قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا رضع جارية جده بلبن من وطء جده، صار ولدا لجده، وولد الجد عم يحرم عليه بنات عمه؛ لأنهن صرن بنات أخيه، وقد مضى هذا المعنى في سماع سحنون فوق هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: جارية أرضعتها جدتها لأمها]
مسألة وسئل عن جارية أرضعتها جدتها لأمها، أتحل لابن عمها وهو ابن خالتها أم لا؟ قال: لا تحل له إذا كان ابن خالتها؛ لأنها قد صارت ابنة للجدة برضاعها إياها، فصارت أختا لأمه، وصارت بذلك خالة الغلام، كخالة الولادة، فهي محرمة عليه، ولو لم يكن ابن العم من خالة، وكان لغير خالة، لم يضر ذلك إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الجدة للأم إذا أرضعت حفيدتها ابنة ابنتها، صارت ابنة لها، أختا لسائر بنيها وبناتها، فولد بعض بناتها ابن أختها وهي خالته، فلا تحل له، وولد بعض بنيها ابن أخيها، وهي عمته، كما أن الجدة للأب إذا أرضعت حفيدتها ابن ابنتها، صارت بذلك ابنتها أختا لسائر ولدها، فولد بعض ولدها الذكور ابن أختها وهي عمته، وولد بعض ولدها الإناث ابن أختها وهي خالته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتزوج المرأة فيدخل بها ثم يفارقها، فيتزوجها رجل آخر فتلد منه]
مسألة وقال في الرجل يتزوج المرأة، فيدخل بها، ثم يفارقها، فيتزوجها رجل آخر، فتلد منه، ثم ترضع جارية، هل يتزوج زوجها تلك الجارية التي أرضعها؟ قال: لا؛ قال تبارك وتعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] فإذا دخل الرجل(5/164)
بالمرأة حرم عليه كل ما ولدت أو أرضعت من غيره. قيل: فهل يتزوجها ابنه؟ قال: لا بأس بذلك، قال عيسى: إنما هو بمنزلة ما لو تزوج امرأة فوطئها ثم طلقها أو مات عنها ثم تزوجها زوجا فولدت له جارية، أنه لا بأس أن يتزوجها ابن الأول من غيرها، ولا بأس أن يتزوج ابنها من الأخرى ابنة الأول من غيرها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الرجل إذا تزوج المرأة ودخل بها، لا يحل له أن يتزوج ما ولدت من غيره، ولا ما أرضعت قبله ولا بعده؛ لأنهن من الربائب المدخول بأمهاتهن المحرمات بنص التنزيل، قال عز وجل: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] ، والرضاع والنسب في ذلك سواء؛ لقول الله عز وجل: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] ، وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة» . وأما قوله فيما ولدت أو أرضعت بعده: إنه لا بأس أن يتزوجها ابنه، ومتابعة عيسى له على ذلك، فقد مضى القول فيه مستوفى في آخر سماع أبي زيد من كتاب النكاح، وبالله التوفيق.
[مسألة: تزوج امرأة كبيرة فدخل بها ثم تزوج صبية صغيرة فأرضعتها ختنته]
مسألة قال عيسى: قلت لابن القاسم: وإن تزوج امرأة كبيرة فدخل بها، ثم تزوج صبية صغيرة فأرضعتها ختنته: أم امرأته الكبيرة، كان له أن يختار أيتهما شاء، ويفارق الأخرى؛ لأنهما قد صارتا أختين حين أرضعتهما، وقد كان عقد النكاح فيهما حلالا. قال أصبغ: صواب حسن.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لما أرضعت الصغيرة أم امرأته الأخرى صارتا أختين، فحرم عليه المقام معهما جميعا، ووجب عليه أن(5/165)
يفارق أيتهما شاء، إن شاء الأولى، وإن شاء الأخرى؛ لأن العقدتين جميعا كانتا صحيحتين، ثم وقع بعد ذلك ما أوجب تحريم، واختلف في مفارقة من فارق منهما، هل يفارقها بطلاق أو بغير طلاق؟ فقيل: إنه يفارقها بغير طلاق، فإن فارق الصغيرة التي لم يدخل بها على هذا القول، لم يكن لها شيء من الصداق، وهو مذهب ابن القاسم: وقيل: إنه يفارقها بطلاق، واختلف على هذا القول إن فارق الصغيرة التي لم يدخل بها، فيما يكون لها من الصداق، فقيل: إنها يكون لها نصف صداقها؛ لأنه كان مخيرا بين أن يمسكها، أو يفارقها، فكان كالمطلق لها قبل الدخول، وهو مذهب ابن حبيب، وقيل: إنه يكون لها ربع صداقها؛ لأنه لو فارقهما جميعا قبل الدخول بهما لم يكن عليه إلا نصف صداق، يقسم بينهما، فتعطى الصغيرة نصف ربع صداقها، وتوفى الأخرى تمام صداقها؛ لأنه قد دخل بها، وبالله التوفيق.
تم الكتاب والحمد لله.(5/166)
[كتاب الظهار]
[عليه كفارة الظهار هل يكون الشعير مجزيا عنه في إطعامه]
كتاب الظهار(5/167)
من سماع عبد الرحمن بن القاسم
من كتاب أوله شك في طوافه قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سمعت مالكا يقول: وسئل عن الذي تكون عليه كفارة الظهار، أترى أن الشعير مجزيا عنه في إطعامه؟ قال: إن كان ذلك طعام أهل ذلك البلد، وهو الغالب عليهم، فأرى ذلك مجزيا عنهم. فقيل له: ربما غلا الشعير حتى يكون مكافيا للقمح في الغلا، قال: إن كان طعامهم، فأرى ذلك مجزيا عنهم.
قال محمد بن رشد: هذا قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها إن الكفارات يخرجها المكفر من غالب عيش بلده، كان عيشه وعيش عياله أرفع من عيش أهل بلده أو أدنى، إلا أن يكون عيشه من الأدنى، إنما هو من ضيق وجده، فليس عليه أن يخرج إلا من ذلك، وذهب ابن المواز إلى أنه إنما يجب عليه أن يخرج مما يأكل هو، كان ذلك أرفع مما يأكل أهل بلده أو أدنى، إلا أن يكون إنما يأكل أدنى مما يأكل أهل بلده بخلا وشحا، فيكون عليه أن يخرج مما يتقوت به أهل بلده. وذهب ابن حبيب، إلى أنه يخرج من الأرفع، مما يتقوت به هو وأهل بلده، إلا أن يعجز أن يخرج مما(5/169)
يتقوت به أهل بلده، فهي ثلاثة أقوال، ويخرج عندهم من كل ما تودى منه زكاة الفطر على ما مضى القول فيه في رسم حلف، من سماع ابن القاسم، من كتاب الزرع والحبوب، كل على مذهبه في مراعاة ما يتقوت به أهل بلده دون ما يتقوت به هو أو مراعاة ما يتقوت به هو دون ما يتقوت به أهل بلده، أو إخراج الأرفع من ذلك، وقول ابن المواز في مراعاة ما يتقوت به دون ما يتقوت به أهل بلده أظهر من قول ابن القاسم؛ لأن الخطاب في قوله عز وجل: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] إنما يتوجه إلى المكفرين لا إلى من سواهم من أهل بلدهم. ويؤيده حديث أبي سعيد الخدري في زكاة الفطر: «كنا نخرج في زكاة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من زبيب» لأنهم كانوا أهل بلد واحد، وإنما افترق ما كانوا يخرجون، لافتراق ما كانوا به يتقوتون.
ولابن حبيب فيما يخرج به زكاة الفطر من الأصناف تفصيل فيه نظر، من أحب الوقوف عليه تأمله في موضعه، وكذلك اختلف في مقدار مكيلة كفارة الظهار على ثلاثة أقوال: أحدها: قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أنه يخرجها بمد هشام، وهو مدان إلا ثلث؛ لأنها مطلقة في القرآن، لم تقيد فيه بالوسط من الشبع، ككفارة اليمين، فحملت على الشبع الكامل. والقول الثاني: رواية مطرف عن مالك أنه يخرج فيها لكل مسكين مدان بمد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حملا على كفارة فدية الأداء، المطلقة في القرآن، المقيدة في السنة بمدين، وإليه ذهب ابن حبيب، وذكر في ذلك أثرا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أعطى المظاهر شطر تمر، وهو نصف وسق؛ ليكفر به عن ظهاره. والقول الثالث: أنه يخرج فيها لكل مسكين مدا واحدا بمد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حملا على كفارة اليمين المقيدة في القرآن بالوسط من الشبع، وهو قول ابن القصار في كتابه، وعليه يأتي قول ابن الماجشون، وما في كتاب محمد بن المواز: أنه إن غدّى وعشّى(5/170)
في الظهار أجزأه، ولا ينبغي له أن يفعل ذلك، ويؤيد هذا القول ما روي من «أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى المظاهر عدنا في قدره خمسة عشر صاعا؛ ليكفر به عن ظهاره.» خرجه الترمذي. وإن قول مالك يختلف: إن الرقبة فيه مومنة، حملا على آية القتل، فكذلك يجب أن يجزي فيه مد لكل مسكين، حملا على آية كفارة اليمين. وأيضا فإن الذمة برية، ولا ينبغي أن يثبت فيها بشيء إلا بيقين، والله أعلم. وقد قيل في مد هشام: إنه مدان، وقيل: مد وثلث، والله أعلم.
[قال لأمته أنت أحرم علي من أمي]
ومن كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ابن القاسم: قال مالك في رجل قال لأمته: أنت أحرم علي من أمي، فأراد أن يطأها فقال: لا يطأها حتى يعتق رقبة. قال ابن القاسم: وقد نزلت عندنا في رجل قال لامرأته: أنت علي حرام مثل أمي، فكتب بها إلى أحمد يسأله، فأجاب مالك فيها: إنه ظهار.
قال محمد بن رشد: هذا المعنى مكرر في غير ما موضع، من ذلك ما في سماع أشهب من هذا الكتاب، ومن كتاب الإيلاء، وما في سماع عيسى من هذا الكتاب، ومن كتاب التخيير والتمليك، ومن كتاب الأيمان بالطلاق، وما في سماع يحيى وأصبغ، وأبي زيد من هذا الكتاب. وتحصيل القول في هذه المسألة أن التحريم بذوات المحارم كلهن من نسب أو صهر أو رضاع ظهار، سمى الظهار أو لم يسمه، إلا أن يريد بذلك الطلاق، فيتخلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك ظهار، وهو قول ابن الماجشون. والثاني: أن ذلك طلاق، وهو قول ابن القاسم، ولا ينوى عنده في المدخول بها، وينوى عند سحنون. والثالث: أنه إن سمى الظهر فهو ظهار، وإن لم يسمه فهو طلاق، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه، وأن التحريم بالأجنبيات طلاق إن أراد به الطلاق، وإن لم يرد به الطلاق، أراد به الظهار أو لم يرده، فيختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه طلاق، وهو قول ابن الماجشون. والثاني: أنه ظهار، وهو قول ابن القاسم في رواية أبي زيد عنه، والثالث: الفرق بين أن يسمي الظهر أو لا يسميه، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وبالله التوفيق.(5/171)
[تزوج أمة ثم ظاهر منها ثم اشتراها فأعتقها في تظاهره منها ثم أراد أن يتزوجها]
مسألة وسئل عن رجل تزوج أمة ثم ظاهر منها، ثم اشتراها فأعتقها في تظاهره منها، ثم أراد أن يتزوجها، فقال: يجزي ذلك عنه من تظاهره، ومعنى قوله: إنها إذا لم تكن حاملا واشتراها، وليس في بطنها حمل، وذلك لأنا سمعنا منه أنه يقول: هي أم ولد بذلك الحمل. وقال مالك: لا يجزي عتق أم الولد في الظهار إذا ظاهر منها أو من غيرها. قال ابن القاسم: فحملنا هذا على وجه قوله، والله أعلم.
قال محمد بن رشد: إنما ينبغي أن يجزي ذلك عنه من تظاهره على القول بأن العودة العزم على الوطء، وعلى القول بأنه إذا ابتدا الكفارة في العصمة جاز له بعد الخروج من العصمة، ويكون معنى المسألة أنه لما ظاهر منها عزم على وطئها قبل أن يشتريها، فوجبت عليه الكفارة بذلك، فلما اشتراها وهي غير حامل، جاز له أن يعتقها فيما وجب عليه من الكفارة بالعزم على الوطء، وأما على القول بأن العودة العزم على الوطء مع استدامة العصمة، وأنه لا يجوز له أن يتم الكفارة بعد الخروج من العصمة، وهو المشهور في المذهب، فلا يصح أن يجزيه عتقها، ولا الكفارة بعتق غيرها، ولا بما سواه من صيام أو إطعام، إلا بعد أن يتزوجها ويعزم على وطئها؛ لأن الكفارة لا تصح إلا مع إرادة الوطء في حال يجوز فيه.
[متظاهر أجمع على إمساك امرأته ثم صام فماتت]
ومن كتاب اغتسل على غير نية
وسئل عن متظاهر أجمع على إمساك امرأته، ثم صام فماتت، فقال: لا أرى عليه إتماما، فقيل له: فإنه يشق عليه الصيام، فطلقها لموضع الصيام الذي يشق عليه، قال مالك: لا أرى عليه إتماما لصيامه.
قال محمد بن رشد: أجمع على إمساك امرأته، يريد به أجمع على إمساكها وإصابتها، ولو أجمع على إمساكها، ولم ينو المصاب ولا أراده، لما أجزأه(5/172)
الصيام، وإن أتمه إلا على ما يدل عليه قول ابن نافع في المدونة، وهو قول شاذ خارج عن أقاويل العلماء، وقوله: إنها إذا ماتت فلا يجب عليه إتمام صيامه صحيح، على المشهور في المذهب، من أن العودة إرادة الوطء، والإجماع عليه مع استدامة العصمة، فمتى انفرد أحدهما عن الآخر، لم تجب الكفارة إن أجمع على الوطء، ثم قطع العصمة بطلاق، فلم يستدمها أو انقطعت بموت، سقطت الكفارة، وإن كان قد عمل بعضها، سقط عنه سائرها، وكذلك إن استدام العصمة ولم يرد الوطء، ولا أجمع عليه، لم تجب عليه الكفارة، بل لا تجزئه إن فعلها وهو غير عازم على الوطء، ولا مجمع عليه، فالكفارة على هذا القول تصح بالعزم على الوطء والإجماع عليه، ولا تجب إلا بالوطء، وعلى ما في الموطأ من أن العودة إرادة الوطء، والإجماع عليه تجب الكفارة عليه إذا أجمع على الوطء وإن ماتت أو طلقها، وإن كان عمل بعضها كان عليه تمامها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال كل امرأة أنكحها فهي علي كظهر أمي]
ومن كتاب باع غلاما بعشرين دينارا وسئل مالك عن رجل قال: كل امرأة أنكحها فهي علي كظهر أمي، فقال: كفارة واحدة تجزيه، فقيل له: أفرأيت إن كانت له امرأة، فقال لها: كل امرأة أتزوجها عليك فهي علي كظهر أمي؟ قال: تجزيه كفارة واحدة، قال: عليك، أو لم يقل: عليك.
قال محمد بن رشد: هذه مثل ما في المدونة، وفي العشرة ليحيى عن ابن القاسم: أن عليه لكل امرأة كفارة. وروى أشهب: أن مالكا قاله مرة، وهو قول ابن نافع. وجه القول الأول أن الكفارة إنما هي لما لفظ به من القول المنكر، فلم يكن عليه إلا كفارة واحدة، قال ذلك ابن الماجشون في كتابه، وليس ذلك بوجه بين، وإنما الوجه في ذلك، أن قائل ذلك إنما قصد إلى الامتناع من التزوج أبدا، أو من التزوج على امرأته بالظهار، والظهار يمين تكفر، فكأنه قال: والله، لا أتزوج أبدا، ولا أتزوج على امرأتي أبدا، أو كأنه قال: إن تزوجت أبدا، وإن تزوجت على امرأتي فعلي كفارة الظهار، فوجب(5/173)
أن يكون عليه كفارة واحدة إن تزوج، أو إن تزوج على امرأته. ووجه القول الثاني اعتبار ما يقتضيه اللفظ، من إفراد كل امرأة يتزوجها بحكم الظهار فيها؛ لأنه كأنه قال: كل امرأة أنكحها فعلي فيها كفارة ظهار، أو كلما تزوجت امرأة فعلي فيها كفارة الظهار.
وهذا القول أظهر؛ لأن الظهار كان في الجاهلية طلاقا، فخفف الله ذلك، بأن جعل فيه الكفارة، فكما كان الطلاق يلزم بهذا القول في كل امرأة يتزوجها، وكذلك يلزمه الظهار، في كل امرأة يتزوجها، وأما لو قال: من تزوجت من النساء فهي علي كظهر أمي لوجب عليه في كل امرأة يتزوجها كفارة، ولا خلاف في ذلك، بخلاف قوله: كل امرأة أتزوجها، وكذلك لو قال لنسوة: إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي، لم يلزمه إلا كفارة واحدة، ولا خلاف في ذلك، بخلاف قوله: تزوجت منكن. قال ذلك ابن المواز: ولم يعجب أبا إسحاق تفرقته بين كل امرأة أتزوجها، وبين من تزوجت من النساء، وكذلك ليس بينهما فرق بين في المعنى، والله أعلم، وبه التوفيق.
[ظاهر من امرأته ثم طلقها طلقة ثم أراد أن يكفر]
من سماع أشهب، وابن نافع، من مالك
رواية سحنون عنهما من كتاب الطلاق قال أشهب: وسمعته يسأل عمن ظاهر من امرأته، ثم طلقها طلقة، ثم أراد أن يكفر، ثم يرتجع بعد ذلك، قال: يرجع ثم يكفر، قال ابن نافع وقال مالك: إن كفر قبل أن يرتجع أجزأه ذلك، إن كانت في العدة قبل أن تنقضي. قال أشهب: إن كفر قبل أن يرتجعها، فذلك يجزي عنه، ولا بأس به إن فرغ من الكفارة قبل أن تبين منه، فإن بانت منه قبل فراغه من الكفارة سقط ما كفر به من الصيام والإطعام، وكانت عليه الكفارة مبتدأة إن هو تزوجها قبل أن يصيبها، قال أشهب: وقال ذلك المخزومي أيضا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المظاهر من امرأته إن طلقها طلقة ثم أراد أن يكفر، أنه يرتجع قبل الكفارة، إنما هو استحسان، بدليل قوله بعد ذلك: إنه إن كفر قبل أن يرتجع أجزأه، يريد إذا فرغ من الكفارة قبل أن(5/174)
تبين منه كما قال أشهب، ومعنى ذلك، إذا كفر بنية العودة، وهي أن ينوي الارتجاع ويعزم على الوطء؛ لأن الكفارة لا تصح إلا بعد العزم على الوطء والإجماع عليه، على ما مضى في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم، وقول أشهب: إنها إن بانت منه قبل فراغه من الكفارة سقط ما كفر به من الصيام والإطعام، هو المشهور في المذهب، وقال ابن عبد الحكم: يتم على صيامه وإطعامه ويجزيه، وهو قول ابن نافع في المدونة، وفرق ابن الماجشون في ديوانه، بين أن يمضي في الكفارة أقلها أو أكثرها، وأما إن لم تتم له كفارته حتى تزوجها، فاتفق على أنه لا يبني على الصيام، واختلف هل يبني على الإطعام؟ فقال أشهب: هاهنا إنه لا يبني، وقال أصبغ: له أن يبني، فيتحصل في الإطعام أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يبني بعد انقضاء العدة وإن تزوجها، وهو قول أشهب. والثاني: أنه يبني وإن لم يتزوجها، وهو قول ابن عبد الحكم وابن نافع. والثالث: أنه لا يبني إلا أن يتزوجها، وهو قول أصبغ. والرابع: الفرق بين أن يمضي منه أقله أو أكثره، وهو قول ابن الماجشون، وفي الصيام ثلاثة أقوال: يبني، ولا يبني، والفرق بين أن يمضي منه أقله أو أكثره، وبالله التوفيق.
[مسألة: يظاهر من امرأته فيصوم في تظاهره منها شهرا ثم يطلقها]
مسألة وسئل عمن يظاهر من امرأته، فيصوم في تظاهره منها شهرا، ثم يطلقها طلاقا له فيه رجعة، ثم يتم صيامه ولا يرتجعها، أترى ذلك يجزيه ويخرجه من الظهار؟ فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: أما إذا طلقها طلاقا رجعيا، فلا اختلاف في أن له أن يبني على صيامه، ومعنى ذلك، مع أن ينوي مراجعتها وإصابتها، وأما مع ألا يريد مراجعتها ولا إصابتها، فلا يصح له على مذهبه أن يبني على صيامه، وقد مضى بيان هذا في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم.
وأما إذا طلقها طلاقا بائنا، فلا يصح أن يبني على مذهب مالك، ويصح له ذلك على قول ابن نافع في المدونة، وقول ابن عبد الحكم، وعلى قول ابن(5/175)
الماجشون: إن كان مضى من الكفارة أكثرها على ما مضى في المسألة التي قبل هذه، إذ لا فرق في ذلك بين أن تبين بانقضاء العدة، ويكون الطلاق بائنا، وبالله التوفيق.
[يقول لامرأته أنت علي كأمي وهو يريد الطلاق]
ومن كتاب الطلاق
وسئل عن الذي يقول لامرأته: أنت علي كأمي، وهو يريد الطلاق. قال: تطلق عليه. قلت: أرأيت إن رجعت إليه بعد نكاح، أيكون عليه كفارة الظهار؟ قال: لا، ما له وللظهار هذا؟ إنما أراد الطلاق.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في رسم سن، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
وقوله: إنها إن رجعت إليه بنكاح جديد، لا يكون عليه كفارة الظهار صحيح، وسواء في هذه المسألة كان مستفتيا أو مطالبا بحكم الظهار، إذ لم يذكر الظهر، ولو قال: أنت علي كظهر أمي لم يصدق إذا حضرته البينة، وطولب بحكم الظهار إذا تزوجها؛ لأنه يتهم في إسقاط حكم الظهار عن نفسه بادعائه أنه أراد الطلاق، فيؤخذ في الطلاق بما أقر به على نفسه، وفي الظهار إن تزوجها بما أفصح به من قوله، وبالله التوفيق.
[مسألة: المظاهر من امرأته أله أن يضاجعها ولا يمسها قبل أن يكفر]
مسألة قال أشهب: وسمعت مالكا، وسئل عن المظاهر من امرأته، أله أن يضاجعها ولا يمسها قبل أن يكفر؟ قال: لا حتى يفرغ مما عليه، فقلت له: وهل يرى شعرها؟ قال: نعم، أرجو ذلك.
قال محمد بن رشد: خفف مالك هاهنا أن ينظر المظاهر إلى شعر امرأته التي ظاهر منها، وقال في المدونة: لا بأس أن ينظر إلى وجهها، ولا ينظر إلى شعرها، ولا إلى صدرها، قال في موضع آخر: لأن ذلك لا يدعو إلى خير،(5/176)
فدل على أنه كره ذلك للذريعة، مخافة التطرف إلى ما بعد ذلك لكان ذلك محظورا عنده؛ لأن الله تعالى إنما قال ذلك: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وليس النظر إلى شيء من ذلك مماسة، وإنما اختلف أهل العلم في القبلة والمباشرة واللمس والجس، فمنهم من حمل قَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] على عمومه، فمنع من ذلك كله إلا بعد الكفارة، وهو مذهب مالك.
ومنهم من قال: إن للمظاهر أن يقبل ويباشر، ويطأ في غير الفرج، فحمل الآية على غير العموم، وقال: إن المراد بالمماسة الوطء خاصة، وهو قول الحسن، وعطاء، والزهري، فيأتي على مذهب من حمل الآية على العموم، أنه إن قبل أو باشر قبل أن يكفر، وجبت عليه الكفارة، وهو قول مطرف: إنه إن قبل في خلال الكفارة ابتدأها، وقال أصبغ وسحنون: إذا قبل وباشر في خلال الكفارة، استغفر الله، ولا شيء عليه، فالامتناع على مذهب مطرف مما عدا الوطء واجب، وهو الظاهر من قول مالك؛ لأنه قال: يجب على المرأة أن تمسك نفسها، وإن رفعته إلى الإمام حال بينه وبينها، وعلى قول أصبغ وسحنون مستحب، وعلى قول الحسن ومن قال بقوله مباح، وبالله التوفيق.
[قال الرجل اشتروا عبد فلان وعبد فلان فأعتقوهما عني في كفارة علي]
من سماع عيسى من ابن القاسم
من كتاب الثمرة قال ابن القاسم: إذا قال الرجل: اشتروا عبد فلان، وعبد فلان، فأعتقوهما عني في ظهار وجب علي وقتل نفس، فنظر في ثلثه فلم يحملها، قال: يسهم بينهما، فأيهما خرج سهمه اشتري فيعتق، قلت: في أي شيء يعتق؟ أفي الظهار أم في قتل النفس؟ قال: بل في قتل النفس.
قالت: لم؟ قال: لأن قتل النفس لا يطعم فيه المساكين،(5/177)
والظهار يطعم فيه المساكين، فإن اشتروا هذا العبد الذي خرج سهمه فيعتق أطعم بفضلة الثلث المساكين في الظهار.
قلت: فإن لم يبلغ ما يطعم به ستين مسكينا، قال: يطعم به ما كان.
قلت: فإن فضل عن إطعام ستين مسكينا؟ قال: يعان بالفضلة في رقبة أو في رقاب.
قلت: فإن كان ثمن الذي خرج سهمه يحيط بجميع الثلث، في أي شيء يعتق العبد؟ أفي الظهار أم في قتل النفس؟ قال: في القتل؛ لأن الظهار أمر قد اختلف فيه؛ لأن بعض الناس قد قالوا: لو أن رجلا تظاهر من امرأته ثم وطئها قبل أن يكفر، ثم طلقها، أن الكفارة ليست عليه بواجبة، وهو قول أهل المشرق، وبعض من ارتضى من أهل المدينة، والقتل لا اختلاف فيه أن ذلك عليه عاش أو مات، فالقتل أوجبهما عليه لما اختلف فيه من الظهار، وهو أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قوله إذا لم يحملها الثلث: إنه يسهم بينهما، فأيهما خرج سهمه اشتري فأعتق، هو على قوله في المسألة التي بعدها، إذا أوصى أن يعتق عبد من عبيده في ظهار عليه، أنه يسهم بينهم، أيهم يعتق في الظهار، خلاف قول أصبغ وقول ابن القاسم في سماع أبي زيد، والذي يأتي في هذه المسألة على قول أصبغ، وقول ابن القاسم في سماع أبي زيد: أن يكون الورثة بالخيار، في أن يشتروا للعتق أيهما شاءوا ذلك إذا كانت أثمانهما مستوية، وأما إذا كان أحدهما أكثر ثمنا من الآخر، فالواجب على هذا القول أن يشترى للعتق الأقل ثمنا منهما، فإن بلغ ما يفضل من الثلث ما يشترى به عبد اشتري للكفارة الأخرى، وإن لم يكن فيه ما يشترى به عبد، أطعم فيه عن الظهار.
وأما قوله: إنه يعتق العبد الذي خرج عليه السهم في القتل، ويطعم بفضل الثلث عن الظهار، فهو أمر لا اختلاف فيه، إن كان(5/178)
يفضل من الثلث ما يطعم به ستين مسكينا عن الظهار، وأما إن كانت الفضلة لا تبلغ إطعام ستين مسكينا، ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يعتق العبد أيضا في القتل، ويطعم بالفضلة من المساكين ما بلغت، وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنه يعتق العبد عن الظهار، ويشرك بالفضلة في رقبة عن القتل، وهو قول أصبغ في سماعه بعد هذا، وأما إن لم يكن في الثلث فضل عن ثمن العبد الذي خرج السهم عليه، ففي ذلك أربعة أقوال: قيل: إنه يعتق في القتل؛ لأن الظهار قد اختلف فيه، وهو قول ابن القاسم هاهنا. وقيل: إن ذلك إلى الورثة يعتقونه على أي الكفارتين شاءوا. وهو قول ابن القاسم في سماع أصبغ، وقيل: يقرع بين الكفارتين، فيعتق عن الكفارة التي خرج السهم لها، وقيل: يتحاصان، فما ناب الظهار أطعم به، وما ناب القتل شورك به في رقبة أخرى. وهذان القولان الآخران يتواليان على ما في المدونة من قوله فيها: إنه لا يبدى أحدهما على صاحبه، وبالله التوفيق.
وقوله لأن بعض الناس قد قالوا: لو أن رجلا تظاهر من امرأته ثم وطئها قبل أن يكفر، ثم طلقها، أن الكفارة ليست عليه واجبة، ظاهره ولو وطئ مرارا، فلم ير قائل هذا القول الكفارة تجب بالوطء، وإنما رآها ليباح بها الوطء في المستقبل، فمن مات أو طلق لم تجب عليه كفارة، فيقال على هذا القول لمن ظاهر: لا تقرب امرأتك حتى تكفر؛ لقول الله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ، فإن وطئ قبل أن يكفر، قيل له: قد عصيت وأثمت، ولا يجوز لك أن تطأ أيضا حتى تكفر، فإن وطئ أيضا قبل أن يكفر، قيل له: قد عصيت ثانية وأثمت، ولا يجوز لك أيضا أن تطأ حتى تكفر هكذا أبدا يكون كلما وطئ قبل الكفارة عاصيا ممنوعا من الوطء فيما يستقبل حتى يكفر، وهو قول له وجه. وقد قال ابن القاسم: إنه قول من يرتضى من أهل المدينة.
[مسألة: قال أعتقوا من رقيقي رأسا فإن علي رقبة في ظهار]
مسألة قلت: فإن قال: أعتقوا من رقيقي رأسا، فإن علي رقبة في ظهار، فنظروا في عبيده، فإذا هم كلهم ليس فيهم من يجوز في الرقاب(5/179)
الواجبة، قال: يباع منهم ويشترى رقبة.
قلت: فإن كانوا ممن يجوز في الرقاب، ولكنهم كل واحد منهم قيمته أكثر من الثلث، قال: يباع منهم أيضا فيشترى رقبة تجوز في الرقاب الواجبة.
قلت: فإن كان فيهم من يجوز في الرقاب، وثمنه الثلث فما دونه، وثم من يجوز، وثمنه أكثر من الثلث، وثم من لا يجوز رأسا قال: يعزل منهم الذين لا يجوزون، والذين أثمانهم أكثر من الثلث، ويسهم بين الآخرين، فمن خرج سهمه أعتق.
قلت: فإن كان أوصى أن عليه رقبة في قتل، فلم يكن في ثلثه ثمن رقبة، ماذا يصنع بالثلث؟ قال: أرى أن يطلب بالثلث رقبة، يشركون فيها آخر، فتعتق كلها، فإن لم يجدوا أعانوا بالثلث في رقاب.
قلت: ولا يشترون نصف رقبة فيعتقونها، ونصفها عبد، قال: لا يضعون ذلك إلا في رقبة يتمون عتقها، وإلا أعانوا به في رقاب. قال أصبغ مثله إلا السهم، فإني لم أر أن يسهم عليهم، ولكن يعتق الورثة أو الوصي واحدا منهم ممن يجوز في الرقاب بلا عيب، ممن هو أقل من الثلث أو الثلث، ممن شاءوا أو رأوا، وإن كان فيهم من هو أرفع منه ثمنا أو مثله أو دونه، فذلك إليهم؛ لأنه عتق كفارة أمرهم بها، وليست وصية فيهم ولهم، ولا تطوع جعل عتقه جاريا في عدتهم، ولا شيء وجب عليه فيهم بأعيانهم قبل ذلك، إنما هي رقبة واجبة عليه أمر أن تخرج من ماله ورقيقه عنه، ألا ترى أن ابن القاسم يقول: إذا وجد فيهم من يجوز في الرقاب الواجبة مثله، قال: يشتري رقبة من الثلث يعتق عنه، فهذا دليل على أن المعتق(5/180)
ليس فيهم بأعيانهم، فإذا شرك حتى لا يعتق أحد منهم إلا بسهم، ولو كان كذلك ما جاز أن يشترى من غيرهم، إذا لم يكن فيهم من يجوز، فإنما هي وصية بكفارة أرادها حتى لو مات أولئك الرقيق أجمعون، أو استحقوا لم تسقط الكفارة من ماله، إن بقي له مال يكون له الثلث، يعتق فيه، وإنما يحمل قوله: من رقيقي المشهورة، وإن فيهم من يعتق في ذلك بعلم أو جهل أو ظن نرجوه، ونحو ذلك، ولو تركهم وفيهم من يجوز، وأعتق من غيرهم، لم يكن مخطئا خطأ يكون به ضامنا، ورأيت ذلك مجزيا، ويرقون جميعهم، ولا قول لهم، وهذا رأيي.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لم يكن فيهم من يجوز في الرقاب الواجبة، أنه يباع منهم، ويشترى رقبة فتعتق، صحيح لا اختلاف فيه، ومعناه إذا لم يكن عالما بذلك، كما قال في سماع أبي زيد، ومعناه أيضا إذا كانت الرقبة من ظهار، كما قال، وكذلك لو كانت من قتل خطأ؛ لأنها واجبة في الوجهين جميعا، وذلك مثل قوله في المدونة، ورأيته عن مالك في الذي يوصي، وهو صرورة أن يحج عنه رجل بعينه، أن يحج عنه، فأبى ذلك الرجل أن يحج عنه، أنه يعطى ذلك غيره ممن يحج به، ولا يرجع ذلك إلى الورثة، ولو كانت الرقبة من قتل عمد، فلم يكن في عبيده من يجوز في الرقاب؛ لجرى ذلك على الاختلاف الذي في المدونة فيمن وصى أن يحج عنه، رجل يعينه بحجة تطوع، فأبى ذلك الرجل أن يحج عنه، هل يرجع المال إلى الورثة أو يحج به عنه غيره؛ لأن الرقبة في قتل العبد تطوع، وليست واجبة، فهي كحج التطوع؟ فعلى قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة إذا لم يكن فيهم من يجوز في الرقاب الواجبة تبطل الوصية، وعلى قول غيره فيها، يباع منهم، ويشترى من غيرهم من يجوز في الرقاب الواجبة فيعتق، وإنما يباع منهم ما يقع واحد من عددهم على ما قال في سماع أبي زيد. وهذا كله بين، والله أعلم.
وأما قوله: إنه يسهم بينهم وبن من يجوز منهم في الرقاب الواجبة إن(5/181)
كان فيهم من لا يجوز في الرقاب، فقد اختلف قوله في ذلك، فله في سماع أبي زيد مثل قول أصبغ هاهنا: إن الورثة يعتقون من شاءوا منهم، ولا يسهمون بينهم، ولكلا القولين وجه من النظر، فوجه القول بأنه يسهم بينهم أنه لما أوصى أن تعتق الرقبة التي عليه منهم، وجب أن يسهم بينهم كما لو أوصى أن يعتق منهم عبدا تطوعا؛ لاحتمال أن يكون قصد أن يجعل وصيته فيهم لشيء كان منهم إليه أو منه إليهم، على نحو ما جاء في الذي أتى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: «يا رسول الله، إن جارية لي كانت ترعى غنما لي بجنبها، وقد فقدت شاة من الغنم، فسألتها عنها فقالت: أكلها الذئب، فأسفت عليها، وكنت من بني آدم، فلطمت وجهها، وعلي رقبة أفأعتقها؟ فقال له رسول الله: "إن الله» الحديث، ألا ترى أنه أراد أن يجعل الرقبة التي عليه فيها من أجل أنه لطمها. ووجه القول: بأنه لا يسهم بينهم هو أن السهم غرر، فلا ينبغي أن يستعمل إلا حيث تدعو إليه الضرورة، بأن يتحقق أنه أراد أن يجعل وصيته فيهم بأعيانهم، وبالله التوفيق.
[المظاهر تخدمه امرأته]
ومن كتاب أوله نقدها نقدها
قال عيسى: قال ابن القاسم في المظاهر تخدمه امرأته، فقال: أما أن تخدمه وتناوله الشيء، فلا بأس ويستتر.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله: ويستتر، أنه لا ينظر إلى شعرها مثل ما في المدونة، وذلك للذريعة، وقد مضى القول في هذا مستوفى في رسم الطلاق من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: ظاهر من امرأته فصام شهرا ثم طلقها فمضى على صيامه حتى أتم الشهر]
مسألة وقال: في رجل ظاهر من امرأته، فصام شهرا ثم طلقها، فمضى على صيامه حتى أتم الشهر، قال: إنما أراد بذلك الكفارة إن هو ارتجعها في العدة، وكان طلاقه إياها واحدة، فذلك يجزيه، وإن كان صالحها أو طلقها ألبتة، فقد انقطعت العصمة بينهما، ولا ينفعه(5/182)
ذلك، وبالله التوفيق، إن هو تزوجها يوما ما.
قال محمد بن رشد: في قوله: "إن كان إنما أراد بذلك الكفارة إن هو ارتجعها في العدة نظر؛ لأنه خلاف المشهور في المذهب المعلوم من مذهب ابن القاسم، من أن من كفر قبل أن يريد العودة لم تجزه الكفارة، هذا قوله في المدونة، وقول كبار أصحاب مالك فيها: إن المظاهر إذا كفر بغير نية الجماع كما قال الله: {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] فمعنى يعودون يريدون، أن ذلك لا يجزيه، وكان يحيى بن عمر يقول تعلقا بظاهر هذا اللفظ، وما كان مثله من نحو قول ابن نافع في المدونة؛ ولأنه ممن كانت العودة جائزة له قبل أن يطلق: إن من صام وهو لا يريد المصاب، إلا أنه يريد حبس امرأته، أنه يجزيه، والصواب أن ذلك لا يجزيه على ما مضى القول فيه في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم، وفي أول سماع أشهب، وقد مضى في سماع أشهب تحصيل الاختلاف في إتمام الكفارة بعد الطلاق البائن، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: ظاهر من نسوة له بكلمة واحدة]
مسألة وسئل عمن ظاهر من نسوة له بكلمة واحدة، فقال: كفارة واحدة تجزيه عنهن جميعا. قيل له: فإن جهل وظن أنه لا تجزيه إلا كفارة كفارة، فصام عن إحداهن. قال مالك: الكفارة تجزيه عنهن جميعا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في نص المدونة، ولا اختلاف في ذلك أعلمه؛ لأنه إنما هو بمنزلة من قال: والله، لا أقرب واحدة منكن، فليس عليه إلا كفارة واحدة، قربهن جميعا أو قرب واحدة منهن، وإن كفر قبل أن يطأ أجزأته الكفارة، وسواء نواهن كلهن بها أو لم ينو إلا واحدة منهن، وبالله التوفيق.(5/183)
[مسألة: الظهار ثلاثة وجوه]
ومن كتاب العرية وقال لي: افهم، إنما الظهار ثلاثة وجوه؛ إن قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي هكذا من غير أن يحلف على شيء يفعله، أو قال: أنت علي كظهر أمي إن كلمت فلانا، فكلمه فحنث، فلم يمسها حتى طلقها ألبتة، فتزوجها بعد زوج، قال: لا يطأها لو تزوجها بعد عشرين زوجا حتى يكفر، وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي إن كلمت فلانا فطلقها ألبتة قبل أن يكلمه، ثم تزوجها بعد زوج، فأراد كلامه، فليكلمه ولا شيء عليه؛ لأن ملك النكاح الذي حلف فيه قد ذهب حين طلق ألبتة، فليكلمه ولا شيء عليه، قال: وإن ظاهر منها ابتداء من غير يمين، أو تظاهر بيمين ثم حنث فمسها قبل أن يكفر، فإن الكفارة تلزمه، وإن طلقها أو مات قال: وإن طلقها واحدة فانقضت عدتها، أو ألبتة، فأراد أن يكفر، ثم يتزوجها لم يجزه ذلك حتى يكفر بعد التزويج، قال: ولو طلقها واحدة وهو من أهل الصيام أو الإطعام، فابتدأ الصيام أو الإطعام، فلم يفرغ حتى انقضت عدتها لم يجزه من ذلك شيء وإن أتمه، ولا تجزيه الكفارة إلا ما دامت في ملكه.
قال محمد بن رشد: وهذا على ما قال: إن من الظهار ما يسقط بانقضاء ملك النكاح، فلا يعود إذا رجعت إليه، ويعود إذا رجعت إليه بعد طلقة أو طلقتين، وهو اليمين بالظهار إذا طلق قبل الحنث، ومنه ما يسقط بالطلاق البائن، واحدة كان أو ثلاثا، ويعود متى ما رجعت إليه وهو الظهار، إذا لزم بقول أو فعل ثم طلق قبل الوطء، ومنه ما لا يسقط بطلاق ولا موت، وهو إذا ظاهر ثم وطئ، ومعاني افتراقهما بينة؛ لأن الوجه الأول بيمين الظهار لم يحنث فيه، فيعود ما لم ينقض الملك، والثاني ظهار قد(5/184)
لزم، فمتى رجعت إليه رجع عليه الظهار، إذ لا يستطيع أن يطأ إلا بعد الكفارة، والثالث كفارة قد لزمت بالوطء، فلا تسقط على حال، ولا اختلاف في أن المظاهر إذا طلق طلاقا بائنا قبل أن يأخذ في الكفارة، فإن الكفارة لا تجزيه بعد الطلاق، وإنما اختلف إذا كان قد أخذ في الكفارة قبل الطلاق، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في أول رسم من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بأن يشترى أبوه أو أخوه فيعتق عنه فأبوا أن يبيعوه إلا بأكثر من ثمنه]
مسألة وسئل عن الرجل يوصي بأن يشترى أبوه أو أخوه فيعتق عنه، فأبوا أن يبيعوه إلا بأكثر من ثمنه بأضعاف والثلث كثير، أو قال: إن علي رقبة في ظهار، فاشتروه وأعتقوه عني، أو أوصى أن عليه عتق رقبة، ولم يسم من يشترى له، وكان أبوه عبدا، فرأى الخليفة أن يشتريه فيعتقه، ماذا ترى فيه إن لم يبيعوه إلا بأكثر من ثمنه بأضعاف، وأبى ذلك الورثة؟ قال ابن القاسم: إن أوصى أن يشترى له زيد في ثمنه قدر الثلث، ولم يزد أكثر، وإن قال: علي رقبة، فاشتروها عني، ولم يشتر له، لم يجز للخليفة أن يشتري أحدا ممن يعتق عليه، وإن قال: علي رقبة في ظهار، فاشتروا والدي فأعتقوه عني أنفذ ما قال؛ لأنها وصية، ولو شاء لم يوص بشيء، فإنما يحمل محمل الوصية.
قال محمد بن رشد: هذا كله صحيح، على ما في المدونة، في الذي يوصي أن يشترى عبد فلان، فيعتق، فأبى سيده أن يبيعه أنه يزاد فيه مثل ثلث ثمنه، ولا فرق في هذا بين أن يوصي أن يشترى ابن فلان فيعتق، أو يشترى أبوه فيعتق عنه في ظهار عليه، وإنما يفترق الثلاث مسائل إذا أبى سيده أن يبيعه بزيادة ثلث ثمنه، فأما الذي أوصى أن يشترى فيعتق، فقيل: يستأنى بثمنه السنة ونحوها، فإن أبى السيد من بيعه رجع ميراثا، وقيل: إنه لا(5/185)
يرجع ميراثا إلا بعد أن يوئس من العبد بموت أو عتق، والقولان في المدونة. وقيل: إنه إذا أمن منه جعل في عبد غيره، ولا يرجع ميراثا. وهو قول ابن كنانة في المدنية، وأما الذي أوصى أن يشترى أبوه، فإن الثمن يرجع ميراثا بعد اليأس منه بموت أو عتق، وأما الذي أوصى أن يشترى أبوه فيعتق عنه في ظهار عليه، فإن الثمن لا يرجع ميراثا، ويجعل في عبد يعتق عنه في ظهاره بعد اليأس منه بموت أو عتق، بمنزلة الذي يوصي أن يشترى عبد فلان، فيعتق عنه في ظهاره، والله الموفق للصواب بمنه.
[يقول امرأتي علي كظهر أمي إن فعلت كذا وكذا]
ومن كتاب لم يدرك من صلاة الإمام
وسئل عن الرجل يحلف على شيء، فيقول: امرأتي علي كظهر أمي إن فعلت كذا وكذا، فيريد أن يقدم الكفارة قبل الحنث، قال: ولا تجزيه، وعليه كفارة أخرى بعد الحنث، وإنما هو بمنزلة رجل حلف بالطلاق على شيء ألا يفعله، فقدم الطلاق على الحنث، ثم حنث؛ أن تطليقة أخرى تلزمه.
قلت: فأي الأيمان تجزي فيها الكفارة قبل الحنث، قال: اليمين بالله، وأما المشي والطلاق والظهار إذا حلف به فلا يجزيه إلا بعد أن يحنث.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الذي يحلف بالظهار على شيء ألا يفعله، لا يجوز له أن يقدم الكفارة قبل الحنث، كما لا يجوز للذي يحلف بالطلاق على شيء أن يقدم الطلاق قبل الحنث صحيح كما قال، وهو في الظهار أوضح وأبين؛ لأن الطلاق يجب بالحنث على من حلف به فحنث، والكفارة لا تجب بالحنث على من حلف بالظهار فحنث حتى يطأ، إلا أنه بالحنث يلزمه الظهار، ولا يكون له أن يطأ حتى يكفر؛ لقول الله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ، ولو حلف بالظهار على شيء أن يفعله ولم يضرب(5/186)
لذلك أجلا، لجاز له أن يقدم الكفارة، ويبر بذلك؛ لأنه على حنث، كما يجوز له أن يقدم الطلاق إذا حلف بالطلاق أن يفعل فعلا، ولم يضرب له أجلا، ويبر بذلك في يمينه؛ لأنه على حنث حتى يفعل، على ما في النذور من المدونة. وقال في كتاب محمد بن المواز: من حلف بالطلاق أن يقتل فلانا، ولم يضرب أجلا، لم يبر بالطلاق، فإن مات فلان قبل أن يقتله وقع عليه الطلاق، ولم يجتزئ بالطلقة التي أوقع؛ لأن موت فلان كان قضاء الأجل. وقوله: إن الأيمان التي تجزي فيها الكفارة قبل الحنث اليمين بالله صحيح، على المشهور في المذهب، والأصل في جواز ذلك قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حلف على شيء فرأى غيرها خيرا منها؛ فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير، أو ليفعل الذي هو خير وليكفر عن يمينه» ؛ لأن الحديث محمول عندهم على التخيير من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الوجهين، لا على أنه شك من المحدث، وسواء كان في اليمين على بر أو على حنث، وروى أبو زيد، عن ابن الماجشون: أن الكفارة في اليمين بالله لا تجزي إلا بعد الحنث، فإن حلف ليفعلن فعلا فلا يتبين حنثه إلا بالموت، ولا تجزيه الكفارة إن كفر في حياته، فساوى أيضا بين أن يكون يمينه على حنث أو على بر في أن الكفارة لا تصح إلا بعد الحنث، والقياس أن يفرق بين الوجهين، فتجزيه الكفارة قبل الحنث فيما كان فيه على حنث، ولا تجزيه فيما كان فيه على بر إلا بعد الحنث.
وفي قوله في آخر المسألة: إن المشي والطلاق والظهار إذا حلف به، فلا تجزيه إلا بعد أن يحلف، كذا وقع، والصواب بعد أن يحنث، نظرا لقوله في جميع ذلك: فلا تجزيه إلا بعد أن يحنث، والصواب في ذلك أن المشي والطلاق لا يجب عليه إلا بعد أن يحنث، وأن الكفارة في الظهار لا تجزيه إلا بعد أن يحنث؛ لأنه لا تجب عليه بالحنث، وإنما تجب عليه بالوطء.
وقد وقع في آخر الظهار من المدونة عن مالك، فيمن لا يعتق رقبة بغير(5/187)
عينها، فأعتق رقبة قبل أن يحنث، أن ذلك يجزيه ويسقط عنه الإيلاء، وبعد الحنث أحسن، وهو بعيد، والصواب أن ذلك لا يجزيه إلا بعد الحنث، بخلاف اليمين بالله. وابن الماجشون يرى الكفارة في اليمين بالله لا تجزيه إلا بعد الحنث، وقد تقدم ذلك.
[قال لامرأته أنت أمي يريد بذلك الطلاق]
ومن كتاب النسمة
قال ابن القاسم: من قال لامرأته: أنت أمي، يريد بذلك الطلاق، فهو طلاق، وإن قال لها ذلك وهو لا يريد الطلاق، فهو ظهار، قال: ومن قال لها ذلك وهو لا يريد الطلاق ولا الظهار فهو ظهار.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل قول ابن القاسم وغيره في هذه المسألة في رسم سن من سماعه، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق، لا رب سواه.
[قال لامرأته أنت علي كظهر أمي إن وطئتك فوطئها مرة ثم ماتت]
ومن كتاب القطعان قال ابن القاسم: فيمن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي إن وطئتك، فوطئها مرة ثم ماتت، أو طلقها البتة، فليس عليه كفارة، وإن قال: أنت علي كظهر أمي إن وطئتك، فوطئها مرة، ثم وطئها ثانية قبل أن يكفر، فإن الكفارة عليه واجبة.
قال محمد بن رشد: هذا على القول بأن من حلف بطلاق امرأته ثلاثا إن وطئها، أنه ليس بمول، فلا يضرب له أجل المولي إن رفعته امرأته إلى السلطان، ولا يطلق عليه؛ لأنه لا يحنث إلا بالوطء، فله أن يطأ الوطأة التي يحنث بها، وهذا أحد قوليه في المدونة، وله فيها قول آخر، إن رفعته إلى الإمام عجل عليه الطلاق، ولم يضرب له أجل الإيلاء لا يمكن من الوطء، إذ يحنث بأول الملاقاة، فيكون باقي وطئه في امرأة قد بانت منه بطلاق(5/188)
الثلاث، فيلزم على قياس هذا القول، أن لا يجوز لمن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي إن وطئتك أن يطأها حتى يكفر كفارة الظهار؛ لأنه يحنث بأول الملاقاة، ويجب عليه الظهار، فيكون باقي وطئه في امرأة قد ظاهر منها قبل الكفارة، وذلك ما لا يجوز؛ لقوله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ، وقد قيل في مسألة الحالف بالطلاق ثلاثا لا يطأ قولان آخران سوى هذا من القولين، وليس هذا موضع ذكرهما، وبالله التوفيق لا شريك له.
[العبد يعتق سيده نصفه في ظهاره ثم يعتق بعد ذلك النصف الآخر في ذلك الظهار]
ومن كتاب أوله باع شاة وسألته عن العبد يعتق سيده نصفه في ظهاره، ثم يعتق بعد ذلك النصف الآخر في ذلك الظهار، قال: يجزيه إن شاء الله.
قلت: فإن لم يعتق حتى رفع إلى السلطان، أترى على السلطان أن يأمر بعتقه في ظهاره؟ قال: يجبره، فإن أعتقه أجزاه، وإلا أعتقه عليه السلطان.
قال محمد بن رشد: قوله: وإلا أعتقه عليه السلطان، يريد ولا يجزيه إذا أعتقه عليه، لكنه مكره على ذلك، والمكره لا نية له، فلا يجزيه، إذ لا تجزيه الكفارة إلا بنية. وكذلك قال في المدونة في الذي أعتق نصيبه من عبد وهو موسر، فقوم عليه نصيب شريكه أنه لا يجزيه، وابن الماجشون يقول: إنه إذا أعتق نصف عبده عن ظهار، ثم أعتق بعد ذلك النصف الآخر أو أعتق شقصا له في عبد عن ظهاره وهو موسر، ثم اشترى نصيب صاحبه فأعتقه، أنه لا يجزيه؛ لأنه لما أعتق نصف عبده فقد لزمه عتق باقيه، ولما أعتق نصيبه من عبد وهو موسر، لزمه أن يقوم عليه نصيب شريكه، فلا يجزيه أن يعتق في ظهاره ما قد وجب عليه تقويمه أو عتقه، ومن الناس من يتأول ما في المدونة لابن القاسم على مذهب ابن الماجشون؛ لقوله: والظهار لا يكون فيه تبعيض العتق، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الذي يدل عليه قوله: إن التبعيض عنده إنما هو أن يعتق نصيب شريكه في موضع لا يلزمه أن يقوم عليه فيه، وإنما يصح أن يتأول على مذهب ابن الماجشون، قول سحنون، والله أعلم.(5/189)
[يوصي بعتق عبد في تطوع ويوصي بشراء آخر لكفارة ظهار فأيهما يبدأ]
ومن كتاب أوله سلف دينارا في ثوب
وسئل عن الذي يوصي بعتق عبد له بعينه في تطوع، ويوصي بأن تشترى رقبة فتعتق عنه في الظهار، فأيهما يبدأ؟ قال: بالظهار هو أولى.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، إن الواجب وإن كان غير معين فهو يبدى على التطوع وإن كان معينا، وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[يقول لجاريته لا أعود لمسيسك حتى أمس أمي]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب أوله أول عبد أبتاعه فهو حر قال يحيى: وسألته عن الرجل يقول لجاريته: لا أعود لمسيسك حتى أمس أمي، أيكون بهذا القول مظاهرا؟ قال: ليس عليه في هذا ظهار، فليمس أمته متى شاء، ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأنه إنما هو بمنزلة من قال: لا أمس أمتي أبدا، فلا شيء عليه، وبالله التوفيق.
[يقول لامرأته إن لم أطلقك فأنت علي كظهر أمي]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب قال سحنون: وسألت أشهب، عن الذي يقول لامرأته: إن لم أطلقك فأنت علي كظهر أمي، وغلامي حر، أو علي المشي إلى بيت الله الحرام، قال: أما في الظهار فيحال بينه وبين وطئها، فإن رفعته ضرب له أجل الإيلاء، فإن طلق، وإلا طلقت عليه بالإيلاء، وأما في العتق والمشي فإنه لا يحال بينه وبين الوطء وهي امرأته، وإنما يحنثه في عتق أو مشي بعد الموت، وليس في هذا إيلاء.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يحال بينه وبينها في الظهار، ويضرب(5/190)
له أجل الإيلاء إن رفعته صحيح، إذ لا يجوز له الوطء، كمن حلف بالطلاق ليفعلن فعلا، فإن أبا أن يطلق لما وقف، وقال: أنا التزم الظهار، ولا تطلقوا علي بالإيلاء، كان ذلك له، وقيل له كفر، وابق مع امرأتك، فإن لم يكفر وسأل أن يضرب له أربعة أشهر أخرى للإيلاء، كمن ظاهر ولم يكفر، فقيل ذلك له كمبتدئ الظهار من يوم التزم الظهار، وقيل: ليس ذلك له؛ لأنه يتهم على أنه لم يلتزم الظهار، وإنما أراد التطويل والزيادة في الإيلاء الذي قد مضى أجله، وهو أشبه، والله أعلم. والذي يرفع عنه التهمة أن يفصح بالتزامه ليقول: أنا ألتزمه، هي علي كظهر أمي، وقد مضى في رسم لم يدرك ما بين هذا المعنى، وأما العتق والمشي فكما قال فيهما، لا كلام في ذلك ولا إشكال، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل أعتق رقبة في ظهار عليه اشتراها فأتى رجل فاستحق الرقبة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل أعتق رقبة في ظهار عليه اشتراها، فأتى رجل فاستحق الرقبة، فرجع المعتق على بائعه بالثمن، وهو ثمن واسع، أترى أن يشتري ببعضه رقبة ويرد ما بقي؟ قال: يشتري به كله، وإنما رأيت أن يشتري به كله؛ لأن مالكا سئل عن الرجل يعتق رقبة عن ظهار عليه، ثم يطلع على عيب، قال: يرجع به على بائعه، ويجعله في رقبة، فإن لم يجد به رقبة، أعان به في رقبة يتم له عتقها، فمن هنالك رأيت ما قلت لك، والعيب الذي أصيب بالعبد، ليس هو مما إذا كان في العبد لم يجز في الرقاب، ولكنه إذا كان في العبد جاز العبد به.
قلت له: فلو كان تطوع، قال: يرجع بالعيب، ويصنع به ما شاء، وكذلك لو كان هدي تطوع أهداه، ثم أصاب به عيبا، رجع على بائعه بقيمة العيب، وصنع به ما شاء، وهو مثل لعتق التطوع، إلا أنه لو كان هديا واجبا، فأصاب به عيبا، رجع على بائعه بقيمة(5/191)
العيب، فاشترى به هديا، فإن لم يجد به هديا شاة، ولا غيره مما يكون هديا تصدق به، ولا يشرك به في هدي.
قال محمد بن رشد: مساواة ابن القاسم هنا بين العيب يوجد في العتق التطوع والهدي التطوع، أنه لا شيء على المبتاع في قيمة العيب الذي يرجع به على البائع، خلاف قوله في المدونة في تفرقته بين الهدي التطوع، والعتق التطوع. ولابن نافع في المدونة: أنه لا يصح له تملك ما يرجع به العيب في العتق التطوع، فأحرى أن لا يصح له ذلك على مذهبه في الهدي التطوع، وأما الهدي الواجب، والرقبة الواجبة، والضحية، فلا اختلاف في أنه لا يصح له تملك لما يرجع به للعيب في شيء من ذلك كله إن كان العيب يسيرا يجوز به العبيد في الرقاب والشاة في الهدي والضحية، وإن كان كثيرا لا يجوز به العبد في الرقاب ولا الشاة في الضحية والهدي، وجب عليه البدل في الرقبة، والهدي في الضحية إن كانت لم تفت أيام الذبح، وإن كانت قد فاتت تصدق بذلك. وقد مضت هذه المسألة مستوفاة في أول سماع أصبغ من كتاب الضحايا، فمن أحب الوقوف عليها تأملها هنالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته أنت علي كظهر فلانة لجارة له]
مسألة وقال: في رجل يقول لامرأته: أنت علي كظهر فلانة لجارة له- إن دخلت هذه الدار، فيتزوج جارته التي حلف لامرأته بظهارها، ثم دخل الدار قال سحنون: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: وجه قول سحنون أنه حمل يمينه على أنه أراد أنت علي كظهر فلانة مني يوم أدخل الدار إن دخلها، ويلزم على قياس هذا لو قال لامرأته: أنت علي كظهر فلانة -لامرأة له أخرى- إن دخلت هذه الدار، فطلق فلانة طلاقا بائنا، ثم دخل الدار، أن يلزمه الظهار؛ لأنه على بر، فكأنه ظاهر يوم دخل الدار؛ بظهر أجنبية، وإن قلنا في هذه: إن اليمين بالظهار لغو، لما وقعت بظهر من تحل له يوم اليمين، وجب أن يقول في مسألة الكتاب:(5/192)
إن الظهار له لازم لما كانت يمينه بظهر أجنبية يوم اليمين، والأظهر أن يحمل يمينه على أنه إنما أراد أنت علي كظهر فلانة اليوم، إن دخلت الدار، متى ما دخلتها وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم في المدونة في الذي يقول: إن كلمت فلانا فكل عبد أملكه فهو حر، أن اليمين إنما تلزمه في كل عبد كان عنده يوم حلف، لا في كل عبد كان عنده يوم حنث، وكذلك إذا قال: كل عبد أملكه من الصقالبة فهو حر، فاشترى بعد يمينه، وقبل أن يكلمه صقالبة أنهم أحرار. وقول سحنون في هذه المسألة يأتي على ما في سماع زونان في الذي يقول: إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها بمصر طالق، أن الحنث إنما يلزمه فيمن تزوج بعد كلامه، لا فيما تزوج بعد يمينه وقبل كلامه، وبالله التوفيق.
[مسألة: التتابع في كفارة القتل والظهار]
مسألة وسئل عن رجل صام عن ظهارين كانا عليه أربعة أشهر، فلما كان قبل فراغه ذكر أنه ناس ليومين، لا يدري أهي من الكفارة التي هو فيها أو من الأولى؟ فزعموا أنه يصوم يومين ويأتي بشهرين.
قال محمد بن رشد: التتابع في كفارة القتل والظهار فرض التنزيل، فلا يعذر أحد في تفريقهما بالنسيان على المشهور في المذهب، وإنما يعذر في ذلك بالمرض أو بالحيض إن كانت امرأة، فإن مرض الرجل، فأفطر في شهري صيامه أو أكل فيهما ناسيا، قضى ذلك ووصله بصيامه، فإن ترك أن يصله بصيامه ناسيا أو جاهلا متعمدا، استأنف صيامه، فإذا صام الرجل عن ظهارين كانا عليه أربعة أشهر، ثم ذكر قبل فراغه أنه ناس ليومين، لا يدري من أي الكفارتين، فقال ابن القاسم: إنه يصوم يومين، ويأتي بشهرين، ووجه قوله أن هذه الكفارة التي هو فيها لما كان يقدر على إصلاحها بإتيان ما شك فيه منها، أمر ألا يتركها حتى يصلحها على ما يومن بيومين يصلهما بها، ثم يعيد بعد ذلك الكفارة الأولى؛ لاحتمال أن تكون اليومان منها، وقد ترك أن(5/193)
يصلهما بها على أصله فيمن ذكر سجدة من آخر صلاته، لا يدري من أي ركعة، أنه يسجد سجدة يصلح بها هذه الركعة التي لم يفته إصلاحها، ثم يأتي بركعة؛ لاحتمال أن تكون السجدة من غيرها من الركعات، ويأتي في هذه المسألة على مذهب من يرى أنه يأتي بركعة، إذ لا بد من الإتيان بها ولا يخر إلى سجدة، إذ ليس على يقين أنها من هذه الركعة، أنه يصوم شهرين، ولا يأتي بيومين، إلا أن يكون أيضا لا يدري لعل أحد اليومين من الكفارة الأولى، والثاني من الثانية، فإنه يصوم يوما واحدا يصله بصيامه، ثم يأتي بشهرين، وهو قول ابن الماجشون، وروى ذلك ابن سحنون، عن أبيه، ويأتي في هذه المسألة على قياس قول من يقول في من ظن أنه قد أكمل صلاته أربع ركعات، فقام بإثر سلامه، وصلى ركعتين نافلة، ثم ذكر أنه لم يصل من الفريضة إلا ركعتين، أنه يعتد بهذين الركعتين النافلة، وتجزئه من فريضته أن يعتد أيضا بيومين من أول الكفارة الثانية، على اليومين اللذين نسيهما أو شك فيهما من الكفارة الأولى، فيكون عليه أن يأتي بعد تمام الأربعة أشهر بيومين لا أكثر، يصلهما بصيامه، فإن ترك أن يصلهما سهوا أو عمدا، استأنف صيام شهرين.
ومحمد بن عبد الحكم يرى أنه يعذر في تفرقة الصوم بالنسيان؛ لأنه أمر غالب كالمرض، فعلى قوله: إن ذكر اليومين بعد تمام الأربعة أشهر متى ما ذكر، فليس عليه إلا صيام يومين ساعة يذكرهما. واختلف على قوله: إن ذكر يومين من الكفارة الأولى قبل أن يتم الكفارة الثانية، فقيل: إنه يتم الكفارة التي هو فيها ثم يقضي يومين؛ لأنه معذور لما تشبث به من صيام الكفارة التي هو فيها، وقيل: إنه لا عذر له في ذلك، فيصوم اليومين اللذين ذكرهما من الكفارة الأولى، ويستأنف الثانية، وإن شاء تمادى على صيام الكفارة التي هو فيها، وقضى الكفارة الأولى، على الاختلاف فيمن ذكر صلاة في صلاة، هل تفسد الصلاة عليه أم لا تفسد.
وقد ذهب بعض المتأخرين إلى أنه يجوز له أن يقضي اليومين في أثناء الكفارة، ويبني على صيامه، ولا يعد بذلك مفرقا لصيامه، إذ لم يتخلله فطر على ما قال ابن حبيب فيمن صام لظهاره شعبان وشوال، أنه يجزيه ولا يضره ما يخلل صيامه من صيام رمضان، وبالله التوفيق.(5/194)
[وجبت عليه رقبة فابتاع من رجل عبدا على أن يعتقه في الرقبة التي وجبت عليه]
من سماع محمد بن خالد من داوود بن سعيد قال محمد بن خالد: سألت داود بن سعيد بن أبي دينار، عن رجل وجبت عليه رقبة، فابتاع من رجل عبدا على أن يعتقه في الرقبة التي وجبت عليه، فأعتقه ثم علم بعد عتقه إياه أن نصفه حر، ونصفه رقيق، قد دلس له بذلك البائع، قال: يرده إلى البائع، ويأخذ الثمن منه ويعاقب بفعله؛ لأن نصفه لا يجزي عنه في رقبة، فلذلك يجب له رده. قال: قلت له: ولا يعتق على البائع بما رضي من بيعه على العتق، قال: لا يعتق عليه؛ لأنه إنما كان رضي أن يمضي عتقه بما كان أخذ من ثمنه، فإذا أخذ ذلك منه فليس براض.
قال محمد بن رشد: قول داوود هذا أنه يرده إلى البائع، ويأخذ منه الثمن. من أجل أنه لا يجزئ عنه في رقبة، خلاف المشهور في المذهب، المعلوم من قول مالك في الحج الثاني من المدونة وغيره، فيمن اشترى عبدا فأعتقه في ظهاره، أو بعيرا فقلده وأشعره، ثم أصاب به عيبا لا يجوز به العبد في الرقاب، ولا البعير في الهدايا، أنه يرجع بقيمة العيب، ولا يرده لفواته بالعتق أو بالفدى، ويجعل ما يأخذ في قيمته العيب فيما وجب عليه من بدله.
[المولى عليه يظاهر من امرأته أيعتق بغير إذن وليه]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب قال عبد الملك بن الحسن: سألت عبد الله بن وهب، عن المولى عليه، يظاهر من امرأته أيعتق بغير إذن وليه؟ قال: نعم، استحب ذلك له إذا كان موسرا، وإن لم يكن له إلا رأس واحد، فلا أحب له أن يعتق وعليه الصيام.
قال محمد بن رشد: قوله في السؤال: أيعتق بغير إذن وليه؟ معناه أيكون له أن يعتق بغير إذن وليه، فلا يكون لوليه أن يرد ذلك؟ وقوله في الجواب نعم، أستحب ذلك له، معناه أستحب أن يكون الحكم فيه ذلك إذا(5/195)
كان موسرا، وقوله: وإن لم يكن له إلا رأس واحد، فلا أحب له أن يعتق، معناه فلا أحب أن يكون الحكم في ذلك جواز العتق له، وهو نحو مذهب ابن القاسم؛ لأنه يجوز له العتق إن أعتق بغير إذن وليه في الموضع الذي يلزم وليه أن يعتق عنه بإذنه؛ ولأن من قول ابن القاسم أن وليه ينظر له في حبس امرأته أو إنماء ماله، وقال: وليس كلهم سواء، منهم من يقل ماله ومنهم من يكثر ماله، وليس كل النساء سواء، منهن من يكثر مالها، ومنهن من لا يكون لها ذلك المال في النساء، ولا الحال فلينظر له وليه على ما يرى من ذلك خيرا له وأصلح، فإن رأى أن يكفر عنه كفر، وليس في ذلك حرج مرة ولا مرتين، وإنما هو على الاجتهاد منه، وليس له إلى الصيام ولا إلى الإطعام سبيل؛ لأنه ممن يجد رقبة.
وأما قول ابن وهب وعليه الصيام، فهو خلاف قول ابن القاسم: وليس له إلى الصيام، ولا إلى الإطعام سبيل، فعلى قول ابن وهب، وهو اختيار ابن المواز، إذا لم يأذن له وليه في العتق، صار من أهل الصيام، فإن لم يكفر به وطلبته امرأته بالوطء، ضرب له أجل الإيلاء، فإن لم يكفر بالصيام، طلق عليه بالإيلاء، وعلى مذهب ابن القاسم، إن أبى وليه أن يعتق عنه وطلبته امرأته بالوطء، طلق عليه، ولم يضرب له أجل الإيلاء، إذ لا سبيل له إلى الوطء إلا بالكفارة، ولا سبيل له إلى الكفارة، وقد قيل: يضرب له أجل الإيلاء، وإن كان ممن لا يقدر على الوطء ولا على الكفارة، لعلها سترضى بالإقامة معه على غير وطء، فلا تطلق عليه حتى ينقضي أجل الإيلاء على ما قيل في الذي يحلف بطلاق البتة ألا يطأ امرأته. وابن كنانة يقول: إنما ينظر له وليه في أول مرة؛ لأن المرة الواحدة تأتي على الحليم والسفيه، فإن عاد إلى الظهار مرة ثانية لم يكفر عنه، وإن آل ذلك إلى الفراق، وبالله التوفيق.
[أوصى فقال أعتقوا عني عبدا في ظهار أو عبدا في قتل نفس]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم
من كتاب الوصايا قال أصبغ: قال لي ابن القاسم في رجل أوصى فقال: أعتقوا(5/196)
عني عبدا في ظهار، أو عبدا في قتل نفس، فلم يكن في الثلث إلا ثمن عبد واحد، وفضلة يسيرة لا تبلغ ثمن عبد آخر، قال: أرى أن يعتق ذلك العبد في قتل النفس، ويطعم عنه بالفضلة عن الظهار. وقال أصبغ: وذلك صواب؛ لأن الظهار يجوز فيه الإطعام لمن لم يجد، وهذا غير واجد، كما لو كان حيا، فوجبتا عليه جميعا، ولا يحد إلا هكذا، بدئ بكفارة القتل؛ لأنه لا إطعام فيه، ثم صار بعد بمنزلة مظاهر لا يجد رقبة، فإنه يصوم، فالميت مثله، غير أن الميت لا صيام له، ولا فيه ولا عنه. فالإطعام عنه بمنزلة الصيام كالذي لا يطيق الصوم فيطعم.
قال أصبغ: وهذا عندي في قتل الخطأ، فأما قتل العمد إن أوصى بالكفارة فيه، فإني أرى أن يبدأ بالظهار؛ لأن الكفارة عنه ليست بمفروضة ولا واجبة تفرض، فهي بمنزلة التطوع، فسألت ابن القاسم إذا لم يكن في الثلث في هذه المسألة إلا ثمن عبد واحد، أو كفارة واحدة، لا فضل فيها، قال: أرى ذلك إليهم يعتقون عن أي الكفارتين شاءوا ورأوا. قال أصبغ: وذلك رأيي، وما فعل من ذلك أجزأ. وأحب إلي أن يعتقوه عن القتل، لعله ينوب له مال، يوجد في قدره كفارة الظهار، فإن كان ممن يويس له، فليس في هذا استحباب يجعلونه على أي ذلك جعلوه. قال أصبغ: وإن كان في الثلث ثم عبد وفضلة قليلة لا تبلغ كفارة الظهار بالطعام، فإني أرى أن يبدءوا بالظهار؛ لأنه مما لا يجوز أن يشارك فيه في رقبة؛ لأن له مسلكا غير العتق إذا لم يخلص العتق موفرا لا يشرك فيه بالإطعام، وشورك بالباقي في رقبة؛ لأن قتل النفس لا إطعام فيه ولا مسلك له إلا العتق، أو صيام، ولا صيام في الميت ولا عنه، وإنما هو العتق، فإن لم يتم شورك به في عتق كمحمل الوصايا وغيرها من التشريك، قال أصبغ: قلت لابن القاسم: فإن لم يكن أوصى إلا بقتل نفس واحدة، فلم يكن في الثلث ثمن رقبة، وليس يكون في(5/197)
قتل النفس إطعام، أترى أن يرد ذلك إلى الورثة؟ قال: لا.
قلت: أَفَيُعَان به في عتق رقبة؟ قال: عسى؛ قال أصبغ: وهو رأيي أن يعان به، وهو مما يبين ما فسرت في الظهار والنفس إذا وجد في الثلث ثمن عبد وفضلة لا تبلغ الإطعام في الظهار، ويقوى ذلك، والله أعلم، وهو مذهب أهل العلم.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة، وتحصيلها في أول سماع عيسى، فلا معنى لإعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته أنت علي كظهر أبي أو غلامي]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يقول لامرأته: أنت علي كظهر أبي أو غلامي: إنه ظهار.
قال محمد بن رشد: ولو قال كأبي أو غلامي ولم يسم الظهر لم يكن ظهارا عنده، حكى ذلك ابن حبيب من رواية أصبغ، واختاره وقال مطرف: لا يكون ظهارا ولا طلاقا، وإنه لمنكر من القول، والصواب إذا لم يكن ظهارا أن يكون طلاقا، وهو ظاهر قول ابن وهب؛ لأنه قال في ذلك: إنه لا ظهار عليه، فكأنه رأى عليه الطلاق الظهار في ذلك يترجح على القول بإباحة وطء أدبار الزوجات؛ لأنه كأنه أشبه ما يباح له من ذلك في زوجته بما يحرم عليه منه في أبيه أو في غلامه تحريما مؤبدا، كما شبه الظهار بذوات المحارم ما يباح له من وطء زوجته، بما يحرم عليه وطؤه من ذوات محارمه تحريما مؤبدا، وقد روي عن ابن القاسم إباحة ذلك، ومذهب ابن وهب تحريمه والتغليظ فيه، فكأن كل واحد منهما جرى على أصله، وبالله التوفيق.
[ظاهر من امرأته فبدأ بالكفارة فصام أياما ثم قال لها أنت علي كظهر أمي]
من نوازل سئل عنها أصبغ بن الفرج
قيل لأصبغ: أرأيت رجل قال: امرأتي علي كظهر أمي، فبدأ بالكفارة، فصام أياما، ثم قال لها أيضا: أنت علي كظهر أمي. أترى(5/198)
أن يمضي على كفارته للظهار الأول، ثم يبتدي صياما آخر للظهار الثاني؟ قال: بل أرى أن يسقط ما مضى من صيامه، ثم يبتدئ من يوم ظاهر الظهار الثاني شهرين مستقلين، ولا أرى عليه استتمام الكفارة الأولى، وكذلك لو ظاهر مرارا في مجلس واحد أو مجالس مختلفة، قبل أن يكفر عن ظهاره الأول، لم يكن عليه إلا كفارة واحدة لجميع ظهاره، وذلك إذا كان ظهاره الأول لم يكن عليه إلا كفارة واحدة لجميع ظهاره، وذلك إذا كان ظهاره كله ظهارا بفعل واحد، مثل أن يقول: أنت علي كظهر أمي، ثم يقول في مجلس آخر: أنت علي كظهر أمي، ففعل ذلك في مجالس شتى، فكفارة واحدة مجزئة عن ذلك، وليس دخوله في الكفارة بالذي يوجب عليه إتمامها وابتداء آخر للظهار الآخر.
قلت: فلو ظاهر منها بفعل قال لها: أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا وكذا، فحنث، فوجب عليه الظهار، فابتدأ الصيام لكفارته، ثم صام أياما، فقال لها: أنت علي كظهر أمي ظهارا بغير فعل، حلف عليه، هل له أيضا أن يبتدئ الصيام للظهارين من يوم ظاهر الثانية، ويسقط عنه ما مضى من صومه؟ قال: نعم، ذلك له مثل الأول.
قلت: وهذان ظهاران مختلفان، ليسا من نوع واحد، ظهار الفعل، وظهار بغير فعل، كيف لا يكون عليه كفارتان، يمضي في الأولى للظهار الأول، ويتبدئ للظهار الآخر كفارة أخرى؟ قال: لا ليس ذلك عليه؛ لأن قوله الثاني: أنت علي كظهر أمي، فقد كان مظاهرا منها بفعل أو بغير فعل، فكأنه توكيد للظهار الأول.
قلت: فلو ظاهر منها ظهارا مجردا بغير فعل حلف عليه، فوجب عليه الظهار، فابتدأ الكفارة ثم قال: أنت علي كظهر أمي إن(5/199)
فعلت كذا وكذا، فحنث به؛ أيبتدئ صياما مستقبلا للظهارين جميعا ويسقط ما مضى من صيامه؟ قال: هذا خلاف الذي ابتدأ الظهار بالفعل، ثم ظاهر ظهارا مجردا بعد ذلك، هذا الذي ظاهر بغير فعل، ثم ظاهر بفعل، فقد وجب عليه الظهار الأول، ووجبت عليه الكفارة، فلما حلف بظهارها ألا يفعل شيئا فحنث، صار ظهارا آخر مبتدأ، أدخله عليه الحنث، لم يكن هو أدخله على نفسه ابتدأ بغير حلف، فيكون توكيدا للظهار الأول، فتجزيه كفارة واحدة، فعلى هذا كفارتان، يمضي في كفارته التي ابتدأ ويستقبل كفارة أخرى للظهار الآخر.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم أن الرجل إذا ظاهر من امرأته ظهارا بعد ظهار، أنهما إن كانا جميعا بغير فعل، أو جميعا بفعل في شيء واحد، والأول بفعل، والثاني بغير فعل، فليس عليه فيهما جميعا إلا كفارة واحدة، إلا أن يريد أن عليه في كل ظهار كفارة، فيلزمه ذلك، قاله في كتاب ابن المواز. قال أبو إسحاق: ويجوز له أن يطأ بعد الكفارة الأولى وقبل الثانية.
قال محمد بن رشد: بل هو الواجب؛ لأنه لو كفر قبل أن يطأ لم تجزه الكفارة، إذ ليس بمظاهر، وإنما هو حالف، كرجل قال: إن وطئت امرأتي فعلي كفارة الظهار، فلا تلزمه الكفارة حتى يطأ، بل لا تجزيه حتى يطأ، وقد مضى بيان هذا في رسم لم يدرك من سماع عيسى، وأنهما إن كانا جميعا بفعلين مختلفين، أو الأول منهما بغير فعل، والثاني بفعل، فعليه في كل واحد منهما كفارة، بحيث لم يجب عليه من ذلك إلا كفارة واحدة، إذا وقع الظهار الثاني بعد أن شرع في الكفارة للظهار الأول لم يجب عليه إتمامها، واستأنف كفارة الظهار من يوم أوقع الظهار الثاني، وحيثما وجب عليه في كل واحدة منهما كفارة كفارة، إذا وقع الظهار الثاني بعد أن شرع في الكفارة للظهار الأول، يجب عليه إتمامها، وابتدا كفارة أخرى للظهار الثاني، فهذا تحصيل قول ابن القاسم في هذه المسألة، وحكى ابن حبيب عن أصبغ أنه إذا كان الظهار الأول بفعل، والثاني(5/200)
بفعل، فعليه لكل واحد منهما كفارة، وإن كان الفعل واحدا وهو بعيد، ولابن الماجشون في ديوانه: إن كفارة واحدة تجزيه في كل ذلك، كيف ما كان، فعلى مذهبه إذا أوقع الظهار الثاني بعد أن شرع في الكفارة للظهار الأول، يبتدئ الكفارة من يوم أوقع الظهار الثاني، وإن كانا جميعا بفعلين، في شيئين مختلفين. وقد قيل: إنه إذا أوقع الظهار الثاني بعد أن شرع في الكفارة للظهار الأول، يتم الأول ثم يستأنف الثانية، وإن كانا جميعا بغير فعل، قال ابن المواز: وهو أحب إلي إن لم يبق من الأولى إلا يسير، وإن لم يكن مضى من الأولى إلا يسير، نحو اليومين والثلاثة، فإنه يتمها وتجزيه لهما. وقول ابن القاسم في هذه المسألة كلها أظهر الأقوال وأولاها بالصواب، وبالله التوفيق.
[المظاهر يقبل امرأته في شهري صيامه]
مسألة وسئل عن المظاهر يقبل امرأته في شهري صيامه، قال: لا شيء عليه، ويستغفر الله.
قال محمد بن رشد: لمطرف في سماع أبي زيد من كتاب الصيام خلاف هذا أنه يستأنف. وقد مضى القول في هذه المسألة وتحصيلها في آخر سماع أشهب، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: أعتق في رقبة واجبة منفوسا فكبر الصبي معيبا]
مسألة قيل لأصبغ: أرأيت من أعتق في رقبة واجبة منفوسا فكبر الصبي أخرسا أو أصما أو مقعدا أو مطبقا جنونا، أعليه بدلها؟ قال أصبغ: ليس ذلك عليه وقد أجزته. وهذا شيء يحدث، وكذلك لو ابتاعه فكبر على مثل هذا، لم يلحق البائع شيئا من ذلك.
قال محمد بن رشد: تعليله لإجزاء ذلك عنه في الكفارة، وأنه لا رجوع(5/201)
له في ذلك على البائع بشيء، بأن هذا شيء يحدث، ليست بعلة صحيحة؛ لأن ما يحدث ويقدم من العيوب، إذا أمكن أن يعلم يلحق البائع فيه اليمين، ولا يجزئ عن المكفر في الكفارة إذا كان العيب مما لا يجوز في الرقاب، فالعلة في ذلك إنما هي أن هذا مما يستوي البائع والمبتاع في الجهل بمعرفته، ولا يمكن أن يعلم ذلك أحد، فلم يكن له حكم العيب في قيام المبتاع فيه على البائع، ولا في عدم الإجزاء في الكفارة؛ لأن المكفر قد أدى ما تجب عليه باجتهاده، ولم يقصر، فلا درك عليه فيها لا يمكن أن يعلم، إذ لم يكلف معرفة ما ليس في وسعه من ذلك؛ قال الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
[يقول لامرأته قد جعلت أمرك بيدك فتقول أنا عليك كظهر أمك]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر
من ابن القاسم حدثنا عبد الرحمن بن أبي الغمر قال: سئل ابن القاسم عن الرجل يقول لامرأته: قد جعلت أمرك بيدك، فتقول: أنا عليك كظهر أمك، قال: ليس ذلك لها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الزوج إنما ملكها في الطلاق، فليس لها أن توجب عليه أن لا يقربها حتى يكفر كفارة الظهار، فإذا لم يكن ذلك لها، فقد سقط ما كان بيدها من التمليك إذا قضت بما ليس لها، إلا أن تقول: أردت بذلك الطلاق، فيكون ثلاثا، إلا أن يناكرها الزوج فيما فوق الواحدة، والله أعلم.
[مسألة: ظاهر من امرأته فأعطته رقبة يعتقها في ذلك]
مسألة وقال: في رجل ظاهر من امرأته، فأعطته رقبة يعتقها في(5/202)
ذلك، قال: إن كانت أعطته بشرط يعتق عنها، فذلك غير جائز، وإن كانت أعطته بغير شرط، فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأنها إذا أعطته إياها أو ثمنها على أن يعتقها، فلم يملكها قبل العتق ملكا تاما، لما لزمه من عتقها بالشرط الذي شرطت عليه. وقد قال في المدونة: أن لا تجزيه أن يعتق إلا رقبة يملكها قبل العتق، ولا يعتق عليه، فصار بمنزلة من اشترى من يعتق عليه فأعتقه عن ظهاره، ولا هي أيضا أعتقها عنه بإذنه، فيجزيه على اختلاف في ذلك أيضا. ولا يرد العتق وإن لم يجزه عن ظهاره، واختلف في ماله، ففي المدونة لابن نافع أن ماله تابع له، ولا يقبل قول المرأة فيه. وقال ابن القاسم: القول قولها أنها أعطته بغير مال، ويكون لها المال، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال أعتقوا عني رأسا من رقيقي وله عشرة أرؤس في ظهار وجب عليه ثم مات]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل قال: أعتقوا عني رأسا من رقيقي، وله عشرة أرؤس في ظهار وجب عليه ثم مات. قال: الورثة مخيرون يعتقون أيهم شاءوا، إذا كان ممن يجوز في الظهار.
قلت: أرأيت إن كان عبيده كلهم عميًّا؟ قال: إن كان الذي أوصى عالما أنه ليس من عبيده واحد يجوز في الظهار، رأيت أن يسهم بينهم فيعتقوا واحدا منهم، وإن كان ممن يظن أن أحدهم يجوز عنه في الظهار، يعذر بالجهالة، يخرج عشر قيمتهم، فيشتري رقبة صحيحة، قيل له: لا يوجد، قال: بل يوجد صغيرا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الورثة مخيرون في عتق من شاءوا منهم إن كانوا ممن يجوز في الرقاب، خلاف قوله في أول سماع عيسى مثل قول أصبغ فيه. وقوله إن كان عبيده كلهم عمي: إنه يسهم بينهم إن كان الموصي عالما بذلك، وإنه يباع منهم بعشر قيمتهم إن لم يكن عالما بذلك، بيان لما في(5/203)
سماع عيسى. وقد مضى هنالك القول على هذا المعنى مستوفى، فلا معنى لإعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت علي كظهر أمي إن لم أتزوج عليك]
مسألة قال ابن القاسم: في رجل قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي إن لم أتزوج عليك، فأخذ في الكفارة، فلما صام شهرا وقع بين امرأته وبينه مشاجرة. فقال لها: أنت علي كظهر أمي إن لم أتزوج عليك، قال: يبتدئ شهرين من يوم ظاهر الظهار الآخر. قيل له: فإن ابتدأ، فلما صام أياما أراد أن يبر بالتزويج فيتزوج عليها، فقال: إذا تزوج عليها سقطت عنه الكفارة، وبطل عليه الصيام.
قال محمد بن رشد: لا يجب على الرجل الظهار بقوله: امرأتي علي كظهر أمي إن لم أتزوج عليها؛ لأنه يحنث بعد، ولا يقع عليه الحنث بذلك إلا بعد الموت، إلا أن الكفارة تجزيه قبل الحنث؛ لأنها يمين هو فيها على حنث، فإن أراد أن يكفر ليحل عن نفسه الظهار، فيجوز له الوطء، كان ذلك له، وإن لم يفعل وطالبته امرأته بالوطء ورفعته إلى السلطان، ضرب له أجل الإيلاء، إذ لا يجوز له أن يطأ إلا أن يكفر، فإن هو لما أخذ في الكفارة قال لها مرة أخرى: أنت علي كظهر أمي إن لم أتزوج عليك، عاد إلى ما كان عليه قبل أن يبتدئ الكفارة، وسقط ما مضى منها، ولم يكن له أن يطأها حتى يستأنف الكفارة، على ما قال، ولم يكن عليه أن يتم الكفارة التي دخل فيها، ثم يستأنف الكفارة لليمين الأخرى؛ لأن اليمينين جميعا على فعل واحد، فلا يلزمه فيهما إلا كفارة واحدة حسب ما مضى بيانه في نوازل أصبغ، فإن تزوج عليها بر بالتزويج، وانحلت عنه اليمين، ولم يكن عليه إتمام ما دخل عليه فيه من الكفارة. وهذا كله بين، وقد مضى ما يزيده وضوحا وبيانا في رسم لم يدرك، من سماع عيسى، وبالله التوفيق، لا رب غيره، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(5/204)
[كتاب التخيير والتمليك الأول]
[قال لرجل وتحته ابنته اقبل مني ابنتك وقد بنى بها قال ذلك على وجه الغضب]
كتاب التخيير والتمليك الأول(5/205)
من سماع ابن القاسم
من كتاب قطع الشجر قال: قال سحنون: أخبرني ابن القاسم، قال: سئل مالك عن رجل قال لرجل وتحته ابنته: اقبل مني ابنتك، وقد بنى بها، قال: ذلك على وجه الغضب، فقال: قد قبلتها منك، ثم قال: على أن تردوا علي مالي قال: لا أرده عليك، فقال: أراها قد بانت منه بتطليقة، وأرى أن يخطبها بنكاح مستأنف، وتكون عنده على اثنين، ولا أرى له من المال الذي استثنى شيئا، إذا لم يكن ذلك نسقا واحدا، وذلك أنه أراد المباراة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى على أصل ابن القاسم وروايته عن مالك في أن مباراة الرجل امرأته طلقة بائنة، وإن لم يأخذ منها على ذلك شيئا قياسا على مخالعته إياها على شيء يأخذه منها؛ لأنها مفارقة يتفقان عليها في الوجهين جميعا، فرأى أن اتفاق الرجل مع أبي المرأة على قبوله إياها، هو وجه المباراة؛ لأن المباراة مفاعلة، فلا تكون إلا من اثنين، فسواء كانت من الزوجين أو من الزوج وأبي الزوجة، فلهذا قال: وذلك أنهما أرادا المباراة، فلما كانت تبين منه بقبول أبيها إياها على وجه المباراة، كان قوله بعد ذلك على أن تردوا علي مالي ندما منه، لا ينتفع به إلا(5/207)
أن يكون نسقا متتابعا بالكلام، كما قال، وذلك بمنزلة أن يطلق الرجل امرأته، ثم يقول بعد ذلك إن شاء زيد، وما أشبه ذلك، أن ذلك لا ينفعه، إلا أن يكون الكلام متصلا متتابعا.
[مسألة: قال لامرأته أقضي ديني وأفارقك فقضته ثم قال لا أفارقك]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: أقضي ديني وأفارقك، فقضته ثم قال: لا أفارقك، حق كان لي عليك أعطيتنيه، قال: أرى ذلك طلاقا إذا كان ذلك على وجه الفدية، قال: فإن لم يكن على وجه الفدية أحلف بالله ما كان على وجه الفدية، وما أردت إلا أن أطلقها إلا بعد ذلك، إذا أقضتني، ويكون القول قوله.
وسئل عن المرأة إذا قالت: خذ مني هذه العشرين، وفارقني، قال: نعم، ثم قال حين قبضها: لا أفارقك قال: أراه قد فارق، وما أرى الذي قال لامرأته أقضي ديني على وجه الفدية وأفارقك، فكسرت شيها وأعطته إلا بمنزلة الرجل يقول لغريمه: أعطني كذا وكذا من حقي ولك منه كذا وكذا يلزمه، ويثبت عليه، وكأني أرى الطلاق يشبهه، فأراها أملك بنفسها في هذا، والله أعلم.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي قال لامرأته: أقضي ديني وأفارقك، ثم قال: لا أفارقك، حق كان لي عليك فقضيتنيه، أن ذلك يكون طلاقا إذا كان على وجه الفدية، معناه: إذا ثبت أن ذلك كان على وجه الفدية ببساط، تقوم عليه بينة، مثل أن تسأله أن يطلقها على شيء تعطيه إياه، فيقول لها: اقضي ديني وأفارقك، وما أشبه ذلك، أو يقر بذلك على نفسه، فإذا ثبت ذلك أو أقر به على نفسه، كان خلعا ثابتا، وإن لم تكن كسرت فيما قضته شيها، ولو كسرت فيه شيها كان أبين، على ما قال في آخر المسألة، فإن لم يثبت ذلك ولا أقر به، وادعى أن ذلك لم يكن منها على وجه الفدية، وأنه لم(5/208)
يرد بذلك إيجاب الطلاق على نفسه، حلف كما قال على الوجهين جميعا، يحلف بالله ما كان على وجه الفدية، وما أراد إلا أن يطلقها بعد ذلك إذا قضته، ووقع في المبسوط من رواية ابن نافع عن مالك، أنه يحلف ما أراد أن يطلقها إذا قضته، وليس ذلك بخلاف لقوله هاهنا، والمعنى في ذلك أنه يحلف على ما ادعى أنه أراده من ذلك، وقد روي عن مالك: أن الفراق يلزمه، ولا يكون من اليمين، وهو قول أصبغ، واختيار ابن المواز، قال: لأن قبضه لما قبضه منها وجه خلع، والأول هو اختيار ابن القاسم، وقع اختلاف قول مالك في هذا، واختيار ابن القاسم في رسم أوصى، من سماع عيسى.
وأما الذي قالت امرأته: خذ مني هذه العشرين دينارا وفارقني، فقال: نعم، ثم قال حين قبضها: لا أفارقك، فلا اختلاف في أن ذلك خلع قد تم، وكذلك لو قال لها هو ابتداء: أعطني عشرين دينارا وأفارقك، فلما قبضها قال: لا أفارقك، لم يكن ذلك لها له؛ لأن قبضه العشرين منها رضا منه بالمفارقة، واختلف إن قال لما أتته بها: لا أقبلها، ولا أفارقك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الفراق يلزمه. والثاني: أنه يلزمه ويحلف، وهو قول ابن القاسم في رسم العرية، من سماع عيسى. والثالث: الفرق بين أن تبيع فيه متاعها، وتكسر فيه عروضها، وبين أن تأتيه بها من غير شيء تفسده على نفسها. وهو قول ابن القاسم في آخر سماع أبي زيد. وكذلك إن كان له عليها دين إلى أجل، فقال لها: إن عجلت لي ديني أفارقك، فعجلته له وقبضه منها، يلزمه الطلاق بإجماع؛ لأن قبضه منها قبل حلوله رضا منه بالمخالعة، ويرد المال إليها إلى أجله؛ لأن تعجيله على الطلاق حرام، ولو كان لما أتته به أبى من أخذه ومن طلاقها، لجرى ذلك على الثلاثة الأقوال المذكورة، وستأتي هذه المسألة في رسم العرية من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن دعوتني إلى الصلح فلم أجبك فأنت طالق]
مسألة وقال مالك: فيمن قال لامرأته: إن دعوتني إلى الصلح، فلم أجبك، فأنت طالق، فدعته إلى دينار، فقال: لم أرد هذا إنما أردت نصف متاعها أو مثل مهرها، قال: ذلك إليه، ويحلف، ثم يخلى بينه(5/209)
وبين ذلك. قال ابن القاسم: وإن لم تكن له نية فلم يجبها حنث.
قال محمد بن رشد: قوله: ويحلف، يدل على أنه لم يكن مستفتيا في يمينه، وإنما كان مخاصما فيها، فادعى البينة بعد إقراره باليمين أو قيام البينة عليه بها، ولو كان مستفتيا لم يحلف، وإنما وجب أن ينوى مع قيام البينة؛ لأنها نية محتملة، ليست بمخالفة لظاهر لفظه، من أجل أن الألف واللام في لفظة الصلح، يحتمل أن تكون للجنس فتعم أنواع الصلح بالقليل والكثير، ويحتمل أن يكون للعهد وهو الذي يشبه أن يتخالع به الزوجان، كما ادعى. ولو قال لها: إن دعوتني إلى صلح فلم أجبك، فأنت طالق، لوجب أن لا ينوى مع إيقام البينة؛ لأن لفظة صلح نكرة، فهي تقع على كل صلح، بقليل أو كثير، كمن حلف ألا يدخل بيتا فقال: نويت شهرا وما أشبه ذلك. وقول ابن القاسم، وإن لم تكن له نية، ولم يجبها حنث صحيح، مبين لقول مالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: خالع امرأته على أن تخرج إلى بلد غير بلده]
مسألة وقال مالك: من خالع امرأته على أن تخرج إلى بلد غير بلده، أخذ منها على ذلك شيئا، أو لم يأخذ، ثم أبت أن تخرج فهي على خلعها ولا تجبر على الخروج.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الخلع عقد يشبه عقد النكاح إذ تملك به المرأة نفسها، كما يملك بالنكاح المرأة زوجها، فوجب ألا تلزم الشروط فيه بالخروج من البلد، أو الإقامة فيه أو ترك النكاح، وما أشبه ذلك من تحجير المباح، كما لا يلزم شيء من ذلك في النكاح، إلا أن يكون بعقد يمين، مثل أن يقول: فإن فعلت فعبدها حر، ومالها صدقة على المساكين، فيلزمها إن فعلت حرية عبدها، أو الصدقة بثلث مالها، ولو خالعها على أن تخرج من البلد، فإن لم تفعل فعليها لغير زوجها كذا وكذا، لحكم عليها بذلك له، على القول بأن من حلف بصدقة شيء بعينه، وعلى رجل بعينه(5/210)
فحنث، أنه يجبر على ذلك. والقولان في المدونة. ولو قال: فإن لم تفعل فعليها لزوجها كذا وكذا لبطل ببطلان الشرط، ولم يكن له من ذلك شيء على قياس أول مسألة من رسم سعد بعد هذا. ولو اشترط عليها أن تخرج من المنزل الذي كانت تسكن فيه معه، لم يجز الشرط؛ لأنه شرط حرام، ولزمها أن تسكن فيه طول عدتها، ولا شيء عليها، إلا أن يشترط عليها كراءه، فيجوز ذلك. قاله في كتاب إرخاء الستور من المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أقر أن امرأته اختلعت منه على أن تعطيه شيئا من مالها وأنكرت]
مسألة وقال مالك فيمن أقر أن امرأته اختلعت منه على أن تعطيه شيئا من مالها وأنكرت ذلك، ولا بينة بينهما: إنه إن أقر أن الخلع قد ثبت ووقع الفراق، فقد وقع عليه الطلاق، ويحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما أعطته شيئا من مالها، فإن قال: إنما كان ذلك بيني وبينها على أن تعطيني ما سمت، فإن تمت على ذلك وتم ذلك لي، وقع الخلع بيني وبينها، فإن لم تتم على ما قالت، لم يقع بيني وبينها شيء أحلف على ذلك، وقرت عنده، قال سحنون: في هذه المسألة جيدة جدا. وقال أصبغ: إنما يجوز دعوى الزوج. وقوله: إني إنما أردت أنها إن أعطتني ما سمت، وإلا فلا صلح بيني وبينها، إذا كان دعواه هذا متصلا بإقراره بالصلح نسقا واحدا، فإما أن يقر بالصلح أولا، ثم يقول بعد ذلك: إنما أردت إن أعطتني ما سمت، وإلا فلا صلح بيني وبينها، فلا يقبل قوله، ويمضي الصلح، ولا أرى له إلا ما أقرت به المرأة.
قال محمد بن رشد: المسألة صحيحة جيدة، على ما قال سحنون، وقول أصبغ مبين لقول مالك، على معنى ما في المدونة في الذي يخالع امرأته، فيخرج ليأتي بالبينة ليشهد عليها فتجحد أن الطلاق له لازم، وتحلف هي، ولا يلزمها شيء مما ادعى الزوج أنها خالعته عليه، فلا اختلاف في أن الرجل(5/211)
إذا أقر أنه خالع امرأته فيما بينها وبينه على شيء سمته له، أن الطلاق له لازم، أقرت أو أنكرت، وتحلف إن أنكرت، ولا يكون عليها شيء مما زعم الزوج أنها سمته له في الخلع، إلا أن يكون إقراره إنما كان على أنه خالعها على أنها إن أعطته ما سمت له، وإلا فلا خلع بينه وبينها كما قال أصبغ: وإنما اختلفوا إذا قال الرجل وامرأته غائبة: اشهدوا أني قد بارأت امرأتي على كذا وكذا، على قولين: أحدهما: أن الطلاق له لازم، وتسأل المرأة، فإن أمضت له ما باراها عليه، لزمها ذلك، وإن لم تمضه لم يلزمها. وهذا قول أصبغ في الواضحة. والثاني: أنها تسأل، فإن أمضت له ما بارأها عليه، مضى الخلع عليه حينئذ، وإن لم تمضه، لم يلزمه الخلع، وكانت امرأته، والله الموفق.
[صالحته امرأته على أن يفارقها وتعطيه شيئا من مالها]
ومن كتاب سعد في الطلاق وقال مالك في رجل صالحته امرأته على أن يفارقها وتعطيه شيئا من مالها، على ألا ينكح أبدا، فإن فعل، فما أخذه منها رد إليها. قال مالك: له المال الذي أعطته في الذي أعطاها من فراقه إياها، وأما ما شرطت ألا يتزوج أبدا، فإن ذلك ليس عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا لم يلزمه بالشرط ألا يتزوج على ما ذكرناه في الرسم الذي قبل هذا، فأحرى ألا يلزمه به، أن يرد إليها ما أخذ منها إن نكح؛ لأن الخلع يئول بذلك إلى فساد، إذ لا يدري، هل يرجع إليها مالها، فيكون سلفا، أو لا يرجع فيمضي بالفراق؟ ويلزم في هذه المسألة على قياس ما في سماع عيسى، عن ابن القاسم من كتاب طلاق السنة في الخلع بثمرة لم يبد صلاحها أن يمضي الخلع، ويكون لها خلع مثلها، وهذا إذا عز على ذلك قبل أن يدفع إليها ما خالعته عليه، وأما إن لم يعز على ذلك حتى دفعت إليه ما خالعته عليه، وغاب عليه، فينفذ الخلع، ويبطل الشرط؛ لأن فسخه ورده إلى خلع مثلها، تتميم للفساد الذي اقتضاه الشرط، وبالله التوفيق.(5/212)
[مسألة: يملك امرأته أمرها فتقول قد قبلت لأنظر في أمري]
مسألة قال: وقال مالك في الرجل يملك امرأته أمرها فتقول: قد قبلت لأنظر في أمري، فيقول: ليس ذلك لك، أو يقول: فانظري، أو يقول: بعد قوله لها انظري الآن، وإلا فلا شيء لك، قال مالك: ذلك بيدها حتى يقفها السلطان، فتطلق أو تترك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة كان يمضي لنا فيها عند من أدركنا من الشيوخ أنها مسألة صحيحة مبينة لما في المدونة من أن المملكة إذا قيدت القبول في المجلس، بأن تقول: قد قبلت لأنظر في أمري، أو قد قبلت أمري، وقالت: أردت بذلك قد قبلت أن أنظر فيما جعل إلي، أن ذلك بيدها حتى يقفها السلطان، على القول: بأنه ليس لها أن تقضي إلا في المجلس، وأن المسألة تخرج من الخلاف بتقييد القبول في المجلس، وليس ذلك بين؛ لأن المسألة إنما تخرج من الخلاف، ويكون لها أن تقضي ما لم يقفها السلطان، إذا قيدت القبول في المجلس بحضرة الزوج، فلم ينكر عليها ذلك؛ لأن سكوته على ذلك، كالإذن منه لها في ذلك، بمنزلة أن لو قال لها: أمرك بيدك، تنظرين لنفسك، وإن انقضى المجلس.
وأما إذا قالت: قبلت لأنظر في أمري، فرد عليها قولها، وقال لها: ليس ذلك لك، إما أن تقضي الآن، وإلا فلا شيء لك، كما قال في هذه الرواية، فالمسألة جارية على القولين، يسقط ما بيدها بانقضاء المجلس في القول الواحد، ولا يسقط في القول الثاني حتى يوقف؛ لأنه لما رد عليها قولها، بقي الأمر على حكم التمليك المبهم في دخول القولين فيه، والذي يبين هذا أنه لو قال لها: أمرك بيدك على أن تقضي في مجلسنا هذا أو تردي، لم يكن لها أن تقضي بعد انقضاء المجلس باتفاق، ولو قال لها: أمرك بيدك ولا عليك أن تعجلي بالقضاء في المجلس؛ لكان الأمر بيدها، وإن انقضى المجلس باتفاق، وإنما وقع الاختلاف إذا أبهم، فمرة رأى مالك مواجهته لها بالتمليك، كلاما يقتضي الجواب في المجلس، كالمبايعة. ولو قال رجل لرجل: قد بعتك سلعتي بعشرة دنانير إن شئت، فلم يقل أخذتها بذلك حتى انقضى المجلس،(5/213)
لم يكن له شيء باتفاق، ومرة رأى أن التمليك أمر خطير، يحتاج فيه إلى النظر والروية، فجعل الأمر بيد الزوجة، وإن انقضى المجلس، بخلاف البيوع. وإذا وقفها الإمام بعد انقضاء المجلس، فقالت: أخرني أرى رأيي وأستشير. فليس ذلك لها. وإنما ذلك في مجلسه على ما في سماع أشهب في المولي يوقف، فيسأل أن يؤخر حتى يرى رأيه، وعلى ما في سماعه أيضا من كتاب الشفعة في الشفيع يسأل أن يؤخر حتى ينظر ويرى رأيه.
وقد ذهب بعض المتأخرين إلى أنها تؤخر ثلاثة أيام حتى يرى رأيه، على ما روى ابن عبد الحكم عن مالك في الشفيع، أنه يؤخر ثلاثة أيام ليرى رأيه، وعلى الحديث في المصرات أنه بالخيار ثلاثا ليرى رأيه في الأخذ أو الرد؛ لأن حال التصرية يعلم فيما دون ذلك، والأمر محتمل. وفي قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعائشة لما خيرها، «ولا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك» تعلق لكلا القولين، إذ قد يحتمل أن يكون ذلك إعلاما بمالها من الحق في ذلك، وأن يكون حقا أوجبه لها بقوله ذلك، والله الموفق.
[مسألة: أعطت المرأة زوجها شيئا على أن يخيرها فليفعل فاختارت نفسها]
مسألة وقال مالك: إذا أعطت المرأة زوجها شيئا على أن يخيرها، فليفعل فاختارت نفسها، فهي ثلاث ألبتة، ولا تحل له حتى تنكح زوجا، وذلك أن الخيار إذا خيرها يقول: اختاري أن تقيمي أو(5/214)
تذهبي، وليس بمنزلة التمليك.
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في الرجل يملك امرأته أو يخيرها على شيء تعطيه إياه، فمرة رأى التخيير والتمليك في ذلك جار على سنته، لا تأثير لما أعطته من المال في شيء من ذلك؛ لأنها إنما أعطته المال على أن يملكها أو يخيرها، فإذا ملكها أو خيرها وجب له المال، وكان لها هي في ذلك سنة الخيار والتمليك، وهو قوله في هذه الرواية، فإن خيرها فقضت بالثلاث، لم يكن له أن يناكرها، وإن قضت بواحدة أو اثنتين، لم يكن لها شيء، وإن ملكها فقضت بما فوق الواحدة كان له أن يناكرها في ذلك، وتكون له الرجعة، ومرة رآها بما أعطته من المال على أن يملكها أو يخيرها في حكم المملكة أو المخيرة قبل الدخول؛ لأنها تبين بالواحدة بسبب المال، كما تبين المطلقة قبل الدخول بواحدة، بسبب أنه لا عدة عليها، فيكون له أن يناكرها في التخيير والتمليك إن قضت بما فوق الواحدة، وتكون طلقة بائنة، وعلى هذا القول يأتي قول ابن القاسم في رسم أوصى، ورسم إن خرجت، من سماع عيسى. وعليه قيل: إن من أعطته امرأته شيئا على أن يطلقها ثلاثا فطلقها واحدة، أنها لا حجة لها في ذلك، إذ قد نالت بها ما نالت بالثلاث، إذ هي بائنة، والله الموفق للصواب بفضله.
[يريد سفرا ويقول لامرأته إن لم آتك إلى أجل كذا وكذا فأمرك بيدك]
ومن كتاب حلف ألا يبيع سلعة سماها وسئل عن الرجل يريد سفرا، فتقول له امرأته: إني أخاف أن تبطئ عني، فيقول لها: إن لم آتك إلى أجل كذا وكذا، فأمرك بيدك، فمر الأجل، وتقيم بعد ذلك الشهر والشهرين، فتختار نفسها. أترى ذلك لها؟ وتقول: إني إنما أقمت انتظارا ولم أترك ذلك. قال: أرى الخيار لها. قلت له: أفترى أن تستحلف في مثل هذا أن إقامتها لم تكن تركا للخيار؟ قال: أرى أن يستحلف النساء في مثل هذا، وما أرى ذلك عليها.
قال محمد بن رشد: رأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - للمرأة أن تقضي في(5/215)
نفسها بما وجب لها من التمليك بعد الشهر والشهرين، بخلاف المواجهة بالتمليك؛ لأن مواجهتها بالتمليك تقتضي الجواب منها في المجلس، فاختلف في ذلك قول مالك، ولم يختلف قوله في هذه إلا في إيجاب اليمين عليها، فلم يوجب ذلك عليها هاهنا.
وأوجبه عليها في كتاب ابن المواز، وهو قول ابن القاسم من رواية ابن عبد الحكم عنه في رسم جاع، من سماع عيسى. وهذا على الاختلاف المعلوم في لحوق يمين التهمة، ولو أقامت أكثر من الشهر والشهرين؛ لعد ذلك منها رضا، ولم يكن لها خيار، بخلاف الأمة تعتق تحت العبد، فيكون لها الخيار وإن طال الأمر، ما لم يطأها بعد العتق، والفرق بين المسألتين، أن منعها نفسها من العبد، دليل على أنها على خيارها، وإن طال الأمر، وأما في هذه المسألة، فلا دليل معها في أنها على خيارها من أجل أن الزوج غائب عنها، ولو جعل أمرها بيدها إن تزوج عليها؛ لكانت مثل مسألة الأمة تعتق تحت العبد، بدليل امتناعها منه. وقد قيل: إنها كالمواجهة بالتمليك، فيكون لها أن تقضي وإن طال الأمر، ما لم يوقف وهو قول ابن المواز من رأيه على قياس قول مالك، في أن للمملكة القضا ما لم يوقف، وقيل: لا يكون لها أن تقضي إذا انقضى المجلس الذي وجب لها فيه التمليك، وهو قول ابن وهب من سماع يحيى، وقول أشهب في سماع زونان، وقول ابن القاسم في رسم شهد، من سماع عيسى، من كتاب النكاح، على قياس قول مالك الأول، في أنه لا قضاء للمملكة المواجهة بالتمليك بعد انقضاء المجلس، فيتحصل في المواجهة بالتمليك قولان، وفي التي لم تواجه بالتمليك ثلاثة أقوال، وبالله التوفيق.
[مسألة: تختلع من زوجها على أن يسلم إليها متاعها وتسلم إليه متاعه]
مسألة وسئل مالك عن المرأة تختلع من زوجها على أن يسلم إليها متاعها، وتسلم إليه متاعه، ويتفرقان على ذلك. قال: هذا خلع بائن، قيل له: فإنها لم تعطه شيئا، قال: فيقول لها: أنت طالق، كأنه يقول لها: فتطلق بغير مخالعة، قيل أفتراه بائنا؟ قال: نعم.(5/216)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنها خالعته على أن يسلم كل واحد منهما إلى صاحبه متاعه، فأسلمت إليه ما ظهر من متاعه، ولم تعطه شيئا مما غابت له عليه منه، وزعمت أنها لم تغب له على شيء، ولا له عندها شيء، فلزمه الخلع بظاهر الحكم، ولم يصدق فيما ادعى مما يبطله عنه من جحدها لمتاعه الذي إنما خالعها على أن تقر له به، وتعطيه إياه وأمره أن يطلقها، فيقول: أنت طالق استحسانا، لئلا تخرج، ويأثم إن تزوجت، وليجوز له أيضا هو نكاح إن شاء، أو رابعة إن كان عنده ثلاث سواها، إذ هي بائنة، في عصمته في باطن الأمر، إن كان صادقا؛ لأن حكم الحاكم في الظاهر، لا يحيل الأمر عما هو عليه في الباطن عند من علمه، ولو أقرت له بالمتاع، لحكم عليها بدفعه إليه، ولو قال: إنها أقرت له بمتاعه، فخالعها على أن تدفعه إليه فجحدت، إن تكن أقرت له بشيء للزمه الخلع في الظاهر والباطن، ولم يكن عليها إلا اليمين، ما أقرت بشيء على معنى ما في المدونة وما مضى في آخر مسألة من الرسم الأول، من السماع، وبالله التوفيق.
[يطلق امرأته وله منها بنت، فألقتها أمها إليه]
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك عن الرجل يطلق امرأته، وله منها بنت، فألقتها أمها إليه، وقالت: ليس لي بابنتك حاجة، فدفعها إلى امرأته، وقالت له: إن وجدت شيئا تعطيني أخذتها منك، وإلا أرضعتها لك باطلا، فقامت جدة البنت أم امرأته فقالت: لا أسلم ابنة ابنتي، وأنا آخذها، فقال له مالك: أله سعة؟ قال: لا، قال: لا أرى ذلك لها، كأنه يقول: لا تأخذوا منه شيئا في معنى ما رأيت منه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه إذا كان الأب معسرا فليس للجدة أن تأخذها، إلا أن تلتزم إرضاعها، إذ قد سقط ذلك عن الأب لعدمه، ولو كان موسرا لكان للجدة أن تأخذها، ويكون على الأب أجرة رضاعها على معنى ما في المدونة، خلاف ما روى ابن وهب عن مالك في(5/217)
الأب الموسر، يجد من يرضع له ولده باطلا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يخير امرأته قبل أن يدخل بها وهي ممن لم تحض فتختار نفسها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يخير امرأته قبل أن يدخل بها، وهي ممن لم تحض فتختار نفسها، أفتراه طلاقا؟ قال: نعم، إذا كانت قد بلغت في حالها، يريد بذلك مبلغ التي توطأ فيما ظنت، قال سحنون: لها الخيار وإن لم تبلغ؛ لأنه هو الذي جعل ذلك إليها.
قال محمد بن رشد: القائل يريد بذلك مبلغ التي توطأ مثلها. هو ابن القاسم، ولمالك في رسم بع ولا نقصان عليك، من سماع عيسى، من قول مالك: أن الطلاق يلزمها، وإن لم تبلغ مبلغا يوطأ مثلها، إذا كانت قد عقلت وعرفت ما ملكت فيه معنى الخيار والطلاق، لاستؤني بها حتى تعقل ثم تختار. وقاله ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب النكاح، وهو مفسر لقول مالك هاهنا. وقول سحنون: لها الخيار وإن لم تبلغ، يحتمل أن يريد وإن لم تبلغ المحيض، وأن يريد وإن لم تبلغ مبلغا يوطأ مثلها، إذا كانت قد بلغت مبلغا تعقل فيه، فهو أحق بتبيين ما أراد، ومثله أيضا لابن القاسم في سماع أبي زيد، من كتاب النكاح، فتفسيره هذا لقول مالك ضعيف، إذ الموجود له ولمالك خلافه، ولو كانت صغيرة لم تعقل فيه، وتعرف معنى الطلاق والخيار، فليس قوله بخلاف لقول مالك، ومن تأول عليه أنه أراد أن لها الخيار، وإن لم تبلغ مبلغا تعرف فيه معنى الطلاق، فقد أبعد، والله أعلم.
[مسألة: حلف لسيده بأن امرأته حرام إن أبق]
مسألة وسئل مالك عن عبد حلف لسيده بأن امرأته حرام إن أبق، وقد كان أبق منه قبل ذلك، فغاب عنه ليلة، فلقي سيده صاحب الإباق فجعل على يديه فلقيه بالبلاط، فقال له الغلام: إني لم أبق، ولكني حملت البارحة إلى العقيق، وأجرت فيه نفسي، فهذا خراجي(5/218)
معي، فجاء صاحب الإباق فأخبره ثم جاء بعد ذلك الغلام، فقال ذلك، فقال مالك: لا أرى هذا إباقا، ولا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا بين، على ما قال: إن مغيبه عن سيده على هذا الوجه ليس بإباق، وقوله: ولا أرى عليه فيه شيئا، معناه لا أرى عليه فيه طلاقا، ولو ادعت امرأته عليه أنه إنما غاب على سبيل الإباق، كما كان فعل قبل ذلك، إذ حلف لسيده ألا يابق؛ لكان لها أن تحلفه إلا أن يأتي بسبب يعلم به صدقه فيما زعم من أنه غاب في إجارة نفسه، والله أعلم.
[مسألة: صالحت زوجها واختلعت منه فظنوا أن صلحهم لا يتم إلا أن يجعل أمرها بيدها]
مسألة وسئل عن امرأة صالحت زوجها واختلعت منه، فظنوا أن صلحهم لا يتم إلا أن يجعل أمرها بيدها، فيفعل ذلك، فتختار نفسها. قال: هي واحدة إلا أن يكون سما أكثر من ذلك، ويخطبها مع الخطاب.
قلت له: إنه قد كان ملكها. قال: إنما هو وجه الصلح، وقد جاءني العام غير واحد، فيسألني عن ذلك، فلم أر فيه إلا ذلك. قال سحنون: كل مبارية أو مفتدية أو مختلعة، قال لها زوجها عند مخالعتها أو مباراتها: اختاري، فقالت: قد اخترت نفسي، ثلاثا أو قد حرمت نفسي، أو قد بنت منك، فناكرها الزوج عند ذلك، وقال: إنما أردت واحدة، أحلف، وكان القول قوله، وإنما هذا عندي بمنزلة الرجل يخير امرأته قبل دخوله بها، فتختار نفسها البتة، إن له أن يناكر عليها من قبل أن الواحدة تبينها، فلما أن كانت الواحدة في هذه تبينها، وكانت الواحدة في المختلعة تبينها أيضا، حملتها محملا واحدا.
قال محمد بن رشد: إنما قال مالك في هذه المسألة: إنها واحدة، إلا أن(5/219)
يكون سمى أكثر من ذلك؛ لأنه غلب الخلع على التمليك لما كان مقصودهما أولا، فحكم له بحكمه على انفراد، ولم يلتفت إلى ما قارنه من التمليك، وقد قيل: إن التمليك هو المغلب، وإلى هذا ذهب سحنون، إلا أنه رأى أن الطلاق الواقع به أو بالتخيير، إن كان اقترب به تخيير بائنا، من أجل ما أعطت المرأة من المال، فحكم في ذلك بحكم المملكة والمخيرة قبل الدخول، يكون للزوج أن يناكر فيما فوق الواحدة، ويكون الطلاق في ذلك بائنا. ويأتي على القول بتغليب التخيير أو التمليك على الخلع، إذا اقترن به أحدهما مع ألا يراعى مع ما أعطت المرأة من المال، كما لم يراعه مالك في الذي أعطته زوجته مالا على أن يخيرها في رسم سعد، أن يحكم في ذلك بحكم التمليك أو التخيير المنفرد من الزوج، دون مال يأخذه على ذلك، فيتحصل في المسألة على هذا ثلاثة أقوال وبالله التوفيق، لا شريك له.
[طلقها زوجها ولها منه ولد صغير فتزوجت فأخذ أبوه الصبي]
ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا وسئل مالك عن المرأة طلقها زوجها، ولها منه ولد صغير فتزوجت، فأخذ أبوه الصبي، ثم إن أمه كلمته في ذلك، فقاطعته، يعني صالحته، وكتب بينهما كتابا أن يتركه عندها سنتين، ثم تدفعه إليه، فطلق المرأة زوجها قبل انقضاء السنتين، فأرادت حبس ولدها بعد السنتين، فقال أبوه: لا أقره عندك، فقد كتبت بيني وبينك كتابا في سنتين، قال: قال مالك: أرى أن تدفعه إليها، فإن تزوجت قبضت ولدك من غير أن أرى ذلك عليك. قال ابن القاسم: ثم سمعته بعد ذلك يقول: أرى أن لك أن تأخذ ولدك.
قال محمد بن رشد: ليس الذي سمع منه آخرا بخلاف لما قاله أولا؛ لأنه إنما ندبه أولا إلى تركه عندها من غير أن يرى ذلك واجبا عليه، وذلك صحيح على معنى ما في المدونة من أنها إذا تزوجت فقد سقطت حضانتها في الولد جملة، فليس لها أن تأخذه إن مات الزوج عنها أو طلقها، وقد قيل: إن(5/220)
حضانتها إنما تسقط ما دامت مع الزوج، فإن مات عنها أو طلقها، رجعت فأخذت ولدها، وكانت أحق بحضانته، وهو قول المغيرة، وابن دينار، وابن أبي حازم. ووجه هذا القول أن النكاح مما تدعو إليه الضرورة، فلا يقدر على الصبر دونه، فأشبه سقوط حضانتها بمرضها، أو انقطاع لبنها، أنها ترجع فيما إذا ارتفع المانع لها من الحضانة، وقد قيل: إن حقها في الحضانة لا يسقط بالتزويج، إلا في جهة من حضن الولد في حال كونها مع الزوج، فإن خلت من الزوج ثم مات ذلك الحاضن كان لها أخذ ولدها، وكانت أحق بحضانته من غيرها. وهذا الاختلاف كله على القول بأن الحضانة من حق الحاضن، وأما على القول بأنها من حق المحضون، فلها أن تأخذ ولدها إذا خلت من الزوج قولا واحدا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لها حرم علي ما حل لي منك إن قبلتك الليلة فاستغفلته فقبلته]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: حرم علي ما حل لي منك، إن قبلتك الليلة، فاستغفلته فقبلته وهو لا يريد ذلك، فردده مرارا، ثم قال: أرى أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ما هذا الذي أردت، يعني بذلك أنها قبلتني ولم أرد ذلك على وجه أنه لم يركن ولم يداهن، فإذا حلف فهي امرأته.
قال محمد بن رشد: لم يذكر في هذه المسألة يمينا، في النذور من المدونة ولا في رسم سلف من سماع عيسى، من كتاب الأيمان بالطلاق، وهو الأظهر أنه لا يمين عليه في أنه لم يكن منه في ذلك مداهنة ولا استرخاء؛ لأن الزوجة إن ادعت ذلك، فهي مدعية للطلاق ومن قولهم: إنه لا يمين للمرأة على زوجها في دعواها الطلاق، وإن لم تدع ذلك عليه في دعواها، وإنما أتى مستفتيا، لم يصح أن يستحلف، إلا أن يتطوع لها باليمين تطييبا لنفسها. فهو حسن، وبالله التوفيق.(5/221)
[مسألة: كانت امرأته غائبة فتزوج امرأة فقدمت الغائبة عليه]
مسألة وسئل عن رجل كانت امرأته غائبة، فتزوج امرأة، فقدمت الغائبة عليه، فجزعت من نكاحه إياها عليها، فقال لها: لم تجزعين؟ يوم أختارها عليك، فطلاقها بيدك، فطلق الغائبة التي تزوجها عليها التي جعل الأمر في يدها. قال مالك: ما أرى طلاق الآخر، إلا بيدها، وأرى أنه قد اختارها عليها حين طلقها.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو حلف لها بطلاقها إن آثرها عليها فطلق الأولى، لطلقت عليه الثانية. قاله مالك في آخر كتاب الشفعة من المدونة في بعض الروايات، وهو صحيح بين، إذ لا امتراء في أنه قد آثرها عليها، إذ أمسكها وطلقها هي، وبالله التوفيق.
[مسألة: تكون تحته المرأة فيتزوج عليها فتغار التي كانت تحته وتؤذيه]
مسألة وسئل عن رجل تكون تحته المرأة، فيتزوج عليها، فتغار التي كانت تحته، وتؤذيه فيقول لها: لا تؤذني. إن حبستها أكثر من سنة فأمرها بيدك. قال مالك: لا يعجبني أن يطأ الرجل امرأة طلاقها بيد الأخرى، أو أرى أن تطلق التي جعل فيها الشرط. قلت له: أفترى ذلك عليه؟ قال: ما أشبهه بذلك، وما أدري ما حقيقته. وسألت ابن القاسم عن هذا فقال: لا يعجبني قوله، والذي استحسن في هذه المسألة، وما كلمت فيها من أرضى به، أنه يوقف، ويقال له: إما طلقت الآن، وإما كان أمرها بيد امرأتك الأخرى، التي جعلت أمرها بيدها، فإما طلقت، وإما أقرت الساعة.
قال محمد بن رشد: قول مالك: إنه يطلق التي جعل فيها الشرط، ليس ينقاس على أصولهم في أن من ملك رجلا أمر امرأته إلى أجل معلوم، أنه يوقف الآن، فإما أن يقضي وإما أن يرد، وكفى من الدليل على ذلك أن(5/222)
مالكا قد قال: إنه ما يدري ما حقيقته. وقول ابن القاسم هو الذي يأتي على المشهور من مذهبه. وروايته عن مالك في المدونة وغيرها في الذي يقول لامرأته: أنت طالق ثلاثا، إن لم أطلقك واحدة إلى سنة، أو أنت طالق واحدة إن لم أطلقك ثلاثا إلى سنة، أنه يوقف الآن، فيقال له: إما طلقت امرأتك واحدة، وإلا طلقت عليك ثلاثا. ويأتي على مذهب من يرى أنه لا يوقف الآن، ويترك إلى الأجل حتى يرى إن كان يبر أو يحنث. وهو قول سحنون وأصبغ، وأحد قولي ابن القاسم، وعليه يأتي ماله في سماع أبي زيد، أنه لا يوقف الآن، ويترك إلى الأجل، فإن لم يطلق حتى يحل، كان أمرها بيد امرأته، وبالله التوفيق، لا شريك له.
[ملك امرأته نفسها فقضت بثلاث فقال إنما ملكتك واحدة]
ومن كتاب سن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وسئل عن رجل ملك امرأته نفسها، فقضت بثلاث، فقال: إنما ملكتك واحدة، وكان ذلك في مجلسهما. قال: أرى أن تحلف، قيل له: فإنه رد اليمين عليها، قال: لا، يحلف النساء في التمليك، وليس يحلف فيه إلا الرجال.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: لا اختلاف في المذهب أنه ليس للرجل أن يناكر امرأته، إلا أن يحلف على نية يدعيها، على ما جاء في ذلك عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكذلك لا اختلاف في أنه ليس له أن يرد اليمين عليها، إذ لا يعلم صدقه من كذبه فيما ادعاه من النية.
[مسألة: قال لامرأته أمرك بيدك فقالت قد قبلت]
مسألة وسئل مالك عن رجل قال لامرأته: أمرك بيدك، فقالت: قد قبلت، ثم سئلت بعد ذلك على الذي أرادت، فقالت: إنما أردت واحدة، فقيل له: أتستحلف إنما أرادت واحدة؟ فقال: لا يستحلف النساء في التمليك.(5/223)
قال محمد بن رشد: إنما قال: لا يستحلف النساء في التمليك؛ لأن المرأة إذا جعل أمرها بيدها، صار الطلاق الذي كان بيد الزوج بيدها، والزوج إذا ادعي عليه الطلاق لا يحلف، فإذا كان الزوج لا يحلف مع تحقيق الدعوى، كان أحرى ألا تحلف المرأة فيما لا يحقق عليها فيه الدعوى، وهذا الذي نحا إليه مالك، والله أعلم.
[مسألة: دعت زوجها إلى الفراق وأن تدفع إليه ماله]
مسألة وسئل عن المرأة دعت زوجها إلى الفراق، وأن تدفع إليه ماله. فقال: اشهدوا أني آخذ منها مالي وأطلقها وأفارقها، فإن هي كانت حاملا وطلبت مالها مني، فهي امرأتي. قال مالك: لا أرى الطلاق إلا وقد لزمه، ولا ينفعه هذا الشرط، فقيل له: فإنه لما أصبح من الغد، دفع إليها مالها وقد كانت دفعته إليه، وقال: لا أفارقك ولا أطلقك، وأنت امرأتي، قال مالك: قد لزمه الفراق، فإن أحب أن يرتجعها بنكاح جديد، يرد إليها ما أخذ منها، ويكون نكاحا جديدا، ولا ينفعه ما اشترط.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله وأن تدفع إليه ماله، أي أن ترد إليه ما أمهرها به، وساق إليها في صداقها من ماله. وهذا إذا فعلاه يكون الفراق فيه طلقة بائنة، وإن كانا قد لفظا بلفظ الفراق، ما لم ينصا على الثلاث؛ لأن الخلع يغلب على حكم كنايات الطلاق التي تحمل على البتات، فلا تكون كما يغلب على حكم الطلقة الواحدة التي تكون رجعية، فلا تكون رجعية.
وقوله: لا أرى الطلاق إلا وقد لزمه صحيح، وسواء في هذه المسألة قبض المال أو لم يقبض المال؛ لإشهاده على نفسه بقوله: اشهدوا أني آخذ منها مالي وأطلقها وأفارقها. ولو قال لها من غير أن يشهد على نفسه: ادفعي إلي مالي وأطلقك وأفارقك، فلما جاءته بالمال، قال: لا أقبضه ولا أطلقك؛ لأني لم(5/224)
أوجب ذلك على نفسي، وإنما قلت: إني أفعل ولست أفعل لجرى الأمر في ذلك على الثلاثة الأقوال التي مضت في التكلم على هذا المعنى في المسألة الثانية من أول السماع.
ووقع في بعض الروايات: اشهدوا بأني آخذ منها مالي، ولا أطلقها ولا أفارقها، والمعنى في الرواية بثبوت إلا في الموضعين كالمعنى في سقوطها منها؛ لأنها إذا ثبتت تكون صلة في الكلام، بمعنى وأطلقها وأفارقها كما هي في قول الله عز وجل: {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} [الحديد: 29] ، وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] ، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] صلة بمعنى: ليعلم، وأنهم يرجعون، وما منعك أن تسجد، وما أشبه هذا كثير، واشتراطه أنها إن كانت حاملا أو طلبت مالها فهي امرأته لا ينفعه، كما قال، ولا يجوز أيضا؛ لأنه شرط حرام؛ إذ لا يجوز أن ترجع إليه بعد أن بانت منه بالخلع إلا بنكاح جديد. وولي وصداق، فإن رد إليها مالها على الشرط المذكور، ولم يعثر على ذلك حتى دخل بها، فرق بينهما وكان لها ما رد إليها بالمسيس. وكان له أن يتزوجها بعد الاستبراء من الماء الفاسد بثلاث حيض. وقد قيل: إنه لا يتزوجها أبدا إن كان أصابها في العدة، ويكون كالمتزوج في عدة، قاله في مختصر ابن عبد الحكم، وهو بعيد، فإن عثر على ذلك قبل الدخول، كان له أن يجدد عقد النكاح معها بولي، ويجعل المال الذي قد كانت خالعته على رده إليه صداقها، كان قد رده إليها بعد أن دفعته إليه أو لم يرده، والله أعلم.
[قال لامرأته انتقلي عني فقالت لا أنتقل عنك حتى تبين لي أمري]
ومن كتاب يسلف في المتاع والحيوان
وسئل مالك عن رجل قال لامرأته: انتقلي عني، فقالت: لا أنتقل عنك حتى تبين لي أمري: قال: انتقلي، ثم إن شئت طلقتك(5/225)
عشرين، فانتقلت ولم تقض شيئا، ثم ندما. قال: لا أرى عليه شيئا في قوله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة في ظاهر ألفاظها اضطراب؛ لأن قوله فيها: ولم تقض شيئا، يدل على أنه كان لها أن تقضي لو شاءت، ما لم يطل الأمر، أو ينقض المجلس، على الاختلاف في ذلك، وإن قوله: ثم إن شئت طلقتك عشرين، يوجب لها عليه تمليك الطلاق، بمنزلة اللو قال لها: فإن شئت الطلاق، فأنت طالق عشرين. وقوله: لا أرى عليه شيئا في قوله، يدل على أنه لا يلزمه به شيء، ولا يجب عليه لها به تمليك، والمسألة تتخرج عندي على الاختلاف في الذي يقول لامرأته: إن جئتني بكذا وكذا فارقتك، فيكون طلاقا ثلاثا إن شاءت الطلاق، على القول بأنه يلزمه طلاقها إن جاءت بذلك، ولا تكون طالقا إن شاءت الطلاق على القول الثاني بعد يمينه أنه ما أراد إلزام الطلاق نفسه بمشيئتها. وقد مضى ذكر هذا الاختلاف في أول رسم من السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: وقع بينه وبين امرأته شر في إن استأذنته إلى بيت أهلها فقال لها أنت علي حرام]
مسألة وسئل عن رجل وقع بينه وبين امرأته شر، في إن استأذنته إلى بيت أهلها، فقال لها: أنت علي حرام، إن لم تبيتي معي في هذا البيت الليلة، قال: فوجدت المرأة حرا، فخرجت إلى دكان، غير باب البيت، فباتت عليه. وقال: إنما كانت أصل يميني، أريد بذلك ألا تذهب تبيت عند أهلها. قال مالك: أرى أن يحلف بالله ما أردت بذلك ألا تخرج من البيت، وإنما أردت بذلك ألا تبيت عند أهلها، فإن حلف فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: لم يراع البساط في هذه المسألة، إذ رآه حانثا(5/226)
بمقتضى لفظه، إلا أن تكون له نية، فحلف عليها، وذلك مثل ما في سماع سحنون من كتاب الأيمان بالطلاق، في مسألة البالوعة، والمشهور مراعاة البساط، فإن لم يكن للحالف نية حملت يمينه على بساطها، ولا تحمل على مقتضى اللفظ، إلا عند عدم البساط، على ما في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق، في مسألة النقيب، وقد قيل: إذا لم يكن لها بساط يحمل على ما يعرف من عرف الناس لا كلامهم، ومقاصدهم بأيمانهم. والقولان قائمان من المدونة، وقد مضى القول في هذا المعنى مجردا في رسم جاع فباع، من سماع عيسى، من كتاب النذور، وبالله التوفيق.
[يقول لامرأته أمرك بيدك فتقول قد طلقت نفسي ثلاثا]
ومن كتاب كتب عليه رجل ذكر حق
وسئل مالك عن الرجل يقول لامرأته: أمرك بيدك، فتقول: قد طلقت نفسي ثلاثا، فيقول: لم أرد طلاقا، ثم يقول بعد ذلك: إنما أردت واحدة، قال: يحلف على نيته وتلزمه تطليقة واحدة، ولا يلزمه غيرها. قال أصبغ: هذا عندنا وهم من السامع، ولا يقبل منه نية، بعد أن قال: لم أرد شيئا، والقضا ما قضت المرأة من البتات.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ فما روى ابن القاسم عن مالك، من أن الزوج يحلف على ما ادعى من أنه أراد واحدة، وتكون واحدة بعد أن أنكر أن يكون إلا طلاقا، أن ذلك وهم من السامع، ليس بصحيح، بل الرواية في ذلك ثابتة عن مالك، وقد وقع له في ذلك في رسم الطلاق من سماع أشهب، وفي رسم الكبش من سماع يحيى، ومثله أيضا في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب الأيمان بالطلاق، فلا ينكر ثبوت القول؛ لأنه معروف، جار على أصل قد اختلف فيه قول مالك، من ذلك الذي يدعى عليه الوديعة فيجحدها، فتقوم عليه البينة بها، فيدعي ضياعها أو ردها، والقولان قائمان من المدونة من كتاب اللعان، وكتاب العتق الأول، وقول أصبغ: إن القضاء ما قضت به المرأة من البتات، يأتي على أحد قولي مالك، ولو أقام على قوله: إنه لم(5/227)
يرد بذلك طلاقا مثل أن يقول: إنما أردت أن أمرها بيدها في كذا وكذا، لشيء يذكره من غير معنى للطلاق، لوجب أن ينظر في ذلك، فإن تبين كذبه ببساط يدل على أنه أراد بذلك الطلاق، كان القضا ما قضت به المرأة من البتات، وإن تبين صدق قوله ببساط يشهد له، حلف ولم يلزمه طلاق، وإن أمكن ما يدعي من ذلك، ولم يتبين فيه صدقه من كذبه، حلف على ما ادعاه، وكانت واحدة، إذ لا يصدق في إبطاله، أقل ما يلزمه بالتملك الظاهر، وإنما له أن يسقط بيمينه ما زاد على ذلك، وقد مضى في أول رسم من سماع أشهب من كتاب طلاق السنة ما يؤيد هذا في مسألة الذي كتب إلى أبي زوجته أنه قد طلقها ليأتيها.
[مسألة: بدوي قال لامرأته أمرك بيدك فقالت التمسوا لي شقتي]
مسألة وسئل مالك عن رجل بدوي قال لامرأته: أمرك بيدك، فقالت: التمسوا لي شقتي. وكان لها في بيته شقة، فأخذتها، ثم ذهبت إلى أهلها، وارتحل عنها إلى سفر، ولم يقل لها شيئا، وهو يريد بالذي قال لها: أمرك بيدك؛ الطلاق، وهي إنما أرادت بنقلتها الطلاق، ولم تقل شيئا، قال مالك: ما أرى هذا إلا فراقا حين انتقلت، وذلك الذي تريد بانتقالها وتركه إياها، وهو إنما ملكها وهو يريد الطلاق، فلا أرى ذلك إلا فراقا.
قال محمد بن رشد: الحكم في الذي يملك امرأته أمرها، فلا تجيب بشيء، وتفعل فعلا يشبه الجواب، مثل أن تنتقل، أو تنقل متاعها أو تخمر رأسها وما أشبه ذلك أن تسأل عما أرادت به، فإن قالت: لم أرد بذلك طلاقا صدقت. قاله في سماع زونان. وإن قالت: أردت بذلك الطلاق، صدقت فيما أرادت منه. قاله ابن القاسم في المجموعة.
واختلف إن قالت: أردت بذلك الفراق، ولم تكن لي نية، ففي العشرة ليحيى، عن ابن القاسم: أنها ثلاث، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية، ما أرى ذلك إلا فراقا؛ لأن الفراق إذا(5/228)
أبهم في المدخول بها ثلاث. وقال محمد بن المواز: هي واحدة. واختلف أيضا إذا سكت عنها، ولم ينكر عليها فعلها حتى افترقا من المجلس، وقال محمد: تسأل أيضا، فإن قالت: أردت ثلاثا، كان للزوج أن يناكرها بنية يدعيها وقت التمليك، ويحلف على ذلك. قال أصبغ: يمينين: يمين أنه لم يعلم أن ما فعلته يلزمه به البتة، ولا رضي بذلك، يمين: أنه نوى واحدة. وقال ابن المواز: يجمع ذلك في يمين واحدة، وفي العشرة ليحيى عن ابن القاسم: إن انتقالها وسكوته على ذلك دون أن يسألها في المجلس عما تريد بانتقالها، يوجب عليه طلاق البتات، بكل حال، ولا يناكرها إن قالت: أردت الثلاث، ولا تصدق إن قالت: أردت واحدة.
وقول ابن القاسم هذا في العشرة صحيح. على قياس قوله فيها: إنها إذا أرادت بانتقالها الفراق، ولم تكن لها نية في عدد الطلاق، أنها ثلاث. وقول محمد: إنها تسأل أيضا بعد الافتراق صحيح، على قياس قوله: إنها إذا أرادت بانتقالها الفراق ولم يكن لها نية في عدد الطلاق، إنها واحدة. وأما قوله: إنه يحلف أنه لم يعلم أن ما فعلته يلزمه به البتة، ولا رضي بذلك، فليس يلتام على أصله في أنها تسأل، وإن لم تكن لها نية، فهي واحدة، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أمرك بيدك فقالت قد قبلت]
مسألة وسئل مالك عن رجل قال لامرأته: أمرك بيدك، فقالت: قد قبلت، فقال: أمرك بيدك، فقالت: قد قبلت، فقال: أمرك بيدك، فقالت: قد قبلت، فقال مالك: تسأل فإن كانت أرادت الطلاق، فهو ثلاث تطليقات.
قال محمد بن رشد: أما إذا قال الزوج: لم تكن لي نية، فلا كلام في أنها ثلاث تطليقات، وأما إن قال: لم أرد إلا واحدة، ففي كتاب محمد عن مالك: أنها ثلاث. قال محمد: والأحسن عندنا أن القول قول الزوج، ويحلف، وتكون واحدة؛ لأنه يقول: إنما أردت التكرار عليها؛ لتبين ما أرادت بقولها: قد قبلت. وقاله لنا عبد المالك. قال محمد: ولو أنها أبانت، فقالت: قد(5/229)
طلقت، ثم ثنى فقالت: قد طلقت، ثم ثلث فقالت: قد طلقت؛ لكان ذلك ماضيا. وقول محمد في قولها: قد قبلت، يدين جيد. وأما قوله في قولها: قد طلقت: إن ذلك ماضيا، يريد الثلاث، فإنما بناه على مذهبه في أن المملكة إذا قالت: طلقت نفسي لا تسأل، وتكون واحدة. وأما على مذهب ابن القاسم الذي يقول: إنها تسأل في طلقت نفسي؛ لاحتمال أن تريد به الثلاث، فقد يحتمل أن ينوى الزوج في أنه أراد التكرار عليها؛ لتبين ما أرادت بقولها: قد طلقت، فتكون واحدة على هذا التأويل.
قال محمد في الذي يقول لامرأته: أمرك بيدك، أمرك بيدك، أمرك بيدك، فتقول: قد قبلت، لكل واحدة طلقة، ويقول الزوج: ما أردت إلا واحدة؛ أنها واحدة. وقاله عبد المالك، وهذا صحيح على قياس قول الرجل لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وأراد واحدة؛ أنها واحدة. ولو لم تكن له نية لكانت ثلاثا، فكذلك التمليك. وقد روي عن مالك فيمن ملك امرأته، فقالت له: كم ملكتني؟ فقال: ملكتك مرة، ومرة، ومرة، ففارقته، فقال مالك: ليس ذلك بثلاث، إذا حلف أنه ما ملكها إلا واحدة. قال أبو إسحاق: وفي هذه إشكال؛ لأنه أبان بقوله: مرة، ومرة، ومرة، أنه ثلاث مرار، فكان يجب أن يكون لكل تمليك طلقة، فتكون ثلاثا، إلا أن يكون قصد إلى حكاية الألفاظ أنها منه ثلاث مرات، يريد بها تمليك واحد، فينوى في ذلك، والله أعلم.
[يضرب لها زوجها أجلا ثم يغيب عنها]
ومن كتاب الشريكين يكون لهما مال وقال مالك: في المرأة يضرب لها زوجها أجلا، ثم يغيب عنها، إن جاء إلى سنة، وإلا فأمرها بيدها، فانقضت السنة، ثم سئلت فقالت: أنتظر شهرا أو شهرين، أو نحو ذلك، فإن جاء وإلا رأيت رأيي. قال مالك: أرى ذلك لها إذا كان على وجه النظر.
قال محمد بن رشد: قوله: ذلك لها إذا كان على وجه النظر، معناه(5/230)
ذلك لها أن تفعله على وجه النظر لنفسها، لا أن ذلك على سبيل الشرط الذي الحكم فيه أن ينظر فيه، فإن كان حظا وغبطة وسدادا جاز، وإلا لم يجز، ولا يمين عليها في هذه المسألة باتفاق؛ لأنها بينت أنها إنما أقامت متلومة له، غير تاركة لحقها، وإنما يختلف في يمينها إذا أقامت، ولم تقل شيئا. وقد مضى القول على ذلك في رسم حلف.
[مسألة: قال لامرأته أمر امرأتي بيدك فقالت قد فرقت بينكما بالبتة]
مسألة وقال مالك: في رجل قال لامرأته: أمر امرأتي بيدك، فقالت: قد فرقت بينكما بالبتة، قال مالك: أرى أن قد وقع عليها الطلاق. قال ابن القاسم: يريد إلا أن ينكر، مثل ما لو جعل ذلك بيد امرأته، فإن كانت له نية حين جعل أمرها في يد المرأة، فناكرها، أحلف كما كان يحلف في امرأته، وإن صمت لزمه ذلك، وإن لم تكن له نية حين جعل ذلك بيدها، وتأخر حتى تقضي، لم ينفعه ذلك. وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم مفسر لقول مالك، مثل ما في المدونة وغيرها لا إشكال في ذلك، ولا اختلاف في المذهب، فلا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[يغيب عن امرأته فتطول إقامته بالبلد، فيكتب إليها ليخيرها]
ومن كتاب البز وسئل مالك: عن الرجل يغيب عن امرأته، فتطول إقامته بالبلد، فيكتب إليها ليخيرها، أترى أن قد خرج من الماء؟ ثم قال: نعم. وقد سأل عمر بن الخطاب حفصة: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: أربعة أشهر، أو ستة أشهر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المرأة إنما تتزوج الرجل لتسكن به، وتأنس إليه به، وتستمتع منه؛ قال عز وجل:(5/231)
{خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21] ، فليس للرجل أن يغيب عن امرأته المدة التي يضر بها مغيبه عنها، وهي ما فوق الأربعة الأشهر والستة، التي أخبرت حفصة أن المرأة تصبر فيها عن زوجها. فإن فعل فهو آثم، إلا أن تأذن له في ذلك، فإذا خيرها فأذنت له في ذلك، فليس عليه أكثر من ذلك؛ لأنه حقها، فإذا أباحته له وحللته منه، لم يكن عليه فيه إثم.
وقول حفصة هذا هو أصل ما يكتب في شروط الصدقات، من ألا يغيب عنها أكثر من ستة أشهر، إلا في أداء حجة الفريضة عن نفسه، فإن فعل فأمرها بيدها، ولا يفرق بينهما بمغيبه عنها هذه المدة حتى يطول ذلك، والسنتان والثلاث في ذلك ليس بطويل. قاله في رسم شهد، من سماع عيسى، من كتاب طلاق السنة، وقد مضى القول على هذا المعنى في رسم الشريكين، من سماع ابن القاسم منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الأمة يكون نصفها حرا ونصفها مملوكا فيخطبها عبد فتابا أن تتزوجه]
مسألة وسئل مالك عن الأمة يكون نصفها حرا، ونصفها مملوكا، فيخطبها عبد فتابا أن تتزوجه، فسألها سيدها، فطاوعته على تزويجها، ثم عتقها. أترى لها الخيار؟ قال: نعم، أرى ذلك لها. قال: فقلت له: ألم يكن لها أن تابا، ولا يجبرها سيدها على نكاحها؟ قال: بلى. قلت: فكيف يكون لها الخيار. قال: حالها كحال الأمة، وإنما ذلك بمنزلة ما لو أن أمة ليس فيها عتق، طلبت إلى سيدها أن يزوجها عبدا ففعل فزوجها، فله الخيار. قلت: إن هذه يخيرها سيدها، وإن الأخرى لم يكن سيدها أن يخيرها. قال: بلى، ولكنها في حالها وحدودها. وكشف شعرها في مثل حال شأن الأمة، فلا أرى لها إلا ذلك، وأن يكون لها الخيار.
قال محمد بن رشد: ليس العلة عند مالك في تخيير الأمة إذا أعتقت(5/232)
تحت عبد ما كان لسيدها من جبرها على النكاح، وإنما العلة في ذلك عنده، كون زوجها ناقصا عن مرتبتها، ولذلك يقول: إنه لا خيار لها إذا أعتقت وزوجها حر، فوجب على هذا إذا تزوجت عبدا وبعضها حر برضاها أن يكون لها الخيار إذا أعتق ما بقي منها، لنقصان مرتبة زوجها عن مرتبتها.
ويأتي على قول أهل العراق، الذين يقولون: إن الأمة تخير إذا أعتقت، كان زوجها حرا أو عبدا، ويرون العلة في تخييرها ما كان لسيدها قبل أن تعتق من جبرها على النكاح، إلا أن يكون لها خيار إذا أعتق ما بقي منها، كانت تحت حر أو عبد، إذ لم يكن لسيدها أن يجبرها على النكاح، من أجل أن بعضها حر، وهو بعيد.
[اطلع على امرأته بزنا هل له أن يضارها حتى تفتدى منه]
ومن كتاب باع غلاما بعشرين دينارا وسئل مالك عن رجل اطلع على امرأته بزنا، هل له أن يضارها حتى تفتدى منه؟ قال: لا ينبغي له ذلك يضارها إن أحدثت أن يستحل مالها بذلك، يضارها حتى تفتدى منه، ولا أرى ذلك يصلح له.
قال محمد بن رشد: لا يحل للرجل إذا كره المرأة أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدى منه، وإن أتت بفاحشة من: زنا، أو نشوز، أو بذاء؛ لقول الله عز وجل: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] ، إلى قوله: {غَلِيظًا} [النساء: 21] ، هذا مذهب مالك وجميع أصحابه، لا اختلاف بينهم فيه. ومن أهل العلم من أباح للرجل إذا اطلع على زوجته بزنا أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدى منه؛ لقول الله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] ، وتأول أن الفاحشة المبينة هاهنا: الزنا. وجعل الاستثناء متصلا.
ومنهم من تأول أن الفاحشة المبينة: البغض،(5/233)
والنشوز، والبذا باللسان، فأباح للزوج إذا أبغضته زوجته، ونشزت عنه، وبذت بلسانها عليه، أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدى منه، ومنهم من حمل الفاحشة على العموم، فأباح للزوج ذلك، كانت الفاحشة التي أتت بها زنا، أو نشوزا، أو بذاء باللسان، أو ما كانت، والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه إذا ضيق عليها حتى تفتدى منه، فقد أخذ مالها بغير طيب نفس منها، ولم يبح الله ذلك إلا عن طيب نفس منها: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] ، والآية التي احتجوا بها، لا حجة لهم فيها؛ لأن الفاحشة المبينة فيها من جهة النطق أن تبذو عليه، وتشتم عرضه، وتخالف أمره؛ لأن كل فاحشة أتت في القرآن منعوتة بمبينة، فهي من جهة النطق، وكل فاحشة أتت فيه مطلقة، فهي الزنا، والاستثناء المذكور فيها منفصل، فمعنى الآية لكن إن نشزن عليكم، وخالفن أمركم، حل لكم ما ذهبتم به من أموالهن، معناه إذا كان عن طيب أنفسهن، ولا يكون ذلك عن طيب أنفسهن إلا إذا لم يكن منهم إليهن ضرر ولا تضييق. فعلى هذا التأويل، تتفق آي القرآن ولا تتعارض، وقد قيل في تأويل الآية غير هذا، وهذا أحسن، والله أعلم.
[مسألة: عاتبته امرأته فقال برئت مني]
مسألة وسئل مالك عن رجل عاتبته امرأته، فقال: برئت مني. قال: هذا بين أنه لا شيء عليه، وهذا من كلام الناس عند العتاب، ولا أرى فيه شيئا، فإن اتهم، فإن أشده أن يحلف.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن برئت مني، من ألفاظ الطلاق التي تصلح أن تقال عند العتاب عتابا، فإذا قال ذلك الرجل لامرأته في العتاب، لم يلزمه به طلاق إلا أن يريد الطلاق، فإن أتى مستفتيا لم يلزمه فيه طلاق ولا يمين، وإن خاصمته امرأته وأثبتت عليه أنه قال ذلك لها في(5/234)
العتاب، استظهر عليه باليمين؛ لاحتمال أن يكون أراد بذلك الطلاق. وإن كان قاله في العتاب؛ لأنه من ألفاظ الطلاق، ولو قال ذلك لها في غير عتاب لبانت منه امرأته بثلاث. وهذا مثل ما في المدونة في الذي يقول لامرأته: لا نكاح بيني وبينك، ولا سبيل لي عليك، ولا ملك لي عليك؛ لأنه قال فيها: إنه لا شيء عليه، إذا كان الكلام عتابا، إلا أن يكون أراد بذلك الطلاق. وقال فيها في الذي يقول لامرأته: ما أنت لي بامرأة، أو لست لي بامرأة، أو لم أتزوجك؛ لأنه لا شيء عليه في ذلك، إلا أن يريد بذلك الطلاق. واختلف إذا أراد به الطلاق، ولم تكن له نية في عدده. فقيل: تكون واحدة، وقيل: تكون ثلاثا. وقد مضى ذلك في آخر سماع أبي زيد من كتاب طلاق السنة، وستأتي منه مسألة في سماع أبي زيد، والله أعلم.
[مسألة: قال لأهل امرأته شأنكم بها]
مسألة وقال مالك: فيمن قال لأهل امرأته: شأنكم بها. قال: إن كان لم يدخل بها، فإنه بين أنه ليست تكون عليه إلا واحدة، وإن كان قد دخل بها، فإني أراها قد بانت منه، وهو عندي يشبه أن يقول: قد وهبتك لأهلك، أو قد رددتك إلى أهلك. قيل: أرأيت إن قال: إنما أردت بالتي دخلت بها بقولي: شأنكم بها واحدة؟ قال: ليس هذا بقول، والذي أرى أنها قد بانت منه.
قال محمد بن رشد: قوله في شأنكم بها، وقد وهبتك لأهلك، ورددتك إلى أهلك: إنها في غير المدخول بها واحدة، والمدخول بها ثلاث، إلا أن ينوي واحدة، وكذلك الخلية والبرية والبائن، ولا ينوى خلاف ما في المدونة، وما في رسم يوصي، من سماع عيسى، من كتاب الأيمان بالطلاق، وخلاف المشهور من أنها في غير المدخول بها ثلاث، إلا أن ينوي واحدة، وفي المدخول بها ثلاث ولا ينوى، وقد قيل: إنها في غير المدخول بها واحدة. وفي المدخول بها، إلا أن ينوي واحدة، وكذلك الخلية والبرية والبائن، يدخل(5/235)
فيها كلها هذه الثلاثة أقوال، وظاهر قول غير ابن القاسم في العتق من المدونة: أن الموهوبة ثلاث قبل الدخول وبعده، ولا ينوى في ذلك؛ لأنه قال: إنه إذا وهبها فقد وهب ما كان يملك منها، وقد كان يملك منها جميع الطلاق، وقد قيل في شأنكم بها: إنها واحدة قبل الدخول وبعده، وهو الذي وقع في الموطأ من قول القاسم بن محمد، فرأى الناس ذلك تطليقة. وأما خليتك وخليت سبيلك، وسرحتك، وفارقتك، وما أشبه ذلك، فقيل: إنها ثلاث في المدخول بها، وفي التي لم يدخل بها إلا أن ينوي واحدة. وقيل: إنها واحدة في التي لم يدخل بها، وثلاث في التي قد دخل بها، إلا أن ينوي واحدة، والقياس أن ما كان من هذا كله قبل الدخول ثلاث، إلا أن ينوي واحدة، فهو بعد الدخول ثلاث، وإن زعم أنه نوى واحدة، وما كان منها يكون قبل الدخول واحدة، إلا أن ينوي ثلاثا، فيكون بعد الدخول ثلاثا، إلا أن ينوي واحدة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يطلق امرأته واحدة ثم إنها أعطته عشرة دنانير ألا رجعة له عليها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يطلق امرأته واحدة، ثم إنها أعطته عشرة دنانير، وهي في عدتها على ألا رجعة له عليها، ففعل، قال: أراه خلعا. قلت له: أفتراه تطليقة أخرى مع الأولى التي طلق؟ قال: نعم، أراها تطليقتين.
قال محمد بن رشد: أما إذا أعطته عشرة دنانير على ألا رجعة له عليها كما قال هاهنا، فهو خلع يقع عليها به تطليقة أخرى، واختلف إذا أعطته ذلك على ألا يرتجعها، فقال ابن القاسم في رسم إن خرجت، من سماع عيسى: إن ذلك أيضا خلع، يقع به عليه تطليقة أخرى، ولم يفرق بين أن يكون قد قبض العشرة أو لم يقبضها، وقال أشهب في سماع زونان: إنه إن شاء(5/236)
راجعها، فإن راجعها رد عليها العشرة، أي تركها لها، ولم يأخذ منها، ويحتمل أن يتأول قول ابن القاسم، على أنه قد قبض العشرة، فلا يكون ذلك اختلافا من القول، وبالله التوفيق.
[خالع الرجل امرأته على أن يعجل لها بعض دين لها عليه قبل محله]
ومن كتاب سعد قال مالك: إذا خالع الرجل امرأته على أن يعجل لها بعض دين لها عليه قبل محله، على أن تضع عنه ما بقي عليه من ذلك الدين، قال مالك: لا يجوز لأحد أن يعمل هذا، فإن جهل ذلك حتى يقع الفراق عليه، جاز الطلاق، وجازت الوضيعة، ويرد المال إلى أجله الذي كان إليه، وكذلك روى عيسى، عن ابن القاسم في كتاب الجلوس، قال ابن القاسم: إذا كان لامرأة على زوجها عشرون دينارا إلى أجل، فقالت له: طلقني ولك العشرة، وعجل لي العشرة ففعل؛ أنه يمضي الطلاق عليها والوضيعة، وترد العشرة إلى أجلها.
قال محمد بن رشد: اعترض أبو إسحاق هذه المسألة، إذ لم يجعل ما حطت من دينها مفضوضا على خلع مثله، وما يمكن أن يعطى للتعجيل، ووجه الرواية أنها إنما خالعها بما وضعت، وشرطها في خلعها تعجيل بقية حقها، فوجب أن ينفذ الخلع ويبطل الشرط؛ لأنه إذا وجب أن يبطل اشتراطها عليه ترك التزويج على ما مضى في أول رسم سعد الأول، لما فيه من تحريم ما أحل الله، فأحرى أن يبطل هذا الشرط، لما فيه من تحليل ما حرم الله.
وفي كتاب محمد بن المواز: ومن تزوج بعشرة نقدا، وعشرين إلى أجل، فصالحته قبل البنا، وقبل النقد على أن عجل لها العشرة النقد، وأسقطت العشرين، يجز ذلك، وأجاز الطلاق وترد إليه الخمسة، تأخذها منه إذا حل الأجل، وكذلك لو صالحته على أكثر من الخمسة، إلى ما دون الخمسة عشر، ترد ما زاد على الخمسة، فتأخذ ذلك عند الأجل، ولو صالحته على خمسة فأقل أو(5/237)
على خمسة عشر فأكثر؛ لجاز ذلك، هذا معنى قوله دون لفظه، وهو على قياس هذه الرواية؛ لأن الفراق يوجب لها خمسة نقدا، وعشرة إلى أجل، فتلزمها الوضيعة، ويسقط عنها التعجيل، واعترضها أيضا أبو إسحاق التونسي بما تقدم في اعتراضه للمسألة الأولى، ولو كان الدين للزوج على المرأة فخالعته على أن عجلت له بعض دينه، وأسقط عنها بقيته لمضى الطلاق، ورد إليها ما عجلت له واتبعها بجميع دينه، ولا اختلاف في هذا ولا اعتراض؛ لأن الوضيعة والبضع صارا ثمنا للتعجيل، فوجب أن تبطل الوضيعة إن كانت عوضا للتعجيل، ولم تكن عوضا للخلع.
[تختلع من زوجها وهما في سفر ويشترطان]
ومن كتاب اغتسل على غير نية وسئل عن المرأة تختلع من زوجها، وهما في سفر، ويشترطان في سفرهما خلعهما، إن مات الرجل قبل أن يبلغ بلده رد عليها فيموت الزوج قبل أن يبلغ بلده. قال مالك: خلعهما جائز، وما اشترطت من شرط من هذا النحو وما أشبهه فهو باطل، إذا كان الخلع قد ثبت بينهما.
قال محمد بن رشد: رأى الخلع جائزا، والشرط باطل على أصله في مسألة رسم سعد الأول، والذي قبل هذا، وقد مضى من التكلم في الرسمين ما فيه بيان هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أمة افتدت من زوجها بشيء من مالها ففارقها، فأنكر ذلك سيدها]
مسألة وسئل عن أمة افتدت من زوجها بشيء من مالها، ففارقها، فأنكر ذلك سيدها، فقال: يثبت الفراق، ويرد المال إلى سيدها.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، وهو مما لا اختلاف فيه أن الأمة لا تجوز مخالعتها إلا بإذن سيدها، وإن كانت مأذونا لها في التجارة؛ لأن الخلع ليس من التجارة التي أذن لها فيها، إذ لا يملك بها مالا، وإنما يملك بها(5/238)
تخليصها من الزوج وراحتها منه، وكذلك المكاتبة وأم الولد، واختلف في المديانة، هل يجوز مخالعتها، دون إذن الغرماء أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك قياسا على النكاح، والثاني: أن ذلك ليس لها، بخلاف النكاح؛ لأن النكاح مما تدعو إليه الضرورة كالطعام والشراب، فقد دخل الغرماء معها على ذلك، والخلع وإن كانت الضرورة قد تدعو المرأة إليه، فلم يدخل معها الغرماء على ذلك، إذ لا يقع إلا نادرا. والحمد لله وحده.
[أمة كانت تحت عبد فقالت إن عتقت وأنا تحت هذا العبد فأشهدكم أني اخترت نفسي]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك
من كتاب الطلاق الثاني قال أشهب: سمعته كتب إلى ابن فروخ أيضا. وسألت عن أمة كانت تحت عبد فقالت: إن عتقت وأنا تحت هذا العبد فأشهدكم أني اخترت نفسي، أو قالت: قد أخذت زوجي، فلا أرى ذلك لازما. وذلك أنها تجري إلى طلاق يصيبها فيه، فتلد أولادا إلى أجل يأتي، إذا كان ذلك الأجل فارقته، ومن عينه أنه ليس أحد علمناه عمل به ممن مضى.
قال محمد بن رشد: علل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ذلك لا يلزمها بوجهين: أحدهما: أنها تحصل مطلقة إلى أجل قد يأتي، وقد لا يأتي بغير اختيار زوجها ولا إرادته. وذلك مخالف للأصول. والثاني: أن ذلك مخالف لعمل الماضين، ومن قول مالك: إن من شرط لزوجته أن تزوج عليها وما أشبه ذلك فأمرها بيدها، فقالت: أشهدكم أنه إن تزوج علي فقد اخترت نفسي، أو قد اخترت زوجي، إن ذلك لازم لها، ففرق بين المسألتين. وهذه المسألة هي التي يحكى أن ابن الماجشون، سأل مالك عن الفرق فيها بين الحرة والأمة، فقال له: أتعرف دار قدامة؟ وكانت دار يلعب فيها بالحمام، معرضا له بقلة التحصيل فيما سأل عنه، وموبخا له على ترك إعمال نظره في ذلك، حتى(5/239)
لا يسأل إلا سؤالا مستقيما في أمر مشكل، وهذا من نحو قوله لابن القاسم في شيء سأله عنه: أنت حتى الساعة هاهنا تسأل عن مثل هذا. ولعمري إن مثل ابن الماجشون في فهمه وجلالة قدره لحري أن يوبخ على مثل هذا السؤال؛ لأن مالكا لم يفرق بين الحرة والأمة كما قال، وإنما فرق بين خيار أوجبه الله بالشرع على لسان نبيه للزوجات، إلا ما على أزواجهن العبيد، بشرط عتقهن بغير اختيار أزواجهن، وبين خيار شرطه الزوج باختياره لزوجته، حرة كانت أو أمة. والفرق بينهما، أن ما خير الله تعالى عباده فيه على شرط، وجعله شرعا مشروعا، فليس لأحد أن يسقط ما أوجبه الله له من الخيار في ذلك قبل أن يجب له بحصول الشرط، ويوجب على نفسه، أحد الأمرين: من الأخذ أو الترك؛ لأنه إذا فعل ذلك صار مبطلا للشرع الذي شرعه لعباده في حقه، وذلك ما لا يجوز ولا يلزم من فعله، ألا ترى لو أن رجلا غنيا قال: أشهدكم أني إن افتقرت، فلا آخذ من الصدقات التي أباحها الله للفقراء شيئا، وإن افتقرت فأنا آخذ منها ما أوجبه الله لي من الحق فيها، ثم افتقر، ثم يحرم عليه الأخذ إن أراد أن يأخذ، ولا لزمه الأخذ إن أراد ألا يأخذ، وكان مخيرا بين الأخذ والترك على حكم الله تبارك وتعالى في الشرع، وما أوجبه الله للزوج لزوجته على نفسه من الخيار في نفسها بشرط، بخلاف ذلك، يجب إذا اختارت نفسها أو زوجها قبل حصول الشرط، بشرط حصوله إن لم يلزمها ذلك؛ لأنها إن اختارت زوجها فهو حق لها تركته، إذ لا يلزمها قبول ما أعطاها زوجها، وإن اختارت نفسها جاز ذلك عليها وعلى زوجها، ولم يكن لواحد منهما في ذلك رجوع؛ لأنه طلاق وقع على صفة يلزم بحصولها، إذ لا فرق أن يقول الرجل لامرأته: أنت طالق إن كان كذا وكذا، أو تقول هي إذا ملكها الطلاق بشرط: أنا طالق إن كان كذا وكذا؛ لذلك الشرط، وهو أبين، والحمد لله، وبه التوفيق.
[يقول لامرأته قد وليتك أمرك إن شاء الله]
ومن كتاب الطلاق
وسئل عن رجل يقول لامرأته: قد وليتك أمرك إن شاء الله،(5/240)
فتقول هي: قد فارقتك إن شاء الله. فقال: فقد فارقها في رأيي. فقال له: يا أبا عبد الله، لأن تقطع يدي من جسدي أحب إلي من أن أفارقها، وما أردت بذلك طلاقا، وما كان الذي كان مني ومنها إلا لعبا لا نريد به طلاقا، فقال: إن كان الله يعلم أنك لم ترد بقولك ذلك طلاقا، وأنه كان منك على وجه اللعب لا تريد به طلاقا، فلا أرى عليك شيئا.
وإن كنت إنما أردت به طلاقا، وإن كنت لاعبا، فهو الطلاق. ثم قال له: أتقول امرأتك مثل مقالتك أنها لم ترد طلاقا؟ قال: نعم. وقد أقمنا بعد هذه المقالة، أربعة أشهر أصيبها، لا نرى أن الذي وقعنا فيه شيئا. فقال: قال لها: أمرك بيدك إن شاء الله، لا يريد بذلك طلاقا على وجه اللعب والمداعبة، فقالت: قد فارقتك إن شاء الله لاعبين لا يريدان بذلك طلاقا، لا أرى عليك شيئا إلا يمينك بالله الذي لا إله إلا هو، ما أردت بذلك طلاقا، وما كنت إلا لاعبا، فلما رجع من الغد رجع إليه الأعرابي فقال: ما أرى عليك شيئا إلا أن تحلف بالله ما أردت بذلك طلاقا.
قال محمد بن رشد: قال مالك في هذه المسألة أولا فارقها في رأيي؛ لأنه إفصاح منه بالتمليك، وإفصاح منها بالفراق، لا تأثير للاستثناء بمشيئة الله في ذلك لواحد منهما، كما لا تأثير للاستثناء بمشيئته تعالى في مجرد الطلاق، فلما أخبره أنهما لم يريدا بذلك الطلاق، وأنه إنما كان ذلك منها على وجه اللعب، سأله هل تقر له امرأته بذلك فيدين، أو لا تقر له بذلك، وتدعي الطلاق بما ظهر من قوله وقولها فلا يصدق؟ فلما أخبره أنها تقول مثل مقالته، قال له: لا أرى عليك شيئا، وذلك صحيح على أصولهم فيمن ادعى نية مخالفة لظاهر قوله، وأتى مستفتيا، أنه ينوى فيما ادعاه، ولا يمين عليه. وقوله في آخر المسألة: لا أرى عليك إلا اليمين، معناه إن طالبه أحد باليمين، وقوله: إن كنت أردت بذلك طلاقا، وإن كنت لاعبا فهو الطلاق، صحيح على قولهم في أن الطلاق(5/241)
هزله جد. من ذلك ما وقع في أثر المدونة وغيرها. وقول أصبغ في نوازله من كتاب الأيمان بالطلاق، والله الموفق.
[مسألة: المسلم يزوج عبده النصراني أمته النصرانية ثم يعتقها]
مسألة قال: وسألته عن الرجل المسلم يزوج عبده النصراني أمته النصرانية ثم يعتقها، أترى لها خيارا؟ قال: نعم، لها الخيار ملكها بيد مسلم.
قال محمد بن رشد: وهذا كله كما قال؛ لأنهما وإن كانا نصرانيين فسيدهما مسلم، وله حق في اختيارها نفسها؛ لأنه يصل بذلك إلى وطء الأمة، ويتفرغ العبد لمنافعه، وقد مضى هذا في أول سماع عيسى، من كتاب طلاق السنة، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته حرمت علي إن لم تقومي عني فلا ترجعي إلي إلا أن أشاء]
مسألة وسئل عن من قال لامرأته: حرمت علي إن لم تقومي عني، فلا ترجعي إلي، إلا أن أشاء، فقامت، ثم قالت له: أرجع، أرجع، فقال: لا. ثم قالت له: أرجع، فقال: لا، ثم قالت له: أرجع، فقال: ما شئت، تعالي إن شئت. ولا يشاء ذلك بقلبه، أترى عليه شيئا؟ فقال: ما أرى عليه في هذا شيئا. فقيل له: إنها لم تأته، لما أرادت أن تأتيه خاف من ذلك؛ لأنه لم يشأ بقلبه أن تأتيه، فقال لها: لا تأتي، ثم إنه خرج، ثم جاء، وقد اشتهى أن تأتيه، وأحب ذلك، وشاءه بقلبه، فجاءته قبل أن يأمرها أن تأتيه، فجاءته ولم يأمرها، فقال: إني لأخاف أن يكون عليك من يمينك شيء، أرأيت هي أكانت تعلم الغيب؟ كيف تعلم ما في قلبك أنك اشتهيت أن تأتيك وشئته، إنما(5/242)
ذلك إذا دعوتها.
وإنما يستدل على أنك قد شئت أن تأتيك إذا دعوتها تأتيك؛ لأنك قد شئت بقلبك أن تأتيك، ليس يطلق الرجل بقلبه، ولا ينكح الرجل بقلبه. وإنما الدليل على مشيئتك إذا قلت ذلك لها؛ أرأيت لو أنها أولا قالت له: آتيك، فقال لها: لا، وهو إن يشأ أن تأتيه بقلبه، فجاء، فجاءته ولم تنظر إلى قوله، أكان ذلك يخرجه من يمينه؟ لا ما ينفعه ذلك، ولا يطلق الرجل بقلبه، ولا يستدل على مشيئته إلا بإذنه أن يدعوها، فإذا دعاها فلا شيء عليه، وإن كان لا يشاء أن تأتيه.
قال مالك للذي قال لامرأته: أنت علي حرام إن لم تقومي، فلا ترجعي إلي حتى أشاء ذلك، فقامت ثم استأذنته غير مرة أن ترجع، فيقول: لا، ثم قال تعالي إن شئت، وهو لا يشاء بقلبه، أو تأتيه، فقال لها بعد أن قامت، مكانك لا تأتي، ثم خرج ودخل، ثم شاء أن تأتيه بقلبه، ثم جاءته قبل أن يدعوها وقبل أن يأذن لها، فقال له: من أين علمت حين دخلت أنك قد شئت بقلبك أن تأتيك؟ أرى إن كنت نويت حتى تشاء ذلك بقلبك، تنوي مشيئتك، لا ينوي لسانك في شيء من ذلك أن ليس شيء، وأنه ليأخذ بقلبي في قولك لها أولا: تعالي إن شئت، ثم قلت لها: لا تأتي، أنه ليأخذ بقلبي أنه إذن وما أدري.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن يمين الحالف على امرأته لا ترجع إلا أن يشاء، محمولة على أنه أراد ألا ترجع إلا أن يأذن لها في الرجوع، إذ لا يستدل على ما في قلبه إلا بقوله، فإذا أذن لها في الرجوع فرجعت، وإن كان لا يشاء رجوعها بقلبه، وإذا رجعت بغير أن يأذن لها فهو حانث، وإن كان قد شاء رجوعها بقلبه إلا أن ينوي في ذلك كله مشيئته بقلبه، دون الإذن لها بلسانه فتكون له نيته، ولا يحنث إن جاءته دون أن يأذن لها إذا كان قد شاء ذلك بقلبه، ويحنث إن جاءت وقد أذن لها إذا كان لا يشاء ذلك بقلبه، هذا معنى ما ذهب إليه في الرواية، وتوقف إذا أذن لها، ثم رجع(5/243)
عن الإذن قبل أن تأتي، فقال لها: لا تأتي، فأتت على الإذن المتقدم، فقال أولا: إنه يحنث، وأن رجوعه عنه يسقطه، ثم قال: إنه ليأخذ بقلبي أنه إذن يريد أنه إذن لا يسقطه رجوعه عنه. وجه القول الأول مراعاة المعنى دون اللفظ؛ لأن المعنى في يمين الحالف بمثل هذا على زوجته ألا تعصي قوله، وتخالف أمره. ووجه القول الثاني مراعاة اللفظ دون المعنى؛ لأنه إذا حلف عليها ألا ترجع حتى يأذن لها، فأذن لها أن تأتيه، ثم نهاها عن الإتيان، كان لها أن تأتيه ولا يحنث؛ لأنه ما أتته إلا بعد أن أذن لها. وقوله: ليس يطلق الرجل بقلبه، ولا ينكح الرجل بقلبه، ظاهره خلاف ما في سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق، فيمن أجمع في نفسه على طلاق امرأته، حتى يكون قد طلقها بقلبه، ولم ينطق بذلك لسانه: أنها طالق، وعلى ذلك كان الشيوخ يحملونه. والصواب أن ذلك ليس بخلاف له، وأن معنى قوله ليس يطلق الرجل بقلبه، ولا ينكح الرجل بقلبه، أي ليس من شأن الناس وعادتهم أن يفعلوا ذلك، إذ لا تأثير له في الحكم الظاهر، وهو مثل قوله في مسألة سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق، وما هذا بوجه الطلاق؛ لأن الصحيح أن من أجمع على الطلاق بقلبه في نفسه، على أنه قد طلق امرأته، وقال في قلبه: إنها طالق، فهي طالق، فيما بينه وبين الله في الباطن، وإن أبدى ذلك لها بكلامه، أو بكتابة، أو بإشارة يفهم بها ما في نفسه، حكمنا عليه بذلك؛ لأن الكلام والكتاب إنما هو عبارة عما في النفس من ذلك، والحمد لله.
[مسألة: قال لامرأته وهو يلاعبها أمرك بيدك]
مسألة وسئل عمن قال لامرأته وهو يلاعبها: أمرك بيدك، فقالت: قد تركتك، أو ودعتك، فقال الرجل: لم أرد طلاقا، وما قلت ذلك إلا لاعبا، وقالت المرأة مثل ذلك، فقال: أرى أن يحلف ما أراد إلا واحدة، وتكون عنده على ما بقي من الطلاق في مسألتهم شبهة، وما هي بالنية. قيل له: أفترى على الرجل حرجا أن يحلف أنه أراد واحدة، والله يعلم أنه لم يرد شيئا؟ فقال: لا بد له من هذا، فكيف(5/244)
يصنع؟ فيحلف ما أراد بقوله الطلاق، وتكون واحدة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن البينة قامت على ذلك، فلم يصدق الرجل على ما ادعاه من أنه لم يرد بذلك الطلاق، وإن قالت امرأته مثل مقالته، ويقال له طلاق البتات لك لازم بقول امرأتك بعد أن كلمتها، ملكتها، قد تركتك، أو قد ودعتك؛ لأن هذا القول منها محمول على الثلاث، إلا أن تحلف ما أردت واحدة، وما أردت الطلاق، لا بد لك من اليمين على أحد هذين الوجهين.
هذا معنى قوله في هذه الرواية، ولا يسوغ له فيما بينه وبين الله أن يحلف أنه ما أراد إلا واحدة إن كان لم يرد الطلاق، ولكنه يمكن من ذلك، ويحمل منه ما يحمل، وهذا على القول بأن النية تقبل منه بعد أن أنكر أن يكون أراد الطلاق، وأما على القول بأن النية لا تقبل منه، وهو أحد قولي مالك، واختيار أصبغ، على ما مضى له في رسم كتب عليه ذكر حق، من سماع ابن القاسم. فإن أقام على قوله: إنه لم يرد الطلاق، حلف على ذلك، وكانت واحدة، وإن رجع، وقال: بل أردت واحدة، لم يمكن من اليمين، وكانت ثلاثا على ما دل عليه ما قضت به، وقد مضى في رسم كتب عليه، من سماع ابن القاسم في هذا المعنى زيادة، وتفسير مما قلناه هاهنا. ولو أتى مستفتيا ولم تقم على أمرهما بينة، لصدق أنه لم يرد بذلك الطلاق، ولم يكن عليه شيء على ما مضى في أول السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: خالع امرأته بشيء أعطته إياه وشرط عليها]
مسألة وسئل عمن خالع امرأته بشيء أعطته إياه، وشرط عليها أنك إن طلبت الذي أعطيتني، فأنت امرأتي، فأقامت شهرا، ثم طلبت ذلك، فدفعه إليها وردها إليه، ثم دخل بها وأصابها، فقال: ليس له أن يردها إليه إن طلبت ذلك. وقد أتيا عظيما إن ردها إليه بغير نكاح جديد، ما رأى أن يفرق بينهما، ولها ما رد عليها مما كان خالعها عليه إن كان قد أصابها، ولو لم يكن أصابها لم يكن ذلك لها. قيل:(5/245)
أرأيت ذلك كله لها إذا أصابها؟ فقال: نعم، كان ذلك أقل من صداق مثلها أو أكثر، قد يتزوج الرجل المرأة فيدخل بها، ثم يعلم أن بينهما رضاع، فيكون ذلك كله لها: دينه ونقده، كان أقل من مهرها أو أكثر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه شرط حرام، فيبطل، وينفذ الخلع، ولا يجوز له أن يراجعها إلا بنكاح جديد، فإن ردها إليه على الشرط المذكور، كان الحكم في ذلك على ما ذكر، وقد مضى بيانه في رسم سن من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: قالت لزوج ابنتها إنك مع ابنتي لعلى الحرام فقال لا]
مسألة وسئل عن امرأة قالت لزوج ابنتها: إنك مع ابنتي لعلى الحرام، فقال: لا، فقالت: بلى، فلما أكثرت عليه قال: إن كان ما تقولين حقا، وأنا مع ابنتك على الحرام، وتم ذلك، فشدي بها يديك، ثم لا تزوجيها إلى الخليفة، ثم قال: لم أرد طلاقا، فقال مالك: يقول لها: إن كان ما تقولين حقا، فشدي يديك، ثم لا تزوجيها إلا الخليفة، فأرى أن يسأل عن نيته، فإن سلك هذه الناحية، أحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما أراد طلاقا، ولا أراد إلا إن كان ما تقولين حقا، وثبت علي ذلك، ثم تكون امرأته أنه رأى أن يحلف ما أراد طلاقا، ولا أراد إلا إن كان ما ذكرت حقا، فشدي يديك بابنتك، ثم زوجيها الأمير، فإن أبى أن يحلف رأيت أن يطلق عليه البتة.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن النية التي ادعى محتملة، فوجب أن يصدق فيها مع يمينه، فإن لم يحلف طلقت عليه ثلاثا(5/246)
بمقتضى اللفظ إذا عري من النية؛ لأن قوله: شدي بها يديك، ولا تزوجيها إلا الخليفة، بمنزلة قوله: قد رددتها إليك، أو قد وهبتها إليك، فزوجيها الخليفة.
[مسألة: قال لامرأته بحضرة شهود هل لك عندي شيء]
مسألة قال أشهب: وسمعت مالكا يسأل عن رجل قال لامرأته بحضرة شهود: هل لك عندي شيء؟ فقالت: لا، ليس لي عندك شيء، ولا لك عندي شيء، فقال لهم: فاشهدوا أنها قد برئت مني، وبرئت منها، فافترقا عند ذلك، ثم طلبت المرأة شيئا كان لها عنده، فقالت: أما الطلاق فقد طلقتني، وأما الذي لي عليك، هو عليك بعد، ألم تعطه؟ فقال: أليس إنما أراد أوجه المبارأة إن كانا أرادا ذلك، فأراه جائزا ولا أرى لها شيئا، قيل: أما الرجل، فإنما أراد ذلك، وأما هي فتقول: لم أرده، فقال: لا أدري إن كان أراد أوجه المباراة، فذلك جائز، قيل: إنها تقول: لم أرد ذلك، ويقول الرجل ذلك الذي أردت، فقال: لا أدري ما تقولان، ولكن يسأل عن ذلك الشهود الذين حضروا، فإن قالوا الذي ترى أنهما يريدان المباراة، فذلك جائز، ولا شيء لها عليه. قيل له: إنما يشهدون على هذه المقالة، أنه دعاها بحضرتهم، فقال لها: هل لك علي شيء؟ فقالت: ما لي عندك شيء، ولا لك عندي شيء، فقال لهم: اشهدوا أني قد برئت منها، وبرئت مني. فقال: إن شهدوا لك بمثل هذا لم أرى عليك شيئا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن المرأة طلبت من زوجها متاعا كان لها عنده بعد أن جرى بينهما ما ذكره، والزوج مقر لها به، إلا أنه يدعي أنه صار إليه بالمباراة، ولو جحد أن يكون لها عنده ذلك المتاع الذي(5/247)
طلبته منه، لصدق في ذلك دون يمين؛ لقولها: ليس لي عليك شيء، فلما كان الزوج مقرا لها بالمتاع، لم ينتقل ملكها عنه إلى الزوج بقولها: ليس لي عندك شيء؛ لأنه في ظاهره إخبار بكذب، إلا أن يتبين أنها أرادت أنها قد تركته له على وجه المباراة، فلذلك قالت: ليس لي عندك شيء، فلهذا قال مالك: يسأل الشهود الذين حضروا، فإن قالوا: الذي كنا نرى أنهما أرادا المباراة، جاز ذلك عليها، ولم يكن لها شيء، وإن قالوا: الذي كنا نرى أنهما لم يريدا وجه المباراة، أخذت متاعها، ولزم الزوج الطلاق. ورأى الأمر على ما وقع محمولا على المباراة إذا لم يتبين للشهود ما أراده، وذلك بين من قوله في آخر المسألة: إن الشهود إذا لم يشهدوا إلا على مقالتهما فلا شيء على الزوج، صحيح في المعنى أيضا؛ لأن سكوتها على قوله للشهود: اشهدوا أنها قد برئت مني، وبرئت منها، دليل على إقرارها بإرادة المباراة، وفي إعمال شهادة الشهود بما يظهر إليهم من قصد المشهود عليه وإرادته اختلاف أجازها هنا، وفي سماع أصبغ من كتاب التدبير، وزاد أصبغ: إن للشاهد أن يبث الشهادة بذلك، ولم يعملها في رسم الكبش من سماع يحيى، من كتاب الأيمان بالطلاق.
[مسألة: صالح امرأته بعد فطام ولده منها]
مسألة وسئل عمن صالح امرأته بعد فطام ولده منها، على أن عليها كفل ولده منها ثلاث سنين لا تتزوج، فقال: أليس قد كانت ترى أن هذا الشرط لا يجوز؟ وأنه ليس من شروط الناس، وثلاث سنين عشرة. أرأيت إن قال لها: لا تتزوج خمسين سنة؟ يشترط تحريم ما أحل الله، قيل له: أرأيت إن اشترط عليها ألا تنكح حتى تفطم ولدها؟ فقال: يشترط عليها تحريم ما أحل الله لها، قيل له: أفترى لها أن تنكح؟ فقال: لا أدري. قال الله عز وجل: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87] يصالحها هذا على تحريم(5/248)
ما أحل الله. قال ابن نافع: وكان مالك لا يرى بأسا أن تنكح، وإن اشترط كفله عليها، وأما أنا فلا أرى أن تنكح في الحولين، إذا اشترط ذلك عليها.
قال محمد بن رشد: قد قال مالك في كتاب ابن المواز: إن ذلك يلزمها، ولا تنكح حتى تفطم ولدها مثل قول ابن نافع، ويأتي على معنى ما في المدونة من أن المرأة إذا آجرت نفسها ظئرا، فليس لها أن تتزوج، أنه ليس للمصالحة على رضاع ولدها أن تتزوج في الحولين، وإن لم يشترط ذلك عليها، وما في رسم الرهون من سماع عيسى من هذا الكتاب، أنه ينظر في ذلك، فإن كان لا يضر بالصبي، لم يحل بينها وبين التزويج قول رابع في المسألة، وإنما وقع الاختلاف في هذا لما يتقى من ضرر ذلك بالصبي، وما كانت العرب تعتقد من ذلك، حتى هم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن ينهى عن ذلك فقال: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك، فلا يضر أولادهم شيء» وأما اشتراطه عليها ترك النكاح بعد مر الحولين قريبة أو بعيدة، فلا اختلاف في أن ذلك لا يلزمها، كما لا يلزم الزوج اشتراط ذلك عليه.
[مسألة: دعته امرأته إلى الخلع]
مسألة وسئل عمن دعته امرأته إلى الخلع، فقال: آخذ منك هذا الخلخال على أن أخالعك على ذلك إن لم تكوني حاملا فقد خالعتك، فآخذ الخلخال وأخالعك، وإن كنت حاملا فأنت امرأتي، ثم افترقا على ذلك، فقال مالك: قد بانت منه، ووقع الخلع، كانت حاملا أو غير حامل.(5/249)
قال محمد بن رشد: أما إذا خالعها واشترط أنها إن كانت حاملا فهي امرأته، فلا إشكال ولا اختلاف في أن الخلع واقع، والشرط باطل؛ لأنه شرط رجوعها إلى عصمته بعد أن بانت منه بغير ولي ولا صداق، وذلك ما لا يحل ولا يجوز. وقد مضى هذا المعنى في رسم سن، من سماع ابن القاسم، وأما إذا قال لها: قد خالعتك بكذا وكذا إن لم تكوني حاملا، فيلزمه الخلع، كانت حاملا أو غير حامل، على مذهب ابن القاسم، من رواية مالك في المدونة وغيرها في الذي يقول لامرأته: أنت طالق إن لم تكوني حاملا، أنها طالق مكانها، ولا يستأنى بها حتى ينظر، أبها حمل أم ليس بها حمل؟ ويأتي على مذهب سحنون الذي يرى أن ينتظر بها في الطلاق حتى يعرف إن كان بها حمل أم لا، أن ينتظر بها في الخلع أيضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: صالح امرأته على أنها إن كان بها حمل فلا نفقة عليه]
مسألة وسئل عمن صالح امرأته على أنها إن كان بها حمل فلا نفقة عليه، ولا قليل ولا كثير قال: فلو كان لها شيء رأيت النفقة، فإن لم يكن لها ما تنفق، فأرى عليه النفقة، ولا أرى أن يدع ولده حتى يموت؛ لقوله عز وجل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فأراد، إذا لم يكن عندها شيء أن ينفق، فإن أيسرت بعد ذلك رأيت أن يتبعها بما أنفق، فيأخذه منها.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة، والقول فيها في رسم البر من سماع ابن القاسم، من كتاب طلاق السنة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يخالع امرأته فتحيض حيضة ثم ينكحها]
مسألة وسئل عن الذي يخالع امرأته، فتحيض حيضة، ثم ينكحها(5/250)
فتحيض بعد نكاحه إياها حيضتين، ثم يطلقها، ولم يمسها فقال: إن كان دخل بها فإنه متهم عليها، فإن لم يكن دخل عليها فلا عدة عليها، وقد خلت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا دخل بها فلا بد من استيئاف العدة من يوم طلقها مس أو لم يمس، فإن تصادقا على أنهما لم يمسا؛ لأنهما يتهمان على طرح العدة التي قد وجبت بظاهر الدخول، هذا منصوص في المدونة وغيرها. وأما إذا طلقها بعد أن نكحها، وقبل أن يدخل بها، فإنها تبنى على عدتها الأولى، إذ لا عدة لهذا الطلاق الثاني، فإن كان تزوجها بعد حيضة من يوم خالعها، ثم طلقها بعد أن حاضت حيضتين، فلا عدة عليها. وقد حلت كما قال، وقد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم سلعة سماها، من سماع ابن القاسم، من كتاب طلاق السنة، وبالله التوفيق.
[طلق امرأته طلقة وهي حامل]
ومن كتاب الأقضية وسئل عمن طلق امرأته طلقة وهي حامل، فأقام أشهرا ثم باراها على أن عليها رضاع ولدها، فطالبته بنفقتها لما مضى من الشهور قبل المباراة، فقال: طلقها، فأقامت نصف الحمل، لم تأخذ منه نفقة، ثم باراها بأن تكفيه نفقة ولدها، فطلبت نفقتها لما مضى من الشهور قبل المباراة، فذلك لها، قيل: أرأيت إن قالت له: إنما باريتك على رضاعه، فأما نفقة حمل فلا؟ فقال: أما نفقة حملها لما مضى قبل المباراة، فذلك لها، وأما بعد مباراتها، فإنه يعرف أنه لم يكن يمنعها الرضاع، ويعطيها هذا.
قال محمد بن رشد: أما ما مضى من نفقة حملها قبل المباراة فبين، أن ذلك لها كما قال؛ لأنها قد وجبت لها عليه، فلا تسقط عنه إلا بما تسقط به الحقوق الواجبة عمن وجب عليه، وأما نفقة ما بقي من الحمل بعد المباراة، فجعلها تبعا لما التزمت لك من رضاعه بما دل على ذلك من العرف والمقصد،(5/251)
فإن وقع الأمر مسكوتا عليه فلا شيء لها، وإن اختلفا في ذلك فالقول قول الزوج مع يمينه، وهذا من نحو قولهم فيمن أكرى دارا مشاهرة أو مساناة إن دفع كراء شهر أو سنة براءة للدافع مما قبل ذلك، وكذلك لو طلقها وهي حامل ولم يخالعها، فدفع إليها نفقة الرضاع؛ لكان ذلك براءة له من نفقة الحمل المتقدمة، وبالله تعالى التوفيق، لا شريك له.
[جعل امرأته بيد أبيها إن غاب عنها سنة]
من سماع عيسى بن دينار، من ابن القاسم
من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: قال ابن القاسم: في رجل جعل امرأته بيد أبيها إن غاب عنها سنة، فغاب عنها سنة، فلما انقضت السنة، أراد الأب أن يفرق بينهما، وقالت المرأة: لا أريد ذلك، وأنا أرضى أن أقيم مع زوجي، وأصبر عليه، أن ذلك لها، وأن الإمام يجبر الأب على ألا يفرق بينهما ويمنعه من ذلك، وكذلك قال مالك. قال ابن القاسم في سماع يحيى: فإن طلق قبل أن يمنعه السلطان مضى الطلاق، وإن طلق بعدما منعه السلطان فلا يجوز.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في سماع يحيى، تفسير لقوله في رواية عيسى عنه، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم استأذن سيده من سماع عيسى، من كتاب النكاح. فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك. وفي أول سماع أبي زيد مسألة من هذا المعنى، فنتكلم عليها عند انتهائنا إليها إن شاء الله.
[مسألة: المرأة تشتري من زوجها عصمته عليها]
مسألة وسئل عن المرأة تشتري من زوجها عصمته عليها، قال: أراه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وإن لم يسم طلاقا، فإذا انقطعت العصمة فلا يبالى، ألا يسمى طلاقا، وجعل يحتج ويقول:(5/252)
لو قالت: قد اشتريت منك عصمتك علي، أو اشتريت طلاقك علي، أو اشتريت ملكك علي، كأنه يراه شيئا واحدا ثلاثا قال: ليس هذه فدية من اشترت كلما يملك منها قال عيسى: ما أراها إلا فدية، وأراها طلقة واحدة بائنة، كالصلح والخلع.
قال محمد بن رشد: قد بين ابن القاسم وجه قوله، وظاهره أنها ثلاث في المدخول بها، والتي لم يدخل بها، ولا ينوى في ذلك، وقول عيسى أبين؛ لأن المرأة إذا بانت عن زوجها بطلقة بائنة، فقد خرجت من عصمته وملكه، فلا عصمة له فيها، ولا ملك له عليها، ولا طلقة له فيها، وقد قال الله عز وجل: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فلم يجب إلى ذلك أحد من العلماء علمته إذا ارتدت المرأة أن تبين من زوجها بثلاث تطليقات، ولما كانت المرأة تنال بالواحدة البائنة من ملكها نفسها ما تنال بالثلاث، لم يجب أن يحمل فعلها على الثلاث، إذ لا منفعة لها في ذلك، بل قد يكون عليها فيه ضرر. وعلى هذا قالوا فيمن أعطته زوجته مالا على أن يطلقها ثلاثا فطلقها واحدة، أنه لا كلام لها في ذلك، ولأصبغ في رسم النذور، من سماعه، من كتاب الأيمان بالطلاق، أنه ينوى، فإن لم تكن له نية فهي ثلاث، وهو قول ثالث في المسألة، وبالله التوفيق.
[صالح الرجل امرأته وهي حامل ثم أراد أن يتزوجها]
ومن كتاب استأذن سيده
وقال: إذا صالح الرجل امرأته وهي حامل، ثم أراد أن يتزوجها، فإنه يجوز له أن يتزوجها قبل أن تضع، إلا أن تكون مثقلا، فإذا أثقلت لم يجز لزوجها ولا لغيره أن يتزوجها حتى تضع؛ لأنه مرض، والمرأة لا تتزوج وهي مريضة. وقال: إذا أثقلت المرأة جاز لها الفطر، إذا شق عليها الصيام، وليس عليها فدية، وإذا(5/253)
أرضعت وخافت على ولدها أفطرت وقضت الصيام، وأطعمت عن كل يوم مسكينا مدا من حنطة.
قال محمد بن رشد: إثقال الحامل الذي لا يجوز لزوجها الذي إذا خالعها أن يتزوجها فيه، هو أن يمضي لحملها ستة أشهر. قاله مالك في الموطأ وغيره، وهي مصدقة في ذلك، لا ترى النساء فيه، ولا يسألن عنه، ولا يلتفت إلى قولهن فيه. قاله ابن القاسم في رسم الجواب، من سماع عيسى، من كتاب الأقضية.
فأفعالها كلها جائزة، ما لم تقر على نفسها أنها قد أثقلت، أو يثبت ذلك بالبينة العدلة، فإن تزوجها زوجها المخالع لها، فعثر على النكاح قبل أن تضع فسخ النكاح، وإن كان قد دخل بها، كان لها الصداق المسمى بالمسيس، وإن لم يعثر على ذلك حتى تضع وتصح من نكاحها، جرى ذلك على الاختلاف في نكاح المريض أو المريضة إذا صحا، وإن ماتت من نفاسها لم يرثها.
وقوله في الرواية: ولا لغيره، لفظ وقع على غير تحصيل؛ لأن غيره لا يجوز له أن يتزوجها أثقلت أو لم تثقل، وقوله في الحامل: إذا أثقلت جاز لها الفطر إذا شق عليها الصيام، ليس على ظاهره، أثقلت أو لم تثقل، إذا اشتد عليها الصيام، جاز لها الفطر، ولا فدية عليها. وقد قيل: عليها الفدية، اختلفت الرواية في ذلك عن مالك، وقد فرق بين أن يشق عليها الصيام أو لا يشق إلا أنها تخاف أن تطرح ولدها، ذهب إلى هذا ابن حبيب، وعليها القضاء على كل حال، ومن أهل العلم من يرى عليها الفدية، ولا يرى عليها القضاء، ذهب إلى هذا من يرى الآية قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] محكمة فيها، وفي المرضع والشيخ، وهي عند مالك منسوخة، وأما المرضع فلها ثلاثة أحوال: حال لا يجوز لها فيها الفطر، وحال يجوز لها فيها الفطر، وحال يجب عليها فيها الفطر، وقد مضى بيان ذلك في رسم صلى نهارا، من سماع ابن القاسم، من كتاب الصيام، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هنالك.(5/254)
[مسألة: يشترط لامرأته إن تزوج عليها فهي طالق]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل يشترط لامرأته إن تزوج عليها فهي طالق، يعني التي تحته، أو أمرها نفسها بيدها، أو التي يتزوج عليها طالق، أو أمر التي يتزوج بيد التي تحته، فأراد أن يتزوج، وقال: لم أرد بالطلاق إلا واحدة، ولم أملكك إلا واحدة. قال: أما التي تحته فلا يقبل قوله فيها، وهي طالق ألبتة، إن تزوج عليها، وأما طلاقه في التي تزوج عليها، فقوله مقبول؛ لأن التي تحته، لا يبينها منه إلا ألبتة.
فإن قبل قوله لم تنتفع بشرطها، وهو أملك بها. وأما التي يتزوج عليها فواحدة تبينها؛ لأنه من طلق امرأة لم يدخل بها طلقة فقد بانت منه. وهي أملك بنفسها. فهو ساعة يملك عقدتها بانت منه بواحدة، فقد انتفعت بشرطها فيها، ولا حجة لها أن تقول في التي يتزوج عليها: أردت ألبتة؛ لأن واحدة تبينها منه، وهو وجه ما سمعت، وأمرها بيدك مثله.
قال محمد بن رشد: تعليله هذا يدل على أنه إن تزوج عليها قبل الدخول، فله أن يناكرها فيما زاد على الواحدة؛ لأن الواحدة تبينها، وكذلك إن كان التمليك في الداخلة، فلم يعلم حتى دخل بها، كان لها أن تقضي بثلاث، ولم يكن له أن يناكرها؛ لأن الواحدة لا تبينها، فإنما راعى في هذه الرواية معنى الانتفاع بشرطها في نفسها، وفي الداخلة عليها، ولم يراع في المدونة ذلك.
وإنما جعل القضاء في الثلاث حقا لها بالشرط، فقال: لها أن تقضي بها في نفسها قبل الدخول وبعده، ولم يجعل للزوج مناكرة قبل الدخول، وإن كانت الواحدة تبينها فتنتفع بشرطها، فعلى قوله في المدونة: إن كان الشرط في الداخلة عليها لها أن تقضي فيها بالثلاث، ولا يكون للزوج أن يناكرها، وإن كانت واحدة الواحدة تبينها، وهذا على ما في رسم الرهون، من سماع عيسى، من كتاب النكاح؛ لأنه جعل فيها اليمين على نية المرأة المشترط لها الشرط، كان الطلاق فيمن في عصمته ممن لا تبين منه بالواحدة، أو في الداخلة عليها، ولم(5/255)
يراع في المدونة ذلك، وإنما جعل التي تبين منه بواحدة، وقد زدنا هناك هذه المسألة بيانا، فمن أحب الوقوف عليه تأمله فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الناشز التي تقول لا أصلي ولا أصوم]
مسألة وسئل عن المرأة الناشز التي تقول: لا أصلي، ولا أصوم، ولا أستحم من جنابة، هل يجبر زوجها على فراقها؟ قال: لا يجبر على فراقها، ولكن إن شاء فارقها وحل له ما افتدت به من شيء.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا يجبر على فراقها، ولا يجب ذلك عليه، إذ ليست بكافرة مرتدة بتركها الصلاة والصيام والغسل من الجنابة، إذا كانت مقرة بفرض ذلك، على الصحيح من الأقوال، فله أن يؤدبها على ترك الصلاة ويمسكها؛ قال الله عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] ، فإن افتدت منه لتأديبه إياها على ترك الصلاة والصيام، حل له أن يقبل منها الفداء، إذا لم يؤدبها لذلك، وقد مضى في رسم باع غلاما، من سماع ابن القاسم، بيان هذا المعنى، وبالله التوفيق.
[المرأة يصالحها زوجها على رضاع ولدها]
ومن كتاب العرية وسئل عن المرأة يصالحها زوجها على رضاع ولدها، وعلى إن أخذ منها فأقامت سنة، ثم أتت بامرأتين تشهدان أنها إنما صالحته عن ضرورة، قال: تحلف مع شهادتها، ويرد عليها ما أخذ منها، وتأخذ منه رضاع ما أرضعت من ولده.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إذ لا يحل لأحد أن يأخذ من مال(5/256)
امرأته شيئا، إلا عن طيب نفس منها. قال عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] . وقال: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 19] وقد مضى هذا المعنى في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم، فإذا افتدت المرأة من زوجها ثم ثبت أنه كان يضربها، وجب أن يرد عليها ما أخذ منها، ويجوز في ذلك شهادة النساء؛ لأنه مال، والطلاق قد مضى بغير شهادتهن، فإن شهد لها بالضرر شاهدان، أو شاهد وامرأتان، رد عليها مالها بغير يمين، وإن شهد لها به رجل واحد وامرأتان، حلفت مع شهادة الرجل، أو مع شهادة المرأتين، واستوجبت أن يرد إليها ما أخذ منها.
ويجوز في ذلك أيضا شهادة شاهدين على السماع، فتأخذ ما أخذ منها بشهادتهما دون يمين. قاله في سماع أصبغ، من كتاب الشهادات، وأكثر من ذلك أحب إليه، وابن الماجشون لا يجيز في شهادة السماع أقل من أربعة شهود وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته إن كنت حاملا وإن كنت لست حاملا فأمرك بيدك]
مسألة وسألته عن الرجل يقول لامرأته: إن كنت حاملا وإن كنت لست حاملا فأمرك بيدك، فلا يكون ذلك لها، كانت حاملا أو لم تكن حاملا الساعة، ما لم يطأها ويقفها السلطان.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن التمليك مقيس على الطلاق، فكما يعجل الطلاق على من قال لامرأته: أنت طالق إن كنت حاملا وإن لم تكوني حاملا، ولا يستأنا بها حتى يعلم إن كانت حاملا أم غير حامل، فكذلك يجب التمليك معجلا للمرأة على هذا الوجه، ويأتي على مذهب سحنون أن يستأنا بها في التمليك، حتى يعلم إن كانت حاملا أم لا، كما يستأنا بها عنده في الطلاق.(5/257)
[مسألة: يقول لامرأته ادفعي إلي عشرة دنانير وجيئي بها وأنا أطلقك]
مسألة وعن الرجل يقول لامرأته: ادفعي إلي عشرة دنانير، وجيئي بها وأنا أطلقك، أو قال لعبده: ادفع إلي خمسين دينارا، وأنا أعتقك، فلما دفع إليه، أو جاءته امرأته بعشرة دنانير، قال: لا أقبلها ولا أطلقك، أو يكون له عليها دين، فيقول إن عجلت ديني فأنا أطلقك فتأتيه بدينه، فيقول لا أقبله، ولا أطلقك، قال ابن القاسم: لا يلزمه شيء من هذا إذا حلف أنه لم يبت لهم الطلاق ولا العتق.
قال محمد بن رشد: ولو أنه لما جاءته بالعشرة دنانير قبضها، أو لما أتته بدينه معجلا قبضه، للزمه الطلاق؛ لأن قبضه ذلك رضى منه بالطلاق، بخلاف العبد، لا يلزمه عتق العبد إذا جاءه بالخمسين دينارا، وإن قبضها لأنه إنما قبض منه ما له أن يقبضه، شاء أو أبى من غير عتق، ويدخل فيه من الاختلاف ما يدخل في الرجل، يقول لامرأته اقضي ديني وأفارقك، وهو حالّ لها عليه. وقد مضى بيان هذا كله في أول رسم من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[قال لقوم أشهدكم أني خيرت امرأتي]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه وسئل عن رجل قال لقوم: أشهدكم أني خيرت امرأتي، قيل له إن التخيير ثلاثة، وأنت تريد أن ترتجع، فقال: إن ارتجعتها إلى يوم القيامة فهي طالق ألبتة، فاختارت نفسها ثم تزوجت زوجا فأراد أن يتزوجها بعد زوج قال ابن القاسم: إن تزوجها طلقت عليه بالبتة، ثم لم يتزوجها إلا بعد زوج، فإن تزوجها بعد ذلك لم يكن عليه شيء وكذلك قال ابن وهب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأنه قد(5/258)
حلف ألا يرتجعها إلى يوم القيامة، فمتى ما راجعها حنث، كان ذلك قبل زوج أو بعد زوج، وإنما الاختلاف إذا طلقها طلاقا رجعيا ثم حلف ألا يراجعها، أو ألا يرتجعها، فراجعها في العدة وقال: إنما أردت ألا أراجعها بنكاح جديد بعد انقضاء العدة، أو راجعها بنكاح جديد بعد انقضاء العدة، وقال: إنما أردت ألا أرتجها ما دامت لي عليها الرجعة، وقد مضى القول في ذلك كله موعبا في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة، فمن أحب الوقوف عليه تأمله فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: ملَّك امرأته أمرها]
مسألة قال ابن القاسم: في رجل ملَّك امرأته أمرها فقالت: قد قبلت ثم صالحها بعد ذلك قبل أن تسأل ما قبلت، قال: تسأل، فإن قالت: كنت قد طلقت نفسي بقولي: قبلت باثنتين أو ثلاثا، فالقول قولها، إلا أن يناكرها، فيحلف على ما نوى.
قلت: أله أن يناكرها وهي ليست في ملكه؟ قال: نعم، ذلك له، فإن قال: لم أنو شيئا، كان القضاء ما قضت، إن قالت كنت طلقت اثنتين، فبالصلح ثلاث، ولا تحل له إلا بعد زوج، وفي البتة، لا تحل له أيضا إلا بعد زوج، وإن قالت: كنت طلقت واحدة كان خاطبا من الخطاب، فإن تزوجها كانت عنده على طلقة بقيت؛ لأنه قد مضت طلقتان: طلقة قضت بها، وطلقة الصلح.
وإن قالت لم أرد بقولي: "قبلت" طلاقا ولم أنو طلاقا، ولم أطلق شيئا، لم يلزمه إلا طلقة الصلح، فإن تزوجها كانت عنده على طلقتين بقيتا له.
قلت: فلو قالت كنت طلقت ثلاثا فلم يناكرها، هل يرد عليها ما أخذ منها أو لا يرد عليها ما أخذ منها؛ لأنها حين صالحت علمنا أنها لم تطلق ثلاثا؟ .(5/259)
قلت: فإن ادعت الجهالة، قال: لا تعذر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم، بينة المعاني، فلا موضع للقول فيها إلا في قوله: إذا قالت كنت طلقت نفسي بقولي: قد قبلت اثنتين أو ثلاثا إن القول قولها إلا أن يناكرها، فيحلف على ما نوى، يريد إلا أن يناكرها ساعة قالت: أردت اثنتين أو ثلاثا، فإن سكت على قولها لم يكن له أن يناكرها بعد ذلك.
وأما اليمين فليس عليه أن يحلف حتى يريد أن يراجعها. قاله في المدنية وكذلك كل من ناكر امرأته في طلاق بائن، كالمملكة أو المخيرة قبل الدخول، أو الذي تعطيه زوجته مالا على أن يخيرها، فتختار نفسها على القول بأن له أن يناكرها من أجل أنها تبين بالواحدة بسبب المال، وكذلك الذي يناكرها في الطلاق الرجعي، إنما له أن يناكرها ساعة قضت بأكثر من الواحدة، وله أن يؤخر يمينه إلى أن يريد رجعتها، فإن لم يحلف حتى انقضت عدتها لم يكن عليه أن يحلف، إلا أن يريد مراجعتها.
وأما قوله في التي قالت بعد أن صالحت: إنها كانت أرادت بقولها: "قبلت" ثلاثا لترجع فيما صالحت به، وقالت: إنها جهلت أنها لا تعذر في ذلك بجهل، فيشبه أن تكون هذه المسألة إحدى المسائل السبع، التي روي عن أبي عمر الإشبيلي أن الجاهل لا يعذر فيها بجهله، والثالث الذي يسمع امرأته تقضي بالثلاث فيسكت، ثم يريد أن يناكرها من بعد ذلك ويدعي الجهل، والثالثة المرأة تختار في التخيير واحدة ثم تريد أن تختار بعد ذلك ثلاثا، وتقول: جهلت وظننت أن لي أن أختار، والرابعة المملَّكة أو المخيَّرة يملكها زوجها أو يخيرها فلا تقضي حتى ينقضي المجلس على قول مالك الأول، ثم تريد أن تقضي بعد ذلك وتقول: جهلت وظننت أن ذلك بيدي متى شئت.
والخامسة التي يقول لها زوجها: إن غبت عنك أكثر من ستة أشهر، فأمرك بيدك، فيغيب عنها وتقيم بعد الستة المدة الطويلة من غير أن تشهد أنها على حقها، ثم تريد أن تقضي وتقول: جهلت وظننت أن الأمر بيدي متى ما شئت والسادسة الأمة(5/260)
تعتق تحت العبد فتتركه يطأها، ثم تريد أن تختار وتزعم أنها جهلت أن الخيار كان لها. والسابعة الرجل يجعل أمر امرأته بيد غيرها، فلا يقضي المالك حتى يطأها زوجها، ثم يريد أن يقضي ويقول: جهلت وظننت أن ذلك لا يقطع ما كان من القضاء فيما ملكت فيه، وذلك أن ابن عتاب حكى عن ابن بشير القاضي أنه قال: كان أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: سبع مسائل لا يعذر فيها الجاهل بجهله، ولا يشرحها، وإذا سألناه عن تفسيرها لم يفسرها لنا. قال: فتبعتها إلى يومي هذا، فلم أجد منها إلا خمس مسائل، فذكر ثلاثا من هذه، ومسألة السارق يسرق الثوب وفيه دراهم جهلها، ولم يعلم بها، ومسألة المرتهن يطأ الجارية المرهونة عنده ويدعي الجهل.
قال ابن عتاب فوجدت أنا منها مسائل كثيرة، فذكر مسائل مختلفة المعاني وقعت في المدونة والمستخرجة وغيرهما من الدواوين نص فيها على أن الجاهل لا يعذر بجهله، بعضها متفق عليها، وبعضها مختلف فيها. منها حديث مرغوسن في المقر بالزنى جهلا وغيرها من المسائل وترك مسائل كثيرة لا يختلف في أن الجاهل لا يعذر فيها بجهله، إذ لم يجد ذكر ذلك نصا فيها ولم يكن أبو عمر الإشبيلي ممن يغلط مثل هذا الغلط، فيخفى عليه أن المسائل التي لا يعذر فيها الجاهل بجهله أكثر من أن تحصى، وإنما أراد والله أعلم، سبع مسائل في نوع واحد، فيحتمل أن يكون أراد السبع المسائل التي ذكرناها والله أعلم، ويحتمل أن يكون أراد بالسبع المسائل ما قد ذكرته في كتاب الشفعة من كتاب المقدمات.
[مسألة: يقول لعبده أنت حر]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول لامرأته: أنت طالق إن شئت، فقالت: قد شئت إن شاء فلان، أو يقول لعبده: أنت حر(5/261)
إن شئت، فقال: قد شئت إن شاء فلان، فيوجدان قد ماتا هل ترجع المشيئة إليهما؟ قال ابن القاسم: إن وجدا قد ماتا فلا شيء لهما، ولا ترجع المشيئة إليهما.
قلت: فلو كان قال لهما هذه المقالة، فقالا: قد شئنا إن شاء فلان، وفلان بأرض بعيدة، مثل إفريقية والأندلس. قال: أما المرأة فيقال لها: إن شئت فاقضي الآن، وإن شئت فاتركي، ولا تؤخري إلى قدوم فلان.
وأما العبد، فذلك له حتى يكتب إلى فلان، ويستقضي شيئته؛ لأنه ليس في العبد من الضرر ما في المرأة؛ لأن المرأة يمنع من وطئها، والعبد ليس كذلك.
قلت: فإن كان الرجل الذي جعلت المرأة المشيئة إليه في الإسكندرية ونحوها من القرب، أيؤخر إلى ذلك؟ قال ابن القاسم: إذا كان في القرب على ما ذكرت اليومين والثلاثة، وما أشبهه الذي لا يكون على الزوج في ذلك ضرر، فإني أرى أن يوقف، وأما الأجل البعيد الذي يكون على الزوج فيه ضرر، فإني أرى أن ترد المشيئة إليها الساعة، فإما قضت وإما تركت.
قلت: فلو أن الزوج قال: أنا أترك الأمر حتى يشاء فلان ويقدم، فإني أخاف أن يجعل ذلك بيدها فتطلق، وعسى فلان لا يطلق، قال: إذا بعد الأمر فلا يقبل فيها رضى الزوج؛ لأن الموت يأتي فيقع المواريث. قال ابن القاسم: وليس التأخير بشيء في القياس، وإن قرب الأمر، إنما القياس فيه أن يوقف الساعة.
قال محمد بن رشد: أما إذا قالت: قد شئت إن شاء فلان، أو قال العبد قد شئت إن شاء فلان، فيوجد فلان قد مات قبل ذلك، أو مات بعد ذلك قبل أن تعلم مشيئته، فلا اختلاف في أنه لا شيء لهما، وأن المشيئة لا(5/262)
ترجع إليهما؛ لأنهما قيدا مشيئتهما بما لا يمكن أن يكون، فبطلت، وكذلك إن قالا: قد شئنا إن شاء فلان، وفلان ميت، وقد علمنا بموته، إذ لا يمكن أن يشاء الميت على مذهب ابن القاسم في الذي يقول امرأتي طالق إن شاء هذا الشيء، لشيء لا يمكن أن يشاء، مثل الحجر وشبهه إنه لا شيء عليه، ويأتي على مذهب سحنون الذي يلزمه الطلاق، ويرى ذلك ندما منه أن يلزم الطلاق في المرأة، والعتق في العبد، ويعد ذلك منه ندما؛ لأن المرأة والعبد ينزلان بما ملكا من العتق والطلاق، منزلة من ملكها، وقد يكره العبد العتق، فيقول: إن شاء هذا الشيء، لشيء لا يشاء ندما. وأما إذا قالت: قد شئت إن شاء فلان، وقد فوضت أمري إلى فلان، وفلان حي، فلا يخلو على مذهب ابن القاسم من أن يكون فلان حاضرا أو غائبا قريب الغيبة، أو غائبا بعيد الغيبة، فأما إن كان حاضرا، فينزل منزلتها ويقال له: إما أن تقضي وإما أن ترد، ويكون ذلك إليه ما لم ينقض المجلس، أو ما لم يوقفه السلطان على اختلاف قول مالك في الذي يكون إليه أمر المملَّكة بيدها، وأما إن كان غائبا قريب الغيبة، قال: هاهنا مثل اليوم واليومين والثلاثة، وما أشبهه، وقال في الواضحة من رواية أصبغ عنه مثل اليوم وشبهه، فيوقف الأمر، ويخير إلى أن يعلم ما عنده استحسانا، قال: والقياس أن يقف الساعة، وإنما قال مالك: هو القياس؛ لأنها لو سألت أن تؤخر إلى أجل قريب، ترى في ذلك وتنظر، لم يكن لها بإجماع، فإذا لم يكن لها أن تؤخر في نفسها، لم يكن لها أن تؤخر إذا جعلت ذلك لغيرها، وأما إذا كان غائبا بعيد الغيبة، فيرجع الأمر إليها وتوقف الساعة على كل حال.
وأصبغ يرى أنه ليس لها أن تحول الأمر إلى غيرها وإن كان حاضرا، ويرجع الأمر إليها، فتقضي أو ترد. وقوله يأتي على رواية علي بن دينار زيادة عن مالك في كتاب الخيار من المدونة. والعبد والمرأة في القياس سواء، إذ لا فرق فيه بين تمليك المرأة الطلاق، وتمليك العبد للعتق، إذ لا يفترقان في الحد الذي ذلك إليهما فيه، فقوله في العبد: إنه ينتظر في البعيد الغيبة استحسان على غير قياس.
ويأتي في نوازل سحنون من كتاب الإيلاء، القول في جعل الرجل أمر امرأته بيد رجل غائب وبالله التوفيق.(5/263)
[قال لامرأته إن لم أتزوج عليك إلى ثلاث سنين فأنت طالق ألبتة]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وقال فيمن قال لامرأته: إن لم أتزوج عليك إلى ثلاث سنين فأنت طالق ألبتة، فجزعت من ذلك واشتد عليها، فقال لها: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك، فقالت: اشهدوا أني قد اخترت نفسي الساعة، إن هو تزوج، قال مالك: هي طالق الساعة.
قلت لابن القاسم: فإن رد عليها وقال: لم أرد إلا واحدة، قال: فذلك له، ويقع ما أراد من الطلاق الساعة، ويكون له عليها الرجعة.
قال محمد بن رشد: قوله: فقالت اشهدوا أني قد اخترت نفسي الساعة إن هو تزوج علي، معناه: فقالت: اشهدوا أني اخترت الساعة أن أكون طالقا ثلاثا، متى ما تزوج علي، فلما كان ذلك لازما لها عند مالك، وقد كان حلف بطلاقها ثلاثا إن لم يتزوج عليها إلى ثلاث سنين، صار في كل وجه يصرفه إليه، لا بد له من الطلاق ثلاثا؛ لأنه إن تزوج بانت منه بثلاث لاختيارها نفسها إن تزوج عليها، وإن لم يتزوج عليها إلى ثلاث سنين بانت منه بثلاث أيضا، فلهذا قال: هي طالق الساعة، يريد ثلاثا؛ لأنه في حكم من قال: إن لم أطلق امرأتي ثلاثا إلى ثلاث سنين فهي طالق ثلاثا.
وأما قول ابن القاسم: فإن رد عليها وقال: لم أرد إلا واحدة، فذلك له، ويقع ما أراد من الطلاق الساعة، ويكون له عليها الرجعة، فمثله حكى ابن حبيب عنه من رواية أصبغ، ولا وجه له يصح، والصواب في ذلك على قياس ما تقدم من قول مالك ومذهبه في المدونة: أن يوقف فيقال له: إما تزوجت فيقع لك تطليقة واحدة، وتكون لك الرجعة، وتبر في طلاق الثلاث، وإما أن تعجل عليك طلاق الثلاث، إذ لا خلاص لك منها إلا بالتزويج، إذ لا فرق بين أن تختار واحدة إن تزوج عليها، أو يقول: إن تزوجت عليك فأنت طالق واحدة، وذلك يوجب ما قلناه؛ لأنه في التمثيل بمنزلة من قال: إن لم أطلق امرأتي إلى ثلاث سنين واحدة، فهي طالق ثلاثا. والواجب في ذلك على قول(5/264)
مالك أن يقال له: إما طلقت واحدة فتبر في طلاق الثلاث، وإما أن يعجل عليك طلاق الثلاث. وقد حكى ابن حبيب عن ابن القاسم أنه لا يعجل عليه الطلاق في شيء من هذه المسائل إلى الثلاث سنين، وهو مذهب سحنون، وقول ابن القاسم في سماع أبي زيد، قال أصبغ: ولا يطأ إلى الثلاث سنين، فإن طلبت امرأته الوطء، ضرب له أجل المولى، وذلك يأتي على قول غير ابن القاسم في العتق الأول من المدونة، وقول ابن القاسم، في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الإيلاء، خلاف قوله ومذهبه في المدونة إن له أن يطأ لأنه على بر، إذ قد ضرب أجلا.
وقد مضى من معنى هذه المسألة في رسم حلف من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب وفي رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة.
[مسألة: قال لامرأته إن تزوجت عليك فأمرك بيدك]
مسألة قال: وسمعت مالكا والليث جميعا يقولان في رجل قال لامرأته: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك، فقالت: إني قد اخترت نفسي الساعة إن تزوج علي، قالا: فذلك لها.
قال محمد بن رشد: هذا مثل قول مالك في المسألة التي قبلها، خلاف قول أشهب، في سماع أصبغ، من كتاب النكاح. والاختلاف في هذا جار على أصل مختلف فيه، وهو إسقاط الحق قبل وجوبه.
[مسألة: قال لها إن تزوجت عليك فأمرك بيدك]
مسألة قال ابن القاسم: فإذا قال لها: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك، فأذنت له قبل أن يريد أن يفعل بكثير، وسلمت، فلما فعل أرادت الرجوع، إن ذلك ليس لها، وهو قول مالك القديم، إن ذلك له، وإن أذنت له قبل ذلك بكثير، فلما فعل ذلك لم يكن لها أن ترجع، إلا أن مالكا رجع وقال: أحب إلي أن يكون ذلك عندما(5/265)
يريد أن يفعل. وإن قال لها: إن تزوجت عليك إلا برضاك فأمرك بيدك، فأذنت له أن يفعل متى ما أراد قبل أن يريد أن يفعل، ثم فعل بعد ذلك، فأرادت الرجوع، إن ذلك ليس لها وليس بيدها من ذلك شيء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، فمن أحب الشفاء من الوقوف على القول فيها تأمله هنالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن شئت]
مسألة وسمعته يقول فيمن قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، أو لغلامه أنت حر إن شئت، فزعم أنهما قالا: لا نشاء، وزعما أنهما قد اختارا حين أعطاهما ذلك وشاءا ذلك، وهو يقر أنه قد أعطاهما، غير أنه يدعي أنهما لم يقضيا شيئا، ولا نية بينهما.
قال ابن القاسم: القول قولهما، وهما مصدقان، والبينة عليه، وكذلك من يقول لامرأته: أمرك بيدك، فيقر بأنه قد ملكها، غير أنه يدعي أنهما تفرقا، ولم تقض شيئا، ولم تختر، وزعمت هي بأنها قد اختارت ساعة ملكها إن القول قولها، وهي مصدقة والبينة عليه وهو مدع لأنه يقول: إنه قد أمكنهم من ذلك، وأعطاهم إياه، ثم ادعى عليهم في ذلك دعوا، وإنما مثل ذلك مثل رجل أقر لرجل أنه أسلفه خمسين دينارا وزعم أنه قد ردها إليه، وأنكر الآخر أن يكون ردها إليه ولا أخذها منه، فعليه أن يقيم البينة أنه قد قضاه، وإلا غرم، والقول قول صاحب المال، وكذلك قال مالك في الذي ملك امرأته أمرها، إن القول قولها، إلا أن تكون له بينة. ونزلت به فقضا بها؛ لأنه قد أقر.(5/266)
قال أصبغ: ولا أيمان عليهما لأن نكولهما وحلفهما سواء لا يرد ما قالا.
قال محمد بن رشد في كتاب إرخاء الستور من المدونة في هذه المسألة: إنها نزلت، فاختلف فيها أهل المدينة، وسئل عنها مالك فقال: القول قول الزوجة، مثل قول ابن القاسم هاهنا، وروايته عنه، ولا شك أن اختلافهم فيها، كان إن منهم من قال: إن القول قول الزوج، وهو قول أشهب من أصحاب مالك، وإليه ذهب الشافعي، وهذا الاختلاف مبني على أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم، وهو تصديق المأمور فيما أمره به الآمر من إخلاء ذمته أو تغير ذمة الآمر، فذهب أشهب إلى أن المأمور لا يصدق في ذلك، فجوابه في هذه المسألة إن القول قول الزوج على أصله، وجواب ابن القاسم إن القول قول الزوجة على أحد قوليه في هذا الأصل.
وذلك أنه قال في السلم الثاني من المدونة فيمن له على رجل طعام من سلم فقال: كله لي واجعله في غرائرك، أو في ناحية بيتك، فقال: قد فعلت وضاع، إنه لا يصدق على أنه قد كاله حتى يقيم البينة على ذلك.
وقال فيمن كان له على رجل دين فقال له: ابتع لي حيوانا أو سلعة، فقال: قد فعلت وتلف ذلك، إنه يصدق في ذلك، وذلك مثل قوله في مسألة اللؤلؤ من كتاب الوكالات من المدونة. ومثل قوله في مسألة الرسول من كتاب الرواحل والدواب، ومثل قوله في مسألة البنيان في آخر كتاب الدور، وخلاف قول أشهب فيها.
وإنما يكون القول قول الزوجة والعبد، على قول ابن القاسم وروايته عن مالك، مع أيمانهما فإن نكلا عن اليمين، حلف الزوج وبقي مع امرأته، وحلف سيد العبد، وكان له رقيقا، خلاف قول أصبغ إنه لا أيمان عليهما.
وقوله: لأن نكولهما وحلفهما سواء. معناه؛ لأن نكولهما بمنزلة أيمانهما، إذ لا ترجع اليمين عنده بنكولهما على الزوج ولا على سيد العبد، ووجه قوله: إن الزوج والسيد، لما ملكا الطلاق للزوجة، والعتق للعبد، صار كل واحد منهما في ذلك بمنزلة من ملكه، فوجب ألا يحلف كما لا يحلف من قال: إنه قد أعتق عبده أو طلق امرأته، وبالله التوفيق.(5/267)
[مسألة: قال لامرأته خيرة الله في يديك]
مسألة وقال في رجل قال لامرأته: خيرة الله في يديك، فاختارت، وقال: لم أرد الطلاق، قال: يحلف بالله ما أراد به طلاقا ولا تمليكا، ولا شيء عليه، وكان من الحجة في قوله خيرة الله في يديك، قال: يقال: خار الله لك وما أشبه ذلك. قيل له: أفسكوته عنها وهو يسمعها تقضي؟ قال: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما كان صمته عنها رضى بذلك، ولا شيء عليه لأنه يقول تركتها تتكلم ما أصنع بها.
قال محمد بن رشد: أما يمينه في قوله خيرة الله في يديك، إنه ما أراد به طلاقا ولا تمليكا، فبين أن ذلك على ما قال، إذ يشبه ألا يكون أراد بذلك طلاقا ولا تمليكا.
وأما قوله في الذي سكت وهو يسمعها تقضي: إنه يحلف ما كان صمته رضى بذلك، فمعناه إذا أنكر في المجلس، ولو لم ينكر حتى طال الأمر وافترقا، ثم أتى بعد ذلك وزعم أنه لم يكن صمته رضى بذلك، لم يصدق في ذلك؛ لأن سكوته على ما قضت به حتى طال الأمر يدل على أنه أراد تمليكها بقوله خيرة الله في يديك، وبالله التوفيق.
[مسألة: دخلت عليه امرأته فقال هي طالق ألبتة]
مسألة وقال أشهب بهذه المسألة، ونزلت في رجل دخلت عليه امرأته فقال: هي طالق ألبتة، إن لم أفترعها الليلة، فوطئها فإذا هي ثيب ليست ببكر، قال: لا شيء عليه، إنما أراد وهو يظن أنها عذراء. قلت: أرأيت إن كان حين علم أنها ثيب، واستقر ذلك عنده، ترك وطأها تلك الليلة، فلم يطأها أتطلق عليه؟ قال: نعم، قال أصبغ: ولو علم قبل الوطء بعد اليمين أنها ثيب، فترك وطأها ليلته رأيته حانثا. .(5/268)
قال محمد بن رشد: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا كما قال: إنه إذا وطئت تلك الليلة فلا حنث عليه، بكرا كانت أو ثيبا؛ لأن معنى يمينه إنما هو ليفترعها الليلة بوطئه إياها، فإذا وطئها بر وإن لم يفترعها بوطئه إياها، إذ قد فات ذلك منها كمسألة كتاب النذور من المدونة في الذي يحلف ليذبحن حمامات يتيمة فألفاها قد ماتت، ولا اختلاف هذا، إذ قد فات افتراعها، فلا قدرة له عليه، وإنما الاختلاف إذا كان قادرا على ما حلف من جهة الإمكان، إلا أن الشرع يمنعه منه، كمثل أن يجدها تلك الليلة حائضا، فقال ابن القاسم في الواضحة: هو حانث، ومثله في الأيمان بالطلاق من المدونة في الذي يحلف أن يبيع أمته، فإذا هي حامل، قال أصبغ: لا حنث عليه، واختاره ابن حبيب؛ لأن امتناع الوطء فيها من جهة الشرع، كامتناعه من جهة عدم الإمكان، فحمل ابن القاسم يمينه على اللفظ، وحمله أصبغ على المعنى؛ لأن الحلف إنما أراد الوطء الحلال في مقصد يمينه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته وجهي من وجهك حرام]
مسألة وقال: في الذي يقول لامرأته وجهي من وجهك حرام: إنها ألبتة لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، لا اختلاف فيها في المذهب؛ لأن قوله وجهي من وجهك حرام، بمنزلة قوله: أنت علي حرام، فهي في المدخول بها ثلاث، ولا ينوى إن ادعى أنه أراد بذلك واحدة أو اثنتين إلا أن يأتي مستفتيا، ولا ينوى في التي لم يدخل بها؛ لأن الواحدة تحرمها وقد تكررت هذه المسألة والتي قبلها في هذا الرسم بعينه من كتاب الأيمان بالطلاق، والله الموفق.
[مسألة: صالح امرأته ثم قال لها اختاري فاختارت]
مسألة وقال مالك: من صالح امرأته ثم قال لها: اختاري، فاختارت(5/269)
أنها واحدة، وذلك إذا تداعيا إلى الصلح وتهايآ له، واجتمعا عليه، فيخيرها عند ذلك قبل وجوب الصلح، أو مع وجوبه، قال مالك: وذلك أنهم يرون الصلح لا يتم لهم إلا بذلك. وقد نزل بنا هذا في غير واحد فأشرت بذلك وهو رأي ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: قالت لزوجها أنا أضع لك ما لي عليك من مهري على أن تملكني أمري]
مسألة ولو أن المرأة قالت لزوجها: أنا أضع لك ما لي عليك من مهري، على أن تملكني أمري، ففعل، فاختارت نفسها إنها البتات إلا أن ينكر عليها أنه لم يرد إلا واحدة، فيحلف وتكون واحدة بائنة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه إذا ناكرها تكون واحدة بائنة بسبب ما أعطته من المال على التمليك، خلاف قول مالك في رسم سعد من سماع ابن القاسم. وقد مضى بيان ذلك هنالك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن أعطيتني ما لي عليك فارقتك]
مسألة وقال ابن القاسم: فيمن قال لامرأته، إن أعطيتني ما لي عليك فارقتك، أو أنا أفارقك ففعلت، فلما قبض ذلك أبا أن يفارقها. قال: قد اختلف فيها. وأحب ذلك إلي أن يحلف بالله، إنه إنما قاله لينظر فيه، إما أن يفعل إن بدا له، أو لا يفعل، كأنه يقول: لم أرد به أني قد فعلت ساعتئذ، قال: ثم لا أرى عليه شيئا، وهي امرأته.(5/270)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى بيانها والقول فيها في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أعتق أم ولده على إن أسلمت له ولده الصغير منها يكون عنده أنه يرد إليها]
مسألة وقال: فيمن أعتق أم ولده، على إن أسلمت له ولده الصغير منها، يكون عنده أنه يرد إليها، وليس ذلك بمنزلة الحرة التي صالحها على أن تسلمهم إليه، فذلك جائز ولا يرد إليها.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في سماع أبي زيد من كتاب العتق، وقد روي عن ابن القاسم أن ذلك يلزمها بمنزلة الحرة. حكى ابن المواز عنه القولين جميعا، والأصل في هذا الاختلاف، أنه لما أعتقها على أن أسلمت إليه ولده منها، حصل إسقاطها لما يجب لها من حضانة ولدها في حال العتق معا، فمرة رأى الإسقاط مقدما على العتق، فلم يلزمها إياه، إذ لم تلتزمه إلا في حال رقها، وفي حين لا تملك نفسها، ويقدر السيد فيه على إكراهها، فصارت في حكم المغلوبة على ذلك، ومرة رأى العتق مقدما على الإسقاط فألزمها إياه، إذ لم تلزمه إلا في حال حريتها بعد عتقها، فأشبهت الحرة يصالحها على أن تسقط حقها في حضانة ولدها.
والأظهر أن ذلك لا يلزمهما؛ لأنهما إذا وقعا معا، فقد وقع كل واحد منهما قبل كمال صاحبه، وعلى هذا الأصل وقع الاختلاف في الرجل يعتق أمته على أن تتزوجه بكذا وكذا وقد مضى القول على ذلك مستوفى في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، وفيه بيان هذه المسألة.
[مسألة: نصراني أسلمت امرأته فأراد أن يسلم فقالت أفتدي منك بمالي]
مسألة وقال: في نصراني أسلمت امرأته، فأراد أن يسلم، فقالت: أفتدي منك بمالي، على أن لا تسلم حتى أملك أمري أو على أن لا يكون ذلك على رجعة، ففعل، ثم أسلم. قال: إن افتدت منه قبل أن(5/271)
يسلم، لم يثبت ذلك عليه، ورد ما أخذ منها، وكان له عليها الرجعة إن أسلم في عدتها؛ لأنه لو طلقها وهو كافر، لم يلزمها من طلاقه شيء، فجعله بمنزلة طلاقه.
قلت: فلو كانت افتدت منه على ذلك فلم يسلم أو أسلم بعد انقضاء عدتها، أكان يكون له للذي افتدت به منه؟ قال: فلا أرى له شيئا وأرى أن تأخذه منه.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن الخلع طلاق، فلما كان طلاقه باطلا غير لازم كان خلعه مردودا غير ثابت، وبالله التوفيق لا شريك له وبه أستعين.
[الجارية تنكح ويدخل بها زوجها قبل أن تبلغ المحيض]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك قال مالك في الجارية تنكح، ويدخل بها زوجها قبل أن تبلغ المحيض، فيملكها زوجها فتطلق نفسها هل يلزمها ذلك الطلاق؟ فقال مالك: نعم، يلزمها ما طلقت إذا ملكت إذا كانت قد بلغت مبلغا يعرف ما ملكت أن يوطأ مثلها.
قلت لابن القاسم: وما الفرق بينها وبين الغلام؟ فإن الغلام قد يكون قد عقل وخالط الرجال، فلا يجوز طلاقه إذا لم يحتلم. قال: لأن الجارية إذا بلغت مبلغا يوطأ مثلها، كان الحد على من قذفها، وإن الغلام لا يكون الحد على من قذفه حتى يحتلم.
قال محمد بن رشد: تفرقته هذه بين تمليك الجارية قبل البلوغ، بأن الحد يجب على من قذف الجارية قبل البلوغ إذا كانت قد بلغت مبلغا يوطأ مثلها، وأن الغلام لا حد على من قذفه حتى يحتلم صحيح؛ لأن الرجل لو ملك أمر امرأته صبيا أو نصرانيا فطلقها عليه للزمه ذلك، وإن كان لا حد على من قذف واحدا منهما، وإنما جاز قضاء المملكة قبل البلوغ؛ لأن الطلاق(5/272)
إنما هو من الزوج الذي ملكها أمرها، لا منها، إذ الطلاق إنما هو للرجال لا للنساء، وقد مضى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم، في حكم المملكة قبل البلوغ. ومضى في رسم تأخير العشاء من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، القول في طلاق المناهز للاحتلام فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[جعل أمر امرأته بيد ثلاثة نفر]
ومن كتاب لم يدرك من صلاة الإمام وقال: في رجل جعل أمر امرأته بيد ثلاثة نفر، فطلق أحدهم واحدة، وطلق الآخر اثنتين، وطلق الآخر ثلاثا، قال: تكون واحدة لأنهم كلهم اجتمعوا على واحدة، وهم بمنزلة الشهداء لو أن رجلا شهد على أنه طلق امرأته ثلاثة، وشهد آخر بأنه طلق امرأته واحدة، كانت واحدة؛ لأنهما قد اجتمعا على واحدة.
قال محمد بن رشد: أما الذي جعل أمر امرأته بيد ثلاثة نفر، فطلق أحدهم واحدة والآخر اثنتين والآخر ثلاثا، فإنها تكون واحدة كما قال، إذ لا يلزمه إلا ما اجتمعوا عليه كالحكمين إذا اختلفا في عدد الطلاق، ولو لم يطلق أحدهم شيئا لم يلزمه مما طلق الآخران شيء.
وقد قيل: إنهم إذا اختلفوا لم يلزمه شيء وهو قول أصبغ في هذا وفي الحكمين، أنهما إذا اختلفا لم يلزم الزوج شيء، من ذلك، ورواه عن ابن القاسم وأما قوله: إنهم بمنزلة الشهداء إلى آخر قوله: فهو صحيح على المشهور من مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك، في أن الشهادة على الطلاق تلفق، اتفقت أو اختلفت، إذا كانت في مجلسين، وأنه يؤخذ بالزائد فيها إذا اختلفت وكانت في مجلس واحد، فإذا شهد أحد الشاهدين على رجل أنه طلق امرأته واحدة، وقال الآخر: بل إنما طلقها ثلاثا، وشهد أنه طلقها ثلاثا في غير ذلك المجلس، فهي واحدة؛ لأنهما قد اجتمعا على الواحدة، فإن كان منكرا للطلاق جملة حلف أنه ما طلق شيئا ولزمته واحدة، وإن كان مقرا بالواحدة، حلف أنه ما طلق إلا واحدة ولم يلزمه(5/273)
غيرها. ويأتي على قول ربيعة في المدونة وما يأتي في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الشهادات أن الشهادات لا تلفق، ويحلف المشهود عليه على تكذيب شهادتهما، ولا يلزمه شيء، ولو كانوا ثلاثة، فشهد أحدهم أنه طلق واحدة، والثاني أنه طلق اثنتين، والثالث أنه طلق ثلاثا، للزمه على القول الأول تطليقتان ويبرأ من الطلقة الثالثة بيمينه، كانا في مجلس واحد أو في مجلسين، وعلى القول الثاني يحلف ولا يلزمه شيء، ولو كانوا أربعة فشهد الاثنان أنه طلق واحدة، وشهد الاثنان أنه طلق اثنتين في ذلك المجلس، للزمته اثنتان على القول الأول، وعلى القول الثاني يقضى بأعدل الشهود، فإن تكافئوا في العدالة سقطتا، وحلف المشهود عليه، ولم يلزمه شيء ولو كان ذلك في مجلس آخر، للزمته طلقتان على القول الأول، وبرئ من الثالثة مع يمينه، ولزمته على القول الثالث ثلاث تطليقات.
[قال لامرأته إن غبت عنك سنة فأمرك بيدك]
ومن كتاب سلف دينارا وسئل عمن قال لامرأته: إن غبت عنك سنة فأمرك بيدك، فقالت: قد اخترت ألا أريد غيرك، ثم غاب عنها سنة فأرادت أن تختار، قال: ليس ذلك لها.
قال محمد بن رشد: هذا على ما مضى في رسم أوصى من قول مالك والليث، ويأتي على ما روى أصبغ عن أشهب في كتاب النكاح، أن ذلك لها، وقد مضى بيان ذلك هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: جعل أمرها بيد الأخرى ثم وقع بين المرأتين شر]
مسألة وقال: في رجل كانت تحته امرأتان، فجعل أمر الواحدة بيد الأخرى، يمكث خمس سنين، يطأ التي جعل أمرها بيد الأخرى، ثم وقع بين المرأتين شر، فطلقتها، فقال لها زوجها: إن كانت طالقا فأنت طالق. قال ابن القاسم: ليس عليه فيهما شيء جميعا، لا(5/274)
يطلق هذه ولا هذه؛ لأنه قد يطأ التي جعل أمرها بيد الأخرى، فلما كان يطأها انفسخ ما كان جعل بيد الأخرى حين لم تطلق عليه حتى وطئ.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى، وقد بين ابن القاسم وجه قوله فيها بما لا مزيد عليه، وبالله التوفيق.
[قال لامرأته أمرك بيدك وهو جاهل يظن أن ذلك طلاق]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وسئل مالك عن رجل قال لامرأته: أمرك بيدك وهو جاهل يظن أن ذلك طلاق، قال: إن كان أراد بقوله أمرك بيدك أنت طالق، فهي طالق.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على ما في المدونة من أنه ما ليس من ألفاظ الطلاق فلا يلزم به الطلاق، إلا أنه ينوى باللفظ بعينه الطلاق وقد قيل: إنه لا يلزمه به الطلاق، وإن نواه، وهو قول مطرف في الثمانية وروايته عن مالك، ويقوم من قول ابن الماجشون في كتاب الظهار من المدونة. وقال أشهب: لا يلزمه بذلك الطلاق، إلا أن يريد أنها طالق إذا.. . من اللفظ لا طالق بنفس اللفظ وهو قول لا وجه له.
[مسألة: ملك امرأته فقضت بالبتة فلم ينكر عليها وادعى أنه جاهل]
مسألة وقال مالك: من ملك امرأته فقضت بالبتة فلم ينكر عليها وادعى أنه جاهل، وظن أن ذلك ليس له، وأراد أن ينكر عليها حين علم، قال: ليس ذلك له، ولا يعذر بالجهالة.
قال محمد بن رشد: هذه إحدى المسائل التي مضى القول فيها في رسم يوصي إن الجاهل لا يعذر فيها بجهله، فلا معنى لإعادة ذكرها، والأصل في هذا أنه ما كان يتعلق به حق لغيره، فلا يعذر الجاهل فيه بجهله،(5/275)
وما لا يتعلق به حق لغيره، فإن كان مما يسعه ترك تعلمه، عذر بجهله، وإن كان مما لا يسعه ترك تعلمه، لم يعذر فيه بجهله، فهذه جملة كافية، يرد إليها ما شذ عنها، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلق امرأته طلقة فقالت له: خذ مني عشرة دنانير ولا تراجعني]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل طلق امرأته طلقة، فقالت له: خذ مني عشرة دنانير، ولا تراجعني، ففعل، فهل تكون عليه طلقة أخرى؟ قال: هذا صلح، وقد بانت منه بتطليقتين، وتبنى على ما اعتدت، وإنما تبتدئ العدة التي تراجع ثم تطلق، فإن تلك تبتدئ العدة من آخر ما طلقها، مس أو لم يمس، إلا المولى، فإنه إن قال أنا أمس فلم يمس، لم تبتدئ العدة ومضت على عدتها.
قال محمد بن رشد: أما قوله في التي قالت لزوجها: خذ مني عشرة دنانير ولا تراجعني: إنه صلح، فهو خلاف ما في سماع زونان عن أشهب، عن ظاهر ما في هذه الرواية، إذ لم يفرق فيها بين أن يكون قد قبض العشرة أو لم يقبضها ويحتمل أن تتأول هذه الرواية على أنه قد قبض العشرة؛ لأن معنى قول أشهب في سماع زونان على أنه لم يقبض العشرة، فلا يكون ذلك اختلافا من القول، إذ لا يتصور الخلاف إلا إذا رجع عن قوله قبل أن يقبض العشرة، وظاهر قول أشهب هذا أن الأمر لا يلزمه وإن قبض العشرة، وله أن يردها بعد أن قبضها ويراجعها، وهو بعيد؛ لأنه إذا قبض العشرة فقد ألزم نفسه ما واجبته عليه المرأة من إسقاط حقه في مراجعته إياها، ولزمته بذلك طلقة بائنة قولا واحدا، وإنما الخلاف إذا قال لها لما جاءته بالعشرة: لا أخذها، ولا أترك حقي في المراجعة؛ لأني لم أوجب ذلك على نفسي، وإنما وعدت به، وذلك على قياس المسألة التي مضى الكلام عليها في أول سماع(5/276)
ابن القاسم. وهي: إذا قالت المرأة لزوجها: خذ مني عشرين دينارا وفارقني، فلما جاءته بها، قال: لا آخذها ولا أفارقك، ويدخلها القول الثالث، وهو: الفرق بين أن تبيع في العشرة متاعها، وتكسر فيها عروضها، وبين أن تأتيه بها من غير شيء يفسده على نفسها، فينبغي أن لا يحمل قول أشهب على ظاهره، وأن يتأول على ما يصح، فيقال: إن معنى قوله: ويرد العشرة أن يتركها لها ولا يأخذها منها وذلك جائز في الكلام، كما يقول الرجل: رددت السلعة بالعيب، وإن كان لم يقبضها بعد؛ لأن ما وجب للرجل قبضه، فكأنه قد قبضه. وإذا حمل قول أشهب هذا على أنه لم يقبض العشرة احتمل أن يحمل ما في رسم خرجت من سماع عيسى على أنه قبض العشرة، فلا يكون ذلك اختلافا من القول، وبالله التوفيق.
وإن قالت له: خذ مني عشرة دنانير، على ألا رجعة لك علي، لكان صلحا باتفاق. وقد مضى ذلك في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم. وقوله: إنها تبنى على عدتها، بخلاف ما لو راجعها ثم طلقها صحيح، وقد مضى القول فيه مستوفى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: صالح الرجل امرأته أو خالعها فقال لها أنت طالق]
مسألة وقال ابن القاسم: إذا صالح الرجل امرأته أو خالعها فقال لها: أنت طالق، كانت تطليقتين: طلقة للخلع، وطلقة لما طلق، ولو قال: لم أرد إلا طلقة الخلع، لم ينو في ذلك، وكانت تطليقتين، ولو قال لها: أنت طالق، طلقة الخلع، لم يلزمه إلا واحدة.
قال محمد بن رشد: أما قوله في التي خالع زوجته وقال لها: أنت طالق إنها تكون طلقتين، فهو مثل ما في المدونة. ومثل قول عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيها: إن الخلع مع الطلاق تطليقتان، وذلك إذا قال: قد خالعتك أنت طالق، أو قد خالعتك وأنت طالق نسقا لا صماتا بين ذلك. وأما إن خالعها(5/277)
وسكت، ثم قال بعد ذلك: أنت طالق، فلا يلزمه الطلاق؛ لأن الخلع طلاق بائن، فلا يرتدف عليه الطلاق. وقد كان ابن عتاب يفتي بأن من بارا امرأته في الحيض هذه المباراة، التي جرا عرف الناس عليها، ثم طلقها بعد ذلك، إن الطلاق يرتدف عليه فيها، ما لم تنقض العدة.
وذلك استحسان على غير قياس، مراعاة لقول من يراها طلقة رجعية. وقد حكى عن أبي المطرف بن فرج أنه أفتى بأن يجبر على الرجعة من بارا امرأته في الحيض، وكان يحمل ذلك منه على الوهم والخطأ، وليس بخطأ صراح، ووجهه مراعاة الخلاف في كونها طلقة رجعية.
وأما إن قال لها: أنت طالق طلقة الخلع، فبين أنه لا يلزمه على مذهب ابن القاسم إلا طلقة واحدة، وتكون بائنة؛ لأن ابن القاسم لا يراعي في هذا اللفظ دون المعنى، فيقول: إن الرجل إذا قال لامرأته: قد خالعتك أو باريتك، أو صالحتك، أو طلقتك طلاق المباراة، أو طلاق الصلح، أو أنت مبراة أو مصالحة، أو مخالعة، أو ما أشبه ذلك من الألفاظ، فهي واحدة بائنة على سنة الخلع، وإن لم يأخذ من الزوجة على ذلك شيئا.
وابن الماجشون يرى ذلك كله بتاتا من أجل أنه أراد بها بائنة منه بذلك، ولا تبين المرأة من زوجها إلا بالخلع أو الثلاث، فإذا لم يكن خلعا كان بتاتا، فيراه بمنزلة من قال لزوجته: أنت طالق طلقة بائنة، ومطرف يرى ذلك كله طلاقا رجعيا، ووجه قوله إنه إنما لم يلفظ بالثلاث، ولا أراد البتات وجب أن يكون الطلاق رجعيا؛ لأن الطلقة الواحدة لا تبين فيها المرأة إلا بخلع يأخذه منها.
وقد روى ذلك ابن وهب عن مالك فيمن خالع وأعطى قال في المدونة: وروى غيره أنها بائن، وأكثر الرواة على أنها غير بائن؛ لأنها إنما تبين من زوجها بخلع، فإذا لم يأخذ منها شيئا فليس بخلع، وإنما هو رجل طلق. وأعطى وبالله بالتوفيق.
[مسألة: سألت من زوجها أن يخيرها أو تعطيه عشرة دنانير]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: لو أن امرأة قالت لزوجها: خذ مني عشرة دنانير، وخيرني، ففعل ذلك، وأجابها وأخذ العشرة، أو(5/278)
قالت له: ملكني على مثل ذلك، ففعل، أو أراد الصلح، فقال لها: ضعي عني كذا وكذا وأصالحك فتراوضا على ذلك، وأجاب بعضهما بعضا، إلا أنه لم يقع الصلح ولا الإشهاد بينهما، ثم بدا للمرأة في هذه الوجوه بعد أن تواجبا عليها.
قال مالك: أما التي سألت من زوجها أن يخيرها أو تعطيه عشرة دنانير، ففعل وخيرها، فإنها إن اختارت نفسها كانت ألبتة، وإن أبت أن تختار وقالت قد بدا لي، فإن العشرة دنانير تكون للزوج، اختارت أو لم تختر، وكذلك التي سألت التمليك أنها إذا بدا لها وأبت أن تقضي، فالعشرة الدنانير للزوج، قضت أو لم تقض، فإن قضت ولم ينكر ذلك عليها زوجها في مجلسها فهي البتة، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وإن أنكر ذلك وقال: لم أملكك إلا واحدة، كان القول قوله مع يمينه، وكانت طلقة بائنة يخطبها إن شاء مع الخطاب، وإن أراد الصلح على ما ذكرت، فإنها إن بدا لها قبل الإشهاد، ووقع الصلح، فإن ذلك لها، ولا غرم عليها، ولا شيء لزوجها مما سمت له، ولا يلزمه طلاق.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه لا رجوع للمرأة في العشرة دنانير التي أعطته على أن يملكها أو يخيرها، وإنما قد وجبت للزوج بما أعطاها من التمليك والتخيير، قضت أو ردت، وإنما اختلف قول مالك هل يجوز التخيير والتمليك في ذلك على سننها أم لا؟ فمرة رأى أنهما يحولان عن سنتهما فتقع الطلقة الواحدة بكل واحد منهما بائنة كطلقة الخلع، بسبب ما أعطته من المال، فيكون للزوج أن يناكرها في الخيار، كما له أن يناكرها في التمليك، وتكون الطلقة أو الطلقتان في ذلك بائنتين، فلا يكون للزوج عليها في ذلك رجعة، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، إذ نص فيها على أنه إذا ناكرها كانت طلقة بائنة، ومرة رأى أن التخيير والتمليك لا يحولان بذلك عن سنتهما معا، فلا يكون لها أن تقضي في الخيار إلا بالثلاث، ولا يكون للزوج أن يناكرها فيها ويكون له أن يناكرها في التمليك، وتكون له الرجعة، وهو الذي(5/279)
يأتي على ما مضى من قول مالك في رسم سعد، من سماع ابن القاسم، وقد مضى القول على هذا هناك. وأما إذا تداعيا إلى الصلح، وتراضيا عليه، وأجاب بعضهما بعضا إليه، فلكل واحد منهما أن يرجع عليه ما لم يقع الصلح ويمضياه على أنفسهما، فإن وقع لم يكن لواحد منهما الرجوع عنه، ولزمهما التشاهد عليه. وقد مضى هذا المعنى في رسم من سماع ابن القاسم، وهو الذي يأتي على ما في المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: اصطلح الرجل وامرأته على الفراق فقال لها قد خيرتك فاختارت نفسها]
مسألة وقال مالك: إذا اصطلح الرجل وامرأته على الفراق، فقال لها: قد خيرتك فاختارت نفسها، فإن ذلك الخيار لا يكون ألبتة، وإنما هي طلقة واحدة بائنة؛ لأن الخيار في هذا ليس بخيار، وإنما هو صلح، فكل خيار لم تشتره المرأة، ولم يكن من الرجل إلا على وجه الصلح، فإن ذلك لا يكون إلا طلقة واحدة.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم، وتكررت أيضا في رسم أوصى من هذا السماع فلا وجه لإعادة القول فيها.
[مسألة: كان لامرأته عليه حق فنجمته عليه في أشهر مختلفة]
مسألة وسئل عن رجل كان لامرأته عليه حق، فنجمته عليه في أشهر مختلفة، على أن إن لم يوفها كل نجم عند حلوله، فأمرها بيدها، فيحل نجم تقضي، فتختار نفسها. قال: إن مسها بعد حلول الأجل، أو ضاجعها، أو تلذذ بها، أو كان معها في بيت واحد، فلا أرى لها في ذلك النجم خيار، إلا أن تمنعه نفسها وتدفعه عن نفسها بأمر يعرف عند الناس، فإن فعلت فلها الخيار متى ما اختارت ما كان، لا يمسها ولا يقربها، وإن كان معها في بيت واحد، وادعت أنها منعته(5/280)
نفسها حتى قضت، وادعى الزوج المسيس، فالزوج مصدق، إذا كان يأوي إليها، ولها من الخيار في النجم الآخر الذي يحل، وفي جميع النجوم التي وقتت له مثل ما كان لها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم، وقوله فيها: إن لها أن تقضي بعد حلول الأجل متى ما شاءت، ما كانت، لا يطأها زوجها ولا يقربها هو، مثل قول مالك في المدونة في الأمة تعتق تحت العبد، إن لها الخيار، ما لم يمسها زوجها. وقد مضى بيان هذا المعنى وما يتعلق به في رسم حلف من سماع ابن القاسم، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يخدم قبل أن يبني بأهله فتختار المرأة نفسها]
مسألة وسئل عن الرجل يخدم قبل أن يبني بأهله، فتختار المرأة نفسها قال: لا صداق لها، وكذلك النصرانية. تسلم قبل أن يبني بها، والأمة تعتق قبل البناء بها، فتختار نفسها، قال: فلا صداق لها.
قال محمد بن رشد: هذا كله كما قال: لأن الله عز وجل قال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، فلما لم يكن واحد من هؤلاء مطلقا باختياره، لم يجب عليه نصف الصداق، ولا شيء منه. وقد مضى هذا المعنى مشروحا في رسم الصلاة من كتاب طلاق السنة، وفي سماع سحنون من كتاب النكاح فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[يقول لامرأته لأنت أحرم علي من أمي]
ومن كتاب أسلم وسئل عن الذي يقول لامرأته: لأنت أحرم علي من أمي قال: أراها البتة.(5/281)
قال محمد بن رشد: معنى هذا إذا أراد بذلك الطلاق، وأما لو لم تكن له نية لكان ظهارا، فقد قال في المدونة: إنه إذا قال: حرام كأمي أو مثل أمي ولا نية له إنه ظهار. قال: وهذا مما لا اختلاف فيه، ولا فرق بين أن يقول: أنت حرام كأمي أو أنت أحرم من أمي في أنه ظهار، وإذا لم تكن له نية، وذلك بين من سماع ابن القاسم من كتاب الظهار، فإذا أراد بذلك الطلاق فهي البتة، على مذهب ابن القاسم، ولا ينوى في واحدة ولا في اثنتين، وقال سحنون: ينوى فيما أراد من الطلاق، ولو قال: أنت حرام، ولم يقل مثل أمي لكان طلاقا على مذهب ابن القاسم، وإن أراد به الظهار.
وحكى اللخمي أن لسحنون في العتبية أنه ينوى في أنه أراد بذلك الظهار، وليس ذلك بموجود له عندنا في العتبية فأراه غلطا والله أعلم. وحكي عن يحيى بن عمر أنه قال: يلزمه الطلاق، فإن تزوجها ولم يقربها حتى يكفر كفارة الظهار قال: وهذا قول من لم يتبين له في المسألة حكم، والله أعلم.
[وطئ المرأة المملك طلاقها بعلم المملك ذلك فيها]
ومن كتاب جاع فباع امرأته وسأله رجل فقال: كانت تحتي امرأة فخطبت أخرى، فقالت: لا أتزوجك إلا أن تجعل أمر امرأتك التي تحتك بيدي، قال: ففعلت وتزوجتها على ذلك فأقامت شهرا وأنا مع امرأتي أياما أمسها فلما دخلت بها طلقتها بالبتة قال: أكان عليك شرط أن أمرها بيدها حين تدخل عليها، أو لم تذكر ذلك؟ قال: ليس علي إلا ما أخبرتك أن أمر امرأتي التي تحتي بيدك، فقال: لا شيء بيدها إذا مسستها ووطئتها بعد أن جعلت ذلك بيدها، فلم تقض شيئا حتى مسست ووطئت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: وهو مما لا اختلاف فيه إن وطئ المرأة المملك طلاقها بعلم المملك ذلك فيها يسقط ما له من طلاقها. وقد مضى هذا في رسم سلف وغيره، وبالله التوفيق.(5/282)
[مسألة: يجعل زوجها أمرها بيدها إلى أجل إن لم يأت]
مسألة وسأله ابن عبد الحكم فقال له: المرأة التي يجعل زوجها أمرها بيدها إلى أجل إن لم يأت، فتجاوز الأجل، ولم تقض شيئا، تنسى أو تجهل، قال: تحلف بالله ما تركت ما كان بيدها من ذلك، ويكون القول قولها.
قال محمد بن رشد: قوله: فتجاوز الأجل، يريد بمثل الشهر والشهرين على ما مضى في رسم حلف من سماع ابن القاسم، ولو أقامت أكثر من ذلك لعد ذلك منها رضى، ولم يكن لها خيار، حسبما مضى القول فيه هناك، وإيجاب ابن القاسم اليمين عليها هاهنا خلاف روايته عن مالك في الرسم المذكور من سماع ابن القاسم، ومثل ما لمالك في كتاب ابن المواز، ولو أشهدت عند الأجل أنها تنتظره، وهي على حقها لكان ذلك بيدها، وإن طال دون يمين، على ما في رسم شهد من سماع عيسى من كتاب النكاح. وقد مضى في رسم الشهيدين الشريكين من سماع ابن القاسم قبل هذا نحو هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: الأمة تعتق وهي حائض]
مسألة وسئل عن الأمة تعتق وهي حائض، هل لها أن تختار قبل أن تطهر؟ فقال: لا تختار حتى تطهر، وقال ابن القاسم في غير هذا الكتاب: وإنما يكره أن تختار وهي حائض، فإن فعلت جاز ذلك على الزوج.
قلت: فإن عتق زوجها قبل أن تطهر أترى ذلك يقطع خيارها؟ قال: لا أرى ذلك يقطع خيارها؛ لأنها قد وقع لها الخيار، وإنما منع من ذلك حيضتها.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها لا تختار حتى تطهر صحيح، إذ لا(5/283)
يجوز إيقاع الطلاق في الحيض بحال، إلا للمولى على اختلاف في ذلك من قول مالك، فإن فعلت، جاز على الزوج، ولم يجبر على الرجعة؛ لأنه طلاق بائن. قد روي عن مالك أن للعبد الرجعة إن أعتق، فعلى هذه الرواية إن اختارت نفسها في حال الحيض، فأعتق زوجها قبل أن تنقضي عدتها أجبر على رجعتها.
وقوله: إنه إن أعتق زوجها قبل أن تطهر لم يقطع ذلك خيارها، ليس بخلاف للمدونة من أنه إذا أعتق قبل أن تختار فلا خيار لها، بدليل قوله: لأنها قد وقع لها الخيار، وإنما منعها من ذلك حيضتها، يريد، فلم يكن منها تفريط، ولذلك كان لها الخيار، والتي لم تختر حتى عتق زوجها، وقد كان منها تفريط، فلذلك لم يكن لها خيار، وهذا ظاهر الروايات، ويأتي على ذلك أنها إذا أعتقت وأعتق هو بعدها، بفور ذلك قبل أن يكون منها تفريط في اختيارها نفسها، إن لها الخيار، وقد ذهب ابن زرب إلى أن رواية عيسى هذه خلاف لما في المدونة.
وهو القياس؛ لأن الخيار إنما وجب لها من أجل نقصان مرتبته عن مرتبتها فإذا ارتفعت العلة وجب أن يرتفع الحكم بارتفاعها والأول هو الظاهر من الروايات، والله أعلم.
[بارا امرأته على مال أعطته وعلى أن ترضع ولده سنتين]
ومن كتاب الرهون وقال في رجل بارا امرأته على مال أعطته وعلى أن ترضع ولده سنتين، هل يجوز أن تتزوج حتى يفرغ من رضاعها؟ قال: أرى أن ينظر في ذلك، فإن كان لا يضر بالصبي، لم يحل بينهما وبين التزويج، وإن كان في ذلك ضرر، لم تترك، وهو عندي بمنزلة من يسترضع ولده من امرأة لا زوج لها، وأرادت التزويج فأرى أن ينظر في ذلك على وجه ما وصفت لك.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم الطلاق من سماع أشهب، القول في هذه المسألة مستوفى فلا وجه لإعادته.(5/284)
[جعل أمر امرأته بيد أبيها إن لم يأت بحقها إلى سنة]
ومن كتاب إن أمكنتني وسئل عن رجل جعل أمر امرأته بيد أبيها إن لم يأت بحقها إلى سنة، فأراد أبو الجارية سفرا قبل الأجل، فجمع قوما وأشهدهم، وقال لهم: إن ختني جعل أمر ابنتي بيدي، إن لم يأت بحقها إلى سنة، وأشهدكم أني قد زدته خمس عشرة ليلة بعد السنة، ثم بدا له بعد ذلك فقال: لا أزيده شيئا فقال: ليس ذلك له، ولزوج ابنته الخمس عشرة ليلة التي جعل له لا يكون لأبيها فيها قضاء في طلاقه حتى تمضي الخمس عشرة ليلة بعد السنة، ثم يقضي إن أحب إن لم يأت بحقها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ذلك قد وجب للزوج، فليس له أن يرجع فيه، وبالله التوفيق.
[جعل أمر امرأته بأيدي رجلين]
ومن كتاب العتق قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن رجل جعل أمر امرأته بأيدي رجلين، فقال: أمر امرأتي بأيديكما، فطلقا جميعا واحدة، فقال: يجوز، إذا طلقا جميعا واحدة، فإن طلق كل واحد منهما لم يجز، حتى يجتمعا جميعا على واحدة، أو عليهما جميعا، وإن قال أمر امرأتي جميعا بأيديكما إن شئتما فهو مثله أيضا، وإن قال: طلقا امرأتي، فأيهما طلق جاز طلاقه، وإن طلق كل واحد منهما طلقة جاز، وإن طلقاهما جميعا كلتيهما جاز، وإن طلق واحدة منهما طلقة واحدة جاز، وإن طلقهما جميعا واحد جاز، وذلك من قبل أنهما رسولان، فأيهما بلغ الطلاق جاز، وإن طلق البتة، وقال الزوج: لم أرد إلا واحدة، كان القول قول الزوج، وإن قال: طلقا امرأتي جميعا إن شئتما، فطلقا جميعا واحدة، أو طلقاهما جميعا واحدة، أو طلق كل(5/285)
واحد منهما واحدة، لم تجز حتى يجتمعا عليهما جميعا؛ لأنه إنما قال: طلاق امرأتي جميعا إن شئتما بأيديكما، فإن شاءا جميعا، وإلا فلا أمر لهما فيها.
قال محمد بن رشد: أما إذا قال: أمر امرأتي بأيديكما فلا اختلاف في أن ذلك تمليك، وأن الطلاق لا يقع إلا باجتماعهما عليهما جميعا، أو على أحديهما. وأما إذا قال: أعلما امرأتي بطلاقها، فلا اختلاف في أن ذلك رسالة، وأن الطلاق واقع عليه، أعلماها أو لم يعلماها، وأما إذا قال: طلقا امرأتي فهذا لفظ يحتمل الرسالة والتمليك.
واختلف على ما يحمل من ذلك، فقيل: إنه محمول على الرسالة حتى يريد التمليك، وهو قول ابن القاسم هنا، وفي المدونة، إلا أنه حمل الرسالة على الإجماع فرأى الطلاق واقعا عليه بنفس الرسالة، بلغاها الطلاق أو لم يبلغاها بمنزلة قوله لهما: أعلما امرأتي بطلاقها وحمل الرسالة هنا على غير الإجماع، فرأى أن الطلاق لا يقع عليه إلا بتبليغ من بلغها الطلاق منهما، كما لو وكل كل واحد منهما على أن يطلق عليه، فإن طلق عليه جاز، وما لم يطلق لم يلزمه شيء، وله أن يمنعه من أن يطلق عليه إن شاء بخلاف المملك الطلاق، وقيل؛ إنه محمول على التمليك حتى يريد الرسالة، وهو قول أصبغ، وإياه اختار ابن حبيب.
وأما إذا قال: طلقا امرأتي إن شئتما فهذا تمليك، إلا أنه يقتضي أنه ليس لهما أن يجتمعا على طلاق الواحدة، بخلاف قوله: أمر امرأتي بأيديكما؛ لأن قوله: أمر امرأتي بأيديكما، معناه أمر امرأتي بأيديكما، تطلقان من شئتما منهما أو جميعا إن شئتما، ولا يحتمل أن يكون معنى قوله طلقا امرأتي هذا لجمعه إياهما في الطلاق. وهذا بين لا اختلاف فيه. والله أعلم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الكريم.(5/286)
[كتاب التخيير والتمليك الثاني] [سأل ختنه أن يخلي سبيله، فقال له الزوج لا تكثر علي الأمر في يديك](5/287)
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يزوج ابنته البكر، رجلا فتكرهه الابنة والأهل، فيسأله أبو الجارية أن يفارقها، فيكره ذلك، ويمسك عنه زمانا، يرجو الاستصلاح للجارية، وإلى أهل الرجل، فتمادوا في الكراهة له أعواما، وإن الرجل لقي ختنه يوما، فأقبل عليه وسأله أن يخلي سبيله، فقال له الزوج: لا تكثر علي، الأمر في يديك، فاصنع ما شئت، فقال أبو الجارية لمن حوله: قد أحسن وأجل، جزاه الله خيرا أما إذا جعلت الأمر بأيديهما فما لنا عليك من سبيل، فقال له رجل ممن حضره: قد أمكنك الرجل، وجعل الأمر بيدك، فقال أبو الجارية عند ذلك: أشهدكم أني قد اخترت ابنتي، وفرقت بينهما، فأطرق الزوج قليلا، ثم قال: إني لم أرد ذلك، فماذا ترى أن يلزم الزوج بهذا القول؟ فقال: أرى القول قول أبي الجارية فيما طلق به من واحدة أو أكثر، وهو عندي بمنزلة الذي يملك امرأته أمرها، فإن كان الزوج ناكر الأب إن زاد على طلقة، أحلف وكانت طلقة بائنة؛ لأنه لم يبن بها. قيل له: وكيف ينوى وهو يزعم أنه لم يرد طلاقا؟ فكيف يجوز له أن يدعي أنه نوى(5/289)
واحدة، وقد أنكر ألبتة أن يكون أراد بقوله شيئا من الطلاق؟ وما ترى قوله: لم أرد هذا إنكارا على الأب إذا جاوز طلقة؟ قال: ذلك له، وإن كان أنكر أن يكون أراد طلاقا. ويحلف وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الكتب، فأطرق الرجل طويلا، يريد أطرق مفكرا فيما قضى به الأب من الفراق، وناظرا لنفسه فيما بين أن يسلمه أو ينكره، فسواء كان ذلك قليلا أو كثيرا ما لم يطل الأمر حتى ينقضي المجلس، فيتبين منه التسليم بفعل الأب، فلا يكون له بعد ذلك أن ينكر ما مضى في أول رسم إن خرجت من سماع عيسى، وإنما قال: إن القول قول الأب فيما طلق به من واحدة أو أكثر، لاحتمال قوله قد اخترت ابنتي، وفرقت بينهما، أن يريد بذلك الثلاث، وأن يريد به الواحدة؛ لأن قول المملك الطلاق، يحمل على ما يحمل عليه قول الزوج ابتداء، ولو قال الرجل لامرأته: قد فارقتك قبل الدخول، لنوي فيما أراد بذلك من واحدة أو أكثر، فكذلك يسأل الأب هاهنا ما أراد بقوله، قد فرقت بينهما، وقد مضى القول في أن الزوج يقبل منه نيته في أنه أراد واحدة، ويمكن من الحلف على ذلك بعد أن أنكر أن يكون أراد بذلك الطلاق، وفيما يكون الحكم إن أقام على قوله: إنه لم يرد بذلك الطلاق في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[صالح امرأته في مرضها على إن أعطته لفراقه إياها دارا وعرضا من العروض]
ومن كتاب الصبرة وسئل عن رجل صالح امرأته في مرضها على إن أعطته لفراقه إياها دارا وعرضا من العروض، وتعجل قبض ذلك، قال مالك: إن كان للذي أعطته قدر ميراثه منها فأدنى جاز له ذلك.
قلت له: أرأيت إن كان يوم أخذه قدر ميراثه، ويوم ماتت قيمة ما أخذ أكثر من ميراثه منها أتراه جائزا؟ وكيف إن كان يوم أخذه أكثر من ميراثه، ويوم ماتت قدر الميراث، وأدنى، متى ينظر إلى(5/290)
قيمة ما أعطته؟ فقال: حين يقع الصلح بينهما.
قلت: أرأيت إن هلك ماله أو بعضه قبل أن تموت، أيرجع الورثة على الزوج بشيء؟ قال: لا أرى ذلك لهم قد انقطع الأمر بينهم يوم وقع الصلح، فكأنه عندما حكم واقع مضى بأمر جائز؛ لأن الذي أخذ الزوج، لو هلك لم يرجع على الورثة من قيمته بشيء.
قلت له: أرأيت إن أعطته دارا أو أرضا؟ فقال الورثة: لا نجيز؛ لأن مثل هذا إنما كنا أجمعين نقتسمه بالسهام، فإذا خصته به فنحن نخرج له القيمة، ونأخذه. فقال ليس ذلك لهم؛ لأنه قد ضمنه ومصالحته إياها بالذي أعطته كبيع من البيوع.
قال محمد بن رشد: اختلف في خلع المريضة على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك جائز على ورثتها إذا خالعت بخلع مثلها. روى ذلك ابن وهب عن مالك، فعلى هذه الرواية غلب الخلع على حق الورثة وجعله كبيعها وشرائها، يجوز إذا لم يكن فيه محاباة بأن تخالع بأكثر من خلع مثلها.
والثاني: إن ذلك لا يجوز من غير تفصيل، وهو ظاهر قول مالك في المدونة وكتاب ابن المواز. ووجه هذا القول أن ما خالعت به في مرضها، أرادت أن يأخذه الزوج من رأس مالها، عاشت أو ماتت، وهو غير وارث، فوجب أن يبطل وإن كان أقل من ميراثه منها. والقول الثالث: أن ذلك يجوز إن كان قدر ميراثها منها فأقل، ولا يجوز إن كان أكثر من ميراثه منها، واختلف على هذا القول متى ينظر فيه، فقيل يوم الصلح، فإن كان مثل ميراثه منها أو أقل أخذه، وإن كان أكثر من ميراثه منها لم يكن له منه شيء إلا أن تصح من مرضها، ولا ميراث له منها على حال، وهو قول ابن القاسم هاهنا.
وظاهر قوله في المدونة، وقيل يوم الموت، وهو قول أصبغ في الواضحة وقول ابن نافع في المدونة، ويكون ما خالعت به على هذا القول موقوفا إن كان شيئا بعينه، لا(5/291)
تقضي فيه شيئا إلا أن تحتاج إليه فتنفقه، فإن صحت أخذه إن كان قائما، أو ثمنه إن مات باستنفاقها إياه؛ وإن تلف كانت مصيبته منه، وإن ماتت أخذه كله أو ما أدرك منه إن فات باستنفاق أو غيره إن كان قدر ميراثه منها فأدنى، وإن كان أكثر من ميراثه منها لم يكن له شيء منه، ولا ميراث له منها على حال، وإن كانت خالعت على شيء غير معين، وكانت غنية لم يوقف عليها شيء منه، ولا ميراث له منها على حال، وإن كانت خالعت على شيء غير معين، وكانت غنية لم يوقف على شيء من مالها، وكان لها أن تنفق منه كما ينفق المريض في مرضه، فإن صحت مضى ذلك عليها، وإن ماتت في مرضها نظر في ذلك على ما تقدم.
وقوله: إنها صالحته على أرض أو دار أو قيمة ذلك قدر ميراثه منها فأقل، إن ذلك جائز على الورثة، ولا كلام لهم فيه، دليل على ما حكى سحنون عن بعض أهل العلم، إنه لا يجوز للمريض أن يبيع من بعض ورثته أغبط ماله، وإن لم يحاب في الثمن، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصبية التي يوطأ مثلها يبني -بها زوجها فتصالحه على مال]
مسألة وسئل عن الصبية التي يوطأ مثلها يبني بها زوجها فتصالحه على مال تدفعه إليه، ولم تبلغ المحيض، أيجوز ذلك الصلح بينهما؟ فقال: نعم، أراه جائزا تقع به الفرقة بينهما ويكون للزوج ما أعطته إذا كان ما أعطته يصالح به مثلها.
قال محمد بن رشد: وقع في المدنية لمالك من رواية ابن نافع عنه مثل رواية يحيى هذه، وزاد وإن كان أعطت أمرا يستنكر، ليس مثله يخالع به مثلها، رد عليها جميع ما أعطته وثبت عليه الطلاق.
قال أبو بكر بن محمد: المعروف من قول أصحابنا: إن المال مردود، والخلع ماض، وقاله ابن الماجشون في الواضحة: ولا اختلاف إن كانت ما خلعت به خلع مثلها، هل يرد المال؟ لما في رده من الحظ لليتيمة مع نفوذ الطلاق على الزوج، أو لا يرد؛ لأنه وقع على وجه نظر، لو دعا الوصي إليه ابتداء لفعله، وعلى هذا يختلفون(5/292)
في الصبي، يبيع أو يبتاع، أو يفعل ما يشبه البيع والشراء، مما يخرج على عوض، ولا يقصد فيه إلى فعل معروف، وذلك سداد ونظر من فعله يوم فعله فلا ينظر فيه الأب أو الوصي حتى يكون غير سداد، بنماء أو حوالة سوق بزيادة فيما باعه، أو حوالة سوق بنقصان فيما ابتاعه، فقيل: إنه ليس له أن ينقصه؛ لأنه إنما ينظر في فعله يوم وقع، وعلى هذا تأتي رواية يحيى هذه، وما ذكرناه من رواية ابن نافع عن مالك في المدونة وما وقع لأصبغ في الخمسة، وقيل له: أن ينقصه لأنه إنما ينظر في فعله يوم ينظر فيه، وعلى هذا يأتي قول من قال في هذه المسألة: إن الخلع ماض والمال مردود، وهو المشهور في المذهب. ويقوم ذلك أيضا من قول أصبغ في نوازله من كتاب المديان والتفليس، وهو الذي يأتي على ما في كتاب كراء الأرضين من المدونة في أن ما اشترى الوصي من مال اليتيم، يعاد في السوق؛ لأنه قال: إنه يعاد، ولم يقل: إنه ينظر إليه يوم ابتاعه إن كانت قيمته يوم النظر فيه أكثر، وإذا قاله فيما اشترى الوصي من مال اليتيم، فأحرى أن يقوله فيما باعه اليتيم، وبالله التوفيق.
[مسألة: اليتيمة البالغ إذا كرهت زوجها فافتدت منه وهي بكر لم يبن بها]
مسألة قيل لسحنون: ما تقول في اليتيمة البالغ إذا كرهت زوجها فافتدت منه وهي بكر لم يبن بها؟ هل ترى ما أخذ منها الزوج هل يسوغ له وما تركت له محطوطا عنه؟ وكيف إن قامت بعد ذلك تطلبه فيما أخذ منها وما تركت له؟ قال سحنون: وأرى ذلك جائزا عليها، ولازما لها، ولا رجوع لها في شيء مما أعطته أو وضعت عنه.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب سحنون إن البكر التي لم يول عليها بأب أو وصي، أفعالها جائزة، إذا بلغت المحيض، وهو قول غير ابن القاسم في كتاب النكاح الثاني من المدونة، ورواية زياد عن مالك، وقد قيل: إن أفعالها مردودة ما لم تعنس أو تتزوج، ويدخل بها زوجها، وتقيم معه(5/293)
مدة يحمل أمرها فيها على الرشد قبل العام، وهو قول ابن الماجشون. وقيل: ثلاثة أعوام ونحوها. واختلف في حد تعنيسها على خمسة أقوال: أحدها: ثلاثين سنة، وهو قول ابن الماجشون، وقيل أقل من الثلاثين، وهو قول ابن نافع وقيل أربعون وهي رواية مطرف عن مالك وأصبغ وقيل من الخمسين إلى الستين.
وهي رواية سحنون عن ابن القاسم وقيل حتى تقعد عن المحيض وهو قول مالك في المدنية من رواية ابن القاسم عنه، وبالله التوفيق.
[قال الرجل امرأتي طالق واحدة بائنة للتي قد دخل بها]
ومن كتاب الصلاة قال: وسمعت مالكا يقول: إذا قال الرجل: امرأتي طالق واحدة بائنة، للتي قد دخل بها، فهي ألبتة؛ لأنه لو قال هي بائنة، ولم يقل طالق واحدة بائنة، كانت البتة. قال: وإن قال هي طالق طلاق الخلع، كانت واحدة بائنة، وكذلك لو قال قد خلعت امرأتي أو باريتها، أو افتدت مني، لزمته طلقة واحدة بائنة، وكذلك يلزمه طلقة واحدة بائنة، إذا قال هي طالق طلاق الخلع. قال: فإن قال لامرأته: قد خيرتك، فقالت: قد طلقت نفسي واحدة بائنة، إن ذلك ليس بشيء؛ لأن المخيرة ليس لها أن تقضي إلا بفراق ألبتة، أو تقيم على غير طلاق، قال: وإن قال لامرأته: قد ملكتك أمرك، فقالت: قد طلقت نفسي واحدة بائنة، فإن أنكر عليها احلف ما ملكها إلا واحدة، وكان أحق بامرأته، إن أراد ارتجاعها، ويكون الذي قضت به من قولها طلقت نفسي واحدة بائنة، وواحدة غير بائنة، وإن لم ينكر عليها فهي ألبتة، وذلك أنه إذا قال لها: هو من قبل نفسه من غير أن يملك امرأته امرأتي طالق واحدة بائنة، كانت ألبتة في رأيي.
قال محمد بن رشد: قال في المخيرة إذا قالت: قد اخترت واحدة بائنة، إن ذلك ليس بشيء، وكان القياس أن يكون ثلاثا، كما يكون في(5/294)
التمليك ثلاثا، إلا أن يناكرها، وكما يكون ثلاثا، إذا قال هو لامرأته: ابتداء من غير تمليك ولا تخيير: أنت طالق واحدة بائنة، وكذلك في المدنية من رواية عيسى عن ابن القاسم: إن الرجل إذا ملك امرأته ألبتة، فقالت: قد طلقت نفسي واحدة بائنة، إنها ثلاث وليس له أن يناكرها، وأنه إذا ملكها فطلقت واحدة بائنة فهي ثلاث، إلا أن يناكرها، ووجه رواية يحيى أنه إذا خيرها، فإنما جعل لها أن تختار ثلاثا أو تترك، فإذا قالت: قد اخترت واحدة بائنة، كانت بقولها واحدة، قد تركت ما جعل إليها، واتهمت في قولها بائنة، إنها نادمة، ولم يصدق فيها، وواحدة هي من ألفاظ المملكة، فإذا وصفت ببائنة، قيل لها: هي ثلاث، إلا أن يناكرها، وأما قوله في الذي قال لامرأته: أنت طالق طلاق الخلع، أو قد خالعتك، أو باريتك، إنها طلقة بائنة، فقد مضى ذلك وما فيه من الاختلاف في رسم إن خرجت من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[سألت زوجها النفقة وقالت لا أضع ذلك عنك إلا أن تجعل أمري بيدي]
ومن كتاب المكاتب وسألته عن امرأة سألت زوجها النفقة عند خروجه إلى سفره، وقالت: لا أضع ذلك عنك إلا أن تجعل أمري بيدي، إن أقمت أكثر من سنة، فقال: بل أجعل أمرك بيد فلان، إن أقمت عنك أكثر من سنة، فأجابت وفعل الرجل.
فلما أقام أكثر من سنة، أراد الرجل أن يطلق عليه، وكرهت المرأة فقال: قال مالك: يجبر على اتباع قول المرأة؛ لأن ذلك إنما جعل بيده وثيقة لها.
قلت له: فإن لم ترفع ذلك إلى السلطان حتى يطلق عليه، قال: أرى الطلاق قد وقع على الرجل الذي جعل ذلك بيده، إلا أن يكون السلطان قد تقدم إليه ونهاه، وأعلمه أنه لا يجيز طلاقه، فإن تعدى أمر السلطان، لم يضر ذلك للذي جعل التمليك بيد هذا المتعدي.(5/295)
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في أول سماع عيسى من هذا الكتاب، ومضى القول عليه مستوفى في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب النكاح، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك.
[يجعل زوجها بيدها الخيار إلى أجل مسمى]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى: وسألت ابن وهب عن المرأة يجعل زوجها بيدها الخيار إلى أجل مسمى، فلما حل الأجل، لم تقل شيئا، ولم تقض بطلاق ولا غيره، ثم بدا لها بعد انقضاء الأجل: فأرادت أن تطلق نفسها بالذي كان من الخيار بيدها، فقال الذي أخذ به في هذه الأجل ولها في نفسها وليس لها بيدها من طلاقها شيء، إذا لم تقض به عند الأجل الذي جعل ذلك بيدها عنده، وهي عندي بمنزلة المرأة يخيرها زوجها وهما قاعدان، فلا تقضي شيئا حتى يقوم عنها ويفترقان من مجلسهما غير هارب عنها، ولا متعجل للقيام، ليقطع ما جعل بيدها، فلا يكون لها شيء مما كان أعطاها إذا لم تقض به حتى افترقا من مجلسهما بحال ما وصفت لك، وكذلك الذي يجعل الخيار بيدها عند أجل من الآجال فتركته عند الأجل، أرى ألا شيء لها بعد انفصاله.
قال محمد بن رشد: جعل ابن وهب حكم التي وجب لها التمليك بانقضاء الأجل، كحكم المواجهة بالتمليك في سقوط ما بيدها، بترك القضاء عند الأجل، الذي وجب لها التمليك فيه، وذلك مثل قول أشهب في سماع زونان.
ومثل قول ابن القاسم في رسم شهد من سماع عيسى من كتاب النكاح خلاف المشهور من مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك وقد مضى القول على هذه المسألة موعبا في رسم حلف من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، وفي غير ما موضع فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.(5/296)
[الرجل يصالح عن امرأته]
ومن كتاب أول عبد ابتاعه قال: وسألته عن الرجل يصالح عن امرأته، أو عن رجل أجنبي، على أمر يدفعه إلى الذي يصالحه من مال الذي يصالح عنه، فإن أنكر ذلك المصالح عنه، فهو في مال المصالح. قال: وذلك جائز لازم للذي صالح، والغرم عليه إن كره الذي صولح عنه أن يقبل ما أوجب عليه المصالح من الغرم.
قلت: وإن اشترط المصالح على الرجل أني إنما أدفع ما أصالح به من مالي، فإن أنكر الذي أصالح عنه، فأنا أقوم عليه بمثل ما كان يطلبه الذي صالحت عنه إن أنكر صلحي عنه وسخطه.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله في هذه المسألة أنه إنما أوجب على المصالح غرم عن الزوجة بغير إذنها أو عن الغريم الذي عليه الدين بغير إذنه، وهو منكر لما عليه من الدين، إذا لم يرض واحد منهما بالصلح من أجل أنه اشترط ذلك عليه، وهو ظاهر قول ابن القاسم وروايته عن مالك في كتاب إرخاء الستور من المدونة وقول ابن حبيب في كتاب الوثائق: إن المرأة ترجع على الزوج، ولا يرجع الزوج على من صالحه عنها إلا أن يشترط عليه الضمان، وهو خلاف قول ابن القاسم وروايته عن مالك في كتاب الصلح من المدونة وقول أصبغ في الواضحة وفي نوازله بعد هذا من هذا الكتاب من أنه إذا صالح ضامن، وإن لم يشترط عليه أنه ضامن؛ لأنه بمصالحته إياه أخرج امرأته من يده، أو طرح سائر دينه، فذلك كالمبايعة.
وقال ابن دينار: إن صالح عن المرأة أبوها أو ابنها أو أخوها أو من له قرابة، فهم ضامنون، وأما غيرهم فلا، ولم يجب على ما سأله عنه من اشتراط المصالح عن الرجل، إنه يدفع ذلك من ماله، على أنه إن أنكر ذلك المصالح عنه اتبعه بمثل ما كان يطلبه به، للذي صالحه عنه، والجواب عن ذلك أنه لا يجوز؛ لأنه مخاطرة وغرر وشراء دنانير مجهولة، بدنانير معلومة، فذلك في الحرام البين الذي لا خفاء به، ولو اشترط أنه إن أنكر المصالح عنه، رجع في ماله، وأخذه لما جاز(5/297)
ذلك أيضا على قياس مسألة نوازل عيسى من كتاب المديان والتفليس، فتدبر ذلك وبالله التوفيق. وأما إذا كان الذي عليه الدين مقرا بما عليه، فصالح عنه بغير ما عليه، ففي ذلك ثلاثة أقوال قائمة من المدونة. . أحدها أنه لا يجوز أن يصالح عنه بما يكون فيه مخيرا بين أن يدفع ما عليه أو ما صالح به عنه إلا أن يكون التخيير يرجع إلى قلة وكثرة.
والثاني إن ذلك جائز، وإن كان مخيرا في كل حال، والثالث أنه يجوز إن كان التخيير يرجع إلى ما يجوز تحويل بعضه في بعض، ولا يجوز إن كان التخيير يرجع إلى ما لا يجوز تحويل بعضه في بعض، وهذه جملة سيأتي تفسيرها في غير هذا الموضع إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.
[تصالح زوجها على عبد في الحضر]
ومن سماع سحنون من عبد الرحمن بن القاسم قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن المرأة تصالح زوجها على عبد في الحضر، فوجد به عيبا أو يموت، فتدعي المرأة أنه مات بعد الصلح، وينكر الزوج، قال: على المرأة البينة أنه مات بعد الصلح، أو حدث به عيب بعد الصلح.
قلت له: فإن ثبت أنه مات بعد الصلح، لا يكون فيه عهدة قال: لا، وليس هو مثل البيع.
قال محمد بن رشد: اعترض بعض أهل النظر قوله في هذه المسألة، على المرأة البينة أنه حدث به عيب بعد الصلح، وقال: هذا خلاف أصولهم في أن ما كان من العيوب يقدم ويحدث، ولا يدرى إن كان حادثا بعد العقد، أو قديما قبله، القول فيه قول البائع، فكان ينبغي أن يكون القول قول المرأة في أن العيب لم يكن بالعبد يوم الصلح، أو لم يعلم أنه كان به يومئذ، إن كان مما يخفى، إلا أن يكون للزوج بينة أنه كان به عندها، وليس ذلك بصحيح، بل المسألة صحيحة، لا فرق بين العيب والموت إذا وجد العيب بالعبد قبل القبض؛ لأن ذهاب البعض كذهاب الكل، وهو معنى المسألة،(5/298)
وقد نص ابن حبيب على ذلك، وبين الفرق بين وجود العيب الذي يقوم ويحدث قبل القبض أو بعده في البيوع من الواضحة. فانظر ذلك، وقف عليه، والله المعين.
[اشتكت به امرأته أنه يضربها ويؤذيها]
من سماع عبد المالك بن الحسن من ابن وهب قال عبد المالك: سئل عبد الله بن وهب عن رجل اشتكت به امرأته أنه يضربها ويؤذيها، فكتب لها على نفسه كتابا إن عاد إلى أذاها فهي مصدقة فيما تدعي من أذاه لها، وأمرها بيدها، تختار نفسها بطلاق البتة، فلما كان بعد أيام، أشهدت تلك المرأة رجالا وزوجها غائب عنها، أن زوجها قد عاد، إلى آذاها، وأنها قد طلقت نفسها، فأنكر الزوج أن يكون أذاها، وندمت المرأة فيما كانت أشهدت عليه الشهود من شكيتها الأذى، وطلقت نفسها ألبتة، وأنكرت أن يكون أذاها وزعمت أنها لعب بها وخدعت حتى كذبت على زوجها، فهل يلزمها وزوجها ما كان من طلاقها نفسها ويجوز قولها: إن زوجها آذاها حتى أشهدت على طلاقها نفسها، ولا يعرف ذلك إلا بما قالت يومئذ، فقال: قد بانت منه بالبتة، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره؛ لأنه قد أعطاها التصديق، وجعل القول قولها، وقد زعمت الضرر واختارت عليه نفسها. فلم يبق بيده ولا بيدها قليل ولا كثير، ولا ينفعها ندمها بعد ذلك، وتكذيبها نفسها، وقولها: خدعت ليس بنافعها بعد وقوع الطلاق عليها.
وقال أشهب: سواء في جميع ذلك رجوعها، لا رجوع لها، ولكن ينظر متى ادعت أنه قد أتى إليها ما وجب لها به التمليك وفارقت، فإن كان بين ذلك الأيام، أو أقرت بأنها لم تفارقه إلا بعد افتراقهما من المجلس الذي آذاها فيه، فلا خيار لها؛ لأنها تركت الخيار حين وجب لها، وإن كان ذلك قريبا أو كانت قد قالت أو تقول الآن إنما(5/299)
قلت لكم: إني اخترت في المجلس، فقد وجب الفراق بينهما، وإن أنكرت أو كذبت نفسها.
قال محمد بن رشد: قول أشهب: إنها إن أقرت أنها لم تفارقه إلا بعد افتراقهما من المجلس الذي آذاها فيه، فلا خيار لها، هو مثل قول ابن وهب في رسم الأقضية من سماع يحيى: إن ذلك بمنزلة المواجهة بالتمليك سواء، يسقط حقها بانقضاء المجلس الذي وجب لها فيه التمليك، على قول مالك الأول، ومثل قول ابن القاسم في رسم شهد من سماع عيسى من كتاب النكاح، خلاف المشهور من قوله وروايته عن مالك، والذي يأتي في هذه المسألة على المشهور من قول مالك، إن ذلك بيدها وإن طال الأمر بعد الوقت الذي وجب لها فيه التمليك، بأذاه إياها إذا منعته نفسها، بدليل امتناعها منه كالأمة تعتق تحت العبد، وقد مضى هذا المعنى مشروحا مبينا في رسم حلف من سماع ابن القاسم قبل هذا.
وأما قول ابن وهب في إعمال التصديق الذي جعل إلى الزوجة، وإمضاء الطلاق عليها، فلا اختلاف فيه، إذا لم يكن ذلك شرطا في أصل العقد، وقد اختلف إذا كان التمليك بشرط التصديق في الضرر، مشترطا في أصل العقد.
فروي عن سحنون أنه قال: أخاف أن يفسخ قبل البناء، فإن دخل بها فلا يقبل قولها إلا ببينة على الضرر. وكان ابن دحون يفتي بأن من التزم التصديق في الضرر، إن ذلك لا يلزمه، ولا يجوز إلا بالبينة، ومن هذا المعنى مسألة الذي يزوج أجيرا له جارية له على أنه إن رأى منه أمرا يكرهه، فأمرها بيده، وقد مضى القول فيها في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، فقف عليه، فإن الاختلاف الذي ذكرته فيها داخل بالمعنى في شرط التصديق في الضرر في أصل العقد، والله الموفق.
[مسألة: قال لامرأته اختاري فنقلت متاعها]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: اختاري، فنقلت متاعها، فسئلت فقالت: لم أرد شيئا، فقال: إن لم تكن اختارت فلا شيء لها.(5/300)
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم كتب عليه من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: طلق امرأته تطليقة ثم قالت له أنا أعطيك عشرة دنانير]
مسألة وقال أشهب: في رجل طلق امرأته تطليقة ثم قالت له: أنا أعطيك عشرة دنانير، على أن لا تراجعني، فقال: إن شاء راجعها، فإن راجعها رد عليها العشرة.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا، خلاف قول ابن القاسم في رسم إن خرجت من سماع عيسى، وليس خلافا لما في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم؛ لأنها مسألة أخرى، لا اختلاف فيها.
وقد مضى القول هناك، وفي سماع عيسى، وظاهر قول أشهب هذا إن الأمر لا يلزمه وإن قبض العشرة، وله أن يردها بعد أن قبضها ويراجعها، وهو بعيد؛ لأنه إذا قبض العشرة، فقد ألزم نفسه ما واجبته عليه المرأة من إسقاط حقه في مراجعته إياها، ولزمته بذلك طلقة واحدة، قولا واحدا.
وإنما الخلاف إذا قال لها لما جاءته بالعشرة: لا أخذها، ولا أترك حقي في المراجعة؛ لأني لم أوجب ذلك على نفسي، وإنما وعدت به، وذلك على قياس المسألة التي مضى الكلام عليها في أول سماع ابن القاسم، وهي إذا قالت المرأة لزوجها: خذ مني عشرين دينارا، وفارقني، فلما جاءته بها قال: لا آخذها ولا أفارقك ويدخل فيها القول الثالث، وهو الفرق بين أن تبيع بالعشرة متاعها، وتكسر بها عروضها، وبين أن تأتيه بها من غير شيء تفسده على نفسها، فينبغي ألا يحمل قول أشهب على ظاهره، وأن يتأول على ما يصح، فيقال: إن معنى قوله: ويرد العشرة أي يتركها، ولا يأخذها منها، وذلك جائز في الكلام، كما يقول الرجل رددت السلعة بالعيب، وإن كان لم يقبضها بعد؛ لأن ما وجب للرجل قبضه، فكأنه قد قبضه، وإذا حمل قول أشهب هذا على أنه لم يقبض(5/301)
العشرة، احتمل أن يحمل ما في رسم إن خرجت من سماع عيسى على أنه قبض العشرة، فلا يكون ذلك اختلافا من القول، وبالله التوفيق.
[ملك امرأته نفسها فقالت اخترت أمري]
ومن سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم
من كتاب النكاح قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن ملك امرأته نفسها فقالت: اخترت أمري، فسئلت ما أردت بذلك، فقالت: الصلح فتفرقا على ذلك ثم علم أنه صلح، فلا يراجعها إلا بنكاح جديد، وإن خيرها فقالت مثل ذلك، فهو سواء، وهو صلح إذا كان قد رضي بذلك. قيل له: إنما ظن أنه يلزمه، فقال: أليس قد رضيا وافترقا على الرضا. قال: هو صلح، قال أصبغ: هذا الجواب على رأي من لا يرى قولها: اخترت أمري ولم تسم الصلح، وأراد به شيئا. وأنا لا أرى ذلك الرأي؛ لأن قولها اخترت أمري في الخيار والتمليك فراقا لأنه عندي جواب له للكلام إلى آخر قول أصبغ.
قال محمد بن رشد: إنما ألزمه الصلح الذي قالت المرأة إنها أرادته بقولها: قد اخترت أمري في التخيير والتمليك، لرضى الزوج به، وافتراقهما عليه، ولو لم يرض به، وأنكره لم يلزمه شيء في المسألتين جميعا؛ لأنه يرى قولها: اخترت أمري طلاقا.
هذا ظاهر الرواية، ومعنى ذلك: إذا قالت أردت الصلح أو رضيت الصلح به، وأما إن قالت: إنما أردت بذلك أني اخترت طلقة الصلح، أو طلاق الصلح، لا تنبغي ألا يكون في التخيير شيئا، وأن يكون له أن يناكرها في التمليك، بمنزلة إذا ملكها أو خيرها فقالت: قد اخترت واحدة بائنة، على ما مضى في رسم الصلاة من سماع يحيى. وقد مضى القول على ذلك هنالك. ولا اختلاف في قولها اخترت نفسي إن ذلك(5/302)
ثلاثا، ولا تسأل المرأة عما أرادت بذلك، ولا في قولها قبلت أمري إنها تسأل فيما أرادت بذلك، واختلف في اخترت أمري وقبلت نفسي، فذهب أصبغ إلى أنهما جميعا ثلاث ثلاث، ولا تسأل ما أرادت بذلك، وذهب أشهب إلى أنها تسأل فيهما جميعا. وذهب ابن القاسم، تسأل في اخترت أمري، ولا تسأل في قبلت نفسي. فهذا تحصيل القول في هذه الأربعة ألفاظ، وبالله التوفيق.
[مسألة: له أربع نسوة فسافر فقدم بخامسة فزعم أنه قد كان خير امرأة من نسائه]
مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن رجل له أربع نسوة، فسافر، فقدم بخامسة، فزعم أنه قد كان خير امرأة من نسائه، فاختارت نفسها وسماها، وقالت المرأة: لم يخيرني، قال: لا يقبل قوله، ويفرق بينه وبين الخامسة، ويدرأ عنه الحد فيها إن كان أصابها، وتطلق عليه المرأة التي زعم أنه كان خيرها فاختارت، وتستقبل العدة من يوم أظهر وأخبر أنه خيرها، وتستبرئ الأولى التي تزوجها، وفرق بينهما نفسها بثلاث حيض، إن كان أصابها ودخل بها، ثم يكون خاطبا من الخطاب فيها قال أصبغ مثله، وقال: فإن صدقته المرأة في الخيار وفي الاختيار، فلا يصدق، ولا ينتفع بذلك، والجواب فيها على جواب التكذيب والإنكار سواء في جميع ذلك.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ تفسير لقول ابن القاسم، والمسألة كلها بينة صحيحة؛ لأنه يؤخذ في الحكم الظاهر بما أقر به على نفسه من طلاق التي خيرها فاختارت نفسها، ولا يصدق في الباطن على ذلك؛ لأنه مدع فيه ليصح له نكاح الخامسة، فعليه إقامة البينة على ذلك.
وقوله: إنها تستقبل العدة من يوم أظهر وأخبر أنه خيرها، معناه العدة التي يباح لها بالحكم أن تتزوج بانقضائها، وأما العدة التي تحل بها للأزواج في باطن الأمر فيما بينها وبين الله، فمن يوم خيرها واختارت نفسها، وبالله التوفيق.(5/303)
[مسألة: يرسل إلى امرأته يملكها أمرها]
مسألة وسمعته وسئل عن الرجل يرسل إلى امرأته يملكها أمرها، ثم يبدو له قبل أن يبلغ لها ذلك الرسول، وكيف إن توانى الرسول، فذهب غيره ممن سمع ذلك منه إليها، فقالت: قد اخترت نفسي، قال: قد وقع الفراق في هذا الوجه وخرج ما كان في يده، وليس له أن يرد الرسول إذا كانت الرسالة على الإجماع، وإنما هو بمنزلة الكتاب إذا كتب على الإجماع، فليس له أن يحبسه إلا أن يكون حين كتبه أراد أن يستشير وينظر، فذلك له.
قال محمد بن رشد: قوله: وليس له أن يرد الرسول إذا كانت الرسالة على الإجماع، يدل على أنه إذا كانت الرسالة على غير الإجماع، وعلى أنه يرد الرسول إن أحب فذلك له، ولا اختلاف في هذين الوجهين البينين، وإنما الاختلاف إذا أرسله ولم تكن له نية على ما هو محمول، فحمله في المدونة على الإجماع حتى يريد غيره الإجماع، وفي رسم العتق من سماع عيسى على غير الإجماع حتى يريد الإجماع، وقد مضى القول على ذلك هنالك، ولا أعلم في الكتاب اختلافا أنه إذا كتبه، ولا نية له، أنه محمول على الإجماع.
ويلزمه الطلاق، ولا في أنه أكتبه على أن ينظر ويستشير، فإن رأى أن ينفذه أنفذه، وإن رأى ألا ينفذه، لم ينفذه، فأرسل به ولا نية له أن الطلاق قد لزمه حسبما ذكرناه في سماع أشهب من كتاب طلاق السنة، واتفاقهم على هذا في الكتاب يقتضي على اختلافهم في الرسول، ويبين أن الأصح من القولين في ذلك ما في المدونة، وبالله التوفيق.
[صالح امرأته وادعى أنه صالحها على عبدها فلان]
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ وسئل عن رجل صالح امرأته، وادعى أنه صالحها على عبدها فلان، وادعت أنها صالحته على عشرة دنانير، وأنكرت دعواه في العبد، فأقام شاهدين، فشهدا أنه إنما صالحها على العبد، وأقامت(5/304)
هي أيضا شاهدين أنها صالحته على عشرة دنانير، وزعم الشهود الأربعة أنهم حضروا صلحهما في يوم واحد، وساعة واحدة، وكلمة واحدة، فقال شاهدان: لفظ لفظة، فصالح فيها على العبد ورضيت، وقال آخران: بل تلك اللفظة التي لفظها قد حضرناها معكم. إنما صالحها على عشرة دنانير.
قال أصبغ: هذه بينة قد أكذبت بعضها بعضا اجتمعت على أن اللفظة كانت واحدة، واختلفتا فيما وقع به الصلح، فأرى الشهادة كلها مطروحة؛ لأن البينة متكافئة ومكذبة بعضها بعضا، كأنها لم تشهد أصلا، فإن شاء الزوج أخذ العشرة التي أقرت بها المرأة فذلك، وإلا فقد تم الصلح ولا شيء له.
قلت: فإن ادعى الزوج حين شهدت البينتان، أنه صالحها بالأمرين جميعا: الدنانير، والعبد، قال: ذلك سواء؛ لأن البينة قد أكذبت بعضها بعضا فهي مطروحة.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا صحيح على مذهب ابن القاسم؛ لأنه لم يختلف قوله في أن الشهود إذا اختلفوا هكذا في نوعين، وتكافأت البينتان أنهما تسقطان، وإنما اختلف قوله إذا شهدت إحدى البينتين بأكثر مما شهدت به البينة الأخرى، فمرة قال: إنه يؤخذ بالبينة التي زادت، وهو المشهور من قوله، ومرة قال: إنهما إذا تكافأتا سقطتا، كاختلافهما في النوعين. والقولان في المدونة.
وقد فرق بين أن تكون الزيادة في المعنى دون اللفظ، مثل أن تشهد إحدى البينتين بمائة، والثانية بخمسين، وبين أن تكون الزيادة في اللفظ والمعنى، مثل أن تشهد إحدى البينتين بمائة وخمسين والثانية بمائة، وهي تفريقة حسنة، لها وجه ظاهر.
وقد روى المدنيون عن مالك، أن الشهود إذا اختلفوا في النوعين، قضى بشهادتهما جميعا، ولم يجعل ذلك تكاذبا، فعلى قوله: إن ادعى الزوج العبد والدنانير، قضى له بهما جميعا، وإن ادعى العبد، قضى له به بشهادة من أحقه له، وبالله التوفيق.(5/305)
[مسألة: يقول لامرأته أنت صلح أو أنت طالق طلاق الصلح]
مسألة وسألته عن الرجل يقول لامرأته: أنت صلح، أو أنت طالق طلاق الصلح، أو قد صالحتك، أو يقول للناس: اشهدوا أني قد صالحت امرأتي والمرأة حاضرة أو غائبة عالمة أو لم تعلم، راضية أو كارهة، قال: فذلك كله سواء، وهي طالق طلقة بائنة، لا رجعة له عليها، أخذ منها شيئا أو لم يأخذ، فذلك كله سواء، وكذلك إن قال لها: أنت مبارية، أو قال: قد طلقتك طلاق المباراة، أو باريتك، أو قد باريتها، رضيت بذلك أو لم ترض، فهي طالق طلاق المباراة، وطلاق الصلح في كل ما سألت عنه.
قال لي: وأما قوله: أنت طالق طلقة بائنة، فهذه كقوله: أنت بائنة. وألغى قوله أنت طالق طلقة لقوله بائنة، فهي بائنة. وكذلك حين قال: أنت طالق طلاق الصلح ألغى قوله: أنت طالق، وجعله صلحا، وضعف قول من يقول: إن قوله أنت طالق طلاق الصلح، وقوله قد صالحتك، ولم ترض إن ذلك ثلاث.
قال محمد بن رشد: هذا كله مذهب ابن القاسم. وقد مضى في رسم إن خرجت من سماع عيسى بيان مذهبه في ذلك وما فيه من الاختلاف فلا معنى لإعادته، وتكررت المسألة أيضا في رسم الصلاة من سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترط لامرأته كل امرأة يتزوجها عليها فأمرها بيدها]
مسألة وقال: فيمن اشترط لامرأته كل امرأة يتزوجها عليها فأمرها بيدها، فتزوج عليها سرا وكتمها، ثم طلق التي شرط ذلك لها قال ذلك بيدها وإن طلقها.
قال محمد بن رشد: ابن الماجشون لا يرى بيدها شيئا من ذلك بعد(5/306)
طلاقها، ومعناه في الطلاق البائن على ما روي عن سحنون وقد مضت المسألة والقول فيها في سماع أصبغ من كتاب النكاح، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي الجماعة فيقول لهم اشهدوا أني قد خالعت امرأتي على كذا وكذا دينارا]
مسألة وسئل ابن نافع عن الرجل يأتي الجماعة فيقول لهم: اشهدوا أني قد خالعت امرأتي على كذا وكذا دينارا، والمرأة غائبة، هل ترى لهذا خلعا، حضرت المرأة، أو غابت أمضت الخلع أو أنكرته؟ قال: أراه خلعا بائنا، وتطليقة بائنة إلا أن يكون أراد أكثر من ذلك منها، فيكون إلى ما أراد به من الأكثر، ويقال للمرأة إذا حضرت أتمضين الذي ادعى عليك من عطيتك له في خلعك أم لا تمضين؟ فإن أمضته له فكسبيل ذلك، وإن أبت مضى الخلع وكانت أملك بنفسها، وحلفت له أنها لم تعطه شيئا ولم يكن له من الذي ادعاه من عطيتها قليل ولا كثير، ويمضي الخلع.
قال محمد بن رشد: قوله: ويقال للمرأة إذا حضرت أتمضين ما ادعى عليك من عطيتك له أم لا تمضين؟ يدل على أنه إنما أراد بقوله في مغيب المرأة: اشهدوا أني قد خالعت امرأتي على كذا وكذا، أي اشهدوا على أني قد خالعتها قبل هذا فيما بيني وبينها على كذا وكذا.
وهذا ما لا اختلاف فيه، أن الخلع له لازم، فإن أقرت المرأة بما ادعى عليها أنها سمته له على الخلع لزمها، وإلا حلفت وسقط عنها والطلاق لازم له على كل حال، وإنما الاختلاف إذا قال لهم وهي غائبة: أشهدكم أني قد خالعتها لقوله هذا على كذا وكذا، هل يلزمها الخلع إن لم ترض أن تعطيه ما خالع عليه أم لا؟ على قولين وقد مضى ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: البكر يزوجها وليها ثم يباريها وليها]
مسألة قيل لأصبغ: ما تقول في البكر يزوجها وليها، ثم يباريها وليها(5/307)
من زوجها برضاها، أو تباري هي عن نفسها، ووليها ليس بوالد ولا وصي؟ وكيف إن كانت صغيرة لم تبلغ المحيض زوجها أبوها ثم هلك عنها، فباراها زوجها قبل بلوغها وقبل دخوله بها، ثم تنتقض وتطلب نصف صداقها؟ وكيف أن يباريها إلا بحميل يحمل له بما أدركه من قبلها في نصف صداقها؟ هل يلزم الحميل حمالته إن رأيت أن لها نصف الصداق؟ قال: لا يجوز عليها ما بارت به ما دامت في حال الصغر ولم تحض، أو السفه بالضعف، وحد الولاية لو كان لها ولي، فهذا يرد ما أعطت أو بارت به عليها متى ما قامت، ويمضي الفراق على كل حال بينهما؛ لأنه طلاق من الزوج.
وهذه مثل الذي يبارى عنها بغير علمها من أب أو أخ، فيمضي الفراق، ولها الرجوع على زوجها بما وضع له، أو أعطى من مالها بغير علمها، فالصغيرة والسفيهة واحدة، فافهم، والحميل الذي ذكرت في مسألتك للمباراة وما لحق بها ضامن، إن كان ممن لا يولى على مثله أيضا، فالحميل هاهنا والذي بارا عن المرأة بغير علمها ولا أمرها، سواهما غارمان، غير أن الزوج في هذا يرجع على الذي عامله إذا رجعت عليه، المرأة، والذي بارى عن الصبية لا يرجع بشيء؛ لأن الصبي لا يرجع عليه، والصبية بمنزلة السفيه الذي يبيع فيبطل ثمنه عنه، ولا يكون للمشتري عليه فيه رجعة، وكذلك حميله. وحميله أولى بالبعد من الرجوع بالصبية في مسألتك بهذا المجرى.
قال محمد بن رشد: قوله: إن البكر التي لا أب لها ولا وصي، إذا بارى عنها وليها، أو بارت هي عن نفسها، وإن الصغيرة التي يزوجها أبوها فيهلك عنها، ثم يباريها زوجها قبل البناء بها، يمضي الفراق عليه، ويرجع بما وضعت من صداقها وهي صغيرة أو بكر سفيهة، أو وضعه وليها إذا لم يكن أبا ولا وصيا، بمنزلة الذي يباري عنها بغير علمها أبوها أو أخوها يمضي الفراق على كل حال؛ لأنه طلاق من الزوج، وترجع على زوجها بما وضع أو(5/308)
أعطى له من مالها بغير علمها صحيح على مذهب ابن القاسم خلاف قول سحنون في البكر التي لا أب لها ولا وصي، إن أفعالها جائزة، وقد مضى ذلك له في رسم الصبرة من سماع يحيى، وقوله: إن الحميل الذي تحمل للزوج بما أدركه من قبل البكر، أو الصغيرة، في مباراته إياهما ضامن إن كان لا يولى على مثله صحيح أيضا، لا اختلاف فيه وسواء أقام الولي عنها فأبطل ما وضعت عن الزوج، أو قامت هي عن نفسها، إلا أن يكون إنما تحمل بما أدركه منها، فلا يلزمه ضمان، إلا أن تكون هي القائمة في ذلك عن نفسها.
قاله في نوازله من كتاب الكفالة والحوالة. وقوله: والحميل هاهنا، والذي بارا عن المرأة بغير علمها ولا أمرها سواهما غارمان، هو مثل ما في كتاب الصلح من المدونة. ومثل قول أصبغ في الواضحة: إن المصالح ضامن وإن لم يشترط عليه للضمان، خلاف ظاهر ما في كتاب إرخاء الستور من المدونة.
وما مضى في أول رسم ابتاعه من سماع يحيى. وما ذكر ابن حبيب في كتاب الوثائق، إنه لا ضمان عليه إلا أن يشترط عليه الضمان. وأما قوله: غير أن الزوج يرجع في هذا على الذي عامله إذا رجعت عليه المرأة، والذي بارى على الصبية لا يرجع بشيء، فمعناه: غير أن الزوج يرجع في هذا على الذي عامله، وعلى الحميل الذي تحمل له إذا رجعت عليه المرأة، والذي بارى الصبية ولم يباره عنها أحد، لا يرجع بشيء إذا لم يأخذ ضامنا.
وأما إذا أخذ ضامنا من الصبية في مباراته إياها، فإنه يرجع عليه، كما يرجع على الذي بارى عن المرأة بغير علمها ولا أمرها، وإنما تفترق المسألتان، إذا لم يأخذ هاهنا من الصبية في مباراته إياها، فلا يرجع عليها. ويرجع على الذي بارى عن المرأة بغير علمها ولا إذنها، وإن لم يقل أنا ضامن، وقد قيل: إنه لا ضمان عليه إلا أن يشترط عليه الضمان ذكرناه. ولابن دينار في المدينة قول ثالث إنه إن كان أبا أو ابنا أو أخا فهم ضامنون، وأما غيرهم فلا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يصالح امرأته على عبد آبق]
مسألة قيل لأصبغ: فالرجل يصالح امرأته على عبد آبق وعلى إن(5/309)
أعطاها هو عشرة دنانير، فقال: ينظر إلى قيمة العبد يوم وقع الصلح، فإن كانت قيمته أكثر من عشرة دنانير، ردت المرأة العشرة إلى الزوج، وكان لها من العبد مقدار العشرة، وللزوج ما بقي، مثل أن تكون قيمته خمسة عشر، فيكون لها ثلثاه، وللزوج ثلثه.
قال أصبغ: فإن كانت قيمته عشرة فأدنى أمضيت ما صنعا، ومضت العشرة للمرأة والعبد للزوج، وجعلته بسبيل الصلح، كأنها صالحته على العبد الآبق وحده، أو كأنه صالحها على العشرة وحدها.
قيل له: فإن كان مكان العبد ومسألتي على حالها جنين أو ثمرة لم تطب أو لم توبر متى ينظر إلى قيمة ذلك؟ قال أصبغ: أما في الجنين، فقيمته يوم ولدته أمه وتم؛ لأنه قبل ذلك لم يكن شيئا، وفي الثمرة التي لم توبر ينظر لقيمتها يوم أبرت؛ لأنها لم تكن قبل ذلك شيئا.
وقد صارت الآن ثمرة تصير للبالغ إن باع أو يشترط وإن لم تطب فيوم وقع الصلح؛ لأنها كانت بعد ثمر، إلا أنها كانت في حال غرر وخوف ورجا، كحال العبد في إباقه.
قال محمد بن رشد: لم يجر أصبغ في هذه المسألة على أصل؛ لأنه نقض البيع فيما قابل العشرة من الآبق، وجعل للخلع من الآبق ما زاد على العشرة، وقال: إنه إذا لم يكن في قيمة الآبق زيادة على العشرة، مضى البيع بينهما، ولم ينقض، وكان يلزم إذا نقض البيع فيما قابل العشرة من الآبق، أن ينقض البيع في جميعه إذا كانت العشرة مقابلة لجميعه، ولم يكن في قيمته زيادة على العشرة، وكذلك لأصبغ في كتاب ابن المواز أنه إن كانت قيمته عشرة فأدنى، ردت العشرة إلى الزوج، والآبق إلى المرأة.
وهو الذي يطرد على أصله، وكذلك لم يجر أيضا على أصل واحد في تقويم ما سمت المرأة للزوج من الغرر، إذ قال في العبد الآبق وفي الثمرة التي قد أبرت ولم يبد صلاحها إنه ينظر إلى قيمة ذلك يوم وقع الصلح، يريد على غرره، لو كان يحمل بيعه على ذلك.
وقال في الجنين: إنه ينظر إلى قيمته يوم ولدته أمه، وكان يلزمه أن(5/310)
يقول في الجنين، قيمته يوم وقع الصلح به على غرره، كما قال في الثمرة التي لم تطب، وفي العبد الآبق، أو أن يقول في الثمرة والآبق: إن القيمة تكون في ذلك يوم يحل البيع بطياب الثمرة ووجود العبد الآبق كما قال في الجنين؛ إن القيمة تكون فيه يوم يحل بيعه، وهو يوم ولادته، وكذلك قال سحنون: إن القيمة تكون في الآبق والشارد والجنين، يوم يقبض ذلك الزوج.
وأما قوله في الثمرة التي لم توبر: إن القيمة تكون فيها يوم الإبار، فهو خارج عن ذلك كله، إذ لم يقل: إن القيمة تكون فيه يوم وقع الصلح على غررها، على ما قال في الآبق والثمرة التي أبرت، ولم يبد صلاحها، ولا قال: إن القيمة تكون فيها يوم الطياب على ما قال في الجنين. وقول أصبغ في هذه المسألة يأتي على قياس قول ابن نافع ومطرف في المصالح بشقص فيه شفعة عن موضحتين، إحداهما عمدا والأخرى خطأ لأنه لم يجعل من قيمة الآبق للخلع الذي هو مجهول إلا ما زاد على العشرة دنانير، المعلومة، كما لم يجعل ابن نافع ومطرف من قيمة الشقص لموضحة العمد المجهول ديتها، إلا ما زاد على موضحة الخطأ المعلوم ديتها، إلا أنه نقض أصله في آخر المسألة، والذي في كتاب ابن المواز هو الذي يطرد على أصله، والذي يأتي فيها على قياس قول ابن القاسم في الموضحتين، إذ جعل نصف الشقص للموضحة العمد، ونصفه للموضحة الخطأ؟ إذ قال: إن الشفيع يأخذ الشقص بالشفعة بدية موضحة الخطأ وبنصف قيمة الشقص أن يكون نصف الآبق العشرة دنانير، ونصفه للخلع للذي هو مجهول، فيفسخ البيع في نصفه، وترد المرأة العشرة دنانير إلى الزوج، ويكون لها نصف الآبق، ونصفه للزوج.
والذي يأتي فيها على قياس قول المخزومي الذي جعل الشقص للموضحة العمد، وحمل على ذلك دية موضحة الخطأ أن ينظر إلى قيمة الآبق، فيضم إلى ذلك العشرة الدنانير، ثم ينظر ما يقع للعشرة من الجميع، فإن كان يقع من ذلك الثلث، علمت أنه يقع للعشرة دنانير من العبد الآبق الثلث، وللخلع الثلثان، فيفسخ البيع في الثلث، وترد العشرة إلى الزوج، ويكون للزوجة من العبد الثلث الذي انفسخ فيه البيع، وللزوج الثلثان بالخلع، وهكذا قال سحنون في كتاب ابنه في هذه(5/311)
المسألة، قياسا على قول المخزومي الذي استحسنه في مسألة الصلح بالشقص عن الموضحتين، إلا أنه قال: إن القيمة في العبد الآبق، تكون يوم يقبض ذلك الزوج على ما ذكرناه من مذهبه في ذلك، وإذا لم ير سحنون القيمة في العبد، إلا يوم يقبضه الزوج، فالذي يأتي على مذهبه في ذلك، أنه إن عثر على الأمر قبل القبض، مضى الطلاق على الزوج وانفسخ البيع جملة في العبد الآبق، فرجع إلى الزوجة تطلبه لنفسها، ورجعت العشرة إلى الزوج، وكذلك يلزم على قول أصبغ في الجنين والثمرة التي لم توبر، إذ قال: إن التقويم في الجنين، لا يكون حتى يوضع، ولا في الثمرة حتى توبر، وإن عثر على ذلك قبل أن يوضع الجنين، وقبل أن توبر الثمرة أن يمضي الطلاق على الزوج وينفسخ البيع جملة في الجنين والثمرة، إذ لا يصح إن عثر على الأمر قبل الوقت الذي يصح فيه التقويم أن يؤخر الحكم فيه إلى وقت يصح فيه التقويم.
فتنتفع المرأة بالعشرة، وهي لا تجب لها، ولا بد من ردها، أو رد بعضها إلى الزوج، وإن كان ابن لبابة قد ذهب إلى هذا فقال: قول أصبغ ليس له وجه يصح تأويله عليه، فلو قال يمضي الطلاق ويمهل في أمرها حتى يرجع الآبق ويخرج الجنين، ويجوز بيع الثمرة، فإذا كان ذلك قوم الانتفاع بالعشرة على الرجاء والخوف في الأمر الماضي من يوم تعاملهما، إلى يوم جاز البيع في العبد والجنين والثمرة، فيضاف ذلك إلى العشرة، ويكون للزوج من عبدها وثمرتها وجنينها هذه العدة، يباع ذلك فيها، والفضل للزوج إن كان في ذلك فضل، وإن لم يكن فضل ولم يكن له ولا عليه شيء، ومضى الطلاق عليه، ولو قال قائل يمضي الطلاق وله خلع مثله، كما روى عيسى عن ابن القاسم في رسم إن خرجت إذا خالع بثمر لم يبد صلاحه، إن الثمرة لها، وله عليها في مالها خلع مثلها، يريد لكان لذلك وجه، فأما هذا فله وجه كما ذهب إليه، وأما الأول فلا يصح من غير ما وجه. والله تعالى أعلم وبه التوفيق. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[يقول لامرأته إن أنا أخذت من مال ابنتك شيئا فأمرها بيدك]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من عبد الرحمن بن القاسم قال أبو زيد: أخبرنا ابن القاسم عن الرجل يقول لامرأته:(5/312)
إن أنا أخذت من مال ابنتك شيئا، فأمرها بيدك، فيأخذ منه ويستهلكه، فهل يكون في يد الأب ما جعل الزوج بيده؟ وكيف إن قالت الابنة لزوجها قد وضعت عنك ما جعلت لأبي، وهل ذلك إن كان في عقدة النكاح أو بعد عقدة النكاح واحد؟ .
قال ابن القاسم: إن كان ذلك من الأب عند شرط النكاح على وجه النظر لابنته، والاحتياط لها أو بعد عقدة النكاح، وتركت الابنة ذلك، فلا أرى أن يجوز فراق الأب، وأرى أن يجبر الأب على أن لا يفرق بينهما إذا رضيت الابنة بترك ذلك، إذا كانت مرضية الحال، وإن كانت غير مرضية الحال، فأرى قضاء الأب عليها جائزا.
قال محمد بن رشد: إنما شرط في تركها الشرط لزوجها، أن تكون مرضية الحال، من أجل أن الأب إنما اشترط ذلك عليه حياطة لمالها، فإذا كانت ممن لا يجوز لها أمرها في مالها، لم يجز لها أن تضع الشرط عن زوجها فيه، وإن كانت ممن يرضى حالها ويجوز أمرها في مالها، جاز لها أن تضع الشرط عن زوجها؛ لأن الحق فيه إنما هو لها، إذ هي أملك بمالها منه.
وأما إذا أخذ من مالها شيئا واستهلك قبل أن تضع عنه الشرط، أو وهي ممن لا يجوز لها وضع الشرط، فالقضاء في ذلك، بيد الأب، فإن أحب الأب أن يفرق بينهما، وأحبت هي الإقامة مع زوجها، فلم يعط في ذلك جوابا بينا.
والذي ينبغي أن ينظر السلطان في ذلك، كما قال في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب النكاح، في الذي شرط على زوج ابنته أنه إن نكح عليها، فأمرها بيده؛ لأن حجة الأب بالضرر الداخل عليها في مالها، أقوى من حجته في الضرر الداخل عليها بالنكاح، وهذه المسألة بخلاف أول مسألة من سماع عيسى للمعاني المفرقة بينهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إليه مالا قراضا واشترط عليه إن أحدث فيه حدثا فأمر امرأته بيد المقارض]
مسألة وسئل عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا واشترط عليه إن(5/313)
أحدث فيه حدثا فأمر امرأته بيد المقارض ما حدث، هل له من ذلك شيء أن يقضي؟ قال: نعم، إذا كان حدثا بينا يعرف، فأرى ذلك بيد صاحب المال، وإنما هو بمنزلة اليمين إذا حدث فيه حدث، فامرأته طالق، فما كان يلزمه في نفسه، فكذلك إذا أحدث فيه حدثا، كان مما جعل في تمليك امرأته بيد صاحب المال.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن التمليك يجر إلى الطلاق فهو يلزم بما يلزم به الطلاق من الشروط. ولا اختلاف في ذلك، والله الموفق.
[مسألة: ملك امرأته أمرها فقالت ما أنت لي بزوج وما أنا لك بامرأة]
مسألة وقال في رجل ملك امرأته أمرها فقالت: ما أنت لي بزوج، وما أنا لك بامرأة، قال: هي البتة إلا أن يناكرها.
قال محمد بن رشد: هذه الألفاظ وما أشبهها قال فيها في المدونة: إنها تكون طلاقا إذا أريد بها الطلاق، فلما قالت ذلك المرأة جوابا لزوجها في التمليك، حملت على أنها أرادت بها الطلاق.
وأما قوله: إنها تكون ثلاثا إلا أن يناكرها، فقد اختلف في ذلك، فقيل: إنها تكون واحدة، إلا أن يريد بها ثلاثا. وقد مضى هذا في سماع أبي زيد من كتاب طلاق السنة، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد عليه شاهد أنه خير امرأته فاختارت نفسها]
مسألة وسئل عمن شهد عليه شاهد أنه خير امرأته، فاختارت نفسها، وشهد آخر أنه أقر عندهم أنه خير امرأته، وأنها اختارت نفسها فقال: أراها ألبتة، وأراها شهادة جائزة قد اجتمعا على التحريم جميعا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الشهادة على الرجل أنه فعل(5/314)
شيئا، كالشهادة عليه أنه أقر أنه فعله، يثبت هذا بما يثبت هذا، ويوجب هذا ما يوجب هذا، فوجب أن تلفق الشهادة في ذلك، إذ لم يختلف الفعل والإقرار، ومثل هذا في كتاب الغضب وكتاب القذف من المدونة، ولا اختلاف فيه أحفظه في المذهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: يجعل لامرأته بعد الدخول إن غاب عنها سنة فأمرها بيدها]
مسألة وقال في رجل يجعل لامرأته بعد الدخول إن غاب عنها سنة فأمرها بيدها، فيغيب فتختار نفسها، فيأتي فيقول: لم أرد إلا واحدة، إنه يحلف ويكون أحق بها، إذا أدركها في عدتها، وإن لم يدركها في عدتها كان خاطبا من الخطاب.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه إن له أن يناكرها إذا أنكر عليها ما قضت به من الثلاث ساعة علمه، وإن كان ذلك بعد مدة من اختيارها نفسها.
[مسألة: يقول للرجل كلما جاء شهر وكلما حاضت امرأتي حيضة فأمرها بيدك]
مسألة وقال في الرجل يقول للرجل: كلما جاء شهر، وكلما حاضت امرأتي حيضة فأمرها بيدك، إنه يوقف الذي جعل ذلك بيده متى ما علم، فإن طلق الثلاث جميعا جاز ذلك عليه، وإن أبى أن يطلق سقط ما بيده. قال: وإن أراد الزوج أن يرجع فيما جعل بيده من ذلك قبل أن يوقف، فليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: مساواته في هذه المسألة بين أن يقول: كلما جاء شهر، وكلما حاضت امرأتي حيضة صحيح، على أصله في المساواة في تعجيل الطلاق بين أن يقول امرأتي طالق، كلما جاء شهر، أو كلما حاضت حيضة؛ لأن ما كان من الأجل يعجل فيه الطلاق، يعجل فيه التوقيت في التمليك.
وقوله: فإن طلق الثلاث جميعا جاز ذلك عليه، ليريد ولا مناكرة له في ذلك،(5/315)
لأن لفظة كلما تقتضي التكرار، فكما يعجل عليه فيها الطلاق ثلاثا في المسألتين جميعا، فكذلك يكون للمملك بها أن يقضي بالثلاث فيهما جميعا، ولا يكون للزوج في ذلك مناكرة، ويأتي على مذهب من رأى فيمن قال: كلما حاضت امرأتي حيضة فهي طالق، إنه لا يلزمه فيها إلا طلقة واحدة إن كانت أمة، أو تطليقتين، إن كانت حرة، أن يكون للزوج أن يناكرها إن طلق المملك ثلاثا في الحرة، وتكون اثنتين، أو إن طلق اثنتين في الأمة، وتكون واحدة، ويأتي على مذهب أشهب فيمن قال لرجل: أمر امرأتي بيدك، كلما حاضت حيضة، إنه لا يوقف، ولا يكون بيده شيء حتى تحيض، كلما حاضت ما بقي من طلاق ذلك المملك شيء، ولا يسقط ما بيد المملك في ذلك الوطء؛ لأنه على مذهبه، كمن قال: كلما فعلت فلانة كذا وكذا، فأمرها بيدك.
وفي مختصر ما ليس في المختصر. أن من ملك امرأته أمرها أو رجلا أجنبيا إلى أجل، أنه لا قضاء لواحد منهما في ذلك، حتى يأتي ذلك الأجل، وللزوج أن يطأ إلى ذلك الأجل، كالتمليك إلى قدوم فلان سواء، والمشهور في المذهب تعجيل التوقيف في ذلك، كما يعجل الطلاق فيه على من حلف بالطلاق إليه، وأن الوطء بعلم المملك يقطعه، كانت الزوجة أو أجنبيا، وهو مذهب ابن القاسم.
وقيل: إنه لا يقطعه وهو مذهب أصبغ وقيل: إنه يقطعه إن كانت الزوجة هي المملكة، ولا يقطعه إن كان المملك أجنبيا. وهو قول ابن الماجشون واختيار ابن حبيب.
[مسألة: نزلت به يمين فأفتي أن قد بانت منك امرأتك]
مسألة قلت: فرجل نزلت به يمين، فأفتي أن قد بانت منك امرأتك، فقال لها وللناس: قد بانت امرأتي، ثم علم أنه لا شيء عليه، فقال: لا ينفعه وقد بانت منه، إذا قال ذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة مكررة في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب طلاق السنة. ومضى القول فيها هناك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(5/316)
[مسألة: جعل أمر امرأته بيدها فقالت قد فرغت]
مسألة وقال: فيمن جعل أمر امرأته بيدها، فقالت: قد فرغت، أو جعله في يد رجل فقال: قد فرغت إن ذلك مثل قولها وقوله قد قبلت، يسأل وتسأل ماذا قبلا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن قولها قد فرغت من الألفاظ التي يحتمل أن يريد بها الطلاق، فوجب أن تسأل عما أرادت بذلك مثل إذا قالت قد شئت، أو قد رضيت، أو قبلت، أو قد اخترت، وما أشبه ذلك، والله الموفق.
[مسألة: قال الزوج إن لم أطلقها إلى رأس الهلال فأمرك بيدك]
مسألة وسئل عن رجل كانت تحته امرأة، فتزوج عليها، فقالت له امرأته القديمة: هكذا تزوجت علي، فقال الزوج: إن لم أطلقها إلى رأس الهلال، فأمرك بيدك، فقالت: أشهدكم إن لم يطلقها إلى رأس الهلال، فقد اخترت نفسي بثلاث ألبتة. قال: إن لم يطلقها إلى رأس الهلال كما قال، طلقت امرأته التي جعل أمرها بيدها.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم خلاف قوله في المدونة ومذهبه المعلوم في رسم أوصى من سماع عيسى وغيره. مثل مذهب أصبغ وسحنون. وقد مضى القول في ذلك في رسم أوصى من سماع عيسى من هذا الكتاب، وفي رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن أعطيتني عشرة دنانير طلقتك]
مسألة وقال في رجل قال لامرأته: إن أعطيتني عشرة دنانير طلقتك، فجاءته بها، فقال: قد بدا لي أن أطلقك، قال ذلك على وجه إن(5/317)
كانت باعت متاعها، وكسرت حليها في ذلك حتى جاءته بها، فأرى الطلاق قد ثبت، ورأيته في معنى قوله يقول: وإن جاءته بها من غير أن تتكلف بيع دارها ولا حليها ولا متاعها، فذلك بيد الزوج.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها ثلاثة أقوال. وقد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته هنا مرة أخرى، وبالله التوفيق.
كمل كتاب التخيير والتمليك
والحمد لله(5/318)
[كتاب طلاق السنة الأول] [نفقة الأب ينفق على ولده](5/319)
من سماع ابن القاسم من كتاب قطع الشجر قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سمعت مالكا يقول في الرجل ينفق على ولده ولهم مال قد ورثوه من أمهم، فكتب عليهم ما أنفق، فلما هلك أراد سائرهم من الورثة أن يحاسبوهم ويحتجوا عليهم بالكتاب، قال: إن كان مالهم عنده موضوعا، فليس عليهم غرم ما أنفق عليهم، إذا لم يقل ذلك عند موته؛ لأن الأب ينفق على ولده، وإن كان لهم مال، ومن أمر الناس أن ينفق الرجل على ولده، ولهم المال، وإن كان مالهم في عرض أو حيوان، رأيت أن يحاسبوهم به؛ لأنه كتبه، وإنما اختلف ذلك؛ لأن المال الموضوع في يديه لم يكن يمنعه منه شيء، فلعله إنما كتبه يريد أن يلزمهم أو يتركه فتركه، وأما الذي كان في العروض والحيوان، فإنه يرى أنه يمنعه من ذلك بيعه، وكتب عليهم فيما يرى، والله أعلم. قال ابن القاسم: وهذا أحسن ما سمعت إلي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة تتفرع إلى وجوه، وقعت مفرقة في مواضع من هذا السماع، وفي رسم باع شاة من سماع عيسى، وفي سماع أبي زيد من كتاب الوصايا، يعارض بعضها بعضا في الظاهر، فكان الشيوخ يحملون ذلك على أنه اختلاف عن القول، وقوله: إنه لا اختلاف في شيء مما(5/321)
وقع في هذه الروايات كلها، وبيان ذلك أن مال الابن لا يخلو من أربعة أحوال: أحدها أن يكون عينا قائما في يد الأب، والثاني: أن يكون عرضا قائما في يده، والثالث: أن يكون قد استهلكه، وحصل في ذمته، والرابع: أن يكون لم يصل بعد إلى يده، فأما إن كان عينا قائما في يده، وألفي على حاله في تركته، فلا يخلو من أن يكون كتب النفقة عليه أو لم يكتبها، فإن كتبها عليه لم تؤخذ من ماله، إلا أن يوصي بذلك، وهو دليل قوله في هذه الرواية إذ لم يقل ذلك عند موته، وإن كان لم يكتبها عليه لم تؤخذ من ماله، وإن كان أوصى بذلك. قاله ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب الوصايا.
وأما إن كان المال عرضا بيده بعينه، ألفي في تركته، فلا يخلو أيضا من أن يكون كتب النفقة عليه أو لم يكتبها، فإن كان كتبها حوسب بها الابن، وإن أوصى الأب ألا يحاسب بها، وهو ظاهر ما في هذه الرواية، ووجه ذلك أنه لما كتبها عليه دل على أنه لم يرد أن يتطوع بها، فوصيته ألا يحاسب بها وصية لوارث، وهو قول أصبغ في الواضحة: إن المال إذا كان عرضا لم تجز وصية الأب ألا يحاسب بها، ومثله لابن القاسم في المدنية.
وإن كان لم يكتبها عليه حوسب بها، إلا أن يكون أوصى الأب ألا يحاسب بها فتنفذ وصيته. وهذا قول ابن القاسم في رسم باع شاة من سماع عيسى.
وأما الحالة الثالثة وهي أن يكون الأب قد استهلك المال وحصل في ذمته، فإن الابن يحاسب في ذلك، كتب الأب عليه النفقة أو لم يكتبها، وهو قول مالك في رسم الشجرة بعد هذا، إلا أن يكون كتب لابنه بذلك ذكر حق، أشهد له به، فلا يحاسب بما أنفق عليه. قال ذلك مالك في رواية زياد بن جعفر عنه. وهو تفسير لما في الكتاب.
وأما الحال الرابعة وهو ألا يكون قبض المال، ولا صار بيده بعد، فسواء كان عينا أو عرضا، هو بمنزلة إذا كان عرضا بيده. وقد مضى الحكم في ذلك. وما في رسم سلعة سماها، ورسم كتب عليه ذكر حق محتمل أن يكون تكلم فيهما على أن المال لم يصل إلى يده، أو على أنه قد أخذه واستهلكه.
وقد مضى الكلام على حكم الوجهين، ولا فرق بين موت الأب وموت الابن فيما يجب من محاسبته بما أنفق عليه أبوه، وبالله التوفيق.(5/322)
[مسألة: دخل عليه وعنده امرأته فقال ما هذه قال مولاة لي هل لك أن أزوجكها]
مسألة وقال مالك في رجل دخل عليه رجل وعنده امرأته، فقال: ما هذه المرأة؟ قال: مولاة لي، هل لك أن أزوجكها؟ قال: نعم، فخرج، فكان يهزل. قال مالك: لا أرى عليه طلاقا، إلا أن ينوي ذلك. قال ابن القاسم: أرى أن يحلف ما أراد بذلك طلاقا، ثم لا شيء عليه، ويؤدب.
قال محمد بن رشد: لم ير مالك وابن القاسم على الرجل في هذه المسألة طلاقا في زوجته، وإن كان زوجها بعد قوله إنها مولاته، ومن قولهما إن بيع الرجل زوجته طلقة بائنة، كذا وقع لهما في سماع زونان من هذا الكتاب وفي سماع عيسى من كتاب الحدود، وفي سماع يحيى من كتاب العتق.
وقد روي عن مالك أنها ثلاثة، كالموهوبة، وهو قول أصبغ، وأحد قولي ابن عبد الحكم، وتزويجه إياها كبيعه لها، سواء. كذا قال محمد، فإنما لم يريا عليه طلاقا في هذه الرواية من أجل أنه زوجها هازلا، فقولهما في هذا ينحو إلى رواية الواقدي عن مالك، وفي سماع أبي زيد من كتاب النكاح، من أن النكاح لا يجب بالهزل، وإيجاب ابن القاسم عليه اليمن صحيح مبين لقول مالك، ومثله لعيسى في رسم لم يدرك من سماع عيسى من كتاب العتق.
فإن حلف ترك مع زوجته، وإن نكل عن اليمين جرى ذلك على الاختلاف في الذي يقوم عليه شاهد بالطلاق، فينكل عن اليمين، فقيل: إنه يطلق عليه، وقيل: إنه يسجن حتى يحلف، فإن طال ولم يحلف ترك، وقيل: إنه يحال بينه وبينها، ولا يسجن، فإن طلبت امرأته المسيس، ضرب له أجل المولى.
ولابن القاسم في المجموعة في هذه المسألة أنها تحرم عليه بالثلاث، بنى بها أو لم يبن. وهو على قياس القول بأن تزويج الرجل امرأته بتات وأن هزل النكاح جد، وأما على مذهب من لا يرى النكاح في بيع الرجل امرأته طلاقا، وهو قول ابن وهب في سماع زونان وأحد قولي محمد بن عبد الحكم، يبين أنه طلاق عليه في هذه المسألة، وبالله التوفيق.(5/323)
[مسألة: ماتت المرأة أو طلقت أو اختلعت من زوجها قبل أن تظهر الزوج على عيبها]
مسألة قال مالك: إذا ماتت. المرأة أو طلقت أو اختلعت من زوجها قبل أن تظهر الزوج على عيبها فلا شيء له، قال سحنون: ويرجع بالصداق على الذي غره، وإن كانت هي غرته أخذ منها وترك لها ربع دينار، وكذلك لو كان الزوج غرها من نفسه، ثم خالعته بشيء، ثم علمت بعيبه، رجعت عليه بما أعطته؛ لأنه قد كان لها أن تفارقه.
قال محمد بن رشد: أما إذا ماتت المرأة قبل أن يظهر الزوج على عيبها، فلا اختلاف في أنه لا شيء للزوج في العيب الذي غرته به؛ لأنها إذا ماتت فقد وجب له ميراثه منها كالصحيحة سواء، وعيبها الذي كان بها من جنون، أو جذام وشبهه، لا يضر بعد موتها، وكان كمن اشترى عبدا وبه عيب، فلم يعلم حتى ذهب، إنه لا شيء له فيه.
وأما إذا طلقها أو خالعها فقال مالك: لا شيء له، وقال سحنون: له عليها الرجوع بعد الطلاق وبعد الخلع، فإن طلق قبل البناء رجع بجميع الصداق عليها إن كان نقده، وسقط عنه إن كان لم ينقده لأنه كان له أن يردها ويسقط عنه جميعه، وإن طلق بعد البناء رجع بجميع الصداق على الذي غره، وإن كانت هي غرته رجع عليها، وترك لها منه ربع دينار، وإن خالعها قبل البناء بأقل من صداقها، رجع عليها بتمام صداقها، وكذاك إن خالعها بعد البناء بأقل من صداقها، وكانت هي الغارة، رجع عليها ببقية صداقها، إلا أنه يترك لها من ذلك ربع دينار، وإن كان الولي هو الغار رجع عليه بتمام صداقها، وكان لها منه ما أبقت لنفسها مما لم يخالع عليه، وإن كان خالعها بمثل الصداق، أو أكثر منه، فذلك لازم لها وماض عليها، كان ذلك قبل البناء أو بعده؛ لأنه كان له المقام عليها.
وجه قول مالك إن العيب لم يضره لما طلق أو خالع باختياره قبل أن يعلم به، فوجب ألا يرجع له بشيء، كمن اشترى عبدا فباعه قبل أن يعلم بالعيب، إنه لا رجوع له بشيء.
ووجه قول سحنون: إنه لما رجع بضعها إليها(5/324)
بالطلاق أو المخالعة أشبه الرد، فوجب للزوج الرجوع عليها بما يجب في الرد، كمن اشترى عبدا وبه عيب لم يعلم به حتى باعه من بائعه، إن له الرجوع عليه بتمام الثمن، وكذلك إذا كان العيب بالزوج فلم تعلم به الزوجة حتى مات عنها أو طلقها أو خالعها، لا رجوع عليه بشيء عند مالك، وخالفه سحنون في المخالعة، فقال: إن كانت خالعته قبل البناء بأكثر من صداقها، رجعت عليه بالزائد، وإن كانت خالعته بعد البناء، رجعت عليه بجميع ما خالعته به من قليل أو كثير؛ لأنه قد انكشف بما ظهر بالزوج من العيوب إن الرد كان لها، والصداق قد وجب لها بالدخول.
[مسألة: رجل وامرأة شهدا على رجل بطلاق امرأته وهو غائب]
مسألة وقال مالك في رجل وامرأة شهدا على رجل بطلاق امرأته وهو غائب: إنه ينفق عليها، وتطلب ذلك فإن ثبت ذلك اعتدت من يوم طلق، ولا غرم عليها فيما أنفقت؛ لأنه ألبس على نفسه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه ينفق عليها وتطلب ذلك، يريد أنه ينفق عليها من ماله إذا طلبت الزوجة ذلك، ويطلب ثبت ذلك بشاهد آخر يشهد مع الشاهد الأول، إذ لا تجوز شهادة النساء في الطلاق، فإن ثبت ذلك، يريد بشاهد آخر، اعتدت من يوم طلق، وذلك إذا اتفق الشاهدان على اليوم الذي طلق فيه، فإن اختلفا اعتدت من اليوم الآخر؛ لأن الشهادة تلفق على مذهب مالك، فتضاف الشهادة الأولى إلى الأخيرة، لا الأخيرة إلى الأولى، ولو لم يذكر اليوم الذي طلق فيه، فمات (كذا) أن يسأل الشهود عن ذلك كانت العدة من يوم شهادتهما عند القاضي، لا من يوم الحكم بالطلاق إن تأخر الحكم عن الشهادة.
وقوله: ولا غرم عليها فيما أنفقت لأنه ألبس على نفسه يريد، أنه لا غرم عليها فيما أنفقت من مالها، أو أنفق عليها(5/325)
منه من يوم الطلاق، إلى يوم علمت بطلاقه؛ لأنه ألبس على نفسه، أي فرط، إذ لم يعلمها بطلاقه إياها، وفعلت هي ما كان يجوز لها من الإنفاق على نفسها من ماله، وما كان يحكم لها به عليه لو سألت ذلك، ولو أنفقت من مالها أو تسلفت لرجعت عليه بذلك عند مالك. قاله في سماع أشهب بعد هذا.
وقال ابن نافع: لا يرجع بشيء من ذلك، وأما الذي يموت وهو غائب، فتغرم الزوجة ما أنفقت من ماله بعد موته؛ لأنه لم يكن منه تفريط. هذا قوله في كتاب طلاق السنة من المدونة.
ويجب على هذا التعليل أن تغرم ما أنفقت من ماله بعد أن طلق إلى أن يمضي من المدونة ما يمكن أن يصل العلم إليها بذلك دون تفريط، وهو مقدار المسافة إلى ذلك الموضع، إلا أنهم لم يقولوا ذلك، فوجه سقوط ذلك عنها هو أنه أذن لها في الإنفاق من ماله، فلا رجوع له عليها فيما أذن لها فيه، والله أعلم.
[مسألة: عبد أعجمي عاتبه سيده في جارية زوجها إياه، فقال قد فارقتها]
مسألة وقال مالك في عبد أعجمي عاتبه سيده في جارية زوجها إياه، فقال: قد فارقتها قال: يسأل العبد، فإن عرف ما أراد من الطلاق فذلك له، وإلا فهي ألبتة، إذا كان لا يدري من أجل العجمية. قال ابن القاسم: كأني رأيت محمل قوله في ذلك إذا لم يعرف الطلاق، أنه أراد أن يبرأ منها فلذلك ألزمه ألبتة.
قال محمد بن رشد: الفراق من كنايات الطلاق، وقد قيل فيه: إنه من صريحه لقول الله عز وجل: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] فلا يعذر الأعجمي بجهله أن ذلك طلاق، ويحمل إذا جهل ذلك على أنه أراد أن يبرأ منها، فتلزمه ألبتة، على ما ظهر لابن القاسم من نحو قول مالك ونحوه لأصبغ في نوازله من كتاب الأيمان بالطلاق، ويكون إذا جهل ذلك بمنزلة غير(5/326)
الأعجمي، إذا لم تكن له نية؛ لأن من قال لامرأته: قد فارقتك ولا نية له في واحدة ولا في اثنتين، فهي ثلاث، إذا كان قد دخل بها، ولا فرق في هذه المسألة بين أن يقول الأعجمي: لم أرد ما أردت، أو يقول لم تكن لي نية، وإنما يفترق ذلك إذا قال: أنت طالق، وكذلك روي عن مالك؛ لأنه حمل قوله: لا أدري ما أردت على أنه أراد شيئا ونسيه، وحمله سعيد بن المسيب ويحيى بن سعيد في التخيير والتمليك من المدونة، على أنه لم تكن له نية، إذ قال الرجل لامرأته: قد فارقتك ولم يدخل بها، فقيل: هي واحدة، إلا أن يريد ثلاثا، وقيل: هي واحدة، إلا أن يريد واحدة، والقولان في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، وفي كتاب التخيير والتمليك من المدونة في قد خليت سبيلك ولا فرق بينهما.
[مسألة: طلقها زوجها ولها منه ولد فرمته عليه استثقالا له]
مسألة قال ابن القاسم: سمعت مالكا قال في امرأة طلقها زوجها، ولها منه ولد فرمته عليه استثقالا له، فليس لها أن تأخذه؛ لأنها قد أسقطت حقها في حضانته، إلا على القول بأن الحضانة من حق المحضون، وهو قول ابن الماجشون، ولو كانت إنما ردته إليه من علة ومرض، أو انقطاع لبنها، لكان لها أن تأخذه إذا صحت أو عاد إليها اللبن، على ما وقع لمالك في أول سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق، ولو تركته بعد أن زال العذر حتى طال الأمر السنة وشبهها، لم يكن لها أن تأخذه منه. واختلف إذا مات هل لها أن تأخذه لمن تصير إليه الحضانة بعده؟ فقال في آخر رسم من سماع أشهب: ليس لها أن تأخذه؛ لأنه رأى تركها إياه عند أبيه إسقاطا منها لحقها في حضانته. وقد قيل: إن لها أن تأخذه بعد موته؛ لأن تركها له عند أبيه، إنما يحمل منها على إسقاط حضانتها للأب(5/327)
خاصة، وكذلك إذا قامت الجدة بعد السنة، لم يكن لها أن تأخذه. وقال ابن نافع: لها أن تأخذه. ومثله لابن القاسم في المدنية إن لها أن تأخذه، إلا أن يكون عرض عليها فأبت من أخذه. وهذا على الاختلاف في السكوت، هل هو على الإقرار والإذن أم لا؟ وهو أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكره السلطان المرء على أن يحج أباه]
مسألة قال مالك: لا يكره سلطان المرء على أن يحج أباه، ولا على إنكاحه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن السلطان لا يكره الرجل على أن يحج أباه صحيح، على القول بأن الحج على التراخي، ويأتي على القول بأنه على الفور، إنه يلزمه ذلك، كما يلزمه أن يشتري له ماء لغسله ووضوئه، إذ لا يسعه أن يؤخر ذلك من أمر دينه، وأما إنكاحه. فقد روي عن أشهب أنه يجبر على إنكاحه، ووجه ذلك أن النكاح مما قد تدعو إليه الحاجة، وتمسه الضرورة، فوجب أن يكون كالنفقة، وإذا كان يجبر على أن ينفق على زوجته؟ لحاجته إليها وجب أن يجبر على تزويجه لحاجته إليها، فقول أشهب ينحو إلى ما في المدونة من إيجاب النفقة على زوج الأب. وقول مالك منها ينحو إلى قول المغيرة، وقول محمد بن عبد الحكم، في أنه لا يجب على الرجل أن ينفق على ربيبته، ولو تحققنا حاجة الأب إلى النكاح لانبغى ألا يختلف في أن على الابن أن يزوجه، فالاختلاف في هذا إنما هو عائد إلى تصديق الأب فيما يدعي من الحاجة إلى النكاح، وبالله التوفيق.(5/328)
[الرجل يلي ولده ويكون لهم الميراث]
ومن كتاب سلعة سماها وسئل عن الرجل يلي ولده، ويكون لهم الميراث، فيموت ولده، فتقوم جدته في ذلك، فيقول أبوه قد أنفقت عليه في رضاعه، وفي كذا وكذا لأمر يسميه أترى عليه يمينا؟ قال: أما إن كان رجل مقل مأمون، فلا أرى ذلك، وإن كان غنيا فأنى له أن يحلف، فإن جل الآباء هم ينفقون على أولادهم، وإن كانت لهم أموال.
قال محمد بن رشد: لم يفرق في هذه المسألة بين أن يكون الميراث الذي لهم عروضا أو قرضا، كما فرق بين ذلك إذا مات الأب في أول مسألة من السماع، فدل ذلك على أنه تكلم في هذه المسألة على أن الميراث لم يقبضه بعد ولا صار بيده، أو على أنه قبضه واستنفقه، أو على أنه نقص منه قدر ما ادعى أنه أنفقه على ابنه. وقد مضى الحكم في يمين التهمة، والله أعلم.
[مسألة: يسافر بامرأته ولم يدخل بها]
مسألة وسئل عن الرجل يسافر بامرأته ولم يدخل بها، فيقيم عنها الأشهر، فتطلب النفقة، قال: أرى أن ينفق عليها من ماله، ويلزم ذلك.
قال محمد بن رشد: قد قيل: لا نفقة لها إن كان مغيبه قريبا؛ لأنها لا نفقة لها حتى تدعو إلى البناء، وهي لم تدع إليه قبل مغيبه، فإذا طلبته وهو بالقرب، كتب إليه، فإما أن يبني أو ينفق. وقيل: لها النفقة من حين تدعو إلى البناء، وإن كان غائبا على قرب، فليس عليها أن تنظره في شيء قد وجب لها في ماله. وهذا القول أقيس، وهو ظاهر الرواية، إذ لم يفرق فيها بين قرب ولا بعد، وبالله التوفيق.(5/329)
[مسألة: المختلعة يتزوجها زوجها ثم يطلقها قبل أن يمسها أتستأنف العدة أم تبنى]
مسألة وسئل عن المختلعة يتزوجها زوجها ثم يطلقها قبل أن يمسها أتستأنف العدة أم تبنى؟ قال: بل تبنى، وذلك أنه ليس لها إلا نصف الصداق، وهو نكاح جديد، ولا يشبه الذي يطلقها واحدة ثم يرتجعها، تلك تستأنف العدة، وإن لم يطأها ليس حالهما واحدة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن المختلعة قد بانت من زوجها، فإن تزوجها ثم طلقها قبل أن يمسها لم يكن عليها عدة من هذا الطلاق الثاني؛ لأنها مطلقة قبل الدخول، فوجب أن تبني على عدتها؛ لأنها عدة قد لزمتها من طلاق بعد الدخول، فلا تنهدم إلا بالدخول، ولو مات الزوج بعد أن تزوجها، وقبل أن يدخل بها، لوجب عليها أقصى الأجلين، لوجوب العدتين جميعا عليها، الأولى بالخلع بعد الدخول، والثانية بالموت بعد النكاح وقبل الدخول، وأما التي يطلقها واحدة، ثم يرتجعها فيطلقها قبل أن يمسها "فإنها تستأنف العدة لأن الرجعة تهدم العدة، ويعود بها الزوج إلى حاله قبل الطلاق؛ لأن العصمة لم تزل بالطلاق، وإنما حدث به فيها ثلم صلح بالرجعة، فوجب إذا ارتجعها ثم طلقها، أن يستأنف العدة، مس بعد ارتجاعه أو لم يمس؛ لأنه وإن لم يمس بعد الرجعة، فقد مس قبلها وقبل الطلاق الذي انهدمت عدته بالرجعة، فصار طلاقه هذا طلاقا من نكاح قد مس فيه، وكذلك الموت يهدم العدة عند مالك، كما تهدمها الرجعة عنده، فترجع المرأة إذا مات زوجها في العدة، إلى عدة الوفاة، ومن أهل العلم من يرى أنه لا يهدمها، فتعتد المرأة إذا مات زوجها في عدتها أقصى الأجلين، وهو قول ابن عباس وسليم بن يسار، وابن شهاب، ولا أحفظ من يقول إن الرجعة لا تهدم العدة، وأنه إذا ارتجعها ثم طلقها قبل أن يمسها إنها تبني على العدة، إلا ما يروى عن منازعة ابن أبي ذيب في ذلك لابن شهاب، إذ قال له ابن شهاب: إنها تستأنف العدة، فقال له ابن أبي ذيب: ما هكذا قلت لي، فقال له: نعم، فقال له: لا، فقال له: نعم، فقال له: كذبت، فقال له: بل كذبت،(5/330)
فحلف ألا يحدثه بحديث أبدا، فكتب إليه بأحاديث إذ كان من مذهبه أن من. حلف لا يكلم رجلا لا يحنث بالكتابة إليه وهو قول أشهب، والله الموفق.
[مسألة: تأتيها وفاة زوجها وزوجها غائب]
مسألة وسئل عن المرأة تأتيها وفاة زوجها، وزوجها غائب، أترى أن تشهد على ذلك؟ فقال: لم؟ أفي شك هي؟ فقال: لا، قال: ما أرى ذلك عليها إذا كانت على ثبت من أمرها، إلا أن تكون على شك.
قال محمد بن رشد: قوله: أترى أن تشهد على ذلك؟ معناه أترى أن تطلب الشهادة على صحة الخبر بذلك؟ فلم ير ذلك عليها، إذا لم تشك في صحته، وهو كما قال، إذ لا يلزمها أن تعتد بالشك، ولا تستبيح النكاح به بعد العدة، وبالله التوفيق.
[مسألة: المفقود الذي يخرج إلى بلد بتجارة فيفقد فلا يدرى أين وجه]
مسألة وسئل عن المفقود الذي يخرج إلى بلد بتجارة، فيفقد فلا يدرى أين وجه؟ أترى هذا مفقودا؟ قال: نعم، وأرى أن يكتب إلى ذلك الموضع فيطلب ويسأل عنه، فإن عما أمره، ضرب لامرأته بعد ذلك أجل المفقود.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، إن المفقود الذي يضرب لامرأته أجل المفقود بعد البحث عنه، والسؤال عن خبره في الناحية التي توجه إليها، ويوقف ماله حتى يأتي عليه من الزمان ما لا يجيء لمثله، هو الذي يفقد في بلاد المسلمين، وقد خرج لتجارة أو غيرها، وإن عرف البلد الذي نزع إليه ثم غاب خبره، على ما في سماع أبي زيد. وسيأتي في أول سماع أشهب، وفي رسم أسلم، من سماع عيسى بيان حكم المفقود في بلاد الحرب، وبين الصفين في قتال العدو، وفي قتال المسلمين، إن شاء الله، وبالله التوفيق.(5/331)
[مسألة: تحيض حيضة في كل سبعة أشهر يهلك زوجها فتعتد أربعة أشهر وعشرا]
مسألة وسئل عن المرأة التي تكون حيضتها في ستة أشهر، أو سبعة أشهر حيضة، إنها تحيض حيضة في كل سبعة أشهر يهلك زوجها فتعتد أربعة أشهر وعشرا، أترى أن تتزوج؟ قال: أرى أن ينظر في ذلك فإن نويت في نفسها رأيت أن ينظر إليها من النساء من يعرف الحمل، فإن رأين أنه ليس بها شيء، وأنها ليست مرتابة، رأيت أن تتزوج وإنه لا ينبغي أن يحمل الخاص على شيء لا تحمل عليه العامة فمن النساء من لا تحيض أبدا.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك وأصحابه: إن المتوفى عنها زوجها وقد دخل بها تحل بتمام أربعة أشهر وعشرا، وإن لم تحض فيها إذا لم يمر بها فيها وقت حيضتها، ولم يكن بها ريبة من حمل، وروى ابن كنانة عن مالك في سماع أشهب أنها لا تحل حتى تحيض، أو يمر بها تسعة أشهر.
وحكى ابن المواز أن مالكا رجع عن هذا القول، وكذلك هو شذوذ من القول؛ لأنها قد أكملت العدة التي فرضها الله عليها، ولا ريبة بها، فوجب أن تحل، وكذلك إذا مر بها فيها وقت حيضتها فلم تحض من أجل أنها ترضع، وأما إن مر بها فيها وقت حيضتها فلم تحض، وليس بها عذر يمنع الحيض، من مرض أو رضاع، فالمشهور في المذهب، أنها لا تحل حتى تحيض، أو تمر بها تسعة أشهر، ولم يختلف في ذلك قول مالك، وهو قول عامة أصحابه؛ لأن ارتفاع الحيض من غير سبب يعلم لارتفاعه ريبة، وذهب ابن الماجشون، وسحنون، إلى أنها تحل بتمام الأربعة أشهر وعشرا إذا لم يكن بها من الريبة أكثر من ارتفاع الحيض، وأما إن ارتابت من الحمل بامتلاء في البطن، فلا اختلاف في أنها لا تحل حتى تسلم من تلك الريبة، أو تبلغ أقصى أمد الحمل. واختلف إذا ارتفع حيضها بالمرض، فقال أشهب: إن(5/332)
ارتفاعه به كارتفاعه بالرضاع، لا يكون ارتفاع الحيض معه ريبة في الوفاة ولا في الطلاق، فتحل في الوفاة بأربعة أشهر وعشرا، وتعتد في الطلاق بالأقراء وإن تباعدت قال ابن القاسم ورواه عن مالك: أن ارتفاع الحيض مع المرض ريبة، كالصحيحة، فتتربص في الوفاة بتسعة أشهر، وفي الطلاق بسنة، تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة، وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله شك في طوافه
وسئل عن امرأة المفقود إذا خرجت من الأربع سنين، وضرب لها أجل أربعة أشهر، أترى عليها إحدادا؟ قال: نعم، أرى عليها الإحداد. قال ابن القاسم: وإنما يكون عليها الإحداد في الأربعة أشهر وعشر.
قال محمد بن رشد: ابن الماجشون، لا يرى عليها الإحداد في ذلك، وإليه ذهب سحنون، من أجل أنها عدة متيقنة، إذ لعل الزوج حي، أو قد مات، قبل ذلك بمدة، فانقضت العدة. وقول ابن القاسم هو القياس؛ لأنها عدة وفاة بظاهر الحكم، تحل بها للأزواج، فوجب أن يكون عليها الإحداد كالعدة المتيقنة.
[مسألة: العبد يكون متزوجا فيطلق تطليقة فيريد سيده أن يمنعه من الرجعة]
مسألة وسئل مالك عن العبد يكون متزوجا فيطلق تطليقة فيريد سيده أن يمنعه من الرجعة، ويريد العبد أن يرتجع والسيد منعه قال: ليس لسيده أن يمنعه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الطلاق الرجعي لا يزيل العصمة، وإنما يوجب فيها ثلما يمنع الوطء. وأحكام الزوجية كلها قائمة من النفقة والموارثة، بارتفاع الرق، فإليه أن يرفع هذا الثلم عن العصمة بالرجعة، بدليل قول الله عز وجل: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1](5/333)
وهو الرجعة عند الجميع وليس ذلك بابتداء نكاح، فيكون لسيده أن يمنعه من ذلك. ألا ترى أن المحرم يراجع زوجته؟ وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة يكون لها ولد صغير ولولدها مال أتنال معهم منه]
مسألة وسئل مالك عن المرأة يكون لها ولد صغير، ولولدها مال، أتنال معهم منه؟ قال: إن كانت محتاجة، فأرى في ذلك لها، قيل له: إنها موسرة، أفترى أن تأكل؟ قال: لا، قيل له: أفتخلط نفقتها بنفقتهم وتأكل معهم؟ قال: إن كانت تفضل، فلا أرى بأسا، قيل له: إنها تقوم عليهم وتلي أمرهم افترى أن تأكل معهم وإن لم تحتج؟ فلم ير ذلك إلا أن تكون محتاجة.
قال محمد بن رشد: وهذا كله على ما قال، إن كانت محتاجة، فلها أن تأكل من ماله؛ لأن النفقة تجب لها فيه بالحكم لو سألت ذلك، وجائز للرجل أن يأخذ لنفسه ما يجب له بالحكم، لقول رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لهند: «خذي يا هند ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، فأباح لها أن تأخذ من مال زوجها بغير إذنه ما يجب لها فيه ولولدها من حق، ولم ير لها إن كانت موسرة أن تأكل من مالهم، وإن كانت تقوم عليهم، وتلي أمرهم، لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] ، فظاهر قوله هذا خلاف ما في هذا الرسم بعينه من كتاب النكاح من أن للحاضن النفقة في مال المحضون، وقد مضى من القول على ذلك هنالك، ما فيه كفاية إن شاء الله. وأما خلط(5/334)
نفقتها بنفقتهم إن كانت لفضل، فالأصل في جواز ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] ، يقول الله تعالى يعلم من يقصد بمخالطة يتيمه أن يوقفه ممن يقصد بذلك أن يرتفق به وسيأتي مثل هذا في رسم أخذ يشرب خمرا.
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة
وسئل مالك عن الرجل يطلق امرأته ويريد سفرا فتدعي حملا أو تقول: دع لي نفقتي قال: ليس ذلك لها، وإنما هو بمنزلة المقيم في ذلك، ولكن يستانا بها، فإن استمر بها حمل جمع لها ذلك كله، فيدفع إليها، ولا يمنع من سفره.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب النكاح الثاني من المدونة، سواء إنه لا يلزمه أن يقيم لها حميلا بالنفقة، فإن خرج وظهر بها حمل فأنفقت على نفسها رجعت عليه بذلك، إذا كان موسرا يوم أنفقت، ولا اختلاف في هذا أعلمه، وبالله التوفيق.
[مسألة: كان يأخذ لابنه عطاء وقسما فهلك الأب]
مسألة وسئل عن رجل كان يأخذ لابنه عطاء وقسما، فهلك الأب، فقال بنون له آخرون: نحن نريد أن نحاسبك، قد أنفق ذلك عليك، وكان الابن في حجر أبيه، قال: أرى أن يحسب ذلك ويحاسب به، فما كان في ذلك من فضل كان للابن قبل أبيه.(5/335)
قال محمد بن رشد: قوله: فما كان في ذلك من فضل كان للابن قبل أبيه، يدل على أن ما كان يأخذ لابنه قد كان استنفقه وصار له في ذمته، وقد أتى القول على ذلك في التقسيم الذي ذكرناه في أول مسألة من السماع فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[امرأة كانت تسكن مع زوجها ثم هلك زوجها وله منها ابنة بنت ثمان سنين]
ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا وسئل مالك عن امرأة كانت تسكن مع زوجها ثم هلك زوجها، وله منها ابنة بنت ثمان سنين، وللمتوفى إخوة ولأم الجارية إخوة من مسكن الزوج على رأس مرحلتين، فأرادت أن تدخل بابنتها إلى إخوتها وهو مسكنها الذي كانت تسكنه قبل أن تتزوج، فأبى عمومة الجارية أن يتركوها، قال: قال مالك: المرأة لا أرى أن تدخل بها من عندهم قالت: فإن أخوتي يريدون أن يدخلوني قال: ليس ذلك لهم، وليس لك أن تخرجيها من عند ولاتها.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب ابن المواز من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، إنه ليس لها أن تدخل بهم مسافة الرحلة والرحلتين، قال أشهب: ولا إلى الثلاثة برد، وهو مثل ما في المدونة من أنه ليس لها أن تخرج بهم إلى المكان القريب، وليس في حد ذلك شيئا يرجع إليه في الكتاب أو السنة، وإنما هو الاجتهاد، لقول الله عز وجل: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] ، وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا اجتمع ضرران، نفي الأصغر للأكبر» ؛ لأن منع المرأة من الخروج بولدها إضرار(5/336)
بها، وإباحة ذلك لها إضرار بأولياء الصبي، فوجب الاجتهاد في ذلك، ولذلك وقع فيه هذا الاختلاف، والله الموفق.
[مسألة: المتوفى عنها زوجها تؤذن إلى العرس أتخرج إليه]
مسألة وسئل مالك عن المتوفى عنها زوجها تؤذن إلى العرس، أتخرج إليه؟ قال: نعم ولا تبيت إلا في بيتها، ولا تتهيأ بشيء مما تنهى عنه المتوفى عنها زوجها أن تلبسه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إن لها أن تخرج إلى العرس إذا لم تبت إلا في بيتها، ولا تتهيأ بما لا يجوز للحاد أن تفعله، إذ لا حرج عليها في حضور العرس إذا لم يكن فيه من اللهو إلا ما أجيز في العرس، وقد مضى القول فيما يجوز من ذلك مما لا يجوز في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النكاح، وبالله التوفيق.
[مسألة: تزوج امرأة لم يدخل بها وأراد سفرا]
مسألة وسئل عن رجل تزوج امرأة لم يدخل بها وأراد سفرا فقال لهم: أدخلوها علي الليلة، فقالوا: لا تفعل فوقع بينهم شجر من الكلام فقال لهم: اتركوني ليس لي فيها حاجة، ودعوني، فانصرف عنهم.
قال مالك: أردت بذلك طلاقا؟ قال: لا، قال: ليس عليك شيء، قد يقول الرجل لامرأته ليس لي بك حاجة، فإذا لم يرد به طلاقا فليس عليه شيء، وإن كان لها من يحلفه حلف بالله ما أراد بذلك طلاقا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن ذلك ليس من ألفاظ الطلاق، فلا يكون طلاقا، إلا أن يريد الطلاق، وتتهمه أنه أراد الطلاق بذلك، فهذه المسألة عندي ضعيفة، فإن لم يطع باليمين، ونكل عنها ترك مع امرأته، ولم يدخل ذلك من الاختلاف ما ذكرناه في أول رسم في مسألة الذي(5/337)
قال في امرأته: إنها مولاته، وزوجها هازلا بذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: صالح امرأته على أن ترضع ولده سنتين وتكفله أربع سنين بعد ذلك]
مسألة وسئل عن رجل صالح امرأته على أن ترضع ولده سنتين وتكفله أربع سنين بعد ذلك، لتمام ست سنين، فإن ماتت قبل ذلك فأبوها ضامن لنفقة الصبي حتى تستكمل ست سنين، واشترط عليها إن لم يكن أصل هذا الصلح جائزا فله الرجعة عليها، ورضيا بالصلح، وتفرقا عليه.
قال مالك: الشرط باطل، ولا يصلح في صلح رجل وامرأة أكز من الرضاع، فإن كان قد رضيا بالصلح وتفرقا على ذلك، فما كان فوق الرضاع فهو ثابت على الأب، ينفق على ولده، وما اشترط بأنه إن لم يكن هذا الصلح جائزا فلي عليك الرجعة، فهذا باطل، لا رجعة له عليها، ولا أحب أن يصالح أحد على مثل هذا، إنما الصلح في ذلك إلى الفطام. قال سحنون: يلزمها النفقة لو اشترط عليها نفقة خمس عشرة سنة لكان ذلك لازما لها.
قال محمد بن رشد: قوله في اشتراط الرجعة عليها إن لم يكن الصلح جائزا إنه شرط باطل، صحيح بين في المعنى في الصحة؛ لأن الشرع قد أحكم أن تبين المرأة من زوجها بالصلح، كان جائزا أو غير جائز، فاشتراطه أن يكون له الرجعة عليها إن لم يكن الصلح جائزا لا يجوز؛ لأنه شرط يخالف حكم الشرع، قد قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» ، وقوله: ولا يصلح في صلح رجل وامرأة أكثر من الرضاع، هو مثل قوله في المدونة: وإنما لم يجز ذلك؛ لأنه غرر، إذ قد يموت الصبي قبل الأجل الذي التزمت نفقته إليه، ومن(5/338)
قوله: إن الخلع بالعبد الآبق، والجمل الشارد، والجنين في بطن أمه، والثمرة قبل أن يبدو صلاحها جائز، فقيل: إن ذلك اختلاف من قوله وقيل: إن ذلك فرق بين المسألتين؛ لأن غرر العبد الآبق، والجنين، وما أشبهه، لا يقدر على إزالته، وقد تدعو المرأة الضرورة إلى المخالعة، وليس لها إلا ذلك، وغرر التزام نفقة الولد بعد الرضاع أعواما يقدر على إزالتها بأن يشترط ألا يسقط النفقة عنها بالموت، وأن يكون للزوج أن يأخذها به إلى الأجل الذي سمياه وإن بعد، وكذلك ما أشبه النفقة مما يقدر على إزالته كالصلح بمال إلى أجل مجهول، وما أشبه ذلك.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها هذا والثاني أن الخلع بالغرر جائز، كان الغرر مما يقدر على إزالته أو لا يقدر، وهو قول المخزومي في المدونة وقول سحنون هنا، والثالث أن ذلك لا يجوز، كان مما يقدر على إزالته أولا يقدر، وهو قول ابن القاسم في رسم إن خرجت من سماع عيسى من هذا الكتاب؛ لأنه إذا لم يجز الخلع بالغرر الذي لا يقدر على إزالته، فأحرى أن لا يجيزه بالغرر الذي يقدر على إزالته، واختلف على القول بأن الخلع بالغرر لا يجوز إذا ألزم الزوج الطلاق، وأبطل ما خالع عليه من الغرر، هل له أن يرجع عليها، إذا أبطل عنها الجميع بخلع مثلها؟ وإذا أبطل عنها البعض، كالذي يخالع على رضاع ابنها، والنفقة عليه بعد الرضاع إلى أجل معلوم إذا بطل عنها ما أراد على حول الرضاع أن يرجع عليها بمقدار ذلك الجزء من خلع مثلها، على قياس قول ابن القاسم في رسم إن خرجت من سماع عيسى، وأما المختلعة على رضاع الولد خاصة، فلا اختلاف في جواز ذلك، وإن كان فيه غرر، إذ قد يموت الولد قبل انقضاء أمد الرضاع من قبل أن الرضاع قد يتوجه عليها في عدم الأب، فلما كان قد(5/339)
يتوجه عليها في حال استخف الغرر فيه، ولا رجوع للأب عليها بشيء إذا مات الولد قبل انقضاء أمد الرضاع، إذا كانا إنما عملا على أن أبرأته من مؤونة رضاعه بإفصاح وبيان.
واختلف إذا وقع الأمر مبهما، فحمله مالك في المدونة على ما تأول عليه ابن القاسم على أنها إنما أبرأته من مئونة رضاعه، فلا يرجع عليها بشيء، وقال ما رأيت أحدا طلب ذلك. وفي المختصر الكبير، إنه لو طلب ذلك لكان فيه قول، وبالله التوفيق.
[مسألة: له الأخت بالأندلس فيريد أن يخرج إليها ويخاف عليها الضيعة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل تكون له الأخت بالأندلس، فيريد أن يخرج إليها ويخاف عليها الضيعة، وفيما بينه وبينها فساد وحرب، يخاف الهلاك على دينه، قال: لا أحب له أن يدخل في شيء يخاف فيه الهلاك على دينه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الخوف على الدين، كالخوف على النفس وأشد، وإذا كان ذلك يسقط فرض الحج، لقول الله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، فأحرى أن يسقط عنه ما يلزمه من إعانة أخته مخافة الضيعة عليها.
[يغيب عن امرأته سنين ثم يتسلف لنفقتها]
ومن كتاب طلق وسئل مالك عن الرجل يغيب عن امرأته سنين، ثم يتسلف لنفقتها، ويعلم ذلك جيرانها من حالها، وأنه لا يبعث إليها بنفقة، فيموت في غيبته، فتطلب ذلك، وتريد أن تأخذه من ماله، أترى ذلك لها؟ قال: هذه أمور إنما يقضى فيها على وجه ما ينزل باجتهاد الإمام العدل في ذلك، والحي إذا قدم أبين عندي شأنا، إن طلبت النفقة أغرم فإن أنكر أحلف يريد بذلك ويبرأ، وقال في الموت:(5/340)
يغيب عشرين سنة، ثم يموت، فتريد أخذ ماله استنكارا أن يكون لها ذلك في الموت، إلا أنه قال اجتهاد الإمام العدل في ذلك حين ينزل بالذي يرى.
قال ابن القاسم: ذلك رأيي وأحسن ما سمعت في ذلك، قال: وبلغني عن مالك أنه قال: إن كان حيا وقدم وقد كانت رفعت ذلك إلى السلطان، رأيت أن ترجع عليه إن كان موسرا في غيبته، وإن كانت لم ترفع ذلك إلى السلطان، فقدم فأنكر، وزعم أنه قد بعث إليها أو خلف عندها، رأيت أن يحلف ويبرأ، وإن قدم فأقر، نظر، فإن كان موسرا في غيبته اتبعته، وإن كان معسرا لم تتبعه إلا من يوم أيسر، وإن مات لم أر لها شيئا إلا أن ترفع ذلك إلى السلطان، فتكون لها يوم رفعت ذلك إلى السلطان، إلى أن مات، وما كان قبل ذلك فلا شيء له؛ لأنه لو قدم فأنكر، صدق وحلف، وهو قول مالك.
قال سحنون: إذا قدم الزوج فقال: كنت في غيبتي معدما، كان القول قوله مع يمينه، وكلفت المرأة البينة أنه كان مليا وقاله عثمان بن كنانة.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف أحفظه في أن القول قول الزوج مع يمينه إنه أنفق على امرأته إن كان حاضرا، أو أنه خلف عندها نفقتها، أو بعث بها إليها إن كان غائبا، إذا أنكرت الزوجة ذلك، وطلبته بالإنفاق، ويحلف في دعواه بعث النفقة إليها، لقد بعث بها إليها، فوصلت إليها وقبضتها، كذلك في سماع أشهب من كتاب الأقضية لابن غانم.
واختلف إن رفعت ذلك إلى السلطان في مغيبه، فقال: هاهنا وهو المحفوظ في المذهب: إن القول قولها من يوم رفعت ذلك إلى السلطان. وذكر أبو القاسم بن الجلاب في كتابه عن مالك في ذلك روايتين: إحداهما هذه.
والثانية إن القول قوله على كل حال، وإن رفعت ذلك إلى السلطان، ولها وجه صحيح في النظر، وهو أنها تتهم على أنها إنما فعلت ذلك إعدادا ليكون القول قولها، وإذا قدم من مغيبه فأقر أنه لم يبعث إليها بشيء، ولا خلف عندها شيئا، أو أنكر فنكل وحلفت المرأة أو(5/341)
كانت قد رفعت ذلك إلى السلطان، فصدقت من يوم رفعت مع يمينها على القول بأنها تصدق في ذلك، فإنه يجب لها أن تتبعه بالنفقة، إن كان موسرا، وتسقط عنه إن كان معدما. واختلف إذا قدم فادعى أنه كان في مغيبه معدما، وقد جهل حاله يوم خروجه، على ثلاثة أقوال: أحدها أنه محمول على اليسار، فلا يصدق فيما ادعى من أنه كان في مغيبه معدما، وهو قول ابن الماجشون، في الواضحة، وتأوله بعض أهل النظر، على معنى ما في المدونة، والثاني: أنه يصدق إن قدم معسرا، ولا يصدق إن قدم موسرا، وهو نص قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وظاهر ما في المدونة عندي.
والثالث أنه يصدق، قدم موسرا أو معسرا، وهو ظاهر قول سحنون، وابن كنانة هاهنا، وأما إن علمت حاله يوم خروجه باليسر أو العدم، فهو محمول على ما علم به من ذلك، وإن قدم على خلاف ذلك، هذا قول ابن الماجشون في الواضحة.
وحكى أبو عمر الإشبيلي في اختصار الثمانية لابن بطير أنها رواية لابن القاسم، وهو صحيح؛ لأنه إذا خرج موسرا فقد ثبت أن الإنفاق عليه واجب، فلا يسقط عنه إلا بيقين، وإذا خرج معدما، فقد ثبت أن الإنفاق قد سقط عنه، فلا يعود عليه إلا بيقين وقد تأول ابن زرب على سحنون، وابن كنانة، إن القول قوله، إن كان معدما وإن علم أنه خرج موسرا، وأنكره، وهو تأويل بعيد، لا سيما إن كان قدم موسرا أيضا.
وأما إن مات في مغيبه، فالقياس ألا شيء لها في ماله، إذا لم ترفع ذلك إلى السلطان، على ما حكى ابن القاسم آخرا أنه بلغه عن مالك؛ لأن المعلوم من شأن الأزواج النفقة على أزواجهم، وإنما كان لها على زوجها في ذلك اليمين، فلما مات سقط حقها في ذلك، إلا أن تدعي على الورثة أنهم علموا أنه لم يخلف عندها شيئا، ولا بعث إليها بشيء، فيكون لها أن تحلف منهم على العلم، من كان مالكا لأمر نفسه، وإلى هذا ينحو قول مالك أولا، وإن كان قد رأى أن يجتهد في ذلك واستحسنه ابن القاسم.
[مسألة: الرجل يشهد عليه بأنه طلق امرأته ألبتة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يشهد عليه بأنه طلق امرأته ألبتة،(5/342)
وقد ماتت، أترى أن يرثها؟ قال: لا، هو حي، قيل له: أفرأيت إن مات هو، أترى أن ترثه؟ قال: ليس هي مثله، قال: نعم، ترثه. قاله سحنون: معناه إن الشهود كانوا قياما معه فلم يقوموا عليه حتى مات.
قال محمد بن رشد: قول سحنون: معناه إن الشهود كانوا قياما معه فلم يقوموا عليه حتى مات، ليس بصحيح، إذ لو كانوا قياما معه فلم يقوموا عليه حتى مات، لوجب أن يرث كل واحد منهما صاحبه؛ لأن شهادتهم كانت تبطل بترك قيامهم لها، وإنما وهم سحنون، في تفسير قول مالك: والله أعلم، لما وقع في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة من قول يحيى بن سعيد، في شهود شهدوا على رجل بعد موته، أنه طلق امرأته، لا تجوز شهادتهم إذا كانوا حضورا. ولامرأته الميراث، وكذلك لو كان يقول يحيى بن سعيد أيضا: لو ماتت هي، إن له الميراث، من أجل سقوط شهادة الشهود لحضورهم، فليس معنى مسألة مالك، إلا أن الشهود كانوا غيبا.
وكذلك وقع له في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، أن الشهود كانوا غيبا لا يتهمون، فمالك أحق بتبيين ما أراد، ووجه تفرقته بين ميراثها منه وميراثه منها هو أنه إذا كان هو الميت، فلم يعذر إليه في شهادة الشهود، ولعله لو أعذر إليه فيهم لأبطل شهادتهم، فرأى لها الميراث، من أجل أن الشهادة لا يجب الحكم بها إلا بعد الإعذار إلى المشهود عليه، وإن كانت هي الميتة، أمكن أن يعذر إليه، فإن عجز عن المدفع وجب الحكم بالطلاق يوم وقع، فلم يكن له ميراث منها.
وقال محمد بن المواز: إنما ورثته ولم يرثها لأنه كالمطلق في المرض؛ لأن الطلاق وقع يوم الحكم، ولو لم يقع يوم الحكم لكان فيه الحد. قال أبو إسحاق: وهو كلام فيه نظر؛ لأن الحاكم إنما ينظر شهادة البينة وهي تقول: إن الطلاق وقع قبل الموت، وأما درء الحد بالشبهة إما لنسيانه، وإما لإمكان أن يكون صادقا في إنكار الشهادة، ولو كان الطلاق وقع بعد الموت لورثها هو أيضا. والقياس أنها لا ترثه، كما لا يرثها؛ لأن الإعذار(5/343)
يجب إليهما جميعا، فكما لا يرثها وإن لم يعذر إليها، لا ترثه وإن لم تعذر إليه، وهو قول سحنون ويحيى بن عمر. وسيأتي في رسم بع من سماع عيسى طرف من هذا المعنى، وبالله التوفيق.
[العبد يتزوج المرأة فيطلقها فتتزوج فيريد أخذ ولده]
ومن كتاب سن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وسئل مالك عن العبد يتزوج المرأة فيطلقها، فتتزوج، فيريد أخذ ولده، فقال: شأن العبد في هذا إلى الضعف، ولعله يذهب به إلى بلدة أخرى فأرى أمه أحق به، وينظر في ذلك للولد. وقال الله عز وجل: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] ، قال ابن القاسم: إذا كان العبد مثل القائم في مال سيده التاجر، الذي له الكفاية، فأراه أحق بولده إذا تزوجت، وأما العبد الوغد الذي يخارج في السوق أو يبعثه سيده في الأسفار، فأرى أمه أحق به؛ لأن مثل هذا يأخذه إلى غير أهل ولا كفاية، وإن بيع العبد فانقطع به، رأيت أمه أحق به وغدا كان أو غير وغد؛ لأنه يؤخذ ماله ويذهب به في البلاد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة بين، وقول ابن القاسم صحيح لا وجه للقول فيه.
[مسألة: بينه وبين ختنته كلام في امرأته فقال لها انقلي ابنتك إلى بيتك]
مسألة قال مالك: في رجل كانت بينه وبين ختنته كلام في امرأته، فقال لها: انقلي ابنتك إلى بيتك؟ ثم لقيها في الطريق، فدفع إليها دنانير، كانت لابنتها عنده، ثم قال: انقلي ابنتك إليك؟ ثم سئل بعد ذلك، فقال: لم أرد طلاقا. قال: يحلف بالله ما أراد طلاقا ولا نواه ثم ترد عليه امرأته ولا شيء عليه.(5/344)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الشبهة في أن يكون أراد بذلك الطلاق بينة، فإن لم يحلف دخل ذلك من الخلاف ما في مسألة من شهد عليه شاهد بالطلاق فنكل عن اليمين، حسبما مضى في أول رسم من هذا السماع. ولو أتى مستفتيا لم يجب عليه شيء ونوي دون يمين، والله الموفق.
[مسألة: مس الطيب للمتوفى عنها زوجها]
مسألة قال مالك: في المرأة المتوفى عنها زوجها إنها لا تمس طيبا إذا كانت حاملا حتى تضع حملها، وإن قعدت سنين، وإنما مثل ذلك مثل ما لو أنها وضعت بعد ذلك بيوم، فمست فيه الطيب، فكما كانت تمس الطيب بعد يوم، إذا هي وضعت، فكذلك هي لا تمس الطيب وإن قعدت أكثر من أربعة أشهر وعشر حتى تضع حملها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل، وضع الحمل، لقول الله عز وجل: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ؛ لأنها آية خصصت قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] ، الآية، وبينت أن المراد بها غير ذوات الأحمال، بدليل «قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لسبيعة الأسلمية، وقد وضعت بعد وفاة زوجها بليال: " قد حللت فانكحي ما شئت» ، وهذا الحديث يرد قول من قال: إنها تعتد أقصى الأجلين، فوجب أن تحد طول عدتها طالت أو قصرت.
[اليتيم يكون عند الرجل فيأخذ نفقته]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا قال: وسئل عن اليتيم يكون عند الرجل، فيأخذ نفقته،(5/345)
فيريد أن يخلطها بنفقته، ويكون طعامهما واحدا، كيف ترى فيه؟ قال: أنا أخبرك بالشأن فيه، إن كان يعلم أنه يفضل عليه، وأن الذي ينال اليتيم من طعامه، هو أفضل وأكثر من نفقته فلا أرى بذلك بأسا وإن كان لا ينال من ذلك الذي هو أفضل فلا يعجبني.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال والأصل فيه قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] ، وقد مضى هذا المعنى في رسم شك.
[صالح امرأته وهي حامل وشرط عليها ألا نفقة لها]
ومن كتاب تأخير صلاة العشاء في الحرس. وسئل مالك عن رجل صالح امرأته وهي حامل، وشرط عليها ألا نفقة لها حتى تضع حملها، فإذا وضعت حملها، أسلمته إليه، فإن طلبته بنفقته ورضاعه عليها حتى تفطمه، وإن لم تستقم له بذلك فهي امرأته، قال مالك: الصلح جائز، وكل ما اشترط عليها جائز، إلا ما اشترط أنها ترجع إليه، فلا ترجع إليه، وقد بانت منه.
قال محمد بن رشد: هذا كله كما قال لأن ما اشترط عليها أحق لها، فجاز أن يشترط عليها حاشا الرجعة، وقد مضى معناه وما بينه في رسم حلف قبل هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: الغلام الذي قد عرف السن وبلغ أن يطلق أيجوز طلاقه]
مسألة وسئل عن الغلام الذي قد عرف السن وبلغ أن يطلق، أيجوز طلاقه؟ قال: إن كان لم يبلغ الحلم، فلا أرى أن يجوز طلاقه، إلا أن يحتلم، إلا أن يكون ممن لا يحتلم، فإذا بلغ مبلغ الحلم، جاز(5/346)
ذلك عليه، ومن الناس من لا يحتلم أبدا.
قال محمد بن رشد: قد روى ابن وهب عن مالك، في المراهق إذا طلق، إن الطلاق يلزمه، ومثله في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق، في المناهز للحلم.
ومعنى ذلك، إذا كان قد أنبت فقال ابن وهب: لا يلزمه الطلاق حتى يحتلم، مثل قول مالك هاهنا، فهذا الاختلاف جار على اختلاف قوله في المدونة في الإنبات، هل يحكم له به بحكم الاحتلام أم لا؟ وهذا فيما يلزمه في الحكم الظاهر من الطلاق والحدود، وأما فيما بينه وبين الله، إذا أتى مستفتيا فلا يلزمه طلاق حتى يحتلم أو يبلغ حد سن الاحتلام، وذلك خمسة عشر عاما عند ابن وهب، وسبعة عشر عاما عند ابن القاسم، وثمانية عشر، على اختلاف قوله في ذلك، وبالله التوفيق.
[ينفق على ولده من امرأة قد طلقها]
ومن كتاب كتب عليه ذكر حق وسئل مالك عن الرجل ينفق على ولده من امرأة قد طلقها، ثم إن الغلام ورث مالا فأنفق عليه بعد ما ورث، ثم مات فأراد أن يحاسب الأم في ميراثها في مال الغلام، من يوم ورث المال، وأبت الأم، قال مالك: ذلك للأب أن يحاسبها من يوم ورث، ولا أرى على الأب يمينا للأم أنه قد أنفقه عليه من عنده إذا كان مقلا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مثل التي تقدمت في رسم سلعة سماها، ولم يفرق فيها بين أن يكون المال عينا أو عرضا، كما فرق في أول رسم، فيحتمل أن يكون المعنى فيها أن الميراث لم يكن قبضه بعد، ولا صار بيده، وأن يكون قد قبضه واستنفقه وهو الأظهر، لقوله يحاسب الأم في ميراثها؛ لأن الأظهر في المحاسبة أن يكون قد ترتب في الذمم، لا يصح جوابه إلا على أحد هذين الوجهين. وقد مضى بيان هذا كله في أول السماع، والله الموفق.(5/347)
[يطلق امرأته إلى أجل يسميه]
ومن كتاب سلعة سماها وسئل مالك عن الرجل يطلق امرأته إلى أجل يسميه، وإن أناسا قد اختلفوا في ذلك، وأن عطاء بن أبي رباح قد كان يقول ذلك، قال مالك: لا قول لعطاء ولا غيره، في أشباه هذه. المدينة دار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونقله الله إليها، وجعلها دار الهجرة، فأما ما ذكر من طلاق الرجل إلى أجل، وأن صاحب ذلك يستمتع بامرأته إلى ذلك الأجل، فإنا لم ندرك أحدا من علماء الناس يقول هذا. وهذا يشبه المتعة التي أرخص فيها من أرخص من أهل مكة وغيرهم، فإذا كان يجوز له أن يطلق امرأته إلى أجل شهر أو شهرين، ثم يصيبها بعد ذلك إلى الأجل، فهو يجوز أن ينكحها على مثل ذلك، ينكحها إلى شهر، ثم هي طالق. فهذه المتعة بعينها.
قال مالك: فإن كان هذا يجوز له، فإنه يجوز له أن يباري امرأته إلى شهر أو سنة، فيقول: آخذ منك هذا، ثم أصيبك إلى سنة ثم قد باريتك بما أخذت منك، ويجوز له أن يقاطع جاريته إلى رأس الهلال، ويقول: أصيبك إلى ما بيني وبين ذلك، ومما هو مثل ذلك، أن يكاتب الرجل جاريته، فيكتب لها الكتابة ويقطع عليها النجوم، ويشترط عليها شروط المكاتب، وعلى أني أصيبك سنة أو شهرا أو شهرين، ثم أنت حرام، فإن كان هذا وما يشبهه من الأشياء، ومن عمل الإسلام، ومما مضى عليه السلف، فقد صدق، وإن كان هذا وما يشبهه من الأشياء التي ذكرت مخالفا لما قالوا، وعلى ذلك مضى العمل، وبه مضت السنة فقد أبطل القوم.
قال محمد بن رشد: قياس قول مالك الطلاق إلى أجل في أن ذلك لا يجوز، على ما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه من نكاح المتعة، وعلى المسائل التي ذكرها صحيح، لاتفاق المعنى في ذلك على ما ذكر. واستدلاله على صحة ذلك بأن(5/348)
الذي عليه أهل المدينة التي هي دار الهجرة، دليل على أن إجماعهم عنده حجة، فيما طريقه الاجتهاد، وأن اجتهادهم مقدم على اجتهاد غيرهم، والذي عليه أهل التحقيق، أن إجماعهم إنما يكون حجة فيما طريقه التوقيت، أو أن يكون الغالب منه أنه عن توقيت، كإسقاط زكاة الخضراوات؛ لأنه معلوم أنها كانت في وقت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولم ينقل أنه أخذ منها الزكاة، فلما أجمع أهل المدينة على ذلك، وجب أن يعمل بما أجمعوا عليه من ذلك، وإن خالفهم فيه غيرهم.
ومثله الأذان الذي قد كان على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واتصل العمل به في المدينة، فوجب أن يعمل بما اتصل عملهم به في ذلك، وإن خالفهم فيه غيرهم، ومثل هذا كثير.
[مسألة: يصدق المرأة صداقها فتشتري به متاعا ثم يطلقها قبل أن يجمعها إليه]
مسألة قال مالك: وذكرت ما أنكروا من قول أهل المدينة في الرجل يصدق المرأة صداقها، فتشتري به متاعا ثم يطلقها قبل أن يجمعها إليه، فأنكروا أن يكون للزوج نصف ما اشترت، وأن على الزوج إذا تزوج امرأة أن يسكنها بيتا، وليس له أن يسكنها بيتا لا سقف له، وليس له أن يسكنها بيتا ليس في ذلك البيت ما يصلحها مما يحتاجون إليه، وليس له أن يضربها، وإن الرجل إذا تزوج المرأة وأصدقها، كان عليه أن يتجهز له بما يصلح الناس في بيوتهم.
أما أن يكون الرجل مع أبويه فينتقل إلى بيت فيه من المتاع ما يصلح الناس: الفراش والقدح وما أشبه ذلك، مما لا يستغني الناس عنه، وإنما ينتقل إلى أهل وبيت، فيه ما يصلح من المتاع والفراش والقدح، وإن كان ذلك دنيا من الأمر أو مرتفعا تلك المصلحة، التي تصلح.
وإنما أعطيت الصداق لتتخذ ذلك، وتتخذ خادما، إن كان في الصداق ما يبلغ ذلك، فليس لها أن تأخذ الصداق، ولا تتخذ(5/349)
متاعها ولا خادما، فإن كان ذلك عليها أن تتخذ له ولها فاتخذت ذلك، ثم قدر له أن يطلقها، فليس عليها أن تغرم له شيئا إلا نصف ما اشترت مما يصلحه ويصلحها، مما لا غنى لهما عنه مما لو دخلت عليه، فإن كان الذي فعلت صوابا فليأخذ نصفه، وليس عليها الغرم، ولو كان عليها لم يصر بيدها شيء لو بيع ذلك المتاع، لم يأت بنصف ثمن ما أعطاها فإن قال الزوج: هي أدخلت هذا علي، فلو شاءت لم تشتر، فلو شاء هو عجل الطلاق، والصداق على هيئته، فيأخذ نصفه، أو طلقها قبل أن يبعث إليها.
قال محمد بن رشد: أنكر مالك على أهل العراق قولهم: إن الرجل إذا تزوج المرأة فعليه أن يسكنها بيتا له سقف، وعليه أن يضع فيه من ماله ما يصلح المرأة مما يحتاجون إليه، وما أنكروا على قول أهل المدينة، إن على الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول، أن يأخذ نصف ما اشترت بصداقها.
وذهب إلى أن المرأة يلزمها أن تتجهز من نقدها لزوجها بما يصلحه ويصلحها. قال: فإذا كان يجب ذلك عليهما، وجب عليه إذا طلقها بعد أن تجهزت، وقبل البناء بها أن يأخذ نصف ما اشترت، وقوله صحيح؛ لأنه قد أذن لها فيه وأدخلها فيه، إذ دفع إليها الصداق على ذلك بالعرف الجاري، فلو كان له أن يأخذ منها نصف ما نقدها، لباعت فيه جميع ما اشترت، فلم يبق بيدها شيء، فلم يكن لما أنكروا من قول أهل المدينة وجه.
وقد قال أبو يوسف للمغيرة في احتجاجه عليه: أرأيت إن اشترت المرأة بصداقها مزمارا أو أبواقا أيأخذ الرجل نصف ذلك؟ فقال له: أما عندنا فلا يتجهز النساء إلى أزواجهن بذلك، فإن كان عندكم يتجهز النساء بذلك إلى أزواجهن، لزمه أن يأخذ نصف ذلك، والله المعين.
[مسألة: يتزوج وهو مريض]
مسألة قال مالك: إن من حجتنا في الذي يتزوج وهو مريض، أنه(5/350)
ليس لها ميراث؛ لأنه يمنع أن يطلق وهو مريض، فأنزل ذلك منه على وجه الضرر، فكما كان يمنع من الطلاق وهو مريض، لحق امرأته الثمن، فإنه لا ينبغي له أن يدخل عليها من ينقصها من ثمنها.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن المعنى الذي من أجله لم يجز له أن يطلق في المرض، موجود في النكاح، فلا يجوز له أن يزيد على ورثتهم، كما لا يجوز له أن يخرج عنهم وارثا، والله الموفق.
[مسألة: النصرانية تسلم وهي حامل ولها زوج نصراني]
مسألة وقال مالك: في النصرانية تسلم وهي حامل، ولها زوج نصراني، قال مالك: أرى أباه أحق به، ويكون الولد على دين أبيه، وهي أولى بحضانته ما كان صغيرا، وكذلك لو أنها أسلمت ولها ولد صغير، كان أبوه أحق به، ويكون على دينه، وإن ماتت بعد أن تلده لم ترثه.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب، إن الولد لا يكون مسلما إلا بإسلام أبيه، وقال ابن وهب: إنه مسلم بإسلام من أسلم من أبويه لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
ويؤيد قولَه قولُ النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه» ، الحديث. على تأويل من جعل خبر المبتدأ في يولد على الفطرة؛ لأنه على هذا التأويل يقتضي للعموم في جميع المولودين، فلا يكون نصرانيا ولا يهوديا، إلا أن يكون أبواه جميعا على ذلك، وقد تكلمنا على هذا الحديث، واستوعبنا القول فيه، في(5/351)
كتاب أفردناه لذلك، فمن أحب الشفا من ذلك، فليقف على ما ذكرناه إن شاء الله وبه التوفيق.
[يحلف بطلاق امرأته فيشك في تعينه]
ومن كتاب أوله الشريكين يكون لهما مال. وقال مالك: في الرجل يحلف بطلاق امرأته، فيشك في تعينه، فيقف ويسأل، ويستفتي ثم يتبين له حنثه. قال مالك: تعتد من حين وقف عنها، وليس من حين يتبين له. قيل لابن القاسم: فإن مات قبل ذلك أيتوارثان؟ قال: ينظر في يمينه، فإن كان لم يحنث فيها لم ترثه وإلا ورثته.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها تعتد من حين وقف، وليس من حين يتبين له حنثه صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن العدة إنما تكون من يوم الطلاق، والطلاق إنما وقع عليه يوم الحنث، لا يوم تبين له أنه حنث؛ لأنه إنما تبين له اليوم أن الطلاق قد كان وقع عليه قبل حين وقف عنها، وقوله في الميراث: إنه ينظر في يمينه، فإن كان يحنث فيها لم ترثه، وإلا ورثته. وفي بعض الكتب، لم ترثه ولم يرثها ليس بخلاف لما تقدم في رسم طلق في الذي يشهد عليه الشهود، أنه طلق امرأته ألبتة، أنها ترثه، ولا يرثها، والفرق بين المسألتين أن الرجل في هذه لم يزل مقرا على نفسه بما أوجب عليه الطلاق، فوجب ألا يكون بينهما ميراث بعد وقوع الطلاق، ومسألة كتاب طلق شهد عليه الشهود، وهو منكر لشهادتهم، فوجب في ذلك الإعذار إليه، حسبما تقدم القول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته واحدة ألا يفعل شيئا]
مسألة وقال مالك: في رجل حلف بطلاق امرأته واحدة ألا يفعل شيئا، أو أن يفعله، فيقع عليه الحنث، وهي في الدم. قال مالك: يجبر على رجعتها.(5/352)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الطلقة الواحدة، إذا لم يكن معها فداء، فهي رجعية، سواء وقعت بيمين أو بغير يمين.
ومن طلق امرأته واحدة في الحيضة أجبر على الرجعة بالسنة الثابتة في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قيل: ما دامت في العدة، وهو المشهور في المذهب، وقيل: ما لم تطهر ثم تحيض ثم تطهر، وهو قول أشهب، ومن أهل العلم من يرى أنه لا يجبر على الرجعة إلا ما دامت الحيضة التي طلقها فيها والمسألة متكررة في آخر الرسم من سماع أشهب.
[مسألة: غاب عن امرأته فعرف موضعه أيضرب لامرأته أجل المفقود]
مسألة وسئل مالك عمن غاب عن امرأته، فعرف موضعه، أيضرب لامرأته أجل المفقود؟ قال: لا، ولكن يكتب إليه فيها، قيل له: فإن بعث إليها بنفقة وأقرها قال مالك: أما الحين فإني أرى ذلك له، وإن طال ذلك لم يكن له أن يبعث إليها بنفقة، ويحتبس عنها. قيل له: أفلذلك وقت؟ فقال: ما سمعت، ولكن إذا طال ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الغائب إذا عرف موضعه، فليس بمفقود فإن احتبس عن امرأته كتب إليه، إما أن يقدم عليها، وإما أن يحملها إليه، وإما أن يفارقها على ما جاء عن عمر بن عبد العزيز، وقع ذلك له في الإيلاء من المدونة، وفي رسم شهد من سماع عيسى من هذا الكتاب، فإن لم يفعل وطال الأمر طلق عليه؛ لأن ذلك من الإضرار بها.
وقد قال عز وجل: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، ولم يحد هاهنا حدا في الطول. وقال في رسم شهد المذكور: إن السنتين والثلاث في ذلك قريب، وليس بطويل. وهذا إذا بعث إليها بنفقة، وأما إن لم يبعث إليها بنفقة ولا علم له، قال: فإنها تطلق عليه بعد الإعذار إليه والتلوم عليه، وأما إن علم أنه(5/353)
موسر بموضعه، فيفرض لها النفقة عليه تتبعه بها، ولا يفرق بينهما. هذا ظاهر قول ابن حبيب في الواضحة. ومعنى ذلك ما لم يطل على ما قال هاهنا، والله أعلم.
[طلق امرأته وله منها ثلاثة أولاد رجال]
ومن كتاب اغتسل على غير نية. وسئل مالك عن رجل طلق امرأته وله منها ثلاثة أولاد رجال، فنكحت بعده رجلا، فولدت له ولدا، ثم نازع زوجها الذي فارقها ولده منها، فقال لقوم شهدوه: أشهدكم أنهم ليسوا لي بولد، فقال ابنها من غيره: آخذك بحق أمي وقد قذفتها، وطلبت الأم ذلك، وعفا بنوه عن ذلك، قال مالك: أرى أن يحلف بالله ما أراد قذفا، ولا قال ذلك إلا على وجه أنه يريد ولو كانوا ولدي ما صنعوا كذا وكذا، كمثل الرجل يقول لخادمه: لو كنت لي خادما ما فعلت كذا وكذا، فإذا حلف لم أر عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في كتاب القذف من المدونة وزاد فيها ابن القاسم، فإن لم يحلف ضرب الحد، وهو تمام المسألة. وإن حلف لم يكن عليه شيء؛ لأنه كلام إن لم يرد به القذف فليس بسب واختلف في الكلام المتردد بين السب والقذف، مثل أن يقول له: يا خبيث، ويا ابن الخبيث، فقال أشهب: يحلف أنه ما أراد بذلك القذف فإن حلف نكل، وإن نكل حد. وقال ابن القاسم في المدونة ينكل حلف أو لم يحلف، يريد، ويكون تنكيله، إذا لم يحلف بعد السجن أشد، واضطرب قوله في هذا الأصل، وبالله التوفيق.
[مسألة: المحرم يراجع امرأته]
مسألة وقال مالك: في المحرم: إنه يراجع امرأته ما دامت له عليها الرجعة، فأما المختلعة، والمباراة، ومن لا رجعة له عليها من(5/354)
النساء، فلا يراجعها المحرم؛ لأن ذلك نكاح جديد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه؛ لأن المطلقة واحدة باقية في العصمة، ما لم تنقض العدة، فليس الارتجاع بعقد النكاح، وإنما هو إصلاح للثلم الذي أوجبه الطلاق فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: امرأة المفقود تتزوج قبل أربع سنين]
مسألة وسئل عن امرأة المفقود تتزوج قبل أربع سنين، قال: يفرق بينهما، فإذا انقضت عدتها أنكحها إن أحب ذلك، عندي مثل المتوفى عنها زوجها، ولا المطلقة، إذا أنكحها قبل انقضاء العدة، ثم دخل بها؛ لأن امرأة المفقود تتزوج في أربع سنين مخالفة لهما. وإني أرى أن يكون في هذا عقوبة من السلطان، لامرأة المفقود وناكحها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه ليس بمتزوج في عدة، إلا أن ينكشف أن نكاحه وقع في العدة، وقد دخل بها، فتحرم عليه. وقد مضى هذا المعنى والقول فيه مجودا في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب النكاح.
[تصالح زوجها على رضاع ابنه ونفقته إلى فطامه فتحتاج ولا تجد ما تنفق عليه]
ومن كتاب البر وسئل مالك عن المرأة تصالح زوجها على رضاع ابنه ونفقته إلى فطامه، فتحتاج، ولا تجد ما تنفق عليه. قال مالك: يكلف الأب نفقته، قال ابن القاسم: ويتبعها إن أيسرت.
قال محمد بن رشد: قد روي عن ابن القاسم: أن لا يتبعها بشيء، رواه أصبغ عنه في الموازية، وعيسى في المدنية، والقياس أن يتبعها؛ لأن النفقة قد وجبت عليها بالصلح، فهو في إنفاقه عنها كالحميل إذا أدى، يرجع(5/355)
بما غرم، وإنما قال: إنه لا يتبعها استحسانا من أجل أن النفقة واجبة عليه في الأصل، وإنما ألزم ذلك إياها من "أجل ذلك، لا من أجل أنه حميل بها، إذ لم يتحمل بشيء. والمسألة متكررة في سماع أشهب من كتاب التخيير. وقد مضى القول على هذا المعنى في سماع سحنون من كتاب النكاح، والحمد لله.
[مسألة: يوسع على اليتيم في نفقته]
مسألة قال مالك: أرى أن يوسع على اليتيم في نفقته. وكان ربيعة يقول ذلك، ويقول: هو أثبت لهم، إذا طابت أنفسهم، وأحسن إليهم. قال مالك: ولا ينظر إلى صغره فرب كثير أكثر نفقة من كبير، قال مالك: وكان سالم بن عبد الله له خريطة كبيرة ليتامى له، فلا يختم عليها يجعل فيها كل شيء لهم من فضل تقطيع ثوب أو دينار أو درهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، ينبغي أن يوسع عليهم في الإنفاق على قدر أموالهم من غير إسراف. قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] ، وقال عمر بن الخطاب: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، وبالله التوفيق.
[مسألة: عدة الوفاة من اللائي يئسن من المحيض واللائي لم يبلغن المحيض]
مسألة قال: وقد كان من قول مالك في عدة الوفاة من اللائي يئسن من المحيض، واللائي لم يبلغن المحيض، أن تعتد المرأة منهن إلى مثل الساعة التي توفي فيها زوجها أو طلقت فيها، ثم قال بعد(5/356)
ذلك: أرى أن يلغى بقية ذلك اليوم. قال ابن القاسم: وأنا أرى أن يلغى ذلك اليوم، فإن امرأة تزوجت بعد الوقت الذي هلك زوجها فيه، أو طلقها، لم أر أن يفسخ؛ لأنها قد استكملت الذي قال الله في كتابه وتزوجت بعده.
قال محمد بن رشد: قول مالك الأول، هو القياس، إذ لا اختلاف في أنه يجب عليها أن تبتدئ العدة من الساعة التي طلق فيها زوجها أو توفي عنها، ولا يصح لها بإجماع، أن تلغي بقية ذلك اليوم فتبتدئ بالعدة من عند غروب الشمس، فإذا وجب عليها بإجماع أن تبتدئ بالعدة من تلك الساعة، وتجنبت الطيب والزينة من حينئذ، إن كانت عدة وفاة، وجب أن تحل في تلك الساعة من النهار، وبقاؤها إلى بقية النهار، زيادة على ما فرضه الله عليها.
ووجه القول الثاني أن السنة والشهر واليوم، لما كان أول كل واحد منها غروب الشمس عند العرب، بخلاف العجم. وأجمع أهل العلم لذلك، أن من نذر اعتكاف يوم، يبدأ من أول الليل، رأى أن تبتدئ المعتدة بعد أيام عدتها من عند غروب الشمس، فمعنى قوله: أرى أن تلغي بقية ذلك اليوم، معناه، تلغيه في حسابها، لا أنها تكون فيه غير معتدة. فإن تزوجت المرأة على قول مالك الثاني، بعد الوقت الذي هلك زوجها فيه، وقبل غروب الشمس، فسخ نكاحه. وقول ابن القاسم قول ثالث في المسألة، استحسان مراعاة للاختلاف، وقد مضى في سماع سحنون من كتاب النذور ما يزيد هذه المسألة بيانا، والله الموفق.
[قال لامرأته أنت طالق واحدة إن بت عنك فبات عنها]
ومن كتاب ابتاع غلاما بعشرين دينارا وسئل مالك عن رجل قال لامرأته: أنت طالق واحدة إن بت عنك فبات عنها، فطلقت منه بواحدة، ثم ارتجعها، ثم بات عنها بعد ذلك ليالي. قال: لا شيء عليه إلا الأولى.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصله في المدونة وفي غير(5/357)
ما مسألة من العتبية، حاشا مسألة الوتر، في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، وقد استوفينا القول على ذلك هنالك، فلا معنى لإعادته، والله الموفق.
[مسألة: قال: إن أنفقت شيئا من مالها أو دراهم لم تعين فيها]
مسألة وسئل عن امرأة غاب عنها زوجها، فأنفقت مالا. قال: إن أنفقت شيئا من مالها أو دراهم، لم تعين فيها، فأراه لها عليه غرما يغرمه زوجها لها، رفعت ذلك إلى السلطان أو لم ترفعه، وذلك إذا أقر به، فإن لم يقر به، فمن يوم ترفعه إلى السلطان، فإن أنفقت عشرة دنانير كل سنة، فهي عليه غرم، وإن تعينت في ذلك لم يلزم زوجها ما أربت في ذلك، ينظر إلى قيمة ما أنفقت، فيكون على الزوج، وما أربت في ذلك فهو على المرأة، وأرى إذا كان على الزوج دينا كثيرا مما له، حاصت المرأة الغرماء بما أنفقت. قال ابن القاسم: من يوم ترفع ذلك إلى السلطان، وكانت هي والغرماء أسوة يتحاصون في ماله. قال سحنون في الدين المحدث: وأما الدين القديم، فإنها لا تحاص أهله إذا كان ذلك الدين قبل نفقتها؛ لأنه لم يكن موسرا حين أنفقت وعليه دين يحيط بماله، وإنما النفقة لها إذا كان موسرا، فهو إذا كان دينه يحيط بماله، فهو غير موسر، ولا نفقة لها عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها إن تعينت فيما أنفقت على نفسها في مغيب زوجها فأربت في ذلك، لم يلزم زوجها ما أربت به، معناه: إن اشترت ما تأكل أو تلبس بدين، إن لم يكن عندها نقد، فزادت من أجل ذلك في الثمن، لم يكن لها أن ترجع عليه إلا بثمن بمثل ذلك نقدا، والزائد على ذلك يكون عليها، ولا يلزم الزوج من ذلك شيء. وقوله: فإن لم يقر به فمن يوم ترفعه إلى السلطان، هو المحفوظ في المذهب. وقد مضى في رسم طلق ما في(5/358)
ذلك من الاختلاف. وقوله: إنه إن كان عليه دين أكثر من ماله، حاصت المرأة الغرماء بما أنفقت، معناه: من يوم ترفع ذلك، على ما قال ابن القاسم، إذ لا يجوز إقراره لها بالإنفاق من أجل الدين الذي عليه، إذ لا يجوز إقرار المديان لمن يتهم عليه.
ومعناه عندي في الدين المستحدث، على ما قال سحنون. وقد كان بعض الشيوخ يحمل قول سحنون، على أنه خلاف لقول مالك، ويقول لها على ظاهر قول مالك، محاصة الغرماء في الدين القديم؛ لأن للغريم أن ينفق على امرأته ما لم يفلس، وإن أحاط الدين بماله، وليس ذلك عندي بصحيح؛ لأن إنفاقه على امرأته، بخلاف إنفاق امرأته على نفسها ورجوعها عليه بما أنفقت إذ لا يتحقق أنه لم يخلف عندها نفقة، فلعله قد ترك عندها نفقة فجحدت ذلك ورفعت أمرها إلى السلطان، إعدادا ليكون القول قولها، فرجوعها على الزوج بالنفقة التي ادعت، إنما هو دين أوجبه الحكم لها، فيجب ألا يحاص به إلا في الدين المستحدث، كما قال سحنون. ولو كانت نفقتها على نفسها في مغيب زوجها بعد رفعها أمرها إلى السلطان، كنفقته هو عليها لوجب أن يبدأ بها على الغرماء إذ نفقتها هو عليها في حكم المبداة، وهذا بين، وبالله التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه.
[أعتق عبدا له صغيرا وللعبد أم هي أمة الرجل المعتق]
ومن كتاب صلى نهارا وسئل عن رجل أعتق عبدا له صغيرا، وللعبد أم، هي أمة الرجل المعتق، وللغلام جدة حرة، فأرادت الجدة قبضه منه. قال مالك: لا أرى أن يفرق بينه وبين أمه، إلا أن يكون ذلك مضرا به.
قال محمد بن رشد: إنما رأى ألا يفرق بينه وبين أمه، ورآها أحق بحضانته من جدته الحرة؛ لأن سيدها هو الذي ينفق عليه، من أجل أنه أعتقه صغيرا. ألا ترى أن قول مالك وغيره في المدونة وغيرها، أن من أعتق صغيرا وأمه عنده، إنه لا يبيعها إلا ممن يشترط عليه نفقته، ليكون مع أمه في(5/359)
نفقة سيدها، وكان القياس أن تكون الجدة الحرة أحق بحضانته من الأم، من أجل سيدها، كما أنها أحق بحضانته من الأم، من أجل زوجها إن كان لها زوج؛ لأن حكم السيد على أمته، أقوى من حكم الزوج على زوجته.
وما أدري لم أوجبوا على من أعتق صغيرا ثم باع أمه، أن يشترط نفقته على المشتري حتى يبلغ؟ وما المانع من أن يكون مع أمه عند المشتري، وتكون نفقته على البائع ورضاعه؟ اللهم إلا أن يقال: نفقته لا تلزمه، إلا أن يكون عنده، فيكون المعنى في المسألة على هذا إنه إنما أوجب عليه ألا يبيعها إلا لمن يشترط عليه نفقته من عنده، وهو عند المشتري ويلزم على قياس هذا في الذي أعتق الصغير وأمه أمة عنده، وله جدة حرة أن تكون الجدة أحق بحضانته إذا رضي المعتق أن ينفق عليه، وهو عندها ورضيت هي بالتزام نفقته، فانظر في ذلك.
[مسألة: زوّجها سيدها ثم طلقها زوجها فوطئها سيدها في عدة من طلاق أو وفاة]
مسألة قال مالك: في أمة زوّجها سيدها، ثم طلقها زوجها، فوطئها سيدها في عدة من طلاق أو وفاة، قال: لا أرى لسيدها أن يطأها بعد أن تحل أبدا، مثل النكاح.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم باع غلاما من هذا السماع من كتاب النكاح فلا معنى لإعادته.
[مرض فذهب عقله، فطلق امرأته ثم أفاق فأنكر ذلك]
ومن كتاب مرض وله أم ولد وسئل مالك عن رجل مرض، فذهب عقله، فطلق امرأته ثم أفاق فأنكر ذلك، وزعم أنه لم يكن يعقل الذي صنع، وأنه كان لا يعلم شيئا من ذلك. قال: أرى أن يحلف ما كان يعقل، ويخلى بينه وبين أهله.(5/360)
قال محمد بن رشد: وإنما يكون ذلك إذا شهد العدول أنه كان يهذي ويتخبل عقله، وأما إذا شهدوا أنه لم يستنكر منه شيء في صحة عقله، فلا يقبل قوله، ويمضي عليه الطلاق. قاله ابن القاسم في العشرة. وكذلك الحكم في السكران. روى ذلك زياد عن مالك. وقد مضى القول في حكم السكران مستوفى في أول كتاب النكاح. وهذه المسألة المتكررة في هذا الرسم من كتاب الأيمان بالطلاق، والله الموفق.
[مسألة: المجنون المغلوب على عقله ضمان ما أفسده من الأموال]
مسألة قال ابن القاسم: وإن قتل أحدا كان من الخطأ، وكان على العاقلة، وما أفسد أو كسر كان بمنزلة الموسوس في ماله، وما جرح كان من الخطأ إن كان مما تحمله العاقلة فعليهم، وإن كان مما لا تحمله العاقلة فعليه.
قال محمد بن رشد: حكم ابن القاسم في هذه الرواية للمريض الذي ذهب عقله، والموسوس فيما جنا أو أفسد من الأموال، بحكم الصحيح، يفعل ذلك خطأ، فأوجب عليهما ضمان ما أفسدا من الأموال، وحمل العاقلة ما بلغ من جنايتهما الثلث فصاعدا، وهو على قياس قول مالك في رواية أشهب عنه، من كتاب الجنايات في المجنون المغلوب على عقله، إنه ضامن لما أفسد من الأموال وقد قيل: إن جميع ما أصاباه في الدماء والأموال هدر، كالبهيمة.
قاله ابن المواز في أحد قوليه في الصغير يحبو فيصيب إنسانا بجرح أو غيره، إنه لا عقل فيه، وقد قيل: إن ما أصاباه من الأموال فهو هدر، وما أصاباه من الدماء والجراح فهو في أموالهما، إلا أن يبلغ الثلث فصاعدا، فيكون على العاقلة، وهو قول ابن القاسم في رسم العشور من سماع عيسى من كتاب الجنايات.
وجه القول الأول: أن جناياتهم في الأموال والدماء، لما كانت بغير قصد منهم؛ إذ لا يصح القصد منهم، أشبهت جنايات العاقل خطأ، إذ ليست بقصد منه إليها، ووجه القول الثاني: أنهم لما كانوا في هذه الحال ممن لا(5/361)
يصح منهم القصد، أشبهوا البهيمة التي لا يصح منها القصد، فكانت جناياتهم هدرا، ووجه القول الثالث: أنه لما كانت الأموال يضمنها العاقل بالقصد وغير القصد، من أجل أنه ممن يصح منه القصد، وجب ألا يضمنها من لا عقل له، من أجل أنه ليس ممن يصح منه القصد.
ولما كانت الدماء والجراح يفترق فيها من العاقل القصد من غير القصد، وجب أن يحكم فيها على من لا يعقل، بحكم من يعقل، إذا لم يقصد، إذ لا يصح ممن لا يعقل، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلقت المرأة فادعت حملا أنفقت على نفسها من مالها]
مسألة قال مالك: إذا طلقت المرأة فادعت حملا، أنفقت على نفسها من مالها. فإذا تبين حملها، أُعطيت ما أنفقت، فإن طاوعها فأنفق عليها طائعا، ثم تبين له أنه ليس بها حمل، لم أر عليها غرما، وإن قضى عليه السلطان بذلك رأيت أن يغرم.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه يرجع عليها وإن أنفق عليها بغير قضاء، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك واختيار محمد بن المواز.
وقيل: إنه لا رجوع له عليها، وإن أنفق عليها بقضاء، وهو قول مالك في كتاب النكاح لابن المواز. ولهذه المسألة نظائر كثيرة، تفوت العد. منها مسألة كتاب الشفعة من المدونة في الذي يثيب على الصداق وهو يظن أن الثواب يلزمه.
ومنها مسألة كتاب الصلح منها في الذي يصالح عن دم الخطأ، وهو يظن أن الدية تلزمه. ومنها مسألة الصداق، في سماع أصبغ من كتاب النكاح. ومنها ما في سماع أصبغ من كتاب الشهادات، وما في سماع عيسى ونوازل سحنون من كتاب الهبات والصدقات.
[مسألة: المرأة الحامل إذا طلقت فطلبت الكسوة]
مسألة وقال مالك: في المرأة الحامل إذا طلقت فطلبت الكسوة، قال: ينظر في ذلك إلى ما بقي لها من الأشهر، ثم ينظر إلى قدر(5/362)
الكسوة، فتعطى دراهم على قدر ما بقي لها من قدر الكسوة، والكسوة عندنا الدرع والخمار والإزار، وليست الجبة عندنا كسوة.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة هاهنا مجملة وبيانها في رسم الصبرة من سماع يحيى. قال فيه: إنها إن طلقت في أول الحمل فطلبت الكسوة، فلها الكسوة، وإن طلبتها ولم يبق من أجل الحمل إلا الشهرين والثلاثة، أو نحو ذلك، قُوِّم لها ما كان يصير لتلك الأشهر من الكسوة لو كسيت في أول الحمل، ثم تعطاه دراهم، ولم تكس؛ لأنها إن كسيت انقضى الحمل والكسوة جديدة، وهذا إذا كانت الكسوة مما تبلى في مدة الحمل، وأما إن كانت لا تبلى في مدة، مثل الفرو والمحشو وشبه ذلك، فالوجه فيه أن ينظر إلى ما ينقصه اللباس في مدة الحمل، فيعرف ما يقع من ذلك للأشهر الباقية، وبالله التوفيق.
[حلف ألا يصحب أخا له في سفر فيقدم قبله بيوم ثم إنه أدركه في الطريق]
ومن كتاب المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل مالك عن رجل حلف ألا يصحب أخا له في سفر، فيقدم قبله بيوم، ثم إنه أدركه في الطريق، فكان يسايره ويصحبه، غير أنه مفارق له في النفقة، قال: لا أرى أن يفعل ذلك، قيل له: إنه قد فعل، قال: إن كانت يمينه خفيفة فليكفر، وإن كانت ثقيلة فإني أخاف عليه.
قيل له: إنه حلف بتطليقة واحدة، أترى له أن يراجعها؟ قال: منذ كم حلف، قال: منذ خمس عشرة ليلة، وامرأته غائبة، قال: نعم أرى أن يجعلها تطليقة، ويُشهد على رجعتها.
قال محمد بن رشد: هو بما يقتضيه اللفظ حانث؛ لأنه حلف ألا يصحبه في سفر، وسايره فيه، والحنث يدخل بأقل الوجوه، إلا أن المعنى في يمين الحالف، ألا يصحب أخا له في سفر، ألا يصحبه صحبة الارتفاق والانتفاع، فلذلك لم يحقق عليه الحنث. وقال: أخاف عليه. ورأى إيجابه على(5/363)
نفسه إبراء لساحته فأمره أن يجعلها طلقة، قد حنث فيها، ويرتجع إذا كانت لم تنتقض، والله الموفق لا رب سواه.
[يطلق امرأته وهي ترضع فيريد أن ينتزع منها ولدها]
ومن كتاب سعد في الطلاق وقال مالك: في الذي يطلق امرأته وهي ترضع، فيريد أن ينتزع منها ولدها، ويزعم أنه يريد بذلك ألا تتأخر حيضتها، ولئلا ترثه إن مات، أو تريد هي ذلك، ولعل الولد قد عرف أمه، قال مالك: إن تبين أن قوله: أخاف أن يتأخر الحيض صدقا لا يريد بذلك ضررا، ولم يعرف الولد أمه، فلا يقبل غيرها، رأيت ذلك له، وإن رأى أنه إنما يريد الضرر، منع من ذلك وإن كان الصبي قد علق أمه، وخيف عليه في نزعه منها ألا يقبل ثدي غيرها، لم يكن ذلك له أيضا. قال مالك: والمرأة إذا أرادت أن تضع رضاع ولدها، وتحوله إلى غيرها، كهيئة ما وصفنا من أمر أبيه، لم يكن ذلك لها.
قال محمد بن رشد: أما إذا علق الولد أمه ولم يقبل ثدي غيرها، فليس للأب أن ينتزعه منها، لما ذكره، ولا للأم أن تطرحه إليه أيضا. وأما إذا لم يكن يعلق أمه، فللأم أن تطرحه إليه إن شاءت، إذ ليس يجب عليها إرضاعه إذا كان للأب مال، وهو يقبل ثدي غيرها، إلا أن تشاء، وليس للأب أن ينتزعه منها، مخافة ما ذكره، إلا أن يتبين تصديق قوله، ويعلم أنه لم يرد بذلك الضرر.
هذا تحصيل قول مالك في هذه المسألة. وقوله في الأم إذا أرادت أن تدع رضاع ولدها، وتحوله إلى غيرها، كهيئة ما وصفنا من أمر أبيه، لم يكن ذلك لها، معناه إذا لم يقبل ثدي غيرها. قال ابن المواز: وهذا(5/364)
في طلاق الرجعة. قال مالك: وكذلك إن قال لأني أريد أن أتزوج أختها أو عمتها أو خالتها، أو كانت رابعة، فقال: لأتزوج غيرها، فذلك له إن شاء، وكذلك إذا كان يقبل ثدي غير أمه، وكذلك إن كانت الأم هي الطالبة، فقول مالك هذا فذلك له إن شاء، معناه: إذا تبين صدق قوله، وأنه لا يريد بذلك ضررا على ما قال في مسألة الكتاب. وقوله: وكذلك إن كانت الأم هي الطالبة لطرحه، معناه: إن ذلك لها إن أرادت، كما يكون ذلك للأب، إذا علم أنه لا يريد بذلك، إلا ما ذكر، لا الضرر، إذ لا يستوي حكم الأب والأم في ذلك، إلا على الوجه الذي ذكرناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأة تزوجها ومعها أمها إن حلت بينك وبين أمك فأمرك بيدك]
مسألة وقال مالك: في رجل قال لامرأة تزوجها ومعها أمها، إن حلت بينك وبين أمك فأمرك بيدك، فخرجت الأم، وقد كانتا في بيت واحد، فأرادت امرأته أن تأتي أمها، فمنعها من ذلك، وقال: لم أرد إلا ألا أفرق بينكما، وأنتما في بيت واحد، إن خرجت عنك أمك، فلا آذن لك إليها، وليس على هذا حلفت، قال مالك: أرى ذلك إلى نيته، ويحلف بالله ما أردت إلا ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا على ما قال؛ لأن النية التي ادعى الزوج محتملة، فوجب أن يصدق فيها، واستظهر عليه باليمين، لما تعلق في ذلك من حق الزوجة؛ لأنها تتهمه أن يكون كاذبا فيما ادعى من نية، فهي يمين تهمة يدخلها من الخلاف ما في لحوق يمين التهمة. وبالله التوفيق.
[مسألة: نفقة أم الولد يتوفى عنها سيدها وهي حامل]
مسألة قال مالك: في أم الولد يتوفى عنها سيدها وهي حامل، والحرة يتوفى عنها زوجها وهي حامل، ليس لواحدة منهما نفقة، لا من جملة المال، ولا من حصة الولد.(5/365)
قال محمد بن رشد: أما الحرة يتوفى عنها زوجها وهي حامل، فلا اختلاف في المذهب في أنه لا نفقة لها، لا من جملة المال، ولا من حصة الولد، وحسبها ميراثها، وأما أم الولد يتوفى عنها سيدها وهي حامل، فالمشهور أنه لا نفقة لها، كالزوجة، وقد روي عن مالك، أن لها النفقة من جملة المال، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز.
قال: لا سكنى لأم الولد على السيد من عتق أو موت، إلا أن تكون حاملا، فلها النفقة والسكنى، ولها المبيت في الحيضة في غير بيتها، من عتق أو وفاة. وقال أشهب: لها السكنى على الضعف من غير إيجاب، ولكن استحباب، إلا أن تكون حاملا، واختلف على القول بأنه لا نفقة لها في الأمة يموت عنها سيدها وهي حامل، فقيل: إن لها النفقة؛ لأنها لا تخرج حرة حتى تضع، مخافة أن ينفش الحمل، وهو قول ابن الماجشون، وأحد قولي مالك، وقيل: إنه لا نفقة لها لأنها حرة، بتبين الحمل، وهو المشهور، وأما أم الولد إذا أعتقها سيدها وهي حامل، فلها النفقة.
وروي ذلك عن مالك وهو قول ابن القاسم في الواضحة. وسفيان الثوري يرى للحرة إذا توفي زوجها وهي حامل النفقة من جملة المال. وروي ذلك عن عبد الله بن عمر، فبلغ ذلك قبيصة بن ذؤيب فقال: سبحان الله لو جعلت لها النفقة لجعلت من حظ ذي بطنها، وبالله التوفيق.
[مسألة: مطلقة مبتوتة ادعت الحمل وطلبت النفقة]
مسألة وقال مالك: في مطلقة مبتوتة ادعت الحمل وطلبت النفقة، قال مالك: تنفق من مالها، وتحسب ذلك على زوجها، حتى يتبين حملها، فتأخذ ذلك منه، وينفق عليها فيما يستقبل، حتى تضع حملها، فإن انكشف أمرها على غير حمل غرمت له ما أنفق عليها.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه لا نفقة لها حتى تضع، مخافة أن ينفش الحمل، وهو أحد قولي مالك في مختصر ابن شعبان، وقد مضى القول إذا أنفق عليها ثم انفش الحمل في رسم مرض فلا معنى لإعادته.(5/366)
[مسألة: شهادة امرأة لم تثبت من أمر رضاعها عند الأهلين والمعارف]
مسألة وقال مالك: لا أرى شهادة المرأة الواحدة تقطع شيئا، إلا أن يكون شيئا قد فشى وعلم في صغرهما، وأما شهادة امرأة لم تثبت من أمر رضاعها عند الأهلين والمعارف، حتى يكون ذلك شيئا قد علم، فلا أرى شهادتها جائزة. قال مالك: وشهادة المرأتين لا تقطع شيئا، إلا أن يعلم ذلك ويذكر، فتجوز شهادتهما على ما وصفت.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ظاهر ما في كتاب النكاح الثاني من المدونة، من أن شهادة امرأة واحدة تجوز في الرضاع مع الفشو، خلاف ما في كتاب الرضاع، من أنه لا يجوز في ذلك إلا شهادة امرأتين مع الفشو أيضا.
وقال مطرف وابن الماجشون، وابن وهب، وابن نافع، وسحنون: تجوز شهادة المرأتين في ذلك، والمرأة والرجل، وإن لم يفش ذلك، قبل ذلك من قولهما. فشهادة امرأتين مع الفشو تجوز باتفاق، وشهادة المرأة الواحدة دون فشو، لا تجوز باتفاق، ويختلف في شهادة المرأة الواحدة مع الفشو، وفي شهادة المرأتين دون فشو، ومن يشترط الفشو في شهادتهما، لا يشترط العدالة ومن لا يشترط الفشو، يشترط العدالة، وقد مضى القول على هذا أيضا في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى من كتاب النكاح، والله الموفق.
[مسألة: يطلق امرأته ثم يرتجعها ويكتمها رجعتها حتى تنقضي عدتها]
مسألة وقال مالك: في الرجل يطلق امرأته ثم يرتجعها، ويكتمها رجعتها حتى تنقضي عدتها، وهو مقيم معها في البلد، ثم يريد أن يراجعها قال: ذلك له ما لم تنكح، والحاضر والغائب في هذا سواء، بمنزلة أنه أملك بها، ما لم تنكح، إلا أن الحاضر أعظم في الظلم.
قال محمد بن رشد: وهذا على ما قال؛ لأن الارتجاع إليه، وليس من شرط صحته أن يعلمها بذلك، إلا أنه يستحب له ذلك، فإذا راجعها وأشهد(5/367)
على رجعتها في العدة فهي زوجته، وإن انقضت عدتها قبل أن تعلم بذلك، وبالله التوفيق.
[المفقود في أرض الإسلام بين الصفين]
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك
من كتاب الطلاق الثاني قال سحنون: قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عن المفقود في أرض الإسلام بين الصفين، والمفقود في أرض العدو بين الصفين، كم تعتد امرأته؟ فقال: سنة، قيل له: تعتد بعد السنة أربعة أشهر وعشرا؟ قال: نعم، قيل له: ومتى يضرب لها أجل سنة؟ أمن يوم فقد، أم من يوم يضرب لها السلطان؟ قال: من يوم يضرب لها السلطان، وينظر في أمرها.
قال محمد بن رشد: قوله في المفقود في أرض الإسلام بين الصفين، يريد في الفتن التي تكون بين المسلمين، فساوى في هذه الرواية بين قتال المسلمين، وفي قتال العدو، وجعلهما جميعا في حكم المفقود، إلا في ضرب الأجل، فإن المفقود يضرب له أجل أربع سنين، ويضرب لهذين أجل سنة، ثم تعتد امرأته بعد الأجل، وتتزوج إن أحبت، ولا يقسم ماله حتى يأتي عليه من الزمان ما لا يحيى إلى مثله، وإن كان لم يتكلم في الرواية على قسم المال، فهذا هو مراده فيها. والله أعلم، بدليل قوله: إن ضرب الأجل إنما يكون من يوم يضربه السلطان، وينظر فيه، والعدة من بعد انقضاء الأجل، على حكم ضرب الأجل في المفقود والعدة، إذ لو كان المال يقسم، لما كان في ذلك ضرب أجل، إلا على سبيل التلوم، ولكانت العدة من يوم المعركة، وعلى هذا حمل أحمد بن خالد رواية أشهب هذه، وقال: إنه قول الأوزاعي، فالمفقودون على هذه الرواية ثلاثة: مفقود في بلاد المسلمين، له حكم، ومفقود في بلد(5/368)
الحرب، له حكم الأسير، ومفقود في الحروب، له حكم المفقود في بلاد المسلمين، إلا في ضرب الأجل، وهو قول مالك في رواية أشهب هذه، وجعل مالك في رواية ابن القاسم عنه الواقعة في رسم أسلم، من سماع عيسى، حكم المفقود في قتال العدو، وحكم الأسير، كالمفقود في بلاد الحرب، وحكم للمفقود في قتال المسلمين في الفتن التي تكون بينهم، بحكم الميت، يقسم ماله، وتتزوج امرأته بعد أن تعتد، وقيل: بعد أن يتلوم له إن كانت المعركة بعيدة من بلده. وسيأتي الكلام على هذا في رسم أسلم من سماع عيسى إن شاء الله.
[مسألة: يتوفى عنها زوجها وقد امتشطت أتنقض مشطها]
مسألة وسئل عن التي يتوفى عنها زوجها وقد امتشطت أتنقض مشطها؟ فقال: لا، أرأيت إن كانت مختضبة كيف تصنع؟ لا أرى أن تنقضه، قال ابن نافع: وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه ليس عليها إذا توفي عنها وهي ممتشطة، أن تنقض مشطها، معناه إذا كانت امتشطت بغير طيب، وأما لو كانت امتشطت بطيب، أو تطيبت في سائر جسدها، لوجب عليها أن تغسل الطيب، كما يجب عليها لو توفي عنها وهي لابسة ثوب زينة، أن تخلعه عنها، وكما يجب على الرجل إذا أحرم وهو متطيب، أن يغسل الطيب عنه، كما أمر عمر بن الخطاب، معاوية بن أبي سفيان، وكثير بن الصلت، وعلى ما جاء عن النبي من قوله للأعرابي الذي أحرم بعمرة وعليه قميص وبه أثر صفرة «انزع قميصك، واغسل هذه الصفرة عنك وافعل في غمرتك ما تفعل في حجتك» .
[مسألة: الرجعة بنية بعد الطلاق]
مسألة قال: وسمعته كتب إلى ابن فروخ وسأله عن رجل قال.(5/369)
أشهدكم أني طلقت امرأتي يوما من الدهر، فقد ارتجعها، ثم طلقها بعد تطليقه، ولم يكن شأنه ارتجاعها، هل يكون ذلك له أم لا حتى يرتجعها بعد الطلاق بقول مستقبل؟ قال: هذا مثل الأول، ولا أرى ذلك ثابتا من قوله حتى يرتجعها قبل الطلاق، ولا يكون ارتجاع قبل الطلاق فيما أرى، والله أعلم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الرجعة لا تكون إلا بنية بعد الطلاق، لقول الله عز وجل: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] ، والفرق من جهة المعنى بين الطلاق قبل النكاح، والرجعة قبل الطلاق، أن الطلاق حق على الرجل، والرجعة حق له، فالحق الذي عليه يلزمه متى ما التزمه، والحق الذي له، ليس له أن يأخذه قبل أن يجب له، ولا اختلاف في أنه ليس لأحد أن يأخذ حقا قبل أن يجب له، وإنما اختلفوا في إسقاطه قبل وجوبه، كالشفعة له أن يسقطها قبل وجوبها على اختلاف، وليس له أن يأخذها قبل وجوبها باتفاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكتب إلى امرأته بطلاقها]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن الذي يكتب إلى امرأته بطلاقها، فقال: أراه من ذلك في سعة مخيرا، حتى يخرج الكتاب من يده، فإذا خرج من يده، كان عندي بمنزلة الإشهاد، ورأيت أن قد لزمه طلاقها، بمنزلة الذي يكتب كتابا بصدقة، فهو مخير فيه حتى يخرج من يده، ينظر ويستخبر، فإذا خرج من يده، كان بمنزلة ما لو أشهد عليه، ورأيت ذلك ماضيا عليه؛ لأن الذي يكتب الكتاب هكذا بشيء هو كتبه يقول: انظر واستخبر فيه، فهو يكتب، وهو يريد النظر والاستخبار، فأنا أرى هذا هكذا، إلا أن يكون حين كتب(5/370)
بذلك قد عزم على الطلاق والصدقة، فأرى ذلك نافذا وإن لم يخرج من يده الكتاب في الطلاق وفي الصدقة كذلك أيضا.
قال محمد بن رشد: قوله: أراه من ذلك في سعة مخيرا، معناه: إذا كتبه غير عازم على إنفاذه.
وتحصيل القول في هذه المسألة أن الرجل إذا كتب طلاق امرأته لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها أن يكون كتبه مجمعا على الطلاق، والثاني أن يكون كتبه على أن يستخبر فيه، فإن رأى أن ينفذه أنفذه، وإن رأى ألا ينفذه لم ينفذه، والثالث أن لا تكون له نية. فأما إذا كتبه مجمعا على الطلاق، أو لم تكن له نية، فقد وجب عليه الطلاق، طاهرا كانت أو حائضا، فإن كانت حائضا أجبر على رجعتها، وأما إذا كتبه على أن يستخبره ويرى رأيه في إنفاذه، فذلك له ما لم يخرج الكتاب من يده. قال في الواضحة وكتاب ابن المواز: ويحلف على نية فإن أخرج الكتاب من يده عازما على الطلاق، ولم تكن له نية، وجب عليه الطلاق بخروج الكتاب من يده، وصل إليها أو لم يصل، طاهرا كانت أو حائضا أيضا، ويجبر على رجعتها إن كانت حائضا.
واختلف إن أخرج الكتاب من يده، على أن يرده إن بدا له، فقيل: إن خروج الكتاب من يده كالإشهاد، وليس له أن يرده وهي رواية أشهب هذه. وقيل: له أن يرده إن أحب، وهو قوله في المدونة. والقولان في رسم النسمة من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، وسواء على مذهب ابن القاسم كتب إليها: أنت طالق، أو إذا طهرت من حيضتك فأنت طالق لأنه عنده أجل آت، فيتعجل عليه الطلاق، وقال أشهب: إذا كتب إليها: إذا طهرت فأنت طالق، أو إذا حضت فأنت طالق، لم يعجل عليه الطلاق حتى تطهر، وحتى تحيض.
فأما قوله: في إذا حضت إنه لا يعجل عليه الطلاق، فله وجه، إذ قد لا تحيض، فأشبه قوله: إذا قدم فلان فأنت طالق، وأما قوله: إذا طهرت فليس بين، إذ لا بد أن تطهر، وإن تمادى بها الدم كانت مستحاضة، والمستحاضة في حكم الطاهر، والذي نحا إليه أنها تموت قبل أن تطهر، فيكون الطهر لم(5/371)
يأت، بخلاف الأجل الذي لا بد من إتيانه، ماتت أو لم تمت. وإذا كتب إليها على مذهب أشهب إذا ظهرت فأنت طالق، فإن كانت حائضا لم يقم عليه طلاق حتى تطهر، وإن كانت طاهرا وقع عليها الطلاق، وقيل: لا يقع عليها إلا بالطهر الثاني.، على اختلافهم فيمن قال لأمته: إذا حملت فأنت حرة وهي حامل.
قال محمد بن المواز: وأحب إلي لمن أراد أن يطلق امرأته الغائب، أن يكتب إليها: إذا جاءك كتابي هذا، فإن كنت قد حضت بعدي وطهرت فأنت طالق، مخافة أن يقع طلاقه إياها في حال الحيض، وهذا جيد، إلا أنه قد لا يقع عليه طلاق أصلا إن كانت لم تحض بعده وطهرت؛ لأنه إنما طلقها على هذا الشرط، فإن كتب إليها: إن وصل إليك كتابي هذا فأنت طالق، فلا اختلاف في أنه لا يقع عليه الطلاق، إلا بوصول الكتاب إليها فإذا وصل إليها طلقت مكانها، وأجبر على رجعتها إن كانت حائضا، فإن كتب إليها: إذا وصل إليك كتابي هذا فأنت طالق، وأرسل إليها به، فيتخرج ذلك على قولين: أحدهما إن ذلك بمنزلة كتابه إليها: إن وصل إليك كتابي هذا.
والثاني إن الطلاق يقع عليه مكانه، على الاختلاف في القائل لامرأته: إذا بلغت معي موضع كذا وكذا فأنت طالق، حسبما وقع من ذلك في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، وفي سماع عبد المالك بن الحسن منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: سألت زوجها أن يكتب إلى أبيها إني قد طلقت ابنتك ليأتيها]
مسألة وسئل عن جارية متزوجة كانت تكتب إلى أبيها تسأله أن يزورها وهو عنها غائب، فلم يفعل، فلما رأت ذلك، سألت زوجها أن يكتب إليه: إني قد طلقت ابنتك، ليأتيها، فكتب زوجها بذلك إليه، ثم خاف ذلك، وأخذ بنفسه منه شيء، ولم يكن حين كتب بذلك إلى أبيها يريد طلاقها. فقال: إن صح هذا هكذا، فلا أرى(5/372)
عليه شيئا ولا طلاقا، إن صح هذا، وكان على هذا، وشديد أن يعمد الرجل الذي بيده الطلاق، فيكتب بهذا، لو كانت هي كتبت ذلك على لسانه، وإني لأخاف أن تكون إنما أرادت خديعة، فإن صح هذا على هذا فلا أرى عليه طلاقا ولا شيئا، ورأيت إن قام أبوها الآن بالكتاب فقال: هذا كتابك الذي بطلاق ابنتي ألا شيء له، فقيل له: إنه ليس يخاصمه أحد، إنما هو أمر فيما بينه وبين الله، قال: إن صح هذا فلا أرى عليه طلاقا، قيل: أرأيت إن قام أبوها بالكتاب وقال: لو كان دعا قوما فأشهدهم على هذا وقال: إنما سألتني أن أكتب هذا الكتاب كذا، وأنا أكتب به لذلك، لا أريد به طلاقا، قيل له: أرأيت إن لم يكن أشهدهم، وجاء أبوها بالكتاب، فجاءت هي وهو يقتص هذه القصة، أترى أن يستحلف؟ قال: لا أدري، وما الناس كلهم عندي سواء في مثل هذا الاختلاف، أما الرجل المأمون، فكنت أرى في رأيي أن يقبل ذلك منه، ويصدق فيه. قيل له: أرأيت لو أن المرأة قالت أردت خديعة بذلك، وأردت الطلاق، فأنكر ذلك، قال: إن علم ذلك من شأنهما، لم أر عليه حنثا، وإن لم يكن إلا قوله وقد ظهر كتابه بطلاقها، وثبت ذلك عليه، رأيت أن يطلق عليه. قيل له: أي الطلاق؟ قال: ينوى ويكون واحدة.
قال محمد بن رشد: في ألفاظ هذه المسألة إشكال، وفي ظاهر كلامه فيها اضطراب واحتمال، والذي يتحصل منه أنه إن صح الوجه الذي ذكره في كتابه إلى أبي زوجته أنه طلقها، يريد ببينة تشهد على ذلك، أو جاء الزوج مستفتيا وحده فلا طلاق عليه، وإن جاءوا كلهم معا، يذكر الزوج والزوجة القصة على وجهها، ويقول الأب: أنا لا أدري صدقهما من كذبهما، صدق مع يمينه، إن كان مأمونا، وإن قام الأب بالكتاب في مغيب الزوج، فلما وقف عليه أقر به، وادعى أنه إنما كتب بذلك، كما ذكر، لم يصدق في ذلك إلا أن(5/373)
يكون قد أشهد شهودا على أنه إنما كتب بالطلاق لذلك، فإن لم يكن أشهد على ذلك، لزمه الطلاق. قال في الرواية ينوى وتكون واحدة قال ذلك أشهب في نظير هذه المسألة، وهو صحيح على أصولهم فيمن ادعى على رجل حقا فأنكره المدعى عليه، وأقام المدعي ببينة على ما ادعاه، فإن المدعى عليه يحلف ما له عنده شيء، ويغرم ما شهدت به البينة، إذ لا خروج له من ذلك، كما لا خروج له من الطلقة الواحدة المتيقنة، ولو رجع فقال: أردت بذلك الطلاق واحدة، لكانت واحدة، ولم يكن عليه في ذلك يمين، على القول بأن من قال قد طلقت امرأتي ولا نية له، إنها واحدة، وأما على القول بأنها ثلاث، إذا لم تكن له نية، فقيل: إنه لا ينوى لإنكاره أولا أن يكون أراد الطلاق، وتكون ثلاثا، وقيل: إنه يحلف وتكون واحدة، والاختلاف في هذا على اختلافهم فيمن ادعى عليه وديعة فأنكر، ثم أقر، وادعى التلف. والقولان قائمان من المدونة، والحمد لله.
[مسألة: امرأة المحلل إذا فرق بينهما ما الذي يكون لها]
مسألة وسئل عن امرأة المحلل إذا فرق بينهما، ما الذي يكون لها؟ أمهر مثلها أم المهر الذي فرض لها؟ قال: أيما امرأة أصابها فلها المهر الذي فرض لها.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في موطأ يحيى: إن لها مهرها وفي موطأ ابن بكير مهر مثلها. وهذا الاختلاف في الصداق إنما يكون إذا تزوجها بشرط أن يحلها على اختلافهم في الأنكحة الفاسدة، للشروط المشترطة فيها إذا فسخت بعد الدخول، أو أقرت، وقد ذهب الشرط وهو ينوي أن يحلها دون شرط كان بينه وبينها أو بينه وبين أوليائها، علم الزوج بذلك أو لم(5/374)
يعلم، لكان لها الصداق المسمى قولا واحدا، والله أعلم.
[مسألة: بينه وبين امرأته كلام فقال لها اذهبي إلى بيتك فقالت على ماذا]
مسألة وسئل عن رجل كان بينه وبين امرأته كلام، فقال لها: اذهبي إلى بيتك، فقالت: على ماذا؟ فقال لها: اذهبي على طلقة، فقالت: لا، فقال: اذهبي على طلقتين، فجلست ولم تذهب، قال: أراه قد طلقها تطليقتين، قيل له: إنما قال لها اذهبي إلى بيت أهلك على طلقتين، فلم تذهب، قال: أرى الطلاق قد خرج من فيه، وأراه قد طلقها طلقتين.
قال محمد بن رشد: إنما أوجب عليه التطليقتين، وإن لم تذهب، من أجل أنه لم يوجب الطلقتين عليه بشرط ذهابها، وإنما فهم من قصده أنه أراد أن يطلقها إن شاءت، فعبر عن مشيئتها بذهابها إلى بيتها؛ لأن المرأة إذا طلقت رجعت إلى بيتها، فقال لها: اذهبي على طلقة، ومعناه: أنت طالق واحدة إن شئت، فقالت: لا أشاء، فقال لها: اذهبي على تطليقتين، ومعناه: أنت طالق تطليقتين إن شئت، فأوجب عليه التطليقتين لرضاها بهما، بدليل سكوتها.
ويدخل في هذا الاختلاف في السكوت، هل هو كالإذن أم لا؟ وهو أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم، وقد مضى بيان ذلك في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب النكاح، ولو أوجب التطليقتين عليه بشرط ذهابها، فقال لها: إن ذهبت إلى بيتك فأنت طالق تطليقتين، لم يلزمه شيء، إلا بذهابها، وبالله التوفيق.
مسألة قال: وسألته عن الرجل يغيب عن امرأته ثم يطلقها، فلا تعلم بطلاقه إياها حتى تتسلف وتنفق، ثم يقدم، أعليه لها ما تسلفت؟ قال: لا أدري ما سلف، أما أنا فأرى لها النفقة عليه إذا(5/375)
لم تكن علمت بطلاقه، ويكون عليه مما تسلفت قدر النفقة عليها، وأما أن تأخذ الدينار فأكثر منه، فلا أرى ذلك لها عليه، وعليه قدر النفقة التي ينفق مثله على مثلها، قلت له: إنه قد طلقها قبل ذلك، فلم تعلم، فقال لي: أما أنا فأرى عليه النفقة، قال سحنون: قال لي ابن نافع: لا أرى لها عليه شيئا، ولا تشبه هذه التي تنفق من شيء خلفه عندها زوجها.
قال محمد بن رشد: أما ما زادت في السلف، مثل أن تشتري ما قيمته دينار بأكثر من دينار إلى أجل، فتبيعه بدينار في نفقتها، فلا يلزمه باتفاق. وقد مضى ذلك في رسم حلف من سماع ابن القاسم. وأما ما أنفقت مما خلفه عندها من ماله، فلا غرم عليها فيه باتفاق، واختلف فيما أنفقت من مالها أو تسلفته عليه من غير أن يتعين فيه بزيادة على هذين القولين. وقد مضى ذلك أيضا والقول فيه في أول رسم من سماع ابن القاسم.
[مسألة: أم الأم يصير لها ولد ابنتها بموت أمهم]
مسألة قال: وسألته في الرجل يكون له الولد، فيصيرون لجدتهم من أمهم، بموت من أمهم، أو تزويج، أيكلف أبوهم مع النفقة عليهم، النفقة على جدتهم أو أجر حضانتها إياهم؟ قال: لا أرى أن يكلف إلا النفقة على ولده، ولا أرى عليه للجدة، إلا أن يتراضيا على شيء.
فقلت له: لم يراضها وهو يقول: أحببت أن تحضنهم بغير شيء، وإلا فادفعي ولدي إلي فعندي أهلي وإخوتي يحضنونهم، وهو في ذلك واجد موسر، فقال لي: أرى ذلك له، ولا أرى لها عليه فيهم شيئا(5/376)
إلا نفقة ولده، ثم قلت له بعد ذلك: سألتك عن أم الأم يصير لها ولد ابنتها بموت أمهم، أو يتزوجها رجل، أيكون لها على أبيهم أجر حضانتها إياهم مع نفقتهم؟ فقلت لي: لا أرى لها عليه شيئا فيهم، إلا نفقة ولده فقط، أترى أمهم كذلك، إذا قامت عليهم وحضنتهم، وفطموا، فطلبت أجر حضانتهم مع نفقتهم؟ فقال لي: نعم، لا أرى لها عليه أجر حضانته ولا شيئا إلا نفقة ولده، إلا أن يصالحها على شيء، فأما أن يكون لها عليه شيء فلا أرى ذلك لها عليه.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، وخلاف ما يأتي بعد هذا في رسم الأقضية الثاني من هذا السماع، وخلاف ما في رسم شك في طوافه أيضا من سماع ابن القاسم، من كتاب النكاح. وقد مضى القول هناك على المسألة، وقلنا إن الاختلاف فيها جار على الاختلاف في الحضانة، هل هي من حق الحاضن أو من حق المحضون؟ وفي سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا تفرقة، لا تخرج عن القولين.
[مسألة: فارقها زوجها ولها منه ولد فأقام مع أبيه سنتين ثم مات]
مسألة وسئل عن امرأة فارقها زوجها ولها منه ولد، فأقام مع أبيه سنتين، ثم مات وترك الولد وماشية وأموالا، فأرادت أمه تقبضه، فقال: وأين كانت أمه عنه في حياة أبيه؟ قلت: منحية، لا أرى ذلك لها ولا أرى لها أخذه.
قال محمد بن رشد: وقد قيل: إن لها أن تقبضه إذا مات الأب. وقد مضى ذلك، والقول في المسألة مستوفى في آخر رسم من سماع ابن القاسم.
[مسألة: طلق امرأته البتة وهي حامل هل عليه أجر القابلة]
مسألة وسئل عن الرجل يطلق امرأته البتة، وهي حامل، أترى عليه(5/377)
أجر القابلة؟ فقال: ما سمعت بذلك ولا أعلمه عليه، ولا سمعت بأحد سأل عن هذا.
قال محمد بن رشد: قوله: ولا أعلمه عليه، يقتضي أنه يراه على المرأة، وأصبغ يراه على الأب. وقال ابن القاسم: إن كان أمرا يستغني عنه النساء، فهو على المرأة، وإن كان لا يستغني عنه النساء، فهو على الأب، وإن كانا ينتفعان به جميعا، فهو عليهما جميعا، على قدر منفعة كل واحد منهما في ذلك، وقع ذلك من قولهما في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الجعل والإجارة، فهي ثلاثة أقوال، وبالله التوفيق.
[مسألة: يجبر الذي يحلف بالطلاق وامرأته حائض على رجعتها]
مسألة وسألته فقلت له: أليس ترى أن يجبر الذي يحلف بالطلاق وامرأته حائض على رجعتها كما يجبر الذي يطلق حائضا؟ فقال: ما أشبهه به، وإني لا أراه.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، والحمد لله.
[مسألة: يطلق امرأته فحاضت حيضة ثم ارتجعها فطلقها قبل أن يمسها]
مسألة وسئل عن الذي يطلق امرأته، فحاضت حيضة ثم ارتجعها، فطلقها، قبل أن يمسها، فقال: تعتد من يوم طلقها الطلاق الآخر ثلاث حيض.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[يقول امرأتي طالق البتة إن أقلت فلانا]
ومن كتاب الطلاق وسئل عن الذي يقول امرأتي طالق البتة، إن أقلت فلانا،(5/378)
أيوقف عن امرأته، حتى ينظر أيقيله أم لا؟ فقال: لا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأنه على بر، وله أن يطأ امرأته، وإنما يوقف عن امرأته، ويدخل عليه أجل الإيلاء الذي يحلف أن يفعل فعلا مما يمكنه فعله في الحال، مثل أن يقول امرأتي طالق إن لم أدخل الدار، وما أشبه ذلك.
وستأتي هذه المسألة والقول فيها في موضعها من كتاب الإيلاء، إن شاء الله.
[مسألة: قال لامرأته إن خرجت من بيتك فهو فراق بيني وبينك فخرجت]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: إن خرجت من بيتك فهو فراق بيني وبينك، فخرجت، فقال له مالك: أي شيء نويت، فقال: لم أنو شيئا، فقال: أحب إلي ألا تقربها وأن تدعها.
قال محمد بن رشد: لم يبين في هذه الرواية ما يقع عليه من الطلاق فيها إذا لم تكن له نية، والمعلوم من قوله في قول الرجل لامرأته قد فارقتك، إنها ثلاث في المدخول بها إذا لم تكن له نية.
واختلف في التي لم يدخل بها، فقيل: هي ثلاث، إلا أن ينوي واحدة، وقيل: هي واحدة، إلا أن ينوي ثلاثا. وقد مضى ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم وقوله فراق بيني وبينك مثله في المعنى سواء.
[مسألة: يطلق امرأته وله منها ابنة فيقول أرسليها إلي تأكل معي]
مسألة وسئل مالك عن الذي يطلق امرأته، وله منها ابنة، ابنة أربع سنين، فيقول ما عندي مال أنفق عليها، أرسليها إلي تأكل معي، فقال: أخاف أن يكون مضرا بها، ولكن تنظر فيما يقول، فإن كان كذلك أمرا غالبا معروفا، قيل لها: أرسليها تأكل مع أبيها وتأتيك، فإن كان لا يزال يكتسي الثوب ويأكل اللحم فذلك وجه.(5/379)
قال محمد بن رشد: ليس للرجل الموسر أن تأكل ابنته عنده، ويلزمه أن يدفع نفقتها إلى أمها الحاضنة لها، فإن ادعى أنه لا يقدر على ذلك، نظر في حاله، فإن تبين صدق قوله، وأنه لا يريد الضرر بما دعا إليه من أن يأكل ولده معه، كان ذلك له كما قال، وإلا فلا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتوفى عنها زوجها فتحلق رأسها هل عليها من كفارة]
مسألة وسئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها، فتحلق رأسها، هل عليها من كفارة؟ قال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] ، فأما شيء مؤقت فليس ذلك عليها. وهذا من عمل الجاهلية {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] .
قال محمد بن رشد: الحلق عند المصيبة مما لا يحل في الشريعة ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أنا بريء من السالقة والحالقة والشاقة» ، يريد بالسالقة النائحة من قول الله عز وجل: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] ، والحالقة حلق الرأس والشاقة التي تشق عليها ثيابها؛ لأنه من عمل أهل الجاهلية وأمر الشيطان وتغيير خلق الله، وقد لعن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - المغيرات لخلق الله فمن فعل ذلك من النساء، فكفارتها التوبة والاستغفار، وتؤمر بالصدقة استحبابا، لما جاء من أن الصدقة تكفر الذنب، وليس في ذلك شيء موقوف، كما قال مالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلق امرأته حاملا وهي ترضع]
مسألة وسئل عمن طلق امرأته حاملا وهي ترضع، أترى عليه(5/380)
النفقتين جميعا كلتيهما، نفقة الحمل، ونفقة الرضاع؟ قال: أرى ذلك عليه جميعا.
قال محمد بن رشد: قال: في كتاب الرضاع من المدونة: إن على المرأة أن ترضع ولدها بعد الطلاق في العدة، ما دامت النفقة على الزوج، فذهب بعض الناس إلى أن ذلك خلاف لرواية أشهب هذه، وقال على ما في المدونة لا نفقة لها في الرضاع، ما دامت النفقة لها واجبة على الزوج بسبب الحمل، وليس ذلك بصحيح؛ لأن النفقة واجبة في العدة بحق العصمة التي أوجب الله فيها على الأم إرضاع ولدها بقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، فأوجب لهن الإنفاق على أزواجهن بحق العصمة، وأوجب عليهن الإرضاع طول العصمة، وأما البائن فلا نفقة لها، إلا أن تكون حاملا، لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، ولا إرضاع عليها إلا أن تشا، فتكون لها الأجرة، لقول الله عز وجل: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، فليس وجوب النفقة لها بسبب الحمل الذي يسقط ما أوجب الله لها من الأجرة في الرضاع. وهذا بين، والله الموفق.
[مسألة: تشتري من صاحبتها يومها من زوجها]
مسألة وسئل عن المرأة تشتري من صاحبتها يومها من زوجها، فقال: لا يعجبني، وإني لأكرهه، أرأيت لو اشترت منها شهرا أو سنة، وإني لأرجو أن تكون الليلة خفيفة.
قال محمد بن رشد: كره هنا أن تشتري المرأة من صاحبتها يومها من(5/381)
زوجها، وخفف في رسم الطلاق الأول، من سماع أشهب، من كتاب النكاح أن يرضي الرجل إحدى امرأتيه بالشيء، يعطيها عن يومها، فيكون فيه عند صاحبتها.
وقد مضى هناك القول فيهما والوجه في الفرق بينهما، فلا معنى لإعادته، والحمد لله.
[مسألة: يضرب له أجل سنة في إصابة أهله فلا يصيبها فيفرق بينهما]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يضرب له أجل سنة في إصابة أهله، فلا يصيبها، فيفرق بينهما، أيكون لها الصداق كله؟ فقال: أما الرجل الذي قد ثوا مع امرأته، وكشفها وتلذذ منها، وأطال المقام، ثم استعدت عليه، فضرب لها أجل سنة في إصابتها، فمضت السنة فلم يصبها ففرق بينهما.
وقد خلقت الثياب، وطال العهد، فإني أرى لها الصداق كله، ولا يؤخذ منها له شيء، وأما الذي يضرب له أجل سنة بحداثة دخوله، ثم لا يصيبها حتى تمضي السنة، فيفرق بينهما، فلا أرى لها إلا نصف الصداق، وأرى ذلك له من كل ما اشترت يكون له نصفه.
قلت: أرأيت ما لم يجد عندها من ذلك، أيتبعها به؟ فقال: أما الشيء الذي استنفقته أو أهلكته، فأرى ذلك له عليها يتبعها به، وأما طيب تطيبت به، أو ثوب لبسته، فأبلته، أو خادم هلكت، أو شيء انكسر، فلا أرى عليها في ذلك شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يستوجب جميع الصداق، إلا بالطول قبل ضرب الأجل، خلاف ما في المدونة، من أن السنة المضروبة له طول إقامة، تستوجب بها المرأة جميع الصداق، وإن ضربت بحدثان الدخول، ومن أهل العلم من يوجب للمرأة الصداق كله بالدخول بها، وإرخاء الستر عليها، وإن لم يصبها فظاهر قول عمر: إذا أرخيت الستور، فقد وجب الصداق، ومنها من لم ير لها إلا نصف الصداق، وإن طال الأمر، ما لم يمسها(5/382)
لقول الله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، فقول مالك في مراعاة الطول، قول وسط بين القولين، ويرجح ما في المدونة بالقول الأول، وما في هذه الرواية بالقول الثاني.
وأما قوله: إنه يكون له من كل ما اشترت نصفه، فقد مضى القول فيه في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم. وقوله: إنه لا يتبعها بما لبسته فأبلته صحيح لا اختلاف فيه؛ لأنها إنما لبسته بعد الدخول، وإنما يختلف فيما لبسته قبل الدخول مما نقدها، على ما مضى القول فيه في رسم شك في طوافه، من كتاب النكاح.
وقوله: فيما استنفقته إنه بمنزلة ما أفسدته أو أهلكته، معناه: أنها استنفقته فيما يخصها مما يلزم الزوج من نفقتها، وأما ما أنفقته على نفسها مما يلزم الزوج لها، فلا رجوع له عليها فيه، إذا فرق بينهما بقرب الدخول، بل لها الرجوع عليه بنصفه، وإنما لم ير الرجوع له عليها في الطيب الذي تطيبت به من صداقها، وإن كان الطيب لا يلزمه أن يقوم به لها من أجل أنها إنما تطيبت له، فهو المستمتع به معها، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلقت فحاضت الحيضة الثالثة ألها أن تتزوج قبل أن تطهر منها]
مسألة وسئل عن المرأة طلقت فحاضت الحيضة الثالثة، ألها أن تتزوج قبل أن تطهر منها؟ قال: نعم ذلك لها، ولكن لا يعجل حتى يعلم أنها حيضة ويقيم أياما، فيعلم أنها حيضة.
قال محمد بن رشد: قوله ذلك، يدل على أن قوله: ولكن لا يعجل معناه على الاستحباب، إذ لو حمل على الوجوب لتناقض الكلام.
وقول أشهب في المدونة: غير أني أستحب ألا يعجل بالتزويج حتى يعلم أنها حيضة مستقيمة، بتماديها فيها، يأتي على روايته هذه عن مالك، وعلى أن الحيض الذي يكون حيضة تعتد بها المرأة في أقرائها في الطلاق، ويكون ذلك استبراء للأمة في البيع، فقد قيل فيه ثلاثة أيام، وهو قول محمد بن مسلمة. وقد(5/383)
قيل: خمسة أيام، وهو قول ابن الماجشون. وإنما قلنا على أنه يأتي على أن لأقل الحيض حدا لأنه قال: إنه إن انقطع وجب على المرأة الرجوع إلى بيتها، ووجبت لزوجها عليها الرجعة، فوجه قوله: إنه تحكم لما تراه المرأة من الدم، من أول ما تراه بأنه حيضة في الظاهر، فيوجب عليها الانتقال من مسكن الزوج، ويبيح لها التزويج على كراهة، ويمنع الزوج من ارتجاعها، إذ لا يتحقق أنها حيضة إلا بتماديها فيها، فإن لم تتماد فيها وانقطع الدم، فلم ترجع من قرب، وكانت قد تزوجت، فسخ النكاح، وصحت رجعة الزوجة إن كان قد ارتجع، وكان له أن يرتجع إن كان لم يرتجع.
وأما إن رجع من قريب فلا يفسخ النكاح وتبطل الرجعة؛ لأن الدم الثاني مضاف إلى الأول. وما بين ذلك من الطهر يلغى، وأما على مذهب من لا يوقت لأقل الحيض حدا، أو يقول: إن الدم وإن كان دفعة واحدة، يكون حيضة تعتد به المطلقة في الطلاق، ويكون استبراء في الأمة في البيع، إذا كان منفصلا مما قبله ومما بعده، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة؛ لأنه قال فيها: إن الأمة المبيعة إذا دخلت في الدم من أول ما تدخل، فمصيبتها من المشتري، وقد حل للمشتري أن تقبل وأن يباشر، يجوز للمرأة أن تتزوج بأول ما تراه من الدم، ولا معنى لاستحباب التأخير في ذلك؛ لأن الدم إن انقطع لا يخلو من أن يعود عن قرب أو عن بعد، فإن عاد عن بعد انكشف أن ذلك الدم هو الحيضة الثالثة، وأن هذا الدم حيضة رابعة، وإن عاد عن قرب كان مضافا إلى الدم الأول، وعلم أنه كان ابتداء الحيضة الثالثة، وأن ما بينهما من الطهر يلغى، لا حكم له.
وسحنون يوجب عليها ألا تتزوج حتى تقيم في الدم إقامة يعلم بها أنها حيضة، ويحتج برواية ابن وهب عن مالك، في أن المطلقة لا تبين من زوجها بما تراه من أول الدم الثالث، حتى يعلم أنها حيضة مستقيمة، وأن الأمة لا تحل للمشتري في البيع ولا تدخل في ضمانه بأول الدم حتى تتمادى فيه ويعلم أنها حيضة مستقيمة.
وقد قال ابن القاسم في كتاب الاستبراء من المدونة: إن الدم يوم أو بعض يوم إذا انقطع، يريد ولم يعد حتى مضى من المدة ما يكون طهرا فاصلا يسأل النساء عنه، فإن قلن:(5/384)
إنه يكون حيضا كان الاستبراء، وإلا فلا فعلى قوله هذا يسأل النساء عنه، فإن قلن: إنه لا يكون حيضا، يكون الحكم في ذلك على ما في سماع أشهب. واختلف في هذا الدم إذا انفصل مما قبله ومما بعده، ولم يعد حيضة تعتد به المرأة في أقرائها لقلته على هذا القول، هل تقضي صلاة تلك الأيام أم لا؟ فالذي يأتي على المذهب، أنها لا تقضي صلاة تلك الأيام؛ لأن الاختلاف فيه إنما هو هل يكون حيضة تعتد به المرأة في أقرائها؟ لا في هل يكون حيضا يسقط وجوب الصلاة؟ وإنما القائل: إنه لا يكون ما دون ثلاثة أيام حيضا يسقط وجوب الصلاة، أبو حنيفة، وقد روي عن سحنون أنه يقضي صلاة تلك الأيام، وقوله خارج عن المذهب مثل قول أبي حنيفة وبالله التوفيق.
[مسألة: طلق امرأته فقالت إني حامل فجعل معها امرأة]
مسألة وسئل عمن طلق امرأته فقالت: إني حامل، فقال: أمستأجر أجيرة تكون معها، فإنها ليست عندي بمأمونة؟ فجعل معها امرأة، ثم استمرت حاملا، فقال الزوج: قد اعترضت عنها، ولا أعلمه كان مني إليها شيء، فقال مالك: هم يحتجون عليه بأنه جعل امرأة معها، قيل له: فإنه يقول جعلت ذلك، قال: فأرى إن لم يأتوا بالبينة لاعن، وإن جاءوا بالبينة كان الولد منه، ولا أرى عليه فيما قال حدا ما، وإنما قال: ولا أعلمني أصيبها، وقد تحمل المرأة ولا يبلغ ذلك منها.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الزوج ليس مقرا بأنه قال: قد اعترضت عنها ولا أعلمه كان مني إليها شيء، وإنما تدعي ذلك عليه وهو ينكر أن يكون قاله ويدعي هو أنه لا، فرأى مالك ثبوت الشك عليه(5/385)
في ذلك بهذا القول، يوجب أن يلحق به الولد، وقوله صحيح، كالرجل يدعي على الرجل، فيشهد عليه أنه قال: لا أدري من جرحني، إن قوله يبطل، ويلزم على هذا في المودع يدعي رد الوديعة، فيشهد عليه أنه قال: لا أدري إن كنت رددتها أم لا، ألا يصدق في الرد، إلا أن يفرق بين الحقوق واللعان، فقد فرق بينهما في غير ما موضع؛ لأنه أغلظ منها، وقد اعترض أبو إسحاق التونسي قول مالك هذا وقال: ينبغي أن يكون له أن يلاعن؛ لأنه يقول الذي شككت فيه قد تيقنته، وإنما لا يكون له أن يلاعن مع تماديه على الشك، كمن شك هل له على رجل مائة؟ ثم يتيقن، فادعاها، إن شكه أولا يسقط اليمين عن المدعى عليه، قال: إلا أن يقال: إن إقراره بالشك، ورجوعه عنه إلى إقرار يدعيه، بخلاف إنكاره أن يكون قال ذلك، ويجعل إنكاره للشك كتماديه عليه، وليس ذلك ببيِّن. والمسائل التي نظرتها بها أشبه من التي نظرها هو بها. فقول مالك في أن الولد يلزمه بما شهد به عليه صحيح، وأما قول مالك: وما أرى عليه حدا فيما قال، إلى آخر قوله، فيفيد؛ لأنه بإنكاره الوطء قاذف، فإذا لم يصدق في إنكاره، ولا مكن من اللعان وجب أن يُحدّ، والله أعلم وبه التوفيق.
[مسألة: طلق امرأته وهي حامل فمطلها بالنفقة حتى مات أتتبعه ورثتها بنفقتها]
مسألة وسئل عمن طلق امرأته وهي حامل، فمطلها بالنفقة حتى مات، أتتبعه ورثتها بنفقتها؟ فقال: ومن أين يعلمون أنها كانت حاملا؟ إذا استوقن أنها كانت حاملا، فأرى أن يتبع بذلك، فيغرمه، والحد الذي يتيقن فيه حملها تحرك الولد، وأنا أرى أن يؤخر النفقة حتى يتبين الحمل، فيكون عليه نفقة ما مضى وما يستقبل.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب، أن يحكم للحمل(5/386)
بتحركه في وجوب النفقة له، واللعان عليه، وكون الأمة حرة به إذا مات سيدها، وبها حمل منه، وما أشبه ذلك. وفي مختصر ابن شعبان عن مالك، إنه لا ينفق على المرأة تدعي الحمل حتى تضع، فيحسب ذلك لها، وتعطاه، قال: كم من امرأة تدعي مثل هذا، ثم ينكشف أمرها، على أنه ليس بها حمل، ولعله أن يطلب منها ما أعطاها، فلا يجد عندها شيئا. قال: ثم رجع إلى ما في مختصر عبد الله، إن النفقة تلزمه، بتبيُّن الحمل، وهذا الاختلاف داخل فيما ذكرناه من اللعان وغيره.
[يطلق امرأته بالإسكندرية وله منها ولد فتريد الخروج بهم إلى الفسطاط]
ومن كتاب الأقضية الثاني وسئل عن الرجل يطلق امرأته بالإسكندرية، وله منها ولد، فتريد الخروج بهم إلى الفسطاط، أذلك لها؟ فقال: ما أظن ذلك. فقلت له: إن بين الإسكندرية وبينها مسيرة ثلاثة أيام، فليس للأم أن تخرج بهم إلى الفسطاط، فقال لي: ليس لها، إذا كان مسكن الأب الإسكندرية، فقلت له: هي مسكنهم، فقال لي: ليس ذلك لها.
قال محمد بن رشد: قد مضى مثل هذا القول والقول فيه في رسم حلف من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: عدة المرأة المتوفى عنها زوجها ممن تحيض]
مسألة وسمعته وسأله ابن كنانة عن المرأة المتوفى عنها زوجها ممن تحيض، تعتد أربعة أشهر وعشرا، ولم تحض في ذلك، وذلك حالها أنها لا تحيض إلا في ستة أشهر، ولم تسترب، أتتزوج؟ فقال: لا تتزوج حتى تحيض وتبرأ من الريبة، قال سحنون: وقال لي ابن نافع: قد انقضت عدتها وهي غير مستبرأة، فلتنكح، ولا تنتظر(5/387)
شيئا، وإنما التي تنتظر التي تكون حيضتها أقل من أربعة أشهر، فتجاوز وقت الحيضة وهي تحيض.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم "سلعة سماها" من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: تفسير قول الله عز وجل واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم]
مسألة قال أشهب: وسألته عن قول الله عز وجل: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، ما تلك الريبة في الحيض؟ لا تدري لِم لَمْ تحض؟ فقال: لا، ولكن الله ذكر التي تحيض، فبين عدتها، ثلاثة قروء، وذكر الحامل، فبين عدتها أن تضع حملها، وبقيت التي يئست من المحيض، واللائي لم تبلغ المحيض، فبين عدتهما، فقال: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] يقول: إن ارتبتم فلم تدروا ما عدتهن ثلاثة أشهر، فجعل ثلاثة أشهر عدة الصغيرة التي لم تبلغ المحيض، وعدة التي يئست من المحيض. فقلت له: وليست تلك الريبة أن ترتاب في الحيضة، فلا تدري لم لم تحض؟ فقال: لا، إنما هي إن ارتبتم فلم تدروا بأي شيء يعتد من الحوامل، ولا من اللائي يحضن، فتعتد ثلاثة قروء.
قال محمد بن رشد: ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الرواية، إلى أن الريبة في قول الله عز وجل: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] ريبة ماضية في الحكم، لا ريبة مستقبلة في معاودة الحيض لهن، وإن قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ} [الطلاق: 4] بمعنى: إذا ارتبتم. وذهب ابن بكير وإسماعيل القاضي إلى أن(5/388)
المعنى في قَوْله تَعَالَى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4] ، أي: إن ارتبتم في معاودة الحيض لهن، وأنها ريبة مستقبلة، قالا: ولو كانت ريبة ماضية في الحكم، لكان حقه أن يكون " أن ارتبتم "، بفتح الألف من أن. وقالا: إن اليأس في كلام العرب، إنما هو فيما لم ينقطع فيه الرجا تقول: يئست من المريض لشدة مرضه، ومن الغائب لبعد غيبته، ولا تقول: يئست من الميت الذي قد انقطع منه الرجا، فلو كان معنى الآيسة التي أوجب الله عليها في العدة ثلاثة أشهر، هي التي لا ترتاب في معاودة الحيض، لوجب إذا ارتفع عن المرأة المحيض، وهي في سن من يشبه أن تحيض أن تعتد بالأقراء، حتى تبلغ سن من لا يشبه أن تحيض، وإن بقيت عشرين سنة، كما يقول الشافعي. وهو خطأ من وجهين: أحدهما: أنها إن جاءت بولد لما لا تحمل له النساء من المدة التي لم يلحق به الولد، وإن كانت العدة لم تنقض، ومحال أن تعتد المرأة من زوج في مدة لا يلحق فيها به الولد.
والوجه الثاني: مخالفة ما جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في عدة التي ترتفع حيضتها، وهي في سن من تحيض من مطالبة ثلاث حيض أو ستة بيضاء، لا دم فيها، فإذا قلنا: إن اليائسة التي أوجب الله عليها العدة بثلاثة أشهر، هي التي ترتاب، فلم تدر لِمَ لَم تحض؟ بدليل هذا، ألا تجب عدة على من لم تعلم أنها ممن لا تحيض لصغر أو كبر، ولا ترتاب في أمرها، إلا أنه لما لم يكن حد يرجع إليه، حمل الباب في ذلك محملا واحدا.
وقد ذهب ابن لبابة إلى أن الصغيرة التي لا تحيض ويومن الحمل منها لا عدة على واحدة منهما. وقال: إنه مذهب داود، وإنه القياس؛ لأن العدة إنما هي حفظ للأنساب، فإذا أمن الحمل، فلا معنى للعدة، وهو شذوذ من القول. وفي قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، دليل على أن التي تطلق قبل الدخول والمسيس لها لا تجب عليها العدة، أُمن منها الحمل أو لم يؤمن، وإذا قلنا: إن(5/389)
اليائسة التي أوجب الله عليها العدة بثلاثة أشهر، هي التي لا ترتاب في الحيض؛ إذ ليست في سن من تحيض، وهو الذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الرواية، فالتي ترتفع حيضتها بعد أن حاضت وهي في سن من تحيض، محمولة عليها إذا قعدت تسعة أشهر، فلم ير بها حيض، ولا ظهر بها حمل، ولا كان لها عذر يمنعها من الحيض، من مرض أو رضاع، على ما بيناه من الاختلاف في المرض في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم؛ لأنها بمعنى اليائسة، والسنة الثابتة في ذلك عن عمر بن الخطاب، فلا تحل المرأة المطلقة ولا حمل بها، إذا كانت في سن من تحيض، أو قد حاضت مرة أو مرتين إلا بثلاثة قروء، أو سنة بيضاء، لا دم فيها، تسعة أشهر استبراء، ينزل ببلوغها إليها دون أن نرى فيها دما، بمنزلة الآيسة، ثم ثلاثة أشهر عدة كما قال الله عز وجل.
[مسألة: امرأة لها ولد صغير وله مال فهي تستنفق وخادمها من ماله]
مسألة وسئل عن امرأة لها ولد صغير، وله مال، فهي تستنفق وخادمها من ماله، فقال: أليس لها مال؟ قيل: بلى، قال: لو لم يكن لها مال لم يكن فيه شك، فأما إذا كان لها مال، فلينظر في ذلك، فإن كان ما تعمل إليه من الخدمة والحضانة، مثل الذي ينفق عليهم، فذلك جائز، وينظر، فإن كان يجد له من يخدمه وينفق عليه قيام جارية أمه عليه في الحضانة له والرفق به، بدون نفقة هذه، لم يكن لهم أن يستنفقوا من ماله.
قال محمد بن رشد: أجاز هاهنا للأم، وإن كان لها مال، أن تستنفق هي وخادمها من مال ولدها، إن كان ما تعمل إليه من الخدمة والحضانة، مثل ما تستنفق، فجعل لها في مال ولدها حظا بالحضانة، وذلك خلاف ما تقدم في رسم الطلاق الثاني من هذا السماع، وفي رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم. ومثل ما في رسم شك من سماع ابن القاسم(5/390)
من كتاب النكاح. وقد مضى القول على هذا المعنى هناك مستوفى فلا معنى لإعادته مرة أخرى، والحمد لله.
[مسألة: توفي زوجها فتركت أولادها خمسة أشهر أو سبعة، ثم قيل لها أنت أحق بهم]
مسألة وسئل عمن توفي زوجها، فتركت أولادها خمسة أشهر، أو سبعة، ثم قيل لها: أنت أحق بهم، ما لم تنكح، فقالت: والله ما علمت بهذا. أترى لها في ذلك تكلما؟ قال: نعم، الشأن في هذا قريب، وقد تجهل السنة.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في مواضع، ومضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[فارق امرأته وله منها بنت فطرحتها إليه ولحقت بأهلها فتأيمت عندهم ثم تزوجت]
ومن كتاب الأقضية وسئل عمن فارق امرأته وله منها بنت فطرحتها إليه، ولحقت بأهلها، فتأيمت عندهم ما شاء الله، ثم تزوجت لا تعرض للبنت ولا تريدها حتى ماتت، فلما ماتت، قامت أمها تطلب البنت بنت ابنتها لتأخذها، فقال: إن كان لذلك سنة أو أكثر من ذلك، وأشباه ذلك، فلا أرى ذلك لها، قد تركوها ورفضوها، وإن كان ليس ذلك إلا يسيرا فأرى ذلك لها.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة نحو التي فوقها، وقد تكرر هذا المعنى في مواضع من هذا الكتاب ومن غيره، ومضى تحصيل القول فيه في أول رسم من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب.
[عبد كان تزوج أمة قوم فطلقها طلقة فأقام بذلك شهرا أو نحوه ثم لقيه سيدها فكلمه فيها]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل عن عبد كان تزوج أمة قوم، فطلقها طلقة، فأقام بذلك شهرا أو نحوه، ثم لقيه سيدها، فكلمه فيها، فقال: إني قد(5/391)
ارتجعتها، ثم أبق ولم يذكر ذلك إلا لسيدها، ولم يحق ذلك بدخول عليها ولا كينونة عندها، أيطلق عليه، أم يضرب له أجل المفقود؟ قال مالك: هذا شاهد واحد، فأرى أن يرفع ذلك إلى السلطان، فأرى للسلطان أن يفرق بينهما، ولا يضرب له أجل المفقود؛ لأن الرجعة لم يشهد عليها إلا شاهد واحد، فأرى أن يفرق بينهما.
قال محمد بن رشد: قول مالك: هذا شاهد، يفرق بينهما، ولا يضرب له أجل المفقود؛ لأن الرجعة لم يشهد عليها إلا رجل واحد، نص منه على إجازة شهادة السيد على ارتجاع أمته، خلاف قول ابن القاسم في كتاب إرخاء الستور من المدونة: إن شهادته على ارتجاعها لا تجوز، قياسا على ما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن شهادته على إنكاحها لا تجوز، ولا اختلاف في أن شهادته على إنكاحها لا تجوز؛ لأنه يشهد على فعل نفسه ليجيزه، ولأن ذلك يوجب لها صداقا، فهو يتهم من أجل أنه له انتزاع مالها، وأما شهادته على ارتجاع الزوج لها، فقول مالك: إنها جائزة، أظهر من قول ابن القاسم؛ إذ لا تهمة على السيد في ذلك في مال يجره إليها، بل هو مقر على نفسه أنها باقية في عصمة الزوج، وذلك ينقص ثمنه، ويحول بينه وبين الاستمتاع بها. وقياس ابن القاسم الارتجاع على النكاح ليس بصحيح، وبالله التوفيق.
[امرأة اليهودي والنصراني يسلم قبل أن يدخل بها زوجها أله عليها رجعة إن أسلم]
ومن كتاب الطلاق وسئل عن امرأة اليهودي والنصراني يسلم قبل أن يدخل بها زوجها، أله عليها رجعة إن أسلم؟ فقال: لا رجعة له عليها، وكيف له عليها رجعة وهي ليست في عدة لا رجعة له عليها؟
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب، إن المرأة إذا أسلمت قبل أن يدخل بها زوجها فلا سبيل له عليها إن أسلم بعد ذلك؛ إذ ليست في عدة منه؛ لأن السنة إنما جاءت في أنه أحق بها(5/392)
ما دامت في عدتها. وقد كان القياس ألا يكون له إليها سبيل إذا أسلمت قبله، دخل أو لم يدخل، إلا أنه ليس فيما قامت به السنة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قياس ولا نظر. وظاهر قوله: إنها إذا أسلمت قبله، ولم يبن بها، أنه لا سبيل إليها وإن أسلم مكانها، خلاف ما في رسم النسمة من كتاب النكاح. وقد مضى القول على ذلك هنالك، وبالله التوفيق.
[أوصى بابنته إلى ولي فتركها مع عمتها حتى بلغت الجارية أو كادت تبلغ]
ومن كتاب الوصايا الذي فيه الحج والزكاة قال أشهب: سمعت مالكا يسأل عمن أوصى بابنته إلى ولي، فتركها مع عمتها حتى بلغت الجارية، أو كادت تبلغ، ثم تزوجت العمة فطلبتها الجدة أم أمها، وأرادت أخذها، وأحبت الجارية أن تكون مع عمتها، ورضي بذلك الولي. قال: أرى أن تترك مع عمتها إذا أحبت ذلك الجارية ورضي بذلك الولي، ولا تأخذها الجدة إذا رضي بذلك الولي، قلت له: أرأيت أن تترك مع عمتها، ولا تأخذها الجدة إذا رضي بذلك الولي؟ قال: نعم، إذا رضي بذلك الولي، أو أحبت ذلك الجارية.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، والمعنى فيها أن الجدة لما تركتها مع عمتها المدة الطويلة، سقط حقها في حضانتها ولما تزوجت العمة أيضا، سقطت حضانتها بالتزويج، فرجع الأمر فيها إلى الولي، يتركها عند من شاء منهما، فإذا رضي الولي أن تكون مع عمتها وأحبت ذلك الجارية، لم يكن للجدة سبيل إلى أخذها. قال ابن نافع في المدنية: وتعزل في مكان مع عمتها وجدتها. قال ابن القاسم فيها: إن كانت عرضت على الجدة فأبت من أخذها، فلا سبيل لها إليها، وإن كانت لم تعرض عليها فهي أحق بها متى ما قامت، وقوله يأتي على أن السكوت ليس بإذن. وقد مضى هذا في أول رسم(5/393)
من سماع ابن القاسم، وتكررت المسألة أيضا فوق هذا في هذا السماع وفي غير ما موضع، وبالله التوفيق.
تم الجزء الأول من كتاب طلاق السنة
بحمد الله تعالى وحسن عونه والصلاة الكاملة على سيدنا محمد خاتم النبيين.(5/394)
[كتاب طلاق السنة الثاني] [العبد وامرأته يكونان لرجل فيفقد العبد وهما نصرانيان أو مسلمان](5/395)
من سماع عيسى من ابن القاسم
من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: وسألت ابن القاسم، عن العبد وامرأته يكونان لرجل، فيفقد العبد، وهما نصرانيان أو مسلمان، إلا أن سيدهما مسلم، قال: يرفعه إلى الإمام، ويضرب له أجل المفقود، نصف أجل الحر المسلم، مسلمين كانا أو نصرانيين.
قلت: فإن ضرب له أجل المفقود، ثم عتقت الأمة، قال: إن اختارت نفسها رجعت إلى عدة المطلقة وتركت عدة المفقود.
قلت: فإن كانا نصرانيين، فأسلمت في أجل المفقود، قال: تترك عدة المفقود، وتعتد عدة المطلقة، فإن جاء زوجها في عدتها فأسلم، فهو أحق بها، وإن خرجت من عدتها وتزوجت، فلا سبيل له إليها وإن أسلم بعد ذلك، وإن كان قد أسلم في غيبته قبلها، ثم جاء فهو أحق بها، ما لم يدخل بها زوجها.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: وإن خرجت من عدتها وتزوجت فلا سبيل له إليها، وإن أسلم بعد ذلك، يريد بعد إسلامها لا بعد انقضاء عدتها؛ لأنه إن أسلم بعد انقضاء عدتها، فلا سبيل له إليها، وإن(5/397)
كانت لم تتزوج، وأما إن أسلم بعد انقضاء عدتها، فقيل: إنه لا سبيل له إليها إذا تزوجت، كما قال هاهنا. وقيل: إنه أحق بها وإن تزوجت، ما لم يدخل بها الزوج. اختلف في ذلك قول مالك، والذي اختار ابن القاسم وأشهب في المدونة من قولي مالك، أنها لا تفوت إلا بالدخول، خلاف قول ابن القاسم هاهنا. وأما إذا أسلم في غيبته قبلها، فقال ابن الماجشون: إنه أحق بها وإن دخل بها الزوج، واختاره محمد، وهو الصواب، خلاف قول ابن القاسم هاهنا وفي المدونة، فلا اختلاف في الذي أسلم قبلها أنها لا تفوت بالعقد. واختلف هل تفوت بالدخول؟ ولا اختلاف في الذي أسلم في عدتها أنها تفوت بالدخول. واختلف هل تفوت بالعقد؟ فهذا تحصيل القول في هذا الوجه من المسألة، وسائرها صحيح، جار على أصولهم، لا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: المطلقة تستحاض فيستمر بها الدم سبعة أشهر أو ثمانية ثم ينقطع ذلك عنها]
مسألة وسئل عن المطلقة تستحاض، فيستمر بها الدم سبعة أشهر أو ثمانية، ثم ينقطع ذلك عنها، هل ترجع إلى الحيض؟ قال مالك: ترجع إلى الحيض. قيل له: أفتعد تلك الاستحاضة حيضة، تبني عليها حيضتين؟ قال: إن استيقنت أن الذي كان بها أول من الدم حيضة، اعتدت بها، وإلا استقبلت ثلاث حيض. وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: قوله في التي تستحاض فيستمر بها الدم سبعة أشهر أو ثمانية، ثم ينقطع، إنها ترجع إلى الحيض صحيح، لا اختلاف وكذلك قوله: إن استيقنت أن الذي كان بها أول من الدم حيضة اعتدت بها صحيح أيضا، إلا أنه لم يبين بما تستيقن به ذلك. وإذا طلقت المرأة وهي طاهر، فرأت الدم، وتمادى بها المدة الطويلة، فلا يخلو هذا الدم من أن تكون رأته قريبا من الدم الذي قبله، أو بعيدا منه، فإن كانت رأته قريبا من(5/398)
الدم الذي قبله، وكانت قد أقامت في الدم الذي قبله خمسة عشر يوما، أو أيامها المعتادة والاستظهار، فهذا الدم الذي رأته وتمادى بها المدة الطويلة، دم استحاضة، لا تعتد به في أقرائها، وتستقبل ثلاث حيض، وإن كانت رأته قريبا من الدم الذي قبله، وقد كانت أقامت في الدم الذي قبله من أيامها المعتادة والاستظهار، فهذا الدم الذي رأته وتمادى بها، تضيف منه إلى الدم الذي قبله تمام أيامها المعتادة والاستظهار، أو تمام خمسة عشر يوما، على اختلاف قول مالك ثم تغتسل وتصلي، وتكون في حكم من طلقت في الحيض، يجبر الزوج على الرجعة؛ لأنها حيضة تقطعت، والأيام التي بينهما ملغاة، وقد قيل: إنه لا يجبر على الرجعة؛ لأنه إنما طلقها وهي طاهر، فلم يرتكب نهيا، وهو بعيد، لوجود العلة الموجبة لأن يجبر على الرجعة، وهي التطويل في العدة، وتستقبل أيضا هاهنا ثلاث حيض، وإن كانت رأته بعيدا من الدم الذي قبله، فهو محمول على أنه حيض تعتد به في عدتها، وتقيم فيه أيامها المعتادة والاستظهار، أو خمسة عشر يوما على اختلاف قول مالك في ذلك، ثم تغتسل وتصلي أبدا، ما لم ترد ما تنكره بعد مدة يكون طهرا، فتترك الصلاة وتعد ذلك حيضة تعتد بها في عدتها، وقد قيل: إنها تعتد سنة، ولا تنظر إلى اختلاف الدم عليها. واختلف في المدة التي تكون طهرا فاصلا بين الحيضتين على أربعة أقوال: فقيل: خمسة أيام، وهو قول ابن الماجشون، وقيل: ثمانية أيام، وهو قول سحنون، وقد قيل من المدونة بدليل، وقيل: عشرة أيام، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم، ورواية التونسيين عن مالك، وقيل: خمسة عشر يوما، وهو قول محمد بن مسلمة، ورواية البغداديين عن مالك واختيارهم، والله أعلم.
[يطلق امرأته طلقة ثم لا يشهد على رجعتها حتى تنقضي عدتها وهو يطأها]
ومن كتاب استأذن سيده قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يطلق امرأته طلقة، ثم(5/399)
لا يشهد على رجعتها حتى تنقضي عدتها، وهو في ذلك يطأها فقال: إن كان نوى بوطئه إياها الرجعة، وجهل أن يشهد، فإنه يقال له: أشهد وأمسك امرأتك كما كانت، وإن لم ينو بوطئه ارتجاعا، فعلم بذلك قبل أن تنقضي عدتها، قيل له: ارتجعها، ولا تمسها حتى تستبرئ نفسها من مائك الفاسد، الذي كان منك إليها بغير ارتجاع، وإن لم يتنبه لذلك حتى تنقضي عدتها، فقد بانت منه، فلا يحل له ولا لغيره نكاحها حتى تحيض ثلاث حيض.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الرجعة إنما تكون بالبينة مع القول، أو ما يقوم مقام القول، مما لا يصح فعله إلا بعد المراجعة من الوطء، والقبلة والمباشرة للذة وما أشبه ذلك. قاله في كتاب ابن المواز: فإن انفردت النية دون القول أو ما يقوم مقامه، لم يكن ذلك رجعة. قاله في كتاب ابن المواز ويدخل في ذلك عندي ما في الطلاق بالنية دون القول من الاختلاف، وأما إن انفرد القول دون النية، فلا يكون ذلك رجعة، وكذلك إن انفرد الوطء دون نية، لم يكن ذلك رجعة، وكان من فعل ذلك قد وطئ حراما فإن انتبه لذلك في العدة، كان له أن يراجع بالقول؛ إذ لا يصح له الوطء إلا بعد الاستبراء من ذلك الماء الفاسد، وإن لم ينتبه لذلك حتى انقضت العدة، فقال: إنه لا يحل له ولا لغيره نكاحها حتى تحيض ثلاث حيض، يريد أنه يستوي هو وغيره في المنع من النكاح ابتداء، ويفترقان في التحريم، إن نكح ودخل، فأما غيره فلا تحل له أبدا. وأما هو فقيل: إنها تحرم عليه، وقيل: إنها لا تحرم؛ لأن النسب ثابت منه. من علل التحريم، بتعجيل النكاح قبل بلوغ أجله خاصة، قال: إنها تحرم عليه، ومن علله بتعجيل النكاح قبل بلوغ أجل مع اختلاط الأنساب، قال: إنها لا تحرم عليه؛ إذ ليس في ذلك اختلاط نسب. والليث بن سعد يرى الوطء رجعة، وإن لم ينو به الرجعة، يريد، والله أعلم، في الحكم الظاهر، فإذا وطئ وقال: إنه لم يرد بوطئه الرجعة، لم يصدقه، وألزمه الرجعة، كما لا يصدق في(5/400)
القول إذ قال: إنه لم يرد به الرجعة عند الجميع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يموت عنها زوجها أو يطلقها فترتفع عنها حيضتها أو تستحاض كم تقيم]
مسألة وسألته عن التي يموت عنها زوجها أو يطلقها فترتفع عنها حيضتها، أو تستحاض، كم تقيم؟ وهل الأمة ذات الزوج والحرة في ذلك سواء في الأزواج؟ قال مالك: أما إذا طلقهما أزواجهما، فالمستحاضة والتي ترتفع عنها حيضتها سواء، وهو قول مالك، وليس عند الناس في ذلك اختلاف، أنهن يقمن اثني عشر شهرا، تسعة منها استبراء، وثلاثة عدة، إلا أن ترى حيضة، فتستقبل أقصى اثنا عشر شهرا، من حين تطهر من هذه الحيضة، فلا تزال كذلك أبدا حتى تحيض ثلاث حيض، أو تستكمل اثنا عشر شهرا، فلا ترى الدم فيها فتحل، وأما المتوفى عنها زوجها، فإن الحرة تعتد أربعة أشهر وعشرا، والأمة تعتد شهرين وخمس ليالي، ثم يقال لهما: ارتفاع الحيضة والاستحاضة ريبة، فانتظرا حتى يمر بكما تسعة أشهر أقصى الريبة، إلا أن يكون لهما عذر، مثل أن يكونا يرضعان، فترتفع عنهما الحيضة من أجل ذلك، أو يكونا لا يحيضان في السنة إلا مرة، أو في ستة أشهر مرة، أو غير ذلك من العذر فيتزوجان إن لم يكن لهما من الريبة شيء حين يفرغان من عدتهما، فإن لم يكن لهما من العذر شيء، فإن الاستحاضة وارتفاع الحيض من الريبة، ولا ينكحان حتى تمر بهما تسعة أشهر، من حين يهلك عنهما زوجاهما، إلا أن يرتابا بعد ذلك، فيقيمان حتى يخرجا من الريبة. والاستبراء من الريبة في الوفاة بعد العدة، وفى الطلاق قبل العدة، يقال للحرة في(5/401)
الوفاة: اعتدي أربعة أشهر وعشرا، وللأمة شهرين وخمس ليال، ثم استبريا أنفسكما بتمام تسعة أشهر، من حين يهلك زوجاكما، وفي الطلاق يقال للحرة وللأمة، انتظرا تسعة أشهر، من حلا! ن طلقكما زوجاكما، لعلكما تحيضان، والحرة والأمة في ذلك سواء، إلا أن الأمة تحل بحيضتين، والحرة بثلاثة، فإن مر بواحدة منهما تسعة أشهر ولم تحض، قيل لها: أنت ممن يئسن من المحيض، فاعتدي الآن ثلاثة أشهر، عدة التي قد يئست من المحيض، الحرة والأمة في الاستحاضة، وارتفاع الحيضة في الطلاق سواء. قال ابن القاسم: ولو أن الحرة أو الأمة المتوفى عنها زوجها حاضت حيضة واحدة في العدة، أو بعد العدة كفتها وحلت بها.
قال محمد بن رشد: ساوى في هذه الرواية بين المستحاضة والتي ترتفع حيضتها في الوفاة والطلاق، فقال: إنها تمكث في الطلاق تسعة أشهر، ثم تعتد بثلاثة أشهر، ثم تحل، وأما في الوفاة فلا تحل حتى تبلغ تسعة أشهر، وما قاله في الطلاق متفق عليه، إذا كانت المستحاضة لا تميز بين دم الحيضة من دم الاستحاضة. وأما إذا كانت تميز ما بين الدمين، فقد قيل: إنها تعتد بالأقراء، وتعمل على ما تميز، وقيل: إنها تعتد بسنة. قاله ابن القاسم، ورواه عن مالك، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة إن عدة المستحاضة سنة، وأما في الوفاة فقد روي عن مالك أن المستحاضة تعتد فيها بأربعة أشهر وعشر، وتحل، بخلاف التي ترتفع حيضتها. وابن الماجشون يقول: إنه ليس على المستحاضة والمرتابة، أن يعتدا في الوفاة إلا بأربعة أشهر وعشر إذا لم يكن لهما من الريبة أكثر من ارتفاع الحيض والاستحاضة، فهي ثلاثة أقوال: وأما إذا لم يمر بالمتوفى عنها زوجها في الأربعة أشهر وعشر وقت حيضتها، أو كانت ترضع، فارتفع الحيض من أجل الرضاع، فإنها تحل بأربعة أشهر وعشر، إلا على رواية ابن كنانة عن مالك في سماع أشهب. واختلف في ارتفاع الحيض بالمرض، فقال أشهب: إن ذلك بمنزلة ارتفاعه بالرضاع، تحل المتوفى عنها(5/402)
زوجها بأربعة أشهر وعشر، وتعتد المطلقة بالأقراء، وإن تباعدت، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية: أو غير ذلك من العذر؛ إذ ليس ثم سوى ما ذكر، إلا المرض، وقد روى ابن القاسم عن مالك وقال به: إن ارتفاع الحيض مع المرض ريبة كالصحيحة سواء، فتتربص المتوفى عنها إلى تمام تسعة أشهر، وتعتد المطلقة سنة؛ تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة، والأمة والحرة في ذلك كله سواء، إلا أن الأمة تحل بحيضتين إذا اعتدت بالأقراء، وتحل في الوفاة بشهرين وخمس ليال، حيث ما تحل الحرة بأربعة أشهر وعشر، إلا أن تكون ممن لا يومن الحمل منها، فتتربص إلى تمام ثلاثة أشهر؛ إذ لا يتبين الحمل في أقل من ثلاثة أشهر.
[أقر عند قوم أنه بارا امرأته ثم زعم بعد ذلك أنه كان مازحا ولم يبار]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك وسئل عن رجل أقر عند قوم أنه بارا امرأته، ثم زعم بعد ذلك أنه كان مازحا ولم يبار، وأنكرت هي أن تكون بارته، قال: إذا شهد عليه بإقراره، بانت منه بواحدة، ولا رجعة له عليها إلا بنكاح جديد، وإن مات في عدتها ورثته ولم يرثها.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة في الميراث لا يصح بوجه؛ لأنه قال فيها: إذا شهد عليه بإقراره بانت منه بواحدة، ولا رجعة له عليها. فقوله: ولا رجعة له عليها، يدل على أن الشهادة كانت عليه في حياته، فإذا حكم عليه في حياته بأنها بائنة منه وجب ألا يكون بينهما ميراث، ولو كانت الشهادة عليه بعد موته، لوجب على ما قلناه، في معنى مسألة رسم طلق من سماع ابن القاسم، أن ترثه ولا يرثها مات في العدة أو بعدها؛ لأنه طلاق بائن، فلا وجه لقوله: وإن مات في عدتها على حال، والله أعلم.
[المرأة تكون في عدتها وهي ساكنة في دار مع أبيها]
ومن كتاب لم يدرك من صلاة الإمام وسئل عن المرأة تكون في عدتها وهي ساكنة في دار مع أبيها،(5/403)
وأبوها مريض، هل ترى أن تبيت عند أبيها؟ قال: لا تبيت إلا في بيتها، قيل له: فتمكث عنده إلى نصف الليل، قال: لا تمكث عنده إلى نصف الليل وتخف المقام عنده بالليل، ولا بأس أن تخرج إليه عند طلوع الفجر أو قبله بيسير.
قال محمد بن رشد: هذا معنى ما في المدونة سواء، وهو صحيح؛ لأن المعتدة ممنوعة من المبيت في غير بيتها، فلا يجوز لها أن تمكث من الليل في غير بيتها ما يسمى مبيتا، وهو أكثر من نصف الليل، ومن الدليل على ذلك، أن من لقي قبل نصف الليل، صح أن يسأل: أين تبيت؟ ولم يصح أن يسأل: أين بات؟ ومن لقي نصف الليل صح أن يسأل أين بات؟ ولم يصح أن يسأل أين تبيت؟ ومن أقام نصف الليل، سواء في موضع، ونصفه في موضع آخر، لم يصح أن يقال: إنه بات في أحد الموضعين دون الآخر، فلذلك منع مالك المرأة أن تمكث عند أبيها إلى نصف الليل، وبالله التوفيق.
[قال لامرأته أنت طالق وأنت طالق ألبتة إن راجعتك]
ومن كتاب سلف دينارا في ثوب قال ابن القاسم: في رجل قال لامرأته: أنت طالق، وأنت طالق ألبتة، إن راجعتك، فأراد أن يراجعها بنكاح جديد بعدما خرجت من عدتها، وقال: إنما أردت ما دامت في عدتها، ألا أرتجعها في تلك الطلقة، قال: إن كانت عليه بينة لم أدينه، وإن لم تكن عليه بينة دينته ذلك، وإن لم تكن له نية، رأيت أن أرتجعها بنكاح جديد، أن تطلق ألبتة وهو بين.
قال محمد بن رشد: أما إذا أتى مستفتيا وحده غير مخاصم، فلا اختلاف في أنه ينوّى بغير يمين، ويباح له مراجعتها، وأما إذا أراد أن يتزوجها فمنع من ذلك، وروفع، ولا بينة عليه، إلا أنه أقر باليمين أو على يمينه بينة،(5/404)
فلا تقبل منه البينة، ولا يمكن من مراجعتها؛ لأن نيته التي يدعي، مخالفة لحقيقة لفظه؛ إذ إنما حلف ألا يراجعها، ولو كان إنما حلف ألا يرتجعها على ما وقع في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، لنوي مع قيام البينة؛ لأن حقيقة لفظ الارتجاع، إنما هو في العدة، وحقيقة لفظ المراجعة، إنما هو بعد العدة؛ لأن المراجعة مفاعلة من اثنين، وكذلك لو قيم عليه بعد أن راجعها وأتى مستفتيا. الحكم في ذلك سواء. وكذلك لو ارتجعها في العدة، وكانت يمينه ألا يرتجعها، وقال: إنما أردت ألا أراجعها بعد العدة إذا أتى مستفتيا نوي، وإن قيم عليه وعلى يمينه بينة أو كان مقرا باليمين، فرق بينهما ولم ينوَّ، وإن كان إنما حلف ألا يراجعها ولم يحلف ألا يرتجعها لنوي مع يمينه، على ما في رسم العرية من سماع عيسى، من الأيمان بالطلاق، خلاف ما في سماع أصبغ عن ابن القاسم منه، وبالله التوفيق.
[خالع امرأته على إن أعطته ثمرا لم يبد صلاحه أو جنينا في بطن أمه أو عبدا آبقا]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار قال عيسى: سئل ابن القاسم عن رجل خالع امرأته على إن أعطته ثمرا لم يبد صلاحه، أو جنينا في بطن أمه، أو عبدا آبقا، أو بعيرا شاردا قال: يمضي الطلاق عليه، ويكون له عليها خلع مثلها.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم حلف من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: نعي الرجل لامرأته فتزوجت وولدت أولادا ثم قدم زوجها]
مسألة قال: وقال مالك: إذا نعي الرجل لامرأته، فتزوجت وولدت أولادا، ثم قدم زوجها ردت إليه، وتستبرأ بثلاث حيض إن كانت من أهل الحيض، وإن لم تكن من أهل الحيض، فثلاثة أشهر، وهي توارث زوجها القادم الأول، ترثه ويرثها. قيل: فإن ماتت قبل أن(5/405)
يقدم زوجها، ثم قدم، هل ترى بينهما ميراثا؟ قال: يرثها الأول إذا قدم، وليس بينها وبين هذا الآخر ميراث، وإن كانت ماتت وهي تحته قبل أن يقدم الأول، فميراثها للأول، وميراثه لو مات في غيبته بعد تزويجها لها منه. قال عيسى: وإن كان الآخر مات قبل قدوم الأول، فأخذت ميراثها منه، وصداقها، ثم قدم الأول، فإنها ترد الميراث، ولا ترد الصداق؛ لأنها استوجبته بالوطء، ولو مات قبل أن يمسها، ردت الصداق والميراث.
وسئل عن رجل سافر فنعي لامرأته فتزوجت وولدت أولادا، ثم قدم زوجها فوجدها حبلى، ففرق السلطان بينها وبين زوجها الذي كان تزوجها، ثم توفي زوجها القادم بعد قدومه بعشرة أيام، قال: هي ترثه، وتعتد بأربعة أشهر وعشرة أيام، فإذا انقضت الأربعة أشهر والعشرة أيام، قبل أن تضع حملها انتظرت حتى تضع حملها ثم تزوجت إن شاءت، وإن وضعت حملها قبل أربعة أشهر انتظرت حتى تتم أربعة أشهر وعشر بعد زوجها القادم ثم تزوجت إن شاءت.
قال محمد بن رشد: هاتان مسألتان صحيحتان بينتا المعنى على ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف في أن المنعي لزوجته، أحق بزوجته متى ما قدم، وإن تزوجت ودخل بها الزوج، فإنها ترد إليه بعد الاستبراء بثلاث حيض، أو بعد أن تضع حملها إن كان بها حمل، فإن مات زوجها المنعي وهي حامل من الزوج الثاني، اعتدت أقصى الأجلين، وكذلك إن مات وهي في استبرائها من الزوج الثاني، تعتد من يوم مات أربعة أشهر وعشرا، فإن حاضت فيهن بقية الثلاث حيض حلت، وإن لم تستكملها فيه لم تحل للأزواج حتى تستكملها وإن طلقها زوجها الأول وهي حامل من الزوج الثاني، فلا بد لها من ثلاث حيض مستقبلة بعد الوضع، بمنزلة من منعها من الحيض رضاع أو مرض، فإن طلقها الزوج وهي في استبرائها من الزوج الثاني كفتها ثلاث حيض من يوم(5/406)
الطلاق، على مذهب مالك، ويأتي على ما روي عن عمر بن الخطاب، أن تستكمل استبراءها من الزوج الثاني، ثم تستأنف العدة من زوجها الأول، وسواء في هذا كله نعي إليها ببينة عدول أو غير عدول، كانوا شهدوا عليهم أو شهدوا بالزور، وإنما يفترق ذلك فيما بيع من ماله، ففي بينة الزور، يأخذ عروضه حيث وجدها أو ثمنها إن شاء، ويأخذ أمته وقيمة ولدها من مال المبتاع. وقيل: بل يأخذ قيمتها يوم الحكم، وقيمة ولدها، وقيل: بل ليس له إلا قيمتها يوم حملت خاصة، وفي التشبيه على الشهود يأخذ الثمن الذي بيعت به العروض، وليس له أن يأخذ العروض إلا بعد أن يدفع إلى المبتاع الثمن الذي ودى فيها، ويرجع به على البائع، وبالله التوفيق.
[مسألة: الأمة تعتق وهي تحت عبد فتطلق نفسها واحدة ثم يتوفى عنها زوجها]
مسألة وسئل عن الأمة تعتق وهي تحت عبد، فتطلق نفسها واحدة، ثم يتوفى عنها زوجها وهي في عدتها. قال: ترجع إلى عدة الوفاة فتعتد أربعة أشهر وعشرا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها ترجع إلى عدة الوفاة. خلاف ما في المدونة، من أن المطلقة لا ترجع إذا توفي زوجها إلى عدة الوفاة إلا في الطلاق الرجعي. وقد نص في المدونة على أنها إن طلقت نفسها واحدة، فهي واحدة بائن، فلا سبيل للزوج إليها، وإن أعتق في عدتها على مذهبه فيها، وقاله يحيى بن سعيد فيها. وقد روى ابن نافع عن مالك، أن للعبد الرجعة إن أعتق في العدة. وقال ابن نافع: لا رجعة له وإن أعتق. وقال الأوزاعي: إن أعتق زوجها في عدتها، فإن بعض شيوخنا يقول: هو أملك بها، وبعضهم يقول هي بائنة. قال أبو عمر بن عبد البر: ولا معنى لقول من قال إنها طلقة رجعية؛ لأن زوجها لو ملك رجعتها، لم يكن لاختيارها نفسها معنى، وأي شيء كان يفيدها اختيارها إذا ملك زوجها رجعتها؟ وقول ابن عبد البر وهم لا معنى له؛ لأنه لم يقل أحد إنه أملك بها، وإن لم يعتق، فيكون اختيارها لا معنى له كما قال، وإنما قال: إنه أملك بها إذا عتق، ولقائل ذلك وجه صحيح(5/407)
من النظر، وهو أنه إنما خيرت في نفسها من أجل رق زوجها، فإذا ارتفع الرق كانت له الرجعة؛ لأن الحكم متى وجب لعلة، وجب أن يرتفع بارتفاع العلة، وذلك في القياس، مثل الذي يطلق عليه بعدم الإنفاق إذا أيسر في العدة وجبت له الرجعة.
[مسألة: حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها، وعتق ما يملك إلى أجل، فحنث، وهو يخاف على نفسه العنت، قال: أما الرقيق فلا يشتري منهم شيئا، وأما النكاح فإن خاف العنت على نفسه تزوج، ولا أحب له أن يتسرر.
قال محمد بن رشد: رأى النكاح إذا خشي على نفسه العنت أخف من التسري، وإن كان يلزمه طلاق ما ينكح إلى الأجل، كما يلزمه عتق ما يملك إليه من أجل أنه إذا تسرى يملك ما يتسرى، فيستخدم ويبيع، فيكون قد استباح شيئا زائدا على ما يومنه من العنت والزوجة لا يملكها ولا يستخدمها، ولا له منها أكثر مما اضطر إليه من الاعتصام بها عن الزنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: جاء زوجها المفقود بعد أن تزوجت]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار وقال مالك: إذا فقد الرجل وله امرأة لم يدخل بها، فرفعت أمرها، فضرب لها أجل أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا، فانقضى ذلك الأجل، كانت أملك بنفسها، تتزوج من شاءت، وأعطيت الصداق كاملا من ماله، فإن تزوجت، فجاء زوجها المفقود بعد أن تزوجت، لم ترد له نصف الصداق الذي أخذت؛ لأنها قد انتظرته، وضيق عليها، واعتدت منه، ومنعها النكاح، فلا أرى ترد عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله: فضرب له أجل أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا، معناه: فضرب له أجل أربع سنين، واعتدت امرأته أربعة أشهر وعشرا؛(5/408)
لأن الإمام إنما يضرب له أربع سنين بعد البحث عنه، وأما الأربعة أشهر وعشرا، فإنما هي عدة لا يضربها لها الإمام، ولا تستأذنه فيها، وإن أرادت أن تترك العدة وترضى بالمقام على العصمة، فذلك لها ما لم تأخذ في العدة، فإذا انقضت العدة بانت من زوجها في الحكم الظاهر، ما لم ينكشف خطأ ذلك الحكم بمجيئه أو علم حياته. ألا ترى أنها إن ماتت بعد العدة لا يوقف له ميراثه منها؟ وإن كان لو أتى في هذه الحال، كان أحق بها، وإن بلغ من السنين ما لا يجيء لمثله وهي حية، لم تورث منه، وإن كانت لم تتزوج، وقال ابن حبيب: إنها تورث منه إن كانت لم تتزوج، وهو بعيد. واختلف هل لها نفقة في هذه الأربع سنين؟ فقال المغيرة: إنه لا نفقة لها إلا أن تكون قد فرض لها قبل ذلك نفقة، فيكون سبيلها في النفقة سبيل المدخول بها، والصواب أن لها النفقة؛ لأنه كالغائب، ولم يختلفوا أن من غاب عن امرأته قبل الدخول غيبة بعيدة أنه يحكم لها بالنفقة في ماله، وإنما اختلفوا في الغيبة القريبة على ما مضى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم. واختلف فيما يحكم لها به من الصداق على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يحكم لها بشيء منه حتى يأتي وقت لو قدم لم يكن له إليها سبيل، وهو أن تتزوج ويدخل بها الزوج على اختلاف قول مالك في ذلك، فيقضى لها حينئذ بنصف صداقها، فإذا بلغ من السنين ما لا يجيء لمثله، قضي لها بقيمته، وكذلك يقضى لها بجميع الصداق، إن انكشف أنه مات قبل أن تتزوج، وإن انكشف أنه مات بعد أن تزوجت أو بعد أن تزوجت ودخل بها زوجها، لم يكن لها إلا نصف الصداق. وجه هذا القول، أنه يحكم لها بحكم الحي، لاحتمال أن يكون حيا ما دام أمره مجهولا، فإن بلغ من السنن ما لا يجيء إلى مثله، ولم يعلم له خبر، حمل أمره على أنه مات عند انقضاء الأجل المضروب لامرأته. هذا قول ابن الماجشون. وقال ابن وهب: إذا بلغ من السنين ما لا يجيء إلى مثلها، وقد كانت تزوجت، لم يكن لها إلا نصف الصداق. ووجه ذلك أنه حكم لها بحكم بوقت الحياة إلى الوقت الذي حكم بتمويته. والقول الثاني: أنه يقضى لها بنصفه، فإن بلغ من السنين ما لا يجيء إلى مثلها وقد تزوجت أو لم(5/409)
تتزوج، أو ثبتت وفاته ما بينه وبين أن تبين منه بالدخول أو التزويج، على الاختلاف المعلوم، قضي لها ببقيته، حكى هذا القول ابن الجلاب في كتاب التفريع. وحكاه ابن سحنون أيضا. ووجهه أنه لما احتمل حين أبيحت للأزواج أن يكون ميتا، فيجب لها جميع الصداق، وأن يكون حيا، فلا يجب لها إلا نصف الصداق، على حكم المطلقة قبل الدخول، لم يقض لها إلا بما لا شك فيه وهو النصف، حتى يمضي له من الزمان ما لا يجيء إلى مثله، أو يثبت أنه مات قبل أن تتزوج، فيقضى لها ببقيته في الوجهين؛ لأنه إذا بلغ من السنين ما لا يجيء إلى مثله، حكم له أنه كان ميتا عند انقضاء الأجل. وقال ابن وهب: إذا بلغ من السنين ما لا يجيء إلى مثلها بموت لم يكن لها إلا نصف الصداق على أصله، في أنه يحكم له بحكم الحياة، إلى الوقت الذي حكم بتمويته. والقول الثالث: أنه يقضى لها بجميعه. وهو قول مالك في هذه الرواية. ووجهه أنه لما أنزل أمره على أنه قد مات في أن تعتد امرأته عدة الوفاة وتتزوج، أنزل أمره أيضا على ذلك في وجوب جميع الصداق لها. واختلف على هذا القول إن قدم بعد أن تزوجت ودخل بها الزوج، أو علم أنه مات بعد ذلك، فقال هاهنا: إنها لا ترد من الصداق شيئا؛ لأنها قد انتظرته وضيق عليها. وقال في سماع سحنون: إنها ترد نصفه، وهو القياس؛ لأن الغيب قد كشف خطأ الحكم الأول، فوجب أن يرجع إلى الصواب، ولا اختلاف بينهم في أن الحاكم إذا تبين له أنه قد خطأ خطأ لا اختلاف فيه، يرجع إلى ما بان له من الصواب، وأما إن لم يقدم، ولا علمت حياته ولا موته حتى بلغ من السنين ما لا يحيا إلى مثلها، فلا ترد من الصداق شيئا، كانت قد تزوجت أو لم تتزوج. ويأتي على قول ابن وهب المتقدم أنه إذا بلغ من السنين، ما لا يحيا إلى مثلها، وقد كانت تزوجت، أن ترد نصف الصداق، وهذا إذا كان الصداق حالا، وأما إن كان مؤجلا فاختلف في ذلك، كالاختلاف في قضاء ما لم يحل من ديونه، فقال أصبغ في الواضحة: تعطى الصداق عاجله وآجله، ويقضى من ماله ديونه التي عليه، حل أجلها أو لم يحل، ويوقف بقيته، وينفق منه على ما تلزمه نفقته، غير امرأته، وفي غير(5/410)
الواضحة، لا تؤدى ديونه حتى تحل، واختلف في حد التعمير، من السبعين عاما إلى مائة وعشرين عاما، فإن فقد وهو ابن سبعين، على مذهب من يرى السبعين، أو ابن الثمانين والتسعين على مذهب من يرى ذلك، أو ما دونه، تلوم له عشرة أعوام، وإن فقد وهو ابن مائة على مذهب من يرى المائة، أو ما دونها، تلوم له العام والعامين وقيل: العشرة أعوام. وإن فقد وهو ابن مائة وعشرين، تلوم له العام ونحوه، وبالله التوفيق.
[مسألة: فقد الرجل فلم يدر موضعه]
مسألة قال: وقال مالك المفقود على ثلاثة أوجه: فأولها: إذا فقد الرجل فلم يدر موضعه، فإن ذلك يضرب لامرأته أجل أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا، ويكتب إلى عمال الكور، وإنما يستبحث عن خبره قبل الأربع سنين، ويضرب لها بعد الاستبحاث والسؤال عنه، قال: فإذا استبحث وكتب فيه فلم يقع له خبر، ضرب له بعد ذلك أجل أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا. فإذا مضى لامرأته أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا أعطيت صداقها إن كان لها قبله، وتزوجت، ووقف ماله حتى يأتي من الزمان ما يعلم أنه ليس يحيا، وكذلك قال مالك في المفقود في صف المسلمين في قتال العدو، فذلك الذي لا تتزوج امرأته حتى يعلم أنه قد مات ويوقف ماله وامرأته أبدا حتى يعلم أنه قد مات، أو يأتي عليه من السنين ما يعلم أنه قد مات، والمفقود الذي يفقد في فتن المسلمين التي تكون بينهم، لا يضرب لامرأته أجل، وإنما يتلوم له أمر يسير، قدر ما ينصرف من هرب أو انهزام، ثم تعتد بعد التلوم على اجتهاد الإمام، ثم تتزوج ويقسم ماله. قال ابن القاسم: وأرى لمن فقد في فتن المسلمين إذا كانت المعركة على بعد من بلاده، مثل إفريقية أو نحوها، أن يضرب(5/411)
لامرأته أجل سنة، وتتزوج امرأته، ويقسم ماله.
وسئل سحنون عن معركة تكون بين المسلمين في أفنيتهم فيقع القتل بينهم، فما تقول فيمن قتل في المعركة، ولا يعرف مثله إلا بمن حضرهم وليس من أهل العدل، ما يفعل في امرأته، وفي ماله؟ فقال: إذا قامت البينة العدلة أنه شهد المعركة، فإن امرأته تعتد في ذلك اليوم الذي كان فيه المعترك، ويقسم ماله، وهو عندي بمنزلة الميت، وإذا كانوا إنما رأوه خارجا مع العسكر، ولم يروه في المعترك في القتال، إلا أنهم نظروا إليه خارجا في جملة الناس، فإن سبيله سبيل المفقود، يضرب لامرأته أجل أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا، ثم تتزوج، ويوقف ماله إلى الأمد الذي يعيش مثله إليه.
قال محمد بن رشد: وجه تفرقة مالك بين المفقود في قتال العدو، والمفقود في قتال المسلمين، هو أن يخشى إذا فقد في قتال العدو، أن يكون قد أسر ولم يقتل، فحمل أمره على أنه مأسور، حتى يعلم أنه مقتول، ولم يفرق بين أن يكون قتال العدو في بلاد الحرب. أو في بلاد المسلمين، إذا كان يحتمل أن يخفى أسره إن أسر كالمفقود في بلاد الحرب. وأما المفقود في حروب المسلمين، فالأغلب على أمره إذا فقد فيها أنه مفقود، فحمله على ذلك إذا تلوم له واستجس له، فلم يوقع له خبر، فرأى أن يكون التلوم إذا كانت المعركة بعيدة في بلاده سنة، وظاهر قوله أنها تتزوج بعد السنة، فتكون العدة داخلة في السنة، خلاف قوله: إذا تلوم له أنها تعتد بعد التلوم. والصواب أن تكون العدة داخلة في السنة وفي التلوم. فإن كان التلوم أقل من أربعة أشهر وعشرا، اعتدت بقية الأربعة أشهر وعشرا؛ لأنه إذا تلوم له فلم يسمع له خبر، حمل أمره على أنه إنما قتل في المعركة، لا أنه مات بعد ذلك، بخلاف المفقود الذي تكون العدة فيه بعد انقضاء الأجل؛ إذ لا يعلم له وقت، يغلب على الظن أنه مات فيه، كالذي فقد في المعركة، وإنما هو إذا شهدت البينة أنه كان في المعترك. وأما إذا رئي خارجا في جملة العسكر، ولم ير في المعترك،(5/412)
فحكمه حكم المفقود على ما قال سحنون، فليس قوله بخلاف لقول ابن القاسم وروايته عن مالك، إلا في التلوم، إذا ثبت أنه كان في المعركة، فإنه لا يراه، وما مضى في أول سماع أشهب، خلاف لهذه الرواية في الذي يفقد في قتال العدو، وفي قتال المسلمين؛ لأنه ساوى بينهما فجعلهما في حكم المفقود، إلا في مبلغ الأجل. وقد مضى القول في ذلك هناك، والحمد لله.
[مسألة: تحته نصرانية فولد له منها أولاد ثم طلقها أو مات عنها]
مسألة وسئل عن رجل كانت تحته نصرانية، فولد له منها أولاد، ثم طلقها أو مات عنها، هل له أن يأخذ أولاده منها أو يأخذهم أهله إن مات؟ قال: ليس ذلك له ولا لهم، وأمهم أحق بهم ما لم تتزوج.
قلت: فإن تزوجت ولها أخت مسلمة أو نصرانية، فأرادت أن تأخذهم أتكون أحق بهم من أبيهم؟ فقال: إذا تزوجت أمهم أو ماتت، فالأب أولى ببنيه من خالتهم، قال: قلت لسحنون: أرأيت إن تزوجت هذه النصرانية، هل تكون جدتهم أو خالتهم من النصارى أحق بالصبيان من الأب والأولياء؟ قال: نعم، تكون أولى بمنزلة اللوكن مسلمات.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول ابن القاسم هذا إن الأب أحق بالحضانة من الخالة، وإن كانت مسلمة. وقد روي ذلك عن مالك، ذكره ابن المواز عنه وهو خلاف المشهور في المذهب، وقد تأول أن معنى قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن الأب أولى ببنيه من خالتهم، يريد النصرانية، مراعاة لقول من لا يرى للنصرانية حضانة، وهو ابن وهب قال: لأن المسلمة لو أثنى عليها بسوء لسقطت حضانتها، فكيف بهذه؟ فعلى هذا يتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأب أحق بالحضانة من الخالة، والثاني: أن الخالة أحق، والثالث: الفرق بين أن تكون الخالة مسلمة أو نصرانية. والصواب ألا فرق في هذا عنده بين المسلمة والنصرانية، وإنما هو اختلاف قول، فمرة رأى(5/413)
الأب أحق من قرابات الأم، ومرة رأى قرابات الأم أحق منه. وتحصيل المذهب في هذا أنه لا اختلاف في أن الأم أحق من الأب؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت أحق به ما لم تنكحي» ، وأن أم الأم بمنزلة الأم. واختلف هل يكون الأب أحق من قرابات أمها سوى أمها لأن أمها أمّ أمْ لا؟ على قولين، الأشهر منهما أنهن أحق منه. واختلف أيضا هل يكون الأب أحق بالحضانة من قراباته من النساء على قولين: أحدهما: أنه أحق منهن؛ لأنهن إنما يدلين به، فهو أحق منهن، والثاني: أنهن أحق منه؛ لأنهن وإن كن يدلين به، فإنه لا يحضن بنفسه ويستنيب في الحضانة غيره، ورأى ابن القاسم: بعض قراباته، وهي أمه أحق منه من سائرهن، فاختلف في الأب بعد الإجماع على أن الأم أحق منه على أربعة أقوال: أحدها: أنه أحق من قراباته وقرابات الأم، والثاني: أن قراباته وقرابات الأم أحق منه، والثالث: أنه أحق من قراباته، وأن قرابات الأم أحق منه، والرابع: أن قرابات الأم وبعض قراباته أحق منه، وأنه أحق من بعض قراباته، فإن لم يكن أب ولا أم، فلا اختلاف في أن قرابات الأم أحق من قرابات الأب.
ويستحق النساء الحضانة بوصفين: أحدهما: أن يكن ذوات رحم المحضون، والثاني: أن يكن محرمات عليه، فإن كن ذوات رحم منه ولم يكن محرمات عليه كبنت الخالة، وبنت العمة، لم يكن لهن حضانة، وإن كن محرمات عليه، ولم يكن ذوات رحم منه، كالأم من الرضاعة، والمحرمات بالصهر، لم يكن لهن حضانة أيضا. وأما الرجال فإنهم يستحقون الحضانة بمجرد الولاية، كانوا من ذوي رحمه المحرم، كالجد والعم والأخ وابن الأخ، أو من ذوي رحمه الذين ليس بمحرم كابن العم، أو لم يكونوا من ذوي رحمه كالمولي المعتق، والوصي من قبل الأب، ومن قبل السلطان، وإذا اجتمعت الخالات فالشقيقة أحق، ثم التي من قبل الأم، ثم التي من قبل الأب،(5/414)
وكذلك الأخوات إذا اجتمعن، الشقيقة أحق، ثم التي للأم، ثم التي للأب؛ لأن الأم أمس رحما، وأما بنت الأخت، فقال ابن حبيب: إنه لا حضانة لها، والصواب: أن لها الحضانة؛ لأنها من ذوات المحارم المحرمات، فإن اجتمع بنت الأخت وبنت الأخ، كانت بنت الأخ أحق؛ إذ قد قيل: إنه لا حضانة لبنت الأخت، وقد قيل: إنها مقدمة عليها، وقيل: إنهما بمنزلة سواء، ينظر السلطان في أحرزهما، وبالله التوفيق.
[عدة التي تطلق وهي ترضع ولا تحيض]
ومن كتاب أوله يدير ماله وسألته عن التي تطلق وهي ترضع ولا تحيض، قال: عدتها من يوم يفطم، يعني إلا أن تحيض قبل ذلك ثلاث حيض.
قال محمد بن رشد: هذا مما لا اختلاف فيه، أن ارتفاع الحيض مع الرضاع ليس بريبة، فتعتد المطلقة المرضع بثلاث قروء أو سنة بيضاء لا دم فيها بعد الرضاع، والمتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر، وإن لم تحض فيهن، إلا على رواية ابن كنانة عن مالك في سماع أشهب. وإنما اختلفوا في عدة المريضة في الطلاق والوفاة، إذا ارتفع حيضها بسبب المرض، فقيل: ارتفاع الحيض معه كارتفاع الحيض مع الرضاع، ليس بريبة، فتعتد في الطلاق بالأقراء وإن تباعدت، وفي الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وقيل: إنه ريبة، فتعتد في الطلاق بسنة وتتربص في الوفاة إلى تسعة أشهر. وقد مضى هذا في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وفي رسم الطلاق من سماع أشهب، وفي رسم استأذن من هذا السماع.
[تزوجها في مرضه وأصابها عدتها]
ومن كتاب العشور قال ابن القاسم: في نكاح المريض إذا تزوج في مرضه وأصابها، إن العدة عدة الوفاة، عليها أربعة أشهر وعشر. وقال في كتاب اللقطة: دخل أو لم يدخل بها، تعتد أربعة أشهر وعشرا. وقال في سماع أصبغ: إن عليها ثلاث حيض.(5/415)
قال محمد بن رشد: وعلى ما في سماع أصبغ، لا عدة عليها إن مات عنها قبل أن يدخل بها. وهذا على اختلاف فيما يفسخ من الأنكحة التي اختلف الناس في فسادها، هل يفسخ بطلاق ويكون الميراث فيها؟ أو يفسخ بغير طلاق ولا يكون فيها الميراث؟ فقد قيل: فيها كلها الطلاق والميراث، وقيل: لا طلاق فيها ولا ميراث، وقيل: ما كان يفسخ منها قبل وبعد، فلا طلاق فيها ولا ميراث، وما كان يفسخ منها قبل، ولا يفسخ بعد، فالطلاق والميراث فيه قبل وبعد، والثلاثة أقوال كلها في المدونة. والذي يبين أن الاختلاف في عدة الوفاة، جار على هذا الأصل قول محمد بن المواز، وعدة النكاح الفاسد في الحرة والأمة، كالنكاح الصحيح، إلا في الوفاة، فإنه يختلف، فيما كان منه يفسخ قبل البناء، فعدتها أربعة أشهر وعشر، إذا مات قبل الفسخ، بنى بها أو لم يبن، وما كان منه يفسخ بعد البناء، فلا عدة وفاة فيه، وإن بنى ففيه ثلاثة حيض. وقاله أشهب وأصبغ، وإليه يرجع ابن القاسم. قال أصبغ: وغير هذا خطأ. قال محمد: يعني شيئا ذكر عن ابن القاسم فيمن نكح في العدة ثم مات، أنها تعتد أربعة أشهر وعشرا. قال محمد: لعله إنما تزوجها في عدتها منه. وقد حكى ابن المواز عن ابن القاسم من رواية أبي زيد عنه قولا ثالثا في نكاح المريض، إنه إن لم يكن بنى بها فلا عدة عليها، وإن بنى فأربعة أشهر وعشر وهو قول لا يحمله القياس، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته اذهبي فتزوجي]
مسألة وقال: في رجل قال لامرأته: اذهبي فتزوجي، إنه إن لم يكن أراد طلاقا فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: معنى هذا إذا أتى مستفتيا، وأما إذا كان مطلوبا أو مخاصما، فيحلف ما أراد بذلك الطلاق، على ما مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم سن منه، وبالله التوفيق.(5/416)
[المرأة يغيب عنها زوجها العشرين سنة]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت وسئل عن المرأة يغيب عنها زوجها العشرين سنة، مثل طنجة أو إفريقية، فتشكو مغيب زوجها إلى القاضي وتركه إياها، ما يصنع بها؟ قال ابن القاسم: قال لي مالك: إن عمر بن عبد العزيز، قضى فيها أن يكتب إلى زوجها، إما أن يقدم إليها، وإما أن يحملها إليه، وإما أن يفارقها. وقال مالك: وأنا أرى ذلك وآخذ به، وأرى أن يقضى به. قلت: فما حد الغيبة، قال: أما الحين، يعني الأمر القريب، فيما ظننت، السنتين والثلاث، وأما إذا تطاول ذلك، فأرى أن يقضى عليه به. قال لي مالك: ويغرم نفقة ما أنفقت وهو غائب، إذا كان لا يبعث إليها بنفقة.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم. فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا، وبالله التوفيق.
[يطلق امرأته وهي حائض فيؤمر برجعتها فيرتجعها وهو يريد أن يطلقها]
ومن كتاب الرهون
وقال: في الذي يطلق امرأته وهي حائض، فيؤمر برجعتها، فيرتجعها وهو يريد أن يطلقها إذا طهرت من الحيضة الأخرى، هل يصيبها إذا طهرت من ذلك الحيض؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهو الذي يؤمر به أن يفعله؛ لأنه إنما يؤمر بالارتجاع للوطء ولو ارتجعها وهو ينوي أن يطلقها إذا طهرت الثاني دون أن يصيبها ففعل، لكان مضارا لها آثما فيها؛ لأن قول الله عز وجل: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، إنما نزلت في هذا المعنى كان الرجل يطلق امرأته ويمهلها، حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ولا حاجة له بها، ثم(5/417)
طلقها، وأمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها أيضا راجعها ثم طلقها، ليطول عليها العدة بذلك، فأنزل الله عز وجل الآية بالنهي عن ذلك والتحذير عنه.
[مسألة: طلق امرأته وأشهد على رجعتها شاهدا واحدا]
مسألة وقال: في رجل طلق امرأته وأشهد على رجعتها شاهدا واحدا، إنه إن كان دخل بها، فإن ذلك يجزيه، وإن كان خلا بها جاز قوله، وإن لم يشهد رأسا، وإن لم يخل بها فلا يجوز قوله، وإن كان له شاهدا إذا انقضت عدتها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو مثل ما في المدونة إذا ارتجع ولم يشهد ولا خلا بها حتى انقضت العدة، فلا يصدق على الرجعة؛ لأن الله ما أمره بالإشهاد على الرجعة بقوله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، دل على أن المرتجع ليس بمؤتمن على الرجعة، ولا مصدق قوله فيها، كما أن والي اليتيم، إذا ادعى دفع ماله إليه لم يصدق، وإن كان المال بيده أمانة؛ لقول الله عز وجل: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] ، وقد قال جماعة من العلماء: إن الإشهاد على الرجعة واجب، وتارك ذلك آثم، بخلاف الإشهاد على البيع؛ لأنه قد جاء ما دل على أنه غير واجب في البيع، وهو قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ، وبالله التوفيق.
[مسألة: أسكن أخا له منزلا وإن أخاه ذلك طلق امرأته وخرج]
مسألة وسئل عن رجل أسكن أخا له منزلا، وإن أخاه ذلك طلق(5/418)
امرأته وخرج، فقال صاحب البيت للمرأة: اخرجي، إنما أسكنت أخي، وقد خرج، إن ذلك ليس له، وإنها لا تخرج حتى تنقضي عدتها.
قال محمد بن رشد: اعترض أبو إسحاق التونسي هذه الرواية؛ لأنه إن كان أسكن أخاه إسكانا مطلقا، فله أن يخرجه متى ما شاء، كما لو اشترط ذلك عليه، فإذا كان له أن يخرجه، فكيف لا يكون له أن يخرج امرأته إذا طلقها؟ هذا بعيد، ووجه الرواية عندي أنه أسكن أخاه على أن يسكن ما شاء، فكان سكنى العدة تبعا لسكنى العصمة في الوجوب، لاتصاله به، كما كان سكنى عدة الوفاة تبعا لسكنى الحياة في الوجوب، لاتصاله به إذا أسكنه الدار حياته، وهذا بين إن شاء الله.
[يطلق امرأته وهي ترضع أو لا ترضع فيموت]
ومن كتاب البراءة
وسألته عن الذي يطلق امرأته وهي ترضع، أو لا ترضع، فيموت زوجها، فتدعي أنها لم تحض، فتطلب الميراث. قال: أما التي لا ترضع، فهي مصدقة حتى يأتي عليها سنة، ذكرت ذلك أو لم تذكر، وعليها اليمين، إلا أن يكون سمع منها أنها حاضت ثلاث حيض، وأما التي ترضع فهي مصدقة حتى تفطم ولدها وبعد الفطام بسنة.
قال محمد بن رشد: قوله: في التي لا ترضع، إنها مصدقة حتى يأتي عليها سنة، معناه أنها مصدقة إن لم تحض فيما بينها وبين سنة، مع يمينها، ويكون لها الميراث، ولا تصدق إذا انقضت السنة، فطلبت الميراث، وزعمت أن عدتها لم تنقض؛ لأن بها حسا تجده في بطنها، حتى يراها النساء، فيصدقنها فيما ادعت من ذلك. ومن دليل هذه الرواية والله أعلم، أخذ ابن العطار أن المطلقة إذا مرت بها سنة فزعمت أنها مسترابة، ينظر إليها النساء، فإن رأين بها ريبة تمادت في سكناها، ما بينها وبين خمسة أعوام، إلا أنه زاد وتحلف أنها(5/419)
لم تحض في المدة الماضية، ولا يصح ذلك، وإنما يختلف فيما دون السنة، إذا صدقت دون أن ينظر إليها النساء. وقوله: ذكرت ذاك أو لم تذكره، يريد ذكرت ارتفاع حيضتها في حياة الزوج أو لم تذكر، تصدق في الوجهين جميعا، وعليها اليمين. وفي كتاب ابن المواز أنها لا تصدق، ويكون لها الميراث، إلا أن يذكر ذلك في حياته، ويعلم من قولهما قبل وفاته، وكذلك لو ادعت بقرب انسلاخ السنة أنها لم تستكمل الحيض الثلاث لصدقت، وإن كانت لم تذكر ذلك في حياته على هذه الرواية مع يمينها، ولا تصدق، وعلى ما في كتاب محمد إلا أن تكون ذكرت ذلك في حياته، ولو ادعت ذلك بعد الأربعة أشهر؛ لانبغى أن تصدق دون يمين، ولو ادعت ذلك بعد الستة أشهر ونحوها لانبغى أن تصدق مع يمينها، وإن لم تذكر ذلك، وأما لو ادعت بعد موت زوجها بأكثر من العام أو العامين أنها لم تستكمل ثلاث حيض، لتأخر الحيض عنها، لانبغى ألا تصدق، إلا أن تكون ذكرت ذلك في حياته قولا واحدا. فهذا تحصيل القول عندي في هذه المسألة دون يمين، وموضع يكون القول فيه قولها مع يمينها على اختلاف في مراعاة ذكر ذلك، وموضع لا تصدق فيه مع يمينها، إلا أن تكون ذكرت ذلك، وموضع لا تصدق فيه وينظر إليها النساء، وبالله التوفيق.
وحكم التي ترضع بعد الفطام، كحكم التي لا ترضع من يوم الطلاق؛ إذ لا اختلاف في أن ارتفاع الحيض مع الرضاع ليس بريبة، والله أعلم، وبه التوفيق.
[العبد تكون تحته المرأة الحرة أو الأمة فيطلقها اثنتين]
ومن كتاب الجواب وسئل عن العبد تكون تحته المرأة الحرة، أو الأمة، فيطلقها اثنتين، ثم تقوم له بينة أنه حر من أصله. قال ابن القاسم: يمسكها بواحدة تبقى له فيها، ويرتجعها على ما أحبت أو كرهت، إن كانت في العدة، ليس عليه إلا التطليقتان اللتان طلق، وإن كانت خرجت(5/420)
من العدة، خطبها ونكحها قبل زوج، وسواء طلقها وهو ممن لا يعلم أن طلاقها اثنتان، أو طلقها وهو ممن يعرف أن طلاقها اثنتان فليس عليه إلا تطليقتان، إلا أن يكون أراد البينة على ذلك، طلق بهما، أو هو يريد ذلك، أو يتكلم بالبينة، فلا تحل له حينئذ حتى تنكح زوجا غيره، وسواء استحق بحرية من أصله ومولده، أو استحق بحرية عتق بها من ملك إذا كان ذلك قبل الطلاق، وطلاقه يجري مجرى الحدود، له وعليه إذا كانت الحرية قبلها عمل فيها، كما يعمل في حدود الأحرار، وكذلك الأمة إذا طلقت ثم ثبت أنها حرة قبل ذلك، فعدتها ثلاث حيض، ولزوجها عليها الرجعة، ما لم تحض الثالثة، إن كان طلقها يرتجع منه، وإن تزوجت بعد الحيضتين وقبل الحيضة الثالثة، ثم جاء العلم فسخ نكاحهما، وفرق بينهما، وإن كان قد دخل بها فيها لم ينكحها أبدا.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قال؛ لأن جهل العبد والأمة بحريتهما لا تأثير له فيما يلزمهما من أحكام الحر، ألا ترى أنهما لو زنيا وهما لا يعلمان بعتقهما لحدا حد الأحرار، ولو وقع لهما ميراث لورثاه، فكذلك إذا طلق العبد امرأته طلقتين، ثم انكشف أنه كان حرا من قبل الطلاق، تبقى له في زوجته طلقة، ويكون له عليها الرجعة إن لم تنقض العدة، ولو انكشف أنه كان أعتق بعد أن طلق الطلقة الأولى، لبانت منه بالطلقة الثانية، وكذلك الأمة إذا طلقت فاعتدت بحيضتين، ثم انكشف أنها كانت أعتقت قبل الطلاق، تبقى عليها حيضة ثالثة من عدتها. وأما إن كان العتق بعد الطلاق، فعدتها حيضتان، وإن أعتقت قبل أن تحيض؛ لأن العدة قد لزمتها في حين الطلاق عدة أمة، فلا تنتقل عنها إلى عدة الحرائر. وقال ربيعة: إن أعتقت قبل أن تحيض اعتدت عدة الحرائر، وإن أعتقت بعد أن حاضت حيضة اعتدت(5/421)
عدة أمة ولا اختلاف أعلمه في أن العدة بالنساء، وأن الأمة تعتد حيضتين، كان زوجها حرا أو عبدا، والحرة تعتد ثلاث حيض، كان زوجها حرا أو عبدا، وأما الطلاق، فذهب مالك أنه بالرجال، بطلاق العبد على مذهبه طلقتان، كانت امرأته حرة أو أمة، وطلاق الحر ثلاث تطليقات، حرة كانت امرأته أو أمة، وروي ذلك عن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت. وذهب أبو حنيفة إلى أن الطلاق على حكم النساء المطلقات. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب. وروي عن ابن عمر أنه قال: أيهما رق نقض الطلاق برقه.
[مسألة: العبد يريد أن يظعن بامرأته الحرة]
مسألة وسألته عن العبد يريد أن يظعن بامرأته الحرة، قال ابن القاسم: ليس للعبد أن يظعن بامرأته حرة كانت أو أمة، إلا أن يكون الشيء القريب جدا، مثل بعض الريف الذي لا يخاف عليها فيه ضيعة ولا ضرورة، فأما الأسفار والبلدان والبعد، فليس ذلك له، أرأيت لو ظعن بها في أرض غربة، ثم باعه سيده بها، مما يظعن به أو يخرجه، كيف كانت تكون، إن لم تقدر على الرجوع والنهوض معه، ولا يحملها سيده معه، ويمنعه من ذلك، أفيبقى يستطعم؟ ثم فليس للعبد أن يظعن بامرأته أمة ولا حرة، ولا أعلمه إلا قول مالك.
قال محمد بن رشد: قد بين ابن القاسم وجه قوله في أن العبد ليس له أن يظعن بامرأته بما لا تزيد عليه، وللحر ذلك، إلا أن يكون غير محسن إليها، ولا مأمون عليها، على ما مضى من قول مالك في رسم الطلاق من سماع أشهب، من كتاب النكاح وهو معنى ما في المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة تأخذ في صداقها الجارية فتؤدبها وتنفق عليها في الأدب]
مسألة وسألته عن المرأة تأخذ في صداقها الجارية، فتؤدبها وتنفق(5/422)
عليها في الأدب حتى يزيد ذلك في ثمنها أضعاف ثمنها، ثم يطلقها قبل الدخول بها، هل يكون له نصف الجارية بنمائها من غير غرم شيء من النفقة؟ قال ابن القاسم: نعم، له نصفها بنمائها بغير شيء، وليس عليه فيما أنفقت عليها ولا ما أدبتها به، قليل ولا كثير، وهو شريك في النماء، كما كان شريكا في النقصان والتلف.
قال محمد بن رشد: في المبسوط من قول ابن وهب: إنها لا ترجع عليه بما أنفقت في تعليم الخير، وهو قول محمد بن خالد في رواية أبي صالح، قال: وكذلك في الاستحقاق، يريد ما لم تكن النفقة أكثر مما زادت قيمتها، ولا ترجع بالزيادة؛ لأنها لو لم تزد قيمتها بما أنفقت عليها، لم يكن لها أن ترجع بشيء مما أنفقت إذ لم تنتفع بذلك، وهذا الاختلاف إنما هو على القول بأنهما شريكان فيها، وإن الغلة ينهما، فوجه قول ابن القاسم: إن الزوج يقول لها: إنما أنفقت على نصفك الذي لك، ولم تتكلفي بسبب نصفي شيئا زائدا، فترجعي به علي. ووجه القول الثاني أن المرأة تقول له: انتفعت بمالي فلا تذهب نفقتي على نصفك باطلا، فإما أن تؤدي إلي نصف النفقة، وإلا فخذ مني قيمة نصفك غير معلم، وهذا القول يأتي اختلافهم في وجوب الكراء للحاضن في الحضانة، والقولان متكافئان في الحجة، وأما لو مرضت فطبتها حتى برئت، لكان الأظهر ألا رجوع لها عليه؛ لأنه وإن كان الزوج قد انتفع بمعافاتها فهي مستهلكة؛ إذ لم يزد ذلك في قيمتها، ولم يختلفوا في أنه لا رجوع لها عليه بما أنفقت عليها فيما لا غنى لها عنه من طعامها وشرابها، إلا أن تكون صغيرة فتكبر، فقيل: إنه يكون لها الرجوع عليه بالنفقة، وكذلك إن كانت قد اغتلت منها غلة، فقيل: إن نفقتها تكون من غلتها، والقياس أن يكون لها الرجوع بالنفقة على كل حال، على القول بأنهما فيهما شريكان، وأما على القول بأنها لها والمصيبة منها، والغلة لها، فلا رجوع بما أنفقت عليها فيما لا غنى لها عنه من طعامها وشرابها، وأما النفقة عليها في تعليمها الخير، أو في معافاتها إن مرضت، فيجري ذلك على الاختلاف في الرجوع بالسعي والعلاج في(5/423)
الاستحقاق، فقف على ذلك كله وتدبره، تجده صحيحا إن شاء الله، وبه التوفيق.
[مسألة: الرجل هل يفرض عليه في نفقة امرأته لحاف تلتحفه بالليل]
مسألة وسألته عن الرجل هل يفرض عليه في نفقة امرأته لحاف تلتحفه بالليل، أو نضوح، أو دهن، أو مشط، أو مكحلة، أو صبغ أو ما أشبه ذلك؟ وهل يفرق بينهما إذا وجد النفقة من الطعام والكسوة وإن لم يجد ما وراء ذلك؟ قال ابن القاسم: نعم، يفرض لها اللحاف للليل، والفراش، والوساد، والسرير، إن كان بموضع يحتاج فيه إليه، ولا يستغنى عنه، لخوف العقارب وشبه ذلك، ويفرض ذلك لها الدهن فيما يفرض، وأما المشط والمكحلة والصبغ، فلا أدري ما ذلك؟ ولا أراه، وتفرض لها النفقة والكسوة على قدرها من قدره، ليس عليه في ذلك خز ولا حرير ولا وشي، وإن كان يجد سعة، وإنما تفسير قدره من قدرها، إن كان مثلها يلبس القطن وما أشبهه، ومثله يقدر عليه، فرض لها، ويفرض لها لباس الشتاء والصيف، من الجبة والقرقل، والمقنع والخمار، والإزار، وما أشبه ذلك مما لا غنى لها عنه، ويسترها ويواريها، ويفرض لها قوتها من الطعام، وليس عليه أن يقيم لها اللحم كل ليلة، ولكن إن كان يجد سعة، أقام لها المدة بعد المدة، ويفرض لها من النفقة ما يكون فيها ماؤها وطحنها، ونضج خبزها، ودهانها وحنا رأسها، ومشطها، وما أشبه ذلك، وإن لم يجد إلا نفقة شهر وأيام، كما ذكرت لك، لم يفرق بينهما حتى يفنى ذلك، ثم يتلوم له السلطان، بقدر ما يرجى له، ويعرف من حاله، وإن لم يجد إلا الطعام والكسوة كما ذكرت، ولم يجد غيره، لم يفرق بينهما لذلك، وإن كانت من أهل بيت الغنى والشرف، وكانت الكسوة من وسط غليظ القطن والكتان، مثل الفسطاطي وما أشبه ذلك، وإن لم يجد إلا نفقة شهر، لا يفرق بينهما(5/424)
إذا قدر على ذلك، كانت من أهل بيت الغنى والشرف، أو لم تكن، إذا قوي على طعامها وكسوتها، بحال ما وصفت لك، فهو أملك بها، ولا يفرق بينهما، وإن فرق بينهما إذا لم يجد النفقة، ثم وجد النفقة شهرا كما سألت وهي في العدة، فهو أملك بها، وإن لم يجد إلا نفقة الأيام اليسيرة، الخمسة، والعشرة، والخمسة عشر، وما أشبه ذلك، لم أر ذلك له؛ لأن هذا مما لا قدر له ولا منفعة فيه، ولأن ذلك يصير إلى ضرار، إذا انقضت تلك الأيام، فرق بينهما، ثم إن وجد مثلها رجع أيضا إليها، فهذا الضرر وشبه اللعب.
قال محمد بن رشد: أوجب في هذه الرواية على الرجل في فرض امرأته من الدهن ما تدهن به، ومن الحنا ما تمشط، وذلك لعرف معروف عندهم، وعادة جرى عليها نساؤهم، ولا يفرض ذلك عندنا؛ إذ لا يعرفه نساؤنا، ولأهل كل بلد من هذا عرفهم وما جرت به عادتهم. وأما الصبغ والطيب، والزعفران والحنا لخضاب اليدين والرجلين، فلا يفرض على الزوج لشيء من ذلك، قاله ابن وهب في رسم الأقضية من سماع يحيى، وهو معنى قول ابن القاسم هاهنا. واضطرب قوله في المشط، فله في أول الكلام، أنه لا يفرض ذلك عليه، وقال بعد ذلك: إنه يفرض عليه من النفقة ما يكون فيه حنا رأسها ومشطها، وأما الكسوة فلم يوجب على الزوج منها إذا عجز عما يشبهها إلا وسطها، وما لا يعرها، وإن كانت من بيت أهل الغنى والشرف، مثل وسط غليظ الكتان والقطن وما أشبه مثله، في رسم الكبش من سماع يحيى لابن القاسم، وفي رسم الأقضية منه لابن وهب، وهو نحو قول ربيعة في المدونة. أما العبا والشمال فعسى ألا يؤمر بكسوتها، وأما غليظ الثياب مثل الخيف والأترى فذلك جائز للمعسر، لا يلتمس منه غيره، خلاف ما حكى ابن المواز عن أشهب، من أنه إذا عجز عما يشبهها فرق بينهما وأما إذا كان عنده سعة، فليس له أن يقصر بها عما يبتذله مثلها إن كانت من أهل بيت الغنى والشرف، لا مما يكسو مثله في سعة حاله أهله، وإن لم تكن(5/425)
من بيت الغنى، فقوله في صدر المسألة ليس عليه في ذلك خز ولا حرير ولا وشي، معناه في الخز والحرير المرتفع، الذي لا يشبه أن يبتذله مثلها إن قد يكون من الخز والعصب والشطوى ما يشبه العصب الغليظ، فيلزمه مثله إذا كانت حاله متسعة، وكان ذلك نحو لبسة أهل البلد، على ما في سماع يحيى لابن وهب ويحيى، وقوله: وإن لم يجد إلا نفقة شهر لا يفرق بينهما إذا قدر على ذلك بين لا إشكال فيه، ولا كلام؛ إذ لا اختلاف في أنه لا يفرق بينهما حتى يفنى ما عنده، ولا يجد شيئا ينفقه، وما دام يجد ما ينفق عليها ولو يوما بيوم، الخبز وحده، فلا يفرق بينهما، وإنما الاختلاف إذا لم يجد شيئا في قدر التلوم الذي يتلوم له، وكذلك يطلق عليه، فقال في المدونة: يتلوم له ولم يحد في ذلك حدا. قال: ومن الناس من لا يرجى له كأنه يريد، لا يتلوم لمن لا يرجى له. وقد روى قرعوس عن مالك، أنه لا يؤخر الذي لا يرجى له، كالذي لا يرجى له. وقال ابن حبيب: يتلوم له الشهر والشهرين، وإن لم يلح ولم يجد شيئا، ورواه عن مالك، وقال أصبغ: إذا كان لا يرجى له، ولا مال لها تنفق منه على نفسها، فيتلوم له الشهر ولا يبلغ به الشهرين، إلا إذا كان لها مال تنفق منه على نفسها، وقد روي عن مالك أنه لا يتلوم له شيء إذا لم يكن لها مال تنفق منه على نفسها. وقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يتلوم له إلا اليوم ونحوه، بقدر ما لا تجوع امرأته، روى عنه أنه يتلوم له اليوم واليومين والثلاثة، وقوله: إذا قوي على طعامها وكسوتها، يدل على أنه لا تطلق عليه بعجزه عن الإخدام، وهو المشهور في المذهب. وقد روى ابن المعدل عن ابن الماجشون، أنه يطلق عليه لعجزه عن النفقة على خادمها، كما يطلق عليه لعجزه عن النفقة عليها. وذهب ابن حبيب إلى أن الزوج لا يلزمه الإخدام، إلا أن يكون موسرا، وتكون زوجته من ذوات الأقدار. فإن لم يكن موسرا أو لم تكن زوجته من ذوات الأقدار، فعليها الخدمة الباطنة من العجن والطبخ والكنس، والفرش، واستقاء الماء إذا كان معها في الدار، إلا أن يكون زوجها من أشراف الناس الذين لا يمتهنون أزواجهم في الخدمة، فعليه الإخدام، وإن لم تكن زوجته من ذوات الأقدار. وقوله: إنه إذا فرق بينهما،(5/426)
ثم وجد النفقة شهرا، إنه يكون أملك بها معناه، وإن لم يطمع له بمال سوى ذلك، وهو صحيح؛ لأنه إذا أيسر في العدة، وجبت عليه النفقة، وإن لم يرتجع، قاله ابن حبيب في الواضحة. وحكاه عن مطرف وابن الماجشون، وهو الذي يأتي على مذهب مالك في المدونة إذ قال فيها: إن كل طلاق يملك فيه الزوج الرجعة، فالنفقة على الزوج لامرأته وإن لم تكن حاملا، وكذلك المولي فلا يصح أن يحكم عليه بالنفقة، ويمنع من الرجعة، وقد حمل بعض الناس ما في الواضحة على أنه ساوى بين الذي يطلق عليه بالإيلاء، والذي يطلق عليه بعدم الإنفاق، في أنه لا نفقة على واحد منهما، حتى يرتجع، لقوله فيها: وكل طلاق لا يملك فيه الزوج الرجعة إلا بقول وفعل، فلا نفقة عليه حتى يرتجع، وليس ذلك بصحيح؛ إذ فرق بينهما، وقوله في الذي يطلق عليه بالإيلاء إنه لا نفقة عليه حتى يرتجع، مثله حكى ابن شعبان عن مالك، وذلك خلاف نص ما في المدونة وأما قوله: إنه إذا لم يجد إلا نفقة الأيام اليسيرة الخمسة والعشرة، والخمسة عشر، وما أشبه ذلك، فلا رجعة له، معناه: إذا لم يجد إلا ذلك، ثم ينقطع، وأما لو قدر على أن يجري عليها النفقة مياومة، فإن كان ممن يجريها قبل أن يطلق عليه مياومة، فله الرجعة، واختلف إن كان ممن يجريها قبل الطلاق مشاهرة، فقيل: له الرجعة، وقيل: لا رجعة له. حكى ابن حبيب القولين، وبالله التوفيق.
[مسألة: ينكح في العدة فيقبل أو يباشر أو يجس أو يغمز]
مسألة وسألته عن الذي ينكح في العدة، فيقبل أو يباشر، أو يجس، أو يغمز، ثم يعلم بذلك، فيفرق بينهما، هل ينكحها بعد ذلك؟ قال ابن القاسم: أحب إلي ألا ينكحها أمره بذلك من غير قضاء يقضي به عليه؛ لأنه أمر ليس بالقوي؛ لأن الوطء نفسه فيه من الاختلاف ما فيه، إذا لم يطأ، والذي يعقد في العدة، ويدخل بعد العدة، فيفرق بينهما، يؤمر أيضا بألا ينكحها بعد ذلك، ولا أرى أن يقضى عليه بذلك، ولا يجبر عليه، والذي يواعد في العدة، وينكح بعد(5/427)
العدة مثله، إذا ثبت أنه واعد، والذي يواعد في العدة بأمر يعرف، أو بإقرار، فرق بينهما، وكانت طلقة، وإن كان مسها أمرته ألا ينكحها بعد ذلك من غير قضاء يقضى به عليه؛ لأنه قد اختلف الناس فيه، وغمروه (كذا) وقد روى ابن القاسم عن مالك: إنه جائز، وروى أشهب مثله.
قال محمد بن رشد: قوله: في الذي قبل أو باشر في العدة، إنها لا تحرم عليه، خلاف قوله في المدونة. وقوله في الذي واعد في العدة وتزوج بعدها ودخل بها: إنها لا تحرم عليه، خلاف قوله في رسم الرهون من سماع عيسى من كتاب النكاح. وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب من كتاب النكاح، فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك.
وقوله: لأن الوطء نفسه فيه من الاختلاف ما فيه، أشار إلى رواية ابن نافع عن عبد العزيز بن أبي سلمة، أن من تزوج في العدة، ودخل فيها، وفرق بينهما، أنه يجوز له أن يتزوجها بعد ذلك إن أحب، وقد وقع له في المدونة ما ظاهره مثل قول مالك فيها، خلاف رواية ابن نافع هذه عنه، وهو قوله، وقال مالك وعبد العزيز: هو بمنزلة من نكح في العدة ودخل في العدة، وقد تأول أنه أراد أنهما سواء عند مالك في أن التحريم يقع بهما، وأنهما سواء عند عبد العزيز في أن التحريم لا يقع بهما، وبالله التوفيق.
[يقول لامرأته أنت طالق ألبتة إن لم أطلق امرأتي الأخرى إلى سنة]
ومن كتاب القطعان
وسئل عن الذي يقول لامرأته: أنت طالق ألبتة، إن لم أطلق امرأتي الأخرى إلى سنة، قال: يقال له: طلق من شئت منهما؛ لأن فرج إحداهما قد حرم عليك، قلت: ولا يضرب له أجل، قال: لا، قلت: فإن لم يطلق، قال: يحبس حتى يطلق، ولا يقرب واحدة منهما حتى يطلق إحداهما.(5/428)
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا صحيح، على قياس مذهبه في المدونة في الذي يقول لامرأته: أنت طالق إن لم أطلقك، أو إن لم أطلقك إلى سنة، فإنه يعجل عليه الطلاق، وإنه إن قال لها: أنت طالق ثلاثا إن لم أطلقك واحدة، وإن لم أطلقك واحدة إلى أجل، أنه يوقف عن امرأته، فيقال له: إما طلقت واحدة، وإلا طلقت عليك ثلاثا، على قياس قول سحنون وأصبغ في القائل لامرأته: إن لم أطلقك فأنت طالق، أنت طالق إن لم أطلقك، أو أنت طالق إن لم أطلقك إلى سنة، إنه بمنزلة قوله: أنت طالق إن لم أفعل كذا وكذا، أو إن لم أفعل كذا وكذا إلى سنة، أن يكون قول الرجل لامرأته: أنت طالق إن لم أطلق امرأتي الأخرى إلى سنة بمنزلة قوله: أنت طالق إن لم أفعل كذا وكذا إلى سنة، فلا يلزمه في امرأته إلا ألا يطلق امرأته الأخرى إلى سنة، وعلى قياس هذا يأتي ما لابن القاسم في سماع أبي زيد، من كتاب التخيير والتمليك، ويدخل عليه الإيلاء إن طلبت امرأته المسيس، على القول الذي لا يجيز له أن يمس امرأته إلى ذلك الأجل، وهو قول ابن القاسم في رسم يوصي من كتاب الإيلاء، وقول غير ابن القاسم في العتق الأول من المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: شك في طلاق امرأته أيقضى عليه بطلاقها]
مسألة وسئل عن رجل شك في طلاق امرأته أيقضى عليه بطلاقها، أم ذلك إليه، ولا يقضى عليه بطلاقها؟ قال: ذلك إليه ولا يقضى عليه بطلاقها.
قال محمد بن رشد: الشك في الطلاق ينقسم على خمسة أقسام: منه ما يتفق على أنه لا يؤمر ولا يجبر، وذلك مثل أن يحلف الرجل على الرجل ألا يفعل فعلا، ثم يقول: لعله قد فعل، من غير سبب يوجب ذلك الشك في ذلك، ومنه ما يتفق على أنه يؤمر ولا يجبر، وذلك مثل أن يحلف ألا يفعل فعلا، ثم يشك هل حنث أم لا لسبب أدخل عليه الشك؟ ومنه ما يتفق على أنه لا يجبر، ويختلف، هل يؤمر أم لا؟ وذلك مثل أن يشك الرجل هل طلق(5/429)
امرأته أو لم يطلق؟ أو يشك هل حنث في يمينه فيها؟ فقال ابن القاسم: إنه يومر، ولا يجبر، وهو قوله في هذه الرواية، وقال أصبغ: لا يؤمر ولا يجبر، ومنه ما يختلف هل يجبر أو لا يجبر؟ وذلك مثل أن يطلق، فلا يدري، إن كان طلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، ويحلف ويحنث، ولا يدري إن كان حلف بطلاق أو مشي، أو يقول: امرأتي طالق إن كانت فلانة حائض، فتقول: لست بحائض، وإن كان فلان يبغضني، فيقول: أنا أحبك، أو إن لم تخبرني بالصدق، فيخبره، ويزعم أنه قد صدقه ولا يدري حقيقة ذلك، والخلاف في المسألة الأولى من قول ابن القاسم، ومن قول ابن الماجشون، وفي الثانية بين ابن القاسم وأصبغ، ومنه ما يتفق على أنه يجبر، وذلك مثل أن يقول: امرأتي طالق إن كان أمس كذا وكذا لشيء يمكن أن يكون وألا يكون، ولا طريق إلى استعلامه، ومثل أن يشك في أي امرأة من امرأتيه طلق، فإنه يجبر على فراقهما جميعا، ولا يجوز له أن يقيم على واحدة منهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: له امرأتان دخل بواحدة ولم يدخل بالأخرى فطلق واحدة ثم نسي]
مسألة وسئل عن رجل كانت له امرأتان: الواحدة قد دخل بها، والأخرى غير مدخول بها، فطلق واحدة تطليقة واحدة، ثم نسي أيهما ثم ماتتا أيرثهما؟ قال: أما التي تحته فإنها إن ماتت قبل انقضاء العدة ورثها، والأخرى إن شاء ورثها، وإن شاء لم يرثها، ذلك إليه في الاحتياط.
قال محمد بن رشد: أما قوله في التي قد بنى بها إنه يرثها إن ماتت قبل انقضاء عدتها صحيح؛ لأن الميراث بينهما قائم ما لم تنقض العدة، وإن تحقق أنها هي المطلقة، وأما قوله في الأخرى: إنه إن شاء ورثها وإن شاء لم يرثها، ذلك إليه في الاحتياط، ففيه نظر؛ لأنه أباح له أن يأخذ ما لا يدري هل هو له أم لا؟ وإن كان الاحتياط عنده ألا يأخذه، ويلزم على هذا لو لم تمت أن يومر بفراقها، ولا يجبر على ذلك، ووجه قوله أنه لما ورث التي قد دخل بها فكأنه لم يشك في طلاقها، وإنما شك في طلاق الأخرى، فأشبه عنده(5/430)
من شك في طلاق امرأته، أنه يومر أن يفارقها، وإن ماتت ألا يرثها ولا يجبر على ذلك؛ لأن العصمة متيقنة فلا ترتفع بالشك، وليس هذا بين؛ لأن الطلاق في هذه متيقن في إحداهما، فكما لا يجوز له أن يمسك واحدة منهما، مخافة أن تكون هي المطلقة فكذلك لا يجوز له أن يرث التي لم يدخل بها، مخافة أن تكون هي المطلقة، إلا أن يتذكر أن الأخرى هي المطلقة، ويتيقن ذلك، ونحا فضل إلى أنه يكون له نصف ميراثه منها، كما يكون لكل واحدة منهما نصف ميراثها منه إن مات هو بعد انقضاء عدة التي دخل بها، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه إذا مات هو بعد انقضاء عدة التي دخل بها، فقد تحققتا أن الميراث لإحداهما، وهما تتنازعانه، فيقسم بينهما بعد أيمانهما على حكم التداعي، وإن قالت كل واحدة منهما لا أدري من هي المطلقة منا؟ قيل لهما: إن سلمته إحداكما إلى صاحبتها وحللتها منه، فذلك حسن، وإن شئتما أن تقسماه فيما بينكما بنصفين، وتحلل كل واحدة منكما صاحبتها من النصف الذي أخذته، لاحتمال أن يكون لها، فذلك جائز، وليس كذلك هذه المسألة؛ لأن الزوج يقال له: أنت تشك في وجوب الميراث لك، فلا تأخذ ما تشك فيه إلا عن طيب نفس من الورثة، وبالله التوفيق.
[يكون لابنه المال فيموت الأب هل لإخوة الولد الذي له مال أن يحاسبوه]
ومن كتاب باع شاة وسئل عن الرجل يكون لابنه المال فيموت الأب، هل لإخوة الولد الذي له مال، أن يحاسبوه بما أنفق عليه أبوه؟ قال ابن القاسم: إن كان مال الابن ناضا، فوجدوه مصرورا كان لم ينفق منه شيء، لم يحاسبوه بما أنفق عليه أبوه، ولم يكن لهم مما أنفق عليه أبوه قبله، قليل ولا كثير. وإن كان ماله عرضا كان لهم أن يحاسبوه بما أنفق عليه أبوه من يوم كان للابن مال.
قلت: أرأيت إن كان مال الابن عرضا فأنفق عليه أبوه، فلما حضره الموت قال: لا تحاسبوه بما أنفقت عليه؟ قال: إذا يجوز قوله(5/431)
ولا يكون لإخوته أن يحاسبوه، إذا قال: لا تحاسبوا ابني.
قلت: فما ترى هذه وصية لوارث لا تجوز؟ قال: ليست هذه وصية، وجل الناس ينفقون على أولادهم، وهذا شيء فعله في الصحة فليس بوصية.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها محصلا مستوفى في أول سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته مرة أخرى، وبالله التوفيق.
[مسألة: النصرانية تسلم وزوجها نصراني هل عليه نفقة]
مسألة وسئل عن النصرانية تسلم، وزوجها نصراني، هل عليه نفقة وهو له عليها الرجعة إن أسلم وهي في العدة؟ قال ابن القاسم: ليس لها عليه نفقة؛ لأن الفسخ جاء من قبلها، ومنعته فرجها، وليس هو بمنزلة من طلق، وله عليها الرجعة؛ لأن أمرها فسخ بغير طلاق، فالفسخ لا يلزمه فيه نفقة، وتلك السنة، إلا أن تكون حاملا، فينفق عليها؛ لأن الولد يتبعه؛ لأنه ولده، وتلزمه نفقته، وكذلك هو في بطنها.
قال محمد بن رشد: في سماع أصبغ بعد هذا: إن عليه النفقة من أجل أن له الرجعة بالإسلام، ورواية عيسى أظهر عند أهل النظر؛ لأنه فسخ والفسوخ لا نفقة فيها، ولأن الفراق والمنع جاء من قبلها بإسلامها والنفقة لا تخلو من أن تكون واجبة بحق الاستمتاع أو بحق العصمة، فإن كانت واجبة بحق الاستمتاع، وجب أن تسقط إذ قد منعت الاستمتاع بإسلامها، وإن كانت واجبة بحق العصمة، وجب أن تسقط أيضا؛ إذ قد انفسخ النكاح وارتفعت العصمة، وكونه أحق بها إن أسلم في عدتها أمر متبع، لا يحمله القياس. ووجه رواية أصبغ، أنها لما كانت مأمورة بالإسلام، لم تكن متعدية في الإسلام، ولا مانعة لفرجها، بل هو المانع منه نفسه، بترك فعل ما يلزمه فعله من الإسلام، والله الموفق.(5/432)
[ادعى ميراث امرأة فأنكر ذلك أبوها]
ومن كتاب العتق وسألته عن رجل ادعى ميراث امرأة، فأنكر ذلك أبوها، وقال: قد كنت طلقتها، وقال الزوج: إنما طلقتها واحدة أو اثنتين، وكانت هي في عدة، وقال الأب: بل طلقتها ثلاثا وأنا على ذلك شاهد، وأتى الزوج بشاهد، قال: الميراث للزوج، ويحلف على ما ادعى من الطلاق.
قلت لابن القاسم: فإن ماتت المرأة وادعى الأب أن العدة قد انقضت ولا ميراث للزوج، وقال الزوج: إنها هلكت في العدة، قال: القول في ذلك قول الزوج، وأرى عليه اليمين أنها إنما ماتت في عدتها.
قلت: أرأيت إن أبى اليمين في كلا الوجهين في العدة والطلاق؟ قال: يحلف الأب ويكون القول قوله.
قال محمد بن رشد: أما إذا اختلفا في عدد الطلاق، فقال الأب: ثلاثا، وقال الزوج: واحدة أو اثنتين، وأقام كل واحد منهما شاهدا على دعواه، فبين أن القول قول الزوج؛ لأنه لما كافأ دليل كل واحد منهما على دعواه دليل صاحبه، سقطا وبقيا على أصل الدعوى، فوجب أن يحلف الزوج؛ لأنه المدعى عليه في إسقاط ما وجب له من الميراث بالعصمة المتيقنة، وكذلك لو أقام كل واحد منهما شاهدين فتكافآ في العدالة، وإن كان الشاهد للأب دون الزوج، لوجب أن يحلف مع شاهده؛ لأنه يستحق بشهادته مالا، وأما إذا اختلفا في انقضاء العدة، فقال: إن القول قول الزوج، ويحلف أنها إنما ماتت في العدة، وهذا إذا اختلفا في وقت الطلاق فقال الزوج: طلقتها في وقت كذا وكذا، إلى ما لا يحاض في مثله ثلاث حيض، وقال الأب: طلقتها منذ كذا وكذا، لما يحاض في مثله ثلاث حيض، ولا اختلاف في هذا؛ لأن الميراث واجب للزوج بالعصمة المتيقنة، فعلى من ادعى ما يسقطه إقامة البينة،(5/433)
ولو كان الزوج عبدا فأعتق بعد الطلاق وقبل موتها، فادعى الزوج أن ذلك كان قبل انقضاء العدة، وقال الأب: بل كان ذلك بعد انقضاء العدة، لجرى الأمر بذلك على الاختلاف في النصرانية تسلم تحت النصراني، ثم يسلم زوجها بعدها، فيريد رجعتها، فتزعم أنها قد حاضت ثلاث حيض بعد إسلامها كان منذ كذا وكذا، على ما سنذكره في نوازل أصبغ إن شاء الله، وأما إن اتفقا على وقت الطلاق، فإن كان قد مضى له من المدة ما تنقضي فيه العدة في الأغلب، وذلك ثلاثة أشهر، حمل أمرها على أن العدة قد انقضت، ولم يكن لها ميراث، إلا أن يأتي بما يدل على أن العدة لم تنقض من قولها قبل أن تموت؛ إذ هي مصدقة في ذلك، فإن لم يأت بذلك، وادعى على الأب أنه علم بذلك، لزمته اليمين، وإن كان لم يمض من المدة ما تنقضي فيه العدة في الأغلب، حمل أمرها على أن العدة لم تنقض، وكان للزوج الميراث، إلا أن يأتي الأب ببينة على قولها: إن عدتها قد انقضت، فإن لم يأت بذلك، وادعى على الزوج أنه علم بذلك، لزمته اليمين، يبين هذا قوله في كتاب الاستبراء من المدونة: إن الجارية المبيعة إذا لم تواضع للاستبراء فماتت، إنها إن ماتت قبل أن يمضي من المدة ما لا يكون فيه الاستبراء، فالمصيبة من البائع وإن ماتت بعد أن مضى من المدة ما يكون فيه الاستبراء، فالمصيبة من المبتاع، وذلك شهر على قولهم.
[مسألة: قالت في مرضها قد كنت تركت لزوجي كذا وكذا ثم هلكت]
مسألة وسألته عن امرأة قالت في مرضها: قد كنت تركت لزوجي كذا وكذا مما كان لي عليه من حق، ثم هلكت، فزعم أنها صادقته وإني قد كنت طلقتها في يمين قد كنت حنثت فيها قبل وضعها الصداق عني، أو بعد وضعها، أو قال: طلقتها في غير يمين، وقال الورثة: لم تطلق ولم تحنث، وإنما لك الوصية بالصداق، ليتم لك، إن لم تكن وارثا؛ لأنه لا وصية لوارث، قال: لا يقبل قولها فيما زعمت أنها وضعت عنه الصداق، ولا يكون له ميراث بإقراره(5/434)
بالطلاق، قال ابن القاسم: قال مالك: ولو ثبت له الطلاق وقالت عند الموت: قد كنت وضعت في صحتي لم يقبل قولها، قلت لابن القاسم: وهو غير وارث، قال: نعم، وإن لم يرث كذلك، قال لي مالك: من قال عند الموت: قد كنت تصدقت من مالي بكذا وكذا على فلان، وقد كنت أعتقت في الصحة عبدي فلان، لم يكن للعبد عتق، ولا للآخر صدقة، إلا أن يقول: قد كنت فعلت ذلك في الصحة، فأنفذوه، فيكون في الثلث، قال: ولو صحت ولم تمت من مرضها ذلك لزمها قولها.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يقبل قولها فيما زعمت أنها وضعت عنه من الصداق، أمر متفق عليه إن لم يكن لها ولد يرفع التهمة عنها في إقرارها للزوج، وأما إن كان لها ولد يرفع التهمة عنها في إقرارها له، فقيل: إن ذلك جائز له كالأجنبي، وقيل: إن ذلك لا يجوز إذا لم يعرف الطلاق إلا بقوله، وفي قوله: إنه لا يكون له ميراث لإقراره على نفسه بالطلاق نظر؛ إذ الورثة يقولون: إنه لم يطلق، فكل واحد منهم يقر بالمال لصاحبه، ويدفعه عن نفسه له، فالواجب في ذلك أن يكون موقوفا فيمن رجع منهم أولا إلى تصديق صاحبه، وإكذاب نفسه، أخذه على الصحيح المشهور من الأقوال، القائم من المدونة، وهو أصل مختلف فيه، وأما إذا ثبت له الطلاق، فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز له من رأس المال ولا من الثلث، كان لها ولد أو لم يكن. والثاني: أنه إن كان لها ولد جاز ذلك له من رأس المال، وإن لم يكن لها ولد، لم يجز ذلك له من رأس المال ولا من الثلث. والثالث: أنه إن كان له ولد جاز له ذلك من رأس المال، وإن لم يكن له ولد، وكان يورث كلالة، جاز ذلك له من الثلث. والثلاثة الأقوال، قائمة من المدونة. فإذا قلنا: إن ذلك إنما يجوز لك من الثلث، ففي ذلك اختلاف، قيل: علمت بالطلاق أو لم تعلم، وقيل: بل إن علمت بالطلاق على ما في سماع سحنون من كتاب الوصايا في هذا المعنى من الاختلاف، وبالله التوفيق.(5/435)
[مسألة: توفيت وأوصت لزوجها وهو غائب بثلث مالها]
مسألة وسألته عن امرأة توفيت وأوصت لزوجها وهو غائب بثلث مالها، وتركت ولدا منه أو من غيره، فقيل لها: إنه لا وصية لوارث، فقالت: إنه قد كان كتب إلي بالطلاق، فسترت ذلك، وقدم الزوج فصدقها، وقال الورثة: إنما بالزوج الوصية، وقال بنوها من غيره: إنها أرادت أن تحرمنا فضل ما بين الثلث والربع، قال: لا يقبل قولها، ولا إقراره بالطلاق، لموضع التهمة في ذلك، وينظر إلى وصيتها في ذلك، فإن كانت أقل ميراثه منها، دفع إليه ذلك، ولم يكن له أكثر من تتمة ميراثه منها، لما أقر به من فراقها، وإن كان الذي أوصت له كفاف ميراثه منها دفع له؛ لأنها لا تتهم فيه، ولا يتهم في ذلك، وإن كان أكثر من ميراثه، اتهم واتهمت، ولم يكن له إلا قدر ميراثه منها. قال ابن القاسم: وفرق بين التي قالت: قد كنت وضعت عن زوجي الصداق، وبين التي قالت: أعطوا لزوجي كذا وكذا، إن الوصية إنما أرادت أن يكون ذلك في الثلث، والتي أقرت لم ترد ثلثا فلذلك أخرج هذا من الثلث، ولم ينتفع الزوج بإقرارها إلا ببينة تقوم له على الوضيعة. وقال لي ابن القاسم: وليس لأهل الوصايا في التي أقرت أنها قد وضعت في صحة منها فيها وصية إن قصرت وصاياهم في ثلث ما بقي لا عتق ولا غيره.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، وقد مضى قبل هذا الاختلاف في إقرار المرأة في مرضها الذي توفيت فيه أنها كانت وضعت عن زوجها الصداق في صحتها، فلا معنى لإعادة ذلك. وقوله: إن قصرت وصاياهم في ثلث ما بقي، معناه إن ضاقت وصاياهم عن ثلث ما بقي فلا يكون شيء من ذلك في ثلث ما أقرت به، لا عتق ولا غيره، وهو صحيح متكرر في المدونة وغيرها، وبالله التوفيق.(5/436)
[مسألة: قال في مرضه إني قد كنت حلفت بعتق ما أملك]
مسألة وسألته عن رجل قال في مرضه: إني قد كنت حلفت بعتق ما أملك، إن لم أطلق ثلاث نسوة قبل الممات، وقد طلقت النسوة وبقيت واحدة، وأنا أخاف الحنث في رقيقي، ففلانة طالق، يعني زوجته التي تحته. هل يخرجه ذلك من يمينه؟ قال: أراه طلاقا إن كان بت طلاقها. ومما يبين ذلك أن لو قال: إن طلقت امرأتي فرقيقي أحرار، فطلقها في مرضه بتا أو غير ذلك، فإني لا أراه سالما من الحنث، ورقيقه أحرار في الثلث.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان بت طلاقها، قيل: معناه، إن كان أنفذه والأظهر له أراد به بتات الطلاق، ففرق بين البر والحنث على أصولهم في أنه يحنث بما لا يبريه، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلق امرأته واحدة وهي مستحاضة كم عدتها إن هو أراد رجعتها]
مسألة وسئل عن رجل طلق امرأته واحدة وهي مستحاضة كم عدتها إن هو أراد رجعتها؟ قال: إن راجعها فيما بينه وبين سنة، فله الرجعة، وإن مضت السنة فلا رجعة له عليها.
قال محمد بن رشد: أما إذا كانت المستحاضة لا تميز بين دم الحيض والاستحاضة، فلا اختلاف في أن عدتها من الطلاق سنة كاملة، كما ذكر، واختلف إذا كانت تميز بين الدمين، فقيل: إنها تعتد بالأقراء، وقيل: إن عدتها سنة على كل حال، والقولان قائمان في المدونة. وقد مضى بيان هذا المعنى في رسم استأذن من سماع عيسى مستوفى، وبالله التوفيق.
[النفقة التي إذا لم يجدها فرق الإمام بينه وبين امرأته ما هي]
من سماع يحيى بن يحيى من عبد الرحمن
ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن النفقة التي إذا لم يجدها(5/437)
فرق الإمام بينه وبين امرأته ما هي؟ قال: القوت، وما يجزي من الثياب.
قلت: أرأيت إن كانت ذات شرف معروف ممن يعرف أن مثلها لا يخدم نفسها، ولا يلبس من الثياب إلا الحسنة، ولا يجزيها من العيش غليظه، وقد كان الرجل موسرا موسعا عليه، كان ينفق عليها نفقة مثله على مثلها، ثم أعدم، فصار لا يجد لها خادما ولا كسوة إلا من أدناها وأقلها ثمنا ولا قوتا إلا شعيرا أو قمحا ليس فيه إلا قوتها، دون قوت خادمها، وأحبت هي أن تضع عنه ثمن الخادم وسألته نفقتها ونفقة الخادم، فلم يجد إلا قوت السيدة من غليظ العيش، مثل الشعير، أو السلت، أو القمح غير المادوم، ويجعل ما يودم به زيتا. أترى أن يفرق بينهما وهو يجد هذا، وقد كانت حالهما في اليسارة وفي الشرف ما وصفت لك؟ قال: إن كان هذا وما أشبهه، فلا أرى أن يفرق بينهما وأجزى ما يجزي في مثل هذا من الكسوة الفسطاطي ونحوه. وأما القوت من الطعام فما يرى أنه الشبع في بلدهما الذي هما به، ويجزيه أن يخرج ذلك مما يقتات به أهل بلده، فإن من البلدان، من لا ينفق أهله شعيرا على حال فقيرهم ولا غنيهم، ومنهم من ذلك عندهم يستخف ويستجاز، فإن كان ببلد لا يعرف أهله إنفاق الشعير على أهليهم، لم يكن له أن يخصها بما لا يتحمله أهل بلدها، وإن كان ببلد يتجاوز به الشعير من اضطر إليه، لم يكن لها أن تأباه، إذا ألجئ إليه صاحبها وليس لها إلا ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: فإن كان ببلد لا يعرف أهله إنفاق الشعير على أهليهم، لم يكن له أن يخصها بما لا يتحمله أهل بلدها، خلاف ظاهر ما(5/438)
في رسم الأقضية بعد هذا من سماع يحيى، ودليل ما في رسم الأقضية الثالث، من سماع أشهب من كتاب النكاح. وقد مضى هناك ذكر هذا، وتوجيه كل واحد من القولين، ولم يذكر المقدار الذي يفرض من ذلك. وفي المبسوط قال مالك: أدركت الناس وهم يفرضون مدا من حنطة، وليس عليه أن يطحنه لها، ولم أر أحدا يفرض لها طحنا، قيل لمالك: إن بالمغرب لا يكفيها مد، قال: بقدر ما يكفيها، قال أبو إسحاق: إنما فرض لها مدا؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال للذي أفطر في شهر رمضان: «خذ هذا وتصدق به» ، نحو خمسة عشر صاعا بين ستين مسكينا، وإنما لم ير التوقيت مرة، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، والظاهر من مذهب مالك في المدونة قياسا على الظهار: أنه يفرض له مد بمد هشام، وكذلك حكى ابن حبيب في الواضحة عنه إلا أنه قال فيه: إنه مد وثلث، وقال: هو من رأيه أنه يفرض في الشهر قفيز بالكيل القرطبي، قال: هو أربعة وأربعون مدا. وقول مالك في المبسوط، وليس عليه أن يطحن المد لها، هو خلاف ما تقدم في رسم الجواب من سماع عيسى. وقد مضى هناك كثير من معاني هذه الرواية، فلا معنى لإعادة ذلك.
[المطلقة المبتوتة وهي حامل تطلب الكسوة]
ومن كتاب الصبرة وقال: في المطلقة المبتوتة وهي حامل، تطلب الكسوة: إنها إن طلبت في أول الحمل فلها الكسوة، وإن طلبت ولم يبق من أجل الحمل إلا الشهرين والثلاثة، أو نحو ذلك، قوم لها ما كان يصبر(5/439)
لتلك الأشهر من الكسوة لو كسيت في أول الحمل، ثم أعطيته دراهم، ولم تكس؛ لأنها إن كسيت انقضى الحمل وانقطعت نفقتها وكسوتها، والثياب التي تكسى جديدة، فليس لها إلا قيمة ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا كانت الكسوة مما تبلى في مدة الحمل، وأما إن كانت مما لا تبلى في مدته، مثل الفرو والمحشو وشبه ذلك، فالوجه فيه أن ينظر إلى ما ينقصه اللباس في مدة الحمل، فيعرف ما يقع من ذلك للأشهر الباقية، وهذا أيضا في التي تطلق بعد أن مضى أكثر الحمل، وأما التي تطلق في أول الحمل أو قبل أن يظهر حملها، فتستمر وتثبت، وتغفل عن طلب كسوتها حتى لا يبقى من أجل الحمل إلا الشيء اليسير، فإنه يفرض لها من الكسوة ما كان يفرض لها منها في أول الحمل؛ إذ لها ما مضى ويستقبل، وهذا كله يبين ما تقدم في رسم مرض من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[المعترض عن امرأته ترفع أمرها إلى السلطان وهو مريض]
ومن كتاب الصلاة وسئل عن المعترض عن امرأته ترفع أمرها إلى السلطان وهو مريض، فقال: لا يضرب له أجل المعترض من امرأته حتى يصح، قيل له: فإن كان صحيحا حين رفعت أمرها إلى السلطان، فلما أجله السلطان مرض، قال: يمضي حكم السلطان فيه، ولا يزاد في الأجل بعد من أجل مرضه.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا كان قد صح أكثر السنة، أو كان مرضه مرضا قد يقدر معه على معالجة الوطء وأما لو مرض بحدثان ما ضرب له الأجل مرضا شديدا لا حراك به، ولا قدرة له معه على الإلمام بأهله حتى ينقضي الأجل؛ لانبغى أن يزاد في الأجل مقدار ما فرض، والله أعلم.
[مسألة: أصاب الرجل جنون وقد نكح امرأة وابتنى بها]
مسألة قال: وسمعت مالكا يقول: إذا أصاب الرجل جنون. وقد(5/440)
نكح امرأة وابتنى بها، تلوم له واستانوا به سنة، فإن ذهب عنه وإلا فرق بينهما. قيل له: أرأيت إن أصابه قبل الابتناء، أو أصابه من ذلك ما لا يخاف منه على امرأته عداه ولا أذاه؟ قال: إن أصابه قبل الابتناء، ضرب له أجل سنة ثم تخير امرأته عند انقضاء الأجل، فإن رضيت بالإقامة معه فذلك، وإن طلقت نفسها، لم يكن لها من الصداق شيء وجاز الفراق.
قلت: مما يعد ذلك الفراق؟ أطلقة بائنة؟ فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المجنون لا يفرق بينه وبين امرأته قبل البنا إلا من بعد ضرب الأجل، كالمدخول بها، يحمل على التفسير لما في سماع سحنون من كتاب النكاح، ولما في المدونة وإيجابه لها الخيار، وإن لم يخف عليها عداه ولا أذاه، هو مثل ما في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب النكاح خلاف ما في سماع زونان منه لابن وهب وأشهب، وخلاف ما في المدونة لربيعة، وقوله: إنها لما طلقت نفسها قبل البناء، لم يكن لها من الصداق شيء؛ لأن الله إنما أوجب نصف الصداق على المطلق باختياره حيث يقول: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية، وهو لم يختر الطلاق، وما كان منه فيه سبب يتهم فيه على اختياره، كالذي يعسر بالصداق فيطلق عليه قبل الدخول، فيتهم على أنه أخفى ماله لتطلق عليه، فلا يلزمه من الصداق شيء. وقد مضى هذا، والاختلاف فيه في سماع سحنون من كتاب النكاح. وقوله: إن الفراق في ذلك يعد طلقة بائنة، هو المعلوم في المذهب، إن كل طلاق يحكم به الإمام فهو بائن، إلا طلاق المولي، والمطلق عليه بعدم الإنفاق، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن طلاق الإمام على المجنون والمجذوم والمبروص، إنما هي طلقة رجعية، وإن الموارثة بينهما قائمة ما دامت العدة لم تنقض، ولو صحوا من أدوائهم، لكانت لهم الرجعة. وقوله صحيح في المعنى، إلا أنه خلاف المعلوم الموجود في المذهب، وهو ينحو إلى(5/441)
رواية عيسى عن ابن القاسم في رسم إن خرجت في الأمة تعتق تحت العبد، فتختار نفسها، ثم يتوفى زوجها في عدتها إنها ترجع إلى عدة الوفاة. قال أبو إسحاق التونسي: وانظر إذا ضرب لها أجل سنة قبل الدخول، هل لها نفقة إذا دعته إلى الدخول، مع امتناعها من ذلك لجنونه، كما إذا عسر بالصداق، إنه يومر بإجراء النفقة مع امتناعها منه لعدم قدرته على دفع صداقها، فأحال النظر ولم يبين في ذلك شيئا، والظاهر أنه لا نفقة لها؛ لأنها منعته نفسها لسبب لا قدرة له على دفعه، فكان في ذلك معذورا، بخلاف التي منعته نفسها حتى يؤدي إليها صداقها؛ إذ لعل له مالا يكتمه، وبالله التوفيق.
[ما يجب على الإمام أن يفرق به بين المرأة وزوجها إذا عجز عن النفقة عليها]
ومن كتاب الأقضية قال: وسألت ابن وهب عما يجب على الإمام أن يفرق به بين المرأة وزوجها إذا عجز عن النفقة عليها، غير أنه يجد أدنى العيش وأغلظه، وأوضع الكسوة وأقبحها، أيجزيه ذلك، أم يكلف قدرا معلوما من النفقة والكسوة؟ أيجب أن يفرق بينهما لعجزه عنها؟ أم يلزم من النفقة على قدر حال المرأة، وحال الرجل إذا كان واجدا موسرا؟ فقال: إذا عسر الرجل بعد يسر لم ينظر إلى ما كان عليه أولا، وليس للإنفاق على المرأة قدر معلوم تحت التفرقة بينهما بالتقصير عنه ما وجد ما يرد به جوعها من الخبز، ويواري به جسدها عن العري. الكسوة ما سوى الشمال والعبا، إذا كان ما يكسوها شبيها بالفسطاطي ونحوه أجزأه ذلك، إذا كان لا يجد إلا هو، ولم يفرق بينهما. قال:
وسألته يوم كتب إليه ابن بشير، فكان فيما سأله عنه في كتابه أن قال: هل على الموسر الشريف إذا كانت له امرأة من ذوات الشرف والقدر، أن يخدمها الخادمين والثلاثة، وينفق عليها وعليهن؟ وهل يلزمه لها من نفقتها اللحم والعسل، والفاكهة والزعفران،(5/442)
والطيب والخضاب بالحنا وأشباه ذلك؟ وهل يفرض من الكسوة الخز والعصب والشطوي؟ فقال لي عبد الله بن وهب فيما يلزم الفقير من النفقة التي إذا لم يجدها فرق بينه وبين امرأته، مثل ما فسرت عنه في قوله أولا، قال: ولا يجزيه أن يرد به جوعهما إذا لم يجد ما يكسوها، وكذلك أيضا لا يجزيه أن يكسوها إذا لم يجد ما ينفق عليها إذا عجز عن أحد الأمرين فقد عجز عنهما جميعا، ووجب بعجزه عن أحدهما الفرقة بينه وبين امرأته، ثم كلما وسع الله عليه، وسع الإمام على امرأته، على قدر مال الزوج بالمعروف في كسوتها ونفقتها. قال: وأما سنة نفقة الموسر الشريف على ذات الشرف والهيئة، فإنه يلزم أن ينفق عليها من الطعام والإدام والحطب، وصالح الثياب، من أوسط ذلك مما لا يعرها إذا ألبسته ولا سرف فيه على صاحبها فيجحف بماله، ولها من اللحم مصلحتها غبا في الجمعة، المرة ونحوها، وليس لها عليه فاكهة ولا عسل، ولا ما أشبه ذلك من الأطعمة التي ينفقها الناس أهلهم ليست بقوت لهم، ولا بهم فقر إليها في معائشهم. قال: وأما الطيب والزعفران، وخضاب اليدين والرجلين بالحنا، فإنا نقول: إنما هذا وشبهه للرجال يصلحون به إلى نسائهم للذاتهم، فمن شح به فليس يلزمه حكم يقضي به عليه، غير أن عليه من الحنا ما تمتشط به، فأما ما تسأل المرأة من كسوة العصب والشطوي والخز، فإنه لا يلزمه إلا العصب الغليظ، وما أشبه ذلك من الشطوي والخز قال يحيى: ومعنى قوله في الخز، والعصب، والشطوي، إن ذلك إنما يلزمه منه الذي وصف، إذا كان ببلد تكون تلك الأصناف لبسة أهل البلد، ويكون ذلك مما يكسوه مثله في قدر ماله، وسعة ما في يده.(5/443)
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله في هذه الرواية ما وجد ما يرد به جوعها من الخبز، خلاف قوله في رسم الكبش قبل هذا. ومثل دليل الكبش، قول مالك في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب النكاح وسائر ما فيها، نحو ما تقدم في الرسم الذي قبل هذا، وفي رسم الجواب من سماع عيسى. وقد مضى في الموضعين من التكلم على معاني ما تضمنته هذه الرواية، ما يغني عن إعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتوفى عنها زوجها ويدعي ما يكون للرجال والنساء مثله]
مسألة قال: وسألت ابن وهب عن المرأة يتوفى عنها زوجها، ويدعي غنما وبقرا وإبلا وثيابا وهي مما تكون للرجال والنساء مثله، وهي معروفة بالغنى، ويقول ورثة الزوج: المال لأبينا مات عنه، وأنت مدعية فعليك البينة، فقال: أما ما كان من حلي أو متاع البيت من الأسرة والقباب والفرش والأنماط والوسائد، والمحابس، والنمارق، والحجال، والبسط، والتوابيت، والآنية، والطست، والتور، والإبريق، وما أشبه هذا فهو للنساء، لا يكلفن عليه ببينة، قال: وأما ما كان من سلاح أو دابة أو عبد أو أمة أو قميص، أو ما يكون مثله من متاع النساء، فهو للرجال، ولا يكلف الورثة عليه البينة. قال ابن القاسم: في القصاع والبرم والقدر، إنه من متاع النساء. قال: وقد قال مالك فيما يكون مثله للرجال والنساء، مثل النساج والردا وما يرى أنه يكون مثله للرجال والنساء، إن الرجال أحق به مع أيمانهم قال: وقال غيره من أهل العلم: يقسم بينهما إذا لم يكن لأحدهما عليه بينة بعد أيمانهما. قال ابن وهب: والذي آخذ به وأستحسنه أن يقسم بينهما ما أشبه من ذلك، فيرى أنه يكون للرجال والنساء بعد أيمانهما على ما تداعيا فيه. قال: وأما ما ذكرت من الإبل والبقر والغنم، فإن ذلك للرجال، إلا ما قامت به البينة أنه(5/444)
للمرأة، أو كان الرجل معها معروفا بالفقر، وهي معروفة بالغنى، ينسب ملك تلك البقر والغنم والإبل. إليها، ويذكر ذلك لها، فإذا كان هكذا من حالها فاشيا ظاهرا يعرف بالسماع. وقول عدول الجيران، فالمرأة أحق به، وإن لم تكن شهادة قاطعة.
قال محمد بن رشد: اختلف أهل العلم في اختلاف الزوجين في متاع البيت في حال العصمة أو بعد الطلاق، أو ورثتهما بعد موتهما، فذهب مالك إلى أنه إن ما كان من متاع النساء، فهو للمرأة مع يمينها، وما كان منه من متاع الرجال، فهو للرجل مع يمينه، وما كان منه مما يكون للرجال والنساء، فهو للرجل مع يمينه؛ لأن البيت للرجل، فيده أقوى من يد المرأة. وروي عن سحنون أنه ما كان من متاع النساء، فهو للمرأة بلا يمين. وحكاه الفضل أنه رأى لابن عبدوس معلقا بخط يده أن ابن القاسم يقول: ما كان من متاع النساء، فهو للمرأة دون يمين، وما كان من متاع الرجال، فهو للرجال دون يمين. وهذا الاختلاف في وجوب اليمين، إنما يصح في اختلاف ورثة الزوجين، أو اختلاف ورثة أحدهما مع الآخر دون تحقيق الدعوى، مثل أن يموت الرجل، فتقول المرأة لما هو من متاع النساء، هو متاعي، ويقول ورثة الزوج: احلفي لنا أن المتاع متاعك؛ لأن مورثنا مات عنه وأنت مدعية فيه، أو تموت المرأة فيقول الزوج: لما هو من متاع الرجال هو متاعي، ويقول ورثة المرأة: احلف لنا على ذاك؛ لأن المرأة هلكت عنه وأنت مدع فيه. فهاهنا لا يرى سحنون اليمين، ولا ابن القاسم، فيما حكى عنه ابن عبدوس. وهو كله من قول ابن وهب في هذه الرواية، ولا اختلاف في هذا على الاختلاف في لحوق يمين التهمة، وهي قولان مشهوران. وأما إن تداعى الزوجان في متاع البيت، فادعت المرأة شيئا من متاع النساء، وكذبها الزوج، أو ادعى الرجل شيئا من متاع الرجال، وكذبته المرأة، فلا بد في ذلك من اليمين. وقد نص على وجوب اليمين في ذلك ابن حبيب ومثله في المدونة وغيرها فلا(5/445)
اختلاف في ذلك. وقيل: إن القول قول المرأة فيما كان من متاع النساء، والقول قول الزوج فيما كان من متاع الرجال، وما كان مما يكون للرجال والنساء، قسم بينهما بعد أيمانهما. وهو قول ابن وهب هذا، وقول المغيرة، وروي مثله عن ابن القاسم، وقيل: إنه يقسم بينهما ما اختلفا فيه بعد أيمانهما، كان من متاع الرجال، أو من متاع النساء، أو مما يكون للرجال والنساء؛ لأن الرجل قد يملك متاع المرأة، والمرأة قد تملك متاع الرجل من جهة الميراث. قاله ابن وهب في المبسوطة وهو قول الشافعي، وقيل: إن القول قول الرجل في جميع ما اختلفا فيه. وإن كان من متاع النساء؛ لأن البيت بيت الرجل، والمرأة فيه عارية عنده. وهو قول محمد بن مسلمة المخزومي في المبسوطة. وبه قال الحسن. فيتحصل في متاع المرأة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه للرجل، والثاني: أنه للمرأة، والثالث: أن يقسم بينهما. وفي متاع الرجال، أو فيما كان من متاع الرجال والنساء قولان: أحدهما: أنه للرجل، والثاني: أنه يقسم بينهما وما وصف ابن القاسم أنه من متاع النساء من غير ما هو من حلي النساء، أو لباسهن، فإنما قاله فيما العرف فيه عنده أن النساء يتخذنه في بيوتهن، فإنما يرجع في ذلك أهل كل بلد إلى ما هو العرف عندهم. وقد قال في المدونة: إنهما إذا اختلفا في الدار، فالقول فيه قول الزوج؛ لأن عليه أن يسكن المرأة، والعرف عندنا في ذوات الأقدار أن المرأة تخرج الدار، فلو اختلفا فيها عندنا، لوجب أن يكون القول قول المرأة، وكذلك حفظت عن شيخنا الفقيه ابن رزق.
[مسألة: طلق امرأته ثم وطئها في عدتها]
مسألة قال: وأخبرني ابن القاسم عن مالك، أنه قال في رجل طلق امرأته ثم وطئها في عدتها، ولا ينوي ارتجاعا مثل أن يقول المطلق: ما كنت أرى إلا أن وطأها حلالا لي إلى انقضاء العدة، أو نحو(5/446)
هذا مما يرى أن وطأه إياها بعد الطلاق لم يكن للارتجاع، إنه لا يكون الوطء ارتجاعا، إلا أن ينوي بذلك ارتجاعا. قال: وقال مالك: فإن مضت العدة وهي بتلك الحال بانت منه، وإن علم بقبيح ما هو عليه قبل انقضاء العدة، فأراد ارتجاعها، كان وجه ارتجاعها الإشهاد، ولم يحل له وطؤها حتى تعتد ثلاثة قروء من يوم يرتجعها، وليس من يوم طلقها؛ لأن عليها العدة من المسيس الفاسد.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم استأذن من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[يغيب عن أهله والولد أصاغر في حجر أمهم]
ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر وسألته عن الرجل يغيب عن أهله، والولد أصاغر في حجر أمهم تلزمه نفقتهم، فإذا قدم وادعت المرأة وهي أمهم أنها أنفقت عليهم من مالها، أيلزمه ذلك أم يبرأ بمثل ما يبرأ به من نفقتها، إذا زعم أنه كان يبعث بها إليها، ولا يكون لها عليه شيء، إلا أن ترفع أمرها إلى السلطان؟ قال: حالها فيما تدعي من الإنفاق عليهم من مالها بمنزلة ما تدعي أنها أنفقت على نفسها إذا لم ترفع ذلك إلى السلطان، حتى يقدم، لم تصدق عليه، وإن رفعت ذلك إلى السلطان فرض لها ولهم، وحسبه لها عليه من يوم يفرضه، وكان لها دينا تتبع به.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الرجل يبرأ من نفقة ولده في حجر أمهم، بما يبرأ به من نفقة زوجته صحيح؛ لأنه مؤتمن على ذلك، كما هو مؤتمن في النفقة على زوجته، فليس عليه أن يشهد على شيء من ذلك، والقول فيه قوله، والأصل أنه مؤتمن في النفقة على من في حجره ممن يلزمه الإنفاق عليه مصدق. وقوله فيه دون إشهاد، هو أن الله أمره بذلك، كما أمره(5/447)
بأداء الأمانة، ولم يوجب عليه في شيء من ذلك إشهاد. فقال عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] ، كما قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ، فوجب أن يصدق في هذا، كما يصدق في هذا وكما تصدق المرأة فيما ائتمنها الله عليه من الحيض والحمل بقوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] ، وأما قوله: فإن رفعت ذلك إلى السلطان فرض لها ولهم، إلى آخر قوله. فمعناه إذا عرف ملاؤه في غيبته، وذلك أنه لا يخلو في مغيبه من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون معروف الملاء، والثاني: أن يكون معروف العدم، والثالث: أن تكون حاله مجهولة، فأما إذا كان معروف الملاء، فإن النفقة تفرض لها عليه على ما يعرف من ملائه، فتتبعه بذلك دينا ثابتا في ذمته، هذا معنى قول ابن القاسم هنا، ونص قول ابن وهب في الواضحة. وظاهر قوله فيها أنه لا خيار للمرأة في فراقه، كما يكون ذلك لها في المجهول الحال. ومعنى ذلك، إذا كان لها مال تنفق منه على نفسها، وما لم تطل إقامته عنها أيضا على ما مضى في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم. وفي رسم شهد من سماع عيسى. وأما إن كان معروف العدم فلا يفرض لها السلطان عليه نفقة؛ إذ لا تجب على العديم نفقة لامرأته، ويفرق السلطان بينهما بعد التلوم، وإن أحبت الصبر عليه، كتبت لها كتابا بذلك اليوم من ذلك الشهر، أنها قامت عنده عليه طالبة لنفقتها، فإن قدم، وعلم أنه له مال، كان القول قولها: إنها أنفقت على نفسها من ذلك اليوم، إن ادعى أنه خلف عندها، أو بعث إليها، وأما إذا كان مجهول الحال، لا يعرف ملاؤه في غيبته من عدمه، فقال في المدونة: إن السلطان لا يفرض لها نفقة على زوجها في مغيبه حتى يقدم، فإن كان موسرا فرض عليه نفقة مثله لمثلها، وقال ابن حبيب في الواضحة: إنها إن أحبت الصبر عليه أشهد لها السلطان أن كان فلان زوج(5/448)
فلانة اليوم مليا في غيبته، فقد أوجبنا عليه لامرأته فريضة مثلها من مثله. وسيأتي في سماع أصبغ القول في فرض نفقة الأبوين، والله المعين بفضله.
[يطلقها زوجها ألبتة فيكون لها السكنى في دار زوجها، فيموت]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم
قال سحنون: قال ابن القاسم في المرأة يطلقها زوجها ألبتة فيكون لها السكنى في دار زوجها، فيموت، فيقسم ورثته ماله، فلا يصير لها من جميع ماله ما يسعها من السكنى: إن عليهم أن يتوسعوا لها حتى يكون لها مسكنا في طول عدتها.
قال محمد بن رشد: إذا كانت الدار للميت، فللمرأة السكنى فيها حتى تنقضي عدتها مات بعد أن طلقها أو لم يمت، وإنما يفترق ذلك إذا لم يكن للزوج مسكن على ما يأتي القول فيه في سماع أبي زيد إن شاء الله، فإذا مات الزوج، والدار له، فللمرأة السكنى فيها حتى تنقضي عدتها، وهي أحق بذلك من الورثة ومن الغرماء، إن كان عليه دين، فإن كانت الدار ذات بيوت تنقسم، فللورثة أن يقسموها، فإن صار للمرأة في حظها من مساكنها ما يسعها للسكنى، فليس لها إلا ذلك، وإن لم يصر لها في حظها من مساكنها ما يحملها السكنى. فعليهم أن يتوسعوا لها فيها بما يقوم بها كما قال. وهذا على القول بأن للمرأة أن تعتد فيما شاءت من مساكن الدار التي كانت تسكن فيها مع زوجها، وأن تصيف في قاعة الدار، وإن لم تكن تصيف فيها مع زوجها، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة، وأما على ما لمالك في كتاب ابن المواز من أنها لا تصيف إلا في الموضع الذي كانت تصيف فيه مع زوجها، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وأما على ما لمالك في كتاب ابن المواز من أنها لا تصيف إلا في الموضع الذي كان تصيف فيه مع زوجها في حياته، فيلزمها أن تعتد في المسكن الذي كانت تسكن مع زوجها، وليس لها أن تنتقل منه إلى غيره إذ لم يبح لها أن تصيف في قاعة الدار، إلا أن كانت تصيف فيها مع زوجها قبل موته، ويأتي على قوله إن(5/449)
المرأة تسكن في ذلك المسكن بعينه على كل حال، اقتسم الورثة الدار أو لم يقتسموها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يسكن أولاده من امرأته مع امرأة له أخرى في بيت واحد]
مسألة قال: وليس للرجل أن يسكن أولاده من امرأته مع امرأة له أخرى في بيت واحد، ولا يجمعهم في مسكن واحد، إلا أن ترضى بذلك.
قال محمد بن رشد: وكذلك ليس له أن يسكن معها أبويه، قال ذلك مالك في رسم يتخذ المحرم خرقة لفرجه، من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، وذلك لما عليها في ذلك من الضرر، لاطلاعهم على أمرها، وما تريد أن تستتر به عنهم من شأنها. وقد مضى من القول على ذلك هنالك ما فيه كفاية، ومضى في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب من كتاب النكاح، القول فيما للمرأة من تسكين الصغار من غير زوجها مع زوجها، فمن أحب الوقوف على الشفا من ذلك تأمله هنالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: امرأة المفقود التي لم يدخل بها ما لها من الصداق إذا جاء زوجها وقد تزوجت]
مسألة وسئل ابن القاسم عن امرأة المفقود التي لم يدخل بها، ما لها من الصداق إذا جاء زوجها وقد تزوجت؟ وهل تكون تلك الفرقة طلاقا؟ وهل عليها في العدة إحداد؟ وهل هي من أهل العدة التي إذا تزوجت فيها فرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا؟ فقال ابن القاسم: إن كان لم يدخل بها زوجها الآخر، ردت إلى زوجها الأول، وإن كان قد دخل بها زوجها الآخر، ردت إلى زوجها الأول نصف الصداق، فإن كان قد دخل بها زوجها الآخر، ثم جاءت بينهما فرقة من موت أو طلاق، ثم تزوجها الأول، كانت عنده على تطليقتين، وكانت فرقته تطليقة. قال ابن القاسم: وعليها الإحداد في العدة بعد الأربع سنين في الأربعة أشهر وعشر، وإن دخل بها فيها فرق(5/450)
بينهما، ولم ينكحها أبدا وكان كمن تزوج في العدة.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم أسلم من سماع عيسى، القول في حكم صداق التي تفقد زوجها قبل الدخول، ومضى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، الاختلاف في وجوب الإحداد عليها في العدة، ومضى في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب النكاح، القول فيمن تزوج في هذه العدة، مستوفى، فأغنى ذلك عن إعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: تدعي على زوجها أنه طلقها وليست لها بينة ثم يموت زوجها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن المرأة تدعي على زوجها أنه طلقها، وليست لها بينة، ثم يموت زوجها، فتطلب ميراثها منه، فيقول لها الورثة: ليس لك ميراث، أليس قد زعمت أنه قد طلقك؟ فتقول: إنما ادعيت ذلك؛ لأني كنت أبغض المقام معه، ولم يطلقني، فقال: أرى لها الميراث، قال محمد بن خالد عن ابن نافع مثله.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو ادعت أنه طلقها ثلاثا، ثم صالحته، فأرادت أن تتزوجه قبل زوج، وزعمت أنها إنما ادعت ذلك؛ لأنها كانت تبغض المقام معه، لكان ذلك لها على قياس هذه الرواية، وهو قول ابن المواز، وعلى قوله يحمل ما في رسم جاع من سماع عيسى من كتاب النكاح، وما يأتي في سماع أصبغ بعد هذا من هذا الكتاب. وقد قال بعض رواة أهل المدينة: إنها لا تصدق في الميراث، ولا في الرجوع إلى زوجها، وفرق سحنون بين المسألتين فقال: يكون لها الميراث، ولا تمكن من الرجوع إلى زوجها إلا بعد زوج، وأما إذا زعمت بعد أن صالحته أنه طلقها ثم أرادت أن تتزوجه قبل زوج، فلا تمكن من ذلك، أو زعمت أنه طلقها بعد أن مات،(5/451)
فلا يكون لها ميراث. وقد روى زياد بن جعفر عن مالك في المدنية أنها ترثه. وإن مات، وهي ثابتة على قولها، وهو بعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يفقد أو يغيب فينفق رجل على أهله وولده فيقدم أو يموت في غيبته]
مسألة وقال في الرجل يفقد أو يغيب، فينفق رجل على أهله وولده، فيقدم أو يموت في غيبته، فيعلم أنه قد كان عديما في غيبته، هل يتبعه بما أنفق على أهله وولده؟ فقال: لا يتبعه بما أنفق، قلت: فيرجع بما أنفق على المرأة عليها؟ قال: نعم ولا يتبع الولد بشيء.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يتبعه إذا كان عديما بما أنفق على أهله وولده صحيح. على معنى ما في المدونة وغيرها؛ لأنه إذا كان عديما فلا نفقة لابنه عليه، وكذلك الزوجة، وإنما هي بالخيار بين أن تفارقه أو تبقى معه بغير نفقة. وقال: يرجع على المرأة بما أنفق عليها يتبعها به، وإن لم يكن لها مال. قال: لأنها كبيرة مالكة أمر نفسها فلا تذهب نفقته عليها باطلا؛ لأن رضاها بإنفاقه عليها رضى منها باتباعه ذمتها، بخلاف الولد الصغير؛ لأن الولد إذا لم يكن له مال، ولا لأبيه فهو كاليتيم الذي لا مال له، لا شيء لمن أنفق عليه؛ لأن نفقته عليه على وجه الحسبة؛ إذ ليس له أن يوجب في ذمته دينا بغير رضاه ولا برضاه؛ إذ ليس ممن يجوز على نفسه رضاه، وإذا كان له أو لليتيم مال، فللمنفق عليهما أن يرجع بنفقته في أموالهما إذا كانت له بالنفقة بينة، وإن لم يشهد أنه إنما أنفق ليرجع بعد يمينه أنه إنما أنفق عليهما ليرجع في أموالهما لا على وجه الحسبة، وكذلك إذا لم يكن للابن مال، وأبوه موسر؛ لأن يسر الأب في هذا كمال الابن. وروى محمد بن يحيى السبئي عن مالك: أنه ليس له أن يرجع في أموالهما إلا أن يكون قد أشهد أنه إنما ينفق ليرجع في ذلك. وهذا إذا أنفق على اليتيم، وهو يعلم أن له مالا، أو على الابن وهو يعلم أن له مالا، أو أن أباه موسر. وأما إذا أنفق عليهما وهو يظن أنه لا مال لليتيم، ولا للابن، ولا لأبيه، علم أن لهما مال أو أن أب الابن موسر،(5/452)
فليس له أن يرجع، وقيل: له أن يرجع. والقولان قائمان في المدونة، وبالله التوفيق.
[طلق المريض امرأته النصرانية أو الأمة في حال الحجر ألبتة]
من نوازل سحنون
قال سحنون: إذا طلق المريض امرأته النصرانية أو الأمة في حال الحجر ألبتة، ثم أسلمت أو أعتقت الأمة في العدة، ثم مات، فلا ميراث لهما؛ لأنه لا يتهم فيهما؛ لأنهما ليستا ممن كان الحجر لهما، وإن كان طلاقه لهما واحدة فأسلمت أو أعتقت في العدة، فله الرجعة؛ لأن الرجعة ليست بنكاح الملك، ألا ترى أن المحرم يرتجع ولا يتزوج؟ وإن أسلمت أو أعتقت في العدة ثم مات في العدة ولم يرتجع، فلها الميراث، وإن مات بعد انقضاء العدة ولم يرتجع، فلا ميراث لها. فخذ هذا على هذا الأصل؛ لأنه أصل قولنا، والذي لم يزل عليه أهل المدينة. وروى أصبغ عن ابن القاسم أن لها الميراث. قال أصبغ: لأنه يتهم أن يكون فر بميراثه حتى خشي أن يسلم أو يعتق، فترثه، فلما علم بذلك طلقها ولو أن مريضا تزوج أمة أو نصرانية، لم يجز ذلك وفسخ؛ لأنه يخاف أن تسلم النصرانية وتعتق الأمة، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: الظاهر من قوله: ولو أن مريضا تزوج أمة أو نصرانية، إلى آخر قوله، أنه من قول ابن القاسم، ولا إشكال أن ذلك لا يجوز على مذهب ابن القاسم؛ لأنه إذا كان متهما عنده في طلاقهما، فهو لا شك متهم في نكاحهما، وإنما الكلام هل يجوز له نكاحهما على مذهب سحنون الذي لا يتهمه في طلاقهما؟ والصحيح أن ذلك لا يجوز عنده ولا عند غيره؛ لأنه وإن لم يتهمه في نكاحهما، كما لم يتهمه في طلاقهما، فهو يفسخ من جهة فساد الصداق، للغرر الذي فيه بكونه من الثلث، وإذ لا يدري هل يثبت لها ما سمى أو صداق المثل؟ ومن جهة فساد العقد أيضا؛ إذ لا يمكن إيقاف(5/453)
النكاح حتى ينظر هل يصح أو لا يصح؟ ألا ترى أنهم لم يجيزوا للمريض أن يتزوج في مرضه امرأة قد كان طلقها في ذلك المرض، وإن لم يتهم في توريثها من أجل أنها وارثة، لعلة فساد العقد من هذه الجهة؟ وقد وقع قوله: ولو أن مريضا تزوج أمة أو نصرانية، في بعض الكتب من قول سحنون، وذلك يبين ما ذهبنا إليه أنه لا يخالف ابن القاسم، في أن النكاح لا يجوز، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق كما قال الله في كتابه]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق كما قال الله في كتابه، قال: يلزمه طلاق السنة.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن طلاق السنة هو الذي أمر الله تعالى به، وأرشد له حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] ، إلى قوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وهو الرجعة وطلاق السنة أن يطلق الرجل امرأته طلقة واحدة في طهر لم يمسها فيه، وبالله التوفيق.
[الحكمين هل يجوز ما فرقا فيه واحدة أو ثلاثا]
من سماع عبد المالك بن الحسن
من أشهب وابن وهب قال عبد المالك: وسئل أشهب وأنا أسمع عن الحكمين هل يجوز ما فرقا فيه واحدة أو ثلاثا؟ قال: إن فرقا واحدة فهي واحدة، وإن فرقا ثلاثا فهي ثلاث.
قال محمد بن رشد: اختلف في الحكمين إذا اختلفا في عدد الطلاق أو اتفق على ما فوق الواحدة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلزم من ذلك(5/454)
واحدة في الوجهين جميعا، وهو الذي في المدونة، والثاني: أنهما إن اتفقا لزم ما اتفقا عليه، وإن اختلفا لزم من ذلك ما اجتمعا عليه، وهو قول ابن القاسم، والثالث: أنهما إن اتفقا لزم ما اتفقا عليه، وإن اختلفا لم يلزم من ذلك شيء، وهو قول أصبغ، فيأتي في اتفاقهما على ما فوق الواحدة قولان: أحدهما: أن ذلك لازم، والثاني: أنه يلزم من ذلك واحدة، وفي اختلافهما إذا حكم أحدهما بواحدة، والثاني بما فوق الواحدة قولان أيضا: أحدهما: أنه يلزم من ذلك واحدة، والثاني: أن ذلك ساقط لا يلزم منه شيء، وفي اختلافهما إذا حكم أحدهما باثنتين، والثاني بثلاثة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يلزم من ذلك شيء، والثاني: أنه يلزم منه واحدة، والثالث: أنه يلزم منه اثنتان. فهذا تلخيص الاختلاف في هذا الباب.
[مسألة: يبيع امرأته هل يكون ذلك طلاقها]
مسألة وسألت ابن وهب عن الذي يبيع امرأته، هل يكون ذلك طلاقها؟ فقال: لا يكون ذلك طلاقا، ولكن إن طاوعته على البيع وأقرت أن مشتريها قد أصابها طائعة، رجمت، وإن زعمت أنه استكرهها برئت من الحد ولم يكن عليها شيء، وفي كتاب الاستبراء من كتاب أسد، قال ابن القاسم: أرى بيعه طلاقا، قال سحنون عن ابن نافع: وتكون طلقة بائنة، قيل لسحنون: غاب عليها المشتري أو لم يغب قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا الذي ذكر أنه في كتاب الاستبراء من الأسدية لم يقع في المدونة، وقد مضى ما في هذه المسألة من الاختلاف في أول رسم من سماع ابن القاسم، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقوله: إنها ترجم إن وطئها مشتريها طائعة، خلاف قول ابن القاسم في رسم جاع من كتاب الحدود في القذف، وسيأتي الكلام على ذلك هنالك إن شاء الله، وبالله التوفيق.(5/455)
[مسألة: يقول لا أجد ما انفق على امرأتي إلا الخبز وحده هل يفرق بينهما]
مسألة وسألته عن الرجل يقول: لا أجد ما انفق على امرأتي إلا الخبز وحده، أترى أن يفرق بينهما إذا أرادت فراقه؟ قال: نعم، إلا أن يكون مع الخبز الكسوة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم الأقضية من سماع يحيى، وهو مما لا اختلاف فيه، أن على الرجل نفقة زوجته وكسوتها، بنص قول الله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، وأنه يجب أن يفرق بينهما لعجزه عنهما أو عن أحدهما، وأنه لا يفرق بينهما إذا قدر من نفقتها على الخبز، ولو يوما بيوم، غير مادوم، ومن الكسوة ما يشبهها ولا يعرها إذا لبسته. واختلف إذا عجز عن القمح، ولم يقدر إلا على الشعير، وأهل البلد لا يأكلونه، على ما مضى القول فيه في رسم الكبش من سماع يحيى. واختلف أيضا إذا عجز عما يشبهها من الكسوة، فقال في رسم الأقضية من سماع يحيى: إنه لا يفرق بينهما ما وجد ما يواري به جسدها من العري، وقال أشهب في كتاب ابن المواز: وليس له أن يقصر بها عما يشبهها على ما مضى القول فيه في رسم الجواب من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: قام بالنفقة ولم يقم بالكسوة]
مسألة وسئل عن الرجل إذا قام بالنفقة ولم يقم بالكسوة، قال: يفرق بينهما.
قلت له: فكم يستانا في الكسوة، إذا قال: أرجو أن يأتي شيء؟ قال: شهرين، قال: وإذا قام بالنفقة لم يعجل عليه في الطلاق.
قلت له: كم يضرب له في الصداق إذا كان يجري النفقة؟(5/456)
قال: فقال مالك: سنتين أو ثلاثا ورأي ابن وهب ثلاثا.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا قام بالنفقة لم يعجل عليه في الطلاق، ويستانا به في الكسوة شهرين، يدل على أنه لا يستانا به في النفقة شهرين، وقد مضى في رسم الجواب من سماع عيسى الاختلاف في قدر ما يتلوم له في النفقة إذا عجز عنها، فلا معنى لإعادة ذلك. وقوله: إنه يضرب له في الصداق إذا كان يجري النفقة السنتين والثلاث، معناه إذا عجز عن الصداق، وأما إذا اتهم بأنه غيب ماله، فلا يوسع له في الأجل. قال ذلك ابن حبيب، إلا أنه جعل حد ما يتلوم له في الصداق إذا عجز عنه واجدا النفقة السنتين قال: ولو عجز عن الصداق والنفقة جميعا لم يوسع عليه في أجل الصداق إلا الأشهر إلى السنة. وهذا إذا طلبته المرأة بالصداق، وتركت أن تطلبه بأجل النفقة والتلوم عليه فيها. قال ذلك محمد بن المواز وهو صحيح، ولو كان له مال ظاهر لحكم عليه بدفع الصداق، وأمر بالبناء على امرأته، وهذا كله قبل الدخول، وأما بعد الدخول فلا يفرق بينهما بعجزه عن الصداق، وهو دين لها تتبعه به متى أيسر قاله مالك في المدونة وغيرها.
[تدعي أن زوجها طلقها ألبتة وقد صالحته ثم أرادت مراجعته قبل زوج]
ومن سماع أصبغ من ابن القاسم
من كتاب الحدود والبيوع
قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن المرأة تدعي أن زوجها طلقها ألبتة، وقد صالحته ثم أرادت مراجعته قبل زوج، قال: إن شهد عليها بذلك شاهدان، رأيت أن يمنع من مراجعتها ويجبر على ذلك.
قلت: فإن لم يكن إلا شاهد واحد فأنكرت شهادته أو أقرت، وقالت: إنما كنت كاذبة. قال: إن أقرت بأنها كانت قد قالت ذلك، رأيت أن يمنع أيضا ولا تصدق في قولها: إني كنت كاذبة، فإن(5/457)
أنكرت شهادته أصلا وزعمت أنها لم تقل من ذلك شيء رأيت أن تستحلف مع شهادة الشاهد، فإن أبت أن تحلف، لم أر أن تمنع من ذلك بحكم، ويخلى بينها وبين ذلك. وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: أما إذا ادعت بعد أن صالحها وبانت منه، أنه كان طلقها ثلاثا، فلا اختلاف أعلمه في أنها لا تمكن من الرجوع إليه قبل زوج، وقد وقع في كتاب محمد لابن القاسم في الأمة تحت العبد فتختار نفسها، ولا نية لها، ثم تقول بعد ذلك: أردت الثلاث - إنها لا تصدق إذا لم يتبين ذلك عند اختيارها، ويقال لها: إن كنت صادقة فلا تنكحيه إلا بعد زوج، وليتورع هو عنها. والمعنى في ذلك عندي أنه رأى اختيارها نفسها بطلقة واحدة طلاقا رجعيا يكون للزوج عليها الرجعة، ما دامت في العدة إن أعتق على ما مضى له في رسم إن خرجت من سماع عيسى، فلا يصدقها إن أعتق أنها أرادت الثلاث، لاتهامها أنها أرادت قطع الرجعة عليه، واستحب للزوج أن يتورع عنها فلا يراجعها لاحتمال أن تكون صادقة في قولها. وحملها ابن المواز على أنها معارضة لرواية أصبغ. واختار رواية أصبغ، وقال: إنها حجة عليها. وقوله: إنها تستحلف مع شهادة الشاهد، معناه لشهادة الشاهد؛ لأنها لا تحلف معه بما شهد به، وإنما تحلف على تكذيبه بما شهد به عليها أنها قالته. وفي قوله: إنها إن لم تحلف خلي بينها وبين ذلك نظر؛ إذ لا معنى ليمين لا يوجب النكول عنها حكما، فكان القياس إذا أبت اليمين أن تمنع من ذلك. وقد قال في رسم جاع من كتاب النكاح من سماع عيسى: إنه لا يمين عليها بالشاهد الواحد. وقد مضى في سماع سحنون قبل هذا الاختلاف إذا أقرت بذلك وهي في العصمة، وبالله التوفيق.
[يغيب ويحتاج أبواه وامرأته وله مال حاضر فيرفعاه إلى السلطان]
ومن كتاب الكراء والأقضية
قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الذي يغيب ويحتاج أبواه(5/458)
وامرأته وله مال حاضر، فيرفعاه إلى السلطان، قال: يباع ماله وينفق عليهما. قلت: فإن لم يكن له مال حاضر، أيؤمران أن يتداينا عليه، ويقضى لهما بذلك؟ فقال: أما الزوجة فنعم، وأما الأبوان فلا؛ لأنهما لو لم يرفعوا ذلك حتى يقدم فأقر لهم جميعا بذلك، غرم للمرأة، ولم يكن عليه أن يغرم ذلك للأبوين، وإن أقر لهما؛ لأن المرأة نفقتها عليه موسرة كانت أو معسرة، والمرأة تحاص الغرماء إذا رفعت ذلك، وكان يوم أنفقت موسرا، والأبوان ليسا كذلك، قال أصبغ: فنفقة الأبوين لا تجب إلا بفريضة من السلطان حين يجدهما يستحقانها، ويجد له مالا بعد يعديهما فيه وإلا فلا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن مال الغائب يباع في نفقة أبويه هو مثل ما في كتاب إرخاء الستور من المدونة وكان الشيوخ يفتون أن أصول الغائب لا تباع في نفقة أبويه، بخلاف نفقة زوجته، ويتأولون أن المراد بمال الغائب الذي يباع في نفقة أبويه عروضه لا أصوله، والفرق عندهم في ذلك بين نفقة الزوجة ونفقة الأبوين أن نفقة الزوجة واجبة حتى يعلم سقوطها، ونفقة الأبوين، ساقطة حتى يعلم وجوبها بمعرفة حياته، وأنه لا دين عليه يغترق ماله، وقد كان القياس على هذا ألا يباع عليه أيضا عروضه في مغيبه، لاحتمال أن يكون حين الحكم عليه بذلك ميتا وأن يكون عليه دين يغترق عروضه، إلا أن ذلك في العروض استحسان. وبهذا المعنى فرقوا أيضا بين نفقة الزوجة والأبوين، في أن الأبوين لا يفرض لهما النفقة عليه في مغيبه وإن كان موسرا، إذا لم يكن له مال حاضر، ولا يومران أن يتداينا عليه، وإن فعلا لم يلزمه من ذلك شيء، بخلاف الزوجة في ذلك كله، ويلزم على الفرق الذي ذكرناه، لو كانت النفقة فرضت لهما عليه قبل مغيبه، فغاب وترك أصوله أن تباع عليه في نفقتها. وقوله: إن المرأة تحاص الغرماء بما أنفقت من يوم رفعت إذا كان يوم أنفقت موسرا، يدل على أنها لا تحاص إلا في الدين المستحدث، مثل قول(5/459)
سحنون في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم. وقد مضى بيان ذلك هنالك. وقوله يعديهما فيه، مثله في كتاب ابن المواز، وهو يدل على أنه محمول على العدم حتى يثبت ملاؤه على ما ذهب إليه ابن الهندي خلاف ما ذهب إليه ابن العطار، وبالله التوفيق.
[نزلت به يمين في امرأته فأفتى بأن قد بانت منه]
ومن كتاب النكاح
قال: وسئل ابن القاسم عمن نزلت به يمين في امرأته، فأفتى بأن قد بانت منه، فقال لها: وقال للناس: قد بانت مني، ثم علم أنه لا شيء عليه، قال: لا ينفعه، وأراها قد بانت منه إذا قال ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا قول أشهب أيضا، وقد حكى ابن حبيب أنه لا شيء عليه. وقال سحنون في كتاب ابنه: إن قال ذلك على وجه الخبر يخير مما قيل له فلا شيء عليه، وإن قال ذلك يريد الطلاق، طلقت عليه. والذي أقول به في هذا: إنه إن كان الذي أفتى به خطأ مخالفا للإجماع، لا وجه له في الاجتهاد، فلا شيء عليه، وإن كان قول قائل، أو له وجه في الاجتهاد أو مفتيه به من أهل الاجتهاد، فالطلاق له لازم؛ لأن إخباره بذلك التزام منه لفتوى المفتي، فينبغي أن يرد الاختلاف المذكور في المسألة إلى هذا. وهذا كله إذا أتى مستفتيا، وأما إذ أحضرته البينة بقوله لها وللناس: قد بانت مني، ثم ادعى أنه إنما قال ذلك؛ لأنه أفتي أنها قد بانت منه، وهي لم تبن منه ولم يعلم ذلك إلا بقوله، فلا يصدق في ذلك، ويؤخذ بما ظهر من إقراره هو نفسه بالطلاق، ولو كان لما حضرته البينة بقوله: قد بانت مني، وادعى أنه إنما قال ذلك؛ لأنه أفتى به غلطا، أقام البينة على أنه أفتي بذلك، لوجب أن يصدق في أنه قال ذلك كذلك مع يمينه على ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته اذهبي فتزوجي فلا حاجة ل بك]
مسألة وسئل عن الذي يقول لامرأته: اذهبي فتزوجي فلا حاجة لي(5/460)
بك، قال: إن لم يكن أراد بذلك طلاقا فلا شيء عليه، وقاله أصبغ، وقد قال مالك نحو ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا أتى مستفتيا غير مطلوب، وأما إذا خوصم في قوله وطلب به، فتلزمه اليمين ما أراد بذلك الطلاق؛ لأن الشبهة في قوله: إنه أراد بذلك الطلاق بينة، يبين هذا ما مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم حلف منه، ورسم سن.
[مسألة: قالت له امرأته إن لم تتزوج علي فصداقي عليك صدقة]
مسألة وسئل عن رجل قالت له امرأته: إن لم تتزوج علي فصداقي عليك صدقة، فقبل ذلك منها ثم طلقها، هل ترجع في صداقها ذلك؟ قال: إذا طلقها بحضرة ذلك وحدثانه رجعت عليه، وإن طلقها بعد ذلك بما يرى أنه لم يطلقها، لمكان ذلك وما أشبهه، لم ترجع عليه بشيء، وكذلك بلغني أن مالكا قاله. وقاله أصبغ، وإن كان الطلاق الذي بحدثان ذلك بيمين نزلت لم يتعمد ولم يستأنف مثل يمين قد كان حلف بها قبل ذلك، فحنث فيها عند ذلك، فلا شيء عليه أيضا. قال أصبغ: سئل ابن القاسم، عن رجل قال لامرأته: إن لم تتركي لي صداقك فأنت طالق فتركته ثم طلقها هل ترجع عليه؟ قال: لا ترجع عليه، وليس لها أن ترجع عليه بشيء طلقها بحدثان ذلك أو بعد ذلك، وليست مثل الأولى، ولو شاءت هذه نظرت لنفسها وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: الفرق بين المسألتين، أنها في المسألة الأولى إنما تصدقت عليه بالصداق، على أن يمسكها ولا يتزوج عليها؛ لأن هذا هو المعنى فيما اشترطت من ألا يتزوج عليها، فإذا طلقها ولم يمسكها، وجب أن ترجع فيما تصدقت به عليه إن لم يف لها بالمعنى الذي تصدق عليه من أجله، وذلك بمنزلة أن يسألها أن تضع عنه صداقها، فتقول له: أخشى إن فعلت أن(5/461)
تطلقني، فيقول: لا أفعل، فتضع عنه، فيطلقها بفور ذلك، على ما وقع في سماع سحنون، من كتاب جامع البيوع. وأما المسألة الثانية، فإنما هي يمين بالطلاق قد لزمته، لا بد أن يقع عليه إن لم تترك له الصداق، فتركها له الصداق، إنما هو فرار من وقوع تلك اليمين التي حلف بها، فلا شيء لها في طلاقه إياها بعد ذلك، إلا أن تنظر لنفسها فتقول: لا أترك لك الصداق إلا على ألا تطلقني بعد ذلك، وهذا بين، والله أعلم.
[مسألة: النصراني تسلم امرأته هل عليه أن ينفق عليها ما دامت في العدة]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن النصراني تسلم امرأته، أعليه أن ينفق عليها ما دامت في العدة؟ قال: نعم، هو أحب إلي أن يكون عليه ذلك أن ينفق عليها من يوم تسلم، وقيل: إن يسلم هو؛ لأنه أحق بها ما دامت في العدة، بمنزلة الذي يطلق واحدة، إن عليه أن ينفق عليها ما دامت في عدتها. وهذا ليس يمنعه إلا الإسلام، وإسلامه رجعة، إن أسلم فهي امرأته، فلا رجعة يحدثها، يرثها وترثه، ويكون أولى بها، وإن تركها لا يطلقها حتى تخرج من العدة، فهي امرأته، كما هي على حال ما كانت إذا كان قد أسلم في العدة، وقاله أصبغ كله وبلا مهر، وقد تنزل بالسلطان، فأرسل إلي فقضيت به.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم باع شاة من سماع عيسى أنه لا نفقة لها، وتكلمت هنالك على توجيه كل واحد من القولين فلا معنى لإعادة ذلك هاهنا.
[مسألة: شهد عليه شاهدان بالبتة فطلق عليه القاضي]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن شهد عليه شاهدان بالبتة فطلق عليه القاضي، والرجل يعلم أنهما شهدا عليه(5/462)
بزور أيتزوجها؟ قال: فيما أعلم، نعم، قال أصبغ: يريد إن خفي له النكاح بغير زوج، وأنا لا أرى ذلك؛ لأنه يلبس بذلك على غيره من الجهال، ولعله ممن يقتدى به، وينظر إليه، ويلبس أحكام الإسلام وحدوده، ويعرض نفسه للسلطان، والسلطان لا يعرف حقيقته، وإنما يأخذ بما ظهر، فلا أراه يسعه ذلك فيما بينه وبين الله، وإن خفي لهذا، ولقد أمر أهل العلم الذي يرى الهلال وحده في الفطر ألا يفطر، وأن يصوم وهو يعلم أنه يوم الفطر. وقد نهى الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن صيامه لهذا وأشباهه وهو قول أهل العلم من السلف وغيرهم، فيه مجتمع عليه بذلك، فكذلك الأول وأشد وأحرى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لا شيء عليه في تزويجها قبل زوج إذا علم أن الشاهدين إنما شهدا عليه بزور، من وجه تعريض نفسه للتهمة وعقوبة السلطان، والإلباس على الناس، إذا كان ممن يقتدى به؛ لأن حكم الحاكم بالظاهر لا يحيل الأمر عما هو عليه في الباطن عند من علمه، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] ، الآية، وهو قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» الحديث. ويأتي على مذهب أهل العراق، الذين يرون حكم الحاكم بالطلاق طلاقا في الظاهر والباطن، وأن الرجل إذا علم أن الإمام طلق على الرجل زوجته بشهادة زور، يجوز له أن يتزوجها - أنه لا يحل له أن يتزوجها قبل زوج وإن خفي له ذلك، وأمن من عقوبة السلطان. وأما قوله في الذي يرى هلال شوال وحده: إن أهل العلم أمروه ألا يفطر وأن يصوم لهذا المعنى، فهو مثل ما في الموطأ، والمدونة، وسماع أبي زيد من كتاب الصيام.(5/463)
واستحب ابن حبيب أن ينوي الفطر. وقد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامه لهذا وأشباهه، ولا يظهره، والصواب أن هذا هو الواجب عليه أن يفعله، وإن كان مخالفا لظاهر الروايات؛ لأن الصوم من أفعال القلوب، فلا يحل له أن ينوي الصوم وهو يعلم أن ذلك عليه حرام، وبالله التوفيق.
[مسألة: يطلق امرأته وهي حائض ولا تعلم ولا يرتجع حتى تطهر من الحيضة فيطلقها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يطلق امرأته وهي حائض ولا تعلم، ولا يرتجع حتى تطهر من الحيضة، فيطلقها وهي حائض طاهر منها، ثم تعلم به، أيجبر على الرجعة؟ قال: نعم، يجبر على الرجعة ما لم تنقض العدة من الطلاق الأول، ثلاث حيض، إلا أن يكون قد ارتجع بعد طلاقه إياها وهي حائض، ثم طلقها بعد ذلك وهي طاهر حين طهرت فيها أو من بعد ذلك، فهذا لا يجبر على الرجعة ولا رجعة عليه، قيل لابن القاسم: أرأيت إذا قال: لا أرتجع، ما يصنع به السلطان؟ قال: يجبره. قلت لابن القاسم: وكيف ذلك الإجبار؟ أيقضي عليه بالرجعة ويشهد على القضية عليه بذلك، وتكون رجعة، وتكون امرأته بتلك الرجعة أبدا حتى إن خرجت من العدة وماتا توارثا، إلا أن يحدث طلاقا بعد ذلك؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المطلق في الحيض يجبر على الرجعة وإن طلقها بعد أن طهرت من تلك الحيضة صحيح، بين في المعنى؛ لأن هذه الطلقة الثانية لا عدة لها ولا تهدم عدة الطلاق الأول، فوجب أن يجبر على الرجعة ما لم تنقض العدة على مذهب ابن القاسم، أو ما لم تطهر من الحيضة الثانية على مذهب أشهب، وقال: إنه إن أبى الرجعة يجبر عليها، والإجبار يكون بأن يقضي عليه بها، ويشهد على القضية، فظاهر هذا أنه لا يضرب ولا يسجن، خلاف ما حكى ابن المواز عن ابن القاسم وأشهب أنه يهدد، فإن أبى سجن، فإن أبى ضرب، ويكون ذلك كله في موضع واحد؛ لأنه مقيم على(5/464)
معصيته، فإن أبى قضي عليه بالرجعة، وألزم إياها. واختلف إذا قضي عليه بها، وألزم إياها كارها ولا نية له في ارتجاعها، هل يجور له وطؤها أم لا؟ فقيل ذلك له جائز؛ لأنها ترجع إلى عصمته بالحكم، وإن كان لذلك كارها كالسيد يجبر عبده على النكاح، فيجوز له الوطء، وقيل: لا يجوز له أن يستمتع بشيء منها، إلا أن ينوي مراجعتها، والأول أظهر. والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: ادعت أنه طلقها وهي حائض وينكر الزوج ذلك]
مسألة قلت له: أرأيت إذا ادعت أنه طلقها وهي حائض، وينكر الزوج ذلك، ويزعم أنه طلقها وهي طاهر؟ قال ابن القاسم: القول قول الزوج.
قال محمد بن رشد: قد روي عن ابن القاسم: أن القول قول المرأة، ويجبر على الرجعة، وهو قول سحنون. وجه هذا أن المرأة مصدقة في الحيض وموتمنة عليه. ووجه القول الأول أنها مدعية على الزوج ما يوجب لها الرجوع إلى عصمته من طلاقه إياها في حال لا يجوز له، وبالله التوفيق.
[النصرانية تسلم تحت النصراني ثم يسلم زوجها بعدها فيريد رجعتها]
من نوازل سئل عنها أصبغ قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في النصرانية تسلم تحت النصراني، ثم يسلم زوجها بعدها، فيريد رجعتها، فتزعم أنها حاضت ثلاث حيض بعد إسلامها، وأن إسلامها كان منذ أكثر من أربعين يوما لما يحاض في مثل ذلك، ويزعم الزوج أن إسلامها منذ عشرين ليلة، لما لا يحاض في مثله ثلاث حيض، إن الزوج مصدق، والقول قوله؛ لأنها مدعية عليه، لتمنعه الرجعة، بمنزلة الذي يطلق امرأته واحدة، ثم يريد رجعتها، ويقول: إنما طلقتها(5/465)
أمس وتقول هي بل طلقتني منذ شهرين، وقد حضت ثلاث حيض، فالقول قول الزوج.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا على خلاف أصله في نوازله من كتاب العيوب، في الرجل يشتري العبد، فيحدث به بعد الشراء بمدة برص أو جذام، فيدعي أن العهدة لم تنقض وأن ابتياعه إنما كان منذ ستة أشهر، ويقول البائع: بل بعتكه منذ عام أو عامين، إن القول قول البائع؛ لأن المبتاع مدع يريد رد العبد على ما روى عنه عبد الأعلى إن القول قول المبتاع، ويرد العبد، وهو مذهب سحنون. قال: القول قول البائع، خلاف مما أجمع عليه أصحابنا في التمييز بين المدعي والمدعى عليه، ومن لزمته العهدة، فادعى أنها قد انقضت فهو المدعي، وعليه إقامة البينة؛ لأن دعوى انقضاء العدة كدعوى انقضاء العهدة، يدخل فيها من الاختلاف ما يدخل في دعوى انقضاء العهدة، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق ألبتة إن كنت حائض قالت أنا حائض]
مسألة قال أصبغ في رجل قال لامرأته: أنت طالق ألبتة إن كنت حائض قالت: أنا حائض، قال: أرى أن يخلي سبيلها، وأن الطلاق قد وقع عليها، ولو قالت: لست بحائض، لم أر أن يصدقها ولا يقبل منها، ولا ينتفع بذلك، وليخل سبيلها؛ لأن ذلك شك لا يدري ما هو عليه منها أصادقة هي أم كاذبة؟ فلا يقيم على الشك، إلا أن ينكشف له ذلك بأسباب يقبل عملها ويقع على يقينها به.
قال محمد بن رشد: قوله: فلا يقيم على الشك، يريد ويفرق بينهما بالحكم، هذا مذهب أصبغ فيما كان من هذا النوع مما يحلف الحالف فيه على غيره فيما قد مضى، فيكون الشك فيه قائما؛ إذ لا يعلم حقيقته إلا من جهته،(5/466)
ولا يدري هل صدقه؟ مثل أن يقول امرأتي طالق إن كنت تبغضني أو إن لم تصدقني فتقول: أنا أحبك، ويخبره، ويزعم أنه قد صدقه وما أشبه ذلك. وابن القاسم يرى في مثل هذا أنه يؤمر ولا يجبر. وقد مضى هذا المعنى في رسم القطعان من سماع عيسى.
[مسألة: صالح امرأته على أن ترضع ولده سنة]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل صالح امرأته على أن ترضع ولده سنة، فإن أبت أن ترضعه، فله عليها عشرة دنانير. قال أصبغ: أرى صلحهما على ما وقع وهي بالخيار، وليس هذا من عمل المسلمين، ولا بجميل، وله شرطه.
قال محمد بن رشد: هذا من قول أصبغ على أصله، في أن الصلح بالحرام يمضي، ولا يفسخ؛ لأنه صلح بحرام؛ لأنها قد ملكت بضعها على أنها بالخيار في شيئين، يجوز تحويل أحدهما في الآخر لأنه دين بدين، وذلك حرام. ألا ترى أنه لو استأجرها على رضاع ابنه سنة يعرض دفعه إليها، على أنها بالخيار بين أن ترضعه السنة أو تدفع إليه عشرة دنانير؟ لم يجز، وكان ذلك حراما؛ لأنها إن أرضعته فقد فسخت العشرة التي ملكت فيها في الرضاع؛ فكان ذلك دينا بدين، والذي يأتي على قول الجمهور في هذه المسألة، أن يفسخ الصلح ويمضي الطلاق ولا يكون عليها شيء، أو يكون عليها خلع مثلها على ما مضى من تحصيل القول في ذلك في رسم حلف من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[عترض عن امرأته فضرب له أجل سنة]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من عبد الرحمن بن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم: في رجل اعترض عن امرأته، فضرب له أجل سنة، فلما جاءت السنة قالت: لا تطلقوني وأنا أتركه إلى أجل آخر، قال: ذلك لها ثم تطلق متى شاءت بغير أمر(5/467)
السلطان، وكذلك الذي يحلف بالطلاق، ليقضين فلانا حقه، فرفعت أمرها، أنه يوقف عن امرأته، فإذا جاءت أربعة أشهر، قيل له: وإلا طلقها عليك، فتقول امرأته: لا تطلقوني وأنا أنظره شهرين أو ثلاثة، لعله يقضيه، قال: فذلك لها أن تطلق متى شاءت بغير أمر السلطان.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن لها أن تطلق متى شاءت، ومعناه بعد الأجل الذي أنظرته إليه؛ لأن الطلاق على المعترض عن امرأته بعد السنة، وعلى المولي بعد الأربعة أشهر ليس بلازم، وإنما هو حق لها على الزوج في ألا يزاد على أحد هذين الأجلين شيئا، فإن رضيت هي بأن تزيده على أحدهما كان ذلك لها، ولا يبطل بذلك ما وجب لها من الحق في أن تطلق نفسها عند الأجل. وقد قال أصبغ: بعد أن تحلف ما كان تركها له عند الأجل الأول تركا للأبد، ولا رِضًى منها بالإقامة عليه على ذلك الارتجاع فيه، وتنظر، ولترى رأيها، وذلك بعيد؛ لأنها إذا قالت: أنا أنظره إلى أجل كذا وكذا، فقد بينت أنها على حقها عند الأجل الذي أنظرته إليه، فلا وجه ليمينها، وإنما يختلف لو تركته بعد وجوب القضاء لها، بمضي الأجل شهرا أو شهرين، ثم أرادت أن تطلق عليه، وقالت: إنما أقمت متلومة عليه، فقال مالك في رواية ابن القاسم عنه: ذلك لها، واختلف قوله في يمينها على ذلك. وقال ابن وهب في سماع يحيى من كتاب التخيير والتمليك، وأشهب في سماع عبد المالك منه: ليس ذلك لها، وقد سقط ما كان بيدها، وبالله التوفيق.
[مسألة: المعترض عنها زوجها فترفع ذلك إلى السلطان]
مسألة وقال مالك: في المعترض عنها زوجها فترفع ذلك إلى السلطان، إنها إن رفعت ذلك وزوجها مريض، لم يضرب له أجل حتى يصح، وإن ضرب له أجل وهو صحيح فمرض بعد ذلك، لم يزد شيئا على السنة لما أصابه فيها من المرض.(5/468)
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم الطلاق من سماع يحيى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الحصور الذي لا يقدر على المسيس هل يضرب له أجل المعترض]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الحصور الذي لا يقدر على المسيس، إنما معه مثل التالولة، هل يضرب له أجل المعترض، وهو لا يطمع له بوطء، قال: يطلق عليه مكانه وهو بمنزلة الخصي.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن الأجل إنما يضرب للمعترض، رجاء أن يتداوى فيطلق من اعتراضه، ويلم بأهله، فإذا لم يكن في ذلك رجاء، لم يكن لضرب الأجل معنى.
[مسألة: لا يجد ما ينفق على امرأته فيتلوم له ثم يجاب]
مسألة قال ابن القاسم: في الذي لا يجد ما ينفق على امرأته، فيتلوم له، ثم يجاب، فيطلق عليه بعد التلوم، فتقول امرأته: لا تطلقوني عسى الله أن يرزقه، فتمكث أياما ثم تجيء، فتقول: طلقوني عليه. قال: ليس ذلك لها، ولا يعجل عليه ويتلوم له أيضا ثانية.
قال محمد بن رشد: قال في هذه المسألة: إن الطلاق لا يعجل عليه، ويتلوم له أيضا ثانية. وقال في أول السماع في امرأة المعترض والمولي إذا أنظرتاه بعد الأجل الواجب في ذلك، إلى أجل آخر، إن لهما أن يطلقا عند الأجل الذي أنظرتاه إليه، ولا يستأنف لهما في ذلك ضرب أجل آخر، والفرق بين الموضعين، أن الأجل للمعترض والمولي سنة متبعة، لا مدخل للاجتهاد فيها، فإذا حكم بها ووجب للمرأة القضاء بتمام الأجل، لم ينتقض الحكم الماضي بتأخير المرأة ما وجب لها من الحق إلى أجل آخر، والتلوم للعاجز عن النفقة ليس فيه حد محدود، ولا سنة متبعة، وإنما فيه الاجتهاد من العلماء، فإذا رضيت بالمقام معه بعد أن تلوم له، بطل ذلك التلوم، ووجب ألا تطلق عليه إذا قامت ثانية إلا بعد تلوم آخر، وبالله التوفيق.(5/469)
[مسألة: طلق امرأته وهي حامل ثم مات]
مسألة وقال في رجل طلق امرأته وهي حامل، ثم مات: إن لها السكنى لا نفقة لها؛ لأن السكنى أوكد من النفقة.
قال محمد بن رشد: يريد أنه يطلقها ثلاثا أو طلقة بائنة، ولا مسكن له ثم مات وهي حامل، فرأى أن السكنى قد وجب لها في مال الزوج بالطلاق قبل الوفاة، ولا تسقط بموته، كما تسقط النفقة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، قال هاهنا: لأن السكنى أوكد من النفقة، وإنما قال: إنه أوكد من النفقة، من أجل أن المتوفى عنها زوجها وهى حامل يكون لها السكنى إن كانت الدار للميت، أو كان قد نفد كراؤها إن كانت بكرا، ولا نفقة لها، فليست بحجة بينة؛ إذ لم يتكلم على أن الدار للميت. والصواب أن السكنى تسقط كما تسقط النفقة، كما أنه إذا مات ولم يطلق، لا يجب لها في لماله سكنى ولا نفقة، وهي رواية ابن نافع عن مالك في المدونة، وإجماعهم على أن النفقة تسقط بالموت حجة على أن السكنى يسقط بالموت أيضا؛ إذ لم يجب جميعه في ماله بالطلاق، وإنما يجب عليه شيئا بعد شيء، فما لم يأت منه لم يجب عليه بعد، ولا تقرر في ذمته، بدليل أنه لو أعسر في حياته، لسقط عنه السكنى، فوجب أن يسقط عنه بموته، كما تسقط عنه النفقة بموته، وكذلك قال يحيى بن عمر: إن السكنى ينقطع بموته، كما تنقطع النفقة، ففي جعل ابن القاسم جميع الكراء متقررا في ذمته بالطلاق، وهو لم يأت بعد نظر، فرواية ابن نافع عن مالك، هي التي يوجبها النظر، ولو كان الطلاق رجعيا لم يختلف في أن السكنى تسقط، كما تسقط النفقة؛ لأن المرأة ترجع إلى عدة الوفاة إذا مات زوجها وهي في العدة من الطلاق الرجعي، والمعتدة من الوفاة لا سكنى لها في مال الميت، إذا لم تكن معه في مسكن يملكه، ولا إذا إكراه، وكذلك لو كان المسكن للميت فطلقها ثلاثا وهي حامل، ثم مات، لسقط السكنى أيضا على قياس رواية ابن نافع عن مالك في المدونة، ولا يسقط على مذهب ابن القاسم، ولو قال قائل: إنه لم يتكلم في رواية أبي زيد إلا على أن المسكن(5/470)
للميت بدليل قوله: لأن السكنى أوكد من النفقة؛ إذ لا يكون السكنى أوكد من النفقة إلا إذا كانت الدار للميت، ويقام تعليله، إن المسكن إذا لم يكن للميت يسقط السكنى عنه كما تسقط النفقة لكان تأويلا ظاهرا، يؤيده أن ذلك منصوص لابن القاسم في المدنية قال فيها: إن كانت الدار للميت أو كانت بكرا فنفد الكراء لم يسقط حقها في السكنى بموته، وإن لم تكن الدار للميت سقط حقها في السكنى بموته، ولم يجب لها في ماله شيء، ويتحصل في المسألة على هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أن السكنى يسقط كما تسقط النفقة، كانت الدار للميت أو لم تكن، وهو الصحيح في القياس الذي يأتي على قياس رواية ابن نافع عن مالك، والثاني: أنه لا يسقط، كانت الدار للميت أو لم تكن، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة؛ لأنه إذا لم يسقط حقها إذا لم تكن الدار للميت، فأحرى ألا يسقط إذا كانت الدار للميت، والثالث: أنه يسقط إذا لم تكن الدار للميت، ولا يسقط إذا كانت الدار له، وهو نص قول ابن القاسم في المدنية والذي يقوم من هذه الرواية على هذا التأويل.
[مسألة: تفسير المفقود]
مسألة وسئل عن تفسير المفقود فقال: هو الذي يعمى أمده، وينقطع خبره، ولا يدرى البلد الذي هو به. قال مالك: ولو عرف البلد الذي نزع إليه وغاب خبره كان مفقودا.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم، ومضى في أول سماع أشهب، وفي رسم أسلم من سماع عيسى وفي غيره من المواضع جمل كافية من أحكام المفقود، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: النصرانية يطلقها زوجها النصراني فتحيض حيضة فيتزوجها مسلم]
مسألة وقال في النصرانية يطلقها زوجها النصراني فتحيض حيضة(5/471)
فيتزوجها مسلم، قال: لا أفسخ نكاحه ذلك، دخل بها أو لم يدخل؛ لأن مالكا قد كان يقول قديما تجزيها حيضة.
قال محمد بن رشد: قوله: لأن مالكا قد كان يقول قديما تجزيها حيضة، يدل على أن الذي رجع إليه أنه لا يجزيها، إذا أراد المسلم أن يتزوجها إلا ثلاث حيض، وهو الذي في المدونة، فعلى قوله فيها يفسخ النكاح إن تزوجها قبل ثلاث حيض، وهو قول ابن وهب في كتاب ابن المواز وهذا الاختلاف يدخل في المعنى في النصرانية يطلقها المسلم؛ لأن الأصل في اختلافهم في الكفار، هل هم مخاطبون بشرائع الإسلام أم لا؟ فعلى القول بأنهم مخاطبون بشرائع الإسلام، لا يجوز للمسلم أن يتزوجها إذا طلقها زوجها، مسلما كان أو نصرانيا إلا بعد ثلاث حيض، وتمنع من نكاح نصراني إذا طلقها مسلم إلا بعد ثلاث حيض، وعلى القول بأنهم غير مخاطبين بشرائع الإسلام، يكتفى في ذلك كله بحيضة، على القول بأن الحيضة الواحدة هي للاستبراء، والاثنتان عبادة لغير علة، وكذلك المجوسية إذا أسلم زوجها فأبت الإسلام، يدخل فيها هذا الاختلاف، وهو موجود أيضا. حكى ابن المواز عن ابن القاسم من رواية أبي زيد عنه أنها تستبري نفسها بالحيضة. وقال أحمد بن ميسر: بثلاث حيض؛ لأنها عدة من مسلم. ذكره ابن حارث. فيتحصل في الكتابية إذا مات عنها زوجها المسلم، وقد دخل بها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر، وهو أحد قولي مالك، على القول بأن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام، والثاني: أنها تعتد بثلاث حيض، وهو قول مالك الثاني، على القول بأن الكفار غير مخاطبين بشرائع الإسلام، وأن الثلاث حيض كلها استبراء، والثالث: أنها تعتد بحيضة واحدة، على القول بأن الكفار غير مخاطبين بشرائع الإسلام، وأن الحيضة الواحدة استبراء، والاثنتان تعبد ولا يجب عليها في الوفاة قبل الدخول عدة، على القول بأن الكفار غير مخاطبين بشرائع الإسلام. وقد حكى هذا القول عن مالك ابن الجلاب.(5/472)
[مسألة: اغتصب امرأة فحملت منه]
مسألة وقال: في رجل اغتصب امرأة فحملت منه، قال: لا يطأها زوجها حتى تضع، قيل له: فإن قال زوجها لا حاجة لي بامرأة اغتصبت، هي طالق ألبتة، قال: لا بد من الثلاث حيض بعد الوضع. قال: ولو لم تحمل من المغتصب، ثم طلقها زوجها حين اغتصبت، قال: فثلاث حيض تكفيها لهما جميعا من طلاق الزوج، ومن استبراء الماء الفاسد الذي للغاصب.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الحامل من زنى لا يجوز لزوجها أن يطأها صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن النهي الشديد قد جاء في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، روي عنه أنه قال: وقد رأى امرأة عند خباء أو فسطاط، يريد حاملا، والله أعلم: «لعل صاحب هذه أن يلم بها، لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له؟ وكيف يسترقه وهو لا يحل له» ، وفي حديث آخر: «ويحه، أيورثه وهو ليس منه؟ أو يستعبده، وقد عداه في سمعه وبصره» ، فإذا وطئ الرجل أمته وهي حامل من غيره أدب، إلا أن يعذر لجهالة، ولا اختلاف في هذا، وإنما اختلف هل له أن يباشرها أو يقبلها أم لا؟ على قولين، الصحيح منهما، أن ذلك لا يجوز له، وهو قول مالك، ومن أهل العلم من يوجب على الرجل إذا وطئ أمته وهي حامل من غيره عتق ما في بطنها، من أجل أنه قد عداه في سمعه وبصره، كما جاء في الحديث، ويرى الحكم عليه بذلك، وهو قول الليث بن سعد، ومنهم من لا يرى الحكم عليه بذلك، ويستحب له أن يفعله، وهو دليل قول مالك في الواضحة ونص قول ابن حبيب فيها، وقد قيل: إنه إنما يستحب له أن يعتقه لاحتمال أن يكون ما ظهر بها من حمل ليس بحمل، فلما وطئها حملت منه، فعلى هذا التأويل لا يستحب له عتقه إلا إذا ولدته لما يلحق به الأنساب(5/473)
من يوم وطئها، ومن أهل العلم من يريد أنه يثبت نسب الحمل منه بوطئها وهي حامل، فيكون ابنا له وللذي كان الحمل منه، وهو شذوذ يرده قوله في الحديث: «أيورثه وليس منه» ؟ . وكذلك قوله: إن طلقها وهي حامل، فلا بد من ثلاث حيض بعد الوضع صحيح أيضا، لا اختلاف فيه؛ لأن الحمل يمنع من الحيض، كما يمنع منه الرضاع، فوجب ألا يحل إلا بثلاث حيض بعد الوضع، كما لا تحل المطلقة وهي ترضع ولا تحيض إلا بثلاث حيض بعد الرضاع، وكذلك لا اختلاف أعلمه في المذهب أنه إذا طلقها بعد أن زنت قبل أن يستبريها، ولا حمل بها، يدخل الاستبراء في العدة، وإذا كان مالك يقول في التي تتزوج في عدتها ويدخل بها الزوج، إنه يجزي من الزوجين جميعا ثلاث حيض من يوم دخل بها الزوج الثاني، فهذا أحرى.
[مسألة: تطلق وهي ترضع]
مسألة وقال: في التي تطلق وهي ترضع، قال: ثلاث حيض لا بد منهن، وإن أقامت سنين ترضع؛ لأن التي ترضع لا تكاد تحيض.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وقد مضى القول على هذه المسألة، وما يتعلق بها في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وفي رسم الطلاق من سماع أشهب، وفي رسم استأذن من سماع عيسى، وفي غيرها من المواضع فلا معنى لإعادته.
[مسألة: هلك وترك دارا وعليه دين]
مسألة وقال ابن القاسم: في رجل هلك وترك دارا وعليه دين، قال: تباع الدار ويشترط لامرأته سكناها حتى تنقضي عدتها، قيل له: أرأيت إذا بيعت على ذلك، فلما مضى أربعة أشهر وعشر، ارتابت، أترى لها السكنى حتى تخرج من الريبة؟ قال: نعم، وإنما هي مصيبة نزلت به. قال سحنون: وإن مضت الريبة إلى خمس(5/474)
سنين؛ لأن المبتاع قد علم أن أقصى العدة خمس سنين، فكأنه يقدم على العلم منه.
قال محمد بن رشد: قد روي عن سحنون، أنها إن ارتاب المرأة كان المشتري بالخيار، بين أن يفسخ البيع عن نفسه، أو يتماسك به على ألا يرد عليه البائع شيئا، ومثله في الواضحة وإياه اختار محمد بن المواز قال: لأن البيع إنما يقع على استثناء العدة المعروفة، ولو وقع البيع بشرط الاسترابة، كان فاسدا، واعترض ذلك أبو إسحاق التونسي، فقال: إذا كان البيع بشرط الاسترابة لا يجوز؛ إذ لا يدرى أيكون سنة أو خمس سنين؟ فأما إذا ملك الخيار في الأخذ أو الرد، كان أخذه على أن يسكن المرأة إلى انقضاء ريبتها، كابتداء الشراء على ذلك، إلا أن يكون هذا القول على أحد التأويلين فيمن خير بين شيئين فاختار أحدهما لا يعد كأنه أخذ ما ترك، ففسخه في الذي أخذ، ولا أدري ما معنى قول أبي إسحاق إن ذلك إنما يتخرج على أحد التأويلين في المسألة التي ذكر؛ إذ لا اختلاف أحفظه فيها، كما لا اختلاف في أنه لا يجوز أن يبيع الرجل سلعة بعشرة نقدا أو خمسة عشر إلى أجل، على أن البيع لازم له بأخذ الثمنين، أيهما شاء، وإنما يتخرج جواز ذلك على القول بأن من اشترى سلعا فاستحق منها جلها على العدد، فله أن يتماسك بما بقي منها بما ينوبه من الثمن، وإن كان مجهولا لا يعرف إلا بعد التقويم، ويحتمل أن يكون معنى قول محمد بن المواز: إنه مخير بين أن يرد البيع أو يتماسك به، على أنه بالخيار في الرد له، ما لم تنقضِ الريبة، لا على أنه يتماسك به، على أن البيع لازم له، طالت الريبة أم قصرت. وهذا أولى ما حمل عليه قوله: وقال محمد بن عبد الحكم لا يجوز البيع على شرط سكنى المرأة عدتها، ويفسخ لأنه غرر وخطر، وبالله التوفيق.
[مسألة: الجارية تباع وهي ترضع بكم تستبرأ]
مسألة وقال في الجارية تباع وهي ترضع بكم تستبرأ؟ قال: بثلاثة(5/475)
أشهر، قيل له: فإن طلقها زوجها، قال: بحيضتين قبل الرضاع، قيل له: فإن توفي عنها زوجها، قال: شهرين وخمس ليال، وإن لم تحض إلا أن تستريب، قال: وإذا بيعت الأمة وهي ترضع، فمنعها ذلك من الحيضة، فثلاثة أشهر.
قال محمد بن رشد: الفرق بين أن تباع الأمة وهي ترضع، أو تطلق وهي ترضع، أن الحيضتين للأمة في الطلاق عبادة، فلا تنتقل عنها إلا إلى الأشهر، إلا أن تكون من الآيسات، لقول الله عز وجل: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] ، والمرضع ليست من الآيسات، ولا من المرتابات، إذا علم السبب الذي من أجله تأخر الحيض عنها، وأن الحيضة في الأمة المبيعة ليست بعبادة، وإنما هي استبراء، ليعلم بها براءة رحمها، وبراءة رحمها يعلم بالثلاثة أشهر؛ إذ قد علم أن الحيض لم يتأخر عنها لريبة، وإنما تأخر بسبب الرضاع، وأما قوله في التي توفي عنها زوجها وهي ترضع، إنها تعتد بشهرين وخمس ليال وإن لم تحض، إلا أن تستريب، فالريبة إنما تكون هاهنا بحس تجده في بطنها، فإن وجدت ذلك فلا تحل حتى تذهب تلك الريبة عنها، وتبلغ إلى أقصى أمد الحمل، وأما إن لم تسترب، فتنقضي عدتها التي فرض الله عليها بالشهرين وخمس ليال، كما قال: فيسقط عنها الإحداد، ويسقط حقها في السكنى، إلا أنها لا تتزوج إن كانت مدخولا بها حتى يمر بها ثلاثة أشهر، فيعلم أنها لا حمل بها؛ لأن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، وبالله التوفيق.
[مسألة: له زوجتان سلامة وميمونة فقال لسلامة أنت طالق يوم أطلق ميمونة]
مسألة وقال: في رجل كانت له زوجتان: سلامة، وميمونة، فقال لسلامة: أنت طالق يوم أطلق ميمونة، ثم قال لميمونة: أنت طالق(5/476)
يوم أطلق سلامة، فقال: أيتهما طلق أولا فإنه يقع عليها تطليقتان، وعلى صاحبتها تطليقة.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأنه إذا قال لسلامة: أنت طالق يوم أطلق ميمونة، فطلق ميمونة، وكان بطلاقه إياها قد طلق سلامة، ولما كان طلاق سلامة بطلاقه ميمونة، وقع الطلاق على ميمونة، لقوله لها: أنت طالق يوم أطلق سلامة، وكذلك إن بدأ بسلامة فطلقها، كان بطلاقه إياها قد طلق ميمونة، ولما طلق ميمونة بطلاقه سلامة، وقع الطلاق على سلامة لقوله لها: أنت طالق يوم أطلق ميمونة، فهذا ما لا إشكال فيه، والمسألة متكررة في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن استكملت في هذا البيت سنة]
مسألة وقال في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن استكملت في هذا البيت سنة أو سكنته سنة، فسكنته أحد عشر شهرا، ثم انتقلت منه، فأقامت أشهرا، ثم رجعت إليه فسكنه سنة، أو أكثر، قال: لا حنث عليه، إلا أن تكون أقامت سنة مستقبلة من يوم حلف.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه حلف على امرأته بهذه اليمين، والمرأة ساكنة في البيت، فحمل يمينه على أنه أراد ألا يتمادى في سكناه سنة، فجعل السنة التي حلف عليها تتعين من يوم اليمين، لكونها ساكنة في البيت يوم اليمين، ولذلك قال: إنها إن سكنته أحد عشر شهرا ثم انتقلت عنه ثم عادت إليه فسكنته سنة، إنه لا حنث عليه. وعلى هذا التأويل، ساوى بين أن يقول: إن استكملت أو إن سكنت، ولو لم تكن ساكنة في البيت يوم اليمين، فقال لها: أنت طالق إن سكنت بيت كذا سنة، أو إن استكملت السكنى في بيت كذا سنة، لوجب أن يحنث متى ما سكنت فيه سنة متصلة أو مفترقة؛ لأنه نكر السنة التي حلف عليها بقوله: سنة فلم يعينها، ولا عرفها(5/477)
بتسميته ولا بإشارة إليها. فكان كمن حلف ليصومن سنة كاملة. أو أن لا يصوم سنة كاملة، فحنث، إنه يبر إن حلف ليصومن سنة كاملة، بصيام سنة مفترقة، ولا يحنث إن حلف ألا يصوم سنة كاملة، إلا بتمام صيام سنة كاملة متصلة أو مفترقة، إلا أن ينوي صلاة متصلة على مذهبه في المدونة أن من نذر أن يصوم، أنه لا يلزمه صيامها متتابعة، إلا أن ينوي ذلك، خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب في ذلك، وإنما تعين السنة بلفظ النكرة في الكراء خاصة، من أجل أن الكراء لا يجوز على سنة غير معينة، فإذا قال الرجل للرجل: أكريك الدار سنة، تعينت السنة من يومئذ لهذه العلة، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق أنه لا يأتي أهله نهارا]
مسألة وقال: في رجل حلف بالطلاق، أنه لا يأتي أهله نهارا، قال: لا شيء عليه، قيل له: فإن حلف ألا يبيت عند امرأته أبدا، وقال: أنا آتي بالنهار، قال: ذلك له، ولا أبلغ به إن أطلق، وقال: قبل ذلك يتلوم له، فإن أبى طلق عليه.
قلت: أرأيت إن كانت عنده امرأتان، فكان يبيت عند إحداهما ولا يبيت عند الأخرى قال: لا تطلق عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الله عز وجل جعل الليل سكنا ليسكن الرجل فيه إلى أهله، والنهار مبصرا ليبتغي فيه الرجل من فضل ربه، فقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص: 72] ، وقال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73] ، يريد تعالى لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضل الله بالنهار، فوجب ألا يكون على من حلف ألا يأتي أهله نهارا شيء؛ لأنه حلف(5/478)
أن يفرغ نهاره لما جعله الله له، وأن يكون الرجل في حلفه ألا يبيت عند امرأته مضرا بها؛ لأنها لم تتزوجه إلا لتسكن إليه ويسكن إليها في الحين الذي جعله الله وقتا للسكون، وهو الليل، فمرة استحق ذلك ولم يره من الضرر الذي يجب به الطلاق عليه، ومرة رآه من الضرر البين الذي يجب به أن يطلق عليه بعد التلوم وهو الأظهر، لما قدمناه من دليل كتاب الله عز وجل. ولا إيلاء عليه بحال؛ لأن الإيلاء إنما هو على من حلف على ترك الوطء جملة، وهو إنما حلف على ترك الوطء بالليل دون النهار، وكذلك الذي يبيت عند إحدى امرأتيه، ولا يبيت عند الأخرى، لا تطلق عليه على القول الواحد، وتطلق عليه على القول الثاني بعد التلوم وهو الأظهر؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لرافع: «يا رافع اعدل بينهما وإلا ففارقهما» .
[مسألة: دعا امرأته لحقه فلم تجبه فقال إن قمت ولم تفعلي فما أنت بامرأة]
مسألة وقال: في رجل دعا امرأته إلى ما يدعو إليه الرجال نساءهم، فلم تجبه إلى ذلك، فقال: إن قمت ولم تفعلي ما دعوتك إليه، فما أنت بامرأة، يريد بقوله ذلك الطلاق، فنقر رجل الباب، فقامت ولم يكن نوى طلقة ولا اثنتين ولا ثلاثا، قال: هو عندي لي ثقيل، فرأيت في معنى قوله: إن الطلاق قد لزمه ألبتة.
قال محمد بن رشد: قوله: يريد بذلك الطلاق، يدل على أنه لو لم يرد بذلك الطلاق، لم يكن عليه شيء، مثل ما في التخيير والتمليك من المدونة وقال: إنه إن أراد بذلك الطلاق فهو ثقيل، ولم يبين ما يلزمه، والذي ظهر إلى الراوي من معنى قوله: إنه البتات كذلك، روى أصبغ عنه نصا أنه ثقيل، والاحتياط فيه البتة، وقال أصبغ: هو جميع الطلاق، ظاهر قوله في وجه الحكم، واللزوم ليس من باب الاحتياط كما قال ابن القاسم. وقال عيسى بن دينار: هي واحدة، وقول ابن القاسم: هو الصحيح، لاقتضاء اللفظ له؛ إذ لا تخرج على أن تكون له امرأة إلا الطلاق، البتات؛ لأن المطلقة واحدة أو اثنتين باقية في العصمة، ما لم تنقض العدة ترثه ويرثها، وتجب عليه(5/479)
نفقتها، ويملك رجعتها، وقد كان بعض الشيوخ يفتي من هذه المسألة في نازلة تنزل عندنا كثيرا، وهي الرجل يحلف على امرأته، فيقول: بالله إن فعلت كذا وكذا إن كنت لي بامرأة، أو الطلاق علي ثلاثا أو الأيمان لي لازمة، أو علي المشي إلى مكة، إن فعلت كذا وكذا، إن كنت لي بامرأة إن الطلاق يلزمه بقوله: إن كنت لي بامرأة، ولا يراعى عقد يمينه ويقول: إنما معنى ذلك أنه حلف أنه قد طلقها، وذلك لا يصح؛ لأنها يمين منعقدة، يصح فيها البر والحنث، والمعنى فيها: والله أو الطلاق ثلاثا علي إن فعلت كذا وكذا لأطلقنك طلاقا لا تكون لي بامرأة فيبر في يمينه بأن يباريها بطلقة واحدة يملكها بها أمر نفسها حتى لا تكون له بامرأة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الولد إذا أنفق على والده أينفق على امرأته معه]
مسألة قال أشهب وابن نافع: سألنا مالكا عن الولد إذا أنفق على والده، أينفق على امرأته معه؟ قال: إن كان الولد موسرا أو كان ذلك يسيرا فما أشبه ذلك أن تكون عليه النفقة، وإن كان رجلا ناكحا بامرأة لها شأن، فما أرى ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: في المدونة: إنه يجبر على نفقة امرأة واحدة من زوجات أبيه، كانت أمه أو ربيبة، وقال المغيرة في غير المدونة، ومحمد بن عبد الحكم: لا يلزم الإنفاق على ربيبته، وإنما ينفق على أبيه وأمه، ورواية أشهب هذه قولة ثالثة بين القولين، فقف على ذلك، وبالله التوفيق لا شريك له.
تم الجزء الثاني من كتاب طلاق السنة بحمد الله وحسن عونه
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
والله المعين بفضله. يتلوه كتاب الأيمان والطلاق.
انتهى الجزء الخامس من البيان والتحصيل للإمام ابن رشد
من عمل ثمانية عشر جزءا
يتلوه أول السادس كتاب الأيمان بالطلاق(5/480)
[كتاب الأيمان بالطلاق الأول] [قال إن زدت على رطل وربع فامرأتي طالق](6/5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
من سماع ابن القاسم من مالك رواية سحنون من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم، قال: سئل مالك عن رجل، قال: إن زدت على رطل وربع فامرأتي طالق وكان يبيع لحما وزنا فباع صدرا وزنا، ثم بدا له أن يبيع ما بقي بالأجزاء لا يدري باع بأكثر أو لا؟
قال: أراه حانثا إلا أن يعلم أن الأجزاء كانت أقل من رطل وربع، فإن علم أنها أقل أو مثل فذلك إلى نيته، وإن لم يعلم، وقال: لا أدري لعله أكثر، فهو حانث.
قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون أنه قال: يطلق عليه في هذه المسألة بالقضاء والفتيا لأنه شاك، والشك دخل عليه من نفسه لا من غيره، قال: وفيه اختلاف، وفى قوله نظر؛ لأنه أجمل، ولا بد فيه من التفصيل.(6/7)
أما إذا باع جزافا وهو ذاكر ليمينه ولا يدري هل الأجزاء التي باع أقل أو أكثر فلا اختلاف في أنه يطلق عليه بالحكم إذا أقر بذلك على نفسه؛ لأنه كمن حلف بالطلاق على ما يشك فيه ولا يمكن معرفته.
وأما إن كان بالأجزاء وهو يعتقد بتقديره أن الذي باع أقل من رطل وربع ثم أتاه الشيطان فأدخل عليه الشك وقال له: لعلك قد غلطت في التقدير، فهذا لا يؤمر ولا يجبر.
وأما إن أتاه الذي باع منه اللحم فقال له: وجدت فيه أكثر من رطل وربع ولم يدر هل صدقه أو كذبه فهذا يؤمر ولا يُجْبر، وكذلك إن باع بالأجزاء وهو ناس ليمينه فلم يدر أن كان الذي باع أقل أو أكثر يؤمر ولا يجبر، فهذا وجه القول في هذه المسألة، وقد مضى في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة من تقسيم الشك في الطلاق ما يبين هذا وبالله التوفيق.
[مسألة: معه أخت لامرأته في بيت ساكنة فحلف بطلاق امرأته لا يساكنها]
مسألة وسئل مالك: عن رجل كانت معه أخت لامرأته في بيت ساكنة، فحلف بطلاق امرأته لا يساكنها فخرج عنها وبقيت امرأته في البيت فجعل يطلب منزلا ينتقل إليه فأقاما فيه أياما حتى أصابا منزلا فجمع امرأته إليه فيه ثم إنه خرج يريد سفرا وترك امرأته في ذلك المنزل، ثم إن المنزل انهدم من بعده وهو غائب فرجعت امرأته إلى المنزل الأول فكانت مع أختها حتى قدم زوجها، أترى عليه حنثا؟(6/8)
قال: أرى يُدَيَّن، إن كان لم ينو ألا تدخل امرأته لتزور أختها أو لتمرضها فلا أرى بأسا أن تدخل وتمرض ولا أرى عليه حنثا، وذلك أنه خرج ولم يسكن، وإنما كان ذلك منها على غير ما نوى زوجها، قال أصبغ: معنى هذه، المسألة إنما حلف ألا يساكنها هو بنفسه وهذا الذي نوى، فإما إن كان حلف منها ألا يساكنها فترك امرأته معها وخرج يطلب بيتا لكان حانثا في تركه إياها معها حتى وجد منزلا.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه المسألة خلاف قوله في المدونة وخلاف ما يأتي في رسم القطعان من سماع عيسى من أن من حلف ألا يسكن دارا فلم يجد ساعة حلف بعياله وأهله وولده ومتاعه وإن كان في جوف الليل حنث، وتأويل أصبغ عليه غير صحيح؛ لأنه لو تكلم على أنه نوى ألا يساكنها هو بنفسه لما قال إنه يحنث برجوع امرأته إلى منزل أختها وكونها معها على وجه السكنى، ولا يحنث إن فعلت ذلك على وجه الزيارة أو التمريض إلا أن يكون نوى ذلك، ووجه قوله أنه راعى مقصد الحالف دون الاعتبار لمقتضى لفظه؛ لأن من حلف ألا يساكن رجلا فمعنى لينتقلن عنه في أعجل ما يقدر، فإذا لم يغره في ارتياد منزل والانتقال إليه لم يحنث، وما في المدونة يأتي على اعتبار مقتضى لفظه دون مراعاة قصده؛ لأنه إذا حلف على ألا يساكن رجلا ولم ينتقل عنه تلك الساعة فقد ساكنه بعد يمينه، وقد بينا هذا الأصل والاختلاف فيه في رسم الثمرة ورسم جاع من سماع عيسى من كتاب النذور وفي غيره من(6/9)
المواضع، وإيجاب مالك عليه الحنث برجوع امرأته إلى مساكنة أختها بغير علمه بعد أن انتقل بها عنها ليس ببيّن؛ لأنه لم يحلف عليها ألا تساكن أختها فيحنث برجوعها إلى مساكنتها، وإنما حلف ألا يساكنها هو، فإذا انتقل عنها بزوجته وجميع متاعه فقد بر ووجب ألا يحنث برجوعها إلى مساكنتها بغير علمه إلا أن يعلم بذلك فيقرها، كمن حلف ألا يدخل على فلان بيتا فدخل فلان عليه ذلك البيت أنه لا يحنث إن خرج عنه من ساعته باتفاق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يدخل عليه من قبل أخته هدية]
مسألة وسئل: عمن حلف بطلاق امرأته ألا يدخل عليه من قبل أخته هدية وكان له ولد صغير أو كبير يدخل عليها فيصيب اليسير من الطعام وأشباه ذلك هل ترى ذلك منفعة فيكون حانثا؟ أم ما ترى في ذلك؟
قال: أما من خرج من ولاية أبيه من الكبار واستغنوا عنه فأصابوا شيئا منها فلا أرى عليه شيئا؛ لأنه لا يصل إليه من منفعة ولده شيء، وأما ولده الصغار فإن لم يكونوا يصيبون من عندها إلا اليسير الذي لا ينتفع به الأب في عون ولده مثل الثوب يكسوه إياه فيكون قد انتفع بذلك حين كفاه ذلك أن يشتري له ثوبا ويطعمه طعاما يغنيه ذلك عن مؤنته أو شبه ذلك، فإذا كان ذلك رأيت أن قد دخلت عليه منفعة فأراه عند ذلك حانثا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى لا وجه للقول فيها، وتفرقته فيما أكل عندها ابنه الصغير من الطعام بين أن يكون يسيرا لا(6/10)
يحط عنه به من مؤنة ولده شيء، أو كثير ينحط به عنه من ذلك يبين ما وقع في رسم العتق من سماع أشهب من كتاب النذور، ولو خرج من عندها بطعام فأكله لحنث يسيرا أو كثيرا على ما في المدونة في الذي يحلف ألا يأكل لرجل طعاما فدخل ابن له صغير فأطعمه خبزا فخرج به فأكله الحالف.
[مسألة: قال لامرأته إذا أخرجت إلي متاعي فأنت طالق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل كانت بينه وبين امرأته محاورة فدعته إلى الفرقة وله عندها متاع فخاف أن تحبسه عنده، فقال لها: إذا أنت أخرجت إلي متاعي فأنت طالق فرضيت فقامت مجمعة للطلاق فأخرجت بعض المتاع ثم ندمت فكرهت فراق زوجها فأبت أن تخرج له بقية متاعه.
فقال: أرى أن تخرج له بقية متاعه، وأرى الطلاق قد وقع عليه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه لما خشي أن تجحد المتاع وتحبسه عنه فقال لها: إذا أخرجت إلي متاعي فأنت طالق يبين أن معنى يمينه أنت طالق إن أقررت لي بمتاعي وأخرجته إلي، فلما أقرت له بمتاعه وأخرجت له بعضه لزمها الطلاق؛ لأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، كمن قال لامرأته: أنت طالق إن أكلت هذا الرغيف فأكلت(6/11)
بعضه، وكذلك لو أقرت له بمتاعه ولم تخرج إليه منه شيئا لوجب أن تطلق عليه؛ لأنها إذا أقرت له بمتاعه فقد حصل له غرضه الذي حلف عليه لقدرته على أخذ متاعه منها إن امتنعت عن إخراجه إليه وصار بمنزلة من قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار وصليت فيها، فدخلت الدار ولم تصل فيها، ولو أخرجت إليه بعض متاعه وجحدت الباقي لم يلزمه طلاق فيما بينه وبين الله؛ لأن غرضه الذي طلق عليه لم يتم له، كمن قال لامرأته: أنت طالق إن أعطيتني مائة دينار فأعطته خمسين دينارا ويطلق عليه إن قامت بذلك بينة؛ لأن الطلاق قد لزمه بظاهر الأمر إذا أخرجت إليه المتاع، والقول قوله أن ذلك جميع ما له عندها من المتاع، وفي رسم أبي زيد بيان هذا، ولو كانت مقرة له بمتاعه فقال لها: أنت طالق إذا أخرجت إلي متاعي لم يلزمه الطلاق إلا بإخراج جميعه؛ لأنه قد تبين هاهنا أنه أراد أن يطلقها إذا رجع إليه جميع ماله مخافة أن يحتاج في قبضه منها إلى عناء أو مخاصمة، فصار بمنزلة من قال لامرأته: أنت طالق إن أعطيتني مائة دينار، فلا تطلق إلا أن تعطيه جميع المائة، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن لم أضربك إلى شهر]
مسألة وقال مالك: من قال لامرأته: أنت طالق إن لم أضربك إلى شهر، لم أر أن يعجل عليه حتى يأتي الشهر، وقال ابن القاسم: إن كان الذي حلف عليه من الضرب ضربا ليس مثله(6/12)
يترك والبرنية، رأيت أن يطلق عليه الساعة ولا ينتظر به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف في أنه لا يعجل عليه الطلاق حتى يأتي الشهر؛ لأنه على بر، وإنما اختلف قول ابن القاسم هل له أن يطأ إلى الشهر أم لا على قولين؟ وقد مضى القول على هذا مستوفى في رسم يوصى لمكاتبه من سماع عيسى من كتاب الإيلاء، ولم يبين القدر الذي لا يباح له البر فيه من الضرب. وحكى ابن حبيب في الواضحة أنه إن كان حلف على عشرة أسوط ونحوها خلي بينه وبين البر ولم يطلق عليه إذا زعم أن ذلك لذنب أذنبته فيصدق في ذلك، قال: وإن حلف على أكثر من ذلك مثل الثلاثين سوطا ونحوها طلق عليه ولم يمكن من البر في ذلك إن كان لغير شيء تستوجبه، يريد: فإن كان لشيء تستوجبه مكن من البر، ومعنى ذلك عندي إذا ثبت عند السلطان أنها فعلت ما يوجب عليها ذلك المقدار من العقوبة لا أنه يصدق في قوله، قال: فإن لم يرفع إلى السلطان حتى فعل فقد أساء ولا عقوبة عليه إلا الزجر والسجن.
[مسألة: قال امرأته خلية إن فرطت أو توانيت في حقي]
مسألة وقال مالك: من قال: امرأته خلية إن فرطت أو توانيت في حقي على فلان حتى آخذه منه قال: إن توانى رجاء أن يأتيه بحقه حتى مرض فحال المرض بينه وبينه فقد حنث، وإن كان أقام يوما أو يومين ونحو ذلك وهو جاهد غير مقصر حتى جاءه المرض فشغله عنه فالله أعذر بالعذر.(6/13)
قال محمد بن رشد: ولو كان يقدر على التوكيل في مرضه ففرط وتوانى ولم يفعل حنث، قاله ابن دحون، وهو صحيح.
[مسألة: يحلف بطلاق امرأته ليضربنها إلى أجل يسميه]
مسألة وقال مالك في الرجل يحلف بطلاق امرأته إن لم يضربها كذا وكذا أو يقول غلامي حر إن لم أضربه كذا وكذا، ثم تأتي المرأة أو العبد يدعيان أنه لم يضربهما، ويقول الرجل قد ضربت: إنه ليس على السيد ولا على الزوج البينة على ذلك ويصدق ويحلف، قال ابن القاسم: وذلك مخالف للحقوق في قول مالك؛ لأن الرجل لو حلف بطلاق امرأته ألبتة إن لم يقض رجلا حقه إلى أجل سماه فحل الأجل وزعم أنه قد قضاه، قال مالك: إن لم يكن له بينة على القضاء طلق عليه بالشهود الذين أشهدهم على أصل الحق.
قال محمد بن رشد: أما الذي يحلف بطلاق امرأته ليضربنها إلى أجل يسميه أو بعتق عبد ليضربنه إلى أجل يسميه، فلا اختلاف في أن كل واحد منهما مصدق مع يمينه بعد الأجل على أنه قد ضرب قبل الأجل؛ لأن ضرب الرجل زوجته والسيد عبده ليس بحق لهما تسأله الزوجة من زوجها أو العبد من سيده؛ فيتوثق باليمين من الحالف على ذلك ويلزمه الإشهاد على تأديبه ولعله ضرب هذا فلا يسوغ للشاهد إن استشهد على ذلك أن يحضره ليشهد به، قال في الواضحة: وإن مات السيد فادعى العبد أنه لم يضربه وجهل الورثة ذلك فالقول قول العبد حتى يدعوا أنه قد ضربه فينزلوا بمنزلة السيد في ذلك.
وأما الذي يحلف بطلاق امرأته ألبتة إن لم يقض رجلا حقه إلى أجل(6/14)
سماه فحل الأجل وزعم أنه قد قضاه وزعمت المرأة أنه لم يقضه وأنه قد حنث فيها بطلاق البتات، ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدهما: أن القول قوله مع يمينه فيحلف ويبرأ من الحنث بمنزلة الذي يحلف على ضرب امرأته أو أمته وإن أنكر صاحب الحق القبض حلف وأخذ حقه، وهو قول مالك في رواية زياد عنه.
والثاني: أنه لا يصدق في القضاء ولا يمكن من اليمين ويبرأ من الحنث بما يبرأ من الدين من إقرار صاحب الحق بقبضه، أو شاهد ويمين، أو شاهد وامرأتين، وهو الذي يأتي على قول سحنون في كتاب ابنه.
والثالث: أنه لا يبرأ من الحنث بشاهد ويمين ولا بشاهد وامرأتين ولا بإقرار صاحب الحق، ولا يبرأ إلا بشاهدين عدلين، وهو قول مطرف وابن الماجشون وروايتهما عن مالك ورواية ابن القاسم هذه عن مالك ورواية ابن وهب عنه في رسم أسلم من سماع عيسى، وقد قيل: إنه يبرأ أيضا بإقرار صاحب الحق إذا كان مأمونا لا يتهم أن يوطئ حراما، وهو قول أشهب وابن عبد الحكم في الواضحة.
قال ابن نافع في المبسوطة: مع يمينه، وزاد ابن القاسم في رسم أسلم من سماع عيسى: إذا كان من أهل الصدق ولا يتهم، وهذا كله إذا كانت على أصل اليمين بينة، وهو معنى قوله في هذه الرواية: طلق عليه بالشهود الذين أشهدهم على أصل الحق؛ لأنه يريد بقوله: على أصل الحق على أصل اليمين.
وأما إذا لم يكن على أصل اليمين بينة إلا أن الزوج أقر باليمين لما رفع فيها وطلب بها، فيتخرج ذلك على قولين:
أحدهما: أن إقراره على نفسه باليمين كقيام البينة بها عليه.
والثاني: أنه يحلف لقد قضاه حقه قبل الأجل ويبرأ من الحنث ولا يبرأ من المال إذا لم يقر صاحبه بقبضه ولا شهدت بذلك بينة، وسواء كانت على أصل الدين بينة أو لم تكن، وذهب بعض الشيوخ وهو ابن دحون إلى أن قيام البينة على أصل الحق كقيامها على أصل اليمين(6/15)
على ظاهر قوله في هذه الرواية: طلق عليه بالشهود الذين أشهدهم على أصل الحق، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الشهادة على أصل الحق لا تأثير لها في وجوب الطلاق، فالمعنى في ذلك ما ذكرناه، ولو أنكر اليمين ولم تقم عليه بها بينة لم تلحقه في ذلك يمين، ولو أنكر اليمين وأقر أنه لم يدفع الحق قبل الأجل فلما قامت عليه البينة باليمين أقام هو بينة على دفع الحق قبل الأجل قبلت منه بينته على اختلاف في هذا الأصل قائم من المدونة وغيرها، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ألا يكلم امرأته كذا وكذا فأراد أن يقبلها]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حلف بالطلاق ألا يكلم امرأته كذا وكذا فأراد أن يقبلها.
فقال: أخشى أن تكون أن يعتزلها فإن كان كذلك فلا يفعل، قال: وإن لم يكن نوى اعتزالها فلا أرى بأسا أن يقبلها ويطأها.
وقال محمد بن رشد: لا يخلو الحالف في يمينه هذه من ثلاثة أحوال: أحدها: أن ينوي أن يعتزلها، والثاني: أن ينوي ألا يعتزلها، والثالث: ألا تكون له نية. فإن نوى أن يعتزلها حنث إن وطئها أو قبلها، وإن نوى ألا يعتزلها لم يحنث بشيء من ذلك، وإن لم تكن له نية فالظاهر من قوله: وإن لم يكن نوى اعتزالها فلا أرى بأسا أن يقبلها أو يطأها أن يمينه عنده محمولة على غير الاعتزال حتى ينوي الاعتزال، وهو ظاهر قول ابن شهاب في أول كتاب الإيلاء من المدونة، ووجه ذلك ظاهر، وهو أن الكلام غير الوطء، كل واحد منهما بائن عن صاحبه ليس بداخل فيه،(6/16)
فوجب ألا يحنث إذا حلف ألا يكلم امرأته فوطئها، كل يحنث إذا حلف أن يطأها فكلم بخلاف الذي يحلف إن هو يطأ فيثب عليها بذكره فيما دون فرجها، هذا هو محمول على الاجتناب حتى ينوي الفرج بعينه، على ما قال في كتاب الإيلاء: أن العبث عليها بالفرج داخل تحت الوطء، ألا ترى أنه لو حلف ألا يعبث عليها بذكره فوطئها لم يشك في أنه حانث، وأصبغ: يرى أنه إذا حلف ألا يكلمها فوطئها يحنث من جهة فهمها لما يريده منها كالذي يحلف ألا يكلم رجلا فيشير إليه، وقد مضى القول على ذلك في سماعه من كتاب النذور، وبالله التوفيق.
[عبد كانت تحته أمة فحلف بطلاقها في شيء ألا يفعله ففعله]
ومن كتاب سلعة سماها قال: وسئل مالك: عن عبد كانت تحته أمة فحلف بطلاقها في شيء ألا يفعله ففعله وسيد الجارية شاهد عليه، فقال: إنما حلفت بطلاقها واحدة ونسي سيد الجارية يمينه، فاستحلف الزوج فحلف أنه ما حلف إلا بتطليقة واحدة، أفترى ذلك يجزيه أم يستحلف عند المنبر؟
قال: لا يجزيه حتى يحلف عند المنبر.
قال محمد بن رشد: قوله وسيد الجارية شاهد عليه ليس بخلاف لما في المدونة من أنه لا يجوز شهادة السيد على عبده بطلاق زوجته؛ لأنه إنما ذكر ذلك وصفا للأمر على ما وقع، ولم يحلفه من أجل شهادته لا سيما وهو قد نسي يمينه، وإنما حلفه من أجل أنه قد أقر على نفسه أنه حلف بطلاقها وحنث فادعت عليه الزوجة من عدد الطلاق أكثر مما أقر به،(6/17)
فوجب أن يحلف، بخلاف إذا ادعت أنه طلق وأنكر، وإيجابه عليه لليمين عند المنبر صحيح؛ لأنه إذا وجب عليه أن يحلف عنده في الحقوق بظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حلف على منبري إثما فليتبوأ مقعده من النار» ، كان أحد أن يحلف عنده في الطلاق؛ لأن حرمة الفرج آكد من حرمة المال.
[مسألة: حلف ألا ينفق على امرأته سنة]
مسألة وسئل: عن الرجل يحلف لامرأته بطلاقها البتة إن أنفق عليها سنة فغاب عنها سنة، ثم أتى بعد ذلك فيريد أن يدفع لها في ذلك دنانير نفقة السنة.
قال: إذا دفع إليها ذلك فقد أنفق عليها، قال: إنه إنما دفع إليها بعد السنة؟ قال: وإن كان، فهو كذلك، إلا أن تكون له نية إن رفعت أمرها إلى السلطان، فيقضى عليه أن يقول لم أرد وإن قضي على، فلعلها أن ترفع أمرها إلى السلطان فيقضي عليه، فإذا قال: لم أرد هذا ولا نويته، إنما أردت ألا أنفق عليها طائعا، فإذا كان هذا نيته فلا أرى عليه شيئا.
قال محمد: قوله في الذي حلف ألا ينفق على امرأته سنة فيدفع إليها بعد السنة دنانير عن نفقة السنة أنه حانث صحيح؛ لأن الذي يحلف أن لا ينفق على امرأته سنة إنما يريد توفير ماله على نفسه بترك الإنفاق عليها، فلا فرق بين أن ينفق عليها في السنة أو يدفع ذلك إليها بعد السنة، ولو ادعى أنه إنما نوى ألا ينفق عليها في السنة وأنه أراد أن يعطيها ذلك(6/18)
بعد السنة لم ينوه في ذلك؛ لأنها نية مخالفة للمعنى الذي حلف عليه، ومن ادعى نية مخالفة لظاهر يمينه الحكم به عليه لم ينو إلا أن يأتي مستفتيا ونواه إذا ادعى أنه إنما نوى ألا ينفق عليها طائعا، يريد مع يمينه على ما قال في آخر سماع أشهب؛ لأنها نية محتملة، إذ قد قيل: إنه لا يحنث إذا قضى عليه السلطان وإن لم تكن نية، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة، خلاف قول مالك هذا وقوله في سماع أشهب ودليل ما في التخيير والتمليك من المدونة، وقد مضى القول على هذا المعنى في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ألا يشتري لحما ثم اشتراه]
مسألة وسئل مالك: عن رجل خرج يبتاع لأهله لحما فوجد على المجزرة زحاما فحلف بطلاق امرأته البتة إن اشترى لأهله ذلك اليوم لحما، فرجع إلى بيته فعاتبته امرأته في ذلك فخرج فاشترى كبشا فذبحه فأكلوا من لحمه.
فقال: ما أراه إلا قد حنث وأرى هذا لحما، قال ابن القاسم: إلا أن تكون إنما كانت كراهيته ذلك لموضع الزحام على المجزرة ووجد لحما أو كبشا في غير المجزرة فاشتراه فأرى أن ينوي في ذلك.
قال محمد بن رشد: لم يراع مالك البساط في هذه المسألة إذ رآه حانثا بشرائه الكبش من أجل أنه لحم، وذلك مثل قوله في رسم يسلف من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك ومثل ما في سماع سحنون(6/19)
من هذا الكتاب في مسألة البالوعة، ورعاه ابن القاسم فلم ير عليه حنثا بشرائه اللحم أو كبشا في غير زحام إذا كانت يمينه من أجل أنه كره الشراء في الزحام، وهو المشهور في المذهب، ألا تحمل اليمين إلا على مقتضى اللفظ إلا عند عدم البساط، ومثله في سماع أشهب بعد هذا في مسألة النقيب، وقد قيل: إن اليمين إذا لم يكن له بساط، تحمل على ما يعرف من عرف الناس في كلامهم ومقاصدهم بأيمانهم، والقولان قائمان من المدونة، وقد مضى القول في هذا المعنى مجودا في رسم جاع من سماع عيسى من كتاب النذور.
وقول ابن القاسم في آخر المسألة، فأرى أن ينوى في ذلك معناه، فأرى أن يصدق أنه إنما حلف كراهية الزحام، ولا يمين عليه في ذلك إن شهدت بينة مصورة الحال أو أتى مستفتيا. ولو شهد عليه أنه حلف بالطلاق ألا يشتري لحما ثم اشتراه، فقال: إنما كنت حلفت لأني خرجت لشرائه فوجدت على المجزرة زحاما ولم تعلم البينة ذلك لطلق عليه ولم يصدق فيما ادعاه من ذلك، وبالله التوفيق.
[يحلف بطلاق امرأته البتة إن خرجت على بيت أهلها إلا بإذنه]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك: عن الرجل يحلف بطلاق امرأته البتة إن خرجت على بيت أهلها إلا بإذنه إن لم يضربها، فخرجت مرة فضربها، هل ترى عليه شيئا في ذلك إن هي خرجت؟
قال: لا، إلا أن يكون نوى ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة موافقة لما في كتاب النذور من المدونة أن من حلف ألا يكلم رجلا عشرة أيام فكلمه فحنث ثم كلمه مرة(6/20)
أخرى بعد أن كفر أو قبل أن يكفر أنه ليس عليه إلا كفارة وحدة، وموافقة أيضا لجميع روايات العتبية، من ذلك ما في سماع أبي زيد بعد هذا من هذا الكتاب، وأول مسألة من سماع أشهب من كتاب النذور، وأول مسألة من رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة حاشا مسألة الوثر من رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، وقد مضى هناك من القول على توجيه كلا القولين ما أغنى عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل طلب بحق فقال امرأتي طالق ما له عندي حق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل استأجره رجل يعمل له، وادعى الذي استأجره أنه استأجره يعمل له معول وعمله على ذلك رجل، فقال المستأجر: حرم أهلي إن كنت استأجرته على معول وإن كان شهد على فلان لقد شهد بباطل، ثم سئل الشاهد فقال: ما أشهد بشيء، قال مالك: أليس أنت مستيقن أنك حلفت على حق؟ قال: نعم، قال: فلا شيء عليك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه موكول إلى أمانته في صدق ما حلف عليه ما لم يتبين كذبه بعد اليمين بشهادة شهود شهدوا عليه لم يكذبهما في يمينه، ولو أن الشاهد شهد عليه لم يضره؛ لأنه قد كذبه في يمينه، بمنزلة رجل طلب بحق، فقال: امرأتي طالق ما له عندي حق، ولئن شهد علي به فلان وفلان إنهما لكاذبان، فشهدا عليه عدلا أو عدم(6/21)
الحق فلأنه لا حنث عليه لأنه قد كذبهما في يمينه، وسيأتي هذا المعنى في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى والقول فيه إن شاء الله.
[مسألة: قال لرجل جاء يستسلفه سلفا فقال ما عندي]
مسألة وحدثني عن ابن كنانة أن مالكا سئل عن رجل قال لرجل: جاء يستسلفه سلفا، فقال: ما عندي، قال الرجل: امرأتي طالق إن كان لك مني بد، فأعطاه الذي سأله من السلف، وقال: هذا أنا قد أعطيتك، ولكن انظر أنت في يمينك، فاختلف فيها أهل المدونة واضطربوا فيها اضطرابا شديدا، فسئل عنها مالك وأتى بها صاحبها إليه، فقال: ألم يأخذها على وزن صاحبه الذي سأله؟ قال: نعم، قال: لا أرى عليه حنثا إذا أراد وجه السلف، واحتج في ذلك وقال: إن منعه حنث، وإن أعطاه حنث، لا أرى عليه شيئا، وكأنه لم يره من وجه ما حلف عليه.
قال محمد بن رشد: إنما اضطرب في هذه المسألة أهل المدونة؛ لأن قوله إن كان لك مني بد لفظ يحتمل أن يراد به إن كان لك محيص عن أن تسلفني ما سألتك إياه من السلف، فمن حمل يمينه على هذا رآه حانثا وإن أسلفه؛ لأنه قد كان له محيص عن أن يسلفه، ويحتمل أن يراد به لألزمنك حتى تسلفني ما سألتك إياه من السلف شئت أو أبيت، وعلى هذا حمل مالك يمينه، فلذلك قال: إنه لا حنث عليه إذا أخذ السلف منه(6/22)
على مثل الوزن الذي سأله إياه، وذلك بين من قوله إنما أراد وجه، ومن احتجاجه بأن قال إن أعطاه حنث وإن منعه حنث، وقوله في آخر المسألة وكأنه لم يره من وجه ما حلف عليه معناه وكأنه لم ير من أوجب عليه الطلاق وأعطاه السلف من وجه ما حلف عليه؛ لأن الوجه في ذلك عنده أنه مهد محيص له عن أن يسلفه، ويحتمل أن يراد باللفظ أنه لا بد لك أن تفتقر إلي كما افتقرت إليك فأقارضك بالحرمان كما فعلت، فمن حمل يمينه على هذا رآه أيضا حانثا لأنه حلف على غيب لا علم له به، والله أعلم.
[قال لامرأته إذا كفلت ابني ثلاث سنين فأنت طالق البتة]
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك: عن رجل قال لامرأته إذا كفلت ابني ثلاث سنين فأنت طالق البتة، وكان بينه وبينها كلام، فقال لها: ما يمنعني من فراقك إلا مكان ابني، ولكن إذا كفلته ثلاث سنين فأنت طالق.
فقال: أراها طالقا البتة حين تكلم به.
قال ابن رشد: مثل هذا في سماع عبد المالك عن ابن القاسم، وإنما لزمه الطلاق في الوقت لأنه مطلق إلى أجل هو آت على كل حال، كمن قال لامرأته أنت طالق إلى ثلاث سنين، هذا مفهوم من قصد الحالف على بساط المسألة أنه إنما كره أن يطلقها وله منها ولد صغير يشقى بكفالته فأراد أن يوقع على نفسه طلاقها بعد ثلاثة أعوام كي إن عاش الولد إلى هذه المدة كان قائما بنفسه مستغنيا بذاته، ولم يكره حصانة الولد فيكون ذلك شرطا في الطلاق لا يقع عليه إلا باستيفائها مدة الحضانة كمثل أن يكره من زوجته حضانتها للصبي وتسأله أن يبيح لها ذلك، فيأبى ويقول: إن حضنته ثلاثة أعوام فأنت طالق، فهذا لا يقع عليه طلاق إن لم يستكمل حضانة الثلاثة الأعوام، كمن قال لزوجته: إن صحب فلان زوجته ثلاثة(6/23)
أعوام فأنت طالق، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يفارقه حتى يذهب به إلى السلطان]
مسألة وسئل: عن رجل وقع بينه وبين رجل خصومة فحلف بطلاق امرأته ألا يفارقه حتى يذهب به إلى السلطان أو إلى صالح فلقي حاطبا خليفة صالح، فقال: أرسله.
فقال مالك: حاطب ليس بصالح، ولو شاء لجلس معه حتى يصبح فيلقى صالحا، وكأنه رآه حانثا وشدد عليه في ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله حاطب ليس بصالح، يدل على أنه لم ير أن يبرأ إلا أن يذهب به إلى من سماه بعينه، وذلك على القول بمراعاة مقتضى حقيقة الألفاظ في الأيمان دون ما يظهر من المقاصد فيها؛ لأن الظاهر من مقصد الحالف بهذه اليمين أنه إنما أراد الإرهاب عليه بالذهاب به إلى من يهابه لمرتبته، وسمى صالحا لتوسمه ذلك فيه، فلو ذهب به على هذا إلى من هو فوق صالح من الحكام لبر كذلك لو حلف ألا يفارقه حتى يذهب به إلى السلطان أو إلى حاطب خليفة صالح فذهب به إلى صالح لبر، وهو الذي يأتي على ما في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب، وأما إذا ذهب به إلى حاطب خليفة صالح الذي سمى فلا اختلاف أنه لا يبر بذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لأمه بطلاق امراته ألا تأمره فيها ولا تمنعه أن ينفعها]
مسألة وسئل: عن رجل قال لامرأته وعاتبته أمه في امرأته فقال لها هي طالق البتة إن كانت تأمرني فيك ولا تمنعني أن أنفعك(6/24)
فانقلبت إلى امرأتي فقلت لها إني أخشى أن أكون وقعت في عظيم، فقالت: ما هو؟ قال: إني قد حلفت لأمي بطلاقك أنك لا تأمرني فيها ولا تمنعيني أن أنفعها، وإنما المال الذي في يد الرجل مال المرأة، فقالت له: قد قلت لك عام الأول لا تعطيها شيئا من مالي، قال: فذكرت له ذلك.
فقال مالك: أراها قد بانت منك بثلاث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال أنه إنما حلف على يقينه ناسيا لقولها، فلما تذكره وجب عليه الحنث؛ لأن ذلك لغو وهو لا يكون إلا في اليمين بالله أو ما كان في معناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يسلمه الرجل وديعة فقال امرأتي طالق البتة إن كانت في بيتي]
مسألة وسئل مالك: عن رجل يسلمه الرجل وديعة كان استرفقه إياها قال قد دفعتها إليك، فما زال العداء بينهما حتى قال امرأتي طالق البتة إن كانت في بيتي، فلقيه رجل فقال له في علمك، فقال: في علمي.
قال مالك: إن كان استثناؤه ذلك نسقا متتابعا ليس فيما بينهما صمات وكان ذلك كلاما واحدا نسقا فلا أرى عليه حنثا، وله ثنياه.
قال محمد بن رشد: يريد أن ثنياه تنفعه إن وجدت الوديعة في بيته ولا يحنث، وهو صحيح لأنه قيد عموم قوله بالعلم، وغير العلم بالعلم، فخرج من ذلك غير العلم؛ لأن تقييد العموم بصفة يقتضي أن يخرج منه من ليس على تلك الصفة، فذلك في المعنى كالاستثناء بحرف من حروف الاستثناء، فوجب أن يكون له حكمه في أنه عامل بشرط تحريك اللسان واتصاله بالكلام، وقد مضى هذا المعنى مبينا في رسم الجنائز والذبائح والنذور من سماع أشهب من كتاب النذور وبالله التوفيق.(6/25)
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ليرفعن أمرا إلى السلطان فرفعه إلى صاحب الحرس]
مسألة حلف بالطلاق ليرفعن أمرا وسئل مالك: عن رجل حلف بطلاق امرأته ليرفعن أمرا إلى السلطان فرفعه إلى صاحب الحرس؟
فقال مالك: ليس صاحب الحرس سلطانا، قال ابن القاسم: يريد صاحب الحرس الذي يعس، فأما صاحب الشرط فهو سلطان، قال: ولا يكون صاحب المسلحة سلطانا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن لفظ اسم السلطان عام يقع على كل من له القضاء والحكم بين الناس، قال عز وجل: {فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] ، فإذا رفع أمره إلى من إليه تنفيذ الحكم في ذلك الأمر فقد بر، والعسس ليسوا بحكام وإنما هم أعوان لهم يرفعون الأمور إليهم، فوجب أن لا يبر بالرفع إليهم من حلف أن يرفع إلى السلطان وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق إن قضاك شهرا فيستأذى عليه صاحب الحق]
مسألة قال: وسئل مالك: عن الرجل يكون له الحق على رجل قد حل فخرج يطلبه بحقه ويقول المطلوب امرأته طالق إن قضاك شهرا فيستأذى عليه صاحب الحق فيأمر السلطان ببيع متاعه حتى يقتضي، كيف ترى الأمر فيه؟
قال: أرى أن يدين، إن قال لم أرد إلا ألا أقضي أنا ولم أرد(6/26)
السلطان فذلك له وأدينه في ذلك ما الذي أراد بيمينه، فإن حاشا السلطان لم أر عليه شيئا وإن لم يحاش السلطان رأيته حانثا.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يدين يريد مع يمينه على ما يأتي في آخر سماع أشهب، وابن الماجشون لا يرى عليه حنثا إذا قضاه بأمر السلطان أو باع السلطان عليه ماله فقضاه إلا أن يريد مغالبة السلطان أو يحلف بين يديه فيتبين أنه أراد مغالبته، وقد مضى الاختلاف في هذه المسألة في رسم سلعة سماها قبل هذا فلا وجه لإعادته.
[مسألة: يحلف بطلاق امرأته البتة ليقضينه حقه إلى شهر]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يكون له قبل الرجل الحق فيحلف بطلاق امرأته البتة ليقضينه حقه إلى شهر إلا أن يحب أن يؤخره في مثل يمينه الذي حلف له بها، فلما كان قبل الشهر بيوم وخاف صاحب الحق أن يحل الشهر فيحنث أنظره من قبل نفسه شهرا آخر وأشهد له، والذي عليه الحق حاضر لم يسأله ولم يستنظره.
قال مالك: عسى، يريد بذلك أن ذلك يجوز، قال سحنون: قال ابن القاسم: ورأيت مالكا يخففه، وقال: لا بأس به وإن لم يسأله، نظرته جائزة ولا حنث عليه، وهذا الذي أراد مالك، وروى عيسى عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: أما نظرته إياه دون أن يستنظره إذا حلف ليقضينه حقه إلى أجل كذا وكذا إلا أن يحب أن يؤخره فجائزة على ما يقتضيه اللفظ إذا لم يقل إلا أن يستنظره فيجب أن ينظره، وإنما قال مالك:(6/27)
عسى أن يجوز وخففه ولم يقطع بجوازه مخافة أن يكون قصد الحالف إلا أن يستنظره فيجب أن ينظره، ولم يتكلم هل تبقى عليه اليمين إلى الأجل الذي أنظره إليه أم لا؟ ولا اختلاف في أنها تبقى عليه في هذه المسألة لقوله فيها: في مثل يمينه الذي حلف له بها، ولو قال إلا أن يحب أن يؤخره ولم يقل في مثل يمينه التي حلف له بها لتخرج ذلك على قولين:
أحدهما: أن اليمين تُبْقِي عليه إلى الأجل الذي أخره إليه لأنه هو المعنى المفهوم من قصد الحالف، وهو قول مالك في رسم نذر سنة بعد هذا.
والثاني: أن اليمين تسقط عنه بالتأخير ولا يرجع عليه؛ لأنه هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ في حكم الاستثناء في اللسان، ويدل عليه قوله في هذه المسألة في مثل يمينه التي حلف له بها، ولو قال إلا أن يوسع له في الأجل أو يفسح له فيه لبقيت عليه اليمين إلى الأجل الذي أخره إليه على ما في سماع عيسى بعد هذا في رسم أوصى قولا واحدا؛ لأنه هو ذلك الأجل الذي حلف عليه إلا أنه مده له ووسع عليه فيه، والله أعلم.
[قال لجارية أنت حرة إن لم أبعك فإذا هي حامل منه ولم يعلم]
ومن كتاب طلق ابن حبيب وسئل مالك: عن رجل كان له سوط وأنه غاب عن أهله أشهرا فقدم عليهم فعتب عن غلام له أراد ضربه فسألهم أن يعطوه السوط، فقالوا: لا نعلم مكانه، فكأنه ظن أن ذلك منهم كراهية ضربه الغلام، وإنهم خبوه عنه، فقال: حرم علي ما حل لي إن لم تأتوني به، فطلبوه فلم يجدوه ووجدوا سوطا غيره فأتوه به، فقال الخادم وغيرها من أهل البيت: هو هو، ولم يعرفوه وأنكر أن يكون هو.(6/28)
قال مالك: أرى إن لم تكن عرفته أن الطلاق قد لزمك وقد بانت منك، وقال: لم أره يذكر شيئا أراده.
قلت له: فإن ذكر نية أكنت تنويه؟ قال: لم أره يذكره، وكأن وجه قوله أن يكون ذلك له، ومعنى ذلك في رأيي أن يقول لم أرده، وإن لم تكن له نية إنما حلفت على أني أظن أنهم غيبوه. قال ابن القاسم: ومثل ذلك كمثل الرجل يقول لجارية: أنت حرة إن لم أبعك، فإذا هي حامل منه ولم يعلم، فهل إن كانت له نية حين حلف وأراد، إلا أن تكون حاملا وإلا فقد عتقت عليه؛ لأنه لم يصل إلى بيعها، وكذلك قال إلى مالك، قال ابن القاسم: وكذلك السوط فيما رأيت من وجه قول مالك، إلا أن تكون له نية أن يقول: إنما حلفت وأنا أظن أنهم غيبوه، فإذا كانت نيته فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة خالف ابن القاسم فيها مالكا وذهب إلى أن تفسير قوله على مذهبه، فقال: ومعنى ذلك في رأيي أن يقول إلى آخر قوله: فالتبست المسألة بذلك وأشكلت، وقول مالك فيها: إنه حانث، إلا أن تكون له نية وإن كان حلف وهو يظن أنهم غيبوا عنه السوط، وذلك بين من قوله: لأنه قال أرى إن لم تكن عرفته، فإن الطلاق قد لزمك وبانت منك، وهو إنما حلف وهو يظن أنهم غيبوا عنه السوط كراهية لضرب الغلام، وقوله: لم أره يذكر نية يدل على أنه لو ذكر نية لنواه، والنية التي ينتفع عنده بها، وعلى مذهبه أن ينوي في حلفه عليهم أن يأتوه به إن كانوا خبوه وهم عالمون بموضعه على ما ظنه بهم على قياس قوله كالذي يحلف بحرية أمته فإذا هي حامل منه أنه حانث إلا أن يكون نوى إن لم تكن(6/29)
حاملا، وأما قوله وأراد إلا أن تكون حاملا فهو كلام وقع على غير تحصيل، ومراده به وأراد إن لم تكن حاملا؛ لأن قوله: إلا إنما هو استثناء ولا اختلاف في أن الاستثناء بـ "إلا أن"، لا بد فيه من تحريك اللسان، وقول ابن القاسم فيها إنه لا حنث عليه إذا حلف وهو يظن أنهم غيبوه لأنه رأى أن حلفه وهو يظن ذلك بمنزلة النية التي رأى مالك أنه ينوي فيها وينتفع بها، وذلك خلاف لقوله، لا تفسير له كما ذهب إليه، وكذلك لا يحنث على مذهبه في مسألة الأمة التي حلف بحريتها ليبيعنها وإن لم تكن له نية؛ لأنه إنما حلف وهو يظن أنها غير حامل، وكذلك لو حلف بحريتها فألفاها الليلة فإذا هي حائض لم يحنث عند ابن القاسم وحنث على مذهب مالك، وهو قول أصبغ، وهذا على اختلافهم في مراعاة المقصد في الأيمان والاعتبار بمقتضى اللفظ دون مراعاة القصد.
ولو حلف ليطأنها الليلة فألفاها ميتة أو ماتت من ساعتها لم يحنث باتفاق، كمسألة الحمامات الواقعة في النذور من المدونة، وإنما لا يحنث في مسألة السوط إن لم يأتوه بالسوط على مذهب مالك إن كانت له نية، وعلى مذهب ابن القاسم إن كان حلف وهو يظن أنهم غيبوه عنه إذا تحقق أنهم لم يغبوه عنه، وأما إن لم يتحقق ذلك واتهمهم في قولهم أنهم لم يغيبوه عنه فهو حانث، إلا أنه لا يحكم عليه بالطلاق إذ لا يتحقق حنثه فيؤمر بذلك ولا يجبر عليه وبالله التوفيق.
[مسألة: رفع الدراهم في بيته ثم طلبها فلم يجدها]
مسألة وسئل مالك: عن رجل رفع دراهم له في بيته فالتمسها بين فرشه فلم يجدها، فقال لامرأته: أين الدراهم؟ فقالت: ما رأيتها، فقال: أنت طالق البتة إن كان أخذها أحد غيرك، ثم إنه خرج ورجع على مصلى كانت له في البيت فرفعه فإذا هو بالدراهم(6/30)
تحت المصلى، وذكر أنه جعلها ثم نسيها.
قال: أرى أنها طلقت عليه البتة، قيل له: إنه يقول إنما حلفت ما أخذها غيرك، وإنها لم تأخذها هي ولا غيرها، ففكر فيها ثم تعجب فيمن يقول لم يحنث، ثم قال مالك: إنما ذلك بمنزلة ما لو قال لم يسرقها أحد غيرك لم يحركها أحد غيرك، فأراه حانثا.
وفي سماع عيسى من كتاب بع ولا نقصان عليك، قال ابن القاسم: في رجل افتقد بضاعة في بيته فاتهم امرأته، فقال لها: أين البضاعة؟ فقالت له: ما أدري، فقال لها: أنت طالق إن لم تأتني بها بعينها، ثم وجدها في مكان جعلها فيه، قال: هي طالق، ثم أتي بهذه المسألة التي فوقها، وقال: هي طالق، قال: ولقد كان بيني وبين ابن بر فيها كلام، فسألنا مالكا عنها، فقال: قد حنث في قوله في هذه المسألة، وعجب ممن يقول لم يحنث.
قال محمد بن رشد: قول مالك في الذي رفع الدراهم في بيته ثم حلف لما طلبها فلم يجدها بالطلاق، أن امرأته أخذتها، ثم وجدها حيث جعلها إن الطلاق يلزمه، إلا أن تكون له نية أنه إن كانت أخذت هو على قياس قوله في المسألة التي قبلها؛ لأنه إنما حلف وهو يظن أنها قد أخذت فانكشف الأمر بخلاف ما ظن، وفي الثمانية من رواية ابن الماجشون عنه أنه لا حنث عليه، وأنها نزلت فسئل عنها عامة أهل المدينة فلم يختلفوا في أنه لا شيء عليه، وهو على قياس قول ابن القاسم في المسألة التي قبلها؛ لأن معنى يمينه إنما هي أخذتها إن كانت أخذت، وأما مسألة البضاعة لابن القاسم فهي كمسألة السوط المتقدمة بعينها، فقوله فيها خلاف قوله في مسألة السوط، مثل قول ابن دينار في مسألة البضاعة هذه، وقول مالك في مسألة البضاعة هذه على قياس قوله في مسألة السوط، وقد مضى من القول في مسألة السوط ما فيه بيان وشفاء، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(6/31)
[مسألة: حلف ألا يزوج ابنته لابن عمه ثم خطبها بعد ذلك]
مسألة وسئل مالك: عن رجل كانت له ابنة متزوجة فكان بينها وبين زوجها كلام، فقال أبوها اتق الله يا عبد الله، فإما أمسكت بمعروف، وأما سرحت بإحسان، فقال له زوجها: احلف لي بطلاق امرأتك لئن أنا فارقتها ألا تزوجها فلانا لابن عم له، فقال: نعم امرأته طالق البتة إن أنت فارقتها إن زوجتها فلانا فأقامت معه بعد ذلك ما شاء الله ثم وقع بينه وبينها شر، فقال له أبوها: اتق الله يا عبد الله إنما بك ما أعطيتها مما هو عليك أو دفعته إليها، فأنا له ضامن وخل سبيلها، فقال زوجها لأبيها: فقد ملكتك ذلك، فوقف الأب إعظاما للتفرقة، ثم قال لابنته: يا فلانة، هذا زوجك قد كان من أمره كذا وكذا وملكني، فقالت: قد رددت عليه ما أعطاني وبرئت منه وبرئ مني، فقال الزوج: قد رضيت، فذهب بها، ثم إنها اعتدت فانقضت عدتها ثم خطبها الذي كان أبوها حلف فيه ولم يكن زوجها فارق ابنته يوم حلف ألا يزوج ابن عمه.
فقال مالك: أرى اليمين عليك، قيل له: فما لهذا حيلة؟ قال: بلى، إن هي استأذنت السلطان حتى يزوجها فإنها ثيب مالكة أمرها لم أر عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه المسألة إن اليمين عليه وهو لم يفارق ابنته يوم سأله طلاقها خلاف المشهور في المذهب من حمل الأيمان على بساطها، مثل قوله في رسم سلعة سماها، وقد تقدم القول على ذلك هنالك ولو لم يكن في هذه المسألة بساط تحمل عليه يمين الحالف من سؤال الأب إياه الطلاق لتخرج ذلك على الاختلاف في اليمين هل هي محمولة على التعجيل حتى يريد التأخير، أو على التأخير(6/32)
حتى يريد التعجيل، والاختلاف في هذا جار على اختلاف أهل الأصول في الأمر هل يقتضي الفور أم لا؟ وقد مضى هذا المعنى في كتاب النذور في رسم سن من سماع ابن القاسم ورسم المكاتب من سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق أن يشق كبده إن شق ثوبه]
مسألة وسئل مالك: عن رجل كانت بينه وبين رجل منازعة فجبذ بثوبه، وقال له: لأشقه، فامرأته طالق البتة إن لم يكن لو أنك شققته لشققت جربك، ثم قال له الثانية امرأته طالق إن لم يكن لو أنك شققته لشققت كبدك إلا ألا أقدر عليك، فردده مرتين.
ثم قال له مالك: استغفر الله ولا شيء عليك، قيل له: كأنك لم تر عليه شيئا إلا أن يشق الثوب؟ قال: نعم، ولم ير عليه شيئا، قال سحنون: هذه جيدة جدا يرد إليها كل رواية عن مالك مما يشبهها؛ لأنه قد اختلف في مثل هذا قوله.
قال محمد بن رشد: اختلف لو كان كذا وكذا لما لم يكن يفعل كذا وكذا على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا شيء عليه إذا لم يكن ذلك الشيء كان الذي حلف ليفعلنه مما يجوز فعله أو مما لا يجوز، وهو قول مالك هذا؛ لأنه لم ير عليه شيئا إذا لم يشق الثوب، وشق الكبد مما لا يجوز له أن يفعله، فهو فيما لا يجوز له أن يفعله، وهو قول أصبغ في الواضحة.
والثاني: أنه يحنث إن كان الذي حلف ليفعلنه مما لا يجوز له أن يفعله ولا يحنث إن كان مما يجوز له فعله، وهو قول مالك في رواية ابن الماجشون عنه، ودليل قوله في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة في(6/33)
مسألة الذي حلف لو كان حاضرا لفقأ عين الذي شتم أخاه؛ لأنه قال فيها: إنه حانث لأنه حلف على ما لا يبر فيه ولا في مثله، فدل ذلك من قوله أنه لو حلف على ما يجوز له أن يبر فيه لم يحنث، فقول مالك في مسألة المدونة خلاف قوله في هذه المسألة، إذ لا فرق بين المسألتين، وهو الذي لجأ إليه سحنون، وقد دل على ذلك أيضا قول ابن القاسم في التفسير.
الثالث: إنه حانث في المسألتين جميعا، وذهب ابن لبابة إلى أن المسألتين مفترقتان وليس ذلك بصحيح إذ لا فرق بين أن يحلف على فقء عينيه لو كان حاضرا أو على شق كبده أو شق ثوبه، وقوله كأنك لم تر عليه شيئا إلا أن يشق الثوب معناه حلف بالطلاق أن يشق كبده إن شق ثوبه فيما يستقبل لم يختلف في أنه لا شيء عليه إن لم يشق الثوب ولا في أنه يعجل عليه الطلاق إن شقه، ولا يمكن من البر بشق كبده، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يركب حمارا في حج فخرج إلى جدة]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حلف ألا يركب حمارا في حج فخرج إلى جدة وهو من أهل المدينة مرابطا، أفترى له أن يركب حمارا؟
قال: لا أرى له ذلك، ونهاه عنه، قال عيسى: إنما نهاه عن ركوب الحمار إلى جدة لأن طريقه على مكة، فأما لو كان طريقه على غير مكة فليركب حمارا إن شاء، وروى يحيى عن ابن القاسم إن كان نوى ألا يركبه في حج لشيء كرهه من ركوب الحمار في الحج فلا شيء عليه في ركوب الحمار في غير الحج إلى مكة وغيرها.
قال محمد بن رشد: رواية يحيى لم تثبت في جميع الأمهات،(6/34)
وهي صحيحة في المعنى لا إشكال في أنه إنما حلف لكراهته معنى يختص بركوب الحمار في شيء من مناسك الحج، فلا حنث عليه في ركوب الحمار في غير حج إلى مكة وغيرها، وإن كان حلف لكراهية معنى يختص بركوب الحمار في طريق مكة إلى المدينة فهو حانث إن ركب في طريق مكة إلى جدة أو إلى غيرها، وإن كان حلف لكراهة معنى يختص بركوب الحمار في طريق مكة إلى الحج فيحنث بركوبه الحمار إلى جدة وإن كان طريقه على مكة على ما قاله عيسى من أجل أنه إذا مر بمكة وجب عليه أن يدخلها محرما بعمرة، والعمرة بعض عمل الحج فيصير قد ركب حمارا في بعض أعمال الحج والحنث يدخل بأقل الوجوه، وبالله التوفيق.
[قال لرجل احلف ويميني على مثل يمينك]
ومن كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسئل مالك: عن رجل قال لرجل: احلف ويميني على مثل يمينك، فحلف بالعتق والطلاق، فأنكر ذلك.
قال مالك: إذا أنكره مكانه فذلك له، وإن صمت لزمته اليمين.
قال محمد بن رشد: قوله إن ذلك له إذا أنكر مكانه معناه إن ادعى أنه إنما ظن أنه يحلف بالله، وأنه لم يرد إلا ذلك على ما في رسم سلف من سماع عيسى وعلى ما حكى ابن حبيب في الواضحة، ويكون عليه اليمين في ذلك على ما حكاه ابن حبيب، وهذا إذا كانت للحالف زوجة إن كان حلف بالطلاق، أو عبيد إن كان حلف بالعتق على ما في رسم أبي زيد لأنه إنما أراد أن يكون عليه مثل ما عليه فإذا لم يلزم الحالف في يمينه شيء لم يلزمه هو شيء إلا أن يقول مثل قوله محاكاة له أو يقول على مثل ما حلفت به فيلزمه ذلك على ما قاله ابن حبيب في الواضحة، فالروايات كلها مفسرة بعضها لبعض لا يحتمل شيء منها على الخلاف، وبالله التوفيق.(6/35)
[مسألة: حلف بتطليقة على موت ناقة أنها ماتت فيما بين الظهر والعصر]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حلف بتطليقة على موت ناقة أنها ماتت فيما بين الظهر والعصر ثم شك في ذلك، فأتى يسأل مالكا بعد حين.
فقال مالك: إن كانت لم تحض ثلاث حيض من يوم حلفت فارتجعها وأشهد على ذلك فقد وقعت عليك تطلقة، وإن كانت قد حاضت ثلاث حيض من يوم حلفت كنت خاطبا من الخطاب وقد بانت منك إلا بنكاح جديد.
قال محمد بن رشد: يريد أن هذا يؤمر به ولا يجبر عليه إن أباه؛ لأن هذا من الشك الذي لا يحكم فيه في الطلاق، وقد مضى في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة تقسيم الشك في الطلاق على مذهب مالك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[قال امرأته طالق لقد بعته منه بمحضر فلان وفلان]
ومن كتاب أخذ يشرب خمرا وسئل مالك: عن عبد كانت له زوجة وأن سيده أرسل إليه في خرج كان للعبد، فأرسل إليه إني قد بعته من أخيك، فأتى سيده مغضبا يظن أنه كتمه إياه، فقال: أين الخرج؟ قال: بعته من أخيك، قال: فاحلف بطلاق امرأتك، قال العبد: امرأته طالق إن لم يكن أخوك أرسل إلي فيه وبعته إياه وانتقدت ثمنه، ثم إن العبد ذكر بعد ذلك فإذا أخو الرجل هو الذي لقيه في الخرج وباعه إياه وانتقد ثمنه، وأنه لم يأته فيه رسول.
قال مالك: لا أرى عليك في ذلك حنثا، إنما أراد وجه(6/36)
الكتمان وأنه اتهمه ألا يكون باعه، وأنه غيبه، فما أرى في ذلك شيئا، قيل: إنه حلف لقد أرسل إلي وإنما لقيته؟ قال: ما أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه لا حنث عليه لأنه لم يقصد بيمينه إلا الحلف على ما استحلفه سيده عليه من أنه قد باع الخرج ولم يغيبه عنه، وما زاد في يمينه من أن أخاه أرسل إليه فيه لم يقع عليه فيه اليمين، إذ لم يستحلفه سيده على ذلك ولا قصد هو إلى الحلف عليه ولا إلى أن يحقق بيعه به إذ لا تأثير لذلك في تحقيق البيع، ولو كان لما زاده في يمينه تأثير في تحقيق البيع مثل أن يذكر أنه لم ينتقد الثمن وهو قد حلف أنه باعه وانتقد ثمنه وهو أن يقول امرأته طالق لقد بعته منه بمحضر فلان وفلان، ثم ذكر أنه لم يبعه منه إلا فيما بينه وبينه لتخرج ذلك على قولين في مسائل حكاها ابن حبيب من هذا النوع، وستأتي هذه المسألة متكررة وما يشبهها في رسم استأذن من سماع عيسى.
[مسألة: طلاق السكران]
مسألة وسئل: عن عبد سكران أتى إلى باب دار رجل فأغلق صاحب الدار بابه فزعزعه السكران من الليل، فقال وهو سكران متلطخ: قد قفلته كانت له امرأة حرة- فهي طالق، فقال له صاحب الدار: ويحك ما أظنك إلا وقد حرمت عليك، قال: إن كانت حراما فهي حرام، قيل له: ويحك ما نظنك إلا وقد طلقت منك، قال: إن كانت طالقا فهي طالق.
قال مالك: أراها قد بانت منه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن العبد السكران(6/37)
أتى إلى باب دار رجل وهو يظن داره، فلما أغلق صاحب الدار باب داره دونه، ظن هو أن زوجته هي التي أغلقت الباب دونه، فقال: هي طالق طالق يريد امرأته، فخاطبه صاحب الدار بما خاطبه به وراجعه هو بما راجعه، فرأى مالك أنها قد بانت منه بثلاث من أجل قوله إن كانت طالق فهي طالق؛ لأنها قد كانت طالقا بطلقتين بقوله: هي طالق طالق، فوقعت عليه تطليقة ثالثة بقوله إن كانت طالقا فهي طالق، ولم يلزمه شيء بقوله إن كانت حراما فهي حرام، إذ لم تكن بعد حراما، وإنما كانت طالقا تطلقتين، وهو إذا أشهدت عليه بذلك بينة، وأما إن أتى مستفتيا فادعى أنه لم يرد بذلك طلقة ثالثة، وإنما أراد الإخبار بأنها طالق إن كانت طالقا فينوي في ذلك وينوي أيضا إن أتى مستفتيا في أنه لم يرد بقوله هي طالق طالق إلا طلقة واحدة، وإنما كرر اللفظ بالطلاق على سبيل التأكيد.
وإيجابه الطلاق عليه بقوله هي طالق وهو يشير إلى صاحب الدار يظن أنها امرأته معارض لأول مسألة من سماع عيسى أيضا من كتاب، والقولان في هذا المعنى قائمان من العتق الأول من المدونة: مسألة مرزوق وناصح، وقد تأول في هذه المسألة أن امرأة السكران هي التي أغلقت الباب دونه، وهو بعيد على ظاهر اللفظ، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد بين أخوين فحلف أحدهما بطلاق امرأته إن لم يبع نصيبه منه]
مسألة وسئل: عن عبد كان بين أخوين فحلف أحدهما بطلاق امرأته إن لم يبع نصيبه منه أو يشتريه منه أو يقاومه إياه، فقال أخوه: أنا أبتاعه منك بدين إلى سنة وأرهنك ما اشتريت منك فيه، واجعله على يدي رجل، فكيف ترى؟(6/38)
فقال: لا أرى له أن يفعل هذا، لم يخرج منه بعد، كأنه في يديه، فلا أرى ذلك له، فقال له الرجل: فإن ذلك قد نزل، أفترى علي في يميني شيئا؟ قال: ارتجع الغلام فبعه من غيره وانتقد ثمنه، ولم ير عليه في يمينه شيئا، قال ابن القاسم: لست آخذ فيه بقول مالك إذا صح أصل البيع وسلم من الدلسة، فأراه قد بر وخرج من يمينه ارتهن ذلك الذي باع أو لم يرتهنه، وغيره من البيوع أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قول الحالف في يمينه: إن لم يبع نصيبه منه أو يشتريه منه أو يقاومه إياه معناه ليبيعن نصيبه من العبد إلا أن يشتريه منه أخوه أو يقاومه إياه، فخشي مالك لما اشتراه منه أخوه بدين إلى أجل على أن يرهنه إياه إلى ذلك الأجل ألا يبر بذلك البيع مخافة أن يكون إنما باعه منه هذا البيع ليأخذه منه عند الأجل فيما لو عليه من الثمن، فكأنه في يديه لم يبعه لكونه رهنا به بالثمن، وأمره أن يرتجع الغلام فيبيعه من غيره، ومعناه: إن طاع له أخوه المبتاع بذلك، إذ من حقه أن يتمسك ببيعه إذ ليس ببيع فاسد على مذهبه، وهذا إن كان قبض منه ما اشترى وجعله على يدي رجل كما ذكر، ولو كان لم يقبضه وتركه رهنا بيديه لكان البيع فاسدا، إذ لا يجوز أن يباع شيء من الحيوان أو العروض الذي لا يجوز تأخير قبضها على أن يبقى بيد البائع رهنا إلى أجل، لا يجوز أن يتأخر قبضها منه.
وقد قال ابن القاسم في المجموعة: إن مالكا إنما خاف أن يدخله البيع الفاسد فلا يبر الحالف، كمن باع عبدا إلى أجل على ألا يدفعه إليه إلا إلى الأجل، وليس قوله ببين، إذ قد ذكر أنه يجعله على يدي رجل. وقوله ولم ير عليه في يمينه شيئا معناه أنه لا يحنث إذا ارتجع الغلام، إذ لم يفته البر بالبيع بعد حين لم يضرب له أجلا إلا على القول بأن اليمين على التعجيل حتى يريد التأخير، وقد مضى القول في ذلك في رسم طلق. ورأى ابن القاسم أنه يبر بذلك البيع إذا صح أصله وسلم من الدلسة يريد من التواطي على رد العبد إليه، وإنما قال: إن غيره من البيوع أحب إليه للاختلاف(6/39)
فيه، إذ قد قيل: إنه لا يجوز أن يشتري أحد شيئا بثمن إلى أجل على أن يرهن البائع ما أشتري، كان من الأصول التي يجوز تأخير قبضه أو من العروض والحيوان الذي لا يجوز تأخير قبضه، بشرط أن يجعل بيد عدل، وهو قول أشهب في سماع سحنون من كتاب السلم والآجال، وقد ذكر هناك العلة عنده في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال جاريتك طالق إن تزوجتها]
مسألة وسئل: عن غلام قد ناهز الحلم تزوج جارية امرأة وكان يخلو بها ويغيب عليها ويغتسل منها، ثم إنه قال لسيدتها: أرسليها إلي، قالت: لا، أنت لعنت عليها وتضربها، فقال لها: أمسكي جاريتك فهي طالق إن تزوجتها.
فقال مالك: ما أرى من أمر بين، وإنه لأمر مشكل، وإن أحب إلي أن يفرق بينهما وتعتد منه، ثم قال: ما الذي أراد؟ فقالوا: قد سألناه: فقال: لا أدري، إنما هو كلام خرج مني لم أرد به شيئا، قال: هو أمر مشكل، أرى أن يفرق بينهما، قيل له: بالبتة أم بواحدة؟ قال: فرق بينهما وَأْمُرْهَا أن تعتد حتى أنظر في ذلك، ولم يفصل فيها شيئا، وكان رأيه فيما أظن أو قاله البتة في أول قوله، ثم وقف. قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن هذا فقال: إذا لم يعرف ما أراد فهي البتة، وهو أحب قوله إلي.
قال محمد بن رشد: إنما تطلق هذه الأمة بقوله أمسكي جاريتك لأنه أراد به وجه ردها على مولاتها، وبين ذلك بقوله هي طالق إن تزوجتها، لا بقوله هي طالق إن تزوجتها لأنها زوجته قبل ذلك فصار ذلك بمنزلة قول(6/40)
الرجل في ثوب قد باعه: هو صدقة إن بعته، ولذلك ألزمه ابن القاسم البتة إذ لم يعلم ما أراد بقوله أمسكي جاريتك، ولو كان إنما أراد أنها طالق بقوله هي طالق إن تزوجتها على ما في نوازل أصبغ من أن من حلف ألا يشتري شيئا بعد أن اشتراه أنه حانث إلا ألا يلزمه البائع الأخذ، ولا يمكن ألا يلزم النكاح بعد انعقاده لما ألزمه البتة؛ لأن الواحدة في هذا ظاهرة، وقول ابن القاسم إنها البتة إذا لم يعرف ما أراد يدل على أنه لو ادعى نية لقبلت منه، والأظهر أنها ثلاث ولا ينوي بعد الدخول؛ لأن قوله لسيدتها أمسكي جاريتك كقوله لها قد رددتها إليك سواء، ولما قال أيضا هي طالق إن تزوجتها ولم يقل هي طالق إن راجعتها دل على أنه أراد إبانتها بذلك القول، وإلزامه الطلاق وهو قد ناهز الحلم قبل أن يحتلم، معناه إذا كان قد أنبت، قاله ابن أبي زيد، وهو خلاف ما في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، وهذا الاختلاف جار على اختلاف قول مالك في المدونة في الإنبات، هل يحكم به بحكم الاحتلام فيما يلزمه من الحدود أو لا؟ وبالله التوفيق.
[مسألة: ما زاده من الكلام بعد كمال يمينه]
مسألة وسئل: عن رجل قالت له امرأته يا ابن الخبيثة، ثم جحدت أن تكون قالت له يا ابن الحبيشة، وقالت: إنما قلت له يا ابن الخبيثة، فقال لها: أنت طالق إن لم تكوني قلت لي يا ابن الخبيثة، ثم سكت قليلا فقال لها: لقد قلتها لي ثلاث مرات، ثم شك أن تكون قالتها له ثلاث مرات، إلا أنه تثبت أنها قالتها له وهو متيقن لذلك.
قال: أرأيت الكلام الأخير الذي كان بينه وبين كلام يمينك(6/41)
التي حلفت بها أردت به طلاقا أو ذكرته؟ قال: لم أرد ذلك إلا أني حلفت إذ حلفت وأنا مستيقن قد قالته لي ثم سكت وقلت لها بعد ذلك بقليل لقد قلتها لي ثلاث مرات.
قال مالك: ما أرى عليك شيئا إلا أن تكون أردت بذلك طلاقا أو ذكرته.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما زاده من الكلام بعد كمال يمينه لا يقع عليه اليمين إلا أن يتصل باليمين، كما أن الاستثناء فيه لا يعمل بعد انقطاع الكلام، وبالله التوفيق.
[حلف بطلاقها البتة أنها ما لها حق]
ومن كتاب يسلف في المتاع والحيوان وسئل: عن رجل كانت بينه وبين امرأته منازعة في بيت وكانت بنت عمه، فحلف بطلاقها البتة أنها ما لها حق، فجاءت بالبينة أنه لجدها، وجاء الرجل بالبينة - أن أباه كان يحوزه دون إخوته، وجاء بشاهد واحد يشهد أن أباه كان استخلصه من إخوته.
قال مالك: أرى أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إن حقه لحق، وما لها فيه من حق، وإن الذي حلف عليه بالطلاق لحق، ويخلى بينه وبين امرأته.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن(6/42)
قوله لحق وما لها فيه من حق، وإن الذي حلفت عليه بالطلاق حق ويخلى بينه وبين امرأته مع أن له شاهدا يشهد له باستخلاص أبيه البيت ليس بكلام محصل. والصواب: أن يحلف أن ما يشهد به الشاهد من استخلاص أبيه البيت حق، وأن ما حلف عليه من الطلاق حق، فإذا حلف على ذلك استحق البيت وخلي مع امرأته، ولو لم يكن له شاهد على الاستخلاص لحلف على ما نص ما ذكر وبقي مع امرأته ولم يستحق البيت؛ لأن الحيازة بين الأقارب ليست بعاملة إلا مع الهدم والبنيان، أو مع المدة الطويلة على اختلاف في ذلك، وفي آخر رسم الطلاق الأول من سماع أشهب بيان هذا الذي ذكرناه من أنه إذا لم يكن دليل على صدق دعواه من شاهد يحلف معه حلف وبقي مع امرأته ولم يكن له ما ادعاه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لزوجته أنت طالق البتة إن رددت الثوبين]
مسألة وسئل مالك: عن رجل كسا امرأته ثوبين وكان أحدهما عند الخياط فطرح إليه إزارا وهو أحدهما، فكرهته، فقال لها حين كرهته أنت طالق البتة إن رددتهما إلي إنهما لا يرجعان إليك إلا بعدو من السلطان فردته إليه فرده إليها، ثم إنها ردته إليه.
فقال مالك: ما أرى إلا وقد طلقت عليك، فقال الرجل: إنما نويتهما كليهما، فقال: قد فهمت ما تقول، أرأيت لو كانت عشرة أثواب فردت التسعة ألم تحنث؟ ما أراه إلا وقد حنث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه بحنث برد أحدهما إليه بعد أن ردته إليه على أصولهم فيمن حلف ألا يفعل شيئين ففعل أحدهما، أو لا يفعل شيئا ففعل بعضه؛ لأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، ولا ينوي فيما(6/43)
زعم من أنه أراد كليهما فيما يحكم به عليه من الطلاق، إلا أن يأتي مستفتيا من أجل أنها نية مخالفة لظاهر لفظه؛ لأن من حلف ألا يفعل شيئين فقد حلف ألا يفعل واحدا منهما في ظاهر لفظه، وبالله التوفيق.
[حلف بطلاق امرأته ألا يجاور أباه وهو يستطيع]
ومن كتاب تأخير صلاة العشاء في الحرس وسئل: عن رجل حلف بطلاق امرأته ألا يجاور أباه وهو يستطيع، قال: هذا عندي أن يستأذي عليه السلطان أو حلف عليه لأنه مستطيع لترك مجاورته أباه، أو يحلف عليه أبوه أن يكون ذلك مخرجا له، وليس للسلطان أن يجبر على مثل هذا أحدا، وقال له: كم لك مذ حلفت؟ قال: منذ عشرة أيام، قال: كأني رأيته يرى إن كان أقام معه أن يكون قد حنث، وكأني رأيته يرى ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال له إنه يحنث بمجاورته وإن استعدى عليه أبوه السلطان مع ذلك كله، إذ لا يجبره السلطان على مجاورته. ولو أجبره على ذلك وأكرهه بما يصح الإكراه به وإن كان لا يجوز له ذلك لكان له مخرجا من يمينه، ولو ادعى أنه نوى ألا يقدم عليه أبوه أو يحلف عليه، يستعدي عليه السلطان لما صدق في شيء من ذلك مع قيام البينة عليه باليمين، ولم يجعل حرجه في عقوق أبيه بتحنيثه بيمينه عدم استطاعة لأنه لما حلف على ترك مجاورته فقد قصد إلى إسخاطه.
ولو قصد بيمينه البر بأبيه مثل أن يكون له زوجة يخشى أن تضربه لقرب الجوار لكان له مخرج في يمين أبيه عليه في ذلك، والله أعلم، وقوله كأني رأيته يرى إن كان أقام معه أن يكون قد حنث معناه إن كانت(6/44)
إقامته معه إقامة تمكنه الرحلة عنه فيما دونه، وهو على قوله في أول رسم من هذا السماع، خلاف ما في المدونة من أن من حلف ألا يساكن رجلا ينتقل عنه تلك الساعة وإلا حنث، وقد مضى القول على ذلك هناك، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: وقعت له خصومة فحلف بالطلاق ألا يتركها حتى يبلغ أقصى ما فيها]
مسألة كتب عليه ذكر حق، وسئل: عن رجل وقع بينه وبين رجل خصومة في سلعة اشتراها، فحلف بالطلاق أو بالعتق ألا يتركه حتى يبلغ أقصى ما فيها، فخاصم فيها فأقام شاهدا وكانت الخصومة في بيع، فقضى عليه باليمين مع الشاهد، وأراد أن يرد اليمين عليه، قال مالك: لا أحب أن يرد اليمين عليه؛ لأني أرى أنه إذا ردها عليه لم يبلغ أقصى ما حلف عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا علم أن الشاهد شهد بحق، وأما إن علم أنه شهد بباطل فلا يحل له أن يحلف معه، ولا أن يحلف خصمه وهو حانث أيضا إن لم يحلف معه؛ لأنه لما حلف ألا يتركه حتى يبلغ أقصى ما فيها وهو يعلم أنه لا حق له فإنما قصد ألا يفارقه حتى يأخذ ما يدعيه قبله من الباطل إن حكم له به عليه، إلا أن يكون أراد غيظه وألا يأخذ منه شيئا، تلك نيته فلا يكون عليه شيء إن لم يحلف مع الشاهد حلف خصمه أو لم يحلفه هذا معنى.
قال ابن القاسم في رسم البراءة من سماع عيسى: وأما إن لم يدر أن كان ما ادعاه قبله حقا أو باطلا إلا بشهادة الشاهد، فقال في الرسم المذكور: إنه حانث إن لم يحلف معه، يريد: وإن كان لا يسوغ له أن يحلف معه ولا يدري صدقه من كذبه؛ لأنه لما حلف ألا يفارقه(6/45)
حتى يبلغ أقصى ما فيها، فإنما أراد ألا يسامحه في ترك شيء مما يحكم له به عليه، والله الموفق.
[مسألة: عوتب في أمه فحلف بالطلاق أني ما علمتها إلا فظة غليظة]
مسألة وسئل: عن رجل حلف بطلاق امرأته البتة وعوتب في أمه في شيء من أمرها فحلف بالطلاق أني ما علمتها إلا فظة غليظة عليه تحريمه مالها.
قال: يدين في يمينه، ويحلف على ما حلف عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه يدين ويحلف، وإن قامت عليه البينة باليمين وطولب بها لأنها نية محتملة ليست بمخالفة لظاهر قوله، ولو أتى مستفتيا لم يكن عليه شيء.
[مسألة: قال لزوجته أمام الشهود أنت طالق البتة ثلاثا إن أذنت لك]
مسألة وسئل: عن رجل قالت له امرأته وعنده شهود: ايذن لي أن أذهب إلى أهلي، فقال: أنت طالق البتة، أنت طالق البتة، أنت طالق البتة، إن أذنت لك، فقالوا: قد طلقت، فقال: إنما أردت أن أسمعها وأردد اليمين عليها ولم أقطع كلامي.
فقال: ما أظنها إلا وقد بانت منه وقد ألبس، وإن ما فيه ما ترى من الإشكال وما هو بالبين. قال ابن القاسم: أرى أن يحلف أنه ما أراد إلا أن يفهمها ويسمعها، ولا يكون القول قوله.(6/46)
قال محمد بن رشد: الواجب في هذه المسألة على المشهور في المذهب من مراعاة البساط في الأيمان ألا يلزمه طلاق ولا يمين؛ لأنها لما سألته الإذن إلى أهلها دل ذلك على أنه إنما أراد بقوله الحلف بالطلاق ألا يأذن لها فيما سألته الإذن فيه، لا تبتيل الطلاق إذ لم تسأله ذلك.
ولو سألته ذلك، فقال لها: أنت طالق البتة، أنت طالق البتة، أنت طالق البتة، إن أذنت لك إلى أهلك - لوجب أن تبين منه بالثلاث قولا واحدا، ويجعل قوله أن أذنت لك إلى أهلك ندما منه، وإنما يصح هذا الاختلاف على القول بأن البساط لا يراعى في الأيمان. وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في رسم سلعة سماها، وقد وقعت هذه المسألة في رسم سلف دينارا من سماع عيسى معراة من البساط.
وقال مالك فيها: إن الطلاق لزمه، أذن لها أو لم يأذن لها. ودينه ابن القاسم مع يمينه مثل قوله هاهنا، وعلى قوله في المدونة لا يمين عليه، فقد قال فيها: من قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق إن دخلت الدار - أنه ينوى إن دخلت الدار في أنه إنما أراد واحدة، فلم ير عليه طلاقا إلا أن تدخل الدار، وذلك على أصله فيها فيمن أقر بالنفقة لرجل، وقال: إن البنيان له أو بالخاتم. وقال: إن الفص له إن قوله مقبول إذا كان الكلام نسقا متتابعا، وقد روى أصبغ عنه في كتاب المديان والتفليس فيمن قال لفلان علي ألف دينار وعلى فلان وفلان: إنها كلها عليه وإن كان الكلام نسقا واحدا متتابعا، بخلاف قوله لفلان علي وعلى فلان وفلان ألف دينار، وخالفه أصبغ، فلم ير عليه إلا ثلاث. الهدف: إذا كان الكلام متتابعا، فرواية أصبغ هذه عنه على قياس قول مالك في مسألة الطلاق، وقوله من رأيه على قياس قول ابن القاسم في المدونة، وإيجاب(6/47)
ابن القاسم عليه اليمين استحسان مراعاة للخلاف، وهو أحسن الأقوال وأولاها بالصواب عند عدم البساط، والله أعلم.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته في دين أنه إذا وقع قسمه في دينه ليقضين ذلك الحق]
مسألة وسئل: عن رجل حلف بطلاق امرأته البتة في دين عليه أنه إذا وقع قسمه في دينه ليقضين ذلك الحق.
فقال: لا أرى عليه شيئا حتى يأخذ القسم، فإذا أخذ القسم ووقع في يديه فليدفع ذلك، فإن هو تهاون في قبضه بتوليج أو تثاقل أو ترك لذلك أو داهن في ذلك وهو يقدر على أخذه فأرى عليه الطلاق، فإن هو غلب على القسم فلم يقدر على أخذه ولم يكن فيه منه مداهنة، فلم أر عليه طلاقا.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله أنه إن فرط وتهاون في ذلك حتى مضى الوقت الذي كان يقبضه فيه لو جد في قبضه أن الطلاق يلزمه وإن لم يأمن من قبضه بعد، قال ابن المواز: وقد قيل: إنه لا يحنث حتى يرتفع العطاء وينقطع الإعطاء، فأما ما دام يرجو فلا حتى ييئس من أخذ ذلك.
وجه قول مالك: مراعاة المعنى، وذلك إنما قصد ألا يمطله بحقه، وعلى ذلك وقعت يمينه، فإذا ترك اقتضاء القسم الذي حلف ليقضينه منه حتى مضى وقته المعهود، فقد مطله وحنث، والله اعلم.
ووجه ما في كتاب ابن المواز: اعتبار اللفظ دون مراعاة المعنى، وهو أصل مختلف فيه، وبالله التوفيق.(6/48)
[مسألة: دابتين كانتا له ولامرأته ولابنته فقال الحلال علي حرام إن انتفعت بشيء منهما]
مسألة وسأل مالكا رجل: عن دابتين كانتا له ولامرأته ولابنته، فقال: الحلال علي حرام إن انتفعت بشيء منهما.
فقال: يسلم ذلك إليهما فيبيعانهما ولا أحب له أن يجعل ثمنهما في شيء ينتفع به ولا في دابة أخرى ولا يجعله في كسوة أحد ممن يلزمه كسوته ويكف عنه بذلك الكسوة التي كانت تلزمه ولا في شيء مما تلزمه النفقة لا بد له منه، ولكنهما يجعلا فيه بعد هذا فيما شاءا لا يفرض لهما فيه ولا يدخلان ثمنه في شيء مما يرفع به النفقة عنه، قال أصبغ بن الفرج: إنما معنى هذا في فتيا مالك أن الحالف أراد أن يسلمه ذلك إليهما، فأما من حلف على ثوبه أو عبده ألا ينتفع به فليحبسه ولا يبعه ولا يهبه ولا يتصدق به؛ لأنه إذا فعل فقد انتفع به، وهذا إذا حلف ألا ينتفع بشيء من ثمنه، فإن لم يرده فلا بأس أن يبيعه وينتفع بثمنه ويهبه إن شاء.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا إذا اعتبرته متناقض يرد آخره أوله، أما قوله أولا: إنما معنى هذا في فتيا ملك أن الحالف أراد أن يسلم ذلك إليهما، فأما من حلف على ثوبه أو عبده ألا ينتفع به فليحبسه ولا يبعه ولا يهبه ولا يتصدق به لأنه إذا فعل ذلك فقد انتفع به فهو صحيح؛ لأنه معنى قول مالك على ما قال؛ لأن من حلف ألا ينتفع بشيء ولم تكن له نية في وجه من وجوه الانتفاع ولو كان ليمينه بساط مذكور يحمل عليه، ولا مقصد مظنون يرد إليه فالواجب أن يحمل الانتفاع على عمومه في كل شيء، فلا ينتفع به في وجه من وجوه المنافع ولا بثمنه ولا بهبته ولا يتصدق به ولا يعتقه إن كان عبدا؛ لأن ذلك كله انتفاع، ولا يبرأ إلا بحبسه دون انتفاع أو إهلاكه فيما لا يحمل عليه في الدنيا ولا يثاب عليه في الأخرى، وأما قوله آخرا: وهذا إذا حلف ألا ينتفع بشيء من ثمنه فإن لم(6/49)
يرده فلا بأس أن يبيعه وينتفع بثمنه ويهبه إن شاء، فهو نص منه على أنه إذا حلف ألا ينتفع به ولم ينو ترك الانتفاع بثمنه فله أن يبيعه وينتفع بثمنه، وذلك خلاف قوله أولا؛ لأنه حمل الانتفاع على الانتفاع بعينه دون الانتفاع بثمنه لقوله به، فاتبع ظاهر اللفظ ولم يراع المعنى، وهو خلاف المشهور في المذهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: أجير زرع حلف لا خان فدرى أندرا ثم عمد إلى التبن فأعاده]
مسألة وسئل مالك: عن مملوك بذي المروة وسيده بالعراق وله خلفاء بالمدينة، فكان بين العبد وبين رجل من أهل ذي المروة مشاتمة، فقال له الرجل الساكن بذي المروة: إنك لخائن، فحلف له المملوك بطلاق امرأته البتة، وكانت للمملوك امرأة حرة: إن كنت خنت تمرة واحدة، فشهد عليه أنهم رفعوا تمرا من مربد إلى مربد فبقي في أسفل المربد نوى، فقال له الحفاظ الذين معه: اشتر لنا به لحما نأكله، وكان قدر صاع، وشهد عليه أنه استخبأ يوما رطبا هو وصاحب له، فأخذ كل إنسان منهم بعضه فذهب به إلى منزله، فقال الغلام: إنما حلفت على الخيانة، فأما كل شيء وسع علي فيه فلم أرده ولم أحلف عليه، فقال وكلاء الرجل الذي بالعراق: هذه أشياء قد وسعنا للقدمة فيها يأكلون من الرطب والنوى.
قال مالك: أرى أن يحلف العبد بالله الذي لا إله إلا هو أنه ما حلف بطلاق امرأته إلا على تمر يبيعه فيختان ثمنه أو يسرقه، فأما ما أصبت مما وسع علي فيه فلم أحلف عليه، إذا حلف فلا شيء عليه.(6/50)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما جرت العادة أن أرباب الأموال يسامحون القدمة فيه ولا ينكرونه عليهم إذا هم فعلوه، محتمل ألا يكون الحالف أراده، إذ ليست بخيانة محضة، فنواه في ذلك مع يمينه، وذلك صحيح على الأصول، ومن هذا المعنى في كتاب ابن المواز: وعن أجير زرع حلف لا خان، فدرى أندرا، ثم عمد إلى التبن فأعاده فخرج له منه شيء فأخذه، فإن كان ذلك التبن تركه ولا يريد معاودته فلا شيء عليه، وهو مثل السنبل يلقط خلف الحصاد.
قال أبو محمد: وذلك إذا علم بذلك رب الزرع، يريد أبو محمد: إذا علم أن تبن الزرع إذا دري يعيد دروه من شاء لا يمتنع منه فيستوي في ذلك الأجير وغيره، فلا يكون حانثا، والله أعلم.
[مسألة: قال لامرأته إن تزوجت ما عشت فكل امرأة أتزوجها طالق البتة]
مسألة وسئل مالك: عن رجل قال لامرأته: إن تزوجت ما عشت فكل امرأة أتزوجها طالق البتة، فطلق امرأته وأراد أن يتزوج.
قال مالك: أرى أن يدين، فإن كان إنما أراد وهي عندي على وجه ما يرضي به امرأته فأرى أن يحلف ويتزوج، وإن كان إنما أراد ما عاشت ولم ينو في ذلك ما كانت عندي فأرى ذلك يلزمه.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن كان إنما أراد ما عاشت ولم ينو في ذلك ما كانت عندي معناه ونواه مع يمينه وإن كانت نيته مخالفة لظاهر لفظه، لكون النية في ذلك محتملة لكونها زوجة، أو لو لم تكن زوجة له، فقال: إن تزوجت ما عاشت فلانة فكل امرأة أتزوجها فهي طالق، ثم أراد(6/51)
أن يتزوج قبل أن تموت، وقال: إنما أردت ما عاشت وكانت زوجة لفلان وما أشبه ذلك لم ينو في ذلك مع قيام البينة عليه، ولم يكن له أن يتزوج ما عاشت إلا أن يخاف على نفسه العنت، وبيان هذا في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، وقد مضى في آخر رسم من كتاب أوله شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح القول في هذه المسألة إذا كانت اليمين فيها شرطا في أصل العقد فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: حلف بالطلاق أن لا يدخل لهما في شيء فذهب يريد الإصلاح بينهما]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية وقال مالك: في رجل دخل بين ابني عم له بصلح فاتهماه جميعا في أمرهما، فحلف بطلاق امرأته البتة إن دخل في أمرهما بشيء، ثم إنه اجتمع أحدهما مع رجل آخر، فكان يذكر له أمره، والرجل الذي حلف قاعد، فقال له الرجل: يا فلان، للحالف اذهب ادع لي فلانا حتى أسمع من كلامهم، فذهب الحالف فلم يجده.
فقال مالك: إن كان إنما أراد الكلام والإصلاح فيما بينهما ولم يرد بذلك المشي ولم يحلف عليه فلا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه إن لم تكن له نية فهو حانث؛ لأن ذهابه ليدعوه إلى من يريد الإصلاح بينهما دخول في أمرهما. وقوله: إنه إن كان لم يرد المشي ولم يحلف عليه، فلا أرى عليه شيئا. معناه: وعليه اليمين، إلا أن يأتي مستفتيا على ما تقدم من أصله في غير ما مسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لها إن فوضت لك شيئا فأنت طالق البتة ثم قال لمعلمه ادفع إليها إجارتي]
مسألة وسأله حايك: عن امرأة له قال لها: إن فوضت لك شيئا فأنت طالق البتة، ثم قال بعد ذلك لمعلمه: ادفع إليها إجارتي،(6/52)
فسأل مالكا عن ذلك ولم تكن قبضت شيئا.
فقال: الأمر تفويض، ولا أرى الطلاق إلا قد لزمه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، فلا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلق امرأته واحدة وهو مريض ثم صح وخرج ثم مرض فطلقها أخرى]
مسألة وسئل مالك: عن رجل طلق امرأته واحدة وهو مريض ثم صح صحة بينة وخرج، ثم مرض فطلقها أخرى.
قال مالك: أرى أن ترثه ما دامت في العدة ولا ترثه بعد انقضاء العدة.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأنه لما صح صحة بينة بعد أن طلقها كان بمنزلة ما لو طلقها وهو صحيح، فوجب ألا ترثه إلا ما دامت في العدة، ولا يعتبر بالطلاق الثاني في المرض؛ لأنه ليس يقاربه، ومثل هذا في المدونة، وهو مما لا اختلاف فيه، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: قال لها أنت طالق البتة إن كنت اشتريت الحمام لمن تظنين]
مسألة وسئل مالك: عن رجل نهته امرأته عن صحابة قوم كانوا يلعبون بالحمام، فدخل عليها يوما معه حمام، فقالت له: أخبرني لمن اشتريت هذه الحمام، فأبى أن يخبرها، فقالت: ما أظنك كتمتني إياه إلا أنك اشتريته لمن نهيتك عنه، فقال لها: أنت طالق البتة إن كنت اشتريته لمن تظنين.
قال: أرى أن يحلف لها في ذلك ما اشترى لمن تظن إن طاوعها على اليمين.(6/53)
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال أنه لا يمين عليه إلا إن شاء، يتطوع لها باليمين تطييبا لنفسها؛ لأنها لو ادعت عليه أنه طلقها لم يلزمه يمين بدعواها، فكذلك إذا ادعت عليه أنه حلف حانثا، فكيف إذا لم يحقق عليه الدعوى، وإنما اتهمته أنه كذبها وحلف حانثا، وبالله التوفيق.
[حلف بطلاق امرأته البتة ألا يكلم أخا له عشرة أيام وكان حلفه ضحوة]
ومن كتاب البز وسئل مالك: عن رجل حلف بطلاق امرأته البتة ألا يكلم أخا له عشرة أيام، وكان حلفه ضحوة، أترى أن يعتد بذلك اليوم؟
قال: أحب إلي أن يلغي ذلك اليوم ولا يعتد به، قال ابن القاسم: وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: القياس ألا يلغي بقية ذلك اليوم وأن يعد عشرة أيام من تلك الساعة، وهو قول مالك الأول، وعليه يأتي جوابه في هذه المسألة؛ لأنه استحب أن يلغي ذلك اليوم فلا يكلمه حتى تمضي عشرة أيام بعد انقضاء بقية ذلك اليوم؛ لأنه أبرأ من الحنث مراعاة للقول بأن الواجب إلغاء بقية ذلك اليوم، وهذا القول الذي رجع إليه مالك، فلو كلمه بعد عشرة أيام من تلك الساعة لم يحنث عنده؛ لأنه استحب إلغاء ذلك اليوم ولم يوجبه، ولو حلف على قياس هذا ليكلمنه في هذه العشرة الأيام فلم يكلمه حتى انقضت عشرة أيام من تلك الساعة حنث، وقد مضى القول على اختلاف قول مالك في هذه المسألة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب طلاق السنة، ومضى في سماع سحنون من كتاب النذور ما يزيد ذلك بيانا، فلا وجه لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف على زوجته بطلاقها ألا تخرج من بيته سنة إلا بإذنه]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حلف على زوجته بطلاقها ألا تخرج من بيته سنة إلا بإذنه، فكان يأذن لها كلما أرادت أن تخرج، ثم(6/54)
سافر ثلاثة أشهر فأذن لها عند خروجه أن تخرج حيث أحبت، ثم قدم فأقام فأرسلت أم امرأته إليها أن ايتني، فقالت: إن زوجي ليس هاهنا، وقد حلف ألا أخرج إلا بإذنه، فإذا جاء استأذنته في ذلك، فمر الرجل بأم امرأته فقالت له: ألا تأذن لفلانة تأتيني، فإني أرسلت إليها، فقالت: لا أستطيع أن أخرج حتى يأذن لي زوجي، فقال لها زوج ابنتها: نعم وكرامة، أنا آذن لها وأرسلها إليك، ثم خرج زوج ابنتها من عندها فأرسلت إليها أمها، فقالت: لا أستطيع أن أخرج، فقالت لها أمها: إنه قد أذن لك، فخرجت إلى أمها قبل أن يدخل زوجها بيته أو تكلمه في ذلك، فما ترى عليه؟
قال مالك: إن كان قال لها ذلك وهو يريد أني قد أذنت لك وتلك نيته فلا أرى عليه شيئا، وإن لم يكن نوى في قوله أنا آذن لها وأرسلها إليك الإذن في ذلك فأراه قد حنث.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال إن ذلك ليس بإذن إلا أن يريد بذلك أني قد أذنت لها، وأما قوله إنه حانث إن لم يرد بذلك الإذن فيدخل في ذلك اختلاف بالمعنى؛ لأنها لم تخرج عاصية لزوجها في الخروج بغير إذنه، وإنما خرجت لما أخبرتها أمها أنه قد أذن لها، فيحنث على مقتضى اللفظ لأنها قد خرجت قبل الإذن، ولا يحنث على اعتبار المعنى؛ لأن معنى يمينه ألا تعصيه بخروجها دون أن يأذن لها، ألا ترى أنه لو أذن لها فخرجت بعد أن أذن لها ولم تعلم بالإذن لحنث لكونها عاصية بالخروج، إذ لم تعلم بالإذن، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في أول مسألة من رسم أسلم من سماع عيسى، وسيأتي القول عليها هنالك إن شاء الله.
[مسألة: منت عليه بثوب اشترته بدين حلف ألا يلبسه حتى يكتب عليه الثمن]
مسألة وسئل: عن رجل كان تزوج امرأة فاشترت امرأته ثوبا بدين(6/55)
فكسته زوجها فمنت عليه بذلك، فقال: أنت طالق البتة إن لبسته حتى تكتبي علي ثمنه، فدعت مولاة امرأته جارية لها كاتبة فكتبت عليه بذلك كتابا وأشهدت بذلك عليه امرأته مع المولات وأشهدت بذلك مولاتها لزوجته، ثم أخذه ولبسه وباعه.
فقال له: ما أردت بذلك؟ فقال: أردت أن أدفع ثمنه من عندي، فقال: أرى أن تدفع إلى صاحب الثوب ثمنه وتكتب له بذلك كتابا ولا تدفع إلى زوجتك الثمن وأرجو ألا شيء عليك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنها لما منت عليه بالثوب الذي اشترته بدين حلف ألا يلبسه حتى يكتب عليه الثمن ليدفعه إلى البائع من عنده إذا حل الأجل على ما أخبر الحالف أنه أراد، فرأى مالك أنه قد بر بكتاب زوجته عليه الثمن لنفسها إلى ذلك الأجل، ولم ير عليه حنثا في أخذه ولباسه بعد أن كتب عليه الثمن؛ لأنه إنما كتبه على نفسه لها وهو يريد أن يدفعه إلى بائع الثوب على ما نوى.
وقوله: أرى أن يدفع إلى صاحب الثوب ثمنه يريد إذا حل الأجل ويكتب له بذلك كتابا يريد على نفسك من الآن إنما هو استحسان ليس على أنه يحنث إن لم يفعل ذلك؛ لأن اللباس قد وقع بعد أن انحلت اليمين عنه بكتابه الثمن على نفسه على ما حلف عليه، فقوله في آخر المسألة: وأرجو ألا يكون عليك شيء، معناه: في أخذك الثوب ولباسه بعد أن كتبت على نفسك الثمن لزوجتك، وليس معناه أرجو ألا شيء عليك إن دفعت إلى صاحب الثوب ثمنه إذا حل الأجل وكتبت له على نفسك كتابا من الآن؛ لأن لباس الثوب قد وقع، فإن كان لم يحنث فلا يحنث بعد، وإن كان قد حنث فلا يزول عنه الحنث، وهذا بين والحمد لله.
[مسألة: قال امرأتك طالق البتة إن كنت فعلت كذا وكذا قال نعم]
مسألة وسئل مالك: عن رجل لقيه رجل، فقال له: إني أخبرت أنك(6/56)
فعلت كذا وكذا، قال: لم أفعل، قال: فامرأتك طالق البتة إن كنت فعلت كذا وكذا، قال: نعم امرأتي طالق البتة إن كنت فعلت، واستثنى في نفسه إلا كذا وكذا، الذي استحلفه عليه.
قال: إن كان شيئا إنما وسوس به نفسه لم يحرك به لسانه، ما أراه إلا وقد حنث، ورأيته إن كان تكلم به فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: ورأيته برئ إن كان تكلم به فلا شيء عليه، معناه: وإن لم يعلم بذلك المحلوف له، قاله ابن القاسم من سماعه في كتاب النذور، وهو نص على نية الحالف، لا على نية المحلوف له، ومثله لابن وهب في سماع عيسى وزونان، خلاف قول ابن القاسم في رسم حمل صبيا من سماع عيسى، وخلاف ما في رسم الصلاة من سماع يحيى، وقد اختلف في هذا اختلافا كثيرا قد مضى تحصيله في رسم شك من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، ومضى هناك أيضا الاختلاف في الاستثناء دون تحريك اللسان، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[: حلف بطلاق امرأته وغاضبته إن هو خرج في سفر لم يرجع إليها سنين]
ومن كتاب باع غلاما بعشرين دينارا وعن رجل حلف بطلاق امرأته وغاضبته إن هو خرج في سفر لم يرجع إليها سنين.
قال: إن أراد بلدا مثل مصر ويخرج إلى غيرها فلا أرى عليه شيئا، وإن لم يرد موضعا فأرى اليمين عليه إن خرج من المدينة إلى سفر من الأسفار.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه إذا لم ينو بلدا بعينه(6/57)
فاليمين له لازمة إن خرج إلى ما تقصر فيه الصلاة من الأسفار، وإنما يختلف لو قال: إن خرج من المدينة ولم يقل في رسم سفر على ما يأتي القول فيه في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب، إن شاء الله.
[مسألة: تحمل برجل فقال له الحميل إني لأخشى أن تغرمني]
مسألة وعن رجل تحمل برجل، فقال له الحميل حين أراد أن يتحمل به: إني لأخشى أن تغرمني، فقال له: امرأته طالق البتة إن أغرمتك منها شيئا، فلما حل الحق أراد الحميل أن يسلفها إياه؛ لأنه إذا سلفها إياه فقد غرمها عنه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن معنى يمينه لا أغرمتك منها شيئا إلا وديتها أنا فلا تغرمها أنت، فإذا لم يؤدها إلا من ماله فكأنه قد أغرمه إياها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لأخيه امرأته طالق إن نفعتك بشيء فاشترى لامرأته لحما بدرهم]
مسألة وعن رجل قال لأخيه: امرأته طالق إن نفعتك بشيء، فاشترى لحما بدرهم فبعث به مع غلام له إلى بيته فأخطأ فدفعه إلى أخيه، فأتى إلى بيته فسألهم عن اللحم، فقالوا له: لم يأتنا شيء، فسأل الرسول فإذا هو قد دفعه إلى أخيه.
قال مالك: لا أرى عليه شيئا وأرى أن يطلب الرسول بالثمن ويطلبهم الرسول بالثمن، يريد لأخيه، قال سحنون: لا(6/58)
يكون للرسول أن يتبع الأخ بشيء؛ لأنه أفاته ثم يدعى الغلط فلا يقبل منه، قال عيسى: إذا تجافى الحالف عن إغرام الرسول وتجافى الرسول عن إغرام الأخ لم يحنث أيضا، وإن تجافيا جميعا عن إغرام الأخ حنث، وهو قول أصبغ وغيره من أهل العلم.
قال محمد بن رشد: لم يثبت قول سحنون في جميع الروايات، ووجه أنه حمله على التعدي ولم يصدقه فيما ادعاه من الغلط، وإذا حمل على التعدي كان حكمه حكم الوكيل يهب مال موكله أو يحابي فيه فيفوت ذلك.
وفي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن رب المال يرجع على الوكيل إن كان له مال، فإن لم يكن له مال رجع على الموهوب إن كان له مال، فإن لم يكن لواحد منهما مال رجع على أيهما أيسر أولا، وليس لمن رجع عليه منهما أن يتبع صاحبه بشيء، وإن أيسرا جميعا لم يكن له أن يتبع إلا الوكيل، بمنزلة إذا كانا جميعا موسرين ابتداء، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، وعليه يأتي قول سحنون هذا.
والثاني: أنه يرجع على الموهوب له إن كان له مال، فإن لم يكن له مال رجع على الوكيل إن كان له مال، فإن لم يكن لواحد منهما مال رجع على أيهما أيسر أولا، فإن رجع على الوكيل كان للوكيل أن يتبع الموهوب له، وإن رجع على الموهوب له لم يكن للموهوب له أن يتبع الوكيل، وهو معنى غير قول ابن القاسم، وهو أشهب في المدونة، وإذا كان للوكيل إذا رجع إليه أن يرجع على الموهوب له فالقياس على هذا إذا كانا موسرين أن يكون صاحب المال مخيرا في أن يتبع من شاء منهما؛ لأن الموهوب غريم غريمه، فله أن يتبعه ويدع غريمه، وقد روى ذلك عن أشهب.
والقول الثالث: أنه ليس لرب المال أن يتبع إلا الوكيل، فإن وجده معدما وكان الموهوب له موسرا فرجع عليه رجع الموهوب له على الوكيل، وهذا القول هو معنى ما حكاه أشهب(6/59)
عن بعض أهل المشرق، ونحا هو إليه في سماع أصبغ من كتاب البضائع والوكالات، وأما إذا صدق الرسول في أنه أخطأ باللحم على ما ذهب إليه مالك فلا اختلاف في أن له أن يطلب الرسول ويطلبهم الرسول بما طلب به، وان أراد أن يترك الرسول وبطلب الأخ، فذلك له إن رجع على الرسول ورجع الرسول على الأخ، فله هو أن يرجع عليه لأنه غريم غريمه.
وقال: إن الرجوع في ذلك يكون بالثمن، وذلك إذا كانت القيمة مساوية للثمن؛ لأن الواجب في ذلك الرجوع بالقيمة لا بالثمن الذي اشترى به، هذا إن كان اللحم جزافا، وأما إن كان وزنا فلا يكون الرجوع إلا بالمثل؛ لأن من تعدى على وزن فعليه المثل، ولو كان إنما أرسل باللحم مع غلامه على ما استفتح به المسألة لرجع بمثل اللحم أو قيمته إن كان جزافا على أخيه، ولم يكن في ذلك كلام، وقول عيسى تفسير لقول مالك؛ لأن الحالف إذا أغرم الرسول وتجافى الرسول عن إغرام الأخ الحالف، وإنما نفعه الرسول، وإذا أغرم الرسول الأخ وتجافى الحالف عن إغرام الرسول فإنما نفع الحالف الرسول لا الأخ الذي حلف على ألا ينفعه، وبالله التوفيق.
[: كسا امرأته ثوبا فسخطته فحلف بطلاقها البتة إن هي لبسته]
ومن كتاب نذر سنة يصومها وسئل مالك: عن رجل كسا امرأته ثوبا فسخطته فحلف بطلاقها البتة إن هي لبسته، فذهب به ليرده على صاحبه فبعثت جارية لها فاتبعته حتى علمت موضعه ثم أرسلت فاشترته وقطعته درعا فلبسته.
قال مالك: أرى أن يُنَوَّى، فإن قال: إنما أردت ألا أكسوها أنا ولا تلبسه من مالي ولم أرد أن تتداوله الأسواق، أو أبيعه ثم تشتريه، أو تكساه فتلبسه، وإنما كانت نيتي من عندي، فلا أرى(6/60)
عليه حنثا، ويحلف على ذلك، وإن لم تكن له نية ولم ينو شيئا من هذا فأرى أن قد طلقت عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم في أن اليمين إذا عريت عن النية ولم يكن لها بساط عمل على مقتضى اللفظ، وأن من ادعى فيما يحكم به عليه من الأيمان نية محتملة غير مخالفة لظاهر لفظه نوي فيها مع يمينه إذا حضرته البينة ولم يأت مستفتيا، وبالله التوفيق.
[مسألة: كان يسأل رجلا عشرة دنانير إلى أجل وحلف بطلاق امرأته إن لم يقضه]
مسألة وسئل: عن رجل كان يسأل رجلا عشرة دنانير إلى أجل وحلف بطلاق امرأته إن لم يقضه، فأراد أن يرهنه فيها سواري ذهب.
قال: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب القائم من المدونة وغيرها أن من حلف ليقضين رجلا حقه لا يبر بالرهن ولا بالقضاء الفاسد؛ لأن البر لا يكون إلا بأكمل الوجوه، وقد قيل: إنه يبر بالرهن وبالقضاء الفاسد وإن نقض، وهو قول أشهب في سماع أصبغ من كتاب النذور، وقد مضى القول على هذا المعنى مستوفى في أول مسألة من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك.
[مسألة: قال أنت طالق البتة إن خرجت في حق حتى أحج فأراد سفرا في ذي القعدة]
مسألة وسئل: عن امرأة خرجت إلى بيت أهلها بغير إذن زوجها فعاتبها زوجها في ذلك، فقالت: إنما خرجت في حق أديته، فقال: أنت طالق البتة إن خرجت في حق حتى أحج، فأراد سفرا(6/61)
في ذي القعدة، فأمرها أن تلحق بيت أهلها فخرجت إليهم.
قال مالك: لا أرى هذا حقا ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، فلا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لرجل بالطلاق البتة أن يقضينه حقه إلى أجل يسميه]
مسألة وعن رجل يحلف للرجل بالطلاق البتة أن يقضينه حقه إلى أجل يسميه إلا أن يحب أن ينظره فيأتي الأجل فينظره شهرا ثم يقول له بعد حلول ما أنظره إليه: ما علي يمين.
قال مالك: اليمين عليه إن لم يقضه حنث.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة وما يتخرج فيها من الاختلاف في رسم حلف ليرفعن أمرا، فأغنى ذلك عن إعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته البتة إن أنفق عليها شهرا إلا أن يرى غير ذلك]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حلف بطلاق امرأته البتة إن أنفق عليها شهرا إلا أن يرى غير ذلك فجاءته وهو يتغذى فأكلت معه وتركها تأكل معه.
فقال له: أردت أن تأكل معك؟ قال: نعم، قال: إن كان ذلك الذي نويت ورأيت فلا شيء عليك، كلام فيه نظر،(6/62)
وأراه وقع على غير تحصيل، إذ لا يضره إلا أن تكون له نية؛ لأن قوله: إلا أن يرى غير ذلك - يحمل إذا لم تكن له نية، على أنه إنما أراد بذلك إلا أن أنفق عليها، لا على أنه أراد بذلك إلا أن ألا أطلقها؛ لأن رد الاستثناء إلى الإنفاق له فائدة، وهو أقرب مذكور، ورده إلى الطلاق لا فائدة فيه؛ لأنه برى، والبرى في الطلاق لا يصح ولا ينفع مع أنه أبعد مذكور، ويترك أن يتحمل على ما فيه الفائدة، وهو أقرب مذكور، وهذا ما لا إشكال فيه ولا اختلاف، ونحوه في كتاب العتق الأول من المدونة، وإنما يختلف إذا قال امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا إلا أن يشاء الله، فقيل: إن الاستثناء لا ينفعه وإن رده إلى الفعل، والصواب: أنه ينفعه إلا أن يرده إلى الطلاق، وسيأتي القول على هذا إن شاء الله.
[: حلف فقال حرم علي ما حل لي في رجل يشتمه إن لم يكتب بينة ويرفعها]
ومن كتاب المحرم يأخذ الخرقة لفرجه وسئل مالك: عن رجل حلف، فقال: حرم علي ما حل لي في رجل يشتمه إن لم يكتب بينة ويرفعها، أفترى إذا رفعها أن يخرج عن يمينه أم حتى يخاصمه ويقاعده؟(6/63)
فقال: بلى حتى يخاصمه ويقاعده.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن معنى ما حلف عليه أن يثبت عليه سبه إياه ويوبخه بتوقيفه إياه على ذلك وتقريره عليه، فلا يبر إلا ببلوغ الغاية في ذلك بالمخاصمة والمقاعدة، فإن تجافى بعد هذا عما يتعين له عليه في سبه إياه من الأدب لم يحنث، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لها إن خرجت بك من موضعك إلا برضاك فأنت طالق فرضيت]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حلف لامرأته من غير شرط يكون لها عليه إن خرجت بك من موضعك إلا برضاك فأنت طالق البتة، فرضيت وأشهدت بذلك أنها راضية غير مكرهة ولا مضطرة ولا مغلوبة على أمرها راضية بذلك مسلمة له راغبة في رضاه.
قال مالك: أرى إن خرجت معه عن رضا منها فلا شيء عليه، ولكن أرى عليه إن أرادت منه أن يردها إلى الموضع الذي أخرجها إليه بعد رضاها وتسليمها ذلك إلى الموضع الذي خرجت منه أن ذلك يلزمه. قيل له: وإن هو خرج بها برضاها إلى موضع ولم يجد ما يردها به ولم يقو على ذلك؟
قال: لا أرى أن يخرجها إلى موضع إن سألته ذلك وطلبته.
قال سحنون: لا يلزمه ذلك أن يردها إلا أن يكون شرط لها أن يردها.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
أحدهما: قول مالك: هذا إنه يلزمه أن يردها إذا سألته ذلك فإن لم يفعل حنث وإن كان تطوع لها باليمين.
والثاني: أنه لا يلزمه أن يردها وإن كان اليمين شرطا في العقد، وهو قول ابن القاسم في رواية سحنون عنه الواقع في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النكاح.
والقول الثالث: الفرق(6/64)
بين أن يتطوع لها باليمين أو يكون شرطا عليه في أصل العقد، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه، وقد مضى هذا كله والقول فيه مستوفى بعلله في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم في كتاب النكاح، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: لم يشهد للمرأة على زوجها بالطلاق إلا شاهد واحد]
مسألة وسألته امرأة: عن زوج لها كان يضربها وكان يخبرها أن بني عم له يحملونه على ذلك، وأنه كان بينه وبينها كلام وضربها، فقالت له: هذا عمل بني عمك يحملونك على هذا، قال: أنت طالق البتة، إن كانوا قالوا لي شيئا، فقالت له: اتق الله فإنها الفروج، أنت كنت تخبرني أنهم هم الذين يحملونك، قال: فإني وهمت حين حلفت، ورجل يشهد على مقالته.
قال: أرى أن يستحلف بالله فيما يدعي، لو شهد عليه رجل آخر حلف مع الذي شهد عليه أنه قال وهمت لرأيت ذلك فراغا من الأمر، يريد بذلك أن تطلق عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن شهادة الرجل الواحد عليه بهذه المقالة كشهادته عليه بالطلاق، وإذا لم يشهد للمرأة على زوجها بالطلاق إلا شاهد واحد فلا يلزمه إلا اليمين، وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه، وبالله التوفيق.
[: مسألة مرض فذهب عقله فطلق امرأته ثم أفاق فأنكر ذلك]
مسألة أوله مرض وله ولد، وسئل عن رجل مرض فذهب عقله(6/65)
فطلق امرأته ثم أفاق فأنكر ذلك وزعم أنه لم يكن يعقل الذي صنع، وأنه كان لا يعلم شيئا من ذلك.
قال: أرى أن يحلف ما كان يعقل ويخلى بينه وبين أهله.
قال محمد بن رشد: وإنما يكون ذلك إذا شهد العدول أنه كان يهدي ويتخبل عقله، وأما إذا شهدوا أنه لم يستنكر منه شيء في صحة عقله فلا يقبل قوله، ويمضي عليه الطلاق، قاله ابن القاسم في العشرة، وكذلك الحكم في السكران، وقد مضى القول في حكم السكران في أول كتاب النكاح مستوفى، وقد تكررت هذه المسألة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب طلاق السنة، ومضى القول عليها هناك، وبالله التوفيق.
[: حلف لها في جارية ألا يطأها وهو ينوي برجله على بطنها]
ومن كتاب أوله قال سحنون قال أشهب وابن نافع سئل مالك: عمن ابتلي من امرأة بالغيرة فحلف لها في جارية ألا يطأها، وهو ينوي ألا يطأ برجله على بطنها.
فقال: أكره أن يفعل ذلك، وذلك يسوق إلى غير ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما في رسم أبي زيد من كتاب النذور من اللغو في اليمين، وهو على وجهين:
أحدهما: أن يلغز فيه لمن يحلف له متعدرا من شيء أو متمخيا منه أو تطيبا لنفسه في غير حق يتعلق له قبله كنحو هذه المسألة، إذ لا حق لامرأته في ترك وطء أمته.
والثاني: أن يلغز له على وجه المكر والخديعة في حق يتعلق له قبله، فأما الوجه الأول ففيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنه لا ينتفع بلغزه؛ لأن اليمين على نية المحلوف له، وهو قول مالك في التخيير والتمليك من المدونة في الذي(6/66)
يحلف للسلطان طائعا، فيقول: امرأتي طالق وزعم أنه أراد امرأة كانت له قبل.
والثاني: أنه ينتفع به وتكون له نيته فيه، إلا أن ذلك يكره له أن يفعله مخافة أن يكون ذلك ذريعة إلى استسهاله على وجه المكر والخديعة، وهو قول مالك في هذه الرواية.
والثالث: أنه ينتفع به وتكون له نيته فيه، ولا يكره له أن يفعله، والى هذا ذهب ابن حبيب.
وأما الوجه الثاني ففيه قولان:
أحدهما: أنه لا ينتفع بلغزه؛ لأن اليمين على نية المحلوف له.
والثاني: أنه ينتفع بلغزه وتكون له نيته فيه، وهو آثم في فعله، وسواء كان لغزه في اليمين بالله وما لا يحكم به عليه من المشي وشبهه، أو فيما يحكم به عليه من العتق والطلاق، غير أنه إن كان فيما يحكم به عليه من العتق والطلاق وطولب باليمين فادعى الإلغاز فيه استظهر عليه في ذلك باليمين، كانت عليه في اليمين بينة أو لم تكن، إذا كان مقرا باليمين، وأما إن أنكر اليمين فلما ثبت عليه ادعى الإلغاز فيه فلا يصدق، ويقضي عليه بما ظهر من يمينه، وقد مضى بيان هذا في رسم الرهون من سماع عيسى من كتاب النذور.
[مسألة: قال امرأتي طالق إن كان يدخل بطون العباد شيء أخبث من الشراب المسكر]
مسألة وسئل: عمن قال: امرأتي طالق إن كان يدخل بطون العباد شيء أخبث من الشراب المسكر.
فقال مالك: الدم والميتة ولحم الخنزير، وما هذا عندي باليمين، ثم تفكر فيها طويلا، ثم قال: لو طلقتها واحدة ثم ارتجعتها، فقيل له: إنها ليست عنده إلا بواحدة، فقال: قال الله عز وجل في الربا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] ، وليس هذا في الخمر، يأخذ دينارا بدينارين يأكله، إذا أخذه الذي يشرب الخمر جلد وخلي، وإذا أخذه الذي يأكل الميتة عذب عذابا أليما، فأرى أن يفارق امرأته، قال: أترى أن يفارقها؟ قال: نعم.(6/67)
قال محمد بن رشد: حمل مالك يمين الحالف بالطلاق على أنه لا يدخل بطون العباد شيء أخبث من الشراب المسكر، على أن المعنى فيه أنه لا يدخل بطونهم شيء هو أشد في التحريم وأعظم في الإثم وأكبر في الجرم من الشراب المسكر، ولذلك رأى الطلاق قد لزمه. وقيل: من أجل أنه رأى الربا أشد تحريما وأعظم إثما وأكبر جرما، بدليل ما توعد الله به في الربا، ولم يذكر في الخمر مثله، فعلى هذا التأويل لو حلف الحالف أنه لا يدخل بطون العباد أخبث من الربا [لم يحنث. وقيل: إنه إنما رأى الطلاق قد لزمه من ناحية الشك أنه لا يدري أي المحرمات أخبث، أي أشد في التحريم وأعظم في الإثم، بدليل قوله: وما هذا عندي بالبين، فعلى هذا التأويل لو حلف أنه لا يدخل بطون العباد أخبث من الربا] لحنث أيضا، وهو أولى التأويلين لعدم النص في ذلك، وهذا صحيح إذا أراد الحالف هذا المعنى الذي حمل عليه مالك يمينه أو كان ثم بساط يدل عليه.
وأما إذا عريت يمينه من نية أو بساط فلا ينبغي أن يحنث؛ لأن الخبث القائلة والشر والخبيث نعت كل فاسد، وفي الخمر معاني خبيثة ليست في سائر المحرمات من ذهاب العقل وإيقاع البغضاء والعداوة والصد عن ذكر الله وعن الصلاة كما ذكر الله تعالى، فيجب أن تحمل يمين الحالف بهذه اليمين إذا لم تكن له نية، على أنه أراد أنه لا يدخل بطون العباد شيء أشد عليهم وأضر بهم في دينهم ودنياهم من الشراب المسكر فلا يحنث؛ لأن من سكر جهل على الناس وسفه في ماله واستسهل الجرائم وعطل الفرائض، وقد روي أن سبب يمين هذا الحالف هو أنه رأى سكرانا في بعض أزقة المدينة يروم تناول القمر ليدخله في كميه، وفي بعض هذا بيان.
[مسألة: الأحق بالحضانة]
مسألة وسئل: عمن فارق امرأته وله منها بنت فطرحتها إليه ولحقت(6/68)
بأهلها فتأيمت عندهم ما شاء الله ثم تزوجت لا تعرض للبنت ولا تريدها حتى ماتت، فلما ماتت قامت أمها تطلب البنت، بنت ابنتها لتأخذها.
فقال: ألذلك سنة؟ إذا كان لذلك سنة أو أكثر من ذلك أو أشباه ذلك فلا أرى ذلك لها، قد تركها وعضدها وإن كان ليس ذلك إلا يسيرا فإن ذلك لها.
وفي كتاب الطلاق: أن الأم نفسها أرادت أن تأخذ ولدها بعد تركها إياه، فقال مالك: إن كانت تركتهم من علة مثل أن تكون مرضت وانقطع لبنها فذلك لها، وإن كان على غير ذلك فليس ذلك لها، قال ابن نافع: وللجدة أن تأخذها إذا كانت في موضع أبيها.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة في هذين الرسمين من هذا السماع من كتاب طلاق السنة وفي غيره من المواضع منه ومن غيره، ومضى القول عليها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة أيضا، فلا فائدة في إعادته، وبالله التوفيق.
[: جعل ليمينه بالطلاق على الفعل أجلا بعد أن كان أبهم يمينه أولا إلى غير أجل]
ومن كتاب الطلاق الثاني وسئل: عن مريض قال لامرأته: أنت طالق البتة إن لم تقومي علي؛ لأنكحن عليك أرفق بي منك أو أخرج إلى أنطابلس، فلم تقم عليه، ثم لقي رجلا فأخبره بيمينه، فقال له الرجل: ألا جعلت ليمينك أجلا، قال: فإني أشهدكم أنها طالق البتة، إن لم أتزوج عليها إلى ثلاث سنين، أو أخرج إلى أنطابلس.
قال: فليفِ بما جعل على نفسه، قيل له: إنه قد جاء الأجل ولم يفعل، قال: ليس ذلك له، قال أشهب فيها: يحال بينها وبينه،(6/69)
ويضرب له أجل المولي ولا يطأها إلى الأجل لأنه قد عقد على نفسه اليمين الأول إلى غير أجل، فإذا انقضت الأربعة الأشهر وقف فقيل له: تزوج أو اخرج إلى أنطابلس وإلا فرق بينكما، فإن لم يفعل طلق عليه بالإيلاء تطليقة، فإن انقضى أجل الثلاث سنين ولم يفعل شيئا مما حلف عليه وهي في بقية من عدتها من طلاق الإيلاء حنث، فطلق عليه بالبتة؛ لأن الحنث دخل عليه وهي امرأته، وإن لم تنقض السنون الثلاث حتى خرجت من العدة فقد بانت منه بلا طلاق ولا طلاق عليه بالبتة؛ لأن الحنث دخل عليه بها، وقال ابن نافع: يحنث بهذه الآخرة إذا انقضى الأجل ولم يفعل ما حلف عليه.
قال محمد بن رشد: قول مالك في الذي جعل ليمينه بالطلاق على الفعل أجلا بعد أن كان أبهم يمينه أولا إلى غير أجل: فليف بما جعل على نفسه، يدل على أنه فيما يؤمر به من على ما كان عليه قبل أن يجعل ليمينه أجلا، فلا يجوز أن يطأ؛ لأنه على حنث باليمين الأولى.
والوجه في ذلك: أنه ليس له أن يسقط عن نفسه حكم اليمين الأولى من أنه فيها على حنث لا يجوز له الوطء يضرب له الأجل في يمينه الثانية على القول بأن من حلف بالطلاق ليفعلن فعلا إلى أجل يجوز له أن يطأ إلى ذلك الأجل إذ قد اختلف في ذلك.
وقوله لما قيل له إنه قد جاء الأجل ولم يفعل - ليس ذلك له معناه ليس له أن يفيء بعد الأجل بفعل ما حلف عليه ليفعلنه إلى الأجل ويقع عليه الحنث بمضي الأجل، فقول أشهب تفسير لقول مالك، ومعناه: أنه يضرب له أجل المولي إن رفعته امرأته إلى السلطان وطلبته بحقها في الوطء، وقد بقي من الأجل أكثر من أربعة أشهر، فإن ضرب له أجل الإيلاء فطلق عليه فانقضت الثلاث سنين قبل أن تنقضي عدتها ولم يفعل شيئا مما حلف عليه وقع عليه الحنث بالطلاق، وإن انقضت عدتها من طلاق الإيلاء قبل حلول الأجل لم يلزمه بحلول الأجل شيء إلا أن يكون قد تزوجها قبل حلوله فترجع عليه اليمين ويحنث بحلوله إن لم يفعل ما(6/70)
حلف عليه قبله، وقول ابن نافع يحنث بهذه اليمين الآخرة إذا انقضى الأجل ولم يفعل ما حلف عليه، معناه: إن بقيت على حالها لم ترفع أمرها إلى السلطان وإلا طلق عليه بالإيلاء، فهو صحيح أيضا ليس بخلاف لقول مالك. وقد تأول ابن أبي زيد على مالك في قوله: فليفِ بما جعل على نفسه أن له أن يفيء قبل الأجل وبعد، وإنه لا يحنث بعد بانقضاء الأجل، وأن قوله: ليس ذلك له - معناه: ليس له من يمينه مخرج إلا بالفيء بفعل ما حلف عليه، وقال: إنما يصح ظاهر جواب مالك على أنه جعل الأجل للتزويج وأبهم الخروج إلى أنطابلس بلا أجل، فهذا لا يطلق عليه إذا مضت الثلاث سنين، ويدخل عليه الإيلاء إن رافعته، وهو تأويل بعيد، ومعناه: لو صح صحيح على أصولهم.
[مسألة: حلف المرأة بالطلاق]
مسألة وسئل مالك: عمن كانت بينه وبين امرأته محاورة فتحالفا، فقال لها زوجها: ليس هذا بشيء، ولكن احلفي بالطلاق، فقالت: أنت طالق إن لم يكن كذا وكذا.
فقال: ليس للنساء طلاق.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن الطلاق إلى الرجال ليس إلى النساء منه شيء، لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] ، وقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 231] ... الآية، وما أشبه هذا من الآيات، إلا أن تملك نفسها أو تخير في أمرها، فتختار نفسها، فيجب لها ذلك على السنة فيه، لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ} [الأحزاب: 28]
الآية، وبالله التوفيق.(6/71)
[مسألة: قال في النصف من السنة امرأتي طالق البتة إن فعلت كذا وكذا هذه السنة]
مسألة وسئل: عمن قال في النصف من السنة: امرأتي طالق البتة إن فعلت كذا وكذا هذه السنة.
فقال: إن كان نوى ما بقي من السنة فذلك له، وإن لم يكن نوى شيئا فليستقبل من يوم حلف اثني عشر شهرا.
قال محمد بن رشد: إنه إن لم ينو شيئا فليستقبل من يوم حلف اثني عشر شهرا، ولم يذكر هل يلغي بقية ذلك اليوم أو يحسب من تلك الساعة، وقد مضى الاختلاف في ذلك والقول فيه في رسم البز من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وكذلك من قال: لله علي أن أصوم هذه السنة، يصوم اثني عشر شهرا من ذلك اليوم، إلا أن ينوي بقية تلك السنة، وقد مضى في رسم بع ولا نقصان عليك من كتاب الصيام ذكر الاختلاف الحاصل بين ابن القاسم وأشهب هل يعد ذلك اليوم ولا يقضيه، أو لا يعده كأنه يقضيه، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: سئل البائع أن يضع من ثمنها فحلف بالطلاق ألا يضع عنه]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل مالك: عن موصى إليه باع ثلاثة أشياء من مال البيت بثمانية عشر دينارا ودرهمين فيمن يزيد، فأغلاها فيما يقولون بثلاثة دنانير، فسئل البائع أن يضع من ثمنها فحلف بالطلاق ألا يضع عنه، فسأله أن ينظره، فقال: إن لم يدخل علي في يميني شيء فقد أنظرته، فَأُفْتِيَ ألا شيء عليه في يمينه فأنظره، فجاءني أخو امرأته فأوقفتها عنه.
فقال: أرى أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما هذا الذي أراد، وما أراد إلا ألا يضع عنه من الثمن شيئا، وأنه لم يرد إلا أن ينظره، فإذا حلف على ذلك فلا شيء عليه.(6/72)
قال محمد بن رشد: تحصيل القول في هذه المسألة أن الحالف لا يخلو أن يريد بيمينه لا يضع عنه ألا يرفقه أو أن يريد بها ألا يضع عنه خاصة لا أن ينظره، أو ألا يكون له نية، فأما إذا نوى بيمينه ألا يضع عنه ألا يرفقه فهو حانث إن أنظره؛ لأنه إذا أنظره فقد أرفقه، وأما إذا نوى ألا يضع عنه خاصة لا ألا ينظره فلا حنث عليه إن أنظره.
واختلف إن كانت يمينه بما يقضي به عليه من الطلاق أو العتاق فطولب بذلك هل يصدق فيما ادعى أنه نواه بيمين أو بغير يمين؟ فقال مالك في هذه الرواية: إنه يستحلف، وقيل: إنه يصدق بغير يمين، وهو الذي أفتي به الحالف على ما ذكر في الرواية، وأما إذا لم تكن نية فظاهر الرواية أنه لا حنث عليه على مقتضى اللفظ إن أنظره، ويستظهر عليه باليمين أنه إن لم تكن له نية إن كان مطلوبا؛ لأنه يتهم أن يكون نوى ألا يرفقه على القول في لحوق يمين التهمة، وقيل: إنه حانث على المعنى؛ لأن مقصد الحالف ألا يضع ألا يرفق، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه، وأما إذا حلف ألا ينظره فوضع عنه فلا حنث عليه قولا واحدا؛ لأن النظرة يخشى منها هلاك جملة الحق بمغيبه أو فلسه، فوجب ألا يحنث حملت يمينه على المعنى أو على مقتضى اللفظ، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إذا قدمنا إلى المدينة فدخلنا الدار فأنت طالق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل قال لامرأته بمكة وهما يريدان المدينة: إذا قدمنا إلى المدينة فدخلنا الدار فأنت طالق إن خرجت منها سنة، فقدمت فدخلت دارا أو دارين قبل أن تدخل منزل زوجها وخرجت منه إلى دارها، أترى عليه حنثا؟(6/73)
قال: لا حنث عليه فيما دخلت من دار فخرجت منها قبل أن تصير إلى منزله، فإذا صارت إلى منزله ثم خرجت قبل انقضاء السنة حنث، قيل له: إنها قدمت نهارا؟ قال: تستقبل السنة من الليلة التي تأتي، قيل له: إنها دخلت منزلا غير منزله الذي يسكن فيه ثم خرجت إلى منزله، قال: أحب إلي ألا ينزلها حتى يقدم بها إلى منزله، قيل له: إنه أنزلها على أهل له تسلم عليهم ثم تصير إلى منزله، قال: فأنا آمره ألا يفعل فأحب إلي ألا ينزلها إلا منزله، ثم تخرج حتى تتم السنة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة؛ لأن يمينه إنما وقعت على المنزل الذي يريد سكناه بها في المدينة، كان له أولها أو لغيرهما بكراء؛ لأنه لما قال: فدخلت الدار؛ معرفة بالألف واللام - علم أنه إنما أراد دار السكنى، فحملت على ذلك، ووجب أن لا يكون عليه شيء فيما سوى ذلك المنزل من الدور إن دخلت شيئا منها قبل أن تصير إلى ذلك المنزل، ولم تحمل يمينه على استغراق جنس الدور إذ لا يحمل مثل هذا اللفظ على استغراق الجنس إلا إذا عدم العهد، ولو قال فدخلنا دارا للزمته اليمين في أي دار دخلت، وقوله: إنها تستقبل السنة من الليلة التي تأتي هو على الاختلاف الذي قد مضى القول عليه في أول رسم البز من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: حلف بالطلاق على أخته ألا يدخل عليها بيتا ما دام زوجها زوجها]
مسألة وسئل: عن رجل حلف بالطلاق على أخته ألا يدخل عليها بيتا ما دام زوجها زوجها، فأقام سنين لا يدخل عليها، ثم(6/74)
غاب زوجها ومرضت فانتقلتها أمها إلى بيتها تمرضها فدخل عليها.
قال: ما يعجبني، وأحب إلي ألا يدخل عليها، قال: إنها عندنا منذ شهرين، فقال: أحب ألا يدخل عليها، قيل له: أحب إليك ألا يدخل عليها؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله ما يعجبني وأحب إلي ألا يدخل عليها تجاوز في اللفظ؛ لأن وجوب الحنث عليه بين بدخوله عليها في أي بيت كانت ما دامت في عصمة ذلك الزوج؛ لأنه لما قال بيتا بلفظ النكرة كان ذلك عموما في جميع البيوت إلا أن تكون له نية، ولو حلف ألا يدخل عليها بيتها لم يكن عليه شيء في دخوله عليها بيت أمها إذا انتقلت إليه لتمرض ونحو ذلك، وكذلك لو حلف ألا يدخل عليها البيت على قياس ما مضى في المسألة قبل هذه.
[مسألة: دعوت امرأتي إلى فراشي وامتنعت علي فأردت أن أضربها]
مسألة ولقد قال لنا مالك: لقد جاءني رجل مرة يسألني فقال: إني دعوت امرأتي إلى فراشي وامتنعت علي فأردت أن أضربها فما ترى؟
فقلت له: والله ما أراك أن تفعل، قد يكون للنساء العذر والعلة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا يجوز له أن يضربها إلا أن يتحقق أنه لا عذر لها في الامتناع منه في ذلك الوقت وإنما تذهب إلى الإضرار به في منعه بما أحله الله له من الاستمتاع بها الذي تكحتر(6/75)
عليه نشوزا عليه، قال الله عز وجل: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] ... الآية، معناه: تعلمون ذلك وتخافون زيادته.
[مسألة: حلف أن يطأ امرأته الليلة فعالجها ولم يعالج وطأها حتى أصبح]
مسألة وقد جاءني رجل فقال: إني دعوت امرأتي في جوف الليل إلى فراشي فأبت، فقلت لها: أنت طالق البتة إن لم أصبك قبل الصبح، فجاءتني فأمكنتني من نفسها فعالجتها حتى مللت فلم أستطيع لها، بهذا قد ابتلى إلا أنه قال: إني استثنيت فقلت إلا ألا أقدر على ذلك، فعالجتها حتى قريبا من الصبح فلم أستطع لها فنمت حتى أصبحت فلم أر عليه شيئا، قيل: لم يقدر على إصابتها وقد استثنى الذي استثنى لو لم ينم حتى يصبح، فقلت له: أراك قد نمت، فلا أدري ما هذا.
قال محمد بن رشد: لم يعذره مالك في هذه المسألة وإن كان مغلوبا على ترك الوطء بعدم الاستطاعة إذ لم ير عليه شيئا من أجل أنه استثنى ألا ألا أقدر كما لا يعذره إذا غلب على ترك الفعل الذي حلف ليفعلنه بالنسيان، ولعمري أن بينهما فرقا؛ لأن النسيان للناسي فيه سبب، إذ لم ينس إلا بالاعتراض عن استدامة تذكر ذلك الشيء، فإذا نسي فعل ما حلف ألا يفعله، فقد كان في ذلك تفريط لزمه فيه الحنث، والذي حلف أن يطأ امرأته الليلة فعالجها ولم يعالج وطأها حتى أصبح لم يكن منه تفريط، فقد كان القياس أن يكون في حكم المكره لا يحنث، كمن حلف ألا يفعل فعلا فأكره على فعله، غير أنهم فرقوا في الأيمان في الإكراه على(6/76)
فعله وعلى ترك الفعل على قياس، ويحتمل أن يكون إنما أوجب عليه الحنث لأنه خشي أن يكون قد وقع منه تقصير في استدعاء اللذة بقلبه وصرف همته إلى ذلك دون أن يحيل فكره إلى معنى آخر؛ لأن هذا هو سبب الإنعاظ في جرى العادة، ألا ترى أن من خطرت ببابه خطرة في الصلاة فانعظ يومر أن يتذكر أمر الموت وما بعده ليكسر ذلك منه ما نابه من الإنعاظ، فلا يكون على هذا التأويل قوله في هذه الرواية خارجا عن القياس، ويكون على أصله في النسيان، ومن أهل العلم سوى مالك من يرى أنه مغلوب بالنسيان، فلا يرى عليه به حنثا في الفعل ولا في الترك، ويحتج بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان وعما استكرهوا عليه» وبقوله: «إنما الأعمال بالنيات» ، وهذا لا يلزم لأن المراد بذلك رفع الحرج في ترك الواجبات وفعل المحظورات على سبيل النسيان، لا فيما يلزم فيه الحنث مما لا يلزم فيه الحنث، وبالله التوفيق.
[مسألة: تحريم الحلال هل يعد يمين]
مسألة وعن ثلاثة نفر ابتاعوا غنما فتقاووها بينهم، فاشترى أحدهم شاتين من الغنم بثمانية وأربعين درهما، فجزوا الغنم، ثم جاء الذي ابتاع الشاتين إلى أحد شريكيه، وهو الذي كان ابتاع الغنم وأشركهما، فقال له: هذه دراهمك ثمانية وأربعون درهما،(6/77)
فقال له الشريك: بل عليك ثمانية وأربعون درهما ونصف درهم، فقال: الحلال علي حرام إن كان علي إلا ثمانية وأربعون درهما، فدعا الشريك شريكهما الثالث، فقال: كم علي في ثمن الشاتين؟ فقال: ثمانية وأربعون درهما ونصف درهم، فقال: ما علي إلا ثمانية وأربعون درهما في ثمن الشاتين.
فقال له مالك: أنت على يقين من يمينك أنك لم تشتر هاتين الشاتين إلا بثمانية وأربعين درهما، فقال: نعم، فقال له مالك: إنك قد كنت حنثت قد حرمت عليك امرأتك، أرأيت إن لم يكن يلزمك هذا النصف على من يكون؟ فقال: يكون علينا ثلاثة، فقال: إن لم ترد شهادتهما بشيء فقد حنثت، فقال: ما أرد شهادتهما بشيء إلا أنهما كانا شريكين لي، فهما يجران لأنفسهما، فقال له: سلهما على شهادتهما وكررها عليهما، فلعلهما يثبتان على الشهادة، ويقولان: كنا نظن ذلك، فقال: قد ثبت الشهادة، فقال: إن لم ترد شهادتهما بشيء جازت شهادتهما عليك، فحرمت عليك امرأتك، فقال: بأي شيء أرد شهادتهما؟ ما أستطيع ذلك إلا أنها لي شريكان، فقال: إن لم ترد شهادتهما بشيء جازت شهادتهما عليك، فحرمت امرأتك، وإنما يكون على كل أحدهما دانق، فلا يتهمان في دافق على هذا فترد شهادتهما عنك بذلك، فإن لم ترد شهادتهما بشيء فقد حنثت، فقال له بعد ذلك بيوم: يا أبا عبد الله، أرأيت أن الحنث قد وقع علي بشهادتهما وهما يجران لأنفسهما لِيَسَارَةِ ذلك وأنهما لا يتهمان في(6/78)
شهادتهما من أجل دانق؟ فقال: نعم، وما يثبت ذلك له؟ ولكن رأيت أن العدل لا يتهم في شهادته حتى يرد في دانق يجره إلى نفسه، ولقد قلت أن ايتني بهما، فقال: يأبيان، ولست أدري أعدلان هما أم لا؟ فقال: إنما يتكلم في مثل هذا على العدالة، فقال: جاءني جازر أسود وكلهم جازر ولا أراهما إلا مثله، فإن كانا عدلين فلا أرى أن يتهما في مثل هذا، قيل له: أرأيت عليه الحنث بشهادتهما إذا كانا عدلين؟ أفرأيت ذلك النصف يقع عليه أم يطرح، فقال: لا أدري، ولقد قلت أرأيت هذا النصف إن لم يكن عليك على ما هو؟ فقال: هو علينا جميعا، وما أراه إلا وقد أصاب.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الحالف لما نازعه شريكه في ثمن الشاتين فحلف بالحلال عليه حرام أنه لم يشترهما إلا بثمانية وأربعين درهما، قامت زوجته أو أحد بسببها يَدَّعِي عليه الحنث وشهد له شريكاه أنه اشترى منهما الشاتين بثمانية وأربعين درهما ونصف، فأجاز مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - شهادتهما عليه في الحنث بالحلال عليه حرام ولم يتهمهما في أنهما يجران إلى أنفسهما بشهادتهما بما يجب لهما من النصف الدرهم وهو ثلثان ليسارة ذلك كما قال في المدونة في الشاهد يشهد في الوصية وقد أوصي له فيها باليسير أن شهادته فيها جائزة فساوى في هذه الرواية في هذا، بين الوصية وغير الوصية، وهو القياس، وقال مالك للحالف: أنت على يقين أنك لم تشتر هاتين الشاتين إلا بثمانية وأربعين درهما؟ فلما قال له: نعم، سكت عن الجواب في ذلك وهو لا شيء عليه فيما بينه وبين الله إن كان صادقا، وقال له: إنك قد حنثت وحرمت عليك امرأتك، يريد في الحكم الظاهر، بشهادة شريكيك عليك أنك اشتريت الشاتين(6/79)
بثمانية وأربعين درهما ونصف إن لم ترد شهادتهما بشيء، فلعلهما لا يثبتان الشهادة.
فلما أخبره أنهما يثبتان الشهادة وأنه لا يقدر على رد شهادتهما إلا بأنهما شريكان له يجران إلى أنفسهما، لم ير ذلك مما يرد به شهادتهما ليسارة ذلك.
فوقف أشهب على ذلك بعد ذلك بيوم، وقال له: يا أبا عبد الله، أرأيت أن الحنث قد وقع عليه بشهادتهما وهما يجران لأنفسهما ليسارة ذلك، وأنهما لا يتهمان في شهادتهما من أجل دانق، فقال: نعم وما يثبت ذلك له؟ يريد للحالف، ولكن رأيت العدل لا يتهم في شهادته حتى يرد في دانق يجره إلى نفسه.
ووقفه أيضا هل يثبت على الحالف النصف بشهادتهما إن كانا عدلين ووجب عليه الحنث بها؟ فقال له: لا أدري.
ويتخرج على قولين:
أحدهما: أنه يثبت عليه النصف بشهادتهما فيكون لهما منه ثلثاه وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في المدونة في مسألة الشاهد يشهد في الوصية قد أوصي له فيها بشيء يسير، وهو قول مالك في رواية مطرف عنه.
والثاني: أنه لا يثبت عليه لهما من النصف شيء بشهادتهما، وهو قول ابن الماجشون في مسألة الوصية، وقد قيل: إن شهادتهما لا تجوز في الطلاق لجرهما إلى أنفسهما بشهادتهما ما يجب لهما من نصف الدرهم، وهو الذي يأتي على ما في المدونة؛ لأنه لم يجز فيها شهادة الشاهد لغيره إذا شهد لنفسه فيها بيسير إلا في الوصية، فهذه ثلاثة أقوال:
أحدهما: أن شهادتهما تجوز في الطلاق والمال؛ لأن شهادتهما في المال في ضمن شهادتهما بالطلاق.
والثاني: أن شهادتهما تجوز في الطلاق ولا تجوز في المال، إذ لا تجوز شهادة أحد لنفسه في قليل ولا كثير.
والثالث: أن شهادتهما تجوز في الطلاق، ولا في(6/80)
المال.
وفي المسألة قول رابع: أنهما إن طلبا المال بطلت شهادتهما في الطلاق، وإن لم يطلباه جازت شهادتهما في الطلاق، وهو الذي يأتي على ما في رسم الطلاق الثاني بعد هذا، وفي آخر نوازل سحنون من كتاب الأقضية.
وفي هذه المسألة معنى يجب أن يوقف عليه ويعرف وجهه، وهو أن الحالف لم يحلف بالحلال عليّ حرام أنه لم يشتر الشاتين إلا بثمانية وأربعين درهما إلا تكذيبا لشريكه فيما ادعاه عليه من أنه ابتاعهما بثمانية وأربعين درهما ونصف، ومن قولهم: إن من حلف تكذيبا لشهادة الشهود فلا يطلق عليه بشهادتهم، فكان القياس ألا تطلق عليه بشهادتهما؛ لأنه إنما حلف تكذيبا لأحدهما، والوجه في ذلك أنه أقر على نفسه باليمين ولم يثبت أنه حلف تكذيبا لأحدهما، وقد قيل: إن معنى المسألة أنه أنكر اليمين فشهد عليه بها الشريكان لزوجته، والأول هو الأظهر من لفظ المسألة.
ويلزم على قياس قول مالك في هذه المسألة لو شهد رجلان على رجل أنه حلف بالطلاق ما لأحد عليه حق، وإن لهما عليه ثلث درهم - أن تطلق عليه بشهادتهما ليسارة خطب ما شهدا به لأنفسهما، وبالله التوفيق.
[: قال لها إن كلمت فلانا فأنت طالق ثم قال لها إن كلمت فلانا سنة فأنت طالق]
ومن كتاب الأقضية وعن رجل قال لامرأته: إن كلمت فلانا فأنت طالق، ثم أقام أياما، فقال لها: إن كلمت فلانا سنة فأنت طالق، ثم أقام أياما، فقال: إن كلمت فلانا فأنت طالق، ثم إنه كلمته كم تطلق عليه؟
قال: أرى أن ينوى، فإن كان إنما أراد بذلك تطليقة واحدة يرددها عليها ويعلمها إياها يتهددها بذلك، فلا طلاق علية إلا(6/81)
تطليقة واحدة، قيل له: أفترى عليه فيما يزعم أنه نوى اليمين، فقال: نعم، أرى عليه اليمين لو نوى ذلك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الحالف طولب بهذه اليمين وهو مقر بها، فلهذا أوجب عليه اليمين فيما ادعى أنه نواه، ولو أتى مستفتيا غير مخاصم لصدق فيما ادعى أنه نوى دون يمين، وهو معنى ما في المدونة، وذلك أن طلاق الرجل امرأته وحلفه بالطلاق في مجالس شتى وأيام مفترقة لا يخلو من أربعة أحوال: أحدها: أن يأتي مستفتيا في ذلك غير مخاصم فيه ولا مطلوب به، والثاني: أن يطلب بذلك وهو مقر به على نفسه، والثالث: أن تقوم عليه البينة بذلك فيقر ولا ينكر، والرابع: أن ينكر فتقوم عليه البينة.
فأما إذا أتى مستفتيا في ذلك غير مخاصم فيه فذكر أنه قال امرأتي طلاق أو طالق إن فعلت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وأنه كرر ذلك ثانية وثالثة في أيام مفترقة فهذا يلزمه ثلاث تطليقات إلا أن تكون له نية أنه أراد بذلك تطليقة واحدة فرددها عليها إعلاما لها وتوبيخا وتقريرا وما أشبه ذلك، فتكون له نيته دون يمين.
وأما إذا طولب بذلك وخوصم وهو مقر به على نفسه وادعى أنه أراد بذلك تطليقة واحدة فينوى في ذلك مع يمينه على ما تأولناه في هذه المسألة.
وأما إذا قامت عليه البينة بذلك فأقر ولم ينكر وادعى أنه أراد واحدة فقيل: إنه لا ينوى لأن البينة قد حضرته، وهو قول ابن القاسم في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الشهادات، وظاهر قول ربيعة في الأيمان بالطلاق من المدونة أن الشهادة في الطلاق لا تلفق إذا اختلفت المجالس، وقيل: إنه ينوى وتكون واحدة لاحتمال أن يكون أراد طلقة واحدة(6/82)
فأشهد بها في أوقات شتى، والى هذا ذهب إسماعيل القاضي، وهو الذي يأتي على معنى ما في المدونة من أن الشهادات على الطلاق تلفق إن اختلفت المجالس، ومثله في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب الشهادات.
وهذا الاختلاف عندي إنما هو إذا شهدت كل واحد من البينة أنه قال: أشهدكم أنها طالق، فأما إن شهدت أنه قال أشهدكم أني قد طلقتها فإنه يُنَوَّى قولا واحدا، يقوم ذلك من قول أصبغ في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الشهادات.
وأما إن أنكر الطلاق جملة فلما شهدت عليه البينة ادعى أنه أراد واحدة فلا يُنَوَّى ويلزمه ثلاث تطليقات، هذا هو المشهور، وقد تخرج أنه ينوى بعد الإنكار على ما في رسم الكبش من سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب، وعلى ما مضى في كتاب التخيير والتمليك، وفي رسم كتب عليه من سماع ابن القاسم، ورسم الطلاق من سماع أشهب، ورسم الكبش من سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يكلم ابنته أبدا ولا يشهد لها محيا ولا مماتا]
مسألة وعن رجل حلف بطلاق امرأته ألا يكلم ابنته أبدا ولا يشهد لها محيا ولا مماتا أبدا ولا يدخل لها بيتا، فخرج مع امرأته يبلغها بيت ابنتها حتى إذا كان ببعض الطريق قعد وذهبت امرأته إليها فأخبرتها أن أباها خارج، فخرجت إليه فقبلته واعتنقته وأرسلت إليه طعاما وشرابا، فأتي به فأبى أن يطعمه، فقال له بعض(6/83)
من معه: ليس عليك شيء وأنت لم تحلف إلا تطعم لها طعاما فكل ولقمته بكفها وسقته بيدها.
فقال: لا أرى عليه حنثا، هو لم يكلمها ولا دخل منزلها، قيل له: إن منزلها في حائط ومن دونه حائط، فلما انتهى إلى الحائط الأدنى جلس هنالك حتى خرجت إليه، فقال: لم تقولوا لي هذا ولست أدري ما هو؟ فأما قولك الأول فلا أرى عليه حنثا، قيل له: فإن في يمينه ألا يشهد لها محيا ولا مماتا أبدا، ثم قد أكل من طعامها وشرب من شرابها ولقمته بكفها وسقته بيدها، فقال: ما فهمت هذا منه، وهذا مشكل ولست أدري ما هو؟
قال محمد بن رشد: القياس في هذه المسألة ما أجاب به أولا من أنه لا حنث عليه لأنه حلف ألا يكلمها ولا يدخل لها بيتا ولا يشهد لها محيا ولا مماتا أني مشهد ولا جنازة ولم يفعل شيئا من ذلك ثم توقف لما قيل له إن منزلها في حائط داخل حائط، وأنه لما انتهى إلى الحائط الأدنى إلى منزلها جلس هنالك حتى خرجت إليه، وخشي أن يكون الحائطان جميعا في حكم منزلها لما كان داخلهما على أصله من أن من حلف ألا يدخل بيت رجل يحنث بدخول منزله، وهو إغراق لمؤنه إنما يحنث بدخول المنزل من حلف ألا يدخل البيت؛ لأن المنزل وهو الدار مسكن كما أن البيت مسكن، وليست الحوائط بمساكن، وابن القاسم لا يرى أن يحنث بدخول الدار من حلف ألا يدخل البيت، على ما يأتي في رسم الرهون من سماع عيسى، فكيف بهذا؟ وخشي أيضا أن يكون معنى يمينه اجتناب أمرها كله، فيحنث بأكل طعامها وإطعامها إياه بيدها، والأمحص أنه لا حنث بذلك؛ لأنه قد سمى جميع ما حلف عليه وليس هذا من معناه، والله أعلم.(6/84)
[: حلف ليضربن عبده فمات العبد قبل أن يضربه]
ومن كتاب الطلاق الأول وسئل: عمن قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت على أختك بيتها أبدا حتى تأتيك هي وبناتها، فماتت أختها قبل أن تأتيها فأرادت شهودها والذهاب إلى بيتها.
فقال: قد ماتت، فلا أرى بأسا أن تذهب إليها، ولا أرى عليه طلاقا إذا كان بناتها قد جئنها، هي الآن من أهل القبور.
قال محمد بن رشد: كان القياس في هذه المسألة أن يحنث بدخولها عليها وهي ميتة قبل أن تأتيها وهي ميتة وإن كان بناتها قد جئنها إذا كانت قد أقامت قبل أن تموت لمكنها فيه الإتيان، كمن قال: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا حتى يفعله فلان فمات قبل أن يفعله، وقد أقام ما لو شاء أن يفعله فعله أن اليمين عليه باقية، ولما قال في رسم حمل صبيا من سماع عيسى في الذي يقول لامرأته: أنت طالق إن دخلت بيت أبيك حتى يقدم الحاج وشبه ذلك، وفي سماع أصبغ من كتاب العتق في نحو ذلك، وكمن حلف ليضربن عبده فمات العبد قبل أن يضربه، وقد أقام ما لو شاء أن يضربه أنه حانث، إذ لا اختلاف فيمن حلف ألا يدخل على فلان بيتا أبدا أنه حانث إن دخل عليه بيتا، وإنما اختلف إذا حلف ألا يدخل عليه بيتا ما عاش فدخل عليه بعد أن مات، وقد مضى وجه الاختلاف في ذلك في سماع أشهب من كتاب النذور.
ووجه ما ذهب إليه مالك في هذه المسألة: أنه حمل يمينه على معنى ما ظهر إليه من إرادته، وهو أنه أراد ألا تبتدي أختها بالدخول عليها مع قدرتها هي على الإتيان إليها، ومعنى قوله: هي الآن من أهل القبور، أي:(6/85)
ليست ممن يقدر على الإتيان، وقد ذهب ابن دحون إلى أن ما في سماع أشهب من كتاب النذور من أن من حلف ألا يدخل على فلان بيتا حياته فدخل عليه ميتا أنه حانث معارض لهذه المسألة، وذلك غلط ظاهر على ما بيناه، وإنما هي معارضة لما في رسم حمل صبيا من سماع عيسى على ما ذكرناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قالت لابنها انكح أم ولدك التي أعتقت عليك فقال هذه طالق البتة إن تزوجتها]
مسألة وسئل: عن امرأة قالت لابنها: انكح أم ولدك التي أعتقت عليك، فقال: هذه طالق البتة إن تزوجتها إلا أن تعطيني عشرين دينارا، أفيصلح لأمه أن تعطيه إياها فإذا تزوجها نزعتها منه، فقال: ما أرى بأسا أن تنزعها منه بعد أن يتزوجها، فلتفعل.
قال محمد بن رشد: قال ابن نافع: هذا غلط، ولا أرى أن يعمل به، قال أبو محمد: إنما أراد مالك أنها لم تواطئه على ذلك، ثم إنه طاع لها بالرد بعد النكاح، وقوله صحيح لا وجه للمسألة سواء.
[مسألة: قلت لامرأتي أنت طالق البتة إن لم أخرج من المدينة]
مسألة قلت له: قلت لامرأتي: أنت طالق البتة إن لم أخرج من المدينة.
فقال: يخرج مخرج سفر ولا يخرج مخرجا هكذا، فقال: والله ما أردت نكاحها ولا أردت ضررها، فقال: إنا لنقول في مثل هذا: سافر ما تقصر فيه الصلاة، ثم قال له الروحا، قال أشهب: إذا ذهبت إليها.(6/86)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إذا لم تكن له نية في مكان بعينه يسير إليه، ولا في مقدار ما يتباعد من المدينة، ولا كان ليمينه بساط يحمل عليه أنه يبر بالخروج من المدينة، وقد اختلف في حد ذلك، فقال في هذه الرواية: إنه يخرج إلى مثل ما تقصر فيه الصلاة، يريد: ويقيم هناك الشهر ونحوه على حكم الحالف لينتقلن أنه ينتقل فيقيم الشهر ونحوه، فإن رجع بعد خمسة عشر يوما لم يحنث.
قال مالك في كتاب ابن المواز: وهذا استحسان، والقياس أنه يخرج إلى موضع لا يلزمه فيه أن يأتي منه إلى الجمعة، فيقيم ما قل أو كثر ثم يرجع إن شاء، والأول أبرأ من الشك، ومثله لابن القاسم في المبسوطة، وعلى هذا يأتي قوله في مسألة رسم البراءة من سماع عيسى بعد هذا.
وقال أصبغ في أحد الكتب الخمسة في هذا: إنه استحسان أيضا، والقياس أنه لا يلزمه أن يخرج من المدينة إلا إلى منتهى أطرافها وهو حد ما يقصر فيه الخارج ويتم عند الوصول إليه الداخل، وقد قيل: إنه لا يبرأ إلا بالخروج عن جميع عملها وأن يجاوز ذلك حد ما تقصر فيه الصلاة، روى هذا القول عن ابن كنانة في المدنية.
وعلى هذه الأربعة أقوال يختلف فيمن حلف ألا يتزوج من بلد كذا، وتحصيل القول في ذلك: أن فيه قولين: أحدهما: أن يمينه تحمل على البلد، وجميع عمله حتى يريد الحاضرة نفسها، والثاني: أنه يحمل على الحاضرة نفسها حتى يريدها وعملها، فإن أرادها وعملها أو لم تكن له نية على القول الآخر، فقيل له: إنه لا يتزوج فيما تقصر فيه الصلاة، وهو أربعة برد، وقيل: إنه لا يتزوج في جميع عملها وإن تجاوز أربعة برد، وإن أراد الحاضرة نفسها أو لم تكن له نية على القول الآخر، فعلى الأربعة الأقوال المذكورة التي بينا وسمينا قائليها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لرجل امرأته طالق إن لم أخاصمك إلى فلان فيعزل ذلك الوالي]
مسألة وسئل: عن الذي يقول لرجل: امرأته طالق إن لم أخاصمك(6/87)
إلى فلان، فيعزل ذلك الوالي أو يموت.
قال: لا أرى عليه شيئا، وأرى أن يخاصمه إلى الإمام الذي خلف بعده، وأرى أن ينوى، فإن قال نويت هذا المعزول نفسه أو الميت لم ير أن يخاصمه إلى الذي خلف، وإن قال لم أنو شيئا رأيت أن يخاصمه إلى الذي خلف بعده؛ لأنه إنما أراد مخاصمته وغيظه وضده وإدخال المشقة عليه، وإن قال لا أخاصمه إلى هذا الذي خلف بعده، قد مات صاحبي الذي حلفت عليه، قيل لا والله ما ذلك لك إن كان ذلك منه على وجه أن يخاصمه وأن يغيظه وأن يضر به، إلا أن يقول نويت هذا الذي عزل نفسه أو مات، فأرى ذلك له ولا أرى عليه شيئا إن لم ينو شيئا إذا خاصمه إلى الذي خلف بعده، وإنما أراد بالسلطان أن يبلغ مقاطع الحدود ومغيظته.
قيل له: أرأيت لو أقام شهرين بعد يمينه لا يخاصمه حتى مات ذلك الوالي أو عزل؟
قال: كنت أرى ذلك له إلا أن يتطاول ذلك جدا أو تدخله أناة شديدة.
قال محمد بن رشد: لم يراع مالك في هذه المسألة التسمية وحمل يمينه على ما يظهر من قصد الحالف خلاف قوله في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم.(6/88)
وقوله: إلا أن يقول نويت هذا الذي عزل نفسه أو مات فأرى ذلك له، معناه: فأرى ذلك عليه ويؤخذ بما زعم أنه نواه، ويحنث إذا لم يرفعه إليه حتى مات أو عزل إلا أن يموت أو يعزل بحدثان ذلك؛ لأن نيته هذه عليه وليست له.
وقوله: أنه لو أقام شهرين بعد يمينه لا يخاصمه حتى مات أو عزل أن ذلك له ما لم يتطاول أو يدخله أناة شديدة، قال ابن دحون: إنه إن لم تأت له الخصومة في الشهرين، فأما إن تأتت له الخصومة في الشهرين ولم يخاصمه حتى عزل الحاكم أو مات فهو حانث إذا طال تأنيه جدا، وليس قول ابن دحون عندي بصحيح؛ لأنه ما لم تتأت له الخصومة وإن طال أمر ما عسى أن يطول فلا يحنث وإن كانت الخصومة متأتية له فهو حانث فيما دون الشهرين، فالمعنى في المسألة إنما هو أنه يصدق في الشهرين إن ادعى أن الخصومة لم تتأت له فيهما ولا يصدق في ذلك إذا طال جدا، والله أعلم.
[مسألة: الرجل يجمع في نفسه على طلاق امرأته حتى يكون قد طلق نفسه]
مسألة وسئل: عن الرجل يجمع في نفسه على طلاق امرأته حتى يكون قد طلق نفسه ولم ينطق به لسانه، أترى عليه طلاقا؟
فقال: إي والله في رأيي، وما هذا بوجه الطلاق.
قال محمد بن رشد: قوله: وما هذا بوجه الطلاق - معناه: ليس هذا من شأن الناس وعاداتهم أن يفعلوه، وهذا مثل قوله في هذا السماع من كتاب التخيير والتمليك: ليس يطلق الرجل بقلبه ولا ينكح بقلبه، أي: ليس بشأن الناس أن يفعلوه، إذ لا تأثير له في الحكم الظاهر، وقد كان الشيوخ(6/89)
يحملون ذلك على أنه اختلاف من قول مالك، وأن ما في كتاب التخير والتمليك أصح مما في هذا الكتاب، وكذلك قال ابن دحون في هذه المسألة: إنها مسألة حائلة؛ لأن كل الروايات عن مالك: أنه لا يلزمه إلا ما حرك به لسانه أو كتبه بيده، فإن لم يحرك به لسانه، وليس ذلك على ما قال، بل هي مسألة صحيحة على الأصول؛ لأن الكلام باللسان والكتب باليد إنما هو عبارة عما في القلب يفيد الحكم الظاهر خاصة، وما أجمع عليه في قلبه من طلاق امرأته لازم له فيما بينه وبين الله وإن لم ينطق به لسانه ولا خط به بنانه، هذا هو الصحيح، وإن كان قد روى عبد الرحمن الأعلى عن ابن وهب عن مالك في الرجل يطلق بقلبه، قال: ليس عليه شيء حتى يكون الإفصاح، على أنه يحتمل أن يريد ليس عليه شيء في الحكم الظاهر، والله أعلم.
[مسألة: فحلف البائع بطلاق امرأته البتة إن وضع من ثمن الجارية شيئا]
مسألة وسئل: عمن باع جارية من رجل فسأله أن يضع له ثلاثة دنانير فحلف البائع بطلاق امرأته البتة إن وضع عنه دينارين ونصفا إلا أقل، فجاء أخو الحالف فقال: أغرم ما بقي ولا يختصمان.
فقال له مالك: أما شيء يكون عليك فلا، وأما شيء يكون من مال أخيك فنعم، يصالحه به عليك من مال نفسه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه إن كان أخو الحالف يقدم ذلك للحالف من مال نفسه على أن يتبعه بذلك، أو من مال أخيه الحالف فلا يبر الحالف بذلك؛ لأنه لم يصل إليه ما حلف عليه، فكأنه قد(6/90)
وضع عليك عن المشتري، وإن كان يقدم ذلك من ماله عن المشتري للحالف فقد بر الحالف؛ لأنه قد وصل إليه ما حلف عليه ولم يضع منه شيئا للمشتري، وسواء اتبع الغارم المشتري بما غرم عنه أو وهبه له ولم يتبعه به، وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعى في الطلاق نية تشبه غير مخالفة لظاهر قوله]
مسألة وسئل: عن عبدين كانت بينهما منازعة، فأخذ قيم سيدهما القيد ليجعله في رجل الظالم منهما، فقال له: لم تقيدني؟ أتخاف أن أبق منك؟ امرأتي طالق البتة إن أبقت منك إلا إلى أهلي، فأبى القيم أن يصدقه بيمينه وقيده، فكسر العبد القيد وفر إلى أهله كما قال، فأقام عندهم سنتين أو أكثر ثم أبق منهم إباقا بينا هو الإباق، فقال له أهله: أتخاف أن تكون قد حنثت؟ حلفت بالطلاق ألا تأبق، فقال العبد: لم أرد الإباق أبدا إنما أردت يومئذ ألا أبق إليكم، ففعلت.
فقال له مالك: ما أراه أراد إلا اليمين الأولى ألا يأبق من القيم نفسه إلا إلى أهله، إرادة أن يؤمنه مما يخاف، قال: أرى ألا عليه شيئا، وأرى عليه اليمين ما أراد إلا ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم في أن من ادعى في الطلاق نية تشبه، غير مخالفة لظاهر قوله صدق فيها مع يمينه ونيته غير مخالفة لقوله، بل هي موافقة له؛ لأنه قال: امرأتي طالق إن أبقت منك، وهو لم يأبق منه، وإنما أبق من عند أهله بعد أن بر في يمينه إذ لم يأبق يومئذ، وهذا بين، وبالله التوفيق.(6/91)
[مسألة: قال امرأتي طالق البتة إن كان أكل عندي فلان وفلان واستثنى سرا]
مسألة وسئل مالك: عمن قال: امرأتي طالق البتة إن كان أكل عندي فلان وفلان، واستثنى سرا إلا تمرا.
فقال مالك: إني أخاف ألا يكون لسانك تكلم بذلك، إنما هو شيء وجدته في نفسك، فقال: بلى، قد تكلمت به كلاما في نفسي، فقال له: إنه أنطق لسانك، قال: نعم، ولكن قد كان شربا عندي مذقا، فقال له مالك: كم طلقتها؟ فقال: لم أقل شيئا، إنما قلت هي طالق، قال: أكنت طلقتها قبل اليوم شيئا؟ قال: نعم واحدة، فقال له: قد طلقتها واحدة وهذه اليمين ثانية، فقد طلقتها اثنين ولك عليها الرجعة، فتكون عندك على واحدة، ثم قال له: منذ كم حلفت؟ قال: منذ ستة أشهر، قال: قد حلت فاخطبها مع الخطاب ثم أنكحها نكاحا جديدا بعد أن تستبرئها بالعدة من مائك الذي مسستها فيه وهي مطلقة؛ لأنك لم تكن ارتجعت حتى حلت، قال: من ينكحنيها؟ قال: أبوك إن شئت بشهود وبينة وصداق جديد ثوب أو غير ذلك؛ لأنك قد أنكحتها مرة فينكحكها أبوك، وليس في ذلك بأس.
قال محمد بن رشد: المذق هو اللبن المضروب بالماء، فإنما أوجب عليه الحنث لشربهما إياه عنده إذا حلف أنهما ما أكلا عنده شيئا ولم يستثن إلا التمر؛ لأن يمينه ما أكلا عنده شيئا معناه ما طعما عنده طعاما، واللبن طعام، يجب به الحنث عليه إذا كانا قد شرباه، كما يجب به عليه لو أكلاه؛ لأن المعنى في الأكل والشرب سواء، إذ يجمعه اسم الطعم، إلا أن تكون له نية في أحدهما دون الآخر، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] ،(6/92)
ولو لم يشربا عنده المذق لم يجب عليه شيء إذ قد استثنى التمر إذا كان قد حرك به لسانه، وإن لم يعلم المحلوف عليه، وهذا على القول بأن اليمين على نية الحالف وأن الاستثناء لا ينفع إلا بتحريك اللسان، وقد مضى القول على الوجهين في رسم البز من سماع ابن القاسم، ولما رأى الطلاق واقعا عليه وأخبره أن له منذ حلف بالطلاق ستة أشهر، قال له: قد حلت فاخطبها مع الخطاب، معناه: على الغالب في أن العدة تنقضي في مثل هذه المدة. وقوله: إنه يزوجها منه أبوه، ظاهره: وإن رضي به الولي لا يردها عليه، وإن لم يكن لها بولي، إذ قد زوجها منه أولا وليها، وهذا خلاف قوله في النكاح الأول من المدونة: إن النكاح الأول والآخر في ذلك سواء.
والأصل في هذا الاختلاف اختلافهم في المرأة يزوجها أجنبي، فعلى القول بأن النكاح يفسخ، وإن رضي به الولي، لا يردها عليه الأجنبي. وعلى القول بأن النكاح يجوز ولا يفسخ إذا رضي به الولي يردها عليه، وعلى القول بأن النكاح يفسخ وإن رضي به الولي لا يردها عليه الأجنبي، إذ قد علم رضا الولي به أولاً. وقد روى أبو قرة، قال: سألت مالكا عن المرأة تختلع من زوجها ثم يراجعها في عدتها بغير إذن وليها، قال: [فقال: إن أحب] أحب إلي ألا يراجعها إلا بإذن وليها، فإن راجعها بغير ولي لم أفرق بينهما، وهي رواية شاذة، إذ لا اختلاف في المذهب في أن المرأة إذا زوجت نفسها يفسخ النكاح على كل حال، ولا يلتفت فيه إلى رضا الولي.
ووجهها على شذوذها: مراعاة العلة في إيجاب المولى في النكاح، وهي أنه لما كان النساء في نقصان فطرتهن لا يؤمن عليهن أن تميل نفوسهن إلى غير أكفائهن، فيلحق من ذلك الأولياء غضاضة، جعل من الحق لهم ألا يكون لهن أن يزوجن أنفسهن، فكان إرجاعهن أنفسهن إذا وقع على أزواجهن جائزا، إذ لا غضاضة على أوليائهن في ذلك، إذ قد زوجوهم أولا،(6/93)
وقد تأول في هذه المسألة أن أبا الزوج كان من عصبة المرأة، فلذلك قال: يزوجكها أبوك. وقوله: لأنك أنكحتها؛ مرة - يرد هذا التأويل، إذا لو كان من عصبتها لزوجها وإن لم ينكحها الزوج قبل ذلك إلا أن يكون ثَمَّ من الأولياء من هو أقصد منه، فيكون هو أولى بإرجاعها، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعار إنسانا زوج حمام فقال امرأته طالق البتة إن لم يكن فرخي]
مسألة وسئل: عمن أعار إنسانا زوج حمام ذكرا وأنثى فأفرخا عنده، ثم جاء فأخذ منه حمامه، الذكر والأنثى الذي أعاره، ثم وجد عنده فرخا، فقال: هذا فرخي، فقال: امرأته طالق البتة إن لم يكن فرخي، فقال الآخر: والله ما هو فرخك.
فقال: أرى أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنه لفرخه بعينه يعرفه.
قال محمد بن رشد: يريد أنه يدين في اليمين فلا يحنث، ولا يأخذ الفرخ إذا حلف المستعير بالله إنه له، إذ هو المدعي عليه في الفرخ، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وقد مضى ما يبين هذا المعنى في رسم تسلف من سماع ابن القاسم، وإنما يحلف إذا طولب بحكم الطلاق، وقد قيل في مثل هذا النحو: إنه لا يمين عليه؛ لأنها يمين تهمة، وسنذكر الاختلاف في ذلك في رسم المكاتب من سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[: حلف بطلاق امرأته إن كلم ابنته أبدا ولا يدخل عليها أبدا]
ومن كتاب الطلاق الثاني قال: وسئل مالك: عن رجل حلف بطلاق امرأته إن كلم ابنته أبدا ولا يدخل عليها أبدا. قال: وأنا أريد تسليما في صحة أو عيادة في مرض، فمرض زوجها ونقله إليه وفتح بينه وبينها بابا، فكان يدخل عليه إذا خرجت، فإذا خرج دخلت ابنته حتى مات(6/94)
الزوج، فجعل على الباب الذي بينه وبينها سترا، فسقط فدخل يصلحه وهي في الدار فقيل له في ذلك، فقال: إني لم أرد هذا، ثم لما أرادوا غسله دخل في بيت من الدار معها قريب منها، وقال: لم أرد هذا إنما أردت زيارة في صحة أو عيادة في مرض، فلما دفن ختنه، قال لامرأته، وابنته من وراء ذلك الباب الذي فتح قبل أن يستره: قولي لها: أعظم الله أجرك وأحسن عقباك، فقالت لها.
فقال مالك: أما تعزيته إياها فإن كان قال ذلك لامرأته وابنته تسمع، فأراه قد حنث ووجب عليه الطلاق، وهو يكلمها، وإنما هو وهي كهيئتي [وهيئتك] الآن وهذا الآخر، قلت لك أعظم الله أجرك وهو يسمع فما الكلام إلا هذا، قد كلمها، ولو أرسل إليها رسولا ولم تسمعه لم أر عليه الطلاق، وإذا قال لها ذلك وهي تسمعه فقد كلمها، وأما دخوله عليها فلا أرى عليه حنثا لأنه إنما حلف وهو ينوي زيارتها وعيادتها، فهو إنما دخل يصلح شيئا يسد سترا أو يضع شيئا، لم يدخل زائرا ولا عائدا، فلا أرى عليه حنثا في ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: فإن كان قال ذلك لامرأته وهي تسمع، فأراه قد حنث ووجب عليه الطلاق، معناه: إن كان قال ذلك لها وهو يريد أن يسمع ابنته المحلوف عليها، وهو صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن تكليم الرجل الرجل هو أن يعبر له عما في نفسه بلسانه عبرة يفهمها السامع، فإذا خاطب غيره وهو يريد كلامه فقد حصل مكلما له وإن لم يقبل عليه بكلامه، فوجب أن يحنث إلا أن ينوي في حلفه ألا يكلمه، يريد بكلام يقبل عليه به، فتكون له نيته في الفتوى، واختلف إن كلم غير المحلوف عليه وهو يريد أن يسمع المحلوف عليه فلم يسمعه، بدليل قوله في هذه الرواية(6/95)
وهي تسمع أنه لا حنث عليه إذا لم تسمع، ومثله في سماع أبي زيد، ووجه ذلك: أنه لم يقبل بكلامه علية ولا أسمعه، فكأنه لم يكلمه، إذ لم يوجد منه معنى التكليم.
وقال عيسى بن دينار من رأيه في المدنية: إنه إن أراد أن يسمعه فهو حانث، سمعه أو لم يسمعه، وهو الأظهر؛ لأنه قد كلمه إذا أراد إسماعه لكلامه، وإن لم يقبل عليه بكلامه ولا سمعه، فوجب أن يحنث إلا أن يكون نوى في يمينه ألا يكلمه، يريد بكلام يقبل عليه به ويسمعه منه، كما أن من حلف ألا يكلم رجلا فكلمه من حيث يمكن أن يسمع كلامه فلم يسمعه أنه حانث إلا أن يكون نوى ألا يكلمه بكلام يسمعه منه، وسيأتي هذا المعنى في رسم سلف من سماع عيسى.
وأما إذا كلم غيره وهو لا يريد إسماعه فلا حنث عليه سمعه أو لم يسمعه قولا واحدا، وأما إذا كتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا فقرأ كتابه أو سمع رسالته، فقيل: إنه لا حنث عليه في الوجهين جميعا إذ لم يكلمه، وهو مذهب أشهب وابن شهاب وابن عبد الحكم؛ لأن التكليم إنما هو أن يعبر له عما في نفسه بلسانه عبارة يفهمها المكلم إذا أصغى إلى كلامه. وقيل: إنه حانث في الوجهين جميعا؛ لأنه وإن لم يكلمه فقد وجد منه معنى الكلام وهو التفهيم، والأحكام إنما هي للمعاني لا للأسماء، فوجب أن يحنث إلا أن تكون له نية أنه أراد المشافهة فيهما فيكون له نيته.
وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وظاهر قول ابن القاسم في رسم إن خرجت من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب، وقد روى عن مالك: أنه لا يُنَوَّى فيهما جميعا، وتلا قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ} [الشورى: 51] . وهو بعيد؛ لأن الصحيح في هذا الاستثناء إنما استثناء منفصل مقدر بـ "لكن".
وله في المدونة قول ثالث: أنه لا ينوى في الكتاب وينوى في الرسول، ومعناه: مع قيام البينة عليه؛ إذ لا اختلاف في أن من أتى مستفتيا تقبل منه نيته ويصدق فيها دون يمين وإن بعدت. وقيل: إنه يحنث بالكتاب إلا أن تكون له نية في(6/96)
المشافهة، ولا يحنث في الرسول، وهو ظاهر رواية أشهب هذه، وقول ابن الماجشون في الواضحة.
وقوله: وأما دخوله عليها فلا أرى عليه حنثا؛ لأنه إنما حلف وهو ينوي زيارتها أو عيادتها، فمعناه: إذا أتي مستفتيا، وأما مع قيام البينة عليه، فلا ينوى؛ لأنها نية مخالفة لظاهر لفظه، كالذي يحلف ألا يدخل بيتا، ويقول: نويت شهرا وما أشبه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته البتة إن خرجت من بيته إلا أن يقضي عليه السلطان]
مسألة وسئل: عمن حلف بطلاق امرأته البتة إن خرجت من بيته إلا أن يقضي عليه السلطان بذلك أو تخرج بغير إذنه، فيضربها خمسين ضربة، وكانت تسكن مع أمه، فاستعدت عليه، وقالت: لا أسكن مع أمك، فقضى لها السلطان بأن تخرج عنها، فنقلها.
فقال له: ليس عليه في ذلك شيء، ولكن اليمين عليه كما هي عليه في المنزل الذي انتقل إليه.
قال محمد بن رشد: في ظاهر هذه اليمين اضطراب من لفظ الحالف؛ لأن يمينه بطلاق امرأته البتة إن خرجت إلا أن يقضي عليه سلطان، يوجب أنها إن خرجت دون أن يقضي عليه بخروجها، تَبِينُ منه بالبتات، وزيادته في اليمين أو تخرج بغير إذنه فيضربها خمسين ضربة يقتضي حلفه ليضربنها إن خرجت بغير إذنه، ويوجب ألا يلزمه بخروجها بغير إذنه طلاقا، إلا ألا يضربها خمسين ضربة، وإنما إن خرجت بإذنه لم يلزمه طلاق، وهذا اضطراب شديد، فمعنى يمينه الذي يحمل عليه أنه أراد ألا يأذن لها أن تخرج إلا أن يقضي عليه بذلك سلطان، وأن يضربها خمسين(6/97)
ضربة إن خرجت بغير إذنه، وعلى هذا يصح جوابه في المسألة: أنه إن قضى عليه السلطان بإخراجها من المنزل لم يحنث، ويكون اليمين عليه في المنزل الذي ينتقل إليه إذ لم يحنث بخروجها من ذلك المنزل بالقضاء، وهذا نحو ما في رسم إن خرجت ورسم أسلم من سماع عيسى في الذي يحلف لامرأته بطلاقها إن خرجت من داره، وكانت الدار بكراء، فأخرجها أهل الدار منها بانقضاء أمد الكراء أو أخرجها منها بأمر لم يستطع إلا الخروج والهرب منه - أن اليمين تلزمه في الدار التي انتقل إليها إلى انقضاء مدتها.
[مسألة: حلف بالطلاق أو بالعتق ألا يدعها تخرج أبدا]
مسألة قيل: إن من حلف بالطلاق أو بالعتق ألا يدعها تخرج أبدا، أترى أن يقضى عليه به في أبيها وأمها ويحنث؟
قال: لا أرى عليه ذلك إذا حلف.
قال محمد بن رشد: دليل قوله في هذه المسألة لا أرى ذلك عليه إذا حلف أنه لو لم يحلف لقضي عليه، وهو منصوص له بعد هذا في هذا الرسم، يريد: إلا أن تكون امرأة تؤمن في نفسها، على ما قال في رسم طلق من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وقد قيل: إنه يقضي عليه حتى يمنع من الطرفين، كما لا يحنث حتى يحلف على الطرفين، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق أو العتق إن خرجت امرأته ألا يقضي عليه بذلك سلطان]
مسألة وسئل: عن الذي يحلف بالطلاق أو العتق إن خرجت امرأته(6/98)
ألا يقضي عليه بذلك سلطان يجب أن يقضي عليه بذلك، فقال: إني لأقول لمن حلف هكذا ألا يخبر السلطان أنه يجب ذلك، ولكن يخبره بخبره، فإذا قضى عليه السلطان فأرجو ألا يكون عليه شيء ولا حنث، ولا أرى بأسا أن يقضي عليه بذلك السلطان إذا علم أنه يجب ذلك.
قال محمد بن رشد: في كتاب ابن المواز، قيل لابن عبد الحكم: فإن جهل فأخبر الإمام بذلك؟ فقال: ما أشبهه أن يحنث، والقياس: أنه لا يحنث، أخبره هو بذلك أو غيره إذا امتنع من إخراجها حتى يقضي السلطان للمرأة عليه بإخراجها؛ لأن إرادته للقضاء عليه لا يخرج القضاء عليه من أن يكون قضى عليه لا في الحكم ولا في المعنى؛ لأن المرأة لا منفعة لها في إرادته لإخراجها إذا امتنع من إخراجها ولا يتوصل إلى الخروج مع امتناعه من ذلك إلا بالحكم أحب ذلك أو كرهه، وإنما خشي إذا أخبر السلطان أنه يجب أن يقضي عليه ألا يتقضى بحجج المرأة التي يوجب لها الإخراج، وهذا إن سامح فيه الإمام، فالإثم فيه عليه، ولا شيء على المقضي عليه، وإنما يحنث إن سامح في حجة داحضة تقوم بها المرأة، وهو قادر على إبطالها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول الحلال عَلَيَّ حرام ثم يحنث ويشهد عليه]
مسألة وسئل: عن الذي يقول: الحلال عَلَيَّ حرام، ثم يحنث ويشهد عليه، فيقول: إنما أردت من الطعام والشراب.
فقال: أرى أن يحلف، فقيل له: أرأيت إن قال واحدة؟ فقال: ليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والاختلاف فيها(6/99)
والقول عليها في سماع أصبغ من كتاب النذور، فلا معنى لإعادة ذلك، ويأتي فيها في آخر سماع سحنون من هذا الكتاب معنى زائد، سنتكلم عليه إذا مررنا به إن شاء الله.
[مسألة: قال امرأته طالق إن خرج الخاتم من يدي حتى آخذ درهما]
مسألة وسئل: عمن استرفي ثوبا ورهن عنده بجعله خاتم، فجاءت صاحبة الثوب بعد أخذها الثوب، فقالت: أعطني الخاتم، فقال: امرأته طالق إن خرج الخاتم من يدي حتى آخذ درهما، وقالت هي: جاريتي حرة إن أعطيتك درهما، فما المخرج لهما من ذلك؟
فقال: إن كان الرفا إنما حلف على أن يأخذ درهمه لا يبالي ممن أخذه، فلو أن إنسانا من الناس أعطاه درهما لكان ذلك لهما مخرجا.
قال محمد بن رشد: في قوله في هذه المسألة: إن كان الرفا حلف على أن يأخذ درهما لا يبالي ممن أخذه، فلو أن إنسانا من الناس أعطاه درهما لكان ذلك لهما مخرجا، نظر يدل على أنه إن لم تكن له نية هكذا فهو حانث إن أخذ الدرهم من غير صاحب الثوب، والصواب: أنه لا حنث عليه إن أخذ الدرهم من غير صاحبة الثوب إلا أن يكون نوى في يمينه ألا يأخذه إلا من صاحبة الثوب؛ لأن الحالف إذا لم تكن له في يمينه نية فهي محمولة على ما يقتضيه اللفظ، وهو حلف ألا يخرج الخاتم من يده حتى يأخذ درهما، ولم يخص صاحبة الثوب من غيرها، ولو كان إنما حلف ألا يخرج الخاتم من يده حتى يأخذ درهما من صاحبة الثوب فدفع إليه إنسان(6/100)
درهما عنها من ماله ليبر قسمها للزمه أخذه وحنث في يمينه، إلا أن يقول: لم أرد صاحبة الثوب بعينها، وإنما قصدت أن يصل إلى درهمي وسميت صاحبة الثوب على العادة أن صاحب العمل هو الذي يؤدي أجره، فينوي في ذلك وإن كانت عليه بينة لأنها نية محتملة، ولو لم يؤد أحد عن المرأة الدرهم لكانت اليمين باقية على كل واحد منهما، يحنث هو إن أخذ أقل من درهم إلا ألا يحكم له عليها [إلا بأقل من درهم، فيقول: إنما نويت إلا ألا يحكم لي عليها] بدرهم، فينوى في ذلك، والذي يبر به إذا لم تكن له نية ألا يأخذ منها شيئا إذا لم يحكم له عليها إلا بأقل من درهم، وتحنث هي إن أعطته درهما بغير حكم باتفاق.
ويحكم على الاختلاف فيمن حلف ألا يفعل فعلا فقضى به عليه السلطان، وقد مضى ذلك في رسم سلعة سماها، ورسم حلف من سماع ابن القاسم، وسيأتي في آخر هذا الرسم وغيره أيضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق إن لم تكن الآن في البيت]
مسألة وسئل: عن رجل قال له النقيب في القسم: امرأتك حاضرة، فقال: امرأته طالق إن لم تكن الآن في البيت، وذلك أنه خرج وتركها في البيت، فخرجت في الحجرة، فحلف أنها في البيت وهي في الحجرة.
فقال: ما أرى عليه طلاقا، الحجرة من البيت، أرأيت إن كانت في المغتسل أو الخزانة؟ ما أرى عليه طلاقا، الحجرة من البيت هي التي يكون فيها الإذن، وهي التي إذا سرق منها قطعت يد السارق، وإذا سرق من البيت فخرج به إلى الحجرة ثم(6/101)
أخذ لم تقطع يده، فلا أرى عليه حنثا.
قال محمد بن رشد: حمل مالك هذه المسألة على البساط فلم يحنثه بمقتضى اللفظ وهو المشهور في المذهب، خلاف قوله في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، وخلاف قوله أيضا في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك، وخلاف ما في سماع سحنون من هذا الكتاب، وهو أصل مختلف فيه قد مضى عليه في أصل سلعة سماها، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: قوله لا أخاصمك قد وكلتك إلى الله بعد يمينه بالطلاق ألا يتركه]
مسألة وسئل مالك: عمن كانت بينه وبين رجل مخاصمة فحلف بطلاق امرأته ألا يتركه وليجهدن عليه، ثم قال له بعد: لا أخاصمك، قد وكلتك إلى الله، ثم ذكر يمينه بعد، فجاءه، فقال: ذكرت أن علي يمينا فيك، فهل تراه حانثا؟
قال: ما أراه إلا وقد حنث ووجب عليه الطلاق، فقال له المخاصم: إنه حين رجع إلي جعلت بيني وبينه رجلا وحلفت له بعتق ما أملك لأرضين بقضائه، وقضى عليه بالدينارين فسلفتهما ودفعتهما. فقال له: فأرى أن يذهب إلى السلطان فتنهي إليه شهادتك ولا تطلب الدينارين، فإن أعطاكهما فلا تأخذهما منه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه تكلم في أولها على ما يجب عليه إذا أقر بقوله لا أخاصمك قد وكلتك إلى الله، فأوجب عليه الطلاق بقوله لا أخاصمك قد وكلتك إلى الله بعد يمينه بالطلاق ألا يتركه، وتكلم في أخرها إذا أنكر الحالف بالطلاق أن يكون قال لا أخاصمك قد وكلتك إلى الله والمخاصم المقول له ذلك شاهد عليه به وهو يقول إنه قد(6/102)
رجع إلى مخاصمته بعد أن قال له ذلك، فصالحه بدينارين ودفعهما إليه، فقال مالك: ينهي شهادته إلى السلطان ولا تطلب الدينارين ولا يأخذهما إن أعطاه إياهما، فتجوز شهادته عليه في الطلاق، وتطلق عليه امرأته إن كان معه شاهد غيره على قوله: لا أخاصمك وقد وكلتك إلى الله، أو يحلف إن لم يكن معه شاهد غيره وتكذيبه؛ لأنه إن طلب الدينارين وأراد الرجوع بهما عليه لسقوط دعواه عليه على المصالحة بقوله لا أخاصمك قد وكلتك إلى الله لم تجز شهادته عليه في الطلاق لجره بها إلى نفسه مالاً؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه»
ونظير هذا آخر مسألة سحنون في نوازله من كتاب الأقضية، فقف على ذلك، وإجازته شهادته عليه في الطلاق إن لم يطلب الدينارين وقد كانت بينهما خصومة، يحتمل أن يكون إنما شهد بعد أن وقع الصلح وارتفعت العداوة وأن أمرهما إلى سلامة، على ما روى أشهب عنه في سماعه من كتاب الشهادات، وتحتمل أن تكون الخصومة إنما كانت في الشيء اليسير الذي لا يورث العداوة على ما ذهب إليه ابن كنانة، ولو كان المخاصم إنما شهد عليه بقوله لا أخاصمك قد وكلتك إلى الله قبل أن يصالحه مما كان يخاصمه فيه ويدعيه عليه لم تجز شهادته عليه في الطلاق؛ لأنه يدفع عن نفسه بهذه الشهادة مخاصمة له، ويسقط عنه دعواه قبله، والدفع عنه جر إليه، ولا تجوز شهادة جار إلى نفسه إلا أن يحضر جميع ما كان يخاصمه فيه ويدعيه قلبه ويطوع بدفعه إليه وهو من اليسير الذي لا يورث الحقد والعداوة، على ما ذهب إليه ابن كنانة، فتجوز شهادته، والله أعلم.(6/103)
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يضطجع على هذا الفراش ففتق الفراش والتحفه]
مسألة وسألته: عمن حلف بطلاق امرأته ألا يضطجع على هذا الفراش، ففتق الفراش والتحفه هو وامرأته.
قال: أراه قد حنث في رأيي، ونزلت بالمدينة فأفتاهم بذلك.
قال محمد بن رشد: إنما قال إنه يحنث؛ لأن الاضطجاع على الفراش انتفاع به، فإذا حلف ألا يضطجع عليه فهو في المعنى حلف ألا ينتفع به، والالتحاف به انتفاع به، فوجب أن يحنث بذلك، وهذا إذا لم تكن له نية، وأما إن كانت له نية أنه أراد الانتفاع بالاضطجاع خاصة دون الانتفاع بما سواه أو مجرد الاضطجاع دون الانتفاع بما سواه فيصدق في نيته مع يمينه، ولا يحنث بالالتحاف، وقد قيل: إنه إذا لم تكن له نية لا يحنث إلا بالاضطجاع الذي حلف عليه، وهذا على الاختلاف في حمل اليمين على المعنى دون اللفظ، وقد مضى القول على هذا المعنى في غير ما موضع، ومضى قبل هذه المسألة الاختلاف في مراعاة البساط إذا عدمت النية، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: بينه وبين جار له مقاولة فحلف بالطلاق لينتقلن عنه]
مسألة وسئل: عن رجل كانت بينه وبين جار له مقاولة فحلف بالطلاق لينتقلن عنه.
فقال: ما وجه الشأن إلا أنه كره مجاورته، فإن كان كذلك فأرى أن ينتقل ولا يساكنه أبدا، وإن كان إنما أراد النقلة ترهيبا ثم يعود ولم يرد الفراق أبدا فإني أرى أن ينتقل ثم يقيم شهرا ثم يرجع إن بدا له هو وجه النقلة، وليس منزل يوم بنقلة.
قال محمد بن رشد: قوله ما وجه الشأن إلا أنه كره مجاورته يدل(6/104)
على أنه محمول عنده إذا لم تكن له نية إلا أنه حلف ألا يجاوره فينتقل عنه ولا يجاوره أبدا، فيلزم على هذا إن قال إنما أردت الرحلة ترهيبا ثم يعود ألا يصدق في ذلك إن حضرته بينة إلا مع يمينه، وقد قيل: إن يمينه محمولة على الانتقال الذي حلف عليه حتى يريد ترك مجاورته،، فإذا أراد الانتقال على القول الأول أو لم تكن له نية على القول الثاني فالاستحسان إذا انتقل عنه أن يقيم شهرا، وكذلك يرجع، فإن رجع بعد خمسة عشر يوما لم يحنث، قاله ابن القاسم في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، وقد مضى القول على ذلك هنالك، ولو رجع أيضا بعد أن أقام أكثر من يوم وليلة لم يحكم عليه بالحنث على قياس ما قاله في كتاب محمد في الحالف ليخرجن من المدينة، وقد مضى القول على ذلك في رسم الطلاق الأول من هذا السماع.
[مسألة: يمنع امرأته الخروج]
مسألة وسئل: عن الذي يمنع امرأته الخروج.
فقال: إني أرى أن يُقْضَى على الرجل في امرأته تشهد جنازة أبيها وأمها وتزورهم والأمر الذي تكون فيه الصلة والمصلحة، فأما شهود الجنائز واللعب والعبث فلا أرى ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يقضى على الرجل في امرأته أن يدعها تخرج في جنازة أبيها وأمها وتزورهم هو مثل ما مضى من قوله قبل هذا في هذا الرسم بدليل خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أنه لا يقضى عليه أن يأذن لها بالخروج إلى زيارة أبيها إلا أن يمنعها من زيارتها أيضا فيقضى عليه بأحد الأمرين، وأما خروجها في جنازة أبويها ومن أشبههما من قرابتها القريبة كالأخ والجد والعم فلا خلاف في أنه يقضى عليه بأن يأذن لها بالخروج إلى ذلك وإن كانت شابة، وهو معنى ما في كتاب الجنائز من المدونة، بخلاف خروجها إلى المسجد وإلى العيدين وإلى الاستسقاء، وقد(6/105)
مضى تحصيل القول في هذا المعنى قرب آخر الرسم الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة، فأغنى ذلك من إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ألا يدعها تخرج أترى أن يقضى عليه في أبيها وأمها]
مسألة قيل له: أرأيت إن حلف بالطلاق أو العتاق ألا يدعها تخرج أبدا، أترى أن يقضى عليه في أبيها وأمها فيحنث؟
قال: لا أرى ذلك عليه، إذا حلف.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة بعينها قبل هذا في هذا الرسم، ومضى القول فيها فلا معنى لإعادته.
[مسألة: كانت امرأة صرورة فأرادت الحج أترى أن يقضى عليه في ذلك ويحنث]
مسألة قيل له: أرأيت إن كانت امرأة صرورة فأرادت الحج أترى أن يقضى عليه في ذلك ويحنث؟
قال: نعم، إني أرى أن يقضى عليه بذلك، ولكن ما أدري ما تعجيل الحنث هاهنا؟ حلف أمس وتقول أنا أحج اليوم ولعله يؤخر ذلك سنة سنة.
قال محمد بن رشد: في كتاب ابن عبد الحكم أنه يؤخر سنة، وكذلك يقضى عليه، وهذا يدل أن الحج عنده على التراخي خلاف ما حكى ابن القصار عنه من أنه على الفور، إذ لو كان عنده على الفور لما شك في تعجيل تحنيث الزوج في أول عام، بل القياس يوجب أن يحنث الزوج في أول عام، وإن كان الحج على التراخي؛ لأن لها أن تعجله وإن لم يجب عليها تعجيله، ولما أخر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحج عاما واحدا للعذر المذكور في الحديث رأى على ما في كتاب ابن عبد الحكم أن يقضي عليها بالتأخير عاما واحدا؛ لأن يمين الزوج عذر، ولعلها إنما قصدت إلى(6/106)
تحنيثه لا إلى تعجيل القربة بتعجيل الحج، فهذا وجه الرواية والله أعلم.
ولابن نافع عن مالك في المجموعة: أنه يستأذن أبويه في حج الفريضة العام وعام قابل، فإن أبيا فليخرج، وهذا بين في أن الحج عنده على التراخي خلاف ما له في كتاب ابن المواز أنه يحج الفريضة بغير إذنهما، وإن قدر أن يتراضاهما فعل، وإلى هذا ذهب سحنون في نوازله من كتاب الشهادات إذ لم ير أن يسقط شهادة من ترك الحج، وهو قوي عليه، حتى يتطاول ذلك السنين الكثيرة من العشرين إلى الستين، وإذا قلنا: إنه على التراخي، فله حال يتعين فيها، وهو الوقت الذي يغلب على الظن فواته بتأخيره عنه وهو يتعين عندي على من بلغ الستين؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «معترك أمتي من الستين إلى السبعين» ، وإلى هذا الحديث نحا سحنون، والله أعلم. وقد رددت هذا المعنى بيانا ووضوحا في غير هذا الديوان، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق على أمر ألا يفعله ولم يستثن إلا أن يقضى عليه السلطان]
مسألة قلت: أريت إن حلف بالطلاق على أمر ألا يفعله، ولم يستثن إلا أن يقضى عليه السلطان، فقضى عليه، أترى أن يلزمه الحنث؟
قال: إي والله إني أرى ذلك لم يستثن لنفسه، وإنك لتجد من يحلف هكذا مغالبة للسلطان، فأرى عليه الحنث إلا أن يقول لم أرد هذا ولم أرد مغالبة السلطان، فأرى أن يحلف ويكون ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما تقدم من كتاب التخيير والتمليك من المدونة، ومثل ما مضى في رسم سلعة سماها، ورسم حلف من سماع(6/107)
ابن القاسم، خلاف قول ابن الماجشون في الواضحة، وقد مضى القول على ذلك في الرسمين المذكورين، في رسم تسلف من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: قال لامرأته رأسي من رأسك حرام إن أخرجتك من عند أمك]
مسألة وسئل: عمن قال لامرأته: رأسي من رأسك حرام إن أخرجتك من عند أمك إلا أن تخرجني أمك، فأخرجتني أمها.
فقال مالك: ومن يعلم أن أمها أخرجتك؟ فقال: الجيران، فقال له: ثبت ذلك عليها وأشهد على ذلك؟ قيل له: وترى قوله رأسي من رأسك حرام طلاقا؟ قال: إي والله، إني لأرى ذلك، قال مالك: وإن أخرجته أمها فليس عليه طلاق.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قال؛ لأن التحريم طلاق فهو يقع بالبعض كما يقع بالكل، لا فرق بين أن يقول الرجل لامرأته: أنا منك طالق وأنت مني طالق، وبين أن يقول لها: رأسي منك طالق ورأسك مني طالق، ورأسي من رأسك طالق، فكذلك لا فرق بين أن يقول الرجل لامرأته أنت علي حرام أو أنا عليك حرام، أو رأسي عليك حرام أو رأسك علي حرام. وقوله رأسي من رأسك حرام مثل قوله رأسي على رأسك حرام؛ لأن حروف الجر قد تبدل بعضها ببعض، وكذلك القول في قوله وجهي من وجهك حرام. وقد مضى ذلك والقول فيه في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب التخيير والتمليك. ويأتي للمسألة ذكر في سماعه أيضا من هذا الكتاب في رسم أوصى.
فإذا ثبت أن قول الرجل لامرأته: رأسي من رأسك حرام، طلاق - وجب إذا حلف بذلك ألا تخرج امرأته من عند أمها إلا أن تخرجه أمها، فأخرجها من عند أمها، وادعى أنه إنما أخرجها من عند أمها؛ لأن أمها أخرجته، وجب عليه أن يقيم البينة على ذلك كما قال مالك؛ لأن الطلاق ثلاث، قد وجب عليه بالحنث بإخراجها، إلا أن يقيم البينة على ما يسقط الحنث عنه، وبالله التوفيق.(6/108)
[: كتاب الأيمان بالطلاق الثاني] [: قال لامرأة أنت طالق إن وطئتك الليلة وهو يرى أنها امرأته](6/109)
من سماع عيسى بن دينار [من ابن القاسم] من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: قلت لابن القاسم: أرأيت لو أن رجلا مرت به امرأة في ظلمة الليل فوضع عليها يده فقال لها أنت طالق إن وطئتك الليلة وقد يرى أنها امرأته فإذا هي غير امرأته ووطئها قبل أن يعلم، أيحنث في امرأته؟ فقال: ليس عليه شيء لأنه وطئ غير امرأته.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة معارضة لما مضى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم، ومخالفة لما في أول مسألة من سماع عيسى من كتاب النكاح، والقولان قائمان من كتاب العتق الأول من المدونة في الذي دعا عبدا يقال له ناصح فأجابه مرزوق، فقال له: أنت حر، وقد مضى القول على ذلك في أول سماع عيسى من كتاب النكاح، وبالله التوفيق.
[مسألة: قالت له امرأته مالي عليك حرام فقال وأنت علي حرام]
مسألة وقال في رجل: قالت له امرأته: مالي عليك حرام، فقال: وأنت علي حرام.(6/111)
فقال: إنما هو أحد وجهين، إن كان أراد بقوله ذلك لها أجل، إن مالك علي حرام وأنت علي حرام، يقول: إني إذا أوذيك وأستحل منك ما لا ينبغي، قال: إن كان هذا أراد فلا شيء عليه، وإن كان مثل ما يقول الرجل لامرأته: أنت علي حرام، فقد بانت منه.
قال محمد بن رشد: قوله بأنه يرى في قوله وأنت علي حرام أنه أراد بذلك إني أوذيك وأستحل منك ما لا ينبغي ولا يكون عليه شيء، معناه: إن كان جاء مستفتيا ولم تكن عليه بينة، وأما إن كانت عليه بينة فلا يصح أن ينوى في ذلك على أصولهم؛ لأن قوله: وأنت علي حرام، تصريح بتحريمها، والبساط الذي حرمت هي عليه مالها عاقبها هو بأن حرم عليه نفسها، فلا يقبل منه مع حضور البينة له أنه أراد بقوله معنى سوى ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال إن تزوجت فلانة فهي طالق ومتى تزوجت فلانة فهي طالق]
مسألة وسمعته يقول: إن ومتى واحد، قال: ومن قال كل امرأة أتزوجها فضرب أجلا أو قال كل أعرابية أو من بنات فلان أو من الموالي، فهذا أبدا ترجع عليه اليمين وإن تزوجها عشرين مرة، ومن قال إذا جمع البلد أو الفخذ أو بنات الرجل أو ضرب أجلا ترجع عليه اليمين أبدا؛ لأني سمعت مالكا يقول: ويؤمر إذا جمع البلد أو الفخذ أو بنات الرجل أو ضرب أجلا.
قال محمد بن رشد: قوله إن ومتى واحد، يريد أنهما في قوله إن تزوجت فلانة فهي طالق ومتى تزوجت فلانة فهي طالق سواء في أن اليمين لا ترجع عليه إن تزوجها ثانية، يريد: إذا لم يرد بمتى معنى كلما؛ لأن متى في اللسان سواء [مع كلما] في أنها شرط، قال الشاعر:(6/112)
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
إلا أنهما يفترقان في المعنى، فـ "إن" بمنزلة "إذا" لا تقتضي إلا مرة واحدة، و"متى" بمنزلة "متى ما"، يحتمل أن يراد بها مرة واحدة، ويحتمل أن يراد بها معنى كلما، فهي عند مالك محمولة على مرة واحدة إلا أن يريد بها معنى كلما، قاله في المدونة في متى ما، وهو معنى قوله هاهنا في متى ومهما تقتضي التكرار بمنزلة كلما، فهذا حكم هذه الألفاظ الستة إذا سمى المرأة، وأما إذا جمع البلد أو الفخذ أو بنات الرجل فإن اليمين ترجع عليه أبدا كما قال، بمنزلة مهما وكلما، فسواء قال إن تزوجت من بلد كذا أو من بنات فلان أو من فخذ كذا أو إلى أجل كذا، أو قال متى تزوجت من بلد كذا أو من نسب كذا أو إلى أجل كذا، أو قال في ذلك كله متى ما أو إذا، ترجع عليه اليمين أبدا بمنزلة مهما وكلما، ولا اختلاف في ذلك كله إذا كان بنات الرجل الذي سمى لا يحصين مثل بنات زهرة وبنات تميم، واختلف إذا كن يحصين على ما يأتي تفسيره في المسألة التي بعد هذه، وقوله ويؤمر إذا جمع البلد أو الفخذ أو بنات الرجل أو ضرب أجلا، معناه: أنه يؤمر بالطلاق كلما تزوج منهن أحدا إذا أبهم ولم يعين؛ لأنه كلما تزوجها تكرر وقوع الطلاق عليه فيها إذ لم يعينها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأة إن تزوجتك أبدا فأنت طالق البتة فيتزوجها مرة]
مسألة ومن قال لامرأة: إن تزوجتك أبدا فأنت طالق البتة فيتزوجها مرة فقد حنث وإن تزوجها بعد شيء فلا شيء عليه، وكذلك إن قال إن تزوجت فلانة وفلانة إذا سمى، فإن اليمين لا ترجع عليه إذا حنث فيها مرة واحدة، وإذا قال بنات فلان أو أخواته أو فخذا إذا قال ذلك هكذا مبهما لم ينص أسماءهن، فاليمين ترجع عليه أبدا، لو تزوجها بعد عشرين زوجا، وكذلك إذا قال إن تزوجتك أو أخواتك، أما هي فإذا تزوجها مرة فطلقت منه فإنه يتزوجها بعد(6/113)
زوج ولا ترجع عليه اليمين، وأما أخواتها فإن اليمين ترجع عليه أبدا كلما تزوجهن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يُبَيِّنُهَا ما مضى من القول في المسألة التي قبلها.
أما إذا قال إن تزوجت فلانة لامرأة سماها بعينها فهي طالق فلا اختلاف أنه إذا تزوجها وحنث فيها لا تعود عليه اليمين فيها إن تزوجها مرة أخرى، وسواء قال لامرأة بعينها إن تزوجتك فأنت طالق أو إن تزوجتك أبدا فأنت طالق، وإنما يفترق التأبيد من غير التأبيد في الطلاق.
فإذا قال الرجل لامرأته فأنت طالق أبدا فهي ثلاثة، واختلف إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق أبدا، فقيل: إنها ثلاث بمنزلة قوله أنت طالق أبدا، قاله ابن القاسم، ووقف في ذلك غيره، وقيل: إنها واحدة لاحتمال رجوع التأبيد إلى التزويج، وهو دليل ما في كتاب إرخاء الستور من المدونة، ويقوم مثله، بالمعنى من قول ابن القاسم في كتاب العتق منها في الذي يقول إن دخلت الدار فكل مملوك أملكه أبدا فهو حر أنه لا يلزمه العتق إن دخل الدار إلا في كل مملوك كان في ملكه يوم حلف؛ لأنه رد التأبيد إلى الدخول خلاف قول أشهب في رده إياه إلى الملك.
وأما إن قال إن تزوجت من فخذ كذا أو من بلد كذا فهي طالق، أو قال: كل امرأة أتزوجها في أمد كذا فهي طالق وما أشبه ذلك فلا اختلاف في أن اليمين ترجع عليه فيمن تزوج منهن ولو تزوجها عشرين مرة؛ لأنه لما لم يسمها بعينها صارت بعد طلاقه إياها من جملة من حلف بطلاقها إن تزوجها.
وأما إن قال إن تزوجت من بنات فلان لرجل سماه بعينه ولم يسمهن بأسمائهن إلا أنه يمكن إحصاؤهن ومعرفتهن ففي ذلك اختلاف، قيل: إنهن لا يحملن محمل التعين، إذ لم يسمهن بأسمائهن، وترجع اليمين عليه فيمن تزوج منهن أبدا، وقيل: إنهن يحملن محمل التعيين وإن لم يسمهن لأنهن(6/114)
يعرفن إذا طلب إحصاؤهن، فلا ترجع عليه اليمين فيمن تزوج منهن ثانية، والقولان قائمان من المدونة في الذي يوصى لأخواله وأولادهم في الوصايا للثاني منها، وبالله التوفيق.
[: يقول لامرأته كل امرأة أتزوجها عليك فهي طالق واحدة]
ومن كتاب حمل صبيا على دابة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يقول لامرأته: كل امرأة أتزوجها عليك فهي طالق واحدة.
قال: فإن سمي فخذا أو قبيلة أو بلدا أو قال كل امرأة نصا مبهما فإنه إن تزوج امرأة طلقت عليه حين يتزوجها؛ لأن التي لم يدخل بها الواحدة تبينها، ثم تصير أيضا من كل امرأة، فإن تزوجها رجع أيضا عليه الطلاق كلما تزوجها، فليس يجد إلى تزويج امرأة سبيلا؛ لأنه حين يملك عقدتها طلقت عليه بواحدة فبانت منه.
فإن سمى امرأة بعينها، فقال: إن تزوجت عليك فلانة فهي طالق واحدة، فإنه إن تزوجها طلقت عليه بواحدة فإن نكحها بعد ذلك لم تطلق عليه، وقد قال ابن القاسم في سماع يحيى بن يحيى منه في كتاب الدور والمزارع في الذي يقول لامرأته: إن تزوجت عليك فلانة فهي طالق واحدة فإنه إن تزوجها طلقت عليه بتزوجها عليها وإنما نرى واحدة، أيجوز له أن ينكحها بعد أن تبين منه بتلك الواحدة؟ فقال: لا يجوز له نكاحها أبدا ما كانت عنده امرأته التي حلف بطلاق فلانة إن تزوجها عليها، وذلك أنه كلما تزوجها عليها لزمه الحنث ساعة يتزوجها ولو كان نكاحه إياها(6/115)
بعد طلاقه إياها البتة وبعد زوج نكحها، فهي كلما عادت إليه ما كانت امرأته عنده فالطلاق يلزمه فيها؛ لأنه إنما ينكحها أبدا على امرأته التي حلف ألا ينكحها عليها.
قال: ومثل ذلك عندي أن يقول الرجل إن تزوجت فلانة بمصر فهي طالق، فكلما تزوجها بمصر فهي طالق ولو بعد أن يحنث فيها مرارا ويتزوج أزواجا فيمينه تلزمه، وإن نكحت بغير مصر فلا شيء عليه.
قيل له: فالرجل يحلف بطلاق فلانة إن تزوجها ولا يقول على امرأته فلانة، فيتزوج ويحنث فيها بالواحدة التي حلف بها أيتزوجها ثانية؟ قال: نعم، ولا شيء عليه، قلت: فما فرق أن يقول: إن تزوجت عليك فلانة فهي طالق، فألزمه الطلاق كلما عاد إلى تزويجها ما نكحها على امرأته تلك، ولم تلزم الذي قال إن نكحت فلانة فنكحها لم يلزمه الحنث إلا في أول نكاحه إياها، ثم أجزت له أن ينكحها ولا حنث عليه؟ فقال: إنما مثل الذي يقول إن نكحت عليك فلانة فهي طالق كالذي يقول إن نكحت فلانة في هذه السنة فهو طالق وحنث فيها أنه إن نكحت في بقية تلك السنة حنث أيضا حتى ينكحها بعد مضي السنة، قال: وكذلك هذا لا يزال حانثا حتى ينكحها بعد فراقه امرأته التي حلف ألا ينكح عليها فلانة، قال: ومثل الذي يقول إن نكحت فلانة ولا يقول على امرأته، فيضكحها ويحنث ثم ينكحها فلا يكون عليه حنث كمثل الرجل يقول امرأته طالق إن نكح فلانة فينكحها ويطلق امرأته بواحدة كما حلف، فإن طلق التي حنث من أجل نكاحه إياها ثم تروجها أيضا لم يحنث في امرأته بيمينه الأول لأنها قد انقضت بحنثه فيها بالنكاح الأول.(6/116)
[: قال إن تزوجت فلانة فهي طالق]
ومن كتاب (قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) :
لم يختلف قول ابن القاسم فيمن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق - أنه لا يلزمه فيها الطلاق إلا مرة واحدة، واختلف قوله إن قال: إن تزوجت فلانة على فلانة أو في بلد كذا، أو في سنة كذا، أو ما أشبه ذلك، فمرة قال: إنه لا يلزمه فيها الطلاق إن تزوجها على فلانة أو في تلك البلدة أو في تلك السنة إلا مرة واحدة أيضا، ولا يتكرر عليه الطلاق إن تزوجها ثانية على فلانة أو في تلك البلدة أو في تلك السنة إلا مرة واحدة، وهي رواية عيسى هذه عنه على معنى ما في المدونة في الذي يحلف ألا يكلم فلانا عشرة أيام فيكلمه فيها ويحنث فيكفر أو لا يكفر، ثم يكلمه فيها مرة أخرى أنه لا شيء عليه.
ومرة قال إنه يلزمه فيها الطلاق كلما تزوجها على فلانة أو في تلك البلدة أو في تلك السنة، وهي رواية يحيى هذه عنه، وقد قيل: إن الطلاق يتكرر عليه فيها كلما تزوجها وإن لم يقل على فلانة، ولا في بلدة كذا، ولا في سنة كذا، وهو الذي يأتي على قول مالك في رسم حلف من سماع ابن القاسم في كتاب النذور من مسألة الوتر.
والقياس ألا فرق بين أن يقول على فلانة أو في بلدة كذا أو في سنة كذا أو لا يقول شيئا من ذلك، على معنى ما في المدونة(6/117)
ورواية عيسى؛ لأن قول الرجل إن تزوجت فلانة فهي طالق إيجاب منه على نفسه طلاقها بشرط تزويجها، وقوله إن تزوجها على فلانة أو في بلد كذا أو في سنة كذا ليس فيه أكثر من زيادة وصف في الشرط، وزيادة الوصف في الشرط إنما تعود على تخصيص الشرط لا إلى تكثير المشروط وبتكرره يتكرر الشرط، ألا ترى أنه إن جمع الأوصاف كلها فقال إن تزوجت فلانة على فلانة وفي سنة كذا وفي بلدة كذا فهي طالق، لم يكن في زيادة الأوصاف تأثير في تكثير المشروط وتكرره بتكرر الشرط.
فإما أن يقال إن الطلاق لا يتكرر بتكرر الشرط وإن كان مقيدا بوصف على رواية عيسى هذه ومذهب مالك في المدونة، وإما أن يقال إن الطلاق يتكرر بتكرر الشرط وإن لم يكن مقيدا بوصف على رواية ابن القاسم عن مالك في مسألة الوتر.
ووجه رواية يحيى في تفرقته بين الوجهين: أنه حمل يمين الحالف على أنه إنما قصد بيمينه إلى ألا تكون زوجة له مع زوجته التي حلف ألا يتزوجها عليها، وإلى ألا تكون زوجة له في تلك السنة أو في تلك البلدة، وهذا إنما يصح إذا تبين القصد فيه ببساط يدل عليه أو سبب يعرف به، والله أعلم.
[مسألة: المكره على اليمين]
مسألة قال عيسى: قال ابن القاسم في يمين المستكره: إذا كان إن لم يحلف فعل به شيء يخافه.
قال: إن كان عنده اليقين الذي لا يشك فيه من عذاب أو سجن أو قتل إن لم يحلف ضربه وعذبه رأيت ذلك مخرجا له إن شاء الله.(6/118)
قال محمد بن رشد: اتفق مالك وأصحابه فيما علمت أن المكره على اليمين لا يلزمه اليمين إذا كان إكراهه بشي يلحقه في بدنه من قتل أو ضرب أو سجن أو تعذيب إذا كانت يمينه فيما كان لله فيه معصية أو فيما ليس له فيه طاعة ولا معصية، وسواء هدد فقيل له إن لم يحلف فعل بك كذا وكذا، أو استحلف ولم يهدد فحلف فرقا من ذلك ما لم يحلف هو متطوعا باليمين قبل أن يستحلف.
واختلف إذا أكره على اليمين بشيء من ذلك فيما لله فيه طاعة مثل أن يأخذ الوالي الجائر الشارب أو السارق أو الزاني فيكرهه على أن يحلف ألا يشرب ولا يزني ولا يسرق أو يكره الأب ابنه على نحو ذلك فيما يريد تأديبه به، فقال ابن الماجشون وأصبغ: لا يلزمه اليمين، وقال مطرف: تلزمه اليمين وهو اختيار ابن حبيب، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] .
واختلف هل يكون الإكراه على الأيمان بالأموال إكراها أم لا على أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك ليس بإكراه، والثاني: أنه إكراه، وهو قول ابن الماجشون، وقاله أصبغ، إلا أنه استحب إن كان يسيرا ألا يحلف، والثالث: أن ذلك ليس بإكراه إلا أن يجتاح جميع ماله، والرابع: الفرق بين أن يأمن في جسده العقوبة إن لم يحلف مثل أن يقال له إن لم تحلف على هذا الشيء أنه ليس متاعك أخذناه، وبين ألا يأمن العقوبة في جسده مثل أن يهدده اللصوص بالضرب أو القتل على أن يطلعهم على ماله ليأخذوه، فهو إن لم يحلف ضربوه أو قتلوه، وإن أطلعهم على ماله ذهبوا فأخذوه وما أشبه ذلك، وهو قول مطرف.
وأما إذا دفع الرجل بيمينه عن غيره من يريد دمه أو ماله أو عقوبته،(6/119)
فلم أجد في ذلك شيئا من قول قائل، ولا بد من تفصيل على مذهب مالك.
فإن كان إن لم يحلف وصل إلى قتل الرجل أو أخذ ماله ولم يلحقه هو أذى في نفسه وماله، وإن حلف تخلص ذلك منهم بيمينه، مثل أن يكون مستخفيا عنده في داره أو يكون ماله عنده، فيقال له: إن لم تحلف لنا بالطلاق أنه ليس في دارك أو أن ماله ليس عندك دخلنا فقتلناه إن وجدناه فيها أو أخذنا ماله إن وجدناه عندك، فهذا إن حلف لزمه الطلاق، وآخر في الرواة عن الرجل أو عن ماله وإن لم يحلف لم يكن عليه حرج.
وإن لم يكن له عنده مال ولا كان مستخفيا في داره إلا أنه يعلم مكانه ومكان ماله، فقيل له: إن لم تحلف أنك لا تعلم مكانه ولا مكان ماله فعلنا بك كذا وكذا من ضرب أو قتل أو سجن أو خشي ذلك على نفسه إن لم يحلف جاز له أن يحلف أنه ما يعلم موضعه إن أرادوا قتله، ولم تلزمه اليمين باتفاق لأنه في حكم المكره عليه إذ لا خروج له عنها إلا بإباحة نفسه أو بإباحة دم غيره، وذلك ما لا يحل له ولا يجوز.
وإما إن أرادوا أخذ ماله ولم يريدوا قتله فيجري الأمر في يمينه على أنه ما يعلم موضع ماله على الاختلاف المتقدم في الإكراه على الأيمان بالأموال؛ لأن إخباره بموضع مال الرجل إن لم يحلف كإخباره بموضع ماله للصوص إذا أجبروه على أن يحلف لهم، على أنه ليس له مال أو يخبرهم بموضعه ليأخذوه ضامن لمال الرجل إن أعلمهم بموضعه ولم يحلف.
وأما الإكراه على الأفعال فاختلف فيها في المذهب على قولين: أحدهما: أن الإكراه يكون في ذلك إكراها، وهو قول سحنون، ودليل ما(6/120)
في كتاب النكاح الثالث من المدونة، والثاني: أن الإكراه لا يكون في ذلك إكراها ينتفع المكره به، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وذلك في مثل شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، والسجود لغير الله، والزنا بالمرأة المختارة لذلك أو المكرهة له على أن يزني بها ولا زوج لها وما أشبه ذلك مما لا يتعلق به حق لمخلوق، وأما ما يتعلق به حق لمخلوق كالقتل والغصب وشبه ذلك فلا اختلاف في أن الإكراه غير نافع في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: مات عن امرأته فجاء شهود عدول فشهدوا أنه قد طلقها]
مسألة وقال: عن مالك في رجل مات عن امرأته فجاء شهود عدول لا يتهمون كانوا غيبا فشهدوا أنه قد طلقها منذ سنين وكانوا غيبا: أنها ترثه، ولو ماتت هي لم يرثها.
قيل له: فما الحجة أنها ترثه؟ قال: أرأيت لو كان قائما فشهدوا عليه أترجمه؟ قلت: لا، قال: أفما يدرينا ما كان يدرأ به عن نفسه، قال ابن القاسم: وهو رأيي وتعتد أربعة أشهر وعشرا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم طلق من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ليقضين فلانا حقه غدوة أو قال بكرة أو قال غدا عشية بطلاق امرأته]
مسألة وعن رجل حلف ليقضين فلانا حقه غدوة، أو قال بكرة أو قال غدا عشية بطلاق امرأته:
قال: أما غدوة فإني أراه ما بينه وبين انتصاف النهار؛ لأن ذلك عند الناس مما يسمونه غدوة، وأما بكرة فإلى أن ترتفع الضحى إلا على ما يسمع أنه يقال جئناه بكرة وهو يكون قبل(6/121)
نصف النهار، وأما العشي فإني أراه من وقت الظهر إلى المغرب وليس وقت الظهر الأول، ولكن من وسط الوقت، وذلك أن مالكا حدثني عن بعض من مضى، فقال: ما أدركت الناس يصلون الظهر إلا بالعشي، ولا شك أنهم لم يكونوا يؤخرون إلى آخر الوقت.
قال محمد بن رشد: قوله في أول المسألة وعن رجل، عطفا على المسألة التي فوقها لمالك، يدل على أن المسألة له، وله في أول الصلاة الأول من المدونة في غدوة مثل قوله هاهنا: إنه ما دام الفيء في نقصان فهو غدوة بعد، وتفرقته بين غدوة وبكرة بأن لا يكون بكرة إلا ارتفاع الضحى إلا على، صحيح، ومن الدليل على صحة ذلك- سوى ما ذكره في الرواية- من الناس لا يوقعون بكرة إلا على ما قبل نصف النهار قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 38] ، وإنما جاءهم العذاب بعد ارتفاع الشمس بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} [الحجر: 73] ، وإشراق الشمس ضياؤها، يقال: شرقت الشمس، إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت، ولو حلف ليقضين حقه صباحا لكان له سعة إلى ارتفاع الضحى إلا على قوله في بكرة؛ لأنهما سواء؛ لقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 38] ، وفي كتاب ابن المواز في الحالف ليقضين حقه غدوة أو بكرة أنه يبرأ ما بينه وبين زوال الشمس، والأول أصح لما ذكرناه مما دل عليه كتاب الله، وقوله في العشي إنه من(6/122)
وقت الظهر إلى المغرب، يريد: إلى قرب المغرب وهو وقت صلاة العصر، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] ، فـ"عشيا" العصر، و"حين تظهرون" الظهر، وكذلك المساء فيمن حلف ليقضين الحق فيه، بدليل قول الله عز وجل: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] ، وانتهى قول مالك إلى قوله: فإني أراه من وقت الظهر إلى المغرب، وقوله: وليس وقت الظهر الأول إلى آخر المسألة تفسير لابن القاسم، بدليل قوله: وذلك أن مالكا حدثني، وسيأتي في سماع سحنون إذا حلف ليقضين حقه صلاة الظهر، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لرجل امرأته طالق البتة إن لم يقضك حقك الهلال]
مسألة وعن رجل حلف لرجل امرأته طالق البتة إن لم يقضك حقك الهلال.
قال: لا أدري ما الهلال؟ إن كان إنما أراد الإهلال فله يوم وليلة، وإن كان إنما أراد إلى الإهلال فقد حنث إن لم يعطه قبل أن يهل.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، إن الأمر يجب أن يحمل في ذلك على ما زعم أنه نواه، وهو مصدق في ذلك دون يمين وإن كانت على يمينه بينة؛ لأنه إن قال: أردت الإهلال فهو الظاهر من قوله الذي يحمل عليه إذا لم تكن نية، وإن قال: أردت إلى الهلال فهو مقر على نفسه يحنث بالغروب فلا وجه لتحليفه، وقد مضت هذه المسألة ونظائرها في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب النذور، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(6/123)
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق البتة إن دخلت بيت أبيك حتى يقدم أخوك]
مسألة وعن رجل قال لامرأته أنت طالق البتة إن دخلت بيت أبيك حتى يقدم أخوك من سفره فمات أخوها قبل أن يقدم.
قال: إن كانت له نية في ذلك أن يكون أراد في ذلك مثل ما يقدم إليه الحاج وشبه ذلك ولم يرد في ذلك الموت، وإنما أراد الأجل، فإذا أقامت إلى مثل ذلك ثم دخلت فلا شيء عليه، وإن لم تكن له نية فهو حانث إن دخلت.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن أنه إن نوى بيمينه ألا تدخل بيت أبيها إلا مقدار ما يقدم إليه الحاج فله نيته فتلزمه اليمين إلى ذلك الأجل، مات قبله أو بعده أو لم يمت، ولا خلاف في ذلك، إلا أنه يحلف على ذلك إن لم يكن مستفتيا، وكذلك إن لم ينو ذلك إلا أن ليمينه بساطا يدل عليه، على المشهور في المذهب من مراعاة البساط في الأيمان ولو كان إنما أراد استرضاء أخيها الغائب بذلك لسقطت عنه اليمين بموته مات قبل قدوم الحاج أو بعده؛ إذ قد علم أنه لا يسترضى بعد موته، وإنما الكلام عند عدم النية والبساط، فقال هاهنا: إن اليمين باقية عليه أبدا إن مات أخوها قبل أن يقدم ويكون حانثا متى ما دخلت، ومثله في سماع أصبغ من كتاب العتق في التي تحلف ألا تخرج إلى موضع سمته حتى يقدم زوجها من الحج؛ لأنه حمل اليمين على مقتضى اللفظ ولم يراع المعنى والمقصد، ويأتي على مراعاة ذلك ألا يحنث إذا مات إن دخلت بعد أن يمضي من المدة ما كان يمكنه القدوم فيه لو كان حيا، إذ قد علم من قصد الحالف أنه لم يرد بقوله: حتى يقدم إلا مع استمرار حياته، إذ لا(6/124)
يمكن أن يقدم الميت، ولا أن يريد هو ذلك بيمينه، وعلى هذا يأتي قول مالك في أول مسألة من رسم الطلاق الأول من سماع أشهب، وقد مضى القول عليها هناك، وعلى هذا المعنى اختلفوا في الرجل يحلف بطلاق امرأته ألا يكلم إنسانا حتى يرى الهلال فعمي وذهب بصره قبل الهلال، فقيل: إنه لا يكلمه أبدا، وهو قول مالك في المبسوطة، وقيل: إنه يكلمه إذا رئي الهلال ولا شيء عليه؛ لأنه أراد ألا يكلمه حتى يَرى الهلال من حيث يُرى، وهو قول ابن الماجشون، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأتك طالق لتدفعن إلي حقي غدا فيقول نعم فيحنث]
مسألة وعن الرجل يكون له على الرجل الحق فيقول: امرأتك طالق أو عليك الطلاق لتدفعن إلي حقي غدا، فيقول: نعم، فيحنث، فيقول: أردت واحدة، ويقول صاحب الحق: أردت ثلاثا.
قال: القول قول صاحب الحق، وفي سماع عبد المالك بن الحسن أن القول قول الغريم.
قال محمد بن رشد: هذان القولان على اختلافهم في اليمين هل هي على نية الحالف أو على نية المحلوف له، وقد مضى القول على ذلك في رسم البز من سماع ابن القاسم وغيره، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الحالف بالطلاق أو بالمشي أو بالصدقة وما أشبه ذلك أن يفعل فعلا]
مسألة وقال في رجل يحلف بطلاق امرأته واحدة ثم بالمشي إلى بيت الله وبالصدقة ليتزوجن على امرأته، فأراد أن يطلق امرأته واحدة ولا يطأها ويكون في سعة من المشي والصدقة حتى يتزوج فيقع ذلك عنه.
قال: ذلك له.(6/125)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الحالف بالطلاق أو بالمشي أو بالصدقة وما أشبه ذلك، أن يفعل فعلا، لا يقع عليه الحنث إلا بعد الموت؛ لأنه في فسحة في فعل ما حلف ليفعلنه ما لم يمت، إلا أنه على حنث، فلا يجوز له الوطء إن كان حلف بالطلاق وله أن يُحنِّث نفسه فيما شاء من ذلك، فإن أراد إذا حلف بجميع ذلك أن يحنث نفسه في الطلاق وحده فيطلق امرأته واحدة كما حلف ليرتجع ويطأ كان ذلك له، فإن بر بالتزويج قبل الموت سقط عنه المشي والصدقة، وإن لم يبر حتى مات كانت الصدقة في ثلث ماله؛ لأن الحنث إنما وجب عليه بعد الموت، ولم يكن على ورثته في المشي شيء إلا أن يوصي بذلك فينفذ عنه المشي من ثلث ماله، وقيل: إنه يُهدى عنه هديان، ولا يُمشى عنه حسب ما مضى من القول في ذلك في رسم حلف الثاني من سماع ابن القاسم من كتاب الحج، هذا هو المشهور.
وقد قيل في الحالف ليفعلن فعلا إنه على التعجيل إلا أن يريد التأخير ويحنث إن أخر فعل ذلك الفعل الذي حلف ليفعلنه، وهو قول ابن كنانة ورواية عيسى عن ابن القاسم عن مالك في المدونة في الحالف لينتقلن أنه إن لم ينتقل تلك الساعة حنث، وهذا القول في الحالف على غيره ليفعلن أكثر، وهو لابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب العتق.
[مسألة: حلف لرجل فقال امرأته طالق إن خرجت من الفسطاط]
مسألة وقال في رجل حلف لرجل فقال: امرأته طالق إن خرجت من الفسطاط وأنت تسلني شيئا فأحاله على رجل فرضي بالحوالة، قال: لا بأس عليه ولا شيء عليه إن كان من أصل دين له على من أحاله، وإن لم يكن من أصل دين فهو حانث، وأما الضمان فلا يخرجه عن يمينه، ولو حلف ليقضينه حقه لم تنفعه الحوالة أيضا وإن كان من أصل دين.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الحوالة من أصل دين يبريه(6/126)
من الدين، وتوجب ألا رجوع عليه لغريمه وإن مات المحال عليه أو فلِّس إذا لم يقره من فلس عليه منه، فوجب أن يبر الحالف بها في يمينه التي حلف بها؛ ولأنها إذا لم تكن على أصل دين لا يبر بها؛ إذ للمحتال أن يرجع عليه إن مات المحال عليه أو فلس، وقد قيل: إنها كالضمان في أنه المبدأ بالاتباع، فوجب ألا يبر الحالف بذلك في يمينه التي حلف بها. وأما إذا حلف ليقضينه حقه فلا يبرأ بالحوالة وإن كانت من أصل دين، إذ لم يقضه شيئا قبضه، وإنما تحول من ذمته إلى ذمة غيره إرادة معروف صنعه، ولا يدخل في هذا الاختلاف الذي ذكرنا في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم في الرهن؛ لأن الرهن شيء قد قبضه صاحب الحق وهو أحق به من الغرماء، والحوالة لم يقبض صاحب الحق بها شيئا ولا هو أحق بذمة المحتال عليه من الغرماء إن فلس، فلم تقو قوة الرهن، ولو حلف ألا يقضينه فأحاله حنث، قاله في رسم بع هذا، وهو صحيح؛ لأن الحنث يقع بأقل الوجوه، وبالله التوفيق.
[: الحالف إنما يحنث بالمعنى الذي حلف عليه لا بمجرد الألفاظ]
ومن كتاب أوله استأذن سيده [في تدبير جاريته] وسئل: عن رجل قال له: إن رمك فلان ختنك أصابها العسكر فاخْرج في طلبها، فخرج في طلبها فأدركها، فقال للذين هي معهم: إن هذه الرمك لختني بكير النفزي، فقيل له: كذبت ليست لختنك، وإنما هي للجند، ولكن احلف إنها للبربر وليست للجند، فقال: امرأته طالق إن كانت ليست لبكير النفزي، وإنما كان أصل استحلافهم إياه أنها للبربر وليست للجند، ولم يسألوه(6/127)
إن كانت لنفزي أو لغير نفزي، إلا أنه حلف أنها لبكير النفزي، فسأل عن بكير فإذا هو من مصمودة، وليس من نفزة، وحلف حين حلف وهو يظن أنه من نفزة والرمك له.
فقال: إنما استحلافهم إياه أنها ليست للجند ولم يستحلفوه أنها للنفزي، فليس عليه في يمينه شيء، وذلك أني سمعت مالكا وسئل: عن رجل بعث إلى عبد له في خرج كان عنده، فقال للرسول: أخذه أخوه، فأتى سيده مغضبا، فقال: أخفيت عني الخرج، فقال العبد: امرأته طالق إن كان لم يأتني أخوك فأخذه مني، ثم فكر فإذا أخوه لم يأته، وإنما جاء رسول، فقال: ليس عليه شيء؛ لأنه لم يحلف إلا على أنه لم يخفه عنه، فمسألتك مثلها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الحالف إنما يحنث بالمعنى الذي حلف عليه، لا بمجرد الألفاظ إذا خالفت المعاني؛ لأن الحكم إنما هو للمقصود بالقلب لا لمجرد اللفظ المنطوق به، ألا ترى أن المعنى الواحد المقصود إليه بالقلب يعبر عنه بألفاظ كثيرة مختلفة، ولغات شتى مفترقة، فلا يتغير معناه عند السامع له بهذه الألفاظ المختلفة واللغات المفترقة باختلاف العبارات عنه، وقد يفهم من اللفظ خلاف موضوعه في اللغة، فيكون الحكم للمفهوم من اللفظ، لا لموضوع اللفظ وحقيقته في اللغة، وهذا كثير موجود في القرآن والسنن والآثار، قال الله تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] . فهذا أمرٌ المفهوم منه النهي، وقال عز وجل: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] ، فهذا مدح، والمراد به السبّ والاستهزاء، وقال عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45](6/128)
وقد علم أن الصلاة لا تأمر ولا تنهى، وكان الحكم للمعنى، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» . وهذا كذب في ظاهره إذ ليس أبدا بعصاه على عاتقه، وليس بكذب ولكنه إخبار عن معنى عُلم المقصود به، فكان الحكم له، وهذا كثير يعز إحصاؤه، ولا يمكن استقصاؤه، وقد مضت مسألة الخرج في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم والقول فيها بما فيه كفاية فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن خرجت إلى بيت فلان إلا بإذني فأنت طالق]
مسألة وعن رجل قال لامرأته إن خرجت إلى بيت فلان إلا بإذني فأنت طالق، فخرجت فلما علم قال لها: إني قد حلفت ألا تخرجي إلا بإذني فقد خرجت فاعتدي، ثم ذكر أنه قد كان أذن لها.
ففكر فقال: أرى قوله لها اعتدي طلاقا، فإن تدارك الرجعة قبل أن تحيض ثلاث حيض كان أملك بها، وإن حاضت ثلاث حيض قبل أن يراجعها كانت أملك لنفسها، قلت: إنما قال لها اعتدي من الطلاق الذي ظن أنه حنث فيه ولم يحنث، قال: أترى أن لو أتاني وقد حاضت ثلاث حيض وبانت منه وادعى نية أكنت أنويه فيها؟ لا أراه إلا وقد بانت منه إن لم يرتجعها قبل أن تنقضي عدتها، قال ابن القاسم: وإنما هي عندي بمنزلة من قال: قد طلقتك فاعتدي، وقال ابن وهب مثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، والذي يوجبه فيها القياس والنظر ألا يلزمه فيما بينه وبين الله في قوله لها فاعتدي طلاق إذا تحقق أنه لم يلزمه فيها طلاق وتؤمر له بالعدة، ويبين هذا ما صرفنا إليه(6/129)
وجه الاختلاف الواقع في مسألة رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب طلاق السنة في الذي أفتي في امرأته في يمين نزلت به أنها قد بانت منه، فقال لها وللناس: قد بانت مني، ثم علم أنه لا شيء عليه، فالمعنى في هذه المسألة عندي أنه إنما أوجب عليه الطلاق فيها بقوله لها فاعتدي من أجل أنه حضرته البينة بقوله لها: إني قد حلفت ألا تخرجي إلا بإذني فقد خرجت فاعتدي، ولم يصدق فيما زعم من أنه يذكر أنه قد كان أذن لها، فألزم الطلاق بما شهد به عليه من قوله لها فاعتدي؛ لأن اعتدي من ألفاظ الطلاق، فمن قال لامرأته: اعتدي ينوى ما أراد من عدد الطلاق بما شهد به عليه من قوله لها اعتدي؛ لأن اعتدي من ألفاظ الطلاق، فإن لم تكن له نية فهي واحدة، قال ذلك في المدونة، ولم يبين كم يلزم من عدد الطلاق، إلا أنه قد قال في آخر المسألة: إن ذلك عنده بمنزلة من قال: قد طلقتك فاعتدي، ومن قال في الذي يقول لامرأته: قد طلقتك فاعتدي أو قد طلقتك اعتدي أنهما اثنتان إلا أن يريد بهما واحدة، يقول: إنما أردت أن أعلمها بالعدة فتكون واحدة، فيلزم في هذه المسألة على قياس قوله أن تكون واحدة بعد أن يحلف أنه إنما قال لها: فاعتدي أمرا لها بالعدة من الطلاق الذي ظن أنه قد كان لزمه وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ألا يكسوه فاشترى له سلعة وقال بعها ولك فضلها]
مسألة وسئل عن رجل عاتب أخا له كان معه في صنعة يتقلبان فيها، فعاتبه في البطالة وقال: لم تتبطل ولا تتجر ولا تكسب شيئا؟ فحلف بالطلاق ألا يكسوه فاشترى سلعة بخمسة دنانير، وقال: هاك هذه السلعة بعها ولك فضلها.
قال: أراه حانثا لأن هذا ليس من وجه التجارة ولا البيع، وإنما هذه عطية منه، قال له: خذ فضل هذه السلعة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا أعطاه فضل السلعة(6/130)
ليكتسي منها فقد كساه، ومثله في المدونة في الذي يحلف ألا يكسو رجلا فأعطاه دنانير، أو حلف ألا يعطيه دنانير فكساه أنه حانث ولا ينوي في ذلك يعني مع قيام البينة بخلاف المرأة فإنه ينوي في زوجته إذا حلف ألا يعطيها دنانير فكساها، فإنه إنما حلف ألا يعطيها دنانير لئلا تفسدها أو تخدع فيها وبالله التوفيق.
[مسألة: ذكر له غريمه فقال امرأته طالق إن لقيته إن فارقته حتى يحكم الله بيننا]
مسألة وقال في رجل ذكر له غريمه فقال امرأته طالق البتة إن لقيته إن فارقته حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فلقيه فقضاه حقه.
قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن قضاءه حقه هو حكم الله الواجب بينهما، وإن لم يقضه حقه لكان الوجه الذي يبر به ألا يفارقه حتى يرفعه إلى السلطان فيفصل بينهما بما شرعه الله من الحكم بين عباده، كان له أو عليه؛ لأن حكم الله بين عباده في الدنيا هو حكم الحاكم بينهم بما أمر الله به من القول، قال الله عز وجل: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] وبالله التوفيق.
[مسألة: ساومه رجل بسلعة فقال امرأته طالق إن باعها منه ثم ساومه بها آخر]
مسألة وسئل عن رجل ساومه رجل بسلعة فقال: امرأته طالق إن باعها منه، ثم ساومه بها رجل آخر فقال: امرأته طالق إن باعها منه، فباعها منهما جميعا.(6/131)
قال: يلزمه تطليقتان، قلت: فلو كان حلف على هذا النحو بالله أيضا أتلزمه كفارتان؟ قال: نعم، قلت له: ففي أي شيء إذا حلف مرات لم يلزمه إلا كفارة واحدة؟ قال: لو أنه أتاه رجل فساومه فقال: والله لا أبيعها، ثم أتاه آخر فقال: والله لا أبيعها، فهذا الذي لا يلزمه إذا باع إلا كفارة واحدة، ولو كان هذا في طلاق كان عليه تطليقتان إلا أن ينوي واحدة، ولو أتاه رجل فقال: امرأته طالق إن باعها، ثم أتاه آخر فقال: امرأته طالق إن باعها لزمته تطليقتاه إن باعها إلا أن يكون نوى واحدة، وسواء كان في رجل واحد أو في رجلين هما تطليقتان.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة كلها على معنى ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف في شيء من وجوهها، إذا حلف الرجل ألا يبيع سلعة ثم حلف ثانية ألا يبيعها ثم باعها لزمته كفارة واحدة إن كان حلف بالله، وتطليقتان إن كان حلف بالطلاق إلا أن ينوي واحدة، وإذا حلف ألا يبيع سلعته من فلان، ثم حلف ألا يبيعها من فلان رجل آخر فباعها منهما جميعا لزمته كفارتان إن كان حلف بالله، وتطليقتان إن كان حلف بالطلاق ولم ينو إن زعم أنه أراد واحدة وينوي في الطلاق حيث يكون عليه في اليمين بالله كفارة واحدة، ولا ينوى فيه حيث تكون عليه في اليمين بالله كفارتان، فهذا قياس هذه الباب، وقوله في آخر المسألة: وسواء كان في رجل واحد أو في رجلين هما تطليقتان، معناه إذا لم تكن له نية، وأما إذا نوى واحدة فيُنَوَّى في الرجل الواحد ولا يُنَوَّى في الرجلين حسبما بيناه وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف في سلعة له ألا يبيعها فيبيعها على أنه بالخيار فيها]
مسألة وسئل عن الرجل يحلف في سلعة له ألا يبيعها فيبيعها على أنه بالخيار فيها.(6/132)
قال: لا شيء عليه حتى يحب البيع.
قال محمد بن رشد: مثل هذا من سماع أصبغ في كتاب العتق، وهو صحيح لأنه استثنى الخيار لنفسه، فلا يكون بيعا حتى يمضيه، ولو حلف ألا يبيعها إلى أجل فباعها قبل الأجل على أنه بالخيار وأمضاه بعد الأجل لتخرج ذلك على قولين: أحدهما وهو المشهور أنه لا يحنث؛ لأن البيع إنما وجب يوم أمضاه، والثاني أنه يحنث لأنه أمضاه له على العقد الأول، فكأنه قد وجب له من حينئذ، وهذا القول قائم من قوله في كتاب الشفعة من المدونة في الذي يشتري شقصا من دار بخيار ثم يباع ذلك الشقص الآخر بيع بت أن الشفعة لمشتري الخيار إن اختار البيع، وكذلك الحكم في الرجل يحلف ألا يشتري السلعة فيشتريها على أنه فيها بالخيار سواء، ولو باعها الحالف ألا يبيعها على أن الخيار للمشتري، أو اشتراها الحالف ألا يشتريها على أن الخيار للبائع لوقع الحنث في ذلك على الحالف منهما، كان البائع أو المبتاع، مضى البيع أو رُد بالخيار إلا أن يكون اليمين بحُرّية العبد الذي حلف البائع ألا يبيعه أو المشتري ألا يشتريه، فيفترق في ذلك البائع من المبتاع، لحنث البائع بعقد البيع على أن الخيار للمبتاع فيرد ويعتق عليه، ولا يحنث المبتاع بعقد البيع على أن الخيار للبائع حتى يمضي له البيع، ولو حلف الرجل ليبيعن سلعة أو ليشترينها لما بر ببيعها ولا بشرائها على الخيار، كان الخيار له أو لمن باعه حتى يُمضي البيع مَن له الخيار فيه؛ لأن الحنث يقع بما لا يكون البر به؛ إذ لا يكون البر إلا بأكمل الوجوه.
وكذلك الذي يحلف ألا يبيع سلعة يحنث ببيعها وإن ردها عليه بعيب أو فساد بيع ولا يبر إذا حلف ليبيعنها إذا باعها فردت عليه بعيب أو فساد بيع؛ لأن البر لا يكون إلا بأكمل الوجوه، وهو قول ابن القاسم في(6/133)
الواضحة وفي رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب العتق، وقيل: إنه لا يحنث إن رد عليه بعيب، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وهذا على أن الرد بالعيب ابتداء بيع، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق البتة أو غلامه حر إن كان الذي في كمه دنانير]
مسألة وسئل عمن قال: امرأته طالق البتة أو غلامه حر إن كان الذي في كمه دنانير أو وإن كان الذي في حانوته فسطاطيا، فنظر الذي في كمه فإذا فيه دنانير ودراهم، ونظر الذي في حانوته فإذا فيه فسطاطي وشطري ومروي وخز.
قال هو حانث في كلا الوجهين، قال وسواء قال إن كان الذي في كمي أو قال في حانوتي هما سواء، وهو حانث فيهما جميعا، وقاله أشهب.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصولهم فيمن حلف ألا يفعل فعلين ففعل أحدهما أنه حانث؛ لأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، ولا عذر له في أن حلف على يقينه فانكشف له خلاف ما حلف عليه؛ لأن ذلك لغو، واللغو لا يكون إلا في اليمين أو ما تكون كفارته كفارة يمين بالله. وبالله التوفيق.
[: قال امرأته طالق البتة أو غلامه حر إن لم يفعل شيئا سماه فلم يفعله حتى مات]
ومن كتاب العرية وسئل عن رجل قال: امرأته طالق البتة، أو غلامه حر إن لم يفعل شيئا سماه فلم يفعله حتى مات.
قال: ترثه امرأته، ويعتق الغلام في ثلثه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الحالف ليفعلن فعلا هو على حنث حتى يفعل، فإذا لم يفعل حتى مات وقع عليه الحنث بعد(6/134)
الموت بالطلاق أو بالعتاق، فوجب أن ترثه المرأة؛ لأن الطلاق بعد الموت لا يصح، وأن يعتق الغلام في الثلث على حكم العتق بعد الموت احتياطا للعتق لئلا يسترق بالشك، ولأنه أيضا لو وقع عليه الحنث في حياته لخير بين العتق والطلاق، إذ قد استثنى ذلك لنفسه حين حلف على ما قاله في رسم الصبرة من سماع يحيى بعد هذا، فلما أوقع على نفسه الحنث بعد الموت حمل على أنه لم يرد إلا العتق، إذ لا يطلق أحد امرأته بعد موته، ولو قال قائل إن ورثته ينزلون بعد موته في التخيير منزلته في حياته، فلا يعتق العبد في الثلث إلا برضاهم لكان لذلك وجه من أجل أن الأصل براءة الذمة، والعتق لا يكون إلا بيقين. وبالله التوفيق.
[مسألة: قال يزيد أو محمد حران إن لم أفعل كذا وكذا فمات قبل أن يفعله]
مسألة قيل له: فلو كان قال: يزيد أو مبارك حران إن لم أفعل كذا وكذا، فمات قبل أن يفعله؟ .
قال: يعتق واحد منهما بالسهم، قيل: كيف يعتق؟ أنصف قيمتهما أو من خرج سهمه؟ قال: بل من خرج سهمه، يسهم بينهما، فإن خرج سهم أحدهما وهو أكثر من الثلث عتق منه ما حمل الثلث، وإن خرج سهم الأخر وهو أدنى من الثلث عتق، ولم يعتق من الآخر فيما بقي من الثلث قليل ولا كثير.
قال محمد بن رشد: حكم هذه المسألة حكم الرجل يقول في صحته: أحد عبيدي حر، أو أحد عبيدي حر إن فعلت كذا وكذا فيحنث فلا يختار أحدا منهم حتى يموت، إلا أن العتق في هذه من الثلث، وفي تلك من رأس المال، وفيها ثلاثة أقوال: أحدهما رواية ابن أبي زيد(6/135)
عن ابن القاسم في كتاب العتق أنه يقرع بينهم، ومثله ما وقع في رسم الصلاة من سماع يحيى منه في رواية عيسى عن ابن القاسم أنه يقرع بينهم، وأراه أشار إلى هذه الرواية لاستواء المسألتين على ما ذكرناه؛ لأن الذي في سماع عيسى عن ابن القاسم في الكتاب المذكور أن العتق يجري فيهم، فإن كانوا ثلاثة عتق أثلاثهم، وإن كانوا أربعة عتق أرباعهم، وهذا القول الثاني.
والقول الثالث أن الورثة ينزلون منزلته فيعتقون من شاؤوا منهم، وهو رواية يحيى عن ابن القاسم وأحد قولي سحنون في رواية عيسى في القرعة إذا اختلف الورثة، ورواية يحيى عنه في أنهم بمثابته إذا اتفقوا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول آخر امرأة أتزوجها فهي طالق]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الذي يقول: آخر امرأة أتزوجها فهي طالق قال: يتزوج ما شاء ولا شيء عليه؛ لأنه مثل من حرم على نفسه جميع النساء؛ لأنه كلما تزوج امرأة فرق بينه وبينها؛ لأنه لعل تلك المرأة آخر امرأة يتزوجها، ولا تستقر معه أبدا امرأة، ولا شيء عليه، قال سحنون في الذي يقول: آخر امرأة أتزوجها فهي طالق، قال: يوقف عن وطء امرأته خوفا ألا يتزوج غيرها حتى يموت؛ لأنه إذا مات كانت آخر امرأة يتزوجها، فلزمه الحنث يوم تزوجها، فيكون قد وطئها بعدما حنث فيها، فيوقف عن الوطء حتى يتزوج غيرها، فإذا تزوج غيرها قيل له إن اليمين والحنث قد زال عنها، وإن لم يتزوج (حتى ينقضي الأجل) وأرادت(6/136)
الأولى الوطء وقالت: ها هو ذا يقدر على أن يطأني بأن يتزوج أخرى فيجوز له وطئي فيترك ذلك ضررا، فيضرب له الحاكم أجل الإيلاء، فمن تزوجها قبل تمام الأجل سقطت عنه اليمين، وإن لم يتزوج حتى ينقضي الأجل طلق عليه السلطان إلا أن يتزوج قبل طلاق السلطان وحكمه، وكذلك الحكم في الثانية حتى يتزوج ثالثة، وكذلك الحكم في الثالثة حتى يتزوج رابعة، وكذلك الحكم في الرابعة، [ويضرب له فيها أجل الإيلاء إلا أن يموت من عنده أو يطلق فيتزوج] فقس على هذا تصب إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في نوازل سحنون من كتاب الإيلاء فلا وجه لإعادته هنا مرة أخرى وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته إن كلمتني حتى تقولي إني أحبك فأنت طالق]
مسألة قال عيسى: وسئل ابن القاسم عن الرجل يقول لامرأته إن كلمتني حتى تقولي إني أحبك فأنت طالق، فقالت: غفر الله لك، نعم أنا أحبك.
فقال: هو حانث حين قالت غفر الله لك قبل أن تقول أنا أحبك، ولقد اختصمت أنا وابن كنانة إلى مالك في رجل قال لامرأته إن كلمتك حتى تفعلي كذا وكذا فأنت طالق، ثم قال لها في ذلك النسق بعد الطلاق: فاذهب الآن كالقائل: إن شئت فافعلي وإن شئت فدعي، فقلت أنا: قد حنث حين قال لها(6/137)
اذهبي، وقال ابن كنانة: لم يحنث، فدخلنا على مالك فقضى لي عليه ورآه حانثا، فمسألتك أبين من هذا، وفي كتاب أصبغ فكأنه قضى لي عليه، ولم يقض عليه بالحنث، قال أصبغ لا شيء عليه، وقول ابن كنانة أصوب لأنه من اليمين ما هو لم تبرد اليمين ولم تبرد إلا به، وقول ابن القاسم عن مالك فكأنه قضى لي عليه ليست برواية ولا جواب، وقد سمعت ابن القاسم يقول في أخوين حلف أحدهما على صاحبه إن كلمتك أبدا حتى تبدأني، ثم حلف الآخر إن كلمتك أبدا حتى تبدأني، إن الأيمان عليهما على ما حلفا عليه، من بدأ منهما صاحبه فهو حانث، وإن حلف الثاني حين حلف ليست تبدئة تسقط بها الأيمان، وليس هذا من وجه ما أراد، قال: وقال ابن كنانة مثله.
قال محمد بن رشد: في سماع محمد بن خالد عن ابن نافع في رجل قال لصاحبه امرأته طالق إن كلمتك حتى تبدأني بالكلام فقال صاحبه: إذا والله لا أبالي. هل هذه تبدئة؟ .
قال: لا، وهذا نحو قول ابن كنانة الذي صوبه أصبغ وأخذ به. وما لزم ابن القاسم من الاضطراب في المسألة التي سمعها منه لازم له، إذ لا فرق بين المسألتين، فهو اختلاف من قوله.
والأظهر أن الحنث لا يقع بشيء من هذا الكلام؛ لأنه من تمام ما كانا فيه، فلم يقع عليه اليمين، وإنما وقعت على استئناف كلام بعد، فلا يقع الحنث بشيء من هذا على أصل المذهب في مراعاة المعاني المقصود إليها في الأيمان دون الاعتبار بمجرد الألفاظ دون المعاني، وإنما يوجب الحنث بهذا من اعتبر مجرد الألفاظ في الأيمان ولم يلتفت إلى معانيها، ويوجد من ذلك مسائل في المذهب ليست على أصوله تنحو إلى مذهب أهل العراق وبالله التوفيق.(6/138)
[مسألة: قال إن ماتت امرأتي إن تزوجت حتى أحج أو أغزو فالتي أتزوج طالق]
مسألة وسأله رجل فقال: إني كنت طلقت امرأتي البتة، ثم تزوجتها بعد زوج فكانت تحتي، فقلت: إن ماتت امرأتي إن تزوجت حتى أحج أو أغزو فالتي أتزوج طالق، ثم نظرت فإذا النكاح الذي أنكحتها به كان فاسدا تزوجها محلل أو نحو ذلك، أو كان صحيحا فطلقها، هل علي شيء إن تزوجت قبل أن أحج أو أغزو.
قال: لا شيء عليه إلا أن تكون نويت إن خلوت بها بوجه من الوجوه، قال: لم أنو شيئا غير أني إنما أردت خلوتي منها، ولم أذكر إلا الموت، قال: لا شيء عليك إلا أن تكون خرجت يمينك على النية أنك إن خلوت منها بوجه من الوجوه ألا تتزوج حتى تحج أو تغزو.
قال محمد بن رشد: قوله لم أنو شيئا غير أني إنما أردت خلوتي منها غير أنه لم يخطر ببالي وجه أخلو به منها غير الموت الذي ذكرته فعادت نيته إلى أنه إنما أراد خلوه منها بالموت، ولذلك قال: إنه لا شيء عليه بخلوه منها بما سواه إلا أن يريد خلوه منها بأي وجه كان، وذلك صحيح بين في المعنى؛ لأن اليمين إذا عريت من النية حملت على مقتضى اللفظ، فكيف إذا وافقت النية اللفظ؟ وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بعتق أو طلاق امرأته ليعتمرن في شوال فلما دخل شوال اعتمر]
مسألة قال عيسى وسئل عن رجل حلف بعتق أو طلاق امرأته(6/139)
ليعتمرن في شوال، فلما دخل شوال اعتمر، ثم إنه مرض مرضا يمنعه من المسير حتى خرج شوال، ولم يطف بالبيت.
قال ابن القاسم: هو حانث إلا أن يكون جعل لنفسه مخرجا في عقد يمينه.
قال محمد بن رشد: لم يعذره في المسألة بالمرض إذ قال فيها إنه حانث إلا أن يكون جعل لنفسه مخرجا في عقد يمينه، يريد أن ينوي إلا أن أمرض أو يمنعني مانع، وكان القياس أن يكون في حكم المكره لا يحنث، كمن حلف ألا يفعل فعلا فأكره على فعله، إذ لا سبب له في المرض، إلا أنهم فرقوا على غير قياس في الأيمان بين الإكراه على الفعل وعلى ترك الفعل، فعذروه بالإكراه على الفعل، ولم يروه حانثا به، ولم يعذروه بالإكراه على ترك الفعل إذ لا إكراه على ألا يفعله، وقد كان حلف أن لا يفعله ورأوه حانثا إلا أن ينوي إلا أن أغلب أو أمنع وقد مضى هذا المعنى في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب، ووجه استحسان التفرقة بينهما أن الرجل أملك لترك الفعل منه لفعله، ولهذا المعنى افترق البر من الحنث فحنث من حلف ألا يتزوج بالعقد، ولم يبر من حلف ليتزوجن إلا بالدخول، ومنه كان النهي أقوى من الأمر، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» . فلم يعذر الحالف على الفعل بالإكراه على الترك إلا أن ينوي ذلك، لقوة ملكه للترك، إذ يكون تاركا له بفعل ما يشاء من أضداده من غير قصد إلى شيء منها بعينه دون ما سواه، وعذر الحالف على ترك الفعل بالإكراه على الفعل وإن لم ينو ذلك لضعف ملكه للفعل، إذ لا يكون فاعلا له إلا بترك جميع أضداده، وعلى هذا من حلف ليصومن غدا فمرض مرضا يمنعه من الصيام أنه يحنث إلا أن ينوي إلا أن أمرض، بخلاف من حلف ليصومن(6/140)
غدا فإذا هو يوم الفطر أو الأضحى أنه يفطر ولا حنث عليه، إذ لا يحل صيام ذلك اليوم، وهو إنما حلف بصيام ما يؤجر في صيامه لا ما يأثم فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قيل لأحدهما صالح صاحبك فحلف بالطلاق أنه لا يصالحه]
مسألة وقال في رجل كانت بينه وبين رجل خصومة في أرض فقيل لأحدهما: صالح صاحبك، فحلف بالطلاق أنه لا يصالحه، فلما طالت خصومتهما قال الحالف لصاحبه: انظر ما تدعي فخذه من الأرض، فقال: ندعي من هاهنا إلى هاهنا: خذه فأخذه، ما ترى عليه؟ .
قال: إن كان أعطاه كل ما يخاصمه فيه ويدعيه قبله فلا حنث عليه، وإن كان أعطاه بعض ما كان يدعيه فقد حنث، قال ابن القاسم: إلا أن يكون أراد ألا يسلم إليه شيئا منه، فإن كان ذلك نيته حنث.
قال محمد بن رشد: لسحنون في كتاب ابنه أنه يحنث وإن أعطاه كل شيء، قال: إنه يحنث بالبعض فكيف بالكل؟ فلم يراع لفظ المصالحة التي حلف عليها وحمل يمينه على أنه إنما أراد ألا يسلم إليه شيئا مما ادعى، فإذا حنث باليسير كان أحرى أن يحنث بالكثير، وقول ابن القاسم أحرى على أصولهم في أن الحالف إذا لم تكن له نية يرجع في يمينه إلى ما يقتضيه اللفظ، والمصالحة إنما تكون بأن يعطيه بعض ما يدعي، فإن أعطاه أقل مما يدعيه حنث وإن قال إنه جميع حقه وإن الذي ادعاه أولا أكثر من حقه.
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق البتة إن لم تدفعي إلي مائة دينار]
مسألة وسئل عن الرجل يقول لامرأته أنت طالق البتة، إن لم(6/141)
تدفعي إلي مائة دينار أو تتركي مالك علي من المهر، فتركته له ثم أرادت أن تأخذه منه بعد ذلك، فخاصمته أو توفي فأرادت أن ترجع فيه أو أقام بعد ذلك شهرين أو سنة ثم طلقها فأرادت أن ترجع، هل ترى ذلك لها [إن ادعت أنها ما تركت ذلك له إلا على أن لا يطلقها.
قال: ليس لها أن ترجع عليه في شيء مما أعطته.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا بين على ما قاله؛ لأنها يمين قد لزمته بطلاق البتة إن لم تعطه ذلك، فإذا أعطته ذلك فقد نالت بما أعطته سلامتها من وقوع الحنث عليها ولو لم] يكن لها أن ترجع عليه بعد ذلك بشيء منه طلقها أو لم يطلقها، زاد في سماع أصبغ من كتاب طلاق السنة: ولو شاءت نظرت لنفسها، يريد بأن تقول له لا أعطيك ذلك إلا على ألا تطلقني بعد ذلك. وقد مضى القول على ذلك هنالك وبالله التوفيق.
[مسألة: يطلق امرأته واحدة ثم قيل له ارتجع امرأتك فقال إن ارتجعتها فهي طالق]
مسألة وعن الرجل يطلق امرأته واحدة ثم قيل له: ارتجع امرأتك، فقال إن ارتجعتها فهي طالق البتة، ثم تزوجت زوجا غيره، ثم طلقها أو مات عنها فأراد أن يتزوجها وقال إنما نويت حين حلفت ألا أرتجعها حين كانت لي عليها الرجعة، أو أراد أن يتزوجها ولم يتزوج حين خرجت من الاستبراء، وذكر أنه لم تكن نيته إلا ذلك، أو قال لم أنو شيئا.
قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول هو حانث، ولم يذكر مالك نيته، قال ابن القاسم: وإنما أرى أن يحلف على ما نوى(6/142)
ويكون القول قوله، وإن لم تكن له نية لزمه ما حلف عليه.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال ابن القاسم في هذه المسألة: إنه ينوى فيها مع يمينه، ولم يذكر إن كانت عليه بينة أم لا؟ والذي ينبغي في هذه المسألة أن ينوي فيها وإن كانت عليه بينة؛ لأن نيته فيها ليست مخالفة لظاهر لفظه، إذ إنما حلف ألا يرتجعها، بخلاف مسألة رسم سلف من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة إذ كانت يمينه ألا يراجعها، وقد مضى من القول على ذلك هناك ما فيه كفاية، وظاهر قول مالك فيما حكى ابن القاسم من أنه لم يذكر نية أنه لا ينوى يريد مع قيام البينة، إذ لا اختلاف في أنه ينوى إذا لم تكن عليه بينة فهو ينحو إلى ما في سماع أصبغ من اطراح الاعتبار بالألفاظ في هذه المسألة، وأن يمينه على ألا يرتجع أو على ألا يتزوج سرا.
[: قال لامرأته أنت طالق إن لم أضربك حتى أشتفي عليك فضربها حتى اشتفى]
ومن كتاب أوله يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه وسئل عن رجل قال لامرأته أنت طالق إن لم أضربك حتى أشتفي عليك فضربها حتى اشتفى فيما يرى، فلما رفع يده عنها ضحكت وقالت له: والله ما اشتفيت.
قال ابن القاسم: إن كان إنما حلف ليضربها حتى يشتفي فضربها حتى اشتفى في نفسه فقد بر، ولا حنث عليه، وإن قالت: لم تشتف لم يلتفت إلى قولها إذا كان هو قد اشتفى في نفسه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنما حلف أن يضربها حتى يشتفي فهو أعلم هل اشتفى أم لا، ولا ينبغي أن يلتفت إلى قولها: لم تشتف، إذا كان يعلم من نفسه أنه قد اشتفى، كما لا يصح أن يلتفت إلى قولها لو قالت قد اشتفيت وهو يعلم من نفسه أنه لم يشتف، وبالله التوفيق.(6/143)
[مسألة: حلف بطلاقها ألا يأخذ شيئا من مالها إلا بإذنها فأذنت ثم رجعت في الإذن]
مسألة وسئل عن رجل حلف بالطلاق ألا يأخذ شيئا من مال امرأته إلا بإذنها ورضاها، فأذنت له أن يأخذ من مالها ما شاء ويقضي فيه بما أراد، فقضى في ذلك زمانا، ثم قالت له: لا تأخذ من مالي شيئا.
قال ابن القاسم: إن أخذ من مالها شيئا بغير رضاها بعد أن نهته عنه فهي طالق.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على مراعاة المعاني في الأيمان وترك الاقتصار على مقتضى اللفظ وهو المشهور في المذهب؛ لأن معنى يمين الحالف ألا يأخذ من مال امرأته شيئا إلا بإذنها ورضاها ألا يأخذ من مالها شيئا إلا وهي راضية، فإذا أخذ من مالها شيئا بعد أن نهته عن ذلك وجب أن يحنث لكونها غير راضية بذلك، ويأتي على الاعتبار بمقتضى اللفظ دون مراعاة المعنى ألا يحنث بما أخذ من مالها بعد أن أذنت له في ذلك وإن كانت قد رجعت عن الإذن ونهته أن يأخذ، وهو على قياس من قول مالك في رسم الطلاق، ومن سماع أشهب من كتاب التخيير والتمليك في الذي يحلف بالحلال عليه حرام أن تقوم امرأته عنه فلا ترجع إليه حتى يشاء، فتقوم عنه ثم تستأذنه في الرجوع فيقول لها: تعالي إن شئت، ثم يقول لها: لا تأتي، فتأتي على الإذن الأول: إنه ليأخذ بقلبي أنه أذن، يريد أنه إذن لا يسقط رجوعه عنه، فلا يحنث إذا أتت عليه بعد أن نهاها عن الإتيان، وهذا على قياس ما يأتي لأصبغ في أول نوازله من هذا الكتاب وقول ابن دحون: إن ذلك يأتي أيضا على قول سحنون في الذي يشترط لامرأته ألا يخرجها إلا برضاها فيخرجها برضاها ثم تطلب منه أن يردها، إن ذلك لا يلزمه، خلاف قول ابن القاسم، وهو صحيح أيضا لأن(6/144)
من رأى أنه لا يلزمه أن يردها وهو قول سحنون في أول رسم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، وروايته أيضا عن ابن القاسم في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النكاح، فوجه قوله أنها لما أذنت له أن يخرجها فقد أباحت له السكنى بها حيث أخرجها، فسؤالها إياه أن يردها رجوع منها عما أذنت له فيه، وقد قيل: إنه لا يكتفي بهذا الإذن المجمل ويلزمه أن يستأذنها كلما أخذ من مالها شيئا وإلا حنث، وذلك على القول بأن من حلف على امرأته ألا تخرج إلى موضع إلا بإذنه أنها قد تجتزي بأن يقول لها: اخرجي إلى حيث شئت فقد أذنت لك حتى تستأذنه في كل ما ينوبها من الخروج، وسيأتي القول على ذلك في رسم سلف إن شاء الله.
[مسألة: قال إن مات ابني وليست لك قبلي تباعة من هذا الدين فأنت طالق]
مسألة وعن رجل كانت له امرأة له منها ولد ولها عليه دين فلزمته بدينها فقال لها: إن مات ابني وليست لك قبلي تباعة من هذا الدين فأنت طالق.
قال ابن القاسم: لا أرى أن يقضيها ذلك الدين فإن شحت وطلبت حقها اقتضته وطلقت عليه ساعتئذ، قلت: فإن قضاها بعضه وبقي بعض فلا شيء عليه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأنها إن اقتضت منه دينها صارت بمنزلة من قال لامرأته: إنه مات ابني فأنت طالق يعجل عليه الطلاق، ولو قال: وليست لك علي تباعة ولم يقل من هذا الدين لم يعجل عليه الطلاق باقتضاء الدين وإن لم تكن لها عليه تباعة سواه، إذ قد يكون لها عليه تباعة يوم يموت فلا يكون مطلقا إلى أجل هو آت على كل حال، وتؤمر أن تداينه بما أمكن لئلا يموت الولد ولا تباعة لها عليه فيقع عليها الطلاق بموته وبالله التوفيق.(6/145)
[مسألة: عبد حلف لغريم له بطلاق امرأته أن يدفع إليه أول دينار يدخل عليه فباعه سيده]
مسألة
وسألته عن عبد حلف لغريم له بطلاق امرأته أن يدفع إليه أول دينار يدخل عليه، فباعه سيده فقال المشتري للبائع: اكسه فإنه لا كسوة له، فأعطاه البائع دينارا من ثمنه ليكتسي به. فلم يقضه للغريم.
قال: ليس عليه حنث لأن الدينار إنما هو للمشتري كأنه استوضعه دينارا أو كأنه اشترى الكسوة بذلك الدينار قال القاضي أبو محمد: لما أعطى البائع العبد الدينار ليكتسي به فطلب المبتاع ذلك إليه، صار حكمه حكم كسوة العبد، فلم يكن عليه حنث إن لم يقبضه غريمه إذ لا تباع ثياب العبد في دين العبد إلا برضى السيد لأنها في حكم رقبة العبد في ذلك، وهو معنى قوله: لأن الدين إنما هو للمشتري، وفي رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب العيوب ما يؤيد هذا المعنى من رواية ابن كنانة عن مالك وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يكون تحته امرأتان فيقول لكل واحدة منهما إذا طلقتك ففلانة طالق]
مسألة وسألته عن الرجل يكون تحته امرأتان فيقول لكل واحدة منهما: إذا طلقتك ففلانة طالق، فيطلق إحداهما.
قال: يقع على التي ابتدأ الطلاق فيها طلقتان، وعلى الأخرى طلقة، من أجل أنه حين ابتدأ بطلاق هذه طلقت الأخرى واحدة، فلما وقع على التي لم يطلق طلقة بطلاق هذه التي ابتدأ فيها الطلاق طلقت هذه أيضا طلقة التي ابتدأ فيها الطلاق بطلاق هذه الأخرى.(6/146)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن من حلف ألا يطلق امرأته يحنث بطلاقها كيف ما كان؟ بيمين أو بغير يمين، وقد مضت هذه المسألة متكررة في سماع أبي زيد من كتاب طلاق السنة، ولو قال في المسألة كلما لهذه ولهذه فطلق إحداهما طلقت كل واحدة منهما ثلاثا ثلاثا؛ لأنه كلما وقع الطلاق على واحدة وقع مثله على الأخرى، ذكره ابن سحنون عن أبيه، وهو صحيح.
[مسألة: قال لامرأته انتقلي معي فأبت فقال أنت طالق إن لم تنتقلي معي ثم بدا له ألا ينتقل]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: انتقلي معي فأبت، فقال: أنت طالق إن لم تنتقلي معي، ثم بدا له ألا ينتقل.
قال: إن بدا له ألا ينتقل فليس عليه شيء.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن معناه أنت طالق إن لم تنتقلي معي إن انتقلت، فإذا لم ينتقل لم يكن عليه شيء إلا أن يريد أنت طالق إن لم انتقل بك، وباله التوفيق.
[مسألة: قال للتي قد دخل بها شأنك بأهلك أو شأنكم بها فهي البتة]
مسألة قال: وإذا قال للتي قد دخل بها: شأنك بأهلك، أو شأنكم بها، فهي البتة ولا ينوى، وإن قال للتي لم يدخل بها فهي واحدة إلا أن يكون نوى أكثر من ذلك فيكون ما نوى، وإن قال للتي قد دخل بها: قد فارقتك أو خليتك أو خليت سبيلك فهي أيضا ثلاث إلا أن يكون نوى أقل من ذلك فيكون ما نوى ويحلف، وإن قال ذلك للتي لم يدخل بها فهي واحدة ألا أن يكون نوى أكثر من(6/147)
ذلك، وهو قول مالك في جميع هذا، وقد قال لي في التي لم يدخل بها: إنها البتة إلا أن يكون نوى واحدة.
قال ابن القاسم: وإن قال قد سرحتك أو سرحت سبيلك فهي للتي لم يدخل بها واحدة إلا أن يكون نوى أكثر من ذلك وهي للتي قد دخل بها ثلاث إلا أن يكون نوى واحدة، قال ابن القاسم: قال مالك: إذا قال الرجل للتي دخل بها قد فارقتك فهي ثلاث، إلا أن يكون نوى واحدة وحدثني به الثقة عن ربيعة.
قال محمد بن رشد: هذه المسائل كلها قد مضى القول فيها في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق إن شئت فقالت قد شئت إن شاء فلان]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول لامرأته: أنت طالق إن شئت، فقالت: قد شئت إن شاء فلان، أو يقول لعبده أنت حر إن شئت، فقال: قد شئت إن شاء فلان، فيوجد أن قد ماتا، هل ترجع الشيئة إليهما؟ .
قال: إن وجدا قد ماتا فلا شيء لهما ولا ترجع الشيئة إليهما.
قلت: فلو قال لهما هذه المقالة فقالا: قد شئنا إن شاء فلان وفلان بأرض بعيدة مثل إفريقية والأندلس.
قال: أما المرأة فيقال لها: إن شئت فاقض الآن وإن شئت فاتركي، ولا تؤخر إلى قدوم فلان، وأما العبد فذلك له إلى أن يكتب إلى فلان ويستقصي شيئته لأنه ليس في العبد من الضرر ما في المرأة فإن المرأة يمنع من وطئها، والعبد ليس كذلك.
قلت: فإن كان الرجل الذي جعلت المرأة الشيئة إليه(6/148)
بالإسكندرية ونحوها من القرب هل يؤخر إلى ذلك.
قال ابن القاسم: إن كان في القرب على ما ذكرت اليومين والثلاثة وما أشبهه الذي لا يكون على الزوج في ذلك ضرر فإني أرى أن توقف، وأما الأجل البعيد الذي يكون على الزوج في ذلك الضرر فإني أرى أن ترد الشيئة إليها الساعة، فإما قضت أو تركت.
فلو أن الزوج قال: أنا أترك الأمر حتى يشاء فلان ويقدم، فإني أخاف أن يجعل ذلك بيدها فتطلق، وعسى فلان لا يطلق، قال: إن بعد الأمر فلا يقبل فيه رضى الزوج؛ لأن الموت يأتي فتقع الموارثة، قال ابن القاسم: وليس التأخير بشيء في القياس وإن قرب الأمر، وإنما القياس في أن توقف الساعة.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة بعينها والقول فيها في هذا الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب التخيير والتمليك فلا وجه لإعادة شيء من ذلك ها هنا وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف على الشيء بطلاق امرأته ولا يدري أعلى حق حلف أم على باطل]
مسألة وسألته عن الرجل يحلف على الشيء بطلاق امرأته ولا يدري أعلى حق حلف أم على باطل، مثل أن يقول إن كان لم تمطر الليلة بالإسكندرية وهو بالفسطاط فامرأته طالق أو نحو هذا.
قال: قال مالك: من قال: امرأتي طالق إن لم يمطر غدا أو إلى رأس الشهر فإن امرأته تطلق عليه ساعتئذ.
قال ابن القاسم: وانظر إلى جميع هذه الأشياء التي يحلف عليها مثل هذه اليمين قرب استخبارها أو بعد فإنه إذا رفع ذلك(6/149)
إلى السلطان فينبغي له أن يطلق عليه ولا يؤخره إلى الاستخبار عسى أن يكون ذلك حقا، وإن وجد ذلك الشيء الذي حلف عليه حقا قبل أن يطلق السلطان عليه فليس عليه في يمينه شيء، وهذا وجه قول مالك.
قال محمد بن رشد: قال: فيمن قال امرأته طالق إن لم يمطر غدا أو إلى رأس الشهر وما أشبه ذلك مما لا يدرى هل يكون أم لا يكون؟ إن الطلاق يعجل عليه ولا ينتظر به استخبار ذلك، وإن وجد ذلك حقا قبل أن يطلق عليه لم يطلق عليه، وذلك ينقسم على وجهين: أحدهما: أن يرمي بذلك مرمى الغيب ويحلف على أن ذلك لا بد أن يكون ولا يكون قطعا على ذلك من ناحية الكهانة أو التنجيم أو تقحما على الشك دون سبب من تجربة أو توسم شيء ظنه، فهذا لا اختلاف في أنه يعجل عليه الطلاق ساعة يحلف ولا ينتظر، فإن غفل عن ذلك ولم يطلق عليه حتى جاء الأمر على ما حلف عليه، فقيل: إنه يطلق عليه وهو قول المغيرة المخزومي وعيسى ابن دينار، وقيل لا يطلق عليه، وهو قول ابن القاسم هذا، والثاني: لا يرمي بذلك مرمى الغيب وإنما يحلف عليه؛ لأن ذلك غلب على ظنه عن تجربة أو شيء توسمه، فهذا يعجل عليه الطلاق ولا يستأنى به لينظر هل يكون ذلك أم لا يكون، فإن لم يطلق عليه حتى جاء الأمر على ما حلف عليه لم يطلق عليه، وهو قول عيسى بن دينار، ودليل قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، وقد مضى هذا المعنى في نوازل أصبغ من كتاب النذور.
وأما إن ألزم نفسه الطلاق إن كان ذلك أو لم يكن على غير وجه اليمين فلا يعجل عليه الطلاق إلا أن يكون مما الشك فيه قائم مثل أن يقول: امرأته طالق إن كان في بطن فلانة جارية، أو إن وضعت جارية، أو يقول لامرأته: أنت طالق إن كنت حاملا، أو إن لم تكوني حاملا وما أشبه ذلك، فهذا يختلف هل يعجل عليه الطلاق أو يستأنى به حتى يعلم حقيقة ذلك،(6/150)
فذهب مالك إلى أنه يعجل عليه الطلاق ولا يستأنى به، وذهب ابن الماجشون وسحنون إلى أنه يستأنى به وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يكون تحته امرأتان فيقول لإحداهما إن لم أتزوج عليك فأنت طالق]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يكون تحته امرأتان فيقول لإحداهما: إن لم أتزوج عليك فأنت طالق، فطلق التي ليس فيها يمين أو صالحها، ثم أراد أن يتزوجها هل برة في يمينه؟ .
قال: أما إذا طلقها البتة فهي برة لا شك، وفي الصلح أيضا تبره إلا أن يكون صالحها لتحليل يمينه وليتزوجها فتبره، فإن كان صالحها على ذلك وعمل على ذلك فلا أرى أن تبره، قلت: وكيف تبره وقد كانت يوم حلف تحته؟ ألا ترى أنه إنما أراد غيرها؟ قال: أرأيت إن كان قال لامرأته إن تزوجت عليك فأنت طالق وتحته امرأة أخرى فطلق الأخرى ثم تزوجها أيحنث؟ أم لا؟ قال: نعم يحنث، وهو القياس بعينه.
قال محمد بن رشد: وهذا على ما قال: إنه يبر بذلك إلا أن تكون له نية أن أراد غير من عنده. أو تكون ليمينه بساط تدل على ذلك؛ لأن يمين الحالف محمولة على ما يقتضيه اللفظ إذا عريت من النية والبساط.
[مسألة: يحلف ألا يساكن رجلا هل يأتيه زائرا فيقيم عنده الأيام والليالي]
مسألة وعن الرجل يحلف ألا يساكن رجلا هل يأتيه زائرا فيقيم عنده الأيام والليالي؟ .
قال: هذا يختلف، أما إذا كانوا في حاضرة فلا بأس أن يزوره بالنهار ولا يكثر من ذلك، وأما المبيت فلا أرى له أن يبيت إلا أن يكون مرض فيبيت الليلة، وأما إذا كان في غير حاضرة(6/151)
فركب إليه وشخص زائرا فلا بأس أن يقيم اليوم واليومين والثلاثة ولياليهما وهو قول مالك وما أشبه.
قال محمد بن رشد: زاد أصبغ في الواضحة إذا أكثر الزيارة نهارا في الحضر، وأكثر المبيت والمقام في شخوصه إليه يعني في غير الحضر حنث، وهو خلاف ما يأتي في آخر رسم إن أمكنني، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة وبيانها مستوفي في أول سماع يحيى من كتاب النذور فلا معنى لإعادته.
[: قال لامرأته كل امرأة أتزوجها بعد موتك فهي طالق]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده قال فيمن قال لامرأته كل امرأة أتزوجها بعد موتك فهي طالق أو سرية أتسرر بها بعد موتك فهي حرة.
قال: يتزوج بعد موتها ولا يتسرر إلا أن يشتري الجواري يملكهن ولا يطأهن؛ لأنه لو قال كل جارية أشتريها أطأها فهي حرة لزمه ذلك؛ لأنه قد أبقى من الجواري ما يملك، وليس بمنزلة الذي يقول كل جارية أو كل أنثى أملكها فهي حرة فهذا ليس عليه شيء ولا يلزمه شيء، ولو قال كل امرأة أتزوجها أطأها فهي طالق قيل له: تزوج وطأ ولا شيء عليك؛ لأنه لا يتزوج ما لا يطأ، وهو يملك ما لا يطأ، فهذا فرق ما بينهما.
قال محمد بن رشد: أما قول الرجل لامرأته كل سرية أتسررها بعد موتك فهي حرة فلا إشكال في أن ذلك يلزمه، وله أن يشتري ما شاء من الجواري، فإن تسرر منهن شيئا لزمه عتق ما تسرر.
وقد اختلف في التسرر ما هو؟ فقيل: إنه الوطء وإليه ذهب مالك(6/152)
وعامة أصحابه، وقيل: إنه الاتخاد للوطء، وقيل: إنه الإيلاد، فعلى القول بأنه الوطء لا يجوز له إلا ما دونه من القبل والمباشرة وشبه ذلك، وقيل: إنه يجوز له الوطء ولا ينزل، وقيل: إنه يجوز له وطئة كاملة ولا يجب عليه الحنث إلا بتمامها، وهذا على اختلافهم فيما يجوز للحالف ألا يطأ امرأته بطلاقها البتة من وطئها، وأما قوله كل جارية أشتريها أطأها فهي حرة، ففيه إشكال؛ لأنه يحتمل أن يريد بقوله أشتريها أطأها اشتريتها فأطأها بالفاء، وعلى هذا حمله ابن القاسم، ولذلك قال: إن ذلك لازم بمنزلة قوله كل سرية أتسررها فهي حرة، ويحتمل أن يريد بقوله أطأها صفة للجارية المشتراة كأنه قال: كل جارية أشتريها حلال لي وطؤها، وعلى هذا حمله سحنون قال: لا شيء عليه، يريد لأنه عموم إذ لم يبق إلا من لا يحل له وطؤها من ذوات المحارم من الرضاعة وشبههن وهن قليل، كمن قال كل جارية اشتريتها فهي حرة إلا من بنات فلان، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق إلا من بنات فلان، فاستدلال ابن القاسم بهذه المسألة على المسألة الأولى بقوله: لأنه لو قال كل جارية أشتريها فهي حرة لزمه ذلك ليس بجيد إذ لا يستدل بالأضعف على الأقوى، ولا بما اختلف فيه على ما اتفق عليه، ولا بما فيه احتمال على ما ليس فيه احتمال، وأما الذي قال كل جارية أو كل أنثى أملكها فهي حرة فلا شيء عليه كما قال؛ لأنه عموم عنده، إذ قد عم الإناث، وكذلك هو عنده إذا عم الذكور فلا يلزمه العتق فيهم، وقال ابن نافع: إن ذلك تخصيص يلزمه فيه العتق، وهو ظاهر قول أصبغ في سماعه من كتاب العتق في بعض الروايات، وكذلك لو قال كل جارية أشتريها فهي حرة لا شيء عليه، كمن قال كل جارية أملكها فهي حرة وإن كان الشراء أخص من الملك فلم يفرقوا بين ذلك في هذا الموضع وبالله التوفيق.
[مسألة: قال إن وطئت فلانة لجارية لغيره أبدا فهي حرة فملكها فوطئها]
مسألة قلت: أرأيت إن قال: إن وطئت فلانة لجارية لغيره أبدا فهي حرة فملكها فوطئها.(6/153)
قال: لا شيء عليه إلا أن يكون أراد إن ملكها.
قال محمد بن رشد: هذا كما لو قال لامرأة أجنبية إن وطئتها فهي طالق فتزوجها ووطئها أنه لا شيء عليه إلا أن يكون أراد إن تزوجها، ومثله في المدونة، ولا اختلاف فيه عندهم؛ لأنه حملوا قوله إن وطئها على حالها التي هي عليه حتى يريد إن وطئها بعد الشراء في الأمة وبعد النكاح في الحرة مراعاة للاختلاف، إذ من أهل العلم من يقول إنه لا شيء عليه وإن قال إن تزوجتها أو اشتريتها وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لامرأته بطلاق كل امرأة يتزوجها عليه البتة]
مسألة وقال فيمن حلف لامرأته بطلاق كل امرأة يتزوجها عليه البتة ثم هاج بينهما كلام فقال لها: إن لم أتزوج عليك إلى عشرة أشهر فأنت طالق البتة.
قال ابن القاسم: جاءتني ونزلت فأمرته أن يصالحها ويتركها حتى يمضي عليها العشرة أشهر فيقع عليه الحنث حين يقع وليست في ملكه ولا هي له بامرأة، ثم يتزوجها بعد ذلك إن شاء وقد مضت اليمين وسقطت، قال: ولو كانت يمينه مبهمة ليس فيها أجل لكان أشد عليه وكانت اليمين ترجع عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لو ضرب ليمينه أجلا فإنما يحنث بانقضاء الأجل، فإذا صالحها قبل أن ينقضي الأجل فحل الأجل وهي ليست في عصمته سلم من وقوع الثلاث عليه فيها، وكان له أن يراجعها إن شاء، ولا يرجع عليه اليمين فيها إذ قد مضى الأجل. ولو كانت اليمين مبهمة إلى غير أجل لرجعت عليه كما قال، ولا يكره له الفرار من الحنث بهذا الفعل في هذه المسألة، إذ لو كان فيه وجه من وجوه الكراهة لما أمره به ابن القاسم. وإنما قال مالك في مسألة كتاب إرخاء الستور من المدونة: بئس ما فعل من فر من الحنث، من أجل أنه غر بغريمه إذ حلف(6/154)
له ثم فر من الحنث، إذ لو علم خلاف ذلك لقام عليه بحقه ولم ينظره به، ولو لم يفعل ما أمره به ابن القاسم من مصالحتها لوقع عليه الطلاق ثلاثا بانقضاء الأجل، وهو على انقضائه على بر، فله أن يطأ، وقد قيل ليس له أن يطأ، وهو أحد قولي ابن القاسم: فعلى هذا القول إن رفعت امرأته أمرها إلى السلطان وقد بقي من الأجل أكثر من أربعة أشهر ضرب له أجل الإيلاء، وقد مضى هذا المعنى مبينا مستوفى في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الإيلاء وغيره، وسيأتي في رسم القطعان بعد هذا القول في حكم هذه المسألة إذا كانت اليمين فيها إلى غير أجل إن شاء الله.
[مسألة: حلف بالطلاق إن فلانا يتعرض لجارية فلان]
مسألة وقال فيمن حلف إن فلانا يتعرض لجارية فلان: إنه إن استيقن أنه تعرض لها وسمع ذلك منه حتى لا يشك فيه فلا شيء عليه، وذلك إلى نيته، وإن كان إنما رآه يكلمها لا يدري يعرض لها أم لا فليطلق امرأته.
قال محمد بن رشد: هذا إذا أتى مستفتيا، وأما إذا شهد عليه بذلك وطولب بالطلاق، فإن كان فلان ذلك ممن يليق به ذلك استحلف لقد رآه يتعرضها، وبقي مع امرأته، وإن كان ممن لا يليق به ذلك طلق عليه إلا أن يأتي بالبينة على ما حلف عليه.
[مسألة: قال أنت طالق إن شاء الله]
مسألة وقال فيمن قال أنت طالق إن شاء الله، أو أنت طالق إلا أن يشاء الله: إن ذلك سواء هي طالق.
قال محمد بن رشد: هذا أمر لا اختلاف فيه في مذهب مالك وجميع أصحابه أن الاستثناء بمشيئة الله تعالى في الطلاق المجرد والعتق المجرد غير عامل ولا نافع؛ لأن الرجل إذا قال: امرأتي طالق إن شاء الله أو(6/155)
إلا أن يشاء الله فقد قيد وقوع الطلاق عليه بذلك اللفظ وانحلال عصمة الزوجية بينهما به، بمشيئة الله، تعالى، ومشيئة الله تعالى هي إرادته، وهي صفة قديمة من صفات ذاته فعلمنا وقوع الطلاق عليه لحصول الصفة التي قيده بها وهي إرادة الله تعالى التي سبقت إرادته؛ لأن معنى قول الرجل امرأتي طالق إن شاء الله أي امرأتي طالق قد شئت ذلك إن شاء الله، أو قد أردت ذلك إن أراد الله أن أريده، ولا يريد هو ذلك ولا يشاؤه إلا وقد شاء الله وأراد أن يريد ذلك ويشاءه، إذ لا يكون شيء في ملكوت الأرض والسماء إلا بمشيئة الله تعالى، فهذا وجه قول مالك، وهو في التمثيل مثل أن يقول امرأتي طالق إن كان كذا وكذا لما قد مضى مما علمنا كونه، ويحتمل أن يكون معنى قوله امرأتي طالق إن شاء الله أي امرأتي طالق إن كان الله شرع وجوبه علي، وقد علمنا من دين النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ضرورة أن الله قد شرع وجوبه عليه إذا لفظ به ونواه، فوجب أن يلزمه، ولا يحتمل استثناؤه سوى هذين الوجهين. وقد قال بعض الناس: إن الطلاق إنما يلزمه على مذهب مالك لأن مشيئة الله تعالى مجهولة لا تعلم إذ لا يمكننا استعلامها فيطلق عليه من ناحية الشك في الطلاق، وهو قول مرغوب عنه لما يقتضي من شبه مشيئة الله تعالى بمشيئة المخلوق، إذ جعل حكم قول القائل امرأتي طالق إن شاء الله كقوله امرأتي طالق إن شاء زيد، فغاب قبل أن يعلمنا بمشيئته حيث لا يمكننا استعلامها منه، وهذا مضاه لقول القدرية القائلين بحدوث إرادة الله تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
ووجه قول من خالف مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك فلم ير عليه فيه طلاقا هو أنه حمل قوله امرأتين طالق إن شاء الله على أنه أراد بذلك امرأتي طالق إن شاء الله أن يلزمني الطلاق بقوله امرأتي طالق، وأنا لم أرد بذلك الطلاق، فلم يلزمه الطلاق؛ لأن الطلاق يفتقر عنده إلى لفظ ونية، وفي ذلك اختلاف، وقول مالك هو الصواب؛ لأن الكلام يتضمن إرادته الطلاق. ألا ترى أنه إذا قال امرأتي طالق إن كان كذا وكذا لما قد كان أن(6/156)
الطلاق يلزمه بإجماع، ولو تحققنا ما أراده المطلق بمشيئة الله تعالى من هذه الوجوه التي ذكرناها لارتفع الخلاف وحصل الإجماع فهذا وجه القول في هذه المسألة التي يتضح به أمرها، ويقع به الشفاء منها ويرفع الإلباس من كلام من تقدم أو تأخر فيها وبالله التوفيق.
[مسألة: استسلف منها دينارا فقالت أدفعه لفلان يدفعه لك ويستحلفك بالطلاق]
مسألة وقال في رجل استسلف من امرأة دينارا فقالت أنا أدفعه إلى فلان يدفعه إليك ويستحلفك فيه بالطلاق، فدفعته المرأة إلى فلان الذي سمت فدفعه ذلك الرجل إلى المستسلف واستحلفه بالطلاق ليدفعنه إليه من أجل تسميه له المرأة إلا أن يشاء الرجل المستعان المحلوف له أن يفسح له في الأجل، فغاب المحلوف له فجاء الحالف حين خاف الحنث إلى المرأة فقالت قد فسحت لك في يمينك إن كان ينفعك، ثم إن المحلوف له قدم فقال إني قد كنت أشهدت قبل أن يحل أجل هذا الدينار بيوم أن كل من كان لي قبله يمين في حق فهو في فسحة من يمينه حتى ألقاه، وكانت له أيمان على غير ذلك الرجل.
قال ابن القاسم: إن أقام على ذلك شهيدي عدل أنه أشهدهم أنه قد فسح عن كل من كان له قبله يمين حتى يلقاه قبل أجل هذا الدينار بيوم أو يومين فذلك له مخرج حتى يلقاه، فإذا لقيه فإن فسح له أيضا فهو له مخرج، وإن افترقا بعد أن يلقاه ولم يفسح له ولم يقضه فهو حانث. وأما تأخير المرأة فليس بتأخير لأن الحق لغيرها وإن كان أصله لها؛ وإن لم يقم الرجل شاهدين على ما ذكر حنث هذا.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة إن الغريم الحالف لا(6/157)
ينتفع بتأخير المرأة، والحق لغيرها، وإن الحالف لا يبر إلا بتأخير المحلوف له معارض لما في المدونة في الرجل يحلف ليقضين رجلا حقه إلا أن يشاء أن يؤخره فيموت المحلوف له أن للورثة أن يؤخروه إن كانوا كبارا ولا دين عليه، وللوصي إن كانوا صغارا وللغرماء إن كان دينهم لا تسعه ذمة الميت وأبرؤوا الميت لأنه أجاز تأخير الغريم الحالف لكل من يستحق ما عليه بوراثة أو غيرها، فالمرأة في هذه المسألة أحق بتأخير الحالف إذ لم يزل الحق لها، والتوثق باليمين إنما كان لها. وقد قال مالك في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب النكاح في الرجل يجعل أمر امرأته في يد أبيها إن غاب عنها إلى أجل كذا، فيغيب عنها فيريد الأب أن يفرق بينهما وتحب هي الصبر على زوجها: إنه يجبر على اتباع قولها؛ لأن الحق لها، وإنما جعل بيده توثقه لها. ووجه قوله إنها لما أمرته أن يستحلفه فكأنها قد فوضت إليه ما كان لها من الحق في ذلك وأنزلته فيه منزلتها لو استحلفته هي والله أعلم. وقد مضى في رسم حلف ورسم نذر سنة من القول في بقية معناها ما فيه بيان لها، وفي سماع أبي زيد طرف منها وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يفعل فعلا فأكره عليه]
مسألة وقال في رجل حلف ألا يدخل دارا سماها، فبينما هو على دابته قريب منها وواقف على بابها أقبل شيء نفرت منه دابته فاقتحمت به تلك الدار.
قال ابن القاسم، إن كان يستطيع أن يملك رأسها أو يمسكها أو يثني رجليه فينزل أو يطرح نفسه من غير عنت يصيبه فلم يفعل فقد حنث، وإن كان لا يستطيع شيئا من ذلك فلا حنث عليه.(6/158)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة في الذي يحلف ألا يفعل فعلا فأكره عليه أنه لا حنث عليه لأنه مغلوب على الدخول كما لو احتمل فأدخل أو أكره على الدخول بضرب أو عذاب أو ما أشبه ذلك مما يكون به الإكراه إكراها، وهذا ما لا اختلاف فيه، وإن كان إكراها على فعل فلا يدخله من الاختلاف ما ذكرناه في رسم حمل صبيا من الاختلاف في الإكراه على الأفعال؛ لأن هذا إكراه على فعل يقصد إلى اليمين الذي هو قول، فيتفق على أن الإكراه يكون فيه إكراها كما يكون في الأقوال، وقد مضى في رسم العرية من هذا السماع ذكر الاختلاف في الإكراه على ترك الفعل في الأيمان وفي رسم طلق من سماع ابن القاسم ورسم الأقضية الثالث من سماع أشهب ما يقوم مقام الإكراه في ذلك من الغلبة عليه، فليتأمل ذلك كله من أحب الوقوف عليه وفي مواضعه المذكورة وبالله التوفيق.
[مسألة: دخلت عليه امرأته فقال هي طالق البتة إن لم أفترعها الليلة]
مسألة وقال أتيت بهذه المسألة ونزلت في رجل دخلت عليه امرأته فقال هي طالق البتة إن لم أفترعها الليلة، فوطئها فإذا هي ثيب.
قال لا شيء عليه، إنما أراد وهو يظن أنها عذراء. قيل أفترى إن كان حين علم أنها ثيب واستقر عنده ذلك ترك وطأها تلك الليلة فلم يطأها، أتطلق عليه؟ قال: نعم. قال أصبغ: ولو علم قبل الوطء بعد اليمين أنها ثيب فترك وطأها ليلته رأيته حانثا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن يمينه إنما وقعت على الوطء لا على افتراعها من غير وطء، ومعنى ما حلف عليه لأطأنها وطأ أفترعها به، فإذا وطئها الليلة بر وجد لها عذرة أو لم يجد، وإذا لم يطأها الليلة حنث وإن لم تكن لها عذرة. ولو حلف ليذهبن عذرتها من غير وطء لم يحنث إذا وجدها ثيبا كمسألة الحمامات من كتاب النذور من المدونة وما كان في معناها، وبالله التوفيق.(6/159)
[مسألة: يقول لامرأته وجهي من وجهك حرام]
مسألة وقال في رجل يقول لامرأته وجهي من وجهك حرام إنها البتة لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة والقول فيها في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب التخيير والتمليك، ومضى في آخر سماع أشهب من هذا الكتاب القول فيما هو في معناها فأغنى ذلك عن إعادته هنا وبالله التوفيق.
[: أتاه غريمه فسأله أن يقضيه فقال امرأته طالق إن قضاه اليوم]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك وسئل عن رجل أتى إلى غريم له عليه عشرة دنانير فسأله أن يقضيه، فقال امرأته طالق إن قضاه اليوم شيئا فلظ به صاحب الحق فأتى به الحالف إلى رجل له عليه عشرة دنانير، فقال العشرة دنانير التي لي عليك أقضها فلانا فأحاله عليه ولم يقضه شيئا الذي أحاله عليه ذلك اليوم.
قال هو حانث لأن الحول قضاء قلت: ولا يدين؟ ، قال: لا يدين. قلت فلو كان أحاله عليه فقال له في موقفه إني نسيت أن علي يمينا ألا أقضيه اليوم فلا تقضه؟ قال: هو حانث ولا يقال.
قال محمد بن رشد: هذا على ما قال لأن الحول من باب القضاء؛ لأن الغريم إذا تحول إلى ذمة المحال عليه فقد باع ذمة غريمه بذمة الذي أحال عليه، فصار بمنزلة من قبض في حقه قرضا ووجب أن يحنث الحالف بمنزلة من حلف ألا يقضي رجلا حقه فأعطاه به عرضا، وسواء أحاله على دين حال أو مؤجل لا يحل إلا بعد الأجل الذي حلف ألا يقضيه إليه فلا(6/160)
دليل له. في قوله: ثم قال في موضعه بعد أن أحاله لا تقضه اليوم، إنه لو قال له ذلك قبل أن يحيله لم يحنث لما ذكرناه من أن الإحالة كيف ما كانت هي من باب القضاء فحنث الحالف ألا يقضي بها. ولو حلف أن يقضيه لما بر بها. وقد مضى ذلك في آخر رسم حمل صبيا وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول قد طلقت امرأتي أو يتكلم بالطلاق وهو لا يريده]
مسألة وقال في رجل توسوسه نفسه فيقول قد طلقت امرأتي أو يتكلم بالطلاق وهو لا يريده أو يشككه.
فقال يضرب عن ذلك ويقول للخبيث صدقت ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة أن الموسوس لا يلزمه طلاق، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن ذلك إنما هو من الشيطان فينبغي أن يلهى عنه ولا يلتفت إليه كالمستنكح في الوضوء والصلاة، فإنه إذا فعل ذلك أيأس الشيطان منه، فكان ذلك سببا لانقطاعه عنه إن شاء الله.
[مسألة: افتقد بضاعة فاتهم امرأته فأنكرت فقال أنت طالق إن كان أخذها غيرك]
مسألة وقال في رجل افتقد بضاعة من بيته فاتهم امرأته فقال أين البضاعة؟ فقالت ما أدري، فقال لها أنت طالق إن لم تأتني بها بعينها، ثم وجدها في مكان جعلها فيه.
قال: هي طالق. ولقد سئل مالك عن رجل افتقد بضاعة من بيته فاتهم امرأته فأنكرت فقال أنت طالق إن كان أخذها غيرك، ثم ذكر أنه نسي الموضع الذي جعلها فيه فوجدها، قال: هو حانث لأنه حين قال أنت طالق إن كان أخذها غيرك إنما(6/161)
أراد أنها عندك وأنت أخذتها، قال: ولقد كان بيني وبين ابن دينار كلام، وكان يرى أنه لا حنث عليه لأنه إنما قال إن كان أخذها غيرك فلم تأخذها هي ولا غيرها، قال فدخلنا على مالك فقال: قد حنث.
قال محمد بن رشد: يجب في مسألة البضاعة قياس المسألة التي ساق عليها أن لو أتت بالبضاعة من الموضع الذي رفعها هو فيه أن يحنث؛ لأنه عقد يمينه على أنها أخذتها، وكأنه حلف إنما أخذتها وكأنه حلف إن ما أخذها غيرها كما في المسألة التي ساق عليها، فحمل ابن القاسم يمينه على المراد دون اللفظ كما يفعل في أكثر المسائل، وحنثه إذ لم يراع المقصد خلاف قول ابن دينار. وقد مضى من قول ابن القاسم في رسم طلق من سماع ابن القاسم في مسألة السوط مثل قول ابن دينار هذا، وقد مضى القول على ذلك كله هناك مستوفى فمن أحب الوقوف عليه تأمله فيه وبالله التوفيق.
[مسألة: غراب طائر فقال امرأته طالق البتة إن لم يكن هذا الغراب ذكرا]
مسألة وقال في رجل قال في غراب طائر امرأته طالق البتة إن لم يكن هذا الغراب ذكرا فذهب الغراب عنهم.
قال: إن زعم أنه قد عرف الذكر نوي ولا شيء عليه، وإن قال إنما قلته هكذا ولا أدري، حنث.
قال محمد بن رشد: روي عن سحنون أنه قال: لا موضع للنية هاهنا، إنما هو رجل حلف على ما أيقن فهو مصدق، ويريد سحنون أنه مصدق دون يمين، فكأنه تأول على ابن القاسم أنه أراد بقوله نوي ولا شيء عليه أي نوي مع يمينه وإلا طلق عليه، وهذا الاختلاف إنما يتجه إذا(6/162)
طولب باليمين وهو مقر بها أو مشهود عليه بها، وأما إن أتى مستفتيا غير مطلوب فلا يمين عليه بحال إذا زعم أنه علم أنه ذكر، وإن قال حلفت ولم أتحقق ذلك حنث ووجب عليه الطلاق، ولا اختلاف في هذا. وقد مضى في رسم يوصي ما يوضح هذا ويبينه وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق إن لم يتزوج امرأة يمسكها سنة]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس
مسألة قال: وقال مالك: إذا قال الرجل امرأته طالق إن لم يتزوج امرأة يمسكها سنة فتزوج امرأة فأمسكها أحد عشر شهرا، ثم ماتت قال: يتزوج امرأة ويحبسها سنة مبتدأة، وسئل عنها سحنون فقال: لا يلزمه أن يحبسها إلا ما بقي من تمام السنة.
قال محمد بن رشد: حمل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يمين الحالف في هذه المسألة على ما يقتضيها لفظه فيها فلم ير أن يبر إلا بأن يمسك على امرأته سنة كاملة امرأة واحدة، وحمل سحنون يمينه على [المعنى] وهو أنه قصد التضييق عليها بحبس امرأة معها سنة كاملة، فلا فرق في معنى التضييق عليها بذلك بين أن تكون امرأة واحدة أو امرأتين، بل ربما كان [أشد] في التضييق على امرأته بالمرأتين لما يكره النساء من ذلك، وما ذهب إليه مالك من الاعتبار في هذه المسألة بمقتضى اللفظ وترك مراعاة المعنى أظهر لأنه أحوط وأبرأ من الحنث وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن لم أتزوج عليك إلى سنة فتزوج قبل تمامها]
مسألة قال عيسى: وسئل عن رجل قال لامرأته أنت طالق إن لم(6/163)
أتزوج عليك إلى سنة فتزوج قبل تمام السنة فماتت قبل أن يدخل بها.
قال: إن ماتت قبل السنة ولم يدخل بها فليتزوج أخرى قبل السنة وليدخل بها، وإن مضت السنة ولم يدخل بالمرأة كانت التي تزوج حية أو ميتة فهو حانث ولا يبر إلا بالمسيس، ولو تزوج امرأة قبل السنة فمسها ثم ماتت قبل السنة كان قد بر في يمينه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم في أن البر لا يكون إلا بأكمل الوجوه، وأن الحنث يقع بأقل الوجوه، فمن حلف ليتزوجن على امرأته أو ليتزوجن عليها إلى أجل كذا لا يبر إلا بأكمل الوجوه وهو الدخول، ومن حلف ألا يتزوج على امرأته أولا يتزوج عليها إلى أجل كذا يحنث بالعقد وإن لم يدخل، وقد مضى في رسم العرية الفرق بين الموضعين وهو أن الرجل أملك لترك الفعل منه لفعله فإذا حلف الرجل أن يفعل فعلا حنث بترك ما يترك منه، وإذا حلف ألا يفعل فعلا حنث بفعل ما يفعل منه إذ لم يتركه فالحالف ألا يتزوج حالف ألا يتزوج ولا يدخل، فإن تزوج ولم يدخل حنث إذ لم يترك ذلك، والحالف أن يتزوج حالف أن يتزوج وأن يدخل فإن تزوج ولم يدخل لحنث، إذ ترك ذلك إلا أن يكون موضع البر لم يفته بعد، فيبر بالدخول، وعلى هذا فقس ما ورد عليك من هذا الباب، ولهذا المعنى كان ما حرمه الله بالنكاح كزوجة الأب على الابن وزوجة الابن على الأب تحرم بالعقد، وما أحله به كالمطلقة ثلاثا لا تحل إلا بالدخول وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل كان له ربيب يأتي إلى بيته بخبز فقال له رابه أمك طالق إن أنت جئت إلي بيتي بخبز]
مسألة وعن رجل كان له ربيب يأتي إلى بيته بخبز فقال له رابه: أمك طالق إن أنت جئت إلي بيتي بخبز ووجدته لأطرحنه في الخربة، فدخل عليه الغلام وهو جالس ومعه خبز فوضعه على(6/164)
سريره وهو ينظر، فسخبت له أمه فخرج بالخبز.
قال إن كان يقدر أن يأخذ الخبز فتوانى فأراه حانثا، وإن كان فاته هربا ولو أراد أخذه لم يقدر عليه فلا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم لا اختلاف في أن من حلف ألا يفعل فعلا فلم يمكنه فعله حتى فات فواتا لا يمكنه البر فيه بعدم الإمكان فلا حنث عليه كمسألة الحمامات من نذور المدونة، ومن حلف ليضربن عبده فمات قبل أن يمكنه أن يضربه، وما أشبه ذلك، وإنما اختلف إذا لم يمكنه الفعل لمنع المشرع منه، وقد مضى هذا المعنى مشروحا مبينا في رسم طلق من سماع ابن القاسم وفي غيره من المواضع، ومعنى سخبت به أمه صاحت؛ لأن السخب ارتفاع الأصوات وهو يكتب بالصاد والسين، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف سيد الجارية بطلاق امرأته البتة إن لم يبعها إياه بمائة دينار قائمة]
مسألة وكتب إلى ابن القاسم وسئل عن رجل كان قاعدا هو ورجل آخر حتى أقبلت جارية للرجل فقال له عبد الله وهو الجالس مع صاحب الجارية هذه جاريتك؟ قال: نعم، قال أتبيعنيها بمائة دينار؟ فقال الرجل سيد الجارية: أتأخذها بمائة دينار؟ قال عبد الله نعم أنا آخذها بمائة دينار، فقال الرجل سيد الجارية يمينك في يميني أن تأخذها بمائة دينار، قال عبد الله: نعم، فحلف سيد الجارية بطلاق امرأته البتة إن لم يبعها إياه بمائة دينار قائمة، فنهض عبد الله وفارق سيد الجارية فغاب عنه قدر أربعة أيام، ثم قدم على صاحب الجارية فأرسل إليه رجالا يسألونه أن يأخذها بمائة دينار ثم يقيله منها، فقال لهم سيد الجارية إن كان هذا الأمر لا يدخل علي ولا على صاحبي أمرا أكرهه فأنا فاعل، وكان من قول الرجلين اللذين أتيا سيد الجارية إن عبد الله يكسو الجارية(6/165)
بدينارين ويقيله منها، فقال لهم سيد الجارية: نعم أنا فاعل إن كان هذا الأمر لا يدخل علي فيه مكروه، فدفعوا إلى سيد الجارية الدينارين ثم ذهبوا فأتوا بعبد الله ومعه مائة دينار، فقال له خذ ثمن جاريتك، فقال له سيد الجارية (دنانيرك قائمة قال له عبد الله: نعم فعد له مائة دينار حتى صارت في يدي صاحب الجارية فطلب إلى سيد الجارية) النفر الذين جاؤوا معه فرد الرجل المال إلى عبد الله مكانه ثم مر بذلك أيام فأخذ سيد الجارية الدينارين اللذين دفعهما إليه فوزنهما فإذا هما ناقصان، فأتى بهما إلى الرجلين اللذين طلبا لعبد الله، فقال: إن هذين الدينارين ناقصان، فقالوا له: هما بوزن المائة التي دفعت إليك، فقال الرجل كيف يقول عبد الله إنها قائمة كلها، وإنما خشي الرجل أن يكون دخل عليه بذلك في يمينه شيء لأنه يرى أن قبضه تلك المائة هو حقه ومبايعته صحيحة، فأحببنا علم رأيك.
فقال ابن القاسم: قد فهمت كتابك. أما البائع فليس عليه من الحنث قليل ولا كثير، باعها بالثمن أو بأقل إذا أمكن المشتري من الجارية بالمائة التي حلف عليها ولم يحلف على ألا ينقصه إنما حلف على أن يعطيها إياه بمائة دينار، ولو أعطاه إياها بتسعين دينارا ما كان حانثا، وإنما يحنث لو لم يبعها إياه بالمائة ولم يمكنه منها حتى تزداد على المائة، ولم يحلف على ألا ينقصه من المائة، إنما حلف أن يمكنه منها بمائة، وإنما الحنث على المشتري فيما دخل فيه وأرى الحنث قد لزمه، والبائع فلا حنث عليه.(6/166)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة واضحة لا إشكال فيها ولا احتمال في شيء من معانيها؛ لأن صاحب الجارية إنما حلف ليبيعنها بمائة دينار قائمة، فمعنى يمينه إن شاء الله أن يأخذها، فإذا أمكنه منها بالمائة فقد بر ذ لم يحلف عليه أن يشتريها منه بالمائة، والمشتري حانث لأنه حلف أن يشتريها بالمائة إن أمكنه صاحبها منها بالمائة ثم لم يشترها إذ لم يأخذها بالمائة إلا على شرط أن يقيله منها، وهذا بين وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لغريمه امرأته طالق إن لم يوفه حقه في شعبان ورمضان]
مسألة وسئل عن رجل قال لغريمه امرأته طالق إن لم يوفه حقه في شعبان ورمضان.
قال إن قضاه في شعبان الحق كله أو بعضه وقضاه بقيته في رمضان فلا حنث عليه، وإن لم يقضه في شعبان شيئا وقضاه جميع الحق في رمضان فهو حانث، وكان أحب إلي أن لو قضاه نصف الحق في شعبان ونصفه في رمضان، ولكن لا حنث عليه إذا قضاه ثلثا أو ربعا أو بعضه في شعبان وقضاه بقيته في رمضان، وأما إذا قضاه جميع الحق في شعبان فلا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: لا إشكال في أنه إذا قضاه جميع الحق في شعبان أو قضاه منه في شعبان الثلث فما فوق وقضاه بقيته في رمضان فقد بر ولا حنث عليه؛ لأن الثلث آخر حد اليسير وأول حد الكثير، وأما إذا لم يقضه منه في شعبان إلا يسيرا لا قدر له ولا بال فهو حانث وقوله في الرواية ثلثا أو ربعا أو بعضه يدل على أنه يبر إذا قضاه منه في شعبان أقل من الربع وهو الخمس ونحوه. ومعنى ذلك عندي في المال الكثير الذي يكون الخمس منه ونحوه له قدر وبال استحسانا أيضا على غير قياس، وأما إن(6/167)
كان المال يسيرا فلا يبر إلا أن يقضيه في شعبان الثلث فأكثر، والقياس أن يكون المال القليل والكثير في ذلك سواء لا يبر إلا أن يقضيه منه في شعبان الثلث فأكثر؛ لأنه إذا ثبت الفرق في ذلك بين القليل والكثير ووجب الفصل بينهما لم يوجد في ذلك حد يصار إليه إلا الثلث الذي قام الدليل من كتاب الله وسنة نبيه على أنه آخر حد اليسير وأول حد الكثير، وقد قالوا في الرجل يحلف ليرضين رجلا من حقه أنه يبر بأن يقضيه ثلث حقه فأكثر حسب ما مضى القول فيه في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النذور، وهذا من معناها؛ لأن الحالف لما علم أن صاحب الحق لا يرضى منه أن يقضيه حقه حلف ليقضينه إياه في شعبان فوجب ألا يبر إلا بأن يقضيه منه في شعبان ثلثه وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق اليوم إن دخل فلان غدا الحمام]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته أنت طالق اليوم إن دخل فلان غدا الحمام.
قال: لا يطلق عليه حتى يدخل، قال ويمسها.
قال محمد بن رشد: هذا كلام فيه تجوز، وقد وقع مثله في كتاب الظهار من المدونة في باب الظهار إلى أجل، فليس على ظاهره؛ لأن فيه تقديما وتأخيرا، ومعناه على الحقيقة دون تقديم وتأخير: وسئل عن رجل قال اليوم لامرأته أنت طالق إن دخل فلان غدا الحمام، فهذا صواب الكلام وعليه أتى الجواب لأنه قال لا يطلق عليه حتى يدخل. وقوله قال ويمسها يريد فيما بينه وبين غد، وهو صحيح لأنها يمين بالطلاق هو فيها على بر، فلا اختلاف في أن له أن يطأ إلى الأجل وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول إن أكلت من طعام أخي فامرأته طالق فيصحبه في سفر فيشتريان طعاما]
مسألة وسئل عن الرجل يقول إن أكلت من طعام أخي فامرأته(6/168)
طالق، فيصحبه في سفر فيتمازجان فيشتريان طعاما فيكون طعامهما واحدا.
قال ابن القاسم أحب إلي ألا يفعل، قيل قد فعل، قال فإن كان لم يتفضله في النفقة وكانت النفقة بينهما سواء فلا حنث عليه، وإن تفضله بالنفقة فقد حنث.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم أوله يدير ماله من سماع عيسى من كتاب النذور، فمن أحب الوقوف على ذلك تأمله وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يستخدم عبد فلان وعتق العبد فاستخدمه]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته ألا يستخدم عبد فلان وعتق العبد فاستخدمه، قال إن كانت له نية ما دام في ملكه فلا حنث عليه وينوى وإن لم تكن له نية فهو حانث.
قال محمد بن رشد: رأيي في هذه الرواية أن العبد يتعين بإضافته إلى سيده إذ قال عبد فلان وإن لم يسم العبد باسمه ولا أشار إليه فقال إنه يحنث إن استخدمه بعد العتق إلا أن ينوي ما دام في ملكه، ومثله يأتي في رسم الرهون من هذا السماع خلاف ما في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى في مسألة الجنان، وخلاف ما في كتاب النذور من المدونة من أن ذلك لا يتعين إلا بالتسمية له أو الإشارة إليه وكذلك إذا قال الرجل للكري أكتري منك دابتك وليس له إلا دابة واحدة فتتعين على هذا القول، ولا تتعين على القول الأول إلا أن يقول دابتك هذه أو دابتك الفلانية. وأما إذا كانت لرجل دواب كثيرة أو عبيد كثيرة فلا اختلاف في أنه لا يتعين منهم شيء إلا بتسمية أو إشارة إليه، وبالله التوفيق.(6/169)
[مسألة: حلف أن يطأ امرأته فوطئها وهي حائض]
مسألة قال ومن حلف أن يطأ امرأته فوطئها وهي حائض أو في يوم رمضان نهارا فلا يبر، ومن حلف ألا يطأها فوطئها وهي حائض أو نهارا في رمضان فقد حنث.
قال محمد بن رشد: تفرقته في هذه المسألة بين البر والحنث ليس بجيد؛ لأن ذلك إنما يفترق في معنى الخصوص والعموم حسب ما مضى القول فيه في أول هذا الرسم. وقد ذكر ابن المواز عن ابن القاسم أنه تزول يمينه عنه بذلك الوطء ويأثم ولا حنث عليه، وهذا هو الصواب أن يبر بهذا الوطء كما يحنث به، أو ألا يحنث به كما لا يبر به، فمن حمل يمينه على مقتضى اللفظ رأى أنه يحنث به إذا حلف ألا يفعل ويبر به إذا حلف ليفعلن؛ لأنه وطأ في كلا الحالتين على الحقيقة، وإن كان الشرع قد حظر أحدهما. ومن حمل يمينه على الوطء الحلال لأنه رأى أن ذلك هو مقصد الحالف بيمينه لم ير الحنث بالوطء في الحيض إذا حلف ألا يطأ، ولا أن يبر به إذا حلف ليطأن وبالله التوفيق.
[حلف لرجل فقال امرأته طالق البتة إن لم أقضك حقك غدا يوم الجمعة وهو يظن أنه الجمعة]
ومن كتاب أوله سلف دينارا في ثوب
وقال في رجل حلف لرجل فقال امرأته طالق البتة إن لم أقضك حقك غدا يوم الجمعة وهو يظن أنه الجمعة فإذا هو الخميس، قال إن لم يقضه ذلك يوم الخميس حنث لأن يمينه كانت على الخميس حين قال غدا، فكانت يمينه على غد، قيل له فإن قال يوم الجمعة غدا فإذا هو الخميس فقال: هذا ضلال أهل العراق يقولون إذا قدم أو أخر؟ ورأى ابن القاسم ذلك كله واحدا؛ لأن يمينه على غد حين سمى غدا. وقاله أصبغ وقال هو أحب ما سمعت إلي، وهو رأيي إلا أن يستثني إن كان غدا الجمعة استثنى تحرك به لسانه ويسمع نفسه فأراه ينفعه.(6/170)
قال محمد بن رشد: قوله ورأى ابن القاسم ذلك كله واحدا يدل على أن الجواب المتقدم لمالك، يدل على ذلك أيضا قوله: هذا ضلال أهل العراق، ولأنه يعرف من مذهبه الطعن عليهم، وأما ابن القاسم فكثير ما يميل إلى مذاهبهم في مسائله ويراعي أقوالهم فيها، وقوله في هذه المسألة صحيح على أصل مذهبه في ترك الاعتبار بمجرد الألفاظ في الأيمان إذا ثبتت المعاني المقصودة بها وعدمت من النيات؛ لأن المعلوم من قصد الحالف ليقضين أو ألا يقضي تعجيل القضاء أو تأخيره لا تسمية اليوم، فإذا قال الرجل امرأتي طالق إن لم أقضك حقك غدا أو بعد غد يوم كذا أو يوم كذا غدا أو بعد غد فإنما تحمل يمينه على غد إن كان ذكر غدا أو على بعد غد إن كان ذكر بعد غد، ولا يلتفت لتسمية إياه بيوم كذا أصاب في ذلك أو أخطأ فيه، إلا أن يريد اليوم الذي يسمى بذلك الاسم ويأتي مستفتيا فينوى في ذلك، وأما مع قيام البينة عليه فلا تقبل منه النية ولا يصدق فيها، وهو قول أصبغ ألا أن يستثني إن كان غدا الجمعة استثناء يحرك به لسانه ويسمع نفسه فأراه ينفعه، يريد فيما بينه وبين الله، وأما في الحكم فلا إلا أن يشهد على ذلك من استثنائه، وقول أهل العراق في تفرقتهم بين أن تقول غدا يوم الجمعة ويوم الجمعة غدا هو صحيح على أصولهم في الاعتبار بما يقتضيه مجرد الألفاظ دون مراعاة المعاني والمقاصد؛ لأنه إذا حلف ليقضينه حقه غدا يوم الجمعة فاليمين إنما وقعت في مقتضى اللسان على القضاء غدا، ووصفه لغو في يمينه بأنه يوم الجمعة غلط منه فلا يلتفت إليه، وإذا حلف ليقضينه حقه يوم الجمعة غدا فاليمين إنما وقعت في مقتضى اللسان على القضاء يوم الجمعة، ووصفة ليوم الجمعة في يمينه بأنه غذ غلط، فلا يلتفت إليه، فهذا وجه القول في هذه المسألة والله أعلم.
[مسألة: حلف على قريب له ألا يعيره ثوبا أبدا فوهبه له]
مسألة وسئل عن رجل حلف على قريب له ألا يعيره ثوبا أبدا فوهبه له.(6/171)
قال إن كان رأى ألا ينفعه هو حانث، وإن لم يكن أراد المنفعة فالهبة غير العارية فلا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تكررت في رسم يدير ماله من هذا السماع من كتاب النذور، ومضى القول عليها هناك مستوفى فليتأهله من أحب الوقوف عليه وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن قبلتني فتستغفله وتقبله]
مسألة وقال: من قال لامرأته أنت طالق إن قبلتني فتستغفله وتقبله أنه حانث إلا أن يكون قال إن قبلتك فتستغفله فتقبله فلا حنث عليه، وكذلك إن قال إن فارقتني أو فارقتك أو تركتني أو تركتك فتنتزع منه بشدة أو بسرعة أو بفك يده فتهرب منه، المسألة الأولى سواء، وكذلك ضاجعتني وكذلك إن قال إن دخلت عنده الدار فيوثق حتى يدخلها فلا شيء عليه، كأنه يقول يحنث في أحدهما ولا يحنث في الأخرى، والحنث في الذي يقول إن فعلت، والبر في الذي يقول إن فعلت فتستغفله حتى تفعل ذلك أو يكره عليه.
قال محمد بن رشد: ساوى في هذه الرواية بين أن يقول إن قبلتني أو قبلتك أو تركتني أو تركتك أو فارقتني أو فارقتك أو ضاجعتني أو ضاجعتك وقال إنه إذا قال إن قبلتك أو تركتك أو فارقتك أو ضاجعتك فقبلته هي أو تركته أو فارقته أو ضاجعته ولم يفعل هو بها شيئا من ذاك بل غلبته عليه بقبلة أو قهرة أو ما أشبه ذلك أنه لا حنث عليه، وهو صحيح وان كانت المفارقة والمضاجعة مفاعلة من الحالف والمحلوف عليه، والتقبيل والترك فعل من الحالف وحده لأن المفاعلة من غير المفاعلة إنما تفترق فيما يقتضيه اللفظ في حكم اللسان، لا فيما يقع به الحنث مما لا(6/172)
يقع في حكم الشرع، وذلك أن الذي يحلف ألا يضاجع امرأته لا يحنث على ما يقتضيه اللسان إلا بتضاجعهما معا، ولا يحنث إن ضاجع أحدهما صاحبه الآخر ولم يضاجعه الآخر وفي حكم الشرع يحنث إذا ضاجع امرأته ولم تضاجعه كما يحنث إذا ضاجعها وضاجعته؛ لأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، ولا يحنث إذا ضاجعته ولم يضاجعها إذ لم يكن منه شيء يحنث به، فلما كان يحنث بمضاجعته إياها ضاجعته هي أو لم تضاجعه ولا يحنث بمضاجعتها إياه إذا لم يضاجعها هو صار حلفه ألا يضاجع امرأته بمنزلة حلفه ألا يضطجع إلى جنبها وألا يقبلها وألا يتركها، وكذلك القول في المفارقة كالقول في المضاجعة وفرق في المدونة بين الذي يحلف ألا يضاجع امرأته وألا يفارق غريمه من جهة المعنى لا من جهة افتراق اللفظ؛ لأن المضاجعة مفاعلة كالمفارقة فقال في الذي يحلف ألا يضاجع امرأته إنه لا يحنث إن ضاجعته ولم يضاجعها مثل قوله هاهنا، وقال في الذي يحلف ألا يفارق غريمه فهرب وفر منه إنه حانث إلا أن ينوي غلبته إياه؛ لأنه إذا فر عنه وهو قادر على منعه فقد فارقه، وكذلك أيضا لو ضاجعته امرأته وهو قادر على منعها لكان قد ضاجعها ولزمه الحنث، فتفرقته في المدونة بين المفارقة والمضاجعة إنما هو لافتراق المعنى عنده في قصد الحالف فحمله في المفارقة على أنه إنما أراد أن يمنعه من مفارقته إياه فرآه حانثا إذا فارقه إلا أن ينوي أنه إنما فارقه بغلبته إياه على ذلك، وحمله في المضاجعة على ما يقتضيه اللفظ فلم يره حانثا إذا ضاجعته إلا أن يكون تراخى لها في مضاجعتها إياه حتى أمكنها من ذلك والله أعلم.
[مسألة: حلف بالله أو بالطلاق أو غيره أن يصوم غدا فيصبح صائما ثم يأكل شيئا]
مسألة وقال في الرجل يحلف بالله أو بالطلاق أو غيره أن يصوم غدا فيصبح صائما ثم يأكل شيئا: إنه لا شيء عليه.(6/173)
قال محمد بن رشد: إنه إنما قال إنه لا شيء عليه لأن الأكل ناسيا لا يخرجه عن أن يكون صائما، بخلاف ما لو أصبح مفطرا ناسيا، وقد قال ابن دحون: إنها مسألة حائلة، والحنث يلزمه على أصولهم فيمن حلف ألا يفعل شيئا ففعله ناسيا، وليس ذلك بصحيح؛ لأن أكثر أهل العلم لا يوجبون القضاء على من أفطر في رمضان ناسيا للحديث الوارد في ذلك، وقد مضت هذه المسألة والقول فيها في سماع عيسى من كتاب الصيام ومن كتاب النذور وتأتي في سماع أبي زيد من هذا الكتاب.
[مسألة: حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها إلا كفؤا]
مسألة وقال في رجل حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها إلا كفؤا، فاشترى جارية فاعتقها ثم تزوجها وهو ناس ليمينه وهو في نيته من الموالي: إنه إن كان أراد الكفؤ في الحسب ولم يرد الكفؤ في الدين فهو حانث لأن مولى الرجل الذي يعتق ليس كفؤا.
قال محمد بن رشد: هذا بين أنه إن أراد الكفؤ في الحسب، ولم يرد الكفؤ في الدين أنه حانث وإن أراد الكفؤ في الدين فلا حنث عليه إن كانت كفؤا له في الدين، وإن لم تكن له نية ولا كان ليمينه بساط تحمل عليه لوجب أن تحمل يمينه على الكفاءة في الدين لقول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وهو قول عمر بن الخطاب: كرم المؤمن تقواه ودينه حسبه، وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الإنسان مؤمن تقي أو فاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب» ، وقال: «ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين أو عمل صالح» . وروي «أن أبا الدرداء توفي له أخ من أبيه وترك أخا له(6/174)
من أمه. . فنكح امرأته فغضب حين سمع ذلك، وأقبل إليها فوقف عليها وقال: أنكحت ابن الأمة؟ فردد ذلك عليها، فقالت: أصلحك الله إنه كان أخ زوجي، وكان أحق بي وبمصابي وولده، فسمع بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقبل إليه حتى وقف عليه، ثم ضرب على منكبيه فقال: يا أبا الدرداء يا ابن ماء السماء، طف الصاع، طف الصاع، طف الصاع» ، وطفاف الصاع هو نقصانه على أن يمتلئ، فأعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتساويه معه ومع الناس في النقصان بقوله طف الصاع طف الصاع وأن يتباينوا بالنقصان بقدر أعمالهم المحمودة إذ لا يدرك أحد بنفسه درجة الكمال.
[مسألة: يقول لامرأته إذا قدم أبي فأنت طالق]
مسألة قال ابن القاسم: بلغني عن مالك أنه قال للذي يقول لامرأته: إذا قدم أبي فأنت طالق إنه لا شيء عليه حتى يقدم أبوه.
قال القاضي: هو صحيح. ومثله في المدونة وغيرها لا اختلاف في ذلك لأنه مطلق إلى أجل قد يكون وقد لا يكون وليس الأغلب منه أن يكون ومثله في إلا أن يكون، ولو كان الأغلب منه أن يكون لعجل عليه الطلاق عند ابن القاسم خلافا لأشهب، ولو كان لا بد أن يكون قبل انقضاء ما يعمران إليه لعجل عليه الطلاق بإجماع في المذهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إذا قدمت بلد كذا فأنت طالق]
مسألة قال ابن القاسم ولو أن رجلا قال لامرأته إذا قدمت بلد كذا(6/175)
فأنت طالق كانت بمنزلته لأنه ضرب أجلا لا يدري أيبلغه أم لا، وليس هو بمنزلة من يقول أنت طالق يوم يموت أبي.
قال محمد بن رشد: في أول سماع زونان عن ابن القاسم في رجل قال لامرأته إذا بلغت معي موضع كذا فأنت طالق. فال: هي طالق تلك الساعة، كالرجل يقول لامرأته وهي حامل إذا وضعت فأنت طالق، فذهب ابن لبابة إلى أن ذلك ليس باختلاف من قوله، وأن معنى رواية عيسى إذا لم يخرج ولا عزم على المسير. ومعنى رواية زونان إذا كان قدا خرج وعزم على المسير. والصواب أن ذلك اختلاف من قوله؛ لأن في المدونة عنه من رواية عيسى أنه لا يقع عليه الطلاق وإن خرج متوجها حتى يقدم الموضع، وله في رسم يدير ما له من سماع عيسى من كتاب العتق في الذي يقول لعبده: إذا بلغت الإسكندرية فأنت حر ثم بدا له في الخروج، أنه حر إلى ذلك القدر الذي يبلغ خرج أم لم يخرج، فعلى هذا يعجل عليه الطلاق وإن لم يخرج.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يعجل عليه الطلاق وإن لم يخرج، وهو ظاهر ابن القاسم في سماع زونان، والذي يأتي على ما في سماع عيسى من كتاب العتق، والثاني أنه لا شيء عليه حتى يقدم البلد وإن خرج، وهو قول ابن القاسم في المدونة وظاهر قوله في هذه الرواية، والثالث الفرق بين أن يكون قال ذلك قبل أن يخرج أو بعد أن خرج وروى ذلك زياد بن جعفر عن مالك في المدنية وهو الذي ذهب إليه ابن لبابه وبالله التوفيق.
[مسألة: طلق إلى أجل يعلم أنه لا يبلغه عمر أحد]
مسألة قال ابن القاسم: ومن طلق إلى أجل يعلم أنه لا يبلغه عمر أحد مثل أن يقول مائة سنة أو مائتي سنة فهذا لا شيء فيه ولا طلاق عليه.(6/176)
قال محمد بن رشد: هذا صحيح مثل ما في المدونة وغيرها، ولا اختلاف في ذلك، والحد في ذلك بلوغ أجل التعمير على الاختلاف فيه من السبعين إلى مائة وعشرين وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول كل امرأة أتزوجها بالمدينة طالق]
مسألة وقال في الذي يقول كل امرأة أتزوجها بالمدينة طالق قال لا بأس أن يواعدها إذا تزوجها بغير المدينة وعقد نكاحها بغيرها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن المواعدة ليست بعقد فإذا واعدها بالمدينة وعقد نكاحها بغيرها لم يلزمه شيء، ولا يدخل في هذا الاختلاف فيمن واعد في العدة وتزوج بعد العدة إذ لا يقوى قوته؛ لأن النكاح في العدة محرم بالقرآن والإجماع، والمواعدة فيها مكروهة لنهي الله تعالى، وحلف الرجل بطلاق ما يتزوج وإن خص مختلف في لزومه بين أهل العلم، وقد مضى في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب الاختلاف في حد ما يلزمه، أن يتباعد من المدينة إذا أراد عقد نكاحها فلا معنى لإعادة ذكره، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال كل امرأة أتزوجها اثني عشر شهرا فهي طالق]
مسألة وقال في رجل قال كل امرأة أتزوجها اثني عشر شهرا فهي طالق فتزوج امرأة ثم قال لها إن طلقتك إلى كذا وكذا فكل مملوك لي حر، فشهد شاهدان على أصل يمينه، قال: لا عتق عليه في رقيقه لأنها طالق من أول ما تزوجها ولم [يبتدئ] لها طلاقا.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه أنه لا يلزمه في عبيده(6/177)
شيء؛ لأنه إنما حلف بطلاقها فيما يستقبل، وهي مطلقة من أول ما تزوجها بائنة منه؛ لأن الطلاق يقع عليها بالعقد، فهي مطلقة قبل الدخول، ولو تزوجها ثانية للزمه فيها طلقة بائنة، وعتق عليه بذلك عبيده وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق بعد أن أموت أو تموت]
مسألة وقال ابن القاسم في الذي يقول لامرأته أنت طالق بعد أن أموت أو تموت: فليس ذلك بشيء؛ لأن مالكا قال: لا حنث عليه بعد الموت، ولو كان قال لها أنت طالق يوم أموت أو يوم تموتين فيه، فهي طالق الساعة وهي بمنزلة من طلق امرأته إلى أجل.
قال محمد بن رشد: لأشهب في المجموعة أنه لا شيء عليه، وكذلك لو قال قبل موتي بشهر، وهو على أصله في العتق إلى مثل هذا أنه من الثلث؛ لأنه لا يكشفه إلا الموت، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته علي نذر أن أطلقك]
مسألة قال ابن القاسم في الرجل يقول لامرأته علي نذر أن أطلقك: ليس عليه كفارة يمينه ولا غيره لأن إنما كان في الطلاق، والطلاق ليس هو مما يوفى لله به، وهو بمنزلة من قال لامرأته لله علي أن أطلقك ولم يؤمر بالوفاء به، وهو بمنزلة الذي يقول لله علي نذر ألا أكلمك فكلمه فلا شيء عليه؛ لأن نذره إنما كان في ترك كلامه.
قال محمد بن رشد: هذا كله كما قال وهو مما لا اختلاف فيه والأصل في ذلك قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» .(6/178)
فالنذور تنقسم على أربعة أقسام، نذر في طاعة يلزم الوفاء به، ونذر في معصية يحرم الوفاء به، ونذر في مباح يباح الوفاء به وترك الوفاء به ونذر في مكروه يكره الوفاء به. وإذا لم يسم للنذر مخرجا فكفارته كفارة يمينه، وإذا سمى له مخرجا فلا كفارة له إلا الوفاء به إن كان مما يجب الوفاء به على ما ذكرناه وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من نذر معصية فكفارته كفارة يمين» وذهب إلى هذا جماعة من العلماء، وليس عليه في ذلك عند مالك إلا الاستغفار، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن تغيبت عنك فأنت طالق]
مسألة وقال في رجل قال لامرأته: إن تغيبت عنك فأنت طالق، فعرضت له حاجة فخرج ولم يكن وجه لغيبته عنها، فلاشيء عليه ولا حنث إلا أن يكون أراد بذلك إن غبت عنك.
قال محمد بن رشد: هذا بين عله ما قال لا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال إذا وطئتك أو قال إن وطئتك كذا وكذا وطئة فأنت طالق البتة]
مسألة وقال ابن القاسم: وإذا قال إذا وطئتك أو قال إن وطئتك كذا وكذا وطئة فأنت طالق البتة، فذلك كله سواء، هو قول يطلق عليه إذا مضى أربعة أشهر من يوم قال ذلك، قال: وأرى فيه إيلاء.
قال محمد بن رشد: أما إذا قال إذا وطئتك فأنت طالق البتة فهو(6/179)
مول من يوم حلف، كالحالف على ترك الوطء بغير الطلاق تطلق عليه إذا أبى الفيء بالوطء، عند انقضاء أربعة أشهر على ما في أصل الأسدية، وظاهر قول ابن القاسم في المدونة وفي هذه الرواية، وقد مضى الاختلاف في ذلك وتحصيل القول فيه في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب الإيلاء.
وأما إذا قال إن وطئتك كذا وكذا وطئة فلا يكون موليا من يوم حلف إلا على القول بأن من قال إن وطئت امرأتي كل عبد يشتريه من الفسطاط فهو حر إنه مول، وهو أحد قولي ابن القاسم في المدونة؛ لأنه يمتنع من الوطء وإن كان لا يلزمه به شيء مخافة أن يلزمه به عتق ما يشتري من الفسطاط. وكذلك هذا إذا قال إن وطئت امرأتي وطئتين يمنع من الوطأة الأولى وإن كان لا يلزمه بها شيء مخافة أن يلزمه الطلاق إن وطئ ثانية، وكذلك لو قال إن وطئت امرأتي ثلاث مرات يمنع من الوطأة الأولى مخافة إن وطئ ثانية أن يلزمه الطلاق إن وطئ ثالثة، فكذلك ما زاد، على هذا القياس، إلا أنه كلما زاد ضعف لزوم الإيلاء ابتداء حتى إذا لم تبق له إلا وطئة واحدة فحينئذ يكون بمنزلة من قال امرأتي طالق ثلاثا إن وطأتها، فمساواته بين المسألتين إنما يأتي على قياس هذا القول، وعليه يأتي قول أصبغ أن من حلف ألا يطأ امرأته في هذه السنة إلا مرتين أنه مولي؛ لأن من حلف ألا يطأ امرأته كذا وكذا وطئة لا يحنث إلا بالوطئة الأخيرة ويدخل عليه الإيلاء ابتداء على أحد القولين المذكورين، ويحتمل أن يريد بقوله: فذلك كله سواء، أنه سواء في أنه مولي إذا قال إذا وطأتك فأنت طالق البتة، ومولي إذا قال إن وطأتك كذا وكذا وطئة فأنت طالق البتة إذا وطئ حتى إذا لم يبق له من عدد الوطئات إلا وطئة واحدة، وهذا أصح في المعنى، والأول أظهر من اللفظ والله أعلم.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق البتة إن خرجت إلى دار فلان إلا بإذني]
مسألة وقال: إذا قال لامرأته أنت طالق البتة إن خرجت إلى دار(6/180)
فلان إلا بإذني ثم قال لها اخرجي إلى حيث شئت أو اخرجي إلى دار فلان تلك متى شئت أو كلما شئت: أنه لا شيء عليه، وإنما تفسير مسألة مالك إلى موضع إنما ذلك إلى موضع من المواضع فإن ذلك لا ينفعه وإن أذن لها؛ لأنه إنما أراد إلى موضع من المواضع يعلمه إلا أن يأذن لها عند كل ما ينوبها الخروج إلى موضع وتخبره بالمكان وإلا حنث، وقال في سماع يحيى بن يحيى من كتاب الصلاة: وتخبره بالموضع التي تستأذن إليه وإلا حنث.
قال محمد بن رشد: تحصيل القول في هذه المسألة أن الرجل إذا حلف على امرأته ألا تخرج فليس لها أن تخرج إلى موضع من المواضع وإن أذن لها، وإذا حلف ألا يأذن لامرأته أن تخرج فلها أن تخرج حيث ما شاءت إذا لم يأذن لها، وإذا حلف ألا تخرج إلا بإذنه ولم يقل إلى موضع ولا إلى موضع من المواضع فيجزيه أن يقول لها اخرجي حيث شئت أو كلما شئت، فيكون لها أن تخرج حيث شاءت وكلما شاءت ولا يحنث، فإن أذن لها إلى موضع بعينه فذهبت إلى غيره حنث، فإن ذهبت إليه ثم ذهبت منه إلى غيره فقيل لا يحنث وهو قول ابن القاسم في الواضحة وقيل يحنث وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد وقول أصبغ في نوازله، وقال في الواضحة فإن رجعت تاركة للخروج ثم خرجت ثانية من غير إذنه حنث، وان رجعت من الطريق لشيء نسيته وما أشبه ذلك من شيء تتجمل به ونحوه ثم خرجت ثانية على الإذن الأول فقيل يحنث وقيل لا يحنث، اختلف في ذلك قول ابن القاسم، فله في سماع أبي زيد أنه لا يحنث وهو قول مطرف وابن الماجشون وابن نافع، وله في الواضحة أنه يحنث وهو قول أصبغ وأما إذا حلف ألا تخرج إلى موضع من المواضع إلا بإذنه أو قال إلى موضع ولم يقل من المواضع فأذن لها إلى موضع بعينه فخرجت إلى غيره أو إليه وإلى غيره حنث، وإن رجعت من الطريق لحاجة غير تاركة الإذن ثم خرجت عليه ثانية فعلى ما تقدم من الاختلاف، وإن قال لها(6/181)
اخرجي حيث شئت فقيل لا يجزيها [عن] الإذن وليس لها أن تخرج حتى تستأذنه في كل مرة وتعلمه بالموضع الذي تخرج إليه، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك هاهنا وهو قول مطرف وأصبغ، وقيل يجزيها عن الإذن لها أن تخرج بغير إذنه إلى حيث شاءت؛ لأنه قد عم في الإذن لها وهو قول ابن الماجشون وأشهب فإن رجع عن الإذن بعد أن أذن لها فقال لها لا تخرجي فخرجت على الإذن الأول حنث، وقد قيل إنه لا يحنث، وقد مضى ذكر الاختلاف في هذا المعنى في رسم يوصي فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: قال يميني في يمينك ولم يبين شيئا حين قال ذلك له فحلف فأنكر ذلك]
مسألة قال عيسى قال ابن القاسم: في رجل قال يميني في يمينك ولم يبين شيئا حين قال ذلك له، فحلف بطلاق امرأته أو عتاق فأنكر ذلك وقال: لم أرد أن أحلف بهذه الأيمان.
قال: إذا كان حين أنكر إنما كان يظن أنه يحلف بالله ولم يكن إرادته طلاقا ولا عتقا فأنكر لم يلزمه، ولو أنه حين قال يميني في يمينك رضي بما حلف مسلما ذلك له ولم يحول شيئا من شيء ولم يرعه لزمه اليمين ولم أر إنكاره ينفعه شيئا إذا كان حين قال له يميني في يمينك لم ينو شيئا ولم تحضره النية في اليمين.
قال محمد بن رشد: قد مضى بيان القول في هذه المسألة وما يجب أن تحمل عليه الروايات فيها فلا وجه لإعادته وبالله التوفيق.(6/182)
[مسألة: قال لامرأته إن ولدت غلاما فلك مائة دينار وإن ولدت جارية فأنت طالق]
مسألة وقال في رجل قال لامرأته إن ولدت غلاما فلك مائة دينار، وإن ولدت جارية فأنت طالق، إن الطلاق قد وقع عليه وأما المائة فلست أرى أن يقضى بها لأنها هنا ليست بصدقة ولا هبة ولا على وجه ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله إن الطلاق قد وقع عليه، يريد أن الحكم يوجب أن يعجل عليه لأنه قد وقع عليه بنفس اللفظ حتى لو مات أحدهما بعد ذلك لم يتوارثا وهذا قول مالك في المدونة في نحو هذا أنه يعجل عليه بالطلاق ولا يستأنى به حتى ينظر ما تلد وقال ابن الماجشون وسحنون إنه يستأنى به، وقد مضى القول في ذلك في رسم يوصى وأما قوله في المائة إنه لا يقضى بها فحمله محمل العدة لما لم يقل في مالي ولا ذكر أنها هبة ولا صدقة ولا عطية فلذلك قال إنه لا يقضى بها إذ ليست على سبب هو من فعل الموعود، والأظهر من هذا اللفظ التبتيل وأن يحمل على أنه أراد ذلك في مالي مائة دينار عطية، فيحكم لها عليه بها ما لم يذهب أو يمت أو يفلس، كما قال غير ابن القاسم في كتاب الشركة في الذي يقول: لك ما أربح في هذه السلعة وإنما العدة أن يقول الرجل أنا أفعل، وأما إذا قال قد فعلت فهي عطية، وقوله لك كذا وكذا أشبه بقد فعلت منه بأنا أفعل وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يكلم رجلا فمر به وهو نائم فقال أيها النائم الصلاة فإذا هو المحلوف عليه]
مسألة وقال في الرجل يحلف ألا يكلم رجلا فمر به وهو نائم فقال: أيها النائم الصلاة، فرفع رأسه فإذا هو المحلوف عليه.
قال أراه حانثا قال وإن كان نائما مستثقلا لا يسمع كلامه فأراه أيضا حانثا، وهو بمنزلة الأصم يكلمه ولا يسمع فهو حانث إذا كلمه وإن لم يسمع الأصم كلامه، أرأيت لو أن رجلا حلف(6/183)
ألا يكلم رجلا فكلمه وهو مشغول يكلم إنسانا آخر أما كان حانثا؟ . قال: هو حانث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن تكليم الرجل الرجل هو أن يعبر له عما في نفسه بلسانه عبارة يفهمها السامع، فإذا فعل ذلك فقد حصل مكلما له، فوجب أن يحنث عرفه أو لم يعرفه، ناسيا كان ليمينه أو ذاكرا لها، سمعه أو لم يسمعه إذا كان منه بحيث يمكن أن يسمعه؛ لأن يمينه تحمل على عمومها في جميع ذلك إلا أن يخص شيئا منه بنية أو استثناء فيكون ذلك له ويصدق فيه فيما يحكم عليه به إن جاء مستفتيا وأما إن كان بموضع لا يمكن أن يسمع كلامه فلا يحنث لأنه ناعق وحده غير مكلم له، وهذا ما لا خلاف فيه أحفظه من المذهب، وقد مضى في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب القول إذا كلم غيره وهو يريد أن يسمعه وما يتعلق بذلك من الكتاب والرسالة وفي ذلك بيان لهذه المسألة وتتميم لها، فليقف عليها من شاء في موضعها.
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق البتة أنت طالق البتة أنت طالق البتة إن أذنت لك إلى موضع كذا]
مسألة وقال في الرجل يقول لامرأته أنت طالق البتة، أنت طالق البتة، أنت طالق البتة إن أذنت لك إلى موضع كذا وكذا.
قال مالك: هو حانث أذن لها أو لم يأذن لها، قال ابن القاسم: كنت أرى أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما أراد إلا أن يسمعها اليمين يرددها عليها، فإن حلف دينته وإلا رأيته حانثا، وقد سمعت مالكا يراه حانثا ولا يدينه ويقول: وما هو عندي بالبين، قال ابن القاسم: وإنما عنى مالك خوفا أن يكون نادما أن يكون طلقها أولا البتة ثم ندم فأردف شيئا في كلامه يريد أن يتدارك ما ندم عليه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في رسم(6/184)
كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم فيكتفى بذكره هناك عن إعادته هنا مرة أخرى وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن ولدت غلاما إن لم أحج بك فأنت طالق فولدت غلاما فأبت الحج]
مسألة وقال في رجل قال لامرأته إن ولدت غلاما إن لم أحج بك فأنت طالق فولدت غلاما فأبت الحج.
قال إن كان ذلك منه على وجه أن يوفي لها به، مثل أن تسأله إن ولدت غلاما أن يفعل كذا وكذا فحلف ليفعلن فإذا عرض ذلك فأبته فلا شيء عليه، وأما أن يكون أعلن يمينه لمن ولدت لأفعلن كذا وكذا وليس ذلك منه على وجه العطية لها رأيت ذلك يلزمه وإن أبت أجبرها على الحج.
قال محمد بن رشد: زاد في كتاب ابن المواز وإن كان ذلك منه على وجه العطية لله لا على وجه العطية لها لزمه أن يخرج بها ويكرهها ولم يتكلم إذا لم تكن له نية ولا كان ليمينه بساط يحمل عليه، والذي يأتي على أصولهم أنه إن لم تكن له نية فهو حانث إن لم يخرج بها وإن ادعى أنه أراد بذلك العطية لها صدق في ذلك وإن كانت على يمينه بينة إذ لا يتهم في ذلك لإرادته الخروج بها وإبايتها هي وستأتي المسألة متكررة في أول سماع أبي زيد وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته البتة إن كلم فلانا إلا ألا يعرفه، فكلمه وهو يعرفه ناسيا ليمينه]
مسألة قال: وسئل مالك عمن حلف بطلاق امرأته البتة إن كلم فلانا إلا ألا يعرفه، فكلمه وهو يعرفه ناسيا ليمينه، قال: قد حنث، ومن حلف ألا يكلم رجلا إلا ناسيا فكلمه وهو لا يعرفه غير ناس فقد حنث.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا كما قال لأن يمينه تحمل على(6/185)
عمومها في المعرفة والجهل والنسيان والعهد والإسماع وغير الإسماع إلا أن يخص من ذلك شيئا بنية أو استثناء فيكون ذلك له، وقد مضى هذا فوق هذا وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته إن خرجت من هذه الدار إلى رأس الحول لدار يسكنها فأنت طالق]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار
وسئل ابن القاسم عن الذي يقول لامرأته إن خرجت من هذه الدار إلى رأس الحول، لدار يسكنها فأنت طالق فينقضي كراؤه فيريد أهل الدار أن يخرجوه قبل السنة ويعزموا على ذلك.
قال: كل من حلف بمثل هذه اليمين فأخرجه أمر لم يكن له بد منه مثل سيل أو خوف عليه أو هدم أو إخراج من صاحب الدار له، فلا حنث عليه واليمين يلزمه حيث ما تحول، ليس لها أن تخرج من المسكن الذي يتحول إليه إلى رأس السنة، فإن خرجت قبل ذلك فهو حانث.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يحنث بإخراج أهل الدار له ولا بكل ما كان في معناه مما يغلب عليه صحيح لا اختلاف فيه، وقد مضى ذلك والقول فيه في رسم أوصى وفي المواضع المذكورة فيه، وقد قال ابن دحون: إنه لو أخرجها هو نفسه لم يحنث لأنه إنما أراد صيانتها فإذا أخرجها هو لم يحنث إلا أن تكون له نية في إكراهه هو إياها على الخروج؛ لأن من قولهم أن من حلف إلا تخرج امرأته ولم يقل إلا بإذني فهو حانث وإن خرجت بإذنه، وقد مضى ذلك في الرسم الذي قبل هذا وسيأتي في رسم أسلم لفظ محتمل للتأويل سنبينه عليه إذا مررنا به إن شاء الله.
وقوله أيضا: إن اليمين تلزمه حيث ما تحول إليه صحيح ولا يراعى(6/186)
في ذلك تعيينه الدار بقوله هذا إن خرجت من هذه الدار؛ لأن المعلوم أنه إنما أراد صيانتها عن الخروج من دار سكناها إلا أن يكون إنما كره خروجها من تلك الدار بعينها لشيء يختص بها ويعلم ذلك ويدعي أنه نواه ويأتي مستفتيا فيصدق فيه وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق إن دفعت إليكم منهما إلا حقكم]
مسألة وسئل عن رجل هلك وترك إخوة مفترقين فقسموا ميراثهم ورجل منهم غائب، فلما قدم دفعوا إليه حقه وبقي له ديناران، فقال: هما لكم خذوهما، فقال الذي يقسم بينهما: امرأته طالق إن دفعت إليكم منهما إلا حقكم، قال ابن القاسم: أرى أن يقسم للذكور والإناث سواء، وكذلك سمعت.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال لأن الواهب قد شرك بينهم فيها على السواء بظاهر قوله: هما لكم، إلا أن يقول إنما أردت أنهما لهم على قدر مواريثهم فيصدق في ذلك، فإن كان لم يفت سؤاله كشف عن إرادته في ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: كان مع ختنته في سفر فشجر بينهما شيء فحلف بطلاق امرأته ثلاثا ألا يصحبها]
مسألة وسئل عن رجل كان مع ختنته في سفر، فشجر بينهما شيء فحلف بطلاق امرأته ثلاثا ألا يصحبها بعد سفرهما ذلك.
قال: إن كان نوى أن يردها إلى منزلها ولا يصحبها بعد ذلك فله ما نوى، وإن كان لم ينو شيئا فلا يرجع معها ولا يرجع يصحبها في سفر.
قيل له: فإن عرض لها سفر بعد زمان إلى أرض لهما جميعا فيها حاجة واحدة فركب البحر الختن وسارت الختنة في(6/187)
البر وتواعدا أن يجتمعا حيث حاجتهما.
قال: إن كان نوى ألا يخرج معها في سفر يقوم لها فيه بحاجة أو ينفعها بنافعة، وعلى ذلك وقعت يمينه فإني أخاف أن يحنث، وإن كانت يمينه إنما وقعت على ألا يكون معها على طعام أو راحلة أو صحبة أو نحو هذا مما يحلف عليه فلا أرى عليه شيئا إذا لم يصحبها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه إذا حلف ألا يصحبها بعد سفرها ذلك لشيء شجر بينهما فيه فلا يصحبها من حين حلف إلا أن يكون نوى أن يردها إلى منزلها ولا يصحبها في سفر آخر؛ لأن قوله بعد سفرها ذلك إلى انقضائه برجوعه إلى منزله فإذا لم تكن له نية حمل على أنه إنما أراد بعد سفرها إلى حيث بلغا منه لأن ما شجر بينهما فيما مضى من سفرهما غير مأمون عليهما فيما بقي منه، وهو الذي من أجله كانت يمينه، وأما تواعدهما في سفرة أخرى على الاجتماع حيث حاجتهما فذلك على ما نواه أو خرجت يمينه عليه على ما قال، فإن لم يعلم ليمينه سبب ولا كانت نية فهو حانث وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن فعلت كذا وكذا إلا أن يقدر فأنت طالق]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته إن فعلت كذا وكذا إلا أن يقدر فأنت طالق.
قال: إن فعله فهي طالق.
قال محمد بن رشد: لأشهب في المجموعة أنه لا شيء عليه وهو الذي يوجبه القياس والنظر؛ لأن قضاء الله ومشيئته هي إرادته فلا فرق بين الاستثناء بقدر الله وقضائه وبين الاستثناء بمشيئته، وابن القاسم يفرق بين ذلك فلا يرى استثناء في اليمين بالله عاملا بقضاء الله ولا بإرادته، قال ذلك في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب النذور، وقد ذكرنا هنالك وجه(6/188)
ذلك، فعلى ذلك يأتي قوله في هذه المسألة إن امرأته طالق إن فعل ولا ينتفع بقوله: إلا أن يقدر، ولو قال: إن فعلت كذا وكذا إلا أن يشاء الله فأنت طالق لنفعه استثناؤه عند الجمع، إذ قد نص على رد الاستثناء إلى الفعل بذكره عقيبه قبل الطلاق، وما روي عن ابن القاسم من أن الاستثناء بمشيئة الله في اليمين بالطلاق، غير عامل، وإن رده إلى الفعل، معناه إذا ادعى ذلك مع قيام البينة عليه فلا يصدق في ذلك خلافا لابن الماجشون، وقد قال ابن دحون: إنه لو قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا إلا أن يشاء الله فأنت طالق ففعلته لكان حانثا على قياس هذه الرواية لأنه معلوم ألا يفعل فعلا إلا بقدر من الله ومشيئته فذكره لذلك لا ينفعه وكأنه لغو، ووجه ما ذهب إليه أن هذا هو الأصل، فخصت السنة من ذلك الاستثناء بمشيئة الله في اليمين بالله وبقي ما عداه على الأصل لا ينفع فيه الاستثناء، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يسأل رجلا حاجة]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته ألا يسأل رجلا حاجة، فأتاه رجل فسأله أن يطلب إلى ذلك الرجل حاجة له قبله، فقال له: إن علي يمينا ألا أسأله حاجة، ولكن كلم ابني فإنه يقوم مقامي لك في ذلك، قال: ليس عليه في ذلك حنث إلا أن يكون يأمر هو ابنه أن يقوم للرجل في ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين أنه إذا لم يأمر هو ابنه أن يطلب الحاجة من ذلك الرجل لذلك الرجل فلا حنث عليه، وقوله: إلا أن يكون يأمر هو ابنه أن يقوم للرجل في ذلك معناه فيحنث، وهذا على القول بأن من حلف ألا يكلم رجلا فأرسل إليه رسولا فهو حانث إلا أن يكون نوى مشافهته، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب.(6/189)
[مسألة: قال امرأته طالق إن لم أهدم هذا البيت أو أكل هذا الطعام أو نحو هذا]
مسألة وسئل عن رجل باع سلعة من رجل فقال له: أبعت السلعة التي بعت منك؟ قال له: لم أبع، قال: إن كنت لم تبعها فامرأته طالق البتة، فبحث عن ذلك فإذا السلعة قد بيع منها أكثرها وبقي منها شيء لم يبع.
قال: إن كان بقي منها شيء ولو جزء من مائة جزء فامرأته طالق البتة وكذلك لو أن رجلا قال امرأته طالق إن لم أهدم هذا البيت أو أكل هذا الطعام أو نحو هذا فلم يستوعب ما حلف عليه طلقت عليه امرأته.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها مثل ما في، المدونة وغيرها على أصولهم في البر لا يكون إلا بأكمل الوجوه بخلاف الحنث، وقد مضى القول في الفرق بين الوجهين في رسم العرية وآخر رسم لم يدرك فلا معنى لإعادة شيء من ذلك.
[مسألة: قال لامرأته إن تزوجت عليك فالتي أتزوج عليك طالق البتة]
مسألة سئل عن رجل قال لامرأته إن تزوجت عليك فالتي أتزوج عليك طالق البتة، ثم قال لها بعد ذلك: إن وطئت حراما فأنت طالق فتزوج عليها امرأة فوطئها هل تراه حانثا فيهما جميعا؟ قال: ما أرى أن تطلق عليه إلا التي تزوج، وأما التي كانت عنده فلا أرى الطلاق يقع عليه فيها؛ لأنه لم يحلف على مثل هذا الحرام، وإنما أراد الزنا وهذه المرأة التي يقع عليه فيها الطلاق قد اختلف في أمرها، قد قال ناس لا يمين لرجل فيما لم يتزوج فلا أراه حانثا في امرأته الأولى وولدها يلحقه والصداق يلزمه فيها.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصولهم في مراعاة الخلاف(6/190)
لأن الخلاف فيه قوي مشهور، والقائل به تعلق بما يروى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: «لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك» وقد قال ابن القاسم في سماع أبي زيد عنه مراعاة لهذا الخلاف: إنه لا يفرق بينهما إذا دخلا، والمشهور أنه يفرق بينهما وأنهما لا يتوارثان إن مات أحدهما قبل أن يعثر على ذلك هو اختيار ابن القاسم في آخر رسم الرهون بعد هذا ودليل ما في المدونة، وذهب ابن حبيب إلى أنه لا ميراث بينهما وإلى أنه يحد ولا يلحقه الولد إن كان هذا بالشرط، فعلى قياس قوله يحنث الحالف في هذه المسألة وهو بعيد وبالله التوفيق.
[مسألة: سأل امرأته سلفا فأبت فقال امرأته طالق البتة إن أخذت منها درهما]
مسألة وسئل عن رجل سأل امرأته سلفا فأبت عليه وعندها مال ناض فقال: امرأته طالق البتة إن أخذت منها درهما، ثم مكث زمانا ثم اشترت بالمال عروضا وبيعت تلك العروض وصارت في عروض غيرها ثم أخذ من ثمن تلك العروض قدر نصف درهم أو نحوه فقضى به دينه وانتفع به ولم يكن له حين حلف نية.
قال ابن القاسم: فلا أرى عليه حنثا إلا أن تكون كانت نيته ألا يقرب من مالها شيئا.
قال محمد بن رشد: قال ابن دحون في هذه المسألة: معناها أنه(6/191)
إذا أراد أن لا يأخذ من تلك الدراهم بعينها شيئا فلذلك لم يحنثه إذ زالت عينها وتبدلت بسواها فلو أخذ أكثر من درهم لم يحنث أيضا، ولو لم يرد الدراهم بعينها لحنث بأقل من نصف درهم، ولو كانت نيته ألا يأخذ منها درهما فما فوقه لم يحنث إذا أخذ أقل من درهم، وقوله صحيح في المعنى، إلا أنه ليس في المسألة ما يدل على أنه أراد أعيان الدراهم فإنما معناها أنه راعى اللفظ ولم ينظر إلى البساط والمعنى، وهو أصل قد اختلف فيه قول مالك وأصحابه إلا أن المشهور من مذهبه ومذاهبهم مراعاة البساط والمعنى في اليمين، وقد ذكرنا هذا في غير ما موضع، وإلى هذا التأويل ذهب ابن لبابة فقال: إنما لم يحنثه من أجل أنه لم يأخذ إلا أقل من درهم وبالله التوفيق.
[مسألة: شجر بين الرجل وبين بائع الخادم أمر فحلف بطلاق امرأته أن يخرجها من بيته]
مسألة وسئل عن رجل دعته ختنته أن يشتري هو وهي خادما لابنتها يخرجان الثمن جميعا فاشترياها، فشجر بين الرجل وبين بائع الخادم أمر فحلف بطلاق امرأته أن يخرجها من بيته ففعل، وإن الختنة استتمت الثمن فأرادت أن تردها إلى بيته حين كملت الختنة الثمن كله.
فقال: لا يدخلها في بيته فإن فعل حنث.
قال محمد بن رشد: لم يحمل يمينه في هذه المسألة على ما يقتضيه اللفظ من مجرد الإخراج فيبرئه ولا يحنث في ردها إلى بيته، كالحالف على غيره لينتقلن عن داره، وحملها على أنه إنما أراد ألا تكون في بيته ولا يستخدم بها لأنها تشبه مسألة الشاة في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب النذور، وقد مضى القول هناك على الفرق بين المسألتين، فهو بعينه فرق أيضا بين هذه ومسألة الانتقال ولو كان إنما كره أن يخرج فيها من عنده شيئا من ثمنها لشيء شجر بينه وبين ختنته فخرجت(6/192)
يمينه على ذلك لم يحنث إذا اشترتها الختنة من مالها وردتها إلى بيته والله أعلم.
[مسألة: يبيع العبد من الرجل إلى أجل ويتخذ عليه يمينا أن يوفيه الثمن إلى أجل فيوجد بالعبد عيب]
مسألة وسئل عن الرجل يبيع العبد من الرجل إلى أجل ويتخذ عليه يمينا أن يوفيه الثمن إلى أجل فيوجد بالعبد عيب قبل الأجل يرد من مثله فيرده.
قال: لا يخرجه من يمينه إلا أن يقضي الثمن ثم يخاصمه، وكذلك في جميع السلع.
قال محمد بن رشد: حنثه في هذه المسألة بما يقتضيه اللفظ، ولم يلتفت إلى المعنى، ومثله في رسم إن أمكنني بعد هذا وقد قيل إنه لا يحنث لأنه إنما حلف ليوفينه الثمن، وهو المشهور في المذهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: سلف مائة دينار في قمح إلى أجل واتخذ عليه بالطلاق أن يوفيه إلى أجل فاستقاله]
مسألة وسألته عن رجل سلف مائة دينار في قمح أو سلعة من السلع إلى أجل واتخذ عليه بالطلاق أن يوفيه إلى أجل فاستقاله صاحب الدنانير مما اشترى منه قبل الأجل فأقاله.
فقال: لا أحب أن يصنع هذا فإن وقع وكان في الدنانير يوم ردها وفاء لثمن السلعة التي كانت عليه عند الناس فأرجو ألا يكون حانثا، وإن كانت السلعة أكثر ثمنا من الدنانير فإنه حانث، قلت له: فإن رد عليه الدنانير وأقر البيع على حاله؟ قال: لا ينفعه ذلك وهو حانث لأنه بيع مبتدأ لأنه لو أبى ذلك أحدهما لم يجبر على ذلك، وإنما هو بيع مبتدأ، قال: ولو كان أعطاه تلك السلعة بعد(6/193)
الأجل بعد هذا الذي وصفت لك عطية أو صدقة لم يخرجه ذلك من يمينه، وكان حانثا لأنه خرج من الوجه الذي حلف فيه، قال: وكذلك يبلغني من قول مالك.
قال محمد بن رشد: هذا بين صحيح على معنى ما في المدونة في الذي يحلف ليقضين رجلا حقه أو ليقضينه دنانيره فقضاه عرضا أنه لا حنث عليه إن كان فيه وفاء لحقه إلا أن مالكا استثقله وخشي عليه الحنث وقال: إن كان فيه وفاء فلم لا يعطيه دنانيره؟ فكذلك هي المسألة سواء لا حنث عليه إن كان رأس المال الذي أخذه منه في الإقالة فيه وفاء بما كان له عليه من القمح أو السلعة فلا حنث عليه، وسواء حلف ليقضينه حقه أو ليقضينه ما سلف فيه إلا أن ينوي أن يقضيه الطعام والسلعة بعينها فيحنث إن أقاله وإذا لزمه الحنث فلا يسقط عنه رد الدنانير إليه فيما كان له عليه ولا عطية ذلك له هبة أو صدقة كما قال؛ لأنه أمر قد فات يلزم الطلاق منه وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يتزوج عليها فيتزوج امرأة ثم يطلقها]
مسألة وسألته عن الرجل يحلف بطلاق امرأته ألا يتزوج عليها فيتزوج امرأة ثم يطلقها أو تموت قبل أن يمسها هل تراه حانثا؟ .
قال: نعم هو حانث ساعة يملك عقدتها مس أو لم يمس، قال: ولو كان حلف بالطلاق أن يتزوج عليها فتزوج امرأة فماتت أو طلقها قبل أن يمسها فإنه لا يخرج من يمينه حتى يتزوج امرأة يمسها.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصولهم في أن الحنث يقع بأقل الوجوه، والبر لا يكون إلا بأكمل الوجوه، وقد مضى القول على هذا في رسم لم يدرك وغيره فلا معنى لإعادته، ولا يبر بالدخول أيضا إلا أن تكون المرأة التي تزوجها تشبه مناكحه، وأما إن كانت المرأة التي تزوج لا(6/194)
تشبه مناكحه مثل الأمة والمرأة الدنية فلا يبر بنكاحها والدخول بها كذلك، رواه محمد بن يحيى الشيباني عن مال. وعيسى عن ابن القاسم في المدنية وقاله ابن كنانة أيضا، واختلفوا هل يحلها هذا النكاح لزوج كان طلقها أيضا ثلاثا؟ فقال ابن كنانة: لا يحلها كانت تشبه مناكحه أو لا تشبه، وقال ابن القاسم: يحلها كانت تشبه مناكحه أو لا تشبه، وقيل: إن ذلك على قياس البر والحنث أنها إن كانت تشبه مناكحه أحلها وإن كانت لا تشبه مناكحه لا يحلها، وقد قيل: إنه لا يبر إذا تزوجها ليبر يمينه ولا يمسكها وإنما يبر إذا تزوجها نكاح رغبة ثم طلقها بعد الدخول لأمر لم تنعقد نيته عليه حين العقد وبالله التوفيق.
[مسألة: يتخذ على غريمه يمينا بطلاق امرأته البتة ليقضينه حقه رأس الهلال أو يرهنه داره]
مسألة وسئل عن الرجل يتخذ على غريمه يمينا بطلاق امرأته البتة ليقضينه حقه رأس الهلال أو يرهنه داره، فلما حل الأجل أراد أن يقضيه نصف الحق ويرهنه نصف الدار ثم أرهنه الدار كلها، قال: يقضيه حقه كله وإلا حنث، قال: ولو قال امرأته طالق إن لم أوفك إلى الهلال حقك أو رهنا بحقك، فأعطاه بعض الحق وأعطاه ببقيته رهنا يكون في الرهن وفاء لما بقي لم يلحقه من يمينه شيء.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة والقول فيها في سماع أبي زيد من كتاب النذور والمعنى فيها بين وبالله التوفيق.(6/195)
[كتاب الأيمان بالطلاق الثالث]
[شجر بينه وبين أختانه أمر فقالوا طلق أختنا فقال إن ارتحلت عني اليوم فهي طالق]
كتاب الأيمان بالطلاق الثالث(6/197)
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
وسئل عن رجل شجر بينه وبين أختانه أمر فقالوا: طلق أختنا، فقال: إن ارتحلت عني اليوم فهي طالق، فأتى إليها إخوتها فقالوا: إن زوجك قد طلقك، فأخذوا متاعها ورحلوها ومتاعها إلى أنفسهم وهي لا تعلم ما كان من أمر زوجها ولا ما قال، إلا ما قال لها إخوتها إن زوجك قد طلقك، فلما كان بعد يوم أو يومين أو ثلاث أخبرت بالذي كان من أمر زوجها، فقالت والله ما علمت ولا انتقلت من هواي إلا أنهم قالوا إن زوجك قد طلقك.
فقال: إن علم ذلك وشهد على ما قالت، أو ادعته بالشهود فلا طلاق عليه.
[مسألة: قال إن ارتحلت عني امرأتي فهي طالق]
مسألة لسحنون في كتاب ابنه أنها طالق وإن علم ذلك وشهد عليه لم ينفعه، ووقع قوله أيضا في بعض الروايات من الكتاب، وقول ابن القاسم أظهر على المشهور في المذهب من مراعاة المقاصد في الأيمان في أن الزوج إنما أراد فيما يظهر من مقصده أنها طالق(6/199)
إن ارتحلت عاصية له في ارتحالها عنه راضية بفراقه، فإذا لم ترتحل إلا وهي تظن أنه طلقها على ما أخبرها به إخوتها لم يقع عليه طلاق، وقول سحنون يأتي على مراعاة ما يقضيه اللفظ دون الاعتبار بالمعنى، ونحوه ما وقع في رسم البز من سماع ابن القاسم، وقد قال ابن دحون: إن قول سحنون أحسن قال: لأنه يلزم علي قول ابن القاسم في رجل قال إن سألت امرأتي الطلاق طلقتها فأتي إليه فقيل له: قد سألت الطلاق وكذب له فطلق ألا يلزمه ذلك، ولا اختلاف أنه يلزمه وإن ثبت أنه كذب له، فإن قيل إنما يلزمه؛ لأنه كان عليه أن يتثبت، قيل له: وكذلك المرأة.
قال محمد بن رشد: ولا يلزم ابن القاسم ما ألزمه سحنون لأن المسألتين مفترقتان لأن هذا الذي كذب له، وقد أخطأ على نفسه في تطليق زوجته فلا عذر له في الخطأ على نفسه في ذلك الذي قال إن ارتحلت عني امرأتي فهي طالق قيل إن الطلاق يقع عليه بمجرد الارتحال دون مراعاة المعنى الذي يظهر من قصد الحالف، وإليه ذهب سحنون على معنى قول مالك في مسألة رسم البز من سماعه، وقيل إن الطلاق لا يقع عليها إذا لم ترتحل على الوجه الذي أراد وإلى هذا ذهب ابن القاسم وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق إن كان شرب مسكرا]
مسألة قال ابن القاسم: لو أن رجلا أخذ وبه رائحة شرب فقال امرأته طالق إن كان شرب خمرا، فشهد عليه أنها رائحة مسكر فقال ما أردت إلا الخمر بعينها.
فقال: ينوي في ذلك ويكون القول قوله، ولو قال امرأته طالق إن كان شرب مسكرا فقد جمع كل شيء، فإن شهد عليها(6/200)
أنها رائحة مسكر فقد لزمه.
قال محمد بن رشد: قوله إنه ينوي في ذلك ويكون القول قوله مع قيام البينة عليه هو مثل ما في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود خلاف قول ابن القاسم في رسم يسلف من سماع عيسى من كتاب النذور لأنه قال هناك إنه لا ينوي إلا إذا أتى مستفتيا، وقد مضى القول على المسألة هنالك مستوفى فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته البتة إن كان بغاه عند رجل]
مسألة وعن رجل حلف بطلاق امرأته البتة إن كان بغاه عند رجل فشهد عليه شاهد أنه قد بغاه عند ذلك الرجل وشهد ذلك الرجل أنه قد بغاه عندي، أما ترى أن يلزمه الطلاق؟ قال: نعم أرى أن يلزمه الطلاق لأنه لا يتهم الذي أقر عنده في شيء من أمره، وإنما هو بمنزلة الرجل يحلف ما بغيتك عند فلان وفلان، فشهد فلان وفلان بعد اليمين أنه بغاه عندهما فتطلق عليه امرأته بشهادتهما.
قال محمد بن رشد: المسألة صحيحة، والحجة فيها ما ذكر من أنه لا يتهم الشاهد في شهادته أنه بغاه عندي إذ ليس في ذلك وجه يظهر من وجوه التهمة التي تبطل به الشهادة، وأما قياسه إياها على المسألة التي ساقها عليها فليس بقياس صحيح؛ لأنها هي المسألة بعينها، ولا يقاس الشيء على نفسه، وإنما يقاس على غيره بمعنى يجمع بينهما في وجوب الحكم وانتفائه، وهو ظاهر لا يخفى وضوحه وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف غريما له بطلاق امرأته أن يقضيه إلى أجل]
مسألة وسئل عن رجل حلف غريما له بطلاق امرأته أن يقضيه إلى أجل فلما حل الأجل قال الذي حلفه قد قضاني وليس على ذلك بينة إلا قوله.(6/201)
فقال: إن كان من أهل الصدق وممن لا يتهم حلف مع شهادة صاحب الحق وحبس امرأته، وإن كان من أهل التهم لم يقبل ذلك منه حتى يأتي بشهيدين أنه قد قضاه، قال سحنون وروى ابن حبيب عن مالك أنه قال: إنما هذا إذا لم تكن على أصل يمينه بينة إلا إقرار منه بأنه حلف بطلاق امرأته أن يقضيه فقد قضاه ويقر له رب الحق، مثل ما يقول حلفت بالطلاق لأضربن فلانا فقد ضربته، أو لأعطين فلانا كذا وكذا فقد أعطيته، فالقول قوله في هذا كله بلا بينة إذا لم تكن على أصل بينة فيكون عليه الخروج بالبينة، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته هنا وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لامرأته بطلاقها إن خرجت من داره فأتاها سيل]
مسألة وقال ابن القاسم: قال مالك في رجل حلف لامرأته بطلاقها إن خرجت من داره فأتاها سيل أو أمر لم تستطع إلا الخروج أو الهرب عنه أو أخرجها صاحب الدار إن كانت بكراء فانقضى أمد الكراء، قال مالك لا حنث عليه إذا خرجت من أمر لم تستطع غير ذلك، فإذا رجعت رجع اليمين عليها، وإن ارتحل بها إلى دار غيرها فاليمين تلزمه حيث سكن.
قال محمد بن رشد: قوله ون تحول بها إلى دار غيرها معناه أن يتحول بها إلى دار غيرها حين أخرجها السيل عنها أو صاحب الدار بانقضاء أمد الكراء، وقد مضى هذا في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب، وأما لو تحول بها باختياره يحنث بذلك خلاف ما ذهب إليه ابن دحون، وقد(6/202)
مضى القول على ذلك في رسم إن خرجت فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاقها ألا يغرم في خياطة ثيابها شيئا]
مسألة وسئل عن رجل كسى امرأته ثيابا قطعها لها ودفعها لها إلى الخياط، ثم هاج بينه وبين امرأته شيء فحلف بطلاقها ألا يغرم في خياطتها شيئا فأراد أن يفتكها فيبيعها أو يحبسها لنفسه أو أراد بعض من يحق عليه مثل أخيه أو غيره أن يفتك تلك الثياب من الخياط من عنده.
قال: لا بأس أن يفتكها أخوه أو غيره ولا يفتكها هو لنفسه ولا لبيع إلا أن تكون نيته أراد ألا يفتكها لها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال لأن اليمين يجب أن تحمل على ما يقتضيه عموم اللفظ من ألا يفتكها لنفسه ولا لها ولا أحد سواهما ولا لوجه من الوجوه إلا أن تكون له نية أنه أراد ألا يفتكها لها فتكون له نيته يريد ويصدق فيها مع يمينه وإن كانت عليه بينة لأنها نية محتملة لا تبعد بل تشبه، وأما افتكاك غيره للثياب من ماله للزوجة أو له فلا إشكال في أنه لا حنث عليه في ذلك لأنه لم يحلف إلا على ألا يفتكها هو وبالله التوفيق.
[مسألة: له على رجل عشرة دنانير قائمة فتقاضاه فقال ليس لك عندي إلا دنانير]
مسألة وسئل عن رجل كان له على رجل عشرة دنانير قائمة فتقاضاه، فقال: ليس لك عندي إلا دنانير بخروبة خروبة، فحلف بطلاق امرأته ألا ينقصه من القائمة شيئا، ولم تكن عليه بينة، فخاصمه فلم يعد عليه إلا بدنانير بخروبة خروبة.
فقال: إن كان حلف ألا ينقصه فليأخذ ما قضى له به ولا(6/203)
ينقص له من حقه شيئا ولا يضع عنه منه شيئا، والله بينه وبينه، وإن كان أراد أن لا يأخذ منه إلا عشرة قائمة فلا يأخذ منه إلا عشرة قائمة.
قال محمد بن رشد: قوله وإن كان حلف ألا ينقصه يريد إن كان نوى إلا ينقصه باختياره شيئا من القائمة فليأخذ ما قضى له به ولا ينقص له من ذلك شيئا ولا يضع عنه منه شيئا، وقوله وإن كان أراد ألا يأخذ منه إلا عشرة قائمة يريد أو لم تكن له نية فلا يأخذ منه إلا عشرة قائمة، فإن لم يقض له عليه إلا بدنانير خروبة خروبة حنث إن أخذها إلا أن يحكم عليه بأخذها بسؤال الغريم ذلك، فيجري ذلك على الاختلاف فمن حلف ألا يفعل فعلا فقضي عليه به، وقد مضى ذلك في رسم سلعة سماها ورسم حلف من سماع ابن القاسم، وفي آخر سماع أشهب وبالله التوفيق.
[مسألة: عليه حق لرجل فاتخذ عليه طلاق امرأته البتة أن يؤديه لأجل سماه]
مسألة وسئل عن رجل كان عليه حق لرجل فاتخذ عليه طلاق امرأته البتة أن يؤديه لأجل سماه، وللحالف وكيل يتقاضى له ويبيع له ويبتاع ويقوم بجميع حوائجه، فغاب الحالف عند الأجل فقضى عنه هذا الوكيل، هل ترى قضاه مخرجا ليمينه؟ .
قال: لا يخرجه قضاؤه من يمينه إلا أن يكون أمره بذلك، قال: [ولو كان لصاحب الحق مثل هذا الوكيل الذي وصفنا فغاب المحلوف له عند الأجل فقضى الحالف وكيله هذا] كاف مخرجا من يمينه.
قال محمد بن رشد: إنما قال إن الحالف لا يبرأ إذا قضى عنه(6/204)
وكيله على البيع والابتياع والقيام بجميع حوائجه، من أجل أنه ليس بوكيل له على أن يقبض عنه، فهو في ذلك كالأجنبي، ولو كان وكيل له مفوض إليه أو على أن يقبض عنه ديونه فيبر إذا قضى عنه بغير علمه، وقد مضى هذا المعنى في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى من كتاب النذور، وسيأتي في سماع سحنون إذا قضى عنه السلطان من ماله، وقوله ولو كان لصاحب الحق مثل هذا الوكيل الذي وصفنا فغاب المحلوف له عند الأجل فقضى الحالف وكيله هذا كان مخرجا من يمينه، يريد ويبر الحالف بذلك من الدين الذي عليه لأنه وكيل يتقاضى فيبرأ الحالف من الدين الذي عليه بدفعه إليه، فدليل هذه الرواية أنه لا يبر في اليمين إلا بدفعه إلى وكيل إليه القبض فيبرأ من الدين بالدفع إليه خلاف ما في العشرة لابن القاسم أنه إذا دفع إلى وكيل له في ضيعته بر في اليمين، ولم يبرأ من الحق، وهو معنى ما في المدونة، وظاهر ما فيها أن ذلك يكون مخرجا له من يمينه، وإن كان يصل إلى السلطان، وكان القياس إذا لم يبرأ بذلك من الحق إلا أن يكون مخرجا له من يمينه إلا أن لا يصل إلى السلطان الذي يبرأ بالدفع إليه من الدين الذي عليه، وإلى هذا ذهب ابن لبابة، وساق ذلك على معنى ما في المدونة وأن يكون إذا أحضر الذهب وأتى به وأشهد على إتيانه به مخرجا له من الحنث، وإن لم يدفعه إلى هذا الوكيل الذي لا يبرأ بالدفع إليه كما يكون ذلك مخرجا له من الحنث مع العدول إذا لم يكن له وكيل ولا وصل إلى السلطان وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون تحته أربع نسوة فيحلف بالطلاق البتة إلا يحلف بالطلاق فيطلق واحدة]
مسألة وسئل عن الرجل يكون تحته أربع نسوة فيحلف بالطلاق البتة إلا يحلف بالطلاق فيطلق واحدة من نسائه، هل ترى عليه حنثا؟ .
قال لا حنث عليه لأنه لم يحلف.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن من طلق لم يحلف(6/205)
بطلاق، ولو حلف بطلاق البتة إلا يطلق فحلف بالطلاق وحنث لحنث؛ لأن من حلف بالطلاق وحنث فقد طلق، وقد مضى بيان هذا في رسم يوصي قبل هذا وبالله التوفيق.
[قال لامرأته أنت علي كظهر أمي وهو يريد الطلاق]
ومن كتاب العشور قال ابن القاسم: من قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي وهو يريد الطلاق فهي ثلاث ولا ينوى لا تنفعه نيته إن نواها واحدة أو اثنتين.
قال محمد بن رشد: في كتاب ابن سحنون عن أبيه أن له ما نوى من الطلاق، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب الظهار فيستغنى بذلك عن إعادته هنا وبالله التوفيق.
[نازعت زوجها فقالت له والله لأسيلن الخرق على ساقيك فقال لها أنت طالق]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت وسئل عن امرأة نازعت زوجها فقالت له: والله لأسيلن الخرق على ساقيك، فقال لها: أنت طالق لتعلمن من يفعل ذلك بي.
قال ابن القاسم أخاف أن يكون قد حنث حين قال لتعلمن من يفعل ذلك بي إنما هو من قال لتعلمن من ذا الذي يفعله بي من هو؟ حتى يسيل عن ساقي ما قلت. .
قال محمد بن رشد: المقصد المعلوم من إرادة المرأة، بهذا القول إنما هو ليفعلن به أشد ما يكون من النكال وأقبحه لا حقيقة ما ذكرت؛ إذ قد علم أنها لا تملك ذلك ولا هو داخل تحت استطاعتها، ويمين الزوج خرجت جوابا لها على ذلك بمعنى أنك لتعلمين أن الذي يقدر على أن(6/206)
يبلغ ذلك مني معدوم غير موجود لمنزلتي ومكانتي ومهابتي وقدرتي على الدفاع عن نفسي، فلذلك خشي ابن القاسم عليه الحنث فيما بينه وبين الله، وأما الحكم عليه بالطلاق فلا يصح إلا أن يقر على نفسه أنه أراد بكلامه ما يوجب الحنث عليه والله أعلم.
[حلف بالطلاق ليقضين رجلا حقه إلى أجل فحبس الحالف في السجن]
ومن كتاب جاع وسئل عن رجل حلف بالطلاق ليقضين رجلا حقه إلى أجل فحبس الحالف في السجن، فأرسل إلى صاحبه أن يجيئه فأبى أن يجيئه، قال يقضي السلطان ويدع ذلك يرتكص ولا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: قوله يقضي السلطان معناه يوكل من السجن من يقضي السلطان ويكون ذلك مخرجا له من يمينه، وإنما يصح ذلك إن كان المحلوف له قد غاب عن البلد، وأما إن كان حاضرا فالسلطان يحضره ويجبره على قبض حقه إلا أن يكون مما لا يجبر على قبضه كعارية غاب عليها فتلفت عنه وما أشبه ذلك فيبرأ من يمينه على دفع ذلك إليه بدفعه إلى السلطان وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى لامرأته ثوبا بدينار فسخطته فقال لها أنت طالق إن رددته]
مسألة وسئل عن رجل اشترى لامرأته ثوبا بدينار فسخطته فقال لها: أنت طالق إن رددته إن كسوتك ثوبا بدينار وهو ينوي بأكثر أو بأقل فذهب إليه ليرده فلم يقبله البائع أو بدا له في رده بعد اليمين.
قال هو سواء بدا له أو أبى أن يقيله ليس يلزمه من يمينه شيء حتى يقيله، ومثلها لي قال: أرأيت لو كان قال: امرأته طالق إن لم ترده فذهب به ولم يقبله البائع أليس قد حنث؟ فهذا يعلم أن الرد إنما هو القبض له من البائع، قلت فلو كان بائع الثوب(6/207)
اتخذ عليه طلاق امرأته حين باعه ألا يرده عليه، فأتى به ليرده فلم يقبله منه؟ قال، هذا حانث قبله أو لم يقبله؛ لأنه إنما كره البائع شغبه ورده، فإذا رده فهو حانث، فهذه الوجوه تختلف، وإنما تحمل على ما كان قبلها على شبهها ومساقها.
قال محمد بن رشد: أما إذا كان البائع هو الذي استحلف المشتري ألا يرده عليه فلا اختلاف في أنه يحنث بقيامه إياه عليه في الرد قبله أو لم يقبله قضي له عليه برده أو لم يقض له بذلك، وأما إذا لم يسأل ذلك البائع وإنما حلف إلا يرده لشيء جرى له مع غيره فقال هاهنا: إنه لا يحنث إلا بقبول البائع له أورده إياه عليه بالحكم، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ وروايته عن ابن القاسم وحكى عن أصبغ أيضا في موضع آخر أنه إذا رده فقد لزمته اليمين قبله البائع أو لم يقبله، قال عبد الملك: وهذا بين عندنا، وأما إذا حلف ليردنه فلا اختلاف في أنه لا يبر إلا بقبول البائع له أو الحكم بذلك عليه؛ لأن البر لا يكون إلا بأكمل الوجوه وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته إن لم أتزوج عليك فأنت طالق فتزوج أخته جاهلا بها]
مسألة وسئل عن الرجل يقول لامرأته إن لم أتزوج عليك فأنت طالق فتزوج أخته جاهلا بها، هل يخرجه ذلك من يمينه؟ قال: لا يخرجه ذلك من يمينه قلت: فلو قال امرأتي طالق إن لم نشتر عبدا مملوكا فاشترى أباه؟ قال: لا يخرجه ذلك من يمينه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن نكاح أخته لا يحل له المقام عليه، فلا يبريه إذ لا يبر إلا بنكاح لو شاء أن يقيم عليه أقام من أجل أن البر لا يكون إلا بأكمل الوجوه، وكذلك لو تزوج تزويجا حراما يفسخ قبل الدخول وبعده، كالذي يحلف ليشترين سلعة فيشتريها شراء فاسدا فيعثر عليه قبل أن يفوت فيفسخ البيع في الذي اشترى أباه أحرى ألا(6/208)
يبر بشرائه إذ لا يقع عليه ملك وبالله التوفيق.
[مسألة: أراد أن يتزوج امرأة فقالت له أمه إنها أختك من الرضاعة قد أرضعتها]
مسألة وسئل عن رجل أراد أن يتزوج امرأة فقالت له أمه: إنها أختك من الرضاعة قد أرضعتها، وتحت الرجل امرأة أخرى، فقال الزوج: امرأته التي تحته طالق إن كانت لي حلالا إن لم أتزوجها.
فقال: أرى أن تطلق امرأته التي تحته ولا يتزوجها، فإن اجترأ وتزوجها لم يقض عليه بطلاقها لأنه لا يكون في الرضاع إلا امرأتان.
قال محمد بن رشد: المسألتان مفترقتان بأن الأولى لها بساط فينوى بها مع قيام البينة، والثانية لا بساط لها فلا ينوى فيها إلا إذا جاء مستفتيا. وبالله التوفيق.
[حلف بالطلاق ألا يستعير من رجل سماه شيئا فاستعار من امرأته]
ومن كتاب النسمة
وقال في رجل حلف بالطلاق ألا يستعير من رجل سماه شيئا فاستعار من امرأته، هل تراه حانثا؟ .
قال: إن كان استعار من امرأته مالا من مالها فلا شيء عليه، وإن استعار منها مالا لزوجها فأعارته فهو حانث.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه حمل يمينه على أنه إنما كره الانتفاع بشيء من ماله إما لخبث أصله وإما لأن لا يكون عليه بذلك منة، فلذلك قال إنه يحنث إن كان استعار منها، ما هو لزوجها فأعارته ولو كان لم يحلف إلا من أجل أنه كره أن يرده، لا لما سوى ذلك لما كان عليه حنث في استعارته من امرأته ما هو من مالها أو ماله، والله أعلم.(6/209)
[مسألة: أتاه يستسلفه دراهم فقال امرأته طالق إن كان في تابوتي دنانير]
مسألة قال ابن القاسم في رجل أتاه يستسلفه دراهم، فقال امرأته طالق إن كان في تابوتي دنانير ومعي دينار، وفي تابوته دينار ومعه دينار، وإنما أراد أن يقول امرأته طالق البتة إن كان في تابوته دراهم أو معي دراهم، فأخطأ فقال ذلك.
فقال لا شيء عليه ولا يحنث. وكذلك لو أراد أن يقول امرأته طالق إن لم يكن كلم عبد الله بن عبد الرحمن أمس أو لقيه، فأخطأ فقال امرأته طالق إن لم يكن لقي عبد الرحمن بن عبد الله أمس وكلمه فهذا لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: المسألتان مفترقتان بأن الأولى لها بساط فينوى بها مع قيام البينة، والثانية لا بساط لها فلا ينوى فيها إلا إذا جاء مستفتيا. وبالله التوفيق.
[مسألة: قال إن صليت ركعتين فامرأتي طالق فصلى ركعة وانصرف]
مسألة قال ابن القاسم في رجل قال إن صليت ركعتين فامرأتي طالق، فصلى ركعة وانصرف. قال ابن القاسم: هو حانث تطلق عليه لأنه قد صلى ولا ينوى، وكذلك إن قال إن صمت غدا فامرأتي طالق فبيت الصيام فطلع الفجر وهو مجمع على الصيام ثم أفطر بعد طلوع الفجر فهو حانث أيضا. ولو أحرم ولم يركع كان حانثا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الحنث وقع عليه بالشروع في الصلاة والصيام، فتركه التمادي على ذلك لا يسقط عنه ما قد لزمه من الطلاق، وقوله ولا ينوى معناه مع قيام البينة، وأما لو أتى مستفتيا وقال إنما نويت أنها طالق إن أتممت ركعتين أو صوم النهار وعلى ذلك عقدت يميني(6/210)
فكانت له نيته فيما بينه وبين ربه إن كان صادقا وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يكلم رجلا فكاتبه ثم رد الكتاب قبل أن يصل إليه فخرقه]
مسألة قال ابن القاسم من حلف ألا يكلم رجلا فكاتبه ثم رد الكتاب قبل أن يصل إليه فخرقه ولم ينفذه فلا حنث عليه ولا شيء، وكذلك قال لي مالك وقال ابن وهب مثله.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه إن رد الكتاب قبل أن يصل إليه لا يحنث إذ لا يحنث الحالف إلا بقراءة المحلوف عليه كتابه لا بوصوله إليه، ولو وصل إليه فأخذه وأمسكه ولم يقرأه لم يحنث الحالف إلا أن يكون معنونا فإنه يحنث بقراءة العنوان، وقوله في المدونة عقب هذه المسألة وهو آخر قوله لا يعود عليها، إذ لا اختلاف فيها، وإنما يعود على المسألة التي قبلها، سواء كتبه مجمعا على إرساله أو غير مجمع على ذلك، بخلاف المسألة التي تأتي بعدها في كتاب الرجل إلى امرأته بالطلاق وبالله التوفيق.
[مسألة: كتب بطلاق امرأته ثم بدا له فحبس الكتاب]
مسألة قال ابن القاسم قال مالك في رجل كتب بطلاق امرأته ثم بدا له فحبس الكتاب.
قال: إن كتبه مجمعا على الطلاق فقد حنث حبسه أو لم يحبسه وإن كان إنما كتبه ليتخير فيه وينظر ويستشير فإن رأى أن يمضيه أمضاه، وإن رأى أن يحبسه حبسه فلا شيء عليه إذا حبسه، قال ابن القاسم: وإن أخرجه من يده فهو حانث وإن رده وأدركه قبل أن ينتهي لم ينفعه، قال ابن وهب مثل ذلك كله، وقد قال: هو حانث إلا أن يكون حين أخرج الكتاب من يده إلى(6/211)
الرسول غير عازم فله أن يرده إن أحب ما لم يبلغها.
قال محمد بن رشد: الرجل في كتابه إلى امرأته بالطلاق محمول على الإجماع إذا لم تكن له نية، فإذا كتب الرجل إلى امرأته بالطلاق فليس له أن يحبس الكتاب إلا أن يكون كتبه على أن يستشير وينظر فإذا أخرج الكتاب من يده وهو مجمع على الطلاق أو وهو لا نية له فليس له أن يرده، وأما إن كان أخرجه من يده على أن يرده إن أحب فقيل: له أن يرده، وقيل ليس له أن يرده على ما ذكر هاهنا من الاختلاف في ذلك، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في سماع أشهب من كتاب طلاق السنة وفي سماع أصبغ من كتاب التخيير والتمليك فلا معنى لإعادة ذلك هنا وبالله التوفيق.
[حلف بطلاق امرأته ألا يدخل بيت فلان فيدخل داره ولم يدخل البيت]
ومن كتاب الرهون وعن رجل حلف بطلاق امرأته ألا يدخل بيت فلان فيدخل داره ولم يدخل البيت أنه إن كانت الدار لا تدخل إلا بإذن ولو سرق منها شيء قطع سارقه فإني أرى إذا دخل فقد حنث، وإما إن كانت دارا جامعة لناس شتى تدخل بغير إذن ولو كان سرق منها شيء لم يقطع سارقه إنما هي كالطريق فلا أراه حنث، قال ابن القاسم: لا شيء عليه إلا أن يكون نوى الدار إلا أن يكون قال منزله، فإن الدار هي المنزل إلا أن تكون دارا مشتركة فيكون هذا التفسير فيها.
قال محمد بن رشد: مالك هو المسئول المجيب، وقوله أظهر من قول ابن القاسم؛ لأنه على المشهور في المذهب من اعتبار المعاني في الأيمان وترك الاقتصار على مجرد الألفاظ؛ لأن الحالف ألا يدخل بيت رجل إنما يريد ألا يدخل مسكنه، ومسكنه هي داره التي ينفرد بسكناها ولا يشاركه أحد فيها حتى يجب القطع على من سرق منها كما يجب على من(6/212)
سرق من بيته الذي يبيت فيه، وعلى هذا يأتي قوله في مسألة التغيب من آخر سماع أشهب، وأما ابن القاسم فراعى لفظ البيت وحمل يمين الحالف عليه فلم ير عليه في دخوله داره حنثا ما لم يدخل بيتا مبيته، وإنما يحنث عنده بدخول الدار إذا حلف على ألا يدخل منزله إلا أن تكون دارا مشتركة فلا يحنث إلا بدخول ما لم يشاركه أحد فيه وهو شاذ في المذهب، وسيأتي من قوله في سماع أبي زيد خلاف قوله هنا مثل قول مالك والمشهور في المذهب والله أعلم.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يستخدم خادم فلان فأعتقت الخادم]
مسألة وقال في رجل حلف بطلاق امرأته ألا يستخدم خادم فلان فأعتقت الخادم، فاستعانها بعد العتق قال: يدين أيضا، إن كان إنما أراد ألا يميز عليه بخدمتها فإنه يستخدمها إذا أعتقت، وإن كان إنما كانت يمينه على استخدامها أبدا لشيء كرهه من الخادم بعينها فلا يستخدمها، وإن كان إنما أراد ألا يستخدم لذلك الرجل خادما للمن ثم عتقت فليستخدمها ولا بأس، قيل له: أرأيت إن لم تكن له نية؟ قال ابن القاسم: وإن لم تكن له نية فهو حانث.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم لم يدر فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف على رجل ألا يأويه وإياه سقف بيت فجمعهم المسجد]
مسألة وسئل عن رجل حلف على رجل ألا يأويه وإياه سقف بيت فجمعهم المسجد.
قال: لا أرى في ذلك طلاقا وذلك ما لا يستطيع غيره، ولم يكن المسجد من البيوت التي نوى.(6/213)
قال محمد بن رشد: اعتل لقوله في هذه المسألة بعلتين: إحداهما: قوله: وذلك ما لا يستطيع غيره، وذلك أنه لما كانت المساجد من البيوت التي لا يصح التحجير فيها، وكان الحالف من أجل ذلك قد علم أنه لا يمكنه التوقي من أن يجامعه فيه المحلوف عليه في المسجد، حمل يمينه على أنه إنما أراد ألا يأويه وإياه سقف بيت يمكنه التوقي في أن يجامعه فيه، والثانية: قوله: ولم يكن المسجد من البيوت التي نوى وذلك أن المساجد وإن كانت بيوتا في لسان العرب بدليل قول الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] فليست بيوتا في عرف كلام الناس؛ إنما البيوت عندهم في عرف كلامهم بيوت السكن فحمل يمينه على عرف الناس لا على ما يقع عليه اسم بيت في اللسان العربي، فعلى هذه العلة لا يحنث إذا اجتمع معه في الحمام، خلاف قوله في سماع أبي زيد وهذا أصل مختلف فيه في المذهب، والقولان قائمان من المدنية، قال فيها في الذي يحلف ألا يأكل لحما فأكل لحم الحوت إنه حانث إلا أن تكون له نية لأن الله سماه لحما، وإن كان اللحم في عرف كلام الناس إنما يوقعونه على لحم ذوات الأربع.
وأما ما في سماع أبي زيد من أنه لا يحنث إذا جامعه في سقيفة فيها طريق في مروره بها فلا يحنث باتفاق، إذ ليست السقيفة التي تحتها الطريق ببيت في اللسان ولا في عرف الكلام إلا أن يقصد إلى الاجتماع معه فيها فيحنث إن كان إنما قصد هذا اجتنابه وترك مجامعته بالجلوس وغيره، وإن لم يكن نوى ذلك فلا حنث عليه عند ابن القاسم، ولكن لا يحنث عنده إذا دخل معه تحت ظل شجرة أو جدار أو شيء، قاله في المدونة وقال ابن نافع فيها: إنه حانث إن دخل معه تحت ظل جدار أو شجرة أو شيء، وأما إن حلف ألا يجمعه وإياه سقف ولم يقل سقف بيت فقال ابن حبيب: إنه لا يجامعه في مقعد ولا موقف لا تحت سقف ولا في صحراء إلا أن يريد ترك مجامعته في البيوت المسكونة وبالله التوفيق.(6/214)
[مسألة: حلف لامرأته بالطلاق ثلاثا ألا يكسوها وكانت لها ثياب مرهونة عند رجل]
مسألة وعن رجل حلف لامرأته بالطلاق ثلاثا ألا يكسوها وكانت لها ثياب مرهونة عند رجل فافتكها لها أو حلف إلا يطعمها وكان لها طعام مرهون فافتداه لها، قال ابن القاسم: بلغني عن مالك أنه قال: أرى الطلاق قد وقع عليه بأنها قد طعمت ولبست ولقد عرضتها على مالك فردها علي وأنا أراه أنه حانث إلا أن يكون نوى استحداث ثياب يشتريها أو طعاما يشتريه سوى ذلك فإن كانت تلك نيته وقال: لم أرد هذا وإنما أردت استحداثا لم ير عليه شيئا، وإن لم تكن له نية فهو حانث.
قال محمد بن رشد: هذا نص ما في المدونة في هذه المسألة وقول ابن القاسم فيها: إنه حانث إلا أن يكون أراد الشراء صحيح بين، إذ لم يحلف على الشراء فيحمل عليه حتى يريد ما سواه، وإنما حلف ألا يكسوها، وإذا افتك لها الثياب فكأنه قد كساها إذ لم تصل إلى لباس الثياب إلا بافتدائه لها، وأيضا فقد صار ممتنا عليها بلباسها الثياب، والظاهر من يمينه أنها من ناحية المن وبالله التوفيق.
[مسألة: خرجت امرأته تزور بعض أهلها فحلف زوجها بطلاقها واحدة ألا يرسل إليها بنفقتها]
مسألة قال ابن القاسم في رجل خرجت امرأته تزور بعض أهلها فحلف زوجها بطلاقها واحدة ألا يرسل إليها بنفقتها حتى تكون هي التي ترسل، فمكث زمانا فكرهت أن ترسل فاستدانت على نفسها بنفقة ثم طلبت النفقة من زوجها بكل ما غابت عنه، وقال الزوج: أنت الذي تركت ذلك حين لم ترجعي إلى بيتك ولم تطالبه مني.
إن لها النفقة لكل ما غابت، وذلك أنه لو شاء أن ينقلها إلى(6/215)
نفسه نقلها ومنعها أن تستدين، ولو حلف بطلاقها البتة لرأيت أن لها النفقة أيضا.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى لها النفقة لكل ما غابت وذلك أنه لو شاء أن ينقلها إلى نفسه نقلها، يدل على أنه لو أرسل إلى نقلها فأبت من الانتقال إليه وغلبته على ذلك لم يكن لها أن تتبعه بما أنفقت على نفسها واستدانته، فلا نفقة للناشز على زوجها بدليل هذه الرواية، وفي شرح الأبهري الكبير أن ذلك إجماع من أهل العلم؛ إذ الامتناع بالاستمتاع ومنها، وفي كتاب محمد بن المواز عن مالك أن لها النفقة، قال في امرأة غلبت زوجها فخرجت من منزله فأرسل إليها فلم ترجع فامتنع من النفقة عليها حتى ترجع فأنفقت على نفسها ثم طلبته بذلك، قال: ذلك لها عليه يغرمه لها، وإلى هذا ذهب سحنون في كتابه لأنه فرق بين أن تنشز عنه مدعية للطلاق أو بغضة فيه، فقال: إن نشزت عنه بغضة فيه فلها النفقة كالعبد الآبق نفقته على سيده، وذهب ابن الشقاق إلى أنها لا نفقة لها قياسا على مذهب ابن القاسم في المدونة في التي تغلب زوجها فتخرج من منزله في عدتها من الطلاق البائن وتسكن غيره أنها لا كراء لها على الزوج في البيت الذي سكنته، وليس ذلك بصحيح لأن ابن القاسم قد فرق بين المسألتين في كتاب ابن المواز، فأوجب للناشز النفقة بخلاف مسألة العدة، والفرق بينهما بيّن؛ لأن السكنى إنما يتعين لها في المسكن الذي طلقها فيه لا في ذمته فليس لها أن توجب في ذمته ما لم يجب لها فيها، وقالوا: إن الاختلاف في هذا جارٍ على اختلافهم في النفقة على الزوجات هل هو واجبة بحق العقد أو بحق الاستمتاع، ولا يستقيم ذلك لأنها لو وجبت بحق العقد لوجبت للصغيرة التي لا يوطأ مثلها على زوجها الصغير والكبير، ولو وجبت بحق الاستمتاع لسقطت النفقة عن الزوج في زوجته إذا حدث بها بعد الدخول داء لا يقدر معه على الوطء أو مرضت مرضا لا يمكن معه جماعها، فالمعنى في ذلك عندي إنما هو أن النفقة لما كانت مرة يعتبر فيها(6/216)
الاستمتاع دون العقد ومرة يعتبر فيها العقد دون الاستمتاع اختلف فيها أيهما يغلب في الناشز، وعلى هذا اختلفوا في الكبير يتزوج التي لا يوطأ مثلها فمن غلب في النفقة حق الاستمتاع لم يوجب لها نفقة عليه حتى يدعى إلى الدخول وهو المشهور في المذهب، ومن غلب حق العقد رأى لها النفقة حتى يحال بينه وبين الدخول، وهو دليل ما في الزكاة الثاني من المدونة وتفرقة من فرق في ذلك بين اليتيمة وغير اليتيمة استحسان إذ لا يخرج موجب النفقة لها عن أخذ القولين والله أعلم.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا ينفع فلانا فأمر غلامه أن يسقيه فسقاه]
مسألة وعن رجل حلف بطلاق امرأته ألا ينفع فلانا فأمر غلامه أن يسقيه فسقاه، ولم يكن ذلك في نيته أن يسقيه وإنما أراد ألا ينفعه، إني أرى الطلاق قد وقع عليه. وذلك أن سقيه إياه منفعة، إلا أن تكون له نية من سلف أو غيره.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه قد عم جميع وجوه المنافع بقوله ألا ينفع فلانا فوجب أن يحنث إلا أن تكون له نية في وجه من وجوه المنافع، دون غيره فيصدق في ذلك مع يمينه، وإن قامت عليه بينة؛ لأنها نية محتملة غير مخالفة لظاهر قوله وبالله التوفيق.
[مسألة: قال إن لم أحج فامرأتي طالق البتة ولم يسم العام الذي يحج فيه]
مسألة وقال في رجل قال: إن لم أحج فامرأتي طالق البتة ولم يسم العام الذي يحج فيه: إنه لا يطأ امرأته ولا ينبغي له ذلك حتى يحج، فإن قال بيني وبين ذلك زمانا قيل أحرم واخرج، فإنها إن رفعت ذلك ضرب لها أجل المولي، قلت: فإن لم يحج من عامه وعليه من الزمان ما يحج مثله، قال ابن القاسم: إن رضيت امرأته أن تقيم معه بغير مسيس فليحج متى شاء، وإن رفعت أمره أو طلبت المسيس قيل له أحرم، وإن كان ذلك في المحرم، فإن أبى أن يحرم ضرب له أجل المولي فإن أحرم في ذلك الأجل لم(6/217)
يفرق بينه وبين امرأته وإن مضت أربعة أشهر ولم يحرم طلقت عليه.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية مثل ظاهر قول ابن القاسم في المدونة إن الحالف بطلاق البتة إن لم يحج يمنع من الوطء من يوم حلف، وإن لم يأت بعد إبان خروج الناس إلى الحج، فإن رفعت امرأته أمرها إلى السلطان ضرب له أجل المولي، قال غيره في المدونة: إذا تبين ضرره بها، وقيل له: اخرج وأحرم وإن كان ذلك في المحرم، ومعنى ذلك على ما قاله عيسى بن دينار إذا وجد صحابة، وأما إذا لم يجد صحابة فلا يؤمر بالإحرام ولا يضرب له أجل المولي، وفي المسألة قول ثان وهو أنه لا يمنع من الوطء ولا يضرب له أجل المولي حتى يأتي وقت إبان خروج الناس إلى الحج، روى ذلك ابن نافع عن مالك، فإن ضرب له أجل الإيلاء وخرج فأدرك الحج قبل انقضاء أجل الإيلاء فحج بر وسقط عنه الإيلاء، وإن لم يحج طلق عليه بالإيلاء عند انقضاء أجله، وإن انقضى أجل الإيلاء قبل وقت الحج لم يطلق عليه حتى يأتي وقت الحج، فإن أتى وقت الحج فحج بر وسقط عنه الإيلاء، وإن لم يحج طلق عليه بالإيلاء، وإن لم يضرب له أجل الإيلاء ولا خرج حتى فاته الحج ضرب له أجل الإيلاء أيضا وقيل له: اخرج وأحرم على القول الأول، وأما على القول الثاني فقيل: إنه يطلق عليه وهو قول ابن القاسم، وقيل: إنه يرجع إلى الوطء حتى يأتي وقت إبان خروج الناس إلى الحج، وهو قول أشهب وقيل: إنه لا يرجع إلى الوطء أبدا ويضرب له أجل الإيلاء متى ما قامت به امرأته وفي المسألة أيضا قول ثالث وهو أنه لا يمنع من الوطء حتى يخشى أن يفوته الحج، فإذا خشي فواته وقامت به امرأته ضرب له أجل المولي وقيل له: اخرج فإن خرج فأدرك الحج بإسراع السير بر وسقط عنه الإيلاء، وإن لم يدرك الحج طلق عليه بالإيلاء إن كان قد انقضى أجله أو عند انقضائه إن كان لم ينقض بعد، وفي المسألة أيضا قول رابع وهو أنه لا يمنع من الوطء حتى يخشى أن يفوته الحج، فإذا فاته الحج وقامت به امرأته ضرب له أجل الإيلاء، فإن خرج لم تطلق عليه بانقضاء أجل الإيلاء حتى يأتي وقت الحج، فإن أتى(6/218)
وقت الحج فحج بر وسقط عنه الإيلاء، وإن أتى وقت الحج فلم يحج طلق عليه بالإيلاء، وإن لم يخرج حتى انقضى أجل الإيلاء طلق عليه بالإيلاء، وهذان القولان الثالث والرابع من المدونة، وإن كان يوم حلف لم يبق بينه وبين وقت الحج ما يدرك فيه الحج فلا يمنع من الوطء ولا يدخل عليه الإيلاء في بقية ذلك العام، وهو دليل قوله في الرواية، فإن لم يحج من عامه وعليه من الزمان ما يحج في مثله فهذا تحصيل القول في هذه المسألة وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يدعها تخرج شهرا إلا لنقلة من منزل إلى منزل]
مسألة وعن رجل حلف بطلاق امرأته ألا يدعها تخرج شهرا، إلا لنقلة من منزل إلى منزل فأراد أن يخرج بها إلى قرية ثم يرجع قال: لا أرى أن يخرج بها إلا أن يريد الخروج بها من ذلك المنزل.
قال محمد بن رشد: قوله إلا أن يريد الخروج من ذلك المنزل معناه إلا أن يريد الانتقال من ذلك المنزل، وذلك لا يكون إلا بأن ينتقل عنه انتقالا صحيحا بجميع متاعه، فإذا فعل ذلك فلا حنث عليه، قال في سماع أبي زيد: وذلك إذا كان لخروجه مكث طويل شهرا أو نحوه، وذلك أنه حد من حلف لينتقلن من هذا المنزل استحسانا ولو رجع فيما دون الشهر لم يحنث على ما مضى القول فيه في آخر رسم من سماع أشهب وفي غيره وبالله التوفيق.
[مسألة: يأمر امرأته أن تعمل عملا ويقول أنت طالق إن لم تفرغي منه]
مسألة وقال في الرجل يأمر امرأته أن تعمل عملا ويقول أنت طالق إن لم تفرغي منه إلى أن أرجع إليك إن لم أهجرك أنه يهجرها ثلاثة أيام، يعني إذا لم تفرغ قبل رجوعه، فإن لم يهجرها فهو حانث.(6/219)
قال محمد بن رشد: قد حكى ابن حبيب خلاف هذا عن ابن القاسم أنه لا يبر إلا بأن يهجرها شهرا، ولو قال إن لم أطل هجرانك لبر على القول الأول بالشهر، وهو قول ابن الماجشون، وعلى القول الثاني لا يبر إلا بأن يهجرها سنة، ولو قال أن أهجرك حينا أو زمانا لبر بالسنة واختلف في الدهر، فقيل فيه السنة، وقيل أكثر من السنة، روي ذلك عن مالك، وقال مطرف السنتان في الدهر قليل وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة]
مسألة وقال عن مالك في الرجل يقول لامرأته أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة إنها طالق ساعتئذ، قال ابن القاسم: وإن لم أدخل الجنة عندي مثله.
قال محمد بن رشد: ساوى ابن القاسم بين أن يحلف الرجل بالطلاق أنه من أهل الجنة وبين أن يحلف ليدخلن الجنة في أن الطلاق قد وجب عليه، ومثله في المبسوطة لمالك إذا حلف على ذلك حتما، وقال الليث بن سعد: إنه لا شيء عليه، ونزع بقول الله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وإليه ذهب ابن وهب ولا يخلو الحالف على هذا من أن يريد بيمينه أنه من أهل الجنة الذين لا يدخلون النار أو أنه من أهل الجنة الذين لا يخلدون في النار أو لا تكون له نية في شيء من ذلك، فأما إن أراد بيمينه أنه من أهل الجنة الذين لا يدخلون النار فتعجيل الطلاق عليه بين ظاهر؛ لأن المسلم لا يسلم من مواقعة الذنوب، إذ لا يعصم منها الأنبياء فضلا عمن سواهم، قال الله عز وجل لنبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وفي وصية الخضر لموسى: واستكثر من الحسنات فإنك مصيب السيئات، واعمل خيرا فإنك لا بد(6/220)
عامل شرا، ولا يدري الحالف هل يغفر الله له ذنوبه أم لا؟ لأنه عز وجل يقول في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فالحالف على هذا إنما هو حالف على أن يغفر الله ذنوبه، فهو حالف على غيب لا يعلمه إلا الله، ولا اختلاف في إيجاب تعجيل الطلاق على من حلف، فلا ينبغي أن يختلف على هذا الوجه، وأما إن أراد بيمينه أنه من أهل الجنة الذين لا يخلدون في النار فالمعنى في يمينه إنما هو لا يكفر بعد إيمانه ولا ينتقل عن إسلامه وليثبتن عليه إلى الموت، الحالف على هذا حالف ليفعلن ما أمر به من الثبوت على الإسلام حتى يأتيه الموت وهو عليه، قال الله عز وجل: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] أي اثبتوا على إسلامكم حتى يتوفاكم ملك الموت فهذا بين أنه لا شيء عليه؛ لأنه إنما هو حالف ألا يكفر وأن يثبت على إسلامه، فهو في التمثيل كمن حلف بالطلاق أن يقيم في هذه البلدة ولا يخرج منها حتى يأتيه الموت فلا شيء عليه، لا يجب عليه الطلاق إلا بالخروج من البلدة، فكذلك هذا لا يجب عليه الطلاق إلا بالكفر، فلا ينبغي أن يختلف في هذا أيضا، وأما إن لم تكن له نية فالظاهر من مذهب مالك وابن القاسم أن يمينه تحمل على الوجه الأول فيعجل عليه الطلاق، والأظهر أن يفرق بين اللفظين فيحمل قوله: إن لم أكن من أهل الجنة على الوجه الأول فيعجل عليه الطلاق، والأظهر فيه أنه لا يطلق القول على أحد أنه من أهل الجنة إلا إذا لم يدخل النار، ويحمل قوله إن لم أدخل الجنة على الوجه الثاني فلا يكون عليه شيء؛ لأن الظاهر من قوله إن لم أدخل الجنة إن لم أدخلها أصلا، فهو بمنزلة ما لو قال: إن خلدت في النار، وذلك يرجع إلى أنه إنما حلف ألا يكفر وأن يثبت على إيمانه، وأما قول الليث بن سعد وابن وهب فمعناه عندي أنهما حملا يمينه إذا لم تكن له نية على الوجه الثاني، ولهذا قال إنه لا شيء عليه، ولا يصح أن يتأول عليهما أنهما حملا يمينه على الوجه الأول ولم يوجبا عليه الطلاق؛ لأن ذلك يخرج إلى الإرجاء الصريح ومن(6/221)
الحق أن ينزها عن أن يتأول عليهما ما يخرج إلى هذا فالاختلاف في هذا بين مالك والليث إنما يعود إلى ما يحمل عليه يمينه إذا لم تكن له نية وبالله التوفيق.
[مسألة: قال كل ثيب أنكحها فهي طالق ثم قال بعد ذلك كل بكر أنكحها فهي طالق]
مسألة وقال في رجل كل ثيب أنكحها فهي طالق، ثم قال بعد ذلك كل بكر أنكحها فهي طالق أنه يجوز له نكاح الصنف الذي حلف عليه آخرا ولا يجوز له نكاح الصنف الأول وهو رأي ابن القاسم، وأما مالك فليس قوله، سمعت مالكا يقول: لا ينكح واحدة منهما ولست أراه بارا أن ينكح الآخرة منهما.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم أظهر، وقد وقع له مثله في آخر رسم الصلاة من سماع يحيى؛ لأن اليمين لازمة له في الصنف الأول، فهو يجوز له نكاح شيء منه فكان بمنزلة من قال بعد ذلك كل امرأة أنكحها بأرض الإسلام فهي طالق وهو لا يقدر على الدخول إلى أرض الحراب، أو بمنزلة من قال كل امرأة أتزوجها إلا بالصين فهي طالق وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأتي طالق لأن رؤي الليلة الهلال إن صمت غدا مع الناس فرئي الهلال تلك الليلة]
مسألة وعن قوم اجتمعوا في منزل فذكروا هلال رمضان فقال بعضهم: هو يرى الليلة، فقال رجل منهم: امرأتي طالق لأن رؤي الليلة الهلال إن صمت غدا مع الناس، فرئي الهلال تلك الليلة فخرج الرجل من جوف الليل إلى سفر فأفطر وخرج إلى سفر تقصر فيه الصلاة ويجوز في مثله الفطر.
قال: أرى عليه الطلاق إلا أن يكون نوى ذلك فيدينه وإن كانت عليه بينة فله نيته.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه يحنث إلا أن ينوي ذلك لأن(6/222)
الظاهر من مقصده أنه لم ينو ذلك، وأنه إنما أراد أن يخالف الناس فيما يجب عليه من الصيام ورؤيته إياه فيفطر وهو مقيم، فإن كان نوى ذلك فيدين في نيته يريد مع يمينه، وإن كانت عليه بينة لأنها نية محتملة لا تخالف ظاهر قوله وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إلى ألف سنة أو خمسمائة سنة]
مسألة قال ابن القاسم: إنا نقول فيما بلغنا ونظنه من قول مالك، من قال لامرأته أنت طالق إلى ألف سنة أو خمسمائة سنة لا طلاق عليه، وإنما الطلاق في الأجل الذي يطلق به عليه ساعتئذ كل أجل كان يبلغه أعمار الناس، فكل أجل لا تبلغه الأعمار فليس بطلاق.
قال محمد بن رشد: قوله: فأما كل أجل لا تبلغه الأعمار فليس بطلاق يريد الأعمار الذي يعمر إليها المفقود على الاختلاف الذي بينهم في ذلك وقد مضى هذا في رسم سلف وبالله التوفيق.
[مسألة: قال قد حلفت بالطلاق حتى إن امرأتي مني حرام]
مسألة قال ابن القاسم وسئل مالك عن رجل قال: قد حلفت بالطلاق حتى إن امرأتي مني حرام.
قال: يحلف بالله ما أراد الطلاق وما امرأته معه حرام ويخلى بينهما.
قال محمد بن رشد: قال ابن دحون في هذه المسألة إنها مسألة حائلة لا أصل لها في الفتيا إذ كان يجب أن يتبين منه بإقراره وإلى هذا ذهب ابن زرب فجعل أول مسألة من رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى مخالفة لها، وليس كما قاله؛ إذ ليس ذلك بإقرار صريح لأنه لم يقر أنه(6/223)
حنث، فاحتمل عند مالك أن يكون أراد أنه خشي على نفسه الحنث لكثرة أيمانه بالطلاق فلذلك نواه مع يمينه والله أعلم.
[مسألة: يحلف لامرأته بطلاق كل امرأة ينكحها عليها فهي طالق البتة فيتزوج عليها سرا]
مسألة وسئل عن الرجل يحلف لامرأته بطلاق كل امرأة ينكحها عليها فهي طالق البتة، فيتزوج عليها سرا لا يعلم بذلك ثم يموت وقد علم الشهود بذلك أو لم يعلموا، فقام الشهود أترثه هذه المرأة التي تزوج عليها؟ .
قال: أما إذا علموا فلا شك أنها ترثه، وأما إذا لم يعلموا فقد اختلف فيه ورأيي أنها ترثه.
قال محمد بن رشد: قوله: وقد علم الشهود بذلك أو لم يعلموا، علموا بتزويجه ودخوله عليها أو لم يعلموا بذلك فورثها منه إذا علم الشهود بذلك فلم يقوموا عليه حتى مات؛ لأنه أسقط شهادتهم بترك قيامهم بها، وكذلك لو ماتت هي لورثها هو إذا كان منكرا لليمين؛ لأن الشهادة قد بطلت بترك قيامهم بها، وسحنون لا يرى ترك قيامهم بالشهادة لاختلاف الناس في لزوم اليمين بالطلاق قبل النكاح وهو قول مالك في رواية أبي ضمرة من سماع حسين بن عاصم من كتاب الشهادات قوله فيه: فأما الشهادة بالحنث فإن ذلك ماضي، وإنما ورثها منه إذا لم يعلم الشهود من أجل أن القيام عليه إنما كان بعد موته لا من أجل اختلاف الناس في اليمين إذ لم يقل بذلك ولا رعاه، ولو ماتت هي لم يرثها هو على هذا التعليل، وهو قول مالك في رسم حمل صبيا قبل هذا، ولو كان القيام عليه قبل موته لم يتوارثا إذ لم يراع في ذلك الاختلاف في اليمين، وهو مذهبه في المدونة؛ لأنه جعل عليها العدة ثلاث حيض فدل ذلك على أنه لا ميراث بينهما، ويأتي على ما في سماع أبي زيد من أنه لا يفرق بينهما إذا دخلا مراعاة الاختلاف أنهما يتوارثان أيضا مراعاة للاختلاف، وقد مضى في رسم إن خرجت ما فيه بيان لما ذكرناه وبالله التوفيق.(6/224)
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق إلى سنة إلا أن يبدو لي ألا أطلقك]
مسألة وسئل مالك عن الذي يقول لامرأته أنت طالق إلى سنة إلا أن يبدو لي ألا أطلقك أو يقول لعبده أنت حر إلا أن يبدو لي ألا أعتقك، فهذا كله سواء الأجل وغير الأجل في هذا سواء أراها طالقا وأراه حرا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو بين لا اختلاف فيه لأن قوله في الطلاق والعتق بعد أن أوقع ذلك على نفسه معجلا أو إلى أجل: إلا أن يبدو لي بداء منه في الطلاق والعتق الذي أوجبه على نفسه وذلك لا يجوز له، ولو قال امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا إلا أن يبدو أو إلا أن أرى غير ذلك لكان ذلك له، وقد مضى في رسم أوصى القول بالاستثناء في مشيئة الله باليمين بالطلاق كله، وتدبر افتراق المعاني فيه تصب إن شاء الله.
[حلف بالطلاق في خصومة بينه وبين رجل ألا يفارقه حتى يبلغ أقصى حقه]
ومن كتاب البراءة
وسئل عن رجل حلف بالطلاق في خصومة بينه وبين رجل ألا يفارقه حتى يبلغ أقصى حقه في خصومته معه فوجد شاهدا واحدا قيل له احلف مع شاهدك وخذ حقك فنكل عن اليمين.
فقال إن كان حقا يعلمه فنكل فهو حانث وإن كان لا يعلم أحق هو أم باطل إلا بشهادة الشاهد من موروث وقع له أو لغيره فترك اليمين فهو أيضا حانث، وإن كان يعلم يقينا أنه لا حق له عليه وإنما أراد غيظه وأراد ألا يأخذ منه شيئا تلك نيته فترك اليمين فلا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.(6/225)
[مسألة: قول الرجل امرأته طالق ثلاثا إن لم أطلقها عند رأس الهلال واحدة]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يحلف بالطلاق البتة ليطلقها رأس الهلال واحدة ثم أراد أن يتعجل تلك التطليقة فيطلقها قبل رأس الهلال هل ترى ذلك يخرجه من يمينه إن فعل؟ أو قال أنت طالق واحدة إن لم أطلقك عند رأس الهلال واحدة، هل الواحدة أو البتة في ذلك سواء؟ .
قال: إن طلقها قبل رأس الهلال التطليقة التي جعل عند رأس الهلال لم يكن عليه إلا تطليقة واحدة، ولو لم يطلقها أيضا كانت طالقا واحدة ساعة تكلم بذلك ولم يؤخر إلى رأس الهلال ولو أبى إذا حلف بالله وقف فقيل له إما أن تطلق الساعة واحدة أو طلقت عليك البتة.
قال محمد بن رشد: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول الرجل امرأته طالق ثلاثا إن لم أطلقها عند رأس الهلال واحدة، ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن القاسم هذا إنه إن عجل عليه التطليقة التي جعل عند رأس الشهر [لم يكن عليه غيرها يأتي على مذهبه في المدونة في الذي يقول امرأتي طالق إن لم أطلقها أنه يعجل عليه الطلاق، والثاني أنه إن عجل الطلقة التي جعل عند الشهر لم يلزمه غيرها وإن أبى أن يعجلها ترك ولم يوقف على الطلاق، فإن لم يطلق حتى يحل الشهر بانت منه بالثلاث، وهو قول أصبغ وسحنون، وعليه يأتي ما في سماع أبي زيد من كتاب التخيير والتمليك؛ والثالث أنه لا يوقف حتى يأتي الشهر فيبر بالطلاق عنده أو يحنث، وإن عجل التطليقة قبل أن يأتي الشهر] لم يخرجه ذلك من يمينه ولم يكن له بد من أن يطلق عند رأس الهلال وإلا حنث، وهو قول المغيرة، وقد مضى تحصيل القول وبيانه في هذه المسألة في رسم حلف من سماع ابن القاسم من(6/226)
كتاب التخيير والتمليك وفي رسم أوصى من سماع عيسى منه حاشى قول المغيرة هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: ضايقه أبوه في شيء فحلف بالطلاق ألا يدخل تلك القرية سنة إلا عابر سبيل]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل ضايقه أبوه في شيء وكان ساكنا معه في قرية فحلف بالطلاق ألا يدخل تلك القرية سنة إلا عابر سبيل، فقدمها مجتازا فبات ليلة ثم أصبح غاديا أو قدمها في أول النهار فرحل عنها من يومه أو مع الليل أو بعد العصر.
قال: إن كان وجهه حين مر بها لغيرها لم يتعمد في الخروج إلى ذلك الموضع إرادة المرور بها إلا لحاجته إلى موضع غيرها ثم نزل بها مجتازا فلا بأس بما أقام إذا كان لا يقيم إلا كما يقيم المسافر لصلاح حاجته وما لا بد له كما يصنع الناس في المناهل، وليس في ذلك وقت إذا لم تكن إقامته للمنزل خاصة، وإن أراد الإقامة فلا بأس أن يتباعد عنها. وحد ما يتباعد الخمسة أميال والعشرة ونحوها.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إذا حلف ألا يدخل القرية إلا مجتازا فلا بأس عليه في إقامته بها لصلاح حاجته إذا مر عليها مجتازا عليها إلى غيرها صحيح بيّن في المعنى لا اختلاف فيه، ولا حد على ما ذكر ولو حبسه بها كريه اليوم بعد اليوم لم يحنث ما لم ينو أن يقيم بها إقامة تلزمه إتمام الصلاة بها، وأما قوله: إذا أراد الإقامة بها فإنه يتباعد عنها الخمسة الأميال والعشرة أميال ونحوها فقد مضى في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب ما في حد ذلك من الاختلاف فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[قال لختنه زوج ابنته إني أسألك حاجة فاحلف لي بالطلاق أن تقضيها]
وفي كتاب الجراب وسألته عن رجل قال لختنه زوج ابنته إني أسألك حاجة(6/227)
فاحلف لي بالطلاق أن تقضيها، فحلف بطلاق امرأته البتة أن يقضيها، فقال له: طلق ابنتي فطلقها واحدة، فقال الأب: إنما أردت البتة كيف الأمر في هذا؟
قال ابن القاسم: القول قول الختن وهي البتة إذا كان كلامه ذلك كلاما واحدا كما ذكرت على المراجعة والنسق، وهي طالق على كل حال ثلاثا قد حلف له بالبتة ليفعلن وقد أراد الأب البتة حين راجعه في كلامه فقال إنما أردت البتة، وإنما سألتك البتة فهي البتة وإن افترقا وتداعيا بعد ذلك فقال الزوج: إنما سألتني واحدة وقد طلقتها، وقال الأب بل سألتك البتة فالقول قول الزوج والبينة على الأب؛ لأنه مدعى عليه بطلاق البتات، والزوج منكر فالقول قول الزوج ويحلف.
قيل لسحنون ما تقول في عبد قال لسيده إني أسألك حاجة أفتقضيها لي؟ قال: نعم، فقال له العبد: فاحلف لي أن تقضيها لي، فقال له السيد: امرأته طالق إن لم أقضها لك، فقال له العبد: فاعتقني.
قال: لا يلزمه عتقه وليس بحانث لأن هذه ليست من الحوائج التي يقضيها الناس، ولا يسألونها، قيل له: فلو قال له العبد لما أسعفه المولى بقضاء حاجته قال ما أقول لك؟ فقال المولى: امرأته طالق إن لم أقل ما تقول، قال العبد: قل أنت حر، قال أراه حانثا إن لم يقل كما قال العبد؛ إلا أن يستثني السيد بيمينه إلا أن تقول أنت حر.
قال محمد بن رشد: لم يتكلم ابن القاسم على مسألة سحنون في الذي استحلف سيده بالطلاق أن يقضي له حاجته، فلما حلف له قال اعتقني ويشبه ألا يخالفه ابن القاسم فيها لأن المسألتين مفترقتان بأن العبد(6/228)
سأل العتق لنفسه ولم يسأله له غيره، وسأل الطلاق للمرأة غيرها ولم تسأله هي لنفسها؛ لأن من أعتق لا يقال له في عرف التخاطب إنه قضيت له حاجة بعتقه، وكذلك الطلاق لأنهما أعلى بأن يسميا حاجة في حق المعتق والمطلقة، وإنما يصح أن يسميا حاجة في حق من سأل ذلك لهما لغرض يكون له فيه، قال الله عز وجل: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف: 68] .
وأما سحنون فساوى بين المسألتين، وذلك أن له في كتاب ابنه في مسألة ابن القاسم أن الزوج لا يلزمه الطلاق وإن قال: لم أظن أنك تسألني مثل هذا؛ لأن هذا ليس من الحوائج التي يتعارف الناس سؤالها إلا أن يكون جرى من الكلام ما يظن أنه أراد بحاجته الطلاق.
وذهب ابن دحون إلى أن يرد قول ابن القاسم إلى قول سحنون فقال: إنما ألزمه ابن القاسم الطلاق لأنه أسعفه فيما سأله، ولو قال له ليست هذه من الحوائج التي تنقضي لما لزمه شيء على ما فسره سحنون في مسألة العبد.
والصواب أن ابن القاسم يوافق سحنون في مسألة العبد ويخالفه فيما له في كتاب ابنه في مسألة الطلاق للفرق الذي ذكرناه بين المسألتين والله تعالى الموفق.
والظاهر من قول سحنون أن السيد إذا استحلفه العبد بالطلاق أن يقول مثل قوله، فقال له العبد: قل أنت حر، فإنه إن قال ذلك لزمته حرية العبد، وان لم يقله لزمه طلاق امرأته، وهذا يأتي على القول بأن العتق يلزم باللفظ دون النية، وعليه يأتي قول أشهب في مسألة ناصح ومرزوق من كتاب العتق الأول من المدونة، وعلى قول القاسم لا يلزمه الحرية وإن قال ذلك إلا أن يقوله وهو يريد بذلك الحرية على طريقة الإسعاف وبالله التوفيق.(6/229)
[مسألة: عبد قال كل امرأة أتزوجها ما دمت عبدا فهي طالق]
مسألة وسألته عن العبد يقول كل امرأة أتزوجها ما دمت عبدا فهي طالق، أو يقول كل امرأة أنكحها في أرض الإسلام فهي طالق، والحر يقول كل امرأة أتزوجها فهي طالق.
قال ابن القاسم: أما العبد الذي قال كل امرأة أتزوجها ما دمت عبدا فهي طالق، فإن ذلك يلزمه لأن ذلك أجل، بمنزلة الذي يقول كل امرأة أتزوجها ما دامت أمي حية فهي طالق فهو على مثل ما قال؛ لأن ذلك أجل فهو بمنزلة أو أشد، فإن قلت إن ذلك حرم النساء كلهن ما دام عبدا فليس له أن يحرم النساء جميعا، فإن هذا أيضا قد حرم النساء جمعا ما دامت أمه باقية، وإنما لزمهما ذلك من قبل أنه أجل حياة أمه والحرية كأنها أجل إلا أن يخاف العنت ولا يقدر على التسرر فلا بأس أن ينكحها، وأما الذي قال كل امرأة أتزوجها بأرض الإسلام فإن كان يقدر على الدخول في أرض الحرب فعل وإلا لم أر بأسا أن ينكح، وأما الذي قال كل حرة أتزوجها بأرض الإسلام فهي طالق فهو كما قال قد حرم عليه الحرائر لأنه قد أبقى لنفسه من النساء الإماء ونكاح الإماء له حلال.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على ما بني عليه أصل المذهب من أن من حلف بطلاق ما يتزوج فحنث أو طلق ذلك من غير يمين يلزمه إذا خص ولا يلزمه إذا عم، والتخصيص يكون بالأعيان وبالأزمان وبالبلدان وبالانتساب فمن التخصيص بالأعيان أن يخص الحرائر دون الإماء أو الإماء دون الحرائر أو الأبكار، دون الثيب والثيب دون الأبكار، ومن التخصيص بالأزمان أن يقول كل امرأة أتزوجها إلى أجل كذا وكذا مما يبلغه عمره على ما مضى في رسم الرهون وغيره أو ما دمت عبدا(6/230)
أو ما دام فلان حيا وما أشبهه ذلك، فهذا يلزمه إلا أنه يباح له التزويج إن خشي العنت على نفسه ولم يكن له من المال ما يتسرر به؛ لأنه قد حرم على نفسه جميع النساء في هذه الحال، ومن التخصيص بالبلدان أن يقول كل امرأة أتزوجها في مصر أو فيما عدا مصر وما أشبه ذلك، ومن ذلك أن يقول كل امرأة أتزوجها بأرض الإسلام فهي طالق وهو يقدر على الدخول في أرض الحرب، إلا أن هذا يختلف فيه، فقال ابن القاسم هو تخصيص يلزمه، وقال أصبغ ليس بتخصيص فلا يلزمه، كمن استثنى عددا يسيرا من النساء أو من قرية صغيرة، وأما إن كان لا يقدر على الدخول إلى أرض الحرب فلا يلزمه لأنه كالعموم، وقد اختلف فيمن استثنى نسوة سماها عشرا أو نحوها، فقال ابن القاسم: فهو كالعموم لا يلزمه ذلك، وقال مطرف: إن كان فيما استثنى أيضا لا زوج لها يحل له نكاحها في الحال لزمته اليمين، وقال ابن الماجشون: إن كان فيمن استثنى يحل له نكاحها يوما بعد زوج أو بعد طلاق زوج، وإن لم يكن فيهن من يحل له نكاحها في هذه الحال لزمته اليمين، قال ابن حبيب: وقول ابن القاسم رخصة وتوسعة، وقول مطرف استحسان، وقول ابن الماجشون هو القياس وبالله التوفيق. ومن التخصيص بالأنساب أن يقول كل امرأة أتزوجها من قريش أو إلا من قريش وما أشبه ذلك وبالله التوفيق.
[قال لامرأته إن أمكنتني من حلق رأسك فلم أحلقه فأنت طالق البتة]
ومن كتاب إن أمكنتني من حلق رأسك
قال ابن القاسم في رجل قال لامرأته إن أمكنتني من حلق رأسك فلم أحلقه فأنت طالق البتة، قلت فإن أراد أن يحلق بعد ذلك وأمكنته امرأته قال: لا ينفعه ذلك وقد حنث، وقاله ابن وهب.
قال محمد: هذا بين على ما قال لأنه علق الحلق، بالتمكين في يمينه وأوجب الطلاق على نفسه بتركه الحلق بعد(6/231)
التمكين فوجب أن يحنث إذا أمكنته فلم يحلق، كما لو قال أنت طالق إن أمكنتني من حلتا رأسك لأحلقنه، فأمكنته فلم يحلق ثم أمكنته مرة أخرى فحلق لبر في يمينه، وإن لم تمكنه من الحلق لم يكن له أن يطأها حتى يحلق رأسها، فإن طلبته بحقها في الوطء ضرب له أجل الإيلاء فإن حل الأجل ولم يحلق طلق عليه بالإيلاء، وإن حلق في الأجل بر في يمينه وسقط عنه الإيلاء، وإن لم تطلبه بحقها في الوطء ولا حلق حتى مات أحدهما توارثا. لأن الحنث لا يقع عليه إلا بعد الموت إلا أن ينوي ليحلقن رأسها ساعة أمكنته من ذلك فيحنث بذلك، وقد قيل إنه محمول على التعجيل حتى يريد التأخير، والأول هو المشهور في المذهب، ولا فرق بين أن يقول الرجل امرأتي طالق إن لم أحلق رأسها وبين أن يقول امرأتي طالق لأحلقنه إن أمكنتني فأمكنته إذا لم يرد بذلك التعجيل، يبين هذا الذي ذكرناه قول مالك في أول سماع أشهب من كتاب النذور في الذي حلف إن أبق عبده ليضربنه فأبق فلم يضربه ثم أبق مرة ثانية فضربه أنه يبر بذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: قال الرجل لامرأته أنت طالق يوم يجيء أبي]
مسألة وقال مالك إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق يوم يجيء أبي فإنه يمس امرأته حتى يجيء أبوه فإن جاء أبوه طلقت عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، ومثله في المدونة وغيرها وهو مما لا اختلاف فيه لأنه طلاق إلى أجل قد يكون وقد لا يكون، ولو طلقها إلى أجل لا بد أن يكون مثل أن يقول امرأتي طالق إذا مات فلان أو يموت فلان لعجل عليه الطلاق، واختلف إذا طلقها إلى أجل الأغلب منه أن يكون مثل أن يقول امرأتي طالق إذا حاضت فلانة وهي في سن من تحيض، فقال ابن القاسم يعجل عليه الطلاق، وقال أشهب لا يعجل عليه،(6/232)
واختلف في ذلك أيضا قول مالك وبالله التوفيق.
[مسألة: قال المدين قد قضيتك فإذا أنكرت فأنا آتيك بحقك غدا فحلف له بالطلاق]
مسألة وسئل عن رجل كان عليه خراج أرض فتعلق به فتحمل به رجل فغاب المتحمل به، فتعلق بالحميل فأتى بثلث دينار، فقيل له إن على صاحبك نصف دينار، فقال: لا والله لا أعرف إلا ثلث دينار، قيل له: اغرم السدس، فقال أنا آتيكم به غدا، قيل له احلف لنا بطلاق امرأتك أن تأتينا غدا بسدس دينار أو بصاحبنا، فحلف بالطلاق فخرج من عنده، فلما كان بالباب لقيه متقاضي الخراج الذي دونه، فشكى إليه وأخبره، فقال: لا والله ما على صاحبك إلا ثلث دينار، فارجع معي فرجع معه إلى الذي استحلفه، فقال له: لم ألزمت هذا بنصف دينار وليس على صاحبه إلا ثلث دينار؟ فقال له صاحبه الذي استحلفه: اذهب ليس عليك شيء، فخرج من عنده وذهب الأجل ولم يقضه.
قال: أراه قد حنث، قال: وكذلك لو أن رجلا تعلق برجل في حق له فقال له: قد قضيتك، وقال صاحب الحق: ما قضيتي، فقال المطلوب: أما أنا فقد قضيت، فإذا أنكرت فأنا آتيك بحقك غدا، فحلف له بالطلاق، ثم نظر صاحب الحق في كتاب تقاضيه أو ذكر أنه قد تقاضاه منه، فقال له: اذهب ليس لي عليك شيء قد وجدت ما ادعوت عليك باطلا أنه لا يخرجه من يمينه إلا أن يوفيه الحق وإلا حنث، ثم يرده عليه.
قلت فإن قامت للحالف بينة أنه قد قضاه ذلك الحق؟ قال: لو شهد له أبو شريح وسليمان بن القاسم لم يخرجه من يمينه حتى يوفيه الحق ثم يرده إليه.(6/233)
قال ولقد بلغني عن مالك في رجل أسلف أخاه عشرة دنانير، واتخذ عليه طلاق امرأته أن يوفيه إلى شهر فمات أخوه المسلف قبل الشهر وليس له وارث إلا أخوه الحالف المستسلف، قال: أرى أن يأتي السلطان فيقضيها إياه ثم يردها عليه، قلت أفترى أنت ذلك؟ قال: نعم، إني لأستحسنه قلت: فلو لم يفعل أكنت تراه حانثا؟ قال: أحب أن يفعل، ولو وقع لم أره حانثا، وكذلك الذي يشتري الرأس ويكون ثمنه إلى أجل فيحلف بالطلاق أن يوفيه الثمن إلى أجل فيجد بالعبد عيبا يرد به أو يستحق بيديه قبل الأجل أنه لا يخرجه من يمينه حتى يوفيه الثمن إلى أجل فيعثر على البيع فيفسخ قبل الأجل لم يخرجه من يمينه حتى يوفيه ما حلف له عليه.
قال ولو كان أعطاه درهما في درهمين إلى أجل ثم حلف بالطلاق أن يوفيه إلى الأجل ففسخ البيع بينهما قبل الأجل لم يخرجه من يمينه حتى يوفيه ما حلف له عليه ثم رعه إليه.
قال محمد بن رشد: هذه المسائل كلها من شرح واحد فجرى فيها على أصل واحد وحملها على ما يقتضيه اللفظ ولم يراع في شيء منها المعنى الذي يظهر أن الحالف قصد إليه في يمينه وإن كان في بعضها أبين منه في بعض ما أذكر، أما الحميل الذي حلف ليعطين النصف الدينار الذي ادعى عليه من قبل المتحمل عنه، والغريم الذي حلف ليقضين الحق الذي ادعى عليه أنه لم يقضه فالمعنى فيهما جميعا سواء، وذلك أن كل واحد منهما حلف ليؤدين ما ادعى عليه به وهو يعلم أنه لا شيء عليه من ذلك، فالمعنى في يمين كل واحد منهما أنه إنما حلف ليؤدين إلى المحلوف له ما يدعي أن له قبله ليتخلص من دعواه ومطالبته إياه، فوجب على مراعاة المعنى إذا أقر أنه لا حق له قبله ولا مطالبة له عليه ألا يحنث إن لم يدفع إليه ما كان يدعيه قبله إذ قد برئ منه وتخلص من مطالبته إياه(6/234)
بإقراره أنه لا حق له ووجب على ما يقتضيه لفظ يمينه من أنه حلف ليدفعن إليه ما يدعيه قبله إن حنث لا سيما وهو إنما حلف ألا يدفعن ذلك إليه وهو يعلم أنه لا شيء له قبله منه، وأما الذي اشترى العبد بثمن إلى أجل فيحلف أن يؤدي الثمن إلى ذلك الأجل فيجد به عيبا يجب به رده فالمعنى في يمينه أنه حلف ليؤدين حقا عليه فيما يظن فوجب على مراعاة المعنى إذا وجد عيبا وسقط عنه الثمن ألا يحنث إذا لم يدفع إليه الثمن إلى الأجل إذا لم يحلف أن يتطوع بدفع ما ليس عليه ووجب على ما يقتضيه لفظ يمينه من أنه حلف ليدفعن إليه الثمن إلي الأجل أن يحنث إن لم يدفعه إليه حتى حل الأجل، والحنث في هذه أبين منها في المسألتين اللتين قبلها لأن الثمن إنما سقط عنه باختياره إذ لو شاء أن يلتزم العيب لالتزمه ولعله قد كان مغتبطا وإنما ردة فرارا من القضاء الذي عليه، ومن أصولهم أن الحنث يدخل بأقل الوجوه وقد تقدمت هذه المسألة في رسم إن خرجت وأما المتسلف الذي حلف ليؤدين السلف إلى الذي أسلفه إياه إلى أجل فمات المسلف قبل الأجل والحالف المستسلف وارثه فلا اختلاف في أن اليمين قد سقطت عنه سقوط السلف الذي حلف ليقضيه إلى الأجل، واستحسان مالك أن يقضي السلطان ثم يرده عليه ضعيف؛ لأن دفعه إليه على أن يأخذه منه لغو لا فائدة فيه ولا معنى، ولا هو من الذي حلف عليه لا في لفظ ولا في معنى؛ إذ لم يدفع إلى من حلف ليدفعن إليه ولا حقا واجبا هو عليه، وأما الذي يشتري السلعة بثمن إلى أجل فيحلف ليؤدين الثمن إلى ذلك الأجل فيوجد البيع حراما أو تستحق السلعة فإن كان الحالف عالما بفساد البيع أو أن السلعة ليست للبائع، دخل في ذلك الاختلاف الذي ذكرناه في المسألتين الأولتين يحنث علي مراعاة اللفظ إلا أن يدفع الثمن ثم يرده إليه، وليس معنى ذلك أن يدفع إليه على أن يرده عليه لأن الدفع على هذا الوجه ليس بدفع، وإنما معناه أن يدفعه(6/235)
إليه على ما حلف عليه ليبر في يمينه دون شرط، فإن رده إليه قبله منه، وإن أبى أن يرده عليه فقام عليه فيه حلف أنه لم يرده عليه إلا وهو ينوي أن يقوم عليه فيأخذه منه إذا خلص من يمينه ولا يحنث على مراعاة المعنى، وأما إن لم يكن عالما بفساد البيع ولا بأن السلعة ليست للبائع فالأظهر سقوط اليمين عنه بسقوط الثمن عنه بالاستحقاق أو بالفساد قياسا على مسألة السلف، وقد قيل إن اليمين لا تسقط عنه ويحنث إن لم يدفع ما حلف بدفعه إلي الذي حلف ليدفعنه إليه على مقتضى لفظه في اليمين وهو بعيد، والذي سلف دينارا في دينارين إلى أجل يحلف على قضائهما يجري على قياس هذا في التفرقة بين أن يعلم بحرام ذلك أو لم يعلم وبالله التوفيق.
[مسألة: اتخذ عليه طلاق امرأته أن يوفيه المائة إردب السلف إلى الأجل]
مسألة قال ولو أن رجلا سلف عشرة دنانير، في مائة إردب إلى أجل واتخذ عليه طلاق امرأته أن يوفيه المائة إردب إلى الأجل، فلما كان قبل الأجل قال: إني أخاف أن لا يكون عندي طعام فهل لك أن يقيلني أو تصالحني على أمر، فأقاله أو صالحه، ثم أخبر أنه قد لزمه الحنث ولا يخرجك ما صنعت من ذلك. فقال لصاحب الحق إنما أرد عليك ما صالحتك إن كان صالحه أو العشرة الدنانير التي أقلتك منها، ويكون الطعام لي عليك إلى أجله، فلا ينفعه ذلك وقد حنث؛ لأن هذا بيع حادث كل واحد منهما ملك أمره إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل؛ لأن الصلح وإلا قاله قد لزمتهما وليس لواحد منهما أن يرد ذلك وقد ثبت ذلك عليهما، وقد حنث صاحب اليمين ولا ينفعه أن يرد عليه ما أخذ منه، ويكون الطعام عليه إلى أجله، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: قوله لأن الصلح والإقالة قد لزمتهما وأن الذي صالح ليس له أن يرد ما صالحه كلام وقع على غير تحصيل، إذ لا يجوز(6/236)
قبل الأجل في الطعام المسلم فيه إلا الإقالة خاصة، فإذا صالح قبل الأجل على دنانير أقل أو أكثر من رأس المال أو على دراهم أو على عروض أو على طعام من صنف ما له عليه أقل أو أكثر أو من غير صنف ما له عليه فهو صلح حرام لا يحل ولا يجوز، ولا يحنث الحالف به لأن الطعام الذي حلف لنوفينه إلى الأجل ثابت عليه على حاله لا يسقط عنه بالصلح لأن الواجب فسخه وأن يرد عليه ما قبض منه من ذلك كله.
وأما إذا أقاله من الطعام قبل الأجل على رأس ماله فقال هاهنا إنه قد حنث ومعنى ذلك إذا كانت الدنانير التي أخذ في رأس ماله ليس فيه وفاء بالطعام الذي كان عليه على ما مضى في رسم إن خرجت قبل هذا، وعلى معنى ما في المدونة حسبما بيناه في الرسم المذكور وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأتين له إنهما طالقتان إن دخلتما هذه الدار فدخلتها إحداهما]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل يقول لامرأتين له إنهما طالقتان إن دخلتما هذه الدار فدخلتها إحداهما: أنها طالقتان جميعا لأن مالكا قال في رجل قال لامرأتيه أنتما طالقتان إن دخلتما دار فلان ودار فلان فدخلت إحداهما الدارين إن الطلاق لزمه فيهما جميعا، أو قال لامرأتيه أنتما طالقتان إن مسستكما فمس إحداهما: قد لزمه فيهما جميعا، أو حلف بالطلاق إن أكل هذين القرصين فأكل واحدا إنه حانث إن أكل منهما شيئا وهو الذي سمعنا ورأينا، وأما قول من قال تطلق عليه واحدة منهما حتى تفعل الأخرى وأما أن تطلق التي دخلت منهما [فهذا ما لم يقله أحد من مشرقي ولا من مدني وإنما الذي قال أهل المشرق إنه لا يطلق عليه] واحدة منهما حتى تفعل الأخرى، وأما أن تطلق التي دخلت فهذا لا يستقيم.
قال محمد بن رشد: لم يختلف قول مالك وهو قول أحد من(6/237)
أصحابه فيما علمت أن من حلف إلا يفعل فعلين ففعل أحدهما أو لا يفعل فعلا ففعل بعضه أنه حانث من أجل أن ما فعله من ذلك قد حلف ألا يفعله إذ هو بعض المحلوف عليه، واختلف قول ابن القاسم في الذي يقول لامرأتيه إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو يقول لهما إن مسستكما فأنتما طالقتان وما أشبه ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا شيء عليه حتى يدخلا جميعا أو حتى يمسهما جميعا، وهو قوله في العتق الأول من المدونة.
والثاني: أنهما يطلقان جميعا بدخول الواحدة منهما أو مسيس الواحدة منهما، وهو قوله ها هنا في هذه الرواية.
والثالث: أنه تطلق التي دخلت أو التي مس منهما، وهو قوله في رسم الثمرة من سماع عيسى من كتاب العتق في الذي يقول لعبديه إن شئتما الحرية فأنتما حران فشاء أحدهما ولم يشأ الآخر، قال: من شاء منهما الحرية فهو حر وقوله أيضا في سماع أبي زيد من كتاب الصدقات والهبات في الذي يتصدق على الرجلين بعبد ويقول: إن قبلتما، فقبل أحدهما ولم يقبل الآخر قال: من قبل منهما كان له ما قبل، وهو قول أشهب في كتاب العتق الأول من المدونة وأنكره ها هنا وقال: إنه لم يقله مشرقي ولا مدني ولكل قول منهما وجه: فوجه القول الأول: التعلق بما يقتضيه اللفظ وعزاه ها هنا إلى أهل المشرق لأنه على أصولهم في الاقتصار في الأيمان على ما تقتضيه الألفاظ دون الاعتبار بالمعاني، ووجه القول الثاني: القياس الذي ذكره في الرواية، ووجه القول الثالث: مراعاة المعنى وهو أنه إنما أراد معاقبتهما على الدخول بالطلاق، أو معاقبة نفسه على المسيس بالطلاق فوجب أن تلحق العقوبة لمن دخل منهما، وأن تلحقه العقوبة فيمن مس منهما وبالله التوفيق.(6/238)
[مسألة: حلف لامرأته بالطلاق ألا يخرجها من منزلها إلا برضاها ورضا أخيها وأختها]
مسألة وقال في رجل حلف لامرأته بالطلاق ألا يخرجها من منزلها إلا برضاها ورضا أخيها وأختها فرضيت المرأة أن تخرج مع زوجها وأبى الأخ والأخت، وقالت المرأة: إنما أخذتما هذا لي.
قال: لا يخرج بها إلا بالاجتماع منهم على الرضى، قلت له: فإن أرادت أن تخرج زائرة وتقيم العشرة والعشرين؟ فقال: إن كان إنما كان أصل يمينه على النقلة فلا شيء عليه في الزيارة، وإن كان لم ينو شيئا فلا يخرجها.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يخرج بها إلا بالاجتماع منهم على الرضى صحيح على ما أجمعوا عليه من أن الحنث يدخل بأقل الوجوه حسب ما ذكرناه في المسألة التي قبل هذه، فإن خروجه بها دون أن يرضى أحدهم كخروجه بها دون أن يرضى واحد منهم في وجوب الحنث عليه، ألا ترى أنه لو حلف ألا يدخل الدار حتى يأكل الرغيف لحنث إن دخل الدار قبل أن يستوعب أكل الرغيف، كما يحنث إن دخلها قبل أن يأكل منه شيئا، وهذا بين، ولو جعل أمرها بأيديهم إن أخرجها بغير رضاها لكان له أن يخرج بها إذا رضيت وقد مضى من بيان هذا والقول فيه في رسم حلف من سماع ابن القاسم في كتاب النكاح ما فيه كفاية وشفاء فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله: إنه لا يحنث بالزيارة وإن قامت فيها العشرة والعشرين، هذا نحو قول أشهب وأحد قولي أصبغ في أن من حلف ألا يساكن رجلا فزاره لا يحنث بالزيارة وإن طالت خلاف ما مضى في أول رسم يوصي، وقد مضى تحصيل القول في هذا المعنى في أول سماع يحيى من كتاب النذور فلا معنى لإعادته والعلم لله.(6/239)
[مسألة: يقول للمملوكة إن تزوجتك فأنت طالق فاشتراها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يقول للمملوكة إن تزوجتك فأنت طالق فاشتراها، فقال: لا بأس أن يطأها وكذلك إن قال إن اشتريتك فوطئتك فأنت حرة وأنت علي كظهر أمي فتزوجها فإنه يطأها ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الطلاق ليس من ألفاظ الحرية فالحرية ليست من ألفاظ الطلاق، فإذا قال الرجل: أنت حرة فلا تكون طالقا إلا أن يكون أراد بذلك الطلاق، وإذا قال لأمته: أنت طالق فلا تكون حرة إلا أن يكون أراد بذلك الحرية، واختلف إن قال لامرأته: أنت حرة مني ففي الثمانية أنها طالق البتة وإن لم ينو بذلك الطلاق وفي التخيير والتمليك من المدونة لابن شهاب أنه يحلف ما أراد بذلك الطلاق ولا يلزمه طلاق، وكذلك على قياس هذا لو قال لأمته: أنت طالق مني وكذلك التزويج ليس من ألفاظ التسري والشراء ليس من ألفاظ التزويج، فإذا قال الرجل للرجل: قد بعتك ابنتي أو أمتي بكذا وكذا لا يكون ذلك نكاحا إلا أن يكون أراد بذلك النكاح، وإذا قال في أمته قد زوجتك أمتي بكذا وكذا لا يكون ذلك بيعا إلا أن يكون أراد بذلك البيع، فصح بما ذكرناه أن من قال في مملوكة إن تزوجتها فهي طالق أنه لا شيء عليه إن اشتراها إلا أن يكون أراد بذلك إن اشتريتها فهي حرة، وأما من قال: إن اشتريتك فأنت حرة فلا شيء عليه إن تزوجها إلا أن يكون أراد بذلك إن تزوجتها فهي طالق وبالله التوفيق ولا رب غيره.
[قال لامرأته أنت طالق البتة إن صالحتك فصالحها]
ومن كتاب القطعان قال عيسى وسألت ابن القاسم عن الرجل يحلف بطلاق امرأته واحدة على أن يصالحها فصالحها هل يرد ما أخذ منها في الصلح؟ قال ابن القاسم: لا يرد ذلك عليها وهو بمنزلة من قال(6/240)
لغلامه: إن قاطعتك إلى سنة فأنت حر فقاطعه قبل السنة أنه حر ولا يرد عليه شيئا، قال ابن القاسم: ولو قال لامرأته أنت طالق البتة إن صالحتك فصالحها فإنها تطلق عليه بالبتة، ويرد عليها ما أخذ منها في الصلح وهو بمنزلة من قال لغلامه إن قاطعتك فأنت حر ولم يقل إلى سنة فقاطعه فإنه حر ويرد عليه ما أخذ منه.
قال عيسى: وإنما فرق بينهما لأنه حين قال لها: أنت طالق واحدة إن صالحتك فصالحها حنث فيها بتطليقه اليمين ثم وقعت عليه طلقة الصلح وهي في عدة منه يملك رجعتها لو شاء، فأخرج من يده ما كان يملك من رجعتها بالذي أخذ منها بالصلح، فلذلك لم يرد ذلك عليها، وأنه إذا قال: أنت طالق البتة فصالحها فإنها تطلق بالبتة ثم يقع الصلح وليست منه بامرأة فأخذ منها ما أخذ بغير شيء يخرجه من يديه، فلذلك يرد ذلك عليها وكذلك حين قال لغلامه: إن قاطعتك إلى سنة فأنت حر فقاطعه قبل السنة فله ما أخذ للذي يعجل للعبد من العتق قبل السنة، وإذا قال: إن قاطعتك فأنت حر، فقاطعه فهو حر ويدفع إليه ما أعطاه لأنه لم يتعجل هاهنا العتق قبل أجل كان ضربه كما فعل في الأول، فهذا فرق ما بينهما.
قال محمد بن رشد: أما الذي يحلف بطلاق امرأته واحدة يريد وقد دخل بها ألا يصالحها فيصالحها فلا خلاف في أنه لا يرد عليها ما أخذ منها في الصلح كما قال، وتمثيله ذلك بالذي يقول لغلامه إن قاطعتك إلى سنة فأنت حر فقاطعه قبل السنة أنه حر ولا يرد عليه شيئا صحيح أيضا على المعنى دون اللفظ؛ لأنه قال فيه إن قاطعتك إلى سنة فأنت حر، والصواب إن قاطعتك فأنت حر إلى سنة وعلى هذا يصح التمثيل وهو الذي أراد، وأما على ما وقع من قوله إن قاطعتك إلى سنة فأنت حر فلا يصح التمثيل لأن الجواب على هذا في مذهبه إنما هو أن يكون حرا في الوقت إن قاطعه(6/241)
قبل السنة، ويرد عليه ما أخذ منه، كقوله: إن قاطعتك فأنت حرة؛ لأنه لما قاطعه قبل السنة كان ما أخذ منه في القطاعة بعد وجوب الحرية له على مذهبه الذي ذهب إليه، وأما إذا قال لامرأته: أنت طالق البتة أو أنت طالق واحدة وهي غير مدخول بها إن صالحتك فصالحها فذهب ابن القاسم إلى أنه يجب عليه أن يرد عليها ما أخذ منها بالمصالحة بمنزلة من قال لعبده: أنت حر ولم يقل إلى سنة إن قاطعتك فقاطعه أنه يرد عليه ما أخذ منه في المقاطعة، وحكى البرقي عن أشهب أنه لا يرد في ذلك على الزوجة شيئا مما أخذ في الصلح ولا على العبد شيئا مما أخذ منه في المقاطعة.
قال: وكان يعجب بها ويقول: إنما رضي بالحنث لمكان ما أخذ منها، وكذلك أقول إنه الصحيح في النظر والقياس؛ لأنه إذا قال لامرأته أنت طالق البتة إن صالحتك فصالحها إنما يقع الطلاق عليه بالمصالحة التي جعلها شرطا لوقوعه فكانت المصالحة هي السابقة للطلاق إذ لا يكون المشروط إلا تابعا لشرطه، فإذا كانت المصالحة سابقة للطلاق مضت ولم يجب على الزوج رد ما أخذ منها، وبطل الطلاق واحدة كان أو ثلاثا لوقوعه بعد الصلح في غير زوجة، وكذلك القول في قول الرجل لعبده أنت حر إن قاطعتك تمضي المقاطعة إن قاطعه لتقدمها الحرية.
ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم على ما فسره عيسى أنه جعل الطلاق سابقا للمصالحة، فإن كان الطلاق واحدة في المدخول بها مضت المصالحة لوقوعها في العدة وملكت المرأة بها نفسها، وإن كان الطلاق واحدة أو ثلاثا في التي لم يدخل بها بطلت ورد الزوج ما أخذ فيها لأنها وقعت فارغة في غير زوجة، وهذا منكسر من قوله إذ لو تقدم الطلاق المصالحة لوجب أن يقع عليه بالمصالحة طلقة بائنة إذا كان الطلاق واحدة في التي قد دخل بها وهذا ما لا يقوله هو ولا غيره.
وجعل ابن القاسم في هذه المسألة الشرط تابعا للمشروط إنما بناه والله أعلم على قول مالك فيمن قال لعبده إن بعتك فأنت حر فباعه أنه حر على البائع، وليس ذلك بصحيح؛ لأن قول مالك في هذه المسألة(6/242)
استحسان على غير قياس، والقياس فيها قول من قال: إنه لا شيء على البائع لأن العتق إنما وقع من البائع بعد حصول العبد للمشتري بالشراء، وإنما ينبغي أن تقاس هذه المسألة على قولهم فيمن قال إن اشتريت فلانا فهو حر أو إن تزوجت فلانة فهي طالق أن الحرية تلزمه بالشراء والطلاق بالتزويج لوقوع الحرية بعد الشراء والطلاق بعد النكاح على الأصل الصحيح في وقوع المشروط عقيب الشرط وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن أنت خرجت من عتبة الباب فأنت طالق ثلاثا]
مسألة قال عيسى: وحدثني ابن وهب عن ابن شعبان قال: بلغني أن ابن عمر وسعد بن أبي وقاص استفتاهما رجل قال لامرأته إن أنت خرجت من عتبة الباب فأنت طالق ثلاثا، قال فأخرجت إحدى رجليها وحبست الأخرى ثم أدخلت التي أخرجت فقالا له: قد حرمت عليك لا تحل لك حتى تنكح زوجا غيرك، قال عيسى: وقال ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: لم يفرق ابن القاسم في هذه الرواية ولا ابن عمر وسعد بن أبي وقاص فيما ذكر عنهما في هذه الحكاية بين أن يكون اعتمادها على الرجل الذي أخرجته من العتبة أو على الرجل الذي لم تخرجه فحمله أصبغ وغيره على عمومه في كل حال، ويحتمل أن يحمل قولهم على أنها اعتمدت عليهما معا أو على التي أخرجت لأن ابن حبيب حكى عن ابن الماجشون أنه إن كان اعتمادها على الرجل التي أخرجت فقد حنث، وإن كان اعتمادها إنما كان على الرجل التي لم تخرجه فلا حنث عليه، وهو جيد من قوله، إلا أنه قال: لا يحنث إن كان اعتمادها عليهما جميعا، وهو بعيد؛ لأنا إن حملنا قول ابن عمر وسعد بن أبي وقاص(6/243)
وابن القاسم على أنهم رأوا الطلاق قد وقع على الحالف بإخراج رجلها من العتبة وإن كانت لم تعتمد عليه لزمنا عليه أن يوجب الحنث بإخراج يدها من العتبة وهو بعيد، وقد قال ابن الماجشون أنه لا يحنث وإن أخرجت [رأسها وصدرها إذا كان اعتمادها على رجليها في داخل العتبة بخلاف العتبة إذا كانت راقدة لأنها حينئذ يكون اعتمادها على يديها فيحنث إذا أخرجت صدرها ورأسها ولا يحنث إذا أخرجت رأسها ورجليها وهي] راقدة، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف الذي عليه القمح بالطلاق أن يوفيه صاحبه إلى الأجل ثم أقاله]
مسألة وسئل عن الرجل يكون له على الرجل قمح من تسليف كان سلفه إياه وقد حلف الذي عليه القمح بالطلاق أن يوفيه صاحبه إلى الأجل، ثم أقال صاحب القمح الذي عليه القمح قبل الأجل.
قال ابن القاسم: إن كان الذي أقاله به هو مثل ثمن القمح قبل الأجل حين يقيله فلا حنث عليه. وقال أشهب مثله.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في الذي قبل هذا وفي رسم إن خرجت، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لعبده إن لم أبعك فامرأته طالق البتة فمات العبد أو أبق]
مسألة وقال ابن القاسم: في رجل قال لعبده إن لم أبعك فامرأته طالق البتة فمات العبد أو أبق.
قال: أما الموت فإنه إن لم يكن فرط في بيعه حتى مات العبد فلا شيء عليه، وإن كان فرط في بيعه حتى لو شاء أن يبيعه(6/244)
قبل أن يموت باعه ففرط في ذلك حتى مات العبد فهو حانث. قال: وأما الإباق فإن رفعت المرأة أمرها إلى السلطان ضرب له أجل المولي أربعة أشهر من يوم ترفع ذلك إليه، فإن أخذ العبد فباعه قبل الأربعة أشهر فقد بر، وإن لم يقدر على العبد حتى مضت الأربعة الأشهر طلق عليه طلاق الإيلاء واحدة، فإن وجد العبد وباعه في العدة ارتجع، وإن لم يقدر على العبد حتى خرج من العدة فلا رجعة له عليها.
هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها وستأتي متكررة في سماع أبي زيد فلا وجه للقول فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن لم أتزوج عليك فأنت طالق البتة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل قال لامرأته إن لم أتزوج عليك فأنت طالق البتة ثم قال لها: إن تزوجت عليك فتلك المرأة طالق البتة.
قال: أراها الساعة طلقت عليه بالبتة إلا أن يشاء أن تدع ذلك وتقيم معه لا يطأها ولا ينظر إلى شعرها فإن رفعت أمرها طلقت مكانها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه على حنث ولا يقدر على البر فلا سبيل له إلى وطء امرأته أبدا، فإن رضيت أن تبقى معه بغير وطء بقيت وان رفعت أمرها وسألته الوطء طلقت مكانها ولم يضرب له أجل الإيلاء إذ لا يقدر على الفيء، وقال: إنه يضرب له أجل الإيلاء ولا يجوز له الوطء لعلها أن ترضى بالبقاء معه على غير وطء فإذا حل أجل الإيلاء ولم ترض بالمقام معه على غير وطء طلق عليه بانقضائه، والقولان قائمان(6/245)
من المدونة من كتاب الإيلاء وهذه المسألة تمام مسألة رسم أوصى فيما تقدم وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف لامرأته بطلاقها البتة ليتزوجن عليها إلى شهر فيتزوج قبله]
مسألة وسئل عن الذي يحلف لامرأته بطلاقها البتة ليتزوجن عليها إلى شهر فيتزوج قبل الشهر ويدخل بها بعد الشهر.
قال: أراه حانثا وإنما التزويج المسيس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم في أن البر لا يكون إلا بأكمل الوجوه، وقد مضت والقول فيها في رسم لم يدرك من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادة ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لرجل امرأتي طالق البتة إن ساكنتك وكان معه في بيت وحلف ليلا]
مسألة وسئل عن رجل قال لرجل: امرأتي طالق البتة إن ساكنتك وكان معه في بيت وحلف ليلا.
فقال: ينتقل مكانه وإن أخر ذلك إلى الصباح حنث، قال: ولو قال امرأته طالق البتة لأنتقلن عنك فإنه يطلب ويرتاد لنفسه منزلا ولكن لا يطأ حتى ينتقل.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في النذور من المدونة في الذي يحلف بالطلاق ألا يساكن رجلا أنه يخرج تلك الساعة وإن كان في جوف الليل فإن أقام حتى يصبح حنث ألا يكون نوى ذلك، وقد قيل له يوم وليلة، وهو قول أصبغ وأشهب، قال ابن لبابة: ولا يمنع في خلال ذلك من الوطء وقوله صحيح لأن اليوم والليلة عندهما كالأجل، فهو في ذلك على بر، وقد قيل: إن له ومن الفسحة في ذلك ما يرتاد فيه موضعا ينتقل إليه، وهو ظاهر ما في سماع ابن القاسم، وقد مضى القول على ذلك هنالك وأما(6/246)
الحالف لينتقلن فإن لم ينو الاستعجال فليس له أن يطأ حتى ينتقل ويضرب له أجل الإيلاء إن رفعته امرأته في ذلك، وأن أخذ في الانتقال ساعة حلف لم يمنع من الوطء، وفي المدنية من رواية ابن القاسم عن مالك أنه محمول على التعجيل حتى ينوي التأخير، وإن لم ينتقل ساعة حلف وإن كان في جوف الليل حنث كالذي يحلف على ترك المساكنة، وقد مضى في أول سماع ابن القاسم بيان القول في الحلف على ترك المساكنة فلا معنى لإعادة ذلك هنا وبالله التوفيق.
[مسألة: بينه وبين رجل منازعة فقال امرأته طالق البتة إن لم يكن أبي ميتا خيرا من أبيك حيا]
مسألة وسئل عن رجل كان بينه وبين رجل منازعة فقال: امرأته طالق البتة إن لم يكن أبي ميتا خيرا من أبيك حيا، أو قال: إن لم أكن أنا ميتا خيرا منك حيا.
قال ابن القاسم: تطلق عليه امرأته بالبتة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الميت ليس جزءا من الحي في شيء من أمور الدنيا ولا بأكثر أعمالا منه وطاعات في هذا الوقت؛ لأن الميت ليس من أهل العمل، فوجب أن يكون حانثا إلا أن يكون له نية مثل أن يقول إنما أردت أن أبي خير لي ميتا من أبيك لك حيا إذ يكرمني الناس لما يعلمون من خير أبي، بخلاف ما لك أنت مع أبيك في حياته لما يعلمون من شره ويكون ذلك معروفا، فتكون له نيته، ومثل أن يقول إنما أردت أن الناس يتنادون بحياة أبيك لما هو عليه من الأحوال المذمومة، وأبي ينتفع الناس بعد موته بما عمله في حياته من طريق أصلحه أو مال حبسه أو علم أبقاه وخلده وما أشبه ذلك ويكون ما ذكره من ذلك معروفا فينوى فيه والله أعلم.
[حلف بالطلاق ألا يدخل على امرأته فلان فيأتي فلان ذلك إلى بيت ليدخله فيدخل رجله]
وفي كتاب باع شاة وسئل عن الرجل يحلف بالطلاق ألا يدخل على امرأته فلان(6/247)
فيأتي فلان ذلك إلى بيت ليدخله فيدخل رجله الواحدة في البيت فيصاح به، لا تفعل، فإن فيه فلانة فيرجع.
قال مالك: هو حانث، وهو مثل الذي يحلف ألا يأكل هذين القرصتين فيأكل أحدهما أنه حانث.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا مثل ظاهر ما تقدم في الرسم الذي قبل هذا لابن عمر وسعد بن أبي وقاص وابن القاسم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقد مضى القول على ذلك فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأة من النساء كل امرأة أنكحها غيرك فهي طالق]
مسألة وقال مالك: من قال لامرأة من النساء كل امرأة أنكحها غيرك فهي طالق فهو مثل الذي يقول: كل امرأة أنكحها عليك فهي طالق.
قال محمد بن رشد: قول مالك إن قول الرجل لامرأة من النساء كل امرأة أنكحها غيرك فهي طالق فهو مثل قوله لها إن لم أنكحك فكل امرأة أنكحها فهي طالق، هو مثل قوله في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة سواء، وفي ذلك من قوله نظر في أن قوله لها كل امرأة أنكحها غيرك فهي طالق نص جلي لا يحتمل التأويل في أنه حرم على نفسه نكاح جميع النساء سواها فلا يلزمه شيء إذ لم يحض من النساء إلا امرأة واحدة على أصل مذهبه كانت متزوجة أو غير متزوجة خلاف قول ابن الماجشون في أن ذلك يلزمه وإن كانت متزوجة إذا كانت ممن تحل له يوما ما، وخلاف قول مطرف في أن ذلك إنما يلزمه إذا كانت غير متزوجة، وقوله لها إن لم أنكحها فكل امرأة أنكحها فهي طالق كلام محتمل لأن ظاهره يقتضي(6/248)
أنه إنما أوجب على نفسه طلاق كل امرأة ينكحها قبلها، فعلى هذا يلزمه الطلاق إذ له أن يتزوج بعدها ما شاء من النساء وإلى هذا ذهب ابن عبدوس وسحنون إلا أنهما اختلفا فيما تزوج قبلها فقال ابن عبدوس: يلزمه فيها الطلاق ساعة تزوجها، وقال سحنون: لا يعجل عليه الطلاق ويوقف عنها حتى ينظر هل يتزوجها أو لا، فإن طلبت امرأته الوطء ضرب له أجل الإيلاء فإن لم يتزوجها حتى ينقضي الأجل طلق عليه بالإيلاء وإن تزوجها بر وانحل عنه أجل الإيلاء، وكذلك إن ماتت أيضا لأنه يصير بموتها قد امتنع من نكاح جميع النساء إلى غير أمد فلم يلزمه ذلك ولم يلتفت مالك إلى ما يقضيه ظاهر لفظه، وحمله على معنى ما ظهر إليه من أنه أراد بذلك طلاق كل امرأة يتزوجها سواها وقاس عليها المسألة الأخرى إلا أنه لم يقصد بذلك حقيقة القياس إذ لا يقاس ما لا احتمال فيه على ما فيه احتمال، وإنما قصد إلى التشبيه بين المسألتين ولعله ظهر إليه من المسائل أنه إنما شك في حكم المسألة الأولى.
وقوله: إن قول الرجل لامرأته كل امرأة أنكحها غيرك فهي طالق مثل قوله لها كل امرأة أنكحها عليك فهي طالق، يريد أن قول الرجل لامرأته كل امرأة أنكحها غيرك أو سواك فهي طالق يلزمه، وتكون بمنزلة أن لو قال لها كل امرأة أتزوجها عليك، بخلاف إذا قال ذلك لأجنبية.
قال محمد بن رشد: وأصبغ بن الفرج، لا شيء عليه، قال ذلك لزوجته أو لأجنبية، وذلك بمنزلة أن يقول كل امرأة أتزوجها ولا يزيد علي ذلك، وإنما قال لزوجته إذا قال عليك.
[مسألة: يقول إن لم يجيء أبي إلى شهر فامرأتي طالق]
مسألة وسألته عن الذي يقول إن لم يجيء أبي إلى شهر فامرأتي طالق أو إن لم يقضه غريمه فامرأته طالق والحق حال علي الغريم أو إلى أجل أو إن لم يعطني فلان دينارا إلى شهر هل يطأ في هذا(6/249)
كله ضرب لذلك أجلا أو لم يضرب.
قال ابن القاسم أما الذي حلف بالطلاق إن لم يجيء أبوه فإنه إن كان ضرب لذلك أجلا فهو يطأ إلى ذلك الأجل وإن لم يضرب أجلا ضرب له أجل المولى فإن جاء وإلا طلق عليه طلاق الإيلاء، وأما الذي حلف على غريم له ليقضينه فإنه إن كان الحق حالا تلوم له ولم يضرب له أجل المولي لأن كل من حلف على فعل غيره ليفعلنه لم يكن فيه أجل المولي وتلوم له على قدر ما بدا مما أراد فإن فعل وإلا حنث، كذلك قال لي مالك: وإن كان حقه إلى أجل فحلف على ذلك فلا شيء عليه إلى الأجل.
قلت له فسواء قال إن لم يقضني إلى الأجل أو قال إن لم يقضني؟ قال: ذلك كله سواء لأنه قد علمنا أنه إنما حلف إلى الأجل إلا أن يقول حلفت على أن يعجل لي حقي فيتلوم له، قلت: ولم جعلت الذي حقه حال فحلف عليه ليقضينه مثل الذي حلف على رجل ليبين له وهذا السلطان يقضي عليه إن يقض وهذا لا يقضي عليه بأن يهب له؟ قال: لأنه حلف على فعل غيره، أرأيت لو أكرهه السلطان أكنت تراه بارا؟ قال: لا يكون بارا وإن قضي عليه السلطان فقضاه إلا أن يكون نوى إلا أن يغلبه السلطان [فإذا لم ينو ذلك فهو حانث إذا أكرهه السلطان؛ لأن مالكا قال: من رجل سأله رجل حقه فحلف بالطلاق ألا يقضيه شيئا: إنه حانث إن قضى عليه السلطان فقضاه إياه] ، وسواء إذا حلف على غريمة ليقضينه طائعا أو كارها في الأجل أنه يتلوم له ولا يضرب له أجل المولى لأنه إنما حلف على فعل غيره فليس(6/250)
يختلف إن لم يمتي وإن لم يقضني، قال ابن القاسم: كل من كان يتلوم له في امرأته من هؤلاء وغيرهم فإنه إذا مضى من الأجل مثل الذي يتلوم له فإنه حانث ولا يسأل عن شيء، والتلوم في ذلك ليس بواحد، إنما ينظر في هذا إلى قدر ما يرى وما يرجى له، والذي يحلف إن لم يجئ أبي ولم يضرب أجلا إنما يضرب له من يوم ترفع امرأته ذلك.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فرق في هذه الرواية في الحالف على غيره ليفعلن فعلا ولم يضرب لذلك أجلا بين أن يكون المحلوف عليه غائبا أو حاضرا وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم يوصي بمكاتبه من سماع عيسى من كتاب الإيلاء فغنيت بذلك عن إعادته هنا مرة أخرى وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يرزأها من مالها شيئا فقربت إليه طعاما فأكل منه]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته ألا يرزأها من مالها شيئا فقربت إليه طعاما فأكل منه.
قال: قد حنث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه إذا أكل من طعامها فقد رزأها في مالها إلا أن تكون له نية في شيء بعينه ويأتي مستفتيا فتكون له نيته.
[مسألة: حلف بالطلاق البتة ألا يأذن لها إلى أهلها فأذن لها فلم تسر]
مسألة وسئل عن رجل حلف بالطلاق البتة ألا يأذن لها إلى أهلها فأذن لها فلم تسر.(6/251)
قال: إذا أذن لها فقد حنث سارت أو لم تسر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الذي حلف ألا يفعله هو الإذن فلما أذن لها وجب أن يحنث وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ألا يدخل على أخته في بيتها فدخل عليها غير بيتها]
مسألة وسئل عن رجل حلف بالطلاق ألا يدخل على أخته في بيتها فدخل عليها غير بيتها.
قال: إن كان إنما حلف على قطيعتها فدخل عليها في بيتها أو غير بيتها فقد حنث، قال ابن القاسم: إن كان نوى البيت بعينه فلا بأس أن يدخل عليها في غير بيتها، وإن لم تكن له نية فقد حنث.
قال محمد بن رشد: حمل ابن القاسم يمينه على القطيعة حتى ينوي البيت بعينه؛ لأن ذلك هو المعنى المقصود بالأيمان في العرف والعادة وهو مصدق في دعوى أنه أراد البيت بعينه وإن كان على يمينه بينة؛ لأن البينة في ذلك موافقة للفظ ويحلف على ذلك لدعواه خلاف العرف والعادة، والحمد لله.
[مسألة: قال لرجل أطلقت امرأتك قال نعم كما طلقت أنت امرأتك]
مسألة وسئل عن رجل قال لرجل: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم كما طلقت أنت امرأتك، فإذا هو قد طلق امرأته ولم يعلم بذلك، هل عليه طلاق؟ وإنما كان على وجه لعب.
قال: إذا لم يكن يعلم أن الآخر طلق ولم يكن يريد هو بذلك طلاقا [وحلف على ذلك] فلا طلاق عليه، قال ابن(6/252)
القاسم: وذلك إذا استيقن أنه لم يعلم.
[قال القاضي: إذا شهد عليه بذلك القول وقيم عليه بالطلاق فلا يصدق فيما ادعاه من ذلك إذا لم يظهر ما يدل على صدق دعواه، مما يقع به اليقين أنه لم يعلم بطلاق الرجل امرأته من شاهد دال أو فحوى كلام أو ما أشبه ذلك، إذ لا يصح أن يقطع بمعرفة ذلك ببينة، فإذا استوقن أنه لم يعلم] ، بشيء من هذه الوجوه دون أن يتحقق العلم بذلك حلف كما قال إنه لم يعلم بذلك ولا أراد بذلك الطلاق، ولا يحلف أنه كان لاعبا لأن اللاعب يلزمه الطلاق [إذا نواه] كما يلزم المجد؛ لأن هزله جد على ما يأتي لأصبغ في نوازله بعد هذا، وعلى ما مضى في رسم الطلاق من سماع أشهب من كتاب التخيير والتمليك، ولو أمكن أن يتحقق أنه لم يعلم بطلاق الرجل امرأته لما لزمته يمين إذا كان قوله: كما طلقت أنت امرأتك نسقا بقوله: نعم، على اختلاف في هذا الأصل قد ذكرناه في رسم كتب عليه من سماع ابن القاسم، ولو أتى مستفتيا غير مطلوب بالطلاق لصدق فيما ادعاه كله دون يمين، وبالله التوفيق.
[سمى الرجل امرأة بعينها وقال إن تزوجت فلانة فهي طالق واحدة]
ومن كتاب حمل صبيا على [دابة]
قال ابن القاسم: إذا سمى الرجل امرأة بعينها وقال: إن تزوجت فلانة فهي طالق واحدة، فإنه إن تزوجها طلقت عليه بواحدة، فإن نكحها بعد ذلك لم تطلق عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول [فيها] مستوفى في هذا الرسم بعينه من صدر السماع فاكتفيت بذلك عن إعادته وبالله التوفيق.(6/253)
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب الكبش
قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن رجل أراد أن يُدخل على بنته وهي مريضة رجالا يشهدهم على وصيتها فحلف زوجها بطلاقها ألا يدخل عليها أولئك النفر الذين أراد أبوها أن يدخلهم عليها، فأخرجت المرأة من الدار إلى القوم فأشهدتم على وصيتها ثم صحت، أترى زوجها حانثا إذا أشهدت أولئك النفر بأعيانهم وإن كانوا لم يدخلوا عليها إذ أخرجت إليهم؟
فقال: بل أرى أن يُنَوَّى، فإن قال: إنما كرهت دخولهم لئلا يروا من حال بيتي ما أكره دُيِّن في ذلك واستحلف وإن أقر أنه إنما كان حلف لكيلا تشهدهم على ما كانت ترضى، فإذا خرجت إليهم فأشهدتهم فكأن قد دخلوا فهو حانث.
قلت أرأيت إن خاصمته امرأته في هذه اليمين زمانا وهو منكر أن يكون حلف بها فلما قامت عليه البينة ادعى أنه إنما كره حين حلف دخولهم بيته ولم يرد منعها من إشهادهم، وقد كان منكرا للحلف في أصل الخصومة؟ .
قال: نعم، لا أرى إنكاره لليمين يقطع عنه أن ينوى في يمينه ويدين فيها.
قلت: أرأيت إن كان حين حلف قد بين لمن حضر من العدول أنه قد كان مكابرا لها ولا سيما فيما كانت تريد أن توصي به يشتد ذلك عليه ويظهر منعها منه والسخط عليها فيه حتى يستدل أن يمينه إنما كانت كراهية لإشهادها على ما كانت تريد أن(6/254)
توصي به ولعله ممن يسر بدخول الرجال عليه لحسن حال بيته وصلاح هيئته أتنويه أم لا؟ فقال: لا أرى أن تقطع عنه على ما ادعى من النية للذي وصفت من حالته وأرى أن يدين ما ادعى ويحلف عليه ثم لا حنث عليه إن حلف على ما ادعى من نيته.
قال محمد بن رشد: الظاهر من مقصد الحالف أنه إنما أراد ألا يشهد أولئك النفر على وصيتها فيحمل يمينه على ذلك ويحنث إذا أشهدتهم وإن لم يدخلوا عليها، إلا أن يدعي أنه إنما أراد ألا يدخلوا عليها فيصدق في نيته مع يمينه وإن كان مطلوبا بالطلاق، وقد شهد عليه باليمين؛ لأنها نية محتملة مطابقة لظاهر لفظه، ولو كان مستفتيا غير مطلوب بالطلاق لم يكن عليه يمين فيما ادعى من النية.
وأما قوله إنه يُنَوَّى في ذلك بعد أن أنكر اليمين فهو على ما في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك وفي رسم الكبش من سماع يحيى منه من أن الرجل إن ناكر زوجته فيما قضت به في التمليك بعد أن أنكر أن يكون ملكها، وقد مضى من القول على ذلك هنالك ما فيه كفاية لمن تأمله فيه ولم ير شهادة الشهود بما يظهر إليهم من قصد المشهود عليه وإرادته عاملة في إسقاط ثبوته، والوجه في ذلك أنه لا يمتنع أن يكون نازعهم في الوصية وكره أن توصي بها، ثم لم يحلف على ذلك ونوى في يمينه شيئا آخر مخافة أن يحنث فيما نازعهم به لو حلف عليه فهو أعلم بنيته التي لا يطلع عليها سواه إلا الله عز وجل، فوجب ألا تبطل لا سيما واللفظ يطابقها، وقد وقع في رسم الطلاق من سماع أشهب من كتاب التخيير والتمليك وفي رسم أصبغ من كتاب التدبير إعمال الشهادة بنحو هذا وبالله التوفيق:
[مسألة: تسلف من رجل مالا وحلف له بالطلاق ليقضينه ساعة يبلغ منزله]
مسألة قال يحيى وسألت ابن القاسم عن رجل تسلف من رجل مالا وحلف له بالطلاق ليقضينه ساعة يبلغ منزله أو ساعة ينزل(6/255)
منزله فأقبل المستسلف راجعا إلى منزله ومعه المسلف فبلغا المنزل حيث غابت الشمس فدخل الحالف منزله فاشتغل ببعض شأنه ونسي يمينه، فلما كان ثلث الليل أو نحوه ذكر يمينه فخرج إلى صاحبه بالمال فقضاه إياه.
قال أراه حانثا إلا أن يكون نوى بيمينه ساعة أبلغ منزلي أو أنزل منزلي يريد بذلك إذا بلغ ليقضينه، ولم يرد ساعة نزوله ولا ساعة بلوغه فأرى أن يُنَوَّى في ذلك ويحلف عليه ولا حنث عليه إذا قضاه من ليلته أو الغد.
قلت: أرأيت إن كان لم ينو ساعة يبلغ إنما أراد ليقضينه إذا جاء منزله أتراه في سعة من تأخير القضاء اليوم واليومين أو الثلاثة أو كم تراهما في سعة من ذلك؟ فقال اليوم والليلة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه حانث إلا أن يكون نوى إذا بلغ ليقضينه ولم يرد ليقضينه ساعة بلوغه صحيح على أصولهم في أن يمين الحالف إذا عريت من النية والبساط محمولة على ما يقتضيه لفظا في اللسان أو على أظهر محتملاته إن كان محتملا لوجهين أو أكثر، وقوله ساعة يبلغ يقتضي أن يقتضيه في تلك الساعة بعينها فإن أخر قضاءه عنها وجب أن يحنث ونواه مع يمينه يريد إذا طولب بالطلاق ولم يأت مستفتيا لأن الساعة لما لم تكن مؤقتة ولا محدودة احتمل أن يريد بها الساعة التي يصل فيها بعينها وأن يريد بذلك التعجيل، فوجب أن يصدق في أنه إنما أراد بذلك أن يعجل له حقه إذا بلغ ولا يمطله به مع يمينه على ذلك إن كان مطلوبا ولم يأت مستفتيا فلا يحنث إذا قضاه فيما دون الليلة واليوم مما يكون إذا فعله فقد عجل له حقه ولم يمطله به، ولو حلف ليقضينه حقه إذا جاء منزله ولم يرد بذلك التعجيل لما حنث بتأخيره قضاءه إذا جاء منزله إلا أنه لا يجوز له أن يطأ حتى يقضيه؛ لأنه على حنث ويدخل عليه الإيلاء إن رافعته امرأته وطلبته بحقها في الوطء، فهذا وجه القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.(6/256)
[يقول امرأته طالق أو غلامه حر إن فعل كذا وكذا فحنث]
ومن كتاب الصبرة قال يحيى: وسألت ابن القاسم في الرجل يقول امرأته طالق أو غلامه حر إن فعل كذا وكذا، فحنث أنه يخير فيقال له: أوجبت حنثا في أيّهما شئت إن شئت، فأعتق العبد، وإن شئت فطلق المرأة، أنت في ذلك بالخيار؛ لأنه قد استثنى حين حلف فقال: امرأته طالق، أو غلامه حر، فمن أجل ذلك خُيِّر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن موضوع أو في اللسان في الماضي للشك، وفي المستقبل للتخيير؛ لاستحالة أن يخير أحد فيما قد فات ومضى، أو يشك في أي الأمرين كان، ولما لم يكن أحدهما، فوجب إذا قال الرجل: امرأته طالق، أو غلامه حر، إن فعل فلان كذا وكذا، أو فعلت كذا وكذا، ففعله أن يخير فيما شاء من ذلك إلا أن يقول: ولا خيار لي في ذلك، أو يريد ذلك فيلزمه عتق العبد، وطلاق المرأة، وقد مضى في رسم العرية، من سماع عيسى، إذا قال: امرأتي طالق، أو غلامي حر، إن لم يفعل كذا وكذا، والقول في ذلك، فهو تتميم هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يسلف في الطعام إلى أجل ويحلف له البائع بالطلاق ليقضينه إلى الأجل]
مسألة وعن الرجل يسلف في الطعام إلى أجل، ويحلف له البائع بالطلاق ليقضينه إلى الأجل الذي يسلفه إليه، ثم يسلفه صفقة هو ورجل آخر، فيقضيه عند أجل الصفقة الأولى التي حلف له فيها، وشريكه غائب، فلما قدم أنكر، وقال: لا يجوز أن تقضي منه شيئا دوني، والذي اقتضيت منه بيننا، أيبر الحالف، ويجوز لهذا ما اقتضى أم لا؟
قال: أرى ما اقتضى يمضى، على كان وجب للمحلوف له(6/257)
من تسليفه الذي اختص به، وعلى الصفقة الأخرى التي له ولشريكه على قدر ما كان على الغريم من ذلك الدين، ويكون للمحلوف له بقدر ما يصير لدينه الذي وجب له خاصة، ويكون لشريكه وله بقدر ما يصير للدين الذي كان لهما على الغريم يقتسمانه، ولا يكون له ما اقتضى خالصا دون أن يحاص فيه شريكه على ما فسرت لك، ولا يبرأ الحالف؛ لأنه لم يدفع إلى المحلوف جميع حقه عند الأجل.
قال محمد بن رشد: ذكر ابن زيد هذه المسألة في النوادر، وقال فيها: إن قوله عند أجل الصفقة الأولى غلط في النقل، قال: ورأيت في بعض النسخ من المجموعة، فأعطاه عند الأجل عدد الصفقة الأولى قال: وهذا أصح، ولم يفسر عم دفع؟ فقسم على الصفقتين، وقول ابن أبي زيد: وهذا أصح، معناه وهذا الصحيح؛ إذ لا يصح معنى المسألة إلا على ذلك، وقوله: ولم يفسر عم دفع صحيح، إذ لو تبين أنه إنما يدفع إليه ذلك العدد على الصفقة الأولى لما كان لشريكه عليه في ذلك دخول، وأبرأ الحالف في يمينه، وأما قوله فقسم على الصفقتين، فإنه اتبع به ظاهر ما في الرواية، وليس ذلك بصحيح على ما نذكره بعد، وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: هي وهم، وإن كان الطعام كله إلى أجل واحد؛ لأنه لو كان لرجلين على رجل دين بينهما، ولأحدهما دين مفرد، والأجل سواء فقضى الذي له الدين المفرد لم يكن للآخر كلام إلا أن يكون مفسرا، فيكون له كلام على اختلاف في ذلك، وقول ابن دحون: فقضى الذي له الدين المفرد لم يكن للآخر كلام فهو الوهم، فليست المسألة بوهم في إيجاب الحنث، وإنما هي وهم في صفقة القبض لا في القبض؛ إذ الصواب أن يفض ما اقتضى على ما كان وجب للمحلوف له من تسليفه الذي اختص به، وعلى ما يجب من الصفقة الأخرى دخل معه فيه الشريك، وحنث الحالف؛ إذ لم يصح للقابض جميع حقه قبل الأجل، وهذا بيّن، والله سبحانه أعلم.(6/258)
[يحلف للرجل بطلاق امرأته ليقضين رجلا حقه يوم الفطر]
ومن كتاب الصلاة وسئل عن الرجل يحلف للرجل بطلاق امرأته ليقضين رجلا حقه يوم الفطر، وهو من بعض أهل المياه، فأفطر واليوم السبت، وقضاه ذلك اليوم ثم جاء الثبت من أهل الحاضرة أن الفطر كان يوم الجمعة، قال: سمعت مالكا يقول: هو حانث.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة صحيحة على أصل المذهب، في أن من حلف ألا يفعل فعلا ففعله مخطئا أو جاهلا أو ناسيا يحنث؛ لأن يمينه تحمل على عموم لفظه في جميع ذلك إلا أن يخص بنيته شيئا من ذلك، فتكون له نيته مثال ذلك في الخطأ والجهل أن يحلف الرجل ألا يكلم رجلا، فيكلمه جاهلا به، يظن أنه غيره، وقد مضى القول في ذلك، في رسم سلف، من سماع عيسى، وكذلك هذا لا ينتفع بجهله أن يوم الجمعة كان يوم الفطر إلا أن تكون له نية تخرجه من الحنث في ذلك، وإنما مثل ذلك أن يحلف الرجل ليقضين رجلا حقه يوم كذا، فيمر ذلك اليوم، وهو يظن أنه لم يأت بعد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يستحلف غريمه بالطلاق فيقول إنما نويت واحدة وقد حنث في ظاهر أمره]
مسألة وقال في الذي يستحلف غريمه بالطلاق، فيقول: إنما نويت واحدة، أو قال: قد استثنيت سرا، وحركت به لساني، وقد حنث في ظاهر أمره: إن الطلاق يلزمه بما استحلف عليه، فقيل له: ففيم بينه وبين الله تعالى ماذا ترى عليه؟ قال: لا شيء عليه، قال: وإن حلف بالمشي، أو بالهدي، أو بالله، أو بيمين ليس طلبها إلى العباد، وإنما عليه الكفارة فيما بينه وبين الله، دين عليه ذلك ونواه، ونفعه استثناؤه، ولم يضره ما نوى المستحلف إن حلف بالمشي إلى بيت الله، فقال: نويت مسجدا من مساجده نوى ذلك، وإن حلف بالله فقال:(6/259)
قد استثنيت سرا، وحركت به لساني، نوى ذلك، ولم يكن عليه شيء.
وهذا وما أشبهه مخالف للطلاق والعتق وما أشبههما.
قال ابن القاسم: وكل ما وصفت لك من تفسير صور هذه المسألة، فإنما ذلك إذا أحلفه غريمه، فأما إذا تطوع له باليمين من غير أن يسأله ذلك الغريم، ولا أن يلجأه إليه، فكل ما حلف به فهو يلزمه على ما أظهر، وهو لا ينفعه ما أسر من لغز ولا استثناء، لا في المشي إلى بيت الله، وفي نذر، ولا في شيء مما يحلف به متطوعا.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يستحلف غريمه بالطلاق فيقول: إنما نويت واحدة، أو استثنيت سرا، وحركت لساني: إن الطلاق يلزمه بما استحلف عليه، هو مثل ما مضى في قوله في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى، ومثل قول ابن الماجشون وسحنون أن اليمين على نية المستحلف، لا على نية الحالف، خلاف قول مالك في رسم البز، من سماع ابن القاسم، وقول ابن وهب في سماع زونان عنه، الواقع عنه، وفي رسم حمل صبيا أيضا، من سماع عيسى.
وتفرقته في هذا بين ما يقضي عليه به، وما لا يقضى عليه به، هو مثل ما له في سماع أصبغ في كتاب النذور، وأما قوله: إنه إذا تطوع له باليمين من غير أن يسأله ذلك، فلا ينفعه ما أسر من لغز أو استثناء في شيء من الأشياء، بخلاف إذا سأله ذلك واستحلفه، فهو مثل قوله في رسم أوصى، من سماع عيسى، في كتاب النذور، وخلاف قوله، في سماع أصبغ منه، وهذه مسألة تتفرع إلى وجوه، والاختلاف فيها كثير قد مضى تحصيله في رسم شك في طوافه، من سماع ابن القاسم، من كتاب النذور، وبالله تعالى التوفيق.(6/260)
[مسألة: قال الغريم امرأتي طالق البتة إن كنت لم أدفع إليه حقك]
مسألة وقال في الرجل يأمر غريما له أن يدفع ما له عليه إلى وكيل له، ثم سأله بعد أيام فقال: قد دفعت إلى وكيلك ما أمرتني، فقال: قد كتب إلي وكيلي أنه لم يقبض منك شيئا، فقال الغريم: امرأتي طالق البتة إن كنت لم أدفع إليه حقك، وقال الطالب: امرأتي طالق إن كنت دفعت إليه شيئا.
قال: أما المطلوب فينوى في يمينه، ولا يبرأ من الحق إلا ببينة على الدفع، وأما الطالب فحانث من عاجل أمره؛ لأنه حلف على غيب لا علم له به، ولا يجوز للإمام أن يقر امرأته عنده، وقد تبين أنه حلف على غير علم، ولا يقين من شأن الذي حلف عليه.
وقال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: ولا يجوز للإمام أن يقر امرأته عنده؛ من أجل أنه حلف على ما لا يستيقنه، وإن كان لم يرم بذلك مرمى الغيب، وإنما غلب ذلك على ظنه؛ لصدق وكيله عنده هو على ما مضى تحصيل القول فيه في رسم يوصي، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته هنا مرة أخرى، وبالله التوفيق.
[مسألة: له امرأتان فيحلف بطلاق إحداهما لأنكحن عليها]
مسألة وسئل عن الرجل تكون له امرأتان، فيحلف بطلاق إحداهما: لأنكحن عليها، ويحلف للأخرى بطلاقها ألا ينكح عليها، فينكح عليها امرأة، ويمسها، فإذا هي أخته من الرضاعة.
قال: يفرق بينه وبين أخته من الرضاعة، ولا يعد نكاحها نكاحا فيما رجا من البر، فيما حلف لإحدى امرأتيه لينكحن عليها، وعليه أن ينكح عليها أخرى نكاحا حلالا ثابتا على غير تحليل، ولا(6/261)
من ذوات المحارم من نسب ولا رضاعة، قال: وأما الذي حلف بطلاقها ألا ينكح عليها فقد حنث فيها، وهي طالق بما حلف واحدة فأكثر من ذلك؛ لأنه قد نكح عليها، وهو مجمع على حنثه فيما حلف به بطلاقها.
قلت له: أرأيت هذا الذي يحلف بطلاق امرأته لينكحن عليها إن نكح عليها امرأة في عدتها ومسها، أو في غير عدتها ومسها في الحيضة ثم طلقها؟ قال: لا يبر بنكاح واحدة منهما، ولا يعد مسيس ما لم يحله الله مسيسا، ولا يبر حتى ينكح نكاحا حلالا، ويمس مسيسا حلالا.
قال محمد بن رشد: هذا كله صحيح لا اختلاف فيه في المذهب على أصولهم في أن الحنث يدخل بأقل الوجوه، والبر لا يكون إلا بأكمل الوجوه، وقد مضى القول على هذا المعنى في مواضع، من ذلك رسم استأذن، وأول رسم لم يدرك، ورسم إن خرجت، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشترط عليه عند النكاح إن تزوج عليها فهي طالق ويتزوج عليها]
مسألة وقال في الرجل يشترط عليه عند النكاح إن تزوج عليها فهي طالق، ويتزوج عليها، ويقول: إنما أردت واحدة، ويقول: ما اشترطت إلا لأكون طالقا البتة: إنه لا يقبل قوله، وهي البتة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الرهون، من سماع عيسى، من كتاب النكاح، وفي رسم استأذن، من سماع عيسى، من كتاب التخيير والتمليك؛ فليتأمله من أحب الوقوف عليه هنالك، وبالله التوفيق.(6/262)
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق البتة إن سألتني الطلاق إن لم أطلقك فسألته]
مسألة وقال في الرجل يقول لامرأته: أنت طالق البتة إن سألتني الطلاق، إن لم أطلقك، فسألته الطلاق فقال: أمرك بيدك، فقضت بالطلاق أو تركته: إن ذلك لا يخرجه من يمينه، وقد حنث بالذي حلف به من الطلاق واحدة، أو أكثر منها؛ لأنها حين سألته الطلاق لم يطلقها كما حلف، وليس يكون التمليك طلاقا أبدا، وربما ردت ذلك المرأة، ولم تقض شيئا فأراه حانثا.
قال: أرأيت إذا لم يقل: إن سألتني الطلاق فلم أطلقك ساعتئذ فأنت طالق، فأحب أن يؤخر ذلك أياما، فقال: أنا أطلقها يسوف نفسه يوما بيوم، أيكون ذلك له؟ قال: لا يجوز له تأخير ذلك عن مجلسها الذي سألته الطلاق فيه، فإن أخر ذلك حنث.
قال محمد بن رشد: سحنون يقول: إنها إن طلقت نفسها بر، وإن لم تطلق نفسها حنث، ولا كلام في أنها إذا لم تطلق نفسها ولا طلقها هو حتى انقضى المجلس الذي سألته فيه الطلاق فقد حنث، وإنما الكلام إذا طلقت نفسها بالتمليك، أو ردت فطلقها هو في الحين، فقول ابن القاسم: إنه حانث صحيح، إن كان ملكها، ونيته أنها إن ردت بقيت زوجة له، وقول سحنون: لا حنث عليه صحيح أيضا إن كان ملكها، ونيته أن يطلقها إن ردت ولم تطلق، فحصل من هذا أن الخلاف بينهما إنما هو على ما يحتمل أمره إن لم تكن له نية، والله أعلم.
وقوله: إنه لا يجوز له تأخير ذلك عن مجلسها الذي سألته الطلاق فيه، فإن أخر ذلك حنث صحيح، وقد مضى ما يبينه في أول مسألة من رسم إن أمكنني، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وفي سماع أبي زيد أنه لو قال: لأعطينها أو للألحفنها، لبر بتمليكه إياها، إلا أن يكون أراد بذلك لأطلقنها، وهو صحيح، ليس بخلاف؛ لقوله هاهنا، وبالله التوفيق.(6/263)
[مسألة: يحلف بطلاق كل امرأة ينكحها بمصر ثم يحلف بطلاق كل امرأة ينكحها في غير مصر]
مسألة وقال في الذي يحلف بطلاق كل امرأة ينكحها بمصر، ثم يحلف بعد ذلك بطلاق كل امرأة ينكحها في غير مصر، أنه لا بأس أن ينكح في غير مصر لا ينكح بمصر، ألا ترى أن يمينه الأولى تلزمه، ولا يكون له أن يخرج نفسه مما قد كان وقع عليه من تحريم النكاح عليه بمصر الأولى، بأن يقول بعد تلك اليمين: كل امرأة أنكحها في غير مصر طالق، يريد حين عم البلدان أن يكون في سعة، كمن يقول: كل امرأة أنكحها في جميع البلدان فهي طالق، فليس ذلك له، ولكن يمينه الأولى تلزمه، والأخرى التي ضيق بها على نفسه، وعم بها تحريم النكاح كله على نفسه موضوعة عنه، ينكح في أي البلدان إن شاء ما عدا مصر.
قال: ولو قال: كل امرأة أنكحها في غير مصر طالق، فلما أراد أن يضع يمينه عن نفسه قال أيضا: كل امرأة أنكحها بمصر طالق، فإن ذلك غير نافع له فيما كان ألزمه نفسه من اليمين الأولى، ليس له أن ينكح في غير مصر، ويمينه الثانية موضوعة عند، ولا بأس أن ينكح بمصر ما بدا له من النساء.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم الرهون، من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.
[يقول إني حلفت بالطلاق أن لا أكلم فلانا فجاء قوم يشهدون أنهم حضروه يكلم ذلك الرجل]
وفي كتاب يشتري الدور والمزارع للتجارة وقال في الرجل: يقول: إني حلفت بالطلاق أن لا أكلم فلانا، فجاء قوم يشهدون أنهم حضروه يكلم ذلك الرجل بعدما كان أقر أنه حلف ألا يكلمه، فقال: امرأتي طالق إن كنت حلفت، وما كان الذي قلت إلا كذبة كذبتها، ولقد كلمت فلانا، وما علي يمين(6/264)
بطلاق ولا غيره ألا أكلمه.
قال: يحنث ولا يدين؛ لأن الفعل الذي أقر ألا يفعله قد ثبت عليه أنه فعله بعد إقراره باليمين التي زعم أنه حلف بها ألا يفعل ذلك الفعل، قال: ومن قال: لقد كلمت اليوم فلانا، أو أتيت فلانا، أو أكلت طعاما كذا وكذا، ثم عوتب في بعض ذلك فقال: امرأته طالق إن فعل شيئا من ذلك، فإنه يدين ويحلف بالله ما فعل الذي حلف أنه لم يفعله مما كان زعم أنه قد كان فعله، وأنه إنما كان كذب أولا، ثم لا حنث عليه إلا أن تقوم عليه بينة بعد يمينه بالطلاق، أنه لم يفعل ذلك الشيء، فشهدت البينة أنه فعله قبل أن يحلف فيحنث، أو يقر بعد يمينه أنه كان فعله، فيلزمه أيضا الحنث بإقراره.
قال: ومن شهد عليه قوم بحق لرجل أو أنه فعل شيئا ينكره، فقال بعد شهادتهم عليه: امرأته طالق إن لم يكونوا شهدوا عليه بزور، وما كان لفلان قبلي شيء، وما فعلت الذي شهدوا به علي، وإلا فامرأته طالق، فإنه يدين ويحلف أنهم كذبة في شهادتهم، ويحبس عن امرأته، فإن أقر بتصديق الشهداء أو جاء آخرون فشهدوا على تصديق شهادة الأولين الذين حلف بتكذيبهم حنث في يمينه، قال: وكذلك لو حلف بالطلاق إن كان لفلان عليه كذا وكذا، وإن كان كلم اليوم فلانا، فشهد عليه عدول بإثبات الحق، أو أنه كلم ذلك الرجل، فإن الحنث يلزمه.
قال محمد بن رشد: هذه المسائل كلها صحاح، وأصلها في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، وتكررت في أول سماع ابن القاسم، من كتاب الشهادات، ولا اختلاف أحفظه في شيء منها، وتلخيصها أن اليمين على الفعل بالطلاق كان ببينة أو بإقرار، إذا تقدم على الإقرار بالفعل أو الشهادة(6/265)
عليه به طلقت عليه امرأته، وإن تقدم الإقرار منه بالفعل أو الشهادة به عليه على اليمين كان ببينة أو بإقرار لم يطلق عليه.
والفرق بين أن يتقدم اليمين على الفعل، أو الفعل على اليمين هو أن اليمين إذا تقدم ببينة أو إقرار، فقد لزم حكمه، ووجب ألا يصدق في إبطاله، وإذا تقدم الفعل ببينة أو بإقرار لم تثبت اليمين بتكذيب ذلك حكم إذا لم يقصد الحالف إلى إيجاب حكم الطلاق الذي حلف به على نفسه، وإنما قصد إلى تحقيق نفي ذلك الفعل، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون عليه الحق لرجل فيحلف له بالحرية أو بالطلاق ليقضينه إلى أجل كذا وكذا]
مسألة وسئل عن الذي يكون عليه الحق لرجل، فيحلف له بالحرية أو بالطلاق؛ ليقضينه إلى أجل كذا وكذا إلا أن ينظره صاحب الحق، فيريد المطلوب بالحق سفرا، فيسأل صاحبه أن يؤخره عن الأجل خوفا من أن يحل الأجل الذي حلف ليقضينه إليه، إلا أن ينظره وهو غائب في سفره، فيقول صاحب الحق له: قد أنظرتك قدر ما تقيم في سيرك ورجوعك إلى البلد الذي أخبرتني أنك تريده، وبعد رجوعك إلينا بعشرين يوما فتوجه الغريم، يريد سفره، فتتصعب عليه الطريق، ويخاف اللصوص، فيرجع إلى بلده تاركا لسفره لما حدث في الطريق من الخوف، فيحل الأجل أيلزمه أن يقضيه عند حلوله إن لم ينظره نظرة يبتدئها، أم يحنث بما كان أنظره حين أراد الخروج؟ قال: أرى تلك النظرة تسقط عنه؛ لتركه ذلك السفر الذي من أجله كانت النظرة فيه، وفيه كان وجه الطلبة، وعليه أن يستنظره نظرة يحددها له، وإلا حنث إن لم يقضيه عند الأجل.
قيل له: فالعشرين يوما التي وسع عليه فيها بعد رجوعه من سفره، أتكون له إذا لم يخرج؟ قال: لا، لو كانت تكون له لكان(6/266)
له أن يقدر قدر مسيره ورجوعه فيوسع عليه فيه، بل أرى كل ما كان من النظرة بسبب ذلك السفر قد سقط بتركه الخروج.
قلت: أرأيت إن كان رجوعه لغير إقامة، وهو يسعى جاهدا في أن يمضي لسفره، وينتظر خروج جماعة وكتيف من الناس، ليقوى على ما خافوا من اللصوص، فهو في ذلك حتى حال الأجل، أيجوز له أن يتهيأ للخروج بعد حلول الأجل أن يمضي النظرة التي كانت سبقت، أم يلزمه الغريم إن أبى أن ينظره؟
قال محمد بن رشد: قوله: إن النظرة التي أنظره بسبب السفر تسقط بتركه السفر صحيح؛ لأنه إنما أنظره من أجل السفر الذي أخبره أنه يريد، فصار السفر شرطا للنظرة وعلة لها، فوجب أن تسقط بسقوطه بمنزلة أن لو قال له: قد أنظرتك إن سافرت هذا السفر الذي تذكره، وذلك نحو قول سحنون في جامع البيوع، في الذي يبتاع العبد، أو البعير فيابق العبد، ويشرد البعير، فيستوضع البائع، ثم يجده بعد ذلك: إن الوضيعة تسقط عن البائع، ولم يجب على الذي تأخر سفره بسبب ما حدث في الطريق حتى حل الأجل من غير أن يتركه أو يرجع بنيته عنه، والجواب في ذلك أن يكون له النظرة إن خرج في سفره، إلا قدر ما تأخر بسبب ما عرض من التعذر في الطريق، ومثال ما يعرف به ذلك أن ينظره، فإن كان بينه وبين حلول الأجل يوم، استنظره شهر أو مقدار ما يغيب في سفره الذي استنظره بسببه ثلاثة أشهر، فلم يخرج حتى حل الأجل بمضي شهر أن يكون له من النظرة ما بقي من الثلاثة الأشهر، وذلك شهران والعشرون يوما، فإن لم يقضه إلى شهرين والعشرين يوما حنث، فيوكل عند خروجه وكيلا يقضيه قبل انقضاء هذه المدة؛ لئلا يحنث، ومن حق صاحب الدين أن يأخذ منه حميلا بذلك، وبالله التوفيق.
[يقول كل امرأة أتزوجها إلا فلانة فهي طالق]
ومن كتاب المكاتب قال: وسألته عن الرجل يقول: كل امرأة أتزوجها إلا فلانة(6/267)
فهي طالق، وتلك المرأة متزوجة أو غير متزوجة.
فقال: ينكح ما بدا له. من النساء، ولا حنث عليه، قال: وسمعت مالكا يقول: إنما هي عندي بمنزلة الرجل، يقول: إن لم أنكح فلانة، فكل امرأة أنكحها طالق، فلا أرى عليه بأسا أن ينكح ما بدا له، قلت: فإن كان قال: كل امرأة أنكحها طالق إلا فلانة وفلانة وفلانة يسمي عشرا، أو نحو ذلك ألا ترى أن ينكح إلا واحدة منهن، قال: أما التسمية اليسيرة التي ليس فيهن سعة في النكاح، فكأنه حرم على نفسه نكاح غيرهن، وهو لا يجد إلى غيرهن سبيلا، فلا أرى عليه بأسا، أن ينكح غيرهن إن أمكنه ذلك، وكان من نكاحهن في سعة، فلا ينبغي له أن ينكح إلا منهن، فإن تعداهن فينكح من غيرهن حنث بما سمى من الطلاق.
قال محمد بن رشد: إنما لم يلزمه على مذهبه شيء إذا عم أو لم يبق إلا عددا يسيرا يمكن إلا يزوجوه، ولا يرضوا به؛ لقول الله عز وجل: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] ، وقوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ، فإذا لم يترك لنفسه مدخلا في الحلال، لم يلزمه ما عقد على نفسه، وقد مضى من القول على هذه المسألة في رسم الجواب، ورسم باع شاة، من سماع عيسى، ما فيه كفاية، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول امرأته طالق إن لم يكن فلان يعرف هذا الحق يدعيه]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يقول: امرأته طالق إن لم يكن فلان(6/268)
يعرف هذا الحق يدعيه، فسئل الذي ادعى عليه الحق فيقول: امرأته طالق إن كان يعرف له فيه حقا قال: يدينان جميعا، ثم لا يحنث واحد منهما.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة في كتاب الأيمان بالطلاق، وكتاب العتق الأول أنهما يدينان ولم يذكر يمينا، وروى محمد بن يحيى الشيباني عن مالك أنهما يدينان جميعا ولا يحلفان، وروى عيسى، عن ابن القاسم أنهما يدينان في ذلك ويحلفان، ومثله مضى في رسم الطلاق الأول، من سماع أشهب نحو هذه المسألة، وموضع هذا الاختلاف إنما هو إذا طولبا بحكم الطلاق، وهو جار على اختلافهم في لحوق أيمان التهمة في التداعي، وأما إذا أتيا مستفتيين غير مطلوبين، فلا وجه لليمين في ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: من على أخيه بفاكهة جنانه فحلف أخوه بالطلاق ألا يدخل تلك الجنان وباعه الأخ]
مسألة وسألته عن الرجل من على أخيه بفاكهة جنانه، فحلف أخوه بالطلاق ألا يدخل تلك الجنان، وباعه الأخ، أيدخل الحالف الجنان إذا صارت لغير الأخ الذي من على الحالف بفاكهتها؟ فقال: إذا دخلها حنث كانت لأخيه أو لغيره، وذلك أنه أبهم يمينه فقال: هذه الجنان، فلا يجوز له دخولها أبدا، ولو كان قال: إن دخلت جنانك، لم يكن بدخوله بأس إذا صارت لغيره، قال: إلا أن يخرب حتى يصير طريقا للعامة ليس فيها جنان، ولا يحمى المرور فيها على أحد، فإن سلكها مارا، فلا حنث عليه، قال: وكذلك الذي يحلف ألا يركب دابة رجل، فيقول: إن ركبت هذه الدابة، ولا يقول: دابتك، فلا يجوز له ركوبها، وإن صارت لغيره، وكل ما أشبه هذه الوجوه فهو مثل ما فسرت لك.
قال محمد بن رشد: فرق ابن القاسم في هذه الرواية بين أن(6/269)
يحلف ألا يدخل جنانه، أو ألا يدخل هذه الجنان، فرأى أن الجنان يتعين بالإشارة إليه، فيحنث إن دخله بعد أن خرج من ملك المحلوف عليه، إلا أن ينوي ما دام في يديه، ولا يتعين بإضافته إلى المحلوف عليه، فلا حنث إن دخله بعد أن خرج من ملكه، وذلك مثل ما في المدونة خلاف ما مضى في رسم لم يدرك، من سماع عيسى، وقد مضى القول على ذلك هنالك.
وحكى ابن دحون أنه وقع في هذه المسألة في بعض هذه الكتب مر على أخيه بفاكهة جنانه بالراء قال: فإذا كان بالراء، فسواء قال في يمينه هذه الجنان أو جنانك يحنث كلما دخلها، وإن خرجت من ملكه أنه لم يتقدم بساط مِن منّ، فيحمل عليه إذا خرجت عن ملكه، فكأنه ذهب إلى أنه إنما فرق في هذه الرواية بين أن يقول: جنانك، أو هذه الجنان من أجل أنه من عليه بفاكهة الجنان، ولو لم يمن عليه بها لساوى بين ذلك، كما فعل في رسم لم يدرك، من سماع عيسى، وليس ما ذهب إليه في ذلك بشيء؛ لأن الذي ثبت في الرواية إنما هو التفرقة بين أن يقول جنانك، أو هذه الجنان، كانت الرواية بالراء أو بالنون، فدل ذلك على أنه لم يعتبر المن من غير المن، وإنما اعتبر ما يتعين به الجنان من الألفاظ، مما لا يتعين به منها، فبان أن قوله فيها مثل ما في المدونة خلاف ما مضى في سماع عيسى.
وقوله أيضا: إنه إذا كان بالراء يحنث كلما دخلها غلط؛ لأن الحنث لا يتكرر عليه، وإنما يحنث بدخوله مرة، ثم لا حنث عليه إن دخله بعد ذلك ثانية على المشهور المعلوم في المذهب، وقد مضى القول في ذلك على المشهور المعلوم في المذهب، وقد مضى القول في ذلك في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى وغيره، وبالله التوفيق.
[قال امرأته طالق إن كانت هذه الطريق فأقاموا حتى أصبحوا فإذا هم على غير الطريق]
ومن سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب وقال في رجل صاحب قوما، فجن عليهم الليل، فقال لهم الرجل: يا قوم، إنكم أخطأتم الطريق التي تريدون إلى البلدة التي خرجتم إليها، فقالوا: لا، فقال: امرأته طالق إن كانت هذه(6/270)
الطريق، فأقاموا حتى أصبحوا، فإذا هم على غير الطريق التي خرجوا فيها، إلا أنها طريق إلى البلدة التي يريدون إليها.
فقال سحنون: لا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه قد تبين أنهم أخطئوا الطريق التي كانوا عليها، وعلى ذلك حلف لا على أنهم على طريق إلى غير البلدة التي خرجوا إليها، وبالله التوفيق.
[مسألة: وقع بينه وبين امرأته كلام وكان يريد سفرا فقالت له لا تبرح فقال أنت طالق]
مسألة وسئل سحنون عن رجل حلف بطلاق امرأته، وذلك أنه وقع فيما بينه وبين امرأته كلام، وكان يريد سفرا، فقالت له: لا تبرح، فقال: أنت طالق، إن لم أسافر، ولا رجعت حتى أستغني.
فقال: أما إذا أفاد من المال قدر مائتي درهم، وكانت المائتا درهم غنى لمثله، ولم يكن عليه من الدين ما يفترقها، ووجبت عليه فيها الزكاة، فقد بر، وليرجع إن أحب.
قال محمد بن رشد: إنما حد في هذا مائتي درهم؛ لأن من ملك من المال ما تجب عليه فيه الزكاة فهو ممن يقع عليه اسم غني؛ بدليل أن الله تعالى أمر أن تؤخذ الصدقة من الأغنياء، فترد على الفقراء، وشرط أن تكون مايتا درهم غنى لمثله، يريد في حقه مؤنته، وقلة عياله؛ لأنه إذا كان كثير المؤنة، كثير العيال، يكون من الفقراء في أيسر مدة، ويذهب عنه الغنى ويرتفع عنه اسمه، ولم يقصد الحالف بقوله: حتى أستغني إلا غنى ينتفع بتماديه معه، واستطاعته به على زمانه، وقوله: قدر مائتي درهم، ولم يقل مائتي درهم يدل على أنه لو قدم بعروض للتجارة قيمتها مائتا درهم ولا دين عليه، هي غنى لمثله، لبر بذلك وكأن له أن يرجع؛ لأن العروض للتجارة تجب فيها الزكاة، فلا فرق بينها وبين العين في البر بها، قال سحنون في كتاب ابنه: وإن قدم بعرض يساوي عشرين دينارا، فليس ينجيه من الحنث ذلك إلا أن(6/271)
يكون عرضا كثيرا، وقد يأخذ الزكاة من له العروض من خادم ودار، إلا يكون عرضا كثيرا جدا، وإن قدم بعشرين دينارا أو مائتي درهم حصل ممن تجب عليه الزكاة، وإن كان ذا عيال، ومعنى ذلك عندي إن كانت العروض التي قدم لغير التجارة أو للتجارة، وهو غير مدير؛ لأنه إذا لم يكن مديرا فليس ممن يجب عليه الزكاة في عروضه، فلا يسمى غنيا، وإن كانت الصدقة لا تحل له بسبب ما له من العروض، إلا أن تكثر عروضه، وأما إذا كان مديرا، فلا فرق بين أن تكون له مائتا درهم، أو يكون له قدرها من العروض في استحقاقه لاسم الغني، فعلى هذا التأويل يتفق قوله في سماعه هذا مع ما له في كتاب ابنه، ولا يكون متعارضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يبيعه منه ثم قال إنما حلفت وأنا ناسٍ لبيعي إياه منه]
مسألة وقال في رجل كان بينه وبين امرأته منزل، فأراد بيعه، فذهب إلى رجل فاشتراه منه، وأشهد البينة بالبيع، ثم إن المشتري قيل له: إن هذا المنزل الذي اشتريت من فلان ليس هو كله له، وإنما هو بينه وبين امرأته، فأنا أخاف عليك من ناحيتها إن أنت دفعت إلى هذا الثمن كله، ولكن يقول له: أدفع إليك وإلى امرأتك، فإنه قيل لي: إنه بينك وبينها ففعل، ولقيه في ذلك، وأعلمه بما قيل له، وقال له: اذهب بنا إلى امرأتك أعطيك المال عندها، فإني أخاف أن يستحق علي نصف المنزل، فحلف بطلاق امرأته إن باع منه شيئا، ثم إنه قام عليه المشتري عند السلطان، وسلمت له امرأته البيع هل ترى أن يحنث إن قضي عليه بذلك.
قال: لا حنث عليه، وذلك أن الحكم عليه فيه ثابت، فإنما يمضي شيئا قد كان ثبت عليه، فما أرى عليه حنثا، وقاله سحنون.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي مسائل لأصبغ في نوازله بعد هذا أنه(6/272)
حانث، وقد تأول ذلك على مالك في مسألة الأمة الواقعة في رسم أخذ يشرب خمرا، من سماع ابن القاسم، وليس ذلك بصحيح على ما قد مضى بيانه هناك.
ووجه قول سحنون أنه اعتبر اللفظ، ولم يراع المعنى، وذلك أنه إنما حلف ألا يبيعه بعد، والبيع قد مضى وفات، فلا يمكنه بيعه ثانية إلا أن يرجع ملكه إليه بوجه من وجوه الملك، فوجب ألا يقع عليه حنث.
ووجه قول أصبغ أنه لما حلف ألا يبيعه منه وقد باعه، كان المعنى في يمينه أنه إنما أراد ألا يمكنه منه بالبيع الذي باعه منه لا على ألا يبيعه منه؛ إذ لا يمكن أن يبيعه منه، إذ قد فات بيعه منه، وحلف الرجل على ألا يفعل ما يمكنه فعله لغو وسفه، لا وجه له ولا فائدة فيه، فوجب أن يحمل يمينه على ما له وجه وفائدة، وهو المنع من تسليم المبيع إليه بذلك البيع المتقدم، ولو حلف ألا يبيعه منه بعد أن باعه منه وكيله، ولم يعلم بذلك لما كان عليه شيء باتفاق، كما لو حلف على غيره ألا يبيع، أو ألا يهب، أو ألا يتصدق، أو لا يعتق، وهو لا يعلم أنه فعل شيئا من ذلك، فيوجد قد فعله، وقد مضى هذا المعنى في رسم العارية، من سماع عيسى، من كتاب النذور، وهو أيضا في رسم سلف، من سماع عيسى، من كتاب العتق، وأما إن قال الحالف: إنها حلفت وأنا أظن أن البيع لا يتم بينهما، ولا يلزم إلا بالافتراق، فسيأتي القول عليه في نوازل أصبغ إن شاء الله، ومثله في المعنى لو حلف ألا يبيعه منه، ثم قال: إنما حلفت وأنا ناسٍ لبيعي إياه منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول غزيل طالق إن لم أقضك حقك وامرأته غزيل وهو ينوي غيرها]
مسألة وسئل أشهب عن الرجل يحلف للرجل بالطلاق يقول: غزيل طالق إن لم أقضك حقك، وامرأته غزيل، وهو ينوي غيرها غزيلا أخرى لجاريته، ثم لا يقضيه.(6/273)
قال: هو حانث، ولا تنفعه نيته.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله أنه حانث، ولا تنفعه نيته، وإن جاء مستفتيا، وهذا على القول بأن اليمين على نية المحلوف له، وأما على القول بأن اليمين على نية الحالف، فتكون له نيته إذا جاء مستفتيا، وكذلك لو قال: امرأتي طالق إن لم أقضك حقك، فلا يقضيه، ويأتي مستفتيا فيقول: إنما أردت امرأة أخرى كانت لي قبل ذلك، لكانت له نيته على القول بأن اليمين على نية الحالف، خلاف ظاهر ما في التخيير والتمليك من المدونة، من أنه لا يُنَوَّى في أنه أراد امرأة أخرى قد كانت له، إذا قال له: امرأتي طالق، كما ينوى إذا قال: فلانة طالق، وعلى هذا الظاهر كان يحمل المسألة جميع من رأيت من الشيوخ، أو سمعت عنه كلاما فيها، أو رأيته له، ومثله في الواضحة، وليس ذلك بصحيح، بل لا فرق بين المسألتين كما ذكرته، وإنما قال في المدونة: إنه لا ينوى إذا قال: امرأتي طالق، ولم تكن عليه بينة، وكان مستفتيا من أجل أنه حلف للسلطان وألغز له، فكانت اليمين على نيته، وقد مضى في أول سماع أشهب تفصيل القول في حكم الملغز باليمين على غيره، فلا معنى لإعادته، ولو كان الذي حلف لغريمه ليقضينه حقه بطلاق غزيل قد حضرته نيته، فادعى أنه أراد جارية له لم يصدق باتفاق، ولو قال: غزيل طالق من غير أن يحلف لأحد، وأتى مستفتيا لنوي باتفاق.
فوجه ينوي فيه باتفاق، ووجه لا ينوى فيه باتفاق، ووجه يختلف في تنويته، ولا فرق في شيء من ذلك كله بين أن يقول: امرأتي طالق، أو فلانة طالق على ما ذكرناه وبيناه، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ليقضينه حقه إلى رمضان ثم سأله التأخير لرمضان آخر]
مسألة قلت له: فالرجل يحلف بالطلاق ليقضينه حقه إلى رمضان، وقد كان سأل الغريم صاحب الحق أن يؤخره إلى رمضان من عام آخر.(6/274)
فقال: هو حانث، ولا تنفعه نيته، قال ابن القاسم: له نيته فيما بينه وبين الله تعالى.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المسئول في هذه المسألة هو أشهب، فقوله هو حانث ولا تنفعه نيته ظاهره، وإن أتى مستفتيا على أصله في المسألة التي قبلها من أن اليمين على نية المحلوف له، وقول ابن القاسم: له نيته فيما بينه وبين الله تعالى، هو على أحد قوليه في أن اليمين على نية الحالف، وقد مضى القول على ذلك في رسم البز، من سماع ابن القاسم وغيره.
[مسألة: يقول امرأتي طالق إن كان فيها وفاء من حقه فيجد وفاء من حقه]
مسألة قال سحنون: وسأل رجل أشهب فقال له: إني اتزنت من رجل عند صيرفي حقا لي، فقال الصيرفي: لم يوفك حقك، فقال: الذي قضاني: سر معي إلى غيره، فقلت: امرأتي طالق إن كان فيها وفاء من حقي، ثم سرت معه، فوجدنا وفاء من حقي.
فقال له أشهب: قد حنثت، قال الرجل: إني إنما حلفت على ما أخبرني به الصيرفي. قال: قد غرك ولا ينفعك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن يمينه إنما وقعت على أن ما أخبره به الصيرفي حق، فلما تبين كذبه وجب عليه الحنث.
[مسألة: يقول امرأتي طالق إن دخلت دار فلان ثم يقول نويت في نفسي شهرا]
مسألة وسئل ابن القاسم في رجل يقول: امرأتي طالق إن دخلت دار فلان، ثم يقول ويأتي مستفتيا: نويت في نفسي شهرا.
قال: لا حنث عليه، قال ابن القاسم - في رجل يقول: امرأتي طالق إن كلمت بني فلان، ويقول: نويت في نفسي إلا فلانا -: إن ذلك(6/275)
لا ينفعه؛ لأن الثينا لا تكون إلا بأن يتكلم به لسانه.
قال محمد بن رشد: أما المسألة الأولى فلا اختلاف فيها بين أحد من أصحاب مالك وغيرهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» ، وأما قوله في المسألة الثانية: إن الاستثناء لا يكون إلا بتحريك اللسان فهو المشهور في المذهب، وقد مضى القول على ذلك في رسم الجنائز والذبائح والنذور، من سماع أشهب، فمن أحب الوقوف عليه، تأمله فيه.
[مسألة: حلف ليقضين فلانا حقه صلاة الظهر أي حين يقضينه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يحلف ليقضين فلانا حقه صلاة الظهر، أي حين يقضينه، أي أوسط صلاة الناس أو أولها أو آخرها؟
قال: بل أولها أول ما يصلون وعند الزوال، قلت: فإن لم يقضه حتى صلى بعض الناس وبقي آخرون؟
قال محمد بن رشد: هذا هو الاختيار أن يقضيه في أول الوقت؛ لأنه أبرأ من الحنث، فإن لم يفعل حتى صلى بعض الناس، وبقى آخرون لم يحنث؛ إذ لا يحنث إلا بانقضاء جميع الوقت قاله سحنون في كتاب ابنه، يريد الوقت المستحب، القامة للظهر، والقامتان للعصر؛ لأنه هو الوقت الذي يتسع الناس في تأخير صلاتهم إليه، فتحمل يمين الحالف عليه، وقد مضى في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى، القول فيمن حلف ليقضينه حقه غدوة أو بكرة مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف للرجل ليقضينه إلى أجل فيغيب الحالف]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يحلف للرجل ليقضينه إلى أجل، فيغيب الحالف، فتخاف امرأته أن يحنث، فتدفع ذلك إلى(6/276)
السلطان، فيقضي السلطان الغريم من مال الحالف.
قال: لا ينفعه ذلك، وهو حانث، قلت: فإن رفع الغريم أمره إلى السلطان، فحكم السلطان بدينه وقضاه من مال الحالف؟ قال: هو حانث إلا أن يكون وكل السلطان أن يقضي عنه، أو وكل أحدا، ألا ترى أنه يقضي عنه الحق، فيسقط عنه الحق بغير وكالة، ولا يسقط عنه اليمين، والسلطان وغيره في هذا سواء، وهو خلاف مغيب المحلوف له، ودفع الحالف المال إلى السلطان أن ذلك يخرجه من يمينه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يبرأ ويخرج من الحنث بقضاء السلطان عنه إلا أن يوكله على ذلك، هو عندي على خلاف أصله فيمن حلف ألا يقضي غريمه، أو ألا يفعل فعلا، فقضاه السلطان من ماله، أو قضى عليه بالقضاء، أو حكم عليه بذلك الفعل أنه حانث؛ لأنه إذا كان قضاء السلطان من ماله يحنث به، كما لو قضاه هو إذا حلف ألا يقضيه، وجب على قياس ذلك، ألا يكون قضاء السلطان عنه من ماله يبر به، كما لو قضاه هو إذا حلف ليقضينه.
وإذا كان قضاء السلطان عنه من ماله لا يحنث به، إذ ليس قضاء السلطان كقضائه هو إذا حلف ألا يقضينه، يجب على قياس ذلك أن يكون قضاء السلطان عنه من ماله لا يبر به، إذ ليس قضاء السلطان كقضائه هو إذا حلف أن يقضيه، لا فرق بين الموضعين؛ لأنا إما أن نجعل السلطان في ذلك كوكيله عن ذلك، فيحنث بفعله إذا حلف ألا يفعل، ويبر بفعله إذا حلف ليفعلن، وهو أصل ابن الماجشون، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك، في آخر سماع أشهب، وغير ما رسم، من سماع ابن القاسم، فيبر بقضاء الوكيل الموكل على القضاء، ولا يبر بقضاء الوكيل الذي ليس بموكل على القضاء، ويأتي في قضاء السلطان عنه قولان على ما بيناه، وقد مضى في رسم أسلم، من سماع عيسى، القول في قضاء الوكيل عنه، وما يتعلق بذلك، وبالله التوفيق.(6/277)
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق إن خرجت إلا برضاك فيفعل]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول لامرأته: أنت طالق إن خرجت إلا برضاك، أو فعلت كذا وكذا إلا برضاك فيفعل، فقامت عليه البينة، فقال: قد أذنت لي، وقالت: ما أذنت لك.
قال: هي طالق، وهي مثل مسألة الدين، وكذلك كل ما كان مثل هذا الوجه، وهو قول المخزومي: وإن صدقته لم يكن لي بد من أن أحلفه بالله: لقد أذنت له.
قال محمد بن رشد: قوله: وهي مثل مسألة الدين؛ يريد مسألة الرجل يحلف بطلاق امرأته إن لم يقض رجلا حقه إلى أجل سماه، وقد مضى القول فيها في آخر أول رسم، من سماع ابن القاسم، فما ذكرناه من الاختلاف فيها إذا حل الأجل، وزعم أنه قد قضاه، وزعمت المرأة أنه لم يقضه، وأنه قد حنث فيها بالطلاق، يدخل في ذلك إذا وطء، وزعم أنها قد أذنت له قبل الوطء يصدق في قول؛ أنها قد أذنت له، وإن أنكرت أن تكون أذنت له، ولا يصدق في قول، وإن أقرت أنها قد أذنت له، ويكلف بإقامة البينة أنها أذنت له قبل أن يطأ، ومعنى ذلك إذا كان له طالب باليمين غيرها، وقال أصبغ في نوازله: وإن كانت زوجته أو أم ولد ومن أشبهها ممن لا يشهد على مثله صدق إذا ادعى الإذن وجاء مستفتيا، وإن كان مشهودا عليه ومخاصما، كلف البينة على الإذن؛ وإلا أمضى عليه السلطان بدليل قوله: إنه لا يصدقه في غيرهما ممن يشهد على مثله، وإن أتى مستفتيا، وهو بعيد والصواب أن يصدق فيمن يشهد عليه إن أتى مستفتيا، وفي الزوجة وأم الولد، وإن كان مشهودا عليه ومخاصما، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق لئن لم تقومي لأصبن الزيت في البلاعة]
مسألة وسئل عن الرجل يقول لامرأته: قومي في الليل وسهرت، فإن الزيت غالٍ، فقالت: لا، فقال: أنت طالق؛ لئن لم تقومي لأصبنه(6/278)
في البلاعة، فلم تقم فصبه دون البلاعة.
فقال: هو حانث إذا صبه دون البلاعة، إلا أن يكون نوى لأهريقنه، أو لأتلفنه، وكانت تلك نيته إذا لم تقم؛ لأن مالكا قال في مسألة الرجل يحلف لامرأته لتبيتن في هذا البيت، فتبيت على دكان في باب البيت؛ لأنها استأذنته على بيت أهلها، فأبى وحلف بما حلف به، وذكر مسألة مالك في رجل يشتري ثوبا لامرأته فكرهته، فحلف ألا تلبسه فرده، فاشترته المرأة فلبسته، فقال مالك: هو حانث إلا أن يكون نوى وأراد ألا تلبسه من ماله، والآخر حانث إلا أن يكون نوى بقوله: لا تبيت في هذا البيت، يريد ألا تسيري إلى أهلك، ولم يرد البيت بعينه.
قال ابن القاسم: وأصل هذا أن ينظر إلى ما لفظ به، فيؤخذ به إلا أن تكون له نية، فيحتمل على نيته، وذلك أن مالكا سئل عن رجل قال لرجل: سرقت مني دينارا فقال: أنا سرقته، امرأتي طالق إن كان لك عندي دينار، فذهب ينظر فإذا جاريته سرقته وجعلته عنده، فقال مالك: هو حانث إلا أن يكون نوى عمله، وأراد ذلك، وقد سئل مالك أيضا عن رجل سئل سلفا، فقال: امرأتي طالق إن كان لي شيء أملكه، وليس ذلك له، ثم طلع له مال قد كان ورثه، ولم يكن علم به، قال مالك: هو حانث إلا أن يكون نوى أني لا أملك شيئا أعلمه، فإنما يؤخذ الناس بما لفظوا، فيحمل به على قولهم إلا أن تكون لهم نية، وذلك أن رجلا سأله عن رجل حمل لرجل جلودا، فلما بلغه غايته جعل الجلود على يدي رجل حتى يوفي الكري كراءه، فلما وفاه قال له الكري: احلف لي أنه ليس لغيرك فيه شيء، فنظر إلى علامة، فلم ينكر شيئا فحلف له، ثم نظر فإذا الذي كانت عنده قد أبدل منها شيئا،(6/279)
قال: هو حانث، واحتج بالمسائل التي قبلها، وذكر قول مالك وما احتج به من الناس يؤخذون بألفاظهم، إلا أن تكون لهم نية فيحملون عليها، وذكر قول مالك في مسألة الذي حلف وسئل السلف فحلف ما لي شيء أملكه، فطلع له مال من قبل ميراث لم يكن علم به، قال: قرأتها على مالك، فقال: امحها فمحوتها، وقال: هو حانث، وذكر الذي سأله عن مسألة الجلود أن ابن كنانة وابن نافع قالا: ليس بحانث، فقال له ابن القاسم: إن مالكا قال أخبرتك، وإليه رجع إلى أن الناس يؤخذون بما لفظوا به، واحتج ابن القاسم بما قال له من المسألة التي قرأها على مالك، وأمره أن يمحوها.
قال محمد بن رشد: لم يراع مالك، وابن القاسم في هذه المسائل كلها بساطا، وحنث الحالف بمقتضى لفظه فيها، إلا أن تكون له نية، ومثله لمالك في رسم سلعة سماها، من سماع ابن القاسم، في رسم سلف، من سماع ابن القاسم، من كتاب التخيير والتمليك، وفي سماع أشهب من كتاب العتق، ولابن القاسم في سماع محمد بن خالد بعد هذا، والمشهور في المذهب مراعاة البساط بأن تحمل اليمين إذا لم تكن للحالف نية على بساطها، ولا تحمل على مقتضى اللفظ إلا عند عدم البساط، وهو قول مالك في رسم الطلاق الثاني، من سماع أشهب في هذا الكتاب، في مسألة النقيب، وقول ابن كنانة وابن نافع هاهنا، وقال ابن كنانة في المدنية في مسألته البالوعة، لم يسم البالوعة لشيء ينفعها به، وإنما أراد هرقه، فقد فعل، فلا حنث عليه، وهو قول أصبغ: إنه لا حنث عليه، قال: إلا أن يكون جمع من الزيت شيئا مما أهراق فتركه ولم يصبه في الحفرة، فهو حانث، وقال سحنون في نوازله من كتاب النذور في بعض الروايات: الأيمان على بساطها، فإذا وجدت اليمين ليس لها بساط فاهرب منها، وقد قيل: إن اليمين إذا لم يكن لها بساط تحمل على ما يعرف من عرف الناس في كلامهم ومقاصدهم في أيمانهم، والقولان قائمان من المدونة، وقد مضى القول في هذا المعنى(6/280)
مجودا في رسم جاع وغيره، من سماع عيسى، من كتاب النذور، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف الرجل للرجل بالطلاق ليقضينه إلى أجل إلا أن يشاء أن يؤخره]
مسألة وسمعت أشهب يقول: إذا حلف الرجل للرجل بالطلاق ليقضينه إلى أجل إلا أن يشاء أن يؤخره أو يأتيه أمر غالب من سلطان أو غيره، فلما خاف الأجل وأن يحنث سأله أن يؤخره فأخره إلى أيام، أرأيت إن عرض له في تلك الأيام أمر سلطان، فلم يستطع قضاءه حتى مضت أيحنث؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه قد استثنى الأمرين جميعا، فله ما استثناه في كل واحد منهما على انفراده، إن أخره كان له التأخير، وإن لم يعرض له فيها أمر يغلبه من سلطان أو غيره، وإن عرض له أمر يغلبه من سلطان أو غيره كان به معذورا، ولم يحنث، وإن لم يؤخره.
[مسألة: يقول للرجل احلف لي بالطلاق فيقول له الحلال علي حرام ويحاشي امرأته]
مسألة قيل لأشهب: فالرجل يقول للرجل: احلف لي بالطلاق، فيقول له: الحلال علي حرام، ويحاشي امرأته؟
فقال: لا شيء عليه، وفي رواية أصبغ أنها البتة.
قال محمد بن رشد: محاشاة الرجل امرأته إذا قال: الحلال علي حرام، أو حلف بذلك على وجهين؛ أحدهما: أن يقول: الحلال علي حرام، حاشى امرأتي، أو إلا امرأتي، أو سوى امرأتي، أو ما أشبه هذا من حروف الاستثناء، فهذه المحاشاة لا بد فيها من تحريك اللسان، فإن نواها بقلبه ولم يحرك بها لسانه لم ينتفع بها على المشهور في المذهب، وقد مضى هذا قبل هذا السماع وغيره، والثاني: أن يقول: الحلال علي حرام، وينوي إيقاع لفظه بالحلال علي حرام على ما عدا امرأته، فهذه المحاشاة(6/281)
هي التي تكون بالنية دون تحريك اللسان، فإذا حاشى امرأته بقلبه في الموضع التي تكون فيه المحاشاة بقلبه، أو بلسانه في الموضع الذي لا بد فيه من تحريك اللسان حسبما ذكرناه، فهو موضع الاختلاف الذي أشار إليه في الرواية، وقد مضى تحصيله والقول فيه مجودا في سماع أصبغ من كتاب النذور، فلا معنى لإعادة ذلك، ومضت المسألة أيضا في رسم الطلاق الثاني، من سماع أشهب، من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق البتة إن كنت فعلت أو فعل بي فأقاموا البينة على قوله]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك في الرجل: يقول فعل بي فلان وأعطاني، أو فعلت كذا وكذا فيأتيه رجل فيقول: قد بلغني أنك فعلت كذا وكذا، أو فعل بك كذا وكذا، قال: امرأته طالق البتة إن كنت فعلت أو فعل بي، فأقاموا البينة على قوله أنه قد كان أقر بذلك.
قال: يحلف بالله ما كان إلا كاذبا، ولا شيء عليه، إلا أن تقوم بينة أن فعله عاينوه، أو فعل به ما قال عاينوه، فإنه يطلق عليه، فأما البينة على إقراره فلا؛ لأنه يقول: كذبت، قال ابن القاسم: ولو أنه أقر بعد، لم يلزمه الحنث أنه قد كان فعل، فشهد على إقراره طلق عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة، والقول فيها في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
تم الجزء الثالث من كتاب الأيمان بالطلاق بحمد لله وعونه، يتلوه الكتاب الرابع.(6/282)
[كتاب الأيمان بالطلاق الرابع]
[حلف لهم بطلاق امرأته على ذلك أنه لا يعلمه في موضع من المواضع]
كتاب الأيمان بالطلاق الرابع(6/283)
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون قال سحنون في الرجل يكون له على الرجل ذكر حق بشهود، فتلف ذكر الحق، فسأل الشهود عن شهادتهم، فذكروا شهادتهم في الكتاب، فقال لهم صاحب ذكر الحق: إنه قد تلف مني، فاكتبوا لي غيره، وحلف لهم بطلاق امرأته على ذلك أنه لا يعلمه في موضع من المواضع، ولا هو في بيته، ثم وجده في بيته.
قال: لا حنث عليه؛ لأنه إنما أراد علمه.
قال محمد بن رشد: لم يحنثه سحنون في هذه المسألة بما يقتضيه مجرد اللفظ وحملها على البساط والمعنى المراد، وهو المشهور في المذهب خلاف قول مالك وابن القاسم في المسائل التي تقدمت، في سماع سحنون مثل قول ابن نافع وابن كنانة فيها، وقد مضى القول على ذلك، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق أربعا إلا ثلاثا]
مسألة ولو أن رجلا قال لامرأته: أنت طالق أربعا إلا ثلاثا، فهي ثلاث؛ لأنه بمنزلة لو قال: أنت طالق ثلاثا فهي ثلاث من قبل أنه يعد نادما، قال سحنون: وكذلك أيضا لو قال: أنت طالق مائة طلقة إلا تسعا وتسعين، فهي أيضا البتة؛ لأن الثلاث دخلت في العدة(6/285)
التي استثنى، قال: ولقد سألني عن هذه المسألة رجل، وأنا سائر إلى الشرق، وذكرها عن بعض أهل العراق، فتفكرت فيها، فلم أر لها مخرجا، ولا الصواب فيها غير هذا.
قال محمد بن رشد: قول الرجل لامرأته: أنت طالق أربعا إلا ثلاثا، استثنى أكثر الجملة، وقد اختلف في استثناء أكثر الجملة، فقيل: إن ذلك في اللسان غير جائز، وقيل: إنه جائز، وهو الصحيح، والدليل على جوازه قول الله عز وجل: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] ، وقوله عز وجل: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] لأنه استثنى في الآية الأولى المخلصين من الغاوين، وفي الثانية الغاوين من المخلصين، فلا بد أن يكون أحد الاستثناء من أكثر الجملة، فعلى هذا يكون قول الرجل لامرأته: أنت طالق أربعا إلا ثلاثا واحدة، ويحتمل أن يكون على هذا القول أيضا ثلاثا؛ لأن استثناء أكثر الجملة وإن كان جائزا في اللسان، فليس بمستعمل عند الناس في عرف كلامهم، فلما لم يكن ذلك معروفا من عادتهم في كلامهم حمل من قائله في الطلاق على أنه لم يقصد إلى ذلك، وإنما كان ندما منه استدركه، ليخرج به عما كان ألزمه نفسه من الثلاث، وأما على القول بأن استثناء أكثر الجملة غير جائز، فلا كلام في أن قول الرجل لامرأته: أنت طالق أربعا إلا ثلاثا ثلاث، هذا وجه القول في هذه المسألة على الأصول، ولم يذهب سحنون إلى شيء من هذا المعنى، والذي نحا إليه على ما يوجبه تعليله أن ما لفظ به من عدد الطلاق فيما فوق الثلاث لما كان الحكم فيه أن يكون ثلاثا كان كأنه إنما لفظ بالثلاث، فجعل قوله أربعا إلا ثلاثا، وقوله: مائة إلا تسعة وتسعين، كقوله ثلاث إلا ثلاثا، وذلك بين من قوله فهي البتة؛ لأن الثلاث دخلت في العدة التي استثنى، فعلى قوله لو قال الرجل: امرأتي طالق مائة إلا طلقة، كانت اثنتين؛ لأن الطلقة المستثناة على مذهبه إنما تقع مستثناة من الثلاث؛ إذ(6/286)
قوله عنده: مائة كقوله ثلاث، والأظهر على مذهب ابن القاسم وغيره أن تكون ثلاثا، ويجعل الطلقة التي استثنى مستثناة من المائة التي سمى، فتبقى تسعة وتسعون، يلزمه منها ثلاث، ويسقط الباقي.
ولو قال: أنت طالق ثلاثا، إلا اثنين، إلا واحدة؛ لكانت مطلقة تطليقتين؛ لأن الواحدة مستثناة من الاثنتين، وما بقي من الاثنتين وهي واحدة، فهي المستثناة من الثلاث؛ بدليل قول الله تعالى: {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} [الحجر: 60] ، فكانت المرأة مستثناة من الاستثناء، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق أن يقضي رجلا حقه رأس الهلال]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل حلف بالطلاق أن يقضي رجلا حقه رأس الهلال، فلما كان قبل حلول الأجل بأيام جاءه يتقاضاه، فقال: والله ما أجد شيئا، وإني لأخاف الحنث، فانطلق الطالب إلى رجل فقال: إن فلانا حلف لي في حق لي عليه أن يوفيني إلى الهلال، وهو معسر، وأنا أخاف عليه الحنث، فهاك عشرة دنانير، فأسلفها إياه على أنها من مالك، ولا تخبره بشيء، فانطلق إليه الرجل فقال: قد بلغني أنك حلفت لفلان في قضاء عشرة دنانير، وأنك أعسرت بها، فقال: نعم، فقال له: فهاكها سلفا مني، فاقضها إياه، فقبضها منه سلفا، وقضاها غريمه.
فقال أصبغ: إن كان الحالف لم يعلم بعملهما، ولم يكن قد سبب صاحب الحق، فلا حنث عليه في رأيي، قلت: فعلى من تباعة العشرة دنانير على الذي أخذها فأسلفها إياه؟ فقال: لا تباعة(6/287)
على الذي دخل في ذلك، وهي للطالب على الغريم، كما هي بغير يمين، وقد تقاضى منه العشرة التي كانت فيها اليمين.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن الحالف إذا لم يعلم بعملهما، ولم يكن الرجل من سبب صاحب الحق حتى يكون على اليقين من صحة القضاء، فقد بر؛ لأنه قد قضى العشرة التي كانت عليه، وسقطت عن ذمته، فخلص من الحنث، وترتب في ذمته عشرة أخرى للمحلوف عليه من سلف يطلبه بها، لا يمين له عليه فيها؛ لأنها غيرها، ألا ترى أنه يجوز له أن يأخذ منه فيها طعاما، وقد كان لا يجوز له أن يأخذ منه في الأولى طعاما، إن كان باعه بها طعاما، وهذا بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول إن لم تأكلي هذه البيضة فأنت طالق فتأكل منها شيئا]
مسألة قال: وكان مما قال المغيرة لأبي يوسف، حين كلمه بالعراق أن قال له أبو يوسف: لم قلتم في الرجل يقول لامرأته: إن أكلت هذه البيضة فأنت طالق، فتأكل بعضها، فزعمتم أنها طالق، وقلتم في الذي يقول: إن لم تأكلي هذه البيضة، فأنت طالق، فتأكل منها شيئا أنها طالق إن لم تستوعبها، فخالفتم بين بره وحنثه، والمسألة واحدة؟ فلم كان هذا هكذا؟ فقال له المغيرة: إنما تطلق على بساط الكلام ومعاني الإرادة، ونحن نقول: لو أن رجلا كانت له أخت، وكانت به غير بارة، ولا حافظة، فقيل له: إن أختك تصنع لك طعاما، فقال: امرأته طالق إن أكل لها بيضة، فبعثت إليه ببيضة، فإنه إن أكل منها شيئا حنث؛ لأنا علمنا أنه إنما سخط أمرها لقلة برها به، وعقوقها له، ولو قال له أهله القائمون عليه، والمعرضون له: إنك بحالة الضعف، ونحن نتخوف عليك الموت في تركك الأكل، وألحوا عليه في الأكل، ثم قربوا له بيضة، فقالوا: تصبر لنا على أكلها، فإن لك فيها الراحة والقوة، ولا بد منها، فقال: امرأته طالق إن أكلها، ثم أكل بعضها، فقد دلنا بعض المعنى أنه إنما كره(6/288)
استيعابها لمشقتها عليه في أكلها كلها، ولم يدلنا أمره أنه أراد هاهنا ما أراد في الأخت، واليمين واحدة، غير أن البساط مختلف، ذلك حلف على الاجتناب لطعام أخته، وهذا لمشقة استيعابها.
قال محمد بن رشد: وجه احتجاج المغيرة على أبي يوسف، هو أنه لما سأله عن الفرق بين البر والحنث في قول الرجل: امرأتي طالق إن أكلت هذه البيضة، أو إن لم آكلها، ورأى أنه قد خفي عليه الفرق بينهما مع وضوح المعنى فيه، أراه أن الوجه الواحد منهما قد يفترق المعنى فيه بافتراق البساط تنبيها على قصور فهمه وضعف نظره؛ لأن الأيمان إذا كانت تفترق في الوجه الواحد افتراقا لا يخفى، فافتراقها في الوجهين اللذين أحدهما نقيض الآخر بين وأجلى، هذا ما لا ريب فيه ولا امتراء.
ولا اختلاف أحفظه في المذهب في أن البر يفترق من الحنث، فيحنث الرجل بما لا يبر فيه، وقد مضى بيان ذلك في رسم العرية، ورسم لم يدرك، من سماع عيسى، وفي غير ذلك من المواضع، وأما البساط فمراعاته في الأيمان على ما بينه المغيرة، هو المشهور في المذهب، وقد مضى الاختلاف فيه في سماع سحنون قبل هذا وغيره، فلا معنى لإعادة ذكره، وبالله التوفيق.
[قال لها أنت طالق إن أنفقت علي يومي هذا فكانت نفقتهم تأتيهم من قبل أبويه]
من سماع موسى بن معاوية عن ابن القاسم وسئل ابن القاسم عن رجل كانت بينه وبين امرأته منازعة، فقال لها: أنت طالق إن أنفقت علي يومي هذا، فكانت نفقتهم تأتيهم من قبل أبويه، فخرج الرجل، فأتى من بيت أبويه لها بطعام فأكلته.
قال ابن القاسم: إن كان ذلك الطعام طعاما لو شاء أن يمنعه منعه، فأراه حانثا، وإن كان طعاما لو شاء أن يمنعه لم يمنعه، رأيت أن يدين لأنه قد علم أن أباه كان يجري عليها نفقة، ولا(6/289)
يستطيع منعها، فإن قال: إنما أردت من عندي، ولم أرد ما أجرى عليها أبي، فلا شيء عليه، وإن كان إنما أراد تلك النفقة لا يجري عليها بها أبوه، فقد حنث؛ لأنه قد حلف وهو يعلم أن أباه يجري عليها، وهو لا يستطيع أن يمنعه، فإن كان حلف على منعه فهو حانث، وإن لم تكن له نية حين حلف، ولم يكن طعاما يستطيع أن يمنعه، ولو علم به، فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: في كلام ابن القاسم هذا في هذه المسألة التباس لطوله، والمعنى فيه إذا اعتبرته أن الطعام إن كان يقدر على منعه، فهو حانث، ولا ينوى معناه مع قيام البينة عليه، وإن كان طعاما لا يقدر على منعه فهو حانث، إلا أن يقول: إنما نويت ألا أنفق عليها أنا من مالي؛ إذ فقد علمت أن نفقة أبي لا أقدر على منعها، فينوى في ذلك يريد مع يمينه، والله أعلم، من أجل قيام البينة عليه، وهو قول صحيح على أصولهم في الأيمان؛ لأن الطعام إذا كان يقدر على منعه فهو كما لو قال من عنده، فوجب أن يحنث بأكلها إياه، ولا يصدق في نية إن ادعاها مع قيام البينة عليه، كما لو أنفق عليها من ماله، ثم قال: إنما نويت طعاما كذا، أو على وجه كذا، وما أشبه ذلك، وإذا كان لا يقدر على منعه كانت النية محتملة إذا لم ينفق هو عليها عن ماله، فصدق فيها، وبالله التوفيق.
[سألته امرأته الإذن إلى أهلها فقال أنت طالق إن بت الليلة إلا في بيتك أو في البيت]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم قال محمد بن خالد: قال ابن القاسم في رجل سألته امرأته الإذن إلى أهلها، فقال: أنت طالق إن بت الليلة إلا في بيتك، أو في البيت، فأقامت وباتت خارجا من البيت في حجرتها.
قال: إن كانت نيته بأنه إنما أراد منعها من إتيان أهلها، فلا حنث عليه، وإن لم تكن له نية فهو حانث.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة لمالك في سماع سحنون، وهي على خلاف المشهور؛ لأنه اعتبر فيها مقتضى اللفظ دون ما(6/290)
يدل عليه البساط من المعنى، وقد مضى القول على ذلك هنالك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: تزوج امرأة وحلف لها بطلاقها ألا يدخل بها حتى يوفيها صداقها]
مسألة وسألته عن رجل تزوج امرأة، وحلف لها بطلاقها ألا يدخل بها حتى يوفيها صداقها، فطلقها واحدة من قبل أن يدخل بها، فبانت منه، فأخذت نصف الصداق، ثم إنه تزوجها بعد ذلك بأدنى من الصداق الأول الذي حلف عليه ألا يدخل عليها حتى يدفعه إليها ودخل بها.
قال ابن القاسم: أما ما كان يرجع في تزويجه إياها على بقية الصداق الذي كان حلف فيه، فالحنث واقع عليه، ولو كان بتها، ثم تزوجها بعد زوج بأدنى من ذلك، لم يقع عليه حنث، وذلك أن الطلاق الذي حلف فيه لم يبق منه شيء، وهو على طلاق مبتدأ.
قال محمد بن رشد: قوله: إن اليمين ترجع عليه ما بقي من طلاق ذلك الملك شيء صحيح، على معنى ما في المدونة، ومثله في رسم النذور، من سماع أصبغ، وفي نوازله بعد هذا من هذا الكتاب، وقال: إن الحنث واقع عليه إن تزوجها بعد ذلك بأدنى من الصداق الأول الذي حلف عليه، ألا يدخل بها حتى يدفعه إليها، ودخل بها، ولم يبين لماذا رأى أن الحنث واقع عليها، أن كان بأن دخل بها قبل أن يدفع إليها ما سمى لها، أو أن كان بأن سمى لها أقل من الصداق الأول الذي حلف عليه، والذي ينبغي أن يتأول عليه أنه إنما رأى الحنث واقعا من أجل أنه دخل بها قبل أن يدفع إليها ما سمى لها، ولو كان إنما دخل بها بعد أن دفع إليها ما سمى لها، لم يقع عليه حنث، وان كان ذلك أقل من الصداق الأول الذي حلف ألا يدخل عليها حتى يدفعه إليها؛ لأنه لم يحلف ألا يدخل بها حتى(6/291)
يدفع إليها كذا وكذا، وإنما حلف حتى يدفع إليها صداقها، فمعنى يمينه إنما هو ألا يدخل بها حتى يوفيها جميع حقها، وهذا بين، والله أعلم.
[مسألة: اللصوص إذا استحلفوا الرجل بالحرية والطلاق ألا يخبر بهم فأخبر عنهم]
مسألة قلت لابن القاسم: أسمعت من مالك في اللصوص إذا استحلفوا الرجل بالحرية والطلاق ألا يخبر بهم، فأخبر عنهم أنه ليس عليه في يمينه شيء؟ قال: نعم، ذلك قول مالك.
قال محمد بن رشد: معنى قول مالك فيما ذهب إليه من أنه ليس عليه من يمينه شيء، إنما هو إذا خشي على نفسه منهم مكروها في نفسه باتفاق، أو في ماله على اختلاف إن لم يحلف لهم، وأما إذا لم يخش منهم مكروها على نفسه إن لم يحلف لهم، للزمته اليمين، وحنث إن أخبر عنهم، وإن كان لا يجوز له أن يستر عنهم، ويجب عليه أن يخبر عنهم حتى يقام الحد عليهم، وانظر لو كان في إخباره عنهم مع إقامة الحد عليهم جبر أموال الناس عليهم من عندهم، هل يكون ذلك عذرا له يسقط اليمين عنه أم لا، وقد مضى في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى، ما يبين هذا، ويوضح ما هو إكراه مما ليس بإكراه، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لصاحب له امرأته طالق إن كلمتك حتى تبدأني بالكلام]
مسألة قال ابن خالد: وسئل ابن نافع عن رجل قال لصاحب له امرأته طالق إن كلمتك حتى تبدأني بالكلام، فقال له صاحبه: أنا والله لا أبالي، هل ترى هذا منه تبدية؟
فقال: لا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة، في رسم العرية، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله عز وجل التوفيق.(6/292)
[يقول لامرأته وهي حامل إذا وضعت فأنت طالق]
من سماع ابن الحسن من ابن القاسم قال عبد الملك بن الحسن: سئل ابن القاسم وأنا أسمع، عن رجل قال لامرأته: إذا بلغت هي موضع كذا وكذا، فهي طالق.
قال: هي طالق تلك الساعة، ومثلها أيضا الرجل يقول لامرأته وهي حامل: إذا وضعت فأنت طالق، قال: هي طالق تلك الساعة، ومثلها الرجل يقول لامرأته: إذا كفلت ابني ثلاث سنين فأنت طالق. قال: هي طالق تلك الساعة.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في قول الرجل لامرأته إذا بلغت معي موضع كذا وكذا فأنت طالق في رسم سلف، من سماع يحيى، ومضى القول على قول الرجل لامرأته إذا كفلت ابني ثلاث سنين فأنت طالق، في رسم الشجرة، من سماع ابن القاسم: فأغنى ذلك عن إعادته هنا مرة أخرى، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق البتة إن لم يكن عمر بن الخطاب من أهل الجنة]
مسألة قال عبد الملك: وأخبرني غير واحد من المصريين أن ابن القاسم سئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق البتة إن لم يكن عمر بن الخطاب من أهل الجنة.
قال ابن القاسم: لا حنث عليه، قال: وأخبرني من أثق به في أبي بكر وعمر مثل ذلك، قال ابن الصلت: وسمعت ابن القاسم يقول في عمر بن عبد العزيز: مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: أما من حلف بالطلاق أن أبا بكر وعمر من أهل الجنة، فلا ارتياب في أنه لا حنث عليه، وكذلك القول في سائر العشرة أصحاب حراء الذين شهد لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة، وكذلك من جاء فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طريق صحيح أنه من أهل الجنة، كعبد الله بن سلام، فيجوز(6/293)
أن يشهد له بالجنة، وأما عمر بن عبد العزيز، فوقف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تحنيث من حلف عليه أنه من أهل الجنة، وقال: هو إمام هدى، وقال: هو رجل صالح، ولم يزد على ذلك؛ إذ لم يأت فيه نص يقطع العذر، ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم التعلق بظاهر ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «إذا أردتم أن تعلموا ماذا للعبد عند ربه، فانظروا ماذا يتبعه من حسن الثناء» ، وقوله: «أنتم شهداء الله في الأرض، فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار» ، وقد حصل الإجماع عن الأمة على حسن الثناء عليه، والإجماع معصوم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تجتمع أمتي على ضلالة» ، وقد مضى في رسم الرهون، من سماع عيسى القول فيمن حلف أنه من أهل الجنة، أو أنه يدخل وهو مما يتعلق بهذا المعنى، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق البتة إن قمت معك حتى أفرع من وضوئي فتوضأ]
مسألة وسألته عن رجل مر به رجل وهو يتوضأ على شاطئ نهر، فقال له: قم معي في حاجة، فقال: امرأته طالق البتة إن قمت معك حتى أفرع من وضوئي، فتوضأ ثم ذهب معه، فذكر أنه نسي المضمضة أو مسح الأذنين أو الرأس، هل ترى عليه شيئا أم لا؟
قال: هو حانث؛ لأنه إنما أراد بقوله حتى أفرغ من وضوئي الوضوء الذي يتوضأ الناس، ولم يدر المفروض من المسنون.
قال محمد بن رشد: وهو كما قال؛ لأن الوضوء إذا أطلق في الشرع إنما يقع على جملة الوضوء وهو يشتمل على ما فيه من الفرائض والسنن، فتحمل يمينه على جميعها لدخولها تحت لفظ الوضوء، إلا أن يخص شيئا منها بنية أو استثناء، كما يحمل على العمد والنسيان؛ لدخولها تحت عموم لفظه، إلا أن يخص النسيان من ذلك بنية أو استثناء، فتكون له نيته إن جاء مستفتيا، وبالله التوفيق.(6/294)
[مسألة: حلف بالطلاق لغريمه ليوفينه حقه إذا أخذ عطاءه فأخذ من عطائه ما ليس فيه]
مسألة وسألت ابن أشهب عن من حلف بالطلاق لغريمه ليوفينه حقه إذا أخذ عطاءه، فأخذ من عطائه ما ليس فيه وفاء لدينه فقضاه، أتراه حانثا؟
قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه، أنه لا حنث إذا قضى غريمه ما أخذ من عطائه، وإنما الكلام إذا أخذ من عطائه بعضه وفيه وفاء أو لا وفاء فيه؛ لأنه يتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أأحدها: أنه حانث إن لم يقضه حقه، أو ما قبض من عطائه على ما يوجبه معنى يمينه. والثاني: أنه لا حنث عليه إن لم يقضه شيئا حتى يقبض جميع عطائه على ما يقضيه لفظ يمينه. والثالث: أنه يحنث إن لم يقضه من حقه بحساب ما قبض من عطائه، وقد مضى في سماع أبي زيد، من كتاب النذور مسألة من هذا المعنى تشبه هذه المسألة في بعض معانيها، وقد مضى من القول عليها ما فيه زيادة بيان لهذه، وبالله التوفيق.
[مسألة: وجده يذبح جديا فقال امرأته طالق إن كان يقبض روحه إلا ملك الموت]
مسألة وسئل أشهب عن رجل كان يذبح جديا، فقال له رجل: من يقبض روح هذا الجدي؟ فقال: امرأته طالق إن كان يقبض روحه إلا ملك الموت، هل عليه حنث؟
قال: لا حنث عليه، هذا والجن والإنس وكل من يموت من البهائم وغيرهم، فملك الموت يقبض أرواحهم، وإنما سماه الله ملك الموت؛ لأنه يقبض روح كل ميت من الإنس وغيرهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الله تعالى قد نص على أن ملك الموت يقبض أرواح بني آدم بقوله عز وجل: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11](6/295)
وقام الدليل من قَوْله تَعَالَى: {مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] على أنه يقبض روح كل حي من الجن أو الإنس وغيرهم؛ لأن الموت اسم عام مستغرق للجنس، فلا يصح أن يخصص في بعض الحيوان دون بعض إلا بدليل، وقول أهل الاعتزال: إن ملك الموت يقبض أرواح بني آدم، وإن أعوانه يقبضون أرواح البهائم، تحكم بغير دليل ولا برهان، فلا يصح أن يقال: ما ذهبوا إليه إلا بتوقيف ممن يصح له التسليم، وهو في مسألتنا معدوم، والقول بما سوى هذين القولين تعطيل، والله الموفق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ليقضين حقه إلى الليل]
مسألة وسئل عمن حلف بطلاق امرأته ليقضين حقه إلى الليل.
فقال: له الليل كله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة شاذة، والصواب فيها أن تحمل " إلى " على بابها أنها غاية، فيكون حانثا إذا لم يقضه حتى غابت الشمس، وهذا هو الذي يأتي على مذهبه في المدونة وغيرها، وعلى ما نص عليه أيضا في رسم البراءة، من سماع من كتاب النذور، ووجه هذا القول أنه جعل " إلى " بمعنى " عند " يقال: هو أشهى إلى من كذا أي عندي، وقال الشاعر:
إذ لا سبيل إلى الشباب وذكره ... أشهى إلي من الرحيق السلسل
أي عندي. وعلى هذا يأتي قوله في كتاب الظهار من المدونة، فيمن قال: أنت علي كظهر أمي إلى قدوم فلان.
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق البتة إلا واحدة]
مسألة وسئل عن الذي يقول لامرأته: أنت طالق البتة إلا واحدة.(6/296)
فقال: هي اثنتان، وقاله سحنون.
قال محمد بن رشد: المسئول في هذه المسألة هو أشهب، والله أعلم؛ بدليل أنها معطوفة على ما قبلها من المسائل له، وهو أيضا معلوم من مذهبه أن البتة تتبعض، وأما ابن القاسم فقد حكى عنه ابن حبيب: أنها لا تتبعض، وهو قول أصبغ في نوازله بعد هذا، وروى ذلك أيضا عن مالك، ووقع ذلك له في المبسوطة، ومثله في كتاب ابن المواز.
والصحيح قول أشهب وسحنون هذا أن البتة تتبعض، وعلى هذا يأتي ما في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، من تلفيق شهادة الشهود إذا شهد أحدهما بالثلاث، والآخر بالبتة؛ لأن نهاية الطلاق الثلاث، فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق البتة، فإنما معنى قوله وإرادته: أنت طالق نهاية عدة الطلاق، كما قال عمر بن عبد العزيز: لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا، من قال: البتة فقد رمى الغاية القصوى، فلا فرق في المعنى بين أن يقول: أنت طالق ثلاثا، أو أنت طالق البتة؛ لأنه واصف للطلاق في المسألتين جميعا بأقصى ما تبين به المرأة عنه من عدد الطلاق، فوجب أن يستويا في جميع الأحكام من التلفيق في الشهادة، والتبعيض بالاستثناء، وغير ذلك، وقد زدت هذا المعنى بيانا بالحجج النظرية في مسألة أفردنا التكلم عليه فيها، والله الموفق للصواب برحمته.
[مسألة: قال إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها بمصر طالق فتزوج ثم كلمه]
مسألة وسئل عن رجل قال: إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها بمصر طالق، فتزوج ثم كلمه.
فقال: لا شيء عليه في التي تزوج قبل يمينه، وإنما يلزمه الحنث فيما يتزوج بعد كلامه.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما في المدونة؛ لأنه قال في العتق الأول منها في الذي يقول: إن كلمت فلانا فكل عبد أملكه من الصقالبة، فهو حر: إن كل عبد يملكه بعد يمينه من الصقالبة فهو حر إن كلمه،(6/297)
إلا أن يريد إن كلمت فلانا، فكل عبد أملكه بعد حنثي من الصقالبة فهو حر، فتكون له نيته، وليس أحد القولين من جهة اللفظ بأظهر من صاحبه؛ لأن قوله فكل عبد أملكه من الصقالبة، أو فكل امرأة أتزوجها بمصر يحتمل أن يريد بعد يميني، وأن يريد بعد حنثي احتمالا واحدا لا يترجح أحد الاحتمالين على صاحبه، فإن كانت له نية، فله نيته، وهو مصدق فيها، وإن كانت على يمينه بينة، وإن لم تكن له نية، فوجه قوله في هذه الرواية أنه لا يلزمه طلاق فيما تزوج قبل حنثه مراعاة الاختلاف؛ إذ من أهل العلم من لا يرى عليه شيئا أصلا، فيما تزوج قبل حنثه، ولا بعد حنثه، ووجه قوله في المدونة الاحتياط للعتق مخافة أن يملكه وهو حر، فأعتقه عليه بالشك ولم يراع الخلاف، ولفظة أملكه تصلح للحال وللاستقبال، وإنما تشبه المسألتان إذا لم يكن في ملكه يوم حلف عبد من الصقالبة، فيستدل بذلك على أنه أراد بذلك الملك فيما يستقبل به، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق البتة إن بت في منزلك الليلة فبات في حجرتها]
مسألة وسألت ابن وهب عن الذي يقول لامرأته: أنت طالق البتة إن بت في منزلك الليلة، فبات في حجرتها.
فقال: الحجرة عندنا مثل الأسطوان، وهو حانث إلا أن تكون له نية.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، لا يدخل فيها من الاختلاف ما دخل في مسألة البيت التي مضت في سماع سحنون، ومحمد بن خالد؛ لأن المنزل يجمع البيت والحجرة عند الجميع على ما مضى لابن القاسم في رسم الرهون، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ألا ينفق هذا الدينار إلا في حلي ابنته فماتت]
مسألة وسئل عن رجل حلف بالطلاق ألا ينفق هذا الدينار في وجه من الوجوه إلا في حلي ابنته، فماتت ابنته قبل أن يعمل لها ذلك(6/298)
الحلي، وقبل أن يدفع ذلك إلى صانع أو بعدما دفع، كيف ترى في الدينار؟
قال: يحبسه ولا ينفقه.
قال محمد بن رشد: في كتاب ابن المواز: أنه لا شيء عليه، والاختلاف في هذا جار على اختلافهم في مراعاة المعنى الذي يظهر أن الحالف قصد إليه بيمينه، فلم يراعه في الرواية، وحمل يمين الحالف على ما يقتضيه مجرد لفظه من إلا ينفق ذلك الدينار، إلا في حلي ابنته، فقال: إنه إن ماتت ابنته حبسه فلم ينفقه، فإن لم يفعل حنث وراعاه في كتاب ابن المواز، فقال: إنه إن ماتت ابنته أنفقه فيما شاء، ولم يكن عليه حنث؛ لأنه لما حلف وابنته حية محتاجة إلى الحلي، تبين أنه إنما قصر بيمينه إلا يفوته عليها بنفقته إياه في غير حليها التي تحتاج إليه، فإذا ماتت وأنفق الدينار فيما شاء من حواجه، وجب ألا يحنث؛ إذ لم يفوت الدينار عليها بذلك، ولا حرمها الانتفاع به، وهذا القول أظهر، وهو المشهور في المذهب، وقد مضى المعنى في غير ما موضع من هذا الكتاب، وفي رسم جاع، ورسم الثمرة، من سماع عيسى، من كتاب النذور، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إني قد كنت حلفت بطلاقك ألا أفعل كذا وكذا وقد فعلته]
مسألة وسئل وأنا أسمع عن رجل، قال لامرأته: إني قد كنت حلفت بطلاقك ألا أفعل كذا وكذا، وقد فعلته ورجلان يشهدان عليه بإقراره لم ينفعه ما نوى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه قد أقر على نفسه بالحنث بالطلاق الذي قد لزمه بإقراره على نفسه به، وذلك مثل أن يقول: إنما كنت نويت ألا أفعل ذلك في يوم كذا وكذا، وإنما فعلت في غير ذلك اليوم وما أشبهه مما لو جاء عليه بينة سقط عنه الطلاق، وبالله التوفيق.(6/299)
[مسألة: قال إن مت قبل فلان فامرأتي طالق البتة]
مسألة وسئل عمن قال: إن مت قبل فلان فامرأتي طالق البتة، قال: هي طالق حين تكلم، وإن قال: امرأتي طالق إن مت إلى سنة أنها طالق ساعتئذ.
قال محمد بن رشد: إن كان إنما أراد أنه لا يموت قبل فلان، وأنه لا يموت قبل السنة، وأوجب على نفسه الطلاق إن كان شيء من ذلك بمعنى أنه لا يكون، فلا اختلاف في أن الطلاق قد لزمه معجلا؛ لأنه حالف على غيبه لا يعلمه إلا الله، وأما إن كان لم يرد ذلك، وإنما قال: امرأتي طالق إن كان ذلك، يريد إن كان بما سبق في علم الله الذي لا يعلمه إلا هو، فلا شيء عليه باتفاق، وإن لم تكن له نية، فيخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: أن يمينه تحمل على الوجه الأول، فيلزمه الطلاق. والثاني: أنها تحمل على الوجه الثاني، فلا يلزمه شيء، وكذلك إن حضرته بينة بها؛ إذ القول بادعاء أنه لم يرد الحلف أن ذلك يكون، وأنه إنما أوجب على نفسه الطلاق، وإن كان ذلك على غير وجه اليمين يتخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: أنه يصدق فيما ادعاه ولا يلزمه شيء، وهو الذي يأتي على قول أصبغ، فيما روي عنه من أنه قال: من قال: امرأتي طالق إن مت، فلا شيء عليه إلا أن يريد بذلك العناد، بمعنى أنه لا يموت، والثاني: أنه لا يصدق في ذلك، ويعجل عليه الطلاق، وهو ظاهر ما في هذه الرواية، ورآه ابن وهب؛ لأن المسألة معطوفة على مسائل تقدمت من قوله، وكان ابن القاسم يقف في مسألة أصبغ، وهذا يشبهها، والله أعلم، ولو قال: امرأتي طالق إذا مت لم يكن عليه شيء، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لغريمه بطلاق امرأته ليوفينه حقه إلى أجل سماه ولم يسم واحدة]
مسألة وسئل - وأنا أسمع - عن رجل حلف لغريمه بطلاق امرأته(6/300)
ليوفينه حقه إلى أجل سماه، ولم يسم واحدة، ولا ثلاثا، فحنث في يمينه، فزعم صاحب الحق أنه إنما حلفه بالبتة، ولم يكن ليرضى منه بما لا منفعة له فيه، وقال الغريم: لم أحلف إلا بواحدة، قال ابن وهب: القول قول الغريم ويحلف، وفي رواية عيسى، عن ابن القاسم، في كتاب أوله حمل صبيا أن القول قول صاحب الحق.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى، ومضى القول عليها هناك، وفيما كان في معناها في رسم البز، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.
[طلق امرأته واحدة ثم يقول إن راجعتها فهي طالق البتة ثم يرتجعها]
من سماع أصبغ بن الفرج، من ابن القاسم، من كتاب النكاح
قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول في الرجل يطلق امرأته واحدة، ثم يقول: إن راجعتها فهي طالق البتة، ثم يرتجعها قبل أن تنقضي عدتها، فيقال له: أليس قد حلفت؟ فيقول: إنما أردت ألا أراجعها بنكاح جديد إن بانت، وأما الارتجاع فإني لم أحلف عليه، وهي في ملكي، وأراجعها عندي، مخالف لأرتجعها، يحتج بذلك.
قال: لا يقبل قوله، وقد طلقت بالبتة إن هو ارتجعها، إلا أن يكون استثنى ذلك استثناء، وتكلم به وإلا لم ينفعه، وقاله أصبغ، وكذلك قوله إن قال: لو تزوجتها، فمخرج التزويج هاهنا ارتجاع، إلا أن يرتجعها حتى يظهر غيره بإفصاح وبيان، ومن ذلك أن يذكر له ارتجاعها، ويقبح في طلاقها، وسئل ارتجاعها، فيقول: هي(6/301)
طالق البتة إن راجعتها أو إن تزوجتها، فهذا الذي لا شك فيه إن ارتجعها طلقت بالبتة، وهو جواب والآخر مثله، وبجملة حتى يعرف خلاله بسبب أو بساط له مخرج أو استثناء به، يتكلم كلاما إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: لفظ الارتجاع في العدة حقيقة، وبعد انقضائها مجاز، ولفظ المراجعة والتزويج في العدة مجاز، وهو في العدة حقيقة؛ لأن المراجعة مفاعلة من الاثنين، فلا تستعمل حقيقة إلا حيث يحتاج إلى رضا المرأة، ولم يراع في هذه الرواية شيئا من ذلك؛ لجواز استعمال المجاز، يقال في ارتجاع المرأة في العدة: راجعتها، وفي مراجعتها بعد العدة ارتجعتها، فلم ينوه مع قيام البينة عليه، وإن كانت نيته التي ادعى موافقة لحقيقة لفظه، إلا أن تكون ليمينه بساط يدل على نيته التي ادعى خلاف ما مضى من قول ابن القاسم في رسم العرية، من سماع عيسى، ونحو قول مالك فيه.
وأما إن كانت نيته التي ادعى مخالفة لحقيقة لفظه، مثل أن يحلف ألا يراجعها، ثم يراجعها بعد العدة، ويقول: إنما نويت بذلك ألا أرتجعها في العدة، أو يحلف ألا يرتجعها ثم يرتجعها في العدة، ويقول: إنما نويت بذلك ألا أراجعها بعد العدة، فإنه لا ينوي في ذلك مع قيام البينة، قاله في رسم سلف، عن سماع عيسى، من كتاب السنة، ولا خلاف عندي في هذا الوجه، قال محمد بن المواز، وكذلك إن كان مطلوبا فأقر باليمين، وادعى النية، وليس قوله بخلاف، وأما إذا جاء مستفتيا غير مطلوب، فلا اختلاف في أنه ينوي في كل حال دون يمين، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: قال كل امرأة أتزوجها حتى يتزوج فلان فهي طالق]
مسألة وسئل عمن قال: كل امرأة أتزوجها حتى يتزوج، فلان فهي طالق.
قال: هو كمن قال: كل امرأة يتزوجها قبل أن يتزوج فلان إلا(6/302)
أن يموت فلان، فهي طالق.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن قول الرجل: كل امرأة أتزوجها حتى يتزوج فلان فهي طالق، مثل قوله كل امرأة أتزوجها قبل أن يتزوج فلان فهي طالق؛ لأن حتى غاية، فيمينه يقتضي طلاق كل امرأة يتزوجها قبل هذه الغاية، فاستوت المسألتان، والحكم في ذلك أن يلزمه طلاق كل ما يتزوجه قبل أن يتزوج فلان ما لم يمت، وإن لم يستثن إلا أن يموت؛ لأنه بموته قبل أن يتزوج يكون قد حرم على نفسه جميع النساء، فلا يلزمه ذلك كما لو استثنى فقال: إلا أن يموت، فقوله في هذه المسألة: إلا أن يموت؛ لا تأثير له فيما يوجبه الحكم على مذهب مالك الذي يرى أن من حرم على نفسه جميع النساء لم يلزمه من ذلك شيء، ولو قال: كل امرأة أتزوجها من بنات فلان قبل أن يتزوج فلان؛ لكان لاستثنائه بقوله: إلا أن يموت فلان تأثير، وهذا كله بين، والحمد لله.
[مسألة: يقول لامرأته قد شاء الله أن أطلقك]
مسألة وقال أصبغ: سمعت أشهب، وسئل عن الذي يقول لامرأته: قد شاء الله أن أطلقك، أو لعبده قد شاء الله أن أعتقك، قال: ليس عليه شيء إلا أن يريد بذلك عتقا أو طلاقا، هذا من الكاذبين على الله تعالى، فسئل عن قوله: قد شاء الله أنك طالق، قال: هذه طالق، إنما أخبر أنها طالق، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يقول: قد شاء الله أن أطلق امرأتي، أو أعتق عبدي: إنه لا شيء عليه صحيح؛ لأن معناه إنما هو الإخبار بالعزم على أن يطلق، وعلى أن يعتق؛ لأنه لما عزم على أن يطلق أو على أن يعتق قال: إن الله قد شاء ذلك، سيطلق ويعتق، فقد شاء ذلك، وإن كان سبق في علمه ألا يطلق ولا يعتق فلم يشأ ذلك، هذا هو تحقيق معنى قوله:(6/303)
قد شاء الله أن أطلقك أو أعتقك، لا أنه من الكاذبين عليه في الحقيقة كما قال، وإنما كان يكون كاذبا عليه لو أخبر أنه قد شاء ما يعلم أنه لو شاءه، مثل أن يقول: قد شاء الله أن أعيش من الهوا، أو أمشي على الماء، أو أطلع إلى السماء، أو ألا يعذب الكافرين، أو ألا أثيب المطيعين، وما أشبه ذلك مما يعلم كذبه فيه على الله عز وجل، ووجب إلا يلزمه الطلاق ولا العتق بإخباره أنه قد عزم على ذلك إلا أن يريد بقوله ذلك العتق والطلاق فيلزمه، كمن لفظ بما ليس من حروف الطلاق وأراد به الطلاق، ويدخل في ذلك من الخلاف ما دخله.
وقوله في الذي يقول: قد شاء الله أنك طالق. هذه طالق إنما أخبرها أنها طالق، صحيح أيضا، والمعنى أنه يلزم الطلاق بإقراره على نفسه بهذا الكلام؛ لأنه أخبر أن الله تعالى فد شاء أنها طالق، ولا يكون الله قد شاء أنها طالق إلا أن يكون هو قد طلقها، كما أنه لا يمكن أن يطلقها إلا والله تعالى قد شاء ذلك؛ لأنها تكون طالقا بنفس قوله: قد شاء الله أنك طالق؛ لأنه إن كان لم يطلقها، وقال: إن الله قد شاء أنها طالق، فهو كاذب على الله تعالى فيما قال لها: لا يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى إلا الاستغفار من كذبه عليه، وبالله تعالى التوفيق.
[حلف بطلاق امرأته على زوج أخته ألا يتم له ذلك الأمر]
ومن كتاب النذور قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، وسئل عمن حلف بطلاق امرأته على زوج أخته ألا يتم له ذلك الأمر، يريد دخولها عليه.
قال: يصالح امرأته حتى يدخل بأخته زوجها، ثم يراجع امرأته، ولا شيء عليه، قيل له: أرأيت إن بارأ أخته زوجها قبل أن يدخل بها، ثم تزوجها بعد ذلك ودخل بها، وامرأة الحالف تحته كما هي؟ قال: لا أرى ذلك يبرئه، وأراه حانثا، إلا أن تكون له نية فله نيته، قال أصبغ: ولا أرى النية تصح في هذا ولا تجوز، ولا تجزى حتى(6/304)
تنفع، إلا أن يكون سبب تعمده لصداق استثقله، أو شرط لم يكن يوافقه، أو أفتيت عليه في النكاح حتى يوافق وينكح بشروط وصداق غيره، تعمد ذلك بالنية واليمين والإرادة له على سببه تعمدا أو رهبا، وإلا فلا أرى ذلك ينفعه، ولا إن كانت يمينه مهملة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يصالح امرأته حتى يدخل بأخته زوجها، ثم يراجع امرأته، ولا شيء عليه صحيح، قد تقدم له مثله في رسم أوصى، من سماع عيسى، ومضى من القول عليه هناك ما لا وجه لإعادته.
وقوله: إنه إن بارأ أخته زوجها قبل أن يدخل بها، ثم تزوجها بعد ذلك ودخل بها، وامرأة الحالف تحته كما هي أنه يحنث ويقع عليه الطلاق إلا أن تكون له نية صحيح أيضا على معنى ما في المدونة، من أن اليمين ترجع على الحالف ما بقي من الملك شيء، وقد مضى مثله في سماع محمد بن خالد، ويأتي أيضا في نوازل أصبغ، وقول أصبغ: إن النية في هذا لا تصح ولا تجوز ولا تجزى حتى تنفع، إلا أن يكون لها سبب تعمده إلى آخر قوله، معناه أنه لا يصدق فيما ادعاه من أنه نوى ذلك إذا حضرته نيته باليمين بالطلاق إلا أن يعلم من سبب يمينه ما يدل على تصديقه.
وقوله: ولا إن كانت يمينه مهملة معناه أنه لا ينتفع بالسبب، فتحمل يمينه عليه إذا كانت يمينه مهملة دون نية، فلم ينوه أصبغ دون سبب، ولا حمل يمينه على السبب، إذا لم تكن له نية، وظاهر قول ابن القاسم أنه نواه دون سبب، وأنه حمل يمينه على السبب إذا لم تكن له نية، فقول أصبغ على القول بأن الحالف إذا لم تكن له نية تحمل يمينه على ما يقتضيه مجرد اللفظ لا على السبب الذي خرجت عليه يمينه، وقول ابن القاسم على القول بأنه إذا لم تكن له نية تحمل يمينه على السبب الذي خرجت عليه لا على ما يقتضيه مجرد اللفظ، وقد مضى ذكر اختلاف في هذا المعنى، والقول فيه في سماع سحنون وغيره، وأما إذا أتى مستفتيا غير(6/305)
مخاصم، ولا مطلوب باليمين، فله نيته وهو مصدق فيها دون يمين، وفي بعض الروايات مكان تعمد ذلك بالنية واليمين بعد ذلك باليمين والنية، والمعنى في ذلك كله سواء، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بطلاق كل امرأة يتزوجها ما دام خليطا لأبيه فترك مخالطته]
مسألة وقال ابن القاسم، عن مالك في الرجل يحلف بطلاق كل امرأة يتزوجها ما دام خليطا لأبيه، فترك مخالطته، ثم تزوج، ثم أراد الرجوع إلى مخالطته، فكره مالك ذلك أيضا، وقال: لا يفعل واستثقله.
قال محمد بن رشد: كره مالك أن يفعل ونهاه عنه واستثقله، ولم يقل: إنه يحنث إن فعل، وينبغي أن يحنث إن فعل على مذهبه في المدونة في الذي يحلف بطلاق كل امرأة يتزوجها على امرأته فيطلقها، ثم يتزوج، ثم يراجعها أنها تطلق عليه؛ لأن المعنى في يمينه إنما أراد ألا يجمع بينهما، وكذلك المعنى في يمين هذا، إنما أراد ألا تكون له زوجة، وهو مخالط لأبيه في ماله؛ لئلا يعتقد عليه أنه يرتفق بماله في الإنفاق على زوجته، ويأتي على قول أصبغ في المسألة التي فوقها.
وعلى ما مضى في سماع سحنون، ومحمد بن خالد من أن اليمين تحمل على اللفظ، ولا يعتبر بالبساط ألا يكون عليه شيء إن رجع إلى مخالطة أبيه بعد التزويج؛ لأن اليمين إذا حملت على مقتضى اللفظ، وإن كان لها بساط يخالفه، فأحرى أن يحمل على اللفظ، ولا يحمل على المعنى، إذا لم يكن لها بساط يدل عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول: قد وهبت لك طلاقك]
مسألة قال: وسمعته وسئل عن الذي يقول: قد وهبت لك طلاقك. قال: هي البتة، وقال أصبغ مثله، وإن قال: أردت واحدة أو(6/306)
اثنتين لم ينفعه ذلك، ولا يقبل قوله؛ لأن اسم الطلاق يجمع الطلاق كله، فيكون بمنزلة قوله: قد وهبت لك نفسك، وكذلك قد وهبت لك فراقك، ولا يحتاج في هذا إلى أن تقبل وتقول: قد قبلت أو لا أقبل، هو طلاق بمرة إلا أن يكون بدأ باستثناء إن أعطيتني كذا وكذا، أو وضعت عنى كذا وكذا، فقد وهبت لك طلاقك أو فراقك، فلا يكون عليه شيء حتى تقبل ويحنث بالقبول أو بالفعل، فأرى له فيه النية تنفعه بإرادة الواحدة أو شبيه بصلح أو خلع عند ذلك، وإلا فالطلاق واقع عليه، قال أصبغ.
وسئل ابن القاسم، قيل له: فإن قالت له: قد بلغني أنك تريد طلاقي فلا تفعل، هب لي ذلك ولا تفعل، فقال: قد وهبت لك طلاقك، فقال: إذا كان هذا هكذا، فلا أرى عليه شيئا، إذا لم يرد الطلاق، وكذلك لو قالت له: هب لي نفسي هذه المرة ولا تطلقني، أو قال ذلك له أهلها، فقال: قد وهبت نفسك لك، أو قال لأهلها: قد وهبتها لكم، هل هذا الوجه والبساط لم يكن عليه شيء؛ لأن ذلك منه على ترك الطلاق، وقاله أصبغ كله، ولو قال لها: قد تركتك وطلاقك لم يكن بشيء، كما لو قال لها: لو تركك لم يكن بشيء كان له بساط أو لم يكن، ما لم يرد بذلك طلاقا يضمره، فيحمل به محمل كلام أريد به الطلاق فهو طالق.
قال محمد بن رشد: قال في الذي يقول لامرأته ابتداء: قد وهبت لك طلاقك: إنها البتة، ولا ينوي إن قال: أردت واحدة أو اثنتين؛ لأن اسم الطلاق يجمع الطلاق، وتعليله لأن اسم الطلاق يجمع الطلاق كله يدل على أن حكم المدخول بها والتي لم يدخل بها في ذلك سواء، وهو صحيح في المعنى لا ينبغي أن يختلف فيه.
وأما قوله: قد وهبت لك نفسك، أي قد وهبت لك نفسك، أو قد وهبت(6/307)
لك فراقك، فهو بمنزلة قوله: قد وهبتك لأهلك، وقوله في هذه الرواية: إن ذلك بمنزلة قوله: قد وهبت لك طلاقك، يقتضي أنه البتة في ذلك كله قبل الدخول وبعده، ولا ينوي في شيء من ذلك، وهو ظاهر قول غير ابن القاسم في العتق الأول من المدونة، وقد مضى ما يتحصل في ذلك من الاختلاف في رسم باع غلاما، من سماع ابن القاسم، من كتاب التخيير والتمليك.
وأما قوله في الذي يقول لامرأته: إن أعطيتني كذا وكذا فقد وهبت لك طلاقك أو فراقك، فأجابته إلى ذلك: إنه ينوى، فإن لم تكن له نية فهي ثلاث. فظاهره أن المدخول بها والتي لم يدخل بها في ذلك سواء، ولابن القاسم في رسم نقدها، من سماع عيسى، من كتاب التخيير والتمليك، أنها ثلاث ولا ينوى، ظاهره أيضا قبل الدخول أو بعده، وقال عيسى بن دينار هناك: إنها واحدة في المدخول بها، والتي لم يدخل بها، وأما إذا قال لها: قد وهبت لك طلاقك جوابا؛ لقولها له: هب لي طلاقي ولا تطلقني، فلا إشكال في أنه لا يلزمه بذلك طلاق، وقوله: ولو قال لها: قد تركتك وطلاقك لم يكن بشيء، يريد وإن قال ذلك لها ابتداء من غير جواب، وهو بين؛ لأنه كلام يدل على أنه أراد بذلك ترك طلاقها، وأما قوله: إن ذلك كما لو قال قد تركتك لم يكن بشيء كان له بساط، أو لم يكن ما لم يرد بذلك طلاقا يضمره، فيحمل محمل كلام أريد به الطلاق، ففيه نظر؛ لأن تركتك وودعتك من ألفاظ الطلاق، فالقياس إذا قال لها ذلك ابتداء ولا نية له أن يلزمه بذلك الطلاق، ولا يصدق أنه لم يرد بذلك الطلاق إذا حضرته نيته، وقد دل على ذلك ما وقع لمالك في رسم الطلاق، من سماع أشهب، من كتاب التخيير والتمليك، ولا فرق في المعنى بين تركتك وخليتك، وقد قال في رسم يوصي، من سماع عيسى، من هذا الكتاب، أن خليتك وخليت سبيلك وفارقتك ثلاث، إلا أن ينوي واحدة دخل بها أو لم يدخل بها، وقد قال في التي لم يدخل بها: إنها واحدة، إلا أن يريد ثلاثا، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته يا مطلقة]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل قال لامرأته: يا(6/308)
مطلقة، قال: إن كان لم يرد طلاقا، وإنما قال ذلك لها، أي أنت في كثرة الكلام كالمطلقة، وما كلامك إلا كلام مطلقة، فلا شيء عليه، إن لم يرد الطلاق، وإن كان أراد شيئا فهو ما أراد، وقاله أصبغ، أو يقول ذلك على وجه الكسرة لها، وإن لم يعن بذلك وجها أنه لم يعن بذلك طلاقا، وعزل الطلاق، أو على أنها قد طلقت مرة، ولو كان فيك خير ما طلقت ونحو ذلك.
قال محمد بن رشد: أما إذا أراد بقوله لامرأته: يا مطلقة ذمها بأنها ممن قد طلق، أو أن حالك كحال المطلقة في كثرة الكلام، وقلة الانطباع، وما أشبه ذلك فلا إشكال في أنه لا شيء عليه، وأما إذا قال لها ذلك ابتداء على غير سبب ولا نية، ففي لفظه في هذا الوجه في الكتاب احتمال، والأظهر منه أن الطلاق له لازم، ولو قال: أردت بذلك الكذب، ولم أرد به الطلاق لصدق في ذلك، ولم يلزمه طلاق، وإن كانت عليه بينة، والله سبحانه أعلم.
[مسألة: أسلف رجلا وأشهد عليه شهيدين ثم أنكر]
مسألة قال وسئل عن رجل أسلف رجلا، وأشهد عليه شهيدين، ثم أنكر، فلقيه الشاهدان فقالا: نحن نشهد عليك، فحلف بالطلاق إن كان لفلان علي شيء، فرفع الشهود شهادتهم، فقضى عليه بالحق، فلما حال الطلاق فقال: لا طلاق عليه إذا كانت يمينه بعد إخبارهما إياه بشهادتهما عليه، وذلك بمنزلة يمينه بعد رفعهما شهادتهما إلى الحكم؛ لأنه بعد الخبر إنما يحلف على شهادتهما، قال أصبغ: لأنه يمكن أن يكون كاذبا في الأول فيدين.(6/309)
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم الدور والمزارع، من سماع يحيى، ومضت أيضا في آخر سماع سحنون، فلا معنى لإعادة القول فيها، وقول أصبغ: لأنه يمكن أن يكون كاذبا في الأول فيدين؛ معناه لأنه يمكن أن يكون المدعي كاذبا في دعواه السلف، فيدين الحالف في يمينه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول للمرأة إن تزوجتك فأنت طالق ولا يدري ما أراد]
مسألة قال وسمعت ابن القاسم يقول في الرجل يقول للمرأة: إن تزوجتك فأنت طالق، ولا يدري ما أراد؟
قال: أرى إن تزوجها بانت منه خوفا من أن يكون طلق البتة، ويكون له النصف من الصداق، ولم يكن ينبغي له أن ينكحها حتى تنكح زوجا غيره، ثم مجراها إن تزوجها بعد زوج مجرى المدخول بها، إن طلقها حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، هكذا أبدا حتى تبين منه بالثلاث تطليقات لكل نكاح طلقة محسوبة إن طلقها إياها، حتى تنكح زوجا غيره، قال: وقد اختلف الناس فيه إذا رجعت إليه بعد هذا الذي فسرت لك أن تبتدئ الطلاق، أو تكون على تطليقة، وأحب إلي أن تكون على تطليقة أبدا، يعمل باليقين ويطرح الشك، قاله أصبغ، وهو قول أشهب أيضا في المدخول بها، وهما سواء.
قال محمد بن رشد: حمل ابن القاسم قوله: ولا يدري ما أراد؛ على أنه لا يدري كم أراد من عدد الطلاق، وأنه أراد شيئا فنسيه، خلاف قول سعيد بن المسيب، ويحيى بن سعيد في التخيير والتمليك من المدونة، فقول ابن القاسم هذا مثل ما في الأيمان بالطلاق من المدونة: أن الشك لا يرتفع بعد ثلاثة أزواج، وأنه باق أبدا لا ترجع إليه متى تزوجها إلا على طلقة، وهو قول سحنون، قال: ولو نكحت بعد عشرة أزواج رجعت إليه أبدا تطليقة(6/310)
بقيت إلا أن يبت طلاقها، وحكى ابن أبي زيد في المختصر عن أشهب، أن الشك يرتفع بعد ثلاثة أزواج، وترجع إليه إن تزوجها على جميع الطلاق، وهو قول ابن وهب، وبه أخذ ابن حبيب، قال يحيى بن عمر: قد تدبرته فوجدته خطأ، وقال ذلك الفضل أيضا، وهو كما قالا: إنه خطأ بين واضح لا يخفى بالاعتبار؛ لأن الزوج لا يهدم الطلقة ولا الطلقتين، فإذا طلق الرجل المرأة التي طلقها، فلم يدر كم طلقها أربع مرات بعد أربعة أزواج، لم يجز له أن يتزوجها إلا بعد زوج؛ لأنا نخشى أن يكون طلاقه أو لا اثنتين، فتكون قد بانت منه بالطلقة الأولى من الأربع، فبقيت من الأربع ثلاث، بانت بها منه، فلا يتزوجها إلا بعد زوج، وكذلك إن طلقها خمس مرات بعد خمسة أزواج، لم يجز أيضا أن يتزوجها إلا بعد زوج؛ لأنا نخشى أن يكون طلاقه أولا طلقة واحدة، فتكون قد بانت منه بالطلقتين الأولتين من الخمس تطليقات، ثلاث تطليقات بانت بها منه، فلا يتزوجها إلا بعد زوج إن طلقها خمس مرات بعد خمسة أزواج، لم يجز له أن يتزوجها، وكذلك ما زاد أبدا على هذا الترتيب، لا يرفع الشك على ما بيناه، وبالله التوفيق.
وقوله في المدخول بها وغير المدخول بها: إنهما سواء؛ يريد أنهما سواء طلق امرأته التي قد دخل بها، ولم يدر كم طلقها؟ أو قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، ولا يدري كم أراد؟ في أن الشك باق أبدا، لا يرتفع إلا بأن يبت طلاقها، ثم يتزوجها بعد زوج، والله الموفق.
[مسألة: حلف بالطلاق أن يخرج إلى أخيه بالعراق فخرج فلقيه بالطريق]
مسألة قال: وسمعت ابن القاسم وسئل عمن حلف بالطلاق أن يخرج إلى أخيه بالعراق، فخرج فلقيه بالطريق، أو قدم قبل أن يخرج، أو بلغه موته إن كان إنما أراد لقيه، فلا شيء عليه، وليقم ولا يخرج، وإن كان إنما أراد العراق فليأتها.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان أراد لقيه، فلا شيء عليه، معناه إن كان أراد بيمينه أن يخرج حتى يلقاه، حيث ما لقيه ولو بالعراق، فلا شيء(6/311)
عليه إن كان خرج، فلقيه في الطريق؛ لأنه قد فعل ما حلف عليه، وقوله: وليقم ولا يخرج؛ يريد إن كان قدم أو مات قبل أن يخرج، ولم يفرط في الخروج؛ لأنه إن كان فرط في الخروج حتى قدم أو مات فهو حانث، كمن حلف ليفعلن فعلا، ففرط في فعله حتى فاته فعل ذلك الفعل، وهو مصدق في هذه النية، وإن كانت على يمينه بالطلاق ببينة؛ لأنها نية محتملة غير مخالفة لظاهر يمينه.
وأما قوله: وإن كان إنما أراد إتيان العراق فليأتها؛ ففيه تفصيل، أما إن كان لم يفرط في الخروج حتى قدم أو مات، فلا يبرأ إلا بإتيان العراق على ما أقر به على نفسه أنه نواه وأراده، وأما إن كان فرط في الخروج، فلم يخرج حتى قدم أو مات، فقد حنث في ظاهر أمره، فلا يصدق فيما زعم من أنه أراد إتيان العراق، إلا أن يأتي مستفتيا فيقال له: إن كنت صادقا فلك أن تبر بإتيان العراق كما نويت، وإن لم تكن له نية، فيمينه محمولة على ما يقتضيه لفظ يمينه من الخروج إلى أخيه بالعراق، فإن خرج أخوه من العراق، أو مات لم يلزمه الخروج إن كان لم يخرج، ولا التمادي إلى لقيه إن كان قد خرج، وكان أخوه قد خرج من العراق، ولا يحنث إلا بأن يكون قد فرط في الخروج، فلم يخرج حتى خرج أخوه من العراق أو مات، وهو لو خرج أدركه بالعراق قبل أن يخرج منه أو يموت، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا تدخل امرأته موضعا سماه حتى يقدم من سفره ثم يبدو له ألا يخرج]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول عن مالك في الذي يحلف ألا تدخل امرأته موضعا، سماه حتى يقدم من سفره: الحج كان أو غيره، ثم يبدو له ألا يخرج هو أن اليمين عليه إلى مقدار سفره إلى رجعته، قال ابن القاسم: هذا الذي ليس فيه نية، يقول: ليس ينوي في هذا شيئا، إنما تحمل مخرج يمينه فيه إلى مقدار سفره إليه إن كانت نيته ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: إن هذا ليس فيه نية، ولا ينوى أنه يحمل(6/312)
مخرج يمينه إلى مقدار سفره إليه، إن كانت نيته ذلك هو كلام ليس على ظاهره، وفيه إضمار لا يستقيم الكلام إلا به، وتقديره أنه يحمل مخرج يمينه إلى مقدار سفره، ولا يحمل على أنه إنما أراد ألا يخرج إلى ذلك الموضع في مغيبه، وإن كانت نيته ذلك فيما زعم، يريد إلا أن يكون ليمينه بساط يدل على ذلك، أو يأتي مستفتيا؛ لأنه إذا أتى مستفتيا فهو بمنزلة إذا كانت يمينه بما لا يقضى به عليه، وقد مضى بيان هذا في رسم الجنائز والذبائح، من سماع أشهب، من كتاب النذور، وقال ابن القاسم في كتاب ابن المواز في هذه المسألة: وهذا إذا لم تكن له نية خلاف قوله هاهنا، إلا أن يكون معنى ما تكلم به عليه إذا أتى مستفتيا، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق أو عتاق وهو لا يعقل شيئا]
مسألة وقال: وسمعته يقول في الذي يسقي السيكران، فحلف بطلاق أو عتاق، وهو لا يعقل شيئا: لا شيء عليه، وهو بمنزلة البرسام وهو شيء يجعل له، ولم يدخله هو على نفسه إذا كان إنما يسقاه ولا يعلمه، وقال أصبغ: ولو أدخله على نفسه وشربه على علم به على وجه الدواء والعلاج، فأصابه ما بلغ به ذلك، لم يكن عليه شيء أيضا، ولم يكن بمنزلة السكران من الخمر ولا شاربها.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يسقي السيكران، فيحلف بطلاق أو عتاق، وهو لا يعقل شيئا: إنه لا شيء عليه صحيح لا اختلاف فيه؛ لأنه في حكم المجنون الذي رفع القلم عنه، بحكم الشرع مرفوع.
وقوله إذا كان يسقاه، ولا يعلمه كلام فيه نظر؛ لأنه يدل على أنه لو شربه وهو يعلم أنه يفقد به عقله، للزمه ما أعتق وطلق، وإن كان لا يعقل، وهذا لا يصح أن يقال، وإنما يلزم السكران العتق والطلاق من ألزمه ذلك من أهل العلم، من أجل أن معه بقية من عقله، لا من أجل أنه أدخل السكر على نفسه، وقد قيل: إنما ألزم الطلاق والحدود من أجل أنه أدخل السكر على نفسه، وليس ذلك بصحيح، وإن كان الذي يسقي السيكران يسكر به(6/313)
كالسكر من الخمر، ويختلط به عقله كالسكران من الخمر فله حكمه، ويمكن أن يفرق فيه بين أن يدخله على نفسه ليسكر به، أو يسقاه، وهو لا يعلم، وقد قال ذلك ابن الماجشون في المبسوطة، وهو على قول من يذهب إلى أن السكران إنما ألزم الطلاق من أجل أنه أدخل السكر على نفسه، وعصى الله تعالى في شرب الخمر، وهو تعليل غير صحيح على ما ذكرناه، وقد مضى في أول سماع ابن القاسم، من كتاب النكاح، القول في أحكام السكران مجودا مستوفى مشروحا لعلله، فلا معنى لإعادة ذلك هنا، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: حلف إن جمعت بين امرأتين فإحداهما طالق]
مسألة وسمعت ابن القاسم يقول في الذي يحلف إن جمعت بين امرأتين، فإحداهما طالق.
قال: ينوى، فإن كان أراد الأولى منهما أو الآخرة فذلك له، وإلا طلقتا جميعا، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب المعلوم في قول مالك وأصحابه أن من قال: إحدى امرأتي طالق، ولا نية له أنهما طالقتان جميعا، ولا خيار له في أن يختار إيقاع الطلاق في هذا كالعتق، فيجيزون له أن يوقعه على من شاء منهما، وقد روي ذلك عن مالك، وهو شذوذ في المذهب والقياس، إلا فرق في العتق والطلاق في هذا، فتفرقة مالك بينهما استحسان؛ إذ لا يجوز في العتق ما لا يجوز في الطلاق من التبعيض والوصية به وغير ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى سلعة واستوضع البائع فحلف بالطلاق ألا يضع له فأقاله]
مسألة وسمعته يقول في رجل اشترى سلعة، واستوضع البائع، فحلف بالطلاق ألا يضع له فأقاله: إنه حانث، وذلك إن كانت(6/314)
قيمتها أقل من الثمن، قال: وهو وجه ما سمعت من مالك؛ لأنه حين أقاله بمنزلة عرض أخذه في ثمنها، فإن كان فيه فضل أو وفاء لم يكن عليه حنث، وإن كان دون ذلك فهو حانث، وقاله أصبغ وهو بمنزلة ما لو سلفه دينارا في طعام أو سلعة، فيحلف له على الوفاء، ثم استقاله فأقاله ورد الدنانير إليه أنه إن لم يكن فيها وفاء بالطعام أو السلفة بسوق يومها يوم استقالة إن اشتريت بها أخرجتها، وإلا فهو حانث.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى على معنى ما في المدونة، وقد مضت والقول فيها في رسم إن خرجت، ورسم إن أمكنني، من سماع عيسى، فلا وجه لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته إن افتك لها ثوبا فمر بالخياط فقال له هذا ثوبكم]
مسألة وسئل عن امرأة استخاطت ثوبا لها، فأنكر ذلك عليها زوجها حين فعلت بغير أمره، وحلف بطلاقها إن افتكه لها، فمر الزوج بالخياط فقال له الخياط: هذا ثوبكم، وقد فرغت منه ألا تأخذه، فقال له: أمسك هذا الدرهم عندك رهنا بحقك وهاته، فأخذه فأتى به امرأته فدفعه إليها، وذهب الخياط فلم يوجد.
قال: يأخذه من المرأة، ولا شيء عليه، قيل له: ما الذي يأخذه من المرأة الدرهم أو ما استخاطت به الثوب إن كان نصف درهم؟ قال: بل النصف درهم الذي استخاطت به، ولم يسمع هذا الآخر منه.
قال محمد بن رشد: لم يحنثه في هذه المسألة بما يقتضيه لفظه، وحمل يمينه على ما ظهر إليه من معنى إرادته، وهو ألا يغرم عنها الأجرة، فكأنه قال: إن غرمت عنك الأجرة فأنت طالق، ولو حملها على ظاهر لفظه(6/315)
لحنثه؛ لأنه قد افتكه لها من عند الخياط وأتاها به، وهو كان الأظهر في المسألة، وإن كان المشهور في المذهب مراعاة المعاني في الأيمان دون الاعتبار بمخرج ألفاظها من جهة الاحتياط في الطلاق، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: حلف على امرأة بطلاقها إن دخلت الحمام سنة فاستأذنته إلى بيت أخيها]
مسألة قال: وسمعته سئل عن رجل حلف على امرأة بطلاقها إن دخلت الحمام سنة، فاستأذنته إلى بيت أخيها، فأذن لها، فأتيت بماء من الحمام فاغتسلت به في بيت أخيها.
قال: لا شيء عليه، قال له السائل: فإنها ذهبت مع امرأة أخيها إلى الحمام، فحرست ثيابها عند الباب، ولم تدخل هي، فقال: كيف كانت يمينك على ألا تخرج إلى الحمام، أو على ألا تدخل الحمام؟ فقال: بل على ألا تدخل الحمام، فقال: إن استيقنت أنها لم تدخل الحمام، فلا حنث عليك، قلت: فموضع الثياب من الحمام؟ قال: لا، قلت له: إن موضع الثياب بستر، وربما أخرجت المرأة عريانة ليس يراها أحد، قال: لا وإن كان مستورا، قال أصبغ: وكأنني رأيته يحنثه لو كانت يمينه على ألا تخرج، أو على ألا تسير إلى الحمام لعورته.
قال محمد بن رشد: إنما لم يحنثه إذا ذهبت مع امرأة أخيها إلى الحمام، فحرست ثيابها بالموضع الذي توضع فيه منه عند التجرد لدخوله؛ لأن معنى يمين الحالف على امرأته ألا تدخل الحمام إنما هو ألا تتحمم فيه على ما جرت عليه العادة من التحميم فيه، فراعى المعنى عنده في اليمين، ولم يلتفت إلى ما يقتضيه لفظ الدخول؛ إذ قد دخلت من الحمام الموضع الذي يتجرد النساء فيه مستترات عن الناس، ولم يحنثه بذلك كما يحنث من حلف ألا يدخل مسكن رجل بدخوله بعض داره، وإن لم يصل إلى موضع سكناه منه إلا كان يلزم على هذا ألا يحنثه أيضا، وإن كان حلف(6/316)
ألا تخرج إلى الحمام، أو ألا تسير إلى الحمام؛ لأن المعنى في ذلك كله إنما هو ألا تتحمم في الحمام، ووجه تفرقته بين أن يحلف ألا تدخل أو على ألا تخرج إلى الحمام، هو أنه لم يوقع الحمام إلا على موضع التحمم منه، فلم ير موضع الثياب من الحمام، ولا أوجب عليه بدخولها إياه حنثا، وأما إذا اغتسلت في منزل أخيها بماء الحمام، فلا إشكال في أنه لا يقع عليه بذلك حنث، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن حضرت جنازة فلان فمات فلان في موضع بعيد]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق إن حضرت جنازة فلان، فمات فلان في موضع بعيد، فبلغ ذلك امرأة الميت فبكته، واجتمع إليها النساء يبكين معها، فخرجت امرأة الحالف عليها إلى زوجة الميت، فبكت معها حينا، ثم رجعت إلى زوجها.
فقال: هي طالق، وهو حانث فيها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن هذا هو المعنى عند النساء في حضورهن الجنائز، وهو الذي كره الحالف، فعليه يقع يمينه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لجاريته إن لم ألتمس منك الولد فأنت حرة]
مسألة وسئل عن الذي يقول لجاريته إن لم ألتمس منك الولد فأنت حرة، أو يقول ذلك لامرأته، فأنت طالق البتة.
قال أشهب: إذا لم يعزلها فليس عليه شيء، قيل له: فإن أراد أن يبيع بعدما وطئ، ولم يعزل قال: إن شاء فعل.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن التماس الولد من المرأة إنما هو بالإفضاء إليها، إذ ذاك هو سببها الذي لا يقدر في التماس الولد(6/317)
منها على أكثر منه، فإذا وطئ وأفضى إليها، فقد التمس الولد منها، وإن كان لم يرد أن يكون له منها ولد، كما لو حلف ألا يلتمس الولد منها فوطئها، وأفضى إليها، لكان قد حنث، وإن كان من إرادته ألا تحمل منه؛ إذ لا تأثير لإرادته في شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاقها ألا يلبس لها ثوبا فأدخل طوقه في عنقه فإذا هو ثوب امرأته]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته، ألا يلبس لها ثوبا، وأنه أخذ لها ثوبا، فحين أدخل طوقه في عنقه، فإذا هو ثوب امرأته، فنزعه أتراه حانثا أم لا؟ والذي يحلف ألا يركب دابة فلان، فأدخل رجله في الركاب، فحين استقل من الأرض وهم أن يقعد على السرج، ذكر يمينه أتراه حانثا؟
قال ابن وهب عن مالك: إنه حانث، قيل له: فالذي يدخل رجله في الركاب فحين استقل من الأرض، ولم يستو عليها ذكر يمينه؟ قال: لا شيء عليه إلا أن يكون استوى عليها.
قال محمد بن رشد: قال في الذي يحلف ألا يركب دابة رجل فأدخل رجله في الركاب، واستقل من الأرض، وهم أن يقعد على السرج أنه حانث، ومعنى ذلك إن كان قد استوى عليها، بدليل قوله في آخر المسألة التي بعدها أنه لا شيء عليه إلا أن يكون استوى عليها، ولا اختلاف في أنه إذا استوى بجسده على الدابة أنه حانث، وإن لم يقعد بعد على السرج، ولا في أنه لو أدخل رجله في الركاب، واستقل من الأرض، وهو متعلق بالدابة، لم يستو عليها، ولا وضع ساقه الأخرى عليها أنه لا حنث عليه، ولو كان لما وضع رجله في الركاب، واستقل من الأرض، وضع ساقه الأخرى على الدابة، فذكر قبل أن يستوي بجسده عليها لتخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: أنه يحنث. والثاني: أنه لا حنث عليه يقوم الاختلاف في ذلك من اختلافهم، فيمين حلف ألا يدخل دار رجل، فأدخل رجله الواحدة فيها، ولم يعتمد بعد(6/318)
إلا على الخارجة، وقد مضى القول في ذلك في رسم القطعان، ورسم باع شاة، من سماع عيسى، فهي ثلاث منازل؛ منزلة لا يحنث فيها باتفاق، ومنزلة يختلف في وجوب الحنث عليه بها، ومنزلة يحنث فيها باتفاق، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وأما الذي يحلف ألا يلبس ثوب رجل، فأدخل عنقه في طوق ثوب من ثيابه فهو حانث كما قال، ولا اختلاف في ذلك؛ لأنه لباس، وكذلك لو كانت عمامة فلواها على رأسه، أو إزارا فأداره على نفسه؛ لأن هذا هو اللباس في هذه الأشياء، ولو كان وضع شيئا من ذلك على فرجه واستتر به، لم يكن ذلك لباسا، ولم يحنث على ما قاله في المدونة.
واختلف إذا لم يلبس القميص، ولا أدخل عنقه في طوقه، ولا اتزر بالإزار، وإنما ألقاه على ظهره، أو لفه على رأسه، أو كانت عمامة فاتزر بها، ولا يتزر بمثلها على قولين؛ أحدهما: أنه يحنث وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه لا يحنث، وهو قول سحنون، فهي ثلاث منازل في اللباس أيضا كالركوب، وبالله التوفيق.
[قال لامرأته إن ولدت غلاما إن لم أحج بك فأنت طالق فولدت غلاما فأبت أن تحج]
من سماع أبي زيد من ابن القاسم قال ابن زيد: سئل ابن القاسم، عن رجل قال لامرأته: إن ولدت غلاما إن لم أحج بك فأنت طالق، فولدت غلاما فأبت أن تحج.
قال: إن كان ذلك منه على وجه أن يوفي لها به مثل أن تسأله إن ولدت غلاما أن يفعل كذا وكذا فيحلف ليفعلنه، فإذا عرض ذلك عليها فأبته، فلا شيء عليه، وأما أن يكون أغلق عليها يمينا، لئن ولدت غلاما لأفعلن كذا وكذا على وجه العطية لها، أو الهبة رأيت ذلك يلزمه، وإن كرهت يجبرها على ذلك.
قال محمد بن رشد: كذا وقع: وأما أن يكون أغلق عليها يمينا(6/319)
لأفعلن كذا وكذا على وجه العطية، وهو غير صحيح في الرواية، وإنما صوابه على غير وجه العطية، وكذلك يستقيم الجواب، وكذلك قال في هذه المسألة بعينها في رسم سلف، من سماع عيسى، وقد مضى من القول عليها هناك ما يكتفي عن القول فيها هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته إن خرجت إلي موضع من المواضع إلا بإذني فأنت طالق البتة]
مسألة وسئل عن الذي يقول لامرأته: إن خرجت إلي موضع من المواضع إلا بإذني فأنت طالق البتة، فأذن لها أن تخرج إلى بيت أمها، والمسجد فخرجت، فلما كانت في الطريق رجعت لحاجة لها فأخذتها، ثم رجعت كما هي إلى الموضع الذي كان أذن لها فيه.
قال: إن كان رجوعها لحاجة ذكرتها تصلحها لتأخذها، ثم ترجع مثل الثوب تتجمل به والخمار وما أشبه ذلك، فلا حنث، وإن كان رجوعها تركا للموضع الذي أذن لها فيه وقطعا له، ثم فكرت بعد ذلك، فقامت فخرجت على الإذن الأول قبل أن تستأذنه فهو حانث.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في رسم سلف، من سماع عيسى، فيكتفى بالوقوف على ذلك هناك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته البتة إن دخلت بيتا من الدار بغير إذنه]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته البتة إن دخلت بيتا من الدار بغير إذنه، فدخلت حجرة من حجر البيت.
قال: الحجرة عندنا من البيت؛ لقول الله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27](6/320)
فلا ينبغي لأحد أن يدخل بيتا من تلك الحجر حتى يستأذن.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم، خلاف قوله في رسم الرهون، من سماع عيسى، وقد مضى من القول على ذلك هنالك ما فيه كفاية، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته أن لا يدعها تخرج شهرا إلا لنقلة منزل إلى منزل آخر]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته، أن لا يدعها تخرج شهرا إلا لنقلة منزل إلى منزل آخر، فأراد أن يخرج بها إلى قرية ثم يرجع.
قال: إن كان لخروجه مكث طويل شهرا أو نحوه، فلا أراه حانثا.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة أيضا قد مضى القول عليها في رسم الرهون، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يبيعني ثوبا أبدا فأراد أن يبيع مقارضا]
مسألة قال ابن القاسم في رجل حلف ألا يبيعني ثوبا أبدا، فأراد أن يبيع مقارضا فكرهه، وقال: ما يعجبني.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة قد مضت متكررة في أول سماع أبي زيد، من كتاب النذور، ومضى القول عليها هنالك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(6/321)
[مسألة: قال امرأته طالق البتة إن لم أوافك غدا في منزلك فجاءه إلى منزله فلم يجده]
مسألة وسئل عن رجل كان له حق على رجل، فتعلق به فقال: خلني وأنا آتيك غدا فقال: أخشى ألا تفعل، فقال: امرأته طالق البتة إن لم أوافك غدا في منزلك، فجاء من الغد إلى منزله، فلم يجده ووجده قد سار.
قال: لا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه أيضا متكررة في سماع أصبغ من كتاب النذور، وذيلها أصبغ من قوله بأن قال: وذلك إذا ظل يومه به، ولم يأته، ولم يكن بينهما وقت لحين من النهار من ذلك اليوم، فيأتي له ويقضي ولم يأته، فأما أن يأتي مثل ما أحب ويمسح ذلك مسحا، ويذهب حين لا يجده عند مجيئه فهو حانث، وليس هذا مجيء ولا موافاة، وتكلمنا هناك على وجه قول ابن القاسم وأصبغ، وذكرنا ما يجب أن يحمل قولهما عليه، فلا معنى لإعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن دخلت جاريتك على أختك إن لم أضربها مائة فدخلت]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت جاريتك على أختك إن لم أضربها مائة، فدخلت ثم ضربها مائة، ثم دخلت مرة أخرى.
قال: لا شيء عليه، إلا أن يكون نوى أن يضربها كلما دخلت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت، والقول فيها في رسم شك في طوافه، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: قال امرأته طالق إن حرثت بها إلا في الأرض التي بيني وبينك]
مسألة وسئل عن رجلين كانت لهما أرض، وكان لكل واحد منهما(6/322)
بقرة يحرثان بها، وكان أحد الشريكين حاضرا والآخر غائبا بالريف، فبلغ الحاضر أن شريكه يحرث بلدا له بالبقرة، وكان أحد الشريكين يحرث في غير الأرض التي بينهما، فأتاه فقال له: قد بلغني كذا وكذا، فقال الآخر: امرأته طالق إن حرثت بها إلا في الأرض التي بيني وبينك، ثم بدا للذي حلف أن ولى نصيبه من تلك الأرض رجلا آخر ثم حرثها بتينك البقرتين.
قال: هو حانث إلا أن يكون كانت له نية.
قال محمد بن رشد: حنثه في هذه المسألة على ما يقتضيه مجرد اللفظ، ولم يلتفت إلى المعنى المقصود إليه باليمين على ما دل عليه البساط من أنه إنما حلف ألا يخونه، فيحرث بالزوج الذي بينهما في أرض لا حق له فيها، وقد مضى هذا المعنى والاختلاف فيه في سماع سحنون وغيره، فلا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: قال لرجل أنا والله أتقى لله منك وأشد حبا لله ورسوله وإلا فامرأته طالق البتة]
مسألة وسئل عن رجل قال لرجل: أنا والله أتقى لله منك، وأشد حبا لله ولرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإلا فامرأته طالق البتة.
قال: أراه حانثا، قيل له: فلو قال: امرأته طالق إن لم يكن فلان أتقى لله منك، وأشد حبا لله ولرسول الله منك، قال: إن كان قال ذلك في رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن قد عرف فضله على صاحبه، أي من عرف فضله من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على صاحبه الذي قال له: أنا أتقى لله منك، وأشد حبا لله، وقوله مثل أبي بكر وعمر يريد أو غيرهما من فضلاء الصحابة، كعبد الله بن عمر، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، ومن سواهم ممن شهدت فضائلهم، وعلمت مناقبهم، ولو حلف بالطلاق(6/323)
إن فلانا لرجل غير مشهور أتقى وأشد حبا لله ولرسوله لفلان، لرجل من أهل هذا الزمان معلوم بالخير لحنث؛ بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعجب الناس إيمانا إلي، قوم يخرجون بعدي، يؤمنون بي ولم يروني، ويصدقوني ولم يروني، أولئك إخواني» ولو حلف بذلك في بعض الصحابة على بعض لحنث إلا في أبي بكر وعمر في الإجماع الحاصل بين أهل السنة أنهما أفضل من غيرهما، وأن أبا بكر هو الأفضل منهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يبيع هذه السلعة إلا بمائة دينار فباعها وسلعة معها بمائتي دينار]
مسألة وسئل عن رجل حلف ألا يبيع هذه السلعة إلا بمائة دينار فباعها، وسلعة معها بمائتي دينار.
قال: إن كانت السلعة التي باعها معها ثمنها لو باعها وحدها مائة دينار، لم يكن عليه حنث، وإن كان ثمنها أكثر من مائة دينار فهو حانث.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، وقعت على غير تدبر؛ لأنه يمكن أن يكون قيمة السلعة التي حلف عليها أقل من مائة، وقيمة التي أضاف إليها مائة، فازداد فيهما تمام المائتين، فالزيادة مقسومة على قيمتهما، فلا يقع للتي حلف عليها إلا أقل من مائة فيحنث، ألا ترى أن التي حلف عليها، لو استحقت، وقد بيعت مع الأخرى بمائتين لم يرجع إلا إلى القيمة فيهما، وإنما كان يجب أن يقول: إن كانت التي أضاف إليها قيمتها مثل قيمة التي حلف عليها فأقل، وباعهما بمائتين لم يحنث، وكذلك لو باعها مع غيرها، وسمى لها من الثمن في أصل الصفقة ما حلف عليه؛ لأن التسمية في ذلك غير معتبرة، ولا يحتاج في ذلك إلى الفض إن استحقت أحد السلعتين، أو وجد بها عيب، لا يجوز البيع إلا أن يكون سمى لكل سلعة من(6/324)
الثمن ما يقع لها منه على قدر قيمتها من قيمة صاحبتها، وقد مضى ذكر هذا في نوازل أصبغ، من كتاب النذور، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لرجل بالطلاق إذا اقتضى عطاءه ليقضينه حقه فوضع العطاء فلم يأخذه]
مسألة وسئل عن رجل أرهن امرأته جارية بدين لها عليه، فقالت امرأته: أخشى إذا افتككتها مني أن تطأها، قال: إن افتككتها فأنت طالق البتة، إن لم أتصدق بها على أمي، فأيسر الرجل فلم يفتكها، وأراد أن يتركها على حالها.
قال: أخشى أن يحنث؛ لأن مالكا قال لرجل حلف لرجل بالطلاق إذا اقتضى عطاءه ليقضينه حقه، فوضع العطاء فأبى أن يأخذ عطاءه، قال: هو حانث إن تركه ولم يقبضه؛ لأنه لو أراد أن يقبضه قبضه.
قال محمد بن رشد: أما الذي حلف لغريمه ليقضينه حقه إذا اقتضى عطاءه، فأبى أن يأخذه، فإيجاب الحنث عليه ظاهر على مراعاة المعنى؛ لأن الحالف إنما قصد بيمينه إلى أن يعجل له حقه، ولا يماطله به، فإذا وضع العطاء فأبى أن يأخذه، فقد حنث فيما حلف عليه، وقد مضى هذا المعنى، في رسم كتب عليه ذكر حق، من سماع ابن القاسم.
وأما الذي حلف ليتصدقن بالجارية على أمه إذا افتكها، فليس قصده إلى تعجيل افتكاكها ليتصدق بها على أمه، وألا يترك ذلك إذا وجد إليه سبيلا، فبين محمل يمينه عليه، ولذلك قال: أخشى أن يحنث، ولم يقل يحنث كما قال في مسألة العطاء، فالأظهر في هذه المسألة أن تحمل على ما يقتضيه اللفظ ولا يحنث بخلاف مسألة العطاء، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال كل امرأة أتزوجها إلى ثلاثين سنة فهي طالق البتة إن لم أقضه هذا الحق عند الأجل]
مسألة وسئل عن رجل قال: كل امرأة أتزوجها إلى ثلاثين سنة(6/325)
فهي طالق البتة، إن لم أقضه هذا الحق عند الأجل.
قال: يحنث إن كان يقدر على مال يبتاع به الجارية، فلا ينكح إلا أن يخشى العنت، فإن خشي العنت فهو في سعة من التزويج، وتدخل امرأته التي حنث فيها في النساء، ينكح إن بدا له هي وغيرها إن خشي العنت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة مثل ما في المدونة وغيرها، وقد مضى القول على هذا المعنى في رسم الجواب، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ليصومن غدا فصام ثم أكل فيه ساهيا]
مسألة وسئل عن رجل حلف بالطلاق ليصومن غدا، فصام ثم أكل فيه ساهيا.
قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: وقد مضت هذه المسألة، والقول فيها في رسم سلف، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق إن كساها شيئا أبدا فماتت أخت امرأته فكفنها بأثواب]
مسألة وسئل عن رجل كان يصل أخت امرأته ويكسوها، فبلغه أنها تشتمه وتكسره، فقال: وقد فعلت، امرأته طالق إن كساها شيئا أبدا، فماتت أخت امرأته، فكفنها بأثواب.
قال: إن كان حين حلف كانت له نية ألا يكسوها ما عاشت فقد بر، وإن لم تكن له نية، فقد حنث.
قال محمد بن رشد: مسألة صحيحة بينة المعنى، لا اختلاف فيها؛(6/326)
لأنه لما قال أبدا اقتضى قوله الحياة والموت بخلاف أن لو قال: ما عاشت، وقد مضى هذا والقول فيه مستوفى في رسم الأقضية، من سماع أشهب، من كتاب النذور، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لزوجته أنت طالق إن لم تأكلي هذه القطعة من اللحم فجاءت هرة فأكلتها]
مسألة وقال في رجل تغدى مع امرأته لحما، فجعلت المرأة لحما بين يديه ليأكله، فأخذ الزوج منها بضعة، فقال لها: كلي هذه، فردتها بين يديه، فقال لها: أنت طالق إن لم تأكليها، فجاءت هرة فذهبت بها فأكلتها، فأخذت المرأة الهرة فذبحتها، فأخذت البضعة فأكلتها المرأة، هل يخرج من يمينه؟
قال: ليس ذبح الهرة ولا أكلها ولا إخراج ما في بطنها ولا أكله من ذلك بشيء، ولا يخرجه ذلك من يمينه في شيء لحنث في مثله، فإن كان ساعة حلف لم يكن بين يمينه وبين أخذ الهرة البضعة قدر ما تتناولها المرأة وتحوزها دونها، فلا شيء عليه، وإن توانت قدر ما لو أرادت أن تأخذها وتحوزها دونها فعلت، فهو حانث.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف، وابن الماجشون، وهو صحيح على المشهور في المذهب من حمل الأيمان على المقاصد التي تظهر من الحالفين بها، وإن خالف ذلك مقتضى ألفاظهم فيها؛ لأن الحالف على امرأته أن تأكل البضعة من اللحم لم يرد وقت يمينه أن تأكلها، إلا وهي على حالها مستبدأة مستساغة، لا على أنها مأكولة تعاف وتستكره، وقد روى أبو زيد عن ابن الماجشون أنها استخرجت من بطن الهرة صحيحة كما هي حينما بلعته من قبل أن ينحل في جوفها شيء منها، فأكلتها فلا حنث عليه، وقوله: يأتي على مراعاة ما يقتضيه مجرد الألفاظ في الأيمان دون اعتبار المقاصد فيها، وهو أصل(6/327)
اختلف فيه قول مالك وابن القاسم، وقد مضى بيان هذا في غير ما موضع من هذا الكتاب وغيره، ولا فرق بين هذه المسألة في المعنى وبين الذي يحلف ليأكلن الطعام، فلا يأكله حتى يفسد، وقد اختلف قول ابن القاسم في ذلك في رسم إن أمكنتني، من سماع عيسى، من كتاب النذور، وقد مضى من القول عليها هناك ما يبين المعنى في هذه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق إن لم أقضك إلى سنة إلا أن تشاء أن تؤخرني]
مسألة وقال في رجل قال لغريمه: امرأته طالق إن قضيت أحدا قبلك، وإن لم أقضك إلى سنة إلا أن تؤخرني، فحل الأجل فأخره، ثم أراد أن يقضي غريما له قبل أن يقضي القديم الذي حلف ألا يقضي أحدا قبله.
قال: إذا يحنث.
قيل له: فإن قال امرأته طالق إن لم أقضك إلى سنة، وإن قضيت أحدا قبلك إلا أن تشاء أن تؤخرني، فحل الأجل فأخره، ثم أراد أن يقضي غريما غير الذي حلف له.
قال: أرجو ألا يكون عليه شيء.
قال محمد بن رشد: وجه تفرقته بين من يقول: إن قضيت أحدا قبلك، وإن لم أقضك إلى سنة، إلا أن تشاء أن تؤخرني، وبين أن يقول: إن لم أقضك إلى سنة، وإن قضيت أحدا قبلك إلا أن تشاء أن تؤخرني، هو أن رد الاستثناء، الوارد عقب جملة معطوف بعضها على بعض بالواو إلى أقرب مذكور منها أظهر من رده إلى جميعها، وإن كان رده إلى جميعها محتملا جائزا، ورد الاستثناء في قوله: إلا أن تشاء أن تؤخرني إلى قوله: إن لم أقضك إلى سنة أظهر من رده إلى قوله: إن قضيت أحدا قبلك، إذ هو أشبه بمعناه، فإذا كان الاستثناء متصلا لقوله: إن لم أقضك إلى سنة، وجب أن يرد(6/328)
إليه خاصة؛ لأنه أظهر من وجهة اتصاله به، ومن جهة مشابهته له في المعنى، فيحنث إن قضى أحدا وخره أو لم يؤخره، وإذا كان الاستثناء متصلا بقوله: إن قضيت أحدا قبلك كان أظهر أن يرد إلى قوله: إن قضيت أحدا قبلك لاتصاله به، وأظهر أن يرد إلى قوله إن لم أقضك إلى سنة من جهة أنه أشبه به في المعنى، فلما كان رده إلى كل واحد منهما أظهر من وجه ما استحسن أن يرده إليهما جميعا، فقال: أرجو ألا يكون عليه شيء إن حل الأجل، فأخره ثم قضى غريما له، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال يميني في يمينك فحلف بالطلاق وليس للحالف امرأة ثم حنث]
مسألة وقال في رجل قال لرجل: تجعل يمينك في يميني على ألا تفعل كذا وكذا، فقال له الرجل: يميني في يمينك، فحلف بالطلاق، وليس للحالف امرأة، ثم حنث، كيف يقول في الرجل الذي جعل يمينه في يمين الحالف إن ظن أن له امرأة، أو علم حين جعل يمينه في يمينه أنه لا امرأة له؟
قال: لا شيء عليه علم أو لم يعلم.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا القول في هذه المسألة في رسم سن، من سماع ابن القاسم، والمعنى فيها بين، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق إن وطئ فرجا حراما فأخذ جارية لامرأته فضمها إلى صدره]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل قال: امرأته طالق إن وطئ فرجا حراما أبدا، فأخذ جارية لامرأته، فضم صدرها إلى صدره، ووضع يده على محاسنها وقبلها حتى أنزل الماء الدافق.
فقال: قد حنث، قلت له: ولا ترى أن تنويه أنه إنما أراد(6/329)
الوطء بعينه؟ قال: لا أنويه، ولا كرامة.
قال محمد بن رشد: إنما رآه حانثا؛ لأنه حمل يمينه على المعنى؛ لأن الحالف ألا يطأ فرجا حراما إنما معنى يمينه مجانبة الحرام، فوجب أن يحنث بمباشرته والاستمتاع به، وإن لم يصل في ذلك إلى الوطء بعينيه، ولو حمله على ما يقتضيه اللفظ لم يحنثه؛ لأنه لم يطأ فرجا، وقد قال في كتاب ابن المواز: من حلف ألا يتسرر على امرأته فجرد جارية له، ووضع يده على محاسنها وملاذها، فليس ذلك بتسرر، وأما قوله لا ينوى في أنه إنما أراد الوطء بعينه، فمعنى ذلك مع قيام البينة عليه، ولو جاء مستفتيا لكانت له نيته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ليغسلن رأس رجل فغسله وهو ميت]
مسألة وقال في رجل حلف بالطلاق ليغسلن رأس رجل فغسله وهو ميت أنه يحنث.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه يحنث؛ لأن المعنى في يمين الحالف أن يغسل رأسه وهو حي؛ إذ المقصد في هذا إنما هو نفعه بإزالة الشعث عن رأسه وإراحته بذلك وكفايته المؤنة في تولي ذلك بنفسه لنفسه، وذلك كله مرتفع بالموت، فوجب ألا يبر بفعل ذلك به بعد الموت، وأن يحنث إن مات قبل أن يغسله إن كان قد حيي بعد اليمين، قدر ما لو أراد أن يغسله أمكنه، ولو حلف ألا يغسله فغسله، وهو ميت لحنث بما يقتضيه اللفظ على عمومه في الحياة والموت، ولم ينظر في ذلك إلى المعنى من أجل أن الحنث بخلاف للبر، ولو حلف ألا يغسل حياته فغسله بعد أن مات حنث أيضا، وقد قيل: إنه لا يحنث حسبما أشرنا إليه ونبهنا على موضع القول فيه قبل هذا في هذا السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ألا يجتمع هو وفلان في بيت فاجتمعا في الحمام]
مسألة وقال في رجل حلف بالطلاق ألا يجتمع هو وفلان في(6/330)
بيت، فاجتمعا في الحمام، قال: يحنث؛ لأنه لو أراد ألا يدخله فعل.
قال محمد بن رشد: قد مضى تعليله في رسم الرهون من سماع عيسى ما يدل على أنه لا يحنث إذا اجتمع معه في الحمام وشرحنا هناك وجه ذلك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: له على رجل حق فحلف بالطلاق ليستقضين منه حقه فهلك الغريم]
مسألة وقال في رجل كان له على رجل حق فحلف بالطلاق ليستقضين منه حقه، ولا يرخص له، فهو فيما يخاصم الغريم حتى هلك الغريم.
فقال: يستقضي من ورثة الغريم، ولا يرخص لهم، ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الحالف على مثل هذا إنما مقصده استعجال قبض حقه لينتفع به، فتحمل يمينه على ذلك، ولا تنحل عنه اليمين بموت المحلوف عليه، إلا أن تكون له نية أنه أراد التضييق عليه بعينه، فتكون له نية إن جاء مستفتيا غير مطلوب بحكم اليمين بالطلاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق أنه لا يقضي غريما له اليوم شيئا فلظ به الغريم]
مسألة وقال في رجل حلف بالطلاق أنه لا يقضي غريما له اليوم شيئا، فلظ به الغريم، وقال لرجل له عليه دين: ادفع إليه فضمنه له إلى غد.
قال: هو حانث ولا ينوى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن هذا حوالة على أصل دين، والحوالة قضاء بنفس لزومها، وإن كانت إلى أجل، وقد مضى بيان(6/331)
هذا، والقول فيه في رسم بع ولا نقصان عليك، من سماع عيسى، وقوله: ولا ينوي معناه مع قيام البينة، ولو أتى مستفتيا كانت له نيته فيما يدعي، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق إن لم أكن أدخلت غنمي السوق يوم الجمعة يريد قبل الأحد]
مسألة وقال في رجل قال لجلاب: أدخلت غنمك في السوق يوم الأحد حين فاتك السوق؟ قال: امرأته طالق إن لم أكن أدخلتها يوم الجمعة، يريد أي أدخلتها قبل الأحد، وإنما هو قد أدخلها يوم السبت.
قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: أما الذي عوقب على إدخال سلعته السوق بعد فوات السوق، فحلف بالطلاق لقد أدخلتها السوق يوم الجمعة، وإنما أدخلها السبت، فقوله: لا شيء عليه صحيح على مراعاة المعنى؛ لأنه إنما أراد أنه لم تتأخر سلعته عن سوقها، وهذا إن كانت سوق تلك السلعة يوم السبت، وأما إن كانت سوق تلك السلعة إنما هو يوم الجمعة فهو حانث، إذ تأخر بها عن سوقها، وعن اليوم الذي حلف عليه، وقد قيل: إنه حانث وإن كان سوق تلك السلعة يوم السبت، وهذا على الاعتبار بلفظه دون معنى يمينه؛ إذ هو أصل قد اختلف فيه، وإلى هذا نحا في كتاب ابن المواز، فقال في موضع: أخشى عليه، وأما الذي سئل سلف خمسة دنانير فحلف أنه ليس معه إلا خمسة دنانير، فإذا هو ليس معه إلا أربعة دنانير، فبين أنه لا حنث عليه؛ لأنه إنما أراد أنه ليس معه أكثر من خمسة دنانير، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق إن لم أربح غدا درهمين]
مسألة وقال في رجل قال: امرأته طالق إن لم أربح غدا درهمين، قال: إن علم أنه من شيء يرتجى ربحه، يقول: أنا أربح غدا(6/332)
درهمين في هذا الثوب، أو في هذه الدابة، أو أقتضي من غلامي غدا درهمين، أو يهب لي فلان درهمين، فأصاب من الغد درهمين بشيء من هذه الوجوه، فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا أصاب من الغد درهمين بشيء من هذه الوجوه، فلا شيء عليه؛ لأنه لم يحلف إلا على شيء رجاه، فلا اختلاف في أنه لا شيء عليه إذا سلم مما غرر فيه اليمين عليه، ولو عثر على ذلك قبل غد لما عجل عليه الطلاق حتى ينظر، هل يربح الدرهمين غدا من وجه تلك الوجوه التي ذكر أم لا؟ لأنه إنما هو بمنزلة من قال: امرأتي طالق إن لم يوهب لي غدا درهمان، فلا يعجل عليه الطلاق؛ لأنه يقول: لا أعدم من يهب لي غدا درهمين، وأنا قادر على أن يسلفها ممن لا يبخل علي بهما، بخلاف لو قال: امرأتي طالق إن لم تضع فلانة حملها غدا لما يرى بها من إمارة قرب وضعها، وإن لم يمت فلان غدا لما يرى به من أسباب الموت، هذا يعجل عليه الطلاق إن عثر عليه قبل الأجل؛ إذ لا حيلة له، ولا عمل لتعجيل الوضع ولا الموت وما أشبه ذلك، وقد مضى بيان هذا كله في رسم يوصي، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته البتة ليبيعن عبده إلى غير أجل فمات العبد أو أبق]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته البتة ليبيعن عبده إلى غير أجل، فمات العبد أو أبق.
قال: إن كان عمل في بيعه، فعجله فوات نفسه، فمات قبل أن يبيعه، فلا شيء عليه، وإن كان فرط حتى مات حنث، فإن كان أبق فإن يضرب له أجل أربعة أشهر، ويوقف عن امرأته من يوم ترفعه، فإنه وجد العبد وباعه قبل انقضاء أربعة الأشهر، لم يكن عليه شيء، ولا طلاق عليه، فإن انقضت الأربعة أشهر، ولم يجده لم تكن عليه إلا طلقة واحدة، فإن وجده وهي في العدة وباع راجع(6/333)
امرأته، وإن لم يجده إلا بعد انقضاء العدة من يوم طلق عليه، لم يكن له عليها رجعة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها، فلا وجه للقول فيها، وقد مضت في رسم القطعان، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يكلم فلانا فكتب فلان إلى ذلك الرجل كتابا فقرأه الحالف]
مسألة وسئل عن رجل حلف ألا يكلم عبد الله، فكتب عبد الله إلى ذلك الرجل يريد الحالف الذي حلف ألا يكلمه كتابا، فقرأه ذلك الرجل الحالف ألا يكلمه على نفسه، ولم يجب فيه بشيء.
قال: هو حانث، قيل له: فإنه حين أتى بالكتاب فدفعه إلى رجل، فقال أقرأه علي؟ فقال: إن قري عليه ما فيه بأمره؛ حنث، وإن قرأه الرسول عليه من غير أن يقول: اقرأه علي؛ فأرجو أن يكون خفيفا، وما ذلك بالبين، قيل له: فإن عبد الله كتب إلى رجل غير الذي حلف عليه كتابا، فجاء ذلك الرجل بذلك الكتاب إلى الذي حلف ألا يكلم عبد الله، فقال له: اقرأ علي كتاب عبد الله، فإنه كتب إلي هذا الكتاب، فقرأه عليه وأخبره بما فيه؟ قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه لا يحنث الحالف بقراءة كتاب المحلوف عليه، روى ذلك أيضا أبو زيد، عن ابن القاسم، وهو قول أشهب، حكى ذلك ابن المواز واختاره، وهو الصواب؛ لأن حقيقة التكليم هو أن يعبر الرجل للرجل عما في نفسه بلسانه عبارة يفهمها عنه إذا سمعه، فإنما يحنث الحالف ألا يكلم رجلا بالكتاب إليه إذا قرأه المحلوف عليه، وإن لم يكن مكلما له بذلك على الحقيقة، من أجل أنه قد وجد منه التفهيم، وهو(6/334)
معنى الكلام، والحالف إذا قرأ كتاب المحلوف عليه، فلم يوجد حقيقة التكليم ولا معناه؛ إذ لم يفهمه هو شيئا بقراءة كتابه، وإنما المحلوف عليه هو الذي أفهم الحالف، فوجب ألا يحنث، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف إن تزوج فلانة فهي طالق البتة]
مسألة قال: وكتب إلى ابن القاسم صاحب الشرط في رجل حلف: إن تزوج فلانة فهي طالق البتة، فتزوجها فدخل بها، فرفع ذلك إلي، فأردت أن أفرق بينهما، فكتب إليه ابن القاسم: لا تفرق بينهما.
قال: وبلغني عن ابن المسيب أن رجلا قال: حلفت بطلاق فلانة إن تزوجتها، قال: تزوجها وإثمك في رقبتي، وزعم أن المخزومي ممن حلف على أمة بمثل هذا.
قال محمد بن رشد: راعى ابن القاسم في هذه الرواية قول من ذهب من أهل العلم إلى أنه لا يلزم الرجل طلاق ما لم ينكح، بدليل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك» ، وهو مذهب الشافعي وكثير من العلماء، فلم ير أن يفرق بينها إذا دخلا، والمشهور في المذهب أنه يفرق بينهما على كل حال وإن دخلا، ولا يراعى الاختلاف في هذا، ومراعاته فيه شذوذ في المذهب، وإنما الاختلاف المشهور في مراعاته في الميراث والطلاق والعدة، فقيل لهما: لا يتوارثان إن مات أحدهما قبل أن يعثر على ذلك، وإن كان هو الميت لم يلزمها عدة إلا أن يكون موته بعد الدخول، فتعتد بثلاث حيض، وهو قول مالك في كتاب ابن المواز، واختيار ابن القاسم في رسم الرهون، من سماع عيسى قبل هذا، ودليل ما في المدونة، وعلى هذا لا يكون الفسخ فيه طلاقا، ولا يلزمه فيه ما طلق قبل أن يعثر عليه؛ لأنه قد طلق من قد بانت منه بالعقد، ولا يكون لها(6/335)
من الصداق نصفه إن طلق قبل الدخول، أو فرق بينهما قبله، وقيل: إنهما يتوارثان إن مات أحدهما قبل الفسخ، ويلزمه ما طلق قبل أن يعثر عليه، وإن كان هو الميت اعتدت أربعة أشهر وعشرا، ويكون الفسخ فيه طلاقا، ويكون لها نصف الصداق إن فرق بينهما قبل الدخول، وإنما يراعى الاختلاف في وجوب الحد، ويلحق فيه النسب في المشهور في المذهب، وقد شذ ابن حبيب، فلم يراع الاختلاف في ذلك، وأوجب الحد، وأسقط النسب في ذلك إذا كان الذي فعل ذلك عالما غير جاهل، فمراعاة الاختلاف في ألا يفرق بينهما شذوذ، وترك مراعاته في درء الحد وإلحاق النسب شذوذ وغلو، والاختلاف في مراعاته في الميراث والطلاق والعدة متكافئ في المذهب، والاختلاف فيه - أعني في المذهب - في وقوع الحرمة به، وبالله التوفيق، ووقع في كتاب ابن زرب زيادة في قول ابن المسيب إثمها وإثمك في رقبتي، والمعنى في ذلك واحد؛ لأن الإثم اللاحق لا يختص بالواحد منهما دون الآخر.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ليخرجن بها في مرته هذه وكان يريد سفرا]
مسألة وقال في رجل حلف بطلاق امرأته: ليخرجن بها في مرته هذه، وكان يريد سفرا فخرج، فلما سار ذكر يمينه، فانصرف فحملها.
قال: أراه حانثا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن الحنث قد وقع عليه لأول خروجه دونها في تلك المرة التي حلف ليخرجن بها فيها، على أصولهم في أن الحنث يدخل بأقل الأشياء، ولا يسقط عنه الطلاق الذي قد لزمه رجوعه عنها، وإخراجه وإن كان من قرب، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته في أرض إنك لا تحرثها فحرثها ليلا]
مسألة وقال ابن كنانة في رجل حلف بطلاق امرأته في أرض كانت بينه(6/336)
وبين رجل فيها منازعة: إنك لا تحرثها أبدا إلا أن تغلبني عليها، ثم إن الأرض طرقها، فحرثها ليلا، فهل تراه حانثا؟
قال: لا، ولكن يدين ويحلف بالله أنه ما أراد بيمينه إلا أن يمنعه إذا أراد الحرث، فإنه لا يدعه إلا أن يغلبه عليها، فإن حلف لم يكن عليه شيء، قال ابن القاسم: هو حانث، ولا ينوى في ذلك إلا أن يؤخذ فيربط، ويحرث ويحبس، فلا يكون عليه شيء.
قال محمد بن رشد: طروقه بالأرض وحرثه إياها ليلا بغير علمه مقافصة له فيها، مغالبة له عليها، وهو لم يستثن في يمينه إلا المغالبة، فوجب أن يكون حنث بظاهر يمينه، إلا أن يكون نوى أنك لا تحرثها بعلمي إلا أن تغلبني عليها، فالاختلاف بين ابن كنانة وابن القاسم إنما هو هل يصدق في نيته مع قيام البينة عليه باليمين أم لا؟
فقال ابن كنانة: إنه يصدق في قوله مع يمينه، وقال ابن القاسم: هو حانث، ولا ينوى في ذلك؛ يريد مع قيام البينة عليه باليمين، وذلك صحيح على أصولهم في أن من ادعى نية مخالفة ليمينه لا تقبل منه، ولا يصدق فيها إلا أن يأتي مستفتيا مثل أن يقول: امرأتي طالق إن كلمت فلانا، أو اشتريت ثوبا، فيكلمه ويقول: نويت شهرا، أو يشتري ثوبا ويقول: نويت شيئا، وقول ابن القاسم: هو حانث، ولا ينوى في ذلك، إلا أن يؤخذ فيربط، ويحرث ويحبس، فلا يكون عليه شيء ليس على ظاهره؛ لأن فيه تقديما وتأخيرا وتقديره، قال: لا ينوى في ذلك، وهو حانث، إلا أن يؤخذ فيربط، ويحبس وتحرث، فلا يكون عليه شيء.
[مسألة: حلف لامرأته أنت طالق إن لم أتسرر عليك فاشترى جارية فوطئها وعزل عنها]
مسألة وقال فيمن حلف لامرأته: أنت طالق إن لم أتسرر عليك، فاشترى جارية فوطئها وعزل عنها، هل تخرجه ذلك من يمينه؟
قال: إذا تسررها فوطئها فلا شيء عليه، يريد بالوطء مرارا،(6/337)
بمنزلة الرجل يريد حبس الجارية، قال ابن القاسم مرة أو مرتين، سواء أراد حبسها أو لم يرده.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في التسرر ما هو؟ فقيل: إنه الوطء، وإليه ذهب مالك وعامة أصحابه، وعلى هذا يأتي قول ابن القاسم هذا: إنه إذا وطئها مرة أو مرتين فقد بر، وإن عزل عنها، ولم يرد حبسها ولا اتخاذها، وقيل: إنه الاتخاذ للوطء، وهو قول ابن كنانة، يقوم ذلك من قوله في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب العتق، في الذي يقول: كل أمة أتسررها فهي حرة، فيشتري خادما تخدمه فيطأها؛ أنها لا تكون حرة في مثل هذا إلا أن تحمل، يريد أنه لا يلزمه حريتها بتلك الوطأة، إلا أن تحمل منها إذا لم يطأها متخذا لذلك، فعلى هذا القول يأتي قوله في هذه الرواية: يريد بالوطء مرارا، بمنزلة الرجل يريد حبس الجارية، يريد حبسها للاتخاذ، فأرى قائل ذلك ابن كنانة، والله أعلم؛ لأنه مذكور في المسألة التي قبلها، وهذه معطوفة عليها.
وقيل: إنه الحمل، فعلى هذا القول لا يبر الذي يحلف بطلاق امرأته إن لم يتسرر عليها جارية فيطأها، وإن نوى حبسها لذلك ولم يعزل عنها، وهو على حنث في امرأته؛ لا يجوز له وطؤها حتى تلد منه جارية، فإن طلبت امرأته الوطء ورافعته في ذلك طلق عليه، وقيل: يضرب له أجل المولي، ويطلق عليه عند انقضائه بالإيلاء، إلا أن ترضى أن تقيم معه دون وطء، هذا هو الحكم في هذه اليمين على هذا القول، على قياس ما وقع في الإيلاء من المدونة في نظير هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يئويه وفلانا سقف بيت أبدا فمر بسقيفة فيها طريق]
مسألة وقال مالك في رجل حلف ألا يئويه، وفلانا سقف بيت أبدا، فمر بسقيفة فيها طريق، وهو يعلم أن الذي حلف عليه فيها، قال: إنما حلفت ألا أجلس معه تحت سقف بيت أبدا، وإنما مررت بالطريق.(6/338)
قال: إن كان طريق يمر فيه بغير إذن، وهي نافذة، فإنه بريء، ولا أرى عليه حنثا، وإن كان إنما هو بيت يستأذن فيه، ولا يدخل فيه إلا بإذن، فلا أراه ألا حانثا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها موعبا مجودا في الرهون، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ألا يكلم رجلا فشتمه الذي حلف عليه ألا يكلمه]
مسألة وقال في رجل حلف بالطلاق ألا يكلم رجلا فشتمه الذي حلف عليه ألا يكلمه، فلم يرد عليه شيئا، وإلى جانبه رجل، فقال للرجل الذي إلى جانبه: ما أنا كما قال.
قال: أراه حانثا، إنما أراد أن يسمعه، فإن كان أراد أن يسمعه فسمعه، فهو حانث.
قال محمد بن رشد: في قوله في هذه المسألة: إن كان أراد أن يسمعه فسمعه فهو حانث، دليل على أنه إن لم يسمعه فلا حنث عليه، وهو مثل ما مضى في رسم الطلاق الثاني، من سماع أشهب، بخلاف إذا كلم المحلوف عليه فلم يسمعه، وقد مضى التكلم على الوجهين، وما يتعلق بهما موعبا في رسم الطلاق الثاني، من سماع أشهب، وفي رسم سلف، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: رمى امرأته بعصا فحلف بطلاقها البتة إن كان ضربها بيده]
مسألة وقال فيمن رمى امرأته بعصا كانت معه، فشكت ذلك، وقالت: ضربني فعوتب في ذلك، فحلف بطلاقها البتة إن كان ضربها بيده. فقال: هو حانث إلا أن يكون نوى إن كان ضربها بيده بلطمة، أو مثل ما يضرب الناس ينوي ذلك، وإلا فهو حانث، ورأيته ضربا، ونزلت بالمدينة فأفتى بذلك، وقال لو كانت عليه بينة ما دينته وحنثته، سواء قال بيده أو لم يقل هو سواء.(6/339)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة والله أعلم، أنها قالت: ضربني؛ فأبهمت الضرب، ولم تبين كيف ضربها؟ فعوتب في ذلك، وقيل له: ضربت امرأتك؟ فحلف بطلاقها أنه ما ضربها، ثم أقر لما ادعى عليه أنه قد كان ضربها قبل أن يحلف بالطلاق أنه ما ضربها أنه، قد كان رماها بعصا أو قامت عليه بذلك بينة، فلذلك قال: إنه لا ينوى، قال بيده أو لم يقل بيده؛ لأن من رمى امرأته بعصا فقد ضربها بيده، ولو قالت: كان رماني بعصا فعوتب في ذلك، وقيل له: رميت امرأتك بعصا؟ فحلف أنه ما ضربها بيده، فوجب أن ينوى؛ لأن بساط المسألة يدل على صدقه فيما ادعى من نيته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلفت امرأته لئن قدم فلان لتسألنه الطلاق فبلغه فحلف لئن سألته ليجيبنها]
مسألة وقال فيمن غاب عن امرأته، فتزوج بالريف، فحلفت امرأته لئن قدم فلان لتسألنه الطلاق، فبلغه ذلك فحلف لئن سألته الطلاق ليعطينها أو ليجيبنها، فلما قدم قالت له: طلقني، فقال: أمرك بيدك، فلم تختر شيئا.
قال: لا شيء عليه إلا أن يكون أراد بقوله: لأجيبنها أو لأعطينها، أي لأطلقنها، وإلا فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه لا شيء عليه، إلا أن يريد بذلك لأطلقها؛ لأنه إذا ملكها أمرها في الطلاق فقد أجابها إلى ما سألته منه، وقد مضى في رسم الصلاة، من سماع يحيى القول، إذا حلف، لئن سألته الطلاق ليطلقها، فلما سألته ملكها أمرها، فذلك يغني عن القول فيما يكون الحكم إذا أراد بقوله: لأجيبنها أو لأعطينها؛ إذ لا فرق بين أن يلفظ بذلك أو يريده فيما يوجب الحكم عليه، وبالله التوفيق.(6/340)
[مسألة: حلف بالطلاق ألا يكسو امرأته ثوبا فكست نفسها ثوبا وكسا هو نفسه ثوبا]
مسألة وقال في رجل حلف بالطلاق ألا يكسو امرأته ثوبا، فكست نفسها ثوبا، وكسا هو نفسه ثوبا، فقالت له امرأته: ثوبك خير من ثوبي، فقال: أنا أبعث بثوبي، فإن كان هو خير فخذيه وأعطني ثوبك، فلم يأتها بالثوب، أتراه حانثا؟
قال: إن كان ثوبه خيرا من ثوبها فهو حانث، وإن كان ثوبه شرا من ثوبها، فلا حنث عليه، وإن كان أتاها بثوبه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان ثوبه خيرا من ثوبها فهو حانث؛ يريد وإن لم يأتها بالثوب، ولا أسلمه إليها، فجعل قوله لها: فخذيه، إيجابا منه لها ذلك على نفسه كالعطية لا رجوع له فيها، ولذلك أوجب عليه الحنث بذلك، وقد قيل: إن العطية لا تجب عليه بهذا اللفظ، إلا أن يقول: فقد أعطيتك إياه، أو فقد وهبت لك، وهو الذي يأتي على قول مالك، في رسم البيوع الأول، من سماع أشهب، من كتاب جامع البيوع، في الذي يكون عنده العبدان فيقول للرجل الذي يسومه بهما: هذا العبد بأربعين إلى سنة، وهذا العبد الآخر بخمسين إلى سنة، فخذ أيهما شئت؛ فإنه لا بأس بذلك؛ لأنه لم ير ذلك لازما له، ولو رآه لازما له لقال: إن ذلك لا يجوز، كما قال في كتاب ابن المواز، من رواية أشهب عنه أيضا، فجوابه في هذه المسألة أن الحنث عليه يأتي على قول مالك في كتاب ابن المواز، ويأتي على قوله في العتبية أنه لا حنث عليه، إذ لم يجب عليه العطية بهذا القول، كما أنه لا يحنث من حلف ألا يبيع سلعة، فباعها على أنه فيها بالخيار حتى يجب البيع، وقد مضى ذلك في آخر رسم استأذن، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: استحلفه بطلاق امرأته ليقضينه إلى أجل كذا وكذا إلا أن يشاء البائع]
مسألة وسئل عن رجل باع من رجل سلعة، واستحلفه بطلاق امرأته ليقضينه إلى أجل كذا وكذا إلا أن يشاء البائع أن يؤخره، فحل(6/341)
الأجل، والذي عليه الحق غائب، فأراد أن يؤخره وكره أن يحنثه، قال ابن القاسم: إذا أحضر لذلك شهودا من أجل أنه لو أخره ولم يحضر لذلك شهودا، فحل الأجل ولم يقضه لطلق عليه بما ظهر من حنثه، ولم يصدق البائع في قوله: إنه قد كان أخره، ولا ينبغي له أيضا هو في خاصة نفسه أن يصدقه مخافة أن يكون قد كذبه، إلا أن يستيقن صدقه بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يستيقن ذلك استحب له مفارقتها، ولو أخبره مخبر عدل قبل أن يحل الأجل أنه قد أخره لجاز له أن يؤخر قضاءه، ولا يحنث من طريق قبول خبر الواحد، لا من طريق الشهادة، وقد مضى نحو هذا المعنى في رسم الأقضية، من سماع أشهب، من كتاب النذور، وقوله: إنه نوى في نفسه حين لم يجده أن يؤخره؛ إن ذلك لا يخرجه من الحنث، صحيح لا اختلاف فيه؛ إذ لا يكون بنيته مؤخرا، كما لا يكون مؤخرا لو أشهد على نفسه أنه يؤخره حتى يشهد على نفسه أنه قد أخره، فلو نوى في نفسه أنه قد أخره؛ لكان مؤخرا في الباطن، كما أنه إذا نوى في نفسه أنه طلق امرأته أنها طالق فيما بينه وبين الله تعالى، على ما مضى في رسم الطلاق الأول، من سماع أشهب، إلا أنه لا ينبغي له أن يصدقه في أنه نوى ذلك مخافة أن يكون كذبا، وبالله التوفيق.
[مسألة: اتخذ عليه الطلاق إن لم يوفه إلى أجل كذا فاستقالة صاحب الدنانير]
مسألة وسألته عن رجل سلف مائة دينار في قمح أو سلعة من السلع إلى أجل، واتخذ عليه الطلاق إن لم يوفه إلى أجل كذا، فاستقالة صاحب الدنانير مما اشترى منه قبل الأجل فأقاله.
قال: لا أحب له أن يسمع هذا، فإن وقع وكانت المائة(6/342)
دينار يوم ردها وفاء من السلعة التي عليه عند الناس، فأرجو ألا يكون حانثا، قلت له: فإن لم يكن فيها وفاء، ورد عليه الدنانير ثانية، وأقر البيع على حاله إلى أجله؟ قال: لا ينفعه ذلك، وهو حانث؛ لأنه بيع فاسد، أو لأنه لو أبى ذلك أحدهما لم يجبر على ذلك، وهو بيع مبتدأ، ولو أعطاه بذلك السلعة عند الأجل بعد الذي وصفت لا عطية أو صدقة، لم يخرجه ذلك من يمينه، ولم ينفعه ذلك، وإن أعطاه إياها، وهي تسوي الثمن لم أره حانثا؛ لأنه قد خرج من الوجه الذي قد حلف عليه فيه، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى على ما في المدونة، وقد مضت في رسم النذور، من سماع أصبغ، ومضت أيضا والقول فيها في رسم إن خرجت، ورسم إن أمكنتني، من سماع عيسى، فلا وجه لإعادة ذلك.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن أعطيتني الوديعة التي عندك فأعطته مائة دينار]
مسألة وقال في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن أعطيتني الوديعة التي عندك، فأعطته مائة دينار، قال: قد استودعتك مائتي دينار: إنها تطلق عليه، ولا ينظر إلى قوله؛ لأنه مدع.
ولو قال: أنت طالق البتة إن أعطيتني المائة التي استودعتك، فقالت له: أنا أعطيك، فأخرجت خمسين، ثم قالت له: لا أعطيك شيئا.
قال: تقدم الخمسين الأخرى التي أقرت بها وتطلق، فإن جحدت لم يكن عليها غير ما أخرجت؛ لأنه أنزل أمره على أنه إنما حلف على الوديعة، وقد أخرجتها، وتطلق.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي قال لامرأته: أنت طالق إن(6/343)
أعطيتني الوديعة التي عندك، فأعطته مائة دينار، وادعى أنه كان استودعها مائتي دينار، أنها تطلق عليه، يريد بالحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى، فلا يلزمه طلاق؛ لأن غرضه الذي طلق عليه لم يتم له، كمن قال لامرأته: أنت طالق إن أعطيتني مائة دينار، فأعطته خمسين، وأما الذي قال لها: أنت طالق إن أعطيتني المائة التي استودعتك، فقالت له: أنا أعطيك، فأخرجت خمسين، ثم قالت له: لا أعطيك شيئا، فإنما قال: إنها تقدم الخمسين الأخرى التي أقرت بها وتطلق؛ لأن معنى المسألة أنه خشي أن تجحده المائة، فقال لها بمحضر بينة: إن أعطيتني المائة فأنت طالق، فكان معنى يمينه إن أقررت لي بالمائة، وأعطيتنيها فأنت طالق؛ فلزمه الطلاق بإقرارها له بالمائة، وإن لم تعطه منها إلا خمسين؛ لأنه قادر على أن يأخذ منها الخمسين الأخرى، وقد تم له غرضه الذي طلق عليه بإقرارها له بجميع المائة، ولو كانت مقرة له بالمائة فقال لها: إن أعطيتني المائة فأنت طالق، لما لزمه طلاقها إلا بأن تعطيه جميع المائة، وقد مضى هذا المعنى مبينا في أول سماع ابن القاسم.
وقوله في آخر المسألة: فإن جحدت لم يكن عليها غير ما أخرجت إلى آخر قوله: ويطلق؛ إنما يعود على المسألة الأولى التي قال فيها: أنت طالق إن أعطيتني الوديعة، لا على التي قال: إن أعطيتني المائة؛ لأنه إذا قال لها: إن أعطيتني المائة التي لي عندك فأعطته خمسين، وجحدت أن يكون له عندها سواها؛ فلا يلزمه الطلاق؛ لأنه كمن قال لامرأته: أنت طالق إن أعطيتني مائة دينار، فلا تعطه إلا خمسين، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: يحلف بطلاق امرأته ألا تخرج إلا بإذنه فيأذن لها إلى موضع فتذهب إليه وإلى غيره]
مسألة وسمعته وسئل عن الرجل يحلف بطلاق امرأته ألا تخرج إلا بإذنه، فيأذن لها إلى موضع، فتذهب إليه وإلى غيره.
قال: هو حانث.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم خلاف قوله في(6/344)
الواضحة أيضا، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة وما يتعلق بمعناها في رسم سلف، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[قال امرأته طالق البتة إلا أن يمنعني أبي من ذلك فمنعه أبوه]
من نوازل سئل عنها سحنون وسئل عن رجل قال: امرأته طالق البتة إلا أن يمنعني أبي من ذلك، فمنعه أبوه، قال أصبغ: لا أرى عليه شيئا إن كرهه أبوه، ورد عليه، ومنعه منه بجد وصحة، وأراه بمنزلة قوله: إلا أن يشاء أبي، فلم يشأ أبوه، وأصل ذلك عندي في قوله: هي طالق إن شاء أبي، فلم يشأ.
قال محمد بن رشد: تشبيه أصبغ قول الرجل: امرأتي طالق إلا أن يمنعني أبي ذلك، بقوله: امرأتي طالق إلا أن يشاء أبي؛ صحيح، وأما قياسه ذلك على قول الرجل: امرأتي طالق إلا أن يشاء أبي؛ فليس بصحيح؛ لأن قول الرجل: امرأتي طالق إن شاء أبي طلاق مقيد بشرط، وهو مشيئة أبيه، فلا يقع عليه إلا أن يشاء أبوه؛ إذ لم يوجبه إلا بذلك، كمن قال: امرأتي طالق إن ضرب أبي غلامه، أو دخل الدار، وما أشبه ذلك، وقول الرجل: امرأتي طالق إلا أن يشاء أبي، إنما هو طلاق قيد حلف عنه بمشيئة أبيه؛ لأن تقدير قوله: امرأتي طالق إلا أن يشاء أبي، ألا تكون طالقا، ولا مشيئة لأبيه في ألا تكون طالقا؛ إذ كان هو قد طلقها بقوله لها: أنت طالق، فلا يسقط عنه الطلاق بما استثنى من مشيئة أبيه، كما لا يسقط عنه لو قال: امرأتي طالق إلا أن يضرب أبي غلامه أو يدخل الدار، وإنما يسقط عنه إذا قيده بضرب أبيه غلامه أو دخوله الدار، وهذا ما لا خفاء فيه، ولا إشكال فيه، فلا يصح أن يحمل قول الرجل: امرأتي طالق البتة إلا أن يمنعني من ذلك أبي، أو إلا أن يشاء أبي ذلك على أن مراده بذلك إنما هو امرأتي طالق البتة إن شاء أبي؛ إذ لا يحتمل ذلك اللفظ لكونه ضد مقتضاه على ما بيناه، إلا أن يقول الرجل: أردت ذلك، فينوى إذا جاء مستفتيا، ولا يصح على أصولهم أن ينوي في(6/345)
ذلك مع قيام البينة عليه، فضلا عن أن تحمل يمينه على ذلك، إذا لم تكن له نية، ووجه ما ذهب إليه أصبغ، والله أعلم، أنه لما كان قول الرجل في الطلاق إلا أن يشاء أبي، أو إلا أن يمنعني من ذلك أبي على ما يقتضيه الكلام لغوا لا فائدة لقائله فيه، ولا تأثير له حمل عليه أنه أراد إن شاء أبي؛ إذ لا يفرق العوام والجهال بين شيء من هذه الألفاظ، فهو يشبه أن يفتي به في الجاهل على أن من قوله في نوازله: إن الجهالة ليست بأحسن حالا من العلم في الطلاق، فقوله على كل حال ضعيف، وهذا الذي ذكرناه إنما يكون إذا حملنا قوله: امرأتي طالق، إلا أن يشاء أبي، على أنه أراد بذلك امرأتي طالق، قد ألزمت نفسي ذلك إلا أن يشاء أبي أن يحله علي، وهو الأظهر من محتملات كلامه، ويريد بقوله: امرأتي طالق إلا أن يشاء أبي، امرأتي طالق ألا ألزم نفسي ذلك إلا أن يشاء أبي، فيكون على هذا التأويل قوله: امرأتي طالق إلا أن يشاء أبي بمنزلة قوله: امرأتي طالق إن شاء أبي، فلا يلزمه طلاق امرأته إلا أن يشاء أبوه ذلك، وإلى هذا نحا أصبغ، والله أعلم.
ويحتمل قوله: امرأتي طالق إلا أن يشاء أبي وجها ثالثا، وهو أن يريد بذلك امرأتي طالق، إلا أن يفعل فلان كذا وكذا، أو إن لم يفعل فلان كذا وكذا، فيكون على هذا التأويل كمن حلف بالطلاق على غيره أن يفعل فعلا يحال بينه وبين امرأته، ويدخل عليه الإيلاء، أو يتلوم له على الاختلاف في ذلك، فهي ثلاثة أوجه تحتملها المسألة، فإن أراد الحالف أحدها حملت يمينه عليه، وإن لم تكن له نية فيختلف على أي وجه يحمل منها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأتي طالق إن خرج من المسجد إلى الليل إلا أن يأذن له فلان]
مسألة وعن رجل قال: امرأتي طالق إن خرج من المسجد إلى(6/346)
الليل، إلا أن يأذن له فلان، فقال فلان ذلك: فأشهدوا أني لا آذن له إلى الليل، ثم أذن له بعد ذلك.
قال أصبغ: لا أرى ذلك ينفعه، وأرى قوله الأول: لا آذن له عزما يلزمه؛ لأنه قد أشهد على نفسه بذلك، فهو بمنزلة التوقيف، أن لو وقف فأبى، ثم أراد بعد ذلك أو أشد، فأرى الحالف حانثا إن كان قد فعل.
قال محمد بن رشد: ليست هذه المسألة على ما بني عليه أصل المذهب من مراعاة المعاني في الأيمان، دون الاقتصار فيها على ما يقتضيه مجرد الألفاظ، والذي يجب في هذه المسألة على الأصل المذكور ألا يكون عليه شيء إن خرج إذا أذن له، وإن كان قد منعه أولا، وقال: لا آذن له، ألا ترى أنه لو قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت إلا بإذني، فسألته أن تخرج فأبى أن يأذن لها، ثم سألته فأذن لها أن تخرج ولا تحنث ولا يضره منعه لها أولا من الخروج، ولا خلاف في هذا، ووجه قول أصبغ أنه حمل يمينه على اللفظ، ولم يراع المعنى، وجعل يمينه ألا يخرج من المسجد إلا أن يأذن له فلان، كحلفه ألا يخرج من المسجد إن نهاه فلان، فإذا خرج بعد أن نهاه وجب أن يحنث، وإن أذن له بعد ذلك على قياس قول أصبغ هذا لو أذن له أولا، ثم نهاه ألا يكون عليه شيء إن خرج على الإذن الأول بعد أن نهاه، وقد وقع نحو هذا لمالك في رسم الطلاق، من سماع أشهب، من كتاب التخيير والتمليك، ومضى في رسم يوصي، من سماع عيسى، من هذا الكتاب، من قولها في مسألة من هذا المعنى ما يزيد هذه المسألة بيانا، وبالله التوفيق.
[مسألة: له ثلاث نسوة فقال لإحداهن أنت طالق البتة ثم قال للأخرى أنت شريكتها]
مسألة وسئل عن رجل كان له ثلاث نسوة، فقال لإحداهن: أنت طالق البتة، ثم قال للأخرى: أنت شريكتها، ثم قال للثالثة: أنت شريكتهما.
قال أصبغ: إذا قال البتة، فهن كلهن طوالق البتة، ولا ينفعه(6/347)
أنه قال ثلاثا البتة، والثلاث لا تغني مع البتة قدم الثلاث أو أخرها، والبتة حرف واحد لا يتبعض ولا يفترق.
فإن كان قال لها: أنت طالق ثلاثا، ثم قال للثانية: أنت شريكتها، ثم قال للثالثة: أنت شريكتهما، كانت الأولى منه بائنة بثلاث، وكانت الثانية تبين منه باثنتين، وتكون عنده على طلقة تبقى له، وكانت الثالثة تبين منه بثلاث أيضا؛ لأنها شريكة الأولى بواحدة ونصف، فصارت اثنتين، وشركت الثانية بواحدة فصارت ثلاثا.
قال محمد بن رشد: بنى أصبغ جوابه في هذه المسألة على اعتبار ما يحصل لكل واحدة منهن بالقيمة من عدد الطلاق الذي شرك بينهن فيه، على ما قال في المدونة: إذا قال لأربع نسوة له: بينكن أربع تطليقات بدون أن يقع على كل واحد منهن طلقة طلقة، وإذا قال لهن: بينكن خمس تطليقات فأكثر إلى الثمان، وقع على كل واحدة منهن تطليقتان، وإن قال: بينكن تسع تطليقات أو أكثر، وقع على كل واحدة منهن ثَلاث ثلاث، وقد قيل: إنه يقع على كل واحدة منهن في هذه المسألة ثلاث ثلَاث، وكذلك لو قال لأربع نسوة له: قد شركت بينكن في تطليقتين؛ لوقع على كل واحدة منهن طلقتان طلقتان، ولو قال: قد شركت بينكن في ثلاث تطليقات فأكثر؛ لوقع على كل واحدة منهن ثلاث ثلَاث؛ لأن كل واحدة منهن يحصل لها بحكم الشركة من كل طلقة، فيجبر عليها، بخلاف مسألة المدونة؛ لأنه لما قال بينكن كذا وكذا من عدد الطلاق، ولم يقل: إنهن في ذلك أشراك، حمل على أنه إنما أراد أن يكون ذلك بينهن على ما يحصل لكل واحدة منهن من عدد الطلاق إذا قسم بينهن، وهذا الاختلاف على اختلافهم، فيمن صرف دنانير بدراهم، فوجد في الدراهم درهما زائفا، هل ينتقض صرف الدنانير كلها، أو صرف واحد، وقد مضى في سماع عبد الملك ذكر الاختلاف في تبعيض البتة، فلا وجه لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: خرجت امرأته فحلف بالطلاق ألا يبعث في ردها فبعث إلى ولده فأخذه]
مسألة وسئل عن رجل خرجت امرأته إلى منزل أهلها، فحلف(6/348)
بالطلاق ألا يبعث في ردها، وكان له معها ولد صغير، فبعث إلى ولده فأخذه منها، فرجعت تأخذ الولد منه.
قال أصبغ: هو حانث؛ لأن أخذه الولد وإرساله فيه، ونزعه منها سبب للإرسال إليها ولردها.
وقد قال مالك في الرجل يحلف لامرأته ألا يخرجها عن المدينة إلا برضاها، فأقام بمصر لا يبعث إليها بنفقة دهرا، فلما أرادت ذلك خرجت إليه، قال مالك: أراه حانثا؛ لأنه هو ألجأها إلى الخروج، فهذا عندي مثله.
قال محمد بن رشد: مثل قول مالك في هذا في رسم الطلاق الأول، من سماع أشهب، من كتاب النكاح، وحكى ابن سحنون، عن أبيه، أنه لا حنث عليه في المسألتين جميعا، وقول مالك أظهر؛ لأن اضطراره إليها إلى الخروج بما فعل مما ليس له أن يفعله إخراج، والحنث يدخل بأقل الوجوه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لغريمه احلف لي بالطلاق لتقضيني حقي إلى أجل كذا وكذا فيأبى]
مسألة وسألته عن الرجل يقول لغريمه: احلف لي بالطلاق لتقضيني حقي إلى أجل كذا وكذا، فيأبى أن يحلف بالطلاق، فيقول له: احلف لي بالحلال عليك حرام، وهو جاهل أن الحلال عليه حرام يدخله الطلاق، فحلف وحنث في يمينه، هل ترى عليه في يمينه حنثا، أو ترى هذا القول: لست أحلف بالطلاق استثناء، ولا يكون عليه حنث؟
قال أصبغ: بل أراه حانثا، وأراه يمينا كالمجردة بغير ما وصفت، وأحمله أيضا على أنه تارك للأول، وراجع إلى الثاني، وكمن أبى الطلاق ثم رجع إليه، ولا أصدقه ولا تنفعه الجهالة، وإن رأى أنه صادق؛ لأنها يمين بالطلاق لفظا؛ لأن لفظ الحلال(6/349)
علي حرام طلاق، فهو كمن لفظ بالطلاق لفظا، وليست الجهالة بأحسن حالا من العلم في هذا؛ لأن الطلاق جهالته علم، وجهالته طلاق، وكما أن جده طلاق، وهزله طلاق، ألا ترى أن الأعجمي يلفظ بالطلاق، ويطلق ولا يعرف الطلاق ولا ما هو؟ ولا حدوده، ولا أنه يلزم أو لا يلزم، فيلزمه ويحنث؟ فافهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن التحريم من كنايات الطلاق، وقد قيل: إنه من صريحه، وإلى هذا ذهب أصبغ، وقال: إن الجاهل لا يعذر في ذلك بالجهل؛ لأن صريح الطلاق لا يعذر الجاهل فيه، ولا يسأل أحد هل أراد بذلك الطلاق أو لم يرده، ولا يصدق إن قال: إنه لم يرد به الطلاق، وإن أتى مستفتيا، فزعم أنه لم يرد بذلك جرى ذلك على الاختلاف في مجرد اللفظ دون النية، هل يلزم به الطلاق أم لا، والأظهر أنه لا يلزم به، وكذلك الحكم في كنايات الطلاق البينة.
وقد اختلف في صريح الطلاق ما هو على ثلاثة أقوال؛ أحدهما: أن صريحه لفظ الطلاق خاصة، وأن كناياته ما عدا ذلك مثل الخلية، والبرية، وحبلك على غاربك، وفارقتك، وسرحتك، وما أشبه ذلك، والى هذا ذهب عبد الوهاب. الثاني: أن تكون الألفاظ كلها صريح في الطلاق، وبعضها أبين من بعض، وإلى هذا ذهب ابن القصار. والثالث: أن صريح الطلاق ما ذكر الله في كتابه، وهو الطلاق، والسراح، والفراق، وهو مذهب الشافعي.
وقوله: إن هزله جد، صحيح لا اختلاف في لزومه الطلاق له، وإن كان هازلا إذا أراد بذلك الطلاق؛ إذ قد يتصور إرادة الطلاق مع الهزل، وكذلك قال مالك في رسم الطلاق، من سماع أشهب، من كتاب التخيير والتمليك: إن الطلاق للاعب لازم إذا أراد به الطلاق، فمعنى قولهم في الطلاق: إن هزله جد، هو أن الطلاق يحكم به عليه، وإن ثبت أنه كان لاعبا لم ينتفع بذلك، وأما إذا أتى مستفتيا فقال: كنت لاعبا، أو لم أرد بذلك طلاقا، وإنما قلت ذلك على وجه ذلك مما يذكره، فيصدق في ذلك، ولا يلزمه الطلاق على القول بأن الطلاق لا يلزم بمجرد القول دون النية، وبالله التوفيق.(6/350)
[مسألة: حلف ألا يضع لزوج ابنته من مائة دينار وكان أصدقها شيئا ثم تبارءا]
مسألة وسئل عن رجل يقول له ختنه وكان زوجه ابنته، وهي بكر في حجره، بنقد مائة دينار؛ انقص من المائة، فقال: امرأته طالق إن نقصتك منها، ثم تداعيا بعد ذلك إلى المبارأة، فتبارءا على ألا يتبع الختن ختنه بشيء من النقد ولا الكالئ، هل تراه حانثا في يمينه؟ فإن رأيته حانثا في يمينه وادعى أنه إنما أراد بيمينه ألا يبتني بها إلا بتمام المائة، فهل ترى ذلك له مخرجا من الحنث؟ فإن رأيت ذلك مخرجا، هل ترى له أن يزوجها إياه بعد ذلك بأقل من نقد مائة، أو لا ترى ذلك له؟
قال أصبغ: أرى أن يدين ويجعل القول قوله إن كانت يمينه خرجت على ما يزعم، وعلى إرادته ونيته، فذلك له، وهو يشبه ما يقول في ظاهر الأمر؛ لأن هذا في عقول الناس يرى ويشك أن يكون قد عرف تنازعهما فيه للدخول والنقصان عليه، والبساط والطلب له بالرغبة والرهبة، وإرادة التخفيف مع ذلك لتمامه، فإن شهد له بنحو ذلك، فهو الذي لا شك فيه، وهو له براءة، ولا أوجب عليه يمينا، وأدينه فيه بغير يمين إلا أن يستحسن مستحسن استظهار اليمين عليه، فلا أرى عليه بأسا، وإن لم يشهد له به، ولم يحضره من يشهد دينته وأحلفته، ورأيت ذلك له، ولم أر عليه حنثا، فأما ردها إليه بأقل، فلا أرى ذلك، وأرى إن تم ذلك ووقع أن يحنث، وأراه بمنزلة الذي يبيع السلعة ثم يسأله النقصان، فيحلف ألا ينقصه أو يحلف ألا يبيعه إياها، فمعنى ألا يبيعه إياها، ألا يتم له البيع فيفاسخه فيما يجوز له، ولا يتم له البيع، ثم يريد أن يبيعه بعد ذلك إياها بنقصان، فلا يجوز له وهو حانث، أو يريد أن يبيعه إياها بعد ذلك على حال بشيء من الأشياء، فإن باعه حنث.(6/351)
قال محمد بن رشد: قوله في الذي حلف ألا يضع لزوج ابنته من مائة دينار، وكان أصدقها شيئا، ثم تبارءا على ألا يتبعه بشيء من النقد ولا الكالئ، أنه لا حنث عليه في ذلك، إن كان إنما أراد ألا يبني بها إلا بتمام المائة، وأنه يصدق فيما زعم أنه نواه من ذلك مع يمينه، إلا أن يشهد له بساط يدل على صدقه فيما ادعاه من النية، فتسقط عنه اليمين إلا أن يستحسن ذلك مستحسن، صحيح على أصولهم؛ لأن النية التي ادعى نية محتملة، فوجب أن يصدق فيها مع يمينه من أجل قيام البينة عليه باليمين، فإن شهد له من البساط فيما يصدق دعواه، سقطت عنه اليمين، وكذلك لو أتى مستفتيا لم يكن عليه في ذلك يمين، وقوله: إن اليمين ترجع عليه ما بقي من ذلك الملك شيء؛ صحيح أيضا على معنى ما في المدونة، ومثل ما مضى في سماع محمد بن خالد، ورسم النذور، من سماع أصبغ، وإنما قال: إنه لا يزوجها منه ثانية بأقل من مائة؛ لأنه حلف ألا ينقصه من المائة شيئا، ولو كان حلف ألا ينقصه من صداقها الذي زوجها به شيئا على ما بينه في سماع محمد بن خالد، وقد مضى في سماع سحنون القول على الذي يحلف ألا يبيع السلعة بعد أن باعها، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن وطئت فلانة إلا برضاك فهي حرة أو أنت طالق فوطئها]
مسألة وسألته عن رجل قال لامرأته: إن وطئت فلانة إلا برضاك فهي حرة، أو أنت طالق فوطئها وهي تنظر، فزعمت أنها لم ترض هل يحنث أو ترى سكوتها رضا؟ وهل له أن يطأها حتى يشهد على رضاها، أم لا ترى ذلك عليه؟
قال أصبغ: هو حانث فيما سألت عنه، وإن ادعى رضاها قبل الوطء، فأرى عليه تثبيت ذلك، والتسليم بالإذن من المحلوف له، إلا أن يكون المحلوف له زوجة، أو أم ولد، ومن لا يشهد على مثل(6/352)
هذا، فأرجو ألا يكون عليه شيء إذا وطئ وادعى الإذن بصحته والرضا، وجاء مستفتيا رأيت أن يدين ذلك، فإن كان مشهودا عليه ومخاصما، فأحب إلي أن يكلف البينة على الإذن، وإلا أمضى عليه الطلاق.
قال محمد بن رشد: أما سكوتها فلا يعد رضا؛ إذ قد تسكت غير راضية، وإنما يختلف في السكوت هل يكون إذنا أم لا على قولين إذا كان إنما حلف ألا يطأها إلا بإذنها، وقد مضى القول على ذلك في رسم أسلم، من سماع عيسى، من كتاب النكاح، ومضى في سماع سحنون، من هذا الكتاب، تحصيل الاختلاف في تصديقه في دعوى الإذن، إذا ادعاه بعد الوطء، فلا معنى لإعادة ذكر ذلك، ولم يصدقه أصبغ هاهنا في الزوجة وأم الولد إلا مستفتيا، فظاهر قوله أنه لا يصدقه في غيرهما، ممن يشهد عليه، وإن أتى مستفتيا، وهو عندي بعيد، والصواب أن يصدق فيمن يشهد عليه إن أتى مستفتيا، وفي الزوجة وأم الولد وإن كانت على اليمين بينة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بالطلاق ألا يبيعه سلعة إياها وقد فرغ من البيع]
مسألة وسئل عن الرجل يبيع السلعة فينقده الثمن، فيقول للمشتري: أبدل لي بعض الدراهم فيأبى، فيحلف بالطلاق ألا يبيعه إياها، وقد فرغ من البيع، ويحلف المشتري بمثل ذلك ألا يشتريها منه، فيسأل كل واحد منهما عن نيته، فيقول البائع: أردت ألا يأخذها، ويقول المشتري مثل ذلك، أو يقول كل واحد منهما: إنما حلفت وأنا أظن أن البيع لا يتم حتى يفترق، وإن لكل واحد منهما أن يفسخ البيع، أو لا يدعي واحد منهما شيئا إلا يمينا خرجت كذا، هل تشبه هذه المسألة مسألة الذي تزوج الأمة، فكان يبعث إلى سيدتها فيخلو معها، فقال: هي طالق إن تزوجتها؟(6/353)
قال أصبغ: أرى الأيمان في مسألة البيوع لازمة على تلك الوجوه كلها، أي ذلك كان منها، وأرى مخرجها على ألا يأخذ ولا يعطي، وعلى المنع من البائع، والترك من المشتري، فإن سالم بعضهم بعضا حنثوا جميعا إن كانوا حالفين جميعا، وإن كان أحدهما الحالف وسالمه الآخر بر، وإن لم يسالمه وقام على حقه أخذه، وحنث صاحبه، وليس في هذا عندي شك ولا ضعف إلا في الجاهل الذي يظن أن البيع لم يتم، وحلف على ذلك، زعم بأن فيه بعض الضعف، وهو عندي لا حق في رأيي، حانث كأصحابه على ما فسرته لك، لا شك فيه عندي، ومسألة الأمة ما قد علمت من قول مالك، وهو عندنا حانث، والطلاق واقع عليه؛ لأنه جواب ومخاطبة فيها، وفي أمرها وحبسها وإرسالها وعشرتها وغيره، فهو مخرج طالق كالذي تذكر له المرأة ليتزوجها أو يخطبها، أو يدعى إليها فيقول: هي طالق، ولا يقول: إن تزوجتها، فهي طالق إذا تزوجها؛ لأنه جواب يمين، فهو يمين وهو كلام، وكذلك القول في المشتري إن كان هو الحالف سمعت أشهب يقول في هذا ويفتي به، وكذلك ما رواه من مسألتك.
قال محمد بن رشد: أما إذا حلف البائع، وقال: أردت أن أمنعه ما بعت منه، أو حلف المشتري، وقال: أردت ألا آخذ ما اشتريت منه، فلا اختلاف أن الأمر على ما قال أصبغ؛ لأن كل واحد منهما مقر على نفسه بما يوجب عليه الحنث، فلزمه ما أقر به على نفسه، وكان الحكم في ذلك أنه إن مكن البائع المبتاع من السلعة باختياره حنث باتفاق، وإن حكم عليه بذلك بها للمشتري جرى ذلك على اختلاف فيما حلف، ألا يفعل فعلا، فقضى به عليه السلطان، وكذلك القول في المشتري، إن كان هو الحالف.
وأما إن قال الحالف منهما: لم تكن لي نية، فقال سحنون في سماعه، ورواه عن ابن القاسم: أنه لا حنث عليه؛ لأنه إنما حلف على ما قد فات(6/354)
الأمر فيه، وقال أصبغ هاهنا: إن يمين البائع محمولة على المنع، فيحنث إن أسلم له البيع، ويمين المبتاع محمولة على الترك، فيحنث إن أخذ السلعة، وقد مضى القول في سماع سحنون على وجه كل قول منهما.
وأما إن قال الحالف منهما: إنما حلفت وأنا أظن البيع لا يتم حتى يفترق، فقال أصبغ: إن ذلك بمنزلة إذا قال: لم تكن لي نية يحنث الحالف منهما إن لم يسأله صاحبه، وقام بحقه فأخذه، والمعنى فيما ذهب إليه أنه لم يصدقه فيما ادعاه من النية، مع قيام البينة عليه باليمين بالطلاق، ولو أتى مستفتيا؛ لكانت له نيته، ولم يكن عليه شيء.
وأما مسألة الأمة التي ذكرها عن مالك، فوقعت في رسم أخذ يشرب خمرا، من سماع ابن القاسم، بزيادة لفظة تخرجها عن مالك معنى هذه المسائل، وقد مضى القول عليها في موضعها، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف على وطء امرأته لوقت فدخل يوما فرأها مزينة وأرادها]
مسألة قال: وأخبرني عن ابن وهب وأشهب في مسألة رجل حلف على وطء امرأته لوقت، فدخل يوما فرأها مزينة في غلالة ممصرة، فانبسط لها وأرادها، فقالت: اتق الله، فإنك قد حلفت بطلاقي إن وطئني، فغلب فقال ما منه بد، فعالجها وقد أنعظ، فتلقت ذكره بيدها، فلم يزل يعمل في يدها حتى أدفق، فقال أشهب هو حانث، وقال ابن وهب: لا شيء عليه، وليس هذا وطئا، قال أصبغ: وأنا أقول: إن كانت اليد منها على فرجها بقدر ما يمس ذكر الزوج الفرج أو يلمحه، فينسل وتردف اليد، فأراه حانثا، وقول أشهب في هذا أسلم، وإن كانت المرأة قائمة ممدودة اليد، فعمل فيها بلا ضم ولا كشف، فقول ابن وهب في هذا أحب إلي إن شاء الله.(6/355)
قال محمد بن رشد: حمل أشهب يمينه على اجتناب، ورأى ذلك هو معنى ما حلف عليه، فأوجب عليه الحنث، وهو الذي يأتي على ما في الإيلاء من المدونة في نحو هذه المسألة، أنه حانث، إلا أن يكون نوى الفرج بعينيه وعلى ما مضى من قول ابن القاسم، في سماع أبي زيد، وحمل ابن وهب يمينه على مقتضى اللفظ، فلم يوجب عليه حنثا، وتفصيل أصبغ ضعيف، وهذا استحسان منه، لا يخرج عن القولين.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته أن يبني بها إلى أجل سماه فدفع جميع حقها إلى وليها]
مسألة وعن رجل حلف بطلاق امرأته أن يبني بها إلى أجل سماه، فدفع جميع حقها إلى وليها، وأخروا في جهازها، فلما أشرف على البناء بها وتقارب الأجل أتى الولي برجلين يشهدان على الزوج أنه حنث فيها، هل ترى للحاكم أن يمنعه من البناء بها حتى يعدل الشهود، وفي منعه تعجيل الطلاق عليه باليمين؟ قال: نعم، يمنعه وإن كان ذلك يحنثه، وينبغي للإمام أن يتفرغ له، ولا يتوانى ولا يشتغل بغيره، فلمثل هذا وضعوا واحتيج إليهم من الحيطة على المسلمين بتعجيل ما رهن من نوازلهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن إجراء الأحكام على وجوهما واجب، فليس يمين الزوج الفارطة بالذي تمنع من أن تمر الأحكام على وجوهها، ونهاية ما يقدر في ذلك من الحيطة للزوج أن يتفرغ الإمام لأمره، ويقدمه على ما سواه كما قال، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا تخرج إلا بإذنه فيأذن لها إلى موضع فتذهب إليه وإلى غيره]
مسألة وسمعته وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته ألا تخرج إلا بإذنه، فيأذن لها إلى موضع فتذهب إليه وإلى غيره.
قال أصبغ: هو حانث، ثم سئل عنها من الغد، فقال: هو(6/356)
حانث، وسئل فقيل له: إن هو حلف فقال إلى موضع من المواضع، فأذن لها إلى موضع فذهبت إليه وإلى غيره، قال: هو حانث.
قال محمد بن رشد: أما الذي يحلف على امرأته ألا تخرج إلا بإذنه، فيأذن لها إلى موضع، فتذهب إليه والى غيره، فقول أصبغ هذا فيه: إنه حانث، هو مثل ما لابن القاسم في آخر سماع أبي زيد، خلاف قوله في الواضحة.
وأما الذي يحلف عليها ألا تخرج إلى موضع من المواضع إلا بإذنه، فيأذن لها إلى موضوع فتذهب إليه وإلى غيره، فلا اختلاف أعلمه في أنه حانث، وقد مضى في رسم تسلف، من سماع عيسى تحصيل القول في هذا المعنى، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته لتدخلن عليه امرأته ليلة الجمعة فحملت من عند أهلها ليلة الجمعة]
مسألة وسمعته وسئل عن الرجل يحلف بطلاق امرأته لتدخلن عليه امرأته ليلة الجمعة، فحملت من عند أهلها ليلة الجمعة ليلا قبل طلوع الفجر، ثم لم يبلغ بها إليه، وإلى مسكنه حتى طلع الفجر، هل تراه حانثا، وقد حلف بطلاقها، لتدخلن عليه ليلة الجمعة، والليلة قد انقضت قبل دخولها عليه؟
قال: إذا كان شأن أهل ذلك الموضع إدخالهم النساء على أزواجهن قبل طلوع الفجر الغالب على عامة الناس بذلك الموضع والمعمول به، والمعروف من فعلهم، فلا حنث عليه، إذا خرج بها من مسكنها قبل طلوع الفجر أو بعده، وإذا كانت سنة البلد إدخالهم النساء على أزواجهن في الليل، فأخرجوها ليلا ثم طلع عليهم الفجر قبل بلاغها، ودخولها لبعد مسكنها لمسكنه ولرفق(6/357)
مسيرهم بها، وتطوفهم على ما يصنع بالعروس فهو حانث.
قال محمد بن رشد: آخر الليل على ما أحكمه الشرع طلوع الفجر، بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» فلذلك قال: إنه يحنث إن أدخلت عليه بعد طلوع الفجر، إلا أن تكون عادة الناس في ذلك البلد إدخال النساء على أزواجهن بعد طلوع الفجر، فيحمل يمينه على ذلك، ولا يحنث إذا أدخلت عليه فيما بينه وبين طلوع الشمس من تلك الليلة، ولولا ما أحكمته السنة من أن منتهى الليل طلوع الفجر؛ لكان القياس أن يكون منتهاه طلوع الشمس كما مبتداه غروبها؛ لأن السرقة والغبش التي بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس بمنزلة السرق والغبش الذي بعد مغيب الشمس إلى مغيب الشفق؛ لأنهما ظلامان يليان الليل من طرفيه، فإما أن يحكم لهما جميعا بحكم الليل من أجل ما فيهما من السواد، أو يحكم لهما بحكم النهار من أجل ما فيهما من البياض، والأظهر أن يحكم لهما جميعا بحكم الليل؛ لأن الشمس هي المفرقة بين الليل والنهار، فوجب أن يكون الليل مدة مغيبها، والنهار مدة طلوعها؛ لأن الشرع قد يأتي مخالفا للقياس، فيجب الوقوف عنده، والانتهاء إليه، والبناء عليه، وإطراح ما هو القياس معه.
وليس وجه في النظر أيضا، وهو أن يحكم بالضياء المتصل بالليل من أول الفجر بحكم ما بعده؛ لأنه في ازدياد، وأن يحكم بالظلام المتصل بالنهار من أول الغروب بحكم ما بعده؛ لأنه في ازدياد أيضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ألا يطأ امرأته حتى إلى العيد فوطئها ليلة العيد]
مسألة وسئل أصبغ عمن حلف بالطلاق ألا يطأ امرأته حتى إلى العيد، فوطئها ليلة العيد قبل الفجر أو بعد الفجر.(6/358)
قال: لا يطأها حتى إلى العيد، وبعدما ينصرف الإمام، وإن وطئها قبل ذلك حنث، والعيد عندي انصراف الإمام.
قيل له: فرجل وقع له بينه وبين أهله كلام، فحلف بالطلاق ألا يدخل بيته يوم العيد؟
قال: لا يدخل يوم العيد، ولا يومان بعده، وذلك في الفطر.
قال محمد بن رشد: جوابه في هاتين المسألتين على مراعاة المقصد الذي يرى أن الحالف أراده، وترك الاعتبار بما يقتضيه مجرد الألفاظ، فقال في الذي يحلف ألا يطأ امرأته حتى إلى العيد، أنه لا يطأها حتى ينصرف الناس منه بعيدهم، ويستريحون فيه من نصبهم، فحمل يمين الحالف على ذلك، وعلى ما يقتضيه لفظ يمينه لا حنث عليه إن وطئها بعد طلوع الفجر من يوم العيد، والأول هو المشهور في المذهب.
وقال في الذي يحلف ألا يدخل بيته يوم العيد: إنه لا يدخله يوم العيد ولا يومان بعده في الفطر على هذا المعنى أيضا؛ لأن هذه المدة هي التي جرت عادة الناس بالسكون إلى أزواجهم من أجل عيدهم، وترك التصرف في وجوه معايشهم، فحملت يمينه على أنه إذا أراد معاقبة أهله في أن يحرمها من نفسه ما جرت العادة فيه من الناس بمثله، وهو بين.
وعلى ما يقتضيه لفظ يمينه، ليس عليه أن يمتنع من دخول بيته إلى يوم الفطر وحده، وقد حكى ذلك ابن سحنون عن أبيه، وهو المشهور في المذهب، وبالله التوفيق، لا شريك له، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه.(6/359)
[كتاب الإيلاء]
[المولى منها إذا ارتجعها زوجها من عذر فانقضت العدة وهي عنده ثم لم يفئ]
كتاب الإيلاء(6/361)
من سماع ابن القاسم من مالك بن أنس من
كتاب أوله تأخير صلاة العشاء قال ابن القاسم: قال مالك في المولى منها إذا ارتجعها زوجها من عذر، فانقضت العدة، وهي عنده، ثم لم يفئ بعد أن ذهب العذر ففرق بينهما، أترى عليه عدة أخرى، أم العدة الأولى تجزئها؟
قال مالك: أرى أن العدة الأولى تجزيها، قال ابن القاسم: وذلك إذا لم يخل بها.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا ارتجعها زوجها من عذر، معناه إذا ارتجعها زوجها، فلم يفئ من عذر، وإنما قال: إنه إذا لم يفئ في العدة، ولا بعد أن انقضت حين ذهب العذر يفرق بينهما: إنها لا عدة عليها، وإن العدة الأولى تجزئها؛ لأن رجعة المولي الحالف على ترك الوطء إنما تصح بالفيء في العدة، فإذا كان له عذر يمنعه من الفيء في العدة من مرض أو سجن باتفاق، أو سفر على اختلاف، عذرا لم يفرق بينهما حتى يزول العذر، فيترك الفيء فإذا فرق بينهما وجب ألا يكون عليها عدة أخرى بهذه(6/363)
التفرقة؛ إذ ليست بطلاق، وإنما فرق بينهما إذ بطلت رجعته إياها بترك الوطء في العدة وبعدها حين ذهب العذر، فوجب أن تجزيها العدة الأولى، إذ لم يصح له فيها الرجعة.
وقول ابن القاسم، وذلك إذا لم يخل بها، يريد أنه إن خلا بها كان عليها العدة للأزواج في الحكم الظاهر من أجل أنها يتهمان على إسقاط العدة مع الخلوة، وأما فيما بينها وبين الله، فلا عدة عليها، ولا رجعة للزوج عليها ولا ميراث بينهما، ومثل هذا في المدونة، وقد ضعف في رواية أشهب بعد هذا وجوب العدة عليها للأزواج بسبب الخلوة، ورأى التهمة في ذلك بعيدة، وهو كما قال؛ لأن الزوجة وإن اتهمت على إرادة تعجيل النكاح بدعواها أنه لم يطأ، لا يتهم الزوج بتصديقها على ذلك؛ لما فيه من قطع نسبه، وهذا معنى قوله في هذه الرواية: وهذا أمر قد أعفي منه المسلمون، يريد أن مثل هذا لا يتهم فيه المسلم.
وإنما لم يصح للذي يطلق عليه بالإيلاء رجعة، إلا بالفيء في العدة؛ لأنه إنما طلق عليه؛ إذ لم يفئ، فلو كان له أن يرتجع ولا يفيء؛ لكان ذلك إبطالا للحكم عليه بالطلاق، وزيادة فيما حده الله تعالى من أجل الإيلاء.
وما يكون به المولي، فلا يطلق عليه إذا فعله، وتصح له به الرجعة إن فعله في العدة، مختلف باختلاف أيمانه.
فما كان منها لا يقدر أن يحله عن نفسه، مثل أن يكون حلف ألا يطأ بمشي أو صدقة أو عتق غير معين، وما أشبه ذلك، فهذا لا فيئة له فيه، إلا بالوطء؛ لأنه إن مشى أو تصدق أو أعتق قبل أن يطأ، لم ينتفع بذلك ولا يبر به، ووجب عليه إن وطئ أن يمشي ويتصدق أو يعتق.
وما كان منه يقدر أن يحله عن نفسه ظاهرا وباطنا، مثل أن يكون حلف ألا يطأ بعتق عبد بعينه، أو صدقة شيء بعينه، أو طلاق امرأة له، وما أشبه ذلك، فهذا يكون فيه مخيرا بين أن يفيء بالوطء، أو يفعل ما حلف به من العتق، أو(6/364)
الصدقة، أو الطلاق؛ لأنه إذا فعل ذلك انحلت عنه اليمين، وسقط عنه الإيلاء.
وما كان من ذلك يقدر على حله عن نفسه في الباطن، إلا أنه لا يعلم حقيقة ذلك في الظاهر، وذلك أن يكون حلف بالله أو بنذر لا يسمي له مخرجا، فهذا اختلف فيه، هل تقبل منه الفيئة قبل الكفارة أم لا على قولين؛ أحدهما: أنها تقبل منه؛ لأن الكفارة تحل اليمين. والثانية: أنها لا تقبل منه؛ إذ لا يحلها إلا أن يكون نوى الكفارة عنها، ونحن لا ندري هل نوى بها الكفارة عنها أو عن يمين أخرى، أو لم ينو بها كفارة بشيء من الأيمان جملة.
والقولان قائمان من المدونة.
وابن الماجشون لا يرى الفيئة في شيء من ذلك كله إلا بالجماع، وبالله التوفيق.
[الأمة يولي منها زوجها فتتركه ويريد سيدها أن يوقفه حتى يفيء أو يطلق]
ومن كتاب اغتسل وسئل مالك عن الأمة يولي منها زوجها فتتركه، ويريد سيدها أن يوقفه حتى يفيء أو يطلق.
قال: ذلك إلى سيدها إن أراد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن للسيد حقا في الوطء، من أجل أنه يقول: إنما أنكحتها لما رغبت من ولدها، ولهذا قال مالك في موطاه: إنه من كانت تحته أمة قوم، فلا يعزل عنها إلا بإذنهم، ولو كانت حاملا أو في سن من لا تحيض من صغر أو كبر، لم يكن للسيد في ذلك حجة، وبالله التوفيق.
[العبد يعترض عن امرأته]
ومن كتاب الشريكين قال مالك في العبد يعترض عن امرأته، قال مالك: يضرب(6/365)
له نصف أجل الحر، وأرى عليه العدة بعد الطلاق، ولها نصف الصداق.
قال محمد بن رشد: إنما قال: يضرب له نصف أجل الحر؛ لأنه يجر إلى الطلاق، والطلاق حد من الحدود، يكون العبد فيه على النصف من الحر؛ لقول الله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، وهذا يرد قول من قال: إنه إنما يضرب للمعترض أجل سنة لتمر عليه الفصول الأربعة؛ إذ لو كانت العلة في ذلك هذا، لاستوى فيه الحر والعبد، فإنما السنة في ذلك سنة متبعة غير معللة.
وقوله: وأرى عليه العدة بعد الطلاق، يريد للأزواج من أجل الخلوة، ولا رجعة للزوج عليها فيها؛ لأنها طلقة باينة إذ لم يمس.
وقوله: لها نصف الصداق صحيح؛ لقول الله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، وأما الحرة إذا اعترض عنها زوجها، فيفرق بينهما بعد السنة، فلها صداقها كاملا، قال ذلك في المدونة من أجل أن السنة طول إقامة، ولم يرها في سماع أشهب من طلاق السنة طول إقامة، قال: إن لها نصف الصداق إلا أن تطول إقامتها معه قبل ضرب الأجل، وقد مضى القول على ذلك هناك، وبالله التوفيق.
[الرجل يولي من امرأته فيوقف بعد انقضاء الأربعة الأشهر ليفيء أو يطلق فيقول أنا أفيء]
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك بن أنس قال أشهب: وسئل مالك عن الرجل يولي من امرأته، فيوقف(6/366)
بعد انقضاء الأربعة الأشهر ليفيء أو يطلق، فيقول: أنا أفيء، فيخلى بينه وبينهما، ولا يطلق عليه، ويقال له: اذهب ففئ، فيقيم معها ما شاء الله، ثم تأتي فتقول: لم يفئ، ويقول: أجل، ولكن سأفعل، أترى ذلك حدا ينتهي إليه، أم إذا حانث الثانية فرق السلطان بينهما، أو كلفه أن يفرق هو بنفسه؛ لأنه قد ترك الفيئة وهو يقدر عليها.
قال: أرى أنه إن لم يفئ حتى تنقضي عدتها يوم وقف على أن يفيء أو يطلق عليه.
قيل له: إنه لم يكن حين وقف طلق، أنه لما انقضت الأربعة أشهر دعي إلى الفيئة أو الطلاق، فقال: أنا أفيء، فخلي بينه وبينها ليفيء، ولم يطلق عليه حتى رجعت بعد أيام، فقالت: لم يفئ، وقال: أجل، ولكن سأفعل، قال: نعم، قال: فأرى له إن لم يوف ما بينها وبين أن تنقضي عدتها من يوم وقف ليفيء، أو يطلق أن يطلق عليه، ولا يوقف، وأرى للإمام وقفه بعد انقضاء الأربعة أشهر، فقال له: فئ أو طلق، فقال: أنا أفيء أن يقول له دونكها، فإن لم يفئ حتى تنقضي عدتها من ذلك اليوم طلقت عليه طلقة باينة، فهذا الذي أرى إذا انقضت عدتها من أول يوم وقف ليفيء أو يطلق، فقال: أنا أفيء ولم يفئ، أن يكون ذلك طلاقا.
قال محمد بن رشد: رواية أشهب هذه خلاف للمعلوم من مذهب(6/367)
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة وغيرها، أن المولي إذا وقف فقال: أنا أفيء، ولم يفئ، يختبر المرتين والثلاث، ونحو ذلك من غير أن يعتبر في ذلك بالعدة، انقضت في أيام التلوم، أو لم تنقض؛ إذ ليست في عدة، فإن فاء، وإلا طلق عليه طلاقا يكون له فيه الرجعة، وقد نص في رواية ابن وهب عنه، من كتاب ابن المواز عنه على أنه إن أقام في الاختيار ثلاث حيض، فإنه يوقف أيضا إن قال: أنا أفيء، ويخلى بينه وبينها ما لم يكثر ذلك، فيطلق عليه، وهذا هو الذي يأتي على أصل مذهبه في أن المولي لا يقع عليه طلاق بحلول الأجل حتى يوقف، فأما أن يفيء وأما أن يطلق.
فقوله في هذه الرواية: إن لم يف حتى تنقضي عدتها من يوم وقف عليه طلقت عليه طلقة باينة راجع إلى القول بأن المولي مطالب بالفيئة في الأجل، وأنه لا يزاد عليه، ويلزمه الطلاق بانقضائه، وقد روى ذلك ابن الماجشون، عن مالك في كتابه، وهو قول سعيد بن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وابن شهاب، ومذهب أبي حنيفة؛ لأنه لم يزد في أجل الإيلاء شيئا؛ إذ لم ير أن يتلوم له إلا في طول المدة من أجل أن له فيها الرجعة، وهو قول فيه نظر؛ لأنه قال فيه: إنه إن فاء في العدة بقي على العصمة، وإن لم يف فيها كانت مطلقة عليه بانقضاء الأجل، فبانت منه بتمامها، فحصل أمره هي وقوع الطلاق عليه بانقضاء الأجل مترقبا بما يفعله بعد ذلك في العدة من الفيء أو تركه، ولم يوجب عليها أيضا عدة للأزواج بخلوته معها طول العدة على ما قاله في المسألة التي بعدها، وقد مضى القول على ذلك في أول مسألة من سماع ابن القاسم، وقد استحسن ابن عبد الحكم هذه الرواية على ما فيها من الاعتراض، وبالله التوفيق.
وروى المدنيون عن مالك أنه إذا وقف بعد انقضاء الأجل لا يؤخر، ولا يتلوم له مرة بعد مرة، وإنما يقال له: إما أن تفيء، وإما أن تطلق، والحمد لله.(6/368)
[مسألة: يوقف بعد انقضاء الأربعة أشهر على أن يفيء أو يطلق فيطلق]
مسألة قيل له: أرأيت الذي يوقف بعد انقضاء الأربعة أشهر على أن يفيء، أو يطلق فيطلق، ثم يرتجع فيخلى بينه وبينها ليصيبها فتنقضي عدتها من يوم طلق عليه بالإيلاء، ولم يفئ، ثم يأتيان جميعا فتقول: لم يمسني، ويقول: لم أمسها، فتبين منه، ثم تريد نكاح غيره، أترى عليها عدة فيما بينها وبين الأزواج؛ لأنه قد كان معها في بيت ولا يدري لعله قد أصابها.
فقال: لعله أن يكون ذلك عليها بخلوته بها وكينونته معها، وهذا أمر قد أعفي منه المسلمون إلى يوم الناس، هذا لم يكن، وما في السؤال عن مثل هذا خير فيه، وهين في الدين، وإدخال للشك.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على معنى هذه المسألة في أول مسألة، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: تقول امرأته بعد انقضاء أربعة أشهر أنا أتركه ولا حاجة لي بوقفه]
مسألة وسئل عن الذي تقول امرأته بعد انقضاء أربعة أشهر: أنا أتركه، ولا حاجة لي بوقفه.
قال: ذلك لها؛ لأنه حق لها تركته، فإن جاءت بعد أيام وقفته من ساعته إن شاءت، ولم يضرب له أجل أربعة أشهر أخرى.
قال محمد بن رشد: وذلك أن تحلف على ما كان تركها على الأبد،(6/369)
ولا برضاها، بإسقاط ذلك، والمقام معه إلا على أن ينظر ويعاد، ثم يوقف مكانها بغير أجل، فيفيء أو يطلق، قاله أصبغ في كتاب ابن المواز، ولو قالت: أنا أوخره أو أتركه إلى أجل كذا؛ لكان لها أن توقفه عند انقضاء الأجل الذي أنظرته إليه دون يمين، على ما مضى القول فيه، في النكاح الثاني من هذا المجموع، في سماع أبي زيد، من كتاب طلاق السنة.
[مسألة: تركت المرأة المولي زوجها حتى تنقضي الأربعة أشهر ثم رفعت أمرها]
مسألة قال مالك: إذا تركت المرأة المولي زوجها، حتى تنقضي الأربعة أشهر، ثم رفعت أمرها، وقف من ساعته، ولم ينظر أربعة أشهر أخرى.
قال محمد بن رشد: هذا في الحالف على ترك الوطء، بأي يمين كانت يكون موليا من يوم حلف كما قال.
وأما الحالف بالطلاق أن يفعل فعلا، فلا يكون موليا حتى يضرب له الأجل من يوم ترفعه امرأته إلى السلطان.
واختلف في الإيلاء الذي دخل على الظهار، فقيل: هو مولٍ من يوم ظاهر، وقيل: إنه لا يوقف حتى يضرب له الأجل من يوم ترفعه امرأته إلى السلطان، وبالله التوفيق.
[مسألة: المولي يوقف ألذلك أجل معلوم تتركه إليه إذا وقف ينظر]
مسألة وسئل عن المولي يوقف، ألذلك أجل معلوم تتركه إليه إذا وقف ينظر، قال: ليس.(6/370)
قال محمد بن رشد هذا مثل قوله في سماع أشهب من سماع الشفعة في الشفيع: إنه لا يؤجل ليرى رأيه وينظر، وفي مختصر ابن عبد الحكم أنه يؤجل في ذلك ثلاثة أيام ليرى رأيه، ومن هذا المعنى المملكة يوقفها السلطان، هل لها أن تؤخر لتستشير وتنظر وتختار لنفسها، وقد مضى القول في ذلك في رسم سلف، من كتاب التخيير والتمليك، فانظر في ذلك، وبالله التوفيق.
[يقول لامرأته أنت علي كأمي]
ومن كتاب الطلاق وسئل عن الذي يقول لامرأته: أنت علي كأمي، أترى أن تسأله أي شيء يريد؟
قال: نعم.
قال محمد بن رشد: فإن لم تكن له نية، فهو ظاهر، وقد مضى تحصيل القول في هذا في رسم سن رسول إليه من كتاب الظهار، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال والله لا أمسك أبدا أيسأل كما يسأل في الظهار]
مسألة قيل له: أرأيت إن قال: والله لا أمسك أبدا أيسأل كما يسأل في الظهار؟
قال: لا، هذا إيلاء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ إذ لا اختلاف بين أهل العلم جميعا في أن من حلف ألا يطأ امرأته أبدا أو أطلق يمينه، فحلف ألا يطأها، ولم يقل أبدا أو حلف ألا يطأها أكثر من أربعة أشهر أنه مولٍ، إلا ما يروى عن ابن عباس أنه لا يكون موليا من عقد يمينه على مدة مخصوصة.(6/371)
كما لا اختلاف بينهم أنه إذا حلف ألا يطأها أقل من أربعة أشهر أنه ليس بمول؛ إلا ما روي عن ابن أبي ليلى، وطائفة من أهل الكوفة أن من حلف ألا يجامع امرأته أقل من أربعة أشهر، فتركها أربعة أشهر من غير جماع، أنه مولٍ، وإنما اختلفا فيمن حلف ألا يطأ امرأته أربعة أشهر، فرآه أبو حنيفة وجماعة من السلف موليا، وقالوا: إن الطلاق يقع عليه بمضي الأجل، ولم يره مالك في المشهور عنه موليا، إذا زاد على الأربعة أشهر الشيء القريب، وهو قول عبد الوهاب؛ لأنه قال: إذا زاد في يمينه على الأربعة أشهر كان موليا، يريد أنه إذا زاد على الأربعة أشهر شيئا يسيرا، فله أن يقول: اتركوني حتى ينقضي الأجل، فأصبت ولا حنث، والصواب كما في كتاب ابن المواز أنه يوقف، وإن لم يبق من مدة يمينه إلا الشيء اليسير؛ لأن ذلك حق قد وجب في التوقيف؛ إذ لعله إذا أوقف سيقول: لا أفيء فيعجل عليه الطلاق، وقد تأول بعض الساخرين على المذهب أنه لا يكون موليا حتى يزيد على الأربعة أشهر أكثر مما يتلوم به عليه، إذا قال: أنا أفي، وهو بعيد إذ قد يبلغ ما تلوم به عليه المدة بعد المدة الثلاثين يوما، ونحو ذلك على ما روى ابن وهب، عن مالك في كتاب ابن المواز، وقد ذكرنا ذلك في أول السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف ألا يطأ امرأته أتراه في حل من ترك مسيسها وهي لا ترافعه إلى السلطان]
مسألة وسئل عن الذي يحلف ألا يطأ امرأته، أتراه في حل من ترك مسيسها، وهي لا ترافعه إلى السلطان؟ قال: لا.
قيل له: أتراه في حل إذا لم ترفعه إلى السلطان، وأذنت له في ذلك؟(6/372)
قال: أرجو أن يكون في ذلك سعة إذا كان هذا هكذا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قاله؛ لأنه ظالم لها في حلفه لها ألا يطأها، وممتنع مما يلزمه لها من الحق في ذلك، ولا يحل لمن عليه حق لغيره أن يمتنع منه حتى يرافع فيه إلى السلطان، فإن أذنت له في ذلك سقط عنه الحرج فيه؛ لأنه حق لها تركته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول علي عتق رقبة إن مسست امرأتي]
مسألة وسألته عن الذي يقول: علي عتق رقبة إن مسست امرأتي؟
فقال: هو مولٍ، فإن كان سمى عبدا له بعينه، فمات ذلك العبد أو أعتقه، فإن الإيلاء قد سقط عنه، وكذلك لو كان حلف في مسيسها بطلاق امرأة له أخرى فطلقها، فأرى الإيلاء قد سقط بطلاق التي حلف بطلاقها.
فإن كان إنما قال: علي عتق رقبة إن مسستك، فلا يخرجه من الإيلاء أن يبتاع رقبة فيعتقها، وكذلك الذي يحلف بالله ألا يصيب امرأته، ثم يبتاع عبدا فيعتقه عن يمينه ثم يصيبها، فلا أرى ذلك يجزئه إذا حلف بالله، أو قال: علي عتق رقبة حتى يصيب قبل ويحنث، ثم يكفر بعد ويترك، فلا أرى أن يجزئ عنه أن يكفر قبل الحنث حتى يحنث، ثم يكفر بعد، إلا أن يحلف بعتق عبد بعينه فيعتقه، فأرى الإيلاء قد سقط عنه إذا أعتقه أو مات.
قال محمد بن رشد: أما من حلف ألا يطأ امرأته بعتق عبد له بعينه، أو بطلاق امرأة له أخرى، فلا اختلاف في أنه إذا أعتق العبد أو طلق المرأة التي حلف بطلاقها، فقد انحلت عنه اليمين، وارتفع عنه الإيلاء، وأما من حلف على ذلك بصيام أو مشي أو صدقة بشيء بعينه، فلا اختلاف في أنه لا ينحل عنه اليمين، ولا يرتفع عنه الإيلاء بالصيام ولا بالصدقة ولا(6/373)
بالمشي، إن فعل ذلك قبل الحنث، وإن نوى بذلك حل اليمين عنه، وأن عليه أن يفعل ذلك مرة أخرى إن حنث، وكذلك القياس إذا حلف على ذلك بعتق عبد نفر عنه.
وقول هاهنا من يعلم أنه أعتقها من أجل ذلك، يدل على أنه لو علم لأجزأه، وانحل به عنه الإيلاء، وأن اليمين تنحل عنه بذلك فيما بينه وبين الله إذا أعتقه عن يمينه قبل أن يحنث بها، وهو نص ما في كتاب الظهار من المدونة، إلا أنه بعيد في القياس والنظر، ووجهه أنه لما كان العتق مما يكفر به اليمين بالله، حمله محمل كفارة اليمين في أنها تجزي قبل الحنث، وليس ذلك ببين، وأما من حلف على ذلك بالله، فالكفارة قبل الحنث تحل عنه اليمين عند ابن القاسم فيما بينه وبين الله.
واختلف قوله: هل يرفع عنه حكم الإيلاء على قولين قائمين من المدونة؛ أحدهما: أن ذلك لا يرفع عنه حكم الإيلاء؛ لأن حق المرأة قد وجب في التوقيف فلا يرتفع؛ إذ لا يدرى هل نوى بذلك الكفارة عن يمين الإيلاء أو لم ينو بها ذلك. والثاني: أن ذلك يرفع عنه حكم الإيلاء؛ لأن الكفارة عن اليمين بالله قبل الحنث جائزة، لم يختلف قول مالك في ذلك، فقوله هاهنا: وكذلك الذي يحلف بالله ألا يصيب امرأته، ثم يبتاع عبدا فيعتقه عن يمينه ثم يصيبها، فلا أراه يجزئه إذا حلف بالله كلام وقع على غير تحصيل؛ لأنه إذا حلف بالله ألا يطأ امرأته فكفر ثم وطئ، فقد فاء بالوطء، وارتفع عنه الإيلاء، وأجزأته الكفارة؛ لأنه مصدق أنه نوى بها كفارة يمينه التي قد حنث فيها؛ لأنه أمر فيما بينه وبين الله، لا ينازعه فيه أحد؛ إذ قد سقط حق المرأة في التوقيف بالوطء، وإنما يقول: إن الكفارة بالله لا تجري قبل الحنث ابن الماجشون، وقد مضى ذلك في رسم لم يدرك، من سماع عيسى، من كتاب الظهار، مستوفى والحمد لله.
[يولي من امرأته فيرفع أمرها بعد أربعة أشهر فيريد الإمام أن يوقفه]
ومن سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب العرية قال عيسى: قلت لابن القاسم: أرأيت الرجل الذي يولي(6/374)
من امرأته، فيرفع أمرها بعد أربعة أشهر، فيريد الإمام أن يوقفه، فتقول: أما إن أراد الطلاق، فأنا أقيم ولا ألتمس المسيس، أيكون لها ذلك بعد أن ترفع امرأته أمرها؟
قال: نعم، ذلك لها، وإن رفعت أمرها ما لم يطلق السلطان عليه، قلت: وكذلك الذي يحلف على الشيء أن يفعله، فترفع امرأته أمرها، فيضرب له أجل أربعة أشهر، فتذهب فتريد أن تضرب عن ذلك، وتصبر بغير مسيس، أيكون ذلك لها، وقد أجل لها السلطان؟
قال: نعم، ذلك لها، وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه حق لها في المسألتين جميعا، لا يتعلق لله به حق، فلها أن تتركه بعد الرفع إلى السلطان كما لها أن تتركه قبل أن ترفعه إليه، ولو أرادت بعد أن تركته عند السلطان أن ترجع في حقها؛ لكان ذلك لها بعد يمينها أنها لم ترد إسقاط حقها جملة، وأنها إنما أرادت تأخيره والصبر عليه، على ما مضى في الرسم الأول، من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[يقول إن لم يقدم أبي إلي رأس الهلال فامرأته طالق]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه قال ابن القاسم: إن ضرب الرجل لقدوم أبيه أجلا، مثل أن يقول: إن لم يقدم أبي إلي رأس الهلال فامرأته طالق، فإنه لا يمس امرأته حتى الأجل، وإن ضرب أجلا أكثر من أربعة أشهر، فرفعت امرأته أمرها، فإنه يضرب له أجل المولي من حين ترفع أمرها، وإنما الذي يمس فيه حتى يقدم أبوه، أو لا يقدم أبوه إذا لم يضرب أجلا، إذا قال: امرأتي طالق إذا قدم أبي، وقد قال ابن القاسم: يطأ امرأته إذا ضرب أجلا، وإن لم يضرب أجلا ضرب له أجل المولي.(6/375)
قال محمد بن رشد: الحالف على نفسه بالطلاق ألا يفعل فعلا، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن ضربت عبدي، كالحالف على غيره بالطلاق ألا يفعل فعلا سواء، وهو على بر في الوجهين جميعا، لا يمنع من وطء امرأته، ولا يحنث إلا بالفعل، وله إن كانت يمينه على ذلك بعتق عبد يبيع العبد إن شاء، ولا خلاف في هذا الوجه، وكذلك الحالف بطلاق على نفسه أن يفعل فعلا إلى أجل، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أضرب عبدي إلى شهر، كالحالف على غيره بالطلاق أن يفعل فعلا إلى أجل سواء، وفيها جميعها لابن القاسم قولان؛ أحدهما: أنه ليس له أن يطأ امرأته إلى ذلك الأجل، وهو قوله هاهنا في الذي يقول: إن لم يقدم أبي في رأس الهلال فامرأته طالق، أنه لا يمس امرأته حتى الأجل، وهو قول غير ابن القاسم في العتق الأول من المدونة، ويدخل عليه الإيلاء إن كان الأجل أكثر من أربعة أشهر.
والثاني: أن له أن يطأ إلى ذلك الأجل، وهو قوله في آخر المسألة، وقد قال ابن القاسم: يطأ امرأته إذا ضرب أجلا، وقول ابن القاسم في المدونة أيضا، وهذا القول أصح على مذهبه ومذهب مالك؛ إذ لم يختلف قولهما في أنه على بر، وفي المدنية لابن أبي حازم أنه على حنث، سئل عن رجل قال: إن لم أضرب عبدي قبل الهلال، فامرأتي طالق، فمات العبد قبل الهلال، وقبل أن يضربه، قال: أمره أبين من كل شيء عندي، هي طالق.
قال ابن القاسم: هذا باطل، وقول مالك: لا طلاق عليه.
أما الحالف بالطلاق على نفسه أن يفعل فعلا من غير أن يضرب لذلك أجلا، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أضرب عبدي وما أشبه ذلك، فإنه يفترق من الحالف بذلك على غيره، فأما إذا حلف بذلك على نفسه، فلا اختلاف في أنه على حنث، ويحال بينه وبين امرأته، فإن طلبته الوطء ضرب له أجل المولي، وأما إذا حلف بذلك على غيره، فاختلف قول ابن القاسم في ذلك على ثلاثة أقوال؛ أأحدها: أنه كالحالف على نفسه سواء، وهو قول ابن القاسم، في رسم حمل صبيا بعد هذا: إنه إن قال: إن لم يحج فلان فامرأتي طالق، فهو بمنزلة من قال: إن لم أحج فامرأتي طالق، ألا يطأ(6/376)
حتى يحج، أو حتى يحج فلان، فإن طلبت امرأته المسيس ضرب لها أجل المولي.
والثاني: أنه يتلوم له على قدر ما يرى أنه أراد بيمينه، واختلف قوله: هل يطأ في التلوم أو لا على قولين جاريين على الاختلاف إذا ضرب أجلا؛ لأن التلوم كضرب الأجل، فإذا بلغ التلوم على القول بأنه يمنع من الوطء أكثر من أربعة أشهر دخل عليه الإيلاء، وقال أشهب: إن كان ليمينه سبب وقت أراده مما إذا جاء ذلك الوقت حنثه إليه، فلا أمنعه الوطء، ويصير كمن حلف ليفعلن فلان إلى أجل، وتفرقة أشهب هذه قولة ثالثة في منعه الوطء. والثالث: الفرق بين أن يحلف على غائب أو حاضر، فإن حلف على النائب مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم يقدم فلان، أو إن لم يحج كان كالحالف على فعل نفسه، يمنع من الوطء، ويضرب له أجل المولي إن رفعته امرأته وطلبت الوطء، وإن حلف على حاضر مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم يهب لي دينارا، وإن لم يقضني حقي، وما أشبه ذلك تلوم له على قدر ما يرى أنه أراد بيمينه، وهو قول ابن القاسم في رسم باع شاة من كتاب الأيمان بالطلاق، فهذا تحصيل القول وتلخيصه في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[قال في بلح نخل إن لم أكن من البلح رطبا فامرأته طالق]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك وعن رجل قال في بلح نخل: إن لم أكن من البلح رطبا فامرأته طالق.
قال: أرى أن يضرب له أجل المولي، ثم يطلق عليه.
قال محمد بن رشد: يدخل في هذه المسألة من الاختلاف ما دخل في الرسم الذي فوقه؛ لأن إرطاب البلح كالأجل، فعلى القول الذي لا يطأ إلى أجل، إذا قال: امرأتي طالق إن لم يقدم فلان إلى سنة، أو إن لم يضرب عبدي إلى سنة، ويدخل عليه الإيلاء إن طلبت امرأته الوطء، لا يطأ هاهنا(6/377)
إلى طيب البلح، ويضرب له أجل المولي إن طلبت امرأته الوطء، وعلى القول الذي يطأ إلى الأجل يطأها هنا إلى طيب البلح، ولا يدخل عليه الإيلاء حتى يطيب البلح، فإذا طاب البلح لم يكن له أن يطأ، ودخل عليه الإيلاء باتفاق، وبالله التوفيق.
[قال لامرأته لله علي ألا أمسك حتى أحج أو أغزو]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وسئل عن رجل قال لامرأته: لله علي ألا أمسك حتى أحج أو أغزو.
قال: يمسها ثم يحج أو يغزو، ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه ليمس عليه أن يمسك عن امرأته حتى يحج أو يغزو؛ لأنه قد نذر ذلك بقوله؛ لأن معناه لله علي أن أحج أو أغزو قبل أن أمس امرأتي، فقصده إنما كان إلى تعجيل الحج أو الغزو، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» فلا يجب أن يوفى لله من النذر إلا بما لله فيه طاعة، وبالله التوفيق.
[قال إن عافاني الله من مرضي صمت ستة أشهر لا أقرب فيها امرأتي]
ومن كتاب سلف دينارا قال ابن القاسم في رجل قال: إن عافاني الله من مرضي صمت ستة أشهر لا أقرب فيها امرأتي.
قال: ليس هو مولٍ، ويصوم ويأتي، ليس في ترك وطء امرأته طاعة لله، وليس عليه إلا الصيام، ولو قال: إن شفاني الله من مرضي هذا لله علي ألا أقرب امرأتي حتى أحج أو أغزو، قال: يطأ امرأته أيضا، ويحج ويغزو، وليس في ترك وطء امرأته طاعة لله.(6/378)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة، المعنى فيها كالمعنى في التي فوقها، فلا وجه لإعادة القول فيها، وبالله التوفيق.
[قال إن حج فلان فامرأته طالق]
ومن كتاب حمل صبيا قال ابن القاسم: من قال: إن حج فلان فامرأته طالق، فإنه لا يلزمه طلاق حتى يحج، ومن قال: إن لم يحج فلان فامرأتي طالق، فإنه لا يطأ حتى يحج، فإن طلبت امرأته المسيس ضرب لها أجل المولي، قال عيسى: من قال: إن حج فلان فامرأته طالق، إنما هو بمنزلة من قال: إن حجت فامرأتي طالق، أنه لا يلزمه شيء حتى يحج، ومن قال: إن لم يحج فلان فهو بمنزلة إن لم أحج.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها، وتحصيل القول فيها في رسم يوصي، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[يحلف بالطلاق البتة ألا يطأ امرأته سنة فطلبت امرأته الوطء]
ومن كتاب باع شاة وسألته عن الرجل يحلف بالطلاق البتة، ألا يطأ امرأته سنة، فطلبت امرأته الوطء.
قال: يضرب له أجل المولي أربعة أشهر، فإن وطئ طلقت عليه بالبتة، وإن لم يطأها طلقت عليه بالإيلاء، فجرت في عدتها.
قلت: فإن أراد أن يراجعها في العدة، فيكون ذلك له؟ قال: لا يكون ذلك له؛ لأنه لا يرجع إلى فيئة، وإنما يرجع إلى طلاق البتة.(6/379)
قلت: هل يتوارثان ما كانت في العدة؟ قال: نعم.
قلت له: وليس له إلى رجعتها سبيل؟ ولأي شيء لا يكون بمنزلة المصالحة لا يتوارثان؟ قال: أرأيت المصالحة لو أنه وطئها أكنت ترجمه؟ قال: نعم، قال: صدقت، قال: أرأيت لو أن هذا المولي وطئها أكنت ترجمه؟ قال: لا، قال: صدقت، قال: فهذا الفرق بينهما.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها اختلاف كثير، وتحصيله أن فيها قولين؛ أحدهما: أنه مولٍ، والثاني: ليس بمول، والقولان في المدونة، فإذا قلت: إنه مولٍ، فلا يطلق عليه حتى يحل أجل الإيلاء من يوم حلف.
وقوله في هذه الرواية يضرب له أجل المولي إن طلبت امرأته الوطء، معناه من يوم حلف، واختلف على هذا القول في حكمه إذا حل أجل الإيلاء على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يطلق عليه، ولا يمكن من الفيء؛ لأنها تبين منه في التقاء الختانين، فيصير النزع حراما، وهذا القول في المدونة، وهو مذهب ابن الماجشون على أصله فيمن طلع عليه الفجر في رمضان، وهو يطأ امرأته أنه يقضي ذلك اليوم؛ لأن إخراج الفرج من الفرج وطء.
والثاني: أنها لا تطلق عليه إلا أن يأبى الفيء، فإن لم يأباه وأراعه أمكن من التقاء الختانين لا أكثر، روي هذا القول عن مالك، ويكون النزع على هذا القول واجبا، كما لو طلق امرأته ثلاثا في تلك الحال.
والثالث: أنه يمكن من جميع لذته حتى يفتر وينزل، ولا ينزل فيها مخافة أن يكون الولد ولد زنا، وهو قول أصبغ.(6/380)
والرابع: أنه يمكن من الفيء بوطء كامل؛ ولا يقع عليه الحنث إلا بتمامه، وهو قول ابن القاسم في أصل أسرته، وظاهر قوله في المدونة، وما يوجد له فيها من خلاف، فقد قيل: إنه إصلاح سحنون، وهو قوله في هذه الرواية، فإن وطئ طلقت عليه بالبتة، وإن لم يطأ طلقت عليه بالإيلاء، وكان القياس على قوله إذا مكنه من الفيء بالوطء أن يوجب له الرجعة، فقوله: إنه لا يمكن من الرجعة، لا يستقيم إلا على القول بأنه لا يمكن من الفيء، ويطلق عليه بالإيلاء إذا انقضى أجله، وإذا قلت: إنه ليس بمُولٍ، ففي ذلك قولان؛ أحدهما: أنه يعجل عليه الطلاق، وإن لم ترفعه؛ لأن الطلاق وقع عليه من يوم حلف، وهو قول مطرف، وقد أقام بعض الناس هذا القول من المدونة، وليس ذلك ببيِّن. والثاني: أنه لا يعجل عليه الطلاق حتى ترفعه إلى السلطان ويوقعه، وهذا القول قائم من المدونة.
[مسألة: يعترض له عن امرأته فيضرب له أجل سنة فيخصى]
مسألة قلت له: فالذي يعترض له عن امرأته، فيضرب له أجل سنة، فقبل أن تنقضي سنة يخصى أو تصيبه بَلِيّة في ذَكَره فيذهب؟
قال ابن القاسم: يفرق بينهما، قلت: أيفرق بينهما حين أصابه ذلك ويئس منه، أم تنتظر به سنة، وهو لا يرجى له وطء؛ لأنه قد ذهب ذكره؟ قال: لا تنتظر به السنة، ويفرق بينهما حين يئس من أن يطأ، قلت له: فالمولي يضرب له أجل أربعة أشهر، فقبل أن يأتي الأجل يخصى أو تصيبه بلية في ذكره.
قال ابن القاسم: ليس هذا مثل الأول، وهذا لا يفرق بينه(6/381)
وبين امرأته أبدا؛ لأنه قد كان وطئ، وإن الآخر لم يطأ قط، فلذلك فرق بينهما، وكذلك لو تزوج رجل امرأة، فلم يدخل بها حتى ذهب ذكره بخصي أو غير ذلك من بلية السماء، فرق بينه وبين امرأته، ولم تقر تحته؛ لأنه لم يمس قط.
قال محمد بن رشد: اختلف في الذي يعترض عن امرأته، فيضرب له الأجل فيخصى، أو يذهب ذكره في خلال الأجل على ثلاثة أقوال؛ أحدها: قول ابن القاسم هذا، ومثله حكى ابن المواز عنه من رواية أصبغ أنه يفرق بينهما، ولا ينتظر تمام السنة، ومعناه إذا طلبت ذلك المرأة. والثاني: أنه لا يفرق بينهما، وهي مصيبة نزلت بالمرأة، حكى ذلك ابن المواز، عن أشهب، وعبد الملك، وأصبغ، وغيره من رجال ابن القاسم. والثالث: أنه لا يعجل بالفراق حتى تنقضي السنة؛ إذ لعلها سترضى بالإقامة، روي هذا عن مالك، ومثله الذي يولي من امرأته قبل الدخول، فيضرب له أجل الإيلاء فيخصى أو يذهب ذكره في خلال الأجل، أن الأجل يبطل عند ابن القاسم، ويفرق بينهما، كالذي يقطع ذكره قبل البناء، أو يولي بعده، فيقطع ذكره في خلال الأجل.
قال ابن المواز: وقد أجمعوا في المولي يقطع ذكره قبل الأجل أن الأجل يبطل ولا حجة لها، فكأنه رأى تفرقة ابن القاسم في المولي يقطع ذكره في الأجل بين أن يكون ذلك قبل البناء أو بعده تناقضا من قوله، وليس ما قال ابن المواز بإجماع؛ إذ قد لزمه حكم الإيلاء قبل أن يقطع ذكره، قد قال مالك في الحالف، ألا يطأ في أجل الإيلاء، فقطع ذكره: إنه يفرق بينهما، لا أنه يعجل لا عليه إلى تمامه، إذ قد ترضى بالمقام معه.
وهذا حجة على ابن القاسم في تعجيله الطلاق على العنين يقطع ذكره في الأجل، ولا اختلاف بينهم فيمن قطع ذكره بعد البناء، ولم يكن موليا أنه لا يفرق بينه وبين زوجته.(6/382)
وأصبغ يرى الإيلاء والظهار على الحصور، وعلى المقطوع ذكره قبل البناء وبعده، قبل الإيلاء وبعده، ويوقف على ما يقدر عليه من الفيئة بالمباشرة، والاستمتاع الذي لها حق فيه عليه، وبالله التوفيق.
[يقول لامرأته إن وطئتك فوالله لا أطأك]
ومن كتاب العتق قال: وسئل مالك عن الرجل يقول لامرأته: إن وطئتك، فوالله لا أطأك.
قال: لا يكون هذا موليا حتى يطأ.
قال محمد بن رشد: هذا على القول في الحالف بالطلاق ثلاثا ألا يطأ امرأته، أنه يمكن من وطء كامل، وأما على القول بأنه لا يمكن من الوطء أصلا، فإذا وطئ يلزمه اليمين بأول الوطء، ويحنث بآخره، فتلزمه الكفارة ويسقط عنه الإيلاء، وقد مضى في الرسم الذي قبل هذا بيانه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بطلاق امرأته إن لم يتزوج عليها فلانة فيخطبها فتكرهه]
مسألة من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب المكاتب قال يحيى: وسألت عن الرجل يحلف بطلاق امرأته، إن لم يتزوج عليها فلانة، فيخطبها فتكرهه.
قال: أرى أن يؤجل له أجل المولي إن شكت امرأته ترك مسيسها، وذلك لأنه لا ينبغي له أن يمسها حتى ينكح المرأة التي(6/383)
حلف عليها لينكحنها، فإن مضى أجل الإيلاء ولم ينكحها طلق عليه بالإيلاء، وإن صبرت عليه امرأته، لم يؤجل ولم يدخل عليه حنث، وإن ماتت التي حلف لينكحنها، طلقت عليه امرأته.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يؤجل له أجل المولي إن شكت امرأته ترك مسيسها؛ إذ لا ينبغي له أن يمسها، وهو لا يقدر على نكاح المرأة التي حلف لينكحنها، أو خطبها فكرهته، إنما يأتي على القول بأن من حلف بالطلاق ليفعلن فعلا لا يمكنه فعله في الحال، ويمكنه في حال آخر مولٍ من يوم حلف، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة، ونص رواية عيسى عن ابن القاسم في الحالف بالطلاق: ليحجن وهو في غير وقت الحج أنه يقال له: أحرم واخرج، وإن كان ذلك في المحرم، وعلى قول غير ابن القاسم في المدونة أنه إذا لم يمكنه فعل ما حلف عليه ليفعلنه، فلا يحال بينه وبين امرأته، ولا يضرب له أجل المولي حتى يمكنه فعل ما حلف عليه، ولا يحال بينه وبين امرأته في هذه المسألة، ولا يضرب له أجل المولي حتى يمكنه نكاح المرأة بأن تجيبه إلى ذلك، فإن أجابته إلى ذلك وأمسك عن نكاحها كان سبيل الحنث، ولم يجز له وطء امرأته، وضرب له أجل المولي إن شكت امرأته ترك مسيسها، فإن بر بنكاحها وإلا طلق عليه بالإيلاء، فإن طلق عليه به، وارتجع لم تصح رجعة إلا أن يفيء بزواجها قبل انقضاء العدة، بخلاف أن يظن هو قبل أن يطلق عليه الإمام بالإيلاء؛ لأنه إذا طلق هو فقد حنث نفسه، وانحلت اليمين عليه، وإذا طلق الإمام عليه، فاليمين باقية عليه، فإن تزوجها بعد انقضاء العدة رجع عليه الإيلاء، فإن اجترأ لما ضرب له أجل الإيلاء ووطئ، سقط ما مضى من أجل الإيلاء، واستؤنف ضربه مرة أخرى إن قامت بذلك المرأة وطلبته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بطلاق امرأته ليبيعن غلامه إلا ألا يجد عشرين دينارا]
مسألة وسئل عن الرجل يحلف بطلاق امرأته ليبيعن غلامه، إلا ألا(6/384)
يجد عشرين دينارا فيعرضه ويجتهد فلا يجد به عشرين دينارا أيمسك عن مسيس زوجته حتى يبيعه أم يسقط عنه اليمين بعد اجتهاده في البيع بالمبالغة في العرض؟ .
قال: يكف عن مسيس زوجته حتى يعرض مجتهدا في البيع أياما ويستأنى حتى يعلم اجتهاده ومبالغته في البيع، فإن باع في ذلك وإلا حبس عبده ووطئ امرأته ولا شيء عليه حتى تحول الأسواق بزيادة يرتجى بها بيعه بعشرين دينارا فيعود إلى العرض والاجتهاد في البيع [وليس عليه أن يمسك عن الوطء لامرأته الأولى إلا أن يجد عشرين دينارا فيكره البيع] فإن وجد ذلك لزمه الكف عن المسيس حتى يبيع فإن شكت امرأته وهو قادر على بيعه بعشرين دينارا إمساكه عنها ضرب له أجل المولي فإن باع وإلا طلق عليه، وإن قال: أنا أفئ فلا تنفعه فيئته إلا ببيع العبد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة لم يجر فيها على أصل؛ لأنه إما أن تحمل يمينه على أنه أراد أن يبيعه بعشرين إلا ألا يجد به العشرين في ذلك الوقت وفي تلك السوق، فلا يجب عليه أن يعرضه إلا في ذلك الوقت وفي تلك السوق، فإذا عرضه في ذلك الوقت ولم يجد فيه العشرين انحلت عنه اليمين، ولم يكن عليه أن يعود إلى عرضه في وقت آخر وسوق آخر، وإما أن تحمل يمينه على أنه أراد أن يبيعه بعشرين دينارا متى وجد العشرين دينارا فيه، كان ذلك في ذلك الوقت وفي تلك السوق أو في وقت آخر وسوق آخر، فيجب عليه متى ما حالت الأسواق بزيادة ورجا وجود العشرين دينارا فيه أن يعود إلى العرض وإلى الإمساك عن امرأته.
فقوله: إن الأسواق إذا حالت بزيادة عاد إلى العرض ولم يجب عليه أن يعود إلى الإمساك عن امرأته حتى يجد به عشرين ليس يلتئم على أصل واحد.(6/385)
وجوابه في هذه المسألة أيضا كجوابه في المسألة التي قبلها، على القول بأن من حلف ليفعلن فعلا لا يمكنه في الحال ويمكنه في حال آخر يحال بينه وبين امرأته من يوم حلف، ويدخل عليه الإيلاء إن طلبت المرأة المسيس، وعلى القول بأنه لا يحال بينه وبينها ولا يمنع من مسيسها ولا يدخل عليه الإيلاء حتى يمكنه فعل ما حلف عليه ليفعلنه يكون له أن يطأ امرأته في حال العرض حتى يجد من يعطيه به عشرين دينارا، فإذا وجد ذلك لزمه الكف عن امرأته حتى يبيعه وضرب له أجل المولي وكذلك حكى ابن حبيب في آخر كتاب الأيمان والنذور من الواضحة أنه ليس عليه أن يمسك عن الوطء ما دام يعرض ذلك للبيع، ألا أنه قال: فإذا وجد ذلك به حنث إن لم يبعه، فحمل يمينه على التعجيل، وهو أصل قد اختلف فيه حسبما بيناه من سماع يحيى في كتاب النذور في رسم المكاتب منه وبالله التوفيق.
[المعترض عن امرأته ترفع أمرها إلى الإمام وهو مريض]
ومن كتاب الصلاة وسألته عن المعترض عن امرأته ترفع أمرها إلى الإمام وهو مريض.
فقال: لا يضرب له أجل المعترض عن امرأته حتى يصح [فقيل له] : فإن كان صحيحا رفعت أمرها إلى السلطان، [فلما أجله السلطان مرض] ، قال: قد مضى حكم السلطان فيه ولا يزاد في الأجل بعد من أجل مرضه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في هذا الرسم، وهذا السماع من كتاب طلاق السنة والقول فيها، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.(6/386)
[مسألة: المولي يقفه السلطان وهو مريض فيقول أنا أفيء]
مسألة وسألته عن المولي يقفه السلطان وهو مريض، فيقول: أنا أفيء، فقال: يعذر بالمرض ولا يعجل عليه قلت: فإن كان حلف أن ينكح عليها أو نحو ذلك فأمسك عن النكاح عنها زمانا حتى رئي أنه مضار فشكته امرأته وهو مريض أيؤجل أجل المولي أم حتى يصح؟ .
قال: أما المريض فإني أقول: يضرب له الأجل وإن كان مريضا فإن انقضى الأجل [ولم يصح عذر؛ لأنه لا يطيق النكاح وهو مريض، وانقضى الأجل] وقد صح، قيل له: تزوج ومس امرأتك وإلا طلقها عليك، فإن تزوج من عاجل ومس امرأته فلا شيء عليه، وإن لم يفعل طلق عليه بالإيلاء.
قيل له: فإن كان حلف له ليقضين رجلا حقه إلى غير أجل فترك القضا ورؤي أنه مضار وشكت امرأته وهو مريض.
فقال: لا يمنعه المرض من القضاء وأرى أن يضرب له الأجل فإن لم يقض وصح طلق عليه كما يصنع بالصحيح.
[مسألة: المولي إذا وقفه السلطان وهو مريض]
مسألة قوله: إن المولي إذا وقفه السلطان وهو مريض فعذر بالمرض إلى أن يصح؛ صحيح لا اختلاف فيه، وكذلك إن كان مسجونا يعذر بالسجن إلى أن يخرج منه، واختلف إن كان غائبا، فقال ابن القاسم: يعذر بالسفر ولا يطلق عليه حتى يقدم فيوقف(6/387)
على أن يفيء أو يطلق، وقال ابن الماجشون: لا يعذر به فيطلق عليه ولا ينتظر، وإذا عذر قبلت منه فيئته بالقول عند ابن الماجشون، ولم يؤمر بالكفارة كانت يمينه مما يقدر على حلها عن نفسه بالكفارة أو لا يقدر.
وقال ابن القاسم: إن كانت يمينه مما لا يقدر على حلها عن نفسه قبل الحنث مثل أن تكون يمينه بصيام أو صدقة أو مشي، أو ما أشبه ذلك مما إذا فعله قبل الحنث لم يجزئه ولزمه ذلك مرة أخرى بالحنث قبلت منه فيئته بالقول، ولم يكلف فعل ما لا يجزئه من ذلك كله، وإن كانت يمينه مما لا يقدر على حلها عن نفسه بفعل ما حلف به ظاهرا أو باطنا مثل أن يكون يمينه بعتق عبد بعينيه أو بطلاق امرأة له أخرى، وما أشبه ذلك لم تقبل منه فيئته دون أن يعتق العبد الذي حلف بعتقه أو يطلق المرأة التي حلف بطلاقها دون التي يطلب بها يوجب ذلك عليه، وإذا فعله قبل الحنث أجزأه وسقطت عنه اليمين.
وإن كانت اليمين التي حلف بها بالله فذلك له قولان، أحدهما: أن الفيئة تقبل منه بالقول ولا يكلف أن يكفر؛ إذ لا يدري هل ينوي بالكفارة ذلك اليمين فتكون قد انحلت عنه، أم(6/388)
لا ينوي بها ذلك فتكون باقية عليه، والثاني: أن الفيئة لا تقبل منه حتى يكفر؛ لأن الكفارة في اليمين بالله تجزئ قبل الحنث.
واختلف إن كانت يمينه بعتق عبد بعينه، فحمله في كتاب الظهار من المدونة محمل كفارة اليمين تجزئه عتق رقبة قبل الحنث، والصحيح أنه لا يجزئه ذلك، وقد مضى القول في ذلك في رسم الطلاق من سماع أشهب.
وقوله: فإن كان حلف أن ينكح عليها معناه حلف على ذلك بالطلاق؛ لأنه إنما يدخل عليه الإيلاء إذا كان حلف على ذلك بالطلاق، وإنما قال: إنه يضرب أجل الإيلاء وإن كان مريضا [لأنه إنما ينظر إلى حاله يوم يوقف على أن يفيء أو يطلق بخلاف المعترض على العلة؛ لأن الأجل إنما يضرب ليعالج في طوله الإلمام بأهله، ومن كان مريضا لا يمكنه معالجة ذلك. وقوله حتى رئي أنه مضار بها ظاهره أنه لا يضرب عليه أجل الإيلاء حتى يتبين أنه قصد بترك وطئها الإضرار بها، ومثله لغير ابن القاسم في كتاب الإيلاء من المدونة، ولابن القاسم في كتاب الظهار منها، وظاهر الروايات في غيرها من المواضع خلاف ذلك.
وقوله: فإن انقضى الأجل وهو مريض عذر؛ لأنه لا يقدر على النكاح وهو مريض صحيح؛ لأن فيئته إذا حلف بالطلاق ليفعلن فعلا إنما هو لفعل ما حلف ليفعلنه، فإذا كان مما لا يقدر على فعله وهو مريض أخر حتى يصح ويقدر عليه وبالله التوفيق.
[السلطان يطلق على الرجل في الإيلاء ثلاثا خطأ وجهلا بالأمر]
من سماع محمد بن خالد
قال محمد بن خالد: سألت ابن القاسم عن السلطان يطلق(6/389)
على الرجل في الإيلاء ثلاثا خطأ وجهلا بالأمر، أيلزم ذلك المولي؟
قال: لا يلزمه ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إذ لم يقل أحد من أهل العلم إن الطلاق على المولي ثلاث، وإذا أخطأ الحاكم خطأ لم يختلف فيه، وجب نقضه ويلزم من الثلاثة التي طلق عليه واحدة، وتبطل اثنتان، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق قبل قدوم فلان بشهر]
مسألة من نوازل سئل عنها سحنون بن سعيد
سئل سحنون عمن قال لامرأته: أنت طالق قبل قدوم فلان بشهر.
قال: يوقف عنها ويضرب له أجل الإيلاء إن شاءت المرأة وطالبته بذلك.
قال محمد بن رشد: قد روى عيسى عن ابن القاسم أنها طالق مكانها، وهو أظهر من قول سحنون؛ لأن الطلاق قد لزمه فيما يتيقن إلا أنا لا ندري هل وقع بعد أو لم يقع. واختلف في الذي يشك في طلاق امرأته هل يقضى عليه بذلك أم لا؟ وهذا أشد منه، ووجه قول سحنون أنه لما لم يدر هل وقع عليه الطلاق بعد أو لم يقع لم يجز له أن يطأ حتى يعلم ذلك، ولما لم يجز له الوطء ليمين عقدها على نفسه كان لامرأته أن تطالبه بحقها في الوطء، فيضرب له أجل الإيلاء، كمن حلف بالطلاق ليفعلن فعلا. فإن ضرب له أجل الإيلاء وانقضي الأجل قبل أن يأتي فلان طلق عليه بالإيلاء، فإن أتى فلان بعد انقضاء عدتها بأكثر من شهر لم يقع عليه غير الطلقة التي(6/390)
طلقت بالإيلاء أو بعد أن طلق عليه به. وإن قدم قبل شهر من يوم طلق عليه بالإيلاء أو من يوم انقضت عدتها لزمته طلقة ثانية بما انكشف من أنه قد كانت وقعت عليها طلقة قبل أن يطلق عليه بالإيلاء أو بعد أن طلق عليه به قبل انقضاء عدتها. فإن طلق عليه بالإيلاء فارتجع ولم يأت لم يصح له الوطء، فإن لم يأت حتى انقضت عدتها بطلت رجعته إذا لم يطأ في العدة، وإن قدم فلان قبل أن ينقضي أجل الإيلاء لزمته طلقة ثانية وبطل الإيلاء، وكانت عدتها من هذه الطلقة من يوم وقعت عليها قبل قدوم فلان بشهر، إلا أن يكون وطئها قبل ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال آخر امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة]
مسألة وعمن قال: آخر امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة، قال: يوقف عن وطئها خوفا ألا يتزوج غيرها حتى يموت؛ لأنه إذا مات كانت آخر امرأة تزوجها فلزمه الحنث يوم تزوجها، فيكون قد وطأها بعدما حنث فيها فيوقف عن الوطء حتى يتزوج غيرها. فإذا تزوج غيرها قيل له: طأ الأولى لأن يمينك والحنث قد زال عنك. فإن لم يتزوج وأرادت الأولى الوطء وقالت: هو هذا يقدر على أن يطأ بأن يتزوج أخرى فيجوز له الوطء، فترك ذلك ضررا فإنه يضرب له الحاكم أجل الإيلاء، فإن تزوج قبل تمام الأجل سقطت اليمين عنه، وإن لم يتزوج حتى يمضي الأجل طلق عليه إلا أن يتزوج قبل طلاق السلطان وحكمه. وكذلك الحكم في الثانية حتى يتزوج رابعة، وكذلك الحكم في الرابعة يضرب له فيها أجل الإيلاء إلا أن يموت بعض من عنده أو يطلق فيتزوج، فقس على هذا تصب إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: في المجموعة نحوه، وقال: فإن تزوج امرأة فماتت أوقف ميراثه منها حتى يتزوج ثانية فيأخذه أو يموت قبل أن يتزوج(6/391)
فيرد إلى ورثتها. وإذا طلق عليه بالإيلاء فلا رجعة له لأنه لم يبن بها. قال ابن أبي زيد: ولو وقف عن الأولى فمات قبل أن يبني بها لم يجب له إلا نصف الصداق ولا ميراث له منها ولا عدة عليها للوفاة. ولابن القاسم في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة في الذي يقول لامرأته إنه يتزوج ما شاء ولا شيء عليه؛ لأنه مثل من حرم على نفسه جميع النساء؛ لأنه كلما تزوج امرأة فرق بينه وبينها لأنه لعله تلك امرأة آخر امرأة يتزوجها ولا تستقر معه أبدا امرأة ولا شيء عليه.
وقوله: على قياس روايته عن مالك في المدونة في الذي يقول لامرأته إن لم تكوني حاملا أو إن كنت حاملا فأنت طالق إنها طالق ساعة تكلم بذلك، إذ لا يدرى إن كانت حاملا أم لا، ولا يستأنى بها حتى يعلم ذلك، فكذلك هذه المسألة لما كانت يمين الحالف فيها توجب تعجيل طلاق امرأة ليزوجها، إذ لا يدرى أكانت آخر امرأة يتزوجها أم لا، ويستأنى بها حتى يعلم ذلك، وجب ألا يلزمه شيء من أجل العموم. وقول سحنون فيها على قياس قوله في مسألة مالك إنه يستأنى حتى يعلم أنه حمل أم لا، فإن ماتت قبل أن يتبين إن كان بها حمل أم لا لم يرثها من أجل شكه في طلاقه، وإن مات هو استؤني بها حتى يعلم إن كانت حاملا أم لا فترثه أو لا ترثه. وكذلك يأتي في هذه المسألة على قياس قوله فيها وفي مسألة مالك إن تزوج امرأة فماتت أن يوقف ميراثه منها حتى يتزوج ثانية فيأخذه أو يموت قبل أن يتزوج فيرد إلى ورثتها، وقد قاله ابن الماجشون في المجموعة.
فإن مات هو قبل أن يبني بها فليس لها إلا نصف الصداق ولا ميراث لها منه ولا عدة عليها للوفاة، قاله ابن أبي زيد على قياس قول ابن الماجشون وسحنون. وقد اعترض ابن دحون قول سحنون هذا بأنه قال: إذا وقف عن وطء الأولى ثم تزوج لم يكن له أن يطأ الأولى حتى يطأ الثانية؛ لأنه بمنزلة من قال: أنت طالق إن لم أتزوج عليك، فبالوطء بعد النكاح يبر، وليس له وطء الثانية لأنا لا ندري لعلها آخر امرأة يتزوجها فهو ممنوع من وطء الأولى حتى يطأ الثانية وممنوع من وطء الثانية حتى يطأ الثالثة، وكذلك الحكم في الرابعة والثالثة فلا يتم له وطء البتة، وهو اعتراض غير صحيح وهن فيه الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - على رسوخ علمه وثاقب فهمه، وليس أحد بمعصوم من(6/392)
الخطأ إلا من عصمه الله؛ لأن المسألة ليست بمنزلة من قال: أنت طالق إن لم أتزوج عليك كما قال، فلا يبر إلا بالدخول، وإنما هو بمنزلة من قال: إن تزوجت عليك فهي طالق إن لم أتزوج عليك؛ لأنه لم يطلق إلا الثانية لا الأولى، فوجب أن يطلق بأقل ما يقع عليه اسم زواج، وهو العقد على ما قالوا بأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، والبر، لا يكون إلا بأكمل الوجوه وبالله التوفيق.
[مسألة: جعل أمر امرأته بيد رجل غائب]
مسألة وسئل عن رجل جعل أمر امرأته بيد رجل غائب.
قال: يعزل عن امرأته ولا يطأ فإن رفعت امرأته أمرها إلى السلطان ضرب له أجل المولى، فإن حل الأجل ولم يختبر ما عند الرجل الذي جعل أمر امرأته بيده طلق عليه السلطان، فإن ارتجع فذلك له، فإن علم أن الرجل أبى أن يطلق امرأته كانت رجعة ثابتة، وإن طلق عليه كانت طلقة أخرى وقعت عليه؛ لأنه كأنه أردف طلاقا على طلاق أيضا في ذلك الرجعة إن أحب ذلك ولم يجتزئ برجعة الأولى الذي طلق عليه الذي ملكه أمرها، وإن انقضت عدتها من طلاق الإيلاء قبل أن يعلم ما صنع الرجل المملك في أمرها فقد بانت منه وتكون أملك بنفسها.
قال محمد بن رشد: قد روي عن مالك مثل قول سحنون هذا، وحكاه ابن المواز عن ابن القاسم، والمعنى فيه بين، وإنما قال: إنه يعزل عن امرأته ولا يطأ من أجل أنه لا يجوز له أن يطأ امرأة قد جعل طلاقها بيد غيره حتى يعلم ما عنده، فيطلق أو يرد، ولما كان الامتناع من الوطء بسببه دخل عليه الإيلاء إن طلبت المرأة المسيس، وفيئته في هذا الإيلاء هي أن يعلم ما عند الرجل فيطلق أو يرد، لا يسقط عنه الإيلاء ولا تصح له الرجعة إذا طلق عليه به إلا بذلك، فإن طلق عليه بالإيلاء فارتجع ولم يعلم ما صنع الرجل المملك في أمرها حتى انقضت العدة بانت منه، كما لو لم يرتجع، وإن أبى أن يطلق(6/393)
عليه وهو في العدة صحت رجعته وكانت كرجعة غير المولى، وإن طلق عليه كانت طلقة ثانية وارتجع إن شاء كما يرتجع غير المولي، رجعة تصح له بالقول دون اعتبار وطء أو فيئة، إذ قد سقط حكم الإيلاء.
وقد حكى ابن المواز عن ابن القاسم أيضا أن الأمر يرجع إليها في البعيد الغيبة، ولم يأخذ به لأنه بعيد أن يرجع بيدها ما جعل الزوج بيد غيرها [وإنما يرجع بيدها لا بيد غيرها] إذا كانت هي مملكة على ما مضى في رسم يوصي من كتاب التخيير والتمليك والله الموفق.
[المولي إذا ضرب له أجل المولي ففقد عند الأجل أو جن جنونا مطبقا]
من نوازل سئل عنها أصبغ
وسئل أصبغ عن المولي إذا ضرب له أجل المولي ففقد عند الأجل، أو جن جنونا مطبقا، أو أراد أن يسافر قبل الأجل سفرا بعيدا لا يرجع منه للأجل.
فقال: أما المفقود الذي قد استخبر عن خبره وطلب حتى بلغ ما يبلغ من المفقود الذي يجوز أن يضرب لامرأته أجل فإن الإيلاء عندي منفسخ، ويرجع إلى أجل المفقود، ولا يطلق عليه إلا بالإيلاء فإنا نخشى أن يكون في حين الطلاق عليه ميتا، فلا يطلق على ميت، والإيلاء لا يجب الطلاق فيه إلا بالتوقيف، فقد انقطع التوقيف في هذه الغيبة.
وأما المجنون المطبق فإن السلطان يوكل عليه من يكون ناظرا له في أمره، فإن رأى له ألا يفيء وأن يطلق عليه فعل، ولزمه ذلك، وإن رأى أن يفيء عنه أن يكفر عنه إن كانت(6/394)
يمينه تمنعه من الوطء أو يعتق عنه إن كانت يمينه بعتق رقبة فعل ذلك، وأقره مع امرأته، وجاز عليه جميع ما فعل.
قلت: إن كانت يمينه والله لا أطأك فوطأها في جنونه هذا، أترى ذلك وطأ فيه؟
قال: نعم يفيء بذلك، ويكفر وليه يمينه إن كان حلفه في صحته ويخلي بينه وبين وطئها في جنونه إلا أن يكون مؤذيا فيمنع منها.
قلت: فلو كانت يمينه أن قال: أنت طالق إن وطئتك إلا في بلد كذا وكذا أو حتى أغزو فقال وليه: أنا ألزمه هذه الطلقة ويطأ امرأته ويترك معها، أو قال: أنا أسافر به إلى البلدة أو أغزو به ثم أرده فيطأ ولا يطلق عليه؟
قال: إن رأى ذلك خيرا له فعل، وجاز عليه.
قلت: ويحنث المجنون في يمين حلفها في الصحة بوطء يطأه في جنونه؟
قال: نعم لأني أعد وطئه وطأ.
قلت: ولم لا يسقط عنه الإيلاء لما حل به من جنونه ويعذر به؟
فقال: بل ألزمه الحنث في يمينه فيكفر عنه ولا أعذره في تركه المسيس لأن الوطء فيه قائم، وإنما العذر بغيره ليس به ولا بذهابه، ألا ترى أن المسجون إذا حلف ألا يطأ لا يعذر بأن يقول:(6/395)
أطأ إذا خرجت من السجن حتى يحنث نفسه الساعة بأن يكفر فيخرج من الإيلاء ويعذر في ترك الوطء بالسجن، فهذا مثله وهو يبينه إن شاء الله.
وأما المسافر الذي يريد سفرا بعيدا فيقال له أقم مكانك أو وكل وكيلا إذا حل الأجل يفيء لك أو يطلق عليه، فإذا حل الأجل فقال الوكيل: أنا أفي عنه، قيل له: إن فيئتك أن تكفر عنه الساعة، ويكون معذورا في ترك المسيس، بمنزلة المسجون إذا قال: أنا أفئ لم يكن ذلك له إلا أن يصدق فيئته بالكفارة.
وسئل (ابن القاسم) عن المولي يريد سفرا قبل الأربعة الأشهر بيومين أو ثلاثة، هل يمنع من الخروج حتى يوقف؟
قال: أرى أن طلبت امرأته ذلك ورفعته إلى السلطان رأيت للسلطان أن يتقدم إليه لئلا يبرح حتى يبلغ الكتاب أجله فيوقف فيفيء أو يطلق، فإن أبى أعلمه أنه مطلق عليه إن خرج، فإن خرج رأيت إن رفعت امرأته أمرها أن يطلق عليه ولا يستأنى، وإن لم ترفع أمرها حتى خرج لم أر أن يطلق عليه حتى يكتب إلى الموضع الذي هو به، فأما وفى وإما طلق عليه، وقال ابن كنانة: إذا كان مقرا بالإيلاء غير منكر له ولا متكلم فيه، فليس عليه أن يحبس عن سفره، فإذا حل عليه أجل طلق الإمام، وإن كان منكرا له والمرأة تدعى ذلك رأيت أن يحبس حتى ينافذها.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ إن المولى إذا فقد عند أجل الإيلاء أن الإيلاء ينفسخ ولا يطلق عليه به، ويرجع إلى أجل المفقود صحيح على أصل ابن القاسم ومذهبه في أن المولى إذا حل عليه أجل الإيلاء وهو غائب يعذر بمغيبة ولا يطلق عليه حتى يكتب إليه في موضعه الذي هو فيه فتوقف على الفيئة أو الطلاق، فإذا اتصل مغيبة حتى لم يعلم(6/396)
مغيبه وغاب أثره وجب أن يرجع في أمره إلى حكم المفقود، وأما على مذهب ابن الماجشون الذي لا يعذره بالمغيب فإنه يطلق عليه إذا انقضى الأجل علم موضعه أو لم يعلم، قربت غيبته أو بعدت كان مفقودا أو غير مفقود؛ لأن حكم الإيلاء قد لزمه عنده، فلا يزاد فيه أكثر مما فرضه الله تعالى.
وأما قوله في الذي جن جنونا مطبقا عند الأجل إن السلطان يوكل عليه من يكون ناظرا له في أمره، فإن رأى له ألا يفيء وأن يطلق عليه فعل ولزمه ذلك، وإن رأى أن يفيء عنه فيكفر عنه إن كانت يمينه بعتق رقبة فعل، وأقر مع امرأته، وجاز عليه جميع ما فعل، ففي ذلك من قوله نظر إذ إنما يصح للوكيل أن يفيء عنه فيكفر عنه إذا كانت يمينه بعتق عبد بعينه أو صدقة شيء بعينه أو طلاق امرأة له أخرى وما أشبه ذلك؛ لأن الوكيل إذا أعتق ذلك العبد أو تصدق بذلك الشيء أو طلق تلك المرأة سقطت اليمين عنه وارتفع الإيلاء كما لو مات ذلك العبد أو ماتت تلك المرأة أو ملك ذلك الشيء الذي حلف بصدقته.
وأما إن كانت يمينه بمشي أو صيام أو صدقة شيء في ذمته ليس بعينه وما أشبه ذلك فلا يصح له أن يفيء عنه بشيء من ذلك؛ لأنه هو لو مشى عن نفسه أو صام أو تصدق عن يمينه قبل أن يحنث لم ينتفع بذلك، ولا انحلت به عنه اليمين، وكان عليه إن حنث أن يمشي مرة أخرى أو يصوم أو يتصدق، فالوكيل بمنزلة، بل هو أضعف مرتبة وحالا، إذ لا يصوم أحد عن أحد، ولا يمشي أحد عن أحد، ولو تصدق الوكيل عنه ليحل اليمين عنه لوجب عليه الضمان إذ أتلف عليه ماله فيما لا منفعة فيه، وكذلك إن كانت يمينه بالله فكفر عنه لا ينتفع بذلك ولا تنحل به عن اليمين؛ لأن الكفارة لا تكون إلا بنية، فلا يصح أن يكفر عنه بغير إذنه إلا على قياس أحد قولي ابن القاسم فيمن أعتق عبدا من عبيده عن رجل عن ظهاره بغير إذنه فرضي لما بلغه أن ذلك يجزيه، وهو قول ضعيف خارج عن الأصول،(6/397)
والقول الآخر هو الصواب أن ذلك لا يجزيه، وهذا كله على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وهو المشهور في المذهب، وأما على مذهب ابن الماجشون فلا يوكل عليه من يفيء عنه إذ لا يؤمر وليه أن يكفر عنه على حال، كما لا يؤمر هو أن يكفر عن نفسه إذا كان مريضا؛ لأن فيئته عنده إنما هي الجماع لا غير.
وأما قوله: إذا كانت يمينه بالله فوطأها في جنونه أنه إن وطأها فيه لحنث به، ويكفر عنه وليه يمينه إن كان حلفه في حال صحته، فهو قول ضعيف؛ لأن فعله في حال الجنون كلا فعل، فإذا وطأ في حال جنونه وجب ألا يحنث بذلك ولا يجب عليه به عليه الكفارة، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاث فذكر فيهم المجنون حتى يفيق» ، ويكون ذلك مسقطا لحق زوجته في توقيفه حتى يمر به أربعة أشهر من يوم وطئها؛ لأنها قد نالت بوطئه إياها في جنونه ما ينال بوطئه إياها في صحته، وما تمادى به الجنون فلا توقيف فيه بحال.
ووجه قوله أنه رأى أنه لا يطأ إلا ومعه بقية من عقله فأشبه السكران عنده على مذهب من يرى أنه يلزمه الأفعال ولا يلزمه الأقوال.
وأما قوله: قلت: فلو كانت يمينه أن قال: أنت طالق إلا إن وطئتك إلا في بلد كذا وكذا أو حتى أغزو فقال وليه: أنا ألزمه هذه الطلقة ويطأ امرأته ويترك معها أو قال: أنا أسافر به إلى البلدة أو أغزو به ثم أرده فيطأ ولا يطلق عليه فقال: إن رأى ذلك خيرا له فعل، وجاز عليه، فلا يستقيم إذ لا منفعة له في إلزامه الطلقة في هذا؛ لأنها يمين هو فيها على بر، ولا اختلاف في أن من قال: امرأتي طالق إن فعلت كذا لا منفعة له في أن يقدم الطلاق قبل الحنث؛ لأن الطلاق يلزمه ثانية إن فعل ذلك الفعل وامرأته تحته على شيء من بقية طلاق ذلك المملك، وكذلك غزوه وسفره به لا منفعة له فيه إذ لم يسافر هو ولا غزا باختياره إلا أنه على أصله في تحنيثه بوطئه، وقد ذكرنا وجه قوله في ذلك.
وأما قوله بعد ذلك: إن الإيلاء لا يسقط عنه لما حل به من جنونه ولا(6/398)
يعذر في تركه المسيس لأن الوطء فيه قائم فمعناه أنه لا يسقط حق المرأة في ذلك ويكون لها القيام عليه في ذلك، فينزل وليه منزلته فيما يؤمر به من الكفارة.
وأما قوله: لأن الوطء فيه قائم، معناه لأن الوطء منه ممكن إن صح من جنونه، ويدل على هذا التأويل تنظيره إياه بالمولى يحل أجل إيلائه وهو مسجون أنه لا يعذر بأن يقول: أطأ إذا خرجت حتى يحنث نفسه الساعة بأن يكفر، وفي هذا في المدونة قولان إذا كانت يمينه بالله، وقد مضى هذا المعنى في أول سماع ابن القاسم وفي رسم الصلاة من سماع يحيى وغير ذلك من المواضع.
وأما قوله في الذي يريد سفرا بعيدا إنه يقول له: أقم مكانك أو وكل وكيلا إذا حل الأجل يفيء لك أو يطلق عليك ففيه نظر إذ لا يصح للوكيل أن يفيء عنه إلا بالعتق بعينيه والصدقة بشيء بعينيه وما أشبه ذلك حسبما تقدم في أول المسألة، وهو خلاف قول ابن القاسم لأنه لا يرى في ذلك وكيلا يؤمر له، وإنما يقال له: إما أن تقيم وإما أن تخرج فيطلق عليه إن لم يقدم للأجل، وإن خرج ولم يتقدم إليه لم يطلق عليه حتى يكتب إليه هذا مذهب ابن القاسم، وابن كنانة يرى أن يطلق عليه إذا حل الإيلاء وهو غائب وإن لم يتقدم إليه، ولا يلزمه عنده أن يتقدم إليه ولا يحبس عن سفره، وهو مذهب ابن الماجشون.
وأما إذا كان منكرا للإيلاء والمرأة تدعيه فلا اختلاف في أنه يحبس عن سفره حتى ينابذها في ذلك كما قال ابن كنانة والله أعلم.
[مسألة: يحلف لامرأته ألا يطأها إلا أن تطلب إليه ذلك فتأبى المرأة أن تطلب ذلك إليه]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل يحلف لامرأته ألا يطأها إلا أن(6/399)
تطلب إليه ذلك فتأبى المرأة أن تطلب ذلك إليه، فيكون موليا.
قال سحنون: الحق لها فليس عليه الإيلاء ما لم تطلبه وإن أقام أكثر من أربعة أشهر.
قال محمد بن رشد: في كتاب ابن سحنون، قلت له: قد قيل: إنه مولى ولا يكون قيامها به سؤالا حتى تسأله، فعابه وقال: منع الوطء بسببها، وهو قول له وجه؛ لأنه متعدي في حلفه ألا يطأها حتى تسأله ذلك؛ لأن المرأة تستحي أن تفصح بطلب ذلك، وقد تزوجته على ذلك فلا ينبغي أن تلزم المشقة بالإفصاح بطلبه وقد قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] فعم ولم يخص.
وأما من قال: إن وطئتك فأنت طالق إلا أن تأتيني فهو مولى إذ ليس عليها أن تأتيه روي ذلك عن مالك، وهو صحيح، والحجة في ذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأتي أزواجه في بيوتهن وبالله التوفيق.
[يقول لامرأته إن وطئتك أبدا فكل عبد اشتريته بمصر أنه حر]
من سماع أبي زيد من ابن القاسم قال ابن أبي زيد: وسئل عن الرجل يقول لامرأته: إن وطئتك أبدا فكل عبد اشتريته بمصر أنه حر أنه ليس بمولي.
قال محمد بن رشد: قد قال ابن القاسم: إنه مولي، والقولان في المدونة في هذه المسألة وفي ما كان من معناها لا يلزم الحالف بالحنث فيه شيء، وإنما ينعقد عليه فيه حكمه مثل أن يحلف ألا يطأ امرأته في السنة إلا مرة أو ألا يطأ إحدى امرأتيه ولا نية له، أو يقول: إن وطئت امرأتي فهي علي كظهر أمي، أو إن وطئتها فوالله لا أطؤها على مذهب من يقول(6/400)
في الحالف بالطلاق ثلاثا ألا يطأ، أنه يمكن من الوطء وما أشبه ذلك من المسائل، وبالله التوفيق.
[مسألة: تحته أمتان فتآلا منهما ثم اشترى إحداهما]
مسألة قال ابن القاسم في رجل تحته أمتان فتآلا منهما ثم اشترى إحداهما، فقال: يقع عليه إيلاء التي اشترى.
قال محمد بن رشد: قوله يقع عليه إيلاء التي اشترى، معناه يقع عنه أي يسقط عنه إذ لا حق للأمة من ملك اليمين في الوطء على سيدها فيلزمه الإيلاء فيها، ويدل على أن الإيلاء لا يكون إلا في الزوجات أيضا قول الله عز وجل: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] .
تم كتاب الإيلاء بحمد الله وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.(6/401)
[كتاب اللعان]
[الملاعنة تلد توأما غلامين في بطن واحد فيهلك أحدهما ويترك مالا]
[كتاب اللعان](6/403)
من سماع عبد الرحمن بن القاسم
من مالك بن أنس - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك، قال: سمعت مالكا يقول في الملاعنة تلد توأما: غلامين في بطن واحد فيهلك أحدهما ويترك مالا [فبأي شيء] ترى أن يتوارثا؟ أبوراثة الأخوة للأم أم الأخوة للأب.
قال: بل لوراثة الأب، وليس هو عندي كذلك الزنا؛ لأن ذلك لا أب له، ولأن هذا لو قال له أحد: ليس أبوك فلان جلد الحد، فأرى أن يتوارثا بوراثة الأب.
قال محمد بن رشد: الأتوام الذين لا يعرف آباؤهم أربعة، أتوام الزانية وأتوام المسبية والمستأمنة، وأتوام الملاعنة، وأتوام المغتصبة.
فأتوام الزانية يتوارثان من قبل الأم خاصة.
وأتوام المسبية والمستأمنة يتوارثان من قبل الأب والأم، واختلف في أتوام الملاعنة والمغتصبة، فالاستحسان في أتوام الملاعنة أنهم يتوارثان من قبل الأم والأب؛ لأن الفراش لهما معروف، ولو استلحقهما الأب للحقا به، وهو قول مالك في هذه الرواية، والقياس فيهم أنهم لا يتوارثون إلا من قبل الأم؛ لأن نسبهما من الأب منقطع وهو قول المغيرة وابن دينار، وكذلك القياس في أتوام المغتصبة ألا يتوارثان إلا من(6/405)
قبل الأم؛ لأن نسبهما من الأب منقطع، وإذ لا فراش لهما، ولو استلحقهما الغاصب لم يلحقا به وهو قول أصبغ، وقيل: إنهم يتوارثون من قبل الأم والأب استحسانا من أجل درء الحد عنهما وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب الاستلحاق فيه وفيه ضعف وإنما كان القياس فيهما ألا يتوارثا ألا من قبل الأم على الأصل؛ لأنه لا ميراث لابن الزنا من أبيه وإن عرف أنه أبوه بما ثبت من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وهو قول مالك في هذه الرواية، أن ولد الزنا لا أب له، يريد أنه لا أب ينتسب إليه ولوارثه على حال إذ قد عرف أن له أبا؛ لأن جميع البشر لهم أب إلا: عيسى ابن مريم وآدم وحواء وأما من ذهب إلى أنه إنما لم يورث ابن الزنا من أبيه من أجل أنه لا يعرف أنه أبوه إذ لا فراش له، وأنه لو عرف لورثه، وأنه لو استلحقه لحق به، بدليل إجماعهم أنه يرث أمه وترثه، وهو مذهب أبي حنيفة والنخعي وإسحاق بن راهويه فالأتوام كلهم كيف ما كانوا يتوارثون من قبل الأب والأم، إذ قد علم أنهم لأب واحد، كما أنهم لأم واحدة، وإلى هذا ذهب ابن نافع، فقد روى عنه أن أتوام الزانية يتوارثون من قبل الأم والأب وبالله التوفيق.
[مسألة: يغيب عن أهله ثم يقدم وقد ماتت امرأته وتركت ولدا كان بعده، فأنكره]
مسألة كتاب قطع الشجر قال مالك في الرجل يغيب عن أهله ثم يقدم وقد ماتت امرأته وتركت ولدا كان بعده، فأنكره، أنه يلتعن ويبرأ من الولد، ويكون له من الميراث من امرأته التي لاعن.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون، قال في سؤاله وادعى الاستبراء وزاد قال: وقال إذا جاء كنت(6/406)
رأيتها تزني وأراد أن يلتعن فليس ذلك له ويحد، وهو كمن رمى امرأة طلقها، وكذلك في كتاب ابن المواز ولا اختلاف في أن له أن يلاعن إذا نفى الحمل وادعى الاستبراء واختلف إذا نفاه ولم يدع الاستبراء. على قولين هما في المدونة.
وقوله: إن لها الميراث صحيح لأنها زوجة ما لم تلتعن هي بعده، وهو قول ربيعة ومطرف واختيار ابن حبيب، وقيل: ما لم يلاعن الزوج، وهو ظاهر قول مالك في موطأه ومذهب الشافعي وقول عبد الله بن عمرو بن العاص في المدونة، وقيل: إن الفرقة تجب بلعان الزوج إن التعنت المرأة وهو مذهبه في المدونة لأنه قال فيها: إن التعن هو فماتت هي قبل أن يلتعن ورثها، وإن مات هو ورثته إن لم تلاعن وبالله التوفيق.
[مسألة: دخل بامرأة ثم طلقها وادعى أنه لم يمسها وصدقته ثم ظهر بها حمل]
مسألة وقال مالك فيمن دخل بامرأة ثم طلقها، وادعى أنه لم يمسها وصدقته، ثم ظهر بها حمل فادعت أنه منه وأقر بذلك: إنه يكمل لها الصداق ويلحق به الولد وتكون به الرجعة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، قال: إنه يكمل لها الصداق، لإقراره بما ادعت من أن الحمل منه، وقال: إنه تكون له الرجعة من أجل أنها في عدة منه حتى تضع حملها، لقول الله عز وجل: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ولا يتهم على أنه أقر بالحمل ليكون له الرجعة لأن إلحاق النسب يدفع التهمة.
ولو مات فظهر الحمل بها بعد موته فزعمت أنه منه للحق به الولد أيضا ولم يكن لها ميراث ولا أكثر من نصف الصداق، وقد قيل لها الميراث إن كان مات قبل انقضاء العدة، ولها جميع الصداق، وقد مضى ذلك في رسم لم يدرك من سماع عيسى من كتاب النكاح والحمد الله.(6/407)
[العبد يلاعن الحرة ثم يكذب نفسه فيلحق به الولد كم يحد]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك
من كتاب الطلاق قال سحنون: وقال أشهب وابن نافع: سئل مالك عن العبد يلاعن الحرة ثم يكذب نفسه فيلحق به الولد كم يحد؟ قال: الحد أربعين، قيل له: أرأيت إن كانت امرأته أمة فلاعنها ثم أكذب نفسه فألحق به الولد أعليه حد؟ قال: ليس عليه شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: إن العبد يحد أربعين إذا لاعن زوجته الحرة ثم أكذب نفسه صحيح على مذهبه في أن حد العبد في الفرية نصف حد الحر قياسا على حد الزنا وهو قول جماعة فقهاء الأمصار، وروي عن ابن مسعود أن حده ثمانون، وهو القياس لأن النصراني إذا كان يحد في الفرية ثمانين ولا ينقص من ذلك شيئا لنقصان مرتبته عن مرتبة الحر، لما تعلق في ذلك من الحق للمقذوف، فكذلك العبد، وهو قول عمر بن عبد العزيز في الموطأ.
وقوله: إذا كانت زوجته أمة إنه لا شيء عليه، معناه من الحد وإنما عليه الأدب لإذايته إياها بما نسب إليها وكذب فيه عليها.
[مسألة: يقول زنت امرأته فيقال له أرأيت ذلك فيأبى أن يقول نعم ويمضي على اللعان]
مسألة وسئل عن الذي يقول زنت امرأته، فيقال له: أرأيت ذلك؟ فيأبى أن يقول نعم، ويمضي على اللعان، فله أن يلاعن؟ فقال: إنما يجب اللعان بأحد وجهين، يقول قد استبرأت أو يقول قد رأيت.
قيل له: فالأعمى يلاعن؟ قال: الأعمى يلاعن، يقول: قد سمعت الحس وليس هذا مثله، وقد قال في أول الكتاب: لا(6/408)
يكون اللعان إلا ببيان رأيتها تزني.
قال محمد بن رشد: قوله إنما يجب اللعان بأحد وجهين، يقول قد استبرأت يريد في نفي الحمل، أو يقول قد رأيت، وهو أحد قولي مالك في المدونة، وله فيها قول آخر أنه إذا قذف أو نفى حملا لم يكن مقرا به لاعن ولم يسأل شيئا.
وتحصيل هذه المسألة أن اللعان على ستة أوجه ثلاثة منها متفق عليها، وثلاثة مختلف فيها.
فالمتفق عليها أن ينفي حملا لم يكن مقرا به ويدعي الاستبراء، وأن يدعي رؤية لا مسيس بعدها في غير ظاهرة الحمل، وأن ينكر الوطء فيقول: ما وطئتها قط أو منذ وضعت أو منذ مدة كذا لما لا يلحق إلى مثله الأنساب.
والمختلف فيها أن يقذف زوجته ولا يدعي رؤية، وأن ينفي حملا ولا يدعي الاستبراء، وأن يدعي رؤية لا مسيس بعدها في حامل بينة الحمل لأن ابن الجلاب حكى عن مالك فيها ثلاث روايات، إيجاب الحد ولا لعان، وثبوت النسب، وإيجاب اللعان وسقوط النسب به.
وقوله: إن الأعمى يلاعن وإن لم تصح منه الرؤية صحيح مثل ما في المدونة؛ لأن العلم قد يقع له من غير طريق الرؤية من جس وحس وما أشبه ذلك، وعلى هذا القول فإن القاذف لزوجته يحد ولا يلاعن، وأما على القول بأنه يلاعن إذا قذف فالأعمى والبصير في ذلك سواء.
[مسألة: الملاعن أيرضى منه بأن يقول رأيتها تزني أم يوقف على ذلك كما يوقف الشهود]
مسألة وسئل عن الملاعن أيرضى منه بأن يقول رأيتها تزني أم(6/409)
يوقف على ذلك كما يوقف الشهود؟ .
فقال: كنت أرى أن يوقف على ذلك حتى يقول كما يقول الشهود.
قال محمد بن رشد: قد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يكشف عن ذلك كما يكشف الشهود، وجه القول الأول أن الله قد سماه شاهدا فوجب أن يكون عليه في ادعائه الرؤية ما يكون على الشاهد، ووجه القول الآخر، أنه ليس بشاهد على الحقيقة؛ لأنه لا يشهد أحد لنفسه، ونما سماه الله شاهدا من ناحية المشاهدة بالعين والقلب، فالمعنى في ذلك حصول العلم ألم تر أن مالكا قد قال في أحد أقواله: إن من قذف زوجته يلاعن وإن لم يدع رؤية، فإن كان قد قيل إنه يلاعن وإن لم يدع رؤية فكشفه عن صفة الرؤية إذا ادعاها إغراق والله أعلم.
[مسألة: ملاعنة العبد أهي مثل ملاعنة الحر يشهد خمس مرات]
مسألة وسئل عن ملاعنة العبد أهي مثل ملاعنة الحر؟ يشهد خمس مرات؟ .
قال: نعم في رأيي مثل لعان الحر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ، الآية ولم يخص في ذلك حرا من عبد، فوجب أن يستوي في ذلك الحر والعبد.
[مسألة: لعان العبد والأمة]
مسألة وسألته عن لعان العبد والأمة.(6/410)
فقال: أربع مثل لعان الحرة، فإنه لا يجب عليه الحد ألا بأربعة شهداء.
قال محمد بن رشد: اعتبار مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عدد أيمان العبد في ملاعنة الأمة بعدد الشهود الذين يقام عليها بهم الحد اعتبار صحيح؛ لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ، وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] ، فدل ذلك على أن الله تعالى جعل كل يمين من لعان الزوج بإزاء شهادة كل شاهد يشهد على محصنة بالزنا وعلى أن آية اللعان على عمومها في جميع الأزواج والزوجات أحرارا كانوا أو عبيدا وبالله التوفيق.
[يلاعن امرأته وهي حامل فيمكث سنين ثم يكذب نفسه ويدعي الولد]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب إن خرجت من هذه الدار قال عيسى: سئل ابن القاسم عن الرجل يلاعن امرأته وهي حامل فيمكث سنين ثم يكذب نفسه ويدعي الولد، هل عليه نفقتها الذي حملت فيه الولد؟ .
قال: إن كان يوم حملها موسرا مثله ينفق فالنفقة لها لازمة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، ومثله في المدونة، وزاد فيها: وإن كان في بعض الحمل موسرا وفي بعضه معسرا لزمه ما كان فيه موسرا وسقط عنه ما كان فيه معسرا، وزاد في كتاب ابن المواز: وعليه أيضا أجر الرضاع ونفقته بعد ذلك إن كان مليا، وبالله التوفيق.(6/411)
[ينفي حمل المرأة التي لم يدخل بها]
ومن كتاب باع امرأته قلت: فالرجل ينفي حمل المرأة التي لم يدخل بها؟ .
قال: يلتعنان، قلت: فإن التعن فأبت أن تلتعن؟ قال: تضرب مائة وإذا نكلت عن اللعان أو صدقته بإقرار وتقيم تحته كما كانت وتبرأ من الحمل وتكون امرأته بحالها فلا شيء عليه.
[قلت: فالنصرانية تكون تحت المسلم فينتفي من حملها فيلتعن فتأبى أن تلتعن؟ قال: يبرأ من الحمل] .
قال محمد بن رشد: قوله في الذي ينفي حمل المرأة التي لم يدخل فيها إنهما يلتعنان، يريد وينفي الولد عن نفسه، ومعناه إذا كان ما ادعت امرأته من أنه كان يغشاها قبل أن يدخل بها يمكن وقد جاءت بالولد لستة أشهر فأكثر من يوم تزوجها، ولها نصف الصداق ولا سكنى عليه ولا متعة، قاله في المدونة، فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر أو ظهر بها حمل في أيام لا يشك أن الحمل قبل العقد، فلا صداق لها ولا لعان فيها، فإن لاعن قبل أن يوضع الحمل فأتت به لأقل من ستة أشهر لم يكن لها من الصداق شيء ولم يحرم عليه نكاحها بالتعانهما؛ لأنها كانت غير زوجة، قاله ابن الماجشون ومحمد ابن المواز، وهو بين في المعنى.
وقوله: إنه إذا التعن وأبت أن تلتعن تضرب مائة وتقيم تحته كما كانت بمنزلة النصرانية تنكل عن اللعان [خلاف قول سحنون في نوازله إن ملاعنته إياها ونكولها عن اللعان قطع للعصمة، وقول ابن القاسم هو الصحيح على قولهم إن العصمة لا تنقطع بين الزوجين إلا بتمام اللعان من المرأة إذ لا فرق على هذين القولين بين أن تنكل عن اللعان بعد لعان(6/412)
الزوج أو تصدقه قبل اللعان] على أن الولد [ليس] منه، ولا اختلاف بينهم إذا صدقته أنها تحد وتكون زوجته إن شاء طلق وإن شاء أمسك، كذلك قال هاهنا وفي كتاب الرجم من المدونة، وإنما اختلفوا هل ينتفي الولد منه دون لعان أو لا ينفيه إلا بلعان، وقد أنكر أبو بكر بن محمد قول سحنون لمخالفته الأصول، وبالله التوفيق.
[غاب عن امرأته عشر سنين أو أكثر فوجدها قد ولدت أولادا فأنكر الأولاد]
ومن كتاب الرهون وقال في رجل غاب عن امرأته عشر سنين أو أكثر فوجدها قد ولدت أولادا فأنكر الأولاد، وقالت المرأة: هم منك كنت تأتيني سرا. إنه لا يبريه من ولدها ومن الحد إلا أن يلتعن.
قيل: فإن قذف أحد من ولدها قبل أن يقدم أبوه، قال:
يجلد الحد إذا قال له: ليس أبوك فلان أو قال له: يا ابن زانية أو يا ابن الزانية إنه يضرب الحد، وإنما قذفه من قبل أن يقوم أبوه فيما يلزم من قذفه، بمنزلة ما لو قذف بعد أن يلتعن أبوه ويبرأ منه يلزمه في ذلك ما كان يلزمه في هذا [قال: وإن مات قبل أن يقدم أبوه ألحق به الولد وحد كل من قذفه وورثوه] .
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يبريه من ولدها ومن الحد إلا أن يلتعن، معناه إذا كان ما ادعت المرأة من أنه كان يأتيها في مغيبه سرا يمكن على ما قال في المدونة في الذي ينفي حمل امرأته قبل الدخول وتدعي أنه منه وأنه كان يغشاها في أهلها وقد ذكرنا ذلك في رسم جاع.
ولو قدم بعد الغيبة الطويلة وقد ماتت المرأة فنفى ولدها لالتعن إذا كان لم يعلم به قبل ذلك، وورثها، قاله ابن القاسم في المدونة ومعناه(6/413)
إذا أمكن أن يكون الولد منه والله أعلم.
وأما لو علم مغيبه بالبينة العادلة في الأرض النائية المدة الطويلة التي لا يحلق في مثلها الأنساب فأنكر الأولاد لوجب أن لا يلحقوا به وأن تحد لما تبين من كذبها فيما ادعته والله أعلم، وفي كتاب ابن سحنون لأشهب أن الغائب إذا قدم فوجد ولدا فقال: هذا ليس ابني ولا ابنك أنه يحلف ما أراد قذفا ولا شيء عليه إلا أن يريد لعانا فيمكن من ذلك.
[مسألة: يغيب عن امرأته سنين فتلد ولدا فتقول المرأة ليس هو من زوجي]
مسألة وقال في الرجل يغيب عن امرأته سنين فتلد ولدا فتقول المرأة: ليس هو من زوجي ولا هو من رجل آخر، ثم يموت زوجها قبل أن يقدم: إنه يقام على المرأة الحد إذا أقامت على ذلك ولا تبن عنه ولا ينفي ذلك ولدها ومن نفى ولدها من أبيه كان عليه الحد وورث أباه.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا أمكن أن يكون الولد منه على ما ذكرناه في المسألة التي فوقها والله أعلم.
[تزوج أمة وشرط أن ولده منها حر ثم لاعنها]
ومن كتاب يدير ماله وسئل عن رجل تزوج أمة وشرط أن ولده منها حر، إن الولد حر، قيل: فإن لاعنها؟ قال: هو حر، وإن لاعنها، قيل: فإن صدقته فيما قال فأقرت بالزنا وقالت: ليس ولده؟ قال: فهو رقيق إذا صدقته إلا أن يستلحقه يوما، فإن استلحقه يوما ما لحق به ولم ينظر في قولها إنه ليس ولده إذا زعم أنه ولده ويعتق إذا استلحقه.(6/414)
[مسألة: لاعنها ونفى الولد عن نفسه]
مسألة قال القاضي: لما كان إذا لاعنها ونفى الولد عن نفسه يجلد الحد من نفاه عنه وجب أن يكون حرا بهذه الشبهة. وأما إذا صدقته بما قال فقد انتفى منه بكل حال، وكان ولد زنا لا حد على من نفاه عنه فلم تكن له شبهة يعتق بها ما لم يستلحقه أبوه وبالله التوفيق.
[يطلق امرأته البتة ثم يزعم أنه رآها تزني بعد طلاقه إياها أيلاعن]
ومن كتاب يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الصبرة قال يحيى: وسألته عن الرجل يطلق امرأته البتة ثم يزعم أنه رآها تزني بعد طلاقه إياها أيلاعن أم يكون بما ادعى من الرؤية قاذفا؟ .
فقال: أما ما كانت في عدتها فيلاعن بما ادعى من الرؤية، فإذا انقضت عدتها فادعى أنه رآها تزني كان قاذفا، ولا يجوز له. أن يلاعن.
قلت له: أرأيت إن انقضت عدتها ثم ظهر بها حمل في زمان يرى أن النساء يحملن لمثله أيلحق به الولد؟ .
قال: نعم إلا أن ينتفي من ذلك الحمل فيلاعن.
قلت: أرأيت إذا صار الحمل يلزمه إلا أن يلاعن فلم لا يكون له أن يلاعن بما يدعي من الرؤية للزنا بعد انقضاء العدة وهو يقول: أخاف أن يظهر بها حمل يلحقني فأنا رأيت ما رأيت من سوء فعلها فأنا أخبر به السلطان لأبرأ من حمل إن ظهر باللعان.
قال محمد بن رشد: اختلف فيمن ادعى أنه رأى زوجته تزني وهي(6/415)
في عدتها منه من طلاق بائن على ثلاثة أقوال، أحدهما: قول ابن القاسم هذا أنه يلاعن بما ادعى من الرؤية ولا يحد، والثاني: أنه يحد ولا يلاعن وهو قول ابن المواز، والثالث: أنه لا يحد ولا يلاعن، معناه إلا أن يظهر بها حمل فيكون له أن يلاعن لنفيه عن نفسه، وهو قول المغيرة، وإليه مال سحنون.
ووجه القول الأول: أن العدة لما كانت من توابع العصمة، وكانت حقا للزوج على المرأة حفظا لنسبه كان له أن يراعي أمرها فيها وعذر في الأخبار بما رأى من زناها لما في ستر ذلك من المضرة به في إدخال الداخلة عليه في نسبه فخرج له المخرج من ذلك باللعان كما قال الله، مخافة أن يموت فتأتي بولد فيلحق به.
ووجه القول الثاني: أنه لما لم يكن بها حمل ظاهر كان بما ادعى من رؤيته لزناها قاذفا إذا عجل بالإخبار بذلك قبل أن يظهر بها حمل، فوجب أن يحد لأنه قذف من ليست له بزوجة إذ قد خرجت من عصمته بالطلاق البائن، ثم إن ظهر بها حمل كان له أن يلاعن؛ لينفي الولد عن نفسه.
ووجه الثالث: أنه عذره بما ادعى من الرؤية مخافة أن يموت فتأتي بولد فيلحق به فأسقط عنه الحد، ولم ير أن يعجل باللعان إذ قد لا يكون بها حمل فلا يحتاج إليه.
وأما إذا ادعى أنه رآها تزني بعد أن انقضت عدتها فهو قاذف فوجب أن يحد لأنها كالأجنبية إذ لم يبق بينه وبينها سبب من أسباب العصمة إلا إن ظهر بها حمل فيكون له أن ينفيه.
وأما إن كانت في عدة منه من طلاق غير بائن فحكمها في جميع(6/416)
وجوه اللعان كحكم التي هي في عصمته، ولو ادعى بعد أن طلقها البتة أنه رآها تزني قبل أن يطلقها لحد ولم يلاعن، قاله ابن القاسم في التفسير الثالث من العشرة، وبالله التوفيق.
[طلق امرأته فنكحت في عدتها قبل أن تحيض شيئا]
ومن كتاب أصبغ من ابن القاسم قال أصبغ: من طلق امرأته فنكحت في عدتها قبل أن تحيض شيئا؟ قال: قول مالك إن الولد للأول متى ما جاءت به لأدنى من ستة أشهر ولأكثر ما بينهما وبين خمس سنين.
قلت: فإن نفاه الأب، فقال: قد استبرأتها قبل أن أطلق؟ قال: يلتعن الأب إذا وينفي الابن عن نفسه ولا تلتعن المرأة لأن للولد هاهنا سببا وأبا يلحق به، وفراشا قائما وهو الزوج الثاني إن كانت ولدته لستة أشهر فأكثر من يوم دخل بها الثاني، وإن كانت جاءت به لأقل من ستة أشهر فهو منقول من الأب الأول باللعان ومنهما جميعا لأن الثاني هاهنا بريء منه.
فإن قال الثاني إذا جاءت به لستة أشهر فأكثر ونفاه الأول: إنه ليس مني وقد استبرأتها بعد أن وطئتها التعن والتعنت، ولا بد لها من اللعان هاهنا، بمنزلة الزوج الواحد؛ لأن الولد ليس له نسب بعد يلحق به إلا هذا الأب فلا يدفعه هذا عن نفسه إلا بلعان منه، أو بانتفاء وتصديق منها له.
ولو كان دخوله بعد حيضة أو حيضتين فإن جاءت به لأدنى(6/417)
من ستة أشهر فهو للأول، والثاني منه بريء ولا ينفيه الأول إلا بلعان على نحو ما فسرت لك وإن جاءت به لستة أشهر فأكثر فهو للآخر إلا أن ينفيه ويدعي الاستبراء منه فيلتعن ويبرأ منه، ولا تلتعن المرأة ويرجع الولد هاهنا إلى الأول فيلحق به لأن فراشه قائم حين برئ منه الآخر، إلا أن يدعي أنه استبرأها لبل أن يطلقها فتلتعن هي وهو هاهنا؛ لأن الولد قد انقطع نسبه ولم يبق أب يلحق به.
قلت: فمن لاعنها منهما وحده ولم تلتعن هي لأن الولد لحق بالآخر أتحل للذي لاعنها ولم تلاعنه؟ قال: لا؛ لأن لعانه قد تم ونفل به الولد.
قلت: فمن استلحقه لحق به؟ قال: نعم، ويحد قلت: فإن استلحقه الآخر أيضا بعد ذلك؟ فقال: يحد ولا يلحق به لأن نسبه للمستلحق الأول.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم، وتحصيلها بتلخيص أنها إذا أتت بولد قبل ستة أشهر من يوم دخل بها الثاني فهو للأول إلا أن ينفيه بلعان فإن التعن حدت إلا أن تلتعن، والثاني منه بريء كان قد دخل بها بعد حيضة أو قبل حيضة.
وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر فهو للأول إن كان دخل بها الثاني قبل حيضة ألا أن ينفيه بلعان، فإن التعن حدت إلا أن تلتعن فيلحق بالثاني، ولا تلاعن المرأة إلا أن ينفيه الثاني أيضا، وللثاني إن كان دخل بها بعد حيضة إلا أن ينفيه بلعان فيلحق بالأول ولا تلاعن المرأة إلا أن ينفيه الأول أيضا، ويختلف منها في موضعين: أحدهما: هل تحرم على الذي لاعنها منهما ولم تلاعنه إذا لحق بالآخر؟ فقال أصبغ هاهنا: إنها(6/418)
تحرم عليه، وقال سحنون: لا تحرم، وهو قول ابن المواز، والقياس على المشهور في المذهب من أن الفرقة لا تقع بين المتلاعنين إلا بتمام لعان المرأة بعد الزوج، وقول أصبغ يأتي على قياس القول بأن الفرقة تقع بينهما بتمام لعان الزوج، وهو ظاهر قول مالك في موطأه ومذهب الشافعي وقول عبد الله بن عمرو بن العاص في المدونة، والثاني: إذا التعنا ثم استلحقه الذي لاعنها أولا ولم تلاعنه لأنه لحق بالآخر هل يحد أم لا يحد؟ قال أصبغ: إنه يحد، وقال سحنون وابن المواز: لا يحد إذ لم ينفه أولا إلى زنى وإنما نفاه إلى الأب الآخر الذي نفاه بعد.
ومن استلحقه منهما أولا بعد التعانهما لحق به ولم يقبل للثاني بعد فيه دعوى.
وإن استلحقاه كلاهما بعد التعانهما كان الأول أحق به وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته رأيتها تزني والمرأة صماء لا تسمع بكماء لا تفهم]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: رأيتها تزني والمرأة صماء لا تسمع بكماء لا تفهم ما يقال لها، هل ترى على الزوج لعانا وحده، أم لا؟ .
قال: يشار إليها بما قد عرفت به أنها تعرفه من الإشارة وتفهمه مما قد علم منها، فإذا أفهمت فإن صدقته أقيم عليها الحد، وإن جحدت قيل للزوج: التعن وادرأ عن نفسك الحد فإذا فعل قيل لها: حدي مخرجك بأن تلتعن وترد قوله بإشارة يعرف بها ما كان منها على وجه ما كان يعلم من أمرها، فإن فعلت فرق بينهما، فإن نكلت وجب عليها الحد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن الإشارة تفهم بها المعاني ويعبر بها عما في النفوس فتقوم مقام الكلام عند عدم الكلام، وقد سمى(6/419)