ثمن السلعة إنما هو دينار، كلام وقع أيضا على غير تحصيل، والمراد به: فكان الذي ربح معه في السلعة إنما(7/170)
هو دينار؛ لأن الدينار إنما هو ربح في السلعة للمبتاع لا ثمن لها؛ وذلك أنه لما اشترى منه السلعة بخمسة نقدا وخمسة إلى شهر، ثم اشتراها منه البائع بخمسة نقدا وستة إلى شهر؛ كانت الخمسة النقد بالخمسة النقد مقاصة، والخمسة التي إلى شهر بخمسة من الستة التي إلى شهر مقاصة أيضا، ويبقى للمبتاع الأول قبل البائع دينار ربح ربحه معه في السلعة يأخذه منه.
[مسألة: السلف في الخوخ]
مسألة وقال في الخوخ لا بأس به اثنين بواحد أخضر كله، أو يابس كله؛ وعين البقر كذلك، ولا خير في رطبه بيابسه من صنف واحد؛ لأن ذلك مخاطرة؛ فهو وإن كان يصلح متفاضلا، فلا يصلح رطبه بيابسه، وإنما هو بمنزله التين الرطب لا بأس به واحد بواحد أخضر كله، أو يابس كله؛ ولا خير في رطبه بيابسه وإن كان واحدا بواحد، للحديث أيضا أنه نهي عن الرطب باليابس، وهو بمنزلة الرطب بالتمر يابسا أيضا.
قال محمد بن رشد: أما الرطب باليابس من الصنف الواحد الذي لا يجوز فيه التفاضل، فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز لما جاء في الحديث من أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا نعم، قال فلا إذا» . وأما الرطب باليابس من الصنف الواحد الذي يجوز فيها التفاضل كالتفاح، والخوخ، وعيون البقر، وشبهها؛ فاختلف فيه على ثلاثة أقوال، أحدها: أن ذلك لا يجوز وإن تبين التفاضل، وهو دليل احتجاجه في هذه الرواية، وفي سماع(7/171)
أصبغ بعد هذا، لعموم لفظ النهي عن الرطب باليابس. والثاني أن ذلك جائز وإن لم يتبين الفضل بينهما، وهو قول ابن القاسم في رسم باع شاة بعد هذا، فمنه ما يجوز فيه التفاضل بالتحري. والثالث أن ذلك جائز إن تبين الفضل بينهما، وغير جائز إن لم يتبين الفضل بينهما؛ وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع في القرط الرفيع بالقرط اليابس، والتفاح الأخضر بالتفاح المقدد؛ وهو دليل اعتلاله في هذه الرواية، وفي سماع أصبغ أيضا بالغرر، والمخاطرة، والمزابنة؛ وقياسه فيها الخوخ وعيون البقر على التين والتمر بعيد؛ لأن التمر لا يجوز فيه التفاضل، فلا خلاف في أنه لا يجوز بالرطب على حال. وكذلك التين لا يجوز فيه أيضا التفاضل؛ لأنه مما ييبس ويدخر؛ روى ذلك ابن وهب عن مالك، فالأخضر منه باليابس لا يجوز أيضا على حال؛ وقد قيل إن ذلك كله ليس باختلاف من القول، وإنما يرجع ذلك إلى أنه إن تبين الفضل بينهما وسلما من المزابنة جاز، وإن لم يتبين الفضل بينهما لم يجز، وإلى هذا ذهب الفضل؛ وأما الرطب باليابس من صنفين كانا مما يجوز فيه التفاضل، أو مما لا يجوز فيه التفاضل، فلا اختلاف في جوازه بكل حال.
[مسألة: باع ثوبين بسلعة موصوفة إلى أجل]
مسألة وسألته عمن باع ثوبين بسلعة موصوفة إلى أجل، ثم باع تلك السلعة قبل الأجل من صاحبها الذي هي عليه بثوب من صنف ثوبيه، قال لا بأس به، وإنما هو بمنزلة دينارين في سلعة إلى أجل، ثم باعها منه بدينار، فليس في هذا شيء.
قال محمد بن رشد: إنما جاز هذا؛ لأن الأمر آل بينهما إلى أن دفع البائع إلى المبتاع ثوبين، ثم أخذ منه بعد ذلك ثوبا واحدا من صنف ثوبيه، وإلى أن دفع المسلم إلى المسلم إليه دينارين، ثم أخذ منه بعد ذلك دينارا واحدا؛ ولا يتهم أحد في أن يدفع ثوبين في ثوب من صفته إلى أجل، ولا دينارين في دينار واحد إلى أجل، وإن كان لا يجوز أن يسلم الرجل ابتداء(7/172)
دينارين في دينار واحد إلى أجل، ولا ثوبين في ثوب من صنف ثوبيه إلى أجل؛ فقف على هذا واعرفه، وقد تقدم قبل هذا في رسم أسلم، وبالله التوفيق.
[باع من رجل شيئا من العروض ثم يندم مبتاعه قبل أن ينقده الثمن]
ومن كتاب البراءة قال عيسى: وسألته عن رجل باع من رجل شيئا من العروض مما يكال أو يوزن، أو مما لا يكال ولا يوزن مما عدا الطعام؛ ثم يندم مبتاعه قبل أن ينقده الثمن، فيريد أن يعطيه دينارين أو ثلاثة على أن يقيله من سلعته؛ أيجوز ذلك له، وإنما اشتراه بدينار أو يعطيه دراهم، وإنما كان اشتراه منه بالدنانير؟ قال إن كان الثمن نقدا فلا بأس به أن يزيده ما شاء معجلا ولا يكون مؤخرا، فإنه إن كان الذي باعه به ذهبا فأخر عنه ما يزيده من الذهب، كان بيعا وسلفا؛ وإن زاده ورقا متأخرا، كان ذهبا بورق إلى أجل وعرضا معجلا؛ وإن زاده عرضا مؤخرا، كان دينا بدين؛ ولا يصلح في هذا، إلا أن يكون كل ما زاده معجلا؛ وإن كان الثمن إلى أجل، فكان الثمن ذهبا أو ورقا، فإن كان الثمن ذهبا؛ فلا يزيده ذهبا نقدا ولا إلى دون أجلها، ولا إلى أبعد من أجلها، ولا مخالفة لسكتها؛ ولا يصلح إلا أن يكون الذي يزيده مثل نقده في عينه وجودته إلى أجله، ولا يزيده ورقا نقدا ولا إلى أجل دون أجلها، ولا إلى أبعد من الأجل؛ وإن كان الثمن ورقا يزيده دراهم نقدا ولا إلى دون أجلها، ولا إلى أبعد(7/173)
من أجلها، وهي في الورق بمنزلتها في الذهب، مجراهما واحد؛ ولا بأس أن يزيده عرضا معجلا ولا يؤخره، وإن كان الثمن عرضا فلا يزيده عرضا يشبه العرض الذي له عليه نقدا، ولا إلى دون الأجل، ولا إلى أبعد من الأجل، ولا بأس به إلى الأجل؛ لأنه يجري مجرى الذهب والورق، ولا بأس أن يزيده عرضا نقدا مخالفا للعرض الذي له عليه يعجله ولا يؤخره؛ قال وإن كان البائع هو الزائد، فلا بأس أن يزيده ذهبا أو ورقا أو عرضا معجلا أو مؤخرا، إلا أن يكون ذلك العرض يشبه العرض الذي يستقيله منه، فإن كان يشبهه فلا خير فيه إلى أجل؛ ولا بأس به معجلا، وذلك أنه يبتاع منه سلعة بعشرة دنانير عينا عليه، وبدينار زاده إلى أجل أو نقدا؛ قال وهو مثل ما لو كان لي عليك عشرة دنانير إلى أجل، فابتعت منك سلعة بالعشرة دنانير التي لي عليك، ودينارين إلى أجل؛ فافهم واستعن بالله يعينك، والله الموفق، اللهم عونك يا معين.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم في الطعام، وحكم المكيل والموزون من غير الطعام في استقالة البائع والمبتاع بزيادة ممن كانت منهما، كحكم الطعام في ذلك بعد استيفائه بالكيل أو الوزن على ما قد ذكرناه هناك، لجواز بيع المكيل والموزون من غير الطعام قبل استيفائه على مذهب مالك، فلا معنى لإعادته.(7/174)
[الرجل له الذهب بالمدينة أراد أن يشتري بها زيتا بالشام]
ومن كتاب الجواب وسألته عن الرجل من أهل الأندلس يكون له المال الموضوع بمصر عند القاضي أو عند رجل وضعه له القاضي عنده من موروث أو غير ذلك؛ هل يجوز للرجل أن يشتريه منه بالأندلس بعرض ويخرج إليه؟ قال ابن القاسم سئل مالك عن الرجل له الذهب بالمدينة عند قاضيها أراد أن يشتري بها زيتا بالشام، أو طعاما ولا يدري ما حدث على الذهب؟ قال مالك لا خير في ذلك. فقيل له فكيف العمل في ذلك والصواب؟ قال يتواضعان الزيت والطعام على يد رجل ثم يخرج إلى الذهب، فإن وجدها تم البيع بينهما؛ قال ابن القاسم فإن تواضعا العرض على يد غيرهما لم يكن به بأس، ويخرج إلى الذهب، فإن وجدها تم البيع، وإن لم يجدها فأخلف له مكانها، وأعطاه عرضا منها، لزم ذلك بائع العرض على ما أحب أو كره، وإن كان بائع الدنانير الغائبة يقبض العروض ولا يتواضعانها، فلا يحل ذلك إلا أن يكون ضامنا للدنانير إن لم توجد أعطاه مكانها غيرها؛ فإن كان كذلك فلا بأس به؛ وإن كان بائع الدنانير الغائبة فلا يقبض العرض، ولا يمكنه منه صاحبه، ولا يتواضعانه ولا يخرج من يده، لم يكن بذلك بأس؛ وخرج إلى الدنانير، فإن وجدها لم يقبضها حتى يقبض المشتري العرض؛ لأنه يصير حينئذ كمن اشترى سلعة غائبة بدنانير، فلا يصلح النقد فيها حتى تقبض السلعة أو تحضر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة حسنة وقد مضى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم ما فيه بيان لها، فلا معنى لإعادته.(7/175)
[سلف عشرة دنانير في طعام إلى أجل]
ومن كتاب أوله إن أمكنتني وقال في رجل سلف عشرة دنانير في طعام إلى أجل، فلما حل الأجل، قال: بعني طعاما أقضيكه، فباعه بعشرة دنانير نقدا فقضاه عشرة. قال إذا باعه بعشرة دنانير مثل نقده فلا بأس به؛ لأنها إقالة، فإذا باعه بأحد عشر دينارا فإنه حرام؛ لأنه باع عشرة بأحد عشر إلى أجل وهو بيع الطعام قبل استيفائه؛ وإذا باعه بتسعة لم يحل أيضا؛ لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى.
قال محمد بن رشد: قوله فباعه بعشرة دنانير نقدا فقضاه عشرة، معناه فنقده العشرة التي اشترى منه بها الطعام وقضاه الطعام فيما كان له عليه من السلم على ما شرط عليه؛ وعلى هذا أتى جوابه، وقد مضى القول على هذه المسألة في أول مسألة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، والله الموفق.
[اشترى من رجل سلعة بثمن إلى أجل]
ومن كتاب القطعان قال عيسى وسمعت ابن القاسم وسئل عن رجل اشترى من رجل سلعة بثمن إلى أجل، ثم إن البائع أمر رجلا أن يشتري له سلعة بنقد ودفع إليه دنانيره فاشتراها المأمور من المشتري بأقل من الثمن الذي كان ابتاعها به المشتري، وقد علم المأمور أن الأمر باعها منه أو لم يعلم وقد فاتت السلعة، قال لا خير فيه.(7/176)
فإن أدرك، فسخ البيع؛ وإن لم يدرك، لم أر له عليه إلا رأس ماله؛ ولا ينبغي له أن يدفع إلى رجل ذهبا يسيرة في أكثر منها إلى أجل، ويجعل السلعة محللة لذلك، وإن لم يعلم المشتري بأن البائع هو الذي أدخل ذلك عليه، فذلك سواء؛ قال ابن القاسم: وقد سئل مالك عن الرجل يبيع من الرجل السلعة بثمن إلى أجل، ثم يشتريها من المشتري رجل عندهم قاعد، فإذا وجب البيع ونقده، سأله البائع الأول أن يبيعها منه بربح؛ فكره ذلك كراهية شديدة وقال: لا خير فيه. فهذا إنما هو بمنزلة التحليل، فمسألتك مثلها في القياس؛ فإن قال قائل إن المشتري لم يظن أنه اشتراها منه رسول البائع، فقد اشترى البائع الأول سلعته من رجل ليس هو رسول له، وهذا أدنى مما سألته عنه، فلا أرى له إلا رأس ماله.
قال محمد بن رشد: إنما ساوى بين أن يعلم المأمور أن الآمر باعها؛ أو لم يعلم ذلك؛ وبين أن يعلم المشتري أنه رسول للبائع، أو لم يعلم، وقال إن ذلك كله سواء؛ لأنه لا يصدق واحد منهما في أنه لم يعلم؛ لأن السلعة قد رجعت أيضا إلى صاحبها البائع لها أولا، وظهر المكروه من فعلهم، فهم كلهم متهمون فيه، كالمسألة التي احتج بها في ذلك، وقد تكلمنا عليها في رسم حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها من سماع ابن القاسم. وقوله فإن أدرك، فسخ البيع؛ يريد إن أدركت السلعة قائمة بيد البائع الأول فسخ البيع الثاني، وردت السلعة إلى المشتري الأول. وقوله وإن لم يدرك لم أر له عليه إلا رأس ماله. يريد بقوله وإن لم(7/177)
يدرك أي وإن لم يدرك السلعة بيده، وكانت قد فاتت ولم يبين بماذا تفوت به، وقد مضى القول على ذلك في رسم حلف ليرفعن أمرا من سماع ابن القاسم. وقوله لم أر له عليه إلا رأس ماله، ظاهره وإن كانت قيمتهما أكثر من الثمن الذي باعها به أولا، مثل ظاهر قول مالك، وما تأول أبو إسحاق التونسي على ابن القاسم؛ وقد مضى القول على ذلك، وذكر الاختلاف فيه في رسم حلف المذكور، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: تباع الأرض إذا كان فيها زرع صغير بطعام]
مسألة قال ابن القاسم تباع الأرض إذا كان فيها زرع صغير بطعام إذا كان ذلك الزرع يئول إلى الطعام، وإن كانت الأرض بيضاء، فلا بأس أن يشتريها بطعام نقدا أو إلى أجل.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، وسحنون يجيز ذلك على أصله في إجازة بيع السيف المحلى بالذهب نقدا أو إلى أجل إذا كان الذي فيه من الذهب الثلث فأقل، وفي إجازته بيع الحائط بثمرته قبل أن يبدو صلاحها بطعام نقدا أو إلى أجل؛ وهو مذهب ابن الماجشون، وهو وجه القياس؛ لأنه إذا جاز أن يباع الزرع وهو صغير بالدنانير والدراهم مع الأرض، لكونه تبعا للأرض؛ وكأنه لم يقع عليه حصة من الثمن، جاز أن يباع بالطعام لكونه تبعا للأرض؛ فكأنه لم يقع أيضا عليه حصة من الثمن؛ وأما بيعها بيضاء، لا زرع فيها، فلا اختلاف في جواز بيعها بالطعام نقدا وإلى أجل، بخلاف الكراء.
[مسألة: اشترى قمحا إلى أجل فلما حل الأجل قال المشتري للبائع أقلني]
مسألة قال ابن القاسم في رجل اشترى قمحا إلى أجل، فلما حل(7/178)
أجل الطعام، قال المشتري للبائع إني أخاف الوضعية فأقلني، فقال البائع للمشتري لا وضيعة عليك، خذ بعض هذا القمح فبعه فما نقصت، دفعت ذلك إليك، ودفعت إليك بقية قمحك، قال ابن القاسم لا بأس به، وهو بمنزلة ما لو دفع إليه الطعام كله ثم قال له بع فلا نقصان عليك، وما وضعت فيه وضعت عنك.
قال محمد بن رشد: قوله اشترى قمحا إلى أجل يريد سلم في قمح إلى أجل، وهذه مسألة قال فيها أبو عمر الأشبيلي إنها مخالفة لما في السلم الثاني من المدونة. يريد مسألة الذي سلم مائة درهم في مائة إردب، ثم لقيه بعد ذلك فاستزاده، فزاده مائة إردب إلى محل أجل الطعام، أو قبله أو بعده؛ لأنه قال فيها لا بأس بذلك؛ لأنه لو اشترطه في أصل السلف لم يكن بذلك بأس؛ فاقتضى تعليله أنه لا يجوز أن يزيده دنانير ولا دراهم، إذ لا يجوز أن يشترط ذلك في أصل السلف؛ وأجاز في هذه المسألة أن يدفع المسلم إليه للمسلم ما نقص في الطعام من رأس ماله دنانير كان أو دراهم؛ وهو لو اشترط ذلك في أصل السلم لم يجز؛ لأنه كان يدخله البيع والسلف؛ لأن ما أعطاه من الدنانير يكون سلفا رده إليه وما بقي سلما، ولا أقول إن ذلك اختلاف من القول، والمعنى في ذلك عندي أنه تكلم ههنا على ما يجوز له فيما بينه وبين الله؛ فقال إنه لا بأس عليه أن يأخذ منه ما وضع له إن كان لم يعمل معه على بيع وسلف، وقد تكلم في المدونة على ما يوجب الحكم من أنه لا يقضي عليه بشيء مما زاده. إلا أن تكون تلك الزيادة مما لو اشترطها في أصل السلم جازت، ولو أبى المسلم إليه(7/179)
في هذه المسألة على معنى ما في المدونة أن يدفع إليه ما أوجب له من ذلك على نفسه لم يحكم عليه بذلك، لاحتمال أن يكون عقدا سلمهما على ذلك.
[مسألة: اشترى من رجل طعاما ما مضمونا إلى أجل يوفيه إياه بموضع سماه له]
مسألة قال ابن القاسم في رجل اشترى من رجل طعاما ما مضمونا إلى أجل يوفيه إياه بموضع سماه له، ثم أعطاه بعد ذلك دنانير على أن يتكارى لذلك الطعام ويحمله إلى بلد آخر، قال ابن القاسم إن كان يوفيه إياه بالموضع الذي شرط له في أول، ثم يتكارى له بعد استيفائه إياه من يحمله له إلى موضع آخر، فلا بأس به؛ لأن الضمان على المشتري وقد برئت منه ذمة البائع؛ وإن لم يستوف منه بالموضع الذي شرط عليه أو لا حتى تكارى له، وحمله (له) إلى الموضع الآخر، فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها؛ لأنه إذا كان يوفيه الطعام في الموضع الذي شرط عليه أن يوفيه فيه، فإنما هو متطوع له في تمون الكراء عليه من ذلك الموضع بالدنانير التي دفع إليه بعد أن برئت منه ذمته، وحصل في ضمان صاحبه؛ فذلك جائز لا بأس به، وإن كان إنما يقضيه منه بالموضع الذي سأله أن(7/180)
يتكارى له عليه إليه، صار قد اشترى منه الطعام بذلك الموضع بالطعام الذي كان له عليه في الموضع الذي كان شرط عليه في أصل السلم أن يوفيه، وبالدنانير التي دفع إليه عن الكراء؛ لأنه إذا كان لا يقبض منه الطعام إلا في الموضع الذي أراد أن يحمله له إليه، فإنما يكرى على طعام نفسه، وإن شاء لم يكر، وهذا بين، وبالله التوفيق، لا إله إلا هو.
[ليس بين الذكر والأنثى اختلاف في شيء من الأشياء]
ومن كتاب أوله باع شاة قال عيسى قال لي ابن القاسم ليس بين الذكر والأنثى اختلاف في شيء من الأشياء حتى يحل من ذلك واحد في اثنين إلى أجل في شيء من الأشياء: لا في الرقيق، ولا في الدواب، ولا في الأنعام، ولا في الماشية، ولا في الطير؛ وإنما الذكر والأنثى إذا كان من صنف واحد هو واحد، لا يجوز أحد باثنين من صنفه، إلا أن يختلف في غير ذلك؛ قلت له صف لي ما الاختلاف في الرقيق من الجواري والعبيد الذي إذا بلغته، جاز منه واحد إلى أجل باثنين، وهل اختلاف الأجناس والجنس، واختلاف الأثمان اختلاف، يجوز من ذلك واحد باثنين إلى أجل؛ قال ابن القاسم ليس اختلاف الأجناس في الرقيق، ولا اختلاف الأثمان، ولا اختلاف الصباحة بالذكور، ولا في الإناث(7/181)
بشيء، ولا يجوز شيء من هذه الوجوه واحد باثنين إلى أجل، وإنما الاختلاف في هذا الذي يجوز منه واحد باثنين إلى أجل؛ فأما في الرقيق الذكور، فالتجارة، والفصاحة، والنفاذ في الأمور؛ فإذا كان فصيحا، تاجرا نافذا، فلا بأس أن يباع الواحد باثنين وبأكثر من ذلك إلى أجل، من ذكور وإناث ليسوا مثله في التجارة، والفصاحة؛ ولا نبالي كانوا من جنسه أو من غير جنسه. قلت فالجارية الصبيحة العربية التي ثمنها ألف دينار بجاريتين وخشيتين ليستا من جنسها ولا بحسنها إلى أجل؛ قال ليس الحسن ولا الفصاحة شيئا، لو كان لجارية ثمان ألف دينار لحسنها وفصاحتها، وليس في يديها صنعة من طبخ ولا خبز ولا رقم، لم تحل بجاريتين ثمن عشرين دينارا إلى أجل؛ قال وليس اختلاف الجنوس بشيء، لا تحل جارية نوبية ليس في يديها صنعة من طبخ ولا خبز ولا رقم وإن بلغ حسنها ما يكون ثمن ألف دينار بجاريتين صقليتين ولا بربريتين، ولا شيء من الأجناس. قلت أفيحل أن يعطي جاريتين أو ثلاثا طباخات خبازات بجارية ليس في يديها عمل إلى أجل؟ قال: ليس بذلك بأس. قلت فهل يجوز الصغير بالكبير أو الكبير بالصغير من الرقيق إلى أجل؟ قال ابن القاسم ليس الصغر والكبر اختلافا في الرقيق، ولا يجوز صغير في المهد بكبير، ولا كبير بصغير حتى يكون الكبير تاجرا فصيحا كما أخبرتك ليس الكبر والصغر اختلافا في الرقيق حتى(7/182)
يجوز واحد من ذلك باثنين إلى أجل؛ قلت له فهل الغزل أو العمل للطيب صنعة في الجواري؟ قال ليس عمل الطيب بشيء؛ وأما الغزل فجميع النساء يغزلن، فليست بصنعة والذي سمعت إذا كان كانت طباخة وخبازة؛ وأنا أرى الرقم وما أشبه ذلك من الصنعة. قلت فالجارية التي تقرأ وتكتب؛ قال ليس هذا بصنعة، وإنما الصنعة ما أخبرتك في الجواري في الطبخ والخبز والرقم، وما أشبه ذلك؛ وفي الذكور التجارة، والفصاحة، والنفاذ. قلت أرأيت إن كان العبد تاجرا وليس بفصيح، أو كان فصيحا وليس بتاجر، أو عبدا فصيحا تاجرا بجاريتين أو ثلاث خبازات طباخات. قال أصل ذلك في الذكور التجارة، ولا نبالي كان فصيحا أو غير فصيح؛ وأما إذا كان فصيحا ليس بتاجر فليس ذلك بشيء؛ وأما العبد التاجر بالجاريتين الطباختين فلا بأس به؛ لأنه قد اختلفت صناعتهم؛ قلت فالجارية الطباخة بالجاريتين الخبازتين؟ قال لا خير فيه؛ لأن هذا كله بعضه قريب من بعض، إلا أن تكون رقامة أو صناعة.
قال محمد بن رشد: اتفق مالك وأصحابه وجل أهل العلم على أنه لا يجوز سلم الجنس الواحد بعضه في بعض من الحيوان والعروض، إلا أن تختلف وتتباين تباينا متفاوتا، تختلف فيه الأغراض والأسواق، فيمكن أن يتفق أحد الصنفين دون الآخر فيكونا في معنى الجنسين الذي لا يتيقن فيه الفضل لأحد المتبايعين، لإمكان نفاق كل واحد منهما دون صاحبه عند(7/183)
الأجل؛ لأنه إذا سلم الصنف في مثله أكثر عددا أو أفضل صفة، لم يكن بيعا وكان سلفا جر منفعة، لتيقن المنفعة فيه للدافع؛ فكان إنما أسلف ذلك الشيء على أن يأخذ فيه أكثر من عدده أو أفضل من صفته، وذلك حرام لا يحل ولا يجوز، «لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سلف جر منفعة» ، مبينا لما في كتاب الله من الربى الذي حرمه فيه؛ وإن سلفه في مثله أقل عددا أو أدنى صفة، كان المسلم لذلك الشيء إنما ترك له كثرة عدده أو فضل صفته ليحرزه له في ضمانه إلى ذلك الأجل، فكان ما ترك له من ذلك ثمنا للضمان، وذلك غرر وحرام؛ هذه جملة الاختلاف فيها بينهم، وقد يختلفون فيما يتباين فيه الصنف الواحد فيراه بعضهم يسيرا لا يخرجه إلى صنف آخر، ويراه بعضهم كثيرا يخرجه إلى صنف آخر بالاجتهاد الذي تعبد الله به العلماء من عباده فيما لا نص له فيه؛ إذ ليس في ذلك حد يرجع إليه في الكتاب والسنة ولا في الإجماع، كالصباحة والحسن في الجواري، لم ير ذلك ابن القاسم اختلافا يجوز به سلم القليل في الكثير إلى أجل ورأى ذلك ابن حبيب اختلافا فيها يجوز به ذلك، وكالقراءة والكتاب، الظاهر من هذه الروايات، أن ذلك ليس باختلاف في الذكور ولا في الإناث، ورآه ابن حبيب اختلافا في الذكور والإناث؛ وحكى عن ابن القاسم أنه اختلاف في الذكور دون الإناث، فالرقيق كلهم ذكورهم وإناثهم، صغارهم وكبارهم، صنف واحد عند ابن القاسم وإن اختلفت أجناسهم وألوانهم وصباحتهم؛ ما لم يختلفوا في صنائعهم، كالعبد التاجر النافذ في الأمور، أو الصناع بيده كالنجار والخياط أو الأمة الرقامة،(7/184)
أو النساجة، أو الخبازة، أو الطباخة؛ فيجوز من ذلك كله سلم ما له صنعة فيما لا صنعة له، وما له صنعة فيما له صنعة إذا افترقت الصنع وتباينت؛ فهذه جملة في هذا الباب، وأصل يقاس عليه ويرجع إليه؛ وإنما كان الصغير والكبير من الرقيق صنفا واحدا بخلاف الدواب؛ لأن الدابة لا ينتفع بها قبل الركوب، والصغير ينتفع به وهو صغير قبل البلوغ، ولما لم يكن في ذلك حر وكان يختلف اختلافا متباينا حمل الباب كله محملا واحدا، فجعل الصغير مع الكبير صنفا واحدا وإن كان معهودا؛ وأيضا فإن النفاق فيهم بمنزلة سواء، إذا نفق الصغير، نفق الكبير؛ وإذا كسد الصغير، كسد الكبير، وهذه هي العلة عندي في كون الذكور والإناث صنفا واحدا وإن كانت الأغراض في ذلك مختلفة.
[مسألة: الفرس إذا لم يعرف له جودة إلا أنه فرس عربي]
مسألة قلت لابن القاسم أرأيت الفرس إذا لم يعرف له جودة إلا أنه فرس عربي سمين جميل، ثمنه مائة دينار ببرذونين ثمن عشرين دينارا إلى أجل؛ قال لا خير فيه ولا يجوز، إلا أن يكون جوادا معروفا بالسبق فيحل. قلت فما متنهى السن الذي إذا بلغته الخيل، لم يحل قارح باثنين منها إلى أجل؟ قال إذا أجذع وركب، فقد صارت المنافع واحدة، فعند ذلك لا يحل.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه: أن الخيل ثلاثة أصناف، كبارها صنف: ذكورها وإناثها؛ وصغارها صنف: ذكورها وإناثها، والجواد منها المعروف بالسبق(7/185)
والجري صنف. ذكورها وإناثها؛ فإذا اختلفت هذه الأصناف، جاز منها الواحد بالاثنين إلى أجل؛ فيجوز سلم الصغار منها في الكبار، والكبار في الصغار، والكبار في الكبار إذا اختلفت في الجودة والسبق، وتباينت في ذلك تباينا بعيدا.
[مسألة: تسليف حولي بكبير إلى أجل]
مسألة قال ابن القاسم، أما حولي بكبير إلى أجل، فلا خير فيه؛ وأما صغيران بكبير إلى أجل، فلا بأس به؛ لأنه بيع؛ قال وإنما يجوز الحولي بالقارح، وأما القارح بحولي فلا يحل إلى أجل، ولا حولي بقارح إلى أجل؛ لأن هذا ليس بوجه بيع؛ لأنه إذا كان القارح بالحولي، فإنما هو رجل أعطى فرسا على أن يضمن له حوليا أدنى منه إلى أجل؛ فصار مبتاعا لضمان الحولي بزيادة سن القارح على الحولي؛ وإن كان حوليا بقارح إلى أجل، فإنما هو رجل زاد في سلفه، أعطاه حوليا إلى أجل على أن يقضي قارحا، ولا يكون البيع بينهما حتى يكون اثنان بواحد، وتختلف فيهما المنافع؛ فإن كان على وجه ابتغاء الفضل، كان بيعا؛ وإن لم يكن على وجه ابتغاء الفضل، كان على وجه السلف فحرم؛ لأنه إذا كان واحد باثنين، أو اثنان بواحد؛ أو صغيران بكبيرين، أو كبيران بصغيرين؛ فهو عند الناس بيع فيما تفاوت من أثمانهما وأسنانهما، فلا يكون بذلك بأس؛ قال ولا بأس بعلوين من الحمير بقارح إلى أجل؛ ولا خير في صغير بكبير، ولا كبير بصغير؛ ولا صغير بصغيرين؛ أو أكثر من ذلك إلى أجل؛ وأما كبارها بكبارها، فلا خير في ذلك واحد باثنين إلى أجل؛ قلت له إنه يكون(7/186)
منهما حمار يبلغ مائة دينار، وحماران ليس ثمنهما خمسة عشر دينارا، فلا يحل منهما واحد بعدة من غيرها إلى أجل؟ قال: ليس اختلاف أثمانها ولا جنسها ولا سيرها باختلاف يحل له منها واحد باثنين إلى أجل، إلا أن يكون من حمر الأعراب، فلا بأس بالحمار المصري الفاره بالأعرابيين وأكثر من ذلك؛ وأما حمر مصر، فكلها صنف واحد لا يحل منها واحد باثنين إلى أجل؛ والحمير والبغال صنف واحد لا يحل بغل بحمارين إلى أجل، ولا حمار ببغلين إلى أجل؛ إلا أن يكون كبير بصغيرين، أو صغير بكبيرين، فلا بأس به؛ وهو مثل الحمير، وهي صنفها؛ وكذلك قال لي مالك، قال عيسى إذا بان اختلاف الحمير، فأراها كالخيل والإبل، وقال أصبغ مثله.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم حمل صبيا القول في سلم الواحد في الواحد، والاثنين في الواحد، والواحد في الاثنين من الصغار في الكبار، أو الكبار في الصغار من جنس واحد مستوفى، فلا معنى لإعادته. وقوله في الحمير مثل ما له في المدونة: أنها ثلاثة أصناف: صغارها وكبارها صنفان: حمر مصر منها إلى الركوب صنف، وحمر الأعراب التي للخدمة صنف؛ وقال عيسى وأصبغ إن ما تباين من حمر مصر في السير وتفاوت فيه، يجوز بما ليس بمسيار اثنان بواحد إلى أجل، وإلى هذا ذهب ابن حبيب. وقوله إن البغال والحمير صنف واحد، هو مثل قوله في المدونة، خلاف ما ذهب عليه ابن حبيب من أن البغال صنف على حدة، فيجوز كبارها بكبار الحمير، وصغارها بصغار الحمير اثنان بواحد إلى أجل؛ تكلم ابن القاسم على ما يعرف بمصر من أن الحمير تتخذ للركوب كالبغال؛ وتكلم ابن حبيب على ما يعرف بالأندلس من أن الحمير لا تتخذ للركوب،(7/187)
وإنما هي للخدمة مع اختلاف أجناسها، ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم أنه راعى تشابههما في وجوه المنافع وإن افترقت أصولها؛ فقوله في البغال والحمير نحو مذهب أشهب في أن رقيق ثياب القطن والكتان صنف واحد، لتشابههما في المنفعة وإن اختلفت أصولهما؛ والذي يأتي على مذهب ابن القاسم في البغال والحمير على ما يعرف بالأندلس من أنها صنف واحد، لا يجوز صغير من البغال بصغيرين من الحمير إلى أجل وما كان يستمطى من كبار البغال صنف لا يجوز بما لا يستمطى منها، ولا بكبار الحمير اثنان بواحد إلى أجل؛ وما لا يستمطى منها وإنما هو للخدمة، فهو مع الحمير صنف واحد، لا يجوز منها بغل بحمارين إلى أجل.
[مسألة: السلف في الدجاج والحمام والأوز وجميع الطير الداجن]
مسألة قلت فالدجاج والحمام والأوز، وجميع الطير الداجن الذي يكون عند الناس، هل يحل واحد باثنين إلى أجل مثل الدجاجة البياضة المعروفة بذلك بالدجاجاتين أو الثلاث ممن ليست مثلها في كثرة ما تبيض غير أنها تبيض؛ قال لا يحل دجاجة بدجاجتين، ولا إوزة بإوزتين؛ ولا شيء من الطير الداجن واحد باثنين إلى أجل وإن تفاضلت في البيض والفراخ، ليس هذا اختلافا يحل به واحد باثنين من جنسه إلى أجل؛ ولا يحل صغير الطير بكبيره، ولا كبيره بصغيره إلى أجل؛ ولا يحل دجاجة كبيرة(7/188)
بفروجين، ولا فروج بدجاجتين، ولا إوزة بفرخ إوزة، ولا يحل صغير بكبير من جنسه في شيء من الطير؛ قال ابن القاسم إلا أن يكون الطير الداجن مما ليست فيه منفعة إلا اللحم، مثل الدجاجة التي لا تبيض وقد فسدت وليست تراد إلا للذبح، فإذا كان كذلك، فلا بأس أن يباع بما لا يستحيى من الطير؛ لأنه لحم كله ولا يكون ذلك إلا يدا بيد، لا يدخل في شيء منه أجل ولا تأخير على التحري.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه أن ما كان من الطير الذي يقتنى للبيض أو الفرخ كالدجاج والإوز والحمام، فكل جنس منه صنف على حدة: صغاره وكباره، ذكوره وإناثه، لا يجوز بعضه ببعضه اثنان بواحد إلى أجل، وإن تفاضل في البيض والفراخ؛ فإن اختلفت الجنسان، جاز الواحد منه بالاثنين إلى أجل، وأن ما كان منها لا يقتنى لبيض ولا فرخ، فسبيله سبيل اللحم عند ابن القاسم، لا تراعى الحياة القائمة فيه إلا مع اللحم؛ وأشهب يراعيها في كل حال، فيجوز على مذهبه فيها سلم بعضها في بعض إذا اختلفت أجناسها بمنزلة ما يقتنى لبيض أو لفراخ، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم حبل حبلة من سماع عيسى، فقف على ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: الخبز واللحم والبيض يباع بعضه ببعض تحريا]
مسألة قال ابن القاسم وقد قال لي مالك إن الخبز واللحم والبيض يباع بعضه ببعض تحريا أن يكون فيما يعطى ما يأخذ مثلا بمثل، بلا كيل ولا وزن؛ قال ابن القاسم وذلك إذا بلغه التحري(7/189)
ولم يكثر حتى لا يستطاع أن يتحرى، وكذلك كل ما يباع وزنا ولا يباع كيلا، فإنه يجري مجرى هذا؛ وكل صنف من الطعام أو غيره مما يجوز منه واحد باثنين من صنفه، فلا بأس باقتسامه على التحري، كان مما يكال أو يوزن، أو مما لا يكال ولا يوزن.
قال محمد بن رشد: قوله إن كل ما يباع وزنا ولا يباع كيلا مما لا يجوز فيه التفاضل، يجوز بيع بعضه ببعض على التحري، هو مثل ما في المدونة، ومثل ما مضى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم؛ وقد مضى القول على ذلك هنالك. وقول ابن القاسم إن ذلك إنما يجوز فيما لم يكثر حتى لا يستطاع أن يتحرى، تفسير لقول مالك؛ وكما يجوز بيع بعضه ببعض بالتحري، فكذلك يجوز اقتسامه بالتحري، وقد قال ابن حبيب إن ذلك لا يجوز، ومعنى ذلك فيما كثر، والله أعلم.
وأما ما يباع كيلا ولا يباع وزنا مما لا يجوز فيه التفاضل، فلا اختلاف في أنه لا يجوز أن يباع بعضه ببعض بالتحري، ولا أن يقتسم على التحري؛ وأما ما يجوز فيه التفاضل، فاختلف في جواز قسمته على التحري، وبيع بعضه ببعض على التحري على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك جائز فيما لا يباع كيلا، وإنما يباع وزنا كالفاكهة، أو جزافا كالبقول؛ وهو مذهب ابن القاسم فيما حكى عنه ابن عبدوس. والثاني أن ذلك جائز فيما يباع كيلا أو وزنا أو عددا، وهو مذهب أشهب وقول ابن القاسم في هذه الرواية، وإليه ذهب ابن حبيب. والثالث أن ذلك لا يجوز فيما يباع كيلا ولا فيما يباع وزنا وعددا، وهو الذي في آخر كتاب السلم الثالث من المدونة. ودليل ما وقع في كتاب القسم من المدونة(7/190)
في البقول، أنه لا يجوز أن تقسم حتى تجز وتباع؛ وقد وقع في بعض الكتب حتى تجز أو تباع، فإذا ثبت الألف في ذلك، دل على جواز القسمة فيه على التحري بعد الجز على ما ذهب إليه ابن عبدوس من جواز التحري فيما لا يكال مما يجوز فيه التفاضل.
[مسألة: باع ألف إردب بمائة إلى سنة فوجده يبيعه في السوق فأراد أن يشتري منه بنقد]
مسألة قال ابن القاسم قال لي مالك لو أن رجلا باع ألف إردب بمائة دينار إلى سنة، فوجده يبيعه في السوق، فأراد أن يشتري منه بنقد؛ قال إن اشترى منه بنقد بمثل الثمن الذي له عليه، وبمثل الكيل الذي باعه إياه، أو أدنى من كيله، فلا بأس به؛ فقيل لمالك فلو حل الأجل فأتاه يتقاضاه ثمنه، فلم يجد عنده ثمنا فأراد أن يأخذ منه من صنف طعامه أقل من كيله بما يسأله من الثمن؛ قال مالك لا يعجبني، قال عيسى وقد قال مالك في كتاب الرطب باليابس من سماع ابن القاسم لا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى فيها القول مستوفى في رسم حبل حبلة؛ لأنها من جملة الفروع التي فرعنا المسألة الواقعة فيه إليها، وذكرنا حكمها وأصلها، ووجه القياس فيها، فلا معنى لإعادتها.
[خبز القمح بخبز الأرز متفاضلا]
من سماع يحيى من ابن القاسم من كتاب الصبرة قال يحيى قال ابن القاسم أكره خبز القمح بخبز الأرز(7/191)
متفاضلا؛ لأنهما إذا صارا خبزا، فقد صارا صنفا واحدا؛ وهما عندي وما أشبهه هما يجمعه أسم الخبز، بمنزلة الخل: خل العنب والتمر والعسل وأشباه ذلك مما أصوله مختلفة؛ فإذا اجتمع خلا، جمعه الاسم والمنفعة، وحرم بعضه ببعض متفاضلا.
قال محمد بن رشد: الأخباز، والأخلال، والأنبذة، والأسوقة، لا يراعى أصولها؛ لأن المنفعة فيها واحدة؛ فلا يجوز التفاضل في الخبز، ولا في الخل، ولا في النبيذ ولا في السويق وإن افترقت أصولها فكانت مما يجوز فيه التفاضل، خلاف الزيوت يجوز التفاضل في الزيت إذا اختلفت أصوله، فكان هذا زيت زيتون، وهذا زيت فجل أو جلجلان، وما أشبه ذلك؛ هذا هو المشهور، وقد روي عن ابن القاسم أن التفاضل في الأخباز القطنية جائز باختلاف أصوله، وروى ابن جعفر الدمياطي عنه أن خبز القطنية كلها صنف، وأن خبز ما عدا القطنية من القمح والشعير والسلت والأرز والذرة والدخن صنف؛ فيجوز التفاضل في خبز ذلك كله بخبز القطنية، ولا يجوز التفاضل في أخباز القطنية، ولا في أخباز ما عدا القطنية، وإذا كانت أصول الأخباز مما يجوز فيه التفاضل، فتعتبر المماثلة في أعيان الأخباز على مذهب من لا يجيز التفاضل فيها؛ وإن كانت مما لا يجوز فيه التفاضل: مثل خبز القمح، وخبز السلت أو الشعير، فالمماثلة تكون فيها بأن يتحرى كيل ما دخل في كل واحد منهما من الدقيق على ما في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع.
[مسألة: طير الماء الذي لا يستحيى أيباع قبل أن يستوفى]
مسألة وسئل عن طير الماء الذي لا يستحيى أيباع قبل أن يستوفى؟ قال لا، هو عندي بمنزلة الطعام.(7/192)
قال محمد بن رشد: معناه إذا أسلم فيه، وأما إذا اشتراه بعينه فالنقد يدخل في ضمانه؛ لأنه جزاف؛ ويجوز بيعه قبل قبضه كالصبرة تشتري جزافا؛ وهذا على أصل ابن القاسم في أن هذه الحياة غير مرعية؛ وأما على مذهب أشهب، فيجوز له أن يبيعه قبل أن يستوفيه وإن أسلم فيه؛ لأن الحياة فيه مرعية عنده على ما قد ذكرناه في الرسم الذي قبل هذا، وفي رسم حبل حبلة.
[مسألة: الرجل يبيع السلعة من الرجل إلى أجل بمائة دينار]
مسألة قال ابن القاسم في الرجل يبيع السلعة من الرجل إلى أجل بمائة دينار، ثم يتعدى فيبيعها من رجل آخر بعشرة دنانير نقدا، أن المشتري الأول أحق بسلعته ما لم تفت؛ فإن فاتت خير، فإن شاء أخذ العشرة الدنانير من البائع، وأعطاه عند الأجل عشرة ليس له عليه غيرها، ويوضع عنه التسعون التي أراد أن يربي له بها عليه؛ وإن كانت قيمة السلعة أكثر من العشرة الدنانير التي باعها بها نقدا، كان للمشتري الأول أن يغرم للبائع تلك القيمة ولا يقضيه عند حلول أجل المائة إلا القيمة التي قبض من البائع، لا يصلح للمشتري أن يرد على البائع عند الأجل المائة، إلا قرر ما قبض منه من عدة الدنانير العشرة التي باع بها نقدا، أو القيمة إن كان قبض منه القيمة وليس للبائع(7/193)
أن يأبى دفع ذلك إليه، وليس له أن يتعجل قبض ذلك منه قبل الأجل، ولا أن يزداد عليه أكثر مما دفع إليه.
قال محمد بن رشد: جعل ابن القاسم تعدي البائع على السلعة وبيعها بالنقد بعد أن كان باعها بثمن إلى أجل إذا اختار المشتري الأول أن يجيز البيع ويأخذ الثمن الذي باعها به نقدا، أو القيمة إن كانت قد فاتت وهي أقل من الثمن الذي كان اشتراها به؛ بمنزلة إذا اشتراها منه بالنقد بعد أن كان باعها منه بثمن إلى أجل، وأنهما على القصد إلى دفع دنانير في أكثر منها إلى أجل؛ فقال إنه يقضى له على البائع إن كانت السلعة قد فاتت بالأكثر من الثمن الذي باعها به أو القيمة، ولا يأخذ منه عند الأجل إلا ذلك، ويطرح عنه الزائدة ويدخل في هذا من الاختلاف ما يدخل فيمن باع سلعة بثمن إلى أجل، ثم اشتراها بأقل من ذلك نقدا وفاتت السلعة؛ وذلك ثلاثة أقوال، أحدها هذا؛ والثاني أنه يفسخ البيع الأول إذا أبى المبتاع الأول من أخذ سلعته وأراد أخذ الثمن، أو فاتت وأراد أخذ القيمة؛ وإن كانت القيمة أكثر من الثمن، فلا يحكم له على البائع بشيء من ذلك ويسقط عنه الثمن؛ وهو الذي يأتي على ظاهر ما في رسم حلف من سماع ابن القاسم، وما في رسم القطعان من سماع عيسى. والثالث الفرق بين أن تكون القيمة أو الثمن أكثر من الثمن الذي عليه إلى الأجل وأقل، فإن كان أقل فسخ البيع الأول وسقط عنه الثمن ولم يقض له بقيمة ولا ثمن؛ وإن كان أكثر، قضى له بأخذ القيمة أو الثمن؛ فإذا حل الأجل أدى ما عليه حسبما مضى القول فيه في رسم حلف المذكور، وقد قيل إن عدا البائع على السلعة، بخلاف شرائه لها، فلا يتهمان مع العداء، ويحكم له بأخذ الثمن أو القيمة إن كانت السلعة قد فاتت، ويكون عليه إذا حل الأجل الثمن الذي كان عليه وإن كان أكثر مما قبض من القيمة أو الثمن.(7/194)
[مسألة: يشتري من الرجل عبدا بمائة دينار إلى أجل]
مسألة وقال ابن القاسم في الرجل " يشتري من الرجل عبدا بمائة دينار إلى أجل، وللمشتري على البائع مائة مثلها إلى ذلك الأجل أو حالة، فاستقال المشتري البائع من العبد، فقال البائع لا أقيلك إلا أن تضع عني المائة الدينار التي لك علي؛ فقال المشتري قد فعلت؛ إن ذلك جائز؛ لأنه رجل قضاه ما له عليه من المائة الدينار، وزاده مع القضاء عطية العبد؛ وإنما يجوز ذلك إذا كانت المائة التي للمشتري على البائع حالة أو إلى أجل ثمن العبد، وكان ما لكل واحد منهما على صاحبه متكافئا؛ ألا ترى أنها إذا كانت حالة، فقد عجل له قضاء مائة محاها عنه بمائة كانت له عليه إلى أجل، وأعطاه العبد بلا ثمن أخذه منه؛ وكذلك أيضا إذا كانت إلى أجل ثمن العبد، فهو يمحو عنه المائة بالمائة التي قبله ويزيده العبد بلا ثمن؛ ولم يدخل ذلك شيء من المكروه، قال وإن كان للمشتري قبل البائع أكثر من المائة التي عليه من ثمن العبد حالة أو إلى أجل ثمن العبد؛ فاستقاله على أن وضع ذلك عنه، فهو مثل ما وصفنا من المسألة الأولى حلال جائز؛ قال وإن اختلفت الآجال، فكان الذي بكل واحد على صاحبه مثل الذي لصاحبه عليه أو أقل أو أكثر، لم يصلح له أن يقيله على أن يفسخ المشتري عن البائع دينه الذي له عليه؛ وذلك أن يبيع الذهب بالذهب إحداهما معجلة والأخرى إلى(7/195)
أجل يدخله؛ ألا ترى أنه إذا كانت مائة المشتري على البائع إلى شهر، وقد وجبت عليه مائة من ثمن العبد إلى سنة، فاستقاله على أن محا عنه المائة التي إلى شهر، فإنما اشترى المائة التي عليه إلى سنة بالعبد الذي رد، وبمائة يقاصه بها إلى شهر؛ وكذلك إن كانت مائة المشتري على البائع إلى أبعد من أجل ثمن العبد لم يصلح أيضا، ولا تصلح هذه الإقالة على فسخ ما للمشتري على البائع حتى يكون حقه حالا أو إلى أجل ثمن ما اشترى.
قال محمد بن رشد: أما إذا كانت مائة المشتري على البائع حالة، فجواز ذلك بين لا أشكال فيه؛ لأن المبتاع عجل للبائع المائة التي عليه إلى أجل، إذ أعطاه بها المائة التي له عليه حالة؛ وله أن يعجلها فعجل له ما من حقه تعجيله وزاده مع التعجيل عطية العبد، وكذلك إن كان الذي للمشتري على المائع أكثر من مائة؛ لأنه عجل له حقه ووضع عنه الزائد، وزاده عطية العبد، وأما إن كان الذي للمشتري على البائع أقل من مائة، فلا يجوز بحال؛ لأن البائع يصير قد أخذ من المائة التي له أقل من مائة والعبد، فيدخله عرض وذهب بذهب إلى أجل، وضع وتعجل؛ وأما إذا كانت المائة التي له عليه إلى أجل ثمن العبد، فقال إن ذلك جائز؛ لأنه محا عنه المائة بالمائة، وزاده العبد؛ وفي ذلك من قوله نظر؛ لأن محو المائة عنه بالمائة ليس من حقه، فصار البائع إنما أجابه إلى المقاصة على أن أخذ منه العبد؛ ولعله خشي هو إن لم يقاصه أن يقوم عليه الغر ماء قبل حلول الأجل، فيتحاص معهم في المائة التي عليه؛ فرضي أن يعطيه العبد على أن يقاصه بالمائة في المائة، ليتخلص بالمائة التي عليه دون الغرماء، فيدخله ذهب وعرض بذهب؛ وهذا بين، فلا فرق في القياس بين أن تكون مائة المشتري على البائع إلى أجل ثمن العبد، أو إلى دونه إذا لم تكن حالة؛ وأما إذا كانت المائة التي للمشتري على البائع إلى أبعد من أجل(7/196)
ثمن العبد، أو إلى دونه؛ فالمكروه في ذلك بين؛ لأنه أخذه بالمائة التي وجبت عليه من ثمن العبد إلى أن يحل أجل المائة التي عليه، فتكون مقاصة على أن يعطيه العبد فتدخله الزيادة في السلف وبيع ذهب وعرض بذهب إلى أجل.
[مسألة: يبيع من الرجل السلعة بعشرة دنانير إلى شهر وبثوب نقدا]
مسألة وسألته عن الرجل يبيع من الرجل السلعة بعشرة دنانير إلى شهر وبثوب نقدا على أن يسلف المشتري البائع عشرة دنانير إلى أجل ثمن السلعة، ففاتت السلعة أو لم تفت؛ فقال: أما إذا كان السلف شرطا في أصل البيع إلى أجل ثمن السلعة بعينه، وعلى أن يتقاضى بما صار لكل واحد منهما على صاحبه فلا بأس به، ولا يفسخ البيع، فاتت السلعة أو لم تفت؛ وذلك أن فعلهما وقع على وجه الحلال وإن قبح كلامهما؛ ألا ترى أنه إنما اشترى السلعة بعشرة دنانير نقدا وبثوب نقدا؛ لأن أجل السلف وأجل ثمن السلعة واحد؛ فهذا إذا حل الأجل لم يكن لواحد منهما على صاحبه شيء؛ قلت فإن باعها إياه بعشرة إلى شهر وبثوب نقدا على أن يسلفه خمسة دنانير إلى ذلك الأجل؟ قال وهذا أيضا مثل الأول لا بأس به، إنما باعها إياه بخمسة وثوب نقدا، وبخمسة إلى أجل؛ قال فإن اختلفت الآجال، لم يجز البيع؛ لأنه يصير بيعا وسلفا؛ ألا ترى لو باعه إياها بعشرة إلى شهر على أن يسلفه المشتري عشرة إلى شهرين أو إلى عشرين يوما، أن كل واحد منهما يقتضي حقه من صاحبه عند محل أجله، ولا تصلح فيه المقاصة لاختلاف الآجال، فهو البيع والسلف؛ فإن لم تفت السلعة، فسخ البيع وردت؛ وإن فاتت رد السلف ونقض البيع، وصيرت السلعة إلى قيمتها يوم قبضها؛ قلت أرأيت إن باعها إلى شهر بعشرة دنانير على أن يسلفه مائة درهم إلى شهر والصرف(7/197)
عشرة دراهم بدينار؛ قال هذا لا خير فيه ذهب بوزن إلى أجل.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال إن الآجال إذا اختلفت يدخله بيع وسلف، إذ لا تكون في ذلك مقاصة، لاختلاف الآجال؛ وأما قوله إن السلعة إن لم تفت فسخ البيع وردت، وإن فاتت رد السلف ونقض البيع وصيرت السلعة إلى قيمتها يوم قبضها؛ فالظاهر منه أن البيع يفسخ على كل حال- ما كانت السلعة قائمة، ولا يكون في ذلك خيار لمشترط السلف، وتكون فيها القيمة إن فاتت بالغة ما بلغت؛ ومثله في العشرة ليحيى عن ابن القاسم على حكم البيع الفاسد لغرر يكون فيه، أو فساد في ثمن أو مثمون، خلاف المشهور في المذهب من أنه لا يفسخ إذا أرضى مشترط السلف بتركه على مذهب سحنون، أو رده على مذهب ابن القاسم إن كان قد قبضه. يريد ما لم يمض أجله، أو مقدار ما يرى أنه أسلفه إليه؛ فإن فاتت السلعة كان فيها الأكثر من القيمة، أو الثمن إن كان البائع هو مشترط السلف، أو الأقل من القيمة، أو الثمن إن كان المشتري هو مشترط السلف على البائع حكم بيوع الثنيا في المشهور من الأقوال فيها؛ وقد قيل إن البائع إن كان هو مشترط السلف وفاتت السلعة، كان فيها الأكثر من القيمة أو الثمن، ما لم تكن القيمة أكثر من الثمن والسلف، فلا يزاد البائع على ذلك شيئا؛ وإن كان المشتري هو مشترط السلف على البائع، كان فيها الأقل من القيمة أو الثمن، ما لم تكن القيمة أقل من الثمن بعد أن يطرح منه السلف، فلا ينقص المبتاع من ذلك شيئا، وهو قول أصبغ؛ ويتخرج في المسألة قول ثالث وهو أن يرجع مشترط السلف منهما على صاحبه بقدر ما نقصه أو زاده بسبب الشرط؛ ووجه العمل في ذلك، أن تقوم السلعة بشرط السلف ودون شرط، فيؤخذ اسم ما بين القيمتين من الثمن، ويرجع بذلك البائع على المبتاع إن كان هو مشترط السلف؛ والمبتاع على البائع إن كان هو مشترط السلف؛ وقال سحنون إذا قبض السلف وغيب عليه، فقد تم الحرام بينهما ووجب فسخ البيع على كل حال ما كانت السلعة قائمة؛ وأن تكون فيها القيمة بالغة ما بلغت إذا كانت قد فاتت، هو مذهب ابن حبيب، ووجه رواية يحيى أن البيع والسلف يؤول الأمر فيه إلى(7/198)
الفساد في الثمن أو المثمون؛ لأن البائع إن كان هو مشترط السلف على المبتاع، فكأنه قد باع منه سلعة نجما سمى من الثمن، وبما يربح في السلف إلى الأجل الذي سمى السلف إليه؛ وإن كان المبتاع هو مشترط السلف على البائع، فكأنه قد اشترى منه السلعة وما يربح في السلف بما سمى من الثمن؛ فوجب أن يفسخ البيع على كل حال في القيام، وأن تكون فيه القيمة بالغة ما بلغت في الفوات؛ ووجه القول الثاني أن السلف قد لا يزيده مشترطه ليتجر به، وإنما يزيده لغير ذلك من الوجوه، فلا يؤول ذلك إلى فساد في الثمن ولا في المثمون، ويكون البيع على ذلك من بيوع الثنيا؛ وأما إذا اشترى السلعة بعشرة دنانير إلى شهر على أن يسلف للبائع مائة درهم إلى ذلك الأجل، والصرف عشرة دراهم بدينار؛ فإن الجواب فيها سقط من بعض الروايات، وثبت في بعضها وهو صحيح، إذ لا يوجب الحكم المقاصة بالدينار من الدراهم؛ ولو وقع البيع بشرط المقاصة، لوجب أن يجوز وإن قبح اللفظ؛ لأن مآل أمرهما إلى أن باع منه السلعة بمائة درهم نقدا، وقد قال ذلك ابن أبي زيد.
[مسألة: خل التمر بنبيذ التمر]
مسألة قال ابن القاسم لا يصلح خل التمر بنبيذ التمر إلا مثلا بمثل لأن حالهما متقاربة؛ ولا خل التمر بنبيذ الزبيب إلا مثلا بمثل؛ لأن منفعتهما متقاربة.
قال محمد بن رشد: لم يجز في هذه الرواية خل التمر بنبيذ التمر إلا مثلا بمثل، وكذلك على قياس قوله لا يجوز خل الزبيب بنبيذ الزبيب إلا مثلا بمثل؛ وإذا لم يجز خل التمر بنبيذ التمر، ولا خل الزبيب بنبيذ الزبيب متفاضلا، لقرب ما بينهما؛ وكان التمر بنبيذ التمر، والزبيب بنبيذ الزبيب، لا يجوز على حال، لقرب ما بينهما؛ وجب ألا يجوز خل التمر(7/199)
بالتمر، ولا خل الزبيب بالزبيب على حال أيضا، لقرب ما بينهما؛ بخلاف خل العنب بالعنب، وهو نحو قول ابن الماجشون؛ لأنه لم يجز خل التمر بالتمر إلا في اليسير، ومنع منه في الكثير؛ وكذلك الرقيق بالحنطة عنده، رواه أبو زيد عنه، خلاف ما في المدونة من أن خل التمر بالتمر متفاضلا جائز، كخل العنب بالعنب؛ والفرق بين خل العنب بالعنب، وبين خل التمر على هذه الرواية، ما قيل إن خل التمر والزبيب والتين تخليله متقارب، بخلاف خل العنب؛ والى هذا ذهب الفضل، واستحسن هذه الرواية لهذا المعنى؛ ويحتمل أن يفرق بين المسألتين بأن يقال إن النبيذ لا يصلح بالتمر لقرب ما بينهما، ولا بالخل إلا مثلا بمثل، لقرب ما بينهما أيضا، ويصلح التمر بالخل لأنه يبعد ما بينهما، وذلك أن الخل والتمر طرفان بعيد ما بينهما، فيجوز التفاضل بينهما؛ والنبيذ واسط بينهما يقرب من كل واحد منهما، فلا يجوز بالتمر على حال، ولا بالخل إلا مثلا بمثل، وهذا أظهر لما وقع في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع في بعض الروايات من أنه لا بأس بخل التمر بالتمر، ولا يجوز النبيذ بالتمر، ففرق بين المسألتين؛ فلا يكون على هذا التأويل ما في المدونة من جواز الخل بالتمر مخالفا لقوله في هذه الرواية إنه لا يصلح خل التمر بنبيذ التمر إلا مثلا بمثل، وأما خل التمر بنبيذ الزبيب، فإنما لم يجز إلا مثلا بمثل، من أجل أن أحوالهما متقاربة، لا من أجل أن منفعتهما متقاربة كما قال في الرواية؛ فالجواب صحيح،(7/200)
والتعليل غير صحيح؛ لأن منفعة الخل متباينة لمنفعة النبيد.
[مسألة: يبيع الدار بثمن إلى أجل على أن يسكن الدار سنة]
مسألة وسئل عن رجل يبيع الدار بثمن إلى أجل على أن يسكن الدار سنة، أترى الدين بالدين يدخل هذا؟ فقال: أما السكنى القريب والأشهر اليسيرة، فلا بأس به؛ قال وقد سمعت مالكا وربما خفف السنة وهو أبعد ذلك عندي.
قال محمد بن رشد: لم يخفف إلا الأشهر والسنة، وكره ما هو أبعد من ذلك، من أجل أن الدين بالدين يدخله عنده في البعيد، ولا مدخل للدين بالدين في ذلك؛ لأن ضمان الدار من المشتري، وإن استثنى البائع سكناها؛ ولو كان الضمان فيها من البائع إلى انقضاء استثنائه، لما دخل ذلك أيضا الدين بالدين إلا على قياس رواية أصبغ التي تقدمت في رسم أوصى من سماع عيسى، وذلك خلاف لما في المدونة؛ فلا فرق في هذا بين أن يشتري الدار بدين أو أن ينقده، وإنما كره مالك أن يستثنى سكنى أكثر من السنة. لأنه رأى أن الدار يتغير بناؤها إلى هذه المدة، فلا يدري المشتري كيف ترجع إليه الدار التي اشترى؛ فهذا هو الأصل في هذه المسألة، أنه يجوز للبائع أن يستثني من المدة ما يؤمن تغيير بناء الدار فيها؛ وفد اختلف في حد ذلك اختلافا كثيرا، فلابن شهاب في المدونة إجازة ذلك العشرة الأعوام، ومثله لابن القاسم في كتاب ابن المواز؛ ويقوم ذلك من كتاب العارية من المدونة؛ لأنه أجاز فيه أن(7/201)
يعير الرجل الرجل الأرض على أن يبني فيها ويسكنها عشر سنين إذا بين البنيان ما هو، وهو قول المغيرة؛ وأجاز ذلك سحنون في سماع أبي زيد من كتاب طلاق السنة في الخمسة الأعوام، وقد روى ابن وهب عن مالك السنة ونصف؛ وينبغي أن ينظر في هذا إلى حسن البناء وتحصينه، فرب بناء يتغير إلى المدة القريبة، ورب بناء لا يتغير المدة الطويلة. وأما بيع الأرض واستثناؤها أعواما، فهو أخف يجوز في العشرة الأعوام؛ وهو قول ابن القاسم في أول سماع أصبغ من كتاب الحبس، ومثله في كتاب ابن المواز؛ وقال المغيرة يجوز في ذلك السنين ذوات العدد، ولا يجوز في الدار إلا العشر سنين ونحوها؛ ولابن القاسم في المدنية لا يجوز ذلك في الأرض ولا في الدار أكثر من السنة، وهو بعيد وشاذ في الأرض، والله الموفق.
[أسلف رجلا حنطة حالة أو إلى أجل ثم اشتراها منه بنقد أو إلى أجل]
ومن كتاب المكاتب وسئل عن رجل أسلف رجلا حنطة حالة أو إلى أجل، ثم اشتراها منه بنقد أو إلى أجل، فقال: أما إذا كانت الحنطة على المستسلف حالة، فلا بأس أن يشتريها منه بنقد؛ وذلك أن حنطته رجعت إليه وأعطاه دينارا بحنطة أخرى يقبضها حالة؛ قلت أما تراه الآن سلف في طعام مضمون إلى غير أجل؟ فقال قد يدخله ما ذكرت لك، وما كنت آمر أحدا بمثل هذا ولا أبلغ تحريمه ولا قسطه؛ لأن مالكا قال لنا لا بأس بالتسليف في(7/202)
الطعام إلى اليومين والثلاثة، فإذا وقع ما سألت عنه أجزته، ولا آمر بالعمل به قبل أن يقع؛ وأما إذا كان الطعام إنما استسلفه إلى أجل ثم اشتراه المسلف بثمن إلى أجل، فهذا لا يحل؛ لأنه بيع الدين بالدين، صار أن رجع إليه طعامه بعينه وأوجب على نفسه ثمنا إلى أجل بطعام يقبضه إلى أجل، فهذا لا يحل؛ وإن كان أسلفه الطعام إلى أجل واشتراه بالنقد، فلا بأس به؛ لأن طعامه قد رجع إليه بعينه، وأعطاه ثمنا نقدا يأخذ به طعاما إلى أجل، فهو كالتسليف الصحيح.
قال محمد بن رشد: هذا الرسم بجملة المسألة التي فيه وقع فيه بعض الروايات، وكان يمضي لنا عند من أدركنا من الشيوخ أنه يقوم منها إجازة السلم الحال إذا وقع، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه لم يقع فيها مقصودا إليه، ولو وقع مقصودا إليه بأن يسلم الرجل إلى الرجل دنانير في طعام يكون له حالا عليه يأخذ؛ به متى أحب، لما أجازه والله أعلم؛ لأنه من بيع ما ليس عندك، وقد مضى القول في بيع ما ليس عندك مستوفى في رسم حلف من سماع ابن القاسم؛ وقد قال أشهب إنه إنما كره من أجل أنه كأنه قيل له خذ هذه الدنانير فاشتر بها كذا وكذا، فما زاد فلك، وما نقص فعليك، فتدخله المخاطرة والغرر؛ وإنما أجازه؛ لأنهما فعلا فعلين جائزين صحيحين في الظاهر: قرض وابتياع، فلم يتهمهما على القصد إلى استجازة السلم الحال، إذ بعدت التهمة عنده عليهما في ذلك، فلم يفسخ ما آل أمرهما إليه في ذلك من السلم الحال وإن كان يفسخه لو فعلاه(7/203)
ابتداء، وقد مضى نحو هذا المعنى في رسم أسلم، ورسم يدير ماله من سماع عيسى، وبالله التوفيق:
[يسلف مائة دينار في قمح إلى أجل ويبيع القمح بمائة دينار إلى أجل سنة]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب.
قالا سحنون وسئل أشهب عن الرجل يسلف مائة دينار في قمح إلى أجل، ويبيع القمح بمائة دينار إلى أجل سنة؛ فإذا حل الأجل، أقيل كل واحد منهما مما عليه، فلم يدفعا ما أقيلا به حتى طال ذلك؛ لم يدفع الذي اشترى الطعام بمائة إلى أجل لما أقيل من الطعام- الطعام حتى تباعد ذلك بشهر أو نحوه، ولم يدفع الذي أعطى الدنانير في قمح إلى أجل الدنانير لما أقيل حتى تباعد ذلك بشهر أو نحوه؛ قال الإقالة جائزة ولا تبطل وإن طال، إلا أن يكونا أخرا ذلك صنعا له؛ فتكون الإقالة باطلة، ويكون على الذي أعطى الدنانير في قمح قمح كما هو، وعلى الذي اشترى القمح بدنانير، دنانير كما هي.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا خلاف قول ابن القاسم وروايته عن مالك في السلم الثالث من المدونة؛ لأنه لم يجز فيه أن يتأخر ما أقاله فيه يوما ولا ساعة بشرط ولا بغير شرط كالصرف، وهو أظهر من قول أشهب؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع الدين بالدين» ، وعن(7/204)
بيع الطعام قبل أن يستوفى كما نهي عن التأخير في الصرف. وقد أجمعوا أنه لا يجوز التأخير في الصرف بشرط ولا بغير شرط، فوجب أن يرد ما اختلفوا فيه من فسخ الدين في الدين إلى ما اتفقوا عليه في الصرف، وقد مضى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف تفصيل القول فيما تأخر من الصرف.
[مسألة: يسلف في طير أحياء مائة طير وهي مما لا تستحيى]
مسألة قال وسألت ابن القاسم عن الرجل يسلف في طير أحياء مائة طير وهي مما لا تستحيى، فإذا حل الأجل أخذ في صنفها دونها أقل عددا، فلا بأس به؛ وإن أخذ من غير صنفها أقل عددا فلا خير فيه، إلا أن يأخذ دونها في العدد من غير صنفها من الطير مما لا يستحيى يتحرى أن يكون بقدر المائة. قلت له فما تقول في المذبوح منه بالحي وكل ما لا يستحيى؟ قال هذا الأخير فيه، وهو الحي بالميت الذي كره، وإنما يجوز أن يشتري بعضه ببعض إذا كانت أحياء يتحرى أن يكون مثلا بمثل.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إذا أسلم في طير أحياء مما لا يستحيى أنه يجوز له إذا حل الأجل أن يأخذ من صنفها دونها أقل عددا، فهو مما لا اختلاف فيه عند جميعهم؛ لأنه أخذ من صنف ما سلم فيه أدنى في الصفة وأقل عددا، فوجب أن يجوز كمن سلم في مائة إردب محمولة، فأخذ لما حل إلا جل خمسين محمولة أدنى من صفة التي سلم فيها؛ ولو كان ذلك(7/205)
قبل الأجل لما جاز، وأما إذا أخذ من غير صنفها أقل عددا، فقوله إن ذلك لا يجوز إلا أن يكون بقدر التي له على التحري. يريد بعد حلول الأجل، هو على أصله الذي قد تقدم له في آخر رسم باع شاة، وفي أول رسم حبل حبلة من سماع عيسى من أن مسألة الحياة التي فيما لا يستحيى غير مرعية عنده إلا مع اللحم من صنفه، وأشهب يراعيها في كل حال، فيحكم لها بحكم العروض؛ فيجوز على مذهبه أن يأخذ من صنفها بعد حلول الأجل أقل أو أكثر، ولا يأخذ قبل الأجل من صنفها إلا مثل ما له، لا أقل ولا أكثر، ويأخذ من غير صنفها ما شاء، وقول ابن القاسم إن الحي منها بالمذبوح لا يجوز على حال، هو على أصله المذكور في مراعاة حياتها مع اللحم للحديث، وقد مضى بيان ذلك كله في رسم حبل حبلة المذكور، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يعطي الرجل مائة دينار في مائة إردب قمح يأخذ كل يوم أو إردبا]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يعطي الرجل مائة دينار في مائة إردب قمح، أو مائة كبش موصوفة يأخذ كل يوم كبشا أو إردبا؛ قال لا بأس بذلك، وكذلك قال مالك في الذي يعطي الحناط دينارا على أن يأخذ منه خمسة عشر صاعا، يأخذ كل يوم صاعا، قلت له فإن سلف فيها إلى خمسة أيام يأخذها؟ قال ولو وقع لم أفسخه، وأنا أتقيه؛ واحتج بقول مالك في الرجل يشتري الزرع وقد أفرك، فيفوت ذلك وييبس؛ قلت (له) فإن(7/206)
مرض المسلف إليه أو فلس؟ قال فهو ضامن عليه، قلت له وإن كان رأس المال إلى أجل ولم يقدمه؟ قال لا بأس به. قلت له ولم لا يكون هذا دينا في دين؟ قال هذا ليس من ذلك. قلت له فالجزار إن مات أو مرض أو فلس؟ فقال الجزار ليس هو مثل هؤلاء، الجزار إن مرض مرضا بينا وجاء عذر بين، فسخ ما بقي. وقال غيره لا يجوز في مسائل في الطعام والغنم إلا لمن كان ذلك عنده، فأما إن كان ليس عنده، فهو لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: أما الذي سلم مائة دينار في مائة إردب أو في مائة كبش على أن يأخذ كل يوم كبشا من ثاني يوم سلمه، فإنما جاز ذلك من أجل أن ما تعجل من الأرادب أو الكباش قبل الأجل الذي يجوز إليه السلم على المشهور من قول مالك إنه لا يجوز إلا إلى أجل ترتفع فيه الأسواق وتنخفض، يسير في جنب ما يتأخر منها؛ وأما إجازة مالك أن يسلم الرجل دينارا إلى الحناط على أن يأخذ منه خمسة عشر صاعا صاعا كل يوم؛ فيحتمل ذلك وجهين، أحدهما أن يكون إنما أجاز ذلك على قوله الذي رجع إليه من إجازة السلم إلى اليومين والثلاثة. والثاني أن يكون معنى المسألة إنما دفع إليه الدينار على أن يأخذ منه خمسة عشرة صاعا كل يوم صاعا بعد أجل سمياه؛ وأما إجازة ابن القاسم السلم إلى خمسة أيام إذا وقع، فقد بين أنه إنما أقاله مراعاة للاختلاف في ذلك؛ واحتج لما ذهب إليه من مراعاة الخلاف بمراعاة مالك له في الذي يشتري الزرع قبل أن ييبس وقد أفرك، أنه لا يفسخه إذا فات باليبس، مراعاة لقول من أجاز بيعه إذا أفرك قبل أن ييبس؛ وقد قيل إن العقد فيه فوت مراعاة للاختلاف، وقد قيل إن القبض فيه فوت، وقد قيل إنه يفسخ ما لم(7/207)
يفت بعد القبض، وهو ظاهر ما في السلم الأول من المدونة؛ وأما قوله إن السلف إليه ضامن لما عليه إن مرض أو فلس، وإن رأس المال إن كان مؤخرا إلى أجل فلا بأس به، ولا يكون ذلك دينا في دين؛ فإنما تكلم في السلم الذي أجازه فقهاء المدينة ولم يروه من الدين بالدين، واشتهر ذلك في فعلهم حتى صار يسمى بيعة أهل المدينة؛ ذكر ذلك مالك عن عبد الرحمن بن المجبر عن سالم بن عبد الله، أنه قال كنا نبتاع اللحم كذا وكذا رطلا بدينار، نأخذ كل يوم كذا وكذا رطلا والثمن إلى العطاء، فلم ير أحد ذلك دينا بدين، ولم يروا به بأسا؛ فهذا أجازه مالك وأصحابه اتباعا لما جرى عليه العمل بالمدينة بشرطين، أحدهما أن يشرع في أخذ ما سلم فيه. والثاني أن يكون أصل ذلك عند المسلم إليه على ما قال غير ابن القاسم ههنا، فليس ذلك بسلم محض؛ ولذلك جازتا خير رأس المال فيه، ووجب فسخه إن مرض أو مات أو فلس، ولا يشترى شيء بعينه حقيقة، ولذلك جاز أن يتأخر قبض جميعه إذا شرع في قبض أوله؛ وقد روي عن مالك أنه لم يجز ذلك، ورآه دينا بدين؛ قال وتأويل حديث ابن المجبر أن يجب عليه ثمن ما يأخذ كل يوم إلى العطاء، وإجازة ذلك على الشرطين المذكورين، هو المشهور في المذهب، وعليه تكلم في هذه الرواية. وقوله فيها إن المسلف إليه ضامن لما عليه، معناه إذا انتقد وكان الذي عليه مما يمكنه دفعه مع مرضه(7/208)
أو فلسه، أو لا يمكنه ذلك، ويمكن المسلم تخيره بما وجب له عليه حتى يأخذه جملة من غير ضرر يكون عليه في ذلك؛ وأما إذا لم ينتقد أو كان قد انتقد وكان الذي سلم إليه فيه مثل اللحم الذي لا يمكنه أن يوفيه كل يوم شرطه منه مع مرضه؛ وإن أخره حتى يأخذه جملة، أضر ذلك بالمسلم، إذ الغرض منه إنما هو أخذه رطبا يوما بيوم، فيفسخ السلم بمرضه أو موته أو فلسه، ويأخذ منه بقية رأس ماله في المرض والموت، وما يجب له منه في التفليس بالمحاصة، فهذا وجه تفرقة مالك بين الجزار وغيره.
[مسألة: يشتري من الرجل عبدا بعشرة دنانير إلى أجل]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يشتري من الرجل عبدا بعشرة دنانير إلى أجل، فيتعدى عليه البائع فيبيعه بخمسة دنانير نقدا أو بدراهم نقدا أو بطعام نقدا أو إلى أجل، قال إذا باعه بعشرة دنانير، فإن خيف أن يكون إنما أراد به وجه الذريعة، مثل أن يكون لا يبصر البيع، أو مثل أن يكون يريد عنته، فلا بأس أن يجيز البيع؛ وإن خيف فلا أحبه، وأرى أن يفسخ البيع، وأما إن باعه بطعام نقدا، فأراد أن يأخذ الطعام فذلك له.(7/209)
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في أول سماع يحيى مستوفى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: لا تشترى الحيتان الكبار إلا بعدد ولا تشترى جزافا في أحمال ولا صبر]
مسألة قال ابن القاسم لا تشترى الحيتان الكبار إلا بعدد، ولا تشترى جزافا في أحمال ولا صبر، والحيتان الصغار تشترى جزافا في الظروف إذا عرف عدد الظروف، وهو خلاف القثاء والبطيخ في أحماله وإن كان عظيما، فلا بأس أن يشترى البطيخ (مصبرا) جزافا والقثاء.
قال محمد بن رشد: لم يجز أن تباع الحيتان الكبار جزافا لا في أحمال ولا في صبر، وأجاز أن يباع البطيخ والقثاء وإن عظم في أحماله ومصبرا؛ لأن القثاء والبطيخ لا تعظم حتى يكون في الحمل الواحد منها ما لا يشق عدده، والحيتان إذا عظمت جدا لا يكون في الحمل الواحد منها ما يشق عدد، فأصل هذا أنه لا يجوز أن يباع جزافا ما يعد عددا مما لا مؤنة في عدده من كبير إلا شياء، فالحيتان الكبار والخشب الكبير الملقى بعضه على بعض، والظروف المملوءة من الحيتان الصغار والسلال المملوءة من الفواكه وشبه ذلك؛ كما لا يجوز أن تباع الثياب والعروض والحيوان من الإبل والبقر والدواب والغنم جزافا؛ لأن ترك عدد ذلك وشراءه جزافا من المخاطرة والغرر، وإنما يجوز بيع الجزاف فيما عدا الدنانير والدراهم مما يوزن أو يكال أو يعد من صغار الأشياء كالرمان والفرسك وشبه ذلك؛ لأن الكثير من ذلك يشق كيله أو وزنه أو عدده،(7/210)
والقليل منه يراه ويحزره ويحيط به بصره، فلا غرر في ذلك إلا في الحيتان الصغار في الماء والطير الصغير في الأقفاص؛ لأنه يتداخل بعضه في بعض، فلا يحيط بصره بحزره؛ وإنما يجوز بيع الجزاف فيما وصفنا أنه يجوز بيعه جزافا إذا لم يعلم البائع كيل ما يكال من ذلك، ولا وزن ما يوزن منه، ولا عدد ما يعد منه؛ فإن علم ذلك وكتمه المبتاع، كان المبتاع بالخيار كالعيب يجده فيما ابتاع؛ وكذلك لو علم ذلك المبتاع ولم يعلمه البائع ثم اطلع بعد البيع أن المبتاع قد كان علم ذلك، لكان له الخيار؛ ولا يكون لذلك حكم البيع الفاسد، إلا أن يقول البائع أنا أعرف كيل ذلك، أو وزنه أو عدده؛ فأنا أبيعكه جزافا ولا أعلمك بذلك فيرضى به المشتري ويشتري على ذلك، فيكون البيع على هذا فاسدا، قاله ابن حبيب.
[مسألة: يبيع من الرجل سلعة بخمسين إلى أجل ثم يتعدى عليه البائع فيبيعها بأربعين]
مسألة قال ابن القاسم عن الرجل يبيع من الرجل سلعة بخمسين دينارا إلى أجل، ثم يتعدى عليه البائع فيبيعها بأربعين دينارا نقدا، قال: إن كانت قائمة فأحب المشتري أن يجيز البيع ويأخذ أربعين دينارا، كان ذلك له؛ وإن أبى، فسخ؛ قلت فإن كانت فائتة؟ قال فإن أحب أخذ القيمة، وإن أحب أخذ الثمن؛ قلت له: فإن كانت القيمة أربعين أو خمسة وأربعين؟ قال: إن ذهبت إلى القياس، أخذت القيمة وأغرمته خمسين إذا حل الأجل، ولكني أتهمهم(7/211)
أن يكونوا أرادوا الربى، فأغرم البائع القيمة إن كانت أربعين أو خمسة وأربعين، فإذا حل الأجل جعلته يرجع بما أخذ لا أكثر، قلت له فإن كانت القيمة ستين؟ قال تؤخذ الستون منه، فإذا حل الأجل أعطى خمسين.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في أول سماع يحيى مستوفى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: باع طعاما بثمن إلى أجل على أن ينقده دينارا]
مسألة قال سحنون: قال ابن القاسم في مسألة العينة في الذي باع طعاما بثمن إلى أجل على أن ينقده دينارا، إنما كرهه كأنه قال له بع من هذا الطعام بدينار فاعطني، وما بقي من الطعام فهو لك بما بقي من الثمن إلى أجل؛ قلت فإن كان أعطاه دينارا من عنده؟ قال وإن كان أعطاه دينارا من عنده فهو يخلفه من الطعام، وهذا وجهه؛ قال أصبغ وكذلك قال أشهب في الرجل يبيع الدار ويشترط أنها رهن في يديه إلى ذلك الأجل، فلا خير فيه؛ وهو عندي كمسألة العينة يعينها بثمن إلى أجل على أن يعجل له منه شيئا إذا كان من أهل العينة، فكأنه باعهما بعد الخمسة من السلعة بباقي الثمن، فهو خطار؛ وقد ردت على مالك واستنكرت عليه فلما أكثروا عليه فسر لهم هذا التفسير، ثم قال لهم على إثر التفسير: والحجة حين أكثروا عليه ليس أنا قلته، قاله ربيعة وابن هرمز؛ وكذلك مسألة أشهب في الرهن يصير لا خير فيه، وذلك أنه إذا حل الأجل وأعسر بالثمن بيعت، فإن كان فيها(7/212)
نقصان، فعلى المشتري، وإن كان فيها فضل فله؛ فكأنه باعه دارا لا يقبضها على أن يبيعها بثمن سماه له إلى أجل على أن يضمن له ما نقص، ويكون له ما زاد؛ فهذا القمار، وسواه في هذا كانا من أهل العينة أو لم يكونا؛ قال أصبغ فإن وقع، فمفسوخ بينهما؛ وإن بيعت قل ذلك، فالزيادة والنقصان لرب الدار وعليه؛ كالذي يبيع السلعة على أن لا نقصان عليه فقد جعله مالك هكذا بمنزلة الأخير، وهذا مثله في رأيي.
قال محمد بن رشد: أما الذي باع من أهل العينة طعاما أو شيئا بثمن إلى أجل على أن ينقد من الثمن دينارا، فقد مضى القول عليها في رسم حلف من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة ذلك. وأما مسألة أشهب في الرهن التي نظرها بها أصبغ ففيها اختلاف، قيل إنه يجوز أن يبيع الرجل الدار والعقار الذي يجوز بيعه وتأخير قبضه بثمن إلى أجل ويشترط أن يكون في يديه رهنا إلى ذلك الأجل، وكذلك يجوز في الحيوان والعروض التي لا يجوز بيعها وتأخير قبضها إذا وضعها بيد عدل؛ فإن اشترط أن يكون بيده، لم يجز البيع وفسخ وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك؛ وقيل: إن ذلك لا يجوز في الدور والعقار ولا في العروض والحيوان على حال العلة التي ذكر في هذه الرواية، واختلف الأمر على القول بأنه لا يجوز، فقيل إنه بيع فاسد يسلك به مسلك البيع الفاسد في كون الغلة للمشتري بالضمان وسائر أحكام البيع الفاسد، وقيل إنه ليس ببيع فاسد وإنما هو إجارة فاسدة؛ كأن رب المال استأجره على أن يبيعها له(7/213)
بثمن قد سماه على أن يكون له ما ازداد على الثمن إجارة له، فإن باعها كان الثمن لرب الدار، وكان للذي باعها أجرة مثله في بيعه إياها؛ وإلى هذا ذهب أصبغ على ما أختاره من اختلافهم في الذي يبيع من الرجل السلعة على ألا نقصان عليه، فقد قيل فيه القولان جميعا؛ واختلف في ذلك قول مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة.
[مسألة: تسلف درهم صفر من رجل فأعطاه لصا في طريق فعلم أنه صفر]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون سئل سحنون عن رجل تسلف درهم صفر من رجل فأعطاه لصا في طريق، فعلم أنه صفر؛ بأي شيء يرجع عليه الذي أسلف إياه؟ قال إن كان يعلم ما فيه من وزن الورق ووزن الصفر، قضاه وزنه؛ لأن كل من استهلك شيئا من الوزن والكيل فعليه مثله، ولسنا نأمره أن يرفع إليه درهما مثله صفرا يغر به المسلمين؛ وإن كان لا يعلم ما فيه من الورق، فعليه أن يغرم له قيمة ذلك يكون عليه في الورق قيمته ذهبا، وفي الصفر قيمته ورقا؛ لأن القيمة لا تكون إلا بالذهب والورق، قيل له وما يصنع بقيمته من الذهب وهو إن أخذه لم يكن فيه منفعة؛ لأنه أقل من ذلك؟ قال يقضى له بالقيمة ذهبا ما كان من شيء في(7/214)
الدينار بالصرف، ليس في قطعه ذهب إن كان ذلك خروبة فخروبة، أو ما كان؛ فإذا كان له من دينار خروبة أو قيراط، قيل لهما صرفا الدينار بدراهم، فخذ أنت منه حقك ما يقع بخروبة من الصرف أو النصف قيراط، أو ما كان حقه من شيء.
قال محمد بن رشد: حكم سحنون لهذا الدرهم بحكم المكسور، إذ لم يراع سكته، فحكم على مستهلكه بقيمة ما فيه من الورق ذهبا أو من الصفر ورقا إن لم يعلم زنة ما فيه من كل واحد منهما فيكون عليه فيه مثله؛ وذلك خارج عما قيل في ذلك مما قد ذكرناه في رسم النسمة من سماع عيسى من كتاب الصرف، وكان القياس على قولهم أن يكون عليه قيمته من الذهب على أن يباع ممن لا يغش به، أو ممن يكسره على الاختلاف في ذلك؛ وقد قال ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب الصرف أنه يرد مثله صحيحا في رداءته، وهو بعيد أيضا.
[مسألة: تسلف من رجل دارهم ومن رجل آخر دراهم فخلطها فوجد فيها زائفا أو نقصا]
مسألة وسئل عمن تسلف من رجل دارهم ومن رجل آخر دراهم، فخلطها فوجد فيها زائفا أو نقصا، ولا يدري من أي الدراهم هي؟ قال مالك لا يرد عليهم إلا طيبا، ويحلفون أنهم لم يعطوه إلا جيادا.
قال محمد بن رشد: قوله ويحلفون أنهم لم يعطوه إلا طيبا، معناه أنه يحلف كل واحد منهما على علمه ما أعطاه إلا جيدا، أو وازنا في علمه(7/215)
ولا يلزم واحدا منهم أن يحلف على البتات، فإن حلفا جميعا برئا ولزمه أن يعطيهما جميعا طيبا؛ وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، لزم الناكل بدله؛ وكذلك إن نكلا جميعا أيضا بعد أن يحلف ما يعلم من دراهم من هي منهما باتفاق بأن ادعى كل واحد منهما عليه أنه يعلم أنه ليس من دراهمه، وعلى اختلاف إن لم تتحقق عليه الدعوى بذلك؛ وهذا إذا كانت له بينة على أنه وجد فيها الزائف أو الناقص بعد أن خلطها وقبل أن يغيب عليها؛ وأما إن ادعى ذلك بعد أن انقلب بها وغاب عليها، فليس له أن يحلف واحد منهم إلا على القول في لحوق يمين التهمة.
[مسألة: أسلف رجلا في عبد إلى أجل معلوم ثم قبضه فمات العبد عنده ثم وجد به عيبا]
مسألة قال سحنون لو أن رجلا أسلف رجلا في عبد إلى أجل معلوم، ثم قبضه فمات العبد عنده ثم وجد به عيبا، أنه يغرم قيمة العبد ويرجع عليه بعبد مثله؛ وكذلك المرأة إذا نكحت بعبد موصوف ليس بعينه، ثم وجدت به عيبا، أنها ترده أو تغرم قيمته إن فات، وترجع عليه بعبد مثله.
قال محمد بن رشد: في النوادر لسحنون أيضا أنه ينظر ما قيمة العيب منه، فإن كان ربعه رجع عليه بربع عبد، فيكون معه شريكا في مثله- يريد إذا فات. وقال ابن عبد الحكم: إذا أسلم إليه في عبد فقبضه فأعتقه، أو كانت أمة فأولدها ثم وجد بأحدهما عيبا أو استحق(7/216)
نصفه بحرية، فإنه يرجع عليه بما نقصه العيب من قيمته لا من الثمن؛ بخلاف العبد بعينه الذي يفسخ فيه البيع يرده، وهو أن لو رده رجع بمثله، فينظر إلى قيمته سالما، فقيل قيمته مائتان، ثم يقال ما قيمته وبه العيب؟ فيقال مائة فيرجع عليه بمائة، قال أبو محمد وهذا لا وجه له. إما أن يجعله كأنه قبض نصف صفته فيرجع بنصف عبد كما قال سحنون، أو يكون قبض غير صفته فليرد قيمته كما قال ابن القاسم، ويتبعه بعبد، وهذا أشبه الأقاويل بالصواب؛ واعتراض ابن أبي زيد على ابن عبد الحكم صحيح، وقول سحنون الواقع في النوادر غير صحيح أيضا، إذ لا يصح أن يقال: إنه قبض بعض صفته، إذ لا تتبعض الصفة، إنما يصح أن يقال إنه قبض صفته إذا استحق بعضه برق أو حرية؛ لأن الشركة فيه تعيبه وتنقص من قيمته، لا سيما إن كان الاستحقاق بحرية، فليس استحقاق نصف العبد الذي سلم فيه بحرية أو ملك، بمنزلة من أسلم في عبدين صفتهما سواء، استحق أحدهما بحرية أو ملك؛ لأن استحقاق أحدهما لا يعيب الآخر، واستحقاق نصف العبد يعيب النصف الآخر؛ فلا يصح في المسألة إلا قول سحنون الواقع في الكتاب، وقد قال ابن أبي زيد إنه قول ابن القاسم.
[الكراث بحب الكراث إلى أجل الكراث نقدا والحب إلى أجل]
من سماع محمد
ابن خالد من ابن القاسم قال محمد بن خالد سمعت ابن القاسم يقول: قال مالك لا بأس بالكراث بحب الكراث إلى أجل الكراث نقدا والحب إلى أجل، ولا خير في حب الكراث بالكراث إلى أجل، ولا بأس بحب الكراث واحد باثنين يدا بيد، ولا بأس أن يباع قبل أن يستوفى.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن حب الكراث ليس بطعام؛(7/217)
وإن كان إذا زرع يخرج منه طعام، فيجوز أن يسلم الكراث فيه، إذ لا يخرج من الكراث حب؛ ولا يجوز أن يسلم هو في الكراث إلى أجل يكون منه كراث على أصولهم في المزابنة، وقد مضى القول في المزابنة وحكمها وتفصيل وجوهها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة شيء منه.
[سلف رجلا مائة درهم في عشرة أمداد من حنطة]
من سماع عبد
الملك بن الحسن من ابن القاسم. قال عبد الملك سئل ابن القاسم وأنا أسمع عن رجل سلف رجلا مائة درهم في عشرة أمداد من حنطة، ثم إن المسلف إليه هلك، فأحب ورثته أن يصالحوا عنه صاحب السلف بأقل من المائة؛ قال ابن القاسم أما بالدراهم فلا خير فيه إلا أن يعطوه جميع الدراهم، وأما بالحنطة، فلا بأس بما صالحوا عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الورثة ينزلون في الطعام الذي على موروثهم من السلم منزلته، فلا يجوز لهم فيه إلا ما كان يجوز له، وهذا ما لا أعلم فيه اختلافا، وقد مضى ذلك في أول سماع ابن القاسم.
[رجلين لهما على رجل مائة إردب فقاضاه أحدهما حصته بغير إذن صاحبه]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب البيع والصرف. قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول في رجلين لهما على(7/218)
رجل مائة إردب فقاضاه أحدهما حصته بغير إذن صاحبه، فعلم به فأتاه يطلبه؛ فقال له هبني إياها وأنا أضمن لك الخمسين التي بقيت لك، إن ذلك لا يحل، وقاله أصبغ وهو شديد، وليس هذا مثل الذي فوقه، وهذا فيه غير وجه واحد من الفساد، وسلف جر منفعة؛ كأنه يسلفه الخمسة والعشرين التي كان له أخذها على أن يضمن الخمسة والعشرين الأخرى، ويدخله البيع كأنه يبيعه إياها ويحيله بها على صاحبه ويزيده ضمانا؛ فهو طعام بطعام متأخر وزيادة الضمان متفاضلا فلا يحل. قال أصبغ: قال لي ابن القاسم ولكن لو كان قدر ما يضمن له خمسة وعشرين، بقدر ما كان يصيبه مما قبض، لم يكن بذلك بأس. وقال أصبغ لأن ذلك سلف خالص ليس معه زيادة، ولا فيه ازدياد شيء من الأشياء، وفي ذمته أيضا محضا ومعروفا من المعروف، فلا بأس به إن شاء الله تعالى.
قال محمد بن رشد: أما إذا ترك الرجوع عليه في الخمسين التي قبض بالخمسة والعشرين الواجبة له منها على أن يضمن له الخمسين الباقية، فالمكروه في ذلك بين على ما فسره أصبغ، وأما إذا ترك الرجوع عليه بالخمسة والعشرين من الخمسين التي اقتضى على أن يضمن له من الخمسين الباقية خمسة وعشرين، فأجاز ذلك ابن القاسم، وتبعه على ذلك(7/219)
أصبغ، وقال إنه سلف خالص محض لا زيادة فيه ومعروف من المعروف، وفي ذلك من قولهما نظر؛ لأنه ترك الرجوع عليه بالخمسة وعشرين على أن يضمن له ما لم يكن يلزمه ضمانه؛ لأنه مخير بين أن يسلم له ما اقتضى ولا يرجع عليه فيه، ويطلب الغريم بالخمسين التي بقيت عليه، ويكون ضمانها منه إن فوتت؛ وكذلك قال في المدونة؛ لأن تسليمه له ما اقتضى، منزل منزلة اقتسامهما للدين؛ وبين أن يرجع إليه بالخمسة وعشرين من الخمسين التي اقتضى، فيكون كأنه اقتضيا منه خمسين، وبقيت لهما عليه خمسون يقتضيانها منه جميعا، ويكون ضمانها منهما جميعا إن فوتت عنده؛ وقيل إنهما لا يرجعان جميعا بالخمسين على الغريم، وإنما يقتضيها منه الذي رجع على المقتضي أولا بالخمسة والعشرين، فإذا اقتضاها منه، رجع عليه صاحبه بالخمسة وعشرين التي أخذ منه، والقولان في المدونة؛ فإذا كان هذا هو الحكم، كان الذي ترك الرجوع على شريكه بالخمسة وعشرين قد أسلفه إياها على أن يحيله بها على غريمه، ويكون ضامنا لها إن فوتت عنده بعدم أو فلس؛ ولا يجوز أن يسلف الرجل الرجل دنانير ولا طعاما بشرط أن يحيله بها على غريم له وإن لم يشترط عليه الضمان؛ لأن الحوالة بيع من البيوع؛ وكذلك قال في الهبات من المدونة إن ذلك لا يجوز وإن كانت المنفعة في ذلك للقابض، فكيف إذا اشترط عليه في ذلك الضمان، ذلك بين أنه لا يجوز؛ لأنه بيع ذهب بذهب إلى أجل.(7/220)
[مسألة: يشتري اللحم بالدرهم من الجزار ويعطيه به حميلا فيغرم الحميل الدرهم]
مسألة قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول في الذي يشتري اللحم بالدرهم من الجزار ويعطيه به حميلا، فيغرم الحميل الدرهم إلى الجزار؛ هل للحميل أن يأخذ به من الغريم شيئا من الطعام؟ قال لا بأس به وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الحميل لم يدفع طعاما إنما دفع درهما، فجاز له أن يأخذ به طعاما، ولو أراد الجزار أن يأخذ بذلك الدرهم من الحميل طعاما ما لم يجز؛ لأنه دفع طعاما؛ فلا يجوز له أن يأخذ من ثمنه طعاما قاله ابن دحون، وفيه نظر؛ لأنه أنزل منزلة المحال عليه في أنه لا يجوز له أن يأخذ منه إلا ما كان يجوز له أن يأخذه من الذي أحاله حسبما يأتي القول فيه في سماع أصبغ من كتاب الكفالة والحوالة إن شاء الله وليس بمنزلته، إذ لم يستحل عليه فيكون ما أخذه منه كأنه إنما أخذه من الذي أحاله به، فيكون قد اقتضى من ثمن الطعام طعاما فيتهمان على أنه إنما باع منه لحما بطعام إلى أجل، فلا موضع للتهمة في هذا إذ لم يأخذ الطعام من المشتري الذي باع منه اللحم، وإنما أخذه من غيره وهو الحميل؛ فإن كان أخذه من الحميل على وجه الابتياع له بالدرهم الذي له على المشتري، جاز باتفاق إن كان المشتري حاضرا مقرا بالدرهم، فاتبعه به الحميل لابتياعه إياه من الجزار بالطعام الذي دفع إليه فيه؛ وإن كان أخذ الطعام من الحميل صلحا عن المشتري الذي عليه الدرهم، فقيل إن ذلك جائز، ويكون المشتري بالخيار(7/221)
بين أن يجيز الصلح فيدفع الطعام الذي صالح به عنه، وبين ألا يجيزه ويدفع الدرهم الذي تحمل به عنه، وقيل: إن ذلك لا يجوز؛ لأنه يدفع طعاما ولا يدري إن كان يرجع به أو بالدرهم، من أجل الخيار الذي في ذلك للمشتري المتحمل عنه؛ واختلف إن لم يبين على أن وجه دفع الطعام على ماذا يحمل إن كان على الشراء فيرجع بالدرهم الذي ابتاع، أو على الصلح عن المشتري المتحمل عنه؛ فلا يجوز في قول من أجل الخيار الذي للمتحمل عنه، فلا يدري الحميل بما يرجع، ويجوز في قول من أجل أنه خيار أوجبه الحكم لم يعملا عليه.
[مسألة: اشترى من رجل طعاما بعينه غائبا عنه]
مسألة قال أصبغ سمعت ابن القاسم وسئل عن رجل اشترى من رجل طعاما بعينه غائبا عنه، ثم إذا الطعام قد قدم به وكيل البائع بعد الصفقة، كان قد حمله قبل الصفقة أو بعدها ولا علم له؛ قال البيع للبائع لازم، فإن شاء أن يدفعه إليه ههنا، دفعه إن رضي المشتري أن يأخذه منه ههنا، وإلا فعليه أن يرده له، أو يدفع مكانه إليه شراءه هناك وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن الطعام قد وجب للمبتاع بالشراء، فإذا قدم به البائع أو وكيله، كان كمن تعدى على طعام رجل فحمله من بلد إلى بلد؛ لأن الخطأ في هذا والعمد سواء، فيكون على المتعدي مثل الطعام الذي حمله في الموضع الذي حمله منه، إلا أن يتراضيا على أخذه أو أخذ سواه في البلد الذي حمله إليه، فيكون ذلك جائزا، وبالله التوفيق.(7/222)
[مسألة: تضع عن زوجها مهرها على أن يحجها]
مسألة قال أصبغ سألت ابن القاسم عن المرأة تضع عن زوجها مهرها على أن يحجها، قال هذا حرام لا يحل؛ لأنه الدين بالدين، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قالا: إنه فسخ الدين في الدين؛ لأنها فسخت ما لها عليه من المهر في شيء لم تنتجزه من إحجاجه إياها من ماله إما بشراء، وإما بالكراء، والقيام بكل ما يحتاج إليه في ذلك ذاهبة وراجعة؛ وقد وقع في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات مسألة معارضة لهذه في الظاهر، كان الشيوخ يحملونها على أنها خلاف لها؛ ومثل هذا لا يصح أن يختلف فيه، فالواجب أن يتأول على ما يوافق الأصول؛ ونصها سئل ابن القاسم عن رجل سأل من امرأته أن تضع عنه مهرها، فقالت له إن حملتني إلى أمي فهو عليك صدقة؛ فتصدقت به عليه أن يحملها إلى أختها وكانت مريضة، ثم بدا له أن يحملها بعد أن وضعت عنه الصداق، فخرجت هي من غير إذنه فسارت إلى أختها؛ هل ترى الصداق له؟ فقال: إن كانت خرجت مبادرة إليها لتقطع بذلك ما جعلت لزوجها فلا شيء عليه، وإن كان بدا له في حملانها وأبى أن يسير بها وعلم ذلك رجعت عليه بما وضعت عنه، فنقول إن المعنى في هذه المسألة أنه إما وضعت عنه الصداق على أن يخرج معها ولا تمضي مفردة دونه، لا على أن يحملها من ماله، أو ينفق عليها في شيء من سفرها سوى النفقة التي تجب لها في مقامها؛ فإذا حملت المسألة على هذا صحت وكانت موافقة للأصول، ولعلها لم تكن ذا محرم يخرج معها، فكانت إنما بذلت له الصداق على رفع الحرج عنها بخروجه(7/223)
معها لا على أن ينفق عليها في ذلك، إذ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها» . وقد مضى في سماع عيسى من كتاب الحج القول في وضعها الصداق عنه على أن يأذن لها في الخروج إلى الحج، وبالله التوفيق.
[مسألة: باع عشرة أمداد قمح بدينار إلى شهر]
مسألة قال أصبغ سئل ابن القاسم وأنا أسمع عن رجل باع عشرة أمداد قمح بدينار إلى شهر، ثم اشترى البائع من مشتري الطعام منه بدينار إلى أجل عشرين مدا بدينار نقدا، فأعطاه عشرة وقال له اقبض العشرة التي لي قبلك بالدينار إلى أجل أقضيكها، قال لا يصلح هذا؛ لأنه يعطيه دنانير نقدا ويعطيه دينارا إلى أجل وقد أعطى آخذ الدينار نقدا معطيه الدينار عشرة أرادب، فكأنه أسلفه دينارا على أن أعطاه عشرة أرادب؛ قال أصبغ الجواب صحيح والتفسير مظلم، وكراهيته وفساده الزيادة في السلف محضا، والذهب بالذهب متفاضلا، والعشرة الأرادب الأول لغو.
قال محمد بن رشد: هذا تحامل من أصبغ على ابن القاسم، بل جوابه صحيح، وتفسيره بين واضح أبين من تفسير أصبغ؛ فتفسير أصبغ هو(7/224)
المظلم؛ لأنه قال: إنه الزيادة في السلف والذهب بالذهب متفاضلا والعشرة الأرادب الأول لغو؛ فأجمل القول، إذ لم يبين ما هي الزيادة التي في السلف، ولا كيف يتصور التفاضل في الذهب في ذلك؛ وقد بين ذلك كله ابن القاسم بيانا واضحا فقال لأنه يعطيه دينارا نقدا ويعطيه دينارا إلى أجل؛ يقول لأن المبتاع الثاني وهو البائع الأول يعطي البائع الثاني وهو المبتاع الأول دينارا نقدا ثمن العشرين مدا الذي ابتاع منه، ثم يأخذ منه عند شهر دينارا ثمن العشرة الأمداد التي باع منه إلى أجل؛ فكأنه أسلفه دينارا إلى أجل، وأخذ منه عشرة أمداد نقدا؛ لأنه باع منه عشرة أمداد ثم اشترى منه عشرين مدا، فدفع إليه عشرة أمداد؛ لأنه قاصه بالعشرة الأخرى على ما ذكر، وذلك نص قول ابن القاسم، وقد أعطى آخذ الدينار نقدا معطيه الدينار عشرة أرادب، فبين أن الأمر آل بينهما إلى أن أسلف البائع الأول للمبتاع الأول دينارا إلى شهر، على أن يعطيه عشرة أمداد قمح بيانا واضحا؛ وإذا كان قد أسلفه دينارا إلى أجلى على أن يعطيه عشرة أرادب، فقد صار ذلك أيضا ذهبا وعرضا بذهب إلى أجل، وهو التفاضل في الذهب الذي قاله أصبغ؛ فقول ابن القاسم على كل حال أبين، وهذه المسألة من أحد فروع مسائل رسم حبل حبلة التي فرعناها إلى أربع وخمسين مسألة، وبينا أصل ما يعرف به الجائز منها وغير الجائز.
[مسألة: باع حديدا جزافا بنقد]
مسألة قال أصبغ سمعت ابن القاسم وسئل عن رجل باع حديدا جزافا بنقد، ثم أراد أن يشترى منه وزنا يكون ثلث ذلك في العدد(7/225)
أو أدنى بنقد أو إلى أجل؛ فقال: إن كان لم ينتقد ثمنه حتى اشتراه منه وتقاصه بما عليه، فلا يجوز له أن يشتري منه إلا ما كان يجوز له أن يستثنيه الثلث فأدنى، وهذا يجري في الطعام وغيره؛ وإن كان انتقد وتفرقا، ثم اشترى منه بعد ذلك، فلا بأس به على حال، إلا أن يكون بائعه من أهل العينة فلا يعجبني.
قال محمد بن رشد: أكثر من الثلث لا يجوز أن يشتريه منه على حال، إذ لا يجوز له أن يستثنيه أقل من الثلث، قال إنه يجوز له أن يشتريه منه إن كان لم ينتقد الثمن مقاصة، والمعروف من قولهم الذي يأتي على أصولهم أن ذلك يجوز نقدا ومقاصة إذا لم يكونا من أهل العينة؛ لأن بيوع النقد لا يتهم فيها إلا أهل العينة، فإن كانا من أهل العينة، لم يجز له أن يشتري منه أقل من الثلث إلا مقاصة؛ وأما إن كان انتقد وتفرقا، فقال إنه لا يتهم في ذلك إلا أهل العينة، والصواب أنه لا يتهم في ذلك أهل العينة ولا غيرهم؛ إذ قد تناجزا في البيع الأول ولم يبق بينهما فيه عمل ولا موضع للتهمة وقد تفرقا بعد التقابض؛ فعلى قوله لا ترتفع التهمة عنهما إذا كانا من أهل العينة، إلا أن يطول الأمر بعد افتراقهما الأيام، كمسألة الصرف من المدونة في الذي باع من رجل دنانير بدراهم، ثم أراد أن يشتري منه بها دنانير، فلم يجز ذلك في المجلس ولا بعد اليوم واليومين؛ وهو بعيد في هذه المسألة، وإنما يحسن أن يتهم(7/226)
أهل العينة في هذا إذا كان قد نقده ولم يتفرقا، وقد مضى القول على هذه المسألة في رسم مرض من سماع ابن القاسم مستوفى.
[مسألة: اشترى سلعة غائبة بعينها وهي ببلد على أن يوفاها بموضع آخر]
مسألة قال أصبغ سألت ابن القاسم عمن اشترى سلعة غائبة بعينها وهي ببلد على أن يوفاها بموضع آخر، أو بموضعه شك أصبغ. قال لا خير فيه للضمان.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال أن ذلك لا يجوز؛ لأن بعض الثمن قد وقع للضمان، وذلك حرام لا يحل بإجماع.
[مسألة: اشترى طعاما بعينه على أن يحمل له إلى بلد]
مسألة قال أصبغ وسمعته يسأل فيمن اشترى طعاما بعينه على أن يحمل له إلى بلد، فقال إن كان يكتاله هناك حيث هو ولا يكون على البائع إلا الحملان، فلا بأس به؛ وإن كان لا يكتاله إلا حيث يحمل، فلا خير فيه؛ لأن فيه ضمانا، اشترى شيئا بعينه على أن يعطاه بموضع آخر؛ فهذا مثل مسألة السلعة، وبعض هذا من بعض، يشبه بعضه بعضا، وقاله أصبغ وهما سواء.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في المسألة التي فوقها، إذ لا فرق في هذا بين الطعام المعين وبين السلعة كما قال أصبغ.
[مسألة: اشترى جارية غائبة بالشام على أنها من البائع]
مسألة وسئل عمن اشترى جارية غائبة بالشام على أنها من البائع(7/227)
حتى يوفيه إياها بمصر، قال لا خير فيه، لما فيه من الضمان والتغرير؛ ولو كان يقبضها في مكانها بالشام، لم يكن بذلك بأس، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: وهذا أيضا مثل ما تقدم، إذ لا فرق بين السلعة والطعام والجارية في أن اشتراط ضمان ذلك في البيع لا يجوز.
[مسألة: سلف في عشرة أرطال لحم فأعطاه جزرة فيها خمسون]
مسألة قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول فيمن سلف في عشرة أرطال لحم، فأعطاه جزرة فيها خمسون؛ قال إن كان فيها صفته، أو قال على صفته، فلا بأس به؛ إنما البقية حينئذ إفضال منه عليه بمنزلة ما لو كان له عليه مائة إردب قمح سلفه فيها فأعطاه مائتين، وقاله أصبغ إذا كانت جميعا أو إحداهما كلها على الصفة أو أرفع؛ وهذا في الجزرة أن تكون مذبوحة مسلوخة، فأما حية قائمة فلا يحل الحي بالميت؛ وكذلك إذا حل اللحم له أيضا ولم يكن قبل محله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى، وقول أصبغ تفسير لقول ابن القاسم وصحيح؛ وإنما اشترط في الجزرة أن تكون مسلوخة؛ لأنها إذا لم تكن مسلوخة لا يدري لعل لحمها أدنى من الذي له، فيكون اللحم باللحم متفاضلا؛ لأنه أخذ أدنى صفة وأكثر وزنا وجلدا زائدا، فيدخله التفاضل فيما لا يجوز فيه التفاضل، وبيع الطعام قبل أن يستوفى؛ ولو تحقق أن لحمها أطيب من أرطاله لجاز، وبالله التوفيق.(7/228)
[يسلف في قراطيس طولها عشرون ذراعا]
ومن كتاب البيوع العاشر. قال أصبغ وسمعت ابن القاسم يقول فيمن يسلف في قراطيس طولها عشرون ذراعا، فلما حل الأجل قال المشتري إنما لي بذارعي، وقال البائع بل بذراعي ولم يكونا سميا؛ قال لا ينظر إلى قول هذا ولا هذا، وأرى أن يحمل على ذراع وسط؛ قال ونزلت فأفتينا فيها بذلك، قال أصبغ ولم ير هذا فسخا، وهذا أحسن عندي، والقياس الفسخ.
قال محمد بن رشد: في قوله ولم يكونا سميا، دليل على أنهما لو اتفقا على أن السلم وقع بينهما على ذراع أحدهما بعينه لجاز؛ وهو مذهبه في المدونة؛ لأنه أجاز السلم على ذراع رجل بعينه؛ ويؤخذ قياسه، فيكون عندهم لئلا يموت؛ خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أنه لا يجوز السلم على ذراع رجل بعينه، قال ويكفي أن يسميا الذراع فقط؛ فإن اختلفا فيه عند القبض كان له الوسط من أذرع الناس؛ هذا إذا لم يكن القاضي قد جعل ذراعا للناس يتبايعون عليه، فإن كان قد نصب ذراعا للناس يتبايعون عليه، وجب الحكم به والرجوع إليه عند الإبهام.
وتحصيل القول في هذه المسألة عندي أن القاضي إذا كان قد نصب للناس ذراعا يتبايعون عليه، لم يجز اشتراط ذراع رجل بعينه، كما لا يجوز ترك المكيال المعروف الجاري إلى مكيال مجهول؛ وإن لم يكن للناس ذراع منصوب، فهذا موضع الاختلاف، قيل إن الذراع الوسط كالذراع المنصوب فلا يجوز السلم على ذراع رجل بعينه، وإنما يجوز على الذراع الوسط، أو على ذراع ولم يسميا شيئا فيحكم بينهما بذراع وسط وهذا الذي ذهب إليه ابن حبيب. وقيل إنه لا يكون الذراع الوسط كالذراع المنصوب، ويجوز السلم على ذراع رجل بعينه، وعلى ذراع وسط، كما يجوز شراء الطعام على مكيال مجهول في القرى من الأعراب حيث ليس(7/229)
لهم ميكال يتبايعون عليه، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، ودليل قوله في هذه الرواية، وإن لم يسميا شيئا؛ حملا على ذراع وسط؛ وقول أصبغ استحسان، والقياس الفسخ، ولو اختلفا على هذا القول فقال المسلم وقع السلم على ذراعي، وقال المسلم إليه بل على ذراعي، كان الحكم في ذلك على حكم اختلافهما في عدد المسلم فيه؛ وأما على القول الآخر فيفسخ السلم بينهما، لاتفاقهما على أنه وقع فاسدا، ولو ادعى أحدهما أن السلم وقع على ذراع وسط، لكان القول قوله لأنه يدعي الصحة دون صاحبه؛ وكذلك لو اختلفا حيث ثم ذراع منصوب فادعى أحدهما الذراع المنصوب.
[مسألة: ابتاع طعاما بعينه ونقد بعض ثمنه إلى أن يأتيه بالبقية]
مسألة وسئل عمن ابتاع طعاما بعينه ونقد بعض ثمنه إلى أن يأتيه بالبقية، ثم بدا له فأراد أن يكتال بقدر ما نقد ويستقيل من البقية، قال لا بأس بذلك؛ فإن كان قد نقد الثمن كله، فلا يصلح أن يأخذ بعضا ويستقيل من بعض، إلا أن يكونا لم يتفرقا ولم يغيبا على الدنانير.
قال محمد بن رشد: الصحيح في هذه المسألة على أصولهم أن الإقالة من البعض جائزة وإن نقده الثمن كله، إذ ليس في نفس الإقالة فساد؛ وإنما يوجد الفساد في ذلك بمجموع البيع والإقالة إذا اتهما في ذلك، فوجب أن يجوز إذا لم يكونا من أهل العينة؛ لأن بيوع النقد لا يتهم(7/230)
فيها إلا أهل العينة، وقد مضى له في الرسم الذي قبل هذا مثل هذا من اتهام غير أهل العينة في بيوع النقد وقد نبهنا عليه هناك.
[مسألة: السلف في الزفيزفا]
مسألة وسمعته يقول في الزفيزفا أنه لا بأس به بواحد أخضر كله، أو يابس كله، ولا خير في رطبه بيابسه على حال، والعين بقر كذلك؛ قال أصبغ لأن المزابنة تدخله والخطر، ولا ينكر في هذا جواز التفاضل فيه أخضر كله؛ وقد يجوز الرطب والعنب واحد بواحد رطبا كله، ولا يجوز رطبه بيابسه على حال؛ لأن المزابنة تدخله، وكذلك هذا؛ والحديث في النهي على الرطب باليابس فيهم، فهو يقع على الرطب باليابس في كل شيء.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم يدير ماله من سماع عيسى مستوفى، فلا معنى لإعادته مرة أخرى.
[مسألة: قوم يقتسمون ماءهم بالقلد فيأخذ الرجل على قدر حقه]
مسألة وسئل عن قوم يقتسمون ماءهم بالقلد وهو قدر نحاس، وقد عرفوا كم يصير بلدهم منه، فيأخذ الرجل على قدر حقه فيتسلف الرجل من صاحبه في الشتاء أقلادا، ثم يغفلون حتى تدخل الصيف فيلزمه، فيأبى أن يعطيه إلا في الشتاء(7/231)
أو في وقته الذي أخذه، والماء عندنا في الشتاء أرخص، وفي الصيف أغلى؛ قال أصبغ عليه أن يعطيه في أي وقت طلبه بعد أن يكون السلف حالا لا وقت له، ولم يكن مؤجلا لم يحل أجله؛ ولا ينظر في هذا إلى شتاء ولا صيف، (ولا حين إعطائه) ولا حين قبضه، ولا غير ذلك، إلا متى ما طلبه، أو أراد المسلف قضاءه قبل أن يطلبه.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا خلاف مذهب ابن القاسم، والذي يأتي في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم، أنه ليس له أن يأخذ سلفه منه إلا في الفصل الذي أسلفه إياه فيه؛ لأن سقي الصيف لا يشبه سقي الشتاء، والمماثلة في الماء للسقي، إنما تكون بتساوي الأوقات والفصول؛ والذي يدل على أن هذا مذهبه، قوله في سماع أبي زيد من كتاب القسمة في الشريكين في الماء لأحدهما السقي بالليل، وللآخر السقي بالنهار، (فيتعدى الذي له السقي بالنهار) على الذي له السقي بالليل فيسقي به؛ أنه إن لم يكن له سقي بالليل كانت عليه القيمة؛ لأن سقي النهار لا يشبه سقي الليل؛ ووجه قول أصبغ أن الواجب في السلف رد مثله من غير اعتبار قيمته يوم السلف ولا يوم الرد، ومعنى ذلك إذا كان الماء قدره واحد في الوقت الذي استسلفه، وفى الوقت الذي يرده؛ لأن العادة في المياه أنها تقل في الصيف وتكثر في الشتاء، فليس له إذا استلف الأقلاد في الصيف أن يأخذها في الشتاء إذا كان المياه في الشتاء أكثر؛ لأنه يأخذ فيها من الماء أضعاف ما أسلفه، وإذا لم يكن له أن يأخذها في الشتاء، لم يكن للذي عليه السلف أن يجبره على أخذها؛ إذ ليس له أن يلزمه معروفا، ولا للمسلف إذا أسلف للأقلاد في الشتاء، أن يردها في الصيف إذا كان الماء في الصيف أقل؛ وإذا لم يكن له أن يردها(7/232)
في الصيف، لم يكن للذي له السلف أن يأخذها؛ لأنه إن قال إنه تارك لبعض حقه، فليس له أن يلزم المسلف قبول معروفه؛ ويعلم أنه إنما رضي أن يأخذه في الصيف، وهو أقل من أجل أنه أغلى؛ وهذا وجه المبايعة التي لا تجوز إلا برضى المتبايعين. فالواجب على مذهبه إذا طلب صاحب السلف سلفه من الأقلاد في غير الفصل الذي قبضه فيه، والماء ليس على ما كان عليه، إلا أن يكون ذلك له، ويلزم الانتظار إلى الفصل الذي أسلفه فيه؛ كمن أسلف فيما له إبان فانقضى الإبان قبل أن يأخذ سلفه، ولا يدخل في هذه الاختلاف الذي في تلك؛ لأن هذا قرض وذلك بيع؛ وفي صفة القلد الذي يقسم به الماء بين الإشراك اختلاف؛ قيل إنه أن يؤخذ قدر فيثقب في أسفله، ثم يصب فيه الماء من وقت إلى مثل ذلك الوقت من يوم آخر، فما اجتمع مما خرج من ذلك الثقب من الماء اقتسمه الورثة أو الأشراك فيما بينهم على قدر حظوظهم، وعمل واحد منهم قدرا يحمل مقدار حظه من ذلك الماء، ويثقب في أسفله بالمثقب الذي ثقب به القدر الأول؛ ويسقون الأول فالأول على ما يتفقون عليه، أو يخرجه الاقتراع لهم؛ فإذا وصل الماء في أرض الذي يأتي وقت سقيه؛ ملأ قدره من الماء وفتح الثقب، فلا يزال يسقي حتى ينفذ الماء، ثم الذي يليه كذلك إلى آخرهم؛ وقيل بل يقسم الماء على سهم أقلهم نصيبا، فإن كان لأحدهم السدس وللثاني السدسان، وللثالث الثلاثة الأسداس؛ ثقب في جنب القدر الأول حيث ينتهي السدس والماء، وحيث ينتهي السدسان، وحيث تنتهي الثلاثة الأسداس؛ فإذا سقى صاحب الثلاثة الأسداس وضع الثلاثة الأسداس في القدر، وفتح الثقب الأول، فإذا جرى(7/233)
السدس من الماء، فتح الثقب الثاني؛ فإذا جرى السدس الثاني من الماء، فتح الثقب الذي في أسفل القدر ويسقي حتى لا يبقى في القدر شيء؛ ويفعل الذي له السدسان مثل ذلك، وكذلك الذي له السدس يسقي حتى يجري السدس من الماء من الثقب الذي في أسفل القدر، وهذا أعدل من القول الأول؛ لأن صاحب النصيب الكبير يغتبن على القول الأول؛ لأن كلما كثر الماء في القلد، كان أسرع لخروجه من الثقب.
[مسألة: بيع دكار التين بالتين يدا بيد وإلى أجل]
مسألة قال أصبغ لا بأس ببيع دكار التين بالتين يدا بيد وإلى أجل، وكيف ما كان متفاضلا أو غيره، وهو مثل النوى بالتمر.
قال محمد بن رشد: أما قوله في دكار التين بالتين أنه لا بأس به بالتين مثلا بمثل، ومتفاضلا يدا بيد، وإلى أجل؛ فصحيح على ما قال؛ لأنه لا يؤكل بحال، فحكمه حكم العروض باتفاق؛ لا يدخل فيه من الاختلاف ما يدخل في التمر بالنوى؛ لأن قول مالك اختلف فيه من أجل ما في التمر من النوى، فمرة أجازه، ومرة كرهه، ومرة أجازه يدا بيد، وكرهه إلى أجل، فقوله إنه مثل النوى بالتمر- يريد عنده على مذهبه في إجازة ذلك يدا بيد، وإلى أجل- وبالله التوفيق.
[باع ثوبين بعشرة أرادب قمح إلى أجل]
من سماع أبي زيد ابن أبي الغمر من عبد الرحمن بن القاسم. قال أبو زيد سئل ابن القاسم عن رجل باع ثوبين بعشرة أرادب قمح إلى أجل، فلما حل الأجل، قال أقلني في أحد ثوبيك وخذ مني خمسة أرادب؛ قال لا بأس به إذا كان الثوبان(7/234)
معتدلين، فإذا كان أحدهما أرفع من الآخر، لم يصلح أن يقيله من أحداهما.
قال محمد بن رشد: لسحنون في المجموعة أنه لا يجوز ويدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى؛ إذ قد يغلط في التقديم فيكون قد أقال من الطعام بأقل مما اشتراه به أو أكثر؛ كما لا يجوز لهذه العلة إذا اشترى ثوبين مستويين أن يبيع أحدهما مرابحة بنصف الثمن حتى يبين، ووجه قول ابن القاسم، أن اعتدال الثوبين مما يدرك معرفته، فجاز أن يقيل من أحدهما بنصف الطعام إذا كانا مستويين؛ فعلى هذا يجوز إذا اشترى ثوبين مستويين صفقة واحدة أن يبيع أحدهما مرابحة بنصف الثمن ولا يبين، كما لو أسلم فيها، خلاف قوله في المدونة إن ذلك لا يجوز، بخلاف إذا أسلم فيها؛ وقد قيل إنه إنما لم يجز بيع أحدهما مرابحة دون أن يبين، من أجل أنه قد يزاد في ثمن الجملة؛ ذهب إلى هذا ابن عبدوس؛ فعلى هذا لا يجوز أيضا إذا سلم في ثوبين أن يبيع أحدهما مرابحة دون أن يبين، وهو قول سحنون.
[مسألة: باع خمسة أرادب قمح بدينار إلى شهر]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل باع خمسة أرادب قمح بدينار إلى شهر، فقال المبتاع للبائع قبل الأجل خذ مني عشرة أرادب من صفة قمحك، وامح عني الدين، قال لا بأس به.(7/235)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة وقعت في بعض الروايات، وهي مسألة رديئة خارجة عن الأصول؛ لأن مآل أمرهما إلى أن أسلم البائع إلى المبتاع خمسة أرادب في عشرة إلى أجل.
[مسألة: كل زريعة لا تؤكل ويستخرج من حبها شيء يؤكل]
مسألة قال وكل زريعة لا تؤكل ويستخرج من حبها شيء يؤكل، فإنها تباع قبل أن يستوفى؛ ويباع منها اثنان بواحد، ويباع بعضها ببعض إلى أجل؛ وكل زريعة تؤكل ويستخرج من حبها طعام يؤكل، فإنه لا يباع حتى يستوفى، ولا يباع منه اثنان بواحد.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في الرواية كل: زريعة لا تؤكل ويستخرج من حبها شيء يؤكل، فإنها تباع قبل أن يستوفى، ويباع منها اثنان بواحد، ويباع بعضها ببعض إلى أجل، وكل زريعة تؤكل ويستخرج من حبها طعام يؤكل، فإنها لا تباع حتى يستوفى، ولا يباع منها اثنان بواحد، والصواب فيها كل زريعة لا تؤكل ولا يستخرج من حبها شيء يؤكل؛ لأن ما كان من الزراريع التي يستخرج منها الزيت كزريعة الفجل، وزريعة الكتان، فإنها من الطعام لا تباع حتى تستوفى، ولا يباع منها اثنان بواحد، كذا قال في المدونة، ومعنى ذلك في البلد الذي تتخذ فيه لذلك، فتأويل قوله في الرواية إذا صحت ويستخرج من حبها شيء يؤكل، أي بأن يزرع فينبت منها ما يؤكل كزريعة البصل والكراث والبطيخ وشبه ذلك. ومعنى قوله لا تؤكل أي لا تؤكل تقوتا ولا تفكها؛ لأن أكلها على سبيل التداوي كالحرق وشبهه، لا يراعى. وقوله ويباع بعضها ببعض إلى أجل، يريد من صنفين مختلفين، وقد حمل بعض الناس الرواية على ظاهرها في أن ما كان من الزراريع، يؤكل فليس من الطعام وإن كان يخرج منه الزيت، خلاف ما في(7/236)
المدونة. وأما قوله وكل زريعة تؤكل ويستخرج من حبها طعام يؤكل، فالمعنى فيه وكل زريعة تؤكل أو يستخرج من حبها طعام يؤكل؛ لأن الزريعة إذا كانت تؤكل فهي من الطعام وإن لم يخرج منها طعام؛ ولا اختلاف في ذلك، كالكمون والكروياء، وشبه ذلك؛ وإذا كان يخرج منها طعام كزريعة الفجل الذي يخرج منه الزيت وشبه ذلك، فهو من الطعام؛ وإن لم يؤكل إلا على سبيل التداوي على ما وصفناه مما حمل عليه بعض الناس قوله: كل زريعة لا تؤكل ويستخرج من حبها شيء يؤكل وهو بعيد، وقد اختلف في الحلبة، فقيل إنها من الطعام لا تباع قبل أن تستوفى، وهو قول ابن القاسم في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع. وقيل إنها ليست من الأطعمة وهي من الأدوية فتباع قبل أن تستوفى، ويباع منها اثنان بواحد يدا بيد، وتباع بالقمح إلى أجل، وهو قول مالك في رواية ابن نافع عنه؛ قال ابن نافع قيل لي إنها باليمن طعام فلا تباع بالقمح إلى أجل حيث هي طعام. وقال أصبغ للخضراء منها حكم الأطعمة ولليابسة حكم الأدوية؛ وحكم ابن دينار في المدونة للزرايع التي لا تؤكل ولا فيها طعام مثل زريعة القثاء والبطيخ وشبه ذلك، بحكم ما لا يدخر من الفواكه، يجوز التفاضل في الصنف الواحد منها يدا بيد، ولا يجوز في شيء من ذلك الأجل، ولا بيعه قبل استيفائه.
[مسألة: زيت الفجل بزيت الزيتون متفاضلا]
مسألة قال مالك لا بأس بزيت الفجل بزيت الزيتون متفاضلا يدا بيد.(7/237)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، بخلاف الأخلال، والأنبذة في ذلك، تلك لا يراعي فيها اختلاف أصولها؛ وقد اختلف في الأخباز حسبما مضى القول فيه في أول سماع يحيى، وبالله التوفيق.
تم السلم الأول والثاني والآجال بحمد الله تعالى وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما عونك يا الله.(7/238)
[كتاب جامع البيوع الأول] [القصيل الذي يشتريه الرجل فيصير بعضه حبا](7/239)
من سماع ابن القاسم
من مالك من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: قال عبد الرحمن بن القاسم في القصيل الذي يشتريه الرجل فيصير بعضه حبا؟ قال: يعدل بقدر الفدادين ويقاس، فإن كان الذي حبب منه الثلث أو الثلثان رجع على حساب ذلك، وليس في ذلك قيمة، وإنما يقدر بالقياس والتحري، وليست فيه قيمة. قلت إن بعضه يكون أجود من بعض؟ قال: يقدر على ذلك، يقال كم هذا الذي يجب من الذي أكل إن كان الثلث أو الثلثان على قدر جودته ورداءته؟ قال والبلح أيضا كذلك على التقدير إذا أزهى بعضه.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها من أن الرجل إذا اشترى القصيل على أن يقصله فلم يقصله حتى حبب، أن البيع ينتقض فيه، كما لو اشتراه على أن يتركه حتى يحبب؛ لأن البيع إذا كان ينتقض في جميعه إذا حبب، أن ينتقض فيما حبب منه إذا حبب بعضه، وسواء غلبه الحب فيه دون توان، أو توانى في قطعه حتى(7/241)
حبب قصدا منه لنقض البيع لاستغلائه إياه، وما أشبه ذلك؛ ولو توانى في قطعه فرافعه البائع إلى السلطان، فقضى عليه بتعجيل قطعه قبل أن يحبب فلم يفعل حتى حبب، أو حبب في خلال الخصام؛ لوجب أن ينتقض البيع فيه أيضا. قال ذلك أصبغ، ورواه عن ابن القاسم؛ وقوله: إذا حبب بعضه أنه يعدل بقدر الفدادين ويقاس، وليس فيه قيمة؛ يريد ليس فيه قيمة تختلف باختلاف الأوقات، كالرأس مع الخلفة إذا اشتراه وشرط خلفته، فحصد الأصل وترك الخلفة حتى حبب؛ أن البيع ينتقض فيها بقيمتها من قيمة الأصل، يقال كم قيمة القصيل يوم وقع البيع فيه دون خلفة، وكم قيمة حينئذ باشتراط خلفته؛ فإن كانت قيمة القصيل دون خلفته عشرة، وقيمته باشتراط خلفته خمسة عشر، علم أن الخلفة وقعت في الثلث، فيرجع المبتاع على البائع بثلث الثمن، وتكون الخلفة التي حببت له؛ لأنتقاض البيع فيها دون الأصل؛ وأما الأصل إذا حبب بعضه، فما حبب منه، فينتقض البيع فيه بمقداره من الثمن نصفه بنصف الثمن، وثلثه بثلث الثمن، وما كان من الأجزاء على هذا، ويعرف قدر ما حبب منه مما لم يحبب بالقياس والكيل، يكال الفدان ويقاس، فيعلم ما بيع ما حبب منه مما لم يحبب، فيرجع المبتاع بقدر ذلك من الثمن؛ وهذا إذا كان القصيل معتدلا مستويا في الطيب واللفة. وأما إن كان بعضه أطيب وألف من بعض، فلا بد فيه من القيمة على قدر جودته ورداءته على ما قال؛ لأن ذلك يكون كالأصناف، لو اشترى قصيل قمح وشعير وقرط صفقة واحدة، فحبب بعض تلك الأصناف، انتقض البيع فيه بما ينوبه من الثمن على القيمة، والقيمة في ذلك يوم وقعت الصفقة، لا يوم جز منه ما جز، ولا يوم حبب منه ما حبب؛ وكذلك قال في الجوائح من المدونة إن القصيل إذا اشترى جزة واحدة(7/242)
فنصفه بنصف الثمن، ولا قيمة في ذلك؛ بخلاف ما يكون من المقاثئ وشبهها بطونا، وما يجني من الفواكه شيئا بعد شيء، ولا يمكن حبس الأول منه على الآخر. وقوله والبلح أيضا كذلك على التقديم إذا أزهى بعضه، يريد أن البلح إذا اشتراه على أن يقطعه فلم يقطعه حتى أزهى بعضه، أن البيع ينتقض فيما أزهى منه نصفه بنصف الثمن، أو ثلثه بثلث دون قيمة، وذلك إذا كان صنفا واحدا مستويا في الطيب، فإن اختلفت أصنافه، أو اختلف الصنف الواحد منه في الطيب؛ لم يكن في ذلك بد من القيمة كالقصيل سواء، ولا يجوز شراء البلح قبل أن يزهى إلا بشرط القطع؛ فإن وقع البيع مسكوتا عنه فسخ، إلا أن يقطعه المشتري قبل أن يعثر عليه فلا يفسخ؛ لأنه يتبين بقطعه أنه إنما اشتراه ليقطعه؛ على هذا يحمل ما وقع في البيوع الفاسدة، وبيع العرايا من المدونة، لا على أنه اختلاف من القول على ما ذهب إليه بعض أهل النظر، وذلك بخلاف القصيل؛ لأنه يجوز بيعه وإن وقع مسكوتا عنه لم يشترط قطعه قبل أن يحبب، فرق بين ذلك العرف في شراء القصيل، على أن يقطع والثمرة على أن يبقى، فيحمل كل واحد منهما في السكوت على ما جرى عليه عرف الناس فيه.
[مسألة: الرجل يبيع الحائط فيه صنف واحد من الثمار حين يبدو صلاحه ولم يعم]
مسألة (قال ابن القاسم) وسمعت مالكا يقول في الرجل يبيع الحائط فيه صنف واحد من الثمار حين يبدو صلاحه ولم يعم(7/243)
الحائط كله. قال إن كان طيبه ذلك متتابعا فبيعه جائز، فأما الشيء المبكر، فلا يجوز بيع الحائط حتى يطيب طيبا متتابعا. قال وسمعت مالكا يقول في الرجل يبتاع الحائط فيه أصناف من التمر مختلفة، قد طاب بعضها وبقي بعض، قال لا أرى أن يباع منها إلا ما قد طاب، ويترك ما لم يطب. قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول في الرجل يشتري الدالية وقد بدأت الحبة في العنقود أو العنقودين قد طابت وسائرها لم يطب، والتينة كذلك، وما أشبه ذلك من الثمار؛ قال لا بأس به.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يبيع الحائط فيه صنف واحد من الثمار حين يبدو صلاحه ولم يعم الصلاح الحائط كله، أنه بيع جائز إذا كان طيبه متتابعا. يريد بالصنف الواحد أن يكون نخلا كله، أو تينا كله، أو رمانا كله؛ وإن اختلفت أجناس التمر، أو أجناس التين، أو أجناس الرمان، فيجوز بيع الحائط كله بطيب جنس واحد منه إذا كان طيب جميعه متتابعا يقرب بعضه من بعض. وقال ابن كنانة وإن لم يقرب بعضه من بعض إذا كان طيبه متصلا لا يفرغ آخر الأول حتى يطيب أول الآخر، ويقوم ذلك من قول مالك في رسم طلق في مسألة الجنسين؛ لأن البطنين في الثمرة الواحدة كالجنسين من صنف واحد؛ وأما إذا كان الحائط أصنافا من الثمر مثل عنب وتين ورمان، فلا اختلاف في أنه لا يجوز أن يباع ما لم يطلب من الأصناف بما طاب منها وإن قرب وتتابع، إلا أن يكون الذي لم يطب منها تبعا لما طلب على اختلاف في ذلك(7/244)
سنذكره في آخر سماع أشهب إن شاء الله تعالى. وقوله في الرجل يبتاع الحائط فيه أصناف من الثمر مختلفة، قد طاب بعضها، وبقي بعض؛ إنه لا يباع منها إلا ما قد طاب، ويترك ما لم يطب؛ معناه في الأصناف المختلفة من الثمر، مثل تمر وتين وعنب ورمان؛ وكذلك الرواية فيه الثمر بالثاء المعجمة بثلاث لا بالتاء المعجمة باثنين؛ لأن الأصناف من الثمر يجوز أن تباع جميعا بإزهار بعضها؛ قيل إذا كان ذلك متتابعا، وهو قول مالك. وقيل وإن لم يتتابع إذا لم ينقطع الأول حتى بدأ طيب الآخر، وهو قول ابن كنانة حسبما وصفناه. وقد كان مالك يقول أولا إنه لا يجوز بيع الحائط حتى يعمه الزهو، ولا يباع بإزهار النخلة والنخلتين ثم قال: لا بأس أن يباع بازهاء النخلة والنخلتين؛ وقال إزهاء نخلة في خمسين مثل نخلة في ألف، وما أدركت الناس إلا على إجازته؛ قال ابن القاسم يريد فيما رأيت النخلة التي ليست بباكورة، وبعضه قريب من بعض؛ وقع ذلك في أصل السماع، وقيل إنه يجوز أن يباع الحائط وإن لم يزه فيه شيء إذا قرب من الزهو وإزهاء ما حواليه، وكان الرمان قد أمنت فيه العاهات؛ وهو قول مالك في رسم أخذ يشرب خمرا بعد هذا، وإليه ذهب ابن حبيب وقال إنه القياس؛ فيتحصل في هذه المسألة أربعة أقوال، أحدها، أنه لا يجوز بيع الحائط حتى يعمه الزهو، والثاني أنه يجوز بيعه وإن لم يعمه الزهو إذا أزهى بعضه، وكان زهو سائره قريبا متتابعا. والثالث أنه يجوز بيعه إذا أزهى بعضه وإن لم يقرب زهو سائره إذا اتصل طيبه ولم ينقطع الأول قبل أن يبدأ الثاني. والرابع أنه يجوز بيعه وإن لم يظهر فيه الزهو إذا ظهر فيما(7/245)
حواليه وكان الرمان قد أمنت فيه العاهات، وما استعجل زهوه من الثمار بعارض وسبب من مرض في الثمرة وما أشبه ذلك، فلا اختلاف في أنه لا يستباح به بيع ذلك الحائط وستأتي هذه المسألة أول رسم من سماع أشهب، وفي آخر رسم منه- إن شاء الله.
[مسألة: يبيع الطعام على شرط إن أدركته الصفقة]
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالكا يقول لا ينبغي بيع الطعام على شرط إن أدركته الصفقة، مثل الزرع القائم إذا يبس واستحصد؛ قال سحنون وسئل ابن القاسم عن هذا، فقال ذلك رأيي ما كان في البيوت من الطعام المخزون؛ لأنه أمر لا يدرى ما فيها وليست بمنزلة السلع؛ قال سحنون وهذا عندي في الجزاف.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم وسحنون يبين قول مالك ويفسره، فمعنى قوله لا ينبغي بيع الطعام على شرط إن أدركته الصفقة على ما فسراه به، أي لا يجوز بيع الطعام الغائب جزافا على الصفقة، ولا يقام من قوله إن ذلك لا يجوز على شرط إن أدركته الصفقة، دليل على أن ذلك يجوز إن لم يشترط الصفقة، بل لا يجوز على حال: شرط الصفقة أو لم يشترطها؛ إذ لا يجوز أن يشتري على الصفقة إلا ما يجوز أن يسلم فيه على الصفة؛ فكما لا يجوز أن يسلم في الطعام على الصفة جزافا،(7/246)
فكذلك لا يجوز أن يبتاع طعام غائب على الصفة جزافا. وقوله مثل الزرع القائم إذا يبس واستحصد، يحتمل أن يريد بذلك أن ذلك لا ينبغي، كما لا ينبغي في الزرع القائم أن يبس واستحصد، وأن يريد بذلك أن ذلك ينبغي. والتأويل الأول هو الصحيح؛ لأن المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، أنه لا يجوز أن يسلم في فدادين من زرع على صفة، فكذلك لا يجوز أن يبتاعها على صفة؛ وأما التأويل الثاني، فلا يصح إلا على مذهب أشهب الذي يجيز أن يسلم في القصيل على فدادين موصوفة؛ ولو كان المبتاع قدر المصبر والزرع، ثم اشترى ذلك من صاحبها على رؤيته المتقدمة وهو غائب عنها؛ لجاز ذلك، اشترط الصفقة أو لم يشترطها؛ وقد نص على جوازه ابن حبيب في الواضحة، وقد فرق في هذا في المدنية من رواية ابن القاسم عن مالك من الطعام المصبر والزرع القائم، فمنع أن يشتري الطعام المصبر وهو غائب عنه على روايته المتقدمة، وأجاز ذلك في الزرع القائم وهي تفرقة لا حظ لها في النظير، فالله أعلم بصحتها.
[مسألة: بيعت الجارية وعليها حلي وثياب ولم يشترط البائع ولا المبتاع]
مسألة قال ابن القاسم قال مالك: إذا بيعت الجارية وعليها حلي وثياب، ولم يشترط البائع ولا المبتاع، فهو للبائع؛ ولا ينقض البيع لذلك، إلا ما يكون لها مما لا يزين به فهو لها؛ قال ابن(7/247)
القاسم وما كان مما ليس لها مما تزين به، فلا ينبغي أن يشترطه المبتاع؛ قال سحنون: من الحلي، فأما الثياب فلا بأس به؛ قال ابن وهب وسمعت مالكا يقول في الرجل يشتري الجارية عليها ثوب الوشي الحسن، فيريد البائع أن يأخذه، ويقول المشتري ليس هذا من الشيء الذي يكون للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، قال مالك أرى إذا كانت الجارية فارهة عليها الثوب اليسير الثمن، وهو نحو بذلته عند أهلها، فإني لا أرى للبائع نزعه؛ فأما الثوب الجيد الذي إنما لبسته لتزين به، وأشباه ذلك؛ فإني أراه للبائع؛ هذه المسألة لعبد الله بن وهب في سماعه من مالك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة؛ لأن ما زينت به الجارية عند البيع من الحلي والثياب، لا يدخل في البيع، إلا أن يشترطه المبتاع. فقوله: إن الجارية إذا بيعت وعليها حلي وثياب، لم يشترط البائع ولا المبتاع أنه للبائع، ولا ينقض البيع لذلك؛ يريد إن كان وقع بذهب وعليها حلي ذهب، بين في المعنى؛ لأن الحلي للبائع، ولا يدخل في البيع إلا باشراط المبتاع له؛ وإذا كان الحلي والثياب للبائع، فيلزم البائع أن يكسوها كسوة تصلح لمثلها للبذلة. وقيل لا يجب ذلك عليه إذا لم يشترطه المبتاع، فإن اشترط ذلك المبتاع، لزم البائع؛ واختلف إن اشترط البائع إلا يكسوها، وأن يأخذها المبتاع عريانة؛ ففي سماع أشهب من كتاب العيوب أن شرطه باطل، وعليه أن يكسوها؛ وقيل شرطه عامل، وهو الصحيح؛ وقد مضى القول على ذلك في سماع أشهب المذكور. وقوله إلا ما يكون لها(7/248)
مما تزين به فهو لها يريد الحلي والثياب وإن كان الحلي حلي ذهب، فاشتراها بذهب؛ لأنه تبع لها من أجل أنه مالها. وكذلك لو كان الحلي الذي زينت به لها، فاستثناه المشتري، لجاز ذلك وإن كان حلي ذهب فاشتراه بذهب، وأما إذا لم يكن لها، فاستثناه المشتري، فلا يجوز إن كان الحلي ذهبا فاشتراها بذهب أو فضة؛ إلا أن يكون مصوغا بما معه من اللؤلؤ والحجارة غير منفصل عنه وهو تبع له فيجوز، وقول سحنون مفسر لقول ابن القاسم؛ إذ لا إشكال في أنه يجوز للمشتري أن يستثني ما عليها من الثياب التي زينت بها، وإنما لا يجوز له أن يستثني ما عليها إن كان حلي ذهب فاشتراها بذهب؛ إلا أن يكون الحلي غير منفصل عما معه من الحجارة، وهو في حيز التبع له على ما ذكرناه؛ وهذه الرواية تفسير ما مضى في سماع أشهب من كتاب الجهاد، وفي رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، وقد مضى القول على ذلك هناك.
[مسألة: يشتري الزق ويزعم صاحبه أن فيه عشرة أقساط بقمح جزافا]
مسألة قال مالك في الرجل يشتري الزق ويزعم صاحبه أن فيه عشرة أقساط بقمح جزافا: أكره ذلك إذا قبضه بكيل صاحبه، قال سحنون قال لي ابن القاسم لم أجد لهذه المسألة معنى، ولا أرى به بأسا؛ قال سحنون قول مالك الصواب، قال سحنون وقد قاله المخزومي.
قال محمد بن رشد: إنما كرهه إذا أعطاه الزيت على التصديق؛ لأنه قد يفارقه ثم يكيله بحضرة بينة لم تفارقه منذ أخذه من صاحبه، فيجده ينقص نقصا بينا، فيرجع عليه في الطعام بمقدار ما نقص من الزيت، فلم(7/249)
يتناجزا بيع الطعام عند ما تبايعا، ولا يجوز بيع الطعام بالطعام إلا يدا بيد لا يفترقان وبينهما عمل؛ وقد قال أشهب لا يجوز التصديق في الصرف ولا في تبادل الطعامين، وقاله ابن المواز لهذه العلة، مثل قول سحنون والمخزومي، وقد روى ابن نافع عن مالك إجازة ذلك، مثل قول ابن القاسم؛ ووجه ذلك أن التناجز قد حصل بينهما بالتقابض، وما يطرأ بعد ذلك من وجود النقصان الذي تقوم عليه البينة فيوجب أن يرد من الطعام بمقدار ما نقص من الزيت، لا يؤثر في صحة العقد؛ كما لا يؤثر في صحة الصرف ما يوجد فيه بعد التناجز من زائف أو ناقص، إذ لم يأخذه على أن يكيله، وإنما أخذه على أن يصدقه بما أخبره به من كيله ولا يكيله؛ فكأنه قد باع جزافا بجزاف، وهو عندي خفيف في الصرف وفي مبادلة الطعام بالطعام بالكيل على التصديق فيهما، أو في أحدهما؛ لأنه إن وجد في أحدهما نقصانا، رجع بما يجب له من كيل قد كان عرفه، فانتقض الصرف والبدل فيه؛ ومضى فيما سواه على العقد الأول، والكيل الذي وقع به؛ وأما في بيع الطعام جزافا بالكيل، أو التبر جزافا بالدنانير، فهو ثقيل؛ لأنه إن وجد نقصانا فيما صدقه من الكيل، أو الوزن، لم يدر ما يرجع به عليه في الجزاف الذي دفع إليه إلا بعد كيل جميعه أو وزنه؛ فيئول الأمر في ذلك إلى الصرف المتأخر، أو الطعام غير يد بيد؛ إذ لا يدرى ما يمضي فيه البيع من الجزاف الذي قبض في الكيل الذي دفع إلا بعد الكيل، فيتحصل في المسألة قولان وتفرقة.
[مسألة: باع أمة لها ولد وشرط أن عليهم رضاعه سنة ونفقته سنة]
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالكا يقول من باع أمة لها ولد وشرط أن عليهم رضاعه سنة ونفقته سنة، فذلك جائز إذا كان(7/250)
إن ماتت أمه أرضعوا له أخرى؛ ووقع في المدونة ذلك جائز إذا كان إن مات أرضعوا له أخرى. قال ابن القاسم هذا وهم من مالك، أو أمر رجع عنه؛ لأنه كره أن تباع أمة لها ولد صغير يشترطه البائع لنفسه، ولا يباع صبي ويشترط الأم لنفسه، إلا أن يباعا جميعا، وأرى هذا وهما! قال سحنون: وهذا عندي على أن الولد رقيق؛ لأنها تفرقة، فأما لو كان حرا جاز البيع.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة، أن الولد حر، وكذلك قال فيها في آخر البيوع الفاسدة من المدونة؛ وعلى ذلك أجاب مالك كما بين سحنون؛ فلم يهم مالك؛ بل وهم ابن القاسم فيما حمل المسألة عليه مما نسب فيه الوهم إلى مالك؛ والمعنى فيها أيضا أن سيد الأمة أعتقه ثم باعها ولم يبق من أمد رضاعه إلا سنة، فأجاز له أن يشترط على المشتري بقية رضاعه مضمونا عليه، لا في عين الأمة، وذلك بين من قوله: فذلك جائز إذا كان إن ماتت أمه أرضعوا له أخرى، ووقع في المدونة: ذلك جائز- إذا كان- إن ماتت أرضعوا له أخرى. وكذلك وقع ههنا في بعض الروايات؛ فإذا وقع البيع على الشرطين جميعا: إن ماتت أرضعوا له أخرى، وإن مات أرضعوا له آخر؛ وأرادوا بذلك أن الرضاع يكون مضمونا على المشتري لا في عين الأمة، جاز باتفاق، وإن أرادوا بذلك أنه يكون في عين الأمة ما لم تمت، فإن ماتت أتى بخلفها لم يجز؛ كما لو اشترط أن الرضاع يكون في عينها، ويبطل عنه بموتها، أو يرجع عليه البائع بقدره؛ لأنه إن كان في عين الأمة، دخله التحجير على المشتري في الأمة التي اشترى، إذ لا يقدر على التصرف فيها بما يجوز لدى المالك في ملكه(7/251)
من أجل الشرط، وإن كان في عين الصبي ومضمونا على المشتري دخله الغرر؛ لأنه مضمون في ذمة تبطل بموت الصبي؛ واختلف إذا لم يكن لهم في الشرط نية ولا إرادة، فحمله ههنا على أنهم أرادوا به أن الرضاع يكون مضمونا على المشتري، لا في عين الأمة وأجازه؛ وحمله في آخر رسم من سماع أشهب بعد هذا على أنهم أرادوا به أن يكون في عين الأمة ما لم تمت فلم يجزه؛ واختلف إذا وقع البيع على أنه إن مات الصبي أرضعوا له آخر، ولم ينصوا على أن الرضاع مضمون على المشتري بأن يقولوا فيه إنها إن ماتت أرضعوا له أخرى، وسكتوا على ذلك، فحمله ابن القاسم في المدونة على المضمون وأجازه، وحمله سحنون على أنه في عين الأمة يبطل على المشترى بموتها؛ فلم يجزه إلا على وجه الضرورة؛ مثل أن يرهقه دين، فيباع عليه على ذلك؛ وتأول على ابن القاسم أنه أجازه على أن الرضاع في عين الأمة، فاعترض عليه بأن قال كيف تجيز هذا وهو لا يجيز الإجارة على ذلك، فلا يجوز إلا مع الضرورة؛ ولا يلزم ابن القاسم اعتراضه؛ لأنه لم يجز ذلك إلا بأن حمل الأمر في المسكوت عليه بأن الرضاع مضمون على المشتري في عين الأمة؛ ويلزم سحنون من الاعتراض في قوله في آخر هذه المسألة: فأما لو كان حرا جاز البيع- ما ألزم ابن القاسم؛ لأنه حمل المسكوت عنه في جهة الصبي على المضمون فأجاز البيع، كما حمل ابن القاسم المسكوت عنه في جهة الأمة على المضمون في المدونة فأجاز البيع؛ وإذا انقضى الرضاع، كانت نفقته على سيده الذي أعتقه حتى يبلغ حد الإثغار؛ لأن من أعتق صغيرا لزمته نفقته حتى يستغني بنفسه ويقدر على الكسب عليها ولو بالسؤال، هذا معنى ما قاله ابن المواز فيمن أعتق صغيرا، أو التقط لقيطا؛ قال أبو إسحاق التونسي: وانظر لو فلس قبل انقضاء الرضاع، هل تباع أمه في الدين ويشترط رضاعه ومؤونته على المشتري وإن نقص ذلك من حق الغرماء، ويكون(7/252)
ذلك أوجب من نفقته على ولده الذين لا يترك لهم من ماله إلى أن يقدروا على أنفسهم؛ والذي أقول به في ذلك، أنه لا يلزم أن يشترط على المشتري ذلك في بيع الأمة؛ فيكون قد بدئ على الغرماء بجميع حقه، ولا يبطل أيضا حقه جملة بتبدئة الغرماء عليه، كهبة لم تقبض حتى قام الغرماء على الواهب، ولكنه يحاص له الغرماء المبلغ نفقته الواجبة له عليه بعتقه إياه وهو صغير؛ لأنه أضربه في ذلك فصارت نفقته كالدين الواجب له عليه؛ وسيأتي من معنى هذه المسألة في رسم سلعة سماها في هذا السماع، وفي آخر رسم من سماع أشهب، وفي رسم البراءة، ورسم إن أمكنتني من سماع عيسى؛ وقد مضى منه أيضا في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة، فقف على ذلك كله في مواضعه، وبالله التوفيق.
[مسألة: باع ثمرة لم يبد صلاحها ثم باعها مشتريها بعد ما بدا صلاحها]
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالكا قال من باع ثمرة لم يبد صلاحها، ثم باعها مشتريها بعد ما بدا صلاحها؛ أن لصاحبها عدد الثمرة حين يبدو صلاحها، ولا يأخذ إلا ثمرا؛ وإن تلفت، لم يأخذ الأول من أخذ الثمرة المبتاع شيئا.
قال محمد بن رشد: إذا باع الرجل الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، فهو بيع فاسد، والمصيبة فيها إن تلفت من البائع ما دامت في رؤوس النخل وإن طابت، ما لم يجدها المبتاع؛ لأن قبض الأصول ليس بقبض لها، فإن جدها ضمنها بالجد، وكان عليه مكيلة ما جد منها رطبا إن عرفت المكيلة ولم يفت إبان الرطب؛ وإن جهلت المكيلة أو فات إبان الرطب، كان عليه قيمة خرص ذلك؛ وكذلك يكون عليه إن جدها ثمرا فبلغت مكيلة ما جد منها تمرا إن علمت المكيلة، وإن جهلت كان عليه قيمة خرص(7/253)
ذلك؛ وإن كان الثمر قائما، رده بعينه وانفسخ البيع على كل حال؛ هذا معنى قوله في البيوع الفاسدة من المدونة وغيره؛ واختلف إن باعها المبتاع بعد أن بدا صلاحها، فقيل إن البيع فيها قبض وفوت، فيجوز البيع ويكون على الذي اشتراها قبل بدو صلاحها قيمتها يوم باعها، قاله محمد بن المواز؛ وحكى عن مالك أن القيمة تكون عليه يوم بدا صلاحها، ومعناه إذا كان بيعه لها يوم بدا صلاحها، أو استوت القيمة في الوقتين؛ فليس قول محمد بن المواز بخلاف لما حكى عن مالك على هذا التأويل؛ وقيل ليس البيع فيها قبضا ولا فوتا؛ لأنه باع ما لم يدخل في ضمانه، فهو بيع فاسد أيضا لا يقع به فوت ما لم يجد المبتاع؛ وهو قوله في هذه الرواية؛ والقولان قائمان من كتاب العيوب من المدونة؛ لأنه لم يجعل فيه البيع الصحيح قبل القبض تفويتا للبيع الفاسد، وجعل الهبة فيه تفويتا له؛ وإذا فوته بالهبة، فأحرى أن يفوته بالبيع؛ فدل على أن ذلك اختلاف من القول؛ فقوله في هذه الرواية إن لصاحبها عدد الثمرة، معناه إذا جدها المبتاع الذي اشتراها بعد أن بدا صلاحها ثمرا؛ لأنه إذا لم يجعل البيع فيها بعد أن بدا صلاحها فوتا، من أجل أنه باعها قبل أن تجب له وتدخل في ضمانه؛ وجب أن ترد إلى البائع الأول إن كانت قائمة، أو مكيلتها إن كانت فاتت أو تلفت بعد الجد، وتنفسخ فيه البيعتان جميعا. وقوله حين يبدو صلاحها لا وجه له؛ لأن المكيلة لا تجب عليه ببدو صلاحها، إنما تجب عليه بجده إياها بعد ذلك تمرا؛ ولأن المكيلة لا تختلف باختلاف الأوقات، وإنما تختلف باختلاف القيمة على القول بأن البيع فوت؛ فقيل إن القيمة تكون فيها يوم البيع، وقيل يوم بدو الصلاح فيها؛ وقد مضى القول في(7/254)
ذلك، وأنه ليس باختلاف من القول، والله أعلم. وقوله ولا يأخذ إلا ثمرا، معناه أنه ليس له أن يأخذ إلا ثمرا إذا كان قد جدها ثمرا؛ لأنه هو الواجب له عليه؛ ولو تراضيا على ما سوى التمر، لجاز له أن يأخذ منه كل ما يجوز له أن يبيع به التمر، كمن استهلك لرجل تمرا. وقوله وإن تلفت لم يأخذ الأول من آخذ الثمرة المبتاع شيئا، معناه إن تلفت في رؤوس النخيل قبل أن تجد وإن يبست، ومثله في كتاب ابن المواز؛ وهو صحيح على قياس قوله إن البيع فيها ليس بفوت، فتكون المصيبة فيها إن تلفت في رؤوس النخل من البائع الأول، وتنفسخ البيعتان جميعا.
[مسألة: البزاز يشترى منه الثوب فيأمر بعض قومته بدفعه إلى المبتاع]
مسألة قال مالك في البزاز يشترى منه الثوب فيأمر بعض قومته بدفعه إلى المبتاع، ثم يقول بعد انصراف المبتاع إن الثوب الذي دفع إليك ليس بالثوب الذي بعتك، أو كان هو دفعه إليه؛ قال إذا كان أمر بدفعه، ثم زعم أنه ليس الذي باع، حلف بالله ورد عليه الثوب؛ وإن كان هو الذي دفعه إليه، فإني أرى قوله باطلا ما لم يأت مع قوله أمر معروف من رشم أكثر مما باع به، أو شهادة قوم قاسموه، أو عرفوا ما قام به عليه؛ فإن جاء بشيء من ذلك، رأيت أن يحلف ويرد عليه الثوب، وهو رأي ابن القاسم، وقد سمع بعض هذه المسألة.
قال محمد بن رشد: أما الذي باع الثوب من الرجل، فأمر بعض قومته أن يدفعه إليه فدفعه إليه، ثم زعم البائع أنه ليس هو الثوب الذي باعه إياه؛ فلا اختلاف في أن القول قوله مع يمينه أنه ليس هو الثوب الذي(7/255)
باعه إياه، وأنه هذا الثوب المثوب الذي زعم أنه هو الذي باعه منه؛ فإن حلف على ذلك، أخذ الثوب الذي زعم أنه لم يبعه إياه، ودفع إليه الثوب الذي زعم أنه باعه منه؛ فإن نكل عن اليمين، لم يكن له شيء إذا كان المبتاع لا يكذب البائع فيما ادعى ولا يصدقه، وأما إن كذبه المبتاع، فقال بل هو الذي بعتني، فإنهما يحلفان جميعا؛ فإن حلفا لم يكن بينهما بيع في واحد من الثوبين؛ وكذلك إن نكلا؛ وإن نكل أحدهما وحلف الآخر، كان القول قول الحالف منهما إن كان البائع هو الذي حلف؛ ألزم المبتاع الثوب الذي زعم أنه باعه منه، وأخذ الثوب الذي دفع إليه قيمته؛ وإن كان المبتاع هو الذي حلف، أخذ الثوب الذي دفع إليه القيمة ولم يلزمه الآخر؛ وكذلك لو أمر التاجر بعض قومته أن يري الرجل ثوبا فأراه إياه، ثم باعه منه التاجر على تلك الرؤية، ادعى أنه ليس هو الثوب الذي أمره أن يريه إياه؛ فالقول قول التاجر مع يمينه يحلف ويأخذ ثوبه، فإن نكل عن اليمين لزمه البيع فيه، وأما إذا باعه الثوب ثم دفعه هو إليه وادعى أنه غلط، فإن لم تكن له شبهة من رشم ولا شيء لم يصدق، وإن كانت له شبهة، فعلى ما مضى القول فيها إذا دفعه إليه وكيله في الوجوه كلهاة وأما إذا باع منه الثوب ثم ادعى أن شراءه أكثر مما باعه به منه، وأنه غلط فسه، واختلط له بغيره؛ فإن كان البيع مرابحة صدق، وإن كانت له شبهة من رشم أو شهادة، قوم على ما وقع به عليه في مقاسمة أو شبه ذلك؛ كما لو قال شراء هذه السلعة كذا، ثم أقام البينة أن شراءها كان أكثر من ذلك، أو استدل على صدقه برشم في الثوب وما أشبه ذلك، واختلف إذا ادعى الغلط في بيع المساومة وزعم أنه اختلط له بغيره وهو ذو أثواب كثيرة، فقيل إنه بمنزلة بيع المرابحة وهو ظاهر هذه الرواية، وما في كتاب الأقضية(7/256)
من المدونة، وما في نوازل سحنون من كتاب العيوب في بعض الروايات، وما في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من هذا الكتاب محتمل، وسيأتي القول عليها إن شاء الله؛ وقيل إن البيع له لازم، ولا حجة له فيما ذكر، وإلى هذا ذهب ابن حبيب؛ وكذلك اختلف أيضا في الجهل بصفة المبيع مثل أن يبيع الحجر بالثمن اليسير وهو ياقوت، ثم يدعي أنه لم يعلم أنه ياقوت؛ وسيأتي الكلام على هذا في رسم الأقضية من سماع أشهب، وفي سماع أبي زيد؛ وأما الجهل بقيمة المبيع، فلا يعذر واحد من المتبايعين في ذلك إذا غبن في بيع المكايسة؛ هذا هو ظاهر المذهب، وقد حكى بعض البغداديين على المذهب أنه يجب الرد بالغبن إذا كان أكثر من الثلث؛ وأقام ذلك بعض الشيوخ من مسألة سماع أشهب من كتاب الرهون، وليس ذلك بصحيح؛ لأنها مسألة لها معنى من أجله وجب الرد بالغبن، وبالله التوفيق لا بغيره.
[باع ثمر حائطه واستثنى مكيلة من صنف من الثمر]
ومن كتاب قطع الشجر وسئل مالك عن رجل باع ثمر حائطه واستثنى مكيلة من صنف من الثمر، قال أكره ذلك إلا أن يكون ذلك الصنف كثيرا، مخافة أن يستوعب ما استثنى من ذلك ثمر الحائط كله أو يذهب ما سمى من ذلك، فهلك قبل أن يستوفى؛ فإذا كان الصنف الذي استثنى كثيرا مأمونا فلا بأس به؛ قال سحنون وقد قال ابن القاسم في غير هذا الكتاب: لا يجوز للبائع أن يستثني من صنف من التمر إلا ثلث ذلك الصنف فأقل، قال فإن استثنى كيلا من صنف من ثمر الحائط فكان ما استثنى من ذلك الكيل يذهب بجل ذلك(7/257)
الصنف، أو يخاف أن يستوعبه، فلا خير فيه؛ لأنه خاطره في ذلك الصنف؛ ولا ينبغي له أن يشترط كيلا من صنف من بعض ثمر الحائط، إلا ما يجوز له أن يستثني في جميع الحائط وذلك الثلث فأدنى؛ قال أصبغ وبهذا آخذ؛ قال أصبغ: ولا تبالي قل ذلك الصنف الذي استثنى منه أو كثر إذا كان الذي استثنى منه من الكيل الثلث فأقل، قال سحنون مثله، وهو قول ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: قول مالك ههنا فيمن باع ثمر حائطه وهو أصناف، فاستثنى مكيلة من صنف منه، أن ذلك مكروه عنده، إلا أن يكون ذلك الصنف الذي استثنى منه المكيلة كثيرا مأمونا؛ يفسر قوله في أول رسم من سماع أشهب؛ لأنه أطلق القول هناك في إجازة استثناء ثلث جميع ثمرة الحائط فأقل في صنف واحد منه، كان ذلك الصنف الذي استثنى منه المكيلة أقل الأصناف ثمرا أو أكثرها؛ ومعناه على ما قال ههنا إذا كان الصنف الذي استثنى منه كثيرا مأمونا وإن كان أقل أصناف الحائط؛ لأنه إذا لم يكن كثيرا مأمونا فيه فضل بين على المكيلة التي استثنى، خشي أن يستغرقه المستثنى، أو يهلك قبل أن يستوفى ذلك منه، فدخله الغرر، وهذا ليس بقياس، وإنما هو استحسان مراعاة لقول من يجيز استثناء الكيل من الجزاف قل أو كثرة والقياس قول ابن القاسم إنه لا يجوز أن يستثني من صنف من الأصناف إلا ثلث ذلك الصنف فأقل؛ لأن أكثر أهل العلم لا يجيزون استثناء الكيل من الجزاف قل أو كثر؛ ومالك وأكثر أهل المدينة يجيزونه في القليل وهو الثلث فأقل؛ فإذا لم يجز بيع الصنف الواحد مفردا باستثناء مكيلة تقع في أكثر من الثلث، وكان ذلك غررا؛ وجب أن لا يجوز إذا انضاف إليه في الصفقة أصناف غيرها لم يستثن منها شيء؛ ألا ترى أنه لا يجوز بيع العبد الآبق ولا البعير الشارد وإن انضاف(7/258)
إليه في الصفقة عبيد حضور يقع العبد الآبق في أقل من ثلث الصفقة؟ وقوله في الرواية إلا أن يكون ذلك الصنف كثيرا مخافة أن يستوعب ما استثني من ذلك ثمر الحائط كله، كلام وقع على غير تحصيل؛ وإنما أراد مخافة أن يستوعب ما استثني من ذلك ثمر ذلك الصنف كله، إذ لا يمكن أن مكيلة ثلث ثمر الحائط أو أقل من ثلث ثمر الحائط كله، وإنما يمكن أن يستوعب ذلك ثمر الصنف الذي استثناها منه فهو الذي أراد، وبالله التوفيق.
[الأمة تشترى على أن يعتقها الذي اشتراها بشرط أو عدة]
ومن كتاب القبلة قال مالك في الأمة تشترى على أن يعتقها الذي اشتراها بشرط أو عدة، فيحبسها يطأها أو يستخدمها، ثم أعتقها بعد، أو مات السيد أو الأمة قبل أن يعتقها؛ قال إن كان ذلك بغير علم البائع ولا رضاه، فعليه قدر ما نقص ذلك الشرط من ثمنها يوم بيعت للبائع؛ وإن كان قد علم بذلك البائع فأقر بذلك أو رضي، فذلك جائز للمبتاع ولا شيء عليه؛ وإن علم به قبل أن يفوت العبد، رأيت أن البائع إن أحب أن يسترجع عبده أو يدعه فذلك له.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه المسألة مبني على ما في كتاب البيوع الفاسدة من المدونة من أن الشراء على العتق جائز، ولا يلزم المشتري العتق؛ فإن لم يعتق، كان للبائع أن يرد البيع، وينبغي على قياس قوله ألا يجوز النقد فيه بشرط؛ لأنه إن لم يعتق واسترد البائع عبده، رجع إلى المبتاع الثمن الذي نقده؛ فكان مرة بيعا، ومرة سلفا؛ وإنما يجوز النقد فيه بشرط على مذهب أشهب الذي يلزم المبتاع العتق، ويرى البيع باتا وهو أظهر؛ لأن العتق إذا لم يكن في اشتراطه غرر، وجب أن يلزم المبتاع بالشرط؛ والأصل في جواز البيع بشرط العتق «حديث بريرة، وما روي فيه من أنها جاءت تستعين عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقالت لها عائشة: إن(7/259)
أحب أهلك أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة وأعتقك، فعلت؛ فذكرت ذلك بريرة لأهلها، فقالوا: لا، إلا أن يكون لنا ولاؤك؛ فذكرت ذلك عائشة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: اشتريها وأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق» . فأباح لها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شراءها للعتق، إذ كانت قد عجزت عن كتابتها، وحكم أن الولاء لها وإن كان أهلها إنما باعوها منها على أن تعتقها. ومساواته في الرواية بين الشرط والعدة صحيح، لتساويها جميعا في المعنى؛ لأن الشرط هو أن يقول البائع للمبتاع أبيعها منك بكذا وكذا على أن تعتقها، والعدة هي أن يقول المبتاع للبائع بعها مني وأنا أعتقها، أو بعها مني بكذا وكذا وأنا أعتقها؛ وإذا قال ذلك المبتاع للبائع، فباعه البائع على ما وعده؛ فكأنه قد اشترطه إذا لم يبعه إلا على ما وعده؛ فصار التمليك ثمنا للعدة، فوجب أن يلزم؛ وقد قيل إن العدة بخلاف الشرط، فلا تلزم المبتاع ولا يكون للبائع في ذلك كلام؛ وعلى هذا يأتي ما حكى ابن حبيب عن مالك من رواية مطرف عنه في الرجل يقول للرجل بعني جاريتك فلانة أتخذها أم ولد فباعه، أنه لا مكروه فيه؛ وهو إن شاء باع، وإن شاء اتخذ حتى يكون شرطا؛ مثل أن يقول بعنيها على أن أتخذها؛ أو يقول له بائعها أبيعكها على أن تتخذها، فيكون بيعا مكروها. وقوله فعليه قدر ما نقص ذلك الشرط من ثمنها في الذي أعتقها بعد أن حبسها يطقها ويستخدمها، أو مات السيد أو الأمة قبل أن يعتقها؛ يريد بعد أن حبسها يطقها ويستخدمها؛ لأنها لو ماتت بقرب شرائه، لم يكن للبائع رجوع على المشتري؛ كذلك وقع في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ، وفي العتق من كتاب ابن المواز، ولو مات السيد المشتري بقرب شرائه أيضا(7/260)
ولم تفت الأمة، لوجب أن يكون ورثته بمنزلته، يخيرون بين أن يعتقوا أو يردوا؛ ووجه العمل في التوصل إلى معرفة قدر ما نقص ذلك الشرط من ثمنها، أن تقوم يوم بيعت بغير شرط العتق؛ فإن كانت قيمتها على هذا مائة في التمثيل، قومت أيضا بشرط العتق، فإن كانت قيمتها على هذا تسعين في التمثيل، رجع البائع على المبتاع بعشر الثمن كان أقل من مائة أو أكثر؛ وهذا خلاف ما في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ؛ لأنه قال فيه إن المشتري يغرم للبائع إذا فات عنده فواتا بعيدا بالعيوب المفسدة، والنقصان المتفاحش، والزيادة المتباينة، ما نقص من قيمته يوم اشترائه، إلا أن يتقارب ذلك؛ فإن كان قيمته على رواية أصبغ هذه يوم اشتراه بغير شرط العتق قريبة من الثمن الذي اشتراه به، لم يكن للبائع على المشتري شيء؛ وإن كانت قيمته أكثر من الثمن بكثير، رجع عليه بما زادت القيمة على الثمن الذي اشتراه؛ وقول مالك أصح في المعنى من رواية أصبغ؛ لأن البيع قد يكون بمثل القيمة وأقل وأكثر، فيمضي العتق على من وقع عليه منهما؛ وإنما قال إن عليه قدر ما نقص ذلك الشرط من قيمتها إذا كان أعتقها بعد أن حبسها يطقها ويستخدمها؛ لأنه إذا فعل ذلك فلم يتم للبائع ما قصده بشرطه من تعجيل عتقها، إذ إنما أعتقها لنفسه بعد أن قضى وطره منها؛ فعلى قياس هذا لو كان عتقه لها في عتق واجب عليه، لوجب أن يجزيه؛ وكذلك لو أعتقها بعد أن تفوت عنده بالعيوب المفسدة؛ وإذا علم البائع أن المبتاع لم يعتق وأنه يطأ ويستخدم فأقر بذلك ورضي به، فلا اختلاف في أن ذلك جائز للمبتاع، ولا شيء عليه كما قال؛ وسكوته مع علمه بوطء البائع واستخدامه رضى، ولا يدخل في هذا عندي الاختلاف في السكوت هل هو إذن أم لا على ما يأتي في كثير من مسائلهم. وقوله: وإن علم به قبل أن يفوت العبد، رأيت أن البائع إن أحب أن يسترجع عبده أو يدعه فذلك له فيه تفصيل؛ أما إذ علم أن(7/261)
المبتاع لم يعتقه بحدثان البيع قبل أن يفوت، فليس له إلا ما قال، وأما إذا علم بذلك بعد أن طال الأمر والمبتاع يطأ ويستخدم، فهو مخير بين أن يسترجع عبده أو يدعه له ويرجع عليه بقدر ما نقص الشرط من ثمنه على التفسير الذي ذكرناه؛ أما إذا فات فليس له أن يسترجعه، وإنما له أن يرجع عليه بما نقص الشرط من الثمن، أو ببقية القيمة على رواية أصبغ؛ ولا يفوت إلا بالعيوب المفسدة، كذلك في رواية أصبغ؛ وقد قيل إنه يفوت بحوالة الأسواق وهو بعيد؛ لأنه ليس ببيع فاسد.
[مسألة: ابتاع طعاما كيلا فحمله إلى بعض البلدان أو حبسه عنده]
مسألة قال مالك فيمن ابتاع طعاما كيلا، فحمله إلى بعض البلدان أو حبسه عنده، أو باع منه طائفة كيلا، ثم أراد أن يبيع ما بقي جزافا؛ لأنه لا يدري ما حدث فيه من السرقة أو النقصان، قال: لا يبيعه جزافا حتى يكون هو والمشتري فيه سواء، مثل أن يكون للرجل طعام وقد علم كيله فيخرج منه كيلا كثيرا، وينسى ما أخرج، فلا يدري ما أخرج ولا ما بقي؛ أو يخرج منه جزافا كثيرا لا يدري كم بقي منه، فليبعه جزافا إن شاء؛ فأما أن يخرج من الطعام الكثير إردبا أو إردبين، ثم ينسى ذلك فلا يحفظ، أو يخرج قدر ذلك جزافا كثيرا فلا أرى أن يبيع ما بقي جزافا حتى يبين ذلك للمبتاع؛ لأنه كان يعلم ما فيه، إذ لم يخرج منه إلا نحو هذا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال لا إشكال فيه؛ لأن(7/262)
بيع الجزاف فيما يتأتى فيه الوزن أو الكيل غرر، إلا أن السنة قد جوزته لمشقة مئونة الكيل أو العدد فيما في عده مئونة؛ وما جاز فيه المجهول، فمن شرط جوازه استواء المتبايعين في الجهل؛ لأنه متى علم أحدهما وجهل الآخر، كان الذي علم قد قصد إلى خديعة الذي جهل؛ إذ لم يعلمه من ذلك أن الجعل الذي يجوز فيه المجهول على طلب الأباق وحفر الآبار، لا يجوز في ذلك المجاعلة إذا كان أحدهما دون الآخر قد خبر الأرض أو عرف موضع العبد؛ ومن ذلك مسألة كتاب الشفعة من المدونة في الرجل يدعي على الرجل حقا في دار، فيصالحه عليه ولا يسميه؛ فقال إن ذلك لا يجوز إلا أن يكونا لا يعرفان ذلك جميعا؛ فإذا أخرج صاحب الطعام من طعامه الذي يعرف كيله جزافا يسيرا أو كيلا يسيرا، ونسي حقيقته؛ فلا يجوز، أن يباع الباقي جزافا، إلا أن يعلمه بما علم من كيله، بقدر الذي ظن أنه أخرجه منه جزافا أو كيلا، حتى يستويا جميعا في المعرفة بقدره؛ فإن لم يفعل وكتمه ذلك لم يجز؛ لأنه وإن لم يعرف حقيقة كيله فهو عالم بقدره، والمبتاع جاهل بذلك؛ والحكم فيه إن وقع حكم الغش، لا حكم البيع الفاسد؛ لأن الفساد فيه إنما هو من أحد المتبايعين وهو البائع، فيكون المبتاع بالخيار بين أن يمسك بجميع الثمن أو يرد؛ فإن فات الطعام، كان عليه قيمة خرص مكيلته؛ إلا أن يكون ذلك أكثر من الثمن الذي اشتراه به، فلا يزاد البائع على الثمن، وقد قال ابن حبيب إن سبيله سبيل العيوب، ومعناه في القيام؛ ولو علم البائع كيل الطعام فقال له المبتاع: أنا أشتريه منك جزافا وإن كنت قد علمت كيله، لكان البيع فاسدا يفسخ على كل حال في القيام، ويكون عليه خرص مكيلته بالغة ما بلغت في الفوات، لاتفاقهما جميعا على الفساد؛ ولو أراد المبتاع أن يصدق البائع في كيل الطعام ويرد مثله، لا نبغي ألا يجوز ذلك على(7/263)
أصولهم كالاقتغاء من ثمن الطعام طعاما، وقد حكى الفضل عن يحيى بن سعيد وسحنون إجازة البيع وهو بعيد.
[مسألة: ابتاع سلعة على أن لا يبيعها ولا يهبها]
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالكا يقول من ابتاع سلعة على أن لا يبيعها ولا يهبها، قال: لا أحب هذا الشرط يقع في بيع.
قال محمد بن رشد: كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - البيع على هذا الشرط، فقال: لا أحبه، ولم يجب الحكم فيه إذا وقع؛ وقد اختلف فيه وفيما أشبهه من الشروط التي تقتضي التحجير على المشتري فيما اشترى، ولا يوجب غررا ولا فسادا في الثمن ولا في المثمون؛ مثل أن يبيعه الجارية على أن يتخذها أم ولد، أو على أن لا يخرجها من البلد، أو على أن لا يجيزها البحر، أو على أن لا يعزل عنها، أو على إن باعها فهو أحق بها بالثمن الذي يبيعها به؛ وما أشبه ذلك من الشروط على قولين، أحدهما وهو المشهور أن البائع بالخيار ما كانت السلعة قائمة بين أن يترك الشرط أو ينقض البيع؛ فإن فاتت، قيل بما يفوت به البيع الفاسد من حوالة الأسواق فما زاد، وقيل بالنقصان والنماء فما زاد مضى البيع، وكان على المبتاع القيمة؛ إلا أن يكون بأقل من الثمن، فلا ينقص المبتاع من الثمن شيئا، ولا يكون للبائع عليه في الشرط شيء؛ وقيل إن البيع يمضي إذا فاتت ويرجع البائع على المبتاع بقدر ما نقصه من الثمن بسبب(7/264)
الشرط، وذلك بأن تقوم السلعة بالشرط وبغير الشرط، فيرجع البائع على المبتاع باسم ما بين القيمتين من الثمن؛ ولا يجوز للمبتاع أن يطأ حتى يوقف البائع، فيترك الشرط، ويمضي البيع، وهو تأويل قول عمر بن الخطاب لعبد الله بن مسعود في الجارية التي ابتاعها من امرأته، على أنه إن باعها أحق بها بالثمن؛ وقد قيل تأويل لا يقربها، وفيها شرط لأحد، أي لا يبيعها وفيها شرط لأحد، وهو قول ابن حبيب، والتأويل الأول أظهر؛ لأن ظاهر الحديث أنه إنما سأله بعد أن يبتاعها، لا مستشيرا له في ابتياعها، ففي الحديث حجة لهذا القول.
والقول الثاني: أن حكم هذه البيوع كلها حكم البيع الفاسد، يفسخ على كل حال في القيام، وتكون فيه القيمة بالغة ما بلغت في الفوات؛ والبيع على السلف جائز على هذين القولين، يفسخ على القول الواحد، وإن رضي مشترط السلف بتركه، إلا أن يفوت فيصحح بالقيمة بالغة ما بلغت، ويفسخ على القول الثاني، وهو المشهور ما دام البائع متمسكا بشرطه؛ فإن ترك السلف صح البيع، إلا أن يفوت، فيكون فيه الأكثر من القيمة، أو الثمن إن كان البائع هو مشترط السلف، أو الأقل من القيمة؛ أو الثمن إن كان المشتري هو مشترط السلف؛ وقيل: إنه يكون فيه الأكثر من القيمة أو الثمن، ما لم تكن القيمة أكثر من الثمن والسلف؛ وإن كان البائع هو مشترط السلف، والأقل من القيمة أو الثمن، ما لم تكن القيمة أقل من الثمن بعد أن يطرح منه السلف إن كان المشتري هو مشترط السلف، وهو قول أصبغ؛ وقيل: إنه يرجع مشترط السلف منهما على صاحبه، بقدر ما نقصه بسبب الشرط، وهذا القول يتخرج على قياس ما ذكرناه في بيع الشرط على أحد الأقوال، وقد ذكرنا ذلك في سماع يحيى من كتاب السلم والآجال؛ فهذا حكم هذا الباب، إلا في مسألتين لا يجوز للبائع فيهما إمضاء البيع على ترك الشرط، فيكون حكمها حكم البيع الفاسد، يفسخ في القيام، وتكون القيمة فيه في الفوات بالغة ما بلغت؛ إحداهما: أن يبيع الرجل من(7/265)
الرجل الأمة على أن لا يطأها، فإن فعل فهي حرة، أو عليه كذا وكذا، وما أشبه هذا؛ فهذا يفسخ على كل على حال حكم البيع الفاسد، ولا يكون للبائع أن يترك الشرط من أجل أنها يمين قد لزمت المبتاع، فليس له أن يسقطها عنه على ما يأتي في رسم العشور، من سماع عيسى؛ والثانية: أن يشتري الرجل السلعة بثمن معلوم، ويشترط أحد المتبايعين على صاحبه الخيار فيها إلى أجل بعيد؛ فهذا أيضا يفسخ ولا يكون لمشترط الخيار منهما أن يبطل الشرط، ويمضي البيع؛ لأن ذلك يعد منه تجويز الشرط، لا إبطالا له؛ لأنه يقول: لي الخيار في أن أرد أو أجيز، فأنا أجيز.
وقد روي عن ابن القاسم أنه فرّق بين أن يبيع الرجل الرجل السلعة، على أن لا يبيع ولا يهب، وما أشبهه من الشروط؛ وبين أن يبيعه إياها على أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن، فجعل البيع في الذي باع على أنه أحق بها بالثمن إن باع بيعا فاسدا يفسخ على كل حال؛ وإن رضي البائع بترك الشرط بخلاف الذي يبيع على تلك الشروط؛ وأجاز ابن وهب أن يبيع الرجل العبد على أن يخرجه إلى الشام، ولم يجز أن يبيعه إياه على أن لا يبيعه إلا بالشام، والوجهان على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك سواء؛ وقد روى ابن وهب، وعلي بن زياد، عن مالك في الذي يبتاع الجارية على ألا يبيعها فباعها، أن بيعه ينقض، يريد فيفسخ البيع؛ فلم ير على هذه الرواية البيع فوتا.
وقال سحنون: هو فوت بمنزلة البيع الفاسد؛ لأنه إنما باع ما قد ضمن، فيمضي البيع، ويرجعان فيه إلى القيمة؛ وإذا باع على ألا يبيع إلا من فلان، فهو بمنزلة إذا باع على ألا يبيع؛ وأجاز ابن القاسم البيع على ألا يبيع من فلان في رسم باع شاة، من سماع عيسى، من كتاب الدعوى والصلح، وكرهه أصبغ في الواضحة، واتفقا على كراهة البيع، على ألا يبيع ممن يضر بالبائع؛ وأما البيع على أنه متى جاء بالثمن، فهو أحق به، فليس من هذا المعنى؛ وسيأتي القول فيه في أول رسم، من سماع أشهب.(7/266)
[مسألة: ابتاع سلعة على أنه إن وجد ثمنه قضاه]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول: من ابتاع سلعة على أنه إن وجد ثمنه قضاه، وإن هلك ولا شيء عنده، فلا شيء عليه وهو في حل؛ قال: ما أحب هذا من الشروط، قال ابن القاسم: فإن وقع هذا الشرط وفات، لزمه قيمتها يوم قبضها.
قال محمد بن رشد: هذا الشرط من الشروط التي يفسد بها البيع؛ لأنه غرر؛ إذ لا يدري البائع هل ينض له الثمن أم لا ينض، فلا يدخل فيه من الاختلاف ما دخل في المسألة التي قبلها، فالحكم فيه أن يفسخ البيع في قيام السلعة شاءا أو أبيا؛ ويصحح في فواتها بالقيمة بالغة ما بلغت، وهو ظاهر قول ابن القاسم، وتفسير لقول مالك؛ إذ قد يقول كثيرا فيما لا يصح عنده ولا يجوز، ويجب فيه الفسخ: لا أحب هذا، وأكره هذا وما أشبهه من الألفاظ، فيكتفي بذلك من قوله، ويتناهى به من فعله، وبالله التوفيق.
[بيع الجلود قبل أن تذبح]
ومن كتاب أوله سلعة سماها وسئل عن بيع الجلود قبل أن تذبح، قال: ما هو عندي بالحرام البين، وما يعجبني ذلك؛ وعسى أن يكون خفيفا، وما هو بالمكروه.
قال محمد بن رشد: هذا كلام متعارض أوله مخالف لآخره، فهو اختلاف من قوله مرة لم يجزه؛ فقال: ما يعجبني، وما هو عندي بالحرام البين، وهو نص قول ابن القاسم في العشرة؛ فعلى هذا القول يفسخ البيع إن وقع، فإن فات بقبض المشتري للجلد، وفواته عنده بما تفوت به البيوع(7/267)
الفاسدة صحيح بالقيمة؛ ومرة أجازه فقال: ما هو بالمكروه، وعسى أن يكون خفيفا؛ وهو دليل قوله في المدونة في السباع إن كانت تشترى وتذكى لجلودها، فلا بأس به؛ فعلى القول ألا يفسخ البيع إن وقع؛ وإن كره البائع ذبح الشاة أو البقرة، وأراد استحياءها؛ يخرج ذلك على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك ليس له، ويجبر على الذبح. والثاني: أن ذلك له، ويعطي المشتري شراء الجلد أو قيمته. والثالث: أن ذلك له، ويكونان شريكين فيها بقيمة الجلد من جميع قيمتها، ولا يكون له أن يعطي المشتري شراء الجلد أو قيمته إلا برضاه.
وقد روي عن ابن القاسم: أن البيع يفسخ، إلا أن يفوت الجلد فلا يفسخ، فجعله على هذا القول من البيوع المكروهة للاختلاف فيه؛ وقد اختلف في البيع المكروه إذا وقع كالزرع يباع إذا أفرك قبل أن ييبس، فقيل: إن العقد فيه فوت، وقيل: إن اليبس فيه فوت. وقيل: إن القبض فيه فوت.
وقيل: إنه لا يفوت إلا بفواته بعد القبض؛ فكل هذه الأقوال تدخل في شراء الجلود قبل أن تذبح، ويتحصل فيها ستة أقوال؛ أحدها: أن شراءها جائز. والثاني: أن شراءها مكروه، وإن وقع مضى بالثمن. والثالث: أن شراءها مكروه ويفسخ، إلا أن يذبح البائع الشاة، فيمضي البيع بالثمن. والرابع: أن شراءها مكروه ويفسخ، إلا أن يقبض المبتاع الجلد بعد ذبحه، فلا يفسخ ويمضي بالثمن. والخامس: أن شراءها مكروه ويفسخ، إلا أن يقبض المبتاع الجلد، ويفوت عنده، فلا يفسخ ويمضي بالثمن. والسادس: أن شراءها لا يجوز ويفسخ، فإن قبض المشتري الجلد، وفات عنده صحح بالقيمة؛ ولو اشتراها على أنه بالخيار فيها إذا ذبحها ونظر إليها؛ لجاز إن لم ينقد، قاله مالك في كتاب ابن المواز، وهو صحيح على أصوله.(7/268)
[مسألة: النخاسين الذين يبيعون الرقيق والدواب]
مسألة وسئل عن النخاسين الذين يبيعون الرقيق والدواب، يأتي الرجل إليهم، فيسوم أحدهم بالرأس أو بالدابة، فيقول له السائم بثلاثين دينارا، أو بعشرين دينارا، فيماكسه حتى يقف على ثمن لا يزيده على هذا الكلام، ولا يقول له البائع: إن رضيت فخذ، ولا يزيد على أن يقول: هي بكذا وكذا دينارا؛ فيقول السائم: اذهب بها فاستشير فيها؛ فيقول: نعم، فاذهب بها واستشر فيها، ولا يزيده السائم على ذلك من القول، فيرضى بها فيأتيه بالثمن؛ فيقول البائع: قد بدا لي وما كان بيني وبينك إلا مساومة، أو يقول: قد زيد عليه فيها، فبعتها من غيرك؛ قال مالك: لا أرى ذلك له، وأراه بيعا نافذا عليه إن رضيه الذي ساومه، وليس له أن ينزع عن ذلك؛ وإني لأرى هذا يدخله ما نهي عنه ألا يبيع أحدكم على بيع أخيه، فلا أرى له رده، وأراه بيعا لازما إن رضيه، والثوب مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بيّنة المعنى، ليست بخلاف لما في كتاب بيع الغرر من المدونة، ولا لما في سماع أشهب من هذا الكتاب، ومن كتاب البيوع؛ لأن قول البائع فيها للمبتاع: اذهب بها فاستشر فيها، دليل على أنه قد أوجب البيع على نفسه، وجعل الخيار فيه(7/269)
للمبتاع، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب العيوب، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك.
[مسألة: الثمر تباع وزنا فيطول ذلك عليهم]
مسألة وسئل عن الثمر تباع وزنا فيطول ذلك عليهم، فيقول البائع: إن الوزن يطول علينا، وفي الويبة كذا كَذا رطلا، فخذ أكل لك بها، وأحاسبك على الأرطال؛ قال: إن كان ذلك مستقيما معروفا عند الناس، فلا بأس بذلك، قلت: فالرجل يبتاع بالويبة الطعام المضمون إلى أجل، فلا يحل حقه حتى يأتي وأبى، فيحدث ويبات أخر، وتغيب تلك الويبات، فيقول له الرجل: تعال أكل له بهذه الويبة المحدثة، والذي بينهما معروف، إنما زيد فيها كذا وكذا، فيكيل له ويحاسبه بفضل ما بينهما؛ قال: إن كان ذلك أمرا معروفا، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هاتان مسألتان صحيحتان بينتا المعنى، أجاز في الأولى منهما أن يأخذ ما وجب له من الوزن بالكيل إذا كان معروفا عند الناس ما يدخل في الكيل من الوزن، وكان الكيل أخف عليهم من الوزن، كما أجاز في المدونة أن يأخذ ما وجب له من الكيل بالوزن إذا كان ما يدخل في الوزن من الكيل معروفا لا يختلف، وكان الوزن أخف عليهم من الكيل؛ فلا إشكال في جواز ذلك؛ إذ لا غرر في انتقالهم عن الوزن إلى الكيل، ولا عن الكيل إلى الوزن، إذا عرف قدر كل واحد منهما من صاحبه؛ وكذلك ما العرف فيه أن يباع بالمكيل، فجائز أن يشتري بالوزن إذا كان يعرف الكيل من الوزن؛ وما العرف فيه أن يباع بالوزن، فجائز أن(7/270)
يبتاع بالكيل إذا كان يعرف الوزن من الكيل، وإن كان لا يعرف ذلك فلا يجوز، وهو قول أشهب في كتاب البيوع الفاسدة من المدونة، ولا اختلاف فيه؛ وأما المسألة الثانية فإنها أبين؛ لأنه إنما انتقل من كيل إلى كيل، فإذا عرف ما بين الكيلين، جاز أن يقتضي بكل واحد منهما ما وجب من الآخر، ويحاسبه بما بينهما؛ كمن وجب له على رجل كيل، فلم يجد عند القضاء إلا ربع كيل، فجائز له أن يأخذ حقه به، فيكيل له منه أربعا.
[مسألة: يبيع نصف الوصيفة أو نصف الدابة من الرجل ويشترط عليه نفقتها سنة]
مسألة وسئل عن الرجل يبيع نصف الوصيفة، أو نصف الدابة من الرجل، ويشترط عليه نفقتها سنة، وأن له عليه إن ماتت الدابة أخذ ذلك منه؛ فإن باعها أو ماتت، فذلك له عليه ثابتا: وإن بقيت إلى ذلك، فهو حقه استوفاه منه؛ فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة على نصها في رسم خلف، من سماع ابن القاسم، من كتاب السلطان، ووصل بها أن سحنون أنكرها؛ والمعنى عندي في مخالفة سحنون لمالك فيها، أن مالكا محل قوله: وأن له عليه - إن ماتت الدابة - أخذ ذلك منه ثابتا على أنه يأتيه في كل يوم من الطعام، مما كان ينفق عليها، إلى أن تنقضي السنة، فأجاز ذلك؛(7/271)
إذ لا وجه للكراهة فيه على هذا الوجه؛ لأنه باع منه نصف الوصيفة، أو نصف الدابة بثمن مسمى؛ ونفقة معلومة يستوفيها في كل يوم إلى انقضاء السنة؛ كانت الوصيفة أو الدابة باقية أو لم تكن؛ لأن العرف فيها كالصفة لها على ما في المدونة وغيرها من إجازة استئجار الأجير بالنفقة، وإن لم توصف؛ وحمل سحنون قوله أخذ ذلك منه على أنه يأخذ منه إن ماتت الدابة أو الوصيفة ما بقي من النفقة حالا أو قيمة ذلك، فأنكر جوازه لما فيه من الغرر على هذا؛ ولو وقع الأمر على أحد الوجهين بنص، احتمال فيه، لارتفع الخلاف؛ ولو باع منه نصف الوصيفة، أو نصف الدابة واشترط عليه نفقتها سنة، ولم يزيدا على ذلك، لوجب أن يجوز ذلك على معنى ما في المدونة في الرجل يبيع من الرجل نصف الثوب أو نصف الدابة، على أن يبيع له النصف الآخر إلى شهر؛ وعلى ما في أول رسم البراءة، من سماع عيسى، بعد هذا من هذا الكتاب؛ فإن ماتت الدابة أو الوصيفة قبل السنة، رجع البائع على المبتاع في قيمة النصف الذي باعه منها يوم باعه، لفواته بالموت بقدر ما يقع ما بقي من النفقة من جميع الثمن؛ لأن البائع باع نصف الوصيفة بما سمى من الثمن، وبالنفقة على نصفها الذي لم يبعه في السنة ديناران؛ فأنفق عليه نصف السنة، ثم ماتت، وجب أن يرجع البائع على المبتاع بنصف سدس قيمة النصف الذي باعه منها يوم باعه؛ لفواته بالموت، كان أقل من دينار أو أكثر.
كما لو باع منه نصف الجارية بعشرة دنانير، وعرض قيمته ديناران، فاستحق نصفه؛ لأن ما بطل من النفقة بموت الوصيفة كاستحقاق بعض الثمن وهو عرض؛ وقد قيل: إنه لا يرجع عليه بشيء، وهو الذي يأتي على ما في العشرة لابن القاسم، في الذي يبيع الأمة وقد أعتق ولدا لها صغيرا، فاشترط نفقته على المشتري حتى يثغر، ويستغني(7/272)
عن أمه، فيموت قبل ذلك، أن المشتري لا يتبع بشيء؛ لأنه إنما أريد بهذا الشرط كفاية مئونة الصبي، ولم يطالب به التزايد في الثمن، وهو بعيد.
[مسألة: يقف بجاريته أو بغلامه في السوق فيبيعه بثمن]
مسألة وسئل عن الذي يقف بجاريته أو بغلامه في السوق، فيبيعه بثمن، ونقد أصحاب الرقيق المثاقيل؛ فإذا وجب البيع بينهما، قال له المشتري: تعال أنقدك، قال: ما هو؟ قال: نقد الرقيق المثاقيل، قال: ما بعتكها إلا بالقائمة، قال مالك: ما أرى له إلا المثاقيل، ولو شاء لبين قبل أن يبيع، وأرى هذا ندما منه، يبيع ثم يقول: إنما بعت بوزن كذا وكذا، فقال له رجل: إن الرجل ربما باع بالقائمة؛ قال: لا ينظر إلى الرجل الخاص، فيحمل عليه أمر الناس، ولكن يعملان على ما يتبايعون عليه، ولو شاء لبين.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال؛ لأن العرف كالشرط؛ ولو ادعى المبتاع أنه بالقائمة شرط على البائع، ألزمت البائع اليمين أنه ما شرط عليه شيئا، فإن نكل عن اليمين، حلف المبتاع وأخذ القائمة، ولو اختلفا فقال البائع: إنما بعتك بالقائمة نصا وشرطا، وقال المشتري: إنما اشتريت منك بالمثاقيل نصا وشرطا؛ لكان القول أيضا قول المشتري الذي ادعى نقد الرقيق، ما حكى ابن حبيب في الواضحة. وقوله يأتي على مراعاة دعوى الأشباه في القيام، وهو خلاف المشهور في المذهب.
[يشتري الصبرة من الطعام جزافا بمائة دينار]
ومن كتاب أوله شك في طوافه
وسئل مالك عن الرجل يشتري الصبرة من الطعام جزافا بمائة دينار، على أن يعطيه بخمسين دينارا شعيرا من صبرة أخرى، عشر أرادب بدينار؛ فكره ذلك؛ فقيل له: أفترى أن ينهوا عن ذلك؟ فقال: نعم، أرى أن ينهوا عن ذلك؛ قال ابن القاسم: لأنه بيع الجزاف والكيل جميعا، وهو من قول مالك.(7/273)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في أول رسم من سماع عيسى، ووجه القول في هذا أن بيع الجزاف الأصل فيه أن يباع كيلا أو وزنا رخصة وتوسعة، أجازته السنة، فلا يجوز أن يباع مع مكيل في صفقة واحدة؛ لأن ذلك غرر، وخلاف لما أجازته السنة، اتفق على هذا مالك وجميع أصحابه اتفاقا مجملا، وفي ذلك تفصيل؛ أما ما الأصل فيه أن يباع كيلا أو وزنا من جميع الأشياء، فلا يجوز بيعه جزافا مع مكيل منه، ولا مما الأصل فيه أن يباع جزافا كالأرضين والثياب؛ وكذلك الجزاف مما أصله أن يباع جزافا، لا يجوز بيعه مع المكيل منه، اختلف في بيعه جزافا مع المكيل، مما أصله أن يباع كيلا؛ فأجاز ذلك ابن زرب، وأقام إجازته من السلم الأول من المدونة؛ لأنه أجاز فيه أن يسلم في ثياب وطعام صفقة واحدة؛ ومنع من ذلك غيره مع المتأخرين، وما ذهب إليه ابن زرب هو الصحيح؛ ولا خلاف في جواز بيع الكيلين في صفقة واحدة، والجزافين في صفقة واحدة، ولا في جواز بيع الجزاف مع العروض في صفقة واحدة؛ إلا عند ابن حبيب؛ فإنه ذهب إلى أن الجزاف مما أصله أن يباع كيلا أو وزنا، لا يجوز بيعه مع العروض في صفقة واحدة، وهو بعيد؛ وسيأتي في رسم البيع والصرف، من سماع أصبغ القول في بيع الجزاف والجزافين على الكيل، وما يجوز من ذلك مما لا يجوز، فهو موضعه إن شاء الله تعالى.
[مسألة: المجذوم المملوك يبيعه صاحبه]
مسألة وسئل مالك عن المجذوم المملوك، أترى أن يبيعه صاحبه؟ قال: لا بأس بذلك، قيل له: أفيكاتبه؛ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن جذامه لا يخرجه من(7/274)
ملك سيده أن يبيعه وأن يكاتبه؛ وإن لم يقدر على الكسب إلا بالسؤال، فقد أجاز في المدونة أن يكاتب الرجل عبده الذي لا حرفة له، إلا ما يسأل، فيتصدق به عليه؛ وإنما وقع السؤال عن هذا القول من يقول من أهل العلم: إن أهل البلايا الذين لا منفعة لساداتهم فيهم، يجب عتقهم عليهم؛ كما يعتق على الرجل أمته إذا حملت منه، وهي من ذوات محارمه؛ إذ لا منفعة له فيها بوطء ولا استخدام؛ والفرق بين الموضعين عند مالك، أن الإيلاد شبهة عتق كانت من سببه، حرم بها على نفسه استخدامها، فوجب أن يعتق عليه؛ بخلاف المجذوم الذي لا يقدر على الخدمة بسبب جذامه الذي هو مرض من الأمراض من عند الله لا سبب له فيه.
[مسألة: يشتري أهل السوق من الرطب من أهل الجفان من النخل]
مسألة وسئل مالك عما يشتري أهل السوق من الرطب من أهل الجفان من النخل، أترى به بأسا؟ وعن العنب الحصرم، وعن الرمان الأخضر والتفاح، وكل ذلك لم يطب، باع على أن يقطع؛ قال: لا بأس بذلك، وإنما كرهت النقش هاهنا؛ لأن ذلك مضر بالناس، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيع حاضر لباد» ؛ لضرر ذلك على الناس، وأن يتلقوا السلع؛ فكل ما أضر بالناس مثل هذا، فأرى أن يمنعوا إلا الأمصار؛ فإن فاكهتهم كثيرة، ولا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: سؤاله عما يشتري أهل الأسواق من الرطب(7/275)
من أهل الجفان من النخل، سؤال فيه التباس، لتقديم وتأخير وقع فيه، وتقديره وسئل عما يشتري أهل الأسواق من الرطب من الجفان من أهل النخل، يريد هل يجوز أن يخرج أهل السوق إلى الحوائط فيشترون من أهل النخل الجفان من الرطب؟ فأجاز ذلك، ولم يره من التلقي الذي ورد النهي فيه، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ومثله في هذا الرسم، من هذا السماع، من كتاب السلطان، وهو قوله في سماعه منه؛ قال: لا بأس بذلك؛ لأنه إنما اشترى بموضعه، وإنما التلقي أن يلتقي الجلاب بالسلع؛ فهل أن يهبط بها إلى الأسواق، كان ذلك الجلاب طعاما أو غيره؛ خلاف روايته عن مالك في السماع المذكور أن ذلك من التلقي؛ وأما شراء عنب الحصرم والرمان الأخضر والإجاص والتفاح وسائر الثمار، قبل أن تطيب على أن تقطع، فلا خلاف في جواز ذلك، وقد مضى القول فيه في أول رسم من هذا السماع؛ إلا أنه كره ذلك فيما عدا الأمصار القليلة الثمار، فأحب أن يمنع من ذلك رفقا بأهل ذلك المكان، ونظرا لهم.
كما يمنع من بيع الفتايا من البقر القوية على الحرث للذبح، نظرا للعامة، وصلاحا لهم؛ وكما كره النقش بالمدينة، نظرا للعامة؛ إذ فيه فساد للثمرة، وذلك ضرر بهم؛ فوجب أن ينظر في ذلك لهم قياسا على ما نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تلقي السلع، ومن أن يبيع حاضر لباد؛ لأن المعنى في ذلك، الرفة بأهل الحاضرة، والنظر لعامتهم؛ والنقش الذي كرهه، أن يؤثر في البشرة أثرا كالجرح، فيسرع إليها الترطيب قبل أوانه، وذلك من الغش، إن لم يبين، ومع التبيين كرهه مالك، لما فيه من إفساد الثمرة، ورأى أن يمنع أهل الحوائط من ذله، وأن يبينوا، نظرا لعامة الناس.
[مسألة: التين يباع كيلا أو وزنا وهو أخضر]
مسألة وسئل مالك عن التين يباع كيلا أو وزنا وهو أخضر، فيريد(7/276)
أن يبدله من صاحبه بغيره قبل أن يقبضه، قال: لا خير فيه، قلت: فالبطيخ يباع كذلك، أترى أن يبدل بغيره؟ قال: هو مثله لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه أراد أن يبدله بأكثر من صنفه أو من غير صنفه، أو بمثله من غير صنفه، فذلك لا يجوز؛ لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى، ولو أبدله بمثله من صنفه قبل أن يقبضه لجاز؛ لأنه بدل المثل بالمثل، ولو قبضه لجاز بدله بغير صنفه أكثر أو أقل، ولا يجوز بصنفه إلا مثلا بمثل؛ فأما البطيخ، فيجوز إذا قبضه أن يبدله بصنفه وبغير صنفه متفاضلا باتفاق؛ لأنه مما لا يدخر أصلا، وكذلك سائر الفواكه التي كانت لا تدخر إلا نادرا على المشهور في المذهب؛ لأن ابن نافع لا يجوز التفاضل في الصنف الواحد من الطعام، وإن كان لا يدخر إلا نادرا.
وكذلك لو قبض بعض ما اشترى منه من التين، ثم أراد أن يأخذ بالبقية غير التين، أو صنفا آخر من التين أقل أو أكثر، لم يجز على ماله بعد هذا في أول رسم حلف؛ ولو أراد أن ينتقل من صنف إلى صنف آخر، قبل أن ينبرم البيع بينهما، وهما في حال التراوض؛ لجاز على ما يتأول عليه ما وقع في أول رسم من سماع أشهب، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى رسم القبلة، ورسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه، من سماع ابن القاسم، من كتاب الصرف، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك، وبالله التوفيق.
[الشجرة تطعم بطنين في السنة]
ومن كتاب أوله
الشجرة تطعم بطنين في السنة
قال: وسئل مالك عن شجرة تطعم بطنين في السنة، بطنا بعد(7/277)
بطن، أفترى أن يباع البطن الآخر مع البطن الأول؛ قال: لا يباع كل بطن إلا وحده.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك هذا، أنه لا يجوز أن يباع البطن الآخر مع البطن الأول، وإن كان النبات متصلا، لا يتم البطن الأول حتى يبدأ طيب البطن الثاني، وهو على قياس ما تقدم من قوله في أول رسم من هذا السماع؛ وقد روى ابن نافع، عن مالك: أنه يجوز أن يباع البطن الآخر مع البطن الأول، إذا لم يكن بينهما فترة، كان لا ينقطع الأول حتى يدركه الثاني؛ وهو مثل ما يأتي في رسم طلق من هذا السماع، في مسألة الجميز؛ وقد مضى في أول رسم من هذا السماع تحصيل القول في هذه المسألة؛ لأن البطنين في الثمرة الواحدة كالجنسين في الصنف الواحد.
[مسألة: يشتري أصنافا من الثمر في صفقة واحدة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يشتري أصنافا من الثمر في صفقة واحدة، فيريد أن يولي صنفا منها، ويحبس ما بقي؛ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قال بعض أهل النظر في هذه المسألة: القياس ألا يجوز أن يولي صنفا من الثمر إلا بعد المعرفة بما يقع عليه من الثمن، وإنما استخفه من أجل أن التولية معروف، وليست على وجه المكايسة؛ والصحيح ألا فرق في هذه المسألة بين التولية والبيع؛ لأن ما يصيب الصنف(7/278)
المولى من الثمن، لا يعلمه المولي من الثمن ولا المولى، والجهل بالثمن في التولية إنما يجوز إذا علمه المولي وجهله المولى، وكان الخيار له على وجه المعروف؛ ولو ولاه على الإلزام له، وهو جاهل بالثمن، لم يجز؛ لأن ذلك هو وجه المكايسة إلا بعد معرفتهما جميعا بالثمن، فإذا ولاه صنفا من الثمر بما ينوبه من الثمن، وجب ألا يجوز، وإن كان على وجه المعروف، وعلى أن المولي بالخيار من أجل أن المولى قد وجبت عليه التولية، وهو جاهل بالثمن؛ فإجازته التولية في هذه المسألة إنما يخرج على القول بجواز جمع الرجلين سلعتيهما في البيع؛ لأن جملة الثمن معروف، وما يقع لكل سلعة منها لا يعلم إلا بعد التقويم؛ وكذلك هذه المسألة جملة ثمن جميع الثمر معروف، وما يقع للصنف المولى منها لا يعرف إلا بعد التقويم، فالاختلاف في جواز جمع الرجلين سلعتيهما في البيع، وفي كون المستحق من يده جل ما اشترى من السلع على العدد، مخيرا فيما بقي منها بين أن يمسكها بما ينوبها من الثمن، أو يرد ما يدخل في تولية صنف من الثمر بما ينوبه من الثمن قبل التقويم، وفي بيعه بما ينوبه من الثمن قبل التقويم دخولا واحدا؛ وهذه مثل مسألة كتاب الشفعة من المدونة في الذي يجب له الشفعة، فيصالحه المشتري على أن يأخذ بيتا من الدار بما ينوبه من الثمن.
[مسألة: يبتاع السلعة ثم يستوضع صاحبه من ثمنها]
مسألة وسئل عن الرجل يبتاع السلعة، ثم يستوضع صاحبه من ثمنها، وهو مغتبط بالسلعة، أترى ذلك له حلالا؟ قال: أما حلال فنعم، وغيره أحسن منه.(7/279)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه إن استوضع وهو مغتبط ببيعته، حلت له الوضعية، ورأى ترك ذلك أحسن؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعمر بن الخطاب: «إن خيرا لأحدكم ألا يأخذ من أحد شيئا» ، وقوله: «اليد العليا خير من اليد السفلى» .
ولم ير عليه فيه حرجا، ولا إثما، ولا ضيقا إن فعله، إذ لم يره من ناحية المسألة المنهي عنها؛ لما مضى من أمر الناس على هذا، واستجازتهم له؛ ولما أشبه ذلك من استعارة الدابة والثوب، ما لم يلح ويتضرع ويتبكى، فإن ذلك مكروه لا ينبغي؛ قال ذلك في سماع أشهب، وهو صحيح؛ لأنه إذا فعل ذلك، أشبه ألا يضع عنه طيب النفس، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» ، قال: وأما إن قال: إن لم تضع لي خاصمتك، فلا خير فيه؛ وهذا بين أن ذلك لا يحل له، ولا يجوز؛ لأنه يضع عنه مخافة مخاصمته إياه؛ فإن فعل ذلك وجب عليه أن يرد وضيعته إليه، أو يستحله منها، أو يكافئه عليها، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد أراد رجل شراءه ليعتقه تطوعا فأبى سيده]
مسألة وسئل عن عبد أراد رجل شراءه ليعتقه تطوعا، فأبى سيده أن ينقصه من خمسين، وأبى المشتري أن يعطيه إلا أربعين؛ فقال العبد للسيد بغير حضرة المشتري، ولا أعلم به لسيده: بعني ولا(7/280)
تمنعني العتق، وأنا أشهد ذلك بأني أعطيك عشرة دنانير دينا لك علي؛ فأشهد على العبد بذلك، ثم باعه من الذي عتقه بأربعين دينارا؛ وأعتقه، فعلم المشتري بذلك فأنكر عليه؛ فقال: ما أرى ما صنع جائزا، قلت له: أفترى أن يتبع العبد بالعشرة دينا، قال: لا شيء له على العبد، ويسقط عنه؛ فإذا كان ذلك بإذن المشتري وبعلمه، لزمته العشرة.
قال محمد بن رشد: أوجب على العبد لسيده ما أشهد له به على نفسه على أن يبيعه ممن يعتقه، وجعل ذلك دينا ثابتا له عليه يتبعه به إن علم بذلك المشتري، كدين ثبت له في ذمته قبل البيع؛ فقوله: إنه يسقط عنه إن لم يعلم به المشتري، هو مثل ما في رسم لم يدرك من سماع عيسى، من كتاب العيوب؛ وعلى هذا الأصل يأتي قول أصبغ في نوازله، في مسألة المجرى، وهو خلاف ما في كتاب الكفالة من المدونة في الذي يبيع عبده، وله عليه دين لم يعلم به المشتري؛ أنه لا يسقط عنه، ويكون عيبا به إن شاء أمسك، وإن شاء رد، وقد قال ابن القاسم في العشرة: إن العهدة تسقط عن الغلام، علم المشتري أو لم يعلم؛ ويكون البيع فاسدا يفسخ إن كان باع لغير عتق، إلا أن يموت فيرد إلى القيمة، يريد إن علم المشتري واشترى على هذا؛ وأما إن لم يعلم، فلا وجه لفساد البيع؛ وقد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم لم يدرك، من سماع عيسى، من كتاب العيوب.
[مسألة: يبتاع الطعام إلى أجل فيأتيه فيقتضي منه نصفه ويبقى نصفه]
مسألة وسئل عن الرجل يبتاع من الرجل الطعام إلى أجل، فيأتيه(7/281)
عند الأجل، فيقتضي منه نصفه، ويبقى نصفه، ثم يأتي بعد ذلك فيطلبه ببقية حقه، فيقول له: ما عندي قضاؤك، ولكن إن أحببت أن ترد إلي ما أعطيتك، وأرد ذهبك إليك فعلت، فقال: لا خير فيه، وقال: أكرهه؛ وسمعته قبل ذلك يقول: إن كان الذي اقتضى منه يسيرا مما له عليه، لم أر بذلك بأسا أن يرده، ويأخذ رأس ماله.
قال محمد بن رشد: قوله: يبتاع من الرجل الطعام إلى أجل، يريد يسلم في الطعام إلى أجل، ويدخل المسألة إذا تقايلا في الجميع بعد أن قبض منه بعض الطعام بمجموع البيع والإقالة: أسلفني وأسلفك؛ لأن الأمر آل بينهما إلى أن دفع المسلم إلى المسلم إليه ذهبا، فرد إليه مثله بعد قبضه وانتفع به؛ ودفع المسلم إليه إلى المسلم طعاما، فرد مثله إليه بعد أن قبضه، وغاب عليه، وانتفع به؛ فاتهمهما على القصد إلى ذلك في الكثير، واستخفه في اليسير؛ لبعد التهمة عنده في ذلك؛ ولو أقاله مما بقي؛ لما جاز في القليل ولا في الكثير؛ لأنه يدخله البيع والسلف؛ فالمكروه فيه أشد؛ لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيع وسلف، وقد مضت هذه المسألة متكررة في كتاب السلم والآجال، في رسم الحجرة، ورسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.(7/282)
[اشترى بدينار قمحا فاكتال نصفه ثم سأله أن يعطيه بالنصف الثاني زيتا]
ومن كتاب أوله
حلف بطلاق امرأته
وسئل مالك عمن اشترى بدينار قمحا، فاكتال نصفه، ثم سأله أن يعطيه بالنصف الثاني زيتا أو عدسا؛ فقال: لا خير في هذا، قال ابن القاسم: لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى؛ قال مالك: وإن كان شعيرا، فأخذ مثل كيله، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه إذا أخذ فيما بقي له من القمح زيتا أو عدسا، فقد باعه بذلك قبل أن يستوفيه، وقد مضى القول على هذا المعنى، في آخر رسم شك في طوافه مستوفى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الفول والعدس والحمص وحكم التفاضل بينهما]
مسألة قال مالك في الفول والعدس والحمص مثل ما قال في عام الأول، لا يصلح الفضل بينهما؛ وسألت ابن القاسم عن هذا فقال: لا بأس به، وبه قال أصحاب مالك كلهم.
قال محمد بن رشد: ذهب ابن القاسم، وسائر أصحاب مالك إلى أن القطاني في البيع أصناف مختلفة، واختلف قول مالك في ذلك على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها أصناف مختلفة. والثاني: أنها صنف واحد، والقولان له في الزكاة الأول من المدونة نصا، ويقومان من هاهنا بدليل.(7/283)
والقول الثالث: أن ما كان منها لا يشبه بعضه بعضا، يريد في المنفعة كالحمص والفول والترمس والكرسنة، فهي أصناف مختلفة، يجوز التفاضل فيها؛ وما كان منها يشبه بعضه بعضا كالحمص والعدس، فهو صنف واحد، وهو قوله في أول رسم من سماع أشهب، ولم يختلف قوله فيها في الزكاة أنها صنف واحد؛ وقد مضت هذه المسألة متكررة في كتاب السلم والآجال، في هذا الرسم بعينه، ومضى القول عليها هناك مستوفى.
[مسألة: يأتي إلى الحائك فيجد عنده ثوبا قد نسج جله وبقي بعضه فيشتريه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يأتي إلى الحائك فيجد عنده ثوبا قد نسج جله، وبقي بعضه، فيشتريه منه وينقده ثمن الثوب حتى ينسج الثوب؛ قال: لا خير فيه؛ لأن الثوب يختلف نسجه يكون آخره شراء من أوله، ولا أحبه؛ قال سحنون: هذه جيدة، فقس عليها ما ورد عليك.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز هذا من أجل أنه اشترى بقية الثوب على أن ينسجه البائع، فصار بيعا وإجارة في نفس الشيء المبيع، والبيع والإجار في نفس الشيء المبيع؛ إنما يجوز على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك فيما يعرف وجه خروجه، كالقمح على أن على البائع طحينه، والثوب على أن على البائع خياطته استحسانا أيضا على غير قياس؛ أو فيما لا يعرف وجه خروجه إلا أنه يمكن إعادته إلى العمل حتى يأتي على الصفة، كالفضة على أن على البائع صياغتها، أو الصفر على أن على البائع أن يعمل منه أقداحا صفة، وما أشبه ذلك؛ وأما ما لا يدرى وجه خروجه، ولا يمكن إعادته إلى العمل، إن خرج على غير الصفة، كالغزل(7/284)
على أن على البائع حياكته؛ والزيتون على أن على البائع عصره، فلا يجوز على حال؛ وسحنون: لا يجيز البيع والإجارة في نفس الشيء المبيع شيء من الأشياء، كان مما يعرف وجه خروجه أو لا يعرف؛ ولذلك قال في هذه المسألة: إنها جيدة، فقس عليها ما ورد عليك، ولا حجة له فيها من قول مالك؛ لأنه قد بين العلة فقال: لأن الثوب مختلف نسجه، يكون آخره شرا من أوله؛ فلو كانت الإجارة فيما لا يختلف، ويعرف وجه خروجه؛ لجاز ذلك على تعليله، خلاف مذهب سحنون.
[مسألة: يبيع كرمه ويستثني منه أسلالا أقل من الثلث]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يبيع كرمه، ويستثني منه أسلالا أقل من الثلث، فينفد الكرم قبل أن يستوفي الأسلال، قال: يتراضيان على ما بقي من الأسلال؛ فقيل له: أفيأخذ مكان أسلاله من غير كرمه؟ قال: نعم. قال ابن القاسم: ويتعجل السلال إذا تحول إليها، ولا يؤخرها ولا يأخذ إلا مثلها في قدرها؛ لأنه إذا أخرها كان دينا بدين.
قال محمد بن رشد: اختلف في المستثنى، هل هو مبقى على ملك للبائع، أو هو بمنزلة المشتري؟ وجواب مالك في هذه المسألة على أنه مبقى على ملك البائع، وعلى أن عنب الكرم نفذ ببيع المبتاع له؛ فصار المبتاع قد تعدى على البائع في السلال التي استثناها عليه، فأبقاها لنفسه على ملكه، فباعها في جملة ما باع من عنب الكرم؛ فوجب(7/285)
أن يكون البائع مخيرا بين أن يأخذ منه مثل السلال، أو الثمن الذي باعها به؛ فإن رضي أن يأخذ السلال، لم يجز أن يؤخره بها؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين، من أجل أنه قد كان له أن يأخذ منه الثمن، ففسخه في السلال إلى أجل، ولو كان عنب الكرم إنما نفد بالأكل والإعطاء؛ لما وجب للبائع على المبتاع إلا بمثل السلال التي استثنى عليه، ولجاز له أن يؤخره بها؛ لأنه إنما له عليه سلال، فجاز أن يؤخره بها، إلا أن يكون الإبان قد خرج، فلا يجوز أن يؤخره بالسلال إلى عام قابل؛ لأن القيمة قد وجبت له في السلال لخروج الإبان، فيكون إذا فعل ذلك قد فسخ القيمة التي وجبت له في سلال إلى عام قابل، وذلك ما لا يحل ولا يجوز، وقوله: يتراضيان على ما بقي من السلال، يريد بما يجوز بينهما في ذلك من دنانير أو دراهم، بعد معرفة مبلغ ما يجب له من الثمن، أو عروض، أو طعام من غير صنف العنب؛ يعجل ذلك كله، ولا يؤخر شيئا منه؛ فإن تراضيا على عنب مخالف له أرفع أو أدنى، لم يجز إلا مثل السلال نقدا؛ لأنه إن أخره بها، كان العنب بالعنب إلى أجل؛ وأما على القول بأن المستثنى بمنزلة المشترى، وأن البائع كأنه قد باع الكرم بما سمي من الثمن، وبالأسلال التي استثنى منه.
فإذا نفد عنب الكرم قبل أن يستوفي البائع الأسلال التي استثنى، فالواجب للبائع أن يرجع على المبتاع بقدر ما استثنى من قيمة الكرم؛ لأن الأسلال التي لم يستوفها البائع، كعرض من الثمن استحق فرجع بقدره من الثمن في عين الكرم الذي باع إن كان قائما، أو في قيمته إن كان فائتا، وجائز أن يأخذ بذلك من المبتاع ما تراضيا عليه من قليل الأسلال وكثيرها، وجميع الطعام والعروض، وأن يأخذ دراهم من دنانير إذا كان ذلك كله معجلا؛ لأن البيع قد انفسخ في مقدار السلال؛(7/286)
فجاز أن يأخذ بما وجب له به الرجوع ما شاء من ذلك كله نقدا، كمن وجب له على رجل ذهب فأخذ به ورقا أو طعاما أو عرضا، وقد روي الحديث عن ابن القاسم أنه لا يأخذ مكان أسلاله أسلالا من غير كرمه؛ ولا وجه يمنع من ذلك إذا تعجلها وكانت مثلها، فلعل معنى الرواية إذا لم يتعجلها.
[مسألة: يشتري من الرجل طعاما جزافا أو كيلا أو غيره]
مسألة قال: وسئل مالك عن الرجل يشتري من الرجل طعاما جزافا أو كيلا أو غيره، فيجد في أسفله مخالفا لأوله، قال مالك: إن أحب أن يأخذه كله أخذه، وإن أبى رده كله؛ إلا أن يشاء البائع أن يسلم إليه ما وجد فيه من طيب إن أحب ذلك المبتاع، وإلا لم يلزمه إذا وجد في أسفله مخالفا لأوله، فقلت له: يا أبا عبد الله، ألا يلزمه أن يأخذ ما وجد من طيب بسعر ما ابتاع، ويوضع عنه ما وجد من القمح مخالفا؛ قال: لا، إلا أن يشاء، هما في ذلك بالخيار؛ وسواء إن رضي هذا أن يعطي، لم يكن ذلك له إلا أن يرضى المبتاع أن يأخذ؛ وإن رضي المبتاع أن يأخذ، لم يكن له ذلك، إلا أن يرضى البائع أن يأخذه؛ قال سحنون: وإنما هذا إذا أصاب العيب بجله، وأما الشيء اليسير فذلك يلزمه بحسابه.
قال محمد بن رشد: قوله: طعاما جزافا أو كيلا أو غيره، فيه تقديم وتأخير؛ ووجه الكلام: وسئل عن الذي يشتري من الرجل طعاما أو غيره(7/287)
جزافا أو كيلا، ويريد بغيره ما عدا الطعام مما يكال أو يوزن كالحنك، والعصفر والكتم، وشبه ذلك؛ لأن له حكم الطعام فيما يوجد فيه من العيب ببعضه. وقوله: إنه إذا وجد في أسفله مخالفا لأوله، أنه يأخذه كله أو يرده كله؛ يريد وليس له أن يرد المعيب ويمسك السالم بحصته من الثمن، هو نص ما في المدونة من أن البائع إنما باع على أن يحمل بعضه بعضا؛ لأن السالم يحمل المعيب، وقوله: إلا أن يشاء البائع أن يسلم إليه ما وجد فيه من طيب، فيكون ذلك له إن أحب المبتاع، وإلا لم يلزمه؛ معناه إذا كان المعيب الثلث فأكثر؛ لأن مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، أن استحقاق ثلث الطعام والمكيل والموزون من العروض، يوجب للمشتري رد الجميع، بخلاف العبيد والعروض.
فقول سحنون: وإنما هذا إذا أصاب العيب بجله إلى آخر قوله، خلاف لقول مالك على مذهب أشهب في مساواته بين العبيد والعروض والطعام في الاستحقاق؛ فلا يجب للمبتاع رد الباقي، إلا أن يكون المستحق أكثر من النصف وهو الجل؛ فإذا كان المعيب من الطعام الثلث أو النصف، فأراد البائع أن يلزم المبتاع السالم بحصته من الثمن، لم يكن ذلك له على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك؛ وكان ذلك له على مذهب أشهب، وإليه ذهب سحنون، فالخلاف الموجود في الطعام، وما كان في معناه من المكيل والموزون من العروض، ينقسم على خمسة أقسام: أحدها: أن يكون مما لا ينفك منه الطعام كالفساد اليسير في قيعان الأهراء والبيوت. والثاني: أن يكون مما ينفك منه الطعام، إلا أنه يسير لا خطب له. والثالث: أن يكون مثل الخمس والربع، ونحو ذلك. والرابع: أن يكون مثل الثلث والنصف. والخامس: أن يكون أكثر من النصف وهو الجل، فأما إذا كان الفساد والخلاف الموجود فيه مما لا ينفك منه الطعام لجري العادة، فهو للمشتري لازم، ولا كلام له فيه؛ وأما إذا كان مما ينفك منه الطعام، إلا أن 189 يكون يسيرا لا خطب له؛ فإن أراد(7/288)
البائع أن يلزم المعيب، ويلزم المشتري السالم بما ينوبه من الثمن، كان ذلك له بلا خلاف؛ وإن أراد المشتري أن يلتزم السالم، ويرد المعيب بحصته من الثمن، لم يكن ذلك له على ما في المدونة وظاهر هذه الرواية، وروى يحيى، عن ابن القاسم: أن ذلك له.
وأما إن كان مثل الربع والخمس، فإن أراد البائع أن يلزم المشتري السالم بحصته من الثمن، ويسترد المعيب، كان ذلك له بلا خلاف؛ إذ لا اختلاف في أن استحقاق ربع الطعام أو خمسه، لا يوجب للمبتاع رد الباقي؛ وإن أراد المبتاع أن يرد المعيب، ويلتزم السالم بحصته من الثمن، لم يكن ذلك له بلا خلاف أيضا.
وأما إن كان الثلث أو النصف، فأراد البائع أن يلزم المشتري السالم بحصته من الثمن، لم يكن ذلك له على مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك؛ وكان ذلك له على مذهب أشهب، واختيار سحنون، ولم يكن للمبتاع أن يلزم السالم، ويرد المعيب بحصته من الثمن، وأما إن كان الجل وأكثر من النصف، فلا اختلاف في أنه ليس للبائع أن يلزم المشتري السالم بحصته من الثمن، ولا للمبتاع أن يرد المعيب بحصته من الثمن؛ وهذا الذي ذكرناه من أن استحقاق الثلث من المكيل والموزون من العروض يوجب للمبتاع رد الجميع بمنزلة الطعام؛ هو ظاهر هذه الرواية على ما بيناه، بما وقع فيها من التقديم والتأخير، وبدليل أن حكم المكيل والموزون من العروض حكم غير الموزون منها، لا يوجب للمبتاع رد الباقي، إلا أن يستحق الجل.
[مسألة: باع نخلا وله شرب في ماء ولم يبين]
مسألة وسئل عن رجل باع نخلا وله شرب في ماء، ولم يبين(7/289)
ما هو من ذلك الماء أسدسه أم خمسه أم ربعه؟ قال: ما أرى إلا أن يفسخ، وأرى هذا غير جائز؛ وربما كان من ذلك الماء الذي لا يكون فيه ري النخل، فأرى أن يفسخ؛ فقيل له: إن الرجل قد حلف بعتق ما يملك ألا يقيله، أفترى له أن يقيله إذا تبين له أن هذا مفسوخ، وقد دخل فيما لا ينبغي له من أمر فساد البيع، ورأى أن فساده يخرجه من يمينه، قال: لا، ولكن يرفع إلى السلطان؛ قال ابن القاسم: يعني بذلك حتى يكون السلطان هو الذي يفسخه، ثم لا يكون على الحالف في يمينه شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: ولم يبين ما هو، يدل على أنه علم ما هو، فكتم ذلك عن المشتري، ولم يعلمه به، فاشترى على جهل؛ وإذا كان الأمر على هذا، فليس ببيع فاسد؛ لأن البيع إنما يكون فاسدا إذا جهل المتبايعان جميعا، وأما إذا علم أحدهما وجهل الآخر، فالحكم فيه أن يكون الذي جهل بالخيار إذ علم بين أن يتمسك بالبيع أو يرده.
فقول مالك: ما أرى إلا أن يفسخ وأرى هذا غير جائز؛ معناه إذا لم يرض المشتري بالشراء بعدما يعلم ما للنخل من الماء، ولو ادعى البائع أنه أعلمه بمالها من الماء، أو أنه كان عالما بذلك دون أن يعلمه؛ فقال المبتاع: لم أعلم، ولا أعلمتني، وإنما اشتريت على جهل بذلك؛ لكان القول قول المبتاع مع يمينه أنه ما علم ولا أعلمه، ولا اشترى إلا على جهل بمبلغ مالها من الماء، فإن حلف على ذلك كان له الرد؛ ولو قال المبتاع: لم أعلم، ولا(7/290)
أعلمتني، ولا علمت أيضا أنت، وإنما وقع شرائي على الجهل مني ومنك؛ لكان القول قول البائع؛ لأنه يدعي صحة، والمبتاع يدعي فسادا، وسيأتي هذا المعنى في رسم أوصى، من سماع عيسى، فيستوفى القول فيه إن شاء الله تعالى.
ولو سكتا عن الشرب فلم يذكراه، وهما عالمان بمبلغه؛ لكان داخلا في البيع، وسيأتي هذا المعنى في أول سماع أشهب، وقوله: إنه إذا حلف ألا يقيله، يحنث إن أقاله بعد أن علم ما يجب له من فسخ البيع صحيح؛ لأن الفسخ إقالة في المعنى؛ فإذا فاسخه في البيع باختياره دون حكم حاكم، وجب أن يحنث؛ ولو قيل: إنه يحنث، وإن قضى له عليه السلطان بالفسخ على القول بأن من حلف ألا يفعل فعلا، فقضى به عليه السلطان أنه حانث؛ لكان قولا، وقد مضى هذا في غير ما موضع، من سماع ابن القاسم وغيره، من كتاب الأيمان بالطلاق وغيره.
[يشتري الطعام المضمون إلى يومين يوفيه إياه]
ومن كتاب طلق بن حبيب وسئل مالك عن الرجل يشتري الطعام المضمون إلى يومين يوفيه إياه، قال: لا بأس به؛ قال ابن القاسم: قد كان كرهه قبل ذلك غير مرة، وقال: لا خير فيه حتى يكون إلى أجل، يريد ترتفع فيه الأسواق وتنخفض، قال: وبلغني عن سعيد بن المسيب أنه كرهه حتى يكون إلى زمن ترتفع فيه الأسواق وتنخفض، قال ابن القاسم: وهو قول مالك الأول، وهو أحب ما فيه إلي.
قال محمد بن رشد: قد اختلف قول سعيد بن المسيب في هذا أيضا، فحكى ابن حبيب عنه إجازة السلم إلى الثلاثة الأيام والأربعة(7/291)
والخمسة، خلاف قوله هاهنا، وفي المدونة وأجازه ابن عبد الحكم إلى اليوم؛ وإلا شبه ما اختاره ابن القاسم من أن ذلك لا يجوز إلا إلى أجل ترتفع فيه الأسواق وتنخفض؛ لأن الأجل القريب يشبه السلم الحال الذي لا يجوز، من أجل أن المسلم كأنه دفع إلى المسلم إليه دنانير على أن يشتري له بها سلعة كذا، على أن له ما زاد، وعليه ما نقص، فدخله الغرر والخطر، ووجه إجازته التعلق بظاهر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سلموا في كيل معلوم إلى أجل معلوم» ، فأجاز السلم إلى أجل معلوم، ولم يخص قريبا من بعيد، فإن وقع السلم إلى الأجل القريب، فسخ على ظاهر قول ابن القاسم هنا وفي المدونة، وقال ابن حبيب: لا يفسخ إذا أوقع مراعاة للاختلاف، وقد وقع في رسم المكاتب، من سماع عيسى، من كتاب السلم والآجال، مسألة كان الشيوخ يقيمون منها إجازة السلم الحال إذا وقع، وليس ذلك بصحيح على ما بيناه هناك، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: باع جارية من رجل بشرط ألا يخرج بها من المدينة]
مسألة وسئل مالك عن رجل باع جارية من رجل بشرط ألا يخرج بها من المدينة، فعلم مكروهه؛ فقال البائع للمبتاع: أنا أضع عنك الشرط، وألزمك البيع، أترى ذلك لازما للمشتري؟ قال: ما أرى ذلك، قال ابن القاسم: وأرى بأن يلزم المشتري البيع.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب في هذه المسألة، وقد مضى تحصيل القول فيها في رسم القبلة، فلا معنى لإعادته.(7/292)
[مسألة: أجر الكيالين أيؤخذ ذلك من المشتري]
مسألة وسئل مالك عن أجر الكيالين، أترى أن يؤخذ ذلك من المشتري؟ قال: إن الصواب والذي يقع في قلبي أن يكون على البائع، وذلك أن المشتري لو لم يجد أحدا يكيل له، كان على البائع أن يكيل، وقد قال إخوة يوسف ليوسف: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] فكان يوسف هو الذي يكيل.
قال محمد بن رشد: هذا هو المعلوم من قول مالك الذي عليه أصحابه، أن البائع هو الذي يلزم أن يكيل للمبتاع ما باع منه، وأن عليه أجر الكيال إن لم يرد أن يتولى ذلك بنفسه؛ وقد كان مالك يقول قديما: أجرة الكيل على المشتري، فعلى قوله هذا لا يلزم البائع أن يكيل، وعلى المبتاع أن يكتال لنفسه.
فقوله في الرواية: وذلك أن المشتري لو لم يجد أحدا يكيل له، كان على البائع أن يكيل، ليست بحجة؛ لأن أجرة الكيل إنما تجب على الذي عليه أن يكيل، فهي في المشهور على البائع؛ لأن عليه أن يكيل، وهي على قول مالك القديم على المبتاع؛ لأن عليه أن يكتال لنفسه، فالصحيح على أن يوفيه ما باع منه، ويفرزه بالكيل عن مالكه، كما أن على المبتاع أن يوفي البائع الثمن ويفرزه بالكيل عن مالكه، كما أن على المبتاع أن يوفي البائع الثمن ويفرزه عن مالكه بالوزن؛ واستدلاله على ذلك بقوله عز وجل: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] ، صحيح على القول بأن شرائع من قبلنا لازمة لنا؛ وهو مذهب مالك، وفي ذلك اختلاف كثير قد ذكرناه في أول رسم من سماع ابن القاسم، من كتاب النكاح، فإن تولى البائع الكيل بنفسه أو أحد من قبله، فضمان ما في المكيال منه حتى(7/293)
يفرغه في وعاء المشتري، واختلف إن تولى المشتري الكيل لنفسه أو أحد من قبله، على القول بأن أن على المشتري أن يكتال لنفسه، أو بتفويض البائع إليه ذلك، على القول الآخر؛ فقيل: إن ضمان ما في المكيال من البائع أيضا حتى يفرغه في وعائه، وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى؛ وقيل: إنه إذا امتلأ الكيل، فضمان ما فيه منه إن تلف قبل أن يفرغه في وعائه، وهو قول سحنون في نوازله.
[مسألة: بيع الجميز وهي في بطون]
مسألة وسئل مالك عن بيع الجميز وهي في بطون، فقال: إن كان نباتا متصلا فلا بأس به؛ فقلت له: إنه ينبت كما تنبت القثاء بطنا بعد بطن، وهي شجرة، قال: والقثاء شجر؟ فلا أرى به بأسا إذا كان نباتا متصلا؛ فأما إن كان ينقطع ثم ينبت بعد ذلك، فلا أرى فيه خيرا، ثم قال: والسدر كذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في أول رسم من هذا السماع، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يبيع الزيت أرطالا بكذا وكذا دينارا إلى أجل]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يبيع الزيت أرطالا بكذا وكذا دينارا إلى أجل، فيزن له فيفضل له عنده الرطلان ينقصان من وزنه، فيقول المشتري للبائع: هما لك، قال: ما أرى من بأس، ولكن أخاف أن يكثر؛ فإن كثر فلا يعجبني؛ فأما الشيء اليسير مثل هذا، فلا أرى من بأس؛ قال سحنون: ولا بأس به كثيرا كان أو قليلا.(7/294)
قال محمد بن رشد: اتقى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا كثر ما نقص من الوزن، فتركه له أن يكون إنما فعل ذلك رجاء أن يوسع له في الثمن إذا حل الأجل، فيدخله ما نهي عنه من هدية المديان؛ واستخف ذلك سحنون وإن كان كثيرا، ولم يتهمه على القصد إلى ذلك؛ لأنه من ناحية ما يندب إليه المتبايعان من السماحة في البيع، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله عبدا سمحا إن باع، سمحا إن ابتاع، سمحا إن قضى، سمحا إن اقتضى» . فلا يقام من هذا أن سحنونا يجيز هدية المديان إذا كانت مبتدأة على غير هذا الوجه، بل لا تحل عنده، ولا عند أحد من أهل العلم لمن عليه دين أن يهدي لمن له عليه الدين، رجاء أن يؤخره بما له عليه من الدين، ولا يحل لمن له الدين أن يقبل منه الهدية، إن علم أن ذلك غرضه فيها، ولا حرج على من أهدى لصاحب دينه إذا صحت نيته في ذلك، وقد كان ابن شهاب يكون عليه الدين، فإذا جاءه غرماؤه أجازهم ولم يقضهم، لصحة نيته في ذلك، ويكره لمن يقتدي به أن يقبل ذلك منه؛ فقد رد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أبي بن كعب هديته من أجل ماله عنده؛ لئلا يقتدي به في ذلك، فيكون ذريعة إلى استجازة ذلك، والعمل به حتى يكثر؛ فيوقع في المحظور منه؛ هذا وجه رد عمر بن الخطاب عليه هديته؛ إذ ليس من أهل التهم؛ وقد قال ابن دحون: إنما أجاز سحنون أن يترك ما نقص من الوزن وإن كثر؛ لأن مذهبه قبول هدية المديان إذا كان الدين من بيع؛ فإن كان من قرض لم يجز عند الجميع، إلا أن يكون قد جرت به عادة من المهدي قبل الدين؛ وليس قوله بصحيح لما بيناه، وقد مضت هذه المسألة متكررة، والقول فيها في رسم حلف، من سماع ابن القاسم، من كتاب السلم والآجال.(7/295)
[مسألة: يشتري الجارية أينظر إلى كفيهما]
مسألة وسئل عن الرجل يشتري الجارية، أترى أن ينظر إلى كفيهما؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس؛ فقيل له: فمعصميها وساقيها؛ قال: لا أرى ذلك له، ولا يعجبني ذلك، ولكن أرى أن يخبر عنها كما يخبر عن المرأة التي يتزوجها؛ وأخبرنا سحنون قال: أخبرني ابن نافع: أن ابن عمر دخل السوق، فضرب بيده على صدر جارية فهزها، ثم قال: من شاء فليشتر.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا ينظر في الجارية عند الشراء إلا إلى كفيها، ولا ينظر إلى معصميها وساقيها، خلاف ما في كتاب الخيار من المدونة، من أن الرقيق قد يجرد في الشراء، فظاهر قوله فيها أنه يجوز له أن ينظر منها إلى ما عدا الفرج؛ وفعل ابن عمر هذا يتأول على أن الجارية كانت له، فلذلك صح له أن يضرب بيده على صدرها، فيهزها ويقول: من شاء فليشتر، يريد فليشتر مني؛ إذ لا حاجة له أن يفعل ذلك بجارية غيره، فيكون كالسمسار له في بيعها، وهو منزه عن مثل هذا، والله أعلم؛ وقد قيل: لم تكن له، وإنما فعل ذلك معلما للناس أن فعل مثل هذا يجوز لهم في الرقيق، وضرب الصدر من فوق الثوب أخف من النظر إلى المعصمين والساقين، والأول هو أشبه لحال ابن عمر وفضله وورعه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[اشترى نصف ثمرة بعدما بدا صلاحها]
ومن كتاب أوله سن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وقال مالك: من اشترى نصف ثمرة بعدما بدا صلاحها، فلا أرى ببيعها بأسا قبل أن يجدها؛ قال ابن القاسم: وتفسير ذلك أن(7/296)
مالكا كان يقول قديما: إذا اشترى جزءا من ثمرة فليس له أن يبيعها حتى يستوفيها، فسألناه عن ذلك فأخبرنا هذا.
قال محمد بن رشد: وجه قول مالك الذي كان يقول قديما، هو أنه لما كان لا يقدر على أن يتبين لحظه من الثمرة إلا بالقسمة في الكيل فيما يكال من ذلك، أو الوزن فيما يوزن منه، أو العد فيما يعد منه؛ أشبه من اشترى شيئا من الطعام كيلا أو وزنا أو عددا في أنه لا يبيعه حتى يستوفيه، والقول الآخر هو مقتضى القياس؛ لأن حظه من الثمرة داخل في ضمانه بالعقد، كما يدخل جميعها في ضمانه بعقد الشراء وإن لم يستوفها؛ إلا ما في ذلك من حكم الجاثمة على سنتها في الوجهين جميعا، وقد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم حلف، من سماع ابن القاسم، من كتاب السلم والآجال، ومضت أيضا في رسم سن منه؛ واختلف قول مالك أيضا في الرجل يبيع ثمر حائطه بعد أن بدا صلاحه، ويستثني أقل من ثلثه كيلا، هل يجوز له أن يبيعه قبل أن يستوفيه أم لا؟ والقولان في هذه المسألة جاريان على القول في المستثنى، هل هو مبقى على ملك البائع أو بمنزلة المشترى؟ وقد مضى في رسم حلف هذا المعنى، وبالله التوفيق.
[الحائط الذي ليس فيه زهو وما حواليه قد أزهى هل يباع]
ومن كتاب أوله
أخذ يشرب خمرا وسئل عن الحائط الذي ليس فيه زهو، وما حواليه قد أزهى، أترى أن يباع ولم ير فيه شيء من الزهو؟ قال: نعم، لا أرى به بأسا إذا كان الزمان قد أمنت فيه العاهات، وأزهت الحوائط؛ فلا(7/297)
أرى بذلك بأسا. قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن هذا فقال: لست أراه حراما، وأحب ذلك إلي قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتى تزهى» . وقال: وسئل عن الحائط الذي تزهى فيه النخلات الأربع والخمس، وقد تعجل زهوه قبل الحوائط، أترى أن يباع؟ قال: نعم، لا بأس بذلك إن تعجل قبل الحوائط.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في أول رسم من هذا السماع، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[الضأن يباع صوفها فيصاب منها الأكبش قبل أن يجزها]
ومن كتاب أوله
يسلف في المتاع والحيوان قال مالك في الضأن يباع صوفها، فيصاب منها الأكبش قبل أن يجزها، قال مالك: أراها من البائع، ويوضع عن المبتاع بقدر ذلك. قال ابن القاسم: وذلك إذا سرقت أو أخذها السبع؛ فأما إن ماتت، لم يكن له إلا صوفها، إلا أن يكون صوف الميتة عند الناس لا يشبه الحي، فيوضع ذلك عنه.
قال محمد بن رشد: جعله الضمان من البائع فيما أصيب من الأكبش، يدل على أنه رأى الجزاز عليه، فجعل الضمان منه، لما عليه من حق التوفية بالجزاز، وهو خلاف ما يدل عليه ما في رسم الثمرة من سماع عيسى، وخلاف المشهور من أن الجزاز على المشتري، كمن اشترى ثمرة بعد طيبها، فالجداد على المشتري؛ وكمن اشترى زيتونة على القطع، أو حلية سيف على القلع، أن القطع والقلع على المشتري؛ وإن لم يقع الشراء على أن يقطع المشتري، أو على أن يقلع، إلا أن يشترط كذلك على(7/298)
البائع، فيكون عليه بالشرط.
ويحتمل أن يكون تكلم في الرواية على أن العرف كان عندهم أن الجز على البائع، وأن الضمان منه؛ لأن الخلاف لا يتصور إلا مع عدم العرف والشرط؛ وقال: وقال ابن دحون: معنى المسألة أن المشتري اشترط الجزاز على البائع، فلهذا كان الضمان منه، قال: وكذلك وقع في سماع ابن أبي أويس: أن المشتري اشترط الجزاز على البائع، قال: ولو لم يشترطه عليه؛ لكان الجزاز عليه، والضمان منه؛ كالثمرة إذا اشتراها بعد طيبها، فالجزاز والضمان على المشتري؛ فإن اشترط المشتري الجداد على البائع، كان الضمان منه؛ وفي هذا عندي من قوله نظر؛ لأن الحكم لو كان أن الجزاز على المشتري، والضمان منه قولا واحدا؛ لما صح أن يتنقل الضمان عن المشتري إلى البائع باشتراط الجزاز عليه، ولكان البيع فاسدا إن وقع بشرط الضمان؛ لأنه قد حصل له جزء من الثمن، فصار مبتاعا له بما وقع له من الثمن، وإنما يجوز اشتراط الضمان في البيع إذا كان أمرا مختلفا فيه، فإذا قررنا أن في المسألة قولين؛ أحدهما: أن الجز على البائع، والضمان منه. والثاني: أن الجز على المبتاع والضمان منه، جاز أن يشترط الجز والضمان على البائع، على القول بأن ذلك على المشتري؛ وجاز أن يشترط ذلك على المشتري على القول بأنه على البائع، كشراء السلعة الغائبة على الصفة، يجوز أن يشترط البائع الصفة، وأن يشترط المبتاع أنها من البائع حتى يقبضها هو أو رسوله.
وإذا قررنا أنه لا اختلاف في أن الجز على المبتاع والضمان منه، واشترط المبتاع الجز على البائع والضمان، كان البيع فاسدا؛ وإن شرط عليه الجز وسكت عن الضمان، كان البيع صحيحا؛ لأنه إنما اشترى منه الصوف جزافا، واستأجره على جزازه، كمن اشترى من رجل ثوبا على أن على البائع خياطته، أو قمحا على أن عليه طحينه، فلا يضمنه البائع؛ إلا أن يكون صانعا قد نصب نفسه(7/299)
للأعمال فيسلك به في الضمان سبيل الصناع، ولو باع منه الكباش دون صوفها، أو السيف دون حليته، أو الحائط دون أصل ثمرة استثناها لنفسه؛ لكان جز الصوف، ونقض الحلية وقطع الثمرة على البائع باتفاق، كمن باع من رجل عمودا له عليه بناء، أن عليه إزالة البناء من على العمود حتى يصل المبتاع إلى أخذ العمود الذي ابتاع.
[مسألة: الرزم والتحريك في الكيل]
مسألة وسئل مالك عن الرزم والتحريك في الكيل مثل ما يصنع أهل المغرب، أترى ذلك؟ فقال: ما أرى ذلك، وتركه أحب إلي، فقيل له: فكيف يكال؟ قال: يملأ الويبة من غير رزم ولا تحريك، ثم يمسك الكيال على رأسها، ثم يسرح يديه فهو الوفاء؛ فقيل له: فإن قال البائع للمبتاع: استوف لنفسك، وأبى أن يكيل له، قال: إن كال لنفسه فليستوف ولا يتعدى.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن الرزم والتحريك في الكيل مما لا ينبغي أن يصنع فيه؛ إذ لا حد له يعرف؛ فمن الواجب أن ينهى أهل الأسواق عن فعل ذلك، والجري عليه سيرة وعرفا؛ لأنه عرف مجهول، فلا يباح لهم التمادي عليه؛ وقوله: وتركه أحب إلي، معناه الوجوب؛ وهذا نحو قوله في كتاب الوضوء من المدونة لا يتوضأ بشيء من الأنبذة، ولا العسل الممزوج بالماء، والتيمم أحب إلي من ذلك؛ أي هو الواجب دونه، والعرف قد تفاضل بين الشيئين، وإن لم يكن للتفاضل بينهما مدخل، فيقول: الجنة خير من النار، والهدى خير من الضلال، وإن لم يكن في النار ولا في الضلال خير؛ قال عز وجل: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] ، وقال:(7/300)
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات: 62] ، وقال: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت: 40] ، وقال: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} [الفرقان: 15] ، وذلك كثير في كلامهم، فالوفاء في الكيل كما قال: أن يملأ الكيل من غير رزم ولا تحريك؛ ويجمع الطعام فيمسكه بيديه على رأس الكيل، ثم يسرح يديه، فما استمسك منه على رأس الكيل فهو وفاء، لا يجوز للبائع أن ينقص من هذا، ولا للمبتاع إذا اؤتمن على الكيل أن يزيد عليه؛ قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] إلى قوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين: 3] الآية.
[مسألة: يبيع القمح وغير ذلك فيبيع الويبة وحفنة بدرهم]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يبيع القمح وغير ذلك، فيبيع الويبة وحفنة بدرهم، قال: ليس ذلك للمبتاع بأي حفنة يأخذ، فمن الرجال من تتسع حفنته، ومنهم من تضيق، فأحب إلي أن يبين ذلك، وأرجو أن يكون ذلك خفيفا.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في بعض الأمهات، قال: ليس ذلك للمبتاع، وفي بعضها قال: يبين ذلك للمبتاع بأي حفنة يأخذ، وهو الصحيح الظاهر في المعنى، ومثله في السلم الثاني من المدونة؛(7/301)
وإنما أجاز ذلك واستخفه، ليسارة الحفنة في جنب الويبة؛ ولو لم يبين بأي حفنة يأخذ؛ لقضي بينهما بحفنة وسطة، ولم يفسخ البيع بينهما على ظاهر قوله: وأرجو أن يكون ذلك كله خفيفا؛ يريد بين بأي حفنة يأخذ، أو لم يبين، وأما لو اشترى منه الطعام كذا وكذا حفنة بدرهم، لما جاز كما لا يجوز البيع بمكيال مجهول، حيث ثم مكيال معلوم، ويفسخ إن وقع، إلا على قول أشهب في المدونة؛ وقد أنكر سحنون مسألة الويبة والحفنة بدرهم؛ وقال: لا يجوز ذلك، كما لا يجوز البيع بمكيال مجهول، وهو القياس، وتخفيف ذلك استحسان؛ ومن هذا المعنى السلم في الثياب والقراطيس على ذراع رجل بعينه، وقد مضى القول على هذا مستوفى في رسم البيوع العاشر، من سماع أصبغ، من كتاب السلم والآجال، فلا معنى لإعادته، والله ولي التوفيق.
[مسألة: يشتري النحاس المكسور بالفلوس]
ومن كتاب أوله
تأخير صلاة العشاء في الحرس وسئل مالك عن الرجل يشتري النحاس المكسور بالفلوس، قال: لا خير فيه، وأراه من وجه المزابنة؛ فقيل له: فإن الرجل يشتري التور بدرهمين ونصف، لا يريد به وجه النحاس، إنما يريد به أن يتوضأ فيه؛ فقال: أرأيت لو كانت فلوسا كلها؟ فقيل له: إنما يتوضأ فيه. فقال: هو سواء لا خير فيه، وأراه من وجه المزابنة.
قال محمد بن رشد: أما شراء النحاس المكسور بالفلوس، فقوله: إنه لا خير فيه؛ لأنه من وجه المزابنة؛ وهو مثل ما في المدونة من قوله، ولا خير في الفلوس بالنحاس، إلا أن يتباعد بينهما؛ لأن المزابنة إنما تدخله إذا(7/302)
لم يتبين الفضل بينهما، وهذا مما لا اختلاف فيه أعلمه؛ وأما شراء التور المصنوع من النحاس بالفلوس أو النحاس، فاختلف فيه على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الصنعة تخرجه إلى صنف آخر، وترفع المزابنة عنه، فيجوز ذلك يدا بيد، وإلى أجل، وهو قول مالك في إحدى روايتي ابن وهب عنه. والثاني: أن ذلك يجوز نقدا، وإن لم يتبين الفضل بينهما، ولا يجوز إلى أجل، وهو ظاهر قوله في المدونة؛ لأنه جعل ذلك فيها كالصوف بثوب الصوف، والكتان بثوب الكتان؛ فقال: لا بأس بذلك نقدا، ولا بأس بالتور النحاس بالنحاس نقدا؛ وإلى هذا رجع مالك في رواية ابن وهب عنه.
والثالث: أن ذلك لا يجوز نقدا، ولا إلى أجل، يريد إلا أن يتبين الفضل بينهما في النقد، وعلى هذا حمل أبو إسحاق التونسي ما في المدونة لابن القاسم، وهو قول مالك في هذه الرواية؛ لأنه لم يجز فيها أن يشتري التور بدرهمين ونصف، فيعطي في جميعها فلوسا؛ ولا في النصف درهم منها، وإذا لم يجز ذلك في النقد، فأحرى ألا يجيزه إلى أجل، وقد تأول بعض الناس من هذه الرواية، أن ذلك لا يجوز وإن تبين الفضل، إذ منع فيها أن يعطي في النصف فلوسا؛ ولا يشك أن التور أكثر نحاسا من الفلوس التي يعطي في النصف درهم، وليس ذلك بصحيح؛ لأن التور مفضوض على قيمة الدرهمين والنصف درهم من الفلوس، وإذا فض ذلك لم يدر أكان ما ينوب الفلوس منه أكثر أو أقل، فوجب ألا يجوز؛ ولو أخذ في جميع الدرهمين ونصف فلوسا لا يشك أنها أكثر من التور أو أقل؛ لكان ذلك جائزا، والاختلاف في هذه المسألة موجود أيضا في الصوف بثوب الصوف، والكتان بثوب الكتان، روى ذلك أشهب عن مالك أنه لا يجوز نقدا، ولا إلى أجل، أيهما عجل، وروى ذلك أيضا أصبغ عن ابن القاسم، ثم رجع إلى أنه يجوز إذا كان الثوب هو المعجل؛ وأما مصنوع بمصنوع من(7/303)
النحاس، أو منسوج بمنسوج من الصوف أو الكتان أو الكرسف؛ فلا اختلاف في جواز ذلك نقدا، وإن لم يتبين الفضل بينهما؛ واعترض ذلك أبو إسحاق التونسي فقال: لا فرق في القياس بين مصنوع بمصنوع، أو مصنوع بغير مصنوع؛ لأن الصناعة إذا لم يكن لها تأثير في الجهة الواحدة، وجب ألا يكون لها تأثير في الجهتين، فانظر في ذلك كله وتدبره.
[مسألة: يشتري الشاة بخمسة دراهم فيذبحها فيسأله الرجل أن يشركه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يشتري الشاة بخمسة دراهم فيذبحها ثم يسأله رجل أو رجلان أن يشركهما قبل أن يسلخها بدرهم، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه يجوز أن يشركهما فيها بعد أن ذبحها وقبل أن يسلخها؛ لأنه إذا فعل ذلك، فإنما باع من كل واحد منهما جزءا منها؛ وبيع جزء معلوم منها بعد الذبح وقبل السلخ جائز، كما يجوز بيع جميعها؛ وإنما لا يجوز له أن يبيع منها بعد الذبح وقبل السلخ أرطالا مسماة؛ لأن ذلك يكون بيع اللحم المغيب وإشراكهما فيها بعد الذبح بدرهم درهم بيع جائز، وإن سمياه شركة، وعهدتهما على الذي أشركهما قولا واحدا، بخلاف إذا أشركهما فيها بحضرة البيع الأول وقبل الذبح، فقيل: إن العهدة على البائع الأول، وقيل: إنها على المشتري الأول الذي أشركهما؛ وقد مضى القول على ذلك مستوفى في رسم أسلم، من سماع عيسى، من كتاب السلم والآجال، وبالله التوفيق.(7/304)
[باع نخلا قد أبر بعضها ولم يؤبر بعض حتى باع]
ومن كتاب أوله
كتب علية ذكر حق قال مالك: من باع نخلا قد أبر بعضها ولم يؤبر بعض حتى باع، فإنه ينظر إلى الذي هو أكثر، ويجعل القليل تبعا له إن كان أبر أكثرها، فالثمن للبائع، وإن كان الذي لم يؤبر أكثر، فالثمرة للمبتاع؛ قال مالك: كل ثمرة تؤبر فهي كذلك، قال سحنون: قيل لابن القاسم: فلو اشترى رجل من رجل نخلا قد أبر نصفها، ونصفها لم يؤبر، فاختلف البائع والمشتري؛ فقال: قال مالك: إذا كان أكثر الحائط، وهذا نصف، فأرى أن يقال للبائع: إما أن تسلم الحائط بما فيه؛ وإلا فخذ الحائط، ويفسخ البيع؛ قلت: فإن رضي المشتري أن يكون له ما لم يؤبر، وما أبر فهو للبائع؛ قال: لا خير فيه؛ قال سحنون: وكان المخزومي يقول: إذا أبر الأقل فهو للمشتري، وإذا كان الأكثر فهو للبائع جميعا، إلا أن يشترطه المبتاع؛ وإن كان بنصفين، فنصفها للبائع، ونصفها للمبتاع الذي لم يؤبر؟ وكان ابن دينار يقول: إذا أبر النصف، ولم يؤبر النصف، فهو كله للمشتري، وهو تبع للذي لم يؤبر.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذه المسألة قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع نخلا قد أبرت، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» ؛ فالحكم في ثمر النخل إذا كانت قد أبرت قبل البيع أن تكون للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع بنص الحديث؛ وإذا كانت لم تؤبر، أن تكون للمبتاع بدليل الحديث؛ لأنه لما قال: إنها تكون للبائع إذا أبرت، دل أنها لا(7/305)
تكون للمبتاع إذا لم تؤبر؛ ولا يجوز للبائع أن يستثنيهما، كما لا يجوز له أن يستثني جنين الأم الحامل في البيع عند مالك وجميع أصحابه؛ فإذا كان بعض الحائط قد أبر، وبعضه لم يؤبر، فتحصيل القول في ذلك، أن الأقل تبع للأكثر، شائعا كان أو غير شائع؛ فإن لم يكن أحدهما تبعا لصاحبه، وكانا متناصفين أو متقاربين، فلا يخلو من أن يكون ما أبر على حدة، وما لم يؤبر على حدة، أو يكون ذلك شائعا في كل نخلة، فأما إن كان على حدة ما أبر، وما لم يؤبر، فيكون للبائع ما أبر، وللمبتاع ما لم يؤبر على ما قاله المخزومي؛ لأن معنى قوله: فنصفها للبائع، ونصفها للمبتاع، أن يكون للبائع ما أبر، وللمبتاع ما لم يؤبر؛ وأما إذا كان ذلك شائعا في كل نخلة، ففي ذلك أربعة أقوال؛ أحدها: أنه يقال للبائع: إما أن تسلم الحائط بثمرته للمبتاع، وإلا فخذ الحائط وينفسخ البيع، وهو قول ابن القاسم، ورواية سحنون عنه في هذه الرواية، وفي كتاب ابن المواز دليل ما في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب العتق، في مسألة العبد. والثاني: أن البيع يفسخ على كل حال، إلا أن يكون وقع بشرط أن تكون الثمرة للمبتاع، وهو قول ابن القاسم وسحنون فيما حكى الفضل؛ وأراه ساقه على المعنى فيما وقع في رسم استأذن، من سماع عيسى في الذي يبيع نصف عبد له، ونصفه حر، أو نصفه لرجل آخر وله مال؛ أن البيع فاسد يفسخ، إلا أن يبيعه بماله؛ إذ لا فرق بين المسألتين في هذا المعنى، ومثله في سماع أشهب من كتاب الشركة.
والثالث: أن يكون كله للمشتري، ويكون تبعا للذي لم يؤبر، وهو قول ابن دينار. والرابع: أنه يكون كله تبعا(7/306)
للذي أبر، فيكون للبائع، وهو قول ابن حبيب في الواضحة؛ فعلى هذا الذي ذكرناه، يكون قول المخزومي مفسرا لقول مالك، وقول ابن دينار خلاف له؛ لأن المخزومي إنما تكلم في المتناصفين على أن المأبور من غير المأبور على حدة، وتكلم ابن دينار على أنه شائع، وبالله التوفيق.
[يبيع السلعة بخمسين دينارا ثم يخرج الذي اشتراها دراهم ليصرفها]
ومن كتاب أوله
الشريكان يكون لهما المال وقال مالك في رجل يبيع السلعة بخمسين دينارا، ثم يخرج الذي اشتراها دراهم ليصرفها، ليدفع إليه ثمنها؛ فقال البائع: أنا آخذ منك هذه الدراهم بصرفها، ثم وجد المشتري بعد ذلك بالسلعة عيبا ترد منه، وقد حالت أسواق الدراهم ورخصت؛ قال مالك: ليس له إلا دراهم ليس له عليه دنانير، قلت له: أرأيت إن أعطاه عرضا أو غيره مما كان له عليه من ثمن السلعة؟ قال مالك: أرى العروض مخالفة لذلك، وأرى عليه الذهب.
قال ابن القاسم: قال مالك بعد ذلك: إلا أن يكون العرض لا يشبه أن يكون ثمنا، فإذا كان كذلك، لم أر عليه إلا قيمة العرض؛ قال ابن القاسم: يريد إنما أخذه منه على وجه التجاوز، مثل ألا يجد عنده شيئا، أو يجده معسرا، أو كان ذلك تخفيفا منه للثمن؛ فإذا كان كذلك، لم أر عليه إلا قيمته يوم قبضه، قال ابن القاسم: وذلك كل رأيي.(7/307)
قال محمد بن رشد: قوله في الذي باع سلعة بدنانير، فأخذ بها دراهم، ثم وجد المبتاع بالسلعة عيبا؛ يريد أو استحقت من يده، أنه يرجع بالدراهم التي دفع؛ ولو كان إنما أعطى بالدنانير عرضا لرجع بالدنانير، هو مثل ما في المدونة في كتاب العيوب والاستحقاق والرواحل والدواب؛ والفرق بين أن يعطي في الدنانير التي ابتاع بها السلعة دراهم أو عرضا، هو أنه في الدراهم صرف، وفي العروض بيع استحقاق السلعة المبيعة بالدنانير، أو وجود العيب بها لسقط الدنانير عن المبتاع؛ فيصير كأنه قد استحقها، فوجب إن كان دفع فيها دراهم أن يرجع بالدراهم؛ لأنه صرف استحقت فيه الدنانير، فوجب انتقاض الصرف والرجوع بالدراهم، وإن كان دفع فيها عرضا، أن يرجع بمثل الدنانير استحقت؛ لأن استحقاق الثمن في البيع لا يوجب نقض البيع، وإنما يوجب الرجوع بمثل الثمن المستحق؛ وقول مالك بعد ذلك: إلا أن يكون العرض لا يشبه أن يكون ثمنا، وإنما أخذه على وجه التجاوز، فيرجع بقيمته يوم قبضه، صحيح لا يمكن أن يختلف فيه؛ ومعناه إن كان العرض قد فات، وأما إن كان قائما فيرجع به بعينه؛ وقد روى أشهب عن مالك: أنه يرجع في قيمته العرض أو في عينه إن لم يفت، وإن كان قبضه على غير التجاوز؛ وإلى هذا الاختلاف أشار في العيوب من المدونة بقوله: وإنما اختلف الناس في السلعة الأولى، ولو باع سلعة بسلعة، فأخذ بالسلعة دنانير، فاستحقت السلعة الأولى؛ لوجب أن يرجع بالدنانير، على قياس ما قلناه من أن المبتاع يصير مستحقا للسلعة الثانية، فيجب له الرجوع بثمنها، وهو الدنانير.
[مسألة: يبيع الرمكة وهي حامل ويشترط البائع أنها للمبتاع]
مسألة وقال في الرجل يبيع الرمكة، وهي حامل، ويشترط البائع أنها(7/308)
للمبتاع عقوق؛ قال مالك: لا خير فيه، وأراه مكروها؛ لأنه قد زاده في ثمنها لمكان جنينها، فكأنه قد صار للجنين ثمن، ولا خير في ثمن الجنين.
قال محمد بن رشد: لم يجز بيعها، وإن كانت حاملا ظاهرة الحمل، بشرط أنها حامل؛ لأنه غرر؛ إذ قد ينفش الحمل بعد ظهوره، فيكون بالشرط قد أخذ للجنين ثمنا، وسحنون يجيز ذلك إذا كانت ظاهرة الحمل، وأشهب يجيزه وإن لم تكن ظاهرة الحمل، ويرى للمبتاع الرد إن لم يجدها حاملا، وقع ذلك من قوله في سماع زونان، من كتاب العيوب، وابن أبي حازم يجيز البيع على الشرط، ولا يرى للمبتاع الرد إن لم تكن حاملا؛ وابن عبد الحكم يرى أنه لا بأس أن يقول: إنها عقوق ما لم يشترط ذلك على نفسه، وهذا كله في الحيوان الذي يزيده الحمل، وأما في الجواري المرتفعات اللاتي ينقصهن الحمل، فيجوز أن يبيعها على أنها حامل إذا كانت ظاهرة الحمل؛ لأن ذلك تبر، من عيب حملها، كالتبري من سائر عيوبها؛ وقد مضت هذه المسألة والقول فيها في سماع زونان، من كتاب العيوب، والحمد لله.
[اشترى من رجل ثمرة على أنه إذا أدخلها بيته فهي له]
ومن كتاب أوله
اغتسل على غير نية
وسئل عن رجل اشترى من رجل ثمرة على أنه إذا أدخلها بيته، فهي له كذا وكذا صاعا بدينار، ولم ينقد شيئا، قال: لا بأس بذلك.(7/309)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، قال فيها بعض أهل النظر منهم ابن دحون: إن المعنى فيها أن البيع لا يتم بينهما حتى يجد الثمرة، إما البائع وإما المشتري، ويدخلها بيته على ما شرطه من ذلك وتراضيا عليه؛ وهذا بعيد؛ إذ لو وقع البيع بينهما على هذا لم يكن بيعا منعقدا في الحال، لا ينعقد في حال آخر إلا باستئناف عقد؛ وقد قال في النكاح من المدونة في القائل للمرأة: إذا مضى هذا الشهر فأنا أتزوجك، فرضيت المرأة بذلك، ورضي الولي: إنه نكاح باطل من أجل أنهما قصدا إلى أن يكون النكاح منعقدا بينهما بمضي الشهر دون استئناف عقد.
وإنما معنى المسألة عندي أنه اشترى ثمرا لحائط، وقد طابت جزافا على الكيل، إذا يبست وجدت وصارت في بيت البائع أو المبتاع، فالمعنى فيها شرط ألا يأخذها حتى تيبس وتجد؛ فأجاز ذلك، وإن اشتراها جزافا على الكيل، كما أجازوا اشتراءها جزافا على غير الكيل بشرط إبقائها حتى تيبس، وفي ذلك اختلاف، وقد ذكر الفضل أن القولين قائمان من المدونة، وأما شراء مكيلة معروفة منها بشرط أن يتركها حتى تيبس، فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز، قال ذلك في المدونة وغيرها؛ واختلف في ذلك إن وقع، فقيل: العقد في ذلك فوت، وقيل: القبض فوت، وقيل: اليبس فوت، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعطى دينارا حناطا في أربعة آصع]
مسألة وسئل عن رجل أعطى دينارا حناطا في أربعة آصع، على أن يعطيه في كل يوم مدا من حنطة، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إجازة مالك لهذا ينحو إلى أحد قوليه في إجازة السلم إلى اليومين والثلاثة؛ لأنه إذا قبض كل يوم مدا من ثاني يوم(7/310)
سلمه، فقد قبض جل ما سلم الدينار فيه قبل أن يمضي من الأمد ما تختلف فيه الأسواق؛ وقد تكررت هذه المسألة في هذا الرسم من هذا السماع، من كتاب السلم والآجال.
[مسألة: يباع مصحف فيه فضة وإن كانت يسيرة بدنانير إلى أجل]
مسألة قال مالك: لا يباع مصحف فيه فضة، وإن كانت يسيرة، بدنانير إلى أجل.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى قول ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وربيعة يجيز بيعه بالفضة إلى أجل، إذا كانت الفضة التي فيه أقل من الثلث، قياسا على جواز بيعه بالفضة نقدا، وهو مذهب ابن الماجشون؛ وقول سحنون: بيعه بالدنانير إلى أجل أجوز عندهم، وقد تكررت هذه المسألة أيضا في هذا الرسم من هذا السماع، من كتاب السلم والآجال.
[مسألة: باع متاعا فقال إن بعتني أنه من وقعت عليه الدراهم فإن دنانيرنا بمثقال]
مسألة وسئل مالك عن رجل باع متاعا فقال: إن بعتني أنه من وقعت عليه الدراهم، فإن دنانيرنا أربعة عشر ونصف درهم بمثقال على هذا نبيع؛ فقال: إن قال ذلك قبل البيع، فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: فقال: إن بعتني، معناه فقال: إن شرطنا أنه من وقعت عليه الدراهم، فإنها من صرف أربعة عشر درهما ونصف درهم بمثقال؛ فالمعنى في المسألة أن يبيع الرجل المتاع في المزايدة، فيكتب على الرجل المتاع بذهب ودراهم زائدة على الذهب؛ فإذا كان قد شرط هذا الشرط، اشترى المشتري على ذلك، كان عليه في الدراهم الزائدة(7/311)
على الذهب جزء من الدينار، يؤدي فيه صرفه يوم القضاء، زاد الصرف أو نقص كمن باع سلعا بكذا وكذا درهما من صرف كذا؛ وقد مضى بيان هذا المعنى في رسم البيوع الأول، من سماع أشهب، وفي رسم الصبرة، من سماع يحيى، من كتاب الصرف، وبالله التوفيق.
[بيع العصفر]
ومن كتاب البز
قال: وذكر مالك بيع العصفر فقالوا له: إنما يشترونه وزنا، فقال: ما كان يباع إلا كيلا وهو الصواب أن يباع كيلا.
قال محمد بن رشد: هذا مما يتأتى فيه الوزن والكيل، فرأى مالك الكيل فيه أعدل؛ لأنه الأصل الذي جرى عليه، فلم ير أن ينتقل فيه عن ذلك إلى الوزن، وبالله التوفيق.
[باع حائطا فيه تمر وشرط عليه أربعة أحمرة يرسلها له في الحائط]
ومن كتاب أوله
باع غلاما بعشرين دينارا وسئل مالك عن رجل باع حائطا فيه تمر، وشرط عليه أربعة أحمرة يرسلها له في الحائط، فكان التمر سقط فتأكله الحمير، فأراد أن يرد البيع؛ قال: لا أرى أن يرد البيع، وأراه يلزمه، وقد عرف أنها حمير حين اشترى الحائط، وأنها تأكل؛ فأرى البيع له لازما.
قال محمد بن رشد: إنما جوز هذا البيع؛ لأنه رأى قدر ما يسقط من التمر فتأكله الحمير معروفا، قد دخل عليه المشتري فلزمه، ومثله في(7/312)
التفسير ليحيى؛ قلت: ولم جوزه مالك؟ فقال: لأنه شيء معروف، بمنزلة ما لو اشترط علفها إلى الجداد.
[مسألة: يشتري من الرجل بعيرين مهملين في الرعي]
مسألة قال مالك: لا أحب للرجل أن يشتري من الرجل بعيرين مهملين في الرعي، قد رآهما المشتري في الرعي، وذلك أنهما لا يدريان متى يوجدان، مثل إبل الأعراب المهملة في المهامه، فلا أحب أن تشتري هذين الجملين اللذين في المهامه، ولا يدري متى يجدها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنهما في حكم العبد الآبق، والجمل الشارد؛ إذ لا يدري المشتري متى يجدهما، فبيعهما من الغرر، وإن كان قد رآهما في الرعي، ووقف عليهما.
[مسألة: بيع الزيت والسمن في الزقاق أرطالا مسماة]
مسألة وسئل مالك عن بيع الزيت والسمن في الزقاق أرطالا مسماة كذا وكذا رطلا بدينار، وزقاقهما في الوزن؛ قال: أرجو أن لا يكون به بأس، قال: ومن ذلك أن يأتي الرجل يريد أن يحملها إلى بلد فيشتريها ويحملها كما هي؛ وذلك أن الزياتين قد عرفوا قدرها، وكم وزنها؛ فأرجو أن لا يكون به بأس، وأصح ذلك عندي أن لو فرغوها ثم وزنوا الظروف بعد؛ ولكن أرجو ألا يكون به بأس، وأن يكون خفيفا؛ قلت له: يا أبا عبد الله، فالقلال لو أعلم أنها في التقارب مثل الزقاق، ما رأيت بها بأسا، ولكني لا أظنهما(7/313)
مثل الزقاق، وذلك أن الفخار يكون بعضه كثيفا، وآخر رقيقا، فهذا لا تثبت معرفته فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة قد بين مالك وجه قوله فيها في الفرق بين الزقاق والقلال بما لا مزيد عليه، فلا وجه للقول فيه؛ وأما إذا اشترى السمن دون الزقاق أو الجرار، فإن شاء فرغها ووزن السمن، وإن شاء وزن جميعه بجراره وزقاقه، ثم طرح وزن الزقاق، أو الجرار من ذلك، وقد مضى القول في ذلك في رسم العتق، من سماع عيسى، من كتاب المرابحة، وسيأتي أيضا في رسم العتق، من سماع عيسى، من هذا الكتاب.
[مسألة: باع سلعة على أن يستأمر ثم بدا له من قبل أن يستأمر]
مسألة وقال في رجل باع سلعة على أن يستأمر، ثم بدا له من قبل أن يستأمر، أترى له أن يرد البيع؟ قال: ذلك له؛ لأن المشتري قد قال له: من أردت أن تستأمر فاستأمره؛ قال: لم أرد أن أستأمر أحدا، إلا أني أردت أن أنظر في ذلك؛ قال مالك: ذلك له، ويرد البيع إن أحب.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه أعلمه، أن المشترط المشورة من المتبايعين أن يتركها، وأن يخالف رأي المستشار، ويرد أو يجيز؛ وأن الحق في ذلك لمشترطها من المتبايعين دون صاحبه، إلا ما حكى أبو إسحاق التونسي من أن ظاهر ما في كتاب محمد بن المواز أن المشورة كالخيار إذا سبق، فأشار بشيء لزم، وهو بعيد؛ وإنما اختلاف في(7/314)
مشترط الخيار لغيره من المتبايعين على أربعة أقوال، وقد فرغنا من تحصيلها في المقدمات.
[قال لرجل له حائط يبيعه: انظر ما أعطيت بثمر حائطك فلك زيادة دينار]
ومن كتاب أوله
صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك عمن قال لرجل له حائط يبيعه: انظر ما أعطيت بثمر حائطك، فلك زيادة دينار، فلقيه صاحب الحائط، فقال: قد أعطيت مائة دينار، قال مالك: زيادة دينار، قال: فنقده وقبض الحائط، ثم سأل الذي زعم أنه أعطاه مائة دينار، فقال: ما أعطيته به مائة دينار، وما أعطيت إلا تسعين، قال مالك: البيع لازم لهما، ولو شاء استثبت لنفسه قبل أن يأخذ فيه بصدقه في أول، ثم يكذبه في آخر؛ قال: ما أرى البيع إلا لازما له؛ قال: وكذلك الجارية يبيعها صاحبها في السوق، ثم يأتيه الرجل فيقول له: قد أعطيت فيها مائة دينار، فيصدقه ويربحه على ما قال، فيكون البيع لازما للمشتري؛ ولكن إن كان ثم شهود حضور في سوم الحائط، فشهدوا بخلاف ما قال قد أعطى به فلان، فإني أرى أن يرد هذا البيع إن كان على مثل هذا الوجه؛ فقال: ولا أرى على صاحب الحائط يمينا، ولا على صاحب الجارية إذا ثبت البيع، ورضي بقوله.(7/315)
قال محمد بن رشد: إنما رأى البيع لازما للمبتاع، ولم ير له على البائع يمينا؛ لأنه قد صدقه أولا فيما زعم أنه أعطى بحائطه، فليس له أن يرجع إلى تكذيبه؛ وأما إذا كان ثم شهود حضور فشهدوا بخلاف ما قال: إنه أعطى به. فقوله: فإني أرى أن يرد البيع، معناه إن شاء المبتاع، وكان الحائط لم يفت؛ وأما إن كان الحائط أو الجارية قد فاتا بما يفوت به البيع الفاسد، فيكون على المبتاع القيمة يوم البيع؛ إلا أن تكون القيمة أكثر من الثمن الذي وقع الابتياع به، فلا يزاد البائع على ذلك، أو يكون أقل مما شهدت البينة أنه أعطى به، والربح الذي ربحه، فلا ينقص المبتاع من ذلك شيء على حكم الكذب في بيع المرابحة، وبالله التوفيق.
[يكون له على الرجل عشرة دراهم فيمر عليه وقد ابتاع قمحا]
ومن كتاب أوله
مساجد القبائل وسئل مالك عن الرجل يكون له على الرجل عشرة دراهم، فيمر بالرجل الذي له عليه عشرة دراهم قد ابتاع قمحا، فيسأله أن يوليه إياه بالدراهم التي له عليه قمحا مما ابتاع ليستوفيه مكانه، وذلك قبل أن يستوفيه الذي ابتاعه؛ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: روي عن سحنون أنه أنكر هذا ولم يجزه، ووجه ما ذهب إليه أن للمبتاع القمح اشتراه بالنقد فنقد، والمشتري لم ينقد، وإنما أخذه بما كان له من الدين، والدين حكمه حكم القرض؛ فدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى إذ لم ينقد المولي كما نقد المولى؛ ووجه ما ذهب إليه مالك أن المولي لما سقط عنه بالتولية ما في ذمته، فكأنه قد قبضه من نفسه وانتقده، وقول سحنون أظهر؛ وقد أقام بعض الناس من لفظ وقع في باب تعدي الوكيل من السلم الثاني من(7/316)
المدونة مثل قول سحنون، وذلك قوله فيه، ولأنه إذا أسلفك من عنده فتعدى، فأخذته فدفعت إليه الثمن، كان تولية؛ لأنه لم يلزمه شيء تعدى له فيه، ولا صرف فيه ذهبك؛ وليس ذلك بصحيح؛ لأنه إنما تكلم في المدونة على طعام مسلم فيه، ولا اختلاف في أن من له على رجل دنانير أو دراهم، لا يجوز له أن يستوليه بذلك طعاما مسلما فيه، ولا غير طعام أيضا؛ لأنه يدخله الدين بالدين، وبيع الطعام قبل أن يستوفى.
[مسألة: بيع البراءة في الدواب]
مسألة وقال مالك: لا ينفع بيع البراءة في الدواب وإن تبرءوا في ميراث ولا غيره، وإن وجد بها عيبا ردها؛ ولا براءة عندنا إلا في الرقيق، وضعف البراءة في الرقيق؛ قال ابن القاسم: وإن البراءة جائزة على مثل قضية عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قال محمد بن رشد: قول مالك: إن البراءة لا تنفع في الدواب، هو الذي رجع إليه، خلاف قوله في موطئه: إن البراءة جائزة في الرقيق والحيوان؛ وأما العروض والثياب، فلم يختلف قوله: إنه لا براءة فيها؛ وقد أجاز البراءة فيها جماعة من السلف، وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك، واختيار ابن حبيب، وقد مضى في رسم سلف، من سماع ابن القاسم، من كتاب العيوب، وجه الفرق عنده بين الرقيق والثياب في ذلك، وقد حكى ابن القاسم، عن مالك في المدونة أنه رجع عن إجازة البراءة في الرقيق،(7/317)
قيل في كل وجه من بيع الناس بعضهم من بعض، ومن بيع المواريث، ومن بيع السلطان؛ وقيل في بيع الناس بعضهم من بعض، وفي بيع المواريث لا في بيع السلطان؛ وقيل في بيع الناس بعضهم من بعض، لا في بيع المواريث، ولا في بيع السلطان، كل ذلك قد تقول على ما في المدونة، وأخذ ابن القاسم بقول مالك الأول في إجازة البراءة في الرقيق في كل وجه من بيع الناس بعضهم من بعض إذا اشترطوا البراءة، ومن بيع المواريث إذا أخبروا أنه ميراث، وإن لم يشترطوا البراءة ومن بيع السلطان، هذا نص قوله في المدونة، ومعنى قوله هاهنا، وأرى البراءة جائزة على مثل قضية عثمان؛ لأنه إنما أراد أنها جائزة في الرقيق خاصة في جميع الوجوه.
[مسألة: يبتاع من الرجل بعشرين درهما فيعطيه إياها لا يعرف لها وزنا]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يبتاع من الرجل بعشرين درهما، فيعطيه إياها لا يعرف لها وزنا، والدراهم تختلف، فرب درهم عريض يكون عريضا خفيفا في الوزن، ورب درهم صغير يكون صغيرا أثقل في الوزن، فيشتري بها على عددها بما كان فيها من الوزن؛ فقال: ما هو بحسن، يبيع الدراهم جزافا، كأنه رآه من وجه الجزاف؛ قال ابن القاسم: قال الله جل ذكره: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الإسراء: 35] ، فلا ينبغي لأحد أن يترك الوزن، وذلك رأيي؛ وسمعت مالكا غير مرة يكره ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه لا يجوز له أن يقتضي من عشرين درهما مجموعة موزونة عشرين درهما عددا مجموعة؛ لأنه غرر؛ إذ لا يدري هل أخذ أقل من حقه أو أكثر، إذ قد يكون(7/318)
الدرهم العريض خفيفا، والدرهم الصغير ثقيلا، ولو اقتضى منها عشرين درهما عددا مجموعة لا تجوز أعيانها، لا يشك أنها أكثر في الوزن من التي له أو أقل، لجاز ذلك؛ لأنه معروف من أحدهما إلى صاحبه؛ ولو اقتضى منه عشرين درهما عددا تجوز بأعيانها، لجاز إن كانت في الوزن أكثر من التي له، ولم يجز إن كانت في الوزن أقل من التي له، أنها إن كانت أكثر في الوزن من التي له، فقد أخذ أفضل من حقه في الوزن، وفي عيون الدراهم، وإن كانت أقل في الوزن، كان إنما ترك فضل الوزن لفضل عيون الدراهم فلم يجز، وهذا كله قائم من قوله في المدونة: إن القائمة تقتضى من المجموعة؛ لأنها أكثر في الوزن وأفضل في العين، ولا يقتضى منها الفراد؛ لأنها أقل في الوزن وأفضل في العين، وقد مضى بيان هذا كله في رسم القبلة، ورسم الشريكين من سماع ابن القاسم، من كتاب الصرف، وليس ما مضى في سماع أشهب منه من إجازة اقتسام الدراهم الناقصة والوازنة عددا بغير وزن، بخلاف لهذه الرواية؛ لأن المعنى فيها أن الناقصة تجوز بجواز الوازنة حسبما ذكرناه هناك، وبالله التوفيق.
[جواز الذهب وحكم شراؤه]
ومن كتاب أوله
نذر سنة يصومها وسئل مالك عن جواز الذهب، أيشتري بها ولا يبين لمن يدفعها إليه؟ قال: أما كل بلد مثل مكة التي يجوز فيها كل شيء فلا بأس، وأما غير ذلك فلا أحبه حتى يسمى.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن البلد الذي تجوز فيه(7/319)
جميع السكك جوازا واحدا لا فضل لبعضها على بعض، ليس على المبتاع فيه شيء أن يبين بأي سكة يبتاع، ويجبر البائع أن يأخذ أي سكة أعطاه؛ كما أن البلد إذا كان يجري فيه سكة واحدة، فليس عليه أن يبين بأي سكة يبتاع، ويجبر على أن يقضيه السكة الجارية؛ وأن البلد الذي يجري فيه جميع السكك، ولا تجوز فيه بجواز واحد، لا يجوز البيع فيه حتى يبين بأي سكة يبتاع، فإن لم يفعل، كان البيع فاسدا.
[مسألة: يشتري الدار وهي غائبة عنه]
مسألة ومن رواية يحيى بن يحيى قال ابن القاسم: قال مالك في الرجل يشتري الدار وهي غائبة عنه، إنما يشتريها بصفة المخبر والرسول؛ قال: فأما بصفة صاحبها فلا أرى ذلك، إلا أن يشترط النظر فلا ينقد.
قال محمد بن رشد: هذه رواية ليست على ظاهرها في أن شراء الدار الغائبة بصفة صاحبها لا يجوز، إلا أن يشترط النظر فلا ينقد؛ والذي يأتي على المذهب أنه إن اشتراها بصفة المخبر والرسول، جاز الشراء والنقد؛ وإن اشتراها بصفة صاحبها، جاز الشراء وإن لم يشترط النظر، ولزمه البيع إن وجدت على الصفة التي وصف؛ إلا أن يشترط أنه بالخيار إذا نظر، ولم يجز في ذلك النقد؛ فمعنى قوله في الرواية إنما يشتريها بصفته المخبر والرسول، إنما الحق له أن يشتريها بصفة المخبر والرسول؛ وقوله فأما بصفة صاحبها، فلا أرى ذلك، معناه فلا أرى ذلك من الحق له أن يشترط النظر فلا ينقد؛ فإذا اشترى المأمون الغائب بصفة بائعه، جاز البيع ولم يجز النقد بشرط؛ وإن اشتراه بصفة غير بائعه، جاز البيع والنقد بشرط، فإن كان الغائب المشتري غير مأمون كالحيوان وشبهه، لم يجز فيه النقد إذا بعد بشرط، فإن قرب جاز فيه النقد بشرط إذا وصفه غير صاحبه، ولم يجز إذا وصفه صاحبه، وإن كان المبتاع قد رأى الغائب، جاز النقد فيه بشرط إن(7/320)
كان مأمونا أو كان قريبا، واختلف في ضمان هذا كله إن كان يوم البيع على الصفة، فقيل: إنه من المبتاع، إلا أن يشترط أنه من البائع حتى يقضيه المبتاع؛ وقد قيل: إنه من البائع حتى يقضيه المبتاع، إلا أن يشترط أن ضمانه من المبتاع؛ وأما إن كان يوم البيع على غير الصفة، فالضمان من البائع قولا واحدا؛ واختلف هل يلزم المبتاع أن يخرج الثمن فيضعه على يدي عدل حتى يقبض ما اشترى أو يقبض له، أم لا على قولين؛ كالاختلاف في وجوب توقيف الثمن في المواضعة، وقد مضى ذلك في أول سماع ابن القاسم، من كتاب الاستبراء وأمهات الأولاد، وبالله التوفيق.
[باع ثمرا واستثنى من الكيل ما يجوز له أن يستثنيه]
ومن كتاب أوله
مرض وله أم ولد فحاضت
قال: وقال مالك: من باع ثمرا واستثنى من الكيل ما يجوز له أن يستثنيه، أو أسلفه أو وهبه؛ فإنه يبيعه قبل أن يقبضه، وإنما كره من ذلك ما كان على وجه الاشتراء، فأما الاستثناء فليس باشتراء، ولا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية أن يبيع ما استثنى كيلا مما باع من الثمر جزافا، وما أسلفه أو وهبه قبل أن يقبض ذلك؛ فأما ما استثنى كيلا مما باع من الثمر جزافا، فقد روى ابن وهب عن مالك أن بيعه قبل أن يستوفيه لا يجوز، خلاف رواية ابن القاسم هذه عنه؛ والاختلاف في هذا جار على اختلافهم في المستثنى، هل هو مبقى على ملك البائع، أو بمنزلة المشترى؟ فرواية ابن القاسم على أنه مبقى على ملك البائع، وهى أظهر القولين؛ وقد مضى هذا المعنى في رسم حلف، ورسم سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وأما ما أسلفه أو وهبه، فإن كان مما كان يجوز للمسلف أو الواهب أن يبيعه قبل أن يقبضه، فلا اختلاف في أنه يجوز للذي(7/321)
أسلفه أو وهبه أن يبيعه قبل أن يقبضه؟ وأما إن كان مما لا يجوز للمسلف أو الواهب أن يبيعه قبل أن يقبضه، مثل أن يبتاع طعاما أو يسلف فيه، فيهبه لرجل قبل أن يقبضه، أو يسلفه إياه، فالمشهور أن الموهوب له والمسلف يحلان محل الواهب والمسلف، في أنهما لا يجوز لهما بيعه قبل قبضه؛ وقد حكى ابن حبيب عن مالك تخفيف ذلك في الهبة والصدقة، والسلف مثله، وهو شذوذ من القول؛ وقد مضى في أول سماع ابن القاسم، من كتاب السلم والآجال، من تحصيل القول في مثل هذه المسألة ما أغنى عن ذكره هنا مرة أخرى، وبالله التوفيق.
[مسألة: باع بدينار قمحا فأتى بائعه فوجد عنده ثمرا فاشتراه بدينار]
مسألة قال مالك في رجل باع بدينار قمحا، فأتى بائعه فوجد عنده ثمرا، فاشتراه بدينار، ثم لقيه بعد ذلك فقال: لك علي دينار، ولي عليك دينار فقاصني؛ فقال مالك: لا أحبه، ولكن أرى أن يرد الثمن الذي أخذ منه؛ قال ابن القاسم: لأنه إذا قاصه كان من ثمن الطعام طعاما.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة هاهنا في بعض الروايات، وهي ثابتة في كل رواية في رسم صلى نهارا، من سماع ابن القاسم، من كتاب السلم والآجال، وقد مضى القول عليها هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته مرة أخرى، وبالله التوفيق.(7/322)
[كتاب جامع البيوع الثاني] [الدار الغائبة تشترى بصفة](7/323)
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك رواية سحنون قال مالك في الدار الغائبة تشترى بصفة لا يجوز أن يشتريها إلا مذارعة، وذكرها سحنون من رأيه.
قال محمد بن رشد: قوله في الدار الغائبة تشترى بصفة أنه لا يجوز أن يشتريها إلا مذارعة، معناه: أنه لا بد في صفتها من تسمية ذرعها، فيقال: اشترى منه الدار التي ببلد كذا بموضع كذا، وحدها كذا، وصفتها كذا؛ وذرع ساحتها في الطول كذا وكذا، وفي العرض كذا وكذا؛ وطول بيتها الكذا - كذا وكذا ذراعا، وعرضه كذا وكذا - ذراعا؛ حتى يأتي على جميع مساكنها ومنافعها بالصفة والذرع؛ ولو وصف بناءها وذكر صفة أنقاضها وهيئة مساكنها، وقدرها بالكبر أو الصغر أو الوسط، واكتفى من تذريعها بأن يقول على أن فيها كذا وكذا ذراعا، لجاز ذلك، والأول أتم وأحسن؛ وليس المعنى فيا ذلك أنه لا يجوز أن يشتريها على الصفة، إلا كل ذراع بكذا ما بلغت، بل لا يجوز ذلك إلا أن يكون قد رأى الدار ووقف عليها؛ كالأرض لا يجوز شراؤها على الصفة(7/325)
كل ذراع بكذا، دون أن يراها؛ وكالصبرة لا يجوز شراؤها على الصفة، كل قفيز بكذا دون أن يراها؛ وقد اختلف إذا باع منه الدار والأرض والخشبة أو الشقة على أن فيها كذا وكذا ذراعا، فقيل: إن ذلك بمنزلة أن يقول: اشترى منك من ذلك كله كذا وكذا ذراعا، فإن وجد في ذلك أكثر مما سمى من الأذرع، كان البائع شريكا للمبتاع بالزيادة؛ كالصبرة يشتريها على أن فيها عشرة أقفزة، فيجد فيها أحد عشر قفيزا، كان القفيز الزائد للبائع؛ فإن وجد في ذلك أقل مما سمى من الأذرع، كان ما نقص مما سمى بمنزلة المستحق، إن كان يسيرا، لزم المبتاع ما وجد بحسابه من الثمن؛ وإن كان كثيرا، كان مخيرا فيما وجد بين أن يأخذه بما يجب له من الثمن أو يرده، وقيل: إن ذلك كالصفة ما ابتاع من ذلك، فإن وجد أكثر مما سمى، كان ذلك للمبتاع؛ وإن وجد أقل مما سمى، كان المبتاع بالخيار بين أن يأخذ ما وجد بجميع الثمن أو يرد؛ والقولان قائمان من أول كتاب تضمين الصناع من المدونة، ومن رسم أوصى، من سماع عيسى، من هذا الكتاب؛ وفرق في نوازل سحنون منه بين الدار والأرض، وبين الشقة والخشبة؛ وساوى بين ذلك كله في نوازل سحنون من كتاب العيوب في بعض الروايات، وقال: إن الخلاف يدخله كله دخولا واحدا؛ وقال بعض الشيوخ على قياس التفرقة التي في نوازل(7/326)
سحنون من هذا الكتاب: كل ما كان أصل الشراء فيه شراء الجملة بغير ذرع، فوجد زيادة في الذرع فهي له، كالثوب والحبل خشبة؛ وكل ما كان أصله أن يشترى بعدد أو كيل أو ذرع، فوجد زيادة فهي للبائع، كصبرة الطعام والحوت والأرض تشترى على ذراع؛ وأما الدار يكون في صفتها عدد ذرع، فإنه إن كانت دارا ذات بناء وهيئة، فالذرع بعض صفتها إن وجد فيها زيادة كانت للمبتاع، وإن كانت على غير ذلك، إنما بيعت لسعتها وانفساحها، فوجد زيادة كان شريكا مع البائع بالزيادة إن شاء، أو يرد الكل إن كره الشركة.
[مسألة: اشترى من رجل أربعة أعذق بعينها في حائط له]
مسألة قال سحنون: قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عمن اشترى من رجل أربعة أعذق بعينها في حائط له، ولم يشترط البائع على المبتاع أنه لا طريق لك ولا شرب لك؛ ولم يشترط المبتاع على البائع شربها من الماء، ولا الطريق إليها؛ فقال: أرى ذلك للمبتاع على البائع، يكون له طريقه إليها وشربها من الماء، وإن لم يكن يشترطه؛ لأنه إنما يشتري المشتري النخل بمائها وطرقها إليها، وأرى ذلك له عليه، وإن لم يشترطه.(7/327)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن البيع وقع بينهما، وهما عالمان بمبلغ الشرب، وقد مضى القول في رسم حلف، من سماع ابن القاسم إذا وقع البيع بينهما، وهما جاهلان بمبلغ الشرب أو أحدهما مستوفى، فلا معنى لإعادته؛ وإذا وقع البيع بينهما، وهما عالمان بمبلغ الشرب، فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال؛ أحدها: أن يقع البيع بينهما مبهما دون نية ولا شرط. والثاني: أن يتفقا على أن البيع وقع بينهما مبهما دون شرط، فيقول البائع: إنما كانت إرادتي بيعها دون شربها؛ ويقول المبتاع: إنما كانت إرادتي شراءها بشربها. والثالث: أن يختلفا فيقول البائع: بعتك دون شرب بشرط وبيان، ويقول المبتاع: بل اشتريتها منك بشربها بشرط وبيان، فأما إذا وقع البيع بينهما مبهما دون نية ولا شرط، ففي ذلك اختلاف؛ قال في هذه الرواية: إن المبتاع يكون له شرب النخل من الماء، وقيل: إنه لا يكون له الشرب إلا أن يشترطه، وهو ظاهر ما في رسم باع شاة، من سماع ابن القاسم، من هذا الكتاب، وذلك إذا كان المبتاع يقدر على سقيها من غير ساقية البائع بوجه من الوجوه، أو كانت تستغني عن السقي؛ وأما إن كان المبتاع لا يقدر على سقيها من غير ساقية البائع بوجه من الوجوه، ولا تستغني عن السقي؛ فإن الشرب يكون للمبتاع قولا واحدا.
وأما إذا وقع البيع بينهما مبهما، فقال البائع: إنما كانت إرادتي أن أبيعك النخل دون شربها؛ وقال المبتاع: إنما كانت إرادتي شراءها بشربها، فإن كان لما قال البائع وجه، مثل أن يكون المبتاع يقدر على سقيها من غير ساقية البائع؛ أو كانت تستغني عن السقي، تحالفا وتفاسخا؛ فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف؛ وإن لم يكن لما قال البائع(7/328)
وجه، كان الماء للمشتري؛ قال ذلك ابن القاسم في بعض الروايات، من سماع أصبغ، من كتاب الصدقات والهبات.
وأما إذا اختلفا فقال البائع: بعتك النخل دون شرب بشرط وبيان، وقال المشتري: بل اشترينها منك بشربها بشرط وبيان؛ فقال ابن القاسم: إن كان لما قال البائع وجه، تحالفا وتفاسخا؛ وإن لم يكن لما قال وجه، كان القول قول المبتاع؛ وقال أصبغ: يتحالفان ويتفاسخان، كان لما قال البائع وجه، أو لم يكن؛ فراعى ابن القاسم دعوى الأشباه في اختلاف المتبايعين مع القيام، ولم يراعه أصبغ، وهو المشهور في المذهب؛ ولو وهبه الأعرف؛ لكان القول قول الواهب: إنه إنما وهبها له دون شربها؛ بخلاف إذا كان الماء فيها على ما في سماع أصبغ، من كتاب الصدقات والهبات، خلاف ظاهر ما في أول رسم شهد، من سماع عيسى، من كتاب الصدقات والهبات، وعلى ما سنذكره هناك، إن شاء الله تعالى.
[مسألة: الموز هل يباع اثنان بواحد]
مسألة وسئل عن الموز أيباع اثنان بواحد؟ فقال: لا يعجبني، وغيره أحب إلي منه.
قال محمد بن رشد في الموطأ لمالك: إنه لا بأس بالتفاضل فيه، وهو الصحيح على أصله؛ لأنه لا يدخر ولا يقتات، وإنما هو فاكهة يخرج بطونا كمقاثئ والخضر.
[مسألة: اشترى سلعة من رجل وشرط عليه عند عقدة البيع]
مسألة وسئل مالك عمن اشترى سلعة من رجل، وشرط عليه عند(7/329)
عقدة البيع إن ادعاها مدع، فمالي علي رد بغير خصومة، قال: لا يعجبني هذا البيع اشترط ما ليس في كتاب الله، فلا يعجبني هذا البيع.
قال محمد بن رشد: قوله: لا يعجبني هذا البيع، يدل على أنه رآه بيعا فاسدا لما اقترن به من الشرط؛ وذلك بين؛ لأنه غرر؛ إذ لم يبين البائع بما قبض من الثمن، إذ شرط عليه رده بالدعوى دون بينة، وذلك خلاف لما أحكمه الكتاب، وجاءت به الآثار، من أنه لا يؤخذ أحد بمجرد الدعوى دون بينة؛ فمعنى قوله اشترط ما ليس في كتاب الله، أي اشترط خلاف ما أوجبه الكتاب وقدره الشرع عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، المبين عن الله ما أنزله في كتابه.
[مسألة: يقول للرجل ابتعني سلعتك هذه بكذا وكذا فيقول نعم]
مسألة قال أشهب: سألت مالكا عن الرجل يقول للرجل: ابتعني سلعتك هذه بكذا وكذا، فيقول: نعم؛ فيقول: قد أخذتها، فيقول رب السلعة: ما أردت بيعها، إنما أردت اختبار ثمنها؛ فقال لي: لا سواء، أما الذي يوقف سلعته في السوق يتسوق بها، فأرى ذلك له لازما، ولا يغني عنه إباءه ذلك، وإن لم يفترقا وكان ذلك مكانهما؛ وأما الذي يعلم أنه كان لاعبا لا يريد بيع سلعته، فلا أرى ذلك له لازما، ولا عليه جائزا؛ قيل لمالك فإن كان على غير(7/330)
وجه اللعب رأيت ذلك لازما لهما، وإن لم يفترقا إن لم تكن صفة خيار؟ قال: نعم، أرى ذلك لهما لازما، إن لم يكن بيع خيار، وكانت مناكرتهما من ساعتهما؛ وقد ذكر هذا الحديث، ولعله يكون شيئا ترك، ولم يعمل به.
قال محمد بن رشد: هذه الرواية تدل على أن الخلاف إنما هو في الذي يسوم الرجل بسلعته، وقد أوقفها للبيع في السوق، هل يصدق إن ادعى أنه لم يجد في السوم، وأنه إنما أراد اختبار ثمنها، أو أنه كان لاعبا وما أشبه ذلك أم لا؛ وأما الذي يلقى الرجل في غير السوق، فيسومه في سعلته فيقول هي بكذا وكذا؛ فلا اختلاف في أن البيع لا يلزمه إن ادعى أنه لم يكن مجدا في السوم، وأنه كان لاعبا، ويحلف على ذلك إن لم يتبين صدقه؛ وإنما يلزمه إن علم أنه كان مجدا غير لاعب: إما بتردد المكايسة بينهما، كنحو رواية ابن نافع، عن مالك الواقعة في نوازل سحنون، وإما بإقراره بذلك على نفسه؛ إذ لا يعلم ذلك إذ لم تتردد المكايسة بينهما إلا من قبله؛ وقد قيل: إن الخلاف يدخل في هذا أيضا على ظاهر ما مضى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وليس ذلك عندي بصحيح على ما مضى القول فيه هناك، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب العيوب، فمن أحب الوقوف على الشفاء منها تأمله هناك.
وقوله: وكانت مناكرتهما من ساعتهما، معناه وإن كانت مناكرتهما من ساعتهما؛ لأن الخلاف إنما هو إذا كانت مناكرتهما من ساعتهما، للحديث الذي جاء أن المتبايعين كل واحد(7/331)
منهما على صاحبه بالخيار ما لم يفترقا، إلا بيع الخيار؛ فرآه حديثا متروكا لم يصحبه عمل، قال في موطئه: وليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به فيه؛ وقد تؤول أن معناه المراد به أن المتساومين كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا بالقول؛ إذ قد يكون التفرق بالقول؛ قال عز وجل: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] ، وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] . وقد يسمى المتساومان متبايعين، فيكون فائدة الحديث على هذا التأويل إثبات الخيار في البيع؛ إذ قد علم أن المتساومين بالخيار ما لم ينعقد البيع بينهما؛ وقيل: فائدته أن من أوجب البيع منهما لصاحبه له الرجوع عنه ما لم يجبه صاحبه بالقبول، إلا أن هذا ليس على المذهب؛ وقيل: فائدته أن المتساومين لا يلزم البائع منهما البيع بما طلب من الثمن ولا المبتاع الأخذ بما بدا منه في حال المساومة، وأن لكل واحد منهما أن يرجع عن ذلك، ما لم يتم البيع بالكلام؛ وهذا يأتي على مذهب مالك في المدونة؛ ومن أهل العلم من ذهب إلى أن المراد بالفرقة فرقة الأبدان، وأنها فرقة تحل العقدة، وتبطل ما أوجبه أحد المتبايعين على نفسه لصاحبه، وهو معنى حسن يخرج على المذهب.
[مسألة: دفع إليه الدرهم وقال له اعطني نصفه بطيخا ونصفه تينا]
مسألة وسئل مالك فقيل له: جئت إلى صاحب فاكهة، فأعطيته درهما(7/332)
وقلت له: أعطني رطبا، فلما دفعت إليه الدرهم، بدا لي فقلت له: أعطني نصفه بطيخا، ونصفه تينا، قال: أرجو أن يكون هذا خفيفا، ولا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: إنما جاز هذا؛ لأن عقد البيع لم يتم بينهما؛ وإنما كانا في حال التراوض؛ إذ لم يقطعا السعر بعد؛ فلو أراد أن يأخذ درهمه، لكان ذلك له؛ ولو كان البيع قد انعقد بينهما، لم يجز ذلك على ما مضى في رسم شك، ورسم حلف من سماع ابن القاسم، من هذا الكتاب؛ وقد مضى القول على ذلك في الرسمين جميعا، ومضى أيضا في رسم القبلة، ورسم المحرم من سماع ابن القاسم، من كتاب الصرف، القول على هذه المسألة مستوفى لمن أحب الوقوف عليه.
[مسألة: ابتاع حائطا ثم جاءه البائع يستقيله]
مسألة وسئل مالك عمن ابتاع حائطا، ثم جاءه البائع يستقيله، فقال له المبتاع: أقيلك على أنك متى بعته فهو لي بالثمن الذي تبيعه به، فقال: نعم ذلك لك، والله ما أريد بيعه، فأقاله على ذلك، فأقام بيده زمنا ثم باعه بالثمن، ثم جاء المقيل فقال: أنا آخذه بالثمن الذي بعته به، فإني قد كنت شرطت ذلك عليك حين أقلتك؛ أيكون ذلك له؟ فأطرق فيها طويلا، فقال لي: إني أرى ذلك الآن بالثمن الذي باعه به، أراه له بذلك الثمن فيما أرى الآن؛ وإن أحببت أن ترجع إلي فارجع، فقام عنه هنيهة، ثم رجع فقرأ عليه الكتاب أنه أقاله على أنه أحق به بالثمن الذي يبيعه به إن باعه،(7/333)
فباعه بعد زمان؛ أترى هذا مردودا؟ فقال: أما مردود فلا، ولكن أرى إن شاء أن يأخذه بالثمن الذي باعه به هذا الآخر، فذلك له؛ وإن شاء أن يتركه له، فذلك له.
قال محمد بن رشد: أوجب مالك للمقيل أخذ الحائط بشرطه، وإن باعه المستقيل بعد زمان؛ لقوله في الشرط متى ما باعه؛ لأن متى ما تقتضي قرب الزمان وبعده، بخلاف ما في سماع محمد بن خالد لابن القاسم وابن كنانة، من تفرقته بين القرب والبعد إذا أقاله على أنه إن باعه من غيره، فهو له بالثمن؛ وقد كان المقيل يخاف من المستقيل أن يكون إنما استقاله ليبيعه من غيره بزيادة أعطى فيه، وإنما جاز هذا الشرط في الإقالة؛ لأن الإقالة معروف فعله به، واشترط أن يكافئه عليه بمعروف، فلزم ذلك فيها، بخلاف البيع؛ وقد مضى القول في حكم البيع إذا وقع على هذا الشرط مستوفى في رسم القبلة، من سماع ابن القاسم، ولمحمد بن خالد في سماعه أن الإقالة على هذا الشرط لا تجوز كالبيع؛ والذي يوجبه القياس والنظر عندي ألا فرق في هذا كله بين البيع والإقالة، وأنه إذا أقاله أو باعه على أنه متى باعه من غيره، فهو أحق به، أن ذلك لا يجوز؛ لأن في إجازة البيع والإقالة وإمضاء الشرط فيهما إبطالا لحق المشتري، وظلما له في أن يؤخذ منه ما ابتاع دون حق يوجب ذلك عليه؛ وأنه إن استقاله أو سأله البيع ابتداء، فقال له: أخشى أنك إنما تسألني الإقالة أو البيع لربح أعطيت في ذلك، لا لي رغبة لك فيه، فقال: له لا أريده إلا لرغبة فيه لا للبيع؛ فأقاله أو باعه على أنه أحق به بالثمن إن باعه - أو يكون أحق به - إن(7/334)
باعه بالقرب؟ فيتبين أنه إنما استقاله، أو سأله البيع لذلك؟ وكذلك لو أقاله أو باعه على أنه إن أراد بيعه، فهو أحق به بالثمن الذي يعطى فيه، لم يجز ذلك في البيع؟ ويختلف فيه في الإقالة، من أجل أن بابها معروف المكايسة، وكذلك يختلف أيضا في هذا الشرط إذا وقع في الهبة، وقع الاختلاف في ذلك في سماع سحنون، من كتاب الصدقات والهبات، ظهر في الهبة الجواز، وفي الإقالة المنع، فإذا جمعت المسألتين تجمع فيهما ثلاثة أقوال: الجواز فيهما جميعا، والمنع فيهما جميعا، والفرق بين الهبة والإقالة؛ وسيأتي القول على مسألة الهبة في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب الصدقات والهبات، وفي سماع سحنون منه، وفي أول سماع سحنون مسألة من هذا المعنى، سنتكلم عليها إذا مررنا بها إن شاء الله.
[مسألة: باع أصل حائطه من رجل أنه متى جاءه بالثمن كان أحق بحائطه]
مسألة وسئل مالك عمن باع أصل حائطه من رجل أنه متى جاءه بالثمن، كان أحق بحائطه، وكان إليه رد فأقام في يد المشتري ست سنين، يأكل ثمرته، ويزرع قصبا يأكل غلته، ثم أيسر البائع بعد ست سنين، فجاءه بالثمن فرده عليه، وأخذ حائطه، وقد أكل المشتري ثمرته ست سنين وغلة قصب كان يزرعه، وطلب مشتري الحائط ما أنفق في الحائط، فقال مالك: أصل هذا(7/335)
البيع لم يكن جائزا ولا حسنا، وأرى للمشتري ما أكل من الثمر، واستغل من القصب بالضمان؛ لأنه كان للحائط ضامنا، وأرى له أيضا على رب الحائط ما أنفق في بنيان جدار أو حفر بئر؛ فإنه رد إليه، وقد بنى فيه، وحفر فيه بئرا، وأصل هذا البيع لم يكن جائزا ولا حسنا.
قال محمد بن رشد: البيع على هذا الوجه يسمونه بيع الثنيا، وقد اختلف فيه؛ فقيل: إنه بيع فاسد بما شرط البائع على المبتاع من أنه أحق به متى ما جاءه بالثمن؛ لأنه يصير كأنه بيع وسلف، وهو قول مالك هاهنا، وفي بيوع الآجال من المدونة، فإن وقع فسخ، ما لم يفت بما يفوت به البيع الفاسد، وكانت الغلة للمبتاع بالضمان، فإن فات صحح بالقيمة، والحائط لا يفوت في البيع الفاسد بالبناء اليسير، فلذلك قال: إنه يكون على رب الحائط إذا رد إليه ما أنفق على المبتاع في بنيان جدار أو حفر بئر، وقد قيل: قيمته ما أنفق، وليس ذلك باختلاف قول؛ وإنما المعنى في ذلك أن نفقته إن كانت بالسداد، رجع بما أنفق، وإن كانت بغير السداد، مثل أن يستأجر الأجراء بأكثر مما يستأجر به مثلهم بغبن جرى عليه في ذلك، أو بمعروف صنعه إليهم، رجع بقيمة ذلك على السداد، وقيل فيه: إنه ليس بيعا، وإنما هو سلف جر منفعة؛ قال سحنون ذلك في المدونة، وهو قول ابن الماجشون وغيره؛ لأنه كان المبتاع أسلف البائع الثمن على أن يغتل حائطه حتى يرد إليه سلفه، فعلى هذا القول ترد الغلة للبائع، ولا تكون للمبتاع؛ لأنها ثمن السلف فهي عليه حرام.(7/336)
[مسألة: لبن البقر والغنم يخلطان جميعا ويضربان فيخرج زبدهما ثم يباع اللبن]
مسألة وسئل مالك عن لبن البقر والغنم يخلطان جميعا ويضربان، فيخرج زبدهما ثم يباع اللبن؛ فقال: أحب إلي ألا يخلطا جميعا، وأن يضرب كل واحد منهما على حدته؛ فإن ضربا جميعا، فأرى عليه إذا باع اللبن أن يبين ذلك للمبتاع، فيعلمه أنه لبن بقر وغنم، قلت: أفرأيت إن باع الزبد الذي خرج منهما، والسمن الذي خرج منهما، أترى ذلك عليه أيضا أن يبين ذلك للمبتاع، ويقول له: إنه زبد، أو إنه سمن بقر وغنم؟ فقال لي: نعم، أرى ذلك عليه أن يبين ذلك للمبتاع؛ لأنه ليس شيء من الزبد، ولا من السمن، ولا اللبن مثل زبد الغنم وسمنها، أو مثل لبنها أطيب ولا أجود، فأرى أن يبين ذلك إذا باع، وأحب إلي ألا يخلطهما.
قال محمد بن رشد: قوله: أحب إلي ألا يخلطا ليس على ظاهره، وهو تجوز في اللفظ، بل لا يحل ذلك، ولا يجوز وإن بين؛ لأنه من الغش؛ وكذلك قال ابن القاسم في رسم الجواب من سماع ابن القاسم، وقال مالك في كتاب ابن المواز: يعاقب من خلط طعاما بطعام دونه، أو قمحا بشعير، ويمنع من بيعه على ظاهر ما في كتاب ابن المواز من أجل الذريعة، فإن باع وبين مضى البيع ولم يكن للمبتاع رد، وكان قد أساء؛ فليس في قوله في الرواية: فأرى أن يبين ذلك إذا باع، دليل على أن ذلك مباح له أن يفعله، وإنما معناه أن ذلك يلزمه من أجل حق المشتري؛ فإن لم يفعل، كان له أن يرد، ويلزمه أن يبين قدر ما فيه من كل واحد منهما إن علم ذلك؛ وإن لم يعلمه أخبر باختلاطهما، وقد كره مالك في كتاب ابن المواز لمن خلط قمحا بشعير لقوته، ففضل له منه(7/337)
فضل، أن يبيعه وإن قل الثمن، وخفف ذلك ابن القاسم إذا لم يتعمد خلطه للبيع، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في الواضحة؛ وإنما يكون للمبتاع أن يرد اللبن المخلوط والزبد والسمن من اللبن المخلوط إذا كان لبن الغنم وزبدها وسمنها هو الغالب في البلد أو كان متساويين؛ وأما إن كان لبن البقر وزبدها وسمنها هو الغالب في البلد، فليس له أن يرد شيئا من ذلك إذا وجده مخلوطا بلبن الغنم؛ لأنه لو وجده كله لبن بقر أو غنم، لم يكن له أن يرده؛ فكيف إذا وجده مخلوطا بلبن الغنم، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب العيوب، وما يدخله من الخلاف؛ وهذا على ما ذكر مما هو لا شك معلوم عندهم، أن لبن الغنم وزبدها وسمنها أفضل من لبن البقر وزبدها وسمنها، وأما على ما هو معلوم عندنا من أن سمن البقر أفضل وأطيب من سمن الغنم، فليس له أن يرد السمن المخلوط إذا كان الغالب في البلد سمن الغنم؛ وإنما له أن يرده إذا كان الغالب بالبلد سمن البقر، أو كانا متساويين، كما لو اشتراه فوجده سمن غنم.
[مسألة: الموز إذا بلغ في شجره أيشترى قبل أن يطيب]
مسألة وسئل مالك عن الموز إذا بلغ في شجره، أيشترى قبل أن يطيب؟ فإنه لا يطيب حتى ينزع؟ فقال: لا بأس بذلك إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: من شأن الموز أنه لا يطيب حتى ينزع من شجره، ويدفن أياما في تبن أو غيره، وكذلك يطيب؛ فلذلك جاز بيعه قبل أن يطيب، وذلك إذا صلح للقلع، فصلاحه للقلع من ثمره هو طيبه الذي يجوز بيعه به، وكذلك ثمار عندنا تسمى المشتهى، لا تطيب حتى تقطع وتقيم أياما بعد القطع، فبلوغها حد القطع هو طيبها الذي يجوز له بيعها، وبالله التوفيق.(7/338)
[مسألة: التين وإذا بلغ وكبر إلا أنه أخضر لم يؤكل منه شيء بعد أيباع]
مسألة وسألنا مالكا عن التين وإذا بلغ وكبر، إلا أنه أخضر لم يؤكل منه شيء بعد أيباع؟ فقال لي: لا يباع حتى يطيب أو يطيب أوائله ويؤكل، فإذا طاب أوائله وأكل منه جاز بيعه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا يجوز بيعه إذا كبر حتى يطيب منه شيء، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الرجل يكون عنده العبدان فيسلم بهما]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يكون عنده العبدان فيسلم بهما، فيقول الرجل: هذا العبد بأربعين إلى سنة، وهذا بخمسين إلى سنة، خذ أيهما شئت، فقال: ما أرى بهذا بأسا.
قال محمد بن رشد: لم يجعل في هذه الرواية قول البائع، خذ أيهما شئت إيجابا أوجبه على نفسه للمبتاع، فلذلك قال: لا أرى به بأسا؛ لأن البيع على هذا الوجه من بيعتين في بيعة، فلا يجوز إذا كان البيع لازما لهما أو لأحدهما، وقد روي عن مالك أن قوله: خذ أيهما شئت إيجاب منه للبيع على نفسه، بمنزلة قوله قد بعتك أيهما شئت، أو لك أيهما شئت، ووقع ذلك في كتاب لابن المواز من رواية أشهب عنه، قال: سئل مالك عمن قال لرجل: أن احبس لي راويتين من زيت، ثم رجع إليه، فقال: كيف(7/339)
بعت الراوية؟ فقال: بأربعة وعشرين نقدا، وبخمسة وعشرين على التقاضي؛ فأيهما شئت فخذ، قال: قد أخذت؛ قال مالك: هذا بيع مفسوخ، قيل له: إن الزيت قد فات، قال: فيرد مثله.
قال محمد بن رشد: وإنما فسخه لقوله: خذ أيهما شئت؛ لأن ذلك إيجاب على البائع، قال: ولم يزد على أن قال: خذها إن شئت بدينار، وإن شئت بهذه الشاة، لم يكن فيه خير؛ لأنه حين قال: خذ، أو قال له: قد بعتك، أو قال له: هي لك، فقد أوجب ذلك البائع على نفسه، وذكر محمد بن المواز بإثر هذه الرواية رواية أشهب الواقعة في هذا الرسم على نصها، ثم قال: والرواية الأولى أصح، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب العيوب.
[مسألة: باع حائطا فيه ألوان من الثمر]
مسألة وسئل مالك عمن باع حائطا فيه ألوان من الثمر: العجوة والكبسي والصيحاني وغير ذلك، أيجوز له أن يستثنى الثلث من الثمر كله في صنف واحد من تلك الألوان، وإن كان هو أكثر تلك الألوان؟ أو لا يجوز له أن يشتري من صنف واحد من تلك الألوان إلا ثلث ذلك الصنف؟ فقال: لا بأس أن يشتري ثلث الثمر الذي باع كله من صنف واحد من الثمرة العجوة والصيحاني؛ وإن كان ذلك من ذلك الصنف هو أكثره أو أقله إذا كان مما يباع من ذلك، هو ثلث الثمر الذي باع أو أدنى، لا بأس بذلك.(7/340)
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم قطع الشجرة، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: بيع القطاني بعضها ببعض متفاضلا]
مسألة وسألت مالكا عن القطاني بعضها ببعض متفاضلا يدا بيد، أيصلح ذلك؟ فقال لي: ذلك من القطاني مختلف، منه ما يجوز، ومنه ما لا يجوز؟ فأما الحمص والعدس، فلا أرى ذلك يجوز، ولا يصلح إلا مثلا بمثل؛ فقيل له: ما كنا نرى القطاني عندك كلها إلا بمنزلة الحنطة المختلفة بعضها ببعض، فقال: لا، القطنية أسماء كثيرة، فمنها ما يجوز بعضه ببعض متفاضلا، ومنها لا يجوز، فذلك مختلف.
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في القطاني في البيع على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها صنف واحد لا يصلح الفضل بينها. والثاني: أنها أصناف مختلفة، يجوز التفاضل بينها، وهو قول ابن القاسم وأصحاب مالك كلهم. والثالث: قوله في هذه الرواية؛ أن ما كان منها يشبه بعضه بعضا - يريد في المنفعة - كالحمص والعدس واللوبية والجلبان والبسيلة فهو صنف واحد، وما كان منها لا يشبه بعضه بعضا في ذلك مثل الفول والحمص والكرسنة، فهي أصناف مختلفة، يجوز التفاضل فيها؛ ولا اختلاف بينهم في أنها في الزكاة صنف واحد يضم بعضها إلى بعض، وإنما اختلف فيما هو من القطنية، مما هو ليس منها، من ذلك الكرسنة، ذهب ابن حبيب إلى أنها صنف على حدة؛ وقال ابن وهب: لا زكاة فيها، واختار ذلك يحيى بن يحيى،(7/341)
وهو الأظهر؛ لأنه علف وليس بطعام؛ ومن ذلك الأرز والجلجلان، روى زياد عن مالك أنهما من القطنية، والمشهور أنهما صنفان لا يضافان إلى غيرهما، ولا يضاف بعضهما إلى بعض؛ وقد مضى القول على هذه المسألة أيضا في رسم حلف، من سماع ابن القاسم، من كتاب السلم والآجال.
[ابتاع متاعا من ميراث فباع فيه مصلى]
ومن كتاب الأقضية الثاني
وسئل مالك عمن ابتاع متاعا من ميراث، فباع فيه مصلى، ثم قال له المشتري: أتدري ما هذا المصلى؟ هو والله خز؛ فقال البائع: ما علمت أنه خز، ولو علمت ما بعته بهذا الثمن؛ فقال مالك: ما أرى ذلك له، وأراه للمشتري، ولو شاء البائع استبرأه قبل أن يبيعه، وكذلك لو باعه هرويا، ثم قال له: لم أعلم أنه هروي، إنما ظننته كذا وكذا؛ أرأيت لو أن المبتاع قال: والله ما اشتريته، إلا أني ظننت أنه خز وليس بخز، فهذا مثله.
وكذلك الذي يبيع الحجر بالثمن اليسير، ثم إذا هو ياقوتة أو زبرجدة تبلغ مالا كثيرا، لو شاء البائع استبرأه قبل أن يبيع؛ قيل له: أرأيت الذي يأتي إلى الرجل فيقول له: أخرج لي ثوبا هرويا بدينار، فيخرج إليه ثوبا فيعطيه إياه؛ ثم ينظر بعد ذلك فيجده من أثمان أربعة دنانير، فيقول: أخطأت هذا مثله، قال: ليس هذا مثله، لا أرى هذا إلا أن يحلف ويأخذ ثوبه.
قال محمد بن رشد: في بعض الكتب، ولو شاء البائع استبرأه(7/342)
من الرؤية، والمعنى في هذا سواء، وفي سماع أبي زيد خلاف هذا أن من اشترى ياقوتة وهو يظنها ياقوتة، ولا يعرفها البائع ولا المشتري، فيجدها على غير ذلك؛ أو يشتري القرط وهو يظنه ذهبا فيجده نحاسا، أن البيع يرد في الوجهين جميعا، وهذا الاختلاف إنما هو إذا لم يسم أحدهما الشيء بغير اسمه، وإنما سماه باسم يصلح له على كل حال، مثل أن يقول البائع: أبيعك هذا الحجر، أو يقول المشتري: بع مني هذا الحجر، فيشتري المشتري وهو يظنه ياقوتا فيجده غير ياقوت، أو يبيع البائع وهو يظنه غير ياقوت، فإذا هو ياقوت؛ فيلزمه اشتراء المشتري، وإن علم البائع أنه غير ياقوت، والبائع البيع، وإن علم المبتاع أنه ياقوت على رواية أشهب عن مالك.
ولا يلزم المشتري الشراء، ولا البائع البيع على ما في سماع أبي زيد، وأما إذا سمى أحدهما الشيء بغير اسمه، مثل أن يقول البائع: أبيعك هذه الياقوتة، فيشتري المشتري، فيجدها غير ياقوتة، أو يقول المشتري: بع مني هذه الزجاجة فيبيعها منه، ثم يعلم البائع أنها ياقوتة، فلا اختلاف في أن الشراء لا يلزم المشتري، وأن البيع لا يلزم البائع.
وكذلك القول في المصلى، وما أشبه ذلك، وأما القرط يشتريه الرجل وهو يظنه ذهبا، ولا يشترط أنه ذهب فيجده نحاسا، فلا اختلاف في أن له أن يرده إذا كان قد صيغ على صفة أقراط الذهب، أو كان ذلك مغسولا بالذهب؛ لأن ذلك غش، وقد اختلف إذا ألغز أحدهما لصاحبه في التسمية، ولم يصرح، فقال ابن حبيب: إن ذلك يوجب الرد كالتصريح، وحكي عن شريح القاضي أنه اختصم إليه في رجل مر برجل، ومعه مصبوغ الصبغ الهروي، فقال له: بكم هذا الثوب الهروي؟ فقال له البائع: بكذا وكذا، فاشتراه منه، ثم تبين للمشتري أنه ليس هرويا، وإنما صبغ صبغ الهروي؛ فأجاز بيعه، وقال: لو استطاع أن يزين ثوبه بأكثر من هذا لزينه به؛ قال عبد المالك: لأنه إنما باعه هروي الصبغ حتى إذا قال: هروي هراة، فعند ذلك يرده، وذلك(7/343)
عندي اختلاف من قوله، وقد قال بعض الشيوخ: إذا باع الحجر في سوق الجوهر فوجده صخرة، كان للمبتاع القيام وإن لم يشترط أنه جوهر؛ وإذا باعه في ميراث أو غير سوق الجوهر، لم يكن للمبتاع قيام؛ وعلى هذا يقاس ما أشبهه، وهذا عندي يجري على الاختلاف الذي ذكرته في الألغاز؛ ووجه تفرقة مالك بين الذي يبيع الياقوتة، وهو لا يعلم أنها ياقوتة، أو مصلى الخز وهو لا يعلم أنها خز، وبين الذي يذهب أن يخرج للمشتري ثوبا ثمنه دينار، فيخرج إليه ثوبا ثمنه أربعة دنانير؛ أن الأول جهل وقصد، إذ لم يسأل من يعلم ما هو، والثاني: غلط، والغلط لا يمكن التوقي منه؛ فيكون له أن يحلف ويأخذ ثوبه إذا أتى بدليل على صدقه من رسم، أو شهادة قوم على حضور ما صار به إليه في مقاسمة، أو ما أشبه ذلك؛ والرجوع بالغلط في بيع المرابحة متفق عليه، وفي بيع المكايسة مختلف فيه؛ وقد مضى القول على ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم، وليس في هذه الرواية بيان، إذ قد يحتمل أن يريد بقوله: أخرج لي ثوبا شراؤه دينار، فيكون بيع مرابحة؛ وأن يريد أخرج لي ثوبا قيمته دينار، فيكون بيع مكايسة، وانظر في ذلك وتدبر.
[مسألة: تصدق بنخل بمائها ثم أصابتها الرمال حتى بلغت كرانيفها]
مسألة وسئل عمن تصدق بنخل بمائها، ثم أصابتها الرمال حتى بلغت كرانيفها، وغلبت عليها، وفي مائها فضل، وقد أردت بيعها، فقال له: ما أرى أن تبيعها، وأرى أن تدعها على حالها حتى يغلب عليها الرمال فتستريح منها.
قال محمد بن رشد: يريد بالصدقة هاهنا الحبس الموقف، فلم ير بيعه وإن غلبت عليه الرمال حتى خشي أن يغير فلا ينتفع به، وهذا هو(7/344)
مذهب ما في المدونة، أن الربع الحبس لا يباع وإن خشي عليه الخراب، بخلاف ما بلي من الثياب، وضعف من الدواب، والفرق بين ذلك، أن الربع وإن خرب، فلا تذهب البقعة، ويمكن أن يعاد إلى حاله، وكذلك هذه النخيل، وإن غلبت عليها الرمال بكثرة الرياح أو المياه، يمكن أن يذهب عنها بمثل ذلك أو بما سواه، فتعود إلى حالها، وابن الماجشون يرى أن لا يباع شيء من ذلك كله، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة، وروي عن ربيعة: أن الإمام يبيع الربع إذا رأى ذلك لخرابه كالدواب والثياب، وهو قول مالك في إحدى روايتي أبي الفرج عنه، قال: لا يباع الربع الحبس، وقال في موضع آخر: إلا أن يخرب، وبالله التوفيق.
[مسألة: ابتاعا طعاما فوجد أحدهما طعامه ينقص أربعة أرادب]
مسألة وسئل عن رجلين ابتاعا طعاما، فحمل إليهما الحمالون الطعام، فوجد أحدهما طعامه ينقص أربعة أرادب، فذهب إلى أن الذي كان يحمل إليه الطعام معه؛ فقال له: انظر أن يكون ذهب إليك من قمحي شيء، فقام الرجل وكال قمحه، وقد كان خلطه بقمح له آخر قد كان يعرف كيله فوجدها تزيد غرارة، فردها عليه، فأراد الذي ذهب قمحه أن يستحلفه؛ فقال: قال مالك: ذلك له على الذي وجد في بيته الطعام الفضل، يحلف بالله ما دخل بيته إلا هذا، فإن أبى أن يحلف حلف الآخر وأخذه، وهو رجل سوء إن حلف على ما لا علم له به؛ لأنه يحلف على ما لا يعلم، ولا يدري أوصلت إلى هذا أم لا؟ ولعل الحمالين اختانوا ذلك، وكيف(7/345)
يحلف على أمر لا يدري ما هو؟ وما أدري ما يمينه؟ وما أدرى لعله ليس له يمين؟ ولكن هذا أشد ذلك، إذا أبى هذا الذي أفرغ في بيته القمح أن يحلف، قيل له: اغرم؛ فإذا كان يغرم فليحلف، هذا أحب إلي، والذي فرغ في بيته الطعام أحقهما باليمين؛ وأما الآخر، فيحلف على الباطل وهو ظالم.
ثم سئل مالك عن ذلك الثانية، وقيل له على من ترى اليمين؟ فقال: أرى اليمين على المدعى عليه، فإن أبى أن يحلف، حق عليه الحق؛ وما أرى على المدعي يمينا؛ لأنه لا يدري ما يحلف عليه، ولكن لما أبى المبتدئ باليمين أن يحلف، رأيت الغرم عليه؛ قلت له: أيحلف هذا ويأخذ ما ذهب له؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قال ابن أبي زيد في النوادر: طالعت أصل السماع، فلم أجد فيه من قول مالك، قال: نعم في آخر المسألة، قال ابن رشد: وإن سقط جوابه في آخر المسألة، فقد تقدم في أولها أنه يحلف، إلا أنه لا يسوغ له فيما بينه وبين خالقه أن يحلف إن لم يكن على يقين من أن الطعام الذي نقصه صار عنده، وهذا معنى قوله: إنه رجل سوء إن حلف على ما لا علم له به، إلا أنه في واجب الحكم على هذه الرواية يمكن من اليمين إن نكل المدعى عليه، ولا يجب له شيء إلا أن يحلف، ويقال له: أنت أعلم بما تحلف عليه إن كنت على يقين من أن الطعام صار عنده، فلا حرج عليك في أن تحلف، ومثل هذا في سماع عيسى، من كتاب الشركة، أن اليمين ترد في التهمة، والاختلاف في وجوب ردها، وفي لحوقها ابتداء أيضا مشهور معلوم، وبالله التوفيق.(7/346)
[أهل المقاومة بالسرار وبيع المقاومة بالحصاة]
ومن كتاب أوله
مسائل بيوع وكراء وسئل عن أهل المقاومة بالسرار، فقال: هو عندي خفيف، وكره بيع المقاومة بالحصاة.
قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها المقاومة بالسرار: أن يتقاوموا السلعة سرا بالإشارة، وكذلك قال ابن لبابة: السرار أن يشير له بيده حتى يستتر عمن حضر له، وفي هذا من قولهما نظر؛ لأن الأشراك في السلعة إذا تقاوموها فيما بينهم، فليس لأحد من غيرهم أن يدخل عليهم فيها؛ فلا وجه للاستتار بالتقاوم عن سواهم، ولا معنى للسؤال عن ذلك، وإنما المعنى في المسألة عندي أن يتقاوم بعض الأشراك أنصباءهم فيما بينهم سرا عن بقيتهم، فيكون بعضهم قد خرج نصيبه لبعض أشراكه بما انتهى في المقاومة عليه دون علم بقيتهم، فهذا خفيف على ما قال؛ إذ لا يجبر على المقاومة من أباها من الأشراك، فلا حجة لمن استسر دونه بالمقاومة من الأشراك؛ لأن الذين تقاوموا يقولون له: نحن لا نريد أن نقاومك، وذلك من حقنا؛ إذ لا يجبر على المقاومة من أباها، وإنما تكون على التراضي، ونحن رضينا فيما بيننا بالتقاوم، فلا حجة لك علينا في ذلك.
وإنما استسروا لأنه كان من حقه لو علم بالمقاومة قبل نفوذها، أن يكون شريكا في نصيب الخارج عن نصيبه مع الآخر له بالثمن الذي رضي أن يخرج له به عنه؛ لأن السلعة بين الشريكين إذا أراد أحدهما أن يبيع نصيبه منها، كان الشريك أحق بها بما يعطى فيها ما لم ينفذ البيع، فكما يكون الشريك أحق من الأجنبي، فكذلك يكون الشريك أحق من الشريك بما زاد على قدر حقه؛ وكما يكره للشريك أن يبيع نصيبه(7/347)
من أجنبي دون أن يُعلم شريكه؛ إذ ليس ذلك من مكارم الأخلاق، ولا من محاسنها، وكذلك يكره له أن يبيع نصيبه من بعض أشراكه دون أن يعلم سائرهم، إلا أن مالكا رأى في هذه الرواية ذلك في الشريك أحق من الأجنبي، إذ لم يدخل على الذي لم يعلم شريكا أجنبيا، فهذا وجه قول مالك: هو عندي خفيف.
وأما بيع المقاومة بالحصاة، فرأيت لابن دحون أنه قال ذلك أن تقوم السلعة، فإذا عرف كم الربح فيها، جعل كل من اشترك في ابتياعها حصاة، ثم جعلت الحصاة كلها في كم رجل منهم أو من غيرهم، ثم يدعى من يخرج حصاة منها، فإذا أخرج منها حصاة، عرف لمن هي تلك الحصاة؛ فكانت السلعة له بالثمن الذي قومت به، ثم كان الفضل بينهم على حسب اشتراكهم، وهو تفسير حسن، والمكروه فيه بين على ما قال مالك.
وقد اختلف في بيع الحصاة التي ورد النهي فيها عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وكان من بيوع الجاهلية؛ فقال ابن حبيب: هو أنه كان أحدهم يسوم بثوبه أو بجمله، وبيده حصاة، فيقول لصاحبه الذي يسومه: إذا سقطت هذه الحصاة من يدي، فقد وجب البيع بيني وبينك. وقال الطحاوي: هو أنه كان أحدهم إذا أراد ثوب صاحبه وملكه عليه بما يعوضه إياه به، ألقى عليه حصاة أو حجرا فاستحقه بذلك، ولم يستطع رب الثوب منعه من ذلك، وأحسن ما رأيت في تفسير ذلك، أن البائع كان يضع ثيابه ويقول للمبتاع: لك ما ودعت عليه حصاتك بثمن كذا، ويلقي المبتاع حصاة يريد صعدا، فعلى أيها وقعت لزمته بما سمياه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري السلعة فيغتبط ثم يسأل أن يوضع له]
مسألة وسألته عن الذي يشتري السلعة فيغتبط، ثم يسأل أن(7/348)
يوضع له وهو مغتبط؛ فقال: ما أرى بذلك بأسا، وما زال هذا من أمر الناس، وما هذا من وجه المسألة؛ الرجل يقول للرجل: أعرني ثوبك، أعرني دابتك، فلا أرى بهذا بأسا، ولا أراه من وجه المسألة التي نهي عنها؛ إذا كان يسأل مسألة معروفة، فأما مسألة الإلحاح والتضرع والتبكي فإني أكرهه، والذي يشتري السلعة ثم يقول، وهو مغتبط: إن لم تضع لي خاصمتك، فهذا لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة بينة، وقد مضى القول عليها في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يبيع سلعته فيقول قد أعطيت بها ثلاثين دينارا وهو صادق]
مسألة وسألته عن الرجل يبيع سلعته فيقول: قد أعطيت بها ثلاثين دينارا وهو صادق، فقال: ليس بذلك بأس إذا كان أعطى عطاء يعلم أنه جد به السوم، فأما ذلك النجش فليس شيئا، وليس بذلك بأس، ولا أكرهه إلا أن يكون أعطى قديما فكتمه ذلك، ويظن صاحبه أنه أعطى حديثا، فلربما أعطى الرجل بالسلعة قديما، ثم يحط ثمنها، وأما إن كان أعطى بها بحدثان ذلك عطاء صحيحا، فلا أرى بذلك بأسا.(7/349)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه إن كان أعطى بسلعته ما قال عطاء صحيحا بحدثان ذلك، فلا بأس بذلك، وإن ثبت أنه لم يعط بها ما قال، أو أنه إنما أعطي بها ذلك قديما، كان المشتري بالخيار في السلعة؛ بين أن يمسكها بالثمن الذي اشتراها به، أو يردها، وإن فاتت؛ قيل: بما يفوت به البيع الفاسد، وقيل: بالنماء والنقصان، رد المبتاع فيها إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن على حكم الغش والخديعة في البيع، ولو قال له المبتاع: انظر ما أعطيت بسلعتك، فأنا آخذها بذلك الثمن؛ فقال: أعطيت بها كذا وكذا، ثم ثبت أنه لم يعط فيها إلا أقل من ذلك؛ كان الحكم في ذلك حكم الكذاب في بيع المرابحة في فوات السلعة وقيامها، وقد مضى ذلك في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات، من سماع ابن القاسم.
[مسألة: حكم بيع المصراة]
مسألة وسئل عن قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ابتاع مصراة، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعا من تمر» ؛ فقال: سمعت ذلك، وليس بالثابت، ولا الموطأ عليه، ولئن لم يكن هذا الحديث أن له اللبن بما أعلف وضمن، قيل له: اللبن بما أعلف وضمن، قيل له: نراك تضعف الحديث، فقال: كل شيء يوضع بموضعه، وليس بالموطأ، ولا الثابت، وقد سمعته.
قال محمد بن رشد: رأى مالك في رواية أشهب هذه عنه حديث المصراة حديثا لم يتواطأ على العمل به، فجعله منسوخا بحديث الخراج(7/350)
بالضمان؛ فأوجب للمشتري رد الشاة المصراة بعيب التصرية، وجعل ما احتلب من اللبن له بما أعلف وضمن، وذلك بعيد؛ لأنه ابتاع شاة محفلة عظيمة الضرع باللبن الذي صراه البائع فيها، فليس له أن يردها، وقد نقصت صفتها عما اشتراها به، ويأخذ جميع الثمن.
وقوله في المدونة من رواية ابن القاسم عنه، أو لأحد في هذا الحديث رأي أصح وأولى بالصواب؛ لأن اللبن المصرى في ضرع الشاة بعضه للبائع تركه في ضرعها، فلم يحلبه لينفعها به، فوقع البيع عليه، وصار كمن باع شاة ولبنا بالثمن الذي سمياه، وبعضه غلة للمشتري، وهو المقدار الذي كان يكون في ضرعها لو لم تكن مصراة مع ما احتلب منها في الحلاب الثاني، فلما لم يعلم مقدار ما يجب رده مع الشاة من اللبن المصرى مما هو غلة للمشتري، لا يجب عليه رده؛ أوجب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك للبائع على المبتاع إن رد الشاة بعيب تصريتها صاعا من تمر، حكما أوجبه شرعا رفع به مئونة الاجتهاد في تحري ما وقع عليه البيع من اللبن المصرى مما هو غلة.
وقد كان القياس أن يتحرى ذلك اللبن، فيرد قيمته مع الشاة إذا أراد ردها بعيب تصريتها؛ لأنه كمن باع طعاما جزافا وعرضا في صفقة واحدة، ثم وجد بالعرض عيبا وقد فات الطعام الجزاف، أنه لا يرد بقيمته مع العرض؛ إذ لا يمكن رد مثله؛ لكونه جزافا؛ وألا يجوز الحكم في ذلك بالصاع من التمر؛ لأن البائع قد وجبت له قيمة ذلك اللبن إذا ردت عليه الشاة، فيكون قد فسخ تلك القيمة الواجبة له في صاع تمر حتى يقضاه، فيدخله فسخ الدين في الدين؛ إلا أنه لا رأي لأحد مع السنة الثابتة، وإذا ثبتت(7/351)
وجب أن تستعمل في موضعها، وتكون مخصوصة من عموم نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدين بالدين؛ لأن من عموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخراج بالضمان» ؛ إذ لا مدخل في ذلك للخراج بالضمان على ما بيناه من أن الصاع لا يرده المبتاع عرضا عما هو له غلة بالضمان، وإنما يرده عما وجب للبائع عليه، مما ليس بعلة له على ما بيناه؛ ولم يجز ابن القاسم أن يأخذ اللبن الذي احتلب منها عوضا عن الصاع من التمر، ورأى ذلك بيع الطعام قبل أن يستوفى؛ قال ابن لبابة: وكذلك لا يجوز على قياس قوله: أن يأخذ الصاع من غير التمر؛ لأنه يدخله أيضا بيع الطعام قبل أن يستوفى، فكأنه ذهب إلى أن قوله خلاف لما حكاه عن مالك، من أن أهل البلدان يعطون الصاع من عيشهم ما كان.
قال: ولو جاز أن يؤخذ عن الصاع غيره من التمر، ما جاز إلا في اللبن؛ لأنهم يجيزون الإقالة في الطعام، فإذا رد الشاة وما احتلب منها من اللبن المصرى، كانت إقالة؛ وقد ذهب إلى هذا سحنون، وقاله ابن وضاح أيضا؛ فزاد: إذا لم يغب عن اللبن، وليس ذلك بصحيح؛ لما بيناه من أن اللبن الذي يجب رده لا يعرف قدره إلا بالتحري، فإنما يجب فيه بالسنة صاع من تمر، فإذا أخذ عنه اللبن كان قد باعه به كما قال ابن القاسم، فكان بيعا له قبل استيفائه، ولا تصح في ذلك الإقالة بوجه؛ لأن اللبن المصرى في الضرع بعضه غلة للمبتاع، فإذا رد على البائع جميعه، كان قد دفع إليه أكثر مما قبض منه من اللبن، فلم تكن إقالة على وجهها؛ وإذا لم تكن إقالة على وجهها دخله ما قال ابن القاسم من بيع الطعام قبل استيفائه.
وقد روى زياد عن مالك أن من اشترى ناقة أو شاة قد صراها البائع، فإنه إذا حلبها ردها ومكيلة ما حلب من اللبن تمرا أو قيمته، وهذا بعيد لا وجه له؛ لأنه مخالف للحديث، ولما ذكرناه من القياس، ولو رضي بعيب تصريتها، ووجد بها عيبا آخر فردها به؛ لوجب على ما ذكرناه من القياس أن يكون عليه قيمة اللبن الذي صراه البائع في الضرع بعد أن يتحرى قدره.
وقد قال أبو إسحاق التونسي: إنه لا شيء عليه في اللبن الذي احتلب إذا ردها بغير عيب التصرية، وذلك غير صحيح، فتأمل ذلك؛ وقد(7/352)
اختلف إذا اشترى شياها أو نوقا مصراة صفقة واحدة، فردها بعيب تصريتها؛ فقيل: إنه لا شيء عليه فيما احتلب منها، بخلاف الشاة الواحدة؛ لقوله في الحديث: «من اشترى شاة مصراة» . . . الحديث. وقيل: عليه فيها كلها صاع واحد على ظاهر قوله في الحديث الآخر: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين؛ بين أن يحلبها إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر» . وقيل: إن عليه في كل شاة أو في كل ناقة صاعا من تمر، وهو الأظهر، والله أعلم، والبقر في ذلك بمنزلة الإبل والغنم؛ وأبو حنيفة لا يرى الرد بعيب التصرية، ويقول: إن الواجب في ذلك الرجوع بقيمة العيب، ورأى أحاديث المصراة منسوخة؛ واختلف المتكلمون على مذهبه في الناسخ لها ما هو اختلافا كثيرا في أكثره بعد، ولم أر لذكره وجها.
[مسألة: التجارة في الخصيان]
مسألة وسئل عن التجارة في الخصيان، فقال: ترك التجارة في الخصيان أحب إلي، وأما تحريمه فلا، قيل له: لأن شراءهم قوة على خصائهم، قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب الأقضية، أنه لا بأس أن يشتري الرجل لنفسه الخصي والاثنين، ولا أحب له أن ينفق لهم؛ يعني يتخذهم متجرا، والمعنى في كراهة ذلك بين، ولم ير شراء الرجل الاثنين والواحد منهم مما ينفقه، ويكون قوة على خصائهم؛ لأنه قد علم أنه لا يشتريهم إلا القليل من الناس، فإذا كان القليل من الناس لا يشتريهم منهم إلا الواحد والاثنين، لم يكن ذلك تنفيقا لهم؛ وقد كان لمالك خصي، ولعمر بن عبد العزيز، وبالله التوفيق.(7/353)
[مسألة: ما يجب على الكيال في الكيل]
جامع البيوع وسئل عما يجب على الكيال في الكيل، أيطفف المكيال أم يصبه عليه ويجلب ثم يكيل؟ فقال: لا يطفف ولا يجلب؛ لأن الله تعالى يقول: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] فلا خير في التطفيف، ولكن يصب عليه حتى يجتبذه، فإذا اجتبذه أرسل يده ولم يمسك.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في الرواية حتى يجتبذه، والصواب يجتنبذه، فإذا اجتنبذه، قال بعض أهل اللغة: الجنبذة ما ارتفع من كل شيء، والعامة تقول: الجنبذة بفتح الباء لما ارتفع من الأرض، إنما قلنا: هو الصواب؛ لأن الاجتباذ هو الجلب الذي منع منه؛ يقال: لا يطفف ولا يجلب، والتطفيف في الكيل هو الزيادة فيه على الوفاء، ومنه ما مضى القول فيه في رسم سلف، من سماع ابن القاسم في الرزم والتحريك، وقد يقع التطفيف على النقصان أيضا؛ قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] ، {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] . فسمى النقصان تطفيفا، وقد قال مالك في الموطأ: ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف، أي إن التطفيف يستعمل في الزيادة والنقصان.
[مسألة: ما اشتري وزنا من الزعفران أو غير ذلك وكيفية وزنه]
مسألة قيل له: أرأيت ما اشتري وزنا من الزعفران أو غير ذلك من(7/354)
اللحم، ما حد ذلك؟ أيميل الميزان، أم حتى يستوي لسان الميزان؟ فقال ذلك أن يقوم لسان الميزان معتدلا ولا يميله، فإن سأله أن يميله، لم أر ذلك من وجه المسألة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن الوفاء في الوزن أن يقوم لسان الميزان معتدلا، فلا وجه للقول فيه، وأما سؤاله أن يميله، فإنما لم ير ذلك من ناحية المسألة؛ لأن ذلك مما مضى على فعله الناس؛ إذ هو من التسامح في البيع الذي يندب إليه المتبايعون؛ قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رحم الله عبدا سمحا إن باع، سمحا إن ابتاع، سمحا إن قضى، سمحا إن اقتضى» ، وكذلك سؤال الوضيعة بعد البيع، وقد مضى ذلك في الرسم الذي قبل هذا، وفي رسم الشجرة من سماع ابن القاسم.
[مسألة: عمر بن الخطاب وتخييره لأزواج النبي عليه السلام]
مسألة وقال: يزعمون أن عمر بن الخطاب خير أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فمن أحب منهن أن يكون لها أرض بيضاء ونخل، جعله لها، ومن أحب، أجرى لها أوسقا طعمة؛ فمنهن من اختار الأوسق، ومنهن من اختار الأرض، فعمر بن الخطاب أول من أجرى لهن هذه الطعمة، قيل لمالك: أفترى أن يبيع أهل تلك الطعمة طعمتهم قبل أن يستوفوها؟ قال: لا أرى بذلك بأسا؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يستوفيه» . وهذا لم يبتع، إنما أعطوا عطاء، وكذلك طعام الجار الذي(7/355)
يخرج للناس في الأرزاق، فلا أرى ببيع ذلك بأسا قبل أن يستوفى.
قال محمد بن رشد: إنما خير عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما خيرهن فيه؛ لأن النفقة كانت واجبة لهن بعد موت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما أفاء الله عليه من بني النضير، وفدك، وسهمه بخيبر؛ بقوله عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] الآية، كما كانت تجب لهن في حياته من أجل أنهن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - كن محبوسات عليه، ليكن أزواجه في الجنة محرمات على غيره، يبين ذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عائلتي؛ فهو صدقة» ؛ فكان أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يلي ما أفاء الله على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك، مما كان يليه هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته؛ وكان ينفق منه على عياله، ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح؛ وفي هذه الولاية تخاصم إليه علي والعباس، ليوليها كل واحد منهما بما كان يليها به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم سار عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد أبي بكر في ذلك بسيرة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأبي بكر؛ غير أنه خير أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما يخترنه من إقطاع الأرض أو إجراء الأوسق؛ فهذا معنى قوله: فعمر بن الخطاب أول من أجرى لهن هذه الطعمة يريد لمن اختار ذلك منهن دون إقطاع الأرض، وقوله في السؤال لمالك: أفترى أن يبيع أهل تلك الطعمة طعمتهم قبل أن يستوفوها؟ معناه أفكان يجوز لمن أجرى له منهن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - هذه الطعمة أن يبيعها قبل أن يستوفيها؟ فقال: نعم؛ لأن ذلك ليس ببيع، وإنما أعطين عطاء، يريد بحق وجب لهن لا عن عوض؛ ثم قال: وكذلك طعام(7/356)
الجار الذي يخرج للناس في الأرزاق عطية لهم من بيت المال على غير عمل يعملونه، يجوز لهم بيعه قبل استيفائه؛ وتأويل حديث مروان بن الحكم في الصكوك التي خرجت للناس في زمانه بالمدينة، فتبايعها الناس فيما بينهم قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت، ورجل من أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على مروان فقالا: أتحل بيع الربا يا مروان؟ فقال: أعوذ بالله، وماذا قالا تلك الصكوك يتبايعها الناس ثم باعوها قبل أن يستوفوها، فبعث مروان الحرس يتبعونها وينزعونها من أيدي الناس، ويردونها إلى أهلها، أن المعنى في هذا أنها كانت قطائع أقطعها أهل المدينة من مال الله الذين كان يعمل من مصر في السفن إلى الجار، فباع الناس قطائعهم، وكان بيعها أولا حلالا، ثم إن من اشتراها باعها أيضا قبل أن يستوفيها؛ فكان بيعها الثاني حراما، فأمر مروان بفسخ البيع الثاني، ورده إلى الباعة الذين اشتروه أولا، ولم يفسخ بيع الذين أقطعوه أولا؛ وأما أرزاق القضاة وولاة السوق والمؤذنين والكتاب والأعوان والجند الذين يرزقون من الأطعمة، فلا يجوز لهم أن يبيعوها حتى يستوفوها؛ لأنها أجرة لهم على عملهم، بخلاف ما كان رفقا وصلة على غير عمل، أو على أنه مخير إن شاء عمل، وإن شاء لم يعمل، ويجوز بيع الأرزاق والعطاء السنة والسنتين، إن كانت داره مأمونة، فإن حبست انفسخ البيع، وكان للمبتاع رأس ماله؛ ولا يجوز بيع أهل العطاء؛ لأنه يبطل بموته، قال ذلك أشهب وابن وهب، وجماعة من فقهاء التابعين، وبالله التوفيق.
[ابتاع من رطاب رطبا بدرهم فاكتال الرطب وحازه]
ومن كتاب الأقضية
وسئل عمن ابتاع من رطاب رطبا بدرهم، فاكتال الرطب وحازه، ثم قال الرطاب: هات الدرهم، فقال له: قد دفعته إليك، فقال الرطاب: ما دفعت إلي شيئا؛ فقال: القول قول الرطاب ما(7/357)
قبض الدرهم، ويكون ذلك له على المشتري يأخذه؛ لأنه لم يزل ولم يفارقه، إنما اكتال الرطب، ثم قال له: هات الدرهم؛ فقال له: قد دفعته إليك، فقال الرطاب: لم تدفع إلي شيئا؛ وكذلك الرجل يبتاع الطعام فاكتاله في وعائه، ثم يقول له رب الطعام: هات الثمن؛ فيقول المشتري: قد دفعته إليك، فيقول رب الطعام: ما دفعت إلي شيئا قبل أن يتزايلا، فقالا: لا أرى القول في هذا إلا قول رب الطعام، ويحلف وعليه اليمين، وذلك أنه لم يزايله.
قال محمد بن رشد: جعل مالك في هذه الرواية القول قول الرطاب مع يمينه أنه ما قبض منه الدرهم ما لم يعترفا إذا ادعى المبتاع أنه دفعه إليه، ولم يبين متى ادعى أنه دفعه إليه؛ فأما إن قال: دفعته إليه بعد أن قبضت الرطب، فلا اختلاف في أن القول قول الرطاب، وأما إن قال: دفعته إليه قبل أن أقبض الرطب، ففي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن القول قول البائع، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية. والثاني: أن القول قول المبتاع، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم عنه من كتاب ابن المواز. والثالث: أن القول قول المبتاع في كل ما الشأن فيه قبض ثمنه قبل قبض المثمون، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز.
وجه القول الأول أن المبتاع مقر بقبض المثمون مدع لدفع الثمن، فعليه إقامة البينة على ما يدعي من الدفع، فإن لم تكن له بينة، حلف البائع، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» . ووجه القول الثاني أنه قد كان من حق البائع ألا يدفع إليه ما باع منه حتى يقبض ثمنه؛(7/358)
لأن ذلك كالرهن في يده بالثمن، فدفعه إليه دليل للمبتاع على دفع الثمن؛ وكذلك قال في سماع ابن القاسم، من كتاب الرهون: إن الرهن إذا ألفي بيد الراهن، فالقول قوله مع يمين أنه قد دفع الدين الذي قد كان رهنه به، وهذا الذي ذكرناه أن من حق البائع ألا يدفع إليه ما باع منه، ولا يزنه له، ولا يكيله له إن كان مكيلا أو موزونا حتى يقبض ثمنه، هو أمر متفق عليه في المذهب، مختلف فيه في غيره؛ قيل: إنهما إذا اختلفا فقال البائع: لا أدفع السلعة حتى أقبض الثمن، وقال المبتاع: لا أدفع الثمن حتى أقبض السلعة؛ أجبر البائع على دفع السلعة أولا، وقيل: يجبر المبتاع على دفع الثمن أولا، وقيل: إنه لا يحكم على واحد منهما بالدفع ابتداء، ويقول الحاكم لهما من أحب منكما أن أقضي له على صاحبه، فليدفع إليه؛ وقيل: إن الحاكم ينصب أمينا يأمر كل واحد منهما بالدفع إليه، فيسلم الثمن للبائع، والسلعة للمبتاع، وقيل في ذلك غير ذلك.
ووجه القول الثالث أن العرف الجاري في تلك السلعة بقبض الثمن قبل المثمون، دليل يوجب أن يكون القول قول المبتاع، فإن افترقا، فلا اختلاف في أن القول قول المبتاع؛ وهذا كله فيما يتبايعه الناس في الأسواق بالنقد، شبه الصرف كيسير الحنطة والزيت، ومثل السوط والشراك والنعل، وأما الكثير لمن الطعام، والبز، والعروض، والرقيق، والدور، فالقول قول البائع: إنه لم يقبض ثمن ذلك كله إلى ما يجوز التبايع إلى مثله من المدة عند ابن القاسم، وقد روى عنه يحيى في العشرة: أن القول قول المبتاع في دفع ثمن الطعام، وإن كثر إذا قبضه وبان به وفارق بائعه، وخالفه يحيى، وأصبغ وغيره، فقالوا: إن(7/359)
الكثير من الطعام كالبز والعروض؛ وقال ابن حبيب: أما الرفيق والدواب والرباع وما أشبه ذلك مما الأصل فيه ألا يباع على الدين، ولا على التقاضي، فالقول حول البائع أنه ما قبض، وإن تفرقا ما لم يمض لذلك السنة والسنتان، فيكون القول قول المبتاع أنه قد دفع؛ وأما البز والتجارات، وما تبايعه الناس على التقاضي، وإلى الآجال، فالقول قول البائع، وإن تفرقا ما لم يمض لذلك مثل العشر سنين ونحوها، فيكون القول قول المبتاع.
[احتكارالرجل ما عدا القمح والشعير من الطعام]
ومن البيوع الأول وسئل أيحتكر الرجل ما عدا القمح والشعير من الطعام؟ فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا بأس باحتكار ما عدا القمح والشعير، معناه إذا كان ذلك في وقت لا يضر احتكاره فيه بالناس؛ إذ لا اختلاف في أنه لا يجوز احتكار شيء من الطعام ولا غيره في وقت يضر احتكاره بالناس، ويغليه عليهم؛ فهذا يدل على أنه لم يجز احتكار القمح والشعير خاصة بحال، ومذ هب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة إجازة احتكار الطعام وغيره في الأوقات التي لا يضر الاحتكار فيه، ولا يغلي الأسعار؛ وذهب مطرف وابن الماجشون وغيرهما من أهل المدينة، إلى أنه لا يجوز احتكار شيء من الطعام، وقالوا: ليس وقت من الأوقات، ولا شراء الطعام في السوق وإخراجه منه يضر بالناس ويقلله عليهم، ويغلي سعره، قال ابن حبيب، وكذلك القطاني والحبوب كلها التي هي قوت للعباد أو علوفة للدواب؛ والأدم كلها: الزيت والسمن والعسل وما يتقوت به الناس من يابس التين والزبيب، وما أشبه ذلك من معايش الناس، سبيله سبيل القمح والشعير في أن احتكاره لا يجوز، أضر بالناس شراؤه أو لم يضر، ومن قوله: إن ما لا يجوز احتكاره، فلا يترك التجار أن يشتروه جملة، ويبيعوه(7/360)
على أيديهم؛ فإن الواجب فيه على محتكره أن يباع عليه من الناس كافة بالثمن الذي اشتراه به، أو بسعر ذلك اليوم إن جهل ما اشتراه به، وهو يقول في السمن والعسل وما أشبهه من الأدم: إنه لا يمنع التجار من شرائه جملة ليبيعوه على أيديهم، فيأتي على قوله هذا إجازة احتكار الأدم في وقت لا يضر احتكارها بالناس، بخلاف الأقوات من الحبوب كلها، ويتحصل في احتكار الأطعمة أربعة أقوال:
أحدها: إجازة احتكارها كلها القمح والشعير، وغير ذلك من الأطعمة كلها في الأوقات التي لا تضر الحكرة فيها بالناس. والثاني: المنع من احتكارها كلها جملة. والثالث: إجازة احتكارها كلها ما عدا القمح والشعير. والرابع: المنع من احتكارها كلها ما عدا الأدم والفواكه؛ السمن، والعسل، والتين، والزبيب، وشبه ذلك. وقد قال ابن أبي زيد فيما ذهب إليه مطرف وابن الماجشون، من أنه لا يجوز احتكار شيء من الأطعمة، معناه في المدنية؛ إذ لا يكون الاحتكار أبدا إلا مضرا لأهلها؛ لقلة الطعام بها، فعلى قوله هم متفقون على أن علة المنع من الاحتكار تغلية الأسعار، وإنما اختلفوا في جوازه؛ لاختلافهم باجتهادهم في وجود العلة وعدمها؛ ولا اختلاف بينهم في أن ما عدا الأطعمة من العصفر والكتان والحناء وشبهها من السلع، يجوز احتكارها إذا لم يضر ذلك بالناس.
[مسألة: باع جارية واشترط أن ترضع ابنا له سنة]
مسألة وسئل عمن باع جارية، واشترط أن ترضع ابنا له سنة، فقال مالك: إن ماتت الجارية، ثم قال: لا خير في هذا، فقلت له: أرأيت - أمتع الله بك - إن شرط عليه أن الجارية إن ماتت أخلف له مكانها؟ فقال: لا يعجبني، وإنه ليكفي من هذه الأشياء ما مضى(7/361)
عليه الناس من ترك العمل به؛ لأنهم الذين أمرنا بالاقتداء بهم، والاتباع لهم.
قال محمد بن رشد: إنما قال: لا يعجبني، وإن اشترط عليه أن الجارية إن ماتت أخلف له مكانها؛ لأنه حمل الشرط على أن الرضاع في عين الجارية ما لم تمت، فإن ماتت أتى بخلفها، خلاف ما سأله عليه في أول رسم من سماع ابن القاسم؛ وإذا كان الرضاع مشترطا في عين الأمة المبيعة، دخله التحجير على المشتري في عين الأمة التي اشترى؛ ولو باع الجارية على أن على المبتاع أن يأتي بمن يرضع ابنه سنة مضمونا ذلك عليه، لجاز، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم في سماع ابن القاسم.
وقد ذهب بعض الشيوخ إلى أن الفرق بين هذه المسألة، وبين مسألة سماع ابن القاسم، أنه هاهنا اشترط على البائع أن ترضع الأمة التي باع ولده، وهناك اشترط على البائع أن ترضع الأمة التي باع ولدها الحر، فكره ذلك في ولده؛ إذ لم يجربه عمل، وهو فرق غير لائح.
[مسألة: ابتياع ألبان الغنم شهرا]
مسألة وسئل عن ابتياع ألبان الغنم شهرا، فقال: نحن نقول: لا بأس به؛ لأنه يعرف ذلك، ولكن إن ماتت شاة أو عطبت، أو أصابها شيء ينقص لبنها وضع عنه، قيل له: أرأيت إن نقص لبنها كما ينقص ألبان الغنم؟ قال: لا يوضع عنه، ذلك أمر قد عرف، إذا(7/362)
كان ذلك نقصان مثلها، العيون ليست تكون في الشتاء، مثلها في الصيف، إذا كان الصيف نقص ماؤها؛ قال: ولا أرى بأسا، نقد الثمن أو لم ينقد.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في سماع سحنون، من كتاب كراء الدور والأرضين، وهو صحيح بين لما في المدونة؛ لأن النقصان المعروف قد دخل عليه المبتاع، فلا رجوع له به، وإنما يرجع بالنقصان المتفاحش الخارج عما جرت به العادة، وقد بين في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة صفة التقويم فيما مات من الغنم، إذا اشترى لبنها بيانا شافيا لا زيادة عليه، وشراء لبن الغنم عكس شراء ثمرة المقثأة، يجوز شراء لبن الغنم شهرا أو شهرين إذا عرف وجه حلابها، ولا يجوز شراء لبنها إلى أن ينقطع، ويجوز شراء ثمر المقثأة إذا بدا صلاحها حتى ينقطع، ولا يجوز شراء ثمرتها شهرا ولا شهرين، وإنما افترقت لافتراق الغرر فيها، فالغرر في المقثأة شراء ما تطعم شهرا أو شهرين؛ لأن حملها يكثر بالحر، ويقل بالبرد، ولا يدرى هل يشتد الحر في تلك المدة، أو لا يشتد، وحد انقطاعها معلوم عند الناس، وللغرر في لبن الغنم شراؤه إلى أن ينقطع؛ لأن ذلك ليس بمعروف عند الناس، قد يتعجل ويتأخر، وشراؤه شهرا أو شهرين جائز؛ لأن ذلك لا يختلف بحر ولا برد، وإنما يجوز ذلك في الشياه الكثيرة، ولا يجوز في الشاة ولا الشاتين؛ وقد أجاز في المدونة أن تكثر البقرة ويشترط حلابها إذا عرف وجهه، فقيل: إن ذلك معارض لكراهيته بيع لبن الشاة والشاتين، وقيل: ليست بمعارضة لها؛ لأن الغرر خف فيها بما انضاف إليها من الكراء، كما خف في الغنم إذا كثرت، وهو الأظهر.(7/363)
[مسألة: يأتي إلى الصبرة فيقول لصاحبها أبتاع منك كل ما فيها ما بلغت]
مسألة وسئل عن الذي يأتي إلى الصبرة، فيقول لصاحبها: أبتاع منك كل ما فيها ما بلغت ثلاثة آصع بدينار، وتزيدني ثلاثة آصع على الجملة؛ فقال: لا خير فيه، وليس بحسن؛ لأنه غرر؛ لأنه لا يدري كم يصيب كل دينار من الزيادة؛ فأما بيع الصبرة ثلاثة آصع بدينار ما بلغت، فإني لا أكره هذا؛ فأما الأول فإنه قال: يزيدني ثلاثة آصع على الجملة، فإني أكرهه ولا أراه حسنا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن من شرط صحة البيع أن يكون الثمن معلوما، وإذا اشترط زيادة ثلاثة آصع على الجملة عاد الثمن مجهولا؛ إذ لا يدري المبتاع ولا البائع كم صاع تبايعا بدينار؛ لأنه إن وجد في الصبرة تسعة آصع وقع شراؤه أربعة أصوع بدينار، فإن وجد فيها اثني عشر صاعا، وقع شراؤه ثلاثة آصع، وثلاثة أرباع صاع بدينار؛ وكذلك إن زادت أو نقصت على هذا التمثيل، وعبد العزيز بن أبي سلمة لا يجيز شراء جملة الصبرة على الكيل بسوم معلوم؛ لأن السوم وإن كان معلوما، فثمن الجملة مجهول لا يعلم حال العقد، وإنما يعلم بعد الكيل؛ فمن شرط صحة البيع عنده أن يكون الثمن معلوما حال العقد، ولا يشترط فيه على مذهب مالك الذي يجيز شراء الصبرة على الكيل، إلا أن يكون معلوما لا أكثر.
[مسألة: ابتاع قصبا وأبوابا وكل بنيان في الدار إلا أن البقعة قطيعة من أمير المؤمنين]
مسألة وسئل عمن ابتاع قصبا وأبوابا، وكل بنيان في الدار، إلا أن البقعة قطيعة من أمير المؤمنين، على أن التباعة في كل ما اشترى على البائع إلا البقعة، وما لحق المشتري في شيء مما اشترى سوى البقعة، فهو على البائع؛ فقال: هذا البيع ليس بجائز ولا حسن.(7/364)
قال محمد بن رشد: ما أقطعه أمير المؤمنين من أموال المسلمين التي يجوز بيعها، فإقطاعه حكم لا يجوز له الرجوع فيه في حياة المقطع ولا بعد وفاته؛ وهو مال من ماله بنفس الإقطاع، يورث عنه كسائر ماله، وهو قول ابن القاسم، في سماع يحيى، من كتاب السداد والأنهار؛ فمعنى هذه المسألة أن الذي أقطعه أمير المؤمنين البقعة فبناها، لما أراد بيعها خشي أن تكون البقعة التي أقطع إياها، لم يستحسن ملكها المسلمين، وأن يكون لها رب يقوم فيها فيستحقها، أو لعله علم ذلك، فقال للمبتاع: إنما أبيعك البنيان والأبواب والقصب - والبقعة تبع لذلك، فلا تباعة لك علي فيها - إن استحقت من يدك تحيلا؛ لإسقاط الرجوع عليه بالاستحقاق؛ وهذا من التحيل لإجازة ما لا يجوز، نحو ما حكى ابن حبيب في الواضحة، في الرجل تكون له رحى طاحنة، فيريد كراءها، ويقول للمكتري: إنما أكري منك البيت والقنوات فارغة دون شيء من آلة الرحى؛ لئلا يرجع عليه بما تعطلته الرحى من قلة الماء، أو ذهاب آلتها؛ فالكراء على هذا فاسد، فوجب أن يكون البيع فاسدا، كما لو باع الدار بشرط أن استحقت بقعتها لم تكن علي تباعة، ولو باع معه البنيان خاصة دون البقعة على أن يقلعه، أو على أن يكون شريكا معه في الدار بقيمة البنيان من قيمة البقعة؛ لكان البيع على هذا جائزا، وقد قال ابن دحون: إنما لم يجز هذا البيع؛ لأنه غرر، لا يدري متى يأخذ السلطان أرضه ويخرجه، ولا متى يزيد عليه في كراء الأرض فينقص ثمن النقض لكثرة كراء البقعة، وهذا غير صحيح؛ إذ ليس للإمام أن يرجع فيما أقطع في حياة المقطع، ولا بعد وفاته، فيلزم المبتاع كراء البقعة؛ وهذا بيّن.
وقد استدل جماعة من الشيوخ أيضا بهذه المسألة على أنه لا يجوز بيع الأنقاض المبتنات في(7/365)
البقاع المحبسة، وفي البقاع التي للسلطان من حقوق المسلمين، وهذا استدلال فاسد؛ لأن المعنى فيها إنما هو ما ذكرته وبينته مما لا إشكال فيه، والحمد لله؛ والقول في بيع الأنقاض، وما في ذلك من الاختلاف، وتبيين الصحيح منه، يتسع ويخرج عفا قصدنا إليه من الاختصار والاقتصار على شرح ما تفتقر المسألة إلى شرحه دون التطويل لسياقة ما يتسلسل بذلك من الشبيه والنظير.
[مسألة: اشترى حائطا غائبا ولم ينقد فتلف الحائط بسيل أو غيره]
مسألة وسئل عمن اشترى حائطا غائبا ولم ينقد، فتلف الحائط بسيل أو غيره قبل أن يقبضه المشتري؛ قال: أما الحائط يشترى على عدد نخل نقد له، أو الدار على أذرع مسماة تذرع له، فإن ضمانها على البائع؛ أما الشيء الذي قد رآه، ولم يشتره على عدد نخل ولا أذرع مسماة، ثم تلف فهو من المبتاع.
قال محمد بن رشد: معنى شراء الحائط على عدد نخل نقد له، أو الدار على أذرع مسماة تذرع له، هو أن يشتري منه الحائط على أن فيه من النخل كذا وكذا نخلة، وأن يشتري منه الدار على أن ذرعها كذا، وكذا ذراعا، والشراء على هذا الوجه مختلف فيه: قيل: إن ذكر عدد النخل وذرع الدار صفة لذلك، وقيل: إنه بمنزلة من اشترى عددا من النخل، وذرعا من الدار حسبما مضى القول فيه في أول السماع؛ وتحصيل الاختلاف في الضمان في ذلك، أن في كل واحد من الوجهين قولين، وفي الجملة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الضمان من البائع حتى يقبضها المبتاع، وإن كان الشراء على رؤية، وهو أحد قولي مالك في المدونة، واختيار ابن القاسم(7/366)
فيها. والثاني: أن الضمان من المبتاع، وإن كان اشتراء الحائط على عدد نخل نقد له، والدار على أذرع تذرع له، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد من هذا الكتاب، ورواية ابن أبي أويس عن مالك. والثالث: تفرقته في هذه الرواية بين الوجهين، فقف على ذلك وتدبره.
[مسألة: يشتري الدار الغائبة عنه مذارعة]
مسألة وسألته عن الذي يشتري الدار الغائبة عنه مذارعة، أيصلح النقد فيها مثل الذي يشتري غير مذارعة، فقال: لا يصلح، أرأيت إن كان قيل له مائة ذراع، فوجد تسعين ذراعا، لا يعجبني النقد فيها.
قال محمد بن رشد: إنما لا يجوز النقد فيها إذا كان البائع هو الذي قال له: إن فيها كذا وكذا ذراعا، وأما إن كان قال ذلك له غير البائع من مخبر أو رسول، فالنقد في ذلك جائز؛ يبين هذا ما تقدم في رسم نذر سنة يصومها، من سماع ابن القاسم.
[مسألة: القوم يجتمعون في البيع فيقولون لا نزيد على كذا وكذا]
مسألة وسئل عن القوم يجتمعون في البيع، فيقولون: لا نزيد على كذا وكذا، فقال: لا والله، ما هذا بحسن.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن تواطؤهم على ذلك إفساد على البائع، وإضرار به في سلعته، وهو نحو ما في رسم(7/367)
مسائل بيوع وكراء، من سماع أشهب، من كتاب العيوب؛ لأنه استخف به أن يقول المشتري للسلعة في سوقها للرجل يقف عليه: كف عني فيها، فإن لي بها حاجة؛ وكره الأمر العام من ذلك، وقد مضى القول على ذلك هناك، فإن وقع هذا وأقر به القوم، أو شهدت به عليهم بينة؛ كان البائع بالخيار إن كانت السلعة قائمة بين أن يمضي البيع أو يرده، وإن فاتت كان له الأكثر من القيمة، أو الثمن على قياس حكم الغش والخديعة في البيع؛ لأن ذلك غش للبائع، وإن أمضى البائع السلعة بالثمن، فهم كلهم فيها أشراك؛ لتواطئهم على ترك الزيادة فيما زادت أو نقصت أو تلفت؛ يكون من حق المبتاع منهم أن يلزمهم الشركة إن نقصت أو تلفت، ويكون من حقهم أن يلزموه ذلك إن زادت أو كان فيها ربح ظاهر، وسواء كان هذا في سوق تلك السلعة أو في غير سوقها، أرادوها للتجارة أو لغير التجارة، كانوا من أهل تلك التجارة، أو لم يكونوا، بمنزلة أن لو وقفوا على المبتاع وهو يبتاع، فقالوا له: أشركنا في هذه السلعة، فقال لهم: نعم، وإنما يفترق ما ذكرناه إذا وقفوا عليه، حتى تم ابتياعه، ولم يقولوا له شيئا، أو قالوا ذلك له، فسكت، ولم يجبهم على ما سيأتي القول فيه في أول نوازل أصبغ، والله ولي التوفيق.
[مسألة: يبيع ثلاثمائة شجرة تين قد طابت يكون فيها شجرات شتوية لم تطب]
مسألة وسئل عن الذي يبيع ثلاثمائة شجرة تين قد طابت، يكون فيها عشر شجرات، أو عشرون شجرة شتوية لم تطب، فقال: أرأيت ذلك الشتوي أيطيب الآن؟ فقال: لا؛ ولا إلى شهر؛ قال: فلا خير فيه، فقيل له: وكذلك العنب، فقال: نعم؛ قيل له: فيبيع كل واحد على حدة؟ قال: نعم.(7/368)
قال محمد بن رشد: أما إذا كان الشتوي لا يطيب حتى ينقضي ثمر الذي ليس بشتوي، فلا اختلاف في أنه لا يجوز بيع الشتوي بطيب الذي ليس بشتوي، إلا أن يكون الشتوي في حيز التبع: الثلث فأقل، فقد قيل: إنه يجوز بيعه معه، وفي كتاب محمد بن المواز دليل على هذا القول؛ وقال أبو إسحاق التونسي: إن ذلك لا يجوز؛ إذ لا ضرر على المبتاع في بقاء ما لم يطيب للبائع، إذ لا بد له من دخول الحائط لسقيه على كل حال؛ ولو كان المبتاع أراد أن ينفرد بعياله في الحائط وشرط السقي على نفسه؛ لجاز ذلك قياسا على الثمرة في الدار، فهذه الرواية خلاف القول الذي يدل عليه ما في كتاب محمد بن المواز؛ إذ لم يجز فيها بيع عشرين شجرة شتوية بطيب ثلاثمائة غير شتوية، ويحتمل ألا يكون خلافا لما ذهب إليه أبو إسحاق التونسي، فتأمل ذلك وانظره.
[مسألة: الشجر غير النخل إذا بيعت أصولها]
مسألة قال: وقلت لمالك: إني سألتك عن الشجر غير النخل إذا بيعت أصولها، وفيها ثمر لمن هو؟ فقلت: إذا بيعت، وقد ألحقت بثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع؛ فجعلت اللقاح حد ذلك، فما اللقاح؟ قال اللقاح: أن يثمر الشجر، ثم يسقط منها ما يسقط منه، ويثبت منها ما يثبت منه؛ فإذا كان ذلك، فقد ألقحت الشجرة وهو اللقاح، وقلت له: وليس له ذلك بأن تورد الشجر، فقال: لا، إنما ذلك الذي يثمر فيسقط منه ما يسقط، ويثبت منه ما يثبت، فإذا كان ذلك، فهو اللقاح؛ وقد يكون ذلك في الأعناب والرمان، يسقط بعضه ويثبت بعضه، وذلك اللقاح.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب، المعلوم من(7/369)
قول مالك: إن اللقاح فيما سوى النخل من الثمر، هو أن يثبت منه ما يثبت، ويسقط ما يسقط، كالإبار في النخل، وقد كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إن النوار فيما يورد من الشجر بمنزلة الإبار في النخل، ثم رجع إلى أن اللقاح فيها كالإبار في النخل، وفي رسم العرية، من سماع عيسى، مثل قول مالك الأول، قال فيه: والزرع حين يطلب بمنزلة النوار في الشجر، وأما الزرع فقيل: إن نباته كالإبار في النخل، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وقيل: بل حتى يستقل ويفرق، وقيل: بل حتى يأخذ الحب، وقع ذلك في أصل الأسدية، وهو أحد قولي ابن عبد الحكم.
[يشتري مشتري العبد ماله بعد أن يشتريه]
من سماع عيسى
بن دينار من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: وكان ابن القاسم يقول: لا نرى أن يشتري مشتري العبد ماله بعد أن يشتريه، ولم يكن ما استثنى ماله، لا يرى به بأسا أن يشتريه وإن لم يعلمه به، يصنع كما كان يصنع لو استثناه؛ يريد إذا كان ماله عينا يشتريه بالعين، وأما العروض فليس فيه كلام، وفي سماع أصبغ عن ابن القاسم: إن كان بقربه، فلا بأس به، وإن كان قد طاق فلا خير فيه؛ لأنه لا يدري كم هو؟ وهل نقص أم لا؟ قال أصبغ: أو زاد بتجارة أو فائدة، قال ابن القاسم: وليس شيء من ذلك مضمونا على السيد، فإن ابتاعه بحضرة ذلك أخذ ما وجد، ولم يكن على البائع أن يوفيه شيئا؛ لأنه ليس شيء من ذلك بمضمون على البائع؛ وقال في ثمر النخل: لا يستثنيه ثم يشتريه: إنه مثله، لا بأس أن يشتريه، وإن لم يبد(7/370)
صلاحه؛ قال عيسى: وذلك إذا كان بحدثان شرائه، وأما إذا طال، فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: أجاز ابن القاسم في رواية عيسى عنه شراء مال العبد، وثمر النخل بعد الصفقة، إذا لم يشترط ذلك عند الصفقة، ولم يفرق في ذلك بين قرب ولا بعد، ومثله في الجوائح من المدونة في شراء ثمر النخل بعد الصفقة، وروى أشهب عن مالك، في رسم البيوع الأول، من سماعه من كتاب العيوب، أن ذلك لا يجوز قرب أو بعد، فكنت أقول: إن تفرقة عيسى وابن القاسم في رواية أصبغ عنه بين القرب والبعد في ذلك، مفسرة لقوله في رواية عيسى عنه؛ وأن الاختلاف إنما هو في القرب، ولا اختلاف في البعد من أجل أن الأمر إذا طال، فليس الذي اشترى هو الذي كان يجوز له أن يستثني؛ والذي أقول به الآن: إن التفرقة بين القرب والبعد، قول ثالث في المسألة، وأن ذلك جائز على ظاهر رواية عيسى هذه، وما في المدونة من القرب والبعد؛ لأن لكل قول منهما وجها من النظر.
فوجه إجازة ذلك في القرب والبعد، هو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما نهى عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحها إذا بيعت دون الأصول، من أجل أن المشتري لا يضمنها بالعقد؛ إذ هي في أصول البائع، فكان بيعها غررا، وأجاز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمبتاع الأصول أن يستثنيها بقوله: «من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» ، وإن كان إذا استثناها قد ابتاعها بما ينو بها من الثمن؛ إذ لا غرر في ذلك، من أجل أن(7/371)
المبتاع قد قبضها وضمنها بكونها في أصوله، فكذلك إذا اشتراها في صفقة أخرى، يجوز قرب أو بعد؛ إذ لا فرق في ذلك من أجل أن المبتاع يقبضها ويضمنها بالعقد؛ لكونها في أصوله؛ ووجه المنع من ذلك في القرب والبعد، هو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها» ، فوجب أن يحمل النهي على عمومه في كل حال، ولا يخصص من ذلك إلا ما خصصته السنة من الاشتراط في عقد ابتياع الأصول، ووجه التفرقة بين القرب والبعد، هي أن السنة إنما أجازت الاشتراط في أصل الصفقة، فلا يجوز أن يشتري بعدها، إلا ما كان له أن يشترط فيها؛ وإذا بعد الأمر، فليس الذي اشترى هو الذي كان له أن يشترط؛ إذ قد زادت الثمرة أو نقصت؛ وكذلك مال العبد؛ لاحتمال زيادته ونقصانه؛ وأشهب يفرق بين ثمرة النخل ومال العبد، فيجيز شراء ثمر النخل بعد الصفقة، يريد في القرب والبعد، ولا يجيز شراء مال العبد، يريد لا في القرب ولا في البعد، وهو قول رابع في المسألة.
قال أبو إسحاق التونسي: وشراء ثمر النخل أبين من شراء مال العبد؛ لأن الثمرة تدخل بالعقد في ضمانه، لكونها في أصوله، فيرتفع الغرر بذلك، وعندي ألا فرق بينهما؛ لأن مال العبد أيضا إنما يشتريه ليكون للعبد كما كان، فإنما جاز؛ لكونه لاحقا بمال العبد، ألا ترى أنه لو اشتراه لنفسه أو بعد أن باع العبد، لم يجز؛ كما لو اشترى الثمرة بعد أن باع الأصل لم يجز، وحكم شراء الزرع بعد الأرض، حكم شراء الثمرة بعد الأصل؛ يدخل في ذلك الأقوال الثلاثة: الجواز، والمنع، والفرق بين القرب والبعد.
قال يحيى: وحد القرب في ذلك العشرون يوما ونحو ذلك، وفي قوله في أول المسألة يريد إذا كان مال العبد عينا يشتريه(7/372)
بالعين؛ وأما العروض فليس فيه كلام نظر؛ لأن مال العبد إذا كان عينا فوقع على معرفته، لم يجز أن يشتريه إلا بما يجوز لغيره أن يشتري به العين، كما أنه إذا كان عروضا أيضا فوقع على معرفتها، لم يجز أن يشتريها إلا بما يجوز لغيره أن يشتري به تلك العروض، وإذا لم يقع على معرفته واشتراء على الجهل به، فسواء كان عينا أو عرضا، يجوز له أن يشتريه بما شاء من عين أو عرض، وإن كان ذلك لا يجوز لغيره؛ وقد وقع من قول أصبغ في آخر أول رسم من سماعه بيان هذا؛ فمعنى قوله: إن مال العبد المجهول الذي لا يعلم ما هو يجوز أن يشتريه بعين، وإن كان فيه عين، ولا يجوز له على مذهب ابن القاسم أن يشتري بعضه، كما لا يجوز له أن يشترط بعضه، إلا أن يكون معلوما، فيشتري منه ما شاء بما شاء، مما يجوز له أن يشتريه به.
[مسألة: يبيع الثمر في رءوس النخل حين تزهى فتيبس]
مسألة وقال في الذي يبيع الثمر في رءوس النخل حين تزهى فتيبس، ثم يأتي فيستقيله، قال: لا يصلح ذلك؛ لأنه كأنه أخذ من ثمن رطب ثمرا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة اختلف فيها قول مالك، في سماع أشهب، من كتاب السلم والآجال، وقد مضى القول عليها هناك مستوفى، فأغنى عن إعادته هنا.
[مسألة: اشترى زيتا فكال له مطرا ثم كال آخر فوقع على وعاء المشتري فانكسرا]
مسألة وسألته عن الرجل يشتري من الرجل زيتا، فأمر أجيرا له أن يكيل له، فكال مطرا فصبه في وعاء المشتري؛ ثم كال آخر فوقع على وعاء المشتري فانكسرا جميعا؛ قال: أما الثاني، فليس من(7/373)
المشتري هو من البائع، وليس على الأجير فيه شيء، وأما الأول الذي انكسر في وعاء المشتري، فعلى الأجير ضمانه؛ لأنه من سببه.
قال محمد بن رشد: المطر خفيف، وهو مكيال يكال به؛ والمسألة كلها صحيحة بينة المعنى.
قوله فيها: إن الكيل الثاني الذي انكسر بعد امتلائه، وقبل أن يصبه في إناء المشتري، ضمانه من البائع لا من المشتري صحيح؛ لأن انكساره بيد أجير البائع، كانكساره بيد البائع لو كان البائع، هو متولي الكيل؛ لأن يد أجيره كيده، ولا ضمان على الأجير فيما سقط من يده مما استؤجر عليه؛ وإذا ضمنه لزمه غرمه من بقية الزيت، إلا أن يرضى المشتري؛ أن يأخذ من غيره، ولو كان آخر كيل وقد فني الزيت، رد إليه ما ينوبه من الثمن، إلا أن يتراضيا على أخذ مثله قبل التفرق؛ ولا اختلاف في أن الكيل لو سقط من يد البائع، وهو يكيل بعد امتلائه وقبل أن يصبه في وعاء المشتري، أنه من البائع، فكذلك إذا سقط من يد أجيره على الكيل، وإنما اختلف إذا كان المبتاع هو الذي يكتال لنفسه أو وكيله على ذلك أو أجيره، إذا قال له البائع: كل لنفسك؛ فاكتال لنفسه، أو استناب في ذلك أحدا، أو استأجره عليه، فسقط الكيل من يده أو من يد وكيله، أو من يد أجيره بعد أن امتلأ، وقبل أن يصبه في وعائه، فانكسر وذهب ما فيه؛ فروى يحيى بن يحيى، عن ابن القاسم، في رسم يشتري الدور والمزارع من سماعه بعد هذا: أن مصيبته من البائع؛ وقال سحنون في نوازله: إنه إن انكسر بعد أن امتلأ، فمصيبته من المبتاع،(7/374)
وكذلك لو كان الذي يكيل أجيرا لهما جميعا، أو وكيلا استأجراه للكيل، أو استعاناه في ذلك، وسواء في هذا، كله كان المكيال للبائع أو للمبتاع، إلا أن يكون المكيال هو الذي ينصرف به المبتاع إلى منزله، ليس له إناء غيره، فيكون ضمان ما فيه منه إذا امتلأ، كان له أو للبائع استعاره منه المبتاع، قاله ابن وهب في رواية ابن أبي جعفر عنه، وهو صحيح، والاختلاف في هذا، جار على اختلافهم فيمن اشترى سلعة حاضرة بعينها، هل تدخل بالعقد في ضمان المبتاع، ولا يكون على البائع فيها حق توفية؟ أو لا تدخل في ضمانة حتى يقبضها، أو يمضي من المدة ما كان يمكنه قبضه فيها، لو أراد أن يقبضها؟ لأن الكيل إذا ملأه المشتري لنفسه أو أجيره، فقد تعين ما فيه له، وصار كالسلعة الحاضرة المبتاعة، فتلف ما فيه قبل أن يفرغه في وعائه، كتلف السلعة الحاضرة عقيب البيع قبل إمكان القبض، والقولان في السلعة الحاضرة المبيعة قائمان من المدونة مما وقع في كتاب البيوع الفاسدة من المدونة، وفي كتاب بيوع الآجال منها.
وإنما لم يدخل هذا الاختلاف إذا كان البائع هو الذي يكيل؛ إذ لا يتعين ما في المكيال للمشتري بامتلائه؛ إذ من حق البائع أن يأخذ ما في المكيال لنفسه إذا ملأه، ويقول للمشتري: أكيل لك غيره، ولو كان المكيال الذي انكسر بيد البائع آخر كيل بقي للمشتري، وقد فني زيت البائع الذي باع منه الكيل المسمى؛ لدخل الاختلاف المذكور في ذلك، من أجل أنه قد تعين للمشتري، إذ لم يبق للبائع من الزيت ما يوفيه منه غيره، وكذلك لو كان البائع، وأخذ في صب الكيل في وعاء المشتري بعد أن امتلأ، فسقط من يده فانكسر وذهب ما فيه قبل أن يستوفي تفريغه؛ لدخل الخلاف(7/375)
المذكور أيضا فيما ذهب مما كان بقي في المكيال، إذ قد تعين للمشتري ما بقي في المكيال بشروع البائع في تفريغه في وعاء المشتري، ولا اختلاف بينهم في أن مصيبة ما في المكيال من البائع إذا انكسر قبل أن يمتلئ، ولو كان البائع، فلما امتلأ الكيل دفعه إلى المشتري ليفرغه في وعائه، فسقط من يده قبل أن يفرغه؛ لكان ضمانه منه؛ فلا خلاف في هذا بين ابن القاسم وسحنون، وقوله في الرواية.
وأما الأول الذي انكسر في وعاء المشتري، فعلى الأجير ضمانه صحيح؛ لأنها جناية منه على المشتري هو لها ضامن؛ لأن الأجير عند ابن القاسم لا يضمن ما سقط من يده، ولا ما وطئ عليه فكسره؛ وقال أشهب في المدونة: إنه يضمن ما وطئ عليه، بخلاف ما يسقط من يده، ولا اختلاف بينهم في أنه يضمن ما سقط ذلك الشيء عليه من يده فكسره، ولو كان البائع هو الذي سقط من يده المكيال على وعاء المشتري فانكسر، وكسر ما في وعاء المشتري، للزمه غرم ما كان في وعاء المشتري من زيت مثله، ولا يلزمه غرمه من ذلك الزيت إلا أن يشاء، وأما ما كان في المكيال؛ فيلزمه غرمه من ذلك الزيت، إلا أن يرضى البائع أن يأخذ من غيره، فإن كان الكيل آخر كيل، ولم يبق عند المشتري شيء من ذلك الزيت، رد من الثمن ما يجب له، إلا أن يتراضيا على أن يعطيه من زيت غيره، فيجوز قبل التفرق.
[مسألة: بيع صبرة قمح وعشرة أرادب عدس بدينار]
مسألة وقال في صبرة قمح، وعشرة أرادب عدس بدينار، قال: لا خير فيه؛ كذلك قال لي مالك؛ لأن الخطار يدخله، إلا أن يكون كيلا كله، أو جزافا كله، لا يشتري كيلا شيئا من الأشياء، وجزافا من غيره؛ وقد قال لي مالك: إنه عن مثل هذا.(7/376)
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة، في رسم شكل من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته؛ وسيأتي إن شاء الله في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ، تمام القول فيما يتعلق بها.
[مسألة: اشترى من رجل سلعة بمائة دينار قائمة وشرط عليه في عقدة البيع]
مسألة وسئل عن رجل اشترى من رجل سلعة بمائة دينار قائمة، وشرط عليه في عقدة البيع أن يحمل له على وزن مائة قائمة، يدخل في ذلك ما دخل؛ قال: ليس فيه خير؛ وقيل له: إنه قد اشترطه، فقال: أرأيت ما لا يجوز في القضاء، أيجوز في البيع، وذكر مسألة مالك في القضاء، قيل له: أيفسخ هذا البيع؟ قال: إن أدرك فسخ، وإن فات، لم أره مفسوخا.
قال محمد بن رشد: لم يجز أن يبيع منه سلعة بمائة دينار قائمة على أن يأخذ منه دنانير مجموعة بوزن المائة القائمة، أن يجعل المائة القائمة صنجة يأخذ بها دنانير مجموعة، كما لا يجوز ذلك في القضاء، يريد كما لا يجوز إذا كان له عليه مائة دينار قائمة، أن يأخذ منه دنانير مجموعة بوزنها، بأنه يأخذ مائة دينار قائمة فيجعلها صنجة؛ يقضيه بها دنانير مجموعة، وإنما لم يجز ذلك في القضاء ولا في البيع؛ لأن الدنانير القائمة تجوز عددا، ويعرف وزن كل واحد منها على الانفراد، ولا بد أن يكون بعضها أوزن من بعض.
فإذا جمعت كلها في الوزن لم يعرف حقيقة ما يكون فيها من الوزن، فإذا باع سلعة على هذا، فكأنه قد باعها بثمن مجهول؛ إذ لا يعرف حقيقة وزن ما باعها به من الدنانير المجموعة، إلا أنه رأى الجهل في ذلك يسيرا؛ إذ لا يتفاوت الوزن في ذلك تفاوتا بعيدا، فرآه بيعا مكروها، فسخه في القيام وأمضاه في الفوات، وأما القضاء فهو أشد؛ لأنه إذا أخذ(7/377)
بوزن القائمة التي له مجموعة، لا يدرى هل أخذ أقل في الوزن أو أكثر؛ إذ لا بد من أن يزيد في الوزن أو ينقص، وهو يغتفر فضل عدد القائمة التي له رجاء زيادة الوزن، لا سيما والصرافون يزعمون أن الذهب إذا جمع نقص، وإذا فرق زاد، وهذا مثل قوله في المدونة في مسألة الدرهمين الفردين يؤخذ بوزنهما تبر فضة.
[مسألة: اشترى مائة أردب من طعام بعينه فقصر عن المائة]
مسألة وسئل عن رجل اشترى مائة أردب من طعام بعينه فقصر عن المائة، فأراد أن يأخذ عدسا ثمن ذلك، رضيا بذلك جميعا، فقال: إذا كان طعاما بعينه، فلا بأس إذا لم يكن فيه وفاء؛ فإن كان فيه وفاء، فلا خير فيه، وإن كان مضمونا، فلا خير فيه؛ لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال؛ لأن الطعام المشترى إذا كان بعينه، ولم يكن فيه وفاء، فالواجب أن ينتقض من البيع بحساب ما نقص من الطعام، ويرد البائع على المبتاع ما يجب لذلك من الثمن، فجاز للمبتاع أن يأخذ منه بما يجب له عليه من الثمن بما شاء من الطعام أو العروض إذا تعجل؛ فإن كان فيه وفاء أو كان سلما مضمونا، لم يجز له أن يأخذ في شيء منه عدسا وما سوى طعامه؛ لأنه إذا فعل ذلك كان قد باع ما وجب له من الطعام بما أخذ من غير صنفه، أو من العروض، فدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى.(7/378)
[مسألة: اشترى من رجل طعاما بعينه إلى أجل ثم غاب أحدهما من عذر أو غيره]
مسألة وسئل عن رجل اشترى من رجل طعاما بعينه إلى أجل، ثم غاب أحدهما من عذر أو غيره، حتى مضى الأجل، فأحب أحدهما إتمام البيع وكره الآخر، قال: أرى البيع لازما لهما، وليس لأحدهما أن يتأخر عن صاحبه، ولا يتغيب عنه لفسخ البيع بينهما، ويكون ذلك ندما منه.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة في هذا الرسم بعينه، من هذا السماع، من كتاب السلم والآجال، وقد مضى القول عليها هناك، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: باع سلعة بيعا فاسدا ثم دفع ذلك فقال إذا حالت فيهما الأسواق فهو فوت]
مسألة وسئل عن رجل باع سلعة بيعا فاسدا، ثم دفع ذلك فقال: إذا حالت فيهما الأسواق فهو فوت كذلك قاله لي مالك، إلا في الطعام وما أشبهه مما يوجد مثله وفيه الرد.
قال محمد بن رشد: هذا هو المنصوص عليه من قول مالك وأصحابه، المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها، أن المكيل والموزون من الطعام وغيره الذي يوجد مثله، لا تفيته حوالة الأسواق، والذي يوجبه النظر أن يفيت ذلك كله حوالة الأسواق كالعروض؛ لأن العلة في أن العروض تفيتها حوالة الأسواق ما يدخل من الضرر على أحد المتبايعين بإيضاع قيمتها أو ارتفاعها، وذلك موجود في المكيل والموزون من الطعام(7/379)
وغيره، فقد يبيعه الطعام في الشدائد بيعا فاسدا، ثم يعثر على الفساد في الرخاء، فيظلم البائع في أن يرد عليه مثل طعامه، وهو لا يساوي إلا يسيرا، أو يبيعه في الرخاء ثم يعثر على الفساد في الشدائد، فيظلم المبتاع بأن يكلف رد مثله فيشتريه بعشرة أمثال ما باع به الطعام الذي اشتراه أو أكثر؛ وقد قال ابن المواز: إن الطعام الجزاف، والحلي الجزاف، تفيته في البيع الفاسد حوالة الأسواق كالعروض؛ فإذا كان الطعام الجزاف والعروض تفيتها حوالة الأسواق مع بقاء العين، فأحرى أن تفيت حوالة الأسواق المكيل والموزون كله من الطعام وغيره مع ذهاب العين؛ لأن مثل الشيء أنزل رتبة من عينه، فإذا كان العرض يفوت بحوالة الأسواق مع بقاء عينه، فأحرى أن يفوت الطعام بحوالة الأسواق مع ذهاب عينه.
[مسألة: بيع البيض المسلوق بالنيء متفاضلا]
مسألة وقال في البيض المسلوق بالنيء متفاضلا: لا خير فيه، ليس السلق صنعة.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصله في المدونة في اللحمان: أن النار فيها ليس بصنعة يبيح التفاضل في الصنف الواحد منها إذا شوي أو طبخ بغير إبزار، فالسلق في البيض كالشي في اللحم بغير إبزار.
[مسألة: مسلم اشترى من مسلم خنزيرا]
مسألة وسئل عن مسلم اشترى من مسلم خنزيرا، قال: يرد الثمن، ويقتل الخنزير.(7/380)
قال محمد بن رشد: الظاهر من هذه الرواية أن البيع ينقض في الخنزير، فيقتل على البائع، وإن كان المبتاع قد قبضه، ويرد الثمن إلى المبتاع، وقد قيل إذا قبضه المبتاع أنه يقتل عليه، ويمضي البيع، ويتصدق بالثمن على المساكين، قبضه البائع أو لم يقبضه؛ إذ لا يحل للبائع، ولا يصح تركه للمبتاع، وقد قتل الخنزير عليه؛ وأما إن عثر على البيع قبل أن يقبض المبتاع الخنزير، فلا اختلاف في أنه يقتل على البائع، ويسقط الثمن عن المشتري إن كان لم يدفعه، واختلف إن كان قد دفعه إلى البائع؛ فقيل: إنه يرد على المبتاع، وهو قوله في هذه الرواية، وقيل: إنه يتصدق به على المساكين أدبا له، ولو اشتراه المسلم فأكله من ضرورة، لرجب أن يبطل الثمن عنه إن كان لم يدفعه، وأن يرد عليه بلا خلاف، إن كان قد دفعه.
[مسألة: كان له على رجل مائة إردب قمح من شراء]
مسألة وقال فيمن كان له على رجل مائة إردب قمح من شراء، فقال الرجل: اقبضها، فما اقتضيت من شيء، فلك ربعه أو جزء منه؛ قال: لا خير فيه ولا يحل، وهو من بيع الطعام قبل أن يستوفى.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه قد باع بعض الطعام من المقتضي للطعام بعنائه له في اقتضاء باقيه.
[مسألة: باع كبشا بصوف إلى أجل]
مسألة وسئل عن رجل باع كبشا بصوف إلى أجل، قال: إن كان أجلا قريبا لا يكون للكبش صوف يجز في مثله، فلا بأس، وإن كان أجلا بعيدا يكون فيه للكبش صوف، فلا خير(7/381)
فيه؛ قال مالك: لا يصح لرجل أن يبيع نخلا بثمن إلى أجل يكون للنخل ثمن إلى الأجل.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة بعينها في هذا الرسم بعينه من هذا السماع، من كتاب السلم والآجال، ومضى القول عليها مستوعبا مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور، فمن أحب الوقوف على ذلك تأمله هناك.
[يشتري من الرجل عشر شياه يختارها من غنمه]
ومن كتاب
أوله استأذن سيده وسئل عن الرجل يشتري من الرجل عشر شياه يختارها من غنمه، قال: لا بأس بذلك؛ قيل له فاشترى عشرة من شرارها، قال: لا خير فيه؛ لأن الخيار فيه للبائع، يعطيه ما أحب، ولا يدري ما اشترى؛ قال ابن القاسم: ولو أن رجلا اشترى عشر شياه من خيار غنم، فلما وجبت له، قال: زدني عشرة أخرى اختارها بعدها؛ قال: لا بأس به، ولو كان قال رجل آخر: بعني بعشرة اختارها بعدها أن يختار هذا عشرته لم يكن فيه خير؛ لأنه غرر لا يدري ما اشترى؛ قال: وأن الذي يزيد عشرة إلى عشرة قد عرف ما اشترى، وهو بمنزلة رجل اشترى عشرين يختارها.
قال محمد بن رشد: شراء الغنم على الاختيار، وإن تفاضلت عددا(7/382)
مسمى من جملة، كان أقل الجملة أو أكثرها، جائز إذا كان قد قبلها وأحاط علما بها، وعرف شرارها من خيارها، لم يختلف في جواز ذلك نصوص الروايات عن مالك وأصحابه، وإن جاز أن يدخل الخلاف في جواز ذلك بالمعنى، فقد قال ابن حبيب: إنه لا يجوز شراء ثوب يختاره من ثياب على أن أحدها لازم له، إلا أن تكون الثياب صنفا واحدا لا تتفاضل في الجودة، وأما مالك في المدونة، فجرى في الثياب على أصله في الغنم، وأجاز شراء العدد منها على الاختيار إذا كانت صنفا واحدا، وصفة واحدة وإن تفاضلت، وإنما لم يجز ذلك إذا اختلفت أصنافها، أو اختلفت رقومها وصفاتها، وأجاز ذلك ابن المواز وإن اختلفت رقومها وصفاتها، ما لم تتباين تباينا يجوز معه سلم أحدهما في الآخر، فيكون ذلك كالصنفين، وعلى مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة في المدونة، يجوز ذلك في الصنفين، والشافعي وأبو حنيفة لا يجيزان على الشراء على الاختيار بحال، فهي خمسة أقوال.
وإنما لا يجوز أن يختار باتفاق فيما لا يجوز أن يحول أحدهما في الآخر، وأما شراء عشرة من الغنم ونحو ذلك مما هو يسير من الجملة، مثل أن يبيع جملة غنمه على أن يختار منها عددا مسمى مما هو جلها أو أكثرها فلا يجوز، لم تختلف نصوص الروايات في أن ذلك لا يجوز، وإن جاز أن يدخل الخلاف في ذلك بالمعنى، فقد قال ابن حبيب في الرجل يبيع البز المنصف، ويستثني منه ثيابا، أنه إن اشترط أن يختارها من رقم بعينه، فلا بأس به، وإن كان جل ذلك الرقم، قال: وإنما يكره ذلك في الكيل من الجزاف؛ وهو بعيد، وقد قال ابن عبدوس: إن هذا إذا حمل على النظر، بطل كله، ولم يجز منه شيء؛ إذ لا يجوز للبائع أن يجهل ما باع، ولا للمشتري أن يجهل ما اشترى؛ وإذا كان الخيار(7/383)
للمبتاع، فقد جهل البائع ما باع، وإذا كان للبائع قد جهل المبتاع ما ابتاع، وإنما جوز اختيار البيع إذا اتفق الصنف والثمن بالتسهيل؛ لأنه من بياعات الناس، وليس يحتمل النظر مثل الذي يبيع ثمر حائطه، ويستثني منه كيلا دون الثلث، وهو إنما باع منه ما بعد الكيل وهو مجهول، والحد الذي يجوز للبائع أن يستثنيه من غنمه على الخيار الثلث فأقل، فإن كان أكثر من الثلث لم يجز عند ابن القاسم، وأجازه سحنون؛ يريد والله أعلم ما لم يكن الجل أكثر من النصف، فقد رأيت له أنه أجاز أن يبيع الرجل أحد عبديه أيهما شاء على أن ذلك لازم للمشتري؛ وأن يتزوج المرأة على ذلك، خلاف ما في النكاح الأول من المدونة.
وأجاز للذي اشترى عشرة من الغنم على أن يختارها أن يشتري قبل أن يختارها عشرة أخرى على الخيار أيضا، ولم يجز ذلك لغيره، والفرق بينه وبين غيره، أنه قد علم ما يختار؛ فلم يدخل في العشرة الثانية على جهل، وغيره لا يعلم ما يختار، هو فدخل على جهل، وكذلك يجوز له أن يشتري بقيتها قبل أن يختار العشرة، ولا يجوز ذلك لغيره، وأجاز ذلك محمد بن المواز لغيره في الوجهين، ووجهه أن العشرة التي اشتراها الأول على أن يختارها كأنها معلومة عند الثاني؛ إذ قد علم أنه لا يختار إلا خيارها، وخيارها لا يخفى على أهل المعرفة بها؛ فكأن البائع أبقى تلك العشرة لنفسه، وباع منه الباقي أو عشرة على أن يختارها، فعلى هذا يجوز للأول أن يبيع العشرة قبل أن يختارها من غيره، فيختارها المشتري الثاني لنفسه، خلاف ما يأتي في سماع سحنون لأشهب، وإذا اشترى عشرة من الغنم على أن يختارها، كان من حقه أن يختارها هو، فإن أراد أن يأتي بمن يختارها له كان ذلك له؛ هذا هو الذي يوجبه النظر، ويأتي على قول أشهب ما في سماع سحنون: أن ذلك ليس له؛ إذ لم يجز له بيعه من غيره على أن يأخذ ما يختار هو، ولا(7/384)
على أن يختارها هو لنفسه؛ إذ لا ينزل أحد منزلته في اختيار ما اشترى إلا ورثته، هذا معنى قوله، وهو بعيد؛ وقد قال بعض الشيوخ على قول أشهب هذا: إنما لم يجز له أن يقدم من يختار له؛ لأن من حق البائع أن يقول: إنما رخصت عليك في الثمن؛ لأني علمت أنك غير ما هي بالاختيار في الغنم؛ فرجوت أن تختار ما ليس بخيارها، وهذا ليس بشيء؛ إذا لو كان البائع إنما دخل معه على ألا يختار إلا هو لهذا المعنى، لكان غررا؛ وقد قال يحيى بن دحون: إن اشترط البائع عليه أن يختار هو لنفسه لزمه، وليس بصحيح؛ فإن اشترى منه عشرة من خيرة غنمه وسكتا فلم يقل: أختارها أنا ولا أنت، واختلف في خيرتها، فقال البائع: هذه هي خيرتها فخذها، وقال المبتاع: بل هذه هي، دعي لذلك أهل المعرفة والبصر، قاله ابن حبيب، وهو صحيح؛ لأن البيع إذا وجب في خيرتها وسكتا عمن يختارها، فكأنه شيء معلوم.
[مسألة: يشتري الرقيق من الرجل بأفريقية فيقدم الفسطاط بها فيوجد البيع حرام]
مسألة وسألته عن الرجل يشتري الرقيق من الرجل بأفريقية، فيقدم الفسطاط بها، فيوجد البيع حراما، هل يكون فيه رد؟ وهل قدومه بها فوت؟ قال: ليس البلدان فوتا، إلا أن يفوت بنماء أو نقصان، أو اختلاف أسواق، أو طول زمان؛ فإن كانت الأسواق قد اختلفت فهو فوت، وما أرى إلا أن الفوت قد دخلها؛ لأن سوق القيروان وسوق الفسطاط ليسا واحدا؛ قلت: فلو اشتراها بالإسكندرية، وقدم(7/385)
بها الفسطاط، هل ذلك فوت؟ قال: الذي اشتراها بالإسكندرية إنما يقدم بها الفسطاط للفضل، ومع ذلك قد غيرها السفر؛ فإن كانت الأسواق مختلفة، أو غيرها السفر، فهو فوت تكون فيه القيمة، قلت: وإن كانت لم تختلف الأسواق، ولم يغيرها السفر؛ قال: إن كانت كما تقول ردها، قلت: فأين يردها عليه بالفسطاط أم بالإسكندرية؟ قال: بل بالفسطاط، ولو كان طعاما لم يرده عليه إلا بالإسكندرية.
قال محمد بن رشد: وكذلك السلع على قياس قوله في الرقيق، إذ يحتاج إلى الكراء عليهم، كالسلع لا يكون نقل شيء من ذلك من بلد إلى بلد فوتا في البيع الفاسد، إلا أن تختلف أسواق البلدان؛ وقد قيل: إن ذلك كله فوت، وهو الذي يأتي على قول أشهب وأصبغ في سماعه، من كتاب الغصب في مسألة الغصب؛ إذ جعل المغصوب منه مخيرا بين أن يأخذ متاعه، أو يضمنه قيمته في البلد الذي غصبه فيه، والغصب لا يفيته حوالة الأسواق؛ فجعلا نقل ذلك من بلد إلى بلد أشد من حوالة الأسواق، ووجه القول الأول أن الأسواق لم تختلف، وما أكرى به المتاع على السلعة مستهلك على كل حال، فسخ البيع أو صحح بالقيمة؛ إذ لا تساوي السلعة إلا القيمة التي صححت بها، فوجب أن يفسخ؛ إذ لا ضرر على المبتاع في الفسخ، ووجه القول الثاني: أن الأسواق وإن لم تختلف مما أكرى المبتاع به على السلعة محسوبا بثمنها، فكأن الأسواق قد حالت(7/386)
بنقصان، فوجب ألا يفسخ البيع لما يدخل على المبتاع من الضرر بالفسخ؛ إذ قد يرتفع سوقها، فيربح فيها ما اكترى به عليها، فمن حقه ألا يعجل عليه الخسارة، وهذا القول أظهر؛ وأما الدواب التي لا يكرى عليها، وإنما تركب أو تكرى، فلا اختلاف في أن حملها من بلد إلى بلد لا يفيتهما في البيع الفاسد إذا لم تختلف أسواق البلدان؛ وكذلك الرقيق الذي لا يحتاج إلى الكراء عليهم، لا يفوت في البيع الفاسد من حمله من بلد إلى بلد، كالدواب يقوم ذلك من رواية ابن القاسم عن مالك، في سماع سحنون، من كتاب الغصب في مسألة الغصب؛ إذ فرق فيها بين الرقيق والسلع؛ ومعناه في الرقيق الذي لا يحتاج إلى الكراء عليهم، وأما نقل السلع من بلد إلى بلد بالكراء عليها، فهو فوت في الرد بالعيب؛ وقد مضى القول على ذلك في رسم نذر سنة، من سماع ابن القاسم، من كتاب العيوب؛ وأما قوله: ولو كان طعاما لم يرده عليه إلا بالإسكندرية، فمعناه في الطعام المكيل؛ وهو على أصله في أن حوالة الأسواق لا تفيته، وقد مضى القول على ذلك في الرسم الذي قبل هذا.
[مسألة: يكون له نصف عبد ونصفه لآخر أو نصفه حر فيبيع نصفه من رجل]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يكون له نصف عبد ونصفه لآخر، أو نصفه حر، فيبيع نصفه من رجل، ولا يذكر البائع ولا المبتاع ماله عند البيع؛ فقال: قال مالك: لا يشتريه أحد إلا من كان في ماله بمنزلة سيده الذي باعه، وليس لسيده أن يستثنيه إذا باعه؛ فإذا باعه ولم يذكر هو ولا المبتاع ماله، ثم قال البائع والله ما بعته بماله ولا بعته إلا بغير ماله، فإن البيع يفسخ بينهما(7/387)
ويرد، ولا يجوز لأحد أن يشتريه إلا على أن يكون في ماله بمنزلة بائعه يقر في يديه؛ يريد العبد ولا يحرك؛ قيل لسحنون: فإن باعه من شريكه على أن له ماله، قال ذلك جائز؛ لأن ذلك مقاسمة له، ولا يجوز له من غير شريكه أن يبيعه ويشترط ماله، أو يبيعه ويسكتان عن ماله، قال: هذا لا يجوز ويفسخ، إلا أن يبيعه بماله، ويحل المشتري فيه محل البائع.
قال محمد بن رشد: أما إذا باعه من شريكه، فلا اختلاف في جواز البيع، استثنى المبتاع المال أو لم يستثنه؛ لأنه إن لم يستثنه، بقي نصفه للبائع، فكان ذلك مقاسمة له كما قال سحنون؛ وأما إذا باعه من غير شريكه، ولم يستثن المبتاع ماله، فقيل: إن البيع فاسد، وهو قول مالك في هذه الرواية؛ وفي سماع أشهب من كتاب الشركة: وقيل: إن البيع يفسخ إلا أن يرضى البائع أن يسلم ماله إلى المبتاع، وهو دليل ما في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب العتق؛ ومثل ما في رسم كتب عليه، من سماع ابن القاسم، من هذا الكتاب، في مسألة النخل يباع وقد أبر نصف ثمرها حسبما بيناه هناك.
[باع الرجل أرضا وفيها زرع]
ومن كتاب العرية وقال: إذا باع الرجل أرضا، وفيها زرع حين بدا فهو للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع؛ قال: ولا يحل أن تباع أرض فيها زرع(7/388)
بأرض أخرى فيها زرع، وهو جميعه قول مالك؛ والزرع حين يطلع بمنزلة النوار في الشجر، لا يحل على وجه من الوجوه، ويستثنى كل واحد منهما زرع صاحبه، ولا بأس أن يستثني أحدهما زرع صاحبه، ولا يستثني الآخر.
قال محمد بن رشد: قوله: إن من باع أرضا وفيها زرع حين بدا فهو للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، هو المعلوم المشهور من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وقد مضى ما في ذلك من الاختلاف في آخر سماع أشهب؛ وكذلك قوله: إنه لا يحل أن تباع أرض فيها زرع بأرض أخرى فيها زرع، هو المشهور في المذهب المعلوم من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة وغيرها؛ وسحنون يجيز ذلك ما لم يحل بيع الزرع، ويجيز أيضا بيع الأرض، وفيها زرع لم يحل بيعه بطعام نقدا وإلى أجل؛ لأنه يجعله ملغى لا تقع عليه حصة من الثمن، وهو مذهب ابن الماجشون؛ وأما قوله: إن الزرع حين يطلع بمنزلة النوار في الشجر، فيقوم منه أن النوار في الشجر بمنزلة الإبار في النخل، خلاف ما مضى في آخر سماع أشهب، وقد مضى هنالك ذكر اختلاف قول مالك في ذلك؛ ويحتمل أن يريد أنه بمنزلته في أنه لا يجوز أن يستثني كل واحد منهما ثمر حائطه، وإن كان قد ورد، كما لا يجوز أن يستثني كل واحد منهما زرع حائطه، وإن كان قد ثبت؛ لا أنه بمنزلته في أنه يكون للبائع إذا ورد، وإن لم يستثنه كما يكون الزرع له إذا ثبت، وإن لم يستثنه، وهو الأظهر.(7/389)
[مسألة: يبيع أرضا فيها زرع لم يطب بثمن إلى أجل واستثناه المشتري]
مسألة وعن رجل يبيع أرضا فيها زرع لم يطب بثمن إلى أجل، واستثناه المشتري، فاستقال البائع على أن يمحو عنه الثمن، ويترك له الزرع، قال ابن القاسم: ليس بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال: إن ذلك جائز؛ إذ لا تهمة فيه؛ لأن الأمر آل بينهما إلى أن رجعت إلى البائع أرضه، وبقي الزرع للمبتاع موهوبا بغير ثمن فجاز؛ وقد مضت هذه المسألة متكررة في رسم نقدها، من سماع عيسى، من كتاب السلم والآجال، ومضى هناك من القول عليها ما فيه كفاية.
[مسألة: يأتي إلى الرجل فيقول له هل لك أن تبيعني ثوبك هذا بهذه الدراهم]
مسألة وعن الرجل يأتي إلى الرجل فيقول له: هل لك أن تبيعني ثوبك هذا بهذه الدراهم، ولا تزنها تأخذها وازنة كانت أو ناقصة ولا تزنها، هل يكره أم لا؟ قال ابن القاسم: قال مالك: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: المكروه في هذه المسألة بين إذا كانت الناقصة لا تجوز بجواز الوازنة؛ لأنه غرر بين، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر» ؛ ولو كانت الناقصة تجوز بجواز الوازنة لم يكن به بأس، وقد(7/390)
مضى بيان هذا في سماع أشهب، من كتاب الصرف.
[مسألة: اشترى من رجل مائة قسط من زيت فوجد فأرة ميتة في الجرة التي يكال منها]
مسألة وسئل عن رجل اشترى من رجل مائة قسط من زيت، فكال له خمسين من جرة، ثم بدأ في أخرى يكيل له منها؛ فلما كال له منها قسطا أو قسطين، فصبه على الخمسين، فإذا بفأرة ميتة في الجرة الأخرى، قال: ضمان الخمسين من المبتاع. قلت: ولم لا يكون ضمانه على البائع الذي أفسده؟ قال: ليس عليه ضمان؛ لأنه إنما صبه عليه بأمر المبتاع؛ أرأيت لو أنك ابتعت جرة زيت من رجل فقلت له: بلغها إلى البيت، فحملها حتى بلغها، فأمر بصبها على زيت له في البيت؛ فلما صبه، فإذا بفأرة في الجرة، أكان يضمن زيتك الذي في البيت؟ ليس عليه ضمان، فالخمسون التي اكتالها بمنزلة زيته التي في بيته ضمان الخمسين منه.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال؛ لأنه لم يتعد في الصب، ولا كان منه خطأ في فعله إياه؛ وصبه إياه عليه بأمره؛ بمنزلة ما لو دفعه إليه فصبه هو على زيته، فوجب ألا يضمن، إلا أن يعلم بموت الفأرة في الجرة.(7/391)
[الحلباء هل تباع قبل أن تستوفى]
ومن كتاب أوصى
أن ينفق على أمهات أولاده
وسئل عن الحلباء أتباع قبل أن تستوفى؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: حكم ابن القاسم في هذه الرواية للحلباء بحكم الأطعمة في أنها لا تباع قبل الاستيفاء، ولم يتكلم على جواز التفاضل فيها يدا بيد، والأظهر إجازة ذلك؛ وقد قيل: إنها من الأدوية، وليست من الأطعمة، وقيل: إن للخضراء منها حكم الأطعمة، ولليابسة حكم الأدوية، وقد مضى القول في هذا كله مستوفى، في سماع أبي زيد، من كتاب السلم والآجال.
[مسألة: بيع القصب بالسكر]
مسألة وقال في القصب بالسكر: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: زاد في هذه المسألة في بعض الروايات: وقال في عسل القصب برب القصب إذا دخلته الصنعة والإبزار مثل القرفة والسنبل والفلفل، قال: ومثل اللوز والفستق والبيض يجعل فيه: لا بأس به متفاضلا، قال: ولا أعلم إلا أنه بلغني عن مالك أنه قال ذلك؛ ووقف ابن القاسم فيه إذا لم تدخله هذه الأشياء، ولم يجعل منها فيه شيء، وإنما ضرب بالبيض فقط؛ ولا بأس بعسل القصب بالسكر؛ لأن السكر يطول أمره ومؤنته وعمله، فيتحول من شيء إلى شيء قبل أن يكون سكرا.
قال محمد بن رشد: وهي زيادة بينة على ما في المدونة(7/392)
لأنه أجاز السكر بالقصب وبربه وبعسله، لبعد ما بين السكر وبين كل واحد منهما؛ فجعل ذلك صنعة توجب جواز التفاضل بينه وبين كل واحد منهما، ورأى القصب وربه وعسله صنفا واحدا؛ فلا يجوز القصب بربه، ولا بعسله على حال؛ لعدم المماثلة فيه؛ ولا ربه بعسله إلا مثلا بمثل، وذلك مثل خل العنب يجوز بالعنب وبعصير العنب؛ لبعده من كل واحد منهما وطول زمانه إلى أن يصير خلا، ولا يجوز العنب بعصيره على حال؛ فإن دخل في القصب بربه أو بعسله، أو في ربه بعسله إبزار، جاز التفاضل في ذلك، كاللحم النيء بالمشوي، لا يجوز إلا أن يدخله الإبزار؛ وتوقف ابن القاسم في ضربه بالبيض وحده، وقد اختلف في خل التمر بالتمر؛ ومضى تحصيل القول فيه في رسم الصبرة من سماع يحيى من كتاب السلم والآجال.
[مسألة: يبيع الشاة ويستثنى جلدها]
مسألة وقال في الذي يبيع الشاة ويستثنى جلدها حيث يجوز ذلك فيه ثم تموت الشاة: إن المشتري لا يكون ضامنا للجلد؛ لأنه شريك معه، وفي سماع أصبغ من كتاب العيوب، قال ابن القاسم: المشتري ضامن للجلد.
قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها قوله: إن المشتري لا يكون ضامنا لجلد الشاة إذا استثناه البائع حيث يجوز له، معناه: إذا لم يفرط حتى ماتت قبل الذبح؛ فإن فرط وتوانى في الذبح حتى ماتت ضمن، وهو معنى الرواية الأخرى؛ قال: وقيل: إنما جعل المصيبة من المبتاع؛ لأنه إنما أجاز أن يشتري بهذا الاستثناء؛ لأنه لا(7/393)
قيمة للمستثني في السفر، فكأنه اشترى الجميع؛ وهذا كله لا يصح منه شيء في النظر؛ إذ لا معنى للاعتبار بالتفريط في هذا من غير التفريط، وإن كان ابن حبيب قد نحا إلى هذا، ورواه أبو قرة أيضا عن مالك؛ قال فيمن باع بهيمة واستثنى رأسها فلم يذبحها حتى ماتت بغير إذن البائع، فعليه قيمة رأسها؛ لأنه ترك ما اشتراها له من الذبح، وإن حبسها بإذن البائع حتى هلكت فلا شيء عليه في رأسها؛ وإن صحت فأبى أن يذبحها فعليه قيمة رأسها؛ وأما استحياؤها بإذنه فهو شريك معه فيها، وهو استحسان على غير حقيقة قياس؛ إذ لا يخلو من أن يكون للبائع على المشتري في الجلد حق توفية، أو لا يكون له فيه حق توفية؛ فإن كان له عليه فيه حق توفية، فلا يسقط عنه بترك التفريط، وإن لم يكن له عليه فيه حق توفية، فلا يجب عليه بالتفريط.
وقوله: وقيل: إنما جعل المصيبة من المبتاع؛ لأنه إنما جاز ... إلى آخر قوله - كلام متناقض؛ لأن كون الجلد لا قيمة له في السفر، يقتضي أن البيع لم يقع عليه، وأن المبتاع لا يكون ضامنا له؛ فالصحيح في المسألة أن رواية أصبغ خلاف لرواية عيسى، وأن الاختلاف في هذا جارٍ على الاختلاف في المستثنى، هل هو مبقى على ملك البائع وبمنزلة المشتري؟
فعلى القول بأنه مبقى على ملك البائع، يكون مصيبة الجلد منه إن ماتت الشاة؛ لأنها ماتت وجلدها له باق على ملكه حتى يذبح المبتاع الشاة فيأخذ جلده إذا لم يبعه، فإن استحياها المشتري أعطى البائع شرى جلده استحسانا، وكان القياس إذا استحياها أن يكونا شريكين فيها البائع بقيمة الجلد، والمشتري بقيمة ما سواه؛ وعلى القول بأنه بمنزلة المشتري، وكان البائع باع جميع الشاة بعشرة دراهم في التمثيل، وبجلدها يكون المشتري ضامنا لجلده؛(7/394)
وليس معنى قوله: إنه ضامن له أنه يغرم للبائع قيمته أو جلدا مثله؛ وإنما معناه أن ينظر إلى قيمته، فإن كانت قيمته في التمثيل درهمين وكان باع الشاة بعشرة دراهم، رجع البائع على المبتاع بسدس قيمة الشاة؛ لأنه كمن باع شاة بعشرة دراهم، وعرض قيمته درهمان، فاستحق العرض من يد البائع وقد فاتت الشاة عند المبتاع، وهذا بين كله لا إشكال فيه والحمد لله، وسيأتي في رسم حمل صبيا إذا استثنى الجلد في موضع لا يجوز له، والقول في ذلك إن شاء الله تعالى.
[مسألة: الزيتون الذي قد جنى بالأمس وقد ذبل وضمر]
مسألة وقال في الزيتون الذي قد جنى بالأمس وقد ذبل وضمر يباع بما يجني للغد أو اليومين، وهذا أشد انتفاخا؛ قال: هذا لا يكون، لا يذبل ليوم ولا ليومين، وليس ذلك ذبلا، فإن كان هذا المجني الآخر لو أخذ كيلا بكيل فترك قدر ما ترك الآخر ضمر ونقص، يعرف ذلك ويقول ذلك أهل المعرفة فلا خير فيه، وقد سألني الأندلسيون عن الرجل يتسلف من الرجل الفدان أو الفدانين يحتاج إليه فيحصده وفيه رطوبة يَتَنَفَّع بذلك إلى أن يترك زرعه ويبس فيجده ويعطيه قدر كيله وما خرج منه، فقال: إن كان لو ترك ضمر لرطوبته ونقص فلا خير فيه، ثم أخبرت أنهم سألوه بالمدينة ثانية، فلم يرخص لهم في ذلك.
قال محمد بن رشد: أما بيع الزيتون الغض الطري، بالزيتون الذي(7/395)
قد ذبل وضمر ويعلم أنه قد نقص كيلا بكيل، فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز؛ كما لا يجوز الرطب بالتمر، ولا الفريك بالقمح، ولا الحنطة المبلولة بالحنطة اليابسة، ولا بالحنطة المبلولة؛ لأن بعض المبلول أشد انتفاخا من بعض؛ والأصل في هذا ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل: عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرطب إذا جف؛ قالوا: نعم، قال: فلا إذًا.
» وأما الذي يحتاج فيتسلف الفدان والفدانين من الزرع الذي فيه رطوبة فيحصده ويدريه ويرد عليه مكيلة ما وجد فيه، فهو أخف وفيه اختلاف؛ لأنه ليس ببيع إذا كان على وجه المعروف من المسلف، لحاجة المسلف إلى ذلك، وقد مضى تحصيل الاختلاف في ذلك في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، فمن أحب الوقوف عليه، تأمله هناك.
[مسألة: باع عكم قراطيس بدينار نقدا ثم استقال أحدهما]
مسألة وسئل: عن رجل باع عكم قراطيس بدينار نقدا، ثم استقال أحدهما، فأبى الآخر أن يقيله إلا بزيادة عشرة دراهم إلى أجل؛ قال: إن كان المشتري هو المستقيل فهو حرام، وإن كان البائع فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن المشتري إن كان هو المستقيل الذي زاد العشرة الدراهم إلى أجل، فقد فسخ البائع الدينار الذي له عليه حالا في عشرة دراهم إلى أجل وقراطيس نقدا، فيدخله فسخ الدين في الدين، وذهب بعرض نقدا وورق إلى أجل، ولو كان قد انتقد البائع الدينار، لم يدخله فسخ الدين في الدين، ودخله بيع ذهب نقدا بعروض ودراهم إلى أجل؛ وإن كان البائع هو المستقيل الذي(7/396)
زاد المبتاع العشرة دراهم إلى أجل فهو جائز؛ لأن البائع يصير قد ابتاع من المبتاع القراطيس التي باع منه بالدينار الذي له عليه، وبعشرة دراهم إلى أجل، وذلك جائز، ولو كان البائع قد انتقد الدينار وغاب عليه لم يجز، وأنهما على الزيادة في السلف؛ لأن الأمر آل بينهما إلى أن رجعت إلى البائع قراطيسه فكانت لغوا، وأسلف المبتاع البائع دينارا فغاب عليه وانتفع به، على أن أعطاه عشرة دراهم إلى أجل؛ وهذا إن كان من أهل العينة؛ لأن بيوع النقد لا يتهم فيها إلا أهل العينة حسبما مضى القول فيه في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، وقد مضت هذه المسألة مفرعة مستوفاة الوجوه في رسم القبلة من الكتاب المذكور، وفي رسم البراءة من سماع عيسى منه، والقول فيها على أصل مذهبه في الموطأ والمدونة.
[مسألة: اشترى من رجل كل مملوك هو له ولم يسمهم]
مسألة وقال في رجل اشترى من رجل كل مملوك هو له ولم يسمهم، إلا أن المشتري قد كان عرفهم كلهم صغارهم وكبارهم وتحراهم وهم غيب بموضع، أن البيع جائز لازم له إذا كان الموضع قريبا اليوم واليومين وما أشبهه وإن نقده بشرط؛ وإن كان الموضع بعيدا ولم يكن اشترط النقد، فذلك جائز، وإن نقده الثمن وتطوع، فذلك جائز؛ وإن ادعى البائع أن المشتري اشترى ما لا يعرفه، وادعى المشتري المعرفة، فالقول قول المشتري وإن لم تكن له بينة؛ لأنه ادعى الحلال؛ لأن كل متبايعين ادعى(7/397)
أحدهما حلالا والآخر حراما، فالقول قول مدعي الحلال.
قال محمد بن رشد: قوله إن اشترى العبيد الغيب إذا عرفهم المشتري صغارهم وكبارهم. وإن لم يسمهم بأسمائهم جائز لازم له، معناه: إذا كان البائع أيضا قد عرفهم، ومثله في الصلح من المدونة؛ لأنه أجاز مصالحة الورثة المرأة في ثمنها وإن لم يسموا التركة إذا كانوا قد عرفوا ذلك وعرفته، ولو جهلا جميعا مبلغ العبيد وصفاتهم، لكان البيع فاسدا، وكذلك إذا جهل ذلك أحدهما، والآخر يعلم بجهله، فتبايعا على ذلك، وأما إذا علم (أحدهما) وجهل الآخر ولم يعلم بجهله، فليس ببيع فاسد، وإنما هو في الحكم كبيع غش وخديعة يكون الجاهل منهما إذا علم مخيرا بين إمضاء البيع أو رده.
فقوله وإن ادعى البائع أن المشتري اشترى ما لا يعرف، وادعى المشتري المعرفة، أن القول قول المشتري وإن لم تكن له بينة؛ لأنه ادعى الحلال؛ معناه: إذا ادعى البائع أن المشتري اشترى ما لا يعرف، فإنه باع أيضا ما لم يعرف، أو إنه باع وهو يعلم أن المشتري لم يعرف، وادعى المشتري أنهما عرفا جميعا؛ لأنه لا يكون المبتاع مدعي الحلال والبائع مدعي حرام، إلا على ما ذكرناه.
وقوله إن القول قول المشتري، معناه: دون يمين؛ لأنها يمين تهمة، إلا أن يدعي عليه أنه أخبره (أنه) اشترى ما لم يعرف، فيجب له اليمين عليه، ويكون له ردها؛ وقد قيل بأن اليمين ملحق بالتهمة، ويجب صرفها، وقد مضى هذا في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب.
واختلاف المتبايعين في الجهل بمعرفة المبيع لا يخلو من سبعة أوجه: أحدها: أن يقول أحدهما جهلناه جميعا، ويقول الآخر: بل علمناه جميعا. والثاني: أن يقول أحدهما جهلناه جميعا،(7/398)
ويقول الآخر: بل علمته أنا وجهلته (أنت) . والثالث: أن يقول أحدهما أيضا: جهلناه جميعا، ويقول الآخر: بل جهلته أنا وعلمته أنت. والرابع: أن يقول أحدهما علمناه جميعا، ويقول الآخر بل علمته أنت وجهلته أنا. والخامس: أن يقول أحدهما أيضا بل علمناه جميعا، ويقول الآخر بل علمته أنا وجهلته أنت. والسادس: أن يقول أحدهما علمته (أنا) وجهلته أنت، ويقول الآخر: بل علمته أنا وجهلته أنت، والسابع: أن يقول أحدهما جهلته أنا وعلمته أنت، ويقول الآخر جهلته أنا وعلمته أنت.
فأما الوجه الأول، وهو أن يقول أحدهما قد جهلناه جميعا، ويقول الآخر بل علمناه جميعا، فالقول قول الذي ادعى المعرفة منهما، كان البائع أو المبتاع؛ لأنه ادعى حلالا وادعى الآخر حراما؛ وقد مضى ذلك والاختلاف في اليمين إن لم يحقق صاحبه عليه الدعوى.
وأما الوجه الثاني وهو أن يقول أحدهما قد جهلناه جميعا، ويقول الآخر بل) علمته أنا وجهلته أنت، ولم أعلم بجهلك إياه، فإن البيع يفسخ على كل حال دون أن يحلف واحد منهما؛ لأن الذي يقول جهلناه (جميعا) يدعي أن البيع فاسد يجب فسخه، وصاحبه يقر له بما يوجب أن الخيار له في فسخه، فوجب أن يفسخ على كل حال؛ ولو قال علمته أنا وجهلته أنت فبايعتك وأنا أعلم بجهلك إياه، لكانا جميعا قد تصادقا على الفساد.
وأما الوجه الثالث وهو أن يقول أحدهما جهلناه جميعا، ويقول الآخر بل جهلته أنا وعلمته أنت؛ فالقول قول الذي قال جهلته أنا وعلمته أنت مع يمينه إن أراد أن يمضي البيع ولم يرد أن يرده؛ لأنه ادعى عقدا يوجب له الخيار، وادعى صاحبه أنه حرام؛ فإن نكل عن اليمين، حلف صاحبه وفسخ البيع.
وأما الوجه الرابع وهو أن يقوك أحدهما علمناه جميعا ويقول الآخر بل جهلته أنا وعلمته أنت، فالقول قول الذي قال جهلته أنا وعلمته أنت مع يمينه إن أراد أن يرد البيع ولم يرد أن(7/399)
يمضيه، فإن نكل عن اليمين، حلف صاحبه وألزمه البيع، وأما (الوجه) الخامس وهو أن يقول أحدهما أيضا علمناه جميعا، ويقول الآخر علمته أنا وجهلته أنت، فالبيع لهما لازم، إلا أن يكذب الذي قال علمناه جميعا نفسه، ويرجع إلى تصديق صاحبه قبل أن يرجع صاحبه إلى تصديقه فيكون له أن يرد البيع ولا يمين في شيء من ذلك.
وأما الوجه السادس وهو أن يقول أحدهما علمته أنا وجهلته أنت، ويقول الآخر بل علمته أنا وجهلته أنت، فالبيع لهما لازم أيضا، إلا أن يبدر أحدهما إلى تكذيب نفسه ويصدق صاحبه قبل أن يبدر صاحبه إلى مثل ذلك، فيكون له الرد، ولا يمين في شيء من ذلك.
وأما الوجه السابع وهو أن يقول أحدهما جهلته أنا وعلمته أنت، ويقول الآخر بل جهلته أنا وعلمته أنت؛ فالقول قول من أراد أن يرد منهما مع يمينه يحلف ويرده، فإن نكل عن اليمين، حلف صاحبه وألزمه البيع، وقد مضى طرف من هذا المعنى في رسم حلف من سماع ابن القاسم.
وأما قوله إن كان موضع العبيد قريبا اليوم واليومين، فالبيع بشرط النقد جائز، وإن كان موضعهم بعيدا فلا يجوز البيع بشرط النقد، ويجوز أن يتطوع به المبتاع من غير شرط؛ فهو مثل ما في المدونة، خلاف ما في الموطأ من أنه لا يجوز النقد في بيع الغائب بشرط وإن كان قريبا.
[مسألة: وجد مكتلا ملآن طعاما فاشتراه بدينار]
مسألة قال ابن القاسم: في رجل وجد مكتلا ملآن(7/400)
طعاما، فاشتراه بدينار؛ ثم قال له املأه لي ثانية بدينار؛ قال: إن كان في موضع فيه مكيال فلا أحبه، وهو بمنزلة صبرة اشتراها بدينار فلا بأس به؛ فإن قال له أعطني الآن كيلها بدينار، لم يكن فيه خير؛ ولو وجد غرارة ملأى لم يكن بأسا أن يشتريها بدينار، ولو جاءه بغرارة فقال املأ لي هذه الغرارة بدينار، لم يكن فيه خير.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن شراء الطعام وغيره جزافا غرر، إلا أن الشرع أجازه توسعة ورخصة لمئونة الكيل فيما يكال في ذلك، والوزن فيما يوزن منه؛ فإنما يجوز شراء ذلك جزافا إذا لم يقصدا فيه إلى الغرر بأن يجده جزافا في وعاء أو في غير وعاء، فيشتريه كما وجده. فالفرق بين شراء الطعام يجده في المكتل والغرارة جزافا بدينار، وبين قوله املأ لي ذلك ثانية بدينار - أن الأول لم يقصد إلى الغرر إذا اشتراه كما وجده جزافا؛ والثاني قصد إلى الغرر إذ ترك أن يشتريه بمكيال معلوم، فاشتراه بمكيال مجهول، ولا يجوز الشراء بمكيال مجهول إلا في موضع ليس فيه مكيال معلوم على ما قاله في المدونة، ودل عليه قوله في هذه الرواية: إن كان في موضع فيه مكيال، يريد مكايل معروفة الكيل يكال بها، فلا أحبه؛ ولما كان لا يجوز أن يقول له ابتداء املأ لي هذه الغرارة بدينار، إذ لا يعلم مبلغ كيلها، لم يجز أن يقول له ذلك بعد أن اشتراها ملأى كما وجدها؛ إذ لا يعلم مبلغ كيلها فتقدم شراؤه إياها(7/401)
جزافا؛ وأجاز ذلك في سماع أبي زيد في سلال العنب، من أجل أنه يجوز أن يسلف في سلال من العنب بمعيار يكون قدرها كذا وكذا، ولو قال رجل لرجل صبر لي طعامك مما هنا صبرة وأنا أشتريها منك جزافا، لما انبغى أن يجوز ذلك، لما فيه من القصد إلى الغرر على قياس ما قلناه.
[مسألة: اشترى دارا على أن فيها ألف ذراع فلم يجد إلا خمسمائة]
مسألة وقال في رجل اشترى دارا على أن فيها ألف ذراع، فلم يجد إلا خمسمائة؛ قال: هو مخير بين أن يأخذ الخمسمائة وما يصيبها من الثمن، وبين أن يرد ويأخذ ماله؛ قيل له: فإن اشتراها وفيها بنيان فانهدم البنيان، ثم قاس فلم يجد إلا خمسمائة؛ قال: يلزمه الخمسمائة بما يصيبها من الثمن، وقد قال في كتاب أسد: يكون مخيرا في أخذها كلها بجميع الثمن أو يترك.
قال محمد بن رشد: إنما قال ذلك إذا اشترى دارا على أن فيها ألف ذراع فلم يجد إلا خمسمائة، أنه مخير بين أن يأخذ الخمسمائة بما يصيبها من الثمن، وبين أن يرد ويأخذ ماله، وقال: إنه إن كان فيها بنيان فانهدم، لزمته خمسمائة بما يصيبها من الثمن، ولم يكن له خيار في ردها؛ من أجل أن ما نقص من الزرع بمنزلة ما استحق، واستحقاق نصف ذرع الدار إذا لم يكن فيها بنيان كثير، يوجب له الخيار، وليس نقصان نصف ذرع الدار إذا كان فيها بنيان بكثير، إذ قد يكون قيمة البنيان وقيمة البقعة سواء، فإذا نقص من ذرع البقعة نصفه، فكأنه لم يستحق عليه مما اشترى إلا ربعه، وسواء كان البنيان قائما أو انهدم؛ لأن مصيبة ما انهدم من الدار بعد الشراء من المشتري، وهذا على القول بأن شراء الدار أو الأرض أو الثوب أو الخشبة، على أن فيها كذا وكذا، بمنزلة إذا اشترى منها كذا وكذا، وأما على القول بأن ذلك كالصفة لما اشترى وهو أظهر القولين، فهو(7/402)
مخير إذا اشترى الدار على أن فيها ألف ذراع، فوجد فيها خمسمائة، بين أن يأخذ بجميع الثمن ما وجد، أو يرد، وهو الذي قاله في كتاب أسد؛ والقولان قائمان من كتاب تضمين الصناع من المدونة، وقد مضى القول على هذا المعنى مستوفى في أول سماع أشهب، والله ولي التوفيق.
[رقيق يؤتى به من طرابلس إلى مصر فيباع فيمن يزيد]
ومن كتاب (أوله) بع ولا نقصان عليك قال ابن القاسم: سألني اليوم رجل عن رقيق يؤتى به من طرابلس إلى مصر، فيباع فيمن يزيد، فيأتي رجل من أهل مصر برأس له، فيقول للصائح: اخلطه بها وبعه ولا تعلم أنه لي ففعل، ثم يطلع المشتري على ذلك فيريد أن يرده؛ قال: فقلت: ذلك له؛ لأن الرجل قد يبلغه عن رقيق موضع يجلب منه، فيرغب فيها فيباع وهو يظن أنه منها، ثم يتبين له، وكذلك الدواب التي تجلب الحمير وغيرها من موضع يجلب منه، فيصاح عليها فيدخل رجل دابته بينها فتباع، فإن مشتريها له أن يردها، قال: ولقد قال مالك في تركة الميت تباع ممن يزيد فيأتي رجل بسلعة ثوب أو عبد أو غير ذلك، فيخلطه بالتركة فتباع: إن المبتاع بالخيار إذا علم، إن شاء رد، وإن شاء أمسك؛ فالمسألة الأولى مثلها.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال، إذ قد يرغب في شراء(7/403)
المجلوب من الرقيق، ويكره شراء رقيق البلد؛ وكذلك الدواب وغيرها قد يرغب في المجلوب منها ما لا يرغب في شراء غير المجلوب، وكذلك تركة الميت قد يرغب فيها ما لا يرغب في غيرها، لما يعلم من طيب كسبه ويؤمن فيها من الاستحقاق وما أشبه ذلك، والله الموفق.
[اشترى قمحا بدينار فسأله رجل على أن يوليه نصفه]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس وقال في رجل اشترى قمحا بدينار، فسأله رجل على أن يوليه نصفه؟
قال: يعطيه دينارا ويرد عليه نصفه دراهم، واستثقل أن يعطي في التولية إلا مثل ما أعطى إن كانت دراهم فدراهم، وإن كانت دنانير فدنانير، وذلك قبل أن يستوفى ويكال، فأما بعد الكيل والاستيفاء، فلا بأس بما أعطاه؛ لأنه بيع جديد، وليس بعد تولية.
قال محمد بن رشد: استحسانه أن يعطيه في التولية دينارا كما دفع هو ويرد عليه نصفه دراهم، لا وجه له؛ لأنه لم يأخذ مثل ما دفع إليه؛ لأنه قبض في الدينار الذي دفع عشرة أرادب حنطة في التمثيل، ودفع فيه إلى المولى خمسة أرادب حنطة ودراهم، ولا يجب على من عليه نصف دينار لرجل أن يدفع إليه دينارا ويأخذ نصفه دراهم، ولا على من له نصف دينار، أن يأخذ دينارا ويرد نصفه دراهم؛ وإذا لم يجب ذلك على واحد منهما، انبغى أن يكون ذلك في التولية مكروها، لتراضيهما فيها على خلاف ما يوجبه الحكم من الثمن، فيضارع البيع قبل الاستيفاء؛ والذي(7/404)
أقول به في هذا أن إجازة التولية من نصف الطعام المشترى بدينار، يتخرج على اختلافهم فيمن وجب له على رجل جزء من دينار، هل يراعى فيه في وجه الصرف ما يوجبه الحكم، أو ما ثبت في الذمة؛ وقد مضت من هذا مسائل كثيرة في سماع ابن القاسم وغيره من كتاب الصرف، فتجوز التولية فيه على القول بمراعاة ما ثبت في الذمة ويعطيه دراهم؛ إذ لا يقدر أحدهما على الامتناع مما يوجبه الحكم، ولا يجوز على القول بمراعاة ما يوجبه الحكم؛ لأنه بمنزلة من ابتاع طعاما بدينار، فولاه بصرفه من الدراهم.
[يجعل في الخل الماء الذي لا يصلح إلا به]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وقال مالك: لا بأس أن يجعل في الخل الماء الذي لا يصلح إلا به.
قال محمد بن رشد: وكذلك الماء يجعل في اللبن لاستخراج زبده لا بأس بذلك، قاله مالك في أول رسم من سماع أشهب من كتاب السلطان؛ وليس ذلك من الغش، وإنما الغش ما يطرح في ذلك بعد ذلك من الماء ليكثر به، وأما ما يصلح به فلا بأس به؛ وقال سحنون في سماع أشهب من كتاب السلطان في مسألة الخل مثل قول مالك هاهنا قياسا على قوله في مسألة اللبن.
[مسألة: يشتري حمل الماء ففيما يجيء معه]
مسألة وسئل: عن رجل يشتري حمل الماء، ففيما يجيء معه(7/405)
السقاء ينقطع رواياه وينكسر، قال له قبل أن يبلغ على من ترى الضمان؛ قال: أرى الضمان على السقاء؛ لأن هذا من الأمور التي تشترى على أن تبلغ وهو من أمر الناس.
قال محمد بن رشد: حمل هذه المسألة على عادة الناس من أنهم إنما يشترون الماء على البلاغ، وليس ذلك على الأصول؛ لأنه جزاف؛ ولو اشترى رجل زيتا في زق أو لبنا في زق فتلف في الطريق، لكان ضمانه منه؛ وفي المبسوطة لأصبغ في الماء أن الضمان من المشترى وهو القياس، ومعنى قوله أنه ضامن لما يجب من الثمن (للماء) الذي اشتراه به؛ لأنه اشتراه على أن يحمله له إلى داره، فإذا عثر به فذهب، لم يكن عليه في الماء ضمان، ولم يكن له فيما حمل كراء على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في تلف الشيء المستأجر على حمله من قبل ما عليه استحمل؛ فيحتمل أن يكون معنى ما قاله ابن القاسم في الرواية، أن الضمان من السقاء إذا لم يكن للماء قيمة في الموضع الذي اشترى منه الحمل فيه، فيكون جملة الثمن إنما هو على توصيله فقط.
[مسألة: اشترى غنما غائبة بغلام غائب على صفة]
مسألة وقال في رجل اشترى غنما غائبة) بغلام غائب على صفة، فقدم بالعبد على الصفة ولم يقدم بالغنم، فمات العبد قبل أن تأتي الغنم؛ قال: ينظر، فإن جاءت الغنم على الصفة، أو على غير(7/406)
الصفة، فأراد مشتريها أن يأخذها كما جاءت على غير الصفة، كان العبد من الذي كان إليه صائرا وذلك بائع الغنم؛ وإن لم تأت الغنم على الصفة، فالمصيبة من بائع العبد إن أبى بائع العبد أن يأخذها.
قال محمد بن رشد: موت العبد بعد قدومه على الصفة كتلف الثمن الموضوع بيد أمين في بيع الغائب، وفي المواضة؛ قيل: إنه من المبتاع، وهو قول مالك في نوازل سحنون من كتاب الاستبراء وأمهات الأولاد؛ فعلى هذا القول ينفسخ البيع في الغنم بموت العبد، وإن جاءت الغنم على الصفة أخذها مبتاعها وكانت مصيبة العبد من بائع الغنم الذي كان إليه صائرا، وإن تلفت قبل أن تدخل في ضمان مبتاعها إما بالقبض وإما بإدراك الصفة لها على الاختلاف في ذلك، كانت مصيبة العبد من بائعه، وكذلك إن جاءت على غير الصفة، فأبى بائع العبد أن يأخذها تكون مصيبة العبد منه؛ واختلف على هذا القول إن جاءت على غير الصفة، هل له أن يأخذها بالعبد التالف، فتكون مصيبة من بائع الغنم؛ فقيل: ذلك له، وهو قوله في هذه الرواية على قياس قوله، وقول أشهب في نوازل سحنون من كتاب الاستبراء في الثمن يتلف في المواضعة؛ وقيل: ليس ذلك له، ويفسخ البيع على كل حال، وهو الذي يأتي على ما ذهب إليه ابن حبيب في الثمن يتلف في المواضعة، وقد مضى تحصيل القول في هذا في أول سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور.
[مسألة: الحميل يبيع من الغريم سلعة ليبيعها فيقضي صاحب الحق ثمنها]
مسألة وسئل ابن القاسم: هل يجوز للحميل أن يبيع من الغريم سلعة ليبيعها فيقضي صاحب الحق ثمنها؟ قال ابن القاسم: إن(7/407)
كان بيعه بشرط على أن يبيعها فيقبضه، فلا خير فيه؛ وإن كان اشتراها منه شراء الناس ولا يدري أيبيعها في قضائه أم لا؟ فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: قوله هل يجوز للحميل أن يبيع من الغريم سلعة ليبيعها فيقضي صاحب الحق ثمنها، معناه: هل يجوز (له) أن يبيع منه سلعة بثمن إلى أجل على أن يبيعها بالنقد ويؤدي ثمنها إلى الغريم الذي تحمل له به؟ فقال: إنه لا خير فيه، والمكروه فيه بين؛ وذلك أنه إذا باعه إياها على أن يبيعها (ويؤدي ثمنها فيما عليه من الدين الذي هو حميل به، فكأنه إنما وكله على بيعها) ليقضي عن نفسه وعنه ما تحمل به عنه، فهو بالتمثيل يبيعها بثمانية ويؤديها إلى الغريم في دينه، وهو قد باعها منه بعشرة إلى أجل؛ فكأنه أسلفه ثمانية في عشرة إلى أجل أو أدى عنه ثمانية على أن يأخذ منه عشرة إلى أجل، وذلك ما لا يحل ولا يجوز.
[مسألة: قال لرجل ولني بيع دارك ولك عندي عشرة دنانير]
مسألة قال ابن القاسم: من قال لرجل ولني بيع دارك ولك عندي عشرة دنانير، قال: إذا فعل وسمى للدار ثمنا فالعشرة لازمة، ولا بأس بهذا.
قال محمد بن رشد: قوله وسمى للدار ثمنا، يريد: أو فوض إليه الاجتهاد في بيعها بما يراه من الثمن؛ لأنه إنما بذل له العشرة على أن يتم(7/408)
له ما أراد من بيعها لما له من الغرض في ذلك؛ فلو كان لم يسم له ثمنا ولا فوض إليه الاجتهاد فيما يبيعها به لما جاز ذلك؛ إذ لعله لا يرضى أبدا ببيعها بما يعطى فيها، فتذهب العشرة التي أعطى باطلا، أو ترد فيكون سلفا رجاء منفعة؛ وإذا ولاه بيع الدار على ما بذل له، فليس له أن يعزله عن ذلك قبل أن يبيع؛ إذ لا يتعلق بذلك حق لغيره، بخلاف النكاح الذي يتعلق به حق الولية المزوجة على ما مضى القول فيه في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب النكاح؛ وسيأتي في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، وفي رسم البراءة من سماع عيسى، منه مسائل من هذا المعنى، نتكلم عليها إذا مررنا به.
[مسألة: يشتري الرجل المتاع أو الجارية أو العبد ويشترط على الرجل حملانه إلى بلد]
مسألة وقال: لا بأس أن يشتري الرجل المتاع أو الجارية أو العبد، ويشترط على الرجل حملانه إلى بلد، ولو قال: أشتري منك هذه السلعة بعشرين دينارا على أن تحمل لي هذا المتاع لمتاع آخر إلى بلد، لم يكن به بأس أيضا؛ لأنه إنما اشترى السلعة ببعض الثمن واكترى ببعضه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن الشراء والكراء جائز أن تجمعهما الصفقة، وهو مما لا اختلاف فيه؛ ولو كان المبيع دابة واشترط أن يحمل عليها متاعا إلى بلد بعيد لم يجز، فإن لم يعين الحمل عليها؛ وضمن ذلك المشتري جاز، والله الموفق.(7/409)
[يبيع السلعة بمائة دينار على أن يعيره دابة بعينها إلى الإسكندرية]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
وسئل: عن الرجل يبيع السلعة بمائة دينار على أن يعيره دابة بعينها إلى الإسكندرية، هل يجوز هذا؛ وكيف إن جاز هذا فعطبت الدابة ببعض الطريق؛ هل عليه أن يخلف (له) دابة أخرى مكانها؟
قال: ذلك جائز، وليس عليه أن يحمله على دابة أخرى مكان الدابة التي عطبت، فأرى أن يرد من ثمن السلعة قدر ما قصرت الدابة حين عطبت عن الإسكندرية؛ قال أصبغ: ويقوم كراؤها إلى الموضع الذي شرط ركوبه إليه، فيعرف كم هو، فيضم إلى الثمن ثم يقسم قيمة الدابة المشتراة على قيمة الركوب؛ فما أصاب قيمة الركوب من قيمة الدابة، قسم على ما ركب وما لم يركب، ثم يرجع بما لم يركب من ذلك مما أصابه عينا، ولا يرجع في الدابة.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يبيع السلعة بمائة دينار على أن يعيره دابة بعينها إلى الإسكندرية، إن ذلك جائز صحيح؛ وسواء كان المشتري هو المشترط لعرية الدابة إلى الإسكندرية على البائع، أو كان البائع هو مشترطها على المبتاع؛ والسؤال يحتمل الوجهين، فتكلم ابن(7/410)
القاسم على أن المبتاع هو مشترطها على البائع، ولذلك قال: إن البائع يرد من ثمن السلعة قدر ما قصرت الدابة حين عطبت قبل بلوغها إلى الإسكندرية؛ ووجه العمل في ذلك أن ينظر إلى قيمة السلعة وإلى قيمة ركوب الدابة إلى الإسكندرية؛ فإن كانا سواء، علم أن الثمن وقع نصفه للسلعة ونصفه للركوب؛ فإن كان قد سار نصف الطريق، رجع المبتاع على البائع بربع الثمن الذي دفع إليه؛ لأنه هو الذي ينوب منه ما بقي له من الركوب؛ وعلى هذا الحساب إن كانت قيمة السلعة أقل من قيمة الركوب أو أكثر، أو كان قد سار أقل من نصف الطريق أو أكثر.
وقوله وليس عليه أن يحمله على دابة أخرى مكان الدابة التي عطبت لفظ ليس على ظاهره؛ لأن فيه دليلا على أنه لو أطاع بذلك وإن لم يكن واجبا عليه لجاز، وليس ذلك بجائز على حال؛ لأنه فسخ الدين في الدين، من أجل أن الواجب للمبتاع على البائع أن يرد عليه من الثمن ما ينوب منه لما بقي من الركوب؛ فإذا أخذ منه بذلك دابة يركبها، كان قد فسخ ما وجب له به الرجوع عليه من الثمن في الركوب؛ وذلك لا يحل ولا يجوز على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك إلا عند الضرورة التي تحل أكل الميتة، مثل أن يكون ذلك في صحراء حيث لا يجد كراء، أو يخشى على نفسه الهلاك إن لم يأخذ من البائع دابة فيبلغ عليها فيما (وجب) له عليه من الثمن، وذلك منصوص عليه في رسم مرض من سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب؛ وأشهب يجيز أن يأخذ منه دابة بما بقي له من الثمن وإن لم تكن ضرورة، وتكلم أصبغ على أن البائع هو مشرط العرية على المبتاع، ولذلك قال: إن الكراء يقوم فيضم إلى الثمن ... إلى آخر(7/411)
قوله؛ ووجه العمل في ذلك على ما حمل المسألة عليه من أن البائع هو مشترط كالعرية، أن ينظر إلى قيمة ركوب الدابة إلى الإسكندرية وإلى الثمن؛ فإن كانا سواء، علم أن السلعة وقع نصفها للركوب ونصفها للثمن؛ وإن كان البائع قد سار نصف الطريق، رجع على المبتاع في السلعة التي باع منه، فكان شريكا معه بربعها؛ لأنه هو الذي يجب منها لما بقي له من الركوب، إلا أن تكون السلعة المبيعة مما تضر فيه الشركة كالجارية والدابة والثوب الذي يشترى للباس، وما أشبه ذلك؛ فيأخذ منه قيمة ربعها، ولا يكون معه شريك فيها، لضرر الشركة على مذهب ابن القاسم، وهو قول أصبغ هاهنا؛ وأشهب لا يراعى ضرر الشركة، فيقول: إنه يرجع في عين السلعة ما كانت، فيكون فيها شريكا معه؛ وقد قيل: إنه يرجع فيها فيكون شريكا معه إلا أن لا يرضى المبتاع بضرر الشركة فيفسخ البيع في الجميع، وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب الشفعة؛ فمتى كان المشتري هو مشترط الركوب على البائع، سميت قيمة الركوب من قيمته مع قيمة السلعة، فرجع المبتاع على البائع بذلك الجزء من الثمن.
ومتى كان البائع هو مشترط الركوب على المبتاع سميت قيمة الركوب من قيمته مع الثمن، فرجع البائع على المبتاع بذلك الجزء في السلعة، أو في قيمتها إن كانت قد فاتت، أو كانت مما يضر بالمبتاع الشركة فيها على ما ذكرناه في ذلك من الاختلاف.
[مسألة: باع رداءه أو كساءه بدينار وانتقد الدينار]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل باع رداءه أو كساءه بدينار وانتقد الدينار، فقال البائع للمشتري: أبلغ البيت به آخذ على نفسي(7/412)
ثوبا ثم آتيك بكسائك، فاختلس منه الكساء، ممن تكون المصيبة؟ قال: المصيبة من المشتري، وليس على البائع شيء إذا قامت بينة على ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن سؤال البائع المشتري بعد أن باع منه الثوب أو الكساء وانتقد ثمنه، أن يذهب به إلى بيته، ثم يأتيه به استعارة منه له؛ ومن استعار ما يغاب عليه من ثوب أو غيره، فقامت بينة على تلفه، فالمصيبة من المعير على المشهور في المذهب، وهو نص قول ابن القاسم وروايته عن مالك؛ ولو لم تكن له بينة على أن الكساء أو الثوب اختلس منه، لوجب أن تكون عليه قيمته للمبتاع بالغة ما بلغت، كانت أقل من الدينار الذي باعه به أو أكثر.
وقد روي عن مالك، وهو قول أشهب أن المستعير ضامن لما يغاب عليه، وإن قامت له بينة على تلفه؛ فعلى هذا يكون البائع ضامنا لقيمة الكساء وإن كانت له بينة على أنه اختلس منه؛ ويتخرج في المسألة على قول من رأى على البائع في العروض حق توفية، وأنها في ضمانه وإن انتقد الثمن وطال الأمر ما لم يقبضها المبتاع، أو يدعه البائع إلى قبضها فيأبى؛ وهو قول ثالث وهو أن المصيبة تكون من البائع في الكساء وإن قامت له بينة على أنه اختلس منه، وينتقض فيه، فيرد على المبتاع ديناره.
[مسألة: باع من رجل سلعة بنصف دينار من صرف العشرين درهما بدينار]
مسألة وسئل: عن رجل باع من رجل سلعة بنصف دينار من صرف العشرين درهما بدينار، فقال له: عشرة دراهم غلا الصرف أو نقص، فإن قال أبيعكها بعشرة دراهم من صرف عشرين درهما(7/413)
بدينار، قال له: نصف الدينار غلا الصرف أو نقص؛ وقد قال ابن القاسم في غير هذا الكتاب: إذا قال أبيعك بعشرة دراهم من صرف عشرين درهما بدينار، أن له نصف دينار؛ وروى أشهب عن مالك مثله، يعطيه نصف دينار ما بلغ، كان أقل من ذلك أو أكثر إن كانت العشرة من بيع باعه؛ وأما إن كانت من سلف أسلفه، فلا يأخذ إلا مثل ما أعطى.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، أنه إذا باع بنصف دينار من صرف عشرين درهما بدينار، أنه ليس له نصف الدينار الذي سمى إذ لم يسمه إلا ليبين به عدد الدراهم التي باع بها؛ وأنه إذا باع بعشرة دراهم من صرف عشرين درهما بدينار، أنه ليس له الدراهم التي سمى، إذ لم يسمها إلا ليبين بها الجزء الذي باع به من الدينار؛ وقد مضى هذا كله في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب الصرف، وفي سماع يحيى منه.
وقوله: فأما إن كانت من سلف أسلفه، فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطى، معناه: فليس له أن يأخذ منه إلا مثل ما أسلفه، إلا أنه لا يجوز له أن يأخذ منه دنانير إذا أسلفه دراهم، أو دراهم إذا أسلفه دنانير، بل ذلك جائز إذا حل الأجل ولم يكن في السلف شرط ذلك؛ والسلف في هذا بخلاف البيع، لا يجوز لمن خرجت من يده دنانير على سبيل البيع أن يأخذ بها دراهم، ولا لمن خرجت من يده دراهم على سبيل البيع إن لم يأخذ بها دنانير؛ والفرق بينهما أن السلف معروف، فلا يتهمان فيه على القصد إلى العمل بالربا، والبيع على سبيل المكايسة، فإنهما على القصد إلى ما آل إليه أمرهما من الربا.(7/414)
[مسألة: اشترى مائة إردب من طعام بعينه ونقده الثمن فيكيله]
مسألة وسئل: عن رجل اشترى مائة إردب من طعام بعينه ونقده الثمن فيكيله، فلا يجد فيه إلا ثمانين؛ هل ترى أن يأخذ منه بثمن العشرين طعاما غيره أو تمرا أو زبيبا أو شيئا غير الطعام؛ قال: لا بأس بذلك، وإنما هو بيع مستأنف؛ لأنه لم يكن طعاما مضمونا، ولم يكن له على صاحبه إذا نقد الطعام أن يأتيه بطعام غيره؛ وإنما كان يجب عليه رد بقية الثمن، وليس بذلك بأس، وله أخذ ما تحول إليه مكانه، فإن أخره، كان الكالئ بالكالئ.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، وقد مضت والقول فيها في أول رسم من السماع، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[يشتري الثمرة قبل أن يبدو صلاحها]
ومن كتاب الثمرة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يشتري الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، والزرع قبل أن يبدو صلاحه، ليجد الثمرة للعلوفة ويحصد الزرع للعلوفة؛ ثم يشتري الأرض من أصلها، والحائط من أصله؛ فيريد أن يقر الزرع ويقر الثمرة حتى تطيب؛ قال ابن القاسم: إذا اشترى ذلك للعلوفة، ثم اشترى الأصل(7/415)
فلا بأس به أن يقر ذلك؛ لأن الصفقتين جميعا كانتا حلالا، ولو اشترى الزرع قبل أن يبدو صلاحه ليقره حتى يحبب، أو اشترى الثمرة قبل أن يبدو صلاحها ليقرها حتى تطيب؛ ثم اشترى الحائط وأصل الأرض، ثم أراد أن يقره؛ لم يجز ذلك وانفسخ بيع الثمرة، فكان الثمر لبائعه، ورد ثمن الثمرة إلى مشتري الحائط؛ لأنها كانت صفقة حراما، قلت: فلو كان اشتراه على هذه الصفقة ثم ورث الأصل من بائعه، هل يكون له أن يقره؟ قال: إذا ورثه فلا بأس أن يقره.
قال محمد بن رشد: أجاز إذا اشترى الأصل وقد كان اشترى الثمرة قبل أن تزهي على أن يقطعها، أو يقرها إن شاء؛ ومثله في كتاب كراء الأرضين من المدونة وهو بيّن في الجواز؛ لأن الثمرة قد حصلت في ضمانه تكون الأصول له، وارتفع بذلك الغرر عنها؛ فإن شاء جدها؛ وإن شاء تركها، وكذلك يجب إذا صار إليه الأصل بأي وجه كان من وجوه الملك؛ وأما إذا اشترى الثمرة على أن يقرها ثم صار إليه الأصل بوجه من وجوه الملك، فلا بد من فسخ البيع فيها؛ لأن الصفقة وقعت فاسدة، فلا يصلحها تصيير الأصل إليه بوجه من وجوه الملك؛ فلا بد من فسخ، إلا أن يصير الأصل إليه بميراث من الذي ابتاع منه الثمرة فيمتنع الفسخ فيها؛ إذ لا يمكن أن يردها على نفسه، كمن(7/416)
حلف ليقضين فلانا حقه إلى أجل، فمات المحلوف عليه قبل الأجل والحالف وارثه (أنه) لا حنث عليه بحلول الأجل؛ إذ لا يمكن أن يقضي نفسه لوجوب الحق له بالميراث؛ وقد استحسن مالك في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق أن يرفع ذلك إلى السلطان فيقضيه، ثم يرده عليه للبراءة من الحنث، وهو استحسان بعيد؛ لأن قضاء السلطان على أن يرده عليه كالإقضاء، فلا يدخل في هذه المسألة؛ ولو صار إليه الأصل بميراث من غير الذي اشترى منه الثمرة، لوجب الفسخ فيها وردها على الذي باعها منه؛ ولو ورث بعض الأصل من الذي اشترى منه الثمرة، لوجب أن يفسخ البيع منها في مقدار ما صار، لإشراكه في الميراث من الأصل؛ ولو اشترى الثمرة على أن يبقيها ثم اشترى الأصل، فلم يفطن لذلك حتى أزهت الثمرة، لم يفسخ البيع فيها؛ وكان على المبتاع قيمتها يوم اشترى الأصل؛ لأنه باشتراء الأصل يكون قابضا للثمرة، ويكون ما حدث من النماء فيها بعد القبض يفوتها، قاله أبو إسحاق التونسي.
وكذا يجب وإن لم تزه إذا نمت بعد شراء الأصل، فقف على ذلك؛ ولو اشترى الثمرة قبل أن تؤبر على ترك الجد ثم اشترى الأصل قبل أن تؤبر الثمرة، لفسخت الصفقة الأولى والثانية؛ بخلاف إذا اشترى الأصل بعد إبار الثمرة؛ إذ لا يمكن أن يفسخ البيع في الثمرة خاصة قبل الإبار، فيكون بمنزلة من اشترى نخلا قبل أن تؤبر على أن تبقى الثمرة للبائع، وذلك مما لا يجوز.
[مسألة: اشترى زيتونة على أن يقطعها فتوانى في قطعها حتى أثمرت]
مسألة وسئل: عمن اشترى زيتونة على أن يقطعها فتوانى في قطعها(7/417)
حتى أثمرت، لمن تكون الثمرة؛ قال: الثمرة لمشتري الشجرة.
قال محمد بن رشد: قوله حتى أثمرت، يريد حتى صار لها ثمرة؛ والمعنى فيها: أنه اشتراها ولا ثمرة فيها أصلا، أو فيها ثمرة إلا أنها لم تبلغ حد الإبار، وهو في الزيتون وشبهه اللقاح، فلم يقطعها المشتري حتى ألقحت عنده وبلغت بعد اللقاح مبلغا ينتفع بها بعد قطع الأصل؛ وأما لو اشترى الزيتونة بعد أن ألقحت ثمرتها على أن يقطعها، فلم يقطعها حتى طابت ثمرتها، لكانت الثمرة للبائع باتفاق؛ وفي قوله إن الثمرة لمشتري الشجرة، دليل على أن قطعها على المشتري، إذ لو كان قطعها على البائع، لكان الضمان منه، ولكانت الثمرة له؛ وذلك معارض لما مضى في رسم سلف من سماع ابن القاسم في مسألة الضأن يباع صوفها، وقد مضى من القول عليها هناك ما فيه شفاء لمن تأمله؛ وإذا كانت الثمرة لمشتري الشجرة، فيكون عليه للبائع أجر قيامه عليها إن كان يسقيها ولم يكن المطر يسقيها، قاله ابن القاسم في رواية ابن أبي جعفر عنه؛ ويكون له عليه كراء موضعها من الأرض إن كان غائبا باتفاق، وإن كان حاضرا على اختلاف؛ إذ قد قيل: إنه يحلف إن كان حاضرا ويكون له الكراء، وهو قول عيسى بن دينار في رسم القطعان من سماعه من كتاب الشركة، وهو أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم.
وقال ابن عبدوس: إن كان البائع اشترط الأغصان فالثمرة له، وإن لم يشرط ذلك وكان البيع مجملا، فذلك للمبتاع، وقاله سعيد بن حسان؛ ويلزم على قياس ما قلناه أن يكون عليه لمشتري الشجرة كراء العمود إن كان غائبا؛ وإن كان حاضرا، فعلى ما ذكرناه من الاختلاف؛ وقد قال ابن لبابة على قياس ما قلناه: ولو اشترى عمود الزيتونة، واشترى آخر الفروع، ثم استؤتي بقطعها حتى أثمرت، فإن الثمرة لصاحب الفروع، وعليه كراء العمود، وعلى صاحب العمود كراء الأرض؛ قال:(7/418)
وذلك إذا كان صاحب الأرض وصاحب العمود غائبين، فإن كان صاحب الأرض غائبا وصاحب العمود حاضرا لم يكن لصاحب العمود الكراء، وكان لصاحب الأرض كراؤها على صاحب العمود، وقد روى سحنون في مسألة الزيتونة: تشترى على القطع فتثمر قبل ذلك، أرى الضمان على البائع فالغلة له، وذلك يدل على ما ذكرناه من معارضتها لمسألة الضأن يباع صوفها.(7/419)
[كتاب جامع البيوع الثالث] [يبتاع الزقاق فيها الزيت فيمر بها فيذهب الزيت قبل أن يفرغها في آنيته](7/421)
ومن كتاب أوله حمل صبيا على دابة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يبتاع الزقاق فيها الزيت فيمر بها فيذهب الزيت قبل أن يفرغها في آنيته ممن هو؟
قال: من المشترى؛ لأنه كان يجوز له بيعه والأكل منه، وهو قد استوفاه، ولو لم يستوفه ما حل بيعه؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الطعام قبل أن يُستوفى» .
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال؛ لأنه (إنما) اشترى الزيت في الزقاق جزافا على غير كيل، فبالعقد يدخل في ضمانه كالصبرة، ولذلك يجوز له بيعها قبل أن يفرغها من آنية؛ لأنه قد استوفاه لحصوله بالعقد في ضمانه.
[مسألة: يبتاع الشاة ويستثني صاحبها جلدها ثم يسقط عليها جدار فتموت قبل أن تذبح]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يبتاع الشاة ويستثني صاحبها جلدها، ثم يسقط عليها جدار فتموت قبل أن تذبح؛ قال:(7/423)
هي من المبتاع، قال: وكذلك كل بيع حرام؛ ولو كان بيع وسلف فمات قبل أن يرده إذا وصل إلى المبتاع فهو من المبتاع، وإذا لم يصل إلى المبتاع وهو في يد البائع فهو من البائع، وهذا كله قول مالك؛ وفي سماع أصبغ عن ابن القاسم مثله، وقال سحنون مثله؛ وفي سماع عيسى من كتاب أمهات الأولاد: قال ابن القاسم: ولو استثنى الجلد بموضع يجوز له استثناؤه فماتت الشاة، أن المشتري لا يكون ضامنا؛ لأن البائع شريك معه.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يبتاع الشاة ويستثني صاحبها جلدها، ثم يسقط عليها جدار فتموت قبل أن تذبح، إنها من المبتاع؛ يريد إذا استثنى الجلد حيث لا يجوز له استثناؤه فيه، فكان البيع فاسدا وسقط عليها الجدار بعد أن قبضها المبتاع؛ بدليل قوله متصلا بذلك: قال: وكذلك كل بيع حرام ... إلى قوله: وقال سحنون مثله؛ ولأنه لما قال بعد ذلك: وفي سماع عيسى من كتاب أمهات الأولاد: قال ابن القاسم: ولو استثنى الجلد بموضع يجوز له؛ دل على أنه يتكلم فيما قبل ذلك؛ إلا إذا استثناه بموضع لا يجوز له، فإذا استثناه بموضع لا يجوز له، فالبيع فاسد، والمصيبة في الشاة من البائع ما لم يقبضها المبتاع؛ واختلف إذا قبضها فتلفت بعد القبض، فقيل: يضمنها كلها ويكون عليه قيمتها يوم قبضها قائمة بجلدها؛ وهو ظاهر ما وقع في هذه الرواية من قول مالك وابن القاسم في رواية عيسى وأصبغ عنه، وقول سحنون؛ وعلى قياس القول بأن المستثنى بمنزلة المشتري (من أنه يضمن الجلد) ، وقيل: إنه لا يضمن الجلد؛ لأنه مبقى على ملك البائع فيضمن على هذا القول قيمتها يوم قبضها، على أن جلدها مستثنى لو كان يحل بيعها في الحضر على هذا؛ وأما إذا استثنى الجلد في موضع يجوز له استثناؤه، فالبيع صحيح والمصيبة فيها من(7/424)
المشتري؛ وإن تلفت قبل أن يقبضها على حكم البيع الصحيح، إلا أنه اختلف هل يضمن الجلد أم لا؟
فقيل: إنه لا يضمنه، وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب أمهات الأولاد هاهنا، وفيما تقدم في رسم أوصى؛ وقيل: إنه يضمنه، وهو قول ابن القاسم في رواية أصبغ عنه المتقدم في رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده، وقد مضى هناك القول على كلتا الروايتين وتوجيههما، وبالله التوفيق.
[يبتاع الأمة على ألا يطأها]
ومن كتاب العشور وسئل ابن القاسم: عن الذي يبتاع الأمة على ألا يطأها، فإن فعل فهي حرة؛ هل يثبت هذا البيع ويلزمه فيها ما شرط عن نفسه، وكيف إن قال فإن وطئتها فغلامي حر أو على صدقة مال أو صيام؟ قال ذلك كله عند البيع؛ قال: أرى هذا كله قبيحا، فإن أدرك بحدثانه فسخ؛ وإن طال ذلك حتى يفوت بما تفوت به البيوع الفاسدة من الزيادة والنقصان وغير ذلك؛ كانت اليمين في رقبته، ولزمه البيع بقيمتها يوم قبضها، فإن وطئها حنث؛ ورواها أصبغ وقال: إذا اشترط ألا يطأ مع البيع ثم حلف فذلك؛ فأما لو لم يكن شرطا في البيع وإنما حلف على ذلك لهم من غير شرط لم يفسد البيع، وكانت يمينا من الأيمان.
قال محمد بن رشد: لم ير البيع على هذا الشرط من بيوع(7/425)
الثنيا التي قيل فيها إن البيع لا يفسخ إذا رضي مشترط الشرط بترك الشرط، من أجل أنها يمين قد لزمت المبتاع، فليس للبائع أن يسقطها عنه ويمضي البيع؛ وقال فيه: إنه بيع فاسد يفسخ على كل حال، إلا أن يفوت بما يفوت به البيع الفاسد، فيصحح بالقيمة؛ وقد مضى القول على هذا في رسم القبلة من سماع ابن القاسم، وقول أصبغ بين في المعنى مفسر لقول ابن القاسم.
[مسألة: يبيع السلعة بدينار إلا ثلث دينار على أن يدفع إليه البائع ثلثا إذا جاءه]
مسألة قال: وسئل مالك عن الرجل يبيع السلعة بدينار إلا ثلث دينار على أن يدفع إليه البائع ثلثا إذا جاءه بدينار، ويشترط ذلك على المشترى؛ قال: لا خير فيه، ولكنه يبيعه بثلثين ويصطلحان إذا قضاه؛ وإن تعاسرا فليس عليه إلا ثلث دينار، ولا بأس به إذا كان بالنقد وإن شرط؛ رجع ابن القاسم، وقال: لا خير أيضا فيه بالنقد، إلا أن يشترط دراهم معدودة، وقد قال في كتاب العيوب: لا بأس به على كل حال إذا كان نقدا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه لا يجوز أن يبيع منه سلعة بدينار إلا ثلث إلى أجل، على أن يدفع إليه البائع إذا حل الأجل صرف الثلث دراهم، ويأخذ منه دينارا؛ لأنه يصير إذا فعل ذلك قد باع منه سلعته نقدا، ودراهم إلى أجل غير مسماة أيضا بدينار إلى ذلك الأجل، وهو حرام لا يحل؛ وإنما الذي يجوز أن يبيع منه سلعته بدينار إلا ثلث؛ لأنه إذا فعل ذلك كان قد باع منه سلعته بثلثي دينار؛ فإذا حل الأجل وحان القضاء، اصطلحا في الثلثي الدينار على ما يجوز بينهما من أن يأخذ منه في الثلثين عرضا مخالفا للعرض الذي باعه، أو طعاما قبل أن يفارقه، أو(7/426)
يدفع إليه البائع صرف الثلث ويأخذ منه دينارا صحيحا؛ فإن لم يتفقا على شيء من ذلك، لم يكن له عليه إلا ثلثا دينار يحكم عليه فيه بصرفه دراهم، إذ لا ينقسم الدينار القائم؛ واختلف إذ باع منه سلعته بثلثي دينار نقدا، أو قال: بدينار إلا ثلث، على أن يدفع إليه صرف الثلث ويأخذ الدينار صحيحا؛ فمرة قال: لا خير فيه؛ لأنه قد باع سلعته ودراهم غير معلومة بدينار، إذ لم يسميا ما يعطيه في الثلث من الدراهم؛ ومرة قال: لا بأس بذلك إذا كان ذلك نقدا؛ لأن الصرف في الحال لا يخفى، فكأنهما قد دخلا على دراهم معلومة في الثلث، فجاز ذلك، والله الموفق.
[اشترى طعاما بعينه غائبا وتواضعا الثمن على يدي رجل فهلك الثمن]
ومن كتاب أوله حبل حبلة وسئل: عن رجل اشترى طعاما بعينه غائبا وتواضعا الثمن على يدي رجل فهلك الثمن ممن يكون؟ قال: إن وجد الطعام على الصفة، فهو من البائع؛ وإلا فهو من المبتاع؛ قلت: فلو تعدى بائع الطعام على الطعام فباعه من آخر، قال: يكون عليه أن يشتري له طعاما مثله، وتكون مصيبة المال منه.
قال محمد بن رشد: قوله: وسئل: عن رجل اشترى طعاما بعينه غائبا، معناه: بعينه غائبا على الصفة والكيل؛ مثال ذلك: أن يقول البائع: لي في بلد كذا وكذا طعام صفته كذا وكذا، وكيله كذا وكذا؛ فيقول المبتاع: أنا أشتريه منك بكذا وكذا، أو يقول: لي في بلد كذا وكذا طعام صفته كذا وكذا، فيقول المبتاع: أنا أشتري منك منه كذا وكذا إردبا بكذا وكذا؛ وهذا مثل ما في المدونة من قوله، وقد كان المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يبيع وهو بالمدينة ثماره كيلا التي بالصفراء وبخيبر، فلم ير(7/427)
أحد بذلك بأسا، ولم يره من الدين بالدين؛ وإنما قلنا هذا؛ لأن بيع الطعام الغائب جزافا على الصفة لا يجوز؛ وقد مضى القول على ذلك مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وضمانه من البائع حتى يقبضه المبتاع قولا واحدا لا يدخل في هذا اختلاف قول مالك في ضمان الغائب يشترى على الصفة من أجل أنه مكيل، فهو في ضمان البائع حتى يكيله على المبتاع.
وفي أصل كتاب اللؤلؤ مكتوب على هذه المسألة، قد قال مالك: لا يجوز على أن أدركته الصفقة مجموعا، وخالف بينه وبين الزرع القائم في أول الكتاب؛ فكأنه ذهب إلى أن هذه المسألة مخالفة لمسألة أول الكتاب، وذلك غير صحيح؛ لأن المعنى في هذه المسألة إنما هو ما ذكرناه من أن شراء الطعام فيها إنما هو على الصفة والكيل.
وقوله في الثمن الذي هلك: إنه من البائع إن وجد الطعام على الصفة، وإلا فهو من المبتاع؛ يقتضي ظاهره أن الطعام إن وجد على غير الصفة وقد تلف الثمن، لم يكن للمبتاع أن يأخذه إلا بثمن آخر؛ لأنه قد قال: إن مصيبته منه إن وجد على غير الصفة، خلاف ما مضى في رسم إن خرجت؛ وقد روي عن مالك أن الثمن من المبتاع وإن وجد الطعام على الصفة، فهي ثلاثة أقوال: أحدها: أن الثمن من المبتاع وإن وجد الطعام على الصفة. والثاني: أنه من البائع إلا أن يوجد الطعام على الصفة فيلزم المبتاع أن يأخذه. والثالث: أنه من المبتاع إلا أن يوجد الطعام على الصفة فيلزم المبتاع أن يأخذه، أو على غير الصفة فيريد أن يأخذه. وقوله: إن على بائع الطعام إذا تعدى على الطعام فباعه أن يشتري طعاما مثله للمبتاع وتكون مصيبة المال منه، صحيح على أصله في أن مصيبة المال من البائع إذا وجد الطعام على الصفة؛ لأنه إذا أتاه بمثله، فكأنه هو الطعام الذي اشترى منه بعينه؛ ولو أبى أن يغرمه مثل الطعام، لكانت مصيبة المال منه لا من البائع، ولو كان قد نقده الثمن بغير شرط، لم يكن له عند ابن القاسم خيار في أن يأخذ منه(7/428)
الثمن أو يغرمه مثل الطعام، قاله في السلم الثالث من المدونة؛ لأن الإقالة لا تكون إلا ناجزة، فإذا خيره بين الطعام والثمن دخله بيع الطعام قبل أن يستوفى؛ وأشهب يخيره في ذلك، فلعل ابن القاسم تكلم إذا لم يعرف عداؤه على الطعام إلا بقوله، وأشهب إذا عرف ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: بيع شيء من الثمر رطبه بيابسه]
مسألة وقال ابن القاسم: لا يباع شيء من الثمر رطبه بيابسه، كان مما يدخر أو مما لا يدخر؛ حل رطبه واحد باثنين وصنفه، أو لم يحل؛ للنهي الذي جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك، ولا بأس بما لا يدخر من الفاكهة واحد باثنين أو ثلاثة أو ما شاء من صنفه، رطبه برطبه، ويابسه بيابسه، يدا بيد؛ ولا خير فيما يدخر من الفاكهة من صنف واحد إلا مثلا بمثل، يدا بيد؛ وقال: إنما أكره الرطب باليابس من صنف واحد، فإذا اختلفت الصنفان فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: أما الرطب باليابس من الصنف الواحد الذي لا يجوز التفاضل فيه، فلا اختلاف في المذهب في أن ذلك لا يجوز، لما جاء في الحديث من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل: عن الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرطب إذا يبس؛ قالوا: نعم، قال: فلا إذا.» وأما الرطب باليابس من الصنف الواحد الذي يجوز فيه التفاضل، فاختلف فيه على ثلاثة أقوال حسبما مضى القول فيه في رسم يدير ماله من سماع عيسى من كتاب(7/429)
السلم والآجال، فلا معنى لإعادته. وأما قوله ولا خير فيما يدخر من الفاكهة من صنف واحد إلا مثلا بمثل، فهو قول مالك في موطئه؛ لأن كل ما يدخر منها فهي أقوات إذا احتيج إليها، ومذهب ما في المدونة عندي؛ وقد كان شيخنا الفقيه ابن رزق يتأول ما في المدونة على أن التفاضل جائز في الصنف الواحد من الفواكه التي تدخر، وليست بأقوات؛ وعلى هذا الاختلاف يختلف الأصوليون في تحرير علة تحريم التفاضل في الصنف الواحد من الطعام، فمنهم من يقول: هي أن يكون الصنف الواحد مدخرا مقتاتا أصلا للمعاش غالبا، وهو الذي يأتي عليه ما كان يحمل عليه الفقيه ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما في المدونة. ومنهم من يقتصر على أن يقول: هي أن يكون الصنف الواحد مدخرا مقتاتا، ولا يزيد في صفة العلة أصلا للمعاش غالبا، وهو الذي يأتي عليه ما في هذه الرواية ومذهب مالك في موطئه.
[مسألة: ابتاع ثوبا بنصف دينار وأحال البائع على المشتري غريما له بالثمن]
مسألة وسئل: عن رجل ابتاع من رجل ثوبا بنصف دينار وأحال البائع على المشتري غريما له بالنصف الدينار، فأعطاه فيه عشرة دراهم؛ ثم وجد المشتري عيبا بالثوب، بأي شيء يرجع على البائع؛ قال: بالنصف الدينار وليس بالدراهم.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في سماع أصبغ من كتاب العيوب، وزاد فيها، وقاله أصبغ اتباعا، وفيه ضعف وغمز، ومضت(7/430)
أيضا مستوفاة بتحصيل الاختلاف فيها، وذكر معانيها وما يتعلق بها في أول سماع ابن القاسم من كتاب الصرف، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يأتي إلى الجزار أو البياع فيقول له بعني كما تبيع من الناس]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الذي يأتي إلى الجزار أو البياع فيقول له بعني كما تبيع من الناس، قال: لا يصلح هذا في شيء من الأشياء؛ قلت: فإن وقع، قال: إن وقع وكان قائما بعينه، رد البيع وفسخ؛ فإن فات وكان مما يوجد مثله مثل القمح وغيره مما يكال أو يوزن كيله أو وزنه، فإن كان مما لا يوجد مثله مثل الثياب وغيرها كانت فيه القيمة.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة إذا قال له بعني كما تبيع (من) الناس فقال له نعم وأعطاه السلعة وانصرف بها دون أن يعلم كيف يبيع من الناس؟ لأنه انصرف بالسلعة على ثمن مجهول، ولو عقد معه البيع قبل أن يعلم كيف يبيع من الناس بأن يقول له بعني كذا وكذا رطلا، أو كذا وكذا إردبا، أو أمرا كذا، كما تبيع من الناس؛ فيقول له قد بعتك، ويقول له هو: وأنا قد اشتريت، قبل أن يعلمه بما يبيع من الناس؛ لكان العقد فاسدا وإن لم يفارقه ولا انصرف بالسلعة؛ وكذلك لو قال له بعني كذا وكذا كما تبيع من الناس، فقال له: قد بعتك فسكت هو ولم يزد على قوله الأول بعني على القول بأن ذلك إيجاب عليه، وقد مضى ذكر(7/431)
الاختلاف في ذلك في أول رسم من سماع أشهب من هذا الكتاب، ومن كتاب العيوب؛ وأما لو قال له بعني كما تبيع من الناس، فقال له أبيع بكذا وكذا فقال له قد أخذت، وقال له هو: وأنا قد بعتك، لكان ذلك بيعا جائزا. فإن عثر على أنه قد كذبه فيما قال، كان الحكم في ذلك حكم الغش والخديعة، يكون له الخيار في القيام وترد السلعة إلى القيمة في الفوات إن كانت أقل من الثمن؛ وقوله إذا وقع وفات وكان مما يوجد مثله من المكيل والموزون، أنه يرد كيله أو وزنه؛ هو المشهور المعلوم من قول مالك وأصحابه، وقد مضى القول على ذلك في أول رسم من السماع.
[مسألة: اشتري من جميع الأشياء مما لا يكال ولا يوزن فباع بعضها مرابحة]
مسألة قال ابن القاسم: ما اشتريت من جميع الأشياء مما لا يكال ولا يوزن فبعت بعضها، فلا تبع ما بقي منه ولا جزءا مما بقي منه مرابحة، حتى تبين أنك قد بعت منه؛ فإن لم تفعل وبعت مرابحة، وكتمت المشترى أنك قد بعت منه، كان بيعا مردودا يرده إن أحب؛ وإن فات، كانت فيه القيمة؛ وما اشتريت من جميع الأشياء مما يكال أو يوزن من الطعام وغيره كيلا أو وزنا فبعت بعضه، فلا بأس أن تبيع ما بقي أو بعض ما بقي مرابحة، ولا تبين أنك قد بعت منه شيئا، وليس عليك أن تبين.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، وعلى ما(7/432)
ذهب إليه ابن عبدوس من أن الجملة قد يزاد فيها (مما) لا يجوز أن يبيع مرابحة بعض ما اشترى جملة دون أن يبين وإن كان ذلك مما يكال أو يوزن؛ وعلى ما وقع في سماع أبي زيد هذا الكتاب، ومن كتاب السلم والآجال من أنه يجوز لمن اشترى طعاما إلى أجل بثوبين مستويين؛ أن يستقيل من أحدهما إذا حل الأجل بنصف الطعام، يجوز أن يبيع مرابحة بعض ما اشترى جملة دون أن يبين وإن كان ذلك مما لا يكال ولا يوزن إذا كانت الصفقة واحدة، وقد مضى القول على هذا السماع المذكور من كتاب السلم والآجال، وبالله التوفيق.
[اشترى ثيابا فلما خرج بها وسار بها من عنده زعم أنه أبدل له ثيابا]
ومن كتاب جاع فباع امرأته وسئل: عن رجل اشترى ثيابا، فلما خرج بها وسار بها من عنده زعم أنه أبدل له ثيابا، وأقر له بثلاثة أثواب أنه أبدلها، وادعى المشتري أكثر من ذلك؛ قال: يحلف بالله أنه ما أبدل إلا ثلاثة أثواب، ثم يرد الثلاثة أثواب إن كانت عنده أو قيمتها من جميع الثمن يقبض ثمنها على جميع الثياب إن كانت فاتت؛ إلا أن تكون خيار الثياب ووجه المتاع، وفيها كان يرجى الفضل، ومن أجلها اشترى المتاع؛ فإن كانت كذلك، وفاتت جميع الثياب إذا فاتت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على أصولهم، وقوله فيها ثم يرد الأثواب إن كانت عنده، أو قيمتها من جميع الثمن ... إلى آخر قوله، يريد: أو قيمتها من جميع الثمن إن لم تكن الأثواب عنده،(7/433)
وكانت قد فاتت، وذلك بعد يمينه؛ لقد فاتت فواتا لا يقدر على صرفها؛ إلا أن يصدقه المبتاع فيما ادعى من فواتها، فتسقط عنه اليمين في ذلك؛ وإن لم يشبه ما ادعى من فواتها وتبين كذبه في ذلك، اشتد عليه السلطان في صرفها فيما يراه في ذلك باجتهاده من سجن ونحوه.
[مسألة: أتاه رجل بقراطيس فوضعها عنده يبيعها له فأراه بعضها]
مسألة وسئل: عن رجل أتاه رجل بقراطيس فوضعها عنده يبيعها له، فأراه بعضها وقال له بقيتها على هذه الصفة، أو وصفها له أو بعث بها إليه، أو كتب إليه بصفتها؛ فأتاه رجل فساومه بها فنظر منها إلى قنطار، وأخبره أنها بضاعة لرجل وضعها عندي أبيعها له، فوصفها أنها على القنطار الذي رأيت؛ أخبرني بذلك صاحبها أو كتب به إلي؛ فاشتراها على ذلك، وانقلب بها فوجد فيها قنطارا متغيرا مخالفا للصفة، ولما رأى منها، فأراد ردها؛ فقال البائع: لا أعرف هذا القنطار، فقال المشترى: احلف لي أن هذا القنطار ليس مما بعت لي، فقال: بل أحلف لك أني ما أعرف هذا القنطار، ولا دلست فيه؛ ولقد بعتك على ما وصف لي؛ قال ابن القاسم: ليس عليه أكثر من أن يحلف ما يعرف هذا القنطار ولا دلس فيه، ولقد باعه على ما وصف له، وليس عليه أكثر من ذلك؛ لأنه قد صدقه حين اشتراه منه على الصفة، وهذه المسألة قد تكلم فيها، وكتب فيها إلى مالك في الرجل يقف على البزاز(7/434)
فيقول له: أعندك ثياب قصب؟ فيقول: في هذه الصندوق كذا وكذا ثوب، من صفة كذا وكذا؛ فيساومه عليها فيبيع منه، ثم يذهب بالصندوق ويغيب عليه؛ ثم يرجع فيقول وجدتها مخالفة للصفة أو ناقصة من العدد، أو يقول وجدتها خيوشا؛ أنه لا يصدق وقد لزمه البيع، وعلى البائع اليمين بالله ما كذبه ولقد باعه على صفة ما كتب إليه؛ ولو كان هذا يجوز، ذهبت أموال الناس؛ فإذا صدقه على الصفة والعدد، فهو ضامن لما انقلب به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في كتاب بيع الغرر من المدونة، والأصل فيها قوله عز وجل {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ، والمشترى في هذه المسألة قد ائتمن البائع فيما وصفه له من صفة المبتاع وباعه عليه وصدقه على ذلك، إذ قبضه على قوله، واحتازه دون أن يقلبه وينظر إليه قبل أن يفارقه؛ فوجب أن يكون القول قول البائع مع يمينه - كما قال مالك، والله الموفق.
[يبيع الطعام فيأتيه صاحب له بطعام مأكول فقال أبدل لي هذا من طعامك]
ومن كتاب النسمة وقال ابن وهب وابن القاسم، في الرجل يبيع الطعام فيأتيه صاحب له بطعام مأكول، فقال: أبدل لي هذا من طعامك، فهل(7/435)
ترى له أن يفعل ويخلطه في الذي يبيع؟ قال ابن وهب: لا ينبغي هذا ولا يحل، وهذا من الغش الذي نهي عنه، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غشنا فليس منا» . فليحذر هذا وما أشبهه، قال ابن القاسم: يبدله له ولا يخلطه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم ليس بخلاف لقول ابن وهب، إذ لا يجيز ابن القاسم ولا غيره أن يبدله ويخلطه فيما بيع، ولا يمنع ابن وهب والله أعلم من أن يبدله له إذا لم يخلطه؛ فهو الذي يدل عليه قوله: لأنه سئل هل يبدله ويخلطه؟
فقال: إن ذلك لا يحل لأنه غش؛ ولو كان البدل عنده لا يجوز، لقال: إن ذلك غش وربا؛ وظاهر هذا من قولهما جميعا، إجازة البدل فيما قل من ذلك وكثر، وهو ظاهر ما وقع أيضا في سماع ابن القاسم من كتاب الصرف في رسم القبلة منه؛ ومنع من ذلك أشهب في المعفون والمأكول، وهو دليل ما في كتاب القسمة من المدونة من أنه لا يجوز الطعام المعفون بالطعام الصحيح، ولا بالطعام المعفون، إلا أن يشبه بعضه بعضا ولا يتفاوت؛ وأجاز ذلك سحنون في المعفون، ولم يجزه في المأكول.
[مسألة: النواتية الذين يحملون التلاليس إلى البر فتسقط في البحر]
مسألة قال ابن القاسم، في النواتية الذين يحملون التلاليس إلى البر فتسقط في البحر: إنه من المشتري.(7/436)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، لا إشكال فيه؛ لأنه إذا اشترى المتاع في المركب فسقط في البحر في إخراجه من المركب، فضمانه من المشتري؛ لأنه إنما يخرج من المركب على ملكه؛ ولو اشتراه وشرط على البائع أنه ضامن لما يصيبه في إخراجه من البحر، لكان البيع فاسدا؛ لأنه اشترى شيئا بعينه على أن البائع ضامن لما أصابه، فصار مبتاعا للضمان.
وقد قال ابن القاسم في الذي يبيع الجارية أو العبد على أن عليه جوازه من الماكس، قال: لا يعجبني ذلك؛ لأنه لا يدري كم يغرم في ذلك، وقال: جميع الأشياء التي لا تجتاز من الماكس إلا بغرم، كذلك لا خير في ذلك؛ وإن قبض ذلك أو كان ضمانه منه، فلا خير في ذلك؛ وليس ذلك بمنزلة الذي يشتري الطعام بعينه ويستوفيه، ويكون ضمانه منه؛ إلا أن عليه حملانه فلا بأس به، وهذا ليس فيه غرر، وإنما عليه حملانه بأي الوجوه شاء: إن شاء على سفينته، وإن شاء على دابته، أو كيف شاء، وبالله التوفيق.
[ابتاع طعاما ونقد بعض الثمن إلى أن يأتيه بالبقية]
ومن كتاب أوله يدير ماله وقال فيمن ابتاع طعاما ونقد بعض الثمن إلى أن يأتيه بالبقية، ثم بدا له فأراد أن يعطيه من الطعام بعدة ما نقد، ويستقيل من البقية؛ قال: لا بأس به؛ فإن كان قد نقد الثمن كله، فلا يصلح أن يأخذ بعضا ويستقيل من بعض، إلا أن يكونا لم يفترقا ولم يغب على الدنانير.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة مكررة في رسم البيوع(7/437)
العاشر من سماع أصبغ من كتاب السلم والآجال، وقلنا فيها هناك: إن الصحيح فيها على أصولهم، أن الإقالة من البعض جائزة وإن نقده الثمن كله؛ إذ ليس في نفس الإقالة فساد، وإنما يوجد الفساد في ذلك بمجموع الصفقتين إذا اتهما في ذلك؛ فوجب أن يجوز إذا لم يكونا من أهل العينة؛ لأن بيوع النقد لا يتهم فيها إلا أهل العينة على ما مضى في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور، وفي غيره من المواضع.
[يبيع الصبي الصغير على أن ينفق عليه عشر سنين ثم يعتق المشتري الصبي]
ومن كتاب البراءة
قال: وسألته: عن الرجل يبيع الصبي الصغير على أن ينفق عليه عشر سنين ثم يعتق المشتري الصبي، أو يبيعه، أو يموت؛ قال: ينظر كم نفقة العشر سنين، وكم قيمة الصبي، فإن كان الصبي نصف القيمة أو ثلثي القيمة، رجع إلى الثمن، فوضع بقدر ذلك بعض الثمن على قيمة العبد، وقيمة النفقة؛ ثم يرد من الثمن بقدر الذي أصابه، وهو بيع جائز وإن لم يفت، وإنما يقوم هو والنفقة يوم بيع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة رديئة حائلة من مسائل المجالس لم تدبر، إذ لا يصلح أن يكون هذا البيع جائزا مع ما فيه من الغرر والفساد؛ لأن المشتري إذا اشترى الصبي على أن ينفق البائع عليه عشر سنين، وكان له أن يبيع الصبي أو يعتقه؛ فيرجع على البائع من الثمن(7/438)
بقدر ما يقع عنه لما بقي من النفقة، كان ما يسترجع من الثمن مرة سلفا، ومرة ثمن بيع؛ وصار البائع لا يدري هل يصح له جميع الثمن الذي قبض بما التزم من النفقة أو يجب عليه رد بعضه ويسقط عنه النافقة، وذلك من أبين الغرر والفساد؛ ولا يخلو البيع على هذا الشرط من أحد وجهين: فإما أن يكون المبتاع شرط أن يكون الصبي الذي اشترى عنده ويأخذ نفقته من البائع عشر سنين شهرا شهرا أو سنة سنة، وإما أن يكون مع البائع يأكل معه يده كيده، كواحد من جملة عياله، فإن كان البيع وقع على أن يكون الصبي عند المبتاع ويأخذ نفقته من البائع عشر سنين؛ جاز البيع ولم تسقط النفقة عن البائع بموت الصبي، ولا ببيعه، وكان للمبتاع أن يأخذه بها.
وإن كان العبد (قد) خرج عن ملكه بوجه من هذه الوجوه، كما لو اشترط ذلك؛ وإن كان وقع على أن يكون الصبي من البائع يأكل معه يده كيده لم يجز عند ابن القاسم، إلا أن يكون على أنه إن مات الصبي أو باعه أو أعتقه، أتاه بمثله ينفق له عليه إلى تمام المدة، يعلم أن هذا مذهبه من قوله في المدونة في الذي يبيع الأمة على أن ترضع ابنا لها سنة: إن هذا جائز إذا كان إن مات أرضعوا له آخر، وهو على أصله في الراعي يستأجر على رعاية غنم بأعيانها، أن ذلك لا يجوز إلا بشرط الحلف، ويجوز عند سحنون، وإن لم يشترط إن مات الصبي أو باعه أو أعتقه، أتاه بمثله؛ وقد مضى ذلك من مذهبه، والقول فيه في الذي يبيع أمة له على أن ترضع ابنا لها سنة في أول رسم من سماع ابن القاسم؛ وهو أيضا على أصله في الأجير على رعاية غنم بأعيانها، أن الحكم يوجب الحلف وإن لم يشترطه.
وإن اختلف المتبايعان فقال(7/439)
البائع إنما شرطت على أن يكون الصبي يأكل عندي يده كيدي كواحد من عيالي، وقال المبتاع: بل شرطت عليك أن يكون عندي، وآخذ منك نفقته شهرا بشهر، وسنة بسنة، أو نحو ذلك؛ وجب أن يتحالفا ويتفاسخا؛ وإن وقع البيع بينهما فهما في ذلك، فقال البائع: إنما أردت كذا، وقال المبتاع: إنما أردت كذا، تحالفا على نياتهما؛ وفي قوله: أو يعتق المشتري الصبي - نظر؛ إذ لا تسقط النفقة عمن أعتق صغيرا لا يقوم بنفسه، فلعله أراد إذا أعتقه بعد أن بيع مبلغا يقوم بنفسه.
[مسألة: لقي رجلا ومعه دهن فابتاعه منه بمائة دينار نقدها إياه]
مسألة وسألته: عن رجل لقي رجلا في بعض الأسفار ومعه دهن، فابتاعه منه بمائة دينار نقدها إياه، قبض المبتاع الدهن، فقال له: إنك على سفر ولا تستطيع كيله الآن؛ فقال له البائع: فيه كذا وكذا تزنه وأنت فيه مأمون، فما نقص فعلي أوفيكه؛ أو كان اشتراه بنظرة فائتمنه على كيله، وقال: ما نقص أوفيكه، وقبض في كلا الوجهين أو لم يقبض؛ قال ابن القاسم: أما الذي اشتراه بنقد وقال تزنه فما نقص فعلي أوفيكه، فإن كان يزنه عند مواجبة البيع، أو قريبا الميل وما أشبهه، وكان الذي يزيده إن نقص من عصر دهنه الذي باعه، فلا بأس به؛ وإن كان وزنه يتأخر الأيام أو إلى موضع ينتهي به إليه، فإنه لا يحل، إن ضمانه على البائع؛ فلا يحل أن ينقده على أنه ضامن له إلى بلد، ولو لم ينقده ما حل أن يبيعه إياه على أن يكتاله ببلد آخر وكذلك يقول بعض(7/440)
أهل العلم فيما يشبه؛ وإن كان ما يزيده ليس من عصره ولا من صنفه حتى يكون مثله في الجودة، لم يجز وإن وزنه بحضرة ذلك؛ لأن الذي ينقص لا يدري كم ذلك وهو يزيده إن نقص مخالفا لما باعه، فلا خير فيه؛ إلا أن يكون من عصره ومن صنفه، ويزيده بحضرة ذلك، فلا بأس به؛ وكذلك إن باعه بثمن إلى أجل، فإن كان اتزنه مكانه ويوفيه ما نقص من دهن مثله من عصره فلا بأس بذلك؛ وان اختلف، فلا خير فيه؛ وإن كان يكيله ببلد غير البلد الذي اشتراه به، فلا يحل؛ لأنه يزيده في ثمنه على أن يضمنه له إلى ذلك البلد؛ لأن كل ما يكال أو يوزن إذا اشتراه رجل كيلا أو وزنا، فضمانه من البائع حتى يستوفيه المبتاع، وهو غرر لا يجوز، وهو وجه ما سمعت.
قلت: فإن كان اشتراه ليزنه ببلد، فحمله إليها ثم أدرك؛ هل يفسخ البيع بينهما؟ قال: إن كان أدرك قبل أن يفوت فسخ البيع بينهما؛ وإن فات الدهن، رد إليه مثله إن كان يعرف مثله حيث قبضه منه، لا حيث اتزنه؛ فإن فات وكان لا يعرف مثله، فله قيمته حيث قبضه منه أيضا.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال: إنه لا يجوز له أن يشتري الدهن كيلا أو وزنا على أن فيه كذا وكذا، فيقبضه على أن يزنه إلى أيام، أو في البلد الذي يصير إليه (إن) كان مسافرا؛ ولا على أن يزنه فحضر بحضرتهما على أن يزيده ما نقص إن نقص من صنف آخر؛ لأنه في الأول اشتراه على أن البائع ضامن له حتى يصل إلى ذلك البلد، وحتى(7/441)
تنقضي تلك الأيام، فكان قد زاده في الثمن لموضع الضمان، وذلك مما لا يحل ولا يجوز، كان الثمن نقدا أو إلى أجل؛ وفي الثاني غرر، إذ لا يدري هل يأخذ من الصنف الآخر شيئا ولا مقدار ما يأخذ منه إن أخذ؛ إذ قد لا ينقص الدهن، وقد ينقص قليلا، وقد ينقص كثيرا؛ وأجاز ابن كنانة أن يشتريه على أن يزنه في البلد الذي يسير إليه إذا كان على مسير عشرة أميال فدون، ولا يجوز في أبعد من ذلك.
وروى عيسى عن ابن القاسم في المدنية: أنه لا خير فيه في عشرة أميال، وهو نحو قوله في هذه الرواية؛ لأنه لم يجز ذلك فيها، إلا إلى الموضع القريب الميل وما أشبهه.
وأما قوله في آخر المسألة إذا اشتراه على أن يزنه ببلد آخر فحمله إليه، أنه إن أدرك بيده قبل أن يفوت فسخ البيع بينهما، يريد عرف مثله أو لم يعرف، وإن فات كان على المبتاع مثله حيث قبضه إن عرف مثله، وقيمته حيث قبضه إن لم نعرف مثله، ففيه نظر؛ لأنه إذا جعل المثل فيما يعرف مثله إذا فات كالعين، وقال: إنه يكون على المبتاع مثله حيث قبضه، وجب على قياس ذلك أن يستوي قيامه وفواته، وألا يكون عليه إذا أدرك بيده في البلد الذي حمله إليه إلا مثله أيضا حيث قبضه.
وكذلك قال في رسم استأذن قبل هذا في البيع الفاسد، ولو كان طعاما ما لم يرده عليه إلا بالإسكندرية حيث قبضه؛ وأما إذا لم يعرف كيله فحكمه حكم العرض تفيته حوالة الأسواق، كذلك في كتاب ابن المواز؛ فقوله: إن البيع يفسخ بينهما إن أدرك بيده في البلد الذي حمله إليه قبل أن يفوت، يريد بحوالة الأسواق أو غير ذلك؛ ولم ير نقله من بلد إلى بلد فوتا له، وفي ذلك(7/442)
اختلاف قد ذكرناه؛ وبينا وجهه في رسم استأذن المذكور، ويعرف مثله بأن تكون الظروف التي كان فيها حاضرة لم تفت، وبالله التوفيق.
[يبيع الفصيل أو شيئا من أولاد البهائم على أن رضاعه على أمه]
ومن كتاب أوله إن أمكنتني من حلق رأسك وقال في الذي يبيع الفصيل أو شيئا من أولاد البهائم على أن رضاعه على أمه، قال: بلغني أن المهر إذا ماتت أمه لم يقبل على غيرها؛ فنحن نرى إذا كان الرضاع ضامنا على البائع إن ماتت الأم، أخلف مكانها من موضعه، وكان من البهائم التي لا تبالي بموت أمهاتها وهو يقبل على غير أمه إن ماتت، ولم يضره ذلك شيء، فالبيع جائز، والرضاع يضمنه إلى فطام مثله؛ فإن كان من البهائم التي إذا ماتت أمهاتها لم يقبل على غيرها إلا بعناء، أو لا يقبل حتى يخاف عليه الموت أو النقصان في كبره ونباته؛ فلا أرى في هذا خيرا؛ لأن هذا من وجه المخاطرة والغرر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة ليست على الأصول؛ لأنه أجاز لمشتري المهر أن يشترط رضاع أمه إذا كان الرضاع ضامنا على البائع إن ماتت الأم، أخلف مكانها من يرضعه؛ ولا يجوز أن يستأجر الرجل أمة ترضع ابنا له على أن الرضاع ضامن على سيدها إن ماتت أخلف له مكانها من ترضع ابنه حتى ينقضي أمد رضاعه؛ ولا أن يستأجر مرضعة حرة على أنها إن ماتت كان في مالها خلفها؛ ولا أن يتكارى راحلة بعينها على أنها إن عطبت، أتاه المكري بعوضها؛ وشرطه في ذلك أيضا أن يكون(7/443)
المهر من البهائم التي لا تبالي بموت أمهاتها، غير صحيح؛ إذ لو لم يجز شراء المهر على أن يكون رضاعه على أمه إذا كان من البهائم التي لا تقبل غير أمهاتها، وكان ذلك غررا مخافة أن تموت أمه فلا يقبل رضاع غيرها فيهلك؛ لما جاز شراؤه مع أمه مخافة أن تموت أمه فيهلك، إذ ما لا يجوز شراؤه منفردا لغرره، لا يجوز إذا انضاف إليه غيره؛ ولو اشترى شيئا من أولاد البهائم التي لا تقبل غير أمهاتها ولا تعيش دون رضاع ولا أم له، أو على أن لا يكون على البائع أن يرضعه أمه؛ لوجب ألا يجوز البيع إذا كان من البهائم التي (لا) تؤكل؛ لأنه من بيع ما لا منفعة فيه، وأكل المال بالباطل؛ فالذي يوجبه النظر في هذه المسألة، أن يكون شراء الصغير من أولاد البهائم على أن يكون رضاعه على أمه جائزا إذا لم يشترط الخلف إن ماتت كان مما يقبل غير أمه، أو لا يقبل؛ فإن ماتت الأم قبل أن ينقضي أمد فطام مثله، رجع على البائع بالثمن بما ناب منه ما بقي لأمد فطامه.
ووجه العمل في ذلك: أن ينظر إلى قيمة الرضاع وقيمة المهر، فإن كان في التمثيل قيمة الرضاع ديناران، وقيمة المهر عشرة دنانير، وكان قد مضى من أمد الرضاع النصف، رجع المبتاع على البائع بنصف سدس الثمن الذي دفع إليه؛ لأنا علمنا أن سدسه وقع للرضاع وقد استوفى نصفه، فرجع عليه بنصفه.
[مسألة: رجل دبغ جلود ميتة فباعها واشترى بثمنها غنما فنمت وتوالدت]
مسألة وسئل: عن رجل دبغ جلود ميتة فباعها واشترى بثمنها غنما، فنمت وتوالدت، ثم أراد أن يتوب مما صنع؛ قال: يتصدق بثمن الجلود التي باعها به، وليس بالغنم الذي اشترى؛ قال عيسى: إن(7/444)
وجد الذي باع منه الجلود أو ورثته إن كان قد مات، دفع ذلك إليه أو إليهم؛ فإن لم يجده ولا ورثته، تصدق به؛ فإن جاء بعد ذلك، خير بين الصدقة والثمن كاللقطة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم إنه يتصدق بثمن الجلود الذي باعها به إذا أراد التوبة، معناه: إذا فات الأمر وبعد، ولم يعلم المشتري ولا ورثته؛ وهذا على الاستحسان والتورع، مراعاة لقول من لا يجيز بيع جلد الميتة ولا الانتفاع به على حال - دبغ أو لم يدبغ؛ وليس على حقيقته ما يوجبه القياس على قوله وروايته عن مالك في إجازة الانتفاع بجلود الميتة إذا دبغت، وإلزام القيمة (فيها) لمن استهلكها قيمة الانتفاع؛ والذي يجب عليه واجبا على مذهبه، أن يتصدق بما زاد الثمن الذي قبض من المبتاع في الجلود على قيمة الانتفاع بها؛ إذ من حقه أن يرجع على المبتاع بقيمة انتفاعه بها، فيقاصه بذلك من الثمن؛ لأن انتفاعه بها غلة، والغلة لا تكون للمبتاع إلا بالضمان، وهو ليس بضامن الجلود إن تلفت، وهذا إن لم يعلم المبتاع، ولا قدر على رد ذلك إليه. وقول عيسى: إنه إن وجد الذي باع الجلود منه أو ورثته، دفع ذلك إليه أو إليهم - ليس ببين؛ إنما ينبغي أن يدفع إليهم أو إليه ما زاد الثمن على قيمة الانتفاع، ويمسك الباقي أو يتصدق به إن أراد التورع، ويلزم الذي اشترى الجلود إن باعها ما يلزم بائعها الأول؛ وكذلك إن باعها المشتري الثاني من ثالث، والثالث من رابع أبدا ما تداولتها الأملاك، وبالله التوفيق.
[المريض يبيع في مرضه وهو ليس في عقله]
ومن كتاب القطعان وسئل: عن المريض يبيع في مرضه وهو ليس في عقله،(7/445)
فيريد المبتاع أن يرد، ويأبى هو ذلك بعد صحته، أو ورثته بعد موته، أن البيع لازم للمشتري إن رضي البائع أو ورثته.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه ليس ببيع فاسد؛ وإنما هو بيع للبائع فيه الخيار من أجل أنه لم يكن في عقله كبيع السكران على مذهب من لا يلزمه البيع، وقد مضى القول على ذلك مستوفى في أول سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، وبالله التوفيق.
[باع وليدة واستثنى جنينا في بطنها]
ومن كتاب الفصاحة قال عيسى: قال ابن القاسم، في رجل باع وليدة واستثنى جنينا في بطنها، فإنه إن أدرك البيع بحدثان ذلك فسخ؛ وإن فاتت الوليدة بولادة، أو طول زمان، أو اختلاف أسواق، أو موت، أو عتق، أو بيع، أو هبة؛ مضى البيع وكانت فيها القيمة يوم قبضت الأمة على غير استثناء بالغة ما بلغت؛ وإن ولدت وقبض مستثنى الجنين الجنين فعثر عليه بحدثان قبضه، رد إلى مبتاع الأمة وغرم قيمتها؛ وإن فات الجنين عند مستثنيه بطول الزمان، أو بشيء من وجوه الفوت؛ كان للبائع على المبتاع قيمة الأم يوم باعها على غير استثناء، وكان للمبتاع على البائع قيمة الجنين يوم قبضه؛ ثم يتقاومان الجنين والأم، أو يبيعان من واحد إن عثر على ذلك قبل إثغار الصبي، للنهي عن التفرقة.
قال: واستثناء الجنين في بطن أمه بمنزلة اشترائه، سواء العمل في اشترائه كما وصفت لك في استثنائه؛ وكذلك لو اشترى بعيرا في شراده، أو عبدا في إباقه، فإنه إن أدرك قبل أن يقبض المشتري ما اشترى، أو بعد(7/446)
قبضه إياه؛ ما لم يفت في يديه بوجه من وجوه الفوت، فسخ البيع بينهما ورد إلى البائع ما باع من ذلك، لا يكون للمشتري شيء في طلبه إياه؛ وإن فات بوجه من وجوه الفوت، كان على المشتري قيمته يوم قبضه بالغة ما بلغت؛ قال عيسى: وهذا قول ابن القاسم عن مالك كله، إلا في قبض مستثني الجنين الجنين، فإنه رأيي.
قال محمد بن رشد: لم يختلف قول مالك ولا قول أحد من أصحابه فيما علمت أنه لا يجوز بيع الأمة، ولا بيع شيء من الحيوان واستثناء ما في بطنها؛ لأنهم رأوا البائع مبتاعا للجنين بما وضع من ثمن الأم، لمكان استثناء جنينها؛ فكأنه على مذهبه ومذهبهم باع الأمة بالثمن الذي سمي، وبالجنين الذي استثنى، وإن كان قد اختلف قوله وأقوالهم في المستثنى هل هو مبقي على ملك البائع، أو بمنزلة المشترى في غير ما مسألة؛ من ذلك اختلاف قوله فيمن باع ثمرة حائطه واستثنى منها مكيلة مسماة، هل يجوز له بيعها قبل أن يستوفيها أم لا؟
وقد مضى ذلك في رسم مرض من سماع ابن القاسم، وفي غير ما موضع؛ فيأتي على قياس القول بأن المستثنى مبقى على ملك البائع، إجازة بيع الحامل واستثناء ما في بطنها؛ وعلى هذا إجازة من أجازه من أهل العلم، منهم الأوزاعي، والحسن بن حي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وداود؛ وروي ذلك عن عبد الله بن عمر؛ فإذا باع الرجل الحامل واستثنى ما في بطنها، فهو على مذهب مالك وأصحابه بائع للأمة، ومبتاع لما في بطنها صفقة واحدة؛ فوجب أن تكون البيعتان فاسدتين، وعلى هذا يأتي جوابه في الرواية أن البيع يفسخ في الأمة ما لم تفت عند المبتاع بعد القبض بما يفوت به البيع الفاسد، فصحح عليه بالقيمة يوم القبض، وأنه يفسخ في الجنين ما(7/447)
لم يفت عند البائع الذي هو مبتاع له، فيصحح عليه بالقيمة يوم قبضه، ورأى الولادة في الأمة فوتا على أصولهم في أنها تفيت البيع الفاسد؛ لأنها أشد من حوالة الأسواق التي تفيته؛ وذهب ابن حبيب إلى أن الولادة لا تفيتها، ومعنى ذلك إذا لم يكن معها مرض يتغير به حالها، وعزا ذلك إلى أصبغ.
ووجه ما ذهب إليه من أن الولادة لا تفيت الأمة في البيع الفاسد؛ إذا استثنى جنينها، بخلاف إذا بيعت بيعا فاسدا ولم يستثن جنينها، أن الولادة إذا لم يكن معها مرض يتغير به حالها، فالولد إذا لم يستثن نماء فيها تفوت به؛ وإذا استثنى، فليس بنماء فيها؛ إذ كان البيع لم يقع عليه.
وقول ابن القاسم أصح؛ لأن البيع إنما فسد بوقوع البيع عليه، ولو لم يقع عليه البيع وكان مبقى على ملك البائع، لكان البيع جائزا على ما ذهب إليه من أجازه. وقوله إذا اشترى بعيرا في شراده، أو عبدا في إباقه، فعثر على ذلك قبل أن يفوت عند المبتاع؛ أن البيع يفسخ فيه ولا يكون للمشتري شيء في طلبه إياه؛ صحيح على ما في المدونة من أن من جاء لرجل بعبده الآبق، فلا جعل له فيه عليه إذا لم يكن ممن يطلب الإباق، وإنما الاختلاف إذا وجده بجعل جعله فيه فعثر على ذلك قبل أن يفوت عنده، فيفسخ البيع.
فقيل: إن للمشتري أن يرجع على البائع بما جعل في طلبه، قاله في كتاب ابن المواز؛ وقيل: إن الجعل على الجاعل، ولا يرجع به على البائع، وهو مذهب ابن القاسم؛ قاله في رسم محض القضاء من سماع أصبغ من كتاب الجعل والإجارة في الذي يجعل جعلا لرجل في طلب عبده ثم يستحقه مستحق، أن الجعل عليه ولا رجوع له به على المستحق، ولا فرق بين المسألتين؛ والاختلاف في هذا مبني على الاختلاف في السقي والعلاج، هل يحاسب بهما إن استحق الشيء من يده إذا أخذ المستحق الثمرة، إذ البيع الفاسد مثله سواء، وذهب ابن المواز إلى أن يكون الجعل على الجاعل، ويكون له على البائع والمستحق جعل مثله، إلا أن يكون أكثر مما غرمه الجاعل، وبالله التوفيق.(7/448)
[بيع التمر المنثور بالكيل]
ومن كتاب أوله سلف دينارا قال ابن القاسم: لا بأس بالتمر المنثور بالكيل على التحري.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز التحري في ذلك؛ لأن التمر المكتل لا يتأتى في الكيل، فإنما يباع بالوزن؛ ولا اختلاف في إجازة التحري فيما يوزن مما لا يجوز فيه التفاضل، قيل: في القليل دون الكثير، وقيل: في القليل والكثير، ما لم يكثر جدا حتى لا يستطاع تحريه؛ قيل: وإن لم تدع إلى ذلك ضرورة، وقيل: بل إنما يجوز للضرورة عند عدم الميزان.
وقيل: بل إنما يجوز ذلك فيما يخشى فساده إلى أن يوجد ميزان، وهذا في المبايعة والمبادلة ابتداء؛ وأما من وجب له على رجل وزن من طعام، لا يجوز فيه التفاضل، فلا يجوز له أن يأخذه منه تحريا إلا عند الضرورة، لعدم الميزان على ما يأتي في نوازل سحنون من هذا الكتاب بعد هذا؛ وقد مضى القول على هذه المسألة في رسم أخذ يشرب خمرا، ورسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، وفي رسم باع شاة من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[اشترى طعاما سمي له كيله أو كان حاضرا كيله]
ومن كتاب العتق قال عيسى: قال ابن القاسم: من اشترى طعاما سمي له كيله، أو كان حاضرا كيله، هو على الكيل أبدا، وعلى البائع أن يكيله له ثانية حتى يشتريه على أنه يأخذه بكيله، أو على أنه يصدقه في كيله، بمنزلة ما يقول: كم في طعامك؟ فتقول: مائة إردب، فيقول(7/449)
له: قد أخذتها بخمسين فهو على الكيل لا بد منه، إلا أن يشتريه على التصديق له؛ قيل: فإن اشتراه على الكيل ثم أراد أن يصدقه فيأخذه بكيله، قال: لا بأس بذلك؛ قيل: فإن أراد بعد ذلك أن يرجع إلى الكيل وبدله، قال: ليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن من حق المشتري أن يكيل له البائع ما اشترى منه من الطعام وإن كان قد حضر كيله؛ لأن الشراء فيما يكال على الكيل وإن لم يشترطه حتى يشتريه على التصديق تصريحا؛ قال عز وجل: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} [يوسف: 88] .
فإن اشتراه على التصديق لم يكن له أن يرجع إلى الكيل إلا أن يرضى البائع؛ لأن الضمان قد سقط عن البائع فيه بتصديق المشتري إياه؛ فليس له أن يرده عليه، وكذلك إن اشتراه على الكيل، فليس له أن يرجع إلى التصديق إلا برضاه، وإن كان حاضرا كيله؛ لأنه يقول: أخشى خصومتك بأن تأخذه فتغيب عليه فتدعي النقصان فيه، وهو معنى قوله لا بأس بذلك، أي: ذلك جائز إذا رضي البائع، ولا اختلاف في أن من اشترى طعاما على الكيل، يجوز له أن يبيعه على التصديق إذا باعه بالنقد؛ واختلف إذا اشتراه على التصديق؛ فقيل: إنه لا يبيعه على الكيل ولا على التصديق حتى يكيله هو، أو يغيب عليه؛ من أجل أنه لو كاله قبل أن يغيب عليه فألفى فيه نقصانا، رجع في الثمن بحسابه؛ فكأن البيع لم يتم بينهما حتى يكتال أو يغيب عليه، حكى ذلك ابن حبيب من قول ابن كنانة عن مالك؛ ولو قيل له: لا يجوز له أن يبيعه قبل أن يكتاله وإن غاب عليه وحده؛ لأنه قد يدعي النقصان فيه فينكل البائع عن اليمين، فيحلف هو ويأخذ ما يقع له من الثمن، فكأن البيع لم يتم أيضا لكان قولا؛ وقيل: إنه لا يجوز أن يبيعه قبل أن يكيله أو يغيب عليه على التصديق وعلى الكيل، وهو قول ابن القاسم، وابن الماجشون، وأصبغ.(7/450)
[اشترى جرار زيت أو سمن موازنة فوزنت له ثم أراد بيعها مرابحة]
مسألة ومن اشترى جرار زيت أو سمن موازنة فوزنت له، ثم أراد بيعها مرابحة قبل أن يفرغ أو يزن ظروفها، فذلك حلال لا بأس به؛ لأن ضمانها منه؛ لأنه قد قبضها ووزنها قبض ليس في هذا شك فإن انكسرت منها ظروف فضمان ما فيها منه، إلا أن وزن الظروف بوزن فخارها فيطرح ذلك عنه، فلا بأس أن يبيعها مرابحة وغيرها، وهي على الوزن في ذلك كله إن باعها يزنها للمشتري أيضا ذلك عليه، إلا أن يبيعه على أن يأخذها بوزنها الأول ويصدقه في ذلك، قال أصبغ: ويسلفان جميعا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب المرابحة، ومضى عليها من القول هناك ما فيه شفاء، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق، لا إله إلا هو، وهو على كل شيء قدير.
[يكون في العبد بالخيار أو في شيء من الحيوان أو رهنه]
ومن كتاب أوله باع شاة واستثنى جلدها وسألته: عن الذي يكون في العبد بالخيار، أو في شيء من الحيوان، أو رهنه، أو يكتب إلى رجل له عليه حق أن يشتري له عبدا، فيدعي هؤلاء كلهم أن ذلك هلك عندهم؛ هل يكلفه البينة إن زعموا أن ذلك هلك عندهم في الحاضرة وحيث الناس، أو ادعوا أنه هلك بفلاة من الأرض؛ قال ابن(7/451)
القاسم: إذا كان ذلك في حاضرة وحيث الناس وله جيران فلم يعلم أحد من جيرانه ما يذكر من الموت في العبد والدابة، رأيته ضامنا؛ وإذا ادعى أنه مات بفلاة، فلا ضمان عليه؛ وإن ادعى إباقا، فهو مصدق.
قال محمد بن رشد: ساوى في دعوى التلف بين الذي يشتري العبد بالخيار، أو يرتهنه، أو يشتريه لرجل فيما له عليه من الدين بأمره، وما يشتريه الرجل للرجل بأمره هو فيه مؤتمن كالمودع سواء؛ فدل ذلك على أنه لا فرق في دعوى تلف ما لا يغاب عليه من الوديعة والرهن وما أشبهه، وأن ذلك إنما يفترق فيما يغاب عليه، فيصدق في الوديعة؛ ولا يصدق في الرهن، إلا أن يقيم البينة؛ ويصدق فيما لا يغاب عليه في الوديعة والرهن والعارية، وما اشتراه لغيره بأمره إلا أن يتبين كذبه؛ ومما يتبين به كذبه أن يدعي أنه مات في حاضرة وله جيران لا يعلمون شيئا من ذلك.
وقوله: وله جيران فلم يعلم أحد منهم ما يذكر من موت العبد، يدل على أن السلطان يستخبر ذلك من الجيران، ولا يكلف إقامة البينة على ذلك؛ وفي رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، أنه يكلف البينة على ذلك، وفي المدونة دليل على القولين جميعا، ولم يشترط هاهنا عدالة من يسأل من الجيران؛ وقال في المدونة: إنه لا يقبل في ذلك إلا العدول، فقيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول، وإن معنى ما هاهنا إذا لم يكن في الجيران عدول، وأن معنى ما في المدونة إذا كان فيهم عدول؛ وقيل: إن ذلك اختلاف من القول، وأنه ضامن على ما في المدونة إذا لم يأت بعدول وإن لم يكن في ذلك الموضع عدول؛ والذي أقول به أنه لا اختلاف في شيء من ذلك كله، وأن المعنى فيه أن السلطان لا يلزمه أن يسأل عن ذلك ويستخبر عنه إلا أن يشاء، فإن سأل وفي ذلك الموضع عدول، لم يسأل إلا العدول، فإن قالوا نعلم موت ذلك العبد بعينه(7/452)
الذي ادعى موته، سقط عنه الضمان، ولم يكن عليه يمين؛ وإن قالوا نعلم أنه مات عنده عبد، أو شهدنا عنده جنازة ولا نعلم أن كان ذلك العبد الذي يدعي تلفه أم لا، صدق بيمينه؛ وإن قالوا لا نعلم شيئا مما يذكر لم يصدق ولزمه الضمان؛ وإن لم يكن في ذلك الموضع عدول، سئلوا على ما هم عليه؛ فإن قالوا: لا نعلم شيئا مما يذكر، لم يصدق ولزمه الضمان؛ وإن قالوا: نعلم أنه مات العبد الذي يدعي موته، أو نعلم أنه مات له عبد، أو أنه كانت عنده جنازة ولا نعلم إن كان العبد الذي يدعي موته أو غيره، صدق في الوجهين جميعا مع يمينه؛ وكذلك إن لم يرد السلطان أن يسأل عن ذلك وكلفه إقامة البينة عنده إن أتاه بعدول يشهدون عنده على موت العبد الذي يدعي موته، سقط عنه الضمان ولم تلزمه يمين؛ وإن شهدوا عنده على معرفة الموت دون أن يعرفوا أنه هو العبد، صدقه فيما ادعى من موته مع يمينه، وإن أتى ببينة من جيرانه وهم غير عدول وليس فيهم عدول، فشهدوا عنده بموت العبد، أو بحضور جنازة كانت عنده، ولا يعلمون إن كانت للعبد أو لغيره صدق فيما ادعى من موته مع يمينه، وإن كان فيهم عدول لم يلتفت إلى من شهد عنده من غير العدول؛ وإن لم يأته ببينة على شيء من ذلك، لزمه الضمان ولم يصدق.
وقوله: فإن ادعى أنه مات بفلاة، فلا ضمان عليه، معناه: ويحلف على ذلك؛ وكذلك قوله وإن ادعى إباقا فهو مصدق، معناه: مع يمينه؛ والأصل في هذا، أنه إذا لم تكن له بينة عدلة على ما ادعى من موت العبد أو إباقه، فهو مصدق مع يمينه، إلا أن يتبين كذبه بدعواه ما لا يمكن أن يخفى دون أن يعلم ذلك ويدرى. وفي قوله في أول المسألة: أو يكتب إلى رجل له عليه حق أن يشتري له عبدا - بيان واضح أنه صدقه في دعواه الشراء والتلف، ما لم يتبين كذبه، وإن كان غائبا حيث لا يجوز له الشراء؛ خلاف رواية ابن أبي جعفر الدمياطي عنه أنه لا يصدق في الشراء والتلف إلا في الموضع الذي يجوز له فيه الشراء، وذلك إذا كان صاحب الدين حاضرا معه أو وكيله؛ وأما إذا كان غائبا عنه(7/453)
حيث لا يجوز له الشراء، فلا يصدق في التلف إلا أن يقيم البينة على الشراء؛ فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: تصديقه في الموضعين، وهو قوله في هذه الرواية؛ لأنه إذا صدق حيث لا يجوز له الشراء، فأحرى أن يصدق حيث يجوز له؛ وألا يصدق في واحد منهما حتى يقيم البينة على الشراء، وهذا القول قائم من المدونة من مسألة الغرر وغيرها؛ والقول الثالث: الفرق بين الموضعين، وقد مضى هذا في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، ويأتي أيضا من سماع باع شاة من سماع عيسى من كتاب البضائع والوكالات، وبالله التوفيق.
[مسألة: باع داره واستثنى من الدار بيتا يسكنه]
مسألة وسئل: عن رجل باع داره واستثنى من الدار بيتا يسكنه، واستثنى على المشترى الاختلاف إلى الكنيف والاستقاء من البئر، فاحتاج الكنيف أو البئر إلى الكنس؛ هل عليه من ذلك شيء؟ قال: نعم عليه من ذلك بقدر ما استثنى من الدار إذا كان استثنى بيتا وباع ثلاثة أبيات، فعليه ربع نفقة الكنس؛ وإن كان أقل أو أكثر، فعلى حساب ذلك؛ ولا يلتفت في هذا إلى كثرة العدد وقلته.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: واستثنى على المشتري الاختلاف إلى الكنيف والاستقاء من البئر - دليل على أنه لو لم يستثنه عليه، لم يكن له، ولكان من حق المبتاع أن يمنعه، خلاف ما مضى في أول رسم من سماع أشهب؛ وقوله في كنس البئر إذا احتاجت إلى الكنس، أنه يكون على البائع منه بقدر ما استثنى من الدار، صحيح لا اختلاف فيه عندي؛ لأنهم أشراك في البئر، فوجب أن تكون النفقة في كنسه على قدر الأنصباء، كما لو انهدم. وقوله: إنه يكون عليه ربع النفقة إن(7/454)
كان استثنى بيتا من أربعة أبيات، معناه: إذا تساوى البيوت؛ وأما إن لم تتساو، فلا بد من أن يرجع في ذلك إلى القيمة؛ فإن كان البيت الذي استثنى يعدل الثلاثة الأبيات في القيمة، كان عليه نصف نفقة الكنس.
وأما قوله في كنس الكنيف أنه يكون عليه منه بقدر ما كان استثنى بيتا من أربعة أبيات من الدار ككنس البئر، ففيه قولان:
أحدهما: أنه على صاحبه الأصل لا على من ألقى فيه سقاطته بحق أوجب ذلك له، وهو قوله في هذه الرواية، وقول أشهب في سماع أصبغ من كتاب الأقضية في الدار يكون لواحد سفلها، ولآخر علوها، أن كنس الكنيف على صاحب السفل لأنه له، وإنما للأعلى الحق في الانتفاع به.
والثاني: أنه على من ألقى سقاطته فيه؛ لأنه شغله بما وضع فيه، فعليه أن يزيله منه؛ وإن كانوا عددا فعلى الجماجم، ولا يراعى في ذلك ملك الأصل لمن هو؟ وهو قول أصبغ وروايته عن ابن وهب في سماعه من الكتاب المذكور. وقوله في نوازله أيضا من كتاب السداد والإنهار.
وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلافهم في كنس كنيف الدار المكتراة، فقال أشهب: إنه على صاحب الدار؛ لأن الأصل له على أصله لم يضطرب في ذلك قوله، وقاله ابن القاسم أيضا في رواية أبي جعفر الدمياطي عنه؛ وهو على قياس قوله في هذه الرواية، وعلى أصل أشهب؛ وروى أبو زيد عنه في سماعه من كتاب كراء الدور أنه على المكترى، وهو على قياس قول ابن وهب وأصبغ، وفي المدونة دليل على القولين جميعا، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يبيع الدار والعبد بيعا حراما ثم يعلم البائع]
مسألة قال عيسى، في الرجل يبيع الدار والعبد بيعا حراما، ثم يعلم(7/455)
البائع بفساد البيع، فيقوم على المشترى يريد فسخ البيع ولم يفت ذلك فيفوت المشتري الدار بتصديق بها، أو يبيعها؛ أو يبيع العبد، أو يعتقه بعد قيام البائع عليه؛ قال: أما الصدقة والبيع فإني لا أرى ذلك يجوز له بعد قيام البائع على فسخ البيع؛ وأما العتق فإني أراه خلاف البيع والصدقة، وأراه فوتا، وأرى أن يمضي العتق للعبد ولا يرد، وذلك أن للعتق حرمة.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يجوز له البيع ولا الصدقة ولا الهبة بعد قيام البائع عليه بفسخ البيع صحيح؛ لأنه متعد في ذلك عليه إذا فعله بعد أن قام عليه؛ إذ الواجب له بقيامه عليه أن يرد ماله إليه بفسخ البيع، وإنما يجوز ذلك له إذا فعله قبل أن يقوم عليه؛ لأنه قد أذن له في ذلك حين ملكه المبيع بالبيع الفاسد، فهو على ذلك الإذن، ما لم يرجع عنه بالقيام عليه؛ فإذا باع أو وهب أو تصدق بعد أن قام عليه، كان بالخيار بين أن يجيز له ما صنع من البيع والهبة والصدقة، ويضمنه القيمة في ذلك يوم القبض؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد رضي بالتزام القيمة، وبين أن يرد البيع والهبة والصدقة ويأخذ ماله؛ وليس له أن يقول أنا أجيز البيع وآخذ الثمن، إذ ليس بعداء صرف، من أجل أنه باع ما قد حصل في ضمانه بالبيع الفاسد؛ ألا ترى أنه لو تلف، كانت مصيبته منه؛ وكان القياس على هذا أن يكون في العتق مخيرا أيضا بين أن يرده ويأخذ عبده، أو يمضي عتقه ويضمن المشتري القيمة؛ إلا أنه أمضاه ورآه فوتا، لحرمة العتق استحسانا، من أجل أنه لم يعتق إلا ما قد حصل في ضمانه بالقبض بالبيع الفاسد وإن كان متعديا فيه بعد قيام البائع عليه، وهذا وجه الاستحسان أن يعدل عن حقيقة القياس في موضع من المواضع لمعنى يختص به ذلك الموضع، يترجح به ما ضعف من الدليلين المتعارضين.
[مسألة: يشتري كيلا من طعام بعينه فلم يقبضه حتى ادعى البائع أن الطعام هلك عنده]
مسألة وسئل: عن رجل يشتري كيلا من طعام بعينه فلم يقبضه حتى(7/456)
ادعى البائع أن الطعام هلك عنده، وكذبه المبتاع، وأراد أن يضمنه الكيل الذي باع منه، قال: عليه أن يوفيه الكيل الذي اشترى منه، إلا أن يعلم هلاكه بالبينة العادلة.
قال محمد بن رشد: قوله عليه أن يوفيه الكيل الذي اشترى منه، يريد ولا يكون له أن يصدقه فيما ادعى من هلاكه، فيأخذ منه الثمن؛ لأنه إذا كان مخيرا في أن يأخذه بمثل الكيل الذي ابتاع منه، أو يأخذ الثمن الذي دفع إليه، دخله بيع الطعام قبل أن يستوفى؛ لأن أخذ الثمن منه إقالة، والإقالة لا تكون إلا ناجزة، ففسدت بما دخلها من الخيار؛ وهذا قاله من قول ابن القاسم في كتاب السلم الثالث من المدونة في الذي يشتري طعاما بعينه كيلا، فيتعدى عليه البائع فيستهلكه؛ أنه يضمن له مثله، ولا يكون له الخيار في أن يأخذ منه الثمن؛ لأن محمل المسألة أن الاستهلاك لم يعلم إلا بقوله، وقد قال أشهب: إنه في ذلك بالخيار؛ وهو نحو ما وقع في كتاب السلم الأول في بعض الروايات في الذي أسلم ثوبا في طعام، فتعدى رجل على الثوب في يد المسلم فأحرقه، ولم يعلم ذلك إلا بقوله؛ أن المسلم إليه بالخيار بين أن يغرمه قيمته ويكون السلم عليه على حاله، أو يفسخ السلم عن نفسه، ومثله في كتاب ابن المواز؛ فعلى هذا يكون المشتري بالخيار بين أن يصدقه فيما ادعى من هلاك الحمل، ويأخذ منه الثمن، أو يغرمه مثله.
وقد قيل: إن معنى ما تكلم عليه أشهب في مسألة كتاب السلم الثالث، إذا علم استهلاكه للطعام؛ وأما مسألة كتاب السلم الأول فلا وجه فيها للتأويل؛ لأنه قد خيره بين الأمرين، مع أنه قد نص على أنه لم يعلم ذلك إلا بقوله؛ إلا أن في هذا القول بعدا، لاحتمال أن يكون المسلم قد استهلك الثوب، فوجبت عليه قيمته للمسلم إليه فيكون قد أقاله على القيمة من السلم، فيدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى، فالصحيح فيها أن يغرمه القيمة ويثبت السلم، وبالله التوفيق.(7/457)
[باع غنما وفيها كبش معتل على أن المبتاع فيه بالخيار]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: سألت ابن القاسم: عن رجل باع غنما وفيها كبش معتل على أن المبتاع فيه بالخيار عشرة أيام أو نحوها، فإن رضيه حبسه، وإن كرهه رده بالذي يصيبه من الثمن؛ قال: هذا بيع لا يحل؛ لأنه لا يدري بكم وجبت عليه الغنم؛ ألا ترى أنه لو حبس الشاة التي هو فيها بالخيار، كان عليه جميع الثمن؛ وإن ردها، ردها بقيمتها من جميع الثمن؛ فهو لا يدري كم تلك القيمة؛ ولا ما يصير عليه؛ ولا بكم يبقى عليه ما بقي في يده من الغنم؛ قال: قلت: فإن فاتت الغنم فلم يوجد سبيل إلى ردها؛ قال: يفسخ البيع ويرد إلى قيمة الغنم يوم تبايعاها.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة لفساد البيع فيها علتان: إحداهما: يختلف في إفساد البيع بها وهي الجهل بما تبقى عليه الغنم إن رد الشاة، والثانية: يتفق على فساد البيع بها وهي كونه في الشاة المعتلة بالخيار عشرة أيام، والخيار لا يجوز فيها إلى هذا الأمد، فيكون البيع فيها فاسدا متفقا عليه؛ لأن الصفقة إذا جمعت حلالا وحراما فسخت، إلا على رواية شاذة تروى عن مالك، فكيف إذا جمعت ما لا يجوز، وما يختلف في جوازه؛ وقد مضت هذه المسألة في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الخيار، واعتل فيها لفساد البيع بالعلتين جميعا؛ وسكت هاهنا عن العلة الواحدة، واكتفى بالثانية على أحد قوليه في إفساد البيع بها؛ فلو سمى للشاة العليلة ثمنا واشترط الخيار فيها اليوم واليومين، لجاز البيع؛ لأنه كان يجمع صفقتين: صفقة بت وصفقة خيار.
وقوله: ويرد إلى قيمة الغنم يوم(7/458)
تبايعا، معناه: إذا كان العقد والقبض في يوم واحد، وأما إن اختلفت الأيام والقيم؛ فالقيمة إنما تكون في الغنم يوم القبض لا يوم البيع.
[يشتري من الرجل طعاما بدينار فيتقابضان ثم يختلفان قبل الافتراق]
ومن كتاب الصبرة قال يحيى: سئل ابن القاسم: عن الرجل يشتري من الرجل طعاما بدينار، فيقبض البائع الدينار، ويقبض المشتري الطعام؛ فيختلفان قبل الافتراق: فيقول البائع: إنما بعت منك خمسة أرادب بدينار وقد وصلت إليك، ويقول المشتري: بل اشتريت منك ستة بدينار وبقي لي إردب؛ قال: القول قول البائع؛ لأن المشتري مدع عليه إن قبض الطعام وقضى الدينار، والبائع مصدق مع يمينه لقبضه الدينار؛ قيل له: أرأيت إن لم يكن قبض الدينار وقد قبض المشتري الخمسة الأرادب، وادعى أنه اشترى ستة؛ أو لم يقبض من الطعام شيئا، ولم ينقد الدينار.
فقال: إذا تناكرا ولم يقبض واحد منهما شيئا، تحالفا وتباريا، وإن كان قبض الخمسة أرادب، فادعى في السادس ولم ينقد الدينار، حلف أنه اشترى ستة بدينار، ثم أحلف البائع ما باعه إلا خمسة بدينار؛ فإن حلفا جميعا قضاه خمسة أسداس الدينار، وفاسخه في السدس، ولم يكن بينهما فيه بيع؛ قلت: فأيهما يبدأ باليمين إذا لم يقبض واحد منهما من صاحبه شيئا، قال: يحلف المشتري بالله اشترى مني ستة أرادب بدينار، ثم يحلف البائع بالله لما باعه إلا خمسة أرادب بدينار؛ ثم يكون المشتري بالخيار أن يأخذ خمسة بدينار، أو يفاسخه.(7/459)
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة إنهما إذا اختلفا في مكيلة الطعام قبل الافتراق؛ وقد قبض البائع الدينار، أنه مصدق مع يمينه لقبضه الدينار، خلاف مذهبه في المدونة، وعلى غير أصله فيها؛ لأنه لم ير النقد المقبوض فيها فوتا إذا اختلفا في المثمون ولا قبض السلعة فوتا إذا اختلفا في الثمن.
فقوله إن البائع مصدق مع يمينه لقبضه الدينار، هو مثل قول غيره في كتاب كراء الرواحل والدواب من المدونة وعلى رواية ابن وهب عن مالك في أن قبض السلعة فوت إذا اختلفا في الثمن؛ فالاختلاف في قبض الثمن هل فوت أم لا، إذ الاختلاف في المثمون جاز على الاختلاف في قبض السلعة، هل هو فوت أم لا إذا اختلفا في الثمن، إذ لا فرق بين الموضعين؛ فمن رأى قبض السلعة فوتا، رأى قبض النقد فوتا، وهو الذي ذهب إليه ابن القاسم في هذه الرواية، ومن لم ير قبض السلعة فوتا، إلا أن تفوت بحوالة أسواق فما زاد، لم ير قبض النقد فوتا إلا أن يغيب عليه البائع؛ وقيل: إنه لا يكون فوتا وإن غاب عليه حتى يطول الأمر، أو يحل أجل المثمون المختلف فيه - إن كان سلما، وهو قول ابن القاسم في المدونة، ولا فرق في القياس إذا غاب عليه بين أن يطول الأمر أو لا يطول، وقيل: إنه لا يكون قبض النقد فوتا وإن غاب عليه وطال الأمر، إذ لا يراد النقد من الدنانير والدراهم لعينه؛ وأما المكيل والموزون إذا اختلفا في ثمنه بالقيمة عليه على مذهب ابن القاسم فوت، إذ لا يعرف بعينه إذا غيب عليه.
وقوله في هذه الرواية: إنه إن كان قبض الخمسة أرادب وادعى في السادس ولم ينقد الدينار، أنه يحلف لقد اشترى منه ستة بدينار، ويحلف البائع ما باعه إلا خمسة بدينار؛ فإن حلفا جميعا، قضاه خمسة أسداس الدينار، وفاسخه في السدس - خلاف المشهور من مذهبه في أن القبض ليس بفوت على أصله في هذه الرواية أن النقد المقبوض فوت، وإنما يصح هذا الجواب على المشهور من مذهبه في أن القبض ليس بفوت إذا كان قد غاب على الطعام؛ وأما إذا لم يغب عليه فيتحالفان ويتفاسخان(7/460)
ويرجع الطعام إلى البائع، وأما إذا لم يقبض واحد منهما شيئا، فلا اختلاف في أنهما يتحالفان ويتفاسخان، والاختيار أن يبدأ المشتري باليمين في هذه المسألة على ما في هذه الرواية؛ لأنه بائع للدينار، بقوله لم أبع ديناري إلا بستة أرادب، فكان الاختيار أن يبدأ باليمين ولو اختلفا في ثمن الخمسة الأرادب، فقال البائع: بعتها لو فعلت، وقال المبتاع: اشتريتها بخمسة أسداس دينار، لكان الاختيار أن يبدأ البائع؛ كما إذا اختلفا في ثمن السلعة؛ فقال البائع: بعتها بستة أرادب، أو بستة دنانير، وقال المبتاع: (بل) ابتعتها بخمسة أرادب أو بخمسة دنانير؛ الاختيار أن يبدأ البائع باليمين، وأيهما بدأ باليمين في المسألتين جميعا فذلك جائز؛ لأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فأيهما بدأ باليمن جاز.
وقد كان يمضي لنا عند من أدركناه من شيوخنا في هذه المسألة أن تبدئة المشترى فيها باليمين خلاف الاختيار، والصحيح ما قلناه وبيناه، فإن حلفا جميعا، أو نكلا جميعا، فسخ البيع بينهما، وذهب ابن حبيب إلى أنهما إن نكلا كان القول قول البائع، ظاهره بلا يمين؛ وقيل: بعد أن يحلف، وهو الصواب؛ وعلى هذا ليس قوله بخلاف لقول سواه، وقد شرحنا هذا في غير هذا الكتاب؛ وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف.
واختلف هل ينفسخ البيع بينهما بتمام التحالف، أو لا ينفسخ حتى يفسخه الحاكم بينهما؛ فقيل: إنه ينفسخ بتمام التحالف وهو قول سحنون، وظاهر ما في كتاب الشفعة من المدونة؛ وقيل: إنه لا ينفسخ حتى يفسخه الحاكم بينهما، وهو مذهب ابن القاسم في كتاب السلم الثاني من المدونة، وفي هذه الرواية لقوله فيها، ثم يكون المشتري بالخيار بين أن يأخذ خمسة بدينار، أو يفاسخه.
وقيل: إن كان التحالف بأمر حكم لم ينفسخ حتى يفسخه الحاكم، وإن كان تحالفهما بغير أمر حكم انفسخ بتمام التحالف؛ وقيل بعكس هذه التفرقة، وعلى(7/461)
القول بأن البيع لا ينفسخ حتى يفسخه الحاكم، يكون للمبتاع بعد التحالف أن يأخذ السلعة بما قال البائع، وللبائع أن يلزمها المبتاع بما قال ما لم يفسخ الحاكم بينهما، وقد تأول على ما في المدونة أن للمبتاع أن يأخذها بما قال البائع، وليس للبائع أن يلزمها المبتاع بما قال، وتأول على ابن عبد الحكم أن للبائع أن يلزمها المبتاع بما قال، وليس للمبتاع أن يأخذها بما قال البائع، والصحيح من التأويل أن ذلك ليس باختلاف من القول، وأن كل واحد منهما تكلم على طرف لم يتكلم عليه صاحبه، فصار قول كل واحد منهما مفسرا لصاحبه.
[مسألة: بيع كبير الخشب المجموع جزافا]
مسألة وسئل: عن بيع كبير الخشب المجموع الذي يلقى بعضه على بعض، أيجوز بيعه جزافا؟
قال: لا؛ قيل له: لِمَ؟ قال: لأنه غرر ترك عدده ويجازفه، ومثله يخف مؤنة عدده، بمنزلة البقر والغنم وما أشبه ذلك؛ قال: ولا أرى بأسا باشتراء صغير الخشب مجموعا جزافا، وذلك أن عدده مما يشق على الناس؛ ووجه بيعه الجاري فيه بين الناس المجازفة فيه. وإنما مثل كبير الخشب في هذا وصغيره، كمثل كبير الحيتان وصغيره؛ ولا بأس ببيع صغيره جزافا، ولا يصلح في كبيره؛ قال: وما جاز بيعه من صغير الحيتان مجموعا جزافا، فلا يصلح إذا سار في أوعيته أن تباع أوعيته جزافا مثل قلال الصير وما أشبهها مما يجمع في السفن، فلا يجوز بيع ما في السفينة من قلال الصير جزافا؛ وكذلك ما يجمع في البيت منها، أو في غير ذلك مما يجمع فيه الظروف، فلا يصلح بيعه إلا عددا.(7/462)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن بيع الجزاف رخصة وتوسعة وسع فيه لطرح مئونة الكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، أو العد فيما يعد، فإذا كان الشيء المعدود كثيرا لا مئونة في عدده، لم يجز بيعه جزافا؛ لأن ذلك قد يئول إلى الغرر، إذ لا مكونة في عدده، وبالله التوفيق.
[يشتري الزيت من الرجل ويسقط الإناء الذي يكيل به على إناء المشتري]
ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع وسئل: عن الرجل يشتري الزيت من الرجل، فبينما البائع يكيل للمشتري بعد أقساط قد كالها وجعلها في إناء المشتري، إذ سقط العيار الذي يكال به من يد البائع على إناء المشتري، فكسره وذهب ما فيه، وما كان في المكيال بعد ما امتلأ المكيال، وأراد صبه في الإناء، فقال: أما ما كان في المكيال، فهو من البائع، وما كان في الإناء فضمان مكيلته من البائع الذي كسره بفعله؛ فإن بقي عند البائع من الزيت الذي كان اشترى منه المشتري، أوفاه ما بقي عليه من الزيت؛ وإن كان فنسي، حاسبه ورد عليه ما بقي من ذهبه ولم يضمن له غرم ما كان في المكيال، ولكن يرد عليه ما يصبه من الثمن لفناء الزيت من يده، قلت: أرأيت إن كان البائع أمكن المشتري من المكيال يكتال لنفسه، فلما أن أوفاه هذا الكيل، سقط من يد المشتري على إناء نفسه فكسره؛ قال: أما ما كان في الإناء، فهو أتلفه على نفسه؛ وما كان في المكيال، فضمانه من البائع؛ لأنه لا ضمان على المشتري فيما يشتري بالكيل حتى يقبضه، وليس القبض أن يملأ له الكيل، ولكن القبض أن يجعله في إناء المشتري أو يصبه حيث أمره؛ ولا يضمنه من أجل أنه كان يكتال لنفسه؛ لأنه في ذلك مؤتمن حتى يصل إليه؛ قلت: أرأيت إن استأجرا جميعا رجلا أو استعاناه للكيل(7/463)
بينهما، فسقط من يده على نحو ما سقط من يد أحدهما؛ قال أما ما كان في الإناء، فضمان على الذي استؤجر أو استعين، وأما ما كان في المكيال، فهو من البائع، لا ضمان فيه على الذي استؤجر أو استعين إذا لم يكن منه في ذلك شيء يعلم أن تلفه كان من عمله أو بسبب تضييعه، والمشتري مثله فيما سقط من يده.
قال محمد بن رشد: قوله في المكيال إذا سقط من يد البائع بعد أن امتلأ على إناء المشتري فانكسر وكسر ما في إناء المشتري، أن ما كان في المكيال فهو من البائع، وما كان في الإناء فضمان مكيلته من البائع الذي كسره بفعله، لا اختلاف فيه؛ غير أن ما كان في المكيال يلزمه غرمه من الزيت الذي باع منه، فإن لم يكن فيه ما يوفيه إياه منه، حاسبه ورد عليه ما ينوبه من الثمن؛ وأما ما كان في الإناء فيلزمه غرم مثله من ذلك الزيت ومن غيره.
وقوله فإن بقي عند البائع من الزيت الذي كان اشترى منه المشتري، أوفاه ما بقي عليه من الزيت، يريد بعد الذي انكسر، إذ الذي انكسر هو ضامن لمثله على كل حال وإن فني الزيت من يده، وإنما يحاسبه إذا فني الزيت من يده بما بقي من العدد الذي باع منه؛ مثال ذلك: أن يبيع منه عشرة أقساط من زيت عنده، فيكيل له منه خمسة في إنائه، ثم يسقط الكيل السادس من يده على إناء المشتري فيذهب ما فيه وما في الإناء؛ فإن كان في بقية الزيت الذي كان عنده ما يوفيه منه الخمسة الأقساط الباقية، وفاه إياها منه؛ وإن لم يكن فيه وفاؤها، رد عليه من الثمن ما يجب لما نقص من ذلك.
وأما الخمسة الأقساط التي سقط المكيال عليها فكسرها، فهو ضامن لمثلها من غير ذلك الزيت إذا فني ذلك الزيت، أو لم يرد أن يعطي منه؛ إذ لا يلزمه أن يعطي ذلك منه؛ لأنها(7/464)
جناية لازمة لزمته غير متعينة في ذلك الزيت، وقد مضى القول على هذا المعنى وعلى سائر ما في المسألة مستوفى في رسم نقدها من سماع عيسى.
[مسألة: يبيع الزرع وقد أفرك أو الفول وقد امتلأ حبه]
مسألة وسئل: عن رجل يبيع الزرع وقد أفرك، أو الفول وقد امتلأ حبه - وهو أخضر، والحمص والعدس أو ما أشبه ذلك، فيتركه مشتريه حتى ييبس ويحصد، أيجوز بيعه؟ فقال: إن علم به قبل أن ييبس فسخ البيع، وإن لم يعلم به إلا بعد أن ييبس، مضى البيع ولم يفسخ؛ وليس هو مثل من يشتري الثمرة قبل أن تزهى؛ لأن النهي جاء في بيع الثمار قبل أن تزهى من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واختلف العلماء في وقت بيع الزرع: فقال بعضهم: إذا أفرك، وقال بعضهم: حتى ييبس، فأنا أجيز البيع إذا فات باليبس لما جاء فيه من الاختلاف، وأرده إذا علم به قبل أن ييبس.
قال محمد بن رشد: لا يجوز عند مالك وجميع أصحابه بيع شيء من ذلك حتى ييبس ويستغني عن الماء، لما جاء من أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قال: «لا تبيعوا الحب في سنبله حتى يبيض في أكمامه» ، إلا أنه إن بيع عندهم بعد أن أفرك وقبل أن ييبس، لا يحكمون له بحكم البيع الفاسد، مراعاة لقول من يجيز ذلك من أهل العلم، منهم ابن شهاب؛ فمنهم من يرى العقد فيه فوتا، وإنما يكرهه ابتداء، فإذا وقع، مضى ولم يفسخ؛ ومنهم من يفسخه ما لم ييبس، ومنهم من يفسخه ما لم يقبض؛ ومنهم من يفسخه(7/465)
وإن قبض ما لم يفيت بعد القبض، وهو ظاهر ما في السلم الأول من المدونة؛ ولو بيع قبل أن يفرك، يفسخ البيع فيه على كل حال وإن قبض وفات، فإذا لم يختلف في أن بيعه لا يجوز قبل أن يفرك والشافعي لا يجيز بيعه وإن يبس حتى يحصد ويصفى، ويرى ذلك من الغرر، وقد مضت هذه المسألة متكررة في هذا السماع من كتاب زكاة الحبوب والثمار.
وقوله في الفول والحمص إنه لا يجوز شراؤه أخضر على أن يتركه البائع حتى ييبس، هو مثل ما في المدونة، وقد أجازوا شراء العنب والتمر إذا طاب على أن يتركه مشتريه حتى ييبس، وحكى الفضل أن ذلك اختلاف في القول يدخل في المسألتين، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري الثوبين من الرجلين ثوب أحدهما بعشرة والآخر بخمسة]
مسألة قال: وسئل: عن الرجل يشتري الثوبين من الرجلين ثوب أحدهما بعشرة، والآخر بخمسة، على أنه فيهما بالخيار، فردهما وقد خلطهما فتداعيا في الأجود؛ فقال: إن نص لكل رجل ثوبه، حلف وبرئ إليه منه؛ وإن قال لا أدري أيهما لهذا ولا أيهما لهذا؛ غير أن هذا لأحدهما، إنما أخذت ثوبه بعشرة، وثوب هذا الآخر بخمسة نصهما نصا، ولست أدري أي الثوبين ثوب هذا من هذا؛ فإنه يقال له قد ضمنتهما جميعا بخمسة عشر دينارا، فإن شئت فادفعه إلا أحدهما أيهما شئت: الثوب الرفيع، وأعط الآخر ثمن الثوب الذي أقررت لله به؛ فإن أعطى الثوب الرفيع الذي كان يزعم أنه أخذ منه ثوبه بعشرة، دفع إلى الآخر خمسة دنانير وبرئ؛ وإن أعطى الثوب الرفيع الذي أخذ ثوبه بخمسة احتياطا على نفسه، وخوفا من أن يكون ثوبه غرم لصاحب الثوب(7/466)
الآخر العشرة التي أقر أنه أخذ منه ثوبه بها؛ قال: وإن قال لا أدري أيهما ثوب هذا ولا ثوب هذا؛ ولا أدري أيضا من أيهما أخذت الثوب بعشرة؛ ولا من أيهما أخذت الآخر بخمسة؛ قيل له: اغرم لكل واحد منهما، وشأنك بثوبك؛ لأنك قد أقررت أنك قد أخذت من أحدهما ثوبا بعشرة، فلما ادعياه جميعا ولم ينص لواحد منهما ثوبه فتبرأ بذلك من ضمانه بالثمن، ولا أنت نصصت لكل واحد منهما في دعواهما، حتى تجعل صاحب الخمسة أحدهما، فتبرأ مما ادعى عليك من الفضل مع يمينك؛ فكلا دعواهما في عشرة عشرة، وأنت غير مكذب لهما، إذ لا تنص أيهما ادعى أكثر من حقه فتحلف وتبرأ.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في هذا الرسم بعينه من كتاب بيع الخيار، ومضى من القول عليها هناك ما فيه كفاية، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[يسوم الرجل بسلعة ليست له]
ومن كتاب المكاتب قال: وسألته عن الرجل يسوم الرجل بسلعة ليست له، فيقول اشتر مني هذا العبد عبد فلان بستين دينارا، فإني قد أعطيته عطاء، وأنا أرجو أن يمضيه لي؛ فيقول نعم قد أخذته بستين دينارا، فيرجع البائع إلى سيد العبد فيشتريه منه بخمسين نقدا ويمضيه للآخر بستين دينارا نقدا على السوم الأول، فقال: أكره هذا ولا أحبه، وإن وقع أمضيته إن كانت البيعتان جميعا بالنقد وانتقدا.
قال محمد بن رشد: كره هذا البيع ابتداء، لما فيه من معنى بيع ما ليس عندك، وربح ما لم يضمن، إذ باع ما لم يتم له شراؤه بعد(7/467)
وأجاز ذلك إذا وقع، لما كان ذلك بعد أن قرب الأمر (بينه) وبين صاحب السلعة بالمراوضة التي كانت بينهما فيها؛ ولأن معنى قوله قد أخذته بستين، أي: قد أخذته بها إن أمضاه لك صاحبه، وتم شراؤك فيه؛ ولو اشتراه منه بستين شراء ناجزا على أن تحصله له من صاحبه مما قدر عليه، لم يجز، ولكان بيعا فاسدا.
وقد وقع في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، تخفيف ذلك ابتداء، وفي رسم تسلف منه اختلاف قول مالك فيه؛ وهذا كله إذا كانت البيعتان جميعا بالنقد، وأما إذا كانت إحداهما إلى أجل، فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز؛ ويختلف في وجه الحكم في ذلك إذا وقع على حسبما ذكرناه في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور، فإنا استوعبنا هناك القول على جميع وجوه المسألة وأقسامها بما لا مزيد عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري العبد في مرضه على أن يوصي له بالعتاقة فيفعل ثم يموت]
مسألة وسألته: عن الرجل يشتري العبد في مرضه على أن يوصي له بالعتاقة فيفعل ثم يموت، فلا يسع الثلث عتاقة العبد؛ فقال: كان البيع غير جائز، فإذا فات بالعتاقة بعضه بالوصية التي اشترطت عليه، فالعبد يرد إلى قيمة مثله يوم تبايعا، ثم يصح بعد وتمضي الوصية للعبد، يسع الثلث من رقبته ما وسع، ويضيق عما ضاق؛ ولا يكون للبائع أن يرتجع ما رق منه بالذي يصيبه من الثمن.
قال محمد بن رشد: اشتراء الرجل العبد على أن يوصي(7/468)
بالعتاقة غرر لا يجوز؛ لأن البائع حط من الثمن لعتق لا يدري هل يكون أم لا يكون؛ كمن باع عبده على أن يدبره المشتري أو يكاتبه أو يعتقه إلى أجل؛ وقد اختلف في هذه البيوع، فقيل: إن البائع إن رضي بترك الشرط جاز البيع، وإن أبى فسخ البيع؛ إلا أن يفوت، فيكون فيه الأكثر من القيمة أو الثمن؛ وقيل: يرجع البائع على المبتاع بقدر ما نقص من الثمن بسبب الشرط، وقيل: إن البيع يفسخ على كل حال، وإن رضي البائع بترك الشرط ما لم يفت البيع؛ فإن فات، كانت فيه القيمة بالغة ما بلغت؛ وهو ظاهر قوله في هذه الرواية؛ لأنه قال فيها إن القيمة تكون فيه يوم تبايعا إذا فات بعتاقة بعضه بالوصية، ولم يقل الأكثر من القيمة، أو الثمن؛ ويريد بقوله يوم تبايعا إذا كان البيع والقبض في يوم واحد، ويفوت بما يفوت به البيع الفاسد، ولا يفوت بالوصية ما لم يبت البائع الموصى، فيجب عتقه بالوصية، أو عتق بعضه، إذ له الرجوع عن الوصية، بخلاف التدبير والكتابة والعتق إلى أجل، ولو مات المبتاع الموصى ولا مال له وعليه دين يفترقه، لفسخ فيه البيع ولم يبع في الدين، وقد مضى تحصيل القول في هذا النوع من البيوع في رسم القبلة من سماع ابن القاسم.
[مسألة: يشتري الغنم وفيها شاة بها علة]
مسألة وسئل: عن الرجل يشتري الغنم وفيها شاة بها علة، ويقول المشتري أنا بالخيار في هذه العليلة عشرة أيام، فإن صحت فهي لي، وإن لم تصح رددتها بما ينوبها من الثمن؛ فقال: هذا بيع غير جائز. قلت له: ولم؟ قال: لأنه لو اشترى (شاة) واحدة عليلة على أنها له إن صحت إلى عشرة أيام، وإن لم تصح ردها، لكان بيعا مفسوخا غير جائز؛ قيل له: فإنها غير عليلة إلا أنه(7/469)
استثنى الخيار في شاة منها أياما، فقال: هذا أيضا غير جائز؛ قلت له: ولم كرهت ذلك؛ قال له: لأنه إن حبسها تم البيع بجميع الثمن الذي اشتريت به الغنم كلها، وإن ردها بالقيمة والقيمة لا تعرف إلا حين تقوم الغنم والشاة؛ فإنه لا يدري إن رد الشاة بكم تبقى عليه الغنم الباقية، فهي أحيانا بجميع الثمن، وأحيانا بثمن لا يدري كم هو؟
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب بيع الخيار، ومضت أيضا في رسم الكبش قبل هذا من هذا الكتاب، ومضى من القول عليها في الموضعين ما فيه بيان، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[يبيع السفينة ويشترط على المشتري أن لا يبيعها ولا يهبها حتى يقضيه الثمن]
ومن كتاب الصلاة
وسئل ابن القاسم: عن الرجل يبيع السفينة ويشترط على المشتري أن لا يبيعها ولا يهبها حتى يقضيه الثمن، فقال: إن لم تفت فسخ البيع، وإن فاتت أو هلكت، فهي من المشتري والبيع ماض عليهما لفوتها.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة من بيوع الثنيا التي المشهور فيها أن البيع يفسخ ما لم يفت، إلا أن يرضى البائع بترك الشرط؛ فإن فاتت كان فيها الأكثر من القيمة أو الثمن. وقوله في هذه الرواية إنه بيع فاسد يفسخ على كل حال في القيام، ويصحح في الفوات بالقيمة يوم القبض، وهو معنى قوله والبيع ماض عليهما بفوتها؛ ورواية يحيى عن ابن القاسم في هذه المسألة، وفي المسألة التي في الرسم الذي قبل هذا؛ كروايته عنه في سماعه من كتاب السلم والآجال، وفي العشرة في البيع والسلف أنه بيع فاسد يفسخ على كل حال في القيام، ويكون فيه القيمة بالغة ما بلغت في الفوات، وبالله التوفيق.(7/470)
[الدار تباع وفيها نقض لرجل هو فيها بكراء]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال: وسئل ابن القاسم: (عن الدار تباع) وفيها نقض لرجل هو فيها بكراء، وأبواب في بيوت الدار، والمكتري حاضر، حضر البيع؛ ثم قال بعد ذلك: نقضي وخشبي وأراد أخذه، فقال له المشتري: قد حضرت شرائي فلم تدع شيئا وقد اشتريت ووجب لي كل شيء في الدار، قال: أرى الأبواب والنقض للمكتري، ولا أرى ذلك يقطع حجته، من قبل أنه يقول ما لي لم أظن أن ذلك يكون لك ولا يجب لك.
قال محمد بن رشد: قوله أرى الأبواب والنقض للمكتري، معناه: إذا كانت له بينة، على أن ذلك له جاء به من عنده، أو على إقرار له من صاحب الدار بذلك قبل البيع؛ إذ لا يقبل إقراره له بذلك بعد البيع، وإنما عذر المكتري في سكوته عند حضور البيع على أن يذكر أن الأنقاض والأبواب له؛ لأن من حجته أن يقول إنما سكت؛ لأني ظننت أن من اشترى دارا لا يكون له شيء من نقصها المبني فيها، إلا أن يشترطه؛ ولو قال له البائع أبيع منك الدار بأنقاضها وأبوابها والمكتري حاضر يسمع فلم ينكر، لكان سكوته تجويزا منه للبيع، ولوجب أن يكون له من الثمن ما ناب النقض والأبواب منه إن كان صاحب الدار مقرا له بالنقض والأبواب.
وأما إن لم يكن له مقرا بذلك ولا مكذبا لبينته التي شهدت له بالأنقاض والأبواب، وإنما ادعى أنه اشترى ذلك بماله، أو بما كان له عليه من كراء الدار، وأنها قد تصيرت إليه بعد ذلك ببيع وما أشبه ذلك، لكان سكوته(7/471)
على البيع موجبا لتصديق البائع صاحب الدار فيما ادعى من الأنقاض، ولم يكن للمكتري شيء منها ولا من ثمنها؛ هذا الذي يأتي في هذا على أصولهم، وقد قيل: إن حقه لا يبطل في الأنقاض إذا كانت له بينة أنه جاء بها من عنده، ويكون له أن يأخذ ما يجب لها من الثمن بعد يمينه على تكذيب دعوى صاحب الدار، إلا أن يطول سكوته بعد البيع، ولو ادعى النقض المبني في الدار والأبواب المركبة فيها ولم تكن له بينة عليها، لم يكن له شيء منها؛ ولو كان النقض مطروحا في الدار، والأبواب غير مركبة فيها، ولا مقلوعة منها؛ لما دخلت في البيع، ولكانت للمكتري، بيعت الدار، أو لم تبع مع يمينه إن ادعاها صاحب الدار.
وقد قال ابن دحون: إنما لم يضره سكوته عند البيع إذا كانت له بينة بالأنقاض، من أجل أنه في الدار؛ ولو كان خارجا عن الدار وله بينة بالأنقاض فسكت عند البيع، لم يكن له منها شيء؛ وهذا لا وجه له، إذا لا فرق في سكوته بين أن يكون في الدار، أو خارجا عنها؛ وإنما يفترق الأمر في سكوته بين أن يقول أبيع منك الدار ولا يزيد على ذلك، ويقول أبيعها منك بنقضها على ما ذكرناه.
[مسألة: بيع العود والبوق والكبر]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن بيع العود والبوق والكبر، فقال: أرى أن يفسخ البيع فيه، وأرى أن يؤدب أهله.
قال محمد بن رشد: أما العود والبوق فلا اختلاف في أنه لا يجوز استعمالهما في عرس ولا غيره، فيفسخ البيع فيهما باتفاق، ولا يقطع من سرقهما إلا في قيمتهما مكسورين؛ وأما الكبر، فقوله إن البيع يفسخ فيه، يدل على أنه لا يجوز استعماله في العرس، وذلك خلاف لما في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النكاح، ولما في رسم سلف من سماع(7/472)
عيسى من كتاب السرقة، من أن من سرقه يقطع في قيمته قائما، ولم يختلف في إجازة الدف وهو الغربال في العرس؛ واختلف في المزهر والكبر، فقيل: إنهما يجوزان فيه، وهو قول ابن حبيب، وقيل: إنهما لا يجوزان فيه، وهو قول أصبغ في نوازله من كتاب النكاح، وهو الذي يقوم من هذه الرواية؛ وقيل: إنه يجوز الكبر ولا يجوز المزهر، وهو دليل ما في سماع عيسى من كتاب النكاح، ومن كتاب السرقة؛ وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النكاح.
[مسألة: باع سلعة من رجل ثم استقال البائع المبتاع]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل باع سلعة من رجل ثم استقال البائع المبتاع، فقال له المبتاع: إني أخاف أن تكون يريد بيعها وأربحت فيها؛ فقال له البائع: لا، إنما أردتها لنفسي، فيقيله ثم يبيع تلك السلعة؛ فقال: إذا علم أنه استقال منها ليبيعها، فأرى بيعه غير جائز، وأراه ينقض، وإن كان على غير ذلك، ثم بدا له في بيعها، وطال زمانها ثم باعها، فأرى بيعه جائزا.
قال ابن القاسم: ومثل ذلك أن مالكا سئل: عن رجل سأل امرأته أن تضع عنه صداقها، فقالت له: أخاف إن أنا وضعته أن تطلقني؛ فقال: ما أفعل، فتضع له صداقها ثم يطلقها؛ فقال مالك: أرى أن ترجع عليه بما وضعت عنه، إلا أن تكون وضعت ذلك عنه وطال الزمان، وتبين صحة ذلك، ثم طلق، فلا أرى لها شيئا؛ فأما إذا خيف أن يكون إنما خدعها بذلك، فأراها ترجع به.
وأخبرنا محمد بن خالد، قال: أخبرني ابن القاسم عن مالك في الرجل يسأل امرأته أن تضع عنه مهرها، فتقول له: إني أخاف إن أنا فعلت ذلك أن تطلقني. قال: لست أفعل، فتضع عنه مهرها فيطلقها؛ قال: الطلاق له لازم، ويرجع عليه بمهرها إن طلقها بحدثان ذلك؛ فإن طلقها(7/473)
بعد ذلك بحين حتى برئ من التهمة، مضى الطلاق ولم يرد شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله إن البيع ينقض إذا علم أنه إنما استقاله فيها ليبيعها صحيح؛ لأنه إنما أقاله على ألا يبيعها، فإن باعها نقض البيع فيها وردت إليه سلعته؛ ويستدل على أنه إنما استقال منها ليبيعها ببيعه إياها بقرب ذلك، هذا ظاهر من مقتضى قوله في المسألة: وإذا نقض البيع فيها انتقضت الإقالة وردت إلى المقيل، ولو أقاله على أنه إن باعها كان أحق بها بالثمن الذي يبيعها به، فباعها بقرب ذلك، لرد البيع فيها، وأخذها المقيل بذلك الثمن، وقد مضى القول على هذا مستوفى في أول سماع أشهب.
وتنظير ابن القاسم لهذه المسألة بمسألة مالك في وضع الصداق صحيح؛ لأن قول المرأة لزوجها أخشى إن وضعت عنك الصداق أن تطلقني، فيقول لا أفعل؛ مثل قول المبتاع البائع أخشى إن أقلتك أن تبيعها، فيقول لا أفعل؛ ولو لم يجز بينهما هذا الكلام، وإنما سأل الرجل زوجته أن تضع عنه الصداق، فوضعته ثم طلقها بالقرب، لرجعت عليه بصداقها، إذ قد علم أنه إنما وضعته عنه رجاء استدامة صحبته؛ ولو سأل البائع المبتاع أن يقيله فأقاله، ثم باعها بالقرب، لم يكن للمبتاع في ذلك قول؛ فهاهنا تفترق المسألتان، ولا فرق في وضع المرأة صداقها عن زوجها، إذا سألها ذلك بين أن تضع عنه وتسكت، أو تقول له: أخشى إن وضعته عنك أن تطلقني، فيقول: لا أفعل؛ أو تقول: إنما وضعته عنك على أنك إن طلقتني رجعت عليك بصداقي، في أنه يكون لها أن ترجع به عليه إن طلقها بقرب ذلك؛ إلا أن تقول له إنما أضعه عنك على ألا تطلقني أبدا، أو على أنك متى ما طلقتني رجعت عليك بصداقي، فيكون لها أن ترجع عليه بصداقها متى ما طلقها، كان ذلك بالقرب أو بعد طول من الزمان، ومثل مسألة مالك في المعنى ما في سماع أصبغ من كتاب طلاق السنة في التي(7/474)
تقول لزوجها: إن لم تتزوج علي فصداقي عليك صدقة فيقبل ذلك منها، ثم يطلقها بالقرب، أنها ترجع عليه بصداقها؛ بخلاف الذي يقول لزوجته: أنت طالق إن لم تضعي لي صداقي، فتضعه عنه ثم يطلقها، وقد مضى هناك الفرق بين المسألتين، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يبيع عبده ويستثني المشتري نصف ماله]
مسألة سحنون: قلت لأشهب: أرأيت الرجل يبيع عبده ويستثني المشتري نصف ماله، أو يبيعه نخلة وقد أبرت ويستثني نصف الثمار؛ قال: ذلك جائز، قال سحنون: وخالفه ابن القاسم، فقال: لا يجوز.
قال محمد بن رشد: مثل ابن القاسم هذا في المدونة من قوله وروايته عن مالك، أنه لا يجوز للمبتاع أن يشترط بعض مال العبد، ولا بعض ثمر النخل. وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع» ، يروى: «إلا أن يشترطها المبتاع» ، أو «إلا أن يشترط المبتاع» ، بهاء وبغيرها؛ فثبوت الهاء دليل لقول ابن القاسم وروايته عن مالك؛ وسقوطها دليل لقول أشهب، وحجة أشهب من جهة النظر أنه إذا جاز اشتراط الكل جاز اشتراط البعض.
وحجة ابن القاسم من جهة النظر أن اشتراط الكل إنما جاز من أجل أنه كان ملغى لا قدر له عند البائع، فتركه للمبتاع ولم يشاحه فيه؛ وإذا اشترط البعض، دل على(7/475)
رغبة البائع (فيه) إذ لم يترك له جميعه؛ وأنه إنما ترك له منه ما ترك، لاشتراطه إذا زاده في الثمن من أجل الشرط؛ واختلف قول ابن القاسم إن وقع ذلك، فقال مرة: يفسخ البيع إلا أن يشاء البائع أن يترك له الجميع، وقال مرة: يفسخ وليس لأحدهما أن يمضيه؛ لأنه وقع على ما لا يحل، وإلى هذا رجع؛ وقع اختلاف قوله هذا في التفسير ليحيى، وهذا الاختلاف على الاختلاف الذي مضى في رسم استأذن (من سماع عيسى) في العبد يكون بين الرجلين فيبيع أحدهما نصيبه من غير شريكه ولا يستثني المبتاع ماله، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجلين يأخذان من الرجل ثوبين مروي وخز بمائة دينار]
مسألة وسئل أشهب: عن الرجلين يأخذان من الرجل ثوبين مروي وخز بمائة دينار، وقد تراوض المشتريان قبل ذلك أن يأخذ أحدهما الخز بما يقع عليه، والآخر المروي بما يقع عليه؟
قال: البيع جائز والمراوضة بينهما باطل، أو يكون لكل واحد منهما نصف كل ثوب؛ وذكر مسألة الأرض تكون بين حائطي رجلين والأرض لرجل، فيشتريانها على أن يقتسما الأرض فيأخذ كل واحد منهما نصيبه مما يليه والأرض مختلفة. قال ابن كنانة: لا يجوز؛ لأن مرة يكون لأحد الشريكين ثلث تلك الأرض، ومرة يكون له ثلثاها، ومرة يكون له ربعها، فلا يجوز.
قال محمد بن رشد: البيع في مسألة أشهب في الثوبين المروي والخز جائز باتفاق؛ لأن الفساد فيها إنما هو من جهة أحد المتبايعين، إذ لم يبع البائع منهما على ما تراوضا عليه؛ كما لو جمع رجلان سلعتين لهما في(7/476)
البيع ولم يعلم المشترى بذلك، وظن أنهما شريكان فيهما، لكان البيع جائزا باتفاق؛ وإذا تراوض الشريكان في الثوبين اللذين اشترياهما صفقة واحدة، على أن يأخذ كل واحد منهما ثوبا سماه منهما بما يقع عليه من الثمن، لم يجز إلا على مذهب من يجيز جمع الرجلين سلعتيهما في البيع؛ لأن كل واحد منهما قد اشترى نصف صاحبه من الثوب الذي أراد الخروج إليه بنصف ما يقع عليه من الثمن، ولا يعرف ذلك إلا بعد التقويم؛ فلا يجوز ذلك، كما لا يجوز للرجل أن يشتري من الرجل ثوبا من جملة ثياب قد اشتراها صفقة واحدة بما يقع عليه من الثمن إذا قومت، إلا على مذهب من يجيز جمع الرجلين سلعتيهما في البيع؛ ومن مذهب أشهب إجازة ذلك كله، فإنما قال في المراوضة التي وقعت بينهما في الثوبين: إنها باطل، من أجل أنهما عقداها بينهما قبل الشراء، فدخله بيع ما ليس عندك.
وأما المسألة الثانية التي أجاب عليها ابن كنانة، فإنها جارية على الاختلاف في إجازة جمع الرجلين سلعتيهما في البيع؛ لأنهما اشتريا الأرض التي بين حائطيهما على أن يأخذ كل واحد منهما نصف مساحتها الذي يليه بما يقع عليه من الثمن؛ وذلك لا يعلم إلا بعد التقويم، لاختلاف الأرض؛ ولو كانت الأرض مستوية لجاز؛ لأن النصف الذي يلي حائط كل واحد منهما يكون بنصف الثمن، ولا فرق بين أن يبيع الرجلان سلعتيهما بثمن واحد، على أن يكون لكل واحد منهما منه ما ينوب ثوبه؛ وبين أن يشتري الرجلان السلعتين بثمن واحد، على أن يأخذ كل واحد منهما السلعة التي سماها بما ينوبها منه، والله أعلم.
[مسألة: يشتري عشرة أكبش من مائة يختارها]
مسألة وقال أشهب، في الرجل يشتري عشرة أكبش من مائة يختارها، فلم يختر حتى جاءه رجل فقال له خذ مني ربحا واجعلني أختار في مكانك، آخذ ما كان لك أن تختار؛ إن ذلك ليس له بجائز؛ لأن الأول لا يجوز له أن يبيع ما لم يجب له،(7/477)
ولأن الخيار يختلف، يختار ما لا يوافق الثاني، وليس للآخر أن يختار ما لم يجب الأول حتى يختار للأول ولا يجوز أيضا؛ وإن قال (له) اختر فأنا أشتري ما تختار أنت؛ لأنه غرر؛ وهو خلاف لو مات المشتري الأول قبل أن يختار، كان لورثته أن يختاروا لأنهم كأنهم هو.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم استأذن من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يشتري الزرع بعدما طاب ويبس بثمن فاسد فتصيبه عاهة فيتلف قبل أن يحصد]
مسألة قال ابن القاسم: في الرجل يشتري الزرع بعدما طاب ويبس بثمن فاسد، فتصيبه عاهة فيتلف قبل أن يحصد، إن مصيبته من المشتري وهو قابض؛ وهو خلاف الذي يشتري الزرع قبل أن يبدو صلاحه على أن يتركه فيصاب بعدما يبس، إن مصيبته من البائع؛ لأنه لم يكن قبض ما اشترى حتى يحصد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا اشترى الزرع بعد أن طاب ويبس بثمن فاسد، دخل بالعقد في ضمانه؛ إذ لا توفية فيه على البائع، من أجل أنه جزاف؛ ألا ترى أنه لو اشتراه شراء صحيحا، لكانت مصيبته منه بالعقد؛ لأن حصاده عليه ولا جائحة فيه، فهو كالصبرة من الطعام تشترى جزافا؛ وإذا اشترى الزرع قبل أن يبدو صلاحه على أن يتركه، لم يدخل في ضمانه حتى يقبضه؛ لأنه إنما اشتراه على أن يتركه، وقبضه إنما يكون بحصاده، وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه، أعني في أن مصيبته من البائع، ما لم يقبضه المشتري بحصاده؛ ولو باعه على الجد بيعا صحيحا، أو تصدق به؛ أو وهبه؛ لجرى ذلك على الاختلاف في الذي(7/478)
يشتري العبد بيعا فاسدا فيعتقه، أو يبيعه، أو يهبه، أو يتصدق به قبل أن يقبضه؛ إذ قد قيل: إن ذلك كله فوت، وقيل: إنه ليس شيء من ذلك كله فوتا إلا العتق لحرمته؛ وقيل: إن ذلك فوت في العتق لحرمته؛ وفي البيع، إذ لا يحتاج إلى قبض؛ وليس بفوت في الهبة والصدقة، لافتقارهما إلى القبض، فيكون عليه قيمته على الرجاء والخوف يوم فوته بالبيع، أو الصدقة؛ كما لو استهلكه على القول بأن ذلك فوت، ويفسخ البيع على القول بأن ذلك ليس يفوت.
[مسألة: يشتري الثوب من رجل فيحبسه البائع للثمن ثم يدعى أنه تلف]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يشتري الثوب من رجل فيحبسه البائع للثمن، ثم يدعى أنه تلف، ولا يعرف ذلك إلا بقوله؛ قال: أحب ما فيه إلي أن البيع مفسوخ، إلا أن يكون قيمة الثوب أكثر من الثمن فيغرمه؛ لأنه يتهم أن يكون غيبه لأنه ندم؛ وإن كانت قيمته أقل، فسخ البيع، وليس احتباسه إياه برهن؛ ولو كان حيوانا، كان مصدقا في قوله قد تلف؛ ولو أن قائلا قال في الثوب إن عليه قيمته - كان أقل أو أكثر - لم أعب قوله؛ قال سحنون: ليست هذه الرواية بشيء، وردها إلى أن ضاع، فالبيع فيه مفسوخ، ولا قيمة فيه على البائع.
قال محمد بن رشد: المشهور من قول ابن القاسم، أن السلعة المبيعة المحبوسة بالثمن رهن به، يكون مصيبتها من المشتري - إن تلفت، وقامت بينة على تلفها، وإن لم تقم بينة على تلفها، لم يصدق البائع في ذلك، ولزمه غرم قيمتها؛ وجوابه في هذه المسألة على أن ضمان السلعة المحبوسة بالثمن من البائع، فإن تلفت وقامت بينة على تلفها، انفسخ(7/479)
البيع، وهو قول سليمان بن يسار في المدونة، وأحد قولي مالك فيها،؛ وقد قال سحنون، في نوازله من كتاب الاستبراء وأمهات الأولاد: إن ذلك هو قول جميع أصحاب مالك إلا ابن القاسم، فإنه يرى حكمها حكم الرهن؛ فجاء جواب ابن القاسم في هذه المسألة على قول سليمان بن يسار، وأحد قولي مالك؛ وما أجمع عليه أصحابه من أن ضمان السلعة المحبوسة بالثمن من البائع، خلاف المشهور من مذهبه، فقال: إن البيع يفسخ؛ يريد بعد يمينه لقد تلف، إلا أن يصدقه المبتاع فيما ادعى من تلفه؛ إلا أن تكون قيمتها أكثر من الثمن فيغرمها؛ لأنه يتهم أن يكون ندم في بيعه فغيبه وادعى تلفه، فلا يصدق في ذلك؛ ويقال له: لا بد لك من أن تأتي بالثوب أو تغرم قيمته.
وقوله: ولو كان حيوانا كان مصدقا في قوله: قد تلف، يريد مع يمينه وينفسخ البيع على ما بنى جوابه عليه من أن ضمان السلعة المحبوسة بالثمن من البائع، وقوله: ولو أن قلنا قال: إن عليه في الثوب قيمته كانت أقل أو أكثر - لم أعب قوله، هو الذي يأتي على المشهور المعلوم من مذهبه أن السلعة المحبوسة بالثمن رهن به؛ فإن ادعى تلفه لم يصدق في ذلك؛ لأنه مما يغيب عليه، ولزمته قيمته بالغة ما بلغت.
وعاب سحنون هذا القول؛ لأنه ذهب إلى أن ضمان السلعة المحبوسة بالثمن من البائع، وأن البيع ينفسخ بتلفها على قول سليمان بن يسار، وأحد قولي مالك؛ وما يحكى أن أصحاب مالك اتفقوا عليه، فقال: ليست هذه الرواية بشيء، وردها إلى أن ضاع فالبيع فيه مفسوخ، ولا قيمة فيه على البائع، يريد: أنه يصدق في تلفها مع يمينه، فينفسخ البيع فيها؛ فالذي يتحصل في تلف السلعة المحبوسة بالثمن: إن قامت بينة على تلفها قولان: أحدهما: أن مصيبتها من البائع، ويفسخ البيع. والثاني: أن مصيبتها من المشتري ويلزمه الثمن؛ وإن لم تقم بينة على تلفها، فأربعة أقوال: أحدها: أن البائع يصدق(7/480)
مع يمينه على ما ادعاه من تلفها - كانت قيمتها مثل الثمن، أو أقل أو أكثر، ويفسخ البيع، وهو قول سحنون.
والثاني: يصدق مع يمينه على ما ادعاه من تلفها، ويفسخ البيع، إلا أن تكون قيمتها أكثر من الثمن، فلا يصدق في ذلك، إلا أن يصدقه المبتاع ويكون بالخيار بين أن يصدقه فيفسخ البيع أو يضمنه القيمة ويثبت البيع، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية؛ وهذان القولان على قياس القول بأن المصيبة من البائع، وينفسخ البيع إذا قامت البينة على التلف.
والقول الثالث: أن البائع يصدق مع يمينه: لقد تلفت ويلزمه قيمتها كانت أقل من الثمن، أو أكثر، ويثبت البيع، وهو الذي يأتي على المشهور من قول ابن القاسم في أن السلعة المحبوسة بالثمن، حكمها حكم الرهن؛ وهو الذي أشار إليه ابن القاسم في هذه الرواية بقوله: ولو أن قائلا قال ... إلى آخر قوله.
والقول الرابع: (أن البائع) مصدق مع يمينه: لقد تلفت ويلزمه قيمتها، إلا أن تكون قيمتها أقل من الثمن، فلا يصدق في ذلك؛ لأنه يتهم في أن يدفع القيمة ويأخذ الثمن وهو أكثر، إلا أن يصدقه المبتاع فيكون المبتاع على هذا بالخيار بين أن يصدقه فيأخذ منه القيمة ويدفع إليه الثمن - إن كان أكثر، وبين أن لا يصدقه فينقض البيع.
وعلى هذا القول يأتي قول ابن القاسم في المدونة في بعض الروايات في الذي أسلم ثوبا في طعام فادعى بتلفه - ولم يعلم ذلك إلا بقوله: إن المسلم إليه بالخيار بين أن يضمنه قيمة الثوب ويثبت السلم عليه، وبين أن يدع قيمته ويبطل السلم.
وقوله فيها: إن السلم ينتقض إذا لم يعرف تلف الثوب إلا بقوله، معناه عندي: إن شاء المسلم إليه؛ فليس ذلك باختلاف من قوله، وقد حمله أبو إسحاق التونسي على أنه اختلاف من القول، وهو بعيد؛ وهذان القولان: الثالث والرابع على قياس القول بأن مصيبة السلعة المحبوسة بالثمن من المبتاع إذا قامت البينة على تلفها على حكم الرهن، وبالله التوفيق.(7/481)
[باع سهما في رحا واستثنى البائع على المشترى]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون
وسئل سحنون: عن رجل باع سهما في رحا واستثنى البائع على المشترى أنه ليس يبيع منه في سد تلك الرحا قليلا ولا كثيرا، والرحا ليست تطحن من غير ذلك السد؛ قال: البيع فاسد؛ لأنه من الغرر.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال؛ لأن الرحا لا ينتفع بها إلا بسدها؛ فإذا لم يكن له في السد حق، كان انتفاعه بالسهم الذي اشترى موقوفا على اختيار صاحب السد، إذ من حقه أن يهدمه، وإن انهدم ألا يقيمه، وذلك من أعظم الغرر.
[مسألة: يشتري الزيت من الزيات فيسقط الكيل من يد المشتري]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يشتري الزيت من الزيات ويمسك المشتري الكيل بيده ويصب الزيات الزيت في الكيل فيسقط الكيل من يد المشتري، على من ضمان الزيت؟
فقال: إن كان سقط الكيل من يده بعد أن أوفاه الكيل، (وامتلأ) الكيل، فالتلف من المشتري؛ وإن كان سقط من يده قبل أن يمتلئ الكيل، فالتلف من البائع؛ وسئل: عن رجل اشترى من رجل زيتا، فقال البائع للمشتري: خذ الكيل وكل لنفسك، فكال المشتري، فسقط منه الكيل وهو ملآن فاهراق؛ قال: مصيبته من المشتري؛ لأنه قد تقاضاه لنفسه، قيل له: فإن سقط منه الكيل قبل أن يمتلئ، فقال: المصيبة من البائع.(7/482)
قال محمد بن رشد: وكذلك إذا تولى المشتري الوزن لنفسه، فلما استوى لسان الميزان، سقط من يده فتلف؛ أنه من المشتري مثل الكيل، قاله سحنون في غير العتبية على قياس قوله في الكيل؛ وذلك خلاف ما مضى من قول ابن القاسم في رسم نقدها من سماع عيسى، وفي رسم يشتري الدور من سماع يحيى؛ وكذلك لو كان المتولي للكيل هو أجير المبتاع، أو وكيله، أو مستنابه، أو أجير لهما جميعا.
وأما إن كان البائع هو المتولي للكيل، فلا اختلاف في أن ضمان ما في الكيل من البائع وإن امتلأ حتى يصبه في وعاء المشتري، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم نقدها من سماع عيسى.
[مسألة: اشترى من رجل زيتا فكال له البائع حتى فرغ]
مسألة وسئل: عن رجل اشترى من رجل زيتا، فكال له البائع حتى فرغ بخابيته، ثم قدم خابية أخرى، فقال للمشتري: كل لنفسك ما بقي، فأخذ المشتري في كيل الخابية الثانية، فصب على زيت الخابية الأولى، فإذا قد سقط فيها فأر فمات، فصب المشتري الفأر على الزيت الطيب؛ هل يكون على المشتري ضمان؟ قال: ما أفسد من زيته الطيب فمصيبة من المشتري.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو كان البائع هو الذي يكيل، فكال من الخابية الثانية فصبه على الزيت الذي كان من الخابية الأولى بأمر المشتري، لكان ضمانه من المشتري؛ لأنه إنما صبه عليه بأمره، قاله ابن القاسم في رسم العرية من سماع عيسى؛ وقد مضى القول على ذلك هناك، فلا معنى لإعادته؛ ومصيبة ما صب عليه من الزيت النجس من البائع، ويكونان في ذلك شريكين على قدر الخبيث من الطيب، قاله ابن القاسم في رواية ابن أبي جعفر عنه، وهو صحيح.(7/483)
[مسألة: باع كرمه ممن يعصره خمرا من مسلم أو نصراني]
مسألة وسئل: عن رجل باع كرمه ممن يعصره خمرا من مسلم أو نصراني، قال: يفسخ بيعه وهو بمنزلة النصراني يشتري العبد المسلم، أنه يفسخ بيعه، ولا يثبت ملكه للنصراني.
قال محمد بن رشد: ساوى سحنون بين أن يبيع الرجل كرمه من نصراني أو ممن يعصره خمرا من المسلمين، وقال: إن البيع يفسخ في المسألتين جميعا؛ وقاسهما على النصراني يشتري العبد المسلم وليستا بسواء، إذ لا اختلاف في وجوب فسخ بيع من باع كرمه ممن يعصره خمرا من المسلمين، فلا يصح قياس ذلك على النصراني يشتري العبد المسلم، إذ قد اختلف هل يفسخ البيع فيه، أو يباع عليه.
قال في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة: (إنه) يباع عليه ولا يفسخ البيع وله في موضع آخر منه وفي المديان والشفعة ما يدل على أنه يفسخ البيع ولا يباع عليه؛ ومن حق القياس أن يرد ما اختلف فيه إلى ما اتفق عليه، لا ما اتفق عليه إلى ما اختلف فيه؛ وأما بيع الكرم من النصراني، فهو بمنزلة بيع العبد المسلم منه، ذهب سحنون إلى أن بيع العبد المسلم منه يفسخ، فقاس عليه بيع الكرم منه، وذهب أشهب إلى أن العبد يباع عليه، فقاس عليه بيع الكرم منه، وقع قول أشهب في سماع سحنون من كتاب السلطان.
واختلف على القول بأنه يفسخ ولا يباع عليه إن لم يعثر عليه حتى باعه النصراني من مسلم، فقال ابن الماجشون: يفسخ البيع أيضا ولو كانوا عشرة، ويترادون الثمن حتى يرجع إلى بائعه من النصراني؛ وقال ابن القاسم: لا يفسخ إذا باعه من مسلم، وهو القياس؛ وإذا لم يفسخ، فقيل: إنه يرد إلى القيمة، وقيل: إنه يمضي بالثمن، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون(7/484)
من كتاب السلطان في الذي يبيع العنب ممن يعصره خمرا، أنه يمضي إذا فات؛ ولو باع المسلم كرمه أو عبده المسلم من النصراني وهو يظنه مسلما، لبيع عليه ولم يفسخ قولا واحدا.
[مسألة: شراء النخل من أصلها وفي رؤوسها ثمر لم يبد صلاحه]
مسألة قال سحنون: لا بأس باشتراء النخل من أصلها وفي رؤوسها ثمر لم يبد صلاحه، أو قد بدا صلاحه وطاب بقمح نقدا أو إلى أجل، ومثله اشتراء العبد وله مال بماله بدين وبنقد.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من قول سحنون، ومذهب ابن الماجشون أن ما أجيز بيعه مع غيره وجعل في حكم التبع له كالزرع الذي لم يطب مع الأرض، والثمر الذي لم يطب مع النخل، وما أشبه ذلك؛ يرى أنه لم يقع عليه حصة من الثمن، فيجوز بيعه بالدنانير، والدراهم، والطعام نقدا وإلى أجل ولا يرى (في استحقاقه رجوعا للمشتري، وابن القاسم لا يجيز بيع ذلك بشيء من الطعام نقدا ولا إلى أجل، ويرى للمشتري أن يرجع بما يقع له من الثمن - إذا استحق؛ وكذلك الحلي المصوغ بالذهب، إذا كان الذهب فيه الثلث، فأقل، يجيز بيعه بالذهب نقدا وإلى أجل ولا يرى) للمشتري في استحقاقه رجوعا على البائع خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك؛ وقد مضى هذا المعنى في رسم العرية من سماع عيسى وفي غيره من المواضع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يسوم بالدابة فيقول له رجل تبيعني بكذا وكذا فيقول لا أفعل إلا بكذا]
مسألة قال سحنون: عن ابن نافع، عن مالك في الرجل يسوم بالدابة فيقول له رجل تبيعني بكذا وكذا؛ فيقول لا أفعل إلا بكذا(7/485)
وكذا، فيقول له المشتري أنقصني دينارا، فيقول لا أنقصك دينارا، فيقول المشتري قد أخذتها بما قلت؛ إنها له ويلزم ذلك البيع البائع، وليس له أن يرجع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها، إذ قد تبين بتردد المماكسة بينهما، أنه كان مجدا في السوم، مريدا للبيع، غير لاعب ولا هازل؛ وقد مضى من القول على هذه المسألة في أول رسم من سماع أشهب من هذا الكتاب، ومن كتاب العيوب ما فيه كفاية، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: سام بسلعة فلما قبضها وأراد الانقلاب بها قال قد أخذتها بعشرة]
مسألة وعن رجل سام بسلعة، فلما قبضها وأراد الانقلاب بها، قال: قد أخذتها بعشرة، وقال البائع: تأخذها بأحد عشر، وقال المشتري: لا أزيدك على عشرة، فذهب بها، ثم إنها فاتت السلعة؛ قال: يرد إلى البائع القيمة، فإن كانت القيمة أقل من عشرة، قيل للمبتاع: ليس لك أن تأخذها بأقل من عشرة؛ لأنك قد كنت رضيتها بعشرة؛ فإن كانت القيمة أكثر من أحد عشر، قيل للبائع: ليس لك أن تأخذ منه أكثر من أحد عشر؛ لأنك قد كنت أمضيتها له بذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جيدة، إلا أنها خفية المعنى ناقصة الوجوه؛ وأنا أبين ما خفي منها وأتمم ما نقص من وجوهها إن شاء الله تعالى؛ إنما رجع في السلعة إلى القيمة إذا فاتت بيد المبتاع؛ لأنه قبضها وانقلب بها على غير اتفاق في الثمن؛ إذ لا يلزم المبتاع الأحد عشر بقول البائع له: تأخذها بأحد عشر؛ ولا يلزم البائع أخذ العشرة بقول المبتاع، لا أزيدك على عشرة، إلا أن البائع قد رضي في سلعته بأحد عشر، والمبتاع قد رضي أخذها بعشرة؛ فإذا فاتت كانت فيها القيمة ما لم تكن(7/486)
أكثر من أحد عشر، ولا أقل من عشرة؛ وسواء فاتت السلعة بيد المبتاع، أو أفاتها هو؛ إذ لم يقل له البائع لا أنقصك فيها من أحد عشر، وإنما عرض عليه أن يأخذها بذلك، إلا أن يفيتها بحضرة البائع وهو ساكت، مثل أن يكون طعاما فيأكله، أو شاة فيذبحها، أو ثوبا فيقطعه، أو كراء دار فيسكنها، وما أشبه ذلك؛ فيلزمه أخذ العشرة فيها، لسكوته على تفويته إياها، وقد سمع قوله لا أزيدك فيها شيئا على عشرة.
ولو قال له لا أنقصك فيها من أحد عشر، فأخذها المبتاع، وقال: لا أزيدك فيها على عشرة شيئا، فلما انقلب بها أفاتها، كان ثوبا فقطعه، وما أشبه ذلك؛ لزمته فيها الأحد عشر إذا أفاتها، وقد سمع قول البائع لا أنقصك فيها من أحد عشر شيئا؛ ولو أفاتها المبتاع بحضرة البائع وهو ساكت بوجه من وجوه الفوت التي ذكرناها، وما أشبهها، لوجب أن يلزم من قولهما القول الآخر الذي افترقا عليه؛ فإن كان المبتاع قد قال للبائع أولا: لا أزيدك على عشرة، فقال له البائع: لا أنقصك فيها من أحد عشر شيئا، لزمت المبتاع الأحد عشر بتفويته إياها؛ وإن كان البائع قد قال للمبتاع أولا: أنقصك فيها من أحد عشر شيئا، فقال له المبتاع: لا أزيدك فيها شيئا على عشرة، لزم البائع أن يأخذ العشرة لسكوته على تفويته إياها، وقد سمع قوله لا أزيدك فيها شيئا على عشرة، وهذا كله بين، يبينه ما وقع في سماع عيسى من كتاب كراء الدور، وما رواه ابن أبي جعفر عن ابن القاسم في الدمياطية؛ لأن بعض هذه المسائل يبين بعضا ليس في شيء منها خلاف الآخر، كما ظن من قصر في النظر، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى من رجل دارا على أن فيها مائة ذراع فوجد فيها مائة ذراع وذراع]
مسألة وسئل: عن رجل اشترى من رجل دارا على أن فيها مائة(7/487)
ذراع، فوجد فيها مائة ذراع وذراع؛ قال المشتري بالخيار، إن شاء أخذ المائة ذراع وكانت البقية لبائع الدار، ويكون البائع شريكا له في الدار بذراع، وإن شاء ترك؛ قيل له فلو اشترى صبرة منه على أن فيها مائة صاع، فوجد فيها مائة صاع وصاعا، قال: له مائة صاع وليس له صاع؛ قيل له فلو اشترى شقة على أن فيها سبعة أذرع، فوجد فيها ثمانية أذرع؛ قال هي له كلها، قيل له فلو اشترى منه خشبة على أن فيها عشرة أذرع، فوجد فيها أحد عشرة ذراعا، أو اثني عشر ذراعا؛ قال: تكون له الخشبة كلها.
قال محمد بن رشد: المعنى في شراء الشقة على أن فيها سبعة أذرع، والخشبة على أن فيها عشرة أذرع إذا كانت غائبة فاشتراها على الصفة، فأما لو كانت حاضرة، لم يجز عقد البيع فيها إلا بعد كيلها إذ لا مؤونة في ذلك، وأما الصبرة والدار فيجوز عقد البيع فيهما على أن فيهما كذا وكذا قبل أن تكال الصبرة أو تذرع الدار، لمؤونة الكيل والتذريع، فلا يلزم التذريع والكيل قبل عقد البيع، وقد مضى بقية القول على هذه المسألة مستوفى في أول سماع أشهب، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: السكران الذي ليس يعقل وليس معه من عقله شيء أيجوز بيعه]
من مسائل سئل عنها مطرف بن عبد الله
وسئل مطرف: عن السكران الذي ليس يعقل، وليس معه من عقله شيء؛ أيجوز بيعه؟ وما الذي يجوز عليه من أمره والذي لا يجوز عليه؟ فقال: لا يلزم السكران الذي لا يعقل شيئا سوى ما أصف لك: القذف، والقتل، والعتق، والطلاق؛ هذه الأشياء قط لا غيرها هي التي تلزمه؛ فهو إن قذف أحدا حد، وإن قتل أحدا قتل، وإن طلق امرأته لزمه الطلاق؛ وإن أعتق عبده مضى عليه العتق؛ وأما بيعه، وهبته، وصدقته، فذلك كله ساقط عنه؛ لا(7/488)
يلزمه منه قليل ولا كثير، ولا يمضي عليه منه شيء؛ قلت له: فوصيته إن أوصى؛ قال: إذا لم يكن معه عقله فكيف يجوز؛ لا أرى وصيته جائزة؛ لأنه كالمجنون؛ ألا ترى لو أن مجنونا لم يكن معه عقله أوصى، فإن وصيته لا تجوز.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى (من القول) فيها وتحصيل الخلاف، ما لا مزيد عليه في أول سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، فلا معنى لإعادته.
[اشترى أرطالا من لحم فانكسر الميزان]
ومن نوازل سئل عنها سحنون
وسئل: عن رجل اشترى أرطالا من لحم، فانكسر الميزان؛ فقال له المبتاع: أنا آخذ منك على التحري هذا اللحم بالأرطال التي لي عليك؛ فقال: كل ما كان أصله الوزن فلم يجد ميزانا، فأراد أن يأخذ مثله على التحري من غير وزن، فلا بأس به؛ وكل من اشترى شيئا على الكيل ولم يجد كيلا، فلا يجوز للمبتاع أن يأخذه من البائع على التحري، ولا يجوز إلا بكيل؛ وإنما أجيز التحري فيما يوزن للضرورة؛ لأنه لا يجد ميزانا، وما يكال ليست فيه ضرورة؛ لأنه يجد كيلا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم سلف من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.(7/489)
[مسألة: بيع الجوز جزافا]
مسألة قال سحنون، عن ابن وهب، عن مالك: لا يجوز بيع الجوز جزافا إذا باعه وقد عرف عدده؛ ولا بأس أن تباع القثاء، جزافا؛ لأنه مختلف؛ فيه كبير وصغير، ويكون العدل الذي هو أقل عددا أكثر من العدل الذي هو أكثر عددا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن ما يعد أو يكال أو يوزن، لا يجوز بيعه جزافا، إلا مع استواء البائع والمبتاع في الجهل بعدما يعد منه، أو وزنه، أو كيله؛ لأنه متى علم ذلك أحدهما وجهله الآخر كان العالم منهما بذلك قد غر الجاهل وغشه؛ فإذا علم عدد الجوز ولم يجز أن يبيعه جزافا وإن كان العرف فيه أن يباع كيلا؛ لأنه يعرف قدر كيله بمعرفة عدده؛ وأما معرفة عدد القثاء، فلا تأثير له في المنع من بيعه جزافا، إذ لا يعرف قدر وزنه بمعرفة عدده، لاختلافه في الصغر والكبر، بخلاف الجوز الذي يقرب بعضه من بعض.
[مسألة: يشتري من رجل طعاما بعينه على الكيل بنقد أو إلى أجل]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل يشتري من رجل طعاما بعينه على الكيل بنقد أو إلى أجل، فيؤخر قبضه من البائع على غير شرط كان بينهما شهرا أو شهرين؛ هل يفسخ البيع بينهما أم يجوز ذلك ويكون له قبض طعامه منه؛ فقال: ذلك جائز ولا يفسخ.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال: إن البيع لا يفسخ بتأخير القبض إذا كان ذلك بغير شرط، بخلاف الصرف؛ وقد مضى هذا المعنى في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، وفي(7/490)
أول رسم من سماع عيسى منه، ومضى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف؛ تفصيل القول فيما يجوز من ذلك في الصرف، فلا وجه لذكره في غير موضعه.
[مسألة: اشترى من رجل شعيرا بدينار ودفع إليه الدينار]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل اشترى من رجل شعيرا بدينار، ودفع إليه الدينار، فأتاه بعد شهر أو نحو هذا يطلب الشعير، فقال البائع ليس عندي شعير وقد قضيته غريما كان له علي دين؛ قال: هو ضامن يأتيه بشعير مثل الشعير الذي اشترى منه، إن كان المشتري حين اشتراه منه، أراه البائع الشعير أو وصفه له.
قال محمد بن رشد: هذا بين كما قال؛ لأنه إذا باع منه الشعير الذي عنده بأن أراه إياه أو شيئا منه، أو وصفه له؛ فليس له أن يستهلكه بوجه من وجوه الاستهلاك بعد أن أوجبه بالبيع للمشتري؛ فإن فعل، وجب عليه أن يأتي المشتري بمثله.
قال ابن القاسم: في السلم الثالث من المدونة: ولا يكون المبتاع بالخيار في أن يأخذ منه الثمن، ولا يضمنه مثل الطعام؛ وقال أشهب: هو في ذلك بالخيار، وقد مضى ما يدخل التخيير في ذلك من المكروه عند ابن القاسم في رسم باع شاة من سماع عيسى، ولو هلك الشعير عند البائع ولم يستهلكه هو؛ لانتقض البيع بينهما.
[مسألة: باع ثوبا بعشرة دنانير حالة على أن يقضيها المشتري رجلا]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت لو أن رجلا باع ثوبا بعشرة دنانير حالة على أن يقضيها المشتري رجلا، هل يجوز هذا البيع؟ فقال: أكرهه(7/491)
وأرى هذا قد خرج من بيوع المسلمين؛ لأن صاحب الدين لم يحل على المشتري، ولم يرض بالحوالة عليه بعد.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز هذا البيع؛ لأنه إنما باع منه الثوب على أن يبرئ ذمته من الدين الذي عليه للأجنبي، وليس ذلك بيده؛ لأن الدين ثابت عليه لا يبرئ ذمته منه، وينتقل صاحب الدين إلى ذمة المشتري إلا بحوالة يرضى بها كما قال؛ ولو باع منه الثوب على أن يدفع الثمن إلى رجل له عليه دين دون أن تبرأ ذمة المشتري من دين غريمه، أو تبرأ ذمة المشتري من الثمن حتى يدفعه؛ لكان البيع جائزا، فقد أجاز في المدونة أن يشتري الحميل سلعة من الذي عليه الدين على أن يدفع ثمنها إلى المحمول عنه بالدين، وهذا بين، والله أعلم.
[مسألة: العبد يكون بين الرجلين فيبيع أحدهما حصته من العبد ولا يستثني]
مسألة وسئل سحنون: عن العبد يكون بين الرجلين فيبيع أحدهما حصته من العبد ولا يستثني المبتاع ماله ولا البائع، فقال: لا يجوز إلا أن يشترط المبتاع المال في عقد الشراء؛ وهو قول ابن نافع وأشهب عن مالك؛ والبيع فاسد إذا لم يشترط المال.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز هذا البيع؛ لأنه مقاسمة للشريك في مال العبد بغير أمره، وليس لأحد من الشركاء أخذ شيء من مال العبد إلا برضا من جميعهم، ولو باعه من شريكه لجاز وإن لم يستثن ماله؛ لأن ذلك مقاسمة له منه في مال العبد، وقد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم استأذن من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يشتري من الرجل عبدا غائبا مما لا يجوز فيه النقد على الصفة]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يشتري من الرجل عبدا غائبا مما لا يجوز فيه النقد على الصفة، وشرط البائع على المشتري: إن(7/492)
أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو منك، قال: هذا جائز، قيل: فإن سأل المشتري البائع أن يقيله، قال: فإن ذلك ليس بجائز، خوفا أن يكون العبد قد أدركته الصفقة، وتم البيع فيه ووجب الثمن على المشتري دينا عليه؛ فيكون إذا أقاله قد فسخ دينه في عبد لم يقبضه، وإن كان الضمان من البائع يوم اشتراه ثم استقال البائع المشتري فلا بأس به؛ لأن ضمانه من البائع، فلم يجب للبائع قبل المشتري دين يكون فسخه في شيء هو للمشتري.
قال محمد بن رشد: أما الإقالة من السلعة الغائبة المشتراة على الصفة بشرط أن الضمان من المشتري بالعقد إن كانت على الصفة يومئذ، أو على القول بأن الحكم يوجب أن يكون الضمان منه، إلا أن يشترط أن الضمان على البائع حتى يقبضها المبتاع؛ وهو قول مالك الأول، فلا يجوز باتفاق؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين؛ لأن السلعة إن كانت على الصفة يوم العقد، فقد وجبت للمبتاع وصار الضمان منه، ووجب عليه الثمن؛ فإذا أقال البائع فيها، كان قد فسخ الثمن الذي وجب له على المبتاع في سلعة غائبة لا يقبضها، ولا هي في ضمانه؛ وأما إقالته منها إذا كان الضمان من البائع حتى يقبضها المبتاع إما باشتراط المبتاع ذلك عليه، وإما بأن الحكم أوجب ذلك عليه، وهو القول الذي رجع إليه مالك، وبه يقول ابن القاسم؛ فاختلف فيها؛ أجاز ذلك سحنون هاهنا؛ لأن الضمان من البائع، فلم يجب للبائع قبل المشتري دين يكون قد فسخه في شيء لم يقبضه، فصار ذلك حلا للعقد الأول، إذ لم ينتقل بذلك الضمان عما كان عليه، وقاس ذلك أيضا على إجازة مالك الإقالة من الجارية التي هي في المواضعة وبيعها بربح إذا لم ينتقد الربح؛ ولم يجز ذلك في المدونة، قال في التفسير الثاني؛ لأن السلعة للمشتري وإن كان ضمانها(7/493)
من البائع، ألا ترى أنه لا يقدر على بيعها من غيره، ولا يرجع في بيعه، فأشبه ذلك بيع الغائب، وقول سحنون أظهر، إذ لا فرق بين الإقالة من الجارية التي في المواضعة، وبين السلعة الغائبة على القول بأن الضمان من البائع، إلا من وجه أنه لم يختلف في أن ضمان الجارية في المواضعة من البائع؛ وقد اختلف في ضمان السلعة الغائبة على الصفة، ومن مذهبه مراعاة الخلاف؛ وقد تأول قول مالك في المدونة على مذهبه فقال في قوله فيها إن الإقالة لا تجوز لأنها دين بدين؛ وهذا على الحديث الذي جاء في السلعة إن أدركتها الصفقة قائمة مجتمعة وليس ذلك بصحيح؛ بل لا تجوز الإقالة فيها عند ابن القاسم وروايته عن مالك، كان الضمان من البائع أو من المبتاع، يبين ذلك من مذهبهما ما ذكرته مما وقع في التفسير.
[مسألة: أتيا إلى رجل فابتاع أحدهما منه جاريته ونقد الثمن]
مسألة وسئل: عن رجلين أتيا إلى رجل فابتاع أحدهما منه جاريته ونقد الثمن، ثم أتيا بعد ذلك ليقبضا الجارية؛ فقال كل واحد منهما: أنا الذي دفعت إليك الثمن فهي لي؛ ولم يعرف البائع ممن باع، ولا من أعطاه الثمن منهما؛ قال: إذا قال بعتها من واحد منهما وقبضت منه الثمن ولا يدري أيهما هو، وحلف كل واحد منهما بالله إنه هو الذي اشترى ونقد الثمن؛ وكانت الجارية بينهما ويرد الثمن، فيكون بينهما أيضا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن كل واحد منهما يدعي أنه دفع إليه الثمن في الجارية وهو لا يكذب واحدا منهما، فوجب أن يبرأ إليهما بالجارية والثمن؛ لأن كل واحد منهما يقول له: لا بد أن تدفع إلي الجارية أو ترد علي الثمن؛ ويحلف كل واحد منهما، أنه اشترى الجارية(7/494)
ودفع الثمن فيها إلى البائع؛ فإن حلفا جميعا، أو نكلا جميعا، كانت الجارية والثمن بينهما، وان حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبيع من الرجل طعاما إلى أجل]
مسألة وسئل: عن الرجل يبيع من الرجل طعاما إلى أجل، ثم يجد البائع المبتاع في السوق قبل حلول الأجل وهو يبيع طعاما مخالفا للطعام الذي اشترى منه، فيريد أن يشتري منه بالنقد؛ قال: إذا كان ذلك قبل الأجل الذي إليه اشترى الطعام، فلا خير فيه؛ لأنه يصير طعاما بطعام إلى أجل؛ لأن دراهمه ترجع فيصير كأنه لم يعطه شيئا، وصار إلى أن أخذ من ثمن طعام طعاما؛ وكذلك ما بقي عليه ثمن طعامه أبدا؛ وإن حل الأجل، فلا يجوز له أن يبتاع منه طعاما، قال سحنون: هو عندي جائز، حل الأجل أو لم يحل إذا اشترى منه بنقد، وكان الطعام خلاف ما باع منه.
قال محمد بن رشد: قول سحنون أصح من قول ابن القاسم؛ لأن الطعام إذا كان مخالفا للطعام الذي باع منه، فقد علم أنه غيره، وصح أنهما صفقتان، باع طعاما واشترى طعاما آخر، فلا وجه للتهمة في ذلك، إلا أن يشتري منه الطعام المخالف للذي باعه بمثل الثمن إلى ذلك الأجل؛ لأن الثمن يكون مقاصة في الثمن، ويصير قد دفع طعاما في طعام مخالف له، فيتهمان على ذلك، كذلك إن كان الأجل قد حل فاشتراه بثمن نقد؛ على أن يقاصه به في الثمن الذي حل له عليه؛ وأما إن اشتراه منه بالنقد والثمن لم يحل أو إلى أجل، والثمن نقدا أو إلى أجل مخالف له، فذلك جائز ولا يدخله الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما؛ لأن الثمن الذي باع به منه الطعام يقتضيه منه عند أجله، فيكون الطعام الذي قبض منه، إنما(7/495)
هو الطعام الذي اشترى منه بعد ذلك، إما بما نقده من الثمن إن كان اشتراه بالنقد، وإما بالثمن المؤجل الذي يؤديه عند حلول أجله؛ وقول ابن القاسم إنه لا خير أن يشتري منه بالنقد إذا كان ذلك قبل الأجل، كلام كان أشبه أن يكون بالعكس؛ لأن الأجل وإذا كان قد حل واشتراه بالنقد، يكون النقد مقاصة فيما حل له من الثمن، فيصير قد أخذ في الطعام الذي باع منه طعاما مخالفا له؛ وإذا لم يحل الأجل، امتنعت المقاصة، فصار الطعام الذي يأخذ منه مشترى بالثمن الذي اشتراه به، لا مقتضى من الثمن الذي باع به منه الطعام؛ لأنه يأخذه منه عند أجله.
وقوله في آخر كلامه: وإن حل الأجل فلا يجوز (له) أن يبتاع منه طعاما - صحيح، إن كان يريد أنه لا يبتاعه منه بالنقد، من أجل أنه يصير مقاصة بالثمن الذي حل له عليه من ثمن الطعام الذي باع منه، فيكون قد دفع طعاما وأخذ طعاما مخالفا له، فيتهمان على القصد إلى ذلك، وقول سحنون هو عندي جائز حل الأجل أو لم يحل، إذا اشترى منه بنقد، معناه: إذا اشتراه بنقد فنقده ولم يقاصه؛ إن كان الأجل قد حل.
وليس في قوله إذا اشتراه بنقده، دليل على أنه لا يجوز إلى أجل، بل يجوز على مذهبه بالنقد وإلى أجل، ما لم يكن إلى مثل الأجل الذي باع منه الطعام، أو لا يكون مقاصة به؛ فإنما شرط النقد تحذرا من أن يشتريه منه إلى ذلك الأجل بعينه، فيكون مقاصة.
[مسألة: يبتاع الأرض من الرجل أو الدار]
مسألة وعن الرجل يبتاع الأرض من الرجل، أو الدار، أو غير ذلك، وقد عرفه المبتاع في يد البائع يحوزه ويملكه، ثم يسأله أن يحوزه له بعد البيع؛ هل ترى على البائع حوزا؟ قال سحنون: إذا كان المشتري اشترى ما قد عرفه في يد البائع، فلا حوز عليه؛ وإن دفعه عمن اشترى دافع، فتلك مصيبة دخلت على المبتاع.(7/496)
قال محمد بن رشد: شراء الرجل من الرجل الدار، أو الأرض، لا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يكون المبتاع مقرا للبائع باليد والملك، والثاني: أن يقر له بالملك، ولا يقر له باليد؛ والثالث: أن يقر له باليد ولا يقر له بالملك؛ والرابع: لا يقر له بيد ولا بملك، فأما إذا كان مقرا له باليد والملك، فلا يلزمه أن يحوزه ما باع منه ويسلمه إليه وينزله فيه؛ وإن دفعه دافع عن النزول في ذلك، أو استحقه مستحق بعد النزول فيه، فهي مصيبة نزلت به على قول سحنون هذا.
والصواب أنه يلزمه أن ينزله فيما باع منه ويسلمه إليه، بمنزلة إذا كان مقرا له بالملك غير مقر له باليد، مخافة أن ينهض لينزل فيه فيمنعه وكيله فيه، أو أمينه عليه من النزول فيه، ويقول له: لا أدري صدق ما تدعيه من شرائه، فإن نزل فيه وصار بيده على الوجهين، فاستحقه منه مستحق؛ كانت مصيبة نزلت به على قول سحنون هذا.
وعلى ما في سماع عيسى من ابن القاسم من كتاب الاستحقاق، خلاف قول أشهب في المجموعة، وقد قيل: إنه خلاف ما تقدم من سماع عبد الملك في كتاب الحوالة والكفالة من قول ابن وهب وأشهب، وليس ذلك عندي بصحيح على ما سنبينه في موضعه إن شاء الله تعالى، وأما إذا كان مقرا له باليد غير مقر له بالملك، فعلى مذهب سحنون لا يلزم البائع أن يحوزه ما باع منه.
والصواب أن ذلك يلزمه على ما ذكرناه، للعلة التي وصفناها؛ فإن استحق من يده شيء من ذلك، وجب له الرجوع بذلك على البائع، وأما إذا كان غير مقر له باليد ولا بالملك، فلا اختلاف في أنه يلزمه أن يحوزه ما باع منه وينزله فيه؛ مخافة أن ينهض لقبض ذلك والنزول فيه، فيمنعه منه مانع؛ فإن استحق من يده شيء من ذلك، وجب له الرجوع به على البائع أيضا، وضمان ما يطرأ على ذلك بعد عقد البيع وإن كان قبل القبض في الوجوه كلها من غصب أو غرق، أو هدم، أو حرق، وما أشبه ذلك من المبتاع؛ إلا على القول بأن السلعة المبيعة في ضمان البائع، وإن قبض الثمن وطال الأمر، ما لم يقبضها لها المبتاع أو يدعوه البائع إلى قبضها فيأبى، وهو قول أشهب.
وقد مضى في آخر سماع سحنون الاختلاف في ضمان المحبوسة بالثمن، للخروج من هذا الاختلاف يقول الموثقون في وثائقهم(7/497)
ونزل المبتاع فيما ابتاع، وأبرأ البائع من درك الإنزال؛ لأنه بنزوله فيما ابتاع، يسقط الضمان عن البائع باتفاق؛ ومن حق المبتاع أيضا إذا ابتاع أملاكا في قرية من رجل، أن ينزله فيما باع منه بمحضر شهيدي عدل يتطوف معهما على الأملاك، ويوقفهما على حدودها؛ مخافة أن يستحق عليه منها شيء، فينكره البائع أن يكون باع منه ذلك الموضع المستحق؛ فلكل واحد من المتبايعين حق في الإنزال على صاحبه إذا دعا إليه، وجب أن يحكم له به على البائع ليسقط عنه الضمان المختلف في لزومه إياه، والمبتاع ليجد السبيل إلى الرجوع عليه بما يستحق من يديه.
[مسألة: باع من رجل بعيرا بعشرة دنانير فسرق البعير منه]
مسألة وسئل: عن رجل باع من رجل بعيرا بعشرة دنانير، فسرق البعير منه، فأتى إلى بائعه بعد أيام، فقال له: إن البعير الذي اشتريت منك قد سرق مني، فقال له البائع: فلا بأس، قد حط الله عنك من ثمنه خمسة دنانير؛ ثم إن المشتري أصاب البعير بجعل جعل فيه، أو جمعه الله عليه بغير جعل؛ فأراد البائع أن يرجع عليه بالخمسة التي حط عنه، هل ترى ذلك له أم لا؟ وكيف إن اشترى رأسا فأتى إلى بائعه، فقال له: إن الرأس الذي اشتريت منك غال وأنا أخاف أن أضع فيه؛ فقال له البائع: قد وضع الله عنك خمسة دنانير، ثم إن المشتري باع الرأس بعد ذلك بأيام بربح كثير؛ فأراد البائع أن يرجع عليه؛ فقال له: إنما خفت الوضيعة وقد بعت الرأس بربح، فرد علي الخمسة دنانير؛ أو مرض الرأس، فقال المشتري للبائع: إن الرأس الذي اشتريت منك قد مرض، وأنا أخاف أن أصاب به، فحط عني من ثمنه؛ ثم(7/498)
رزق العافية، فأراد البائع أن يرجع عليه بالحطاط؛ قال سعدون: ما أرى للمشتري من الحطاط شيئا؛ لأن الذي كانت الوضيعة فيه عفي عنه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الوضيعة لما خرجت على سبب صار السبب شرطا لها، فوجب أن تبطل بارتفاع الشرط؛ وهذا مثل قول ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق في الذي يريد سفرا فيستنظر صاحبه دينه، فينظره، ثم يبدو له عن السفر ويقيم، أن النظرة تسقط، وبالله التوفيق.
[مسألة: تبايعا سلعة فاختلفا في الثمن]
مسألة أخبرنا سحنون عن ابن وهب، قال: قال مالك عن رجلين تبايعا سلعة فاختلفا في الثمن، فقال البائع: بعتك بالنقد، وقال المشتري: اشتريت منك إلى أجل، قال مالك: إن كانت السلعة (قد) وصلت إلى المشتري وبان بها، فالقول قوله ويحلف؛ وإن لم يحز السلعة، فالقول ما قال البائع؛ والمبتاع بالخيار يحلف البائع بالله ما بعتكها إلا بالنقد، ثم يحلف المشتري بالله ما اشتريتها بالنقد ويبرآن؛ قال لي سحنون: خذ مني هذا الأصل، فإنه قد اختلف فيه قول مالك اختلافا شديدا، وهو أفضل ما تتزود إلى بلدك.
قال محمد بن رشد: اختلف في اختلاف المبتايعين في أجل الثمن إذا اتفقا على عدده على ثمانية أقوال: أحدها: رواية ابن وهب هذه عن مالك أنهما يتحالفان ويتفاسخان ما كانت السلعة بيد البائع، فإن قبضها المبتاع كان القول قوله، سواء أقر البائع بأجل أو لم يقر به، وهو اختيار سحنون، ودليله قوله عز وجل: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ،(7/499)
ودفع البائع السلعة إلى المبتاع، باب من الائتمان، فوجب إذا قبض السلعة أن يكون القول قوله.
والثاني: أنهما يتحالفان ويتفاسخان ما كانت السلعة بيد البائع، فإن دفعها إلى المبتاع، كان القول قول البائع إن لم يقر بأجل؛ والقول قول المبتاع، إن أقر بأجل.
والثالث: أنهما يتحالفان ويتفاسخان - وإن قبض المبتاع السلعة ما لم تفت، فإن فاتت كان القول قول البائع إذا لم يقر بأجل، والقول قول المبتاع إذا تقارا على الأجل واختلفا فيه، وهذا أحد قولي ابن القاسم والمشهور عنه.
والرابع: أنهما يتحالفان ويتفاسخان أيضا - وإن قبض المبتاع السلعة ما لم تفت، فإن فاتت، كان القول قول المشتري - وإن لم يقر البائع بأجل، وهو قول ابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصبغ.
والخامس: أن القول قول المشتري إذا ادعى من الأجل ما يشبه - قائمة كانت السلعة أو فائتة، روي هذا القول عن ابن القاسم.
والسادس: أن البائع إذا لم يقر بأجل، كان القول قوله ما لم يدفع السلعة، فإن دفعها كان القول قول المشتري.
والسابع: إن لم يقر بأجل، كان القول قوله وإن دفع السلعة ما كانت السلعة قائمة، فإن فاتت، كان القول قول المشتري؛ روي هذا القول أيضا عن ابن القاسم، وهو قول العراقيين.
والثامن: أن القول قول البائع - إن لم يقر بأجل، كانت السلعة قائمة أو فائتة؛ وإن أقر بأجل، فالقول قول المشتري، كانت السلعة أيضا قائمة أو فائتة، ولا يتحالفان ولا يتفاسخان في شيء من ذلك، وهو قول مالك في رواية مطرف عنه؛ وأما إذا اختلفا في عدد الثمن، ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهما يتحالفان ويتفاسخان ما كانت السلعة بيد البائع، فإن قبضها المبتاع كان القول قوله، وهو رواية ابن وهب عن مالك، فلا فرق في رواية ابن وهب عن مالك بين اختلافهما في الأجل أو في الثمن.
والثاني: أنهما يتحالفان ويتفاسخان وإن قبض المشتري السلعة ما لم تفت بوجه من وجوه الفوت، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك.(7/500)
والثالث: أنهما يتخالفان ويتفاسخان، وإن قبض المشتري السلعة وفاتت بيده، ويرد قيمتها؛ وهو قول أشهب، وروايته عن مالك؛ ولا ينظر إلى قول الأشبه فيهما حيث يجب التحالف والتفاسخ، وقد قيل: إنه ينظر إلى قول الأشبه منهما في القيام، كما ينظر إليه في الفوات، وهو قول رابع في المسألة؛ وصفة أيمانهما إذا تخالفا أن يحلف البائع بالله ما باع سلعته بكذا وكذا، وليس عليه أن يزيد في يمينه: ولقد باعها بكذا وكذا؛ ولا أن يحلف بالله ما باع سلعته بكذا إلا أن يشاء، رجاء أن ينكل صاحبه عن اليمين، فلا يحتاج إلى يمين ثانية؛ لأنه إن حلف ما باع سلعته بكذا وكذا، فنكل المشتري عن اليمين، لم يكن له أن يأخذ ما ادعى أنه باع سلعته، حتى يحلف على ذلك؛ فإن حلف البائع بالله ما باع سلعته بكذا وكذا، أو ما باعها إلا بكذا، حلف المشتري بالله ما اشتريت السلعة بكذا؛ ولا معنى لأن يزيد في يمينه: ولقد اشتريتها بكذا، إذ قد حلف البائع على تكذيبه في ذلك؛ فإن حلفا جميعا، أو نكلا جميعا، ترادا البيع فيما بينهما؛ وإن نكل أحدهما وحلف الآخر، كان القول قول الحالف منهما، وقد مضى في رسم الصبرة من سماع يحيى زيادة في هذا المعنى، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: شراء الدار وبها نخل]
مسألة وأخبرنا عن ابن وهب أيضا قال: أخبرني يزيد بن عياض، أنه بلغه أن مروان بن الحكم اشترى من إبراهيم بن نعيم النجام نخلا له كانت في دار مروان أو بعضها؛ فقال إبراهيم: إنما بعتك النخل، وقال مروان: إنما اشتريت النخل والبقعة، فاختلفا فجعلا بينهما ابن عمر، فقضى بينهما ابن عمر باليمين على إبراهيم بن نعيم، فنكل إبراهيم عن اليمين، فأسلم البيع لمروان.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة، أن البائع كان قد انتقد الثمن، ولذلك كان القول قوله؛ لأنه رأى النقد المقبوض فوتا،(7/501)
وذلك على رواية ابن وهب عن مالك في أن قبض السلعة إذا اختلف في ثمنها فوت، إذ لا فرق بين أن يقبض البائع الثمن فيختلفا في المثمون، وبين أن يقبض المبتاع المثمون فيختلفا في الثمن، وقد مضى هذا في رسم الصبرة من سماع يحيى؛ ولو لم ينتقد البائع الثمن، لوجب أن يتحالفا ويتفاسخا باتفاق؛ وهذا أيضا إذا قال البائع: إنما بعتك النخل دون البقعة ببيان ونص، وقال المبتاع: بل بعتهما مني جميعا بنص وبيان؛ لأن النخل تبع للأرض، والأرضي تبع للنخل، إذا قال: أبيعك هذه الأرض، فالنخل داخلة في البيع، وإذا قال أبيعك هذه النخل، فالأرض داخلة في البيع؛ هذا قوله في المدونة وغيرها، وهو مما لا اختلاف فيه.
[مسألة: باع ثلاثة أحمال زبيب وقال للمشتري إن لي فيها ثمانية أرطال تين]
مسألة وأتى رجل سحنون فسأله، فقال: إني بعت ثلاثة أحمال زبيب، وقلت للمشتري: إن لي فيها ثمانية أرطال تين، وإنما استثنيتها عليك ولست أبيعها منك؛ فقبض المشتري الزبيب، ثم وزن التين فوجد فيها أحد عشر رطلا من تين؛ قال سحنون: أما الثمانية فواجبة للبائع، وأما الثلاثة الزائدة فترد إلى البائع أيضا، وينظر إلى الثلاثة الأرطال الزائدة أي شيء هي من الزبيب، فإن كانت الثلث أو السدس، وضع عن المشتري قدرها من الثمن؛ وإنما ينظر إلى قدرها من الزبيب قط بعد أن تطرح الثمانية الأرطال التين؛ قيل له: فلو أنه باع من رجل غرارة وفيها زبيب، فوجد في داخله حجرا، بماذا يرجع به المشتري على البائع؛ قال: يرجع بمقدار ما شغل الحجر من الغرارة، ولا يرجع بوزن الحجر زبيبا؛ لأنه لو رجع بوزن الحجر زبيبا لعله أن يكون ذلك مثل نصف(7/502)
الغرارة أو ثلثها، فلا يكون له أن يرجع إلا بمقدار ما شغل الحجر من الغرارة.
قال محمد بن رشد: أما مسألة التين فصحيحة بينة في المعنى، لا وجه للقول فيها؛ لأن ما وجد في الزبيب من التين زائدا على ما استثنى البائع، فقد نقص قدره من الزبيب الذي اشترى؛ فوجب أن يرجع على البائع بما ينوبه من الثمن؛ وأما الذي وجد الحجر في الغرارة التي اشترى من الزبيب، فإنما يصح جوابه في الرجوع بمقدار ما شغل الحجر من الغرارة إن كان إنما نظر إليها ولم يقلبها ليعرف مقدار ما فيها من الزبيب؛ وأما إن كان رأزها، ليعرف خفتها من ثقلها، فإنما يرجع بمقدار ما يقع وزن الحجر من وزن الغرارة بالحجر من الثمن، والله أعلم.
[مسألة: يشتري الدار ويشترط سكناها سنة]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت الرجل يشتري الدار ويشترط سكناها سنة، ثم انهدمت الدار قبل السنة؛ أو كانت دابة فاشترط البائع ركوبها اليوم واليومين، فماتت الدابة قبل اليومين، أو انهدمت الدار قبل السنة؛ أيرجع البائع على المشتري بحصة السكنى والركوب من الثمن؛ لأنه يقول: إنما رخصت عليك في البيع بما اشترطت من السكنى والركوب من الثمن، ولولا ذلك بعتها بأكثر؛ قال: سمعت علي بن زياد يقول في هذه بعينها: إنه لا يرجع عليه بشيء، وهي مصيبة دخلت عليهما جميعا؛ وروى أصبغ عن ابن القاسم مثل رواية سحنون عن علي بن زياد.
قال محمد بن رشد: وقعت رواية أصبغ هذه عن ابن القاسم في أول رسم من سماعه بعد هذا، وزاد فيها أنه إذا لم يكن للبائع على المشتري رجوع فيما استثنى عليه من أجل أنه خفيف، لم يكن يضع لذلك(7/503)
من الثمن شيئا، وفي ذلك من قوله نظر، إذ قد علم أن الرجل لا يشتري الدار إذا استثنى عليه سكناها العام بما يشتريها به إذ لم يستثن عليه ذلك؛ ولعل قيمة سكنى الدار السنة مثل قيمة ربع الدار وأكثر، وكذلك الدابة إذا استثنى عليه ركوبها اليوم، واليومين، والثلاثة.
وإنما المعنى في أنه لا يجب عليه رجوع إن كان ما استثناه البائع من السكنى في الدار والركوب في الدابة؛ أبقاه على ملكه ولم يبعه؛ فإنما حط عن المشتري ما كان يجب لما لم يبعه من السكنى والركوب لو باعه، وذلك في التمثيل كرجل باع ناقة لها فصيل، فاستثنى فصيلها، فقد علم أنه قد حط عن المشتري ما كان يجب لفصيلها لو باعه؛ فوجب أن تكون مصيبة السكنى والركوب منه؛ لأنه أبقاه على ملكه ولم يبعه كالفصيل سواء؛ فإن بنى المبتاع الدار على هذا القول وقد بقيت من مدة الاستثناء بقية، كان للبائع أن يسكن الدار بقيمة المدة التي استثنى، ويكون عليه كراء الأنقاض قائمة؛ إذ قد ذهبت الأنقاض التي استثنى سكناها، ولا حق في أنقاض المشتري.
ووجه العمل في ذلك أن يقال: كم قيمة كراء البقعة مهدومة؟ وكم قيمة كراء الدار قائمة؟ فيكون على البائع ما زادت قيمة كراء الدار قائمة على قيمة الأنقاض في المدة التي بقيت من اشتراطه، وإن لم يبتها المشتري، كان من حق البائع أن يسكنها قاعة مهدومة إلى انقضاء أمد استثنائه، إن شاء أن يبنيها، كان ذلك له، فإذا انقضى أمد سكناه، أخذ نقده، إلا أن يشاء المبتاع أن يعطيه قيمته منقوضا على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك؛ وعلى مذهب المدنيين وروايتهم عن مالك، له قيمته قائما إذا انقضى أمد سكناه.
ومن قال: إن المستثنى بمنزلة المشتري، فهو عنده كأنه باعه داره بدنانير، وسكنى مدة معلومة؛ فإن انهدمت الدار نظر إلى قيمة السكنى، فإن كان عشرة دنانير والثمن تسعون دينارا، رجع بعشر قيمة الدار يوم باعها، وكذلك العمل في الدابة وهو قول أصبغ في سماعه المذكورة إلا(7/504)
أنه قال ما لم يكن المستثنى يسيرا مثل الأيام في الدار، والبريد في الدابة؛ وهو استحسان على غير حقيقة القياس، وكذلك تفرقة ابن حبيب بين اشتراط الركوب الجائز قبل قبض المبتاع لها، أو بعد قبضه؛ فجعل شرط البائع الركوب قبل قبض المبتاع، كأنه مبقى على ملكه لا رجوع له فيه، وشرطه له بعد قبض المبتاع، كأنه مشترى يجب له به الرجوع، هو استحسان أيضا على غير حقيقة القياس.
[مسألة: الرجل يأتي إلى الزجاج ونحوه يستقرض منه قارورة فيقع ذلك منه فينكسر]
مسألة قال سحنون: وسألت ابن القاسم: عن الرجل يأتي إلى الزجاج أو القلال أو القداح يستقرض منه قارورة أو قلة أو قدحا، فينظر إليها فيقع ذلك منه فينكسر ويكسر ما تحته من الزجاج، والقلال؛ قال: لا أرى عليه ضمان ما ناوله، وأراه يضمن ما انكسر تحته؛ قلت: فإن جاء يتناول بغير إذنه وجعل يساومه ولم يناوله صاحب المتاع، فيقع منه فينكسر؛ قال: هو ضامن لما أخذ ولما انكسر أسفله، هكذا روى عيسى عن ابن القاسم، وزاد في سماعه وكذلك السيف يتناوله فينهز فينكسر، أو الدابة يركبها ليختبرها فتموت تحته، والقوس يرمي عنها؛ وما كان من هذه الأشياء كلها، إن أخذ ذلك بغير إذنه كان ضامنا، وإن كان بإذنه فلا ضمان عليه؛ ورواها أصبغ بن الفرج، وزاد فيها: وكذلك قلال الخل يرفعها يروزها ليعرف قدرها وملكها فتنكسر، قال أصبغ: هذا عندي مثل القوارير والأقداح، ما لم يعنف ويأخذه بغير مأخذه، مثل أن يعلق القلة الكبيرة بأذنها، أو غير ذلك من وجوه العنف، فيضمن.(7/505)
قال أصبغ: قال ابن القاسم: والدينار يعطيه الرجل الصراف على دراهم فينقره فيذهب، أنه ضامن؛ وقد صار منه حين قبضه على الصرف، فهو بيع وشراء مقبوض، وسواء نقره نقرا يتلف من مثله، أو خفيفا لا يعطب من مثله إلا بالقضاء والقدر إلا أن يأخذ له في نقره فينقره نقرا خفيفا لا يعطب من مثله فيصاب في مثل هذا، فلا شيء عليه، وإن خرق ضمن.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يضمن ما ناوله إياه أو تناوله بإذن ليقلبه أو ليختبره وإذا سقطت القارورة من يده فانكسرت، وانكسر السيف في هزه إياه، أو القوس في رميه عنها، أو ماتت الدابة في ركوبه إياها، أو أشبه ذلك، هو المشهور في المذهب، ولا اختلاف فيه بين ابن القاسم، وأصبغ؛ وابن الماجشون يرى أنه ضامن لما سقط من يده، إلا أن تكون له بينة على أمر غالب أسقطها من يده من ريح غالب، أو دابة نطحته، أو ما أشبه ذلك؛ فلعله أراد إتلافها فادعى أنها سقطت من يده، واختلفا إذا تناول ذلك وهو حاضر دون أن يستأذنه؛ فقال ابن القاسم: هاهنا هو ضامن، وقال أصبغ في أول سماعه بعد هذا: لا ضمان عليه، وهو ظاهر روايته عن ابن القاسم؛ واختلفا في قلال الخل يرفعها عند التقليب فتنكسر، فقال أصبغ: هي كالقوارير ولا ضمان عليه فيها، إلا أن يعنف فيها، أو يأخذها بغير مأخذها؟
وسكت ابن القاسم عن الجواب فيها في سماع أصبغ، والمعلوم من مذهبه أنه ضامن لها وإن لم يكن منه عنف في رفعه إياها؛ حكى ذلك عنه ابن المواز من رواية أصبغ، وإنما ضمنه ابن القاسم في الخل؛ لأنه لا يختبر بالرفع، وإنما يختبر بالذوق؛ فإذا رفع القلة فسقطت ضمن، حكى ذلك ابن المواز عن ابن القاسم من رواية أبي زيد عنه؛ قال: وكذلك كل ما يجتزأ منه ببعضه مثل ألبان، فإنه يجتزَأ فيه بالشم، فإن أخذه رجل فسقط من يده فانكسر، فإنه يضمن، بخلاف ما لا يحاط بمعرفته إلا(7/506)
بأن يؤخذ باليد، مثل السيف، والقوس، وشبه ذلك؛ وأما ما يتناول بغير إذنه ولا علمه، فسقط من يده، فلا اختلاف في أنه ضامن له؛ وكذلك لا اختلاف بينهم في أنه ضامن لما سقط من ذلك الشيء من يده فكسره؛ وأما الدينار يعطيه الرجل الصراف على درهم فينقره فيذهب، فلا اختلاف بينهم في أنه ضامن؛ ومعنى ذلك إذا قبضه منه على الصرف والبيع؛ لأنه يقبضه له بعد مواجبة الصرف فيه، يدخل في ضمانه؛ ولو اغتصب منه أو اختلس إياه، لكانت مصيبته منه؛ وأما لو قبضه منه على أن يقلبه وينقره وينظر إليه، فإن أعجبه سامه فيه، فتلف في نقره إياه، لم يكن عليه فيه ضمان؛ كالقارورة، والقوس، والسيف، وما أشبه ذلك؛ ووقع في بعض الكتب ينقره، وفي بعضها ينقده، والمعنى في ذلك سواء؛ لأن نقره مما ينقد به.
[مسألة: الرجل يشتري السلعة على أنه بالخيار إلى أربعة أشهر]
مسألة قال ابن القاسم: إذا اشترى الرجل السلعة من الحيوان أو غيره - على أنه بالخيار إلى أربعة أشهر، وقبضها واشترط عليه فيها النقد، أو لم يشترط عليه فيها نقدا فماتت، فمصيبتها من البائع؛ لأنه وإن كان فاسدا، فإن البيع لم يكن تم فيه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في سماع سحنون من كتاب بيع الخيار وهي صحيحة بينة؛ لأن البيع الفاسد إنما يدخل في ضمان المشتري بالقبض إذا لم يكن فيه خيار، والضمان من البائع في بيع الخيار إذا كان صحيحا، فكيف إذا كان فاسدا، والله أعلم.
[مسألة: باع أرضا مبذورة بحنطة]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل باع أرضا مبذورة بحنطة أو غير(7/507)
ذلك من الحبوب، ولم يكن نبت فيها شيء، فاشترى المشتري الأرض واشترط ما فيها من بذر؛ فقال: ذلك جائز للمشتري، وهو قول ابن القاسم؛ فسألت عنها البرقي، فقال: نازعني فيها يوسف بن عمر، وقلت له: ذلك جائز، وكان قد سأل أشهب عنها.
قال محمد بن رشد: قوله واشترط ما فيها من بذر، لا معنى له؛ لأنه له، اشترطه أو لم يشترطه؛ ولو استثناه البائع، لم يجز، بمنزلة الثمر الذي لم يؤبر هو لمشتري النخل، وإن لم يشترطه، ولا يجوز للبائع أن يشترطه؛ وأجازه ابن القاسم، وذلك خلاف أصله في أنه لا يجوز بيع النخل بطعام إذا كان فيها تمر وإن لم تؤبر؛ لأن النبات في الزرع بمنزلة الإبار في النخل؛ فالقياس ألا يفرق بين التمر الذي لم يؤبر، والزرع الذي لم ينبت في جواز بيعه مع الأصل بالطعام؛ وأما سحنون فهو يجيز ذلك وإن نبت الزرع، وأبرت النخل، ما لم يصب ذلك؛ وقد مضى ذلك من قوله في رسم العرية من سماع عيسى، وفي نوازله الأول من هذا الكتاب، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والتفرقة.
[مسألة: اشترى عرصة من رجل فلما أراد البنيان فيها وجد بئرا]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل اشترى عرصة من رجل، فلما أراد البنيان فيها، وجد بئرا عادية لها بال؛ فقال له البائع: بعتك شيئا لم أعرفه وأنا أفسخ البيع؛ قال سحنون: أراها للمشتري؛ وكذلك المواريث إذا قسمها الورثة فوجد أحدهم في سهمه مثل ذلك، أن ذلك له دون الورثة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة ستأتي متكررة في آخر الكتاب،(7/508)
ونتكلم عليها هناك إذا وصلنا إليها بما يبين معناها، إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.
[يبيع أرضه من الرجل أو جاريته ثم يأتيه يستقيله]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم
قال محمد بن خالد: سألت ابن القاسم: عن الرجل يبيع أرضه من الرجل، أو جاريته، ثم يأتيه يستقيله؛ فيقول له المبتاع: إني أتخوف أن تكون أرغبت في سلعتك وأعطيت زيادة، فأنت تسألني الإقالة لذلك؛ فيقول: ليس كما ظننت؛ فيقول المبتاع: فإني أقيلك على أنك إن بعتها من غيري فهي لي بالثمن أقيلك منه؛ فيرضى بذلك، ثم يبيع سلعته بأكثر مما باعها منه.
فقال ابن القاسم: إن كان إنما استقاله للزيادة التي أعطي، وتبين أن طلبه رغبة في الزيادة، فهي للمقيل بشرطه؛ وإن كان لم يستقله لذلك، وإنما هو شيء حدث له في بيعها فوجد بها زيادة، فلا شيء للمقيل ولا حجة، والبيع جائز له.
وقال: وذكر عن ابن كنانة أنه قال: إذا قال أنا أقيلك على أنك إن بعتها من غيري، فأنا أولى بها من غيري، وشرط ذلك عليه، فأقاله على شرطهما؛ فإنه إن باعها بحضرة ذلك من غيره، وكان الأمر فيها على ما تخوف الذي أقال من صرف المستقيل إياها إلى غيره، فهو أولى بها؛ وإن تفاوت ما بين ذلك وطال، ثم باع جاريته فليس عليه شيء يلزمه فيما اشترط عليه المقيل.
محمد بن خالد: كان ابن نافع يقول: لا تجوز الإقالة في(7/509)
هذا، وهو بمنزلة البيع؛ قال ابن لبابة: هذا جيد من فتياه واستحسنه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في أول رسم من سماع أشهب، وفي سماع سحنون، فلا معنى لإعادته.
[ثلاثة نفر أحرار باع بعضهم بعضا]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب
قال عبد الملك: أخبرنا عبد الله بن وهب، عن ثلاثة نفر أحرار باع بعضهم بعضا، أنهم يغرمون الثمن ويعاقبون.
قال محمد بن رشد: يريد أنهم يغرمون الثمن للمشتري يردونه إليهم، وهذا إن كان اشتروهم ولم يعلموا أنهم أحرار. وأما إن اشتروهم على معرفة أنهم أحرار، فقيل: إن الثمن يرد إليهم؛ وقيل: إنه لا يرد إليهم ويتصدق به عليهم أدبا لهم، وعلى كل واحد منهم أن يطلب صاحبه الذي باع إن كان غاب حتى يرده، فإن لم يعنه على ذلك، فقد قيل: إنه يغرم ديته.
كتب الحسن بن عبد الملك وهو قاض بطليطلة إلى محمد بن بشير وهو قاض بقرطبة في رجل باع حرا، وأنه قضى عليه أن يطلبه حتى يرده، وأنه طلبه فلم يجده، وأنه طال زمان ذلك، فجمع ابن بشير أهل العلم بقرطبة، فكتب إليه: أن أغرمه ديته كاملة؛ فقضى عليه عبد الملك بديته كاملة، يريد تكون لورثته كما لو قتله.
[مسألة: المسلم يبيع اليهودي من النصراني والنصراني من اليهودي]
مسألة وسئل: عن المسلم هل يبيع اليهودي من النصراني، والنصراني من اليهودي؟ فقال: لا يباع بعضهم من بعض؛ لأنهم(7/510)
أعداء بعضهم لبعض، ولا تجوز شهادة بعضهم على بعض، وسألت عنها سحنون، فقال لي مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: اختلف في جواز بيع اليهودي من النصراني، والنصراني من اليهودي، فقيل: ذلك جائز، حكى ذلك سحنون عن بعض أصحاب مالك، وهو ظاهر قول مالك في رواية ابن نافع عنه في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة؛ لأنه قال فيها عنه أن كبار أهل الكتاب لا يمنع النصارى من شرائهم فعم ولم يخص.
وقياس قوله أيضا في رواية ابن القاسم عنه من كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة والعتبية؛ لأنه أجاز بيع كبار المجوس الذين لا يجبرون على الإسلام من اليهود والنصارى، فإذا أجاز بيعهم منهم من أجل أنهم لا يجبرون على الإسلام وإن كان قد قيل: إنهم يجبرون عليه، فأحرى أن يجيز بيع اليهودي من النصراني، والنصراني من اليهودي؛ إذ لا اختلاف في أنهم لا يجبرون على الإسلام، إلا أن يفرق بين الموضعين لعلة العداوة، على ما ذهب إليه ابن وهب، وقد قيل: إن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن وهب، وسحنون في هذه الرواية؛ قال ابن وهب فيها: لأنهم أعداء بعضهم لبعض، وإنما قال: إنهم أعداء بعضهم لبعض، لما دل عليه من قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] ... الآية.
وروي عن سحنون أنه قال: إنما لم يجز أن يباع اليهودي من النصراني، والنصراني من اليهودي؛ لأن بعضهم يكره بعضا على دينه إذا ملكه، فبيعه منه إضرار به؛ فعلى تعليل ابن وهب، يجوز أن يباع المجوس الكبار من اليهود والنصارى على القول بأنهم لا يجبرون على الإسلام؛ لأن العداوة إنما هي بين اليهود والنصارى، للتنافس الذي بينهم من أجل أنهم أهل الكتاب، وقد دل على ذلك ما(7/511)
تلوناه من الآية. وأما المجوس، فلا تنافس بينهم وبين أهل الكتاب؛ إذ ليسوا بأهل كتاب، وإن كان قد قيل فيهم أهل كتاب، فليس ذلك بمعروف، وعلى قول سحنون لا يجوز ذلك؛ فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يجوز أن يباع جميع أهل الملل الذين لا يجبرون على الإسلام بعضهم من بعض، وهو قول بعض أصحاب مالك، وهو قول مالك أيضا على ما ذكرناه من ظاهر قوله في رواية ابن نافع عنه، ومن قياس قوله في رواية ابن القاسم عنه.
والثاني: أنه لا يجوز بيع بعضهم من بعض بحال، وهو الذي يأتي على تعليل سحنون.
والثالث: أنه لا يجوز بيع اليهودي من النصراني، ولا النصراني من اليهودي؛ ويجوز أن يباع المجوسي من الكتابي، والكتابي من المجوسي، وهو الذي (يأتي) على تعليل ابن وهب، ومن قول ابن القاسم في المدونة وغيرها أنه لا يجوز أن يباع المجوسي من الكتابي، فإن كان من مذهبه أنه يجبر على الإسلام، فلا إشكال في قوله؛ لأنه صحيح على أصله؛ وإن كان من مذهبه أنه لا يجبر على الإسلام، فقوله مثل قول سحنون؛ وهذا الاختلاف إنما هو في المسبي من المجوس، هذا الذي قيل فيه: إنه يجبر على الإسلام، من أجل أنه لا بصيرة له في دينه، إذ لا يفقه لجهله.
وقد قيل فيه لهذه العلة: إنه مسلم بملك المسلمين له كالصغير، وعلى هذا يأتي على ما وقع في كتاب النذور من المدونة أنه يجوز في الرقاب الواجبة؛ وأما المجوسي الذي ثبت على مجوسيته بين ظهراني المسلمين، فلا اختلاف في أنه لا يجبر على الإسلام.
وقد حكى عن سحنون أنه قال: اجتمع أصحابنا على أنه لا يباع من يهودي ولا نصراني، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه يجوز أن يباع منه على القول بأنه يجوز أن يباع اليهودي من النصراني، والنصراني من اليهودي؛ لأن المجوسي الثابت على مجوسيته لا يكون في هذا أحسن حالا من اليهودي والنصراني؛ فإن بيع اليهودي أو المجوسي من النصراني على(7/512)
القول بأن ذلك لا يجوز، جبر المشتري على بيعه من أهل دينه؛ قال ذلك سحنون في كتاب ابنه، ورواه زياد عن مالك؛ إلا أن يتبين أن البائع قصد إلى الإضرار بالعبد في ذلك، فيفسخ البيع على ما في كتاب المديان والشفعة من المدونة، خلاف ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب منها؛ وأما قول ابن وهب ولا تجوز شهادة بعضهم على بعض، فالمعنى في ذلك أنه أراد لا تجوز شهادة بعضهم على بعض عند أحد من أهل العلم، فلا دليل فيه على أنه يجيز شهادة اليهودي على اليهودي، والنصراني على النصراني؛ لأن من مذهبه ومذهب مالك وجميع أصحابه، أن شهادة أهل الكفر لا تجوز على حال.
[مسألة: المسلم يبيع الصبي الصغير من النصراني]
مسألة وسئل: عن المسلم يبيع الصبي الصغير من النصراني، فقال: أحب إلي ألا يبيعه إلا من مسلم، فإن باعه من نصراني، جاز بيعه.
قال محمد بن رشد: يريد الصبي الصغير الذي لا يجبر على الإسلام، وأما الذي يجبر على الإسلام، أو يختلف في جبره عليه، فلا يجوز على قول من يرى أنه يجبره عليه إن باع من النصراني؛ وإن بيع منه، جرى ذلك على الاختلاف في النصراني يشتري العبد المسلم، هل يفسخ البيع، أو يباع عليه؛ وقد مضى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم، ومن كتاب الجنائز، وفي غيره من المواضع، تحصيل القول فيمن يجبر على الإسلام من الصغار، ومن لا يجبر منهم، فلا معنى لإعادته.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله(7/513)
[كتاب جامع البيوع الرابع] [باع من امرأته خادما واشترط عليها أن تتصدق بها على ولده]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وآله وسلم من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم
من كتاب البيوع والعيوب
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عن رجل باع من امرأته خادما واشترط عليها أن تتصدق بها على ولده، فلما وقع البيع بدا لها أن تتصدق بها، قال: لا تلزمها الصدقة، والرجل بالخيار، فإن شاء أجاز البيع على ذلك، وإن شاء نقضه ورد إليها مالها، قال أصبغ: وكذلك العتق إن اشترى على أن يعتق مثل هذا التفسير، وهو قول مالك في العتق، [والصدقة] أحرى وأضعف.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال أصبغ إن البيع على الصدقة كالبيع على العتق، إذ لا غرر في ذلك بخلاف البيع على الوصية أو على(8/7)
الوصية بالعتق أو [على] الكتابة أو التدبير أو العتق إلى أجل، وقد مضى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم القول على البيع بشرط العتق، ويأتي أيضا في رسم المدبر والعتق من هذا السماع، ومضى في رسم المكاتب من سماع يحيى القول على البيع بشرط الوصية وما أشبه ذلك، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: حكم أقداح القوارير المنصوبة في المجالس للبيع]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن أقداح القوارير المنصوبة في المجالس للبيع مثل التي عند باب المسجد مفروشة في أفنية الحوانيت للبيع وأقداح الخشب يقف بها الرجل يشتري منها فيتناول منها شيئا فينظر إليه ويقلبه فيسقط من يديه فينكسر، فقال: لا ضمان عليه، وهذا من شأن الناس النظر إليها عند الاشتراء والتقليب، وذكره عن مالك في القوارير. قال أصبغ: وسواء استأذن في الأخذ [أو لم يستأذن] إذا رآه صاحبها وتركه يأخذ وينظر، فإن كان بغير أمره، ولا علمه فهو ضامن، قال أصبغ: وكذلك الذي يدار به من القوارير أيضا للبيع، وكذلك البواقل في المجالس للبيع، قال أصبغ: فسألت ابن القاسم فقلت له: فقلال الخل يرفعها يروزها ليعرف نحوها وملأها فتنكسر؟ فقال:(8/8)
ما أدري ما هذا؟ ولم أسمع فيه شيئا، قال أصبغ: وهو عندي مثل الأول مثل القوارير والأقداح ما لم يعنف ويخرق ويأخذ بغير مأخذه مثل أن يعلق القلة الكبيرة بأذنها أو غير ذلك من وجوه العنف عن وجه الحمل المعروف فيضمن. قال أصبغ: قال لي ابن القاسم احتجاجا عليّ في الخل: أرأيت الدينار ينقره الصيرفي فيذهب ألا يضمن؟ قلت: فهذا مثله؟ قال: نعم، وهو يضعف ذلك، وقال أصبغ: ليس هو مثله ولا من بابه، وقال لي قبل ذلك في الدينار يعطيه الرجل الصراف على دراهم فينقده فيذهب إنه ضامن، قال أصبغ: هذا صواب قد صار منه حين قبضه بصرف، فهو بيع واشتراء مقبوض، قال أصبغ: وكذلك لو اغتصبه الصراف أو اختلس منه قبل أن يزنه كان منه، قال أصبغ: وسواء في هذا عندي نقره نقرا يتلف من مثله أو خفيفا لا يعطب في مثله إلا بالقضاء والقدر، إلا أن يأذن له في نقره فينقره نقرا خفيفا لا يعطب مثله فيصاب في ذلك فلا شيء عليه، وإن خرق ضمن.
قال محمد بن رشد: إنما رأى ابن القاسم في الخل أنه ضامن إذا رفع القلة فسقطت من يده فانكسرت من أجل أنه لا حاجة به في تقليب الخل إلى رفع القلة حسبما حكى ابن المواز عنه من رواية أبي زيد، وقد ذكرنا ذلك في نوازل سحنون، وكذلك رأى أنه لا يحتاج في انتقاد الدنانير إلى نقرها فقال في الصراف: إنه إذا قبض الدينار ليقلبه ثم يصارفه فيه إن أعجبه فنقره فتلف إنه ضامن إن لم تكن به حاجة في تقليبه إلى نقره، فاحتج على أصبغ بذلك في ضمان الخل، وأما إذا قبض الدينار على وجه الصرف فلا اختلاف في أنه ضامن له على كل حال كما قال أصبغ وإن غصبه الصراف أو اختلس منه قبل أن يزنه. وقد اعترض ابن دحون قوله قبل أن يزنه فقال: قوله قبل أن يزنه قول مشكل، كيف يضمنه قبل أن يزنه وقد أخذه ليزنه؟ قال: وإنما تؤول المسألة الأولى التي في نوازل سحنون إنه(8/9)
مثقال يجوز بعينه لا بوزن، فقبضه له ضمان؛ لأنه لم يدفعه إلا على مواجبة الصرف، وهذه ذكر فيها الوزن، وذلك يدل على عدم المواجبة إلا بعد الوزن، فمحال أن يضمن ما أخذ ليزن قبل الوزن، وهو اعتراض غير صحيح، وقول أصبغ قبل أن يزنه كلام صحيح ليس فيه لبس ولا إشكال؛ لأن معنى ما تكلم عليه إنه دينار يجوز بعينه، فبالقبض يدخل في ضمانه؛ لأنه محمول على أنه وازن حتى يعلم أنه ناقص لا يجوز بجواز الوازن فيكون ذلك عيبا فيه يجب له رده به، فإنما يزنه ليختبر هل به عيب أم لا؟ فمتى تلف قبل الوزن ضمنه المشتري، وهذا بيّن لا إشكال فيه، وقوله في قلال الخل يرفعها يروزها؛ ليعرف نحوها وملأها فمعناه ليعرف مقدار ما فيها من الخل ملأ لا ليعرف هل ملأى أم لا؟ فتحصيل هذه المسألة أن كل ما أخذه ليقلبه بغير إذن صاحبه ولا علمه فهو ضامن له عنف أو لم يعنف، وكل ما أخذه بإذن صاحبه أو هو يراه على أحد قولي ابن القاسم وقول أصبغ فلا يضمن إلا أن يعنف، وكل ما قبض على جهة البيع فضمانه منه على كل حال إلا أن يهلك بأمر أذن له فيه دافعه لم يتعده إلى غيره.
[مسألة: قلال الخل هل يجوز شراؤها بحالها مطينة ولا يدري ما فيها]
مسألة قال أصبغ: قلت لابن القاسم في قلال الخل أيجوز شراؤها بحالها مطينة ولا يدري ما فيها ولا ما ملؤها؟ فقال لي: إن كان قد مضى عليه عمل الناس أفأحرمه؟ كأنه لا يرى بذلك بأسا. قال أصبغ: لا بأس به، قد جرى عليه وعرف حزره بقدر ظروفه، وهو يدور على أمر واحد في الملء والحد متقارب فلا بأس وإن لم يذقه ويعرف جودته من رديئه؛ لأن الاشتراء إنما يقع على الخل فهو الطيب فإن وجد خلافه برداوة مغيبة عنهما رده كما لا يدرى لعله خمر أو بعضه، وفتحه كله للبيع فساد، فلا بأس باشترائه(8/10)
كذلك أو اشترائه على عين أوله يفتح الواحد منه ويذوقه ويشتري عليه وهذا أصوبه.
قال محمد بن رشد: إنما جاز شراؤها دون أن تفتح وتذاق للعلة التي ذكرها من أن فتحها للبيع فساد، فجاز شراؤها دون أن تفتح على الصفة من [أجل] أنه خل طيب أو وسط، كما جاز شراء الثوب الرفيع الذي يفسده الفتح والنشر على الصفة دون أن يفتحه وينشره ويقلبه، وكما جاز بيع الأحمال على صفة البرنامج لما في حل الأحمال للسوام من الضرر بأصحاب المتاع. وقوله: ولا يدري ما فيها ولا ما ملؤها معناه ولا يدري مقدار ما فيها من الخل ملأ لا أنه لا يدري، هل هي ملأى أو ناقصة؛ لأنه إذا كانت القلة ناقصة غير ملأى فلا اختلاف في أنه لا يجوز أن يشتريها مطينة على ما هي عليه من نقصانها؛ لأن ذلك من الغرر، إذ لا يجوز بيع الجزاف إلا بعد الإحاطة برؤيته.
[مسألة: باع دابة على أن يركبها بعد ثلاث فقبضها المشتري فنفقت عنده قبل الثلاث]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن باع دابة على أن يركبها بعد ثلاث إلى الإسكندرية فقبضها المشتري فنفقت عنده قبل الثلاث إنها من المشتري، وإنه إذا أخذها البائع فركبها بعد الثلاث فماتت تحته فهي منه. قال أصبغ: البيع فاسد لطول الركوب وبعده وكثرته، فإذا ردها المشتري على البائع للركوب فهي كمن لم يقبض، والضمان في البيع الفاسد إذا لم يقبض من البائع، فالمصيبة في هذا منه لهذا. ولو كان البيع صحيحا لقرب الركوب وخفته وما يجوز كان الضمان على كل حال من المشتري ماتت في يده قبل الركوب أو في الركوب في يد البائع.(8/11)
قال محمد بن رشد: الفساد في هذه المسألة من وجهين: أحدهما مسافة الركوب، والثاني بعد وقت الركوب؛ لأن السنة في استثناء الركوب إنما جاءت في اتصاله بالبيع لا بعد أجل اليوم واليومين، ولذلك قال في سماع أبي زيد إنه إذا باع الدابة واستثنى ركوبها يوما بعد ثلاثة أيام إن البيع فاسد إلا أنه جعل المصيبة فيها من البائع ما بقي له فيها ركوب وإن تلفت في يد المشتري خلاف قوله ههنا، قولان جاريان على الاختلاف في المستثنى هل هو مبقى على ملك البائع أو بمنزلة المشترى، فرواية أبي زيد على القول بأنه مبقى على ملك البائع، وهذه الرواية على القول بأنه بمنزلة المشترى.
[مسألة: الأرض يبيعها الرجل من الرجل على أن يردها عليه متى ما جاءه بالثمن]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الأرض يبيعها الرجل من الرجل على أن يردها عليه متى ما جاءه بالثمن، ما الذي يفوتها؟ فقال: قال مالك: الغرس والبنيان مما يفوتها، قال مالك: والهدم وبيع المشتري إياها مما يفوتها حتى لا يكون له إليها سبيل ويردان فيها إلى القيمة قيمتها يوم قبضها وينفذ اشتراء المشتري الثاني إياها فيما بينه وبين بائعه حلالا لا يردان فيه إلى القيمة ولا غير ذلك إذا كانت عقدتهما في ذلك صحيحة، وإنما القيمة ما بين المشتري الأول والبائع. قال ابن القاسم: طول الزمان في ذلك عندي ليس بفوت، واختلاف الأسواق ليس بفوت، ويرد متى ما علم بذلك، وقاله أصبغ، إلا أن يطول الزمان بالدهور مثل العشرين سنة وما فوق ذلك فإن هذا لا بد أن يدخله الغير ببعض الأوجه والبلى وغيره فأراه فوتا وإن كانت قائمة، والله أعلم، وهذا رأيي.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذا البيع، إنه بيع فاسد(8/12)
هو مثل قوله في أول سماع أشهب خلاف قول ابن الماجشون وقول سحنون في المدونة من أنه ليس ببيع فاسد، وإنما هو سلف جر منفعة حسبما مضى القول فيه في سماع أشهب المذكور. وقد اختلف قول ابن القاسم في طول الزمان بالدهور هل هو فوت في الأرضين والدور، والقولان له في كتاب الشفعة من المدونة، نص في موضع منها أن طول الزمان فيها فوت، وقال في موضع آخر: إن السنتين والثلاث ليس فيها بفوت، فدل ذلك من قوله أن الزمان الطويل فيها فوت، فعلى هذا يكون قول أصبغ في هذه الرواية مفسرا لقول ابن القاسم ومبينا له كما ذهب إليه أصبغ، وله في موضع آخر منه أن تغير البنيان من غير هدم ليس بفوت، قال ذلك على أن طول الزمان بالدهور التي يتغير فيها البنيان ليس بفوت، فعلى هذا يكون قول أصبغ خلافا لقول ابن القاسم. وأما حوالة الأسواق فلم يختلف قوله في أنه ليس بفوت في الأرضين والدور، وأشهب يراه فوتا فيها، ووجه قول ابن القاسم أن الرباع والعقار لا يراد بها الأرباح وإنما تشترى للقنية فلا يفيتها حوالة الأسواق، ووجه قول أشهب أنه وإن كان الأغلب فيها أنها إنما تشترى للقنية فقد تشترى للربح وطلب الفضل، فوجب أن يراعى ذلك في البيع الفاسد وشبهه.
[مسألة: يبيع الدور ويستثني سكناها سنة فانهدمت الدار قبل أن تمضي السنة]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يبيع الدور ويستثني سكناها سنة فانهدمت الدار قبل أن تمضي السنة إنها من المبتاع، ولا يرجع البائع بشيء مما بقي له من السكنى.
قال محمد بن رشد: قوله إن مصيبة الدار إذا انهدمت قبل تمام السنة من المشتري ولا رجوع للبائع عليه بشيء فيما بقي له من الأمد الذي استثنى هو مثل ما تقدم من قوله في نوازل سحنون، وقد مضى القول على ذلك هناك فلا معنى لإعادته، وستأتي المسألة أيضا متكررة بعد هذا.(8/13)
[مسألة: الرجل من أهل الأندلس يكون له المال الموضوع بمصر]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل من أهل الأندلس يكون له المال الموضوع بمصر عند القاضي أو عند رجل وضعه له القاضي عنده من مورث أو غير ذلك، هل يجوز لرجل أن يشتريه منه بالأندلس بعرض ويخرج إليه؟ فقال لي: سئل مالك عن رجل له ذهب بالمدينة عند قاضيها أراد أن يشتري بها زيتا بالشام أو طعاما لا يدري ما حدث على الذهب، قال مالك: لا خير في هذا، فقيل له: كيف العمل في هذا والصواب؟ قال: يتواضعان الزيت والطعام على يدي رجل ثم يخرج إلى الذهب، فإن وجدها تم البيع بينهما. قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: فإن تواضعا العرض في مسألتك على يدي غيرهما لم يكن به بأس ويخرج إلى الذهب، فإن وجدها تم البيع بينهما، وإن لم يجدها فأخلف له غيرها وأعطاه عوضا منها لزم ذلك بائع العرض على ما أحب أو كره، وإن كان بائع الدنانير الغائبة يقبض العرض لا يتواضعانه فلا يحل ذلك إلا أن يكون ضامنا للدنانير إن لم توجد أعطاه مكانها أخرى، فإن كان كذلك فلا بأس به، وإن كان بائع الدنانير الغائبة لا يقبض العروض ولا يمكنه منها صاحبها ولا يتواضعانها ولا يخرجها من يديه لم يكن بذلك بأس، ويخرج إلى الدنانير فإن وجدها لم يقبصها حتى يقبض مشتري العروض العرض؛ لأنه يصير كمن اشترى سلعة غائبة بدنانير، فلا يصلح النقد فيها حتى يقبض السلعة أو يحضر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت متكررة في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال، ومضى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم منه ما فيه بيانها فلا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.(8/14)
[مسألة: باع دابة بثمن مسمى واشترط ركوبها]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم وسئل عمن باع دابة بثمن مسمى واشترط ركوبها إلى الموضع القريب الذي يجوز له اشتراطه فركب فنفقت قبل أن يبلغه، قال: ضمانها من المشتري، قلت: فهل يرجع البائع على المشتري بثمن الركوب الذي اشترطه؟ قال: لا لأنه لم يضع لذلك الركوب شيئا من ثمنها إنما هو شيء اشترطه يجوز لأنه خفيف، وإنما هو بمنزلة ما لو قال: أبيعك هذه الدابة على أن لا تأخذها إلى غد وإلى بعد غد، قلت: فهذا البيع الذي ذكرت لا بأس به أيضا؟ قال: نعم، قلت: وضمانه ممن؟ قال: من المشتري، انظر أبدا كل من اشترط مثل هذا ويجوز له اشتراطه ويكون البيع به جائزا فالضمان من المشتري، قال أصبغ مثله كله إلا الرجوع بثمن الركوب فإني أرى ذلك له إذا كان شيء لا قدر له ولم يكن مثل الساعة والميل والأميال والبريد ونحو ذلك، ومثل اليوم في الدار واليومين والأيام الثلاثة وشبه ذلك، فهذا الذي يلغى وأراه لغوا ولا أرى له رجوعا ولا شيئا، فإذا كان له بال مثل ما ذكرت اليوم واليومين وشبهه رأيته ثمنا، والضمان من المشتري، وإنما ذلك بمنزلة بيع نصف السلعة على أن يبيع النصف الباقي إلى شهر فيبيع إلى أقل من ذلك فلا يبطل بقية شرطه، قال أصبغ: فسألته إن باع دابة واشترط ركوب دابة أخرى غيرها إلى المكان البعيد أيجوز؟ قال: نعم إلى إفريقية إن شاء، قلت: فنفقت في بعض الطريق؟ قال: يرجع عليه لأن الركوب ههنا ثمن ما باع به(8/15)
دابته، قلت: فكيف يرجع؟ قال: يقوم الكراء كراء الموضع الذي اشترط ركوبه فيعرف كم هو، قال أصبغ: فإذا علم مبلغه ضم إلى الثمن ثم قسم عليه قيمة الدابة، فما صار لقيمة الكراء من قيمة الدابة قسم على ما ركب وعلى ما لم يركب، فيرجع بما لم يركب من ذلك بما أصابه عينا ولا يرجع في الدابة بعينها، وكذلك السكنى مثل ذلك سواء.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في نوازل سحنون مستوفى، والحمد لله.
[مسألة: العبد يشترى ويستثنى نصف ماله]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في العبد يشترى ويستثنى نصف ماله: لا خير فيه إلا أن يكون ماله معلوما عرضا أو حيوانا أو رقيقا ولا يكون ذهبا ولا ورقا إذا كان اشتراه بذهب أو ورق، فإن كان اشتراه بعرض أو حيوان فلا بأس أن يستثني نصف ماله وإن كان ماله ذهبا أو ورقا، ورواها سحنون عن ابن القاسم إلا أنها في سماع أصبغ أفسر. قال أصبغ: وذلك إذا وقع المشتري على معرفة الذهب والورق كم هي وأنها له معروفة أو العرض بتسميته وصفته وعينه ومخالفا للعرض الذي يعطى في ثمنه، فأما مجملا فلا يدري ما هو ولا مبلغه فلا يجوز، وإن كان عرضا أو ذهبا أو ورقا واشترى بعرض لأنه لا يجوز بيع الجميع وحبس نصف المال للبائع واستثنى المشتري نصفه والمال(8/16)
مجهول كما يجوز في الجميع هو السنة والبعض خارج من السنة فلا يجوز وإنما تجوز السنة على وجهها ولا تبعض وكذلك سمعت. قال أصبغ: قلت لابن القاسم: أرأيت إن كان ماله عرضا من صنف العرض الذي يشتريه به فلم يستثن ماله كله؟ قال: لا بأس، قال أصبغ: ولا يعجبني، قال أصبغ: ولو أن رجلا اشترى نصف حائط واشترط نصف ثمره لم يكن به بأس.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم فإن كان اشتراه بعرض أو حيوان فلا بأس أن يستثني نصف ماله وإن كان ماله ذهبا أو ورقا يريد ذهبا أو ورقا معلوما على ما فسره به أصبغ، فقوله تفسير لقول ابن القاسم؛ وقول ابن القاسم إن ماله إذا كان عرضا من صنف العرض الذي اشترى به يجوز له أن يستثني بعضه يريد إذا كان مال العبد معلوما؛ وقول أصبغ لا يعجبني يريد إذا كان ماله مجهولا، فليس قوله بخلاف لقول ابن القاسم، وإنما تكلم كل واحد منهما على غير الوجه الذي تكلم عليه صاحبه، هذا الذي يجب أن يحمل عليه قولهما، إذ لا يصح أن يختلف في جواز ذلك إذا كان مال العبد معلوما، ولا خلاف في أن ذلك لا يجوز عندهما إذا كان المال مجهولا، وإنما يجيز ذلك أشهب. وقد مضى ذلك من قوله في سماع سحنون. وقول أصبغ: ولو أن رجلا اشترى نصف حائط واشترط نصف ثمره لم يكن بذلك بأس صحيح، ولو اشترط جميع الثمرة في اشترائه نصف الحائط لم يجز باتفاق، وكذلك مال العبد فإنما يجوز للرجل أن يشترط من مال العبد وثمر النخل بقدر ما اشترى من العبد ومن النخل، فإن اشترط أكثر مما اشترى من الأصل لم يجز عند الجميع، وإن اشترط أقل مما اشترى من الأصل جاز عند أشهب ولم يجز عند ابن القاسم.
[مسألة: اشترى من رجل كرما فخاف الوضيعة]
مسألة قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن رجل اشترى من رجل(8/17)
كرما فخاف الوضيعة فأتى ليستوضعه فقال: بع وأنا أرضيك، قال: إن باع برأس المال أو بربح فلا شيء عليه، وإن باع بوضيعة كان عليه أن يرضيه، فإن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد، وإن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما أراد أكثر منه يوم قال له ذلك. قال أصبغ: وسألت عنها ابن وهب، فقال: عليه رضاه بما يشبه ثمن تلك السلعة والوضيعة فيها، قال أصبغ: وقول ابن وهب هذا أحسن عندي، وهو أحب إلي إذا وضع فيها.
قال محمد بن رشد: قوله: بع وأنا أرضيك عدة " إلا أنها عدة " على سبب، وهو البيع، والعدة إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب في المشهور من الأقوال، وقد قيل: إنها لا تلزم بحال، وقيل: إنها تلزم على كل حال، وقيل: إنها تلزم إذا كانت على سبب وإن لم يحصل السبب، وقول أشهب إنه إن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد يريد مع يمينه، ومعناه إذا لم يسم شيئا يسيرا لا يشبه أن يكون إرضاء والدليل على أنه يحلف على مذهبه إذا قال: أردت كذا وكذا لما يشبه قوله إنه إن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف أنه ما أراد أكثر من ذلك، وجوابه هذا على كله في كثير من مسائله أنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقربه على نفسه، واليمين في هذا يمين تهمة، إذ لا يمكن لمستوضع أن يدعي علم نيته فيحقق الدعوى عليه بخلاف ما ذكر أنه أراده، فيدخل فيها من الخلاف ما يدخل في يمين التهمة، وأما ابن وهب فأخذه بمقتضى ظاهر لفظه وألزمه إرضاءه إلا أن يقول: لا أرضى فيما يقول الناس فيه إنه إرضاء فلا يصدق أنه لم يرض ويؤخذ بما يقول الناس فيه إنه إرضاء، هذا معنى قوله. ولو حلف ليرضينه لم يبر إلا باجتماع الوجهين، وهما أن يضع عنه ما يرضى به وما يقول الناس فيه إنه إرضاء، وقد مضى ما يدل على هذا في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النذور في الحالف ليرضين غريمه من حقه، والحمد لله.(8/18)
[حكم بيع البرج]
ومن كتاب البيع والصرف قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول في البرج يباع قال: إذا باعه بما فيه أو باع جميع ما فيه فذلك جائز لا بأس به وإن كان لا يعرف عدده إذا كان قد رآه وعرفه، قال أصبغ: وذلك إذا عاينه كما يعاين النخل والزرع وصبرة الطعام وأحاط به بصرا ومعرفة أو حزرا وإلا فلا خير فيه، وقد يكون صغيرا كثير العمارة، وكبيرا قليل العمارة.
قال محمد بن رشد: لعبد الله بن نافع في المدنية أنه لا يجوز أن يباع حمام البرج جزافا لأنه من الغرر، ولا يباع إلا عددا، فقيل: إن ذلك مثل قول ابن حبيب في الواضحة في أنه لا يجوز أن يباع الطير أحياء في الأقفاص جزافا؛ لأنه يتداخل بعضه في بعض فلا يحيط البصر به، وإن قول ابن القاسم في حمام البرج خلاف قول ابن حبيب في طير الأقفاص، والذي أقول به أن ذلك ليس بخلاف له لأن طير الأقفاص لا مؤونة في عدها، وحمام البرج لا يصل إلى عدها إلا بعناء كثير ومؤونة شاقة، فطير الأقفاص لا خلاف في أنه لا يجوز بيعها جزافا إذ لا مؤونة في عدها ولا يحاط كل الإحاطة بالنظر إليها لتداخل بعضها في بعض، ونحل الأجباح لا خلاف في جواز بيعها جزافا إذ لا يمكن عدها ولا كيلها بوجه، وحمام الأبرجة اختلف في جواز بيعها جزافا لمشقة عدها، فمن غلب المشقة في عدها على عدم الإحاطة بها في النظر إليها أجاز ذلك، ومن غلب عدم الإحاطة بها في النظر إليها على المشقة في عدها لم يجز ذلك، وليس في تغليب أحد الوجهين على الآخر إلا ما يغلب على ظن المجتهد.
[مسألة: حكم بيع الصعاب من الإبل]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في بيع الصعاب من(8/19)
الإبل وهي لا تؤخذ إلا بالأوهاق، ولا يعرف ما فيها من العيوب وربما عطبت في أخذها فكره ذلك وكره بيعها وقال: في أخذها غرر في انكسارها فهو لا يحل، وكذلك بيع المهارات والفلاء الصعاب بالبراءة ولا يعلم أبها عيب أم لا، ولا يعرف عيب شيء منها ولا ما بها لصعوبتها، وفيه عيب آخر من وجه الخطار أيضا أنه يقول: لا أعلم ما فيها ولم أقلبها، فإنما أبيعها على ما كان فيها من عيب، فهو يضع من ثمنها لذلك، ولا يدري أبها عيب أم لا والمشتري يريده لما يرجو من السلامة، فكل واحد منهما قد خاطر صاحبه، ولو جاز هذا لجاز أن يبيع السلعة الغائبة بصفة أو يكون المبتاع قد رآها ولم يقلبها، أو قد قلبها فطال زمانها فيقول: أبيعك على أنه ما كان فيها من عيب أو من حدث مما لم أعلم فهو منك، فهذا غير جائز، وهو من الغرر، ووجه من التغابن في البيع، وهو يشبه بيع الإباق، فأرى جميع ذلك مفسوخا وجد عيبا أو لم يجده أو حدث بها عيب أو لم يحدث. قال أصبغ: أرى الذي اجتح به وناظر من الحجج في ذلك ليس بحجة ولا نظير المسألة ولا صواب إلا كراهة بيعها لغرر أخذها لصعوبتها وانكسارها فيه فإن ذلك كذلك غير مأمون عليها ولا سليمة منه للذي قد عرفت به واستوحشت ولا أرى بيعها ولا يعجبني، ولا شراءها، وأراه غررا من البيوع حتى تؤخذ فيسلم ما يسلم ويعطب ما يعطب قبل البيع، وأراه مفسوخا إن وقع وأرى مصيبتها من البائع حتى تؤخذ ثم تصاب بعد قبض المشتري إياها. وأما حجته بالوجه الثاني من الغرر والخطار أنه لا يعلم ما فيها فيبيعه على ما(8/20)
كان فيها من عيب فقد خاطره فليس كذلك إنما ذلك بمنزلة بيع البراءة ولا يعلم ما في السلعة وبيع السلعة الغائبة على الصفة المخصوصة ولا يدري ما فيها سواء ذلك فليس في هذا أخطار وهذه بيوع المسلمين، وهي جائزة لازمة حتى توجد عيوب، والذي احتج به في السلعة الغائبة فيقول: أبيعك على أنه ما كان فيها أو حدث مما لم أعلم فهو منك فإنما مكروه هذا إذا اشترطه اشتراطا، وجوابه في الحجة لها في حرور المسألة على غير اشتراط فهي غير حجة لأن المسألة الأولى في بيع الصعاب بالبراءة ليس فيها اشتراط إنما هو بيع مجرد فليست بحجة، والجواب فيها بعينها لنفسها صحيح إذا كان الاشتراط مجردا فالبيع فاسد وإن كان بغير ذلك فليس بفاسد، وله شبيه ببيوع المسلمين وأحكامهم فليس به بأس في المهارة وغير ذلك من المسألة ما عدا الإبل الصعاب وما أشبهها من الأشياء في مثل حدها من المهل والصعوبة والاستيحاش.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في أنه لا يجوز بيع الإبل الصعاب التي لا تؤخذ إلا بالأوهاق وهي الحبال لأن الوهق الحبل التي تؤخذ به الدابة والإنسان، قاله الخليل، صحيح، وتنظيره كما نظرها به من بيع المهارات والفلاء الصعاب على البراءة ومن بيع السلعة الغائبة على الصفة أو على رؤية متقدمة للمبتاع فيها وعلى البراءة مما حدث بها بعد مغيب البائع عنها أو بعد رؤية المبتاع لها إلى حين العقد عليها وقد طال(8/21)
زمان ذلك صحيح أيضا، واعتراض أصبغ عليه في تنظيره واحتجاجه ليس بصحيح، وذلك أنه لا يجوز أن يبيع الرجل بالبراءة ما يجهل عيوبه لأن عليه أن يبين ما يعلم منها فيبرأ مما لم يعلم، فإذا باع ما يجهل عيوبه بالبراءة كان ذلك غررا فقال ابن القاسم: إن بيع الإبل الصعاب التي لا تؤخذ إلا بالأوهاق على البراءة مما بها من العيوب لا يجوز لوجهين: أحدهما الغرر لما يخشى من انكسارها في أخذها، والثاني أنه لا يعرف ما فيها من العيوب لصعوبتها ولا إن كان بها عيب أم لا، فوجب ألا يجوز كما لا يجوز بيع المهارات والفلاء الصعاب بالبراءة إذا كان لا يعرف ما فيها من العيوب ولا إن كان بها عيب أم لا إذ لم يختبر ذلك منها، وكما لا يجوز بيع السلعة الغائبة على الصفة أو على الرؤية المتقدمة على البراءة مما حدث بها بعد مغيب البائع عنها أو بعد رؤية البائع لها إلى حين العقد عليها وقد طال زمان ذلك، وقوله صحيح لائح لا وجه للاعتراض فيه. ورأى أصبغ بيع المهارات والفلاء الصعاب بالبراءة جائزا وإن كان البائع لها لا يعلم هل بها عيب أم لا إذا لم يختبر ذلك منها، وأن بيع السلعة الغائبة على الصفة بالبراءة وإن طال عهده بها طولا يمكن أن يحدث بها عيوب فيه جائز ما لم يشترط أني بريء من كل ما حدث بها مما لم أعلمه، ولذلك اعترض على ابن القاسم، ولا يلزمه اعتراضه لأنه لا يجيز شيئا من ذلك، وهو الصحيح المعلوم من قول مالك. ولهذا المعنى لم يجز للرجل أن يبيع بالبراءة ما اشترى بيع الإسلام وعهدة الإسلام، وقال في أول رسم من سماع أشهب من كتاب العيوب في ذلك يعمد الرجل إلى العبد فيشتريه بيع الإسلام وعهدة الإسلام ولا يحب أن يخبر بشيء من عيوبه ولا يقيم في يديه كبير شيء حتى يعمد إليه فيبيعه بالبراءة فيحكم على المشتري بما لا يدري كيف هو، فامنعهم من ذلك أشد المنع، وافسخ ذلك بينهم، يقول ذلك لصاحب السوق، وقال في رسم تسلف من سماع ابن القاسم منه إن بيع الثياب في الجراب بالبراءة لا خير فيه لأنه لا يستطاع أن يدرك معرفته، وقد مضى القول على هذا في الموضعين.(8/22)
[مسألة: اشترى من رجل ثوبا مصبوغا واشترط له أن يلبسه]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل اشترى من رجل ثوبا مصبوغا واشترط له أن يلبسه، فإن انتقض صبغه رده وأخذ حقه، قال: لا خير فيه إذا اشترط اللبس، ولكن لا بأس أن يبيعه ويقول: اغسله فإن انتقض فرده.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال إن ذلك لا خير فيه لأنه إن انتقض فرده كان سلفا جر منفعة، كأنه أسلفه الثمن على أن يلبس ثوبه ما دام سلفه عنده، وإن لم ينتقض كان بيعا، فمرة يكون بيعا، ومرة يكون سلفا جر منفعة، فإن وقع ذلك كان سبيله سبيل البيع الفاسد يفسخ في القيام، وتكون له القيمة بالغة ما بلغت في الفوات.
[مسألة: بيع كيل وجزاف]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: لا يباع كيل وجزاف اتفق الطعامان أو الصنفان أو اختلفا، فإن اختلفا فهو أشد، قال: ولا يباع جزاف وكيل وإن قل الكيل مثل الإردب والويبة وما أشبه ذلك ويقول: أنا أكرهه قال: ولا يباع جزافا كيلا كله وعروض معه ما كانت العروض من شيء لأنه إذا قلت لك جزافا كيلا فهو يجمع ولا تبالي ما كان، لا يباع مع الجزاف شيء وذلك إذا كان إنما يأخذ جميع ما في الصبرة كيلا مع العروض لأنه لا يدري ما مبلغها. قال أصبغ: وأنا أقول على خوف الذريعة للمزابنة والخطار وعلى الاستحسان والاتباع وليس ذلك بالبين ولا بالقوي ولا المجتمع عليه ولا المسبوق إليه بأحد من أهل العلم قبله، وقد أجازه لنا أشهب. قال أصبغ: قلت لابن القاسم: أفيباع الطعام الواحد في الجودة ومن أندر واحد إلا أنهما مصبرين كل(8/23)
واحد على حدته، أفيباعان جميعا على الكيل بكيلين مختلفين هذا إردبين وهذا ثلاثة صفقة واحدة على الإيجاب عليهما جميعا؟ قال: لا خير في هذا ولا يعجبني؛ لأنه لا يدري كم مبلغ ثمن ذلك ولا كم يقع لكل دينار من جميع ذلك، فكل واحد منهما لا يدري ما اشترى ولا ما باع إلا أن يسمى كم يأخذ من هذا من دينار وكم يأخذ من هذا من دينار، قال أصبغ: وهذا إغراق منه على مذهبه الذي ذهب إليه في هذا الباب بين أهل العلم في أوله وآخره وأرجو أن يكون هذا خفيفا. قال أصبغ: قلت لابن القاسم: أرأيت إن اختلفا في الجودة وهو قمح كله أو اختلف الطعامان مثل التمر والقمح أيشتريهما بكيلين مختلفين صفقة واحدة أو كيل واحد صفقة واحدة؟ فقال في الطعامين المختلفين لا يباعان جميعا على الكيل، وإن اتفق الكيل فكان بكيل واحد فلا خير فيه، وكذلك الطعامان إذا اختلفت الصفة، وإن كانا من صنف واحد مثل القمح والشعير أو القمح الجيد والرديء، ولا يباعان صفقة وإن كانا بكيل واحد وسعر واحد إلا أن يسمى ما يأخذ كل واحد منهما من الدنانير فلا بأس أن تباع الصبرتان من صنف واحد وقمح واحد وصفة واحدة بسعر واحد وكيل واحد، وقاله أصبغ كله، ونحن فتقناها عليه حين علمنا أصل قوله في الأول وتشديده فيه، وهو عندي حسن، والمسألة ووجوهها حسنة جدا على ما فسرت لك في الأول.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم شك من سماع ابن القاسم تحصيل القول فيما يجوز من بيع الجزاف والكيل صفقة واحدة مما لا يجوز، ولا اختلاف في أنه يجوز بيع الكيلين في صفقة واحدة وبيع الجزافين على غير الكيل في صفة واحدة ولا في بيع الكيل مع العروض(8/24)
التي لا يتأتى فيها الكيل. واختلف في بيوع الجزاف مع العروض على ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك لا يجوز وإن كان الجزاف على غير الكيل، وهو مذهب ابن حبيب، والثاني أن ذلك جائز وإن كان الجزاف على الكيل، وهو قول أشهب وأصبغ، والثالث أن ذلك جائز إن كان الجزاف على غير الكيل، ولا يجوز إن كان على الكيل، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية والمشهور في المذهب. وأما بيع الجزافين على الكيل فإن اتفق الطعام والكيل جاز ذلك باتفاق، وإن اختلف الطعام والكيل لم يجز ذلك باتفاق، وإن اتفق أحدهما واختلف الآخر مثل أن تكون صبرتين من قمح صفة واحدة فيشتريهما صفقة واحدة، هذه ثلاثة أرادب بدينار، وهذه أربعة أرادب بدينار، أو صبرة من قمح وصبرة من شعير فيشتريهما صفقة واحدة ثلاثة أرادب بدرهم جاز ذلك عند أشهب وأصبغ ولم يجز عند ابن القاسم، فلا يجوز عند ابن القاسم أن يشتري الرجل مبدر عشرة أمداء من أرض كل قفيز بكذا إن اختلفت الأرض وإن نظر إلى جميعها، وكذلك لا يجوز على مذهبه وإن اتفقت إذا كان معها في الصفقة سوى الأرض من ثمرة أو دار أو عرض، ويجوز ذلك كله على مذهب أشهب وأصبغ، هذا تحصيل القول في هذه المسألة.
[مسألة: اشترى من رجل عشرة من الغنم يختارها والغنم كلها حوامل]
مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن رجل اشترى من رجل عشرة من الغنم يختارها من عدة غنم، والغنم كلها حينئذ حوامل، فواجبه وتفرقا ولم يختر حتى وضعت فجاء ليختار أيكون له من لغوها شيء؟ ولغوها نسلها الذي وضعت قال: لا ليس له من(8/25)
لغوها شيء، يشتري عشرة ويأخذ عشرين ليس له إلا أن يختار في رقابها وحدها ولا يتبعها بشيء من لغوها، فقيل له: إن البيع قد وقع حين وقع وهي حوامل، وقد كان له أن يختارها وهي حوامل وأولادها في بطونها، قال: وإن ليس له ههنا إلا الرقاب لم يشتر غيرها إلا أن يكون اشترى على أنها حوامل، بشرط واشترط، فالبيع حينئذ فاسد مفسوخ، قيل له: فإن جز صوفها قبل أن يختار ثم جاء ليختار؟ قال: له الصرف يأخذه لأنه لم يكن للبائع جزه. فقيل له: فما أكل البائع منها من الألبان والسمون؟ قال: لا شيء عليه فيه للضمان. فقيل له: فإن اشترى عشرة شياه من مائة يختارها على أن المائة كلها تحلب قسطا قسطا؟ قال: وما بأسه؟ لا بأس به، قيل: فتأخر اختياره حتى احتلبها هذا أياما ثم جاء ليختار؟ قال: لا شيء عليه فيما احتلب لأنه كان ضامنا يعني البائع، قيل له: فإن اشترى رجل عشر جواري يختارها من مائة وهي حوامل؟ قال: ليس هذا مثل الغنم، هذا إن كان يختار مكانه حين اشترى فلا بأس والبيع جائز، إلا أن يكون أيضا الشرط على أنهن حوامل فيفسخ البيع، وإن لم يشترط ذلك فلا بأس، فإن لم يختر حتى يضعن أيضا رأيت أن يفسخ البيع ولا يكون له الخيار في رقاب الأمهات كما يختار في رقاب الأمهات من الغنم من قبل أن ذلك يكون حينئذ تفرقة بين الأمهات والأولاد، ورآه بمنزلة من باع جارية ولها ولد وسكت عن الولد فلم يشترط فيها تفرقة ولا غيرها أن ذلك البيع أيضا يفسخ لأنها تفرقة، فقيل له: إن البيع(8/26)
وقع ههنا فاسدا وأصل البيع هناك كان صحيحا، قال: وإن فقد صار إلى فساد قبل أن يتم، قال أصبغ مثله إلا في الاشتراط أنها حوامل، فإنه إن كان الحمل بينا ثابتا معروفا يعرفه كل واحد فلا بأس به في الغنم والجواري جميعا، والشرط فيه وغير الشرط سواء، ولا يفسد البيع إلا في ولادة الجواري إذا لم يشترط الحمل ووضعن قبل الاختيار فكان الولد للبائع أنه يختار ثم يجمع ما اختار مع ولده فيباعان جميعا ويقسم الثمن على الأقدار ولا يفسخ لأن أصله جائز أن تجمعهما.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة في الذي يشتري عشرة من الغنم يختارها من عدة وهي حوامل فلم يختر حتى وضعت أنه ليس له في الأولاد شيء، وإنما يختار في الأمهات مثل قول أشهب في المدونة خلاف قوله فيها في الذي يشتري أمة بالخيار فتضع في أيام الخيار أن الولد للمشتري إن اختار الشراء فجعل الولد كعضو منها بخلاف الجناية عليها عنده وهو أن يكون كعضو منها في هذه أحرى؛ لأن البيع له فيها لازم في عشرة مع أنه بالخيار في كل واحدة منهما، وقد قال ابن دحون: إن قوله في هذه المسألة ليس بخلاف لما له في المدونة لأنه إنما جعل الولد للمشتري في مسألة المدونة من أجل التفرقة، ولا تفرقة في الغنم، وليس قوله بصحيح لأنه قد قال في الجواري بعد هذا: إن البيع يفسخ إذا وضعت الجواري قبل الاختيار من أجل أن الولد يكون للبائع فيكون بيع تفرقة، ولم يقل إنه يكون له أولاد الذي يختار، فدل ذلك على أنه لا فرق عنده في هذا بين الغنم والجواري. وفي قوله: إن البيع يفسخ نظر لأنه إنما فسخه من أجل أنه رأى اختياره إن اختار إنما يكون على العقد الأول وكأنها لم تزل ملكا له من يومئذ، وهذا يوجب أن يكون له الأولاد، وفسخه للبيع أيضا من أجل التفرقة خلاف قوله في المدونة من أن البيع لا يفسخ إلا أن يأبيا أن يجمعا بينهما في ملك واحد بأن يبيع أحدهما من الآخر أو يهب له، وقد قيل: إن البيع لا يفسخ، وإن أبيا أن يجمعا(8/27)
بينهما في ملك بيعا عليهما وقسم الثمن بينهما على قيمتهما، وهو قول أصبغ هنا، وهو القياس على القول بجواز جمع الرجلين سلعتيهما في البيع، وهو مذهب أشهب إلا أنه قد خالف أصله في هذه المسألة فقال: إن البيع يفسخ إذا أبيا أن يجمعا بينهما في ملك واحد. وقوله: إن له الصوف إذا جزه البائع قبل أن يختار صحيح بين لا اختلاف فيه لأن الشراء إنما وقع على أن يختارها بصوفها، فليس للبائع أن يسقط حقه في الصوف بجزه إياه. وأما قوله فيما أكل البائع منها من الألبان والسمون قبل أن يختار المبتاع أنه له من أجل الضمان ولا شيء للمبتاع فيه فهو قول فيه نظر لأن المبتاع ضامن العشرة على مذهبه لوجوب البيع عليه فيها لو تلفت للزمه غرم الثمن وكانت مصيبتها منه، فكان القياس على قوله أن يكون له من اللبن والسمن الذي أكل البائع ما يقع للعشرة من جملة الغنم التي اشترط الخيار منها؛ لأنه شريك معه فيها بذلك القدر لو تلفت، وإنما يصح أن يكون اللبن والسمن للبائع على مذهب سحنون الذي يقول: إن المصيبة من البائع في جميع الغنم إن تلفت قبل أن يختار المبتاع، وعلى هذا يأتي قوله في كتاب الخيار من المدونة في مسألة الدنانير، ومعناه أن تلف الدينار لم يعلم إلا بقوله؛ لأن قوله في ذلك خلاف مذهب ابن القاسم، سواء على مذهب ابن القاسم قامت بينة على تلفه أو لم تقم؛ لأن قبضه على الإيجاب. وقول العتبي في قول أصبغ إنه مثل قول ابن القاسم إلا في اشتراط أنها حوامل فلا بأس به إذا كان الحمل ظاهرا وهم منه؛ لأنه قال فيه: ولا يفسد البيع في ولادة الجواري إذا لم يشترط الحمل ووضعن قبل الاختيار ويكون الولد للبائع ويختار ثم يجمع ما اختار مع ولده فيباعان ويقسم الثمن على الأقدار ولا يفسخ البيع، وهذا نص خلاف قول ابن القاسم في أن البيع يفسخ إذا وضعن قبل الاختيار. وما وقع في الأم من قوله ولا يفسد البيع إلا في ولادة الجواري خطأ في الرواية لأن إلا إذا أثبتت فيها تناقض الكلام وصار أوله مخالفا لآخره، ولعله ينقص من آخر الكلام شيء، فينبغي أن يتأمل قول أصبغ في الأصل الذي نقله منه العتبي حتى يوقف على حقيقته. وقوله إذا لم يشترط الحمل يريد في غير بينة الحمل على مذهبه في أن اشتراط(8/28)
الحمل في بينة الحمل لا يفسد البيع، وهو مذهب سحنون خلاف قول ابن القاسم ههنا وخلاف روايته عنه في المدونة وفي رسم الشريكين من سماع ابن القاسم، وقد مضى القول على ذلك هناك. وإنما لا يفسد البيع على مذهب أصبغ وسحنون باشتراط الحمل الظاهر في الرمكة إذا قال: أبيعك إياها على أنها حامل، ولم يقل من فرس ولا حمار، وأما إن قال من فرس أو حمار فيكون البيع فاسدا لاحتمال أن يكون انفلت عليها غير الذي سمى، وبالله التوفيق.
[مسألة: يعطي الرجل زرعه وثمره بجدادها وحصاده]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: لا بأس أن يعطي الرجل زرعه وثمره بجدادها وحصاده ويكونان شريكين في الزرع والثمرة بمنزلة بيعه ذلك بالعين، وإن اشترط في الزرع على أن على بائع النصف درسه وذروه لم يحل، وكذلك قال لي مالك، قال أصبغ يعني درس الجميع وذروه، فكأنه اشتراه بعد ما يخرج. قال أصبغ: ولو شرط ذلك على المشتري لم أر به بأسا لأنه اشترى نصفه بثمن مسمى وبعمل من الأعمال معروف، فلا بأس به إن شاء الله وقد سمعت ابن القاسم يغمزه ويغلظ فيه.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا بأس أن يعطي الرجل زرعه وثمره على النصف بجدادها وحصاده ويكونان شريكين في الزرع والثمرة بمنزلة بيعه ذلك بالعين، هو مثل ما في كتاب الجعل والإجارة من المدونة، ووجه جوازه هو أنها إجارة لأنه استأجره على حصاده بنصفه، ونصفه يجوز له أن يبيعه، وما يجوز بيعه جاز الاستئجار به، فكانت إجارة جائزة لازمة لهما(8/29)
جميعا، إن أراد الأجير أن يترك الحصاد قبل أن يبدأ به أو بعد أن حصد بعضه لم يكن ذلك له، وإن أراد رب الزرع أن يمنعه لم يكن ذلك له. وقول أصبغ في قول ابن القاسم وروايته عن مالك إنه لو اشترط على بائع النصف درسه وذروه لم يحل يعني درس الجميع وذروه، كلام فيه نظر؛ لأن درس نصفه وذروه على البائع إذ هو له لم يبعه، فإنما يصح أن يشترط المشتري عليه ما لم يجب علمه، وذلك درس النصف الذي اشتراه وذروه، وإذا اشترط ذلك عليه كان عليه بشرط درس النصف وذروه درس الجميع وذروه بأن درس نصفه الآخر وذروه عليه لأنه ماله لم يبعه، وكان ذلك حراما [لا يحل] ، كما قال، ولو اشترط على بائع النصف حصاده وجذه لجاز ذلك لأنه يجوز للرجل أن يبيع جميع زرعه على أن عليه حصاده، وهذا على أن القول بأن بيع الزرع بعد أن يحصد وهو في سنبله قبل أن يدرس جائز، وهو قول مالك في رواية أشهب وابن نافع عنه، وقد مضى هذا المعنى في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، وقول أصبغ: إنه لو اشترط ذلك البائع على المشتري لم يكن به بأس، وجهه أنه إذا اشترط عليه حصاد نصفه وذروه كان عليه حصاد الجميع وذروه لأن حصاد النصف الآخر وذروه عليه لأنه ماله قد وجب عليه باشتراء وكان إذا اشترط ذلك عليه قد اشترى نصف الزرع بالثمن الذي سمياه وبحصاد النصف الآخر الذي للبائع وذروه، فجاز ذلك، وجوازه إنما يأتي على رواية أشهب عن مالك في أول رسم من سماعه من كتاب الجعل والإجارة في أنه يجوز أن يستأجر الرجل الرجل على حصاد زرعه ودرسه بنصفه، وأما على مذهبه في المدونة أنه لا يجوز أن يستأجر الرجل الرجل على حصاد زرعه ودرسه بنصفه فلا يجوز ذلك، ومن أجل ذلك كان ابن القاسم يغمزه ويغلظ فيه، إذ لا فرق في المعنى بين أن يبيع منه نصف الزرع بكذا على أن على المبتاع حصاده ودرسه، وبين أن يؤاجره على حصاده ودرسه بنصفه. ولو اشترى منه جميع الزرع أو نصفه كل قفيز بكذا على أن حصاده ودرسه(8/30)
وذروه على البائع لجاز، قاله في المدونة، وسيأتي في سماع يحيى من كتاب الجعل والإجارة القول على تلف الزرع إذا استأجره على حصاده بنصفه.
[مسألة: بيع الشاة المذبوحة ولم تسلخ]
مسألة وسمعته يقول: لا بأس ببيع الشاة المذبوحة ولم تسلخ إذا بيعت على حالها، وإن كان إنما ابتاع أرطالا ثم توزن وتسلخ فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال لأن الشاة المذبوحة غير المسلوخة، وإن كان لها حكم اللحم في أنه لا يجوز بيعها بشيء من الطعام إلى أجل ولا باللحم إلا مثلا بمثل على التحري فيجوز بيعها بالدنانير والدراهم والعروض نقدا وإلى أجل، ولا يكون ذلك من بيع اللحم المغيب كما يكون بيع الشارف والكسير وما لا يستحيا من جميع الحيوان بيع اللحم المغيب، وأما شراء أرطال منها قبل أن تسلخ فهو بيع اللحم المغيب، والأصل في هذا أن كل ما يدخل بالعقد في ضمان المشتري فليس من بيع اللحم المغيب، وما لا يدخل بالعقد في ضمانه حتى يوفى إياه فهو بيع اللحم المغيب.
[مسألة: اشترى من صبرة عشرة أرادب فاكتال منها خمسة]
مسألة وسألته عمن اشترى من صبرة عشرة أرادب فاكتال منها خمسة ثم قال للبائع: أعطني الخمسة الأخرى من هذه الصبرة وهي أدنى منها، قال: لا بأس بذلك، فقيل له فيأخذ شعيرا مكانها؟ قال: لا بأس بذلك أيضا.
قال محمد بن رشد: هو مثل ما في المدونة إنما جاز ولم يدخله بيع الطعام قبل استيفائه؛ لأنه صنف واحد فهو يعد مبادلة يدا بيد، ولم يجز(8/31)
في المدونة أن يأخذ من الحنطة المشتراة دقيقا وإن كان اللحم والدقيق عنده صنفا واحدا مراعاة لقول عبد العزيز بن أبي سلمة في أنهما صنفان، وقد كان يلزمه على قياس هذا ألا يجيز الشعير من القمح مراعاة لقول من يراهما صنفين مع قوة الخلاف في ذلك وما في بعض الآثار من قوله: وبيعوا القمح بالشعير كيف شئتم، فهو تعارض من القول، والله أعلم.
[مسألة: بيع ودك الرؤوس]
مسألة وسمعت ابن القاسم يقول ودك الرؤوس يشترى: لا يباع حتى يستوفى لأن أصله طعام، وقال أصبغ: وهو كالإهالة، والإهالة شحوم ألية مذابة وأوداكها فهي طعام.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، وهو مما لا يدخل فيه اختلاف لأن كل ما كان من الأطعمة فلا يجوز بيعه قبل استيفائه «لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيع الطعام قبل أن يستوفى» ، فهو محمول عند الجميع على عمومه في جميع الطعام الذي يوكل ويشرب على غير التداوي لأن الأدوية لا تعد من الأطعمة، وقد مضى ذلك في أول رسم أوصى من سماع عيسى وفي سماع أبي زيد من كتاب السلم والآجال.
[يحضر المزايدة فيقول له الصائح دونك السلعة فقد أمضيتها لك بالذي زدت فينكر]
ومن كتاب الكراء والأقضية قال أصبغ: سألت ابن القاسم في الرجل يحضر المزايدة على السلعة فيقول له الصائح: دونك السلعة فقد أمضيتها لك بالذي زدت، فينكر أن يكون زاد شيئا، قال: لا أرى عليه إلا(8/32)
يمينا بالله ما زاد شيئا ويبرأ، وإنما ألزمته اليمين لحضوره المزايدة، وأما لو قال ذلك لمن لم يحضر المزايدة لم يكن عليه يمين ولم يلزمه من قوله شيء. قلت: أرأيت لو قال ذلك لمن لم يحضر وقال: أنت أمرتني وأوصيتني إذا وقفت على شيء أن أوجبها لك ألا يحلف له؟ قال: إن كان مثله يأمر مثله في تجارته وناحيته فأرى أن يحلف، وإن كان على غير ذلك لم يحلف.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصولهم في أن من زاد على السلعة في بيع المزايدة تلزمه السلعة بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يلزمها إياه ما لم ينقلب بسلعته وتذهب أيام الصياح أو يكون مما العرف فيه أن ترد أو تباع في المجلس فتلزمه السلعة بما زاد فيها وإن زاد عليه غيره ما لم ترد السلعة ويصاح على غيرها، وقد مضى هذا في آخر أول رسم من سماع أشهب من كتاب العيوب، وأوجب عليه اليمين بمجرد الدعوى لأن حضوره المزايدة خلطة توجب له عليه اليمين، وأما إذا لم يحضر المزايدة فلا يمين له عليه إلا أن يكون بينه وبينه من الأسباب ما يشبه أن يكون مثله يأمر مثله كما قال، وهذا على قولهم في أن اليمين لا تلحق بمجرد الدعوى دون خلطة؛ لأن الخلطة إنما تكون من قبيل الدعوى، فإن ادعى مبايعة كانت الخلطة بالمبايعة، وإن ادعى عليه سلفا ومعروفا كانت الخلطة بالصداقة والملاطفة التي تقتضي المسالفة والمعروف بينهما، وكذلك هذا، المخالطة فيه بأن يكون بينهما ما يشبه به أن يكون مثله يأمر مثله في تجارته، فإن حلف لم يلزم الصائح شيء إذا كان ذلك في المجلس، وأما إن قبض السلعة وقال: فلان أمرني أن أوجبها له بما أعطى فيها فجاء فلان فأنكر قول الصائح فحلف فإن السلعة تلزم نصائح بذلك الثمن لأنه أتلفها على ربها إذ لم يمضها لمن زاد فيها في المناداة في المجلس وأمسكها لغيره، وإن نكل عن اليمين حلف الصائح ولزمته السلعة، وإن نكل الصائح عن اليمين بعد نكوله هو كان لرب السلعة أن يضمنه إياها بذلك الثمن إن شاء لأنه قد أتلفها عليه بنكوله.(8/33)
[مسألة: باع سلعة ثم أتى يقبض الثمن فقال المشتري لم أقبض السلعة]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن رجل باع سلعة ثم أتى يقبض الثمن فقال المشتري: لم أقبض السلعة، وقال البائع: قد قبضتها؟ فقال: إن كان أشهد له بالثمن فقد قبض السلعة وعليه غرم الثمن. قال أصبغ: ويحلف البائع إن كان ذلك بحرارة البيع والإشهاد بأن هذا من أفعال الناس، فأما أن يكف فإذا حل الثمن وشبهه قال: لم أكن قبضت السلعة فلا قول له ولا يمين على البائع إذا حل الأجل.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنه إذا حل الأجل فالقول قول البائع مع يمينه لقد دفع السلعة، وإذا كان بالقرب فالقول قول المشتري وإن كان قد أشهد على نفسه بالثمن. وكذلك إذا باعها منه بالنقد وأشهد عليه المبتاع بدفع الثمن ثم قام يطلب السلعة منه بالقرب الذي يتأخر فيه القبض ويستقل الناس في حوائجهم الأيام والجمعة ونحو ذلك فالقول قول المشتري وعلى البائع البينة على دفعها، وإن بعد الأمر الشهر والشهرين ونحو ذلك لم يصدق المبتاع أنه لم يقبض وكان القول قول البائع، وهذا القول هو ظاهر قول ابن القاسم في الدمياطية، وهو أظهر من رواية أصبغ هذه؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» ولا شك أن البائع مدع في دفع السلعة كما أن المبتاع مدع في دفع الثمن، فلما كان بالقرب القول قول البائع إنه ما قبض، وفي البعد القول(8/34)
قول المبتاع مع يمينه لقد دفع، وقد مضى حد القرب والبعد والاختلاف فيه في رسم الأقضية من سماع أشهب، وجب أن يكون بالقرب، القول قول المبتاع مع يمينه أنه ما قبض السلعة وإن أشهد على نفسه بالثمن إن كان إلى أجل، أو على البائع بدفعه إليه إن كان نقدا، إذ لا دليل في الإشهاد بالثمن على قبض السلعة، إذ قد يشهد به قبل ذلك؛ وأن يكون في البعد القول قول البائع لقد دفع مع يمينه، ولا وجه لسقوط اليمين عنه مع تحقيق دعوى المبتاع عليه أنه لم يدفع السلعة إليه. ولو أشهد المبتاع على نفسه بالثمن وأنه قد قبض السلعة ثم قام بالقرب يطلبها وقال: إنما أشهدت له بقبضها على سبيل الطمأنينة إليه لجرى ذلك على اختلاف المتأخرين في البائع يشهد للمبتاع في كتاب الابتياع بالبيع والقبض ثم يدعي أنه بقيت له منه بقية أو أنه لم يقبض منه شيئا وقال: إنما أشهدت له بالبيع والقبض على الثقة له والطمأنينة إليه، فقيل: إنه لا يمين على المبتاع قرب الأمر أو بعد، وقيل: إن كان بالقرب حلف، وإن كان قد بعد الأمر وطال الأمد لم يحلف، حكى القولين ابن الهندي في وثائقه، وقال ابن زرب: إن كان المشتري من قرابة البائع أو من حلفائه حلف، وإن كان أجنبيا لم يحلف، ولم يفرق بين القرب والبعد.
[مسألة: قال اشتريت من فلان أنا وفلان فقال البائع لا بل بعتك أنت وحدك]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول عن رجل قال: اشتريت من فلان أنا وفلان هذه السلعة بكذا وكذا دينارا، فقال البائع: لا بل بعتك أنت وحدك، فقال: لا يلزم المقر إلا نصف السلعة بنصف الثمن الذي ذكره، وليس للبائع عليه غير ذلك. وإن قال: اشتريت هذه السلعة من فلان، وقال البائع: بل بعتك أنت وفلانا فإنه إن طلبها ذلك الفلان الذي أقر له صاحب السلعة بالبيع أخذ ذلك إلا يكون للآخر بينة، وقاله أصبغ كله. قال ابن القاسم: فإن لم يطلب ذلك فأراها كلها(8/35)
لهذا الذي زعم أنه اشتراها كلها لنفسه، وليس للبائع حجة لأنه قد أقر ببيعها كلها وإخراجها من يده وملكه. قال أصبغ: وليس هذا بشيء، وليس له إلا نصفها إلا أن يسلم له البائع البيع، وهذا إغراق عن الصواب، وهو كالتقصير عنه. وقد قال أيضا: إذا قال لفلان علي ألف درهم وعلى فلان وفلان فأراها عليه كلها خاصة إن كان كلاما نسقا فهو خطأ كالذي فوقه، وهو منكر من قوله، وليس عليه إلا الثلث. وفرق - زعم - بين هذا وبين أن يقول لفلان علي وفلان وفلان ألف درهم لأن الأول قد أقر بالألف على نفسه ثم ندم فأدخل ما أدخل ليسقط بعض ذلك عن نفسه، وأن الآخر إنما هو إقرار واحد وإقرار وشهادة، فيؤخذ منه ما يلزمه من حصة ذلك وهو الثلث، ويسقط ما بقي إن لم تجز شهادته فيه. قال أصبغ: وهو سواء الأول والآخر، وما فيه من الإقرار أولا وآخرا هو إقرار واحد كله بعضه من بعض، الأول بالآخر والآخر بالأول بمنزلة تقديم العتق في اليمين قبل الحلف، أو الحلف قبل العتق والطلاق كذلك، فليس عليه إلا الثلث في المسألتين.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في الذي قال: اشتريت من فلان أنا وفلان هذه السلعة بكذا وكذا فقال البائع: بل بعتك أنت وحدك إنه لا يلزم المقر إلا نصف السلعة بنصف الثمن صحيح لا إشكال فيه، إذ لا يلزمه إلا ما أقر به. وقوله: وليس للبائع عليه غير ذلك معناه أنه ليس له أن يلزمه أخذ الكل، ولكن له عليه أن يحلفه ما اشترى منه إلا النصف، فإن حلف كان شاهدا لفلان بشراء النصف الآخر يحلف مع شهادته إن كان عدلا ويأخذه، وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الثوب أنه ما باعه إلا من الأول ولم يكن له شيء، وإن نكل الأول عن اليمين فحلف صاحب الثوب وألزمه أخذ جميع الثوب لزمه أن يدفع نصف الثوب إلى الثاني الذي أقر له أنه اشترى الثوب معه إن أراد أخذه، وإن لم يرد أخذه وأراد هو أن يلزمه(8/36)
إياه لزمته له اليمين أنه ما اشتراه معه، فإن حلف انفرد الأول بالثوب، وإن نكل عن اليمين حلف الأول لقد اشتراه معه وألزمه النصف فكانا فيه شريكين. وقوله في الذي قال: اشتريت هذه السلعة من فلان وقال البائع: بل بعتك أنت وفلانا أنه إن طلبها ذلك الفلان الذي أقر له صاحب السلعة بالبيع أخذ ذلك إلا أن يكون للآخر بينة بين لا إشكال فيه ولا وجه للقول. وأما قوله: وإن لم يطلب ذلك فأراها كلها لهذا الذي زعم أنه اشتراها كلها وليس للبائع حجة؛ لأنه قد أقر ببيعها كلها وإخراجها من يديه، ليس بوجه القياس، وإنما هو استحسان، وقول أصبغ هو القياس؛ لأن من حجة البائع أن يقول: إنما بعت منك النصف، فلا يلزمني أن أعطيك الكل بدعواك من أجل إقراري أني بعته من غيرك. واستحسان ابن القاسم في هذه المسألة مثل استحسان أشهب في كتاب الخيار من المدونة في الذي اشترى سلعة بالخيار فمات واختلف ورثته فقال بعضهم: نرد، وقال بعضهم: نجيز، إن للذين أجازوا في الاستحسان أن يأخذوا مصابة الذين أرادوا الرد إن لم يرد البائع أن يلتزم مصابة الذين أرادوا الرد وقال: إما أن تجيزوا جميعا وإما أن تردوا جميعا من أجل أن البائع قد رضي ببيعها كلها، فإذا أخذها كلها بعض الورثة لم تكن له حجة على وجه الاستحسان، وأما على وجه القياس فله حجة إذ لا يلزمه أن يبيع لبعضهم ما يجب لجميعهم، وإما أن يأخذوا جميعا وإما أن يردوا جميعا، ويلزم في المسألة الأولى على طرد استحسان ابن القاسم في هذه إذا قال: اشتريت من فلان أنا وفلان هذه السلعة بكذا وكذا فقال البائع: بل بعتك أنت وحدك أن يكون لفلان أن يأخذ نصف السلعة فتكون لهما جميعا ولا تكون للبائع حجة؛ لأنه قد أقر ببيعها كلها بالثمن من هذا، وكذلك المسألة التي ساق أصبغ على هذه تفرقة ابن القاسم فيها استحسان، وقول أصبغ فيها هو القياس لاتفاقهم في مسألة اليمين بالعتق والطلاق على أنه لا فرق في ذلك بين أن يقدم العتق والطلاق فيقول: عبدي حر أو امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا، أو يؤخره فيقول: إن فعلت فعبدي حر أو امرأتي طالق، في أن الطلاق والعتق لا يلزمه إلا بفعل الشيء الذي حلف عليه، وأنه لا يقال إذا قدم الطلاق والعتق إن ذلك قد(8/37)
لزمه وأن قوله: إن فعلت كذا وكذا ندم منه أراد أن يسقط به عن نفسه ما قد لزمه من العتق والطلاق، وهذه مسألة قد اختلف فيها قول ابن القاسم، فله في الغصب من المدونة خلاف قوله هنا مثل قول أصبغ في الذي يقر بالخاتم أو بالثوب أو بالبقعة ويقول في الفص أو البطانة أو في البنيان إنه له أنه يصدق إذا كان قوله نسقا، وله في كتاب أشهب من كتاب الدعوى والصلح في الذي يقر أن البقعة بينه وبين فلان ويقول: إن البنيان تابع للبقعة ولا يصدق مثل قوله هنا خلاف قول أصبغ. وقد مضت من هذا المعنى مسألة في رسم كتاب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق، وفي رسم سلف من سماع عيسى منه هي أشكل من هذه لمعنى زائد فيها، وقد مضى من القول عليها هناك ما فيه بيان لهذه، وبالله التوفيق.
[يبيع الشاة ويستثني جلدها]
ومن كتاب البيوع الثاني وقال ابن القاسم في الذي يبيع الشاة ويستثني جلدها حيث يجوز فيه فتموت الشاة إن المشتري ضامن للجلد.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في أول رسم أوصى ورسم حمل صبيا من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: اشترى عبدا من رجل ولم يستثن ماله]
مسألة وسمعته يقول في رجل اشترى عبدا من رجل ولم يستثن ماله ثم أراد أن يشتري ماله بعد ذلك، قال: إن كان ذلك بقربه فلا بأس بذلك، وإن طال فلا ينبغي له لأنه لا يدري كم هو وهل نقص أم لا؟ قال أصبغ: أو زاد بتجارة أو فائدة، وقال ابن القاسم: ليس شيء من ذلك بمضمون على السيد، قال: فإن ابتاعه بحضرة ذلك أخذ ما وجد ولم يكن على البائع أن يوفيه شيئا؛ لأنه ليس(8/38)
شيء من ذلك بمضمون عليه. قال ابن القاسم: ولو أن رجلا قال لرجل: أبيعك غلامي هذا وله مائة دينار أوفيكها كان هذا بيعا لا يصلح ولا يحل.
قال محمد بن رشد: قد مضى في أول رسم من سماع عيسى القول على شراء مال العبد المجهول بعد الصفقة إذا لم يشترط في الصفقة مستوفى فلا معنى لإعادته مرة أخرى، وأما إذا سمى مال العبد فقال: وهو كذا وكذا فلا اختلاف في أنه لا يجوز اشتراطه في الصفقة ولا شراؤه بعد الصفقة إلا بما يجوز شراؤه به على وجه البيع. وقوله: ولو أن رجلا قال لرجل: أبيعك غلامي هذا وله مائة دينار أوفيكها كان هذا بيعا لا يصلح ولا يحل، معناه أنه إذا اشتراه بدنانير أو بدراهم لأنه إذا اشتراه بدنانير كان عبدا ودنانير بدنانير، وإذا اشتراه بدراهم كان عبدا ودنانير بدارهم، فدخله البيع والصرف، وهو عنده لا يجوز خلافا لأشهب. وأما إن اشتراه بعرض فذلك جائز عند الجميع، هذا الذي كنت أقوله في هذه المسألة وأعتقده فيها، وقد تقدم من قولي في غير هذا الموضع، والذي أقول به الآن: إنه جائز للرجل أن يشتري العبد ويستثني ماله عينا كان أو عرضا، سماه أو لم يسمه بالدينار والدراهم نقدا وإلى أجل لأنه إنما يستثنيه للعبد لا لنفسه، فجاز معلوما كان أو مجهولا، وذلك بين من قول مالك في موطأه: الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إذا اشترط مال العبد فهو له نقدا كان أو دينا أو عروضا يعلم أو لا يعلم، وذلك أن مال العبد له، وإن كانت جارية استحل فرجها. ولو استثنى المشتري مال العبد لنفسه لما جاز سماه أو لم يسميه إلا أن يسميه فيشتريه بما يجوز اشتراؤه به، وإنما قال في هذه الرواية في الذي قال: أبيعك غلامي وله مائة دينار أوفيكها: إن ذلك بيع لا يصلح ولا يحل من أجل قوله أوفيكها لأنه إن اشترط عليه أن يوفيه إياها فقد استثناها لنفسه في ظاهر أمره، فوجب ألا يجوز، ولو بين فقال: أوفيكها مالا له أو أوفيها إياه لجاز، فإذا قال الرجل: أشتري منك العبد وماله لم يجز إلا أن يكون ماله معلوما فيشتريه بما يجوز شراؤه به، وإذا قال: أشتريه(8/39)
منك بماله أو أشتريه منك وأستثني عليك ماله جاز معلوما كان أو مجهولا لأنه إذا اشتراه بماله أو اشتراه وشرط ماله فإنما اشتراه على أن يبقى ماله له بعد الشراء كما كان قبل الشراء.
[مسألة: الكتان يشترى حطبا ويشترط المشتري على البائع بَلّه]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عن الكتان يشترى حطبا ويشترط المشتري على البائع بَلّه؟ قال: إن كان بَلّه شيئا معروفا قدره وقدر النصب فيه فلا بأس، ولكن إن كان الكتان يختلف عند خروجه من البلل فلا خير فيه لأنه كأنما اشترى ما يخرج ولا يدري كيف يخرج، وقد جاءني قوم وسألوني عنه وقالوا لي: إنه يختلف يخرج الجرات الرديء والطيب فقلت: لا خير فيه، فكل شيء يختلف عند خروجه وليس بمأمون فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأنه بيع وأجرة في الشيء المبيع فلا يجوز على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك إلا أن يكون قدر العمل معروفا ووجه خروجه معلوما لا يختلف، وسحنون لا يجيزه بحال. وقد مضى القول على هذا مستوفى في رسم حلف من سماع ابن القاسم.
[مسألة: يبيع سلعة بثمن إلى ثلاثين سنة أو عشرين]
مسألة قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن الذي يبيع سلعة بثمن إلى ثلاثين سنة أو عشرين، قال: أما ثلاثين فلا أدري، ولكن عشرة وما أشبهه. قلت: يكره أن يكون إلى العشرين وما أشبهه؟ قال: نعم،(8/40)
قلت: فوقع أتفسخه؟ قال لي: لا أفسخه، ولكن لو كان سبعين أو ثمانين لفسخته، قلت: وكذلك النكاح أيضا إذا وقع الصداق مؤجلا إلى عشرين سنة وما أشبهها لم تفسخه؟ قال لي: نعم، قلت: وتكره أن يقع به النكاح كما تكره أن يقع به البيع؟ قال: نعم، وقد قال لي في الثلاثين أيضا: إن وقع به النكاح جاز، وكذلك البيع عندي. قال أصبغ: ولا أرى بذلك بأسا ابتداء إلى الخمس عشرة والعشرين؛ لأن مالكا قد سئل عن العبد يؤاجره سيده الخمس عشرة سنة ونحو ذلك فقال: لا بأس بذلك وذلك جائز، والنكاح في ذلك أبين وآمن.
قال محمد بن رشد: اتفق مالك وجميع أصحابه فيما علمت اتفاقا مجملا في النكاح يقع بمهر مؤجل إلى أجل بعيد أنه لا يجوز ويفسخ إذا وقع، واختلف في حده على أربعة أقوال: أحدها أنه يفسخ فيما فوق العشرين، وهو قول ابن وهب، وقد كان ابن القاسم جامعه عليه ثم رجع عنه، والثاني أنه لا يفسخ إلا فيما فوق الأربعين، وإليه رجع ابن القاسم فيما كان جامع عليه ابن وهب على ما حكاه ابن حبيب، والثالث أنه لا يفسخ إلا في الخمسين والستين، والرابع أنه لا يفسخ إلا في السبعين والثمانين، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، واختلف في العشرين فما دونها على خمسة أقوال أيضا: أحدها أنه يكره في القليل والكثير منها، وهو أحد قولي ابن القاسم في كتاب ابن المواز وقول مالك في المدونة، واعتل لكراهيته بالاتباع فقال: إنه ليس بنكاح من مضى، ومن الحجة له أن الله لم يذكر في ذلك الأجل كما ذكره في البيع فقال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وقال في الإماء: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 25] وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحديث للذي سأله أن يزوجه(8/41)
المرأة التي كانت وهبت نفسها له: «هل عندك من شيء تصدقها إياه» دليل بين على أن النكاح يكره ابتداء بالمهر المؤجل لأنه لما أخبره أنه ليس عنده شيء ولا خاتما من حديد إلا إزاره أنكحه إياها بما معه من القرآن ولم يجعل عليه الصداق دينا مؤجلا، والثاني أنه يجوز في السنة ويكره فيما جاوز ذلك وهو قول ابن وهب، والثالث أنه يجوز في السنتين والأربع ويكره فيما جاوز ذلك وهو أحد قولي ابن القاسم في كتاب ابن المواز، والرابع أنه يجوز في العشر ونحوها ويكره فيما جاوز ذلك وهو قول ابن القاسم في رواية أصبغ هذه وقول أصبغ في الواضحة ومذهب أشهب؛ لأنه زوج ابنته وجعل مؤخر مهرها إلى اثنتي عشرة سنة، والخامس أنه يجوز في العشرين فما دونها وهو قول أصبغ في هذه الرواية وظاهر قول ابن القاسم وابن وهب في كتاب ابن المواز، ومساواة ابن القاسم بين البيع والنكاح فيما يكره فيهما من الأجل ابتداء وفيما لا يجوز ويفسخ به البيع والنكاح هو القياس؛ لأنهما معاوضتان لا يجوز فيهما الغرر، فوجب أن يستويا فيما يجوز فيهما من الأجل وما لا يجوز، وقد ذكرنا وجه تفرقة من فرق بينهما ولم يعتبر في(8/42)
ظاهر قوله ما بقي من عمر الزوج والمشتري الذي يعمر إليه المفقود، وهو قول أشهب في الدمياطية سئل عن الزوج يتزوج المرأة بمهر مؤجل إلى أجل كم الأجل؟ قال: ما شاء إن شاء ثلاثين سنة، قيل له: فإن كان كبيرا، لا يعيش إلى مثلها؟ قال: لا أدري ما يعيش أرأيت الذي يتزوج إلى عشر سنين أليس لا يدري أيعيش إلى ذلك الأجل أم لا؟ فإن كان يدخل في هذا الغرر فهو يدخل في هذا أو معنى ما تتكلم عليه عندي في الكبير الذي لا يعيش إلى مثلها في الغالب، وقد يعيش إلى مثلها في النادر. وأما لو كان كبيرا يعلم أنه لا يعيش إلى ثلاثين سنة مثل أن يكون يوم تزوج أو اشترى السلعة ابن مائة سنة وما أشبه ذلك لما انبغى أن يجوز ذلك لأنه كمن تزوج أو اشترى إلى موته، وقد قال أبو إسحاق التونسي: وإذا حقق هذا فإنما كرهوا البيع والنكاح إلى الأجل البعيد الذي يجاوز عمر الإنسان لأنه يصير غررا لحلوله بموته، ولو كان ابن ستين فنكح أو اشترى إلى عشرين سنة لم يجز لأن الغالب أنه لا يعيش إلى ذلك، فأما ابن عشرين ينكح إلى عشرين أو يشتري إلى عشرين فكان الواجب إجازته، فما الأغلب أنه يعيش إليه جاز باتفاق، وما لا يعيش إليه لا يجوز باتفاق، وما الأغلب أنه لا يعيش إليه يجوز على الاختلاف، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[باع جارية وأشهد للمشتري بعد البيع أن لا نقصان عليه]
ومن كتاب القضاء وقال في الذي باع جارية وأشهد للمشتري بعد البيع أن لا نقصان عليه فإنه يلزم البائع الشرط ولا يحل للمشتري أن يطأ، قال أصبغ: وذلك إذا رضي ما أشهد له به وقبله، قال ابن القاسم: فإن وطأ لزمه الثمن لأنه قد ترك ما جعل له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه إذا قال له بعد البيع بع ولا نقصان عليك يلزمه؛ لأن معنى قوله بع ولا نقصان عليك، أي بع والنقصان علي، فهو أمر قد أوجبه على نفسه، والمعروف على مذهب مالك وجميع(8/43)
أصحابه لازم لمن أوجبه على نفسه يحكم به عليه ما لم يمت أو يفلس، وسواء قال ذلك له قبل أن ينتقد أو بعد ما انتقد، إلا أن يقول له قبل أن ينتقد انقدني وبع ولا نقصان عليك فلا يجوز ذلك لأنه يدخله بيع وسلف، وقال في سماع عيسى من كتاب العدة إن ذلك لا خير فيه لأنه يكون فيه عيوب وخصومات، فإن باع بنقصان لزمه أن يرد عليه النقصان إن كان قد انتقد وألا يأخذ منه أكثر مما باع إن كان لم ينقد، وهذا إذا لم يغبن في البيع غبنا بينا وباع بالقرب ولم يؤخر حتى تحول الأسواق، فإن وخر حتى حالت الأسواق فلا شيء له لأنه قد فرط، والقول قوله مع يمينه في النقصان إلا أن يأتي بما يستنكر فلا يصدق، وقاله ابن نافع، واختلف إذا كان عبدا فأبق أو مات فقيل: إنه لا شيء له، وقيل: إنه موضوع عن المشتري، وهو اختيار ابن القاسم في سماع عيسى من الكتاب المذكور، وأما إن كان ثوبا أو مما يغاب عليه فلا يصدق في تلفه إلا ببينة، وأما إذا باع منه على أن لا نقصان عليه فلا يجوز، واختلف إذا وقع، فقيل: إنه بيع فاسد يحكم فيه بحكم البيع الفاسد، وقيل: إنه ليس ببيع فاسد وإنما هي إجارة فاسدة وسيأتي القول على هذا في موضعه من كتاب العدة إن شاء الله.
[مسألة: بيع المقاثي في جائجتها]
مسألة قال أصبغ: وسألت أشهب عن المقاثي في جائجتها فقال لي: يوضع القليل منه والكثير ما أصيب منه من شيء، قلت: وإن كان أقل من الثلث بطن منها؟ قال: نعم، وأراها بمنزلة البقلة، قال أصبغ: ليس هذا من قوله عندنا بشيء، وهو خلاف قول مالك وأصحابه كلهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أصبغ إن قوله شاذ في المذهب، ومعناه في مقاثي الفقوس لا في مقاثي البطيخ، ووجهه أن الفقوس لما لم يكن له بقاء في أصوله وكانت تجنى صغارا وكبارا أشبهت البقول في استعجال جدها، فوضعت الجائحة في القليل والكثير منها(8/44)
بخلاف الثمار التي يحتاج إلى بقائها في الأصول إلا أن يتناهى طيبها أي لا يوضع في الحائجة فيها اليسير، إذ قد علم المشتري أنه لا بد أن يذهب منها اليسير بالطير والعافية والسقوط وما أشبه ذلك، فدخل على ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: صلاح مقاثي البطيخ التي يحل بيعها به]
مسألة قال أصبغ: وسألت أشهب عن صلاح مقاثي البطيخ التي يحل بيعها به أهو أن يوكل فقوسا أو بطيخا؟ فقال: بل هو أن يؤكل فقوسا. قال أصبغ: فقوسا بطيخا قد انتهى للبطيخ، فأما الصغار فلا.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ خلاف لقول أشهب، جائز على مذهب أشهب اشتراء المقاثي إذا عقدت وصلح بيعها وإن كان يريد أن يتركها حتى تصير بطيخا كما يجوز شراء الثمار إذا بدا صلاحها وإن كان يريد أن يتركها حتى تيبس. وقد قيل: إنه لا يجوز شراء الثمار بعد طيبها على أن تترك حتى تيبس، والقولان قائمان من المدونة؛ لأنه لم يجز فيها شراء الفول أخضر على أن يترك حتى ييبس، وذلك معارض لقوله في النخل والعنب إذا اشتراه وهو أخضر ثم أصيب بعد أن يبس إنه لا جائحة فيه؛ لأن الظاهر منه إجازته على أن يتركه حتى ييبس، وهو المشهور في المذهب من القولين، وعلى الثاني يأتي قول أصبغ.
[يبتاع العبد على أن يعتقه]
ومن كتاب المدبر والعتق قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يبتاع العبد على أن يعتقه فلا يعتقه حتى يفوت العبد عند المشتري والبائع يظن أن قد كان أعتقه ثم يعلم ذلك وفات العبد بموت أو نقصان أو نماء دخله مما هو فوت، قال: أرى أن يغرم المشتري للبائع ما نقص من قيمته يوم اشتراه وقاله أصبغ، ويكون العبد للمشتري يصنع به ما شاء إذا ضمنه للبائع بقيمته، ويبلغ في القيمة قيمته(8/45)
بغير شرط للعتق، وليس عليه حينئذ عتقه إذا كان فوتا بعيدا بالعيوب المفسدة والنقصان المتفاحش والزيادة المتباينة وغير ذلك من غير الموت، فإن كان فوته بغيرها مثل الغير في البدن بالزيادة والنقصان واختلاف الأسواق بالأمر القريب فالمشتري بالخيار: يعتق كما اشترى ولا شيء للبائع، أو يرد إلا أن يشاء البائع إنفاذه له بالثمن الأول عبدا إن شاء أعتق وإن شاء ترك فيلزم ذلك المشتري. وإن كان فوته في المسألة بموت فلم يعمق فقد فات الرد والإشراء فأرى إن كان يرى أن البائع وضع من الثمن لاشتراط العتق وخفف عنه في ذلك أن يرجح بتمام ذلك تمام القيمة على ما يساوي يومئذ، وإن كان قد استقصى وقارب القيمة فلا أرى له شيئا، وهذا إذا شرط المشتري وترك وتهاون حتى تطاول ذلك قبل موت العبد، فإن لم يفرط ولم يطل وقد فات بحرارة البيع وفوره وقربه وما يكون في مثله الرأي والنظر والارتياء له فإن مات فلا أرى على المشتري شيئا ولا له ولا للبائع ولا عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[بيع شعر الخنزير]
ومن كتاب الجامع قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: لا بأس ببيع شعر الخنزير خنزير الوحش، وهو مثل صوف الميتة، وكذلك رواها أبو زيد. قال أصبغ: هذا خطأ لا خير في ذلك، وليس مثل صوف الميتة ولا حق لبائعه، وهو مثل الميتة الخالصة كلها وأشر، كل شيء منه محرم حي وميت، وصوف الميتة إنما حل لأنه حلال منها وهي حية وشعر الخنزير ليس بحلال حيا ولا ميتا فلا يباع ولا(8/46)
يؤكل ثمنه ولا تجوز التجارة فيه، والكلب أحل منه وأطهر، وثمنه لا يحل، وقد حرمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين نهى عن ثمنه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هو الصحيح في القياس على أصل مذهب مالك في أن الشعر لا تحله الروح وأنه يجوز أخذه من الحي والميت كان مما يؤكل لحمه كالأنعام والوحوش أو مما لا يؤكل لحمه كبني آدم وكالخيل والبغال والحمير وكالقرود التي قد أجمع أهل العلم على أنه لا تؤكل لحومها أو مما يكره أكل لحمه كالسباع، فوجب على هذا الأصل أن يكون شعر الخنزير طاهر الذات أخذ منه حيا أو ميتا تحل الصلاة به وبيعه لأن الله تعالى إنما حرم لحمه خاصة دون ما سوى ذلك منه بقوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [البقرة: 173] فوجب أن يكون شعره موقوفا على النظر، وقد بينا ما يوجبه النظر فيه على أصل مذهب مالك، وأما قول أصبغ فليس ببين لأنه أتي فيه بقياس فاسد وعبر عنه بعبارة غير صحيحة، قال: وصوف الميتة إنما حل لأنه حلال منها وهي حية، وشعر الخنزير ليس بحلال حيا ولا ميتا. ووجه فساده أن المخالف له في شعر الخنزير لا يفرق بين أخذه حيا وميتا، بل يقول: إنه حلال أن يؤخذ منه حيا وميتا فلا تلزمه الحجة بقياسه في أنه لا يجوز له أخذه منه ميتا إلا بعد أن يوافقه على أنه لا يجوز أن يؤخذ منه حيا ويقول له: إنه يجوز أن يؤخذ منه ميتا، وذلك ما لا يشبه أن يقوله أحد، وإنما الذي يشبه أن يقال: إنه يجوز أن يؤخذ منه حيا ولا يجوز أن يؤخذ منه ميتا قياسا على سائر الحيوان، فهذا بين في إفساد قياسه، والعبارة الصحيحة فيه على فساده أن يقول: وصوف الميتة إنما حل لأنه حلال منها وهي حية، فلما كان صوف الميتة إنما حل من أجل أنه يجوز أن يؤخذ منها في حال الحياة وجب ألا يحل أخذ شعر الخنزير الميت من أجل أنه لا يحل أن يؤخذ منه في حال الحياة، فلو قال هكذا لكان التعبير مستقيما والقياس(8/47)
فاسدا، فعاد قوله إلى أنه ليس بقياس ولا حجة، وإلى أنه ليس فيه أكثر من مجرد قوله وشعر الخنزير ليس بحلال حيا ولا ميتا فلا يباع ولا يؤكل ثمنه ولا تجوز التجارة فيه. وأما قوله: والكلب أحل منه وأطهر، وثمنه لا يحل، وقد حرمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين نهى عن ثمنه، فليس بحجة إذ لم يحرم ثمنه لنجاسته إذ ليس بنجس، ألا ترى أنه لو وقع في بئر أو جب وخرج منه حيا لم ينجس ذلك الماء بإجماع، وقد حرم الشرع أثمان كثير من الطاهرات من ذلك ثمن الحر ولحم النسك وما سواه كثير، فلا دليل في تحريم ثمنه على أنه إنما حرم لنجاسة ذاته.
[مسألة: قال بعني عبدك هذا فقال صاحبه إن فلانا قد أعطاني فيه مائة دينار]
مسألة وقال في رجل قال: بعني عبدك هذا، فقال صاحبه: إن فلانا قد أعطاني فيه مائة دينار، فقال: أنا آخذه بما أعطاك فلان، فدفع إليه مائة دينار، ثم سأل فلان فقال: والله ما أعطيته إلا خمسين، قال: تلزمه المائة ولا ينظر إلى قول فلان هذا، ثم قال لي بعد ذلك: إلا أن تقوم بينة.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: بيع ما بقي مما يكال أو يوزن مرابحة]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: ما اشتريت من جميع الأشياء مما لا يكال ولا يوزن فبدت بعضه فلا تبع ما بقي منه ولا جزءا مما بقي مرابحة حتى تبين أنك قد بعت منه، فإن لم تفعل وبعت مرابحة وكتمته ذلك فهو بيع مردود يرده المبتاع إن أحب، وإن فات كانت فيه القيمة، قال أصبغ: لأنه كعيب مدلس كالذي يبيع الصب؛ قد علم كيلها وكتمه سواء. قال ابن القاسم: وما اشتريت(8/48)
من جميع الأشياء مما يكال أو يوزن من الطعام أو غيره فبعت بعضه فلا بأس أن تبيع ما بقي مرابحة ولا تبين أنك بعت منه شيئا وليس عليك أن تبين، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم حبل حبلة من سماع عيسى فلا معنى لإعادته والله الموفق.
[بزازا حضر زياتا يشتري زيتا في سوق الزيت لم يكن له معه شرك]
من مسائل نوازل
سئل عنها أصبغ بن الفرج
قيل لأصبغ: أرأيت لو أن بزازا حضر زياتا يشتري زيتا في سوق الزيت لم يكن له معه شرك؟ قال: نعم، لا يدخل البزازون على الزياتين ولا الزياتون على البزازين ولا على الحناطين ولا على النغاسين ولا على باعة الدواب والصوافين إنما أهل كل تجارة يدخل بعضهم على بعض ولا يدخل أهل هذه التجارة على أهل غيرها، قلت: فلو كان رجل يحتكر هذه الأشياء كلها ويتجربها أترى له أن يدخل في جميع السلع التي يتجربها حيث وجد من يشتريها في أسواقها وتجب له الشركة على مشتريها إذا حضر الصفقة؟ قال: نعم أرى ذلك؛ لأنها من تجارته، قلت: أرأيت من اشترى من هؤلاء سلعة من هذه السلع فلما تم له الشراء قال له القوم: أشركنا، قال: إني لم أشترها لتجارة، وإنما اشتريتها للقوت إن كان طعاما أو للخدمة إن كان رقيقا أو للركوب إن كانت دواب أو للبس إن كانت ثيابا؟ قال: أرى القول قوله في(8/49)
ذلك، وليس عليه فيما اشترى لغير تجارة شرك لأحد، قلت: وهو عندك مصدق إذا قال لم أشترها لتجارة؟ قال: نعم، أراه مصدقا إلا أن يستدل على كذبه مما يرى من كثرة تلك السلع ويعلم أن مثله في كثرتها وعظم قدرها لا يشترى إلا للتجارة وطلب الفضل، فإذا كان مثل هذا لم يصدق ودخلوا معه فيها، قلت: فلو لقي سلعة تباع في بعض الأزقة أو الدار فسام صاحبه بها وقد حضره رجل من أهل تلك السلعة فسأله الشركة فأبى أن يشركه هل ترى له معه شركا؟ قال: لا شرك له فيها، قد أعلمتك أن الشركة لا تكون في السلعة إلا في مواقفها وأسواقها المعروفة، وليس على من اشترى سلعة في غير أسواقها ومواقفها شرك لأحد من أهلها ولا من غيرهم.
قال محمد بن رشد: ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنه يقضي لأهل الأسواق بالشركة فيما ابتاعه بعضهم بحضرتهم للتجارة على غير المزايدة ورأى ذلك أرفق بهم من إفساد بعضهم على بعض وتابعه على ذلك جميع من أصحابه، واختلف من هذه المسألة في ثلاثة مواضع: أحدها هل ذلك في جميع السلع أو في الطعام وحده، فروى أشهب عن مالك أنه في الطعام وحده، وقال ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب الشركة وغيره من أصحاب مالك وهو قول أصبغ هنا وقول ابن حبيب في الواضحة: إن ذلك في الطعام وغيره من الدواب والسلع، والثاني هل ذلك في السوق وغير السوق من الطرق والأزقة أو في السوق وحده؟ فذهب أصبغ في هذه الرواية إلى أن ذلك في السوق خاصة، وذهب ابن حبيب إلى أن ذلك في السوق وغيره ما لم يشترها في حانوته أو في داره، والثالث هل ذلك لجميع التجار أو لتجار تلك السلعة؟ فقال أصبغ: إنما ذلك لتجار تلك السلعة خاصة، ولا شرك لأحد على أحد في سلعة ليست من تجارته، وقاله ابن حبيب في الواضحة، وسواء كان المشتري لتلك السلعة من تجار تلك السلعة أو لم يكن. وقال ابن الماجشون في الثمانية إن ذلك لجميع من حضر(8/50)
الشراء من التجار كانت تلك السلعة من تجارته أو لم تكن، فالتجارة لازمة لأهل الأسواق فيما اشتروه للتجارة على غير المزايدة لما كان من الطعام في سوق الطعام لأهل التجارة في ذلك النوع من الطعام باتفاق، ولما كان من غير الطعام وإن كان ذلك في سوق تلك السلعة أو في غير السوق، وإن كان من الطعام أو لغير أهل التجارة في ذلك النوع باختلاف. وقوله في غير السوق أعني في بعض الأزقة. وأما ما ابتاعه الرجل في داره أو حانوته فلا شرك لأحد معه ممن حضر باتفاق، فإذا اشترى الرجل الطعام في سوق الطعام للتجارة بحضرة غيره من التجار فيه وهم سكوت فلما تم له الشراء قالوا له: أشركنا كان ذلك من حقوقهم، وليس له هو أن يلزمهم الشراء بحضرتهم وسكوتهم إن تلف الطعام أو ظهرت فيه خسارة، ولو قالوا له وهو يسوم فيه: تشركنا في هذا الطعام؟ فقال لهم: نعم أو سكت ولم يقل لهم شيئا لكانت الشركة لازمة لهم يقضى بها لكل واحد منهم على صاحبه؛ لأن سكوته مع حضورهم كقوله نعم، ولو قال لهم لا لم يلزمه لهم شركة لأنه قد أنذرهم ليشتروا لأنفسهم إن شاؤوا، فإذا لم يفعلوا وتركوه يشتري ولم يزيدوا عليه فقد سلموا له الشراء، ولو قالوا له وهو يسوم: أشركنا واشتر علينا فسكت ولم يجبهم بشيء فذهبوا واشترى بعد ذهاب ثم جاؤوه فسألوه الشركة لم يلزمه ذلك، ويحلف بالله ما أشركهم ولا اشترى عليهم، ولو طلبهم هو بالشركة لتلف السلعة أو خسارة ظهرت له فيها للزمتهم لسؤالهم إياها، ولو قال لهم: نعم لكانت الشركة واجبة له عليهم ولهم عليه، وكذلك القول فيه إذا اشتراه في غير سوقه أو كان الذين وقفوا عليه من غير أهل التجارة به وفي غير الطعام من الحيوان والسلع كلها في سوقها أو في غير سوقها لتجارها ولغير تجارها على القول بوجوب الشركة في ذلك كوجوبها في الطعام المشترى في سوقه للتجارة له. وقوله إنه مصدق فيما اشترى إذا قال إنه لم يشتره للتجارة ما لم يتبين كذبه، معناه مع يمينه، وقد مضى في آخر سماع أشهب طرف من هذه المسألة.(8/51)
[مسألة: تم البيع فقال المشتري أنا أشركتك بالثلث أو الربع وقال المشرك بل بالنصف]
مسألة قلت: فلو اشترى رجل سلعة حيث لا يجب على المشتري الشركة فقال له رجل: أشركني، فقال: نعم، فلما تم البيع قال المشتري: أنا أشركتك بالثلث أو الربع، وقال المشرك: بل بالنصف، قال: إذا كان إنما أشركه شركة مبهمة لم يسم له شيئا عند الشركة قبل الشراء وإنما وقع التداعي بعد الصفقة فالقول قول المشتري إذا كانا قد اجتمعا على أن الشركة كانت مبهمة، وإن زعم المشتري أنه قد بين عند الشركة أنه إنما يشكره بثلث أو ربع، وادعى المشرك أكثر من ذلك حلف المشتري ما أشركه بالنصف، فإن نكل عن اليمين حلف المشرك وكان له النصف، فإن نكل عن اليمين فليس له إلا ما أقر له به. وهذا إذا كانت السلعة قائمة، فأما لو فاتت بتلف فزعم المشتري أنه أشركه بالنصف وألزمه نصف الثمن وقال المشرك بالربع فالمشتري مدع وعلى المشرك اليمين ما أشركه إلا بالربع ويبرأ، فإن نكل عن اليمين حلف المشتري أنه أشركه بالنصف وألزمه نصف الثمن، فإن نكل عن اليمين فليس له إلا ما أقر له به المشرك، إلا أن تباع بوضيعة فالقول قول المشرك لأنه مدعى عليه، وإن بيعت بزيادة فالقول قول المشتري لأنه مدعى عليه يؤخذ منه.
قال محمد بن رشد: قوله إذا اجتمعا على أن الشركة كانت مبهمة فالقول قول المشتري فيما زعم من أنه إنما أشركه بالشك يريد دون يمين بدليل قوله وإن زعم أنه قد بين عند الشركة أنه إنما يشركه بثلث أو ربع وادعى المشرك أكثر من ذلك حلف، إذا لم يوجب عليه اليمين إلا أن يدعي عليه المشرك أكثر مما أقر أنه أشركه به، وذلك حلف، إذ في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب الشركة من أنهما إذا لم يبينا شيئا فالقول قول(8/52)
المشتري مع يمينه أنه إنما أراد الثلث أو الربع. والاختلاف في هذا على اختلافهم في لحوق يمين التهمة، إذ لا يمكن للمشرك أن يحقق الدعوى على المشتري بأنه أراد أكثر مما ذكر أنه أراده من الثلث أو الربع، وقد مضى هذا المعنى في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب وفي آخر أول رسم من سماع أصبغ. وفي قوله وإن زعم المشتري أنه قد بين عند الشركة أنه إنما يشركه بثلث أو ربع وادعى المشرك أكثر من ذلك حلف المشتري ما أشركه بالنصف، فإن نكل عن اليمين حلف المشرك وكان له النصف نظر، إنما الصواب أن يحلف المشتري ما أشركه إلا بالثلث أو الربع الذي أقر به، فإن نكل عن اليمين حلف المشرك على ما ادعى كان النصف أو أكثر من النصف ويكون ذلك له. وقوله: وهذا إذا كانت السلعة قائمة صحيح؛ لأن السلعة إذا كانت قد تلفت فالمصيبة على المشرك فيما يزعم أنه أشركه به من السلعة، فهو مقر للمشتري من ثمن السلعة بأكثر مما يدعي، فوجه الحكم في ذلك أن يوقف الزائد، فمن أكذب منهما نفسه ورجع إلى قول صاحبه أخذه. وأما قوله: فأما لو فاتت بتلف فزعم المشتري أنه أشركه بالنصف إلى آخر المسألة فهو صحيح إلا قوله: إلا أن تباع بوضيعة فليس بموضع استثناء لأن الاستثناء يخرج المستثني من حكم المستثنى منه، وحكم التلف والوضيعة سواء في أن المشتري مدع على المشرك، فكان صواب الكلام أن يقول فيه وكذلك إذا بيعت بوضيعة فالقول قول المشرك؛ لأنه مدعى عليه. وتحصيل القول في هذه المسألة أن المشتري إذا أشرك في السلعة التي اشترى رجلا حيث لا يجب عليه أن يشركه فيها فاختلفا في مقدار ما أشركه به منها إفصاحا يقول المشتري أشركتك بجزء كذا سميناه، ويقول المشرك بل بجزء كذا أسميناه، والسلعة قائمة لم تتلف ولا بيعت بعد، فالذي يدعي الأكثر منهما هو المدعي كان المشتري أو المشرك، والآخر مدعى عليه يكون القول قوله مع يمينه؛ لأن المشتري إذا قال: أشركتك بالثلثين وقال المشرك: ما أشركتني إلا بالثلث فهو مدع عليه أنه اشترى منه ثلثي السلعة وهو ينكر أن يكون اشترى منه إلا الثلث. وإن كان المشرك قال: أشركتني بالثلثين وقال المشتري: ما أشركتك إلا(8/53)
بالثلث فهو مدع عليه أنه باع منه ثلثي السلعة والمشتري منكر أن يكون باع منه إلا الثلث فالقول قول المدعى عليه منهما مع يمينه، فإن نكل عن اليمين حلف المدعي واستحق ما حلف عليه، وإن كانت السلعة قد تلفت أو بيعت بوضيعة فالقول قول المشرك الذي يدعي الأقل لأن المشتري يريد أن يلزمه من ثمن السلعة التي قد تلفت أو من الوضيعة فيها ما ينكره، فأما إذا كانت السلعة قد بيعت بربح فالقول قول المشتري الذي يدعي الأقل لأن المشرك يريد أن يأخذ من ربح السلعة ما ينكر أن يكون أشركه به، ولا اختلاف بينهم في شيء من هذا، وكذلك لا اختلاف بينهم في أن السلعة تكون بينهم بنصفين إذا اتفقا على أن الشركة وقعت مبهمة بينهما ولم يدع أحدهما أنه أراد شيئا ولا نواه كانت السلعة قائمة أو قد تلفت أو بيعت بربح أو وضيعة. واختلفوا إذا اتفقا على أن الشركة وقعت بينهما مبهمة فادعى أحدهما والسلعة قائمة لم تفت ولا بيعت بعد أنه أراد أقل من النصف الثلث أو الربع، وقال الآخر: أردت النصف أو لم تكن لي نية على ثلاثة أقوال: أحدها أن القول قول الذي ادعى منهما أنه أراد أقل من النصف كان المشتري أو المشرك دون يمين وهو الذي يأتي على قول أصبغ في هذه المسألة؛ والثاني أن القول قوله مع يمينه، فإن نكل عن اليمين حلف صاحبه على ما ذكره من أن له النصف وأنه لم تكن له نية، وكانت السلعة بينهما بنصفين، وهو الذي يأتي على ما في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب الشركة؛ والثالث أنه لا يصدق الذي ادعى أنه أراد أقل من النصف وتكون السلعة بينهما بنصفين وهو قول سحنون، ومثله في كتاب ابن المواز بدليل وكذلك إذا كانت السلعة قد تلفت أو بيعت بوضيعة فقال المشرك: أردت الثلث أو الربع وقال المشتري: أردت النصف أو لم تكن لي نية أو كانت قد بيعت بربح فقال المشتري: أردت الثلث أو الربع وقال المشرك: أردت النصف أو لم يكن لي نية يجري ذلك على الثلاثة الأقوال المذكورة، وإن ادعى أحد منهما أنه أراد أكثر من النصف لم يصدق. وأصل هذه في التداعي أن كل من دفع ضرا عن نفسه كان القول قوله، ومن ادعى نفعا لنفسه كان القول قول خصمه. ولو اشترى رجلان سلعة(8/54)
فأشركا فيها رجلا فقيل: إنها تكون بينهم أثلاثا، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقيل: إنه يكون للمشرك نصف نصيب كل واحد منهما فيكون له نصفها وهو أحد قولي ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب الوصايا.
[مسألة: اشترى سلعة من رجل فأتى رجل فسأله أن يوليها إياه بعد صفقته]
مسألة وسئل عن رجل اشترى سلعة من رجل فأتى رجل فسأله أن يوليها إياه بعد صفقته حين انبت له البيع والبائع قائم لم يزل فولاه المشتري على من ترى العهدة والتبعة لهذا المولى؟ فقال: تبعته على الذي ولاه إلا أن يشترط عليه المولى أن تبعته على البائع، فيكون ذلك له إذا كان على ما وصفت من القرب، فأما إن تباعد ذلك ثم ولاها رجلا واشترط عليه أن تباعته على البائع الأول فذلك باطل وعهدته على المولى، قال: ولا أرى بأسا أيضا في المسألة الأولى حيث يجوز له أن يستثني العهدة على البائع الأول أن يولي السلعة ويشترط على المولى أن تباعته على البائع الأول وإن لم يحضر البائع ذلك وكان غائبا عنه إذا كان قريبا لا أبالي حضر البائع الأول أو لم يحضر إذا كان عندما وقعت الصفقة وذهب البائع ولى المشتري رجلا واشترط أن عهدته على البائع لا يضره عندي مغيبه وسواء غاب أو حضر.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا مثل قول مالك في الموطأ ومثل ظاهر ما في سماع عيسى من كتاب العيوب خلاف ما في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال، وقد مضى هناك القول مستوفى فلا معنى لإعادته. وروى يحيى عن ابن القاسم مثل قول أصبغ هذا، وروى عنه أيضا أن الافتراق القريب حكمه حكم ما لم يفترقا، فإن بعد وطال لم تكن العهدة عند الجميع إلا على المولى والمشرك إلا أن يشترطها على الأول ففي جواز ذلك قولان.(8/55)
[مسألة: شراء ما على الغائب]
مسألة وقال أصبغ: ولا بأس باشتراء ما على الغائب وإن لم يحضر إذا كانت غيبته قريبة وعرف مكانه وصحته وملاؤه ولا بأس باشتراء ما عليه وإن لم يحضر.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لابن القاسم في سماع موسى بن معونة الصمادحي من كتاب المدبر، ولم يشترط في جواز ذلك أن يكون على الدين بينة، فقيل معنى ذلك إذا كانت على الدين بينة، وهي رواية داود بن سعيد عن أبي زيد عن مالك، وقيل: إن ذلك على ظاهر قولهما وإن لم يكن على الدين بينة، وذلك كله خلاف لما في غير ما موضع من المدونة من أنه لا يجوز شراء ما على الرجل من دين إلا أن يكون حاضرا مقرا، وقد سقط من بعض المواضع فيها، مقرا، وثبوته يقضي على سقوطه، وسقط أيضا في بعض الروايات في شراء الكفيل ما على الذي تحمل عنه، فقيل: إنه فرق في هذه الرواية بين شراء الكفيل ما تحمل به من الدين وبين شراء الأجنبي ذلك، فأجاز ذلك للكفيل وإن لم يعلم إقراره لأنه مطلوب بالدين ولو أنكر لزمه الغرم، فكأنه إنما اشترى دينا على نفسه لكونه مطلوبا به، وقيل: الرواية بثبوته تقضي على سقوطه، ولا فرق بين الكفيل والأجنبي في هذا وهو الأظهر، إذ قد تكون الحمالة بعد العقد فلا يلزم الحميل شيء إلا بعد إثبات صاحب الدين دينه، وهو أيضا قبل الأجل غير مطلوب بحال، وبعد الأجل قد لا يطلب. فوجه ما في المدونة من اشتراط حضوره وإقراره وهو المشهور في المذهب هو أن شراء ما عليه من الدين لا يجوز إلا بنقد الثمن، فهو لنقد الثمن ولا يدري هل يتم له ما اشترى أو يرجع إليه ماله، فمرة يكون بيعا ومرة يكون سلفا. ووجه ظاهر قول أصبغ وما في سماع موسى من أن شراء ما عليه جائز وإن لم يحضر ولا كانت عليه بينة هو أن الأمر محمول على الصحة من أن البائع صدق فيما زعم أن له عليه من الدين الذي باعه وأن الذي عليه الدين لا ينكر، فلا يتلفت ما يطرأ بعد من إنكاره. ووجه رواية أبي زيد عن مالك أن البينة ترفع علة(8/56)
الإنكار وإن كان لا يؤمن أن يسقط الدين عن نفسه بتجريح البينة أو إقامة بينة على القضاء فشيء أمر من شيء. ولو قال الرجل للرجل: لي على فلان كذا وكذا فأنا أبيعه منك بكذا وكذا فإن أنكرك صرفت إليك الثمن لم يجز باتفاق، ولو قال الرجل للرجل يعني دينك الذي لك على فلان وأنا أعلم وجوبه لك عليه وإقراره به لك فباعه منه لجاز باتفاق، وإن أنكره بعد كانت مصيبة دخلت عليه، وأما شراء الدين على الميت فلا يجوز باتفاق، وقد مضى ذلك والقول عليه في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال.
[مسألة: اشترى طعاما بعينه وسأل رجل المشترى أن يوليه الطعام فولاه]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل اشترى طعاما بعينه كذا وكذا إردبا وسأل رجل المشترى أن يوليه الطعام فولاه وبائع الطعام غائب لم يحضر حين ولاه المشترى، قال: لا يجوز ذلك عندي إلا بحضور بائع الطعام، وليس الطعام في هذا مثل السلع من غير الطعام؛ لأن الطعام يدخله في هذا بيع قبل استيفاء قبضه قال: ولا بأس أن يولي سلعة له على رجل اشتراها منه بعينها والذي هي عليه غائب إذا كانت غيبته قريبة كما وصفت وعرف موضعه وصحته وملاؤه.
قال محمد بن رشد: جعل مغيب بائع الطعام الذي عنده الطعام كمغيب الطعام، إذ لا يقدر على قبض الطعام حتى يقدم الذي هو عنده الطعام كما لا يقدر على قبض الطعام الغائب حتى يخرج إليه، فإذا كان في حكم الطعام الغائب لم يجز فيه النقد كما لا يجوز في السلع الغائبة، وإذا لم ينقد المولي في الطعام كما نقد المولى دخله بيع الطعام قبل أن يستوفى كما قال، إذ لا يجوز لمن اشترى طعاما بثمن نقدا أن يوليه أحدا(8/57)
بثمن إلى أجل، فهذا وجه ما ذهب إليه أصبغ في هذه المسألة، وقد مضى في التولية من الطعام الغائب في سماع يحيى من كتاب المرابحة ما فيه دليل على هذه المسألة.
[مسألة: اشترى أرضا شراء فاسدا فقبض الأرض فغرس حولها أشجارا]
مسألة وسئل عن رجل اشترى من رجل أرضا شراء فاسدا فقبض الأرض فغرس حولها أشجارا من تين وزيتون حتى أحاط بالأرض غير أن جلها وأكثرها بياض لم يحدث فيه شيئا فهل تراه فوتا؟ قال: نعم أراه فوتا إذا كانت الشجر قد أحاطت بالأرض كلها وعظمت فيها المؤونة وكان لها بال فأرى الأرض على مشتريها بقيمتها، قيل: فإن كان غرس ناحية منها وجل الأرض بياض كما اشتراها؟ قال: أرى أن يفسخ البيع وترد الأرض البيضاء الكثيرة إلى ربها وتكون الناحية التي غرس فيها فائتة بغراسته، وهي عليه بقيمتها، قلت: فإن كان الذي غرس منها شيئا يسيرا لا بال له؟ قال: أرى فسخ البيع في جميعها ويكون للمشتري الغارس على البائع قيمة غرسه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة قوله فيها بين وتفصيله فيها صواب لأن الغرس في الأرض فوت في البيع الفاسد، فإذا أحاط الغرس بها وعظمت المؤونة فيه وجب أن يكون فوتا لجميعها وإن كان جلها بياضا، وإذا كان الغرس بناحية منها وجلها لا غرس فيه وجب أن يفوت منها ما غرس ويفسخ البيع في سائرها، إذ لا ضرر على البائع في ذلك إذا كان المغروس من الأرض يسيرا مما لو استحق من يد المشتري في البيع لزمه الباقي ولم يكن له أن يرده، ووجه العمل في ذلك أن ينظر إلى الناحية التي فوتها بالغرس ما هي من جميع الأرض، فإن كانت الثلث أو الربع فسخ البيع في الباقي بثلثي الثمن أو ثلاثة أرباعه فسقط عن المبتاع إن كان لم(8/58)
يدفعه ورد عليه إن كان قد دفعه وصحح البيع في الناحية الفائتة بالقيمة يوم القبض، فمن كان له منهما على صاحبه فضل في ذلك رجع به عليه، إذ قد تكون قيمة تلك الناحية أقل مما نابها من الثمن وأكثر، وقد قيل: إن البيع يفسخ في الأرض كلها فيبطل عن المبتاع جميع الثمن إن كان لم يدفعه ويرد إليه جميعه إن كان قد دفعه ويكون عليه قيمة الناحية التي فوت بالغرس بالغة ما بلغت، وهذا القول قائم من الدمياطية لابن القاسم، والأول هو القياس. وقال في الدمياطية: وسئل ابن القاسم عمن اشترى قصبا فنقد بعض الثمن والنصف الباقي شرط فيه إذا كسر نصف القصب وزيادة فدانين على النصف، فلما كسر نصف القصب لزمه بقية الثمن ولم ينتظر به إلى أن يكسر الفدانين، قال: هذا بيع فاسد من أوله، فعليه قيمة ما كسره يوم اشتراه، ويفسخ ما بقي مما لم يكسر، قيل: لم لا يقسم الثمن على الجميع؟ قال: ليس هو كذلك إنما في البيع الحرام وجهان: إن كان عرضا فله قيمته، وإن كان طعاما فله مثله ومكيلته إلا أن يكون طعاما لا يقدر على معرفة مثله بأن لا يعرف ذلك فعليه القيمة مثل العروض، وهذا الاختلاف إنما يرجع إلى هل يكون على المبتاع قيمة الموضع الذي فوته بالغرس لو بيع منفردا أو هل يكون عليه ما وقع عليه من قيمة الأرض كلها لو بيع معها؟ وذلك يختلف، إذ قد تكون قيمة ذلك الموضع في التمثيل على الانفراد عشرة، ومع جملة الأرض عشرين إذ قد تساوي الأرض دون ذلك المجمع تسعين ويساوي ذلك الموضع دون سائر الأرض عشرة، ويساوي بجميع الأرض جملة مائة وعشرين. وقوله: وإذا كان الغرس شيئا يسيرا لا بال له فسخ البيع في جميعها ويكون للمشتري الغارس على البائع قيمة غرسه، هو مثل ما مضى من قول مالك في أول رسم من سماع أشهب في البنيان اليسير في الحائط المبيع بيعا فاسدا، إلا أنه قال هناك: يكون على رب الحائط ما أنفق المبتاع في البنيان، وقال هنا: إنه يكون للمشتري على البائع قيمة غرسه، فمعنى ذلك أنه يكون عليه قيمة الغرس مقلوعا يوم جاء به وغرسه وما أنفق في غرسه أو قيمة ما أنفق فيه على حسب ما مضى القول فيه من سماع أشهب المذكور، وبالله التوفيق.(8/59)
[مسألة: اشترى دارا بكل ما فيها وكل حق هو لها فهدم المشتري الدار إلا حائطا]
مسألة وسئل عن رجل اشترى من رجل دارا بكل ما فيها وكل حق هو لها فهدم المشتري الدار إلا حائطا واحدا، فلما أراد هدمه منعه جاره وقال: هو لي وأقام على ذلك بينة أنه له، قال: لا شيء للمشتري فيه، قال السائل: فإنه يقول للبائع: احلف لي أنك لم تبعني هذا الحائط فيما بعتني، قال: ليس عليه يمين إلا أن يدعي أنه باعه ذلك الحائط بنفسه وينكر ذلك البائع فإن له عليه اليمين في ذلك. وأما قول المشتري إني اشتريت منك جميع الدار وإن هذا الحائط ليس من الدار فليس عليه بذلك يمين لأنه إنما باعه كل حق كان للدار، فهذا ليس من حقها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: لأن الرجل إذا باع الدار بجميع حقوقها فلا يقع البيع على جدراتها الأربع إلا أن يشترط ذلك، وإنما يقع على ما كان منها من حقوقها، فإذا وجد شيئا منها ليس من حقوقها لم يكن له بذلك على البائع قيم إذ لم يبعه إلا ما كان من حقوقها، وإنما جاز هذا البيع ولم يكن غررا لأنه يتبين بالنظر إليها ما هو من حقوقها مما ليس من حقوقها، فقد دخل المبتاع على معرفة فيما اشترى. ولو أثبت رجل من جيرانه في بعض حيطان الدار أنه له ماله وملكه والظاهر فيه مما يدل عليه العيان أنه من دار المشتري لكان له الرجوع بذلك على البائع. فمعنى قوله في المسألة منعه جاره وقال: هو لي وأقام على ذلك بينة أنه له معناه أنه أقام بينة تشهد له أنه من حقوق داره، ولو أقام البينة أنه له بشراء أو هبة وما أشبه ذلك مما يحق له ملكه والظاهر بدليل العيان أنه من دار المشتري لكان له الرجوع بذلك على البائع.(8/60)
[مسألة: تكون له العرصة فيبيع صاحبها أسفلها وكان صب الماء إلى ذلك الأسفل]
مسألة وسئل عن الرجل تكون له العرصة فيبيع صاحبها أسفلها وكان صب الماء إلى ذلك الأسفل فلم يذكرا هجر الماء عند بيعها فبنى المشتري فجعل في جداره كوة فجرى الماء عليها أشهرا ثم سد الكوة وقال: إن المجرى ليس علي، وكيف إن ترك الماء يجري سنة وسنتين ثم سد الكوة وقال: إن المجرى ليس علي؟ وكيف إن ترك الماء يجري سنة وسنتين ثم سد الكوة ولم يشترط عليه البائع مجرى ماء؟ قال أصبغ: إذا علم بذلك قبل أن يسلم لشيء رأيت أن يصرف عنه ولا يلزمه إلا أن يكون من الأمور الظاهرة التي تعرف ويعرفها المشتري أن لا معدل لها وأن الماء منصب إليها لا بد له منه ولا مصرف له على الوجوه كلها بأسبابها فأراه إذا كان كذلك كالمشتري عليها وكالشروط وإلا فلا، وأما إن كانوا على غير ذلك فأقروه سنة أو سنتين كما ذكرت فلا أرى ذلك يلزمه ولا يوجب عليه بعد أن يحلف بالله ما كان رضا للأبد ولا تسليما ولا على حق للبائع قد عرفه أو رضي به أو اشترطه بينه وبينه ثم يصرف عنه إذا حلف إلا أن يطول زمان ذلك جدا لمثل وقت الحيازات للأشياء وهو مسلم راض غير نافر ولا طالب ولا دافع ولا منكر إلا ساكتا على التسليم وإنه حق لصاحبه فيما يرى منه يختار ذلك عليه فذلك وجوبه ولا أرى له بعد ذلك دعوى ولا تبعة.
قال محمد بن رشد: ليس المجرى شيئا أحدثه البائع على المبتاع بعد البيع، وإنما هو شيء قديم من قبل البيع كان الماء ينصب من أعلى(8/61)
العرصة إلى أسفلها فباع منه الأسفل ولم يبين عليه أن ماء أعلى عرصته يجري عليه على ما كان فرأى من الحق للمبتاع على البائع أن يقطع عنه مجرى الماء إذ هو عيب من قبله لم يتبرأ إليه به إلا أن يكون كما قال أمرا ظاهرا لا يخفى أن الماء منصب إليها ولا معدل له عنها فيلزم ذلك المشتري كما لو اشترطه عليه البائع. وقد قيل إنه إذا لم يشترط ذلك عليه البائع ولا كان أمرا ظاهرا فليس له أن يسده عليه، وهو عيب فيما ابتاع إن شاء أن يمسك أمسك، وإن شاء أن يرد رد، روي ذلك عن ابن القاسم وسحنون، وهو على ما في كتاب الكفالة من المدونة في الذي بيع عبده وله عليه دين لم يعلم به المشتري أنه لا يسقط عنه ويكون عيبا به إن شاء أمسك وإن شاء رد، ويأتي قول أصبغ على ما في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم وعلى ما في رسم لم يدرك من سماع عيسى من كتاب العيوب، وقد مضى القول على ذلك في الموضعين. ولما قال: إن من حق المبتاع أن يسد المجرى على البائع حكم له بحكم ما لو أحدثه عليه بعد الشراء فقال: إنه إن قام بقرب ذلك كان له أن يسده، وإن لم يقم إلا بعد السنة والسنتين لم يكن ذلك له إلا بعد يمينه، وإن سكت إلى مثل وقت الحيازات في الأشياء عد ذلك منه رضا ولزمه. وقد اختلف في حيازة الضرر المحدث فقيل: إنه لا يحاز أصلا، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وقيل: إنه يحاز بما تحاز به الأملاك العشرة الأعوام ونحوها، وهو قول أصبغ هذا، وقد روى عنه أنه لا يحاز إلا بالعشرين سنة ونحوها، وكان ابن زرب يستحسن في ذلك خمسة عشر عاما، وروي ذلك عن ابن الماجشون، وقال سحنون في كتاب ابنه: إنه يحاز بالأربع سنين والخمس لأن الجار قد يتغافل عن جاره فيما هو أقل من ذلك السنة والسنتين، وقد قيل: إن ما كان ضرره على حد واحد فهو الذي يحاز بالسكوت عليه، وما كان يتزايد أبدا كالمطر إلى جانب الحائط وشبه ذلك فلا حيازة فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى شاة فذهب المشتري ليأتي بالثمن فباعها البائع من غيره]
مسألة وسئل عن رجل اشترى شاة فذهب المشتري ليأتي بالثمن(8/62)
فخالفه البائع فباعها من غيره، ثم إن المشتري الأول لقي المشتري الثاني ومعه تلك الشاة فنازعه فيها فماتت الشاة في أيديهما، المصيبة ممن هي؟ قال أصبغ: الضمان عليهما جميعا إن كان موتها منهما جميعا أو بأيديهما جميعا، فإن صحت الشاة للثاني غرم له هذا نصف القيمة، وإن صحت للأول فالثاني يغرم له ويرجع على بائعه بما دفع إليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة معناها أن البائع مقر أنه باعها من أحدهما بعد الآخر ويدعي كل واحد منهما أنه هو الأول، فقوله فيها فإن صحت الشاة للثاني غرم له هذا نصف القيمة صحيح؛ لأنه لما نازعه فيها فماتت بأيديهما كان قد استهلك له نصفها فوجبت عليه قيمته، وتصح له الشاة بأحد وجهين: إما بأن لا يكون لواحد منهما بينة على أنه هو الأول فيحكم بينهما أن يحلف كل واحد منهما أنه هو الأول وتكون بينهما، أو ينكل الأول عن اليمين ويحلف الثاني فتصح له بيمينه مع نكول الأول؛ وإما أن يقيم الثاني بينة أنه هو الأول ولا يكون للأول بينة على أنه هو الأول، فإذا صحت الشاة إلى الثاني بأحد هذين الوجهين كان له على الأول نصف قيمتها كما قال لاستهلاكه إياه، ويرجع الأول على البائع بالثمن الذي دفع إليه إن كان قد دفعه إليه وبما زادت قيمتها أو الثمن الذي باعها به من الثاني على ثمنه هو لأنه استهلك الشاة عليه بعد أن باعها منه ببيعه إياها من الثاني، وإن صحت الشاة للأول بأحد هذين الوجهين قيل له قد قبضت نصفها الذي قتلته، وأنت مخير بالنصف الثاني الذي قتله المبتاع الثاني بين أن تجيز البيع فيه فتأخذ الثمن أو تأخذ قيمته ممن شئت منهما إن شئت من البائع وإن شئت من المبتاع الثاني الذي قتله، فإن أخذت قيمته من البائع رجع البائع بذلك على المبتاع الجاني، وإن أخذت قيمته من المبتاع لم يكن له بذلك رجوع على أحد لأنه هو الجاني، ويرجع المبتاع الثاني على البائع الأول بنصف الثمن الذي دفع إليه للنصف الذي قتله المشتري الأول.(8/63)
[مسألة: يسلف الناس في السلع ويزعم أنه إنما يشتري جميع ذلك لفلان]
مسألة وسئل عن رجل يسلف الناس في السلع أو يشتري سلعا بعينها ويزعم أنه إنما يشتري جميع ذلك لفلان رجل غائب بماله أمره بذلك ويكتب في اشتريته هذا ما اشترى فلان ابن فلان بماله، وكيف إن قال: أمرني فلان أن أشتري له بهذه المائة كذا وكذا ويشتري بها وينقدها، ثم يأتي الذي زعم أنه أمره بذلك فينكر ويريد أخذ المال من البائع، أترى ذلك له؟ وهل يفترق عندك إن قال: أمرني أن أشتري له بهذا المال بعينه أو قال: أمرني أن أشتري له بماله فاشترى ونقد المشتري ما يسر أو ما عسر وقبض ما اشترى له فاستهلكه أو هو قائم لم يقبضه حتى قام فأنكر أن يكون أمره باشتراء شيء من الأشياء؟ قال أصبغ: هما سواء، ولا سبيل له على البائع، وسبيله على المشتري بإقراره على نفسه يأخذ ما اشترى له أو يضمنه ماله المسمى ويتبعه إن استهلكه ولم يجد له مالا، ولا سبيل له على البائع على حال؛ لأن ذلك إنما هو دعوى من المشتري المقر فلا تعدوه دعواه على نفسه ولا يضر غيره والبائع لم يصدقه ولم يبعه على ذلك شرطا إنما يبيع على قوله كما يبيع الناس، فهو المشتري وهو المبتاع حتى يصدقه قبل البيع لذلك ويبيعه عليه بتصريح من البائع أو إقرار أو بينة تقوم بعد ذلك أن أصل المال لفلان هذا المال بعينه الذي اشترى به ونقد وإلا فلا.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ إن المشتري ضامن للمال وإنه ليس لرب المال على البائع في المال سبيل هو نحو قول ابن القاسم في(8/64)
المدونة في الذي أمر رجلا أن يسلم له دراهم في ثوب هروي فأسلمها له في بساط شعر إنه إنما يرجع على المأمور. وقوله: إن البائع إذ باع بتصريح وإقرار أن الشراء للمشترى له، وأن المال ماله أو قامت له بينة على المال بعينه إن له أن يأخذ ماله منه بالوجهين جميعا بين على ما قاله، والتصريح أن يبين المشتري على البائع أنه لا يشتري لنفسه وإنما يشتري لفلان ويكتب في كتاب الشراء: اشترى فلان لفلان بماله وأمره وعلم البائع بذلك أو صدق المشترى فيه فإن أخذ المشترى له ماله من البائع ببينة قامت له عليه بعينه أو بتصريح وقع أن الشراء كان له انتقض البيع في إقراره إن الشراء كان له وإن المال ماله ولم ينتقض في قيام البينة أن المال ماله ورجع على المشتري بمثل الثمن ولزمه البيع لأنه استحقاق للثمن، واستحقاق الثمن إذا كان عينا لا يوجب نقض البيع، ويشبه أن يقال على القول بأن العين لا يتعين، وهو قول أشهب وأحد قولي ابن القاسم في المدونة إنه لا سبيل له على البائع في المال إذا قامت له بينة عليه بعينه والمشترى منه. وقد حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون أن القول قول المشترى له مع يمينه يحلف ما أمر المشتري بالشراء ويأخذ ماله إن شاء من المشتري وإن شاء من البائع، فإن أخذه من البائع كان للبائع أن يرجع على المشتري ويلزمه الشراء، وإن أخذه من المشتري لم يكن له أن يرجع به على البائع ويرد له ما اشترى منه. ومن اشترى من رجل شيئا فإن أراد أن يكتب في كتاب شرائه: هذا ما اشترى فلان لفلان بماله وأمره لم يلزم البائع أن يشهد له بذلك لأن ذلك وإن لم يقتض تصديق البائع له بأن الشراء لفلان وأن المال ماله ولا أوجب للمشتري له رجوعا عليه إن جاء فأنكر على مذهب ابن القاسم وأصبغ ما لم يصرح فيقول بعلم البائع أو بتصديق المشتري على ما ذكر من ذلك، فمن حجته أن يقول أخشى أن يأتي فيدعي علي أني علمت بذلك وصدقته في قوله فتلزمني اليمين أو الحكم له بالرجوع على مذهب ابن الماجشون.(8/65)
[مسألة: يبيع العبد أو الجارية وينتقد ويدفع ما باع]
مسألة قيل لأصبغ: الرجل يبيع العبد أو الجارية وينتقد ويدفع ما باع، ثم أتى إلى المشترى يستقيله، فيقول المشتري: إن جئتني بالثمن فيما بينك وبين الشهر أو سنة فقد أقلتك أو لا يوقت شيئا إلا أنه يشترط له متى ما أتاه بالثمن فالسلعة سلعته هل ترى هذا جائزا وتجعله شرطا لازما؟ فإن رأيت هذا جائزا فهل يجوز له مسيس الجارية وقد ألزم نفسه هذا الشرط ويكون موسعا عليه في البيع يبيع إن شاء؟ وكيف إن جعل هذا الشرط له، ثم فوت ما اشترى بعد ذلك الشرط باليوم ونحوه مما يتبين أنه أراد قطع الشرط والرجوع عنه؟ قال أصبغ: إذا صح الأصل في المبايعة على غير اعتزاء النقد ولا توطئة ولا مواعدة ولا مراوضة فذلك جائز حلال لا بأس به لأن في كل شيء من السلع والحيوان ما عدا الفروج فلا أرى أن يجوز فيه الشرط الذي جعل له، ولا ينبغي ولا يجوز لهما العمل عليه إلا أن يكون له وجه أن يجعل ذلك في الجارية إلى استبرائها وحده ونحوه مما لا سبيل له فيه إلى الوطء فيجوز، وما كان على غير ذلك فأرى أن يبطل إلا أن يدركها بحرارتها على نحو هذا من الأمور التي لم يخل عليها المشتري ولم يمكن فينفذ له وإلا فلا. وأما إهمالهم في السلع غير الفروج هذا الشرط بلا وقت فذلك لازم، وذلك ما أدركها في يده ولم تخرج من يديه ولا من ملكه، فإن خرج سقط أيضا. وإن وقت كالذي سألت عنه من السنة وغيرها فليس له أن يخرجها من يده ولا يحدث فيها شيئا يقطع ذلك ما بينه وبين وقته الذي جعل على نفسه.(8/66)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إن العقد إذا سلم من الشرط وكان أمرا طاع به بعده على غير رأي ولا مواطأة فذلك جائز لا بأس به؛ لأنه معروف طاع به وأوجبه على نفسه لا مكروه فيه ما عدا جارية الوطء إذ لا يجوز للرجل أن يطأ جارية قد أوجب على نفسه فيها شرطا لغيره. والأصل في ذلك قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لعبد الله بن مسعود في الجارية التي ابتاعها من امرأته واشترطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن وسأله عنها: لا تقربها وفيها شرط لأحد، وقد قيل معنى لا تقربها أي لا تشترها وفيها شرط لأحد؛ وقول عبد الله بن عمر: لا يطأ الرجل وليدة إلا وليدة إن شاء باعها وإن شاء أمسكها وإن شاء صنع بها ما شاء، وأما ما عدا جواري الوطء فذلك جائز لأنه معروف، والمعروف عند مالك لازم لمن أوجبه على نفسه، فإن كان له أجل لزم إلى أجله، ولم يكن للمشتري أن يفوته قبل الأجل، وإن لم يكن له أجل فذلك له لازم ما لم يفوته، يريد إلا أن يفوته بفور ذلك مما يرى أنه أراد به قطع ما أوجبه على نفسه. وقد مضى في أول سماع أشهب القول في هذا الشرط إذا كان في أصل العقد فلا وجه لإعادته.
[مسألة: يبيع الحائط وفيه تمر قد أبر]
مسألة قال مالك في الرجل يبيع الحائط وفيه تمر قد أبر فيقول البائع للمشتري: اسق النخل، فيقول المشتري: ليس ذلك علي، فيختلفان في السقي على من ترى السقي؟ قال: أراه على البائع الذي له الثمن وليس على المشتري شيء. .
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن التمر باق على ملك البائع بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع نخلا قد أثرت فتمرها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع» فوجب أن يكون سقيها عليه إن أراد أن يسقيها ولا(8/67)
يكون ذلك على المبتاع، إذ لا حق له في الثمرة ولا هو بائع لها فيلزمه سقيها. وقد روي عن المخزومي أنه قال: السقي على المشتري لأنه يسقي نخله فتشرب ثمرة هذا، وهو بعيد، إذ من حقه أن يقول: أنا لا أريد أن أسقي نخلي، والذي يوجبه القياس والنظر أن يكون السقي عليهما لأن فيه منفعة لهما لا يمكن أن يستبد بها أحدهما دون صاحبه كالشريكين، والله الموفق المعين.
[باع سلعة فقال البائع بعتك وأنا بالخيار ولست أنت بالخيار]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر
من ابن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم في رجل باع سلعة فقال البائع: بعتك وأنا بالخيار ولست أنت بالخيار، وقال المشتري اشتريت منك بالخيار ولست أنت بالخيار، قال: ينتقض البيع، ولا أقبل دعوى البائع ولا المشتري.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مضت متكررة في سماع أبي زيد من كتاب الخيار، ومضى في سماع أصبغ منه خلاف ذلك، وقد مضى من القول عليها هنالك ما فيه شفاء، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الفقع في القمح]
مسألة ولا بأس بالفقع في القمح.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة أيضا تكررت في سماع أبي زيد من كتاب الخيار، ومضى القول عليها هناك فلا معنى لإعادته.(8/68)
[مسألة: بيع كبش بشاة حلوب إلى أجل أو غير حلوب]
مسألة وسئل عن كبش بشاة حلوب إلى أجل أو غير حلوب فقال: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: قوله بشاة حلوب إلى أجل أو غير حلوب يريد حلوب غير غزيرة اللبن، فهو صحيح على ما في المدونة من أن الغنم كلها صنف واحد كبارها وصغارها وذكورها وإناثها ضأنها ومعزها إلا أن تكون غنما غزيرة اللبن موصوفة بالكرم فلا بأس أن تسلم حواشي الغنم، وقال ابن القاسم في العشرة: إن غزر اللبن وكثرته إنما يراعى في المعز لا في الضأن، ومثله في الواضحة لابن حبيب، وروى ابن وهب عن مالك أنه لا يستلم كبار الضأن في صغارها، ولا بأس بتسليم كبارها في صغار المعز، ولم يأخذ ابن وهب بقول مالك فأجاز تسليم كبش في خروفين.
[مسألة: باع من رجل كلبا ولم ينتقد ثمنه حتى هلك الكلب في يد المشتري]
مسألة وسئل عن رجل باع من رجل كلبا ولم ينتقد ثمنه حتى هلك الكلب في يد المشتري؟ قال مصيبته من البائع.
قال محمد بن رشد: رأى مصيبة الكلب من البائع وإن هلك في يد المشتري فجعله باقيا على ملك البائع لما كان بيعه لا يجوز، فعلى هذا لو أدرك الكلب بيد المشتري ففسخ البيع فيه لوجب أن يرجع البائع على المبتاع بقيمة ما انتفع به إذ لم يكن ضمانه منه، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج(8/69)
بالضمان» وهذا على قياس ما مضى في رسم نقدها من سماع عيسى في المسلم يشتري الخنزير من المسلم أن الثمن يرد إلى المشتري ويقتل الخنزير لأن الظاهر من قوله أنه يقتل على البائع وإن كان قد قبضه المشتري، وقد قيل: إنه يقتل على المشتري إن كان قد قبضه، فعلى هذا يكون على المشتري في الكلب إذ هلك عنده قيمته كما لو قتله، والأول هو المعروف أن مصيبته من البائع وإن قبضه المبتاع كالزبل وجلود الميتة وما أشبه ذلك مما لا يجوز بيعه ويجوز الانتفاع به بخلاف ما لا يجوز بيعه لغرره، وقد قيل: إن ما لا يجوز بيعه لغرره فمصيبته من البائع وإن قبضه المبتاع، والمعروف المشهور من هذا أن المشتري ضامن له بالقبض، وهذا في الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه باتفاق، وفي الذي أذن في اتخاذه على اختلاف، فقد أجاز بيعه ابن كنانة وسحنون، قال سحنون بعد هذا في هذا السماع: ويحج في ثمنها وأجاز ابن القاسم شراءه للمشتري لحاجته إليه وكره بيعه للبائع، وهو نحو قول أشهب في المدونة في الزبل: المشتري أعذر في شرائه من البائع، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى نصف شقة ولم يسم المشتري أولا ولا آخرا]
مسألة وسئل عن رجل اشترى نصف شقة ولم يسم المشتري أولا ولا آخرا ولم يسم البائع حتى قطع الثوب، فقال البائع: لا أعطيك إلا الآخر، وقال المشتري: لا آخذ إلا الأول، قال: يحلف البائع ما كان باع إلا على الآخر ويفسخ البيع ويرد الثوب إلى ربه مقطوعا إلا أن تكون سنة بين التجار أنهم إذا قطعوا إنما يبيعون الأول فيحمل الناس على تلك السنة.(8/70)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة في جوابها حذف سكت عنه اتكالا على فهم السامع والله أعلم، ومراده أن البائع يحلف ما باع إلا على الآخر، ثم يحلف المشتري ما اشترى إلا على الأول، ويفسخ البيع إن حلفا جميعا، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف، وأيمانهما في هذه المسألة على النيات، ويحلف البائع أنه أراد الآخر، ويحلف المشتري أنه أراد الأول لأنهما قد اتفقا على أن البيع وقع مبهما لم يسميا أولا ولا آخرا، ولو ادعيا التسمية لحلف كل واحد منهما على ما يدعي، فإن حلفا جميعا انفسخ البيع، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف، ولا فرق بين أن يدعيا التسمية أو يتفقا على الإبهام إذا ادعى كل واحد منهما أنه أراد غير النصف الذي أراد صاحبه إلا في صفة الأيمان، ولو اتفقا على الإبهام ولم تكن لواحد منهما نية لوجب أن يكونا فيها شريكين يقسم الثوب على القيمة ثم يستهمان عليه. وقد رأيت لابن دحون أنه قال في هذه المسألة: إنها مسألة حائلة لا تجوز إذا أبهما ولم يسميا لأنه بيع مجهول بمنزلة من باع فدانا من أرضه ولم يجزه، وإن ادعى أحدهما أنه سمى جاز ذلك وحلف على ما ادعى، فإن ادعيا جميعا فالقول قول البائع مع يمينه، ولو لم يقطع الشقة وكانا قد أبهما كانا فيها شريكين بمنزلة من اشترى نصف أرض رجل ولم يذكر الناحية.
قال محمد بن رشد: وليس قوله بصحيح لأنهما قد أبهما ولم يسميا فليس ببيع مجهول كما قال، إذ لم ينعقد البيع بينهما على جهل من أجل أن كل واحد منهما ظن أن صاحبه أراد النصف الذي أراد هو، فلم يكن بينهما في العقد غرر، إذ لم يقع شراء المشتري على أن يأخذ أحد النصفين من غير أن يعلم أيهما هو ولا بيع البائع على ذلك، ولو وقع على ذلك كان جهلا وغررا. مثال ذلك أن يقول: أشتري منك أحد النصفين الأول أو الآخر أيهما وقع السهم عليه أو أيهما شئت أن تعطيني أعطيتني. وقوله: وإن ادعى أحدهما أنه سمي جاز ذلك وحلف على ما ادعى مطرد على ما ذهب إليه من أن البيع فاسد إذا أبهما، إذ يقتضي ذلك أن من سمى منهما كان مدعيا للصحة، ومن لم يسم مدعيا للفساد. وأما قوله فإن ادعيا جميعا فالقول قول(8/71)
البائع فلا يصح، إذ الواجب في ذلك أن يحلف واحد منهما لصاحبه فلا يكون بينهما بيع؛ لأن البائع مدع على المبتاع أنه باع منه النصف الثاني ومنكر أن يكون باع منه النصف الأولى، والمبتاع باع على البائع أنه باع منه النصف الأول ومنكر أن يكون اشترى منه النصف الثاني، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا انفسخ البيع بينهما، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف، وهذا مما لا إشكال فيه.
[مسألة: باع ثوبين بعشرة أرادب قمح إلى شهر]
مسألة وسئل عن رجل باع ثوبين بعشرة أرادب قمح إلى شهر، فلما حل الأجل قال: أقلني في أحد ثوبيك وخذ مني خمسة أرادب، قال: لا بأس بذلك إذا كان الثوبان معتدلين، فإن كان أحدهما أرفع من الآخر لم يصلح له أن يقيله في أحدهما.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة وقعت ههنا في بعض الروايات، وقد وقعت متكررة في سماع أبي زيد من كتاب السلم والآجال، وقد مضى من القول عليها هناك ما لا وجه لإعادته.
[مسألة: باع منه مائة فدان مزروعة كل فدان بدينارين من ناحية قد عرفها وواجبه البيع]
مسألة وسئل عن رجل باع من رجل مائة، فدان مزروعة كل فدان بدينارين من ناحية قد عرفها وواجبه البيع، ثم ذهب على أن يأتي غدا فيقيس له، فلما كان من الغد قال: بعني أيضا مائة أخرى قبل أن يقيس له ما باعه له أولا فباعه مائة أخرى كل فدان بثلاثة دنانير، فقاس له فلم يجد في زرعه إلا مائة فدان وسبعين فدانا؟ فقال: يقيس له مائة فدان على دينارين ويقيس له ما بقي بثلاثة، فما نقص فبحساب الفدان بثلاثة؛ لأن البيع الأول أولى من الآخر، كذلك لو أن رجلا باع من رجل مائة إردب من قمح في(8/72)
منزله بثلاثين دينارا فلما كان من الغد جاء الرجل يكتاله له فاشترى منه مائة أخرى بخمسين دينارا أو جاء رجل أجنبي غيره فاشترى منه مائة إردب بخمسين قبل أن يكتال الأول فلم يجد في البيت إلا أقل من مائتين، قال: الأول أولى ثم الآخر بعد إنما يقع النقصان عليه، ولا يتحاصان في النقصان.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنهما يتحاصان في النقصان على قدر ما اشتريا، وهو قول بعيد، ووجه ذلك أنه لما كان الطعام في ضمان البائع إن تلف أشبه الديون الثابتة في الذمة في أن التحاص يجب فيها ولا يبدأ الأول منهما على الآخر، والقول الأول أظهر لأنه طعام مشترى بعينه، وقد وجبت للأول المكيلة التي اشترى، فوجب أن يكون أحق بها من الآخر ولا يتحاصان في النقصان.
[مسألة: اشترى منه صبرة وواجبه البيع فذهب ليأتي بالثمن فأصيبت الثمرة]
مسألة وسئل عن رجل اشترى من رجل صبرة من طعام وواجبه البيع فذهب الرجل يأتيه بالثمن فأصيبت الثمرة بنار فاحترقت، قال: المصيبة من المشتري.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه إذا كانت الصبرة في غير ملك البائع مثل الرحاب التي توضع الأطعمة فيها للبيع وتلفت بعد إمكان القبض فيها، وأما إن تلفت قبل إمكان القبض فيها فيدخل في ذلك من الاختلاف ما يدخل في المكيال يسقط من يد المشتري بعد أن امتلأ وقبل أن يفرغه في إناثه، وقد مضى القول على ذلك في رسم نقدها من سماع عيسى. وأما إن كانت الصبرة المشتراة في دار البائع أو حانوته فيدخل في ذلك من الاختلاف ما يدخل في السلعة المبيعة إذا تلفت في يد البائع قبل أن يقبضها المبتاع وإن طال الأمر، وقد مضى ذكر ذلك في غير ما موضع من ذلك نوازل سحنون الثانية.(8/73)
[مسألة: باع عشرة فدادين من قمح وواجبه فذهب ليقيسه له فأصيب الزرع]
مسألة قال: وكذلك لو أن رجلا باع عشرة فدادين من قمح من زرعه وواجبه فذهب إلى غد ليقيسه له فأصيب الزرع بنار فاحترق، قال: مصيبته منهما جميعا.
قال محمد بن رشد: قوله: المصيبة منهما يريد أن المشتري يضمن العشرة التي اشترى ويؤدي ثمنها وتكون مصيبة الزائد على العشرة من البائع. ولو لم يكن في القمح إلا عشرة فدادين فأقل لكانت المصيبة من المشتري في الجميع على هذا القول، وإنما جعل المصيبة من المشتري في الفدادين التي اشترى من القمح وإن كانت تلفت قبل التذريع لأن التذريع متمكن في الأرض بعد تلاف الزرع، وذلك على قياس قوله في رسم العتق من سماع عيسى في الذي يشتري السمن موازنة في جراره فيزنه بجراره إن له أن يبيعه قبل أن يزن الجرار، إذ لو تلف كانت مصيبته منه، إذ لم يبق إلا وزن الجرار، وذلك ممكن بعد تلاف السمن كما يمكن تذريع الأرض بعد ذهاب الزرع. وقد قيل: إن المصيبة من البائع إن تلف قبل التذريع وهو قول مالك في آخر رسم من سماع أشهب والمشهور في المذهب، ولو أراد المبتاع أن يبيع الفدادين التي اشترى من القمح قبل التذريع لجاز ذلك له على رواية أبي زيد هذه وعلى ما قال في رسم العتق من سماع عيسى في مسألة الجرار، ولم يجر ذلك على رواية أشهب الذي جعل الضمان فيها من البائع.
[مسألة: اشترى ياقوتة وهو يظنها ياقوتة ولا يعرفها البائع ولا المشتري]
مسألة قال: ومن اشترى ياقوتة وهو يظنها ياقوتة ولا يعرفها البائع ولا المشتري فوجدها على غير ذلك، قال: يرد البيع ولا يشبه مسألة الثياب، وكذلك القرط الذهب يشتري ولا يشترط أنه ذهب ويشتري المشتري وهو يظنه ذهبا فيجده نحاسا قال: يرد البيع.(8/74)
قال محمد بن رشد: قوله يرد البيع ولا يشبه مسألة الثياب، يريد ولا يشبه مسألة الذي يبيع الثياب مساومة ثم يدعي الغلط لا مرابحة إذ لا اختلاف في أن له القيام بالغلط في بيع المرابحة. وقوله هذا إن بيع المساومة لا قيام له فيه بالغلط هو المشهور في المذهب. وقوله في الذي اشترى الياقوتة وهو يظنها ياقوتة فوجدها على غير ذلك إن له أن يرد البيع خلاف ما مضى في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، وقد مضى هناك القول على المسألة مستوفى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: قدم بلدا من البلدان بمتاع فأعطي به ثمنا]
مسألة وسئل عن رجل قدم بلدا من البلدان بمتاع فأعطي به ثمنا فجاءه رجل فقال له: أنا آخذه منك بما أعطيت وأنت فيه شريك، قال: هذا حرام.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه يصير قد اشتراه منه بالثمن الذي سماه على أنه إن ربح زاده نصف الربح، وإن خسر رجع عليه بنصف الخسران، وذلك غرر وإن نقد فيدخله مع ذلك بيع وسلف، فهو كما قال حرام لا يحل.
[مسألة: يشتري لبن شاة بعينها كيلا يدفع إليه في كل يوم شيئا مسمى]
مسألة وسئل عن الرجل يشتري لبن شاة بعينها كيلا يدفع إليه في كل يوم شيئا مسمى، قال: إن علم أنها تحلب في كل يوم مثل ما شرط له أن يدفع إليه في كل يوم لا شك فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح مثل ما في كتاب التجارة إلى(8/75)
أرض الحرب من المدونة أنه يجوز أن يسلم في لبن الشاة الواحدة كيلا في إبان لبنها، ولا يجوز ذلك قبل إبان لبنها، ولا يجوز له أن يبتاع لبن الشاة الواحدة جزافا، ويجوز له أن يبتاع لبن الشياه جزافا إذا سمى مدة معلومة شهرا أو شهرين. وأما إلى أن ينقطع فلا يجوز. وهذه المسألة في ابتياع لبن غنم بأعيانها عكس ابتياع ثمرة المقثاة يجوز ابتياعها إلى أن ينقطع، ولا يجوز ابتياعها إلى مدة معلومة شهرا أو شهرين.
[مسألة: بيع قرط الربيع بقرط اليابس]
مسألة وسئل عن قرط الربيع بقرط اليابس، قال: إن تحرى فلا خير فيه وإن كان بين تفاضله فلا بأس به، وكذلك التفاح الأخضر بالتفاح اليابس المقدد.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في حبل حبلة من سماع عيسى، ومضت أيضا والقول عليها في رسم يدير ماله ورسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال فلا معنى لإعادته.
[مسألة: دفع إلى رجل سلعة يبيعها له بعشرة نقدا فباعها بألف درهم إلى أجل]
مسألة وقال في رجل دفع إلى رجل سلعة يبيعها له بعشرة نقدا فباعها بألف درهم إلى أجل أو بعشرين، فقال صاحب السلعة: بيعوا من هذه الألف درهم التي إلى أجل بعرض ما يساوي العشرة وأخروا ما بقي من الدراهم إلى أجلها، قال: لا بأس بذلك، وكذلك لو قال: بيعوا لي من العشرين الدينار التي إلى أجل بعرض(8/76)
ما يساوي عشرة ودعوا ما بقي إلى أجله أخذه لم يكن بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الواجب له أن تباع العشرون دينارا أو الألف درهم بعرض ثم يباع العرض بعين، فإذا كان ذلك أكثر من عشرة كان له، وإن كان أقل من عشرة ضمن المأمور تمام العشرة، فإذا كان من حقه أن يباع له الجميع كان له أن يباع له منه بقدر العشرة ويبقى له ما بقي يأخذه إذا حل أجله لأنه ثمن سلعته، ولا يدخل ذلك شيء من المكروه، فلذلك قال فيه لا بأس بذلك، ولو أراد أن يباع له من ذلك بأقل من عشرة لم يجز لأنه يدخله دنانير في أكثر منها أو في دراهم إلى أجل، وإنما الذي يجوز ويكون من حقه أن يباع من ذلك بعشرة وبأكثر من عشرة. واختلف إن أراد المأمور أن يدفع العشرة من عنده إلى رب السلعة ويترك العشرين إلى أجلها فإذا حلت قبض منها العشرة وكانت الباقية لرب السلعة فقيل: ذلك له، وهو قول ابن القاسم في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب البضائع والوكالات، وقيل: لا يكون ذلك له إلا أن يرضى بذلك رب السلعة وتكون العشرون لو بيعت كان فيها عشرة أو أكثر، فإن لم يكن فيها إلا أقل من عشرة لم يجز، وهو ظاهر قول أشهب في رسم حبل حبلة من سماع عيسى من الكتاب المذكور، وقيل: لا يكون ذلك له إلا أن يرضى بذلك رب السلعة وتكون العشرون لو بيعت لم يكن فيها إلا عشرة وأدنى، وهو قول ابن القاسم في رسم حبل حبلة المذكور، ويتخرج في المسألة قول رابع وهو ألا يجوز ذلك إلا أن تكون العشرون إن بيعت لم يكن فيها إلا عشرة لا أدنى ولا أكثر؛ لأنه إن كان فيها أكثر دخله الدين بالدين على مذهب ابن القاسم، وإن لم يكن فيها إلا أقل دخله سلف جر منفعة على مذهب أشهب.(8/77)
[مسألة: باع دابة واستثنى ركوبها يوما]
مسألة وقال في رجل باع دابة واستثنى ركوبها [يوما] ، بعد ثلاثة أيام اليوم الرابع فقبض المشتري الدابة وبقي للبائع فيها ركوب يوم فنفقت في اليوم الثالث. قال: هي من البائع، قال: وكذلك لو نفقت في ركوب البائع كانت من البائع لأنها في ضمان البائع ما بقي للبائع فيها شرط، قال أبو زيد: وبه آخذ.
قال محمد بن رشد: قوله إنها من البائع إذا نفقت في اليوم الثالث خلاف ما مضى في أول رسم من سماع أصبغ، وقد مضى القول هناك على توجيه كلا القولين وأنهما جاريان على الاختلاف في المستثنى هل هو مبقي على ملك البائع أو بمنزلة المشترى، وأن رواية أبي زيد هذه على أنه مبقي على ملك البائع لأنه على هذا يصير إنما باع الدابة بعد أربعة أيام على أن يركبها المشتري بثلاثة أيام قبل البيع وهي على ملك البائع، فوجب أن يكون ضمانها من البائع في هذه الأربعة أيام كلها لأنها فيها على ملك البائع كما قال.
[مسألة: اشترى من عبده جارية هل يبيعها مرابحة]
مسألة وقال في رجل اشترى من عبده جارية أترى أن يبيعها مرابحة؟ قال: إن كان يعمل بماله فلا بأس به، وإن كان يعمل بمال سيده فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأن العبد يملك على مذهب مالك وماله له حتى ينتزعه سيده، فإذا اشترى منه شراء صحيحا لا محاباة فيه جاز أن يبيع مرابحة ولا يبين كما لو اشتراها من غير عبده، وإذا كان(8/78)
المال له لم يجز له أن يبيع مرابحة إلا أن يبين لأن ذلك ليس بشراء وإنما هو كأنه سمى لسلعة له ثمنا فباعها عليه مرابحة إذ لا يشتري الرجل ماله بماله، فإن وقع ذلك ولم يكن العبد اشترى السلعة كان المشتري بالخيار ما كانت السلعة قائمة بين أن يمسك أو يرد، فإن فاتت رد فيها إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن على حكم الغش والخديعة في بيع المرابحة، وإن كان العبد اشتراها بمثل ذلك الثمن أو أكثر جاز البيع ولم يكن للمشتري فيه كلام على رواية أشهب عن مالك في أنه يجوز للرجل أن يبيع مرابحة ما ابتاع له غيره ولا يبين؛ لأن السلعة إنما كان اشتراها العبد لسيده الذي باعها مرابحة إذ إنما كان يتجر له بماله، ولم يجز ذلك على رواية ابن القاسم عنه في أنه لا يجوز للرجل أن يبيع مرابحة ما اشترى له غيره حتى يبين فيكون للمشتري الرد على حكم الخديعة والغش في بيع المرابحة. وأما إن كان العبد اشتراها بأقل من ذلك الثمن فلا يجوز ذلك ويكون الحكم فيه على رواية أشهب حكم من باع مرابحة وزاد في الثمن يكون للمشتري في قيام السلعة أن يردها إلا أن يحط عنه الزيادة على ما كان اشتراها به العبد ونوبها من الربح، وإن فاتت كانت فيها القيمة ما لم تكن أكثر مما باع به فلا يزاد البائع، أو يكون أقل مما اشترى به المشتري فلا ينقص منه. وأما على رواية ابن القاسم عنه فيكون الحكم فيها حكم الغش والخديعة لأنه بيع يجتمع فيه على روايته الزيادة في الثمن والغش والخديعة، وإذا اجتمعا جميعا كان للمشتري أن يطالب البائع بأيهما شاء والمطالبة بالغش والخديعة أفضل له فيطالب بذلك.
[مسألة: باع جارية حاملا على أن ما في بطنها حر قبل أن تلد]
مسألة وقال في رجل باع جارية حاملا على أن ما في بطنها حر قبل أن تلد، قال: يمضي البيع ويرجع البائع على المشتري بقيمتها لأن العتق حين استثناه صار فوتا، فإنما يرجع بقيمتها يوم قبضها.(8/79)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه باع الجارية منه على أن الجنين حر على المشتري، فهو بيع فاسد؛ لأن اشتراط عتق الجنين على المشتري غرر ويفوت بنفس البيع لوجوب العتق في الجنين على المشتري بذلك، ولذلك قال: إن البيع يمضي إذا وقع ويصحح بالقيمة، والقيمة إنما تصح أن يكون يوم البيع لأنه حينئذ فات، ففي قوله يوم قبضها نظر، ومعناه إذا كان البيع والقبض في يوم واحد، ولو باعها منه على أن جنينها حر قد أعتقه البائع لوجب على مذهب ابن القاسم أن ترد الجارية ويفسخ البيع فيها ما لم تفت بما يفوت به البيع الفاسد فيكون على المبتاع قيمتها يوم قبضها على أن ولدها مستثنى لو كان يحل بيعها على ذلك، وذهب ابن حبيب إلى أنها لا تفوت بحوالة الأسواق ولا بالولادة وترد ما لم تفت بالموت أو العيوب المفسدة فيكون على المبتاع قيمتها يوم قبضها ظرفا فارغا على أن الولد مستثنى لو كان يحل بيعها على ذلك. قال: ولو أن المشتري أعتقها قبل أن تضع عتقت وكان ولاؤها وولاء جنينها للبائع ولزمته قيمتها يوم قبضها على أن الولد مستثنى. قال: وكذلك لو وهبها لزمته قيمتها يوم قبضها على أن الولد مستثنى ويكون الولد حرا إذا وضعته.
[مسألة: باع زرعا قبل أن يبدو صلاحه ثم حصده وحمله إلى منزله فأصابته نار فاحترق]
مسألة قال: ومن باع زرعا قبل أن يبدو صلاحه ثم حصده وحمله إلى منزله فأصابته نار فاحترق وعلم أنه ذلك القمح بعينه، قال: يكون من البائع.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف المعلوم في المذهب من أن البيع الفاسد يضمنه المبتاع بالقبض وتكون مصيبته منه إن تلف، ونحوه في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب الجعل والآجال، ووجهه أنه لما كان بيعا لا يجوز لم ينعقد ولا انتقل به ملك وبقي في ملك البائع، فوجب أن يكون ضمانه منه إن قامت على تلفه بينة، وهو قول جماعة من أهل العلم في غير المذهب، والله أعلم.(8/80)
[مسألة: بيع الدجاجة البياضة بالبيض إلى أجل]
مسألة وقال في الدجاجة البياضة بالبيض إلى أجل: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في حبل حبلة من سماع يحيى من كتاب السلم والآجال أكمل مما وقعت ههنا، ومضى في أول رسم من سماع ابن القاسم منه القول على حكم المزابنة وما يجوز منها مما لا يجوز مفصلا مقسما مستوفى فلا وجه لإعادته.
[مسألة: بيع الصبي الصغير الذي يحمل السؤال]
مسألة وقال في بيع الصبي الصغير الذي يحمل السؤال لا بأس به وإن كان مرضعا إلا أن يكون من بلد قد عمه الفساد من هذا الأمر من سرقة الأحرار وبيعهم فأحب إلي أن يتورع الرجل فيه ولست أرى أن يمنع لذلك البيع.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال: إن الاحتياط ترك شرائهم إن كانوا من بلد عرف فيه سرقة الأحرار على طريق التورع والتوقي من المتشابه مخافة الوقوع في الحرام لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كان كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه» .
[مسألة: قامت عليه سلعة بعشرة دنانير فقال له رجل أربحك فيها دينارا]
مسألة وعن رجل قامت عليه سلعة بعشرة دنانير فقال له رجل: أربحك فيها دينارا، قال: لا إلا أن تشرك فلانا فيكون معك(8/81)
شريكا فيها كم يأخذ من هذا وهذا؟ قال: يأخذ من كل واحد خمسة ونصفا خمسة ونصفا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه إذا باع منه على أن يشرك فلانا فرضي فلان بالشركة فقد وقعت عهدتهما جميعا عليه فيأخذ من كل واحد منهما نصف الثمن، ولا اختلاف في هذا، وإنما يختلف إذا باع منه جميع السلع فأشرك هو فيها بحضرة البيع غيره، فقيل: إن عهدة المشرك تكون على الأول فيكون له أن يأخذ الثمن منهما جميعا، وقيل: إن عهدته تكون على المشتري الذي أشركه فإليه يدفع وعليه يرجع إن طرأ ما يوجب له الرجوع. وقد مضى الاختلاف في هذا في نوازل أصبغ من هذا الكتاب، ومضى القول على ذلك مستوفى في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال فلا معنى لإعادته.
[مسألة: شراء كلاب الصيد]
مسألة قال: ولا بأس بشراء الكلاب كلاب الصيد، ولا يعجبني بيعها. قال سحنون: نعم ويحج بثمنها، وهي الكلاب التي هي للحرث والماشية والصيد.
قال محمد بن رشد: المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك أنه لا يجوز بيع الكلب وإن كان من الكلاب المأذون في اتخاذها للصيد والضرع والحرث على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في نهيه عن ثمن الكلب عموما لم يخص فيه كلبا من كلب، ويقوي ذلك ما روي(8/82)
عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ثمن الكلب وإن كان ضاريا» ، وإجازة ابن القاسم في هذه الرواية شراء الكلب دون بيعه هو نحو قول أشهب في المدونة في الزبل: المشتري أعذر في شرائه من البائع؛ لأن الحاجة قد تدعوه إلى شراء الكلب للصيد وشبهه مما جوز له اتخاذه له، وكذلك الزبل إذا لم يجد من يعطيه ذلك دون ثمن، ولا حاجة لأحد إلى بيع ذلك لأنه إذا لم يحتج إليه تركه لمن يحتاج إليه. وقول سحنون في إجازة الكلب المأذون في اتخاذه هو قول ابن نافع وابن كنانة وأكثر أهل العلم، وهو الصحيح في النظر؛ لأنه إذا جاز الانتفاع به وجب أن يجوز بيعه وإن لم يحل أكله كالحمار الأهلي الذي لا يجوز أكله ويجوز بيعه لما جاز الانتفاع به، ومن الدليل على ذلك أيضا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من اقتنى كلبا لا يغني عنه ضرعا ولا زرعا نقص من عمله كل يوم قيراط» ، والاقتناء لا يكون إلا بالاشتراء، وقد قيل في معنى ما «روى ابن عمر عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من نهيه عن ثمن الكلب وإن كان ضاريا» إن المعنى في ذلك حين كان الحكم في الكلاب أن تقتل كلها ولا يحل لأحد إمساك شيء منها على ما روي «عن أبي رافع قال: أمرني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الكلاب فخرجت لأقتلها، لا أرى كلبا إلا قتلته حتى أتيت موضع كذا وسماه فإذا فيه كلب يدور ويلهث، فذهبت أقتله، فناداني إنسان من جوف البيت يا عبد الله، ما تريد أن تصنع؟ فقلت: أريد أن أقتل هذا الكلب، قالت: إنني امرأة بدار مضيعة، وإن هذا الكلب يطرد عني السباع، ويؤذنني بالجائي، فأت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فاذكر له ذلك فأتيت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فذكرت ذلك له فأمرني بقتله» ، ثم جاء عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب ماشية، وأنه قال: «من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيرطان في كل يوم» ، فنسخ بذلك أمره الأول بقتل الكلاب عموما. وأما الكلب الذي(8/83)
لا يجوز اتخاذه فلا اختلاف في أن بيعه لا يجوز وأن ثمنه لا يحل، روي عن ابن عباس عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ثمن الكلب حرام» .
[مسألة: اشترى من رجل مائة إردب قمح إلى الحصاد فأعطاه عند الحصاد قمحا قديما]
مسألة وعن رجل اشترى من رجل مائة إردب قمح إلى الحصاد فأعطاه عند الحصاد قمحا قديما، ولم يكن المشتري اشترط قديما ولا حديثا فأراد البائع أن يدفع إليه قديما، قال: إذا كان على صفته فذلك جائز.
قال محمد بن رشد: ليست هذه المسألة في جميع الروايات، وهي صحيحة، إذ لا يفتقر في صفة الطعام المسلف فيه إلى أن يذكر قدمه من حدثه، إذ لا يختلف ثمنه باختلافه، وإنما يذكر الطيب والنقي والامتلاء وما أشبه ذلك مما يختلف ثمنه باختلافه.
[مسألة: مر ببياع وعنده سل تين فقال: أنا آخذ منك هذا السل ومثله مرة أخرى بدرهم]
مسألة وعن رجل مر ببياع وعنده سل تين فقال: أنا آخذ منك هذا السل ومثله مرة أخرى بدرهم، قال: هذا خفيف من قبل أنه يجوز لي أن أسلف في أسلال من تين وعنب ورطب، قيل له: ألا تراه يشبه غرار قمح ملأى يقول له: بعنيها وملأها بدينار؟ قال: هذا بين لا خير فيه لأنه لا يجوز له أن يسلف في غرائر قمح.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم أوصى من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.(8/84)
[مسألة: باع بعيرا واشترط على المبتاع قربتين من ماء ببئر كذا وكذا فلم يجد في تلك البئر ماء]
مسألة وعن رجل باع بعيرا واشترط على المبتاع قربتين من ماء ببئر كذا وكذا فلم يجد في تلك البئر ماء، قال: إن كان يجد ماء من غير تلك البئر يشبه ماءها فإنه يأتيه بمثله، فإن كان لا يوجد مثل ذلك الماء كان للبائع قيمة البعير.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: كان للبائع قيمة البعير كلام وقع على غير تحصيل، والصواب أنه إذا لم يجد مثل ذلك الماء أن ينظر إلى قدر قيمة الماء من قيمة الماء والثمن مجموعين فيرجع بذلك الجزء في قيمة البعير لا في عينه على مذهب ابن القاسم من أجل ضرر الشركة، وأشهب يقول: إنه يرجع في عينه فلا يراعي ضرر الشركة. ولو كان مشترط الماء هو المشتري على البائع فلم يجد له مثلا لرجع عليه المشتري في الثمن الذي دفع بقدر قيمة الماء من قيمة الماء والبعير جميعا. وقد مضى لها نظائر في مواضع، من ذلك رسم أسلم ورسم البراءة من سماع عيسى.
[مسألة: بيع كل زريعة توكل ويستخرج من حبها طعام]
مسألة وقال: كل زريعة توكل ويستخرج من حبها طعام فإنه لا يباع حتى يستوفى، ولا يباع منه اثنان بواحد، وكل زريعة لا توكل ولا يستخرج من حبها شيء يوكل فإنه يباع قبل أن يستوفى، ويباع منها اثنان بواحد، ويباع بعضه ببعض إلى أجل.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضت متكررة في هذا السماع من كتاب السلم والآجال، ومضى القول عليها هناك مستوفى فلا وجه لإعادته مرة أخرى.(8/85)
[مسألة: النعال السبتية التي تجعل في الخفاف تشرى جلودها موازنة]
مسألة وعن هذه النعال السبتية التي تجعل في الخفاف تشرى جلودها موازنة، قال: هذا حرام، ولو أجزت هذا لأجزت أن تباع الثياب موازنة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال لأن الوزن فيها غير معروف، فبيعها موازنة من الجهل والغرر الذي لا يجوز في البيوع.
[مسألة: خبز الشعير بخبز القمح رطل برطل]
مسألة وسئل عن خبز الشعير بخبز القمح رطل برطل فقال: لا خير فيه؛ لأن الشعير أخف من القمح، فإن تحرى فلا أرى به بأسا، قال أبو زيد: قال ابن القاسم: إنما التحري أن يعرف كيل دقيق الشعير ودقيق القمح، فإذا اعتدلا فلا بأس به، قال ابن القاسم: وإنما تحري الخبز اليابس بالرطب ليس على أن الرطب إذا يبس كان مثل اليابس، ولا على أن اليابس لو كان رطبا كان مثله، وإنما التحري عندي في هذا أن يكون فيه قدر ويبة أو نصف ويبة أو ربع ويتحرى الآخر كذلك.
قال محمد بن رشد: التحري فيما يكال لا يجوز، فإنما أجاز ابن القاسم التحري في دقيق الأخباز إذ لا يمكن كيل ما دخل في الخبز من الدقيق، وهذا نحو ما مضى في رسم سلف من سماع عيسى من إجازة بيع التمر المنثور بالمكتل على التحري، وقد مضى هذا المعنى في رسم(8/86)
كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال. وقوله: إن المماثلة في أخباز القمح بالشعير يريد والسلت، إنما تكون باعتبار أصولها هو صحيح على ما في المدونة، وقد ذهب ابن دحون إلى أن الخبز يجوز أن يباع مثلا بمثل وزنا بوزن، قال: لأنه صار صنفا على حدة، فوجب ألا تراعى أصوله، قال: ولو جاز ما قال لفسد أكثر البيوع، ولعمري إن لقوله وجها، وهو القياس على الأخلال والأنبذة أنها تجوز مثلا بمثل ولا يراعى ما دخل في كل واحد منهما من التمر أو الزبيب أو العنب، وكذلك الدقيق بالدقيق أجازه مالك مثلا بمثل دون مراعاة دخل في كل واحد منهما من القمح أو من القمح والشعير إن كانا تبايعا دقيق قمح بدقيق شعير، ومعلوم أن ريع الشعير لا يساوي ريع القمح، فهذا يشهد لما ذهب إليه ابن دحون، والحجة له بالأنبذة والأخلال أبين لأنها تختلف بما انضاف إليها من الماء كما تختلف الأخباز بما انضاف إليها من الماء، إذ قد يكون بعضها أقل من بعض، وأما الدقيق فلم ينضف إليه في طحنه شيء سواه، وريعه يقرب بعضه من بعض، فلهذا أجازه والله أعلم، ألا ترى أنه لم يجز المشوي بالمشوي ولا القديد بالقديد من اللحم إلا بتحري أصولهما لتباعد ما بينهما في الرطوبة واليبس، وأما اللحم المطبوخ بالأبزار باللحم المطبوخ بالأبزار فالقول فيه كالقول في الخبز بالخبز لأن كل واحد منهما خرج إلى صنف آخر، فانظر في ذلك. وأما إن كانت أصول الأخباز مما يجوز فيه التفاضل فلا اختلاف في أن المماثلة تعتبر في أعيان الأخباز بالوزن على مذهب من يرى الأخباز كلها صنفا واحدا، وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب السلم والآجال، وقد مضى هناك ذكر الاختلاف في ذلك فلا معنى لإعادته.
[مسألة: كان له على رجل مائتا رطل صوف فحل الأجل]
مسألة وعن رجل كان له على رجل مائتا رطل صوف فحل الأجل(8/87)
فوجد الرجل عند غريمه أربعة عشر كبشا سبعة منها مجزوزة وسبعة مصوفة فأراد أن يأخذ منه تلك الأكباش كلها بثمانين رطلا من صوف مما عليه، قال: إن كان يعرف كم في تلك السبعة الأكبش من صوف حتى لا يشك فيه إلا يسيرا رطل أو نحوه فإنه قيل لي إنه يعرف، وما أيسر ما يقع عنهم من علمه يريدون تلك الجزز فلا أرى به بأسا، وإن كان لا يعرف ويقع في معرفته غبن كثير فلا خير فيه، قيل له: أرأيت لو كان لرجل على رجل مائتا رطل صوف فأحضر الجزز ليزنها، فأراد أن يأخذ منه جزرا بالمائتي رطل من غير وزن؟ قال: إن تحرى ذلك حتى يعرف فإن زاد زاد يسيرا وإن نقص عما تحرى نقص يسيرا فلا أرى به بأسا، وإن كان لا يعلم إلا بتغابن كثير فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: إجازة ابن القاسم في هذه المسألة أن يؤخذ الصوف بالتحري دون وزن من الوزن الذي له هو على قياس قوله في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال. قوله فيه: وكل صنف من الطعام أو غيره مما يجوز منه واحد باثنين من صنفه فلا بأس باقتسامه على التحري كان مما يكال أو يوزن أو مما لا يكال ولا يوزن، وعلى خلاف ما في آخر السلم الثالث من المدونة. قوله فيه: وكل شيء يجوز منه واحد باثنين من صنفه إذا كايله أو راطله أو عاده فلا يجوز الجزاف بينهما لا منهما ولا من أحدهما لأنه من المزابنة إلا أن يكون الذي يعطي أحدهما متفاوتا يعلم أنه أكثر من الذي أخذ من ذلك الصنف بشيء كثير، وهو إذا تقارب عند مالك ما بينهما كان من المزابنة وإن كان ترابا. وقد قال ابن دحون في مسألتي الصوف هاتين إنهما مخالفتان لأصل مالك وأصحابه في أن الصنف الواحد مما يجوز فيه التفاضل لا يجوز بعضه ببعض إلا إذا بان(8/88)
التفاضل وظهر، وأما إن لم يبن وتحرى أن يكون مثلا بمثل فهو من المزابنة، وإنما عول ابن دحون على ما وقع في المدونة، وهو أصل قد اختلف فيه، وقد مضى تحصيله في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال. وأما إجازة التحري فيما لا يجوز فيه التفاضل فلا يجوز فيما يكال ويجوز فيما يوزن على تفصيل قد مضى القول فيه في رسم سلف من سماع عيسى [وفي غيره] .
[مسألة: يأتي البزاز فيقول بكم هذا المتاع عليك فيقول بعشرة نقص]
مسألة وسئل عن رجل يأتي البزاز فيقول بكم هذا المتاع عليك؟ فيقول: بعشرة نقص، فيقول: ليست معي نقص ولكني أحسبها عليك بقائمة، وإني أربحك فيها نصفا، فيقول: هي تجيء تسعة قائمة، فيقول: قد أربحتك فيها نصفا، قال: لا بأس بهذا لأنه بيع حادث كأنه باعه مساومة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال في جوازها لأنه أربحه على تسعة قائمة بعد أن بين له أنه ابتاعها بعشرة نقص، فذلك جائز كما لو باعها مساومة بتسعة قائمة.
[مسألة: بيع الرطب عددا]
مسألة وقال في التمر يباع عددا: وقال مالك في الرطب يباع عددا فكرهه وقال: هو عندي مثل التمر، قال ابن وهب: إذا أحاط(8/89)
بصره به صغيره وكبيره فلا أرى به بأسا، قال ابن القاسم: إذا كان شيئا يسيرا فلا بأس به قدر ما لا يكال مما لا يمكن فيه الكيل.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في الكثير من التمر أنه لا يجوز أن يباع عددا لأن الأصل فيه الكيل، فلا يجوز أن يباع وزنا ولا عددا لأن ذلك من الغرر، ولا اختلاف أيضا في اليسير الذي لا يكال ولا يتأتى فيه الكيل أنه يجوز أن يباع عددا كما قال ابن القاسم، وإنما الاختلاف في اليسير الذي يتأتى فيه الكيل ويعرف لقلته بعدده مقدار كيله، فكرهه مالك وأجازه ابن وهب إذا أحاط به بصره صغيره وكبيره يريد فعرف بذلك مقدار كيله، والله أعلم. واختلف في وجه كراهة مالك لذلك، فقيل: لما يقع في ذلك من الجهل وإن قل، إذ لا يعرف حقيقة ما فيه من الكيل بالعدد، وقيل: إنما كرهه لما في الكيل من البركة، روى الحارث عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول لصاحب السوق أنهيت الناس عن بيع الرطب عددا؟ قال: نعم، أردت ألا يباع إلا كيلا لما في الكيل من البركة، قال له مالك: إني أكره أن يباع الرطب عددا بالدراهم مثل بيع أهل المدينة.
[مسألة: قدم بقمح من بلد فقال حين خرج إن أنا وجدت بيعا في الطريق بعته وإلا بلغته]
مسألة وقال في رجل قدم بقمح من الإسكندرية فقال حين خرج: إن أنا وجدت بيعا في الطريق بعته وإلا بلغته الفسطاط، قال: لا يبع في الطريق وليبلغ به الفسطاط إلا أن يكون نوى به إلى قرية فيها سوق فلا بأس أن يبيعه فيها، قيل له فأراد أن يختزنه في منية موسى ثم بدا له أن يبيعه ثم قال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ «لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تلقي السلع وعن بيعها حتى يهبط بها إلى الأسواق» فإذا لم يجد ثمنا خرج(8/90)
بطعامه إلى الفسطاط أن يبيعه بالطريق قبل أن يبلغ به الفسطاط لنهي رسول الله عن ذلك وجب ألا يجوز ذلك له وإن نواه، إذ لا تأثير للنية في جواز ذلك، بل ينبغي أن يكون الأمر أشد عليه إذا نواه، إذ لا يجوز لأحد أن ينوي فعل ما لا يجوز له فعله وذلك إذا باعه بالطريق ممن يريده للبيع. وأما إن مر بقرية على أميال من الحاضرة فجائز له أن يبيعهم ما يحتاجون إليه للأكل، فإن نوى قرية فيها سوق جاز أن يبيع طعامه فيه إذا كان جائزا له أن يبيعه فيه وإن لم ينو ذلك عند خروجه، إذ لا تأثير للنية فيما يجوز من ذلك مما لا يجوز منه. وأما إذا اختزنه في الطريق بموضع ليس فيه سوق فقال: إنه إن بدا له أن يبيعه فيه جاز ذلك ولم يكن به بأس، وفي هذا تفصيل، أما إذا باعه من أهل ذلك الموضع ليأكلوه أو ليبيعوه فلا بأس بذلك لأنه قد صار باختزانه في ذلك الموضع كأنه قد أصيب فيه، وأما إن باعه ممن خرج من أهل الحاضرة لشرائه فيجري ذلك محلى الاختلاف في أهل الحاضرة يخرجون إلى الحوائط يشترون من ثمارها أجاز ذلك ابن القاسم ورواه عن مالك، وهو قول أشهب خلاف روايته عن مالك في سماعه من كتاب السلطان أن ذلك لا يجوز، وقد مضى ذلك في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم.
[مسألة: اشترى منه بعشرة دنانير قمحا فولاه رجلا فأراد أخذ العشرة فأعطاه تسعة]
مسألة وسئل عن رجل اشترى من رجل بعشرة دنانير قمحا فولاه رجلا، فلما أراد أخذ العشرة منه أخذ منه تسعة وقال له: قد تصدقت عليك بالدينار، قال: هذا مكروه، ولا خير فيه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إن ذلك لا خير فيه لما يخشى من أن يكون قد نوى ذلك عند التولية ولعل المولى قد رجا أن يضع عنه أو فهم ذلك من إرادته فيكون كأنه قد ولاه إياه بأقل مما اشتراه فيكون بيعا له(8/91)
قبل استيفائه، وأما لو وقعت التولية بالعشرة لا ينوي أن يعطه منها شيئا ولا يطمع بذلك المولى منه ثم بدا له فحط عنه لم يكن على واحد منهما في ذلك حرج والله أعلم.
[مسألة: استعان رجلا يبتاع له سلعة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل استعان رجلا يبتاع له سلعة فلما ابتاعها واستوجبها قال للبائع: خذ ذهبك من هذا يا رب السلعة للذي استعان به وادفع إليه السلعة ففعل ذلك البائع فوجد بعد ذلك في الذهب نقصا وقد غاب رب السلعة أو فلس، قال: إن كان المستعان لم يعلمه ذلك كان عليه بد لها.
قال محمد بن رشد: قوله إن كان المستعان لم يعلمه ذلك كان عليه بدلها معناه إن كان لم يعلمه عند الشراء أنه إنما يشتري منه لفلان المستعين له على الشراء وأنه إليه يدفع ومنه يقبض فعليه البدل، ولا ينتفع بقوله له بعد الشراء ادفع إلى فلان السلعة وخذ منه الثمن فإني اشتريتها له إلا أن يصدقه في ذلك. ولو قال له عند الشراء إني إنما اشتريتها لفلان ودفع هو إليه الثمن وقال: إنه مال فلان فوجد فيه نقصا وقد غاب فلان لوجب على المشتري البدل ما لم يصدقه البائع على ذلك ويبيعه عليه بتصريح على قياس ما مضى لأصبغ في نوازله قبل هذا خلاف قول ابن الماجشون.
[مسألة: باع جارية وعليها حلي وثياب]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون قال سحنون عن علي بن زياد عن مالك إنه قال في رجل باع جارية وعليها حلي وثياب، قال: إن كان يعرف أنها هيئت بذلك للبيع فهو للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، فإن اشترطه المبتاع جاز البيع.(8/92)
قال محمد بن رشد: قد مضى في أول سماع ابن القاسم من رواية ابن القاسم عن مالك مثل رواية ابن زياد هذه عنه، ومضى القول على ذلك هنالك فلا وجه لإعادته.
[مسألة: اشترى عرصة فلما أراد البنيان فيها وجد بئرا عادية لها بال]
مسألة وسئل عن رجل اشترى عرصة فلما أراد البنيان فيها وجد بئرا عادية لها بال، فقال البائع: بعتك شيئا لم أعرفه، وأنا أفسخ البيع، قال سحنون: أراها للمشتري وكذلك المواريث إذا اقتسمها الورثة فوجد في سهمه مثل ذلك أن ذلك له دون ورثته.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو وجد المشتري في العرصة التي اشترى صخرا أو عمدا أو رخاما أو وجد ذلك أحد الورثة في حظه لكان ذلك له على قول سحنون هذا، وهو قول ابن حبيب في الواضحة وابن دينار في المدنية نصا وعلى قياس أحد قولي ابن القاسم في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب الأقضية في الذي يجد في أرضه جبا وباب الجب في أرض غيره إن له أن يأخذ ما كان منه في أرضه وينتفع به ويسده فيما بينه وبين صاحبه، ولا يستحقه صاحبه بالباب. ويأتي على قياس قول ابن القاسم في الرسم المذكور أن الجب لصاحب الباب ولا حق فيه للذي وجده في أرضه أنه إن وجد المشتري في العرصة التي اشترى بئرا أو جبا أو(8/93)
بيتا لم يعلم بها البائع أن للبائع أن ينقض البيع، وكذلك إذا وجد ذلك أحد الورثة في حظه كان للآخرين نقض القسمة، وأنه إذا وجد فيما اشترى صخرا أو عمدا أو رخاما مغيبا تحت الأرض فهو للبائع، فإن وجد ذلك أحد الورثة في حظه فهو بينهم، وكذلك قال ابن القاسم في أول رسم من سماع عيسى من كتاب اللقطة أنه لا حق في ذلك للمبتاع.
قال محمد بن رشد: وهذا الاختلاف إنما هو في المجهول الذي لا يعلم صاحبه، وأما إن ثبت أن ما وجد مغيبا في الأرض أنه من متاع البائع أو من متاع من ورثه عنه فلا اختلاف في أنه له، وكذلك إن علم أن ما وجده أحد الورثة في حظه من ذلك أنه لموروثهم فهو بينهم بلا خلاف، وكذلك إن ثبت أن البئر أو الجب أو البيت الموجود تحت الأرض من عمل البائع كان نسيه أو من عمل من ورثه عنه فلا اختلاف في أن للبائع أن ينقض البيع وأن لمن يجد ذلك في حظه من الورثة أن ينقض القسمة. وجه القول الأول في المجهول أنه لمن وجد ذلك في أرضه هو أن البائع لم يثبت له عليه ملك، وقد باع الأرض ولا يعلم ما في داخلها فوجب ألا يكون للبائع حجة على المبتاع فيما وجده المبتاع فيها مما ينتفع به، كما لا يكون للمبتاع حجة على البائع فيما وجده فيها من جبل يمنعه من أن يحدث فيها ما يحتاج إليه من جب أو بئر أو غراس؟ ووجه القول الثاني أن ما وجد في الأرض مما يعلم أنه محدث فيها من جب أو بئر أو موضوع فيها من صخر أو عمد أو رخام فإنه محمول على أنه للبائع، إذ لعله قد انتقل إليه بميراث لم يعلم به وما أشبه ذلك، فوجب ألا يسقط حقه فيه جهله به، وإن علم أنه ليس له فحكمه حكم اللقطة، وهذا القول أظهر، والله أعلم، وبه التوفيق.(8/94)
[كتاب البضائع والوكالات الأول] [أسلف رجلا دينارا فجاءه به فرده لشيء كرهه](8/95)
من سماع ابن القاسم من مالك
من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه قال: من أسلف رجلا دينارا فجاءه به فرده لشيء كرهه، فقال له: ادفعه إلى فلان، فقال: إن كان قبضه ورآه وعرفه ثم رده إليه فلا ضمان عليه إن تلف، وإن كان لم يره صاحبه فهو من المسلف حتى يرده.
قال محمد بن رشد: قوله: ادفعه إلى فلان يريد ادفعه إليه يبدله لك، ولم ير أن ينتقل الدينار من ذمة المستسلف له إلى أمانته بقول الذي أسلفه إياه ادفعه إلى فلان حتى يقبضه منه ثم يرده إليه ليحمله إلى فلان، ومثله في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب الكفالة والحوالة، وفي السلم الأول من المدونة في الذي يسلم الثوب في طعام فيحرقه رجل في يده قبل أن يقبضه المسلم إليه لأنه قال فيه: إن قال إنما تركه وديعة في يده بعدما دفعه إليه فأرى قيمته له على من أحرقه والسلم على حاله، وعلى هذا يأتي قوله في كتاب القراض من المدونة في مال القراض يضيع منه(8/97)
بعضه فيخبر بذلك رب المال فيقول له: اعمل بما بقي في يدك قراضا إنه على القراض الأول وإن أحضر المال وحاسبه ما لم يدفعه إليه ثم يرده إليه قراضا مستأنفا خلاف ما حكى ابن حبيب عن مالك في الواضحة وربيعة والليث ومطرف وابن الماجشون وجماعة أصحاب مالك إلا ابن القاسم فإنه كان يشدد فيه ويقول: إنه على القراض الأول حتى يدفعه إليه ثم يرده عليه، فيأتي على قوله في مسألتنا أن الدينار ينتقل من ذمة المستسلف إذا أحضره بقول المسلف له ادفعه إلى فلان يبدله لك، ولو كان المسلف للدينار قبض ديناره من المستسلف له ثم أتاه به فقال: وجدته معيبا وإنما أسلفتك سالما، فقال له: إنما أخذته من فلان فاذهب به إليه يبدله لك لوجب على هذه الرواية أن يكون ضمانه إن تلف في الذهاب به من صاحبه القابض له الذاهب به وألا ينتقل عن ذمته إلى أمانته لقول الدافع له: اذهب به إلى فلان يبدله لك، ولوجب أيضا على ما حكى ابن حبيب في الواضحة عمن ذكرناه أن ينتقل بقوله: اذهب به إلى فلان يبدله لك من ذمته إلى أمانته فيصدق في دعواه تلفه، ويتخرج في هذا الوجه قول ثالث في المسألة وهو أن يكون في يده كالرهن لا يصدق في دعواه تلفه إلا أن تقوم على ذلك بينة حسبما ذكرناه وبينا وجهه في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب الكفالة والحوالة.
[مسألة: أرسل رسولا يبيع له غلاما ولم يوقت له شيئا فاختلفا]
مسألة وقال مالك في رجل أرسل رسولا يبيع له غلاما ولم يوقت له شيئا، فاختلفا، فقال المشتري: ابتعته بأربعين دينارا وقال الرسول وهو البائع: لا بل بخمسين دينارا أرى الأيمان بينهما، فإن(8/98)
أبى الرسول أن يحلف لم يفسخ البيع بينهما ولم يقل لصاحب الغلام احلف؛ لأنه لا علم له، ولكن يحلف المشتري ويكون القول قوله مع يمينه.
قال محمد بن رشد: قوله: ولم يؤقت له شيئا معناه: وقد فوض إليه أن يبيع بما يراه لأنه لو لم يؤقت له ثمنا ولا فوض إليه أن يبيع بما يراه لكان الأمر موقوفا على رضاه ولوجب إذا قال الرسول: بعت بخمسين، وقال المشتري: اشتريت بأربعين إن قال رب العبد: لا أرضى أن أبيع عبدي بالخمسين التي قال إنه باع العبد بها أن يأخذ عبده، وإن قال: لا أرضى أن أبيع عبدي بدون الخمسين التي باعه بها أن يقال للمشتري: إن أردت أن تأخذ العبد بخمسين فخذه وإلا فلا شيء لك، ولا أيمان بينهما في شيء من ذلك كله. وأما إن قال رب العبد: لو باعه بأربعين لرضيت بذلك، ولكنه قد قال: إنه باعه بخمسين فأنا أطلبها لكانت الأيمان بينهما في ذلك على ما ذكره إذا لم يوقت له ثمنا وفوض إليه البيع باجتهاده، يريد أن الأيمان تكون بينهما على ما تكون بين المتبايعين إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة أو فائتة. وقوله: فإن أبى الرسول أن يحلف لم يفسخ البيع بينهما صحيح؛ لأن البيع إنما لم يفسخ إذا حلفا جميعا أو نكلا جميعا على ما سنذكره في ذلك من الاختلاف. وقوله: ولم يقل لصاحب الغلام احلف معناه أنه لا يجب عليه أن يحلف إذ لم يل البيع فقد لا يعرف الثمن، وإنما يجب اليمين على الوكيل الذي ولي البيع، وأما هو فمن حقه إن ادعى معرفة الثمن أن يحلف إن شاء في موضع الرسول فيفسخ البيع إذا حلف المشتري ولا يجب له على الرسول بنكوله شيء؛ لأنه لما حلف فقد اختار فسخ البيع على إمضائه بيمين المشتري ويضمن العشرة للرسول، وكذلك إذا حلف الوكيل والمشتري وانفسخ البيع لم يجب على الوكيل شيء لأن الإشهاد لا يتعين عليه إلا عند دفع السلعة. ألا ترى أنه لو قال:(8/99)
بعت العبد بخمسين فأنكر المشتري الشراء جملة وحلف لم يلزم الرسول شيء، ولو كان قد دفع إليه العبد فجحد الثمن وأنكر أن يكون قبض العبد فحلف لضمن الرسول الخمسين لا قيمة العبد، كذلك قال في المدونة إنه يضمن الثمن. والوجه في ذلك أن الإشهاد بالثمن إنما يتعين عليه عند دفع العبد، وإن لم يحلف واحد منهما حلف المشتري وكان القول قوله على ما قال في الرواية، ورجع رب العبد على الرسول بالعشرة التي أتلفها عليه بنكوله عن اليمين، قاله مالك في كتاب ابن المواز. ولو دفع الرسول العبد إلى المشتري ففات عنده ووجب أن يكون القول قوله لحلف وغرم الرسول العشرة التي أتلف على رب العبد بتركه الإشهاد على المشتري بالثمن، إذ دفع إليه العبد، قاله مالك في كتاب ابن المواز أيضا، ولم يتكلم في هذه الرواية إن نكل المشتري بعد نكول الرسول، وحكاها ابن حبيب وزاد فيها فإن نكل المشتري عن اليمين أيضا لزمه البيع، يريد بما ادعى الرسول البائع، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في المتبايعين إذا اختلفا في الثمن فقال: إنهما إن نكلا كان القول قول البائع. وقد قال أبو بكر بن محمد في هذه المسألة: فإن أبى المشتري أن يحلف بعد نكول الرسول غرم ما قال الرسول، وهو خلاف المتبايعين، وقوله: وهو خلاف المتبايعين لا يصح بوجه لأنهما متبايعان فلا فرق في حلفهما أو في حلف أحدهما ونكول الآخر، أو في نكولهما جميعا بين أن يكون البائع منهما هو رب السلعة أو وكيله على البيع، ففي نكولهما جميعا قولان: أحدهما أن القول قول الوكيل على البيع أو قول رب السلعة إن كان هو الذي ولي البيع، وهو نص قول مالك في هذه المسألة ومذهب ابن حبيب، والثاني أن نكولهما جميعا بمنزلة حلفهما جميعا ينفسخ البيع فيما بينهما، وهو مذهب ابن القاسم على قول شريح في كتاب بيع الخيار من المدونة إن حلفا ترادا وإن نكلا ترادا، وقيل: إنما يكون القول قول الرسول أو قول رب السلعة إذا نكلا عن اليمين جميعا مع يمينه لقد باع العبد منه بخمسين لأنه في هذا على(8/100)
المشتري مدع صدقا، فإذا نكل المشتري المدعى عليه عن اليمين على ذلك رجعت اليمين على المدعي وهو البائع فحلف واستحق ما حلف عليه. ويبعد قول من قال: إن البائع لما كان هو المبدأ باليمين فنكل عنها ثم نكل المشتري بعده عن اليمين كان القول قول البائع بلا يمين، بمنزلة من ادعى على رجل حقا له فيه شاهد واحد فأبى أن يحلف مع شاهده ورد اليمين على المدعى عليه فنكل عن اليمين أن المدعي يكون له ما ادعى دون يمين لنكول صاحبه بعد نكوله هو؛ لأن يمين البائع لقد باع العبد منه بخمسين لم تجب له ولا مكن منها فلم ينكل عنها؛ لأن صفة أيمانها أن يحلف البائع ما باع العبد منه بأربعين، ويحلف المشتري ما اشتراه بخمسين؛ لأن البائع مدعى عليه أنه باع بأربعين، وهو منكر لذلك، فوجب أن يحلف عليه؛ والمشتري مدعى عليه أنه اشتراه بخمسين وهو منكر لذلك، فوجب أن يحلف عليه، وليس على البائع أن يزيد في يمينه: ولقد باعه منه بخمسين لأنه باع في ذلك على المشتري، فقد كذبه بيمينه، إلا أن يشاء أن يزيد ذلك في يمينه أو يجمع المعنيين في لفظ واحد فيحلف أنه ما باعه منه إلا خمسين رجاء أن ينكل صاحبه عن اليمين فلا يحتاج إلى يمين أخرى ويكتفي باليمين الأول، فلم ينكل عن اليمين على هذه الزيادة إذ لم تكن واجبة عليه، ولا كان من حقه أن يحلف عليها ويستحق الخمسين، فوجب إذا نقل المشتري عن اليمين أنه ما اشتراها منه بخمسين ألا يستحق هو الخمسين إلا بعد يمينه: لقد باعه منه بخمسين، فإذا حمل قول ابن حبيب على هذا لصحة ما ذكرناه من معناه وجب أن يصرف قول ابن القاسم بالتأويل إليه فيقال: معنى قوله وإن نكلا ترادا أي إن أبى البائع أن يحلف على كل حال أولا وآخرا فتستقيم المسألة ويصحح معناها ولا يكون بين ابن القاسم وبين ابن حبيب اختلاف فيها، ومن تأول على ابن حبيب في قوله إذا نكل عن اليمين كان القول قول البائع أنه يكون القول قوله دون يمين فعد قوله مثل أقوال أهل العراق في القضاء بالنكول دون اليمين على(8/101)
المدعى، وذلك خلاف مذهب مالك وجميع أصحابه، وسيأتي في رسم نقدها نقدها من سماع عيسى الحكم إذا باع الرسول العبد فوجد المشتري به عيبا فهو من معنى هذه المسألة.
[مسألة: بعث معه بضاعة فيريد أن يحسب نفقتها كما يحسب على القراض]
مسألة قال ابن القاسم عن مالك في رجل تبعث معه بضاعة فيريد أن يحسب على صاحبها من النفقة كما يحسب على القراض، قال: إن كان شيئا كثيرا فذلك له، وإن كان شيئا تافها فلا، قال ابن القاسم وذلك رأيي إذا كان الذي حمل من ذلك شيئا له بال، فأما إذا كان الشيء اليسير فلا أرى ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: وافق ابن القاسم مالكا فيما رواه عنه من أن البضاعة إذا كانت كثيرة لها بال، قال محمد مثل الخمسين والأربعين كان للمبضع معه أن يقبض نفقته على البضاعة وعلى ماله الذي خرج به قياسا على من أخذ مالا قراضا فخرج به وبمال له أن نفقته تكون مفضوضة على المالين، وفي رسم الأقضية من سماع أشهب خلاف هذا أنه لا يحسب على البضاعة من النفقة شيء، وهو الأظهر لبعد قياس البضاعة في هذا على القراض؛ لأن الحكم في القراض أن تكون نفقة المقارض في سفره من مال القراض، فقد دخل معه رب المال على ذلك إذ لم يتطوع له بشيء، والمبضع معه قد تطوع لرب البضاعة بحملها ولم يعلمه أنه يحسب شيئا من نفقته عليه، ولعله لو علم بذلك لم يرض به ولم يسلم بضاعته إليه، فكان الأظهر ألا يكون له أن يحسب من نفقته شيئا عليها إلا بشرط أو عرف. وفي قوله في آخر رواية أشهب وإن أشياء لتكون يوما لا تجمل ولا تحسن ما يدل على أنه يكره له أن يفعل ذلك. وليس بمحظور عليه فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع والكراهة، وبالله تعالى التوفيق.(8/102)
[مسألة: أبضع معه بضاعة في سلعة من السلع فابتاع غيرها ثم باعها فربح]
مسألة وقال مالك فيمن أبضع معه بضاعة في سلعة من السلع فابتاع غيرها ثم باعها فربح فيها ثم ابتاع أخرى فوضع، وذلك كله بغير إذن صاحب البضاعة قال: الربح لصاحبها والضمان على من افتات عليه بما افتات.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة إذا لم يفرق فيها بين أن تكون السلعة التي أمره بشرائها موجودة في ذلك البلد أو غير موجودة فيه أنه ابتاع غير السلعة التي أبضع معه فيها لرب البضاعة، ولذلك قال: إنه يكون الربح الذي ربح في الأولى لصاحبها الذي ابتاعها له والوضيعة التي وضع في الثانية على المبضع معه المفتات عليه في شراء ما لم يأمره به، ولو قدم بها لكان مخيرا بين أن يأخذها لأنه ابتاعها له بماله وبين أن يتركها ويضمنه ماله. وهذه المسألة تتشعب إلى وجوه كثيرة: منها أن يشتري المبضع معه في ذلك البلد ببضاعة الرجل السلعة التي أمره بشرائها له أو لنفسه، ومنها أن يشتري في ذلك البلد أو غير ذلك البلد ببضاعته غير السلعة التي أمره بشرائها له أو لنفسه أيضا فيبيعها بربح أو بخسارة أو يقدم بها والسلعة التي أمره بشرائها موجودة في ذلك البلد أو غير موجودة فيه، ومنها أن يشتري في غير ذلك البلد السلعة التي أمره بشرائها إذا لم يجدها في ذلك البلد أو قبل أن يبلغه، فأما إن اشترى في ذلك البلد ببضاعته السلعة التي أمره بشرائها فهي له لازمة، واختلف أنه إن زعم أنه اشتراها لنفسه فروى محمد بن يحيى السبائي عن مالك أنه يحلف على ذلك وتكون له ويرد إليه ماله، وقيل: إنه لا يصدق في ذلك إلا أن يكون أشهد قبل الشراء أنه إنما يشتريها بالبضاعة لنفسه لا له، فتكون له ويرد إلى الرجل بضاعته، وقع هذا القول في الثمانية لأبي زيد، وقيل: إنه لا يصدق في ذلك وإن(8/103)
أشهد وتكون السلعة لرب البضاعة إلا أن يعلمه قبل الشراء أنه إنما يشتريها لنفسه لا له، وهو قول أصبغ وروايته عن ابن القاسم في الثمانية. وهذه الثلاثة الأقوال في السلعة المعينة ولا فرق، وأما إذا اشترى في ذلك البلد أو في غير ذلك البلد غير السلعة التي أمره بشرائها لصاحب البضاعة فسواء كانت السلعة التي أمره بشرائها موجودة في ذلك البلد أو غير موجودة فيه يكون الربح لصاحب البضاعة إن باعها بربح لأنه اشتراها له، والنقصان إن باعها بوضيعة على المشتري المفتات، وإن قدم بها كان صاحب البضاعة مخيرا بيمين أن يأخذها لأنه اشتراها له بماله، وبين أن يتركها ويضمنه ماله حسبما وصفناه في أول المسألة. وأما إن اشترى في ذلك البلد أو في غير ذلك البلد غير السلعة التي أمره بشرائها لنفسه فباعها بربح أو وضيعة أو قدم بها، فإن كانت السلعة التي أمره بشرائها موجودة في ذلك البلد فالربح لصاحب البضاعة والوضيعة على المبضع معه، وإن قدم بالسلعة كان رب المال بالخيار بين أن يأخذها أو يضمنه ماله، وقال مطرف: الربح والوضيعة للمبضع سعه. وأما إن كانت السلعة غير موجودة في ذلك البلد فالربح له والوضيعة عليه لأنه اشتراها لنفسه، واختلف إن قدم بالسلعة فظاهر قول ابن القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ أن لرب المال أن يأخذها إن شاء، وعاب ذلك أصبغ وخطأه وقال: لا سبيل لرب المال إلى أخذها إلا إن كان اشتراها والسلعة التي أمره بشرائها موجودة في ذلك البلد، ومثل قول أصبغ هذا لابن القاسم في سماع سحنون، فيحتمل أن يتأول قول ابن القاسم في سماع أصبغ على هذا فلا يلزمه اعتراض أصبغ وتخطئته لقوله. واختلف أيضا إن اشترى له ما أمره به بعد أن باع السلعة التي كان اشتراها لنفسه فقال مطرف: هو بالخيار في أخذها، وقال ابن الماجشون: يلزمه أخذها إذا كانت على الصفة، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وأما إن اشترى في غير ذلك البلد السلعة التي أمره بشرائها بعد أن لم يجد مما في البلد وقبل أن يبلغه فقال ابن القاسم في آخر رسم أوصى من(8/104)
سماع عيسى: إن صاحب المال بالخيار إن شاء أخذها وإن شاء تركها، وقال عيسى بن دينار من رأيه: يلزمه أخذها إذا كانت على الصفة أو اشتراها بمثل الثمن، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: أبضع معه في ثوب فاشتراه ثم قال للذي باعه اذهب به فسرق منه]
مسألة وقال مالك فيمن أبضع معه في ثوب فاشتراه ثم قال للذي باعه: اذهب به فأره صاحبي، قال: نعم، فسقط منه أو سرق، قال: فإن ثمنه ضامن على الذي أرسله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه اشترى الثوب بالخيار على أن يريه صاحبه، وكذلك ذكر في كتاب ابن المواز أنه كان اشتراه له بالخيار إذ لا معنى لاستئذانه البائع بعد ثبات البيع في أن يريه صاحبه. وقوله إذا كان اشتراه على الخيار فإن ثمنه ضامن على الذي أرسله صحيح لأن ضمانه منه إذا لم يعرف هلاكه إلا بقوله على حكم ما اشترى بالخيار، ولا حجة له على المبضع معه بأن يقول له: قد تعديت علي إذ اشتريت بالخيار دون أن آمرك بذلك، إذ لا ضرر عليه في الخيار بل له فيه منفعة على كل حال، إلا أن يكون زاد في الثمن بسبب الخيار فيكون من حقه أن يرجع عليه بالزيادة إن تلفت السلعة قبل أن يختار، ويحتمل أن يكون معنى المسألة أنه اشترى له السلعة شراء باتا ثم سأل البائع بعد تمام البيع أن يجعل له الخيار فيها حتى يريها صاحبه، فتستقيم المسألة أيضا على هذا التأويل، ويصح فيها الجواب، ولا يكون لصاحبها في ذلك حجة ولا كلام.(8/105)
[مسألة: اشترى سلعة أو تكارى دابة فقال: اشتريتها لامرأتي ثم طلب منها الثمن]
مسألة وقال مالك فيمن اشترى سلعة أو تكارى دابة فقال: اشتريتها لامرأتي، نقد الثمن أو الكراء أو لم ينقد، وقد حازت المرأة الدابة أو سكنت المنزل، ثم طلب منها الثمن، فقالت: قد دفعته إليك ولا بينة لها، قال: إن كان نقد الثمن فيمين المرأة: لقد دفعت إليه ثمنها، وما عندي منه قليل ولا كثير، وإن كان لم ينقد حلف الزوج بالله ما اقتضيت من ثمنها شيئا، ثم يأخذ منها.
قال محمد بن رشد: زاد في هذه المسألة في أول سماع ابن القاسم من كتاب الدعوى والصلح: قال سحنون وعيسى وإن أشهد الزوج عند دفعه الثمن إلى البائع أنه إنما ينقد من ماله ثم قالت المرأة: إني دفعت إليه الثمن لم أجعل القول قولها، ورأيت القول قول الزوج مع يمينه، وقولهما خلاف لقول مالك بعيد في النظر؛ لأنه يتهم على أن يتقدم بالإشهاد على ذلك ليكون القول قوله. ووقع في رسم استأذن من سماع عيسى بعد هذا في الرجل يوكل الرجل على شراء سلعة فيشتريها وينقد الثمن ثم يطلبه من الآمر فيقول: قد أعطيته لك وإنما اشتريتها بدراهمي أن القول قول الوكيل المشتري مع يمينه: يحلف ما أخذ منه ثمنها ثم يأخذه منه، فقال بعض أهل النظر: المعنى فيها أن الآمر لم يقبض السلعة ولذلك القول قول المأمور، فليست بخلاف لما في سماع ابن القاسم لأن الرجل سفير امرأته على ما قال في رسم حلف، والصواب أنها خلاف لها لأنه لم يعلل في سماع ابن القاسم بقبض السلعة، ولا يصح أن يعلل بذلك على مذهب ابن القاسم لأنها ليست برهن له على مذهبه يجب له إمساكها حتى يقبض الثمن، بل يلزمه دفعها إليه واتباعه بالثمن، وإنما يصح أن يعلل بقبض السلعة على مذهب أشهب الذي يراها رهنا بيده من حقه أن يمسكها(8/106)
حتى يقبض الثمن، وإنما وجه ما في سماع عيسى أنه أحل المأمور محل البائع في أن القول قوله أنه لم يقبض الثمن وإن كان قد دفع السلعة، فالفرق بين أن يقبض الآمر السلعة أو لا يقبضها قول ثالث في المسألة يتخرج على مذهب أشهب، وفي كتاب ابن المواز قول رابع أن القول قول الآمر نقد الثمن أو لم ينقده، وتفرقة عيسى وسحنون بين أن يشهد الزوج أو لا يشهد قول خامس في المسألة، فهذا تحصيل القول فيها: رواية ابن القاسم عن مالك الفرق بين أن ينقد أو لا ينقد، وقول أشهب الفرق بين أن يقبض الآمر السلعة أو لا يقبض، وقول سحنون وعيسى الفرق بين أن يشهد المأمور أو لا يشهد، ورواية عيسى القول قول المأمور نقد أو لم ينقد، وما في كتاب ابن المواز القول قول الآمر نقد المأمور أو لم ينقد، والله أعلم.
[مسألة: يسلف الناس في البيع ويزعم أنه اشترى جميع ذلك لفلان]
مسألة قيل لأصبغ: ما تقول في الرجل يسلف الناس في البيع أو يشتري سلعا بأعيانها، ويزعم أنه اشترى جميع ذلك لفلان رجل غائب بماله أمره بذلك، ويكتب في اشترائه: هذا ما اشترى فلان لفلان بماله؟ وكيف إن قال: أمرني أن أشتري له بهذه المائة الدينار فاشترى بها ونقدها ثم يأتي الذي زعم أنه أمره بذلك فينكر أن يكون أمره باشتراء شيء من الأشياء ويريد أخذ المال من البائع هل ترى ذلك له؟ قال أصبغ: هما سواء، ولا سبيل له إلى البائع، وسبيله على المبتاع بإقراره على نفسه، يأخذ ما اشترى منه أو يضمنه ماله المسمى، ولا سبيل له على البائع على حال، إلا أن تقوم بينة على الأصل في المال لفلان هذا المال بعينه الذي اشترى به ونقده فيه وإلا فلا.(8/107)
قال محمد بن رشد: وقع قول أصبغ هذا في نوازله من كتاب جامع البيوع على نصه، وزاد فيه أو يصدقه البائع قبل البيع على ما ذكر من أنه يشتري لفلان بماله ويبيعه على ذلك بتصريح من البائع وإقرار، يريد فيكون لفلان أن يأخذ بذلك ماله بعينه من البائع كما له أن يأخذه إذا قامت البينة عليه إن ماله بعينه، غير أن البيع ينتقض إذا أخذ فلان ماله بإقرار البائع أن الشراء كان له وأن المال ماله، ولا ينتقض في قيام البينة أن المال ماله بعينه، ويرجع على المشتري بمثله، ويلزمه البيع لأن استحقاق الثمن إذا كان عينا لا يوجب نقض البيع ويشبه أن يقال على القول بأن العين لا يتعين، وهو قول أشهب وأحد قولي ابن القاسم في المدونة أنه لا سبيل له على البائع في المال إذا قامت له البينة عليه بعينه والمشتري ملي، وكذلك قال أبو عمر الإشبيلي: إن ما في كتاب السلم الثاني من المدونة خلاف لقول أصبغ إن لفلان أن يأخذ ماله من البائع إذا أقام البينة عليه يعينه؛ وابن الماجشون يقول: إن القول قول المشترى له يحلف ما أمر المشتري بالشراء ويأخذ ماله إن شاء من المشتري وإن شاء من البائع، فإن أخذه من البائع كان للبائع أن يرجع به على المشتري ويلزمه الشراء، وإن أخذه من المشتري لم يكن له أن يأخذه من البائع ويرد إليه ما اشترى منه، وقد مضى معنى هذا كله بزيادة عليه في نوازل أصبغ من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.
[وكلت زوجها بحق كان لها وأشهدت له أنه وكيلها في ذلك الحق]
ومن كتاب أوله: حلف ألا يبيع سلعة سماها وسئل عن امرأة وكلت زوجها بحق كان لها وأشهدت له أنه وكيلها في ذلك الحق والقائم به وأنه قبضه، ثم ادعت أنه لم يعطها شيئا، ماذا ترى عليه؟ قال: أرى أن يحلف على دفعه إليها ثم قال: هو سفيرها، قيل له: وما السفير؟ قال: الوكيل والرسول، وهو يبيع لها ويشتري، وقوم يوكلون أقواما بالعراق يرسلونهم يقتضون لهم أموالا ثم يقيمون السنين ثم يأتون بعد ذلك يقولون:(8/108)
لم يدفع إلينا شيء، ما أرى في ذلك شيئا، ولا أرى عليه إلا أن يحلف ويبرأ ولا يكون عليه شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: وهو سفيرها، والسفير الوكيل والرسول، يدل على أنه يحكم له بحكم الوكيل فيما باع واشترى لامرأته وإن لم تثبت وكالته للعرف الجاري من تصرف الرجال لأزواجهم في أمورهن، ومثله من الدليل في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس، ووقع في سماع عبد الملك بن الحسن من كتاب الدعوى والصلح ما يدل على أنه محمول في ذلك على غير الوكالة حتى تعلم وكالته، وقد اختلف في الوكيل يدعي أنه دفع إلى موكله ما قبض له من نحو مائة أو ما باع به متاعه على أربعة أقوال: أحدها أن القول قوله مع يمينه جملة من غير تفصيل، وهو قوله في هذه الرواية في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس وفي آخر كتاب الوكالات من المدونة، والثاني أنه إن كان بقرب ذلك في الأيام اليسيرة فالقول قول الموكل إنه ما قبض شيئا وعلى الوكيل إقامة البينة، وإن تباعد الآمر مثل الشهر ونحوه فالقول قول الوكيل مع يمينه، وإن طال الآمر جدا لم يكن على الوكيل ولا على الزوج يمينا، وهو قول مطرف عن مالك، والثالث أنه إن كان بحضرة ذلك وقربه في الأيام اليسيرة صدق الوكيل مع يمينه، وإن طال الآمر جدا صدق دون يمين، وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم، والرابع تفرقة أصبغ بين الوكيل بالشيء بعينه وبين الوكيل المفوض إليه، فالوكيل على الشيء يعينه غارم حتى يقيم البينة على الدفع وإن طال الآمر، والوكيل المفوض إليه يصدق في القرب مع يمينه وفي البعد دون يمين، فإن مات الوكيل أو الزوج بحدثان ما جرى ذلك على أيديهما كان ذلك في أموالهما إذا عرف القبض وجهل الدفع بعد يمين الموكل أو الزوجة أنه ما دفع إليه شيء، وإن كان موتهما بغير حدثان ذلك وما يكون في مثله المخرج والقضاء والدفع فلا شيء في أموالهما وإن كان لم يعرف الدفع ولم يذكر، ولا خلاف عندي في هذا الوجه إلا على القول بأن على الوكيل إقامة البينة على الدفع في القرب والبعد.(8/109)
[مسألة: يبعث معه قوم في رقيق ببضائع لهم إلى مصر فيخلط أموالهم]
مسألة وسئل عن رجل يبعث معه قوم في رقيق ببضائع لهم إلى مصر فعمد وخلط أموالهم ثم اشترى رقيقا مختلفة، فلما فرغ من ذلك أعطى كل إنسان منهم بقدر بضاعته رأسا على نحو ما أبضع معه، فأعطى رجلا منهم جارية مريضة ابتاعها وهي مريضة قد عرف مرضها فهلكت الجارية، ثم إنه اعترف بالذي صنع، قال: إن اعترف بالذي صنع على نحو ما ذكرت أنه اشترى رقيقا ولم يكن في أصل اشترائه لكل إنسان ببضاعته، وإنما هو أعطاهم بعد الاشتراء فأراه ضامنا لذلك، وإن لم يقر وقال: إنما اشتريت الجارية له حين اشتريتها لم أر عليه شيئا، ورأيته في ذلك مصدقا، قيل له: أفترى عليه يمينا؟ قال: نعم إني لأرى ذلك عليه، قال سحنون: لا يمين عليه، قيل له: أفرأيت حين اشترى مريضة أتراه لها ضامنا إن قال إنما اشتريتها له؟ قال: إن كان مرضا مخوفا فأراه ضامنا، وإن كان مرضا مثله يجترأ عليه، فرب مرض يجترأ عليه ومثله فرصة في اشترائها لم أر عليه ضمانا، قلت له: أفترى للمبضع أن يرجع على الآخرين أن يقول: كما ضمنت هذا فأنتم له ضامنون لأني أعطيتكم غير أموالكم فأنتم لذلك ضامنون؟ قال: لا أرى عليهم ضمانا وإنما الضمان عليه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه لما خلط أموالهم اشترى لنفسه ثم أعطى كل إنسان بقسطه، فلذلك لا يرجع الذي ماتت جاريته المريضة على أصحابه، قاله ابن دحون، وهو عندي تفسير صحيح للمسألة. وإنما يضمن الجارية المريضة للذي دفعها إليه إذا لم يعلمه أنه هو الذي دفعها إليه من عنده بعد أن اشتراها لنفسه وأعلمه بمرضها أو لم يعلمه به؛ لأن من حقه أن يردها ولا يقبلها إذ لم يبضع معه إلا أن يشتري له(8/110)
من غيره لا أن يعطيه من عنده، ولو أعلمه أنه اشتراها لنفسه وأنه هو يدفعها إليه من عنده لزمه أن يبين له بمرضها، وإن لم يبين له به كان عيبا فيها يكون له ردها به على حكم الرد بالعيوب، وكذلك كل واحد من أصحابه ممن دفع إليه جارية صحيحة في بضاعته إن بين له أنه اشتراها لنفسه وأنه يدفعها إليه أن عنده جاز ذلك، وإن لم يبين ذلك له كان من حقه أن يردها عليه ويضمنه بضاعته. ولو كان لما خلط اشترى لكل واحد منهم جارية بعينها من المال المخلوط بمثل بضاعته أو أقل أو أكثر بقدر ما يجوز له أن يزيد في الشراء ولا يكون به متعديا لجاز، ويرجع من اشترى له بأقل بضاعته على من اشترى له بأكثر من بضاعته حتى يعتدلوا، مثل أن يبضع معه أحدهم بمائة دينار في جارية، والآخر بثمانين، والآخر بأربعين فيخلط أموالهم ويشتري لصاحب المائة بمائة دينار وخمسة دنانير، ولصاحب الثمانين بسبعة وسبعين ولصاحب الأربعين بثمانية وثلاثين، فيرجع صاحب الثمانين على صاحب المائة بثلاثة دنانير، ويرجع عليه صاحب الأربعين بدينارين فيعتدلوا. ولو كان لما خلط أموالهم اشترى بها كلها ثلاثة أرؤس على أن يشتركوا فيها بمقدار بضاعتهم فيقتسمون أو يبيعون لجاز ذلك إذا رضوا، وإن لم يرضوا ضمنوه أموالهم وكانت له الجواري. وفي قوله: وإن كان مرضا مخوفا فأراه ضامنا إن كان اشتراها له دليل بين ظاهر على إجازة شراء الجارية المريضة المرض المخوف، وهو دليل ما في كتاب بيع الخيار من المدونة في الجارية تشتري بالخيار فتلد في أيام الخيار، وظاهر قوله في كتاب الاستبراء منها وفي رسم الجواب من سماع عيسى وسماع سحنون من كتاب العيوب. ونص قول أصبغ في الثمانية، قال: لا بأس ببيع المريض ما لم يقارب الموت أو تنزل به أسبابه من شدة المرض والبلاء في جسده مثل السل والمد ونحوه خلاف قول ابن الماجشون، واختيار ابن(8/111)
حبيب في أن يبيعه لا يجوز إذا بلغ به المرض [مبلغا] لو كان حرا لم يجز له القضاء إلا في ثلث ماله، ولسحنون في نوازله من كتاب العيوب في بعض الروايات أن المريض يرد بالعيب، وإن كان مرضه مخوفا رده ورد معه ما نقصه عيب المرض المخوف، وسحنون يميل أبدا إلى قول ابن الماجشون، وإنما قال: إنه يرد بالعيب وإن كان مرضا مخوفا مراعاة لقول من يرى الرد بالعيب نقض بيع وأنه يرجع إلى البائع على الملك الأول.
[مسألة: يبعث معه قوم ببضاعة لهم فيجمع ذهبهم يشتري لهم فيصاب ذلك الطعام]
مسألة وعن الرجل يبعث معه قوم ببضاعة لهم في قمح فيجمع ذهبهم يشتري لهم صفقة واحدة ثم يصاب ذلك الطعام، فقال: لا يشبه هذا الذي ذكرت من الرقيق وليس بهذا بأس، ولا ضمان عليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله لابن القاسم في كتاب ابن المواز، قال: وكذلك كل ما يقسم بكيل أو وزن يشتريه لهم مشاعا ثم يقسمه، وأما ما لا يقسمه فهذا يضمن، قال محمد: بخلاف العامل في القراض يخلط أموال المقارضين فيما يقسم بالقيمة لأنه إليه البيع، وليس ذلك للأول، والله الموفق.
[يبيع الجارية بعشرين دينارا على أن يستأمر صاحبها]
ومن كتاب أوله:
حديث طلق بن حبيب
وسئل مالك عن الرجل يبيع الجارية بعشرين دينارا على أن يستأمر صاحبها وإنما هو وكيل، فيقول له رجل: عندي زيادة أفترى أن يخبر بذلك صاحبه؟ قال: نعم أرى ذلك وإنما يطلب صاحبها الزيادة ولكني أرى أن يبين ذلك له، فرب رجل لو زاده لم يبعه(8/112)
يكره مخالطته وخصومته ويأمن من ناحية هذا وإن كان أقلهما عطية، قيل له: فإن أمره أن يبيع من الذي زاده فأبى أن يأخذ؟ قال: أرى أن يلزمه البيع، قيل له: إنه يقول: لا حاجة لي بها، فقال: لا حجة له وأرى البيع قد لزمه.
قال محمد بن رشد: أجاز للوكيل أن يخبر رب السلعة بالزيادة التي زاد فيها بعد أن باعها على أن يستأمر صاحبها ولم ير ذلك من وجه ما نهي عنه من أن يسوم الرجل على سوم أخيه حقيقة؛ لأن النهي إنما معناه إذا ركن المتبايعان كل واحد منهما إلى صاحبه وقرب البيع أن يتم بينهما، وصاحب السلعة المستشار ههنا غائب لا يعلم إن كان يثبت البيع بذلك الثمن أم لا، فلذلك استخف للرجل أن يزيد وأجاز للوكيل أن يعلم رب السلعة بالزيادة، وقد كره مالك في رسم الأقضية من سماع أشهب بعد هذا وقال: بئس ما صنع الذي زاد، لم يصب بذلك، إلا أنه أجاز للوكيل أن يخبر صاحب السلعة بالزيادة للمعنى الذي ذكرناه. وأما قوله: إن الذي زاد يلزمه أخذ السلعة بما زاد إذا أمضاها له بذلك صاحبها فهو خلاف ما في كتاب بيع الغرر من المدونة من أنه لا يلزم المتساومين لا البائع بما بذل من السلعة ولا المبتاع بما أعطى فيها، ولكل واحد منها أن يقول: إنما كنت لاعبا غير مجد ويحلف على ذلك ولا يلزمه البيع، ومثل ما في سماع أشهب من كتاب العيوب ومن كتاب جامع البيوع في أول رسم منه من أن البيع يلزم كل واحد منهما إذا كانت السلعة قد وقفت للبيع، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة مستوفى في أول رسم من سماع أشهب من كتاب العيوب فلا معنى لإعادته.(8/113)
[مسألة: دفع إليه عشرة دنانير يبلغها الجار وأشهد عليه بدفعها]
مسألة وسئل مالك عن عبد دفع إليه عشرة دنانير يبلغها الجار وأشهد عليه بدفعها وكتب معه كتابا إلى من يبلغها إليه، فقدم الجار ودفع الكتاب فسأله عن الذهب فجحده إياها، ثم إنه قدم المدينة فقال له: الذهب، فقال له: ما دفعت إلي شيئا، فقال: إني قد أشهدت عليك، قال: فإن كنت دفعت إلي شيئا فقد ضاع مني، فقال مالك: ما أرى عليه إلا يمينه، قيل لمالك: قد جاء هذا منه، قال: لا أرى عليه إلا يمينا، وقال ابن القاسم في سماع أشهب من قول مالك: إنه ضامن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تكررت في مواضع منها ما في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب القراض، وما في سماع عيسى من كتاب الشركة، ووقع الاختلاف فيها مجموعا في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب القراض، فيتحصل فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يصدق مع يمينه بعد الإنكار في دعواه الرد أو الضياع، والثاني أنه لا يصدق في شيء من ذلك بعد الإنكار، والثالث أنه يصدق في دعواه الضياع ولا يصدق في دعواه الرد. ومن هذا الأصل من ملك امرأته بكلام يقتضي التمليك فقضت بالثلاث فأنكر أن يكون أراد بذلك الطلاق، ثم قال: أردت بذلك واحدة، فقيل: إنه لا يصدق إذا أراد واحدة بعد أن زعم أنه لم يرد بذلك الطلاق، وقيل: إنه يصدق في ذلك مع يمينه، والقولان في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك. ومن هذا الأصل أيضا أن يدعي الرجل على الرجل دعوى فينكرها، فلما قامت عليه البينة جاء بالمخرج منها من بينة على البراءة أو دعوى لو جاء بها قبل الإنكار لقبل منه وما أشبه ذلك، فقيل: إنه لا يقبل منه، وقيل: إنه يقبل منه، وقيل: إنه لا(8/114)
يقبل منه إلا في اللعان وما أشبهه من الحدود، وقيل: إنه لا يقبل منه إلا في الحدود والأصول، وقد ذكرنا ذلك مشروحا مبينا في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب القراض، والله تعالى الموفق المعين.
[يوكل الرجل على بيع السلعة فيبيعها على ألا يمين عليه ثم يوجد بها عيب]
ومن كتاب أوله:
أخذ يشرب خمرا وسئل مالك عن الرجل يوكل الرجل على بيع السلعة فيبيعها على ألا يمين عليه، ثم يوجد بها عيب، أترى أن يستحلف؟ قال: لولا أني أخشى قطع السنة في ذلك لرأيت ذلك، قد استحلف عثمان عبد الله بن عمر، قال مالك: فأما الرجل الرضى الذي يقول: لا أحب أن أحلف، والرجل المأمون الذي قد عرف بالحال الحسنة فإني أرى ذلك له، فإن الرضى يقول في مثل هذا: لا أحب أن أحلف لقوم آخرين، والرجل المأمون يكره موقف ذلك، فأرى ذلك لهما، فأما غيرهما فلا، ولولا كراهية قطع السنة وأن السنة في ذلك اليمين لرأيت ذلك، ولكن إذا كان على ما ذكرت فإني أرى ذلك وأرى أن يرد البيع إذا كان ممن يستحلف فلم يحلف.
قال محمد بن رشد: تفرقته في هذه الرواية في إعمال الشرط بإسقاط اليمين بين المأمون وغير المأمون وبين الذي يبيع لنفسه ولغيره فأعمل الشرط في الذي يبيع لغيره أو في المأمون وإن باع لنفسه ولم يعمله في غير المأمون إذا باع لنفسه خلاف ما في سماع أشهب من كتاب العيوب في إعماله الشرط عموما، فحصول الاختلاف فيما بين الروايتين إنما هو في غير المأمون إذا باع لنفسه فلم ير الشرط نافعا له في هذه الرواية ورآه نافعا له في سماع أشهب المذكور. وأما رواية ابن القاسم عن مالك في رسم سلعة سماها من كتاب المديان في أن الشرط بإسقاط اليمين غير عامل(8/115)
عموما في المأمون وغير المأمون والذي يبيع لنفسه ولغيره إذ لم يفرق فيها بين شيء من ذلك، فكان الشيوخ يحملونها على أنها مخالفة لما في سماع أشهب من كتاب العيوب في أنه عامل عموما في المأمون وغير المأمون وفي الذي يبيع لنفسه ولغيره إذ لم يفرق فيها بين شيء من ذلك كله ولما في هذه الرواية من أنه عامل في المأمون وفي الذي يبيع لغيره. والذي أقول به أنها ليست بخلاف لشيء من ذلك؛ لأنها مسألة أخرى اشترط إسقاط اليمين فيها قبل وجوبها، واشترطه في هذه الرواية وفي سماع أشهب من كتاب العيوب بعد وجوبها إن علم بوجوبها، فلا يدخل الاختلاف في مسألة رواية ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس إلا بالمعنى من أجل أن إسقاط الحق قبل وجوبه أصل مختلف فيه في المذهب لا من هذه المسائل، وقد مضى بيان هذا مستوفى في سماع أشهب من كتاب العيوب، فقف على ذلك هنالك وتدبره تجده صحيحا، وبالله التوفيق.
[بعث معه بمال وخرج حاجا أو غازيا وأمر أن يعطي منه كل منقطع به]
ومن كتاب البر وسئل مالك عن رجل بعث معه بمال وخرج حاجا أو غازيا وأمر أن يعطي منه كل منقطع به فاحتاج الذي بعث معه ولم يكن معه ما يقوى به وعليه دين في بلاده أفترى أن يأخذ منه؟ قال: نعم إني لأرى ذلك أن يأخذ منه، فقيل له: أفيأخذ منه ما يكفيه؟ قال: أخاف أن يأخذه كله، ولكن يأخذ بالمعروف، قيل له: أيستحب إن وجد من يسلفه إلى أن يخرج إلى بلاده أن يستسلفه ولا يأخذ منه؟ قال: نعم هو أحب إلي، ولكن لا أرى بأسا أن يأخذ بالمعروف، والرجل قد يكون موسرا في بلاده فيحتاج في سفره فيكون من أهل السبيل، قيل: أفيعطى من الصدقة وهو غني في بلاده إذا لم يكن معه غنى؟ قال: نعم، أرى أن يعطى من ذلك، وقد سألني هؤلاء الذين يقسمون الصدقة فقالوا: إن أقواما يأتوننا يزعمون أنهم مسافرون ولا ندري ما حقيقة خبرهم أفترى أن(8/116)
نعطيهم؟ فقلت لهم: نعم، إذا رأيتم عليهم هيئة ذلك، ثم قال: أين يجد هذا من يعرفه؟ فأرى إذا رأى من هيئته للسفر أن يعطى، وإني لأكره لهؤلاء الذين لا يجدون ما ينفقون أن يخرجوا إلى الحج ويسألون وهم لا يقوون على ذلك إلا بما يسألون، قيل له: أفتكره ذلك لهم؟ قال: قال تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] قيل له: أفهذا الذي أخذ إذا كان من أهل هذه الصفة وأخذ فرجع إلى بلاده أترى أن يبين ذلك للذي دفعه إليه؟ قال: نعم، وليس الذي يحكم بين الناس مثل ما يحكم به بينه وبين غيره، هذا شديد أن يحكم فيما بينه وبين الناس كما كان يحكم بينه وبين الناس فيما بينهم.
قال محمد بن رشد: أجاز مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الرواية لمن بعث معه مال في غزوة أو حجة ليفرقه على المنقطعين أن يأخذ منه إذا احتاج إليه بالمعروف، والمعروف في ذلك هو ألا يحابي نفسه في مقدار ما يأخذ منه فيأخذ منه أكثر مما يعطي غيره، واستحب له إن وجد من يسلفه أن يستسلف ولا يأخذ منه شيئا إذ لا يدري هل يرضى صاحب المال أن يأخذ هو لنفسه منه شيئا أم لا؟ واستحب إذا رجع أن يعلم بما أخذ منه لمن دفعه إليه لأنه هو أعلم بما أراد من ماله، فإن أعلمه بما أخذ من ماله فلم يمضه له وجب عليه غرمه، وإن فات ولم يمكنه إعلامه لم يكن عليه أن يتمخى منه على مذهبه لأنه أجاز له الأخذ منه ابتداء، ويتخرج في المسألة قول آخر وهو أنه لا يجوز له أن يأخذ لنفسه منه شيئا إلا بإذن صاحب المال، وهذان القولان جاريان على اختلاف أهل الأصول في الآمر(8/117)
بالشرع هل يدخل في الآمر أو لا يدخل فيه؟ لأنه يأتي على مذهب من يرى أنه يدخل فيه الآمر لأنه من جنس المأمورين المشروع لهم الشرع أن يأخذ منه القاسم؛ لأنه من جنس المقسوم عليهم، وكان صاحب المال أعلم قاسمه الذي دفعه إليه أنه قد أوجبه لذلك الصنف فدخل مدخلهم فيه، وإلى هذا القول ذهب مالك إلا أنه اتقى القول الآخر وراعاه فاستحب له أن لا يأخذ منه لنفسه شيئا إذا وجد من يسلفه، وإن أخذ أن يعلم بذلك إذا رجع، ومثل هذا من الاستحباب في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد. وإن قال له: إن احتجت إلى شيء منه فخذه جاز له أن يأخذ منه باتفاق مثل ما يعطي غيره بالمعروف دون أن يحابي نفسه، ولا يجوز له أن يأخذ منه لنفسه أكثر مما يعطي منه غيره إلا أن يعلم صاحب المال يرضى بذلك، هذا معنى قوله في الرسم المذكور من السماع المذكور من كتاب الجهاد. وأجاز أن يعطي من هذا المال لمن انقطع به في سفره وإن كان غنيا في بلده لأنه من بني السبيل الذين أباح الله لهم الزكوات بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60] الآية إلى قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] فلهذا أجاز أن يعطي المنقطع به في سفره من الصدقة وإن كان غنيا في بلاده وهذا ما لا اختلاف فيه، وإنما اختلف في الغازي أن يعطى من الصدقة ما يتقوى به على الغزو وإن كان غنيا، فقيل: ذلك جائز، وهو ظاهر ما في كتاب الزكاة من المدونة، وهو قول محمد بن مسلمة إن الغازي يأخذ من الصدقة ما يتقوى به على الجهاد وإن كان غنيا وهو مذهب أصبغ، وحكى ابن مزين عن عيسى بن دينار أن الغازي لا يعطى من الزكاة إلا إذا احتاج في غزوه ولم يحضره وفره ولا شيء من ماله، والأول أصح لأنه إذا كان بهذه الصفة فهو من ابن السبيل، والله تعالى قد أباح الصدقة في السبيل وفي أبناء السبيل، فهما وجهان متباينان لا يجوز أن يجعل في(8/118)
السبيل ما أوجب لابن السبيل، ولا لابن السبيل ما أوجب في السبيل، وبيان هذا في رسم الوصايا من سماع أشهب من كتاب الوصايا. وكره مالك في هذه الرواية للذين لا يقدرون على الحج والغزو إلا بما يسألون أن يخرجوا ويسألوا لأن الله تعالى قد رفع عنهم الحرج في ذلك بقوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91] الآية والسؤال مذموم فلا تجوز استباحته إلا عند الحاجة، والإلحاف فيه مع الحاجة إليه مكروه، قال عز وجل: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] وقد روى ابن عبد الحكم عن مالك أنه لا بأس أن يحج الرجل الذي لا شيء له ويتكفف الناس ذاهبا وراجعا، ومعناه في الذي حرفته السؤال والتكفف أقام أو خرج، وأما من لم يكن ذلك شأنه إذا أقام ببلده فيكره له أن يحج أو يغزو ويتكفف الناس في طريقه ذاهبا وراجعا، وبالله التوفيق.
[باع جارية وزعم أنه وكيل فإذا هو ليس بوكيل]
ومن كتاب أوله:
باع غلاما بعشرين دينارا وسئل عن رجل باع جارية وزعم أنه وكيل، فإذا هو ليس بوكيل؟ قال: يردها ولا ينتظر رأي صاحبها فيها، وليس للذي باع أن يقول أنا أنتظر رأي صاحبي، فإن رضي فالبيع لك لازم، قال: ليس ذلك له، وهو يردها على الذي باعها، ولو باعها شركاء فيها فهم مثل هذا الذي ادعى وكالة كان ذلك البيع مردودا ولزمه بيع الشركاء ولا ينفعه ما غره ذلك الذي ادعى وكالة، وبيع شركاء البائع لازم للمشتري.(8/119)
قال محمد بن رشد: قوله إن الذي اشترى الجارية من الذي زعم أنه وكيل وليس بوكيل يردها ولا ينتظر رأي صاحبها فيها، معناه إن شاء؛ لأن من حجته أن يقول: لا أمسك جارية لا يحل لي فرجها حتى أعلم أن سيدها يمضي لي البيع، قال ذلك ابن القاسم في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق، ولو رضي المشتري أن يتربص جاز ذلك له، فإن رضي ربها تم البيع، وإن أبى رجعت إلى ربها، وإن ماتت في التربص وهي في المبتاع فهي منه، ولو جاء ربها قبل أن يردها على الذي زعم أنه وكيل على بيعها فأمضى له البيع لزمه ولم يكن له أن يردها، ولا خلاف في هذا أعلمه سوى ما وقع في آخر رسم أوصى من سماع عيسى في بعض الروايات على ما سيأتي القول عليه إن شاء الله تعالى، بخلاف إذا ادعى الذي باعها أنها له فأتى ربها فاستحقها وأجاز البيع هذا يكون للمشتري حجة بانتقال العهدة على الاختلاف في ذلك حسبما مضى القول فيه في الرسم المذكور من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق. وقوله: ولو باعها شركاء فيها، معناه ولو باعها شركاء فيها مع قوم ادعوا وكالة من غاب من الشركاء فيها على البيع فيمضي بيع الشركاء لأنصبائهم لأنهم لم يغروه إذ لم يبيعوا منه إلا حصصهم ويرد بيع نصيب الشريك الغائب إذا لم تثبت وكالته، وذلك بين من لفظ المسألة لقوله في آخرها: ولا ينفعه ما غره ذلك الذي ادعى وكالة. وقوله: وبيع شركاء البائع لازم للمشتري غلط وقع في الرواية، وإنما هو بيع شركاء الغائب لازم للمشتري، ولو كان الشركاء ادعوا وكالة الغائب فباعوا الجميع لرد البيع كله إن شاء المبتاع لأنهم غروه، وإن شاء تمسك بأنصبائهم ورد نصيب الغائب حسبما يأتي في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى وحسبما مضى في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق، فليس ما وقع في هذه الرواية بخلاف لما وقع في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب ولا لما في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق [على ما ذهب إليه من لم ينعم النظر في ذلك] ، وبالله التوفيق.(8/120)
[يبيع الرجل البر ثم يقول له اشتر لي بتلك الذهب التي لي عليك بزا]
ومن كتاب أوله: صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك عن الرجل يبيع الرجل البر ثم يقول له: اشتر لي بتلك الذهب التي لي عليك بزا كذا وكذا، قال: لا بأس بذلك ويقول له: أنت مصدق في ذلك، قال: لا بأس به، قال سحنون: وهذا إذا كان حاضر البلد.
قال محمد بن رشد: إنما احتيج إلى حضوره مخافة أن يدفع المبتاع من عند نفسه فيدخله فسخ الدين في الدين إذ لا يتعجل ربه قبضه، وأجاز سحنون ذلك إذا كان حاضر البلد كأنه سمح في ذلك لقربه من القبض، والأظهر أن ذلك لا يجوز إلا أن يكون حاضر الشراء، وهو ظاهر ما في المدونة وما في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، روي ذلك عن سحنون، وفي إجازة ذلك وإن اشتراه بحضرته مغمز لأنه كأنه أخذه بحقه على أن يشتري له فيدخله سلف جر منفعة، وأما إن لم يكن حاضر البلد فلا يجوز باتفاق، وإذا قال له: أنت مصدق في ذلك فادعى أنه اشترى فتلف صدق على ظاهر الرواية، قيل بيمين، وقيل بلا يمين، واختلف إن ادعى ذلك ولم يصدقه على قولين دائمين من المدونة من مسألة الغرائر في السلم ومسألة اللؤلؤ في الوكالات، وسواء كان حاضرا في البلد أو لم يكن، وقد قيل: [إنه] ، إنما يصدق إذا كان حاضرا في البلد على القول بجواز ذلك، وأما على القول بأن ذلك لا يجوز فلا يصدق في التلف إلا أن يقيم البينة على الشراء، وكذلك إذا لم يكن حاضرا في البلد حسبما يأتي في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.(8/121)
[كان له وكيل والرجل غائب وأوصى ببيع سلعة فباع الوكيل وباع الرجل في غيبته]
ومن كتاب أوله:
نذر سنة يصومها وسئل مالك عن رجل كان له وكيل والرجل غائب وأوصى ببيع سلعة فباع الوكيل وباع الرجل في غيبته لمن ترى البيع؟ قال: إني لأقول القابض أولى، قال ابن القاسم: يريد إذا لم يقبض فالأول أولى، وهو بمنزلة النكاح، الأول أولى إلا أن يدخل الآخر فهو أولى. قال ابن القاسم: وقد بلغني ممن أثق به عن ربيعة مثل ذلك في البيع أنه للأول إلا أن يكون الآخر قد قبض فهو أولى، واحتج ربيعة بأن قال: لو ماتت في يده كان ضامنا لها، وهو مثل النكاح.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب النكاح من المدونة في النكاح وفي كتاب الوكالة منها في البيع، ولا اختلاف في هذا أحفظه في المذهب إلا ما حكى ابن حارث عن المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي من أن الأول أحق، قبضها الثاني أو لم يقبضها، وإنما يكون الثاني أحق بها إذا قبضها على مذهب مالك إذا باع البائع الثاني وهو لا يعلم ببيع الأول، وأما إن باع وهو يعلم ببيعه أو قبض المشتري السلعة وهو يعلم ذلك في وقت قبضه فالأول أولى كما قال عيسى فيمن وكل رجلا على نكاح ابنته البكر فيزوجها كل واحد منهما ولا يعلم واحد منهما بإنكاح صاحبه فهي للأول إلا أن يدخل بها الآخر من غير علم منه بالأول، فإن دخل بها الآخر عن علم بالأول فرق بينهما وردت إلى الأول ويعطيها الآخر صداقها بالمسيس، فعلى هذا قياس البيع. قال ابن حبيب: وإن لم يقبض السلعة ولم يعرف الأول وادعى كل أنه الأول تحالفا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر فهي للحالف منهما، وإن حلفا أو نكلا أو تجاهلا جميعا فهي بينهما، يريد يكون لكل واحد منهما نصفها بنصف الثمن الذي اشتراها به، وقد روى عن مالك أنها تقسم بينهما إذا حلفا بأدنى الثمنين، قيل(8/122)
لابن القاسم: [إن] هذا يقول إنما اشتريتها كلها فلا حاجة لي بنصفها، قال: فيذهب ويسلمها لصاحبه، قال ابن حبيب: ثم يخير كل واحد منهما في أن يتمسك بنصفها بنصف الثمن الذي ابتاعها به أو يردها ويأخذ جميع الثمن إلا أن يقول أحد البائعين عند استواء حالة المشتريين إنه باع أولا وتجاهل [ذلك] ، صاحبه فالقول قول المقر منهما بأنه باع أولا، وإن قال صاحبه أيضا: بل أنا بعت أولا تحالفا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما، وإن حلفا أو نكلا أو تجاهلا جميعا رجع الأمر إلى ما فسرت لك إذا حلفا أو نكلا أو تجاهلا. والكراء بخلاف ذلك هو للأول على كل حال لأنه لا يدخل في ضمان من قبضه، قاله ابن دحون، وهو صحيح، وحكى فضل من رواية أشهب عن مالك في الذي يوكل رجلا على بيع سلعته فيبيعها الموكل مكانه، ويبيعها الوكيل أن البيع بيع الوكيل لأن الموكل قد يبيعها ممن لا يخالفه، قال فضل: معناه أنه يبيعها ممن لا يخالفه فيها وينظر فإن باع الوكيل بأكثر أسلمها إليه الموكل، وإن باعها الوكيل بأقل قال: قد بعتها قبل بيعك من هذا ليبطل بيع الوكيل ببيع لم يتم، قال فضل: وهذا عندي جيد لأنه حين باعها الموكل مكانه اتهم على ما فعل فصح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإذا لم يبعها مكانه لم يتهم على ذلك وحمل محمل من باع بيع صحة. وأما إذا باع الرجل سلعة من رجل ثم باعها بعد من آخر فلا اختلاف في أن الأول أحق بها وإن قبضها الثاني، وفي هذه المسألة تفصيل وتقسيم قد أفردنا القول فيها مسألة مخلصة تحتوي على جميع وجوهها وتقاسيمها إذ سألني ذلك بعض فقهاء الطلبة، فمن أحب الوقوف على الشفاء منها تأملها وتدبرها ووقف على صحتها بحمد الله تعالى.(8/123)
[يبضع معه بالبضاعة من مكة إلى مصر]
ومن كتاب أوله:
شك في طوافه وسئل مالك عن الرجل يبضع معه بالبضاعة من مكة إلى مصر فيمر صاحبها بالمدينة فيكون له بها إقامة فيجد ثقة يخرج إلى مصر أترى أن يبعث بها معهم؟ قال: لا أرى بهذا بأسا، قال عيسى: وسئل ابن القاسم عن هذا فقال: لا شيء على المبضع معه ذهبت من الرسول أو المبضع معه، قال ابن القاسم: ولو لم يجد لها محملا معه وأعطاها لبعض من يثنى به معه لم يكن عليه ضمان، ولو كان معه محمل فحملها غيره لكان لها ضامنا، ومثل ذلك الرجل الحاضر يستودع الوديعة فيستودعها غيره، قال: إن كان ذلك من خراب منزل أو عورة بيت وليس عنده من يحفظ منزله أو أراد سفرا فاستودعها من يثق به فضاعت فلا ضمان عليه، ولو كان منزله في حرز كما وصفت لك ولا يخاف عليه في موضعه فاستودعه غيره ثم ضاع ممن استودعه كان ضامنا، وكذلك قال مالك في الحاضر، وجل ما قال في المسافر سمعته منه، لم يكن في كتاب سحنون قول ابن القاسم هذا ولم يره حسنا وأنكره، روى سحنون في سماعه قال: سئل مالك عن المكي يبعث معه الرجل بضاعة إلى مصر فيعرض للمبضع معه حاجة بالمدينة فيبعث بها مع من يثق به إلى مصر، قال: لا ضمان عليه، قال سحنون: قلت لابن القاسم: ما تقول فيها؟ قال: أما أنا فأقول: إن كانت إقامته بالمدينة إقامة يسيرة الأيام اليسيرة فإن بعث بها رأيته ضامنا، وإن بدا له في الإقامة بالمدينة وذلك يطول فأرى أن يبعث(8/124)
بها، وأستحسن قول مالك؛ لأنه إن حبسها وأقام بالمدينة الإقامة الطويلة فتلفت رأيته ضامنا.
قال محمد بن رشد: قول مالك في أول هذه المسألة لا أرى بذلك بأسا في الذي أبضعت معه بضاعة من مكة إلى مصر فيمر بالمدينة وله بها إقامة فيبعث بها مع ثقة إلى مصر، معناه لا ضمان عليه في ذلك على ما حكى سحنون عنه بعد ذلك من أنه قال: لا ضمان عليه، وفي قوله: إنه لا ضمان عليه إن فعل دليل على أنه لا ضمان عليه أيضا إن أمسكها مع نفسه ولم يفعل، وهو نص قول ابن القاسم من رواية عيسى [لا شيء على المبضع معه، ذهبت من الرسول إن بعثها أو من المبضع معه، يريد: ذهبت من الرسول إن بعثها أو من المبضع معه إن أمسكها. وإنما يسقط عنه الضمان إن ادعى الرسول تلفها إذا أشهد عليه بالدفع، فقول ابن القاسم من رواية عيسى عنه] تفسير لقول مالك، وأما قوله في رواية سحنون عنه: أما أنا فأقول: إن كانت إقامته بالمدينة إقامة يسيرة، الأيام اليسيرة فإن بعث بها رأيته ضامنا وإن بدا له في الإقامة بالمدينة وذلك يطول به فأرى أن يبعث بها وأستحسن قول مالك فيها إلى آخره فظاهره أنه خلاف لقول مالك، ولا ينبغي عندي أن يحمل على ظاهره من الخلاف لقوله لأنه لا يتكلم على الإقامة الأيام اليسيرة ولا على الإقامة الطويلة، وإنما تكلم على ما بين ذلك، فإن كانت إقامته الأيام اليسيرة نحو ما ينتقل المسافر في طريقه وجب أن يضمن إن بعث بها فتلفت لأن صاحبها قد علم أن سيقيم في طريقه لما يحتاج إليه، فقد دفعها إليه على ذلك، وإن كانت إقامته بالبلد الذي مر به في طريقه إقامة طويلة وجب أن يضمن إن أمسكها ولم يبعث بها وهو يجد ثقة يبعث بها معه فتلفت لأن صاحبها لم يرد أن يودع في ذلك البلد، وإنما أراد توصيلها إلى حيث بعث بها، فإذا تعدى(8/125)
إرادة صاحبها فيها ضمن. والطول في هذه السنة فما فوق ذلك على ما يأتي في سماع محمد بن خالد، وإذا كانت إقامته الشهر والشهرين ونحو ذلك وسعه الاجتهاد في ذلك وجب ألا يضمن أمسكها مع نفسه أو بعث مع ثقة على ما ما قال مالك، ولا يخالف في هذا ابن القاسم، والله أعلم، فلم يرد بقوله: أما أنا فأقول إنه يقول قولا مخالفا لقول مالك، وإنما أراد أنه يقول قولا أفسر من قوله وأبين، هذا الذي أقول به، والله أعلم.
وتمثيل ابن القاسم المبضع معه البضاعة لا يجد لها محملا فيعطيها لبعض من يثق به بالحاضر يستودع الوديعة فيخاف عليها في منزله من عورته أو خرابه أو عدم من يحفظه فيستودعها غيره ليس بتمثيل صحيح، وهو خلاف ما حكى عن مالك في أول كتاب الوديعة من المدونة من أنه لم ير السفر مثل الحضر؛ لأنه إذا دفعه إليه في السفر إنما دفعه ليكون معه، فالذي يأتي على مذهب مالك في المدونة أنه ضامن للبضاعة إذا دفعها إلى غيره وإن لم يجد لها محملا إلا أن يعلم صاحبها أنه لا يجد لها محملا وأنه يعطيها لغيره ممن يحملها فيسقط عنه الضمان، وأما إن لم يعلم بذلك فهو ضامن؛ لأن قبضه البضاعة منه دليل على أنه هو يحملها، ويؤيد هذا تأويل ما وقع في رسم الصبرة من سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب في الذي يبعث إلى الرجل بالنفقة ليشتري له بها متاعا فيدفعها المرسل إليه لمن يشتري له فتلف إنه ضامن إلا أن يكون صاحب النفقة قد علم أنه لا يلي اشتراء مثل هذا المتاع، وإنما تشبه مسألة الحاضر يستودع الوديعة فيخرب منزله فيستودعها غيره فلا يكون عليه ضمان لما قاله سحنون في آخر سماعه من هذا الكتاب. فيمن أبضع معه بمال فخرج اللصوص إليه فلما رهقوه ألقاها في شجرة ليحرزها على صاحبها أو دفعها إلى فارس ينجو بها إنه لا ضمان عليه، ولهذا الذي ذكرناه لم ير سحنون قول ابن القاسم حسنا على ما ذكر في المدونة.(8/126)
[مسألة: الرجل يأتي الرجل بالبضاعة يحملها إلى مصر]
مسألة وسئل عن الرجل يأتي الرجل بالبضاعة يحملها إلى مصر فيقول: إن علي يمينا لا أحمل بضاعة إلا بضاعة إن شئت سلفتها وإن شئت تركتها، قال: لا خير في ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إنه لا خير في ذلك لاشتراطه ألا يحمل البضاعة إلا على أن يستسلف منها إن شاء فيدخله سلف جر منفعة، فهي أشد من المسألة التي في الرسم الواقع بعد هذا؛ لأن صاحب البضاعة هو الذي أباح له الاستسلاف منها إن احتاج إليها فكره ذلك مخافة أن يكون إنما سمح له بذلك ليحملها له، ولو كان قد طاع له بحملها فقال له: إن احتجت إليها فأنفق منها لم يكن بذلك بأس، وبالله التوفيق.
[أبضع معه بذهب يبلغها إلى موضع وقال له إن احتجت إليها فأنفق منها]
ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان وسئل عمن أبضع معه بذهب يبلغها إلى موضع وقال له صاحب البضاعة: إن احتجت إليها فأنفق منها، قال: ما يعجبني هذا من العمل وكرهه.
قال محمد بن رشد: إنما هذا إذا قال له ذلك مع إبضاعه البضاعة إياه معا، ولو قال له ذلك بعد أن أبضعه إياها لم يكن بذلك بأس، ولو قال له ذلك قبل أن يبضعه إياها لكان ذلك كالشرط ولم يكن فيه خير على ما قاله في المسألة التي قبل هذه في آخر هذا الرسم الذي قبل هذا الرسم، وقد مضى القول في ذلك مستوفى، والله الموفق.(8/127)
[أبضع مع رجل بدينار بحبتين بضاعة فأبدله له بقائم]
ومن كتاب أوله: تأخير صلاة العشاء وسئل عن رجل أبضع مع رجل بدينار بحبتين بضاعة فأبدله له بقائم، ونفسه بذلك طيبة، أترى أن يعلم صاحبه إذا أبدله؟ قال: لا أرى عليه بأسا ألا يعلمه، ولا ضمان عليه.
قال محمد بن رشد: استخف هذا ليسارة الدينار؛ ولأن الذي يغلب على الظن أن صاحب الدينار يرضى بذلك ولا يكرهه، فليس عليه أن يعلمه، وقد كان القياس ألا يجوز ذلك ابتداء إلا برضاه، وأن يكون ضامنا لذلك إذا فعله بغير رضاه؛ لأن من حقه ألا يرضى بذلك؛ إذ لا يلزمه قبول معروفه، ولعله لا يرضى بماله فيدخله عدم المناجزة في بدل الذهب بالذهب بسبب الخيار الذي يوجبه الحكم لصاحب الدينار الناقص، فمعنى قوله: لا أرى عليه بأسا ألا يعلمه لا أرى عليه أن يعلمه، إذ لو كان عليه أن يعلمه فيجيز ذلك أو يرده لما جاز ذلك لما ذكرناه من الخيار في ذلك على مقتضى القياس، وهو قول مالك في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب الصرف خلاف ما يأتي من إجازة ذلك في رسم البيوع الأول من سماع أشهب بعد هذا من هذا الكتاب من قول مالك ومن قول ابن أبي حازم فيه: لا بأس به فلا تشددوا على الناس هكذا جدا، فليس كما تشددون، ففي فساد الصرف بالخيار الذي يوجبه الحكم فيه دون أن ينعقد عليه قولان، وأما إن انعقد عليه فلا يجوز بإجماع.
[مسألة: أبضع مع رجل ببضاعة إلى رجل لا يدري الذي بعث بها معه]
مسألة وسئل مالك عن رجل أبضع مع رجل ببضاعة إلى رجل لا يدري الذي بعث بها معه لم بعث بها فألفى الرجل قد هلك فقال خليفته: ادفع إلي، قال مالك: أرى أن يردها إلى الذي بعث بها معه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إنه يردها إلى الذي(8/128)
بعث بها معه، إذ لا يدري لعله إنما بعث بها لتكون له عنده وديعة أو يشتري له بها ثوبا وما أشبه ذلك، ولو علم أنه بعث بها إليه معه صلة له أو هدية فإن كان أشهد على إنفاذها حين أرسلها فهي لورثة المبعوث إليه. هذا نص ما في كتاب الهبة والصدقة من المدونة، ومعنى ذلك إن كان الموصول والمهدى له حيا يوم الصلة والهدية، ولو كان لم يشهد على إنفاذ الصلة أو الهدية وإنما قال: أشهدكم أني أبعث بهذا المال صلة لفلان أو هدية له فمات الموصول أو المهدى له قبل وصول الصلة أو الهدية إليه لم يكن لورثته منها شيء، هذا معنى ما في المدونة عندي، والله أعلم وبه التوفيق.
[بعث إلي سلعة أبيعها بثمن فبعتها بثمن واستثنيت رضاه فيها]
من سماع أشهب وابن نافع
من مالك رواية سحنون
من كتاب البيوع الأول قال أشهب: وسئل مالك فقيل له إن رجلا بعث إلي سلعة أبيعها بثمن فبعتها بثمن واستثنيت رضاه فيها، فأرسلت إليه بذلك، فأرسل إلي إنك أبصر بها مني، فإن رأيت أن تجيزها فأجزها، فقال المبتاع: إنما استثنيت رضاه، وأنت الذي بعتني، فقلت: لا أجيزها لك [هي] بهذا الثمن رخيصة، أفترى ذلك جائزا؟ قال: نعم أرى ذلك جائزا، إن شئت أن تجيز البيع أجزته وإن شئت أن ترده رددته، ما أكثر ما يبيع الرجل الرجل ويستثني رضاه، وهو أبصر بذلك، فأرى ذلك له.(8/129)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن الخيار الذي جعل الوكيل لرب السلعة قد رده رب السلعة إلى الوكيل، فوجب أن ينزل في ذلك منزلته فيكون بالخيار بين أن يجيز أو يرد.
[مسألة: أبضع معه بعشرين دينارا وبثوب وأمره أن يبيعه له]
مسألة وسئل مالك فقيل له: إنه أبضع معي رجل بعشرين دينارا وبثوب وأمرني أن أبيعه له وأشتري له بالعشرين دينارا وبثمن الثوب ثوبا من ثياب مكة، فلما كنت بمكة اشتريت له الثوب قبل أن أبيع ثوبه بأحد وعشرين دينارا أسلفته فيها دينارا من عندي، فلما قدمت المدينة بعت ثوبه الذي أمرني ببيعه بعشرين درهما، أيجوز لي أن آخذ العشرين درهما ثمن ثوبه الذي بعت له بديناري الذي أسلفته إياه في شراء الثوب الذي أمرني بشرائه؟ قال: لا بأس بذلك، ولكن إذا قدمت عليه فأعلمه، فإن أحب أن يجيز أجاز، وإن أحب أن يرد ذلك رده، قيل لمالك: إن الصرف عندنا هناك أغلى منه ههنا أفيجوز لي أن آخذه بديناري الذي أسلفته؟ قال: لا بأس بذلك، وإذا قدمت عليه فأعلمه، فإن شاء أخذه، وإن شاء نقضه، قيل: ولا ترى به بأسا؟ قال: نعم لا أرى به بأسا. قال أشهب: وسمعت ابن أبي حازم يقول: لا بأس بذلك، قلت له: إن هذا صرف فيه نظرة، قال: لا تشددوا على الناس هكذا جدا، وليس كما تشددون.
قال محمد بن رشد: رواية أشهب هذه عن مالك، وقول ابن أبي حازم خلاف ما في هذا الرسم بعينه من سماع أشهب من كتاب الصرف،(8/130)
وإنما حصل الاختلاف في الصرف على هذا الوجه من الخيار لأنه خيار أوجبه الحكم لم ينعقد عليه الصرف، فلم ير له في هذا القول تأثيرا على صحة عقد الصرف كالعبد يتزوج بغير إذن سيده، والسفيه بغير إذن وليه فيكون سيد العبد وولي اليتيم بالخيار في رد النكاح أو إجازته، والخيار في النكاح لا يجوز، وقد مضى هذا المعنى في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم قبل هذا من هذا الكتاب، وسيأتي فيه في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى.
[مسألة: يبضع مع الرجل بالبضاعة يشتري له بها ثم يريد أن يبيع مرابحة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يبضع مع الرجل بالبضاعة يشتري له بها ثم يريد أن يبيع مرابحة أعليه أن يبين ذلك إذا باع مرابحة؟ قال: أرأيت كل من ابتاع شيئا أهو الذي يلي الشراء لنفسه؟ ما أرى ذلك عليه إذا كان أمرا صحيحا لا دخل فيه.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في هذا السماع من كتاب المرابحة وفي سماع ابن القاسم منه أن عليه أن يبين إذا باع مرابحة أن غيره اشتراها له. ووجه هذه الرواية أن شراء المشتري مرابحة لم يقع على أن البائع هو المتولي لشراء السلعة حتى يشترط ذلك لما ذكره في الرواية من أن الرجل قد يشتري له غيره، وحمله في سماع ابن القاسم على أن البائع هو الذي ولي شراء ما باع مرابحة حتى بين أنه لم يشترها هو فأوجب للمبتاع أن يرد إذا علم؛ لأن من حجته أن يقول إنما اشتريت منك مرابحة على شرائك لعلمي ببصرك في الشراء وأنك لا تخدع فيه، ولو علمت أن غيرك اشتراها لك لما ابتعتها منك مرابحة، ولكلا القولين وجه، وقد مضى القول على ذلك في كتاب المرابحة، في أول سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.(8/131)
[مسألة: أبضع مع رجل ببضاعة يبتاع له بها طعاما]
مسألة وسئل عمن أبضع مع رجل ببضاعة يبتاع له بها طعاما ثم أتاه بعد ذلك فأخبره أن قد ابتاع بها طعاما وقبضه وسأله أن يبيعه إياه، قال: ما أحب هذا وما يعجبني.
قال محمد بن رشد: قد أجاز في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال لمن أسلم في طعام أن يبيعه بقبض وكيله، ولا إشكال في جواز ذلك؛ لأنه قد دخل في ضمانه بقبض وكيله إياه إذا تحقق أنه قد قبضه، فإنما كره له في هذه المسألة أن يبيعه منه إذا لم يتحقق أنه قبضه لاحتمال أن يكون كذبه، ولو تحقق ذلك لما كرهه، إلا أن الوكيل في هذه المسألة هو المبتاع للطعام بالثمن الذي دفعه إليه موكله فلا يجوز أن يبيعه منه وإن تحقق أنه قبضه بأكثر مما دفع إليه ولا بدنانير إن كان دفع إليه دراهم، ولا بدراهم إن كان دفع إليه دنانير، إلا أن يكون البخس في الصرف على رب الطعام فترتفع التهمة في ذلك، قاله ابن دحون، وهو صحيح إن شاء الله تعالى.
[أعطى رجلا حمارا ليبيعه له فباعه بعشرة دنانير على أن يستأمر رب الحمار]
ومن كتاب الأقضية وسئل مالك عمن أعطى رجلا حمارا ليبيعه له فباعه بعشرة دنانير من رجل على أن يستأمر رب الحمار، فتوجه إلى الرجل ليعلمه ذلك فلقيه رجل فقال: أين الحمار؟ فقال: بعته بعشرة دنانير على أن أستأمر رب الحمار، فقال له الرجل: فلك زيادة دينار وهو لي بأحد عشر دينارا، أفترى الذي باع الحمار أن يخبر رب الحمار بهذا؟ قال: نعم يخبره، وبئس ما صنع الذي زاد، لم يصب بذلك، قيل له: أيخبر بالزيادة؟ قال: نعم يخبر بها.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(8/132)
[مسألة: سافر برقيق لنفسه وبضاعة لقوم فأنفق على نفسه نفقة]
مسألة وسئل عمن سافر برقيق لنفسه وبضاعة لقوم فأنفق على نفسه نفقة أيحسب على البضاعة من النفقة التي أنفق على نفسه شيئا؟ قال: أتريد أن تأخذ مما أنفق على نفسه من البضاعة؟ قال له: نعم، قال ليس ذلك له، وإن أشياء لتكون لؤما لا تجمل ولا تحسن.
قال محمد بن رشد: وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك خلاف رواية أشهب هذه عنه، وقد مضى الكلام على ذلك هناك مستوفى فلا معنى لإعادته.
[عبد بعث معه ببعيرين فتهشم أحدهما بالطريق فنحره فأكل منه]
ومن كتاب الأقضية الثاني وسئل عن عبد بعث معه ببعيرين وهو لا يزال يبعث معه بمثل ذلك فتهشم أحدهما بالطريق فنحره فأكل منه، ثم جاء بأحد البعيرين فسئل عن الآخر فقال: تهشم فنحرته فأكلت منه ولا بينة له على ذلك، فقال: أين أصابه ذلك؟ أفي قرية؟ أفلا يعلم ذلك أحد من أهل القرية؟ قيل له: فإنه كان في صحراء فذبحته حين خفت أن يموت، فقال: عليه أن يغرم، أرأيت لو أن رجلا أخذ بعير إنسان فنحره ثم قال: وجدته يموت أكان يصدق؟ فهذا مثله، قيل له: إنه يقول إنه مؤتمن، قال: ليس على هذا اؤتمن، إنما اؤتمن على أن يبلغه، ولو تركه حتى يموت لم يكن عليه شيء، قيل له: أفيكون ذلك الغرم في ذمته أو على سيده؟ فقال: بل على سيده.
قال محمد بن رشد: وجه ما ذهب إليه مالك في هذه الرواية أن العبد ليس له أن ينحر البعير الذي أرسل معه وإن خشي عليه الموت لأنه متعد في ذلك إذ لم يؤذن له فيه، ولعله لو لم ينحره لم يمت، فهو بمنزلة(8/133)
من ذبح بعير رجل فقال وجدته يموت، فسواء كانت للعبد بينة على ما زعم من أنه خشي عليه الموت ولذلك نحره، أو لم تكن، وسواء إن كان في قرية علم ذلك أحد من أهل القرية أو لم يعلم، إلا أنه أبين في الضمان إذا لم تكن له بينة أو لم يعلم ذلك أحد من أهل القرية، وهذا هو الذي أراد مالك أن يبين من قوله: أفلا يعلم ذلك أحد من أهل القرية لا أنه إن علم ذلك أحد من أهل القرية أو كانت له بينة سقط عنه الضمان. ومعنى قوله في آخر المسألة: بل يكون الغرم على سيده أن ذلك يكون في رقبة العبد فيخير سيده بين أن يغرم قيمة البعير الذي ذبح عبده أو يسلم فيها رقبة عبده لا أنه يغرم قيمة البعير لصاحبه من ماله ما بلغت، وإنما أراد ذلك في رقبة العبد لأنه لم يصدقه فيما ادعى من أنه خشي عليه الموت فذبحه نظرا لربه، فهذا وجه كون ذلك في رقبته، ولو صدقه فيما ادعاه من أنه خشي عليه الموت فذبحه لأشبه أن يكون أيضا ذلك في رقبته على قول أشهب ورواية ابن وهب عن مالك في الراعي يخشى على الغنم الموت فيذبحها أنه ضامن إذ لم يجعل إليه ذلك ولا أذن له فيه. وقول مالك في هذه المسألة يشبه ما وقع لابن القاسم وأشهب في سماع سحنون من كتاب العارية في العبد يأتي إلى الرجل فيقول: سيدي أرسلني إليك في كذا وكذا فيعطاه فيتلف عنده أو يزعم أنه قد دفعه إلى سيده وينكر السيد أن ذلك يكون في رقبته، وقد احتج ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب الجنايات بقول مالك هذا لقوله: إن ذلك يكون في رقبته. وأشبه المسائل عندي بهذه المسألة مسألة العبد يستودع الوديعة فيستهلكها بالإفساد لها في غير منفعة، فابن القاسم يقول إنها في ذمته؛ لأن صاحبها ائتمنه عليها، وابن الماجشون يقول: إنها في رقبته لأنه تعدى عليها فإنها جناية منه، فقول مالك في هذه الرواية موافق لقول ابن الماجشون، ومخالف لقول ابن القاسم في هذه المسألة، وبالله التوفيق.(8/134)
[مسألة: يبعث بدنانير إلى مثل الإسكندرية إلى رجل يبتاع بها بزا كل عشرة دنانير بدينار]
مسألة قال سحنون: قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عن الذي يبعث بدنانير إلى مثل الإسكندرية إلى رجل يبتاع بها بزا كل عشرة دنانير بدينار، قال: لا بأس به إذا كان ما اشترى له من قليل أو كثير قبله، فإن كان يشتري له فيختار عليه فلا خير فيه، قيل: أترى عليه ضمان المال؟ فقال: لا أرى عليه ضمانا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة مثل ما في كتاب الجعل والإجارة من المدونة لأنه جعل، فإذا فوض إليه الشراء باجتهاده ولم يكن يختار عليه جاز ولزم صاحب المال الجاعل كل ما اشترى له إذا اشترى له ما يشبهه في تجارته وكسوته، قال في المدونة ويكون له في كل ما اشترى من قليل أو كثير ما يجب له من حساب دينار في العشرة، ولا يلزمه التمادي على الشراء، وله أن يرد ما بقى من المال متى شاء، وأن يرد جميعه قبل أن يشتري له شيئا إن شاء، وكذلك صاحب المال الجاعل له أن يسترد ماله أو ما بقي منه إن شاء من عند المبعوث إليه به المجعول له، ولو أعطى دنانيره لرجل على أن يخرج بها إلى الإسكندرية فيشتري بها بزا وله في كل عشرة يشتري بها دينار لم يكن له أن يسترد ماله منه بعد أن يخرج به لئلا يبطل عليه عناءه باتفاق، ولا قبل أن يخرج به على اختلاف، إذ قد قيل إن الجعل يلزم الجاعل بالعقد. وقوله إنه لا ضمان عليه في المال صحيح لأنه مؤتمن عليه، فالقول قوله إن ادعى ضياعه كالمودع، وبالله التوفيق.
[وكل رجلا يبيع له غلاما فباعه من رجل ثم ادعى المشتري عيبا في العبد]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب أوله: نقدها نقدها قال عيسى: سألت ابن القاسم عن رجل وكل رجلا يبيع له غلاما فباعه من رجل ثم ادعى المشتري عيبا في العبد وهو مما(8/135)
يحدث فطلب أن يحلفهما جميعا، قال: إنما يحلف الوكيل الذي باعه إن أراد رده على ذلك، فإن حلف وإلا رده، فإن زعم الموكل أنه لم يحط بذلك علما قيل للمشتري احلف ورده، وليس يستحلف في هذا السيد الموكل، وإن أراد المشتري أن يحلف السيد كان ذلك له، ولكنه إذا طلب من الرسول أن يحلف كان ذلك له، ولكن وجه القضاء أن يستحلف الموكل إلا أن يريد المشتري أن يستحلف السيد الأول فيكون ذلك له. قال أصبغ بن الفرج: أرى له أن يحلفهما جميعا ما علما بذلك العيب، فإن نكلا أو نكل أحدهما كان له أن يرد إن شاء.
قال محمد بن رشد: معنى قول ابن القاسم وأصبغ أن البائع لم يعلم المبتاع أنه لغيره، ولو أعلمه لم تكن له عليه يمين، كذلك في كتاب العيوب من المدونة في سماع ابن القاسم من كتاب العيوب لأن عهدة ما باع الوكيل إنما هي على الموكل لا على الوكيل إذا علم من حاله أنه إنما يبيع لغيره أو علم بذلك المبتاع منه عند بيعه، بخلاف ما يختلف فيه الوكيل مع المبتاع فيما باع منه، هذا يحلف فيه الوكيل وإن علم أنه وكيل لأنه قصر في ترك الإشهاد حسبما مضى القول فيه، في أول رسم من سماع ابن القاسم. والذي ذهب إليه ابن القاسم في هذه الرواية أنه ليس للمتباع أن يحلف الموكل والوكيل في العيب الذي ادعى أنه في العبد قديم، وإنما وجه الأمر أن يحلف الوكيل الذي باعه منه إن كان لم يعلمه أنه لغيره، فإن نكل عن اليمين حلف هو ورد العبد عليه، وإن أراد أن يحلف السيد الموكل لم يكن له أن يحلف الوكيل، وذلك خلاف مذهبه في الوكالات من المدونة في الذي يوكل الرجل أن يسلم له في طعام فيدعي(8/136)
المسلم إليه أنه وجد في الدراهم التي دفع له زيوفا أن له أن يحلفهما جميعا، يحلف المأمور ما يعرفها من الدراهم التي أعطاه ولا أعطاه إلا جيدا في علمه، ويحلف الآمر ما يعرفها من دراهمه وما أعطاه إلا جيدا في علمه، وهو قول أصبغ في هذه المسألة إن له أن يحلفهما جميعا ما علما بذلك العيب، فإن نكلا أو نكل أحدهما كان له أن يرد إن شاء، معناه بعد يمينه. وقوله إنهما يحلفان على العلم ما علما بذلك العيب معناه إن كان العيب مما يخفى على المشهور من مذهب ابن القاسم المنصوص له في المدونة، وقد قيل إنه يحلف على العلم في الظاهر والخفي، وهو قول أشهب، وقيل إنه يحلف على البت في الظاهر والخفي، وهو قول ابن نافع ورواية يحيى عن ابن القاسم في رسم أول عبد ابتاعه من سماعه من كتاب العيوب.
[وكل وكيلا باشتراء سلعه سماها فاشتراها ونقد الثمن]
ومن كتاب أوله: عبد استأذن سيده قال: وسألته عن رجل وكل وكيلا باشتراء سلعه سماها فاشتراها ونقد الثمن ثم أتاه فقال: أعطني الثمن قال الآمر: قد أعطيتك، وإنما اشتريتها بدراهمي، قال ليس القول قوله، وإنما القول قول المشتري مع يمينه، ويحلف بالله ما أخذ منه ثمنها ويأخذ منه الثمن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قال فيها بعض أهل النظر معناها أن الآمر لم يقبض السلعة، ولذلك كان القول قول المشتري، فليست بخلاف لما في أول رسم من سماع ابن القاسم أن الرجل سفير امرأته وليس ذلك بصحيح حسبما بيناه في مسألة سماع ابن القاسم، ولا معنى لإعادته، فالصواب أن قول ابن القاسم في هذه المسألة خلاف قول مالك في سماع ابن القاسم، إذ لا فرق بين المسألتين، وبالله التوفيق.(8/137)
[مسألة: وكل رجلا بالفسطاط يشتري له طعاما بالإسكندرية فاشتراه ثم باعه]
مسألة وسألته عن رجل وكل رجلا بالفسطاط يشتري له طعاما بالإسكندرية فاشتراه ثم باعه بزيت فقدم بالزيت الفسطاط، فقال: يكون صاحب الطعام الذي اشترى له مخيرا في أن يأخذ مكيلة طعامه بالإسكندرية أو زيتا مثل الزيت الذي باعه به بالإسكندرية، ولا يأخذ الزيت بالفسطاط، قلت: فإن رضي الذي جاء بالزيت أن يعطيه إياه بالفسطاط ورضي بذلك صاحب الطعام أيصلح ذلك؟ قال: نعم لا بأس بذلك؛ لأن من أسلف طعاما ببلد فلقيه بغير البلد الذي أسلفه فيه فأراد أن يأخذ منه طعاما قبل محل الأجل لم يصلح، وكذلك قال لي مالك، وقال لي: وإن حل الأجل فلا بأس به، فإذا حل له أن يأخذ منه قمحا من قمح بغير البلد الذي أسلفه فيه وكذلك الزيت والقمح لا بأس به أن يأخذ بغير البلد إذا تراضيا عليه وحل الأجل.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأنه لما اشترى له الطعام الذي أمره أن يشتريه له بالإسكندرية ثم باعه بزيت كان مخيرا بين أن يضمنه مثل طعامه بالإسكندرية وبين أن يجيز البيع فيه بالزيت فيأخذه بمثله في الإسكندرية إذ قد فات بحمله إياه بالفسطاط، وليس له أن يأخذ الزيت بالفسطاط إلا برضاه لأن في ذلك زيادة، فليس له أن يأخذ منه الزيادة إلا برضاه وإن كل متعديا في حمله إياه إلى الفسطاط، ويأتي على ما في سماع أصبغ عن أشهب من كتاب الغصب أن له أن يأخذ الزيت بالفسطاط لأنه زيته بعينه، وهذا إن كان باع الطعام به لرب الطعام، وأما إن كان باعه به لنفسه على أن يضمن لرب الطعام مثل طعامه ويأخذ هو الزيت فلا يكون له أن يأخذ الزيت بالفسطاط على مذهب أشهب في الغاصب يغصب(8/138)
الطعام في بلد فيحمله إلى بلد أخرى أن لرب الطعام المغصوب منه أن يأخذ طعامه بعينه حيث وجده، وقد مضى هذا المعنى مستوفى والاختلاف فيه مشروحا في سماع سحنون وأصبغ من كتاب الغصب.
[مسألة: وكل رجلا على بيع غلة له وقال له احفظ عليه ما يبيع]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل وكل رجلا على بيع غلة له وقال له: احفظ عليه ما يبيع فكتب جميع ما باع فلما فرغ من البيع أتى ختنه بكتاب ما باع وكيله فقال صاحب الحق للوكيل: هات كتابك بما بعت فقال: ذهب مني ولكن انظر ما رفع إليك ختنك فهو حق وأشهد عليه بإقراره ثم نزع، فقال: لا يلزمه شيء لأنه يقول: كنت أرجو أن يصدق وقد كذب، قلت: أفلا تقبل شهادته إن كان عدلا؟ فقال لا تقبل شهادته لأنه خصم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأنه إذا وكل ختنه ليحفظ عليه ما يبيع صار بمنزلته في الخصومة له لأن يد الوكيل كيد موكله فوجب ألا تجوز شهادته عليه كما قال، ولا اختلاف في أنه يجوز له أن يرجع عمن رضي به من تصديق ختنه فيما رفع عليه أنه باعه ما لم يشهد عليه بذلك، وإنما اختلف هل له أن يرجع عن ذلك بعد أن يشهد عليه حسبما مضى تحصيل القول فيه في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات فلا وجه لإعادته.
[مسألة: يقول للرجل بع سلعتي هذه بفرس نقدا فيبيعها بحمار إلى أجل]
مسألة وسئل عن الرجل يقول للرجل: بع سلعتي هذه بفرس نقدا فيبيعها بحمار إلى أجل، قال يباع الحمار بنقد عاجل، فإن كان ما(8/139)
بيع به الحمار قيمة السلعة فأكثر كان لصاحب السلعة، وإن نقص الثمن عن قيمتها كان على البائع ما نقص، قيل لابن القاسم: فإن قال بعها بعرض سماه نقدا فباعها بطعام إلى أجل؟ قال يغرم بائعها قيمتها نقدا، فإن استوفى الطعام بيع فإن كان أكثر من القيمة التي استوجب كانت له الزيادة، وإن كان أدنى من القيمة كان النقصان من البائع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على ما في السلم الثاني من المدونة وما يأتي في رسم أوصى ورسم حبل حبلة بعد هذا السماع. وتحصيل هذا أنه إذا أمره أن يبيع سلعته بعرض أو ثمن إلى أجل ما كان فنفذ ما أمره به وباع بغير ذلك أنه ليس لصاحب السلعة إلا قيمة سلعته، فإن كان الذي باع به نقدا كان بالخيار بين أن يضمنه قيمة سلعته وبين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن الذي باع به نقدا، وإن كان الذي باع به إلى أجل لم يكن ذلك له لأنه يدخله فسخ الدين في الدين، ويباع ما باع به إلى أجل بالعين إن كان عرضا أو بالعرض إن كان عينا، ثم يباع العرض بالعين، فإن كان ذلك مثل القيمة فأكثر كان لصاحب السلعة، وإن كان أقل من القيمة كان عليه تمام القيمة لتعديه إلا أن يكون الذي باع به إلى أجل طعاما فتؤخذ منه القيمة وترجع إلى رب السلعة ويستأنى بالطعام فإذا استوفى بيع فإن كان فيه فضل عن القيمة كان الفضل لرب السلعة، وإن كان فيه نقصان كان النقصان على المأمور المتعدي. وكذلك إن كان أمره أن يبيع السلعة بدنانير نقدا فتعدى ما أمره به وباع بغير ذلك إلا أنه ليس لصاحب السلعة إلا الدنانير التي أمره أن يبيع سلعته بها، فإن كان الذي باع به نقدا كان بالخيار بين أن يضمنه الثمن الذي أمره أن يبيع به وبين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن الذي باع به نقدا، وإن كان الذي باع به إلى أجل عينا أو عرضا أو طعاما فليس له أن يجيز البيع ويأخذ ما باع به لأنه يدخله(8/140)
فسخ الدين في الدين، ويباع ذلك إن كان عرضا بعين وإن كان عينا بعرض ثم يبيع العرض بعين، فإن كان فيه فضل عن الثمن الذي أمره أن يبيع به كان للآمر، وإن كان نقصانا كان على المأمور أن يوفي الآمر تمام الثمن الذي أمره أن يبيع به لتعديه، وإن كان الذي باع به السلعة طعاما نقدا أو إلى أجل أخذ منه الثمن الذي أمره أن يبيع به سلعته فإذا استوفى الطعام بيع، فإن كان فيه فضل كان لصاحب السلعة وليس لصاحب السلعة أن يجيز البيع ويأخذ الطعام، وإن كان نقدا لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى إذ قد وجب للمأمور المتعدي. واختلف إذ أمره أن يبيع سلعة بعشرة إلى أجل وقيمتها نقدا أكثر من عشرة فتعدى وباعها بعرض إلى أجل فبيع العرض المؤجل هل تكون له قيمة سلعته ما بلغت؟ أو لا يزاد على العشرة التي رضي أن يبيع سلعته بها إلى أجل حسبما يأتي في رسم أوصى بعد هذا؟ وبالله التوفيق.
[مسألة: يعطي الرجل السلعة يبيعها له بشيء يسميه له فيأخذها لنفسه]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يعطي الرجل السلعة يبيعها له بشيء يسميه له فيأخذها لنفسه، قال: إن وجدها في يديه لم تفت أخذها، وإن فاتت في يديه فإن كان أمره أن يبيعها بشيء من الطعام أو العين أو الذهب والورق فهو مخير بين أن يأخذ منه ما أمره أن يبيعها به من الطعام أو العين وبين أن يأخذ قيمتها، وإن كان أمره أن يبيعها بشيء من العروض سوى العين والطعام لم يكن عليه إلا القيمة، وليس له عليه ما أمره به قلت: وما الذي يفوتها في يديه؟ قال: النماء والنقصان واختلاف الأسواق يفوتها وتكون في ذلك كله القيمة.(8/141)
قال محمد بن رشد: قوله: فيأخذها لنفسه معناه بالثمن الذي أمره أن يبيع به وسماه له. وقوله: إن وجدها في يديه لم تفت أخذها يريد إن شاء وإن شاء ألزمه الثمن الذي سماه له فالتزمه هو فيها. والوجه في ذلك أنه إنما أعطاها له ليبيعها من غيره هذا هو المعلوم من قوله فلم يرض أن يبيعها من نفسه، فإن فعل كان مخيرا بين أن يمضي ذلك له أو يرده. وقد يتخرج جواز بيعها من نفسه من مسألة رسم البز من سماع ابن القاسم في الذي خرج حاجا أو غازيا فبعث معه بمال ليعطي منه كل منقطع به فاحتاج هو، أنه لا بأس أن يأخذ منه، وقد مضى الكلام هنالك على وجه دخول الاختلاف في ذلك. وفي تفرقته إذا فاتت بين أن يأمره أن يبيعها بشيء من الطعام أو العين وبين أن يأمره أن يبيعها بشيء من العروض سوى العين والطعام نظر، إذ لا فرق في وجه القياس والنظر إذا أخذها لنفسه بما أمره أن يبيعها به بين الطعام والعروض، وإنما يفترق في ذلك العين مما سواه؛ لأنه إذا أمره أن يبيعها بدنانير أو دراهم مسماة فأخذها لنفسه بذلك فقد التزم الثمن في نفسه حالا عليه لرب السلعة إلا أن يقول لا أمضيها له إذ لم أرد إلا أن أبيعها لغيره فيكون له عليه فيها إذا فاتت الأكثر من القيمة أو الثمن، وإذا أمره أن يبيعها بطعام أو عروض فأخذها لنفسه بذلك فقد التزم لربها فيها الطعام أو العروض حالة عليه، والسلم الحال لا يجوز على المشهور في المذهب، فوجب أن يبطل عنه الثمن الذي ألزمه ويكون عليه قيمة السلعة إذا فاتت بالغة ما بلغت، إلا أنه لما كان الطعام يقضى فيه بالمثل أشبه العين عنده فحكم له في هذا بمثله استحسانا، فهذا وجه تفرقته في ذلك، وفي سماع أصبغ بعد هذا لابن القاسم مثل قوله ههنا إذا أمره أن يبيع له ثوبا بدنانير سماها له فقطعه على نفسه، ومثله لغير ابن القاسم في كتاب القراض من المدونة، قال: كل من جاز له أن يبيع شيئا(8/142)
أطلقت له فيه يده فباعه من نفسه أو أعتقه فالآمر بالخيار إن أجاز فعله فقد نفذ عتقه وإن رد فعله لم يجز عتقه إلا المقارض فإنه إن كان في العبد فضل نقذ عتقه للشرك الذي له فيه وحكم لهذه السلعة بحكم البيوع الفاسدة فيما تفوت به، والقياس ألا تفوت بالنماء ولا بحوالة الأسواق بالزيادة وأنها إنما تفوت بالعيوب وحوالة الأسواق بالنقصان، ويبين هذا قوله فيما يأتي في رسم أوصى فذلك ليس ببيع، وصاحبه يرده إن شاء إذا لم يفت، فإذا فات كان مخيرا في الثمن الذي أمره به أو القيمة، وبالله تعالى التوفيق.
[يبضع معه الرجل بمائة دينار في جارية فيشتري بمائة وخمسين]
ومن كتاب العرية وسألته عن الرجل يبضع معه الرجل بمائة دينار في جارية فيشتري بمائة وخمسين فيبعث بها إليه أو يدفعها هو إليه ولا يعلمه بالزيادة حتى تفوت في يد المشتري إما بعتق وإما بحمل قبل أن يعلمه بالزيادة ثم يأتي يطلب منه الزيادة فقال: أما إذا فاتت بعتق أو بحمل فلا شيء عليه، وإن فاتت ببيع فإنه إن كان باعها بمائة دينار وقفا فلا شيء عليه، وإن باعها بزيادة على مائة فما زاد على المائة فهو للمبضع معه أبدا حتى تنتهي خمسين ومائة، فإن زاد ثمنها على خمسين ومائة فالزيادة لصاحب المائة، قلت: فلو كانت الزيادة يسيرة؟ قال: أما إذا كانت الزيادة يسيرة فإن ذلك عليه غرم ويلزمه البيع وليست الزيادة اليسيرة مثل الكثيرة لأن مالكا قال في المبضع معه يزيد على البضاعة الزيادة اليسيرة فيريد أن يأخذها من صاحب البضاعة إن ذلك له عليه فاتت الجارية أو لم تفت، وقال في الزيادة الكثيرة إنه مخير في أن يأخذها أو يدع ويضمنه بضاعته، فإن فاتت قبل أن يعلمه لم يكن عليه قليل ولا كثير إلا ما وصفت لك في البيع، قلت: وتكون له الزيادة بقوله أم ببينة؟(8/143)
قال: بل، بقوله، ولا يحلف لأنه مؤتمن، قلت: فلا يقطع قوله في هذين الوجهين إذا لم يذكر له ذلك زمانا طويلا؟ قال: إذا طال ذلك وهو يلقاه ويكلمه فلا يذكر له شيئا من الزيادة فلا شيء له في كلا الوجهين، وإنما يقبل قوله إذا غاب عنه مثل ما يشتغل الرجل في حوائجه أو يكون في سفره فيقدم فهذا الذي يقبل قوله، وإما الذي يلقاه صاحبه ويكون معه زمانا ثم يطلب الزيادة بعد ذلك فلا يقبل قوله.
قال محمد بن رشد: قوله في الزيادة الكثيرة إذا لم يعلمه بها حتى فاتت بعتق أو بحمل إنه لا شيء عليه منها هو نص ما في المدونة، وقوله إنما إن فاتت ببيع فإن كانت بيعت بأكثر من الثمن الذي أمره به كانت الزيادة للمبضع معه المأمور إلا أن يستوفى ما زاد، فإن بيعت بأكثر من الثمن والزيادة كان ما زاد على ذلك للآمر يحمل على التفسير لما في المدونة، إذ لم يتكلم فيها على فواتها بالبيع. وقوله في الزيادة اليسيرة إن للمأمور أن يأخذها من صاحب البضاعة فاتت الجارية أو لم تفت هو مثل قوله في السلم الثاني من المدونة إنه إذا زاد الدينار والدينارين ثم أصيب الرأس فالمصيبة من الآمر ويغرم الزيادة للمأمور خلاف ما في المدونة من كتاب العرية لمالك أن الآمر لا يغرم الزيادة مصيبتها من المأمور، وحسب الآمر أن يحسب ما أعطى، وحسب المأمور المبتاع أن ينجو من الضمان، وقد قال بعض أهل النظر: إن هذا هو ظاهر ما يأتي في رسم سلف بعد هذا من قوله إذا فاتت السلعة لم يكن للمبتاع قليل ولا كثير، وليس ذلك بصحيح لأنه إنما قصد إلى التكلم على الزيادة الكثيرة فيها، قال: إن الجارية إذا فاتت عند صاحبها بعتق أو حمل لم يكن للمبضع معه من(8/144)
الزيادة قليل ولا كثير. وما ههنا وفي المدونة هو القياس، والذي في المدنية لمالك وفي رسم سلف استحسان، وقال في الزيادة إنها تكون له بقوله ولا يحلف لأنه مؤتمن، وفي كتاب محمد أنها تكون له بقوله ويحلف لأنه مؤتمن، والاختلاف في هذا عندي على اختلافهم في لحوق يمين التهمة، ولو حقق عليه الآمر الدعوى في أنه لم يزده شيئا على الثمن الذي أبضع معه للحقته اليمين قولا واحدا. وقوله إنه لا شيء له في كلا الوجهين يريد في الزيادة اليسيرة والكثيرة إذا طال الأمر وهو يلقاه ويكلمه ولا يذكر له شيئا مر ذلك يحمل على التفسير لما في المدونة والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: أبضع معه رجلان في جارتين أبضع واحد بخمسين وأبضع الآخر بمائة]
مسألة وعن رجل أبضع معه رجلان في جارتين: أبضع واحد بخمسين، وأبضع الآخر بمائة، فذهب واشترى وأشهد في أصل الاشتراء الشهود أن هذه لفلان اشتريتها بمائة وهذه لفلان اشتريتها بخمسين، ثم بعث بهما أن تدفعا إليهما، فأخطأ الرسول فدفع جارية هذا لهذا وجارية هذا لهذا فوطأهما جميعا فحملتا، قال: إذا كانت البينة عليهما كما ذكرت أخذ كل واحد منهما جاريته، واتبع كل واحد منهما صاحبه بقيمة الولد، قال: وإذا لم يكن إلا قول المبضع معه فإنه لا يقبل قوله، ويلزم غرم قيمة الجارية التي زعم أنه اشتراها لصاحب المائة تقوم فما كان من قيمتها على خمسين دفعه إليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يأخذ كل واحد جاريته ويكون عليه قيمة ولده لصاحبه إذا كانت على ذلك بينة، هو على ما اختاره من أقوال مالك في الجارية المستحقة من يدي المشتري وقد ولدت منه أن(8/145)
صاحبها يأخذها وقيمة ولدها، وقد قال: إنه يأخذ قيمتها يوم الحكم وقيمة ولدها، والقول الثالث أنه يأخذ قيمتها يوم أولدها ولا شيء له من قيمة ولدها، وهذه الأقوال كلها داخلة في هذه المسألة. وقوله: إذا لم يكن إلا قول المبضع معه فإنه لا يقبل قوله صحيح، وأما قوله: إنه يلزم غرم قيمة الجارية التي زعم أنه اشتراها لصاحب المائة تقوم فما كان من قيمتها على خمسين دفعه إليه، وهو قد قال: إن الرسول هو الذي أخطأ فدفع جارية كل واحد منهما إلى صاحبه، فمعناه إذا لم تكن له بينة على ما أمر به الرسول وأنكر الرسول أن يكون أخطأ، وقال: إنما فعلت ما أمرتني به وحلف على ذلك، ولو نكل عن اليمين لوجب أن يحلف المبضع معه ويكون الذي أخطأ عليه بالخيار فيمن شاء أن يرجع عليه منهما، فإن رجع على المبضع معه رجع المبضع معه على الرسول لنكوله عن اليمين وحلفه هو، وإن رجع على الرسول لم يكن للرسول أن يرجع بما رجع به عليه على أحد؛ ولو كانت له بينة على ما أمر به الرسول لوجب أن يكون الرسول هو الضامن لا المبضع معه.
[مسألة: يكون عليه لرجلين عشرون دينارا عشره لهذا وعشرة لهذا وليس هما شريكين]
مسألة وعن الرجل يكون عليه لرجلين عشرون دينارا عشره لهذا وعشرة لهذا وليس هما شريكين فيوكلان رجلا يقتضي لهما تلك العشرين فيقتضي منه عشرة فيدعي الغريم أن تلك العشرة إنما قضيتها فلانا ويقول الوكيل: ما دفعت إلي العشرة إلا لفلان يعني الآخر وقد فلس الغريم أو قال: دفعت تلك العشرة بينهما. قال: أرى ما اقتضى بينهما.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى ما اقتضى بينهما خلاف ما مضى من قوله في سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس؛ لأنه قال فيه: إذا كان(8/146)
حقهما مجتمعا فهو بينهما، فدل ذلك على أنه إن كان حقهما مفترقا لا يكون بينهما، وإذا لم يكن بينهما فالقول قول الوكيل، وهو قول أصبغ، وحكى ذلك ابن لبابة في منتخبه عن ابن القاسم، ولا اختلاف إذا كانا شريكين في العشرين أن ما اقتضى وكيلهما يكون بينهما، وإنما الاختلاف إذا كان حقهما مفترقا، فقال في هذه الرواية: إن ما اقتضى يكون بينهما وإن اختلفا فقال الوكيل: قبضت حق فلان، وقال الغريم: ما اقتضيتك إلا حق فلان، ووجه ذلك أن كل واحد منهما يتهم بالمحاباة إذا كان الغريم مفلسا، فكذلك على هذه الرواية لو اتفقا على أنه إنما قبض حق أحدهما لكان بينهما، وقال أصبغ: يصدق الوكيل، وهو دليل قول ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس، ونص ما حكى عنه ابن لبابة في منتخبه، وقد مضى الكلام بأوعب من هذا في هذه المسألة في سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس.
[مسألة: دفع إلى رجل دابة ليبيعها له وأشهد عليه ألا يبيعها إلا بدينارين فباعها بدينار]
مسألة وسئل عن رجل دفع إلى رجل دابة ليبيعها له وأشهد عليه ألا يبيعها إلا بدينارين فباعها بدينار، ثم إن المبتاع باعها بأربعة دنانير، ثم جاء صاحب الدابة الأول فطلب دابته وأقام البينة، ما ترى فيها وقد وجد دابته بعينها عند غير مشتريها أو لم يجدها إلا أنه قد علم أنه باعها المبتاع بأربعة دنانير؟ قال: إن وجد دابته بعينها عند مشتريها أخذها ولم يكن له غير ذلك، فإن فاتت أخذ من المتعدي دينارا إلا أن يكون المتعدي عديما فيأخذ الدينار من مشتري الدابة ويتبع هو المتعدي.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أعطي الدابة على أن يبيعها(8/147)
بدينارين فباعها بدينار، ثم باعها المبتاع لها بدينار بأربعة دنانير إن صاحب الدابة إن وجد دابته بعينها عند مشتريها أخذها ولم يكن له غير ذلك صحيح، ومعناه أنه وجدها بحالها عند مشتريها الأول الذي اشتراها بدينار قبل أن يبيعها فلم يكن أن يضمنه الدينارين اللذين أمره أن يبيع دابته بهما لوجود دابته بحالها، كالغاصب للدابة إذا وجدها صاحبها عنده بحالها فليس له أن يضمنه قيمتها، وإن قال المشتري للدابة بالدينار أنا أدفع الدينار الذي تعدى فيه وآخذها لم يكن ذلك له، قاله ابن دحون، وهو عندي صحيح. فإن فاتت عند المشتري بعيب أو موت غرم المتعدي الدينارين اللذين أمره أن يبيع دابته بهما. وأما قوله في الرواية فإن فاتت يريد من يده ببيعه لها بأربعة دنانير كما قال في السؤال أخذ من المتعدي دينارا إلا أن يكون المتعدي عديما فيأخذ الدينار من مشتري الدابة ويتبع هو المتعدي، فإنه قول فيه نظر، فإنه قد رآها فاتت بالبيع فلم يوجب لصاحبها إلا الدينارين على المتعدي فيأخذ منه الدينار الذي باع به الدابة ويغرمه الدينار الثاني، قال: إلا أن يكون المتعدي عديما فيأخذ الدينار من مشتري الدابة ويتبع هو المتعدي، فإذا فوتها بالبيع فلماذا أرجعه على المشتري بالدينار؟ والذي يوجبه النظر الصحيح على أصولهم ألا تفوت بالبيع وأن يكون مخيرا إذا وجدها قائمة بيدي المشتري الثاني بين أن يأخذ دابته وبين أن يجيز البيع ويأخذ الأربعة دنانير من المشتري الأول، ويرجع المشتري، الأول على المتعدي بالدينار الذي اشترى به الدابة منه، وإن وجدها قد فاتت بيد المشتري الثاني كان مخيرا بين أن يضمن المتعدي الدينارين اللذين أمره بالبيع بهما وبين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن، ولا شك أنه سيختار إجازة البيع في هذه المسألة لأنه خير له إلا أن يكون المشتري عديما فيرى أخذ الدينارين من المتعدي أحب إليه من اتباع ذمة المشتري بالأربعة الدنانير التي باع بها الدابة، وبالله تعالى التوفيق.(8/148)
[يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه]
ومن كتاب أوله:
يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه وسئل عن رجل أمر رجلا أن يدفع سلعة إلى صباغ يصبغها فجحدها الصباغ وقال: لم تدفع إلي شيئا، وقال المأمور دفعت إليك، قال ابن القاسم: المأمور ضامن إذا جحد الصباغ، قلت: أرأيت لو قال الصباغ إنه دفع إليه وزعم أنه قد ضاع والصباغ عديم ولا بينة للمأمور بالدفع إلا وقول الصباغ: أيأخذ صاحب السلعة قيمة سلعته من المأمور ويتبع المأمور الصباغ إذ ليس له بينة على الدفع إلا قول الصباغ؟ قال: لا ولكن ضمانها على الصباغ.
قال محمد بن رشد: أما إذا جحد الصباغ فلا اختلاف في أنه ضامن لأنه متعد إذ لم يشهد، وسواء كان الوكيل مفوضا إليه أو غير مفوض إليه. قال بعض أهل النظر: معنى هذه المسألة أنه أمره أن يدفعه إلى صباغ بعينه، يريد أنه لو كان غير معين لصدق في الدفع مع يمينه وإن أنكر القبض كالمساكين الذين لا يلزمه الإشهاد عليهم ويصدق في الدفع إليهم، وهذا غير صحيح سواء كان الصباغ بعينه أو بغير عينه يلزمه الإشهاد، ولا يصدق في الدفع إذا جحده، وفي إبراء الدافع بتصديق الصباغ وهو عديم لا ذمة له تأويلان: أحدهما أن الصباغ ضامن لما أقر بقبضه تتبع ذمته في العدم فكان بخلاف المؤتمن، والثاني أن ذلك، على القول بأن الذي يبرأ المأمور بالدفع إذا كان أمينا بتصديق القابض، وإن كان مؤتمنا وادعى التلف، وهو قول ابن القاسم في كتاب الوديعة من المدونة خلاف قول مالك في(8/149)
كتاب ابن المواز، وفي مختصر الأسدية لأبي زيد القولان جميعا. فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن الأمين الدافع يبرأ بتصديق القابض، إذا قبض إلى أمانة أو إلى ذمه، والثاني أنه لا يبرأ بتصديق القابض قبض إلى أمانة أو إلى ذمة إذا كانت خربة، والثالث أنه يبرأ بتصديق القابض إذا قبض إلى ذمة وإن كانت خربة، ولا يبرأ بتصديقه إذا قبض إلى أمانة، وفي هذا أربع مسائل: دافع من ذمة إلى ذمة، ومن أمانة إلى أمانة، ومن أمانة إلى ذمة، ومن ذمة إلى أمانة، وقد مضى تحصيل هذه المسائل في غير هذا الكتاب وهو كتاب المقدمات.
[دفع إلى رجل سلعة وأمره أن يبيعها بمائة إردب قمح فباعها بدنانير نقدا]
ومن كتاب أوله: أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وقال في رجل دفع إلى رجل سلعة وأمره أن يبيعها بمائة إردب قمح، فباعها بدنانير نقدا. قال: يشترى له بالدنانير طعام، فإن كان أقل من المائة كان على المتعدي تمامه، وإن كان أكثر فهو كله له لأنه ثمن سلعته، والطعام بمنزلة الدنانير يريد إذا أمره أن يبيع به فباع بغيره كان عليه ما أمره من ذلك مثل الدنانير، وليس له أن يأخذ غيره إن باع به لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى، ولكن يباع ما باع به إن كانت عروضا ويشترى له على ما فسرت لك في الدنانير إذا باع بها. وقال ابن القاسم في رجل أمر رجلا أن يبيع له سلعة بعشرة أرادب قمح فباعها بسلعة أو بدنانير، قال ابن القاسم. قال مالك له العشرة الأرادب قمح ثابتة، قال ابن القاسم وتباع تلك السلعة ويشترى بثمنها قمحا أو بالدنانير إن كان باعها بدنانير، وإن كانت أكثر من العشرة الأرادب فلصاحب السلعة لأنه من ثمن سلعته، وإن كان أقل من العشرة فعلى المتعدي لأن القمح ههنا بمنزلة الدنانير؛ لأنه إذا أمره أن يبيع بدنانير سماها له فباع(8/150)
بغيرها أنه ضامن للدنانير التي أمره أن يبيع بها، وإنما يباع بما باع في ذلك إذا كان الذي باع به إلى أجل لمكان الفضل لأنه إذا كان فضلا كان لصاحب السلعة، فالقمح بمنزلة الدنانير والدراهم إذا أمره أن يبيع به سلعته، وليس بمنزلة السلع إذا أمره أن يبيع بها لأنه لو تعدى على طعام له أو دنانير أو دراهم فاستهلكها لكان عليه مثل تلك الدنانير والدراهم ومثل مكيلة الطعام لأن ذلك كله يوجد مثله، ولو تعدى على سلعة له من العروض كلها أو الحيوان فاستهلكها أنه كان يكون عليه قيمتها، فهذا فرق ما بين أن يأمره أن يبيع بالطعام أو بعين فيبيع بغيره، وبين أن يأمره أن يبيع سلعته بسلعة سماها له فيبيع بغيرها، فإذا باع بغير ما أمره به من العين والطعام ضمن ما أمره به من الطعام والعين إلا أن يكون ما باع به نقدا فيكون مخيرا إن شاء أخذ ما باع به سلعته، وإن شاء ضمنه ما سمى له من ذلك وأمره أن يبيع به إلا الطعام وحده فليس له فيه خيار من قبل أنه يكون حينئذ بيع الطعام قبل أن يستوفى، وله المكيلة التي أمره بها، ويصنع في ذلك مثل ما فسرت لك في المسألة الأولى من بيع تلك السلعة التي باع بها ويشترى له ما أمره به. وإذا أمره أن يبيع سلعته بسلعة سماها له فباع بغيرها من السلع أو العين أو الطعام كان مخيرا إن كان ما باع به نقدا، إن شاء الذي باع به سلعته، وإن شاء قيمة سلعته التي دفع إليه يبيعها إلا أن يكون الذي باع به إلى أجل فلا يكون مخيرا في ذلك كان مما أمره به أو مما لم يأمره أن يبيع به، أو كان ما أمره به أن يبيع إلى أجل فباع بغيره إلى ذلك الأجل، قال ابن القاسم من قبل أنه كأنه تحول من دين إلى دين وكأنه تحول من(8/151)
قليل إلى كثير، مثل أن يأمره أن يبيع بعشرة نقدا فيبيعها بمائة إلى شهر، فإن جعلته في ذلك مخيرا كان إن اختار المائة التي إلى أجل كأنه أعطاه عشرة في مائه إلى أجل لأنه إن شاء أن يأخذ العشرة أخذها، قال ابن القاسم: وكذلك المتعدي إذا تعدى على سلعة ولم يأمره ببيعها فباعها بثمن إلى أجل لم يكن مخيرا في القيمة أو الثمن الذي إلى أجل لأن القيمة قد وجبت له فيكون قد تحول من دين إلى دين ومن عشرة إلى عشرين إلى أجل، فلم ير ابن القاسم أن يكون له خيار في الأمرين جميعا لا في الاغتصاب ولا في التعدي ولا في خلاف ما أمره به والتعدي فيه، وقال ليس له في الاغتصاب والتعدي جميعا إلا قيمة سلعته أو مكيلة طعامه إن كان طعاما إلا أن يرضى أن يأخذ الثمن الذي باع به إن كان نقدا، وأما في التعدي إذا باع بخلاف ما أمره به فتباع تلك السلعة إلى أجل إن كان مما يحل بيعه بما يباع به مثله مما يحل إن كانت عروضا أو حيوانا بيعت بعين أو عرض مخالف لها، وإن كان عينا بيع بعرض ثم بيع العرض بعين، فإن كان أكثر مما أمره من التسمية إن كان سمى له عينا أو طعاما أو كان أكثر من القيمة إن لم يسم له ما بيع به لو أمره أن يبيع سلعة أخرى فذلك سواء، فإن كان في ذلك فضل عن ذلك كان لصاحب السلعة، وإن كان نقصانا كان على المتعدي بما تعدى، وإن كان ما باع به إلى أجل طعاما أخذ منه الساعة ما وجب له عليه مما أمره به من التسمية أو القيمة إن كان الذي يجب له القيمة على ما فسرنا، واستؤني بالطعام حتى يحل أجله فيباع، فإن كان فيه فضل عفا أخذ منه كان الفضل لصاحب السلعة لأنه لا يحل بيع الطعام قبل أن يستوفى وغيره يحل بيعه(8/152)
قبل أن يستوفى، ولو أمره أن يبيع بطعام نقدا فباع بأكثر منه إلى أجل أخذ منه العدة التي أمره أن يبيع بها الساعة وترك ذلك إلى أجله فيؤخذ فيدفع إليه ما أخذه منه ويكون الفضل لصاحب السلعة. قال ابن القاسم: لو أن رجلا أمر رجلا يبيع له سلعة بعشرة أرادب قمح إلى أجل فباعها بسلعة نقدا، قال هو مخير إن شاء أخذ السلعة التي باع بها، وإن شاء أخذ قيمة سلعته وسقط الطعام الذي أمره أن يبيع به ههنا لأن كل ما أمره أن يبيع به إلى أجل فتعدى فيه وباع بغيره نقدا أو إلى ذلك الأجل فذلك الأجل الذي أمره أن يبيع إليه موضوع ويسقط حين تعدى ويصير كما لو لم يسم له ما يبيع به فباع به بغير ما تباع تلك السلعة به، فإذا كان ذلك أيضا كان رب السلعة مخيرا إن شاء أخذ ما باع به سلعته إن كان نقدا، وإن شاء القيمة، وإن كان أمره أن يبيع سلعته بسلعة سماها إلى شهر فباعها بسلعة غيرها إلى ذلك الأجل فقال: يسقط الأجل الذي أمره أن يبيع إليه وتباع تلك السلعة التي باع بها إلى أجل ويعطاه إلا أن تكون أقل من قيمة سلعته فله القيمة، قلت: أفيخير ههنا؟ قال: لو كان مخيرا لكان حراما ولا يحل لأنه يتحول من دين إلى دين.
قال محمد بن رشد: هذه مسائل [بينة] كلها صحاح على معنى ما في المدونة وغيرها، وقد تقدم في رسم أوله عبد استأذن سيده في تدبير جاريته مسألة من هذا النوع وتكلمنا عليها بما فيه بيان لهذه المسائل. وقوله إنه إذا أمره أن يبيع سلعته بثمن سماه له أو بعرض وما أشبه ذلك فباعها بثمن إلى أجل إنه لا يجوز له أن يجيز البيع ويأخذ الثمن لأنه يتحول من(8/153)
دين إلى دين، معناه إذا كانت السلعة قد فاتت، ولو كانت السلعة قائمة بيد المشتري لم تفت لكان ذلك جائزا، وكذلك قال في كتاب محمد بن المواز.
[مسألة: دفع كبشا إلى رجل ليبيعه له ولم يسم له ثمنا فذبحه ثم باعه لحما]
مسألة قيل له: فرجل دفع كبشا إلى رجل ليبيعه له ولم يسم له ثمنا فذبحه ثم باعه لحما بعشرة دراهم إلى أجل، قل: تباع تلك العشرة دراهم بسلعة وتكون له القيمة ههنا قيمة الكبش حيا، قلت له: فإن قال له أنا أريد قيمة اللحم، قال: لا أعرف قيمة اللحم ههنا ولا يكون له إلا قيمة الكبش، قيل له: فإن أمره ببيعه بدينار فذبحه، قال: هو مخير إن شاء القيمة وإن شاء الدينار إلا أن تكون القيمة أكثر فله القيمة إن شاء وإن شاء الدينار، وليس هذا بمنزلة ما لو أنه باعه بما أمره به، ذلك ليس له إلا الدينار، وهذا بمنزلة ما لو أعطيته ثوبا يبيعه بدينار فوهبه أو تصدق به فهو مخير إن شاء القيمة وإن شاء الدينار إذا فات الثوب، وهو بمنزلة ما لو اشتراه لنفسه من نفسه فذلك ليس ببيع، وصاحبه يرده إن شاء إن لم يفت، فإذا فات كان مخيرا في الثمن الذي أمره به أو القيمة.
قال محمد بن رشد: إذا لم يسم له ثمنا فسواء باع الكبش بعشرة دراهم إلى أجل أو ذبحه فباع لحمه بعشرة دراهم إلى أجل؛ لأن قيمة الكبش هي التي تجب عليه بالتعدي في البيع وإن لم يذبحه، وإنما لم ير له قيمة اللحم لأن قيمته إذا زادت على قيمة الكبش بعمله فليس له أن يجيزه ذلك كمن تعدى على كبش رجل فذبحه ثم أكله فليس لصاحبه أن يضمنه قيمة لحمه وإنما له قيمة كبشه، ولو وجد اللحم بيده قبل أن يفوته لكان له أن يأخذه مذبوحا إن شاء في المسألتين جميعا، وأما إذا سمى له ثمنا فإنما جعل له الأكثر من الدينار الذي سمى له أو القيمة لأن التعدي في البيع إلى(8/154)
أجل يوجب عليه الدينار الذي سماه، والعدى في الذبح يوجب عليه قيمة الكبش. وقوله: وليس ذلك بمنزلة ما لو باعه بما أمره به، يريد بعد أن ذبحه لأنه إذا باعه بما أمره به فلم يضره ذبحه إياه، وأما قوله: وهو بمنزلة ما لو اشتراه لنفسه من نفسه فقد مضى القول عليه موعبا في رسم استأذن فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أعطاه عشرة أرادب قمح يبيعها له بعشرة دنانير فباعها بسلعة]
مسألة ولو أنه أعطاه عشرة أرادب قمح يبيعها له بعشرة دنانير فباعها بسلعة كان مخيرا إن شاء السلعة التي باع بها وإن شاء مكيلة قمحة، قال ابن القاسم [وكذلك] لو أن رجلا دفع إلى رجل عشرة دنانير يشتري له بها عشرة أرادب قمح فاشترى له بها عدسا فقال: هو مخير إن شاء العدس وإن شاء فدنانيره التي دفع إليه وليس له الطعام ههنا، وليس له في العين تعد لو أنه أعطاه دنانير يشتري له بها دراهم فاشترى له بها غيرها لكان مخيرا إن شاء ما اشترى، وإن شاء الدنانير التي دفع إليه، وليس له الدراهم التي أمره بها أيضا ههنا. ومما يبين لك ما فسرنا أنه ليس على من استهلك طعاما أو دنانير أو عينا لرجل تعدى عليه فاستهلكها إلا مثل ذلك في عدده ومكيلته، وليس ذلك بمنزلة العروض، إنما عليه في العروض كلها القيمة؛ لأن العروض والحيوان لا يوجد مثلها، والدنانير والدراهم والطعام يوجد مثله.
قال محمد بن رشد: قد بين في هذه الرواية وجه الفرق بين أن يأمره أن يبيع طعاما له بدنانير فيبيعه بما لم يأمره به، أو يأمره أن يشتري بدنانير له طعاما فيشتري له بها غير ما أمره، وبين أن يأمره أن يبيع سلعة(8/155)
بطعام أو بدنانير فيبيعها بغير ما أمره به بما لا مزيد عليه، والفرق بين الدنانير يأمره أن يشتري له بها شيئا فيشتري بها سواه وبين السلعة يأمره أن يبيعها بشيء فيبيعها بسواء أبين من الفرق بين الطعام يأمره ببيعه والسلعة يأمره ببيعها ليتعدى أمره في ذلك؛ لأن الطعام وإن كان يشبه العين في الاستهلاك بوجوب الحكم فيه بالمثل فهو يشبه السلع في أنه يراد بعينه وفي أن البيع ينتقض باستحقاقه، فلو قيل على قياس هذا فيمن أمر رجلا أن يبيع له عشرة أرادب قمح بعشرة دنانير فباعها بسلعة أنه بمنزلة من أمر رجلا أن يبيع له سلعة بعشرة دنانير فباعها بسلعة فيكون مخيرا بين أن يأخذ السلعة التي اشترى بطعامه وبين أن تباع له السلعة فإن كان فيها فضل عن العشرة كان له فيها الفضل، وإن كان فيها نقصان عن العشرة كان ذلك على المتعدي لكان قولا.
[مسألة: أمره أن يبيع سلعة بعشرة دنانير إلى شهر فباعها بسلعة إلى شهر]
مسألة قال ابن القاسم: ولو أمره أن يبيع سلعة بعشرة دنانير إلى شهر فباعها بسلعة إلى شهر، بيعت تلك السلعة وكانت له القيمة، فإن كان فيها فضل عن القيمة كان له، وإن لم يكن فيها فضل فله القيمة إلا أن تكون القيمة أكثر من العشرة التي أمره أن يبيع بها، فلا يكون له إلا العشرة لأنه قد رضي أن يبيع بعشرة إلى أجل، فإذا أعطيناه عشرة نقدا لم نظلمه، وإنما تباع السلعة إذا قال: إن لي فيها فضلا، فإن قال: لا أريد الفضل وأريد القيمة، كان ذلك له إلا أن تكون أكثر من العشرة. وقال في غير هذا الكتاب: إنه لا يلتفت إلى عدد ما سمي له من الثمن وإنما ينظر إلى قيمة سلعته.
قال محمد بن رشد: القول الثاني هو الذي في المدونة، وهو أصح(8/156)
وأجرى على أصله من القول الأول؛ لأن من حجة صاحب السلعة أن يقول إنما سميت العشرة إلى أجل مخافة أن يبيع بأقل منها فإذا تعدى ما أمرته به فلي قيمة سلعتي ما بلغت؛ كما أنه إذا أمره أن يبيع سلعته بعشرة نقدا فباعها بسلعة تكون له ما باع به السلعة إن بيعت بأكثر من عشرة، ولا يحتج عليه بأنه قد رضي بالعشرة لأن من حجته أن يقول إنما سميت العشرة مخافة أن يبيع بأقل منها فإذا تعدى ما أمرته فلي ثمن السلعة التي باع بها سلعتي.
[مسألة: بعث معه رجل مائة درهم أندلسية يقضيها عنه غريما له بمصر]
مسألة وسئل عن رجل من أهل الأندلس بعث معه رجل مائة درهم أندلسية يقضيها عنه غريما له بمصر ويكتب له منها البراءة فأنفقها المبضع معه واحتاج إليها، فلما قدم مصر لم يجد دراهم أندلسية إلا خمسين درهما فدفعها إليه ثم اشتراها منه بدنانير ثم قضاها إياه تمام المائة وكتب منه البراءة، فقال: أرى أن يعلم صاحبه الذي وكله فيكون في هذا مخيرا إن شاء أسلم له ذلك، وإن شاء دفع إليه مثل الدنانير التي اشترى الدراهم بها وأخذ منه خمسين درهما، ولو كان دفع في ذلك عرضا كان بتلك المنزلة إلا أن له قيمة ذلك العرض الذي دفع، قال عيسى: إن كان أعلمه أنه أرسل إليه معه مائة درهم على حال ما أرسل معه ثم عامله بعد ذلك هذه المعاملة فالمعاملة جائزة، وليس لأحد فيها خيار، قال: وإن كان لم يعلمه وإنما قال إنما أمرني أن أقضيك دينك فهذا الذي وصف ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه اشترى منه(8/157)
الخمسين درهما على أن يقضيها إياه تمام المائة، فآل الأمر بينهما إلى أن أعطاه ذهبا عن الخمسين درهما لأنه إذا اشتراها منه على أن يقضيها إياه كان ما فعلاه من ذلك لغوا وصار إنما دفع إليه خمسين درهما وذهبا عن الخمسين الأخرى التي كان استسلفها وصارت دينا عليه للآمر، فمن حقه أن يقول إنما آخذ منك الخمسين درهما التي عليك وأدفع إليك [الذهب] الذي قضيت عني فيها فهو خيار أوجبه الحكم في الصرف دون أن ينعقد عليه، وقد اختلف هل يفسد الصرف بذلك أم لا حسبما مضى القول فيه في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم ورسم البيوع الأول عن سماع أشهب، فجواب ابن القاسم في هذه المسألة على القول بأن الصرف لا يفسد بذلك، وأما قول عيسى بن دينار فلا وجه له عندي إذ ليس معرفة المقتضي الذي له الحق بأن الذي عليه الحق أرسل المائة درهم مع الرسول القاضي بالذي يسقط ما يوجبه الحكم من الخيار للآمر الذي كان عليه الحق ولا جهله بذلك بالذي يوجب خياره، وإنما الذي يوجب خياره هو لأن من حجته أن يقول: لو علمت أنه بعث معك بالمائة درهم لما أخذت منك في الخمسين منها ذهبا، فيلزمه، إذا لم يعلم بذلك أن يعلمه بذلك وأن يعلم الذي وكله بما فعل معه أيضا، فإن أجازاه جميعا جاز، وإن رداه أو رده أحدهما بطل ولم يجز. وأما إذا اشترى منه الخمسين درهما اشتراء صحيحا على غير شرط أن يقضيه إياها ثم قضاه إياها فلا إشكال في أن ذلك جائز؛ إذ لا فرق بين أن يشتري الخمسين درهما منه أو من غيره إذا لم يشترها منه على شرط أن يقضيه إياها.
[مسألة: أبضع معه في سلعة يشتريها له ببلد فاشترى لنفسه سلعة دون ذلك البلد]
مسألة وسمعته يقول: إذا أبضع الرجل مع الرجل في سلعة يشتريها له ببلد فاشترى لنفسه سلعة دون ذلك البلد بتلك البضاعة(8/158)
فربح فيها، قال الربح له والنقصان عليه، فإذا بلغ البلد فاشترى سلعة غير التي أمر بها لنفسه وضمن ذلك ليقطع عنه الربح وهو يجد السلعة التي أمره بها فصاحب المال بالخيار، إن شاء أخذ ما اشترى بماله، وإن شاء ضمنه ماله، فإن كان باع بربح فالربح لصاحب المال، وإذا لم يجد السلعة التي أمره بها وطلبها فلم يجدها واشترى غيرها فالربح له والنقصان عليه إذا علم ذلك وعرف أنه لم يجدها، ورواها أصبغ في كتاب البيوع وزاد في سماعه قال وذلك أيضا إذا اشترى لنفسه، فإن اشتراها باسم صاحب المال وعليه فالخيار لرب المال والربح له والنقصان والضمان على المأمور بالتعدي على ماله. قال عيسى: قلت لابن القاسم: أرأيت إذا لم يجدها بالبلد واشتراها بغير البلد لصاحب المال أيكون لصاحب المال أن يأخذها إن شاء؟ وكيف إن كان فيها فضل لمن الربح؟ قال: صاحبها بالخيار إن شاء أخذها، وإن شاء تركها، قال عيسى: إذا اشترى له مثل ما وصف له وبالثمن الذي أمره أن يشتري به أو بأدنى فأرى أن يلزمه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى منه طعاما غائبا فقدم وكيل البائع بالطعام بعد الصفقة]
مسألة وقال في رجل اشترى من رجل طعاما بعينه غائبا عنهما ثم إذا الطعام قد قدم به وكيل البائع بعد الصفقة كان قد حمله بعد الصفقة ولا علم له؛ فقال: البيع للبائع لازم، فإن شاء أن يدفعه إليه ههنا دفعه أو رضي المشتري أن يأخذه منه ههنا وإلا(8/159)
فعليه أن يرده أو يدفع إليه مكانه ثم طعاما آخر.
قال محمد بن رشد: الكلام في هذه المسألة على فصلين: أحدهما شراء الطعام الغائب والحكم في ضمانه ممن يكون؟ والثاني ما يكون للمشترى إذا حمله البائع أو وكيله بأمره دون أن يعلم ببيعه إلى بلد آخر، فأما بيعه فإن كان جزافا فلا يجوز إلا على رؤية متقدمة حسبما مضى القول فيه في تفسير قوله في أول سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع لا يجوز اشتراء الطعام الغائب على شرط إن أدركته الصفقة مثل الزرع القائم إذا يبس واستحصد ويدخل في ضمانه بالعقد على قولي مالك في شراء الغائب على الصفة، وإن كان على الكيل فيجوز على الصفة وإن لم يتقدم للمبتاع فيه رؤية، وذلك على وجهين: أحدهما أن يكون له طعام غائب فيشتري منه كيلا معلوما، والثاني أن يشتريه كله على الكيل، فأما إذا اشترى من طعامه الغائب كيلا معلوما بعد أن وصفه له أو أراه منه شيئا فالضمان فيه من البائع حتى يكيله على المبتاع قولا واحدا، وكذلك إذا اشتراه كله على الكيل إلا أن يصدقه في الكيل فيدخل في ضمانه بالعقد على أحد القولين في اشتراء الغائب، فإن حمله البائع أو وكيله بأمره دون أن يعلم ببيعه إلى بلد المشتري حيث وقع الشراء أو إلى غيره من البلدان كان الحكم فيه ما ذكر في الرواية من أن على البائع أن يرده إلى البلد الذي باعه فيه أو يأتي المشتري بمثله في ذلك البلد فيكيله عليه فيه إن كان اشتراه على الكيل أو يكيل له المكيلة التي اشترى منه إن كان اشترى كيلا من جملة طعام، وإن كان اشتراه جزافا وأمكن أن يأتيه في مثل ذلك البلد بمثله مثل أن يكون بيتا مملوءا بطعام أو وعاء مملوءا منه حاضرا أتاه بمثله، وإن كان مصيرا لا يمكن معرفة المثل فيه كان عليه مكيلة خرص الصبرة إلا أن يتفقا على أخذ الطعام في البلد الذي حمل إليه فيجوز، وقد قيل إن المبتاع مخير بين أن يلزمه مثل الطعام في البلد الذي اشتراه به وبين أن(8/160)
يفسخ البيع ويأخذ ثمنه، وهو قول أشهب، ولا يعتبر في شيء من ذلك كله الضمان ممن هو، وإنما يعتبر إذا لم يحمله من موضعه، وأراد أن يعطيه مثله في بلد آخر فلا يجوز إذا كان الضمان من المبتاع باتفاق، ويجوز إذا كان من البائع على اختلاف حسبما مضى بيانه في سماع سحنون من كتاب الغصب.
[مسألة: ادعى وكالة رجل في سلعة فاشتراها منه رجل ثم علم بكذبه]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل ادعى وكالة رجل في سلعة فاشتراها منه رجل ثم علم بكذبه فأراد المشتري أن يرد البيع وأبى المدعي الوكالة أن يقيله حتى يرضى الرجل، قال: ليس ذلك له، والمشتري يرد إن شاء، قلت له: فإن رضي صاحب السلعة أن يجيز البيع أيلزم المشتري ذلك؟ قال: لا يلزمه ذلك إذا كان افتات عليه من غير أن يأمره.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في بعض الروايات، وقوله فيها إن للمشتري أن يرد البيع ولا يلزمه أن ينتظر حتى يعلم إن كان يجيز صاحب السلعة البيع أو لا يجيزه هو نص ما في المدونة، وهو صحيح لأن من حقه أن يقول إن كانت جارية لا أمسكها أطؤها وصاحبها فيها علي بالخيار، وكذلك ما عدل الجارية من السلع. وأما قوله: إن الشراء لا يلزم المشتري إذا أجاز صاحب السلعة البيع فهو خلاف ما في المدونة وما في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق، وبعيد أيضا لأن البائع إنما باعها على أنه وكيل لسيدها الذي أجاز البيع فيها، فلا حجة له في ردها، وإنما كانت تكون له الحجة في ردها لو باعها على أنها له ثم استحقها سيدها فأجاز بيعها، فههنا يختلف في ردها، والاختلاف في هذا جار على اختلافهم في انتقال العهدة عن التعدي في البيع إلى صاحب السلعة إذا أجاز البيع، فله أن يرد على القول بأنها تنتقل، وليس له أن يرد على القول بأنها لا تنتقل، وقد فرغنا من بيان هذه المسألة في آخر سماع(8/161)
أصبغ من كتاب الغصب وفي رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق فلا معنى لإعادته ههنا، وبالله تعالى التوفيق.
[أعطى رجل ثوبه رجلا أن يبيعه له بعشرة دراهم فباعه بخمسة]
ومن كتاب أوله:
إن خرجت من هذه الدار إلى رأس الحول فأنت طالق وقال ابن القاسم: إذا أعطى رجل ثوبه رجلا أن يبيعه له بعشرة دراهم فباعه بخمسة، قال عليه العشرة دراهم التي أمره أن يبيعه بها، وليس عليه أكثر منها وإن كانت القيمة أكثر من العشرة لأنه لو باعه بعشرة والقيمة أكثر لم يكن عليه شيء، وليس عليه إلا العشرة التي أمره أن يبيع بها.
قال محمد بن رشد: قد قيل عليه القيمة لأن من حجة صاحب السلعة أن يقول إنما سميت العشرة لئلا ينقص منها، فإذا تعدى فلي قيمة سلعتي، والعشرة أعدل، والقولان قائمان من مسألة رسم أوصى في الذي يأمر الرجل أن يبيع سلعته بعشرة إلى أجل وقيمتها أكثر من عشرة فيبيعها بسلعة إلى أجل، وقد مضى القول عليها وبيان وجه الاختلاف فيها فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أهدى لرجل ثوبا فأخطأ به الرسول فدفعه إلى غيره فاقتطعه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل أهدى لرجل ثوبا فأخطأ به الرسول فدفعه إلى غيره فاقتطعه قباء ثم طلب ذلك فقال: يقال للمبعوث له الثوب اغرم خياطته وخذ ثوبك، فإن أبى قيل للذي هو في يده إن شئت فادفعه إليه مخيطا، وإن شئت فأد قيمته يوم قبضته.(8/162)
قال محمد بن رشد: قوله فإن أبى قيل للذي هو في يده إن شئت فادفعه إليه مخيطا وإن شئت فأد قيمته يوم قبضته، هو على ما يأتي في أصل المختلطة من كتاب تضمين الصناع من المدونة من أنه لم ير الخياطة عينا قائما يكون بها شريكا فيما كان بوجه شبهة خلاف ما في كتاب الجعل والإجارة من المدونة من أنه رأى الخياطة عينا قائما فأوجب الشركة بذلك، وقياس هذه المسألة قياس الصناع يخطئ بالثوب فيدفعه إلى غير صاحبه فيقطعه الذي قبضه ويخيطه، فالذي يأتي في هذه المسألة على مذهبه في المدونة أنه إن أبى المبعوث إليه الثوب أن يغرم خياطته ويأخذه قيل للذي هو في يده أد قيمته يوم قبضته، فإن أبى من ذلك كانا شريكين فيه الأول المبعوث إليه بقيمته غير مخيط، والثاني الذي خاطه بقيمة خياطته، وسواء كانت الخياطة زادت في قيمة الثوب أو نقصت منه، وإن أراد المبعوث إليه الثوب أن يرجع بقيمة ثوبه على الرسول الذي أخطأ في دفعه كان ذلك له، فإن اختار ذلك بكون الخياطة تنقص الثوب رجع الرسول على الذي دفع إليه الثوب فكان الحكم في رجوعه إليه على ما تقدم من الاختلاف في رجوع المبعوث إليه الثوب عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال له لك علي ثلثا دينار مما حاسبتك به فهاك دينارا فاقتص منه الثلثين]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل قال لرجل: لك علي ثلثا دينار مما حاسبتك به فهاك دينارا فاقتص منه الثلثين واقض فلانا الثلث، فذهب عنه وخرج في سفر فنظر في محاسبته إياه فإذا أنه عليه أكثر من الدينار، فأراد أن يحبس الدينار كله، قال: ليس ذلك له، وليدفع ثلث الدينار إلى من أمره أن يدفعه إليه ثم يكتب إليه فيما بقي له.(8/163)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه لما قبض منه الدينار على أن يدفع ثلثه إلى الذي أمره أن يدفعه إليه فقد أقر أنه ليس له عنده إلا ثلثا دينار، فليس له أن يمسك الدينار كله حتى يقر له الذي دفع إليه بصحة ما ذكر من أنه وجده في حسابه.
[مسألة: أبضع الرجل بدنانير مع رجل وأبضع معه آخر بدراهم]
مسألة قال ابن القاسم: إذا أبضع الرجل بدنانير مع رجل وأبضع معه آخر بدراهم يشتري لهما حاجتهما فلا بأس أن يصرف الدراهم بالدنانير بصرف الناس.
قال محمد بن رشد: أجاز أن يصرف دراهم هذا بدنانير هذا بصرف الناس ولم ير بذلك بأسا لأن أمره محمول على أن كل واحد منهما قد فوض إليه أن يصرف ما بعث به معه إن احتاج إلى ذلك، إذ قد لا يجد حاجة الذي دفع إليه الدنانير إلا بدراهم، ولا حاجة الذي دفع إليه الدراهم إلا بدنانير، فصار بمنزلة من دفع إليه رجل دنانير للصرف ودفع إليه آخر دراهم للصرف فأراد أن يصرف من هذا لهذا، فأجاز ذلك مالك في كتاب ابن المواز، وقد أجاز في أحد قوليه حسبما ذكرناه في رسم البيوع الأول من سماع أشهب لمن وكل على الصرف أن يصرف له من نفسه، وهذا أشد من هذا، وقال ابن أبي حازم: لا بأس بذلك إذ لا نظرة فيه، فلا تشددوا على الناس هكذا جدا فليس كما تشددون، وذكرنا [أن] الخلاف في ذلك إنما هو من أجل أنه خيار لم ينعقد عليه الصرف، وإنما أوجبه الحكم، ولم يجز ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب الصرف أن يصرف من هذا لهذا إن أمره كل واحد منهما أن يصرف له، ومثله لابن القاسم في كتاب ابن المواز خلاف قوله في هذه الرواية، والعلة في ذلك(8/164)
أن كل واحد منهما إنما وكله على أن يبذل له مجهوده في المكايسة وأن يفعل له في ذلك ما يفعل لنفسه، فإذا صرف لهذا من هذا فقد توخى السداد في ذلك وترك المكايسة التي أرادها كل واحد منهما منه فصار هذا معنى يشبه أن يكون لكل واحد منهما الخيار في فعله، كما إذا صرف لأحدهما من نفسه، ويحتمل أن يفرق بين المسألتين؛ لأن الخيار إذا صرف لأحدهما من نفسه لا اختلاف فيه. فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال: الجواز في المسألتين جميعا، وعدمه فيهما جميعا، والفرق بينهما، وقد ذكر ابن دحون في وجه عدم الجواز في ذلك علة لا تصح قد تكلمنا على إفسادها في سماع أبي زيد من كتاب الصرف، وبالله التوفيق.
[امرأة وكلت وكيلا يطلب خصومة لها في قرية فباع الوكيل القرية]
ومن كتاب أسلم
وله بنون صغار وسئل عن امرأة وكلت وكيلا يطلب خصومة لها في قرية وأشهدت له إني قد فوضت إليه، وأمره جائز فيما يصنع ولم يذكر في وكالتها أو تفويضها لا بيع ولا غير ذلك إلا ما ذكرت لك من التفويض وأمره جائز فيما صنع، فباع الوكيل القرية بعد أن صالح فيها وصارت للمرأة فباعها ولم يستأمرها وهي معه في مدينة أو بينهما أميال، هل يمضي البيع عليها وهي تقول لم آمره بالبيع، وإنما فوضت إليه أمر الخصومة والصلح؟ هل يقبل قولها إنني لم آمره بالبيع؟ أم هل يختلف هذا إذا وكل الرجل وكيلا له على مال له بالمشرق وكتب كتابا أنني قد فوضت إليه الأمر وأمره جائز فيما صنع أو قطع بالخصومة إن كانت فظفر الوكيل وباع ما ظفر به وبينه وبين من وكله مسيرة شهر هل يجوز بيعه إذا أنكر ذلك الذي وكله إذ لم يأمره بالبيع؟ قال ابن القاسم: لا أرى أن يجوز(8/165)
فيهما جميعا [البيع] إذا أنكر إذا كان بيعه بعد أخذه المال وحوزه له ولم يكن أخذ المال على صلح ولا على مقاطعة.
قال محمد بن رشد: الأصل في الوكالات أن الوكيل ليس له أن يتعدى ما وكل عليه مما سمى له. وإن قال في توكيله إياه إنه وكله وكالة مفوضة أقامه في ذلك مقام نفسه، وأنزله منزلته، وأجاز فعله، وجعل إليه النظر بما يرضاه لأن ذلك كله يحصل على ما سمى ويعاد إليه إلا أن لا يسمي شيئا رأسا يقول إني وكلته وكالة مفوضة فيكون وكيلا مفوضا إليه يجوز عليه فعله في كل شيء من البيع والابتياع والصلح وغيره، فإن قال وكالة مفوضة جامعة لجميع وجوه التوكيل ومعانيه كان أبين في التفويض، فإنما أجاز ابن القاسم في هذه الرواية للوكيل على الخصومة أن يصالح فيها من أجل قول الموكلة قد فوضت إليه في الخصومة وجعلت أمري جائزا فيما يصنع فيها فاقتضى ذلك الصلح إذ ليس له وجه سواه، فليس ذلك بخلاف لقول أصبغ في آخر نوازله إنه إذا وكله على الخصومة ولم يفسر شيئا فهو وكيل على المدافعة وحدها، وليس له صلح ولا إقرار، ولا بخلاف لقول عيسى بن دينار في أول نوازله بعد ذلك أنه إذا وكله على تقاضي ديونه وفوض إليه النظر فيها أنه لا يجوز للوكيل أن يصالح عنه في شيء منها وإن كان الصلح في ذلك نظرا له؛ لأن تفويضه النظر في اقتضاء ديونه لا يقتضي مصالحة؛ لأنه يمكن إعادته على ما وكله عليه من الاقتضاء لديونه ليعجل منها ما يرى النظر في تعجيله ويؤخر منها ما يرى النظر في تأخيره، فقد يكون النظر في بعض الديون تعجيل اقتضائها، وفي بعضها تأخير اقتضائها، وقد ذهب بعض الناس إلى أن قول ابن القاسم هذا خلاف لقول عيسى في نوازله، وليس ذلك عندي بصحيح لما بيناه من وجه الفرق بينهما. وهذا الذي قلناه من أنه إذا سمى في الوكالة شيئا لا يتعدى الوكيل مما سمى له وإن نص على التفويض في الوكالة لأن ذلك يعاد إلى ما سمى هو بين من(8/166)
قول أصبغ في آخر نوازله، وإنما تكون الوكالة مفوضة في كل شيء إذا لم يسم فيها شيء، وكذلك الوصية إذا قال الرجل فلان وصيي ولم يزد على ذلك كان وصيا له في كل شيء في ماله وبضع بناته وإنكاح بنيه الصغار، وهذا قوله في المدونة، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة أنه إذا قال فلان وصيي ولم يزد ينزل منزلة الموصي في كل شيء إلا في تزويج الصغيرة قبل بلوغها والكبيرة دون مؤامرتها، ولهذا المعنى قالوا في الوكالة إنها إذا طالت قصرت، وإذا قصرت طالت.
[مسألة: قال الرجل للرجل هاك ثلاثين دينارا وابتع لي جارية صفتها كذا وكذا]
مسألة وقال ابن القاسم: إذا قال الرجل للرجل هاك ثلاثين دينارا وابتع لي جارية صفتها كذا وكذا، فيذهب المأمور فيشتري بتلك الثلاثين دينارا جاريتين بتلك الصفة بعينها فأتى بهما إليه: قال: صاحب المال بالخيار إن شاء أخذهما جميعا وإن أحب أخذ واحدة بما يصيبها من الثمن وكان له على المأمور بقية الثلاثين، وكذلك لو أمره أن يشتري له جارية بعينها بثلاثين دينارا فذهب فاشتراها وابنها بثلاثين دينارا إن صاحب المال بالخيار إن شاء أخذ الأم بما يصيبها من الثمن وترك الولد، وكان ما بقي من الثلاثين له على المأمور إلا أن يكون الولد صغيرا ليس مثله يفرق بينه وبين أمه فيلزمه أخذهما جميعا الأم والولد أو يدعهما جميعا إن زعم أنه لم يعرف أن لها ولدا.
قال محمد بن رشد: أما إذا دفع إليه الثلاثين على أن يشتري له بها جارية على صفة وصفها له فاشترى له بالثلاثين جاريتين على الصفة التي أمره بها في صفقة واحدة ففي كتاب ابن المواز أنهما لازمتان له جميعا خلاف قوله ههنا إنه مخير بين أن يأخذهما جميعا وبين أن يأخذ أيتهما شاء(8/167)
بما يصيبها من الثلاثين وتكون البقية منها عليه، ولو ماتت الواحدة قبل أن يختار كانت المصيبة من المأمور؛ لأنه متعد في الثانية، وليس هو كبيع، قاله ابن دحون، وليس قوله بصحيح إذ لم يشترها واحدة بعد أخرى فيكون متعديا في الثانية كما قال أي في الهالكة، وإنما اشتراهما صفقة واحدة، فهو ما تعدى في إحداهما بعينها دون الأخرى، لكنه لما تعدى في اشترائهما صفقة واحدة لزمت ذمته ما ناب التي لم يختر صاحب البضاعة من الثلاثين، فصار كأنه اشترى على أن صاحب البضاعة بالخيار في أن يأخذ أيتهما شاء بما ينوبها من الثلاثين ويضمن هو بقيتها في ذمته وتكون له الثانية، فيتخرج ضمان الهالكة منهما قبل أن يختار على الاختلاف في الذي يشتري ثوبا من ثوبين على أن يختار أيهما شاء فتلف أحدهما قبل أن يختار فتكون مصيبة التالف منهما جميعا على مذهب ابن القاسم، ومن المبضع معه المتعدي على مذهب سحنون. وأما إذا اشترى الجارتين بالثلاثين في صفقتين واحدة بعد أخرى فالآمر مخير في أخذ الثانية وتركها، قاله في كتاب محمد، ولا خلاف في هذا. وأما إذا أمره أن يشتري له بالثلاثين جارية بعينها فاشتراها وابنها بالثلاثين فكما قال يكون مخيرا بين أن يأخذهما جميعا وبين أن يأخذ الأم بما يصيبها من الثمن، ولو أمره أن يشتري له بالثلاثين جارية موصوفة بغير عينها فاشترى له بالثلاثين جارية على الصفة وابنها لكان مخيرا بين أن يأخذها وولدها أو يتركها وولدها ويضمنه الثلاثين، أو يأخذها دون ولدها بما ينوبها من الثلاثين، وهذا إن كان الولد كبيرا، فأما إن كان الولد صغيرا فكما قال في الرواية إن علم لها ولدا لزمته، وإن كان لم يعلم ردها بولدها، هذا إذا كانت بعينها، وأما إن لم تكن بعينها فله أن يردها بولدها علم أن لها ولدا أو لم يعلم لأن الولد عيب في الجارية، والله تعالى هو الموفق المعين بفضله، لا إله إلا هو، ولا معبود سواه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد المصطفى الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
تم الجزء الأول من كتاب البضائع والوكالات بحمد الله وحسن عونه، وصلى الله على محمد نبيه وآله.(8/168)
[كتاب البضائع والوكالات الثاني] [يوكل رجلا على تقاضي ديونه فيقوم على رجل بذكر حق له عليه بمائة دينار](8/169)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد
وآله وسلم تسليما.
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب أوله حمل صبيا على دابة
قلت أرأيت الرجل يوكل رجلا على تقاضي ديونه فيقوم على رجل بذكر حق له عليه بمائة دينار فيقول المطلوب للوكيل قد قضيت صاحبك منها خمسين وليست له على ذلك بينة. قال: لا ينفعه ما ادعى من الدفع إلا أن يأتي بالبينة وإلا غرم ولم يؤخر إلى لقي صاحبه. فقلت: أرأيت لو لم تكن له بينة فقضي عليه بالغرم فغرم المائة كلها ثم قدم صاحب الحق فأقر أنه قد تقاضى منه خمسين والوكيل معدم، على من يرجع هذا بالخمسين على صاحب الحق أو على الوكيل؟ قال: بل على الذي له أصل الحق لأنه هو الذي فرط حين لم يعلم وكيله أنه قد تقاضى منه خمسين. قلت: فلو كان الوكيل معدما أو موسرا؟ قال: هو سواء لا يرجع عليه بشيء. قلت: وإنما يرجع على صاحب الحق؟ قال نعم.
قال محمد بن رشد: قال في الوكيل يتقاضى الدين من الغريم والموكل غائب فيدعي أنه قد دفع إليه الحق أو بعضه إنه لا ينفعه ذلك إلا(8/171)
أن تكون له بينة ويغرم ولا يؤخر إلى لقي صاحبه. ولم يفرق بين أن يكون الوكيل قريبا أو بعيدا. وفرق محمد بن عبد الحكم بين أن يكون الموكل قريب الغيبة أو بعيدها. وقوله عندي تفسير لهذه الرواية ولقول أصبغ في نوازله بعد هذا. وقد قيل إنه لا يقضى للوكيل بالدين حتى يكتب إلى الموكل فيحلف وإن كان بعيدا على مسألة نوازل عيسى في يمين الاستحقاق. وقد فرق بعض أهل النظر بين يمين الاستحقاق وبين يمين دعوى القضاء. وقد قيل إن الوكيل يحلف على العلم وحينئذ يقتضي.
فيتحصل في المسألة أربعة أقوال إذا بعدت غيبة الموكل. وقد مضى بيان هذا كله وتحصيله في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الأقضية أنه يستحلفه في الوجهين جميعا. وظاهر هذه الرواية وما في نوازل أصبغ بعد هذا أنه ليس على الإمام أن يستحلف الموكل على قبض ديونه الغائبة أنه ما قبض منها شيئا، ويكتب له دون يمين خرج أو وكل، خلاف ما في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الأقضية أنه يستحلفه في الوجهين جميعا خرج أو وكل ما اقتضى ولا أحال ولا قبض ثم يكتب له. وعلى ظاهر هذه الرواية جرى العمل؛ لأنه يقول للإمام لا تحلفني فلعله لا يقضى على أنه قضاني منه شيئا. وقد قيل إنه يستحلفه إذا وكل ولا يستحلفه إذا خرج، وهو أقوى الأقوال وأعد لها.
وأما قوله إذا لم يكن للمطلوب بينة على ما ادعى من دفع الخمسين إلى صاحب المال فغرم المائة كلها ثم قدم صاحب الحق فأقر بقبض الخمسين إن الغريم لا يرجع على الوكيل وإنما يرجع على صاحب الحق لأنه هو الذي فرط، فمعناه أنه لا يلزمه أن يرجع عليه ويترك الرجوع على صاحب الحق، بل له أن يرجع عليه إن أحب، فإن رجع على صاحب الحق رجع صاحب الحق على الوكيل، إلا أن يدعي أنه دفع المائة كلها إليه ويقيم على ذلك البينة، وبالله التوفيق.(8/172)
[أمر رجلا أن يبتاع له جارية فاشتراها وأتاه بها فجحد أن يكون أمره بها]
ومن كتاب العشور وسألته عن رجل أمر رجلا أن يبتاع له جارية فاشتراها وأتاه بها فجحد أن يكون أمره بها، فقال لا يطؤها هذا المأمور ولكن يبيعها، فإن كان فيها فضل رده إليه، إلا أن يخرجها إلى السوق فينظر ما يعطى فيها ويستقصي فيها ذلك ثم يأخذها لنفسه ويعطيه الفضل ويطؤها. قال أرجو أن يكون ذلك خفيفا. قلت: فإن لم يرد بيعها وأراد حبسها؟ فقال: ما أرى ذلك إلا أن تكون ليس فيها فضل إن بيعت ولا زيادة يعلم ذلك ويستيقنه. قلت: ولا يرى جحوده إياه إسلاما أسلمها إليه؟ قال: لا إنما دفع عن نفسه شيئا لا يدري كيف يكون عليه أفيه فضل أم لا، أو قال شيئا خافه. أرأيت لو أعتقها وجحد أن يكون أمره قلت تكون حرة وإنما هو رجل جحده حينئذ الثمن، فهذا مثله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا جحد أن يكون أمره باشترائها فلا يجوز له أن يطأها حتى يعلم أنه راض بتركها له فيما له عليه من ثمنها، إذ لا يسقط حقه فيها بجحوده، بدليل أنه لو رجع إلى قوله وكذب نفسه فيما جحد وأقر بما ادعاه من أنه أمره بشرائها لكان له أن يأخذها، ولو أعتقها لجاز عتقه فيها. فاستدلال ابن القاسم بالعتق في هذه المسألة استدلال ظاهر.
وفي قوله إنه يخرجها إلى السوق وينظر ما يعطى فيها ويستقصي ذلك ثم يأخذها لنفسه ويعطيه الفضل نظر؛ لأنه إذا فعل ذلك يكون هو الحاكم لنفسه يأخذ جاريته فيما له عليه مما جحده إياه من ثمنها، وذلك لا يلزمه لو أقر بما قال بعد أن فعل ذلك وأراد أخذ الجارية لكان ذلك له، فلذلك لم يقل إنه يجوز له أن يطأها إذا فعل ذلك، وإنما قال أرجو أن يكون خفيفا. وإجازة أخذ الجارية له بما يعطى فيها ينحو إلى قول من يرى أن للرجل إذا جحد الرجل حقا له عليه فظفر له بمال أن يأخذه لنفسه ويقطعه من تحت(8/173)
يده، خلاف قول ابن القاسم. والذي يصح له به ملكها ويجوز له وطؤها أن يرفع الأمر إلى السلطان فيبيعها فيما يدعيه من الثمن الذي اشتراها له به منه أو من غيره ويوقف فيها الفضل إن كان فيها فضل للذي جحد، فإذا باعها السلطان منه فيما يدعيه من الثمن على قوله صح له ملكها وجاز له وطؤها. ألا ترى أنه لو أقر بما قال بعد أن باعها السلطان منه في الثمن الذي اشتراها له يكن له إلى أخذها سبيل. وإنما كان يكون له الفضل الذي وقف له إن كان فيها فضل. وفي حكم السلطان بيع الجارية التي يقر بها الرجل للرجل فيما يدعيه قبله من الثمن اختلاف قد ذكرته في مسألة القدح والكساء من آخر سماع أصبغ من كتاب السلطان، والحمد لله.
[أمره أن يبيع له سلعة بعشرة دنانير نقدا فباعها بخمسة عشر إلى أجل]
ومن كتاب أوله حبل حبلة قال ابن القاسم: إذا أمر الرجل الرجل أن يبيع له سلعة بعشرة دنانير نقدا فباعها بخمسة عشر إلى أجل. قال ابن القاسم: تباع الخمسة عشر إلى أجل بعرض نقدا ثم يباع العرض، فإن بيع العرض بأكثر من عشرة كانت الزيادة لصاحب السلعة، وإن نقص ثمن السلعة من العشرة كان تمام العشرة على بائعها لأنه متعد. قلت: فإن قال بائع السلعة لصاحب السلعة أنا أعطيك عشرة الآن نقدا وأنظر بالخمسة عشر إلى أجلها. قال: إن رضي بذلك صاحب السلعة نظر إلى تمام الخمسة عشر الآن نقدا، فإن كان ثمنها عشرة وأدنى جاز ذلك إذا عجل له العشرة، وإن كان ثمنها أحد عشر واثني عشر لم يحل؛ لأنه يصير كأنه باع اثني عشر نقدا بخمسة عشر إلى أجل. قال ابن القاسم: ولو كان يجوز له أن يؤخر الدينارين في خمسة إلى أجل إذا كان ثمن الخمسة عشر نقدا اثني عشر لجاز له أن يؤخر الخمسة عشر كلها ويأخذها عند الأجل. قال عيسى: وأشهب يقول لا يجوز إذا كان ثمن الخمسة(8/174)
عشر إذا بيعت بعرض لم يبع العرض إلا بأدنى من عشرة؛ لأنه إذا كان أدنى فهو سلف جر منفعة.
قال محمد بن رشد: الحكم في هذه المسألة ما ذكره من أن يباع الخمسة عشر بعرض ثم يباع العرض بعين، فإن بيع بعشرة فأكثر كان ذلك لصاحب السمعة، وإن بيع بأقل من عشرة غرم بائع السلعة تمام العشرة، فإن رضي أن يعطي العشرة وينتظر بالخمسة عشر إلى أجلها فيأخذ منه العشرة التي أعطى وتكون الخمسة لصاحب السلعة ففي ذلك أربعة أقوال: أحدها أن ذلك لا يكون له إلا أن يرضى رب السلعة وتكون الخمسة عشر لو بيعت لم يكن فيها أكثر من عشرة؛ لأنه إذا كان فيها أكثر من عشرة دخله الدين بالدين، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، والثاني أن ذلك لا يكون له إلا أن يرضى بذلك رب السلعة أيضا أو تكون الخمسة عشر لو بيعت كان فيها عشرة فأكثر؛ لأنه إن لم يكن فيها إلا أقل من عشرة دخله سلف جر منفعة، وهو قول أشهب، والثالث أن ذلك لا يكون له أيضا إلا أن يرضى بذلك رب السلعة أيضا وتكون الخمسة عشر إن بيعت لم تبع إلا بعشرة لا أدنى ولا أكثر؛ لأنها إن كانت لو بيعت بيعت بأكثر من عشرة دخله الدين بالدين على ما قاله ابن القاسم، وإن كانت لو بيعت بيعت بأقل من عشرة دخله سلف جر منفعة على ما قاله أشهب، والرابع أنه إذا أراد بائع السلعة أن يعطي العشرة وينظر بالخمسة عشر إلى أجلها كان ذلك له وجاز، كانت الخمسة عشر إن بيعت قام فيها أكثر من العشرة أو لم يقم فيها إلا أقل من العشرة. وأما إن أراد صاحب السلعة أن يباع له من الخمسة عشر بعشرة فأكثر ويترك البقية إلى أجلها كان ذلك له على ما قاله في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع. ولو أراد أن يباع له منها بأقل من عشرة لم يجز؛ لأنه يدخله دنانير في أكثر منها إلى أجل. وقد مضى هذا كله في سماع أبي زيد من الكتاب المذكور.
[مسألة: أعطى رجلا دنانير يشتري له بها طعاما فاشترى سلعة]
مسألة قال ابن القاسم: ومن أعطى رجلا دنانير يشتري له بها(8/175)
طعاما فاشترى سلعة، فصاحب الدنانير مخير إن شاء السلعة وإن شاء الدنانير. وإن أعطاه قمحا يبيعه بدنانير فاشترى به سلعة فهو مخير إن شاء السلعة وإن شاء القمح؛ لأن القمح بمنزلة الدنانير.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت في رسم أوصى متكررة ومضى القول عليها فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: بعثت ببضاعة مع رجل وقلت له لا تفارق حقويك فجعلها في عيبته]
مسألة [قال عيسى] : قال أبو محمد المخزومي سألت مالكا فقلت له: إني بعثت ببضاعة مع رجل وقلت له لا تفارق حقويك فجعلها في عيبته فذهبت، فقال لي: هو ضامن.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن كون البضاعة مشدودة على حقويه أحصن لها من كونها في عيبته. فإذا دفعها إليه على ألا تفارق حقويه فجعلها في عيبته وجب عليه ضمانها إن تلفت لأنه لم يرض أن تكون في عيبته. ولو أعطاها له على أن يجعلها في عيبته فشدها على حقويه فتلفت لم يلزمه ضمانها؛ ولو لم يشترط عليه في أمرها شيئا فشدها على حقويه لم يضمن، ولو جعلها في عيبته لضمن إن كانت البضاعة يسيرة مثلها يشد على الحقوين ولا يجعل في العيبة.
[الرجل والمرأة يوكلان وكيلا يخاصم عنهما]
ومن كتاب الجواب وسأله عن الرجل والمرأة يوكلان وكيلا يخاصم عنهما فإذا وجه القضاء عليه ذكر أو ذكرت أنه لم يخاصم بحجتهما أو أن حجتهما غير ما كان يخاصم به ولا يعلم أنهما علما بما كان يخاصم به أو لعلهما غائبان.(8/176)
قال ابن القاسم: لا يقبل ذلك عنهما ولا ينظر إلى قولهما ولا حجة لهما إلا أن يأتيا بحجة يذكران أنها بقيت لهما بما يرى أن لذلك وجها. وإنما ذلك بمنزلة أن لو كانا هما يخاصمان لأنفسهما فلما أراد القاضي توجيه القضاء عليهما ذكرا حجة بقيت لهما، فإن أتيا بشيء يشبه أو شيء يرى له وجه يعرف وجه ما يذكران ويعتذران به ويحتجان قبل ذلك منهما، وإلا لم يلتفت إليهما ووجه القضاء عليهما، ووكيلهما بمنزلتهما في ذلك سواء، ويجري مجراهما، وإن زعما أنهما لم يعلما بما كان يخاصم به لم يكن لهما في ذلك حجة ولا كلام؛ لأنهما قد وكلاه ورضيا به، فإذا رضيا بوكالته فقد رضيا بكل ما يخاصم به فكأنهما اللذان يخاصمان لأنفسهما.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا وجه للقول، إذ قد بين ابن القاسم وجه الحجة لما قاله بما لا مزيد عليه، والله الموفق.
[عبد بين ثلاثة نفر غاب أحدهم فباع الاثنان من رجل وزعما أن صاحبهما وكلهما]
ومن كتاب أوله إن امكنتني من حلق رأسك
وسئل عن عبد بين ثلاثة نفر فيغيب أحدهم فبيع الاثنان من رجل ويزعمان له أن صاحبهما وكلهما، ثم يجيء صاحبهما فينكر البيع ويقول لم آمركما، فقال: يخير المشتري، فإن شاء رده كله ولم يلزمه شيء، وإن شاء أمسك حظ الاثنين اللذين باعاه ورد سهم الغائب، وهو في ذلك مخير. قلت: فلو أن رجلا ادعى على أن الغائب استخلفه على البيع فباع من الاثنين ثم قدم الغائب فأنكر أن يكون استخلفه. فقال: يلزمه اشتراؤه حظ الاثنين ويرد حظ الغائب وليس له في ذلك خيار، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: تفرقته بين أن يدعي الشريكان وكالة شريكهما(8/177)
الغائب على بيع حصته فيبيعان جميع العبد، وبين أن يدعي وكالته رجل آخر فيبيع معهما جميع العبد في لزوم حط الشريكين من العبد المشترى إذا جاء الغائب فأنكر الوكالة واستحق نصيبه من العبد صحيحة بينة مفسرة لما تقدم في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم حسبما بيناه فيه، ومفسرة أيضا لما في سماع يحيى من كتاب الاستحقاق والحمد لله.
[أعطاه مائة دينار يشتري بها جارية فاشتراها وأشهد أنه إنما اشتراها لفلان]
ومن كتاب القطعان قال مالك في رجل أعطى رجلا مائة دينار يشتري بها جارية فاشتراها له بها وأشهد أنه إنما اشتراها لفلان، ثم إنه وطئها وأعطاه مكانها غيرها فوطئها الآخر أيضا فحملتا جميعا. قال ابن القاسم: إن كان المأمور ممن يعذر بالجهالة درئ عنه الحد وخير صاحب الجارية في جاريته وقيمة ولدها أو في قيمتها وقيمته إن شاء، وخير أيضا في الجارية التي في يديه التي حملت منه، إن شاء دفعها إليه بعينها ولا شيء عليه في ولده منها، وإن شاء دفع قيمتها فذلك له. قال: وإن كان المأمور ممن لا يعذر بالجهالة أقيم عليه الحد وأخذ الرجل جاريته وولدها وكانوا عبيدا له، ولم يلحق بالواطئ الولد.
قال محمد بن رشد: قوله إذا كان المبضع معه ممن يعذر بالجهالة إن صاحب الجارية مخير بين أن يأخذ جاريته وقيمة ولدها وبين أن يأخذ قيمتها، يريد يوم الحكم، وقيمة ولدها، هو قول مالك القديم واختيار ابن القاسم في الجارية المستحقة من يد المشتري وقد ولدت منه لسيدها أن يأخذها وقيمة ولدها، وأن يأخذ قيمتها يوم الحكم وقيمة ولدها مخير في ذلك. وله على هذا القول أيضا أن يسلمها إليه بقيمتها يوم وطئها(8/178)
ولا يكون له في ولدها شيء على معنى ما قاله في رسم العتق بعد هذا ونص عليه فيما يأتي في سماع سحنون. فهو مخير على قول مالك الأول بين هذه الأوجه الثلاثة؛ وعلى قوله الثاني بين الوجهين، وهما أن يأخذ قيمتها يوم الحكم وقيمة ولدها، وأن يأخذ قيمتها يوم وطئها ولا يكون له في ولدها شيء؛ وعلى قوله الثالث ليس له إلا قيمتها يوم وطئها ولا شيء له في ولدها. وقد قال في رسم العتق بعد هذا إنه بالخيار بين أن يأخذها وقيمة الولد أو يسلمها إليه بقيمتها، يريد يوم وطئها ولا شيء له في ولدها على ما نص عليه في سماع سحنون بعد هذا، يريد وبين أن يأخذ قيمتها يوم الحكم وقيمة ولدها على ما قاله في هذا الرسم؛ لأنه سكت في رسم العتق عن التخيير في هذا الوجه، كما سكت في هذا الرسم عن التخيير في أن يضمنه قيمتها يوم وطئها ولا يكون له في ولدها شيء بما زاد في كل رسم منهما على الآخر مفسرا له ومبينا لمراده فيه. وقد كان من أدركنا من الشيوخ يحملون الكلام على ظاهره من أنه اختلاف من القول، فيقولون ليس له على ما في هذا الرسم أن يسلمها إليه بقيمتها يوم وطئها دون أن يكون له في ولدها شيء. ولا له على ما في رسم العتق أن يأخذ قيمتها يوم الحكم وقيمة ولدها. وليس ذلك عندي بصحيح، بل الروايات في هذا تفسر بعضها بعضا.
وأما قوله في هذا الرسم إنه يخير في الجارية التي في يديه التي حملت منه إن شاء دفعها إليه بعينها ولا شيء عليه في ولده منها، وإن شاء دفع قيمتها يريد يوم الحكم فذلك له، فإنه خلاف نص ما في رسم العتق بعد هذا أن الذي بعث بها بالخيار إن شاء ردها وقيمة ولدها، وإن شاء أخذها بقيمتها، يريد ويؤدي مع ذلك قيمة ولدها. فوجه إسقاط قيمة الولد عن المبعوث إليه الجارية ردها أو رد قيمتها على ما في هذا الرسم هو أن صاحبها لما بعث بها إليه وسلطه على وطئها فقد رضي بإسقاط حقه فيما يكون في وطئه إياها من ولد. ووجه ما في رسم العتق من أن على المبعوث إليه الجارية قيمة ولدها ردها أو رد قيمتها هو أن الباعث لها مستحق لها أيضا من عند المبعوث إليه، فوجب أن يكون له قيمة ولدها(8/179)
على قول مالك الأول، واختيار ابن القاسم الذي بنى جوابه عليه في الجارية الثانية التي أمسكها المشتري لها عن صاحبها، غير أنه لما كان هو الباعث لها جعل الخيار إلى المبعوث إليه المستحقة من يده بين أن يردها وقيمة ولدها أو يعطي قيمتها وقيمة ولدها. فهذا هو وجه القول في هذه المسألة على ما في الرسمين، وبالله التوفيق.
[مسألة: أبضع معه دينارا فأنفقه ثم سلم بالذي أمره أن يشتريه فاستوجبه بدينار]
مسألة وسمعت ابن وهب وسئل عن رجل أبضع معه دينارا فأنفقه ثم سلم بالذي أمره أن يشتريه فاستوجبه بدينار ثم جعل مكان ذلك الدينار من عنده دراهم. قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه لا بأس بذلك لأنه استوجب ذلك الشيء الذي أبضع الدينار معه فيه بالدينار الذي لرب البضاعة، ثم صار فيه بائع ذلك الشيء لنفسه فلم يجب لصاحب البضاعة في ذلك خيار. ولو اشترى ذلك الشيء بدراهم وهي صرف دينار ليعود ذلك في الدينار الذي عليه لصاحب البضاعة لوجب عليه أن يعلم صاحب البضاعة بذلك، فإن أجاز ذلك له وإلا دفع إليه الدراهم التي اشترى بها ذلك الشيء وأخذ منه ديناره الذي أنفقه، على الاختلاف الذي ذكرناه في أول رسم من سماع أشهب في فساد الصرف بالخيار الذي يوجبه الحكم، وبالله تعالى التوفيق.
[يكون له عليه دينار فيخرج غريمه فيقول له رب الحق ابتع لي بمالي عليك عبدا]
ومن كتاب أوله باع شاة واستثنى جلدها. قال: وسألته عن الرجل يكون له على الرجل دينار فيخرج غريمه ذلك إلى مكان فيقول له رب الحق ابتع لي بمالي عليك عبدا فيقوم عليه فيقول قد ابتعته لك وهلك عندي أو أبق، ممن تكون مصيبته؟ قال: مصيبته من الآمر، ويكون سبيله فيما ادعى سبيل التي قبلها.(8/180)
قال محمد بن رشد: صدقه في دعواه شراء العبد وأنه هلك عنده أو أبق وإن كان الشراء بغير البلد حيث لا يجوز له الشراء، خلاف رواية ابن أبي جعفر الدمياطي عن ابن القاسم في أنه إنما يصدق في دعواه الشراء والتلف إذا كان حاضرا بالبلد حيث يجوز له الشراء، فلا يصدق في دعواه التلف حتى يقيم البينة على الشراء، ولا يصدق في أحد قولي ابن القاسم في المدونة، أعني مسألة الغراير وشبهها وإن كان في الموضع الذي يجوز له فيه الشراء، فهي قولان متضادان لا تفرقة. وإنما يصدق في دعواه هلاك العبد إذا لم يتبين كذبه مثل أن يكون في حاضرة وحيث الناس فلا يعرف أحد من أهل ذلك المكان صدق ما يدعي من ذلك. وقد مضى بيان هذا مستوفى غاية الاستيفاء في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب جامع البيوع فلا معنى لإعادته، ومضت هذه المسألة والتكلم عليها أيضا في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال.
[مسألة: أبضع إليه بدنانير يبتاع له بها جارية فقال له بائعها انقدني الثمن]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل أبضع إلى رجل من أهل طرابلس بدنانير يبتاع له بها جارية فابتاعها، فقال له بائعها انقدني الثمن، فقال له المشتري هذا رجل خارج إلى الرجل الذي اشتريتها له والدنانير في البيت فادفع إلي الجارية أسيرها الآن لا يفوتني من أحب أن أسيرها معه ثم أرجع فأقضيك، فدفع إليه البائع الجارية فسيرها إلى صاحبها ثم رجع إلى البيت ليقضي بائعها الثمن فوجد الثمن قد ضاع. قال: إن كان رجوعه في طلب الذهب عندما ابتاع نظر، فإن كانت الجارية لم تفت بحمل خير المبضع فإن أحب أن يأخذ الجارية ويغرم الثمن فذلك له، وإن أحب أن يردها ردها لأنه لم يأمره أن يشتري له على الدين ولا يضمنه ثمنين فذلك له. وإن كانت الجارية قد فاتت بحمل لم يكن للمأمور على الآمر شيء، وكان ضمان الذهب على المأمور(8/181)
ولا يضمنه ثمنين لأنه فرط. وذلك أن مالكا سئل عن رجل أبضع مع رجل في جارية بخمسين فاشتراها بستين دينارا ثم قدم فبعث بها إلى صاحبها ولم يعلمه بالزيادة، فأخذها صاحبها فوطئها فحملت منه أو لم تحمل. قال مالك: إن لم تحمل خير الآمر فإن أحب أن يدفع العشرة وتكون له الجارية فذلك له، وإن أحب أن يردها ردها وأخذ دنانيره، وإن حملت لم يكن للمبضع معه المأمور على الآمر شيء لأنه فرط. وكذلك هذه المسألة على قياس مالك. ولو أن المأمور فرط في دفع الذهب الشيء الكثير الذي يعرضه في مثله للتلف فأصيب في ذلك كان متعديا وكانت المصيبة منه ولم يكن له على الآمر قليل ولا كثير، وكانت السلعة لصاحبها؛ لأن مالكا سئل عن رجل دفع إليه مال ليدفعه إلى رجل فقدم فلم يدفعه إليه ثم زعم أنه هلك عند قدومه بما لم يكن له فيه تفريط فلا ضمان عليه، وإن كان حبسه عنده وأطال حبسه بما عرضه فيه للتلف فهو ضامن حين لم يدفعه إلى صاحبه، فكذلك مسألتك: فإذا فرط كانت المصيبة على المأمور حملت الجارية أو لم تحمل، وإذا لم يفرط خير الآمر إلا أن تفوت بحمل كما وصفت لك عن مالك في الجارية وقد فسرت لك ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة على قياس قول مالك في المسائل التي ذكرها ابن القاسم، وقد بين ذلك وأوضحه بما لا مزيد عليه. وهو بين أيضا مذهب مالك في المدونة لأنه ذكر فيها أن الثمن إذا ضاع بعد الشراء من المأمور كان الآمر بالخيار بين أن يؤدي الثمن ويأخذ السلعة، وبين أن يتركها للمأمور؛ لأنه إنما أمره أن يشتري له بذلك المال بعينه. وسكت عن ذكر التفريط في المال حتى تلف وعن ذكر التفريط بإعلام الآمر بتلف المال حتى فاتت السلعة عنده بحمل إن كانت جارية، وبالله تعالى التوفيق.(8/182)
[مسألة: يبضع بالمال مع الرجل في اشتراء رأس فيأتيه بجارية]
مسألة وعن الرجل يبضع بالمال مع الرجل في اشتراء رأس فيأتيه بجارية فيقول إنما أمرتك أن تشتري لي غلاما ويقول المبضع معه إنما أمرتني بجارية، فالقول قول من؟ قال ابن القاسم: القول قول المبضع معه ويحلف.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وقد روي أيضا عن مالك أن القول قول الآمر. واختلف في ذلك أيضا قول ابن القاسم، ذكر اختلاف قوله في ذلك أصبغ في نوازله بعد هذا، وأن قوله الأول كان القول قول الآمر، ثم رجع وقال بقول أشهب إن القول قول المأمور، واختار أصبغ قوله الأول. وسواء كان اختلافهما في صفة السلعة التي أمره بشرائها أو في صنفها ونوعها وجنسها. وكذلك لو دفع إليه سلعة يبيعها له فباعها بما يشبه من الثمن وادعى صاحب السلعة أنه أمره أن يبيعها بأكثر من ذلك مما يشبه أيضا كان القول قول المأمور إذا فاتت السلعة، وفواتها ذهاب عينها، كذلك روى يحيى عن ابن القاسم في العشرة. وإن كانت السلعة قائمة لم تفت فالقول قول الآمر. وكذلك إذا لم تفت الدنانير فاختلفا فيما أمره أن يشتري له بها كان القول قول الآمر، إلا أن فوات العين لا يتعين. وأما على القول بأنه يتعين فالقياس أن يكون القول قول الآمر إذا عرفت الدنانير بأعيانها وإن كان قد عقد بها البيع أو قبضها البائع، وسواء على مذهب ابن القاسم كان اختلافهما فيما أمره به من الشراء أو فيمن أمره أن يدفع إليه، أو ادعى المأمور أنه أمره بالشراء وقال الآمر إنما أمرته أن يدفعه إلى فلان، بدليل رواية عيسى عن ابن القاسم في المدنية أنهما إذا اختلفا فقال الآمر أمرتك بدفع البضاعة إلى فلان وقال المبضع معه بل إلى فلان، أن القول قول المبضع معه. وفرق ابن كنانة بين الوجهين فقال: إذا قال الآمر أمرته أن(8/183)
يدفع إلى فلان وقال المأمور بل أمرتني أن أدفع إلى فلان كان القول قول الآمر؛ لأن المأمور ادعى ولاية على مال. وإذا قال أمرته بشراء سلعة كذا وكذا وقال المأمور بل أمرتني بشراء كذا وكذا كان القول قول المأمور. ومثل ابن كنانة في كتاب الجرار وانظر لو قال صاحب المال أمرتك أن تشتري لي به كذا وكذا وقال المأمور بل أمرتني أن أدفعه إلى فلان فإن هذا ينبغي أن يكون القول فيه قول الآمر لأنه لم يقر أنه أمره أن يدفعه إلى أحد، فالمأمور مدع عليه في ذلك. وقد قال في رسم لم يدرك بعد هذا إنه إذا قال صاحب المال أمرتك أن تبلغه إلى أهلي وقال المأمور بل أمرتني أن أرسل به وقد فعلت، إنه يحلف على ذلك ولا يكون عليه شيء. وهو قول فيه نظر لأن الآمر لم يقر أنه أمره أن يدفعه إلى أحد، فكان القياس أن يكون القول قول الآمر مع يمينه، يحلف أنه ما أمره إلا أن يوصله هو ويضمن المأمور إن أرسل به فتلف، وبالله تعالى التوفيق.
[دفع إلى رجل مالا ليشتري له به جارية فاشتراها ثم اتخذها لنفسه]
ومن كتاب العتق وسئل عن رجل دفع إلى رجل مالا ليشتري له به جارية فاشتراها ثم اتخذها لنفسه ودفع إليه جارية أخرى فاتخذها الباعث لنفسه وأولدها، ثم تبين له بعد ذلك، شهد عليه بذلك قوم أو أقر. قال: إن كان تأول فرأى أن يأخذها لنفسه ويعطيه غيرها ولم يطأها على وجه الزنا درئ عنه الحد ولحق به الولد، وكان الذي اشتريت له مخيرا بين أن يأخذ جاريته وقيمة الولد أو يسلمها إليه بقيمتها. وأرى في الجارية التي بعثها إليه أن الذي بعثها إليه بالخيار إن شاء أخذها بقيمتها وإن شاء ردها ورد قيمة ولدها، وذلك إذا ثبت على ذلك كله في الأول والآخر بينة فإن لم يكن له بينة لم يقبل قوله على شيء من ذلك وكانتا أمي ولد للأول والآخر، إلا أن الأول يغرم فضلا إن كان فيها على قيمة ما دفع. قلت: أرأيت إن كانت هذه الذي بعث بها لم تحمل، أيخير أيضا(8/184)
أو كانت أكثر ثمنا من الأخرى؟ قال: نعم. وقد قال في كتاب القطعان إنه يخير في جاريته وقيمة ولدها أو قيمتها وقيمة ولدها. وأما الجارية التي أعطاه فإن شاء ردها بعينها ولا شيء عليه في ولدها منه، وإن شاء دفع إليه قيمتها فقط.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم القطعان لتكررها فيه وبينا هناك أن الخلاف في المسألة فيما بين الرسمين إنما هو في الجارية التي بعثها المبضع معه إلى صاحب البضاعة فاتخذها وولدت منه، هل يكون مخيرا بين أن يردها وقيمة ولدها أو يعطيه قيمتها وقيمة ولدها؟ أو هل يكون مخيرا بين أن يردها عليه ولا يكون عليه شيء في ولدها أو يعطيه قيمتها ولا يكون عليه شيء في ولدها أيضا؟ وأما الجارية التي أمسكها المبضع معه فاتخذها وولدت منه فصاحبها مخير بين أن يأخذها وقيمة ولدها وبين أن يأخذ قيمتها وقيمة ولدها وبين أن يسلمها إليه بقيمتها يوم وطئها ولا يكون له شيء في ولدها على ما في الرسمين جميعا بالتأويل الصحيح الذي قد بينا وجهه، خلاف ما كان يذهب إليه من لقينا من الشيوخ من حمل هاتين الروايتين على ظاهرهما من الخلاف، وذلك ما لا وجه له يصح على ما بيناه في رسم القطعان، وبالله تعالى التوفيق.
[بعث معه ببضاعة يبلغها إلى أهله وقال المدفوع إليه إنما دفعها لأرسلها]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام وقال في رجل ادعى قبل رجل أنه بعث معه ببضاعة يبلغها إلى أهله فزعم المدفوع إليه أنه إنما دفعها إليه ليرسلها وقد أرسلها. قال: يحلف بالله أنه على ذلك أخذها وقد أرسلها ولا شيء عليه.
قال محمد بن أحمد: هذه مسألة فيها نظر، والقياس الذي يوجبه النظر فيها أن يكون القول قول الباعث لأنه لم يقر للمدفوع إليه بما ادعى(8/185)
عليه من أنه دفعها إليه ليرسل بها. وقد مضى هذا في رسم باع شاة، وبالله تعالى التوفيق.
[بعث إلى أخ له يشتري له جارية فاشتراها ثم بعث بها إليه]
ومن كتاب أوله سلف دينارا في ثوب وقال في رجل بعث إلى أخ له يشتري له جارية فاشتراها ثم بعث بها إليه إنها إن كانت مع ثقة فلا بأس أن يطأها إذا جاء بها إن كانت قد حاضت. قال: وإن لم تكن مع ثقة فلا يطؤها حتى يستبرئها. قال عيسى: وهذا إذا لم تحض بعد الاشتراء، فأما إذا حاضت بعد الاشتراء فلا استبراء عليه. وقد قال في كتاب أسد: لا يطؤها صاحبها إلا بعد الاستبراء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها إشكال والتباس. والذي يتحصل عندي فيها أن الجارية إن كانت حاضت عند الذي اشتراها قبل أن بعث بها إلى صاحبها ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها، أنه لا استبراء على صاحبها بحال، وهو قول عيسى: والثاني، أن عليه الاستبراء على كل حال، وهو الذي في كتاب أسد؛ والثالث، الفرق بين أن يكون المبعوث معه ثقة أو غير ثقة. وأما إن لم تحض إلا في الطريق ففي ذلك قولان: أحدهما، أن عليه الاستبراء على كل حال، والثاني، الفرق بين أن يكون المبعوث معه ثقة أو غير ثقة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبضع مع الرجل في جارية بمائة دينار فيطأها]
مسألة وقال في الرجل يبضع مع الرجل في جارية بمائة دينار فيزيد من عنده ثم يبعث بها إليه أو يدفعها إليه فوطئها، إنه إن كانت الجارية لم تفت فهو بالخيار إن شاء رد وإن شاء غرم الذي زاد إلا أن يكون الذي زاد الشيء اليسير فيلزمه ذلك، وإن فاتت لم يكن للمشتري على صاحب الجارية قليل ولا كثير. قلت: فيصدق في(8/186)
الزيادة بقوله أم ببينة؟ قال: يصدق بقوله.
قال محمد بن رشد: قوله: فإن فاتت لم يكن للمشتري على صاحب الجارية قليل ولا كثير، يريد أن الجارية إن فاتت عند صاحبها بحمل أو عتق لم يكن للمشتري عليه من الزيادة الكثيرة التي زادها على ما أمره به قليلا ولا كثير. وأما الزيادة اليسيرة فهي للمشتري واجبة عليه وإن فاتت بموت على ما في المدونة وعلى ما تقدم في رسم العرية من سماع عيسى، خلاف ما في المدنية. وقد أبعد من قال إن ظاهر هذه الرواية مثل ما في المدنية من أن الزيادة اليسيرة لا تكون للمشتري إلا إذا أصيب الرأس فتلف: وحسب الآمر أن يخسر ما أعطى، وحسب المأمور أن ينجو من الضمان، وهو استحسان. والذي في المدونة والعتبية هو القياس الذي يوجبه النظر.
وقوله: إنه يصدق في الزيادة بقوله هو مثل ما تقدم في رسم العرية، قيل بيمين وقيل بغير بيمين. وقد مضى هناك وجه الاختلاف في ذلك. وسواء كانت الزيادة قليلة أو كثيرة هو يصدق فيها، فإن كانت يسيرة أخذها بقوله، وإن كانت كثيرة كان صاحب البضاعة بالخيار بين أن يأخذ الجارية بالزيادة أو يدعها كما لو قامت بها بينة سواء.
[مسألة: أبضع معه ببضاعة مائة دينار في سلعة فاشتراها ثم باعها بعشرين ومائة]
مسألة وقال في رجل أبضع معه ببضاعة مائة دينار في سلعة فاشتراها ثم باعها بعشرين ومائة ثم اشترى بالعشرين ومائة سلعة فباعها فنقص. قال: هو ضامن للعشرين ومائة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن العشرين ومائة ثمن سلعة صاحب البضاعة فله أن يأخذها، والمبضع معه متعد في اشتراء السلعة(8/187)
الأخرى بالعشرين ومائة، فوجب أن يكون ضامنا لما نقص فيها، وبالله التوفيق.
[يوكل وكيلا على تقاضي ديونه ويفوض إليه النظر فيها]
من نوازل سئل عنها عيسى بن دينار وسئل [عيسى] عن الرجل يوكل وكيلا على تقاضي ديونه ويفوض إليه النظر فيها، هل يجوز للوكيل أن يصالح فيها عنه إن كان الصلح من النظر له؟ فقال: لا، حتى يفوض إليه المصالحة، فعند ذلك تجوز مصالحته ووضيعته عن الغرماء إذا كان ذلك من النظر. قيل: فإن لم يفوض المصالحة فوجد الوكيل غريما من غرماء الموكل عديما فيدعوه إلى المصالحة ببعض ما عليه ويضع عنه [ما بقي. فيفعل ذلك الوكيل، أو يصالح عن الغريم بعد موته ببعض ما كان عليه ويضع عنه] سائر ذلك. قال: كل ذلك لا يلزم الموكل إلا إن شاء، فإن أبى جاز له ما أخذ واتبع ذمة الغريم فيما بقي.
قيل له: فلو كان الذين صالحوا الوكيل عن الغريم إنما صالحوه بأموالهم على أن يبرأ الغريم مما عليه، فلما أبى ذلك الموكل ولم يجزه أرادوا أن يرجعوا بما أعطوه من أموالهم في الصلح؟ قال: ذلك لهم إلا أن يشاء الموكل أن يمضي ذلك الصلح، فإن أبى رد إليهم ما أعطوا واتبع ذمة غريمه بجميع حقه.
قيل: فلو كانوا حين صالحوا الوكيل بأموالهم شرطوا عليه(8/188)
أنه إن لم يمض ذلك الذي وكله فنحن راجعون في أموالنا؟ قال؛ هذا لا يجوز؛ لأنه يعد سلفا يجر منفعة إذا عجلوا للوكيل ما صالحوه به من أموالهم ونقدوه إياه؛ لأنهم كأنهم قالوا له: خذ من أموالنا سلفا تنتفع به وأخر صاحبنا بما عليه إن كان حيا واترك كشف ورثته عما ورثوا عنه إن كان ميتا حتى يقدم صاحبك، فإن جوز الصلح مضى ذلك لنا، وإن لم يجوزه رددت إلينا أموالنا، فذلك لا يجوز؛ لأنه سلف جر منفعة. وهذا الصلح يفسخ على كل حال ويرد إلى القوم ما لهم يبتدئون الصلح صحيحا إن شاءوا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الوكيل على اقتضاء الدين وإن فوض إليه النظر في ذلك لا يجوز له مصالحة غريم من الغرماء وإن كان ذلك من النظر للموكل حتى يفوض إليه المصالحة صحيح؛ إذ لا يقتضي تفويض النظر إليه فيما وكل عليه من اقتضاء الديون المصالحة فيها وإن كان ذلك من النظر له؛ إذ ليس للوكيل أن يتعدى في وكالته ما سمي له ويتجاوز ذلك إلى ما لم يسم له. وقد مضى بيان هذا في رسم أسلم من سماع عيسى، وأن هذا ليس بخلاف له كما زعم بعض الناس بما لا مزيد عليه.
وفي قوله: قيل: فإذا لم يفوض إليه المصالحة فوجد الوكيل غريما من غرماء الموكل عديما فيدعوه إلى المصالحة ببعض ما عليه ويضع عنه ما بقي فيفعل ذلك الوكيل أو يصالح عن الغريم بعد موته ببعض ما كان عليه ويضع عنه سائر ذلك، قال: ذلك لا يلزم الموكل إلا إن شاء نظر؛ لأن هذا لا ينبغي أن يلزم الموكل وإن فوض إليه المصالحة؛ لأن المصالحة لا تجوز عليه وإن فوض أمرها إليه إلا على وجه النظر، ولا نظر في ذلك للموكل، إذ لا حاجة له إذا وجده عديما إلى أن يقتضي منه بعض ما عليه ويضع عنه بقيته؛ لأنه قادر على أن يقتضي منه ما وجد عنده ويؤخر ببقيته، اللهم(8/189)
إلا أن يخفي ما له أو يدعي العدم فيكون لمصالحته وجه من النظر. وقد يكون له أمهات أولاد ومدبرون لهم أموال وهو غريم فيصالحه على أن ينتزع من أموالهم ما يصالح به عن نفسه على حط بعض دينه فيكون لذلك أيضا وجه من النظر. فإن صالحه الوكيل على وجه من هذه الوجوه ولم يجعل إليه الصلح لم يلزم الموكل ذلك إلا إن شاء، فإن أبى جاز له ما أخذ واتبع ذمة الغريم بما بقي له من حقه عليه كما قال. وأما إذا صالح الوكيل أحد عن الغريم من ماله فلم يجز الموكل الصلح فله أن يرجع بما دفع من ماله؛ لأنه إنما رضي بدفعه على أن يحط عن الغريم ما وقع الصلح على حطه، فإذا لم يحط عنه كان له الرجوع فيما صالح به من ماله. ولهذا نظائر كثيرة، منها مسألة كتاب المكاتب من المدونة في القوم يعينون المكاتب في كتابته ليفكوا جميعه من الرق فلا يكون فيما أعانوه به وفاء لكتابته أن لهم أن يرجعوا فيما أعانوه به، إلا أن يجعلوا المكاتب من ذلك في حل؛ ومن ذلك مسألة الرجل يقتل الرجلين عمدا فيصالح أولياء أحد القتيلين ويعفو عن دمه ويأبى أولياء القتيل الآخر إلا الاستقادة منه أن له أن يرجع فيما صالح به؛ لأنه إنما صالحهم للنجاة من القتل، فإذا لم يتم له ما بذل عليه ماله كان له الرجوع فيه. روى ذلك يحيى عن ابن القاسم في كتاب الدعوى والصلح وكتاب الديات. وأما إن شرط الذين صالحوا الوكيل عن الغريم من أموالهم أن يرجعوا بما صالحوا به إن لم يجز ذلك الموكل فهو صلح فاسد كما قال؛ لأنه سلف يجر منفعة، فلا يجوز باتفاق، ويفسخ وإن جاء الموكل فأمضاه؛ لأنه انعقد على فساد. وأما إن صالحوا الوكيل وهم يظنون أنه قد فوض إليه الصلح فالصلح جائز باتفاق، فإن جاء الموكل فأنكر أن يكون فوض إليه الصلح فرده ولم يجزه رجعوا في أموالهم. وأما إن صالحوه ولم يشترطوا شيئا وقد علموا أنه لم يفوض إليه أمر الصلح، فظاهر الرواية أن الصلح جائز إلا أن يرده الموكل فيرجعوا بما صالحوا به من أموالهم، وفي جوازه اختلاف لأنه صلح انعقد وللوكيل الخيار في إبطاله، إلا أنه خيار يوجبه الحكم لم ينعقد عليه الصلح، فيجوز ذلك على الاختلاف في فساد الصرف بالخيار الذي يوجبه(8/190)
الحكم دون أن ينعقد عليه. وقد مضى ذلك في أول رسم من سماع أشهب وغيره [وبالله التوفيق] .
[مسألة: يوكل وكيلا على طلب عبد له أبق أو مستألف له فأدركه في يد مشتري]
مسألة وسئل عن رجل يوكل وكيلا على طلب عبد له أبق أو مستألف له فأدركه في يد مشتري، فأراد أن يقيم البينة أنه للذي وكله، أيمكن من ذلك ويقضى له؟ قال: لا يمكن من ذلك حتى يشهد الذين شهدوا له بالوكالة بطلبه أو غيرهم أنه وكل على الخصومة فيه أيضا؛ لأن الرجل قد يوكل على طلب العبد الآبق ولا يوكل على الخصومة فيه.
قيل: فإن أقام البينة على أنه موكل على الخصومة فيه، أيمكن من إيقاع البينة على أنه للذي وكله لا يعلمونه باع ولا وهب؟ قال: لا يمكن من ذلك حتى تشهد البينة أنه وكله على طلب هذا العبد والخصومة فيه وأنه هو العبد بعينه، فحينئذ ينتفع بمن شهد له على أن العبد للذي وكله وأنهم لا يعلمونه باع ولا وهب ولا خرج من يده بما تخرج به الأشياء من أيدي أهلها؛ لأنه قد يكون للرجل العبد فيبيعه ثم يكون له الآخر فيأبق، فلعل هذا العبد قد باعه سيده وليس هذا الذي أبق منه.
قيل: فإذا شهدوا على الذي ذكرت، أيحلف الوكيل كما يحلف السيد أنه ما باع ولا وهب؟ قال: لا يحلف الوكيل ولكن ينظر السلطان في غيبة الموكل، فإن كانت غيبته قريبة أمر أن يؤتى به حتى يحلف، وإن كانت غيبته بعيدة كتب إلى إمام بلده(8/191)
بالذي عنده لصاحب العبد، وأمره في كتابه أن يحلفه عنده أنه ما باع ولا وهب. فإذا أتاه جواب كتابه قضى به للوكيل.
قيل له: فإن كان الموكل قد مات؟ قال: قد انفسخت وكالة الوكيل. قيل له: فإن كان وكله الورثة أيضا؟ قال: فعليهم أن يحلفوا بالله أنهم لا يعلمون صاحبهم باع ولا وهب إن كانوا قد بلغوا الحلم أو من بلغه منهم.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا وكل الوكيل على طلب عبد له أبق فأدركه في يد مشتري إنه لا يمكن من إيقاع البينة على أنه للذي وكله حتى يقيم البينة أنه وكل على الخصومة فيه صحيح على ما تقدم في المسألة قبلها من أنه ليس للموكل أن يتعدى ما وكل عليه ويتجاوزه إلى غيره. وأما قوله: إنه لا يمكن من ذلك حتى يقيم البينة على أنه وكل على طلب هذا العبد بعينه والخصومة فيه، فإن هذا قد يتعذر، إذ لا يمكن أن يمشي لطلب العبد بالشهود الذين يعرفون العبد بعينه وأشهدهم السيد على أنه وكله على طلبه والخصومة فيه ليشهدوا له على عينه حيثما وجده. وإن اتفق أن يجدهم حيث وجد العبد فنادر لا يبنى عليه. فوجه العمل في ذلك أن يكتفى فيه بالصفة. وسيأتي بيان هذا في آخر سماع سحنون بعد هذا. فإذا أشهد له أنه قد وكله على طلب العبد الذي من صفته كذا وكذا والخصومة فيه أثبت ذلك عند قاضي بلده وخاطب له بذلك إلى حيث يرجو وجود العبد فيه من البلاد، فإذا ألفى العبد على الصفة الموصوفة يمكن من إيقاع البينة عليه أنه للذي وكله ولا يعلمونه باع ولا وهب. فإذا أثبت ذلك قضي له به بعد يمين سيده الموكل له على ما ذكر. وقال عيسى في هذه الرواية: إنه لا يقضى له به حتى يحلف وإن كان بعيد الغيبة، خلاف قوله في رسم حمل صبيا من سماع عيسى في الوكيل على قبض الدين يدعي الذي عليه الدين أنه قد قضى صاحب الحق بعض الدين إنه يقضى له بجميع الدين عليه إلا أن تكون له بينة على ما ادعى من القضاء ولم يؤخر إلى لقي صاحبه. ففرق بعض الناس بين المسألتين، وهو الأظهر الذي يعزى إلى(8/192)
ابن القاسم؛ لأن اليمين في الاستحقاق من تمام الشهادة لا يتم الحكم إلا بها. ويمين صاحب الدين ما اقتضى من ديونه شيئا لا يجب إلا بدعوى الغريم أنه قد قضى. وذهب ابن أبي زيد إلى أنه يقضى في استحقاق الحيوان لوكيل الغائب إذا بعدت غيبته وترجا يمينه إلى أن يقدم أو يكتب القاضي إلى قاضي موضعه فيحلفه، وهو قول أصبغ في الواضحة، وإليه ذهب ابن كنانة.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها، أنه لا يقضى له في المسألتين جميعا حتى يحلف، والثاني، أنه يقضى له فيهما جميعا ويؤخر يمينه حتى يكتب إلى قاضي موضعه يحلفه، والثالث، الفرق بين المسألتين. وفي المسألة قول رابع أن الوكيل يحلف في المسألتين ما علمه باع ولا وهب ولا اقتضى من حقه شيئا ويقضى له. وقد مضى هذا في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من هذا الكتاب وفي رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الأقضية، [وبالله التوفيق] .
[مسألة: يوكل وكيلا على خصومة أو قيام بضيعة أو تقاضي دين]
مسألة وسئل عيسى عن رجل يوكل وكيلا على خصومة أو قيام بضيعة أو تقاضي دين أو على وجه من الوجوه كلها، فيريد الوكيل أن يوكل غيره على ما وكل عليه هو من ذلك في حياة الوكيل أو عند موته، أيجوز هذا؟ قال: لا يوكل وكيل الأحياء على مثل ما وكل عليه أحدا غيره، وإنما يجوز ذلك للوصي أن يوكل في حياته وعند موته.
قال محمد بن رشد: قوله: إن من وكل على خصومة أو قيام بضيعة أو تقاضي دين أو وجه من الوجوه كلها فليس له أن يوكل على(8/193)
ذلك أحدا في حياته ولا عند وفاته صحيح، لا اختلاف فيه أحفظه في أن الوكيل على شيء مخصوص لا يجوز له أن يوكل، وهو قوله في السلم الثاني من المدونة وفي رسم الأقضية من سماع يحيى بعد هذا وفي غير ما موضع. واختلف إن فعل هل يضمن أم لا؟ فقال في رسم الصبرة من سماع يحيى بعد هذا إنه ضامن إن خرج المال من يده إلى من وكله إلا أن يكون ممن لا يلي مثل ذلك بنفسه وقد عرف بذلك الذي وكله فلا ضمان عليه. وأما إن لم يعرف بذلك الذي وكله فهو ضامن وإن كان ممن لا يلي ذلك بنفسه. وهذا في غير المشهور أنه ممن لا يلي مثل ذلك بنفسه؛ لأن رضاه بالوكالة يدل على أنه المتولي حتى يعلم رب المال أنه لا يتولى. وهو في غير المشهور محمول على أنه لم يعلم حتى يعلم أنه قد علم. وأما المشهور بأنه لا يتولى ذلك بنفسه فلا ينبغي أن يضمن؛ لأن الموكل يحمل على أنه قد علم ولا يصدق أنه لم يعلم. وقد قال بعض العلماء: إن وكيل الوكيل إذا صنع ما يصنع الوكيل ولم يتعد في شيء إن ذلك جائز، يريد ولا يضمن الذي وكله. وقال أشهب: إذا كان مثله في الكفاية فلا ضمان عليه. وأما الوكيل المفوض إليه في جميع الأشياء فلا أحفظ في هل له أن يوكل أم لا قولا منصوصا عند العلماء المتقدمين، وقد كان الشيوخ المتأخرون يختلفون في ذلك، والأظهر أن له أن يوكل؛ لأن الموكل قد أنزله منزلته وجعله بمثابته.
وقوله: وإنما يجوز ذلك للوصي أن يوكل في حياته وعند موته هو نص قول مالك وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم فيه. وإنما اختلفوا في الوصيين أو الأوصياء المشترك بينهم في الإيصاء، هل لأحدهم أن يوصي بما إليه من الوصية أم لا على ثلاثة أقوال، أحدها، أن له أن يوصي إلى من معه في الوصية وإلى من ليس معه في الوصية. وقد أتت بذلك الرواية عن مالك، وهو ظاهر قوله في المدونة لأنه أطلق القول بأن له أن يوصي(8/194)
ولم يخص موضعا من موضع ولا حالا من حال، وهو ظاهر قول عيسى هذا وقول يحيى بن سعيد في الوصايا الأول من المدونة، والثاني، أنه ليس له أن يوصي إلى من معه في الوصية ولا إلى من ليس معه في الوصية، وهو ظاهر قول سحنون في رسم المكاتب من سماع يحيى بعد هذا. ووجه القول أن الوصيين لا يجوز لأحدهما أن ينفرد بفعل شيء من الأشياء دون صاحبه؛ والقول الثالث، أنه ليس له أن يوصي إلا إلى شريكه في الإيصاء، وهو الذي كان الشيوخ يتأولونه على سحنون في قوله في المدونة. ووجه ذلك أنه إذا أوصى لشريكه في النظر فقد شاركه في فعله، وهذا أضعف الأقوال. وأصحها وأولاها بالصواب قول مالك وقول يحيى بن سعيد في إجازة ذلك إجازة مطلقة، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: وكل على اشتراء سلعة فاشتراها فقال الموكل اشتريتها بشرط كذا وكذا وهو مما يفسخ البيع]
مسألة قيل لعيسى: أرأيت من وكل على اشتراء سلعة فاشتراها، فقال الموكل: اشتريتها بشرط كذا وكذا، وهو مما يفسخ البيع، فيقول الموكل: ما أمرتك بذلك وأنت كاذب فيما تقول، وإنما تريد فسخ ما ثبت لي شراؤه، ويدعي ذلك البائع مع الوكيل وليس على الشرط بينة. قال: أرى على الوكيل اليمين بالله أنه على ذلك اشتراها ويكون القول قوله ثم يفسخ البيع بينهما إن كان حراما، وإن كان مكروها قيل للبائع: إن شئت فافسخ الشرط وأجز البيع، وإن شئت فارتجع سلعتك، وذلك ما لم تفت، فإن فاتت كان العمل فيها كما وصفت.
قيل: أرأيت لو كان هذا الوكيل ادعى اشتراء هذه السلعة لنفسه وأنه قد كان فسخ وكالة الموكل عن نفسه وأقر بهذا الشرط. قال: سبيلها سبيل الأول إذا أقر بهذا الشرط عند ادعائه اشتراءها لنفسه. فأما لو ادعى اشتراءها لنفسه ولم يذكر الشرط فلما لم يجز(8/195)
اشتراؤها لنفسه وصارت للذي وكله زعم أنه اشتراها بشرط يفسخ البيع فقوله باطل والسلعة للموكل بلا شرط، ولا يحلف الوكيل ويكون القول قوله في الشرط كما حلف في التي فوق هذا؛ لأنه ههنا قد أراب واتهم على الكذب حين ادعاها لنفسه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الوكيل أقر للبائع بما ادعاه من فساد البيع عند دفع السلعة إلى الموكل أو بعد دفعها إليه، أو ذكر ذلك حينئذ وصدقه البائع. وأما لو أنكر ذلك البائع وادعى صحة البيع لوجب أن يكون القول قوله، وذلك بين في الرواية من قوله ويدعي ذلك البائع. فإذا أقر الوكيل بفساد البيع للبائع عند دفع السلعة إلى الآمر أو بعد دفعها إليه على ما ذكرناه لم أر أن يفسخ البيع إلا بعد يمين الوكيل أنه اشتراها شراء فاسدا؛ لأنه يتهم على إبطال البيع لما تعلق بذلك من حق الآمر، فإن نكل عن اليمين لم يكن للبائع سبيل إلى نقض البيع بما ادعاه من فساده إلا أن يقيم البينة على ذلك، وينظر إلى قيمة السلعة، فإن كانت أكثر من الثمن غرم ذلك الوكيل للبائع؛ لأنه أتلف عليه السلعة بنكوله عن اليمين. ورأيت لبعض أهل النظر أنه قال: يمين الوكيل ههنا ضعيفة، واليمين على البائع أقوى أنه باع بيعا فاسدا. ولعمري إن لقوله وجها من النظر؛ لأنهما قد تقارا جميعا على فساد البيع فوجب نقضه بعد أن يستظهر على البائع باليمين من أجل اتهام الوكيل في تصديقه لما تعلق بذلك من حق الآمر، فإذا حلف البائع على هذا وفسخ البيع كان للآمر أن يحلف الوكيل على إقراره للبائع بفساد البيع؛ لأنه يقول له: أتلفت علي السلعة بذلك. فإن حلف برئ، وإن نكل عن اليمين غرم له ما زادت قيمة السلعة على الثمن، فإن لم يكن في ذلك فضل لم يجب له عليه يمين.
ولو قال قائل: إن البيع يفسخ دون أن يحلف واحد منهما لتقاررهما على فساده، ثم يحلف الوكيل للآمر إن كان في قيمة السلعة فضل عن الثمن لكان وجه القياس والنظر. وقال مطرف وابن الماجشون في الواضحة مثل قول عيسى بن دينار إذا ادعى الوكيل ذلك عند دفع السلعة، وأما إذا(8/196)
ادعاه بعد دفع السلعة فلا يقبل قوله في نقض البيع ويغرم تمام القيمة للبائع.
وقوله: وإن كان مكروها قيل للبائع: إن شئت فافسخ الشرط وأجز البيع، وإن شئت فارتجع سلعتك وذلك ما لم تفت، يريد بالمكروه مثل أن يبيع على أن تتخذ أم ولد أو على ألا يخرج بها من البلد، أو على ألا يبيع ولا يهب وما أشبه ذلك من الشروط التي تقضي التحجير على المشتري فيما اشترى، وهي البيوع التي يسمونها بيوع الثنيا، فهذه البيوع هي التي يكون الحكم فيها على ما ذكره في المشهور في المذهب من أن البيع يفسخ إلا أن يرضى البائع بترك الشرط وتسليم البيع للمبتاع بغير شرط، فإذا أبى البائع إلا ارتجاع سلعته حلف الوكيل أنه اشتراها على هذا الشرط، فإن حلف أخذ البائع سلعته، وإن نكل عن اليمين لم يكن للبائع إلى أخذ السلعة سبيل إلا أن يقيم البينة على ما ذكره من الشرط، وغرم له الوكيل ما زادت القيمة على الثمن، وذلك بين على ما قاله في البيع الحرام. وقوله: فإذا فاتت كان العمل فيها كما وصفت، يريد كان العمل فيها على قياس ما وصفت. والذي يوجبه الحكم فيها على قياس ما وصف أن ينظر، فإن كانت قيمتهما أكثر من الثمن حلف الوكيل وكان على الموكل تمام القيمة، وإن نكل عن اليمين غرم هو للوكيل تمام القيمة للبائع. واختلف بما تفوت هذه البيوع، فقيل: إنها تفوت بما يفوت به البيع الفاسد من حوالة الأسواق فما فوق ذلك، وقيل بالنماء والنقصان. وقد قيل في البيع على شيء من هذه الشروط إنه بيع فاسد يفسخ على كل حال في القيام، وتكون فيه القيمة بالغة ما بلغت في الفوات؛ وقيل: إن البيع لا يفسخ إلا أن يأبى البائع ترك الشرط، فإن فاتت رجع البائع على المبتاع بقدر ما نقص من الثمن بسبب الشرط.
وقوله: قيل: أرأيت لو كان هذا الوكيل ادعى اشتراء هذه السلعة لنفسه إلى آخر قوله بين لا إشكال فيه. وفي قوله فيه: فلما لم يجز له(8/197)
اشتراؤها لنفسه دليل على أنه ليس له أن يفسخ الوكالة عن نفسه، وهو قول ابن القاسم وأصبغ في الثمانية إنه من وكل على شراء سلعة فاشتراها وقال: إنما اشتريتها لنفسي بعد أن فسخت الوكالة عني لم يكن ذلك له وكانت السلعة للآمر إلا أن يعلمه قبل أن يشتريها أنه لا يشتريها له وإنما يشتريها لنفسه. وقد قيل: إن السلعة تكون له وإن لم يتبرأ إليه من وكالته إياه إذا أشهد قبل شرائها أنه يشتريها لنفسه. وقع هذا القول في الثمانية. وروى محمد بن يحيى السبائي عن مالك أن السلعة تكون له إذا زعم أنه اشتراها لنفسه وإن لم يشهد على ذلك قبل الشراء، ويحلف على ذلك إذا اتهم. وبالله التوفيق.
[مسألة: يبيع لامرأته متاعا بإذنها ووكالتها ثم يموت فتدعي عدم قبض الثمن]
مسألة وقال في رجل يبيع لامرأته متاعا بإذنها ووكالتها يعرف ذلك ثم يموت فتدعي بعد موته أنها لم تقبض منه ثمن ما باع، فقال: لا أرى لها شيئا إلا أن يكون في ورثته من قد بلغ فيحلف أنها ليست باقية.
قال محمد بن رشد: قوله لا أرى لها شيئا هو على القول بأن القول قوله مع يمينه لقد دفع إليها إذا ادعت أنه لم يدفع إليها؛ لأن اليمين اللازمة له تسقط بموته. ومعناه عندي إذا لم يكن ذلك بحدثان ما قبض إذ لم يعلم دعواه الدفع فيسقط اليمين بموته. وقوله إلا أن يكون في ورثته من قد بلغ فيحلف أنها ليست باقية، يريد في علمهم، إذ ليس تلزمهم اليمين في ذلك إلا على العلم. وقد مضى تفصيل الخلاف في هذه المسألة في رسم حلف من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[امرأة بكر وكلت رجلا على خصومة حتى قضي له فتصدقت عليه أترجع في صدقتها]
من سماع يحيى بن يحيى
من ابن القاسم من كتاب الكبش
قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن امرأة بكر وكلت رجلا(8/198)
على الخصومة لها في منزل لها ولأشراك لها، فخاصم حتى قضي له، فتصدقت البكر عليه بناحية من حظها من المنزل ثم بدا لها في الصدقة وقالت صنعت ما لا يجوز لي وما عرفت الذي تصدقت به، أيجوز لها الرجوع في الصدقة؟ قال نعم، أرى أن صدقتها غير جائزة، وتوكيلها إياه كان غير جائز؛ لأن البكر لا تلي مثل هذا من أمرها، إنما يليه عليها وصي أو من يوكله السلطان بالنظر لها. قلت: أرأيت إذا فسخت صدقاتها إن أراد الوكيل أن يأخذها بأجرته فيما قام لها به وسعى لها من الخصومة عنها، أيكون له أجرة مثله عليها في جميع شخوصه؟ وذلك أنه يقول لم أقدر على الخصومة لك دون أشراكك، وإنما خاصمت بأمرك ولما رجوت من فضلك فلا آخذ لجميع أجرتي غيرك إذا رجعت في صدقاتك. قال: لا أجرة له عليها فيما استخرج من غير حقها، وإنما يقضى له عليها بقدر ما يصير على حظها من أجرته إذا قسم ذلك على جميع الورثة بقدر ما لكل وارث من الميراث، فيعطيه من أجرته على الخصومة عنهم أجمعين بقدر ما أدخل عليها من الرفق دونهم، ولا شيء عليها فيما كان ينوبهم من الأجرة، مثل ما لو كانوا آجروه معها، ولا شيء له عليهم أيضا لأنهم لم يستأجروه. فإن كانوا وكلوه معها فكان قيامه لها ولهم بأمرهم أجمعين فالأجرة له عليها وعليهم تقسم عليهم على قدر مواريثهم من القرية التي استحق لهم.
قلت: ولم ألزمتها غرم الأجرة على قدر حظها وأنت لا ترى توكيلها إياه جائزا؟ قال: على وجه الاستحسان لذلك لما أدخل عليها من المرفق، ولو لم يقض له بشيء ما رأيت له عليها شيئا ولا يطلب عناه لأن مثلها لا يجوز توكيلها.(8/199)
قلت: فلم لا يلزمها أجرته فيما استخرج من حظوظ اشراكها وقد أدخل عليهم من المرفق مثل الذي أدخل عليها؟ قال: لأن توكيلها لا يجوز عليهم، وهم لم يوكلوها فيلزم ذلك في أموالهم، فلا أرى أن يلزمها من الأجرة إلا قدر ما أدخل عليها من المرفق.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنها وكلته على أن يخاصم عنها وعن أشراكها في المنزل الذي بينهم ولم يواجبها في ذلك على جعل معلوم ولا على أجرة، فخاصم بوكالتها إياه على ذلك رجاء ثوابها عليه. فلما خاصم إلى أن قضي له بالمنزل تصدقت عليه بناحية من حظها ثوابا له على خصامه عنها، ثم قامت وأرادت الرجوع في ذلك، فرأى لها الرجوع في الصدقة من أجل أنها مولى عليها، وأوجب له عليها مقدار حظها من أجرة مثله على قدر عنائه وشخوصه استحسانا، إذ كان القياس أن لا يكون له عليها شيء من أجل أنها لا تلي مثل هذا من أمورها، وأن ما ولته من ذلك موقوف على نظر وليها إن كان لها ولي أو نظر السلطان إن لم يكن لها ولي، فإن وأي في ذلك وجه نظر لها أجازه، وإن لم ير لها في ذلك وجه نظر رده. وهذا في العقد الجائز. وأما في هذه المسألة فليس فيها إلا الرد؛ لأنه عقد فاسد. وإذا بطل الجعل عنها وكان له الحظ إذ قد وجب لها. ووجه الاستحسان في ذلك أنها لما خاصم عنها رجاء ثوابها بعد أن وكلته على ذلك أشبه الجعل الصحيح أو الإجارة الصحيحة؛ لأن المنحة على الثواب بيع من البيوع، فوجب أن يكون له ثواب عمله وهو قيمته. ولو جاعلته على استخراج حظها بجعل معلوم على مذهب من يجيز الجعل في الخصام على أنه إن أفلح استحق جعله وإن لم يفلح لم يكن له شيء، فخاصم حتى قضي له فأراد وليها رد ذلك من فعلها لتخرج ذلك على قولين: أحدهما أنه ليس له أن يرده بعد أن قضي له، كما ليس له أن يرده قبل أن يقضى له؛ لأنها فعلت من ذلك ما هو وجه نظر وما لو لم تفعله لفعله الولي. والثاني أن له أن يرده بعد أن قضي له وإن(8/200)
كان له أن يرده قبل أن يقضى له؛ لأن حظها من المنزل قد استوجبته بالقضاء رد الولي ذلك من فعله أو أمضاه. فإسقاط الجعل عنها بالرد خير لها من إمضائه عليها بالإجارة. وهذا مبني على الاختلاف في السفيه يفعل ما هو وجه نظر فلا ينظر فيه الوصي حتى يكون رده هو وجه النظر هل له أن يرده أم لا؟ وقد مضى الاختلاف في هذا في رسم الصبرة من سماع يحيى من كتاب التخيير والتمليك وفي نوازل أصبغ من كتاب المديان والتفليس. ولو استأجرته على الخصام عنها في ذلك الحظ من المنزل أمدا معلوما بأجر معلوم لكان لوليها أن يرد ذلك من فعلها قبل أن يقضى له به وبعد أن يقضى له؛ لأن من حجته أن يقول قبل القضاء أنا لا أجيز لها الاستئجار على ذلك لأن المجاعلة خير لها، وهذا على القول بإجازة المجاعلة على الخصام؛ وأما على القول بأن المجاعلة على الخصام لا تجوز فليس له أن يرد استئجارها قبل أن يقضى له، وإنما له ذلك بعد أن يقضى له على الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك.
وقول: إنه لا أجرة له عليها فيما استخرج من حق غيرها صحيح، إذ لم تستأجره على أن يخاصم عنها وعنهم بإجارة معلومة ولا هي مالكة أمر نفسها، وإنما وكلته على المخاصمة عنها وعنهم وهي مالكة أمر نفسها فخاصم رجاء ثوابها على ذلك، وذلك بين من قوله فإنما خاصمت بأمرك ولما رجوت من فضلك. ولو استأجرته على الخصام عنها وعنهم وهي مالكة أمر نفسها استئجارا صحيحا بأجرة معلومة أو جاعلته على ذلك مجاعلة صحيحة لكان من حقه أن يأخذها بجميع أجرته أو جعله، لمجاعلتها إياه على ذلك واستئجارها إياه عليهم، ثم ترجع هي عليهم على الاختلاف الذي نذكره في ذلك آنفا.
وقوله: وإنما يقضى عليها بقدر ما يصير على حظها من أجرته إذا قسم ذلك على جميع الورثة بقدر ما لكل وارث من الميراث. وقوله أيضا(8/201)