على المسجد المذكور دون سائر البلدة؛ على ما قاله جماعة من المفسرين، والأصل في اختلاف أهل العلم في هذه المسألة اختلافهم في افتتاح مكة، فمن ذهب إلى أنها افتتحت عنوة، قال: إن دورها لا تباع ولا تكرى، وهو قول أبي حنيفة وجماعة سواه، ويشهد لهذا القول ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مكة كلها مباح، لا تباع رباعها ولا تواجر» ، ومن ذهب إلى أنها مؤمنة، والأمان كالصلح، وأن أهلها مالكون لرباعها، أجاز لهم بيعها وكراءها، وهو قول الشافعي، ولا خلاف عند مالك وأصحابه في أنها افتتحت عنوة إلا أنهم اختلفوا هل من على أهلها بها، فلم تقسم كما لم يسب أهلها لما عظم الله من حرمتها؟ أو هل أقرت للمسلمين؟ فعلى هذا جاء الاختلاف في جواز كرائها في المذهب، فروي عن مالك في ذلك ثلاث روايات؛ أحدها: المنع، والثانية: الإباحة، والثالثة: كراهية كرائها في أيام الموسم خاصة.
[مسألة: ذكر الحج في القرآن]
مسألة قال مالك: الحج كله في كتاب الله تعالى، والصلاة، والزكاة، ليس لها في كتاب الله تفسير، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك هذا أن الحج كله في كتاب الله تعالى مفسر، وأن الصلاة والزكاة ليستا مفسرتين فيه، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو فسرهما، وليس ذلك بصحيح، بل ما أتى من ذكر الحج في القرآن مفتقر إلى بيان، والتفسير الذي فسره به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبين مراد الله فيه قولا وعملا، كافتقار الصلاة والزكاة إلى ذلك سواء، ولو تركنا وظاهر ما في القرآن من أمر الحج، لما صح لنا منه امتثال أمر الله عز وجل به، إذ لم يبين فيه شيئا من صفة عمله وترتيبه في أوقاته التي لا تصح إلا فيها، وشرائطه التي لا تتم إلا بها، وسنته التي لا يكتمل إلا بها، فليس الكلام على ظاهره، وإنما معناه الذي أراده به أن الحج كله في كتاب الله تعالى، والصلاة والزكاة، تم الكلام هاهنا.
ثم ابتدأ(3/406)
فقال: ليس لها - أي لجميع ذلك في كتاب الله تعالى - تفسير، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك، ويبين تأويلنا هذا ما في كتاب ابن المواز من قوله: وكذلك الحج والزكاة تدل وجوبهما في القرآن مجملا، وبين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أراد الله منه وفسره، وقوله في الرواية أيضا ليس لها، ولم يقل لهما، وقد نقل ابن أبي زيد هذه الرواية بالمعنى على ظاهرها نقلا غير صحيح، فقال فيها: الحج كله في كتاب الله سبحانه، وأما الصلاة والزكاة فذلك مجمل فيه، ولهذا وشبهه رأي الفقهاء قراءة الأصول أولى من قراءة المختصرات والفروع.
[مسألة: رمي الجمار]
مسألة وسئل مالك عن قول الله سبحانه: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] ، قال: هو رمي الجمار، قال: ومن كلام أن يسموا العقل النذر، يريدون بذلك العود، وقال سحنون: يريد بالعقل عقل الجراح.
قال محمد بن رشد: إنما تأول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن مراد الله بقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] هو رمي الجمار من أجل أن الوفاء بالشيء لا يكون إلا بإكماله إلى آخره، ورمي الجمار هو آخر عمل الحج مع الطواف الذي ذكره الله معه فقال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، واستدل على ذلك بأن العرب تسمي العقل نذرا، وهو العدد الذي يجب في الجراح، يريد بذلك رمي الجمار، سماه الله نذرا؛ لأنه عده واجب رميه في الحج.
[مسألة: يفيض من منى إلى البيت فيطوف طواف]
مسألة وسألته عن الذي يفيض من منى إلى البيت، فيطوف طواف(3/407)
الإفاضة، ثم يريد أن يتنفل طوافا أو طوافين بعد ذلك، قال: ما هو من عمل الناس، وإني لأرجو أن يكون خفيفا، وكأني رأيته يرى أن ترك ذلك أعجب إليه.
قال محمد بن رشد: رأى مالك ترك التنفل بالطواف إثر طواف الإفاضة أحسن من التنفل به، إذ لم يدرك الناس إلا على ذلك، ولأن الاختيار أن يعجل الإفاضة يوم النحر قبل الزوال، ثم يرجع إلى منى فيصلي بها الظهر كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والوقت لا يتسع للتنفل بالطواف، وقد كان روي عن النخعي أنه قال: كانوا يستحبون الإفاضة يوم النحر، وأن يطوفوا يوم النحر ثلاثة أسابيع، وقول مالك أولى لما قدمناه، وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفض إلا في آخر يوم النحر» .
[مسألة: التلبية على الصفا والمروة]
مسألة وسئل عن التلبية على الصفا والمروة، قال: لا بأس في ذلك في الحج، ولا يلبي أحد عليهما في العمرة، أحرم من ميقاته، أو من التنعيم، أو من الجعرانة؛ لأن التلبية تنقطع إذا أحرم من ميقاته إذا دخل الحرم، وينقطع إذا لم يحرم من ميقاته إذا دخل المسجد.
قال محمد بن رشد: قوله: لا بأس أن يلبي في الحج على الصفا والمروة، يدل على أن الأحسن عنده ألا يفعل، فهو مثل ما في المدونة من أنه استحب للحاج أن يقطع التلبية إذا بدأ بالطواف حتى يفرغ من السعي بين الصفا والمروة، ثم يعود إليها حتى يروح يوم عرفة بعد الزوال إلى المسجد، أو إلى الموقف على اختلاف قوله في ذلك؛ لما رواه عن عبد الله بن عمر(3/408)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من أنه كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم، حتى يطوف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة، فاختار فعله في ترك التلبية في الطواف والسعي، ولم يختر قوله في قطعها أولا إذا انتهى إلى الحرم، ولا في قطعها آخرا إذا غدا من منى إلى عرفة، فقال: إنه يلبي حتى يبدأ بالطواف، ثم يلبي بعد تمام السعي حتى تزول الشمس يوم عرفة، أو حتى يروح إلى المسجد، أو حتى يروح إلى الموقف، وقد روى ابن وهب عنه أنه لا يقطعها حتى يقف بالموقف، وإلى عرفة ينتهى إلى غاية الملبى؛ لأن هنا دعا إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس إلى الحج، ومن حكم المدعو أن يجيب الداعي حتى يصل إليه، ولا وجه لإجابته إياه إذا انصرف عنه، وقوله في العمرة: إنه يقطع التلبية فيها إذا لم يحرم من ميقاته إذا دخل المسجد، قال في المدونة: وإذا دخل بيوت مكة ذلك واسع كان إحرامه من الجعرانة أو التنعيم، وذهب أبو بكر الأبهري إلى أنه إذا أحرم من الجعرانة قطع إذا دخل بيوت مكة، وإذا أحرم من التنعيم قطع إذا دخل المسجد؛ لأن التنعيم أقرب من الجعرانة، فيتمادى إذا أحرم منه في التلبية حتى يدخل المسجد لقصر تلبيته.
[مسألة: أفاض بعد رمي الجمرة فأقام بمكة وكان مريضا ولم يأت منى]
مسألة وسئل عن رجل أفاض بعد رمي الجمرة، فأقام بمكة، وكان مريضا، ولم يأت منى ولم يرم أيام الجمار كلها حتى ذهبت أيام منى، قال: أن يهدي بدنة، قيل له: فإن لم يقدر عليها؟ قال: ما استيسر عليه، يريد شاة، فإن لم يجد صام، قيل له: إن قوما قالوا: لو رمى في غير أيام منى، قال: هذا الخطأ البين.(3/409)
قال محمد بن رشد: هذا مثل قوله في المدونة، أنه من ترك الجمار لعذر أو نسيان أو عمد حتى ذهبت أيام منى يهدي، ولم يختلف قوله في ذلك كما اختلف إذا ترك رمي الجمار في يوم من أيام منى، فرماها في الليل، أو فيما بقي منها، واستحب أن يهدي إذا ترك جمرة العقبة أو الجمار الثلاثة من أيام منى بدنة، وإن ترك جمرتين منها بقرة، وإن ترك واحدة شاة وإن كانت الشاة تجزيه في ذلك كله، وإنما قال: إن الرمي في غير أيام الرمي خطأ؛ لأن الله عز وجل قال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] ، يريد رمي الجمار بإجماع أهل العلم، فلما قال تعالى: إن الرمي يكون فيها، وجب ألا يفعل في غيرها إلا بنص أو كتاب أو سنة أو إجماع، وذلك معدوم، ولا يجزي رمي الجمار بالمدر، ولا بالطين اليابس، ولا يجزي إلا بالحصاة، قاله مالك وابن أبي ذيب.
[مسألة: المتمتع بالعمرة إلى الحج يموت بعد ما يحرم بالحج بعرفة]
مسألة وسئل عن المتمتع بالعمرة إلى الحج، يموت بعد ما يحرم بالحج بعرفة، أو ما أشبه ذلك، أترى عليه هديا؟ قال: من مات من أولئك قبل أن يرمي الجمرة، فلا أرى عليه شيئا، ومن رمى الجمرة، فأرى أن قد وجب عليه الهدي، قال عيسى سألت ابن القاسم عن هديه هل يكون في رأس المال أو في ثلثه؟ قال: بل في رأس المال، وذلك أنه لم يفرط، وقال سحنون: لا يعجبني ما قال، ولا يخرج من ثلثه، ولا من رأس ماله إلا إن شاء الورثة ذلك، ألا ترى أن المال يجب عليه الزكاة، قد عرف ذلك، ثم يموت ولم يفرط في إخراجه أنه إن أوصى بها كانت من رأس المال، وإن لم يوص بها لم تكن في ثلث ولا رأس مال إلا إن شاء الورثة ذلك.(3/410)
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه لا يجب عليه الهدي إلا أن يموت بعد الجمرة؛ لأنه إنما يجب بالوقت الذي يتيقن فيه نحره، وهو رمي الجمرة، فإذا مات قبل الوقت الذي يتيقن فيه نحره، فقد مات قبل أن يجب عليه، وإنما قال ابن القاسم: إنه يكون في رأس ماله، وإن لم يوص به، إذا لم يفرط بخلاف الزكاة إليها لم يفرط فيها، ولم يوص بها؛ لأن الهدي لو أهداه لم يخف، إذ من شأنه أن يقلد ويشعر ويساق من الحل إلى الحرام فينحر به، فليس ذلك مما يفعل سرا كالزكاة التي يمكن أن يكون لم يوص بها، من أجل أنه قد أداها سرا من حيث لا يعلمون، وقد قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا} [البقرة: 271] الآية، فلعله قصد إلى ما هو خير له من الاستمرار بأداء زكاته، فتفرقة ابن القاسم بين المسألتين أظهر من مساواة سحنون بينهما، ألا ترى أنهم لا يختلفون في وجوب إخراج الزكاة من الزرع الذي يموت عنه صاحبه، وقد بدا صلاحه، وإن لم يوص بإخراج الزكاة عنه للعلم بأن صاحبه لم يؤد زكاته، وأشهب يرى إخراج زكاة المال الناض على الورثة واجبا، وإن لم يوص الميت بإخراجها، إذا مات عند وجوبها، ولم يفرط، وبالله التوفيق.
[مسألة: يعتمر من أفق من الآفاق في أيام التشريق]
مسألة وسئل عن الرجل يعتمر من أفق من الآفاق في أيام التشريق، قال: لا بأس بذلك؛ لأن هؤلاء إنما يحلون بعد ذلك، فلا أرى هذا مثل من يعتمر في أخر أيام التشريق من الحاج قبل أن تغيب الشمس، هذا لا يعجبني.(3/411)
قال محمد بن رشد: جائز لمن لم يحج أن يعتمر في أيام التشريق، والأصل في جواز ذلك حديث أبي أيوب الأنصاري، وهبار بن الأسود؛ إذ قدما على عمر بن الخطاب يوم النحر، وقد فاتهما الحج بإضلال أبي أيوب رواحله، وخطأ هبار بن الأسود العدة، فأمرهما عمر بن الخطاب أن يتحللا من إحرامهما بعمرة، ويقضيا حجهما عاما قابلا، ويهديا على ما وقع من ذلك في الموطأ، فلمن لم يحج من أهل الآفاق أن يهل بعمرة من ميقاته في أيام التشريق، سواء حل منها في أيام التشريق أو بعد أيام التشريق، قاله ابن القاسم في المدونة، فقوله هاهنا وفي المدونة أيضا؛ لأن هؤلاء إنما يحلون بعد ذلك، يريد أيام التشريق ليس بتعليل صحيح، وأما من حج فلا يجوز له أن يعتمر حتى تغيب الشمس من آخر أيام التشريق، والأصل في ذلك حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حين «أمرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقضاء عمرتها بعد انقضاء حجها» ، فإن أهل بعمرة في آخر أيام التشريق قبل أن تغيب الشمس بعد أن رمى وأفاض وحل من إحرامه؛ لزمه الإحرام، قاله في الحج الأول من المدونة، قال في كتاب ابن المواز: ولا يعمل من عمل العمرة شيئا حتى تغيب الشمس، فإن عمل فعمله باطل، وهو على إحرامه، فإن وطئ بعده أفسد عمرته، ووجب عليه قضاؤها بعد تمامها والهدي.
قال محمد بن رشد: والقياس إذا كان قد حل من إحرام الحج، وانعقد إحرام العمرة، أن يصح عملها، قال ابن المواز: وأما إن أحرم بعمرة في اليوم الثاني من أيام التشريق، وإن كان قد تعجل وحل من إحرامه، فلا يلزمه الإحرام.
[مسألة: يفيض في آخر أيام التشريق قبل أن تزول الشمس]
مسألة وسئل هل رخص لأحد من الحاج أن يفيض في آخر أيام التشريق قبل أن تزول الشمس؟ قال: ليس فيه رخصة.(3/412)
قال محمد بن رشد: يريد بقوله أن يفيض أن يرجع إلى بلده، فلم ير في ذلك رخصة لأحد من الحاج؛ لأنه إن كان ممن لم يتعجل في يومين فعليه رمي ذلك اليوم، وإن كان قد تعجل في يومين فقد وجب عليه أيضا رميه إذا بقي بمنى ولم ينفر يوم تعجل، ولم يرد بقوله: أن يفيض طواف الإفاضة؛ لأن له أن يمضي إلى مكة لطواف الإفاضة يوم النحر، وأي يوم شاء من أيام منى قبل الزوال وبعده، والتعجيل أفضل، ويرجع إلى منى على كل حال لرمي الجمار، وللمبيت بها، ووقع في بعض الروايات هل رخص لأحد من الحاج أن يعتمر؟ ومعنى ذلك أيضا بين؛ لأن أيام الحج لم تنقض بعد، فلا رخصة لأحد من الحاج أن يعتمر قبل انقضائها، وإن كان ممن تعجل في يومين.
[مسألة: أعطى جارية له محرمة إزارا له أن تفليه من القمل وهو محرم]
مسألة وسئل عن رجل أعطى جارية له محرمة إزارا له أن تفليه من القمل، وهو محرم، وجاريته محرمة، ففلته وألقت الدواب عنه، قال: أرى أن يفتدي، فقيل له: أيذبح شاة أو يصوم ثلاثة أيام؟ قال: نعم في رأيي، أي ذلك شاء فعل.
قال محمد بن رشد: إنما أوجب مالك عليه الفدية من أجل أنه أماط بذلك عن نفسه الأذى، لا من ناحية ما قتلت من الدواب بأمره، وقد قال يحيى، عن ابن القاسم: إنما قال مالك ذلك احتياطا، ولو أطعم شيئا من طعام أجزأه، والذي قلته هو وجه قول مالك، وإنما كان يجب عليه أن يطعم شيئا من طعام لو لم يكن الإزار له، وقد تأول بعض الناس على مالك من هذه الرواية، ومن قوله في المدونة في المحرم يحلق رأس الحلال: إنه واجب الفدية على من قتل قملا كثيرا، وليس ذلك بتأويل صحيح، أما هذه الرواية، فقد بينا وجهها، وأما مسألة المدونة فوجه إيجاب مالك فيها الفدية هو(3/413)
أنه لما كان الأصل في وجوب الفدية حلق الرأس في القرآن، والسنة حمله على عمومه في رأسه وفي رأس غيره، وقد رأى أصبغ قول مالك في هذه المسألة أفضل من قول ابن القاسم فيها: إنه يطعم شيئا من طعام، وقال سحنون: قول ابن القاسم أفضل.
[مسألة: دخل بعمرة فطاف وسعى ثم وطئ قبل أن يحلق]
مسألة وسئل عن رجل دخل بعمرة، فطاف وسعى، ثم وطئ قبل أن يحلق، قال: أرى أن يهدي هديا.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب؛ لقول ابن عباس من نسي من نسكه شيئا، فليهرق دما.
[مسألة: يطوف بالبيت فيشك في طوافه]
ومن كتاب أوله شك في طوافه مسألة وسئل عن الرجل يطوف بالبيت، فيشك في طوافه، ورجلان معه فيقولان له: لقد أتممت طوافك، قال: أرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: خفف مالك هذا في الطواف بخلاف قوله في الصلاة في إعادتها وغيرها، والقياس أنهما في ذلك سواء؛ لأنهما عبادتان مستويتان في أنهما موكولتان إلى أمانة العبد، فوجب أن يستويا في أنه يعمل فيهما على يقينه دون يقين من سواه، أو في أنه يجوز له أن يعمل فيهما على يقين من سواه، وقد روي ذلك عن أشهب، والقول الآخر أظهر، وقد مضى توجيههما في آخر أول رسم، من سماع ابن القاسم، من كتاب الصلاة، ووجه الفرق بينهما أن الحج له تعلق بالمال، وقد شبهه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدين، فقال للخثعمية: «أرأيت لو كان على أبيك دين، أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى» ، فجاز أن تعمل فيه الشهادة كما تعمل في الدين،(3/414)
بخلاف الصلاة التي لا تعلق لها بالمال، وقد نص النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أن المصلي يعمل فيها على يقينه.
[مسألة: المحرم يكثر عليه قمل إزاره فيبيعه]
مسألة وسئل عن المحرم يكثر عليه قمل إزاره، فيبيعه لموضع ما فيه من القمل، قال: لا بأس بذلك، قال سحنون: إذا باعه أليس قد عرضه للقتل؟
قال محمد بن رشد: أجاز له مالك بيع إزاره، لموضع ما فيه من القمل، كما يجوز له أن يتركه ويلبس غيره؛ إذ ليس عليه أن يتمادى على لباس الثوب الذي أحرم فيه إلى آخر إحرامه، ورأى سحنون أنه إذا باعه، فقد عرض القمل للقتل كما لو طرد صيدا من الحرم إلى الحل، وليس هو مثله؛ لأنه إذا طرد الصيد من الحرم إلى الحل، فقد أخرجه من مأمن إلى غير مأمن؛ لأنه كان في مكان لا يصاد فيه، فأخرجه إلى مكان يصاد فيه، والقمل الذي في الثوب حكمه قبل البيع كحكمه بعد البيع في جواز قتله لمن ليس بمحرم، وليس على من صار القمل في ثوبه أن يمنع الناس من قتله، إنما عليه ألا يقتله ولا يأمر من يقتله، ألا ترى أن من أحرم وبيده صيد يرسله في الحل، وليس عليه أن يمنع الناس من صيده، ولم ير مالك بيعه ثوبه لمكان ما فيه من القمل مميطا عن نفسه الأذى، بخلاف المسألة التي في الرسم الذي قبل هذا، والفرق بينهما أنه فعل هاهنا ما يجوز له من بدل ثوبه، وهناك ما لا يجوز من إلقاء القمل عنه.
[مسألة: المتمتع ينصرف إلى مكة فيريد أن يصوم السبعة الأيام بمكة]
مسألة وسئل عن المتمتع بالعمرة إلى الحج ينصرف إلى مكة، فيريد أن يصوم السبعة الأيام بمكة، قال: قال عز وجل: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196](3/415)
فأرجو أن يكون في سعة، وكأنه رآه من الرجوع.
قال محمد بن رشد: لما قال تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وما رجوعك من منى رجوعا، فأجاز له أن يصومها في حال رجوعه إلى بلده في طريقه، وإن كان الاختيار عنده ألا يصومها إلا في بلده، يدل على ذلك قوله، فأرجو أن يكون في سعة، قال في كتاب ابن المواز: إذا رجع إلى أهله أحب إلي ألا يقيم بمكة، وهو معنى قوله في المدونة أيضا، ومن أهل العلم من لم يجز له أن يصومها إلا في بلده، ومنهم من لم ير قول الله عز وجل: {إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ، شرطا وجعله توسعة وتخفيفا، مثل قوله عز وجل في الصيام: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، فأجاز له أن يصوم العشرة الأيام كلها في الحج، كما يجوز للمريض والمسافر أن يصوم في رمضان، وإلى هذا ذهب ابن حبيب.
[مسألة: المحرم أينشد الشعر]
مسألة وسئل مالك عن الرجل المحرم أينشد الشعر؟ قال: لا، إلا أن يكون الشيء الخفيف، وقلله بيده.
قال محمد بن رشد: الشعر كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح، إلا أن مالكا كره للمحرم الإكثار منه؛ لما فيه من التلهي به، وكفى من عيب الإكثار منه أن الله لم يرضه لنبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس: 69] الآية، ولا بأس أن ينشد اليسير منه متمثلا به، قال ابن حبيب: ما لم يكن فيه خنا(3/416)
وذكر النساء، وقد فعله أبو بكر وابن عباس وغيرهم، وقد أجاز جماعة من السلف أن ينشد المحرم ما فيه التشبب بالنساء، وقال: إنما الرفث المنهي عنه ما روجعن به.
[مسألة: أفاض إلى مكة فطاف بالبيت فلما فرغ سمع الأذان]
ومن كتاب سلعة سماها مسألة وسئل عن رجل أفاض إلى مكة، فطاف بالبيت، فلما فرغ سمع الأذان، هل ترى له أن يقيم حتى يصلي؟ قال: أرجو أن يكون ذلك واسعا إن أقام أو خرج.
قال محمد بن رشد: معنى هذا فيمن أفاض يوم النحر، أو في يوم من أيام منى؛ لأن الاختيار أن يرجع إلى منى يصلي بها الظهر إن كان أفاض في ضحى النهار أو المغرب، إن كان أفاض في آخره، وكذلك فعل رسول الله حين أفاض يوم النحر في صدر النهار، وقد روي أنه أفاض في آخره، وسيأتي هذا في رسم الحج الثاني من سماع أشهب.
[مسألة: يجب عليه المشي إلى الإسكندرية فيسير منها إلى الفسطاط]
مسألة وسئل عن الرجل يجب عليه المشي إلى الإسكندرية، فيسير منها إلى الفسطاط، وهو يريد المشي، فيقيم بالفسطاط شهرا، ثم يريد المشي بعد ذلك، قال: نعم، لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ذلك ليس بتفريق للمشي إذا كان ذلك كله في عام واحد، ولو مشى من الإسكندرية إلى الفسطاط، وهو يريد المشي، فأقام في الفسطاط إلى عام آخر من غير عذر، ثم مشى بعد ذلك(3/417)
لما أجزاه مشيه على قول ابن حبيب فيمن كان عليه مشي، فركب فيه متعمدا من غير عذر على أن يقضيه في عام آخر، وهو الذي يأتي على ما في المدونة، فيمن مشى فعجز عن المشي، فركب، ثم خرج في عام آخر فمشى ما ركب أنه يهدي؛ لأنه فرق مشيه، إذ لو كان له أن يفرقه من غير عذر لما كان عليه الهدي، إذا فرقه من عذر، إلا أن قوله ليس على أصله فيمن نذر صيام شهر له أن يفرقه إلا أن ينويه متتابعا، فيلزم عليه أن يجزيه المشي، وقول ابن حبيب صحيح على أصله في الصيام، وعليه قاسه، والحمد لله رب العالمين.
[مسألة: الموسم أهو الأسواق أو الحج]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة مسألة وسئل عن الموسم أهو الأسواق أو الحج؟ قال: بل هو الحج.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الموسم إذا أطلق، فإنما يقع على الحج وإياه يراد به، وإن كانت الأسواق والمجتمعات كلها مواسم، وإنما سميت مواسم؛ لأن الناس يجتمعون فيها يتقابلون ويتعارفون، قال عز وجل: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29] ، وقال الخليل: الموسم موسم الحج، وإنما سمي موسما؛ لأنه معلم يجتمع إليه، وكذلك كانت مواسم أسواق العرب في الجاهلية.
قال محمد بن رشد: فلو أن حالفا حلف ألا يكلم فلانا في الموسم، حنث إن كلمه في الحج، إلا أن يكون نوى سوقا من الأسواق، وأتى مستفتيا؛ لأن(3/418)
الموسم قد يعرف بالحج، وقد قرئ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج.
[مسألة: حلفت بالمشي إلى بيت الله فماتت فأراد أولياؤها أن يمشوا عنها]
ومن كتاب ليرفعن أمرا إلى السلطان مسألة وسئل عن امرأة حلفت بالمشي إلى بيت الله فماتت، فأراد أولياؤها أن يمشوا عنها، قال: لو أهدوا هديين كان أحب إلي، فإن لم يجدوا فهديا واحدا، قال سحنون: لا يلزم أولياءها أن يمشوا عنها إلا أن توصي بذلك.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك أنه لا يحج أحد عن أحد، ولا يمشي أحد عن أحد؛ لأن ذلك من أعمال الأبدان قياسا على ما أجمعوا عليه في الصلاة، إلا أنه يقول: إن أوصى بذلك نفذت وصيته بالحج لما جاء في ذلك، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولم ينفذ في المشي، وأهدي عن الموصي هديين، قاله هاهنا، وفي رسم حلف بعد هذا، وفي المدونة هدي للمشي، وهدي لما يكون فيه المشي؛ إذ لا يكون إلا في حج أو عمرة، وفي سماع سحنون من هذا الكتاب لابن القاسم إذا أوصى أن ينفذ عنه ما يجب عليه في المشي الذي نذر، يهدي عنه بقدر الكراء، والنفقة هدايا إلى مكة، ولا يمشي عنه، ونحوه في سماع أشهب من كتاب النذور، وذهب سحنون إلى أنه تنفذ وصيته في الحج، وفي المشي قياسا على الحج، وهو قوله هاهنا، وابن كنانة لا يرى أن تنفذ وصيته في الحج، ولا في المشي، ويهدى عنه بقدر النفقة في ذلك هدايا، أو يتصدق بذلك عنه، وقول ابن كنانة القياس على المذهب في أنه ليس من البر أن يحج أحد عن أحد، وإنما ينفذ من الوصايا ما فيه بر وقربة، إلا أن من أصل مذهب مالك مراعاة الخلاف، وهو استحسان، واستحب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رسم باع غلاما بعبد، هذا لمن وعد أباه أن(3/419)
يمشي عنه أن يفي عنه بما وعده به من ذلك من ناحية وجوب الوفاء بالعهد في الجائزات.
[مسألة: يقبل الحجر ويسجد عليه]
مسألة وسأله ابن وهب فقال: إن بعض الصحابة كان يقبل الحجر ويسجد عليه، وإن أهل مكة ينكرون ذلك، فأنكر ذلك إنكارا شديدا، وقال: الذي سمعناه القبلة.
قال محمد بن رشد: قد روي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، ولم يصح ذلك عند مالك، فأنكره ورآه بدعة، إذ لو كان من السنة، ومما فيه قربة لا تصل به العمل، وعرف ذلك واشتهر، وذهب ابن حبيب إلى ما روي من ذلك عنهما، وقال: ما أرى كراهية مالك لذلك إلا في الفتوى خيفة أن يرى واجبا، فلا بأس به للرجل في خاصة نفسه، والأول من قوليه أظهر.
[مسألة: أحرم يوم التورية وهو متمتع أيصوم يوم عرفة]
مسألة وسئل عمن أحرم يوم التورية، وهو متمتع أيصوم يوم عرفة؟ قال: لا بأس به، ويعني بذلك، ويصوم يومين من أيام التشريق.
قال محمد بن رشد: هذا على أصله في أن صيام الثلاثة الأيام في الحج والسبعة بعد الرجوع لا يلزم متابعة شيء من ذلك، وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب أن الثلاثة الأيام متتابعات، لا يجوز له صيام يوم عرفة من أجل فطر يوم النحر بعده، فيصوم الثلاثة الأيام على مذهبه بعد يوم النحر، فيفطر يوم النحر، ثم يصوم بعد ذلك، وإنما كان له أن يصوم بأيام منى مع ما جاء من الأمر بفطرها من أجل أن الله أوجب عليه صيام الثلاثة الأيام في الحج بقوله:(3/420)
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عمر أنه قال في المتمتع إذا لم يجد هديا، ولم يصم أيام العشر، أنه يصوم أيام التشريق، فكان ذلك مخصصا لما جاء عنه من الأمر بفطرها، وقد اختلف فيمن يجب عليه صيامها في الحج على أربعة أقوال؛ أحدها: أن الذي يجب ذلك عليه المتمتع والقارن خاصة، وهو قول أصبغ قال: ولا يجب الصيام في الحج على غيرهما ممن أفسد الحج أو فاته الحج وشبههم، إلا استحسانا لا إيجابا. والثاني: أن الذي يجب ذلك عليه المتمتع والقارن والمفسد لحجه، والذي فاته الحج هؤلاء الأربعة لا غير، وهو قول ابن القاسم في العشرة. والثالث: أن ذلك يجب على هؤلاء الأربعة، وعلى كل من وجب عليه الهدي لشيء تركه من أمر الحج من يوم إحرامه به إلى يوم وقوفه بعرفة. والرابع: أن ذلك يجب على هؤلاء الأربعة، وعلى من ترك من الحج ما يوجب عليه الهدي كان ذلك قبل الوقوف بعرفة أو بعد الوقوف بها من ترك النزول بالمزدلفة، أو ترك رمي جمرة العقبة، أو جمرة من جمرات أيام منى، وهذان القولان الثالث والرابع قائمان من المدونة، وفائدة هذا الاختلاف هل لمن فاته الصيام من حين أحرم إلى يوم عرفة أن يصوم أيام التشريق أم لا؟ فمن أوجب عليه أن يصوم الثلاثة الأيام في الحج أوجب عليه أن يصومها في أيام التشريق، إذا لم يصمها قبل ذلك؛ لأنها من أيام الحج بعد، ومن لم يوجب عليه أن يصومها في الحج لم يجز له أن يصومها في أيام التشريق للنهي عن صيامها، كل على مذهبه، فإن وجب عليه الهدي على القول الرابع من ترك الرمي في اليوم الأول أو الثاني من أيام التشريق، فدم يجده صام بقية أيام التشريق، وأبو حنيفة لا يجيز صيام منى لمتمتع ولا غيره، قياسا على ما أجمعوا عليه في يوم النحر.(3/421)
[مسألة: محل الشعائر كلها وانقضاؤها إلى البيت العتيق]
مسألة قال مالك: قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] عرفات، والمزدلفة، والصفا والمروة، فمحمل الشعائر في البيت العتيق.
قال محمد بن رشد: تأول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الشعائر في هذه الآية مناسك الحج على ما ذكر، فالمنافع التي ذكر الله تعالى بقوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج: 33] على تأويله، هو العمل لله بما أمر فيها من عمل الحج، والأجل المسمى هو انقضاء أيام الحج، وقيل المنافع فيها الأسواق بها والتجارات فيها، والأول أظهر؛ لقوله عز وجل: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ، أي محل الشعائر كلها وانقضاؤها إلى البيت العتيق بالطواف به، كما قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يصدرن أحد من الحاج حتى يطوف بالبيت، فإن آخر المنتسك الطواف بالبيت، فقد تأول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطاه على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال ذلك من هذه الآية، وأما قوله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] الآية، فإنه الطواف الواجب لا طواف الوداع، وقد تأول أن الشعائر المذكورة في الآية هي البدن، وأن المنافع التي لنا فيها ركوبها ونتاجها وألبانها، إلى أجل مسمى، وهو إيجابها بدنا، وقيل: إن المنافع ركوبها بعد إيجابها هدايا عند الحاجة إلى ذلك،(3/422)
والأجل المسمى هو وقت نحرها، ومحلها الحرم الذي فيه البيت العتيق، وقد تأول أن المراد بالشعائر في الآية مناسك الحج والبدن جميعا.
[مسألة: الثوب يصيبه الدهن هل يحرم فيه]
مسألة وسئل مالك عن الثوب يصيبه الدهن هل يحرم فيه؟ قال: نعم، لا بأس به، قال ابن القاسم: إلا أن يكون مسكا أو عنبرا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الأدهان التي لا طيب فيها يجوز للمحرم أن يأكلها ويدهن بها يديه ورجليه من شقوق بهما، لا ليحسنهما، وهي لا تحسن الثوب بحال إذا أصابته، بل توسخه، فلا بأس بالإحرام فيه كما قال.
[مسألة: للمحرم الماشي إذا هبط من بطن وادي محسر أن يسعى على قدميه]
مسألة قال مالك: أحب للمحرم الماشي إذا هبط من بطن وادي محسر أن يسعى على قدميه مثل ما يصنع الراكب، ويدعو بعرفات قائما، فإن أعيا جلس.
قال محمد بن رشد: بطن محسر ما بين مزدلفة ومنى، ويستحب للحاج أن يوضع فيه، ولا يجوزه حتى تطلع الشمس، وكان ابن عمر يحرك ناقته فيه قدر رمية بحجر، فاستحب للماشي أن يصنع من ذلك ما يفعل الراكب، والاختيار أن يقف بعرفات راكبا، وكذلك فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن لم يكن راكبا دعا قائما، فإن أعيا جلس كما قال.
[مسألة: المحرم يطأ جاريته وهي محرمة]
مسألة وسئل مالك عن المحرم يطأ جاريته وهي محرمة، قال: أرى(3/423)
أن يُحجَّها من قابل، ويُهدي عنها هديا، قال لي ابن القاسم: أكرهها أو لم يكرهها؛ لأن الأمة ليست في الاستكراه مثل الحرة.
قال محمد بن رشد: جعلها ابن القاسم في حكم المكرهة، وإن كانت طائعة لقدرته على إكراهها لو امتنعت لملكه إياها، وهو قوله وروايته عن مالك في كتاب ابن الماجشون، وذلك عليه وإن باعها، قال ابن المواز: وذلك عيب فيها يردها به المشتري إن شاء، وذلك نحو قوله في رسم نقدها، من سماع عيسى، من كتاب النكاح، في الذي تزوج امرأة، فأدخلت عليه جارية امرأته فوطئها، وهو لا يعلم أنه لا حد عليه وعلى الجارية، خلاف قول ابن الماجشون في الذي زوج ابنته رجلا، فحبسها وأرسل إليه بأمته فوطئها، أنها تحد إلا أن تدعي أنها ظنت أنها زوجت منه، فيأتي على قول ابن الماجشون أنه ليس عليه أن يُحجَّها إن كانت طائعة، ويكون ذلك عليها إذا عتقت.
[مسألة: المحرم يشتري الجارية فيقلبها لنفسه أو لبعض ولده]
مسألة وسئل مالك عن المحرم يشتري الجارية فيقلبها لنفسه أو لبعض ولده، قال مالك: لا أحب للمحرم أن يقلب جارية للابتياع وهو محرم.
قال محمد بن رشد: هذا يدل على أنه أن له أن ينظر في التقليب إلى معصميها وساقيها وصدرها، وهو دليل قوله في كتاب الخيار من المدونة؛ لأن الرقيق قد يجرد في الشراء، فكره ذلك له مخافة أن تعجبه فيلتذ بها، فيتراقى به الأمر إلى ما ينقص أجره أو يفسد حجه، أو يوجب عليه الهدي، وفي رسم طلق، من سماع ابن القاسم، من كتاب جامع العيوب، أنه لا ينظر(3/424)
عند التقليب إلى وجهها وكفيها، ويخبر عنها كما يخبر عن المرأة التي يتزوجها، فهذا القدر مما لا يتعلق به كراهية في حال الإحرام.
[مسألة: المحرم يؤذيه الغبار أو الجيفة يمر بها أيضع يده على أنفه]
مسألة وسئل مالك عن المحرم يؤذيه الغبار أو الجيفة يمر بها، أيضع يده على أنفه؟ قال: نعم، قال ابن القاسم: واستحب له إذا مر على طيب أن يضع يده على أنفه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قالا؛ إذ لا قربة للمحرم في استنشاق الغبار والروائح القبيحة في إحرامه، فجائز له أن يضع يده على أنفه، وقد قال في رسم الحج الثاني، من سماع أشهب: إني لأرجو ألا يكون بذلك بأس، فكأنه رأى ترك ذلك أحسن، فعبارته هاهنا أحسن، وهو متعبد فيه، أعني في إحرامه، فيجتنب الطيب، فيكره له أن يشمه وإن لم يمسه، وقد قيل: إن الفدية تجب عليه في شمه وإن لم يمسه.
[مسألة: يطوف بالبيت ويركع ثم يمرض فلا يستطيع أن يسعى]
مسألة وسئل مالك عن الذي يطوف بالبيت ويركع، ثم يمرض فلا يستطيع أن يسعى حتى ينتصف النهار، فكره أن يفرق بين الطواف والسعي، قال ابن القاسم: فإن أصابه ذلك افتدى.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في رسم حلف بعد هذا، ولم يفرق فيها بين أن يكون بطهر واحد أو بغير طهر واحد، كما فرق في سماع أشهب، وهذا أظهر؛ لأن السعي بين الصفا والمروة يجوز على غير طهارة، فلا وجه لاعتبار الطهر الواحد في ذلك، وأوجب ابن القاسم هنا على من(3/425)
أصابه ذلك الفدية، ولم يقل: إنه يعيد إن كان قريبا كما قال في سماع أشهب، وهو معناه إن شاء الله، فإن ذكر بالقرب قبل أن يحلق فأعاد الطواف والسعي ثم حلق؛ فلا هدي عليه، وإن ذكر بالقرب وقد حلق أعاد الطواف والسعي والحلاق، وكان عليه الذبح بسبب الحلق قبل تمام العمرة.
[مسألة: يدفع من عرفة فيصيبه أمر يحتبس فيه فلا يصل إلى المزدلفة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يدفع من عرفة فيصيبه أمر يحتبس فيه من مرض أو غيره، فلا يصل إلى المزدلفة حتى يفوته الوقوف بها، قال: أرى أن يهريق دما.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الوقوف بالمشعر الحرام من مناسك الحج وسنته، وليس من فرائضه عند مالك، فيجزي عنه عنده الهدي، وذهب ابن الماجشون إلى أنه من فرائض الحج لا يجزي عنه الهدي؛ لقوله عز وجل: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] ، والدليل على أنه غير واجب، تقديم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضعفة أهله بليل من المزدلفة إلى منى، فلم يقفوا بالمشعر الحرام، ولو كان الوقوف به واجبا لما قدمهم، كما لم يقدمهم من عرفة؛ إذ الوقوف بها ليلا من فرائض الحج؛ لأن الدفع من مزدلفة إلى منى أخف من الدفع من عرفة إلى المزدلفة، فتقديمهم في الأخف دون الأثقل دليل على سقوط وجوب الوقوف بالمشعر الحرام.
[مسألة: ما يقول في التلبية من أراد أن يقرن بين الحج والعمرة]
مسألة قال مالك: الصواب فيمن أراد أن يقرن بين الحج والعمرة إذا أحرم بالتلبية أن يقول: لبيك بعمرة وحجة، يبدأ بالعمرة قبل الحجة، هذا وجه الصواب فيه.(3/426)
قال محمد بن رشد: يريد أنه يقدمها في نيته قبل الحجة، لا أنه يتكلم بذلك؛ إذ النية تجزي في ذلك عنده كالصلاة، ولا يحتاج ذلك إلى الكلام، ومثل هذا في الحج الأول في المدونة، وهو ما لا اختلاف فيه في المذهب.
[مسألة: الارتجاز في الرمل]
مسألة وسئل عن قول عروة: لا إله إلا أنت، وأنت تحيي بعد ما أمت، قال: ليس عليه العمل، هذا أمر قد ترك.
قال محمد بن رشد: كان عروة يقول ذلك في رمله الأشواط الثلاثة بالبيت، وروي عن ابن عمر أنه كان يقول في ذلك: اللهم اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم؛ إنك الأعز الأكرم، فقول مالك ليس عليه العمل، يريد ليس العمل على الارتجاز في الرمل؛ لأنه أمر قد ترك العمل به، فليس ذلك مما يستحب به، بل المستحب ألا يقصد إلى الرجز، ويذكر الله بما أمكنه وتيسر عليه من تهليله، وتعظيمه، وحمده، والثناء عليه، والرغبة إليه.
[مسألة: قدم الإحرام على التقليد والإشعار]
مسألة وسئل مالك عن البدنة متى تشعر؟ قال: تشعر وتقلد قبل أن يصلي الرجل بذي الحليفة، ثم يصلي ويحرم.
قال محمد بن رشد: قوله: تشعر وتقلد؛ لأن التقليد قبل الإشعار في الاختيار، وهذا مثل ما في المدونة، وهو الشأن والاختيار، وليس في ذلك إلا الاتباع، فإن قدم الإحرام على التقليد والإشعار، أو على أحدهما أو قدم الإشعار على التقليد، فلا حرج عليه في شيء من ذلك كله ولا دم، وإنما اختير(3/427)
تقديم التقليد والإشعار على الإحرام؛ لئلا يشتغل بذلك بعد الإحرام، واختير تقديم التقليد على الإشعار؛ لأنها قبل الإشعار أمكن، فتقليدها حينئذ أمكن، إذ قد يحدث الإشعار فيها تصعبا.
[مسألة: يقال إن النبيذ الذي يعمل في السقاية من السنة]
ومن كتاب طلق بن حبيب مسألة وقال لمالك رجل من الحجبة: إنه يقال: إن النبيذ الذي يعمل في السقاية من السنة، فقال: لا والله، يريد ما هو من السنة، قيل لمالك: إنه قد كان على عهد أبي بكر وعمر، قال: ما كان على عهدهما، ولو ذكرت لكلمت أمير المؤمنين حين قدم علينا فيه، يقول: ليقطعه، فكرهه كراهية شديدة.
قال محمد بن رشد: وقد أنكر مالك أن يكون ذلك من السنة وأقسم على ذلك، وأنكر أن يكون على عهد أبي بكر وعمر، فكفى بقوله في ذلك حجة، فاتباع رأيه في ذلك صواب ورشاد؛ لأن الرشد في اتباع السنن والأمر الماضي.
[مسألة: يطلع منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخفين]
مسألة قال مالك: استشارني بعض ولاة المدينة أن يطلع منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخفين، فنهيته عن ذلك، ولم أر أن يطلعه بخفين، فقيل له فالكعبة؟ فقال: إن بعض الحجبيين ممن قدم علينا يذكر أن النبي نهى أن تطلع الكعبة بنعلين، فقيل له: فالرجل يجعلهما في حجرته؟ قال: لا بأس بذلك.(3/428)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من كراهية أن يطلع أحد منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بخفين أو نعلي الإمام أو غير الإمام، وأن يدخل البيت بنعلين أو خفين إكراما لهما، وترفيعا وتعظيما؛ إذ من الحق أن ينزها عن أن يوطئا بالخفاف والنعال المتخذة لصيانة القدمين عن المشي بهما في الطريق والمحاج، وإن كانت طاهرة، ولم ير ابن القاسم بأسا في المدونة أن يدخل بهما في الحجر، وكره ذلك أشهب في المجموعة؛ لأن الحجر من البيت، قال: وكراهيتي لذلك في البيت أشد.
[مسألة: شرب الفلونيا والترياق للمحرم وفيهما الزعفران]
مسألة وسئل مالك عن شرب الفلونيا والترياق للمحرم وفيهما الزعفران، قال: لا بأس به، قال: والذي فيه من الزعفران ليس له قدر، وما أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: أجاز ذلك؛ لأن الذي فيهما من الزعفران يسير لا قدر له ولا يظهر فيهما، فلم ير له حكما لما كان مستهلكا فيهما، كما أن لبن المرأة عنده إذا خلط بالطعام وعصد به حتى صار هو الغالب عليه لم تقع به حرمة، فليس ذلك بخلاف لما في المدونة وغيرها من أن الحرم لا يأكل فيه الطعام الذي فيه الزعفران، إلا أن يكون قد مسته النار، قال ابن حبيب: فتعلك بالطعام حتى لا يصبغ اليد ولا الشفة، زاد في هذه الرواية في هذا الرسم من الجامع، قال مالك حين ذكر شرب الترياق للمحرم، أشد من هذا عندي ما يصيب الناس في إحرامهم من طيب البيت فكرهه، كأنه يرى أن له(3/429)
في ذلك سعة، وأنه أمر لا يستطاع يقول: وكيف يصنعون وسياق مالك هذه المسألة عليها يدل على أنه إنما لم ير على المحرم في شرب الفلونية والترياق شيئا؛ لأنهما إنما يشربان لضرورة التداوي، بخلاف الطعام الذي يؤكل لغير ضرورة، فهي علة أخرى أيضا في الفرق بين ذلك وبين ما في المدونة.
[مسألة: المعتمر أيحلق أحب إليك أم يقصر]
مسألة وسئل عن المعتمر أيحلق أحب إليك أم يقصر؟ قال: بل يحلق إلا أن تكون أيام الموسم، ويتقارب الحج مثل الأيام اليسيرة، فلا أرى أن يحلق، ويقصر أحب إلي.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الحلاق أفضل من التقصير؛ لأن الله بدأ به في كتابه: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] ، «ودعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين واحدة» ، إلا أن يقرب الحج؛ فالتقصير في العمرة أفضل ليبقى عليه الشعث في الإحرام بالحج، وليبقى له ما يحلق فيه، وهو بين.
[مسألة: نفست أو حاضت قبل أن تطوف طواف الإفاضة]
مسألة قال مالك: أرى أن يحبس كري النفساء إذا نفست كما يحبس في الحيضة في الحج والعمرة.
قال محمد بن رشد: يريد إذا نفست أو حاضت قبل أن تطوف طواف الإفاضة، يحبس عليها في النفاس ستين يوما أقصى دم النفاس، واستحسن في سماع أشهب أربعين في الطب، واختلف في الحيضة إن تمادى بها الدم، فقيل: يحبس عليها خمسة عشر يوما، وهو قول مالك في سماع أشهب، وفي الحج الثالث من المدونة أنه يحبس عليها أيامها المعتادة والاستطهار، ظاهره(3/430)
تطوف إن تمادى بها الدم، وتكون في حكم المستحاضة؛ تصلي وتصوم وتطوف ويأتيها زوجها ... أبي زيد أنها لا تطوف ولا يحبس عليه كريها أكثر من ذلك، فيفسخ الكراء بينها وبينه، وذلك يتأتى على رواية ابن وهب عن مالك في المدونة أن الاستطهار بثلاث إنما هو احتياط للصلاة، وليست مستحاضة حتى تبلغ خمسة عشر يوما، فتغتسل على هذا بعد الاستطهار استحسانا، وتصلي ولا تطوف، ولا يأتها زوجها وتصوم، ثم تقضي الصيام ما بينها وبين الخمسة عشر يوما ما خلاف العشر يوما اغتسلت غسلا ثانيا واجبا، وكانت من حينئذ مستحاضة في حكم الطاهر في أمرها كله، إلا ما يستحب لها من الوضوء لكل صلاة، ومن أهل العلم من يوجب عليها الغسل لكل صلاة، ومنهم من يوجب عليها أن تغتسل للصبح غسلا، وللظهر والعصر غسلا، وللمغرب والعشاء غسلا، ومنهم من يوجب عليها أن تغتسل من ظهر إلى ظهر، وتتوضأ لكل صلاة، وهو قول سعيد بن المسيب في الموطأ.
[مسألة: دخل بعمرة فطاف وسعى ولم يحلق فأراد دخول البيت]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا مسألة وسئل عن رجل دخل بعمرة، فطاف وسعى ولم يحلق، فأراد دخول البيت أن يحلق، قال: لا يعجبني ذلك أن يفعله حتى يحلق، ولا يقرب البيت حتى يحلق ولا يطوف.
وهذا كما قال؛ لأن الحلاق هو تمام العمرة، فإذا طاف(3/431)
قبله أو دخل البيت، فكأنه قد زاد في العمرة، وأدخل فيها ما ليس منها.
[مسألة: الذكر والأنثى من الإبل في الهدايا سواء]
ومن كتاب يسلف مسألة قال مالك: لا أرى بأسا بالجمل الذكر يشترى بدنة، الذكر في ذلك والأنثى سواء، قال عز وجل: {وَالْبُدْنَ} [الحج: 36] لم يقل الإناث، ولا أرى به بأسا أن يشتري ذكرا في وصية، أو تطوع، أو غير ذلك.
قال محمد بن رشد: ذهب مالك إلى أن الذكر والأنثى من الإبل في الهدايا سواء، وأن الذكر منها يسمى بدنة كما تسمى الأنثى بدنة؛ لأن ذلك إنما أخذه من عظم البدن، وقد تسمى البقرة بدنة؛ لأنها أعظم بدنا من الشاة، ولا اختلاف بين الفقهاء في أنه يجوز أن يهدي الجمل الذكر، فقد أهدى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جملا كان لأبي جهل ابن هشام في حج أو عمرة، إلا أن من أهل العلم من لا يراه بدنة ولا داخلا تحت قوله عز وجل: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا} [الحج: 36] الآية، ومنهم من يراه بدنة، ويرى أن الأنثى أفضل ولا فضل عند مالك للأنثى في ذلك على الذكر، وإنما الفضل عنده في الأعظم بدنا، ذكرا كان أو أنثى، ودليله الذي استدل به من ظاهر القرآن ظاهر، وبالله التوفيق.
[مسألة: المتمتع يصوم ثلاثة أيام في الحج ثم يهلك قبل أن يصوم السبعة]
مسألة وقال مالك في الرجل المتمتع يصوم ثلاثة أيام في الحج، ثم(3/432)
ينصرف إلى بلده، فيهلك قبل أن يصوم السبعة، قال: سواء مات ببلده أو بمكة، أرى أن يهدى عنه هدي.
قال محمد بن رشد: هو لو وجد الهدي بعد أن صام الثلاثة الأيام قبل أن يموت، لم يجب عليه الهدي إلا أن يشاء، وإنما عليه الصيام، فإنما قال مالك: أرى أن هذا استحباب، من أجل أنه لا يصوم أحد عن أحد، والله أعلم.
[مسألة: شأنه أكل أظفاره وشعر لحيته فيفعل ذلك وهو محرم]
مسألة وسئل مالك على الذي من شأنه أكل أظفاره وشعر لحيته، فيفعل ذلك وهو محرم، قال: أرى أن يفتدي بصيام ثلاثة أيام، أو نسك شاة، أو إطعام ستة مساكين يريد بذلك فيما أظن، وإن كان مرارا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه في معنى قص أظفاره وشعر لحيته بالجلمين؛ لأنه مميط بذلك الأذى عن نفسه بالحالتين.
[مسألة: السعي بين الصفا والمروة يحتاج صاحبه إلى بول أو خلاء]
مسألة وسئل مالك عن السعي بين الصفا والمروة يحتاج صاحبه إلى بول أو خلاء، فيخرج فيبول أو يقضي حاجته ثم يرجع، أيبني أم يستأنف؟ قال: بل يبني.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، وإنما أجاز له أن يبني بخلاف الصلاة؛ لأن السعي بين الصفا والمروة ليس من شرط صحته الطهارة، فإذا احتاج إلى الحدث أحدث وبنى، ولم يستأنف.(3/433)
[مسألة: الصبية يحج بها أتحلق]
مسألة وسئل عن الصبية يحج بها أتحلق؟ فقال: ما شاءوا، إن شاءوا حلقوا، وإن شاءوا جزوا، ذلك شأن الصبيان، وأما النساء فإنهن لا يحلقن ويقصرن.
قال محمد بن رشد: إنما لم يحلق النساء؛ لأن الحلق لهن مثلة بهن، وأما الصبية الصغيرة التي لا يشينها الحلق، فهي في حكم الصبيان الذكور، إن شاءوا حلقوا، وإن شاءوا جزوا للرفق بهم، وإذا قيل: إنهم لا يثابون على الطاعات كما لا يؤاخذون على المعاصي، وأما الرجال فالحلق لهم أفضل في الحج والعمرة، إلا أن يكون العمرة قبل الحج بيسير، على ما مضى في رسم طلق قبل هذا.
[مسألة: حج النساء في البحر]
مسألة وسئل مالك عن حج النساء في البحر فكره ذلك، وقال: لا أحب لهن أن يحججن في البحر، وعابه عيبا شديدا.
قال محمد بن رشد: إنما كره من ناحية الستر، مخافة أن ينكشفن؛ لأنهن عورة، وهذا إذا كن في معزل عن الرجال لا يخالطهن عند حاجة الإنسان، وفي سعة يقدرن على الصلاة، وأما إن لم يكن في معزل عن الرجال، أو كن في ضيق يمنعهن من إقامة الصلاة على سنتها، فلا يحل لهن أن يحججن فيه، وقد قال مالك في رسم الصلاة، من سماع أشهب، من كتاب الصلاة، في الذين يركبون البحر في الحج والعمرة، ولا يقدر أحدهم أن يسجد إلا على ظهر أخيه: أيركب حيث لا يصلي؟ ويل لمن ترك الصلاة، وقد مضى القول(3/434)
على ذلك هناك، في كراهيته للنساء ركوب البحر في الحج، دليل على جوازه عنده للرجال، وهذا هو الذي يدل عليه قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] الآية؛ لأنه يبعد أن يعدد الله على عباده من نعمه ما حظره عليهم ولم يبحه لهم، ويدل عليه من السنة حديث أنس بن مالك: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نام عند أم حرام، ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج البحر ملوكا على الأَسِرّة، أو مثل الملوك على الأسرة» ، الحديث، وفي دعاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم حرام أن يجعلها منهم بسؤالها إياه، ذلك دليل على جواز ركوبه للنساء، وذلك على الصفة الجائزة، وفي المجموعة لمالك من رواية ابن القاسم عنه أنه كره الحج في البحر، إلا لمثل الأندلس الذين لا يجدون من ذلك بُدّا، وقد قيل: إن فرض الحج منسقط عمن لا يقدر على الوصول إلى مكة إلا على البحر؛ لقوله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] الآية؛ إذ لم يذكر إلا هاتين الصفتين، وهو قول شاذ وقول ضعيف؛ لأن مكة ليست في ساحل البحر، فلا يصل أحد إليها إلا راكبا أو راجلا ركب البحر في بعض طريقه، أو لم يركب، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة تقلد وتشعر]
مسألة وسئل مالك عن قول ابن شهاب في المرأة تقلد وتشعر، قال مالك: أراه خطأ، وقال: لا يقلد ولا يشعر إلا من ينحر، وإني(3/435)
لأستحب للمرء أن يتواضع لله، ويخضع له ويذل نفسه، كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينحر بدنه، وإن ناسا يأمرون من يذبح لهم يريد بذلك أهل الطول، ويعيب ذلك عليهم، قيل: يا أبا عبد الله، فلو أن امرأة اضطرت إلى أن تأمر جاريتها تقلد وتشعر، قال مالك: إذا اضطرت إلى ذلك رأيت ذلك مجزيا عنها، ولا أرى للمرأة أن تقلد وتشعر، وهي تجد رجلا يقلد لها ويشعر.
قال محمد بن رشد: لما نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدنه بيده، ولم ينحر أزواجه عن أنفسهن، بل نحر عنهن كان في ذلك ما قد دل على أن المرأة لا تذبح ولا تنحر، إلا أن تضطر إلى ذلك، والتقليد والإشعار من ناحية النحر، فلا ينبغي للمرأة أن تفعل ذلك إلا من ضرورة، فإن فعلته من غير ضرورة، كانت قد أساءت وأكلت ذبيحها، وهذا مما لا اختلاف فيه أحفظه.
[مسألة: مشى عن أحد وحج عن نفسه وهو صرورة]
مسألة وقال فيمن مشى عن أحد وحج عن نفسه وهو صرورة، أجزأت عنه حجته الفريضة، ولم يضره مشيه الذي مشى عن أحد، قال ابن القاسم: إنه لا يمشي أحد عن أحد، ولأنه في مشيه عن نفسه الذي ينبغي له أن يقضي الذي هو أتمهما إذا أشرك معه غيره، وقد كان في هذا كلام، فسئل عنه مالك عاما بعد عام، فثبت لنا على هذه أنه يقضي حجة الإسلام، ويكون مشيه لنذره.
قال محمد بن رشد: قال: إنه إذا حج عن نفسه ومشى عن غيره يجزيه حجه عن نفسه، ولا يضره مشيه عن غيره، من أجل أنه لا يمشي أحد(3/436)
عن أحد كما قال ابن القاسم، وفي قوله: ولأنه في مشيه في نفسه الذي ينبغي له أن يقضي الذي هو أتمهما؛ يريد بذلك الذي هو أوجبهما، وقوله: إذا أشرك معه غيره يريد إذا أشرك مع النذر الحج في النية بمشي، يريد حجه ونذره أن الذي ينبغي له أن يقضي الحج، ويجزيه الحج الذي حج عن النذر، وأما الإشكال في المعنى فسياقه ذلك على سبيل الحجة لمالك، في الذي مشى عن غيره وحج عن نفسه؛ لقوله: ولأنه في مشيه إلى آخر قوله، وليس في ذلك حجة، وموضع الحجة إنما هو في قوله بعد ذلك: وقد كان في هذا كلام، أي اختلاف، يقول: فإذا كان من أهل العلم من يقول: إنه يجزيه الحج عن الفريضة، وإن نوى معه النذر الذي هو واجب عليه، فكيف يصح لقائل أن يقول: إنه لا يجزيه إذا نوى معه المشي عن أحد الذي ليس بواجب عليه، ولا جائز له فعله أيضا، هذا إغراق، وبُعد عن الصواب، والاختلاف فيمن حج يريد نذره أوله فرضه جار على الاختلاف في الحج، هل على الفور أو على التراخي، يقوم من قول مالك في هذه المسألة: إنه على التراخي، وقد روى عبد المالك، عن مالك فيمن حج لفرضه ونذره بطلا جميعا، وبالله التوفيق.
[مسألة: رمى الجمار فنسي في الأولى حصاة]
مسألة وسئل مالك عمن رمى الجمار، فنسي في الأولى حصاة، قال: يرجع فيرمي الأولى بالحصاة التي نسي، ثم يرمي الأخريين بسبع سبع، فقيل لمالك: فالذي ينسى حصاة لا يدري من أيتهن هي؟ قال مالك: يبتديهن كلهن بسبع سبع، ليس هو عندي مثل هذا، وفي(3/437)
رواية عيسى بن دينار قال: يرمي الأولى بحصاة، ثم الأخريين بسبع سبع، قال ابن القاسم: هو أحب قوله إلي.
قال محمد بن رشد: وجه هذا القول الذي اختاره ابن القاسم البناء على اليقين قياسا على الصلاة؛ لأنه إذا شك في حصاة لا يدري من أي جمرة هي، فقد أيقن أنه رمى الجمرة الأولى بست حصيات، وشك في السابعة، فيرميها لتخلص له سبع حصيات يقينا، ثم يعيد الجمرتين للرتبة، ووجه القول الأول أنه إن بنى في الجمرة الأولى على اليقين، ولم تكن الحصاة التي بنى منها، كان قد رماها بثمان حصيات، والسنة أن يرمي بسبع، ولا يقاس ذلك على الصلاة في البناء على اليقين؛ لأن فيها سجود السهو، وذلك يشفع له الركعة التي أتى بها إن كانت زائدة كما جاء في الحديث، فهذا القول أظهر، والله الموفق.
[مسألة: الرجل من الشام أو مصر يقلد ويشعر بذي الحليفة ويؤخر إحرامه]
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته ليرفعن أمرا مسألة وسئل مالك عن الرجل من أهل الشام، أو من أهل مصر يقلد ويشعر بذي الحليفة، ويؤخر إحرامه حتى يأتي الجحفة، قال: لا يفعل ذلك، وكرهه.
قال محمد بن رشد: هذا نص ما في كتاب الحج الثاني من المدونة، والأمر في ذلك واسع، وقد روى داوود بن سعيد، عن مالك أنه لا بأس بذلك، وإن كان أحب إليه أن يقلد ويشعر عندما يحرم، فالاختيار عند مالك لمن أراد أن يحرم ألا يقلد ويشعر عند إحرامه، وأما من لم يرد أن يحرم، وبعث بهدي، فليس عليه أن يحرم عندما يقلد الهدي ويشعر، خلافا لما روي عن ابن عباس من أنه قال: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي، وقد «قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: ليس كما قال ابن عباس: أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي، ثم قلدها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/438)
بيده، ثم بعث بها، فلم يحرم شيء مما أحله الله له حتى نحر الهدي» ، وقد أنكر ذلك عبد الله بن الزبير على من فعله، وقال: بدعة ورب الكعبة.
[مسألة: نحر قبل أن يطلع الفجر بمنى]
مسألة وقال: من نحر قبل أن يطلع الفجر بمنى، فليعد النحر.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها، وهو أمر لا اختلاف فيه في المذهب أن من رمى أو نحر قبل طلوع الفجر من يوم النحر فلا يجزيه، فإن رمى ونحر بعد طلوع الفجر أجزأه، والاختيار أن يفعل ذلك كله بعد طلوع الشمس ضحى، وكذلك فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذهب الشافعي إلى أن من رمى قبل الفجر بعد نصف الليل أجزأه، واستدل بما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واعد أم سلمة أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة» ، قال: ولا يمكن أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة إلا وقد رمت قبل الفجر؛ لبعد ما بين الموضعين، وهو حديث غير صحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة يوم النحر إنما كان بمنى لا بمكة، وعندي أنه يحتمل أن يتأول الحديث على أن فيه تقديما وتأخيرا، وتقديره أنه واعدها يوم النحر أن توافيه صلاة الصبح بمكة يريد من الغد، فيستقيم الحديث، ويبطل احتجاج الشافعي به، وذهب أبو حنيفة إلى أنه من رمى قبل طلوع الشمس لم يجزه الرمي، وحجته ما روي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث ضعفة أهله ليلا من جمع، وقال لهم: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» ، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل إن صح ذلك أن يكون معناه على الأمر بما هو أفضل؛ إذ قد روى غيره: «لا ترموا الجمرة إلا مصبحين» ، والإصباح يكون قبل طلوع الشمس، وهذا هو الأظهر، أنه لما قدمهم بليل خشي أن يأتوا الجمرة قبل الإصباح، فنهاهم إن وصلوا إليها قبل الإصباح أن يرموها إلا مصبحين، والله أعلم.(3/439)
[مسألة: لبس المحرم الخاتم]
مسألة وسئل مالك عن محرم جعل صدغين، فقال: أرى عليه الفدية، وإن عصب رأسه افتدى، قيل: إن التعصيب يعقد، وإن الصدغين لا يعقد فيهما؟ قال: هو من ناحية العقد.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة في الحج الأول في الصدغين، وفي الحج الثاني في التعصيب، زاد في مسألة الصدغين، وكذلك إن كانت به قروح، فألصق بها الخرق فعليه الفدية، إلا أن تكون الخرق صغارا، وزاد في مسألة التعصيب أن الجسد والرأس سواء، عصب على رأسه من صداع أو جراح، أو على بعض رأسه من جرح أو جراح، أو فعل ذلك لغير علة، عليه الفدية في ذلك كله، وكذلك قال فيما يأتي في هذا الرسم في الذي يعصب على ذكره عصابة، وهو محرم للبول أو المذي، وإنما وجب عليه الفدية في ذلك؛ لأنه نفى الشعث عن الجسد بثوبه عليه، قياسا على لباس المخيط، وقد قيل: إنه في ذلك لا فدية في ذلك؛ لأنه يدخل في معنى النهي عن لباس المخيط، وهو قوله في مختصر ما ليس في المختصر: إن من أصاب إصبعه شيء فجعل، عليه حناء، ولف عليه خرقة، فلا شيء عليه، ولبس المنطقة من هذا المعنى، فتفرقته فيها بين أن يلبسه باختيار أو ضرورة حرز نفقته قول ثالث، وهذا كله في الرجل، فأما المرأة فلا فدية عليها في شيء من ذلك؛ لأن لباس المخيط لها جائز في إحرامها، ومن هذا المعنى لباس الخاتم، وتقلد السيف قيل: إنه من اللباس، ففيه الفدية، وقيل: إنه ليس من اللباس فلا فدية فيه، والقولان قائمان من المدونة؛ لأنه خفف للصبيان أن يحرم بهم وفي أرجلهم الخلاخل وعليهم الأسورة، فدل أن الرجال في ذلك(3/440)
بخلافهم، وهو قول أصبغ: إن من تقلد سيفا في إحرامه لغير حاجة فعليه الفدية، ولم ير فيها فدية في الخرق تلصق على القروح إذا كانت صغارا، فدل ذلك على جواز لباس الخاتم؛ ليسارة ما يستر من الإصبع، وهو الذي يأتي على مختصر ما ليس في المختصر في الذي يلف على إصبعه الخرقة لشيء أصابه، وقد نص على ذلك أيضا فيه، فقال: لا بأس أن يلبس المحرم الخاتم.
[مسألة: التلبية أيكثر منها جدا أحب إليك]
مسألة وسئل مالك عن التلبية، أيكثر منها جدا أحب إليك؟ قال: قد جعل الله لكل شيء قدرا، فأما الذي لا يسكت، فإنه لا يعجبني، وأرى أنه خطأ ممن فعله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن كثرة الإلحاح بذلك خطأ؛ لأن السنة في ذلك، والشأن أن يلبي حينا بعد حين، وفي دبر كل الصلوات، وعند تلاقي الرفاق، وعلى كل شرف من الأرض.
[مسألة: يلبي في رجوعه من الحج]
مسألة وسئل مالك عمن أحرم وخرج إلى مكة، فلما كان ببعض الطريق أبق غلامه، أو نسي شيئا من متاعه في بعض المناهل، أيلبي راجعا إذا رجع في طلب ذلك؟ قال: نعم، لا بأس بذلك، قال مالك: كان رجل من أهل العراق يحرم بالحج إذا قفل، فلقيه مولى لابن عباس - أراه عكرمة - وكان مفوها، فقال له: لم فعلت هذا، إني أظنك رجل سوء؟ يقول الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] ، وأنت تلبي راجعا.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه يلبي إذا رجع في ذهابه لأخذ حاجته؛ لأنه في حكم الذاهب بعد ذلك، وأما إذا قفل من الحج فلا وجه(3/441)
لتلبيته؛ لأن المدعو إنما يجيب الداعي حتى يصل إليه، ولا وجه لإجابته إياه في انصرافه عنه، وذلك ازدراء ممن فعله، ولذلك قال عكرمة لمن أراه يلبي في رجوعه من الحج: أراك رجل سوء؛ لأن إبراهيم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه إنما دعا الناس إلى الحج، كما أمره الله حيث يقول: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] من عرفة، فإليها ينتهي غاية الملبي.
[مسألة: لم يأت المسجد يوم عرفة أيجمع بين الصلاتين في رحله]
مسألة وسئل مالك عمن لم يأت المسجد يوم عرفة يصلي مع الإمام، وهو على ذلك الجمع بين الصلاتين في رحله، قال: نعم يتبع في ذلك السنة، وليجمعهما حين ترجع الشمس.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المعنى في جمع الصلاتين عند الزوال إنما هو تعجيل الدفع إلى عرفة لفضل الوقوف بها من حينئذ، فينبغي له إذا لم يصل مع الإمام أن يجمع الصلاتين في رحله عند الزوال، ويدفع مع الناس إلى عرفة ليدرك من فضل الوقوف بها معهم ما أدركوا.
[مسألة: المحرم يقصر إزاره فيريد أن يصلي فيه ويعقده خلف قفاه]
مسألة وسئل مالك عن المحرم يقصر إزاره، فيريد أن يصلي فيه ويعقده خلف قفاه، قال مالك: لا يعقد المحرم إزاره خلف قفاه، ولكن إن لم يستطع أن يتوشح به اتزر به، فقيل له: أترى عليه صدقة إن عقده؟ قال: أرجو أن يكون واسعا إن شاء الله؛ يريد بذلك ألا يكون عليه شيء.
قال محمد بن رشد: الاختيار للمحرم أن يحرم في ثوبين يتزر بأحدهما، ويضطبع بالآخر، وهو أن يشتمله ويخرج منكبه الأيمن، ويأخذ طرفي الثوب من تحت إبطه الأيمن على منكبه الأيسر، فإن لم يكن له إلا ثوب(3/442)
واحد توشحه في الصلاة، وهو أن يخرجه طرفه الأيمن من تحت إبطه الأيمن، فيلقيه على منكبه الأيسر، ويخرج طرفه الأيسر من تحت إبطه الأيسر، فيلقيه على منكبه الأيمن، فإن كان قصيرا لا يثبت إلا أن يعقده في قفاه اتزر به، ولم يعقده بسبب الإحرام، فإن عقده وصلى به معقودا في قفاه لم يكن عليه شيء على هذه الرواية، وفي كتاب ابن المواز لمالك: أن عليه الفدية، وروى ابن أبي أويس، عن مالك أنه قال: ما أشبهه أن يكون عليه الفدية، وما هو بالبين، ولو اتزر به كان أحب إلي. فوجه إسقاط الفدية عنه أنه لم يعقده للانتفاع بعقده، وإنما عقده؛ لئلا يصلي مكشوف البطن والظهر، وقد كره ذلك، ووجه إيجابها عليه هو أنه قد حصل منتفعا بالعقد في حال الصلاة، وإن لم يقصد إلى ذلك.
[مسألة: المعتمر يطوف ويركع ركعتين ثم يودع ويخرج إلى السعي]
مسألة وسئل مالك عن المعتمر يطوف ويركع ركعتين، ثم يودع ويخرج إلى السعي فيسعى وينصرف إلى بلده، قال: ذلك يجزي عنه من الوداع.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن طواف الوداع إنما يجب على من أقام بمكة بعد قضاء نسكه؛ ليكون آخر عهده الطواف بالبيت على ما روي عن ابن عباس قال: «كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "لا ينفر أحد من الحاج حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت» ، على ما قال عمر بن الخطاب: لا يصدرن أحد من الحاج حتى يطوف بالبيت؛ لأن آخر النسك الطواف بالبيت، قال مالك: وذلك لقول الله عز وجل: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] أي محل الشعائر كلها وانقضاؤها إلى البيت العتيق.(3/443)
[مسألة: أحرم في أشهر الحج بالعمرة ثم حج]
مسألة وسئل مالك عمن أحرم في أشهر الحج بالعمرة، ثم حج، أذلك أحب إليك أم إفراد الحج والعمرة بعد الحج في ذي الحجة؟ قال: بل إفراد الحج والعمرة في ذي الحجة بعد الحج أحب إلي، صرورة كان أو غير صرورة.
قال محمد بن رشد: يريد كما فعلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حين أعمرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الحيضة من التنعيم، وهذا على مذهبه في أن الإفراد أحب إليه من التمتع والقران على حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفرد الحج» ، ومن ذهب إلى أن ما روي من أن رسول الله كان متمتعا رأى العمرة في أشهر الحج قبل الحج أفضل منها بعد الحج في ذي الحجة، وهو قول عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، روى عنه مالك في موطئه أنه قال: والله لأن أعتمر قبل الحج وأهدي، أحب إلي من أن اعتمر بعد الحج في ذي الحجة.
[مسألة: يعصب على ذكره عصابة وهو محرم]
مسألة وسئل مالك عن الذي يعصب على ذكره عصابة وهو محرم يعصب ذلك للبول أو المذي يقطر منه، قال: عليه الفدية.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في هذا الرسم، فلا معنى لإعادته مرة أخرى، ولو اتخذ خرقة لفرجه، فجعلها على ذكره ولم يلفها عليه لم يكن عليه فدية على ما قال في أول رسم من كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه.
[مسألة: يمشي أحد عن أحد وأحب إلي أن يهدي هديين]
مسألة وسئل مالك عمن أوصى أن يمشى عنه في يمين حنث فيها(3/444)
بالمشي، فقال: يهدي عنه، ولا يمشي أحد عن أحد، وأحب إلي أن يهدي هديين، وهو قول مالك.
قال محمد بن رشد: قد تقدم هذا القول على هذه المسألة في هذا الرسم المتكرر قبل هذا، فلا معنى لإعادته هاهنا.
[مسألة: المحرم تكون به القروح]
مسألة سئل عن المحرم تكون به القروح، أيحك قروحه حتى يخرج الدم؟ قال: نعم، لا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف أعلمه في جوازه، وقد سئلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن المحرم أيحك جسده؟ قالت: نعم، فليحككه وليشدد قالت عائشة: ولو ربطت يداي ولم أجد إلا رجلي لحككت، وبالله التوفيق.
[مسألة: يطوف بالبيت ويركع ثم يمرض فلا يستطيع أن يسعى]
مسألة وسئل مالك عن الذي يطوف بالبيت ويركع، ثم يمرض فلا يستطيع أن يسعى حتى ينتصف النهار، فكره الفرق بين الطواف والسعي، قال ابن القاسم: من فعل ذلك افتدى.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة، والقول فيها في هذا الرسم المذكور قبل هذا، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: إمام الحاج متى يستحب له أن يغدو من منى إلى عرفة]
مسألة وسئل مالك عن إمام الحاج متى يستحب له أن يغدو من منى إلى عرفة؟ قال: إذا طلعت الشمس، وإني لأستحبه للناس، وفي ذلك سعة مثل الضعيف والدابة تكون بها العلة وما أشبه ذلك.(3/445)
قال محمد بن رشد: إنما استحبه له لأجل أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صنعه، ومضى عليه عمل الخلفاء بعد.
[مسألة: يهل أهل الشام من الجحفة]
مسألة وسئل مالك عن الجحفة، هل سمعت في مساجدها بحد من المسجد الأول، أو من الآخر يحرم منه؟ قال: ما سمعت فيه شيئا، وإنما سمعت الحديث في الجحفة، وذلك واسع إن شاء الله، وروى أشهب مثله، وزاد قيل له إذا صلى فيه أيهل من جوف المسجد، أم يهل إذا استوت به راحلته؟ فقال: لا يهل من جوف المسجد، ولكن إذا استوت به راحلته.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قال: «ويهل أهل الشام من الجحفة» ، ولم يخص مسجدا من مساجدها دون غيره، فمن أيها أهل المحرم، فقد امتثل الأمر، وقد قال مالك في المختصر الكبير: ومن أهل من الجحفة فالوادي مهل كله، وأحب إلينا أن يحرم من أوله حتى يأتي محرما على ذلك كله، وهو حسن من الفعل، وأما قوله: إنه لا يهل من جوف المسجد، وإنما يهل إذا استوت به راحلته، فهو على ما رواه وأخذ به من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يهل حتى استوت به راحلته في فناء المسجد بذي الحليفة، وقد روي أنه أهل في جوف المسجد حين صلى الركعتين، وروي أيضا إنما أهل حين أشرف على البيداء، وقد روي عن ابن عباس: إنما وضح وجهة هذا الاختلاف، فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب الحج حين قضى الركعتين، فلما استوت به راحلته في فناء المسجد أهل أيضا، ولما أشرف على البيداء أهل أيضا، وكان الناس يأتونه أرسالا، فحدث كل بما رأى، فمن قال: إنه أهل حين(3/446)
استوت به راحلته لم يره حين أهل في المسجد، ومن قال: إنه أهل بالبيداء لم يره حين أهل في المسجد ولا حين أهل، إذ استوت به راحلته، فمن أخذ بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى الإهلال من جوف المسجد.
[مسألة: محرمين خرجا إلى الحج حتى إذا كانا بالأبواء اتهما بقتل رجل]
مسألة وسمعت مالكا، وسئل عن محرمين خرجا إلى الحج حتى إذا كانا بالأبواء أو بالجحفة اتهما بقتل رجل وجد قتيلا، فأخذا فردا إلى المدينة، فحبسهما عامل المدينة، فأتى إلى مالك فيهما وأخبر بأنهما محرمان، وأنهما قد حبسا، قال مالك: لا يحلان حتى يأتيا البيت فلا يزالان محرمين حتى يطوفا بالبيت ويسعيان، وأراهما مثل المريض.
قال محمد بن رشد: زاد في النوادر عن مالك أو يثبت عليهما ما ادعي عليهما فيقتلان، وهو تمام المسألة، وإنما رآهما مثل من أحصر بمرض؛ لأنهما إنما حبسا بالحكم الذي أوجبه الله، فكان بمنزلة المرض الذي هو من عند الله، ومذهبه أن المحصر بمرض لا يحل من شيء من إحرامه حتى يطوف بالبيت، فإن بقي على إحرامه إلى حج قابل، فحج به لم يكن عليه هدي، وإن حل بعمرة حج قابل كان عليه قضاء الحج وهدي عن تحلله من إحرامه بالعمرة ينحره في حج القضاء؛ لقوله عز وجل: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، فهذا الهدي على مذهب مالك هو الهدي الأول، وعند عروة بن الزبير، وابن شهاب، وجماعة من العلماء أن الهدي الأول غير الثاني، وأن الأول يحل له لبس الثياب، وإلقاء التفث وهو في موضعه إذا وصل الهدي(3/447)
إلى مكة بميعاد يضربه له، والثاني لفوات الحج وتحلله بالعمرة، ولو حبسا ظلما وعداء بغير تهمة ولا سبب؛ لكان حكمهما حكم المحصر بعد، ويحلان بموضعهما الذي حبسا فيه، ويحلقان وينحران هديا إن كان معهما، ولا قضاء عليهما عند مالك.
[مسألة: يدخل بعمرة بليل فيطوف ويسعى ويؤخر حلاق رأسه حتى يصبح]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء مسألة وسئل مالك عن الرجل يدخل بعمرة بليل، فيطوف ويسعى، ويؤخر حلاق رأسه حتى يصبح، أترى أن يتنفل بالطواف، قال: لا أرى ذلك له، وقد فعل ذلك القاسم بن محمد، فلم يتنفل حتى أصبح، قيل له: أيؤخر الحلاق حتى يصبح؟ قال: إن عجل فذلك خير، وهو واسع له إن شاء الله، وقد فعل ذلك القاسم بن محمد.
قال محمد بن رشد: إنما كره له أن يطوف تطوعا قبل الحلاق؛ لأن الحلاق هو تمام العمرة، فإذا طاف قبله فكأنه قد أدخل في العمرة ما ليس منها، وقد مضى هذا في رسم أخذ يشرب خمرا، وإنما استحب تعجيل الحلاق ليتصل عمل العمرة، ولا ينقطع بعضه عن بعضه، فهو الأحسن.
[مسألة: يتزوج ويؤخر الحج]
مسألة وسئل مالك عن الرجل العزب يكون عنده ما يتزوج به، أيتزوج أو يحج؟ قال: بل يحج.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن التزويج وإن كان مندوبا إليه، فالحج أكد عليه منه، وهذا على القول بأنه على التراخي، وأما على القول(3/448)
بأنه على الفور، فهو الواجب عليه دون التزويج، فليس له أن يتزوج ويؤخر الحج، فإن فعل كان آثما ولم يفسخ النكاح، ولا يؤخذ من الزوجة الصداق إلا أن يخشى على نفسه العنت إن لم يتزوج، فله أن يتزوج ويؤخر الحج حتى يجد ما يحج به من الزاد وشراء الراحلة أو كرائها إن كان ممن لا يقدر على المشي على ما ذهب إليه مالك في وجوب الحج على من لا يقدر على الراحلة بشراء أو كراء إذا طاق المشي، وسيأتي هذا المعنى في رسم أشهب إن شاء الله، وكذلك كانت زوجة، فهو إن ترك عندها نفقة لم يبق عنده ما يحج به، وإن خرج ولم يترك لها نفقة طلقت نفسها عليه، يجري ذلك على القولين في الحج، هل هو على الفور أو على التراخي؟
[مسألة: المحرم يجد الصداع فيجعل الصدغين]
مسألة وسئل عن المحرم يجد الصداع، فيجعل الصدغين، قال: يفتدي.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة، والقول فيها في الرسم الذي قبل هذا، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: حسر المحرم عن منكبيه إذا هو طاف بالبيت الطواف الواجب في الرمل]
مسألة وسئل مالك عن حسر المحرم عن منكبيه إذا هو طاف بالبيت الطواف الواجب في الرمل، قال: لا يفعل.
قال محمد بن رشد: زاد في كتاب ابن المواز، ولا يحركهما، وهذا كما قال: إذ ليس من سنة الرمل عن منكبيه ولا يحركهما بقصد منه إلى ذلك، فإن انحسر منكباه أو تحركا لشدة الرمل، فلا بأس به، فقد قيل: إن الرمل هو(3/449)
الخبب الشديد دون الهرولة الذي يحرك منكباه لشدته، وهو يجب في طواف القدوم في الحج والعمرة لمن أحرم من الميقات باتفاق، ولمن أحرم من التنعيم أو الجعرانة على خلاف، ولا يجب في طواف الإفاضة، ولا في طواف التطوع ولا على أهل مكة، واختلف فيمن قدم مراهقا فلم يطف بالبيت حتى يرجع من منى لطواف الإفاضة، فروي عن ابن عمر أنه كان لا يرمل، وفي كتاب ابن المواز أنه يرمل، والأصل في وجوبه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين اعتمر عمرة القضية قال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، وقعدوا على قعيقعان وأبي قبيس ينظرون إلى طواف المسلمين، فأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يرملوا في الثلاثة الأشواط ليروا المشركين جلدهم، وما منعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأمر بالرمل في جميع الأشواط إلا الإبقاء عليهم، ثم رمل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع، فدل ذلك على أنه أبقى الرمل سنة في طواف القدوم، وقد قيل: إنه مستحب، وليس سنة، وعلى هذا يأتي اختلاف قول مالك في المدونة في وجوب الإعادة على من ترك الرمل، وفي وجوب الدم على من ترك الإعادة، ومن أهل العلم من لا يرى الرمل أصلا؛ لأنه كان لعلة وقد ذهبت، ولا رمل على النساء.
[مسألة: الوطء قبل الإفاضة]
ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما مال مسألة قال مالك في التي توطأ قبل الإفاضة أن عليها العمرة والهدي، فإن جهلت حتى تخرج وتزوجت إن لم يكن لها زوج، قال مالك: إن تزوجت رأيت أن يفسخ ذلك النكاح حتى تعتمر وتهدي، ثم تتزوج إن بدا لها، فإن كان دخل بها وأصابها لم يتزوجها حتى يستبرئها من مائه بثلاث حيض؛ لأن ماءه كان على وطء فاسد.(3/450)
قال محمد بن رشد: جعلها بمنزلة ما لو تزوجت بعد أن رجعت إلى بلادها ولم تطف طواف الإفاضة، أو قد بقي عليها منه شوط، وهو بعيد؛ لأن التي تزوجت قبل طواف الإفاضة أو قبل تمامه تزوجت قبل أن تخرج من إحرامها، إذ عليها أن ترجع على ما بقي من إحرامها بغير تجديد إحرام حتى تطوف أو تتم طوافها، وهذه التي وطئت قبل الإفاضة قد حلت بالإفاضة، وإنما عليها الهدي لا غير في قول جل أهل العلم، ومالك يرى عليها أن تعتمر مع ذلك بإحرام تجدده لها، فهي قبل أن تجدده لها قد حلت؛ إذ لو كانت لم تحل من إحرامها بالحج لما ارتدفت عليها العمرة، فإذا كانت قد حلت فإنما نكحت وهي حلال، فينبغي ألا يفسخ النكاح، ويلزم على قياس قوله إذا فسخ النكاح أن يلزمها أداء ما قتلت من الصيد وهو بعيد، وفي كتاب ابن المواز لابن القاسم في المرأة تمشي بعض طواف الإفاضة حتى ترجع إلى بلدها وتتزوج ويدخل بها زوجها ويطأها؛ أن النكاح يفسخ، ويكون له صداقها المسمى بالمسيس، وتعتد من وطئه بثلاث حيض، وترجع على إحرامها حتى تتم طواف الإفاضة ثم تعتمر وتهدي، فإن تزوجها في الثلاث حيض لم تحل له أبدا، ووقف محمد عن تحريمها عليه أبدا، قال: ولو تزوجها غيره في عدة النكاح المفسوخ لحرمت عليه أبدا، ففسخ النكاح في هذه المسألة بين على ما ذكرنا، لا في مسألة الكتاب.
[مسألة: المرأة تنسى التقصير في الحج أو تجهله حتى تنصرف وتقيم السنين]
مسألة وقال في المرأة تنسى التقصير أو تجهله حتى تنصرف وتقيم السنين، قال مالك: أرى أن تأمر بعض من يحج أو يعتمر أن يشتري لها شاة من الحل، فيسوقها إلى الحرم حتى يدخل بها مكة، فيذبحها عنها، وتقصر وهي في بلادها.(3/451)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لقول ابن عباس: من ترك من نسكه شيئا أو نسيه؛ فليهرق دما، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه.
[مسألة: عجز في مشي كان عليه فقضاه فعجز بعد ذلك مرارا حين قضاه في الحج]
مسألة وقال مالك: من عجز في مشي كان عليه فقضاه فعجز بعد ذلك مرارا حين قضاه، فليس عليه في ذلك كله إلا هدي واحد لجميع عجزه إذا كان ذلك في نذر واحد.
قال محمد بن رشد: قوله: فعجز بعد ذلك مرارا ظاهره خلاف ما في المدونة وغيرها أنه لا يلزمه أن يعود في الثالثة، إلا أن يكون معناه أنه فعل ذلك جاهلا، يظن أن ذلك يلزمه أو متبرعا، وهو يعلم أن ذلك لا يلزمه، فذلك محتمل، وبالله التوفيق.
[مسألة: أفاض من منى بعد زوال الشمس وبعد الرمي وأراد الرجوع لبلده]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسألة قال: وقال مالك: من أفاض من منى إلى مكة في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد زوال الشمس، وبعد أن رمى وهو يريد أن يرجع إلى منى، ثم بدا له أن يرجع إلى بلاده، قبل أن تغرب الشمس بمكة، فذلك له واسع، ومن غابت عليه الشمس بمكة قبل أن يبدو له ويرجع إلى منى، فلا يبرح من منى حتى يرمي من الغد.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة في بعض الروايات، وجعله في هذه المسألة إن غربت الشمس، وهو بمكة أو بمنى بعد رجوعه إليها من مكة قبل أن يبدو له في التعجيل، فليس له أن يتعجل، ويلزمه أن يقيم إلى الغد فيرمي، بخلاف الذي يتعجل في يومين على ما يأتي في هذا الرسم بعد هذا.(3/452)
[مسألة: خروج الناس من منى إلى عرفة بعد طلوع الشمس في غداة عرفه]
مسألة وقال مالك: خروج الناس من منى إلى عرفة بعد طلوع الشمس في غداة عرفه، وبلغني أن ابن عمر كان يفعل ذلك، وخروج الناس من مكة يوم التروية، وقدر ما يصلون بمنى الظهر.
قال محمد بن رشد: وكذلك روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث جابر «أنه ركب يوم التروية فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها» ، الحديث.
[مسألة: تعجل في يومين فأتى البيت فأفاض فكان ممره على منى إلى منزله]
مسألة قال مالك من تعجل في يومين فأتى البيت فأفاض فكان ممره على منى إلى منزله فغابت عليه الشمس بمنى فلينفر، فإنه ليس هذا الذي ينهى عنه، وسئل مالك عن الرجل يفيض من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق، وهو يريد إلى بلاده، فيقيم بمكة إلى أن يمشي، قال: لا بأس به، ولا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في المتعجل أنه إن لم ينفر من منى حين غربت الشمس أن عليه أن يبقى حتى يرمي مع الناس في اليوم الثالث، فإن خرج إلى مكة، فأقام بها حتى غربت الشمس، فلا شيء عليه، واختلف إن بات بها حتى أصبح، فقيل: لا شيء عليه بإقامته مكة، وهو قول ابن المواز، وقيل: إنه يلزمه أن يمضي إلى منى، فيرمي مع الناس، وعليه دم لمبيته بمكة، وهو قول ابن الماجشون، وإليه ذهب ابن حبيب، وأما إن أفاض فكان(3/453)
ممره على منى إلى منزله، قال ابن المواز: أو رجع إليها لحاجة، فغربت عليه الشمس بمنى، فلا اختلاف في أن له أن ينفر، وليس عليه أن يبقى حتى يرمي مع الناس، وأما إن كان الذي تعجل إلى مكة في يومين من أهل مكة، فله أن يقيم بها قولا واحدا، هذا تحصيل هذه المسألة.
[مسألة: الذي لا يجوز للمحرم لباسه]
مسألة قال مالك: لا يحل للمحرم الكساء يلبسه بعود.
قال محمد بن رشد: لأن ذلك بمعنى المخيط الذي لا يجوز للمحرم لباسه، فإن فعل ذلك فلبسه وانتفع به وجبت عليه الفدية.
[مسألة: هلك وعليه مشي إلى بيت الله فسأل ابنا له أن يمشي عنه فوعده بذلك]
ومن كتاب أوله باع غلاما بعشرين دينارا مسألة قال: وسألت مالكا عن الرجل هلك وعليه مشي إلى بيت الله، فسأل ابنا له أن يمشي عنه، فوعده بذلك، قال: أما إذا وعده، فإني أحب أن لو فعل ذلك به، ولكن ما ذلك بر أن يمشي أحد عن أحد، ولكني أحب له إذا وعده أن يفعل ذلك به.
قال محمد بن رشد: استحب له أن يفي بما وعده به من المشي عنه، وإن لم يكن في ذلك عنده قربة من ناحية الوفاء، بالعهد في الجائزات التي لا قرب فيها.
[مسألة: تعلقت بدابته أو بعيره أو حماره علقة أينزعها وهو محرم]
مسألة وسئل مالك عن محرم تعلقت بدابته أو بعيره أو حماره علقة، أينزعها وهو محرم؟ قال: نعم، لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا مثل ما في المدونة وغيرها؛ لأن العلقة(3/454)
ليست من الدواب المختصة بالحيوان، كالقمل لبني آدم، والقراد للبعير، فللمحرم أن ينزعها كما قال.
[مسألة: محرم قطع إصبعه بسكين وكان قطعه يسيرا أيجعل عليه الحناء]
مسألة وسئل مالك عن محرم قطع إصبعه بسكين، وكان قطعه يسيرا، أيجعل عليه الحناء ويلفها بخرقة؟ قال: إنا نقول: إذا كان الشيء اليسير، فلا بأس به، ولا أرى عليه فدية في ذلك، وإن كان كثيرا رأيت عليه الفدية.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، وقد مضى التكلم على هذا المعنى قبل هذا في رسم حلف ليرفعن أمرا.
[مسألة: المحرم يكب وجهه على الوسادة من الحر]
مسألة وسئل مالك عن المحرم يكب وجهه على الوسادة من الحر، فكره ذلك، قيل له فيرفعها يستظل بها؟ قال: لا أحبه، وأما أن يضع خده فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: وجه الكراهية في ذلك أن المحرم لا يجوز له تغطية وجهه ولا أن يستظل بشيء، إلا إذا نزل بالأرض بالفسطاط والقبة وشبه ذلك لأنه كالبيت، واختلف في الثوب يطرحه على الشجرة ويستظل تحته، فأجيز، وكره.
[مسألة: أراد أن يهل بالحج مفردا فأخطأ فقرن]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات مسألة وسئل مالك عمن أراد أن يهل بالحج مفردا، فأخطأ فقرن(3/455)
فتكلم بالعمرة، قال: ليس ذلك بشيء، إنما ذلك إلى نيته، وهو على حجه، قال مالك: أما ما كان لله، فهو إلى نيته.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات» ، فلا يلزم الرجل فيما بينه وبين ربه ما تكلم به لسانه، إذا لم يعتقده بقلبه، ولم يتعلق فيه حق لغيره.
[مسألة: نسي أن يرمي الجمار نهارا]
مسألة قال مالك: من نسي أن يرمي نهارا فيلزمه ليلا، ولا أرى عليه في ذلك إراقة دم ولا غيره.
قال محمد بن رشد: قد قال مالك: إن عليه الدم في ذلك، والقولان في المدونة، وأما إن لم يرم حتى ذهبت أيام منى فليهد، ولا يرم في غير أيام الرمي، وقد مضى ذلك في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها.
[مسألة: يريد أن يرمي في آخر أيام التشريق ويرجع إلى ثقله]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يريد أن يرمي في آخر أيام التشريق ويرجع إلى ثقله، فيكون فيه حتى يتحمل، فقال مالك: أحب إلي أن يرمي ويتقدم من منى، قيل له: وكيف يصنع وهو لا يستطيع أن يتحمل تلك الساعة بعياله أو ثقله؟ فقال: يؤخر ذلك ما لم تصفر الشمس.
قال محمد بن رشد: إنما استحب ذلك؛ لأنه الذي مضى عليه السلف، وقد كره مالك للحاج أن يجاور بمكة بعد انقضاء حجه اتباعا للسلف، فقال: ما كان الناس إلا على الحج والفعل، فكيف بالمقام منى بعد انقضاء الحج؟ ووجه ذلك من طريق المعنى هو أن بقاءه ما لم يتعجل بمنى إلى أن يرمي الجمرات آخر أيام منى واجب شرعا ودينا، وبقاؤه بعد ذلك بها مباح(3/456)
ليس بشرع ولا دين، ولا فيه فدية، فاستحب أن يفرق بين الواجب وغير الواجب بفعل المباح، كما استحب الأكل يوم الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وكما استحب جماعة من العلماء للمعتدة من الوفاة أن تطيب إذا انقضت عدتها كما فعلت أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان وزينب بنت جحش حين توفي أخوها بعد ثلاث، وقالتا: والله ما لنا بالطيب من حاجة، غير أنا سمعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» .
[مسألة: طاف بعد العصر أيركع بعد أن تغيب الشمس]
مسألة وسئل مالك عمن طاف بعد العصر، أيركع بعد أن تغيب الشمس أو قبل أن يصلي المغرب؟ قال: نعم إن أحب.
قال محمد بن رشد: خيره في ذلك إذ لم يبين له أي الوجهين أفضل؛ لأن لتعجيل المغرب في أول وقتها فضلا، ولتوصيل الركعتين بالطواف فضلا، والأظهر تعجيل الركعتين؛ لأن أمرهما خفيف لا يفوته به فضل أول الوقت في المغرب إن شاء الله، بخلاف الصلاة على الجنائز مع صلاة المغرب؛ إذ لا فضل للصلاة على الجنائز في أول الغروب، ولصلاة المغرب في ذلك فضل، وبالله التوفيق.
[مسألة: الجمال يأتي بالقوم إلى ذي الحليفة فينيخ بهم عند غير المسجد]
ومن كتاب أوله مساجد القبائل مسألة وسئل عن الجمال يأتي بالقوم إلى ذي الحليفة، فينيخ بهم عند غير المسجد، فيقول: اذهبوا فصلوا وتعالوا أحملكم، فقال الآخرون: بل تنيخ عند باب المسجد حتى نصلي ثم نركب ثم نهل، قال مالك: يجبر الجمال على أن ينيخ بهم عند باب المسجد حتى يصلوا، ثم يركبوا فيهلوا.(3/457)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ذلك عرف، فعليه دخل الكري.
[مسألة: أول من أقام للناس الحج]
مسألة وسئل مالك من أول من أقام للناس الحج؟ قال: أبو بكر الصديق، قيل له: في أي سنة؟ قال: في سنة تسع.
قال محمد بن رشد: معنى هذا أنه سئل عن أول من أقام للناس الحج بعد أن فرض، فقال أبو بكر، وإنما سئل عن ذلك لقول من قال: إن حجة أبي بكر في سنة تسع إنما كانت تطوعا؛ لأنه حج في ذي القعدة على ما كان عليه أهل الجاهلية من النسي، ثم حج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنة عشر حجة الفريضة في ذي الحجة، والصحيح ما ذهب إليه مالك أن أبا بكر أقام للناس الحج بعد أن فرض قبل أن ينسخ النسي، فكانت حجته تلك في ذي القعدة شرعا ودينا، وأخر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحج ذلك العام من أجل العراة الذين كانوا يطوفون بالبيت، حتى يعهد إليهم في ذلك على ما تواترت به الآثار إلى أن حج في سنة عشر في ذي الحجة، ونسخ النسي، فثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة.
وفي تأخير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحج للعهد المذكور في الآثار دليل على أنه على التراخي، وقال بعض أهل العلم ممن ذهب إلى أنه على التراخي: إن تأخير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحج خصوص له، وهو قول لا دليل لقائله عليه.
[مسألة: يوم الحج الأكبر]
مسألة وسئل مالك عن يوم الحج الأكبر، فقال: هو يوم النحر.(3/458)
قال محمد بن رشد: قد اختلف أهل العلم في قوله عز وجل: {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] ، هل الأكبر نعت للحج، أو لليوم، فمنهم من قال: إنه نعت للحج، ومنهم من قال: إنه نعت لليوم، ثم اختلف الذين قالوا: إنه نعت للحج، فمنهم من قال: إنما قيل له الأكبر؛ لأن ثم حجا أصغر وهو العمرة، ومنهم من قال: إنما قيل له الأكبر؛ لأنه عنى حج أبي بكر إذ وقع في ذي القعدة على ما كان عليه أهل الجاهلية من النسي، وقد كان الحج في العام الذي قبله في ذي القعدة أيضا، فسماه الله الأكبر، إذ كان الأكبر من الحجين الواقعين في ذي القعدة، وقيل: إن حجة أبي بكر وافقت ذا الحجة، فوقعت فيه، فسماه الله الحج الأكبر لاستدارة الزمان إليه، وثبوت الحج فيه إلى يوم القيامة، واختلف الذين قالوا: إنه نعت لليوم أيضا، فمنهم من قال: إنه يوم عرفة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الحج عرفة» ، ولأن من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج، ومنهم من قال: إنه يوم النحر، وإلى هذا ذهب مالك، وهو أظهر الأقوال؛ لأن المراد بذلك المجتمع الأكبر؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع والنسي قائم، والمشركون يحجون مع المسلمين، وكان قريش ومن ولدته قريش يقفون بالمشعر الحرام يوم عرفة، ويقف سائر الناس بعرفة، ثم يجتمعون كلهم بمنى يوم النحر، فأمر الله نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يؤذن الناس ببراءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين يوم الحج الأكبر، أي يوم اجتماعهم الأكبر، وهو يوم النحر بمنى؛ ليسمع جميع الناس النداء، فيبلغ شاهدهم غائبهم، فكان مما أوذنوا به ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وتليت عليهم سورة براءة إنذارا لهم وإعذارا إليهم.(3/459)
[مسألة: المرأة تريد العمرة فتتناول شرابا لتأخير الحيضة]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت مسألة وسئل مالك عن المرأة تريد العمرة، فتخاف تعجيل الحيض، فيوصف لها شراب تشربه لتأخير الحيضة، قال: ليس ذلك بالصواب، وكرهه.
قال محمد بن رشد: إنما كرهه مخافة أن تدخل بذلك على نفسها ضررا في جسمها، والله يعذرها بالعذر ويعطيها بالنية، فمن نوى عمل بر ومنعه منه عذر من الله، كتب له إن شاء الله، قال عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم، إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة» .
[مسألة: المرأة تدخل بعمرة حائض فتردف الحج على العمرة]
مسألة وقال مالك في المرأة تدخل بعمرة حائض، فتردف الحج على العمرة: إنها إذا حلت، فأحب إلي أن تعتمر عمرة أخرى كما فعلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
قال محمد بن رشد: قوله كما فعلت عائشة، يريد كما فعلت في أن اعتمرت بعد أن حلت من حجها، لا في أنها قرنت، إذ لم تكن قارنة؛ لأنها كانت أهلت بعمرة، فلما قدمت مكة حاضت، فأمرها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن تهل بالحج وتدع العمرة، فلما قضت الحج أرسلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع(3/460)
عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت مكان عمرتها التي كانت على ما وقع في الموطأ، ولم ير مالك العمل بذلك، وقال: ما أظن الحديث بذلك إلا وهما؛ إذ قد روي عن عائشة أنها كانت محرمة بالحج لا بالعمرة، ولأنه لا يرى لمن أحرم بحجة أو عمرة أن يرفض شيئا من ذلك؛ لقوله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، وقد تأول أن أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياها أن تهل بالحج وتدع العمرة، إنما معناه أن تهل بالحج وتدع العمل بالعمرة لا العمرة، فكانت بذلك قارنة، وهو تأويل يخرج به الحديث على المذهب لولا أنه يرده قوله في الحديث: «انفضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج» ؛ لأنها يدل على أنها رفضت الإحرام الذي كانت فيه بالعمرة، ويدل على أنها رفضت الإحرام بالعمرة؛ «ما روي عنها من أنها قالت: يا رسول الله، أيرجع الناس بحج وعمرة، وأرجع بحج؟ فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت مكان عمرتها» ، فأولى ما يقال في هذا أن الحديث وهم كما روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والصحيح إن شاء الله ما ذكر في موطئه، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، «عن عائشة أنها قالت: " قدمت وأنا حائض، فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت، ولا بين الصفا والمروة حتى تطهري» ؛ لأن هذا يدل أنها كانت محرمة بالحج، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها أن تتمادى على عمل حجها، على ألا تطوف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، ثم أعمرها من التنعيم لترجع بحج أو عمرة، كما رجع غيرها من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ويحتمل أن يكون تأول من ذهب إلى أن رسول الله إنما أمرها أن تردف الحج على العمرة، لا أن تنقض العمرة، وتحل منها، ثم تستأنف الإحرام بالحج، وأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما أمرها أن تنفض رأسها وتمتشط؛(3/461)
ليكون ذلك أبلغ في غسلها للإحرام بالحج على العمرة، لا أنها نقضت العمرة، وذكر البخاري فيما بوب على الحديث في كتاب الوضوء ما يدل على هذا التأويل، فقف على ذلك.
[مسألة: الرجل يجب عليه هديان مثل أن يقرن ويفوته الحج]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يجب عليه هديان، مثل أن يقرن ويفوته الحج، قال مالك: أرى عليه هديين، فإن لم يجدهما ووجد أحدهما أهدى هديا، وصام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع، فمن لم يجد شيئا صام فيه ستة أيام قبل النحر في إحرامه، وأربعة عشر إذا رجع.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية يسقط عنه هدي القران في الحج الفائت، ويجب عليه هديان؛ هدي للفوات، وهدي لقران القضاء ينحرهما جميعا في حجة القضاء، وهو ظاهر ما في الموطأ، وقد تأول أبو عمر الإشبيلي ما في الموطأ من قوله: يهدي هديين، أن يكون الهدي الذي كان ساقه في قران الحج الفائت قد نحره حينئذ، وبقي عليه هديان في الحجة التي يقضي، وكذلك في كتاب محمد أن عليه ثلاث هدايا لابن القاسم، من رواية أبي زيد عنه.
قال: ولو قرن فأفسد حجه، ثم فاته الحج؛ لكان عليه أربع هدايا؛ هدي للقران، وهدي للفساد، وهدي للفوات، وهدي لقران القضاء، وهو مذهبه في المدونة أن الفوات لا يسقط عنه دم القران إن كان قارنا، ولا دم الفساد إن كان قد وطئ قبل أن يفوته الحج، قاله في الحج الثالث فيمن وطئ، ثم فاته الحج أن عليه هديين، والقران مقيس عليه، وأما من قرن، ثم أفسد حجه فلا اختلاف أن عليه ثلاث هدايا؛ إذ لا يسقط الفساد هدي القران؛ لوجوب إتمام القران الفاسد، فإذا وجب إتمامه وجب الهدي عنه، فعلى هذا يحمل ما في سماع أشهب بعد هذا.(3/462)
[مسألة: حلف بالمشي إلى بيت الله فحنث]
مسألة وقال مالك فيمن حلف بالمشي إلى بيت الله، فحنث، فإنه يمشي من حيث حلف، وكانت يمين صاحبها ألا يفعل كذا وكذا، حتى ينتقل من منزله، وكان صاحب خيمة.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة متكررة في هذا الرسم، من هذا السماع، من كتاب النذور، وفيها هناك زيادة، وجوابه فيها هنا وهناك على ما في كتاب العتق الأول من المدونة، في الذي يقول: إن كلمت فلانا فكل مملوك أملكه من الصقالبة حر، فاشترى - بعد يمينه، وقبل أن يكلم فلانا - صقالبة، ثم كلمه أنهم يعتقون، خلاف ما في سماع زونان، من كتاب الأيمان بالطلاق، فيمن قال: إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها بمصر طالق، فتزوج ثم كلمه، قال: لا شيء عليه في التي تزوج قبل يمينه، وإنما يلزمه الحنث فيما تزوج بعد كلامه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يركع في الحجر لطواف النافلة]
ومن كتاب نذر سنة يصومها مسألة وسئل مالك عن الذي يتنفل بالطواف، أترى أن يركع ركوعه في الحجر؟ قال: ما يعجبني، وأما أن يركعهما من غير الطواف، فلا أرى به بأسا ثم قال بعد ذلك: لا أرى بأسا أن يركع في الحجر لطواف النافلة.
قال محمد بن رشد: وجه القول الأول أن الركوع الأول لما كان يجب على من طاف تطوعا؛ لئلا يبطل طوافه إن لم يركع أشبه الواجب، فكره أن(3/463)
يفعله في الحجر، ووجه القول الثاني أنه جعل تابعا للطواف في أنه يفعل، فأجاز له فعله.
[مسألة: تفسير مكة وبكة]
مسألة وسئل مالك عن تفسير مكة وبكة، فقال: بكة موضع البيت، ومكة غيره من المواضع، يريد القرية.
قال محمد بن رشد: أراه أخذ ذلك من قوله عز وجل؛ لأنه قال في بكة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] ، وهو إنما وضع لموضعه الذي وضع فيه، لا فيما سواه من القرية، وقال في مكة: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] ، وذلك إنما كان في القرية، لا في موضع البيت، والله أعلم.
[مسألة: حفر زمزم]
مسألة قال مالك: رأى عبد المطلب أنه يقال له: احفر زمزم لا تنزف، ولا تذم بين فرث ودم، يروي الحجيج الأعظم في موقع الغراب الأعصم، قال: فحفرت.(3/464)
قال محمد بن رشد: قد جاء في الحديث الصحيح: «أن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كان بينه وبين أهله ما كان، خرج بابنه إسماعيل وأمه، ومعهم شنة فيها ماء، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، فجعلت تشرب من الشنة، ويدر لبنها حتى لما فني الماء، قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا، فصعدت على الصفا، فنظرت فلم تر أحدا ثم هبطت، فلما صارت في الوادي، رفعت ذراعها، فسمعت سعي الإنسان المجهود، ثم صعدت على المروة فلم تر أحدا، فعلت ذلك سبع مرات، وابنها يتلوى من العطش، فلما كانت في آخر ذلك سمعت، فأصغت إليه فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواثا، فإذا بجبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فقال هكذا، فاندفق الماء، فدهشت أم إسماعيل، فجعلت تخفق، قال: فقال أبو القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو تركته كان الماء ظاهرا، أو لكانت زمزم عينا معينا» ، فيحتمل أن يكون بعد ذلك قد رفعت السيول بلقاء الرمل والتراب حتى انطمس وعفا أثره، فكان من عبد المطلب في حفره ما ذكر في هذه الحكاية، والله أعلم.
[مسألة: اتخذ إبلا من مال الله يعطيها الناس يحجون عليها فإذا رجعوا ردوها إليه]
مسألة قال مالك: وبلغني أن عمر بن الخطاب اتخذ إبلا من مال الله يعطيها الناس يحجون عليها، فإذا رجعوا ردوها إليه.
قال محمد بن رشد: هذا من النظر الصحيح في مال الله؛ لأن أولى ما صرف فيه مال الله ما يستعان به على أداء فرائض الله؛ فينبغي للأئمة أن يتأسوا في ذلك بفعله، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» .(3/465)
[مسألة: المحرم يتخذ الخرقة لفرجه يجعلها فيه عند منامه]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه مسألة وسئل مالك عن المحرم يتخذ الخرقة لفرجه، يجعلها فيه عند منامه، قال: لا بأس بذلك، وليس هذا يشبه الذي يلقي على فرجه للمذي والبول، ذلك يفدي.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة، وما كان في معناها في رسم حلف بطلاق امرأته ليرفعن أمرا، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك هنا.
[مسألة: يجعل في رأسه الخل قبل أن يحرم]
مسألة وسئل عن صاحب الأقرحة تكون برأسه، يريد أن يجعل في رأسه الخل قبل أن يحرم، قال: لا يعجبني ذلك، أخاف أن يقتل الدواب، قيل له: أفلا يجعله ويفدي، فإنه يشكو منه أنه يؤذيه أذى شديدا؟ قال: ما يعجبني ذلك أن يجعل شيئا، والناس يصيبهم هذا، وهو أمر قريب، وأرى أن يصبر حتى يفرغ من حجه.
قال محمد بن رشد: قد بين مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من وجه قوله في هذه المسألة ما أغنى عن القول فيها؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] ، فلم يبح الحلق إلا عند الضرورة، وليس هذا من الضرورة التي تبيح له قتل القمل في رأسه بعد الإحرام بالخل الذي جعله فيه قبل الإحرام، على ما قال في مسألة الزاوق بعد هذا في رسم اغتسل، وبالله التوفيق.(3/466)
[مسألة: طاف قبل الصبح فخشي الإقامة]
مسألة وسئل مالك عن الذي يفرغ من طوافه بمكة، ثم تقام الصلاة قبل أن يركع ركعتي الطواف، وهم في الصبح يطلبون الإقامة لطواف الناس، وطردهم إياهم عن الطواف، قال: إنه يكره أن يصلي أحد بعد أن تقام الصلاة، وعسى ذلك أن يكون في المساجد غير المسجد الحرام، وعسى أن يكون هذا بمكة خفيفا، قيل له: فركعتا الفجر مثله؟ قال: نعم، أرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: إنما كرهت الصلاة بعد الإقامة؛ لما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: «سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصلاتان معا؟ أصلاتان معا؟» يريد بذلك نهيا عن ذلك، وذلك في صلاة الصبح في الركعتين قبل الصبح، وخفف مالك ذلك بمكة للمعنى المذكور في الرواية، وترك ذلك أحسن وأقطع للذريعة، قال ابن نافع في المدونة: وإذا طاف قبل الصبح، فخشي الإقامة، فليبدأ بركعتي الطواف قبل ركعتي الفجر، ومثله في رسم اغتسل بعد هذا، من سماع ابن القاسم، وفي آخر سماع أشهب.
[مسألة: حكم العمرة]
مسألة وسئل مالك عن العمرة أواجبة هي أم سنة؟ قال: بل سنة كالوتر وغيرها من السنن، اعتمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس فهي سنة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لمالك في كتاب ابن المواز، وذكر ابن حبيب أنها واجبة كوجوب الحج، وإلى هذا ذهب ابن الجهم، ومن حجة(3/467)
من ذهب إلى أنها واجبة؛ قول الله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، ولا حجة في ذلك؛ لأن الأمر بإتمام الشيء لا يتناول إلا لمن دخل فيه، وقالوا أيضا: ولما قال الله: {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] دل على أن ثم حجا أصغر وهو العمرة، وهذا لا حجة فيه أيضا؛ لأنه تأويل تعارض بما هو أولى منه، وقد ذكرنا ما قيل في ذلك في رسم مساجد القبائل.
[مسألة: إمام الحاج أيتعجل في يومين]
مسألة وسئل مالك عن إمام الحاج أيتعجل في يومين؟ قال: لا يعجبني، قيل: فأهل مكة يتعجلون في يومين؟ قال: لا أرى لهم ذلك إلا أن يكون لهم عذر من مرض أو تجارة يرجع إليها، قيل: فالرجل له المرأة الواحدة، فيريد أن يتعجل إليها، قال: فلا أرى ذلك مما حل الناس له إلا للمرأة الواحدة، فلا أرى إلا أن يكون له عذر من مرض أو ما أشبه، قال ابن القاسم: وقال لي مالك قبل ذلك: لا أرى به بأسا، وأهل مكة كغيرهم، وهو أحب قوله إلي.
قال محمد بن رشد: أما كراهيته للإمام أن يتعجل في يومين فبينة؛ لأن رمي الجمار في اليوم الثالث من بقية عمل الحج، ينبغي للإمام ألا يتعجل قبله ليقتدى به فيه، ويأتم به من لم يتعجل من الحاج، وأما أهل مكة، فالأظهر أنهم وغيرهم في التعجيل سواء؛ لأن الله قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] ، يريد في ترك الأخذ بالرخصة، إذ قد علم أنه لا إثم في الإتيان بالأكمل إلا من وجه ترك قبول الرخصة، فلذلك يبين الله تعالى أنه لا إثم في ذلك، ولم يخص أهل مكة من غيرهم(3/468)
فوجب ألا يفترق في ذلك حكمهم، والمتعجل في يومين يسقط عنه رمي اليوم الثالث على مذهب مالك، وهو دليل قوله في الموطأ في الدعاء: لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه، وهو قول ابن المواز: إن المتعجل إنما يرمي بتسعة وأربعين حصاة، وذهب ابن حبيب إلى أن المتعجل يرمي ليومه ولليوم الثالث وكذلك ينصرف، وبالله التوفيق.
[مسألة: أكله المحرم بيض الدجاج والإوز]
مسألة قال ابن القاسم: ولا بأس في قوله بأكل بيض الدجاج والإوز، ولا يؤكل بيض الحمام، ولا بأس أن يذبح أهل مكة الحمام الرومية التي تتخذ للفراخ.
قال محمد بن رشد: قوله: لا بأس في قوله بأكل بيض الدجاج والإوز يريد للمحرم، وأما الحلال في الحرم فلا إشكال في أن ذلك جائز له، وقوله: ولا يؤكل بيض الحمام، يريد لا يأخذ ذلك المحرم فيأكله، فإن فعل فعليه فيه الجزاء عشر ثمن كبير ذلك، وكذلك لو كسره أو شواه ولم يأكله؛ لأن الجزاء يجب عليه في كسره أو شقه كما يجب عليه في قتل الصيد، فإذا أكل منه بعد أن شواه، فإنما أكل ما لا يحل له أكله، وما قد وجب عليه جزاؤه، ولو أخذه حلال فشواه لنفسه، لجاز للمحرم أكله كما يجوز له أكل لحم ما صاده الحلال لنفسه على مذهب، وسيأتي في رسم يشتري الدور والمزارع، من سماع يحيى، ما في ذلك من الاختلاف محصلا إن شاء الله.
وأما قوله: ولا بأس أن يذبح أهل مكة الحمام الرومية التي تتخذ للفراخ، ففيه دليل على أنهم لا يذبحون سائر الحمام وسائر الطير الوحشي وجميع الصيد، إذا دخلوا به من الحل، وهو خلاف المعلوم في المذهب، وقد قال مالك في المدونة:(3/469)
وما أدركت أحدا ابتدأ به بدأ بالصيد يدخل به المحرم من الحل بأسا إلا عطاء، ثم ترك ذلك، وقال: لا بأس به.
ُ
[مسألة: حج بثمن ولد الزنا]
مسألة وسئل مالك هل يحج بثمن ولد الزنا؟ فقال: أليس من أمته ولدته من زنا؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز أن يحج بثمن ولد الزنا، وأن يعتق في الرقاب الواجبة، وإن كان الاستحباب غير ذلك، روى أشهب عنه في سماعه من كتاب العتق أنه استحسن ألا يعتق في الرقاب الواجبة، وقال عز وجل: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ} [البقرة: 267] الآية، فعمد الرجل إذا أراد أن يعتق أعتق هذا العبد، وإذا أراد أن يتصدق تصدق بهذا الطعام، وإنما منع من ذلك من منعه ولم يجزه، من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ولد الزنا شر الثلاثة» ، «وإنه لا يدخل الجنة ولد زنية» ، وإنه «سئل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن عتق ولد الزنا قال: " لا خير فيه نعلان يعان بهما أحب إلي من ولد الزنا» ، وليست الأحاديث المذكورة على ظاهرها، فأما قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولد الزنا شر الثلاثة» ؛ فالمعنى فيه أنه قصد بذلك إلى رجل بعينه، كان يؤذي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: أما إنه مع ما به ولد زنا، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هو شر الثلاثة، وقد سئل عبد الله بن عمر بن الخطاب على ذلك فقال: بل هو خير(3/470)
الثلاثة، قد أعتق عمر بن الخطاب عبيدا من أولاد الزنا، ولو كان خبيثا ما فعل، وهو كما قال؛ لقوله عز وجل: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، وقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] ، وقد قيل: إن المعنى في ذلك أنه حدث من شر الثلاثة أبوه وأمه والشيطان الذي أغواهما، لا أنه في نفسه شر، والأول أولى؛ لأن ذلك مروي عن عائشة، وأما قوله: لا يدخل الجنة ولد زنية، فالمعنى في ذلك من كثر منه الزنا حتى نسب إليه كما ينسب إلى الشيء من كثر منه وتحقق به، فيقال لمن كثر منه الحذر: ابن إحذار، ولمن كثر منه السفر: ابن سبيل، وللمتحققين بالدنيا بني الدنيا، ومثل هذا كثير، وعليه يحمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عتق ولد الزنا: إنه لا خير فيه.
[مسألة: خضاب المرأة المحرمة]
مسألة قال مالك: لا بأس أن تختضب المرأة المحرمة، وتمتشط بالحناء قبل الإحرام ثم تحرم.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز لها ذلك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عند الإحرام قبل أن تحرم، وهو لا يجيز للمحرم أن يطيب قبل الإحرام بشيء يبقى ريحه بعد الإحرام؛ مراعاة لقول من يجيز ذلك؛ لقول عائشة: «طيبت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» ؛ إذ الحناء ليست من المؤنث من الطيب، كما أنه لا يرى الفدية على من تطيب لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، وإن كان لا يجيز ذلك مراعاة لما جاء في ذلك.(3/471)
[مسألة: المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام]
مسألة
وسئل مالك عن مكة والمرور بها بين يدي المصلي في المسجد، أترى أن يمنع منها مثل ما يمنع من غيرها؟ قال: نعم، إني لأرى ذلك إذا كان يصلي إلى عمود أو سترة، ولا أدري ما الطواف كله تحققه أن يصلي إلى الطائفين.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا كان يصلي إلى عمود أو سترة، دليل على أنه إذا صلى في المسجد الحرام إلى غير سترة، فالمرور بين يديه جائز، وليس عليه أن يدرأ من يمر بين يديه، بخلاف إذا صلى في غير المسجد الحرام إلى غير سترة، والإثم في ذلك عليه دون المارين، بخلاف صلاته إلى الطائفين، والفرق بين الطائفين وغيرهم من المارين بين يديه في إجازته الصلاة إليهم، أن الطائفين يصلون؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، وإن جاز فيه الكلام، ألا ترى أنه لا يكون إلا على طهارة؟ وأما من صلى في المسجد الحرام إلى سترة، فلا يجوز لأحد أن يمر بينه وبينها من غير الطائفين، فإن من كان له أن يدرأه عن ذلك، وأما الطائف فلا ينبغي له أن يمر بينه وبين سترته، إلا أن لا يجد بدا من ذلك من زحام، فليمر ولا يدرأه المصلي على المرور، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يجوز أن يصلي في المسجد الحرام إلى غير سترة، فإن مر الناس بين يديه في الطواف وغيره، ولا إثم في ذلك عليه ولا عليهم، وأن مكة مخصوصة بجواز المرور فيها بين يدي المصلي، بدليل ما روى عبد المطلب بن أبي وداعة، قال: «رأيت النبي يصلي مما يلي بني سهم، والناس يمرون بين يديه، ليس بينه وبين القبلة شيء» ، وقال بعض الرواة: ليس بينه وبين الطواف سترة، قال: ومن طريق المعنى أن الذي يصلي معاينا إلى الكعبة، يستقبل في صلاته وجوه بعض المصلين إليها، ولا يجوز ذلك في غيرها، فإذا(3/472)
جاز له أن يستقبل وجوههم، جاز له أن يمروا بين يديه؛ لأنه لا يستقبل بذلك إلا خدودهم، فهو أخف، والله أعلم.
[مسألة: يخبط المحرم لبعيره من غير الحرم]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق مسألة قال مالك: لا بأس أن يخبط المحرم لبعيره من غير الحرم.
قال محمد بن رشد: الخبط هو أن يضرب بعصاه الشجر، فيسقط ورقها لبعيره، وذلك جائز في الحل للحلال والحرام؛ إذ يأمن في ذلك المحرم قتل الدواب، بخلاف الاحتشاش، ولا يجوز ذلك في الحرم لحلال ولا حرام، وإنما الذي جوز لهما فيها الهش، وهو أن يضع المحجن في الغصن فيحركه حتى يسقط ورقه، قاله في المدونة.
[مسألة: يشعر بدنة بيده من الشقين جميعا]
مسألة وحدثني سحنون، عن ابن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم القاري، عن نافع مولى عبد الله بن عمر، عن ابن عمر: أنه كان يشعر بدنة بيده من الشقين جميعا، إذا كانت صعابا مقيدة؛ يريد موثقة، وإنما كان ابن عمر يفعل هذا ليذللها بذلك، لا أن ذلك سُنة إشعارها، وإنما سنة إشعارها صعبة كانت أو ذللا من الشق الأيسر.
قال محمد بن رشد: قوله: وإنما كان ابن عمر يفعل هذا ليذللها بذلك، ويدل على أنه كان يشعرها من الشقين جميعا معا، خلاف ما ذهب إليه ابن المواز من أن معنى قوله من الشقين جميعا، أي من أي الشقين أمكنه، ومثل تأويل ابن المواز حكى ابن حبيب عنه نصا من رواية مطرف عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، وزاد في صفة الإشعار أنه طولا في سنامها، في المدونة عرضا، وقوله: إن السنة في الإشعار أن يكون في الشق الأيسر هو مثل(3/473)
ما في المدونة، وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أن الإشعار في الشق الأيمن، ووجه كونه في الشق الأيسر أن الذي يشعر من السنة في إشعاره أن يكون مستقبل القبلة، ويشعر بيمينه وخطام بعيره بشماله، فإن فعل ذلك وقع إشعاره في الشق الأيسر، ولا يكون في الجانب الأيمن، إلا أن يكون مستدبر القبلة، أو مشعرا بشماله، أو يمسك له غيره بعيره، فالإشعار في الشق الأيسر أظهر، ووقع الإشعار في الشق الأيمن للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الصحيح لمسلم.
[مسألة: امرأة جعلت على نفسها المشي إلى بيت الله سبع مرات إن كلمت أباها]
مسألة وقال مالك في امرأة جعلت على نفسها المشي إلى بيت الله سبع مرات إن كلمت أباها، قال: تكلمه وتمشي سبع مرات، قيل له: فهي ممن لا يستطيع المشي، قال: تحج وتعتمر سبع مرات راكبة، وهو يقول والهدي في ذلك مع كل مرة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها عن مالك وأصحابه، ولا اختلاف في ذلك أحفظه بينهم إلا روايات شاذة خارجة عن أصل مذهب مالك، منها ما روي عن ابن القاسم أنه أفتى ابنه عبد الصمد بكفارة يمين، وقال له: أفتيتك بقول الليث بن سعد، فإن عدت أفتيتك بقول مالك، فإن صح ذلك عنه فالمعنى فيه أنه قال ذلك له إرهابا عليه؛ لئلا يجترئ على الحلف بذلك، ولو عاد لم يفته إلا بالأصح من القولين عنده في وقت الفتيا، هذا ما لا يصح سواه، وبالله التوفيق.
[مسألة: طاف بالبيت ففرغ من طوافه بعد الفجر]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية مسألة وسئل عمن طاف بالبيت، ففرغ من طوافه بعد الفجر، بأيهما يبدأ؛ أبركعتي الفجر أم بركعتي الطواف؟ قال: بل بركعتي الطواف.(3/474)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن من سنة ركعتي الطواف أن تكونا موصولين بالطواف، فلا يفرق بينه وبينهما، إلا لعذر مثل أن يكون طوافه في وقت لا تحل فيه الصلاة، وما أشبه ذلك.
[مسألة: ذكر أهله وهو محرم فأتبع ذكره في قلبه وردده على قلبه حتى أنزل]
مسألة وسئل مالك عمن ذكر أهله، وهو محرم فأتبع ذكره في قلبه، وردده على قلبه، حتى أنزل الماء الدافئ، قال مالك: ألا وقد أفسد حجه.
قال محمد بن رشد: في سماع أشهب من مالك خلاف هذا أن حجه تام، وعليه الهدي، ويتقرب إلى الله بما استطاع من الخير، ومثله ظاهر قول مالك في الموطأ رواية يحيى، ورواية ابن القاسم أصح من رواية أشهب، وإياها اختار ابن المواز؛ لأن الأمر في تجنب النساء أشد على المحرم منه على الصائم؛ لأن المحرم يستوي في ذلك عمده وجهله وسهوه، ولا تباح له القبلة ولا المباشرة ولا النظر باللذة، وإن كان أمن في ذلك على نفسه، ويجب عليه في ذلك الهدي إن فعله، والصائم تباح له القبلة والمباشرة والنظر للذة إن أمن في ذلك على نفسه، وتسقط عنه الكفارة في الوطء بالجهل والتأويل والنسيان، فوجب على هذا حيث ما فسد على الصائم صيامه، ووجبت عليه الكفارة والقضاء من جهة النساء أن يفسد على المحرم حجه، ويجب عليه الهدي والقضاء، وحيث ما وجب على الصائم القضاء دون الكفارة ألا يجب على المحرم إلا الهدي حاشى الجماع، ناسيا أو جاهلا أو متأولا، فإن ذلك يفسد الحج على المحرم، ولا يجب فيه على الصائم إلا القضاء، ولم يختلف قول مالك، ولا قول أحد من أصحابه في أن(3/475)
الصائم إذا تذكر امرأته وأدام ذكرها في قلبه حتى أنزل عليه القضاء والكفارة، وقد مضى في رسم طلق، من سماع ابن القاسم، من كتاب الصيام تحصيل القول في حكم الصيام في ذلك، فقف عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: جعلت في رأسها زاوقا بالمدينة ثم أحرمت]
مسألة وقال في امرأة جعلت في رأسها زاوقا بالمدينة، ثم أحرمت، وذلك في اليوم الذي أحرمت فيه، فقال: أرى أن تفتدي مخافة أن يكون الزاوق قد قتل قملا بعد الإحرام، وثبت ذلك في رأسها اليوم واليومين.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، قد بيّن فيها مالك العلة في وجوب الفدية عليها، فلا كلام فيها.
[مسألة: النظر في المرآة للمحرم]
مسألة قال مالك: لا أحب للمحرم أن ينظر في المرآة، فإن فعل فليستغفر الله، ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: إنما كره له النظر في المرآة مخافة أن يرى شعثا فيصلحه، فإذا سلم من ذلك فليس عليه إلا الاستغفار.
[مسألة: العمرة في ذي الحجة]
مسألة قال مالك: لا بأس بالعمرة في ذي الحجة، وعمرة في المحرم، عمرة في هذه السنة، وعمرة في هذه السنة.
قال محمد بن رشد: إنما كره مالك أن يعتمر في السنة إلا مرة(3/476)
واحدة؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعتمر إلا ثلاث عُمَرٍ؛ إحداهن في شوال، واثنين في ذي القعدة، وذي الحجة، وعمرة مع حجته على القول بأنه كان متمتعا، فأحب الاتساء بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب: 21] ، وأكثر أهل العلم يجيزون له أن يعتمر ما شاء، وقد روي أن عبد الله بن عمر اعتمر ألف عمرة، وأعتق ألف رقبة، وحبس ألف فرس، وأفتى الناس ستين عاما، وحج ستين حجة، وعاش سبعا وثمانين سنة.
[مسألة: الغنم هل تقلد]
مسألة وسئل مالك عن البقر إذا كانت لها أسنمة، قال: أرى أن تشعر، فإن لم يكن لها أسنمة فلا تشعر، وتقلد كانت لها أسنمة أو لم تكن، فقيل: أرأيت الغنم هل تقلد؟ قال: لا، وليس هذا من شأن الغنم.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، رأى أن تقلد البقر وتشعر إذا كانت لها أسنمة، قياسا على الإبل، ولم ير أن تقلد الغنم؛ لأن المعنى في التقليد أن يعرف أنها هدي إن شردت فضلت، وذلك مأمون على الغنم، أيضا فإنه يخشى عليها أن تخثو بالتقليد لضعفها، وأما الإشعار فلا يمكن فيها، ولا يقول بذلك أحد، فهذا وجه ما ذهب إليه مالك في هذا، والله أعلم.
وقد جاء تقليد الغنم في الآثار، وإلى هذا ذهب ابن حبيب.
[مسألة: طاف للوداع وأراد أن يركع ركتي الطواف بذي طوى فأحدث]
مسألة وقال في رجل طاف طواف الوداع، وذلك قبل طلوع الشمس،(3/477)
فخرج فسار وهو يريد أن يركعهما بذي طوى أو نحوه، فأحدث قبل ذلك، قال: لا يركع ركوع الطواف، وقد انتقض طوافه، فإن كان قد تباعد، فلا يرجع، وليس عليه شيء، وإن كان ذلك الطواف الواجب فليركعهما في موضعه، وليهد بقرة أو بدنة أو شاة إن لم يجد غيرها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة مثل ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف في المذهب فيها، ولا إشكال في شيء من معانيها يتكلم عليه، والله الموفق.
[مسألة: كان المقام ملتصقا بالبيت]
مسألة قال مالك: كان المقام ملتصقا بالبيت، فأخره عمر بن الخطاب إلى موضعه، وهو حد علم الحرم ومعالمه، قال مالك: لما وقف إبراهيم على المقام، فأوحى الله إلى الجبال أن تأخري عنه، فتأخرت حتى أراه موضع المناسك، وهو قول إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فأرنا مناسكنا".
قال محمد بن رشد: وقعت هاتان الحكايتان في المدونة، ومعناها بيِّن لا يفتقر إلى كلام، وبالله التوفيق، لا رب غيره، ولا خير إلا خيره، وهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تم كتاب الحج الأول
بحمد الله تعالى وحسن عونه
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم(3/478)
[كتاب الحج الثاني] [الطواف بالبيت وعلى المرء ثوب غير طاهر]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه كتاب الحج الثاني من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب الحج. قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع قالا: سئل مالك [رحمة الله على جميعهم] عن الطواف بالبيت وعلى المرء ثوب غير طاهر، قال: لا، وكرهه.
قال محمد بن رشد: حكم الطواف بالبيت حكم الصلاة في أنه لا تكون إلا على طهارة، فكذلك يكون حكمه حكمها في طهارة الثوب والبدن من النجاسة، فإن طاف بثوب نجس وهو لا يعلم به، ثم علم بعد إكمال الطواف قبل الركعتين فصلى الركعتين بثوب طاهر فلا إعادة عليه، فإن لم يعلم حتى صلى الركعتين أعادهما بالقرب ما لم ينتقض وضوؤه ولم يعد الطواف، روي ذلك عن ابن القاسم، وقال أصبغ: لا يعيد الركعتين؛ لأن السلام منهما خروج وقتهما، والقياس أنه إن علم في أثناء الطواف وبعد أن أكمله قبل أن يصلي الركعتين استأنف الطواف من أوله، كالصلاة إذا علم بنجاسة الثوب في الصلاة قطع وابتدأ، وإن لم يعلم به حتى أكمل الركعتين لم يكن عليه أن يعيد، كمن صلى بثوب نجس فلم يعلم به حتى خرج الوقت؛ لأن الطواف ليس له وقت محدود، فالسلام من الركعتين خروج وقته، كمن صلى صلاة(4/7)
فاتته بثوب نجس فلم يعلم به حتى خرج الوقت سلم منها أنه لا إعادة عليه؛ لأن السلام منها خروج وقتها. وقال أشهب: إن علم به في طوافه ابتدأه، وإن لم يعلم به إلا بعد إكمال طوافه أعاد الطواف والسعي إن كان قريبا، وليس بقياس، وإن كان متعمدا [أعاد وإن كان بعيدا، على القول بأن من صلى بثوب نجس عامدا أعاد أبدا، وعلى ما في هذه الرواية من أنه كره أن يطوف المرء وعليه ثوب غير طاهر لا تجب عليه الإعادة وإن كان متعمدا] ، [وبالله تعالى التوفيق] .
[مسألة: أفتسعى المرأة بين الصفا والمروة وهي حائض]
مسألة قيل له: أفتسعى المرأة بين الصفا والمروة وهي حائض؟ فقال: نعم إذا فرغت من الطواف بالبيت والصلاة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن السعي بين الصفا والمروة ليس من شرط صحته الطهارة. فإذا حاضت المرأة بعد الطواف بالبيت سعت بين الصفا والمروة، [وإذا حاضت قبل الطواف لم تسع بين الصفا والمروة] ؛ لأن السعي لا يكون إلا بعد الطواف، وهذا مما لا اختلاف فيه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعائشة: «افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة» .
[مسألة: قدم معتمرا فحل ثم أهل بالحج فخرج إلى منى]
مسألة وسئل: عمن قدم معتمرا فحل ثم أهل بالحج فخرج إلى منى(4/8)
ولم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ثم رمى جمرة العقبة، أيلبس الثياب قبل أن يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم الله عليه إلا النساء والطيب لا يمس أحد نساء ولا طيبا حتى يطوف بالبيت.
[مسألة: الحاجّة تنفس قبل أن تُفيض]
مسألة وسئل: على الحاجّة تنفس قبل أن تُفيض، قال: يحبس عليها كَرِيُّهَا؛ لأنه قد علم أن النساء يصيبهن هذا. قيل له: أفتراه مثل الحيض؟ قال: نعم، ويحبس على الحائض خمسة عشر يوما. قيل له: فهل يختلف عندك إن كانت حاملا أو غير حامل؟ فإن الْكَرِيّ يقول: لم أعلم أنك حامل؟ فقال: ما يختلف عندي، وما على النساء أن يخبرن بحملهن؟ قلت له: فإن الكَرِيّ يحتج بأن يقول بأن الحيض من أمر النساء، فقال مالك: والحمل من أمر النساء، والمرأة قد يكون معها زوجها فتحمل، أفلا اشترط عليها حين أكراها؟ أرى أن يحبس عليها كَرِيّها، ولا أدري لعله تعينه في العلف. قيل: استحسان؟ قال: نعم. ولم ير عليه معونة في العلف إذا هي حاضت قبل أن تُفيض، وأرى أن يحبس عليها كريها خمسة عشر يوما. فقيل له: يا أبا عبد الله إن النساء عندنا يشترطن على الأكرياء الحج والعمرة في المحرم، فإن حاضت قبل أن تعتمر أترى أن يحبس كريها؟ قال: لا يحبس عليها كريها، فراجعته فلم ير ذلك عليه. قلت له: أفيوضع عنها من الكراء؟ فقال: لا أدري ما هذا؟(4/9)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في آخر رسم طلق من سماع ابن القاسم أن الكري يحبس على المرأة إذا نفست كما يحبس في الحيضة في الحج والعمرة، وقد مضى هناك القول على [ذلك] والأصل في وجوب حبسه عليها قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في صفية حين قيل له: إنها قد حاضت: «لعلها حابستنا، فقالوا: يا رسول الله إنها قد طافت، قال: فلا إذن» . وإنما لم يحبس عليها إذا حاضت قبل العمرة التي اشترطت عليه، كما يحبس إذا حاضت قبل طواف الإفاضة في الحج؛ لأنها تقدر على الخروج وترك العمرة إذ لم تهل بها بعد، ولا تقدر على الخروج وترك طواف الإفاضة. ولم يجب مالك في حكمها مع الكري في ذلك إذا لم يحبس عليها، وأنكر السؤال عن أن يوضع عنها قدر العمرة من الكراء، فقال: لا أدري ما هذا! إذ لا يصح أن تجبر على الخروج معه وتترك العمرة، وهي عليها سنة واجبة، وعند بعض العلماء فريضة لازمة، ولعلها قد نذرتها فتكون قد وجبت عليها بإجماع، فإذا لم يصح أن تجبر على الخروج مع الكري إلى بلدها وهي حائض وأبى الكري من الصبر عليها حتى تطهر، فالواجب أن يفسخ الكراء بينهما فيما بقي، ويكون للمكرِي من كراء قدر ما مضى، فهذا هو وجه الحكم في هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قوله وتعالى وَلِلَّه على النَّاس حِجُّ الْبَيْت أذلك الزاد والراحلة]
مسألة وسئل مالك: عن قول الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ... الآية، أذلك الزاد والراحلة؟ فقال: لا والله، وما ذلك إلا على طاقة الناس، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على(4/10)
السير، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه، ولا صفة في هذا أبين مما أنزل الله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] .
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال مالك: إنه لا صفة في ذلك أبين مما قال تعالى، فمن قدر على الوصول إلى مكة إما راجلا وإما راكبا بشراء أو كراء فقد لزمه فرض الحج، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس، فقد يفتقر الرجل في الوصول إلى مكة إلى الزاد والمركوب، وقد لا يفتقر إلى واحد منهما، وقد يفتقر إلى أحدهما، فإن كان الرجل ممن لا يقدر على المشي أو يقدر عليه لمشقة تفدحه أو عيش في بلده مما يتعذر عليه العيش منه في طريقه كالصناعة التي لا يجدها أو السؤال الذي لا يجد له موضعا في طريقه فلا يجب عليه الحج حتى يجد الزاد والمركوب، ويلزمه أن يبيع في ذلك ما يبيعه عليه السلطان في الدين. وإن كان ممن يقدر على المشي بغير مشقة تفدحه وما يعيش به في بلده لا يتعذر عليه في طريقه من صناعة لا يعدمها أو سؤال لا يتعذر عليه، فالحج واجب عليه وإن لم يجد زادا ولا مركوبا؛ وإن كان عيشه مما يتعذر عليه في طريقه وهو يقدر على المشي فالحج واجب عليه [إذا وجد الزاد وإن لم يجد المركوب] ، وإن كان عيشه في بلده مما لا يتعذر عليه في طريقه وهو لا يقدر على المشي فالحج واجب عليه إذا قدر على المركوب وإن لم يجد الزاد، وأما إن كان عيشه من غير السؤال وهو يقدر أن يتوصل إلى مكة بالسؤال فلا اختلاف في أن ذلك لا يجب عليه. واختُلف هل يباح له ذلك أو يكره؟ فقيل: إن ذلك له مباح، وقيل: إنه له مكروه، والأول قول مالك في رواية ابن عبد الحكم عنه، والثاني قوله في سماع ابن القاسم من كتاب الصنائع والوكالات، وقد مضى في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم القول إذا لم يجد نفقة يخلفها لزوجته، وكان إن خرج رفعت أمرها(4/11)
فطلقت عليه، ويأتي في سماع محمد بن خالد القول في إذا لم يجد نفقة يخلفها لولده. وما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الزاد والراحلة معناه في البعيد الدار أو القريب الذي لا يقدر على المشي؛ لأن قوله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] ، يوجب الحج على من استطاعه ماشيا؛ لأنه إخبار بمعنى الأمر؛ إذ لا فائدة في الإخبار بصفة الإتيان دون الإيجاب؛ ولأن شريعة إبراهيم لازمة لنا، قال عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] ... الآية.
[مسألة: اعتمر فجاء ليلا فطاف وركع الركعتين وأخر السعي والحلاق للصبح]
مسألة وسئل عمن اعتمر فجاء ليلا فطاف بالبيت وركع الركعتين وأخر السعي والحلاق حتى أصبح، فلما أصبح سعى بين الصفا والمروة ثم حلق، فقال له مالك: أبطهر واحد؟ فقال: لا، انقلبنا فنمنا، قال: بئس ما صنعتم، وأرى أن تهدي هديا. ولو ذكرت ذلك وأنت بمكة رأيت أن تعيد الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، ولو كنت فعلت بطهر واحد أجزأ عنك، وإنما يكون ذلك إذا كان الشيء قريبا. فقيل له: أفرأيت إن كان ذكر ذلك وهو بمكة بعد أن حلق؟ فقال: كنت أرى أن يعيد الطواف والركعتين والسعي بين الصفا والمروة ويحلق رأسه. قيل له: إنه قد حلق رأسه أفيعيد الحلق؟ فقال: نعم يحلق أيضا.
قال محمد بن رشد: وعليه إذا ذكر بالقرب فأعاد الطواف والسعي والحلاق الدمُ لمكان الحلاق، ولو ذكر بالقرب قبل أن يحلق فأعاد لم يكن عليه شيء. وقوله: إنما يكون ذلك إذا كان الشيء قريبا، يريد: وإنما تكون الإعادة(4/12)
إذا كان وضوؤه قد انتقض، ولو لم ينتقض وضوؤه لم يكن عليه إعادة على هذه الرواية، قرب أو بعد، خلاف ما مضى في سماع ابن القاسم في رسم حلق المتكرر في موضعين.
[مسألة: المحرمة تغطي وجهها]
مسألة وسئل: عن المرأة المحرمة تغطي وجهها، فقال: إن كانت تغطيه من حر أو من شيء [فلا] ، وإن كانت رأت رجالا فغطت وجهها تريد بذلك الستر فلا أرى بذلك بأسا، وأرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، فإن غطت لغير الستر فعليها الفدية؛ لأن إحرام المرأة في وجهها. واختلف إن غطى الرجل وجهه هل عليه الفدية أم لا، على قولين، لما جاء في ذلك عن عثمان بن عفان، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[مسألة: يحرم في الثوب فيه لمعة من الزعفران]
مسألة وسئل: عن الذي يحرم في الثوب فيه لمعة من الزعفران، قال: أرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: يريد -والله أعلم- اللمعة تبقى فيه منه بعد غسله فاستخف اللمعة من ذلك بعد الغسل، ولا يستخف اللمعة منه دون الغسل؛ لأنه طيب، ولا جميعه بعد الغسل إلا أن يتغير بالمشق، على ما المدونة.(4/13)
[مسألة: رمى الجمرة آخر أيام الرمي ثم رجع إلى منى فأقام حتى الظهر]
مسألة وسئل: عمن رمى الجمرة آخر أيام الرمي، ثم رجع إلى منى فأقام حتى الظهر، وقد كان أفاض يوم النحر أو بعده فلم يبق عليه شيء من أمر الحج، فقال: يصلي ركعتين، أهلُ منى كلهم على هذا.
قال محمد بن رشد: استخف هذا لما مضى عليه من عمل الناس، والاتباعُ للسلف رشدٌ وهدًى.
[مسألة: يصيب الجراد وهو محرم]
مسألة وسألته: عن الذي يصيب الجراد وهو محرم، أيكتفي بالذي جاء من الحديث أم يحكم عليه؟ قال: بل يحكم عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لقوله عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] ، مع ما جاء في ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من قوله لكعب: تعال حتى نحكم في جرادة، سأله محرم عن قتلها فلم يحكم فيها وحده حتى حكم كعب معه.
[مسألة: يحرم بالحج من مكة من أين يحرم]
مسألة وسألته: عن الذي يحرم بالحج من مكة من أين يحرم؟ قال: من جوف المسجد الحرام. [قيل: أفلا يحرم من بيته؟ فقال: بل يحرم من جوف المسجد الحرام. قيل له: فيحرم من عند باب المسجد؟ قال: بل يحرم من جوف المسجد] .(4/14)
قال محمد بن رشد: إنما لم ير أن يحرم من بيته؛ لأن السنة أن يكون الإحرام إثر صلاة نافلة في المسجد أقلها ركعتين، فإذا صلى في المسجد وجب أن يحرم من مكانه ولا يخرج إلى باب المسجد؛ لأن التلبية إنما معناها إجابة الله إلى بيته الحرام، فهو بخروجه من المسجد يزداد من البيت بعدا بخلاف الخروج من مسجد ذي الحليفة أو غيره من مساجد المواقيت؛ لأنه بخروجه منها إلى أبوابها يزداد من البيت قربا؛ فهذا وجه لقوله صحيح من جهة المعنى.
[مسألة: عن المحرم أيصيد الثعلب أو الذيب]
مسألة وسألته: عن المحرم أيصيد الثعلب أو الذيب؟ قال: لا، ثم قال: والله ما أدري أعلى هذا أصل رأيك أم تتجاهل بصيد المحرم؟ قلت له: ما أتجاهل ولكني ظننت أن تراه من السباع.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في الحج الثاني والسلم الثالث من المدونة في الثعلب قد نص فيهما أن المحرم لا يقتل شيئا من السباع التي لا تعدو ولا تفترس [كالهر والضبع والثعلب، وأما الذيب فجعله هاهنا ممن لا يعدو ولا يفترس] كالثعلب، وجعله ابن حبيب مما يعدو ويفترس كالأسد والنمر [والفهد] داخلا في اسم الكلب العقور التي أباح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتله في الحل والحرم. وقول ابن حبيب صحيح على ما يعرف من(4/15)
حال الذياب عندنا، ولعلها في المشرق على خلاف ذلك لا تعدو ولا تفترس، [إذ لا اختلاف في أن الثعلب والذيب من السباع ويجوز للمحرم قتلها كالثعلب] . واختلف في صغار ما يعدو ويفترس، فقيل: إن قتلها محظور تودى إن قتلت وهو قول أشهب؛ وقيل: إن قتلها مكروه لا تودى إن قتلت، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وقول ابن حبيب في الواضحة، وقيل: إن قتلها جائز، روي ذلك عن أشهب، وقوله: ولكن ظننت أن تراه من السباع، يريد من السباع التي تعدو وتفترس ويجوز للمحرم قتلها، إذ لا اختلاف في أن الثعلب والذيب من السباع.
[مسألة: حديث والمروة منحر وكل فجاج مكة منحر وطرقها منحر]
مسألة وسئل: عن قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العمرة: «والمروة منحر، وكل فجاج مكة منحر، وطرقها منحر» ، أرأيت من كان معه هدي واجب يسوقه في عمرة قلده وأشعره وأصابه عطب في الطريق فنحره، قال: هذا لا يجزئ عنه، قيل له: إنه نحره في الحرام، قال: لا يجزئ عنه، وحد ذلك عندي [في] الذي يجزئ عنه والذي قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فيما أرى بيوت مكة، قال: حيث البنيان، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وكل طرقها منحر، فهذه طرق مكة وليس بالصحارى» . وقلت له: أرأيت إن نحره في الحرام قبل أن يدخل مكة أو عند ثنية المدنيين؟ قال: ما أراه مجزئا عنه، ألا ترى قول الله عز وجل: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] ، وقد نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(4/16)
هديه بالحديبية في الحرم. قلت له: نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحرم، قال: سمعت ذلك، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه يوم الحديبية: «احلقوا وانحروا، فأبطئوا، فذكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم سلمة فقالت: يا رسول الله فلو فعلت أنت ذلك، ففعل رسول الله ففعلوا»
قال محمد بن رشد: قوله: وقد نحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ هديه بالحديبية في الحرم، معناه: نحر هديه في الحرم إذ كان في الحديبية؛ لأن الحديبية في الحل، لكنه لم يكن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ممنوعا من دخول الحرم، فبعث هديه من الحديبية إلى الحرم ينحر به على ما روي، فصحت بذلك لمالك حجة لما ذهب إليه من أن محل الهدي من الحرم مكة القرية نفسها ومنى، [لا] جميع الحرم، لقوله عز وجل: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] ، وهو قد نحر بالحرم إذ لم ينحر بمكة حيث بنيان القرية. وقد ساق ابن أبي زيد هذه الرواية في النوادر سياقة فاسدة غير صحيحة على ما تأوله فيها، فقال: وروى أشهب عن مالك في العتبية أن الحديبية في الحرم. ومن صد عند مالك قبل أن يبلغ الحرم حل وحلق رأسه ونحر هديه حيثما كان، إذ لا فرق عنده في النحر بين الحل والحرم ما لم يبلغ بيوت مكة أو منى. وقد قيل: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ إنما نحر بالحديبية في الحل لا في الحرم.
وذهب أبو حنيفة إلى أن من صده عذر عن الوصول إلى الحرم لا يجوز له أن ينحر هديه إلا بالحرم، على ما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ نحر في الحرم. قال من احتج له: وكيف يجوز أن ينحر في غير الحرم،(4/17)
والله عز وجل يقول: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، وأغفل قوله عز وجل: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] فلا وجه لقوله.
[مسألة: المحرم أيحضر التزويج]
مسألة وسألته: عن المحرم أيحضر التزويج؟ قال: لا ينبغي ذلك.
قال محمد بن رشد: إنما كره له ذلك مخافة أن يتذكر أمر النساء فيتراقى به الأمر إلى ما يفسد حجه أو ينقص أجره، فإن حضر وسلم فقد أساء ولا شيء عليه، قاله أصبغ في كتاب محمد.
[مسألة: نكاح المحرم بعد رمي الجمرة والعقبة]
مسألة وسألته: عن نكاح المحرم بعد رمي الجمرة والعقبة، قال: أرى أن يفسخ نكاحه.
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح على مذهبه في أن المحرم لا يجوز له النكاح؛ لأنه لم يخرج من إحرامه بعد، إذ بقي عليه الإحرام في النساء والطيب والصيد حتى يطوف بالبيت.
[مسألة: البقر إذا لم يكن لها أسنمة تقلد ولا تشعر]
مسألة [قال مالك] : والبقر إذا لم يكن لها أسنمة تقلد ولا تشعر في رأيي.(4/18)
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم، ومثله في المدونة. وحكى ابن حبيب عن ابن عمر وابن شهاب أنها تشعر وإن لم يكن لها أسنمة. وقول مالك أظهر لأنه إنما لم يثبت في إشعارها أثر، فلا ينقاس منها على الإبل إلا ذوات الأسنمة، إذ الإشعار إنما هو في السنام.
[مسألة: الذي يتذكر حتى نزل الماء الدافق في الحج]
مسألة وسئل: عن الذي يتذكر حتى نزل الماء الدافق، قال: ليس عليه حج قابل ولا عمرة عليه، وعليه أن يهدي بدنة ويتقرب إلى الله بكل ما استطاع من الخير.
قال محمد بن رشد: رواية ابن القاسم عن مالك في رسم اغتسل أصح من هذه، وقد مضى من القول هناك على ذلك ما فيه كفاية.
[مسألة: قتل الصيد في حرم رسول الله صلى الله عليه]
مسألة وسألته عمن قتل الصيد في حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، أعليه جزاء؟ قال: لا يتعمد لقتله، فإن قتله فلا جزاء عليه، وكل شيء وسنته، ومن مضى أعلم ممن بقي، ولو كان هذا لسنوا فيه، والصيد فيه ثقيل ثم ثقيل.
قال محمد بن رشد: حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ما بين لابتي المدينة بريدا في بريد قال: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها» .. واختلف أهل العلم فيمن صاد فيها صيدا، فمنهم من أوجب عليه فيه الجزاء كحرم مكة سواء، وهو قول ابن أبي ذيب، حكاه الأبهري في(4/19)
كتابه، وبذلك قال ابن نافع، وإليه ذهب عبد الوهاب، ومنهم من ذهب إلى أن من صاد فيه حل سلبه لمن وجده. روي أن سعد بن أبي وقاص وجد عبدا لقوم يصيد في حرم المدينة فأخذ سلبه، فأتاه قوم فكلموه في أن يرد عليهم سلبه فأبى وقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ لما حد حرم المدينة قال: «من وجد من يصيد فيه فله سلبه، فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله، ولكن إن شئتم غرمت لكم سلبه فعلت» . وذهب مالك إلى أن الصيد فيه أخف من الصيد في حرم مكة، فلم ير على من صاد فيه إلا الاستغفار والزجر من الإمام. قيل له: فهل يؤكل الصيد يصاد في حرم المدينة؟ قال: ما هو مثل ما يصاد بحرم مكة، وإني لأكرهه، فروجع فيه فقال: لا أدري، ومن الدليل لقول مالك على أن الصيد في حرم المدينة ليس كالصيد في حرم مكة، ما روي عن عائشة أنها قالت: «كان لآل رسول الله صلى عليه وحش فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قد دخل ربض فلم يترمرم كراهيته أن يوذيه» . وما روي عن أنس بن مالك قال: «كان لأبي طلحة ابن من أم سليم يقال له أبو عمير، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يضاحكه فدخل يوما فرآه حزينا، فقال: ما شأن أبي عمير؟ فقيل: يا رسول الله مات نغيره، فقال: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟» ، ومثل هذا لا يباح في حرم مكة.
[مسألة: رفع الصوت بالتلبية]
مسألة قال أشهب: قلت لمالك: فرفع الصوت بالتلبية؟ قال: نعم يرفع صوته بالتلبية، ولا أرى أن يصيح جدا حتى يعقر حلقه، ووسط من ذلك يجزيه إن شاء الله، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(4/20)
«أمرني جبريل أن آمر أصحابي أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية» .
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه ليس عليه أن يصيح بالتلبية جدا حتى يعقر حلقه، إذ ليس في الحديث أن يصيح بالتلبية بأعلى صوته، وإنما فيه أن يرفع بها صوته، فيجزيه من رفع صوته بها ما يكون إذا فعله يسمى رافعا لصوته، ولا يعارض الأمر برفع الصوت بالتلبية ما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دنا من المدينة رفع الناس أصواتهم بالتكبير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيها الناس ارفقوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعون بينكم وبن أعناق أكتافكم "؛» لأن هذا في غير الحج، وشأن الحج رفع الصوت فيه بالتلبية لأنها شعاره، وروي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الحج أفضل؟ قال: " العج والثج» ، فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج نحر البدن "، فبان الحج في رفع الصوت بالتلبية فيه عما سواه.
[مسألة: قتل الحمار الوحشي وهو محرم]
مسألة وسألته: عن الحمار الوحشي، فقال: فيه بقرة، قلت له: أترى أن يودونها قبل أن يحكم عليه بها؟ قال: لا، بل أرى أن يذهب حتى يحكم عليه ببقرة، وأرى في بقرة الوحش بقرة.(4/21)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله في المدونة وغيرها، فإنما قال في الحمار الوحشي بقرة؛ لقول الله عز وجل: فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قرأه الكوفيون: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] بتنوين الجزاء ورفع مثل، وقرأ المدنيون بإسقاط التنوين، وخفض "مثل" على الإضافة والقراءتان راجعتان فيما يوجب الحكم إلى شيء واحد وإن اختلف المعنى فيهما لأنه يجب عليه فيما قتل على قراءة الكوفيين مثله من النعم جزاء، ويجب عليه فيما قتل على قراءة المدنيين مثل مثله من النعم؛ لأن الجزاء هو المثل، واختلف في المثل فقيل مثله في الهيئة والخلقة أن يشبه النعم به في ذلك، وقال في المدونة: مثله في النحو والعظم أي أقرب النعم إليه في ذلك. وإنما قال: إنه لا يؤدي البقرة حتى يحكم عليه بها لقول الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] .
[مسألة: الذي يفسد حجه بإصابة أهله فيحجان من عام قابل متى يفترقان]
مسألة وسألته: عن الذي يفسد حجه بإصابة أهله فيحجان من عام قابل متى يفترقان؟ قال: إذا أحرما. قيل له: ولا يؤخران ذلك حتى يأتيا الموضع الذي أفسدا فيه حجهما؟ فقال: لا، وهذا الذي سمعت. قلت له: فما ترى افتراقهما، أيفترقان في البيوت أم في المناهل لا يجتمعان في منهل؟ فقال: لا يجتمعان في منزل، ولا يتسايران ولا في الجحفة ولا بمكة ولا بمنى.
قال محمد بن رشد: من أهل العلم من قال إنه يفرق بينهما إلى عام قابل، وقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسعيد بن المسيب: لا يفترقان حتى يحرما بالحج من عام قابل، وبهذا أخذ مالك، والوجه في ذلك مخافة أن(4/22)
يكون اجتماعهما ذريعة إلى فساد حجهما مرة أخرى.
[مسألة: الذي يفسد حجه وهو قارن بإصابة أهله فلا يجد هديا]
مسألة وسئل: عن الذي يفسد حجه وهو قارن بإصابة أهله فلا يجد هديا، فقال: يصوم ستة أيام في الحج وأربعة عشر يوما إذا رجع إلى أهله. قيل له: يقرن بين ستة؟ قال: يصوم ثلاثة ثم يفطر إن شاء ثم يصوم ثلاثة أيام بعد ذلك، وذلك في الحج يصومها ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، وإنه ليستحب أن يؤخر ذلك رجاء أن يجد هديا.
قال محمد بن رشد: أما قوله: إنه يصوم ستة أيام في الحج وأربعة عشر يوما إذا رجع فمعناه إذا كان قد أهدى هدي قران الحج الذي كان أفسد حينئذ؛ لأنه لا يسقط عنه بإفساده، ولو كان لم يهده لكان عليه ثلاث هدايا بإجماع في المذهب، يصوم عنهن إن لم يجد هديا تسعة أيام في الحج وأحدا وعشرين يوما إذا رجع. وقد مضى القول على هذا في رسم مرض من سماع ابن القاسم. وأما قوله: أن يصوم ثلاثة ثم يفطر إن شاء، ثم يصوم ثلاثة أيام بعد، فظاهره أنه يلزمه أن يتابع كل ثلاثة أيام منها وهو خلاف مذهب مالك في المدونة مثل قول ابن حبيب، وقال ابن وهب: يفرد صوم كل هدي فيصوم ثلاثة ثم سبعة، ولا يفرق بين الثلاثة والسبعة، وهذا على القول بأن له أن يصوم السبعة الأيام في الحج.
وقول مالك على أنه لا يجوز له أن يصومها في الحج، ولذلك قال: إنه يتابع الستة الأيام عن الهديين؛ لأنه لو لم يفعل ذلك لصام الثلاثة الأيام عن الهدي الثاني في غير الحج، فقف على ذلك. وأما قوله: إنه يصومها ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة فالاختيار أن يصوم السادس والسابع والثامن ولا يصوم يوم عرفة ليقوى على الدعاء، فإن لم يصم السادس فيصوم السابع والثامن والتاسع وهو يوم عرفة، ولا ينبغي له أن يؤخر عن ذلك، فإن لم يصم(4/23)
السابع صام الثامن والتاسع وأفطر يوم النحر وصام يوما من أيام التشريق على مذهب مالك في المدونة في إجازة تفرقة الثلاثة الأيام. وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب، وهو ظاهر هذه الرواية لا يصوم حتى يذهب يوم النحر فيصوم بعده ثلاثة أيام متتابعات.
وأما قوله: وإنه ليستحب أن يؤخر ذلك رجاء أن يجد هديا، فلا يخلو أمره من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون يائسا من أن يجد هديا قبل يوم النحر بثلاثة أيام، فهذا له أن يصوم ولا يستحب له التأخير، فإن صام ثم وجد هديا من حيث لم يكن ظن به لم يجب عليه الهدي.
والثاني: أن يكون يعلم أنه يجد الهدي قبل يوم النحر بثلاثة أيام، فهذا لا يصوم، وإن صام لم يجزه صيامه ووجب عليه الهدي.
والثالث: أن يكون شاكا في وجود الهدي فهذا هو الذي يستحب له أن يؤخر رجاء أن يجد الهدي، فإن صام ثم وجد الهدي أجزأه صيامه ولم يكن عليه أن يهدي على مذهب ابن القاسم، ولم يجزه على مذهب ابن حبيب ووجب عليه الهدي، وهذا على اختلافهم في الذي يصلي بالتيمم ولا علم له بالماء ثم يجد الماء في الوقت.
[مسألة: الطائف بالبيت يمشي مشيه الذي كان يمشي أم يسرع]
مسألة وسئل: عن الطائف بالبيت يمشي مشيه الذي كان يمشي أم يسرع؟ قال: إن أحب أن يسرع في مشيه فذلك له، وإن أحب أن يتأيد في مشيه فلا بأس بذلك، وربما أسرع الإنسان لحاجة عرضت له.(4/24)
قال محمد بن رشد: قوله: أن له أن يسرع، معناه ما لم يبلغ إسراعه أن يكون خببا لئلا يكون قدر رمل الأشواط السبعة، وذلك مخالف للسنة.
[مسألة: معتمران يهديان شاتين فيعدو كل واحد منهما على شاة صاحبه]
مسألة وسئل: عن المعتمرين يهديان شاتين فيدخلان بعمرة فيعدو كل واحد منهما على شاة صاحبه فيذبحها عن نفسه وهو لا يعرف ذلك، قال: لا أرى ذلك يجزي عنهما، وأرى لكل واحد منهما على صاحبه قيمة شاته، ويشتري كل واحد منهما لنفسه شاة فيخرجها إلى الحل ثم يدخلها الحرم في عمرة، وإن لم يعتمر أجزأ عنه إن شاء الله ثم يذبحها. ولو ذبح أحدهما شاة صاحبه عن نفسه لم أر ذلك يجزئ عنه، ورأيت أن يذبح شاته التي أوجبها ويغرم لصاحبه قيمة شاته فيشتري بها شاة فيخرجها إلى الحل ثم يدخلها الحرم فيذبحها، والشاة المذبوحة التي ذبحها وليست له شاة لحم لا تجزئ عن واحد منها ويشترى شاة فيذبحها.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية: إن من ذبح هدي غيره عن نفسه على سبيل الغلط إنه لا يجزئ عن واحد منهما.
وقال في المدونة: إنه يجزئ عن صاحبه لأنه قد وجب بالتقليد والإشعار. وذهب محمد بن المواز وهو أحد قولي أشهب إلى أنه يجزئ عن ذابحه إذا أغرمه صاحبه فيه القيمة ولم يأخذ اللحم. وأما الضحايا إذا أخطأ الرجل فيها فذبح أضحية غيره عن نفسه فلا تجزئ عن صاحبها باتفاق، واختلف هل تجزئ عن ذابحها إذا اغترمه ربها القيمة ولم يأخذ اللحم، فروى عيسى عن ابن القاسم في كتاب الضحايا أنها لا تجزئ عنه. وقال محمد بن المواز: تجزئ عنه وهو قول أشهب، لم يختلف قوله في ذلك كما اختلف قوله في الهدايا. وفرق ابن حبيب بين أن يأتي صاحبها واللحم قائم بيد الذابح، أو بعد فواته، فقال: إنه إذا جاء واللحم قائم بيده فلا يجزيه وإن(4/25)
أغرمه القيمة؛ لأنه قد كان له أن يأخذ اللحم إن شاء، وهو قول حسن له حظ من النظر يدخل بالمعنى في مسألة الهدايا، فيأتي فيه أربعة أقوال. فهذا تحصيل الاختلاف في هذه المسألة، وأصح ما في ذلك أنه لا يجزئ في الهدايا عن واحد منهما، لا عن صاحبه لأنه قد نحره غيره عن نفسه فلم يكن له هو نية في نحره، ولا يجزئ عمل بغير نية لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الأعمال بالنيات» ، ولا عن الذي نحره؛ لأنه قد وجب هديا لغيره بالتقليد والإشعار؟ وأن يجزئ في الضحايا عن الذابح إذا أغرمه ربها القيمة ولم يأخذ اللحم، كما لو أعتق رقبة عن ظهار عليه فاستحقت فأجاز ربها البيع وأخذ الثمن. وتفرقة ابن حبيب بين أن يضمنه القيمة واللحم قائم أو غير قائم استحسان، وبالله تعالى التوفيق.
[جلال البدن أحب إليك أن تشق على الأسنمة أم لا]
ومن كتاب الحج وسئل: عن جلال البدن أحب إليك أن تشق على الأسنمة أم لا؟ قال: إن ذلك لمن أمر البدن أن يشق الجلال عن أسنمتها، وذلك يحبسه عن أن يسقط، وما علمت أن أحدا كان يدع ذلك إلا عبد الله بن عمر فإنه لم يكن يشق، ولم يكن يجلل حتى يغدو من منى إلى عرفات فيجللها. قال مالك: وذلك أنه كان يجلل الجلل [المرتفعة] والأنماط المرتفعة. قيل: وإنما كان يفعل ذلك استبقاء للثياب، قال: نعم إنه كان يدع ذلك استبقاء للثياب عندي، فأحب إلي إذا كانت الجلل مرتفعة أن يدع ذلك ولا يشق منها شيئا، وإن(4/26)
كانت ثيابا دونا، فشقها أحب إلي وذلك من أمر الناس في البدن ومما تعرف به، وأرجو أن يكون ذلك في سعة.
قال محمد بن رشد: ليس التجليل بواجب في الهدايا كالتقليد والإشعار، لكنه مما يستحب العمل به، [ومما يستحب] ، ومن الاستحباب فيه إن كانت الجلال مرتفعة أن لا يشق عن الأسنمة وأن يؤخر تجليلها إلى عند الغدو من منى إلى عرفة كما جاء عن عبد الله بن عمر، وقد روي عنه أنه كان يجلل بدنه من ذي الحليفة بالرباط وكان يشقها عن الأسنمة ويعقد أطرافها على أذنابها عن البول، وينزعها عنها في المناهل لئلا يفسدها بالتمرغ، فإذا غدا من منى إلى عرفة جللها بالجلال والقباطي والأنماط المرتفعة، فإذا انصرف بها إلى منى يوم النحر نزع جلالها قبل أن يصيبها دمها، ثم يبعث بها إلى الكعبة، فلما كسيت الكعبة هذه الكسوة قصر في الجلال واقتصر على الرياط، وكان يتصدق بها. وهذا مستحب في الفعل لأهل السعة والطول.
[مسألة: أتخرج المرأة تريد الحج مع ختنها]
مسألة وسمعته يسأل: أتخرج المرأة تريد الحج مع ختنها؟ قال: تخرج مع جماعة الناس.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله أنه لم ير أن تخرج مع ختنها دون(4/27)
جماعة الناس؛ لأنه ليس من ذوي محارمها، إذ قد كانت له حلال قبل أن يتزوج ابنتها. ومثل هذا في سماع ابن القاسم من كتاب النكاح كراهية السفر للرجل مع زوجة أبيه أو ابنه. وحمل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها» على السفر المباح والمندوب إليه دون السفر الواجب، بدليل إجماعهم على أن المرأة إذا أسلمت في بلاد الحرب لزمها أن تخرج إلى بلد الإسلام وإن لم يكن معها ذو محرم منها، فأوجب على المرأة الحج وإن لم يكن لها ذو محرم يحج بها خلافا لأهل العراق في قولهم: إن فرض الحج منسقط عنها بعدم ذي المحرم في محله، وقول مالك أصح؛ لأنه يخصص من عموم الحديث الهجرة من بلاد الحرب بالإجماع، ويخصص [حج] الفريضة بالقياس على الإجماع، وذلك بين على أصولهم في وجه القياس.
[أيستظل المحرم في محمله]
ومن كتاب الحج وسئل: أيستظل المحرم في محمله؟ قال: لا، قيل: أفتستظل المرأة؟ قال: نعم، تستظل هي تلبس الخمار والثياب. قيل له: أيستظل الرجل إذا كان عديلها؟ فقال: لا، قيل له: أفيضحى هو وتستظل هي؟ قال: نعم. قيل له: أفيستظل المحرم تحت المحمل وهو سائر؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: أجمع أهل العلم على أن الرجل المحرم لا يجوز له(4/28)
أن يغطي رأسه في إحرامه، وأجمعوا على أنه يجوز له أن يستظل وهو نازل بالأرض في مثل القبة والفسطاط، على ما جاء في الحديث: من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر في غدوه من منى بقبة تضرب له من عرفة بنمرة» . واختلفوا: هل يجوز له أن يستظل في محمله أو هو سائر بشيء يرفعه على رأسه، فمنهم من أجاز ذلك له قياسا على جواز الاستظلال له في الأرض. وذهب مالك إلى أن ذلك لا يجوز له قياسا على تغطية رأسه، ورأى عليه الفدية إن فعل ذلك كتغطية رأسه سواء، ولم يراع الاختلاف في ذلك، فعلى هذا يأتي قوله في هذه الرواية: إنه لا يجوز له أن يستظل في المحمل وإن كان عديلا للمرأة أو المريض بظل يعمل عليه لهما. وقد روي عن مالك: أنه راعى الاختلاف في ذلك، فاستحسن الفدية لمن استظل في محمله من غير ضرورة، ولم يوجبها عليه، وأجاز له الاستظلال فيه ابتداء إذا اضطر إلى ذلك بكونه عديلا للمرأة فيه أو للمريض، وقع ذلك له في كتاب ابن شعبان، وأجاز له أن يستظل تحت المحمل، وهو سائر؛ لأنه يسير، إذ لا يمكنه إدامة المشي تحته أبدا.
[مسألة: الرجل يقدم مكة بالجارية يريد بيعها فتناشده الله أن يدعها تحرم]
مسألة وسئل: عن الرجل يقدم مكة بالجارية يريد بيعها فتناشده الله أن يدعها تحرم، قال: يفعل، فقيل له: إن ذلك يغيرها وينقص من ثمنها، فهل عليه شيء إن منعها، قال: خير لك ألا تمنعها.
قال محمد بن رشد: هذا مما لا إشكال فيه أنه خير له أن لا يمنعها لأنه يؤجر في ذلك، فإذا استسهل نقصان ثمنها في جانب ما يدخل عليه من الأجر في إحرامها فقد فعل ما هو خير له، وإن لم يفعل فلا إثم عليه في ذلك ولا حرج.(4/29)
[مسألة: قارن ساق معه الهدي فوقف بعرفة ثم ضل هديه يوم النحر]
مسألة وسئل: عن قارن ساق معه الهدي فوقف بعرفة ثم ضل هديه يوم النحر أيحل يوم النحر قبل أن يبدل هديه الذي ضل منه؟ قال: نعم يحل قبل أن يبدله، أرأيت لو مات هديه فإن هذا يقول لعله يجده أليس يحل؟!
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله أنه ساوى بين الذي ضل هديه يوم النحر وبين الذي مات هديه، وهما يفترقان في الاختيار؛ لأن الذي ضل هديه، وهو يرجو أن يجده يؤخر حلاق رأسه ما بينه وبين زوال الشمس ليقدم النحر قبل الحلاق، إذ هي السنة؛ لقوله عز وجل: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، فإذا خشي زوال الشمس حلق مخافة أن يؤخر إلى بعد الزوال فلا يجد الهدي فتفوته الفضيلتان جميعا الحلاق قبل الزوال والذبح قبل الحلاق، فليس الكلام على ظاهره؛ لأن فيه تقديما وتأخيرا. وتقديره: قال: نعم يحل قبل أن يبدله، أرأيت لو مات هديه أليس يحل، ويبقى قوله، فإن هذا يقول لعل هذا يجده دون جواب، والجواب ما قدمناه من أنه يؤخر حلاق رأسه ما لم تزل الشمس. وإنما تستوي المسألتان في أنه يحل يوم النحر ولا يؤخر حلاق رأسه ما لم تزل الشمس فيها جميعا إلى بعد يوم النحر، وإلى الإعلام بذلك قصد، إذ إنما سأله السائل عن الذي ضل هديه يوم النحر، فأخبر أنه يحل يوم النحر كما يحل الذي مات هديه، ولم يسأله في أي وقت من النهار يحل، ولو سأله عن ذلك لأمره أن يؤخر حلاق رأسه ما بينه وبين زوال الشمس، إن كان يرجو أن يجده كما قال في المدونة، فهذا بيان هذه المسألة.
[مسألة: المحرم يغتسل أيجفف رأسه بثوب وهو محرم]
مسألة وسئل: عن المحرم يغتسل، أيجفف رأسه بثوب وهو محرم؟ قال:(4/30)
لا، ولكن يحركه بيده.
قال محمد بن رشد: إنما كره له ذلك مخافة أن يجففه بشدة فيقتل في ذلك دواب رأسه، ولو جففه برفق لا يخشى أن يقتل ذلك من دواب رأسه شيئا لم يكره ذلك له، والله أعلم.
[مسألة: يدفع من عرفة حتى يأتي المزدلفة أيؤخر المغرب والعشاء]
مسألة وسئل: عن الذي يدفع من عرفة حتى يأتي المزدلفة أيؤخر المغرب والعشاء حتى يحط رحله، أو يحط عن رحله بعد؟ قال: الرحل الخفيف فلا أرى به بأسا أن يبدأ به قبل الصلاة، وأما المحامل والزوامل فإن بدأ بها كان الذي يفوته من فضل الوقت المستحب أكثر من فضل إراحة الإبل من أحمالها، فلا أرى ذلك، وأرى أن يبتدئ بالصلاتين ثم يحط عن رحله.
قال محمد بن رشد: وجه هذه التفرقة بين؛ لأن الرحل الخفيف لا يفوته بالاشتغال به وقت الصلاة المستحب، فيبدأ به ليريح البعير من حمله فيؤجر بذلك، وأما المحامل والزوامل فإن بدأ بها كان الذي يفوته من فضل الوقت المستحب أكثر من فضل إراحة الإبل من أحمالها.
[مسألة: المحرمة تقيم أياما ثم تريد أن تنظر إلى وجهها]
مسألة وسئل: عن المحرمة تقيم أياما ثم تريد أن تنظر إلى وجهها، فقال: لا، فقيل له: أفتكرهه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: إنما كره ذلك لها مخافة أن ترى شعثا فتصلحه، وقد مضى ذلك في رسم اغتسل.
[مسألة: أيستظل المحرم بيده هكذا]
مسألة وسئل: أيستظل المحرم بيده هكذا؟ قال: لا بأس بذلك،(4/31)
ووضع يديه فوق حاجبيه يستر بهما وجهه.
قال محمد بن رشد: إنما استخف ذلك ليسارته كما استخف في أول هذا الرسم للرجل المحرم المشي تحت المحمل إذ لا يدوم ذلك، بخلاف الذي يرفع فوق رأسه ثوبا وشيئا يستظل به. وله أن يرفع فوق رأسه شيئا يقيه المطر. واختلف هل له أن يرفع فوقه شيئا يقيه من البرد، فوسع في ذلك مالك في رواية ابن أبي أويس عنه، [ولم ير ذلك له ابن القاسم في رواية عيسى عنه] في المدنية أيضا، وفي المدنية لمالك: أن المحرم له أن يستر وجهه بيده، وليس له أن يضعه على رأسه من شدة الحر.
[مسألة: يطوف بالبيت فيطلع عليه الفجر فيخشى إقامة الصلاة قبل الفراغ من طوافه]
مسألة وسئل: عن الذي يطوف بالبيت فيطلع عليه الفجر فيخاف أن تقام الصلاة قبل أن يفرغ من طوافه فلا يقدر أن يركع ركعتي الفجر، أترى أن ينصرف فيركعهما ثم يرجع فيبني على طوافه؟ قال: ما سمعت أحدا صنع [مثل] هذا. قيل: ولا ترى أن يركعهما؟ قال: بلى، إن كان الطواف تطوعا فأرى أن يركعهما ثم يرجع فيبني على طوافه، وما أنا له بالنشيط، وما سمعت أحدا قطع الطواف، وماله دخل الطواف؟ فقيل له: إنما دخل قبل الفجر، فقال: لا ولكنه قد علم أن ذلك قد تقارب، قيل له: أفأحب إليك إذا خاف أن يطلع عليه الفجر قبل أن يقضي طوافه أن لا يدخل في الطواف وأن يجلس حتى يصلي؟ قال: نعم. فقيل له: فإنه قد دخل في الطواف، قال: فأرى أن ينصرف فيركع ركعتي الفجر إذا كان في الطواف الذي ليس بواجب.(4/32)
قال محمد بن رشد: الطواف بالبيت صلاة لا يكون إلا على طهارة إلا أنه أبيح فيه الكلام والشغل اليسير، فلا يصح لأحد أن يترك طوافه الواجب لشيء من الأشياء إلا إلى صلاة الفريضة، واستخف له أن يترك طواف النافلة لصلاة النافلة كما استخف له أن يترك الطواف الواجب لصلاة الفريضة، وإن كان الاختيار له أن لا يفعل شيئا من ذلك، فلا ينبغي للرجل أن يدخل في الطواف إذا خشي أن تقام الصلاة قبل أن يفرغ من طوافه ولا أن يدخل في طواف التطوع إذا خشي أن تفوته ركعتا الفجر إن أكمل طوافه.
[مسألة: يفيض يوم النحر يوم جمعة فيفرغ من طوافه ويريد البقاء لصلاة الجمعة]
مسألة وسئل: عن الذي يفيض يوم النحر في يوم جمعة فيفرغ من طوافه ثم يريد أن يقيم حتى يصلي الجمعة، قال: ما سمعته، فقال: أحب إليك أن يرجع إلى منى؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: إنما استخف ذلك لأنها السنة من فعل «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أفاض يوم النحر صدر النهار ثم رجع فصلى الظهر بمنى» . وقد روي أنه إنما أفاض آخر النهار. وقد تقدم هذا في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم.
[مسألة: المحرم يرى القملة في ثوبه]
مسألة وسئل: عن المحرم يرى القملة في ثوبه أترى أن يأخذها فيضعها منه في موضع آخر؟ قال: أرجو ألا يكون بذلك بأسا، قيل له: فالمحرم يرى القملة في ثوبه أو جلده فيأخذها منه فيضعها في مكان آخر أو في الأرض؟ قال: ليس هكذا قلت؛(4/33)
ولكن يأخذها فيضعها في موضع آخر من ثوبه أو جلده.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن وضعها في الأرض بمنزلة القتل لها، إذ لا تعيش فيه لأنها ليست من دواب الأرض. وأما إذا وضعها في موضع آخر من ثوبه أو جلده فهو كمن طرد صيدا في الحرم من موضع إلى موضع آخر ولم يخرجه منه فلا شيء عليه في ذلك.
[مسألة: المحرم أيضع ثوبه على أنفه من رائحة الجيفة]
مسألة وسئل: عن المحرم أيضع ثوبه على أنفه من رائحة الجيفة؟
قال: إني أرجو أن لا يكون به بأس.
قال محمد بن رشد: قوله إني لأرجو أن لا يكون به بأس كأنه يدل على أن الأحسن ألا يفعل ذلك، ولا معنى لاختيار ذلك، إذ ليس المحرم متعبدا باستنشاق الروائح القبيحة ولا له في ذلك قربة، وقد قال ابن القاسم في رسم حلف الأول من سماع ابن القاسم: إنه يفعل ذلك، فعبارته هناك أحسن من هذه.
[مسألة: دعا في الطواف باللهم قني شح نفسي]
مسألة وقال مالك: زعموا أن عبد الرحمن بن عوف اتبعه رجل في الطواف، أي حول البيت فرآه يكثر من قوله اللهم قني شح نفسي، فلما فرغ قال له الرجل: رأيتك تطوف فتقول: اللهم قني شح نفسي، فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] .(4/34)
قال محمد بن رشد: رضي الله عن عبد الرحمن بن عوف، فإن الذي دعا به أحسن ما يدعى به؛ لأن فيه جماع الخير كله من بذل المال في ذات الله تعالى، وإتعاب الأنفس والجوارح في العبادات كلها من الصيام والصلاة والحج والجهاد وسائر أعمال الطاعات؛ لأن في تقصير العبد في شيء من ذلك إبقاء على نفسه وترفيها له عنها، فإذا لم يشح بنفسه وجسمه في ذلك بلغ الغاية في جميع الأعمال والعبادات، كما أنه إذا لم يشح بماله بذله لله في مرضاته.
[مسألة: عيسى ابن مريم ما قتل ولا صلب وأن الله رفعه إليه]
مسألة قال: وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما» ، قال مالك: أراد في رأيي ليجمعنهما.
قال محمد بن رشد: قد أعلم الله عز وجل في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن عيسى ابن مريم ما قتل ولا صلب، وأن الله رفعه إليه، أخبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إخبارا وقع العلم به أنه سينزل في آخر الزمان حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد. وفي بعض الآثار: فيهلك الله في أيامه الملل كلها، فلا يبقى إلا الإسلام، وتقع الأمنة في الأرض حتى يرتع الأسد مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، والغلمان بالحيات فلا يضر بعضهم بعضا. فهذه الأحاديث يعضد بعضها بعضا، ويشهد بصحته ما حكاه مالك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.(4/35)
[مسألة: الحاج يدخل المسجد الحرام فيريد أن يبدأ بركعتين قبل الطواف بالبيت]
مسألة وسئل: عن الحاج يدخل المسجد الحرام فيريد أن يبدأ بركعتين قبل الطواف بالبيت، قال: بل يبدأ بالطواف بالبيت أحب إلي. قيل له: أيبدأ بالطواف بالبيت أحب إليك؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: إنما استحب ذلك لأن السنة من فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جابر أنه «لما أتى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت، استلم الركن فرمل ثلاثا ثم مشى أربعا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] ، فجعل المقام بينه وبين القبلة وصلى ركعتين ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا، فقال: نبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا» .
[مسألة: يترك استلام الركن فلا يستلمه حتى ينصرف]
مسألة وسئل: عن الذي يترك استلام الركن فلا يستلمه حتى ينصرف، أعليه شيء أم لا؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله في المدونة. ومن الدليل على أن استلامه ليس من واجبات الحج «قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعبد الرحمن بن عوف: كيف صنعت يا أبا محمد في استلام الركن، فقال: أستلمت وتركت، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصبت» .
[مسألة: الذي يفوته الحج فيقيم على إحرامه ذلك إلى حج]
مسألة وسئل: عن الذي يفوته الحج فيقيم على إحرامه ذلك إلى حج(4/36)
قابل، أيكون عليه الهدي؟ قال: نعم، في رأيي يحتاط بذلك. قلت له: فأحب ذلك إليك أن يقيم محرما على حجه أم يحل ويهدي قابلا؟ قال: بل أحب إلي أن يحل ويحج قابلا ويهدي. قلت له: ذلك أحب إليك؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: لم ير عليه في المدونة هديا إذا أقام على إحرامه فحج به من قابل، وهو القياس؛ لأن الهدي إنما أوجبه الله على من تمتع بالتحلل بالعمرة إلى الحج حيث يقول: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، وقوله عز وجل: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] معناه عند مالك أن يتمتع بالعمرة إلى الحج على ما بين تعالى بعد ذلك بقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة: 196] ... الآية، فالهدي الأول هو الثاني عنده، عند غيره من أهل العلم الهدي الأول يحل له به حلق الشعر ولبس الثياب بموضعه إذا وصل الهدي إلى مكة فنحر بميعاد يضربه له، والهدي الثاني يجب عليه إذا تحلل بعمرة فحل من جميع إحرامه قبل العام المقبل، فلا وجه للاحتياط للهدي إذا لم يتحلل بعمرة وبقي على إحرامه إلى قابل فحج به إلا مخافة أن يكون لطول الإحرام لم يخلص مما يوجب عليه الفدية بالصيام أو الصدقة أو النسك، فرأى في ذلك الهدي احتياطا لأن من قلد النسك وجعله هديا لم يضره ذلك، فمن الاحتياط على هذا أن لا يأكل منه، ووجه استحسانه أن يتحلل بعمرة ولا يبقى على إحرامه الأخذ بالرخصة والتخفيف وترك التشديد على نفسه؛ لأن بقاءه على إحرامه إلى عام آخر أمر شاق شديد، فكرهه له كما كره الاعتكاف مخافة ألا يفي بالواجب عليه في ذلك لشدته، وكما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال لشدته.(4/37)
[مسألة: في البيت الحرام أيركع في أي نواحي البيت شاء]
مسألة وسئل: عن الركوع في البيت الحرام أيركع في أي نواحي البيت شاء مستقبلا المشرق والمغرب؟ قال: لا بأس بذلك. ثم قيل له أيضا بعد: أيصلي المرء في البيت إلى أي ناحية شاء؟ قال: لا، بل أحب إلي أن يجعل الباب خلف ظهره ثم يصلي في أي نواحيه شاء إذا جعل الباب خلف ظهره واستقبل بوجهه فصلى تلقاء وجهه، وهو الوجه الذي صلى إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الوجه الذي يصلي إليه الأئمة ويؤمه أهل منى. قيل له: ولا يصلي إلى أي نواحيه شاء؟ قال: لا أنهى عنه، وأحب إلي أن يجعل الباب خلفه، وكذلك فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال محمد بن رشد: من صلى في داخل البيت فهو مستقبل لبعض البيت مستدبر لبعضه كيفما صلى، فلذلك رأى مالك أولا أن يصلي فيه إلى أي نواحيه شاء، إذ لا فرق بين ذلك في النظر، ثم استحب بعد ذلك أن يصلي فيه إلى الناحية التي جاء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إليها من غير إيجاب.
[مسألة: يصل مكة عشية عرفة قبل الغروب أيجمع بين الصلاتين]
مسألة وسئل: عن الذي يأتي عشية عرفة قبل الغروب مكة فيخرج يريد عرفة فتغرب عليه الشمس أيصلي مكانه أم يؤخر الصلاة حتى يقف بعرفة وينصرف إلى المزدلفة؟ فقال: ما له يؤخر؟ لا، بل يصلي كل صلاة لوقتها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن السنة في جمع الصلاتين إنما هي لمن دفع من عرفة إلى المزدلفة لا لمن كان سائرا إلى عرفة.(4/38)
[مسألة: من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما]
مسألة وسألته: عن قول عبد الله بن عباس من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما، أليس ترى هذا هديا؟ فقال لي: منه ما يكون هديا ومنه ما يكون دما ليس بهدي، فما كان من فدية الأذى فكان دما، وما كان من هذا الآخر فهو هدي. فقلت له: وما يكون منه هدي مما ليس بهدي؟ فقال لي: أما ما كان من وجه الفدية مثل نتف الشعر وما أشبهه، فإن ذلك إذا كان دما ليس بهدي وإنما هو الفدية، وأما ما كان منه نقصا للحج مثل أن ينسى رمي الجمار أو ينسى أو يترك من أمور الحج ففي ذلك الهدي، كل دم أمر به في ذلك فهو هدي.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لحديث ابن عباس بعيد من ظاهره؛ لأنه إنما قال: من نسي من نسكه شيئا أو تركه فلا مدخل في ذلك للفدية، وإنما هو الهدي؛ لأن الفدية إنما هي فيما يفعل المحرم مما أمر باجتنابه من لبس الثياب وحلق الشعر وإلقاء التفث، لا لمن ترك شيئا من مناسك الحج التي أمر بها، ألا ترى أن من حلق رأسه افتدى، ومن ترك حلق رأسه أهدى؛ لأنه في حلق رأسه فعل ما أمر باجتنابه، وفي ترك حلق رأسه ترك ما أمر به من نسكه، وهذا بين.
والفرق بين الدم لفدية الأذى وبين الهدي أن الدم لفدية الأذى لا يقلد ولا يشعر، ومن شاء قلده وأشعره، ولا يوكل منه بحال ويذبحه حيثما شاء من البلاد، وهو مخير فيه بين الصيام والإطعام والدم. والهدي يقلد ويشعر ويجمع فيه بين حل وحرم ولا ينحر إلا بمكة أو بمنى، ويوكل منه تطوعا كان أو واجبا إذا بلغ محله، إلا أن يكون نذره للمساكين أو يكون هدي جزاء صيد، ولا(4/39)
يجزئ عنه الإطعام بحال ولا الصيام، إلا أن لا يجد الهدي فيصوم عشرة أيام، الثلاثة منها في الحج في هدي التمتع والقران باتفاق، وفيما سوى ذلك على اختلاف قد مضى تحصيله في رسم حلف الأول من سماع ابن القاسم.
[مسألة: الذي يمسك بيد امرأته وهو محرم]
مسألة وسئل: عن الذي يمسك بيد امرأته وهو محرم، فقال: رب رجل، فقيل: رب رجل ماذا؟ فقال: إذا أمن على نفسه ولم يخف شيئا فلا أرى بذلك بأسا. قد كان سالم بن عبد الله يسافر هو وامرأته جميعا إلى الحج هي على راحلة وهو على أخرى ويمر به الناس فيسلمون عليه وهي معه.
قال محمد بن رشد: أباح له هاهنا أن يمسك بيد امرأته إذا أمن على نفسه ولم يخف شيئا في ذلك، أي إذا أمن على نفسه أن يلتذ بذلك، إذ لا يباح له الالتذاذ بشيء من امرأته بخلاف الصيام. وقد روى ابن القاسم عن مالك: أنه لا يمسها ولا يقربها إلا أن يلجأ إلى ذلك، إذ ليست تستطيع الركوب، وهذا أظهر؛ لأن المحرم لا يجوز له أن يتلذذ بشيء من امرأته فلا يأمن الالتذاذ في ذلك، وإن أمن ما وراءه، من الإنعاظ والمذي.
[مسألة: طاف قبل الفجر سبعا ففرغ منه بعد الفجر وخاف أن تقام الصلاة]
مسألة وسئل: عمن طاف قبل الفجر سبعا ففرغ منه بعد الفجر وخاف أن تقام الصلاة أيبدأ بركعتي الطواف أم ركعتي الفجر؟ قال: يبدأ بركعتي الطواف.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في أول رسم اغتسل من سماع ابن القاسم.(4/40)
[مسألة: طاف بالبيت فأقيمت صلاة العصر قبل إتمامه طوافه]
مسألة وسئل: عمن طاف بالبيت فأقيمت صلاة العصر قبل إتمامه طوافه، فقال: يقطع الطواف ويدخل مع الناس في الصلاة، فإذا قضى صلاته قام فبنى على طوافه حتى يتم سبعا. قيل له: ويؤخر الركعتين حتى المغرب أو يركعهما من ساعته حتى يتم طوافه؟ قال: لا بل يؤخر ركعتي الطواف إلى المغرب ولا يركعهما حين يفرغ من طوافه.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إذا أقيمت عليه الصلاة وهو في الطواف يدخل مع الإمام في الصلاة ثم يبني على طوافه، هو قول مالك في الموطأ والمدونة، وفي هذا الرسم قبل ذلك، فلا اختلاف أعلمه في ذلك. وقال: إنه يؤخر الركعتين بعد العصر إلى المغرب، فظاهر قوله إنه يبدأ بهما قبل صلاة المغرب، قال في الموطأ: فإن أخرهما حتى صلى المغرب فلا بأس بذلك، وخيره في ذلك في رسم أوله صلى نهارا ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم، وقد مضى القول على ذلك هناك، وهذا أظهر.
تم سماع أشهب، والحمد لله وحده.
[مسألة: دخل فحج فطاف وسعى ثم أحصر حتى فاته الحج]
من سماع عيسى بن دينار من كتاب أوله نقدها نقدها قال عيسى: وقال ابن القاسم فيمن دخل فحج فطاف وسعى ثم أحصر حتى فاته الحج، قال: يطوف ويسعى مرة أخرى ولا يخرج إلى الحل.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه يطوف ويسعى مرة أخرى؛ لأن طوافه الأول وسعيه إنما كان للحج قبل أن يحصر، فلا بد له من طواف وسعي ليحل به من إحرامه إذ لا يتحلل منه إلا بعمرة، لقوله عز وجل:(4/41)
{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، وإنما قال: إنه لا يخرج إلى الحل؛ لأن إحرامه الأول إنما كان من الحل فليس عليه أن يعود [إلى الحل مرة أخرى] .
[مسألة: قالت له ائذن لي أحج معك وأنا أعطيك مهري الذي لي عليك]
مسألة وسئل: عن رجل قالت له امرأته وكان صرورة: ائذن لي أن أحج معك وأنا أعطيك مهري الذي لي عليك، فقبل وتركها تحج، قال: يلزمه المهر؛ لأنه كان يلزمه أن يأذن لها أن تحج، وقد بلغني ذلك عن ربيعة.
قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم في رواية ابن أبي جعفر الدمياطي عنه: وذلك إذا لم تعلم أنه كان يلزمه أن يأذن لها. وأما إذا علمت فذلك لازم لها؛ لأنها أعطته مالها طيبة بذلك نفسها. وقوله هذا مفسر لهذه الرواية لأنها إذا علمت أنه يلزمه الإذن لها فإنها أعطته مالها على أن يأذن لها طيب النفس راضيا بذلك غير معاتب لها على ذلك. وقد قال في الحج الثالث من المدونة: إنها إذا أحرمت بغير إذن زوجها وهي صرورة فحللها زوجها من حجتها ثم أذن لها فحجت أجزأها ذلك عن حجة الفريضة وعن التي حللها منها زوجها، فإن ذلك على أنه لا يلزمه أن يأذن لها، إذ لو لزمه ذلك لما كان له أن يحللها، إلا أن معنى ذلك عندهم إذا أحرمت دون الميقات أو قبل أشهر الحج، فعلى هذا لو أعطته مهرها على أن يأذن لها في الخروج إلى(4/42)
الحج قبل أشهر الحج، أي قبل وقت خروج الحاج من هذا البلد للزمها ذلك، ولم يكن لها أن ترجع فيه، إذ لا يلزمه الإذن لها بالخروج في ذلك الوقت. ولو أعطته مهرها على أن يحجها لم يجز له لأنه فسخ دين في دين. قاله ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب السلم والآجال، وفي سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات ما يعارض ذلك، فقف عليه وتدبره، وبالله التوفيق.
[يأتي عرفة وقد طلع الفجر من يوم النحر]
ومن كتاب أوله استأذن سيده وسئل ابن القاسم: عن الذي يأتي عرفة وقد طلع الفجر من يوم النحر، قال: يرجع على إحرامه إلى مكة وينوي بها عمرة فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويقصر ويحل ويرجع إلى بلاده ويحج قابلا ويهدي.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه. والأصل في ذلك ما ذكره الله عز وجل في كتابه من حكم المحصر في الحج، وما أمر به عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود، إذ قدما عليه يوم النحر بمنى، وقد فاتهما الوقوف بعرفة بإضلال أبي أيوب راحلته، وإخطاء هبار بن الأسود العدد، على ما وقع من ذلك في الموطأ.
[مسألة: امرأة نصرانية بعثت بدينار إلى الكعبة]
مسألة وسأله ابن أبي حسان: عن امرأة نصرانية بعثت بدينار إلى الكعبة، هل يجعل في الكعبة؟ قال: بل يرد إليها. قال ابن أبي حسان: كذلك حدثني معن بن عيسى عن مالك أنه قاله.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح؛ لأنه ينبغي أن تنزه الكعبة وأهلها(4/43)
المسلمون عن أن ينفق فيها مال نصرانية إنما قصدت أن تنسب إليهم ما يغض منهم من الاستعانة بمالها فيما يلزمهم القيام به من أمر قبلتهم التي يأتمون بها ويحجون إليها، فلا تنعم بذلك عينا، وبالله التوفيق.
[الرجل يقف بعرفة ثم يمضي على وجهه إلى بلاده أيرجع متجردا]
ومن كتاب العرية قال: وسألت: عن الرجل يقف بعرفة ثم يمضي على وجهه إلى بلاده، أيرجع متجردا أم يلبس الثياب؟ قال: بل يلبس الثياب، وكذلك يرجع؛ لأنه قد فاته الرمي. قلت: فكم من دم عليه إذا رجع؟ قال: لا أرى عليه إلا دما واحدا بدنة أو بقرة.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه لا يرجع متجردا وعليه الثياب؛ لأن رمي الجمرة من سنن الحج ومشاعره، وليست من فرائضه على المشهور في المذهب. فإذا ترك الجمرة حتى خرج وقت رميها جبر ذلك بالدم، وكان في حكم من رمى فحل له لبس الثياب والطيب، لقول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب حتى يطوف بالبيت، يريد: والصيد. وقد روى الواقدي عن مالك فيمن ترك رمي جمرة العقبة حتى صدر من منى: إن كان قد رمى غيرها من الجمار في أيام منى - أن عليه حج قابل؛ لحديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من رمى الجمرة فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب. وإنما قال: إنه يجزيه دم واحد لكل ما ترك من الوقوف بالمشعر الحرام والرمي بمنى والمبيت بها قياسا على من فاته الحج أنه يهدي هديا واحدا إذا أحل بعمرة لما فاته من الحج، وهو قد فاته عمل الحج كله، فأجزأ عنه هدي واحد. وقال أشهب: عليه ثلاث هدايا: هدي لترك مزدلفة، وهدي لترك رمي الجمار، وهدي لترك المبيت بمنى ليالي منى، وهو أقيس، والله أعلم بالصواب وبه التوفيق.(4/44)
[دفع من عرفة بعدما غابت الشمس فمضى إلى بلاده كما هو]
ومن كتاب أوله أوصى أن ينفق على أمهات أولاده قال فيمن دفع من عرفة بعدما غابت الشمس فمضى إلى بلاده كما هو، قال: عليه أن يرجع حتى يفيض، وعليه هدي بدنة تجزيه من جميع الأشياء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، وقد مضى القول على هذا في المسألة التي في الرسم الذي قبل هذا. فلا وجه لإعادته هنا.
[مسألة: تمتع فأفسد حجه]
مسألة وسئل عمن تمتع فأفسد حجه ذلك، قال: عليه هديان: هدي التمتع يهديه في عامه هذا، وهدي لما أفسد من حجه يهديه قابلا من البدن.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن إفساد الحج بالوطء لا يسقط عنه هدي التمتع، كما لا يسقط عنه هدي القران إن كان قارنا. واختلف إذا تمتع ثم فاته الحج، فقيل: إنه يسقط عنه دم المتعة، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وقيل: إنه لا يسقط عنه ويكون عليه هديان مع القضاء. قال في كتاب ابن المواز: وهذا على الاختلاف في سقوط هدي القران عمن قرن، ففاته الحج، وفي سقوط هدي الفساد عمن جامع ثم فاته الحج، وقد مضى ذلك في رسم مرض وله أم ولد فحاضت من سماع ابن القاسم.
[مسألة: يحرم ما بين لبتي المدينة]
مسألة قال: وأخذ مالك بالحديث يحرم ما بين لابتيها حرام،(4/45)
يعني لابتي المدينة. ولا يرى فيه جزاء ويراه ذنبا من الذنوب.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة وما فيها من الاختلاف في أول رسم من سماع أشهب فأغنى عن إعادته.
[مسألة: الذي يطأ أهله في الحج ولا يجد هديا]
مسألة وقال مالك في الذي يطأ أهله في الحج ولا يجد هديا، قال: يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب أن المفسد لحجه إذا لم يجد هديا يصوم الثلاثة الأيام في الحج قياسا على المتمتع؛ لقول الله عز وجل فيه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ، وقد مضى ما في ذلك من الاختلاف في رسم حلف ليدفعن أمرا الأول من سماع ابن القاسم.
[مسألة: الذي يطأ أهله في الحج ويكرهها ولا يجد ما يهدي عنها]
مسألة وقال ابن القاسم في الذي يطأ أهله في الحج ويكرهها ولا يجد ما يهدي عنها. قال: ليس عليها صيام ولا حج وإن كانت موسرة، وإنما ذلك على من أكرهها.
قال محمد بن رشد: أما قوله ليس عليها صيام فبين؛ لأن على من أكرهها أن يهدي عنها، إلا أن تشاء أن تصوم إذا لم يكن لها ولا لمن أكرهها مال، فيكون ذلك لها. ولو كان لها مال لكان لها أن تهدى عن نفسها وتتبع زوجها الذي أكرهها بالأقل مما اشترت به الهدي أو الأقل من قيمته. وأما قوله: إنه ليس عليها حج وإن كانت موسرة فإنما معنى ذلك إن كانت الحجة(4/46)
التي أكرهها فيها على الوطء تطوعا. وأما إن كانت فريضة ولم يكن له مال ولها هي مال فيلزمها أن تحج الفريضة بمالها إذ لا تجزيها الحجة التي أكرهت فيها على الوطء؛ لأن الحج يفسده الوطء على كل حال، ولا تعذر المرأة في ذلك بالإكراه كما لا تعذر بالنسيان والجهل، وتتبعه بما أنفقت على نفسها في حجها.
[مسألة: من يجد سبيلا إلى الحج]
مسألة وقال مالك: إذا كان الرجل ممن يقوى على المشي وإن كان لا يجد ما يتكارى به فهو ممن يجد سبيلا إلى الحج فليحج.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في أول رسم أشهب، ومثله في كتاب ابن المواز، قال أصبغ: إذا وجد زادا، وليس النساء في المشي على ذلك وإن قوين؛ لأنهن عورة في مشيهن إلا المكان القريب مثل مكة وما قرب، وقد مضى القول على هذه المسألة في سماع أشهب مجودا فأغنى عن إعادته هنا.
[أوصى لرجل بعشرين دينارا يحج بها عنه وعشرين دينارا لرجل آخر وصية]
ومن كتاب أوله سلف دينار في ثوب إلى أجل وسئل: عن رجل أوصى لرجل بعشرين دينارا يحج بها عنه، وعشرين دينارا لرجل آخر وصية، قال: إن كان الحج عن الميت وكان صرورة بدئ بها على العشرين، وإن كان ليس بصرورة وأوصى بذلك لرجل أجنبي يحج بها عن نفسه فكان الثلث عشرين دينارا، قال: يتحاصان. قيل له: فإن لم يكن فيما صار للحج في المحاصة ما يحمله للحج ولم يأخذها، قال: يعطاها غيره ممن يحج بها عنه من أهل المدينة، فإن لم يجد فمكة. قلت: فإن لم يكن(4/47)
ذلك إلا الشيء اليسير الدينار وما أشبهه، قال: يرد إلى الورثة، قلت: فالأجنبي، قال: إن أحب الحج أعطيه ويتقوى بذلك في نفقته، وإن لم يرد الحج رد إلى الورثة.
قال محمد بن رشد: بدأ في هذه الرواية الوصية بحج الفريضة على الوصية بالمال، وقال في المدونة إنهما يتحاصان، والصحيح على مذهب مالك أن الوصية بالمال تُبَدَّأُ على الوصية بحجة الفريضة؛ لأنه لا يرى أن يحج أحد عن أحد، فلا قربة في ذلك عنده على أصل قوله، إلا أن الوصية به تنفذ مراعاة للاختلاف، ووجه تبدئة الوصية بالحج على الوصية بالمال أن الموصي لما أوصى بحجة الإسلام وبمال فكأنه أوصى بتبدئة الحج على المال، ووجه قوله في المدونة أنهما يتحاصان: أنه لما رأى تنفيذ الوصية بحجة الإسلام مراعاة للاختلاف جعلها وصية بمال، فوجب أن يحاص بها مع الوصية بالمال، وأما إذا أوصى أن يحج عنه تطوعا وأوصى بمال فقال في هذه الرواية إنهما يتحاصان، وفي المدنية: أن الوصية بالمال تُبَدَّأُ، ففي هذه المسألة قولان، وفي الأولى ثلاثة أقوال على ما ذكرناه. وظاهر قوله إن الموصى له بعشرين يأخذ العشرين كلها أو ما صار له منها بالمحاصة، وليس للورثة أن يكتموه الوصية ويستأجروه بأقل منها، وقيل ذلك لهم. والقولان قائمان من كتاب الحج الثالث من المدونة. وأما قوله إن لم يكن فيما صار للحج في المحاصة ما يحج بها عنه من بلده حج بها عنه من حيث يوجد، فسيأتي الاختلاف في ذلك في رسم الجواب.
[مسألة: أفسد حجه بإصابة أهله فحج قابلا فأفسد حجه أيضا بإصابة أهله]
مسألة وقال ابن القاسم فيمن أفسد حجه بإصابة أهله فحج قابلا فأفسد حجه أيضا بإصابة أهله: فأرى عليه حجتين، قال مالك: والصيام كذلك إذا أفطر يوما من قضاء رمضان فقضاه فأفطر في قضائه فعليه يومان. قال ابن القاسم: فالحج مثله عندي. وقد قيل: ليس عليه إلا قضاء يوم واحد.(4/48)
قال محمد بن رشد: قوله: إذا أفطر يوما من صيامه في قضاء رمضان فقضاه فأفطر في قضائه فعليه يومان، يريد مع يوم رمضان الذي أفطره، وسكت عنه للعلم بوجوبه عليه، وتكلم على ما يختلف فيه من فطره في قضاء رمضان وفي قضاء قضائه. يبين ذلك تنظيره إياه بالحج؛ لأنه أوجب عليه في الحج إذا أفسده فقضاه فأفسد القضاء أن عليه حجتين، فلو أفسد قضاء القضاء أيضا لكان عليه ثلاث حجات كالصيام سواء. وقوله: وقد قيل ليس عليه إلا قضاء يوم واحد يريد اليوم الذي أفطره من رمضان، وليس عليه على هذا القول شيء لفطره في القضاء ولا في قضاء القضاء، وهو قول ابن القاسم في الحج الأول من المدونة. والاختلاف في هذه المسألة جار على اختلاف قول ابن القاسم وأشهب في كتاب الصيام من المدونة في الذي يصبح صائما في قضاء رمضان من رمضان فتذكر في بعض النهار أنه كان قد قضاه وأنه لا شيء عليه، هل يلزمه إتمام صوم ذلك اليوم أم لا يلزمه ويجوز له فطره؟ ولم يختلف قول ابن القاسم في مسألة الحج كما اختلف في مسألة الصيام، وعبد الملك بن الماجشون يقول: إنه ليس عليه إلا حجة واحدة، وهو قول ابن وهب في سماع سحنون من كتاب الصيام. وقد زدنا هذه المسألة بيانا في سماع يحيى وسحنون من كتاب الصيام، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هنالك وبالله التوفيق، والحمد لله على نعمه.
[المحرم يقتل الظبي الداجن]
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته قال: وسألت ابن القاسم عن المحرم يقتل الظبي الداجن، قال مالك: عليه قيمته لصاحبه، وعليه الجزاء سوى القيمة. قلت: فإن كسر رجله؟ قال: إن برئ وانجبر فلا جزاء عليه، وعليه ما نقصه الكسر إن نقصه.
قال محمد بن رشد: قوله: وعليه ما نقصه الكسر إن نقصه - هو مثل ما في كتاب ابن المواز: لا شيء على المحرم يجرح الصيد إذا برئ على غير(4/49)
نقص، خلاف ظاهر ما في كتاب الحج من المدونة: أنه لا شيء فيه إذا سلم من الجرح. والذي يوجبه النظر أنه لا شيء فيه، وإن برئ على عتل ونقص، إلا أن يكون النقص مما يسهل اصطياده على من أراد صيده فيكون عليه جزاؤه كاملا. كما يكون على من طرد صيدا من الحرم إلى الحل لأنه عرضه بذلك للاصطياد.
[اشترى من رجل صيدا والبائع بالخيار ثلاثة أيام ثم أحرما جميعا]
ومن كتاب النسمة وقال في رجل اشترى من رجل صيدا والبائع بالخيار ثلاثة أيام، ثم أحرما جميعا من يومهما، قال ابن القاسم: يوقف الذي له الخيار من ساعته، فإن لم يختر فهو منه ويسرحه، وإن اختار البيع فهو من المشتري ويسرحه. قيل له: فإن سرحه المشتري حين أحرم قبل أن يوقف الآخر على الخيار، قال: يكون عليه قيمته.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه باع منه الصيد فدفعه إليه فأحرما جميعا وهو في يد المشتري. ولذلك قال: إن البائع الذي له الخيار يوقف، فإن لم يختر فهو منه ويسرحه، يريد إن قبضه من المشتري لما استرده وصار في يده وقفصه. وأما إن استرده وبعث به من عند المشتري إلى بيته ولم يصر بيده ولا في قفصه فليس عليه أن يسرحه، وإن اختار البيع فهو من المشتري ويسرحه لكونه في يده. وإن سرحه المشتري ضمن قيمته إذ لم يجب له بعد، ولو باعه منه فلم يدفعه إليه حتى أحرما جميعا وهو بيد البائع لوجب عليه أن يسرحه ولم يجز له أن يمضيه للمشتري. ولو كان في بيت البائع ليس في يده فباعه ثم أحرما جميعا لم يكن على البائع أن يرسله إن رده، ولا على المشتري إن أمضاه له إذا لم يقبضه وبعث به من عند البائع إلى بيته، وبالله التوفيق.(4/50)
[سنة رمي الجمار في أيام منى ويوم النحر]
ومن كتاب الرهون وسئل: عن سنة رمي الجمار في أيام منى ويوم النحر. قال: أما يوم النحر فمن حين تطلع الشمس إلى زوال الشمس، فإذا زالت فقد فات الوقت إلا لعليل أو لناس، فإن رمى بعد الزوال فلا شيء عليه، ولكن الصواب وموضع الرمي في ذلك اليوم في صدر النهار. وأما أيام منى فمن حين تزول الشمس إلى أن تصفر، فإذا اصفرت فقد فات وقتها إلا لعليل أو لِنَاسٍ.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن سنة رمي جمرة العقبة يوم النحر من طلوع الشمس إلى زوالها، وكذلك فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه بات بالمزدلفة وصلى الصبح يوم النحر بها بالمشعر الحرام، ثم وقف به إلى قرب طلوع الشمس، ثم دفع إلى منى فرمى جمرة العقبة بعد طلوع الشمس. فمن رماها قبل طلوع الشمس بعد طلوع الفجر أو بعد زوال الشمس قبل غروبها فقد أساء ولا شيء عليه، ومن رماها قبل طلوع الفجر لم يجزه الرمي، ومن لم يرمها حتى غابت الشمس فقد فاته الرمي ووجب عليه الهدي. هذا مما لا اختلاف فيه في المذهب، وذهب الشافعي إلى أنه من رماها قبل الفجر بعد نصف الليل أجزأه الرمي، وذهب أبو حنيفة إلى أن من رماها قبل طلوع الشمس لم يجزه الرمي. وقد ذكرنا في رسم حلف بطلاق امرأته الثاني من سماع ابن القاسم ما تعلق به كل واحد منهما، وأن سنة رمي الجمار الثلاث في كل يوم من أيام منى من بعد الزوال إلى اصفرار الشمس، فإن لم يرمها حتى غربت رماها بعد الغروب ما بينه وبين أن تنقضي أيام منى وعليه الدم، وقيل: لا دم عليه، وإن لم يرمها حتى انقضت أيام منى فقد فاته الرمي ووجب عليه الدم.
[الرجل يوصي بستين دينارا يحج بها عنه فلا يجدون من يحج بها عنه]
ومن كتاب الجواب وسئل: عن الرجل يوصي بستين دينارا يحج بها عنه فلا يجدون(4/51)
من يحج بها عنه من الأندلس لقلتها، أيبعث بها إلى إفريقية أو مصر فيكرى بها من يحج بها من ثم، والموصي إنما أوصى من الأندلس وبها مات؟ وهل يختلف عندك إن قال: حجوا بها عني من الأندلس، أو قال: حجوا بها عني ولم يقل من الأندلس إلا أنه من أهلها وبها مات؟ قال ابن القاسم: نعم يختلف. أما قوله: حجوا بها عني، ولم يسم من الأندلس ولا من مكان يحج بها منه - فإنهم إن لم يجدوا من يحج بها عنه من بلده بعثوا بها إلى المواضع التي يجدون بها من يحج بها عنه منها، وإن كان إفريقية أو مصر، فإن لم يجدوا ففيما وراء ذلك المدينة أو أمامها حتى ينفذوها فيما أوصى. وأما قوله: من الأندلس، فإن وجدوا من يحج بها من الأندلس كما أوصى وسمى وإلا ردت إلى الورثة ولم يخرج بها إلى ما وراء ذلك.
قال محمد بن رشد: أما إذا أوصي أن يحج بها عنه ولم يسم من ذلك كراء فلا اختلاف في أنه يحج بها عنه من حيث يوجد إذا لم يوجد من يحج بها عنه من بلده. وأما إذا قال: حجوا بها عني من بلد كذا وبها مات، فلم يوجد من يحج بها عنه من تلك البلد، فقال ابن القاسم في هذه الرواية: إنها ترجع ميراثا ولا يستأجر له بها من بلد آخر. وروى عنه مثله أصبغ، وقال من رواية: إنه يستأجر له بها من حيث يوجد إلا أن يبين ألا يحج بها عنه إلا من الأندلس. وحكى مثل ذلك ابن المواز عن أشهب، واختار هو قول ابن القاسم: إن كان الميت قد حج، وهو قول أشهب: إن كان صرورة لم يحج. وقد تقدم في أول رسم من سماع ابن القاسم الاختلاف فيمن استؤجر للحج عن ميت، فاعتمر عن نفسه وحج عن الميت من مكة، وهي مسألة أخرى تقرب من هذه في المعنى، فتدبرها.(4/52)
[رجل أوصى أن يحج عنه بثلث ماله فوجدوا ثلثه ألف دينار]
ومن سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الصلاة وسئل: عن رجل أوصى أن يحج عنه بثلث ماله فوجدوا ثلثه ألف دينار ونحو ذلك، أيخرج عنه ما يحج به عنه حجة واحدة، ويكون ما بقي للورثة؟ أو يهدى عنه بما بقي؟ قال: بل ينفذ ذلك كله في الحج عنه يعطاه رجال يحجون به عنه حتى يستوعب الثلث بالغا ما بلغ. قيل له: أرأيت إن لم يكن في الثلث ما يحج به عنه من بلده؟ قال: فليحج عنه بثلثه ذلك وإن قل من حيث يوجد من يحج عنه بذلك الثلث وإن لم يكن ذلك إلا من مكة.
قال محمد بن رشد: لما أوصى أن يحج عنه بثلث ماله وهو مال واسع كبير فيه ما يحج به عنه حجات استدل بذلك على أنه لم يرد بوصيته حجة واحدة وإنما أراد أن ينفذ ثلثه في حجات فينفذ عنه ثلثه في الحج ولا يرجع منه للورثة شيء؛ لأن ما فضل يحج به عنه من حيث ما بلغ ولو من مكة. ولو كان ثلثه قدر ما يشبه به أن يحج به عنه حجة واحدة، لم يحج عنه إلا حجة واحدة، فإن استؤجر عليها بأقل من الثلث رجع ما بقي من الثلث إلى الورثة، كما قال في المدونة: إذا قال: حجوا عني بهذه الأربعين فدفعوها إلى رجل على البلاغ ففضلت منها عشرون - إنها ترد إلى الورثة، فليست هذه المسألة بخلاف لما في المدونة. ولو أوصي أن يحج عنه من ثلث ماله لم يحج عنه إلا حجة واحدة وإن كان ثلثه واسعا كثيرا لأن "من" للتبعيض، فيعلم بذلك أنه لم يرد أن ينفذ ثلثه كله عنه في حج. ولو أوصي أن يحج عنه فقال: حجوا عني، ولم يزد على ذلك لم يقل بثلثي ولا من ثلثي ولا بكذا وكذا - لجرى ذلك عنه على الاختلاف في الأمر، هل يقتضي التكرار أو لا يقتضيه؟ فينفذ عنه ثلثه كله في الحج على القول بأن الأمر المطلق يقتضي التكرار، ويحج عنه من ثلثه حجة واحدة لا أكثر، على القول بأن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار. وأما إذا قال: يحج عني فلان بثلثي أو بكذا وكذا، فلا اختلاف في أنه لا يحج عنه إلا حجة واحدة، وإن كان الثلث أو ما سمى من العدد كثيرا مثله فيه ما يحج به(4/53)
حجات كثيرة، وإنما يختلف هل يكون الثلث أو ما سمى من العدد وصية لفلان يعطاه كله إن أراد أن يحج عنه، فيكون له ما فضل، أو لا يكون ذلك وصية له ويحمل على أنه إنما سمى العدد أو ذكر الثلث مخافة أن يأبى الرجل أن يحج عنه بأقل من ذلك، وهو إنما رغب في أن يكون هو الذي يحج عنه لثقته به وتوسمه فيه، والقولان في المدونة. والأول منهما هو الذي اختار سحنون، ورد ابن لبابة القول الأول إلى الثاني بالتأويل، فلم يجعل ذلك اختلافا وهو بعيد. ولو قال: يحج عني فلان ولم يسم عددا فأبى فلان أن يحج عنه إلا بأكثر من أجرة المثل لكان الحكم أن يزاد على أجرة مثله مثل ثلثها، فإن أبى أن يحج عنه إلا بأكثر من ذلك لم يزد على ذلك، واستؤجر غيره من يحج عنه بعد الاستيناء بذلك، ولم يرجع ذلك إلى الورثة إن كانت الحجة فريضة باتفاق، أو نافلة على قول غير ابن القاسم في المدونة، خلاف قول ابن القاسم فيها، والله الموفق.
[مسألة: أخطأ أهل الموسم فكان وقوفهم بعرفة يوم النحر]
مسألة وقال: إذا أخطأ أهل الموسم فكان وقوفهم بعرفة يوم النحر مضوا على عملهم وإن تبين ذلك لهم وثبت عندهم في بقية يومهم ذلك أو بعده، وينحرون من الغد، ويتأخر عمل الحج كله في الباقي عليهم يوما لا ينبغي لهم أن يتركوا الوقوف من أجل أنه يوم النحر، ولا أرى أن ينقصوا من رمي الجمار الثلاثة الأيام إلا بعد يوم النحر، ويجعلون يوم النحر للغد بعد وقوفهم، ويكون حالهم في شأنهم كله كحال من لم يخط. قال: وإذا أخطئوا فقدموا الوقوف بعرفة يوم التروية أعادوا الوقوف من الغد من يوم عرفة نفسه، ولم يجزهم الوقوف الذي وقفوا يوم التروية.(4/54)
قال محمد بن رشد: ذكر ابن أبي زيد هذه المسألة في النوادر، ووصل بها قال: واختلف فيها قول سحنون فيما أخبرنا أبو بكر بن محمد بن حمديس عنه، ولم يبين حيث اختلف قوله. فمن الناس من حمل اختلاف قوله على الذين أخروا الوقوف فوقفوا يوم النحر، ومنهم من حمله على الذين عجلوا فوقفوا يوم التروية، والأمر في ذلك محتمل؛ لأن الخلاف في الوجهين جميعا موجود. قيل: إن الحج لا يجزيهم قدموا الوقوف أو أخروه قياسا على المنفرد إذا أخطأ وقوف الناس فوقف قبلهم أو بعدهم، وهو قول ابن القاسم فيما حكى عنه اللخمي من أن الحج لا يجزيهم إذا أخطئوا فوقفوا بعد يوم عرفة؛ لأنه إذا كان الحج عنده لا يجزيهم إذا أخروا الوقوف فأحرى ألا يجزيهم عنده إذا قدموا الوقوف، وقيل: إن الحج يجزيهم قدموا الوقوف أو أخروه، وهو أحد قولي الشافعي قياسا على من اجتهد فصلى إلى غير القبلة: إن صلاته جائزة ولا إعادة عليه إذا خرج الوقت. وحكى أنه إجماع فقاس عليه مسألة الأسير تلتبس عليه الشهور فيصوم قبل رمضان أو بعده إن صيامه يجزيه، وليس بإجماع لما يذكره في ذلك من الخلاف بعد إن شاء الله. قال أبو القاسم بن الكاتب: وإنما ذهب الشافعي إلى إجازة حجهم إذا وقفوا قبل يوم عرفة لأن أبا بكر الصديق أقام للناس الحج بأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في شهر ذي القعدة. فرأى أن أهل الموسم إذا أخطئوا فقدموا الوقوف قبل يوم عرفة يجزيهم الحج لحج أبي بكر بالناس في شهر ذي القعدة. قال: وإنما كانت تصح له الحجة بذلك لو كانت تلك الحجة لأبي بكر فريضة، ولم تكن له فريضة، وإنما بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أميرا على الحج وليعهد إلى الناس بما أمره به أن يعهد به إليهم من أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ثم أتبعه علي بن أبي طالب لما نزلت سورة أول براءة ليتلى على الناس في الموسم. والشافعي كان أعلم وأبصر بموضع الحجة من أن يحتج بهذا، لقوله في(4/55)
هذه المسألة؛ لأن حج أبي بكر في ذي القعدة لم يكن خطأ وإنما كان شرعا ودينا بأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والنسيء قائم قبل أن ينسخ، فأجزأهم حجهم فرضا كان أو نفلا. وكيف لا يجزيهم وقد سماه الله في كتابه الحج الأكبر، ولئن كانت تلك الحجة لأبي بكر وعلي بن أبي طالب وغيره ممن أعلمه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه سيحج معه من العام المقبل نفلا، فقد كانت لمن سواهم من الناس الذين حجوا في ذلك العام ولم يدركوا الحج مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فرضا؛ لأنها إنما كانت بعد نزول فرض الحج. هذا مما لا اختلاف فيه أعلمه، ثم حج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العام المقبل في ذي الحجة على ما كان الناس عليه من النسيء فنسخ الله النسيء حينئذ. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن الزمان قد استدار» ... الحديث، فثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة. والذي عليه أكثر أهل العلم أن أهل الموسم إذا أخطئوا فقدموا الوقوف قبل يوم عرفة لم يجزهم حجهم، وإن أخطئوا فوخروه، إلى يوم النحر أجزأهم حجهم، وهو قول مالك والليث والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وعثمان الليثي وجماعة سواهم.
والفرق بين الوجهين أن الذين أخطئوا فوقفوا يوم النحر فعلوا ما تعبدهم الله به على لسان رسوله من إكمال شهر ذي القعدة ثلاثين يوما إذا أغمي عليهم هلال ذي الحجة، فلما فعلوا ما أمروا به من ذلك كان حجهم في الوقت الذي أمرهم الله على لسان نبيه أن يحجوا فيه ووقوفهم في اليوم الذي تعبدهم الله أن يقفوا فيه، وإن انكشف لهم ذلك بعد أن كان يوم النحر لم يضرهم إذ قد مضى فعلهم صحيحا بموجب النص دون اجتهاد، وكتب لهم حجهم وسلم لهم أجرهم وسقط عنهم فرضهم، فليس ما ظهر لهم بعد ذلك قرب أو بعد بالذي يمحو ما كتب لهم من الحج ويبطل ما ثبت لهم من الأجر، ويوجب ما سقط عنهم من الفرض، وأن الذين أخطئوا فوقفوا يوم التروية(4/56)
أخطئوا باجتهادهم إذ قبلوا شهادة من شهد بالباطل في رؤية الهلال، إما بأن شبه عليهم، وإما بأن تعمدوا الزور والكذب، فوجب ألا يجزيهم الوقوف الذي وقفوا إذا لم يعلموا بذلك إلا بعد أن طلع الفجر من يوم النحر، كما لا يجزيهم الوقوف إذا علموا بخطئهم قبل ذلك، إذ لا اختلاف في أن وقوفهم لا يجزيهم إذا علموا بذلك قبل أن يفوتهم الوقوف بطلوع الفجر من يوم ليلة المزدلفة.
وحكى ابن أبي زيد في النوادر أيضا عن سحنون متصلا بما حكاه عنه من اختلاف قوله في خطأ أهل الموسم في هلال ذي الحجة، في أهل الموسم ينزل بهم ما نزل بالناس سنة العلوي وهروبهم من عرفة ولم يتموا الوقوف، قال: يجزيهم ولا دم عليهم، كأنه ذهب بذلك إلى ترجيح أحد قوليه في المسألة المتقدمة، وهي مسألة أخرى لا تشبهها؛ لأنهم في هذه المسألة في حكم من حصرهم العدو عن الوقوف بعرفة، فلا يجزيهم الحج إلا على مذهب ابن الماجشون في أن المحصر بعدوه يجزئه [حجه] عن حجة الإسلام، فإنما مال إلى قوله، والله أعلم وبه التوفيق.
[الرجل يكون عليه المشي إلى بيت الله فيمشي في الحج ثم يفسد حجه]
ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع وسألته: عن الرجل يكون عليه المشي إلى بيت الله فيمشي في الحج ثم يفسد حجه بإصابة أهله وهو بعرفة، هل يمضي ماشيا حتى يحل بعمرة؟ أو يركب من حيث أفسد حجه؟ ماذا ترى عليه أن يصنع إذا قضى الحج الذي أفسد أيستأنف المشي من حيث حلف أو من حيث ركب؟ أو هل يجزيه مشيه بعد فساد الحج؟ هل يحل(4/57)
بعمرة؟ قال: يحج قابلا ويهدي لما أفسد من حجه ويمشي من ميقاته الذي كان أحرم منه للحجة التي أفسد. قلت: ولم ألزمته إعادة المشي من الميقات الذي أحرم منه ورأيت ما مشى من حيث ما كان حلف يجزي عنه؟ قال: إنما يفسد عليه الحج المشي الذي لم يكن يجوز له أن يطأ فيه، وأما مشيه من بلده الذي حلف فيه إلى الميقات الذي أحرم منه فقد كان يجوز له أن يطأ أهله وهو ماش إلى الميقات، ولا يجوز له أن يطأ أهله بعدما يحرم بها، فما كان من المشي لا يجوز له فيه وطء فهو منتقض بما أفسد من حجه الذي مشى، وما كان منه يجوز له فيه الوطء فلا ينتقض عليه بفساد حجه الذي مشى فيه. قلت له: إن الذي ينقطع مشيه في حجتين له أو عمرتين أو حج وعمرة لعجزه عن المشي يهدي، وهذا قد قطع مشيه بما أفسد من حجه، وما وجب عليه من إعادته من الميقات، وعليه هدي لفساد الحج، أيهدي هديا آخر لتبعيض المشي.
قال محمد بن رشد: قوله في أول المسألة: ثم يمضي ماشيا حتى يحل بعمرة في الذي أفسد حجه، وقوله بعد ذلك فيها: أو هل يجزيه مشيه بعد فساد الحج حتى يحل بعمرة، المعنى في ذلك أن الحج فاته بعد أن أفسده، إذ لا يجوز فسخ الحج الصحيح ولا الفاسد في عمرة؛ لأن ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أمره في حجة الوداع من لم يكن معه هدي أن يحل بعمرة أمر منسوخ، إنما كان أمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ نقضا لما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، وقد رأيت [لبعض] الشيوخ في حواشي الكتب على هذه المسألة: وقد روي عن مالك أن المفسد لحجه يصير حجه إلى عمرة، وهو غلط، إذ لا يوجد لمالك ذلك ولا لغيره، وأراه وهم في ذلك للفظ وقع في كتاب الحج الثالث من المدونة على ظاهره، أو لمسألة وقعت في النوادر خطأ في النقل. ومساواته بين أن يكون يركب من حيث أفسد حجه(4/58)
أو يمضي ماشيا إلى تمام حجه - صحيح؛ لأن المشي لا يجزيه بعد الوطء لفساد الحج ووجوب قضائه عليه، فسواء ركب أو مشى. وقوله: إنه يمشي من ميقاته ويجزيه المشي الذي مشى من حيث حلف إلى الميقات خلاف مذهب مالك وابن القاسم في المدونة، وما نص عليه ابن حبيب في الواضحة: من أن من ركب من غير أن يعجز عن المشي أعاد المشي كله، إذ لا يجوز له أن يفرق مشيه إلا من ضرورة، ويهدي لأنه لما وطئ فقد فرق مشيه باختياره من غير ضرورة. ولما سأله في آخر المسألة: هل يجب عليه هدي لتفريق المشي؟ سكت عنه ولم يجبه على ذلك. والذي يأتي على قياس قوله فيها: أن لا هدي عليه، وعلى ما في المدونة: أن يعيد المشي من حيث حلف، إلا أن يكون وطئ ناسيا فحينئذ يمشي من الميقات، ويجب عليه الدم لتفريق المشي؛ لأنه مغلوب على التفرقة بالوطء ناسيا كما هو مغلوب عليها بالعجز عن المشي، فيجزيه المشي ويهدي في المسألتين جميعا.
[مسألة: المحرم يصاد من أجله الصيد فيأكل منه]
مسألة وسئل: عن المحرم يصاد من أجله الصيد فيأكل منه، قال: أرى عليه جزاءه إن كان أكل منه وقد علم أنه صيد من أجله. قيل له: فإن أكل منه محرم لم يصد من أجله، قال: لا أحب له أن يفعل، فإن فعل لم يكن عليه شيء، وبئس ما صنع، قيل له: فإن صيد لجماعة من المحرمين فأكلوا منه وهم يعلمون أنه صيد من أجلهم، قال: يكون على كل واحد منهم جزاء ذلك الصيد. قال: فإن أكله منهم من لم يعلم أنه صيد من أجله فلا شيء عليه، قال: وكل شيء صيد من أجل الحاج فأكل منه من قد علم أنه قد صيد من أجل الحاج، فإنه إن كان محرما يوم صيد ذلك الصيد فعليه جزاؤه إن أكل منه وهو يعلم؛ وإن لم يعلم أنه صيد من أجل الحاج أو تبين له أنه صيد للحاج قبل أن يحرم هذا الذي أكل منه فلا شيء(4/59)
عليه، قال: ولا أحب له أن يتعمد الأكل منه؛ قيل له: فإن صيد من أجل رجل محرم صيد يتأخر عنه القدوم فأكل منه بعدما حل عليه شيء؟ قال: لا أحب له أن يأكل منه ولا أرى عليه شيئا إن فعل، قال: وكل شيء صيد من أجل الحاج فلا أحب لحرام لم يصد من أجله خاصة ولا بعدما أحرم بالحج أو بالعمرة ولا لحلال أن يأكل منه، فإن فعل فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: لم يختلف قوله في هذه الرواية أن من صيد من أجله صيد وهو محرم فأكل منه وهو يعلم أنه صيد من أجله فعليه جزاؤه، واختلف قوله فيها إن صيد للمحرمين وهو محرم يوم صيد لهم فأكل منه وهو يعلم أنه صيد للمحرمين وهو محرم فقال أولا: عليه جزاؤه، وقال آخرا: لا شيء عليه، وذلك بين من قوله لم يصد من أجله خاصة، فبين أنه لا جزاء عليه إن أكل منه إلا أن يكون صيد من أجله خاصة بعدما أحرم، وأما إن صيد للمحرمين فلم يأكل منه حتى حل من إحرامه فهو كغيره من المحلين لا جزاء عليه فيه، وقد قيل فيما صيد للمحرم: إنه لا جزاء عليه فيه وإن أكل منه وهو يعلم أنه صيد من أجله إلا أن يعلمه بذلك قبل ذبحه، فيذبحه على ذلك أو يأمره بصيده.
وفي هذه المسألة اختلاف كثير، يتحصل فيها خمسة أقوال:
أحدها: أنه لا يأكله الذي صيد من أجله ولا غيره، فإن أكل منه هو أو غيره من المحرمين وهو يعلم - وجب جزاؤه عليه.
والثاني: أنه لا يأكله هو ولا غيره، فإن أكله هو وهو عالم وجب عليه جزاؤه، وإن أكل منه غيره من المحرمين لم يجب عليه جزاؤه.(4/60)
والثالث: أنه لا يأكل منه هو ولا غيره، فإن أكل منه هو أو غيره لم يجب عليه جزاؤه.
والرابع: أنه لا يأكل منه هو، ويأكل منه غيره.
والخامس: أنه يأكل منه هو وغيره.
وأما ما صاده الحلال أو الحرام في الحرم فلا اختلاف في أن ذلك لا يوكل، ولا في أن الجزاء واجب فيه، وفي جواز أكل المحرم لحم ما صاده الحلال في الحل أربعة أقوال:
أحدها: أن ذلك جائز جملة من غير تفصيل.
والثاني: أن ذلك لا يجوز جملة أيضا من غير تفصيل.
والثالث: أنه يجوز إلا أن يكون صيده.
والرابع: أن ذلك جائز إلا أن يكون صيد له أو لغيره من المحرمين.
[مسألة: صاد محرم صيدا فحبسه حتى حل ثم ذبحه]
مسألة قال: وإن صاد محرم صيدا فحبسه حتى حل ثم ذبحه كان عليه جزاؤه؛ لأن إرساله قد كان لزمه حين صاده وهو محرم، قال: وإن أرسله فكان مما لا يخاف عليه الهلاك بإرساله فلا شيء عليه، وإن كان مما يُخاف عليه الهلاك فإن أرسله فأرى عليه جزاءه، قيل: فإن كان صاده وهو حلال، ثم حبسه في إحرامه حتى حل ثم ذبحه كان عليه جزاؤه.
قال محمد بن رشد: قال إنه إذا صاد المحرم الصيد فحبسه حتى حل(4/61)
ثم ذبحه كان عليه جزاؤه، ولم يجب على الذي صاده وهو حلال ثم أحرم وهو في يده فحبسه حتى حل ثم ذبحه، ومذهب ابن القاسم في المدونة وهو قوله في سماع سحنون بعد هذا أن عليه الجزاء، بمنزلة إذا صاده وهو محرم؛ لأن إرساله قد وجب عليه لإحرامه وهو بيده، وقال أشهب في سماع سحنون: إنه لا جزاء عليه فيه، وقد ذكر الاختلاف فيها في المدونة، قال فيها: قد اختلف الناس في هذا أن يرسله أو لا يرسله، فمن أوجب عليه أن يرسله بعد إحلاله أوجب عليه الجزاء إن ذبحه، ومن لم يجب عليه إرساله إذ حل لم يوجب عليه فيه جزاء إن ذبحه، وكذلك إذا صاده وهو حلال ثم أدخله الحرم ثم أخرجه منه فقتله، المسألتان سواء، والخلاف فيهما واحد، وقوله في الذي وجب عليه إرساله: إن الجزاء يجب عليه وإن أرسله إذا كان مما يخاف عليه بإرساله صحيح مفسر لما في المدونة، ويؤيده ما وقع في المدنية. قال ابن كنانة: كان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نازلا بمكة في دار الندوة فدخل عليه عثمان بن عفان ونافع بن عبد الحارث، فقال لهما عمر: إني نزلت في هذه الدار لأستقرب المسجد، فدخلت فوضعت ثيابي على هذا المواقف وهو شيء ناتئ يجعل عليه الثياب، فوقع عليه حمامة فخفت أن توذي ثيابي فأطرتها فوقعت على هذا الناتئ الآخر، فخرجت حية فأكلتها، فخشيت أن تكون إطارتي إياها سببا لحتفها، فاحكما علي فيها، فقال أحدهما لصاحبه: [ما تقول] في عنز ثنية عفراء يحكم بها على أمير المؤمنين، فقال له صاحبه: نحكم عليه بها، وقال ابن القاسم مثله، وبالله التوفيق.(4/62)
[ينسى الرمي يوما أو يومين ثم يذكر]
ومن كتاب الأقضية قال: وسئل ابن وهب عن الذي ينسى الرمي يوما أو يومين ثم يذكر، قال: قال لنا مالك: يرمي لما فاته في اليوم الثالث لليومين الماضيين ويهدي.
قال ابن وهب: وأما أنا فأقول: إن كان أخر ذلك متعمدا كان عليه الهدي مع القضاء، وإن أخر ناسيا قضى ولا هدي عليه إذا ذكر ذلك في أيام الرمي، قال: وإن لم يذكر إلا بعد أيام الرمي كان عليه الهدي، ناسيا كان أو متهاونا.
قال محمد بن رشد: قول مالك في رواية ابن وهب هذه عنه: إنه يرمي في اليوم الثالث لليومين ويهدي مثل أحد قوليه في المدونة، وله فيها قول ثان: إنه لا هدي عليه إذا كان ناسيا مثل قول ابن وهب. وأما إذا ترك متعمدا أو متهاونا فلا ينبغي أن يختلف في إيجاب الهدي عليه، وكذلك إذا ترك الرمي حتى ذهبت أيام منى لم يختلف قول مالك في إيجاب الهدي عليه، فقول ابن وهب مفسر لأحد قولي مالك في المدونة.
[مسألة: من نسي جمرة العقبة]
مسألة قال ابن وهب: وكان مالك يرى على من نسي جمرة العقبة هدي بدنة، وعلى من نسي جمرة من الجمار غير جمرة العقبة هدي شاة، وإن نسي جمرتين فبقرة، وإن نسي الثلاث كلها فبدنة، كان يستحب هذا ويرى أن أدنى الهدي يجزيه في جميع ذلك [كله] .(4/63)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء في الاستحسان. والأصل في أن أدنى الهدي يجزي في ذلك - قوله عز وجل: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، وقول ابن عباس: من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما.
[مسألة: ينسى الرمي يومين كيف يقضي في اليوم الثالث]
مسألة قيل لابن وهب: أرأيت الذي ينسى الرمي يومين كيف يقضي في اليوم الثالث؟ أيرمي الجمرة الدنيا لليومين جميعا ثم الأخرى كذلك، ثم الثالثة كذلك؟ فقال: لا، ولكن يرمي الجمار كلهن لليوم الأول كرمي من لم ينس، ثم يرمي لليوم الثاني أيضا الجمار كلهن، الأول فالأول كذلك أيضا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن ذلك مقيس على الصلاة، فمن نسي صلاة يومين أو ثلاثة فيقضيها كما تركها صلاة يوم بعد صلاة يوم، ولا يجوز له أن يصلي الصبح ثلاثا ثم الظهر ثلاثا، ثم سائر الصلوات ثلاثا ثلاثا، فكذلك الجمار، وبالله التوفيق.
[مسألة: المحرم يصيب بيض النعم]
مسألة وسئل ابن نافع: عن المحرم يصيب بيض النعم أيأخذ فيه بقول مالك إن فديته عشر قيمة النعامة؟ قال: لا آخذ في ذلك بقول مالك [هذا] ، بل أتبع فيه ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،(4/64)
وذلك أن محمد بن أبي كثير حدثني عن محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأله رجل محرم عن ثلاث بيضات نعامة أصابهن، فقال: "صم لكل بيضة يوما» .
قال محمد بن رشد: صح الحديث عند ابن نافع فأخذ به، ولم يصح عند مالك أو لم يبلغه فرجع في ذلك إلى ما يوجبه القياس على ما صح عنه من حديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن «في الجنين غرة عبدا أو وليدة» [والغرة] تقوم خمسين دينارا أو ستمائة درهم، وذلك عشر الدية، فأوجب في بيضة النعامة عشر جزاء النعامة؛ لأن البيض في الطير كالحمل فيما سواها من الحيوان، فإرادته بما حكى عن مالك أن فدية بيضة النعامة عشر قيمة النعامة عشر جزاء النعامة، فسمى الجزاء قيمة، وجزاؤها عند مالك بدنة، وكذلك جاء فيها عن السلف، ففي بيضة النعامة عند مالك عشر ثمن البدنة التي يحكم بها في جزائها.
[مسألة: يخير الحكمان من أصاب الصيد إذا استحكما]
مسألة قال ابن وهب: ومن السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد إذا استحكما، فيقولان له: إن الله تعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95](4/65)
فيخيرانه كما خيره الله تبارك وتعالى، فإن اختار الهدي حكما من الهدي بما يريانه نظيرا لما أصاب من الصيد ما بينه وبين أن يكون عدل ذلك الذي يحكمان فيه شاة، فإنها أدنى الهدي وما لم يبلغ قيمته عندهما أن يحكما فيه بشاة حكما فيه بالطعام. وما اختار أن يحكما عليه فيه بالطعام أو لم يبلغ قيمته ما يحكمان فيه بالشاة، فحكما فيه بالطعام فهو مخير بين أن يطعم ذلك الطعام الذي يحكمان به عليه مساكين أو يصوم مكان كل مد يوما. قلت له: أيطعمه بمكة خاصة أم حيث شاء، ويصوم حيث شاء؟ قال: إذا حكما بالهدي فلا يكون إلا بمكة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، وما صار إلى الطعام أو إلى الصيام فإنه يفعل ذلك حيث شاء. قلت: أرأيت إن أحب أن يطعم في بلده والطعام عندهم أرخص، أيجزئه أن يخرج المكيلة التي حكما بها عليه؟ فقال: لا، ولكن ينظر إلى قيمة ذلك الطعام بالثمن من الدنانير والدراهم حيث أصاب الصيد ووجب عليه الحكم، يشتري بذلك الثمن طعاما ببلده، قلت: أرأيت إن وجد الطعام ببلده أغلى منه حيث حكم عليه أيجزيه أن يشتري بذلك الثمن الذي باع وإن قل الطعام أم لا يجزيه إلا أن يطعم تلك المكيلة التي حكما بها عليه؟ قال: يشتري بذلك الثمن الذي باع به الطعام الذي حكم به عليه حيث أحب أن يتصدق بالطعام، غلا الطعام بذلك البلد أو رخص، لا شيء عليه إلا ذلك.(4/66)
قال محمد بن رشد: قوله: وما صار من ذلك [إلى] الطعام أو الصيام فإنه يفعله حيث شاء هو نص قول مالك في الموطأ، فما زاد بعد ذلك من قوله إنه إن أراد أن يطعم بغير البلد الذي أصاب فيه الصيد فيشتري بما تشرى المكيلة التي حكم بها عليه في البلد الذي أصاب الصيد فيه طعاما بالبلد الذي يريد أن يطعم به كان ذلك أقل من المكيلة التي حكم بها عليه أو أكثر هو تفسير لقول مالك في الموطأ ولما في المدونة أيضا؛ لأن معنى قوله فيها ليس له أن يطعم في غير ذلك المكان، أي ليس له أن يطعم المكيلة التي حكم عليه بها في غير ذلك المكان ليرتفق برخص الطعام فيه بدليل قوله: يحكم بالطعام بالمدينة ويطعمه بمصر إنكارا لمن يفعل ذلك، فلا يجزي من فعله.
قال ابن حبيب: إنه إن لم يطعم بالموضع الذي حكم به عليه أو فيما قاربه فليخرجه على أرخص السعرين، وهو احتياط واستحسان من نحو قوله فيمن وجبت عليه زكاة دينار فأراد أن يخرج عنها دراهم: أنه يخرج قيمتها من الدراهم إلا أن يكون قيمتها أقل من عشرة دراهم بدينار، فلا ينقص من ذلك شيئا، وسائر ما في الرواية صحيح مثل ما في المدونة وغيرها لا إشكال فيه ولا كلام، والله أعلم.
[الذي يقول علي هدي عبد أو ثوب]
ومن سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن الذي يقول: علي هدي عبد أو ثوب، قال: ينظر إلى أوسط الثياب أو العبيد وعلى قدر ما يرى، فيبعث بثمنه فيشتري بثمنه هديا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لما لم يسم في ذلك قيمته وجب أن يرجع فيه إلى الوسط، كمن تزوج بأروس ولم يصفها، أو كاتب عبده على أروس بغير صفة.(4/67)
[مسألة: الذي يقول علي هدي رقبة من ولد إسماعيل]
مسألة قال ابن القاسم في الذي يقول: علي هدي رقبة من ولد إسماعيل، قال: ينظر إلى أقرب الناس بولد إسماعيل ممن يسترق، فينظر إلى قيمة وسط من ذلك، فيبعث بثمنه فيشترى به هدي، قال مالك: الذي يقول: علي عتق رقبة من ولد إسماعيل مثل هذا، وهذا مثله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا نذر عتق رقبة أو هدي رقبة، فسمى جنسا كان عليه الوسط من ذلك الجنس، فكذلك إذا سمى نسبا كان عليه الوسط من ذلك النسب؛ لأن بعض الأنساب أشرف من بعض وأعلى ثمنا، كما أن بعض الأجناس أفضل من بعض وأرفع ثمنا، وقد «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أفضل الرقاب، فقال: أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها» .
[مسألة: فيما صيد لمحرم فأكله وهو يعلم أنه صيد]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك فيما صيد لمحرم فأكله وهو يعلم أنه صيد له فعليه جزاؤه، قال: وإن أكله غيره من المحرمين فليس عليه شيء، وبئس ما صنع، قلت لابن القاسم: إن علموا أنه صيد لمحرم أو لم يعلموا؟ قال: نعم. قلت: فإن لم يعلم الذي صيد له فأكل منه فلا شيء عليه؟ قال ابن القاسم: وكل ما صيد للمحرمين يتلقونهم به، فأكله محرم وهو يعلم أنه صيد لهم، قال: أما إن كان محرما يوم صيد لهم فأكله رجل من أولئك وهو يعلم فعليه الفدية، وإن لم يعلم فلا شيء عليه، ومن أكله من المحرمين ممن أحرم بعدما صيد للمحرمين فلا شيء عليه، وبئس ما صنع، وإن علم أنه(4/68)
صيد للمحرمين إذا كان قد صيد قبل أن يحرم هذا، قال ابن القاسم: قال مالك: ولو أن رجلا بلغه أن رجلا يريد الحج فصاد له أو قوم أرادوا الحج فصيد لهم قبل أن يحرموا ثم أحرموا فلا شيء عليهم في أكله، قيل له: فإن صيد صيد من أجل رجل محرم بعينه وهو محرم فلم يأكل المحرم منه حتى حل من إحرامه، قال: بئس ما صنع، ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة وتحصيل الاختلاف فيما فيه اختلاف منها في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: صاد صيدا وهو حلال أو حرام فأدخل الحلال صيده الحرم]
مسألة قلت: أرأيت رجلا صاد صيدا وهو حلال أو حرام فأدخل الحلال صيده الحرم، أو أحرم وهو معه ثم أخرجه، أو حل من إحرامه وحل الذي صاده وهو محرم، والصيد معهم لم يرسل فأكلاه؟ قال: أرى عليهما الجزاء؛ لأنه مما قد وجب عليهما إرساله. قيل: وإن كان مما لا يحل فأرى عليهما جزاءه، وقد خالفني فيها أشهب، وقال: لا شيء عليهما.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة أيضا قد مضى تحصيل القول فيها في الرسم المذكور من سماع يحيى.
[مسألة: قال قد كنت نذرت أن أمشي لله حافيا فاسألوا عن يميني]
مسألة وقال في رجل قال: قد كنت نذرت أن أمشي لله حافيا فاسألوا عن يميني، فما وجب علي فأنفذوه عني، قال: أرى أن يهدي بكفافه من النفقة إلى مكة، والكراء هدايا ولا يحج عنه.(4/69)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها في المذهب إذ لم يوص أن يمشى عنه، وإنما أوصى أن ينفذ عنه ما وجب عليه في ذلك، ولو أوصى أن يمشى عنه لما نفذت وصيته بذلك عند مالك خلافا لسحنون، وقد مضى القول في ذلك في رسم حلف الأول من سماع ابن القاسم.
[مسألة: هل للمحرم أن يسافر اليوم واليومين والثلاثة]
مسألة وسألت سحنون: هل للمحرم أن يسافر اليوم واليومين والثلاثة؟ قال: نعم، وليس هو مثل المعتكف.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المحرم له أن يتصرف في حوائجه ويبيع ويشتري في الأسواق، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] الآية، يريد التجارة في مواسم الحج، فحاله خلاف حال المعتكف في السفر أيضا إن أراده، والله الموفق.
[مسألة: يدخل مكة متمتعا في أشهر الحج ثم تعرض له الحاجة]
مسألة قلت: فالمحرم يدخل مكة متمتعا في أشهر الحج، ثم تعرض له الحاجة بعد إحلاله من عمرته إلى مثل جدة والطائف، فيخرج إليها، أرأيت إذا رجع من سفره ذلك إلى مكة أيدخل بإحرام أم بغير إحرام؟ قال: إن كان حين خرج إلى سفره ذلك نوى الرجوع إلى مكة من عامه، ليحج من عامه ذلك، فليس عليه أن يدخل بإحرام، مثل ما قال مالك في الذين يختلفون إلى مكة بالحطب والفاكهة: إنهم لا إحرام عليهم، وإن كان ممن خرج إلى سفره(4/70)
خرج خروجا لا ينوي فيه العودة، فلما خرج بدا له فأراد العودة فعليه الإحرام، ونزلت بأبي سليمان أيوب بن أبا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن من خرج من مكة إلى موضع قريب علم أن يعود إليها فليس عليه إذا رجع إليها أن يدخل بإحرام هو مثل ما في المدونة في الذي كان عليه هدي من جزاء صيده فلم ينحره حتى ذهبت أيام منى فاشتراه بمكة وأخرجه إلى الحل أنه ليس عليه أن يدخل محرما ويدخل حلالا، وكذلك أيضا عند مالك من خرج على أن لا يعود إذا رجع من قرب لأمر عاقه؛ كما فعل عبد الله بن عمر: إذ خرج من مكة إلى المدينة، فلما بلغ قديدا بلغه خبر الفتنة فرجع فدخل مكة بغير إحرام، بخلاف إذا بدا له من سفره لأمر رآه، على ما في هذه الرواية فليست بخلاف لمذهب مالك في المدونة، وأما من خرج إلى موضع بعيد أو إلى موضع قريب فأقام فيه أو كان من سكان المواضع القريبة فعليه إذا دخل مكة أن يدخل محرما وإن كان من أهل مكة إلا مثل الحطابين وغيرهم ممن يكثر تردادهم إلى مكة فليس عليهم أن يدخلوا بإحرام لمشقة ذلك عليهم، وحد القرب ما إذا خرج إليه على أن يعود لم يلزمه أن يطوف للوداع، وهو ما دون المواقيت؛ لأنه قد نص في الحج الثالث من المدونة أن من خرج إلى ميقات من المواقيت ليعتمر منه فعليه إذا خرج أن يطوف للوداع، فلو خرج إليها على هذا لحاجة على أن يرجع لوجب عليه إذا رجع أن يدخل بإحرام، هذا تحصيل مذهب مالك في هذه المسألة.
ومن أهل العلم من جوز دخول مكة بغير إحرام لجميع الناس لدخول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة عام الفتح حالا وعلى رأسه المغفر، وروي أنه دخلها(4/71)
وهو معتم بعمامة سوداء، وإلى هذا ذهب ابن شهاب، ولا حجة له في ذلك، إذ قد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه إنما أحلت له ساعة من النهار ثم عادت كحرمتها من يوم خلق الله السماوات والأرض» ، إلا أنه تأول أن الذي أحل له في تلك الساعة خاصة إنما هو القتال، وأما دخولها حلالا فهو حل له ولمن شاء من جميع الناس. ومن أهل العلم من أجاز ذلك لأهل مكة خاصة. ومنهم من أجاز ذلك لمن كان منزله دون الميقات، وتعلق بفعل ابن عمر، إذ قد رجع من قديد فدخل مكة بغير إحرام، وهو تعلق ظاهر؛ إذ لا فرق في القياس والنظر بين أن يرجع لعارض عرض له أو لأمر رآه، إلا أنه قد جاء عن ابن عباس خلاف ذلك، مثل ما ذهب إليه مالك، ومنهم من أجاز ذلك لمن كان منزله الميقات فما دونه، وبالله التوفيق.
[الرجل أيلزمه أن يبيع ضيعته في الحج]
ومن سماع محمد بن خالد من ابن القاسم وسئل ابن القاسم: عن الرجل يكون له القرية ليس له غيرها، أيبيعها في حجة الإسلام ويترك ولده لا شيء لهم يعيشون به؟ فقال ابن القاسم: نعم، ذلك عليه ويترك ولده في الصدقة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال من أن الرجل يلزمه أن يبيع ضيعته في الحج؛ لأن الله أوجبه عليه، فوجب عليه أن يبيع فيه من ماله ما يبيعه عليه السلطان في الدين. وأما قوله: ويترك ولده في الصدقة، فمعناه: إذا أمن عليهم الضيعة ولم يخش عليهم الهلاك إن تركهم؛ لأن الله أوجب عليه نفقتهم في ماله كما أوجب عليه الحج فيه، فهما حقان لله عز وجل تعينا عليه في ماله، فإذا ضاق عنهما ولم يحمل إلا أحدهما وجب أن يبدأ بنفقة الولد؛ لئلا يهلكون؛ لأن خشية الهلاك عليهم يسقط عنه فرض الحج، كما [لو] خشي الهلاك(4/72)
على نفسه، وهذا القول بأنه على الفور، وأما على القول بأنه على التراخي فلا إشكال في تبدئة نفقة الولد، فإن قال قائل: فإن الرجل إذا فلس لغرمائه يؤخذ منه لهم جميع ماله ولا يترك له نفقة أولاده إلا ما يعيشون به الأيام وإن خشيت عليهم الضيعة والهلاك فكذلك الحج، قيل الفرق بينهما أن هذا المال مال الغرماء، والغرماء لا يلزمهم من نفقة أولاده إلا ما يلزم جميع المسلمين من المواساة، وهو يلزمه النفقة على أولاده من ماله فافترقا، وهذا بين، ونفقة الزوجة كنفقة الأولاد، وقد مضى القول في نفقة الزوجة في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم، وأما نفقة الأبوين فحكمها حكم نفقة الابن عند من أوجبها، وبالله التوفيق.
[الذي يحج عن رجل بأجر فيفسد حجه بإصابة أهله]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال ابن القاسم في الذي يحج عن رجل بأجر فيفسد حجه بإصابة أهله، قال: أرى عليه القضاء بحجة صحيحة من ماله استؤجر عليها مقاطعة أو دفع إليه على البلاغ، فذلك واحد، وإن كان إنما أصابه أمر من الله لم يكن من قبله، مثل أن يمرض أو ينكسر فإنه يقضي ذلك الحج عن الميت هو أحب إلي، وإن كان استؤجر مقاطعة فعليه القضاء أيضا على كل حال، وكذلك الذي يحصر حتى يفوته الحج وما أشبه ذلك، والذي يخفى عليه الهلال حتى يفوته الحج.
قال محمد بن رشد: في قوله في أول المسألة في الذي حج عن غيره بأجرة فأفسد حجه بإصابة أهله: إن عليه القضاء بحجة صحيحة من ماله استؤجر عليها مقاطعة أو دفع إليه على البلاغ، فذلك واحد نظرا لأن الذي دفع إليه المال على البلاغ إذا حج به وأفسد حجه بإصابة أهله ضمن المال وترتب(4/73)
في ذمته فإنما يلزمه غرم المال، ولا يجوز أن يحج ثانية عن الميت بما عليه من المال؛ لأنه فسخ الدين في الدين، فالواجب أن يؤخذ منه المال، فإذا أخذ منه دفع إليه أو إلى غيره، إما على الإجارة أو على البلاغ، فالمسألتان مستويتان في وجوب الضمان، ويفترقان فيما يضمن، فيضمن في الإجارة الحج، وفي أخذ المال على البلاغ المال، فكلامه ليس على ظاهره، ووجهه الذي به يستقيم هو أنه أجاب عن الإجارة التي سأله عنها بقوله: أرى عليه القضاء بحجة صحيحة من ماله، تم جوابه هاهنا.
ثم استأنف كلاما آخر فقال: استؤجر عليها مقاطعة أو دفع إليه على البلاغ، فذلك واحد، يريد أن ذلك واحد في وجوب الضمان، وإن افترق الوجهان فيما يضمن فيهما، وفي قوله بعد ذلك: وإن كان إنما أصابه أمر من الله تعالى لم يكن من قِبَله مثل أن يمرض أو ينكسر، يريد: فيفوته الحج وقد أخذ المال على البلاغ فإنه يقضي ذلك الحج عن الميت هو أحب إليّ، إشكال إذ لم يبين من مال من يكون القضاء ولا تقيد ضبط يقضي في الرواية إن كان يقضي أو يقضى على لفظ ما لم يسم فاعله. فقرأ ابن لبابة: يقضي. وقال في المنتخب: معناه أن الذي أخذ المال على البلاغ يقضي من مال الميت لا من مال نفسه، وحسبه أن يتولى هو القضاء بنفسه، استحب ذلك له ابن القاسم، فصرف قوله "هو أحب إلي" إلى توليه القضاء بنفسه، وأوجب النفقة في ذلك في مال الميت، وفي هذا بُعدٌ؛ لأن القضاء إذا كان من مال الميت ولم يلزمه هو ضمان فلا وجه لاستحسان ولايته هذا القضاء، هو وغيره في ذلك سواء، ولعل غيره بذلك أحق وأولى، والصواب أن تقرأ الكلمة: يقضى، على لفظ ما لم يسم فاعله، فيكون المعنى في ذلك: أن الورثة يقضون الحج عن الميت من أموالهم؛ لأنهم ضامنون للمال إن كان الميت أمرهم بالاستئجار، فدفعوه على البلاغ، أو لم يبين لهم كيف يدفعونه فتركوا أن يدفعوه على الإجارة ودفعوه على البلاغ، أو من مال الميت إن كانوا(4/74)
دفعوه على البلاغ وقد أمرهم بذلك، أعني: من ثلث بقية مال الميت إن كان المال لم يقسم باتفاق، وإن كان قد قسم فعلى الاختلاف في الذي يوصي أن يشترى عبد من ثلثه فيعتق فاشترى ولم ينفذ له العتق حتى مات، وقد اقتسم الورثة المال، إذ قد قيل: إنه يشترى عبد آخر من بقية ثلث المال، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل: من بقية الثلث، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الوصايا، وقوله بعد ذلك: وإن كان استؤجر مقاطعة فعليه القضاء على كل حال، يريد بقوله "على كل حال" سواء أفسده بإصابة أهله، أو فاته بمرض أو كسر، وقوله بعد ذلك: وكذلك الذي يحصر حتى يفوته الحج، قال ابن لبابة: لا يريد به حصر العدو؛ لأن حكم من استؤجر على الحج فحصره العدو أن يحل حيث حصر، ويكون له من إجارته بقدر ما بلغ من الطريق، وكذلك في مختصر أبي زيد بن أبي الغمر، وفي المدونة قال: وإنما يريد به الحصر الذي هو في حكم حصر المرض، مثل أن يتهم في دم فيحبس فيه حتى يفوته الحج أو ما أشبه ذلك، يقول: فهذا كله، والذي يخفى عليه الهلال حتى يفوته الحج، [كالذي يمرض أو ينكسر حتى يفوته الحج، وكالذي يفسد الحج بإصابة أهله، يجب عليه في ذلك كله القضاء، والذي أقول به: إنه إنما أراد الذي يحصر بعدو، وأنه لا فرق في هذه المسألة بين أن يفسد حجه بإصابة أهله أو بحصر عدو أو مرض أو كسر أو خطأ عددا أو خفاء هلال حتى يفوته الحج، وأنه يجب عليه في ذلك قضاء الحج؛ لأنه قال فيها: إن الاستئجار كان مقاطعة، ومعناه: أن يستأجره على حجة ولا يسمى في أي سنة، فتكون عليه الحجة على الحلول، فإن أفسدها في أول سنة أو حصر بعدو أو مرض أو خطأ عدد حتى فاتته الحجة كان عليه قضاؤها في السنة التي بعدها، وإنما يفترق حصر العدو من حصر المرض إذا كان الاستئجار لسنة بعينها ولم يكن مقاطعة، فهذا قال فيه في المدونة: إنه إن أحصر بعدو رد المال، ويكون له من إجارته(4/75)
بحساب ذلك الموضع الذي صد فيه، ويأتي على هذا أنه لو أفسد الحج بإصابة أهله أو فاته بخطأ عدد لوجب أن يرد المال ولم يجز أن يقضي الحج في سنة أخرى؛ لأن الاستئجار لما انفسخ بذهاب السنة التي وقع الاستئجار لها ووجب عليه رد المال لم يجز أن يفسخ في حج سنة أخرى؛ لأنه فسخ الدين في الدين، وأما إن أحصر بمرض حتى فاته الحج فلم يقع لذلك جواب في المدونة، ويحتمل أن يفسر مذهب ابن القاسم فيها بما قال ابن حبيب في الواضحة من أنه تكون نفقته على نفسه ما أقام مريضا حتى يأتي البيت فيحل به، ولا يجزي الحجة عن الميت، ولا يكون عليه هو شيء؛ لأنه قد بلغ إلى مكة، وزاد على ما استؤجر عليه بقاؤه محرما مريضا حتى وصل البيت، وبالله التوفيق.
[مسألة: الإفراد بالحج أفضل من التمتع ومن القران]
مسألة قال ابن القاسم: قد حججت حججا ما تمتعت قط ولا قرنت.
قال محمد بن رشد: هذا يدل من قوله وفعله على أن الإفراد بالحج أفضل من التمتع ومن القران، وهذا هو مذهب مالك على ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفرد الحج» وقد اختلفت الآثار بما كان له محرما - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجته التي حج فيها بعد أن فرض الحج وهي حجة الوداع، فروي أنه أفرد الحج، وروي أنه قرن، وروي أنه تمتع، بآثار [ثابتة] صحاح لا مطعن لأحد فيها، فمن ترجح عنده فيها أنه كان مفردا رأى الإفراد أفضل، وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومن ترجح عنده منها أنه كان قارنا رأى القران أفضل، ومن ترجح عنده منها أنه كان متمتعا رأى التمتع أفضل، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا فضل لواحد منها على الآخر، إذ(4/76)
قد روي في كل واحد منها أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان محرما به، وقد اختاره جماعة من السلف وعمل به، ومنهم من ذهب إلى أن الإفراد أفضل، ثم التمتع؛ لأنه المذكور في القرآن، ثم القران؛ لأنه مقيس على التمتع، ومن حجة من ذهب إلى أن الإفراد أفضل وجوب الهدي على المتمتع والقارن، قالوا: وإنما وجب عليهما للنقص في عملهما، فما لا نقص فيه أفضل، وقال من ذهب إلى أن القران والتمتع أفضل: ليس الهدي فيها جبرا لنقص، وإنما هو زيادة فضل بدليل جواز الأكل منه، ولو كان لجبر نقص لم يؤكل منه كما لا يؤكل من الفدية، قال بذلك من ذهب إلى أنه لا يؤكل من هدي الفساد والفوات، ولا من كل هدي يساق لشيء نقص من أمر الحج، والأصح من جهة الإسناد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قارنا؛ لأنه قد جاء عنه أنه قال لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما قدم عليه من اليمن: «بماذا أهللت؟ . قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قال: فإني قد سقت الهدي وقرنت» . وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أعلم بأمره وبما كان [به] محرما من غيره، وعلى أنه كان قارنا يمكن أن يصحح الآثار كلها ويجمع بينها بما ينفي الاختلاف والتعارض عنها، وذلك على وجهين: أحدهما: أنه يحتمل أن يكون أحرم حين صلى الركعتين في المسجد بعمرة مفردة، فلما استوت به راحلته في فناء المسجد أهل بحجة مفردة أضافها إلى العمرة المتقدمة، فصار بذلك قارنا، فلما أشرف على البيداء وهو قارن، قال: لبيك بعمرة وحجة معا، قال من حضره في المسجد حين أهل بعمرة وغاب عنه فيما بعد ذلك: إنه تمتع. وقال من حضره حين استوت به راحلته وغاب عنه في المسجد وحين أشرف على البيداء: إنه أفرد الحج، وقال من حضر الأمرين جميعا أو من حضره حين أطل(4/77)
على البيداء: إنه قرن، والوجه الثاني وهو الأظهر: أنه أحرم أولا بحجة مفردة؛ على ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفرد الحج، ثم فسخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك حجة في عمرة؛ نقضا لما كان عليه أهل الجاهلية من أنهم كانوا لا يستبيحون العمرة في أشهر الحج، ويرون ذلك من أفجر الفجور، فكانوا يقولون: إذا برئ الدبر وعفا الأثر ودخل الصفر حلت العمرة لمن اعتمر؛ لأنهم كانوا يسمون المحرم صفرا فصار بذلك متمتعا، ثم لما دخل مكة أردف الحج على العمرة فصار قارنا، فصدق من قال: إنه أفرد الحج، وصدق من قال: إنه تمتع، وصدق من قال: إنه قرن؛ لأنه كان في حال مفردا، وفي حال متمتعا، وفي حال قارنا، ويشهد هذا لما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أن الإفراد أفضل بالحج؛ لأنه الذي أحرم به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولا، وإنما فسخه في عمرة لينقض بفعله ما كان عليه أهل الجاهلية، والله تعالى هو الموفق، لا رب غيره، ولا معبود سواه.
تم الجزء الثاني من الحج بحمد الله تعالى وحوله وقوته والحمد لله.(4/78)
[كتاب الاستبراء]
[ابتاع أمة ولم يذكر هو ولا البائع استبراء]
كتاب الاستبراء(4/79)
من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب القبلة قال سحنون: وقال ابن القاسم: سمعت مالكا قال فيمن ابتاع أمة ولم يذكر هو ولا البائع استبراء، فلما وجب البيع طلب البائع النقد، وقال المشتري: حتى نستبرئ رحمها بحيضة، قال: قال مالك: إن كانت الجارية مما يراد بها الوطء فلا ينقد حتى توضع على يدي عدل حتى يستبري رحمها بحيضة، وأما ما اشتري من الجواري للخدمة فأرى البيع يجوز وينقد الثمن، فإن كان بها حمل ردها على البائع، قال ابن القاسم: قال لي مالك: وإن كان البائع مسافرا لزمته المواضعة في الجارية التي مثلها يراد للوطء.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المواضعة واجب في الجواري المرتفعات، وإن لم يطأها سيدها البائع إلا أن تكون ظاهرة الحمل أو زانية أو ذات زوج أو في عدة منه، لم يختلف قوله في ذلك كما اختلف في العهدة فيحكم بها عنده على المقيم والغريب، ولا يرخص في تركها للمسافر والمجتاز، وهي أن توضع الجارية على يدي أمين أو رجل له أهل حتى يعرف براءة(4/81)
رحمها من الحمل بحيضة إن كانت من ذوات الحيض وبثلاثة أشهر إن كانت يائسة من الحيض بكبر أو صغر إذا كانت ممن توطأ بكرا كانت أو ثيبا أمن منها الحمل أو لم يؤمن، وقد قيل: إذا أمن الحمل منها فلا مواضعة فيها، والضمان في ذلك من البائع، والنفقة عليه، فلا يجوز أن يتلذذ بشيء منها وإن كان الضمان عليه والنفقة عليه من أجل أنه قد أوجبها لغيره، ولا يجوز للمشتري ذلك أيضا من أجل أن الضمان من غيره، وإن اشتراها في أول دمها أو في عظمه كان ذلك براءة لرحمها ولم يكن فيها مواضعة، وقد كان روي عن مالك أنها تستأنف حيضة أخرى ثم رجع عنه، ولا يجوز النقد في ذلك بشرط، وليست المواضعة بواجبة إجماعا إلا في التي وطئها سيدها وإن كانت من الوخش. وقد قال أصبغ: بيوع البلدان كلها ما عدا المدينة، وهي بيوعنا بمصر أيضا في الجواري المرتفعات، ترك المواضعة وتعجيل النقد، فلا يفسد البيع بترك المواضعة إلا أن يشترط تركها وتعجيل النقد والبراءة من الحمل، وفي ذلك اختلاف كثير سنذكره في الرسم الذي بعد هذا، وقد مضى في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب العيوب سبب وجوبها والفرق بين ما تنعى به الحمل في المرتفعات من الجواري وبين سائر ما يوجد بها من العيوب لمن أحب الوقوف عليه، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يشتري الجارية فيواضعه للاستبراء]
مسألة وقال سحنون: سئل مالك عن الرجل يشتري الجارية فيواضعه للاستبراء، فيقول البائع: هلم الثمن فواضعه على يد رجل، فقال مالك: ليس له ذلك عليه، وإنما يدفع الثمن إذا وجبت له الجارية.(4/82)
قال محمد بن رشد: ابن المواز يرى أن يوضع الثمن على يدي عدل ويحكم بذلك على المبتاع، وهو قول مالك في الواضحة، وفي كتاب ابن عبدوس، وظاهر ما في كتاب الاستبراء والبيوع الفاسدة من المدونة. واختلف إذا وضع بيد عدل فتلف قبل خروجها من الاستبراء، فقيل مصيبته ممن كان يصير إليه، وهو قول مالك في كتاب الاستبراء من المدونة، وقيل: إنه من المبتاع، روي ذلك عن مالك، وعلى قوله هذا إن خرجت الجارية صحيحة من المواضعة لزمه ثمن آخر، وقيل: إنه يسقط ذلك عنه تلف الثمن، بفسخ البيع، ومعنى ذلك عندي إن لم يرد أن يؤدي ثمنا آخر من عنده، واختلف أيضا إن خرجت معيبة من المواضعة والثمن قد تلف، هل يأخذها بالثمن التالف أم لا؟ ففي نوازل سحنون بعد هذا عن أشهب وابن القاسم أن له أن يأخذها بالثمن التالف، وعن غيرهما أن ذلك ليس له إلا أن يغرم ثمنا آخر، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، فقال: لو كان له أن يأخذها بالثمن التالف لوجب إذا تلف الثمن أن يعطي السلعة والجارية، إذ لا يشك أحد أنه يختار أن يأخذها إذا لم يؤد فيها ثمنا آخر. وفرّق ابن الماجشون في ديوانه على ما فسره ابن عبدوس بين أن يحدث العيب قبل تلف الثمن أو بعده، فقال: إن حدث العيب قبل تلف الثمن كان له أن يأخذها معيبة بذلك الثمن التالف؛ لأن الخيار قد كان وجب له قبل تلف الثمن، فليس يسقط ذلك عنه تلف الثمن، وإن تلف الثمن قبل حدوث العيب لم يكن له أن يأخذها بذلك الثمن التالف إلا بثمن يدفعه، وبالله التوفيق.
[وصي رجل باع رقيقا له في ميراث باعه ونادى فيه إنه بيع ميراث فلان]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك: عن رجل وصي رجل باع رقيقا له في ميراث باعه ونادى فيه إنه بيع ميراث فلان، فباع فيه جارية بمائة دينار، فلما(4/83)
وجب البيع للبائع قال له: تدفع الثمن إلي، فقال له المبتاع: لا حتى أوضعك الجارية، فإني أخشى أن تكون حاملا، فقال له البائع: إنها جارية فلان ابن فلان، وهي ممن لم تكن توطأ، وقد بعناك بيع ميراث، قال مالك: أرى له أن يواضعه إياه ولا يعطيه الثمن حتى تخرج من الحيضة، فإن ألفيت حاملا ردها المبتاع ولم ينفعه شرطه عليه أنها بيع ميراث.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه أعلمه في المذهب أن الحكم بالمواضعة واجب في بيع الميراث وبيع السلطان كما هو في بيع الناس بعضهم من بعض، لا يفسد البيع بتركها وإن قصدوا فيه إلى ذلك بعادة جروا عليها ما لم يشترطوا تركها نصا، فإن اشترطوا ذلك نصا ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن البيع جائز والشرط جائز، وهو قول ابن عبد الحكم، والثاني: أن البيع فاسد، قاله أبو بكر الأبهري، ومثله في كتاب ابن المواز [في قول،] وقاله ابن حبيب إذا اشترط ترك المواضعة وتعجيل النقد، ومثله في رسم العتق بعد هذا من سماع عيسى، [والثالث:] أن البيع جائز والشرط باطل ويخرج إلى المواضعة، وهو قول مالك في المدونة، وفي رسم تأخير صلاة العشاء بعد هذا. فإن ماتت على هذا القول قبل أن تخرج من المواضعة، فقيل: إن مصيبتها من المشتري إن ماتت عنده، حكى ذلك إسماعيل القاضي في المبسوط عن مالك، وقيل: إنها إن ماتت في مقدار ما يكون فيه استبراء لها فمصيبتها من المشتري، وإن ماتت قبل أن يمضي لها من المدة ما يكون فيه استبراء لها، وهو الشهر فمصيبتها من البائع، وهو قوله في المدونة. وأما إذا باعها بشرط(4/84)
البراءة من الحمل فالمشهور من قول مالك وأصحابه أن البيع فاسد والمصيبة من المشتري إن بلغت قبل قبضه على حكم البيوع الفاسدة، وقيل: البيع جائز والشرط باطل، وقع هذا القول في كتاب محمد، وقيل: البيع جائز والشرط جائز، وهو قول ابن عبد الحكم، وبالله التوفيق.
[الأمة يبتاعها الرجل فتبيت عنده ثم يدعي أنها حامل]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسئل مالك: عن الأمة يبتاعها الرجل فتبيت عنده ثم يدعي أنها حامل، قال مالك: فيستأني بها حتى يتبين أنها حامل، [فإذا يتبين أنها حامل] وشهد النساء ردت بشهادة النساء، فإذا وجد الحمل بعد ذلك باطلا لم ترد إلى المشتري، ولا ينبغي أن يستأنى بها حتى تضع؛ لأن الضمان منه، ولكن إذا شهد النساء أنه حمل وتبين ذلك ردت على بائعها ولم يستأني بها للوضع.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الحمل عيب، وشهادة النساء فيه جائزة؛ لأنه مما لا يطلع عليه إلا هن، فتجوز فيه شهادة امرأتين منهن، وهو لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، ولا يتحرك تحركا بينا يصح القطع على تحركه في أقل من أربعة أشهر وعشر، فإذا شهد النساء أن بها حملا بينا لا يشكنّ فيه من غير تحريك ردت فيما دون ثلاثة أشهر، ولم ترد فيما زاد على ذلك لاحتمال أن يكون حادثا عند المشتري، وإذا شهدن أن بها حملا يتحرك ردت فيما دون أربعة أشهر وعشر، ولم ترد فيما فوق ذلك لاحتمال أن يكون حادثا عند المشتري، فإن ردت ثم وجد المشتري ذلك الحمل باطلا لم ترد إلى المشتري كما(4/85)
قال، إذ لعلها قد أسقطته فكتمت ذلك، وقد روي عن مالك أن النفقة لا تجب للمطلقة البائن بظهور الحمل بها حتى تضعه، وأن اللعان لا يكون عليه إلا بعد وضعه، وأن الأمة الحامل [من سيدها] لا يحكم [لها بحكم] الحرة بظهور الحمل بها بعد موته حتى تضع، فعلى قياس هذا لا يجب رد الأمة بحمل يظهر بها عند المشتري لم يكن ظاهرا بها حين البيع، ويستأنى بها حتى تضع، فإن وضعته حيا لأقل من ستة أشهر كان له ردها بعيب الولد والولادة، وإن مات الولد ردها بعيب الولادة إن كانت قد نقصتها، وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر لم ترد لاحتمال أن يكون أصل الحمل عند المشتري، وبالله التوفيق لا شريك له.
[ابتاع أمة وهي في عدتها من وفاة أو طلاق]
ومن كتاب سعد في الطلاق وقال مالك: من ابتاع أمة وهي في عدتها من وفاة أو طلاق فلا تجرد لينظر منها عند البيع، ولا يلتذ منها بشيء إذا ابتاعها حتى تنقضي عدتها.
قال سحنون: روى ابن وهب عن مالك مثله.
وقال سحنون: ليس على من ابتاع جارية وهي في عدة من طلاق أو وفاة مواضعة الاستبراء إلا أن المبتاع يستبري لنفسه؛ لأن الحمل بها ليس بعيب، إنما هو من زوج قد علم بذلك(4/86)
ورضي به، فإن جاءت بولد فإنما هو من زوج قد علم أنها في عدة منه.
وقال مالك: من كانت له أمة حامل من غيره فلا يحل له وطؤها كان حملها ذلك عنده أو عند غيره من زوج أو زنا، فلا أرى أن يقبلها أو يباشرها ولا يغمزها تلذذا حتى تضع حملها.
قال محمد بن رشد: قول مالك إن من ابتاع أمة وهي في عدتها من وفاة أو طلاق: إنه لا يجوز له أن يتلذذ بشيء منها في حال عدتها - صحيح؛ لأنه وإن كان الضمان منه، إذ لا مواضعة فيها، فالنسب لاحق بالزوج الذي هي في عدة منه، كمن زوج أمته فدخل بها زوجها ثم مات عنها أو طلقها، فإنه لا يحل له أن يتلذذ بشيء من أمرها في حال عدتها، وإنما يختلف فيمن اشترى أمة من الوخش أو حاملا ظاهرة الحمل أو في المقاسم وهي حامل أو غير حامل لأن بيع المقاسم بيع براءة، وإن ظهر بها حمل لم يردها؛ فمالك: يرى أنه لا يجوز أن يتلذذ منها بما دون الوطء في حال حملها ولا في حال استبرائها، إذ لا يجوز له الوطء في تلك الحال، وغيره: يبيح له أن يتلذذ منها بما شاء من قبلة أو مباشرة، روي ذلك عن عبد الله بن عمر وغيره من السلف، وذهب إليه ابن حبيب، وقول سحنون: إنه لا مواضعة في الجارية التي تشترى وهي في عدة من وفاة أو طلاق صحيح، لا اختلاف فيه؛ لأن المشتري إنما وقع شراؤه على أنها مشغولة الرحم بماء زوجها، وإن ظهر بها حمل لم ينقص ذلك من ثمنها كثيرا، وكذلك لو اشتراها وهي في استبرائها من زنا لم يكن فيها مواضعة من أجل أن الحمل إذا ظهر بها لم ينقص من ثمنها كثيرا، والمواضعة إنما هي من أجل نقصان كثرة الثمن لحمل إن ظهر [بها،] وقول مالك أخيرا: إن من كانت له أمة حامل من غيره فلا يطأها، كان الحمل من زوج أو زنا(4/87)
- صحيح لا اختلاف فيه؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض» فإن فعل أدب إلا أن يعذر بجهل، ولم يعتق عليه هي ولا ما في بطنها، وقد روي عن الليث بن سعد: أنها تعتق عليه هي وما في بطنها، وقضى بذلك عبد الملك بن مروان، ذكر ذلك ابن حبيب. وأما قوله: إنه لا يقبلها ولا يباشرها ولا يغمزها تلذذا حتى تضع حملها - فهو مذهبه: أنه لا يجوز له أن يقبل ويباشر إلا ما يجوز له أن يطأ. وعلى ما ذكرناه من مذهب ابن حبيب يجوز له أن يقبل ويباشر إن كان الحمل ظاهرا من زنا، ولم يكن من زوج، وبالله التوفيق.
[الرجل يشتري الجارية فيدفعها البائع إلى المشتري فينقلب بها]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء من الحرس وسئل مالك: عن الرجل يشتري الجارية فيدفعها البائع إلى المشتري فينقلب بها ثم يأتي البائع بعد ذلك بيوم أو يومين، فيقول: ادفع إلي الثمن، فيقول المشترى: لا أدفع إليك شيئا حتى تحيض وأستبريها، فيقول البائع: قد أغلقت عليها بابك وقد قبضتها مني، قال: قد ائتمنه عليها حين دفعها إليه، فأرى للمشتري ألا يدفع إليه الثمن حتى تحيض، فأرى أن يتواضعاها على يدي امرأة للحيضة، واحتج فقال: يمكنه منها ويأمنه عليها، ثم يقول: ادفع إلي الثمن، ما أرى ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن من حق المشتري أن لا يدفع إليه الثمن حتى تحيض؛ لأن النقد في الجارية التي يتواضع مثلها لا يجوز(4/88)
بشرط حتى تخرج من الحيضة، ولو زاد البائع في هذه المسألة أن يوقف له الثمن بيدي عدل إلى أن تخرج من الحيضة لم يكن ذلك له من أجل أنه قد دفع إليه الجارية، ولو دعا إلى ذلك قبل أن يدفع إليه الجارية لكانت المسألة التي قد مضى الخلاف فيها في أول رسم من السماع، وأما قوله: فأرى أن يتواضعاها على يدي امرأة فهو قول مالك في المدونة: إن البيع لا يفسد بترك المواضعة ويحكم بها بينهما ما لم يشترط البراءة من الحمل، وقد مضى هذا الاختلاف فيما يفسد به البيع من هذا المعنى في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة، فلا وجه لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.
[يبيع جارية له بالبراءة بيع السلطان فوجد بها حملا]
ومن كتاب صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك: عن الرجل يبيع جارية له بالبراءة بيع السلطان فوجد بها حملا، قال مالك: إن كانت جارية رائعة من جواري الوطء لم أر البراءة تنفعه في الحمل، فقيل [له] : ثمنها خمسون دينارا، قال: هذه رائعة، لا أرى البراءة تنفعه في الحمل إلا أن تكون جارية من الوخش للخدمة، فإني أرى البراءة في ذلك تنفعه.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير أن يبرأ في بيع البراءة من الحمل في الجارية الرائعة من أجل أن البراءة من الحمل فيها لا تجوز، فلما كانت البراءة منه لا تجوز، ويفسخ البيع بينهما، وكان لفظ البراءة لفظا عاما يحتمل أن يحمل على عمومه في الحمل وغيره، وأن يحمل على ما سواه مما لا يفسد(4/89)
البيع به. وحمله على ما سواه مما لا يفسد به البيع لم يفسخ إلا بيقين، وإنما لم تجز البراءة من الحمل في المرتفعات من أجل أن الحمل يهدم جل ثمنها، فيلزم على قياس ذلك لو اشترط البراءة من عيب يذهب بجل الثمن كالجذام ونحوه، ونص على ذلك أن يكون البيع فاسدا، إلا أن يفرق بينهما بأن الحمل غالب والجذام وشبهه من الأدواء نادر. وإلى أن لا فرق بينهما - ذهب ابن عبد الحكم، فقال: إن من باع شاة واشترط البراءة من الحمل في المرتفعات فالبيع جائز والشرط عامل قياسا على ما رجع إليه مالك من إجازة البراءة في الجنون والجذام والبرص الذي يكون قبل العقد ولم يعلم به البائع بعد أن كان يقول: لا تجوز البراءة فيما يعظم من الأشياء، وأما ما حدث في السمت من الجنون والجذام والبرص فهو يبرأ منه في بيع البراءة قولا واحدا، والله أعلم.
[مسألة: أوصى عند موته لأم ولده بحليها وكسوتها إن قامت على ولدها]
مسألة وسئل: عن رجل كانت له أم ولد، وكان لها حلي وكسوة، فأوصى عند الموت إن هي قامت على ولدها فدعوا لها، ما كان لها، وإن هي لم تقم وتزوجت فخذوا ما كان في يديها من كسوة وحلي. قال مالك: ليس ذلك له، وأراه لها حين مات، وليس له أن ينتزع منها مالها مما أعطاه في مرضه، وأراها بمنزلة المدبرة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا تجوز وصية الرجل في انتزاع كسوة أم ولده وحليها صحيح؛ لأن الحرية تجب لها بموته، فهو لا يجوز له أن ينتزع(4/90)
مالها في مرضه لقربها في تلك الحال من العتق كالمعتق إلى أجل إذا قرب أجل عتقه والمدبر، فإذا لم يجز له أن ينتزعه منها في مرضه فأحرى أن لا تجوز له الوصية بأن ينتزع منها بعد موته، وما كان لها من الحلي والثياب والمتاع الذي يشبه حالها فهو لها، وإن لم يعلم عطية سيدها ذلك لها، وأما الشيء المستنكر الذي لا يشبه أن يكون من هيئتها ولباسها فلا يكون لها بدعواها أنه لها إلا أن تكون لها بينة على أنها أعطيت ذلك أو وهبته أو اكتسبته، وهي في هذا بخلاف الزوجة؛ لأن القول قول الزوجة فيما كان من متاع النساء أنه لها وإن كثر إلا أن يكون للزوج بينة على أنه له أو على أنه اشتراه فيكون له بعد يمينه أنه إنما اشتراه بماله لنفسه لا لها، وهذا كله بين في الرسوم الباقية من هذا السماع، وفي رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[أم الولد إذا هلك عنها سيدها ولها حلي ومتاع]
ومن كتاب شك في طوافه قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول في أم الولد: إذا هلك عنها سيدها ولها حلي ومتاع، أتراه لها؟ قال: نعم إلا أن يكون الشيء المستنكر.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم قبل هذا مما لا اختلاف فيه.
[أم الولد إن لم يكن لها شهود على عطية سيدها إياها]
ومن كتاب أوله باع غلاما بعشرين دينارا إلى أجل وقال مالك في أم الولد في ثيابها إذا كانت تستمتع بها وإن لم يكن لها شهود على عطية سيدها إياها وهو معروف أنها كانت تلبسه فأراها لها.
قال محمد بن رشد: وهذا أيضا مثل ما تقدم، فلا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.(4/91)
[الرجل يهلك ويترك أم ولد لها ثياب وحلي]
ومن كتاب أوله مساجد القبائل وسئل مالك: عن الرجل يهلك ويترك أم ولد لها ثياب وحلي، أتراه لها؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا مثل ما تقدم أيضا، ومثل القول فيه، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[رجل توفي وترك جارية حاملا منه أتتم حرمتها]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب الأقضية الثالث قالا: وسئل مالك: عن رجل توفي وترك جارية حاملا منه أتتم حرمتها؟ فقال: إذا كان حملها بينا فقد ثبتت حرمتها، قيل: إذا كان حملا بينا معروفا تمت حرمتها؟ قال: نعم، فقيل له: إذا مات الرجل وله جارية ولها منه حمل تمت حرمتها حتى تقتل من قتلها وترث وتورث؟ فقال: أما إذا مات عنها سيدها وهي لم تتم حرمتها ولم تجز شهادتها ولم تقتل من قتلها ولم ترث ولم تورث حتى يتبين حملها، فإذا تبين حملها وظهر وعرف تمت حرمتها وجازت شهادتها وقتل من قتلها وورثت وأخذ لها الحدود إذا بان حملها، قيل لها: إن المرأة ربما نظر إليها النساء فيقلن هي حامل وكبر بطنها ثم ينفش ذلك فلا يكون في بطنها شيء، فكيف ترث وتورث ويقتل بها من قتلها وهي لعلها ألا يكون لها حمل؟ قال: كذلك هذه، يوقف ذلك منها حتى يتبين حملها، فإذا تبين تمت حرمتها وورثت ورثتها وقتل من قتلها.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لمالك في الواضحة من رواية مطرف(4/92)
عنه. وفي كتاب ابن سحنون من رواية ابن القاسم عنه، قال: وتعجب من قول من يقول: لا تتم حرمتها حتى تضع، وقال المغيرة: توقف أحكامها حتى تضع، وهو قول ابن الماجشون في الثمانية، وعليه يأتي قوله في الواضحة: إن للأمة الحامل من سيدها إذا مات النفقة في ماله حتى تضع حملها إن كان من مذهبه أن أم الولد إذا توفي عنها سيدها وهي حامل فلا نفقة لها على المشهور في المذهب، إذ قد اختلف في ذلك حسبما قد ذكرناه في رسم سعد من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة. وقال ابن نافع في المدنية: لا يقتل من قتلها، ويستأنى بمن قذفها، فإن ولدت حد لها، وفيها -أعني في المدنية - قال عيسى: قال ابن القاسم: سألت مالكا عن القذف، وكان فيها اختلاف بالمدنية، فقال: أرى أن يضرب من قذفها الحد ثمانين إذا تبين حملها، قيل له: إن قوما يقولون: لو استؤني بها فلعل ذلك ينفش، فأنكر ذلك من قولهم وتعجب منه. وقد مضى في رسم من سماع ابن القاسم ذِكْرُ اختلاف قول مالك في وجوب الحكم للحمل بظهوره قبل وضعه، وبالله التوفيق.
[له أم ولد فيزوجها غلاما له فتلد منه أولادا فيهب جارية منهن لابنه]
ومن كتاب الأقضية وسئل مالك: عن الرجل تكون له أم ولد، فيزوجها غلاما له، فتلد منه أولادا فيهب جارية منهن لابنه، أيطؤها؟ فقال: نعم، لا بأس بذلك، الرجل يتزوج المرأة ويتزوج ابنه ابنتها، فقيل له: أليس ولد أم ولد بمنزلتها؟ فقال: بلى، ولد كل ذات رحم بمنزلتها، فقيل له: أفليس ولدها معها معتق إلى أجل؟ فكيف يجوز له أن يهب معتقة إلى أجل فيطؤها؟ فسكت.
قال أشهب: والذي لا شك فيه عندي أن كل جارية فيها طرف(4/93)
من عتق فليس يجوز لسيدها أن يوطئها أحدا من الخلق، لا عبده ولا ولده ولا غيرهما بملك يمين ولا غيره، إلا بتزوج، فلا بأس بذلك، ومما يشبهه المدبرة، لا يجوز لسيدها أن يوطئها أحدا من الخلق بهبة، وله أن يزوجها.
[الرجل يزوج أم ولد رجلا فتلد له أولادا ثم يريد أن يهب بعض بناتها لولده]
ومن سماع ابن دينار من ابن القاسم من كتاب استأذن سيده قال: وسألت ابن القاسم: عن الرجل يزوج أم ولد رجلا فتلد له أولادا ثم يريد أن يهب بعض بناتها لولده أو لأجنبي، هل يجوز له أن يطأها؟ قال: قال مالك: لا يطؤها بملك يمين ولا يطؤها إلا بتزويج.
قلت: وكذلك بنات المدبرة لا يطؤهن غير سيدهن، قال: نعم، كذلك بنات المدبرة لا يطؤهن أحد سواه إلا بالتزويج.
وقال محمد بن رشد: رأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا حرمة بين الرجل وبين ما ولدت أم ولد أبيه من غيره بعده ولا قبله، يحرم بها نكاحها، وأغفل النظر في صحة الهبة إذ سبق إلى ظنه أن القصد بالسؤال إنما هو إلى: هل بينهما حرمة أم لا؟ من أجل أنه قد اختلف في ذلك، فكان طاووس يكره للرجل أن يتزوج ما ولدت امرأة أبيه بعد أبيه من غير أبيه، وروى أبو زيد عن ابن القاسم في كتاب النكاح: أن ذلك لا يحل له، ولذلك قال: لا بأس أن يطأها، يريد من جهة أنه لا حرمة بينه وبينها. وقوله: إنه لا حرمة بينه وبينها - هو الصحيح. وقول من قال: إنها لا تحل له، بعيد. وقد مضى في سماع أبي زيد من كتاب النكاح وجه الكراهية عند من كره ذلك لمن أحب الوقوف عليه، وأما هبة الرجل رقبة ولد أم ولده من غيره فلا يصح، إذ لا يملكها،(4/94)
وإنما له خدمتها طول حياته، فالهبة إنما تصح فيما يملك من اختدامها، ولا يصح بذلك للموهوب [له] وطؤها، كما قال أشهب ومالك في رواية عيسى عن ابن القاسم عنه، وقد كان الفقيه شيخنا أبو جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحكي لنا عن الفقيه أبي عمر بن القطان أنه كان يقول: لا أقول إن مالكا وهم في إغفال النظر في صحة الهبة فأخطأ في الجواب، بل أقول: إنه أعمل الهبة في الرقبة مراعاة للاختلاف في جواز بيع أم الولد، فأجاز للابن وطأها بالهبة، وبالله التوفيق.
[رجل توفي وترك أم ولد له فادعت متاع البيت]
ومن كتاب الأقضية الثاني، قال أشهب وابن نافع: وسئل مالك: عن رجل توفي وترك أم ولد له، فادعت متاع البيت، قال: أرى أن تكلف البينة على أن ذلك لها، وإن كان ذلك من متاع النساء؛ لأنها ليست بحرة، إنما هي أم ولد، ثم يكون ذلك لها، قلت: أرأيت ما أعطاها سيدها من الحلي والثياب؟ فقال: ذلك لها إذا مات سيدها.
قلت: أرأيت ما كان من متاع [البيت] دني؟ فقال: أما الفراش والحلي واللحاف والثياب التي على ظهرها فأرى ذلك لها من كتاب العتق. وسمعته سئل: عن أم الولد يتوفى عنها سيدها وفي يدها متاع، فيريد الورثة أخذه منها، أذلك لهم؟ فقال: إن كان وهبه لها فلا.
قال محمد بن رشد: إنما وجب أن تكلف أم الولد البينة فيما ادعته من(4/95)
متاع النساء أنه لها سوى ثيابها التي تلبسها والحلي الذي يشبهها إذا نازعها في ذلك ورثة سيدها من أجل أنه لا يد لها مع سيدها، إذ لم تتم حريتها إلا بموته، فهي في هذا بخلاف الحرة، وقد مضى في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب طلاق السنة القول في اختلاف الزوجين في متاع البيت موعبا لمن أحب الوقوف عليه، ومضى في رسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب القول في مال [أم] الولد وما يصح منه بالدعوى مما لا يصح، فلا معنى لإعادته، والله الموفق.
[الصبية الصغيرة تشترى أعلى من ابتاعها استبراؤها]
ومن كتاب البيوع الأول وسئل مالك: عن الصبية الصغيرة تشترى، أعلى من ابتاعها استبراؤها؟ قال: نعم، إذا كان مثلها يوطأ، واستبراؤها ثلاثة أشهر، وإن كانت صغيرة ليس مثلها يوطأ فليس عليها استبراء.
قال محمد بن رشد: أما الصغيرة التي لا يوطأ مثلها فلا اختلاف في أنه لا مواضعة فيها ولا استبراء، وإنما اختلف في الصغيرة التي يوطأ مثلها ويؤمن الحمل منها، فمذهب مالك وعامة أصحابه وجوب الاستبراء فيها والمواضعة إن كانت من ذوات الأثمان بثلاثة أشهر؛ لأن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، وقيل: شهران، وقيل: شهر ونصف، وقيل: شهر، وذهب مطرف وابن الماجشون إلى أنه لا يجب فيها استبراء ولا مواضعة. وجاء ذلك عن جماعة من السلف، منهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وابن شهاب، وأبو الزناد، وربيعة، وابن هرمز، وغيرهم، وكذلك الكبيرة التي يؤمن الحمل منها، وبالله التوفيق.
[امرأة توفيت وتركت خادما وتركت من الورثة زوجها وولدها]
من سماع عيسى بن دينار من كتاب نقدها نقدها
قال عيسى: سئل ابن القاسم عن امرأة توفيت وتركت خادما(4/96)
وتركت من الورثة زوجها وولدها وهم صغار في حجر أبيهم يليهم، فحضرته الوفاة فقال: إن فلانة للخادم التي بعضها له ولولده الصغار بعضها: قد ولد مني، فأنكر ذلك الورثة بعد موته، فقال: القول قوله، والولد يلحقه، وتعتق الجارية، وتخرج حرة، وتقوم عليه في ماله، ويعطون نصيبهم منها، فإن لم يكن له مال فهي حرة، وهي مصيبة دخلت عليهم.
قال محمد بن رشد: أما إذا كان لها ولد أقر أنه منه فلا اختلاف في أنه يلحق به وتعتق هي، وتخرج حرة، وتقوم عليه في ماله إن كان له مال، وإن لم يكن له مال فهي مصيبة دخلت عليهم؛ لأن النسب يثبت منهم، والحد يسقط عنه، فوجب أن يصدق على ورثته من كانوا كما يصدق في أمته أن ولدها هذا منه، وأن حملها منه، وإن كان ذلك في مرضه الذي مات منه؛ لأن النسب يسقط التهمة عنه، وإنما يختلف إذا أقر لها في مرضه الذي مات منه أنها قد ولدت منه، ولا ولد معها، فقيل: إنه لا يقبل قوله، وإن كان ورثه ولده، وقيل: إنه يقبل قوله إن كان ورثته ولدا فتعتق من رأس ماله، ولا يقبل قوله إن كان ورثته كلالة، وقيل له: إن كان ورثته ولدا عتقت من رأس المال، وإن كان ورثته كلالة عتقت من ثلثه، والثلاثة الأقوال كلها في المدونة وغيرها، وبالله تعالى التوفيق.
[الأمة يموت عنها زوجها وهي من اللائي قد يئسن من المحيض كم عدتها]
ومن كتاب استأذن سيده في تدبير جاريته قال عيسى: وسألته: عن الأمة يموت عنها زوجها وهي من(4/97)
اللائي قد] يئسن من المحيض كم عدتها؟ قال: شهران وخمس ليال.
قلت: فإن باعها سيدها في العدة؟ قال: لا يطؤها مشتريها حتى يستبريها بثلاثة أشهر من يوم هلك عنها زوجها، ولا ينقلها مشتريها من بيتها التي كانت تبيت فيه حتى تعتد فيه شهرين وخمس ليال من يوم مات عنها زوجها، فإذا مضى لها شهران وخمس ليال انتقلها مشتريها ولكن لا يمسها حتى يستبريها بثلاثة أشهر بالشهرين والخمس ليال من يوم مات عنها زوجها.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الأمة الآيسة من المحيض تعتد من وفاة زوجها شهرين وخمس ليال، ثم ينقلها مشتريها من بيتها إن شاء ولا يطؤها حتى تتم ثلاثة أشهر، معناه: في الأمة اليائسة من المحيض لصغر أو لكبر، والحمل غير مأمون منها، وقد دخل بها؛ لأن التي لم يدخل بها والتي يؤمن الحمل منها وإن كان يوطأ مثلها لا اختلاف في أن عدتها تنقضي بالشهرين والخمس ليال كما ينقضي بها إذا كانت في سن من تحيض، فحاضت، فيكون لسيدها أن يطأها وأن يزوجها، وليس عليه أن ينتظر بها تمام ثلاثة أشهر،(4/98)
ولم يحكم لها بحكم المعتدة بعد انقضاء الشهرين وخمس ليال إلى تمام الثلاثة الأشهر، إذ قال: إن لسيدها أن ينقلها عن بيتها، فعلى قوله: لا إحداد عليها، وذلك خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون: من أن على المتوفى عنها زوجها الإحداد إذا استرابت حتى تنقضي الريبة، مثل قول سحنون: إنه لا إحداد عليها إلا في الأربعة أشهر وعشر، وظاهر ما في المدونة: أن عدتها تنقضي بالشهرين والخمس ليال، فيكون لسيدها أن يطأها ولمشتريها وإن كانت ممن لا يؤمن الحمل منها، إذا لم يكن بها ريبة؛ لأنه قال في كتاب الاستبراء منها: إنها إذا لم تحض في الشهرين وخمس ليال فلا يطأها إن أحست من نفسها؛ لأن في قوله "إن أحست من نفسها" دليل على أنها [إن] لم تحس من نفسها شيئا، يطؤها إذا انقضت الشهران وخمس ليال. وإن لم تحض فيها، وذلك بين أيضا من قول سحنون في تفرقته بين أن يكون بين المدتين أقل من شهرين وخمس ليال أو أكثر في أم الولد التي يتوفى زوجها وسيدها، ولا يدري أيهما مات قبل صاحبه. والريبة في ذلك تكون بوجهين: أحدهما: بامتلاء تحسه في البطن، والثاني: بتأخير الحيض عن وقته، إن كانت ممن تحيض، فأتى عليها في الشهرين وخمس ليال وقت حيضتها فلم تحض، فأما الريبة بامتلاء تحسه في البطن فلا بد من استبرائها إلى تمام تسعة أشهر، فإن لم تزد على ما كان عليه حلت، وإن زاد انتظرت إلى أقصى أمد الحمل، وأما الريبة بتأخر الحيض عن وقته [إن كانت،] فيستبريها إلى تمام ثلاثة أشهر، فإن لم يظهر بها حمل ولا أحست بشيء حلت.(4/99)
فيتحصل على هذا الذي قلناه في اليائسة من المحيض التي لا يؤمن الحمل منها، وفي التي هي ممن تحيض إذا لم تحض في الشهرين وخمس ليال ولا مر بها فيها وقت حيضتها - ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تحل بتمام الشهرين وخمس ليال فيكون لسيدها أن ينقلها عن بيتها وأن يطأها ويزوجها. والثاني: أنها تبقى على إحدادها ولا ينقلها عن بيتها ولا يطأها ولا يزوجها حتى تنقضي ثلاثة أشهر، والثالث: أنه ينقلها عن بيتها ويسقط عنها الإحداد، ولا يطؤها ولا يزوجها حتى تنقضي ثلاثة أشهر. وإنما كانت عدة الأمة في الوفاة شهرين وخمس ليال؛ لأن العدة حد من الحدود، والعبيد في الحدود على النصف من الأحرار؛ لقول الله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . فكان على الأمة ومن فيها بقية رق في الطلاق - حيضتان؛ إذ لا تنقسم الحيضة الثانية، وفي الوفاة شهران وخمس ليال؛ لانقسام الشهور والأيام، والله أعلم.
[مسألة: الأمة المستحاضة والتي ترتفع عنها حيضتها يبيعها سيدها]
مسألة قال ابن القاسم، في الأمة المستحاضة والتي ترتفع عنها حيضتها: يبيعها سيدها استبراؤها ثلاثة أشهر إلا أن ترتاب فتنتهي تسعة أشهر.
قلت له: فالأمة التي لا تحيض في ستة أشهر إلا مرة، تباع، هل ينتظر بها إلى حين حيضتها؟ قال: ثلاثة أشهر تبريها إذا لم ترتب، والتي لا تحيض في ستة أشهر إلا مرة واحدة إذا لم ترتب أقوى في الاستبراء؛ لأنه يعرف أنه لم يمنعها من الحيض شيء يخاف عليها، ألا ترى أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت ممن تحيض فلم تحض في عدتها أمرت أن تقيم حتى تحيض أو تبلغ من الأجل ما لا يشك فيه أن فيه استبراء رحمها، وذلك تسعة أشهر إذا لم تحس شيئا، والتي(4/100)
حيضتها في ستة أشهر مرة أو في السنة مرة أو تكون ترضع، تجزيها العدة إذا لم ترتب بشيء؛ لأنه يعلم أنه لا تحتبس عنها حيضتها لريبة خيفت عليها، وإنما احتبست بحيضتها التي كانت من شأنها، فكذلك البيع لا تكون التي تحيض أعجل في الاستبراء في الريبة من التي لا تحيض، وهو فرق بين، ورواه أصبغ عن ابن القاسم في كتاب النكاح الأول من سماعه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المستحاضة والتي ترتفع عنها حيضتها تستبرأ في البيع بثلاثة أشهر - هو أحد قولي مالك في المدونة من رواية ابن غانم عنه، واختيار أشهب خلاف قوله الآخر فيها: أنهما يستبريان جميعا بتسعة أشهر، وقد قيل: إن المستحاضة تستبري بثلاثة أشهر، والتي ترتفع عنها حيضتها بتسعة أشهر، وهذا يأتي على ما روي عن مالك أن المستحاضة تعتد في الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وتحل، بخلاف التي ترتفع عنها حيضتها. وأما التي لا تحيض في ستة أشهر إلا مرة، فقوله: إنها تستبري بثلاثة أشهر - صحيح على قياس قوله: إن المتوفى عنها زوجها تحل بأربعة أشهر وعشر، إذا لم يمر بها فيها وقت حيضتها. وتأتي على رواية ابن كنانة عن مالك في سماع أشهب من كتاب طلاق السنة في المتوفى عنها زوجها، تعتد أربعة أشهر وعشرا، ولا يأتيها فيها وقت حيضتها: أنها لا تتزوج حتى تحيض وتبرأ من الريبة: أنها لا يجزيها في الاستبراء الثلاثة الأشهر، ولا بد لها من انتظار حيضتها، وهو قول ابن القاسم في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى بعد هذا، ورواية عيسى أصح في النص؛ لأن المعنى في الاستبراء معرفة براء الرحم من الحمل، وقد حصل ذلك بالثلاثة الأشهر، فلا يلزم انتظار الحيضة، إذ ليست الحيضة في الاستبراء عبادة، فيلزم انتظارها وإن حصلت البراءة بما دونها كما أن الصحيح أن تحل الحرة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر إذ لم يمر بها فيها وقت حيضتها، ورواية ابن كنانة عن مالك شذوذ من القول؛ لأنها قد أكملت العدة التي(4/101)
فرضها الله عليها ولا ريبة فيها فوجب أن تحل، وقد حكى ابن المواز: أن مالكا رجع عنه، وقد قال أبو إسحاق في رواية عيسى هذه: إنها غلط ومخالفة للقرآن، وإن رواية يحيى هي الصحيحة، وقوله هو الغلط، إذ ليس في القرآن وجوب استبراء الأمة في البيع بحيضة، فيلزم أن يقال: إن الاستبراء لا يحصل بما دونها، إذ قد علم وقتها كما يقال في الأقراء في عدة الطلاق، ولو قال: إنها مخالفة لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» لكان أشبه وإن لم يكن ذلك صحيحا إذ ليس الحديث على عمومه؛ لأنه إنما خرج على الأغلب من أن ذوات الحيض من النساء يحضن فيما دون الثلاثة الأشهر التي يعلم بها براءة الرحم.
[مسألة: اشترى عبدا وجارية في صفقة واحدة والجارية مما مثلها توضع للاستبراء]
مسألة قال عيسى: وسألت عن رجل اشترى عبدا وجارية في صفقة واحدة، والجارية مما مثلها توضع للاستبراء، فوضعت للاستبراء، فماتت قبل أن تخرج من الاستبراء والجارية أكثر ثمنا من العبد أو أدق ثمنا، والعبد قائم بعينه، أو مات العبد والجارية قائمة بعينها لم تخرج من الاستبراء. قال ابن القاسم: إن كان العبد وغدا وإنما اشترى لمكان الجارية، وفيها النماء والفضل وكثرة الثمن فيما يرى الناس كان موقوفا ولم ينبغي له أن ينفذ، فإن ماتت الجارية ولم تخرج من حيضتها انتقض البيع، وإن أصيب العبد في ذلك فمصيبته من البائع، إلا أن تخرج الجارية من الحيضة، فإن خرجت من الحيضة فمصيبته من المبتاع؛ لأنه لو لم يتم بيع الجارية لم يكن فيه(4/102)
بيع، ولو رضي أن يأخذه بالذي يصيبه من الثمن من قيمتها لم تحل، وإن كان العبد من أجله اشتريت الجارية وفيه النماء والفضل فيما يرى الناس قبض المشتري العبد ووقفت الجارية للحيضة، فإن هلكت الجارية أو لم تخرج من الحيضة لزمه العبد بما يصيبه من الثمن بمنزلة ما لو استحقت أو وجد بها عيب فردت، فإن هلك العبد في ذلك قبل أن تخرج الجارية من الاستبراء كانت مصيبته من المشتري ويستأنى بالجارية، فإن خرجت من الحيضة لزمه الثمن كله، وإن ألفيت حاملا أو ماتت قبل أن تخرج من الحيضة كان عليه من الثمن بقدر ثمن العبد من الجارية، ينظر كم قيمته وقيمة الجارية فيفض الثمن عليهما فيتبعه بقدر ذلك من حصة الثمن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة جيدة بينة المعنى، قوله فيها: إن الجارية إذا كانت وجه الصفقة يوقف العبد بتوقيف الجارية للمواضعة، وتكون مصيبته من البائع إن لم تخرج الجارية من المواضعة، ومن المبتاع إن خرجت من المواضعة، ولا يجوز نقد الثمن في ذلك بشرط صحيح؛ لأن البيع لما كان لا يتم فيه دونها وجب أن يكون تبعا لها في التوقيف والضمان، وفي أن النقد فيه لا يجوز، وقد قيل: [إن] له أن يأخذه بما ينوبه من الثمن إن لم تخرج الجارية من المواضعة هو أحد قولي ابن القاسم في غَيْرِمَا كتاب من المدونة، فعلى هذا القول تكون مصيبته أيضا إن مات ولم تخرج الجارية من المواضعة من البائع، ولا يجوز فيه النقد كحكم العبد المشترى بالخيار، وأما إذا كان العبد وجه الصفقة فيقبضه ويدفع ما ينوبه من الثمن؛ لأن الشراء له فيه لازم بما ينوبه من الثمن إن لم تخرج الجارية من المواضعة، ولا ينقد ما(4/103)
ينوب الجارية بشرط، وقد اختلف في وجوب توقيفه إن دعا إلى ذلك البائع حسبما مضى القول فيه في أول رسم من سماع ابن القاسم، فإن طاع بدفع جميع الثمن ولم تخرج الجارية من المواضعة ماتت أو ألفيت حاملا فلم يرد المبتاع أخذها رد البائع من الثمن ما ينوبها، وإن لم يدفع من الثمن شيئا ولم تخرج الجارية أيضا من المواضعة لزم المبتاع من الثمن ما ينوب العبد منه بأن ينظر ما قيمته من قيمته وقيمة الجارية، فيكون عليه من الثمن ذلك الجزء، مثال ذلك: أن تكون قيمته مائتين وقيمة الجارية مائة، فيكون عليه ثلثا الثمن ما كان، وقوله في الرواية كان عليه من الثمن بقدر ثمن العبد من الجارية لفظ وقع على غير تحصيل، ومراده كان عليه من الثمن بقدر ثمن العبد من ثمن العبد والجارية حسبما بيناه، والحمد لله.
[إذا باع الرجل الجارية بالجاريتين فإنهن يوضعن للاستبراء]
ومن كتاب الفصاحة قال عيسى: قال ابن القاسم: إذا باع الرجل الجارية بالجاريتين فإنهن يوضعن للاستبراء، فإن ماتت الجارية التي هي ثمن الجاريتين أو أصابها عيب قبل أن تخرج من الاستبراء فإن ذلك من بائعها، إن كان موت فالمصيبة منه، وإن كان عيبا ردت عليه وانفسخ البيع في الجاريتين، قال ابن القاسم: إلا أن يشاء المشتري حبسها معيبة فيتم البيع، وإن سلمت مما ذكرنا، فأصاب الجارية الفاره من الجاريتين مثل ما وصفنا في هذا من قبل أن تخرج من الاستبراء انفسخ البيع أيضا وردت الجارية الفاره التي كانت ثمنا للجاريتين إلى صاحبها واسترجع جاريته، وإن سلمت الجاريتان الفارهتان مما ذكرنا وأصاب الدنية من الجاريتين موت أو عيب قبل(4/104)
أن تخرج من الاستبراء انتظر بالجاريتين الفارهتين، فإن خرجتا من الاستبراء صحيحتين تم البيع فيهن ورجع مشتري الجاريتين بثمن الدنية على صاحبه فينظر ما اسم قيمتها من قيمة صاحبتها فيرجع بذلك الاسم على بائعها في قيمة الجارية الفارهة التي يأخذ، وذلك أن تكون قيمة الجارية الفارهة التي هي ثمن الجاريتين ثلاثمائة دينار، وتكون قيمة الجارية ثلاثمائة دينار أيضا، فتكون قيمة المرتفعة منهما مائتين، وقيمة الدنية مائة، فيرجع بثلث قيمة المرتفعة، وذلك مائة دينار، وإن خرجت الدنية من الاستبراء صحيحة قبل أن تخرج صاحبتها ثم ماتت، فإنه ينتظر بصاحبتها، فإن خرجت صحيحة من الاستبراء كانت المصيبة من المشتري، وإن لم تخرج صحيحة أو ماتت كانت المصيبة من بائعها، وإن وجد بأحد الجاريتين عيب بعد الاستبراء فإنه إن كانت العلية أدناهما ليس من أجلها اشتريت صاحبتها ردها ونظر ما اسم قيمتها من قيمة صاحبتها، فيرجع بذلك الاسم على البائع في قيمة الجارية المرتفعة كما فسرت لك، وإن كانت المعيبة هي وجه ما اشترى وفيها يرجو ردهما جميعا ونظر، فإن كانت المرتفعة لم تفت بنماء ولا نقصان ولا اختلاف أسواق ولا بيع ولا بشيء من وجوه الفوت، قبضها ورد الجاريتين جميعا، وإن كانت قد فاتت بشيء مما ذكرنا أو طال أمرها كان [له] عليه قيمتها يوم قبضها، وإن كانت المرتفعة التي هي ثمن الجاريتين هي التي وجد بها العيب ردها ونظر إلى الجاريتين، فإن كانت المرتفعة منهما والدنية(4/105)
لم يفوتا ردها وقبض الجاريتين، وإن كانت الدنية قد فاتت والمرتفعة منهما لم تفت ردها أيضا وأخذ المرتفعة ورجع عليه بقيمة الدنية، وإن فاتت المرتفعة ولم تفت الدنية منهما لم يردها ولزمه البيع فيهما وغرم قيمة الجاريتين.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة جيدة إلا أنه لم يستوف جميع وجوهها ولا بين ما فيه الخلاف منها، وأنا استوفي ما قصر عنه من وجوهها وأنبه على ما فيه الخلاف منها إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال أولا: إن البيع ينفسخ في الجاريتين إن ماتت الجارية التي هي ثمن لهما أو أصابها عيب قبل أن تخرج من الاستبراء، ومعنى ذلك إن كانت الجاريتان لم تخرجا بعد من الاستبراء أو كانتا قد خرجتا منه ولم تفوتا عند المبتاع لهما بوجه من وجوه الفوت، فأما إن كانتا قد فاتتا عنده بحوالة سوق فما فوقه فيلزمه قيمتهما يوم خروجهما من الاستبراء ولا ينفسخ البيع بردهما إلى بائعهما، كمن باع عبدا بعبد، فاستحق أحدهما وقد فات الآخر: إنه لا يرد بعد فوات ويلزم مشتريه قيمته يوم اشتراه، وكذلك إن فاتت الأرفع منهما ولم تفت الأدنى، وأما إن فاتت الأدنى ولم تفت الأرفع فيردها وقيمة التي فاتت، وفيما يأتي بعد هذا في بقية المسألة بيانه. وقول ابن القاسم إلا أن يشاء المشتري حبس المعيبة فيتم البيع، وقع في بعض الروايات وهو صحيح مبين لما تقدم من قوله. وقوله وإن سلمت مما ذكرنا فأصاب الجارية الفاره من الجاريتين مثل ما وصفنا في هذا قبل أن تخرج من الاستبراء انفسخ البيع أيضا وردت الجارية الفاره التي كانت ثمنا للجاريتين إلى صاحبها واسترجع جاريته، معناه أيضا إذا كانت الجارية الفاره التي كانت ثمنا للجاريتين قائمة لم تفت بوجه من الوجوه، فإن كانت قد فاتت بحوالة سوق [فما فوقه لم ترد، ولزم مشتريها قيمتها يوم خروجها من الاستبراء، وأما الجارية الدنية من الجاريتين فترد وإن فاتت بحوالة(4/106)
الأسواق] ، مما لم تفت بالعيوب المفسدة. وقوله: إن سلمت الجاريتان الفارهتان وأصاب الدنية من الجاريتين موت أو عيب قبل أن تخرج من الاستبراء تم البيع فيهن ورجع مشتري الجاريتين بثمن الدنية على صاحبها، فينظر ما اسم قيمتها من قيمة صاحبتها، فيرجع بذلك الاسم على بائعها في قيمة الجارية الفارهة، معناه: فينظر ما اسم قيمتها من قيمتها وقيمة صاحبتها جميعا، وتمثيله الذي مثل بقوله، وذلك أن تكون قيمة الجارية إلى آخر قوله يدل على ذلك، وسواء كانت الجارية الفارهة قائمة أو فائتة؛ وقد قيل: إنها إن كانت قائمة كان شريكا معه فيها بقدر قيمتها من قيمتها وقيمة صاحبتها، وهو قول أشهب. وقيل أيضا: إنه يكون شريكا معه فيها بذلك الجزء إلا أن يأبى ذلك مشتري الجارية الفاره لضرر الشركة عليه، فينفسخ البيع في الجميع. وهو قول ابن القاسم في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب الشفعة.
وقوله: وإن خرجت الدنية من الاستبراء صحيحة قبل أن تخرج صاحبتها ثم ماتت، فإنه ينتظر صاحبتها، فإن خرجت صحيحة من الاستبراء كانت المصيبة من المشتري، وإن لم تخرج صحيحة أو ماتت كانت المصيبة من بائعها صحيح؛ لأنها تبع لصاحبتها، إذ لا يتم البيع فيها دونها، وقد مضى هذا المعنى في المسألة التي قبل هذه.
وقوله: وإذا وجد بإحدى الجاريتين عيب بعد الاستبراء، فإنه إن كانت المعيبة أدناهما ليس من أجلها اشتريت صاحبتها ردها ونظر ما اسم قيمتها من قيمة صاحبتها فيرجع بذلك الاسم على البائع في قيمة الجارية المرتفعة كما فسرت لك، قد مضى القول فيه وبينا أن فيه ثلاثة أقوال، وكذلك قد مضى القول في معنى بقية ما ذكر من وجوه المسألة، فلا معنى لإعادة ذكره، ولا يجوز النقد في هذه المسألة حتى تخرج الجاريتان الفارهتان من المواضعة، فإذا خرجتا من المواضعة تقابضا، وإن لم تخرج الدنية بعد من المواضعة؛ لأن ظهور الحمل بها أو موتها لا ينقض البيع بينهما،(4/107)
فسهل انتقاد ثمنها مع إمكان الرجوع فيه بعينه على ما حكيناه من مذهب أشهب الذي لا يراعي ضرر الشركة أو في قيمته على ما مضى من مذهب ابن القاسم، وعلى هذا يأتي ما في أول كتاب الجعل والإجارة من المدونة من أنه يجوز أن يبيع الرجل نصف ثوبه من رجل على أن يبيع له النصف الآخر إلى شهر؛ لأنه إن باع في نصف الشهر كان له أن يرجع في عين الثوب أو في قيمته على ما ذكرناه من الاختلاف في هذا المعنى، وبالله التوفيق.
[مسألة: ابتاع رجل وليدة كان لها زوج وهي في عدة ولم يبين ذلك لمشتريها]
مسألة وإذا ابتاع رجل وليدة كان لها زوج وهي في عدة من طلاق زوجها أو وفاته ولم يبين ذلك لمشتريها، فوطئها المشتري فحملت ثم علم بما كتمه البائع من ذلك، فإنه إن كان مشتريها وطئها وقد حاضت في عدتها حيضة فإن الولد لاحق بالمبتاع، وأراها أم ولد بذلك الولد إذا جاءت به لتمام ستة أشهر غير أنه لا يحل له وطؤها أبدا لوطئه إياها في عدتها، فمن الناس من يقول: إنها تعتق عليه ساعة حملت، إذ لا يجد سبيلا إلى وطئها. ومنهم من يقول: يستخدمها بالمعروف حتى يموت، فإذا مات عتقت من رأس المال ولم يلحقها دين، وكان سبيلها سبيل أمهات الأولاد، ويرجع المبتاع على البائع بقيمة عيب ما كتمه، فيأخذه منه، وإن كان وطئها ولها زوج ولم يطلقها فكان الزوج غائبا عنها أو معزولا عنها ما يكون في مثله استبراء لرحمها فوطئها المبتاع فحملت، فإن الولد لاحق بالمبتاع أيضا، وترد إلى زوجها إذا وضعت، وتكون بذلك الولد أم ولد للمبتاع إن طلقها زوجها يوما ما أو مات عنها حل له وطؤها وأعتقت من رأس مال سيدها إذا مات، كان زوجها حيا أو مات عنها أو طلقها، فإن سبيلها سبيل أمهات الأولاد، ويرجع المشتري على بائعها منه بقيمة عيب ما كتمه من أن لها زوجا، قال: وإن لم يكن الزوج غائبا ولا(4/108)
معزولا عنها كما ذكرنا، فالولد للزوج، وترد الأمة على بائعها بعيب ما كتمه من غير غرم يكون عليه لوطئها، قال: وإن وطئها في هذا كله، وهي حامل من زوجها أو من غير زوجها أو ليست بحامل، فهو يردها بعيب ما كتمه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها؛ لأن المشتري وطئ بشبهة الشراء، فوجب أن يلحق به الولد إذا وطئها في العدة بعد حيضة، وجاءت بالولد لتمام ستة أشهر من يوم وطئ كمن تزوج في العدة ودخل بعد حيضة، وكذلك إذا وطئها وهي في ملك الزوج وهو غائب أو معزول مدة تكون فيها استبراء لرحمها، فجاءت بالولد لتمام ستة أشهر من يوم وطئها، وإذا لحق به الولد وجب أن تكون به أم ولد، وإذا صارت أم ولد فات ردها بالعيب ووجب له الرجوع بقيمته، وإذا لم يلحق به الولد ولحق بالزوج إما بأن يكون وطؤه في طهر واحد، وإما بأن يكون وطئها في طهر آخر فاتت بالولد لأقل من ستة أشهر، وإما بأن يكون وطؤه وهي حامل فإنه يردها بالعيب ولا يكون عليه في وطئه شيء، كما اشترى أمة فوطئها ثم وجد بها عيبا، فإنه يردها ولا شيء عليه في الوطء إلا أن تكون بكرا، فيرد بما نقص الافتضاض منها إن أراد ردها، وإن لم يرد أخذ قيمة العيب وحبسها، وقد قيل: إن الوطء فيها فوت، ذكر ذلك ابن حبيب عن جماعة من الصحابة والتابعين وأخذ به وحكاه عن ابن وهب وابن نافع وأصبغ.
[اشترى جارية وقبضها من غير مواضعة ودفع الثمن ثم استبريت الجارية]
ومن كتاب العتق وسئل: عن رجل اشترى جارية وقبضها من غير مواضعة ودفع الثمن ثم استبريت الجارية وخيف عليها الحمل، فقال: إن كان باعها على أن ينقده الثمن بشرط فسخ البيع، ردت إلى صاحبها،(4/109)
وإن كان إنما تطوع بذلك من غير شرط يكون في البيع لم ينزع منه الثمن حتى ينظر إلى ما تصير إليه الجارية، فإن استمر بها حمل رد الثمن، وإن حاضت نفذ البيع.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة والاختلاف فيها في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم لمن أحب الوقوف عليه، فلا معنى لإعادته، والله الموفق.
[مسألة: الاستبراء في كل ما يوطأ من الجواري رفيعة كانت أو وضيعة]
مسألة قال ابن القاسم: الاستبراء في كل ما يوطأ من الجواري رفيعة كانت أو وضيعة، وما يراد للوطء مما لم يكن يوطأ، فأما وخش الرقيق وما لا تراد للوطء وما لم يكن يوطأ فليس فيه مواضعة استبراء.
قال محمد بن رشد: قوله "الاستبراء في كل ما يوطأ" يريد المواضعة في كل ما يطؤه البائع من الجواري رفيعة كانت أو وضيعة. وقوله: "وما يراد للوطء مما لم يكن يوطأ" يريد به وفي الجواري المرتفعات اللاتي يتخذن للوطء، وإن كان البائع لهن لا يطؤهن، وقوله: فأما وخش الرقيق وما لا يراد للوطء وما لم يكن يوطأ فليس فيه مواضعة استبراء، فليس على ظاهره، والمعنى فيه: فأما وخش الرقيق الذي لا يتخذ للوطء ولم يكن البائع يطؤه، فليس فيه مواضعة استبراء، يريد: ولا يجوز للمبتاع أن يطأها حتى يستبري لنفسه، وهذا كله مما لا اختلاف فيه، والله الموفق للصواب.
[الرجل يبيع الجارية وهي حامل ثم يقر أن الحمل منه]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش
قال يحيى: سألت ابن القاسم: عن الرجل يبيع الجارية وهي(4/110)
حامل ثم يقر أن الحمل منه، قال: إن اتهم أن يكون متعشقا بها نادما على بيعها ألحق به الولد وغرم قيمته يوم أقر به ولم ترد عليه الأمة، وإن كان معدما ألحق به الولد، وكانت قيمته دينا عليه يتبع به، قال: وإن لم يتهم في استرجاع الأمة بتعشق ولا رغبة في صلاح حال الجارية لزيادتها في بدنها وكان مليا، فإنها ترد إليه ويفسخ البيع ويغرم الثمن الذي كان أخذ ويلحق به ولدها، وليس عليه في الولد إذا سقطت عنه التهمة وكان مليا، وإن كان غير متهم وهو معدم ألحق به الولد، واتبع بقيمته يوم يقر به ولا ترد إليه الأمة لعدمه؛ لأنه يتهم في أخذها لعدمه، ولا يتهم في استلحاق ابنها؛ لأنه يغرم قيمته ولا يرق له منه شيء، والأمة لو ردت إليه وهو معدم رقت له فاستمتع واستخدم، فهو متهم فيها لعدمه، وإن أقر بهذا وقد أعتق الولد والأمة وهو ملي لم ترد إليه الأمة ومضى عتقها للمعتق، وثبت له ولاؤها، ومضى عتق الولد أيضا وثبت ولاؤه لمعتقه، ولكنه يوارث أباه المقر به بالنسب، ويلحق به ولا يغير ذلك ولاءه ويقضى عليه بإقراره بأنه باع أم ولد بغرم الثمن الذي أخذ؛ لأنه لا يحل له أكله، ويقال لمعتق الأمة وابنها: إن شئت فخذ الثمن الذي أخذ منك هذا المقر، وإن شئت فدع.
قال محمد بن رشد: أما الولد فلا اختلاف في أنه يرد إليه إذا اتهم في الأم فلم ترد إليه ويلحق به نسبه ويتبع بقيمته يوم أقر به دينا في ذمته إن لم يكن له مال على ما قاله في هذه الرواية، قيل: بقيمته يوم ولد، وقيل: بما ينوبه من الثمن بأن ينظر إليه اليوم أن لو كان معها يوم عقد البيع فيفض(4/111)
الثمن عليهما، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي، وقال: إنه لا يشبهه. وقال بعض شيوخ القرويين: إنه يقوم مع أمه يوم عقد البيع على حاله التي هو عليها [الآن] اليوم، ثم تقوم الأم دونه، فيرد من الثمن حصاص الولد، وهو يرجع بالمعنى إلى ما قاله أبو إسحاق التونسي، والقياس أن لا يكون عليه للمبتاع إلا ما زاد في ثمنها بسبب الحمل إن كان اشتراها ظاهرة الحمل، ولم يكن عليه في الولد شيء إن لم تكن ظاهرة الحمل، وإنما اختلف قول ابن القاسم في انتقاض العتق إن كان قد أعتقه المشتري، فمرة قال ابن القاسم: ينتقض العتق إذا ثبت به نسبه ولا يكون للمعتق ولاؤه، ومرة قال: ينقض العتق ويلحق به النسب ويكون الولاء للمعتق، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، والقولان قائمان من المدونة.
وأما الأم ففي ردها إليه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترد إلا أن يكون عديما أو يتهم فيها بميل إليها أو رغبة فيها لصلاح حالها، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية وقول مالك وغيره في المدونة.
والقول الثاني: أنها ترد إليه إلا أن يتهم بميل إليها ورغبة فيها لصلاح حالها، فإن لم يتهم فيها بشيء من ذلك ردت إليه، وإن كان معدما واتبع بثمنها دينا في ذمته، وهو قول ابن القاسم في المدونة.
والقول الثالث: أنها ترد إليه إلا أن يكون معدما، فإن كان مليا ردت إليه، وإن اتهم بميل إليها ورغبة فيها لصلاح حالها، وهو ظاهر قول ابن نافع في المبسوطة، وهذا كله ما لم يعتقها المشتري، واختلف قول ابن القاسم إذا كان المشتري قد أعتقها، [فمرة قال: إنه إذا أعتقها فلا ينتقض العتق، ولا ترد إليه على حال، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وأحد قوليه في المدونة. ومرة قال: إنه لا تأثير لعتق المشتري لها. فيما يجب من ردها للبائع وتصديقه في قوله إن لم يتهم فيها، فإذا صدق وردت إليه نقض العتق إن كان المشتري قد أعتقها،] وسواء في هذا(4/112)
كله من لحوق نسبه ورد أمه إليه أم ولد باع الأمة وهي حامل فولدت عند المشتري فادعى ولدها، أو باعها وولدها ثم ادعى أن الولد منه، أو باعها وحبس ولدها ثم ادعى أن ولدها الذي عنده منه، أو باعها فولدت عند المشتري إلى ما يلحق فيه الأنساب ولم يطأ المشتري ولا زوج، غير أنه إن باعها مع ولدها ثم ادعى أنه ولده واتهم في الأم فلم ترد إليه يكون عليه من الثمن ما ناب الولد منه، ولو باعها ولا ولد معها ثم ادعى بعد البيع أنها قد كانت ولدت منه لم يصدق ولم ترد إليه في المشهور في المذهب خلاف ما في بعض الروايات من كتاب اللقطة من المدونة من أنها ترد إليه إذ لا يتهم وهو بعيد، طرحها سحنون، وقال: إن إجازته عن ابن القاسم وصمة في الدين، وأما إذا ادعى أنه لا يلحق به أنه ملك أمه أو تزوجها، فاختلف في ذلك قول ابن القاسم، مرة قال: إنه لا يلحق به على حال، ومرة قال: يلحق به إذا لم يكن للولد نسب ثابت ما لم يتبين كذبه، وإن لم يشبه قوله، ومرة قال: إنه إنما يلحق به إذا لم يكن للولد نسب ثابت إذا أشبه قوله، وهذا الاختلاف كله قائم من المدونة، وبالله التوفيق.
[الشريكين في الأمة يطؤها أحدهما فتحمل وتلد]
ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع قال يحيى: وسألته: عن الشريكين في الأمة يطؤها أحدهما فتحمل وتلد، ثم يتعدى الآخر ويطؤها وتحمل، ما الأمر فيها؟ فقال: إن كان للأول مال قومت عليه وكانت أم ولد له وأدب، ونكل الثاني نكالا موجعا ودرئ عنه الحد للشبهة وألحق به ولده، وإن لم يكن له مال لم تقوم على الأول ولا على الثاني ونكلا جميعا، والثاني أحق بأشد النكال، وألحق بهما أبناؤهما وعتقت عليهما، ولم تترك في يد واحد منهما.(4/113)
قال محمد بن رشد: قال: إن الأول إن كان له مال قومت عليه الأمة وكانت أم ولد له، وقال: إن الثاني ينكل ويدرأ عنه الحد ويلحق به الولد، وسكت عما يجب عليه للأول، ويجب عليه له قيمة ولده، على أنه ولد أم ولد [له؛ لأنه إنما وطئها وأولدها بعد أن صارت أم ولد للأول] ويترادان فيما بينهما، فمن كان له منهما فضل على صاحبه رجع به عليه على ما يأتي لسحنون في نوازله بعد هذا، وقيل: إنه إن لم يكن للأول مال لم تقوم على الأول، ولا على الثاني، ونكلا وألحق بهما أبناؤهما، وأعتقت عليهما، وذلك كله بين على ما قال؛ لأن القيمة سقطت عن الأول لعدمه، وعن الثاني إذ قد فات نصيب الأول بالإيلاد ووجب أن تعتق عليه، إذ لا يقدر على وطئها من أجل نصيب الثاني الذي قد صارت أم ولد له، ووجب النكال عليهما، إذ لا يجوز وطء أمة فيها شرك، ولحق بهما أبناؤهما للشبهة التي أسقطت الحد عنهما وأعتقت عليهما؛ لأن نصيب كل واحد منهما قد صار أم ولد له بالإيلاد، ولا سبيل له إلى الوطء؛ لأن نصفها أم ولد له، ونصفها أم ولد لصاحبه.
وسكت: هل يجب على الأول قيمة نصف ولد للثاني؟ فروي عن ابن القاسم أن ذلك يجب عليه، وهو الصحيح في النظر والقياس؛ لأن الأمة لما لم تقوم عليه لعدمه، وبقي نصفها ملكا لشريكه، وجب عليه نصف قيمة ولده. وفي كتاب ابن المواز: أنه لا شيء عليه من نصف قيمة ولده، إذ قد أفات شريكه نصيبه من الأمة بإيلاده إياها. وأما الثاني فلا يجب عليه للأول في ولده شيء؛ لأنه وطئ، وبعض الأمة ملك له وبعضها قد وجب عتقه على شريكه، وهذا على مذهب ابن القاسم الذي يرى أنه يعجل عليه عتق نصيبه. وأما على قول غيره الذي يرى أنه لا يعجل عليه عتق نصيبه حتى يعتق نصيب شريكه، فيكون عليه قيمة نصف ولده على أنه ولد أم ولد.(4/114)
[مسألة: الأمة تشترى وهي ممن تحيض في كل أربعة أشهر حيضة بكم تستبرأ]
مسألة وعن الأمة تشترى وهي ممن تحيض في كل أربعة أشهر حيضة بكم تستبرأ؟ قال: أما التي قد عرفت حيضتها فإن كانت إنما تحيض من أربعة أشهر إلى أربعة أشهر ومن خمسة إلى خمسة أو إلى ستة ونحو ذلك، فإنه لا يبريها إلا الحيضة، فإن استبرأت من حيضتها فأقصى ما تستبرأ به تسعة أشهر، قال: وأما التي يتأخر حيضها فوق التسعة الأشهر أو السنة أو ما قاربها فإن ثلاثة أشهر تجزيها في الاستبراء إلا أن ترتاب فتقيم تسعة أشهر. [قال:] وأما التي تحيض في أقل من ثلاثة أشهر فإن رفعتها حيضتها كان استبراؤها ثلاثة أشهر إلا أن تستريب فتنتظر استكمال التسعة الأشهر أجل الحمل.
قلت: فإن كانت ترضع فخيف عليها أن تستأخر حيضتها للرضاع، قال: استبراؤها ثلاثة أشهر، فإن ارتابت فتسعة أشهر.
قلت: وفي جميع ما تبلغ فيه التسعة الأشهر عند الريبة ضمانها من البائع؟ قال: نعم، ولا يحل وطؤها دون ذلك.
قال محمد بن رشد: لا فرق في القياس بين التي تحيض من ستة أشهر إلى ستة أشهر أو من أربعة أشهر إلى أربعة أشهر، أو مما فوق ذلك، التسعة إلى السنة إلى مثلها أو التي تتأخر حيضتها للرضاع، فإنها تبرأ بثلاثة أشهر إذا لم يمر بها فيها وقت حيضتها، فارتفعت عنها لغير سبب،(4/115)
فيكون ذلك ريبة يلزم من أجلها أن تزيد على الثلاثة الأشهر حتى تبلغ إلى التسعة الأشهر أو تحيض دون ذلك، وإذا كانت التي تحيض في أقل من ثلاثة أشهر فارتفعت حيضتها تبرأ بثلاثة أشهر فأحرى أن تبرأ بثلاثة أشهر التي لم يمر بها فيها وقت حيضتها أو التي يعلم أنها لم تحض فيها من أجل أنها ترضع، فرواية عيسى عن ابن القاسم التي تقدمت في أن التي تحيض في ستة أشهر تبرأ بثلاثة أشهر أصح في القياس والنظر من هذه الرواية، وقد مضى القول على ذلك هناك. وقوله في التي تتأخر حيضتها فوق التسعة الأشهر أو السنة، فإن ثلاثة أشهر تجزيها في الاستبراء إلا أن ترتاب فتقيم التسعة الأشهر، الريبة هاهنا إنما هي بحس تجده في بطنها، وإنما تبرأ بتسعة أشهر كما قال إذا كانت تلك الريبة التي وجدت من الحس بقيت على حالها ولم ترد إلى التسعة الأشهر، فأما إن زادت فلا بد من استبرائها إلى أقصى أمد الحمل، وكذلك القول في قوله: إن التي تستأخر حيضتها للرضاع إن ارتابت تستبرئ بتسعة أشهر، وبالله التوفيق.
[النصراني يبيع أم ولده النصرانية أيجوز للمسلم اشتراؤها]
ومن كتاب المكاتب قال: وسألته: عن النصراني يبيع أم ولده النصرانية، أيجوز للمسلم اشتراؤها؟ فقال: لا بأس بذلك إذا كان من دينهم استجازة بيع أمهات الأولاد، قيل له: أرأيت إن باعها من نصراني، فأسلمت؟ قال: إذا لم يكن إسلامها إلا بعد بيعه إياها فهي أمة؛ لأنها قد رقت لمشتريها حين كان بيعها جائزا له في دينه يوم باعها.
قال محمد بن رشد: إنما شرط في إجازته للمسلم شراء أم ولد النصرانية من النصراني، وفي أنها تباع على النصراني الذي اشتراها منه إذا أسلمت كما تباع عليه أمته إذا أسلمت، ولا يكون حكمها حكم أم ولد(4/116)
النصراني تسلم أن يكون من دينهم استجازة بيع أمهات الأولاد؛ لأن ذلك إذا لم يكن من دينهم فهو متعد عليها في بيعها وظالم لها في ذلك، وواجب على الإمام أن يمنعهم من التظالم فيما بينهم، فإذا أقر على نفسه ببيعها، وذلك غير جائز له في دينه، وقال ذلك أساقفتهم - وجب على الإمام أن يحول بينه وبين ذلك، ولم يجز لأحد من المسلمين أن يشتريها منه، فينبغي أن يحمل هذا على التفسير لما في كتاب الجنايات من المدونة من أن الذمي لو باع أم ولده لم يمنع من ذلك. وإجازته للمسلم شراءها منه إذا كان من دينهم استجازة ذلك إنما يأتي على القول بأنهم غير مخاطبين بشرائع الإسلام، وقد اختلف في ذلك، وبالله التوفيق.
[زعم أنه وطئ جاريته وأنه يعزلها فجاءت بولد]
ومن سماع موسى بن معونة من ابن القاسم قال موسى بن معونة: قال ابن القاسم: من زعم أنه وطئ جاريته وأنه يعزلها، فجاءت بولد، فإنها أم ولده إلا أن يدعي استبراء، قال ابن القاسم: ومن ادعى أنه كان يطأ جاريته ولا ينزل، فجاءت بولد فإنه لا يلحقه ولا تكون أم ولد؛ لأنه إنما زعم أنه كان يفضي ويعزل، فالعزل قد يخطئ ويصيب، ولذلك لزمه الولد، وإذا قال كنت أطأ ولا أنزل فإنه ليس هاهنا موضع خوف في أن يكون قد أفضى فيها، فلذلك لم يلزمه الولد.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن الولد إنما يكون من الماء الدافق، قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] ... الآية، وقال:(4/117)
{وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7] {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8] ، فإذا لم ينزل أصلا علم أنه لم يكن منه ما يكون عنه الولد، فوجب أن لا يلزمه، وإذا وطئ فأنزل فعزل الماء عن الموطوءة وأنزله خارجا منها احتمل أن يكون لم يعزله بجملته وسبقه شيء منه كان عنه الولد، فوجب أن يلزمه؛ لأن الأمة قد صارت فراشا له بوطئه إياها فوجب أن يلحق به الولد حتى يوقن أنه ليس منه، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الولد للفراش، والحجر للعاهر» ، ولا يقين في أن الولد ليس منه للاحتمال الذي ذكرناه، وقد دل على ذلك قول النبي لأصحابه حين سألوه عن العزل: «ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة» ، فأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الولد قد يكون مع العزل إذا شاء الله بأن يكون معه بأن ينقلب الوكاء، كما قال عمرو بن العاص صاحب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فسبقه من الماء شيء يكون منه الولد لا يظن به، وقد قال في آخر كتاب الاستبراء من المدونة: من قال كنت أطأ أمتي ولا أنزل فيها فإن الولد يلحقه ولا ينفعه أن يقول كنت أعزل عنها. فذهب بعض الناس إلى أن ذلك خلاف لرواية موسى هذه في قوله فيها إنه من قال كنت أطأ ولا أنزل - أن الولد لا يلحقه. ومنهم من قال: سأله عمن قال لا أنزل، فأجاب عمن قال كنت أعزل، وليس شيء من ذلك كله بصحيح؛ لأن قوله ولا أنزل فيها دليل على أنه كان ينزل خارجا عنها،(4/118)
وهذا هو العزل بعينه، فعنه سأله، وعليه أجابه، فلا خلاف في رواية موسى لما في المدونة، بل هي مفسرة لها، وبالله التوفيق.
[يشتري الجارية فتوضع للاستبراء فيعتقها المبتاع من قبل أن تستبرأ]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم قال محمد: سألت ابن القاسم عن الرجل يشتري الجارية، فتوضع للاستبراء، فيعتقها المبتاع وهي في المواضعة من قبل أن تستبرأ. قال ابن القاسم: إذا كان الذي باعها لا يدعي حملها، إن جاء حمل مضى عتقه عليه فيها، ولم يكن له فيها رد ولو جاء حمل؛ لأنه قد قطع ذلك من نفسه بعتقه إياها، ورضي بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح من قول ابن القاسم على أصله في أن للمشتري أن يسقط المواضعة عن البائع ويقبلها بعيب الحمل إن ظهر بها إذا لم يقع البيع على ذلك، ويأتي على قول سحنون أنه لا يجوز أن يقبلها قبل ظهور الحمل بها ويسقط المواضعة فيها عن البائع؛ لأنه يتهم في إسقاط الضمان عن البائع وتعجيل النقد له، على أن يتعجل الانتفاع بالجارية فيدخله ابتياع الضمان وسلف جر منفعة - أن عتقه فيها لا يلزمه وأن له أن يردها إن ظهر بها حمل، ويبطل العتق.
وقد وقع في سماع أبي زيد من كتاب العتق في رجل اشترى أمة فوضعها للاستبراء فحلف بعتقها لرجل ليقضينه حقه فحنث، ثم ظهر بها حمل ليس هو من البائع، قال: يردها بالحمل ويأخذ الثمن ولا عتق له، وقاله ابن المواز أيضا في كتاب العيوب من ديوانه، فقال بعض الناس فيها: إنها مسألة حائلة لابن القاسم ليست على أصله، ورواية محمد بن خالد هذه عنه تردها، وليس ذلك بصحيح عندي؛ لأنه إذا بتل عتقها فقد رضي بعيب الحمل إن ظهر، وأسقط التبعة فيه عن البائع بقصده إلى تفويتها(4/119)
بالعتق، والحالف بالعتق أن يقضي غريمه حقه ليس بقاصد إلى تبتيل العتق باليمن، وإنما قصد به إلى التخلص من غريمه به، فلا يحمل عليه أنه رضي بعيب الحمل إن ظهر؛ إذ لم يرد إلا البر بالقضاء، ولعله غلب على الحنث بالعجز عن القضاء، فوقع الحنث بغير اختياره، وهذا فرق بَيِّنٌ بَيْنَ المسألتين، فلا يحمل على ابن القاسم التناقض والاضطراب في ذلك.
[يشتري الجارية ومثلها يوطأ ومثلها لا يحمل فهل تتواضع إذا لم تحض]
ومن سماع عبد الملك بن الحسن من عبد الله بن وهب قال عبد الملك بن الحسن: سألت ابن وهب: عن الرجل يشتري الجارية وهي من جواري الوطء مثلها يوطأ ومثلها لا يحمل، فهل تتواضع إذا لم تحض؟ قال: نعم، تتواضع، قلت له: فإن لم تتواضع وماتت في أيام الاستبراء في يد المشتري؟ فقال: إذا جهل الاستبراء فهي من البائع.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم البيوع الأول من سماع أشهب الاختلاف في وجوب مواضعة التي لا يوطأ مثلها ويومن الحمل منها وفيما تستبرأ به عند من أوجب المواضعة فيها لمن أحب الوقوف عليه، فلا معنى لإعادته، فإن لم تواضع عند من أوجب المواضعة فيها وماتت في يد المشتري قبل أن يمضي من المدة ما تستبرأ فيه، فالضمان يكون من البائع كما قال لوجوب الحكم بالمواضعة عنده على ما في المدونة وغيرها، وبالله التوفيق.
[حر وعبد بينهما جارية فيطآنها فتأتي بولد فيدعيانه]
ومن مسائل نوازل سئل عنها سحنون وسئل سحنون: عن الرجلين يكون بينهما الجارية فيطآنها في طهر واحد، أحدهما حر والآخر عبد، فتأتي بولد فيدعيانه(4/120)
جميعا، قال: يدعى لهما القافة. قيل له: فإن دعي لهما القافة فقالت: هو للعبد، فقال: الحر مخير إن شاء ضمنه قيمة نصيبه يوم وطئها، وإن شاء تمسك بنصيبه منها؛ لأنها لا تخرج من رق إلى عتق، وهي مثل الجارية بين الرجلين الحرين يطؤها أحدهما فلا تحمل - أن الشريك مخير بين أن يتمسك أو يقومها عليه، قيل له: فإذا رضي أن يتمسك بنصيبه هل يكون له نصف الولد رقيقا؟ قال: نعم. قلت: فإذا أراد الشريك أن يقومها عليه والعبد معسر، كيف يغرم قيمتها؟ فقال: تباع الجارية في نصف قيمتها يوم وطئها ليس يوم أولدها فيغرم إليه قيمتها يوم وطئها في الوجهين جميعا كان له مال أو كان معسرا وليس هو في القيمة إذا كان معسرا مثل الحر.
قلت: فهل يباع الولد معها إن كانت قيمة الجارية اليوم ليست تحيط بنصف قيمتها يوم وطئها؟ قال: لا يباع الولد معها؛ لأن الولد ليس مالا للعبد، وإنما يباع في القيمة مال العبد؛ قال: ويتبع العبد بما بقي من القيمة في ذمته إن لم يكن في ثمن الجارية وفاء، ولا يكون ما بقي في رقبته لأنها ليست جناية لأنه كان مأذونا له في ذلك، قيل له: فإن ألحقته القافة بهما جميعا؟ فقال: يعتق الصبي على الحر لأنه قد عتق عليه نصف ابنه وبقي نصفه ابنا للعبد، فيعتق عليه جميعه لما دخل في نصفه من الحرية، ويغرم نصف قيمته إلى سيد العبد.
قلت: فالأمة ما يكون حالها وقد صار نصفها أم ولد للحر ونصفها للعبد؟ قال: أرى أن يقوم عليه النصف [فيحل له وطؤها ويكون عنده نصفها أم ولد له ونصفها رقيق حتى يولدها مرة أخرى بعد استبرائه هذا] النصف الباقي فيكون جميعها أم ولد(4/121)
له، بمنزلة الرجلين الحرين تكون بينهما الجارية فيطؤها أحدهما فيولدها ولا مال له فيكون له نصفها أم ولد له، ثم إن اشترى نصف شريكه يوما ما حل له وطؤها ويكون نصفها بحساب أم ولد ونصفها للمشتري رقيقا له إلا أن يولدها بعد اشترائه النصف الثاني فيكون جميعها أم ولد له، قيل له: فهل يقال للصبي إذا بلغ وال أيهما شئت؟ قال: نعم. قيل له: فإن والى الصبي العبد أيكون ذلك له فيكون ابنا للعبد؟ فقال: نعم يكون ابنه ويكون حرا.
قلت: فإن أعتق العبد يوما ما أيرث الغلام إن مات العبد؟ قال: نعم. قال أصبغ: إذا قالت القافة اشتركا فيه وكان أحدهما حرا والآخر عبدا كان نصيب الحر من الأمة عتيقا معجلا، وكان نصف العبد منها أم ولد موقوفة لا يطؤها على نحو أمهات الأولاد إن مات العبد ورثها سيده وإن أذن له سيده باعها، وإن رهقه دين وهو مأذون له بيعت، فإذا بلغ الابن فإن والى الحر لحق به وكان عليه غرم نصف قيمة الولد لأنه رقيق لسيد العبد؛ لأن ولد العبد من أمته رقيق لسيده، فإن والى العبد لحق به نسبه وكان ولده وكان نصفه حرا كما عتق من أمه نصفها وهو نصيب الحر منه لشبهة الشرك الذي وقع فيه، ولم يكن على الحر أن يقوم عليه بقيمة الولد؛ لأنه ليس عتق ابتداء، وإنما هو حكم لزمه ووقع عليه كهيئته ما لو ورث نصفه. قيل لسحنون: فلو أن أحد الحرين مات والصبي لم يبلغ حد الموالاة، فقال: يوقف للصبي قدر ميراثه من مال الميت حتى يبلغ، فإذا بلغ فإن والى الميت كان الميراث له، وإن والى الحي لم يكن له من ميراث الميت شيء، قيل له: فلو أن(4/122)
الصبي مات قبل أن يبلغ الموالاة وبعد ما مات أحد أبويه الذي كنت أوقفت له منه ميراثه حتى يوالي، لمن يجعل ميراث هذا الصبي، وكيف يورث؟ قال: يورث الصبي من أبيه الميت ميراثه ويورث أبوه الحي من الصبي نصف ما ترك الصبي من ميراثه عن أبيه أو من مال وهب له أو صار له بوجه من الوجوه، ويرث النصف الباقي ولدا في الصبي الميت إن كان ترك أبوه ولدا لأنهم إخوته، فإن لم يكن للميت ولد ورث النصف الباقي من الصبي إخوة الميت أو أعمامه أو من كان يرجع مع الميت إلى صلب.
قال أبو زيد بن أبي الغمر وأصبغ بن الفرج: ميراث الصبي وما ترك من مال لأمه، وللأب الباقي، وليس للأب الميت ولا لعصبته من ميراثه شيء، ويرد ما كان أوقف للصبي من ميراث الميت إلى ورثة الميت الباقين؛ لأنه لا يجب للصبي بعد فيجب لورثته؛ لأنه إنما يجب له بعد الموالاة. ألا ترى أنه لم يكن ينفق عليه منه، وإنما هو موقوف يجب له بالموالاة أو لا يجب.
قال أصبغ: ولو رأيت أن ميراث الميت الأول يجب للصبي ولورثته دخلت عصبة الأب الميت مع الأب الباقي في ميراث مال الصبي فورثوه جميعا، ولكن هذا ليس بشيء، والذي لا شك فيه أن ميراث الصبي إذا مات بعد موت أحدهما للأب الباقي وحده لا يشرك فيه أحد إلا الأم وحدها.
قيل لأصبغ: فإن كانا هذين الرجلين اللذين اشتركا فيه أحدهما كافر والآخر مسلم ما الأمر فيهما عندك؟ فقال لي: إن ألحقته(4/123)
القافة بالمسلم لحق به وكأن الأمة أم ولد له وغرم نصف قيمة الأمة إلى الكافر، وإن ألحقته القافة بالكافر لحق به وكان ولده، وعلى دينه، يوارثه وينتسب إليه، وكانت الأمة أم ولد له، وغرم نصف قيمتها إلى المسلم، وإن كانت كافرة أقرت عنده أم ولد له، وإن كانت مسلمة عتقت عليه. قال أصبغ: فإن قالت القافة: إنهما اشتركا فيه فإن الأمة أم ولد معتقة الساعة منهما جميعا، والولد موقوف حتى يبلغ فيوالي أيهما شاء، فإن والى المسلم فهو ولده وعلى دينه، وإن والى الكافر فهو ولده ولا يكون على دينه ولا يترك إلا على دين الإسلام للشبهة والشرك الذي دخل فيه، وكذلك قال أصحابنا، وهو رأيي.
قلت: فإن مات الكافر منهما قبل بلوغ الصبي أيوقف له ميراثه منه حتى يبلغ؟ قال: نعم، فإذا بلغ فإن والاه أخذ ميراثه منه الذي وقف له، وأما دينه فلا يكون إلا [على] الإسلام.
قلت: وكذلك إن ماتا جميعا، وقف له أيضا ميراثه منهما؟ فقال لي: نعم، فأيهما والى وارثه.
قلت: وكيف يرث الكافر وليس هو [كما] زعمت على دينه؟ فقال لي: يرثه بالرحم والنسب وبأنه ولده، ثم نجبره الساعة على الإسلام للذي أخبرتك من شبهة الشرك، وهو استحسان وليس بقياس.
قلت: فإن مات الصبي بعدهما وقد ماتا جميعا قبله، من(4/124)
يرثه؟ قال: يرد ما وقف من مالهما إلى ورثتهما يوم ماتا إن مات قبل أن يوالي أحدهما، ثم إن كان ترك مالا وهب له أو ورثه من أمه أو فرض له ورث نصفه بعد خروج فريضة إن كان يرثه ذو فريضة عصبة أبيه [المسلم] ، على قُعْدُدِهم به، ويبقى النصف الآخر، فإن كان لأبيه الكافر عصبة مسلمون يرثونه ورثوا ذلك النصف وإلا ورثه المسلمون كهيئة المسلم يموت، من أبوه كافر، فيرثه عصبته لأبيه المسلم، وإلا ورثه المسلمون.
قيل لأصبغ: فلو أنهم ثلاثة وطئوها في طهر واحد: مسلم وعبد ونصراني، فحملت، والأمة مسلمة؟ قال: إن قالت القافة إنهم اشتركوا فيه، فإنها تعتق على المسلم والنصراني ولا تعتق على العبد، ويكون للعبد قيمة نصيبه عليهما جميعا. وإنما ألزمنا النصراني العتق؛ لأنه حكم وقع بين مسلم ونصراني، ولو كانت الأمة نصرانية عتق جميعها على الحر المسلم، وقوم عليه نصيب العبد والنصراني.
قال محمد بن رشد: الحكم في الأمة بين الشريكين إذا وطئها أحدهما بإذن شريكه أن يقوم عليه شاء أو أبى، ولا خيار في ذلك لواحد منهما؛ لأن ذلك كالتحليل الذي يلزم القيمة فيه بالوطء على كل حال، وأما إذا وطئها متسورا عليها دون إذنه ولم تحمل فهو مخير، إن شاء قومها عليه وإن شاء تمسك بنصيبه، هذا قوله في المدونة، وهو المشهور في المذهب، وإذا تمسك بنصيبه ولم يقومها عليه منع من الغيبة عليها؛ لئلا يعود إلى وطئها، ويعاقب على ما فعل من ذلك، وإن كان جاهلا لم يعذر بجهله، إلا أن عقوبته أخف من عقوبة العالم، قاله ابن حبيب. وقد قيل: إنها تقوم عليه على كل(4/125)
حال لأنه لما وطئها بشبهة درئ عنه الحد [بها] قُوِّمَتْ عليه؛ لأنها إن لم تُقَوَّم عليه أشبه ذلك عارية الفروج، وهو ظاهر ما في كتاب الشركة من المدونة، وأما إن حملت فإنها تُقَوَّم عليه على كل حال، قال في المدونة: يوم حملت لا يوم وطئها إن كان وطئها مرة بعد مرة؛ لأنه إن كان إنما وطئها مرة فيوم الوطء هو يوم الحمل، فتكون له أم ولد، ولا يكون عليه قيمة الولد؛ لأنه إنما حدث بعد أن صارت الأمة ملكا له بوجوب القيمة عليه فيها، ولا نص خلاف في هذا، إلا أن الخلاف يدخل فيه بالمعنى على قوله: إن القيمة تكون فيها يوم الحمل؛ لأنه إذا أوجب القيمة بالحمل فقد وقع الحمل ووجوب القيمة عليه معا، فإنما وقعا معا، فلا بد أن يغلب أحدهما على الآخر ويحكم له بحكم التقدم، فإذا غلبنا القيمة وحكمنا لها بحكم التقدم لم يكن عليه في الولد شيء، وهو المنصوص، وإذا غلبنا الإيلاد وحكمنا له بحكم التقدم وجب أن يكون عليه نصف قيمة الولد، وعلى هذا المعنى والله أعلم، قال ابن القاسم في المعسر: إنه يباع عليه نصف الأمة فيما لزمه من نصف قيمتها ويتبع بنصف قيمة الولد، والقياس على مذهبه في المدونة أن يكون مخيرا بين أن يقومها عليه يوم الوطء أو يوم الحمل؛ لأنه ما لم تحمل، هو بالخيار ما بين أن يقومها عليه أو يتمسك بحظه منها، فإن قومها عليه يوم الوطء فلا إشكال في أنه لا شيء عليه من قيمة الولد، وإن قومها عليه يوم الحمل احتمل أن [يكون جميعا] يجب عليه نصف قيمة الولد وأن لا يجب على ما ذكرناه من الاحتمال، والأظهر أن لا يكون عليه نصف قيمة الولد؛ لأن القيمة تجب عليه بأول الإيلاج قبل الإيلاد، وإن وطآها جميعا عزلت عنهما لئلا يعودا إلى وطئها ووقفت على يدي امرأة، فإن حاضت بيعت عليهما إلا أن يتقاوماها فتصير لأحدهما، وإن لم تحض واستمرت حاملا فماتت قبل أن تضع كانت(4/126)
مصيبتها منهما، وإن وضعت لستة أشهر فصاعدا من يوم وطئها الآخر دعي له القافة، فمن ألحقوه به منهما لحق به، وكانت الأمة أم ولد له، وكان عليه نصف قيمتها يوم حملت لشريكه حسبما وصفناه إذا أولدها أحدهما.
وقول سحنون في أول هذه النوازل: إذا كانت بين حر وعبد فوطآها في طهر واحد وأتت بولد وادعياه جميعا أنه يدعى له القافة، معناه إذا أتت به لستة أشهر فأكثر من يوم وطئها الآخر. وقوله: إذا قالت القافة إنه للعبد - أن الحر مخير بين أن يُضَمِّنه قيمة نصيبه منها يوم وطئها وبين أن يتمسك به ويكون له نصف الولد رقيقا، صحيح على ما قال من أجل أنه ليس لها بإيلاد العبد حرمة أمهات الأولاد، فيكون الحكم في ذلك حكم الجارية بين الشريكين الحرين إذا وطئها أحدهما فلم تحمل، كما قال في بعض الروايات، وهي مثل الجارية بين الرجلين الحرين يطؤها أحدهما ولا مال له [فتحمل] .
والرواية الأولى أصح وأظهر في المعنى، وعلى القول الذي حكيناه من أنه يقوم على الحر على كل حال، وإن لم تحمل تقوم على العبد أيضا حملت أو لم تحمل، وقوله: إن كان معدما تباع كلها في نصف القيمة ولا يباع الولد في ذلك صحيح؛ إذ لا حرمة لها بإيلاده على ما وصفناه؛ ولأن ولد العبد من أمته ليس بملك له، وإنما هو ملك لسيده، وقوله: إن القيمة يكون فيها يوم وطئها ليس يوم أولدها هو خلاف قول ابن القاسم في المدونة أن القيمة تكون في ذلك يوم حملت لا يوم وطئها، وقد تقدم بيان ذلك وما هو وجه القياس فيه على مذهبه في المدونة. وقوله: إنه لا يكون في رقبته من ذلك شيء؛ لأنها ليست جناية خلاف روايته عن ابن القاسم في أول سماعه من كتاب الجنايات أن ذلك جناية في رقبته، يقال لسيده: إما أن(4/127)
تفتكه بنصف قيمة الجارية، وإما أن تسلمه وماله لصاحب الجارية، وإلى هذا نحا ابن عبد الحكم، فقال: ويقع في قلبي أنها جناية. وقوله "لأنه كان مأذونا له في ذلك"، معناه: لأنه كان مأذونا له في وطء ما ملكت يمينه، فلما وطئ بهذه الشبهة ما له فيه شرك فسقط عنه الحد لزمه القيمة في ذمته، وخرجت من أن تكون جناية في رقبته، هذا معنى قوله، لا أنه يباح له أن يطأ أمة له فيها شرك.
وقوله: إذا ألحقته القافة بهما أن الصبي يعتق على الحر ويغرم نصف قيمته إلى سيد العبد ليس بجيد؛ لأنه لم يعتق نصفه فيقوم عليه باقيه، بل كان نصفه حرا بالحكم من أصله؛ لأن ولد الحر من أمته حر من أصله. وإذا كان من ورث نصف أبيه لا يعتق عليه باقيه بالتقويم، وإن كان الولاء له؛ لأنه أعتق عليه، فأحرى أن لا يقوم عليه نصف ابنه في هذه المسألة؛ إذ لم يعتق نصفه ولا له من ولائه شيء. ألا ترى أنه إن قُوِّم عليه نصفه على ما ذهب إليه فمات أبوه وهو حر معتق، ثم مات هو بعده ولا وارث له إلا الذي أعتق أباه - لم يرث منه بالولاء إلا النصف الذي أعتق عليه بالتقويم. وكذلك قول أصبغ: "إنه لا يعتق عليه نصفه يغرم نصف قيمته إلا أن يواليه" - لا معنى له يصح عليه؛ لأنه إن وجب أن يقوم عليه فلا وجه لتأخير ذلك إلى أن يواليه، وإن لم يجب ذلك قبل أن يواليه فلا يوجب ذلك عليه موالاته إياه، وهذا بيِّن.
وفي قول سحنون: إنه يُقَوَّم على الحر نصف الأمة التي للعبد، فيكون له رقيقا ويحل له وطؤها حتى يولدها مرة أخرى بعد اشترائه هذا النصف، فيكون جميعها أم ولد له - نَظَرٌ؛ لأنه إذا لم يُقوَّم عليه نصف العبد إلى حرية، فلا ينبغي أن يكون ذلك إلا برضا العبد. وقد وقع في بعض الكتب قال: أرى أن يُقَوَّم عليه نصف الباقي فيكون جميعها أم ولد له، وسقط ما بين ذلك من الكلام، فعلى هذا يكون جميعها أم ولد له إذا قومت عليه، ولا يحتاج في ذلك إلا إيلاد ثان، وهو ضعيف يرده قوله في المسألة التي نظَّرَهَا بها في الشراء؛ إذ لا فرق بين المسألتين. وقد حكى أبو إسحاق التونسي الخلاف أيضا في مسألة الشراء، وإن كان ضعيفا لا يحمله القياس، فعليه يأتي أن يجبر العبد على(4/128)
أن يقوم نصيبه من الأمة على الحر على ظاهر قول سحنون في الرواية وقد وصفناه.
وقول أصبغ: إذا قالت القافة: اشتركا فيه إن نصيب الحر من الأمة يكون عتيقا معجلا، ويبقى نصيب العبد منها بحال أم ولد العبد وتكون موقوفة لا يطؤها خلاف قول سحنون المتقدم، وخلاف قوله هو أيضا بعد هذا في الجارية تكون بين الحر والعبد والنصراني، فيطئوها في طهر واحد فتحمل إنها إن كانت مسلمة قوم نصيب العبد على النصراني والمسلم، وأعتقت عليهما، وإن كانت نصرانية قوم نصيب العبد والنصراني على المسلم وأعتقت عليه.
وقول أصبغ في هذه المسألة، وإن كان مخالفا لقوله الأول فليس بموافق لقول سحنون، بل هو مخالف له إذ قال: إنها تعتق على المسلم إذا قوم عليه نصيب العبد والنصراني، ولم يقل إنها تبقى بيده ثلثها أم ولد له، وثلثاها رقيق حتى يولدها مرة أخرى فيكون جميعها أم ولد له، ولا قال أيضا: إن جميعها يكون [له] أم ولد إذا قُوِّم عليه نصيب العبد والنصراني، ولا يحتاج إلى أن يولدها مرة أخرى على ما ذكرنا أنه وقع في بعض الروايات، وعلى ما حكاه أبو إسحاق التونسي.
وعتق الأمة على المسلم إذا كانت نصرانية فقوم عليه نصيب العبد والنصراني بعيد لا حظ له في النظر، وأما إذا كانت مسلمة فقوم على المسلم والنصراني نصيب العبد، وإنما أعتق على المسلم حظه منها من أجل أنه لا يستطيع وطئها بسبب حظ النصراني فيها الذي سبيله أن يعتق، ولا يدخل فيه اختلاف قول مالك في أم ولد النصراني تسلم هل تعتق، أو توقف لما دخلها من حرية نصيب المسلم، فيتحصل في حظ العبد من الأمة إذا كانت بينه وبين الحر، فوطأها جميعا في طهر واحد، فحملت أربعة أقوال: أحدها؛ أنه يكون مخيرا بين أن يُقوَّم حظه على شريكه الحر أو يتماسك به، فإن قومت عليه كانت له أم ولد في قول، ولا تكون له أم ولد حتى يولدها ثانية في قول [مالك] .
والثاني: أنها تقوم عليه شاء أو أبى، وتكون له أم ولد أيضا، ولا يكون(4/129)
حتى يولدها ثانية.
والثالث: أنه يعتق عليه نصيبه، ولا يقوم عليه نصيب العبد، وتبقى بيده بحال أم ولد العبد.
والرابع: أنه لا يعتق عليه نصيبه، ولا يقوم عليه نصيب العبد، وتبقى بيده بحال أم ولد العبد، فإن اشتراها يوما ما حل له الوطء، فهذه ستة أقوال؛ لأن القول الأول والثاني يتفرع كل واحد منهما إلى قولين، وفي كلها نظر لا يسلم من الاعتراض منها إلا القول الواحد، وهو أن يكون مخيرا بين أن يقوم حظه أو يتماسك به، فإن قومه عليه لم يكن جميعها أم ولد له حتى يولدها مرة أخرى.
وقول سحنون: إن أحد الحرين إذا مات، والصبي لم يبلغ حد الموالاة يوقف له قدر ميراثه من مال الميت حتى يبلغ، فإذا بلغ فإن والى الميت كان الميراث له، وإن والى الحي لم يكن له من ميراث الميت شيء صحيح على القول بالموالاة، وقد اختلف في حدها، فقيل: بلوغ الإثغار والميز، وهو قول أصبغ في كتاب مجالسه، وظاهر قول ابن حبيب في الواضحة [أنه البلوغ] وأما قوله: إنه إذا مات الصبي بعد ما مات أحد أبويه الذي كان وقف له ميراثه منه أنه يورث من أبيه الميت ما كان وقف له من ميراثه منه، ثم يرث ذلك عنه مع ما كان له من غير ذلك أبوه الحي وورثة أبيه الميت فهو قول فيه نظر، والصواب: أن يأخذ نصف ما وقف له من الميت فيضاف ذلك إلى مال إن كان له من غير ذلك، فيكون ذلك بين الأب الحي، وأحق الناس بميراثه من قبل الأب الميت؛ لأنه ما لم يوال أحدهما فهو محمول على أنه ابن لهما جميعا، وهذا قول ابن القاسم، وكذلك لو ماتا جميعا قبله، ثم مات بعدهما قبل أن يوالي واحدا منهما لورث من كل واحد منهما نصف ميراثه؛ لأنه ابن لهما جميعا، فيأخذ من مال هذا نصف ميراثه ومن مال هذا نصف ميراثه، فيضاف ذلك إلى مال إن كان له من غير ذلك بهبة، أو عطية أو ما أشبه ذلك، فيكون جميع ذلك بين أحق الناس بميراثه من قبل(4/130)
أبويه جميعا نصفين؛ لأنه إنما هو رجل مات، وله أبوان توفيا قبله، فيورث من أبويه جميعا نصف ميراثه من كل واحد منهما، ثم يورث أقرب الناس إليه من كل واحد من أبويه نصف ما ترك، وقول أصبغ وأبي زيد بن أبي الغمر: إنه يرد ما كان وقف له من ميراث الميت إلى ورثته، وترثه هو أمه والأب الباقي وحده بعيد، ويرده قوله بعد ذلك في المسلم والنصراني: إنهما إن ماتا قبله، ثم مات هو بعدهما يودي ما كان وقف له من ميراث كل واحد منهما إلى ورثته، ويرث نصف ما كان له من غير ذلك بعد خروج فريضة من له فرض مسمى إن كان يرثه ذو فريضة، يريد مثل الأم والإخوة للأم، والجدة عصبة أبيه المسلم على قعددهم، والنصف الآخر للمسلمين من عصبة أبيه الكافر، إن كان له عصبة مسلمون، فإن وقف له ميراثه من الميت منهما، فبلغ حد الموالاة، فأبى أن يوالي واحدا منهما، فذلك له، قاله سحنون، ويكون له نصف ما وقف له، وإن مات الصبي قبل أن تنظر إليه القافة، وله مال وهب له فهو بين الواطئين كمال بينهما يتنازعانه، وإن مات أحد الواطئين نظر القافة إلى الولد والباقي، فإن زعموا أنه له لحق به، وكانت الجارية أم ولده، واختلف إذا قالت القافة: ليس هو لهذا فقيل: إنه يلحق بالميت، وقيل: لا يلحق بواحد منهما.
وكذلك اختلف أيضا إن مات الواطئان، وبقي الولد، فقيل: إنه يورث من كل واحد منهما نصف ميراث ولد، وقيل: إنه لا يورث من واحد منهما شيئا.(4/131)
[مسألة: أمة بين ثلاثة نفر وطئها كل منهم وهو لا يعلم فولدت منهم]
مسألة وقال سحنون في أمة بين ثلاثة نفر وطئها الأول، فولدت منه وهو لا يعلم] ، ثم وطئها الثاني، فولدت منه وهو لا يعلم، ثم وطئها الثالث وهو لا يعلم، فولدت منه، فإن السيد الأول لما وطئ ضمن القيمة لهذين، وصارت أم ولد له فإنما وطئ هذا أم ولده، فإنهم يتقاصون بالقيمة، ويرجع بعضهم على بعض، فإن كانت قيمة أم الولد أكثر من قيمة الأولاد رجعوا عليه بما بقي، وإن كان قيمة الأولاد أكثر من قيمة أم الولد رجع عليهم بما بقي، وهذا إذا كان موسرا.
وأما إن كان معدما عتق عليه ثلثه في الأمة، ويصير عليه قيمة ثلثي ولده لهذين، فإذا وطئ الثاني أيضا عتق عليه ثلثه في الأمة، وإنما وطئ ثلثا حرا وثلثين رقيقا، فيصير ثلث قيمة ولده للثالث، وإذا وطئ الثالث أيضا، عتق نصيبه في الأمة، فلا يكون لواحد منهما على الثالث في ذلك شيء.
قال محمد بن رشد: أما إذا كان الأول موسرا، فالحكم على ما قال لا أعرف فيه نص خلاف، إلا أن الخلاف يدخل فيه بالمعنى، فيقال: إنه يكون على الأول قيمة ثلثي ولده لشريكيه مع قيمة ثلثي الأمة لهما إذا قررنا أن الحمل سبق وجوب القيمة حسبما مضى القول فيه في أول النوازل، وقد يقال أيضا: إنها تعتق عليهم كلهم، ولا تُقَوَّم على الأول إذ قد فات ذلك فيها كالعبد بين الشريكين يعتق أحدهما جميعه، وهو موسر ثم يعتق الآخر، فقيل: إنه يعتق على الأول، ولا عتق للثاني فيه، وقيل: إنه ينفذ عتق الثاني ولا يقوم على(4/132)
الأول، ويقال أيضا: إنه يكون على الثاني للأول قيمة ثلث ولده على أنه ولد أم ولد، وللثالث قيمة ثلث ولده على أنه ولد أمة؛ إذ لم يكن وطؤه وإيلاده إلا قبل الحكم على الأول بالتقويم، فإنما وطئ أمة له ثلثها، وثلثها أم ولد للأول، وثلثها رق للثالث، ويكون على الثالث على هذا القياس قيمة ثلث ولده للأول على أنه ولد أم ولد، وقيمة ثلث ولده للثاني على أنه ولد أم ولد أيضا؛ إذ لم يكن وطؤه إلا بعد أن صار حظ كل واحد منهما أم ولد به بإيلاده إياها، وأما إذا كان الأول معدما فقوله: إنه يعتق ثلثه في الأمة، ويكون عليه ثلثا قيمة ولده للآخرين صحيح؛ لأنه لما لم تقوم عليه الأمة لعدمه، وبقي ثلثاها ملكا لشريكيه، وجب عليه لهما ثلثا قيمة ولده، وهو قول ابن القاسم، وفي كتاب محمد بن المواز أنه لا شيء عليه لشريكيه إذ قد أفاتا نصيبهما بالإيلاد من الأمة، وقد مضى هذا في رسم "يشتري الدور والمزارع" من سماع يحيى، وقوله: إن الثاني يعتق عليه ثلثه في الأمة ويكون عليه قيمة ثلث ولده للثالث، ولا يكون عليه للأول شيء؛ لأنه وطئ ثلثا حرا فيه نظر، إذ لم يطأ إلا قبل أن يحكم على الأول بعتق نصيبه، وقد قيل: إنه لا يعتق عليه، فكان القياس أن يكون عليه للأول قيمة ثلث ولده على أنه ولد أم ولد، وكذلك كان القياس أن يكون على الثالث قيمة ثلثي ولده للأول، والثاني على أنه ولد أم ولد، ولو وطئها الثاني والثالث، وهما يعلمان أن الأول قد وطئها وأولدها لوجب أن تكون أم ولد له من غير غرم يكون عليه، وبالله التوفيق.
[جارية لثلاثة إخوة تسور عليها أحدهم فوطئها فأولدها ولم يقر بولدها]
مسألة قيل لسحنون: فلو أن جارية لثلاثة إخوة تسور عليها أحدهم فوطئها فأولدها، ولم يقر بولدها، فأقام بذلك زمانا، ثم تسور عليها أيضا أحد الأخوين فأولدها، ثم أقرا جميعا بالوطء وبالولدين، هل تكون أم ولد للأول، ويعطي إخوته ثلثي قيمتها إذا كان يوم(4/133)
وطئها موسرا؟ وهل يعتق عليهما ويعطى الآخر ثلث القيمة؟ قال: تكون أم ولد للأول، وعليه ثلثا قيمتها يوم وطئها لأخويه، وعلى أخيه الثاني الذي أولدها قيمة ولده على أنه ولد أم ولد لأخيه الأول، وفيها قول غير هذا لأصحابنا، وهذا أعدل إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها تكون أم ولد، ويكون عليه ثلثا قيمتها يوم وطئها لإخوته هو مثل ما تقدم من قوله في المسألة التي قبل هذه، وكذلك قوله: وعلى أخيه الثاني الذي أولدها قيمة ولده على أنه ولد أم ولد لأخيه الأول هو مثل قوله في المسألة التي قبل هذه أيضا، وقد ذكرنا ما يدخل من الاختلاف في ذلك كله بالمعنى، وإليه أشار والله أعلم بقوله: وفيها قول غير هذا لأصحابنا، والله أعلم.
[مسألة: أمة بين رجلين ولدت ولدين مفترقين بطنا بعد بطن]
مسألة قيل لعبد الملك بن الماجشون: ما تقول في أمة بين رجلين ولدت ولدين مفترقين بطنا بعد بطن، أو في بطن واحد، فقال أحدهما لأحد الولدين: هذا ابني، وقال الآخر للآخر من الولدين: هذا ابني، فقال: انظر إلى الذي استلحق الأكبر من الولدين فألحقه به، وألزمه نصف قيمة الجارية، واجعل الآخر كأنما أصابها، وقد ولدت من شريكه فولدت من الآخر بشبهة، فالولد ولده يلحق به، وعليه قيمته لشريكه الواطئ أولا، ولهذا الآخر على الأول نصف قيمة الجارية، ويترادان الفضل بينهما، وهذا إذا كانا في بطن بعد بطن، فأما إذا كانا في بطن واحد، فاجعلهما كأنهما ولدا واحد ادعاه رجلان سيدا أمة فتنظر إليهما القافة، ولا يلحقانه أبدا إلا برجل واحد.(4/134)
قلت: فإن ألحقت القافة كل واحد من المتداعيين من ادعى واستلاط؟ قال: هو مثل ما [لو] قالا في واحد: إنه ابنهما جميعا لم يكن أبدا حتى يلحق بواحد دون واحد، فكذلك الابنان في بطن واحد لا يلحقان أبدا إلا بواحد من السيدين.
قال محمد بن رشد: قوله: فالولد ولده يلحق به، وعليه قيمته لشريكه، يريد قيمته على الرجاء والخوف، على أنه ولد أم ولد على معنى ما في المدونة، وفي المسائل التي فوق هذا ولو لم يقوم حتى مات المدعي الأول لم يكن على الثاني فيه قيمة؛ لأنه يعتق بعتق أمه، وهي أم ولد الميت تعتق بموته وقوله: إن الولدين في بطن واحد كالولد الواحد لا تلحقه القافة أبدا إلا برجل واحد نص جلي في أن الاشتراك في الولد الواحد لا يصح، ولا يعمل قول القافة فيه، ويقال لهم: ألحقوه بأنضجهما به شبها على ما حكى ابن حبيب عنه، وعن مطرف وابن نافع، فإن لم يكن على هذا القول أحدهما أكثر شبها به من صاحبه لم يحكم عليه بأنه ابن لهما، ولا كان له أن يوالي واحدا منهما، فإن مات ورثاه جميعا بالدعوى كالمدعيين في المال، وهو بأيديهما ولا بينة لواحد منهما، وإن مات أحدهما أو ماتا جميعا، لم يكن له ميراث من واحد منهما إذ لا يدرى هل هو ابنه أم لا، ولا يورث أحد من أحد بشك، وقيل: إنه يأخذ نصف ميراثه من كل واحد منهما؛ لأن المنازعة تحصل فيه بينه وبين الورثة بقوله: هو لي لأني ابنه، وبقول الورثة: هو لنا لأنك لست بابن له، فيقسم بينهما نصفين، والأول أظهر.
ووجه هذا القول إنكار عمر بن الخطاب على القافة قولهم: إنهما اشتركا في الولد وضربهم بالدرة على ذلك، وهذا هو مذهب ابن القاسم(4/135)
وروايته عن مالك: أن الاشتراك في الولد الواحد لا يصح، إلا أنه يقول: إن القافة إذا قالت: اشتركا فيه قيل له: وال أيهما شئت اتباعا، لما جاء عن عمر بن الخطاب في ذلك، فإن مات قبل أن يبلغ حد الموالاة أو ماتا هما، أو أحدهما كان الحكم في ذلك على ما تقدم، وقد قيل: إنه يصح أن يكون علوق المرأة بالولد الواحد من الرجال العدة، فعلى هذا القول إذا قالت القافة: اشتركا فيه كان ابنا لهما جميعا، ولم يوال واحدا منهما، وورث كل واحد منهما منه نصف ميراث أب، ويرث [هو من] كل واحد منهما نصف ميراث ابن.
وقد جاء عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يدل على هذا، فيلزم على قياس [هذا] القول إذا أتت بولدين في بطن واحد، وقد كانا وطآها في طهر واحد، فألحقت القافة بكل واحد منهما واحدا منهما بعينه لحق به؛ لأنه إذا جاز أن يشترك الرجلان في الولد الواحد كان أجوز أن يشتركا فيما في البطن الواحد فيكون لكل واحد منهما واحد منهما بعينه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يطأ جارية ابنه ثم وطئها الابن بعد ذلك]
مسألة قيل لعبد الملك: ما تقول في الرجل يطأ جارية ابنه، ثم وطئها الابن بعد ذلك، قال: إذا أصابها الابن بعد الأب، فقد سقطت القيمة عن الأب، وتباع فيُعطى الابن ثمنها بالغا ما بلغ، أقل من القيمة كان أو أكثر، قال أصبغ: لا يعجبني، ولكن تقوم على كل واحد منهما يوم وطئها إن اختلفت القيم، وتباع على الواطئ حين تحول، ثم يتحاسبان على ذلك، فمن كان له الفضل أخذه، ومن كان عليه النقصان أداه، وتباع ولا تقر عندهما؛ لأن القيمة(4/136)
الأولى لزمت الأب بالوطء.
قيل لعبد الملك: فلو حملت وقد أصاباها جميعا في طهر واحد؟ قال: تدعى لها القافة، فإن ألحقته بالابن عتقت عليه الجارية، وكان الولد له، قال أصبغ مثله، قال عبد الملك: وإن ألحقته بالأول، وهو الأب فالولد له، والأمة منه بالقيمة إن كان المتعدي فيها، وليست له، وإن كان الذي هي له فالولد له، وله القيمة على ابنه بإتلافها عليه وبطلانها كقتله إياها لو قتلها، وإن ألحقته بالثاني فالولد له، وينظر فإن كان الابن الذي هو مالكها تحاسبا بالقيمتين، وإن كان هو الأب المتعدي غرم قيمتها للابن على كل حال بفساده إياها.
قال محمد بن رشد: أما إذا وطئ الأب جارية ابنه، ثم وطئها الابن بعد ذلك فقول ابن الماجشون صحيح إن كان الابن قد وطئ جاريته قبل أن يطأها الأب، وقول أصبغ صحيح إن كان الأب لم يطأها قبل ذلك؛ لأن الأب إذا وطئ جارية ابنه بعد أن وطئها الابن، فمن حق الابن أن يقومها عليه؛ لأنه حرمها عليه، فإن قومها عليه بيعت عليه، إذ لا يؤتمن عليها من أجل أنه وطئها وهي حرمة له بوطء ابنه إياها، وإن أراد الابن أن يتمسك بجاريته للاستخدام والخدمة، ولا يقومها على أبيه فذلك له، فإذا وطئ الأب جارية ابنه، وقد وطئها الابن، ثم وطئها الابن بعد أن وطئها أبوه، وكان وطؤه إياها رضى منه بترك تضمين أبيه، ووجب أن تباع عليه إذ لا يؤتمن عليها من أجل أنه قد وطئها، وهي حرمة له بوطء أبيه إياها كما قال ابن الماجشون، وذلك إذا وطئ الأب جارية ابنه قبل أن يطأها الابن، فقد وجب أن تقوم على الأب شاء أو أبى، ولا خيار في ذلك لواحد منهما، وإن رضيا جميعا بترك تقويمها على الأب لم يجز ذلك؛ لأن الأمر يؤول إلى أنه كأنه حللها له، فإذا قومت عليه كانت أمة له، وحل له وطؤها إذ لم يتقدم للابن فيها وطء، فإذا وطئ الأب جارية ابنه قبل أن يطأها الابن، ثم وطئها الابن بعد أن وطئها أبوه وجب أن تقوم على الأب للابن؛ لأنه أفسدها عليه بوطئه إياها أولا، ووجب أيضا أن تقوم على الابن للأب؛ لأنه أفسدها عليه بوطئه إياها آخرا، إذ لو لم يطأها(4/137)
لقومت على الأب وحلت له، ولم يكن لواحد منهما في ذلك خيار، ويتحاسبان في ذلك، فمن كان له فضل منهما على صاحبه رجع به عليه، وتباع على الابن الذي قومت عليه آخرا حين يحول أي حين يتبين أنه ليس بها حمل من أجل أنه لا يؤتمن عليها إذ قد وطئها، وهي حرمة له بما تقدم من وطء أبيه إياها كما قال أصبغ، فالمعنى في هذا أن ابن الماجشون تكلم على أن الابن قد كان وطئ جاريته قبل أن يطأها الأب، وتأول عليه أصبغ: أنه إذا تكلم على أن الابن لم يكن وطئ جاريته حتى وطئها الأب، ولذلك قال لا يعجبني قوله، ولكن يقوم على كل واحد منهما، ومما يصحح هذا الذي قلناه: أن ابن الماجشون قد قال في آخر المسألة مثل قول أصبغ إنها تقوم على كل واحد منهما، فيتحاسبان في القيمتين إذا وطئها الأب، ثم وطئها الابن في ذلك الطهر وهي له فاتت بولد وألحقته به القافة؛ لأن المعنى في ذلك أن الابن لم يكن تقدم له فيها وطء قبل الوطء يريد، وتعتق عليه إذ لا يستطيع وطأها أبدا لوطء أبيه إياها، وهو لا يملك منها إلا الوطء؛ لكونها أم ولد له، ولو كان [الابن] يطؤها وهي جاريته، ثم وطئها بعد ذلك في طهر واحد الأب، ثم الابن فأتت بولد وألحقته القافة بالابن لعتقت على الابن، ولم يكن على الأب فيها قيمة؛ لأن وطأه إياها بعد أن وطئها أبوه رضي منه بإسقاط القيمة عنه على ما قال في أول المسألة إذ لم تحمل حيث قال أصبغ: إنه قال: لا يعجبني قوله، وقد بينا أن قوله ليس بخلاف لقوله، وإن كل واحد منهما تكلم على ما لم يتكلم عليه صاحبه، ولو ألحقت القافة الولد بالأب الذي ليست الجارية له لكانت أم ولد له ولزمته فيها القيمة لابنه؛ لإفساده إياها عليه وعجل عليه عتقها، إذ لا سبيل له إلى وطئها سواء كان وطء الأب قبل الابن أو بعده،(4/138)
كان تقدم للابن فيها وطء أو لم يتقدم، وإنما يفترق ذلك إذا ألحقت القافة الولد بالابن حسبما بيناه.
[مسألة: رجلين وطآ أمة في طهر واحد فحملت في ذلك الطهر فولدت ولدا ومات]
مسألة وسئل سحنون: عن رجلين وطآ أمة في طهر واحد، فحملت في ذلك الطهر فولدت ولدا، فمات ذلك الولد قبل أن تدعى له القافة، قال: تعتق الجارية منهما.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الجارية تعتق منهما صحيح؛ لأن الولد إذا مات قبل أن تدعى له القافة فيحمل محمل الاشتراك فيها وفي ولدها بمنزلة إذا قالت القافة إنهما اشتركا فيه، فيرثانه جميعا إن كان له مال وهب له، وتصير الأمة قد صارت في حكم أم ولد لهما جميعا فتعتق عليهما جميعا، إذ لا يحل لواحد منهما وطؤها بالملك أبدا، ولم يكن لهما فيها سوى ذلك، وهذا إذا أتت بالولد لأكثر من ستة أشهر من يوم وطئها الآخر، ولأقل من أقصى ما يلحق به الولد من يوم وطئها الأول، فإن أتت به لأقل من ستة أشهر من يوم وطئها الآخر فهو للأول، والأمة أم ولد له، وعليه نصف قيمتها لشريكه إن كانت بينهما بنصفين، وإن أتت به لأكثر من أقصى ما يلحق به الولد من يوم وطئها الأول وذلك خمسة أعوام على المشهور من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك فهو للثاني، والأول منه بريء فتكون أم ولد للثاني ويكون عليه نصف قيمتها للأول.
[مسألة: رجل توفي وترك جاريته وابنين من غيرها ثم ظهر بالجارية حمل]
مسألة قيل لسحنون: فرجل توفي وترك جاريته وابنين من غيرها، ثم ظهر بالجارية حمل بعد موت السيد، فولدت بعد موته بمثل ما يكون لغيره، فادعى أحد الأخوين أنه وطئ الجارية، وأن هذا(4/139)
الولد منه، وادعى الآخر أن هذا الولد من أبيه الميت، وقال: هو أخونا. قال سحنون: إن كان سيدها الميت كان يطؤها، فالولد يلحق بالسيد، ولا يقبل قول الأخ الذي قال: هو ولدي، وإن كان السيد لم [يكن] يطؤها، فالولد يلحق بهذا الأخ المدعي له، ولا يقبل قول أخيه الذي قال: هو من أبي، وعلى الواطئ أن يغرم لأخيه نصف قيمتها، وإن شكوا فلم يدروا أن أباهم كان يطأ أو لا يطأ، فالقول في ذلك قول المدعي للولد، وعليه نصف القيمة لأخيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال إنه إذا علم أن سيدها الميت كان يطؤها، فالولد له ولا يقبل دعوى المدعي فيه؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» لأن فراش السيد الميت صحيح، والمدعي يدعي الولد بوطء غير صحيح إلا أن له فيه شبهة يدرأ الحد عنه بها، وهذا إذا أتت بالولد لما يلحق الأنساب من الميت، فإذا أتت به لأكثر من ذلك، فهو للمدعي وعليه نصف القيمة لأخيه، وأما إن كان السيد الميت لا يطأ أو جهل حاله، فيلحق الولد بالمدعي كما قال، إذ لا يجوز أن يلحق بالميت ولو لم يقر به، ولا علم أن أمه كانت فراشا له.
[مسألة: جارية بين رجلين تسور عليها أحدهما فأولدها]
مسألة وسئل سحنون: عن جارية بين رجلين تسور عليها أحدهما فأولدها، فقال الشريك غير الواطئ: قد كنت أعتقت مصابتي منها قبل أن يطأها، فصدقه الواطئ وقال: قد كان أعتقها قبل ذلك، هل تعتق عليهما جميعا؟ أم تكون أم ولد للواطئ، وعليه نصف قيمتها لشريكه؟ قال سحنون: تعتق عليهما جميعا ولا يكون على الواطئ(4/140)
شيء، ويلحق به النسب، وعليه الأدب إلا أن يعذر بالجهالة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الشريك لما قال: إنه أعتق حظه قبل وطء شريكه، فقد أقر أنه لا شيء له على الواطئ في وطئه الأمة وإيلادها، وقد كان للواطئ أن لا يصدقه فيما ادعى من عتق حظه قبل ذلك لما يوجبه له الحكم من أن تقوم عليه الجارية، فتكون أم ولد له، فلما صدقه لم يكن له إلى التقويم سبيل، وأعتق عليه حظه في الأمة إذ لا يستطيع أن يطأها، ونصفها أم ولد له، ونصفها حر، ولو لم يصدقه لم يصدق؛ لأنه إنما أراد أن يفسدها عليه وقومت عليه فصارت أم ولد له، إلا أن لا يكون له مال فيصدق الشريك في أنه قد كان أعتق حظه، ويعتق أيضا نصيب الواطئ؛ لأنه إنما كان له فيها الاستمتاع، فقد انقطع ذلك بعتق شريكه حظه، قال هذا ابن القاسم في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب العتق، وهو تتميم لقول سحنون هنا، وإذا قوم عليه نصيب شريكه على قوله، فتكون القيمة موقوفة لا يأخذها إلا أن يكذب نفسه.
وقول سحنون: ولا يكون على الواطئ شيء يريد لشريكه لا في الولد، ولا في الأمة إذ قد أقر أنها حرة من قبل أن يطأها، ولا للأمة في وطئه إياها إن كانت طاوعته في ذلك، وإن كان استكرهها كان عليه نصف ما نقص ذلك من ثمنها إن نقص، قال ذلك في كتاب القذف من المدونة وغيره، واختلف قول ابن القاسم في عكس هذه المسألة، وهي الأمة تكون بين الرجلين، ولها ولد هو بينهما فيعتق أحدهما نصيبه من الأمة، ويستلحق الأخر الولد، فقال ابن القاسم في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب العتق: يلحق به الولد، ويكون عليه نصف قيمته لصاحبه، ويعتق نصيبه في الأمة إذ لا سبيل له إلى وطئها وبعضها حر، وقال في كتاب ابن حبيب: لا قيمة عليه في الولد ولا في الأمة؛ لأن إقراره بأن الولد له لو علم منه قبل العتق لم يكن عليه في الولد قيمة، وإنما كانت تكون عليه نصف قيمة الأمة، فلما لم يعلم ذلك منه إلا بعد العتق سقطت عنه القيمة في الأمة وبالله التوفيق.(4/141)
[مسألة: الرجل يموت ويقول جاريتي حامل وتقول الجارية ما أنا بحامل]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يموت ويقول: جاريتي حامل، وتقول الجارية: ما أنا بحامل، هل يقبل قولها؟ قال: تستبرأ إن كانت حاملا، قيل له: فإن جاءت بولد بعدما استبرئت؟ فقال: إن جاءت بولد بعد موت سيدها لخمس سنين فهو للسيد؛ لأنه أقر أن ماءه فيها ما لم تتزوج، فإن تزوجت، فأتت بولد لستة أشهر فأكثر فهو للزوج، وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر بعدما تزوجت فهو للسيد.
قال محمد بن رشد: قوله تستبرأ يريد بحيضة؛ لأنها من الإماء، فإن حاضت لم تمنع من النكاح، وكذلك إن لم تحض فبقيت ثلاثة أشهر، ولم تظهر بها ريبة ولا حمل، أو تسعة أشهر على اختلاف قول مالك في ذلك لا المدونة وغيرها، وقد مضى القول فيه في رسم استأذن من سماع عيسى، ورسم الدور والمزارع من سماع يحيى، فإن لم تتزوج، وأتت بولد لحق بالسيد إلى ما تلحق به الأنساب، وإن أقرت أنه ليس منه، وإن كان ذلك بعد الاستبراء إذ قد ترى المرأة الدم على الحمل، وقد يضعف الولد في البطن، فلا تتبين المدة الطويلة، وهذا ما لا اختلاف فيه، إذ قد أقر السيد أنها حامل منه، ولو لم يقر السيد بذلك، ولا ادعاه إلا أنه علم أنه كان يطؤها فأقرت أنها حاضت، واستبرأت نفسها، وأنه لا حمل بها ثم أتت بعد ذلك بولد لما يلحق به الأنساب، فادعت أنه من سيدها لجرى ذلك على الاختلاف في التي تطلق أو يتوفى عنها زوجها، فتقر بانقضاء عدتها على وجهها، وأنه لا حمل بها مدة ثم(4/142)
يظهر بها حمل، فتريد أن تلحقه بزوجها فيما دون الخمسة الأعوام، فقيل ذلك لها، وهو الذي في كتاب طلاق السنة من المدونة، وقيل: ليس ذلك لها، وتحد ولا يلحق الولد بالزوج إذا جاء من ذلك الأمر البين، مثل أن تعتد في الوفاة أربعة أشهر وعشرا، وتحيض حيضة، وتقيم اثني عشر شهرا ونحوها لا حمل بها، ثم تأتي بحمل، وتزعم أنه من زوجها، وهو قول ابن دينار وعيسى عن ابن القاسم في المدنية.
[مسألة: اشترى جارية فأولدها ثم استحقها رجل فدفعها إليه الذي أولدها]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل اشترى جارية، فأولدها ثم استحقها رجل، فدفعها إليه الذي أولدها، ثم اشتراها منه بعد ذلك، هل تكون الجارية عنده أم ولد، أم لا حتى يولدها بعد الاستبراء؟ فقال: إن كان دفعها إليه بقضاء قاض، ثم استبرأها فإنها لا تكون له أم ولد حتى يولدها فيما يستقبل، وإن كان دفعها إليه صلحا منه على غير قضاء قاض، ثم اشتراها فإنها تكون عنده أم ولد بملكه الأول حين أولدها [فيه] .
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنها قد وجبت لها حرمة الإيلاد، فوجب أن لا ينقض إلا بحكم حاكم؛ لأنه يتهم على إبطال ما وجب لها من الحرمة بأن يصدق المستحق لها فيما ادعاه من الباطل، ويعمل معه على أن يشتريها منه لينقض بذلك حرمتها، وذلك ما لا يجوز له، وبالله التوفيق.
[مسألة: الجارية تواضع للاستبراء فيذهب الثمن في أيام الاستبراء]
مسألة وسئل عن الجارية تواضع للاستبراء فيذهب الثمن في أيام(4/143)
الاستبراء، وتخرج هي وبها عيب أو تموت، فقال: أشهب وابن القاسم يقولان: إن أحب أخذها، أخذها بالثمن التالف ولم يكن عليه غيره، وزعم غيرهما: أن ذلك ليس له إلا أن يغرم الثمن، وقد قيل أيضا: إن البيع يفسخ، وذكر مالك أن الثمن من المبتاع.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم [مستوفى] فلا معنى لإعادته مرة أخرى [هنا] .
[مسألة: ابتعت جارية بيع المسلمين وعهدتهم ثم بعتها بالبراءة فهل ترد علي هذا البيع]
مسألة قال سحنون: بلغني أن مالكا سئل فقيل له: إني ابتعت جارية بيع المسلمين وعهدتهم، ثم بعتها بالبراءة، فهل ترد علي هذا البيع؟ فقال: لا ترد عليه، ولكنني أكرهه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع أشهب في أوله وأخره من كتاب العيوب، فهو موضعها لمن أحب الوقوف عليها.
[مسألة: الرجل يشتري الجارية فيتواضعها للاستبراء]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يشتري الجارية فيتواضعها للاستبراء، فقال البائع: هلم الثمن، فواضعه على يدي رجل، فقال مالك: ليس ذلك عليه، وإنما يدفع الثمن إذا وجبت له الجارية.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في أول رسم من(4/144)
سماع ابن القاسم، ومضى هناك من القول عليها ما فيه كفاية لمن أحب الوقوف عليها.
[مسألة: يشتري الجارية ويقول لبائعها أحبسها عندك حتى أعطيك الثمن]
مسألة قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن الرجل يشتري الجارية من الرجل، فيقول لبائعها: أحبسها عندك حتى أعطيك الثمن أو كان البائع نفسه هو الذي أبى أن يدفعها إلى المبتاع حتى يقبض الثمن، ثم وطئها البائع فحملت منه، [فقال ابن القاسم: إذا كان البائع هو الذي احتبسها حتى يقبض الثمن ثم وطئها البائع فحملت منه] فلا حد عليه للشبهة التي فيها، ويأخذ المشتري جاريته، ويكون على البائع قيمة الولد، وإن كان البائع هو الذي أمكنه منها فاقرها مشتريها عنده فوطئها البائع بعد استبراء رحمها، فأرى أن يحد على كل حال، وهو رأيي، وإن كان لم يستبر رحمها، وقد كان يطؤها رأيت أن يدرأ عنه الحد؛ لأني لا أدري لعل هذا الحمل قد كان قبل ذلك الوطء، ورأيتها أم ولد له، ويعاقب عقوبة موجعة، ورواها أصبغ عن ابن القاسم، قال سحنون: وإن كانت من وخش الرقيق ومنعه البائع قبضها حتى يأتيه بالثمن، فوطئها البائع فأولدها كانت له أم ولد؛ لأن مصيبها كانت منه، وعتقه فيها جائز إذا احتبسها للثمن، وكذلك يقول جميع أصحابنا إن المصيبة منه إلا(4/145)
ابن القاسم وحده كان يقول: هي من المشتري، وإن كان تركها عنده المبتاع على وجه الوديعة، ولم يمنع من قبضها فإن الحد عليه، ولا يلحق به الولد؛ لأن مصيبتها من المبتاع.
قال محمد بن رشد: تحصيل القول في هذه المسألة أن الأمة المبيعة إن بقيت بيد البائع، فوطئها بعد البيع قبل الاستبراء وقد كان المبتاع ائتمنه على استبرائها، وهي ممن تجب مواضعتها لرفعتها، ولأن البائع كان يطؤها، فإنها تكون أم ولد له ويبطل البيع، وإن كان وطؤه إياها بعد أن استبرأها بائتمان المبتاع له على استبرائها، أو كانت من وخش الرقيق التي لا مواضعة فيها، وقد انتقد فإنه يحد، ولا يلحق به الولد، وتكون الأمة وولدها للمبتاع، واختلف إن كان لم ينتقد، فوطئها وهي عنده محبوسة بالثمن، فقال ابن القاسم: يدرأ عنه الحد بالشبهة، ويأخذ المشتري جاريته، ويكون على البائع قيمة الولد، وقال سحنون: تكون أم ولد له ويبطل البيع، وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب العيوب تحصيل الاختلاف فيما تدخل به السلعة المبيعة في ضمان المبتاع كانت محبوسة بالثمن أو لم تكن، فلا معنى لإعادته [هنا] .
[بيع أم ولد العبد الحامل]
من سماع أصبغ بن الفرج قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في أم ولد العبد تكون حاملا: إنها لا تباع لغرمائه حتى تضع ما في بطنها؛ لأن ما في بطنها مال من مال سيده، ولا يجوز بيعها، ولا استثناؤها وإن(4/146)
العبد، وإن لم يكن عليه دين إذا أذن له سيده في بيعها باعها، وإن كانت حاملا، وقال أصبغ: وقال: وإن علم السيد بالحمل أو لم يعلم إذا أذن له بالبيع منهما فهو إذن، وهو جائز، وهو البيع.
قال محمد بن رشد: قوله: إن أم ولد العبد إذا كانت لا تباع لغرمائه حتى تضع ما في بطنها يريد إلا بإذن السيد، وكذلك لا يبيعها هو في دينه إذا كانت حاملا إلا بإذن سيده الذي الحمل له؛ لأن ولده من أمته، ومن أم ولده ملك لسيده بمنزلة من لا ملك له، وإذا لم تكن حاملا جاز له أن يبيعها في دينه بغير إذن سيده، قاله في المدونة، فإن فعل، ثم ظهر أنها كانت حاملا كان للسيد أن يفسخ البيع، قاله بعض شيوخ صقلية، وقال بعضهم ليس ذلك له؛ لأن البيع وقع بأمر جائز، فلا يرد، والبيع الأول هو الصحيح؛ لأن الحمل الذي ظهر بها ملك للسيد، فلا يمضي بيعه في دين العبد إلا برضاه، فعلى هذا لا بد في بيعها من المواضعة رفيعة كانت أو وضيعة؛ لأنه متى ظهر بها حمل كان للسيد فسخ البيع، وعلى القول الثاني لا مواضعة فيها إلا أن تكون رفيعة؛ لأنه إذا لم يكن للسيد فسخ البيع إن ظهر بها حمل صار حكمها حكم من باع أمة لم يطأها؛ لأن الحمل فيها عيب بها يكون المبتاع بالخيار بين أن يأخذ أو يرد، وليس له أن يبيعها في غير الدين إلا بإذن سيده، قاله في المدونة أيضا، قيل مراعاة لقول من يقول: إنها تكون أم ولد له إذا أعتق على أصل قول مالك في أن العبد إذا ملك ابنه لم يكن له أن يبيعه إلا بإذن سيده من أجل أنه يعتق عليه إن عتق، وقيل: مخافة أن تكون حاملا، والأول أظهر، وهو الصحيح؛ لأنه لا يبيعها حتى يستبريها، فإن باعها قبل أن يستبريها فلا بد فيها من المواضعة، فإن ألفيت حاملا كان للسيد فسخ البيع، ألا ترى أنه يجوز له أن يبيع أمته، وإن كان يطؤها دون إذن السيد، إذ لا بد فيها من المواضعة من أجل حق السيد في ولدها إن لم يسبرها قبل البيع، وإن أذن له(4/147)
السيد في أن يبيع أم ولده، أو أمة له كان يطؤها جاز ذلك عليه ولزمه، وإن ظهر بها حمل لم يكن علم به على ما قاله أصبغ في هذه الرواية، والوجه في ذلك أنها محمولة على أنها حامل؛ لأن جل النساء على الحمل كما قال مالك، فإذا أذن له في بيعها، فقد ترك حقه في الولد للمشتري إن ظهر بها حمل، فإن ردها المشتري بعيب حملها، فعلى القول بأن الرد بالعيب نقض بيع يكون الولد للسيد على ما كان، وعلى القول بأنه ابتداء بيع يكون الولد للعبد، وتباع عليه في الدين، وإن لم يكن عليه دين لم يكن له أن يبيعه إلا بإذن سيده على ما قال في المدونة في العبد يشتري ولده، فإن باع أم ولده بغير إذن سيده مضى البيع، ولم يرد، روى ذلك أصبغ عن ابن القاسم، وهو صحيح؛ لأن مراعاة الخلاف إنما يكون في الابتداء دون الانتهاء، ولو باع ولده في غير الدين بغير إذن سيده لوجب أن يرد البيع إذ لا اختلاف في أنه يعتق عليه إذا أعتق.
[مسألة: يطأ الجارية ثم يبيعها فيطؤها المشتري في ذلك الطهر قبل أن يستبرئها]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل يطأ الجارية، ثم يبيعها فيطؤها المشتري في ذلك الطهر قبل أن يستبرئها، فيظهر بها حمل فتموت قبل أن تضع ممن هي؟ قال ابن القاسم: إذا ظهر بها حمل، ثم ماتت قبل أن تضع فمصيبتها من البائع، وسواء طاولها في ذلك حملها، أو لم يطاولها إذا ماتت قبل أن تضع، ويرجع المبتاع في ماله، فيأخذه ويعاقبه في فعله إلا أن يعذر بالجهالة.
قلت: فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من يوم وطئها المشتري؟ قال فمصيبتها أيضا من البائع كان سقطا، أو تماما أو حيا أو ميتا، والولد ولده، وهي أم ولد له، فإن وضعته لستة أشهر من يوم وطئها المبتاع أو مقدار نقصانها بالأهلة فصاعدا تقارب الوطآن في ذلك أو لم يتقاربا أو وطئ هذا اليوم وهذا غدا، فهي من(4/148)
المبتاع، وهي أم ولده، والولد منه إذا وضعته سقطا كان أو تماما إذا كان ميتا، ولا أرى القافة في الأموات ولا أراهم يعرفون ذلك ولا أراهم، وإن وضعته حيا لستة أشهر من يوم وطئ الآخر فصاعدا دعي له القافة، فمن ألحقوه به منهما الحق به، وكان ولده ينسب إليه، وكانت أمه أم ولد منه وعوقبا إلا أن يعذرا بالجهالة.
قلت: فإن قالت القافة: اشتركا فيه ما يكون حالها؟ قال ابن القاسم: إذا قالت القافة: اشتركا فيه عتقت عليهما جميعا ساعتئذ مكانها؛ لأنهما قد اشتركا فيها جميعا وفي ولدها، فصارت أم ولدهما جميعا، فلا يحل وطؤها لواحد منهما بملك أبدا، وإنما كان فيها الاستمتاع فقد انقطعت المتعة فيها عنهما، فلا توقف عليهما وهي حرة ساعتئذ، وأما الولد فيترك حتى يبلغ فيوالي من شاء.
قلت: فإن مات الصبي قبل أن يبلغ، فيوالي من شاء من يرثه؟ قال: يرثانه جميعا؛ لأنهما جميعا أبواه أبدا لشركتهما فيه حتى يبلغ فتتبع فيه قضية عمر بن الخطاب وسنته، فيوالي من شاء فينسب إليه ويوارثه دون الآخر.
قلت: فإن مات الأبوان جميعا قبل أن يبلغ؟ قال: يوقف له ميراثه منهما جميعا حتى يبلغ فيوالي من شاء منهما، فيرثه وينتسب إليه دون الآخر، ويرد ما وقف له من ميراث الآخر إلى ورثته.
قلت: فإن مات أحدهما قال كذلك [أيضا] يوقف له ميراثه منه حتى يبلغ، فإن والى الميت أخذ ميراثه منه، وإن والى الحي رد ميراث الميت إلى ورثته.(4/149)
قلت: فإن مات الصبي بعد موت أحدهما، وقد وقف له ميراثه منه، والأب الآخر حي؟ قال: فميراث الصبي للأب الباقي، وليس للأب الميت، ولا لورثته منه شيء، ويرد ما كان وقف للصبي من ميراث الأب الميت إلى ورثة الميت، ولا يجب للصبي بموته حتى يرثه الأب الباقي، فيكون هذا الحي قد ورث الميت الأول، فهذا لا يكون، ولو رأيت أن ميراث الأول يجب للصبي إذا مات لأدخلت ورثة الميت الأول مع الأب الباقي في ميراث الصبي، فورثوه جميعا، فهذا ليس بشيء، هذا والذي لا شك فيه أن ميراث الصبي إذا مات بعد موت أحدهما للباقي وحده لا شرك معه فيه لأحد إلا الأم وحدها.
قلت: أرأيت إن مات الأبوان جميعا، ثم مات الصبي؟ قال ابن القاسم: إذا ماتا جميعا، فوقف له ميراثه منهما جميعا حتى يبلغ الصبي، فإن مات قبل أن يبلغ رد ميراثهما إلى من ورثهما دونه، ولم يجب للصبي منه شيء بموته بمنزلة موته بعد موت أحدهما، وكان ميراث الصبي لمن يرثه من قبل الأبوين جميعا؛ لأقعد الناس به من ورثتهما جميعا لكل قوم نصف الميراث في رأي يقتسمونه على الفرائض على قعددهم بالصبي على سهام الميراث بينهم.
قيل لعيسى بن دينار: فمن ينفق على هذا الصبي ويكسوه حتى يبلغ حد الموالاة؟ فقال الأبوان جميعا، قيل له: فإذا بلغ فوالى أحدهما هل يغرم لصاحبه الذي لم يواله ما أنفق عليه؟ قال: لا.
قال أصبغ: النفقة على المشتري حتى يبلغ، فإن والاه فبسبيل ذلك، وإن والى البائع رجع عليه بالنفقة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في أول هذه المسألة إن الرجل إذا وطئ الجارية، ثم باعها فوطئها المشتري في ذلك الطهر قبل الاستبراء فظهر(4/150)
بها حمل، فماتت قبل أن تضع إن مصيبتها من البائع طاولها حملها أو لم يطاولها، ويرجع المبتاع في ماله فيأخذه معناه ما بينه وبين ما يلحق به الأنساب؛ لأن الحمل إن تطاول بها أكثر من خمسة أعوام، ثم ماتت فمصيبتها من المبتاع إذ قد علم أن الحمل ليس من البائع؛ وكذلك إن وضعته لأقل من ستة أشهر من يوم وطئها المشتري حيا أو ميتا تاما أو ناقصا، فمصيبتها من البائع أيضا، والولد ولده، وهي أم ولده؛ لأنه إن كانت وضعته تاما حيا أو ميتا، فالمشتري بريء منه، إذ لا يكون الحمل أقل من ستة أشهر، وإن كانت وضعته ناقصا، وأمكن أن يكون من المشتري فهو محمول على أنه من البائع؛ لأنه باعها ورحمها مشغول بمائه فالولد له، وهي باقية على ضمانه حتى يعلم خلاف ذلك، وأما إن وضعته لستة أشهر أو مقدار ما ينقص بالأهلة من يوم وطئها المبتاع إن افترق وطؤها تقارب الوطآن أو لم يتقاربا أو من يوم وطآها إن كان وطؤهما إياها في يوم واحد، وهو ميت أو سقط، فقال في الرواية: إنها من المبتاع، والولد منه، وهي أم ولد له، وقال يحيى بن سعيد في المدونة: إنها تعتق عليهما جميعا، والأظهر أن يحمل الولد على أنه من البائع، وتكون الأمة أم ولد له؛ لأنه باعها وماؤه فيها، فالضمان منه لا ينتقل عنه إلا بيقين، وليس وضعها إياه لستة أشهر مما يحقق أنه من المشتري، وأما إن وضعته حيا لستة أشهر أو مقدار نقصها بالأهلة، فتدعى له القافة، وقد قيل: إنه لا تدعى [له] القافة إلا أن تضعه لستة أشهر كاملة فأكثر، فإن نقص من ذلك يسيرا، أو أكثر فهو من البائع، والأشبه أن لا يعتبر نقصان اليوم واليومين في ستة أشهر، ألا ترى لو تزوج رجل امرأة، فأتت بولد بعد دخوله بها بستة أشهر إلا يوما أو يومين لم يصح أن تحد.(4/151)
وتحصيل القول في هذه المسألة: أن المشتري إذ وطئ الأمة التي اشتراها قبل الاستبراء فحملت وماتت قبل أن تضع فمصيبتها منه إلا أن يكون البائع يطؤها إلى أن باعها، فتكون مصيبتها منه وينقض البيع، فإن لم تمت ووضعته لأقل من ستة أشهر، والبائع يطأ فالولد ولده والأمة أم ولده، سقطا كان الولد أو تماما، حيا كان أو ميتا، وإن لم يكن البائع يطأ، فالولد ولد الأمة لا أب له، والمشتري بالخيار إن شاء أن يأخذ، وإن شاء رد إلا أن تكون وضعته سقطا يشبه أن يكون من المشتري، فيكون منه، وتكون الأمة أم ولد له، وإن وضعته لستة أشهر فأكثر والبائع يطأ، وولدته حيا دعي له القافة، فمن ألحقوه به منهما ألحق به، وكانت الأمة أم ولد له، إلا أن يدعيا الولد جميعا، فتعتق الأمة عليهما ويرجع المشتري بنصف الثمن على البائع، واختلف إن وضعته ميتا أو سقطا، فقال ابن القاسم في هذه الرواية: إنه من المبتاع، وإن الأمة أم ولد له، وقال يحيى بن سعيد في المدونة تعتق عليهما جميعا، والأظهر أن يلحق الولد بالبائع، وتكون الأمة أم ولد له، وقد قيل: إنه يلحق بالبائع، وتكون الأمة أم ولد له، وإن ولدته حيا ولا تدعى له القافة؛ لأن فراش الأول صحيح، وفراش الثاني فاسد، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وقد أجمعوا لهذا الحديث أن الزوجين إذا وطآ المرأة في طهر واحد أن الولد للأول، وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر لصحة فراشه، ولا فرق بين الموضعين في القياس.
وإن لم يكن البائع يطأ، فالأمة أم ولد للمبتاع وولدها لاحق به، وقد مضى في أول نوازل سحنون القول مستوفى في الحكم في ميراثه منهما وميراثهما منه إذا أتت به حيا لأكثر من ستة أشهر، وقالت القافة: إنهما اشتركا فيه في الجارية بين الشريكين، ولا فرق في هذا بين المسألتين، فلا معنى لإعادة القول في ذلك، وأما كسوته والنفقة عليه إلى أن يبلغ حد الموالاة إذا قالت القافة: إنهما اشتركا فيه فقول عيسى بن دينار أنهما ينفقان عليه جميعا، فإذا مات أحدهما أنفق على الصبي مما وقف له من ميراثه منه نصف نفقته ونصفها على الحي، وقيل لا(4/152)
ينفق عليه منه؛ لأنه إنما يأخذه بعد الموالاة، وهو الذي يأتي أيضا على قول ابن القاسم في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الدعوى، والصلح في العبد الذي يدعيه الرجلان فيوقف إن النفقة عليهما جميعا، وهذا إذا ادعياه جميعا أو أنكراه جميعا أو لم يدعه واحد منهما، ولا أنكره وقال: لا أدري إن كان لي أم لا، وأما إن ادعاه أحدهما، وأنكره الآخر، فالذي يأتي على مذهب من قال بالموالاة، ولم يعمل قول القافة إنهما اشتركا فيه أن تكون النفقة على الذي يدعيه منهما إلى أن يبلغ حد الموالاة، فيوالي من أحب منهما فيلحق به، وإن كان الذي أنكره فتكون النفقة عليه من حينئذ، وأما على مذهب من أعمل قول القافة إنهما اشتركا فيه، ورأى أنه يصح أن يكون علوق المرأة بالولد من الرجلين، ولم يقل بالموالاة، فالنفقة عليهما جميعا، وإن كان أحدهما مقرا به والآخر منكرا له.
وقول عيسى: إنه لا يرجع الذي لم يواله على الذي والاه بشيء من النفقة بخلاف المدعيين في العبد يوقف، فينفقان عليه جميعا، ثم يقضى به لأحدهما، ووجهه أن القضاء بالموالاة ليس بأمر متفق عليه، وإنما هو استحسان على غير قياس، واتباع لما جاء عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ذلك.
وأما قول أصبغ إن النفقة على المشتري حتى يبلغ، فإن والاه فبسبيل ذلك، وإن والى البائع رجع عليه بالنفقة، فقاله على أصله في العبد يدعيه الرجل، فيوقف بما يجب توقيفه به أن النفقة على الذي هو بيده حتى يقضى به للطالب، فإن قضي له به رجع عليه بالنفقة، ولو قيل في هذه المسألة: إن النفقة على البائع ما لم يوال المشتري فيحكم بإلحاقه به مراعاة لقول من قال: إن الولد يلحق بالبائع على كل حال لصحة فراشه ولا يدعى للولد القافة على ما تقدم لكان أشبه من قول أصبغ.
[مسألة: ثلاثة نفر حر وعبد ونصراني وطئوا جارية مسلمة فحملت]
مسألة قيل لأصبغ: فلو أنهم ثلاثة نفر وطئوها في طهر واحد: حر(4/153)
مسلم، وعبد، ونصراني فحملت الأمة، والأمة مسلمة؟ فقال: إن قالت القافة: اشتركوا فيها فإنها تعتق على المسلم والنصراني، ولا تعتق على العبد، ويكون للعبد قيمة نصيبه عليهما جميعا، وإنما ألزمنا النصراني العتق؛ لأنه حكم وقع بين مسلم ونصراني، ولو كانت الأمة نصرانية عتق جميعها على الحر المسلم، وقوم عليه نصيب العبد والنصراني.
قال محمد بن رشد: قد تقدم قول أصبغ هذا في آخر أول مسألة من نوازل سحنون، ومضى من الكلام عليه ما فيه كفاية.
[مسألة: ثلاثة نفر وطئوا جارية في طهر واحد وقالت القافة إنه ليس لواحد منهم]
مسألة قلت لأصبغ؛ أرأيت إن قالت القافة: ليس هو لواحد منهما ما حال الولد وأمه؟ هل يكونان مملوكين؟ وكيف إن ادعاه أحدهم والمسألة على وجهها؟ قال أصبغ: أما الذي أنكرته القافة، فأرى أن يدفع إلى قافة بعد قافة، وتطلب له القافات حتى تجتهد في ذلك فرب قافة أبصر من قافة، وقافة فوق قافة حتى إذا استكمل، واستوى كلام القافات، رأيت إن كان الآباء مقرين جميعا كما ذكرت بالوطء في طهر واحد أن يحمل محمل الاشتراك، فيوالي من شاء، وتكون أمه تبعا له، ادعياه أو لم يدعياه، فإذا أقروا بالوطء في الطهر الواحد كان الوضع لستة أشهر فصاعدا إن شاء الله، ولا يبطل نسبه هكذا وهما مقران به، وثم لهما فراشان، وأما ما ذكرت(4/154)
من دعوى أحدهما إياه وإنكار الآخر، فإن صح الوطء عليهما في الطهر الواحد المقارب الذي لا يمكن الخروج لأحدهما منه في ولادته قبل وقته كشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به، فإن كان في صفته ما يمكن فيه الإنزال لم ألتفت إلى إنكاره وجعلته كالأول كأنهما اشتركا فيه، وإن لم يكن في صفة وطئه وإقراره ما يمكن ذلك، وكان يدعي الخلسة بالعزل من الوطء الذي أقر به، فإنني أستحسن ههنا أن أجعله للآخر، وأبوئه منه استحسانا، والقياس أن يكونا سواء، فلعله غلب ولا يدري، وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا: إن الوكاء ينفلت، والاستحسان في العلم يكون أغلب من القياس، وقد سمعت ابن القاسم يقول، ويروي عن مالك أنه قال: تسعة أعشار العلم الاستسحان.
قال سحنون: إذا قالت القافة: ليس لواحد منهما دعي لهما أيضا آخرون [ثم آخرون] ، فإن قالوا: ليس الولد لواحد منهما، فإنه يدعى أبدا غيرهم؛ لأن القافة إنما دعيت لتلحق الولد وليس لتنفيه، وهو قول ربيعة ومالك.
قال محمد بن رشد: ما قاله أصبغ وسحنون من أن القافة إذا قالت في الولد: إنه ليس لواحد منهما لا يحكم بقولها في ذلك، وينفى الولد عنهما، بل يدعى لهما آخرون وآخرون، فإن اتفقوا على أنه ليس لواحد منهما حمل محمل الاشتراك صحيح لا اختلاف فيه من أجل أن الشرع قد أحكم أن الولد للفراش، فلا يقبل قول القافة في نفيه عن الفراش إلى غير فراش، وإنما يؤخذ بقولها في إلحاق الولد بأحد الواطئين في طهر واحد من ملك اليمن بوجه(4/155)
شبهة دون صاحبه؛ لأنها لم تخرج الولد بذلك عن فراش إلى غير فراش، وإنما حكمت به لأحد الفراشين؛ لأن واطئ الأمة غير الزوجة بشبهة يسقط عنه الحد في وطئه، مثل أن يطأ أمة ابنه أو أمة له فيها شرك، أو أمة لا شرك له فيها ألا أنها محرمة عليه بنسب أو رضاع أو ما أشبه ذلك في حكم من وطئ ما يحل له مما ملكت يمينه في وجوب إلحاق الولد به، فإذا اجتمع الرجلان على الأمة فوطآها في طهر واحد بوجه شبهة، وهي لا تحل لواحد منهما، أو كانت تحل لأحدهما بالملك، ووطئها الآخر بوجه شبهة، فأتت بولد مما يمكن أن يكون لكل واحد منهما وجب أن تدعى لها القافة، فيلحق الولد بمن ألحقوه به منهما كانا مقرين بالولد ومذعنين له، أو منكرين له، أو أحدهما مقرا به ومدعيا له، والثاني منكرا له، وسواء أقرا بالوطء والإنزال، أو أقرا بالوطء وادعيا العزل أو ادعاه أحدهما؛ لأن الوكاء قد ينفلت كما قال عمرو بن العاص بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث أبي سعيد الخدري في العزل: «ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمة كائنة» الحديث إلا أن يدعي أحدهما الولد وهو ينزل، وينكره الآخر، وهو يعزل، فقال أصبغ ها هنا: إن الولد يلحق بالذي يدعيه استحسانا على غير مقتضى القياس، وقال: إن الاستحسان قد يكون أغلب من القياس، وحكى عن ابن القاسم روايته عن مالك أنهما قالا: تسعة أعشار العلم الاستحسان، والاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس هو أن يكون طرد القياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم فيختص به ذلك الموضع كنحو قول أصبغ في هذه المسألة؛ لأنه إذا كان الأصل بدليل الحديث أن من وطئ أمته فعزل عنها وأتت بولد يلحق به، وإن كان منكرا له وجب على قياس ذلك إذا كانت أمة بين رجلين، فوطآها جميعا في طهر واحد وعزل(4/156)
أحدهما عنها، فأنكر الولد وادعاه الآخر الذي لم يعزل عنها أن يكون الحكم في ذلك بمنزلته إذا كانا جميعا يعزلان أو ينزلان، والاستحسان كما قال: أن يلحق الولد بالذي ادعاه وأقر أنه كان ينزل، ويبرأ منه الذي [كان] أنكره وادعى أنه كان يعزل؛ لأن الولد يكون مع الإنزال غالبا، ولا يكون مع العزل إلا نادرا، فيغلب على الظن أن الولد إنما هو للذي ادعاه، وكان ينزل لا للذي أنكره وهو يعزل، والحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام، وله في هذا الحكم تأثير، فوجب أن يصار إليه استحسانا كما قال أصبغ: ومن الاستحسان مراعاة الخلاف، وهو أصل في المذهب، من ذلك قولهم إن الماء اليسير إذا حلت فيه النجاسة اليسيرة، ولم تغير أحد أوصافه إنه لا يتوضأ به ويتيمم ويتركه، فإن توضأ به، وصلى لم يعد إلا في الوقت مراعاة لقول من رآه طاهرا، ويبيح الوضوء به ابتداء، وكان القياس على أصل قولهم أن يعيد أبدا إذا لم يتوضأ إلا بما يصح له تركه إلى التيمم؟ ومن ذلك قولهم في النكاح الفاسد الذي يجب فسخه، ولم يتفق على فساده إنه يفسخ بطلاق، وإنه يكون فيه الميراث، ويلزمه فيه الطلاق، وهذا المعنى أكثر من أن يحصى، وأشهر من أن يجهل أو يخفى.
وأما العدول عن مقتضى القياس في موضع من المواضع استحسانا لمعنى لا تأثير له في الحكم، فهو مما لا يجوز بإجماع؛ لأنه من الحكم بالهوى المحرم بنص التنزيل، قال عز وجل: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] الآية.
والحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله، والصلاة الكاملة على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.(4/157)
[كتاب التجارة إلى أرض الحرب] [الأحكام بين المسلم والكافر في الهدنة](4/159)
من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب قطع الشجر قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه قيل له: أرأيت قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فهو ليس في هذا ذكر دية فقال: إنما كان ذلك في حرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل مكة يكون فيهم رجل مؤمن لم يهاجر، وأقام معهم فيصيبه المسلمون خطأ، فليس عليهم دية؛ لأنه يقول جل وعز: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] ، وأما قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] فإنما ذلك في الهدنة التي كانت بين النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وبين المشركين أنه إن أصيب مسلم كان بين أظهرهم خطأ لم يهاجر، فإن ديته على المسلمين يؤدونها إلى قومه الذين كان بين أظهرهم الكفار، ومما يبين ذلك أن أبا جندل ورجلا آخر أتيا النبي عليه(4/161)
السلام في الهدنة مسلمين، فرده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم، فكما كان لهم أن يردوه إليهم، فكذلك كانت ديته لهم لو قتل خطأ، ومما يبين ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] الآية، يقول: إن حبسوا عنكم مهرا كان لكم قبلهم، ثم عاقبتموهم فحبستم عنهم مهرا كان لهم قبلكم مثل ما صنعوا {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ} [الممتحنة: 11] فادفعوا إلى هذا المسلم ما كان أنفق على امرأته التي هربت منه إلى الكفر، وذلك قوله عز وجل: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ} [الممتحنة: 11] الآية، فكان الذي بين النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وبينهم ميثاق وهدنة في أشياء اصطلحوا عليها، منها أن يرد [إليهم] إلى الكفار من جاء إلى النبي مسلما من الرجال في الهدنة، وكان من حكم الله أن جاءت امرأة منهم ترغب في الإسلام لم يرجعها إليهم، وكان عليها أن تعطي زوجها الكافر ما كان ساق لها من مهر، وإن فاتت منا امرأة إليهم كان عليهم أن يعطونا مثل ما أنفق عليها زوجها وذلك قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10] {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ، وحرم على المسلمين فروج أولئك الكوافر، ومنعنا أن نرجع المسلمة منا إليهم لا يستحلها الكافر، وحرمت على زوجها الكافر، وعلى غيره من الكفار، فمن هنالك اتبعوا بالمهر واتبعناهم بالمهر، وذلك قوله عز وجل: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10](4/162)
فأما الرجال في الهدنة، فإنهم كانوا يردون إليهم، فكما كان يرد إليهم الرجال في الهدنة، ومهور النساء في الهدنة وغير الهدنة، فكذلك كانت لهم دية مؤمن قتل بين أظهرهم خطأ ممن أسلم، ولم يخرج من عندهم حتى كانت الهدنة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة سأل ابن القاسم مالكا في أولها عن المعنى الذي من أجلها سقطت الدية في المؤمن المقتول خطأ إذا كان بين قومه الكفار، إذ قال الله عز وجل: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ولم يذكر في ذلك دية، يريد دية لجماعة المسلمين الذين يرثونه على الحكم في أن دية الخطأ تكون لورثة المقتول فأعلمه أن الآية منسوخة، يريد بقوله عز وجل: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] ، وأن ذلك إنما كان في أول الإسلام حين كانت الهجرة مفترضة وكان الميراث منقطعا بين من هاجر، وبين من آمن ولم يهاجر، لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] ولما أكمل جوابه عما سأله عنه تكلم على بقية الآية فقال: وأما قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] الآية، فإنما ذلك في الهدنة التي كانت بين النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وبين المشركين أنه أصيب مسلم كان بين أظهرهم بها قوله، فبين مذهبه في أن مراد الله تعالى بقوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] أي: وإن كان المؤمن من قوم بينكم وبينهم ميثاق واحتج بذلك بما قاله من أن ذلك إنما كان في الهدنة التي كانت بين النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وبين المشركين على ذلك وعلى أن يرد إليهم من جاء من عندهم مسلما، فكانت لهم(4/163)
دية من قتل منهم من المسلمين، كما كان لهم أن يردوا إليهم بالشرط الذي شرطوه، وهو اعتبار صحيح؛ لأن إعطاءهم دية المسلم المقتول أيسر من رده إليهم، ولعلهم يقتلونه على إسلامه أو يفتنونه عن دينه، وقصده بهذا الاحتجاج الرد على أهل العراق فيما يذهبون إليه من أن مراد الله تعالى بقوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] أي: وإن كان كافر من قوم بينكم وبينهم ميثاق من الكفار فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة؛ لأنهم يجعلون ذلك حجة لما يذهبون إليه من أن المسلم يقتل بالكافر، فيقولون: قد أوجب الله في قتل الكفار خطأ الدية والكفارة، فلما تساوى المسلم والكافر في القتل خطأ في وجوب الدية والكفارة وجب أن يتساويا في القتل عمدا في وجوب القصاص، وحجة مالك صحيحة، وقوله في تأويل الآية أصح؛ لأنه ظاهر التلاوة، إذ نص في أولها على المؤمن، ثم قال في أخرها: وإن كان، فكان الظاهر من قوله أنه أراد، وإن كان المؤمن المذكور أولا لا أنه ابتدأ كلاما آخر بحكم كافر لم يتقدم له ذكر، فلا يوجب الكفارة في قتل الكافر خطأ، وإنما يستحبها مراعاة للخلاف، وحجته في أن المؤمن لا يقتل بالكافر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده بكافر» يريد ولا يقتل أيضا ذو عهد إذا عوهد.
ويحمل أهل العراق الحديث على أن فيه تقديما وتأخيرا فيقولون: معنى لا يقتل مسلم ولا ذو عهد في عهده بكافر أي بكافر حربي عندهم ليس بمعاهد، وقولهم بعيد لوجهين: أحدهما؛ أن التقديم والتأخير مجاز، وحمل الحديث على المجاز لا يصح مع إمكان حمله على الحقيقة، والثاني: أن الإخبار بأن المسلم والمعاهد لا يقتلان بالحربي لا فائدة فيه، إذ قد تقرر علم وجوب قتله، وما في ذلك من عظيم الأجر، فكيف يشكل على أحد ارتفاع القصاص في ذلك حتى يحتاج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى الإخبار بذلك.
وأما قوله في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] إن المعنى في ذلك، إن حبسوا عنكم مهرا كان لكم قبلهم، ثم عاقبتموهم فحبستم عنهم مهرا كان لهم(4/164)
قبلكم مثل ما صنعوا {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] أي فادفعوا إلى هذا المسلم ما كان أنفق على امرأته، وأن ذلك مثل قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الممتحنة: 11] الآية، فليس ببين، إذ ليس في معاقبتهم بحبس مهرهم عنهم ما يؤدون منهم مهورهم قال عز وجل: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] ثم قال بعد ذلك ما معناه: فإن سألتم فلم تعطوا فآتوه مما تغنمون.
قال مسروق: وكذلك إن ذهبت إلى غير ذي عهد يعطى زوجها المهر من الغنائم، وذلك كله منسوخ بما نزل في براءة من فسخ العهود التي كانت بين النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وبين المشركين، وقد روي أن قوله عز وجل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ، نزل في حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه حين استشهد ومثل به، فأقسم النبي عليه السلام أن يمثل بجماعة من الكفار، فالآية دالة بحملها على عمومها دون أن تقصر على ما روي من سببها على أنه لا يجب أن يعاقب المرء إلا بمثل ما اجترم من القتل أو الجراح وأخذ المال، وأنه لا يجب أن يعاقب الكفار في حبسهم المهور الواجبة عليهم إلا بأن يحبس عنهم المهور الواجبة لهم، وأما أن يجعل حبس المهور عنهم شرطا في دفع مهور أزواج المسلمين كما قال مالك في الرواية، فإنه بعيد، وقوله: فكان الذي بين النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وبينهم ميثاق وهدنة في أشياء اصطلحوا عليها منها أن يرد إليهم من الكفار من جاء إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من الرجال في الهدنة، وكان من حكم الله إن جاءت امرأة منهم ترغب في الإسلام لم يرجعها إليهم يدل على أن حكم الله تعالى الوارد في سورة الممتحنة بأن لا يرجعن إليهم مطابق لما صالحهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أن يرد إليهم من جاءه من عندهم مسلما من الرجال، وقد اختلف في ذلك فقيل: إن الصلح وقع على أن يرد إليهم من جاءه من عندهم مسلما من الرجال والنساء، ففسخ الله من الشرط في النساء ونسخه، فكان ذلك نسخا للسنة بالقرآن، ومن الدليل على هذا، ما روي من أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما تم صلحه مع أهل مكة بالحديبية، وختم الكتاب الذي فيه العهد جاءته سبيعة بنت الحارث مسلمة وجاء زوجها(4/165)
فقال: يا محمد ردها علي فإن ذلك في شرطنا عليك، وهذه طينة كتابنا لم تجف، فنزلت: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] الآيات، فلم يردها عليهم، وأعطاه مهره، ولا يوجد في شيء من الآثار أن الشرط وقع نصا على أن يرد إليهم الرجال والنساء، ولا على أن يرد عليهم الرجال دون النساء، فيحتمل أن يكون الشرط وقع على أن يرد إليهم من جاء منهم مسلما، وأراد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بذلك الرجال دون النساء، وأراد به المشركون الرجال والنساء، فلما قدمت سبيعة مسلمة طلبها زوجها واحتج بظاهر ما في الكتاب، فمنع الله عز وجل من رد النساء على ما يوجبه ظاهر اللفظ، وأقر الحكم على ما أراده النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أن لا يرد إليهم إلا الرجال، إذ لم ينص فيه على رد النساء، وزاد فيه أن يعطوا مهور من قدم من عندهم من النساء، ويسألوا مهور من مضى إليهم من نساء المسلمين، فقال تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] الآية، فعلى هذا يصح ما روي في هذا المعنى، ويرتفع الخلاف، ويكون معنى قول مالك: إن الصلح وقع على أن يرد إليهم من جاء من عندهم مسلما من الرجال على ما أراده النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ونواه، لا على أن ذلك كان صريحا في الصلح، إذ لو كان صريحا فيه لم يقل زوج سبيعة ما قال، والله أعلم بحقيقة ذلك كيف كان.
وقوله في آخر المسألة: فكما كان يرد إليهم الرجال في الهدنة ومهور النساء في الهدنة وغير الهدنة غلط في الرواية؛ لأن المهور إنما كانت ترد في الهدنة على ما ذكرناه من حكم الله بذلك لا في غير الهدنة، وقد رأيت لابن دحون أنه قال: قوله: وغير الهدنة ليس بمستقيم؛ لأن رد الصدقات التي أخذ النساء المهاجرات من أزواجهن لم يكن إلا في الهدنة خاصة، بذلك وقعت الهدنة بينهم أن يرد المسلمون صدقات من أتاهم من النساء مسلمات إلى الكفار، ويرد الكفار صدقات من أتاهم من النساء مرتدات إلى المسلمين، وليس قوله بصحيح، إذ لو وقعت الهدنة بينهم على ذلك لما طلب زوج سبيعة ردها بما في كتاب الصلح، وإنما كانت المطالبات(4/166)
بينهم بالمهور بحكم الله على ما ذكرناه لا بالشرط، والله أعلم، وهو الموفق بفضله.
[قوم من تجار العدو يأتون المسلمين وقد تقدم إليهم ألا ينزلوا إلا بموضع مسمى لهم]
ومن كتاب حلف ألا يبيع سلعة سماها وسئل مالك: عن قوم من تجار العدو يأتون المسلمين، وقد تقدم إليهم ألا ينزلوا إلا بموضع مسمى لهم، فيأتون دونه فينزلون بالموضع، فيريدون أن يستقوا الماء، فيمنعون من ذلك حتى يقاتلوا فقال: إذا منعوا كيف يبلغوا؟ ما أرى أن يقاتلوا، هذه أمور مشكلة، وإنه ليقال: لا يهرق دما أو لا يهراق إلا عن أمر يستبين صحته، فلا أحب لأحد أن يقاتل في مثل هذا ولا يقتل أحدا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن منعهم من استقاء الماء منع لهم من النزول في الموضع الذي أذن لهم بالنزول فيه، إذ لا يستغنون في موضع نزولهم عن الماء، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ» ، فنهى عن منع فضل الماء لما فيه من منع الكلأ، فكذلك هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[الرجل يبتاع من رقيق العجم فيريد بيعهم من النصارى قبل أن يسلموا]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك: عن الرجل يبتاع من رقيق العجم من السودان والصقالبة فيريد بيعهم من النصارى قبل أن يسلموا، قال: ما أعلمه حراما، ولا يعجبني أن يفعله أحد، إن كانوا صغارا فلا يجوز بيعهم من اليهود والنصارى، وإن بيعوا منهم فسخ بيعهم، وإن كانوا كبارا فلا بأس ببيعهم منهم، وإنما فرق بين الصغار والكبار أن(4/167)
الصغار يجبرون على الإسلام، وأن الكبار لا يجبرون، هكذا سمعت.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن بيعوا منهم فسخ بيعهم، أمر مختلف فيه، فما ها هنا خلاف ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة وما في سماع يحيى بعد هذا من كتاب السلطان لأشهب من أنهم يباعون عليه، ولا يفسخ البيع، ومثل قول سحنون في نوازله من كتاب جامع العيوب وما في كتاب المديان والشفعة من المدونة، وابن الماجشون يرى أن البيع في ذلك لا ينعقد، فعلى قوله: إن ماتوا في يده قبل أن يفسخ البيع كانت مصيبتهم من البائع، وإن أعتقهم أو باعهم من مسلم لم ينفذ شيء من ذلك، وتفرقته في جبرهم على الإسلام بين أن يكونوا صغارا أو كبارا خلاف ظاهر ما في سماع أصبغ بعد هذا، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الجنائز، وفي أول سماع أصبغ من كتاب الصلاة، فمن أحب الوقوف على الشفاء من ذلك تأمله هناك، وبالله التوفيق لا رب غيره، والحمد لله كثيرا.
[الديباج يباع من الروم]
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان قال: وسئل مالك عن الديباج يباع من الروم، قال: إن كانوا لا يتخذونه عدة للقتال، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال في المدونة وغيرها، وهو مما لا اختلاف فيه أنه لا يجوز أن يباعوا شيئا مما يستعينون به في حروبهم على المسلمين من ثياب ولا صفر ولا حرير ولا شيء من الأشياء، وإنما يجوز أن يباع منهم من العروض ما لا يتقوى به في الحروب ولا يرهب به في القتال من الكسوة ما يقي الحر والبرد، ومن الطعام ما لا يتقوت به مثل الزيت والملح وما أشبه ذلك، وبالله التوفيق.
[أعياد الكنائس يجتمع المسلمون إليها يحملون إليها الثياب والأمتعة]
ومن كتاب أوله تسلف في المتاع والحيوان المضمون وسئل مالك عن أعياد الكنائس يجتمع المسلمون إليها يحملون(4/168)
إليها الثياب والأمتعة وغير ذلك يبيعون فيها يبتغون الفضل، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قد كره مالك في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح والصيد أن يباع منهم الجزرة إذا علم أنهم يريدون ذبحها في أعيادهم وكنائسهم، وأن يكروا الدواب ليركبوها إلى أعيادهم، وهو خلاف ما هنا، إذ لا فرق بين المسألتين، وقد وقع الاختلاف من قوله في مسألة الكراء منصوصا في سماع سحنون من كتاب السلطان كره ذلك مرة وأجازه أخرى.
واختلاف قوله جار عندي على الاختلاف في كونهم متعبدين بالشرائع، فيكره على القول بأنه عاص لله في إقامة عيده للمسلم أن يكون عونا له على الإثم والعصيان، ولا يكره له ذلك على القول: بأنه ليس بعاص لله في ذلك إلا بعد الإيمان، وعلى هذا أجاز في سماع زونان للرجل أن يسير بأمته إلى الكنيسة، وقد حكى ابن مزين عن أصبغ أن ذلك لا يجوز، فعلى قوله: إن فعل يلزمه أن يتصدق بجميع الثمن، ولا يلزمه ذلك على مذهب مالك، وإنما يستحب له على أحد قوليه أن يتصدق بما زاد في الثمن بسبب بيعهم ذلك لأعيادهم.
[قوم أرادوا أن يبيعوا أمة ومعها ابن لها حر صغير لا يستغني عن أمه]
ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما المال وقال مالك في قوم أرادوا أن يبيعوا أمة ومعها ابن لها حر صغير لا يستغني عن أمه، قال مالك: أرى ألا يفرق بينه وبين أمه، وأن لا يباع إلا ممن يشترط عليه أن لا يفرق بينه وبين أمه وأن تكون مؤنته عليه، وقال مالك: وإن بيعت بغير أرضها فلا أرى بأسا.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة: أن البائع أعتق الولد وهو صغير؛ لأن من أعتق صغيرا فعليه نفقته حتى يبلغ، فلما كانت على البائع نفقته ولم يجز له أن يفرق بينه وبين أمه لم يجز له بيع الأم إلا ممن يشرط عليه أن لا يفرق بينه وبين أمه، وأن تكون مؤنته عليه، يريد إلى أن يبلغ حد(4/169)
التفرقة، قاله ابن القاسم في العشرة، يريد وترجع عليه هو النفقة إذا بلغ حد التفرقة إلى أن يبلغ، وفي جواز هذا البيع اختلاف: أجازه هنا وفي كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة، قال في العشرة استحسانا لئلا يترك الصبي بغير نفقة فيهلك أو يمنع سيد الأمة من البيع فيضر به، قال: فإن مات الصبي لم يجب للبائع على المشتري شيء؛ لأنه لم يرد بذلك إلا كفاية المئونة لا التزيد في الثمن، وقال سحنون: لا يجوز البيع إلا عند الضرورة من فلس أو شبه ذلك، وقيل: إن البيع لا يجوز بحال؛ لأنه غرر، إذ لا يدرى هل يعيش الصبي إلى حد التفرقة أو يموت قبل ذلك، وقيل: البيع جائز، وإن مات الولد قبل الإثغار رجع البائع على المبتاع بقدر ذلك من قيمة الأم، وهو الذي يأتي على ما في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، ولو اشترط أن تكون النفقة مضمونة على المبتاع إلى حد الإثغار إن مات الولد قبل ذلك لجاز البيع باتفاق، والله أعلم.
وقد اختلف في التفرقة فروى ابن غانم عن مالك أن حدها الاحتلام في الرجال والمحيض في النساء، وقال ابن عبد الحكم وغيره لا يفرق بينهما أبدا، وإن ضرب على لحيته على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا توله والدة على ولدها ولا يفرق بين الوالدة وولدها» ، واختلف أيضا في التفرقة هل هي من حق الأم أو من حق الولد؟ فذهب ابن القاسم أن ذلك من حق الولد، فلا يفرق بينهما وإن رضيت الأم بالتفرقة، وهو معنى ما في المدونة وقول ابن نافع على ظاهر الآثار في النهي عن التفرقة مجملا، وقال ابن عبد الحكم في كتابه: إن التفرقة بينهما جائزة إذا رضيت الأم، وهو قول أشهب وروايته عن مالك في رسم الوصايا، وقد قيل: إن ذلك دليل ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة، فانظر في ذلك وتدبره وبالله التوفيق.
[الخروج إلى أرض الشرك في البر والبحر للتجارة]
ومن كتاب اغتسل على غير نية وسئل مالك عن الخروج إلى أرض الشرك في البر والبحر(4/170)
للتجارة فقال: لا أحب ذلك ولا أراه له، قد جعل الله لكل نفس أجلا تبلغه، ورزقا تنفذه، وهو يجري عليه أحكامهم، فلا أرى له ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أحب ذلك له، ولا أراه معناه: لا يحل ذلك ولا يجوز، فقد قال مالك: لم يكن من شأن العلماء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، وكانوا يكتفون بأن يقولوا: لا بأس بهذا، وفي هذا سعة ولا أرى هذا، ولا أحب، وإني لأكرهه وما أشبه هذا، ويكتفي بذلك منهم، فعلى هذا أتى جوابه في هذه المسألة، والله أعلم.
ومن الدليل أن ذلك لا يجوز إجماع أهل العلم على أن من أسلم ببلد الحرب، فواجب عليه أن يخرج منه إلى بلد الإسلام ولا يقيم حيث تجري عليه أحكام الكفر، فإذا كان الخروج واجبا عليه مفروضا كان الدخول إليه حراما عليه محظورا، فمن فعل ذلك طائعا غير مكره وهو عالم بأن ذلك لا يحوز له كان ذلك جرحة فيه، وسقطت إمامته وشهادته، قال ذلك سحنون، وينبغي أن يحمل على التفسير لما في كتاب الولاء والمواريث من المدونة من إجازة شهادتهم لاحتمال أن يكونوا رمتهم الريح إلى بلاد العدو، ولم يذهبوا إليها للتجارة طائعين، ويحمل أيضا أن يكون إنما أجاز شهادتهم إذا عرفت توبتهم من ذلك، إذ يبعد أن تجاز شهادة من يدخل إلى بلد الحرب للتجارة وطلب الدنيا، وهو عارف بأن ذلك لا يجوز له، وأن أحكام الشرك تجري عليه، وبما هو أقل من هذا، يجرح الشاهد وتسقط شهادته، وقد كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - السكنى ببلد يسب فيه السلف، فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن، ويعبد فيه من دونه الأوثان، لا تستقر على هذا نفس صحيح الإيمان.
[اشتراء النوبة والبجة]
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك رواية سحنون من كتاب أوله بيوع وكراء قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع قالا: سئل مالك عن(4/171)
اشتراء النوبة والبجة، فإن بيننا وبين النوبة والبجة هدنة، تعطينا النوبة رقيقا ونعطيهم طعاما، وتعطينا البجة إبلا ونعطيهم طعاما وهم يتسابون، فهل نشتري منهم شيئا من رقيقهم؟ فقال: كان يقال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنه لن يترك أحد شيئا لله، فوجد فقده، قال: وقال عبد الله بن عمر، وكان من أئمة الناس: إني لأحب أن أجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمه، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن عمرو بن العاص: «كيف لك إذا بقيت في حثالة من الناس وقد مرجت عهودهم وأماناتهم فاختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه، فقال: كيف بي يا رسول الله؟ قال: عليك بما تعرف، ودع ما تنكر عليك بخاصة نفسك، وإياك وعوامهم، قال لي: وانظر لنفسك، وعليك بالبين المحض» ، قلت له: إنهم يبعثون إلينا برقيق من رقيقهم، فهل نشتري من رقيقهم التي يبعثون إلينا بهم للصلح الذي بيننا وبينهم فقال: "لا أدري ما هذا ولا ما هذا التفصيل بين هذا وهذا، وليس كل من فصل أصاب ".
قال محمد بن رشد: إذا كانت الهدنة بيننا وبين أهل الحرب على أن لا نقاتلهم ولا نسبيهم، فلا إشكال في أن ذلك ليس بعهد يمنعنا من شراء أولادهم منهم، ولا من شرائهم ممن سباهم في أن ذلك عهد يمنعنا من شرائهم ممن سباهم ومن شراء أولادهم، وإذا أعطيناهم أمانا وعهدا على أن يدخلوا إلينا في تجارة وينصرفون، أو على أن ندخل نحن إلى بلادهم في تجارة، وننصرف عنهم، فلا إشكال أيضا في أن ذلك ليس بعهد يمنعنا من شراء أولادهم منهم، ولا من شرائهم ممن سباهم، وأما إذا هادناهم على أن نتداخل للتجارة مهادنة مستمرة فهذا الذي رأى اشتراءهم ممن سباهم من مشتبهات الدين الذي تركه وجه(4/172)
الخلاص وطريق السلامة، واستدل على ذلك بقول عبد الله بن عمر: إني لأحب أن أجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمه، وبقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعبد الله بن عمرو بن العاص: «فانظر لنفسك، وعليك بالبين المحض؛» لأنه حمل قوله له على عمومه في جميع الأشياء، وإن كان مساق الحديث إنما هو على التحذير من الفتن التي وقعت بعده ألا يدخل منها في مشكل، وقد دخل فيه على ما أداه إليه اجتهاده مع عزم أبيه عليه في ذلك، فشهد مع معاوية حرب صفين، ثم ندم على ذلك لما ظهر إليه من البصيرة في خلاف رأيه الأول، فاستغفر الله عز وجل من ذلك مخافة أن يكون قد قصر أولا في اجتهاده مع قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فانظر لنفسك وعليك بالمحض البين» ، وفي هذا الحديث علم جليل من أعلام النبوءة؛ لأنه أعلم عبد الله بما يكون بعده من الفتن وحضه على ما يصنع فيها في خاصة نفسه من الأخذ بالبين المحض، فانتهى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى ما حضه عليه، ورجع عما دخل فيه إذ بان له خلاف ما كان ظهر إليه، ولا فصل كما قال من شراء بعضهم من بعض إذا سبوهم، وشراء رقيقهم الذي يبعثون بهم فيما صولحوا عليه إذ كان أولئك الرقيق الذين يبعثون بهم من سبي بعضهم بعضا، وبالله التوفيق لا إله إلا هو.
[التجارة في النبل والسيوف والسلاح]
ومن كتاب البيوع الأول قال أشهب بن عبد العزيز: سئل مالك عن التجارة في النبل والسيوف والسلاح، قال: لا بأس بذلك، ولم تزل الناس يجيزونه إلا أن يخاف أن يصل إلى العدو.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن السلاح لا يحل أن يباع من العدو، ولا ممن يحمله إلى العدو، فلا يحل للرجل أن يتجر فيه إذا علم أنه يصل إلى العدو، مثل أن يكون الذين يبتاعونه منه يخرجون إلى بلد يحمل منه للعدو، ويكره ذلك إذا خاف أن يصل إليهم، قاله مالك في سماع أشهب من(4/173)
كتاب اللقطة، وهو معنى قوله في هذه الرواية، وكذلك تكره له التجارة فيه في حين الفتن التي تكون بين المسلمين إذا خشي أن يصل شيء منه إلى من يناوئ به الإسلام، ولا بأس بالتجارة فيها إذا أمن أن يصل منها شيء إلى العدو، أو إلى من يناوئ المسلمين، فإن باع السلاح من العدو، أو ممن يناوئ المسلمين ويخرج به عليهم، أو ممن يحمل ذلك إليهم وهو عالم بذلك ومضى ذلك وفات، ولم يعلم من باعه منه ولا قدر على رده، فقد اختلف فيما يلزمه بينه وبين ربه في التوبة من ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها؛ أنه يلزمه أن يتصدق بجميع الثمن، وهذا على القول في أن البيع غير منعقد، وأنها باقية على ملكه؛ لوجوب رد الثمن على هذا القول إلى المبتاع إن علمه، والصدقة به عليه إن جهله كالربا، والثاني: أنه لا يلزمه أن يتصدق إلا بالزائد على قيمته لو بيع على وجه جائز، وهذا على القول بوجوب فسخ البيع في القيام وتصحيحه بالقيمة في الفوات.
والثالث: أنه لا يجب عليه أن يتصدق بشيء منه إلا على وجه الاستحباب مراعاة للاختلاف، وهذا على القول بأن البيع إن عثر عليه لم يفسخ، ويباع على المبتاع، وبالله التوفيق.
[الروم إذا قدموا علينا برقة بالرقيق جعلوا من كل صنف عشرة]
ومن كتاب الزكاة وسئل مالك فقيل له: الروم عندنا إذا قدموا علينا برقة بالرقيق جعلوا من كل صنف عشرة، فجعل ذلك أصنافا، ثم بدأ بأول صنف، فاختار منهم الرومي رأسا، ثم أخذ المسلمون من التسعة الباقية رأسا يختارونه منها، ثم يأتي إلى الصنف الآخر الثاني، فاختار منهم المسلمون رأسا ثم أتى إلى الصنف الثالث، فبدأ الرومي فاختار منهم رأسا، ثم اختار المسلمون من التسعة الباقية رأسا هكذا يفعلون، قد أحكموا ذلك وجعلوا كل صنف على حدته، فقال: أحكموه إحكام سوء.
قال محمد بن رشد: إنما عاب هذا الفعل؛ لأن الغرر فيه بين فلا يجوز ذلك؛ «لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر» وإنما الواجب في ذلك أن يقسم(4/174)
الرقيق بينهم وبين المسلمين على سنة قسم الرقيق بين الشركاء؛ لأن المسلمين قد حصلوا إشراكهم فيها بالعشر باعوا أو لم يبيعوا، وهذا في أهل الحرب فتقوم كلها، فيضرب عليها بالسهام، فيخرج للمسلمين ما خرج في العشر بالقيمة رأس أو بعض رأس أو رؤوس، وبالله التوفيق.
[المصاحف توجد في كنائس الروم بأرض العدو من مصاحفهم والصلب الذهب والورق]
من سماع ابن دينار من ابن القاسم من كتاب أوله نقدها نقدها قال عيسى بن دينار: وقال ابن القاسم: في المصاحف توجد في كنائس الروم بأرض العدو من مصاحفهم والصلب الذهب والورق، فقال: أما الصلب فيكسرونها، ثم تقسم ولا تقسم صلبا، وأما المصاحف فتمحى.
قال محمد بن رشد: قد قال في غير هذا الموضع في المصاحف: إنها تحرق كما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه فعل بالمصحف إذ جمع الناس على مصحف واحد، فإن كان ينتفع بها بعد محوها فمحوها أولى لبقاء المنفعة فيها للمسلمين، وإن كان لا منفعة فيها بعد محوها، فحرقها أولى؛ لأنه أقل عناء، ولا تترك على حال دون أن تحرق أو تمحى، إذ لا يجوز أن تقرأ؛ لأنها مغيرة محرفة كما أخبر الله في كتابه العزيز حيث يقول: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13] ، وقال عز وجل: {ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [البقرة: 79] .
[مسألة: الإمام يبيع السبي على أن هذا زوج هذه وهذه امرأة هذا]
مسألة وقال ابن القاسم في الإمام يبيع السبي على أن هذا زوج هذه، وهذه امرأة هذا، يقول ذلك ثم يريد المشتري بعد ذلك أن(4/175)
يفرق بينهما، إنه ليس له أن يفرق بينهما، قال: وإن باعهم الذين يجلبونهم أيضا يعني الربانيين على هذا أيضا، وقالوا: إن هذا زوج هذه، وهذه امرأة هذا أقرهم على ذلك، وليس له أن يفرق بينهما، وهذا الذي ليس فيه اختلاف من أحد.
قال محمد بن رشد: قوله في الإمام إذا باع الرجل والمرأة من السبي على أنهما زوجان: إنه ليس للمشتري أن يفرق بينهما هو على ما ذهب إليه ابن حبيب في الواضحة من أن السباء يبيح فسخ نكاح الزوجين، فإن أسلما أو أسلم أحدهما قبل أن توطأ أقرا على نكاحهما، ولم يفسخ ثبتا سبيا معا أو مفترقين خلاف قول ابن القاسم وأشهب في المدونة: إن السباء يهدم نكاح الزوجين سبيا معا أو مفترقين، فعلى قولهما فيها لا سبيل إلى تركهم على ذلك النكاح إلا بنكاح جديد من مالكهم.
وذهب ابن المواز إلى أن السباء لا يهدم نكاح الزوجين ولا يبيح فسخه سبيا معا أو مفترقين، فإن سبيت الأمة على مذهبه، ثم سبي زوجها أو قدم بأمان قبل أن توطأ بالملك فهو أحق بها، وذهب ابن بكر إلى أنه إن سبيت هي قبله فسخ النكاح بسببها، وإن سبي قبلها أو سبيا معا فاستبقا الزوج أقرا على نكاحهما، فهي أربعة أقوال: أحدها؛ إذا تقدم سبي أحدهما فلا فرق بين أن يسبى الآخر بعد ذلك، أو يقدم بأمان في حكم فسخ النكاح يجري ذلك على الاختلاف المتقدم، وإذا تقدم قدوم أحدهما بأمان، ثم سبي الآخر بعده فلا ينفسخ النكاح بإجماع، ويخير إن كانت هي التي قدمت أولا للرق الذي أصابه بالسباء ويعرض عليها الإسلام إن كانت هي التي سبيت آخرا إلا أن تعتق، إذ لا يصح أن تكون زوجة لمسلم وهي أمة كافرة؛ لقوله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25] الآية، وبالله التوفيق.(4/176)
[حربي يقول لمعسكر المسلمين إن أعطيتموني امرأتي فلكم عندي أربعة من المسلمين]
ومن كتاب أوله أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وسئل ابن القاسم عن رومي سبيت امرأته فأتى حتى وقف قريبا من عسكر المسلمين فقال لهم: إن أعطيتموني امرأتي فلكم عندي أربعة من المسلمين أعطيكموهم نصهم بأسمائهم، فقالوا له: نعم، فذهب] فأتى بواحد، ثم آخر ثم آخر ثم جاء، فقال لهم: لم أقدر على الرابع، قال ابن القاسم: إما أن يعطوه امرأته، وإما أن يردوا إليه الثلاثة، قال عيسى: أحب إلي أن يردوا إليه امرأته، ولا يعطوه الثلاثة، ولا ينبغي لهم غير ذلك.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم ليس على ظاهره من التخيير بين الأمرين، وإنما معناه أنه لا بد من أحد الوجهين، فإذا لم يصح أحدهما لزم الثاني، وقول عيسى مبين لذلك؛ لأن قوله في أوله: أحب إلي ليس على ظاهره، ومعناه الوجوب، بدليل قوله في أخره: ولا ينبغي لهم غير ذلك، وهذا إذا كان لم يبرم العقد بينهم وبين الرومي على أن يعطوه امرأته ويعطيهم الأربعة من المسلمين، وإنما قالوا له: إن جئتنا بهم أعطيناك امرأتك، ولو انبرم العقد بينهم على هذا لكان الواجب إذا تحقق أنه لم يقدر على الرابع أن يكون له أن يأخذ امرأته، ويكون عليه قيمة ربعها على حكم الاستحقاق فيمن باع أمة بأربعة أعبد، فأعتق المشتري الأمة واستحق أحد الأعبد.
ولو لم يتحقق أنه لم يقدر عليه لكان من حق المسلمين أن يحبسوا المرأة حتى يأتي بالرابع على أصولهم في أن من حق البائع أن يمسك سلعته حتى يستوفي جميع ثمنها.
[مسألة: الربانين ما يؤخذ منهم في التجارة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الربانين: ما يؤخذ منهم؟ فقال: الذي تأخذ به من ذلك إنما هو صلح ما اصطلحوا أن ينزلوا عليه من ثلث(4/177)
أو ربع أو خمس أو عشر أو ما كان من الإمام في ذلك، قيل له: فإن نزلوا على العشر بصلح، فلم يوافقهم البيع ثم أرادوا الرجوع برقيقهم ومتاعهم فقال: يؤخذ منهم العشر، ولا يشبهوا أهل ذمتنا إذا أتوا لتجارة، فلم يوافقهم البيع أولئك لا يؤخذ منهم شيء إلا أن يبيعوا، قال ابن القاسم في سماع سحنون، وأصبغ ويمنعون من الوطء إن كان معهم جواري يحال بينهم وبين وطئهن حتى يباعوا للشرك الذي للمسلمين معهم باعوا أو لم يبيعوا أو فيما مات أو نقص، قال ابن القاسم: إلا أن يكونوا صولحوا على دنانير أو دراهم فلا يمنعوا من الوطء، وإن دخلوا من ذلك الموضع إلى غيره من سواحل المسلمين قبل أن يبيعوا لم يؤخذ منهم إلا ما أخذ.
قال محمد بن رشد: قوله في الربانيين إنه يؤخذ منهم إذا قدموا للتجارة ما صولحوا عليه هو مثل قوله في المدونة وروايته عن مالك خلاف رواية علي بن زياد عنه فيها أن في تجار أهل الحرب العشر.
ولا اختلاف في أن للإمام أن يمنعهم من دخول بلاد المسلمين للتجارة حتى يصالحوه على ما يأخذ منهم، وأنه إن صالحهم على أكثر من العشر لزمهم، ولم يكن لهم أن يؤدوا العشر، وإن صالحهم على أقل من العشر لزمه ولم يكن له أن يأخذ منهم أكثر مما صالحهم عليه، وإن أنزلهم على غير اتفاق ولا عادة جروا عليها أخذ منهم العشر، ولم يكن للإمام أن يزيد منهم على العشر ولا لهم أن ينتقصوه منه على القول: بأن ما صولحوا عليه يجب عليهم بدخولهم إلى بلاد المسلمين باعوا أو لم يبيعوا، وهذا لم يختلف فيه قول مالك ولا قول ابن القاسم، فاختلاف قول مالك في رواية ابن القاسم، وعلي بن زياد عنه في المدونة إنما يعود في هل للإمام أن ينزلهم ابتداء على أقل من العشر، أو دون اتفاق ويأخذ منهم العشر أم لا؟ فله ذلك على رواية ابن القاسم: وليس له ذلك على رواية علي بن زياد، فإن فعل لم يكن بين الروايتين اختلاف في أنه إن أنزلهم على أقل من العشر لم يكن له أن يأخذ منهم العشر، ولا في أنه إن أنزلهم دون اتفاق ولا جري عادة(4/178)
جروا عليها أن يكون له أن يأخذ منهم أكثر من العشر إلا أن يرضوا بذلك، ولا أقل منه إن طلبوا ذلك؛ لأنه يكون تاركا لبعض حق المسلمين.
وأما على قول ابن وهب في سماع أصبغ وأشهب في كتاب ابن المواز أنه لا يلزمهم أن يؤخذ منهم العشر، ولا ما صالحوا عليه إلا أن يبيعوا، فإن أنزلهم الإمام على غير إتقان ولا عادة جروا عليها فيصالحهم ما لم يبيعوا أو ينصرفوا، ولا يأخذ منهم شيئا، فإن لم يصالحهم حتى باعوا أخذ منهم العشر على كل حال، وقوله: إنهم يمنعون من الوطء صحيح؛ لأن المسلمين قد حصلوا إشراكا لهم بنفس نزولهم، وإن لم يبيعوا خلاف قول ابن وهب وأشهب.
[مسألة: الضيافة على أهل الذمة ضيافة الثلاثة الأيام]
مسألة قال ابن القاسم: وبلغني عن مالك أنه قال: تطرح الضيافة على أهل الذمة ضيافة الثلاثة الأيام إذا لم يوف لهم.
قال محمد بن رشد: معنى قول مالك في طرح الضيافة عنهم هو ما فسره به عيسى بن دينار في تفسير ابن مزين قال: يقول: إذا تعدى عليهم الإمام، وأخذ منهم أكثر من فرض عمر فلا يحل لأحد من المسلمين أن يستضيفهم، ولا يأكل لهم شيئا، وهو تفسير صحيح؛ لأن عمر إنما أوجب عليهم أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثا على أن يؤدوا المقدار الذي فرضه عليهم، فصار ذلك المقدار شرطا في وجوب الضيافة عليهم لمن مر بهم من المسلمين، فإذا لم يوف هم بالشرط، وأخذ منهم أكثر من ذلك سقطت عنهم الضيافة، فلا يحل لأحد أن يستضيفهم، ولا يأكل لهم شيئا.
[مسألة: الجزية على أهل الذمة]
مسألة قال مالك: ولا أرى أن يزاد عليهم في جزية جماجمهم على ما فرض عمر أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعين درهما على أهل الورق، فلا أرى أن يزاد عليهم، وإن أيسروا، واحتج بقول عمر:(4/179)
قد فرضت لكم الفرائض، وسننت لكم السنن.
قال محمد بن رشد: المروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه فرض الجزية على أهل الذمة أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعين درهما على أهل الورق، وذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.
والذي كان يفرض عليهم في الأرزاق على ما حكى ابن وهب نحو قفيز قمح وثلاثة أثمان زيت في كل شهر، وشيء من عسل وكسوة لم يحد ذلك، فإرادته أنه لا يزاد عليهم فيما فرضه عليهم في الأرزاق مع الذهب أو الورق كما لا يزاد عليهم في الذهب ولا في الورق، والله أعلم، ولا اختلاف أعلمه في أنه لا يزاد عليهم على ما فرضه عمر، وإن أيسروا ولا ينقصونهم منه ما كان فيهم محتمل لذلك، فإن لم يكن فيهم محتمل لحمل المفروض عليهم في الأرزاق مع الذهب والورق لم يكن عليهم إلا الذهب أو الورق، واختلفوا إن ضعفوا عن حمل الأربعة دنانير أو الأربعين درهما، فقيل: إنه يسقط عنهم الجميع، وهو الظاهر من مذهب ابن القاسم، وقيل: إنهم يلزمون من ذلك بقدر احتمالهم ولا حد في ذلك، قاله القاضي أبو الحسن، وقيل: إن حد أقل الجزية دينار أو عشرة دراهم، وهذا في أهل العنوة الذين غلبوا على بلادهم وأقروا فيها لعمارة الأرض وفيمن استأمن على أن يكون من أهل ذمة المسلمين، وفيمن صولح على أداء الجزية مجملا دون تفسير، فإن صولحوا على أقل من ذلك أو أكثر مضى ذلك، ولزم الصلح على ما وقع عليه من قليل الجزية وكثيرها، هذا قول ابن حبيب وغيره: إن الجزية الصلحية لا حد لها في عدد ولا توقيت، وإنما هي على ما صالحوا عليه من قليل أو كثير على أن يدخلوا إلى بلاد المسلمين أو يقروا في بلادهم على دينهم إذا كانوا بحيث تجري عليهم أحكام المسلمين، وتؤخذ الجزية منهم عن يد وهم صاغرون، وهو كلام فيه نظر، والصحيح أنه لا حد لأقلها يلزم أهل(4/180)
الحرب الرضى به؛ لأنهم مالكون لأمرهم، وأن لأقلها حدا إذا بذلوه لزم الإمام قبوله وحرم عليه قتلهم؛ لقوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] الآية ولم أر لأحد من أصحابنا حدا في ذلك، والذي يأتي على المذهب عندي أن أقلها ما فرض عمر على أهل العنوة، فإذا بذل ذلك أهل الحرب في الصلح على أن يؤدوه عن يد وهم صاغرون لزم الإمام قبوله وحرم عليه قتالهم، وله أن يقبل منهم في الصلح أقل من ذلك، وإن كانوا أغنياء، وقال الشافعي: أقل الجزية دينار، فإذا بذل الأغنياء دينارا حرم قتالهم، ولا قدر لأكثرها، يريد أنه ليس لكثرة ما يبذلونه في الصلح حد لا يجوز للإمام أن يتجاوزه بخلاف أهل العنوة الذي لا يجوز للإمام أن يتجاوز فرض عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[أسلف النصراني النصراني خمرا أو خنازير فأسلم المسلف]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس وقال ابن القاسم: إذا أسلف النصراني النصراني خمرا، أو خنازير فأسلم المسلف كان عليه قيمة تلك الخنازير أو الخمر، وكذلك النصرانية تنتقد في صداقها خمرا أو خنازير، ثم تسلم قبل أن يبتنى بها وقد فات في يديها، فإنه يكون عليها غرم قيمة تلك الخنازير وتلك الخمر، قلت: فإن كان ذلك الخمر والخنازير عندها قائمة بعينها؟ قال: أرى أن تغرم قيمة ذلك وتكسر الخمر وتقتل الخنازير، قلت: فإن أسلم الذي أسلف الخمر والخنازير هل عليه أن يأخذ تلك الخنازير، فيقتلها أو تلك الخمر فيهريقها؟ قال ابن القاسم: أحب إلي أن تؤخذ الخمر والخنازير، فتكسر الخمر وتقتل الخنازير.
قال محمد بن رشد: قوله في النصراني الذي يسلفه النصراني الخمر والخنازير، فيسلم إن عليه قيمة تلك الخنازير أو الخمر صحيح على قياس قوله(4/181)
في المدونة وغيرها في أن المسلم إذا استهلك الخمر للنصراني أن عليه قيمتها؛ لأنه بإسلافه مستهلك للخمر الذي دفع إليه، إذ لا يقدر أن يؤدي إليه خمره ولا خنازيره بعد إسلامه، ولم يذكر متى تقوم إن كان يوم قبضها أو يوم أسلم أو يوم يحل عليه السلف إن كان مؤجلا، والذي يجب أن يكون عليه قيمة ذلك يوم الحكم إن كان السلف حالا، وإن كان مؤجلا لم يحل بعد فقيمته يوم الحكم على أن يقبض عند أجله، وحكى ابن حبيب عن مالك من رواية مطرف عنه أنه لا شيء عليه إذا أسلم على أصله أيضا في المسلم يستهلك الخمر للنصراني إنه لا شيء عليه فيها، وكذلك النصرانية تنتقد في صداقها خمرا أو خنازير، فتسلم قبل البناء تشبه مسألة القرض؛ لأنها بإسلامها قبل البناء ينفسخ النكاح ويجب عليها أن ترد للزوج ما قبضت منه وهي لا تقدر على ذلك لإسلامها، فتلزمها القيمة، وذلك أبين إذا أسلمت والخمر والخنازير قائمة بيدها في الاستهلاك، ولا يجب عليها شيء على رواية مطرف عن مالك المذكور في الوجهين، وأما إذا أسلم الذي أقرض الخمر والخنازير فأخذ ذلك من النصراني، وقتل الخنازير وإراقة الخمر أولى من ترك ذلك كما قال وبالله التوفيق.
[مسألة: أسلم نصراني إلى نصراني دنانير في خمر أو خنازير فأسلم أحدهما]
مسألة قال: ولو أسلم نصراني إلى نصراني دنانير في خمر أو خنازير فأسلم أحدهما؟ قال: إذا أسلم الذي أسلم إليه الثمن رد الثمن إلى صاحبه، فإذا أسلم صاحب الثمن، فإن مالكا قال فيها: لا أدري، أخاف أن أظلم الرومي إن قضيت عليه برد الدنانير وعليه خمر أو خنازير، ولكن أرى أن تؤخذ الخمر منه وتكسر على المسلم، وتؤخذ الخنازير، فتقتل أو تطرح في مكان لا يخلص أحد إلى أكلها، يحتمل أن يكون من قول مالك، فيكون هو جوابه الذي ترجح عنده من الوجهين في المسألة بعد وقوفه فيها، ويحتمل أن يكون من قول ابن القاسم خلافا لماله في المدونة من أنه يقضى عليه برد رأس المال(4/182)
بمنزلة إسلامهما جميعا؛ لأنه حكم، قلت: فإن رضي النصراني أن يرد عليه دنانيره؟ قال: ذلك حلال لا بأس به.
قال محمد بن رشد: توقف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا أسلم الذي له السلم وقال: أخاف أن أظلم الرومي إن قضيت عليه بخلاف ما عليه، ولم يتوقف إذا أسلم الذي عليه السلم، وهو يقضي للذمي بخلاف ماله؛ لأن له خمرا أو خنازير، وهو يقضي عليه أن يأخذ دنانير، والفرق بين الموضعين أنه إذا أسلم الذي له السلم لم يمكن أن يقضى على الذمي بما عليه؛ لأن ما عليه يجوز له ملكه، فلما كان يمكن أن يقضى عليه بما عليه خشي أن يظلمه إن قضى عليه بخلاف ما عليه، وإذا أسلم الذي عليه السلم لم يمكن أن يقضى عليه بالخمر والخنازير؛ لأنه مسلم لا يحل له ملك ذلك، فلما لم يكن ذلك كان القضاء عليه برد رأس المال ضرورة يبيح أن يقضى للذمي بخلاف ماله، كمن أسلم فيما له إبان فانقضى الإبان قبل أن يأخذ سلمه أنه يقضى له برأس ماله، إذ لا يمكن أن يقضى له بماله وقوله: ولكن أرى أن تؤخذ الخمر عنه، فتكسر على المسلم وتؤخذ الخنازير فتقتل وتطرح في مكان لا يخلص أحد إلى أكلها، يحتمل أن يكون من قول مالك، فيكون هو جوابه الذي ترجح عنده من الوجهين في المسألة بعد وقوفه فيها، ويحتمل أن يكون من قول ابن القاسم خلافا لماله في المدونة من أنه يقضى عليه برد رأس المال بمنزلة إسلامهما جميعا؛ لأنه حكم بين مسلم ونصراني، وأما إذا رضي النصراني المسلم إليه أن يرد على المسلم الذي أسلم إليه دنانيره فلا إشكال في أن ذلك حلال جائز كما قال، ولا يلزم المسلم ذلك إذا قال: أنا أريد أن آخذ الخمر أو الخنازير فأهريق الخمر، وأقتل الخنازير على القول بأن ذلك هو الذي يوجبه الحكم.
[مسألة: نصراني أعطى نصرانيا دينارا في دينارين إلى شهر فأسلم أحدهما]
مسألة قلت: فلو كان نصرانيا أعطى نصرانيا دينارا في دينارين إلى شهر فأسلم أحدهما أو جميعا؟ قال: إن أسلما جميعا لم يكن لصاحب(4/183)
الدينار إلا ديناره، وإن أسلم صاحب الدينار لم يحل له أن يأخذ إلا ديناره، وإن أسلم الذي عليه الديناران كان عليه غرم الدينارين إلى النصراني.
قال محمد بن رشد: أما إذا أسلما جميعا أو أسلم الذي أسلم الدينار، فلا اختلاف في أنه لا يحل للمسلم إلا أن يأخذ ديناره، وإن أسلم صاحب الدينار لم يحل له أن يأخذ إلا ديناره، وإن أسلم الذي عليه الدينار لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] الآية.
وأما إذا أسلم المسلم إليه، فقال ابن القاسم في المدونة إنه يرد إلى المسلم ديناره بمنزلة إسلامهما جميعا؛ لأنه حكم بين مسلم ونصراني خلاف قوله ها هنا، واختلاف قوله في هذه المسألة جار على الاختلاف في الكفار هل هم مخاطبون بشرائع الإسلام أم لا؟ فقوله ها هنا على أنهم غير مخاطبين بشرائع الإسلام؛ لأنك إذا قلت: إن الربا لا يحرم على الذمي وجب أن يحكم له به على الذي أسلم، وإذا قلت: إنه يحرم عليه لم يجز أن يحكم له به على الذي أسلم؛ لأن المسلم لا يجوز له أن يؤكل الربا كما لا يجوز له أن يأكله، وتوقف فيها مالك في المدونة وقال: أخاف أن أظلم الذمي إن قضيت له بدينار وله ديناران إذ لم يترجح عنده أحد القولين على الآخر.
[مسألة: تسالفا الخمر والخنازير ثم أسلما جميعا]
مسألة قال: وكذلك إذا تسالفا الخمر والخنازير إذا أسلما جميعا لم يكن على الذي عليه الخمر ولا الخنازير قليل ولا كثير.
قال محمد بن رشد: وهذا عندي إذا أسلما معا أو أسلم المسلف قبل المسلف، وأما إن أسلم المسلف قبل المسلف فينبغي على قياس قول ابن القاسم في أول الرسم أن يكون عليه قيمة الخمر أو الخنازير للمسلم؛ لأن ذلك قد وجب له عليه بإسلامه قبل أن يسلم هو، فلا يسقط حقه بإسلامه، وقد(4/184)
مضى ما يدل على صحة هذا في أول الرسم لمن تدبره.
[مسألة: نصراني أصدق نصرانية خمرا وخنزيرا وأسلم الزوج قبل البناء]
مسألة قلت: فإن أسلمت النصرانية التي أخذت في صداقها الخمر والخنازير وأسلم زوجها قبل أن يبتني بها هل ترى أن يدخل بها بذلك الصداق، ويقدم لها ما يستحلها به؟ قال: النكاح ثابت، وأحب إلي أن يقدم إليها ما يستحلها به، قال عيسى: الذي آخذ به في هذا- وقد اختلف فيه- القول: أنه إذا دفع إليها ذلك، ثم أسلم قبل البناء، فإنه يدفع إليها ربع دينار ويلزمه النكاح، وإذا لم يدفع ذلك إليها حتى أسلم، فإنه يدفع إليها صداق مثلها ويلزمه النكاح، وإذا دفع إليها ودخل بها، ثم أسلم فلا شيء عليه، وإذا دخل بها ولم يدفع ذلك إليها وأسلم فإنه يعطيها صداق مثلها.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا، وعيسى بن دينار في النصراني يتزوج النصرانية على خمر أو خنزير، فيدفع ذلك إليها، ثم يسلمان قبل البناء هو مثل قول بعض الرواة في كتاب النكاح الثالث من المدونة إن النكاح ثابت، ولا خيار للزوج فيه، وخلاف له فيما يكون على الزوج؛ لأنه لم يوجب فيه على الزوج شيئا، واستحب ها هنا ابن القاسم أن يقدم إليها ما يستحلها به، وأوجب ذلك عليه عيسى، وخلاف لقول ابن القاسم في الكتاب المذكور من المدونة في الوجهين؛ لأنه قال فيه: إن شاء أن يدفع إليه مثلها ويدخل فذلك له، وإن أبى فرق بينهما، ولم يكن له عليه شيء، كمن نكح على تفويض، ولم يختلفوا إذا أسلما قبل البناء، وقبل أن يدفع ذلك إليها في أنه مخير بين أن يدفع إليها صداق مثلها ويدخل أو يفرق بينهما ولا شيء عليه، وأما إذا أسلما بعد البناء أو بعد أن دفع إليها ذلك، فلا اختلاف في أن النكاح ثابت ولا شيء عليه، واختلف إن كان إسلامهما بعد الدخول، وقبل أن يدفع إليها ذلك، فقال ابن القاسم في المدونة: يدفع إليها صداق مثلها، وقال سحنون: لا(4/185)
شيء عليه، فهذا تحصيل هذه المسألة؛ لأنها تنقسم على أربعة أقسام يتفق على الوجهين منها، وهما إذا كان إسلامهما قبل الدخول وقبل القبض، أو بعد الدخول وبعد القبض، ويختلف في الوجهين منهما، وهما إذا كان إسلامهما قبل الدخول وبعد القبض أو بعد الدخول وقبل القبض على ما قد ذكرناه في ذلك كله.
وقول ابن القاسم في هذه المسألة في المدونة يأتي على قياس قول ابن أبي حازم، وابن دينار في النصرانيين يتبايعان الخمر والخنزير فيسلمان أو أحدهما قبل أن يقض البائع الثمن إنه ليس له قبضه بعد الإسلام، وقول بعض الرواة فيها وقول ابن القاسم وعيسى بن دينار في هذه الرواية يأتي على قياس قول أشهب والمخزومي وابن المواز إن له قبضه بعد الإسلام فتدبر ذلك.
[مسألة: لحكم المسلمين أن يقضي بين أهل الذمة فيما يتظالمون فيه من الأموال]
مسألة قلت: فهل لحكم المسلمين أن يقضي بين أهل الذمة فيما يتظالمون فيه من الأموال أو من البيوع والرهون والغصب؟ فقال: نعم، ذلك الذي يحق عليه، قلت: ففي أي شيء يترك الحكم بينهم؟ قال في حدودهم وعتقهم وطلاقهم وبيع الربا التي يتبايعون بها من الدرهم بالدرهمين، ونحو هذا ونكاحهم ووجه غير واحد، وأما القتل والجراح والغصب والأموال التي يتظالمون بها فإن على حكم المسلمين أن ينظر بينهم.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا موافق لما في المدونة وغيرها لمالك وأصحابه لا اختلاف بينهم في أن على حكم المسلمين أن يحكم بينهم فيما يتظالمون فيه، وأنه مخير فيما سوى ذلك من حدودهم ونكاحهم وطلاقهم وبيوع الربا التي يتبايعون بها فيما بينهم إن ترافعوا إليه إن شاء حكم بينهم في ذلك، وإن شاء ترك لقول الله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] الآية إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] أي بحكم التوراة؛ لأن الآية نزلت في تحكيم اليهود النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اللذين(4/186)
زنيا منهم فحكم عليهما بالرجم على ما في التوراة، فوجب أن يقاس على ذلك ما كان في معنى الحد من سائر شرائعهم، وأن يكون الإمام مخيرا في الحكم بينهم في ذلك إن حكموه فيه، وأما ما يتظالمون فيه فمن الحق على الإمام أن يحكم بينهم في ذلك، ويكف بعضهم عن بعض، وإن لم يحكموه في ذلك ويكف غيرهم أيضا عن ظلمهم؛ لأنه إنما أخذ الجزية منهم على ذلك، فهو من الوفاء بالعهد لهم، ولا اختلاف في ذلك بين أحد من أهل العلم، وقد قيل: إن قوله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] معناه عند مالك فيما يتظالمون فيه، وقيل: إن معناه في غير التظالم من الحدود وغيرها، وإن المراد بذلك إن حكمت على ما توجبه الآية الأخرى من التخيير، وأصح ما قيل في هذا أن قوله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] معناه وأن احكم بينهم بما أنزل الله في التوراة إن حكمت، وأن قوله عز وجل: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] في القرآن إن حكمت، وأن هذه الآية ناسخة الحكم بالتوراة لا التخيير في الحكم، إذ قد أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز الحكم بينهم إلا بما في القرآن، وقد قيل: إنهما ناسختان للتخيير في الحكم، وإنه لا يجوز للإمام ردهم إلى حكامهم إذا حكموه، وذهب إلى هذا بعض أهل العراق، وهو بعيد؛ لأن النسخ حكم مبتدأ لا يكون معطوفا على ما قبله، فعطف هاتين الآيتين على آية التخيير يدل على أنهما غير ناسختين لآية التخيير، والله أعلم.
[مسألة: نساء أهل الذمة الذين أخذوا عنوة هل يحل النظر لشعورهن]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن نساء أهل الذمة الذين أخذوا عنوة مثل أهل مصر هل يحل للرجل أن ينظر إلى شعورهن؟ فقال: لا يحل لمسلم أن ينظر إلى شعورهن ولا إلى شيء من عوراتهن، فقيل له: أليس هن بمنزلة الإماء؟ قال لا: بل هن حرائر؛ لأن دية من قتل(4/187)
منهن خمسمائة، ومن أسلم منهن كان حرا، فهن أحرار يحرم منهن ما يحرم من الأحرار.
قال محمد بن رشد: حكم لأهل العنوة في هذه الرواية بحكم الأحرار، ووجه ذلك أنه جعل إقرارهم في الأرض لعمارتها من ناحية المن الذي قال الله تعالى فيه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] والمن العتاقة، فعلى هذا تكون لهم أموالهم إذا أسلموا، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة، واحتج بظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أسلم على شيء فهو له» خلاف رواية سحنون بعد هذا.
وتفرقة ابن المواز في ذلك بين ما كان بأيديهم يوم الفتح، وبين ما استفادوه بعد الفتح ليست جارية على قياس؛ لأن إقرارهم لعمارة الأرض إن كان عتقا لهم، فيجب أن يكون ما كان لهم من مال تبعا لهم بمنزلة ما استفادوه بعد ذلك، فلا ينزع منهم بإسلامهم، وإن لم يكن عتقا لهم، فلا يكونون بإسلامهم أحرارا ولا يكون لهم شيء من أموالهم، ووجه قول ابن المواز أنه جعل حكم ما كان لهم من المال يوم الفتح حكم الأرض في سقوط ملكهم عن ذلك كله، وذلك خلاف قول ابن القاسم في المسألة التي في رسم إن خرجت بعد هذا في الجارية التي بيعت في المغانم، ومعها دنانير أو دراهم إنها تكون للجيش إلا أن يستثنيه المبتاع على الحديث، فجعل العبد ملكا لما سبي معه من ماله حتى ينتزع منه، وقوله: لأن دية من قتل منهن خمسمائة يريد من حساب خمسمائة؛ لأن دية الرجال منهم خمسمائة والنساء على النصف من ذلك.
[اشترى جارية من الخمس فوجد معها مالا]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق وسئل ابن القاسم عمن اشترى جارية من الخمس، فوجد معها مالا ما يصنع به؟ ولم يستثنه بمثل الاشتراء، قال ابن القاسم: إذا كانت دنانير أو دراهم أو أمرا لا يشبه أن يكون من هيئتها ولباسها(4/188)
فإنه لجماعة الجيش، وذلك أن الليث بن سعيد حدثني عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله عن عمر عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من باع عبدا فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» .
قال محمد بن رشد: ظاهر دليل هذه الرواية إن ما كان من هيئتها ولباسها، فإنه للمبتاع، وإن كان كثيرا خلاف ما مضى في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد.
والذي في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد هو الصحيح [إذ] لا يصح أن يكون للمبتاع من هيئتها ولباسها إذا كان كثيرا إلا إذا كان ذلك عليها عند البيع وعلم بذلك البائع على ما قد بيناه في سماع أشهب.
قال ابن دحون: فلو أراد رد ما معها من مال ليس من هيئتها ولباسها، فوجد الجيش قد تفرق أخذه لنفسه، وقيل: يتصدق به، وقد مضى القول على هذا المعنى في مسألة الصليب من سماع أشهب.
[يدخل أرض العدو ويشتري امرأته جاهلا بها أو عالما أنها امرأته]
ومن كتاب أوله: إن أسلم وله بنون صغار وسئل ابن القاسم: عن الرجل يدخل أرض العدو، ويشتري امرأته جاهلا بها أو عالما أنها امرأته؟ قال إذا اشتراها وهو لا يعلم أنها امرأته كان ما اشتراها به دينا عليها يتبعها به، فإن كان اشتراها وهو يعلم أنها امرأته، فلا شيء عليها؛ لأنه كان يخلصها لنفسه.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يفدي امرأته من أرض العدو، وهو يعلم أنها امرأته: إنه لا يتبعها بما فداها به هو على معنى ما في المدونة في المكاتب يؤدي كتابته ومعه امرأته إنه لا يرجع عليها بشيء، قال ابن حبيب في الواضحة، وحكاه عن مالك وعن مطرف وابن الماجشون وابن القاسم إلا أن يكون فداها بأمرها، وطلبها فإنه يرجع عليها، قال فضل: معناه أن تقول له(4/189)
افدني، وأعطيك الفداء، فيكون من جنس السلف، وظاهر قول ابن حبيب: أنه يرجع عليها بما فداها به إذا فداها بأمرها، وإن لم تقل له افدني وأنا أعطيك الفداء خلاف ما ذهب إليه فضل، وكذلك إذا فدى من بلاد الحرب من يعتد عليه، وهو عالم لا يرجع علميه بما فداه به على معنى ما في المدونة إذا كان معه في الكتابة، فأداها أنه لا يرجع عليه بشيء، وهو قول ابن حبيب في الواضحة أيضا إلا أن يفديه بأمره، فيرجع عليه، واختلف إذا فداه وهو لا يعلم أنه ممن يعتق عليه، فقال ابن حبيب: إنه لا يرجع عليه بخلاف الزوجة، وقال سحنون: إنه يرجع عليه كالزوجة، وأما ذوو المحارم الذين لا يعتقون عليه، فجعل ابن حبيب في الواضحة سبيلهم كسبيل الزوجين لا يرجع من فدى منهم صاحبه من بلد الحرب، وهو عالم به عليه بما فداه به إلا أن يأمره بذلك، وعلى معنى ما في المدونة في الذي يؤدي كتابته، ومعه فيها من ذوي محارمه من لا يعتق عليه أنه يرجع عليه إذا فداه من بلد الحرب علم به، أو لم يعلم أمره، أو لم يأمره كما لأجنبيين، وأما ذوو الرحم الذين ليسوا من ذوي المحارم، فلا اختلاف أعلمه في أنهم كالأجنبي، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة على المذهب، وقد مضى في أول سماع أشهب من كتاب الجهاد ما في خارجه من الخلاف في ذلك.
[النفر من العدو ينزلون بأمان فإذا فرغوا سرقوا عبيد المسلمين أو بعض الأحرار]
ومن كتاب أوله يدبر ماله وسئل ابن القاسم عن النفر من العدو ينزلون بأمان، فإذا فرغوا سرقوا عبيد المسلمين أو بعض الأحرار، واحتملوهم فذهبوا بهم، ثم رجعوا وهم معهم، فنزلوا على أمان، ولم يعرفوا فأرادوا أن يبيعوهم، قال: لا يتركوا وذلك، وأرى أن ينزعوا منهم، ولا يتركوا أن يبيعوا الأحرار، ويطؤا المسلمات، فكلم في ذلك، وقيل: إنهم قد صاروا حربا حين رجعوا إلى بلادهم، وقد حازوهم، واستأمنوا فنزلوا على أمان، فهو بمنزلة ما حازوا من أموال المسلمين، ثم استأمنوا وهو في أيديهم، فأبى ذلك وقال: ينتزعون منهم ولا يتركون أن يطئوا المسلمات ويبيعوا(4/190)
الأحرار وعبيد المسلمين، وإنما مثل ذلك عندي مثل ما لو نزلوا بأمان فداينوا المسلمين ثم هربوا وخرجوا والدين عليهم، ثم رجعوا ونزلوا بأمان أليس يقضى عليهم بتلك الديون؟ قال: نعم يقضى عليهم وتؤخذ منهم، وكذلك هذا عندي.
رجع ابن القاسم، وقال: لا إلا أن يخرجوا من أيديهم، وأرى أن يوفى لهم؛ لأنهم قد أحرزوهم ولا يتبعوا بما داينوا عليه المسلمين؛ لأن العهد والأمان شديد.
قال محمد بن رشد: ولا ينبغي للإمام أن ينزلهم على قول ابن القاسم الأول على أن لا يؤخذ منهم شيء من ذلك إن سألوا الأمان على ذلك، فإن فعل ولم تكن به قوة على محاربتهم إن ردهم إلى مأمنهم أنفذ الشرط لهم، ولم ينتزع منهم شيئا من ذلك، من أجل ذلك إنهم قد نصوا ذلك نصا قاله ابن القاسم وأشهب في كتاب ابن حبيب.
وهذا نحو ما روي عن ابن القاسم في أهل الحرب يقدمون بأمان للتجارة، فيشترطون ألا يرد عليهم إلا من جنون، أو جذام أو برص أن لهم شرطهم خلاف قول سحنون، وقال ابن الماجشون: لا ينفذ لهم الشرط، ويخيرهم الإمام على كل حال بين أن يؤخذ ذلك منهم، أو يردهم إلى حالهم من الحرب، وروى ابن وهب أن الشرط باطل، فيأخذ الإمام ذلك منهم كله ولا يخيرهم بين أن يطوعوا بذلك أو يردهم إلى حالهم من الحرب، ولم يقل ابن القاسم هل للإمام في القول الثاني إذا اطلع على ما في أيديهم من هذه الأشياء أن يخيرهم بين أن يردوها طوعا أو يردهم إلى حالهم من الحرب كما قال في آخر رسم الكبش من سماع يحيى في أهل الذمة، وينبغي أن يكون ذلك له قياسا عليها، وإن كان ذلك في أهل الذمة أبين لما قد ذكرناه فيها من المعنى، وبالله التوفيق.
[الاشتراء من أرض الكنيسة تكون عرصة الكنيسة أو حائطا]
ومن كتاب النسمة وسئل مالك عن الاشتراء من أرض الكنيسة تكون عرصة الكنيسة أو حائطا، فباع ذلك أسقف أهل تلك البلدة وهو الناظر لها(4/191)
والقائم عليها، فهل ترى للرجل أن يتعمد الاشتراء منها؟ فقال: لا إن كانت تلك القرية أخذت عنوة بغير صلح، فلا ينبغي للأسقف أن يبيع منها شيئا، ولا يشتري أحد منه؛ لأنها فيء الله على المسلمين، وإن كانت مما افتتح بصلح، فلا أرى بأسا إذا كانوا يودون ما عليهم من الصلح أن يبيعوا ما شاءوا.
قال محمد بن رشد: أجاز ابن القاسم في هذه الرواية للرجل أن يشتري من أسقف البلدة الناظر فيها والقائم عليها ما باع من عراص الكنائس والحوائط المحبسة عليها إذا كانت الأرض أرض صلح، ومنع من ذلك في رواية أصبغ بعد هذا، فوجه إجازته لذلك في هذه الرواية أنهم أهل ذمة أقروا في بلادهم وأخذت منهم الجزية على أن يخلى بينهم، وبين إقامة شرائعهم وفعل ما يستبيحون فعله في أديانهم، فإذا قالوا: إن من ديننا جواز بيع عراص الكنائس والحوائط المحبسة عليها جاز ابتياع ذلك منهم كما يجوز ابتياع أرض من مات، وماله ممن قالوا: إن هذا هو وارثه في ديننا، وإن كان غير وارث عندنا، وسنتكلم في رواية أصبغ على وجه منعه من ذلك إذا مررنا بذلك إن شاء الله، وأما أرض العنوة، فلا يجوز لهم أن يبيعوا منها شيئا؛ لأن جميعها فيء الله على المسلمين: الكنائس وغيرها، وقد اختلف إذا تركوا فيها لعمارتها، فقيل: إنها تهدم، وقيل: إنها لا تهدم، ويباح لهم عمارتها على أنها ملك للمسلمين لا لهم، وبالله التوفيق.
[الأسير من العدو يصير لرجل من المسلمين فيفدي نفسه من سيده بوصيفة]
ومن كتاب الجواب وسألته عن الأسير من العدو يصير لرجل من المسلمين، فيفدي نفسه من سيده بوصيفة يدفعها إليه، فتستحق حرة يستحقها رجل أنها ابنته أصابها العدو، وقد لحق الأسير بأرضه أو لم يلحق، قال ابن القاسم: الجارية حرة ثم لا يتبع بشيء قليل ولا كثير؛ لأن الأسير وماله للمسلمين، فإن كان في ماله أحرار أو حرة وقد كان أحرزهما(4/192)
في أرضه خلي سبيلهما، ولم يكن عليهما شيء، وكانا كما غنم المسلمون من ذلك مما كان العدو قد سبوه وأحرزوه، فهذه الجارية في مسألتك حرة على كل حال متى ما علم بذلك لا يتبع بشيء لا بثمن ولا بقيمة، ويرجع السيد على العلج بقيمة الجارية، بمنزلة عبد اشترى نفسه من سيده بجارية، أو مكاتب قاطع سيده بجارية فاستحقت فسيده يرجع عليه بقيمتها قيمة الجارية، فكذلك الأسير، وليس الأسير الذي يسبى فيما كان من الأحرار بمنزلة الذي يدخل بأمان، فإذا دخل بأمان وهم معه فهم له مال من ماله لا يعرض لهم فيه ولا يحال بينه وبين بيع ولا وطء، فإن اشتراهم أحد فهم أحرار لا يسترقون، ويتبعهم المشتري بالأثمان بمنزلة ما اشترى منهم بدار الحرب ويخرج بهم سواء.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أن الأسير الذي صار لرجل من المسلمين فدى نفسه من سيده بوصيفة له ببلد الحرب على أن يستخرجها ويدفعها إليه، فتستحق حرة إذا استخرجها ودفعها إليه، ولهذا قال: إن السيد يرجع عليه بقيمتها كالعبد يشتري نفسه من سيده بجارية يريد موصوفة، فتستحق أن السيد يرجع عليه بقيمتها، والوجه في ذلك أنها لم تكن عنده يوم افتدى بها نفسه حكم لها بحكم الموصوفة، ولو كانت عنده يوم فدى بها نفسه بأن تكون كانت سبيت معه، فلم تنزع منه حتى بيعت معه من هذا الرجل، فأخذها منه وسرحها لم يكن له عليه رجوع بقيمتها على مذهبه في المدونة فيمن أعتق عبده على جارية بيده فاستحقت بحرية منه أو ملك أنه لا رجوع له عليه بقيمتها؛ لأنه كأنه إنما انتزعها منه وأعتقه، وقوله: إن الجارية حرة بكون الأسير ملكا للمسلمين بالسباء إذا كان قد أحرزها في بلاد الحرب خلاف قول ربيعة في المدونة في الذي اشترى عبدا من الفيء، فدل سيده على ماله في أرض العدو أن ذلك المال مال حرب ليس للسيد، ولا للعبد فيه شيء ولا للجيش، إذا كان إنما دله عليه في جيش آخر، وخلاف مذهب ابن القاسم(4/193)
وروايته عن مالك في الذي أسلم في بلاد الحرب، وخرج مسلما وخلف أهله وماله وولده في بلد الحرب، فغزا المسلمون تلك الدار، فأصابوا أهله وماله وولده في بلد الحرب أنهم فيء لذلك الجيش، مثل قول بعض الرواة في كتاب النكاح: إن ملكه لا يسقط عن ماله فهو أحق به إن أدركه قبل القسم بغير الثمن وبعده بالثمن، وأما قوله في الذي يدخل بأمان، وبيده أسرى للمسلمين: إنه لا يعرض لهم فيه ولا يحال بينه وبينهم في بيع ولا وطء، فهو معلوم من مذهب ابن القاسم، وقد تقدم ذلك والقول فيه في سماع سحنون من الجهاد وفي غير ما موضع.
[باع من حربي في عهدة سلعة بدينار أو أسلفه دينارا فسبي الحربي]
ومن كتاب العتق وقال ابن القاسم في رجل باع من حربي في عهدة سلعة بدينار أو أسلفه دينارا، فسبي الحربي وأخذ له مال هل يكون المسلف أو البائع أحق بماله من الجيش، وإن كان الحربي قد استودع مسلما وديعة أو كانت له عليه دنانير من سلف أو بيع، قال: أما ما كان له من مال عند مسلم من وديعة أو بيع أو سلف أو غير ذلك، فحيثما وجد له مال فهو فيء لجميع المسلمين، فإن كان عليه دين، فغرماؤه أحق به إذا كان على ما ذكرت مما كان له في الإسلام من وديعة، أو دين وكل ما لم يوجب عليه بخيل، ولا ركاب، فأما ما أوجف عليه بالخيل والركاب، فالمسلمون أحق به من غرمائه وهو لهم.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في سماع أصبغ بعد هذا سواء والفرق بين ما كان له في بلد الإسلام، وبين ما غنم من ماله في بلاد الحرب أن من عامله أو أسلفه إنما عامله أو أسلفه على ما خرج به إلى بلد الإسلام لا على ماله في بلاد الحرب لامتناعه فيه، فلم يتعين له فيه حق، وقد وجب ذلك لمن غنمه لقوله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية ولا(4/194)
يعارض هذا ما في آخر كتاب التفليس من المدونة في المرتد يهرب بماله إلى بلد الحرب، فقاتل مع المشركين، فغنم المسلمون ماله أنه يبدأ فيه بما عليه من الديون، ويكون الباقي فيها للجيش؛ لأن الغرماء إنما عاملوه على ماله الذي هرب به، وقد كان وجب لغرمائه من الحق أن يبدءوا بحقوقهم فيه، فليس هروبه بالذي يسقط حقهم فيه، ولو هرب إلى بلاد الحرب بغير مال، فاكتسب فيه مالا وغنم المسلمون لما وجب لغرمائه فيه حق على هذا التعليل، ولو أن الحربي على قياس هذا لما استأمن عامل الناس، فاستسلفهم واشترى منهم بالديون، ثم هرب بماله إلى بلد الحرب فغنمه المسلمون، وعلم أنه المال بعينه الذي هرب به وعامله عليه المسلمون لوجب أن يبدءوا فيه بديونهم، ويكون الباقي فيئا لجميع المسلمين على حكم مال المرتد إذ ليس بملك معين على أصلهم فيما وجد في الغنيمة من أموال المسلمين أنه يقسم، وإن علم أنه للمسلمين إذا لم يعلم صاحبه بعينه وبالله التوفيق.
[علجين من أهل الحرب خرجا إلى دار الإسلام برقيق لهما فأسلم أحدهما]
ومن سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن علجين من أهل الحرب خرجا إلى دار الإسلام برقيق لهما ومنها ما من بلادهما، فلما خرجا إلى دار الإسلام أسلم أحدهما فقال: لو أقاما على النصرانية جميعا أو أسلما جميعا قسمت بينهما كل ما كان في أيديهما مما تداعيا فيه إلا أن يعرف ذلك في يد أحدهما دون صاحبه، فأما إذا أسلم أحدهما، فأمر المقيم على دينه إلى الإمام، والإمام فيما كان في أيديهما على مثل دعوى النصراني.
وإن أقر النصراني أنه لا حق له في الرقيق والمتاع، وقد كان يعرف جميع ذلك في أيديهما لم ينتفع المسلم بذلك الإقرار؛ لأنه بمنزلة العبد، ولكن للإمام أن يقاسم المسلم إذا لم يعرف(4/195)
لواحد منهما دون صاحبه، قيل له: فإن أنكر أولئك الرقيق أن يكونوا لهما أو في أيديهما أو ادعوا الحرية.؟ قال: فهم أجمعون بمنزلة واحدة لا يرق أحد منهم لصاحبه إلا أن يقوم لأحدهم بينة أن هؤلاء الرقيق أو بعضهم معروفون في يديه يستحقهم بذلك، قال ابن القاسم: ومن أسلم منهم فماله له، ولا سبيل عليه، ومن أقام على دينه وخرج بغير عهد فأمره إلى السلطان أن يضرب عليه الجزية أو يصنع في أمره أحسن ما يراه نظرا للعامة.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة والذي تكلم عليه فيها أن العلجين خرجا برقيق لهما بغير عهد ولا أمان، ولو خرجا بأمان وعهد لم يكن للإمام في رقيقهما كلام أسلما، أو لم يسلما، أو أسلم أحدهما؛ لأنها أموالهما لا يصح انتزاعها منهما أسلما أو لم يسلما فيقسمانها بينهما على كل حال، وإذا كانا قد خرجا بغير عهد ولا أمان، فأمرهما إلى السلطان؛ لأنهما وما في أيديهما من الرقيق فيء لأهل الإسلام أسلما أو لم يسلما؛ لأن من خرج بغير عهد، فأخذه الإمام فالنظر فيه إليه بما ينظر فيه في الأسرى إن رأى أن يقتله قتله، وإن رأى أن يسترقه استرقه، فإن أسلم حرم قتله، وبقي رقيقا للمسلمين، فقوله في هذه الرواية إن أسلما جميعا قسمت بينهما كل ما كان في أيديهما، وإن أسلم أحدهما فأمر المقيم على دينه إلى الإمام، ومن أسلم منهم فماله له ولا سبيل عليه معناه إذا كان إسلامهما أو إسلام من أسلم منهما قبل أن يعثر عليه، وبهذا التأويل تستقيم المسألة؛ لأن من أسلم منهما قبل أن يعثر عليه، فهو حر يكون له ماله، ولا سبيل إلى استرقاقه، ومن لم يسلم حتى عثر عليه وأخذ يكون هو وماله فيئا للمسلمين، وإن أسلم بعد ذلك، إلا أن قوله: لو أقاما على النصرانية جميعا [قسمت بينهما] كل ما كان في أيديهما، فإنه لفظ وقع على غير تحصيل، ويحتمل أن يكون معناه إذا رأى الإمام من النظر أن يعقد لهما الذمة، ويضرب عليهما الجزية ويقر أموالهما بأيديهما، فهذا مما للإمام أن يفعله إن رآه وجه النظر(4/196)
على ما قد مضى في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الجهاد.
[مسألة: الرجل يصيب العدو امرأته ثم يدخل الرجل إلى أرض العدو للمفاداة]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يصيب العدو امرأته، ثم يدخل الرجل إلى أرض العدو للمفاداة أو التجارة، فيجد امرأته فتقول له: افدني وأنا أضع عنك مهري، ففداها ثم خرج بها أيكون مهرها موضوعا عنه؟ فقال: إن كانت قالت له: افدني ولم توقت شيئا للفدية لم يحل ما تعاملا عليه، فداها بمثل الذي كان عليه أو أقل أو أكثر من صنفه، أو من غير صنفه؛ لأنهما تخاطرا إذا لم تنص شيئا معلوما في فديتها تضع المهر به، فالمهر له لازم وغرم ما افتداها به لازم للمرأة تؤديه إلى الرجل، قال: فإن نصت شيئا معلوما يفديها به، فإنه ينظر إلى ما كان عليه من المهر، وإن كانت عليه دنانير، وسألته أن يفديها بدراهم لم يصلح ذلك بقليل الدراهم، ولا كثيرها إلا أن تقبض هي الدراهم على وجه المصارفة والاقتضاء للذي عليه من المهر، فيتصارفان فيه قبل أن يفترقا، ثم تدفع ذلك إليه يفديها به، قال: وكذلك إذا كان المهر دراهم، فسألته أن يفديها بدنانير تنصها؛ لأن الصرف يدخله وهو لا يحل إلا بالمناجزة وذلك إذا كان المهر حالا، قال: وإن كان الذي عليه الدنانير، فأمرته أن يفديها بدنانير على أن تضع المهر عنه، فإن كان المهر حالا فلا بأس أن يفديها بمثل الذي عليه لها من دنانير المهر، وبأقل وبأكثر بعد أن ينص ما يفديها به، فيخرجان من حد المخاطرة والقمار، وذلك إذا نصت ما تفدى به من الدنانير على أن تضع عنه مهرا حالا من دنانير، فإن كان الذي سألت أن تفدى به أقل من مهرها، فقد رضيت أن تقتضي من دين لها حال بعضه وتترك بعضه، وإن كان قدر المهر، فهو الاقتضاء بعينه، وإن نصت أكثر من المهر فرضي الزوج بذلك وهو حال عليه(4/197)
فهو رجل قضاها حقها وتطوع لها بالزيادة في افتدائها، قال: وإن كان المهر دنانير أو دراهم لم تحل بعد لم يصلح له أن يفتديها بأقل من الذي عليه؛ لأنه إن كان بأقل كان من وجه الوضيعة عنه على تعجيل القضاء، وإن كان أكثر، فلا خير فيه؛ لأنه يدخله بيع الذهب بالذهب متفاضلا إلى أجل، وهو مما لا يحل، قال: وإن كان الذي عليه من المهر عروضا، فأسلك بها سبيل الذهب والورق إن أرادت أن يفتديها بمثل تلك العروض في جودتها وجنسها، ولا بأس إذا كانت عليه دنانير أو دراهم أن يفتديها من العروض بما أحب من قليل أو كثير، حل أجل المهر أو لم يحل إذا نصت ما تفتدي به من المهر، وكذلك إذا كان المهر عروضا، فلا بأس أن يفتديها بما أحب من العروض المخالفة التي عليه أو بالدراهم والدنانير بأقل من ذلك أو أكثر حل أجل المهر، أو لم يحل إذا كان في جميع ما وصفت لك تعجيل الفدية ولا يؤخرها، فإن تأخرت فيما أجزت له من اختلاف العروض واختلاف الدنانير والدراهم والعروض لم يصلح؛ لأن الدين بالدين يدخله، وإن كان المهر الذي عليه طعاما لم يصلح أن يفديها شيء من الأشياء غير صنف ذلك الطعام لا بقليل الفدية، ولا بكثيرها؛ لأن بيع الطعام قبل الاستيفاء يدخله، ولا بأس أن يفتديها من الطعام بمثل الذي وجب عليه لها من صنفه في قدر مكيلته حل أجل المهر أو لم يحل، وإن لم يحل الأجل لم يصلح أن يفتديها بأقل من المكيلة من صنف الطعام ولا بأكثر من المكيلة.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: وإن كان المهر دنانير أو دراهم لم تحل بعد ففداها بأكثر مما عليه، فلا خير فيه لأنه يدخله بيع الذهب بالذهب متفاضلا إلى أجل وهو مما لا يحل، ليس بصحيح؛ لأنه عجل لها حقها وزادها فلا يدخله شيء؛ لأن له أن يعجل العين بخلاف العرض، ولو كان المهر الذي عليه عرضا لم يجز أن يفتديها بأكثر منه ولا بأقل؛ لأنه في الأكثر حط عني(4/198)
الضمان وأزيدك، وفي الأقل ضع وتعجل، وفي قوله آخر المسألة: ولا بأس أن يفتديها من الطعام بمثل الذي وجب عليه لها من صنفه في قدر مكيلته حل أجل المهر، أو لم يحل نظر؛ لأن من أسلم إلى رجل في طعام فلا يجوز له أن يأخذ منه في غير البلد قبل الأجل مثل طعامه، فلا يصح قوله إلا إذا أعطى الطعام في البلد الذي كان عليه الطعام فيه، وسائر المسألة كلها صحيح على أصولهم في البيوع بينة المعنى فلا وجه للكلام فيها.
[يهلك من أهل الصلح والعنوة ممن لا يدع وارثا يرثه أيرثه المسلمون]
ومن كتاب الصلاة وسئل ابن القاسم: عمن يهلك من أهل الصلح والعنوة ممن لا يدع وارثا يرثه أيرثه المسلمون عامة؟ فقال: أما أهل الصلح، فميراث من لا وارث له منهم من ذوي قرابته لأهل مواده لا يكون من مواريثهم شيء للمسلمين، وذلك أن موته لا يضع عمن بقي من أصحابه شيء مما صالحوا عليه فميراثه لهم وجزيته عليهم، وأما أهل العنوة فإن من مات منهم ولا وارث له من ذوي قرابته فميراثه للمسلمين، قيل له: كيف يعرف إن كان ترك وارثا أو لا وفرائضهم في سنتهم مخالفة لفرائضنا؟ فقال: ترد ذلك إلى أساقفتهم، فإن قالوا: ليس له وارث يرثه في ديننا من ذوي قرابته أخذ ميراثه للمسلمين، وإن قالوا: ترثه خالته أو عمته أو ذات رحم من جميع ماله في ديننا وفرائضنا، وإن تباعدت قرابتها وقرابة من ورثه من أساقفتهم من رجال قرابته أو نسائهم فذلك إليهم يدينونه.
قال محمد بن رشد: قوله في أهل العنوة: إن من مات منهم ولا وارث له من ذوي قرابته، فميراثه للمسلمين هو مثل ما في سماع يحيى أيضا من كتاب الاستلحاق أنهم في موارثيهم وأهل الصلح سواء ومثل ما في الواضحة، وهذا يأتي على رواية عيسى عن ابن القاسم التي تقدمت في هذا الكتاب: أنهم أحرار ولا ينظر إلى شعور نسائهم، وتكون دية من قتل منهم(4/199)
خمسمائة دينار، وعليه يأتي أيضا قول ابن حبيب في الواضحة: أن من أسلم منهم فماله له، ويلزم على قياس ذلك أن يمنعوا من هبة أموالهم والصدقة بها، وأن يحكم عليها بذلك للمسلمين، وهو ظاهر ما في كتاب الهبة والصدقة من المدونة إذ لم يفرق بين أهل العنوة وأهل الصلح كما فعل غير ابن القاسم، ولا يمنعوا من الوصايا بجميع أموالهم إلا إذا لم يكن لهم وارث من أهل دينهم وكان ميراثهم للمسلمين.
ويأتي على رواية سحنون عن ابن القاسم بعد هذا أنهم في حكم العبيد المأذون لهم في التجارة، فيجوز لهم بيع رقيقهم، ولا يجوز لهم أن يهبوا أو يتصدقوا بشيء من أموالهم ولا يكون لهم منها شيء بإسلامهم؛ لأنهم لا يتوارثون، وميراث من مات منهم للمسلمين كان له وارث من قرابته أو لم يكن، وهو ظاهر قول سحنون في سماع عيسى من كتاب السلطان، ولا يحرم النظر إلى شعورهن، ويكون على من قتل أحدا منهم خطأ أو عمدا قيمته بالغا ما بلغت للمسلمين، ولا يجوز للمسلمين تزويج نسائهم، وإن كان لم يحرم ذلك في الرواية مراعاة للاختلاف، فالقياس على أصله في أنهم عبيد أن ذلك لا يجوز؛ لقوله عز وجل: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] ولا اختلاف في المذهب في أن الأرض للمسلمين لا يجوز لهم بيعها، ولا يكون لهم فيها ميراث، ولا يكون لهم إن أسلموا، وأما أهل الصلح فمذهب ابن القاسم أن أرضهم لهم يبيعونها ويورثونها، وتكون لهم إن أسلموا، كانت عليها جزية أو لم تكن، كانت الجزية على جماجمهم أو مجملة عليهم لا ينقصون منها شيئا بموت من مات منهم، وفرق في توارثهم بين أن تكون الجزية على جماجمهم أو مجملة عليهم فقال: إنها إن كانت على جماجمهم كان ميراث من مات منهم ولا وارث له من أهل دينه للمسلمين، ولم تجز له وصية إلا في ثلث ماله، وإن كانت الجزية مجملة عليهم لا ينقصون منها شيئا بموت من مات منهم كان ميراث من مات منهم ولا وارث له من أهل دينه لأهل مواده، وذهب ابن حبيب إلى عكس قول ابن القاسم في الطرفين، فساوى بين أن تكون الجزية على جماجمهم أو مجملة عليهم فقال: إنها إن كانت على جماجمهم كان ميراث(4/200)
من مات منهم ولا وارث له من أهل دينه للمسلمين، ولم تجز له وصية إلا في ثلث ماله، وإن كانت الجزية مجملة عليهم لا ينقصون منها شيئا بموت من مات منهم كان ميراث من مات منهم ولا وارث له من أهل دينه لأهل مواده، وذهب ابن حبيب إلى عكس قول ابن القاسم في الطرفين، فساوى بين أن تكون الجزية على جماجمهم أو مجملة عليهم في أن من مات منهم ولا وارث له من أهل دينه، فميراثه للمسلمين، وفرق بين أن تكون الجزية على جماجمهم أو مجملة عليهم في حكم أرضهم فقال: إنها إن كانت على جماجمهم كان لها حكم أموالهم يبيعونها وتكون لهم إن أسلموا عليها ويتوارثونها إلا أن لا يكون لهم وارث من أهل دينهم، فيرثه المسلمون، وإن كانت مجملة عليهم كانت موقوفة للخراج لا يكون لهم أن يبيعوها، ولا يكون لمن أسلم منهم أرضه، ولا يكون للمسلمين أرض من مات منهم ولا وارث له من قرابته؛ لأنها موقوفة للخراج على كل حال، وروى ابن نافع عن مالك أنه يجوز لهم بيع أرضهم إلا أن تكون على الأرض جزية، فيأتي في بيع أرضهم ثلاثة أقوال: أحدها: أن لهم أن يبيعوها على كل حال، وهو مذهب ابن القاسم، والثاني: الفرق بين أن تكون الجزية على جماجمهم أو مجملة عليهم، وهو قول ابن حبيب، والثالث: الفرق بين أن تكون على الأرض جزية أو لا يكون عليها جزية، وهو قول مالك في رواية ابن نافع عنه، واختلف ابن القاسم وأشهب إذا باع الصلحي أرضه وعليها جزية، فقال أشهب: يكون الخراج على المبتاع ما لم يسلم البائع أو يموت، وقال ابن القاسم: يبقى الخراج في الأرض على البائع كما كان عليه، ولا يجوز أن يشترطه على المبتاع، فإن اشترطه عليه فسد البيع.
[الروم يقدمون بالعبيد من فحوص الصقالبة]
ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع قال يحيى: قال ابن القاسم في الروم يقدمون بالعبيد من فحوص الصقالبة: إنه ينبغي للإمام أن يمنعهم من بيع أولئك الرقيق من غير المسلمين، لا يبيعونها من اليهود ولا من النصارى ولا من(4/201)
المجوس لا صغيرا منهم ولا كبيرا، وذلك أنهم يصيرون إلى دين من ملكهم.
قلت له: أرأيت من وجد في يد اليهود والنصارى قد اشتروهم أيردوا على الروم الذين باعوهم منهم؟ قال: بل يباعوا على الذين وجدوا في أيديهم من اليهود والنصارى، قيل له: أرأيت إن وجدوا قد تهودوا أو تنصروا؟ قال: أرى إذا صاروا إلى غير دين الإسلام أن يقروا في أيدي الذين اشتروهم يهودا كانوا أو نصارى أو مجوسا، وذلك أنهم لم يكونوا يجرون على الإسلام لو ملكهم المسلمون، فإن تهودوا أو تنصروا، فلا أرى أن يباعوا على من ملكهم من أهل الكتاب أو المجوس؛ لأنهم إنما يمنعوا من ملك المسلمين، قال: وإذا تقدم إليهم ألا يشتروهم، ثم تعدوا واشتروا ووجدوا في أيديهم قد تنصروا أو تهودوا رأيت أن يعاقب الذين هوّدوهم أو نصّروهم ويُنَكَّلُوا حتى لا يعودوا إلى مثل ذلك.
قال محمد بن رشد -: في المدنية لمالك من رواية ابن القاسم عنه أنهم لا يمنعون من بيعهم منهم، قال ابن القاسم: وإنما رأيت مالكا أجاز للروم بيع الصقالبة من النصارى واليهود بموضع عهدهم الذي نزلوا عليه، فهم يصنعون بما في أيديهم ما أحبوا، ولو أرادوا أن يردوهم إلى بلادهم كان ذلك لهم، ولم يحل لك منعهم، فكما كان يجوز لهم أن يردوهم، فكذلك يجوز لهم أن يبيعوهم ممن أحبوا ابتغاء الفضل لما قدموا به، وهذا وجه ما رأيت مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - نحا إليه، فإذا أوجب على الإمام في هذه الرواية أن يمنعهم من بيعهم من غير المسلمين، فكذلك يجب عليه على مذهبه فيها أن يمنعهم من الرجوع بهم إلى بلادهم خلاف رواية سحنون بعد هذا، وإذا أوجب ذلك عليه في المجوس فأحرى أن يجب ذلك عليه فيمن أسلم من رقيقهم، فرواية(4/202)
يحيى هذه مخالفة ما في سماع سحنون وعيسى من هذا الكتاب وخلاف ما في سماع سحنون أيضا من كتاب الجهاد أن لهم أن يرجعوا من أسلم من رقيقهم ولا يحال بينهم وبين ذلك.
وقوله في هذه الرواية: إنهم يباعون على الذين وجدوا في أيديهم من اليهود والنصارى خلاف ما تقدم في رسم "الشجرة تطعم بطنين" من سماع ابن القاسم، وقد مضى هنالك ما في ذلك من الاختلاف، ولم يفرق في هذه الرواية أيضا بين صغار المجوس وكبارهم مثل ما يأتي في سماع أصبغ بعد هذا خلاف ما مضى في سماع ابن القاسم، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم من كتاب الجنائز في أول سماع أصبغ من كتاب الصلاة، وقد اختلف في المسلم يشتري المجوسي من المستأمن أو من الذمي، فيسلم عنده ثم يجد به عيبا، فقيل ذلك فوت ويرجع بقيمة العيب، قاله ابن الماجشون وأشهب، وقيل: ليس بفوت ويرد عليه، ثم يباع عليه ثانية، قاله ابن القاسم، والقولان جاريان على الرد بالعيب هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع، وهو أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم وأشهب.
[إذا أسلم أهل العنوة حكم أموالهم أخذ منهم دراهمهم ودنانيرهم وعبيدهم]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: قال ابن القاسم: قال مالك: إذا أسلم أهل العنوة أخذ منهم دراهمهم ودنانيرهم وعبيدهم، وكل مالهم، فقلت لابن القاسم: فيجوز بيع رقيقهم؟ فقال لي: أراه جائزا من قبل أن أمرهم كأنهم إنما تركوا على ذلك وكأنهم أذن لهم في التجارة، فإنما يمنعوا من أن يهبوا أو يتصدقوا أو يفسدوا أموالهم، فقلت له: فتزويج بناتهم؟ فقال: ما أحبه، وإني لأتقيه، وما أراه حراما.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن أهل العنوة(4/203)
إذا أسلموا لا يكون لهم مالهم، ويؤخذ منهم صحيح على أصله فيها أنهم في حكم العبيد المأذون لهم في التجارة، وقال ابن حبيب: إذا أسلموا كان لهم مالهم، ولم ينتزع منهم لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أسلم على شيء فهو له» .
وهو الذي يأتي على ما مضى في رسم لم يدرك من سماع عيسى من أنهم أحرار، وقد مضى القول على ذلك هنالك، وعلى قول ابن المواز في تفرقته بين ما كان بأيديهم يوم الفتح، وبين ما استفادوه بعد ذلك، ومضى في رسم الصلاة من سماع يحيى ما فيه بيان هذه المسألة.
[مسألة: الروم إذا نزلوا للتجارة معهم رقيق مجوس]
مسألة وسألته عن الروم إذا نزلوا للتجارة معهم رقيق مجوس، فنزلوا على أن لنا العشر، ثم أرادوا الانصراف، قال: يقاسمون ويؤخذ منهم ما صار للمسلمين، وينقلبون بما بقي، قلت: فإن أسلم الرقيق كلهم، ثم أرادوا الرجوع بهم؟ قال: ذلك لهم بعد أن تؤخذ عشرهم، واحتج بمسألة الروم الذين أرسلوا إلى أمير المؤمنين، واحتج بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أبي جندل.
قال محمد بن رشد: هذا المعلوم المشهور من مذهب ابن القاسم، وحجته بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أبي جندل ليست ببينة؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما رد أبا جندل بالشرط الذي كان صالح عليه أهل مكة، ولا شرط للروم علينا في الرجوع بمن أسلم من رقيقهم، وقد ذكر ابن حبيب: أن قول ابن القاسم هذا لم يتابعه عليه أحد من أصحاب مالك، وقد مضى في رسم "يشتري الدور والمزارع" من سماع يحيى ما هو خلاف لقول ابن القاسم هذا مثل ما ذهب إليه ابن حبيب، فقف على ذلك.(4/204)
[مسألة: أرض الصلح إذا صالحوا على ألف دينار يكون عليهم في كل عام]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن أرض الصلح إذا صالحوا على ألف دينار يكون عليهم في كل عام أهو مثل أن يصالحوا على أن على جماجمهم دينارين وعلى الأرض مبذر كذا وكذا، وعلى كل زيتونة كذا وكذا أهو سواء؟ قال: نعم، هو كذلك عندي يجوز لهم بيعها، وإذا أسلموا عليها وضعت عنهم الجزية.
قال محمد بن رشد: ساوى ابن القاسم في هذه الرواية في جواز بيع أرض الصلح بين أن تكون الجزية مجملة عليهم أو مقصوصة على جماجمهم وعلى الأرض، أو على جماجمهم دون الأرض، وقد مضى ما في هذا من الاختلاف وتحصيل القول فيه في رسم الصلاة من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته هنا، وبالله التوفيق.
[الرهبان إذا كانوا في أرض الإسلام هل عليهم جزية]
من سماع عبد الملك بن الحسن من أشهب وابن وهب قال عبد الملك: سئل أشهب: عن الرهبان إذا كانوا في أرض الإسلام هل عليهم جزية كانوا في صوامع أو غيرها؟ فقال: كل شيء وقع عليه اسم الترهيب فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في أول سماع أشهب من كتاب الجهاد، فلا معنى لإعادته هنا، والله الموفق.
[مسألة: عن الرجل تكون أمه نصرانية عمياء فتسأله المسير معها إلى الكنيسة]
مسألة وسئل عن الرجل تكون أمه نصرانية عمياء، فتسأله المسير معها إلى الكنيسة، هل ترى له سعة في المسير بها إلى الكنيسة؟ فقال: لا أرى بأسا أن يسير بها حتى يبلغها، ولا يدخلها الكنيسة فقيل له:(4/205)
أفيعطيها نفقة لعبدها؟ قال: نعم يعطيها نفقة لطعامها وشرابها ولا يعطيها ما تعطي في كنيستها.
قال محمد بن رشد: رأى المسير معها إلى الكنيسة أحق من أن يعطيها ما تعطي فيها؛ لأن مسيره معها إلى الكنيسة لا منفعة فيه للكنيسة، وإنما هو عون لأمه على الوصول إليها، وإعطاؤها ما تعطي في الكنيسة منفعة لها وسبب لعمارتها بمثابة أن لو أعطى ذلك هو فيها، وفي المبسوطة لمالك: أنه لا يسوغ له أن يسير معها إلى الكنيسة، وهو أصل قد اختلف فيه قول مالك، وقد بين في رسم تسلف في المتاع والحيوان المضمون من سماع ابن القاسم وجه الاختلاف في ذلك.
[مسألة: بيع رقيق اليهود من النصارى ورقيق النصارى من اليهود]
مسألة وسألت ابن وهب: عن بيع رقيق اليهود من النصارى، ورقيق النصارى من اليهود هل ترى ذلك واسعا؟ قال: لا ينبغي ذلك ولا يجوز، وسئل عنها سحنون فقال: ذلك مكروه، وإنما كره ذلك من ناحية العداوة التي بينهم.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة متكررة في هذا السماع من كتاب جامع العيوب.
والعداوة هنا عنها هي ما أخبر الله به من قول بعضهم في بعض للتنافس الذي بينهم إذ هم جميعا أهل الكتاب فقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] يريد: كل طائفة منهما ليست لصاحبتها على شيء منذ دانت دينها وكفرت اليهود بعيسى والنصارى بموسى صلى الله عليهما، فكذب الله الطائفتين بقوله: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113] يريد التوراة والإنجيل؛ لأن التوراة تصدق(4/206)
بعيسى والإنجيل يصدق بموسى كما أنهما جميعا يصدقان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فإن وقع ذلك، ففي كتاب ابن سحنون عن أبيه: أنه يجبر على بيعه، وروى ذلك زياد عن مالك، ولا يدخل ذلك من الاختلاف ما دخل في النصراني يشتري المسلم على ما مضى في رسم أوله يشتري الشجرة تطعم بطنين من سماع ابن القاسم، وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك مخالف لما في سماع ابن القاسم والمدونة من إجازة بيع كبار المجوس من اليهود والنصارى؛ لأن الدينين مختلفان أيضا، وليس ذلك بصحيح، إذ لا تنافس بين المجوس وأهل الكتاب، إذ ليسوا بأهل كتاب، ولا جاء بعداوتهم نص كتاب الله تعالى.
[العبد النصراني يباع من أهل دينه من أهل الحرب]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب البيوع الثاني قال يحيى: وسئل ابن القاسم عن العبد النصراني يباع من أهل دينه من أهل الحرب، قال: لا أرى ذلك، أخاف أن يكون عورة على المسلمين، ودليلا على ذلك، ولولا ذلك لم أكرهه إذا ثبت على دينه، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: قد بين ابن القاسم وجه كراهيته لذلك بيانا لا زيادة عليه، وبالله التوفيق.
[نصراني دفع إلى نصراني طيرا صاده بأن يبيعه ويجعل ثمنه في الكنيسة]
ومن كتاب الجامع وسئل ابن القاسم عن نصراني دفع إلى نصراني طيرا صاده بأن يبيعه ويجعل ثمنه في الكنيسة، فمر به على مسلم فسأله فأخبره قصته، وما أمر به في ثمنه فأراد المسلم شراءه، قال: أرى ذلك خفيفا، قال أصبغ: لا يعجبني ولا أراه في سعة، وأراه في إثم وحرج، وأراه عونا على شرائع الكفر وتعظيم الكنائس وعمارتها، والذي يفعل هذا وشبهه مسلم سوء مريض الإيمان.(4/207)
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم محض القياس، وقول أصبغ نهاية الورع، وقد مضى في رسم تسلف من سماع ابن القاسم ما يدل على توجيه كل واحد من القولين.
[مسألة: الديارات وما يباع منها إذا باعها أسقف الكنيسة في خراجها وفي مرمة الكنيسة]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم قال في الديارات: وما يباع منها إذا باعها أسقف الكنيسة في خراجها وفي مرمة الكنيسة، وإنها حبست تلك الأرض في صلاحها إنه لا يباع منها شيء ولا يجوز شراؤه لمسلم، ولا يجوز لهم في أحباسهم التي يحبسونها على وجه التقرب إلا ما يجوز للمسلمين في أحباسهم، قال أصبغ مثله في المسلم لا يشتريه على حال نحو التي فوقها، قال: ولا يحكم حكم المسلمين في منع بيعها ولا رده ولا الأمر به، ولا إنفاذ حبسها ولا جوازه ولا أرى أن يسعه ذلك.
قال محمد بن رشد: لم يجز ابن القاسم في هذه الرواية للرجل أن يشتري من أسقف أهل بلدة الصلح الديارات المحبسة على إصلاح الكنائس إذا باعها في مرمتها أو في خراجهم خلاف ما مضى من قوله في رسم النسمة من سماع عيسى، والوجه في ذلك أنه لو تنازع فيها الذي حبسها والأسقف، فأراد الذي حبسها أن لا تباع تلك الديارات بغير اختيار محبسها وتبقى موقوفة على ما حبسها عليه من أن تكون غلتها في إصلاح الكنيسة، وأراد الأسقف أن يبيعها في إصلاح الكنيسة أو فيما لزمهم من الخراج وتحاكموا في ذلك إلى حكم المسلمين ورضوا بحكمه لكان الواجب عليه إن اختار أن يحكم بينهم بحكم المسلمين الذي هو أن لا تباع الديارات بغير اختيار محبسها إذ لم يطلق ذلك فيها، وإنما أراد أن تكون موقوفة لا تباع، وهذا معنى قول ابن القاسم لا يجوز لهم في أحباسهم التي يحبسونها على وجه التقرب إلا ما يجوز للمسلمين في أحباسهم؛ لأن المحبس لها لو أراد أن يرجع فيما حبس على الكنيسة لما جاز(4/208)
ذلك له، ويمنعه من ذلك حاكم المسلمين، هذا ما لا يصح أن يكون، ابن القاسم أراده كما تأول أصبغ عليه؛ لأن التحبيس على الكنيسة معصية لله لا طاعة له، ولا يحل أن يحكم على من أوجب على نفسه معصية بتنفيذها، وإذا لم يكن للأسقف أن يحكم على المحبس ببيع ما حبس بغير اختياره لم يجز للمسلم أن يبتاع ذلك منه كما قال ابن القاسم لا سيما إن باع ذلك في مرمة الكنيسة لما في ذلك من العون لهم على عمارة كنائسهم، وإن كان ذلك عند ابن القاسم خفيفا على ما قاله في المسألة التي قبل هذه وقول هذه، وقول أصبغ في المسلم لا يشتريه على حال نحو التي فوقها يريد مسألة الطائر إنما يصح في الذي يبيع لمرمة الكنيسة لما في ذلك من تعظيم الكنائس وعمارتها، وأما الذي يبيع في الخراج فلا وجه لمنعه من ذلك على أصله في إنكار قول ابن القاسم ورد علته.
[مسألة: العدو يداينون المسلمين إلى أن يرجعوا من قابل]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن وهب يقول في العدو يداينون المسلمين إلى أن يرجعوا من قابل، فيرجعون فيقولون: لا ننزل إلا على أن لا تعدوا علينا غرماءنا فقال: لا ينبغي للإمام أن ينزلهم على ذلك، قيل له: فإن أنزلهم على ذلك فقام الغرماء، فقال: أرى أن يعديهم القاضي على حقوقهم ويخير الآخرين، فإن أحبوا أن يبيعوا باعوا، وإن أحبوا أن يذهبوا ذهبوا، فإن ذهبوا لم يؤخذ منهم العشر حتى يبيعوا، فإذا باعوا أخذ منهم العشر، قال أصبغ: وإن رفعوا إلى غيرها من سواحل المسلمين فاشتروا تجارة لم يؤخذ منهم إلا ما أخذ.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الإمام إذا أنزلهم على أن لا يعدي عليهم بالحقوق التي عليهم لا ينفذ ذلك لهم، ويعدي عليهم بما عليهم من الحقوق صحيح لا ينبغي أن يختلف فيه؛ لأنهم اشترطوا إسقاط ما قد أوجبوه على أنفسهم، وإنما اختلف إذا هربوا بالديون التي عليهم، ثم نزلوا على أن لا(4/209)
يعدي عليهم بها على ما قد ذكرناه من الاختلاف في ذلك في رسم زيد من سماع عيسى، فقف على ذلك، وأما قوله: إنه لا يؤخذ منهم العشر إلا أن يبيعوا فهو خلاف مذهب ابن القاسم في المدونة، وكتاب ابن المواز في رسم أوصى من سماع عيسى مثل ما لأشهب في كتاب ابن المواز، وقول أصبغ: وإن رفعوا إلى غيرها من سواحل المسلمين فاشتروا تجارة لم يؤخذ منهم إلا ما أخذ، يريد إلى غيرها من سواحل المسلمين في ذلك الأفق، ولو كان الساحل الذي رفعوا إليه في أفق آخر لوجب أن يؤخذ منهم فيه العشر إن اشتروا أو باعوا على مذهب ابن وهب، وعلى مذهب ابن القاسم باعوا أو لم يبيعوا وبالله التوفيق.
[مسألة: ما يكون للحربي من مال عند مسلم من وديعة أو سلف أو بيع]
مسألة قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: كل ما يكون للحربي من مال عند مسلم من وديعة أو سلف أو بيع وحيث ما وجد له مال مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، ثم سبي بعد ذلك فهو فيء للمسلمين، وإن كان عليه دين فغرماؤه أحق به، وإن كان ما أوجف عليه الخيل والركاب، فالمسلمون أحق به من غرمائه وهو لهم فيء.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة، ومضى القول فيها في رسم العتق من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: المسلم يشتري العبد المجوسي من المجوسي هل يجبره على الإسلام]
مسألة وسئل أصبغ: عن المسلم يشتري العبد المجوسي من المجوسي مثل المجوس الذين يكونون بالعراق بين ظهراني المسلمين قد ثبتوا على مجوسيتهم هم وعبيدهم فيبيع الرجل منهم العبد من المسلمين هل على المسلم أن يجبره على الإسلام؟ قال: لا ليس ذلك عليه إنما(4/210)
هذا فيمن يشتري المسلمون من السبي من الصقالبة وغيرهم من سبي المجوس، فأولئك الذين يجبرون على الإسلام.
قال محمد بن رشد: قوله في أهل الذمة من المجوس الذين قد ثبتوا على مجوسيتهم: إنه لا يجبر من اشترى من عبيدهم يريد الكفار على الإسلام صحيح؛ لأن المسبيين منهم إنما أجبروا على الإسلام من أجل أنهم لم يفقهوا دينهم، ولا عقلوه لما هم عليه من الجهل فكان لهم في ذلك حكم الصغار، ولم يفرق في هذه الرواية في المسبيين منهم بين الصغار والكبار في أنهم يجبرون على الإسلام، بل ظاهر قوله: أنه إنما تكلم على الكبار دون الصغار كما فعل في الذميين، فهو خلاف ما مضى في رسم الشجرة تطعم بطنين من سماع ابن القاسم، والحمد لله، اللهم عونك يا معين.(4/211)
[كتاب تضمين الصناع] [يستعمل القلنسوة من الخياط فيبيعها الخياط فيأتي صاحبها فيريد إمضاء البيع](4/213)
من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب قطع الشجر قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سئل مالك عن رجل يستعمل القلنسوة من الخياط، فيبيعها الخياط، فيأتي صاحبها فيريد إمضاء البيع وأخذ الدراهم من الخياط وأخذ قلنسيته من الذي اشتراها إذا عرفها، قال: أما قبض الدراهم من صاحب القلانس، فلا أرى ذلك؛ لأنه كان ضامنا لها حتى يوفيه إياها، وأرى عليه مثلها بعملها له، ولو لم تفت القلنسوة عند مشتريها فشاء أن يأخذها أخذها، قال ابن القاسم: لا أرى مالكا أجاب فيها إلا أنها كانت مضمونة على الخياط بصفة، فأما أن تكون خرقته بعينها استعملها إياه، فله أن يأخذ الثمن الذي باعها به أو قيمتها إن كانت القيمة أكثر من الثمن الذي باع به.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة على ما حملها عليه ابن القاسم وذهب إليه في تأويلها محمد بن المواز: أن القلنسية كانت مضمونة على الخياط، وأن الخياط لما أكملها على الصفة التي استعمل عليها أشهد أنها لفلان، ثم باعها، فلم ير مالك أن يجيز بيعها ويأخذ الدراهم التي أخذ الخياط فيها إذا كانت قد فاتت عند المشتري؛ لأنها إذا كانت قد فاتت عنده رجعت على أصلها مضمونة على الخياط، فخشي مالك من ذلك الذريعة إلى الحرام بأن يكون قد(4/215)
دفع دراهم فيأخذ أكثر منها، وأما إن كانت قائمة عند المشتري وعرف البيع، فله أن يجيزه ويأخذ الثمن، كما له أن يأخذها من أجل أنها قد تعينت له بإشهاد الخياط عليها قبل البيع أنها له، فلعله إنما باع ملك نفسه، فيخشى في ذلك الذريعة إلى الحرام بدفع دراهم في أكثر منها، فالمسألة آخذة بالطرفين من الضمان والتعين هي مضمونة عليه في الأصل، عليه خلافها إن غابت أو تلفت عنده أو عند المشتري ومتعينة في أنه ليس له أن يمسكها ويعطيه غيرها إلا برضاه، وفي أنها إن وجدت عند المشتري، كان أحق بها، وإن شاء أخذ ثمنها، ولو لم تكن مضمونة على الخياط بصفة، وإنما كان استعمله خرقة بعينها لكان مخيرا فهو إن وجدها أخذها؛ لأنها متاعه، وإن لم يجدها كان عليه مثلها، جعل القلنسوة من الأشياء التي يؤخذ مثلها لكثرتها.
قال في الجلد وهو على شاة استحييت: إن له قيمة ذلك أو شراؤه أي مثله، فلما كانت الجلود كثيرة، والمثل موجودة فيها جاز أن يعطى مثله وكره أن يأخذ الثمن في ذلك أو القيمة لئلا يصير بيعا وسلفا يعطى ثمنا وخرقة، ويأخذ ثمنا يقبح فلما قبح وجاءت الضرورة جاز أن يأخذ مثل القلنسية، ولو كانت إرادته ما قال ابن القاسم لما كان له على القلنسية المبيعة سبيل ولكان سلفا في قلنسية، ولما كان له نقض البيع فيها وأخذها لو لم يقع على خرقته فهو غير متبوع.
قال محمد بن رشد: والتأويل الذي ذكرناه على ما حمل ابن القاسم عليه المسألة من أن القلنسية مضمونة على الخياط، أو لأن قول ابن لبابة، إذ لو كانت خرقته بعينها استعمله إياها لم يكن في أخذه الثمن أو القيمة كراهة إذا علم البيع ولا دخله بيع وسلف لأخذه ثمن متاعه بعينه أو قيمته بعد ثبوت العداء عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصانع والصباغ تسرق بيوتهم]
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك: عن الصناع الصانع والصباغ تسرق بيوتهم فيأتي من له عنده شيء، فيقول الصباغ: هذا متاع فلان، وهذا ثوب(4/216)
فلان، وزعم أن الآخرين سرقت ثيابهم أترى أن يصدق في مثل هذا؟ قال: أرى أن يحلف أصحاب ذلك المتاع أن ذلك المتاع لهم فيأخذونه.
قال محمد بن رشد: اختلف في المفلس يقر بعد التفليس بشيء بعينه من قراض أو وديعة، وما أشبه ذلك لمن لا يتهم عليه فقيل: إن إقراره لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في آخر كتاب الوصايا الثاني من المدونة، وفي رسم البيع والصرف من سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس، وأحد قولي مالك في أول سماع ابن القاسم وفي سماع أشهب منه، وقال: يقال له: أفسدت أمانتك، ولعلك أن تخص هذا أو تواتيه ليرد عليك، وقيل: إن ذلك جائز يريد مع يمين المقر لهم، وهو أحد قولي مالك في رسم العرية من سماع عيسى منه أيضا، قاله في الصانع يفلس، ولا فرق في هذا بين الصانع وغيره، وفي المسألة قول ثالث: إنهم يصدقون إن كانت على الأصل بينة، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد منه أيضا، وأما إذا سرقت بيوتهم، وأحرقت من غير سببهم، فلا اختلاف أن إقرارهم بالمتاع جائز لأهل المتاع مع أيمانهم؛ لأن أمانتهم لم تفسد، فقوله في هذه الرواية: أرى أن يحلف أصحاب المتاع أن ذلك المتاع لهم ويأخذونه صحيح لا اختلاف فيه، إذا علم أن بيوتهم سرقت، ولا اختلاف في أنه لا يقبل قول المفلس بعد التفليس فيما يقر به من دين في ذمته، وأما قبل أن يفلس ويقام عليه، فيجوز ما أقر به لمن لا يتهم عليه من دين دون يمين ومن قراض أو وديعة أو شيء بعينه أو ما شبه ذلك من دين على أبيه مع يمين المقر لهم، قال ذلك في آخر كتاب الوصايا الثاني من المدونة.
وقد كان بعض الشيوخ لا يفرق في اليمين بعد الدين والشيء المعين، فيوجب اليمين في الوجهين، ومنهم من يرى ذلك اختلافا من القول في الوجهين، والصواب الفرق بينهما؛ لأنه إذا أقر بشيء بعينه فقد خص به المقر له دون الغرماء، فوجب أن يحلف، وإذا أقر بدين فلم يخصه دونهم؛ لأنه أسوة معهم فلم يجب عليه يمين، وبالله التوفيق.(4/217)
[القصارين يدفع لهم الرجل الخمسمائة ثوب أو أكثر ويشترط عليه قصارتها]
ومن كتاب طلق بن حبيب وسئل مالك: عن القصارين من أصحاب الصوف يدفع لهم الرجل الخمسمائة ثوب أو أكثر، ويشترط عليه قصارتها ويدفع إليه أجرة، فيعمد الذي دفع إليه فيستأجر عليه قصارين مثله، فيدفعها إليهم، ثم يفر الأول فيجد هؤلاء ثيابهم وقد عملها هؤلاء، فيريدون أخذها فيقولون لهم: لم نأخذ أجرتنا فلا ندفع إليكم حتى نستوفي حقوقنا، قال: أرى أن يأخذوا ثيابهم إذا وجدوها، ويتبعون هم التي دفعها إليهم بأجرتهم، وكذلك الخياط والفتال يستعمل فيستعمل هو غيره مثل ذلك يأخذون هم ثيابهم إذ كانوا قد دفعوا حقوقهم إلى الأول ويتبع هو العامل الأول.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جيدة زاد فيها في كتاب ابن المواز تفسيرا فقال: هذا إذا قامت بينة أنه دفع الأجرة إلى الصانع الأول، فإن لم تقم بينة يحلف الثاني أنه ما قبض أجرته من الهارب، ثم يدفع إليه رب الثياب أجرة، وإن كانت إجارة الأول خمسة، وهذا عشرة لم يدفع إليه هو إلا خمسة، ويتبع الهارب بما بقي، ويأخذ هذا ثيابه، وإن كانت إجارة الأول عشرة، وهذا خمسة دفع إلى هذا خمسة وتبقى خمسة عنده للأول، ثم إن قدم الأول، فأقر بقبض إجارته، فليرجع القادم على الثاني بما أخذه منه، قال أبو محمد بن أبي زيد: وهذا الذي قال غير مستقيم، ولا يقبل دعوى غريم القادم على المقيم إذا كان القادم عديما.
قال محمد بن رشد: وقول ابن أبي زيد: لا يقبل دعوى غريم القادم على المقيم إذا كان القادم عديما صحيح، ولم ينص ابن المواز على أنه يرجع على الثاني بإقرار القادم، وإن كان عديما، فينبغي أن يحمل قوله على ما يصح فيقال: معناه إذا كان القادم مليا ولا يقال فيه: إنه غير مستقيم، وقول محمد: إنه إن لم يكن لصاحب المتاع بينة على دفع الأجرة إلى الأول ويحلف الثاني(4/218)
ويأخذ الأقل من الأجرتين صحيح، وكذلك لو أقر صاحب المتاع أنه لم يدفع إلى الثاني إلا ما استأجر به الأول، وهذا إذا علم بما استأجر به أو أقر، وأقر بذلك الثاني، وأما إن لم يثبت ذلك، ولا أقر به الثاني فلا سبيل له إلى أخذ المتاع إلا بعد أن يدفع إليه جميع إجارته إن علمت، وإن لم تعلم، فيخرج ذلك على قولين: أحدهما: أن القول قوله في مبلغها مع يمينه إذا أتي بما يشبه، فإن أتي بما لم يشبه لم يصدق، وكان له أجر مثله، والثاني: أنه لا يكون له أكثر من أجرة مثله، وإن أشبه ما ادعاه، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم، وإنما وجب أن يكون للثاني أن يأخذ من صاحب المتاع أقل الأجرتين إذا كان لم يدفع إلى الأول أجرته؛ لأنه غريم غريمه بذلك لا من أجل أن السلعة بيده، إذ ليست عنده برهن، فلا يكون له أن يمسكها حتى يقبض إجارته، ولا يكون أحق بها من غرماء صاحب المتاع إن فلس عند ابن القاسم، ولذلك لا يكون القول قوله في الإجارة على مذهبه إن ادعى أكثر من أجرة مثله، وإنما وجب أن يكون لصاحب المتاع أن يأخذ متاعه معمولا دون غرم يكون عليه الثاني إذا كان قد دفع الأجرة إلى الأول؛ لأن العمل قد وجب باستئجار الأول عليه استئجارا مضمونا في ذمته، ولو لم تكن الإجارة مضمونة، وإنما كان استأجره على أن يعمله بنفسه فاستأجر عليه غيره لما وجب لصاحبه أن يأخذه، وإن كان قد دفع الأجرة إلى الأول حتى يغرم للثاني أجرة مثله، وحتى يكون الثاني قد علم بتعدي الأول في استئجاره إياه على ما وجب عليه أن يعمله بيده، هذا الذي يأتي على أصولهم، ولا أعرف في ذلك نصا، والله المعين.
[رجل استؤجر على عمل يعمله فعمل بعضه ثم مات العامل]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسئل مالك: عن رجل استؤجر على عمل يعمله فعمل بعضه، ثم مات العامل؟ قال مالك: أما ما كان من عمل يعمله بيده، فإنه بحسب ما قد عمل، ثم يرد ما بقي، وأما ما كان مضمونا من عمل أو قطاعة مثل دار يبنيها أو حفر خليج أو بئر أو صنعة من الصناعة(4/219)
فهو ضامن في ماله، وعلى ورثته عمله فيما ترك، فإن كان فضل كان لهم، وإن كان غرم كان في ماله، وإن لم يترك العامل وفاء حاص المستعمل بقيمة ما بقي له من العمل يوم يحاص، وليس على قدر ما بقي من إجارته، ولكن على ما بقي من قيمة عمله يوم يحاصه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا موضع للقول فيها إلا قوله: إذا مات ولا وفاء له أنه يحاص بقيمة ما بقي من عمله يوم يحاص، فمعناه يوم يحاص على أنه حال كان حالا أو مؤجلا؛ لأنه إن كان مؤجلا فقد حل بموته، وكذلك في التفليس على مذهب ابن القاسم، وقال سحنون: إن كان مؤجلا في التفليس، فيحاص له بقيمته يوم التحاصص على أن يقبض إلى أجله، والصواب قول ابن القاسم: إنه يحاص بقيمة ذلك حالا كالعين سواء إذ لو كان في ماله وفاء لعجل له حقه، وإذا حوصص له بقيمة ما بقي من عمله في التفليس، فمن حقه ألا يقبض ما صار له في المحاصة، ويستأجر له به في مثل ذلك العمل، واختلف إن أراد أن يأخذ ما صار له في المحاصة هل يجوز ذلك أم لا؟ فقيل: إن ذلك لا يجوز؛ لأنه يدخله إجارة وسلف؛ لأنه قد اقتضى بعد العمل، فإذا قبض ما صار له في المحاصة دراهم، وقد كان دفع دراهم أخذ بها دراهم وعملا، وقد قيل: إن ذلك جائز؛ لأن التفليس يرفع التهمة، وقد مضى الاختلاف في ذلك في أول رسم من سماع أشهب من كتاب السلم والآجال، ولا اختلاف في أن ذلك جائز في الموت لارتفاع التهمة في الموت يقينا.
[مسألة: الخباز يبعث إليه بالخبز صاحب الفرن فيحرق الخبز]
مسألة وسئل عن الخباز يبعث إليه بالخبز صاحب الفرن، فيحرق الخبز أترى عليه ضمانا؟ قال: لا أرى عليه ضمانا إلا أن يكون ممن لا يحسن الخبز فغر الناس فأراه ضامنا لذلك، ومثل ذلك الضيعة والتعدي، فأما إذا لم يأت منه تفريط، فلم ير عليه ضمانا، قال ابن(4/220)
القاسم: وعليه ضمان ما سرق.
قال محمد بن رشد: قوله: وسئل عن الخباز يبعث إليه بالخبز صاحب الفرن كلام فيه تقديم وتأخير، وصوابه: وسئل عن الخباز صاحب الفرن يبعث إليه بالخبز، فالفران ضامن لما ادعى تلفه كالصناع كان خبازا يبعث إليه بالعجين ليخبره ويطبخه أو فرانا يبعث إليه بالخبز ليطبخه، وكذلك يضمن ما أفسد بحطبه، وإنما لم يضمن ما احترق من الخبز؛ لأن النار تغلب على ما قال في المدونة، وإنما يسقط عنه الضمان إذا بقي من الخبز ما يعرف به أنه خبز صاحبه، وأما لو ادعى أنه احترق، ولم يأت منه بشيء يعرف أنه الخبز بعينه لضمن، وكذلك الغزل يحترق في الفرن مثله سواء؛ لأن ذلك تضييع من الفران وتعد منه أو عنف في الوقيد، قاله ابن حبيب وغيره، فالضمان ساقط عنه في احتراق الخبز ما لم يتبين التضييع منه والتعدي في العنف في الوقيد، وكذلك ما كان من الأعمال فيه غرر كثقب اللؤلؤ وشبه ذلك لا ضمان عليه فيما أتى على يديه إلا أن يتبين منه في ذلك أنه تعدى فيه وأخذه من غير مأخذه على ما يأتي لأصبغ في نوازله.
[جاء بثوب إلى خياط فقال أخرج لي منه قميصا أو ساجا]
ومن كتاب الرطب باليابس وسمعت مالكا قال: من جاء بثوب إلى خياط فقال: أخرج لي منه قميصا أو ساجا، فقال: نعم، فأعطى على ذلك أجرا فقطع، فلم يأت ذلك فيه، قال: لا غرم عليه، ولو أفسد شيئا منه غرم ما أفسد يعني بذلك قيمة الثوب، إلا أن يكون ذلك فسادا يسيرا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد اختلف فيها اختلافا كثيرا، وتحصيله أنه اختلف في الضمان إذا غر، وفي الأجرة إذا لم يغر، ولا اختلاف في أنه لا ضمان عليه إذا لم يغر، ولا في أن لا أجرة له إذا غر، وهذا إذا أتاه فقال له: انظر هذا الثوب إن كان فيه قميص أو لا، فقال له: فيه قميص، فلما قال له ذلك، قال: اقطعه ولك كذا وكذا، ومثله الذي يستأجر القسطار على انتقاد(4/221)
الدراهم فينقدها فيجد فيها زيوفا، وقد مضى القول على هذا في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف مستوفى، فلا معنى لإعادته هنا مرة أخرى، وأما لو أتى بثوبه إلى الخياط فقال: انظره إن كان فيه قميص فاقطعه، فلك كذا وكذا، فقطعه فلم يكن فيه قميص لوجب عليه ضمانه قولا واحدا؛ لأنه لم يأذن له في قطعه إلا بشرط أن يكون فيه قميص، فإذا قطعه ولا قميص فيه وجب عليه ضمانه؛ لأن ذلك خيانة منه.
[مسألة: يدفع ثوبه إلى الخياط فيزعم الخياط أنه أعطاه إياه ليرقعه]
مسألة وقال مالك في الرجل: يدفع ثوبه إلى الخياط أو الغسال، فيزعم الخياط أو الغسال أنه أعطاه إياه ليرقعه أو يدفعه إلى غيره، قال: القول قول الخياط والغسال، وكل صاحب صنعة، فهو بهذه المنزلة متى أشبهوا في قولهم مع أيمانهم.
قال محمد بن رشد: قوله: القول قول الخياط يريد القول قوله في أنه أعطاه إياه ليعمله في مبلغ الأجرة، فإن ادعى ما يشبه منها كان القول قوله، ولم يحلف صاحب الثوب إذ لا فائدة في يمينه؛ لأن العامل يأخذ ما حلف عليه بما يشبه، حلف رب الثوب أو نكل، وأما إن ادعى العامل من الأجرة ما لا يشبه، فلا بد من يمين صاحب الثوب؛ لأن يمينه تسقط عنه الزائد على أجرة المثل، فإن نكل عن اليمن أخذ العامل ما حلف عليه، وإن لم يشبه؛ لأن رب الثوب قد مكنه من ذلك بنكوله، وفي المدونة لغير ابن القاسم أن العامل مدع، فقيل: معناه في الأجرة إن ادعى أكثر من أجرة المثل يريد أنه إن ادعى أكثر من أجرة المثل، وحلف على ما يدعي لم يستحق بيمينه ما حلف عليه وحلف رب الثوب على ما ادعى، فسقط عنه بيمينه ما زاد على أجرة المثل، وإن نكل عن اليمين أخذ العامل ما حلف عليه، وإن نكل العامل عن اليمين وحلف رب الثوب أخذ ثوبه مصنوعا أو مغسولا، ولم يكن عليه شيء في الصباغ والغسل، وقيل: بل معناه أنه مدعي فيما ادعاه من أنه استعمله إياه، فلا يصدق في ذلك(4/222)
ويحلف صاحب الثوب ويأخذ ثوبه مصبوغا أو مغسولا بغير غرم إلا أن ينقصه الصبغ أو يفسده، فيكون به مخيرا في أخذه أو تركه وأخذ قيمته، وإن زاد الصبغ، فله أخذه بلا غرم على ما ذهب إليه ابن حبيب.
[مسألة: الرجل يستأجر القسطار ينتقد له دنانير ويعطيه على ذلك عطاء]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يستأجر القسطار ينتقد له دنانير ويعطيه على ذلك عطاء، ثم يخرج بها من عنده، فيأتي بها غيره فإذا فيها غير جيد، قال مالك: ليس عليهم شيء، قيل: فحراس القراء، قال: هم كذلك، لا أرى عليهم شيئا من الضمان للجعل الذي جعل لهم، وقال: يعطون دينارين ويغرمون ثمن الفرس قيمتها دنانير، لا أرى ذلك عليهم، فقيل له: أفترى حارس الحمام مثله؟ قال: ما أشبهه به.
قال محمد بن رشد: أما مسألة القسطار يستأجر على انتقاد الدراهم، فيوجد فيها زيوف فقد اختلف في ضمانه إذا غر، وفي هل له أجرة إذا لم يغر حسبما ذكرناه في أول مسألة من هذا الرسم، ومضى تمام القول فيه وفي رسم أخذ يشرب من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف، ومثل الدليل يخطئ في الطريق لا أجرة له إذا غر، ويختلف هل له أجرة إذا لم يغر، فابن القاسم يوجبها له، وأشهب لا يراها له، وقد مضى ذلك في سماعه من كتاب الجعل والإجارة، وأما حراس القرا والذعا فلا اختلاف في أن الأجرة لهم، ولا ضمان عليهم إلا أن يضيعوا أو يفرطوا فيضمنوا، ولهم الأجرة إذا ضمنوا، وقد مضى هذا في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، وأما حارس الحمام فقوله: إنه لا ضمان عليه هو مثل ما في المدونة.
وفي ذلك تفصيل، أما إن كان أكراه صاحب الحمام لحفظ ثياب من(4/223)
يدخل في الحمام بأجرة ثابتة في ذمته، فلا اختلاف في أنه لا ضمان عليه إلا أن يضيع أو يفرط، وأما إذا كان يحرس من ثياب الناس بجعل يأخذه من كل من يدخل الحمام، ويحرس له ثيابه، فقيل: إنه لا ضمان عليه، وهو قول مالك، وقال ابن لبابة: ما سواه خطأ، وقيل: إنه ضامن كالراعي المشترك، وإلى هذا ذهب ابن حبيب على قول ابن المسيب والحسن ومكحول والأوزاعي في أن الراعي المشترك ضامن؛ لأنه قد نصب نفسه لذلك فصار كالصانع.
[الذي يسرق من الحمام]
ومن كتاب نذر سنة يصومها وسئل مالك: عمن يسرق من الحمام قال: إن الحمام ربما أخطأ الرجل، وربما اغتلوا، ولقد قلت لصاحب السوق: آمره أن يضمن صاحب الحمامات ثياب الناس فيضمنونها أو يأتون بمن يحرسها وأمرته أن يضمنهم ثياب الناس يدخلون الحمام.
قال محمد بن رشد: إذا لم يكن على ثياب الحمام حارس يحرسها، فلا قطع على من سرق منها إلا أن يحتال في السرقة من خارج الحمام من لم يدخل الحمام على ما قاله في المدونة، وفي رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب السرقة، قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن صاحب الحمام إذا لم يأت بمن يحرس ثياب الحمام فقد أهملها إذا تركها في غير حرز لا يجب القطع على من سرقها، وكان ذلك من التضييع الذي يجب عليه به الضمان، فإذا أتى بمن يحرسها سقط عنه الضمان؛ لكون الثياب إذ كان لها حارس في حرز يجب القطع على من سرقها، ثم ضعف وجوب القطع على من سرقها إذا كان عليها حارس لما ذكر أن السارق قد يغتل فيقول: أخطأت وظننت أنه ثوبي، وما أشبه ذلك، ولعمري إنه لكما قال إذا كان السارق سرق من ثياب من تجرد إلى جانبه، وأما من سرق من غير الموضع الذي تجرد فيه أو سرق دون أن يتجرد فلا يصح له اغتلال، والقطع عليه واجب إذا كان للثياب حارس، يبين هذا ما وقع في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب السرقة أن من سرق من الحمام يقطع إن(4/224)
كان على الثياب من يحرسها، وإن لم يكن لها من يحرسها، فلا يقطع سارقها إلا إن سرقها من وراء الجدار وما أشبه ذلك دون أن يدخل الحمام.
[مسألة: الطحانين الذين يدفع إليهم القمح فيكال عليهم فيطحنونه فينقص]
مسألة وسئل مالك: عن الطحانين من أهل مصر الذين يدفع إليهم القمح، فيكال عليهم فيطحنونه فينقص فيغرمونهم، فقال مالك: ما سمعت في ذلك بشيء، يريد الغرم، وأرجو أنه خفيف.
قال محمد بن رشد: أما إذا كانت الأرحى للطحانين، أو كانت في اكترائهم، فلا إشكال في أنهم كالصناع وأنهم ضامنون، وأما إذا لم تكن الأرحى لهم، ولا في اكترائهم وكان أصحاب الأرحى والمكترون لها وكلاهم الذين يعاملون أصحاب الطعام على واجبهم في الطحين، فالطحان الذي يتولى طحين طعام كل من يأتي بطعامه إلى صاحب الرحى، يشبه الراعي المشترك، ففي هذا ضعف مالك الضمان، والله أعلم، فقال فيه: ما سمعت في ذلك بشيء يريد الغرم، وأرجو أن يكون خفيفا، ومعنى قوله: وأرجو أن يكون خفيفا، أي: أرجو أن يكون الحكم بتضمينهم من جهة القياس والنظر دون أن يكون لا ذلك أثر يتبع خفيفا، إذ لا يصح أن يكون التضمين والتغريم إلا إما واجب، فيلزم الحكم به، وإما غير واجب فيحرم الحكم به، وهو عنده واجب، وإيجابه عنده من ناحية القياس دون سنة تتبع هو الخفيف، وسيأتي ما في سماع أصبغ، الاختلاف فيما يضمنون إن كان القمح أو الدقيق، وبالله التوفيق.
[الصناع يشترطون على من دفع إليهم العمل عدم الضمان]
ومن سماع أشهب وابن نافع من مالك
قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع قالا: سئل مالك عن الصناع الصباغ أو الغسال أو غيرهما من الصناع يشترطون على من دفع إليهم العمل: أن لا ضمان عليهم ويعطون على ذلك أجرا(4/225)
فقال: لا ينفعهم ذلك، وعليهم الضمان، ولو أمكنوا من ذلك ما عمل منهم أحد إلا اشترط أن لا ضمان عليه، ولا بد لي من غسل ثوبي.
قال محمد بن رشد: تعليله لإسقاط الشرط بأن الناس لو أمكنوا من ذلك ما عمل صانع عملا إلا اشترط أن لا ضمان عليه، يريد فيدخل على الناس بذلك ضرر، إذ لا بد لهم من استعمالهم، يدل على أن الشرط بإسقاط الضمان فيما يغاب عليه من العارية والرهن عامل، إذ لا ضرر في ذلك على المعير والراهن، وذلك في المعير أبين إذ قد لا يبايعه المرتهن إلا بالرهن فتدعو الراهن حاجته إلى البيع إلى أن يلتزم الشرط، وقد حكى ابن أبي زيد في المختصر عن أشهب في الصناع أن شرطهم ينفعهم، فإذا رآه عاملا في الصناع فأحرى أن يعمله في المرتهن والمستعير، ولابن القاسم وأشهب في سماع أصبغ من كتاب العارية أن الشرط غير عامل في الرهن والعارية، ومثله أيضا لابن القاسم في بعض روايات المدونة في العارية في كتاب الرهن منها، فهو في الصانع أحرى ألا يكون عاملا، فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال: إعمال الشرط وإسقاطه، والفرق بين أن يشترط ذلك الصانع أو المرتهن أو المستعير، وهو أظهر الأقوال، إذ لا وجه لإسقاط الشرط في العارية؛ لأن المعير إذا أسقط عن المستعير الضمان فقد فعل معه معروفا من جهتين، والرهن قريب من العارية في ذلك، وما لإسقاطه فيهما وجه إلا أنه من باب إسقاط حق قبل وجوبه، فيجري ذلك على اختلافهم في هذا الأصل، وأما الصانع يشترط ذلك فبين أن سقط شرطه من أجل أن رب المتاع كأنه مكره على الشرط بضرورته إلى استعمال الصانع، وإذا بطل الشرط فنبغي أن يبطل العقد، فإن فات بالعمل كان للصانع أجر مثله على أن عليه الضمان؛ لأنه إذا رضي لما سميا من الأجرة على أن لا ضمان عليه، وأما على ما حكى ابن أبي زيد عن أشهب من إعمال الشرط، فتكون له الأجرة المسماة، وعكس هذه المسألة أن يشترط المعير أو الراهن على المستعير أو المرتهن الضمان فيما لا يغاب عليه من الحيوان أو مع قيام البينة فيما يغاب عليه، فهذا قول مالك فيه وجميع أصحابه أن الشرط باطل جملة من غير تفصيل حاشا مطرفا، فانه قال: إن شرط عليه الضمان(4/226)
لأمر خافه من طريق مخوفة أو نهر أو لصوص أو ما أشبه ذلك، فالشرط لازم إن عطبت في الأمر الذي خافه واشترط الضمان من أجله، وقال أصبغ: لا شيء عليه في الوجهين مثل قول مالك وأصحابه، وإذا بطل الشرط عن المستعير ألزم إجارة الممثل في استعماله العرية عن حكمها إلى حكم الإجارة الفاسدة؛ لأن صاحبها لم يرض أن يعيره إياها لا بشرط أد يحرزها في ضمانها فهو عوض مجهول حرام يرد إلى المعلوم.
[قال الأجير أنا آخذ ثلث ما اقتضيت وأكون في الثلث الذي أخذت على شرطي]
ومن كتاب الأقضية الثاني وسئل فقيل له: إني جعلت لرجل في تقاضي دين لي على رجل ثلث ما يقتضي منه، فجاءني الذي لي عليه الحق فصالحني عن إعطاء ثلثي حقي، وأخرت عنه الثلث إلى أجل فقال الأجير: أنا آخذ ثلث ما اقتضيت وأكون في الثلث الذي أخذت على شرطي، قال مالك: هو الذي تقاضاه ولزمه حتى جاءك به فصالحك، فقال: نعم، فقال له مالك: أرى له ثلث الثلثين اللذين قبضت، وهو في الدين الذي بقي على الغريم على شرطه، إن تقاضاه فله ثلثه، وإن لم يتقاضه وتركه لم يكن له فيه شيء، وذلك أنه هو الذي تقاضاه وجاءك به، وحركه على قضائك وجلبه، فأرى ذلك له ولا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن له ثلث الثلثين إذا كان قد حركه في قضائه مثل رواية علي بن زياد عن مالك، وقول سحنون في سماعه من كتاب الجعل والإجارة إن الجاعل إنما يلزمه الجعل إذا شرع المجعول له في العمل خلاف ظاهر ما في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الجعل والإجارة حسبما مضى هنالك من القول فيه، وقال: إن المجعول له على شرطه في الثلث الباقي، ولم يبين إن كان له أن يتقاضاه قبل الأجل أم لا، والصواب أن ذلك له؛ لأن الجعل إذا لزم الجاعل، فليس له أن يؤخر بالدين فيضر بالمجعول له، قال هذا بعض الشيوخ ولا أقول به إذ ليس عندي بصحيح؛ لأن التأخير(4/227)
قد لزم صاحب الدين، وصار بما فعل من التأخير قد فوت الجعل على المجعول، فوجب له بذلك جعله فيقبض لنفسه ثلث الثلث الباقي معجلا ويسقط عنه اقتضاء بقيته، وقد مضى من قول ابن القاسم في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب الجعل والإجارة بيان هذا فقف عليه.
[مسألة: أكرى جفنتين له بالضمان]
مسألة وسئل: عمن أكرى جفنتين له بالضمان، قال: ما أرى ذلك ولكن إن كان وضع من كرائهما شيئا للضمان رأيت أن يبلغ له كراؤهما، قيل له: إن الذي تكاراهما قد زعم له أنهما سرقتا منه، فقال: لا أرى هذا يجوز له إن كانتا انكسرتا، فأين فلقتاهما؟ فأرى ضمانهما عليه، وليس من قبل اشتراط صاحبهما رأيته ضامنا، ولكنه لأنه لم يعلم أخذ ما ذكر.
قال محمد بن رشد: كذا وقعت هذه المسألة في جميع الأمهات ناقصة، سأله فيها عن ادعاء المكتري أنهما سرقتا منه، فأجابه على ادعائه أنهما انكسرتا منه، ولم يأت بفلقتيهما، والذي يدل عليه مذهبه فيها أنه مصدق في دعوى السرقة، وأنه لما سأله عن ذلك قال: هو مصدق في ذلك، فقال له: فإن زعم أنهما انكسرتا، فقال: لا أرى هذا يجوز له، إن كانتا انكسرتا فأين فلقتاهما؟ فسقط ذلك من الأصل الذي نقل العتبي منه المسألة، فاتفقت الأمهات على ذلك، وحكم اكتراء العروض شرط الضمان على قول مالك في هذه الرواية حكم يراع إلينا بفسخ الكراء إلا أن يرضى المكري بترك الشرط، فإن لم يعثر على ذلك حتى فات الكراء كان على المكتري الأكثر من الكراء المسمى أو كراء المثل على غير شرط الضمان، وذلك بين من قوله، ولكن إن كان وضع من كرائهما شيئا لموضع الضمان رأيت أن يبلغ له كراؤهما، إذ لو كان الكراء.(4/228)
عنده فاسدا يجب فسخه في القيام على كل حال لقال: إنه يكون فيه في الفوات كراء المثل بالغا ما بلغ، كان الكراء أقل من الكراء المسمى أو أكثر، وإنما ضمنه في دعواه الكسر لتبين كذبه إذ لم يأت بفلقتيهما، فليست هذه الرواية بمخالفة لقول ابن القاسم وروايته عن مالك في أن المكتري مصدق في دعوى الضياع، وما وقع في المدونة من رواية أشهب عن مالك في أن من أكرى جفنة، فقال: إنها ضاعت لا يصدق إلا أن يقيم البينة على الضياع ليس بنقل صحيح؛ لأن الرواية بتضمينه إنما هي في دعوه الكسر لتبين كذبه إذ لم يأت بفلقتيها على ما بان من هذه الرواية، وقد قال ذلك محمد بن المواز، ولا أعلم خلافا في أن المكتري مصدق في دعوى ضياع ما أكترى من العروض إلا ما وقع في الدمياطية لابن القاسم، قال: وسئل عن الرجل يكتري الدابة بالضمان، قال: لا خير فيه، ويرد إلى كراء من لا ضمان عليه، قيل: وكذلك الأشياء كلها؟ قال: لا أدري ما الأشياء؟ قيل: المناجل والحديد قال: أما الحديد فهو له ضامن.
قال محمد بن رشد: يريد بالحديد متاع الحديد الذي يعرف بعينه كالمحافر والمساحي والسكك وشبه ذلك، إذ لا يجوز اكتراء ما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه، وقوله: إنه ضامن له شذوذ في المذهب، وأما قوله: فمن أكرى دابة بالضمان أنه لا خير فيه، ويرد إلى كراء مثله ممن لا ضمان عليه، فظاهره كان أكثر من المسمى أو أقل، ومعناه: إذا فات الكراء، وأنه يفسخ إن عثر عليه قبل الفوات، وإن ترك المكري الشرط، وهو القياس خلاف رواية أشهب، وبالله التوفيق.
[الرجل يجعل للرجل جعلا على دين له يأخذه وله الثلث مما أخذ]
ومن كتاب أوله مسائل بيوع ثم كراء وسئل: عن الرجل يجعل للرجل جعلا على دين له يأخذه وله الثلث مما أخذ فقال: إن كان شيئا يأخذه فلا بأس بذلك، وإن كان يذهب يخاصم فلا خير فيه.(4/229)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة وفي سماع أصبغ منه أيضا، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الرجل يدفع إلى الخياط ثوبا يخيطه له والثوب ملفوف في منديل]
مسألة وأخبرني موسى بن الفرج عن أشهب في الرجل يدفع إلى الخياط ثوبا يخيطه له والثوب ملفوف في منديل، فيضيع المنديل عند الخياط، قال: فقال لي أشهب: إن كان ثوبا شريفا مثله يحتاج إلى وقاية، فإنه للمنديل ضامن، وإن كان ثوبا لا يحتاج إلى وقاية لغلظه فهو فيه مؤتمن ولا ضمان عليه فيه.
قال محمد بن رشد: أما إذا كان الثوب غليظا لا يحتاج مثله إلى وقاية فلا اختلاف في أنه لا ضمان عليه في المنديل الذي لف فيه، وأما إذا كان شريفا مثله يحتاج إلى وقاية، فقال أشهب في هذه الرواية: إنه يضمنه، وقال ابن حبيب: إنه لا ضمان عليه فيه، قال: لأن الثوب يستغني عنه ولا يضطر إلى أن يلف فيه، وقال محمد بن المواز مثله إنه لا ضمان عليه فيه إلا أنه علل بأن المنديل لم يكن له فيه عمل، فعلى قول ابن حبيب يضمن الصيقل الجفن، وإن لم يكن له فيه عمل إذ لا يستغني السيف عن جفنه، ويضمن الفران القصاع التي أتي إليه بالخبز فيها إذا تلفت قبل مزايلة الخبز منها، وقد نص على ذلك في القصاع، ويأتي على قول ابن المواز أن الفران لا يضمن القصاع التي أتي إليه بالخبز فيها إذا تلفت، إذ لا عمل له فيها، ولا يضمن الصيقل الجفن إذ لا عمل له فيه، وقد فعلى ذلك في جفن السيف يضيع عند الصيقل ويضمن على مذهبهما جميعا الصانع المثال الذي يعمل عليه والوراق الأم التي يكتب منها، والطحان الأعدال التي يحمل إليه الطعام فيها، إذ لا يستغني الصانع في عمله عن المثال، ولا الوراق في نسخه عن الأم ولا الطحان في طحينه عن الأعدال، وقد نص على ذلك ابن حبيب في الأعدال، وقد قال في(4/230)
القصاع على هذا القياس إنه إذا أتي إليه بالعجين فيها ليقرصه فيها إنه ضامن لها كيفما ضاعت بالعجين أو بغير العجين إذ لا يستغني في عمله عنها، وهو قول مالك في سماع محمد بن خالد في المثال، وسحنون يقول: إنه لا يضمن الصانع المثال ولا الوراق الأم التي يكتب منها إذ لا عمل له فيها، وكذلك لا يضمن على مذهبه الطحان الأعدال، ولا الفران القصاع، وإن كان يخبز الخبز فيها إذ لا عمل له فيها، وإنما عمله وصنعته في الخبز الذي يقرضه فيها، فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا يضمن إلا ما له فيه عمل، وإن كان يحتاج إليه في عمله، أو يحتاج إليه الشيء المعمول، وهو قول سحنون.
والثاني: أنه يضمن ما لم يكن فيه له عمل إذا كان يحتاج إليه في عمله أو يحتاج إليه الشيء المعمول، وهو قول ابن حبيب.
والثالث: أنه لا يضمن ما لم يكن فيه عمل، وإن احتاج الشيء المعمول إلا أن يحتاج إليه في عمله، وهو قول محمد بن المواز، ومذهب مالك على ما وقع له في سماع محمد بن خالد، ولا اختلاف بينهم في أنه يجب عليه ضمان ما له فيه عمل، ولا في أنه لا يضمن ما لا عمل له فيه، ولا يختلفون في صفة تقويم الذي يجب عليه ضمانه منها، فمنهم من كان يرى أن يقوم عليه وحده على أنه لا صاحب له، فيغرم قيمته، ومنهم من كان يرى أن يقوما جميعا، ثم يقوم الثاني وحده فيغرم ما بين القيمتين؛ لأنه قد فسد عليه الباقي بخلاف التالف إذ لا ينتفع بأحدهما دون الآخر، وهو أصح القولين كما لو استهلك له رجل أحدهما لضمن ما نقصه منها، وبالله التوفيق.
[أخطأ الغسال فدفع إلى رجل ثوبا غير ثوبه فلبسه وهو لا يعلم]
ومن سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم قال ابن القاسم: إذا أخطأ الغسال، فدفع إلى رجل ثوبا غير ثوبه فلبسه وهو لا يعلم أن الثوب الذي أعطاه الغسال غير ثوبه نظر، فإن كانت قيمته دينارين وقيمة ثوب الرجل الذي عند الغسال دينار نظر في لبس ثوبه الذي عند الغسال كم كان ينقص في مثل(4/231)
لبسه هذا الثوب الذي لبسه وقيمته ديناران، فإن كان ذلك ينقص ثوبه في قدر ما لبس هذا الثوب نصف دينار نظر في لبس ثوب الرجل، فإن كان الذي نقص من ثوبه من قيمته دينار لم يكن على الذي لبس الثوب أكثر مما كان ينقص من ثوبه أو لبسه، وغرم الغسال ما بقي، وإن كان الذي ينقص من ثمن الثوب أقل من نصف دينار لم يكن على الذي لبس الثوب أن يغرم أكثر مما نقص، وإن كان لو لبس ثوبه في قدر ما لبس ثوب الرجل ينقص أكثر مما لبس ثوب الرجل لم يكن عليه أكثر مما نقص ثوب الرجل، وليس على الغسال في ذلك شيء إذا لم يجاوز قدر ما كان ينقص في لبس ثوبه، وإن كان الثوب الذي لبسه قيمته دينار وقيمة ثوبه الذي عند الغسال ديناران نظر في لبس ثوبه كم كان ينقص، فإن كان ينقص في لبسه نصف دينار، والذي نقص من ثوب هذا ربع دينار غرم الربع إلى ما بينه وبين النصف دينار وأخذ ثوبه، وإن كان الذي نقص أكثر من نصف دينار لم يكن على صاحب الثوب الجيد أن يغرم أكثر مما ينقص ثوبه في اللبس؛ لأنه قد يلبس الثوب الجيد شهرا، ولا ينقص من ثمنه إلا ربع دينار ولو كان يلبس غيره.. دناءة ثمنه في مثل ما لبسه فيه من الأيام لنقص في ذلك نصف الثوب، وكانت قيمة الثوب دينارا فليس على صاحب الثوب أكثر مما كان ينقص لبس ثوبه أو مثله، فيكون غرمه على الذي لبسه كله، ولا يكون على الغسال شيء.
وإن لبسه الذي لبسه وهو يعلم أنه ليس ثوبه ضمن ما نقص من ذلك قل أو كثر، ولم يكن على الغسال شيء إلا أن لا يوجد عند الذي لبسه شيء فيتبع صاحب الثوب الغسال ويكون ذلك دينا للغسال على الذي لبس الثوب، وإن كان كل واحد منهما لبس ثوب(4/232)
صاحبه وهو يعرف أنه ليس ثوبه، واختلفا في النقصان غرم من وقع عليه الفضل لصاحبه، فإن لم يكن في القيمة فضل، فلا شيء لواحد منهما على صاحبه.
قال محمد بن رشد: اختلف في الغسال يخطئ فيدفع ثوب الرجل إلى غيره، فيلبسه وهو يظنه ثوبه على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا شيء على اللابس، ويأخذ ثوبه غير ملبوس ويرجع الذي لبس ثوبه على الغسال بما نقصه اللبس إلا أن يكون قد أبلاه اللبس فيكون له أن يضمن الغسال قيمته، وهذا قول مالك في رواية أبي قرة وفي الموطأ رواية يحيى والذي يأتي على قياس ما في المدونة في الذي يثيب على الصدقة ثوبا، وهو يظن أن الثواب يلزمه أنه لا رجوع له فيها إذا فات، والقول الثاني: أنه لا شيء على اللابس إلا أن يكون لبس الثوب حتى أبلاه، وهو قول مالك في رواية أشهب وابن عبد الحكم عنه، والقول الثالث: أنه يلزم اللابس غرم ما نقصه لبسه قليلا كان أو كثيرا، وهو قول سحنون في نوازله من هذا الكتاب، والقول الرابع: أنه يلزمه غرم الأقل مما نقصه لبسه أو مما كان ينقص ثوبه لو لبسه ذلك اللبس، فإن كان ذلك أقل رجع صاحب الثوب بالفضل على الغسال، وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى هذا، إذ أوجب على اللابس غرم جميع قيمة الثوب بلباسه إلى أن أبلاه على قول مالك في رواية أشهب وابن عبد الحكم عنه، أو ما نقصه لبسه قل أو كثر على قول سحنون، أو الأقل مما نقصه لبسه أو مما كان ينقص ثوبه لو لبسه ذلك اللبس على رواية عيسى هذه، فصاحب الثوب مخير إن شاء رجع بذلك على اللابس، وإن شاء رجع به على الغسال، فإن رجع بذلك على الغسال رجع الغسال به على اللابس.
وجه القول بأنه لا شيء على اللابس هو أنه أمكنه منه من أذن له فيه فوجب أن لا يضمن كما قالوا فيمن أثاب عن صدقة ظنا منه أن ذلك يلزمه، فأكله المثاب أنه لا يضمن، وكما قالوا فيمن أمر بشراء جارية بمائة فاشتراها بمائة وخمسين وبعث إليه بها فوطئها وحملت أنه لا شيء عليه من الزيادة، ووجه القول بأنه ضامن لجميع ما نقصه اللبس هو(4/233)
أنهما جميعا مخطئان على رب الثوب الدافع واللابس، فلا يدفع عن اللابس الغرم؛ لأنه مخطئ أيضا على رب الثوب، ويكون له أن يتبع من شاء منهما إن شاء الدافع الذي أخطأ عليه أولا، وإن شاء اللابس المنتفع، فإن رجع على الدافع رجع الدافع على اللابس، وإن رجع على اللابس لم يكن له رجوع على أحد، ورواية أشهب وابن عبد الحكم عن مالك استحسان إذ لا يخرج على أحد القولين، وكذلك رواية عيسى عن ابن القاسم هذه استحسان؛ لأنه لم ير على اللابس أن يغرم إلا مقدار ما وقى عن ثوبه بلباسه ثوب الرجل، ولم يقولوا: إذا أخذ عن الصدقة ثوابا، فاشترى به طعاما فأكله إنه يغرم، وهو قد وقى بذلك ماله إذ لو لم يأكل من الثواب لأكل من ماله، فإذا أكل دفع ثوب هذا إلى هذا وثوب هذا إلى هذا، فلبس كل واحد منهما ثوب صاحبه جرى ذلك على هذا الاختلاف، على قول مالك في الموطأ رواية يحيى لا يكون لواحد منهما على صاحبه شيء، وإنما يرجع كل واحد منهما على الغسال، وعلى قول سحنون في نوازله يرجع كل واحد منهما على صاحبه بما نقص لبسه ثوبه فيتقاصان بذلك، ولا يكون على الغسال شيء إلا أن يكون لأحد منهما فضل على صاحبه، فيرجع به عليه أو على الغسال، فإن رجع به على الغسال رجع به الغسال على اللابس، وعلى رواية عيسى هذه، وهو قول ابن الماجشون، يرجع كل واحد منهما على صاحبه بالأقل مما نقص لبسه من الثوب الذي لبسه أو مما كان ينقص ذلك اللبس من ثوبه لو لبسه ذلك اللبس، ويتقاصان بذلك، فمن كان له منهما في ذلك فضل على صاحبه رجع به على الغسال، وإن لبس كل واحد منهما ثوب صاحبه وهو يعلم أنه ليس ثوبه كان عليه ما نقصه لبسه، وتقاصا بذلك، ومن كان له منهما في ذلك فضل على صاحبه رجع به عليه إلا أن يكون عديما فيرجع به على الغسال ويتبع به الغسال العديم قولا واحدا، وإن لبس أحدهما ثوب صاحبه وهو يعلم أنه ليس ثوبه رجع الذي لبس ثوبه على اللابس بما نقصه اللبس إلا أن يكون عديما، فيرجع به على الغسال أو يتبع به الغسال اللابس.
وتلاف ثوب أحدهما عند صاحبه أو ثوب كل واحد منها عند صاحبه في ضمانه بجميع قيمته على قياس ضمانه لما نقصه لبسه في العمد والجهل(4/234)
سواء في جميع الوجوه، وبالله التوفيق.
[الرجل يأتي بالجلد إلى الخراز فيقول اعمل لي خفين فيواجبه]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه وسألت ابن القاسم عن الرجل يأتي بالجلد إلى الخراز فيقول: اعمل لي خفين فيواجبه، ثم يذهب عنه ولم يصف له صنعة الخفين فيعدو الخراز، فيعمل له الخفين قبل أن يسأله عن الصنعة، فيأتي صاحب الجلد فيقول: ما أمرتك أن تعمل لي مثل هذين الخفين، وإنما أردت غير هذه الصنعة، فيقول الخراز: صدقت إنك لم تأمرني، ولكني رأيت أن هذا العمل مما يصلح لك، قال: إذا عمل خفين تشبه أخفاف الناس، وهو مما يشبه لبسه الرجال فأرى القول قول الخراز، ولا ضمان عليه؛ لأنه لم يصف الخفين حين واجبه، فكأنه فوض إليه، قلت: وكذلك الرجل يأتي الخياط بالثوب، أو إلى صاحب القلانس بالظهارة؟ قال: نعم كذلك، قلت: وكذلك الذي يأتي بالثوب إلى الصباغ، قال: الصباغ غير هذا إذا صبغه بغير إذن صاحبه ضمن، وهو بمنزلة الرجل يقول له الرجل: اشتر لي خادما، فاشترى له جارية.
قال محمد بن رشد: قوله: في الذي يواجب الخراز على عمل الخفين أو الخياط على خياطة ثوب أو القلاس على عمل قلنسوة، ولا يسمي له صفة العمل إنه يلزمه ما عمل له إذا كان ذلك يشبه لباسه، هو صحيح على معنى ما في السلم الثاني من المدونة في الذي يأمر الرجل أن يشتري له ثوبا أو جارية، ولا يسمي له جنس الثوب ولا جنس الجارية أنه يلزمه ما اشترى له من الجواري والثياب إذا كان ما اشترى له يشبه أن يكون من جواريه أو من ثيابه، وأشهب يقول: إنه يلزمه ما اشترى من الجواري والثياب، وإن لم يكن(4/235)
مثلها من خدمه ولا من ثيابه إلا أن يقول له: اشتر لي ثوبا ألبسه أو جارية تخدمني، فحينئذ ينظر إن كان ذلك يشبه أن يكون من خدمه أو من ثيابه على ما قال ابن القاسم، فكذلك يلزم على مذهبه في استعمال الخفين وخياطة الثوب وعمل القلنسوة أن يلزمه ما عمل من ذلك، وإن كان ذلك لا يشبه أن يكون من لباسه إلا أن يقول له: اعمل لي خفين ألبسهما وثوبا ألبسه أو قلنسوة ألبسها فحينئذ ينظر إلى ما قال ابن القاسم، فلا يلزمه شيء من ذلك إذا لم يشبه أن يكون من لباسه، وأما الذي يأتي بالثوب إلى الصباغ فيقول له: اصبغ هذا الثوب، ولا يبين له أي لون يصبغه، فقال ابن القاسم: إنه إن صبغه بغير إذنه فهو ضامن صحيح على أصله في مسائل الشراء والاستعمال أنه لم يحمل قوله: اشتر لي جارية أو عبدا أو اصنع لي خفين أو قلنسوة على التفويض إليه في أن يشتري له أي جنس رآه، وفي أن يعمل له أي صفة رآها، وإنما حمله على أنه إنما أمره بما يشبه من ذلك كله فوجب لما كانت الألوان تختص به اختصاصا واحدا ليس بعضها يشبهه، وبعضها لا يشبهه أن يضمن إذا صبغ له الثوب باختياره إذ لم يفوض ذلك إليه، ويأتي على مذهب أشهب في مسائل الشراء أنه لا ضمان عليه؛ لأنه إذا حمل قوله في الشراء اشتر لي ثوبا على التفويض إليه في أن يشتري له أي ثوب رآه من الثياب كان مما يشبه لباسه أو لا يشبهه، فكذلك يحمل قوله: اصبغ لي هذا الثوب على التفويض إليه في أن يصبغه له أي صبغ رآه، وذلك في الصباغ أبين منه في الثياب؛ لأن الألوان تختص به في اللباس اختصاصا واحدا أو من جنس الاختصاص بخلاف الثياب، ووقع في بعض الروايات: وهو بمنزلة الرجل يقول للرجل: اشتر لي خادما فاشترى له جارية، وفي بعضها: وهو بمنزلة الرجل يقول: اشتر لي خادما أو اشتر لي جارية، فالرواية الأولى تعود إلى مسألة الصباغ يريد أنه يكون متعديا إذا صبغ بغير أمره بمنزلة إذا أمره أن يشتري له خادما، فاشترى له جارية، والرواية الثانية تعود إلى مسألة الاستعمال يريد أنه لا يضمن إذا عمل له خفين يشبه لباسه كما لا يضمن إذ قال له: اشتر لي خادما أو اشتر لي جارية، فاشترى له جارية تشبهه أو خادما تشبهه، وبالله التوفيق.(4/236)
[رجل دفع إلى حارس ثيابا فقال الحارس قد جاءني إنسان فشبهته بك]
ومن كتاب أوله سلف دينار في ثوب إلى أجل
قال ابن القاسم في رجل دفع إلى حارس ثيابا فقال الحارس: قد جاءني إنسان فشبهته بك، وظننت أنك هو فدفعتها إليه أيضمن؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال لا إشكال فيه، ولا كلام؛ لأنه أخطأ عليه في متاعه، فدفعه إلى من ذهب به إليه، وأموال الناس تضمن بالعمد والخطأ.
[يشتري النعل على أن يحذى له والقميص على أن يخاط له]
ومن كتاب أمهات الأولاد قال ابن القاسم: وكل ما كان يعرف وجهه بعدما يخرج، فلا بأس أن يشتريه، ويشترط عمله مثل أن يشتري النعل على أن يحذى له، والقميص على أن يخاط له، والظهارة للقلنسوة على أن يعمل له، أو القمح على أن يطحن له، فلا بأس بذلك كله؛ لأن ذلك كله قد عرف وجهه، وكذلك قال مالك، وقد مرض مالك مرة شراء القمح على أن يطحنه، وجل ما رأيت فيه السهولة، قال ابن القاسم: ولا بأس بذلك، ومن كتاب حبل الحبلة قال ابن القاسم: وكذلك التور يستعمله، قلت له: فهل يصلح له أن يبيعه قبل أن يستوفيه؟ قال: لا بأس به نقدا، أو إلى أجل كان اشتراؤه نقدا، أو إلى أجل، ومن كتاب البيع والصرف من سماع أصبغ قال أصبغ: قلت لابن القاسم: وكيف يكن التور فيها بعينه؟ قال: يريه الصفر والوزن، ويريه صفة ما يعمل، قلت: فما فرق بين هذا وبين الثوب الذي ينسج بعضه؟ قال: لأن الثوب لا يدرى كيف يخرج، قلت:(4/237)
فالتور لا يدرى كيف يخرج، قال: إذا لم يخرج على ما وصف له يطيق أن يعيده في العمل، والثوب لا يطيق ذلك، وسئل عنه سحنون فقال له: الرجل يبتاع من رجل ثوبا على أن على البائع خياطته أو قمحا على أن عليه طحينه فأجازه مالك، قيل له: أرأيت إن باع هذا كله هل يضمن أم لا؟ قال: لا ضمان عليه ويحط عن المشتري بقدر الخياطة والطحين من الثمن إلا أن يكون البائع ممن يعمل تلك الصناعات، فيسلك به سبيل الصناع في الضمان، قلت: ولا تراه من وجه البيع والإجارة؟ قال: لا، قلت: ففسر لي هذا الأصل، فإني قد وجدته لابن القاسم وأشهب جميعا واحدا في الذي يشتري الظهارة على أن على البائع عملها أو حديدا على أن يعمل له منها قدرا أو نحاسا على أن يعالج له منها قمقما، أو عودا على أن ينحت له منه سرجا، فأجازا جميعا هذا الأصل وراياه من وجه البيع وعلى ذلك أجازه، وقد يحد البيع الأجرة في غير هذا من المسائل من قول مالك مكروه، من ذلك قول مالك في الذي يبتاع الغزل على أن على البائع حياكته والزيتون على أن عليه عصره، ونجد البيع والأجرة قد دخله كما دخل المسألة الأولى، فقال ذلك له، وقد خالفا فيها أصل قول مالك ومذاهبه التي عليها يعتمد، وهذا من بيع الغرر الذي لا يجوز على حال؛ لأنه لا يدري ما اشترى، ولا كيف يكون خروج ما اشترط من ذلك العمل، وإنما أجازه مالك في العجين لخفته، والثوب يشترط خياطته مثله؛ لأن خروجه معلوم، وليس خروج ذلك مما يغيب عنه معرفته، وإن كان مالك قد عده ومرضه، فليس قولهما في ذلك عندي بشيء، وكل ما وجدت من هذا الأصل، فرده إلى مثله مالك في الحائك والزيتون على أن على البائع عصره، فإنها أصل لجميع ما ذكرت، وهي من أصح مسائلهم وأقيس قولهم، وكلما وجدت خلافا لها من جميع ما ذكرت فرده إليها، وأصل ما يقاس عليه هذا(4/238)
كله أن كل بيع وأجرة يكون في الشيء المبيع بعينه، فذلك بيع لا يجوز، وكل بيع وأجرة تكون الأجرة في غير الذي بيع، فلا بأس بذلك فوجدنا مسألة الحائك لأئمة هذا الأصل، فكل شيء تجده مما ضارعه فرده إليها، فإنها أصل ما سألت عنه، والبيع والشركة مخالف للبيع والأجرة، كل بيع وشركة تجده، فانظر فيه فإن كانت الشركة قد دخلت في البيع فذلك جائز، وإن كانت الشركة خارجة من البيع فلا خير فيه، فخذ هذين الأصلين على ما ذكرت، فإنه من جيد العلم.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في كتاب حبل الحبلة: إنه لا بأس للذي استعمل التور أن يبيعه قبل أن يستوفيه نقدا، أو إلى أجل كان اشتراؤه نقدا، أو إلى أجل، معناه أنه استعمله عنده ليعمله له من صفر قد أراه إياه، فصار التور المستعمل على هذا الوجه سلعة بعينها اشتراها، فجاز له أن يبيعها من غير الذي اشتراها منه نقدا، أو إلى أجل كان اشتراها نقدا أو إلى أجل كما قال، لا اختلاف في جواز ذلك، ولا يجوز له أن يبيعها من الذي استعمله إياها إذا كان قد نقده الثمن وغاب عليه إلا بعرض أو بمثل ذلك الثمن أو أقل؛ لأنه إن باعها منه بأكثر من الثمن الذي دفع إليه بعد أن غاب عليه كان سلف دراهم في أكثر منها.
ولو كان استعمله التور على صفة مضمونا عليه من غير أن أراه إياه بعينه لجاز له أن يبيعه قبل أن يستوفيه من غيره بما شاء إذا تعجل على مذهب مالك؛ لأنه يحمل ما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من النهي عن ربح ما لم يضمن على الطعام خاصة خلاف قول عبد العزيز بن أبي سلمة وغيره من العلماء ممن حمل نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ربح ما لم يضمن على عمومه في الطعام وغيره، وإليه ذهب ابن حبيب، وهو مذهب ابن عباس وظاهر قوله في الموطأ، وإن كان مالك قد تأولها على مذهبه.
وما ذهب إليه سحنون من أن البيع والإجارة في الشيء للمبيع لا يجوز في شيء من الأشياء كان يعرف وجه خروجه أو لا يعرف هو مشهور معلوم من مذهبه، فإن وقع فسخ عنده في القيام ورد إلى القيمة بالغة ما بلغت في الفوات، يعلم ذلك من مذهبه؛ لقوله: وهذا(4/239)
من بيع الغرر الذي لا يجوز على حال، فإنه لا يرى ما اشترى ولا كيف يكون خروج ما اشترط، وقوله قبل ذلك في الذي ابتاع الثوب على أن على البائع خياطته أو قمحا على أن على البائع طحينه أنه إن ضاع، فلا ضمان عليه، ويحط عن المشتري بقدر خياطته والطحين من الثمن إلا أن يكون البائع ممن يعمل تلك الصناعات، فيسلك له سبيل الصناع في الضمان، إنما هو إعلام منه بالحكم في ذلك على مذهب مالك الذي يجيز البيع على هذا الشرط؛ لأنه إنما سئل عن تفسير مذهبه، وذلك بين من فحوى المسألة؛ لأنه أعلم في السؤال بإجازته لذلك، ثم قيل له: أرأيت إن ضاع هذا كله هل يضمن؟ يريد هل يضمن عند مالك على مذهبه في إجازة ذلك، فأجاب على الحكم في ذلك على مذهبه أعني مذهب مالك، فقال له السائل: ولا تراه من جهة البيع والإجارة، قال: لا، يريد ولا تراه أنت من جهة البيع والإجارة، فيجوز عندك، قال: لا.
والحكم في ذلك عنده على مذهبه أن يكون الضمان فيه من البائع على كل حال إن قامت البينة على التلف، وكان ممن لم ينصب نفسه لتلك الصناعة؛ لأنه بيع فاسد تلفت السلعة فيه بيد البائع قبل أن يقبضها المبتاع، فوجب أن تكون مصيبتها منه، ويفسخ البيع، ويكون على البائع على مذهب مالك إذا تلف الثوب عنده وهو صانع قد نصب نفسه للعمل قيمته يوم البيع غير معمول، ويفض الثمن الذي وقع البيع به على الثوب والعمل، فيكون للبائع منه ما ناب الثوب، فإن كان له فضل أخذه، وإن كان عليه أداه، وإن قامت بينة على التلف سقط عنه الضمان، ويفض الثمن أيضا على الثوب والعمل، فلم يكن للبائع إلا ما ناب الثوب، وقال ابن نافع في المدنية إن القيمة تكون فيه يوم ذهب، وقال عيسى عن ابن القاسم فيها يوم البيع: وهو الصحيح، ومذهب مالك الذي ذهب إليه ابن القاسم وأشهب من أن البيع والإجارة في نفس الشيء المبيع يجوز فيما يعرف وجه خروجه وفيما لا يعرف وجه خروجه لإمكان إعادته للعمل إن خرج على غير الصفة حتى يعمل على الصفة، ولا يجوز فيما لا يعرف وجه خروجه، وما لا يمكن إعادته للعمل هو الصحيح، إذ لا فرق في النظر والقياس بين أن تكون الإجارة في الشيء المبيع أو في غيره إذا علم وجه خروج ذلك(4/240)
الشيء من العمل، فيسلم بذلك البيع من الغرر في الأصل الذي أصله سحنون من الفرق بين الإجارة والشركة في أن يكونا خارجين من البيع أو داخلين فيه، لا يلتزمه ابن القاسم، ولا يقول به لا في الإجارة ولا في المشركة؛ لأنه يجيز أن تكون الإجارة داخلة في البيع على الشرط الذي ذكرناه، ولا يجيز الشركة بالدراهم من عند أحدهما والدنانير من عند الآخر، ولا بالطعامين المختلفين، وإن استوت قيمتهما وإن كان البيع أو الصرف غير خارجين عن الشركة لما يدخل ذلك عنده من عدم المناجزة، وسيأتي بيان هذا في موضعه من الشركة إن شاء الله تعالى.
[الصناع مثل الصباغ أو القصار أو غيره يفسد الثوب يقطعه أو يحرقه]
ومن كتاب حبل حبله وسألت ابن القاسم، وابن وهب عن الصناع مثل الصباغ أو القصار أو غيره يفسد الثوب يقطعه، أو يحرقه فقال: هو ضامن، قلت: غر من نفسه أو لم يغر؟ قالا: نعم، وإن كان رب الثوب سار به إلى منزله فيعمله عنده في المنزل، فأحرق شيئا أو أفسده، فليس عليه ضمان إلا أن يكون غر من نفسه؛ لأنه أجير، قلت لابن القاسم: فإن كان أتاه بثوب في حانوته يكمده له، فكمده فلم يزل عنده حتى قطعه من غير تعد ولا تفريط، قال: إذا عمله في حانوته، فهو ضامن غر من نفسه أو لم يغر.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الصانع ضامن لما أفسده من الأعمال التي يعملها في داره أو حانوته غر من نفسه أو لم يغر صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن الأصل ما أخذ الأمتعة فيه على الضمان إلا أن يكون الفساد من أمر غالب كالنار، فيسقط عنه الضمان إلا أن يثبت عليه التفريط والتضييع حسبما مضى في رسم سن من سماع ابن القاسم أو ما فيه غرر من الأعمال على ما يأتي في نوازل أصبغ.
قال سحنون في كتاب ابنه: وإذا أخرج القصار الثوب أسود، فليعده حتى يجوده، فإن كان يفسد إذا رده ويسترخي، وينكسر وجهه وخيف(4/241)
عليه أن يحرق، فلا يرده وينظر، فإن أفسده ضمن قيمته، وإن كان الفساد فيه يسيرا ودي قيمة ذلك، وكان له قيمة العمل على دناءته ما لم يجاوز شرطه، وقال في الخياط: يقلب الثوب إلى داخل، فإنه يفتقه ويعيده، فإن كان الفتق ينقصه يخير ربه بين أن يضمنه قيمته يوم قبضه أو يأخذه بفتقه خياطته، وأما إذا صار الرجل بالصانع إلى داره، فيعمل عنده فلا ضمان عليه فيما أفسد في عمله إلا أن يغر من نفسه أو يثبت عليه أنه تعدى في عمله؛ لأنه أجير على ما قال مؤتمن، فهو محمول على غير التعدي حتى يثبت عليه التعدي، ويأتي على مذهب ابن الماجشون الذي ذكرناه أنه محمول على القصد إلى الإفساد حتى يثبت براءته من ذلك.
وقول ابن القاسم: إن الكماد إذا كمد الثوب في حانوته، فقطعه من غير تعد ولا تفريط إنه ضامن له، وإن كان صاحبه معه فهو عندي صحيح على أصولهم إذ لا تأثير فيما يلزمه من حكم الضمان؛ لكون صاحبه معه، وقد قال أصبغ في الكماد يكمد الثوب مع رب الثوب، فيصيبه خرق قال: إن كان الخرق الذي أصابه من كمد صاحب الثوب، فلا ضمان على الكماد، وإن كان من كمد الكماد فهو ضامن، وإن جهل فهو بينهما، وقع قول أصبغ هذا في بعض روايات العتبية، وقال ابن لبابة فيه: إنه جيد صحيح، وأدخله ابن أبي زيد في النوادر من العتبية وقال: إنه في الواضحة وكتاب ابن المواز، وقوله: وإن جهل فهو بينهما معناه: أنهما إن قالا جميعا: لا نرى من عمل من هو منا فيلزم الصانع ضمان نصفه، وأما إن ادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه من عمله، فوجه الحكم في ذلك أن يتحالفا جميعا، فإن حلفا أو نكلا لزم الصانع غرم نصفه، فإن حلف الصانع ونكل رب الثوب سقط عنه الغرم، وإن نكل وحلف رب الثوب لزمه ضمان جميعه، ورأيت لابن دحون أنه قال: قول ابن القاسم إن الكماد ضامن للثوب إذا قطعه في كمده وصاحبه معه غير مستقيم، كل من حضر عمل متاعه في داره أو في دار الصناع أو حانوته فأجيح به بحرق أو قطع فلا ضمان على الصانع، وإنما يضمن إذا لم يحضر صاحب المتاع وكان العمل في دار الصانع أو في حانوته، وإنما قال ذلك ابن دحون قياسا على قولهم في الكراء على الطعام إنه(4/242)
لا يضمن إذا كان صاحب الطعام مع طعامه، وما أصاب في قياسه؛ لأن قطع الثوب قد علم أنه من عمل الكماد، ولا تأثير لحضور رب الثوب في ذلك، فهو بخلاف دعوى الكرا ضياع الطعام بالغيبة عليه إذا لم يكن رب الطعام معه.
[مسألة: دفع ثوبا إلى رجل يخيطه له أو يرقعه أو يقصره فضاع]
مسألة قال عيسى: لو أن رجلا دفع ثوبا إلى رجل يخيطه له، أو يرقعه أو يقصره فضاع عند المدفوع إليه الثوب لم يكن عليه ضمانه إذا كان المدفوع إليه لم ينصب نفسه صانعا ولا خياطا ولا قصارا، وهو كالأمين لا يجب عليه الضمان حتى يكون رجل قد نصب نفسه للعمل فيجب عليه الضمان.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في رسم أمهات الأولاد من قول سحنون على مذهب مالك، ومثله في المدونة، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الأصل في الصناع أن لا ضمان عليهم؛ لأنهم أجراء، وقد أسقط النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأجير الضمان، فأخرج أهل العلم الصناع من ذلك لنصبهم أنفسهم لأعمال الناس، وأخذ أمتعتهم، وإذا لم ينصب نفسه لذلك بقي على الأصل وسقط عنه الضمان.
[قاطع رجلا يبني له بيتا عشرة أذرع في عشرة أذرع فبنى له خمسا في خمس]
ومن كتاب القطعان قال عيسى بن دينار: قال ابن القاسم عن مالك إنه قال في رجل قاطع رجلا يبني له بيتا عشرة أذرع في عشرة أذرع، فبنى له خمسا في خمس، وزعم أنه أمره بذلك، وأنكر ذلك صاحب البناء، وليست لهما بينة، قال: يتحالفان ويتفاسخان إلا أن يشاء البناء أن يبني له عشرة في عشرة فإن حلف ألزمه صاحب البنيان، فإن أبى ونكل عن اليمين أحلف الآخر، وكان على البناء أن يبني له عشرة في(4/243)
عشرة، فإن حلف البناء ونكل صاحب البنيان عن اليمين أجبر على أخذ ما بنى له البناء، وإن حلفا جميعا تفاسخا وقيل للبناء: أقلع نقضك إلا أن يشاء صاحب البنيان أن يدفع إليه قيمة بنيانه منقوضا مطروحا بالأرض.
قال ابن القاسم: وقال مالك في رجل استأجر حائكا ودفع إليه غزلا ينسجه له ثوبا سبعا في أربع فنسجه ستا في ثلاث، وزعم أنه أمره بذلك، قال مالك: القول قول الحائك ويحلف، وإنما فرق بين الحائك والبناء؛ لأن الحائك صانع من الصناع يضمن ما دفع إليه، ويكون أولى بما دفع إليه من الغرماء إن فلس صاحب الثوب حتى يستوفي أجرته.
قال محمد بن رشد: قوله في مسألة البنيان إنهما يتحالفان ويتفاسخان إلا أن يشاء البناء أن يبني له عشرا في عشر، يريد أو يشاء صاحب البنيان أن يأخذ ما بني له، وقوله: فإن حلف ألزمه صاحب البنيان، يريد أنه إن حلف البناء، ونكل صاحب البنيان عن اليمين لزمه أخذ ما حلف عليه البناء على ما نص عليه بعد، فمعنى قوله: ومقتضاه أنه إن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما، وإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا انفسخ الأمر بينهما وقيل للبناء: اقلع نقضك إلا أن يشاء رب البنيان أن يأخذه بقيمته مقلوعا ويتفاسخان؛ لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه، صاحب البنيان يدعي على البناء بنيان عشرة في عشرة وهو منكر لذلك، فوجب أن يحلف على ذلك ليسقطه عن نفسه، والبناء مدع على صاحب البنيان يريد أن يلزمه ما لم يقر باشتراطه من خمسة في خمسة، وما هو منكر له، فوجب أن يحلف على ذلك لئلا يلزمه أخذه، فإذا حلفا جميعا أو نكلا جميعا لم يكن للبناء إلا بنيانه يقلعه إلا أن يشاء رب البنيان أن يأخذه بقيمته مقلوعا مطروحا بالأرض كما قال، والفرق بين مسألة البنيان، ومسألة الحائك، أن الحائك صانع من الصناع، فصاحب الثوب يرجع عليه في الغزل الذي دفعه إليه ليصنعه أنه صنع منه ما لم يأمره به كما لو دفع إليه خشبا ليعمل منه أبوابا، فلما عملها قال: لم آمرك إلا(4/244)
بتوابيت، فوجب أن يكون القول للحائك؛ لأنه مدعى عليه، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة كلاما فيه نظر لا يصح عند التفصيل إنما وجب التحالف، والتفاسخ؛ لأن الأداة والحجارة والخشب من عند البناء، فصار كرجل باع سلعة بثمن، فقال المشتري: أكثر من هذا القدر اشتريت منك، فوجب التحالف والتفاسخ، فأما لو كانت الحجارة والخشب والآلة من عند صاحب الدار كان القول قول البناء؛ لأنه أجير للبائع، فالقول قول صاحب الدار في الأجرة إلا أن يقبض الأجير أجرته، فيكون القول قوله أيضا كالمتكاريين يختلفان في الأمد والأجرة، ولذلك قال في الحائك: القول قوله؛ لأن الغزل من عند رب الثوب، والحائك إنما هو أجير ليس ببائع شيئا، ولو كان الغزل من عند الحائك كان سلما في ثوب موصوف، فإذا اختلفا في طوله وعرضه تحالفا وتفاسخا على الأصل الأول؛ لأنه بيع اختلفا في قدره، وقد قيل: إنه سلم في صفة فالقول قول المسلم إليه، وقيل: إنه ليس من باب السلم؛ لأن تأخير النقد فيه جائز، وإنما هو بيع، وقيل: المسألة حائلة لعدم الأجل وتأخير النقد.
قال محمد بن رشد: هذا نص قول ابن دحون، وهو كلام مدخول من ذلك أنه قال: إنما وجب التحالف والتفاسخ؛ لأن الأداة والحجارة والخشب من عند البناء فصار كمن باع سلعة وادعى المشتري أكثر منها.
ولو كان هذا معنى المسألة لما وجب أن يفسخ الجميع بالتحالف؛ لأن ما بنى البناء من ذلك قد أفاته بالبناء وجعل صاحب البقعة قابضا له؛ لكونه مبنيا بأمره في البقعة، فوجب أن يكون القول فيه قول المشتري وينفسخ الباقي على أصولهم في اختلاف المتبايعين في عدد السلع وقد قبض المشتري بعضها أو في المتكاريين في مدة كراء الدار وقد مضى بعضها.
ومن ذلك أنه قال: ولو كانت الحجارة والآلة والخشب من عند صاحب الدار كان القول قول البناء كالمتكاريين يختلفان في الأمد والأجرة، وذلك ما لا يصح؛ لأن المتكاريين متفقان على النوع مختلفان في قلة وكثرة، ومسألتنا إنما الاختلاف فيها في الأنواع، وإنما كانت تشتبه المسألتان لو قال البناء قاطعتك على بنيان بيت خمسة في خمسة، وقال(4/245)
صاحب الدار إنما قاطعتك على بنيان بيتين خمسة في خمسة خمسة في خمسة، وكذلك قوله: لو كان الغزل من عند الحائك كان سلما في ثوب إلى آخر قوله فيه من الأعراض ما لا يخفى لقوله فيه.
وقد قيل: إنه سلم على صفة، وقيل: ليس هو من باب السلم؛ لأن تأخير النقد فيه جائز، وقيل: إنها مسألة حائلة، إذ ليست بمسألة اختلاف، وإنما هي مسألة فيها تفصيل، وقد ذكرنا تحصيله في كتاب السلم من كتاب المقدمات مستوفى، فاختصار التكلم عليه هنا أولى، ولا فرق على ما بيناه فيما يوجبه الحكم من التحالف والتفاسخ بين أن تكون الخشب والحجارة والآلة من عند البناء أو من عند صاحب الأرض، إذ ليس البناء الذي يختلفان في صفة صنعته في النقص، فيختلف الحكم فيه بين أن يخرجه البناء وصاحب البقعة، وإنما هو بناء مضاف إليه، فإذا اختلفا في صفته وجب التحالف والتفاسخ فيه بينهما، ورجع النقص إذا تحالفا لمحرجه منهما، وبالله التوفيق.
[الخياط يدفع إليه ثوبه ليخيطه ثم أتاه بعد ذلك غيره بثوب آخر ليخيطه]
ومن كتاب النسمة قال ابن القاسم في الخياط يدفع إليه ثوبه ليخيطه، ثم أتاه بعد ذلك غيره بثوب آخر ليخيطه هل هو في سعة أن يخيط الآخر قبل الأول إذا لم يكن موعودا، ولكن كل واحد منهما يحب تعجيل ثوبه، قال: أحب إلي أن يبدأ بالأول، والأول أحقهما وأعدل، ولم أسمع في هذا بشيء، ولعله أن يكون واسعا إذا كان الشيء الخفيف الرقعة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن الاختيار له أن يقدم الأول فالأول من غير أن يكون ذلك واجبا عليه إذ لم يجب عليه عمله في يوم بعينه، فيكون بتأخيره عنه قد ترك واجبا عليه، وكذلك قال مطرف وابن الماجشون لا بأس على الصناع أن يقدموا من أحبوا ما لم يتعدوا ظلما ولا يقصدوا مطلا، وكذلك يقولان في الرحى، وقال سحنون في كتاب ابنه: لا يقدم صاحب الرحى أحدا على من أتى قبله إذا كانت سنة البلد أن يطحنوا على الدولة، وإن تحاكموا إلى السلطان في ذلك قضى بينهم بسنة بلدهم(4/246)
وليس قول سحنون بخلاف لقول غيره؛ لأن العرف كالشرط.
[صاحب الفرن إذا ذهب منه الخبز أيضمن]
من سماع محمد بن خالد من عبد الرحمن بن القاسم محمد بن خالد: سألت ابن القاسم عن صاحب الفرن إذا ذهب منه الخبز أيضمن؟ قال: نعم يضمن، قال ابن القاسم: وإن احترق من غير تضييع منه له فلا شيء عليه، قال ابن القاسم: والطحان ضامن لما دفع إليه من القمح يطحنه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن الفران والطحان صانعان من الصناع، فيضمنون ما ادعوا تلفه وما أتى فساده على أيديهم، وإن لم يغروا إلا بما كان من أمر غالب كالنار أو ما فيه غرر من الأعمال، فلا يضمنون فيه إلا أن يغروا أو يتعدوا أو يفرطوا حسبما مضى القول فيه في رسم حبل حبلة من سماع عيسى، وإنما سقط عنهم ضمان ما علم أنه ليس من فعلهم، وأنه قرض فأر أو لحس سوس أو ما أشبه ذلك، قيل: إذا ثبت أنهم لم يضيعوا، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقيل: إلا أن يثبت أنهم ضيعوا، وهو قول ابن حبيب، ويسقط عنهم ضمان ما أقام البينة على تلفه من غير سببهم، فروى ابن وهب عن مالك في موطئه في الذي يدفع إلى الخياط ثوبا، فيخيطه فيصيب بيت الخياط حريق، فيرى ثوب الرجل فيه يحترق، قال: على الخياط فيه الضمان إلا أن يكون سيل أو صاعقة، وقال في الرهن مثله، ومثله لأشهب في ديوانه ولمالك في كتاب ابن المواز وهو على قياس قوله في المدونة إذا قرض الفأر الثوب، وعلم أنه قرض الفار فهو ضامن إلا أن يثبت أنه لم يكن في ذلك سبب من أجل تضييع، وانظر على مذهب من يرى إذا ثبت أنه قرض الفأر أنه لا ضمان عليه حتى يثبت أنه كان له في ذلك سبب من تضييع هل يقال: إذا وقع النار في بيته فرأى الثوب يحترق أنه لا ضمان عليه حتى يثبت أن النار من سببه لغالب العادة أن أحدا لا يحرق بيته ليصدق في ذهاب أمتعة الناس، أو يفرق بينهما بأن فساد الثوب قد علم أنه من قرض(4/247)
الفأر، والنار هو يقدر على عملها، فوجب أن يضمن حتى يعلم أنه من غير سببه، والأشبه أن لا فرق بينهما؛ لأنه قد علم إحراق النار للثوب كما قد علم قرض الفأر له، فإذا صدق أنه لم يكن له في قرض الفأر سبب من تضييع وجب أن يصدق أنه لم يكن له في النار سبب، والله أعلم.
ولا اختلاف بينهم أحفظه أنه إن احترق بيته أو سرق أو ذهب به السيل، فادعى أن المتاع تلف في جملة متاع بيته أنه لا يصدق، وبذلك جاءت الرواية عن مالك في الصناع تحترق منازلهم، فيدعون ذهاب أمتعة الناس، وقد مضى في رسم مسائل بيوع، ثم كراء من سماع أشهب القول في ضمان القصاع الفران وضمان الأوعية الطحان يما تعلق بذلك.
[مسألة: الرجل يأتي الصانع بقطعة ذهب ويقول اقطع منها مثقالا]
مسألة سألته: عن الرجل يأتي الصانع بقطعة ذهب ويقول: اقطع منها مثقالا، واعمل بها خاتما واحبس ما بقي فيزعم الصانع أنه ذهب منه قبل القطع، أو بعد القطع أو يأتي إلى الصانع يستعمل منه سوارين، فيأتيه بسوار يعمل عليه، فيزعم أن السوار ذهب، هل تراه ضامنا؟ فقال: أما السوار، فقد تكلم مالك فيه ورأى الضمان عليه؛ لأن به تم استعمال ما استعمله إذا أمره أن يعمل عليه، وأما الذهب، فليس مثله ولا ضمان عليه فيه إلا المثقال الذي أمره بعمله، والقول قوله في أنه تلف قبل أن يقطعه أو بعد أن قطعه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم مسائل بيوع، ثم كراء من سماع أشهب فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يأتي الخراز بخفين يستعمله في أحدهما شيئا فيزعم أنهما ضاعا]
مسألة وسئل أصبغ: عن الرجل يأتي الخراز بخفين يستعمله في أحدهما(4/248)
شيئا، فيقرهما عنده جميعا فيزعم أنهما ضاعا، فقال: لا يضمن إلا الواحد الذي استعمله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا يضمن إلا الذي استعمله فيه منهما، وإنما اختلف في صفة تقويمه عليه حسبما مضى القول فيه في رسم بيوع، ثم كراء من سماع أشهب فلا معنى لإعادته.
[الذي يدفع قمحه إلى الرجل فيطحن على إثر النقش يفسده بالحجارة]
من سماع أصبغ من كتاب البيع والعيوب قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن الذي يدفع قمحه إلى الرجل، فيطحن على إثر النقش يفسده بالحجارة، قال: يضمنه مثل قمحه، وقاله أصبغ؛ إلا أن يكون علم بالصب بالأثر ورضي.
وسئل عنه ابن القاسم إذا نقص عنه الدقيق، فقال: على الطحان ضمان ما نقص ما يخرج مثل قمحه من الدقيق إذا عرف.
قال محمد بن رشد: أما قول أشهب: إنه يضمنه مثل قمحه إذا طحنه إثر النقش، فأفسده بالحجارة فهو بين لا إشكال فيه؛ لأنه لما أفسد عليه قمحه في الطحين كان مخيرا بين أن يسقط عنه حكم، فيأخذ مفسودا ويودي إليه أجره على طحينه، وبين أن يغرمه مثل القمح الذي أفسد عليه، فإن أغرمه مثل القمح كان عليه أن يطحنه له على ما استأجره عليه؛ لأن مثله كعينه، وليس له أن يغرمه مثل الدقيق سالما من الحجارة، ولو رضي الطحان بذلك لم يجز؛ لأنه إذا فعل ذلك كان صاحب الطعام قد اشترى الدقيق الذي أخذ من الطحان بالقمح الذي وجب عليه، وبالأجرة التي يدفعها إليه فدخله القمح بالدقيق متفاضلا، ويجوز ذلك على مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة وغيره ممن يرى الطحن صنعة إذا قبض الدقيق، وكأنه ولم يؤخره، وأما إذا نقص الدقيق فقول ابن القاسم: إنه يكون على الطحان ضمان ما نقص ما يخرج مثل قمحه من الدقيق خلاف قوله في المدونة: إن القصار إذا ضاع عنده الثوب قبل العمل أو(4/249)
بعده فيلزمه قيمته يوم دفع إليه غير معمول، وليس لرب الثوب أن يضمنه قيمته معمولا ويؤدي إليه أجرة قصارته، فالذي يأتي في هذه المسألة على قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أن يكون على الطحان من القمح ما يخرج منه قدر نقصان الدقيق، فإن كان القمح في التمثيل ثمانية أقفزة والثمانية الأقفزة تكون مطحونة يدفعها تسعة أقفزة، فلم يجد في الدقيق إلا ثمانية أقفزة ونقصه قفيز فيؤدي إليه ثمانية أتساع قفيز من قمح، ويكون عليه أن يطحنه له فيصير قفيزا مطحونا ويأخذ أجرته، فإن لم يطحنه نقص من أجرته على الطحين ما ينوبه، وذلك تسع الأجرة، ولا يجوز له على قياس هذا القول أن يأخذ منه ما نقصه من الدقيق؛ لأنه يكون إذا فعل ذلك قد ابتاع منه قفيز دقيق بثمانية أتساع قفيز من قمح وجبت له قبله وتسع الأجرة، فيدخله التفاضل بين القمح والدقيق، وقال ابن دحون في هذه المسألة: إنه كان الأصل أن يضمن ما نقصه قمحا؛ لأنه إنما أعطاه قمحا ويكون عليه طحن ما نقصه من القمح، استحب ابن القاسم ذلك، فجعله يضمنه دقيقا، هذا نص قول ابن دحون، وهو قول غير صحيح، إذ لو كان الواجب له عنده قمحا لما جاز له أن يأخذ منه دقيقا أكثر من القمح الذي وجب له وبما يجب له من أجرة الطحين، وإنما قال إنه يأخذ منه الدقيق؛ لأنه رأى أنه الواجب له على قياس ما ذكرناه من أن الثوب إذا ضاع عند القصار لزمه ضمانه مقصورا وكانت له قصارته، وفي كتاب محمد أن ذلك يلزمه إذا ضاع بعد القصارة، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يؤدي قيمته يوم قبضه ولا أجرة له، وهو قوله في المدونة، والثاني: أنه يؤدي قيمته معمولا، ولا تكون له أجرته، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في هذه المسألة، والثالث: التفرقة في كتاب ابن المواز بين أن يضيع قبل العمل أو بعده، وقد ذهب أبو إسحاق التونسي إلى قول ابن القاسم في هذه المسألة على قوله في سماع يحيى من كتاب كراء الرواحل والدواب في الكري يبيع الطعام الذي استكري على حمله في بعض الطريق، ولو قال: إن قوله في تلك المسألة على قياس قوله في هذه لكان أشبه؛ لأن هذه المسألة جارية على أصل فهي أشبه أن يكون أصلا لا(4/250)
فرعا لها يقاس عليها، ولا يدخل شيئا من هذا الاختلاف في المسألة التي قبلها لأشهب؛ لأنها مسألة أخرى، فقول العتبي وسئل عنه ابن القاسم إذا نقص الدقيق غلط، والصواب وسئل ابن القاسم إذا نقص الدقيق بإسقاط عنه، وقد مضى القول هناك في توجيه الرواية، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الغسال يكثر عليه المتاع فيستأجر الأجراء فيزعمون أنه ضاع]
مسألة وسئل عن الغسال يكثر عليه المتاع، فيستأجر الأجراء يبعثهم إلى البحر بالثياب، فيزعمون أنه ضاع منهم بعض ذلك، قال: يضمنون، قيل له: أيضمن الأجراء؟ قال: نعم لأنهم أجراء في صناعة، فكل أحد في صناعته فهو ضامن، قيل له: وكذلك الخياط يستأجر الأجراء عنده، فيدفع إليهم بعض الأمتعة ينقلبون بها يعملون بها، فيدعون أنها ضاعت، قال: نعم، الصناع والخياط واحد.
قال محمد بن رشد: في المدونة قول ابن القاسم: إنه لا ضمان على أجير القصار فيما أتى على يديه مما استأجره القصار عليه إلا أن يكون ضيع أو فرط أو تعدى، وضمان ذلك على القصار لرب الثوب، وليس ذلك بخلاف لقوله في هذه الرواية؛ لأن المعنى في قوله في المدونة: إنه لا ضمان على أجيره فيما أتى على يديه مما عنده في حانوته أو في داره، والمعنى في هذه الرواية أنه يضمن ما قاطعه عليه من الثياب، فانقلب بها لعملها وغاب عليها، فادعى تلفها أو أفسدها؛ لأنهم أجراء في الصناعة، فإذا نصبوا أنفسهم للعمل فهم كالصناع في الحكم، فسواء أخذوا العمل من التجار أو أخذوه من صناع مثلهم هم في ضمان الصناع كمن استأجرهم من الصناع، وبالله التوفيق.
[رجل دفع إلى خياط ثوبا ليخيطه له فأراد الخياط أن يستخيطه غيره فمنعه]
ومن كتاب القضاء المحض وسئل ابن القاسم عن رجل دفع إلى خياط ثوبا ليخيطه له(4/251)
فأراد الخياط أن يستخيطه غيره فمنعه، قال: إن لم يكن شرط عليه أنه يخيطه بيده، فله أن يستخيطه.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى القول فيها محصلا مستوفى في أول سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة فلا معنى لإعادته.
[المعلم هل يذهب إلى قريته لإصلاح ضيعته فيقيم عن صبيانه اليومين والثلاثة]
ومن كتاب الجامع وسئل عن المعلم: هل يذهب إلى قريته لإصلاح ضيعته، فيقيم عن صبيانه اليومين والثلاثة ونحو ذلك، قال: نعم، يفعل ذلك إن شاء، وقد يفعل ذلك القاضي وهو أجير المسلمين، وقاله أصبغ، وقد يستراح بمثل ذلك المرة بعد المرة في القرية.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال: إن الأمر في ذلك واسع؛ لأنه المعروف من الفعل الذي جرى عليه الناس، فالتضييق فيه والتحرج منه من الغلو في الدين والحرج الذي رفعه الله عن عباده المسلمين؛ لقوله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ومن نوازل أصبغ بن الفرج قال أصبغ في الذي يعطى اللؤلؤة ليثقبها فتخرم فإذا انخرمت في موضع الثقب، فلا شيء عليه، وكذلك لو أعطيها يعملها على أجرة أو على غير أجرة إذا تعدى الثقب الفساد، وإذا كان في الثقب لم يكن عليه شيء، وقد قال أصبغ في مسألة الثقاب: الذين يثقبون اللؤلؤ والصياقلة، وجميع الصناع إذا أتى على أيديهم تلف من كسر لؤلؤة أو انقطاع السيف أو انكسر بعض الحجارة الجوهرة مما يجلى أو يثقب، فإنه ما أتى من ذلك على أيدي الصناع في عملهم، فلا شيء عليهم، وإن قال أهل البصارة: إنه أخذها من غير مأخذها وغر من نفسه وظهر فيها أنه لم يأخذها من مأخذها فهو ضامن؛ لأنه ينزل منزلة المتعدي، وإذا أخذها من مأخذها، ولا يغر من نفسه لم يكن عليه ضمان، وقبل قوله بلا بينة(4/252)
لأن شاهده فيه حاضر ظاهر، ورب اللؤلؤة مدع عليه التعدي؛ إذ لا يظهر فيها من صنعته إلا ما كان يجوز له أن يعمله، وهو له مقام شاهد؛ لأنه قد أذن له في العمل، وجعل ذلك إليه ومكّنه، وهو مدع عليه فيما يريد من الضمان، وكذلك كل صاحب صنعة على هذا الشرح.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه إن كان فيه تغرير من الأعمال مثل ثقب اللؤلؤة ونقش الفصوص وتقويم السيوف واحتراق الخبز للفران والثوب في قدر القصار، وما أشبه ذلك فإنه لا ضمان عليهم في شيء منه إلا أن يفرط أو يتعدى أو يأخذه من غير مأخذه بعمد أو جهل أو خطأ، وكذلك البيطار يطرح الدابة، فتموت من ذلك، والخاتن يختن الصبي فيموت من ختانته، والطبيب يسقي المريض فيموت من سقيه، والحجام يقلع ضرس الرجل فيموت من ذلك لا ضمان على واحد من هؤلاء في ماله، ولا على عاقلته؛ لأنه مما فيه التغرير، فكأن صاحبه قد عرضه لما أصابه، وهذا إذا لم يخطئ في فعله، وأما إذا أخطأ مثل أن يسقي المريضَ الطبيبُ مما لا يوافق مرضه أو تزل يد الخاتن والقاطع، فيتجاوز في القطع أو الكاوي فيتجاوز في الكي أو يد الحاجم، فيقلع غير الضرس التي أمر بها فهي جناية خطأ تكون على العاقلة إلا أن يكون أقل من الثلث فيكون ذلك في ماله، وذلك إن كان من أهل المعرفة، ولم يغر من نفسه، وأما إن غر من نفسه فعليه العقوبة من الإمام، واختلف في الدية، فقيل: إنها تكون عليه في ماله ولا يكون على العاقلة من ذلك شيء، وهو ظاهر قول مالك في سماع ابن القاسم وأشهب من كتاب السلطان، وقيل: إنه يكون على العاقلة من ذلك الثلث فصاعدا، وهو قول عيسى بن دينار ورواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الديات محمولة على ذلك، وبالله التوفيق.
[صباغ دفع عليه رجلان ثوبين ليعملهما وأحدهما أجود من الآخر فغلط الصباغ]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون
وسئل سحنون عن صباغ: دفع عليه رجلان ثوبين ليعملهما،(4/253)
وأحدهما أجود من الآخر، فغلط الصباغ، فأعطى صاحب الردي جيدا، وأعطى صاحب الجيد رديا فلم يعلما ذلك حتى لبس كل واحد منهما ثوب صاحبه، فقال: يأخذ كل واحد منهما ثوبه، ثم ينظر ما نقص كل واحد منهما اللبس، فيكون قصاصا بينهما، فإن كان أحدهما قد نقصه اللبس أكثر رجع بالأكثر على العامل، وتفسير ذلك أن يقال: كم نقص اللباس للثوب الذي لبس هذا؟ فإن قيل: نقصه اللبس عشرة دراهم، قيل: فكم نقص هذا الثوب الآخر اللبس؟ فإن قيل: خمسة دراهم، قيل للذي نقص ثوبه عشرة: قد لبست أنت من ثوبه ما نقصه خمسة دراهم، فقد صارت تلك الخمسة قصاصا بخمسة من عشرتك، وبقيت لك تمام عشرة ارجع بها على الصباغ الذي جنى عليك وأخطأ وأعطاك ثوب غيرك.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا خلاف قول ابن القاسم في أول سماع عيسى؛ لأنه قال: إنهما يتقاصان بما نقص لبس ثوب كل واحد منهما الثوب الذي لبسه، ولم يقل: إنها يتقاصان بما كان ينقص لبس كل واحد منهما ثوبه لو لبسه هذا اللبس كما قال في رواية عيسى، وقوله: إنه يرجع بتمام العشرة على الغسال الذي أخطأ وأعطاه ثوب غيره، معناه: إن اختار الرجوع عليه، فإن رجع عليه رجع الغسال على الاثنين اللابسين، وإن رجع على اللابس لم يكن للابس الرجوع على الغسال ولا على أحد، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى هناك، فلا معنى لإعادته ولا حول ولا قوة إلا بالله.(4/254)
[كتاب النكاح الأول]
[نكاح السكران]
كتاب النكاح الأول(4/255)
من سماع عبد الرحمن بن القاسم عن مالك
من كتاب قطع الشجرة رواية سحنون قال ابن القاسم: سئل مالك عن نكاح السكران، قال: لا أراه جائزا، وطلاقه جائز عليه، ومن كتاب القضاء من سماع أشهب وابن نافع من مالك، قال سحنون: أخبرني ابن نافع وأشهب قالا: سئل مالك عن بيع السكران فقال: لا والله، ما أراه يجوز إن استوفى وكيف يعلم ذلك، وأخاف إن ربح قال: كنت صحيحا، وإن خسر قال: كنت سكران، قلت له: وترى نكاحه مثل ذلك؟ قال: ومن يعلم أنه سكران؟ إذن يقتل هذا ويقع في الحدود، ويسرق متاع هذا، ويقول: إني سكران، لا أدري ما هذا، قال سحنون: قال لي ابن نافع: أرى أن يجاز عليه كل ما فعل من البيع وغيره.
وسئل سحنون عنها فقال: أرى نكاحه وبيعه وهباته وصدقاته وأعطياته بمنزلة واحدة سواء، لا يجوز منها شيء على حال من الحال، وإنكاحه بناته بمنزلة إنكاحه نفسه، لا يجوز ذلك، وعلى ذلك أكثر الرواة، قال: وإنما يجوز من أموره الحدود التي تجب في بدنه وطلاقه وعتقه، وما عدا هذا فليس بجائز عليه، وكذلك كتابته وتدبيره مثل عتقه جائز عليه، قال: وإقراره بالدين لا يجوز، وهو(4/257)
عندي مثل هبته، قال: وإذا أوصى السكران بوصية فيها عتق ووصايا القوم، فإن ذلك لا يجوز أيضا على حال، قال: وإذا أبت عتق عبيده في مرضه جاز ذلك عليه؛ لأنه لو صح مضى ذلك عليه وهو بحال عتقه في صحته، فكل ما أعتق السكران فما له فيه الرجوع مثل الوصية، فلا يجوز، وكل ما أعتق مما ليس له فيه الرجوع فذلك جائز عليه، قال: وهو الذي آخذ به والله أعلم، رجع سحنون بالعتبي في وصية السكران وقال: أرى وصيته جائزة، ما أوصى فيها من عتق أو وصايا لقوم أو غيره، لا يكون أسوأ حالا عندي من الصبي والسفيه، وذلك أن وصيتهما جائزة. فالسكران عندي أولى أن تجوز وصيته.
قال محمد بن رشد: السكران ينقسم على قسمين: سكران لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة، وسكران مختلط، معه بقية من عقله، إلا أنه لا يملك الاختلاط من نفسه، فيخطئ ويصيب، فأما السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء، ولا الرجل من المرأة، فلا اختلاف في أنه كالمجنون في جميع أفعاله وأقواله فيما بينه وبين الناس وفيما بينه وبين الله، إلا فيما ذهب وقته من الصلوات، فقيل: إنها لا تسقط، بخلاف المجنون؛ من أجل أنه لما أدخل السكر على نفسه فكأنه قد تعمد تركها حتى خرج وقتها، وأما السكران المختلط الذي معه بقية من عقله، فاختلف أهل العلم في أقواله وأفعاله على أربعة أقوال: أحدها أنه في حكم المجنون الذي القلم عنه في الشرع مرفوع، فلا يحد في زنى ولا سرقة ولا قذف، ولا يقتص منه في قتل، ولا يلزمه عتق ولا طلاق ولا بيع ولا شراء ولا شيء من الأشياء، وهو قول أبي يوسف، وإياه اختار الطحاوي، واحتج له بما روي عن عثمان بن عفان أنه قال: ليس للمجنون ولا للسكران طلاق، وهو قول محمد بن عبد الحكم من أصحاب مالك، أن طلاق السكران لا يجوز، والثاني أنه في حكم الصحيح الذي ليس بسكران يلزمه ما يلزمه، لأن معه بقيه من عقله يدخل به في جملة المكلفين(4/258)
بدليل توجه الخطاب إليه في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وفيما روي أن منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينادي إذا أقيمت الصلاة: «لا يقربن الصلاة سكران» ، وهو قول ابن نافع في الكتاب: أرى أن يجاز عليه كل ما فعله من البيع وغيره، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة.
وقيل: إنما يلزمه ما يلزم الصحيح من أجل أنه هو أدخل السكر على نفسه، وليس بتعليل صحيح، وقيل: إنما يلزمه ما يلزم الصحيح؛ لأنه غير مستحق لاسم السكر؛ لأن السكران هو الذي لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة، قال ذلك أبو حنيفة، وهو بعيد لأن اسم السكر واقع عليه بدليل ما ذكرناه من القرآن والسنة.
والثالث أنه يلزمه الأفعال ولا تلزمه الأقوال، فيقتل بمن قتل ويحد في الزنى والسرقة، ولا يحد في القذف، ولا يلزمه طلاق ولا عتق، وهو قول الليث بن سعد، والرابع أنه تلزمه الجنايات والعتق والطلاق والحدود، ولا يلزمه الإقرارات والعقود، وهو مذهب مالك وعامة أصحابه، وأظهر الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأن ما لا يتعلق به لله حق من الإقرارات والعقود إذا لم يلزم الصبي والسفيه لنقصان عقولهما فأحرى أن لا يلزم ذلك السكران لنقصان عقله بالسكر، وما سوى ذلك مما يتعلق لله به حق، يلزمه ولا يسقط عنه قياسا على ما أجمعوا عليه من أن العبادات التي هي حق الله من الصوم والصلاة وأشباههما تلزمه ولا تسقط عنه بالسكر، وقول مالك في أول المسألة في نكاح السكران: لا أراه جائزا، ليس معناه أنه عقد فاسد غير جائز، وإنما معناه: لا أراه جائزا عليه ولا لازما له، إن أراد الرجوع فيه وادعى أنه لم يعرف قدر ما عقده من ذلك على نفسه من أجل سكره، وذلك إذا أقر له بما ادعاه من ذلك منازعه وخصمه، وأما إن كان أنكره فلا يصدق ويلزمه النكاح إلا أن تكون له بينة أنه كان سكران لا يعقل.
واختلف إن قالت البينة: إنها رأت منه اختلاطا، ولم تبت الشهادة بسكره على قولين: أحدهما - وهو المشهور - أنه يحلف ولا يلزمه النكاح، روى ذلك زياد عن مالك وقاله مالك في المبسوط أيضا، ومثله المريض يطلق ثم يدعي أنه لم(4/259)
يكن يعقل، على ما في سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة ومن كتاب الأيمان بالطلاق، والقول الثاني أنة لا يصدق ولا يمكن من اليمين، ويلزمه النكاح، وهو دليل قوله في رواية أشهب عنه: وكيف يعلم ذلك؟ وأخاف إن ربح قال: كنت صحيحا، وإن خسر قال: كنت سكران، إلى آخر قوله.
وقول سحنون: إنه لا يجوز نكاحه ولا بيعه ولا هبته ولا صدقته ولا عطيته ولا إقراره بالدين، معناه أنه لا يلزمه شيء من ذلك، وله أن يرجع عنه إذا أفاق، على ما بيناه من مذهب مالك، وذكرنا وجهه.
وقوله: إن الكتابة والتدبير كالعتق والحدود في جواز ذلك عليه ولزومه، صحيح على مذهب مالك، وأما وصيته بالعتق وغيره، فالصحيح على مذهب مالك أنها جائزة على القول الذي رجع إليه سحنون؛ لأن حكم وصيته حكم ما عقده على نفسه من البيع وغيره، ولا يقال في شيء من ذلك على مذهب مالك: إنه غير منعقد عليه، وإنما يقال فيه على مذهبه: إنه غير لازم له، لو أراد الرجوع فيه إذا أفاق من سكره، فإذا لم يرجع في وصيته حتى مات وجب أن تنفذ كما تنفذ وصية الصحيح من السكر، فقول سحنون الأول: إن وصية السكران لا تجوز، غلط وُفِّق في سرعة الرجوع عنه وترك التمادي عليه، وكذلك تفرقته فيه بين ما بتل في مرضه من العتق وغيره إن مات من مرضه، غلط أيضا، والصحيح على مذهب مالك أنه إن مات من مرضه ذلك نفذ العتق وغيره من الثلث على معنى الوصية، وإن صح من مرضه ذلك نفذ عليه العتق ولزمه وكان له الرجوع فيما بتله من الهبة والصدقة من أجل السكر، والله أعلم.
[مسألة: إنكاح الأب ابنته دون استئمار]
مسألة قال مالك: من عبرة إنكاح البكر ولا تستأمر ما في القرآن: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27] لم يذكر في هذا استئمارا.(4/260)
قال محمد بن رشد: قوله: من عبرة إنكاح البكر ولا تستأمر، يريد: من عبرة إنكاح الأب ابنته دون استئمار؛ لأن غير الأب لا يزوج البكر حتى يستأمرها لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها» واحتجاج مالك لمذهبه في هذه المسألة بهذه الآية يدل على أن شريعة من قبلنا لازمة لنا عنده، إذا لم يكن في شرعنا ما ينسخها عنا، ويدل على ذلك من مذهبه أيضا احتجاجه في موطئه بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وإنما هو خطاب لليهود في شرعهم، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] .
وقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا نام أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها، فليصلها كما كان يصليها في وقتها، فإن الله عز وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] » والخطاب بذلك إنما هو لموسى في التوراة.
ومن أهل العلم من ذهب إلى أنها غير لازمة لنا بدليل قول الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ومنهم من ذهب إلى أنه لا يلزمنا منها إلا شريعة إبراهيم خاصة؛ لقوله عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] أي الزموها، ومنهم من ذهب إلى أنه لا يلزمنا منها إلا شريعة عيسى لأنها ناسخة لما تقدم من الشرائع، ومنهم من ذهب إلى أنه يلزمنا من شريعة موسى ما لم يكن في شريعة عيسى ما ينسخه، ومما يعتبر به في جواز إنكاح الأب ابنته البكر دون مؤامرتها مما توجه الخطاب فيه إلينا دون من قبلنا، قول الله عز وجل:(4/261)
{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ، الآية؛ لأنه أمر بإنكاح الأيامى من الأحرار والعبيد، ولم يذكر في ذلك استئمارا، ولا خص أبا من غيره، فوجب بظاهر هذه الآية أن لا يستأمر الأب ولا غيره من الأولياء الأيامى من الأحرار ومن اللواتي لا أزواج لهن، كما لا يستأمر السيد عبده ولا أمته في النكاح؛ إذ جاءت الآية في ذلك كله مجيئا واحدا، فخصصت السنة من ذلك من عدا الأب من الأولياء في الأيامى الأحرار بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها» وخصص الإجماع من ذلك الأب في ابنته الثيب، وبقي الأب في ابنته البكر على عموم الآية يزوجها دون استئمار، كما يزوج السيد عبده وأمته دون إذنهما.
ومن الحجة لمالك أن أهل العلم قد أجمعوا على أنه يزوج ابنته البكر قبل بلوغها دون استئمار، فمن ادعى أن عليه أن يستأمرها إذا بلغت وجب عليه الدليل، وهذا استدلال باستصحاب حال الإجماع، وهو دليل صحيح عندهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا ينبغي لرجل علم من وليته فاحشة أن يخبر بذلك من خطبها]
مسألة قال مالك: لا ينبغي لرجل علم من وليته فاحشة أن يخبر بذلك إذا خُطبت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن من تزوج امرأة فاطلع على أنها قد كانت زنت، لم يكن له أن يردها بذلك، فإذا لم يكن ذلك عيب فيها يجب به للزوج ردها، لم يكن على وليها أن يعلمه به، بل واجب عليه أن يستره عليها؛ لأن الفواحش يجب على الرجل أن يسترها على نفسه وعلى غيره، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصاب من هذه القاذورة شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يُبْدِ لنا صفحته نقم عليه كتاب الله» وقال لهزال: «يا هذا لو سترته(4/262)
بردائك لكان خيرا لك» وفي الموطأ أن رجلا خطب إلى رجل أخته، فذكر أنها قد كانت أحدثت، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فضربه، أو كاد يضربه، ثم قال مالك: وللخبر. وكذلك لا يجوز له ولا ينبغي له أن يخبر من عيوب وليته بشيء مما لا يجب ردها به من العور والعمى والسواد وشبه ذلك، قال ذلك مالك في كتاب ابن المواز، والنكاح في هذا عندهم بخلاف البيوع، لا يجوز للبائع أن يكتم من سلعته شيئا لو ذكره لكرهه المشتري، وكل ما نقص من ثمنها فهو عيب فيها، والفرق بين النكاح والبيع أن البيع طريقه المكايسة، والنكاح طريقه المكارمة، وليس الصداق فيه ثمنا للمرأة ولا عوضا عن شيء يملكه الولي، وإنما هو نِحْلة من الله فرضه للزوجات على أزواجهن، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن نكحت عليك أو تسررت عليك إلا بإذنك فأمرك بيدك]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: من قال لامرأته: إن نكحت عليك أو تسررت عليك إلا بإذنك، فأمرك بيدك، فأذنت له في جارية أو امرأة، فطلق تلك المرأة أو باع تلك الجارية، ثم بدا له أن يرجع فيتزوجها أو يتسرر، أن ذلك إلى امرأته إن شاءت أذنت له، وإلا فلا، وإن أذنت له فنكح أو تسرر فندمت، فأرادت أن تغير ذلك، فليس ذلك لها بعد إذنها، حتى يفارق أو يبيع، فيرجع الأمر إليها.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية: إنه إن بدا له بعد أن يطلق تلك المرأة ويبيع تلك الجارية أن يرجع، فيتزوجها أو يتسرر، أن ذلك إلى امرأته، إن شاءت أذنت له وإلا فلا. ولم يوجب عليها أن تحلف إنها إنما أذنت له في تلك الجارية بعينها، وفي نكاح تلك المرأة بعينها، ولم تكن أرادت بذلك ترك ما كان بيدها من الشرط فيهما وفي غيرهما، وذلك خلاف ما في رسم "باع شاة" من(4/263)
سماع عيسى بعد هذا، والاختلاف في هذا جارٍ على الاختلاف في لحوق يمين التهمة، ولو حقق الدعوى عليه في أنها أسقطت عنه ما كان بيدها من الشرط فيهما وفي غيرهما للزمتها اليمين قولا واحدا، وقال فيها: إنها إن أذنت له فنكح أو تسرر فندمت وأرادت أن تغير، فليس ذلك لها بعد إذنها حتى يفارق أو يبيع، فيرجع الأمر إليها، فساوى بين المرأة والجارية في أنه ليس لها أن تمنعه من التمادي على وطئها حتى يبيع الجارية أو يطلق المرأة، وفرق بينهما ابن حبيب فقال: إن لها أن ترجع عن الإذن والرضى في الجارية متى ما شاءت؛ لأن التسرر أمر مؤتنف، قال: وقد كان القياس أن لا يطأ إلا بإذن مؤتنف عند كل وطأة، ولكن الاستحسان أن يجزيه إذن واحد حتى تحدث منعا؛ لأنها على الإذن ما سكتت، وحكى الفضل عن ابن القاسم مثل ذلك أيضا.
وأما إن أرادت لما أذنت له فتزوج أو تسرر أن ترجع فتأخذ بشرطها وتقضي في نفسها، لم يكن ذلك لها باتفاق في هذه المسألة؛ لقوله فيها: إلا بإذنك؛ لأنه إن استثنى إذنها فلم يوجب لها التمليك إلا إذا تزوج عليها أو تسرر بغير إذنها، فإذا تزوج عليها أو تسرر بإذنها لم يجب لها تمليك ولا كان لها أن تقضي بشيء، وقد حكى ابن حبيب أن قائلا يقول: إن لها أن تقضي وإن نكح بإذنها؛ لأنها أذنت قبل أن يصير القضاء بيدها، وهو غلط ظاهر، إنما الاختلاف إذا قال لها: إن نكحت عليك فأمرك بيدك، ولم يقل: إلا بإذنك، فأذنت له فنكح، فلما نكح أرادت أن تقضي في نفسها وتأخذ بشرطها، ففي سماع أصبغ عن أشهب أن ذلك لها، وهو قول سحنون في المجموعة، واحتج بالذي يسلم شفعته قبل الشراء، والمشهور أن ذلك ليس لها وهو قول أصبغ في سماعه وروايته عنه أيضا فيه، وقول مالك في رسم "اغتسل" من هذا السماع، ومثله في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب التخيير والتمليك، وقد نص أشهب على الفرق بين أن يقول: إلا بإذنك، أو لا يقول ذلك، في كتاب ابن المواز، والمعنى في الفرق بينهما بيّن لا يفتقر إلى وجود النص فيه ولا يفترق ذلك عند مالك، فسواء على مذهبه(4/264)
استثنى في تمليكها أمرها إن نكحها عليها إذنها أو لم يستثن ذلك فيه، إن أذنت له فنكح، لم يكن لها أن تقضي في الوجهين جميعا، واختلف قوله إذا أذنت له أن ينكح إذنا مبهما لم تقل فيه: متى ما شئت، فمرة قال: إن له أن ينكح متى ما شاء، ومرة قال: إن ذلك ليس له إلا بقرب إذنها، وقع اختلاف قوله في ذلك في رسم "أوصى" من سماع عيسى من كتاب التخيير والتمليك، وهذا الاختلاف جارٍ على الاختلاف في الأمر المطلق، هل هو محمول على الفور أو على التراخي.
واختلف إن أذنت له في النكاح ثم رجعت في الإذن قبل أن ينكح، فقال ابن حبيب: ذلك لها، وفي رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب: ليس ذلك لها، وهو قول ابن القاسم في سماع أصبغ بعد هذا، وحكى ذلك الفضل عنه وعن غيره أيضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: جارية زوَّجها أبوها صبيا صغيرا برضى أبيه ثم هلك]
مسألة وقال مالك في جارية زوَّجها أبوها صبيا صغيرا برضى أبيه ثم هلك، فطلب أبو الجارية الميراث والمهر، فأنكر أبوه أن يكون أصدق شيئا وادعى أن ذلك على وجه الصلة، قال مالك: ليس له إلا الميراث إذا لم تقم له بينة، ولو كان إلا شاهد واحد رأيت أن تحلف الجارية إن كانت بلغت أو تُؤَخَّر إن كانت صغيرة حتى تبلغ وتعرف ما تحلف عليه.
قال محمد بن رشد: قال مالك في هذه الرواية: إن الجارية تحلف مع شاهدها إن كانت قد بلغت، أو تؤخر إن كانت صغيرة حتى تبلغ، يريد بعد يمين أبيه، فإن نكل عن اليمين غرم ولم يكن عليها إذا بلغت أن تحلف، وإن حلف أخرت كما قال حتى تبلغ، فتحلف وتأخذ، فإن نكلت عن اليمين إذا بلغت، لم يكن لها شيء ولم يحلف الأب ثانية، وكفته اليمين الأولى. قال محمد: وهذا(4/265)
بخلاف مبايعته لها، ويقيم شاهدا فيحلف معه؛ لأنه إن لم يحلف هاهنا لزمه غرم ما نكل عنه؛ لأنه أتلف ولم يتوثق؛ ولأنه لا يبيع إلا بثمن معلوم، والنكاح على التفويض يجوز، فلم يتعد، وإنما عليه أن يشهد في أصل النكاح لا في تسمية الصداق. قال محمد: وذلك عندي ما لم يدَّع أبوها التسمية مع الشاهد، فإن ادعى هذا فقد ضيع في التوثق، يريد: فيحلف هو ويستحق الصداق الذي ادعى لابنته، فإن نكل غرمه بعد حلف أبي الصبي، والظاهر من الرواية أنه هو الذي ادعى التسمية مع الشاهد، فقول محمد خلاف للرواية، وما في سماع أبي زيد عن ابن القاسم من أن أهل المرأة يحلفون في الشروط التي ادعى الزوج أن أباه شرطها عليه وهو صغير، مثل قول محمد، فهي مسألة فيها قولان. ومن هذا المعنى اختلافهم في الزوجين يختلفان في عدد الصداق أو في نوعه، فروى عيسى عن ابن القاسم في بعض روايات العتبية أن ذلك إن كان قبل البناء فالقول قول الأب أو الولي إن كانت بكرا ويحلف لأنه ليس إليها الرضى بالمهر، فإن شاء الزوج أن يعطي ما حلف عليه، وإلا حلف وانفسخ النكاح، وإن كان بعد البناء فالقول قول الزوج في عدد الصداق، ولا يكون عليه إلا ما حلف عليه، وإن كان في نوعه تحالفا وردت إلى صداق مثلها، يريد: ويغرم الأب والوصي الزيادة لتركه الإشهاد، قال فضل: وهكذا قال أصبغ في سماعه بعد أن حكى عن ابن القاسم أن البكر هي التي تحلف، فمن أوجب على الأب الإشهاد على تسميته الصداق قبل الدخول، رأى عليه أن يحلف مع الشاهد الذي أتى به؛ لأنه إن لم يحلف غرم لتركه الإشهاد، ومن لم يوجب عليه الإشهاد على ذلك رأى اليمين على الجارية، وهو الذي ذهب إليه في الرواية، ولو قال الأب له: زوجها بتفويض، وادعت هي على أبي الصبي أنه فرض لها بعد ذلك صداقا وأقامت على ذلك شاهدا، لحلفت هي باتفاق دون أبيها، ولو ادعى الأب التسمية بعد الدخول، وهي أكثر من صداق المثل وأقام عليها شاهدا واحدا، لحلف هو دونها باتفاق، فقف على أنها ثلاثة مواضع: موضع يحلف فيه الأب باتفاق، وموضع تحلف فيه الجارية باتفاق، وموضع يختلف فيمن يحلف منهما، وكذلك لو باع الأب سلعة(4/266)
لابنه بأكثر من قيمتها فجحد المشتري الشراء والسلعة قائمة، وأقام الأب عليه شاهدا واحدا، يتخرج ذلك على قولين: أحدهما أن الأب يحلف لأنه ضيع في التوثق، فإن نكل عن اليمين ضمن الثمن لابنه، والثاني أن الابن يحلف إن شاء إذا لم يجب على الإشهاد إلا عند دفع السلعة، ولو دفع السلعة إلى المشتري فجحده لوجب عليه أن يحلف مع الشاهد باتفاق؛ لأنه ضيع بترك الإشهاد، فإن نكل عن اليمين غرم الثمن على القول بأنه هو يحلف إذا لم يدفع السلعة والقيمة على القول بأن الابن هو يحلف، وكذلك الحكم في المأمور يوكل على بيع السلعة، فيجحد المشتري وللمأمور شاهد واحد، وإذا كان للابن شاهد بحق لم يله الأب، لم يكن عليه أن يحلف مع الشاهد لابنه، واختلف إذا كان الابن صغيرا فأراد أن يحلف ويستحق له حقه، فقال ابن كنانة: ذلك له لأنه يمونه، وليس ذلك لأحد سواه من أم أو وصي، وأنكر ذلك ابن القاسم ولم يره، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة تزوج بغير إذنها فتنكر]
مسألة وقال مالك في المرأة تزوج بغير إذنها فتنكر، ثم تخبر أن ذلك كله سواء، قال مالك: لا يجوز إلا بنكاح جديد، قال ابن القاسم: وإنما الذي كان يجيز مالك من ذلك فيما بلغني في الرجل يزوج ابنته الثيب أو أخته وهي معه في البلد مقيمة معه، فيزوجها ثم تخبر فترضى، وكان يجيزه ويخففه، فقلت له: فالرجل يزوج ابنته الثيب البائنة عنه في البلد، فترضى حين تعلم، قال: لا يجوز هذا النكاح ولا يقام عليه ويفسخ حتى يبدأ نكاح جديد، وذلك أنهما لو ماتا لم يتوارثا، فكيف يجوز نكاح إن ماتا قبل أن ترضى لم يتوارثا، فقيل له: فالرجل يزوج أختا له معه حاضرة في البلد، فأنكرت وقالت: لم أرض ولم أوكله، ثم أقرت بعد ذلك وأحبت إجازته، قال: لا أرى ذلك إلا بنكاح جديد، قيل لسحنون: ما معنى قول مالك: وهي(4/267)
معه مقيمة في البلد؟ أهو أن تكون معه في مصر واحد وحضر واحد؟ أم تكون معه في البلد وإن كانت بعيدة إلا أن البلد تجمعهم؟ قال: بل معناه أن تكون معه في حكم واحد، ويكون الذي يينهما قريبا مثل الأميال والبريد وما أشبهه، قلت لسحنون: فلو كان هو بالفسطاط والمرأة بالقلزم وبينهما مسيرة يومين، قال: ما أرى ذلك بكثير إذا أجازته في ذلك بالفور وأرسل إليها، فأجازت، قال: وأما ما تباعد عنه جدا مثل الإسكندرية أو أسوان أو ما بعد من المواضع، فإنه لا يجوز وإن أجازت، قال أصبغ مثله.
قال محمد بن رشد: أما إذا زوجها بغير إذنها وهي بعيدة عنه أو قريبة فتأخر إعلامها بذلك فلا يجوز النكاح وإن أجازته، باتفاق من قول مالك وجميع أصحابه إلا ما تأول أبو إسحاق التونسي من أن اختلاف قول مالك يدخل في القريب والبعيد ويفسخ قبل ما لم يدخل، وهو ظاهر قول ابن القاسم في رسم الجواب من سماع عيسى، واختيار محمد بن المواز، وقيل: ما لم يطل بعد الدخول، وهو قول ابن القاسم في رسم شهد من سماع عيسى، وقيل: إنه يفسخ أبدا وإن طال، وهو قول أصبغ، واختلف هل يكون الفسخ فيه بطلاق؟ وهل يتوارثان إن مات أحدهما قبل الفسخ، على قولين نص عليهما وهما قائمان من المدونة؛ لأنه نكاح مختلف في جوازه بين أهل العلم، وقد نص في المدونة على الاختلاف في وجوب الطلاق والميراث فيما يفسخ من الأنكحة التي اختلف أهل العلم في جوازها، وتقع الحرمة به وإن فسخ قبل الدخول إذا كان الفسخ بعد الرضا باتفاق، واختلف إذا فسخ قبل الرضا أو قدمت فأنكرت، فقال مالك في المدونة: إني لا أحب له أن يتزوج أمها ولا أن يتزوجها أبوه ولا ابنه، وقال أصبغ: بل لا يحل ذلك، وأجازه ابن الماجشون، وهو الصحيح، وإياه اختار ابن أبي زيد، لأنها إذا أنكرت فلم يتم بينهما شيء تقع به الحرمة، واحتج بأن الرجل لو قال: قد زوجت ابني فلانا إن رضي، فقال فلان: لا أرضى، لم تقع به الحرمة وإن كان له الرضى بإجماع، فهذا أحرى(4/268)
أن تقع به الحرمة، إذ لا يجوز النكاح إذا رضيت إلا على قول قائل، ولا يتوارثان قبل الرضى، ولا يكون الفسخ فيه طلاقا بإجماع إلا أن يدعي الولي عليها أنه زوجها بإذنها وتنكر هي ذلك، فروى عيسى عن ابن القاسم في المدنية أن الفسخ يكون في ذلك بطلاق، وهو بعيد، وأما إذا زوجها بغير إذنها وهي قريبة وأعلمت بالقرب أيضا، فرضيت، فالمشهور في المذهب أن النكاح جائز.
واختلف في حد القرب فقال أصبغ وسحنون: اليوم واليومان، وقال عيسى بن دينار: ذلك مثل أن يعقد النكاح في المسجد والسوق، ثم يسار إليها بالخبر من ساعته، وإنما جاز هذا النكاح وإن كان للزوجة فيه الخيار لأنه خيار أوجبه الحكم لم ينعقد عليه النكاح، ولو أعلم الولي الزوج أنه لم يستأمرها في العقد عليها، لوجب أن لا يجوز النكاح لدخوله على أن لها الخيار، فهو بمنزلة أن لو زوجه إياها على إن رضيت، وقد قال في سماع أبي زيد في ذلك: إن النكاح يفسخ.
ومن الناس من ذهب إلى أن يفرق بين المسألتين، بأن الحاضرين لهما مندوحة عن الخيار بخلاف الغائب، وهو بعيد، لأنه يلزم عليه جواز نكاح الغائبة البعيدة الغيبة لعدم القدرة على إنجاز النكاح، وروي عن مالك أن النكاح لا يجوز ويفسخ؛ لأنه نكاح لو مات أحدهما فيه لم يتوارثا، يريد: ما لم يدخل - والله أعلم - على هذا القول.
وقال أصبغ: إنما يؤمران قبل الدخول بالترك والفسخ، ولا يحكم بذلك عليهما، فقد روي عن مالك أنه قال: لا أحب المقام عليه وإن رضيت، وقال مرة: إن رضيت جاز، واختلاف قوله هذا في الغيبة القريبة قائم من قول ابن القاسم في المدونة: وبلغني أن مالكا مرة كان يقول: هذا الذي حفظناه عمن أدركناه من شيوخنا، أن اختلاف قول مالك إنما هو في القريب الغيبة، وهو الذي يدل عليه ظواهر الروايات، ونحا أبو إسحاق التونسي إلى أنه لا فرق على أحد قولي مالك بين قريب الغيبة وبعيدها، وهو الأظهر في القياس، لأن الخيار الذي للمرأة المزوجة بغير إذنها إن حكمنا له بحكم الشرط وجب أن يفسخ النكاح في القرب والبعد، وإن لم يحكم له بحكم الشرط وقلنا: إنه خيار يوجبه الحكم، فلا يفسد العقد، كالعبد يتزوج بغير إذن سيده وما أشبه ذلك، وجب أن يجوز في القرب والبعد، فيأتي(4/269)
في المسألة لمالك على هذا التأويل ثلاثة أقوال: جواز النكاح في القرب والبعد، وفساده في القرب والبعد، والفرق بين القرب والبعد.
وأما إذا أنكرت ثم أجازت فقال ها هنا وفي المدونة: إن النكاح لا يجوز سواء أرادت بإنكارها رد النكاح أو الإباية من إجازته، خلاف تفرقته في المدونة بين ذلك في سيد العبد إذا نكح بغير إذنه. والفرق بين المسألتين أن تزويج المرأة بغير إذنها على الرد حتى يجاز إذ لم ينبرم بين الزوجين، وبدليل أن الأمد إذا طال لم يكن لها أن تجيز، وأن تزويج العبد بغير إذن سيده على الإجازة حتى يرد، إذ قد انبرم بين الزوجين، وإنما الخيار لغيرهما، بدليل أن طول الأمد لا يمنعه من الإجازة، وجعل ابن وهب المرأة مثل السيد في ذلك، وهو أظهر لأن لها الإجازة ما لم تصرح بالرد في الموضع الذي تجوز لها الإجازة فيه، وهو القرب، كما أن ذلك للسيد في الموضع الذي تجوز له الإجازة فيه، وهو القرب والبعد، وكذلك الحكم في الرجل يزوج ابنه المالك لأمر نفسه وهو غائب، أو يخطب المرأة على الرجل فيزوجها إياه وهو غائب، ثم يأتيان فيقران بالإذن أو ينكرانه، فيردان أو يجيزان، وستأتي هذه المسألة بعد هذا والقول فيها مبسوطا إن شاء الله، وبالله التوفيق.
[مسألة: يزوج أجيرا له جارية له على إن رأى منه أمرا يكرهه فأمرها بيده]
مسألة وقال مالك في الرجل يزوج أجيرا له جارية له على إن رأى منه أمرا يكرهه فأمرها بيده لا يحل ذلك ولا أرى أن ينكح على هذا أحد، فإن فعل ووقع النكاح رأيته جائزا، قال ابن القاسم: ولا أفسخه إذا وقع، دخل أو لم يدخل. ومثل ذلك ما تشترط المرأة على زوجها إن أضر بها أو شرب خمرا أو غاب عنها فأمرها بيدها فهذا يكره أن يبتدأ به النكاح، فإذا وقع كان ثابتا، قال سحنون: دخل أو لم يدخل، وقال عيسى إذا وقع به النكاح مضى ولزمه الشرط، قال أصبغ: إنما يكره أن يشترط إن رأت منه ما يكره أو ما لا يعجبها أو ما لا ترضى فهي طالق، قال أصبغ: فإن وقع هذا فأرى(4/270)
شرطها لها إن رأت ما تكره فهي طالق، والنكاح ثابت قبل الدخول وبعده لأنها يمين قد فرطت ليس فيها طرح شيء، فإذا رأت ما تكره طلقت كما شرطت، وقال سحنون: سئل مالك عن الرجل يزوج عبده على أن الطلاق بيد السيد، قال مالك: إن دخل بها وقع ما بيد السيد من ذلك وإن لم يدخل خير السيد، فإن ترك الشرط وإلا فرق بينهما.
قال محمد بن رشد: أما الذي زوج أجيره جاريته على أنه إن رأى منه ما يكرهه فأمرها بيدها فإن أراد بذلك ما يكرهه مما يكون مكروها عند الناس وضررا بها فلا اختلاف أن النكاح جائز والتمليك لازم بمنزلة ما لو اشترط عليه إن أضر بها أو شرب خمرا فأمرها بيده، وأما إن أراد بذلك ما يكرهه هو باختياره وإن لم يكن ذلك مكروها عند الناس ولا ضررا بها فيتخرج ذلك على خمسة أقوال: أحدها أن ذلك يكره ابتداء فإذا وقع جاز النكاح ولزم التمليك، وهو ظاهر قول ابن القاسم وروايته عن مالك وقول سحنون وعيسى بن دينار، والثاني أنه لا كراهة في ذلك، وهو قول أصبغ، والثالث أن النكاح جائز والتمليك ساقط، وهو قول ابن الماجشون على أصله في أن كل نكاح ينعقد على تمليك يقع بفعل هو بيد غير الزوج إن شاء أن يفعله فعله مثل أن يزوج الرجل أمته على أنه إن باعها فأمرها بيدها أو بيده أو ما أشبه ذلك أن النكاح جائز والشرط ساقط، والرابع قول محمد بن المواز أن النكاح فاسد يفسخ قبل الدخول وبعده على أصله أيضا في النكاح الذي ينعقد على تمليك يقع بفعل هو بيد غير الزوج أنه نكاح فاسد مثل نكاح المتعة أو أشد، والخامس أنه إن دخل سقط الشرط، وإن لم يدخل بها خير مشترط الشرط فإن تركه وإلا فرق بينهما، وهذا القول يأتي على ما حكى سحنون عن مالك في الرجل يزوج عبده على أن الطلاق بيد السيد، وهو على مذهب من يرى التخيير قبل البناء في النكاح إذا وقع بصداق مجهول. ووجه القول الأول والثاني في أن النكاح جائز والشرط لازم هو أن التمليك ليس بطلاق لازم(4/271)
قد يرى منه ما يكره فلا يطلق، فأشبه إذا زوجها منه على أنه إن أضر بها فأمرها بيدها، ووجه قول ابن المواز أن النكاح فاسد يفسخ قبل الدخول وبعده هو ما ذكره من تشبيهه بالمتعة لأنه تزوج امرأة بشرط أن طلاقها بيد غيره، وإذا فعل ذلك كان له أن يطأها ما لم يطلقها عليه، فأشبه المتعة. التي يتزوج على أن يطأ ما لم يحل الأجل، وأما قول ابن الماجشون فلا وجه له، لأنه إما أن يشبه بالمتعة فيكون لنكاح فاسدا كما قال محمد، وإما أن لا يشبه بها لأن الأجل فيها يأتي بالطلاق على كل حال، وقد يرى منه ما يكره فلا يفرق بينهما فيكون النكاح جائزا كما قال مالك وابن القاسم وسحنون وعيسى ابن دينار، وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب، وأما الذي تزوج على أنه إن رأت منه امرأته ما تكره فهي طالق فهو أشد في الكراهة ويدخلها الاختلاف المذكور كله إلا جواز النكاح ابتداء دون كراهة، وبالله التوفيق.
[مسألة: خطب إلى رجل ابنته على رجل فزوجه ثم علم الأب أنه افتات على الغائب]
مسألة وقال مالك في رجل خطب إلى رجل ابنته على رجل فزوجه، ثم علم الأب أنه افتات على الغائب، قال ابن القاسم: يريد الذي خطب افتات على الغائب فأراد أن يرجع وقال خدعتني، لا يكون ذلك له بعد ما زوج، ولا يؤخذ بقول الخاطب، وما أشبه ذلك حتى يكون ذلك في الثبت الذي لا شك فيه، فذلك له حينئذ، وأما غير ذلك فلا حتى يعرض على الغائب فيقول أنا أمرته أو يجحد أن يكون أمره، ولو رفعه إلى الإمام لكان أحب إلي. قال عيسى: وقال أصبغ: لا خيار له في ذلك حتى يوقف المفتات عليه، فإن قال أنا أمرته فالنكاح جائز، وإن قال لم آمره فالنكاح يفسخ، وإن قال لم آمره ولكني أرضى به الآن ورضي به الأب فذلك غير جائز لأنهما يريدان إتمام النكاح على عقدة فاسدة.(4/272)
قال محمد بن رشد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا زوج الرجل وليته البكر أو الثيب وابنته الثيب أو ابنه البكر أو الرجل الأجنبي في مغيبهم فلا يخلو أمره من ثلاثة أحوال: أحدها أن يزعم في حين العقد أنه أذن له فيه، والثاني أن يزعم أنه لم يؤذن له فيه، والثالث أن لا يذكر إن كان مأذونا له في العقد أو مفتاتا على الغائب فيه، فأما إذا زعم في حين العقد أنه أذن له فيه الغائب أو الغائبة فلا اختلاف أن النكاح لا يفسخ حتى يقدم الغائب ويعرف ما عنده، فإن صدقه فيما ادعى عليه من الإذن جاز النكاح وإن بعد، وإن أنكر وقال: لم آمره ولا أرضى بالنكاح حلف ولم يلزمه، وقيل لا يمين عليه، وإن قال لم آمره ولكني أرضى بالنكاح جاز النكاح في القرب دون البعد على المشهور في المذهب، وهو مراده في هذه الرواية لأن قوله فيها وإن قال لم آمره ولكني أرضى به الآن ورضي به الأب فذلك غير جائز معناه إذا بعد الأمد، وقد مضى فوق هذا ما في ذلك من الاختلاف، وأما إن زعم حين العقد أنه لم يؤذن له فيه وأنه مفتات في عقده فالنكاح فاسد قرب أو بعد، ولا اختلاف في ذلك، وقد مضى وجه ذلك، وأما إن عقد وسكت ولم يبين شيئا فهو محمول على أنه وكل حتى يثبت خلاف ذلك، وذلك بين من قوله في هذه الرواية ولا يؤخذ بقول الخاطب حتى يكون في ذلك الثبت الذي لا شك فيه، ولا خلاف في هذا أحفظه نصا، قال أصبغ في كتاب محمد: وكذلك أحسبه قال في الرجل يزوج ابنة الرجل البكر، وقال محمد ذلك في الأب في ابنته البكر والسيد في أمته أثقل فيهما من غيرهما، وفي سماع أصبغ عن أشهب أن النكاح لا يجوز على حال، وإن زعم المزوج أن الأب وكله على ذلك وإن صدقه الأب فلا يصدق، فحمله على الافتيات حتى يثبت أنه وكله على تزويجها قبل عقد النكاح، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم في المدونة لأنه قال فيها: إن زوج الأخ أخته البكر في حجر أبيها لم يجز وإن أجازه الأب إلا أن يكون كالولد القائم بأمره المدبر لشأنه،. وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه لا فرق في القياس بين ذلك، فإما أن يحمل الأمر على التوكيل في الجميع فيجوز، وإما أن يحمل على الافتيات في الجميع فلا يجوز، وبالله التوفيق.(4/273)
[مسألة: تزوج امرأة على أن يعتق أباها فاشتراه فأعتقه ثم طلقها قبل أن يبني بها]
مسألة قال مالك: ومن تزوج امرأة على أن يعتق أباها فاشتراه فأعتقه ثم طلقها قبل أن يبني بها أن عليها نصف قيمته وجاز العتق. قال ابن القاسم: لا يجوز هذا النكاح لأنه لم يصل إليها شيء من المهر، إنما هو أعتقه، وله ولاؤه، وأرى أن يفسخ، وإن دخل بها أعطيت صداق مثلها وثبت النكاح، ولا يرجع عليها بشيء. قال ابن القاسم: أخبرني بهذا من أثق به من أصحاب مالك أن عليها نصف قيمته ثم أخبرني بها بعض جلساء مالك أنه قال: لا أرى أن يرجع عليها بشيء. وقوله الأول أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قوله في السؤال فاشتراه يدل على أنه لم يكن في ملكه يوم عقد النكاح، وهذا فيه نظر لأن المعروف من قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجوز النكاح على عبد فلان، وقد جوزه مالك في هذه المسألة إذ لم ير النكاح فاسدا بدليل أنه أوجب للزوج الرجوع عليها في الطلاق بنصف قيمته وجوز العتق على حكم النكاح الصحيح لأن النكاح الفاسد لصداقه لا يجب فيه الصداق إلا بالدخول، فلو كان عنده فاسدا لم يوجب عليها شيئا في الطلاق قبل الدخول لأنه هو أعتقه ولم تقبض هي شيئا ولا وجب له عليها جميع قيمته من أجل أنه لما أعتقه بأمرها فكأنها قد قبضته وأعتقته، وقد روى أبو عبيد عن مالك أن النكاح على عبد فلان جائز، فعلى هذا يأتي في هذه الرواية، وإنما جوز مالك النكاح في هذه المسألة وإن كانت المرأة لم تملكه ولا كان لها ولاؤه لأنه مال من ماله بعد الشراء لو قال أعطيك مالا على أن تعتقه ويكون ولاؤه لك لجاز ذلك وصح له أخذ ما سمت له من المال، فهو لم يرض أن يخرجه عن ملكه إلا بأخذ بضعها في النكاح وإن لم يملكه طرفة عين ولا وصل إليها شيء من المهر، فلا بأس به، ألا ترى أنهم جوزوا أن تقول المرأة: أتزوجك على أن تهب عبدك لفلان أو تتصدق به عليه وإن لم يملكه ولا وصل إليها شيء من المهر، فهذا وجه قول مالك في هذه المسألة، وعلل ابن القاسم فساد(4/274)
النكاح عنده بأنه لم يصل إليها من المهر شيء، قال: وإنما هو أعتقه، وله ولاؤه. فعلى قوله لو تزوجها على أن يعتق عنها أباها ويكون لها ولاؤه لجاز النكاح خلاف قول ابن الماجشون في الواضحة، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن النكاح جائز على أن يعتق أباها عن نفسه أو عنها، وهو قول مالك في هذه الرواية، والثاني أن النكاح لا يجوز على أن يعتق أباها لا عن نفسه ولا عنها وهو قول ابن الماجشون، والثالث أنه إن تزوجها على أن يعتقه عن نفسه لم يجز النكاح وإن تزوجها على أن يعتقه عنها جاز النكاح، وهو مذهب ابن القاسم في هذه المسألة على أصله في المرأة تقول لسيد زوجها أعتق عبدك عني ولك ألف درهم أن النكاح ينفسخ، وما حكاه ابن القاسم من اختلاف قول مالك في وجوب الرجوع له عليها في الطلاق بنصف قيمته ليس في المسألة المتقدمة المذكورة إنما هو في مسألة المدونة في الذي تزوج المرأة على أبيها أو على أخيها أو على من يعتق عليها ثم يطلقها قبل البناء بدليل اختيار ابن القاسم لقول مالك الأول كما اختاره في المدونة فيها، لأن المسألة المتقدمة المذكورة لا يوجب ابن القاسم للزوج فيها قبل الدخول شيئا من أجل أنه نكاح فاسد عنده، فوهم العتبي في سياقته عليها، ولا اختلاف بينهم إذا تزوجها على أبيها أو على أخيها أو على من يعتق عليها في أن النكاح جائز ويعتق عليها علما أو جهلا أو علم أحدهما دون الآخر، بكرا كانت أو ثيبا، قاله ابن حبيب في الواضحة. وهذا في البكر إذا لم يعلم الأب أو الوصي، وأما إذا علم فلا يعتق عليها، واختلف هل يعتق عليه هو أم لا على قولين، وإذا أعتق عليها ولم تعلم وقد علم الزوج رجعت عليه بقيمته لأنه غار، وقد قيل إنه لا يعتق عليها إذا غرها به ويرد إليه ويكون عليه لها قيمته أو نصف قيمته إن طلقها قبل البناء، اختلف في ذلك قول ابن الماجشون، وقال ابن كنانة: إذا غرها يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ويكون لها صداق المثل وتغرم له قيمته ويعتق عليها، وأما إن علمت ولم يعلم الزوج فلا رجوع لها عليه، وله هو إن لم يعلم علمت هي أو لم تعلم إن لم يكن لها مال أن يرد عتقه ليباع في جهازه وأن يرجع في نصفه إن طلقها قبل الدخول والحمد لله.(4/275)
[مسألة: ينكح الرجل الأمة نفسه التي قد أخدمها حياته]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال لا أحب أن ينكح الرجل الأمة نفسه التي قد أخدمها حياته وإن رضي بذلك الذي أخدمها لأنه بمنزلة الشريك ينكح حصة شريكه.
قال محمد بن رشد: إنما كره له أن يتزوجها لأنه من أجل أن له بوجوب خدمتها له حياته شبهة تسقط عنه الحد لو زنى بها عنده، قال ابن القاسم في سماع محمد بن خالد من كتاب الخدمة وإن تعمد ذلك بمعرفة كالأمة بين الشريكين فجرى على أصله، ومن يوجب عليه الحد إن زنى بها ولا يعذره بالجهالة وهو مذهب أشهب وابن الماجشون ومطرف وأبي المصعب ومحمد بن سلمة يجيز له نكاحها، وهو القياس، وابن وهب يفرق في إيجاب الحد عليه إن زنى بها بين أن يعذر بالجهالة أو لا يعذر، ولو كانت الخدمة مدة من الزمان يسيرة ولم تكن حياته لحد في الزنى باتفاق، وكان له أن يتزوجها.
[مسألة: نكح بأرؤس ولم يبين حمران ولا سودان]
مسألة قال مالك: وإن نكح بأرؤس ولم يبين حمران ولا سودان، فلها نصف القيمتين، قال سحنون: ينظر إلى البلد، فإن كان رقيقهم الحمران كان عليه الحمران، وإن كان سودان فسودان، قال سحنون: ويعطي الإناث من الرقيق ولا يعطي الذكور، وقال: وإن كان رقيق البلد حمران وسودان كان عليه نصف الرقيق من الحمران والنصف من السودان.
قال محمد بن رشد: إنما يكون له نصف القيمتين إذا كان رقيق البلد الذي يتناكحون عليه حمرانا وسودانا، وكان أصدقها عبدا واحدا أو ثلاثة أعبد، فإن كانوا ثلاثة كان عليه رأس من أوسط هذا الجنس، ورأس من أوسط هذا الجنس الآخر، ثم يكون عليه في الثالث نصف قيمة هذا الجنس يوم وقع النكاح ونصف قيمة هذا الجنس الآخر، وكذلك إذا أصدقها رأسا واحدا(4/276)
للضرر في الاشتراك، والقيمة في ذلك يوم وقعت العقدة بينهما، أمسك أو طلق، قال ابن القاسم في رسم الجواب من سماع عيسى: والأشبه أن يأتي بعبد من هذا الجنس وبعبد من الجنس الآخر، فيكون شريكا لها فيهما على ما روى أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الجنايات في الذي يقطع أنملة رجل، أنه يأتي بالعشرة من الإبل دية للإصبع، كلها على أسنانها، فيكون المقطوع شريكا له فيها بقدر دية الأنملة، ثم يقتسمان بعد أو يبيعان، وإيجاب القيمة في ذلك يأتي على قولهم في الخلطاء: يجب عليهم سن واحدة في الزكاة، فقف على ذلك، ولو سموا في ذلك ثمنا لحكم به ولم يرجع في ذلك إلى القيمة، على ما سيأتي القول عليه في رسم الجواب من سماع عيسى، إن شاء الله، وبالله التوفيق.
[مسألة: له على رجل خمسون دينارا فخطب إليه ابنته مقابل الخمسين]
مسالة
وقال مالك في رجل كانت له على رجل خمسون دينارا، فخطب إليه ابنته أو أخته على أن يضع عنه الخمسين. فكره مالك ذلك، وأن يؤخر إلى أجل أبعد من الأجل الذي يحل فيه ذلك أيضا، قال ابن القاسم: أما إذا وقع النكاح على أن يضع فهو بمنزلة الحباء الذي يشترط المنكح، فأراه للمرأة ويثبت النكاح، وأما تأخير الأجل فإنه حرام، وأرى أن يفسخ ذلك قبل الدخول وإن دخل بها رأيت أن تعطى صداق مثلها ويرد المال إلى أجله.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة عندي أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تكلم على أن الولي اشترط ذلك على الزوج في العقد دون تسمية الصداق فكره ذلك إذ لا تأثير له في فساد العقد إذ لم يقع عليه الصداق وهو في التأخير أشد، فيمضي النكاح وتسقط الوضيعة والتأخير، وتكلم ابن القاسم على أنه زوجه بصداق مسمى على ذلك، فوجب أن تكون الوضيعة كالحباء يشترطه الولي يجب للمرأة على وليها إن أحبت اتباعه به ويثبت النكاح وأن يكون التأخير فسادا في الصداق لأنه حط منه بسببه، فوجب أن يفسخ النكاح قبل(4/277)
الدخول، وأن يكون فيها صداق المثل بعد الدخول، ظاهر قوله بالغا ما بلغ، كان أقل من المسمى أو أكثر منه، ويأتي على قياس المشهور من قوله في البيع والسلف، أن يكون لها بعد الدخول الأكثر من صداق مثلها أو المسمى، ويفسخ قبل الدخول على كل حال وفي كل قول، بخلاف البيع والسلف الذي يثبت إذا رضي مشترط السلف بتركه من أجل أنه بين المتبايعين وليس هو هاهنا بين الزوجين، وبالله التوفيق.
[مسألة: جارية بكر حلفت على رجل أن عليها بدنة وكل ما تملك صدقة إن نكحته]
مسألة قال مالك في جارية بكر حلفت على رجل أن عليها بدنة وكل ما تملك صدقة إن نكحته، فزوجها إياه أبوها ولم يؤامرها، فإن النكاح جائز ولا عتق عليها وهي مولى عليها في حجر أبيها.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا عتق عليها، خلاف ما في آخر سماع ابن القاسم من كتاب النذور، مثل قول سحنون فيه، لأن ذلك إنما سقط عنها من أجل التحجير اللازم لها في مالها لا من أجل أن الأب أكرهها على النكاح بما له من الحق في ذلك، إذ ليس ذلك مما يسقط عنها الحنث عنده على مذهبه في الحالف على أن لا يفعل فعلا، فقضى به عليه السلطان، في المدونة وغيرها خلافا لابن الماجشون.
[الرجل يزوج ابنه صغيرا ويشترط على الأب نفقة امرأته]
ومن كتاب أوله حلف أن لا يبيع رجلا سلعة سماها قال: وسئل مالك عن الرجل يزوج ابنه صغيرا، ويشترط على الأب نفقة امرأته، قال: لا خير في هذا، قال عيسى: سألت ابن القاسم عن هذا إذا وقع فقال: إن كان ذلك قبل أن يدخل فسخ، وإن دخل بها جاز، وكانت النفقة على الزوج، وقد قال مالك: رأيت لو مات الأب كان يوقف لها ماله، ولو كان عليه دين لكانت تحاص به الغرماء استنكارا لذلك، قلت له: فعبده؟ قال: لا خير في هذا، ولو(4/278)
كان هذا لجاز في الحميل أن يتحمل بالنفقة، وقال ابن القاسم: قال لي هذا وما أشبهه، إلا أنه أكثر الكلام فيه على وجه الكراهية.
قال محمد بن رشد: حكى ابن المواز قول مالك: اختلف في اشتراط النفقة في النكاح على أب الصغير حتى يكبر، أو على ولي المولى عليه حتى يرشد، فمرة أجازه، ومرة كرهه، وقال بكل قول كثير أيضا من أصحاب مالك، وحكى ابن حبيب إجازة ذلك أيضا عن مالك من رواية ابن الماجشون وابن وهب عنه، وزاد أن ذلك لازم ما عاش الأب وكان الزوج مولى عليه، وإنما وقع الاختلاف في المسألتين من أجل أنه لم يقع في الشرط بيان إن مات الأب قبل بلوغ الصغير أو الولي قبل رشد اليتيم فسقطت النفقة بموتهما، هل تعود في مال الصغير ومال اليتيم أو لا تعود في مالهما إلى بلوغ الصغير منهما ورشد اليتيم، ولو وقع الشرط بإفصاح وبيان أنه لا نفقة على الصغير حتى يبلغ، عاش الأب أو مات قبل ذلك، ولا على اليتيم حتى يرشد عاش الولي أو مات قبل ذلك، لكان النكاح فاسدا باتفاق لانعقاده على غرر، إذ قد يموت الأب قبل بلوغ الصبي أو الولي قبل رشد اليتيم، فلا يكون للزوجة نفقة، ولو وقع أيضا بإفصاح وبيان أن النفقة تعود في مال الصغير إن مات الأب قبل بلوغه وفي مال اليتيم إن مات وليه قبل رشده، لكان النكاح جائزا باتفاق، إذ لا ضرر على الزوجة في الشرط على هذا الوجه ولا منفعة لها فيه، وإنما منفعته للصغير واليتيم بما التزم لهما من الإنفاق على زواجهما وتدبير أموالهما، فلما وقع الشرط مبهما محتملا للصحة والفساد حمله في أحد القولين على الصحة حتى يعلم فساده، ووجه ذلك أن النكاح قد انعقد فوجب ألا يفسخ إلا بيقين؛ وفي القول الثاني على الفساد حتى تعلم صحته، ووجه ذلك أن النكاح لما انعقد بين المتناكحين على الشرط دل على أن للزوجة في ذلك مدخلا، فوجب فساده، وقال ابن القاسم على القول بفساد النكاح: إنه إن دخل بها جاز النكاح وكانت النفقة على الزوج، ولم يبين إن كانت ترد إلى صداق مثلها أو يكون لها الصداق المسمى، وإرادته أن يكون لها صداق مثلها لأن الشرط له تأثير في الصداق إذا وقعت التسمية عليه، وهو الذي في الواضحة. ولو اشترطت النفقة(4/279)
في أصل العقد على غير الزوج، والزوج كبير مالك لأمر نفسه، لكان النكاح فاسدا يفسخ قبل الدخول، قال ابن حبيب عن مالك: إلا أن ترضى المرأة أن تكون نفقتها على الزوج، وذلك على القول في وجوب التخيير قبل البناء في النكاح الذي يقع بصداق بعضه مؤخر إلى أجل مجهول، ويثبت بعد البناء وتكون النفقة على الزوج، ولا يدخل الاختلاف الذي دخل في المسألة الأولى في هذه المسألة لظهور الغرر والفساد فيها بخلاف المسألة الأولى، وكذلك لا يجوز النكاح بشرط على أن يعطي الزوج بالنفقة حميلا، وإنما لم يجز ذلك لأن النفقة ليست بدين ثابت في ذمة الزوج كالصداق في النكاح والثمن في البيع، فيجوز اشتراط الحميل فيه، وإنما هو حق أوجبه الله للزوجات على أزواجهن، قيل: بحق العصمة، وقيل: بحق الاستمتاع بالزوجة، فإن عجز عنه لم يتبع به ذمته وكانت الزوجة بالخيار بين أن ترضى بالمقام معه على غير نفقة أو يفارقها، فإن اشترط الحميل بذلك كان النكاح فاسدا يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده وتسقط الحمالة، ويكون للمرأة صداق مثلها؛ لأن للشرط فيه تأثيرا إذ لم ترض بالتسمية إلا من أجل ما اشترطته من الحمالة.
ولو وقع الشرط في مسألة اشتراط النفقة على غير الزوج ببيان أن الذي اشترط عليه الإنفاق وإن مات أو طرأ عليه دين أو ما يبطل النفقة عندما رجعت على الزوج، لكان النكاح جائزا على قياس ما ذكرناه، وقد قيل: إنه نكاح يفسخ على كل حال؛ لأن شرط النفقة على غير الزوج خلاف لسنة المسلمين في النكاح، فهو نكاح فاسد يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ويسقط الشرط، ويكون للمرأة صداق مثلها إن كانت التسمية على الشرط، وإلى هذا نحا أبو بكر الأبهري في كتابه، والذي قلناه أبين وأظهر في المعنى، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يريد أن يزوج بنت الأخ ولا يعرفها أحد من الناس]
مسألة وسئل عن الرجل تكون عنده المرأة لا يعرفها أحد غيره مثل بنت الأخ وما أشبه ذلك، وهو يريد أن يزوجها ولا يعرفها أحد من الناس، كيف يشهد عليها؟ قال: يدخل عليها من لا يحتشم منه، ثم(4/280)
يشهد على رؤيتها ثم يزوجها، ولقد استشارني الحسن بن يزيد في جارية كان يليها من آل أبي طالب، فأشرت عليه أن يرسل إليها من يرضى فيشهد عليها، فأرسل إليها رجلين فشهدا عليها ثم زوجها، قال عيسى: قال لي ابن القاسم: قال مالك: ولم يعرفها الشهيدان.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إنه إذا لم يوجد من يعرفها فلا بد أن يشهد على رؤيتها من لا يحتشم منه، فتسفر لهم عن وجهها ليثبتوا عينها كيما إن أنكرت بعد أن شهدوا عليها أنها هي التي أشهدتهم فيلزمها النكاح، وأما إن وجد من العدول من يعرفها فلا ينبغي لمن لا يعرفها أن يشهد عليها، فإن شهد عليها من لا يعرفها، وجد من يعرفها أو لم يوجد، فلا يصح لهم أن يشهدوا على شهادتهم أن فلانة بنت فلان أشهدتهم على الرضى بالنكاح؛ لاحتمال أن لم تكن هي التي أشهدتهم فيموتوا ويشهد على شهادتهم، فيلزم نكاحا لم ترض به ولا أشهدت به على نفسها؛ لأن إشهادهم على شهادتهم بذلك كشهادتهم به عليها عند حاكم، والحقوق بخلاف ذلك، قال مالك: لا أرى أن يشهد الرجل على من لا يعرف، ومثله لأصبغ في الخمسة، قال: وأما الحقوق من البيوع والوكالات والهبات ونحو ذلك، فلا يشهد عليها في شيء من ذلك إلا من يعرفها بعيبها واسمها ونسبها، والفرق بين النكاح وما سوى ذلك من الحقوق أنه يخشى وإن لم يشهدوا على شهادتهم في الحقوق أن يموتوا فيشهد على خطوطهم، فتلزم باطلا لم تشهد به على نفسها.
وعلى ما جرى العمل به عندنا من أنه لا يقضى بالشهادة على خط الشاهد إلا في الأحباس وما جرى مجراها، يستوي النكاح في ذلك وما سواه من الحقوق، ولا يكون على الرجل حرج في أن يضع شهادته على من لا يعرف في الحقوق كما يضعها عليه في النكاح إذا لم يشهد على شهادته بذلك، وقد استجاز ذلك العلماء قديما وأن يقيدا في عقد إشهاد الوثيقة معرفة العين والاسم لما في ذلك من تحصين الحقوق، وأما عند أداء الشهادة فلا يحل للشاهد أن يشهد بإجماع إلا على من يثبت عينه ويعرف أنه هو الذي أشهد دون شك في ذلك ولا ارتياب.(4/281)
[المرأة من الأعراب زوجت ابنة لها وهي صغيرة محتاجة في بعض المياه]
من كتاب أوله شك في طوافه قال: وسئل مالك عن المرأة من الأعراب زوجت ابنة لها وهي صغيرة محتاجة في بعض المياه، فكتب إليه صاحب ذلك الماء يسأله عن ذلك وقال: إن أمها تقول: إنما زوجتها إنها كانت محتاجة تسأل النساء وتطوف عليهم فزوجتها نظرا لها، وقد عرف الناس ذلك من شأنها أنها كانت ساعية محتاجة تطوف.
قال مالك: ابنة كم هي؟ قال: ابنة عشر سنين، قال: والجارية راضية؟ قال: نعم راضية بذلك، قال: أراه نكاحا جائزا.
وقد «بنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعائشة وهي ابنة تسع سنين أو عشر سنين» قال: ولو كانت صغيرة لم أر ذلك نكاحا، قال سحنون: محمل هذه المسألة على أن الأم وكلت من زوجها من الرجل، وهي مسألة ضعيفة.
قال محمد بن رشد: إنما قال سحنون في هذه المسألة: إنها مسألة ضعيفة، وإن تأول فيها أن الأم وكلت من زوجها؛ إذ لا يجوز للأم أن توكل من يزوج ابنتها إلا إذا كانت وصية، ولم يراع ذلك مالك على أصله في رواية ابن القاسم عنه، أن المرأة الدنية يجوز أن يزوجها الرجل الأجنبي، ولا أدنى في المرتبة من امرأة ساعية تطوف بالأبواب، فإذا زوجها الأجنبي جاز ولم يكن لتقديم الأم في ذلك تأثير، وأجاز النكاح وإن كان مذهبه أن اليتيمة لا يجوز تزويجها قبل البلوغ، لما أخبرته أنها خشيت عليها الضيعة فرأى ذلك كما قالت إذ كانت في سن من يوطأ مثلها، ورأيت العشر سنين ونحوها ممن يوطأ مثلها، بدليل بناء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وهي في هذا السن، قال: ولو كانت صغيرة - يريد في سن لا يوطأ مثلها ولا يشتهى - لم أر ذلك نكاحا، إذ لا يخشى(4/282)
عليها الضيعة في هذا السن، ولا تدعو الضرورة إلى تزويجها فيه، فهذا وجه تفرقة مالك بين الصغيرة التي لا يوطأ مثلها والبالغة التي يوطأ مثلها، وسأل: هل كانت راضية؟ إذ لا يجوز أحد من أهل العلم للولي أن يزوج يتيمة قبل البلوغ وهي كارهة، إذا كانت قد بلغت من السن ما يعرف به ما يميل به نفسها إليه، مما فيه صلاحها، وما تنفر عنه مما فيه ضرر عليها، ولو كانت كارهة لما جاز النكاح عليها بحال.
وقد اختلف إذا زوجت اليتيمة قبل البلوغ من غير حاجة تدعو إلى ذلك في المذهب اختلافا كثيرا، فقيل: إن النكاح يفسخ قبل الدخول وبعده، وإن طال وولدت الأولاد، ورضيت بزوجها، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة وعزاه إلى مالك وأصحابه، وقيل: يفسخ قبل الدخول وبعده، إلا أن يطول بعد الدخول فلا يفسخ، وهو قول ابن القاسم في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، وفي سماع زونان وفي كتاب ابن المواز، وقيل: إنه يفسخ بعد الدخول إلا أن يطول وتلد مع ذلك الأولاد، وهو قول أصبغ، ولم ير الولد الواحد والسنتين في ذلك طولا، وقيل: إن الخيار لها إذا بلغت، فلا يفسخ إذا لم يعثر عليه حتى بلغت فرضيت، أو دخل بها بعد البلوغ وهي عالمة أن لها الخيار، ويفسخ إذا عثر عليه قبل البلوغ، وكذلك إذا بلغت فأنكرت، وإن كان ذلك بعد الدخول، ما لم يطل الأمر بعده، وهو الذي يأتي على ما في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب.
وقيل: إنه يكره النكاح، فإذا وقع لم يفسخ، وهو نص قول مالك في رسم البز بعد هذا، وظاهره في سماع أشهب أيضا، لأنه وقف في التفرقة بينهما ولم يفرق بين قبل الدخول وبعده، وقيل: إنه إن زوجت وقد شارفت الحيض وأنفست، فلا يفسخ النكاح، وهو قول أصبغ في سماعه، خلاف ما له في الواضحة والموازية. فمن قال: إنه يفسخ أبدا، رآه عقدا وقع في غير موضعه ففسد لعقده، ومن قال: إن الخيار لها إذا بلغت، رأى الحق لها في ذلك؛ إذ عقد عليها في حال لا يعرف فيه رشدها، فجعل العقد موقوفا على خيارها إذ لم ينعقد النكاح على خيار، وإنما كان الخيار أمرا أوجبه الحكم،(4/283)
كالعبد يتزوج بغير إذن سيده والسفيه بغير أمر وليه. وما سوى هذين القولين فلا وجه له إلا الاستحسان؛ مراعاة لقول من يرى للولي إنكاح وليته اليتيمة قبل بلوغها، بظاهر قول الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] وقوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] وقد قال ابن القاسم في رسم لم يدرك من سماع عيسى: إنه أمر جل الناس قد أجازوه، وقد زوج عروة بن الزبير بنت أخيه وهي صبية ابنه، والناس يومئذ متوافرون، وعروة من هو، وإذا فسخ النكاح على مذهب من يرى فسخه فالفسخ فيه طلاق، وما طلق فيه الزوج قبل الفسخ لزمه، ويكون فيه الميراث بينهما إن مات أحدهما قبل الفسخ، وجميع الصداق المسمى في الموت قبل الدخول وبعده، ونصفه إن طلق قبل الدخول وقبل الفسخ.
[مسألة: أوصى عند موته بميراث ابنة له صغيرة أن يدفع إلى رجل هل له تزويجها]
مسألة وسئل مالك عن رجل أوصى عند موته بميراث ابنة له صغيرة أن يدفع إلى رجل [أترى أن يلي بضعها في إنكاحها؟ قال: لا أرى ذلك حسنا، ولو رفع ذلك إلى السلطان ينظر فيه، قلت: فإن أباها قد أوصى بتزويجها وتعجيل ذلك، وهي ابنة ثماني سنين، فقال: أرى أن يعجل ذلك، فقيل له: إنها ابنة ثماني سنين، فقال: أليس قد أوصى أبوها بذلك؟ قال: نعم، فأرى أن يفعل ذلك، فقيل له: فإن معها حاضنة لها تقوم عليها، أفترى أن ينفق عليها من مالها؟ قال: نعم، أليس لها ما يحملها؟ قالوا: لها غلة وهي قليلة، قال: أرى أن ينفق عليها وهي ( ... ) وتكفلها وتكفل مؤونتها. قال محمد بن رشد: قوله في الذي أوصى بميراث ابنة له صغيرة أن(4/284)
بدفع إلى رجل، إني لا أرى ذلك حسنا، فيما سئل عنه من ولاية بضعها في النكاح، ليس معناه أنه استحسن أن يلي العقد عليها ولا يرفع ذلك إلى السلطان، وإنما معناه إني لا أرى إمضاء ذلك حسنا إن فعل، بدليل قوله: لو رجع ذلك إلى الإمام ينظر فيه، لأن معناه: ولو رفع ذلك إلى الإمام ينظر فيه لكان أحسن، ويؤيد هذا قوله في المدونة فيمن أوصى إلى رجل أن يتقاضى دينه ويبيع تركته: لو زوج بناته لرجوت أن يكون واسعا، ولكن أحب إلي أن يرفع ذلك إلى السلطان حتى ينظر فيه، والقياس ما قاله ابن حبيب أنه إذا قال: فلان وصي على مالي، فليس بوصي على الولد في تزويجهم؛ وإنما يكون وصيا في تزويجهم إذا قال: فلان وصيي، ولم يزد، أو قال: فلان وصيي على بضع بناتي، وقوله: إذا أوصى بتزويج ابنته وتعجيل ذلك وهي بنت ثماني سنين، إن وصيته جائزة، يريد: سمى له الزوج أو فوض إليه الرضا؛ لأن ابن حبيب حكى عن مالك وأصحابه أنه قال: إذا قال له: زوج ابنتي من فلان أو ممن ترضى، نزل في ذلك بمنزلته وكان له أن يزوجها قبل بلوغها وبعد بلوغها بغير مؤامرتها، وإنما الذي لا ينزل في ذلك بمنزلته ويكون أحق بتزويجها من الأولياء بعد بلوغها ومؤامرتها إذا قال: فلان وصيي فقط، أو قال: فلان وصيي على بضع بناتي، قال: وسواء كانت بناته أبكارا أو ثيبات، قال: وكذلك كل من كانت ولاية تزويجها إلى الموصي فالوصي أحق بتزويجهم من الأولياء إذا قال: فلان وصيي، ولم يزد على ذلك، وقال سحنون: ليس بولي في الثيب التي لا ولاية له عليها، وقال أصبغ: الولي أولى منه، وروى علي بن زياد عن مالك في رجل أوصى بابنته إلى رجل وأمره أن يزوجها إذا بلغت رجلا سماه، أن ذلك ليس بجائز عليها إذا بلغت فكرهت ذلك، وليس بمنزلة إنكاح الأب إياها إذا بلغت وهي كارهة، لأن الرجل قد يكون مرضيا مرغوبا فيه ثم يتحول حاله عن ذلك بعد، ولعل الأب لو عاش حتى تبلغ ابنته لم ينكحها حينئذ، وقد كان قبل ذلك راضيا مغتبطا، ولعله لو عاش لم يكره ابنته على(4/285)
النكاح وإن كان به راضيا، ولأصبغ ها هنا في بعض الروايات أن وصية الأب جائزة عليها إلا أن يكون الذي أمر بتزويجها منه فاسدا فاسقا شريبا سكيرا، فلا تزوج منه إذا كرهته، أو يكون يوم أمر الأب بتزويجه حسن الحال ثم يخرج إلى الفسق وشرب الخمر والدعارة، فإذا كان هذا وكرهته أبطل الحكم عنها وصية الأب، قال: وعلى الوصي بما يلزمه من النظر لمن يلي أن لا يزوجه وأن يمنعه، ويرفعه إلي من يسقط ذلك عنه من الحكام وإن رضيت به، هذا قوله مختصرا وفيه اضطراب فتدبره.
وإيجابه للحاضنة النفقة في مال المحضونة خلاف ما في طلاق السنة في رسم شك من سماع ابن القاسم، وفي أول رسم من سماع أشهب، والاختلاف في هذا جار على اختلافهم في الحضانة هل هي من حق الحاضن أو من حق المحضون، فمن رآها من حق المحضون أوجب للحاضن أجره في حضانته، وكذا في سكناه معه، ومن رآها من حق الحاضن، لم يوجب له ذلك لأنه لا يستقيم أن يكون من حقه أن يكفله ويؤويه إلى نفسه، ويجب له بذلك عليه حق، وفي سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا تفرقة لا تخرج عن القولين، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل تزوج امرأة وشرط لها إن تزوج عليها أو تسرر فأمرها بيدها]
مسألة وسئل مالك عن رجل تزوج امرأة وشرط لها إن تزوج عليها أو تسرر فأمرها بيدها، فأقامت معه نحوا من سنة يطؤها في ذلك، ثم قالت له: ألم تكن جعلت لي إن تزوجت علي أو تسررت فأمري بيدي؟ فقال: بلى، فقالت: إن فعلت فقد اخترت نفسي ثلاثا، ثم بدا لها بعد ذلك أن تأذن له، وحرم ولدها فأحبت أن توسع عليه فأذنت له، قال مالك: ما أرى أن تفعل ذلك، فقيل له إنه: قد تسرر عليها حين أذنت له، قال: فأرى أن يعتزل امرأته، قيل له: أيخلي سبيلها؟ قال: نعم، قال ابن القاسم: ويفارقها ثلاثا ولا محل له، قال ابن القاسم: وقال لي الليث بن سعد مثله.(4/286)
قال محمد بن رشد: في سماع أصبغ عن أشهب خلاف هذا، أن الطلاق باطل لا يلزم، لأنها قضت قبل أن يجب لها القضاء، فلم يكن ذلك لها، كما قال: إنها إذا أذنت له فتزوج أو تسرى، كان لها أن تقضي إن تزوج أو تسرى لأنها أسقطت حقها قبل أن يجب لها، وقد مضى القول على هذا في أول رسم من السماع.
[مسألة: ابنتي عم أيجمعان في النكاح]
مسألة وسئل مالك عن ابنتي عم أيجمعان؟ فقال: ما أعلم حراما. قيل له: أفتكرهه؟ فقال: إن ناسا ليقولونه، وقال لنا قبل ذلك: وغيره أحسن منه، قال ابن القاسم: وهو حلال لا بأس به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن النهي إنما ورد عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الجمع بين ذوات المحارم بيانا لما في كتاب الله عز وجل من النهي عن الجمع بين الأختين؛ إذ هما ذوات محارم، وابنتا العم إذا لم يكونا أختين لا حرمة بينهما، لو كان أحدهما رجلا جاز له أن يتزوج الأخرى، فمن كره الجمع بينهما إنما اتقى ذلك من ناحية العداوة التي تتقى أن تقع بينهما بذلك، ولا ينبغي أن يكون التقاطع بين ذوي الأرحام، والله الموفق.
[مسألة: الخصيان أيدخلون على النساء ويرون شعورهن]
مسألة وسئل مالك عن الخصيان أيدخلون على النساء ويرون شعورهن؟ فقال: أما الأحرار فلا، وأما العبيد فلا أرى به بأسا، كان لها أو لزوجها أو لغيره، إذا كان وغدا، وكرهه إذا كان له منظر، وسئل عن الخصي إذا كان خادم الرجل في منزله أيرى فخذه مكشوفا عنها؟ فقال: ذلك خفيف. قال: وسئل عن خادم المرأة ترى فخذ الرجل منكشفا قال: لا ليست له، قال الله تبارك وتعالى:(4/287)
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فخادم امرأته كغيرها في هذا.
قال محمد بن رشد: لم ير مالك الخصيان من غير أولي الإربة من الرجال الذين أباح الله للنساء أن يبدين لهم زينتهن، إذ قد يحتاج الخصي إلى أشياء من أمور النساء ويتزوج، ولعله إنما خصي بعد أن اطلع على عورات النساء وعرف محاسنهن، وإذا كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد نهى أزواجه من أن يدخلن المخنثين عليهن لما سمعه من فطنتهم لمحاسن النساء، فالخصيان بالمنع من الدخول على النساء أولى، وهم بذلك أحرى، واستخف أمر العبيد منهم إذا كانوا أوغادا ولم تكن لهم مناظر، كانوا للمرأة أو لزوجها أو لغيرهما؛ استحسانا، والقياس ما في رسم طلق بعد هذا من التفرقة بين أن يكون الخصي لها أو لزوجها أو لغيرهما؛ إذ لم يجعله من أولي الإربة.
وقد اختلف في غير أولي الإربة الذين عناهم الله بقوله: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ} [النور: 31] فقيل: هو الأحمق والمعتوه الذي لا يهتدي لشيء من أمور النساء، وقيل: هو الحصور والعنين الذي لا ينتشر ولا حاجة له في النساء، ولما كان الخصي مثله في المعنى، استخف مالك في هذه الرواية أن يدخل على المرأة إذا كان عبدا وغدا، وإن لم يكن لها ولا لزوجها، على أصله في مراعاة الخلاف، واستخف أن يرى فخذ الرجل مكشوفا عنها لما جاء من أن الفخذ ليس بعورة، وأما رؤية خادم المرأة فخذ الرجل منكشفا عنها فالمنع في ذلك بين لأن حكم المرأة في النظر إلى الرجل الأجنبي كحكم الرجل في النظر إلى ذوات محارمه، بدليل إباحة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس أن تعتد عند ابن أم مكتوم الأعمى، ولا يجوز للرجل أن ينظر إلى فخذ أمه، وقد قيل: إنه لا يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلا إلى ما يجوز للرجل أن ينظر من المرأه، ومن حجة هذا القائل أن الله تعالى قال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] كما قال:(4/288)
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] فوجب أن يتساووا فيما يجب عليهم من غض أبصارهم، ولا يلزمه ذلك لأن كل واحد منهم أمر أن يغض بصره عما لا يحل له النظر إليه، على ما بينته السنة، وما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لميمونة وأم سلمة إذ قالتا له وقد أمرهما أن يحتجبا من ابن أم مكتوم: أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه» هو خاص في أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدليل حديث فاطمة، والله أعلم وبه التوفيق.
[مسألة: النساء يطرفن أصابعهن بالحناء]
مسألة وسئل عن النساء يطرفن أصابعهن بالحناء، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وجه السؤال عن هذا أن السائل خشي أن يكون ذلك من ناحية الوشم والتغيير لخلق الله الذي جاء فيه ما جاء، روي أن «عبد الله بن مسعود قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، ما لي لا ألعن من لعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في كتاب الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] » فلم يره من ذلك، لأنه إذا جاز للمرأة أن تخضب جميع يديها بالحناء جاز لها أن تخضب منهما ما شاءت، أطراف أصابعها أو غير ذلك؛ إرادة التزين لزوجها، هذا الذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد جاء فيه النهي عن عمر بن الخطاب، روي عنه أنه خطب فقال: يا معشر النساء، إذا اختضبتن فإياكن والنقش والتطريف ولتختضب إحداكن يديها إلى هذا، وأشار إلى موضع السوار، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتزوج المرأة بدروع وقراقل وثياب]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتزوج المرأة بدروع وقراقل وثياب(4/289)
يدفعها إليها أتلبسها؟ قال: نعم إن بنى بها، قال: نعم هي مثل الدراهم، قال ابن القاسم: يريد أن ينتفع بالشيء الخفيف منها مخافة أن يطلقها.
قال محمد بن رشد: فلو لبستها حتى أبلتها ثم طلقها لوجب عليها نصف قيمتها على هذه الرواية، خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك وغيره، وخلاف ما في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب من كتاب طلاق السنة، وخلاف ظاهر ما في المدونة لابن وهب. وهذا الاختلاف عندي جار على اختلافهم في وجوب النفقة على الزوج بالعقد وإن لم يدع إلى الدخول، فمن أوجب عليه النفقة والكسوة لم يلزمها فيما أبلت من الكسوة باللباس شيئا لأن ذلك كان واجبا لها عليه عنده، وكذلك ما أكلت من الصداق قبل الدخول يجري على هذا الاختلاف، بخلاف ما أدت منه في دين عليها، وسيأتي القول عليها في رسم نذر سنة.
[مسألة: تزوجها وشرط لها إن هو تسرر ما عاشت فكل امرأة يتزوجها طالق البتة]
مسألة وسئل مالك عن رجل تزوج امرأة وشرط لها وكتب عليه كتابا إن هو تسرر أو تزوج ما عاشت، فكل امرأة يتزوجها طالق البتة، وكل جارية يتسررها حرة لوجه الله العظيم، فطلقها البتة، ثم إنها تزوجت رجلا، ثم طلقها، ثم تزوجها بعدما طلقها، ثم أراد أن يتزوج أو يتسرر، فقامت عليه بكتابها وقالت: قد قلت: ما عشت، فليس لك أن تتزوج ما عشت ولا تتسرر، وقال الرجل: ليس هذا الذي أردت، إنما أردت ما كانت تحتي، ولم أرد أن أطلقك وأقيم لا أتزوج ولا أتسرى، قال مالك: أرى أن ينوى ويكون ذلك له، قال ابن القاسم: وقد قال هذا القول قبل ذلك بسنين سواء.
قال محمد بن رشد: جوابه في هذه المسألة على القول بأن اليمين على نية الحالف لا على نية المحلوف له، وتنويته إياه مع أن ذلك شرط عليه في أصل(4/290)
النكاح، خلاف أصله في المدونة، فمن شرط لامرأته أن أمرها بيدها إن تزوج عليها أنه ليس له أن يناكرها، وقوله: إنه ينوي ويكون ذلك له، يريد مع يمينه، كذلك في سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق في هذه المسألة إذا تطوع بذلك لامرأته من غير شرط، فهذا أحرى في وجوب اليمين وتنويته إياه مع أنه إنما تزوج عليها وهي في عصمته بعد أن طلقها ثلاثا وبعد أن تزوجت غيره على أصله في المدونة في أن من شرط لامرأته طلاق الداخلة عليها تنحل عنه اليمين لخروج زوجته عن عصمته بالثلاث، خلاف ما حكى ابن حبيب عن مالك من رواية مطرف عنه وعن ابن الماجشون وابن أبي حازم وغيره من كبار أصحاب مالك من أن اليمين لا تنحل عنه لأن الشرط في اليمين في الدخلة وليس فيها. ولو حلف بهذه اليمين متطوعا دون استحلاف ولا شرط لكانت له نيته على ما وقع في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، ولا يكون له على القول بأن اليمين على نية المحلوف له وإن لم يكن مستحلفا، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: ينوى، ولا ينوى، والفرق بين الطواعية والشرط، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل تزوج امرأة وشرط لها ألا يخرج بها من المدينة إلا برضاها]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة قال: وسئل عن رجل تزوج امرأة وشرط لها ألا يخرج بها من المدينة إلا برضاها، فإن خرج بها بغير رضاها فأمرها بيدها، فخرج من المدينة على ليلة وأذنت له، ثم قالت له بعد أن خرجت معه وأقام بها في ذلك الموضع: ردني إلى المدينة، أترى لها ذلك؟ قال: نعم أرى لها ذلك.
قال محمد بن رشد: يحتمل أن يكون إنما وجب عليه أن يردها لأن المرأة تقول: إنما أردت بما اشترطت عليك أن لا تخرجني من المدينة إلا برضاي، ألا تسكن في سواها إلا برضاي، فإن كنت قد أذنت لك في أن تخرجني، فلا أرضى أن تسكن بي إلا في المدينة، فإما رددتني إليها وإما كان أمري بيدي،(4/291)
فرأى ذلك مالك لها، وجعل التمليك على نيتها في ذلك، ويحتمل أن يكون رأى ذلك هو المعنى المقصود إليه بالإخراج لا نفس الإخراج، فحمل اليمين على ذلك ولم يلتفت إلى اللفظ، وكذلك قال في رسم المحرم من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق، وإن كان تطوع لها باليمين من غير شرط، فيحتمل أيضا أن يكون جعل اليمين على نيتها لأنها هي المحلوف لها، ويحتمل أن يكون راعى المعنى عنده ولم يلتفت إلى اللفظ؛ وفرق في رسم سلف من سماع عيسى، بين أن يتطوع لها في اليمين أو يكون شرطا عليه في أصل عقد النكاح، فقال: إنه إن كان تطوع لها باليمين لم يكن عليه أن يردها، بخلاف إذا شرط ذلك لها فجعل اليمين في الشرط على نيتها، وفي التطوع على نيته، وروى سحنون عن ابن القاسم في رسم سلف المذكور أنه ليس عليه أن يردها، وإن كان ذلك بشرط على ظاهر اللفظ، ووجه ذلك أنه حمل الشرط على ألا يسكن بها في غير المدينة إلا بعد أن ترضى بذلك، فرأى أنه إذا أذنت له أن يخرجها فقد رضيت أن يسكن بها في غيرها ولم يلتفت إلى تماديها على الرضى بذلك، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أنه يلزمه أن يردها في الوجهين جميعا، والثاني أنه لا يلزمه أن يردها في الوجهين جميعا، والثالث الفرق بين الشرط والطواعية.
[مسألة: رجل تزوج امرأة وشرط لها إن تسرر عليها فامرأته طالق البتة]
مسألة وسئل مالك عن رجل تزوج امرأة وشرط لها إن تسرر عليها فامرأته طالق البتة فلما حضرته الوفاة قال لابن جارية له: هو ابني، قال مالك: أرى أن يلحق به الولد ويكون للمرأة ميراثها.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن الرجل إذا استلحق ابنا في مرضه لحق به، فيلحق به الولد وتكون أمه أم ولد حرة من رأس المال، ويكون للمرأة ميراثها، لأنه كالمطلق في المرض إذ لم يعلم ما قال إلا بقوله في مرضه الذي مات منه، ولو صح من مرضه لبانت منه بإقراره ولم تحل له إلا بعد زوج، وبالله التوفيق.(4/292)
[مسألة: النصراني يسلم وله أخت نصرانية فتريد التزويج أيزوجها هو]
مسألة وسئل عن النصراني يسلم وله أخت نصرانية فتريد التزويج، أيزوجها أخوها هذا المسلم؟ قال: أمن نساء أهل الجزية هي؟ قالوا: نعم، قال: لا يزوجها، قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72] قال ابن القاسم: إذا كان الأخ والأخت معتقين فأسلم الأخ والأخت نصرانية فهو يزوجها، وإنما التي لا يزوج إذا كانت من أهل الصلح.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها عندي ثلاثة أقوال: أحدها أنها إذا كانت من أهل الصلح لم يجز لوليها المسلم أن يزوجها لأن أهل الصلح ولاتها دونه، وإن لم تكن من أهل الصلح كان له أن يزوجها، كان عليها جزية أو لم تكن، إذا لم تكن من أهل الصلح ولا داخلة معهم في جزيتهم، وهو قول مالك ها هنا على ما فسره ابن القاسم، فسواء على ظاهر قوله كان الأخ والأخت معتقين لمسلم، فلم يكن عليهما جزية، أو لنصراني فكانت عليهما الجزية، إذا كان النصراني الذي أعتقهما ليس من أهل الصلح، لأنه إن كان من أهل الصلح فمعتقه من أهل الصلح، والثاني أنه لا يجوز أن يزوجها، كانت من أهل الصلح أو لم تكن، كانت عليهما جزية أو لم تكن، وهو قول ابن القاسم في رسم باع شاة لأنه قال فيه: لا يزوج المسلم النصرانية، كانت أخته أو ابنته أو مولاته، لا يزوج المسلم النصرانية لا مسلما ولا نصرانيا، ومولاته لا جزية عليها وإن كان أعتقها وهو مسلم، والثالث أنه يزوجها، كانت من أهل الصلح أو لم تكن، كانت عليها جزية أو لم تكن، إلا أن تكون من أهل الصلح، فيكون هو أولى بتزويجها منه إن شاحوه في ذلك لأنهم إنما صالحوه وبذلوا الجزية على أن يخلي بينهم وبن نسائهم، وهو قول ابن القاسم في سماع زونان وأصبغ، وقول أصبغ في الواضحة، وذهب ابن لبابة إلى أنه لا اختلاف في المسألة وأن أقوالهم ترجع إلى أنها إن كانت ممن عليها جزية فلا يزوجها المسلم، كانت(4/293)
من أهل الصلح أو لم تكن، وإن لم تكن عليها جزية فيزوجها، بأن يحمل رواية عيسى في رسم باع شاة على أنه أراد مولاته التي أعتقها وهو نصراني ويحمل ما في سماع زونان على أنهما معتقان لمسلم، وبالله التوفيق.
[البكر تقيم مع زوجها الستة الأشهر فيعترض له عنها ثم يطلقها زوجها]
ومن كتاب أوله ليرفعن أمرا إلى السلطان قلت لابن القاسم: أرأيت البكر تقيم مع زوجها الستة الأشهر، فيعترض له عنها ثم يطلقها زوجها، أترى لأبيها أن يزوجها من غير أن يؤامرها؟ قال: أرى أن يؤامرها، قال: فإن زوجها ولم يؤامرها رأيت النكاح جائزا.
قال محمد بن رشد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: استحب أن يستأمرها إذا أقامت مع زوجها الستة الأشهر أو نحوها مراعاة لقول من لا يرى للأب أن يزوج ابنته البكر إلا برضاها، بظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأيم أحق بنفسها من وليها» إذ الأب ولي من الأولياء، والأيم يقع على من لا زوج لها، كانت بكرا أو ثيبا، فإن لم يفعل وزوج مضى النكاح، وهذا إذا أقرت بذلك على نفسها قبل أن يزوجها أو بقرب ما زوجها، وأما إن زوجها وهي غائبة بعيدة الغيبة أو حاضرة فلم يعلم حتى طال الأمر، فإنها تتهم على إمضاء النكاح بإقرارها على نفسها أن زوجها الذي دخل بها لم يصبها. وأما التي لم تقم مع زوجها إلا اليسير الشهر أو الشهرين، فهي بمنزلة التي لم يدخل بها زوجها، لا وجه للاستحباب في ذلك عنده، قاله مالك في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، وأما إذا أقامت مع زوجها العام فما فوقه فهي بمنزلة الثيب لا يزوجها إلا برضاها، فإن لم يستأمرها لم يلزمها النكاح، قاله في المدونة.
[مسألة: امرأة تزوجت رجلا شرطت عليه ألا يخرج بها إلا برضاها أو رضى أبيها]
مسألة وسئل مالك عن امرأة تزوجت رجلا شرطت عليه ألا يخرج(4/294)
بها إلا برضاها أو رضى أبيها، قال مالك: لا أدري ما رضاها أو رضى أبيها؟ إن كان الشرط برضاها مع رضى أبيها فليس له أن يخرج بها حتى يرضيا، وإن كان رضاها وحدها فله أن يخرج بها إذا رضيت، فقال له زوجها: إنها بكر ولم أدخل بها بعد، قال: لا يضرك ذلك، والبكر والثيب يا هذا سواء، إذا رضيت البكر وكان الرضى لها دون أبيها فله أن يخرج بها.
قال محمد بن رشد: لم يذكر في السؤال أن الشرط مقيد بطلاق ولا تمليك، وإيجاب مالك عليه إن كان الشرط برضاها مع رضى أبيها، ألا يخرج بها حتى يرضيا جميعا، يدل على أنه إنما تكلم على أن الشرط مقيد بطلاق على ما في رسم إن أمكنتني، من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، ولو كان الشرط مقيدا بتمليك لكان الاعتبار رضاها دون رضى أبيها لأن الشرط إنما أخذ لها، فإن رضيت أن يخرج بها وكانت هي المملكة كان ذلك إسقاطا لحقها، وإن كان الأب هو المملك كان ذلك منه رضى بالبقاء مع زوجها وأمر الأب باتباع رأيها إلا أن يبدر فيطلق قبل أن ينهاه السلطان فينفذ الطلاق على ما يأتي في رسم استأذن من سماع عيسى. وإن كانا جميعا مملكين لم يكن له أن يطلق دونها إذ قد رضيت هي بإسقاط حقها، ولو خرج بها دون رضاهما جميعا لم يكن لأحدهما أن يقضي بالفراق دون صاحبه لأنهما جميعا مملكان فيه، فليس لأحدهما أن ينفرد به، ولو لم يكن الشرط مقيدا بشيء لم يلزم ذلك الزوج بحكم على مذهب مالك وجميع أصحابه إلا أنه يستحب له الوفاء به عندهم لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج» وإنما توقف مالك في شرط الرجل لامرأته أن لا يخرج بها إلا برضاها أو رضى أبيها فقال: لا أدري ما رضاها ورضى أبيها، إلى آخر قوله؛ لأن لفظة (أو) لها مواضع في وضع اللسان يصلح منها ثلاثة في هذا المكان، أحدها أن يكون أراد بها التخيير بين الرضاءين، كقول الله عز وجل:(4/295)
{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]
فيكون له أن يخرج بها برضا من رضي منهما، والثاني أن يكون أراد بها الجمع بين الرضاءين بمعنى الواو، كقوله عز وجل: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] يريد: ولا كفورا، أو كقوله في الحديث: «مع ما نال من أجر أو غنيمة» إذ لا ينبغي الأجر مع الغنيمة، فلا يكون له أن يخرج بها إلا برضاهما جميعا، والثالث أن يكون أراد بها إبهام أي الرضاءين أراد، كما يقول الرجل: أنا أعلم إن كنت صحيحا أو مريضا، فيكون له أن يخرج بها إذا رضيت إن كان أراد رضاها وحدها، وأن يخرج بها إذا رضي أبوها إن كان أراد رضاه وحده، فلما احتمل لفظ الزوج عنده هذه الوجوه توقف عن الجواب فيه، وأجاب على الصريح في الشرط باستثناء رضاهما معا أو رضى أحدهما دون صاحبه. والوجه في هذا اللفظ المحتمل الذي توقف مالك عن الجواب فيه أن يحمل على أظهر محتملاته وهو التخيير، فيكون له أن يخرج بها برضا من رضي منهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل كانت تحته امرأة فخطب أختها على ابنه]
مسألة وسئل مالك عن رجل كانت تحته امرأة فخطب أختها على ابنه فقالت له عمتها: أعلى صداق أختها؟ قال: لن أقصر بها إن شاء الله، فزوجوه، ثم إن الابن طلقها، قال: أمقر هو بذلك؟ قال: نعم، قد قلت هذا القول ووعدتهم، ولم أوجب على نفسي صداقا، فرأيته يراه عليه قال مالك مرة: فليصطلحوا، وكان يراه عليه شبيها بالإيجاب ولم يبينه، قال ابن القاسم: أرى ذلك عليه إذا زوجوه على ذلك، وذلك كأنه إنما تزوج على المكافأة، قال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أما إذا كان قولهم: قد زوجناك، جوابا(4/296)
لقوله: لن أقصر بها عن صداق أختها، فبين أن ذلك يلزمه كما قال ابن القاسم؛ لأنه بمنزلة أن لو قالوا له: نزوجك على أن لا تقصر بها عن صداق أختها. وأما إن انقطع ما بين الكلامين فالأمر محتمل، والأظهر إيجاب ذلك كما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن كان لم يبينه؛ لأن ذلك أقوى من العدة الخارجة على سبب، وفي التفسير ليحيى عن ابن القاسم أنه يحلف ما أراد إيجاب ذلك على نفسه ولا يلزمه شيء، فإن نكل غرم نصف الصداق. ووجه ذلك أنه رأى قوله: لن أقصر بها إن شاء الله، عدة لا تلزم، فلم يلزمه شيء إذا حلف أنه لم يرد إيجاب ذلك على نفسه، وحلفه بالتهمة دون تحقيق الدعوى، ولذلك لم يرد اليمين في ذلك بقوله على القول في لحوق يمين التهمة وإنها لا ترجع، وقد اختلف في الوجهين.
[مسألة: حكم سفر الرجل بامرأة أبيه]
مسألة وسئل مالك عن سفر الرجل بامرأة أبيه: أتراه ذا محرم؟ فقال: قال الله تعالى: {أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} [النساء: 23] فأتم الآية، وقال: هؤلاء ذوو المحارم، فأما الرجل يكون أبوه قد طلق المرأة وتزوجت أزواجا، ثم يريد أن يسافر بها فلا أحب ذلك، وكره ذلك، قال ابن القاسم: وما يعجبني أن يسافر بها، فارقها أبوه أو لم يفارقها، وإنما كان هذا من مالك حجة ولم أره يعجبه.
قال محمد بن رشد: احتجاج مالك بالآية يدل على أنه حمل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها» على عمومه في جميع ذوي المحارم من نسب أو رضاع، وكراهيته أن يسافر بها إذا(4/297)
كان أبوه قد طلقها وتزوجت الأزواج استحسان مخافة الفتنة عليه، إذ ليست في تلك الحال زوجة لأبيه، وكره ابن القاسم أن يسافر بها، فارقها أبوه أو لم يفارقها؛ لاحتمال أن يكون أراد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقوله: «لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها» ذوي محارمها من النسب دون الصهر، فقول مالك في حمل الحديث على ظاهره من العموم أظهر، وقول ابن القاسم أحوط، وبالله التوفيق.
[مسألة: وصية الرجل بتزويج ابنته]
مسألة قال: وسئل مالك عن الرجل تحضره الوفاة فيقول: إن ابن أخي قام مع ولدي في تركتي حتى يبلغوا، فقد وصلته بابنتي، فلما هلك ترك ابن أخيه القيام في ذلك وغاب إلى بلد آخر، فسئل مالك عن ذلك فقال: أراه قد ترك الذي اشترط عليه عمه من ذلك ولا أرى له نكاحا إلا أن تشاء الجارية أن تنكحه نكاحا جديدا، وكان أبوهم قد ترك الجارية وأخاها وهما صغيران لم يبلغا ثم بلغا وسألا مالكا عن ذلك فقال: إذا لم يقم فلا أرى نكاحه إلا منتقضا، ولتنكح إن شاءت، قال ابن القاسم: ولو قام بالذي أوصى عمه لرأيت أن يزوج ويكون على ابن الأخ الصداق، وقد سمعت مالكا غير مرة وهو يسأل ونزلت به عن الرجل يوصي أن تزوج ابنته ولا يزوجها هو، وإنما أوصى أن تزوج، فرأى أن ينفذ ما أوصى به من ذلك، وقد كان بعض الناس يقول: ليس ما أوصى به مثل ما زوج، فرأيت مالكا أنفذه وأمر به، ورآه واحدا ولم يختلف عنده مثل ما يقول: زوجوها ابن أخي، أو زوجوها فلانا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما جاز للرجل أن يوصي به دون شرط جاز له أن يوصي به على شرط، فإذا كان للرجل أن يوصي أن تزوج ابنته من ابن أخيه جاز له أن يوصي أن تزوج منه إن قام في تركته مع(4/298)
ابنه لأن قوله: فقد وصلته بابني، يرجع إلى معنى الوصية بتزويجها منه إن فعل ذلك، وذلك بين من قول ابن القاسم: ولو قام بالذي أوصى عمه لرأيت أن يزوج ويكون عليه الصداق، وظاهر ما حكي عن بعض الناس أن وصية الرجل بتزويج ابنته لا يجوز، سمى الزوج أو فوض إلي الموصى إليه الاجتهاد في ذلك، خلاف المشهور من مذهب مالك في الوجهين، وقد مضى في رسم شك في طوافه من رواية علي بن زياد عن مالك ما يدل على الفرق بين الوجهين، فهو قول ثالث في المسألة، وقد اختلف إذا قال الرجل في حياله إن فعل فلان كذا فقد زوجته ابنتي فقال مالك في رسم سن بعد هذا في الذي يقول إن جاءني فلان بخمسين دينارا فقد زوجته ابنتي: لا يعجبني هذا النكاح ولا تزويج له، ظاهره وإن جاء بالخمسين بالقرب، فعلى هذا إذا زوج الغائب القريب الغيبة لم يجز نكاحه وإن رضي بالقرب، ولأشهب في كتاب ابن المواز في الذي يقول للخاطب: إن فارقت امرأتك فقد زوجتك، أن النكاح يجوز، فجعله ينعقد بنفس الفراق، قال: ولو قال: إن فارقت امرأتك زوجتك، كانت خدعة، ولم يلزمه تزويجه، وأحب إلي أن يفي، قال أبو إسحاق التونسي: وإذا لم ير النكاح منعقدا بنفس الفراق فقد كان القياس أن يجبره على أن يزوجه على أصولهم فيمن أخرج عن يده شيئا بوعد وعد به، وإن لم يوجبه الواعد على نفسه، أن ذلك لازم له، بخلاف الوعد المجرد مثل أن يقول: بع فلانا فرسك والثمن علي، أو اهدم دارك وأنا أعطيك كذا وكذا، إن هذا لازم، وما أشبه ذلك، وهذا إن عد طلاقه للمرأة رضى بالعقد وأنهما لا يحتاجان إلى تجديد عقد، وإن لم يعد طلاقه للمرأة رضى بالعقد صار نكاحه فيه خيارا لأحدهما، فوجه ما في رسم سن أنه لم يعد مجيئه بالخمسين دينارا رضى بالعقد، فرآه نكاحا انعقد على خيار أحدهما، فهذا توجيه كل واحد من القولين، وهذا الاختلاف إنما يصح عنه إذا أراد: إن فعلت ذلك بالقرب، ولو قال: متى ما فارقت امرأتك فقد زوجتك، أو: متى ما أتيتني بخمسين دينارا فقد زوجتك، لم يجز النكاح قولا واحدا، والله أعلم، ويأتي في رسم الصبرة من سماع يحيى القول في الذي يقول: إن مت من مرضي فقد زوجت ابنتي من ابن أخي، إن شاء الله.(4/299)
[مسألة: العبد يزوج ويشترط على سيده النفقة]
مسألة قال: وسئل مالك عن العبد يزوج ويشترط على سيده النفقة، قال مالك: لا يجوز، لو هلك ذهب الشرط، ولو جاز هذا لأخذ لها نفقتها من ميراث السيد، فهذا النكاح يفسخ، قال ابن القاسم: ومعنى قوله - فيما نرى والله أعلم - إذا لم يدخل بها، قال عيسى: قلت لابن القاسم: فإذا دخل بها؟ قال: يثبت النكاح وتكون النفقة على العبد ويسقط الشرط عن السيد.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها موعبا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتق أم ولده وأعطاها عشرة دنانير صداقا ثم دخل بها]
مسألة قال: وسئل مالك عن رجل أعتق أم ولده وأعطاها عشرة دنانير صداقا شرطا عليها قبل أن يعتقها ثم دخل بها، قال مالك: هذا نكاح مفسوخ، فإن كان دخل بها رأيت أن يفارقها ثم يستبرئ رحمها ثم يتزوجها بعد إن أحبت وتكون لها العشرة التي أخذت بالمسيس.
قال محمد بن رشد: خرج البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أعتق صفية وجعل عتقها صداقها» ورأى ذلك مالك من خواص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه نكاح بغير صداق كالموهوبة التي خص بها دون المؤمنين، فلم يجز لأحد أن يفعله، واختلف إذا وقع ذلك فقيل: إنه نكاح فاسد لصداقه لوقوعه دون صداق، إذ لا يكون العتق صداقا، فيفسخ قبل الدخول ويثبت(4/300)
بعده ويكون فيه صداق المثل، وإلى هذا ذهب الفضل، وعليه حمل قول ابن حبيب، فعلى هذا يجوز النكاح إذا سميا فيه صداقا كمسألة الكتاب، وقيل: إنه نكاح فسد لعقده فيفسخ قبل الدخول وبعده ويكون فيه الصداق المسمى إن كان سمي فيه صداق، وهو قول مالك في مسألة الكتاب، ووجه هذا الاختلاف أنه لما أعتقها على أن يكون عتقها صداقها احتمل أن يكون وقع العتق قبل النكاح وأن يكون وقع النكاح قبل العتق، فمن تأول أن العتق وقع قبل النكاح رآه نكاحا فسد لصداقه إذ وقع بغير صداق، ومن تأول أن النكاح وقع قبل العتق رآه نكاحا فسد لعقده إذ وقع وهي أمة له مملوكة، ونكاح الرجل مملوكته لا يحل، وقال مالك في الواضحة وكتاب ابن المواز: إنه نكاح فاسد إذ لا يدرى إن كان نكاحه وقع وهي أمة أو حرة، وذلك يرجع إلى أنه نكاح فسد لعقده، والأظهر أنه فسد لعقده لأن اللفظ يقتضي وقوعهما معا، وذلك يوجب أن يكون وقوع النكاح قبل كمال الحرية، وقيل: إنه ليس بنكاح منعقد، وإنما شرط عليها ما لا يلزمها، فإن رضيت بتزويجه بعد نفوذ العتق لها جاز، وإن لم ترض لم يكن بينهما نكاح يحتاج إلى فسخه. فإن لم يعثر على ذلك حتى بنى بها مضى النكاح بشبهته، وكان لها صداق المثل، وهذا ظاهر قول ابن حبيب في الواضحة، وفيه نظر، إذ كان القياس على هذا القول أن يفرق بينهما بعد البناء لابتنائه بها على غير عقد منعقد إلا بما ظناه من أن النكاح قد كان لزمهما وانعقد بينهما، والصواب أنه نكاح فاسد إما لصداقه وإما لعقده على ما قلناه، وإنما يكون غير منعقد إذا أعتقها على أن يتزوجها بعد العتق، ومن الناس من ذهب إلى أنه يجوز أن يجعل الرجل عتق الأمة صداقها، قال: لأنه إذا جاز أن يعتقها على مال يجب له عليها بعد العتق جاز أن يعتقها على أن تكون زوجة له بذلك، وهذا لا يلزم لأنه إذا أعتقها على مال فقد ملكته بما ملكها من عتقها ما لم يكن مالكا له قبل عتقها، فصحت المعاوضة في ذلك، وإذا أعتقها على أن تكون زوجة له بذلك فلم تملكه بما ملكه من عتقها إلا البضع، وقد كان مالكا له قبل، فلم تصح المعاوضة ولا وجب له عليها بعتقها شيء يكون صداقا. ومن الناس من ذهب إلى أنه إذا أعتقها على أن(4/301)
يكون عتقها صداقها، لا تكون زوجة له إلا بنكاح مستأنف بعد العتق يملكه عليها بصداق يجب له عليها بالعتاق، وهو فاسد إذ لو وجب له عليها صداق بعتقها لكان له أن يأخذها به إن شاء ويترك النكاح، فإذا لم يجب ذلك له فكيف يتزوجها على غير مال؟ ومن الناس من ذهب إلى أنه إذا أعتقها على أن يكون عتقها صداقها لا تكون زوجة له إلا برضاها بذلك بعد العتق، فإن لم ترض كان عليها أن تسعى له في قيمتها، فإن رضيت كانت زوجة له بما يجب له عليها من السعاية في قيمتها، وإن طلقها قبل الدخول سعت له في نصف قيمتها، وإلى هذا ذهب أبو يوسف، واحتج بهذه الحجة، ولا يلزم إلا لمن يتابعه على وجوب السعاية عليها في قيمتها إن لم ترض بالنكاح، فتحصيل القول في هذه المسألة أن في ذلك قولين: أحدهما أن ذلك لا يجوز، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه، قيل: لأنه نكاح بغير صداق، فإن وقع كان حكمه حكم ما فسد لصداقه، وقيل: لأنه نكاح وقع قبل كمال العتق بما اقترن به من الشرط، فإن وقع كان حكمه حكم ما فسد لعقده ويكون فيه الطلاق والميراث مراعاة للاختلاف، وقيل: إنه ليس بنكاح لأنه شرط عليها ما لا يجوز ولا يلزمها، فيفرق بينهما دخل أو لم يدخل، بغير طلاق، ولا ميراث فيه، وقيل: إنه إن دخل يمضي لشبهة العقد، وهو بعيد على هذا القول، وبالله التوفيق، لا شريك له.
[مسألة: تحته امرأة ولها صاحبة معها في البيت وزوج المرأة يدخل في بيته]
مسألة قال: وسئل مالك عن رجل تحته امرأة ولها صاحبة معها في البيت، وزوج المرأة يدخل في بيته وصاحبتها قاعدة معها، قال: لا بأس بذلك إذا أكفت عليها ثيابها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأنه لا حرمة بينه وبينها، فإذا أكفت عليها ثيابها واستترت منه كما قال الله عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] الآية، لم يكن عليه بأس في الدخول عليها في بيته(4/302)
وهي قاعدة فيه مع أهله، إذ لو لم يحل له ذلك لكان من الحرج في الدين الذي قد رفعه الله عن عباده بنص التنزيل، وبالله التوفيق.
[الرجل يزوج ابنه ويدفع الصداق ثم يطلق الابن زوجته قبل الدخول]
ومن كتاب طلق بن حبيب قال: وسئل مالك عن الرجل يزوج ابنه ويصدق عنه ويدفع الصداق إلى المرأة، ثم يهيج بين الابن والمرأة شيء ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، لمن ترى نصف الصداق؟ أللأب أم للابن؟ قال: للأب وليس للابن منه شيء قال ابن القاسم: والأجنبي مثله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الأب لم يهب ابنه شيئا وإنما ودى عنه ما وجب لزوجته عليه، فإذا طلقها قبل الدخول وجب أن يرجع نصف الصداق إلى الأب لأن الزوجة لم يجب لها، وهذا بين على القول بأن المرأة لا يجب لها بالعقد إلا نصف الصداق، وأما على القول بأنه يجب لها بالعقد جميع الصداق فيلزم على قياس قول ابن الماجشون أن يكون نصف الصداق للابن دفعه الأب إلى المرأة أو لم يدفعه إليها، وفي الواضحة قال ولو ألفى النكاح مفسوخا قبل البناء ففسخ سقط الصداق عن الحامل، وإن كان قد دفعه رجع إليه كله، قال ولو كان النكاح صحيحا فتباريا على المتاركة قبل البناء فإن ابن القاسم قال: يرجع جميع الصداق إلى الحامل إن كان قد أعطاه ويسقط عنه إن كان لم يعطه، وقال ابن الماجشون يرجع إلى الحامل النصف الذي يسقط عن الزوج بالطلاق قبل البناء، ويرجع إلى الزوج النصف الذي أوجب الله للمرأة بطلاقها قبل البناء قال عبد الملك: وبه أقول لأن ذلك النصف بمنزلة الجميع إذا باراها على رده بعد البناء وهو كله للزوج، وليس للحامل منه شيء، وهو القياس، ووجه قول ابن القاسم أن المرأة لم تملك بالعقد جميع الصداق ولا نصفه أيضا ملكا مستقرا إذ قد يسقط جميعه بالارتداد فليس استحقاق المرأة نصف الصداق بالعقد كاستحقاقها لجميعه بالدخول، وبالله التوفيق.(4/303)
[مسألة: الرجل تكون له أم الولد الشابة فيعتزلها ويتزوج فيريد أن يزوجها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل تكون له أم الولد الشابة فيعتزلها ويتزوج، فيريد أن يزوجها فلا ترضى بذلك، قال: ليس له أن يزوجها إذا لم ترض، وإنما له متعتها، أن يطأها، فإن لم يكن له بها حاجة فليعتقها، وما علمت أن أحدا من أهل الفضل والفقه فعل ذلك بأم ولده، وإن هذه الأخلاق دنية، فقيل له: فليس له أن يزوجها إذا كرهت؟ قال: ليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: لهذا رجح مالك أنه ليس له أن يجبرها على النكاح، وكان أولا يقول: إن له أن يزوجها بغير رضاها إذا زوجها ممن يشبهها من العبيد، فإن زوجها وغدا من العبيد وهي ذات حال في الجمال والشباب والعقل، لم يجز ذلك عليها لأنه حينئذ مضارها، وهو قول ابن المواز، ودليله ما في كتاب إرخاء الستور من المدونة، وجه قوله الأول أن أصلها الرق، وما فيها من الحرية تبع للرق الذي هو الأصل فيها، فيزوجها كما يطؤها وينتزع مالها، ووجه القول الذي رجع إليه أن الحرية قد سرت إليها بولدها، ودل على ذلك «قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أم ولد: أعتقها ولدها» فلم يبق له فيها من الرق إلا ما أباح له الشرع من الاستمتاع بها طول حياتها فلم يكن له أن يزوجها.
[مسألة: نظر الرجل إلى المرأة عند الزواج]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يريد تزويج المرأة فيريد أن يغتفلها النظر، إما من الكوة ونحوها لينظر إلى جمالها، قال: ليدخل عليها بإذن، قال: قلت: لا يريد ذلك وإنما يريد أن يغتفلها، فقال: ما سمعت فيه شيئا، فقيل: إن قوما يحدثون في ذلك بأحاديث فقال: وما ذلك؟ قلت له: يقولون: إن له ذلك، قال: وما سمعت، وإني لأكره ذلك.
قال محمد بن رشد: قد جاءت في اغتفال الرجل النظر إلى المرأة إذا(4/304)
أراد أن يتزوجها آثار، من ذلك ما روي «عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا خطب أحدكم المرأة، فقدر على أن يرى منها ما يعجبه فليفعل قال جابر: فلقد خطبت امرأة من بني سلمة فكنت أتخبأ لها في أصول النخل حتى رأيت منها بعض ما يعجبني، فخطبتها فتزوجتها» ولم يسمع ذلك مالك ولا صح عنده فكرهه، وأجاز ذلك ابن وهب، ولم ير به بأسا للآثار المروية فيه. وسئل أصبغ عنه وقيل له: بلغنا أن ابن وهب روى عن مالك إجازته فقال: لم يكن ابن وهب يرويه وإنما كان يقول برأيه ورواية الأحاديث.
وأما نظر الرجل إلى وجه المرأة بإذنها دون أن يغتفلها إذا أراد نكاحها، فأجازه مالك، كما يجوز له النظر إلى وجهها في الشهادة لها وعليها، ومن أهل العلم من لم يجز ذلك له، واحتج بما روي من أن «الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي: إن لك كنزا في الجنة وإنك ذو قرنيها، فلا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الثانية» قال: فلما حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النظرة الثانية لكونها باختيار الناظر بخلاف الأولى التي كانت فجأة بغير اختياره، دل أنه لا يجوز لأحد أن ينظر إلى وجه امرأة إلا أن يكون بينه وبينها من النكاح أو الحرمة ما يبيح له ذلك، وقول مالك هو الصواب لأنه إنما حرم من النظر إلى وجه المرأة ما كان لغير معنى يبيحه من نكاح أو شهادة، وأما استغفاله النظر إليها فإنما كرهه مالك مخافة أن يرى منها بعض عورتها، ومن أجاز ذلك للأحاديث المروية فيه فإنما يجيزه إذا أمن ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة أيدخل عليها خصيها أو خصي زوجها صغيرا كان أو كبيرا]
مسألة وسئل مالك عن المرأة أيدخل عليها خصيها أو خصي زوجها، صغيرا كان أو كبيرا؟ قال: أما ما تملك، فلا بأس به، وأما خصيان زوجها فإني أرجو أن يكون خفيفا، قيل له: فخصيان غيره؟ فكأنه كرهه وقال: خصيان زوجها أبين عندي، قال ابن القاسم:(4/305)
وأحب إلي فيما لا يملكه منهم، من خصيان زوجها وغيرهم ممن بلغوا الحلم، ألا يرى شعرها ولا شيئا من زينتها إلا وجهها، وأما ما يملك فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: استخف أمر خصيان زوجها للمشقة الداخلة عليها في الاحتجاب منهم مع كثرة ترددهم وتطوافهم، وقول ابن القاسم أقيس، وقد مضى من القول في هذه المسألة في رسم شك في طوافه ما يبين معناها، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل خطب امرأة وشرط لها في نكاحها ألا يتزوج عليها وأن لا يتسرى]
مسألة وسئل مالك عن رجل خطب امرأة وشرط لها في نكاحها ألا يتزوج عليها وأن لا يتسرى، فإن فعل فهي طالق، وأحضر لذلك شهودا ثم تفرقوا، وترك ذلك وقد شهد الشهود على إقراره وكتبوا بذلك كتابا وقبضت المرأة الكتاب، ثم خطبها بعد ذلك فتزوجها وأشهد شهودا غير الأولين الذين كانوا شهدوا على الإقرار، فقامت المرأة تطلب ذلك الشرط وقال الرجل: قد تركت الأمر الأول ونكحت نكاحا جديدا على غير شرط، قال: من يعلم ذلك؟ أله بذلك بينة؟ قال: لا، قال: ذلك يلزمه إلا أن تكون له بينة.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أن النكاح لم يتم أولا وإنما خطبها على ما سمى من الشروط وكتب في كتاب وقبضت المرأة الكتاب لتنظر، ثم ترك الخطبة زمانا ثم عاد إليها فتزوجها ولم تذكر الشروط ثانية، فقال: إنها له لازمة لأن الخطبة الثانية مبنية على الأولى التي ذكر فيها الشروط إلا أن تكون له بينة أنه إنما خطبها الثانية وتزوجها على غير شرط، ولو كان النكاح قد تم أولا وانعقد على الشرط ثم طلقها وخطبها ثانية فتزوجها لكانت الشروط بالطلاق لازمة لها ما بقي من ذلك الملك شيء، وإن اشترط أنها لا تلزمه، إذ ليس للمرأة أن تسقط عنه ما قد لزمه من الأيمان بالطلاق، وبالله التوفيق.(4/306)
[مسألة: الوليمة لإثبات النكاح]
مسألة قال مالك: كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول: إنما يستحب الطعام في الوليمة لإثبات النكاح وإظهاره ومعرفته لأن الشهود يهلكون.
قال محمد بن رشد: يريد أن هذا هو المعنى الذي من أجله أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالوليمة وحض عليها بقوله لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاة» وما أشبه ذلك من الآثار، وقوله صحيح، يؤيده ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر هو وأصحابه ببني زريق فسمعوا غناء ولعبا فقال: ما هذا؟ فقالوا: نكح فلان يا رسول الله، فقال: كمل دينه، هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر حتى يسمع دف أو يرى دخان» والله الموفق.
[مسألة: الإتيان إلى الوليمة]
مسألة وسئل مالك عن الإتيان إلى الوليمة، فقال: أرى أن يأتيها، فقيل له: ربما كان الزحام فيكره ذلك لموضعه، فقال: إن كان الزحام فإني أرى له في ذلك سعة، فقيل له: فيجيب وإن كان صائما؟ قال: نعم، أرى أن يجيب، أكل أو لم يأكل.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى أن يأتيها، يريد: ولا سعة له في التخلف عنها إذا دعي إليها لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها» وقوله: «ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله» ،(4/307)
يريد بالدعوة دعوة الوليمة في العرس لأنها المشار إليها إذ هي المتقدمة المذكورة في الحديث فلا رخصة لأحد في التخلف عنها إلا من عذر، ورأى أن الزحام عذر رأى له في التخلف بسببه سعة لأن تقحمه إياه مؤذ له ومضر به، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» ، فهو مخصص لعموم أمره بالإتيان إلى الوليمة، وكذلك يخصص بالشرع من عموم أمره بالإتيان إليها في حال يكون فيها من اللهو ما لا يجوز حضوره في غيرها خلافا لأبي حنيفة في قوله: إنه لا يسعه التخلف عنها لذلك؛ إذ قد أمر بالإتيان إليها أمرا عاما لم يقع فيه ثنيا، وقوله: أرى أن يجيب أكل أو لم يأكل، يريد أن الإجابة تلزمه، كان صائما أو مفطرا، فإن كان صائما صلى كما جاء في الحديث؛ أي دعا، وإن كان مفطرا فليس عليه بواجب أن يأكل، وإنما يستحب له ذلك ويندب إليه، لأن أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأكل فيما روي عنه من قوله: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل» محمول على الندب عند مالك، بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث آخر: «إذا دعي أحدكم فليجب فإن شاء أكل وإن شاء ترك» ، وأهل الظاهر يوجبون عليه الأكل بظاهر الحديث الأول، وما ذهب إليه مالك من استعمال الحديثين أولى من اطراح أحدهما.
وأما ما سوى وليمة العرس من الدعوات فمنها ما تستحب الإجابة إليه، ومنها ما يكره، ومنها ما يحرم على ما قد مضى القول فيه في سماع أشهب من كتاب الصيام خلافا لأهل الظاهر في إيجابهم إجابة الداعي جميع الدعوات بظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله» ، وسيأتي في رسم الطلاق الثالث من سماع أشهب القول في وجه تفرقة مالك بين الوليمة والسابع، وبالله التوفيق.(4/308)
[مسألة: يهوى المرأة فيتزوجها ليقضي منها لذته وليس من شأنه أن يمسكها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يهوى المرأة فيريد أن يتزوجها فيقضي منها لذته، وليس من شأنه أن يمسكها إذا قضى منها لذته، ويفارقها بعد أن يشتفي منها، قال: لا بأس بذلك، وليس هذا بجميل من أخلاق الناس، ولا أحسب إلا أن من النساء من لو علمت بذلك لم ترض أن تتزوج مثل هذا. قال مالك: وهذا بالعراق النهارية، فقيل لمالك: ما النهارية؟ فقال: قوم يتزوجون على أن لا يأتيها إلا نهارا ولا يأتيها ليلا، قلت له: ما سمعت بهذا، قال: بلى، هذا فيهم قديم، قيل لمالك: أفتكره ذلك؟ قال: نعم مكروه ولا خير فيه، قال عيسى: فإن وقع فسخ قبل البناء وبعده.
قال محمد بن رشد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أما الذي يتزوج المرأة ونيته أن يقضي منها لذته ويفارقها، فلا بأس بذلك كما قال، إذا لم يظهر ذلك ولا اشترطه، إذ قد ينكح المرأة ونيته أن يفارقها ثم يبدو له فلا يفارقها، وينكحها ونيته ألا يفارقها ثم يبدو له فيفارقها، ألا ترى أن الرجل لو نوى طلاق امرأته إلى مدة يشتفي منها إليها، لم يؤثر ذلك في جواز بقائه معها، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] الآية، وهذا مثل ما أجاز ابن كنانة للرجل يقدم البلد فيريد أن يقيم فيه شهرا، من أن يتزوج ليستعفف، وينوي طلاقها إذا أراد الخروج إذا كان إنما هو أمر يحدث به نفسه دون أن يضمره.
قال محمد بن رشد: ولو علمت المرأة بذلك قبل النكاح كانت المتعة بعينها، وأما النهارية فلا تشبه هذه المسألة لأن الشرط في العقد، فهو نكاح فاسد(4/309)
على المذهب، والذي يأتي فيه على مذهبه في المدونة في الذي يتزوج المرأة على أن لا يشترط لها في مبيتها أن يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ويكون له أن يأتيها ليلا ونهارا، وهو قول أصبغ في المبسوطة، وحكى أنه قول مالك وأصحابه، خلاف قول عيسى بن دينار، ويتخرج فيما يكون له من الصداق إن دخل بها ففسخ النكاح قولان: أحدهما: أن لها الصداق المسمى لأنه نكاح فاسد العقد لما انتظم به من الشروط، والثاني: أن لها صداق مثلها، وهو الأظهر لما في الشرط من التأثير في الصداق، ومن أهل العلم من يجيز نكاح النهارية، وهو قول الحسن وعطاء، ومنهم من يكرهه، وهو قول الحكم وابن سيرين، وبالله التوفيق.
[الخدم يبيتون في لحاف واحد في الشتاء عراة]
ومن كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وسئل مالك عن الخدم يبيتون في لحاف واحد في الشتاء عراة، فكره ذلك وأنكر أن يبيت النساء عراة ليس عليهن ثياب يلبسنها في لحاف واحد يتعرين فيه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، والكراهة فيه بينة، فقد جاء النهي عن ذلك، وروي أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار، ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار» ، والمكامعة هي أن يضاجع الرجل صاحبه في ثوب واحد، أخذ من الكميع وهو الضجيع، ومنه قيل لزوج المرأة: كميعها، وقد روي معاكمة مكان مكامعة، وهي مأخوذة من ضم الشيء إلى الشيء، ومنه قيل: عكمت الثياب: إذا شددت بعضها إلى بعض، وقد روي أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن المكاعمة» ، وهي أن يلثم الرجل صاحبه، أخذ من كعام البعير وهو أن يسد فاه إذا هاج، يقال: كعمه كعما فهو مكعوم، وكل شيء مشدود الفم فهو مكعوم.(4/310)
[مسألة: شرط الصداق في النكاح]
مسألة وسئل مالك عن رجل خطب إلى رجل أختا له فقال: ما عندك؟ قال: عندي خمسون درهما، فقال له رجل قاعد معه: إن جاءك بخمسين درهما أتزوجه؟ قال: نعم، إن جاءني بخمسين درهما فقد زوجته، فقال مالك: ما يعجبني هذا النكاح، ولا تزويج له. قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في رسم حلف، وما فيها من الاختلاف، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: حكم إنكاح المرأة والعبد وإن استخلفهما أحد]
مسألة قال مالك: ولا يجوز إنكاح المرأة ولا العبد وإن استخلفهما أحد، قال ابن القاسم: قال مالك: فإن استخلفا رجلا جاز ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: ولا يجوز إنكاح المرأة والعبد وإن استخلفهما أحد، معناه: أنه لا يجوز لهما أن يليا عقد نكاح أحد من النساء وإن استخلفهما أحد على ذلك، ويجوز لهما أن يزوجا ذكور ولد من أوصى إليهما على ما في آخر رسم باع شاة، من سماع عيسى، ويجوز للعبد أن يزوج ابنه على ما في سماع أبي زيد، والفرق بين ولايتهما العقد على الذكور دون الإناث، أن الولي المعتبر به في صحة النكاح إنما هو الولي الذي من قبل المرأة لقول عمر بن الخطاب: لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان، فإذا زوجت المرأة أو العبد من إلى نظرهما من النساء، فقد وقع النكاح بغير ولي، إذ لا يجوز ولاية المرأة ولا العبد، وإذا زوجا من إلى نظرهما من الذكور فلم يقع النكاح إلا بولي، لأن الأولياء المعتبر بهم في صحة النكاح أولياء الزوجات لا أولياء الأزواج، وهذا بين لا إشكال فيه، وقد وقع في كتاب محمد بن المواز، قال: وأما بنات من استخلف العبد فنكاحهن إليه ولا يعقد هو، ولكنه يستخلف غيره يعقده، وكذلك الصغار من اليتامى الذكور، وكذلك المرأة يوصى إليها بنحو ذلك هي مثل العبد، وقد قاله مالك فحمل بعض(4/311)
الناس هذا الكلام على ظاهره من أن الصغار من اليتامى الذكور الذين إلى نظر العبد بمنزلة الإناث اللواتي إلى نظره نكاحهم إليه، ولا يعقده هو، ولكنه يستخلف غيره على ذلك مثل ظاهر رواية ابن القاسم هذه وما في المدونة من قوله: ولا تعقد المرأة النكاح على أحد من الناس خلاف ما في رسم باع شاة، من سماع عيسى، وذلك خطأ صراح لما بيناه من أن الاعتبار بالولاية في النكاح إنما هي من جهة المرأة لا من جهة الرجل، والصواب أن رواية عيسى صحيحة مبينة لرواية ابن القاسم هذه على ما تأولناها عليه، ولما في المدونة لأن قوله فيها: ولا تعقد المرأة النكاح على أحد من الناس معناه على أحد من النساء، ولما في كتاب ابن المواز لأن قوله فيه: وكذلك الصغار من اليتامى الذكور، معناه أنهم بمنزلة الإناث في أن نكاحهم إليه لا في أنه لا يعقده هو، ولكنه يستخلف غيره، وأما العبد والكافر في بناتهما فلا يعقدان النكاح عليهن ولا يستخلفان على ذلك أحدا، ولا اختلاف في هذا، فالعبد يزوج ابنه وابن من أوصى إليه، ولا يزوج ابنته، ولا يستخلف من يزوجها، ويستخلف من يزوج ابنة من أوصى إليه ولا يزوجها هو، وكذلك النصراني سواء مثل العبد في هذا، والمرأة تلي العقد على من إلى نظرها من الذكور، ولا تليه على من إلى نظرها من النساء لكنها تستخلف على ذلك رجلا يصح له العقد، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد أراد سيده أن يزوجه أمته فقال لا حاجة لي بالتزويج]
مسألة قال مالك في عبد أراد سيده أن يزوجه أمته فقال: لا حاجة لي بالتزويج، يسترق ولدي، قال: فتزوجها وولدك حر، فكره ذلك مالك أن يجعله للعبد شرطا، فإن وقع النكاح فسخ في العبد كما يفسخ في الحر، دخل أو لم يدخل، ويكون الولد إن ولد له أحرارا. قال محمد بن رشد: قوله: إن النكاح يفسخ قبل الدخول وبعده هو مثل ما يأتي في رسم الجواب من سماع عيسى، وفي رسم الكبش من سماع يحيى، ومثل ما في الواضحة وغيرها، لا أعرف في ذلك نص خلاف، ولا يبعد(4/312)
دخول الاختلاف في ذلك بالمعنى لجريانه على أصل مختلف فيه، وهو ما فسد من الأنكحة للشروط التي لا يجوز اشتراطها فيه، كالنكاح على أن لا ميراث بينهما أو على أن لا نفقة عليه، أو على أنه إن لم يأت بصداقها إلى أجل كذا وكذا، فلا نكاح بينهما، أو على أنه بالخيار أياما سماها، أو على أن لا يطأ نهارا، أو على أن الطلاق بيد غير الزوج، وما أشبه ذلك، فهذا الضرب من الأنكحة قيل فيها: إنها تفسخ قبل الدخول وبعده، وقيل: إنها تفسخ قبل الدخول وتثبت بعده، وإذا فسخت بعد الدخول فقيل: إنه يكون فيها الصداق المسمى، وقيل: إنه يكون فيها صداق المثل، وأما إذا لم يفسخ بعد الدخول وأقرت مع الزوج وأبطل الشرط، فإنها ترد إلى صداق مثلها، وبالله التوفيق.
[رجل تزوج امرأة وشرط لها ألا يخرج بها إلى موضع إلا برضاها]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا
قال: وسئل مالك عن رجل تزوج امرأة وشرط لها ألا يخرج بها إلى موضع إلا برضاها، فخرج بها برضاها إلى موضع، ثم رجعت إلى المدينة، ثم خرج بها الثانية، ثم استأذنته فقال لها: لا أتركك، فقال له أبوها: ائذن لها، وثقل عليه فقال: لا، حتى تحلف بطلاق امرأتك البتة ألا تحبسها عني أكثر من عشرة أيام، فقال له مالك: قد قرئ علي البارحة كتاب فيه لأردنها إليك إلا أن يغلبني أمر لا أملكه، فإن كان إنما هو لا يحبسها فلا أرى عليه شيئا إذا هو لم يحبسها، وإن كان على ما قرئ علي فلا أرى ذلك ينفعه إلا أن يردها وإلا لزمته اليمين، كأنه لم ير قوله: إلا أن يغلبني أمر لا أملكه، ثنيا، قال عيسى: قال لي ابن القاسم: تفسير هذا إذا حلف ألا يحبسها فلم يحبسها ولم ترد هي الرجوع، فليس عليه حنث، وإن كانت يمينه لأردنها إلا أن يغلبني أمر لا أملكه، فإنه إن لم يردها حنث، وليس استثناؤه بشيء.
قال محمد بن رشد: تكلم مالك في هذه المسألة على يمين الأب بما هو(4/313)
بين في المعنى من تفرقته بين أن يحلف ألا يحبسها، أو ليردنها إلا أن يغلبه أمر لا يملكه، وإنما لم ير قوله: إلا أن يغلبني أمر لا أملكه، ثنيا ينتفع بها؛ لأن المعنى عنده فيما حمل عليه استثناؤه أنه أراد به إلا أن يغلبني من هواي في أن لا أردها إليك بما يظهر إلي من الرشد في ذلك ما لا أملك دفعه عن نفسي، فلم ينتفع بذلك إذ هو قادر على مخالفة هواه، كمن حلف ليضربن عبده إلا أن لا يقدر أن يخالف هواه، في أن لا يضربه، ثم لم يضربه، فهو حانث. ولو استثنى فقال: إلا أن أرى خيرا من ذلك، أو: إلا أن يغلبني أحد على ذلك، وما أشبه ذلك، لنفعه استثناؤه، ولم يتكلم على منع الزوج إياها من الرجوع بقوله لها: لا أتركك؛ إذ قد تركها، ولو لم يتركها لحنث بما حلف به في الشرط الذي شرط لها ألا يخرج بها على ما مضى في رسم الشجرة من اختلاف في ذلك، وبالله التوفيق.
[امرأة تزوجت على وجه الغلبة فأراد صاحبها التحلل منها]
ومن كتاب أوله يسلف في المتاع والحيوان المضمون وقال مالك في امرأة تزوجت على وجه الغلبة، فأراد صاحبها التحلل منها، قال مالك: أرى ذلك نكاحا غير جائز، وأرى لها ألا تزوج حتى يستبرئ رحمها من ذلك الماء بثلاث حيض.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى ذلك نكاحا غير جائز؛ أي غير لازم ولا منعقد، إذ لا ينعقد النكاح إلا برضا المتناكحين كما لا ينعقد البيع إلا برضى المتبايعين، فالواجب عليه أن يفارقها بغير طلاق، ثم لا يتزوج حتى يستبرئ من مائه من ثلاث حيض لأن استبراء الحرائر بثلاث حيض.
[الرجل يزوج المرأة ويشترط على زوجها أن ينفق على ابن لها صغير]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء في الحرس وسئل مالك عن الرجل يزوج المرأة ويشترط على زوجها أن ينفق على ابن لها صغير، قال: ليس هذا من عمل الناس، فقيل لمالك: فيشترط لخدمها؟ قال: لا يشترط أن تنفق على رأس لا ولد(4/314)
ولا غيره، وكرههما جميعا، قال: لا أرى ذلك، وليس هذا من عمل الناس، قال عيسى: وسئل ابن القاسم عن هذا إذا وقع ودخل، قال: أرى أن يفسخ عنه الشرط ويعطي صداق مثلها لما وضعت، وإن لم يدخل بها فسخ النكاح، لأن العقدة كانت مكروهة، ولعل الصبي لا يعيش شهرا أو يعيش عشرين سنة، فلا خير فيه وإن طرحت المرأة الشرط.
قال محمد بن رشد: الفساد في هذا النكاح بين لأنه شرطت عليه نفقة مجهولة غير محدودة لمدة معلومة، فكان نكاحا فسد لصداقه، يفسخ قبل الدخول وإن طرحت المرأة عليه الشرط، ويثبت بعده ويكون فيه صداق المثل على ما قال ابن القاسم، فقوله تفسير لقول مالك، وقد روي عن أبي محمد بن الشقاق أنه قال: كرهه مالك من غير الوجه الذي كرهه منه ابن القاسم؛ لأن مالكا قال: لم يكن ذلك من عمل الناس، فسواء عنده ضرب أجلا أم لا، هو مكروه، وعلى قول ابن القاسم: إن ضرب أجلا فلا بأس به، وهو بعيد، إذ لا وجه لفساده إلا الجهل بمقدار النفقة المشروطة على الزوج، وللزوج الرجوع على المرأة بما أنفق بالشرط على ولدها أو على من لا تلزمه النفقة عليه من خدمها إلى حين فسخ النكاح أو تصحيحه بصداق المثل، وفي كتاب محمد بن المواز عن أصبغ أن النكاح لا يفسخ إذا طرحت المرأة عنه الشرط، قال: ولا أعلم إلا وهو قول ابن القاسم، وهو أيضا قوله فيما يشبهه، والمشهور من قول ابن القاسم ماله ها هنا أن النكاح يفسخ وإن رضيت المرأة بطرح الشرط خلاف مذهب أصبغ.
[البكر يدخل عليها وليها ليشهد عليها في النكاح فتصمت]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق وسئل مالك عن البكر يدخل عليها وليها ليشهد عليها في النكاح فتصمت، أعلى الشهود أن يسألوها أو الولي إن لم تتكلم برضاها؟ فقال مالك: لا، رضى البكر صماتها، فإذا صمتت فلا(4/315)
يسألها الولي ولا الشهود إن لم تتكلم، وهو رضى، وإن أنكرت فعليها أن تتكلم، واحتج بالحديث.
قال محمد بن رشد: وجه استئمار البكر في النكاح أن يقول لها وليها بحضرة الشهود قبل عقد النكاح: أزوجك من فلان، فإن سكتت اكتفى بذلك منها، وليس عليهم أن يسألوها فيقولوا لها: رضيت أم لا؟ هذا معنى قوله في هذه الرواية، وكذلك ليس عليهم على ظاهر هذه الرواية، ومذهب ابن القاسم في المدونة أن يعلموها أن إذنها صماتها لأنها محمولة على أنها عالمة بذلك. وروى محمد بن مسلمة عن مالك أنه ينبغي لهم أن يعلموها بذلك، إذ ليس كل بكر تعلم أن إذنها صماتها، وعلى هذه الرواية يأتي قول غير ابن القاسم في المدونة، وهذا إذا كانت تعلم أن إذنها صماتها.
[نكاح المحرم]
ومن كتاب الشريكين وقال مالك في نكاح المحرم: إنه فسخ ليس فيه طلاق.
قال محمد بن رشد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا أحد قولي مالك في المدونة، وهو اختيار سحنون فيها، خلاف اختيار ابن القاسم أنه يفسخ بطلاق مراعاة للاختلاف، وما اختاره سحنون هو القياس على أصل المذهب في أن المحرم لا يجوز نكاحه، وما لا يجوز لا ينعقد، فكان الأولى أن لا يسمى فسخا إذ لا يفسخ إلا ما قد انعقد، وسيأتي القول في رسم من كان منزله دون الميقات فيمن نكح قبل طواف الإفاضة وبعد رمي الجمرة، وبالله التوفيق.
[زوجت جارية لها مملوكة غلاما مملوكا وكان لامرأة بغير إذن سيدته]
ومن كتاب اغتسل علي غير نية قال: وسئل مالك عن امرأة زوجت جارية لها مملوكة، غلاما مملوكا، وكان لامرأة، بغير إذن سيدته، فعلمت بذلك سيدته فلم تجز النكاح وفرقت بينهما، فحلفت سيدة الجارية بحريتها أنه لا(4/316)
تزوجها منه الثانية إلا برضى سيدته، فماتت السيدة وورثتها، فأحبت سيدة الجارية أن يتزوجها الغلام؟ قال: لا أحب لفلان أن يزوجها إلا برضى الورثة الذين يملكونه كما كانت تستأذن سيدته.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنها لم ترد سيدته تلك بعينها وإنما أرادت مالكته لئلا يفرق بينهما الثانية كما فعلت في الأولى، فوجب أن تكون اليمين لازمة لها في كل من انتقل إليه ملكه بأي وجه كان، من ميراث أو غيره، وسيأتي في آخر رسم من سماع عيسى نقدها، نحو هذا المعنى، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل تكون له امرأتان فيكسو إحداهما الخز ويحليها ولا يعطي الأخرى]
مسألة وسئل مالك عن الرجل تكون له امرأتان فيكسو إحداهما الخز ويحليها ولا يعطي الأخرى؟ قال: إن لم يكن ميلا فلا بأس به، فإن الله يقول: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] .
قال محمد بن رشد: هذا هو المعروف من مذهب مالك وأصحابه أنه إذا أقام لكل واحدة من زوجاته ما يلزمه لها من المطعم والملبس على قدر حالها، لم يكن عليه حرج في أن يوسع على من شاء منهن بما شاء من ماله، إذ ليس عليه أن يعدل بينهن إلا في الكون معهن والمبيت عندهن، وذهب ابن نافع إلى أنه يجب عليه أن يعدل بينهن في ماله بعد أن يقيم لكل واحدة منهن ما يلزمه لها على قدر حالها، والأول أظهر، لقول الله عز وجل: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] لأنها إنما تكون كالمعلقة إذا انفرد بغيرها دونها، لا إذا وسع عليها دونها أكثر من توسعته عليها.
[مسألة: الرجل يتزوج المرأة على أنه إن خرج بها فأمرها بيدها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتزوج المرأة على أنه إن خرج بها من(4/317)
بلدها أو غاب عنها سنة، فأمرها بيدها، فيريد بعض ذلك فيمنعه يمينه، وتحب المرأة رضاه فتقول: قد رددت عليك أمرك ووضعت عنك الشرط، قال مالك: إن أحب ذلك إلي ألا يكون إلا عندما يحب أن يفعل، فإن فعلت ذلك وأذنت له عندما يريد أن يفعل قبل أن يفعل، ثم فعل، فلا شيء عليه، وإن أرادت أن تقضي بعد ذلك في نفسها فلا شيء لها، وما تركت من ذلك جائز عليها.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في أول رسم من هذا السماع، فلا معنى لإعادته، وسيأتي في رسم المحرم من هذا السماع، وفي رسم لم يدرك من سماع عيسى وغيره.
[المرأة يغيب عنها زوجها فيمرض أخوها أو أمها أو أختها فتريد أن تأتيهم]
ومن كتاب البز وسئل مالك عن المرأة يغيب عنها زوجها فيمرض أخوها أو أمها أو أختها فتريد أن تأتيهم تعودهم ولم يأذن لها زوجها حين خرج؟ قال: لا بأس أن تأتيهم وإن لم يأذن لها حين خرج.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه لو كان حاضرا فأراد أن يمنعها من ذلك لم يكن ذلك له، فليس على المرأة واجبا أن تستأذن زوجها إلا فيما له أن يمنعها منه.
[مسألة: قليل البرص أترد منه المرأة]
مسألة وسئل عن قليل البرص أترد منه المرأة؟ قال: ما سمعت فيه إلا الحديث الذي جاء ما أحد فيه قليلا ولا كثيرا، قال: فقلت له: إن بعض الناس أخبرنا أنك لم تر أن ترد من قليله فأنكر، قال ابن القاسم: القليل من ذلك إذا تبين فأرى أن ترد بذلك لأني لو لم أردها وحبستها عليه ثم تفاحش ذلك أدخلت عليه ضررا وأوطيته(4/318)
من ذلك ما لا ينبغي، ولعله أن يتركها معلقة، وقد سمعت الناس يقولون: إنه يزداد، ولو كان من ذلك الشيء اليسير الذي يستيقن معرفة الناس أنه لا يزداد ما رددتها، ولكنه أمر لا يعرف، فلذلك رأيت أن ترد، وللمرأة على الرجل مثله.
قال محمد بن رشد: رأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية ابن القاسم هذه قليل البرص عيبا في النكاح وإن أمنت زيادته، فأوجب الرد به للرجل على المرأة وللمرأة على الرجل، ولم ير ابن القاسم أن ترد به المرأة إلا من أجل أنه لا يؤمن أن يزيد، فيلزم ذلك الزوج ولا يكون له منه خروج إلا بالطلاق، وقد يكون ذلك قبل الدخول فيلزمه نصف الصداق، وفي ذلك عليه ضرر، فلا يجب على مذهب ابن القاسم للمرأة أن ترد الرجل بقليل البرص وإن خشيت زيادته لأنه إن زاد وأضر بها فرق بينهما على مذهبه، وهو نص قوله في رسم نقدها من سماع عيسى، فلا حجة للمرأة عنده فيما يتوقع من زيادته، فقوله في آخر المسألة: وللمرأة على الرجل مثله، إنما هو من قول مالك لا من قول ابن القاسم، ولمالك في كتاب ابن المواز من رواية أشهب عنه أن الأبرص لا يفرق بينه وبين امرأته وإن غرها، يريد: في اليسير، خلاف قوله في هذه الرواية مثل مذهب ابن القاسم، وقد روى علي بن زياد عن مالك في الأبرص أنه لا يفرق بينه وبين امرأته وإن كان شديدا، قاله مالك في كتاب ابن المواز، يريد: إذا كان حادثا بعد العقد. فيتحصل القول في هذه المسألة أن الرجل إذا غر المرأة بالبرص يكون به من قبل العقد، فإن كان شديدا كان لها رده به باتفاق، وإن كان يسيرا كان لها رده به على اختلاف، وإذا حدث به بعد العقد، فإن كان يسيرا فلا يفرق بينهما باتفاق، وإن كان كثيرا فيفرق بينهما على اختلاف، وأما البرص بالمرأة فإن كان من قبل العقد كان للرجل ردها به إن كان كثيرا أو يسيرا لا تؤمن زيادته باتفاق، وإن كان يسيرا تؤمن زيادته فعلى اختلاف، وأما إن كان حادثا بها بعد العقد فمصيبة نزلت بالزوج إن شاء طلق وان شاء أمسك، ولزمه نصف الصداق قبل الدخول وجميعه بعد الدخول، وبالله التوفيق.(4/319)
[مسألة: الرجل تكون له الجارية الفاره فيريد أن يزوجها غلاما له]
مسألة وسئل مالك عن الرجل تكون له الجارية الفاره فيريد أن يزوجها غلاما له قيما له في ريعه على ضيعته، أو يكون أمينا يبعثه في حوائجه ويقاضيه، قال مالك: لا يجوز من ذلك ما كان ضررا، فأما ما كان على وجه الصلاح فلا أرى به بأسا، قد يكون الرجل يطلب نسل ذلك أو يصلح به غلامه، فإذا كان على هذا الوجه رأيت ذلك، فقيل له: فإنه ربما كان وغدا، وهو لا بأس به، ويكون أسود، قال: ليس ينظر في ذلك إلى الوغد في المنظر، فرب وغد المنظر تكون له الخبرة والحال، ولو كان في حاله لا بأس به رأيت ذلك له، فإنما أرى أن يرد من ذلك ما كان ضررا، وما لم يكن على وجه الضرر رأيت ذلك جائزا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا يجوز له أن يزوجها ممن لا يشبه أن تزوج منه من العبيد؛ لأن ذلك من الإضرار بها وقد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإضرار وقال: «من ضار أضر الله به» .
[مسألة: إنكار النكاح في نكاح اليتيمة قبل البلوغ]
مسألة وسئل مالك عن جارية بنت عشر سنين زوجها أخوها وأمها ابن عم لها وأقام زوجها معهم يحوز مال امرأته ويقوم فيه، ثم ماتت الأم فطلب الزوج الدخول بالجارية فقال الأخ: لا زوجة لك، قال الزوج: لم؟ فقال: لم تكن أختي رضيت ولا أعلمناها، وأنكرت الجارية، قال: فإن قامت له بينة على رضاها وإلا حلفت الجارية وأخوها على ذلك، وكان القول قولهما وفرق بينهما.(4/320)
قال محمد بن رشد: أجاز مالك في هذه المسألة نكاح اليتيمة قبل البلوغ إذا أقرت بالرضى أو كانت على ذلك بينة، وأمضاه قبل البناء، وإن كانت زوجت لغير حاجة، وقد مضى ما في ذلك من الاختلاف في رسم شك في طوافه، وإيجابه اليمين عليهما إنما هو رجاء أن تقر بالنكاح فإن حلفت سقط عنها النكاح، وإن نكلت عن اليمين لم يلزمها النكاح، وهو قول مالك في المبسوط، ومعناه: إذا كانت قد بلغت. وقد قيل: إنه لا يمين عليها لأنها إن نكلت عن اليمين لم يلزمها النكاح، حكى ابن حبيب القولين جميعا، وفي رواية يحيى أنها إن نكلت لزمها النكاح، يريد بعد يمين الزوج إن كان حقق الدعوى عليها إذا كان ثم سبب يدل على علمها، من كون الصنيع في دارها وما أشبه ذلك، وأما إيجابه اليمين على الأخ فلا وجه له في هذه المسألة لأنه مقر بالتزويج، وإنما يدعي أنه لم يعلم أخته، وإنما يتصور أن يحلفا جميعا على القول في إيجاب اليمين في النكاح إذا أنكر هو التزويج وأنكرت هي الرضى، فإن حلفا أو حلف أحدهما سقط النكاح، وإن نكلا لم يلزمهما النكاح؛ لأنهما إنما حلفا رجاء أن يقرا فيثبت النكاح بإقرارهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: جارية أنكحها أخوها ثم مات الزوج قبل أن يدخل بها]
مسألة وروى أشهب وابن نافع قالا: سئل مالك عن جارية أنكحها أخوها ثم مات الزوج قبل أن يدخل بها فقال الورثة: أقيموا البينة أنها قد كانت رضيت، قال: تسأل إن كانت رضيت، فإن قالت: نعم، قيل له: أتسأل هي؟ فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الورثة مدعون عليها أنها لم ترض فالقول قولها إنها كانت رضيت مع يمينها، فإن نكلت عن اليمين حلف الورثة أنها لم ترض ولم يكن لها ميراث، وهذا إن كانوا حققوا الدعوى عليها أنها لم ترض، وإن كانوا لم يحققوا الدعوى عليها بذلك فقد اختلف في وجوب اليمين عليها وفي وجوب ردها إذا وجبت عليها فنكلت عنها.(4/321)
[رجل تزوج أمة فولدت منه ثم أعتق سيد الأمة ولدها منه]
ومن كتاب أوله باع غلاما بعشرين دينارا قال: وسئل مالك عن رجل تزوج أمة فولدت منه ثم أعتق سيد الأمة ولدها منه، قال: أرى رضاعة ابنه عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا أعتقه سقط ملكه عنه ووجب على أبيه أن يسترضع له وينفق عليه، ولو [صح] لم يكن له أب لما سقط بعتقه إياه ما كان يلزمه من إرضاعه ونفقته إلى أن يبلغ؛ لأن من أعتق صغيرا ليس له من ينفق عليه، فنفقته عليه لأنه يتهم أن يكون إنما أعتقه ليسقط عن نفسه نفقته، وبالله التوفيق.
[مسألة: السيد لا يريد أن يزوج عبده ويهب له جارية ليعفه]
مسألة قال: وسألت مالكا عن العبد الأسود يكون للرجل مخارجا في السوق، فيريد أن يعفه ولا يريد أن يزوجه خوفا من أن يحدث حدثا أو يأبق، فيريد أن يهب له الجارية يعفه بها، قال: ليس هذا وجه الهبة لمثل هذا، وإنما هذا أراد أن يحللها له، ولولا ذلك ما وهبها له، وإنما الهبة للعبد التاجر الذي مثله يوهب له، ويكون مثلها لمثله، فأما هذا فليس بهبة إنما هذا على وجه التحليل له، ولا يعجبني هذا، ولا أرى أن يعمل به.
قال محمد بن رشد: وهذا بيّن على ما قال: إنه إذا وهبه الجارية وهو لا يشبه أن يوهب له مثلها، فإنما قصد إلى تحليلها له، فلا يجوز لأحد أن يفعله، وقد تكررت المسألة أكمل مما وقعت ها هنا في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب، والحمد لله.
[مسألة: زواج الرجل المرأة على متاع زوجته الأولى خالتها بعد هلاكها]
مسألة وسئل عن رجل تزوج امرأة وأصدقها ثلاثين دينارا وقد كانت(4/322)
تحته خالتها فهلكت، فقال له أبوها: اشتر لها خادما من صداقها، فقال: عندي خادم، فقال له: فاشتر لها متاعا في بيتها، فقال: هذا بيت خالتها - يعني المتاع - فدخلت في متاعها ثم هلك، قال مالك: أرى أن يقام ذلك المتاع، فإن كان فيه فضل كان للمرأة لأنه قد رضي أن يعطيها إياه، وإن كان أقل من القيمة اتبعته بما بقي.
قال محمد بن رشد: وهذا على ما قال؛ لأنه قد تبين بإدخالها على متاع خالتها بعد قوله لأبيها: هذا بيت خالتها، جوابا عن سؤاله أن يشتري لها متاعا بصداقها، أنه قد رضي أن يعطيها ذلك المتاع في الثلاثين التي أصدقها، فإن كانت قيمته أكثر من الثلاثين فهو لها، وإن كانت قيمته أقل من الثلاثين كان عليه تمام الثلاثين، وقوله: وإن كان أقل من القيمة، يريد وإن كان أقل من الثلاثين، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة الصالحة هي للرجل دنيا وآخرة]
مسألة قال مالك: بلغني أن لقمان قال لابنه: يا بني لتكن أول ما تفيد من الدنيا بعد خليل صالح امرأة صالحة.
قال محمد بن رشد: هذه وصية جيدة مفيدة، وحكمة بالغة عظيمة، لأن النساء من أجل ما زين للناس من شهوات الدنيا، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران: 14] الآية، فالمرأة الصالحة هي للرجل دنيا وآخرة لأنه يستعف بها ويستمتع منها ويؤجر على القيام عليها، والخليل الصالح يحمل خليله على الخير ويحمله على الطاعة، ويريد مراشده في أموره، فمنفعته أعم من منفعة المرأة، إذ من الناس من يستغني عن المرأة ولا يحتاج إليها، ولذلك قدمه عليها.(4/323)
[مسألة: الرجل يقدم من السفر فتتلقاه ابنته أو أخته أتقبله]
مسألة وسئل عن الرجل يقدم من السفر فتتلقاه ابنته أو أخته أتقبله؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إنما خفف ذلك لأن المقصد فيه الحنان والرحمة لا ابتغاء اللذة إذ ليستا ممن ينبغي ذلك فيهما، والأحسن أن لا يفعل ذلك مخافة أن يتلذذ بذلك وإن لم يقصد إلى الالتذاذ به، ولا وضوء عليه في ذلك، قاله في أول سماع أشهب من كتاب الوضوء، والله الموفق.
[مسألة: يتزوج الأمة فيقال له طلقها على أن أكتب لك مائة دينار في نكاح أخرى]
مسألة وسئل عن الرجل الخير يتزوج الأمة، ثم إن الرجل من أهله أنف من ذلك فقال له: طلقها وأنا أكتب لك علي كتابا بمائة دينار في نكاح امرأة إذا بدا لك أن تتزوجها، فطلقها وكتب عليه كتابا وأقام نحوا من ثلاثة أعوام لا يتزوج، ثم إن الجارية أعتقت وتزوجت رجلا فطلقها زوجها فارتجعها الزوج الأول وقد مات الذي ضمن المال، أيكون ذلك في ماله؟ فقال مالك: قد تقادم ذلك، فلا أرى له حقا في ماله، ولا أرى لك أن تدخل في مثل هذا.
قال محمد بن رشد: في قوله: قد تقادم ذلك، فلا أرى له حقا في ماله، دليل على أنه لو لم يتقادم لوجب له ذلك في ماله، وإنما أوجب له ذلك في ماله إذا تزوج بالقرب، ولم ير ذلك هبة تبطل بالموت لأنه أعطاه ذلك على شرط الطلاق، فصار ثمنا للطلاق يجب له بعد الموت، ويحاص الغرماء به في الموت والفلس. وفي العشرة ليحيى بن يحيى أنه لا شيء له في ماله بعد الوفاة،(4/324)
فرآها كالعطية على غير عوض، وعلى هذا اختلفوا في الرجل يعطي امرأته النصرانية داره على أن تسلم، فتسلم، هل هي ثمن لإسلامها فلا يحتاج فيها إلى حيازة؟ أو عطية تفتقر إلى حيازة؟ وحكى ابن حبيب في ذلك القولين.
ومن هذا المعنى المسألة الواقعة في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، قوله: احلف لي أنك لم تشتمني ولك كذا وكذا، فيدخل فيه القولان، ورأى ذلك ابن الماجشون جعلا على ما لا منفعة فيه للجاعل فاحتج به لمذهبه في جواز ذلك، والصواب أن له فيه منفعة وهي تطييب نفسه من جهته فلا حجة له في ذلك، وكان الأظهر في مسألة الكتاب أن تجب له المائة، تقادم الأمر أو لم يتقادم، لقوله فيها: إذا بدا لك؛ لأن إذا ظرف لما يأتي من الزمان. ولو علق العطية بالتزويج دون الطلاق فقال له: إن تزوجت فلك داري الفلانية، أو: فلك قبلي كذا وكذا، لكان ذلك أمرا لازما له في الحياة والموت، لا يحتاج فيه إلى حيازة باتفاق إن تزوج بالقرب على هذه الرواية، ولو قال له: إن تزوجت فأنا أعطيك كذا وكذا، لكانت عدة على سبب يجري على الاختلاف في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يكون بيده المال لسيده فيقول له اشتر جارية لنفسك تطؤها]
مسألة وسئل عن الذي يكون له العبد ويكون بيده المال لسيده فيقول له: اشتر جارية من المال الذي في يديك لنفسك تطؤها، قال مالك: لا يصلح هذا إلا أن يهب له المال قبل ذلك.
قال محمد بن رشد: قال ههنا: إلا أن يهب له المال قبل ذلك، وقال في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب: إلا أن يسلفه الثمن قبل ذلك، وذلك سواء، يحل له وطء الجارية بأي الوجهين كان، لأن الجارية تصير ملكا له إذا اشترها بماله الذي وهب له سيده أو أسلفه إياه، وأما إذا اشتراها بمال السيد فلا يصلح له وطؤها وإن قال له: اشترها لنفسك تطؤها؛ لأن قوله: اشترها لنفسك تطؤها، بمنزلة قوله: اشترها لتكون لك للوطء، فهي باقية على ملكه حتى يهبها له بعد الشراء هبة صحيحة.(4/325)
[مسألة: أمة زوجها سيدها ثم طلقها زوجها فوطئها سيدها في العدة]
مسألة قال مالك في أمة زوجها سيدها ثم طلقها زوجها فوطئها سيدها في عدة من طلاق أو وفاة، قال: لا أرى لسيدها أن يطأها بعد أن تحل أبدا مثل النكاح.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إذ لا فرق عندهم في الوطء في العدة بين أن يطأ فيها بنكاح أو بشبهة نكاح أو بملك أو بشبهة ملك فيما يوجب ذلك من التحريم، وإنما اختلفوا في الوطء بنكاح أو بشبهة نكاح في استبراء من أي وجه كان أو في عدة من غير نكاح كعدة أم الولد يتوفى عنها سيدها أو يعتقها، وبالله التوفيق.
[الأمة يكون نصفها حرا أيزوجها من له فيها الرق بغير رضاها]
ومن كتاب مساجد القبائل وسئل مالك عن الأمة يكون نصفها حرا أيزوجها من له فيها الرق بغير رضاها؟ قال لا يزوجها بغير رضاها ولا تتزوج إلا برضاه، لا تزويج لها إلا باجتماع منهما على الرضى، فإن أعتق ما بقي منها كان لها الخيار.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف أعلمه في أن المعتق بعضها ليس للذي فيها الرق أن يجبرها على النكاح ولا في أنها إذا عتق ما بقي منها وهي تحت عبد أن لها الخيار، لأن العلة عند مالك في تخيير الأمة إذا عتقت كون زوجها ناقصا عن مرتبتها، ولذلك لا تخير عنده إذا عتقت تحت حر، ويأتي على قول أهل العراق، والذين يقولون إنها تخير إذا أعتقت كان زوجها حرا أو عبدا أو يرون العلة في تخييرها ما كان لسيدها قبل أن تعتق من جبرها على النكاح أن لا يكون لها خيار إذا أعتق ما بقي منها كانت تحت حر أو عبد إذ لم يكن لسيدها أن يجبرها على النكاح من أجل أن بعضها حر وهو بعيد.(4/326)
[مسألة: يتزوج المرأة وتشترط عليه أن كل امرأة ينكحها عليها طالق البتة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتزوج المرأة وتشترط عليه عند نكاحه إياها أن كل امرأة ينكحها عليها طالق البتة، فإن لم يطلق فأمر امرأته التي عنده بيدها، قال: أرى ذلك له، فقيل له: فإنه قيل له: إنك قد قلت: هي طالق البتة، ولا ينفعك الذي قلت، وإن لم تطلق فأمرها بيدها، قال: أرى ذلك له، لأنه إنما تزوج على ذلك، فقيل له: كأنك إنما رأيت أنه عقد الأول بالآخر، فقال: نعم، أرى ذلك بيدها إن شاءت أقامت وإن شاءت اختارت نفسها.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في رسم إن خرجت من سماع عيسى، وقول مالك فيها: إن قوله: فإن لم يطلق فأمر امرأته التي عنده بيدها، ينفعه ويكون له صحيح. وما قيل له من أنه قيل للحالف: إن ذلك لا ينفعه، بعد أن قال: إنها طالق البتة، لا يصح بوجه من الوجوه، إذ لا يلزمه باللفظ طلاق لأنه مقيد بالتزويج، فلما كان لا يلزمه باللفظ طلاق لم يصح أن يعد قوله بعد ذلك، فإن لم يطلق فأمر امرأته بيدها ندما منه، وكان أول كلامه مرتبطا بآخره باتفاق، فلا يدخل في هذه المسألة من الاختلاف ما يدخل في المسائل التي يتهم الرجل فيها بالندم إرادة أن يسقط عن نفسه ما قد لزمه بالقول، من ذلك قول الرجل لامرأته: أنت طالق البتة إن أذنت لك أمك، على ما وقع في رسم كتب عليه من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق، وقوله: لفلان علي كذا وكذا، وعلى فلان وفلان وما أشبه ذلك من المسائل، وهي أكثر من أن تحصى عددا.
[مسألة: سلطة السلطان في تزويج ولدا صغارا قد كبروا]
مسألة وسئل مالك عن أقوام تضرب عليهم البعوث إلى إفريقية وما خلف ذلك والأندلس، فيترك بعضهم ولدا صغارا، أو تكون له بنت صغيرة فتكبر وهي بكر، فتخطب ويرفع ذلك إلى السلطان، أترى(4/327)
للسلطان أن يزوجها؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: مغيب الرجل عن ابنته البكر ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون غيبته قريبة، والثاني أن تكون غيبته بعيدة منقطعة، والثالث أن يكون أسيرا أو فقيرا، فأما إذا كانت غيبته قريبة لعشرة أيام وما أشبه ذلك، فلا اختلاف في أنها لا تزوج في مغيبه، فإن زوجت في مغيبه فسخ النكاح، زوجها الولي أو السلطان، قاله ابن حبيب في الواضحة، وأما إذا كانت غيبته بعيدة منقطعة مثل إفريقية أو طنجة أو الأندلس من مصر وما أشبه ذلك، فاختلف في ذلك على أربعة أقوال: أحدها أن الإمام يزوجها إذا دعيت إلى ذلك، وإن كانت نفقته جارية عليها ولم يخف عليها ولا استوطن البلد الذي هو به، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية وفي المدونة، وقد تؤول على ما في المدونة من قوله فيها: وأما من خرج تاجرا وليس يريد المقام بتلك البلاد فلا يهجم السلطان على ابنته أنها لا تزوج، إلا أن يستوطن ذلك البلد وهو القول الثاني، والقول الثالث أنها لا تزوج إلا أن يستوطن ذلك البلد ويطول مقامه فيه العشرين سنة والثلاثين حتى يؤيس من رجعته، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، والرابع أنها لا تزوج أبدا وإن طال مقامه، وهو ظاهر قول مالك في كتاب ابن المواز وقول ابن وهب في رسم الأقضية من سماع يحيى لأنه قال فيه: وإن كان الأب يجري لها النفقة ولا يزال يتفقدها بما يصلحها حتى يؤمن عليها الضيعة، فلا يجوز للإمام ولا غيره أن يفتات على أبيها بإنكاحها، والاختلاف بينهم إذا قطع الأب عنها النفقة في مغيبه هذا، وخشيت عليها الضيعة في أنها تزوج، وإن كان ذلك قبل البلوغ، وإنما اختلفوا هل يزوجها ها هنا الولي دون السلطان أم لا؟ فالمشهور أنه لا يزوجها إلا السلطان لأنه حكم على غائب برضاها، وقال ابن وهب في سماع يحيى ومثله في كتاب ابن المواز: الولي يزوجها برضاها، والوجه في ذلك أن ولايته قد سقطت عنها بتضييعه لها ومغيبه عنها، فكان كالميت، فالقول بأن الإمام يزوجها في بعد غيبة أبيها وإن كانت نفقته جارية عليها، جار على القول بأنه ليس له أن يعضلها عن النكاح، فإن زوجها الولي مضى النكاح ولم يفسخ، والقول بأنها لا تزوج في بعد غيبته عنها(4/328)
إذا كانت نفقته جارية عليها جار على القول بأن له أن يفصلها عن النكاح، وإلى هذا ينحو قول ابن حبيب، وأما الاعتبار بالاستيطان فلا وجه له، وأما إذا كان أسيرا أو فقيرا فلا اختلاف في أن الإمام يزوجها إذا دعت إلى ذلك وإن كانت في نفقته وأمنت عليها الضيعة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل ينكح فيلزمه أهل المرأة بهدية العرس]
مسألة وسئل مالك عن الرجل ينكح فيلزمه أهل المرأة بهدية العرس، وذلك عندنا الذي يعمل به الناس، حتى إنه ليكون في ذلك الخصومة، أترى أن يقضى به؟ قال: إذا كان قد عرف من شأنهم وهو عملهم لم أر أن يطرح ذلك عنهم إلا أن يتقدم فيه السلطان؛ لأني أراه أمرا قد جروا عليه، قال ابن القاسم في كتاب عيسى: وقد قال مالك قبل ذلك: لا أرى أن يقضى به، وهو أحب قوله إلي، قال ابن القاسم: ومما يبين ذلك أنه لو مات أو ماتت أكان لها فيه شيء؟ فهذا يدلك أنه لا يقضى به، كان ذلك قد عرف من شأنهم وهو عملهم أو لم يكن.
قال محمد بن رشد: قال ها هنا: هدية العرس، وقال في رسم لم يدرك من سماع عيسى: نفقة العرس، وذلك سواء، لأن مراده بنفقة العرس هدية العرس، وهو ما جرى العرف بأن الأزواج يهدونه عند الأعراس، وقد كان بعض الشيوخ يذهب إلى أن المراد بهدية العرس الذي اختلف قول مالك في وجوب القضاء بها على الزوج وليمة العرس، ويتعلق بقوله في سماع عيسى نفقة العرس، وذلك غير صحيح؛ لأن الوليمة على مذهب مالك وأصحابه وجماعة أهل العلم سواء أهل الظاهر مرغب فيها ومندوب إليها لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاة» فذلك واجب على الزوج وجوب السنن لا يقضى بها عليه ولا حق فيها للزوجة، ومما يدل على أن المراد(4/329)
بذلك الهدية التي تهدى إلى الزوجة لا الوليمة التي يصنعها الزوج للناس وإن كان ذلك أبين من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه، قوله في الرواية: لم أر أن يطرح ذلك عنهم إلا أن يتقدم فيه السلطان، ولا يجوز أن يتقدم السلطان في الوليمة، فيكون قد نهى عما أمر رسول الله به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال فيه: إنه حق، فقد روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «قال في الوليمة: اليوم الأول حق والثاني معروف والثالث سمعة» وتقدمه في هدية العرس هو أن يعهد إلى الناس أنه لا هدية لمن تزوجت على زوجها إلا أن تشترطها عليه، وقد كان القياس على القول بوجوب القضاء بها إذا حكم للعرف بحكم الشرط أن يكون حكمها حكم الصداق فيجب عليه نصفها بالطلاق وجميعها بالدخول أو الموت، فإن مات أخذ ذلك من ماله، وإن ماتت هي وجب ذلك لورثتها، إلا أن مالكا لم يحكم لها بحكم الصداق ولا حكم لها بحكم الهبة إذ أبطلها بالطلاق أو بموت من مات منهما على ما قاله في سماع عيسى، وعلى ما احتج به ابن القاسم ها هنا لتضعيف القضاء بها، ووجه ما ذهب إليه مالك أنه حكم بها بحكم الصلة التي يراد بها عين الموصول، فعلى هذا يأتي جوابه في وجوب القضاء بها، وأما ابن حبيب فحكم لها بحكم الصداق فقال: إنه يقضى بها ويرجع إن طلق بنصفها إلا أن تفوت فلا يكون له شيء، يريد فاتت بتلف أو إنفاق أو استمتاع على أهله فيما استمتعت به المرأة من الصداق قبل الطلاق إذا طلق قبل البناء، وقد ذكرنا ذلك عنه في آخر رسم شك. قال: وأما هدية الإملاك فلا يقضى بها ولا يكون له منها شيء في الطلاق وإن أدركها قائمة، ولا فرق بينهما إلا من جهة العرف، فلو انتقل العرف لانتقل الحكم بانتقاله، وبالله التوفيق.
[يبتاع للنساء اللاتي يتزوجن الرجال الإماء ولا يشترى لهن العبيد]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت قال مالك: الأمر عندنا أنه يبتاع للنساء اللاتي يتزوجن الرجال الإماء، ولا يشترى لهن العبيد وأنه ليس في قيمة الرقيق، هكذا سنة مضت إلا ما جرى عليه عمل الناس على نحو ما وصفت لك.(4/330)
قال محمد بن رشد: يريد: إذا وقع النكاح على كذا وكذا رأسا من الرقيق، ولم يذكر ذكورا ولا إناثا، فيشتري لها الإناث لأنه العرف، وقوله: ليس في قيمة الرقيق سنة مضت، يريد: ليس في ذلك عرف يرجع إليه فيكون لها الوسط من رقيق البلد، إن حمران فحمران، وإن سودان فسودان، على ما مضى في أول رسم من هذا السماع. ولو سمي في ذلك ثمن لم يلتفت إلى الوسط من ذلك، وكانت المرأة بالخيار إن شاءت أخذته بالأرؤس على تلك التسمية، وإن شاءت أخذته بالتسمية من الثمن وتركت الرأس أو الأرؤس، إلا أن يحضر بالأرؤس على التسمية قبل أن يختار التسمية فلا يكون لها أن تختار التسمية وتدعها لأنه كمن وكل رجلا على شراء شيء فاشتراه، فليس لمن وكله أن يأبى من قبول ذلك منه، وما لم يشتره فله أن يأباه ويرجع إلى رأس ماله فيأخذه منه، وإن طلقها قبل الدخول فلها نصف التسمية من الثمن ولا يجبر الزوج على أن يأتي برأس تلك التسمية فيكون بينهما، قاله ابن حبيب في الواضحة وعزاه إلى مالك وأصحابه، قال: ولم أعلمهم اختلفوا فيه إلا ما كان من أصبغ في المرأة الدنية يسمى لها في الثياب ثمن رفيع.
[المرأة المحتاجة تصدق الصداق أترى أن تأكل منه بالمعروف]
ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها وسئل مالك عن المرأة المحتاجة تصدق الصداق أترى أن تأكل منه بالمعروف؟ قال نعم.
قال محمد بن رشد: أباح لها أن تأكل من صداقها بالمعروف، والمعروف هو قدر ما يكفيها بدليل «قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند: خذي يا هند ما يكفيك وولدك بالمعروف» وإنما أباح ذلك لها وإن كان من مذهبه أن عليها أن تتجهز إلى زوجها بصداقها، من أجل حاجتها إلى ذلك مراعاة لقول من يقول: هو مالها وليس عليها أن تتجهز بشيء منه إلى زوجها، ولا حق له فيه، ولو طلقها قبل البناء وقد استنفد الإنفاق جميع ما كان أصدقها لوجب أن يتبعها(4/331)
بنصفه على القول بأن النفقة لا تجب عليه إلا بالدخول، وقد مضى هذا المعنى في رسم شك في طوافه قبل هذا فقف عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد أبق عن سيده فتزوج حرة ببلد وأقام معها نحوا من عشرين ليلة]
مسألة وسئل مالك عن عبد أبق عن سيده، فتزوج حرة ببلد وأقام معها نحوا من عشرين ليلة، ثم قال لها: إني عبد ولا أحب أن تخبري أحدا، فأقامت معه ولم تقض شيئا، ثم إن سيده ظهر عليه فبعث إليه فأخذه وعلم بامرأته فأقره، ثم إنه باعه من رجل فأقره على نكاحه، فلما قدم على امرأته وعلم أبوها فقال لها: إن لك الخيار، فقالت: اشهدوا أني قد طلقت نفسي. فقال لها الزوج: ليس ذلك لك، وقد كنت علمت ذلك، فقيل لها: أعلمت ذلك؟ فأقرت بعدما طلقت نفسها فقال: أرى له أن يطلقها، هذه قد طلقت نفسها، والذي أقرت به من أنها علمت به في السر ولا أدري ما هو، وقد طلقت نفسها، كأنه ضعفها عندي من وجه أنه لا بينة فيه، ثم قال: هذا أمر قد كان أوله على غير صواب.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنها لا تصدق بعد أن أشهدت بطلاقها نفسها فيما أقرت به من أنه قد كانت علمت قبل طلاقها نفسها أنه عبد فرضيت المقام معه؛ إذ لا بينة على ذلك فتتهم على أنها أرادت البقاء مع زوجها بعد أن طلقت نفسها وهي في باطن الأمر زوجته باقية في عصمته إن كانت أقرت بحق، إذ ليس لها أن تطلق نفسها بعد الرضى بالمقام معه على أنه عبد، واستحب للزوج أن يطلقها إن كان يعلم أنها صادقة فيما أقرت به لتكون في سعة من نكاح غيره إن شاءت، إذ لا يجوز لها أن تتزوج سواه لأنها زوجته على ما أقرت به، إذ لا يباح له البقاء معها بما ظهر من طلاقها نفسها ولا تزويجها أيضا قبل زوج إن كانت فارقته بثلاث، فطلاقه إياها إن كانت طلقت نفسها ثلاثا أو واحدة فلم ترد أن ترجع إليه وأرادت أن(4/332)
تتزوج سواه لا يضره وينفعها، فهذا وجه استحباب مالك ذلك له، وقوله: هذا أمر قد كان أوله على غير صواب، لا حكم له إذ قد جاز النكاح ووجب إمضاؤه بإقرار سيده إياه.
[مسألة: يتزوج المرأة ويشترط في نقدها الجارية بخمسين دينارا]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتزوج المرأة ويشترط في نقدها الجارية بخمسين دينارا أو السرير بكذا وكذا والفرش بمثل ذلك، ثم يعطيهم في ذلك صفة هي أدنى مما سمى لهم من الخمسين والتسمية في الفرش والأسرة، أترى ذلك له؟ قال: أرى أن تلزمه تسمية ما سمى، فقلت له: فإن ذلك إنما يفعلونه إرادة السمعة ويعطون أدنى من ذلك. قال هذا أمر لا أعرفه ببلدنا، وأرى أن تلزمه التسمية، قلت: ماذا ترى في مثل هذا إذا كان أمرا ينكحون عليه؟ قال كنت أرى للإمام أن يتقدم في ذلك وفي الصداق الذي ينكح به أهل مصره.
قال محمد بن رشد: ألزمه تسمية ما سمى من الأثمان في الثياب إذ لم يصح عنده العرف الذي ذكر له في ذلك فقال: هذا أمر لا أعرفه ببلدنا، ولو صح عنده العرف لحكم به؛ لأن الحكم به أصل عنده، ولوجب إذا سمى في ذلك من الأثمان ما لا يشبه حال المرأة مثل أن تكون المرأة الدنية فيسمي لها رداء كتان بعشرين دينارا أو درع خز بثلاثين دينارا أو ما أشبه ذلك مما يعلم أنه لم يقصد به إلا التسمية، فتعطى وسطا مما يشبهها ولا تعطى بالتسمية، وقد حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ، وهو تفسير للمذهب، والله أعلم.
[مسألة: رجل ضعيف العقل تزوج فأراد وليه تغيير ذلك]
مسألة وسئل مالك عن رجل ضعيف العقل تزوج فأراد وليه تغيير(4/333)
ذلك، قال إن كان مولى عليه لم أره نكاحا جائزا، وإن كان على غير ذلك فهو جائز.
قال محمد بن رشد: هذا على المشهور المعلوم من مذهب مالك أن أفعال السفيه جائزة حتى يضرب على يده خلاف المشهور من مذهب ابن القاسم في مراعاة الحال دون الولاية، وقد روي عن ابن القاسم مراعاة الولاية مثل المشهور من مذهب مالك، وعن مالك مراعاة الحال دون الولاية مثل المشهور من مذهب ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[الرجل يخطب الأمة فيقول له سيدها أنا أزوجكها]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل مالك عن الرجل يخطب الأمة فيقول له سيدها: أنا أزوجكها، فقال: إني أخاف أن أصيبها بشيء فيكون علي، قال: أنا أزوجكها على أن لا شيء عليك مما أصبتها به، قال: أراه غير جائز، وقال عيسى: يفسخ هذا النكاح قبل البناء ويثبت بعد البناء.
قال محمد بن رشد: يريد: ويكون فيه صداق المثل لا المسمى، وقد اختلف في هذا النوع من الأنكحة الفاسدة على ما ذكرنا في آخر رسم من قبل هذا، فقف على ذلك.
[مسألة: الرجل يتزوج المرأة ويشترط عليها ألا يتسرر عليها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتزوج المرأة ويشترط عليها ألا يتسرر عليها، والذي يشترط الرجل والمرأة لا يرون إلا أن التسرر هو الحمل، فيتزوج على ذلك، فيريد أن يطأ جاريته، أذلك له؟ قال: أرأيت الذي طلق البتة وهو يرى أنها واحدة أينفعه؟ فقلت: أهو مثل ذلك؟ قال: نعم، لا أرى أن ينفعه ما جهل من ذلك، وأرى ذلك يلزمه، قال سحنون: لا يعجبني ما قال، ولا بأس أن يطأ جارية إن كانت عنده ولا يلزمه إذا كان ذلك عندهما هكذا، قال سحنون: وهو قول مالك.(4/334)
قال محمد بن رشد: الاختلاف في هذه المسألة على اختلافهم في اليمين إذا عريت من النية، هل يحمل على اللفظ أو على ما يعلم من قصد الحالف على ما قد مضى القول فيه في غير ما موضع من كتاب النذور، ويأتي في كتاب الأيمان بالطلاق. والأظهر الأشهر حمل اليمين على ما يعلم من قصد الحالف، فقول سحنون في هذه المسألة وما حكاه عن مالك هو أظهر القولين، وفي تنظير هذه المسألة بالطلاق بُعدٌ، لأن للفظ الطلاق حكما يؤخذ به المطلق ولا يصدق في أنه جهل ذلك ولم يرد به الطلاق، وهو معنى قوله: أينفعه ذلك، يريد أنه لا يصدق فيه إذا ادعاه ولم يأت مستفتيا. وقد قيل: إن من لفظ بالطلاق لزمه الطلاق وإن لم يرد به الطلاق، ولا اختلاف بينهم في أن للحالف ما نوى فيما بينه وبين الله تعالى، ولو نوى الذي شرط لامرأته أن لا يتسرر عليها بلفظة التسرر التي لفظ بها الحمل دون الوطء لكانت له نيته فيما بينه وبين الله تعالى قولا واحدا، والله أعلم، ومعنى المسألة أن الشرط كان بتمليك، ولذلك حصل الاختلاف فيها على الوجه الذي ذكرته، وأما لو كان بطلاق أو عتق لصح تنظيرها بالطلاق ولما وسع فيها الاختلاف، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتزوج المرأة ويشترط لها أن كل امرأة يتزوجها عليها فأمرها بيدها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتزوج المرأة ويشترط لها أن كل امرأة يتزوجها عليها أو يتسرر عليها إلا برضاها فأمرها بيدها، فأذنت له أن يتزوج عليها أو يتسرر وأنه من ذلك في سعة قال: ما يعجبني ذلك إلا أن يكون ذلك عندما يريد أن يفعل في كل ما يريد، فقيل له: إنها قد وسعت عليه، قال: لا يعجبني إلا عندما يريد أن يفعل، قال ابن القاسم وسمعته غير سنة ثبت على هذا القول.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة والاختلاف فيها في أول رسم من هذا السماع، فلا معنى لإعادته هنا، وبالله التوفيق.(4/335)
[مسألة: ينكح المرأة ويشترط في صداقها إن لم يأت به إلى أجل فأمرها بيدها]
مسألة وسئل عن الرجل ينكح المرأة ويصدقها صداقا ويشترط في صداقها إن لم يأت به إلى أجل فأمرها بيدها، فإن هذا نكاح ليس بحسن، وأراه مفسوخا، فقيل له: أينفسخ الشرط ويثبت النكاح؟ فقال: لا ولكن يفسخ النكاح، أشهب يقول: يفسخ الشرط ويثبت النكاح، وسحنون يقول: النكاح جائز دخل أو لم يدخل، وهو قول المدنيين والتونسيين.
قال محمد بن رشد: قوله: ولكن يفسخ النكاح، يريد قبل الدخول ويثبت بعده، كذلك قال ابن القاسم في رسم باع شاة من سماع عيسى، ورواه عن مالك في كتاب ابن المواز، وإذا ثبت بعد الدخول بطل الشرط وكان فيه الصداق المسمى، وقول أشهب يفسخ الشرط ويثبت النكاح يريد قبل النكاح وبعده بالصداق المسمى، وقول سحنون: النكاح جائز دخل أو لم يدخل، يريد والشرط لازم، ومثله روى أشهب عن مالك، وقد روى مثله عن ابن القاسم وأشهب، وهو أظهر الثلاثة الأقوال لأنه تمليك انعقد عليه النكاح قد لا تطلق المرأة نفسها إن لم يأت بالصداق فلا يشبه ذلك الخيار في النكاح بقوله إن لم يأت بالصداق إلى أجل كذا وكذا فلا نكاح بينهما، وإنما يشبهه لو قال: إن لم يأت بصداقها إلى أجل كذا وكذا فهي طالق، وليس ذلك بشبه بين، وإنما كرهه من كرهه مخافة الذريعة إلى ذلك، فكأن المرأة قالت له لا أتزوحك إلا على أنك إن لم تأتني بصداقي إلى أجل كذا وكذا فلا نكاح بيني وبينك، فلما قيل لهما: إن ذلك لا يجوز، قال: فأنا أتزوجك على أني إن لم آت بصداقك إلى ذلك الأجل فأمرك بيدك، أو: فأنت طالق، فمن قويت الكراهة في ذلك عنده فسخ النكاح قبل الدخول، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك ولم يفسخه بعد الدخول، ومن ضعفت عنده الكراهة في ذلك أجاز العقد وأبطل الشرط وهو قول أشهب.(4/336)
[مسألة: امرأة تزوجها رجل فأسكنها مع أبيه وأمه فشكت الضرر في ذلك]
مسألة وسئل مالك عن امرأة تزوجها رجل فأسكنها مع أبيه وأمه فشكت الضرر في ذلك فقال: ذلك له أن يسكنها معهم، فقيل له: فإنه يقول: إن أبي أعمى، ولا أغلق دوني ودونه بابا، قال: ينظر في ذلك فإن رئي ضرر، كأنه يقول: إن رئي ضرر أن يحولها عن حالها.
قال محمد بن رشد: وكذلك ليس له أن يسكن معها أولادا له من امرأة أخرى في بيت واحد ولا في دار واحدة، إلا أن ترضى بذلك، قاله في سماع سحنون من كتاب طلاق السنة، وذلك لما عليها في ذلك من الضرر لاطلاعهم على أمرها وما تريد أن تستر به عنهم من شأنها، وأمر الأعمى أخف في ذلك؛ إذ لا يبصر شيئا من أمورها، وقد «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس: اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» فأوقف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أمر الأعمى على النظر وحمله على غير الضرر حتى تثبت المرأة أنه يضر بها لأن قوله: فإن رئي ضرر، معناه: فإن ظهر ذلك وثبت وعلم، والله أعلم.
وقال ابن الماجشون في المرأة تكون هي وأهل زوجها في دار واحدة، فتقول: إن أهلك يؤذونني فأخرجهم عني، أو أخرج عنهم: رب امرأة لا يكون ذلك لها يكون صداقها قليلا وتكون وضيعة القدر، ولعله أن يكون على ذلك تزوجها وفي المنزل سعة، فأما ذات القدر واليسار فلا بد له أن يعزلها، وإن حلف ألا يعزلها حمل على الحق، أبره ذلك أو أحنثه، وليس قول ابن الماجشون عندي بخلاف لمذهب مالك، فمن لا يشبه حالها من النساء أن يسكنها زوجها في دار على حدة وله أن يسكنها في دار جملة فليس لها على زوجها أن يخرج أبويه عنها إلا أن يثبت إضرارهما بها، وستأتي في رسم الطلاق من سماع أشهب من هذا المعنى، والله الموفق.(4/337)
[مسألة: الرجل ينكح بعد رمي الحجارة قبل أن يفيض]
مسألة ومن كتاب أوله من كان منزله دون الميقات قال مالك في الرجل ينكح بعد رمي الحجارة قبل أن يفيض: يفسخ نكاحه بغير طلاق ويكون خاطبا من الخطاب.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن العلة في أن المحرم لا يجوز له النكاح هي أنه لا يحل له النساء، ولا يحل له النساء وإن رمى الجمرة وحل من بعض إحرامه حتى يطوف طواف الإفاضة لقول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في خطبته بعرفة: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم الله عليه، إلا النساء والطيب، لا يمسن أحد نساء ولا طيبا حتى يطوف بالبيت، قال ابن المواز: وكذلك لو نسي من طواف الإفاضة شوطا واحدا فرجع إلى بلاده فنكح، فإن نكاحه يفسخ ويرجع حراما حتى يتم طوافه ويحل، ولو تزوج بعد كمال الطواف وقبل الركعتين فإن كان قريبا بحيث يجب عليه أن يرجع فيتبدئ طوافه، فسخ النكاح، وإن كان قد تباعد جاز ولم يفسخ، ولو تزوج بالقرب فلم يعلم بذلك حتى بعد جرى ذلك على الاختلاف في المريض يتزوج فلا يعلم بذلك حتى يصح، ولا يدخل هذا الاختلاف في المحرم يتزوج فلا يعلم بذلك حتى يحل من إحرامه، وقد حكى الفرق بين الموضعين أبو إسحاق. وأما قوله: إنه يفسخ بغير طلاق، فقد مضى القول فيه في رسم الشريكين، والله الموفق.
تم كتاب النكاح الأول بحمد الله تعالى(4/338)
[كتاب النكاح الثاني]
[العبد يتزوج الحرة فتعتق وتتصدق بغير إذنه ولا مؤامرته بأكثر من الثلث]
كتاب النكاح الثاني(4/339)
من سماع أشهب وابن نافع من مالك رواية سحنون من كتاب الأقضية قال سحنون: قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عن العبد يتزوج الحرة فتعتق وتتصدق بغير إذنه ولا مؤامرته بأكثر من الثلث، قال: ما أرى ذلك لها، وهو زوج بمنزلة الحر، وله حق، ولعله أن يكون زاد لها في المهر لما لها، رجاء أن يتجمل به وأن تعينه في النفقة، ولعله سيعتق يوما من الدهر، قيل: أرأيت إن كان له منها ولد أترى له الكلام في ذلك بأن يقول: تتركين ولدي لا مال له؟ أم لا يكون له إذا لم يكن له ولد؟ فقال: ذلك سواء، إذا كان له منها أو لا ولد له منها، أرأيت الحر يكون له الولد أو لا ولد له أليس سواء في ذلك؟ فالعبد مثله.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب الهبات، وقد احتج مالك للمساواة بين الحر والعبد في هذا بمعان ظاهرة بينة ويؤيدها قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجوز لامرأة قضاء في ذي بال من مالها إلا بإذن زوجها» ، فعم ولم يخص حرا من عبد، فوجب أن يحمل الحديث على(4/341)
ظاهره من العموم لا سيما إذا دلت المعاني على ذلك، ولولي المولى عليه أن يمنع زوجته من أن تعطي أكثر من ثلث مالها، قاله ابن المواز، وقد روى أصبغ عن ابن وهب في سماعه من كتاب المديان والتفليس أن العبد ليس له أن يحجر على امرأته في شيء من مالها بخلاف الحر، وقال: والله ما اجتمع الناس في الحر رأسا فكيف العبد؟ وقول مالك أولى، وحجته أقوى.
[مسألة: المرأة تتزوج الرجل بعبد بعينه فيموت في يده قبل أن تقبضه المرأة]
مسألة وسئل عن المرأة تتزوج الرجل بعبد بعينه فيموت في يده قبل أن تقبضه المرأة، قال: ضمانه منها إذا كانت العهدة قد مضت، وكذلك الذي يشتري العبد ثم يموت في يد البائع قبل أن يقبضه المشتري فضمانه من المشتري إن كانت العهدة قد مضت، ولو نما العبد كان لها فكذلك إذا مات يكون عليها، قيل له: أرأيت أنه لو دفع إليها العبد فمات عندها ثم طلقها من قبل أن يمسها أيرجع عليها بنصف قيمة العبد يوم دفعه إليها؟ قال: أحر بذلك، قال أشهب: لا ترجع بشيء إذا مات، قال ابن نافع مثله، وهو قول مالك.
قال محمد بن رشد: رأى مالك في رواية أشهب هذه في العبد المنكح به العهدة خلاف قول ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب العيوب، وظاهره في كتاب الزكاة الأول والنكاح الثاني من المدونة، وجه القول الأول القياس على البيوع بأن يجعل الصداق ثمنا للبضع، ووجه القول الثاني أن النكاح طريقه المكارمة لا المكايسة وأن الصداق ليس بثمن للبضع على الحقيقة، وإنما هو نحلة من الله أوجبه للزوجات على أزواجهن لا عن عوض، لأن المباضعة بينهما واحدة فهي تستمتع به كما يستمتع بها، وأما قوله: إن ضمانه من المرأة وإن مات بيد الزوج قبل أن تقبضه فالمعنى في ذلك أن له أن يدخل بها وتكون مصيبة منها، وهذا ما لا أعلم فيه اختلافا في المذهب،(4/342)
فهو يقضي بصحة قول من قال: إن لها جميع الغلة من يوم تزوجها طلقها أو لم يطلقها، ويكون الزوج إن طلقها مستحقا لنصف الصداق يوم طلقها بالطلاق فلا يكون له من غلة ما مضى شيء خلاف ما ذهب إليه ابن القاسم من أن الغلة بينهما نصفين من أجل أنه لو مات ثم طلقها كانت المصيبة منها، ورأى مالك في هذه الرواية للزوج على المرأة إن طلقها وقد مات العبد في يديها نصف قيمته فقال: أحر بذلك، وكذلك يلزم على طرد قوله: وإن مات بيده قبل أن تقبضه وإن كان ذلك لا يوجد لهم، ويأتي ذلك أيضا على القول بأن المرأة يجب لها جميع الصداق المسمى بالعقد ويسقط نصفه بالطلاق وجميعه بالارتداد، ويأتي مذهب ابن القاسم في أن الغلة بينهما على قياس قول من يقول: إن المرأة لا يجب لها بالعقد من التسمية إلا نصفها ولا تستحق النصف الثاني إلا بالدخول أو الموت، وفي كلا القولين نظر، إذ لو وجبت لها التسمية بالعقد لما سقطت بالارتداد كما لا تسقط به بعد الدخول، ولو لم يجب لها بعد العقد إلا نصفها لما وجب لها النصف بموتها لأن الموت لا يوجب للميت حقا لم يكن واجبا له قبل، والذي يصح أن يعبر به في ذلك أن يقال: إن التسمية تجب لها بالعقد وجوبا غير مستقر، ويستقر لها نصفها بالطلاق وجميعها بالموت أو الدخول، وبالله التوفيق.
[مسألة: تزوجت أزواجا ولها بالمدينة أولاد فأراد أبوها الارتحال بها معه وأبت]
مسألة وسئل عن امرأة تزوجت أزواجا ولها بالمدينة أولاد فأراد أبوها الارتحال بها معه وأبت ذلك، وقالت: لا أفارق ولدي، فقال: ليس ذلك له أن يخرج بها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنها مالكة لأمر بنفسها فلا حق له عليها في الخروج بها، ولو كانت سفيهة غير مالكة لأمر نفسها لكان له(4/343)
الارتحال معها على معنى ما وقع في سماع أشهب من كتاب المديان والتفليس، وبالله تعالى التوفيق لا رب غيره.
[توفي وترك ابنته مع أمها فتزوجت أمها فأخذتها أم أمها وللجارية عمة]
ومن كتاب الأقضية الثاني وسئل مالك عمن توفي وترك ابنته مع أمها فتزوجت أمها فأخذتها أم أمها وللجارية عمة أخت أبيها فحالوا بينها وبين رسول عمتها فقال: ليس لهم أن يمنعوا رسولها يأتي فيسلم ويعود، وليس لهم أن يمنعوها أن تأتي عمتها فتسلم عليها في الفرط.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن منعها من عمتها ومنع رسول عمتها منها قطع لما أمر الله به من صلة الأرحام، قال عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] أي الأرحام أن تقطعوها، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «اتقوا الله وصلوا الأرحام فإنه أمنى لكم في الدنيا وخير لكم في الآخرة» ، وقد أثنى الله عز وجل على من انتهى إلى ما أمر به من صلتها فقال: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ} [الرعد: 21] الآية، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون له بيت لنفسه وله نساء يأتينه في بيته ولا يأتيهن في بيوتهن]
مسألة وسئل عن الرجل يكون له بيت لنفسه وله نساء تأتيه كل واحدة منهن يومها في ذلك البيت ولا يأتيهن في بيوتهن، فقال مالك: ما أرى ذلك إن أبين أن يطاوعنه، وإن كان ذلك نصفة بينهن، رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأتي أزواجه في بيوتهن.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه واجب أن يقتدي بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(4/344)
في أفعاله كما يجب أن ينتهي إلى أقواله، قال عز وجل: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] ، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ، فيقضى على الرجل أن يسكن كل واحدة من زوجاته في بيت، ويقضى عليه أن يدور عليهن في بيوتهن لا يأتينه إلا أن يرضين، قال ذلك محمد بن عبد الحكم، وهو صحيح على مذهب مالك، وقد روي عن مالك فيمن قال لامرأته: أنت طالق إن وطئتك إلا أن تأتيني: إنه مول إذ ليس عليها أن تأتيه.
[مسألة: تزوجت ابنتها فأرادت الخروج بها لتصلح منها وزوجها بذلك راض]
مسألة وسئل عن امرأة لها بنت، قد تزوجت ابنتها فأرادت أمها الخروج بها تتبدى وتصلح منها، وزوجها بذلك راض ولم يدخل بها بعد، فقالت: فمنعني منها ابن عمها، قال مالك: وكم بين منزلك وبين الموضع الذي تريد أن تتبدي إليه؟ فقالت: ميلان، فقال: ما أرى بذلك بأسا أن يخرج بها إلى المكان القريب وزوجها راض.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على ما في المدونة من أن الأم ليس لها أن تنقل بنيها الذين تحضنهم عن الموضع الذي فيه والدهم أو أولياؤهم إلا إلى الموضع القريب البريد ونحوه حيث يبلغ الأب أو الأولياء خبرهم، فإذا رضي الزوج بإخراجها إياها إلى المكان القريب لم يكن لوليها في ذلك كلام، وقد روي عن مالك أن لها أن تخرج بهم إلى مسافة المرحلة، ثم رجع فقال: لا أرى لها أن تضر بأوليائهم.
[مسألة: رجل كان يأكل من مال امرأته فسكتت ثم بعد ذلك طالبته بذلك]
مسألة وسئل، قال لمالك رجل: إني كنت آكل من مال امرأتي وهي(4/345)
تنظر لا تغير ذلك علي ولا أستأذنها فيه، فأقامت سنين ثم قالت: أعطني ما أكلت من مالي، ودخلتها غيرة، أترى ذلك علي؟ قال: نعم أعطها أو استطب نفسها.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على قياس قوله في المدونة في كتاب النكاح الثاني في التي أنفقت على زوجها ثم طلبته بما أنفقت عليه، أن ذلك لها إلا أن يرى أنه كان منها له على وجه الصلة لأنه إذا كان لها أن تتبعه بما أنفقت عليه هي من مالها، فأحرى أن يكون لها أن تتبعه بما أنفقه هو على نفسه من مالها وهي تنظر ولا تغير، وهو أصل قد اختلف فيه، إذ لا فرق بين أن يأكل مالها وهي تنظر فلا تغيره ولا تنكر، أو يسكن معها في دارها ثم تطلبه بالكراء، وقد اختلف قول ابن القاسم في هذا في المدونة. وإذا وجب لها الرجوع عليه بذلك فبعد يمينها أنها إنما سكتت على أن تطلب بحقها في ذلك، ومن هذا المعنى هبة أحد الزوجين صاحبه إذا ادعى أنه أراد بها الثواب، وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا ثواب له إلا أن يرى أنه أراد بذلك الثواب، وهو قول مالك في المدونة، والثاني: أنه لا ثواب له إلا، أن يشترطه، وهو ظاهر قول ربيعة فيها، وقول مالك الذي يتلوه لقول سحنون وقال مالك والليث مثله، والثالث: أن له الثواب وإن لم يظهر ما يدل على أنه أراد بذلك الثواب، حكى هذا القول عبد الوهاب في المعونة.
[المرأة يقضى لها بصداق نسائها أيقضى لها بصداق أمهاتها أو عماتها]
ومن كتاب الطلاق قال: وسألته عن المرأة يقضى لها بصداق نسائها أيقضى لها بصداق أمهاتها أو عماتها؟ قال: لا يقضى لها بصداق واحدة منها، إنما يقضى لها بصداق مثلها على مثل حالها في زمانها الذي هي فيه، أين صداق النساء اليوم من صداق من مضى؟ كانت المرأة صداقها قبل اليوم أربعمائة درهم، وصداقها اليوم عشرون درهما.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك أن يعتبر في فرض صداق المثل في(4/346)
نكاح التفويض بصدقات نسائها إذا كن على مثل حالها من العقل والجمال والمال، فلا يكون لها مثل صداق نسائها إذا لم تكن على مثل حالها، ولا مثل صداق من لها مثل حالها إذا لم يكن لها مثل نسبها، والدليل على ذلك من مذهبه قوله في المدونة: ولكن ينظر إلى أشباهها في قدرها وجمالها وموضعها أي موضعها من النسب، فاشتراط الموضع يدل على أنه أراد بقوله فيها: لا ينظر في هذا إلى نساء قومها أنه لا يفرض لها مثل صدقات نساء قومها إذا لم تكن على مثل حالها من المال! والجمال والعقل، فالاعتبار عنده بالوجهين جميعا، إذ قد تفترق الأختان في الصداق كما قال فيها بأن تكون إحداهما لها المال والجمال والشطاط، والأخرى ليس لها شيء من ذلك، فمعنى قوله في هذه الرواية: لا يقضى لها بصداق واحدة منها يريد إذا لم تكن على مثل حالها وفي زمانها أيضا إذ قد تختلف الصدقات باختلاف الأزمنة على ما قال، وقد تأول بعض الناس على مالك أنه إنما ينظر إلى أمثالها من النساء في جمالها ومالها وعقلها ولا ينظر إلى نساء قومها، وليس ذلك بصحيح على ما بيناه من مذهبه في المدونة، ونساء قومها اللواتي يعتبر بصداقهن أخواتها الشقائق وللأب وعماتها الشقائق أيضا وللأب، ولا يعتبر في ذلك بصدقات أمهاتها ولا خالاتها ولا أخواتها للأم ولا عماتها للأم، لأنهن من قوم آخرين، فقد تكون هي قرشية يرغب فيها لنسبها وتكون أمهاتها وأخواتها للأم وعماتها للأم من الموالي، والأصل في الاعتبار بنساء قومها في ذلك «حديث عبد الله بن مسعود روي أنه أتي إليه في امرأة توفى عنها زوجها ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها فترددوا إليه فلم يفتهم، فلم يزالوا به حتى قال: إني سأقول فيها برأي، أرى لها صداق نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان فشهد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في بروع بنت واشق الأشجعية بمثل(4/347)
ما قضيت، ففرح بذلك عبد الله» . ومن الناس من يعتبر نساء قومها دون حالها هي، حكى ذلك الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي، وهو بعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلب المرأة أن تزوج من كفؤ ووليها غائب]
مسألة وسمعته كتب إلى ابن غانم يقول: وسألت عن المرأة ترفع إليك أنها تريد التزويج فتسألها هل لها ولي فتذكر أن لها عمها أو أخاها أو ابن عم على مسيرة الثلاث أو الأربع أو أكثر من ذلك في شأنه وضيعته لا يقدم القيروان، وتسألك أن تزوجها رجلا كفؤا يقول: وربما كان ولي المرأة مولاها الذي أعتق أبوه أباها هل ينزل منزلة الأخ والعم وإني أرى إذا كان أمرها على ما وصفت من حالها وغيبة ولاتها وكفاءة من تدعو إليه أن تزوجها ولا يضرها عندك غيبة ولاتها الذين وصفت فالسلطان ولي مثلها، وهو أحد الولاة الذين سمى عمر بن الخطاب عنه لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة صحيحة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة في أن حديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان معناه عنده الترتيب في الاختيار لا في الوجوب؟ لأنه يقول: إن أولياء المرأة أحق بإنكاحها من ذوي الرأي، وذو الرأي أحق من السلطان، ومن قرب من الأولياء أحق ممن بعد. فإن زوج البعيد دون القريب مع حضوره أو من هو من ذوي الرأي منها دون الولي مع حضوره، أو السلطان دون الأولياء مع حضورهم مضى النكاح، ولم يكن للأقرب أن يرده، ويأتي على مذهب من حمل حديث عمر على الترتيب في الوجوب ورأى للولي الأقرب إذا زوج الولي الأبعد الخيار في(4/348)
رد النكاح أو إمضائه على ما حكى سحنون في المدونة عن جماعة من الرواة أن لا يكون للسلطان أن يزوج المرأة في مغيب أوليائها إذا كانت غيبتهم قريبة على الثلاث والأربع ونحو ذلك حتى يعذر إليهم بمنزلة الإعذار في الحقوق، وبالله التوفيق.
[مسألة: خطبها ولها بنت صغيرة فتزوجها وهو يعلم ثم أمرها بإخراج ابنتها]
مسألة وسئل مالك عن امرأة خطبها رجل ولها بنت صغيرة لم تل نفسها فتزوجها وهو يعلم ذلك ثم بنى بها وابنتها معها ثم قال لها بعد: أخرجي ابنتك عني، أترى ذلك له؟ قال: ما أرى ذلك له.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله، أنه إذا تزوجها وهو يعلم بابنتها ثم بنى بها وهي معها، فليس له أن يخرجها وإن كان لها من أوليائها من يحضنها، والوجه في ذلك أنه لما بنى بها وهي معها فقد رضي ألا يخرجها عنها، ولو لم يعلم بها أو علم بها وأبى في البناء عليها وهي معها لكان له ألا تكون معه إذا كان لها من أوليائها من يحضنها، فسواء علم بها أو لم يعلم ليس له أن يحول بينها وبن أمها للضرورة إلى ذلك، وهي امرأته إن شاء أمسك على أن تكون ابنتها معها وإن شاء طلق، هذا الذي ينبغي أن يحمل عليه قول مالك، والله أعلم، قال ابن الماجشون في الواضحة: علم أنه معها فأراد إخراجه من بيتها وأبت الأم، فله ذلك إن كان له أب أو ولي من رجل أو امرأة تأخذه إلى نفسه، وإن لم يكن له أحد فليس له أن يخرجه، وعلى ذلك نكح، فأما قوله: إنه إن علم بها فله أن يخرجها من بيته فوجهه أنه لم يجعل بناءه عليها وهي معها رضى منه باستمرار كونه معها، وأما قوله: فإن لم يكن له أحد فليس له أن يخرجه وعلى ذلك نكح فيدل على أنه لو لم ينكح على ذلك لكان له ألا يكون معه وإن لم يكن له أحد يأخذ لنفسه ويؤويه إليه، وهو بعيد جدا، والله أعلم، وقد مضى في رسم المحرم القول في تسكين الرجل مع زوجته بنيه من غيرها أو أبويه، وبالله التوفيق.(4/349)
[مسألة: الرجل يرضي إحدى امرأتيه بالنفقة وغير ذلك دون الأخرى]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن الرجل يرضي إحدى امرأتيه بالنفقة يعطيها إياها وغير ذلك مما يرضيها في يومها الذي هو لها فيكون فيه عند امرأته الأخرى، فقال: إن الناس ليفعلون ذلك، فقيل له: أتكره هذا أنت؟ فقال: غيره أحب إلي منه.
قال محمد بن رشد: قد سئل في هذا الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب طلاق السنة عن المرأة تشتري من صاحبتها يومها من زوجها، فقال: ما يعجبني هذا، وإني لأكرهه، أرأيت لو اشترت منها شهرا أو سنة؟ وإني لأرجو أن تكون الليلة خفيفة، فظاهر قوله أنه فرق في الليلة الواحدة بين أن يكون الرجل هو المشتري لها من امرأته أو تكون صاحبتها هي التي اشترتها منها فجعل شراء المرأة من صاحبتها الليلة أشد في الكراهة، فيحتمل أن يكون المعنى المفرق بينهما عنده أن المرأة لا تدري ما يحصل لها بما أعطت من الاستمتاع بزوجها، إذ قد يصيبها في تلك الليلة وقد لا يصيبها، والرجل يدري ما يحصل له من الاستمتاع بما أعطى إذ هو مالك للإصابة إن شاء أصاب وإن شاء لم يصب، وأما شراء المدة الطويلة فالكراهة فيها بينة من كل واحد منهما لأنه غرر إذ لا يدري كل واحد منهما هل يعيش إلى تلك المدة هو أو الذي اشترى الاستمتاع به، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل قال إن تزوجت فلانة فهي طالق]
مسألة وسئل عن رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فتزوجها فطلقت عليه، أتطلق عليه إن تزوجها بعد ذلك أيضا؟ قال: لا تطلق عليه.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة على أصله في المدونة وفي غير ما. مسألة من العتبية من كتاب النذور ومن كتاب الأيمان بالطلاق ومن كتاب العتق حاشا مسألة الوتر الواقعة في رسم ليرفعن أمرا إلى السلطان من سماع(4/350)
ابن القاسم من كتاب النذور، وقد مضى من القول على ذلك هناك ما فيه كفاية لمن تأمله، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: المساواة بين الزوجات]
مسألة وقال لي مالك: سمعت أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان، فإذا كان يوم إحداهما لم يشرب من بيت الأخرى، إنما سمعت ذلك وما أدري ما حقه؟.
قال محمد بن رشد: وجاء عنه أنهما توفيتا معا في الوباء الذي أصابهم بالشام فدفنتا في حفرة واحدة فأسهم بينهما أيتهما تقدم في القبر، وإنما كان يفعل ذلك تحريا للعدل والمساواة بينهما من غير أن يكون ذلك واجبا عليه، لا بأس على الرجل أن يتوضأ من ماء المرأة من زوجاته ويشرب من بيتها الماء ويأكل من طعامها الذي ترسل إليه في يوم غيرها من غير أن يتعمد بذلك ميلا وأن يقف ببابها، فيتفقد من شأنها ويسأل عن حالها ويسلم من غير أن يدخل عليها أو يجلس عندها، روي «عن أم سلمة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان عند بعض أزواجه في يومها يطوف على سائر أزواجه قائما ولا يجلس، قالت: فوقف علي يوما وأنا أطبخ قدرا فيها لحم، فقال: "ماذا تطبخين يا أم سلمة في هذه القدر؟ "، فقلت: يا رسول الله لحما أفلا أناولك منه؟ قال: "بلى"، وجلس على العتبة قالت: فناولته فأكل منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء المؤذن فقام فصلى ولم يمس ماء» .
[مسألة: امرأة ابن أخيه أرضعت بلبنه جارية ثم تزوجها]
مسألة وسئل فقيل له: إن امرأة ابن أخي أرضعت بلبنه جارية ثم تزوجها، فقال: أفي الصغر؟ فقال له: نعم، فقال له: أرى نكاحها(4/351)
مفسوخا، لأن لبن الفحل يحرم، وهذا لبن الفحل، فالرضاعة تحرم ما تحرم الولادة، وما أرى نكاحك إلا مفسوخا، وأما إذا تزوجت فارجع إلي إن شئت.
قال محمد بن رشد: لبن الفحل يحرم عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، ولا اختلاف فيه بين أحد من فقهاء الأمصار «لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة في عمها أفلح أخي القعيس: إنه عمك فليلج عليك» ، بعد أن قالت له: يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل - تعني بالمرأة زوجة أبي القعيس - لأنها لما أرضعتها بلبنه صار أبا لها من الرضاعة وصار أخوه أفلح عما لها من الرضاعة، وقد كانت عائشة لا ترى لبن الفحل يحرم، فكان يدخل عليها من أرضعه بنات أخيها وبنات أختها ولا يدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها، فرأى ذلك طائفة من العلماء، منهم ابن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، والنخعي، وأبو قلابة علة في حديثها إذ لا يمكن أن تخالف ما روت عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لغير حجة علمتها، ولم ير مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذلك علة في حديثها إذ قد يمكن أن تكون خالفته لتأويل لا يلزم اتباعها عليه، إلا أن من مذهبه مراعاة الخلاف إذا قوي، فأراد، والله أعلم، بقوله للسائل: وأما إذا تزوجت فارجع إلي إن شئت، أن يسأله كم أرضعت الجارية؟ وهل كان رضاعها في الحولين أو بعد الحولين؟ إذ قد قال جماعة من العلماء: لا تحرم المصة ولا المصتان، على ما روي في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقال جماعة منهم أيضا: إنه لا يحرم من الرضاع ما كان بعد الحولين وإن قرب، ولم يكن قبل ذلك فصال، فلو اتفقت هذه الأسباب لم يفرق بينهما، والله أعلم، لأن الخلاف كان يقوى في المسألة لدخوله فيها من وجوه شتى، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة المستخلفة على يتيمة هل تعقد لها النكاح]
مسألة وسألته عن المرأة المستخلفة على يتيمة أليس هي لا تعقد(4/352)
النكاح ولكنها تستخلف رجلا يكون هو الذي يعقده؟ فقال لي: بلى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن كل من لا يجوز أن يكون وليا للمرأة من امرأة وعبد أو نصراني، فلا يجوز لهم إذا استخلفوا على امرأة أن يلوا العقد عليها، وإنما يجوز لهم أن يلوه على من استخلفوا عليه من الذكور، وقد مضى القول على هذا مشروحا بينا في رسم سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: تزوج امرأة فنقدها صداقها فيقول أهلها لا تدخل حتى نسمنها ونحسن إليها]
مسألة وسئل عمن تزوج امرأة فنقدها صداقها وقال: أدخلوها علي، فيقول أهلها: حتى نسمنها ونحسن إليها، ألزوجها أن يدخل عليها من ساعتها وقد أعطاهم صداقها؟ فقال: الوسط من ذلك، ليس له أن يقول: أدخلوها علي الساعة، ولا لهم أن يؤخروها عنه، ولكن الوسط من ذلك بقدر ما يجهزونها ويهيئون أمرها، وقد قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] ، وقال لنبيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، ولهم حق وحرمة، فالوسط من ذلك المعروف.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن تعجيل دخوله عليها من ساعته تضييق عليها وإضرار بها وتأخيرها عنه المدة الطويلة حمل عليه وإضرار به، فالوسط من ذلك عدل بينهما، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير الأمور أوساطها» وإذا وجب أن يؤجل الغريم فيما حل عليه من الحق بقدر ما يهيئه وييسره ولا يباع عليه فيه عروضه بالغا ما بلغ في الحين، فالمرأة أولى بالصبر عليها في الدخول بها إلى أن تهيئ من شأنها ما تحتاج إليه في القدر الذي لا يضر بالزوج أن يؤخر إليه.(4/353)
[مسألة: المرأة تشهد لوليها أنها قد ولته أمرها وأمرته بإنكاحها بغير مؤامرتها]
مسألة قال: وسألته عن المرأة تشهد لوليها أنها قد ولته أمرها وأمرته بإنكاحها بغير مؤامرتها إن جاءه كفؤ، فيأتيه من يرضى فيزوجه إياها بأقل من مهر مثلها، فقال: ما هذا من عمل الناس، لا أرى إذا جاء من يرضاه لها أن يزوجه إياها، وهو الذي عليه عمل الناس، ومضوا عليه، قال سحنون: وإذا فوضت إليه إنكاحها ممن رآه ورضيه فأنكحها ممن رأى بغير مؤامرتها، فالنكاح لها لازم، بكرا كانت أو ثيبا.
قال محمد بن رشد: أما إذا زوجها بأقل من صداق مثلها فلا يلزمها النكاح باتفاق إلا أن ترضى به، وأما إذا زوجها بصداق مثلها فقيل: النكاح لها لازم لا خيار لها فيه لأنها قد فوضت إليه أن يزوجها ممن رآه، وهو قول سحنون، وقيل: لا يلزمها ولها أن تدفعه إن شاءت وترضى به إن شاءت، قرب الأمر أو بعد، وهو قول مالك، والقولان في المدونة، قال ابن حبيب: وإنما يجوز لها الرضى به إذا كان ذلك بحدثان العقد، فإن لم يكن بحدثانه فالنكاح مفسوخ، ولا يجوز لها أن ترضى به إلا أن يجدد نكاحا جديدا بعد فسخ الأول على قياس المشهور من قولهم في الولي يزوج وليته الغائبة قبل أن يستأمرها، وليس بصحيح لأنهما مسألتان، والفرق بينهما بين. وسيأتي القول على هذا في رسم الجواب من سماع عيسى إن شاء الله، ولو زوجها من نفسه إذا فوضت إليه أن يزوجها ممن شاء لم يلزمها النكاح إلا أن تشاء، قاله في المدونة، ولا اختلاف في ذلك إن شاء الله.
[النصراني يختن ابنا له فيدعو في دعوته مسلمين أو مسلما]
ومن كتاب الأقضية الثالث قال: وسئل عن النصراني يصنع صنيعا فيختن ابنا له فيدعو في دعوته مسلمين أو مسلما، أترى أن يجيبه؟ فقال: إن شاء جاء، ليس عليه في ذلك ضيق، إن جاء فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: معنى قوله: إنه لا إثم عليه في ذلك ولا حرج إن(4/354)
فعله، وذلك إذا كان له وجه من جوار أو قرابة أو ما أشبه ذلك، والأحسن أن لا يفعل لا سيما إذا كان ممن يقتدى به؛ لما في ذلك من التودد إلى الكفار، وقد قال الله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الآية.
[مسألة: تدخل جارية الزوجة أو الولد على الرجل في المرحاض]
مسألة وسئل، فقيل له: أليس واسعا أن تدخل جارية الزوجة أو الولد على الرجل في المرحاض فقال مالك: لا، ما في ذلك من سعة، قال عز وجل: {أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] .
قال محمد بن رشد: يريد من أجل أن الرجل يتجرد في الخلاء، ولا يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلا إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من ذوات محارمه، وقد أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يستأذن للرجل على أمه، وقال للسائل عن ذلك: «أتحب أن تراها عريانة» ، وقد قيل: إنه لا يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلا إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من المرأة، وهو بعيد يلزم عليه ألا ييمم النساء الرجال الأجنبيين إلا إلى الكوعين، وهذا ما لا يوجد في شيء من مسائلنا، وإن كان ذلك ظاهر قول الله عز وجل لأنه قال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] ، كما قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] ، فالمعنى في ذلك: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن عما لا يحل لهن من النظر فيه، وقد بينت ذلك السنة، وذلك «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس: اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين(4/355)
ثيابك عنده» ، فلولا أنها في النظر إليه كحكم الرجل في النظر إلى ذوات محارمه لما أباح لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاعتداد عنده، وهذا بين والله أعلم.
[مسألة: رجل يطعم أهله الشعير فتأبى ذلك عليه وتقول لا آكل إلا الحنطة]
مسألة وسئل عن رجل يطعم أهله الشعير فتأبى ذلك عليه وتقول: لا آكل إلا الحنطة، أترى ذلك له عليها؟ فقال: نعم، أرى ذلك له عليها إذا كان الناس قد أكلوا الشعير، فأما إذا كان القمح كثيرا موجودا وكان واجدا فإني أرى أن يعطيها القمح.
قال محمد بن رشد: في قوله: وكان واجدا، دليل على أنه لو لم يكن واجدا وعجز عن أن يعطيها القمح لكان له أن يعطيها الشعير، وإن كان القمح كثيرا موجودا بالبلد هو جل قوتهم به، خلاف ما في رسم الكبش في سماع يحيى من كتاب طلاق السنة من قوله فيه: وليس له أن يخصها بما لا يحتمله أهل بلدها، وجه رواية أشهب هذه هو أنه الذي يدل عليه قول الله عز وجل: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ، إذ قد علم أن الرجل لا يطعم أهله إلا ما يجد ويقدر عليه، ووجه رواية يحيى أن الزوجين قد دخلا من الإنفاق على عرف البلد، فكما لا يكون للزوجة أن تأخذ الزوج بالحنطة إذا قدر عليها وأهل البلد يأكلون الشعير، فكذلك لا يكون للزوج أن يعطي الزوجة الشعير إذا عجز عن الحنطة وأهل البلدة لا يأكلونها.
[مسألة: الرجل يتهم ختنته بإفساد أهله عليه فيريد أن يمنعها من الدخول عليها]
مسألة وسئل عن الرجل يتهم ختنته بإفساد أهله عليه فيريد أن يمنعها من الدخول عليها، قال: ينظر في ذلك، فإن كانت مسيئة(4/356)
منعها بعض المنع ولا كل ذلك، وإن كانت غير مسيئة لم تمنع من الدخول على ابنتها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ إنها إذا كانت مسيئة منعت من كثرة التكرر بالدخول إليها للضرر الداخل بذلك على الزوج ولم تمنع من الدخول جملة لما في ذلك من قطع صلة الرحم، وإذا لم تكن مسيئة لم تمنع من شيء، وهي محمولة على غير الإساءة حتى تثبت إساءتها، وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي يكون بينه وبن ختنه أخي امرأته كلام فيمنعه من الدخول على أخته]
مسألة وسئل عن الذي يكون بينه وبن ختنه أخي امرأته كلام، فيمنعه من الدخول على أخته، فقال: ما أرى أن يمنع، لم يمنع؟ قلت له: أليس له أن يدخل؟ قال: بلى له أن يدخل، ورواها عبد الرحمن بن أشرس عن مالك هكذا.
قال محمد بن رشد: وهذا على ما قال، إنه ليس له أن يمنع أخا امرأته من صلتها بالدخول عليها وتفقد شأنها لما كان بينه وبينه من الكلام إلا أن يتهمه بإفسادها عليه ويبين ذلك فيمنع بعض المنع لا كل المنع كالكلام في المسألة التي فوقها.
[هل تخرج الجارية المملوكة متجردة]
ومن كتاب الأقضية قال: وسئل مالك: أيكره أن تخرج الجارية المملوكة متجردة؟
فقال: نعم وأضربها على ذلك.
قال محمد بن رشد: يريد بمتجردة: مكشوفة الظهر أو البطن، وأما خروجها مكشوفة الرأس فهو سنتها لئلا تتشبه بالحرائر اللواتي أمرهن الله بالحجاب وأن يدنين عليهن من جلابيبهن. وقد رأى عمر بن الخطاب أمة لابنه عبيد الله قد تهيأت بهيئة الحرائر فدخل على حفصة ابنته فقال لها: ألم أر جارية(4/357)
أخيك تجوس الناس وقد تهيأت بهيئة الحرائر، وأنكر ذلك. قال عبد الملك في الواضحة: وما رأيت بالمدينة أمة تخرج، وإن كانت رائعة إلا وهي مكشوفة الرأس في ضفائرها أو في شعر مجمم لا تلقي على رأسها جلبابا لتعرف الأمة من الحرة، إلا أن ذلك لا ينبغي اليوم لعموم الفساد في أكثر الناس، فلو خرجت اليوم جارية رائعة مكشوفة الرأس في الأزقة والأسواق، لوجب على الإمام أن يمنع من ذلك ويلزم الإماء من الهيئة في لباسهن ما يعرفن به من الحرائر، والله الموفق، لا رب غيره، ولا معبود سواه.
[مسألة: امرأة أصدقت عبدا ثم دفع إليها وقبضته فباعته ثم طلقها قبل البناء بها]
مسألة وسئل عن امرأة أصدقت عبدا ثم دفع إليها وقبضته فباعته ثم طلقها قبل البناء بها، فبأي شيء يرجع عليها أبنصف قيمته أم بنصف الثمن الذي باعته به أم بماذا؟ فقال: لا أرى له عليها إلا نصف الثمن الذي باعته به إذا باعته بوجه البيع ولم يتبين في بيعه منها محاباة في البيع ولا مداهنة، لا أرى له عليها إذا كان ذلك إلا نصف الثمن الذي باعت به العبد.
قال محمد بن رشد: وهذا على القول بأنه إذا مات ثم طلقها لا يرجع عليها بشيء، وأن الغلة تكون بينهما بنصفين وأنها إن وهبته أو أعتقته تلزمها فيه القيمة يوم وهبت أو أعتقت، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وقول أشهب وابن نافع وروايتهما عن مالك في أول رسم من هذا السماع، وأما على القول بأن لها جميع الغلة وأنها إن وهبته أو أعتقته تلزمها القيمة يوم القبض وهو قول غير ابن القاسم في كتاب النكاح الثاني من المدونة فيلزمها إذا باعته قيمته يوم قبضته، وعلى هذا يأتي قول مالك في أول رسم هذا السماع أمر بذلك في وجوب رجوع الزوج عليها بنصف قيمته إذا مات(4/358)
في يديها ثم طلقها، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل تكون له المرأة الحريصة المبالغة في تأدية حقه]
مسألة وسألته عن الرجل تكون له المرأة الحريصة المبالغة في تأدية حقه، فإذا رأته داخلا تلقته فأخذت عنه ثيابه ونزعت نعليه، ولم تزل قائمة حتى يجلس، فقال: أما تلقيها إياه ونزعها ثيابه ونعليه فلا أرى بذلك بأسا، وأما قيامها فلا أرى ذلك ولا أرى أن يفعله، هذا من التجبر والسلطان، فقلت له: والله ما ذلك من شأنه ولا تشبهه هذه الحال، ولكنها تريد إكرامه وتوقيره وتأدية حقه، وإنه لينهاها عن ذلك ويمنعها منه، فقال لي: كيف استقامتها في غير ذلك؟ فقلت له: من أقوم الناس طريقة في كل أمرها، فقال: تؤدي حقه في غير هذا، فأما هذا فلا أرى أن تفعله، إن هذا من فعل الجبابرة، بعض هؤلاء الولاة يكون الناس ينتظرونه جلوسا فإذا طلع عليهم قاموا له حتى يجلس، فلا خير في هذا ولا أحبه، وليس هذا من أمر الإسلام، فأرى أن تدع هذا وتؤدي حقه في غير ذلك، وليس هذا مثل الذي أخبر الله عنه: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للدابة التي ركب: ما نزلت عنها حتى تغيرت نفسي، قال مالك: ولعمر فضله.
قال محمد بن رشد: القيام للرجل على أربعه أوجه: وجه يكون القيام فيه محظورا، ووجه يكون فيه مكروها، ووجه يكون فيه جائزا، ووجه يكون فيه حسنا، فأما الوجه الذي يكون فيه محظورا لا يحل، فهو أن يقوم إكبارا وتعظيما لمن يحب أن يقام إليه تكبرا وتجبرا على القائمين إليه، وأما الوجه الذي يكون القيام فيه مكروها فهو أن يقوم إكبارا وتعظيما وإجلالا لمن لا يحب أن(4/359)
يقام إليه ولا يتكبر على القائمين إليه، فهذا يكره للتشبه بفعل الجبابرة ولما يخشى أن يدخله من تغير نفس المقوم إليه، وأما الوجه الذي يكون القيام فيه جائزا فهو أن يقوم تجلة وإكبارا لمن لا يريد ذلك ولا يشبه حاله حال الجبابرة ويؤمن أن تتغير نفس المقوم إليه لذلك، وهذه صفة معدومة إلا فيمن كان بالنبوة معصوما، لأنه إذا تغيرت نفس عمر بالدابة التي ركب عليها، فمن سواه بذلك أحرى، وأما الوجه الذي يكون فيه القيام حسنا فهو أن يقوم الرجل إلى القادم عليه من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه، أو إلى القادم عليه مسرورا بنعمة أولاها الله إياه ليهنئه بها، أو إلى القادم عليه المصاب بمصيبة ليعزيه بمصابه وما أشبه ذلك، فعلى هذا يتخرج ما ورد في هذا الباب من الآثار ولا يتعارض شيء منها، من ذلك أنه قال: «من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار ويروى: من أحب أن يستجم» ، ومعناه معنى الأول، وقد رواه بعض الناس: «من أحب أن يستخم له الناس قياما» ، وقال: معناه أن يطول قيامهم له حتى تتغير روائحهم من طول القيام كما يفعل الجبابرة من طول قيام الناس على رؤوسهم، وليس ذلك بصحيح، لأن معاوية بن أبي سفيان راوي الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلم بمعناه، روي «عن أبي مجلز قال: دخل معاوية بيتا فيه عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر، فقام ابن عامر وثبت ابن الزبير وكان أرزنهما فقال معاوية: اجلس يا ابن عامر، فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» وقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعكرمة بن أبي جهل عند قدومه عليه من اليمن فرحا بقدومه عليه مسلما، ورمى عليه رداء فسلم عليه وبايعه، وقام طلحة بن عبد الله بحضرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكعب بن مالك ليهنئه بتوبة الله عليه، فلم ينكر ذلك عليه ولا قام من مجلس النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أحد سواه إليه، فكان كعب يقول: لا أنساها لطلحة، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكره أن يقام إليه فلا يقوم إليه من علم بكراهيته لذلك، روي «عن أنس أنه قال: لم يكن شخص أحب إليهم من(4/360)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك» وروي عن أبي هريرة أنه قال: «كنا نقعد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد بالغدوات فإذا قام إلى بيته لم نزل قياما حتى يدخل بيته» ، فتأويل ذلك أنهم كانوا يفعلون ذلك لما يلزمهم من إكبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتوقيره لقول الله عز وجل: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] قبل أن يعلموا بكراهيته لذلك، وأما ما روي من «قوله للأنصار: قوموا إلى سيدكم» فيحتمل أن يكون إنما أمرهم بذلك تجلة له وإكراما لعلمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لا يحب ذلك منهم، وأنه ليس ممن يتكبر عليهم، وقد قيل: إنه إنما أمرهم بالقيام إليه ليعينوه على النزول من على الحمار الذي أتى عليه لأنه كان مريضا من الجرح الذي كان أصابه، وكان رجلا بدينا، فهو وجه كراهية مالك لقيام المرأة إلى زوجها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يعطي الرجل ابنته ويكتبها له هبة فينفق عليها حتى إذا بلغت أراد أخذها]
مسألة وسئل عن الرجل يعطي الرجل ابنته ويكتبها له هبة فينفق عليها حتى إذا بلغت أراد أخذها فقال: أما الرجل يعطي الرجل ابنته ليس بينه وبينها حرمة يحرم بها عليه نكاحها، فليس ذلك بحسن أن يعطيها غير ذي محرم، فأما ذو حرمة ممن لا تحل له مثل العم والخال ومن لا يحل له نكاحها، فإن ذلك لا بأس به، وإن أراد أبوها أن يأخذها منه لم أر ذلك له إلا على وجه إساءة إليها وضرر، فقيل له: أفيكون للذي وهبت له أن ينكحها بغير رضا أبيها؟ فقال: أرى إنكاحها إلى الذي وهبت له إن كان جعل ذلك بيده إذا دعا إلى سداد، قلت: أرأيت إن مات الأب أله أن ينكح الجارية بغير إذنها فقال: لا، وذلك مثل أن لو جعل ذلك(4/361)
إلى ابنه ثم مات، لم يكن له أن ينكحها إلا بإذنها.
قال محمد بن رشد: كراهيته للرجل أن يهب ابنته لمن لا حرمة بينه وبينها، صحيحة بينة في المعنى، وقد ذهب أهل النظر إلى أن ما في كتاب النكاح الأول من المدونة في مسألة رجال من الموالي يكفلون صبيانا من العرب، يدل على أنه لا كراهية في ذلك، خلاف ما ها هنا وليس ذلك بصحيح لأنه لم يتكلم هناك على ما تكلم عليه ها هنا من جواز الفعل ابتداء، وإنما تكلم في إنكاحها إذا وقعت الحضانة، فقال: أرى تزويجها جائزا عليها، يريد بغير رضاها، والوجه في ذلك أنه أنزله بالحضانة لها في حياة أبيها منزلة الوكيل له على إنكاحها، فلا يحتاج في ذلك إلى رضاها، وذلك خلاف قوله ها هنا؛ إذ لم ير إنكاحها إليه بالهبة والحضانة، إلا أن يكون جعل ذلك إليه نصا، وحكى ابن حبيب مسألة مالك في المدونة في صبيان الأعراب على خلاف ما وقعت في المدونة، فقال فيها: وتكون فيهم الجارية وقد مات أبوها وغاب أهلها، فإن الذي كفلها ورباها أولى بعقد نكاحها لما قد ولي منها، يريد أنه أولى بعقد نكاحها من ولاتها، فأنزله منزلة الوصي بالحضانة، وذلك نحو ما في كتاب القسمة من المدونة أن الرجل تجوز مقاسمته على اللقيط الذي هو في حجره، والمشهور المعلوم في المذهب أن الولي أحق بالإنكاح من الحاضن، وقد جعل ابن العطار مسألة المدونة أصلا بنى عليه فقال: ولا يجوز للكافل أن يزوج ذات الأب وإن كفلها ورباها، إذا كان أبوها بالحضرة إلا أن يكون غائبا فيزوجها الكافل بغير رضاها على نحو ما وقع في المدونة من صبيان الأعراب الذين يدفعونهم إلى من يكفلهم، قال: وكذلك حال أهل البدو عندنا مع أهل الحضر، قال: والكافل والمربي والحاضن في غير ذات الأب كالولي، يريد أن له أن يزوجها برضاها، وذلك من قوله صحيح مثل قوله في آخر هذه الرواية، وقوله: وإن أراد أبوها أن يأخذها منه لم أر ذلك له إلا على وجه إساءة إليها وضرر صحيح، والوجه في ذلك أن هبته إياها له إنما هي هبة حضانته التي له، فإذا وهبها لم يكن له أن يرجع فيها، ووجه آخر أنه إذا وهبه إياها فقد ملكه الانتفاع بها بنفقته عليها فأشبه عقدة الإجارة عليها، وذلك إذا لم يكن لها أم ولا من هو أحق بحضانتها منه، فإن كان لها أم هي(4/362)
معه في عصمته، فروى ابن نافع عن مالك في المدنية أن ذلك لازم لها وإن طلقها إذا لم يرد بذلك ضررها، وكان ذلك منه على وجه المعروف والصلة وطلب الخير، وقال في النكاح الثاني من المدونة: مثل الرجل الفقير المحتاج، خلاف ظاهر ما في المدونة، وأما إن كان لها أم مطلقة فليس ذلك له لأنها أحق بحضانتها منه إلا أن يكون له مال ينفق عليها منه فلا يكون للأم في ذلك كلام إلا أن يشاء أن يخصها وينفق عليها، ونص رواية ابن نافع عن مالك في المدنية قال: سألت مالكا عن الرجل يهب ولده لإنسان، قال مالك: الهبة إنما هي حضانة، فإن كانت أم الولد حية نظر لها في أمره، فإن كان إنما وهبه ضررا لأمه لم يجز ذلك، وإن كان وهبه للنظر وطلب الخير والصلة جاز ذلك عليها إذا كانت هبته إياها على وجه المعروف الجائز، ثم إن طلق أمه بعد ذلك لم يكن له أن يأخذه ممن وهبه له، وبالله التوفيق.
[الترغيب في نكاح البكر الولود]
ومن كتاب الطلاق قال: وسمعته يقول: تزوج عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امرأة ثم دخل على حفصة ابنته فرفته ودعت له بالبركة وقالت: أما إنها لا ولد فيها، فقال: ما نكحت إلا للولد، ثم خرج من عند حفصة فأرسل إليها بالطلاق من ساعته، ولم يكن دخل بها.
قال محمد بن رشد: معنى رفته دعت له بالرفاء أي بإتمام الصحبة وحسن العشرة، وهو مأخوذ من رفو الثوب: إذا أصلح ورم ما كان فيه من خلل وفساد، وصواب الكلمة رفأته لأن الفعل مهموز، وإنما كرهها عمر لكونها لا ولد فيها وقال: إنما نكحت للولد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» روي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إني لأتزوج المرأة وما لي فيها حاجة، وأطؤها وما أشتهيها، فقيل له: وما يحملك على ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: رجاء أن يكون مني من يكاثر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النبيين يوم(4/363)
القيامة، فإني سمعته يقول: «عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأحسن أخلاقا وأنتق أرحاما، وإني مكاثر. بكم الأمم يوم القيامة» يعني بقوله، أنتق أرحاما: أقبل للولد.
[مسألة: تزوج امرأة بألف ودخل بها ثم مات فطلبت صداقها]
مسألة وسئل عمن تزوج امرأة بألف دينار ودخل بها وأقام معها نحوا من ثمانية أشهر ثم مات، فطلبت صداقها، هل ترى اليمين على ورثته؟ فقال: أرى على ورثته أن يحلفوا ما نعلم بقي لها عليه صداق حتى مات، قال: وليس يدخل النساء على أزواجهن إلا بالرضى من مهورهن.
قال محمد بن رشد: أوجب اليمين على الورثة في هذه الرواية على العلم وإن لم تدع ذلك المرأة عليهم، خلاف ما في كتاب النكاح الثاني من المدونة من أنهم لا يمين عليهم إلا أن تدعي عليهم العلم، وخلاف ما في كتاب بيع الغرر منها في مسألة التداعي في وقت موت الجارية الغائبة المشتراة على الصفة إن كان قبل الصفة أو بعدها، وإنما يجب عليهم اليمين إذا كانوا ممن يظن بهم العلم على ما قال في كتاب العيوب والأقضية من المدونة، فإن نكلوا عن اليمين حلفت المرأة على ما تدعي معرفته من أنها لم تقبض صداقها وتستوجبه لا على أن الورثة علموا أنها لم تقبض، فهذه اليمين ترجع على غير ما نكل عنه الورثة، ولها مظاهر كثيرة، فيختلف في لحوق هذه اليمين للورثة لأنها يمين تهمة إذا لم تحقق الزوجة عليهم الدعوى على ما ذكرناه، ولا يختلف في رجوعها على الزوجة لمعرفتها بما تحلف عليه كما يختلف في رجوع يمين التهمة، وبالله التوفيق.
[مسألة: زوج وليته صغيرة لم تبلغ المشورة في نفسها]
مسألة وسئل عمن زوج وليته صغيرة لم تبلغ المشورة في نفسها فقال:(4/364)
لا يزوجها، قلت له: فإن زوجها فرق بينهما؟ قال: لا أدري، قد زوج بعض الناس هكذا، فإذا تفاوت ووقعت المواريث فلا أدري. قال محمد بن رشد: قد مضى القول مستوفى في هذه المسألة في رسم شك في طوافه، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وسيأتي في الرسم الذي بعد هذا وفي رسم لم يدرك، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد كان لسيده بيده مال فكتب إليه أن اشتر جارية أيصلح له وطؤها]
مسألة قال: وسئل عن عبد كان لسيده بيده مال فكتب إليه أن اشتر جارية أيصلح له وطؤها؟ قال: أما من مال سيده فلا يصلح إلا أن يكون أسلفه ثمنها.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: هبة الرجل لعبده الدني الهيئة العامل في السوق الجارية يطؤها]
مسألة وسألته عن هبة الرجل لعبده الدني الهيئة العامل في السوق الجارية يطؤها، قال: نعم، إن كانت هبته مستقيمة، قلت له: يكون أن يزوجه إياها مخافة أن يبيعه فلا يقدر على نزعها منه، فيقول: أهبها له فإن بدا لي نزعتها منه، فقال: لا يعجبني هذا، يعيره إياها لا، إلا هبة صحيحة، يريد بذلك سروره وولده وإعفافه.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة أيضا قد مضت والقول فيها في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، والمعنى فيها بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: نكحها أن تضع عنه نصف المهر ولا يخرجها من المدينة]
مسألة وسئل مالك عن امرأة نكحت على أربعمائة دينار صداقا على(4/365)
أن تضع له مائتي دينار ولا يخرجها من المدينة، فنكحته على ذلك، ثم أراد إخراجها فطلبت ما وضعت عنه، فقال: إن كان أكثر لها من الصداق ليس ذلك صداق مثلها، فله أن يخرجها ولا ترجع عليه بالذي وضعت عنه من أجل الشرط، وإن كان صداق مثلها فوضعت عنه على أن لا يخرجها من المدينة، فإن له أن يخرجها حيث شاء وعليه أن يرد عليها الذي وضعت عنه من صداقها، يرجع إليها، وله أن يخرج بها حيث شاء، قلت له: إن كان الذي أصدقها أكثر من صداق مثلها فوضعت عنه على أن يسكنها بلدها، فليس ذلك لها، وله أن يخرج بها حيث شاء ولا شيء عليه فيما وضعت عنه، وإن كان الذي أصدقها [فوضعت] صداق مثلها على أن يسكنها بلدها فليس ذلك له، وله أن يخرج بها حيث شاء، ولها عليه ما وضعت عنه من صداق مثلها؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن ما وضعت المرأة في العقد للشرط من صداق مثلها لا يلزمها كما لا يلزمه الشرط، فيكون لها ما وضعت من صداق مثلها وفى لها بالشرط أو لم يف، وهو قول ابن كنانة وروايته عن مالك، ومثله في مختصر ما ليس في المختصر لابن شعبان خلاف رواية علي بن زياد عن مالك في النكاح الثاني من المدونة أن لها أن ترجع فيما وضعت من صداق مثلها بالشرط إذا لم يف لها بالشرط، ومذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أن ما وضع للزوج في عقد النكاح من الصداق على الشرط موضوع عن الزوج، ولا يلزمه الشرط، كان الموضوع من صداق المثل أو زائدا عليه، وقد قيل: إن ما وضعت في العقد من صداقها على الشرط كما وضعت بعد العقد لا تكون له الوضيعة إلا أن يفي بالشرط كان الموضوع من صداق المثل أو زائدا عليه، حكى هذا القول ابن حبيب عن بعض الناس، وقد روي عن مالك(4/366)
أنها إذا وضعت في العقد من صداقها شيئا للشرط سقط الشرط وردت إلى صداق مثلها، والقياس أن يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، ويسقط الشرط، ويكون لها صداق مثلها إلا إن ينقص من المسمى فلا ينقص منه شيء، وكذلك يلزم على قياس هذا القول إذا تزوجها بكذا وكذا على أن لها من الشرط عليه كذا وكذا، والمشهور أن النكاح جائز والشرط غير لازم، ولا اختلاف بينهم فيما وضعت عنه بعد العقد من التسمية، أن الوضيعة إنما تكون له إن وفى بالشرط، ولا اختلاف بينهم أيضا أن ما اشترطت من الشروط في العقد دون تسمية صداق ساقط والنكاح لازم، فإن وقع النكاح دون شرط ثم سمى الصداق على الشرط سقط الشرط ووفيت تمام صداق مثلها إن كانت التسمية أقل من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتزوج المرأة بالعبد ثم يوجد مسروقا وقد دخل بها فيؤخذ منها]
مسألة وسئل عن الذي يتزوج المرأة بالعبد ثم يوجد مسروقا وقد دخل بها فيؤخذ منها، قال: يحال بينه وبينها حتى يعطيها مهرها، وليس مثل الذي يخالع امرأته بالعبد يأخذه ثم يوجد مسروقا؛ لأن الخلع ينقطع به الميراث.
قال محمد بن رشد: قوله: حتى يعطيها مهرها، يريد صداق مثلها، وهو الصحيح في القياس لأن العبد عوض من البضع، فإذا استحق العبد من يد المرأة وجب أن ترجع بقيمة بضعها لفواته بالعقد عليه وقيمته صداق المثل، وإنما كان العقد دون الدخول في النكاح فوتا لما يوجبه من الحرمة، وقد قيل: إنه ليس بفوت، ويفسخ النكاح إذا كان الصداق عرضا بعينه واستحق قبل الدخول، وهو قول يحيى في العشرة، قال: إن المرأة إذا تزوجت بعبد غائب فمات قبل النكاح فسخ، والمشهور في المذهب أنها ترجع بقيمة العبد المستحق من يدها كما يرجع الزوج بقيمته إذا اسحق من يده في الخلع، وما في هذه الرواية هو القياس، وقوله إنه يحال بينه وبينها حتى يعطيها مهرها يحتمل أن يريد أن ذلك من حق الزوجة فإن رضيت أن تتبعه بمهرها وتبيح له التمادي(4/367)
على وطئها، جاز ذلك، ويحتمل أن يريد أنه لا يباح له التمادي على وطئها وإن رضيت بذلك حتى يدفع إليها مهرها من أجل أنه يكره للرجل أن يدخل بامرأته حتى يدفع إليها مهرها أو ربع دينار منه، والتأويل الأول أصح في المعنى، والثاني أظهر من جهة اللفظ، وإليه نحا ابن المواز، وقد قيل: إنه لا يكون ذلك من حقها وله أن يتمادى على وطئها وتتبعه بمهرها دينا ثابتا في ذمته، ووجه القول الأول أنها مغلوبة على الدخول بها بما أعطاها من مهرها، فلما استحق وأخرج من يدها كانت على رأس أمرها كما لو غصبها نفسها قبل أن يعطيها صداقها، فقد روى ابن أبي جعفر الدمياطي عن ابن القاسم أنه يؤدب ويحال بينه وبينها حتى يعطيها صداقها، بخلاف إذا أذنوا له في الدخول عليها ليراها فوطئها. ووجه القول الثاني أنه لما فعل في الدخول بها ما يجوز له ولم يتعد، كان بمنزلة ما لو أذنت له في الدخول عليها، فوجب أن لا يمنع من التمادي على وطئها، وهذا الاختلاف إنما هو عندي إذا لم يغرها بذلك، وأما إذا علم أنه مسروق وغرها فيكون من حقها أن تمنعه من نفسها حتى يعطيها مهرها، على ما قاله بعد هذا في هذا الرسم قياسا على ما قالوا في المكاتب يقاطع سيده على حلي استرفعه أو ثياب استودعها، أنه يرد في الرق ولا يعتق، وما في رسم العشور بعد هذا في مسألة الغرر من أنه إن كان قريبا لم يمنع من أهله وكان ذلك دينا يتبع به معناه عندي أنه لا يمنع من أهله إذا رضيت أن تبيح له التمادي على وطئها على أن تتبعه بمهرها، وقد كان الشيوخ يحملون ذلك على ظاهره من أنه ليس لها أن تمنعه من التمادي على وطئها إذ قد فات الأمر بالدخول بها، وقال ابن المواز: معناه إن بقي بيدها من صداقها ربع دينار فأكثر، وأما إن لم يبق من صداقها بيدها شيء فلها أن تمنعه نفسها حتى يعطيها ربع دينار، وذلك كله بعيد في المعنى، إذ لا فرق بين أن يغرها بما يدفعه إليها مما لا شبهة له فيه وبين أن يغصبها نفسها، وبالله التوفيق.
[مسألة: زوجها غير ولي ابن عم له وأشهدت له على ذلك ووليها قريب يعرفون مكانه]
مسألة قال: وسئل مالك عن امرأة زوجها غير ولي ابن عم له،(4/368)
وأشهدت له على ذلك ووليها قريب يعرفون مكانه، فقال له مالك: أدخل بها؟ فقال: نعم، قال: فالذي تزوجها كفؤ؟ قال: نعم، قال مالك: أرى تدع هذا وتدع الكلام فيه، كانت في الناس حطمة، وتقول: أصابتني الضيعة، وتزوجها كفؤ فلا أرى أن تتكلم في هذا. قال محمد بن رشد: مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية أشهب عنه أن لا يزوج الأجنبي الشريفة ولا الوضيعة، خلاف قول ابن القاسم وروايته عن مالك في أن للمرأة الدنية والمسكينة أن تستخلف رجلا أجنبيا يعقد نكاحها، فرأى إجازة النكاح لما وقع للحطمة التي كانت في الناس وما خشي على المرأة بسبب ذلك من الضيعة على أصله في مراعاة الخلاف، لا سيما وقد اختلف في ذلك قوله، ونحو هذا أيضا في سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: نكح إلى قوم بخادم فأبوا أن يدخلوها عليه حتى يعطيهم الخادم]
مسألة وسئل عمن نكح إلى قوم بخادم فأبوا أن يدخلوها عليه حتى يعطيهم الخادم، فذهب فاستعار خادما فأعطاهم إياها ودخل على امرأته، ثم علموا بذلك فقال: ترد الخادم إلى أهلها ويحال بينه وبين امرأته حتى يعطيها مهرها، وكذلك المكاتب يأتي بحلي استرفعه أو سرقه أو ثياب، فيقاطع سيده، ثم يؤخذ ذلك منه، أيعتق هذا هكذا بالباطل؟ لا يؤخذ الحق بالباطل.
قال محمد بن رشد: لا يختلف في أنه يحال بينه وبينها في هذه المسألة لأنه قد غرها بخلاف المسألة المتقدمة، ويريد بمهرها ها هنا الخادم التي تزوجها عليها على صفة ما وصفوا، ولو تزوجها على خادم بعينها فاستحقت لكان لها صداق مثلها، وقد مضى القول على ذلك قبل هذا في هذا الرسم، ويريد بقوله: إن المكاتب لا يعتق: إذا قاطع سيده بما لا شبهة له في ملكه، أنه يرد مكاتبا كما كان قبل انقطاعه، ولا اختلاف في هذا، وإنما اختلف إذا قاطع(4/369)
سيده بما كان له في ملكه شبهة فاستحق، والقولان في المكاتب من المدونة.
[مسألة: تزوجها على أنها طالق البتة إن خرج بها من بلدها إلا برضاها]
مسألة وسئل عمن تزوج امرأة على أنها طالق البتة إن خرج بها من بلدها إلا برضاها، فخرج يطلب الزرع فأقام هنالك فأطال المقام فتحملت امرأته حتى قدمت عليه، أترى عليه شيئا؟ فقال: نعم، أرى ذلك عليه، هو الذي أخرجها، تركها عارية جائعة لا يبعث إليها نفقة ولا كسوة فأخرجها بذلك، فروجع في ذلك فقال: أرى ذلك عليه، إن شاء بعث إليها بنفقة، قيل له: إلا أن يكون من عذر سجن أو مرض أو حاجة، فقال: أرى ذلك عليه، لو شاء بعث إليها نفقة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في نوازل أصبغ من كتاب الأيمان بالطلاق، وحكى ابن سحنون عن أبيه أنه لا حنث عليه، وقول مالك أظهر لأن اضطراره إياها إلى الخروج إخراج، والحنث يدخل بأقل الوجوه، وأما إذا كان له عذر من مرض أو سجن أو حاجة، فلا يجب أن يحنث، فقوله: أرى ذلك عليه لو شاء بعث إليها نفقة، يريد: إذا لم تكن الأعذار التي ذكرت من السجن والمرض والحاجة، والله أعلم.
[مسألة: يكسب مالا حراما فيتزوج به]
مسألة وسئل عمن يكسب مالا حراما فيتزوج به، أتخاف أن يكون ذلك مضارعا للزنا؟ قال: إني والله لأخافه، ولكن لا أقوله.
قال محمد بن رشد: وجه اتقاء مالك أن يكون فعله مضارعا للزنا هو أن الله تعالى إنما أباح الفرج بنكاح أو ملك يمين، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «لا نكاح إلا بولي وصداق» فنفى أن يكون نكاحا جائزا إلا على هذه الصفة،(4/370)
والمتزوج بمال حرام لم يتزوج بصداق إذ ليس المال الحرام بمال له، فإذا وطئ فيه فقد وطئ فرجا بغير ملك يمين ولا نكاح أباحه له الشرع، وبالله التوفيق.
[مسألة: أحسنا أن يستأمر الرجل ابنته البكر]
مسألة وسئل: أترى حسنا أن يستأمر الرجل ابنته البكر؟ فقال: إن ذلك لحسن، وإن فعل بغير إذنها فذلك له، وإني لأخاف أن يتراقى هذا بالناس في استئذان الأب ابنته البكر حتى يجري بين الناس ويمضي، وإن أخف الشأن أن يزوج ابنته حيث رجا لها النكاح، ولا يجوز عليها أمر ولي غير أبيها إلا بإذنها.
قال محمد بن رشد: استحسانه أن يستأمر الرجل ابنته البكر في النكاح صحيح جيد، إذ من أهل العلم من يرى أنه لا يجوز له إنكاحها إلا بإذنها، فالخروج من الخلاف باستئمارها أولى، وليس صوابا هذا مما يخفى، وبالله التوفيق.
[مسألة: يواعد المرأة في عدتها ثم يتزوجها بعد انقضاء عدتها ويدخل بها]
مسألة وسألته عن الذي يواعد المرأة في عدتها ثم يتزوجها بعد انقضاء عدتها ويدخل بها، قال: أرى أن يفسخ في رأيي وتكون طلقة لما فيه من الشبهة احتياطا، ثم ينكحها نكاحا جديدا، قلت له: أترى هذا مثل الذي ينكح المرأة في العدة ثم يدخل بها فلا يتراجعان أبدا؟ فقال: لا، هذا ينكحها بعد أن يفسخ وإن كان مسها.
قال محمد بن رشد: أوجب الله تعالى العدة في الموت والطلاق حفظا للأنساب وتحصينا للفروج، ونهى عن النكاح فيها وعن المواعدة فقال: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] وقال:(4/371)
{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} [البقرة: 235] وهو التعريض. واختلف إذا واعد في العدة ثم تزوج بعدها، فقيل: إن النكاح يفسخ لأنه بني على المواعدة المنهي عنها وهي رواية أشهب هذه، وقيل: إنه لا يفسخ إذ لم ينعقد في العدة، وهي رواية ابن وهب عن مالك في المدونة لأنه استحب الفسخ فيها ولم يوجبه، واختلف على القول بوجوب فسخه إذا لم يفسخ حتى دخل ووطئ، فقيل: إنها لا تحرم عليه بذلك، وهي رواية أشهب هذه ورواية عيسى عن ابن القاسم في رسم الجواب من كتاب طلاق السنة، وقيل: إنها تحرم عليه، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في رسم الرهون من هذا الكتاب إذا كان الوعد شبيها بالإيجاب. وأما إذا تزوج في العدة فلا اختلاف أن النكاح يفسخ، واختلف هل تحرم عليه للأبد أم لا، على أربعة أقوال: أحدها أنها تحرم عليه بالعقد وإن لم يطأ، حكى هذا القول عبد الوهاب ولم يسم قائله، والثاني أنها لا تحرم عليه إلا بالوطء في العدة وهو قول المغيرة وغيره في المدونة ورواية عيسى عن ابن القاسم في طلاق السنة في رسم الجواب، والثالث أنها تحرم عليه بالوطء، كان في العدة أو بعدها، وهو قول مالك في المدونة وظاهر قول عبد العزيز فيها، والرابع أنها لا تحرم أصلا وإن وطئ في العدة، وهو قول ابن نافع وروايته عن عبد العزيز بن أبي سلمة. وأما القبلة والمباشرة بعد العدة فلا يقع التحريم بها باتفاق، واختلف إذا قبل أو باشر في العدة، فقيل: إن ذلك بمنزلة الوطء فيها يقع بها التحريم، وهو قوله في المدونة وقيل: إن التحريم لا يقع بذلك، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب طلاق السنة، قال: لأن الوطء بعينه فيه من الاختلاف ما فيه، فكيف إذا لم يطأ؟ فهذا تحصيل القول في هذه المسألة.
[مسألة: ينكح وهو مريض هل يقيم على ذلك النكاح إذا صح]
مسألة وسئل عن الذي ينكح وهو مريض، أترى أن يقيم على ذلك النكاح إذا صح؟ فقال: لا أرى ذلك الآن، قلت له: أرأيت لو(4/372)
نكح وهو مريض ثم ماتت أيرثها؟ فقال: لا يرثها ولا ترثه، أنا أقول: ليس ذلك النكاح بشيء فكيف يرثها؟ قال سحنون: هذه الرواية أفضل من رواية ابن القاسم، وسئل عنها سحنون فقال مثله، ورواها أصبغ عن أشهب وقال: هو رأيي لم أزل أقوله وأرد خلافه، وقد ذكره ابن وهب عن مالك وليس رواية ابن القاسم عندي بشيء.
قال محمد بن رشد: قد حكى ابن القاسم عن مالك القولين جميعا في النكاح الثاني من المدونة، وذكر أن الذي رجع إليه منهما أن يثبت النكاح إذا صح وأمره أن يمحو القول الأول، وإياه اختار ابن القاسم، وهو الأظهر، لأن المرض ليس بعلة في فساد النكاح إلا من أجل ما يخشى من الموت، ولو أمكن أن يعلم أنه لا يموت من ذلك المرض ويصح منه لجاز النكاح فيه، فإذا صح كشف الغيب بصحته أن النكاح وقع في حال يصح إيقاعه فيه فوجب أن يجوز، ووجه القول الأول أنه نكاح فسد لوقوعه في حال لا يصح إيقاعه فيه فوجب أن لا يصح بزوال تلك الحال، أصل ذلك المحرم لا يثبت نكاحه وإن لم يعثر عليه حتى حل من إحرامه، والذي يبيع أو يشتري بعد النداء يوم الجمعة لا يثبت بيعه وشراؤه إذا لم يفسخ حتى انقضت الصلاة على القول بوجوب فسخه، وليس ذلك بقياس صحيح لأن العلة ها هنا الإحرام وحضور الصلاة. ألا ترى أنا لا نجيز للمحرم النكاح وإن علمنا أنه سيحل منه ولا لمن تجب عليه الجمعة البيع في وقت صلاة الجمعة وإن علمنا أن الوقت المنهي عن البيع والشراء فيه سينقضي، فبان الفرق بين الموضعين. وأما قوله: إنه لا يرثها، فإنما يأتي على ما اختاره سحنون من أن كل نكاح كان الزوجان فيه مغلوبين على الفسخ فلا طلاق فيه ولا ميراث، وأما على ما اختاره ابن القاسم من أن الطلاق والميراث يكونان في كل نكاح اختلف الناس فيه، فينبغي أن يرثها لأنه نكاح مختلف فيه لا سيما على قوله بأن النكاح يثبت إذا صح، لذهاب العلة بالصحة، لأنها تذهب أيضا بالموت إذ لا يمكن أن ترثه هي بعد الموت، وأما(4/373)
تعليله بأنه لا يرثها من أجل أنها لا ترثه، فليست بعلة بينة إذ قد يطرأ على النكاح المتقرر بين الزوجين ما يمنع أحدهما الميراث دون صاحبه، مثل أن يخالعها في مرضه، والله الموفق.
[مسألة: نكح امرأة في مؤخر المسجد ثم قام فلقيه رجل فقال أنا أكره كتمان ذلك]
ومن كتاب الطلاق قال: وسئل مالك عمن نكح امرأة في مؤخر المسجد ثم قام فلقيه رجل فقال له: كأنكم كنتم على إملاك؟ فقال: لا، فقال: أنا أكره كتمان ذلك، وأحب إلي أن يفشى، ولا أرى عليه في قوله شيئا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن النكاح يستحب فيه الإعلان، وقد استجيز فيه لعلة الإعلان من اللهو ما لا يستجاز في غيره، ومعنى قوله: لا أرى عليه في قوله هذا شيئا؛ أي ليس عليه شيء له تأثير في النكاح؛ لأن عليه فيه إثم الكذب المحرم في الشريعة إلا في مواضع معلومة على وجوه مخصوصة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول له رجل ألك امرأة فيقول لا وله امرأة]
مسألة قيل له: أرأيت الذي يقول له رجل: ألك امرأة؟ فيقول: لا، وله امرأة؟ فقال: لا أرى عليه شيئا إذا كان على هذا الوجه.
قال محمد بن رشد: معنى قوله: لا أرى عليه شيئا؛ أي لا أرى عليه طلاقا، ومثل هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة وفي رسم لم يدرك من سماع عيسى من كتاب العتق، وقال ابن القاسم في سماعه المذكور وعيسى في سماعه المذكور أيضا: إنه يحلف ما أراد بذلك طلاقا، وزاد ابن القاسم: ويؤدب.
[مسألة: الرجل المتزوج باثنين في تحديد نيته أي المرأتين طلق]
مسألة وسئل عمن خطب امرأة وله امرأة كانت أم ولد له فسألوه أن(4/374)
يطلقها فأبى، وأبوا إلا ذلك، فتركهم وأضرب عنهم حتى تزوج امرأة أخرى فصارت له امرأتان، ثم رجع إليهم فخطبها فقالت: لا أتزوجك إلا أن تطلق عني امرأتك، تعني الأولى التي كانت سألته طلاقها، فقال لها: أنا أفعل، فلما قعدوا للإملاك قال: اشهدوا أن امرأتي طالق البتة، إذا ملكت عقدة النكاح هذه، وهو ينوي بذلك المرأة التي نكح أخيرا، ولا يظنون هم إلا الأولى التي كانوا سألوه طلاقها، فلما بلغ القوم أنه لم يطلق عنهم التي كانوا سألوه، وأنه إنما طلق أخرى تزوجها، ناكروه [ذاك] فقال: أما النكاح فلا أرى أن يفسخ ولا أرى ما أراد إلا على ما أراد، فأرى عليه اليمين بالله الذي لا إله إلا هو ما طلق إلا هذه الآخرة، الناس ينوون في مثل هذا، وإنما مثل هذا رجل كانت له امرأة ليس له غيرها، قد علم ذلك قوم، ثم تزوج أخرى لم يعلموا بها فسألوه طلاق امرأته ولا يعلمون له إلا الأولى فقال: امرأتي طالق البتة، فهو ما أراد.
قال محمد بن رشد: جوابه في هذه المسألة على القول بأن اليمين على نية الحالف لا على نية المحلوف له، وهو قول مالك في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، وفي رسم البز من سماع ابن القاسم أيضا من كتاب الأيمان بالطلاق، وهو قول ابن وهب في سماع عيسى وزونان من كتاب الأيمان بالطلاق، وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا حسبما مضى تحصيله في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب النذور وإيجابه اليمين عليه أنه ما طلق إلا هذه على القول في لحوق يمين التهمة، وقد اختلف في ذلك، فإن نكل عن اليمين طلقت عليه دون رد يمين، وقيل: بعد رد اليمين، وأما الأخرى التي زعم أنه أرادها فتطلق عليه على كل حال بإقراره أنه أرادها.(4/375)
[مسألة: المتناكحين صغيرين ينكحهم الأولياء ثم يبلغ فينكر]
مسألة قال: وسئل عن المتناكحين صغيرين، ينكحهم الأولياء، ثم يبلغ فينكر، قال: لا أدري، قيل: أفليس الميراث ثابتا بينهما إذا ماتا؟ فقال: بلى لعمري، وسئل عن الذي يزوج وليته قبل أن تبلغ ثم تبلغ فلا ترضى، قال: أرى أن يفسخ، ولا يجوز له أن ينكحها حتى تبلغ ما يبلغ النساء فيشاورها.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، وتأتي في رسم لم يدرك من سماع عيسى وفي سماع أصبغ، والحمد لله.
[مسألة: تزوج امرأة فأذنت له بالدخول عليها قبل أن يعطيها صداقها]
مسألة وسئل فقيل له: إني تزوجت امرأة فأذنت لي بالدخول عليها والسكنى والمبيت معها قبل أن أعطيها صداقها وأنفق عليها وأستقي لها ماء، فأنا أضطجع معها إلى جنبها في اللحاف وتمنعني نفسها حتى أعطيها صداقها وليس عندي، فقال له: ذلك لها، أرضها من مهرها، استعن عليها ببعض جاراتها، فأما النفقة عليها فذلك لها عليك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال أن من حقها أن تمنعه نفسها حتى تأخذ صداقها، وإن أذنت له بالدخول عليها والاضطجاع إلى جنبها؛ إذ كان من حقها أن تمنعه من ذلك كله حتى يعطيها صداقها فلا يلزمها منه إلا ما أباحته له ورضيت به، وقوله: استعن عليها ببعض جاراتها، يريد في التأخير أو الهبة إلا في ربع دينار من ذلك، إذ يكره له مالك الدخول دون أن يقدم لها من الصداق ربع دينار على ما يأتي له بعد هذا فيمن نكح بدين، أنه استحب له أن ينقد شيئا قبل الدخول، ومثل ما في آخر رسم استأذن ورسم أوصى، من سماع عيسى، وقد أجاز ذلك ابن المسيب وغيره ولم يروا فيه كراهة، وهو معنى قول(4/376)
الله عز وجل: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] وهو عند مالك خفيف، وإنما كرهه من كرهه مخافة أن تهب له الصداق فيبقى البضع دون شيء، وأما قوله في النفقة: إنها لها عليه، فهو صحيح، إذ هي واجبة بحق الاستمتاع، فيلزمه إذا دعي إلى الدخول، وقد قيل: إنها تجب بالعقد، والأول هو المشهور في المذهب، والله الموفق للصواب.
[مسألة: تزوج امرأة على أن لا يمنعها من المسجد]
مسألة وسئل مالك عمن تزوج امرأة على أن لا يمنعها من المسجد، فقال: ينبغي له أن يفي لها بما قال، ولا يقضى بذلك عليه، فإن أبى أن يدعها فذلك له، وله أن يمنعها.
قال محمد بن رشد: وكذلك ينبغي له أن لا يمنعها من المسجد وإن لم تشترط ذلك عليه لأنه مندوب إليه بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» وذلك عليه مع الشرط آكد لثلاثة أوجه: أحدها قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحق الشروط أن تفوا بها ما استحللتم به الفروج» والثاني الوفاء بالعهد، إذ قد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الخلف فيه من علامات النفاق» والثالث مراعاة الاختلاف، إذ قد ذهب جماعة من العلماء إلى أنها واجبة يقضى بها، روي عن ابن شهاب أنه قال: كان من أدركت من العلماء يقضون بها لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحق الشروط أن تفوا بها ما استحللتم به الفروج» والشروط في النكاح على مذهب مالك تنقسم على قسمين: قسم لا يفسد به النكاح، وقسم يفسد به النكاح، فأما ما كان منها لا يفسد به النكاح مثل أن يتزوجها على أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى معها ولا يخرجها من البلد ولا يمنعها من المسجد، وما أشبه ذلك، فلا يخلو من أن تكون مطلقة أو مقيدة(4/377)
فإن كانت مطلقة غير مقيدة استحب للزوج الوفاء بها لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحق الشروط أن تفوا بها ما استحللتم به الفروج» ولم تلزمه، وإن كانت مقيدة، فلا تخلو من أن تكون مقيدة بتمليك أو طلاق أو عتاق، أو تكون مقيدة بوضع بعض الصداق، فأما إن كانت مقيدة بتمليك أو طلاق أو عتاق، فهي لازمة والنكاح جائز، وقيل: إن النكاح فاسد يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ويكون للمرأة صداق مثلها، وهو قول سحنون، وللخروج من هذا الخلاف تفقد الشرط عندنا في الصدقات على الطوع، وهذا إذا كانت التسمية في أصل العقد مع الشرط، وأما إن تزوجها نكاح تفويض على الشرط ثم سمى لها بعد ذلك الصداق، فلا اختلاف في أن النكاح جائز والشرط لازم، وأما إن كانت مقيدة بوضع بعض الصداق فقد مضى ما في ذلك من الاختلاف في الرسم الذي قبل هذا، فلا معنى لإعادته. وأما ما كان منها يفسد به النكاح فلا حد لها وبعضها أشد من بعض، من ذلك أن يتزوجها على أن لا ميراث بينهما أو على أن الطلاق بيدها أو على أن لا نفقة لها أو على أن الخيار لأحدهما، وما أشبه ذلك مما الحكم فيه إذا وقع مذكور في مواضعه من الكتاب، وسيأتي على ذلك كله إن شاء الله الكلام، وبالله التوفيق.
[مسألة: نكح نكاح سر بلا شهداء هل يطلقها طلقة أو يدعها بغير طلاق ويفسخ منه]
مسألة وسئل عمن نكح نكاح سر بلا شهداء أحب إليك أن يطلقها طلقة أو يدعها بغير طلاق ويفسخ منه؟ فقال: يطلقها طلقة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها ثم يتزوجها.
قال محمد بن رشد: ليس الإشهاد من شروط صحة العقد، وإنما يجب عند الدخول، ومن تزوج ولم يشهد فنكاحه صحيح ويشهدان فيما يستقبلان إلا أن يكونا قصدا إلى الاستسرار بالعقد، فلا يصح أن يثبتا عليه لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نكاح السر، ويؤمر أن يطلقها طلقة كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لشبهة العقد، ثم يستأنف العقد معها بعد أن تستبرئ نفسها بثلاث حيض إن كان قد دخل بها، هذا الذي يؤمر به في نكاح السر من أتى مستفتيا(4/378)
فيه قبل الدخول وبعده، وأما من وجد مع امرأة في بيت فادعى أنه نكح نكاح سر فيفرق بينهما بطلقة لإقرارهما على أنفسهما بالنكاح، ويحدان إن أقرا بالوطء إلا أن يكون الدخول فاشيا أو يكون على العقد شاهد واحد فيدرأوا الحد بالشبهة، واختلف إذا شهد على النكاح شاهدان وأمرا بالكتمان فقيل: ذلك من نكاح السر ويفسخ قبل الدخول وبعده إلا أن يطول بعد الدخول فلا يفسخ ويكون فيه الصداق المسمى، وهو المشهور في المذهب، وقيل: النكاح صحيح لا فساد فيه، فيثبت قبل الدخول وبعده، ويؤمر الشهود بإعلان النكاح وينهوا عن كتمانه، وإلى هذا ذهب يحيى بن يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة تزوج نفسها أو تزوجها امرأة أخرى]
مسألة وسئل عن المرأة تزوج نفسها أو تزوجها امرأة أخرى فقال: أرى أن يفرق بينهما، دخل بها أو لم يدخل، وأحب إلي أن تكون طلقة.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على ما اختاره ابن القاسم وأخذ به لرواية العتبية عن مالك من أن الطلاق والميراث يكون في كل نكاح اختلف الناس فيه، ومثله في رسم العرية من سماع عيسى وغيره خلاف ما اختاره سحنون من أن كل نكاح كان الزوجان مغلوبين على فسخه، فلا طلاق فيه ولا ميراث، وذلك كله في المدونة.
[مسألة: المرأة تنكح الرجل على أن لا يتسرر عليها ولا ينكح إلا بإذنها]
مسألة قال: وسئل عن المرأة تنكح الرجل على أن لا يتسرر عليها ولا ينكح إلا بإذنها، وإلا فأمرها بيدها، فيسألها أن تأذن له فتفعل فيقيم يطلب النكاح، ثم تنزع فتقول: قد رجعت فيما أعطيتك، ولم يعقد نكاحا ولا شيئا، قال: ذلك يختلف إن كانت أشهدت إني قد(4/379)
أبطلت عنه شرطي ووضعته له فذلك، وإن كانت أشهدت له في ذلك على امرأة واحدة، فذلك له.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وسيأتي أيضا في رسم باع شاة من سماع عيسى، وفي سماع أصبغ هذا المعنى.
[مسألة: نكح امرأة بدين إلى أجل]
مسألة قال: وسئل عمن نكح امرأة بدين إلى أجل فقال: إني لأستحب أن ينقد شيئا، ولو فعل لجاز ذلك، ولكن أحب إلي أن يقدم شيئا.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذا المعنى في هذا الرسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الدعوة إلى الوليمة]
مسألة وسئل عن الدعوة إلى الوليمة فقال: أرى أن يجيب إلا أن يكون له علة من مرض أو غيره، قيل له: أرأيت إن أخر ذلك إلى يوم السابع ثم دعا أيجب ذلك على من دعي؟ فقال: إني أرى أن يأتي، وليس ذلك مثل الوليمة لأنه ربما جعل الرجل الوليمة والسابع، قلت: أرأيت الذي يؤذن فيجيء فيقف ثم يستأذن وليست به علة ولا له حاجة؟ فقال: إني أرى أن يأتي فيبرك وينصرف، وإني ربما فعلت ذلك، قلت: أرأيت صاحب الوليمة يدعو إنسانا فيقول له: اذهب فانظر من لقيت فادعه، فيدعو الرجل، أهو في سعة من ترك إجابته؟ فقال: أرجو ألا يكون على هذا بأس أن لا يأتيها لأنه لا يعرفه بعينه ولم يتعمده.(4/380)
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم القول في وجوب إجابة الداعي إلى وليمة العرس خاصة وأنه لا سعة له في التخلف عنها إلا من عذر، وأنه في سعة من ترك الأكل فيها، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك. وإنما افترقت الوليمة من غيرها من الأطعمة في وجوب الإتيان إليها لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا بد للعرس من وليمة» ، ولقوله لعبد الرحمن بن عوف «أولم ولو بشاة» ولقوله: «الوليمة حق والثاني معروف، والثالث سمعة ورياء» فإذا جعل الرجل الوليمة والسابع جميعا كان حقا على من دعي إلى الوليمة أن يأتي لأنه دعي إلى حق، وكان من دعي إلى السابع بخلاف ذلك إذ لم يدع إلى حق، وإنما دعي إلى معروف، فإن شاء أن يأتي وإن شاء أن يترك، وكذلك إن ترك الوليمة وفعل السابع لأنه ترك الحق وفعل المعروف، فلم يكن على من دعي إليه أن يجيب، وأما إن أخر الوليمة إلى يوم السابع فقال مالك: إني أرى أن يأتي، ولم ير ذلك مثل الوليمة، قال: لأنه ربما جعل الرجل الوليمة والسابع، ووجه تعليله تخفيف الإتيان بأنه ربما جعل الرجل الوليمة والسابع هو أنه لما كان الرجل قد يجعلهما جميعا، احتمل عنده أن يكون لم يؤخر الوليمة إلى يوم السابع، وإنما تركها وعمل السابع، ولو كان من عادة الناس في البلد ألا يولموا على أعراسهم إلا يوم السابع لوجب على من دعي إليها أن يأتيها لأنها هي الوليمة بعينها، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة تنكح المحتاج قد عظمت حاجته فلا يجد ما ينفق عليها]
مسألة قال: وسألته عن المرأة تنكح المحتاج قد عظمت حاجته فلا يجد ما ينفق عليها، ثم تطلب النفقة هل ترى عليه نفقة؟ قال: ما أمر الناس إلا أن عليه النفقة إلا أن يكون بعض هؤلاء السؤال الذين يطوفون على الأبواب، فلا أرى لها عليه نفقة.(4/381)
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الكتب: قد علمت حاجته، وما في الكتاب من قوله: قد عظمت حاجته، أصح في المعنى؛ لأن النفقة لو كانت واجبة لها على المحتاج الذي قد علم احتياجه إذا لم يكن سائلا لكان أحرى أن يجب لها عليه إذا كان سائلا لأن مسكنة الذي ليس بسائل أشد من مسكنة السائل على ما جاء في الحديث من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس» ، الحديث، وإنما لم يوجب لها على السائل الذي يطوف على الأبواب نفقة لأن حاله مشهور، فحملها على العلم بذلك بخلاف الذي ليس بسائل، فيرجع معنى الرواية إلى أنها إذا تزوجته وهي تعلم أنه فقير لا يقدر على الإنفاق فلا نفقة لها عليه كان سائلا أو لم يكن، وإلى أنها في السائل محمولة على العلم بحاله بخلاف الذي ليس بسائل، ويؤيد هذا التأويل قول ابن حبيب، قال: وإذا تزوجته وهو فقير لا شيء عنده، فقد عرفت أن مثله لا يجري النفقة على النساء، فليس لها بعد ذلك قول، وفي المدونة من قول يحيى بن سعيد ما يدل على أن الفقير لا نفقة عليه لزوجته، ومعناه إذا علمت بفقره، وهو قوله: إذا تزوج الرجل المرأة وهو غني ثم احتاج فلم يجد ما ينفق عليها فرق بينهما، وقال أبو الحسن القابسي: إذا ترك السائل التطواف كانت لامرأته حجة، وفرق بينهما، وقال محمد بن عبد الحكم: على الزوج الإنفاق على كل حال وإن كان سائلا يطوف بالأبواب، فرأى محمد بن عبد الحكم النفقة لها عليه واجبة وإن كانت مسكنته ظاهرة مشهورة بتطوافه على الأبواب، وهو أظهر، إذ قد يسأل وله مال، وقد يكون الفقير في الظاهر له مال في الباطن، فهي تقول: لولا أن له مالا لم يتزوجني إذ قد علم أن على الزوج أن ينفق على زوجته، وأما إذا لم تعلم بفقره فلا اختلاف في أن لها النفقة عليه، فإن لم ينفق طلقت عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أصدقها ستين دينارا فقال أبوها نضع عنك عشرين على ألا تخرج بها]
مسألة قال: وسئل عمن خطب امرأة فواطأها على ستين دينارا صداقا،(4/382)
فلما أراد أن يتزوجها على ذلك قال له أبوها: هل لك أن نضع عنك عشرين دينارا ونزوجكها بأربعين دينارا على أن لها ألا تخرج بها من المدينة؟ فقال: نعم، وتزوجها على ذلك. ثم أراد الخروج بها فقال: ذلك له، وعليه العشرون دينارا التي وضع من صداقها لمكان الشرط، قيل له: إنه لم يقع النكاح بالستين، إنما كان مذاكرة، فقال: ولكن ذلك صداقها، وإنما الذي لا يكون له فيه شيء أن تقول: أتزوجك بمائتي دينار أضع عنك مائة على أن لا تخرجني، فهذا ليس بصداق، وله أن يخرجها ولا شيء عليه، قيل له: أرأيت إذا واطأها على ستين دينارا ثم وضعت له عشرين على أن لا يخرجها من بلدها، ثم طلقها قبل أن يمسها، أتأخذ منه نصف الصداق ثلاثين أم عشرين؟ فقال: لا بل لا تأخذ إلا عشرين، وليس لها في هذا حجة؛ لأنه قد تركها على ما شرط لها ولم يخرجها، فليس لها إلا نصف الأربعين، قال: وإني لأرى الوفاء لمن شرط لامرأته أن لا يخرجها حسنا ينبغي له أن يفعل، ولا أرى ذلك عليه، وإني لأكره أن ينكح على مثل هذا ألا يخرجها من بلدها ولا يمنعها من داخل يدخل عليها، ولا يمنعها من حج ولا عمرة ولا من الخروج، إذا كان هكذا فهو لا يملكها ملكا تاما، فأنا أكرهه كما أكره أن يشتري الرجل الجارية بشرط، وليس هكذا يكون النكاح.
قال محمد بن رشد: لم يختلفوا أن ما وضعت عنه بعد العقد من صداقها للشرط لها أن ترجع فيه إن لم يف لها بالشرط، وجعل هاهنا ما وضعت عنه مما تواطأوا عليه، وإن لم يتم العقد بمنزلة ذلك لها أن ترجع فيه إن لم يف لها بالشرط، قال محمد بن المواز: وذلك إذا كان الزوج قد رضي بما تواطأوا عليه، وأما إذا لم يكن من الزوج رضى إلا بما عقد بعضه ببعض فلا رجوع لها في شيء من ذلك، وقول محمد تتميم للمسألة وبيان لها، وهي مسألة صحيحة والوجه فيها أنها لم ترض أن تتزوج بما دون الستين التي قد(4/383)
رضي بها إلا على الشرط الذي شرطت عليه، فإذا لم يف لها بالشروط رجعت عليه بتمام الستين التي قد كان رضي بها دون شرط، وقد مضى في هذا الرسم القول في وجه استحسان مالك أن من شرط لامرأته شرطا لا يلزمه الوفاء به أن يفي به، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أراد الخروج بامرأته إلى موضع يزعم أنه أرفق به وتأبى امرأته أن تتبعه]
مسألة وسئل عمن أراد الخروج بامرأته إلى موضع يزعم أنه أرفق به، وتأبى امرأته أن تتبعه، أذلك له؟ فقال: كيف حاله لها قبل أن يريد الخروج بها، ينظر إلى صلاحه وإحسانه إليها، ليس له أن يخرج بها إلى ثم ثُم يطعمها شوك الحيتان.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إنه إذا كان محسنا إليها ومن أهل الصلاح حكم له بالخروج بها، أحبت أم كرهت، وإن كان بخلاف هذه الصفة من الإساءة إليها والفساد في دينه، لم يُمَكَّن من الخروج بها إذا أبت أن تخرج معه لما تخشى من إضاعته لها لقلة رغبته فيها، وهو محمول على ما يوجب الخروج بها حتى يعلم خلاف ذلك، هذا الذي يقتضيه ظاهر قوله في كتاب إرخاء الستور من المدونة، والحر في هذا بخلاف العبد على ما قاله ابن القاسم في رسم الجواب من طلاق السنة، وبالله التوفيق.
[المرأة تجعل في أطراف رأسها الصوف تمسك به المشط]
ومن كتاب الجنائز قال: وسئل مالك عن المرأة تجعل في أطراف رأسها الصوف تمسك به المشط، قال: لا بأس بهذا، الشعر شعرها، لا بأس به.
قال محمد بن رشد: قوله: في أطراف رأسها، معناه في أطراف شعر رأسها، خرج مخرج قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يريد أهل القرية، ومعنى قوله: تمسك به المشط؛ أي تستبقي به أثر المشط في رأسها، وهو الترجيل، فتقيه بذلك من التشعث، فلم ير بذلك بأسا إذا كان الشعر شعرها لم تصله بشعر غيرها لأن(4/384)
هذا هو الذي جاء فيه الحديث بلعن الواصلة والمستوصلة، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة تتزوج تريد التحليل لزوجها والذي تزوجها لم يرد ذلك]
مسألة وروى أشهب وابن نافع قالا: قيل لمالك: أرأيت إذا تزوجت المرأة وهي تريد التحليل لزوجها لذلك تزوجته إلا أن الزوج الذي تزوجها لم يرد ذلك ولم يعلم به أيحلها هذا النكاح لزوجها الأول؟ فقال: لا أرى بهذا النكاح بأسا، وأراه يحلها لزوجها الأول لأن المرأة ليس بيدها من هذا شيء، ليس تقدر على الطلاق، وقد تزوج المرأةَ النكاحَ الحسن، وهي تحب أن ترجع إلى زوجها الأول، فلا أرى بهذا بأسا لأنه ليس إلى المرأة من الطلاق شيء، وليس ذلك بيدها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن نية المرأة في نكاحها التحليل لزوجها لا يضرها ولا يؤثر في صحة النكاح ولا في وقوع التحليل إذ ليس بيدها من الطلاق شيء، ويدل على ذلك من الحديث قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتميمة بنت وهب زوجة رفاعة إذ طلقها ثلاثا فنكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير فاعترض عنها فناشدته الطلاق فطلقها فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بذلك فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» ، وكذلك المطلق لا تؤثر نيته في النكاح ولا في وقوع التحليل به إذ لا مدخل له في إمساك الزوج الثاني ولا إلى طلاقه، وقد قال إبراهيم النخعي والحسن البصري: إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح، وهو بعيد جدا، وإنما يعتبر في ذلك نية الزوج الذي الطلاق بيده، فإذا تزوج الرجل المرأة المطلقة ثلاثا ونيته أن يحلها لزوجها احتسابا في ذلك وإن لم يكن بمواطأة بينه وبين الزوجة أو الزوج فهو نكاح فاسد لا تحل به المرأة لزوجها الذي طلقها بإجماع من مالك وأصحابه، قال ابن حبيب: وكذلك لو قال في(4/385)
نفسه: إن وافقتني أمسكتها وإلا كنت قد احتسبت في تحليلها كان نكاحا فاسدا لم يحل له المقام عليه ولا تحل به المرأة لزوجها الأول إذا خالطت نية الزوج شيئا من إرادة التحليل، واختلف في المذهب إذا تزوجها رجل قد كان حلف أن يتزوج على امرأته ليس يمينه هل يحلها هذا النكاح أم لا يحلها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يحلها كانت تشبه مناكحه فيبر في يمينه أو لا تشبه مناكحه فلم يبر في يمينه؛ لأنه نكاح صحيح لو شاء أن يقيم عليه أقام، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك، والثاني: أنه لا يحلها كانت مما يشبه مناكحه فيبر في يمينه أو ممن لا تشبه مناكحه فلا يبر، وهو قول ابن دينار وأحد قولي ابن كنانة، والثالث: الفرق بين أن تكون تشبه مناكحه أو ممن لا تشبه مناكحه وهو أحد قولي ابن كنانة، ومن أهل العلم من قال: لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان بذلك، وهو مأجور على ذلك، وهو قول ابن القاسم وسالم وربيعة ويحيى بن سعيد. وأما عقد النكاح على التحليل فلا اختلاف بين أهل العلم أن ذلك لا يجوز، وهو داخل تحت اللعنة، روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله المحلل والمحلل له» من رواية علي وابن مسعود وأبي هريرة وعقبة، وفي حديث عقبة: «ألا أدلكم على التيس المستعار؟ هو المحلل» وإنما اختلفوا في جوازه إذا وقع، فالذي ذهب إليه مالك وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم أنه نكاح فاسد لا يحل المقام عليه يفسخ قبل الدخول وبعده، ويكون فيه الصداق المسمى، وقيل: صداق المثل، ومن أهل العلم من أجاز النكاح وأبطل الشرط، وبالله التوفيق.
[مرت به امرأة في الظلام يظنها امرأته فقال لها أنت طالق إن وطئتك الليلة]
من سماع عيسى بن دينار من عبد الرحمن بن القاسم
من كتاب نَقَدَهَا نَقْدها قال عيسى: قال ابن القاسم في رجل تزوج امرأة فنقدها(4/386)
نقْدها ثم أراد سفرا، فسأل أهلها أن يدخلوا عليه امرأته فأجابوه، فلما كان العتمة أدخلت عليه جارية " امرأته وامرأته ثيب، ثم سألوه أن يكف عن وطئها فقال: أنا أطأ امرأتي كل مملوك لي حر إن وطئتها الليلة وهو يشير إلى الجارية يظن أنها امرأته، ثم إنه وطئها تلك الليلة، فلما دخل عليه أهله إذا الجارية لا امرأته، فلما مضى لهم نحو من شهر إذا الجارية قد حملت وعليه لامرأته كل امرأة يتزوجها فهي طالق وكل جارية يتخذها فهي حرة وأمرها بيدها، قال ابن القاسم: أرى أن رقيقه أحرار ويلحق به الولد ولا تُقَوَّم الجارية عليه، ولا حد عليه ولا على الجارية، ولا طلاق عليه في امرأته ولا تمليك لها؛ لأنه لم يطأ جارية يملكها، ولا تمليك لها. وإن كانت المرأة لم تعلم بأمر الجارية وإنما أهلها صنعوا ذلك بغير علم منها رجعت على الزوج بقيمة الولد، ولم يرجع الزوج على الذين غروه ودلسوا له بشيء؛ لأنه لا يكون أسوأ حالا من الذي يغتصب الجارية فيبيعها فيتخذها المشتري أم ولد فيستحقها صاحبها فيأخذها ويأخذ قيمة ولدها، والمشتري لا يرجع على المغتصب بأكثر من الثمن الذي دفع إليه ولا يرجع عليه بما أدى من قيمة ولدها، وإن كان ذلك بعلم من المرأة فلا شيء لها عليه من قيمة الولد ولا تقوم عليه الجارية إلا أن يشاء هو ذلك، قيل: فإن لم تكن الجارية أخرجت إليه إلا أنهم سألوه أن يكف عن وطئها قبل أن يخرجوها فحلف بمثل تلك اليمن وليست هي حاضرة ثم أخرجت إليه فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى أن رقيقه أحرار خلاف قوله في أول هذا الرسم من كتاب الأيمان بالطلاق في الذي مرت به امرأة في ظلمة الليل فوضع يده عليها وهو يظن أنها امرأته، فقال لها: أنت طالق إن وطئتك الليلة وهو يرى أنها امرأته ثم وطئها تلك الليلة فقال: لا شيء عليه لأنه وطأ غير امرأته لأنه حلف أن لا يطأها وهو يشير إلى الجارية وهو يظن أنها امرأته،(4/387)
والقولان قائمان من كتاب العتق الأول من المدونة في الذي دعا عبدا له يقال له ناصح ليعتقه فأجابه مرزوق فقال له: أنت حر وهو يظنه ناصحا، والأظهر أنه لا شيء عليه في رقيقه فيما بينه وبين الله تعالى على ما قاله في مسألة العتق ولا في القضاء والحكم أيضا إذا ثبت البساط المذكور في المسألة. وقوله: ولا تقوم عليه الجارية خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون في الذي يزوج الرجل ابنته فيحبسها ويبعث إليه بأمته فيصيبها من أنها تقوم عليه لأنه وطئها على شبهة درأ بها عنه الحد بمنزلة الذي يحل له الجارية، وقول ابن القاسم أظهر لأن الذي حللت له الجارية فعل ما لا يجوز له لمن وطئها فكان ذلك منه رضى بالتزام قيمتها، وهذا لم يتعد في وطء هذه الجارية وإنما وطئها وهو يرى أنها امرأته، فوجب أن لا يكون عليه في ذلك شيء من حد ولا قيمة لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، ولم ير على الجارية حدا لأنه عذرها بالملك فجعلها من أجله في حكم المكرهة على أصله في سماعه من كتاب الحج في المحرم يطأ جاريته وهو محرم أن عليه أن يحجها ويهدي عنها أكرهها أو لم يكرهها، قال: وليست الأمة في الاستكراه مثل الحرة، وقال ابن الماجشون: إنها تحد إلا أن تقول لم أعلم وظننت أنكم زوجتموني منه، وعلى الذي أدخل عليه الجارية النكال الموجع من الإمام، وسائر ما ذكر في المسألة صحيح بين المعنى لا اختلاف فيه ولا إشكال في شيء من معانيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي يصيبه البرص أيفرق بينه وبين امرأته]
مسألة وسئل عن الذي يصيبه البرص أيفرق بينه وبين امرأته؟ قال: إن جاء من ذلك أمر ضرر يعرف أنه لا يستطاع أن يقام عليه فرق بينه وبينها. وإن كان خفيفا فليس ذلك لها، والبرص عند ابن القاسم خفيف، قال ابن القاسم: وأما الجذام البين فإنه يفرق بينه(4/388)
وبينها، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم البز من سماع ابن القاسم القول في حكم البرص يقربه أحد الزوجين أو يحدث به بعد العقد فلا معنى لإعادة ذلك، وأما الجذام البين فسواء كان بالزوج من قبل العقد أو حدث به بعد العقد فيما يجب للزوجة من أن يفرق بينها وبينه، فإن فرق بينهما قبل الدخول لم يكن لها شيء من الصداق، وإن فرق بينهما بعد الدخول كان لها جميع صداقها، وإن رجي برؤه لم يفرق بينهما إلا بعد أن يضرب له أجل لعلاجه، قاله ابن القاسم في المدونة. ولأشهب في سماع زونان أنه لا يفرق بينهما إلا أن يكون متفاحشا لا يحتمل النظر إليه وتغض الأبصار دونه، ومعنى ذلك إذا كان حادثا فلا اختلاف في وجوب التفرقة بينهما بالجذام الذي يكون بالزوج، قبل العقد إذا كان بينا وإن لم يكن متفاحشا، فإن رضيت بالمقام معه ثم أرادت بعد ذلك القيام عليه ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك ليس لها إلا أن يزيد، وهو قول ابن القاسم في رسم الجواب بعد هذا، والثاني: أن ذلك ليس لها وإن زاد، وهو دليل قول ابن وهب في سماع زونان قوله فيه إنه يفرق بينهما وإن لم يكن مؤذيا ولا فاحشا لأنه يزيد ولا تؤمن زيادته وانتقاصه، والثالث: أن ذلك لها وإن لم يزد، وهو ظاهر قول أشهب في سماع زونان، قاله في الفاحش على أصله في أنه لا يفرق بينهما إلا فيه، وأما إذا كان الجذام بالمرأة، فإن كان قديما قبل العقد كان للزوج ردها به إذا كان بينا وإن لم يكن فاحشا، وإن كان حادثا بعد العقد فهي مصيبة نزلت بالزوج، إن شاء طلق ويكون عليه نصف الصداق قبل الدخول وجميعه بعد الدخول، وإن شاء أمسك. وأما الجنون بالزوج فسواء أيضا كان به قديما قبل العقد أو حادثا بعده من حق الزوجة أن يفرق بينه وبينها به بعد أن يضرب له أجل سنة لتداويه، قيل: وإن كان يعفيها من نفسه ولا يخاف عليها منه، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في رسم باع شاة من سماع عيسى بعد هذا، وقيل: بل إذا كان لا يعفيها من نفسه ويخاف عليها منه، وهو قول ابن وهب وأشهب في سماع زونان وقول ربيعة في النكاح الثاني من المدونة، فإن فرق(4/389)
بينهما قبل الدخول لم يكن لها شيء من الصداق. وأما الجنون بالمرأة فإن كان قديما قبل العقد كان للزوج ردها به، وإن كان حادثا بعده فهي مصيبة نزلت بالزوج، إن شاء طلق، وإن شاء أمسك، ويكون عليه نصف الصداق قبل الدخول وجميعه بعد الدخول، والحمد لله.
[مسألة: أيتزوج الرجل الحر أمة وهو يجد طولا]
مسألة وسئل مالك أيتزوج الرجل الحر أمة وهو يجد طولا؟ قال: نعم
قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم بعد هذا [في هذا] الرسم: لا بأس أن يتزوجها وإن كان لا يخاف على نفسه عنتا وهو واجد للطول، وهو المشهور عند ابن القاسم، والمشهور عن مالك أنه لا يجوز له أن يتزوجها إلا مع عدم الطول وخوف العنت، وهذا الاختلاف جار على الاختلاف في القول بدليل الخطاب، فمن رأى القول بدليل الخطاب لم يبح نكاح الأمة للحر إلا بالشرطين، ومن لم ير القول به أباح ذلك له دون الشرطين، والعلة في المنع من ذلك إلا بالشرطين عند من رأى القول بدليل الخطاب الكراهة للحر في أن ينكح نكاحا يرق فيه ولده، فعلى هذا إذا تزوج الحر أمة من يعتق عليه ولده منها أو كان ممن لا يولد له كالحصور وشبهه جاز نكاحه مع عدم الشرطين لعدم علة المنع قولا واحدا كالعبد، فعلى القول بأن الحر يتزوج الأمة وإن كان واجدا للطول آمنا من العنت لا كلام للحرة إن تزوج الأمة عليها أو تزوجها على الأمة لأن الأمة على هذا القول من نسائه كالعبد، هذا الذي نزل عليه ألفاظ المدونة. وقد تأول أبو إسحاق التونسي أن الحق في ذلك للحرة على كلا القولين جميعا سواء، وهذا إنما يصح على قول ابن الماجشون الذي يرى الخيار للحرة إذا تزوج العبد عليها الأمة أو تزوجها على الأمة، وقد اختلف على القول بالمنع إلا مع الطول في الطول ما هو؟ فقيل: الصداق والنفقة، وقيل:(4/390)
الصداق وحده طول وإن عجز [أيضا] عن النفقة، واختلف أيضا في الحرة تكون عنده هل هي طول تمنعه من نكاح أمة، واختلف على القول بأنها طول إن تزوج أمة ثم وجد طولا، فقيل: إنه يفارق الأمة ويتزوج حرة، وقيل: بل يبقى معها إلا أن يتزوج حرة فيفارقها، وقيل: بل يبقى معها وإن تزوج حرة لأنه قد تقدم تزويجه إياها بوجه جائز، وأما إن ذهب عنه خوف العنت بتزويج الأمة فليس عليه مفارقتها قولا واحدا، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة البكر أو غير البكر تعطي الرجل دنانير على أن يتزوجها بها]
مسألة وسئل عن المرأة البكر أو غير البكر تعطي الرجل دنانير على أن يتزوجها بها، قال: إن كانت ثيبا فزادها على ما أعطته ربع دينار فصاعدا فلا بأس به، وإن كانت بكرا فسخ النكاح إلا أن يتم لها الصداق، إذا لم يدخل بها [لأن أصل النكاح صحيح] وأما إذا دخل بها ألزم الصداق وكان لها صداق مثلها، رجع ابن القاسم ثم قال: النكاح ثابت دخل بها أو لم يدخل، وإن كانت بكرا كان عليه أن يعطيها من ماله مثل الذي أصدقها من مالها، وإن كانت ثيبا فأعطاها من ماله ربع دينار لم يكن عليه أكثر من ذلك.
قال محمد بن رشد: أما الثيب فإن زادها على ما أعطت ربع دينار فأكثر جاز النكاح لأنها مالكة أمر نفسها فعطيتها له جائزة، والرضى بالصداق إليها، فقد رضيت بما زادها على ما أعطته صداقا، وإن زادها أقل من ربع دينار على ما أعطته كان بمنزلة من تزوج بأقل من ربع دينار يكون مخيرا على مذهب ابن القاسم في المدونة قبل الدخول بين أن يتم لها ربع دينار أو يفسخ النكاح، ويلزمه بعد الدخول تمام ربع دينار، ويفسخ قبل الدخول ويثبت(4/391)
بعده بصداق المثل على قول غيره فيها، وإن لم يزدها شيئا إن كان الذي أعطته أكثر من الذي زوجها به كان بمنزلة من نكح على أنه لا صداق عليه يفسخ قبل الدخول وبعده كالموهوبة، وقيل: يفسخ قبله ويمضي بعده بصداق المثل على حكم النكاح الفاسد لصداقه، وأما البكر فسواء زادها على ما أعطته شيئا أو لم يزدها لا يجوز ذلك له لأنها مولى عليها لا تجوز عطيتها، واختلف قول ابن القاسم فيما يلزمه، فمرة قال: النكاح ثابت لا خيار له فيه دخل أو لم يدخل، ويؤخذ منه من ماله مثل ما كان أصدقها من مالها، ووجه ذلك أنها قد استحقت ما كان أصدقها فوجب أن ترجع عليه بمثله، كالعبد يعطي الرجل دنانير ليشتريه بها من سيده فيشتريه ولا يستثنى [من] ماله، وهو قوله الذي رجع إليه هاهنا، ومثله بعد هذا في سماع سحنون، ومرة قال: إن كان قبل الدخول كان مخيرا بين أن يعطيها من ماله مثل ما كان أصدقها من مالها وبين أن يفسخ النكاح، وإن كان بعد الدخول كان لها صداق مثلها، ووجه هذا القول أن أصل النكاح صحيح لأنه لم يقع إلا بصداق غير أن الزوج لو علم أن العطية لا تمضي له لم يرض أن يبذل هذا الصداق من ماله، فلا يلزمه بعد الدخول إلا صداق المثل، ويفسخ النكاح قبل الدخول إلا أن يرضى أن يعطيها من ماله مثل ما كان أصدقها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يخطب المرأة فتأبى عليه إلا أن يجعل طلاقها في طلاق صاحبتها]
مسألة وسئل عن الرجل تكون له المرأة فيخطب فتأبى عليه إلا أن يجعل طلاقها في طلاق صاحبتها فيرضى فيدخل بها ثم يطلق الأولى، قال: إن كان إنما أراد طلاقها في طلاق صاحبتها أنه إن طلقها فصاحبتها طالق فلا شيء عليه إن طلق الأولى، وإن لم تكن له نية فهما جميعا طالقتان لأن المرأة إذا تزوجت إنما تشترط أنك إن طلقتني فصاحبتي طالق، فهذا وجه ما يعرف، فإن كان هذا الذي أراد فلا شيء عليه، وإن لم ينو شيئا من ذلك فهما جميعا طالقتان.(4/392)
قال محمد بن رشد: حمل يمينه على ما يقتضيه اللفظ إذا لم تكن له نية ولم يراع المعنى الذي هو معروف من قصد المرأة في شرطها، وهذا أصل مختلف فيه، والأظهر مراعاته، فيجب على ذلك إن لم تكن له نية ألا شيء عليه وأن لا يكونا جميعا طالقتين إلا أن يكون أراد أنه إن طلق صاحبتها فهي طالق، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل الحر الذي لا زوجة له أينكح الأمة وهو يجد طولا لحرة]
مسألة وسئل عن الرجل الحر الذي لا زوجة له أينكح الأمة وهو يجد طولا لحرة أو لا يجد ولا يخاف على نفسه عنتا، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة قبل هذا في هذا الرسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: تزوج أمة على أنه إن تزوج عليها أو تسرر فأمرها بيد مولاها فهلك مولاها]
مسألة وسئل عن رجل تزوج أمة على أنه إن تزوج عليها أو تسرر فأمرها بيد مولاها فهلك مولاها، قال: ما أرى بيدها شيئا وأرى ورثته بمنزلته أو وصيه إن كان ورثته صغارا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لأن الشرط يورث في الأمة إذا جعله إلى مولاها بخلاف الحرة لأن الأمة ملك، فإذا جعل الأمر بيد مولاها فمولاها كل من انتقل إليه الملك بميراث، وكذلك كل مشيئة تكون في ملك فهي تورث، ولو جعل الأمر بيد غير مولاها فهلك لم يكن بيد ورثته من ذلك شيء، ولرجع الأمر إليها لأن الشرط إنما أخذ لها على معنى ما حكى ابن القاسم عن مالك في كتاب بيع الخيار من المدونة إذا جعل الأمر بيد الأمة فماتت وإن كان لم يتبين ذلك منه، ولو أوصى بذلك إلى أحد لجازت وصيته بذلك، قاله مالك بعد هذا في رسم استأذن. وفي كتاب بيع الخيار من المدونة(4/393)
خلاف [هذا من] رواية علي بن زياد عنه فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أمة تحت حر ولدت أولادا له وأرادوا بيعها وولدها فقال زوجها أنا آخذها]
مسألة وقال مالك في أمة تحت حر ولدت أولادا له وأرادوا بيعها وولدها فقال زوجها: أنا آخذها، قال مالك: أنا أرى أنه أحق بها بما أعطوا بها لأن في ذلك خيرا يعتق ولدها ولا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن الزوج إذا أراد أن يأخذهم بالثمن الذي أعطوا بهم فبيعهم من غيره بذلك الثمن إضرار بالولد في غير منفعة تصير إليهم، فلا يمكنون من ذلك إذ لا مضرة عليهم في بيعهم من الزوج ولا منفعة لهم في بيعهم من سواه، ولو باعوها وحدها دون ولدها لم يكن أحق بها بما يعطى فيها إلا أن تكون حاملا إذ لا تكون له أم ولد إذا اشتراها وإن كانت قد ولدت منه قبل الشراء إلا أن يشتريها وهي حامل منه، وفي ذلك اختلاف قد روي عن مالك أنها لا تكون له أم ولد حتى يكون أصل الحمل بعد الشراء. ومثل هذا في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب العتق وفي غير ما موضع، وكذلك يجب في كل شيء مشترك لا شفعة فيه إذا باع بعض الأشراك أنصباءهم أن يكون لمن بقي منهم أن يأخذ ذلك بالثمن الذي يعطى فيه ما لم ينفذ البيع، والله الموفق.
[رجل ملك ابنته رجلا فسأله أن يخلي له مع امرأته فقال له الأب نعم]
ومن كتاب أوله
استأذن سيده في تدبير جاريته قال: وسألت ابن القاسم عن رجل ملك ابنته رجلا فسأله أن يخلي له مع امرأته، فقال له الأب: نعم، فذهب أبوها إلى رجل فسأله ابنته أن يخليها مع ختنه ففعل فخلا بها فافتضها، قال: إن كانت طاوعته ضربت الحد ولا صداق لها، وإن كان استكرهها كان لها(4/394)
الصداق على أبوي الجارية المملكة إلا أن لا يكون عندهما شيء فيكون ذلك لها على الذي افتضها إن كان موسرا ويتبع هو أبوي الجارية، وعلى أبوي الجارية المملكة وأبوي الجارية المستكرهة النكال على كل حال.
قال محمد بن رشد: قال في المدونة: إن الصداق على الذي افتضها ويرجع الذي افتضها على الذي غره، وهو القياس، وما هنا استحسان لأنا إذا قضينا لها بالصداق على الذي افتضها أعدينا الذي افتضها بذلك على الذي غره، فالقضاء لها بالصداق على الغار أولى من أجل أنه أقل عناء، والذي يوجبه النظر الصحيح أن تكون مخيرة في اتباع من شاءت منهما لأن الذي افتضها غريمها والغار غريم غريمها، فلها أن ترجع عليه بما لغريمها أن يرجع عليه، وسائر قوله في المسألة صحيح لا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: عن الرجل ينكح ابنته رجلا ويشترط عليه إن تزوج عليها فأمرها بيدها]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل ينكح ابنته رجلا ويشترط عليه إن تزوج عليها فأمرها بيدها، وذلك من صداقها، فتضع المرأة صداقها عن زوجها، هل ترى الشرط قد وضع عن زوجها بوضع الصداق عنه؟ وهل للمرأة قضاء في ذلك الشرط مع أبيها ما كان حيا؟ أو هل للأب أن يسنده إلى أحد إذا مات؟ أو هل بيد المرأة من ذلك الشرط شيء، إن لم يسنده أبوها إلى أحد؟ قال ابن القاسم: أما قولك ذلك من صداقها فذلك باطل ولا يوضع عنه الشرط بوضع الصداق وذلك بيد أبيها، فإن تزوج فأراد الأب أن يطلق وأرادت هي الإقامة مع زوجها نظر في ذلك، فإن كان الذي أرادت من ذلك هو حظها وهو خير لها لم يكن للأب أن يطلق، وإن كان الذي أراد أبوها من الفراق هو حظها وهو خير لها كان القضاء(4/395)
في ذلك، قضاء أبيها ولم يقبل لها قول؛ لأني سمعت مالكا يسأل عن الرجل يجعل أمر امرأته بيد أبيها إن لم يأت إلى أجل سماه، فحل الأجل ولم يأت فأراد أبوها أن يطلق، وقالت المرأة: لا أحب فراق زوجي فقال مالك: القول في ذلك قولها، ويمنع أبوها من الفراق، وإن مات أبوها وأسند ذلك إلى أحد كان ذلك له وكان في ذلك بمنزلة أبيها، قال: وإن مات ولم يسنده إلى أحد فليس بيدها من ذلك شيء، وفي سماع [أبي محمد] يحيى قال ابن القاسم: وإن طلق الأب قبل أن يمنعه السلطان مضى الطلاق، وإن طلق بعد منع السلطان فلا يجوز.
قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم في الذي اشترط على زوج ابنته إن تزوج عليها فأمرها بيدها إنه إن تزوج عليها فأراد الأب أن يفرق بينهما وأرادت هي البقاء مع زوجها إن السلطان ينظر في ذلك، فمن رأى الحظ في إرادته منهما كان القضاء قضاءه الأب كان أو الابنة، ولم يقل كما قال مالك في الذي جعل أمر امرأته بيد أبيها إن لم يأت إلى أجل سماه إنه إن لم يأت إلى الأجل فأراد الأب أن يفرق بينهما وأرادت هي البقاء مع زوجها إن القول في ذلك قولها ويمنع أبوها من الفراق، والوجه فيما ذهب إليه إنه جعل لاشتراط الأب على زوج ابنته أن أمرها بيده إن تزوج عليها حقا فلم ير أن يخرج من يده إلا بنظر السلطان لأنه يقول: أنا أعلم أنه إنما تزوج عليها إرادة الإضرار بها من حيث لم تعلم هي، ولذلك شرطت أن أمرها بيدي فوجب أن ينظر السلطان في ذلك، بخلاف جعل الزوج ذلك بيده دون أن يشترط عليه؛ لأنه إذا لم يشترطه عليه فإنما فعله لزوجته لا له، فكانت أحق بالقضاء في ذلك منه، والله أعلم، ولا فرق بين المسألتين إلا من جهة الشرط. وقوله: إنه إن مات فأسند ذلك إلى أحد كان ذلك له هو مثل ما له في كتاب بيع الخيار من المدونة خلاف رواية علي بن زياد عنه في ذلك فيه،(4/396)
وقوله: وإن مات ولم يسنده إلى أحد فليس بيدها من ذلك شيء خلاف ما حكى عنه ابن القاسم في كتاب بيع الخيار من المدونة لأنه قال فيه. فكأني رأيت مالكا رأى ذلك لها، أو قال ذلك لها ولم أتبينه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أصدقها مائة دينار فدخل بها قبل أن يقدم إليها شيئا أيحال بينه وبين وطئها]
مسألة قال عيسى: قلت له: فلو كان فرض مائة دينار أو نحوها فدخل بها قبل أن يقدم إليها شيئا، أيحال بينه وبين وطئها حتى يقدم إليها أدنى ما ينكح به؟ فقال: يقال أعطها ربع دينار ولا يجتنب مسيسها بعد أن دخل بها.
قال محمد بن رشد: قوله: يقال أعطها ربع دينار ولا يجتنب مسيسها بعد أن دخل بها كلام متناقض فليس على ظاهره، ومعناه: الإنكار أن يكون عليه أن يعطيها ربع دينار قبل أن يعود إلى مسيسها، وتقديره: أيقال له أعطها ربع دينار وهو ليس عليه أن يجتنب مسيسها أي ليس يقال له ذلك، وكذلك في سماع أبي زيد أن ذلك يكون دينا عليه ولا يكف عن وطئها، ومحمد بن المواز يرى الوطء الثاني كالأول فيكره له التمادي على الوطء حتى يعطيها ربع دينار [ولها عنده أن تمنعه نفسها حتى يعطيها ربع دينار، وإن كانت قد أذنت له في الدخول عليها فدخل، وهو إغراق؛ لأن الدخول بها قبل أن يقدم إليها شيئا من صداقها ليس بحرام، وإنما يكره مخافة أن تهب له بعد ذلك الصداق فيكون قد استحل فرجها بلا صداق، فإذا دخل فقد فات الأمر وذهب موضع الكراهية، ولو أذنت له بالدخول عليها قبل أن يدفع إليها من صداقها شيئا لما كان له أن يدخل حتى يقدم إليها من صداقها ربع دينار، ولكان لها أن تمنعه من ذلك أيضا لأن الكراهة في ذلك حق لله تعالى، فلا يلزمها الإذن فيما زاد على ربع دينار، وقد مضى هذا في رسم الطلاق الثاني(4/397)
والثالث من سماع أشهب، ويأتي في رسم أوصى ورسم يوصي ورسم العشور من سماع عيسى وفي سماع أبي زيد، وبالله التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه.
[مقدار ما كان يتوضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغتسل]
ومن كتاب العرية قال ابن القاسم وسفيان بن عيينة: الفرق ثلاثة آصع.
قال محمد بن رشد: زاد في سماع أصبغ من كتاب الوضوء وهو الذي كان يتوضأ منه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويتطهر، وهو المعنى المقصود إليه، وقد مضى هنالك القول في صفته وتسميته ومبلغ ما يحمل من الماء ووجه تخريج ما يعارض ظاهره من الآثار في مقدار ما كان يتوضأ به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويغتسل مستوفى، فمن أحب الوقوف من ذلك على الشفاء تأمله هناك، ولا وجه لإعادته هنا إذ ذلك الموضع به أليق وأولى، وبالله التوفيق.
[مسألة: زوج ابنه في صحته فحمل عنه الصداق في ماله ثم مات]
مسألة قال: وكل من زوج ابنه في صحته فحمل عنه الصداق في ماله أو زوج ابنته في حياته أجنبيا أو قريبا فحمل صداقها في ماله ثم مات أن ذلك يكون في ماله من رأس المال ولا يحاسب به الابن ولا الابنة في موروثهما منه ويحاصان الغرماء في الموت، وإن حمل ذلك عنهما في المرض لم يجز في شيء منهما من ماله وخير ابنه فإن شاء بنى وغرم الصداق، وإن شاء فارق ولا شيء عليه إذا لم يكن دخل، وإن دخل اتبع به دينا، قلت: وكذلك الأجنبي الذي زوجه ابنته في مرضه وحمل عنه الصداق إن دخل غرم، وإن شاء فارق ولا شيء عليه إذا لم يكن دخل؟ قال: نعم، وإنما هيج هذه المسألة ابن أبي حسان في رجل قال في مرضه لابن أخيه قد وصلتك بابنتي فإنه إن قبل زوج وخفف عنه من الصداق بقدر ما يرى مما أراد من التخفيف عنه.(4/398)
قال محمد بن رشد: أما إذا زوج الأب ابنه أو ابنته في صحته أجنبيا أو قريبا وحمل عنهما الصداق في ماله فلا اختلاف في أن ذلك يكون لهما في رأس ماله إن مات ولا يحاسبان بذلك في ميراثهما ويحاصان به الغرماء في الموت والفلس كما قال، ومعنى ذلك في الدين المستحدث، وأما في الدين القديم فلا لأنه إذا كان عليه دين يغترق ماله فلا يجوز له أن يحمل صداقا عن أحد لأنه من المعروف، والدين أحق من المعروف ومن الهبات. وأما إن زوج ابنه في مرضه وحمل عنه الصداق فمات من مرضه فلا اختلاف في أن ذلك وصية لا تجور إلا أن يجيزها له الورثة ويخير، فإن شاء بنى وغرم الصداق، وإن شاء فارق ولا شيء عليه، وإن كان صغيرا نظر في ذلك له وليه أو وصيه بعد موت أبيه، قاله في المدونة. وقد قال مالك فيها فيمن يضمن الأب عن ابنه في مرضه لا يعجبني هذا النكاح، ووجه كراهته له ما دخله من الخيار، ووجه القول الأول أنه خيار لم ينعقد عليه النكاح، وإنما أوجبه الحكم، فلم يكن له فيه تأثير، وأما إن زوج ابنته في مرضه وحمل الصداق عن زوجها ففي ذلك اختلاف كثير جعل ذلك ههنا وصية للابنة فلم يجزها، وقال مطرف وابن الماجشون إنها وصية للزوج فتجوز له من ثلثه إن لم يكن وارثا، ورويا ذلك عن مالك، وهو قول ابن وهب في سماع أصبغ وقول ابن القاسم في رواية أبي زيد، واختلف في ذلك قول أشهب على ما ألزمه أصبغ في سماعه من مسألة الذي يقر في مرضه أنه قبض صداق ابنته، قال ابن الماجشون وهذا إذا كان الذي سمي لها وحمله عن زوجها صداق مثلها فأقل، وأما إن كان أكثر من صداق مثلها فالزائد على صداق مثلها وصية لها لا يجوز باتفاق إلا أن يجيزها الورثة، وروى ذلك أبو قرة عن مالك، وقاله عدة من أصحابه، فإن لم يجيزوا ذلك لها كان الزوج مخيرا بين أن يخرجه من ماله أو يترك النكاح، ولا يلزمه منه شيء، وبالله التوفيق.
[مسألة: أصدقها الخادم ثم بعد سنين تصدقت به عليه ثم مات زوجها]
مسألة وسئل عن الرجل تموت امرأته فيرث ما تركت هو وولدها،(4/399)
وكان ما تركت خادما فتزوج امرأة فأصدقها تلك الخادم وأقامت في يديها سنين، ثم إنها تصدقت عليه بالخادم فأقامت بعد ذلك سنين هي له، ثم توفي فوجد له كتاب فيه ذكر الخادم أنها لولده من امرأته التي توفيت أو كتب بذلك في وصيته، هل ترى أنها لهم دون إخوتهم من أبيهم؟ قال: ليس لولده الذين ذكر في كتابه أنها لهم في الخادم شيء، وإنما لهم قيمتها يوم أصدقها امرأته.
قال محمد بن رشد: إنما يكون لهم قيمتها يوم أصدقها على ما قال إذا ثبت أنها لهم ببينة تشهد على ذلك أو على إقرار الأب لهم بها في صحته فيحمل قوله وجد له في كتاب فيه ذكر الخادم أنها لولده من امرأته على أحد وجهين، إما أن يكون الكتاب تضمن معرفة الشهود لذلك، وإما أنه تضمن إشهاده على نفسه بذلك في صحته، وأما إن لم يعلم ذلك إلا بأنه كتبه في وصيته في مرضه فلا يكون لهم بذلك شيء، إذ لا يجوز إقرار الرجل في مرضه لبعض ولده دون بعض إذا كانت حالتهم واحدة في البر به أو العقوق له على ما في سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس، وإنما وجب لهم قيمتها يوم أصدقها امرأته لأنها قد فاتت بتزويجه بها على مذهبه مليا كان أو معدما ودخل بالمرأة أو لم يدخل بها، وستأتي هذه المسألة والقول فيها في رسم الجواب من سماع عيسى إن شاء الله.
[مسألة: امرأة وليت عقد نكاح جارية لها ثم إن الرجل زوج الجارية طلقها]
مسألة وعن امرأة وليت عقد نكاح جارية لها ثم إن الرجل طلق امرأته قبل أن يعلم أنه كان مفسوخا ثم أراد أن يتزوجها، قال: إن كان طلقها البتة فلا ينكحها حتى تنكح زوجا غيره.
قال محمد بن رشد: هذا على ما اختاره ابن القاسم وأخذ به من قول مالك، وقد مضى هذا في آخر رسم من سماع أشهب، ومثله في المدونة(4/400)
وغيرها من قوله واختياره، وبالله التوفيق لا شريك له.
[مسألة: المرأة تدعي على زوجها صداقا مؤخرا إلى غير أجل قبل الدخول بها]
ومن كتاب يوصي
لمكاتبه بوضع نجم من نجومه قال: وسألته عن المرأة تدعي على زوجها صداقا مؤخرا إلى غير أجل قبل الدخول بها وتأتي على ذلك بشاهد يشهد أنه تزوجها بمائة دينار نقدا ومائة مؤخرة إلى موت أو فراق، فقال: أما إذا ادعت ذلك قبل البناء بها فلا يقبل قولها بشاهد واحد ولا تحلف معه إذا كان زوجها منكرا لذلك لأنها تدعي فسخ نكاح، فلا يجوز في الفسخ شاهد ويمينها، ولا يكون الفسخ إلا بشهادة شاهدين؛ لأنها وإن طلبت حقها فيما تزعم فإن ذلك الحق لا يثبت لها إلا بفسخ النكاح، فنحن لو قبلنا يمينها مع شاهدها فسخنا نكاحه ولم تتبعه بقليل ولا بكثير، وردت عليه ما أخذت منه إن كانت أخذت منه شيئا لأن هذا النكاح إذا أُدرك قبل الدخول بها فُسخ، فلا تثبت لها المائة الآجلة التي ادعت إذا كان ذلك قبل الدخول بشاهد واحد مع يمينها، ولا يثبت لها أيضا بشاهدين؛ لأنها لو أقامت شاهدين فسخنا النكاح بينهما، قال: وإن ادعت هذا الآجل بعد الدخول وأتت بشاهد قلنا النكاح قد ثبت، وقد فات موضع الفسخ؛ لأنه لا يفسخ مثل هذا النكاح بعد الدخول ولو شهد على ذلك العدول فقد فات منه موضع الفسخ، وإنما هي مدعية حق وليست مدعية فسخ نكاح، فهي تحلف مع شاهدها وتستحق صداق مثلها، فإذا حلفت قُوِّمَ لها صداق مثلها فأعطيته إلا أن يكون الذي وصل إليها من العاجل أكثر من صداق مثلها فيكون ذلك لها ولا ترد منه شيئا(4/401)
ويسقط عن زوجها الآجل الذي عليه، وإن كان الذي وصل إليها أقل من صداق مثلها ألحقت بتمام صداق مثلها نقدا إن كان لصاحبها مال وإلا اتبعته [به] دينا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها لا تحلف مع شاهدها قبل الدخول على ما تدعي من أنه أصدقها مائة نقدا ومائة إلى موت أو فراق صحيح على المشهور في المذهب من أن النكاح يفسخ قبل الدخول على كل حال وإن رضي الزوج بتعجيل المائة التي إلى أجل مجهول أو رضيت المرأة بتركها، وأصبغ يقول: إن النكاح لا يفسخ إذا رضي الزوج بتعجيلها أو رضيت المرأة بتركها، فعلى قوله يحلف قبل البناء مع شاهدها، وقد حكى ذلك ابن حبيب عنه. وظاهر قوله أنها إذا حلفت مع شاهدها بعد الدخول وكان صداق مثلها أكثر من المعجل والمؤجل فلها جميع ذلك، ومثل هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك من رواية مطرف عنه و [عن] ابن الماجشون، وهو ظاهر ما في المدونة في باب نكاح الشغار، وحكي عن ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ أنه إذا وجد صداق مثلها من المعجل والمؤجل فلا يزاد على مقدار المعجل والمؤجل كما لا ينقص من مقدار المعجل؛ لأنه إذا عجل لها ما رضيت به إلى أجل فلا حجة لها، وقد قيل: إن لها صداق مثلها كان أقل من المائة أو أكثر من المائتين، وهو ظاهر قول أصبغ وأبي زيد في رسم الدور والمزارع من سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: يخطب امرأة وتحته أخرى فيقول وليها لا أزوجك إلا على أن تطلق امرأتك]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يخطب امرأة وتحته امرأة أخرى فيقول وليها: لا أزوجك إلا على أن تطلق امرأتك، التي تحتك أو تجعل أمرها بيد صاحبتها، فيقول أشهدكم إذا دخلت على(4/402)
صاحبتكم فأمر امرأتي التي تحتي بيدها، فزوجوه على ذلك ثم صالح امرأته التي تحته فتدخل عليه الأخرى وليست التي جعل أمرها بيدها تحته ولا في ملكه ثم يريد أن يتزوجها، قال: يتزوجها وليس من أمرها بيد امرأته قليل ولا كثير؛ لأنه إنما قال: إذا دخلت على صاحبتكم فأمر امرأتي بيدها فقد دخلت وليست في ملكه، وهو بمنزلة من يحلف لغريم له بطلاق امرأته أن يوفيه حقا له عليه إلى أجل فصالح امرأته قبل الأجل فَحَلَّ الأجل وليست في ملكه فإنه لا يقع عليه حنث، وهو يتزوجها بعد الأجل إن شاء. قلت: وكذلك لو قال يوم تدخل علي صاحبتكم فامرأتي التي تحتي طالق البتة أو طالق واحدة أو اثنتين فصالحها ثم تدخل عليه الأخرى وليست في ملكه ثم يريد أن يتزوجها؟ قال: نعم، هو مثله، وله أن يتزوجها، ولا يلحقه طلاق؛ لأنه من وجه التقاضي، قلت: ولا يكون مثل أن يقول: إن دخلت دار عمرو بن العاص فامرأتي طالق فيصالح امرأته فيدخل الدار ثم يتزوجها فتريد أن تدخل الدار؟ قال: ليس هذا مثله هذا إن عاد إلى دخول الدار بعد أن يتزوجها عاد عليه الطلاق ما بقي عليه من ذلك الطلاق شيء؛ لأنه فعل ذلك الفعل بعينه الذي حلف عليه وهي في ملكه؛ ولأن الذي قال يوم تدخل عليّ فامرأتي طالق فصالحها ودخلت عليه وهي ليست في ملكه فقد وقع الفعل وليست في ملكه، فليس يستطيع أن يعود إلى ذلك الفعل بعد أن تزوج هذه التي حلف فيها؛ لأن الدخول عليه إنما هو مرة واحدة فقد دخلت عليه تلك المرأة وليست في ملكه، ولا يستطيع أن يعود إلى ذلك أكثر، وأن الذي حلف ألا يدخل دار عمرو بن العاص فهو يستطيع أن يعود إلى دخولها بعد أن يتزوجها؛ لأنه فعل حلف عليه يستطيع أن يفعله متى شاء، وإن دخول المرأة إنما هو مرة واحدة فليس يستطيع أن تدخل عليه ثانية بعد أن تزوجها إلا أن يطلقها ثم(4/403)
يتزوجها، وأما إن لم يطلقها فليست تستطيع أن تدخل عليه أكثر من تلك المرة التي دخلت والمرأة التي فيها اليمين ليست في ملكه فليس عليه فيها شيء وإن تزوجها بعد ذلك، وكذلك الذي حلف بطلاق امرأته إن دخلت دار عمرو بن العاص فصالح امرأته ثم دخل وأقام فيها ثم تزوج تلك المرأة ودخلت عليه في الدار؛ فإنه لا يقع عليه طلاق حتى يخرج ثم تدخل، وأما ما أقام فيها معها فليس يقع عليه طلاق، وكذلك الذي يحلف بطلاق امرأته ألا يدخل الفسطاط فصالح امرأته تلك ثم دخل الفسطاط فتزوج تلك المرأة بالفسطاط وسكن معها بالفسطاط؟ قال: لا يلزمه يمين ولا يقع عليه حنث ما أقام بالفسطاط حتى يخرج من الفسطاط ثم يدخل، فإن خرج ثم دخل وقع عليه الطلاق، وقيل له: وكذلك الذي يحلف بطلاق امرأته إن ركب هذه الدابة فصالح امرأته وركب الدابة ثم تزوجها وهو على تلك الدابة؟ قال: إن لم ينزل حين تزوجها حنث، وليست الدابة ولا الثوب يلبسه مثل الدار؛ لأنه لو أقام على الدابة راكب بعد التزويج فذلك فعل مبتدأ، وكذلك الثوب إن لبسه بعد أن راجعها حنث؛ لأن إقرار الثوب عليه بعد مراجعتها فعل حادث وركوب الدابة كذلك، قلت: فيحلف بطلاق امرأته أن لا يركب هذه السفينة أو لا يدخلها فيصالح امرأته ثم دخل السفينة فيتزوجها فدخلت عليه في السفينة وأقام ولم يخرج منها؟ قال: أما إذا قال: إن دخلت فصالحها ثم دخل وراجعها فدخلت عليه في السفينة فإنه لا يلزمه حنث حتى يخرج ثم يدخل، وأما إن قال: إن ركبت فهو مخالف لقوله: إن دخلت. إن قال: إن ركبت فصالحها ثم ركب فراجعها وهو فيها فإنه إن لم ينزل مكانه حنث، وهو بمنزلة الثوب والدابة، وقد سمعت بعض أهل العلم يقول فيمن حلف ألا يتزوج بالفسطاط فخرج إلى مكة فعقد نكاح فسطاطية بمكة قال: لا شيء(4/404)
عليه إذا عقد نكاحها بغير الفسطاط وإن كانت المرأة بالفسطاط إذا عقد النكاح بغير الفسطاط، قال: فإن قال: كل امرأة أتزوجها من أهل مصر فهي طالق فلا يجوز له أن يعقد نكاح مصرية بموضع من المواضع وتطلق عليه إن فعل، قيل لابن القاسم: وكذلك الذي حلف بالطلاق ألا يشتري سلعة كذا وكذا بالفسطاط فخرج إلى مكة فاشترى تلك السلعة بعينها من صاحبها بمكة والسلعة بالفسطاط؟ قال: نعم، هو كذلك أيضا لا حنث عليه. قلت: وكذلك الذي يقول في عبد بعينه إن اشتراه بالفسطاط فهو حر فلقيه سيده بمكة فاشتراه منه ثم والعبد بالفسطاط؟ قال: نعم، هو كذلك أيضا لا شيء عليه، ثم قال بأثر ذلك: أرأيت لو أن رجلا خطب إلى قوم وتحته امرأة فقالوا: إنا لا نزوجك حتى تطلق امرأتك فذهب عنهم فصالح امرأته ثم أتاهم فزوجوه وكتبوا عليه طلاق امرأته وليست تحته امرأة، ثم أراد أن يتزوجها أيلحقه من يمينه شيء؟ قال: ليس يلحقه من ذلك الطلاق شيء ويتزوجها إن شاء.
قال محمد بن رشد: أما قوله: في الذي شرط لامرأته أن أمر امرأته التي تحته بيدها يوم تدخل عليه أو أنها طالق واحدة أو اثنتين يوم تدخل عليه فصالحها ثم دخلت عليه وليست في ملكه ثم تزوجها بعد ذلك إنه ليس بيدها من أمرها شيء ولا يلزمه فيها طلاق لأنها يوم دخلت عليه لم تكن في ملكه فهو صحيح على ما يوجبه اللفظ، وأما على ما يقتضيه المعنى فيجب أن يكون أمرها بيدها إن تزوجها عليها بعد أن دخل بها وأن تطلق كلامه أيضا إن كان قال: فهي طالق لأنه إنما أراد أن لا يجمع بينهما، وهو الذي يأتي على مذهبه في المدونة؛ لأنه قال في كتاب الأيمان بالطلاق منها في الذي يشترط لامرأته أن كل امرأة يتزوجها عليها فهي طالق أو أمرها بيدها فيطلق امرأته واحدة أو اثنتين فتبين منه ثم يتزوج امرأة ثم يراجع امرأته أن المرأة التي تزوج تطلق عليه أو يكون أمرها بيد امرأته، وإن لم يتزوجها عليها وإنما تزوجها هي عليها لأنه إنما(4/405)
أراد أن لا يجمع بينهما ولا ينوى في ذلك إن ادعى نية، وأما الذي حلف لغريمه بطلاق امرأته ليوفينه حقه إلى أجل فصالح امرأته قبل الأجل فإنه لا يقع عليه حنث بمضي الأجل، وله أن يتزوجها بعد ذلك ولا يكون عليه شيء باتفاق إلا أنه قال في المدونة: وبئس ما فعل من فر من الحنث من أجل أنه غر غريمه إذا حلف له ثم فر من الحنث، إذ لو علم ذلك لقام عليه بحقه ولم ينظره به، وقوله: لأنه من وجه التقاضي إشارة منه إلى مسألة الغريم المذكور التي احتج بها، وسائر المسائل التي ذكر صحيحة ومعانيها التي ذكر بينة على معنى ما في المدونة وغيرها، وتفريقه في الذي يحلف وهو في السفينة أن لا يركبها وأن لا يدخلها صحيح لأن الركوب واللباس والسكنى يقع على ابتداء ذلك وعلى التمادي عليه، والدخول إنما يقع على ابتداء الدخول في الشيء لا على التمادي على المقام في داخله، وبالله التوفيق.
[مسألة: يزوج ابنته فيقول له الناكح إني أخاف أن تكون وليتك سوداء]
مسألة وسئل عن الرجل يزوج ابنته أو وليته فيقول له الناكح: إني أخاف أن تكون وليتك سوداء أو عمياء أو عوراء، فقال: ليس لها من هذه العيوب شيء، وهي برية من ذلك فيجد بها بعض ذلك هل يردها بذلك؟ قال: نعم إذا شرطه على ذلك ردها، وهو قول مالك، قلت: أرأيت إن لم يعلم العيب حتى مس؟ قال: يكون لها الصداق عليه ويكون ذلك له غرما على من غره، قال أصبغ: قال ابن القاسم: وكذلك لو خطب رجل إلى رجل فقال: قد قيل لي: إن وليتك سوداء، فقال: قد كذب من قال ذلك، هي البيضاء الكذا فنكحها فوجدها سوداء إنما ترد عليه لأنه غره، وهو كالشرط، وكذلك العمياء والعرجاء، قال أصبغ: ومثله الرجل يسوم الرجل الجارية فيقول: إنها ليست تطبخ ولا تخبز فيقول: هي تطبخ وتخبز وتنصب، أو يقول، ليست بعذراء، فيقول: هي عذراء فيكون ذلك كالشرط.(4/406)
قال محمد بن رشد: لا اختلاف أعلمه في أن الخاطب إذا قال للمخطوب إليه: قد قيل لي: إن وليتك سوداء أو عوراء فقال له: قد كذب من قال ذلك بل هي البيضاء الكذا أن ذلك شرط بمنزلة قوله: ليس لك من هذه العيوب لشيء، يكون للناكح ردها إن وجد بها بعض ذلك، فإن لم يعلم بذلك حتى مس كان لها الصداق، وكان ذلك له غرما على من غره، وإنما اختلفوا إذا وصفها له الولي عند الخطبة بالبياض وصحة العينين ابتداء على غير سبب وهي عوراء أو سوداء فقيل: إن ذلك لازم للزوج ولا كلام له في ذلك لأنه فرط إذ لم يتثبت ويستخبر لنفسه، وهو قول أصبغ في الخمسة، ومذهب ابن القاسم في رواية يحيى عنه واختيار محمد بن المواز، وقيل: إنه بالخيار قبل الدخول إن شاء تقدم على أن عليه جميع الصداق وإن شاء فارق ولم يكن عليه شيء، فإن لم يعلم حتى دخل ردت إلى صداق مثلها على ما بها من العيوب ورجع بالزائد عليها، وهو قول ابن وهب وعيسى بن دينار، وقيل: إنه يرجع به على الولي الذي غره إلا أن تكون ثيبا قد علمت بكذب وليها فتقدمت على معرفة بذلك فيرجع عليها إن كان لها مال وإلا رجع على الولي، وهو قول ابن حبيب، قال ابن القاسم في الدمياطية: ولو قال له غير الولي الذي زوجها منه أنا ضامن لها أنها ليست بسوداء ولا عوراء ولا عرجاء فدخل بها ووجدها بخلاف ما ضمن له لكان له الرجوع عليه بما زاد على صداق مثلها وليا كان أو غيره، وكذلك الحكم في الذي يزوج وليته على أن لها من المال كذا وكذا شرطا لما ليس لها أو سمى ذلك لها عند الخطبة من غير شرط لا فرق بين المسألتين في واحد من الوجهين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنكح المرأة لجمالها ولمالها» ، ففرق بين الوجهين إلا أن محمد بن المواز ذهب إلى أنه إن زوج وليته بشرط أن لها من المال ما ليس لها فإنما للزوج أن يرجع على من شرط له ذلك وغره بما زاد من المهر على صداق مثلها إن هو خلى سبيلها ولم يرض بها،(4/407)
وهو بعيد؛ لأنه يقول: لم أتزوجها ولا رضيت بما سميت من الصداق إلا لما شرط لها من المال، فإذا لم يكن ذلك فأنا أردها وأرجع بجميع الصداق على الذي غرني كما يقول في السوداء سواء إذا غر بما شرط له من بياضها، وابن حبيب يرى للزوج رد القرعاء والسوداء وإن لم يغر من ذلك كالعيوب الأربعة، وذكر ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأما الذي يبيع الجارية ويصفها بأنها عذراء وبأنها تنصب وتطبخ وتخبز، فسواء وصفها بذلك ابتداء أو بعد أن قال له المبتاع: إنها ليست عذراء ولا تطبخ ولا تخبز، للمبتاع أن يردها إذا لم تكن على ذلك كالشرط سواء، ولا اختلاف في هذا، قال في سماع أصبغ من العيوب: وكذلك لو قال: إنها تزعم أنها بكر أو إنها صناعة أو رقامة لردها إذا لم تكن على ذلك كالشرط، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يزوج ابنته قبل أن تبلغ المحيض فيدخل بها زوجها ثم يطلقها]
مسألة قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يزوج ابنته قبل: أن تبلغ المحيض فيدخل بها زوجها ثم يطلقها، هل يجوز تزويج أبيها إياها بغير مؤامرتها؟ قال: قال مالك تزويجه جائز عليها من غير مؤامرتها ما لم تحض، قال ابن القاسم: وأنا أرى أن تزويج أبيها جائز عليها إذا رجعت إليه من غير مؤامرتها ما لم تحض عند أبيها، فإذا حاضت عند أبيها بعدما رجعت إليه رأيت أن لا يجوز عليها تزويجه إلا بمؤامرتها وكانت كالثيب التي مات عنها زوجها أو طلقها وقد حاضت، قلت: أرأيت الصغيرة التي لم تحض إذا دخل بها زوجها ثم طلقها أو مات عنها قبل أن تحيض أتلزم أباها النفقة عليها؟ قال: نعم، قلت: أرأيت إذا حاضت بعد أن رجعت أيلزم النفقة عليها وهو لا يستطيع أن يزوجها إلا بمؤامرتها؟ قال: لا تلزمه نفقتها إذا حاضت، وذلك ما ليس فيه شك، قال: وسئل عنها سحنون فقال: إذا رجعت إلى أبيها قبل أن تحيض وقد كان دخل بها(4/408)
زوجها كان حالها حال البكر يزوجها أبوها بغير رضاها وإن حاضت، ويلزمه الإنفاق عليها.
قال محمد بن رشد: وقد قيل: إنه لا يجبرها على النكاح وإن لم تبلغ، وجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن الأب يملك العقد على ابنته بعلة البكورة والصغر، فإذا ارتفعت البكورة قبل ارتفاع الصغر كان من حقه أن يزوجها لعلة الصغر حتى تبلغ، كما أنه إذا ارتفع الصغر قبل ارتفاع البكورة كان له من حقه أن يزوجها بعلة البكورة حتى ترتفع أيضا، ووجه قول سحنون أن وطأها قبل البلوغ لا يعتبر به إذ لا تحصن به في النكاح، ولا تحد فيه في الزنى، فوجب أن يكون للأب أن يزوجها وإن بلغت كمن لم يدخل بها، ووجه القول الثالث أنه لما كان دخوله بها قبل أن تبلغ المحيض كدخوله بها بعد أن بلغت المحيض سواء في أن ذلك وطء تحل به إن كان طلقها ثلاثا وجب أن يكون ذلك سواء في أنه لا يجوز للأب أن يزوجها إلا برضاها، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل ينكح المرأة فيهدي لها هل يدخل بها بتلك الهدية]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل ينكح المرأة فيهدي لها هل ترى أن يدخل بها بتلك الهدية؟ قال: لا يدخل بتلك الهدية حتى يقدم لها من صداقها ربع دينار لأنه ليس من الصداق، قلت: فهل يدخل إذا رهنها بصداقها رهنا؟ قال: نعم يدخل بالرهن، قلت: فالرجل يهدي الهدية ثم يطلقها قبل الدخول بها والهدية قائمة؟ قال: لا شيء له منها لأنه ليس من الصداق، قلت: فإن أهدى لها الهدية ثم عثر على النكاح أنه مفسوخ ففسخ قبل البناء فهل يرجع فيأخذ الهدية؟ قال: إن أدرك منها شيئا أخذه، وإن فاتت لم يكن له قبلها قليل ولا كثير، قلت: فهل يجوز أن يتحمل بالصداق ويبني بأهله(4/409)
بالحمالة؟ قال ابن القاسم: أخبرني بعض من أثق به أن بعض أهل الفضل قد أجازه، ولست أرى ذلك، وأحب إلي أن يقدم لها ربع دينار.
قال محمد بن رشد: أجاز له الدخول بالرهن وكره ذلك بالهدية، وأجاز له ابن حبيب الدخول بالهدية، وروى مثله ابن نافع عن مالك في المبسوط، وفي كتاب ابن المواز لمالك أن من تزوج امرأة بدين له على رجل فلا يدخل بها حتى يقبض من ذلك ثلاثة دراهم يدفعها إليها، وقال أيضا: له أن يدخل وإن لم تقبض شيئا لأنه حق لها لو شاءت باعته وقبضت ثمنه، فعلى القول بأنه لا يدخل بها إذا تزوجها بالدين يكون له على رجل حتى تقبض من ذلك ثلاثة دراهم لا يجوز له أن يدخل بها أيضا بالرهن لأن ذلك أحرى أن لا يجوز، ولم ير ابن القاسم له أن يدخل بالحمالة، وحكى عن بعض أهل الفضل أنه أجازه، فحصل الاختلاف في هذه المسائل كلها، وأخفها الدخول بالدين، والأظهر أن الدخول به جائز لأنه حق قد وجب لها لو شاءت باعته وأخذت ثمنه، والقول بأنه لا يدخل به بعيد، فمن لم ير له الدخول به حتى يقبض منه ثلاثة دراهم فأحرى أن لا يجيز له الدخول في سائر المسائل، ويليه الدخول بالرهن لأنها قد قبضت ما هي أحق به من الغرماء في الموت والفلس، وأشدها الدخول بالحمالة؛ لأن ذمة الحميل كذمة الزوج ولم تقبض شيئا، والأظهر أنه لا يدخل بها، فمن أجاز له الدخول بها فأحرى أن يجيز له الدخول بها في سائر المسائل، وأما الرهن فوجه إجازة الدخول به هو أنها قبضته لتستوفي صداقها منه، وهي أحق به من الغرماء في الموت والفلس، وقد قيل: إن من حلف أن يقبض حقه يبر بالرهن، وأما الهدية فوجه قوله: إنه لا يدخل بها هو ما ذكره من أنها ليست من الصداق، ولو طلقها لم يكن له منها شيء وإن كانت قائمة ولو ألفى النكاح مفسوخا لم يكن له إلا ما أدرك منها، وبالله التوفيق.
تم كتاب النكاح الثاني
والحمد لله حق حمده، والصلاة الكاملة على سيدنا محمد نبيه وعبده.(4/410)
[كتاب النكاح الثالث]
[الرجل يزوج أمته عبدا لغيره فجرحها فأسلمه سيده]
كتاب النكاح الثالث(4/411)
ومن كتاب أوله أوصى
أن ينفق على أمهات أولاده وسئل مالك عن الرجل يزوج أمته عبدا لغيره فجرحها فأسلمه سيده أتحرم عليه؟ قال: لا وهو على نكاحه لأنه ليس مالا من مالها هو لسيدها مال من ماله.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: لأن إسلامه إلى سيدها في الجناية عليها كبيعه منه، وهو لو باعه منه لم يؤثر ذلك في صحة نكاحها، واختلف في جنايته عليها إن كانت مُثْلَة بها هل تطلق عليه أم لا؟ فحكى سحنون عن مالك في آخر رسم المزارع من سماع يحيى من كتاب العتق أنها تطلق عليه بمنزلة بيعه لها لأنه ليس بمأمون على عيبها، وهي رواية زياد بن جعفر عن مالك في المدنية، وقال ابن القاسم: لا يفرق بينهما، ويكون بينهما القصاص والقود إلا أن يرى السلطان للتفرقة وجها مثل أن يخافه عليها، وبالله التوفيق.
[مسألة: حكم اجتماع النكاح والبيع في عقد واحد]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: لا يجوز نكاح وبيع، ولا صرف وبيع [ولا شركة وبيع] ولا مساقاة وبيع، ولا قراض وبيع، قال(4/413)
ابن القاسم: فإن وقع هذا فسخ كله إلا أن يفوت، فإن فات عمل فيه مثل ما يعمل في المكروه، فأما النكاح والبيع فإنه إن دخل بها رأيت أن تعطى صداق مثلها، [وإن لم يدخل بها فسخ النكاح، وأما الصرف والبيع فإن أدرك رد كله، وإن فاتت السلعة بنماء أو نقصان أو اختلاف أسواق لزمه قيمتها يوم قبضها. .] . وإن كانت السلعة لم تفت بنماء ولا نقصان ولا اختلاف أسواق ردت، وإن كانت قد فاتت بشيء من ذلك لزمته قيمتها يوم قبضها ويرد قابض الورق عليه وزنه وعينه ويرد إليه البائع ذهبه، وأما الشركة والبيع فإن السلعة إن كانت لم تفت ردت وفسخت شركتهما، وإن كانت فاتت بنماء أو نقصان أو اختلاف أسواق لزمته قيمتها يوم قبضها، وأما القراض والبيع فإنه إن أدرك الأمر فسخ بينهما، وإن فاتت السلعة بنماء أو نقصان أو اختلاف أسواق لزمته السلعة بقيمتها يوم قبضها وكان المقارض أجيرا في القراض تدفع إليه إجارة مثله لأن مالكا قال لي: من قارض رجلا على أن يسلفه أو يجعل له عددا من الربح مسمى كان أجيرا في القراض ولم يجعل له في هذا إلا قراض مثله، فإذا باعه بيعا على أن يقارضه كان البائع قد ترك له فضلا في سلعته على أن قارضه بمنزلة السلف إن كان المقارض قد زاده في ثمن السلعة على أن قارضه، فكأنه أعطاه فضلا في قراضه على أن قارضه، وهو وجه بين. وأما المساقاة والبيع فإن كانت السلعة لم تفت ردت، وإن فاتت بنماء أو نقصان أو اختلاف أسواق لزمت قيمتها يوم قبضها ورد في المساقاة إلى مساقاة مثله، وذلك أني سألت مالكا عن رجل ساقى رجلا حائطا ثلاث سنين وفيه ثمرة قد طابت واشترطها الداخل بينهما فقال: تكون الثمرة لصاحبها ويعطى المساقى فيها ما أنفق(4/414)
ويكون الرجل على مساقاة مثله حتى تنقضي السنتان، ولم يفسخه مالك، وقد كان الرجل عمل فيها سنة وبقيت له سنتان، فأتم له مالك مساقاته على مساقاة مثله ورد إليه قيمة عمله ونفقته، فهذه سنة المساقاة والبيع فيما نرى، والله أعلم.
قال محمد بن رشد: أما النكاح والبيع فقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن القاسم وروايته عن مالك هاهنا وفي المدونة أن ذلك لا يجوز على حال ويفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ويكون فيه صداق المثل، قيل: لأن البيع طريقه المكايسة وتجوز فيه الهبة، والنكاح طريقه المكارمة ولا تجوز فيه الهبة، فإذا وقعا معا لم يدر ما يقع مما أعطى الزوج للبضع مما يقع منه لما أعطت المرأة فآل ذلك إلى الجهل بمبلغ الصداق وبمبلغ ثمن ما وقع فيه البيع فوجب فيه الفسخ، وقيل: مخافة أن يكون الفرج موهوبا بغير صداق فلا يجوز وإن كان فيما أعطى الزوج فضل كثير على ما أعطت المرأة حماية للذرائع؛ لأن كثيرا من النساء ترضى أن تتزوج الرجل على أن تعطيه لرغبتها فيه لشرفه وحاله أو لكثرة يساره أو ما أشبه ذلك، فيخشى إن صح الأمر من هذين أن لا يصح من غيرهما، وهذا التعليل لأصبغ، فإن طلق الزوج على هذا القول قبل الدخول لم يكن إلا شيء من الصداق لأن الصداق الفاسد لا يجب للمرأة منه شيء بالموت ولا بالطلاق، والقول الثاني: أنه يكره ابتداء حماية للذرائع، فإذا وقع نظر فيه فإن لم يكن فيما أعطى الزوج على ما أعطت المرأة فضل يكون صداقا لم يجز وفسخ قبل الدخول ومضى بعده بصداق المثل، وإن كان فيه فضل قيل قدر ربع دينار فأكثر وهو قول مطرف وقيل فضل بائن كثير لا يقارب أن يستغرقه ما أعطت المرأة، وهو قول ابن الماجشون جاز النكاح ولم يفسخ، وقول مطرف أظهر لأن التقويم يكشف صحة العقد من فساده كما لو تزوج بعرض لا يدرى هل يساوي ربع دينار أم لا يساويه إلا بعد التقويم، وإن طلق الزوج على هذا القول قبل الدخول وفيما(4/415)
أعطى الزوج فضل ربع دينار أو أكثر على قول مطرف أو فضل بائن كثير على قول ابن الماجشون كان للزوجة نصف الفضل، وهو أحد قولي مالك في المبسوط، فجعل الزائد على ما أعطت المرأة للنكاح، وهو نحو قول مطرف وابن نافع في الذي يصالح بشقص فيه شفعة عن موضحتين عمد وخطأ أنه لا يكون لموضحته العمد من قيمة الشقص إلا ما زاد على دية موضحة الخطأ المعلومة والقول الثالث أن ذلك جائز من غير اعتبار بفضل ما أعطى الزوج على ما أعطت المرأة ويكون ما أعطى الزوج منضوضا على قيمة ما أعطت المرأة وعلى صداق مثلها إن طلق قبل الدخول واستحق شيء مما وقع فيه البيع مع النكاح، حكى هذا القول عبد الوهاب عن أشهب، وهو قول له وجه، إذ ليس في المنع من النكاح والبيع معا نص في القرآن ولا في السنة ولا أجمعت على ذلك الأمة، فلا يكون على قول أشهب النكاح فاسدا، وإذا كان ما أعطى الزوج أقل مما أعطت المرأة إذا وقع من ذلك للبضع عند النض ربع دينار فأكثر. وقد ذهب بعض أهل النظر إلى أنه إنما ينض على مذهبه ما أعطى الزوج على قيمة ما أعطت المرأة وعلى صداق مثلها إذا كان قيمة ذلك مقاربا لهما جميعا، وأما إن كان أكثر منهما جميعا بكثير أو أقل منهما جميعا بكثير فيجعل للبضع الزائد على ما أعطت المرأة؛ لأنه إن كان أكثر منهما جميعا بكثير حمل على الزوج أن الزيادة إنما زادها لشهوته في المرأة وحرصه على نكاحها لما ركب الله في النفوس من الشهوة إلى ذلك، وإن كان أقل منهما جميعا بكثير حمل على المرأة أن النقصان إنما نقصته لرغبتها في النكاح وحرصها عليه وشهوتها فيه، وهو معنى حسن لو ساعده الظاهر. وأما الصرف والبيع فقوله فيه: إنه لا يجوز معناه في الكثير، إذ قد علم من مذهبه في المدونة وغيرها إجازة ذلك في اليسير، قال أبو بكر الأبهري: وإنما لم يجز في الكثير مخافة أن يئول الأمر إلى الصرف المتأخر باستحقاق السلعة؛ لأن السلعة إن استحقت وجب أن ينض الذهب على الدراهم وعلى قيمة السلعة فلا يدرى في حال العقد ما وقع للدراهم من الذهب، وقال ابن القاسم في التفسير: إنما لم يجز ذلك لأن السلعة إن استحقت لم يدر المبتاع بما يرجع من الذهب إذ لا يصح أن ينض(4/416)
على قيمة السلعة وقيمة الدراهم إذ لا تقوم الدراهم كما تقوم السلع، وقال ربيعة في المدونة: إنما كره اجتماع البيع والصرف من أجل أن السلعة إن وجد بها عيب يريد أو استحقت انتقض الصرف، فإن وقع ذلك كان الحكم فيه على ما ذكر من فسخ ذلك كله ورد الذهب والورق على وزنه والسلعة بعينها إن كانت قائمة أو قيمتها إن كانت فائتة. وأما الشركة والبيع فإنما لم يجز اجتماعهما في صفقة واحدة لأن الشركة من العقود الجائزة لكل واحد من المشاركين أن ينفصل عن صاحبه متى ما أراد ولا يلزمه البقاء معه على الشركة فدخل [على] ذلك الغرر في البيع لأن البائع إنما رضي ببيع سلعته منه بالثمن الذي سمياه لما رجاه من الانتفاع ببقائه معه على الشركة، وذلك لا يلزمه، ولو لزمه أيضا لكان البيع غررا لجهل قدر الانتفاع بمشاركته إياه، فوجب أن يفسخ البيع في السلعة وترد بعينها إن كانت قائمة وتكون فيها القيمة إن كانت فائتة كما قال. وأما قوله: وفسخت شركتهما فإنه لفظ وقع على غير تحصيل إذ ليست الشركة من العقود اللازمة فيحتاج إلى فسخها وإن رضي بعد فسخ البيع بالبقاء على الشركة جاز ذلك لهما وكان كشركة مبتدأة. وأما القراض والبيع فإنما لم يجز أن يجتمعا في صفقة واحدة من أجل أن القراض مخالف للبيع في وجهين: أحدهما أن القراض من العقود الجائزة، والثاني أنه إجارة مجهولة، تجوز بالإجماع والاتباع والقياس على المساقاة، فإذا انضاف أحدهما إلى الآخر أفسد كل واحد منهما صاحبه؛ لأن البيع يعود مجهولا بإضافته إلى المجهول، ولأن القراض يخرج عن أصله باشتراط إضافة البيع إليه فيعود إجارة مجهولة، فوجب لذلك أن يفسخ البيع على ما قال ويرد في القراض إلى إجارة مثله. وأما المساقاة والبيع فإنما لم يجز أن يجتمعا في صفقة واحدة من أجل أن المساقاة تخالف البيع في أنها إجارة مجهولة مخصصة بالسنة من الإجارة المجهولة، فلما كانت تخالف البيع في هذا وتوافقه في أنها من(4/417)
العقود اللازمة لم ير أن يفسخها إذا لم تدرك حتى فاتت بالعمل وأمضاها إلى تمام أجلها على مساقاة المثل وفسخ البيع في القيام وصححه بالقيمة في الفوات قياسا على ما قال مالك في الذي ساقى رجلا حائطا ثلاث سنين وفيه ثمر قد طاب وعمل سنة من الثلاث سنين من أنه تكون الثمرة التي قد طابت لصاحب الحائط ويكون للعامل فيها نفقته وأجرة مثله، ويكون على مساقاة مثله في العام الذي مضى من الثلاثة الأعوام وفي العامين الباقيين؛ لأن معنى المسألة أنه ساقاه في الحائط ثلاث سنين سوى العام الذي فيه الثمرة التي قد طابت فاقتضت المسألة الأجل في الثمرة التي قد طابت ببعضها ومساقاة الثلاث سنين بعدها في صفقة واحدة، فقاس ابن القاسم البيع والمساقاة على قول مالك في هذه المسألة لأنها إجارة ومساقاة، والإجارة بيع من البيوع، فلا فرق بين البيع والمساقاة وبين الإجارة، ففوات الإجارة بالعمل في مسألة الإجارة والمساقاة كفوات السلعة في مسألة البيع والإجارة يكون للعامل قيمة عمله كما يكون لرب السلعة قيمة سلعته، ولو عثر على ذلك قبل أن تفوت الإجارة في الثمرة التي قد طابت بالعمل لنقضت كما أنه لو عثر على البيع قبل أن تفوت السلعة لنقض وردت السلعة بعينها، ولو عثر على ذلك بعد فوات الإجارة في الثمرة التي قد طابت بالعمل وقبل أن يعمل من مساقاة الثلاثة الأعوام شيئا لكان له أجر مثله في الثمرة التي قد طابت، وفسخت المساقاة في الأعوام الثلاثة على ما قال في المدونة. والإجارة في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك فاسدة لوجهين: أحدهما إضافتها إلى المساقاة في الصفقة، والثاني عقدها بلفظ المساقاة خلاف ما ذهب إليه سحنون من أن من ساقى رجلا في حائط قد طاب وحل بيعه إن ذلك جائز، وهي إجارة، وبالله التوفيق.
[مسألة: حكم نكاح الرجل المرأة بالهدية دون الصداق]
مسألة وقال: لا أرى أن يصيب الرجل امرأته بالهدية حتى يقدم إليها من صداقها ربع دينار فصاعدا، فإذا طلقها من قبل أن يدخل بها وقد أهدى لها أعطاها نصف الصداق ولم يكن له عليها شيء فيما(4/418)
أهدى إليها ولم يحاسبها في الهدية.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في آخر الرسم الذي قبل هذا، فلا معنى لإعادة القول فيه.
[الرجل ينكح ابنته بنقد خمسة أرؤس فقال له الناكح خمسة أرؤس كثير]
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك قال: وسئل مالك عن الرجل ينكح ابنته بنقد خمسة أرؤس فقال له الناكح: خمسة أرؤس كثير، فقال أبو الجارية: على أن تترك لك أهلك رأسين، فقال: إني أخاف ألا تفعل، قال: امرأته طالق البتة إن لم يجعلها تضع عنك رأسين، فتزوجها فسألها الأب فلم تفعل، فقال لها زوجها: اتقي الله أترضين أن تطلق أمك؟ فعالجها الزوج حتى وضعت عنه الرأسين، فقال: هو حانث لأنه لم يجعلها هو أن تضعهما، وإنما وضعت ذلك بطلبة زوجها.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال: لأن الذي حلف أن يفعله لم يفعله فوقع عليه الحنث.
[مسألة: رجل من العرب تزوج أمة قوم فولد له منها ولد]
مسألة وسئل عن رجل من العرب تزوج أمة: قوم فولد له منها ولد، قال: ولده عبد لسيد الأمة، قلت: فتزوج الصبي حرة فولد له ولد هل ينتسب إلى آبائه؟ قال: نعم ينتسب إلى قوم جده وآبائه وهم يرثونه فيعقلون عنه.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال. إن الولد تبع لأمه في الحرية والرق لأنه كعضو منها، وقد جاء أن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها، فولد الحرة من العبد حر بحرية أمه ينتسب إلى قوم أبيه ويوارثهم ولا يوارث أباه العبد إلا أن يعتق، إذ لا ميراث بين الحر والعبد، وبالله التوفيق.(4/419)
[مسألة: رجل تزوج امرأة بجنان على أن فيها عشرة فدادين فلم تجد إلا خمسة]
مسألة قيل لابن القاسم في رجل تزوج امرأة بجنان على أن فيها عشرة فدادين فلم تجد إلا خمسة، قال: يثبت النكاح ويكون لها عليه قيمة الخمسة التي نقصت، قلت: دخل أو لم يدخل؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يكون لها عليه قيمة الخمسة التي نقصت معناه إذا رضيت بإمساك الجنان ولم ترد الرد، ولو أرادت الرد لكان لها أن ترده ويكون لها قيمة جميعه على أن فيه عشرة فدادين لأن حكم ما نقص من العدد الذي اشترطت حكم الاستحقاق. ومن اشترى عشرة فدادين فاستحق منها خمسة كان مخيرا بين أن يرجع بما ينوب المستحق من الثمن أو يرد ما بقي، والقياس أن تكون مخيرة بين أن ترد الجنان وترجع بصداق مثلها أو تمسك وترجع بنصف صداق مثلها وهو ما ناب الخمسة التي نقصت من العدة التي اشترطت، قال ابن صالح وابن لبابة: هذا الذي يأتي على قياس قولهم في البيوع غير أن ذلك لا يوجد لهم، وليس ذلك كما قال، بل هو موجود لمالك، وقد مضى ذلك في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب. ولو وجدت في الجنان على قياس هذا القول أكثر من عشرة فدادين لم يكن لها منه إلا عشرة فدادين، ويكون الزوج معها فيه شريكا. بالزيادة، وقد روي عن مالك أن اشتراط المبتاع عدد الزرع في الأرض عند ابتياعها إنما هو كصفة من صفاتها فإن وجد زيادة كان له، وإن وجد نقصانا كان مخيرا بين أن يرد أو يمسك بجميع الثمن، فعلى هذا القول تكون المرأة مخيرة بين أن ترد الجنان وترجع بقيمته أو بصداق مثلها على الاختلاف الذي ذكرناه وبين أن تمسك ولا شيء لها، وهذا الاختلاف قائم من أول مسألة من كتاب تضمين الصناع من المدونة، وهو منصوص عليه في سماع عيسى ونوازل سحنون من كتاب جامع البيوع وفي نوازل سحنون أيضا من كتاب العيوب.
[مسألة: رجل تزوج امرأة بمائة دينار خمسون منها نقدا وخمسون إلى سنة]
مسألة وقال في رجل تزوج امرأة بمائة دينار خمسون منها نقدا،(4/420)
وخمسون إلى سنة، فانقضت السنة ولم يدخل بها فدخل بها بعد السنة، فطلبت الخمسين، وقال: لم أدخل حتى أديتها، قال مالك: إذا دخل بها بعد السنة فهو مصدق ويحلف.
قال محمد بن رشد: حكم لما حل من الكالئ قبل البناء بحكم النقد، وهو قول ابن حبيب في الواضحة ومثله في النكاح الثاني من المدونة في الذي يتزوج بنقد كذا وخادم إلى سنة فدخل بعد السنة، فعلى هذا يكون من حق الزوجة إذا حل الكالئ قبل الدخول ألا يدخل بها حتى يؤديه إليها، وقد حكى الفضل عن يحيى بن يحيى أنه إذا أتى بالنقد وأعسر بالكالئ كان له أن يدخل بها وتتبعه بالكالئ دينا عليه، قال: هو أشبه بما روى ابن سحنون عن أبيه، فعلى هذا لا يبرأ الزوج بالدخول منه ولا يصدق عليه على أنه قد دفعه وتحلف المرأة أو يكون القول قولها.
[مسألة: الرجل يتزوج المرأة ويتحمل رجل آخر بالصداق]
مسألة وسألته عن رجل تزوج امرأة وتحمل رجل بالصداق فدخل بها زوجها فطلبت المرأة الصداق من الحميل بعد دخول الزوج عليها، وزعم الزوج والحميل أنها قد قبضته قبل الدخول، قال: القول قول الحميل ويحلف، قيل لسحنون: فلو كانت ارتهنت بصداقها منه رهنا ثم دخل بها هل الرهن والحميل بمنزلة سواء ويبرئه الدخول؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله: القول قول الحميل ويحلف يريد يحلف ما علم أنه بقي لما قبل زوجها شيء من صداقها، وإنما يلزمه اليمين على هذا إذا غاب الزوج أو كان حاضرا فأقر أنه لم يدفع وهو عديم لأنه يتهم لزوجته على الحميل، فالقول قول الحميل، وأما إن ادعى الزوج الدفع أو كان مليا فأقر أنه لم يدفع فلا شيء على الحميل لسقوط الحمالة عنه بيمين الزوج إن ادعى الدفع أو بإقراره إن كان مليا. وقول سحنون: إن الدخول يبرئ(4/421)
الزوج من الصداق إذا ادعى دفعه قبل الدخول وإن كان قد رهنها به رهنا صحيح إذا كان الرهن عند النكاح لا عند الدخول؛ لأن من حقها أن تمتنع من دخوله بها حتى يؤدي إليها مهرها ارتهنت به منه رهنا أو لم ترتهن فلا تأثير للرهن في ذلك.
[مسألة: امرأة تصدقت على زوجها بصداقها فمنت عليه بعد ذلك]
مسألة وسئل عن امرأة تصدقت على زوجها بصداقها فمنت عليه بعد ذلك فقال: أنا أكتب لك صداقا فكتب لها صداقا إلى أجل أو حال، قال: إن لم تقبض الذي كتب لها في حياته فلا شيء لها لأنها عطية.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن العطية إذا لم تحز حتى مات المعطي بطلت لقول أبي بكر الصديق لعائشة: لو كنت حزته لكان لك الحديث، وهذا المعنى مروي أيضا عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وأنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا مخالف لهم من الصحابة، فقامت بذلك الحجة على من يقول: إنها لا تفتقر إلى حيازة، وهو قول أحمد بن حنبل وجماعة سواه، والحمد لله.
[أرسل رجلا يزوجه امرأة سماها فذهب الرجل وزوجها إياه بعبد المرسل]
ومن كتاب لم يدرك وقال مالك في رجل أرسل رجلا يزوجه امرأة سماها، فذهب الرجل وزوجها إياه بعبد المرسل ولم يكن سمى له صداقا يسوق عنه فسخط ذلك، قال: إن سخطه فسخ النكاح ولم يكن عليه شيء، قال: ولو كان ساق عنه دنانير أو دراهم فكان ذلك مثل صداق مثلها لزمه النكاح على ما أحب أو كره، وهذا بمنزلة ما لو بعث رجلا يبتاع له سلعة سماها له بعينها ولم يسم له ثمنها فذهب الرسول فابتاعها بدار المرسل أو بعبده لم يلزمه إلا أن يشاء لأنه ليس(4/422)
للرسول أن يبيع عليه داره ولا غلامه، ولو كان اشترى بدنانير أو دراهم لزمه الاشتراء على ما أحب أو كره إذا كان يشبه ثمن مثله، فالنكاح بهذه المنزلة. قلت: أرأيت إن طلق قبل أن يرد النكاح أيكون عليه نصف ما ساق عنه؟ قال: نعم، ذلك عليه لأن طلاقه إجازة للنكاح، ولو كان رده لم يكن عليه شيء، وكان فراقه ذلك طلقة، وإن تزوجها يوما ما كانت عنده على اثنتين.
قال محمد بن رشد: قوله: إن سخطه فسخ النكاح يريد بطلقة على ما قال في آخر المسألة يدخل على أنه إن رضي بذلك جاز، وهذا إذا كان ذلك بقرب العقد، وأما إن لم يعلم بذلك حتى بعد الأمر فيتخرج جواز النكاح إن رضي به على قولين، ولو أعلم الرسول ولي المرأة عند العقد بافتياته على الذي أرسله في عبده بغير إذنه لكان العقد فاسدا لدخوله على أن للزوج الخيار، وقد مضى ما يدل على الذي ذكرناه في مسألة الولي يزوج وليته الغائبة بغير أمرها في أول سماع ابن القاسم وهي مسألة المرأة تأمر وليها أن يزوجها فيزوجها من رجل لا يسميه لها في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب، وسائر ما ذكر في المسألة صحيح بين لا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل وقع ابن له في جب فقال لرجل إن أخرجته منه فأنا أزوجك ابنتي]
مسألة وقال في رجل وقع ابن له في جب فقال لرجل: إن أخرجته منه فأنا أزوجك ابنتي أو قد زوجتك ابنتي إن أخرجته فأخرجه، قال: لا يلزمه النكاح ولا يكون نكاحا، وأرى له أجرة مثله فيما شخص استخرجه حيا أو ميتا، قال: وليس يكون النكاح جعلا ولا كراء في شيء من الأشياء، قلت: فما ذكر في كتاب الله من قصة موسى وشعيب؟ قال: الإسلام على غير ذلك، قلت: فإن وقع؟ قال: إن وقع وأدرك قبل البناء فسخ، وإن فات بدخول كان لها صداق مثلها وكان له كراء مثله فيما شخص.(4/423)
قال محمد بن رشد: جمع في هذه الرواية بين النكاح بالجعل وبالإجارة فقال: لا يكون النكاح جعلا ولا كراء في شيء من الأشياء، وهما مفترقان، أما النكاح فلا اختلاف في أنه لا يجوز لأن الجعل لا يلزم المجعول له، وله أن يترك متى شاء، فالنكاح به نكاح فيه خيار، فلا اختلاف في أنه لا يجوز، وأما النكاح بالأجرة مثل أن يتزوجها على أن يحجها أو يعمل لها عملا ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك مكروه كان معه نقد أو لم يكن، فإن وقع نفذ ومضى ولم يفسخ، وهو قول أصبغ وروايته عن ابن القاسم وقع ذلك هاهنا في بعض الروايات، واستحسنه ابن لبابة وتعجب من رواية عيسى وقوله: الإسلام على غير ذلك، قال: وقد ثبت عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مثل ذلك، يريد ما جاء في بعض الآثار من قوله: «قد أنكحتكها بما معك من القرآن تعلمها إياه» للرجل الذي سأله أن يزوجه المرأة التي كانت وهبت له نفسها إذ لم يجد شيئا يصدقها إياه إلا سورا من القرآن سماها على ما جاء في الحديث، وهو ظاهر ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك من الكراهة في ذلك، والثاني أن ذلك لا يجوز كان معه نقد أو لم يكن، فإن وقع فسخ قبل الدخول وثبت بعده، وكان فيه صداق المثل، وهو الذي يدل عليه قوله في هذه الرواية: الإسلام على غير ذلك، والثالث الفرق بين أن يكون معه نقد أو لا يكون معه نقد، وهذه التفرقة على وجهين: أحدهما أنه إن كان معه نقد جاز ولم يفسخ، وإن لم يكن معه نقد فسخ قبل الدخول وثبت بعده وكان فيه صداق المثل، والثاني أنه إن لم يكن معه نقد فسخ قبل الدخول وثبت بعده وكان فيه صداق المثل، وإن كان معه نقد فسخ قبل الدخول ومضى بعده بالمسمى من النقد والكراء والعمل أو قيمة ذلك على اختلاف قول ابن القاسم في ذلك في رسم الدور والمزارع من سماع يحيى في الذي يتزوج المرأة بصداق مسمى على أن يحجها، إذ لا فرق عندهم بين أن يتزوجها على أن يحجها أو على أن يعمل لها عملا، وقال ابن حبيب على ما اختاره من إجازة النكاح على أن يحجها أو على(4/424)
أن يعمل لها عملا وإن لم يكن مع ذلك نقد إنه لا يدخل بها حتى يحجها أو يعطيها مقدار ما ينفق على مثلها في الحج بها، فإذا أخذت ذلك فإن شاءت حجت وإن شاءت تركت، وفي ذلك من قوله نظر لأن فسخ الدين في الدين يدخل في التخيير، فالصواب أن لا يحمل ذلك من قوله على التخيير وأن يكون معناه أنه لا يدخل بها حتى يحجها على قول من يوجب عليه إحجاجها أو يعطيها مقدار ما ينفق على مثلها في الحج، على قول من يرى ذلك عليه على ما وقع من الاختلاف في ذلك في سماع يحيى، وقال أشهب: له أن يدخل بها قبل أن يحجها إلا أن يأتي إبان الحج قبل أن يدخل بها فلا يكون ذلك له كالكالئ يحل قبل الدخول.
[مسألة: زوج رجلا على أنه إن كان حرا فالنكاح ثابت وإن كان مملوكا فلا نكاح بينهما]
مسألة وقال في رجل زوج رجلا على أنه إن كان حرا فالنكاح ثابت وإن كان مملوكا فلا نكاح بينهما، فدخل بها أو لم يدخل، قال: دخل أو لم يدخل، يوقف عنها حتى يتبين، فإن كان حرا ثبت النكاح، وإن كان مملوكا فلا نكاح بينهما. قلت: فإن كان عبدا يوم وقعت العقدة فعتق بعد ذلك، فعثر على ذلك وهو حر بعد وقد دخل أو لم يدخل، قال: دخل أو لم يدخل فالنكاح مفسوخ إذا كان عبدا يوم وقعت العقدة، ولكن إن كان دخل بها فلها الصداق كله إن كان سيده أعتقه ولم يستثن ماله، فإن كان استثنى ماله أخذ منها ما ساق إليها وترك لها قدر ما تستحل به، وضعف الترك عن مالك وقال: إنما هو مال من مال السيد، وإن لم يدخل بها فسخ النكاح ولا شيء لها استثنى ماله سيده أو لم يستثن لأنه لم يكن نكاحا.
قال محمد بن رشد: أجاز هذا النكاح على ما فيه من معنى الخيار بكونه موقوفا على اختبار حال الزوج إن كان حرا أو عبدا، إذ ليس بخياره على الحقيقة في العقد لأن النكاح بالخيار لا ينعقد حتى يمضي، ولا ميراث فيه(4/425)
إن مات أحدهما قبل أن يمضي، وهذا ينعقد بنفس العقد ويكون فيه الميراث إن مات أحدهما ثم انكشف أن الزوج كان حرا يوم العقد، وإنما يجوز النكاح ويوقف عنها على ما قال حتى يتبين إن كان الزوج حرا أو عبدا إذا كان اختبار ذلك قريبا، والله أعلم، ولا يحل له أن يدخل حتى يعلم أنه كان حرا يوم وقعت العقدة؛ إذ لا ينعقد النكاح إلا بكونه حرا يومئذ، فلا يصح له أن يدخل بامرأة لا يدرى هل انعقد نكاحه معها أم لا، فإن دخل وقف عنها حتى يعلم حاله يوم العقد، فإن انكشف أنه كان حرا ثبت معها، وإن انكشف أنه كان عبدا فرق بينهما، أعتق بعد ذلك أو لم يعتق، ويكون لها الصداق إن كان سيده أعتقه ولم يستثن ماله، وإن كان استثناه أخذ منها ما ساق إليها وترك لها قدر ما تستحل به على ما قال، وإذا أخذ ذلك منها كان لها أن تتبعه دينا ثابتا في ذمته وكذلك إن كان لم يعتق وأخذ ذلك السيد منها كان لها أن تتبعه دينا ثابتا في ذمته إن عتق إلا أن يسقط ذلك السيد عن ذمته قبل أن يعتقه، وقد قيل: إنه لا يسقط ذلك عن ذمته إلا السلطان، والقولان في المدونة.
[مسألة: الرجل يتزوج المرأة فيصدقها صداقا فتطلب منه نفقة العرس]
مسألة سألنا مالكا عن الرجل يتزوج المرأة فيصدقها صداقا فتطلب منه نفقة العرس هل يكون ذلك عليه؟ قال: ما أرى ذلك عليه، وما هو بصداق ولا بشيء ثابت، وقال: أرأيت لو كان طلقها قبل أن يدخل بها هل كان عليه نصف نفقة العرس أو مات عنها قبل أن يدخل بها هل كانت تأخذ مع صداقها قيمة نفقة العرس؟ ما هذا بشيء ولا هذا أمر ثابت، فردد عليه وقيل له: يا أبا عبد الله إنه شيء قد أجروه بينهم، وهو سنتهم، فقال: إن كان ذلك شأنهم وسنتهم فأرى أن يفرض ذلك عليهم، قال ابن القاسم: وإن تشاحوا لم يكن ذلك لهم إلا أن يشترطوه.(4/426)
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: اليتيمة يزوجها عمها أو ابن عمها أو وصي وهي صغيرة لم تبلغ]
مسألة وسئل عن اليتيمة يزوجها عمها أو ابن عمها أو وصي وهي صغيرة لم تبلغ من رجل ثم تموت أو يموت الزوج هل بينهما ميراث؟ أو عليها عدة؟ أو لها مهر؟ وهل يكون هذا نكاحا ثابتا أم لا؟ قال ابن القاسم: إنه يكره أن يزوجها أحد إلا أبوها حتى تبلغ المحيض، ولا أعلم أن مالكا كان يبلغ بها أن يقطع الميراث بينهما، فأرى أن يتوارثا فإنه أمر جل الناس قد أجازوه، وقد زوج عروة بن الزبير بنت أخيه وهي صبية ابنه، والناس يومئذ متوافرون، وعروة من هو.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم مستوفى فليس لإعادته هاهنا معنى، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة الغريبة الكبيرة تلجأ إلى الرجل فيقوم لها بحوائجها ويناولها الحاجة]
مسألة وسئل عن المرأة الغريبة الكبيرة تلجأ إلى الرجل فيقوم لها بحوائجها ويناولها الحاجة هل ترى ذلك حسنا؟ قال: لا بأس به، وليدخل معه غيره أحب إلي، ولو تركها الناس لضاعت.
قال محمد بن رشد: وهذا على ما قال: إنه جائز للرجل أن يقوم للمرأة الأجنبية في حوائجها ويناولها الحاجة إذا غض بصره عما لا يحل له النظر إليه مما لا يظهر من زينتها لقول الله عز وجل: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] وذلك الوجه والكفان على ما قاله أهل التأويل فجائز للرجل أن(4/427)
ينظر إلى ذلك من المرأة عند الحاجة والضرورة، فإن اضطر إلى الدخول عليها أدخل معه غيره ليبعد سوء الظن عن نفسه، فقد روي «أن رجلين من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه صفية زوجته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقال لهما: " إنها صفية " فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما فتهلكا» ، أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[مسألة: رجلا قال لامرأته أنت طالق إن تزوجت عليك إلا بإذنك أو رضاك]
مسألة وقال: لو أن رجلا قال لامرأته: أنت طالق إن تزوجت عليك إلا بإذنك أو رضاك فقال لها: خذي مني مائة دينار وأذني لي في التزوج، قال: لا يجوز ذلك إلا عندما يريد أن يفعل.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة موعبا في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: طلقها زوجها طلقة واحدة قبل أن يدخل بها ثم مات فظهر بها حمل]
مسألة قال ابن القاسم: لو أن امرأة طلقها زوجها طلقة واحدة قبل أن يدخل بها ثم مات فظهر بها حمل وزعمت أنه منه وأنه كان يأتيها في أهلها قبل قولها وورثه الولد، ولم يكن لها هي ميراث، ولم يكن لها أكثر من نصف الصداق الذي أخذت.
قال محمد بن رشد: أما الولد فلا اختلاف في أنه يلحق به ويرثه إذا أتت به بعد موته لما يشبه أن يكون منه وزعمت أنه منه وكان ما قالت من إتيانه إليها في أهلها يمكن على ما قال في المدونة فقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد(4/428)
للفراش» لأنها قد صارت فراشا له بعقد النكاح، فوجب أن يلحق به ولدها إذا ادعت أنه منه إلا أن يتبين كذبها أو يكون حيا فينكر ويلاعن، وأما الصداق والميراث فقد قال محمد بن المواز: إن الصواب أن يكون لها الصداق كاملا والميراث إن مات قبل انقضاء العدة للحوق الولد، وروى مثله زياد بن جعفر عن مالك في المدنية، وهو الذي يأتي على أصولهم في أن لحوق النسب يدفع التهم، من ذلك قولهم في الذي يقر في مرضه الذي مات منه بحمل أمته أنه منه وورثته كلالة أنها تعتق من رأس المال، وقولهم في الملاعن يستلحق ولده بعد موته وله ابنة أو ولد إن له ميراثه منه مع الابنة أو الولد بخلاف إذا استلحقه بعد موته ولا ولد له على ما وقع في نوازل سحنون من كتاب الاستلحاق، وقول ابن القاسم هاهنا وفي المدونة أظهر، إذ لا ضرر على المرأة في لحوق النسب بزوجها يسقط عنها التهمة في دعواها الصداق والميراث بل لها في ذلك منفعة وهو سقوط الحد عنها، فهي مدعية في الجميع إلا أن السنة أحكمت أن يدرأ الحد عنها لإمكان ما ادعت من إتيان زوجها إياها في أهلها وإلحاق النسب بالزوج للحق الذي له في ذلك إذ لم يعلم منه إنكار لما ادعت، والله الموفق.
[مسألة: المرأة يكون معها ولد فتزوج فيولد لها من زوجها ثم يموت الصبي]
مسألة وسألته عن المرأة يكون معها ولد فتزوج فيولد لها من زوجها ثم يموت الصبي الذي تزوجت له فتزعم أنه لم يكن ولدها وإنما هو ولد كان لسيدها ترضعه ويطلبها زوجها ميراث ابنه منه فيأتي بشاهدين يشهدان أنه ابنها، فقال ابن القاسم: يثبت ميراث ولد زوجها منها منه بشهادة الشاهدين، قلت: فإن استلحقته بعد ذلك فقالت: هو ولدي هل يكون لها ميراثها منها؟ فقال: لا يقبل قولها(4/429)
ولا يكون لها من ذلك شيء بعد الإنكار، قلت: فمصابتها ما تصنع به؟ وهل يقسم على ورثة الصبي دونها ويكون كمن لا أم له؟ وكيف إن قسم هل يرث ابنها من زوجها من مصابتها شيئا وهو إنما ورث بولادتها ومن قبلها؟ قال: تكون مصابتها منه بين جميع من يرث الصبي ابنها وغيره.
قال محمد بن رشد: ليس للأم أن تستلحق ولدها فسواء زعمت أنه لم يكن ولدها أو أقرت بذلك لا يستحق الزوج ميراث ابنه منه إلا بشهادة الشاهدين، ولا تستحق هي ميراثه باستلحاقها إياه ولا بشهادة الشاهدين بعد الإنكار، على هذا يحمل قوله، ولا يلتفت إلى ما يدل عليه ظاهره من خلاف ذلك، وإذا بطل ميراثها منه بشهادة الشاهدين لإنكارها أن يكون ابنها كان كمن لا أم له، وورثه سائر ورثته دونها، وقوله: إن ميراثها منه يكون بين جميع من يرثه ابنها وغيره كلام فيه نظر لأن ابنها من الزوج أخو الميت لأمه، فميراثه منه السدس فريضة فرضها الله له فكيف يصح أن يكون له من مصابة أمه شيء فيكون قد ورث أكثر من السدس؟ هذا لا يصح، وإنما يستقيم قوله: إن كان يدخل الفريضة عول بميراث الأم ينتقص ابنها به من السدس فإذا بطل ميراث الأم كان له منه تمام السدس إن ارتفع العول من الفريضة أو ما يجب له منه ما بينه وبين السدس إن لم يرتفع العول جملة، مثال هذا ارتفاع العول أن يترك الصبي المتوفى أمه وأخوين لأم أحدهما ابنها من هذا الزوج وأختين لأب، ويثبت ذلك كله بالبينة وتنكر الأم أن يكون المتوفى ابنها فتكون الفريضة على أن الأم وارثة من ستة وتعول إلى سبعة فيرجع كل واحد من الأخوين للأم من السدس إلى السبع، فإذا أنكرت الأم أن يكون المتوفى ابنها بطل ميراثها وارتفع العول من الفريضة فكان لكل واحد من الورثة تمام فريضته من ميراثها ابنها من الزوج وغيره من الورثة، فهذا وجه قوله يكون(4/430)
مصابتها منه بين جميع من يرث الصبي ابنها وغيرها، لا وجه له إلا هذا، وبالله التوفيق، ولا قوة إلا بالله.
[الدعوى إلى عرس النكاح وفيه لهو يسير ودف]
ومن كتاب أوله سلف دينارا
في ثوب إلى أجل وسئل مالك عن الرجل يدعى إلى الصنيع فيجد فيه اللعب أيدخل؟ قال: إن كان الشيء الخفيف مثل الدف والكبر الذي يلعب به النساء فما أرى بأسا.
قال محمد بن رشد: يريد بالصنيع صنيع العرس أو صنيع العرس والملاك على ما قال أصبغ في سماعه لأن ذلك هو الذي رخص في بعض اللهو فيه لما يستحب من إعلان النكاح مع ما جاء في ذلك، روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفاف» ، وأنه قال: «فصل بين الحلال والحرام الدف والصوت» ، «وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر ببني زريق فسمع غناء ولعبا فقال: " ما هذا؟ " فقالوا: نكح فلان يا رسول الله، فقال: " هذا النكاح لا السفاح، ولا نكاح حتى يسمع دف أو يرى دخان» ، فاتفق أهل العلم فيما علمت على إجازة الدف وهو الغربال في العرس، واختلفوا في الكبر والمزهر على ثلاثة أقوال: أحدها أنهما يحملان جميعا على محمل الغربال أو يدخلان مدخله في جواز استعمالهما في العرس، وهو قول ابن حبيب، والثاني أنه لا يحمل واحد منهما محمله ولا يدخل معه ولا يجوز استعماله في عرس ولا غيره، وهو قول أصبغ في سماعه بعد هذا من هذا الكتاب، وعليه يأتي ما في سماع سحنون عن ابن القاسم من كتاب جامع البيوع أن الكبر إذا بيع يفسخ بيعه ويؤدب أهله لأنه إذا قال ذلك في الكبر(4/431)
فأحرى أن يقوله في المزهر لأنه ألهى منه، والثالث أنه يحمل محمله ويدخل مدخله الكبر وحده دون المزهر،. وهو قول ابن القاسم هاهنا، وفي رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الوصايا، وعليه يأتي ما في سماع عيسى من كتاب السرقة أن السارق يقطع في قيمة الكبر صحيحا. ولابن كنانة في المدونة إجازة البوق في العرس، فقيل: معنى ذلك في البوقات والزمارات التي لا تلهي كل الإلهاء، والله أعلم، واختلف في جواز ما أجيز من ذلك فقيل: ما هو من قبيل الجائز الذي يستوي فعله وتركه في أنه لا حرج في فعله ولا ثواب في تركه، وهو المشهور في المذهب، وقيل: إنه من قبيل الجائز الذي تركه أحسن من فعله، فيكره فعله لما في تركه من الثواب لا أن في فعله حرجا أو عقابا وهو قول مالك في المدونة أنه كره الدفاف والمعازف في العرس وغيره، واختلف هل يجوز ذلك للنساء دون الرجال أو للنساء والرجال؟ فقال أصبغ في سماعه: إن ذلك إنما يجوز للنساء دون الرجال، وإن الرجال لا يجوز لهم عمله ولا حضوره، والمشهور أن عمله وحضوره جائز للرجال والنساء، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية في سماع أصبغ خلاف قول أصبغ، وهو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلا أنه كره لذي الهيئة من الناس أن يحضر اللعب، روى ذلك ابن وهب عنه في سماع أصبغ، وأما ما لا يجوز عمله من اللهو في العرس فلا يجوز لمن دعي إليه أن يأتيه، وقد مضى القول على ذلك في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم.
[مسألة: رجل شرط لامرأته في عقدة النكاح إن خرج بها إلا بإذنها فهي طالق]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل شرط لامرأته في عقدة النكاح إن خرج بها إلا بإذنها فهي طالق، فخرج بها بإذنها فسألته أن يردها فحلف بطلاقها البتة ألا يردها، قال: يحنث إذا أبى أن يردها إن سألته ذلك لأن مالكا قال: عليه أن يردها إذا سألته ذلك، فإن لم يردها حنث، كان عليه الطلاق إن ردها أو لم يكن إذا حلف لها بالطلاق أن لا يخرجها إلا بإذنها فأخرجها بإذنها ثم سألته أن يردها لم(4/432)
يكن عليه أن يردها، ولا حنث عليه إذا خرج بها بإذنها، قال مالك: وتحلف بالله ما كان إذنها له تريد به قطعا لشرطها، فإن حلفت كان عليه أن يردها، قال: وأخبرني سحنون عن ابن القاسم أنه قال: لا يعجبني إذا خرج بها برضاها أن يكون عليه أن يردها إلا أن يردها طائعا فيحنث كما قال مالك في أول مرة، وذلك أنه لو شرط لها ألا يتزوج عليها إلا بإذنها فأذنت له ثم أرادت أن تفسخ ذلك لم يكن لها ذلك، وكذلك التسرر.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها محصلا في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته ههنا، وتعليله في رواية سحنون يدل على أنه لا يمين عليها خلاف رواية عيسى أنه يردها في الشرط بعد يمينها وبالله التوفيق لا شريك له.
[زوج أختا له صغيرة ثم غفل أن يستأمرها عن ذلك حتى كبرت]
ومن كتاب أوله:
إن خرجت من هذه الدار قال: وسئل مالك عمن زوج أختا له صغيرة أو ولية له غير أخت صغيرة لم تبلغ أن يستأمرها في نفسها ثم غفل عن ذلك حتى كبرت الجارية فاستوجبت رضاها فرضيت هل يقران على هذا النكاح؟ قال: لا، إلا أن يطول بولادة أو يطول زمان ذلك بعد الدخول، فإن أدرك قبل الفوت فسخ وكانت طلقة، قيل له: فلو مات أحدهما قبل الفسخ هل كانا يتوارثان؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها موعبا في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته هنا.
[مسألة: رجل أخذ جارية لأم ولده فزوجها غلامه ثم مات فطلبت أم الولد جاريتها]
مسألة وسئل عن رجل أخذ جارية لأم ولده فزوجها غلامه ثم مات(4/433)
فطلبت أم الولد جاريتها هل ترى تزويجه إياها غلامه نزعا من أم ولده؟ قال: لا أراه نزعا والجارية لأم ولده، والنكاح ثابت، وهو بمنزلة لو زوج جارية لعبده غلامه ثم أعتق سيد الجارية ولم يستثن ماله إن الجارية للعبد والنكاح ثابت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن العبد وأم الولد مالكان لأموالهما فلا يحمل ما فعل السيد في ذلك على الانتزاع إذا لم يصرح به إلا أن يكون مما لا يصح أن يفعله إلا بعد الانتزاع مثل أن يطأ أو يعتق أو يهب أو يتصدق أو يصالح به عن نفسه وما أشبه ذلك، وقد اختلف إذا رهنه في دين عليه فقال في المدونة: إن ذلك لا يكون انتزاعا وإن افتكه بقي على ملكه إلا أنه لم يجز له إن كانت أمة أن يطأها لأنه رأى ذلك تعريضا للانتزاع، وقد قيل: إن الرهن انتزاع لأن للمرتهن حقا في عين الرهن يجب له به أن يباع في حقه وما في المدونة أظهر، إذ للسيد أن يفتكه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتزوج المرأة فتشترط عليه أن لا يتزوج عليها]
مسألة وقال مالك في الرجل يتزوج المرأة فتشترط عليه أن لا يتزوج عليها، فإن فعل فالتي يتزوج طالق البتة، فإن لم يفعل فأمرها بيدها فيتزوج، فقال: إن لم يطلق فأمرها بيدها، ولا يقع عليه طلاق إن تزوج، إنما يؤمر أن يطلق التي تزوج وإلا اختارت نفسها امرأته التي تحته، فإن لم يفعل لم يلزمه ذلك.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة في رسم القبائل من سماع ابن القاسم، وقد مضى القول عليها هناك، فلا معنى لإعادته هاهنا، والحمد لله.
[مسألة: فوض إلى الرجل أمر امرأته فمرض ففرض لها في المرض فدخل بها]
مسألة قال ابن القاسم: إذا فوض إلى الرجل أمر امرأته فمرض ففرض لها في المرض فدخل بها فإنه إن كان فرض لها مثل صداق(4/434)
مثلها فإن ذلك لها وإن أحاط بجميع ماله، وإن زاد على صداق مثلها ثم مات من مرضه ذلك ردت إلى صداق مثلها، قال: وذلك إذا عقد نكاحها في الصحة، قال: ولو كان فرض لها في المرض فلم يدخل بها ثم مات لم يكن لها من الصداق شيء، وكان لها ميراثها منه، ولو كان فرض لها في مرضه ولم يدخل بها ثم ماتت وصح هو من مرضه كان لورثتها.
قال محمد بن رشد: أما إذا فوض إليه في الصحة وفرض في المرض ودخل فإن كان فرض لها صداق مثلها أو أقل فرضيت به فلا اختلاف في أن لها ما سمى لها من الصداق من رأس ماله وإن مات من مرضه ذلك، وإن كان فرض لها أكثر من صداق مثلها وصح من مرضه كان لها جميع ما فرض، وإن مات من مرضه كان لها صداق مثلها من رأس ماله وبطل الزائد إلا أن يجيزه الورثة لأنه وصية لوارث إلا أن تكون ذمية أو أمة فقيل: إن ذلك يكون لها من الثلث وصية، وهو قول ابن المواز، وحكاه عن مالك، وقيل: إنه يبطل لأنه لم يسم ذلك لها على سبيل الوصية، وهو قول ابن الماجشون، وأما إذا فوض إليه في الصحة وفرض في المرض ولم يدخل فمات من مرضه فلا شيء لها إلا أن يجيز ذلك الورثة لأنه وصية لوارث إلا أن تكون ذمية أو أمة فقيل: إن ذلك يكون لها من الثلث، وقيل: يبطل على ما تقدم من الاختلاف في الزيادة على صداق المثل إذا دخل، إذ لا فرق بين الزيادة إذا دخل وبين الجميع إذا لم يدخل، وإن لم يمت من مرضه وصح منه وهي حية ثبت لها جميع ما فرض باتفاق، واختلف إن لم يصح من مرضه حتى ماتت على ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا شيء لورثتها مات من مرضه أو صح منه، وهو قول ابن المواز، والثاني: إن صح من مرضه كان لورثتها، وإن مات منه كان لهم من الثلث لأنها تصير وصية لغير وارث، وإلى هذا ذهب الفضل، وهو الذي يأتي على ما في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات،(4/435)
والثالث: أنه إن صح من مرضه كان لورثتها، وإن مات منه لم يكن لهم شيء لأن الموصى له إذا مات قبل [موت] الموصي بطلت وصيته، وهذا قول أصبغ. ودليل قول ابن القاسم في هذه الرواية ولو كان فرض لها ولم يدخل ثم ماتت وصح هو من مرضه كان لورثتها لأن قوله إن ذلك يكون لورثتها إن صح يدل [على] ، أن ذلك ليس لهم إن لم يصح، وهو قول محمد بن إبراهيم بن دينار في هبة البتل في المرض إذا مات الموهوب له قبل الواهب فمات الواهب من مرضه ذلك، والفرض في المرض كهبة البتل في المرض سواء، فقف على ذلك كله وتدبره، وبالله التوفيق.
[مسألة: تزوج امرأة واشترط عليه إن تزوج عليها فأمر التي تزوج عليها بيدها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل تزوج امرأة واشترط عليه إن تزوج عليها فأمر التي تزوج عليها بيدها فتجن ويذهب عقلها فيريد زوجها أن يتزوج عليها، قال: لا يتزوج عليها أبدا.
قال محمد بن رشد: إن تزوج عليها فسخ نكاحه قاله ابن القاسم في سماع أبي زيد في الصغيرة التي لا تعقل، وهو في المجنونة أحرى أن يفسخ، فإن تزوجها منع من وطئها حتى تفيق امرأته متى أفاقت فتقضي أو تترك، قال ذلك أصبغ. ووجه قول ابن القاسم أنه لما كان إن تزوجها لم يقدر على وطئها من أجل التمليك الذي أوجب فيها حتى يعلم ما عند المملكة من القضاء أو الرد كان كمن تزوجها على أن لا يطأها حتى تصح المملكة من جنونها، ووجه قول أصبغ أن هذا التحجير في الوطء لما لم يكن شرطا في العقد وإنما أوجبه الحكم لم يؤثر في صحة العقد كالتحجير الذي يوجبه الحكم وليس بشرط في أصل العقد، ولابن القاسم في كتاب ابن المواز خلافه أنه إذا(4/436)
استونى في أمرها فلم تفق كان له أن يتزوج عليها، فإن أفاقت يوما ما كان ذلك بيدها، وأنكر ذلك أصبغ، وسيأتي في سماع أبي زيد من هذا الكتاب وفي رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير إذا ملك الصغيرة أمر نفسها ففيها شبهة من هذه.
[مسألة: رجل زوج أمتين له من رجل ثم زعم بعد تزويجه أنهما ابنتاه]
مسألة وسئل عن رجل زوج أمتين له من رجل ثم زعم بعد تزويجه أنهما ابنتاه، قال: يثبت نسبهما ويفارق الآخرة منهما، قال عيسى: إن كان نكاحه إياهما في [غير] عقد واحد، فإن كان في عقد واحد فسخ نكاحهما جميعا ثم يتزوج أيتهما أحب بعد الاستبراء.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن استلحاق الأب ابنه جائز، فلا فرق بين أن يستلحق الأمتن بعدى أن زوجهما أو يثبت نسبهما منه بالبينة، فإن كان تزوجهما الزوج واحدة بعد واحدة فرق بينه وبين الآخرة بغير طلاق ولم يكن لها شيء من الصداق إلا أن يكون قد دخل بها فيكون لها جميع الصداق، وإن لم تعلم الآخرة منهما فرق بينه وبينهما جميعا دخل بهما أو لم يدخل بهما وكان له أن يتزوج من شاء منهما بعد أن يستبرئها بثلاث حيض إن كان قد دخل بها، ومن دخل بها منهما كان لها جميع صداقها، وإن كان تزوجهما في عقد واحد فسخ نكاحهما جميعا بغير طلاق وكان لكل واحدة منهما جميع صداقها إن كان قد دخل بها، ويتزوج أيتهما شاء بعد الاستبراء بثلاث حيض، إن كان قد دخل بها.
[مسألة: البكر تقوم مع زوجها فيفارقها بعد أمد يسير هل تستأمر في الزواج بعد ذلك]
مسألة وقال مالك في البكر إذا أقامت مع زوجها أمدا يسيرا الشهر والشهرين ونحو ذلك، فيعرض لزوجها دونها ثم فارقها، قال: فإن(4/437)
أباها يزوجها بغير أمرها، قال عيسى: قلت لابن القاسم: فالستة الأشهر؟ قال: أرى أن يؤامرها. فيها، فإن زوجها ولم يستأمرها فالنكاح جائز.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في أول رسم حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان من سماع ابن القاسم فلا وجلا لإعادة ذلك مرة أخرى.
[الرجل يزوج أمته من عبده فيجذم العبد]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
وسئل مالك عن الرجل يزوج أمته من عبده فيجذم العبد هل يفرق بينهما؟ قال: نعم يفرق بينهما، وأرى للسيد أن يرفع ذلك للسلطان فيكون السلطان هو الذي يفرق بينهما إذا كان جذاما بينا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأنهما زوجان فلا فرق بينهما وبين الحرين فيما تجب التفرقة [به] بينهما من الجنون والجذام والبرص، وليس للسيد أن يفرق بينهما لأن التفرقة طلاق، وهو ليس إليه الطلاق، وقد مضى في رسم نقدها من سماع يحيى ما تجب التفرقة به من ذلك بين الحرين مما لا تجب، ولا اختلاف أن العبدين في ذلك بمنزلتهما، وإنما اختلف هل يحال بين الأجذم وبين وطء إمائه فروى عيسى عن ابن القاسم في كتاب السلطان أنه يحال بينه وبين ذلك، وقال سحنون: إنه لا يحال بينه وبين ذلك، وقول ابن القاسم هو الصواب، والله أعلم، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ضرر ولا ضرار» وهو عام في جميع الأشياء، وبالله التوفيق.
[مسألة: المفقود يضرب لامرأته أجل المفقود فتتزوج في العدة]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن المفقود يضرب لامرأته أجل(4/438)
المفقود فتتزوج في العدة هل تحرم على من تزوجها في العدة كما تحرم التي تتزوج في عدة الوفاة؟ قال: إذا تزوجت في الأربع سنين فرق بينهما دخل بها أو لم يدخل بها، ثم يخطب مع من يخطب إذا حلت إن أحب، وإذا تزوجها في الأربعة الأشهر وعشر التي تكون بعد الأربع سنين فإنه إن دخل بها فرق بينهما ثم لا يتناكحان أبدا، وهو بمنزلة من تزوج في العدة وكذلك قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال محمد بن رشد: وهذا ما دام أمره لا يعرف، فإن عرفت حياته أو عرف أن موته كان في وقت لا تكون تلك الأشهر عدة فلا تحرم بذلك ولا يكون ناكحا في عدة، وكذلك لو جاء أنه مات بعد الأربعة أشهر وعشر فلا يكون ناكحا في عدة، وكذلك لو تزوجها في الأربع سنين أو بعد انقضاء الأربعة الأشهر وعشر ثم انكشف أن تزويجها كان في عدة من موته فإنها تحرم عليه ويكون ناكحا في عدة، ولو تزوجت في العدة ففسخ النكاح ثم تزوجت بعد الاستبراء بثلاث حيض ثم قدم المفقود أو علمت حياته لكان متزوجها في العدة متزوجا في عدة لأن الأربعة الأشهر التي بعد أجل المفقود محمولة على أنها عدة توجب التحريم على من تزوج فيها في موضعين: أحدهما ما لم تعلم حياته ولا موته، والثاني إذا قدم أو علمت حياته بعد أن تزوجت تزويجا صحيحا لأنه إذا انكشفت حياته أو موته قبل أن يفوت فالنكاح صحيح على ما ينكشف في ذلك مما هو عدة أو ليس بعدة، هذا كله معنى ما في المدونة وكتاب ابن المواز وغيره، قال في المدونة: لأن عمر بن الخطاب فرق بين المتناكحين في العدة في الجهل والعمد وقال: لا يتناكحان أبدا، وهذا يدل على أن تحريمها عليه أبدا إنما هو عبادة لا لعلة، وأما على ما قالوا من أن ذلك إنما هو عقوبة لما فعل من مخالفة أمر الله بتعجيل النكاح قبل أن يبلغ الكتاب أجله فكان الأظهر إذا تزوجها بعد انقضاء الأربع سنين وبعد انقضاء الأربعة أشهر وعشر ألا تحرم عليه إن انكشف أن نكاحه إياها كان في عدتها وأن يكون معذورا بجهله إذ لم يتعد ولا فعل إلا ما يجوز له مع ما في ذلك من الاختلاف؛ لأن علي بن أبي(4/439)
طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يرى أن تحرم عليه، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وهو قول ابن نافع وروايته عن عبد العزيز بن أبي سلمة، وقد روي أن عمر بن الخطاب رجع إلى قول علي بن أبي طالب في ذلك، وأما من نكح في العدة عالما بها وجهل أن ذلك لا يجوز فلا يعذر بجهله على أصولهم وبالله التوفيق.
[مسألة: تزوج وله أم ولد فاشترطت عليه إن قرب أم ولده إلا بإذنها فأمرها بيدها]
مسألة وسألته عن رجل تزوج وله أم ولد فاشترطت عليه في أصل النكاح أنه إن قرب أم ولده إلا بإذنها فأمرها بيدها إن شاءت أعتقت وإن شاءت حبست وأنه استأذنها في وطئها فأذنت له أو لم يستأذنها وكان يأتيها وهي تعلم ثم غارت فأرادت أن تقوم عليه بذلك الشرط فقال: إن أذنت له مرة أو علمت أنه كان يأتيها فقرت ورضيت فلا أمر لها، ولا قضاء فيما اشترطته من ذلك، وسواء أذنت أو لم تأذن له إذا علمت فقرت، قال أصبغ: ولو أن رجلا قال لامرأته: إن وطئت فلانة إلا برضاك لجارية له فهي حرة وأنت طالق فوطئها وهي تنظر فزعمت أنها لم ترض رأيته حانثا ولا أرى سكوتها رضى، فإن ادعى الزوج أنها أذنت له قبل وطئه إياها كلف البينة على الإذن، فإن أتى بالبينة وإلا مضى عليه الأمر، قال أصبغ: وإن جاء مستفتيا رأيت أن يدين ذلك.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ في الرضا ليس بخلاف لقول ابن القاسم في الإذن لأن الإذن بخلاف الرضى، لا اختلاف في أن السكوت لا يعد رضى، إذ قد يسكت الإنسان عن إنكار الفعل وهو لا يرضاه، واختلف في السكوت هل يعد إذنا في الشيء وإقرارا به أم لا على قولين، من ذلك في سماع أصبغ من كتاب التدبير، وما في سماع عيسى من كتاب المديان(4/440)
والتفليس ومن كتاب الدعوى والصلح، وما في سماع أصبغ من كتاب جامع البيوع، ومسألة إرخاء الستور من المدونة في الذي يراجع امرأته فتسكت ثم تقول بعد ذلك: إنها قد كانت انقضت عدتها، فجواب ابن القاسم في الذي اشترطت عليه امرأته ألا يقرب أم ولده إلا بإذنها فوطئها وهي تعلم يأتي على أحد القولين، وأظهر القولين أن سكوتها لا يكون إذنا لأن في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها» ، دليل على أن غير البكر بخلاف البكر في الصمت، وقد أجمعوا على ذلك في النكاح، فوجب أن يقاس ما عداه عليه إلا ما يعلم بالعرف والعادة أن أحدا لا يسكت عليه إلا راضيا به فلا يختلف في أن السكوت عليه إقرار به، كالذي يرى حمل امرأته فيسكت ولا ينكره ثم ينكره بعد ذلك وما أشبهه، وتفرقة أصبغ هاهنا في مسألة الرضا بين أن يأتي الزوج مستفتيا أو مخاصما هو مثل ماله في نوازله من كتاب الأيمان بالطلاق في الزوجة وأم الولد ومن أشبههما ممن لا يشهد على مثله بخلاف من يشهد عليه، فظاهر قوله هناك أن من شهد عليه لا يصدق عليه وإن أتى مستفتيا وهو بعيد، والصواب أن من لا يشهد على مثله يصدق عليه وإن كان مخاصما، وأن من يشهد على مثله لا يصدق عليه إلا أن يأتي مستفتيا.
[مسألة: يبيع لابنته البكر الرأس في صداقها ويشتري لها بثمنه ما يجهزها به]
مسألة وسئل عن الرجل يبيع لابنته البكر الرأس يساق إليها في صداقها ويشتري لها بثمنه ما يجهزها به من حلى أو غيره فقال: لا بأس بذلك، وليس لزوجها في ذلك تكلم، قيل له: فلأبيها أن يشتري ذلك الرأس لنفسه؟ قال: نعم، ذلك له إذا كان شراؤه صحيحا ببينة وأمر معروف.
قال محمد بن رشد: أما بيع الأب في جهاز ابنته الرأس يساق إليها في صداقها فلا إشكال في أنه لا متكلم للزوج في ذلك وإنما له متكلم إن أراد(4/441)
الأب أن يمسكه ولا يجهزها بثمنه إذ ذلك من حقه على مذهب مالك وأصحابه، وأما شراؤه إياه لنفسه فإنما شرط فيه أن يكون ذلك ببينة أو أمر معروف لأنه يتهم لنفسه فهو في ذلك محمول على غير السداد حتى يعلم السداد فيه بخلاف بيعه من غيره، وسيأتي في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات شراؤه لنفسه الرأس الذي يتصدق به على ابنته ونتكلم عليه إن شاء الله.
[الرجل يزوج ابنته على أنها صحيحة فتمكث سنة أو نحوها فتجذم]
ومن كتاب الثمرة قال ابن القاسم في الرجل يزوج ابنته على أنها صحيحة فتمكث سنة أو نحوها فتجذم فيدعي الأب أنها جذمت بعد النكاح وقال الزوج: بل زوجتنيها مجذومة، على من ترى البينة؟ قال ابن القاسم: البينة على الزوج أنها كانت جذماء، والأب مصدق لأنه زوجه وائتمنه فالقول قوله إلا أن يأتي الزوج بالبينة ورواها أصبغ.
قال محمد بن رشد: إنما يصدق الأب ويكون القول قوله إذا كان التداعي بعد الدخول، وأما إن كان التداعي قبل الدخول فالقول قول الزوج، وعلى الأب البينة أنه زوجه إياها صحيحة وأن ذلك حدث بها بعد عقد النكاح، كما يكون القول قول المشتري فيما وجد بالعبد المشترى قبل القبض من العيوب التي تقدم وتحدث، وقد وقع بيان هذا في سماع سحنون من كتاب التخيير والتمليك، فقف على ذلك. وقال: إن القول قول الأب ولم يبين هل يحلف ولا كيف يحلف إن حلف ولا ما يكون الحكم إن نكل، وهذا كله محمول على قولهم في البيوع، فلا بد من يمين الأب، وينبغي أن يحلف على العلم لأن ذلك مما يخفى لأنه وإن كان الآن ظاهرا لا يخفى فقد يمكن أن يكون كان في وقت العقد مما يخفى لأنه مما يزيد إلا أن يشهد أن مثل هذا الجذام لا يكون في وقت العقد إلا ظاهرا لا يخفى فيحلف على البت، فإن نكل عن اليمين حلف الزوج وكان له الرد، قيل على العلم في الوجهين، وقيل على(4/442)
نحو ما وجبت اليمين على الأب، هذا هو المشهور في المذهب، وفي سماع يحيى من كتاب العيوب أن الأيمان في ذلك كله لا تكون إلا على البنت، وكذلك الأخ بمنزلة الأب، وأما غيرهما من الأولياء فلا يمين عليهم، وإنما تحلف هي، قاله ابن حبيب في الواضحة وهو صحيح، وبالله التوفيق.
[مسألة: الزواج على شروط]
مسألة وقد قال مالك: لا ينبغي لأحد أن يشهد كتابا فيه شروط بالطلاق أو حرية أو مشي إلى مكة.
قال محمد بن رشد: لما كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - النكاح على هذه الشروط كره للشهود أن يشهدوا عليها إذ لا ينبرم العقد إلا بشهادتهم، وقد قال في سماع ابن القاسم من كتاب السلطان أشرت على قاض منذ دهر أن ينهى الناس أن يتزوجوا على الشروط وأن لا يتزوجوا إلا على دين الرجل وأمانته وأنه كان كتب بذلك كتابا وصيح به في الأسواق وعابها عيبا شديدا والله يوفق برحمته للصواب.
[غر قوما بمال لغيره وزوجوه به ثم جاء أهل المال فوجدوه بعينه أو قد استهلك]
ومن كتاب العشور قال: وسئل مالك عن رجل غر قوما بمال لغيره فأعطاهم إياه وزوجوه ثم جاء أهل المال فوجدوه بعينه أو قد استهلك وقد بنى أو لم يبن، قال ابن القاسم: إن علم أنها أموالهم بعينها أخذوها والنكاح ثابت، وإن كان قد بنى لم يمنع من أهله وكان ذلك دينا يتبع به، وإن كان لم يدخل تلوم له في الصداق فإن جاء به وإلا فرق بينهما، قلت: وهل يختلف إن كان أهل تلك الأموال استتجروه في أموالهم تلك أو أسلفوه أو باعوه بدين أو سرقها، فقال: إن كان أسلفوه أو باعوه فالمرأة أولى بها ودينهم في ذمته، وإن كان مالا استتجروه به على قراض أو أجرة يعمل لهم فيه أو سرقه فقامت لأهل(4/443)
تلك الأموال بينة أنها لهم أخذوها، وهذا الشأن في هذا، قال سحنون: وكذلك أن لو تزوج بعبد. اغتصبه أو بعبد جار له فالنكاح ثابت دخل أو لم يدخل ويكون لها قيمته، وهو خلاف الحر من قبل أن الحر لو مات لم تكن له ضامنة وأن العبد المغصوب كانت له ضامنة، ولو كانت عالمة فسخ قبل البناء وثبت بعده وكان لها صداق مثلها، قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يتزوج بالحر أو بالعبد لغيره: لا يفسخ على حال دخل أو لم يدخل، تعمد ذلك بمعرفة أو لم يتعمد، قال أصبغ: وكذلك لو علمت هي بحرية الحر ولو يعلم الزوج مثله، قال: ولو علما جميعا أنه حر وعليه كان نكحها فسخ قبل الدخول وثبت بعده ولها صداق مثلها.
قال محمد بن رشد: كان الشيوخ يحملون قول ابن القاسم في هذه الرواية وإن كان بنى لم يمنع من أهله على أنه لا يكون من حق الزوجة أن تمنعه من التمادي على وطئها إذا استحق الصداق من يدها بعد الدخول بها، وإلى هذا ذهب ابن المواز فقال: معناه إذا بقي بيدها من صداقها ربع دينار فأكثر، فأما إن لم يبق بيدها منه شيء فلها أن تمنعه نفسها حتى يعطيها ربع دينار، وهذا لا يصح عندي في هذه المسألة من أجل أن الزوج غار بها، وإنما يشبه أن يكون ذلك له إذا لم يغرها حسبما مضى القول فيه في رسم الطلاق من سماع أشهب، فالمعنى عندي في قوله: وإن كان بنى لم يمنع من أهله أي لم يمنع ذلك بالفتوى إذ لا يكره له التمادي على وطئها إذا استحق الصداق من يدها بعد الدخول بها كما يكره له الدخول بها ابتداء قبل أن يدفع إليها صداقها أو ربع دينار منه؛ لأنه لا يمنع من ذلك بالحكم امرأته إذا امتنعت منه حتى يوفيها حقها، فليس قول ابن القاسم في هذه الرواية على هذا التأويل بخلاف لما مضى في رسم الطلاق من سماع أشهب، ويتحصل في هل للمرأة إذا استحق الصداق من يدها بعد الدخول بها أن تمنع زوجها من التمادي على وطئها حتى يوفيها حقها أم ليس لها ذلك وتتبعه بدينها ثلاثة أقوال:(4/444)
أحدها أن ذلك لها غرها أو لم يغرها، وهو ظاهر رواية أشهب عن مالك، وهو أظهر الأقوال، والثاني أن ذلك ليس لها وإن غرها، وهو ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية على ما كان الشيوخ يحملونه عليه، وهو أضعف الأقوال، والثالث الفرق بين أن يغرها أو لا يغرها، وهو أعدل الأقوال، ويتحصل أيضا على اعتبار قول من يرى أنه يكره له التمادي على الوطء إذا استحق الصداق بعد الدخول كما يكره له الدخول ابتداء قبل دفع الصداق أو ربع دينار منه، وهو قول ابن المواز خلاف مذهب ابن القاسم ثلاثة أقوال في كل طرف أعني إذا غرها وإذا لم يغرها: أحدها أن لها أن تمنعه نفسها حتى تأخذ حقها فيما استحق من صداقها، والثاني أنه ليس لها أن تمنعه نفسها وإن استحق جميع صداقها ولم يبق بيدها منه شيء، والثالث أن لها أن تمنعه نفسها إن استحق جميع صداقها حتى يدفع إليها منه ربع دينار، وليس لها أن تمنعه نفسها إن استحق بعضه فبقي في يدها منه ربع دينار فأكثر. وقوله: إن الغرماء إن كانوا أسلفوه أو باعوه فالمرأة أولى بما أعطاها ويكون دينهم في ذمته يدل على أن للمديان الذي استغرقت الديون ذمته أن يتزوج وأن ينفق على زوجته مما بيده من أموال غرمائه، وذلك قائم من المدونة لأن قوله فيها ليس له أن يتزوج في المال الذي فلس فيه يدل على أن له أن يتزوج قبل أن يفلس، والوجه في ذلك أن الغرماء على هذا عاملوه، فإنما يجوز ذلك إذا تزوج امرأة تشبه مناكحه وأصدقها ما يصدق مثله، وأما إن تزوج امرأة لا تشبهه فأصدقها ما لا يشبه أن يصدق مثله فلا يجوز ذلك له، ويكون للغرماء أن يأخذوا مما أصدقها ما زاد على ما يشبه مناكحه وتتبع بذلك هي زوجها، وتفرقة سحنون بين أن يستحق الصداق من يد المرأة وهو عبد بحرية أو ملك خلاف مذهب ابن القاسم سواء على مذهب ابن القاسم استحق بحرية أو ملك ويكون لها قيمة العبد إن استحق بملك، وقيمة الحر أن لو كان عبدا إن استحق بحرية ولا يفسخ إلا أن يعلما جميعا المرأة والزوج أن العبد مغصوب أو أنه حر، ووافق سحنون ابن القاسم في العبد إذا استحق بملك، وخالفه فيه إذا استحق بحرية فذهب إلى أنه يكون لها صداق مثلها لا قيمته أن لو كان عبدا كما(4/445)
يقول ابن القاسم، وهو قول المغيرة، وقد مضى في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب أنها ترجع أيضا بصداق مثلها، إذا استحق بملك، وقلنا هناك: إن ذلك هو القياس على قولهم في البيوع، فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أنها ترجع بقيمة العبد سواء استحى بحرية أو ملك، والثاني أنها ترجع بصداق مثلها في الوجهين، والثالث تفرقة سحنون بينهما. وقول سحنون ولو كانت عالمة فسخ النكاح قبل البناء ويثبت بعده وكان لها صداق مثلها يريد عالمة بحرية العبد أو أنه مغصوب والزوج عالم أيضا، ولو علم أحدهما بذلك دون صاحبه لم يفسخ النكاح على مذهبه، فليس قوله في هذا بخلاف لمذهب ابن القاسم. ولابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون وابن كنانة: إن علم أحدهما بحرية العبد يفسد النكاح ويوجب فسخه قبل الدخول وصداق المثل بعده.
[مسألة: وطئ امرأة في دبرها أيحصنها ذلك]
مسألة قال: وسئل عمن وطئ امرأة في دبرها أيحصنها ذلك، قال: لا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن ذلك ليس بوطء جائز، ويتخرج على ما وقع في بعض روايات المدونة من أن الوطء في الدبر في الإيلاء أن يقع بذلك الإحصان، والله أعلم.
[يتزوج المرأة فيشترط عند نكاحه إن تزوج عليها فأمر التي تتزوج عليها بيدها]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت قال: وسألته عن الرجل يتزوج المرأة فيجعل لها شرطا عند نكاحه إن تزوج عليها فأمر التي تتزوج عليها بيدها أو جعل ذلك بيد أبيها فتزوج عليها فلم تقض فيها شيئا عند نكاحه إياها حتى لبثت شهرا أو أكثر من ذلك أو أقل فأرادت أن تطلقها عليه بعد، أذلك لها أو لأبيها متى ما أرادت ذلك وإن كنت ترى إذا هو ملكها ولم يدخل بها هو النكاح؟ قال ابن القاسم: إن كانت أشهدت أن ذلك بيدها ينظر فيه أو بيد أبيها فأشهد على ذلك أنه ينظر في ذلك فذلك لهما ما(4/446)
لم يدخل بها، فإن دخل بها فلا شيء لهما، وإن لم يشهدا حين تزوج أن ذلك بأيديهما لم أر بأيديهما شيئا من ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها ثلاثة أقوال: أحدها أنه إذا لم يقض المملك منهما ساعة تزوج حتى مضى شهر أو أقل أو أكثر فقد سقط ما كان بيده إلا أن يكون أشهد أن ذلك بيده ينظر فيه، وهو على خلاف أصله في أن المملكة التي لم تواجه بالتمليك، وإنما شرط ذلك لها إن غاب عنها أو أضربها أو ما أشبهه لا يسقط ذلك من يدها إذا لم تقض ساعة وجب لها التمليك ويكون لها أن تقضي بعد الشهر والشهرين ما لم يطل، قيل بيمين، وقيل بغير يمين على ما وقع من ذلك في سماع ابن القاسم وسماع عيسى من كتاب التخيير والتمليك، فجواب ابن القاسم في هذه المسألة نحو قول ابن وهب في سماع يحيى وقول أشهب في سماع زونان من كتاب التخيير وإن المملكة التي لم تواجه التمليك إذا لم تقض ساعة وجب لها التمليك وفي ذلك المجلس لم يكن لها أن تقضي بعد ذلك على حكم المواجهة بالتمليك في قول مالك الأول، والقول الثاني أن ذلك بيد المملك منهما ما لم يدخل بها. أو يطول الأمر قبل البناء، وهو قول مالك في سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك وقول ابن القاسم في كتاب ابن المواز على أصله في المملكة التي لم تواجه بالتمليك، والقول الثالث أن الأمر بيد المملك منهما وإن طال الأمر ما لم يدخل بها يريد أو توقف وهو قول ابن المواز من رواية على حكم المواجهة بالتمليك في قول مالك الثاني، فيتحصل في التي لم تواجه بالتمليك ثلاثة أقوال: أحدها أن لها أن تقضي ما لم توقف وإن طال، والثاني أن لها أن تقضي ما لم ينقض المجلس، والثالث أن لها أن تقضي ما لم يطل بالشهر والشهرين إن لم يكن زوجها حاضرا معها، وإن كان حاضرا معها كان لها أن تقضي وإن طال الأمر ما لم توقف؛ لأن امتناعها منه دليل على خيارها، وبالله التوفيق.(4/447)
[مسألة: يعتق جاريته أو أم ولده وهي غائبة ثم يقول أشهدكم أني قد تزوجتها]
مسألة وسئل عن الرجل يعتق جاريته أو أم ولده وهي غائبة ثم قال لقوم: أشهدكم أني قد تزوجتها ونقدتها فلانا لرأس من رقيقه، ثم أعلمها بالذي فعل فرضيت ولا بينة على رضاها فوطئها فولدت أولادا ثم هلك الرجل، هل ترثه؟ أو يكون لها من ذلك الرأس الذي أصدقها؟ وكيف به إن هلك الرجل بعد عتقه إياها وبعد تزويجه إياها بأيام هل ترثه وقد كانت في بيته لم يخرجها ولم يحولها عن حالها التي كانت عليها قبل العتق حتى هلك؟ قال ابن القاسم قال لي مالك في الرجل يزوج ابنته الثيب الغائبة عنه ثم ترضى قال: لا أراه نكاحا وإن رضيت وأرى أن يستأنف النكاح، قال: وقال لي مالك: كيف يكون نكاحا يقام عليه وإن مات أحدهما لم يتوارثا؟ قال ابن القاسم: وهذا عندي مثله إلا أن يكون تطاول ذلك فأرى أن يمضي، وما ولدت من ولد ألحق به.
قال محمد بن رشد: المسألة التي سئل عنها ابن القاسم من قول الرجل في جاريته أو أم ولده بعد عتقها أشهدكم أني قد تزوجتها وهي غائبة أشد في الفساد من الذي يزوج ابنته الثيب وهي غائبة، فلا يدخل فيها من الاختلاف ما يدخل في هذه ولا يفرق فيها بين قرب الغيبة وبعدها كما يفرق في هذه حسبما مضى القول فيه في أول رسم من سماع ابن القاسم لأنه نكاح انعقد على خيار من أجل أن السيد إذا زوج مولاته من نفسه فهو الزوج وهو الولي، فإذا قال: أشهدكم أني قد تزوجتها وهي غائبة دون أن يستأمرها في ذلك فقد انعقد النكاح على أنها مخيرة فيه لأن ذلك بمثابة أن لو زوج ابنته وهي غائبة دون أن يستأمرها وأعلم الزوج أنه لم يستأمرها لأنه إذا فعل ذلك فقد انعقد النكاح على أنها مخيرة وخرجت المسألة من الاختلاف ورجعت إلى حكم النكاح على الخيار الصريح، وقياس ابن القاسم إياها على قول مالك في الذي يزوج ابنته الثيب وهي غائبة صحيح من باب الأولى، والوجه في(4/448)
ذلك أنه إذا لم يجز نكاح الأب ابنته الثيب وهي غائبة وإن رضيت بعد ذلك فأحرى ألا يجوز نكاح السيد مولاته من نفسه وهي غائبة وإن رضيت بعد ذلك، وإنما قال فيها ابن القاسم: إن النكاح لا يفسخ إذا تطاول مراعاة للخلاف، إذ قد قيل في نكاح الخيار إنه لا يفسخ بعد الدخول، وهو أحد قولي مالك. وأما قوله: إن الولد يلحق فهو بين لشبهة العقد المختلف فيه، ولم يجب ابن القاسم على ميراثها منه إذا هلك بعد التزويج بأيام أو بعد أن ولد منها أولادا. فأما إذا هلك بعد أن ولد منها أولادا فلا إشكال في وجوب الميراث لها على القول بأن النكاح يقر ولا يفسخ، وأما على القول بأنه يفسخ فيكون لها الميراث على ما اختاره ابن القاسم وأخذ به في وجوب الطلاق والميراث في كل نكاح مختلف فيه، وكذلك إذا هلك بعد التزويج بأيام يكون إلا الميراث على هذا الاختلاف بعد يمينها أنه إنما هلك بعد رضاها إذا لم تكن ثم بينة على رضاها كما ذكر، وإشهاده على نفسه بتزويجها خلاف إقراره بأنها زوجته، وسيأتي القول على هذا في رسم الكبش من سماع يحيى إن شاء الله، وبالله التوفيق.
[أراد أن يتزوج امرأة فقالت له أمه إنها أختك من الرضاعة قد أرضعتها]
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته قال: وسئل عن رجل أراد أن يتزوج امرأة فقالت له أمه: إنها أختك من الرضاعة قد أرضعتها، وتحت الرجل امرأة أخرى فقال الرجل: المرأة التي تحتي طالق إن كانت لي حلالا إن لم أتزوجها، قال: أرى أن تطلق امرأته التي تحته ولا يتزوجها، فإن اجترأ وتزوجها لم يقض عليه بطلاقها لأنه لا يكون في الرضاع إلا امرأتان.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال. إن الاختيار له أن يحنث نفسه بأن يطلق امرأته ولا يتزوجها لأن تزويجها له مكروه وليس هو عليه حراما لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر برضاع امرأة فتبسم وقال: " وكيف وقد قيل وقال: «الحلال(4/449)
بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى المشتبهات استبرأ لدينه وعرضه» ، فندب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اتقاء المشتبهات ولم يحرمها، وهذا من المشتبهات، إذ لا يوقن بصحة قول أمه ولا يلزمه في الشرع تصديقها لاحتمال أن تكون أرادت أن تمنعه من نكاحها إلا أن يكون قد فشا ذلك من قولها قبل ذلك فيلزمه ذلك ويحرم عليه نكاحها ولا يلزمه في امرأته شيء على ما في آخر سماع ابن القاسم من طلاق السنة، وظاهر ما في النكاح الثاني من المدونة خلاف ما في الرضاع منها. وقوله: لأنه لا يكون في الرضاع إلا امرأتان، يريد ويفشو ذلك من قولهما على ماله في المدونة، وذهب مطرف وابن الماجشون وابن نافع وابن وهب إلى إعمال شهادتهما وإن لم يفش ذلك من قولهما، وهو قول سحنون، ومعناه إذا كانتا عدلتين، ولا يشترط مع الفشو على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك العدالة، والله أعلم، وإذا طلق امرأته واحدة فقد بر، ولا يكون عليه شيء إن تزوجها على مذهب ابن القاسم لأنه على حنث ولم يضرب ليمينه أجلا، وروي عن ابن الماجشون أن موتها كالأجل، وإن راجع امرأته بعد أن طلقها وقعت عليه بموت المرأة التي حلف ليتزوجها طلقة أخرى، والمسألة بعينها متكررة في هذا الرسم من الأيمان بالطلاق، والله تعالى الموفق.
[مسألة: زعمت أن زوجها طلقها البتة فأرادت أن تتزوجه بعد ذلك]
مسألة قال ابن القاسم: كل امرأة زعمت أن زوجها طلقها البتة فأرادت أن تتزوجه بعد ذلك قبل أن تتزوج زوجا غيره وهي مالكة أمرها فإنها لا تتزوجه، فإن تزوجته فرق بينهما، قلت: فإن قالت: إني كنت كاذبة، قال: لا يقبل قولها، قلت: فإن أنكرت أن تكون قالت ذلك وشهد عليها شهيدان أنها قد أقرت بأنه طلقها البتة، قال: شهادة الشهيدين جائزة ولا تتزوجه، قلت: فإن شهد شاهد واحد على إقرارها وهي منكرة لذلك هل تحلف؟ قال: لا.(4/450)
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنها ادعت طلاق البتات وهي بائنة منه بصلح أو غيره، ولذلك لم يصدقها، ولو ادعت ذلك وهي في عصمته ثم صالحها فأرادت أن تتزوجه قبل زوج وقالت: كنت كاذبة وأرادت الراحة منه لصدقت في ذلك ولم تمنع من مراجعته ما لم تذكر ذلك بعد أن بانت منه كذلك لمحمد بن المواز في كتابه، وكذلك وقع في سماع أصبغ من طلاق السنة أن دعواها طلاق البتة، كان، وقد صالحها، وكذلك لو مات فأكذبت نفسها وطلبت ميراثها يكون ذلك لها إن كان دعواها طلاق البتات وهي في عصمته، قاله ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب طلاق السنة، وقد قال بعض رواة أهل المدينة: إنها لا تصدق ولا يكون لها الميراث، وفرق سحنون بين الميراث ورجوعها إليه فقال: إنها تصدق في الميراث، ويكون لها ولا تمكن من الرجوع إليه إلا بعد زوج، فهي ثلاثة أقوال إذا كان دعواها طلاق البتات وهي في عصمته، ولابن القاسم في سماع أصبغ من طلاق السنة أنها تحلف إذا شهد عليها بإقرارها شاهد واحد خلاف قوله هاهنا إلا أنه قال: إنها إن أبت أن تحلف لم تمنع من الرجوع إليه بحكم وقاله أصبغ، ولا معنى لإيجاب يمين لا يوجب النكول عنها حكما، والقياس على قول من أوجب عليها اليمين إذا نكلت عنها أن لا تمكن من الرجوع إليه إلا بعد زوج، وبالله التوفيق.
[النصراني تسلم امرأته قبل أن يدخل بها إلا أنه ربما خلا بها عند أهلها]
ومن كتاب النسمة قال ابن القاسم في النصراني تسلم امرأته قبل أن يدخل بها إلا أنه ربما خلا بها عند أهلها، قال: إذا أسلمت امرأته ولم يسلم مكانه فلا رجعة له عليها، وهي تطليقة بائنة وهي أملك بأمرها إذا لم يدخل بها، وإن كان قد أصابها عند أهلها ثم أسلمت ولم يسلم فلها الصداق كله المعجل والمؤجل، فإن أسلم وهي في عدتها فهو أولى بها، وإن أسلمت قبل أن يدخل بها أو يصيبها فلا رجعة له عليها وإن أسلم إلا بنكاح جديد ولا عدة عليها.(4/451)
قال محمد بن رشد: هذه الرواية مخالفة للمعلوم من مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه في موضعين، أحدهما قوله: ولم يسلم مكانه لأن فيه دليلا على أنه لو أسلم مكانه لبقي معها، والمعلوم في المذهب أنه يفرق بينهما إلا أن يسلما معا، والثاني قوله: وهي تطليقة بائنة لأن المعلوم في المذهب من قول مالك وجميع أصحابه حاشا ابن الماجشون أن الفرقة بإسلام أحد الزوجين حيثما وجبت إنما هي فسخ بغير طلاق، وهو الصواب؛ لأن الفرقة إن كانت بإسلام الزوجة قبل البناء فهو كافر، والكافر لا يلزمه طلاق في مذهب مالك، وإن كانت بإسلام الزوج والزوجة مجوسية فهو لم يطلق، وإنما فعلت الزوجة فعلا أوجب الفرقة كالملك وما أشبهه، والله ولي التوفيق.
[مسألة: سام على سوم أخيه بعد اتفاقهما على الثمن فدخل عليه فاشترى تلك السلعة]
مسألة وسئل ابن وهب عن رجل سام على سوم أخيه بعد اتفاقهما على الثمن فدخل عليه فاشترى تلك السلعة ثم أراد التوبة وقد هلكت تلك السلعة أو هي قائمة ولعلها قد زادت أو نقصت، ورجل يخطب على خطبة أخيه بعدما رضوا به وثبت النكاح وسموا الصداق فدخل عليه فتزوج ثم ندم وأراد التوبة كيف يصنع؟ قال: أرى أن يتوب إلى الله ويستغفره، فإن كانت تلك السلعة لم تفت أو المرأة لم تفت فليعرض السلعة على الذي أراد أن يشتريها، فإن أراد إن يأخذها بالثمن الذي اشتراها به فليسلمها إليه زادت أو لم تزد إلا إن كان أنفق عليها شيئا حتى زادت فليعطه نفقته مع الثمن، وإن كانت نقصت فإن أحب أن يأخذها بنقصانها أخذها ولا شيء له غيره، وأما المرأة فليسأله أن يحلله من دخوله عليه فيها، فإن حللها رجوت أن يكون مخرجا له، وإن لم يحلله فليخل سبيلها إن كان أفسد عليه بعد أن كانت قد رضيت بالأول، فإن تزوجها بعد فراق هذا إياها وإلا فليراجعها إن بدا له بنكاح جديد، وليس يقضى(4/452)
بذلك عليه، وإنما هذا على وجه التنزه والاستحسان والخوف لله، قال ابن القاسم: وإن لم يحلله فليستغفر الله ولا شيء عليه، وسئل عنها سحنون فقال: سألت عنها ابن القاسم فقال لي: إذا باع على بيع أخيه أو خطب على خطبة أخيه لم أر أن يفسخ ورأيت أن يؤدب صاحب هذا، وأخبرني عبد الله بن نافع وأشهب أن مالكا سئل عن الرجل يخطب على خطبة أخيه بعدما اتفقا على صداق معلوم وتراضيا وهي تشترط لنفسها وعن الذي يبيع على بيع أخيه بعدما اتفقا على ثمن معلوم فهو يشترط لنفسه الوزن فقال: لا أرى أن يفسخ شيء من ذلك ولم أسمع بفسخ شيء هذا من ذلك لأنه يجحد ولا يعرف، وأما لو ثبت ذلك حتى يعلم فلا يشك فيه رأيت أن يغير ذلك فيفسخ البيع ويفرق بينهما.
قال محمد بن رشد: ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه» ليس على عمومه في كل حال، وإنما معناه عند مالك وعامة العلماء إذا ركن المخطوب إليه إلى الخاطب، فلا بأس أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ما لم تركن المرأة إليه وتقارب الرضى به، ولا بأس أن يجتمع الاثنان والثلاثة في الخطبة، وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب، خطب امرأة من دوس على مروان بن الحكم، وعلى ابنه عبد الله وكانا سألاه ذلك فخطبها عليهما وعلى نفسه فرضيت [بذلك] بدليل حديث فاطمة بنت قيس قالت: لما حللت أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، ولكن انكحي أسامة بن زيد، قالت: فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة فنكحته فجعل الله فيه خيرا(4/453)
واغتبطت به» لأنه لما خطب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاطمة على أسامة بعد علمه بخطبة معاوية وأبي جهم علم بجواز ذلك في تلك الحال، وتخصص ذلك من الحديث الأول وثبت النهي فيه في الحال التي فيها الركون ومقاربة الرضى، وقوله بعدما رضوا به وثبت النكاح وسموا الصداق يدل على جواز الخطبة بعد الركون والمقاربة ما لم يسموا الصداق، وهو نص قول ابن نافع؛ وظاهر قول مالك في الموطأ خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب وحكاه عن مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وابن القاسم وابن وهب من أن ذلك لا يجوز إذا ركنا وتقاربا وإن لم يسميا الصداق؛ لأن النكاح جائز دون تسمية الصداق، وهو التفويض الذي جوزه القرآن، وكذلك أن يسوم الرجل على سوم أخيه هو على هذا المعنى بدليل ما روي «أن رجلا من الأنصار أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشكا إليه الفاقة ثم عاد فقال: يا رسول الله لقد جئت من عند أهل بيت ما أرى أن أرجع إليهم حتى يموت بعضهم، قال. " انطلق هل تجد من شيء " فانطلق فجاء بحلس وقدح، فقال: يا رسول الله هذا الحلس كانوا يفترشون بعضه ويلتفون ببعضه، وهذا القدح كانوا يشربون فيه، فقال: " من يأخذهما مني بدرهم "؟ فقال رجل أنا، فقال: " من يزيد على درهم "؟ فقال رجل آخر: أنا آخذهما بدرهمين، فقال: " هما لك " فدعا بالرجل فقال: اشتر بدرهم طعاما لأهلك وبدرهم فأسا ثم ائتني ففعل ثم جاء فقال: انطلق إلى هذا الوادي فلا تدعن فيه شوكا ولا حطبا ولا تأتني إلا بعد عشر " ففعل ثم أتاه فقال. بورك فيما أمرتني به، فقال: " هذا خير لك من أن تأتي يوم القيامة وفي وجهك نكت من المسألة أو خموش من المسألة» الشك من بعض الرواة لأنه لما أجاز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المزايدة في هذا الحديث وفيها سوم على سوم من غير ركون على أن الذي نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السوم على السوم بعد الركون، ومن أهل العلم من لم يجز السوم على السوم بحال تعلقا بظاهر الحديث، وروي عن مجاهد أنه(4/454)
أجازه في صحن السوق ولم يجزه فيمن خلا برجل يسومه، فمن خطب على خطبة أخيه أو سام على سومه في الموضع الذي لا يجوز له أن يفعل ذلك فقد ظلمه وأفسده ووجب عليه أن يتوب إلى الله من ذلك ويتحلل صاحبه لأن التوبة من الظلامات لا تكون إلا برد التباعات، فإن أبى أن يحلله فعليه أن يعطيه السلعة بالثمن الذي اشتراها به زادت أو نقصت إن شاء أن يأخذها ويترك المرأة فإن لم يتزوجها تزوجها هو بعد إن شاء، وقد اختلف في العقد فقيل إنه فاسد لمطابقة النهي له، وقيل ليس بفاسد، فعلى القول بأنه فاسد يفسخ في القيام والفوات، ويكون رد القيمة كرد العين، وقيل يفسخ ما كان قائما فإن فات مضى بالثمن ولم يفسخ، وكذلك يختلف في النكاح على السوم بأنه فاسد لمطابقة النهي له، فقيل يفسخ قبل البناء وبعده، وقيل يفسخ قبل البناء ويثبت بعده، اختلف في ذلك قول ابن نافع.
[مسألة: الرجل الفاسد يخطب المرأة فترضى فيتقدم لها الأحسن]
مسألة وسئل عن الرجل المسخوط الفاسد في جميع حالاته يخطب المرأة فترضى بتزويجه وسموا الصداق ولم يبق لهم إلا الفراغ فأتاني من هو أحسن منه حالا وأرضى فسألني الخطبة عليه فهل يدخل علي شيء إن فعلت لحال ما جاء ألا يخطب رجل على خطبة أخيه فقال: أما أنا فكنت أشير على المرأة لو أني وليها أن تتزوج هذا الرجل الصالح المقبل على شأنه وتدع الفاسد الذي لا يعينها على دين ولا دنيا، وهي إلى نقصان دينها عند هذا الفاسق أقرب منها عند الصالح لأن الفاسق لا يعلمها إلا مثل ما هو فيه من الفسوق والشر وتقتدي به فيما ترى منه، وإن الصالح إنما هي معه في زيادة خير في كل يوم وليلة، والصالح عندنا أولى وأحق من الفاسق الذي قد علم ذلك منه في حالاته وما ظهر منه، ومصاحبة التقي أفضل من مصاحبة(4/455)
الفاسق في دين الله وأرجو أن الحديث ما جاء إلا في الرجلين اللذين يشبه أحدهما صاحبه، فذلك الذي لا ينبغي أن يدخل عليه في خطبته حتى ينكح أو يرد إذا كانوا قد توافقوا على الفراغ أو شبه الفراغ.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخطب أحد على خطبة أخيه» لفظ عام في كل حال وفي كل خاطب، والعموم يحتمل الخصوص، فكما خص من الأحوال الحال التي لا ركون فيها بحديث فاطمة المذكور، فكذلك يخص من الخطاب الخاطب الذي لا خير عنده ولا حظ للمرأة في نكاحه بما يلزم في الدين من النصح للمرأة في أن لا تتزوج فاسقا يرديها، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدين النصيحة لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمن أخو المؤمن يشهده إذا مات ويعوده إذا مرض، وينصح له إن غاب أو شهد» فإذا خطب المرأة فاسق جاز للصالح أن يخطبها بعد أن تقارب الأمر بينهما وانبغى لمن علم بذلك أن يحضها على أن تتزوج الصالح وتدع الفاسق.
[الرجل يواعد المرأة في عدتها من وفاة زوجها ثم ينكح]
ومن كتاب الرهون وعن الرجل يواعد المرأة في عدتها من وفاة زوجها ثم ينكح أيفرق بينهما أم يمضي نكاحهما؟ قال: إن كان وعدها شبيها بالإيجاب فأرى أن يفرق بينهما بطلقة ثم لا ينكحها أبدا يريد إذا دخل بها، وإن كان إنما هو تعريض لا يشبه الإيجاب فالنكاح ثابت.(4/456)
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب مستوفى فلا معنى لإعادته مرة أخرى ههنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: تتزوجه المرأة على أن يطلق امرأة أخرى فيقول نعم]
مسألة وقال في الذي تتزوجه المرأة على أن يطلق امرأة أخرى فيقول نعم، قال أرى أنه إذا طلقها واحدة وقالت المرأة التي تزوج لم أتزوجك إلا على أن تطلقها البتة، ولولا ذلك لم أتزوجك، قال: أراها طالقا البتة، قال ابن القاسم: ولو تزوجها على أن كل امرأة يتزوجها عليها فهي طالق مثل ذلك أيضا ثلاثا.
قال محمد بن رشد: جعل اليمين في هذه الرواية على نية المرأة المشترط لها الشرط كان الطلاق فيمن هي في عصمته ممن لا تبين منه بواحدة أو لا الداخلة التي تبين بواحدة، وكذلك لو كان الشرط تمليكا لم يكن له أن يناكر في الوجهين جميعا على هذه الرواية، بخلاف إذا تطوع لها بذلك من غير شرط يكون عليه في أصل العقد وهذا مذهبه في المدونة. وفرق في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب التخيير في الشرط بين أن يكون الطلاق أو التمليك فيها أو في الداخلة عليها، وعلى ذلك فإن التي في عصمته لا تبين بالواحدة والداخلة تبين بها، فعلى تعليله لو كان الشرط فيها وتزوج عليها قبل الدخول لكانت اليمين على نيته ولكان له أن يناكرها ولو كان الشرط بالتمليك في الداخلة عليها فلم يعلم حتى دخل بها لما كان له أن يناكرها، وقد قيل: إن الشرط والطواعية سواء، واليمين على نية المرأة وليس للزوج أن يناكر في التمليك، وهذا يأتي على القول بأن اليمين على نية المحلوف له، وهو قول ابن الماجشون وسحنون ورواية عيسى عن ابن القاسم في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، فلا اختلاف بينهم في الشرط حيث لا(4/457)
تبين بواحدة أن اليمين على نية المرأة المشترط لها الشرط وأنه ليس للزوج أن يناكر فيما زاد على الواحدة إلا أن يدخل في ذلك الاختلاف بالمعنى من المسألة التي مضى القول عليها في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم، فقف على ذلك.
[مسألة: الرجل يتزوج المرأة بنكاح جائز ثم تناكره وقد تفرق شهوده]
مسألة وقال في الرجل يتزوج المرأة بنكاح جائز ثم تناكره وقد تفرق شهوده فلا يقضى لها عليه بنكاح، هل له أن يتزوج أختها أو رابعة من النساء إن كان عنده ثلاثة معها، قال: لا أرى له أن يتزوج أختها حتى يطلق تلك التي قضي عليه فيها طلاقا بائنا لأنه يعلم أنها زوجته إلا أنه قضي بينهما على الظاهر من الأمر، فأرى أن لا ينكح أختها ولا الرابعة سواها حتى يطلقها، وأنا أستحب له أن يطلقها لأن تكون في سعة إن تزوجت رجلا، ولا يحرجها ولا يؤثمها تزوج أختها أو لم يتزوجها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن حكم الحاكم بالظاهر لا يحل الأمر على ما هو عليه في الباطن عند من علمه، قال الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 188] الآية وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من نار» وهذا عام في الأموال وغيرها خلاف ما يذهب إليه أهل العراق من التفرقة في هذا بين المال والنكاح، وقد تبين مالك وجه استحسانه لطلاقها وهو في المسألة التي مضت في رسم نذر سنة أن(4/458)
يصومها من سماع ابن القاسم آكد عليه منه في هذه لأنها هي المتعدية عليه في إنكارها النكاح، والحمد لله.
[مسألة: العبد يتزوج بغير إذن مولاه ويقره سيده فهل يلزم السيد الصداق]
مسألة وقال في العبد يتزوج بغير إذن مولاه فرآه مولاه يدخل على امرأته هل يلزم السيد الصداق حيث رآه ولم يكن أذن له في النكاح، قال: إن شهد على السيد أنه علم بنكاحه وأقره رأيت النكاح جائزا ورأيت الصداق على العبد بما أقر سيده له من ذلك بعد علمه به.
قال محمد بن رشد: أما إن شهد على السيد أنه أقر نكاحه بعد علمه بذلك فلا كلام في أن الصداق يلزم العبد في ماله ويثبت النكاح، وكذلك إن شهد عليه بأنه علم بدخوله على امرأته فسكت على ذلك ولم ينكره لأن سكوته على ذلك يسقط ماله من الحق في التفرقة بينهما، كمن ملك رجلا أمر امرأته فلم يقض حتى أمكنته من وطئها. وإذا ثبت النكاح وسقط خيار السيد فيه وجب أن يلزم العبد الصداق في ماله فلا يدخل هذه المسألة الاختلاف في السكوت هل هو إذن أم لا؟ وستأتي هذه المسألة متكررة في سماع أبي زيد، والحمد لله.
[مسألة: المسلم يغر اليهودية أو النصرانية فينكحها ويقول أنا على دينك]
مسألة وقال في المسلم يغر اليهودية أو النصرانية فينكحها ويقول: أنا على دينك فيطلع عليه بعد أن دينه على غير ذلك إن فراقه بيدها.
قال محمد بن رشد: مثله لمالك في كتاب ابن المواز وله في المبسوط من رواية ابن نافع أن النكاح ثابت ولا خيار لها، وهو قول ربيعة إن الإسلام ليس بعيب، والأول أظهر أن لها الخيار من أجل الشرط وإن لم يكن الإسلام عيبا لأن لها في كونه على دينها غرضا قصدته فوجب أن يكون لها الرد بما شرطت، كالرجل يشتري الأمة على أنها نصرانية ليزوجها عبده النصراني أو ليمين عليه ألا يملك مسلمة فيجدها مسلمة أن له أن يردها. ولو لم يغرها(4/459)
وتزوجته وهي تظنه نصرانيا لم يكن لها خيار، وكذلك الرجل يتزوج المرأة نصرانية ولم يعلم فلا حجة في ذلك له حتى يشترط أنها مسلمة أو يظهر ويعلم أنه إنما تزوجها على أنها مسلمة لما كان يسمع منها من إظهار الإسلام فهذا كالشرط، قال ذلك في كتاب محمد.
[مسألة: تزوج الحرة على الأمة والأمة على الحرة]
مسألة وقال في الرجل تكون تحته الأمة: إنه لا بأس أن يتزوج عليها حرة، فإن كانت عنده حرة فلم تكفه ولم يكن له ما يتزوج به حرة أخرى فليتزوج أمة أخرى حتى يجتمع عنده أربع.
قال محمد بن رشد: قوله في الرجل تكون تحته الأمة إنه لا بأس أن يتزوج عليها حرة صحيح على مذهبه بأن الحرة ليست بطول يمنع بها من نكاح الأمة لأن من يراها طولا يمنع به من نكاح الأمة يقول: إنه إذا تزوجها على الأمة فرق بينه وبينها، ولم يذكر إن كان يكون للمرأة خيار إن لم تعلم أن تحته أمة أم لا، وينبغي أن يكون ذلك لها على قوله إنه لا يتزوج الأمة إلا أن يخشى العنت ولا يجد طولا لحرة، وهو قوله هاهنا خلاف ما تقدم له في رسم نقدها، وقد مضى هناك من القول على ذلك ما فيه كفاية.
[مسألة: رجل تزوج امرأة واشترط عليها أنه لا نفقة لها عليه]
مسألة وقال في رجل تزوج امرأة واشترط عليها أنه لا نفقة لها عليه أرى إن كان لم يدخل بها أن يفسخ نكاحه، وذلك أن مثل هذا الشرط لا ينبغي أن يقع في النكاح، وإن كان دخل بها فنكاحه جائز وشرطه باطل وعليه ما على المسلمين من النفقة على نسائهم، ولو شرطت عليه عند عقدة النكاح أن لي من القوت كذا وكذا في كل(4/460)
شهر فإن دخل بها بطل شرطها عليه وكان لها عليه مثل ما لمثلها على مثله من النفقة، قلت: فإن لم يدخل بها أيفسخ أيضا أم لا؟ قال: نعم يفسخ أيضا.
قال محمد بن رشد: ويكون فيه صداق المثل لا المسمى، قال ابن المواز: لأنه كصداق مجهول، قال أصبغ: وإن لم يبن وترك الشرط ثبت النكاح كالنكاح بصداق بعضه معجل وبعضه إلى موت أو فراق، وساوى ابن القاسم فيما يأتي في رسم باع شاة بين الذي يتزوج على أن لا نفقة وعلى أن لا ميراث بينهما، فقال في ذلك: إنه يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ولم ينص هل يكون فيه الصداق المسمى أو صداق المثل وإرادته أنه يكون فيه صداق المثل، وقال أشهب: إنهما يفسخان جميعا قبل البناء وبعده، وفرق أصبغ بينهما فقال: يفسخ النكاح على أن لا ميراث بينهما قبل وبعد، ويفسخ النكاح على أن لا نفقة على الزوج قبل البناء ويثبت بعده، وهذا النوع من الأنكحة التي تنعقد على الشروط الفاسدة مثل أن يتزوج على أن الطلاق بيد غير الزواج أو على ألا يكون معها بالنهار أو على أنه بالخيار أو على أنه إن لم يأت بصداقها إلى أجل كذا وكذا فلا نكاح بينهما وما أشبه ذلك الاختلاف فيها كلها، قيل: إنها تفسخ قبل الدخول وبعده، وقيل: إنها تفسخ قبل وتثبت بعد، وإن كان بعضها أشد من بعض، والأظهر فيها كلها أن تثبت بعد الدخول ويكون فيها صداق المثل، وقد مضى هذا المعنى في رسم سن من سماع ابن القاسم وغيره.
[مسألة: البكر تخطب من وليها فتدس إلى خطيبها شيئا من مالها]
مسألة وقال في البكر تخطب إلى وليها فيسأل صداقا كثيرا فيكره الخاطب أن يتزوجها بذلك الصداق فتدس إليه المرأة شيئا من مالها يستعين به على صداقها وهو يجعل مع ذلك الذي أرسلت به شيئا من ماله يتحلل به النكاح، قال: لا يجوز ذلك لأنها مولى عليها لا يجوز لها أمر في مالها حتى يدخل بها زوجها، ولا أراه إلا لها إن رجعت فيه حين يدخل عليها، قال: وإن كانت ثيبا جاز.(4/461)
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم نقدها من سماع عيسى فلا معنى لإعادته، وفي قوله هاهنا لا أراه إلا لها إن رجعت فيه نظر؛ لأن عطية البكر لا تجوز على حال، وإن لم ترجع هي فيه فللولي أن يقوم في ذلك، فإن لم يفعل فلا يجوز له هو أن يمسكه وعليه أن يرده، ومعنى ذلك بعد دخول زوجها بها وملكها أمر نفسها فحينئذ تكون مخيرة بين أن ترجع فيه على الزوج أو تتركه له، والله أعلم.
[مسألة: تزوج امرأة فاشترطت عليه رأسين في صداقها بمائة دينار]
مسألة وعن رجل تزوج امرأة فاشترطت عليه رأسين في صداقها بمائة دينار كل رأس بخمسين دينارا وكانت الرقيق يومئذ رخيصة يباع الرأس الرضي بخمسين دينارا ثم غلت الرقيق بعد ذلك فلا يوجد الرأس إلا بمائة دينار إنه إن كانوا وصفوا الرأس بخمسين وإنما كانت الخمسون صفة للرأس بمنزلة ما يوقت بصفة معلومة مما يتواصف الناس بينهم إذا أسلفوا في الرقيق وابتاعوا، كقول الرجل: هو لك صبيحا تاجرا فصيحا فإني أرى هذه الصفة لازمة غلت الرقيق أو رخصت، وإن كانوا إنما سموا الخمسين دينارا لكيما لا يزول غلت الرقيق أو رخصت فأرى الرجل حينئذ بمنزلة وكيل وكلوه أن يبتاع لهم رأسا بخمسين دينارا فلا أرى عليه غير الخمسين غلت الرقيق أو رخصت، قال ابن القاسم: وإن وقعت بالرأسين صفة فالصفة لازم غلت الرقيق أو رخصت والخمسون لغو.
قال محمد بن رشد: وهذا على ما قال: إنهم إن كانوا أرادوا بالخمسين صفة الرأس فالصفة هي اللازمة، وإن كانوا إنما سموا الخمسين لكي تكون ثابتة على الزوج لا ينقصهم شيئا منها فهو بمنزلة الوكيل على الشراء بها. وإن لم يتبين هل أرادوا بالخمسين الصفة أو العدد، فأمرهم محمول على مراعاة(4/462)
العدد الذي سموه حتى يعلم أنهم قصدوا به الصفة، وقد مضى في رسم مرض من سماع ابن القاسم في هذه المسألة زيادة بيان لها لا معنى لإعادتها.
[مسألة: الرجل يتزوج الحرة فيصيبها ثم تلد من زنى في ثلاثة أشهر]
مسألة وقال في الرجل يتزوج الحرة فيصيبها ثم تلد من زنى في ثلاثة أشهر إنه يفرق بينهما ولا يتراجعان أبدا بمنزلة النكاح في العدة.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو تزوجها في استبرائها من الزنى ودخل بها على هذه الرواية، وهو قول مطرف وروايته عن مالك، ويرجع بالصداق مثل العيوب التي ترد منها، قاله في المختصر الكبير، وذهب ابن الماجشون إلى أنها لا تحرم عليه بالتزويج في الاستبراء من الزنى ولا من الاغتصاب، وكذلك الحمل منهما على قوله، وهو أحد قولي ابن القاسم في رواية أصبغ عنه، ثم رجع فقال: أما في الحمل فلا يتزوجها وأما في غير الحمل فلا بأس، وفي هذه التفرقة لابن القاسم نظر، ولا يحملها القياس، وإنما قال بها لرواية يرويها ابن وهب عن مالك مجردة في الحمل إنه لا يتزوجها، والقياس أن يكون بالعكس لأن في تزويجها في الاستبراء اختلاط الأنساب، وليس ذلك في تزويجها حاملا، ألا ترى أن بعض أهل العلم قد أجاز لمن زنت زوجته وهي حامل منه ظاهرة الحمل أن يطأها قبل الوضع لأمنه من اختلاط الأنساب، فيتحصل في المسألة على هذا أربعة أقوال، واستحب أصبغ ألا يتزوجها أبدا إذا تزوجها ودخل بها وهي حامل من زنى أو في الاستبراء منه، فإن فعل لم يمنع من ذلك بقضاء.
[مسألة: رجل تزوج امرأة وأصدقها أباها وأعطته خمسين دينارا]
مسألة وقال في رجل تزوج امرأة وأصدقها أباها وأعطته خمسين دينارا: لا خير في هذا النكاح ويفسخ إن لم يدخل بها لأن مالكا قال(4/463)
لي: لا خير في أن يتزوج الرجل المرأة بمائة دينار وبخادم يأخذها منها قيمتها أدنى من المائة ولا يكون ذلك، وقال غيره من أهل العلم فالذي أصدقها أباها وأخذ منها دنانير مثل هذا سواء، فهو نكاح مفسوخ، وإن دخل بها فعسى أن يكون لها صداق مثلها، قلت: فالأب حين ملكته وأعتق عليها أيرد إلى الزوج؟ قال: كيف يرد؟ إذا فات كان عليه قيمته، ألا ترى أنه قد فات حين ملكته لأن ملكها إياه عتق.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف بينهم في أن النكاح جائز إذا تزوجها على أبيها أو على أخيها أو على أحد ممن يعتق عليها، فلا فرق على هذا بين أن يصدقها أباها على أن تعطيه خمسين دينارا أو يصدقها عبدا على أن تعطيه خمسين دينارا إلا فيما يجب من عتق أبيها عليها ووجوب قيمته عليها إذا فسخ النكاح لما اقترن به من البيع، وقد مضى في رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده القول في حكم اجتماع البيع مع النكاح في صفقة واحدة موعبا مستوفى فلا وجه لإعادته هنا، وبالله التوفيق.
[يقول للرجل ولني إنكاح وليتك ولها كذا وكذا أو يجعل ذلك إليه]
ومن كتاب الجواب قال: وسألته عن الرجل يقول للرجل ولني إنكاح وليتك ولها كذا وكذا أو يجعل ذلك إليه ولا يأخذ عليه شيئا ثم يريد أن يعزله عما جعل إليه من ذلك، قال ابن القاسم في الذي جعل ذلك بجعل لا يحل ذلك ولا يصلح ويرد الجعل على كل حال وهو يعزله عن ذلك إن شاء في الوجهين جميعا كان بجعل أو بغير جعل، فإن فات ذلك ووقع النكاح رد الجعل على كل حال ونظر فإن كانت الوليه مالكة لأمرها وقد كانت عرفت الزوج وسمي لها قبل العقد ورضيت به أو كانت بكرا في ولاية أبيها ثبت النكاح ولم(4/464)
يرد، وإن كانت مالكة لأمرها ولم يسم لها الزوج ولم تعرفه فسخ النكاح إن كان لم يدخل بها لأن مالكا قال في المرأة تفوض أمرها إلى وليها ينكحها وتجعل ذلك إليه ولا تسمي له الرجل ولا يسميه لها فيزوجها رجلا فإذا بلغها ذلك أنكرت ذلك وقالت: لم أكن أريد هذا ولا أرضى به، قال مالك: ذلك لها ولا يلزمها ذلك النكاح حتى يسمى لها وتعرفه، وإن كان في مسألتك قد دخل بها رأيت أن يثبت لأن ذلك منها رضى، قال سحنون: إذا فوضت إليه نكاحها ليزوجها ممن شاء فزوجها كفؤا فالنكاح جائز سمي لها أم لا، بكرا كانت أو ثيبا.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز الجعل في هذا وقال: إنه لا يحل ولا يصلح من أجل أن للمجاعل أن يعزله عما جعل إليه من ذلك لأنه إن لم يعزله تم له ما أراد وأعطى عليه الجعل من تزويج وليته ممن أحب لما له من الغرض في ذلك والرغبة فيه، وإن عزله لم يتم له ما أراد فكان غررا، وإن ارتجع ماله عاد سلفا فكان حراما لأنه سلف جر منفعة إذ لم يسلفه لله وإنما أسلفه رجاء أن يتم له ما أراد من تزويج وليته لمن يحب. ولو لم يكن له أن يعزله عما جعل إليه من ذلك من أجل الجعل الذي جعل له فيه لجاز ذلك على مذهب سحنون في البكر والثيب وإن لم يسم لها الزوج إذا رضيت بالأمر وعلى مذهب مالك في البكر ذات الأب وفي الثيب إن كان سمى لها الزوج وعرفته؛ لأن غرضه الذي أعطى عليه المال من تزويج ولية الرجل لمن يحب يتم له فيرتفع الغرر والحظر والحرام في ذلك، وقد أجاز ابن القاسم في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب جامع العيوب أن يقول الرجل للرجل ولني بيع دارك بكذا وكذا ولك كذا وكذا، والوجه في إجازة ذلك أنه لم ير للمجعول له رجوعا فيما جعل إليه بما أعطاه إذ لم يتعلق بذلك حق لغيره بخلاف النكاح الذي يتعلق فيه حق الولية المتزوجة، وقد كان بعض الشيوخ يذكر في الفرق بين المسألتين فرقا يغرب به ويزهى باستنباطه إياه واهتدائه إليه(4/465)
وهو أنه في النكاح جعل على ما لا منفعة فيه للجاعل، وفي البيع جعل على ما له فيه منفعة، إذ قد يشترط على المشتري في البيع أكثر من الجعل فيكون قد انتفع بالزيادة التي صارت إليه، وإن اشترط على الزوج في النكاح شيئا لم يكن له وكان للزوجة؛ لأن كل ما اشترطه الولي من حباء أو كرامة فهو للزوجة، فصار قد أعطى الجعل على ما لا منفعة له فيه، وهو وهم من قائله إذ لا فرق في هذا بين النكاح والبيع؛ لأن من وكل رجلا على أن يبيع له سلعة فباعها واشترط لنفسه على المشتري شيئا يأخذه منه فلا حق له فيه، وهو لرب السلعة كما يشترط الولي على الزوج سواء، فالفرق بين المسألتين هو ما ذكرناه لا ما سواه، والله أعلم. وتشبيه ابن القاسم في هذه المسألة مسألة الذي يوكل الرجل أن يزوج وليته المالكة لأمر نفسها يزوجها دون أن يسمي لها الرجل وتعرفه بمسألة مالك في التي تفوض أمرها إلى وليها وتجعل إليه إنكاحها فيزوجها دون أن يسمي لها الزوج أو تعرفه ليس بصحيح؛ لأن مسألة مالك قد قدمت المرأة فيها وليها والمسألة الأولى لم تقدم وليها فهما مسألتان مفترقتان، أما الذي زوج وليته قبل أن يستأمرها أو وكل رجلا فزوجها قبل أن يستأمرها فلا اختلاف أن النكاح لا يلزمها إذا لم ترض به، واختلف إن رضيت به فقيل: إن النكاح جائز، وهو دليل قوله في آخر المسألة وإن كان في مسألتك قد دخل بها رأيت أن يثبت لأن ذلك منها رضى، وقيل: إنه لا يجوز وهو ظاهر قوله في صدر المسألة فسخ النكاح إن كان لم يدخل بها إذ لم يفرق في ذلك بين قرب ولا بعد، وقيل: يجوز في القرب ولا يجوز في البعد، وهو المشهور حسبما مضى بيانه في أول رسم من سماع ابن القاسم، واختلف إن وقع النكاح في البعيد أو في القريب على القول بأنه لا يجوز، فقيل: إنه يفسخ ما لم يدخل، وهو قول ابن القاسم هاهنا واختيار محمد بن المواز، وقيل: يفسخ ما لم يطل بعد الدخول، وقيل: يفسخ أبدا وإن طال على ما مضى القول فيه في سماع ابن القاسم أيضا، وأما الذي وكلته وليته أن يزوجها فزوجها ولم يسم لها الزوج فقيل: إن النكاح يلزمها وإن لم ترض، وهو قول سحنون هنا وفي سماع(4/466)
أشهب، وقيل: لا يلزمها ويجوز إن رضيت في القرب والبعد، وهو ظاهر قول مالك هنا وفي المدونة، وقيل: إنما يجوز إذا أجازت بقرب ما عقد عليها الولي النكاح، وأما إن بعد الأمر فلا يجوز وإن أجازته إلا أن يجدد نكاحا جديدا بعد فسخ الأول، وهو قول ابن حبيب في الواضحة وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي يصيبه الجذام فتصبر عليه امرأته سنين ثم تريد فراقه]
مسألة وسألته عن الذي يصيبه الجذام فتصبر عليه امرأته سنين ثم تريد فراقه أو ترفع أمرها إلى السلطان ليخيرها، فلما أراد ذلك كرهت فراقه وقالت: أنا أقيم على زوجي ثم أرادت فراقه بعد ذلك، وكيف إن لم يكن ذلك منها عند السلطان إلا عند قوم أشهدتهم على إقامتها معه ثم أرادت فراقه بعد ذلك؟ قال ابن القاسم: إن زاد جذامه ذلك على ما كان يوم أقامت عليه وتغير عن حاله تلك إلى ما هو أضر منه وأدنى كان ذلك لها لأنها تقول: ظننت أنه لا يزيد على حالته وأنه سينقص ويذهب، فأما إذا زاد فلا أرضى أن أقيم عليه فذلك لها، ويفرق بينهما إذا طلبت ذلك، وإن كان على حالته يوم أقامت عليه لم يزد فليس لها بعد ذلك كلام ولا حجة بأن تقول ظننت أنه سيذهب، فأما إذا لم يذهب فأنا لا أريد الإقامة فليس ذلك لها، وسواء كان صبرها عليه وإقامتها معه عند سلطان أو غير سلطان فذلك سواء إذا أشهدت أو شهد عليها.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة وتحصيل القول فيها في رسم نقدها من هذا السماع، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يزوج أمته عبد قوم على أن أول ولد تلده فهو حر]
مسألة قال: وسألت عن الرجل يزوج أمته عبد قوم أو رجلا حرا(4/467)
على أن أول ولد تلده فهو حر ثم يصدقها امرأته أو يبيعها والأمة حامل أو حملت بعد أن باعها وأصدقها فلا يعلم بذلك حتى تضع عند المشتري أو عند المرأة؟ قال ابن القاسم: ما حملت بعد أن أصدقها أو باعها في ملك المشتري أو المرأة فهو رقيق ولا حرية له لأن بيعه إياها أو إصداقه إياها قطع للشرط الذي في الولد وفسخ له لأنه بمنزلة رجل جعل لجاريته أن ما ولدت أو أول ولد تلده فهو حر، فإذا باعها قبل ذلك سقط ما كان جعل لها من ذلك ما دامت عنده وفي ملكه، وهو يبيعها إن شاء، فإذا باعها بطل ذلك، والنكاح مفسوخ في مسألتك على كل حال، وأما إن حملت في ملك السيد الذي زوجها على ذلك ثم باعها أو أصدقها وهي حامل فالولد حر على كل حال، وولاؤه للبائع، وتقوم الجارية على المشتري إن فاتت بنماء أو نقصان أو اختلاف أسواق أو شيء من وجوه الفوت فيها يوم قبضها بحالها يومئذ على أن الولد مستثنى أن لو كان يحل بيعها على ذلك وإن لم تفت ردت وإن فاتت بيد المرأة التي أصدقها إياها بشيء مما ذكرت لك من وجوه الفوت رجعت على الزوج بما بين القيمتين بمنزلة عيب وجدته فيها وقد فاتت في يدها، وإن لم تفت في يديها ردتها ورجعت عليه بقيمتها.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يزوج أمته عبد قوم أو رجلا حرا على أن أول ولد تلده فهو حر إن النكاح يفسخ على كل حال هو مثل ما في رسم الكبش من سماع يحيى، وقال ابن الماجشون في الواضحة إنه إذا لم يعثر عليه حتى ولدت فلا يفسخ النكاح لأن الشرط قد ذهب، وقوله يأتي على رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة في نكاح المريض والمريضة إنهما إذا صحا قبل أن يفسخ النكاح ثبتا على نكاحهما لذهاب علة الفسخ، وأما إن زوجها على أن كل ولد تلده فهو حر فلا اختلاف في أن النكاح يفسخ أبدا إلا أن يدخل في ذلك الاختلاف بالمعنى على ما ذكرناه في رسم سن من سماع ابن(4/468)
القاسم، وقوله: إن بيع السيد إياها أو إصداقه إياها قبل أن تحمل قطع للشرط في الولد صحيح مثل ما في المدونة إلا أن مالكا استثقل فيها بيعها وقال: يفي لها بما وعدها. وأما إذا حملت فلا يجوز له أن يبيعها إلا أن يرهقه دين فتباع في دينه، قاله في المدونة ومثله في رسم الكبش من سماع يحيى، وقد قيل: إنها لا تباع في الدين، وهو قول سعيد بن عبد الله المعافري وقال: لأن أخطئ في البيع أحب إلي من أن أخطئ في العتق، وهو قول أصبغ، وكذلك اختلف أيضا إذا مات سيدها قبل أن تضع هل للورثة أن يقتسموها ويبطل العتق في الجنين أم ليس ذلك لهم؟ فقال ابن القاسم: ذلك لهم، وقال أصبغ: ليس ذلك لهم إلا أن يطول الأمر ويخاف على الميراث التلف، وذلك عنده إذا حمل الثلث الأمة على أصله في أن الجنين لا يعتق إذا وضعته في مرض سيدها أو بعد موته إلا من الثلث، وأما إن لم يحملها الثلث فيوافق ابن القاسم في أنه يخلى بينهم وبين بيعها واقتسامها. ووجه قوله أنه لما كان عتق الجنين من الثلث لم ير أن يوقف على الورثة الجارية بسبب جنينها إذا كانت قيمتها أكثر من الثلث، وقد كان القياس على قوله إنها لا تباع في حياة سيدها في الدين حتى تضع ألا تباع بعد الوفاة إذا حملها الثلث حتى تضع طال الأمر أو لم يطل إذ لا حجة للورثة إذا لم يوقف أكثر من الثلث، وأما ابن القاسم فجرى على أصله بأن قال. لا يلزم الورثة بعد الوفاة أن يتربصوا بها حتى تضع كما لا يلزم الغرماء في حال الحياة أن يتربصوا بها حتى تضع وتباع في الوجهين ويبطل العتق في الجنين، والقياس على القول بأنه حر من رأس المال وإن وضع بعد موت السيد كالمعتق إلى أجل وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة ألا تباع حتى تضع في حال من الأحوال إلا أن يسبق الدين العتق، وقد روي عن ابن القاسم أنه لا يعتق إلا من الثلث إذا وضعته في مرض السيد أو بعد موته، فإن باعها بعد أن حملت ولا دين عليه أو أصدقها امرأة فقال في هذه الرواية: إنها إن كانت قائمة بيد المشتري أو الزوجة لم تفت بحوالة سوق فما فوقه ردت بعينها ورجع المشتري على البائع بالثمن والزوجة على الزوج بقيمتها، وإن كانت قد فاتت بشيء من ذلك كان على المشتري قيمتها يوم قبضها على أن الولد مستثنى أن(4/469)
لو كان يحل بيعها على ذلك لأن الجنين قد ثبتت حريته على البائع قبل أن يبيعه ورجعت الزوجة على الزوج بما بين القيمتين بمنزلة عيب وجدته فيها وقد فاتت في يديها، هذا معنى قوله وفيه نظر، أما قوله في البيع فإنما يستقيم إذا كان البيع فاسدا إما بأنه باعها بجنينها وأعلم المبتاع أنه قد كان أعتقه، وإما أن يكون باعها على أن جنينها حر لأنه لو باعها ولم يعلم المبتاع أنه قد كان أعتق جنينها لما كان البيع فاسدا ولوجب إن كانت قائمة لم تفت بالعيوب المفسدة أن ترد على كل حال، إذ لا يجوز للمبتاع أن يمسكها على أن جنينها مستثنى وإن فاتت بالعيوب المفسدة أن يكون مخيرا بين أن يرجع بما بين القيمتين من الثمن وبين أن يرد وما نقصه العيب المفسد عنده ويرجع بجميع الثمن. وأما قوله في النكاح بها فلا يستقيم بحال لأنه إن كان تزوج بها على أن يكون الجنين للمرأة وأعلمها أنه قد كان أعتقه أو على أن جنينها حر فالنكاح فاسد يفسخ قبل البناء ويرد إلى صداق مثلها بعد البناء وترد الأمة إن كانت قائمة أو قيمتها إن كانت فائتة على أن الجنين مستثنى أن لو كان يحل بيعه على ذلك، وإن كان تزوج بها ولم تعلم المرأة بعتق جنينها لوجب أن تردها إن كانت قائمة لم تفت بشيء من العيوب المفسدة وترجع بقيمتها، وإن كانت قد فاتت بالعيوب المفسدة كانت مخيرة بين أن ترجع بما بين القيمتين بمنزلة عيب وجدته فيها وبين أن تردها وما نقصها العيب المفسد عنده وترجع بقيمتها صحيح، فقوله: إنها تفوت بما يفوت به البيع الفاسد بعيد غير صحيح، وساوى ابن حبيب في البيع بين أن يبيعها على أن جنينها حر وبين أن يبيعها ويكتم المبتاع ذلك، ولم ير أن تفوت في الوجهين جميعا إلا بالعيوب المفسدة، قال الفضل: وإنما لم ير أن تفوت في البيع الفاسد بحوالة الأسواق لأن القيمة كانت تكون فيها على المبتاع على أن الجنين مستثنى، وذلك لا يجوز في البيع، وفرق بين الوجهين في النكاح بها على ما ذكرناه، وقد قيل: إنه إذا أعتق الجنين في بطن أمه جاز أن يبيع الأمة على أن جنينها حر، وأن يتزوج بها على أن جنينها حر، وليس ذلك باستثناء للجنين إذ لا يقدر على بيعه مع أمه لتقرر الحرية فيه قبل البيع، وقيل: لا يجوز ذلك إلا في التفليس، والثلاثة الأقوال في بيع الحائط المساقى.(4/470)
[مسألة: الرجل يزوج وليته بنقد مائة دينار ورأس بمائة دينار ولم يوصف الرأس]
مسألة قال: وسألت عن الرجل يزوج وليته بنقد مائة دينار ورأس بمائة دينار ولم يوصف الرأس؛ أيجوز هذا النكاح؟ قال ابن القاسم: نعم جائز صحيح، والتسمية صفة يجتزى بها، وإن طلقها قبل الدخول عليها غرم نصف الأمرين جميعا، وهو مائة دينار؛ لأن النقد مائة والرأس مائة، فلها نصف هذه وهي خمسون، ونصف ثمن الرأس وهو خمسون، ولو تزوجها بأرؤس ولم يصف لها صفة ولا سمى لها ثمنا كان جائزا وكان لها وسط من ذلك، إن كانوا حمرانا كان لها وسط من الحمران وإن كانوا سودانا كان لها وسط من السودان، ينظر إلى أرفع الحمران أو السودان وإلى أوضع الحمران والسودان فتعطى ما بين ذلك، وإن طلقها قبل الدخول أعطيت نصف ذلك على ما فسرت لك، وإن لم يسموا حمرانا ولا سودانا وقد تزوج بأرؤس فهو على رقيق تلك البلدة الذين يزوجون عليهم الغالب من ذلك عليهم إن حمران فحمران وإن سودان فسودان، وإن كان رقيق البلدة حمرانا وسودانا جميعا فنكح بهم ولم يسموا حمرانا ولا سودانا نظر إلى وسط الحمران ووسط السودان فضم ذلك كله ثم أعطيت نصف ذلك والقيمة في ذلك الوسط من الرقيق إنما هي يوم وقعت العقدة أمسك أو طلق.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم الرهون القول في تسمية العدد في الرأس المنكح به فلا معنى لإعادة ذلك، ومضى في أول رسم وفي رسم سن ما يبين معنى قوله والقيمة في ذلك إنما هي يوم وقعت العقدة أمسك أو طلق، فلا معنى لإعادة ذلك أيضا والحمد لله.(4/471)
[مسألة: الرجل يتزوج بمال ولد ولده ثم يقوم عليه ولد الولد بعد زمان]
مسألة قال: وسألت عن الرجل يتزوج بمال ولد ولده ثم يقوم عليه ولد الولد بعد زمان هل يأخذ ماله؟ قال ابن القاسم: نعم يأخذه إن وجده بعينه لم يفت أخذه حيث وجده، وإن لن يجده بعينه ووجده قد استهلكته المرأة لم يكن على المرأة شيء إذا لم يكن طعاما أكلته أو ثيابا أبلتها، فإن كان ذلك كذلك غرمته علمت أو لم تعلم وكذلك الولد الكبير مثل ذلك سواء، وأما الولد الصغير الذي في حجره فليس لهم إليه سبيل، وإن وجده بعينه لم يكن لهم أخذه وكانت المرأة أحق به واتبعوا الأب بقيمته يوم أخذه وأصدقه إن لم يكن له مال، علمت المرأة أن المال لولده الأصاغر أو لم تعلمه فهي أحق به، ولا يؤخذ منها شيء، ولا سبيل للولد إليه على حال.
قال محمد بن رشد: فراق ابن القاسم بين أن يعتق [الرجل] عبد ابنه الصغير أو يتصدق به أو يتزوج به فقال: إن العتق ينفذ إن كان موسرا ويغرم القيمة لابنه ويرد إن كان معدما إلا أن يطول الأمر فلا يرد، قال أصبغ: لاحتمال أن يكون حدث له في خلال ذلك يسر لم يعلم به، وأما إن علم أنه لم يزل عديما في ذلك الطول فإنه يرد، وقال: إن الصدقة ترد موسرا كان أو معدما، وقال في التزويج: إن المرأة أحق به موسرا كان الأب أو معسرا ويتبع الابن أباه بقيمته، قال في المدونة: الرواية يوم أخذه وأصدقه امرأته يريد يوم تزوج عليه لا يوم دفعه لأنه بيع من البيوع، كذا قال ابن القاسم في غير هذا الكتاب، فظاهره وإن لم تقبضه المرأة، وفي سماع أصبغ أن الابن أحق به من المرأة ما لم تقبضه المرأة وما لم يطل في يديها بعد القبض، وأما إن قام بعد القبض باليوم واليومين والأمر القريب فهو أحق به ويكون كالاستحقاق، وتتبع(4/472)
المرأة الأب بقيمته، وسواء على مذهب ابن القاسم دخل الأب بالمرأة أو لم يدخل بها، وفرق مطرف بين أن يدخل بها أو لا يدخل، ورواه عن مالك وقال ابن الماجشون: الابن أحق دخل الأب أو لم يدخل، قبضت الزوجة أو لم تقبض، طال الأمر أو لم يطل، وهذا الاختلاف إنما هو إذا كان الأب معسرا، وأما إن كان موسرا فالزوجة أحق قولا واحدا، ولا اختلاف بينهم فيما تزوج به من مال ولده الكبير أو ولد ولده أنهم أحق به من الزوجة في يسر الأب وعدمه، وأجاز أصبغ فعل الأب كله في مال ابنه من الهبة والصدقة والعتق والإصداق في القيام والفوات والعسر واليسر لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «أنت ومالك لأبيك» فعلى ظاهر الحديث لا فرق بين الصغير والكبير، وبالله التوفيق
[مسألة: الرجل يخطب على ابن له صغير إلى رجل ابنته صغيرة]
مسألة وسألت عن الرجل يخطب على ابن له صغير إلى رجل ابنته صغيرة فزوجه وأطرقا قليلا ثم قال الرجل لأبي الصبي: هذا الأمر عليك إن هلك أو هلكت، فقال أبو الصبية: من هلك منهما فلا يتبع بعضنا بعضا بشيء، فقال أبو الصبي: نعم، قال ابن القاسم: النكاح ثابت لا يضره ما تكلما به من ذلك بعد ذلك لأن العقدة وقعت صحيحة، وما اشترطا فيه بعد ذلك فهو باطل، والصداق ثابت عاشا أو ماتا، وهو على الأب إن كان تحمل به وإن لم يكن تحمل به فهو في مال الصبي إن كان له مال يوم زوجه أبوه، فإن لم يكن له مال فهو في مال الأب، فإن وقع النكاح بهذا الشرط وكان نسقا واحدا فهو نكاح مفسوخ متى ما أدرك قبل البناء فإن دخل ثبت النكاح وكان لها صداق مثلها، وإن مات أحدهما في الصغر توارثا لأنه من النكاح الذي يثبت بعد الدخول، والصغيران والكبيران في ذلك سواء على ما فسرت لك، وكذلك لو اشترطا على أن لا ميراث(4/473)
بينهما على مثل ذلك سواء، ويفسخ النكاح فيه أيضا إذا لم يدخل بمنزلة الذي ينكح على أن لا نفقة عليه وما أشبهه، قال عيسى: ويبطل الصداق إن ماتا إذا كان على ذلك وقع الشرط.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن تكلما به بعد تمام العقد وكماله لا يلزم ولا يفسد العقد، وإن شرطا ذلك في العقد أفسده وفسخ قبل الدخول وثبت بعده وكان فيه صداق المثل لأنه نكاح فسد لصداقه بما اشترطا فيه، وقول عيسى بن دينار: إن الصداق يبطل إن مات إذا كان على ذلك وقع الشرط صحيح على المعلوم في المذهب إذ المنصوص عليه من أن النكاح الذي فسد لصداقه لا شيء للمرأة فيه إلا بالدخول، وقد روي عن أصبغ فيمن تزوج بغرر ثم مات قبل الدخول أن لها صداق مثلها وإن طلق فلا شيء لها فراعى التسمية الفاسدة وجعله كنكاح التفويض على مذهب من يرى أنه يجب فيه بالموت صداق المثل، وليس هذا معروفا في مذهبنا، وكذلك يبطل الصداق المسمى في النكاح على أن لا ميراث بينهما وعلى أن لا نفقة لها وما أشبه ذلك من الأنكحة الفاسدة إذا مات أحد الزوجين قبل الدخول على القول بأنه يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ويكون فيه صداق المثل، وهو الصحيح من الأقوال إلا على مذهب أصبغ وهو شذوذ.
[امرأة تعلق بها رجلان كلاهما يدعي أنها امرأته وهي تدعي أنهما جميعا زوجاها]
ومن كتاب أوله إن أمكنتني من حلق رأسك قال عيسى: وكتب إلى ابن القاسم صاحب الشرط يسأله عن امرأة تعلق بها رجلان كلاهما يدعي أنها امرأته وهي تدعي أنهما جميعا زوجاها، كان أحدهما زوجها فزعمت أنه أجاعها وضرها فهربت من عنده وظنت أن ذلك فراقه وزعمت أن الآخر تزوجها إلا أنه طلقها، قال ابن القاسم: يسأل الأول فإن كانت له بينة بأنها(4/474)
امرأته فارددها إليه بعد أن يحلف بالله ما طلقها، ولا يطأها حتى يستبرئ رحمها بثلاث حيض، فإن لم تكن له بينة فلا يقبل قوله ولا إقرارها بأنها امرأته ويفرق بينهما، ويسأل الآخر البينة على نكاحها فإن ثبتت له بينة فارددها إليه واستحلفه بالله الذي لا إله إلا هو ما طلقها ولا صالحها إن قامت له بينة على أصل النكاح، وإن لم تقم له بينة فرق بينهما ولتكن أولى بنفسها تنكح من أحبت.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أن المرأة التي ادعى كل واحد منهما أنها زوجته بائنة عنهما، منقطعة بنفسها، ليس في ملك أحدهما وتحت حجابه، وقوله: يسأل الأول البينة يريد الأول على ما أقرت له به الزوجة من ذلك وإن لم تصدق في إقرارها له بذلك، ويحتمل أن يريد الأول على دعواهما مثل أن يقول أحدهما تزوجتها في المحرم من سنة كذا ولا أدري ما يقول هذا، ويقول صاحبه تزوجتها في رجب من تلك السنة ولا أعلم له فيها نكاحا، قيل: الأول أظهر، وإنما حلف الأول ما طلقها إذا كانت له بينة أنها امرأته وإن لم تدع عليه امرأته الطلاق لأن سكوته على خروجها من عنده وبينونتها بنفسها وتصيرها إلى غيره على ما زعمت من أنه تزوجها بشبهة تدل على أنه قد طلقها لعله أقوى من الشاهد الواحد على الطلاق ويمين الثاني أبين لدعوى المرأة عليه الطلاق مع كونها خارجة عن ملكه منقطعة بنفسها، وكذلك تقول على هذا لو انتقلت امرأة عن زوجها وبانت بنفسها ولم يظهر منه إنكار لذلك حتى طال الأمر فتزوجت أو أرادت التزويج وزعمت أنه طلقها فأنكر أن اليمين لازمة له وإن لم يكن لها شاهد لأن هذه الأسباب تقوم لها مقام الشاهد، ولو أقام كل واحد منهما بينة ولم تؤرخ لم يكن لواحد منهما نكاح إذا كانتا عدلتين وإن كانت إحداهما أعدل من الأخرى، ولو كانت هذه المرأة التي تداعيا فيها في ملك أحدهما وعياله وتحت حجابه وهما طارئان أو مقران بالنكاح مع اشتهار ذلك وإعلانه لكانت البينة على الآخر، فإن لم يأت ببينة على ما ادعى من أنها زوجته بقيت تحت الذي هي في ملكه وتحت حجابه ولم تجب عليه يمين على معنى ما في رسم الكبش من سماع يحيى، وسيأتي الكلام على ذلك هناك إن شاء الله.(4/475)
[مسألة: تعلقت برجل وزعمت أنه زوجها وزعمت أن نبطية زوجتها إياه]
مسألة قال عيسى: وكتب إليه أيضا يذكر أن امرأة تعلقت برجل وزعمت أنه زوجها وزعمت أن نبطية زوجتها إياه فادعت بشهود فجحد الشهود ما ادعت، قال: إن أقر بالدخول فأحسن أدبهما وفرق بينهما دخل أو لم يدخل لأنه لو ثبتت لهما بينة لم يثبتا على النكاح لأن أصل النكاح حرام لا يقران عليه، ولم يمنعني أن أعاقب في المسألة الأولى إلا أن ذلك أمر قد طال الذي ذكروا وعسى الشهود أن يكونوا قد ماتوا أو غابوا، فلذلك وقفت في عقوبتهم.
قال محمد بن رشد: إنما رأى الأدب عليهما دون الحد لإظهارهما الأمر قبل أن يعثر عليهما فيه، ولو وجدا يزنيان أو أخذا في بيت فأقرا بالوطء وادعيا أنهما زوجان لحدا إن لم يأتيا بالبينة على النكاح على ما في كتاب الرجم والحدود في القذف من المدونة، ولو لم يقرا بالوطء ولا شهد عليهما به لأدبا ولم يحدا، وعلى هذا يحمل ما في كتاب النكاح الأول من المدونة. ويحتمل أن يكون سقط الحد عنهما في مسألة المدونة لشهادة الأب والأخ أن الأب زوجها إياه، فرأى ذلك شبهة تسقط الحد وإن لم يقبل قولهما، يريد بالمسألة الأولى التي قبلها لأن كل واحد من الرجلين أقر بالدخول بالمرأة وادعى أنها زوجته، فلم ير على من لم يثبت منهما أنها امرأته حدا لأنه أقر طائعا بأمر لا ريبة عليه فيه ولا رأى عليه أدبا لما ذكر من طول الأمر، والله الموفق.
[فوض إليه أمر امرأته فبعث إلى أهلها بشيء فسخطوه فقال إن لها صداق مثلها]
ومن كتاب القطعان
قال: وسئل عن رجل فوض إليه أمر امرأته فبعث إلى أهلها بشيء فسخطوه فقال: إن لها صداق مثلها ثم طلق فلم يدخل(4/476)
بها، قال ابن القاسم يرجع عليه بنصف صداق مثلها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه قد أوجب لها على نفسه صداق مثلها بقوله فإن لها صداق مثلها، ولو لم يقل ذلك لما وجب عليه أن يتم لها صداق مثلها على ما كان بعث به ولكان له أن يرد النكاح عن نفسه ويرجع بما كان بعثه به على ما قاله في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الشفعة لأن نكاح التفويض لا يجب فيه الصداق إلا بالتسمية أو الدخول، والله الموفق.
[مسألة: تزوج امرأة فدخل بها وهي حائض فأصابها حائضا ثم طلقها]
مسألة وسئل عن رجل تزوج امرأة فدخل بها وهي حائض فأصابها حائضا ثم طلقها بعد أن طهرت طلقة هل يملك رجعتها؟ فقال: لا أرى ذلك له، وأراها طلقة بائنة بمنزلة ما لو طلقها قبل أن يبني بها لأن ذلك الوطء ليس بوطء.
قال محمد بن رشد: قوله لأن ذلك الوطء ليس بوطء معناه ليس بوطء جائز لأنه وطء يوجب الغسل والحد والصداق باتفاق، وإنما يختلف هل يحصن الحرة المسلمة ويحل المطلقة أم لا على ما يأتي القول فيه في أول سماع سحنون، فعلى القول بأنه يحل ويحصن يوجب الرجعة، والله أعلم.
[ينكح المرأة ويشترط عليه أنك إن لم تأت بصداقها إلى أجل كذا فلا نكاح]
ومن كتاب
أوله باع شاة واستثنى جلدها قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل ينكح المرأة ويشترط عليه في عقدة النكاح أنك إن لم تأت بصداقها إلى أجل كذا وكذا فلا نكاح بيننا وبينك، قال: هذا نكاح حرام لا يقران عليه ويفرق بينهما دخل أو لم يدخل، وقد قال: إذا دخل بها ثبت النكاح ولم يفسخ، قلت: فالرجل يتزوج المرأة على أن لا ميراث بينهما؟ قال(4/477)
هذا ومن تزوج على أن لا نفقة بينهما وعلى أن لها من القوت كذا وكذا هذا ونحوه من الوجوه التي تشترط في النكاح إذا أدرك قبل البناء فسخ، وإن فات ببناء ثبت وسقط الشرط، وهما يتوارثان فيه قبل أن يفسخ قبل البناء وبعده، قلت: هل سمعت من مالك في هذا بعينه شيئا في النكاح الذي لو أدركته قبل البناء فسخته وإذا مات أحدهما قبل البناء أنهما يتوارثان؟ قال ابن القاسم: كذلك قال لي مالك فيه بعينه، وكذلك نكاح أهل مصر إنما صداقهم إلى موت أو فراق، وكان مالك يفسخه قبل البناء ويرى الميراث بينهما إذا مات أحدهما قبل البناء، قلت: فالرجل ينكح المرأة وتشترط عليه أنك إن لم تأت بصداقها إلى أجل كذا وكذا فأمرها بيدها؟ قال: قال مالك يفسخ، ولم يقل دخل أو لم يدخل، وأنا أرى إذا دخل ألا يفسخ.
قال محمد بن رشد: أما الذي ينكح المرأة وتشترط عليه أنه إن لم يأت إلى أجل كذا وكذا بصداقها فلا نكاح بينهما فهو نكاح خيار لأن الأمر يرجع إلى أن الزوج بالخيار بين أن يأتي بالصداق إلى الأجل فيجب له النكاح أو لا يأتي إليه فلا يجب له، فاختلاف قوله في وجوب فسخه بعد الدخول على اختلاف قول مالك في وجوب الفسخ بالخيار بعد الدخول، وقد نص على ذلك في المدونة، وهذا الاختلاف إنما يتصور إذا أتى بالصداق إلى الأجل واختار الزوج النكاح قبل انقضاء أيام الخيار أو اختارته المرأة إن كان الخيار لها قبل انقضاء أيام الخيار وأما إن لم يأت الزوج بالصداق إلى الأجل أو لم يختر من له الخيار من الزوجين حتى انقضت أيام الخيار فلا نكاح بينهما، والقول بأن النكاح يفسخ قبل الدخول وبعده على القول بأن البيع على الخيار يجب إذا اختار من له الخيار يوم العقد، والقول بأنه يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده على القول بأن البيع على الخيار يجب إذا اختار من له الخيار يوم الاختيار، وهو المشهور في المذهب، والقول الثاني قائم من كتاب الشفعة من المدونة. والعلة في أن الخيار لا يجوز في النكاح هو أنه عقد قد لزم أحدهما ولا ميراث فيه(4/478)
مع أنه قد قيل: إنه عقد مترقب ينكشف بامضائه وجوبه يوم عقده. وقوله فيه بأنه نكاح حرام تجوز في اللفظ إذ لم يأت بتحريمه كتاب ولا سنة ولا إجماع، والتعليل بأنه لو مات أحدهما لم يتوارثا ضعيف؛ لأن الأغلب الأمن من الموت فيما قرب مثل اليوم واليومين ونحوهما مع أن الأشهر أنه غير منعقد حتى يمضي، فلو تزوج رجل امرأة على أنهما جميعا بالخيار الزوج والمرأة والولي لانبغى أن يجوز إذ لم يلزم النكاح واحدا منهم وإنما يجب يوم يمضي، فالنكاح في باب الصداق أوسع من البيع لأنه يجوز فيه من الغرر ما لا يجوز في البيع، والبيع في باب العقد أوسع من النكاح لأنه يجوز فيه من الخيار ما لا يجوز في النكاح، والنكاح أوسع من الصرف لأنه يجوز فيه الخيار في المجلس وأن يعقداه على مشورة فلان إذا كان حاضرا بالبلد قريبا فأرسلا إليه في فورهما ليعلما رأيه يريد قبل أن يفترقا من مجلسهما، وسيأتي ذلك في آخر سماع أصبغ، ولا يجوز شيء من ذلك في الصرف، وقد قيل: إن الخيار في المجلس جائز في الصرف. فعلى هذا القول يجوز في النكاح اليوم واليومان ونحوهما لما ذكرناه من أنه أوسع منه، وأما الذي يتزوج المرأة على أن لا ميراث بينهما أو على أن لها من القوت كذا وكذا فقد مضى القول فيه في رسم الرهون. وقسم في هذه الرواية الأنكحة الفاسدة لعقودها قسمين: أحدهما أن يكون أصله حراما، والثاني أن يكون أصله حلالا ويشترط فيه شرطا حراما، وهو تقسيم فيه نظر لأن ما كان أصله حراما ينقسم إلى قسمين: إذ منه ما يتفق على تحريمه كنكاح المرأة في عدتها [أو على عمتها] أو على خالتها أو على أمها وإن لم يدخل بها وما أشبه ذلك، ومنه ما يختلف في تحريمه كنكاح المحرم والنكاح بغير ولي وما أشبه ذلك، فالأول لا ميراث فيه ولا طلاق، ولا يكون الفسخ فيه طلاقا، ولا يجب فيه الصداق المسمى إلا بالدخول، والثاني يختلف في وجوب الميراث والطلاق فيه فيجب عند مالك في أحد قوليه مراعاة لقول من(4/479)
يراه نكاحا جائزا، ووجوب الصداق المسمى فيه إن مات أحد الزوجين قبل الفسخ يجري عندي على هذا الاختلاف، ولأن ما كان أصله حلالا واشترطوا فيه شرطا حراما ينقسم إلى أقسام، منه ما يفسخ قبل وبعد باتفاق في المذهب مثل نكاح المحلل ونكاح أمة على أن كل ولد تلده فهو حر وما أشبهه، ومنه ما يفسخ قبل الدخول باتفاق وبعده على اختلاف مثل النكاح على الخيار وعلى أن لا ميراث بينهما وعلى أن لا نفقة لها وما أشبه ذلك، ومنه ما يفسخ قبل الدخول ويثبت بعد الدخول باتفاق، ومنه ما يثبت بعد الدخول ويختلف في فسخه قبل الدخول مثل أن يتزوج الرجل المرأة على أنه إن لم يأت بصداقها إلى أجل كذا وكذا فأمرها بيدها، وقد مضى القول على هذه المسألة في رسم المحرم من سماع ابن القاسم، واختلف فيما فسخ من هذه الأنكحة بعد الدخول هل يكون فيه صداق المثل أو الصداق المسمى، وكذلك ما لم يفسخ منها بعد الدخول وقد ذهب الشرط مثل النكاح على الخيار على أحد قولي مالك، ونكاح الأمة على أن أول ولد تلده فهو حر إذا لم يعثر على ذلك حتى ولدت على مذهب ابن الماجشون. وأما ما لم يفسخ منها بعد الدخول مما الشرط فيه قائم مثل النكاح على أن لا ميراث بينهما وعلى أن لا نفقة لها وما أشبه ذلك فأبطل فإن المرأة ترد إلى صداق مثلها.
[مسألة: أفيستخلف الرجل نصرانيا أو عبدا أو امرأة يعقد له نكاحه]
مسألة قلت لابن القاسم: أفيستخلف الرجل نصرانيا أو عبدا أو امرأة يعقد له نكاحه؟ قال: لا بأس به، ولا بأس أن تزوج المرأة عبدها ولا تزوج أمتها ولكن من ولي من النساء أو العبيد شيئا من أمور النساء فليستخلفوا من يزوجهن.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما يأتي في آخر هذا الرسم، وهو صحيح لا اختلاف فيه، وقد مضى بيانه في رسم سن من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.(4/480)
[مسألة: أفيزوج المسلم النصرانية]
مسألة قلت: فيزوج المسلم النصرانية؟ قال ابن القاسم: لا يزوج المسلم النصرانية كانت أخته أو ابنته أو مولاته، لا يزوج المسلم النصرانية مسلما ولا نصرانيا، قلت: فالسلطان ترفع إليه النصرانية أمرها أترى للسلطان أن يستخلف عليها من يزوجها؟ قال: لا يستخلف عليها من يزوجها وليردها إلى أهل دينها.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم موعبا فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الرجل يتزوج المرأة ويشترط عليها في عقدة النكاح أن ينفق عليها]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتزوج المرأة ويشترط عليها في عقدة النكاح أن ينفق عليها ما يصلح مثلها فإن لم يفعل فأمرها بيدها هل ترى هذا النكاح جائزا؟ وإن رأيته جائزا فأنفق عليها ما يصلح مثلها سنين ثم رقت حاله فقصر عن نفقة مثلها سنين فقرت ورضيت بذلك ثم بدا لها فأحبت أن تختار أيكون ذلك لها؟ قال ابن القاسم: لا أرى هذا النكاح جائزا وأرى أن يفسخ إن لم يدخل وإن دخل لم يفرق بينهما وكانت على شرطها إن لم يقدر على شيء كان أمرها بيدها، قال: وإن رقت حاله فقصر عن نفقة مثلها فقرت على ذلك ورضيت فليس لها بعد ذلك قول، ليس في يديها مما جعل لها شيء لأن هذا فعل واحد، وهو بمنزلة الذي يقول: إن لم أعطك بقية صداقك إلى أجل كذا وكذا فأمرك بيدك فيأتي الأجل فيعسر بالمهر وتقيم معه ويصيبها ولا يقضي شيئا ثم تطلب بعد ذلك فلا شيء لها لأن النفقة أمر واحد وليس هو فعل يأتي بعد فعل، ألا(4/481)
ترى أنه لو قال: إن نكحت عليك إلا بإذنك فأمرك بيدك فتأذن له فينكح ويدخل بها ثم يبدو لها فلا يكون لها بعد ذلك في تلك المرأة قول إلا أن يريد أن ينكح غيرها فتحلف أنها إنما كان ذلك إذنا منها في هذه ولم تكن تركت ما كان في يديها.
قال محمد بن رشد: قوله في التي شرطت على زوجها أن ينفق عليها ما يشبه مثلها فإن لم يفعل فأمرها بيدها إن النكاح يفسخ قبل الدخول أو تكون على شرطها بعد الدخول ليس بمعتدل على أصولهم، إذ لا يخلو الشرط من أن يكون جائزا أو فاسدا، فإن كان جائزا فينبغي أن تكون على شرطها قبل الدخول وبعده، ولا يفسخ النكاح كسائر الشروط المقيدة بتمليك أو طلاق، وإن كان فاسدا يجب فسخ النكاح به قبل الدخول، فينبغي إذا لم يفسخ به بعد الدخول أن يبطل الشرط وترد إلى صداق مثلها، والقول الأول أظهر أن يكون النكاح جائزا والشرط لازما كسائر الشروط، وهذه الرواية تأتي على ما يروى عن سحنون أن الشروط المشترطة في أصل العقد المقيد بتمليك أو طلاق يجب بها فسخ النكاح قبل الدخول ولمراعاة قوله مضى العمل على كتاب الشروط في الصدقات على التطوع، وقد مضى القول في أول رسم من سماع ابن القاسم على المسألة التي ساقها عليه من شرط التمليك في النكاح فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: الرجل يتزوج الحرة على أنه حر فإذا هو عبد]
مسألة وعن الرجل يتزوج الحرة على أنه حر فإذا هو عبد، هل يكون لها الخيار قبل أن يرفع ذلك إلى السلطان؟ أو هل يفوض إليها السلطان إذا رفع ذلك إليه أمرها إلى نفسها فتطلق ما شاءت؟ وعن الذي يجذم هل تطلق زوجها ما شاءت أو يفرق السلطان بينهما بواحدة ولا يفوض إليها شيئا؟ وكيف إن طلقتا أنفسهما ثلاثا امرأة(4/482)
المجذوم وامرأة الذي غر من نفسه قبل أن يرفع ذلك إلى السلطان هل يلزمها ذلك؟ قال: أما الذي غر من نفسه فلامرأته أن تختار قبل أن ترفع ذلك إلى السلطان، فما طلقت به نفسها جار عليها، وأما الذي يجذم فليس لامرأته الخيار حتى ترفع ذلك إلى السلطان، فإذا رفع ذلك إليه فليس له أن يفوض أمرها إليها تطلق ما شاءت ولكن على السلطان إذا كرهته وأرادت فراقه أن يفرق بينهما بواحدة إذا يئس من برئه، وكذلك المجنون إلا أن المجنون يضرب له أجل سنة، وكذلك سمعت من مالك من يوم ترفع، قلت: فأيهم يضرب له أجل سنة، الموسوس وحده أو الذي يغث مرة ويفيق أخرى، وهو إذا أفاق صحيح، قال ابن القاسم: سبيلهما واحد، وقد قال لي مالك: وأي شيء أشر من أن يعث الرجل مع المرأة في بيت واحد فينخلع قلبها، قال ابن القاسم: والذي حفظت عن مالك في المعتوه أنه يضرب له أجل سنة ولا يخلى بينه وبينها في هذا الأجل:
قال محمد بن رشد: أما قوله في الذي غر الحرة من نفسه وزعم أنه حر فانكشف أنه عبد إن لامرأته أن تختار قبل أن ترفع ذلك إلى السلطان يريد أنها إن فعلت جاز ذلك لها إن كان الزوج مقرا بأنه غرها ولم يدع أنه أعلمها أنه عبد، وأما إن نازعها في ذلك فليس لها أن تختار نفسها إلا أن يحكم لها السلطان بذلك، وهذا معنى قوله في المدونة أو رضي الزوج بذلك ورضيت المرأة وإلا فرق بينهما أو أبى الزوج إذا اختارت فراقه، فليس ما في المدونة بخلاف لما ههنا في هذا إذ لا معنى لاشتراط رضى الزوج بالفرقة إذ أقر بغروره إياها، فإن اختارت نفسها وهو منكر فرفع ذلك إلى السلطان وثبت(4/483)
عنده غروره إياها مضى الطلاق بما عند السلطان من أنها فعلت ما لها أن تفعل. وقوله: فما طلقت به نفسها جاز عليها هو على أحد قولي مالك في المدونة في الأمة تعتق تحت العبد أن لها أن تختار ثلاثا على حديث زبراء، وقد قال في المدونة في المجبوب يغر المرأة من نفسه: إنها ليس لها أن تطلق نفسها إلا واحدة وتكون بائنة، وذلك على قوله الثاني في أن الأمة المعتقة تحت العبد ليس لها أن تطلق نفسها إلا واحدة وتكون بائنة بها، وقوله في امرأة المجذوم والمجنون: إنها ليس لها أن تختار نفسها حتى ترفع ذلك إلى السلطان، وإنها إذا رفعت ذلك إليه لم يفوض إليها الأمر في الطلاق، ولكنه هو يفرق بينهما بواحدة إذا يئس من برئه صحيح؛ لأن ذلك حكم من السلطان باجتهاده ليس فيه سنة قائمة كما في الأمة التي تعتق تحت العبد فذلك بخلاف العبد يغر الحرة من نفسه، وقال هاهنا: إنه سمع من مالك أنه يضرب للمجنون أجل سنة في علاجه، وقال في المدونة: إنه لم يسمع ذلك منه، وإنما بلغه ذلك عنه، وقوله ههنا: إنه يفرق بينهما بعد أن يضرب له أجل سنة، وإن لم يكن جنونا مطبقا لما يصيبها منه من الفزع هو خلاف ما في سماع زونان لابن وهب وأشهب، وخلاف قول ربيعة في المدونة، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم "نقدها" من سماع عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل زوج ابنه صغيرا والابن لا مال له فكتب الصداق على الابن]
مسألة قال ابن القاسم في رجل زوج ابنه صغيرا والابن لا مال له فكتب الصداق على الابن فيدخل الابن ثم يكبر أو لا يدخل، وقد بقي عليه من الكالئ، قال ابن القاسم: إن لم يدخل حتى يبلغ فهو(4/484)
مخير إن شاء دخل عليها بما كتب عليه، وإن شاء فارق ولا شيء عليه، وأما إن دخل قبل أن يبلغ أو يجوز أمره فالصداق على الأب أو دخل بعد أن كبر ولم يعلم فالصداق على الأب إذا دخل والشرط باطل.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إذا زوج ابنه، وهو صغير لا مال له إن الصداق على الأب، وإنه إن كتبه عليه لم يلزمه إلا أن يلتزمه بعد البلوغ، وإنه إن دخل قبل البلوغ أو بعد البلوغ، ولم يعلم سقط عنه ولزم الأب وكان شرطه باطلا صحيح؛ إذ ليس للأب أن يوجب على ابنه دينا ويلزمه إياه، وهو على معنى ما في النكاح الثاني من المدونة لمالك وربيعة وعلى ما في سماع أبي زيد لابن القاسم فيما يشترط من الشروط على ابنه، وحكى ابن حبيب عن ابن الماجشون أن اشتراطه الصداق عليه إذا كان صغيرا أو كبيرا سفيها لا مال له لازم له، وهو ظاهر قول أبي الزناد في المدونة، وعليه يأتي قول ابن وهب في سماع أبي زيد إنه يلزمه ما جعل عليه أبوه من الشروط؛ إذ لا فرق بين المسألتين.
[مسألة: هل للرجل المسلم أن يستخلف النصراني في الزواج]
مسألة قال: وسألته عن الرجل المسلم يستخلف النصراني هل تجوز خلافته؟ [أو هل له إن أجزت له خلافته] في تزويج بنات الذي أوصى إليه أمر أو نهي؟ أو هل له أن يستخلف من يزوجهن ولا يكون ذلك إلا برضاه، وهل للنصراني في تزويج ابنته المسلمة أمر أو نهي؟ أو هل يستخلف من يزوجها؟ والعبد هل يستخلف من يزوج ابنته الحرة أو يطلب في هذا رضى واحد منهم في نكاح من ذكرت حتى لا يكون ذلك إلا برضاهم؟ وإن كنت لا تراه جائزا في واحد منهم ففعل من لا يجوز له ذلك منهم فلم يدرك إلا بعد البناء(4/485)
أو قبله؟ قال ابن القاسم: لا أرى أن تجوز وصية المسلم إلى النصراني إلا أن يرى السلطان لذلك وجها، قلت: فإن أجازها السلطان هل ترى أن يستخلف النصراني مسلما يزوج بنات الذي أوصى إليه المسلمات؟ قال: نعم ذلك له، وأما النصراني فليس له من ولاية ابنته المسلمة قليل ولا كثير، ولا يزوجها ولا يستخلف من يزوجها ولا يطلب في ذلك رضاه، وأما العبد المسلم في ابنته الحرة فإنه إن كان عبدا ينظر لابنته مثل العبد الفاره الناقد فأرى أن يحضره وينظر في قوله، فإن رأى في قوله سدادا رأيت أن يُتبع، وليس له في الاستخلاف في البضع قليل ولا كثير.
قال محمد بن رشد: قوله في وصية المسلم إلى النصراني إنها لا تجوز إلا أن يرى السلطان لذلك وجها، الوجه في ذلك هو مثل أن يكون قريبه أو مولاه أو زوجته، فيرى أنه إنما أوصى إليه لما رجاه من حسن نظرهم له بسبب ما في الجبلة من العطف والمودة والإشفاق على ذوي الرحم والقربى، وهو خلاف ظاهر ما في المدونة من أنه لا تجوز الوصية إلى المسخوط ولا إلى الذمي، وقال أصبغ: إذا كان قريبا ورأى أنه إنما أوصى إليهم لما رجاه من حسن النظر لابنه فلا يعزل عن الوصية ويجعل معه من عدول المسلمين من ينظر معه ويكون المال بيده، وهو أحسن الأقوال وأولاها بالاتباع، وإليه ذهب ابن حبيب وحكاه [عن] مطرف وابن الماجشون، وقد مضى في رسم "سن" من سماع ابن القاسم تحصيل القول فيمن يجوز للنصراني والعبد والمرأة أن يلي [عقد] النكاح عليه، وفيمن لا يجوز لواحد منهم أن يلي عقد النكاح عليه ويجوز له أن يستخلف على ذلك وفيمن لا يجوز له أن يلي عقد النكاح عليه إلا أن يستخلف على ذلك فلا معنى لإعادة ذلك ههنا.(4/486)
[مسألة: الرجل يكون في حجره يتيم له مال فيريد أن يزوجه ابنته]
مسألة وسئل عن الرجل يكون في حجره يتيم له مال فيريد أن يزوجه ابنته، قال: إن كانت ابنته لا مال لها، وإنما رغب في مال اليتيم فإن ذلك نكاح غير جائز، وإن كان لابنته من المال مثل الذي لليتيم هما سواء ومثلها كانت تصلح له فذلك جائز.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه إن ظهر السداد في فعله لليتيم جاز، وإن ظهر أنه غير سداد لم يجز، وهو محمول على غير السداد حتى يعلم في ذلك السداد؛ لأنه متهم في ابنته وفي نفسه، فواجب على السلطان إذا رفع إليه ذلك أن ينظر فيه فإن كانت ابنته دنية لا تشبه مناكحه فسخ النكاح، وإن كانت تشبه مناكحه إلا أنه استكثر لها من ماله في الصداق أمضى النكاح وطرح عنه الزيادة دخل أو لم يدخل، بخلاف تزويجه إياه من امرأة أجنبية لأن فعله في ذلك محمول على السداد حتى، يثبت خلافه كبيعه [عليه] وشرائه له، والرواية بما دل على ذلك منصوصة قال مالك في كتاب ابن المواز: لا أحب أن يزوج الوصي يتيمته من نفسه، قال في الواضحة ولا من ابنه لأن ذلك من ناحية ما كره له من الاشتراء من مالها، فإن وقع نظر فيه السلطان فإن كان صوابا مضى وإلا فسخ، قال ابن المواز: إلا أن يتم لها ما يشبهها أو ينزل بها بعد النكاح ضرر في بدن أو مال حتى يصير الفسخ ليس بنظر فيمضي استحسانا.
قال ابن حبيب: إذا فات بالبناء قضى لها بتمام صداق مثلها في قدرها ومالها. وإنما يمضي قبل الدخول إذا أتم لها ما يشبهها إذا كان كفوا لها فقصر فيما فرض لها من الصداق، ولو كانت ثيبا لا ولاية له(4/487)
عليها مضى النكاح ولم يكن للسلطان فيه نظر، ولو كانت ثيبا له عليها ولاية مضى النكاح ووفيت تمام صداق مثلها إن كان قصر لها في الصداق.
[مسألة: الرجل يكون وصي الرجل فتحضره الوفاة فيوصي إلى امرأة أو عبد]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يكون وصي الرجل فتحضره الوفاة فيوصي بماله وبولده وبما في يده من الوصية إلى امرأة أو عبد هل تزوج المرأة والعبد ذكور ولد من أوصى إليهما؟ قال ابن القاسم: نعم تزوج المرأة والعبد ذكور ولد من أوصى إليهما ولا يزوجان الإناث إلا أن يستخلفا. قال ابن القاسم: انظر من كان يوما يجوز إنكاحه نفسه مثل الصبي والسفيه والعبد فإن أولئك لا بأس أن تزوجهم امرأة أو عبد أو نصراني إذا فوض أمرهم إليه، وكل من لا يجوز له إنكاحه نفسه على حال من الأحوال من النساء فأولئك لا يزوجهن عبد ولا امرأة ولا نصراني.
قال محمد بن رشد: قوله إن المرأة والعبد والنصراني يزوجون ذكور ولد من أوصى إليهم ولا يزوجون الإناث ويستخلفون من يزوجهن صحيح مبين لما مضى في رسم سن من سماع ابن القاسم ولما في المدونة ولما وقع في كتاب ابن المواز، وقد مضى بيان ذلك كله والقول فيه في رسم سن المذكور، وبالله التوفيق، لا رب غيره، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تم كتاب النكاح الثالث.(4/488)
[كتاب النكاح الرابع] [خطب امرأة فزوجه وليها برضاها فلما حضر اشترط أولياؤها شروطا](5/5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم
من سماع يحيى بن يحيى عن عبد الرحمن بن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن رجل خطب امرأة فزوجه وليها برضاها، فلما حضر الخاطب لكاتب الصداق عليه اشترط أولياؤها شروطا بها كانت رضيت أن تزوجه من ذلك إنه إن تزوج عليها فالداخلة عليها بنكاح طالق، وإن تسرر فهي حرة، فلما قرئ الكتاب على الخاطب قال: قد رضيت بالصداق والشروط، غير أني لا ألزمها نفسي إلا بعد ابتنائي بها، فلم ينكر عليه الأولياء، وكتب القوم شهادتهم على ما في الكتاب، وقد سمعوا ثنياه، فأقام الخاطب بعد ذلك ثلاث سنين أو نحوها، ثم اتخذ سرته، فلما بلغ ذلك المرأة(5/7)
قامت عليه بشروطها، فقيل لها: إن زوجك قد اشترط لنفسه عند عقدة نكاحك كذا وكذا، فقالت: والله ما علمت بهذا، ولو علمت ما رضيت، فأما إذا كان هذا، فلا أرضى به اليوم ولا أقبله، ولا نكاح بيني وبينه، وقال الزوج: والله ما كنت أرى إلا أن إخوتك أعلموك بالذي كان من استثنائي، فإذا زعمت أنك لم تعلمي ولم ترض بما صنعوا فأنا ألزم نفسي شروطك من اليوم، وقالت الجارية: أما إذا لم تقبلها يومئذ، وإنما تلزمها نفسك من الآن، فلا أرضى بتزويجك، قال: القول قولها إذا تباعد الأمر وطال، ولا ينفعه أن يلزم نفسه بعد طول زمان ما قد كان كره أن يتزوج عليه يوم رضيت به، وذلك أنهما لم يكونا يتوارثان لو مات أحدهما؛ لأن النكاح لم يتم إذ لم يرض بجميع ما أنكحته عليه نفسها، قال: قلت: فإن رضيت أن تسقط عنه الشروط حتى تبنى كما كان استثناها هل يثبتان على نكاحهما الأول؟ قال: لا أرى ذلك لهما بعد طول زمان، وإنما يجوز هذا ومثله إذا أخبرت بحدثان الكتاب وحين أسقط ذلك الزوج عن نفسه، فيجوز لها الرضى، ويتم النكاح بذلك العقد، فأما إذا تباعد ذلك وطال زمانه، حتى لو مات أحدهما لم يتوارثا، فالنكاح مفسوخ، لا يجوز لهما أن يقيما عليه، أجابته لما استثنى أو أجابها إلى جميع ما اشترطت، قال: وما اتخذ من سرية، أو تزوج من امرأة فيما بينه وبين أن يصحح هذا النكاح بينه وبينها، فلا يلزمه في ذلك شيء مما كانت شرطت عليه. قال أصبغ: وذلك إذا قرّ لها(5/8)
بأصل الشرط، أو كانت به بينة أنهما تعاملا عليه وعليه أجابت.
قال محمد بن رشد: أما إذا لم ترض بنكاحه إذا بلغها أنه لم يلتزم الشروط إلا من بعد الابتناء، فلا يلزمها النكاح إذا لم ترض به، وإن التزم لها الشروط من حينئذ، وكان ذلك قريبا من العقد، إلا أن يكون ذلك في المجلس قبل الافتراق منه، وقبل انقضاء المراوضة بينهما فيه؛ لأن ذلك بمنزلة الرجل يقول للرجل: قد بعتك سلعتي بكذا وكذا، وقد زوجتك وليتي بكذا وكذا، فتقول: لا أرضى إلا بكذا وكذا، فيقول له: لا أبيعك، أو لا أزوجك، إلا بما قلت لك، فلا يقول: قد أخذتها بذلك، حتى يفترقا من المجلس. فقوله في هذا الموضع: القول قولها إذا تباعد الأمر وطال، ولا ينفعه أن يلزم نفسه بعد طول زمان ما قد كان كره أن يتزوج عليه يوم رضيت به، لا يقام منه دليل على أن القول قوله إذا قرب الأمر ولم يطل، ويلزمها النكاح، إذ لا يصح أن يقال ذلك على ما بيناه. وأما إذا رضيت بالنكاح على أن تسقط عنه الشروط حتى يبتني بها على ما استثنى، فقوله ها هنا: لا أرى ذلك لهما بعد طول زمان، وإنما يجوز هذا ومثله إذا أخبرت به بحدثان الكتاب، إلى آخر قوله هو على المشهور من قوله في الذي يزوج وليته قبل أن يستأمرها، فترضى إذا بلغها أن ذلك يجوز في القريب، ولا يجوز في البعيد، وقد قيل: إن ذلك يجوز في القريب والبعيد، وقد قيل: إن ذلك لا يجوز في القريب ولا في البعيد، حسبما بيناه في أول رسم من سماع ابن القاسم، فالاختلاف في تلك المسألة داخل في هذه، إذ لا فرق بين أن يزوجها بغير إذنها، أو يزوجها بغير ما أذنت له أن يزوجها عليه من الشروط فيما يجب لها من الخيار، وقد وقع في سماع سحنون، ومحمد بن خالد، في مثل هذه المسألة ما ظاهره أن النكاح يجوز إذا رضيت به، وإن بعد الأمر، وهو مما يدل على ما ذكرناه من دخول الاختلاف(5/9)
المذكور فيها. وأظهر الأقوال في هذه المسألة ألا يجوز، وإن أجازته ورضيت به في القريب ولا في البعيد؛ لوقوع النكاح على خلاف ما رضيت به المرأة من الشروط بعلم الزوج والولي، فكان النكاح قد انعقد بينهما على أن المرأة بالخيار، وذلك يقتضي فساد العقد في الصحيح من الأقوال، وقد بينا هذا المعنى في أوّل رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم شهد على شهادة ميت من سماع عيسى وقول أصبغ في آخر المسألة، وذلك إذا أقر لها بأصل الشرط إلى آخر قوله، صحيح؛ لأنه إذا لم يقر بذلك الزوج لها ولا قامت به بينة، فالنكاح لازم على ما وقع، ولا تصدق فيما ادعت مما يوجب لها الخيار في النكاح؛ لأنها في ذلك والولي مدعيان على الزوج.
[مسألة: الرجل يزوج عبده أمته على أن كل ولد يولد له منها أحرار]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يزوج عبده أمته، على أن كل ولد يولد له منها أحرار، قال: النكاح مفسوخ، وإن كانا في ملكه؛ لأنه وقع بشرط لا يحل، بمنزلة الأجنبيين، قيل له: فإن لم ينظر في فسخ ذلك حتى ولد له، قال: هم أحرار، فقيل له: فما ولدت بعد موته؟ قال: ما ولدت قبل اقتسام الورثة إن كان سيدها مات وهي حامل فهو حر.
قلت: أمن رأس المال أم من الثلث؟ قال: بل من رأس المال، قال: وما حملت به بعد موت السيد فهم عبيد، وما ولدت بعد القسم وإن كانت به حاملا قبل موت السيد فهو عبد للذي صارت له الأمة.(5/10)
قلت: أكان يمنع سيدها من بيعها؟ قال: لا، قلت: رهقه دين أم لم يرهقه؟ قال: ذلك سواء، يبيعها متى ما شاء في الدين وغير الدين.
قلت: فالورثة ألهم بيعها إذا مات وهي حامل؟ قال: نعم، احتاجوا إلى ذلك أو استغنوا عنه، ألا ترى أن لهم أن يدخلوها في قسمهم، فتبطل بذلك عتاقة ما في بطنها، والبيع كذلك يجوز لهم، احتاجوا إلى ذلك أو استغنوا عنه. قلت: أرأيت لو لم يكن ذلك على السيد في شرط، ولكنه قال لبعض إمائه: كل ولد تلدينه فهو حر، أهي مثل الذي يزوجها على هذا الشرط؟ فقال: الشرط في هذا والابتداء سواء، إلا أن النكاح يفسخ إذا وقع بهذا الشرط. قلت: والذي ذكرت من تجويز بيعها للسيد أتريد بذلك إذا لم تكن حاملا حين بيعها أم ذلك له في الحمل وغيره؟ فقال: إنما ذلك إذا لم تكن حاملا. قال أصبغ: لا أرى أن يقسم حتى تضع إلا أن يرهق دين أو يخاف تلف المال.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها موعبا في رسم الجواب من سماع عيسى، وذلك يغني عن إعادته ها هنا وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتحمل ابنه بصداق امرأته فتلزمه المرأة وتريد قبضه منه]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتحمل عن(5/11)
ابنه بصداق امرأته فتلزمه المرأة وتريد قبضه منه، ويدعو ابنه إلى الابتناء: ألها أن تأخذه بالحمالة وتدع زوجها لا تطلبه بشيء؟ فقال: لو كان ضمن لها ذلك عنه لها في ماله، كان غرم ذلك لازما له إذا دعت إلى أن يبني بها زوجها، ولم يكن للزوج عذر في ترك الابتناء من صغر به ولا بها، فأما إذ لم يجب حقها عليه إلا على وجه الحمالة، فلا سبيل لها إليه حتى لا يوجد للزوج مال، فإن كان معدما لزم الأب غرم ما تحمل عنه لها، ويطلب الأب ابنه بما غرم عنه. قال: وإن طلقها قبل البناء بها غرم الأب نصف الصداق عن ابنه إن كان معدما، واتبعه به دينا عليه، وإن كان مليا أخذت نصف الصداق من مال زوجها. قيل له: فإن كان الأب حمل الصداق عن ابنه في ماله فطلقها قبل البناء بها؟ قال له: طلقها قبل البناء بها، وقد كان الأب حمل الصداق في ماله، فنصف الصداق للمرأة غرم على الأب، وليس للابن على أبيه من النصف الثاني شيء.
قلت: أرأيت إن طلقها قبل البناء بها وقد مات أبوه؟ قال: يكون للمرأة نصف الصداق من رأس مال أبيه، ويكون النصف الثاني للورثة ليس للابن منه شيء دونهم.
قلت: ولم جاز للأب أن يحبس على الابن النصف الثاني، وصار أيضا ذلك النصف للورثة حين طلقها بعد موت أبيه، وقد كان لو ابتنى بها يلزم الأب والورثة بعد الأب أن يدفعوا إلى المرأة جميع الصداق؟ قال أصبغ: لأنه جعل له عطية تتم أو لا تتم، فإن تمت في الدخول لزمت، وإلا فما لزم منها، وما لم يتم فلا يلزمه؛ لأنه ساقط عن الابن، فلما سقط عن الابن سقط عن المتحمل به، بمنزلة من احتمل عن رجل بثمن سلعة بعينها اشتراها فاشتراها(5/12)
ولم يتم له الاشتراء بعيب فيها أو استحقاق بالثمن، رد إلى الحميل ليس للمعطى منه شيء، وهو قول مالك في الطلاق.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها، إلا في موضعين: أحدهما ضمان الرجل عن الزوج الصداق في عقد النكاح، ابنه كان أو أجنبيا، هل هو محمول على الحمل حتى ينص أنه أراد الحمالة؟ أو الحمالة حتى ينص أنه أراد الحمل، والحمل هو أن يؤدي عنه ما حمل عنه من المال ولا يرجع به عليه، والحمالة هي أن يؤدي عنه ما يتحمل به عنه ويرجع به عليه، هذا معلوم عند الفقهاء بعرف التخاطب، وإن كان في اللغة سواء في المعنى؛ لأنهما جميعا مصدران، من حمل يحمل حملا وحمالة فمذهبه في المدونة أنه محمول على الحمل حتى يتبين أنه أراد الحمالة. وهو قول ابن حبيب في النكاح من الواضحة وقول ابن القاسم في سماع سحنون، بعد هذا، وروى عيسى عنه في غير العتبية أنه على الحمالة حتى يتبين أنه أراد الحمل، وليس في هذه الرواية في ذلك شيء يعتمد عليه؛ لأن قوله لو كان ضمن لها ذلك في ماله، كان غرم ذلك؛ لأن ماله يريد على وجه الحمل، يدل على أنه لو كان ضمن لها ولم يقل: في ماله، لم يجب عليه غرم ذلك إلا على وجه الحمالة، وقوله: فأما إذا لم يجب حقها عليه إلا على وجه الحمالة، إلى آخر قوله، يدل على أنه إذا وجب حقها عليه على وجه الضمان، كان غرم ذلك واجبا عليه على سبيل الحمل، وهذا تعارض في الظاهر، ولو ضمن لها عنه الصداق بعد عقد النكاح، أو الثمن في عقد البيع، أو بعد عقده، لكان(5/13)
ذلك محمولا على الحمالة حتى ينص أنه أراد الحمل، قولا واحدا. والموضع الثاني هل المتحمل عنه محمول على الملاء فلا يكون للمتحمل له رجوع على الحميل حتى يثبت أن المتحمل عنه عديم؟ أم محمول على العدم، فيكون للمتحمل له أن يرجع على الحميل حتى يثبت الحميل أن المتحمل عنه ملي؟ فظاهر قوله في هذه الرواية، فلا سبيل لها إليه حتى لا يوجد للزوج مال، يدل على أن المتحمل عنه على الملأ خلاف ما لسحنون في نوازله من كتاب الكفالة إنه محمول على العدم، والحميل غارم، إلا أن يكشف أن للمتحمل عنه مالا. وقوله في الذي حمل الصداق عن ابنه: إن للزوجة أن تأخذ جميع صداقها من رأس ماله إن لم يطلق الابن في ماله فطلقها قبل البناء، إن النصف الذي يسقط عن الابن بالطلاق يسقط عن الأب، ولا يكون للابن صحيح. ووجهه أن الأب لم يعط الصداق للابن، وإنما التزم أداءه عنه، فوجب إسقاطه عنه ما لم يجب أداؤه عليه منه لسقوطه عنه بالطلاق، وهذا بين على القول بأن الصداق يجب نصفه بالعقد، والنصف الثاني بالدخول، وأما على القول بأن الصداق يجب جميعه للزوجة بالعقد، ويستحق الزوج عليها نصفه بالطلاق، فيتخرج على قول ابن الماجشون أن يكون للابن النصف الذي يجب له بالطلاق. وقد مضى بيان هذا في رسم طلق من سماع ابن القاسم. وقوله إذا مات الأب الذي حمل الصداق عن ابنه: إن للزوجة أن تأخذ جميع صداقها من رأس ماله إن لم يطلق الابن، أو نصفه إن طلق صحيح؛ لأنها عطية انعقد عليها النكاح فلم يفتقر إلى حيازة، وكذلك لو حمل عن رجل في عقد البيع سلعة اشتراها، وإنما يختلف إذا حمل عن ابنه أو عن أجنبي الصداق بعد عقد النكاح، أو ثمن السلعة بعد عقد البيع، هل يفتقر ذلك إلى حيازة، أم لا؟ على قولين، والله الموفق للصواب.(5/14)
[مسألة: يتزوج المرأة فينحل وليها فتكره المرأة أن تتبع وليها بشيء من ذلك]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتزوج المرأة فينحل وليها نحلة لعلها أن تكون أكثر من الصداق، فتكره المرأة أن تتبع وليها بشيء من ذلك، ويريد الزوج الرجوع على الولي بالذي نحله أذلك له أم لا؟ فقال: إنما الحق فيه للمرأة إذا اشترطه الولي، فإن أحبت أخذه كان ذلك لها، وإن تركته فالأمر إليها، ولا حق فيه للزوج، وليس له أن يرجع فيه على الولي ولا على المرأة؛ لأنه يعد من صداقها. ألا ترى أنه لو طلقها قبل أن يمسكها كان نصف الحباء للذي نحل الولي للرجل، ونصفه للمرأة، قيل له: فما كان من نحلة نحلها الزوج ولي المرأة أو بعض أختانه على غير شرط، أيكون للمرأة فيه حق إن اتبعته؟ أو يكون للزوج أن يرجع على الختن الذي أنحله؟ قال: إذا لم يكن على ذلك أنكحه، ولا عدة عاملة عليها حتى تكون كالشرط، وإنما هو من الزوج كالشكر للأولياء، أو لبعض الأختان وصلة لهم، أو على وجه الصلة لهم قبل النكاح؛ ليستجر مودتهم، فلا حق فيه للمرأة قبل وليها، ولا يجوز للزوج الرجوع فيه ولا الإتباع لهم به لمن أعطته.
قال محمد بن رشد: الحباء لولي المرأة ينقسم على ثلاثة أقسام:(5/15)
أحدها أن يكون ذلك عند الخطبة قبل العقد. والثاني أن يكون ذلك عند العقد بشرط. والثالث أن يكون ذلك بعد العقد على غير شرط. فأما ما كان من ذلك عند الخطبة قبل العقد، فإن تم العقد كانت المرأة أحق، وإن لم يتم العقد كان للزوج الرجوع به على الولي؛ لأن الذي أعطي بسببه لم يتم له، وأما ما كان من ذلك عند العقد بشرط، فحكمه حكم الصداق يكون للمرأة قبل وليها إن اتبعته، وليس للزوج أن يرجع به على الولي، وإن طلق كان له النصف. قال ابن حبيب في الواضحة: وكون المرأة أجازت ذلك لوليها ثم طلقها الزوج قبل البناء رجع الزوج بنصف ذلك الحباء على وليها من كان أبا أو غيره، كانت المرأة ممن يولى عليها أو جائزة الأمر، إذا كانت ممن لا يولى عليها، وللمرأة أن ترجع بنصف الحباء الثاني على وليها إذا كانت ممن يولى عليها، وإنما رأى للزوج أن يرجع على الولي بنصف الحباء، بعد أن أجازته له المرأة، وإن كان ليس له أن يرجع على الموهوب له الصداق بنصفه؛ لأنه إذا قبضه أنزله بمنزلة الذي يتزوج المرأة على أن يهب عبده لفلان. وأما ما كان من ذلك بعد العقد على غير شرط فهو للولي الذي حبا به لا رجوع للزوج فيه عليه ولا حق للمرأة فيه. والأصل في هذا كله ما روي أن الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه، وأحق ما أُكْرِمَ(5/16)
عليه الرجل أخته أو ابنته» . انتهى الحديث فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان من حبا أو عدة قبل عصمه النكاح للمرأة التي هي سبب العطية؛ لأنه إذ لم يثبت له بعد سبب يستوجب به الكرامة. ومن هذا المعنى ما روي أن الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال لابن الابنة لما رجع إليه من الولاية على الصدقة فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقال الرسول منكرا ذلك عليه: «أفلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمه ينتظر هل تأتيه هدية» ؟ فرد حكم الهدية إلى السبب الذي من أجله كانت الهدية، وجعل ما كان بعد ثبات العصمة من كرامة الولي؛ لأنه قد ثبت له ما يستوجب له الكرامة. وأما ما كان شرطا في العقد فلا إشكال في أن له حكم الصداق والله الموفق.
[مسألة: المرأة تزوج أباها أمتها أو لابن تزوج أباه أمته]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن المرأة تزوج أباها أمتها أو الابن تزوج أباه أمته، قال: النكاح مفسوخ وتقوم على الأب، حملت أو لم تحمل، كان مليا أو معدما، فإن حملت كانت بذلك الحمل أم ولد، وحاله في هذا المسيس بهذا النكاح، كحال الرجل يتعدّى على أمة ابنه فيطأها، غير أن المعتدي على ابنه في أمته يقوم(5/17)
عليه، كان مليا أو معدما، وكان الابن صغيرا أو كبيرا، حملت منه أو لم تحمل.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز للرجل أن يتزوج أمة ولده، لما له فيها من شبهة الملك، يدرأ به عنه الحد، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك» والرجل لا يجوز له أن يتزوج أمته، ولا ينعقد له فيها نكاح؛ لكونه مالكا للبضع قبل النكاح ملكا هو أقوى من ملك النكاح، والنكاح إنما يكون ليستباح به الفرج، ولأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] . ففرق بين النكاح وملك اليمين، ولم يبح الفرج إلا بأحدهما، فوجب لأجل ذلك ألا يجمع بينهما، وأن يبطل الملك النكاح، تقدم أو تأخر، فلو جاز أن ينعقد نكاح على ملك، لجاز أن ينعقد ملك على ملك، ونكاح على نكاح، وهذا قول مالك وجميع أصحابه، إنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أمة ابنه، إلا عبد الله بن الحكم، فإنه يجيزه، قال: ومع أني أكرهه، فإن وقع لم أفسخه، وإلى مثل قوله ينحو قول مالك في سماع ابن القاسم، من كتاب السرقة: إن العبد إذا سرق من مال ابن سيده، قطعت يده، فرأى وطء الرجل أمة ابنه بنكاح، كوطئه إياها دون نكاح، فيما يجب من تقويمها عليه في اليسر والعسر، وإن لم تحمل على قوله إنه لا يجوز له تزويجها؛ لأنه إذا قومت على الأب وإن كره الابن في العدل من أجل أنها لا تحل له، فأحرى أن تقوم عليه في التزويج؛ لأنه قد أذن له في وطئها، وقوله: غير أن المعتدي إلى آخر قوله، استثناء لا وجه له، لا لسواء الوجهين، والله أعلم.(5/18)
[مسألة: يزوج الرجل أمته على أن أول بطن تلده فهو حر]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الذي يزوج الرجل أمته على أن أول بطن تلده فهو حر، فولدت بطنا في حياة سيدها أو بعد موته، قال: ما ولدت في ذلك البطن فهو حر.
قلت: فإن ولدت توأمان، قال: نعم، كل ما كان في ذلك البطن فهم أحرار، قال: ويفسخ النكاح.
قلت: ولم فسخته والشرط للذي به يفسخ النكاح قد انقضى؟ قال: لأن عقد النكاح وقع بما لا يصلح، فليس انقضاء الشرط بولادة الأمة يسقط الفسخ الذي كان وجب في النكاح الفاسد، فهو مفسوخ متى ما علم به.
قلت: وإن طال زمانه جدا؟ قال: نعم، وإن طال زمانه بعد موت، فإنه لا يصلحه طول زمان، قال: وإن ولدت بعد موت السيد، وقبل القسم، فإن ولدها من ذلك البطن حر.
قلت: فهل يُمنع من بيعها إن حملت؟ قال: نعم، إلا أن ينزل به دين.
قلت: فالورثة هل يمنعون من اقتسامها إن كان السيد مات وهي حامل؟ قال: لا يمنعون من ذلك، فإن ولدت قبل القسم عتق ولدها من ذلك البطن بالشرط، وإن اقتسموا قبل الولادة انقطع الشرط، وكان ولد الأمة للذي تصير إليه الأمة، قال أصبغ: إذا طال وخيف على الميراث التلف، وإلا وقفوا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم الجواب من سماع عيسى، وتكررت أيضا فيما مضى من هذا الرسم، فلا معنى لإعادة القول فيها.(5/19)
[مسألة: الرجل يدفع إلى امرأته نقدها أيجوز لها أن تقضي منه]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يدفع إلى امرأته نقدها أيجوز لها أن تقضي منه إلا الشيء التافه الذي لا خطب له وإن قام عليها غرماؤها ولم يمكنوا من أخذ ذلك الصداق منها إلا بإذن زوجها ورضاه؟ قال: وكذلك قال لي مالك: لا يجوز إلا الدينار ونحوه.
قلت: أرأيت كالئ صداقها، أيجوز لغرماء المرأه أن يبيعوه بالنقد إذا كان على زوجها إلى أجل، فيتحاصُّون فيه؟ وإن كان حالا أيجوز لهم اقتضاؤه لها وقبضه لأنفسهم عنها؟ أو يكون حال الكالئ من صداقها والنقد سواء؟ وكيف إن قام الغرماء على المرأة باقتضاء حقوقهم بعد البناء بأيام يسيرة؟ أيباع لهم متاعها الذي اشترت بنقدها أم حتى متى توقفهم عن بيع ذلك عليها وما أجله عندك؟ قال: ليس لذلك وقت، وإنما الذي لا يجوز لها من ذلك الصداق تأخذه فتدفعه في دينها، فأما ما أحدثت المرأة في ذلك بعد دخول زوجها بها من بيع أو اشتراء، أو جرح أو غير ذلك، فلحقها فيه الدين، فإنها لا تمنع من بيع ذلك وقضائه الغرماء أو يفلسها الغرماء، فيكون لهم بيع متاعها ومالها ما كان منه من صداقها أو غير ذلك، وكذلك هو عندي لو ماتت أخذ الغرماء في ذلك ما كان على الزوج من بقية صداقها، أو حاضر ما في يديها، وهذا رأيي.(5/20)
قال محمد بن رشد: قوله: إنها لا يجوز لها أن تقضي من مهرها ديونها، إلا أن يكون الشيء التافه اليسير، الدينار ونحوه، ومثل ما قال في كتاب الديات من المدونة. ولمالك في كتاب ابن المواز: إلا أن يكون الشيء اليسير مثل الدينارين والثلاثة، وليس ذلك باختلاف من القول، وإنما ذلك على قدر قلة الصداق وكثرته، فقد يكون صداقها الدينارين والثلاثة، فيكون الدينار الواحد من ذلك كثيرا، وقد يكون صداقها ألف دينار، فتكون العشرة من ذلك أو أكثر قليلا، وهذا كله صحيح على أصله، في أن المرأة يلزمها أن تتجهز لزوجها بصداقها، ولم يجد على الكالئ هل يكون حكمه في ذلك حكم النقد أم لا؟ فأما إذا كان أجله بعد البناء فلا إشكال في أنه لا حق فيه للزوج، وأنه لا يلزم المرأة أن تتجهز به إلى زوجها، فلغرمائها إذا قاموا عليها بديونهم قبل البناء أن يبيعوه بالنقد في ديونهم، وأن يقتضوه إن كان قد حل قبل البناء بتأخر البناء عن الوقت الذي جرت العادة أن يبني أهل البلد إليه، وأما إن كان أجله إلى قبل البناء، فحكمه حكم النقد، وإن تعجل قبل حلوله، وكذلك إن كان النقد عرضا يلزمها أدن تبيعه فيما تتجهز به إلى زوجها، إلا أن يكون العرض مما يقصد إلى اقتنائه، كالسياقات وشبهها. وظاهر قوله: إذا قام الغرماء عليها بعد الدخول وأرادوا بيع جهازها في ديونهم، أنه فرق بين أن يكون الديون حادثة بعد الدخول أو قديمة قبله، وليس المعنى في ذلك لا الطول، وإنما قال: إن جهازها يباع فيما تحدثت بعد الدخول من الديون؛ لأن الأغلب أن ذلك لا يكون إلا في الطول، فإذا قاموا بعد أن طالت المدة، وكان الزوج قد استمتع بجهازها ما له قدر وبال من الاستمتاع، كان لهم أن يقبضوا منه حقوقهم، كانت ديونهم حادثة بعد الدخول أو قديمة قبله، وإن قاموا بحدثان دخول زوجها بها وتجهزها إليه، لم يكن لهم أن يقبضوا ديونهم من جهازها، وإن كانت حادثة بعد الدخول، للحق الذي للزوج من الاستمتاع بما نقدها.(5/21)
[مسألة: امرأة ادعت على رجل قد مات، أنه كان زوجها]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن امرأة ادعت على رجل قد مات، أنه كان زوجها، فأقامت البينة أن ذلك الرجل كان مقرا في صحته أن تلك المرأة امرأته، وأنه كان أصدقها كذا وكذا، ولم تقم بينة على إقرارها في حياته بمثل الذي كان به هو مقرا، ولا على أصل النكاح، قال: إن كانت المرأة في ملكه وعياله، وتحت حجابه، فالقول قولها لحيازته إياها، وخلوته بها، ومصيرها في يديه مع إقراره بنكاحها، وتسمية صداقها في صحته وجواز أمره، وإن كانت المرأة بائنة منه في أهلها عنه، منقطعة في مسكنها، فلا ميراث لها ولا صداق، إذا لم تقر بما كان يدعيه ويقر به من نكاحها، إلا بعد موته، وذلك أنه لو كان حيا فماتت قبله، فأراد أن يرثها بذلك الإقرار الذي كان منه قبل موتها، لم يكن ذلك له حتى يعرف إقرارها بمثل ما كان يدعيه من نكاحها، مع إشهار ذلك وإعلانه، وتقادم ادعائه، ذكر ذلك منها إذ لم تقم بينة على أصل النكاح.
قلت: أرأيت إن كان الذي ادعت هذه المرأة أنها امرأته، كانت في عياله وملكه، فأنكر الورثة وأتت بالبينة أن الرجل كان يخبر من جالسه أن له امرأة، ولم يسمها لهم، فزعم الشهود على إقراره بهذا أنهم لا يعرفون امرأته بتلك التي كان بها مقرا بعينها، ولا باسمها ولا نسبها، ولا يدعي هذه الدعوى غيرها. أترى أن شهادة هؤلاء توجب لها الميراث؟ قال: لا ميراث لها بهذه الشهادة؛ لأنها غير قاطعة.
قال محمد بن رشد: أوجب ابن القاسم في هذه المسألة الميراث للمرأة بإقرار الرجل في صحته أنها امرأته مع كونها في ملكه، وتحت حجابه،(5/22)
وإن لم يعلم منها إقرار بما كان يدعيه ويقر به من نكاحها؛ لأن كونها في ملكه وتحت حجابه، كالإقرار منها بالنكاح أو أقوى، ولو ماتت هي لورثها على ما في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الأقضية، في الذي ابتاع جارية فولدت منه أولادا، وقد كان الرجل يخبر الناس أنها امرأته تزوجها وقد كان يحلف بطلاقها، وقد قيل في تلك: إنه إنما أوجب لها ابن القاسم الميراث، لظهور الولد بينهما بعد إقراره بنكاحها، ولولا ظهور الولد بينهما، لما أوجب لها الميراث بإقراره بنكاحها، مع كونها تحت حجابه وفي ملكه، لكونها على ذلك في الأصل بحق الملك، وأما لو لم تكن في ملكه وتحت حجابه، لما وجب لها الميراث، إذا لم يعلم إقرارها في صحته بما كان يدعيه من نكاحها، واختلف إذا تقارا بالزوجية جميعا ولم تكن في ملكه وتحت حجابه، فقيل: إن الزوجية تثبت بينهما بذلك، ويتوارثان بها، إذا اشتهر ذلك من قولهما، وتقادم ذلك، وظهر في الجيران، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وقول ابن وهب من سماع يحيى من كتاب الشهادات، وقيل: إن النكاح لا يثبت ولا يكون بينهما ميراث بتقاررها بالنكاح مع طول الزمان، حتى يثبت النكاح بالنية، وهو قول ابن القاسم، وأشهب، في سماع يحيى من كتاب الشهادات، ويصح للشاهد أن يشهد بالقطع على النكاح من ناحية السماع، إذا كثر القول به حتى وقع العلم به للسامع من ناحية التواتر على ما في سماع أبي زيد، ونوازل سحنون من كتاب الشهادات وبالله التوفيق.
[مسألة: الحربي يتزوج في دار الإسلام ذمية فيولد له منها]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الحربي يتزوج في دار الإسلام ذمية فيولد له منها، أو الذمي يتزوج الحربية في دار الإسلام، فيولد له منها، وإنما كان خروج الحربي والحربية إلى دار الإسلام بلا عهد أعطياه ولا أمان، ثم اطلع السلطان على أمرهما، فأخذا، فما ترى(5/23)
في رقابهما وأموالهما وأولادهما؟ قال: سئل مالك عن أهل قبرس، يدخل إليهم ناس من العدو، فيتزوجون من نسائهم، أو يخرج القبرسي إلى الروم، فيتزوج امرأة، فيأتي بها، فتلد أولادا، ويولد للرومي من القبرسية ولد فيؤخذون، فما ترى الحكم فيهم؟ فقال: الولد في هذا تابع للآباء، فإن كان رومي تزوج قبرسية فولده فيء، وإن كان قبرسي تزوج رومية فولده على مثابة أبيهم في العهد، وسمعت الليث يقول مثله، وإنما يكون الولد تبعا للأم في المملكة، فأما الأحرار من أهل الذمة، والحربيين أو المصالحين، فهم تبع للآباء، وكذلك قال مالك والليث، وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: قوله في الحربي يتزوج ذمية، أو الذمي يتزوج حربية: إن الولد تبع للأب في حاله، من العهد أو غير العهد، هو على خلاف ما في المدونة في الذمية يسبيها العدو، فتلد عندهم، فتسبى هي وولدها: أن ولدها تبع لها، إلا أن يكون قد بلغ وقاتل واحتلم، مثل قول ابن الماجشون وأشهب إن ولدها وصغارهم وكبارهم فيء، وفي المدونة لابن دينار، قول ثالث إن الولد تبع لذي العهد من أحد الأبوين من كان منهما، ولا يسترقون، ولا اختلاف في الحربي يتزوج الأمة أن ولدها رقيق لسيد الأمة. وقال ابن الماجشون وأشهب في الأمة يسبيها العدو فتلد عندهم: إن ولدها صغارهم وكبارهم فيء، والوجه في قوله أنه حكم لهم بحكم الدار، وبالله التوفيق.
[مسألة: مرض فدعا جارية عنده فقال أشهدوا أني أعتقتها في صحتي]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن رجل خصي مرض فدعا جارية عنده، فقال لمن حضره: أشهدكم أني قد كنت أعتقتها في(5/24)
صحتي، وتزوجتها، وأنا أشهدكم أنها طالق ألبتة، وقد كانت تعرف مملوكة، ولا يشهد أحد على أصل نكاح ولا عتق في الصحة. فقال: لا تعتق في ثلث ولا غيره ولا صداق لها ولا ميراث إذا لم يكن لها نية على أصل نكاح كان قبل المرض، وذلك أن النكاح لا يثبت، وإن أقر به إلا بثبات العتاقة، والعتاقة لا تثبت بمثل هذا الإقرار في المرض، ولا تعتق في ثلث إلا أن يقول: أمضوا عتقها.
قلت: أرأيت إن صح ماذا يجب لها بهذا الإقرار الذي كان في المرض؟ قال تتم حرمتها ويلزمه طلاقها ولا تحل له إن أراد نكاحها إلا بعد زوج.
قلت: فكم يكون صداقها ولم يكن إذا قر بنكاحها في مرضه ذكر تسمية صداق، وقد اختلف فيه اليوم حين لزمه العتق والطلاق، بالصحة من المرض؟ قال: القول قول الزوج فيما أقر به من الصداق.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في قول الرجل في مرضه: قد كنت أعتقت عبدي هذا في صحتي، فيموت من مرضه، على ثلاثة أقوال: أحدها هذا أنه لا يعتق في رأس المال ولا في الثلث، إلا أن يقول: أمضوا عتقه، فيعتق. والقول الثاني إنه إن كان ورثته ولدا أعتق من رأس المال، وإن كان ورثته كلالة، لم يعتق من رأس المال ولا من الثلث. وهذا القول في كتاب أمهات الأولاد من المدونة، في الذي يقر في مرضه بأن أمته ولدت منه، ولا ولد معها، ولا فرق بين المسألتين. والقول الثالث إنه إن كان ورثته ولدا أعتق من رأس المال، وإن كان ورثته كلالة، عتق من الثلث، وهذا القول رواه ابن عبد الحكم عن مالك، وهو في كتاب المكاتب من المدونة، والميراث في هذه المسألة والصداق، إن كان سماه، جار على هذا الاختلاف، يكون لها من(5/25)
الميراث والصداق من رأس المال على القول إنها تعتق من رأس المال إن كان ورثته ولدا، ويكون لها الميراث والصداق من الثلث على القول بأنها تعتق من الثلث، ولا صداق لها ولا ميراث على القول بأنها لا تعتق لا من رأس المال ولا من الثلث، وهو قوله في هذه الرواية، وإن صح من مرضه ثبتت حريتها، وكان لها جميع ما أقر لها به من الصداق، إن كان قد دخل بها، ونصفه إن كان لم يدخل بها، من أجل أنه طلقها، ولا تحل له إلا بعد زوج، وبالله التوفيق.
[الرجل يشتري الأمة على أن ينكحها عبده]
ومن كتاب الصبرة وقيل في الرجل يشتري الأمة على أن ينكحها عبده، فوجبت له على ذلك، وأنكحها العبد: إن البيع مفسوخ، إن لم تفت الأمة، ويفسخ النكاح أيضا، وإن فاتت كان عليه قيمتها يوم اشتراها ويفسخ النكاح؛ لأن مالكا قال: لا يكون نكاح وبيع، فإن أراد ذلك سواء كان الشرط عند البيع في نكاحها أو نكاح غيرها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه لا فرق بين أن يكون الشرط في نكاحها، أو نكاح غيرها، لما يخشى في ذلك من أن يكون البائع قد ازداد في ثمن الأمة التي باعها مقدار ما نقد المبتاع في تزويجها من عبده، فيكون الفرج موهوبا بلا صداق، وكذلك لو باعها منه على أن يزوجها منه، أو على أن يزوج أمة له أخرى منه أو من عبده، أو على أن يزوج وليته منه، الحكم في ذلك كله سواء، وقد مضى في رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده، من سماع عيسى، القول في حكم اجتماع البيع والنكاح في صفقة واحدة مستوفًى، فلا وجه لإعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول إن مت من مرضي فقد زوجت ابنتي فلانة من ابن أخي فلان]
مسألة قال: وسمعت مالكا يقول في الرجل يوصي في مرضه فيقول:(5/26)
إن مت من مرضي فقد زوجت ابنتي فلانة من ابن أخي فلان، إن ذلك جائز.
قلت: كبيرا كان ابن أخيه أو صغيرا، قال: نعم أراه جائزا، ولم أسأل مالكا عن كبير ولا صغير.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة في بعض روايات المدونة وزاد فيها، ولابنة صغيرة، وهو معنى المسألة، وقوله في هذا النكاح: إنه جائز، يريد إن قبله ابن أخيه إن كان كبيرا أو وليه إن كان صغيرا. قال سحنون: وإنما يجوز النكاح إن قبله الزوج بقرب ذلك، وهذا على اختلافهم في الرجل يزوج الرجل الغائب، وقيل: يجوز إن أجازا بالقرب، وقيل: يجوز، وإن أجازا بالبعد على ما مضى القول فيه في أول رسم من سماع ابن القاسم، ولو قال: إن مت من مرضي فزوجوا ابنتي من ابن أخي أو من فلان، فجاز النكاح، وإن طال الأمر قبل القبول، وكذلك لو قال: زوجوها منه بعد عشر سنين، أو بعد بلوغها لجاز، وإنما افترق ذلك؛ لأن النكاح في الأول من الميت لازم للابنة بموته، إن قبله الزوج بالقرب، على الاختلاف المذكور، ولأنه في المسألة الثانية من الوكيل لا من الميت، وقد حكى ابن حارث عن يحيى بن عمر أنه قال: وسواء طال الأمر، أو لم يطل، على قياس قول ابن القاسم، يريد على قياس قوله في رسم حلف من سماع ابن القاسم إذ جعل قوله فيها: فقد وصيته بابنتي، راجعا إلى معنى الوصية بتزويجها، فيلزمه على قياس ذلك أن يجعل قوله في هذه المسألة: فقد زوجته ابنتي، راجعا إلى معنى الوصية بتزويجها، فيجوز قبوله لذلك في القرب والبعد، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية، إذ لم يفرق فيهما بين قرب ولا بعد، واختلف إذا قال في صحته: إن مت فقد زوجت ابنتي فلانا، فأجازه أشهب. وقال ابن القاسم: لا يجوز إلا في المرض.
قال محمد بن رشد: وهو أصوب؛ لأنه إذا كان في الصحة فكأنه إلى أجل، ولعل ذلك يطول، كالذي يقول: إذا مضت سنة فقد زوجت ابنتي فلانا، وقول أشهب عندي أحسن؛ لأنه إذا حمله على الوصية فلا فرق بين(5/27)
الصحة والمرض في الوصية، ووجه قول ابن القاسم أنه حمله في الصحة على البت، فلم يجزه، وفي المرض على الوصية، فأجازه في القرب والبعد، على ما حكيناه عنه. وحمله محمد على البت في الصحة والمرض، فلم يجزه في الصحة لطول الأمر، كالذي يقول: إذا مضت سنة فقد زوجت ابنتي من فلان، وأجازه في المرض، كالذي يقول: إن مضى شهر فقد زوجت ابنتي من فلان، إن النكاح جائز إن رضي فلان لازم بمضي الشهر، وإنما قال في المدونة في الذي قال إذا مضى الشهر، فأنا أتزوجك، ورضيت بذلك المرأة والولي، إن النكاح باطل، من أجل أن قوله: فأنا أتزوجك ليس بالتزام، فيكون نكاح له فيه خيار. وقد قال بعض من تكلم على مسائل المدونة: إنه إنما قال النكاح باطل على أنه عنده التزام، والأول أظهر والله أعلم.
[الرجل يوصي أن تزوج ابنته رجلا سماه، فتُنكر ذلك الابنة بعد موته]
ومن كتاب الصلاة وقال في الرجل يوصي أن تزوج ابنته رجلا سماه، فتُنكر ذلك الابنة بعد موته، وتقول: لا يلزمني ما أوصى به، إذ لم يعقد على النكاح، قال: الوصية لها لازمة، إلا أن يأبى الرجل الذي سماها له أن يتزوجها.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في رسم حلف ليرفعن أمرا من سماع ابن القاسم، وذكرنا هناك أنه يتحصل فيها ثلاثة أقوال، فلا معنى لإعادة ذلك. وبالله التوفيق.
[رجل تزوج بصداق إلى ميسرة]
ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع للتجارة وقال في رجل تزوج بصداق إلى ميسرة إنه إن كان مليا يوم وقع النكاح بهذا الشرط، فالنكاح جائز، وله عليهم أن ينتظروه بقدر ما يرى من التوسعة على مثله، قال: وإن كان معسرا فموقع(5/28)
النكاح بهذا الشرط، فإنه إن نظر فيه قبل البناء فسخ، وإن نظر فيه بعد البناء مضى، وفرض لها صداق مثله، وبطل الصداق الأول للذي وقع بالمكروه.
قال محمد بن رشد: أما الذي تزوج بصداق إلى ميسرة وهو معسر، فلا إشكال ولا اختلاف في أنه نكاح فاسد كما قال؛ لأنه أجل مجهول. وأما إذا كان مليا فأجازه ابن القاسم في هذه الرواية، ورآه مثل ما جوز من البيع على التقاضي، وهو إلى غير أجل سمياه، إلا أنه معلوم بالعرف، فكذلك هذا معلوم بما يعرف من حاله، فينظر إلى ما يعلم أن الصداق يتيسر له إليه من المدة. وحكى ابن حبيب أن أصبغ ذكر أن ابن القاسم كان يجيزه ويجعله حالا، وليس ذلك بخلاف لما قلناه؛ لأنه وإن سماه حالا فلا بد أن ينظر به على قدر ما يرى أنه يتهايأ له من غير أن يفسد فيه متاعه، ويبيع أصوله، بالغا ما بلغ، وهذا كمن أسلف رجلا سلفا حالا، فإنه لا يؤخذ به في الحين، ولا بد من أن يؤجل فيه على قدر ما يعلم من القصد في ذلك بالعرف والعادة، وابن الماجشون يراه أجلا مجهولا يفسخ به النكاح قبل الدخول. ويقوم من تعليل ابن حبيب لقول ابن الماجشون، إجازته إذا لم يكن معه نقد معجل، بخلاف إذا كان معه نقد معجل، ولو قيل في هذه التفرقة بالعكس لكان أشبه، من أجل أن الضرر يقل إذا كان معه نقد معجل، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن النكاح في باب الصداق، أوسع من البيوع؛ لأنه يجوز فيه من الغرر والمجهول، ما لا يجوز في البيع. من ذلك النكاح على عبد غير موصوف، وعلى شوار بيت، وما أشبه ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل يتزوج امرأة ويشترط عليه أن كل جارية يتسررها عليها فهي حرة]
مسألة وقال: في رجل يتزوج امرأة ويشترط عليه، إن كل جارية يتسررها عليها فهي حرة، وللرجل يوم اشترط عليه هذا الشرط(5/29)
أمهات الأولاد فيطأهن بعد الشرط، إن اليمين تلزمه فيهن، فيحنث بما اشترط عليه من التسرر. بأنه إذا مسهن بعد اليمين، فالمسيس تسرر، وذلك أن التي تشترط ألا يتسرر عليها، إنما تشترط ألا يمس معها غيرها، فإذا مس أمهات أولاده فقد حنث، قال أبو زيد بن أبي الغمر، وأصبغ مثله، وسئل عنها سحنون، فقيل له: الرجل ينكح المرأة، وله أمهات أولاد، فتشترط عليه ألا يتسرر عليها، فإن فعل فهي حرة، فقال: لا شيء عليه في أمهات أولاده اللاتي كن عنده قبل النكاح، وإنما يلزمه الشرط فيما يستقبل من الإماء بعد عقدة النكاح.
قال محمد بن رشد: رآه ابن القاسم حانثا للوجهين اللذين ذكرهما: أحدهما مراعاة اللفظ، وذلك أن الوطء نفسه يسمى تسررا في اللسان. والثاني مراعاة المعنى، وهو ما يعلم من أن القصد بالشرط ألا يطأ معها غيرها، ووجه قول سحنون أنه حمل الشرط على ما هو التسرر عند عامة الناس، وإن خالف ذلك موضوع اللسان، وذلك أن التسرر عند الناس إنما هو وطء الجارية ابتداء مع العزم على اتخاذها لذلك، فلا يقولون لمن وطئ في يوم من الأيام أم ولده، أو جارية قد كان يطأها، أو خادما دون ألا ينوي العودة لذلك، إنه تسرى في ذلك اليوم على امرأته، وهذا نحو ما في المدونة في الذي يحلف ألا يأكل بيضا فأكل بيض السمك، أنه لا يحنث من أجل ذلك، لا يسمى بيضا عند الناس، وإن كان في اللسان بيضا وبالله التوفيق.
[مسألة: يغيب عنها زوجها فتنكح ثم يقدم فتزعم أنه نعي لها ولم ترفع ذلك إلى الإمام]
مسألة وسألته عن المرأة يغيب عنها زوجها فتنكح، ثم يقدم فتزعم أنه نعي لها ولم ترفع ذلك إلى الإمام، ولم يكن الذي ادعت فاشيا، أترى أن ترجم؟ فقال: لا أرى عليها رجما كذلك، قال مالك: وإنما أرى ذلك يسقط عنها للشبهة التي ادعت، ولكن يفسخ نكاح الثاني،(5/30)
وتعتد من مسيسه، ويكون الأول أحق بها، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها لا ترجم للشبهة التي ادعت، صحيح؛ لأنه نكاح صحيح في ظاهره، يثبت فيه نسب ولد الزوج، ولو أقرت على نفسها أنها تزوجت دون أن ينعى لها، وهي تعلم أنه حي لم يمت، وأن ذلك لا يحل لها، لحدث، وثبت نسب ولدها من الزوج الذي تزوجت على كل حال، إن كان تزوجها بعد حيضة، وأتت بالولد لما يلحق لمثله الأنساب، وأما قوله: إن النكاح يفسخ، وتعتد من مسيس الزوج، ويكون أحق بها، فإن شاء أمسك وإن شاء طلق، فهو كما قال، ومثله في المدونة، ولا اختلاف في ذلك. وسواء في هذا تزوجته دون أن يُنْعَى لها، أو بعد أن نُعي لها، ببينة أو بغير بينة، كان الشهود شهود زور، أو كانوا عدولا، فشبه عليهم. وإنما يفترق ذلك فيما بيع من ماله، فإن كان الشهود شهود زور، كان أحق بماله حيث ما وجده، وله أن يجيز البيع بأخذ الثمن إن شاء، وبأخذ الأمة وقيمة ولدها، وقيل: يأخذ قيمتها يوم الحكم، وقيمة ولدها. وقيل: يأخذ قيمتها يوم الوطء لا غير، وإن كان الشهود عدولا وقد شبه عليهم، ولم يكن له ما بيع من ماله سبيل، إلا أن يغرم الثمن للمبتاع، ويرجع به على البائع وبالله التوفيق.
[مسألة: ينكح المرأة على أن يصدقها مائة دينار خمسين نقدا وخمسين بعد البناء]
مسألة وسئل عن الرجل ينكح المرأة على أن يصدقها مائة دينار: خمسين نقدا وخمسين بعد ابتنائه بها بسنة، فقال: أكرهه، وإن وقع لم أره مفسوخا. قيل له: لم أجزته وأنت لا تجيز النكاح إذا كان الصداق لغير أجل؟ وهذا لا يدري متى يبني، فهو الآن، كمن تزوج بصداق إلى غير أجل؟ فقال: إني سمعت مالكا يقول في الرجل(5/31)
يتزوج المرأة بخمسين دينارًا، وخمسين تكون حالة بعد الابتناء، فجوزه، فأنا أرى أن الذي يقول خمسين بعد الابتناء بسنة، إنما هو من وجه ما جوز من البيع بالتقاضي، وهو إلى غير أجل معروف، وكان الابتناء عنده معروفا لا يتباعد كما قد عرف من قدره. وما يكون بين الملك والابتناء من الزمان، فأنا أرى إذا وقع أن يمضي النكاح، فتكون الخمسون التي جعلت بعد الابتناء بسنة تحل عليه إذا مضى من الزمان ما يرى أن أهل بلده يبتني أكثرهم إلى مثله، ثم يؤخر بعد ذلك القدر سنة، فتحل عليه الخمسون، ولا يفسخ نكاحهما، ولا ينبغي للمرء أن يحمل النكاح محمل البيع في جميع الأمر، ألا ترى أن النكاح يحل بالرأس غير الموصوف، وشوار غير موصوف، فإذا وقع النكاح جعل لها رأسا من أوسط الخدم، وشوار نحوها في قدرها، وما يعلم أنه يكون شوار مثلها. قال سحنون مثله، وكذلك لو تزوجها بخمسين دينارا نقدا، وخمسين دينارا بعد ابتنائه بسنة، وخمسين دينارا إلى خمس سنين، كان النكاح جائزا، دخل بها أو لم يدخل، وقال أبو زيد بن أبي الغمر في مسألة سحنون: أرى أن يفسخ النكاح، ما لم يدخل بها، وإن دخل بها نظر إلى ما أعطاها من المؤجل إلى خمس سنين، فيقال: ما صداق مثلها على هذا المؤجل الذي يسمى لها إلى خمس سنين، فما كان من شيء قل أو كثر يضاف ذلك إلى المؤجل، فتأخذه نقدا، وكانت الخمسون إلى أجلها، وقال أصبغ فيها مثل قول أبي زيد إلى خمس سنين.
قال محمد بن رشد: جعل ابن القاسم في هذه الرواية حد الابتناء معروفا بالعرف والعادة، فأجاز أن يكون ابتداء أجل الكالئ منه، وأن يكون مؤخرا إليه على ما حكي عن مالك، وهو قوله في المدونة في الذي تزوج(5/32)
بخمسين وخمسين على ظهره، فقال: إن ذلك الذي على ظهره يحل بدخول الزوج عندهم، فهو جائز. وقال ابن المواز: إنما جاز ذلك؛ لأن الدخول حال، لو شاءت المرأة أن تدعوه إلى الدخول، لكان لها ذلك. وقول ابن القاسم أظهر، إذ لا يلزم الزوج الدخول بها من ساعته، إذا دعته إلى ذلك، وله أن يؤخر ما يشبه، ولا يكون على المرأة فيه ضرر إذا أجرى لها نفقتها، كما يكون لها من الحق أن تؤخر إلى ما يشبه إذا دعي هو إلى تعجيل الابتناء بها، وقد مضى القول على ذلك في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب، وفي أول سماع عيسى من كتاب السلم والآجال: إن وقت الابتناء مجهول، فلا يكون أجلا للكالئ، مثل قول أبي زيد وأصبغ، وجه القول الأول. . ما احتج به ابن القاسم من أن النكاح أوسع من البيوع، ووجه القول الثاني. . قياس النكاح على البيوع. وقد قال مالك: أشبه شيء بالبيوع النكاح. وقول أبي زيد: فما كان من شيء قل أو كثر، يضاف إلى المؤجل، ظاهره كان أكثر من المعلوم والمجهول، أو أقل من المعلوم وحده، لا يعتبر بشيء من ذلك في صداق مثلها. وقد مضى الاختلاف في هذا في رسم يوصي من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الرجل ينكح المرأة فيسمي لها صداقا مسمى على أن يحج بها من ماله]
مسألة وقال: في الرجل ينكح المرأة، فيسمي لها صداقا مسمى، على أن يحج بها من ماله، فقال: إن نظر في أمرهما قبل البناء، فأرى أن يفسخ نكاحهما؛ لأن هذا ليس من الصداق.
وقيمة ما ينفق على مثلها في حجها من الكراء والنفقة والكسوة، وما يتكلف لمثلها في حجها. قيل: أرأيت إن كان لم يجعل صداقها إلا الحج بها؟ قال: إن علم به قبل البناء فسخ، وإن فات أمرها فابتنى بها، رأيت أن يجعل لها صداق مثلها ولا تعطى ما ينفق على مثلها في الحج. وقد قال مالك في التي يكون صداقها شيئا معلوما والحج بها تموت قبل أن يحج بها وبعد البناء: إنه يعطي(5/33)
ورثتها ما كان ينفق على مثلها في حجها، وأنا لا أرى لهم إلا أن يحمل لهم مثلها إلا أن يتراضى الزوج والورثة على أمر يجوز بينهم، وذلك أنه كراء قد لزمه ولزمها، فإذا ماتت فإنما لورثتها عليه ما كان يكون لها في حياتها. ألا ترى أنها لو قالت له: إني لا أريد الحج فادفع إليّ ما كنت تنفق عليّ لو حججت، لم يكن ذلك لها، وكذلك لو أنه أراد أن يعطيها نفقة مثلها ويبرأ من حملها لم يكن ذلك له. فاشتراطها الحج كراء لها، وقد لزمها ولزمه، فورثتها بمنزلتها. قيل له: فالنكاح على أن يكون الصداق حملانها إلى بلد أو لخدمة عبد أو خدمة الزوج إلى أجل من الآجال. قال: لا أرى ذلك يجوز في الصدقات، ولا أحب أن يجب به النكاح، فإن وقع فسخته قبل البناء، وأجزت النكاح بعد البناء، ورددت الصداق إلى صداق مثلها، وأبطلت الأجرة والكراء كله من الصدقات.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها والكلام عليه في رسم لم يدرك من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته هنا مرة أخرى وبالله التوفيق.
[المعترض عن امرأته يفرق بينهما بعد انقضاء الأجل]
ومن كتاب المكاتب
قال: وسألته عن المعترض عن امرأته، يفرق بينهما بعد انقضاء الأجل، ثم ينكحها نكاحا جديدا فيعترض عنها أيضا، فتريد فراقه، أيكون ذلك لها؟ قال: ذلك لها إذا قامت معه في الابتناء الآخر قدر ما تعذر فيما تدعي من اختيارها له وانقطاع رجائها منه، إذا كان العذر في ذلك بينا.
قلت: وما بيان ذلك؟ قال: أن يكون الرجل يطأ غيرها وإنما(5/34)
ابتلي بالاعتراض عنها، فتقول: رجوت أن يذهب الله ذلك عنه، وأن يكون قد تعالج أو نحو ذلك. فإذا كان على هذا فالفراق إليها بعد انقضاء أجل السنة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، على معنى ما في المدونة من أن العنّين إذا تركته امرأته ولم ترفعه إلى السلطان، وأمكنته من نفسها، ثم رفعته بعد ذلك، فلها أن تقول: اضربوا له أجل سنة؛ لأن الرجل قد يتزوج المرأة فيعترض عنها، وتكون له أخرى فيصيبها، فتقول: تركته وأنا أرجو؛ لأن الرجال بحال ما وصفت. وعلى ما حكى ابن حبيب أيضا من امرأة المعترض إذا صبرت عليه ثمّ بدا لها، فإن كان بحدثان ما كانت رضيت بالصبر عليه لشر وقع بينهما، فليس لها ذلك، وإذا بدا لها بعد زمان، وقالت: كنت رجوت أن ينطلق من اعتراضه، ويذهب ذلك عنه بالعلاج وغيره، فذلك لها. وكذلك تقول المرأة في هذه المسألة: إنما تزوجته وأنا أرجو أن يكون ذهب ذلك عنه بالعلاج، فيكون ذلك لها، وتصدق فيما ادعته، ويكون الفراق إليها بعد انقضاء عهدة السنة إذا لم يكن قيامها عليه بحدثان دخوله بها لشر وقع بينهما كما قال ابن حبيب، يريد بعد يمينها إن ادعى الزوج عليها، أنها أرادت فراقه لأمر وقع بينهما، لا للمعنى الذي قامت به وبالله التوفيق.
[مسألة: تشترط عليه امرأته عند النكاح إن تسرى عليها فالسرية صدقة عليها]
مسألة قال: وسألته عن الرجل تشترط عليه امرأته عند عقدة النكاح، إن تسرَّى عليها فالسرية صدقة على امرأته، قال: إن علم هذا قبل البناء فسخ، وإن ابتنى بها فالشرط باطل ولا صدقة لها.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الشرط باطل، ولا صدقة لها، صحيح، على ما في المدونة، وهو المشهور في المذهب من أن الصدقة بيمين لا يحكم بها، وإن كانت لرجل بعينه، وحكم للنكاح بحكم ما فسد لصداقه من أجل أن للشرط تأثيرًا فيه، فيفسخ قبل الدخول، ويثبت بعده، ويكون فيه(5/35)
صداق المثل. وهذا إن كانت التسمية في العقد على الشرط، وأما إن كان تزوجها على الشرط نكاح تفويض، دون تسمية صداق، ثم سمى لها بعد ذلك صداقا، فالنكاح ثابت، والشرط باطل، والصداق المسمى لازم. وفي المدنية لمحمد بن دينار أن الصدقة بالشرط تلزمه، وأنه إن أعتقها بعد أن اتخذها لم ينفذ عتقه، وكانت لها صدقة بالشرط. قال: وإن اشترط إن اتخذها فهي صدقة عليها وحرة، فاتخذها كان مخيرا بين عتقها والصدقة بها. ولابن نافع فيها، إن من باع سلعة من رجل وقال: إن خاصمتك فيها فهي صدقة عليك، فخاصمه فيها، أن الصدقة تلزمه، فعلى قولهما في لزوم الصدقة بالشرط، ينبغي أن يكون النكاح جائزا، والشرط لازما، كسائر الشروط اللازمة. واستدل بعض الشيوخ من هذه المسألة على أن من التزم لامرأته إن تسرر عليها فأمر السرية بيدها إن شاءت باعتها عليه وإن شاءت أمسكتها له، أن البيع لا يلزمه فيها، خلاف ما ذهب إليه ابن العطار. ووجه هذا الاستدلال أن الصدقة إذا كانت لا تلزمه فأحرى ألا يلزمه البيع، وليس ذلك ببين؛ لأن المعنى في الصدقة والبيع مفترق. وإنما الوجه في أن البيع لا يلزمه أنها وكالة منه لها على بيعها، وللموكل أن يعزل الوكيل على الوكالة متى ما شاء. هذا الذي حفظناه عن الشيوخ في ذلك، ولا يبعد عندي ألا يكون له أن يعزلها عن هذه الوكالة؛ لأنه لما نكحته على ذلك فقد أخذ عليها عوضا يلزمه، كالمبايعة، وقد مضى بيان هذا المعنى في رسم الجواب من سماع عيسى، فقف عليه وبالله التوفيق.
[البكر يغيب عنها أبوها الغيبة البعيدة أينكحها السلطان أو الولي]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى: وسألت ابن وهب عن البكر يغيب عنها أبوها الغيبة البعيدة، إما أن يتخذ موضعه الذي غاب به وطنا، أو يتردد في تلك الناحية للتجارة، فتضيع، وتريد النكاح، أينكحها السلطان أو الولي؟ أم لا يجوز ذلك لغير الأب؟ أما إذا قطع الأب عنها نفقته، وأطال عنها غيبته، فإن إنكاح الولي أو الإمام إياها برضاها(5/36)
جائز، ثم لا يكون للأب أن يفسخ ذلك ولا أن يرده، قال: وإن كان الأب يجري لها النفقة لا زال يتفقدها ويرسل إليها بما يصلحها حتى تؤمن عليها الضيعة، فلا يجوز لأحد: إمام ولا غيره، أن يفتات على أبيها بإنكاحها إلا بإذنه ورضاه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الحكم فيها موعبا مستوفى في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم، فأغنى ذلك عن إعادته هنا وبالله التوفيق.
[مسألة: يتزوج المرأة من مجوسية أو نصرانية في عدتها ثم يسلم الرجل وامرأته]
مسألة قال ابن القاسم: في الرجل يتزوج المرأة من مجوسية أو نصرانية في عدتها، ثم يسلم الرجل وامرأته: إنه لا يفرق بينهما.
قال محمد بن رشد: يريد إذا كان إسلامهما بعد أن انقضت العدة، وطئ فيها أو لم يطأ. وأما إن كان إسلامهما في العدة، فيفسخ النكاح إن كان العقد قبل أن تحيض حيضة، على ما في سماع أبي زيد، من أن المسلم إذا تزوج النصرانية بعد حيضة من عدة زوجها النصراني، لا يفسخ نكاحه. وعلى ما في كتاب ابن المواز لابن وهب، أن نكاحه يفسخ إن تزوجها قبل انقضاء الثلاث حيض، يفسخ نكاحهما إذا أسلما في العدة، وأما إن كان انعقد بعد حيضة أو حيضتين، وإن وطئ بعد إسلامه في العدة قبل أن يفسخ النكاح، لم تحل له أبدا على مذهب من يرى التحريم المؤبد بالوطء في العدة، وهو قول مالك وجميع أصحابه وبالله التوفيق.
[مسألة: نكاح الرجل أمته التي أعتق إلى أجل بغير رضاها]
مسألة قال يحيى: أخبرني ابن القاسم أنه سمع مالكا يقول: ينكح(5/37)
الرجل أمته التي أعتق إلى أجل بغير رضاها ما لم يتقارب أجل عتقها، وما دام يجوز له أخذ مالها. قال: وقال مالك: لا يجوز له أن ينكحها إذا أعمرها رجلا ثم جعلها حرة بعد الأجل إلا برضاها، ولا يجوز ذلك للمحرم أيضا. قيل له: فالموصى لها بالعتاقة بعد أجل تخدم إليه، أللورثة أن ينزعوا مالها وينكحوها بغير رضاها؟ قال: ليس لهم من ذلك شيء بغير رضاها، لا ينكحونها ولا يأخذون من مالها قليلا ولا كثيرا، قرب أجل عتقها أو بعد. وقال سحنون مثله. وإنما منع الورثة أن ينزعوا مالها؛ لأنه به قومت في الثلث، فصار ذلك كعضو منها.
قال محمد بن رشد: جرى ابن القاسم فيما حكي عن مالك من هذه المسائل، وذهب هو إليه من رأيه، وتابعه عليه سحنون، على أصل واحد، وهو أنه إنما يجوز للرجل أن يكره على النكاح بحق الملك من يجوز له أن ينتزع ماله، فقال: إن للسيد أن ينكح أمته التي أعتق إلى أجل بغير رضاها ما لم يتقارب أجل عتقها، وما دام يجوز له أخذ مالها. وقال: إنه ليس له أن ينكح الأمة التي أعمرها رجلا وجعلها حرة بعد الأجل إلا برضاها، من أجل أنه لا يجوز له أن ينتزع مالها على ما في سماع ابن القاسم من كتاب الخدمة. وأما المخدم، فلا إشكال أنه ليس له أن يكرهها على النكاح، إذ لا حق له في رقبتها ولا في أخذ شيء من مالها. وقال في الموصى لها بالعتق إلى أجل: إن الورثة لا يكرهونها على النكاح كما لا ينتزعون مالها. وقد قيل: إنه إنما له أن يكره على النكاح بحق الملك من له أن يطأ، فعلى هذا لا يكره الرجل معتقته إلى أجل على النكاح قرب أجل عتقها أو بعد، إذ ليس له أن يطأها. وهو أحد قولي مالك في رواية أشهب عنه، فللرجل أن يكره مدبرته على النكاح باتفاق، إذ له أن يطأها وأن يأخذ مالها، وهو القياس في أم الولد،(5/38)
إذ له أن يطأها، ولا يأخذ مالها. وقد قيل: إنه لا يكرهها على النكاح، ومضى القول على ذلك في رسم طلق من سماع ابن القاسم، وليس للرجل أن يكره المعتق بعضها على النكاح باتفاق، إذ ليس له أن يطأها ولا أن يأخذ مالها، وهو القياس في المكاتبة. وقد روي عن مالك أنه يجبرها على النكاح لما جاء من أن المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء، ولأنه يملك رقه إذ له أن يعجز نفسه. وقوله: وإنما منع الورثة أن ينتزعوا مالها؛ لأنه به قومت في الثلث، فصار كعضو منها ليس بتعليل بين؛ لأن التقويم لا يقع على المال حقيقة، إذ لا يسمى عند التقويم، وإنما يقال: كم قيمة هذه الأمة بما لها من المال؟ دون أن يسمَّى أو يوصف، كما لا يقع الثمن على مال العبد إذا بيع بماله. ألا ترى أنه إذا استحق لا يجب به رجوع، وإنما يقوم معها من المال ما اكتسبته في حياة سيدها. واختلف هل يقوم معها ما اكتسبته بعد موته؟ فعلى هذا التعليل يكون للورثة أن ينتزعوا منها ما استفادته بعد التقويم وما استفادته بعد موت سيدها وقبل التقويم على القول بأنها لا تقوم به. وقد قيل: إن للورثة أن ينتزعوا مالها ما لم يقرب الأجل. وإن قومت به، وهو ظاهر قول غير ابن القاسم في كتاب الوصايا الأول من المدونة. وعلى قياس قول مالك في رواية مطرف عنه: إن من أعتق عبدا إلى أجل، أن ينتزع ماله وإن مرض، إذا كان الأجل بعيدا، ولورثته بعده أن ينتزعوه أيضا ما لم يقرب الأجل، إذ لا فرق في حق الورثة بين ما أعتق في حياته أو أوصى بعتقه من ثلثه بعد وفاته؛ لأن الثلث له حيا وميتا. وقد قيل أيضا: إنه ليس للورثة أن ينتزعوا مالها، وإن لم تقوم به، وهو قول ابن القاسم ها هنا وظاهر ما في الوصايا الأول من المدونة، وعلى قياس قوله في سماع أصبغ في الذي يعتق عبده إلى أجل، إنه لا يجوز له أن ينتزع ماله إذا مرض، ولا يجوز لورثته انتزاعه، وبالله التوفيق.
[الرجل يخطب المرأة إلى وليها فتزوجه ثم تنكر المرأة أن يكون ذلك بعلمها]
ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر قال: وسألته عن الرجل يخطب المرأة إلى وليها فتزوجه(5/39)
ويشهد له، ثم تنكر المرأة أن يكون ذلك بعلمها أو رضاها، أتستحلف أنها ما علمت ولا وكلته بإنكاحها؟ قال: أما إذا كان الإشهاد ظاهرا وإطعام الوليمة وإشهار الأمر في دارها أو حيث يرى أنها به عالمة، فأرى أن تحلف بالله ما وكلته ولا فوضت إليه ذلك، وما ظنت أن اللعب الذي كان في دارها وحيث يرى أنها تسمعه وتعلم به، ولا الطعام الذي صنع بذلك الموضع، إلا لغير وليمتها ما علمت ما ادعى من نكاحها، ولا رضيته، ثم لا يكون عليها شيء، ولا يثبت ذلك النكاح. قال: وأما الشيء للذي يُرى أنها لم تقارب علم ذلك، مثل أن يشهد القوم في المسجد وما أشبه ذلك، فلا أرى أن تحلف فيه.
قلت: إذا كان الأمر المشهور الذي رأيت عليها فيه اليمين إن نكلت، لزمها ذلك النكاح، فقال: نعم نكاحها على اليمين مع اشتهار الأمر وظهور الأسباب التي يستدل بها على علمها ورضاها، يوجب ذلك النكاح عليها، وأما ما كان على غير ذلك فلا أرى عليها شيء؛ لأنه لا يشأ رجل أن يتوقع امرأة فيلزمها اليمين في مثل هذا، إلا فعل، فلا أرى ذلك عليهن.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنه لا يمين عليها في دعوى الرضا بالنكاح؛ لأنها إذا نكلت عن اليمين لم يلزمها النكاح. وقيل إنها تحلف رجاء أن تقر، فإن حلفت سقط عنها النكاح، وإن نكلت لم يلزمها النكاح. وتقسيمه في هذه الرواية بين أن يكون ثم سبب يدل على علمها أو لا يكون، قول ثالث في المسألة. وقوله: إن النكاح يلزمها إن نكلت على اليمين مع ظهور الأسباب، يريد مع يمين الزوج إن كان حقق الدعوى عليها. وأما إن كان لم يحققه عليها فعلى الاختلاف في رجوع يمين التهمة والله أعلم. وقد(5/40)
مضى في رسم البز من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[يتزوج امرأة وبها برص أو جذام ويدخل بها ويقيم معها ثم يتبين مرضها]
من سماع من سماع سحنون بن سعيد من عبد الرحمن بن القاسم. قال سحنون: وسألت عبد الرحمن بن القاسم عن الزوج يتزوج امرأة وبها برص أو جذام أو جنون، ويدخل بها ويقيم معها، ثم يتبين ذلك فيردها بذلك العيب أو يطلقها. أيحلها هذا الوطء لزوج كان قد طلقها أو يكونا به محصنين؟ قال: لا إلا أن يكون قد علم بوطئها بعد علمه ثم طلقها، فإما أن يردها أو يطلقها ولم يطأها بعد العلم والرضى، فلا أرى ذلك يحلها، ولا يحصنها ولا تحصنه، وكذلك الذي يطأ امرأته في صيام واجب من رمضان أو نذرا أو حائض، أو محرمة أو معتكف ووقف في صيام تطوع، ثم قال مالك: لا يحلها ولا يحصنها ولا تحصنه، إلا كل وطء عقدته صحيحة، ليس لأحد فيها خيار ولا فساد، ووطء صحيح ليس بمحرم ولا صائم، ولا حائض، ولا كل ما كان مثل هذا وما أشبهه.
قال محمد بن رشد: اتفق مالك وأصحابه فيما علمت أن الوطء بالعقد الفاسد لا يقع به تحليل ولا إحصان إذا فسخ، وعلى أن الوطء بالعقد الذي فيه خيار لأحد الزوجين أو لغيرهما لا يقع به تحليل ولا إحصان إذا رده من إليه رده. واختلفوا إذا أجازه على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يقع به التحليل والإحصان، وهو قول أشهب في كتاب ابن المواز، والثاني لا يقع به التحليل ولا إحصان حتى يطأ بعد الإجازة، وهو المشهور المعلوم في المذهب. والثالث أنه لا يقع به تحليل ولا إحصان أصلا حتى يطلق ثم يستأنف عقد آخر، لا خيار فيه، وهذا ما يأتي على قول رواية ربيعة في المدونة ومذهب الأوزاعي أن العبدين الزوجين إذا أعتقا لا يكونان محصنين بذلك(5/41)
العقد الذي كان في حال الرق، واختلفوا إذا كان العقد صحيحا والوطء فاسدا على ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يقع بذلك تحليل ولا إحصان، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك. والثاني أنه يقع بذلك التحليل والإحصان. وهو مذهب ابن الماجشون واختيار ابن حبيب. والثالث أنه يقع به الإحصان، ولا يكون به التحليل، وهو قول المغيرة وابن دينار، وقد قاله مالك، ثم رجع عنه، والوطء الفاسد الذي اختلف في وقوع التحصين والإحلال به هذا الاختلاف الذي ذكرناه هو أن يطأ في حال الحيض أو الإحرام، أو الاعتكاف، أو في صيام واجب من رمضان، أو نذر لأيام بأعيانها، أو كفارة يمين، واختلف في صيام التطوع وقضاء رمضان والنذر لأيام ليست بأعيانها، فقيل إن حكم الوطء في ذلك كله حكم الوطء الصحيح، قاله ابن حبيب في الواضحة، وحكى أنه مجمع عليه من قول مالك وأصحابه، وليس بصحيح، وقيل إن حكم الوطء في ذلك كله حكم الفاسد. وهو ظاهر قول مالك الذي رجع إليه في رواية سحنون هذه. وقيل إن حكم الوطء في ذلك حكم الوطء الفاسد حاشا صيام التطوع. وهو قول مالك الأول في هذه الرواية، هذا تحصيل القول في هذه المسألة وبالله التوفيق.
[مسألة: المجنونة المخبلة يزوجها أبوها]
مسألة قال ابن القاسم: في المجنونة المخبلة يزوجها أبوها ويجوز ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن البكر لا أمر لها في نفسها مع أبيها. فإذا كان له أن يزوجها في حال الصغر، ويجوز ذلك عليها، كان له أن يزوجها في حال الجنون، ويجوز ذلك عليها.(5/42)
[مسألة: الأمة تغر من نفسها فتتزوج فيصدقها ويدخل بها ثم يستحقها سيدها]
مسألة وقال ابن القاسم في الأمة تغر من نفسها فتتزوج فيصدقها مثلي صداق مثلها، فيدخل بها ثم يستحقها سيدها، إن النكاح يفسخ، ويكون لها صداق مثلها، ويؤخذ منها الفضل.
قلت: فإن أصدقها أدنى من صداق مثلها أو أصدقها ربع دينار وقد كانت بكرا فأقبضها وقيمة عذرتها أكثر مما أصدقها؟ قال: فليس لها أكثر من ذلك، إلا أن يصدقها أقل من ربع دينار، أو لا يصدقها شيئا فترجع إلى صداق مثلها. قال سحنون: وقال غيره مثل هذا إلا أنه قال: إذا أصدقها مثلي صداق مثلها أعطيت ما بين صداق أمة وحرة، نصف صداق أمة ونصف صداق حرة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه إن كان أصدقها أكثر من صداق كمثلها، كان لها صداق مثلها، وأخذ منها الفضل، هو نص قول ابن القاسم في المدونة، وعليه ينبغي أن يحمل قول مالك فيها، وإن كان ظاهره خلاف ذلك إذ لا يصح أن يترك لها الزائد على صداق مثلها، وهي غارة، وقد كان القياس إذا لم يراع حق السيد في ذلك، وقال إنه إذا أصدقها أدنى من صداق مثلها، وقيمة عذرتها أكثر من ذلك، لم يكن لها إلا ذلك. قال أشهب: كما لو زنى بها طائعة إلا أن يكون لها إلا قدر ما يستحل به فرجها، كالحرة إذا غرت نفسها بجنون أو جذام أو برص. وهو قول ابن أبي حازم. وإنما يستقيم أن يكون لها مما أصدقها صداق مثلها على ما لابن القاسم في كتاب ابن المواز من أنه إذا أصدقها أقل من صداق مثلها، كان لها صداق مثلها، من أجل حق السيد، ومساواته بين أن لا يصدقها شيئا أو يصدقها أقل من ربع دينار في أنها ترجع إلى صداق مثلها، يدل على أن النكاح بأقل من ربع دينار نكاح فاسد، يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، ويكون فيه صداق(5/43)
المثل، لا خيار للزوج في ذلك، خلاف قوله في المدونة مثل قول غيره فيها. وقد قيل: إنه يفسخ قبل الدخول وبعده وقع ذلك في بعض روايات المدونة.
[مسألة: الرجل يقول للرجل تزوج ابنتي ولك هذه الدار]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول للرجل: تزوج ابنتي ولك هذه الدار، فتزوجها، قال: أراه جائزا دخل أو لم يدخل.
قلت: فإن قال له تزوجها واجعلها صداقها؟ قال: ذلك جائز.
قلت: من أي وجه جوزته؟ قال: إنما هو عندي بمنزلة ما لو قال رجل لرجل: تزوج وأنا أعينك بدار أو بخادم. فإن تزوج كان ذلك له، وإن لم يتزوج لم يكن له شيء. وقوله: على أن يتزوج، فضل.
قلت: فإن قال: تزوج ابنتي بخمسين دينارا وأنا أعطيك هذه الدار، قال: لا خير فيه؛ لأنه من وجه نكاح وبيع.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا قال: تزوج ابنتي ولك هذه الدار، إن ذلك جائز، إذ لم يعطه الدار على صداق مسمى، فيكون ذلك بيعا قد اقترن مع النكاح. ويقوم من هذه المسألة معنى خفي صحيح، وهو أن البيع والنكاح يجوز أن يجتمعا في صفقة واحدة، إذا كان نكاح تفويض لم يُسمَّ به صداق، مثل أن يقول: أزوجك ابنتي نكاح تفويض، على أن أبيع منك داري بكذا وكذا، وقد مضى في حكم البيع والنكاح إذا سمّى به صداق في صفقة واحدة في رسم "أوصى أن ينفق على أمهات أولاده" من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته هنا وبالله التوفيق.(5/44)
[مسألة: المرأة تأمر وليها يزوجها ويشترط لها فيزوجها ولا يشترط لها]
مسألة وسئل عن المرأة تأمر وليها يزوجها ويشترط لها، فيزوجها ولا يشترط لها، فيدخل بها زوجها، فتعلم أنه لم يشترط لها، فالنكاح جائز، والشرط باطل.
قلت: فإن لم يدخل بها؟ قال: يقال للمرأة ترضى بغير شرط، فإن قالت: لا، قيل للزوج: اشترط لها وهي امرأتك، وإن أبت لم يلزمها شيء، وفارقها.
قلت: وتأمره أن يشترط لها، قال: نعم، آمره. واحتج بالليث وشروطه لابنته.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها إذا لم تعلم أن الولي لم يشترط لها الشروط التي أمرته أن يزوجها عليها، إلا بعد دخوله بها، إن النكاح جائز، والشرط باطل، صحيح، على معنى ما في المدونة في الذي يأمر الرجل أن يزوجه بألف، فيزوجه بألفين، ويزعم أن الزوج أمره بذلك، ويدخل بها، إنه ليس لها إلا ما أقر به الزوج؛ لأنها تركت أن تبين من حقها، فكذلك هذه لا شيء لها فيما أمرت به وليها من الشروط؛ لأنها فرطت في حقها، إذ تركته يدخل قبل أن تبين ما أنكحها عليه من الشروط، وفي قوله: إنه يقال لها: إن لم تدخل ترضى بغير شرط، فإن قالت: لا. قيل إلى آخر قوله، دليل على أنها إن قالت: نعم، جاز النكاح وثبت، ولم يفرق بين قرب ولا بعد. فظاهره خلاف ما مضى في أول سماع يحيى. وقد مضى القول على ذلك هنالك. وقوله: إنها إذا قالت: لا، يقال للزوج: اشترط لها وهي امرأتك، معناه إن رضيت بذلك عند اشتراطه لها الشروط، ولا يلزمها رضاها بها أولا. وذلك بيّن من قوله: وإن أبت لم يلزمها شيء وفارقها. وقد بينا وجه ذلك في أول مسألة من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.(5/45)
[مسألة: البكر تعطي الرجل مائة دينار على أن يتزوجها فيتزوجها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن البكر تعطي الرجل مائة دينار على أن يتزوجها فيتزوجها، ثم يعلم الأب قبل الدخول أن النكاح ثابت، ويرد الزوج المائة التي أخذ، ويغرم مائة أخرى، وهو مثل البيع، سواء في العبد الذي يُعطى مالا يشتري به ولا يفسخ العقد، دخل أو لم يدخل.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في أول رسم من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: مكاتب تزوج حرة فكانت معه سنين ثم ادعت أنه غرها من نفسه]
مسألة قال: وسئل ابن القاسم عن مكاتب تزوج حرة فكانت معه سنين، ثم ادعت أنه غرها من نفسه، وزعمت أنها لم تعلم حين نكحته أنه مكاتب، قال ابن القاسم: أرى أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنها لم تعلم، ويكون لها الخيار، ومن العبيد عبيد يكون أحدهم في حاله وتجارته ومنظره حال الحر، وهي امرأة في خدرها لا تعلم بذلك، فالقول قولها حتى يعلم أنها قد علمت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المكاتب ليس بكفؤ للحرة، فهو محمول على أنه غرها، فالقول قولها مع يمينها أنها لا تعلم إن ادعى عليها أنها علمت باتفاق، ويفرق بينهما، ويكون لها الصداق المسمى بالمسيس. وهذه المسألة أقوى في إيجاب اليمين من الذي يقوم بعيب في سلعة اشتراها، فيريد البائع أن يحلفه ما علم بالعيب، ولم يدع أنه أعلمه به، فلا يدخل في هذه من الاختلاف ما دخل في تلك، وأما إن لم يدعي عليها أنها علمت، وأراد أن يحلفها دون أن يحقق عليه الدعوى، فيجري الأمر في ذلك على الاختلاف في لحوق يمين التهمة. وأما إن ادعى عليها أنه أعلمها أنه مكاتب، فتحلف بالله(5/46)
الذي لا إله إلا هو ما أعلمها بذلك. وقال ابن كنانة: إن كان تزوجها ببلده الذي يعرف به، وأمر كتابته فيه ظاهر معروف، فلا يقبل قولها إنها لم تعلم ذلك، وإنما يقبل قولها وتصدق إذا تزوجها بغير بلده.
قال محمد بن رشد: ولو كانت مكاتبة أو أمة فادعت أنها لم تعلم أنه مكاتب وأنها تزوجته وهي تظنه حرا لم يكن لها شيء إلا أن تدعي عليه أنه غرها وأخبرها أنه حر، فتزوجته على ذلك فيحلف على ذلك، فإن نكل عن اليمين حلفت هي، وكان لها الخيار، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتزوج المرأة على مائة دينار فتأخذ منه حميلا بخمسين فيطلقها قبل أن يدخل بها]
مسألة قال ابن القاسم: في الرجل يتزوج المرأة على مائة دينار فتأخذ منه حميلا بخمسين، فيطلقها قبل أن يدخل بها. قال: ترجع على الحميل بخمس وعشرين دينارا، وعلى الزوج بخمسة وعشرين دينارا، وإنما هو بمنزلة رجل زوج ابنا له كبيرا أو رجلا أجنبيا، بمائة دينار، على أن ضمن عنه من الصداق خمسين، والخمسون الأخرى على الزوج، وطلق الزوج قبل أن يدخل بها، فإنما يتبع الأب بخمسة وعشرين دينارا، ويتبع الابن بخمسة وعشرين دينارا، ولا يكون غرم ذلك على واحد منهما خاصة، إلا أن تحب المرأة أن تأخذ الزوج بالخمسين، وتدع الحميل، فيكون ذلك لها؛ لأن الحميل يتبع بها الزوج إن غرم، والأب في ابنه أو أجنبي، لا يتبع بشيء منها، فأما اتباع المرأة فهو أبينها والذي وصفت لك والبيع مثله. ألا ترى لو أن رجلا باع سلعة من رجل بمائة دينار، وانتقد منه مائة دينار، على أن يأخذ منه المشتري حميلا بخمسين، فأدرك السلعة رجل استحق منها نصفها، وتماسك بنصفها، ولم يتبع الحميل إلا بنصف الخمسين. فإن قال: إنما أخذت خوفا من أن يُستحق منها شيء فاتبع به الحميل فليس كما قيل، واتبع كل واحد منهما بنصف الحق.(5/47)
قال محمد بن رشد: قوله: والأب في ابنه أو أجنبي لا يتبع بشيء منها، نص جلي على أن ضمان الصداق في عقد النكاح على الابن أو عن الأجنبي محمول على الحمل حتى يتبين أنه أراد الحمالة، وسيأتي بعد هذا مثل هذا. وقد مضى الكلام على هذا في رسم الكبش من سماع يحيى.
وقوله في الذي تحمل للمرأة بخمسين دينارا من صداقها وهو مائة، فطلق الزوج قبل الدخول: إن الحميل لا يلزمه إلا خمسة وعشرون، نصف الخمسين التي تحمل بها، صحيح في القياس والنظر؛ لأن الخمسين التي تحمل بها شائعة في جميع الصداق، فلما سقط بالطلاق نصفه سقط نصف الخمسين التي تحمل بها الحميل، ومثله في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب الحمالة، وفي سماع أصبغ من كتاب المديان. وأصبغ يقول: إن لها أن تأخذ الحميل بالخمسين الواجبة لها قبل الزوج، وهو قول ابن الماجشون، وابن كنانة. ووجهه أنها تقول: إنما أخذته وثيقة من حقي مخافة أن تطلقني وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يفض البكر بيده]
مسألة وقال ابن القاسم في الرجل يفض البكر بيده، قال: عليه ما شَانَها به بعد الأدب. قال سحنون: وكذلك قال ابن وهب. قيل لابن القاسم: فإن كانت امرأته؟ قال: فلا شيء عليه، ولا يجب بذلك عليه صداق.
قال محمد بن رشد: أما إذا فعل ذلك بغير زوجته، فلا اختلاف أن عليه ما شانها به، يريد ما شانها به عند الأزواج مع الأدب. وأما إذا فعل ذلك بزوجته فقال: ها هنا لا شيء عليه. معناه أنه ليس عليه أدب ولا ما شانها به إن أمسكها ولم يطلقها، ولا يجب عليه بذلك جميع صداقها إن طلقها قبل أن يمسها، يريد ويكون عليه إن فعل ذلك ما شانها فعله عند غيره من الأزواج. وفي سماع أصبغ عن ابن القاسم: إن ذلك من الزوج كالوطء(5/48)
يجب عليه به جميع الصداق. وقال أصبغ: القياس أنه وغيره بالأصبع سواء في أنه يجب عليه بذلك إن طلقها قبل أن يمسها ما شانها عند غيره من الأزواج لا في وجوب الأدب عليه، فقول أصبغ في سماعه مثل قول ابن القاسم ها هنا وبالله التوفيق.
[مسألة: خالعت المرأة زوجها على مال أعطته وهي عالمة بأن النكاح فاسد]
مسألة وقال ابن القاسم في النكاح الفاسد إذا خالعت المرأة زوجها على مالٍ أعطته إن كانت عالمة بأن النكاح فاسد فذلك جائز للزوج، وإن لم يعلم رجعت به على الزوج؛ لأنها إذا علمت فإنما هي تركت له شيئا أو أعطته إياه ولم يلزمها.
قلت: فإن أعطته شقصا في دار، هل لشفيع فيه شفعة إذا كانت عالمة بفساد النكاح؟ قال: نعم من قبل أن الناس اختلفوا في ذلك النكاح، فمن ثمّ رأيت الشفعة فيه؛ لأنه ليس من ناحية الهبة.
قلت: فإن استحق بعض ما أعطته من مال، أيرجع عليها بشيء؟ قال: لا، من قبل أنه لم يكن ينبغي له أن يأخذ منها شيئا، فهو إذا استحق فليس له أن يرجع بشيء؛ لأنه قد صار إلى ما كان يؤمر به.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم: أن الخلع تابع للطلاق بحيث ما لزم الطلاق ثبت الخلع، ولم يكن للمرأة فيه رجوع، وحيث ما لم يلزم الطلاق لم يثبت الخلع، وكان للمرأة أن ترجع فيما أعطت إلا أن تكون عالمة بفساد النكاح، وأن الواجب فيه الفسخ. هذا بين من مذهبه في المدونة، فجوابه في هذه المسألة على القول بأن الطلاق لا يلزم في النكاح الفاسد الذي(5/49)
يختلف في فساده، ويجب عنده فيه الفسخ، وهو خلاف ما اختاره في المدونة لرواية بلغته عن مالك من أن الطلاق يلزم في كل نكاح يختلف في فساده. فعلى ما اختاره فيها يثبت الخلع ولا يكون لها فيه رجوع، وإن لم تعلم بفساد النكاح، ولذلك رأى الشفعة في الشخص الذي خالعت به. ويلزم على قياس هذا القول أن يكون للزوج الرجوع عليها في الاستحقاق. ومذهب ابن الماجشون أن الخلع لا يلزم في النكاح الذي يجب فسخه لفساده، ولا في النكاح الذي تملك المرأة فيه الفُرقة فيه إذا لم تعلم بذلك، وثبتت فيما سوى ذلك مما يكون الخيار فيه لغيرها. وذهب ابن المواز إلى أنه لا يرد إلا فيما يجب فسخه، ولا خيار فيه في إمضائه لأحد، فاعلم أنها ثلاثة أقوال وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتزوج المرأة ثم يجن قبل أن يدخل]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتزوج المرأة ثم يجن قبل أن يدخل، فتختار فراقه، فيفرق بينهما. قال: قال مالك: لا شيء لها من المهر.
قلت: فالرجل يعسر بالصداق أو بالنفقة فيفرق بينهما؟ قال: تتبعه بنصف الصداق.
قال محمد بن رشد: الفرق عند ابن القاسم بين المسألتين أن الله تعالى يقول: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . والذي يجن فتختار امرأته فراقه لم يكن منه طلاق، ولكن الفراق من قبلها. والذي يعسر بالصداق أو بالنفقة، يحتمل أن يكون الفراق من قبله؛ لأنه يُتهم على أنه أراد الطلاق، فأخفى ماله لتطلق المرأة نفسها، فلا يكون عليه شيء من الصداق. وابن نافع لا يرى لها شيئا من الصداق كمن جن فطلق عليه قبل البناء؛ لأن الفراق جاء من قبلها وهو القياس. وسكت ها هنا عن ضرب الأجل للمجنون قبل البناء، ويبينه ما في(5/50)
سماع يحيى من طلاق السنة أن مالكا قال: يضرب له أجل سنة، وإن كان قبل البناء، وكذلك يفرق بينهما. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يفقد قبل دخوله بأهله فيفرق بينهما بعد الاستقضاء]
مسألة قلت: فالرجل يُفْقَد قبل دخوله بأهله، فيفرق بينهما بعد الاستقضاء، وتُعطى صداقها كاملا ثم تتزوج، فيأتي زوجها. قال: يرجع عليها بنصف صداقها. وفي رواية أبي محمد عيسى بن دينار، لا يرجع عليها بشيء ولها الصداق كاملا؛ لأنها انتظرته وضيق عليها واعتدت منه ومنعها النكاح، فلا ترد عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: القولان لمالك في سماع عيسى من كتاب الكفالة، وفي سماع عيسى من طلاق السنة لمالك من رواية أبي محمد عيسى، وفي سماع سحنون خلافه. وقوله: فيأتي زوجها أو يعلم أنه مات بعد أن تزوجت ودخل بها الزوج باتفاق، أو بعد أن تزوجت قبل أن يدخل بها الزوج على القول بأنها تفوت بالعقد، ولا يكون له إليها سبيل إن جاء؛ لأن الطلاق يقع عليه بذلك. وقد قيل: إنه لا يقضى لها بشيء من الصداق حتى يأتي وقت لو قدم الأول لم يكن له إليها سبيل، وهو أن يتزوج ويدخل بها الزوج أو لا يدخل على اختلاف قول مالك في ذلك في المدونة، فيقضى لها حينئذ بنصف صداقها، إلا أن ينكشف أنه مات قبل ذلك، أو يبلغ من السنين ما لا يحيا لمثلها، فيقضى لها بجميعه وإن كانت قد تزوجت، وهو قول ابن الماجشون. وقيل: إنه لا يقضى لها إلا بنصفه، فإن بلغ من السنين ما لا يحيا لمثلها أو ثبت وفاته ما بينه وبين أن تبين منه بالدخول أو التزويج على الاختلاف المعلوم، قُضي لها ببقيته. حكى هذا القول ابن سحنون وابن الجلاب والله الموفق لا رب غيره.
[مسألة: الرجل يزوج ابنه ويضمن عنه الصداق]
مسألة قال سحنون: قلت: فالرجل يزوج ابنه ويضمن عنه الصداق(5/51)
ثم يعدم الأب؟ قال: يقال للابن: جئ بالصداق. فإن أبا طلقت عليه، واتبعت المرأة الأب بنصف الصداق.
قلت: فإن أعطى الابن الصداق ودخل ثم أيسر الأب، أيرجع على أبيه بما أدى؟ قال: نعم. وهو القياس أن يرجع به عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يرجع على أبيه بما أدى نص جلي على أنه حمل ضمانه عنه الصداق على الحمل، وذلك مثل ما تقدم فوق هذا. وقد مضى القول عليه في أول رسم من سماع يحيى. لا يختلف في وجوب الرجوع له على أبيه على القول بأن الضمان في ذلك حمل ولا حمالة، وإن كان قد اختلف في التي تصالح زوجها على مؤونة حملها أو رضاعه ونفقته إلى فطامته، فتحتاج ولا تجد ما تنفق، فينفق الأب، هل له أن يتبعها أم لا؟ ففي رسم البز من سماع ابن القاسم من طلاق السنة، ورسم الطلاق من سماع أشهب من كتاب التخيير أنه يتبعها. وروي عن ابن القاسم أنه لا يتبعها. والفرق بين المسألتين أن النفقة قد كانت في الأصل واجبة على الأب المنفق، والصداق لم يكن في الأصل واجبا على الابن، لحمل أبيه إياه عنه في أصل العقد. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يقول إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها]
مسألة قال أصبغ: قلت لأشهب: فالرجل يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فتزوجها، فتطلق باليمين، أيكون لها نصف الصداق؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا تزوجها وسمى لها في أصل العقد صداقا، قال: لها نصف الصداق؛ لأنها مطلقة قبل الدخول. وقد(5/52)
قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية، ولو لم يسم لها في أصل العقد صداقا لم يجب لها شيء، إلا أن يدخل بها، فيجب لها صداق مثلها. واختلف إذا سمّى لها في أصل العقد صداقا فدخل بها، فقيل: لها صداق كامل، وهو قول مالك. وقيل: لها صداق ونصف، وهو قول أهل العراق. قال ابن نافع: وهو في القياس حسن، يريد لأن الطلاق لزمه قبل الدخول، فوجب عليه بذلك نصف الصداق، ثم لما دخل بها بعد ذلك وهي بائنة منه، يرى أنها زوجته لم تبن منه، لزمه بالدخول صداق كامل، فكان عليه صداق ونصف، وعلى هذا القياس يأتي ما في كتاب النكاح الثاني من المدونة، وفي الأختين يتزوجهما أخوان فتدخل امرأة كل واحد منهما على صاحبه أنه ترد امرأة كل واحد منهما إليه، فيكون على كل واحد منهما صداقان: صداق لزوجته، وصداق للتي دخل بها وهو يرى أنها زوجته وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل تزوج إلى قوم بصداق مسمى وأهدى هدية وأشهد في السر]
مسألة وسألته: عن رجل تزوج إلى قوم بصداق مسمى، ومن سنة البلد أن يهدي الرجل إلى امرأته هدية تطيب بذلك نفسها، ويُسر بذلك أهلها، فأعد الرجل هدية، وأشهد في السر أن هذا الذي أرسل ليس هو هدية، وإنما هو عارية منه أو متعة، إلى حين القيام في استرجاعها وأخذها منها، وإنما فعلتُ هذا الآن وبعثت به إليها لأطيب به نفسها، ومن كان منها فأرسل إليها وامرأته ترى ويرى أهلها أنها هدية على حال ما يصنع غيره، فقبلوها وهم يرون أنها هدية إليهم، فقام بعد ذلك يطلبها إليهم، فقال: أختانه وامرأته بعد البناء أو قبل البناء لا ندفع إليك شيئا؛ لأنا لم نقبله منك إلا على هدية على حال ما يهدي الناس إلى أزواجهم. ولو علمنا ما تذكر حقا لم نقبله منك. قيل: أترى لما طلب وجها؟ قال سحنون: إن كان(5/53)
قد أشهد بذلك في السر ولم يعلمهم بأنه منه إليهم هدية، ثم امتهنوا ذلك على غير علم، فليس عليهم في امتهانهم شيء، وهو يأخذ ما وجد بعينيه، وإن ضاع منها شيء لزمهم ذلك، إلا أن تكون لهم بينة على الذهاب. وقال أبو زيد بن أبي الغمر مثله.
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه المسألة: ومن سنة أهل البلد وشأنهم، يريد من عادة أهل البلد وما استمر عليه فعلهم. وقوله: إن كان قد أشهد بذلك في السر، ولم يعلمهم بأنه منه إليهم هدية، كلام فيه إشكال، كيف يصح أن يعلمهم بأنه منهم هدية وهو لم يرد به الهدية؟ فمعنى قوله: إن كان أشهد بذلك في السر ولم يقل لهم في العلانية إنه منه إليهم هدية نفعه الاستشهاد، وكان له أن يأخذ متاعه، ولم يكن عليهم مما امتهنوا منه على غير علم شيء، يريد إن كانوا امتهنوا ذلك امتهانا لا تمتهن العواري. وأما إن كانوا امتهنوا ذلك كما تمتهن العواري فلا شيء عليهم امتهنوا ذلك على علم أو على غير علم. وأما قوله: وإن ضاع منها شيء لزمهم إلا أن تكون له بينة على الذهاب، فوجهه أنه أعمل إشهاده في السر، فحكم لها بحكم العارية في الضمان كما حكم لها بحكمها في الاسترجاع. وقول ابن القاسم في رسم النكاح من سماع أصبغ، إنه لا ضمان عليها إذا لم تقبل ذلك على وجه العارية أصح في القياس والنظر، إذ ليس له أن يلزمهم ضمان ما لم يلتزموا ضمانه وحبسه أن ينفعه الإشهاد في استرجاع متاعه. ولو قال لهم في العلانية إنه منه إليهم هدية، لم ينفعه الإشهاد في السر، بدليل قوله: ولم يعلمهم بأنه منه إليهم هدية. وجوابه في هذه المسألة على القول بأنه لا يقضى بالعرف في الهدية. وقد مضى اختلاف قول مالك في ذلك، والقول فيه في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم. وأما على القول بأنه يقضى فلا ينتفع بالإشهاد(5/54)
في السر في ذلك إذ ليس له أن يبطل بإشهاده حقا واجبا عليه وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يهب جاريته النصرانية لعبده المسلم]
مسألة وقال: لا بأس أن يهب الرجل جاريته النصرانية لعبده المسلم، إذا كان ذلك مما يصلح في خدمتها، ويريد بذلك أن يولد للعبد منها.
قال محمد بن رشد: لا فرق في هذا بين المسلمة والنصرانية؛ لأن المسلم يجوز له ملك النصرانية، كما يجوز له ملك المسلمة، سواء، فإذا كان العبد ممن يشبه أن يملك مثل ملك الجارية وكانت هبة صحيحة مستقيمة، قصد بذلك تمليكه إياها، لا عارية فرجها له، جاز ذلك على ما مضى في رسم باع غلاما في سماع ابن القاسم، ورسم الطلاق الثاني من سماع أشهب وبالله التوفيق.
[مسألة: الأمة يزوجها سيدها بصداق هل يحق له أن ينتزع منها صداقها]
مسألة وعن الأمة يزوجها سيدها بصداق فزعم ابن القاسم أن للسيد أن ينتزع منها صداقها ولا أرى ذلك، يريد ليس له أن يأخذه منها. ألا ترى أن من قول مالك في الحرة تريد أن تقضي دينا من صداقها أن ذلك لا يكون لها، إلا الشيء اليسير وكذلك الأمة.
قال محمد بن رشد: لمالك في كتاب الرهون من المدونة مثل قول سحنون ها هنا. ودليل قول ابن القاسم في كتاب النكاح الثاني منها مثل قوله ها هنا: إن له أخذ مهرها، كما له أخذ مالها. ولبكير بن الأشج فيه أن له أخذه إلا ما يستحل به فرجها. وقال ابن حبيب: إنه يلزمه أن يجهزها منه إلى زوجها بما يجهز به مثلها، فيتحصل في المسألة أربعة أقوال، أجراها على المذهب(5/55)
قول مالك، وأصحها في القياس والنظر قول ابن القاسم، وقول بكير وابن حبيب استحسان وبالله التوفيق.
[المرأة تستحلف وليها على نكاحها على أن يزوجها من فلان بكذا]
من سماع محمد بن خالد من عبد الرحمن بن القاسم
قال محمد بن خالد: سألت ابن القاسم عن المرأة تستحلف وليها على نكاحها على أن يزوجها من فلان بكذا وكذا، وشرط كذا وكذا، وأشهدت على الولي الموكل بذلك. فذهب الولي فزوجها بذلك من الصداق وترك الشرط.
فقال ابن القاسم: إن كان لم يدخل، فالأمر إليها، إن شاءت أقامت، وإن شاءت انفسخت من تزويجه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان لم يدخل، فالأمر إليها إن شاءت أقامت وإن شاءت فسخت. ظاهره في القرب والبعد، إذ لم يفرق بين ذلك. وهو مثل ما مضى في سماع سحنون، وخلاف لما تقدم في أول سماع يحيى، وقد مضى القول على ذلك هنالك مستوفى وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتصدق بداره على رجل على أن يتزوج ابنته]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق بداره على رجل على أن يتزوج ابنته فيقبل صدقته على ذلك، فيتزوج ابنته ويصدقها الدار التي تصدق بها عليه أبوها ليس مع الدار شيء غيرها. قال: أراه نكاحا جائزا، ولا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، وقد تقدمت والقول فيها في سماع سحنون، فلا وجه لإعادته والله الموفق.
[مسألة: الرجل يخصى من قبل أن يدخل على امرأته هل لها الخيار في نفسها]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يُخْصَى من قبل أن يدخل على امرأته. هل لها الخيار في نفسها؟ فقال: نعم ذلك لها.(5/56)
قلت: لابن القاسم: فإن خصي بعدما دخل بها ومس؟ فقال: لا خيار لها.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب. وذهب أصبغ إلى أنه لا فرق بين أن يخصى قبل أن يمس أو بعد ما مس؛ لأنها بلية نزلت به، وليس ذلك من قبله ليضر امرأته، فهي مصيبة نزلت بها، وقوله هو القياس. ووجه القول الأول: أن المرأة إنما تزوجت على الوطء، فإذا نزل به ما يمنعه من الوطء قبل أن يطأ، كان لها الخيار، إذا لم يتم لها ما نكحت عليه، وإذا نزل به ذلك بعد أن وطئ لم يفرق بينهما، إذ قد نالت منه ما نكحت عليه، ولا حجة لها في امتناع المعاودة، إذا لم يكن ذلك من قبله إرادة الإضرار بها وبالله التوفيق.
[الوصي يزوج يتيمته في حجره قبل أن تبلغ المحيض]
من سماع عبد المالك بن الحسن من عبد الرحمن بن القاسم قال:
وأخبرني عبد المالك بن الحسن أنه سمع ابن القاسم سئل عن الوصي يزوج يتيمته في حجره قبل أن تبلغ المحيض، قال: يفسخ النكاح إن كان لم يبن بها، وإن كان بنى بها وأصيب بها النكاح وتطاول ذلك عليها مضى، إلا أن تكون مسكينة لا قدر لها فيمضي النكاح وإن لم يدخل بها.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها موعبا في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم. فلا معنى لإعادته ها هنا.
[مسألة: الرجل يزوج ابنته البكر ولا ولد له غيرها فيموت فتزعم أنها ليست ابنته]
مسألة وسألت عن الرجل يزوج ابنته البكر، ولا ولد له غيرها، فيموت الأب، فتزعم الابنة أنها ليست ابنته، وإنما هي يتيمة، وتنتفي من الميراث، ولا بينة للزوج أنها هي بعينها، إلا سماعا من الأب أن له ابنتا بكرا، فشا ذلك في الناس، ولا يثبتها الشهود. هل يلزمها النكاح؟ وكيف إن كان لها إخوة غير عدول، فشهدوا أنها أختهم، ما الأمر فيه وما يصنع بنصيبها من الميراث؟ وكيف إن قبلت(5/57)
قولها ولم يلزمها النكاح إن زعمت بعد ذلك أنها ابنته؟ قال: لا يلتفت إلى قولها. وقول أبيها هو الذي يلزمها على ما أحبت أو كرهت في نكاحها وميراثها، ولحوق نسبها، وجميع أمورها.
قال محمد بن رشد: سحنون في النوادر فيمن أقام بينة على رجل أنه زوجه ابنته فلانة، لا يعلمون أن له ابنة غيرها، وهي بكر، فأنكرت الابنة، إن النكاح لا يلزمها، إلا أن تعرف البينة التي شهدت على النكاح عينها أو غيرهم فيلزمها، وقوله: حقيقة القياس؛ لأن النبي عليه السلام يقول: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» . والزوج مدعٍ على هذه الجارية أنها ابنة الرجل الذي زوجها، والجارية منكرة لذلك، فوجب أن يكون على الزوج إقامة البينة على ما يدعي. وهذا إذا مات الأب أو غاب؛ لأنه إن كان حاضرا فالقول قوله إنها ابنته؛ لأن استلحاقه لها جائز، ما لم يتبين كذبه. والصواب قول ابن القاسم، وإن لم يكن على حقيقة القياس، إذ قد يؤدي طرد القياس إلى غلو في الحكم، ويكون الاستحسان أولى منه. وقد كان ابن القاسم يقول: ويروى عن مالك أنه قال: تسعة أعشار العلم الاستحسان. فإذا أقر الرجل أن له ابنة بكرا وفشا ذلك من قوله وزوجها ومات وهي في حجابه، فلما طلبها الزوج بالنكاح أنكرت، وقالت: لست ابنة له، وإنما أنا يتيمة في حجره، ولم يكن في حجره غيرها، فيشك فيها، ولا سمع أن ابنته التي تزوجها، وكان يقر بها سمع أنها ماتت ولا غابت، وجب أن تحمل على أنها هي ابنته التي زوجها، وكان يقر بها، فيلزم النكاح ويحكم عليها به؛ لأن الظن يغلب على صحة ذلك حتى يكاد أن يقطع عليه. والحكم بما يغلب عليه الظن فيما طريقه غلبة الظن أصل في الشرع. وقد روي عن القاضي أبي(5/58)
بكر بن زرب أنه كان يقول في رجل هلك وأحاط بوراثته زوجه وبنوه منها، فشهد الشهود أنهم يعرفون عين الزوجة، ولا يعرفون أعيان البنات، إن شهادتهم جائزة، واستدل على ذلك برواية عبد المالك هذه قال: ولو قال الشهود إنهم يعرفون أعيان البنات، ولا يعرفون عين المرأة لم تجز الشهادة؛ لأن البنات محمولات على الحجاب، ولذلك يعذر الشهود في ذلك، وتنفذ شهادتهم. والزوجات لسن محمولات على الحجاب كالبنات، ولذلك فرقت بينهما وليس قوله بصحيح، لا فرق في هذا بين الزوجات والبنات. والذي جرى به العمل ألا يكلف الحاكم الشهود على الموت والوراثة، الشهادة على أعيان الورثة ابتداء، لا الزوجة ولا غيرها، حتى يحتاج إلى الإعذار إليهم فيما يثبت عليهم أو على الميت الذي ورثوه، فحينئذ يكلف الشهود الشهادة على أعيانهم ليعذر إليهم، فإن لم يثبتوا أعيانهم لم يصح له الحكم عليهم، إلا أن يثبت أعيانهم عنده بغيرهم، وكذلك إن ماتوا أو غابوا، هذا الذي لا يصح سواه والله أعلم.
[مسألة: الرجل يبتلى بالجذام هل لامرأته الخيار في الطلاق]
مسألة قال: وسألت عبد الله بن وهب عن الرجل يبتلى بالجذام ونسأل الله العافية، فترفع امرأته أمرها إلى السلطان، ويكون المبتلى حينئذ ليس بفاحش المنظر، غير أنه بين به لا يشك فيه فهل لامرأته الخيار. إذا كان شيئا لا شك فيه؟ فإنه بلغنا أنه لا يكون لها الخيار حتى يكون من ذلك ما لا قرار عليه، وليس على شيء منه صبر ولا قرار إذا استيقن به. فما حد ذلك الذي إذا بلغه كان لامرأته الخيار واجبا؟ والمجنون الذي لا يفيق إذا كان يخاف أذاه، أو كان ممن لا يخاف ذلك منه. هل لامرأته الخيار أيضا إذا أرادت فراقه؟ وإن كان ينفق عليها من ماله إذا كان الجذام بينا عند الناس لا شك فيه،(5/59)
فرق بينهما إذا طلبت الفرقة، وإن لم يكن مؤذيا ولا فاحشا؛ لأنه يزيد، ولا تؤمن زيادته ولا نقصانه. وإن كان الأمر الخفي الذي شك فيه، وليس بيّنًا يعرفه الناس أنه جذام، لم يفرق بينهما، ولم يكن لها خيار. وأما المجنون، فسواء كان معتوها مطبقا مخبلا، أو جنون أفاقه، يخنق فيه المرة بعد المرة، إذا كان يؤذي امرأته في ذلك، ولا يعفيها من نفسه، ويخاف عليها منه، حيل بينه وبينها في الخوف، وضرب لها أجل سنة يتعالج فيها، وهو قول مالك في السنة، ولا أعلمه إلا أنه قال: يحبس في حديد أو غيره، إذا لم يكن يؤمن عليها منه، وينفق عليها من ماله، فإن برئ، وإلا كان لها الخيار إذا انقضت السنة. وذلك رأيي.
وأما إذا كان يعفيها من نفسه ولا يرهقها السوء في صحابته، ولا يخاف عليها منه ولا من ناحيته في خلوته، لم أر لها الخيار، ورأيتها امرأته بحالها. وقال أشهب: ليس للجذام حد، إلا أنه إذا كان متفاحشا لا يحتمل النظر إليه، وتغض الأبصار دونه. فأرى أن لها الخيار، وإن شاءت أقامت، وإن شاءت فارقت، فإن شاءت الإقامة، ثم بدا لها كان ذلك لها. وأما الجنون الذي لا يفيق منه، فإن كان ممن يخاف أذاه ولو مرة أو مرتين في الشهر، فأرى لامرأته الخيار، وإن كان لا يخاف أذاه فلا خيار لها.
قال محمد بن رشد: في قول ابن وهب في الجذام: إنه يزيد ولا يؤمن زيادته ولا انتقاصه، دليل على أنها إن رضيت بالمقام معه ثم أرادت بعد ذلك القيام عليه، لم يكن ذلك لها. وإن زاد جذامه على ما كان حين رضيت بالمقام معه خلاف ما مضى في رسم الجواب قبل هذا. وتفرقته في المجنون بين أن يعفي امرأته من نفسه أو لا يعفيها، خلاف ما مضى في رسم باع شاة من سماع عيسى. وقول أشهب في الجذام إنه لا يكون للمرأة الخيار إلا إذا كان(5/60)
فاحشا تغض الأبصار دونه، معناه: إذا كان حادثا بعد العقد. وقوله: إذا رضيت بالإقامة ثم بدا لها، كان ذلك لها، ظاهره وإن لم يزد خلاف ما مضى في رسم الجواب من سماع عيسى قبل هذا. وخلاف قول ابن وهب هنا فهو قول تافه في المسألة. وقد مضى تمام القول على هذه المسألة موعبا في رسم نقدها من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أسلم النصراني وهو غائب وامرأته نصرانية فأسلمت بعده ثم نكحت]
مسألة قال عبد الله بن وهب: إذا أسلم النصراني وهو غائب، وامرأته نصرانية فأسلمت بعده، ثم نكحت، ولا علم لها بإسلام زوجها، وقالت البينة إن إسلامه كان قبل إسلامها، فإنه إن أدركها قبل أن يبتني بها زوجها فالأول أحق بها، وإن لم يدركها إلا بعد البناء فلا سبيل له إليها. قال مالك: إن كان إسلام المرأة قبل إسلام زوجها وهو غائب فانقضت عدتها ثم نكحت، فقدم زوجها، فلا سبيل له إليها بعد انقضاء عدتها نكحت أو لم تنكح.
قال محمد بن رشد: إذا أسلمت النصرانية قبل إسلام زوجها فإسلامها يوجب الفرقة بينهما، إلا أن السنة قد أحكمت أنه يكون أحق بها إن أسلم في عدتها، واختلف إن لم تعلم بإسلامه في عدتها حتى تزوجت. فقيل: إنه لا سبيل له إليها إذا تزوجت. وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه في المبسوطة وقيل: وهو أحق بها. وإن تزوجت ما لم يدخل بها الزوج، وهو قول مالك في المدونة وغيرها وقول ابن وهب ها هنا.
ونظير هذه المسألة الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها فتعلم بالطلاق ولا تعلم بالرجعة، فتتزوج بعد انقضاء العدة، ثم يعلم أنه قد كان راجعها في العدة، والمفقود تتربص امرأته أربع سنين بأمر السلطان ثم تعتد وتتزوج فيقدم زوجها، أو تعلم حياته. فقيل: إنهما يفوتان جميعا بالعقد، وقيل: إنهما لا(5/61)
يفوتان إلا بالدخول. اختلف في ذلك قول مالك، واختلفت فيه الرواية أيضا عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. واختلف أيضا إذا كان إسلامه قبل إسلامها فلم يعلم بذلك حتى تزوجت. فقال ابن وهب ها هنا، ومثله في الشفعة من المدونة: إنه أحق بها ما لم يدخل بها الزوج الثاني الذي تزوجها بمنزلة إذا كان إسلامه في عدتها. وقال ابن الماجشون: إنه أحق بها أبدا، وإن دخل الزوج فيفسخ النكاح وترد إليه بعد الاستبراء، واختاره محمد بن المواز، وهو الصواب؛ لأنها نصرانية تحت مسلم، فلم تجب عليها عدة. وسواء دخل بها الأول أو لم يدخل. فالاختلاف إذا أسلم قبلها، إنما هو هل تفوت بالدخول أو لا تفوت به؟ ولا اختلاف في أنها لا تفوت بالعقد، والاختلاف إذا أسلم في عدتها إنما هو هل تفوت بالعقد أو لا تفوت به؟ ولا اختلاف في أنها تفوت بالدخول. فهذا تحصيل الاختلاف في هذه المسألة.
وقوله في آخرها في التي أسلمت قبل زوجها وهو غائب إنه إن قدم فلا سبيل له إليها بعد انقضاء عدتها نكحت أو لم تنكح، كلام فيه تقديم وتأخير وحذف. ومعناه: إن قدم بعد انقضاء عدتها فأسلم، فلا سبيل له إليها نكحت، أو لم تنكح. وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: التي لم تبلغ المحيض إذا زوجت وافتضت وطلقت هل يعفى عن صداقها]
مسألة قال: وسألته عن الصبية الصغيرة التي لم تبلغ المحيض، ومثلها يوطأ، زوجها أبوها رجلا فدخل بها ووطئها ثم طلقها قبل أن تبلغ المحيض، إلا أنه افتضها. هل يجوز عفو الأب عما بقي عليه من الصداق؟ قال: لا أرى عفو الأب جائزا ولا أرى عفوها هي جائزا؛ لأنه يولى عليها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا دخل بها الزوج وافتضها فقد وجب لها جميع صداقها بالمسيس، وليس للأب أن يضع حقا قد وجب لها، إلا في الموضع الذي أذن الله له فيه، وهو قبل المسيس. لقول الله عز(5/62)
وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية، وهو عند مالك الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته. وأن يكون ذلك منه على وجه النظر، رجاء استدامة العصمة عند ابن القاسم، وهذا لا وجه فيه للنظر إذ قد وقع الطلاق، فوجب ألا يجوز وضعه حقها باتفاق وبالله التوفيق.
[مسألة: ينكح ابنة الرجل فيقول ماذا لابنتك فلا يلتزم الناكح بما سمى]
مسألة قالت: وسألت ابن وهب عن الذي تنكح إليه ابنته، فيقول الناكح: ماذا لابنتك؟ فيقول: لها كذا وكذا لأشياء يسميها، فيرجع الناكح في صداقها للذي قال الأب وسمى، ثم يوجد الأمر على غير ما قال وسمى، فقال: إذا عُثر على هذا قبل الدخول، قيل للزوج: إن شئت فأقم على هذا، وإن شئت ففارق ولا شيء عليك من الصداق، لا قليل ولا كثير، وإن لم يعثر على هذا إلا بعد الدخول ردت إلى صداق مثلها.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن لم يُعثر على هذا إلا بعد الدخول، ردت إلى صداق مثلها، يريد أنه يرجع بالزائد عليها، لا على الولي، فيؤخذ ذلك من صداقها إن كان قائما، وإن كان قد تلف أخذ من مالها واتبعت به دينا إن لم يكن لها مال، خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب، من أنه يرجع بذلك على الولي الذي غره، إلا أن تكون ثيبا، وقد علمت بكذب وليها فتقدمت على معرفة ذلك، فيرجع عليها إن كان لها مال، وإلا رجع على الولي. وقد قيل إنه لا كلام للزوج في ذلك؛ لأنه فرط، إذ لم يتجسس ويتثبت لنفسه، وهو قول أصبغ في الخمسة ورواية يحيى عن ابن القاسم في العشرة. ووقعت أيضا في رسم الكبش في بعض الروايات. وذلك إذا وصفها الولي بذلك من غير شرط. وأما إذا تزوجها على أن لها من المال كذا وكذا لما ليس لها، فيكون للزوج إن علم بذلك قبل الدخول أن يردها، ولا يكون عليه شيء من(5/63)
الصداق. وإن لم يعلم بذلك حتى دخل ومس كان لها الصداق بالمسيس، ورجع هو على من غره وزوجه على ذلك من الأولياء إلا أن تكون هي التي غرته دون الولي، فيرجع عليها بما أصدقها، ويترك لها منه قدر ما يستحل به فرجها. هذا قول مالك وأصحابه، إلا محمد بن المواز فإنه ذهب إلى أن الولي إذا زوج وليته بشرط أن لها من المال ما ليس لها، فإنما ترجع على من شرط له ذلك، وغره بما زاد من المهر على صداق مثلها إن هو خلى سبيلها ولم يرض بها، وهو بعيد. وقد مضى هذا كله في رسم يوصي من سماع عيسى. فإن سمى لها الولي شيئا من ماله عرضا كان أو أصلا عند النكاح، بشرط أو بغير شرط، فقال لها: داري الفلانية، أو عبدي فلان، كان ذلك لها نحلة لا تفتقر لحيازة. وقيل إنها تفتقر إليها، اختلف في ذلك قول ابن القاسم في رواية يحيى عنه الواقعة في بعض روايات العتبية. وأما إن قال: لها الدار الفلانية أو المملوك المسمى بفلان، فقيل إن ذلك نحلة، بمنزلة إذا قال لها: داري الفلانية أو عبدي فلان، وهو قول ابن القاسم في رواية يحيى عنه. وإليه ذهب ابن حبيب. وقيل إنه لا يجب لها بهذا القول شيء من ذلك، وهو قول أصبغ في الخمسة. وإذا لم يجب ذلك لها، فقد مضى الاختلاف فيما للزوج في ذلك من الحق في الشرط وغير الشرط. واختلف إذا سماها دنانير أو دراهم أو طعاما أو عروضا موصوفة، فقال لها كذا وكذا، أو سكت، أو قال: في مالي، أو عندي، أو علي، أو قبلي، على ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يلزمه من ذلك شيء إذا كان ذلك منه على وجه التزيين لوليته إلا أن يرى أنه أراد بذلك، وهو قول أصبغ. والثاني أنه قال في مالي أو عندي أو علي أو قبلي لزمه ذلك نحلة لا تفتقر إلى حيازة، يؤخذ بذلك عاش أو مات، وإن لم يقل إلا: لها كذا وكذا، وسكت لم يلزمه، إلا أن يكون أبا أو وصيا، وهو قول ابن حبيب. والثالث أنه قال لها في ماله، كان ذلك في ماله إن كان له مال، وإن لم يكن له لم يتبع بذلك. وإن قال لها عندي فهي عدة لا يلزمه إخراج ذلك، إلا أن يتطوع(5/64)
به، كان له مال أو لم يكن. وإن قال لها: علي أو قبلي، فهو لازم له في ماله إن كان له مال ودين يتبع به في ذمته إن لم يكن له مال. وإن قال: لها كذا وكذا ولم يزد على ذلك لم يلزمه شيء. وهو قول ابن القاسم في رواية يحيى عنه وبالله التوفيق.
[مسألة: حكم نكاح الشغار إذا لم يعلم به إلا بعد البناء]
مسألة قال: وسألته عن نكاح الشغار، إذا لم يعلم به إلا بعد البناء، قال: إن علم به قبل البناء فسخ، ولم يكن لها من الصداق شيء، وإن لم يعلم به إلا بعد البناء، فسخ أيضا، وكان لها صداق مثلها.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يفسخ قبل البناء وبعده، ويكون فيه صداق المثل، إن فسخ بعد الدخول، هو مثل ما في المدونة في نكاح الشغار،، ومعناه إذا لم يكن معه تسمية صداق. وقد قيل إنه لا يفسخ بعد الدخول، وهي رواية علي بن زياد عن مالك. واختلف في وجه فسخه بعد الدخول، قيل لمطابقة النهي له على القول بأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، وقيل: لأنه نكاح فسد لعقده، إذ لا ينفرد البضع عن الصداق؛ لأن كل واحد من البضعين بإزاء صاحبه، فإذا بطل الصداق، بطل العقد، بخلاف الصداق الفاسد الذي هو بائن عن البضع، فإذا بطل الصداق، لم يبطل ببطلانه العقد. وقد قيل إن فسخه بعد الدخول على القول بأن النكاح إذا وقع بخمر أو خنزير، أو بغير صداق يفسخ قبل الدخول وبعده، ووجه رواية علي بن زياد قياسه على ما فسد لصداقه، إذ لا يكون البضع صداقا. وقد قيل: إنما اختلف قول مالك في فسخه بعد الدخول؛ لاختلاف الناس في تأويل الشغار، إذ ليس نص في الحديث؛ لأن المروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما هو أنه «نهى عن الشغار» ، وما في الحديث تفسير من نافع، وأما إذا سُمِّيَ مع نكاح(5/65)
الشغار صداق لم يختلف قول مالك، في أنه لا يفسخ بعد الدخول، واختلف هل يكون فيه صداق المثل بالغا ما بلغ؟ أو الأكثر؟ من صداق المثل أو المسمى؟ وذهب ابن لبابة إلى أنهما إذا دخلا على كل واحد منهما، الأكثر من صداق المثل أو المسمى، وإذا دخل أحدهما ولم يدخل الآخر ففسخ نكاح الذي لم يدخل منهما كان على الذي دخل صداق المثل، كان أقل من المسمى أو أكثر؛ لأنه يقول: إن كان صداق مثلها أقل من التسمية. إنما زدت على صداق مثلها ليزوج وليتي وليخلو ذراعي منها، فإذا فسخ نكاحها فلا أعطيها إلا صداق مثلها، وكذلك إن سميا في إحداهما صداقا لم يسميا في الآخر، فدخلا؛ لأن التي لم يسم لها صداقا يفسخ نكاحها بعد الدخول. وحمل ما في المدونة على هذا وبالله التوفيق.
[مسألة: المسلم هل يعقد نكاح ابنته النصرانية]
مسألة قال: وسألته عن المسلم هل يعقد نكاح ابنته النصرانية؟ قال: يعقد نكاحها إذا زوجها مسلما، وإن أراد نكاحها نصراني لم يَلِ عقد نكاحها، وكان ذلك إلى أهل دينها، ليس لأبيها من ولايتها شيء؛ لقول الله تبارك وتعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72] .
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا أراد نكاحها نصراني، فلا ينبغي له أن يلي عقد نكاحها، إذ لا حظ فيه لمسلم. وقد أجاز ابن حبيب أن يزوجها من نصراني إذا لم تكن من نساء الجزية. وهذا أصح والله أعلم. وأما تزويجه إياها من مسلم فقد مضى القول عليها موعبا في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[المعتقة إلى أجل هل لسيدهاتزويجها]
من سماع من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب القضاء العاشر:
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في المعتقة إلى أجل: إن لسيدها(5/66)
أن يزوجها. قال: قال مالك: ويأخذ مال المعتقة إلى سنة إلا أن يقرب عتقها. قال ابن القاسم: وكذلك النكاح، إلا أن يقرب عتقها، مثل أخذ المال سواء. قيل لابن القاسم: فمرض السيد قبل عتقها بسنة، أيأخذ مالها؟ قال: لا لأنه يأخذه لغيره، وليس للورثة أن يأخذوه بعده. قيل لأصبغ: فللورثة أن يزوجوها بعده؟ فقال: لا، كما لا ينتزعون المال بعده، كذلك لا يزوجون، وقد خرج موضع الانتزاع والتزويج بمرضه الذي يسقط ذلك عنه، فهو لا يرجع لورثته.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في رسم الأقضية من سماع يحيى، أن تزويج الأمة تابع لانتزاع مالها. وقد قيل إنه تابع لجواز وطئها، وهو قول مالك في إحدى روايتي أشهب عنه. والقياس أن للسيد انتزاع مال معتقه إلى أجل وإن مرض، إذا كان الأجل بعيدا، وأن ورثته ينزلون بمنزلته في ذلك ما لم يقرب الأجل، وهو قول مالك في رواية مطرف عنه. وقول ابن عبد الحكم وأصبغ، واختيار ابن حبيب. واختلف في حد جواز ذلك، فقيل: الأشهر، وهو قول مالك، وقيل: الشهر، وهو قول أصبغ. ولا اختلاف في المدبر وأم الولد أن السيد لا ينتزع أموالها إذا مرض؛ لأن المرض فيها كقرب الأجل في المعتق إلى أجل.
[مسألة: رجل أهدى لامرأته أملك بها هدية ثم طلقها قبل الدخول]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم، وسئل عن رجل أهدى لامرأته أملك بها هدية ثم طلقها قبل الدخول، أو وجد النكاح مفسوخا. قال: أما الطلاق، فلا شيء له فيها. وإن أدركها بعينها. قيل له: فلم يجد ما ينفق عليها، ففرق بينهما. قال: هذا وما أشبهه(5/67)
طلاق، حتى يكون نكاحا حراما لا يقر عليه، أو إنكاحا مفسوخا يفسخ إذا لم يدخل. وإن كان مما يثبت إذا دخل فإن هذا إذا كان وعلم فرق بينهما، فإنه إن أدرك هديته بعينيها فهو أملك بها وهي له كلها؛ لأنه أعطى حين أعطى وهو يرى أنها امرأته، فإذا هي ليست بامرأته؛ لأنه نكاح لا يقرَّان عليه. وإن كانت قد فاتت، فلا شيء له عليها، بمنزلة من تصدق عليه بصدقة فأثاب عليها ثوابا وهو يرى أن الثواب يلزمه في الصدقات، ثم علم فطلب، فإنه إن أدرك ثوابه أخذه، وإن فات فلا شيء له عليه. قال: ولو أثابه حين أثابه وهو يعلم أن ذلك لا يلزمه، لم يكن له أن يرجع فيه، وإن أدركه بعينه.
قلت: أرأيت إن كان النكاح مفسوخا وأدرك هديته بعينها، إلا أنها قد نقصت؟ قال: فلا شيء له غيرها يأخذها منقوصة. قيل له: فإن كانت قد زادت ونمت؟ قال: لا أرى له زيادتها، ولا أرى له إلا القيمة يوم أعطاها. والقياس أنها له بنمائها، وإن كانت قد زادت، ولكن القيمة في هذا عندي أعدل. قال أصبغ: وإن دخل بها في النكاح المفسوخ فلا شيء له أيضا وإن أدركها بعينها؛ لأن النكاح الذي أهدى عليه وأعطى قد تم له بالدخول، وإنما الجواب على أنه فسخ قبل البناء بعد العطاء. ولو كان العطاء بعد الدخول ثم فسخ، رأيت ذلك له؛ لأنه أعطى على الثبات والقناعة وإكمال لنكاحه. والعشرة بينهما فيه، فلم يقر عليه. وذلك إذا كان الفسخ فيه بحدثان العطية، فأما إن كان زمان ذلك قد طال جدا السنتين أو السنين قبل الفسخ ثم فسخ، فلا أرى له فيه شيئا، وإن أدركه بعينيه، مثل الخادم(5/68)
يدركها، أو المنزل بعينيه؛ لأن الذي أعطى له قد رسخ له حين استمتع منه واستمتع بعطيته، فالفسخ فيه كطلاق حادث منه ها هنا، وهو رأيي ولم أسمع فيه بشيء.
قال محمد بن رشد: أما الذي أهدى لامرأته هدية قبل البناء، ثم طلقها قبل البناء أو بعده، فبين أنه لا رجوع له في هديته، وإن كانت قائمة لا تنطلق باختياره، ولو شاء لم يفعل فلا شيء له فيما أعطى. وأما الذي يجد ما ينفق عليها ففرق بينهما. فقوله: إنه لا رجوع له فيما أهدى كالطلاق، هو على أصله في أن ذلك طلاق، يجب للمرأة فيه نصف صداق. وعلى قول ابن نافع الذي لا يرى للمرأة في ذلك شيئا من الصداق، يرى الطلاق عليه بعدم النفقة أو الصداق، كالفرقة بينهما بالجنون والجذام، يكون له أن يرجع في هديته إن كانت قائمة. وقد مضى الفرق بين المسألتين في سماع سحنون. وأما إذا ألفى النكاح مفسوخا، ففرق بينهما قبل البناء، فقال: إنه يرجع في هديته إن كانت قائمة؛ لأن السبب الذي أهدى عليه لما بطل، وجب أن تبطل الهدية ببطلانه، كمسألة نوازل سحنون من كتاب جامع البيوع في الذي يضع من ثمن سلعة باعها بسبب ما كان خشي المبتاع من تلفها أو الوضيعة فيها، فيسلم من ذلك، أن له الرجوع فيما وضع. ومسألة يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق، في الذي يؤخر بالحق لسبب. فلا يتم ذلك السبب. وقد قال ابن القاسم في الدمياطية إنه لا يرجع بها. ولو كان النكاح صحيحا فوجد بالمرأة عيبا يجب له به ردها، فردها قبل الدخول، لكان له أن يرجع في هديته، على ما في كتاب الصرف من المدونة، في الذي يبيع من الرجل السلعة، فيهبها له هبة من أجل ما باع منه السلعة، ثم يجد بالسلعة عيبا، أنه يرجع بالثمن والهبة، خلاف قول سحنون: إنه لا يرجع بالهبة، وقوله على أن الرد(5/69)
بالعيب نقص بيع. وأما مسألة الثواب في الصدقة التي نَظَّرَها بها فلا تشبهها؛ لأن المعنى فيها أنه أعطى ما ظن أنه واجب عليه، ثم علم أنه غير واجب عليه. وقد اختلف في ذلك أيضا، ولها نظائر كثيرة في المدونة والعتبية، ومنها مسألة الذي ينفق على المطلقة وهو يظن أنها حامل، أو على زوجته ويظن أن النكاح صحيح ثابت. وقد فرق ابن القاسم بين الوجهين في الدمياطية، فقال في الرجل يتزوج المرأة ويهدي هدية الملاك، ثم يسأله أهلها أن يدخل بها، أو ينفق عليها، فينفق عليها ثم يوجد النكاح مفسوخا، إنه لا يرجع عليها بهدية الملاك، ويرجع عليها بالنفقة، ولمراعاة هذا القول استحسن في الرواية إذا تمت أن تكون له القيمة، ولا يأخذها بنمائها؛ لأن القياس على ما قال أن يكون له النماء، كما يكون عليه النقصان، ولا اختلاف إذا فسخ النكاح بعد الدخول في أنه لا شيء له في الهدية، وإن كانت قائمة، إلا أن تكون الهدية بعد الدخول والفسخ بحدثان ذلك، على ما قال. وهذا كله في الهدية التي يتطوع بها الزوج من غير شرط، ولا جرى بها عرف. فأما الهدية المشترطة فحكمها حكم الصداق في جميع الأحوال، وأما الهدية التي جرى بها عرف فأجراها ابن حبيب على القول بوجوب القضاء بها، مجرى الصداق يرجع بنصفها في الطلاق، فعلى قوله: إن طلق قبل أن يدفعها يلزمه نصفها. وأبطلها مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن الزوج في الموت والطلاق. وقد تكلمنا على وجه قوله في رسم مساجد القبائل، من سماع ابن القاسم. فعلى قياس قوله: إن طلق بعد أن دفعها، لم يرجع بشيء منها، وعلى القول بأنه لا يحكم بها، حكمها حكم التي يتطوع بها من غير شرط. وقد مضى القول في ذلك، والله الموفق للصواب.
[مسألة: الرجل يزوج ابنته ويقبض صداقها وهي بكر في حجره وقد استهلكه]
مسألة وسمعته وسئل عن الرجل يزوج ابنته ويقر بقبض صداقها وهي بكر في حجره وقد استهلكه فقال: هو ضامن له أيضا. قيل(5/70)
له: فقال: قد دفعته إليها. قال: فإن كان دفعه إليها عينا فهو يضمنه؛ لأن الأبكار ليس يدفع إليهن الدنانير، إنما يجهزن. قيل: فدخلت على زوجها، فزعم أنه جهزها بكذا وكذا، ودفعه إليها، وأنكرت ذلك، قال: تحلف وتبرأ. قال أصبغ: وذلك ما لم يكن التناكر مع الدخول بما يتبين فيه كذبه بدخولها بغير شيء.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في أصل السماع عقب مسألة الرجل يتزوج البكر فيدفع صداقها إلى أبيها ببينة فيستهلكه ولا مال له. وجوابه فيها أن الأب ضامن للصداق، ويدخل الزوج بامرأته ولا شيء عليه، ولذلك قال في هذه المسألة: هو ضامن له أيضا، يريد ويدخل الزوج بزوجته، ولا شيء عليه، فساوى بين أن يكون للزوج بينة على دفع الصداق، أو لا تكون له بينة على ذلك إذا أقر الأب بالقبض، مثل قوله في آخر السماع خلاف قول ابن وهب وأشهب قبل ذلك في تفرقتهما بين ذلك في دعوى الضياع. والذي يأتي على قولهما في هذه المسألة ألا يكون للزوج سبيل إلى الدخول بامرأته، حتى يدفع الصداق إليها، فيدفعه إليها، ويتبع به الأب المقر في ذمته. وقوله: إن الأبكار ليس يُدفع إليهن الدنانير، إنما يجهزن صحيح. والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] فنهى أن تدفع إليهم أموالهم لئلا يفسدوها ويبذروها، وأمر أن يُرزقوا ويُكسوا منها، فوجب أن يدفع إليهم ما يحتاجون إليه من نفقتهم وكسوتهم، وكذلك ما تحتاج إليه المرأة من جهازها إلى زوجها. وأحب أن يدفع إليها وإن كانت مولى عليها. وإنما وجب أن يكون القول قول الأب في أنه جهز ابنته البكر، إلى زوجها، بما قبض من صداقها، وإن كان مدعيا في ذلك؛ لأنه على ذلك قبضه منه، والعرف يشهد له به. وإنما وجبت عليه اليمين، لما تعلق في ذلك من حق الزوج.(5/71)
والذي يسقط عنه اليمين، إحضار البينة، وإبراز الجهاز، وإقامته وإرساله بمحضر البينة. وإن لم تبلغ البينة مع الجهاز بيت ابنته. قال ذلك ابن حبيب في الواضحة. ولو ادعى الأب أنه جهز ابنته إلى زوجها بما لها قبله من ميراث أمها أو غير ذلك، وأنكرت، لما كان القول قوله في ذلك، ولكلف إقامة البينة على إيراد الجهاز بيتها. لقول الله عز وجل: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] .
ومن كتاب الكراء والأقضية قال: وسمعت أصبغ يُسأل عن الرجل تشترط عليه امرأته في كتاب صداقها ألا يسيء إليها، فإن فعل فأمرها بيدها، فإن تزوج عليها أو تسرر عليها. هل ترى هذا من الإساءة؟ فقال أصبغ: لا أراه من الإساءة، إلا أن يكون ذلك وجه ما يشترطون، ويأخذون عندهم بظاهر معروف عندهم، إن الإساءة في هذا الشرط النكاح وشبهه، وإلا فلا. قيل له: فإن ضربها ضربا مبرحا أو غير مبرح، أتراه من الإساءة؟ فقال: إن ضربها في أمر تستأهله على وجه الأدب بالأمر الخفيف، فلا أراه من الإساءة، ولو كان على غير ذلك ضربها مرارا، رأيتها إساءة، أو جاء من ذلك أمر مفرط وإن كان غير مرار.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال في النكاح والتسرر: لأن الله تعالى أذن في ذلك وأباحه بقوله عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] ومن فعل ما أباحه الله تعالى له فليس بمسيء، ولا حجة للمرأة عليه في ذلك بشرطها، إلا أن يعلم أنهما قصدا(5/72)
ذلك وأراداه بسبب يدل على ذلك أو بساط. قال في الضرب الخفيف على وجه الأدب في أمر تستأهل عليه الأدب، إن ذلك ليس من الإساءة؛ لأن الله أذن للأزواج في ضرب أزواجهم بقوله: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وهذا إذا علم السبب الذي أدبها عليه ببينة أو أقرت به. وأما إن لم يعلم ذلك وأنكرته فلا يصدق الزوج عليه، ويكون لها الأخذ بشرطها بعد يمينها إنه ضربها على غير سبب استوجبت عليه الأدب، إلا أن يكون الرجل من الموثوق به في دينه وفضله وأمانته، فيصدق في ذلك، وأما الضرب المفرط فهو من الإساءة، وكذلك إن ضربها مرارا وإن لم يكن ضربا مفرطا، فيحمل ذلك من فعله على الإساءة، إلا إن تبين أنه إنما ضربها على أمر تستأهل الضرب وبالله التوفيق.
[مسألة: تغر من نفسها بأنها حرة وهي أمة فتنكح وتلد ثم تُستحق]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم وسئل عن التي تغر من نفسها بأنها حرة، وهي أمة، فتنكح وتلد، ثم تُستحق فيدعي الناكح أنه ظن أنها حرة، أيصدق ويكون القول قوله؟ قال: نعم. وقاله أصبغ وهو على ذلك أبدا وعلى ما ادعى، ولا يكلف البينة أنه نكح على ذلك ولم يعلمه، حتى يأتي خلافه. والسيد ها هنا مدع فعليه البينة أنه أعلمه. وقال أصبغ: ويقوم الولد على الأب يوم يحكم عليه فيهم. قيل له: فما مات منهم قبل ذلك؟ قال: ليس فيهم شيء، وليس لسيد أمهم فيهم شيء. قيل له: فما قتل منهم فأخذ الأب ديتهم؟ قال: يكون عليه قيمته، وتكون له الدية، إلا أن تكون القيمة أكثر مما أخذ من الدية، فلا يكون عليه غير ذلك.(5/73)
وقاله أصبغ: ولو أقر الأب أنه نكح على معرفة أنها أمة، والفاشي غير ذلك من أمرها أو أمر الأمة أنها غرت وادعت أنها حرة، والنكاح كان على ذلك بالسماع والمأخذ أو السبب أو الشك، لم يصدق الأب؛ لأنه يدفع عن نفسه الغرم، ويريد إرقاق الولد وهم أحرار. قال أصبغ: ولو قتلوا فأخذ الأب الدية فاستهلكها، ثم جاء السيد وهو عديم، ثم اتبعه بالقيمة، لم يكن له على غارم الدية إتباع؛ لأن الأب أخذها بوجه ما يجوز وبحكم حكم له به يوم أخذها وهذا رأيي.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يتزوج المرأة، فتُستحق، فيدعي أنه لم يعلم أنها أمة، وأنه ظن أنها حرة، إن القول قوله، وإن السيد مدعٍ عليه إن ادعى عليه أنه علم أنها أمة صحيح بَيّن؛ لأن نكاحه إياها بإذنها ورضاها شاهد على أنه إنما تزوجها على أنها حرة، زوَّجها منه رجل ادعى أنه وليها أو سيدها؛ لأن السيد لا يستأمِر أمته في النكاح، إذ له أن يكرهها على ذلك. وقول أصبغ: إن الأب لا يصدق أن امرأته علم أنها أمة، إذا كان الظاهر من أمره أنه تزوجها على أنها حرة صحيح، إذ ليس فداء ولده منها بقيمتهم حقا له، إن شاء أن يتركه تركه، وإنما هو حق عليه في مذهب مالك وجميع أصحابه وعامة العلماء، فيتهم على أن يسقط ذلك عن نفسه بإقراره. وقد كان القياس أن يكون الولد رقيقا لسيد الأمة؛ لإجماعهم على أن كل أمة تلد من غير سيدها، فولدها بمنزلتها، إلا أنهم تركوا القياس في هذا لإجماع الصحابة على أنهم أحرار وعلى أن على الأب قيمتهم، حاشا أبو ثور، وداود، فإنهما قالا: الأولاد رقيق على مقتضى القياس. وقوله: إن القيمة فيهم على الأب يوم الحكم، وإنه لا شيء عليه فيمن مات منهم قبل ذلك. وهو قول مالك في المدونة وجميع أصحابه، حاشا المغيرة وأشهب، فإنهما أوجبا على الأب(5/74)
قيمتهم يوم ولدوا، فلا تسقط القيمة عندهما بموت من مات منهم قبل الحكم والله أعلم. وقد مضى في سماع سحنون الحكم في غرور الزوج، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تم كتاب النكاح الرابع(5/75)
[كتاب النكاح الخامس] [أيكلم الرجل امرأته وهو يطأها](5/77)
ومن كتاب النكاح
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، وسئل: أيكلم الرجل امرأته وهو يطأها؟ قال: نعم ويعيد بها، لا بأس بذلك إجازة منه. قال أصبغ: قال ابن القاسم: حدثنا الدراوردي عن من حدثه عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أنه سئل عن التخير عند ذلك، فقال: إذا خلوتم فاصنعوا ما شئتم، فسئل أصبغ: أينظر الرجل إلى فرج امرأته عند الوطء؟ قال: نعم، لا بأس بذلك، قيل له: إن قوما يذكرون كراهيته، فقال: من كرهه، إنما كرهه بالطب، لا بالعلم، لا بأس به وليس بمكروه.
قال محمد بن رشد: في أصل السماع عند السؤال عن نظر الرجل إلى فرج امرأته عند الوطء، قال: نعم، ويلحسه بلسانه. فطرح العتبي بلفظه: ويلحسه؛ لأنه استقبحه. وفي كتاب ابن المواز: ويلحسه بلسانه وهو أقبح، إلا أن العلماء يستجيزون مثل هذا إرادة البيان، ولئلا يحرم ما ليس بحرام، فإن كثيرا من العوام يعتقدون أنه لا يجوز للرجل أن ينظر إلى فرج امرأته في حال من الأحوال. وقد سألني عن ذلك بعضهم فاستغرب أن يكون ذلك جائزا، وكذلك تكليم الرجل امرأته عند الوطء، لا إشكال في جوازه، ولا وجه لكراهيته. وأما الخبر عند ذلك فقبيح ليس من أفعال الناس، وترخيص ابن(5/79)
القاسم في ذلك لمن سأله عنه على معنى أن ذلك ليس بحرام والله أعلم.
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في السفيه يتزوج بمائة دينار، فيفرق وليه بينهما وقد دخل بها، إنه ينزع منها ما أعطاها، ويترك لها قدر ما تستحل به. قال أصبغ: وذلك ربع دينار في قولهم أدنى ما يتزوج به إذا كانت دنية. وأما من لها قدر فإن ابن القاسم قال: لها فيها في المسألة بعينها، لم يحد لنا مالك في ذلك حدا، إلا أني أرى في مثل هذا على قدر الاجتهاد من حالها وقدرها وموضعها. وقاله أصبغ، وتقاضى بما يدل على نحو ذلك مما هو دون صداق مثلها، وما لا يبلغه ولا يقاربه، فيكون صداقا تاما ولا مذهب صداق ثم تام.
قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم: في ذات القدر إنه يترك لها من صداقها على قدر الاجتهاد في حالها وموضعها، ولم يحد في ذلك حدا، وله في المدنية أنه يترك لها من المائة ثلاثة دنانير، وأربعة، ونحو ذلك. وقال ابن نافع: يترك لها من المائة عشرة دنانير. ولابن الماجشون في الواضحة أنه لا يترك لها منه قليلا ولا كثيرا، وهو القياس، وما عداه استحسان. وأما السفيهة تتزوج بغير إذن وليها، فيفرق بينهما بعد الدخول، فإن لها جميع صداقها، لا يرد وليها منه شيئا. وروى ذلك عيسى عن ابن القاسم في المدنية. وقال ابن دينار: إنه يترك لها قدر ما استحل منها، وهو الأظهر؛ لأنها غارة.
[مسألة: نصراني يعقد نكاح ابنته وأخته أو وليته النصرانية لمسلم]
مسألة قال أصبغ: وسئل ابن القاسم عن نصراني، أيعقد نكاح ابنته وأخته أو وليته النصرانية لمسلم؟ فقال: نعم، وهو أولى بذلك من(5/80)
غيره، وما له لا يعقده؟ وقاله أصبغ. ومثل ذلك إنكاح حكامهم وأساقفتهم إياهم وعقدهم للمسلمين، فذلك الذي لا كلام فيه إنهم يزوجونهن، فسواء زوجوا مسلما أو نصرانيا لأنهم ولاتهم، فالولي منهم دونهم أولى فالولاة أولى. قال أصبغ: وقد قلت لابن القاسم: فإن أرادت وليته هذه نكاح مسلم وأبى ذلك هو، أيجبر على ذلك، بكرا كانت أو ثيبا؟ وهو يأبى ذلك ويقول: لا أزوج للمسلمين؟ فقال: لا أرى أن يعرض لهم في ذلك وليردوا إلى أحكام دينهم وحكامهم. قال أصبغ: يعني فيزوجون إن رأوا ذلك، ويجوز. قال: فالولي إذا رضي بمنزلة ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: وهو أولى بذلك من غيره، يريد أن المسلم أولى بعقد نكاحها من ولاتها من النصراني، إذا لم يشاحوه في ذلك؛ لأنه أن يلي عقد النصرانية لمسلم مسلم، أحسن من أن يليه النصراني. وقوله في آخر المسألة: فالولي منهم دونهم أولى فالولاة أولى، يريد أن الولاة النصارى أحق بعقد نكاحها من المسلمين إن تشاحوا في ذلك وطلبوه، وهذا في أهل الجزية، فهذا وجه هذه الرواية، وتبين تأويلنا هذا قوله في آخر المسألة: فالولي إذا رضي بمنزلة ذلك يقول: فكما لا يكون للمسلم أن يتزوجها إلا برضى أهل دينها، فكذلك لا يكون للمسلم أن يعقد نكاحها إلا برضى أهل دينها وولاتها، يعني من أهل الجزية. وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة، فلا معنى لإعادته هنا وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يخطب إليه القوم فيقول قد زوجت فلانا ثم ينكر بعد ذلك]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل يخطب إليه القوم، فيقول: قد زوجت فلانا، ثم أنكر بعد ذلك وقال: لم أقل إلا لأدفعهم عن نفسي. قال: إن ادعى الذي أقر له وسمى أنه قد كان(5/81)
زوجه قبل ذلك، حلف على ذلك بالله لقد زوجه، وثبت له النكاح بالبينة التي قامت على إقراره له. وإن كان إنما يريد أن يأخذها بما سمع منه الخاطبون فقط، رأيت أن يحلف الأب بالله ما كان ذلك منه إلا اعتذارا إليهم، وما زوجه، أي وما أراد به تزويجا موجبا له، ويكون القول قوله وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: قال أصبغ ها هنا وروايته عن ابن القاسم مثل قول ابن كنانة في سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح، خلاف قوله فيه، إن النكاح للطالب واجب لا يبالي بأن ذلك كان طلبه بهذا القول أو بنكاح كان قبله؛ لأن النكاح لا لعب فيه ولا اعتذار، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. وذهب ابن المواز إلى أن النكاح لا يلزم بهذا الإقرار ولا بدعوى متقدمة. وهي أشبه الأقوال الثلاثة وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يدعي نكاح امرأة وهي تحت رجل آخر فأقام شاهدا واحدا أنه تزوجها قبله]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل يدعي نكاح امرأة وهي تحت رجل آخر، فأقام شاهدا واحدا أنه تزوجها قبله، أيعزل عنها زوجها؟ قال: نعم، أرى أن يعزل عنها إذا أقام هذا شاهدا واحدا إلى أن يستبين ذلك، إذا كان ما يدعي أمرا قريبا ولا يدعي شهادة بعيدة. وكذلك الجارية يدعيان الحرية إذا أقام شاهدا واحدا، ويدعيان مع ذلك أمرا قريبا، يعني فيوقفان على صاحبهما ويخرجان من يده إلى ذلك، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذا كله صحيح على معنى ما في المدونة من وجوبها توفيق العرض المدّعى فيه بالشاهد الواحد. ونص ما في كتاب ابن(5/82)
المواز والواضحة: قال عبد الملك في الواضحة: ولا يعزل بدعواه فقط حتى يقيم شاهدا عدلا. وقال محمد بن المواز: فإن لم يصح لهما شاهد آخر، وكان ذلك بعيدا، حلف السيد، ولا شيء على الزوجة وعلى الزوج. فأما قوله: إنه لا شيء على الزوج ولا على الزوجة صحيح؛ لأنهما لو أقرا له أو أحدهما بما ادعاه من النكاح، لم ينتفع بذلك، ولو لم تكن المرأة تحت زوج وادعى رجل نكاحها وهما طاريان، وعجز عن إثبات ذلك، لزمتهما اليمين؛ لأنها لو أقرت له بما ادعاه من النكاح، كانا زوجين. وقد قيل: إنه لا يمين عليها؛ لأنها لو نكلت عن اليمين لم يلزمها النكاح. وهذا على الاختلاف في التي يزوجها وليها، فتنكر أن يكون ذلك بعلمها، إذ لا فرق بين المسألتين، لثبوت النكاح فيهما بإقرار الزوجة. وقد كان القياس إذا نكلت عن اليمين في المسألتين جميعا، أن يحلف الزوج، ويجب له النكاح، إلا أن ذلك لا يوجد لهم نصا. وقد ألزمها النكاح بالنكول في آخر سماع يحيى إذا كان سبب يدل على علمها به. وقد مضى القول على ذلك هناك. وأما قوله إذا حلف السيد فصحيح، على ما في المدونة وغيرها إذا كان ادعى على السيد أنه أعتقه وأقام على ذلك الشاهد. وأما إذا كان ادعى أنه حر من أصله، أو أن غيره أعتقه قبل أن يشتريه هو وأقام على ذلك شاهدا فلا يمين على الذي هو بيده، والواجب في ذلك أن يوقف عنه ويحال بينه وبين وطئها إن كانت أمة ويؤجل في طلب شاهد آخر، الشهر والشهرين والثلاثة، على ما في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق. وإن أراد أن يذهب إلى موضع يمينه، كان له ذلك بعد أن يعطي حميلا بقيمته. قاله ابن القاسم في سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية، وابن وهب في سماع يحيى من كتاب الشهادات، وفي توقيف غلته وخراجه إن كانت له غلة وخراج اختلاف. قيل: إنه يوقف ذلك، فإن استحق الحرية كان له ما وقف من خراجه. وقيل: إنه لا يوقف(5/83)
ذلك إلا في حال الإعذار بعد ثبوت الحرية بشاهدين. وقيل: لا يوقف ذلك أصلا. والغلة للذي في يديه حتى يقضى عليه بحريته، والثلاثة أقوال قائمة من المدونة.
[مسألة: ادعى نكاح امرأة فأنكرته وادعى بينة بعيدة]
مسألة وسئل عن رجل ادعى نكاح امرأة فأنكرته وادعى بينة بعيدة، هل يؤمر بالانتظار؟ قال: لا، إلا أن تكون بينة قريبة، ولا يضر ذلك بالمرأة، ويرى الإمام لِمَا ادعى وجها.
قلت: فإن عجز وجاء ببينة بعد ذلك وقد نكحت المرأة أو لم تنكح؟ قال: قد مضى الحكم.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يقبل منه بينة إن جاء بها بعد التعجيز، خلاف ما في سماع أصبغ، من كتاب الصدقات والهبات، وخلاف ظاهر ما في المدونة إذ لم يفرق فيها بين تعجيز الطالب والمطلوب. وقال: إنه يقبل منه القاضي ما أتى به بعد التعجيز، إذا كان لذلك وجه. وقد قيل: إنه لا يقبل منه ما أتى به بعد التعجيز كان طالبا أو مطلوبا. وفرق ابن الماجشون في الطالب بين أن يعجز في أول قيامه، قبل أن يجب على المطلوب عمل، وبين أن يعجز بعد أن وجب على المطلوب عمل ثم رجع عليه، ففي تعجيز المطلوب قولان. وفي تعجيز الطالب ثلاثة أقوال، قبل هذا في القاضي الحاكم دون من بعده من الحكام. وقيل: بل فيه وفيما بعده من الحكام. وهذا الاختلاف إنما هو إذا عجزه القاضي بإقراره على نفسه بالعجز، وأما إذا عجزه السلطان بعد التلوم والأعذار، وهو يدعي أن له حجة، فلا يقبل منه ما أتى به بعد ذلك من حجة؛ لأن ذلك قد رد من قوله قبل نفوذ الحكم عليه، فلا يسمع منه بعد نفوذه عليه.
[مسألة: يزوج ابنته فيقيم بعد ذلك حسبته]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عن الذي يزوج ابنته(5/84)
فيقيم بعد ذلك، حسبته قال: سنة أو سنتين، ثم يظهر بها جذام فيزعم الزوج أنه كان بها يوم تزوجها، ويقول: غرتني، ويقول الأب: بل زوجتك صحيحة، القول قول من قال: القول قول الأب.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم التمرة من سماع عيسى، فأغنى ذلك عن إعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: يزوج ابنته فيخرج جهازا وشوارا فيقول أشهدكم أن هذا عارية في يدها]
مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن الرجل يزوج ابنته فيخرج جهازا وشوارا، فيقول: أشهدكم أن هذا عارية في يد ابنتي، ولم يروا البنت ولم تحضر، فطلب الأب المتاع والشورة بعد ذلك، فلم يقدر عليه عند ابنته وقد شهد الشهود أنه أدخله بيت زوجها، فقال: إن كانت بكرا وقد علمت بالعارية فلا ضمان عليها، إلا أن يكون هلاكه يوم هلك بعد أن رضي حالها، فهي ضامنة، إلا أن يكون طرقها من ذلك أمر من الله تكون عليه بينة، وإن لم تكن علمت بذلك فلا شيء عليها أصلا وإن حسنت حالها، وإن كانت ثيبا فعلمت بذلك فهي ضامنة له، وإن لم تعلم فلا ضمان على واحد منهما، البكر والثيب، فيما لم يعلم ولم يقبله على وجه العارية. وقاله أصبغ، ولا شيء على الزوج في هذا كله إذا لم يستهلك هو شيء من ذلك استهلاكا. وهذا فيما يفضل عن صداقها وجهازها مما لم تجهز به من صداقها ولا عطية أبيها لها، وقال أصبغ: وسئل ابن القاسم عن الرجل يتزوج المرأة ويبعث إليها بحلي ومتاع، ويشهد أن ذلك عارية، ولا يعلم ذلك أولياؤها. قال: هو كذلك على ما أشهد عليه من ذلك، إن أدركه كان له، وإن تلف ولم يعلم ما أشهد عليه حتى تقبله على وجه العارية فلا ضمان عليها.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا ضمان على الابنة فيما جهزها به(5/85)
الأب من المتاع، وأشهد أنه عارية عندها إذا لم تعلم بإشهاده، ولم تقبله على وجه العارية، وأنه لا ضمان على الزوجة فيما بعث به الزوج إليها من المتاع، وأشهد أنه عارية عندها إذا لم تعلم بذلك أيضا، ولم تقبله على وجه العارية صحيح، إذ ليس لواحد منهما أن يلزم أحدا ضمان ما لم يلتزم ضمانه، وحسبه أن ينفعه الإشهاد في استرجاع متاعه وإن طال زمان ذلك عند الابنة، وذلك خلاف ما مضى لسحنون في سماعه. وقد مضى القول على ذلك هنالك وبالله التوفيق.
[مسألة: زوج ابنته وهي بكر رجلا فأدخلها عليه ثم ادعى بعض ما جهزها به]
مسألة قلت: فلو زوج ابنته وهي بكر رجلا فأدخلها عليه ومضى لدخولها حين، ثم قام الأب فادعى بعض ما جهزها به، وزعم أنه إنما كان عارية منه ليجملها به وصدقته الابنة، أو أنكرت ما ادعى وزعمت أنه لها ومن جهازها؟ قال: القول قول الأب إذا قام بحدثان ما ابتنى الزوج بها، وليس للزوج مقال، والأب مصدق، ولا يلتفت إلى إنكار الابنة بذلك، ولا إلى إقرارها؛ لأن هذا من عمل الناس معروف، وذلك من شأنهم يستعيرون المتاع يتجملون به، ويكثرون بذلك الجهاز، إذا كان فيما بقي من المتاع وفاء بالمهر، فإذا كان هذا فليس للزوج فيه مقال، وسواء كان ذلك المتاع معروفا أصله للأب أو غير معروف هو فيه مصدق، إذا كان فيما بقي وفاء بالمهر.
قلت: فإن طال الزمان ثم قام الأب يدعي ذلك، وفيما بقي بعد ما ادعى وفاء بالمهر، وكان الأصل معروفا أو غير معروف، كانت الابنة مقرة أو منكرة، قال: إذا لم يعرف أصل المتاع وطالت حيازتها للمتاع الزمان الطويل، فإن للزوج في هذا مقالا، ولا أرى الأب فيه مصدقا إذا جاء مثل هذا من الطول والبعد، وأراه له بطول حيازتها.(5/86)
قلت: فإن كانت مقرة بأن المتاع للأب ولم تنكر ما ادعى الأب من ذلك، قال: لا يجوز إقرارها إذا بلغ هذا الحد من الطول؛ لأن إقرارها هنا عطية متبداة، ولا يجوز إقرارها إذا أراد عليها ذلك زوجها، وإن كان فيما بقي بعد ذلك وفاء بالمهر.
قلت: فإن عرف أصل المتاع للأب؟ قال: عرف أصله أو لم يعرف، فطول حيازتها له هذا الزمان يقطع دعوى الأب إذا أنكر الزوج أو المرأة.
قلت: فإن كان قيام الأب في ذلك بحدثان دخول زوجها بها، وكان أصل المتاع معروفا للأب، وليس فيما بقي من الجهاز ما فيه وفاء بالمهر؟ قال: فهو للأب إذا عرف أصله ويتبع الزوج الأب بوفاء الصداق حتى يتم له من الجهاز لابنته ما فيه وفاء ما أصدقها من المهر.
قال محمد بن رشد: قال: إن الأب مصدق فيما ادعى مما جهز به ابنته أنه كان عارية منه لها بشرطين: أحدهما أن يكون ذلك بحدثان البناء، والثاني أن يكون فيما بقي بعدما ادعى وفاء بالمهر، يريد أنه مصدق في ذلك مع يمينه، كذلك قال ابن حبيب، وزاد فقال: ولا أرى السنة فيه طولا. وهذا في الأب خاصة في ابنته البكر، وأما في الثيب، أو في وليته البكر، أو الثيب، فلا، وهو فيها كالأجنبي، وقاله بعض أصحاب مالك. فأما إيجابه اليمين في ذلك على الأب فصحيح، ولا يقال إن اليمين تسقط عنه من أجل أن الوالد لا يحلف لولده، إذ ليس ذلك عليه حكم باليمين، وإنما هو حكم لديه، إن شاء أن يأخذ ويحلف حلف وأخذ، وإن شاء أن يترك ترك، وإنما خص في ذلك الأب في البكر؛ لأنها في ولايته، ومالها في يده. فعلى قياس هذا، يكون في الثيب إذا كانت في ولايته، بمنزلته في البكر، ويكون الوصي فيمن إلى نظره في(5/87)
اليتامى الأبكار والثيب، بمنزلته فيها أيضا، ويحمل قوله: وأما في الثيب، أنه أراد بها الثيب التي لا ولاية له عليها. وقوله: فإذا كان هكذا، يريد إذا ادعى ذلك الأب بحدثان البناء، وفيما بقي وفاء بالمهر، فليس للزوج فيه مقال، كلام صحيح؛ لأنه إذا لم يكن فيما بقي وفاء بالمهر، فإنما يصدق فيما زاد على قدر الوفاء به، بخلاف إذا عرف أصل المتاع له؛ لأنه إذا عرف أصل المتاع له، فيأخذه ويتبعه بوفاء المهر، إذ من حقه أن يجهز زوجته به إليه. وأما قوله إذا ادعى الأب ذلك بعد طول زمان، إن للزوج في ذلك مقالا وإن كان فيما بقي وفاء بالمهر، إذا لم يعرف أصل المتاع للأب، مقرة كانت أو منكرة، وان طول حيازتها يقطع دعوى الأب إذا أنكر الزوج أو المرأة، ففيه نظر، إذ لا كلام للزوج فيما دون الثلث من مالها، إلا على وجه الحسبة، لكونها مولى عليها، لا تجوز عطيتها في شيء من مالها لأبيها ولا لغيره، فقوله: إن طول حيازتها يقطع دعوى الأب إذا أنكر الزوج، معناه إذا أنكر بالحسبة، إذ ليس له معنى ينكر له سوى ذلك. وفي قوله: إذا أنكر الزوج أو المرأة، دليل على أنهما لو لم ينكرا وسلما جميعا ورضيا لجاز ذلك للأب، وهو بعيد، إلا أنه دليل الخطاب. وقد اختلف في القول به، فلا ينبغي أن يعمل ها هنا. وفي الدمياطية لابن القاسم: إن الأب إنما يصدق فيما ادعى من جهاز ابنته بعد البناء أنه عارية لها، وإن كان فيما بقي وفاء بالمهر، إذا كان على أصل العارية بينة. والمشهور ما تقدم في المسألة التي قبل هذه أنه مصدق إذا أشهد على العارية، وإن طال الأمر إذا كان فيما بقي وفاء بالمهر، وإن لم يكن فيما بقي وفاء به صدق فيما زاد على قدر الوفاء به وبالله التوفيق.
[مسألة: السفيه ينكح بغير إذن وليه ثم مات أيتوارثان]
مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن السفيه ينكح بغير إذن وليه ثم مات، أيتوارثان؟ قال: إن مات هو فلا ترثه، وإن ماتت هي فالنظر إلى وليه إن رأى أن يثبت النكاح ويأخذ له الميراث أخذه، وإن رأى أن يرده رده وتركه. قال سحنون مثله، قال أصبغ: ثم(5/88)
سمعته بعد ذلك يقول في السفيه يتزوج ثم يموت، إنها لا ميراث لها منه إذا لم يكن وليه علم وينتزع منها جميع ما أعطاها، إلا قدر ما تستحل به، ربع دينار، إذا كان أصابها.
قال محمد بن رشد: قوله: سمعته بعد ذلك يقول، ليس بخلاف لما حكاه عنه أولا، وإنما فيه زيادة التكلم على حكم الصداق أنه يبطل كما يبطل الميراث، ولا يكون لها شيء إلا قدر ما تستحل به الفرج، إذا كان قد دخل بها. ووجه هذا القول: أن النظر في النكاح يرتفع بموت السفيه، ولا يرفع بموت الزوجة. فإذا مات هو لم يكن لها صداق ولا ميراث، لكون النكاح محمولا على الرد حتى يجاز، وإذا ماتت هي نظر له الولي فيما يرى له من الحظ في إجازة النكاح أو رده، إذ قد يكون الميراث أكثر من الصداق، فيكون الحظ له في إجازة النكاح. وقد يكون الصداق أكثر من الميراث، فيكون الحظ له في رد النكاح. وقد قيل: إن نكاح السفيه بغير إذن وليه محمول على الجواز حتى يرد، وقيل: إن النظر فيه يرتفع بموت من مات منهما، وقيل: إن النظر فيه قائم لا يرتفع بموت من مات منهما. فيتحصل على هذا في المسألة ثمانية أقوال: أحدها هذا وهو قول مطرف وابن الماجشون، وأبيه، وعبد العزيز بن أبي حازم. والثاني أنهما يتوارثان ويمضي الصداق على القول بأن النكاح محمول على الإجازة حتى يرد وأن النظر في النكاح يرتفع بموت من مات منهما. وهذا القول حكاه ابن حبيب عن ابن القاسم من رواية أصبغ عنه. والثالث أنهما لا يتوارثان، ويبطل الصداق، إلا أن يكون قد دخل بها، فيكون لها منه قدر ما يستحل به الفرج، على القول بأن النكاح محمول على الرد يجاز، وأن النظر فيه يرتفع بموت من مات منهما. وهو قول ابن القاسم في العشرة، والرابع أن الميراث بينهما ثابت مراعاة الاختلاف ويبطل الصداق، إلا أن يكون قد دخل بها، فيكون لها قدر ما تستحل به الفرج،(5/89)
على القول بأن النكاح محمول على الرد حتى يجاز، وأن النظر فيه يرتفع بموت من مات منهما، وهو قول ابن القاسم في العشرة. والخامس أن الميراث بينهما مراعاة للاختلاف وينظر في النكاح، فإن كان نكاح غبطة مما لو نظر فيه الولي يوم وقع أجازه، كان لها الصداق، دخل أو لم يدخل. وإن كان على غير ذلك بطل الصداق إلا أن يكون قد دخل بها، فيكون لها قدر ما تستحل به الفرج. وهو قول أصبغ في الخمسة. والسادس أن الميراث بينهما مراعاة للاختلاف، ويبطل الصداق إن كان الزوج هو الميت، وينظر في النكاح إن كانت الزوجة هي الميتة، فإن كان نكاح غبطة كان لها الصداق، وإن لم يكن نكاح غبطة بطل الصداق، إلا أن يكون كان الزوج قد دخل، فيكون لها قدر ما يستحل به الفرج. وهذا القول يتخرج على القول بأن النكاح على الرد حتى يجاز، وأن النظر في النكاح يرتفع بموت الزوج، لا بموت الزوجة. والسابع أن الميراث بينهما مراعاة للاختلاف، ويثبت الصداق إن كان الزوج هو الميت، وينظر في النكاح إن كانت الزوجة هي الميتة على ما ذكرناه في القول الذي قبل هذا. وهذا القول يتخرج على القول بأن النكاح على الجواز حتى يرد، وأن النظر في النكاح يرتفع بموت الزوج، لا بموت الزوجة. والثامن أنه ينظر في النكاح، فإن كان نكاح غبطة مما لو نظر فيه الولي أجازه، كان الميراث بينهما، ووجب لها الصداق. وإن كان على غير ذلك لم يكن بينهما ميراث، ولا كان لها صداق، إلا أن يكون قد دخل بها، فيكون لها قدر ما تستحل به وبالله التوفيق.
[مسألة: يتزوج المرأة بعبد غائب]
مسألة قال: وسمعت ابن القاسم وسئل عن الذي يتزوج المرأة بعبد غائب قال: لا بأس به. وإن كانت غيبة بعيدة، وإن كان لا يدخل بها، وهي مثل الاشتراء لا بأس أن يشتريه إن كانت غيبة(5/90)
بعيدة. وإن كانت غيبة العبد قريبة في الذي تزوجت به فلا بأس أن يدخل بها مثل الاشتراء أيضا. وإن أصيب العبد فلها قيمته، قال: وإن لم تعلم المرأة العبد ولم يوصف لها فلا ينبغي التزويج على ذلك، كما لا ينبغي اشتراء عبد آبق، ولا بعير شارد، ولا شيء غائب غير موصوف، فإن وقع النكاح على ذلك فسخ، إن كان لم يدخل بها، وإن كان قد دخل بها كان لها صداق مثلها.
قال محمد بن رشد: أجرى ابن القاسم النكاح بالعبد الغائب مجرى البيع في جميع الأحوال، فقال: إنه لا بأس أن يتزوج به وإن كانت غيبة بعيدة، يريد: ما لم يتفاحش بعد ذلك، وقد اختلف في حد ذلك، فحكى الفضل عن أصبغ أنه أجازه فيما بين إفريقية والمدينة، وأراه غلطا؛ لأن الذي حكى عليه ابن مزين، أنه إنما يجوز في مثل ما بين المدينة ومصر، وفيما بين مصر وإفريقية، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وزاد قال: وعلى مسيرة العشرين والشهر ونحوه. ولم يجز ابن القاسم أن يدخل بها في الغيبة البعيدة، كما لا يجوز النقد فيه. وقد أجاز أن يدخل بها في القريب الغيبة، كما لا يجوز النقد فيه. وحد القرب على ظاهر قوله إذا قاسه على الشهر اليوم واليومين والثلاثة، ونحو ذلك. وقال أصبغ: الأربعة والخمسة. وأجاز ابن حبيب للزوج أن يدخل بها في البعيد الغيبة، إلا أنه استحب أن يعطيها ربع دينار عند ابتنائه بها قبل قبضها الرقيق الغائبة، ففرق بين الدخول في النكاح، والنقد في البيع. وقوله: فإن أصيب العبد فلها قيمته، يريد في القريب الغيبة والبعيد، على ما اختاره من قول مالك، في أن المصيبة في الغائب الذي يشترى على الصفة من البائع حتى يقبضه المتاع، قربت غيبته أو بعدت. وقوله: إن لها قيمته، على أصله في أن الصداق إذا استحق وكان عرضا أن لها أن ترجع بقيمته. وعلى ما في رسم الطلاق من سماع أشهب، يكون لها(5/91)
صداق مثلها، إذ لا فرق بين المسألتين. وقد مضى القول على ذلك هنالك. وفي العشرة ليحيى أن المصيبة من المرأة بالعقد في النكاح، بخلاف البيوع. وزاد: ولو ماتوا قبل النكاح لا يفسخ النكاح، فيلزم على قياس قوله: إذا استحق الصداق وهو عرض قبل الدخول أن يفسخ النكاح، وكذلك إذا مات العبد الغائب المتزوج به بعد العقد وقبل القبض على القول بأن المصيبة من الزوج وبالله التوفيق. وأما إذا لم تعرف المرأة العبد ولم يوصف لها فلا إشكال ولا اختلاف في أنه نكاح فاسد، قبل الدخول ويثبت بعده بصداق المثل وبالله التوفيق.
[مسألة: اليتيمة يزوجها وليها وقد أشعرت وقاربت الحيض]
مسألة وقال: في اليتيمة يزوجها وليها وقد أشعرت وقاربت الحيض وجرت عليها المواسي وشارفت الحيض فأنكحت برضاها فذلك جائز، وقاله أصبغ: حسن.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة، وتحصيل القول عليها في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة ذلك أيضا في سماع ابن القاسم وأشهب وفي سماع عيسى.
[مسألة: تزوج امرأة بكرا فدخل عليها فافتضها بأصبعه ثم طلقها]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل تزوج امرأة بكرا فدخل عليها فافتضها بأصبعه، ثم طلقها، أترى أن يكون لها الصداق كاملا لأنه قد فعل ذلك على وجه النكاح؟ قال: نعم، وليس بمنزلة الأجنبي يفعل ذلك بها، أرى في الأجنبي أن يكون عليه(5/92)
بقدر ما شانها. أصبغ: إن قيل هذا على الاستحسان فعسى، وإنه لضعيف، والقياس أنه وغيره بالأصبع سواء. وهو رأيي لا أرى غرم ذلك عليه واجبا، ولها نصف الصداق.
قال محمد بن رشد: قد مضى لابن القاسم في سماع سحنون مثل قول أصبغ ها هنا، ومضى القول على المسألة هناك، فلا معنى لإعادته هنا مرة أخرى، وبالله التوفيق.
[مسألة: يصيبه الجذام قبل الدخول فيفرق بينهما هل لها من الصداق شيء]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الذي يصيبه الجذام قبل الدخول، فيفرق بينهما هل لها من الصداق شيء؟ قال: ليس لها من الصداق قليل ولا كثير؛ لأنها فارقته ولم تصبر عليه، بمنزلة النصرانية تسلم قبل الدخول فلا يكون لها من الصداق شيء، كذلك قال في مسألتك: إنه لا صداق لها ولا شيء. قال أصبغ: وهو قول مالك في النصرانية أيضا، وهو قولنا جميعا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الزوج غلب على الفراق، ولم يكن منه طلاق، فوجب ألا يكون عليه شيء من الصداق؛ لأن الله إنما أوجب نصف الصداق قبل الدخول على المطلق بقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] الآية، وقد مضى هذا المعنى وما يتعلق به في سماع سحنون، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتزوج المرأة ثم يجد بها ضررا ترد منه وقد مسها]
مسألة قال أصبغ: قال: وسمعت ابن القاسم وسئل في الذي يتزوج(5/93)
المرأة ثم يجد بها ضررا ترد منه، وقد مسها، إنه إن كان الولي قريب القرابة، يريد ممن يعلم بدائها، ولا يخفى عليه، ولا يعذر فيه، ترك لها القليل والكثير، ورجع الزوج على الولي بصداقه، يعني كله، ولم يرجع الولي عليها به، فإن لم يجد عند الولي شيئا، ووجده معدما، لم يرجع على المرأة بشيء ولم ينزع منها شيئا؛ لأن الولي هو الذي غره وليس هي التي غرته من نفسها، ولعلها أن تكون بكرا، فليس عليها هي أن تخرج إلى الخاطب فتعلمه بدائها، ولا ترسل إليه. وهذا على الولي، فإن لم يجد الزوج للولي شيئا اتبعه به دينا، ولم يُنزع من المرأة شيء. وقاله أصبغ. والبكر والثيب سواء، إذا كان من الأولياء الذين يعلمون ذلك، ويحمل عليهم بالعلم.
قال محمد بن رشد: التقريب القرابة من الأولياء، الذي يحمل على العلم بعيب المرأة، ويجب للزوج الرجوع عليه بالصداق، إذا لم يخبره بالعيب الأب والأخ والابن. قاله مالك في موطأه، وابن حبيب في الواضحة. وسواء كان العيب جنونا، أو جذاما أو برصا، أو داء في الفرج خفيا، أو ظاهرا على ظاهر قوله في هذه الرواية. إذ قال فيها ضررا ترد منه، ولم يخص ضررا من ضرر. وهو قول ابن حبيب في الواضحة. وقول أصبغ: والبكر والثيب في هذا سواء، صحيح؛ لأن البكر أمرها كله إلى الأب. والثيب إذا وكلته على أن يزوجها، فقد وكلته على أن يخبر بما علمه من عيبها، إذ لا يجوز له سوى ذلك، فإذا كتم ذلك كان قد غر ووجب عليه الرجوع. قال في الرواية: فإن وجده معدما لم يرجع على المرأة بشيء. ووجه ذلك أنه لم يقع منها تقصير ولا غرور. وقال ابن حبيب: في الواضحة أنه يرجع عليها إن كانت موسرة، فإن كانا معدمين رجع على أولهما يسرا، ولم يكن لمن رجع عليه منهما أن يرجع على صاحبه بما رجع عليه. ووجه إيجابه الرجوع على المرأة في عدم الولي، أن الصداق وإن كان الولي قد غر الزوج، فقد حصل إلى المرأة بغير حق، فلا يترك عندها منه إلا قدر ما يستحل به الفرج، إذا لم يجد الزّوج على(5/94)
من يرجع به، فإن كانت قد اشترت به جهازا أخذ منها ما اشترت، إذ ليست ها هنا بمتعدية، بخلاف إذا كانت هي الغارة، ووجب الرجوع عليها على ما ذكره ابن حبيب. واختلف إذا كان الأب أو الأخ غائبا غيبة طويلة، يخفى عليه في مثلها خبرها ومعرفة دائها وعيبها. فقال ابن حبيب: يحلف أنه ما علم به، ويسقط الغرم عنه ويرجع على الزوجة. وقال أشهب: بل يرجع عليه وإن خفي عليه، كما يرجع عليه في البرص الذي يكون في المكان الذي يخفى. وأما سائر الأولياء، فلا يجب الرجوع عليهم بشيء من الصداق؛ لأنهم يُحملون على أنهم لا يعلمون حتى يثبت عليهم أنهم علموا، فإن اتهم بمعرفة عيبها استحلف على ذلك. قاله ابن حبيب، يريد فإن نكل غرم، وإن حلف غرمتها المرأة. وفي كتاب ابن المواز لا يمين عليه، إلا أن يدعي عليه الزوج العلم فيحلف، فإن نكل غرم بعد يمين الزوج، فإن نكل الزوج أيضا عن اليمين أو حلف الولي سقط عنه الغرم في الوجهين، وبطل رجوعه على المرأة. قال فضل: وهو جيد على أصولهم فافهمه، يريد لأنه قد أبرأ المرأة إذا ادعى أن الولي قد علم؛ لأنه إذا علم بالعيب ولم يخبر به فهو الغادر. دون المرأة؛ لأنه العاقد للنكاح، والمرأة تقول: إنما وكلته على أن يزوجني ويخبر بعيبي، فإذا لم يفعل فهو الغار دوني. ولو زوجها بحضرتها ولم يخبر واحد منهما بالعيب، لكانا جميعا غارين، يرجع الزوج على من وجد منهما مليا، فإن رجع على الولي رجع الولي على المرأة، وإن رجع على المرأة، لم ترجع المرأة على الولي. وقد ذهب بعض المتأخرين إلى أن جميع الأولياء محمولون على العلم بالجنون والجذام؛ لأن الخبر بذلك يشيع، فلا يخفى ذلك على الجيران، فضلا على الأولياء. وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام فمسها فلها صداقها كاملا، وذلك لزوجها غرم على وليها. قال هذا المتأخر: وكذلك البرص إذا كان في الوجه أو الذراع أو اللسان، وأما إن كان في سائر الجسم الذي تستره الثياب، فيحمل على العلم به الأب والأخ والابن، دون سائر الأولياء. قال: وأما عيب الفرج، فإن كان ظاهرا لا يخفى على الأم حين التربية حمل الأب وحده على العلم به، دون(5/95)
الأخ ومن سواه؛ لأن ذلك مما يستر عنه وعنهم، وإن كان مما قد يخفى عليها، لم يحمل الأب على العلم به. فقسم هذا القائل على أربعة أقسام: منها ما يحمل على العلم به جميع الأولياء، وهو الجنون والجذام والبرص فيما يظهر من البدن. ومنها ما لا يحمل على العلم به إلا الأب، وهو داء الفرج الذي لا يخفى على الأم. ومنها ما لا يحمل على العلم به إلا الأب والأخ والابن، وهو البرص فيما لا يظهر من البدن. وقد حكى الفضل في داء الفرج الخفي عن عيسى بن دينار، أن الرجوع في ذلك لا يكون إلا على المرأة، ونسبه إلى العتبية، ولم يقع ذلك له فيها عندنا مثل قول القائل فيه. وأصل مالك في هذه المسألة قول عمر بن الخطاب: أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام - قال في بعض الروايات: أو قرن - فمسها فلها صداقها كاملا، وذلك لزوجها غرم على وليها. وذهب الشافعي إلى أنه إنما يجب للزوج أن يردها بذلك ما لم يدخل ويمس، فإذا دخل ومس وجب عليه الصداق، ولم يكن له رد، وكانت امرأته، إن شاء طلق، وإن شاء أمسك. وروى ذلك عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو أظهر في القياس. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا رد للزوج في ذلك قبل الدخول ولا بعده، قاله في هذه العيوب الكبار، قياسا على ما اتفق عليه في العيوب الصغار وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل زوج ابنا له كبيرا غائبا وزعم أنه أمره بذلك، فقدم الابن فأنكر]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل زوج ابنا له كبيرا غائبا، وزعم أنه أمره بذلك، فقدم الابن فأنكر، قال: يحلف ولا يكون على الأب صداق. قيل: أرأيت إن مات قبل أن يقدم ويعلم رضاه؟ قال: للمرأة الميراث مع الأب إن لم يكن له وارث غيره، وما يصيبها في نصيبه إن كان معها وارث غيره؛ لأنه يقر بأن لها معه في الميراث نصيبا حتى يشهد بأنها امرأته. قال أصبغ: بمنزلة وارث أقر بوارث(5/96)
آخر، فهذا يرث في نصيبه، فأما النكاح فلا.
قال محمد بن رشد: أوجب ابن القاسم في هذه المسألة على أنه ما أمره أن يزوجه. ومثله في أصل الأسدية، وقال في المدونة: إن النكاح لا يثبت إذا أنكر ولم يذكر يمينا. وقال فضل: رواية أصبغ في إيجاب اليمين على الابن بعيدة جدا؛ لأنه لم يقر بأمر في شيء، فأما تضعيفه لإيجاب اليمين عليه فصواب؛ لأنها يمين لا يوجب النكول عنها حكما، وإنما أمره باليمين، رجاء أن يقر فيلزمه النكاح، وأما تعليله بذلك، بأنه لم يقر بأمر في شيء، فليس بعلة صحيحة، إذ لا فرق في إيجاب اليمين عليه بين أن ينكر أن يكون أمره بشيء، وبين أن ينكر أن يكون أمره بتزويج هذه، ويقر أنه أمره بتزويج غيرها. وقد مضى الاختلاف في هذا المعنى في رسم البز من سماع ابن القاسم، وفي رسم أول عبد ابتاعه من سماع يحيى. وأما قوله إنه يحلف ولا يكون على الأب صداق، فهو مثل ما في المدونة لابن القاسم؛ لأنه قال فيها: إنه لا يلزمه شيء من الصداق، وإن كان قد ضمنه عنه. وقد قيل: إنه يلزمه نصف الصداق، وإن لم يضمنه عنه. وهو قول ربيعة، وقيل: إنه لا يلزمه إلا أن يكون ضمنه عنه. وإلى هذا ذهب ابن المواز، وحكاه عن أصحاب مالك، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة يضمن الرسول ما ضمن. والاختلاف في وجوب نصف الصداق على الأب جار على اختلافهم في الفسخ. هل يكون بطلاق أو بغير طلاق. فروى محمد بن أبي السبئي عن مالك أنه كان فسخا بغير طلاق، وروى عيسى عن ابن القاسم في المدنية أنه يكون فسخا بطلاق. وقد مضى القول في أول رسم من سماع ابن القاسم الاختلاف في وقوع الحرمة به. فهو على هذا الأصل. وأما قوله في الميراث فصحيح لا اختلاف فيه ولا كلام، وبالله التوفيق.
[مسألة: تزوج ابنته وهو غائب يزوجها رجل تم يقدم الأب فيقول أنا أمرته بذلك]
مسألة قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن الذي تُزَوَّج ابنته وهو(5/97)
غائب، يزوجها رجل، تم يقدم الأب فيقول: أنا أمرته بذلك، وفوضته إليه، أيصدق ويجوز ذلك؟ قال: لا يجوز ذلك ولا يصدق، إلا أن تكون من النساء اللاتي يجوز أن يزوجهن غير الآباء من الأولياء، فيجوز إذا قال ذلك. قال أصبغ: يعني الثيب ها هنا، والبكر في الجواب الأول.
قال محمد بن رشد: الفرق بين الثيب والبكر، أن الرجل إذا زوجت ابنته البكر بغير إذنه، فهو عقد فاسد، لا يجوز للأب أن يجيزه، فإذا قال: أنا أمرته اتهم أن يكون أراد إجازة العقد الفاسد، وإذا ولت الثيب على نفسها رجلا أجنبيا فزوجها، كان للولي إجازة النكاح وفسخه، إلا أن يطول بعد الدخول فلا يفسخ. فإذا قال الأب أنا أمرته كان أحرى أن يجوز. وعلى قول غير ابن القاسم في المدونة، وإن أجازه الولي لم يجز؛ لأنه عقد غير ولي ليصدق الأب في الثيب أيضا؛ لأنه يتهم على إمضاء العقد الفاسد. وبالله التوفيق.
[مسألة: دخل بها في نكاح فاسد ففرق بينهما فتزوجها رجل في الحيض]
مسألة قال: وسئل أشهب عن النكاح الفاسد الذي يفسخ إذا دخل بها، ففرق بينهما، فتزوجها رجل في تلك الحيض الثلاث دون الاستبراء، ففرق بينهما، أله النكاح بعد ذلك؟ قال: لا تحل له أبدا. وقاله أصبغ وهي عدة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن حكم التزويج في العدة من النكاح الفاسد والصحيح سواء، بإجماع العلماء، لا يفرق أحد منهم في ذلك بينهما، وإنما اختلفوا فيهما جميعا اختلافا واحدا على ما مضى في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب وبالله التوفيق.
[مسألة: يقيم البينة على امرأة أنه تزوجها وهي تجحد ذلك]
مسألة قال: وسألت أشهب عن الذي يقيم البينة على امرأة أنه(5/98)
تزوجها وهي تجحد ذلك، وتقيم أخت تلك المرأة على ذلك الرجل بعينيه البينة أنه تزوجها، وهو ينكر ذلك، ولم توقت البينة وقتا، وهم متكافئون في العدالة أو غير متكافئين. قال: أرى أن يفسخ النكاحان أيضا، وسواء كانوا متكافئين أو غير متكافئين في هذا.
قلت له: فإن شهدت بينة كل واحد منهما على الدخول، قال: ذلك سواء، يفسخ دخل أو لم يدخل، فإن دخل بهما أزواجهما فالصداق لهما. قال: وسألت ابن وهب، فقال لي مثله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قالا إن فسخ النكاحين جميعا واجب إذا كانت البينتان عدلتين، وإن كانت إحداهما أعدل من الأخرى؛ لأن النكاح الثاني فاسد على كل حال، إذ لا يجوز نكاح الأخت على الأخت لنهي الله عز وجل عن الجمع بينهما. فلما لم يعلم أيهما هو، وجب أن يفسخا جميعا. والفسخ منه بطلاق، ولا عدة على واحدة منهما ولا صداق لها إن كان لم يدخل بها. وإن ماتت التي أقام البينة أنه تزوجها قبل أن يفسخ النكاح بينه وبينها، كان له نصف ميراثها؛ لأن المنازعة في ميراثها بينه وبين الورثة. يقول هو: هي زوجتي، فلها ميراثها. ويقول الورثة: بل الأخرى هي زوجتك؛ لأنك تزوجتها أولا ونكاح هذه فاسد، فلا ميراث لك منها، فيقسم بينهما بنصفين للتداعي. وإن قالت الورثة: لا ندري لعل الأخرى هي التي تزوجت أولا، فلا ميراث لك من هذه، حلف وأخذ جميع ميراثها، وقيل: إنه لا ميراث له منها إلا بيقين، وإن مات هو قبل الفسخ كان الميراث والصداق للتي ادعت أنه تزوجها وأقامت البينة على ذلك؛ لأنه قد علم أن الميراث لأحدهما، والأخرى تنكره، فلا شيء لها من الميراث ولا من الصداق إذا لم يدخل بها.(5/99)
وعلى كل واحد منهما من العدة أربعة أشهر وعشرا إن كان لم يدخل بها، وأقصى الأجلين إن كان قد دخل بها.
[مسألة: قال له زوج فلانا ابنتك بخمسين دينارا وهي علي لك ففعل ثم مات]
مسألة قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عمن قال لرجل: زوج فلانا ابنتك بخمسين دينارا، وهي علي لك، ففعل، ثم مات المعطي قبل أن يقبض ذلك منه، وقبل أن يدخل الزوج بالمرأة. قال: يؤخذ من ماله، فقيل له: أفيرجع بها ورثته على الزوج؟ قال: إن كان ضمانا رجعوا عليه بها، وإن كان صلة لم يرجعوا عليه بشيء.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان ضمانا رجعوا عليه، يفيد أن لفظ الضمان في عقد النكاح حمالة لا حمل، خلاف قوله في سماع سحنون. وقد مضى القول على ذلك هناك. وفي رسم الكبش من سماع يحيى، ولم يبين على ما يحمل قوله وهي: لك علي، إن كان على الصلة التي هي بمعنى العطية، والحمل على الضمان الذي هو بمعنى الحمالة، والأظهر أن يكون محمولا على الصلة حتى يتبين أنه أراد بذلك الحمالة.
[مسألة: تزوج امرأة وشرطوا عليه ألا يدخل بها خمس سنين]
مسألة وسئل عن رجل تزوج امرأة وشرطوا عليه ألا يدخل بها خمس سنين، قال: بئسما صنعوا والشرط باطل، والنكاح جائز ثابت، وإن أراد الدخول قبل ذلك فذلك له. قال أصبغ: مالك يقول: إن كان لصغر أو لطعون فلهم شرطهم. وقول مالك إنما يشبهه اشتراط تأخيرها، وما هو عندي أنا بالقوي، إذا احتملت الدخول بالرجال والوطء.(5/100)
قال محمد بن رشد: قوله في اشتراط تأخير البناء خمسة أعوام، إن الشرط باطل والنكاح ثابت جائز صحيح، على مذهب مالك في أن الشروط التي لا تفسد النكاح لا تلزم إذا لم تكن مقيدة بتمليك أو طلاق، حسبما مضى في رسم الطلاق الثلاث من سماع أشهب. وما حكى أصبغ عن مالك أنه يلزم الشرط إن كان لصغر أو طعون، معناه في السنة ونحوها، كذلك وقع له في المدونة. ويريد بالصغر، الذي قد يمكن معه الوطء، وأما إن كانت في سن من لا يوطأ مثلها، فمن حق أهلها أن يمنعوه من البناء بها حتى تدرك وتطيق الرجال، وإن لم يشترطوا ذلك، كذلك في المدونة. ولما كان البناء قد يحكم بتأخيره إذا دعت إليه الزوجة، وإن لم يكن في ذلك شرط، حسب ما مضى في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب، ألزم مالك الشرط فيما قرب من المدة وهي السنة؛ لأنها حد في أنواع كثيرة من العلم، من ذلك العنّين يؤجل سنة، والجراح يتربص سنة، والعهدة في الجنون والجذام والبرص سنة، وأشباه هذا كثير. وبالله التوفيق. وقول أصبغ: وما ذلك بالقوي إذا احتملت الدخول بالرجال والوطء، يريد أنه ليس على حقيقة القياس، وإنما هو استحسان وبالله التوفيق.
[مسألة: نكح فلما فرغ من العقدة استكتم الشهود]
مسألة قال أصبغ: سألت أشهب عمن نكح، فلما فرغ من العقدة استكتم الشهود. قال: إن لم تكن تلك نيته، وعليه نكح. يعني بالضمير فلا بأس به.
قلت: فإن كان على ذلك نكح وهو نيته. أيفارق؟ قال: نعم يفارق. قال أصبغ: محمول قوله ضميره هو، ولست أرى ذلك يُفسد النكاح إن لم يكن إلا ضميره في نفسه؛ لأنه ينكح وضميره الفراق، فلا يكون بذلك بأس. ولكن إن كان بذلك الضمير،(5/101)
تحقيق مواطأة بينه وبين المرأة والأولياء، وعلى وجه مأخذ النكاح بالاستتار منهم، فهو الفاسد. وهو من وجه نكاح المتعة، وهو الذي يفارق كما قال ولا يقيم عليه.
قال محمد بن رشد: ذهب أبو إسحاق التونسي إلى تصحيح قول أصبغ، وتصويب اعتراضه على أشهب. فقال: أما ضميره هو وحده فلا يضر ذلك النكاح؛ لأن الفساد إذا كان من جهة واحدة لا يضر النكاح. وقول أشهب يفارق، فيه ضعف، إلا أن يكون عنده أن فساد العقد إذا كان من جهة أحد المتعاقدين، يفسد فيلزم عليه لو تزوجها بحر أو بعبد اغتصبه، ولم تعلم أن النكاح فاسد. وإن كان سحنون قد قاله في الذي تزوج بالحر ولم يقبله في الذي تزوج بالعبد المغصوب، وليس عندي بصحيح؛ لأن أشهب لم يقل: إن النكاح يفسد بضميره هو، ولا أن النكاح يفسخ بذلك كما تأوله عليه أصبغ، وإنما رأى له أن يفارق امرأته استحسانا من غير إيجاب يُحكم عليه به، لكون الفساد من جهته خاصة بإقراره على نفسه أنه نوى قبل العقد الكتمان للذي ظهر منه بعد العقد. وقوله صحيح؛ لأن الفساد لما لم يوجد إلا من جهته لم يصح أن يحكم بالفراق؛ لأن ذلك حكم على الزوجة بفساد لم يثبت، ولا أقرت به. ووجب لما كان الزوج مالكا للطلاق أن يؤمر بالفراق، لإقراره على نفسه بالفساد؛ لأنه نوى نية فاسدة، صدّقها بفعله، فوجب أن يكون لها تأثير في حقه الذي يملكه من الطلاق. ولو كانت الزوجة والأولياء هم الذين نووا الكتمان قبل العقد، واستكتموا الشهود بعده دون الزوج، لم يكن لذلك تأثير، إذ ليست المرأة مالكة للطلاق. وما حكى أبو إسحاق التونسي عن سحنون، من تزوج بحر لم تعلم به المرأة، فنكاحه فاسد، وهو خلاف ما مضى من قوله في رسم العشور، من سماع عيسى، مثل قول ابن الماجشون. وقد مضى القول على ذلك هنالك وبالله التوفيق.(5/102)
[مسألة: تزوج جارية على أنها بكر فدخل عليها فزعم أنه وجدها ثيبا ولا عذرة لها]
مسألة قال أصبغ: وسمعت أشهب وسئل عمن تزوج جارية على أنها بكر، فدخل عليها فزعم أنه وجدها ثيبا ولا عذرة لها، قال: تلزمه، ولا شيء له، قيل: فأتى إلى أبيها فقال: زوجتني على أنها بكر، فلم أجدها ذلك، فردوا عليّ مالي. فقال أبوها: صدقت، كانت تكنس في البيت فدخل ذلك منها شيء، فذهب منها وهي لا تعلم، فأمسك يا هذا مالك ولا تتكلم. قال: يرجع الأب على الزوج. فيأخذه، ولا شيء للزوج في ذلك. قال أصبغ: لا أرى ذلك، ولا يعجبني ما قال من وجهين: من وجه أنه إن كان شرطا مشروطا عليه نكح باشتراط في النكاح، فله الرد، وهو كاشتراط البياض وصحة العينين وألا عيوب، وكاشتراط المال يكون لها، إن لها كذا وكذا اشتراطا عليه يتزوج، فيجده على غير ذلك، وإن لم يكن اشتراطا في العذرة، فقد دفعه الأب طائعا، فليس له بالجهالة رجوع، ولا يصدق، ويحمل على إرادة الستر منه؛ لأنه قد صارت كالفرقة؛ لأن ذلك يكون له فرقة، وترجع به المرأة على الأب إن كان انتزعه منها فأعطاه إياه.
قال محمد بن رشد: الشرط في النكاح، هو أن يتزوج الرجل المرأة على أنها على صفة كذا، أو على أن لها من المال كذا، أو على أن لا يفعل كذا وكذا، أو على أن لا يمنعها كذا وكذا، وما أشبهه. قال: فالذي تزوج المرأة على أنها بكر، فقد شرط ذلك، ولا اختلاف بينهم فيمن تزوج امرأة بشرط أنها على صفة فلم يجدها على تلك الصفة، أن له الرد. وإنما قال أشهب: إنها تلزمه ولا شيء له؛ لأن البكر في اللسان هي التي لم يكن لها زوج، عذراء(5/103)
كانت أو غير عذراء، فلم يعذره بالجهل، ورآها لازمة له حتى يتزوج على أنها بكر عذراء. قال ابن لبابة: أو يقع في الشرط بيان، بأن يقول على أنها بكر، فإن لم تكن بكرا رددتها، وذلك نحو ما في نوازل سحنون من كتاب العيوب، في الذي يشتري العبد فيقول للتاجر: هل فيه من عيب؟ فيقول: هو قائم العينين، فيسأل عن قائم العينين، فيقال: هو الذي لا يبصر، إن البيع لازم، وليس له أن يرده. ولو وصفها الولي عند الخطبة بأنها عذراء، ولم يشترط ذلك عليه لجرى ذلك على الاختلاف في الذي يصف وليته بالجمال والمال، فتوجد على خلاف ذلك. وقد مضى القول في ذلك في رسم يوصي من سماع عيسى. فإذا لم يكن الشرط عاملا في العذرة، ورد الأب الصداق إلى الزوج على ما طلب، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون رده إليه على شرط الفراق كالفدية، والثاني أن يكون رده إليه على أن تكون زوجته بحالها باقية في عصمته. والثالث أن يكون رده إليه على غير بيان. فأما إذا رده إليه على شرط الفراق، فهو له، لا يرجع به عليه؛ لأنه أخذه على عوض، وهو الفراق وترجع الزوجة على أبيها به؛ لأنه أتلفه عليها بغير حق. وأما إذا رده إليه على أن تكون زوجته بحالها باقية في عصمته، فللأب أن يرجع به عليه، يأخذه لابنته، عذر بالجهل في الخطأ على مال ابنته أو لم يعذر على ما ذهب ابن القاسم الذي لا يجيز هبة الأب مال ابنه الصغير. وأما على مذهب مطرف وابن الماجشون، الذي يرى عطية الأب مال ابنه الصغير سائغة للمعطي، وعلى الأب عوض ذلك من ماله، اشترط له العوض أو لم يشترطه. فإن عذر بالجهل كان له الرجوع على الزوج بما دفع إليه، وإن لم يعذر بالجهل كان له ما رد إليه، ولزمه غرم ذلك لابنته. وقد اختلف في ذلك، والاختلاف فيه إنما يعود إلى هل يصدق فيما ادعاه من الجهل أم لا؟ وأما إذا رده إليه على غير بيان، فحمله أشهب على غير الفدية، وأوجب للأب الرجوع بما رده إليه، وحمله أصبغ على الفدية وجعل للزوج ما رد إليه الأب من الصداق، بما ألزمه نفسه من الفراق، وأوجب على الأب غرم ذلك لابنته. وهذا كله إذا لم يحمل تزويجه إياها على أنها بكر شرطا في العذرة، وأما إذا حمل على أنه شرط في(5/104)
العذرة، فالذي فعله الأب من رد الصداق إليه على الفدية سائغ للزوج وماض على الابنة؛ لأنه هو الواجب في ذلك، وليس في قول أصبغ بيان على ما يحمل الشرط من ذلك، إن كان على ما يقتضيه اللسان، على ما ذهب إليه أشهب، أو على ما يعرفه عامة الناس من أن البكر هي ذات العذرة. وقوله: لأنه قد صارت كالفرقة صحيح عند محمد. وفي بعض الكتب كالفدية، وهو أصح في المعنى. ولا حد على الذي ادعى أنه وجد زوجته البكر ثيبا؛ لأن العذرة قد تذهب بغير الجماع، فإن أعاد ذلك عليها في العتاب، أو بعد فراقها بسنين، حلف ما أراد بذلك قذفها، وسقط عنه الحد. وقع ذلك في المدونة لمالك وابن القاسم. وهذا كله ما لم يتبين أنه أراد به الفاحشة والله أعلم.
[مسألة: تزوج امرأة وله امرأتين فشرط لها أن امرأته طالق وقال أردت فلانة]
مسألة قال أصبغ: سألت عن رجل تزوج امرأة وله امرأتين سواها قد عرفت إحداهما فشرط لها أن امرأته طالق، ثم قال: أردت بإحداهما فلانة، لغير التي تعرف. قال: ذلك له، ويحلف، أنه إنما أراد الأخرى، يعني التي لم تعرفها، ويكون القول قوله. وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذا بين على القول بأن اليمين على نية الحالف، ويلزم على القول إن اليمين على نية المحلوف له أن يُطلَّقا عليه جميعا: إحداهما بما نوى والأخرى بما نوت الزوجة المحلوف لها. والله أعلم.
[مسألة: يشترط لامرأته أن كل امرأة يتزوجها عليها فأمرها بيدها]
مسألة وسئل عن الذي يشترط لامرأته أن كل امرأة يتزوجها عليها فأمرها بيدها، فأذنت له أن ينكح فنكح، ثم أرادت أن تطلق عليه، قال: ذلك لها، وكذلك لو شرط لها أن كل جارية يتسررها عليها(5/105)
فأمرها بيدها، إن شاءت أعتقت وإن شاءت أمسكت، فأذنت له أن يشتري جارية ويتسررها ففعل، فأرادت أن تعتق عليه، قال: ذلك لها، قيل له: فإن اشترط لها إن تزوج أو تسرر عليها فأمر الجارية وعتقها بيدها، فقالت: اشهدوا أنه إذا تزوج أو تسرر فقد طلقت عليه وأعتقت، ثم تزوج أو تسرر، قال: ذلك الطلاق والعتق باطل، إلا ما يطلق أو يعتق من ذي قبل، حين تزوج أو تسرر، وقاس قوله في هذا الأصل كله بنظيره، ونحن نخالفه.
قال محمد بن رشد: إنما رأى لها أن تطلق عليه وتعتق، ما تزوج أو تسرر، بعد أن أذنت له في التزويج والتسرر، من أجل أنه لم يستثن في الشرط إذنها، ولو استثناه فقال فيه: إلا بإذنها، فأذنت له، لم يكن لها أن ترجع، ولزمها الإذن على مذهبه، إذ لا اختلاف في ذلك، وإنما الاختلاف إذا لم يكن في الشرط إلا بإذنها، فرأى أشهب أن لها أن ترجع فتأخذ بشرطها وإن أذنت، بخلاف ذلك إذا كان في الشرط إلا بإذنها، ولم ير ذلك لها مالك، بمنزلة إذا كان في الشرط إلا بإذنها، فساوى مالك بين الوجهين جميعا، وفرق بينهما. وقد مضى القول على هذه المسألة موعبا في أول رسم من سماع ابن القاسم. وأما إذا قالت: اشهدوا أنه إذا تزوج أو تسرر فقد طلقت وأعتقت، فينفذ عليه الطلاق والعتق عند مالك، خلاف قول أشهب. والاختلاف في هذا كله جار على أصل مختلف فيه، وهو الاختلاف في لزوم إسقاط الحق قبل وجوبه. وبالله التوفيق.
[مسألة: السفيه أيزوج أخته]
مسألة قال: وسمعت أشهب وسئل عن السفيه أيزوج أخته؟ قال: نعم، حسبته قال: إن كان ذا رأي فيما أعلم، ولا مولى عليه. وإن كان سفيها، وإلا فلا.(5/106)
قال محمد بن رشد: القائل حسبته قال، إلى آخر قوله، هو أصبغ، وفي قوله التباس؛ لأنه عبر عن الظن بالعلم، وقدم وأخر، فتقدير قوله حسبت: أشهب، زاد فيما أظن على قوله: نعم، وهذا إن كان ذا رأي، ولم يكن مولى عليه فزوجها وإن كان سفيها، وإلا فلا، فعلى هذا لم ير للسفيه إن كان في ولاية أن يزوج، وإن كان ذا رأي، ورأى للسفيه إذا لم يكن في ولاية أن يزوج أخته إذا كان ذا رأي، وكذلك ابنته البكر قبل البلوغ وبعده، وقد قيل: إن للسفيه المولى عليه أن يزوج أخته وابنته البكر قبل البلوغ وبعده، إذا كان ذا رأي. وهذا على القول بأن وصيه ليس بوصي على ولده، وقد مضى الاختلاف في ذلك في رسم المحرم من سماع ابن القاسم من كتاب النذور. فإن زوج السفيه المولى عليه، ولا رأي له، ابنته البكر، أو أخته، أو مولاته، أو أمته، فسخ النكاح، وقيل: ينظر فيه. وإن زوج السفيه المولى عليه وله رأي على مذهب من لا يرى له أن يزوج أخته، مضى النكاح، وإن زوج ابنته البكر، أو أمته نظر فيه، فإن كان صوابا أمضي، وإن زوج السفيه الذي ليس بمولى عليه ولا له رأي ابنته البكر، نظر فيه، وإن زوج أخته مضى، إلا أن يكون غير صواب، وإن زوج أمته، جرى ذلك على الاختلاف في جواز فعله في ماله، فلا اختلاف في أن المولى عليه إذا لم يكن له رأي لا يجوز له أن يزوج ابنته ولا أخته ولا أمته، ولا اختلاف في أن السفيه يجوز له أن يزوج ابنته البكر قبل بلوغها وبعده، وأخته ومولاته، إذا لم يكن في ولاية، وكان ذا رأي. ولوصي اليتيم المولى عليه أن يزوج إماءه باتفاق، واختلف هل له تزويج بناته الأبكار بعد بلوغهن، فيزوجهن على القول بأنهن في ولايته، ولا يزوجهن على القول بأنهن ليس في ولايته. وأما أخواته وعمامته ومولياته فلا يزوجهن، فإن فعل مضى ولم يفسخ. قاله ابن الهندي. واحتج له بمسألة كتاب الوصايا الأول من المدونة وهو بعيد، وإنما الاختلاف في الوصي المطلق، وذلك إذا قال الرجل: فلان وصي، هل له أن يزوج من لا ولاية له عليهن من قرابة الموصي ومولياته؟(5/107)
على ثلاثة أقوال: أحدها إن له أن يزوجهن، وهو أولى بذلك من الأولياء، وهو مذهب ابن القاسم، وإليه ذهب ابن حبيب. والثاني إن له أن يزوجهن، إلا أن الأولياء أحق بذلك منه، وهو قول أصبغ. والثالث إنه ليس له أن يزوجهن، وهو قول سحنون. وأما الصغير، فليس من الأولياء؛ لأن شروط صحة الولاية في النكاح خمسة، وهي: الذكورة، والبلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام. وليست العدالة ولا الرشد في المال بشرط في صحتها. فإن زوج الفاسق أو السفيه، وهما ذوا رأي، مضى النكاح، وإن كان الاختيار أن يكون عدلا رشيدا. واختلف في عدم الولاية على الولي، هل هي شرط في صحة ولايته أم لا على ما مضى من الاختلاف والتقسيم في ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترط لامرأته إن تزوج عليها فأمرها بيدها]
مسألة قال أصبغ: وسمعت أشهب، وسئل عن الذي اشترط لامرأته إن تزوج عليها فأمرها بيدها، فسافر سفرا فتزوج ووطئ، وهي لا تعلم، ثم قدم فعلمت قال: فأمرها بيدها. قال: وإن ماتت المرأة التي تزوج عليها أو فارقها دون أن تعلم، ثم علمت، فلها الخيار أيضا. قال أصبغ: وهذا في التي أمرها بيدها في الشرط.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن القضاء قد وجب عليها في نفسها بتزويجه عليها، فلا يسقط ما وجب لها من ذلك موت المتزوجة ولا طلاقها، وإنما اختلف إذا شرط لها أن يكون أمر الداخلة عليها بيدها فتزوج عليها ثم طلقها، هل يسقط ما كان بيدها من طلاق الداخلة عليها أم لا؟ فقال ابن القاسم في آخر هذا السماع: إن ذلك بيدها بعد الطلاق. وهو قوله أيضا في كتاب ابن سحنون. وقال ابن الماجشون في ثمانية أبي زيد: وليس لها ذلك بعد الطلاق. وقال سحنون: إن كان الطلاق بائنا فلا حكم لها في ذلك، وإن كان غير بائن فلها ذلك. وقول سحنون مفسر لقول ابن الماجشون، فالاختلاف إنما هو في الطلاق البائن والله أعلم.(5/108)
[مسألة: أقر في مرضه بأنه قد قبض صداق ابنته ومات]
مسألة وسئل أشهب عمن أقر في مرضه، بأنه قد قبض صداق ابنته ومات، قال: إن كان له مال أخذ من ماله، وإن لم يكن للزوج إليها سبيل إلا بالصداق يدفعه ويتبع به الميت المقر، قال أصبغ: هذه عندي مثل المسألة التي أوصى أن يزوج ابنته ابن أخيه. ويمهر عنه من ماله، وقد قال فيها أيضا إنها وصية لابنته، فإحداهما ترد الأخرى من قوله، وهذه غفلة، هي ها هنا أولى بأن تلحق بالأخرى، ولا أرى أن يجوز إقراره إذا كان في مرض يحجب عنه القضاء في ماله، فهي تهمة كتهمة وصية، وتصير كأنها وصية لها وتوليجا، وإن كان ابن وهب قال لي مثل قول أشهب في إجازته لم يزل ذلك قول ابن وهب.
قال محمد بن رشد: قول أشهب في الذي أقر في مرضه أنه قبض صداق ابنته ومات، إنه يؤخذ من ماله إن كان له مال، معناه: إن كان الزوج موسرا له مال؛ لأنه إذا كان موسرا فلا تهمة على الأب في إقراره؛ لأنه حق للزوج، أقر له به، لا منفعة للابنة فيه؛ لأنها إن لم تأخذ صداقها من مال أبيها أخذته من زوجها، لتقرره لها عليه، وثبوته في ذمته قبل الإقرار، وأما إن كان معدما لا مال له، فهي وصية لابنته، لا يؤخذ لها ذلك من ماله؛ لأنه يتَّهم أن يكون إنما أراد أن يولج إليها من ماله الصداق الذي قد نوى بكونه على معدم، فلا تشبه هذه المسألة مسألة الذي أوصى أن تزوج ابنته ابن أخيه، ويمهر عنه من ماله؛ لأن الصداق لم يكن واجبا على الزوج قبل الوصية، وإنما وجب للابنة في مال الأب بقبول الزوج النكاح على ذلك، فلذلك قيل فيه إنها وصية للابنة، ولو زوَّج رجل ابنته من رجل بصداق سماه، ثم أوصى في مرضه أن يؤدى من ماله الصداق على الزوج لابنته، والزوج موسر لجاز، وكانت وصية للزوج باتفاق، فتفرقة أشهب بين المسألتين صحيحة، وما نسب إليه أصبغ من الغفلة في ذلك لائقة به في المساواة بينهما على ما ذكرناه. والله أعلم. وقول(5/109)
أشهب: وإن لم يكن له مال لم يكن للزوج إليها سبيل إلا بالصداق يدفعه ويتبع به الميت المقر هو على أصله في المسألة التي بعدها خلاف مذهب ابن القاسم، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله وبالله التوفيق.
[مسألة: قبض الآباء صدقات البنات]
مسألة قال أصبغ: قال لي أشهب في قبض الآباء صدُقات البنات: إن ما قبضوا ببينة أو بغير بينة، فليس ذلك بسواء، يريد أن ما قبضوا ببينة فزعموا أنه ضاع، أن ضياعه من الابنة، وليس على الزوج من الضياع شيء ولا على الأب، ويدخل الزوج بامرأته. وإن كان بغير بينة ولم يكن للزوج إليها سبيل إلا بدفع الصداق. وقال ابن وهب مثله سواء حرفا بحرف، سألتهما عنهما فاجتمعا لي على هذا القول، وزاد ابن وهب في التفسير والكلام، ولا شيء على الأب في الضياع. وإن كان الدفع بغير بينة، فالقول قوله، غير أنه لا سبيل للزوج إلى المرأة إلا بدفع الصداق، ولا يصدق الأب على أنه قبضه كانت مسألته في الإنكار، وهو كله رأي أصبغ.
قال محمد بن رشد: قول أشهب وابن وهب هذا إن الزوج لا يبرأ من صداق زوجته البكر بإقرار أبيها بقبضه إذا ادّعى تلفه، خلاف قول ابن القاسم في آخر هذا السماع، وفى أول رسم منه، وخلاف ظاهر قول مالك في المدونة وغيرها: إن الغريم يبرأ من الدين الذي عليه بإقرار الوصي والوكيل المفوض إليه بالقبض، وإن ادعيا التلف، بخلاف الوكيل الذي ليس بمفوض، فحكم ابن وهب وأشهب للأب في إقراره قبض صداق ابنته البكر قبل الدخول، بحكم الوكيل الذي ليس بمفوض إليه. ولا اختلاف بينهم في أنه يبرأ من الصداق بعد الدخول بإقرار الأب أو الوصي يقبضه منه وإن ادّعى تلفه. وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة تصدق الصداق عينا فيتلف منها ثم يطلقها قبل الدخول]
مسألة قال أصبغ: وسئل ابن القاسم عن المرأة تصدق الصداق عينا(5/110)
فيتلف منها، ثم يطلقها قبل الدخول، أيرجع عليها بشيء؟ قال: نعم هي ضامنة، إلا أن يأتي أمر معروف يعرف هلاكه وتلفه ببينة تقوم على ذلك بغير ضيعة منها فلا ضمان عليها. قال أصبغ: لا يعجبني وأراها ضامنة وغارمة على كل حال، قامت بتلفها ببينة أو لم تقم، بضيعة أو بغير ضيعة، وليس العين في هذا كالعرض والحيوان العين عين مضمونة ساعة تستوفيه، ومال من مالها، والزكاة جائزة عليها، فلو زكتها أعواما ثم طلقها لم يكن عليه من ذلك الزكاة شيء، ولم تدخل الزكاة عليه كما تدخل في المواشي للضمان والاعتقاد، فأراها عليها على كل حال، تبعها بضعها. ولو اشترت جهازا بأمر ظاهر معروف أو منسوب، ثم سرق الجهاز، أو أصابه أمر فضاع أو تلف، لم أر عليها ضمانا ولا غرما وكان كما لو أصدقها إياه بعينه فتلف بعد ذلك. وقال ابن الماجشون: كل ما يضمنه المستعير فالمرأة إذا أصدقته فهي له ضامنة إذا ضاع عندها، إلا أن تقوم لها بينة على هلاكه، وعليها أن تخلف ذلك من مالها إذا لم تقم لها بينة على هلاكه، يشتري به جهازا لزوجها، لم يفرق ابن الماجشون بين العرض والعين، كما فرقه أصبغ، وكما لا يضمنه المستعير إذا ضاع عنده، فلا ضمان على المرأة فيه إذا أصدقته وضاع عندها.
قال محمد بن رشد: قول ابن الماجشون في مساواته بين العين وما يغاب عليه من العرض، إن المرأة ضامنة له، إلا أن تقوم البينة على تلفه على ما(5/111)
تأول عليه العتبي مفسرا لقول ابن القاسم، وذلك على قياس قوله وروايته عن مالك في المدونة، إن المرأة والزوج شريكان فيما أصدقها قبل الدخول، تكون غلة ذلك بينهما والمصيبة منهما إن طلقها قبل الدخول، وعلى قياس قول غير ابن القاسم الذي يرى الغلة لها، يكون الضمان منها فيما يغلب عليه من العروض وإن قامت البينة على تلفه. وفيما لا يغاب عليه من الحيوان، وهو قول مالك في أول رسم من سماع أشهب أخذ بذلك. وقد مضى القول على ذلك هنالك، ولم يعجب ابن حبيب تفرقة أصبغ بين العين وما يغاب عليه من العرض، على أنها أظهر من قول ابن القاسم؛ لأنها لو باعت العرض الذي أصدقها بعين أو عرض ثم طلقها، كان له أن يأخذ نصف ما باعته به، ولو صرفت العين أو اشترت به عرضا لغير جهازها ثم طلقها، لما كان له إلا نصف ما نقدها من العين، فكما يكون لها ربح العين، فكذلك يكون عليها ضمانه. والظاهر من قول ابن الماجشون إنها ضمانة للعين، بخلاف العرض مثل قول أصبغ، خلاف ما تأول عليه العتبي من أنه لم يفرق بين العين والعرض؛ لأنه مثل ذلك بالعارية، فقال: إن كل ما يضمنه المستعير، فالمرأة له ضامنة، ومستعير الدنانير والدراهم ضامن لها، وإن قامت البينة على تلفها؛ لأن الربح لها. فأما استدلال أصبغ بالزكاة فلا يلزم ابن القاسم؛ لأن الذي يأتي على مذهبه أن ما أدت من زكاة العين إذا قامت البينة على ذلك، بمنزلة ما تلف منه بالبينة والله أعلم.
[مسألة: قال لها إن تزوجت عليك فأمرك بيدك فأذنت له قبل ما يريد التزويج بكثير]
مسألة قال ابن القاسم: وإذا قال لها إن تزوجت عليك فأمرك بيدك، فأذنت له قبل ما يريد التزويج بكثير، ثم طال، فأرادت أن ترجع لما طال ذلك، قال: لم يكن لها أن ترجع، ومن القوة في ذلك لو أذنت له أن يفعل متى ما أراده قبل أن يريد أن يفعل، ثم فعل بعد ذلك، فأرادت الرجوع لم يكن لها ذلك، وليس بيدها شيء إن شاء الله.(5/112)
قال محمد بن رشد: قوله: إنها ليس لها أن ترجع إذا أذنت له ففعل خلاف ما تقدم لأشهب في هذا الرسم، وقد مضى القول في هذه المسألة موعبا في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: يدعى إلى الصنيع فجاء فوجد فيه لعبا أيدخل]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم، وسئل عن الذي يدعى إلى الصنيع، فجاء فوجد فيه لعبا، أيدخل؟ قال: إن كان شيئا خفيفا مثل الدف والكبر الذي يلعب به النساء، فما أرى به بأسا. قال أصبغ: ولا يعجبني، وليرجع. وقد أخبرني ابن وهب أنه سمع مالكا يسأل عن الذي يحضر الصنيع فيه اللهو، فقال: ما يعجبني للرجل ذي الهيئة يحضر اللعب، وأخبرني ابن وهب عن مالك وسئل عن ضرب الكبر والمزمار، أو غير ذلك من اللهو، ينالك سماعه، وتجد لذته وأنت في طريق أو مجلس غيره، قال مالك: أرى أن يقوم من ذلك المجلس. قال أصبغ: وأخبرني ابن وهب عن بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، «أن رجلا دعا عبد الله بن مسعود إلى وليمة، فلما جاء سمع لهوا فرجع، فلقيه الذي دعاه فقال له: ما لك رجعت، ألا تدخل؟ فقال: إني سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: " من كثَّر سواد قوم فهو منهم، ومن رضي عمل قوم كان شريك من عمله» . قال أصبغ: وأخبرني ابن وهب عن خالد بن حميد عن يحيى بن أبي أسيد، أن الحسن البصري كان إذا دُعي إلى الوليمة(5/113)
يقول: أفيها برابط؟ فإن قيل: نعم، قال: لا دعوة لهم ولا نعمة عين. قال أصبغ: ما جاز للنساء مما جُوز لهن من الدف والكبر في العرس، فلا يجوز للرجل عمله. وما لا يجوز لهم عمله، فلا يجوز لهم حضوره، ولا يجوز للنساء غير الكبر والدف، ولا غناء معهما ولا ضرب ولا برابط ولا مزمار، وذلك حرام محرم في الفرح وغيره، إلا ضرب الدف والكبر هملا وبذكر الله وتسبيحه، وحمدا على ما هدى. أو برجز خفيف لا بمنكسر ولا طويل، مثل الذي جاء في جواز الأنصار «أتيناكم أتيناكم تحيونا نحيوكم ولولا الحبة السمرا لم نحلل بواديكم» وما أشبه ذلك. ولا يعجبني مع ذلك التصفيق بالأيدي وهو أخف من غيره. قال أصبغ: وقد أخبرني عبد الله بن وهب عن الليث أن عمر بن عبد العزيز كتب بقطع اللهو كله إلا الدف وحده بالعرس. فهذا رأيي وأحب إلى العامة والخاصة العمل به، ولا أرى به بأسا في الملاك على مثل العرس، وما فسرنا فيه فهو منه. وقد حدثني عيسى بن يونس عن خالد بن الياس العذري عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن القاسم بن محمد بن أبي(5/114)
بكر الصديق عن عائشة أن الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «أظهروا النكاح واضربوا عليه بالغربال» . ابن وهب عن عبد الله بن الأسود المالكي عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن الزبير بن العوام عن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «أعلنوا النكاح» . قال أصبغ: فالإعلان به عندي الملاك والعرس جميعا أن يعلن بهما، ولا يستخفى بهما سرا في التفسير ويظهر بهما ببعض اللهو، مثل الدف والكبر للنساء. والغربال هو الدف المدور، وليس المزهر، والمزهر مكروه وهو محدث، والفرق بينهما أن المزهر ألهى، وكل ما كان ألهى فهو أغفل عن ذكر الله وكان من الباطل، وما كان من الباطل فمحرم على المؤمنين اللهو والباطل. قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل لهو يلهو به المؤمن حرام إلا ثلاث» . قال القاسم بن محمد: إذا أجمع الحق والباطل يوم القيامة، كان الغناء من الباطل، وكان الباطل في النار. قال أصبغ: والباطل كله محرم على المؤمنين. قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115] كما أن القمار محرم للهو، وميسره فهو لهو كله.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في اللهو والعرس، وما يجوز(5/115)
من عمله وحضوره، موعبا في رسم طلق ابن حبيب من سماع ابن القاسم. وفي رسم سلف دينارا من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك ها هنا، والثلاث التي أبيح اللهو بها في الحديث المذكور: «ملاعبة الرجل امرأته، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه» . وبالله التوفيق.
[مسألة: الجارية إذا كانت بكرا أو يتيمة فأقرت بعد الخلوة بأنه لم يمسها]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن وهب وسئل عن الجارية إذا كانت بكرا لا قضاء لها في مالها، أو يتيمة مولى عليها، أو صغيرة لم تبلغ المحيض، إلا أنه قد بلغ مثلها أن توطأ، فأقرت له بعد الخلوة وإرخاء الستور، بأنه لم يمسها، أينفعه تصديقها إياه، وإقرارها له، أو لا ينفعه؛ لأنها تسقط عنه بذلك نصف الصداق؟ قال: لا، بل ينفعه، ويسقط عنه نصف الصداق، ولا يلزمه إلا نصفه؛ لأن هذا مما لا يستدل على صدقه ولا على كذبه إلا بقولهن، فهن فيه مأمونات مقبول قولهن، كما هن مأمونات على الحيض والعدة والولادة وما أشبه ذلك، جعل الله ذلك إليهن. قال: ومن الدليل أيضا على ذلك ما فسرت لك من أن الصداق لا يجب مع الخلوة وغلق الباب وإرخاء الستر إلا بدعوى المرأة المسيس، فلو كان يجب بالخلوة بغير دعوى المرأة المسيس ما نفعه طرح البكر السفيه والصغيرة التي ذكرت لك عنه؛ لأنهن يطرحن شيئا قد وجب، وهن ممن لا طرح لهن، ولا قضاء في أموالهن، فلما كان لا يجب إلا بدعواهن، سقط بإقرارهن وتصديقهن الزوج بترك المسيس، لا بل بسكوتهن عن ادعائه يسقط فضلا عن غيره من الأشياء والله أعلم. قال أصبغ: ورأيي في جميع هذه المسألة من أولها إلى آخرها على قول ابن وهب وروايته عن مالك.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الصداق لا يجب إلا بدعوى الزوجة(5/116)
المسيس، بكرا كانت أو ثيبا، كبيرة أو صغيرة، رشيدة أو سفيهة، ذات أب أو يتيمة، صحيح لا اختلاف فيه في مذهب مالك؛ لأن إرخاء الستر عند مالك وجميع أصحابه لا يوجب الصداق، وإنما هو شبهة يوجب أن يكون القول قول الزوجة في المسيس، كشاهد، واليد، ومعرفة العفاص والوكاء، مع يمينها إن أنكر الزوج المسيس. قاله في كتاب ابن المواز، وكتاب ابن الجهم، ورواه عيسى عن ابن القاسم في الذي يغيب على المرأة غصبا، فإن كانت صغيرة حلف الزوج وأدَّى نصف الصداق، إلى أن تبلغ فتحلف وتأخذ نصف الصداق الثاني، فإن نكلت عن اليمين لم يكن للزوج أن يحلف ثانية، وإن نكل أولا عن اليمين غرم جميع الصداق، ولم يكن له أن يحلفها إذا بلغت، حكم الصغير يقوم له بحقه شاهد، وقد قيل إنه لا يمين عليها إن كانت صغيرة، وهو بعيد؛ لأن الصغر لا يسقط اليمين الواجبة مع الكبر، فلا فرق بين الصغيرة والكبيرة، إلا فيما ذكرناه من تأخير الصغيرة باليمين. وقد روي عن أحمد بن المعدل أنه لا يمين عليها وإن كانت كبيرة، وهو بعيد، ما له وجه، إلا مراعاة قول من يرى الصداق واجبا لها بالخلوة وإن لم يكن مسيس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه على ظاهر قول عمر بن الخطاب: إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق، فإذا أقرت أنه لم يمسها لم يكن لها إلا نصف الصداق، إلا أن يُقر الزوج أنه قد مس وهي أمة أو مولى عليها بأب أو وصي، فيكون لسيد الأمة أو ولي المرأة أن يأخذ الصداق منه بإقراره، ولا يكون لها أن تسقط حقا قد أقر لها به الزوج، قاله سحنون ومطرف. وخالفه في ذلك ابن الماجشون وغيره، ولا اختلاف في أن خلوة البناء توجب أن يكون القول قول المرأة في دعوى المسيس. واختلف إذا خلا بها ولم تكن خلوة بناء، على أربعة أقوال: أحدها: أن القول قولها حيث ما أخذهما الغلق، كان في بيته أو في بيتها، وهو أحد قولي مالك وبه أخذ مطرف وابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصبغ، على ظاهر قول عمر بن الخطاب: إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق.(5/117)
والثاني: أن القول قول الزوج حيثما أخذهما الغلق، ما لم تكن خلوة بناء، وهو قول عيسى بن دينار. والثالث: الفرق بين أن يكون أخذهما الغلق في بيته، أو في بيتها. وهو قول مالك الثاني، ومذهب ابن القاسم، على ما روي عن سعيد بن المسيب. والرابع: أنها إن كانت ثيبا فالقول قولها، وإن كانت بكرا نظر إليها النساء، فإذا رأيْن لها أثر افتضاض صُدقت عليه، وإن لم يرين لها أثر افتضاض، لم يكن لها إلا النصف من الصداق. حكى ذلك عبد الوهاب عن مالك وبالله التوفيق.
[مسألة: المريض يوصي إن حدث به حدث الموت فقد زوجت ابنتي من ابن أخي]
مسألة قال أصبغ: سألت أشهب وابن وهب عن المريض يوصي إن حدث به حدث الموت، فقد زوجت ابنتي من ابن أخي، وأصدقتها عنه مائة دينار من مالي، فيموت، فقالا: النكاح جائز. قال أشهب: ولا يكون لها من مال الأب شيء، ولا يؤخذ الصداق من ماله، ويقال لابن الأخ: أعط الصداق من مالك والنكاح ثابت، فإن أبى ترك النكاح، ولا شيء عليه. وقاله ابن القاسم حرفا بحرف اجتمعا عليه.
وقال ابن وهب: يؤخذ من مال الميت وهي وصية لزوج.
قلت لابن وهب: فإن أبى أن يكون له من المال شيء؟ قال: لا.
قلت: أَفَتَرَى الآن أنها وصية للبنت، لو كانت وصية للزوج، كانت ها هنا؟ فقال: إنما هي له وصية على شيء، إن فعله تمت له، وإلا لم تتم له، كالذي يقول: إن أحسن فلان كفالة ولدي والقيام معهم وكفلهم بأعيانهم فقد زوجته ابنتي، أو قد وصلته بكذا(5/118)
وكذا، فإن فعل كان ذلك له، وإلا لم يكن له شيء. قال أصبغ: وقول أشهب وابن القاسم، أعجب إليّ؛ لأنها تصير وصية للبنت، وهي المرأة، فإن تم الفعل منه تم لها فهي وصية لوارث، وأراه قول مالك أيضا.
قال محمد بن رشد: قد مضى قبل هذا في هذا السماع ما فيه بيان لهذه المسألة، ومضى القول فيها مستوفى في رسم العارية من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة ذلك هنا وبالله التوفيق.
[مسألة: الوصي بمنزلة الأب في جميع أمور الولد الصغار]
مسألة قال أصبغ: الوصي بمنزلة الأب في جميع أمور الولد الصغار، كلما جاز للأب فيهم جاز للوصي، إلا شيئا واحدا، ليس له أن يزوج الصغيرة إلا برضاها؛ للحديث: «اليتيمة تُستأذن في نفسها» . قال أصبغ: ولو تزوجت أم الصبيان، كان الوصي أولى بحضانتهم من أمهم، جواري كانوا أو غلمانا، وإن كن الجواري قد بلغن أبكارا، فالوصي أولى بحضانتهن من أمهن إن تزوجت. قيل له: فإن كان لهن أخ أو عم أو ابن عم عدولا رضا، أفلا يكون هؤلاء أولى بحضانة الجواري والصبيان من الوصي؟ قال: لا الوصي أولى بحضانتهم، ويكونون عنده من إخوتهم وإن كانوا رضا، وإن انتقل الوصي إلى بلد آخر، كان له أن يحملهم معه، الجواري والصبيان، وليس لإخوتهم، ولا عمومتهم أن يأخذوهم منه؛ لأنه بمنزلة أبيهم في كل شيء، إلا تزويج الإناث فقط قبل أن(5/119)
يبلغن، وما سوى ذلك فهو والأب سواء.
قال محمد بن رشد: قوله في أول المسألة في الوصي: ليس له أن يزوج الصغيرة إلا برضاها، كلام وقع على غير تحصيل؛ لأن الصغيرة ليس له أن يزوجها وإن رضيت، إذ لا رضى لها قبل البلوغ، فهو بخلاف الأب، في أنه لا يزوج الصغيرة أصلا، ولا البكر البالغ إلا برضاها. وقال: إنه أحق بحضانة الغلمان والجواري وإن بلغن، من الأم إذا تزوجت، ومن جميع الأولياء. وقد اختلف في ذلك، فقيل: إنما يكون الوصي إذا تزوجت الأم أحق بحضانة بنيها الذكور، وأما الإناث، فكونهن مع زوج أمهن؛ لأنه محرم منهن أولى من كونهن مع الوصي، إذ لا حرمة بينه وبينهن، إلا أن يخاف عليهن عند الأم غير الزوج، فيكون الوصي أولى بحضانتهن، وكذلك ابن العم، بخلاف الأخ والعم، لا اختلاف في أن الأخ والعم أحق من الأم بحضانة ابنتها إذا تزوجت. وقع هذا المعنى لمالك في كتاب ابن المواز. وهذا إذا أراد الوصي أو ابن العم أن تكون الابنة معه ومع أهله في داره، وأما إن أراد أن يعزلها قي موضع من يقوم عليها من ثقات النساء ولعلهن لها قرابات، فيكون أحق لها من الأم إذا تزوجت والله أعلم.
[مسألة: الرجل يزوج ابنته البكر ويقر بقبض الصداق]
مسألة قلت: أرأيت الرجل يزوج ابنته البكر ويقر بقبض الصداق وذلك في صحة أو مرض؟ قال: إن كان في مرض اتهمته أن يكون إنما أراد بذلك الابنة، بمنزلة الذي يزوج ابنته ويتحمل الصداق وهو مريض، فيجوز النكاح، ولا يكون عليه الاحتمال؛ لأنها وصية للابنة. ولا تجوز وصيته لوارث، فإن كان صحيحا جاز ذلك على الأب إن كان موسرا، وإن كان معسرا اتبعته به دينا.
قلت: فإن قال الأب قبضته وضاع مني، ولم يكن عند الزوج بينة بالدفع إلا إقرار الأب. قال: إن كانت البنت بكرا لزمها ذلك،(5/120)
وكان قبضه لها قبضا، وضياعه منها ضياع، ولم يكن على الزوج شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان في مرض اتهمته أن يكون إنما أراد بذلك الابنة، يريد: إن كان ذلك كله في مرض التزويج والإقرار، وفي حال واحدة أيضا، وذلك مثل أن يقول: أشهدكم أني قد زوجت ابنتي من فلان بكذا وكذا وقبضته منه، فهذا هو الذي يكون بمنزلة من يزوج ابنته في مرضه ويتحمل الصداق عنه، كما قال. ويدخل ذلك من الاختلاف ما دخله، وأما إن زوج ابنته في صحته أو في مرضه بصداق مسمى، ثم أقر بعد ذلك في مرضه أنه قبض منه، فإن كان الزوج موسرا أخذت ذلك من مال الأب إن كان له مال، واتبعته به دينا في ذمته إن لم يكن له مال، وكان للزوج أن يدخل بها عند ابن القاسم، خلاف قول أشهب فيما تقدم إنه إن لم يكن له مال، لم يكن للزوج إليها سبيل، إلا بدفع الصداق، يدفعه ويتبع به الميت المقر، وإن كان الزوج معدما، لم يجز إقراره في المرض؛ لأن ذلك وصية ابنته. وأما إن أقر في صحته أنه قبضه منه، فيبرأ الزوج بإقراره على كل حال عند ابن القاسم، ويكون للزوج أن يدخل بها، فإن ادعى الأب تلفه صُدق مع يمينه، من أجل حق الزوج، وكانت مصيبته منها، وإن لم يدع تلفه وكان معسرا، اتبعته به دينا، ولا يكون للزوج أن يدخل بها عند أشهب وابن وهب، حتى يؤدي الصداق إن كان الأب معسرا وادعى تلفه، فإقرار الأب في مرضه الذي مات منه بقبض صداق ابنته، يكون في حال وصيته لابنته لا يجوز، وذلك إذا كان إقراره بعد العقد والزوج عديم، وفي حال وصية جائزة للزوج، وذلك إذا كان إقراره بعد العقد، والزوج موسر، وفي حال يختلف، هل يكون إقراره وصية له أو لها؟ وذلك إذا كان إقراره مع العقد في حال واحدة. والله الموفق.
[مسألة: رجل شرط لامرأته أن كل امرأة يتزوجها عليها فأمرها بيدها]
مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن رجل شرط لامرأته أن كل(5/121)
امرأة يتزوجها عليها فأمرها بيدها، فيتزوج عليها سرا، وكتمها، ثم طلق التي شرط لها ذلك، قال: ذلك بيدها وإن طلقها. وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة وما فيها من الاختلاف في هذا الرسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الرجل يتزوج على المرأة على أن يستشير فلانا]
مسألة قال أصبغ: قلت لابن القاسم: ما تقول في الرجل يتزوج على المرأة على أن يستشير فلانا؟ قال: لا يحل ويفسخ، دخل أو لم يدخل، إلا أن تكون مشورة فلان قريبا، وهو حاضر في البلد، فيرسلان إليه في فورهما ذلك، ليعلما رأيه فيجوز ذلك.
قلت: فإن كان كذلك فمات أحد الزوجين قبل أن يستشار فلان ورضي؟ قال: لا.
قلت: فإن قال المستشار: لا أرضى، ويقول الزوج: قد رضيت، أيثبت النكاح؟ قال: نعم ذلك له وهو ثابت.
قلت: فإن قال الزوج قبل أن يستشير فلانا: أنا أثبت النكاح ولا أستشير فلانا، قال: ذلك له أيضا، وهو بمنزلة الرجل يبيع السلعة على هذه الوجوه.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يتزوج المرأة على أن يستشير فلانا: إن النكاح يفسخ دخل أو لم يدخل هو أحد قولي مالك في المدونة، وفي رسم باع شاة من سماع عيسى. وقد مضى القول على ذلك هنالك، فلا معنى لإعادته. وقوله: إلا أن تكون مشورة فلان قريبا وهما حاضران، فيرسلان إليه(5/122)
في فورهما؛ ليعلما رأيه، فيجوز ذلك معناه: إذا كان ذلك في مجلسهما قبل أن يفترقا منه فيقوم من هذا، جواز النكاح على خيار المجلس. وقد مضى القول على ذلك أيضا في رسم باع شاة المذكور. وأما قوله إذا مات أحد الزوجين قبل أن يستشار فلان، إنهما لا يتوارثان، فهو صحيح، لا اختلاف فيه. وسقوط الميراث قبل الرضا وقبل المشورة، هي العلة في فساد النكاح على الخيار، أو على المشورة إلى ما بعد المجلس وإن قرب، وأما إن مات أحدهما بعد الرضا أو بعد المشورة وقبل الدخول، أو قبله وبعده، على القول بأنه يفسخ بعده، فيجري ذلك على الاختلاف الواقع في المدونة وغيرها، في وجوب الميراث والطلاق فيما يفسخ بحكم من الأنكحة التي اختلف أهل العلم في جوازها. وقوله: إن للزوج الذي اشترط المشورة أن يتركها وأن يخالف ما يشير عليه به المستشار صحيح لا اختلاف في المذهب أحفظه إلا ما حكى أبو إسحاق التونسي من أن ظاهر ما في كتاب ابن المواز المشورة، كالخيار في أن المستشار إذا سبق فأشار بشيء لزم، وهو بعيد. وقوله: وهو بمنزلة الرجل يبيع السلعة على هذه الوجوه: يريد في الحد الذي يجوز فيه الخيار والمشورة في النكاح وهو المجلس، على ما دلت عليه هذه الرواية.
[النصراني يوصي إليه أخ له مسلم أو عبد يوصي إليه أو امرأة يوصي إليها]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر، من عبد الرحمن بن القاسم.
قال أبو زيد: وقال ابن كنانة وابن القاسم في النصراني يوصي إليه أخ له مسلم، أو عبد يوصي إليه، أو امرأة يوصي إليها، إنهم كلهم يزوجون الغلمان، ولا يزوجون الجواري. وقال: لا يزوج العبد ابنته الحرة ويزوج ابنه.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم باع شاة وغيره من سماع عيسى، وهو مبين لما في المدونة ولما في كتاب ابن المواز ولما في رسم سنّ من سماع ابن القاسم، وقد مضى هنالك القول في هذه المسألة مجردا. وتحصيل من يجوز للمرأة والعبد والنصراني، أن يلي عقد النكاح عليه، وفيمن لا يجوز لواحد منهم أن يلي العقد عليه، ويجوز له على ذلك، الاستخلاف، وفيمن لا يجوز لهم ولاية العقد عليه ولا الاستخلاف على ذلك، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك وبالله التوفيق.(5/123)
[مسألة: الرجل يزوج ابنه صغيرا بشروط فيها طلاق أو عتاق]
مسألة وسئل ابن وهب عن الرجل يزوج ابنه صغيرا بشروط فيها طلاق أو عتاق، إن ذلك لازم للابن وإن كبر؛ لأنه وطئ عليه، وأنه لا يفسخ النكاح لذلك، دخل أو لم يدخل، والشروط لازمة له؛ لأن أباه الناظر له.
قال محمد بن رشد: إلزامه الشروط التي شرط عليه أبوه وهو صغير، خلاف مذهب ابن القاسم فيما يأتي بعد هذا السماع، وخلاف ما حكى عنه ابن حبيب من رواية أصبغ، وعن ابن الماجشون، من أنها لا تلزمه إلا أن يلتزمها بعد البلوغ، فإن أبى من التزامها لم يلزمه النكاح، ولا شيء من الصداق، إلا أن ترضى المرأة بإسقاط الشروط عنه، فيلزمه النكاح، فإذا دخل بها قبل البلوغ أو قبل العلم بالشروط سقطت عنه، وإن دخل بها بعد البلوغ، وبعد أن علم بالشروط لزمته. وفي كتاب محمد بن المواز عن ابن القاسم من رواية أصبغ عنه إنه إن لم يرض قبل البناء بالشروط، قيل له: إما أن ترضى وإما أن تطلق، فإن طلق فعليه نصف المهر. وهذا إذا اعتبرته من قول ابن القاسم مثل قول ابن وهب، ومثل قول ابن الماجشون، في الذي يزوج ابنه الصغير ولا مال له، فيكتب الصداق عليه، إن ذلك لازم له. وقد مضى ذلك في رسم "باع شاة" من سماع عيسى.
[مسألة: رجل يزعم لقوم أنه من فخذ من العرب فيوجد من غير ذلك الفخذ]
مسألة وعن رجل يزعم لقوم أنه من قريش، أو من فخذ من العرب، فيوجد من غير ذلك الفخذ. قال ابن القاسم: إن كان مولى فالمرأة بالخيار، إن شاءت أقامت وإن شاءت فارقت، إذا كانت عربية، وأما إن كان عربيا وهو من غير القبيل الذي سمّى، فلا أرى لها خيارا، وأراها امرأته، إلا أن تكون قرشية، تزوجت على أنه من(5/124)
قريش، فإذا هو من العرب، أو تكون عربية، تزوجت على ادعائه، فذلك لها.
قال محمد بن رشد: اضطرب قول ابن القاسم في هذه المسألة؛ لأن قوله في أولها: إذا كانت عربية، يدل على أنها إذا كانت مولاة فتزوجته على أنه من قريش أو من العرب، فوجد من الموالي، فلا خيار لها من أنها إذا كانت من العرب فتزوجته على أنه من قريش فوجد من العرب فلم ير لها على هذا خيارا بما شرطت، إلا أن يوجد الزوج أدنى منها، مثل أن تكون من العرب فتزوجته على أنه من العرب أو من قريش، فيوجد من الموالي، أو تكون من قريش، فتتزوجه على أنه من قريش، فيوجد من الموالي أو من العرب. وقوله في آخرها: أو تكون عربية تزوجت على ادعائه، يريد تزوجته على أنه من قريش، فوجد من العرب، فلها الخيار، خلاف قوله أولا إذ جعل لها الخيار إذا وجدته أدنى مما شرطت وإن كان مثلها ولم يجعل لها أولا خيارا بما شرطت، إلا أن يوجد أدنى منها، ويلزم على قوله آخرا إذا كانت مولاة فتزوجته على أنه من قريش، فوجدته من العرب أو من الموالي، أو على أنه من العرب، فوجدته من الموالي أن يكون لها الخيار، وهو أظهر على قياس قولهم فيمن ابتاع عبدا على أنه من جنس، فوجده من جنس آخر أدنى من ذلك الجنس، فتحصيل هذا أنه إذا وجدته أفضل مما شرطت لم يكن لها خيار، وإن وجدته أدنى مما شرطت، وأدنى منها فلها الخيار، وإن وجدته أدنى مما شرطت وهو أرفع منها أو مثلها ففي ذلك قولان: أحدهما أن لها الخيار، والثاني لا خيار لها، وهما قائمان من هذه الرواية، على ما بيناه. وإذا وجب لها الخيار فاختارت نفسها قبل الدخول، فهي تطليقة بائنة ولا شيء لها من الصداق، وإن لم تعلم حتى دخل بها، فاختارت نفسها بعد الدخول، فهي تطليقة بائنة أيضا إن لها جميع صداقها؛ لأنها قد استوجبته بالمسيس. وكذلك الحكم في الرجل يتزوج المرأة على أنها من قريش أو من العرب، فتوجد على غير ذلك، يكون للرجل الرد، حيث يكون للمرأة الخيار وبالله التوفيق.(5/125)
[مسألة: يتزوج المرأة ثم يجدها لغية]
مسألة وعن الرجل يتزوج المرأة ثم يجدها لغية إنها إن كانت حين خطبها انتسبت له، فقالت: أنا فلانة ابنة فلان، فإني أرى النكاح مفسوخا، فإن كان دخل بها فلها صداقها بما استحل منها قبل، فإن كان ذلك إنما هو في أبيها وجَدّ أبيها لغية، هل يفسخ النكاح عنه؟ قال: لا أرى أن يفسخ بذلك، وليس هو في أبيها بمنزلته فيها، والرجل أيضا إذا انتسب للمرأة وغرها بتلك المنزلة.
قال محمد بن رشد: قوله: فإني أرى النكاح مفسوخا، معناه إن له أن يفسخه عن نفسه، فلا يلزمه شيء من الصداق إن كان قبل الدخول، ويكون الفسخ فيه تطليقة؛ لأنه نكاح فاسد، فيكون مفسوخا بالحكم. وقوله: إذا كان دخل بها فلها صداقها ما استحل منها، خلاف المعلوم من قولهم: إن له أن يرجع عليها؛ لأنها غرته إذا انتسبت له، ويترك لها من صداقها قدر ما يستحل به الفرج، وإنما يكون لها صداقها بما استحل منها، إذا كان وليها الذي أنكحها هو الذي نسبها له، وغره منها، فيكون هو الذي يجب الرجوع عليه، والأصل في هذا قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام فمسها فلها صداقها كاملا، وذلك لزوجها غرم على وليها. قال مالك: وإنما يكون ذلك غرم على وليها إذا كان وليها الذي أنكحها أبوها أو أخوها أو من يرى أنه يعلم ذلك منها، فأما إن كان وليها الذي أنكحها ابن عم، أو مولى، أو من العشيرة ممن يرى أنه لا يعلم ذلك منها فليس عليه غرم، وترد المرأة ما أخذت من صداقها، ويُترك لها قدر ما تستحل به. وقوله: والرجل أيضا إذا انتسب للمرأة وغرها بتلك المنزلة، يريد: أنها إذا تزوجته على نسب فوجدته لغية، فلها الخيار وإن كانت مولاة، وإن كانت هي لغية، فتزوجته على نسب، فوجدته لغية، فعلى ما تقدم من الاختلاف في المسألة التي قبل هذه.(5/126)
[مسألة: يجعل بضع ابنته بيد أخيه هل ينكحها العم بغير إذن الأب]
مسألة وقال: في الرجل يجعل بضع ابنته بيد أخيه، هل يُنكحها العم بغير إذن الأب، والأب بغير إذن العم؟ قال: نعم من أنكحها منهما فهو جائز.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الأب لا تسقط ولايته عن ابنته بجعله بضعها بيد أخيه، فإنكاح من أنكحها منهما جائز. فإن أنكحها كل واحد منهما ولم يعلم بإنكاح صاحبه، فهي للأول منهما، إلا أن يدخل بها الآخر. قال ذلك مالك في المدونة وغيرها.
[مسألة: العبد يتزوج بغير إذن السيد]
مسألة وسئل عن العبد يتزوج بغير إذن السيد، فيراه السيد يدخل على امرأته، هل يلزم السيد الصداق حين رآه ولم يكن أذن له في النكاح؟ قال: إن شهد على أن السيد علم بنكاحه وأقره، رأيت النكاح جائزا، ورأيت الصداق على العبد بما أقر به سيده من ذلك بعد العلم به.
قال محمد بن رشد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قد مضت هذه المسألة متكررة، والقول فيها في رسم الرهون من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: زوج ابنا له صغيرا وأصدق عنه وشرط في نكاحه]
مسألة وسئل عن رجل زوج ابنا له صغيرا وأصدق عنه، وشرط في نكاح الصبي أنه إن استسر عليها أو تزوج فهي طالق ألبتة، فبنى الغلام بأهله ثم أراد أن يتسرر أو ينكح عليها. قال: ذلك له، إلا(5/127)
أن يعلم أن الابن قد علم بالشروط التي شرط لها فدخل بها على ذلك ووطئها، فإن ذلك يلزمه.
قلت: أرأيت لو أن الأب حين نكح ابنه شرط عليه شروطا أنه ليس له أن يتسرر ولا ينكح، فإن نكح فهي طالق ألبتة. فقال أهل المرأة للزوج: قد شرط ذلك عليك وأنت كبير، وقال الزوج: بل شرط عليّ ذلك وأنا صغير. قال ابن القاسم: على الزوج البينة، أنه شرط ذلك عليه وهو صغير، فإن لم يأت بالبينة حلف أهل المرأة وكان القول قولهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة مبنية على أن الابن الصغير لا يلزمه ما شرط عليه أبوه من الشروط، إلا أن يلتزمها بعد البلوغ، أو يدخل بعد العلم بها، فيكون ذلك رضا منه، خلاف قول ابن وهب في أول السماع، فإن دخل ولم يعلم بها سقطت عنه وهو محمول على أنه لم يعلم، حتى يثبت عليه أنه علم بها. وذلك بيّن من قوله: وذلك له إلا أن يعلم أن الابن قد علم، وذلك أنه علم أنه شرطها عليه وهو صغير بتقاررهما على ذلك، أو بينة قامت عليه. وأما إن اختلفا فقال الابن: كنت صغيرا إذ شرط ذلك عليّ الأب، وقال أولياء المرأة: بل كنت بعد كبيرا، فعلى الابن البينة؛ لأنه الآن كبير، يلزمه ما شرط عليه أبوه بحضرته، فهو مدّع أنه كان حينئذ صغيرا ممن لا يلزمه ما شرط عليه أبوه بحضرته، فإن أقام البينة كان بالخيار، في أن يلتزم الشروط أو يفارق، ولا يكون عليه شيء من الصداق، إلا أن تسقط المرأة عنه الشروط، فيلزمه النكاح، وإن لم يكن بينة، حلف أهل المرأه وكان القول قولهم، ولزمته الشروط، إلا أن يشاء أن يطلق، فيلزمه نصف الصداق، وأهل المرأة الذين يحلفون، هم: الأب أو الوصي، دون من سواهما من الأولياء، فإن نكلوا عن اليمين، حلف الزوج، وكان كمن أقام البينة على(5/128)
دعواه. وإنما أوجب هاهنا اليمين على أهل المرأة لا عليها؛ لأنهم ادعوا ذلك، وذلك خلاف ما في أول رسم من سماع ابن القاسم، ولو لم يدعوا ذلك وقالوا: لا علم لنا به، لحلفت الزوجة، كما تحلف إذا قامت بشرط المغيب أو عدم الإنفاق. وقد مضى القول في أول رسم من سماع ابن القاسم على هذا المعنى مقسما مستوفى، فلا معنى لإعادة شيء منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أصدق امرأته مائة دينار فدخل عليها ولم يدفع إليها شيئا من الصداق]
مسألة وسئل عن رجل أصدق امرأته مائة دينار، فدخل عليها ولم يدفع إليها شيئا من الصداق، أترى أن يكف عن الوطء حتى يدفع إليها ربع دينار؟ قال: بل يكون دينا عليه، ولا يكف عن وطئها. قيل له: فإنه أصدقها أقل من ربع دينار، قال: إن لم يكن بنى بها أُمر أن يتم لها ربع دينار، ويثبت النكاح، وإن دخل بها أتم لها ربع دينار، ولا يوقف عن وطئها حتى يتمها.
قال محمد بن رشد: لم ير ابن القاسم على الرجل إذا دخل بامرأته قبل أن يدفع إليها شيئا من صداقها، أن يكف عن وطئها حتى يدفع لها منه ربع دينار، وكره له قبل أن يدخل بها ابتداء قبل أن يدفع إليها، ولو ربع دينار من صداقها. ومحمد بن المواز يساوي بين الوجهين. وقد مضى القول في ذلك في رسم استأذن من سماع عيسى. وفي غيره من المواضع.
وقوله: إنه إذا أصدقها أقل من ربع دينار، أُمر إن كان لم يبن بها أن يكمل لها ربع دينار، ويثبت النكاح، يريد إن شاء، وإن أبى فسخ النكاح ولم يلزمه شيء، وإن دخل بها أتم لها ربع دينار، شاء أو أبى ولا يفسخ النكاح، وهذا على قوله في المدونة خلاف قول غيره فيها، وخلاف قوله في سماع سحنون. وأما قوله: إنه لا يكف عن وطئها حتى يتمها فهو على قياس قوله في النكاح بصداق صحيح، إذا دخل بها قبل أن يقدم لها شيئا من الصداق، وبالله التوفيق.(5/129)
[مسألة: تزوج امرأة ولم يبن بها حتى ماتت فقبَّلها وهي ميتة أو وطئها]
مسألة وقال: في رجل تزوج امرأة ولم يبن بها حتى ماتت، فقبَّلها وهي ميتة أو وطئها. قال: لا ينكح أمها ولا ابنتها.
قال محمد بن رشد: أما أمها فإنها تحرم عليه بالعقد عليها، وإن لم يقبل ولا وطئ؛ لأنها مبهمة ولا شرط فيها. وأما الابنة فلا تحرم إلا بالدخول بالأم، أو التلذذ بها؛ لقوله عز وجل: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] فجعل ابن القاسم وطأها أو التلذذ بها، وهي ميتة أو حية سواء، في وجوب تحريم ابنتها بذلك؛ إذ لا ينقطع عنده بموتها ما كان بينهما من الحرمة، بدليل أنه يجوز له أن يغسلها.
ويأتي على مذهب أهل العراق الذين يرون ما كان بينهما من الحرمة منقطعا بموتها، فلا يجيزون له غسلها، ولا تحرم عليه ابنتها بوطئه إياها بعد موتها، وهو الذي يوجبه النظر والقياس؛ لأنه وطء لا يحصنه، ولا يوجب لها عليه صداقا؛ ولأن عصمة النكاح تنقطع بينهما بموتها. وإن كانت حرمة الزوجية باقية بينهما، بدليل أنه يجوز له عند الجميع أن يتزوج رابعة إن كانت له ثلاث زوجات سواها، وقول ابن القاسم استحسان، فلعله راعى قول زيد بن ثابت، الذي يقول: إن الرجل إذا تزوج المرأة فماتت قبل أن يدخل بها، لم تحل له ابنتها، بخلاف إذا طلقها قبل أن يدخل بها.
[مسألة: ماتت امرأته فتزوج أختها قبل أن تقبر الميتة هل لزوجها أن يغسلها]
مسألة وقال في الرجل ماتت امرأته فتزوج أختها قبل أن تقبر الميتة، أترى لزوجها أن يغسلها؟ قال: أكره ذلك، ولا أحرمه.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو ماتت امرأته قبل أن يدخل بها، فتزوج ابنتها قبل أن تقبر الميتة، لكره له أن يغسلها، ولم يحرم ذلك عليه، وسحنون يجيز ذلك ولا يكرهه، ذكر له أن بعض أهل العلم يقول: إن الرجل إذا(5/130)
كانت له أربع نسوة، فماتت إحداهن، ثم تزوج الخامسة قبل أن تغسل الميتة، أنه لا يجوز له غسلها، فقال: ليس الذي قلت من مذهبنا في شيء، وله أن يغسل الميتة، ألا ترى أن له أن يغسلها وإن لم يتزوج الخامسة، فإن كان إنما يغسلها؛ لأنها امرأته، فكيف يتزوج الخامسة؟ وكراهية ابن القاسم لذلك من غير تحريم، يدل على أن مباشرته إياها بعد موتها، لا يحرم عليه ابنتها، ويبين ما ذهبنا إليه في المسألة التي قبل هذه، من أن منعه فيها الرجل أن يتزوج بنت امرأته إذا كان قد قبَّلها أو وطئها بعد موتها، إنما هو استحسان على غير قياس، وبالله التوفيق.
[مسألة: تزوج أمة فلم يبن بها حتى فلس سيدها وقد كان دفع الصداق إلى سيدها]
مسألة وعن رجل تزوج أمة، فلم يبن بها حتى فلس سيدها، وقد كان دفع الصداق إلى سيدها، فباعها السلطان في دينه، فاشتراها زوجها، هل ترى له أن يرجع على سيدها بالصداق الذي دفع إليه؟ قال: لا؛ لأن السلطان هو الذي باعها عليه.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله أنه لا يرجع عليه بشيء من الصداق، وذلك لا يصح؛ لأن الصداق المسمى لا يجب جميعه إلا بالموت أو الدخول، فإنما معناه أنه لا يرجع عليه بجميعه، وإنما يرجع عليه بنصفه؛ لأن الفراق جاء من قبله إذا اشتراها، وهو يعلم أن امرأته تحرم عليه باشترائه إياها، فصار كالمطلق قبل الدخول، وقد فرض أن له نصف ما فرض، ولو اشتراها من السلطان وهو لا يعلم أنها امرأته لحرمت عليه، ورجع بجميع الصداق على السيد؛ لأنه تحريم لم يتعمده.
يبين هذا في كتاب النكاح الثالث من المدونة: أن الرجل إذا تزوج المرأة ولم يدخل بها حتى تزوج أمها وهو لا يعلم، فيبني بها، أن الابنة تحرم عليه، ولا يكون لها عليه من الصداق نصف ولا غيره؛ لأنه تحريم لم يتعمده، وهو محمول على أنه لم يعلم أنها زوجته حتى يعلم أنه علم، فإن ادعى أنه لم يعلم أنها زوجته حلف على ذلك، ورجع بجميع الصداق.
وفي النكاح الثاني من المدونة: أن السيد لا شيء له من(5/131)
الصداق إذا باعها منه قبل الدخول، وهو دليل قوله هاهنا؛ لأن السلطان هو الذي باعها عليه، وإنما لم يكن له من الصداق شيء إذا باعها هو منه، وإن كان الزوج عالما أنها زوجته؛ لأنه لما كان أملك بالبيع غلب أمره على الزوج، فجعل كأن الفسخ والتحريم جاء من قبله دون الزوج. ولو باعها السيد ممن اشتراها للزوج وهو لا يعلم؛ لكان له نصف الصداق، بمنزلة إذا باعها السلطان، ولعيسى في كتاب القطعان أن بيع السلطان كبيع السيد، فيرجع بجميع الصداق، وهو بعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: تزوج جارية امرأته]
مسألة وقال في رجل يتزوج جارية امرأته: إنه لا بأس به.
قال محمد بن رشد: كره ذلك ابن كنانة، مراعاة لقول من رأى للزوج شبهة في مال الزوجة، فدرأ الحد عنه في وقوعه بجاريتها، روي ذلك عن عبد الله بن مسعود وهو شذوذ، فالصحيح أنه لا كراهة في تزويجه إياها، وأنه يحد إن وقع بها على ما جاء عن عمر بن الخطاب، وعن علي بن أبي طالب، وقد روى ذلك مالك، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية النعمان بن بشير. وأما ما روي عن سلمة بن المحبق: «أن رجلا زنى بجارية امرأته، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "إن كان استكرهها، فهي حرة، وعليه مثلها، وإن كانت طاوعته فعليه مثلها» فقيل فيه: إن ذلك كان في أول الإسلام، حين كانت العقوبات تجب في الأقوال بانتهاك الحرم التي ليست بأموال، ثم نسخ ذلك بما أنزل الله من الحدود على ما جاء في حديث النعمان بن بشير، وبالله التوفيق.
[مسألة: ساق إلى امرأته جارية في صداقها فأراد أن يتزوجها قبل أن يبني بها]
مسألة قيل له: أرأيت إن هو ساق إلى امرأته جارية في صداقها، فأراد(5/132)
أن يتزوجها قبل أن يبني بها؟ قال: لا يجوز له؛ لأنه شريك فيها.
قال محمد بن رشد: وكذلك إن زنى بها لم يحد، وهو على مذهبه، وروايته عن مالك، في أنه إن ماتت الجارية، ثم طلقها فالمصيبة منهما، والغلة بينهما، ويأتي على ما مضى في أول سماع أشهب، أنه إن أصدقها عبدا فمات عندها ثم طلقها قبل البناء. إن المصيبة منها يرجع عليها بنصف قيمته؛ إنه لا يجوز له أن يتزوجها إن كانت أمة، ويحد إن زنى بها، والقولان في وجوب الحد عليه إن زنى بها في ثمانية أبى زيد منصوص عليهما على هذين الأصلين، فقف على ذلك. وأما إن بنى بها، فيجوز له أن يتزوجها، ويحد إن زنى بها؛ لأنها قد استوجبتها بالدخول، فهو بمنزلة إذا كانت لها من غير صداقها. وقد مضى القول على ذلك قبل هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: فجر بامرأة أينكح ابنتها]
مسألة وقال: في رجل فجر بامرأة، أينكح ابنتها؟ قال: لا. قيل له: فإن فجر بامرأة أتحل له أختها؟ قال: نعم؛ لأنها ممن يحل له أن يتزوجها بعد أختها، ولا يحل له أن يتزوج البنت بعد أمها.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله: إنه إذا فجر بالمرأة لا يتزوج ابنتها، على الوجوب، خلاف مذهب مالك في المدونة أن ذلك على الكراهة، لا على الوجوب، ومثل ما في الواضحة من أن الحرام يحرم الحلال، خلاف ما في الموطأ من أنه لا يحرمه هي ثلاثة أقوال: الإباحة، والكراهة، والتحريم، مرة رأى مالك التحريم في ذلك عبادة، لا لعلة، فقصره على الموضع الذي ذكره إليه فيه، وهو النكاح الحلال؛ لأنه قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23] وليست المزني بها حليلة للزاني، {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] . وليس المزني بها من نساء الزاني، ومرة رآه لعلة، وهي ألا يجبر الرجل وابنه المرأة الواحدة، وأن لا يجبر المرأة(5/133)
وابنتها الرجل الواحد، فطرد العلة في الحرام، ومرة ترجح الأمر عنده، فرآه من المشتبهات، الذي تركه أحسن، والأظهر أنه عبادة، لا لعلة، بدليل إجماعهم على تحريم زوجة الابن على الأب، وزوجة الأب على الابن بالعقد، دون الدخول. ومن رأى التحريم لعلة الاختيار، قال: حمل العقد محمل الدخول؛ إذ لا يكون العقد إلا للدخول، فعلى القول بأنه يكره للرجل أن يتزوج المرأة إذا زنى بأمها أو بابنتها، والمرأة إذا زنى بها أبوه أو ابنه أن يتزوجها، فعثر على ذلك قبل الدخول، أو كان الزنا بعد العقد وقبل الدخول، أمر بفراقها بطلاق، وكان عليه نصف الصداق، وعلى القول بأن الزنا يحرم الحلال إن كان التزويج بعد الزنا، فعثر على ذلك قبل الدخول، يفرق بينهما بغير طلاق، ولم يكن لها شيء من الصداق، وإن كان الزنا بعد التزويج، وهو عالم أن نكاح المزني بها يحرم عليه امرأته، فرق بينهما، وكان عليه نصف الصداق؛ لأن الفراق جاء من قبله على ما مضى فوق هذا في الذي يشتري امرأته قبل البناء، وهو عالم أنها امرأته، أو ليس بعالم، ولا اختلاف في أن الوطء الفاسد في العقد الصحيح، أو في العقد المختلف في تحريمه، يحرم الربيبة، وأما إن كان العقد فاسدا لم يختلف في تحريمه، فوطئ فيه وهو عالم بفساده، كالزاني يحد، ولا تحرم عليه الربيبة، إلا على القول بأن الزنا يحرمها.
واختلف إن وطئها وهو يظن أن النكاح صحيح، أو أنها زوجته وما أشبه ذلك مما يكون شبهة يدرأ بها عنه الحد، على القول بأن الزنا لا يحرم، هل يقع ذلك التحريم، كالوطء بالنكاح من أجل أنه وطء لا حد فيه أم لا؟ على قولين؛ الأصح منهما في النظر، أنه لا يقع به التحريم؛ لأنه إنما وطئ من ليست له بزوجة، فإذا لم يجعل التحريم لعلة الاختبار، وقال: إنه عبادة لغير علة، وجب ألا يوجب ذلك حرمة، وقد اختلف من هذا المعنى في الذي يريد من الليل زوجته، فتقع يده على ابنته فيباشرها متلذذا بها، أو يطأها، هل تحرم عليه أمها وهي زوجته، فحكم له بعض القرويين بحكم الربيبة، وحرم عليه(5/134)
بذلك أنها زوجة، وروي عن سحنون، والليث بن سعد: أنها لا تحرم عليه. وهو الصحيح؛ لأن ابنته ذا محرم منه لا ينعقد له فيها نكاح ألبتة، فهي بخلاف الربيبة؛ لأن الربيبة قد كان له أن يتزوجها لو لم يتزوج أمها، فهي التي ورد تحريم كل واحد منهما بنكاح صاحبتها، وبالله التوفيق.
[مسألة: أحضر رجلا فقيل نراك تنصر هذا ولقد بلغنا أنه ختنك فقال نعم أنصره]
مسألة وقال: في رجل أحضر رجلا، فقيل: نراك تنصر هذا، ولقد بلغنا أنه ختنك، فقال: نعم أنصره، واشهدوا أني قد زوجته ابنتي، فقيل له بكم؟ فقال بما شاء، ثم قام الرجل بعد ذلك فقال: امرأتي، فقال الأب: والله ما كنت إلا لاعبا، قال: يحلف الأب بالله ما كان ذلك منه، على وجه النكاح، ولا شيء عليه، قيل له: طلب ذلك بحدثانه أو بعد ذلك بيومين. قال: ذلك سواء.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم، مثل ما حكى أبو عبيد عن مالك، ورواه الواقدي عنه من أن هزل النكاح هزل، ولا يجوز منه إلا ما كان على وجه الجد، خلاف المشهور المعلوم من قول مالك وأصحابه في المدونة وغيرها، من أن هزله جد، على ما جاء في ذلك عن جماعة من السلف عمر بن الخطاب، وسعيد بن المسيب، وغيرهما.
[مسألة: فوض إليه فبنى وأرخيت الستور فأنكر أهل الجارية أخذ الصداق]
مسألة وقال: في رجل فوض إليه، فبنى وأرخيت الستور، فأنكر أهل الجارية أن يكون دفع شيئا من الصداق، وقال: دفعت. قال: القول قول الزوج.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لما كان القول قوله بعد الدخول في الصداق المسمى إذا ادعى أنه دفعه قبل الدخول، من أجل أنه(5/135)
ليس له أن يدخل حتى يؤديه، وجب أن يكون القول قوله، دفع صداق المثل إذا فوض إليه، من أجل أنه ليس له أن يدخل بها في التفويض، حتى يدفع إليها صداق مثلها، وإن كان الذي ادعى أنه دفع إليها أقل من صداق مثلها، حلف على ذلك، ووفاها تمام صداقها، وإن ادعى عليها أو على أبيها إن كانت بكرا الرضا بذلك من صداق مثلها، لم يصدق وحلفتْ على ذلك هي وأبوها إن كانت بكرا، وإن ادعى أنه دفع إليها أكثر من صداق مثلها، ليلزمها التجهز بذلك إليه لم يصدق في الزائد، وأسقطته عن نفسها بيمينها، تحلف بالله ما دفع إليها شيئا ويحلف هو بالله لقد دفع إليها ما ادعى، ويكون عليها أن تتجهز إليه من ذلك بقدر صداق مثلها.
[مسألة: الولي ينكح الجارية على إن رضيت فترضى]
مسألة وعن الولي ينكح الجارية على إن رضيت فترضى، قال: يفسخ النكاح، قيل له: وإن كانت قريبا، قال: نعم، قيل له: فإن بنى بها، قال: أما البناء فلا أدري، وضعف الفسخ فيه. وروايته في معنى قوله، فلا يرى الفسخ إذا بنى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا تزوجها على إن رضيت فهو نكاح العقد على خيار، وإن كانت قريبة، إلا أن تكون حاضرة في البلد، فيرسلا إليها ليعلما رضاها في الفور قبل أن يفترقا من مجلسهما، فيجوز ذلك على معنى ما مضى في آخر سماع أصبغ، وقوله: إنه لا يفسخ بعد البناء، وهو أحد قولي مالك في المدونة، وفي رسم باع شاة، من سماع عيسى. وقد مضى من القول على ذلك هنالك ما لا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال في مرضه قد زوجت ابنتي فلانا وأصدقتها عنه مائة دينار]
مسألة قال: وسألته عن رجل قال في مرضه: قد زوجت ابنتي فلانا وأصدقتها عنه مائة دينار، قال: ذلك جائز، ويخرج من الثلث، إذا(5/136)
كان أجنبيا. قال: ولو قال: قد أصدقت امرأة ابني عن ابني مائة دينار، لم يجز.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة موعبا في رسم العرية، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك هاهنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: أسلم وامرأته من غير أهل الكتاب فعرض عليها الإسلام فأبت ثم أسلمت]
مسألة قال: ولو أن رجلا أسلم، وامرأته من غير أهل الكتاب، فعرض عليها الإسلام فأبت، ثم أسلمت بعد ذلك، لم يكن له عليها رجعة إلا بنكاح جديد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لقول الله عز وجل: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وهو يبين ما وقع في المدونة من أن الفرقة لا تقع بينهما إذا لم تسلم بعد إسلامه، إلا أن يتطاول ذلك بأكثر من الشهر، أن معناه إنما هو إذا غفل عن عرض الإسلام عليها. قال بعض شيوخ القرويين: وهذا في المدخول بها، فلا يستحق في ذلك الشهر، ولا تكون زوجته إلا إذا أسلمت بالقرب، ولا فرق في القياس بين المدخول بها وغير المدخول بها في هذا؛ لأن العصمة بينهما قائمة وإن لم يدخل بها، وقد أمره الله ألا يمسك بها، فإما أن يحمل أمره عز وجل على الفور فيهما جميعا، أو على التراخي فيهما جميعا، وحمله مالك على التراخي، وخفف الشهر في ذلك ما لم توقف فتابا الإسلام، وبالله التوفيق.
[مسألة: أراد أن يتزوج امرأة ربيبه زوج أمه]
مسألة وقال في رجل أراد أن يتزوج امرأة ربيبه زوج أمه: إنه لا بأس به.(5/137)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الله عز وجل إنما حرم عليه زوجة أبيه؛ لقوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وربيبه ليس بأب له، فلا حرمة بينه وبين زوجته، إلا أن يكون تزوج أمه ودخل بها، وهي ترضعه؛ لأنه يصير بذلك، أبا له من الرضاعة، فلا يتزوج امرأته.
[مسألة: تزوج صبية صغيرة وشرط لها عليه إن تزوج عليها فأمر نفسها بيدها]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل تزوج صبية صغيرة، وشرط لها عليه إن تزوج عليها، فأمر نفسها بيدها، فتزوج عليها، وهي صبية صغيرة، قال: إن كانت قد عقلت وعرفت الطلاق والخيار، فلها الخيار. وإن كانت لم تعرف ذلك استوني بها حتى تعقل، ثم تختار، إن شاءت. قيل له: فإن كان تزوجها على أنه إن تزوج عليها، فأمر التي تزوج عليها بيدها، فتزوج عليها، وهي صغيرة لا تعقل، قال: يفسخ نكاحه.
قال محمد بن رشد: أما التي شرط لها عليه إن تزوج عليها، فأمر نفسها بيدها، فتزوج عليها، وهي صغيرة لا تعقل. فقوله فيها: إنه يستأنى بها حتى تعقل، ثم تختار إن شاءت، فهو صحيح. مفسر لجميع الروايات. من ذلك ما وقع في كتاب التمليك في رسم: الشجرة من سماع ابن القاسم، ورسم: بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى. ووجه ذلك أنه إذا تزوج عليها وهي صغيرة لا تعقل، فقد أوجب لها في نفسها التمليك إذا عقلت، وقد لا تعقل أو تموت قبل أن تعقل، فكان ذلك بمنزلة الذي يقول لامرأته: أمرك بيدك، إذا قدم فلان، إن الأمر يكون بيدها إذا قدم فلان. وأما التي شرط لها عليه أنه إن تزوج عليها، فأمر التي تزوج عليها بيدها وهي صغيرة لا تعقل، فقد مضى القول في نظيرها في رسم إن خرجت من سماع عيسى؛ لأن الصغيرة التي لا تعقل كالمجنونة، فالكلام على تلك يغني عن الكلام على هذه(5/138)
ولو كانت ممن يعقل لكان لها الخيار، وإن لم تبلغ في المسألتين جميعا، ولا اختلاف في ذلك أحفظه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتزوج سرا بشهادة شاهدين ويستكتما ذلك]
مسألة قال ابن القاسم: كل نكاح اختلف فيه ليس بحرام، فإن طلق فيه لزمه الطلاق، مثل أن يحلف بطلاق امرأة إن تزوجها، ونكاح المريض، ونكاح السر الذي يتزوج سرا بشهادة شاهدين ويستكتما ذلك، فتطلق في ذلك كله قبل أن يفسخ إن الطلاق قد لزمه، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره إن كانت البتة.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب ابن القاسم في المدونة الذي اختاره لرواية بلغته عن مالك إن كل نكاح اختلف الناس فيه، فالفسخ فيه طلاق، والطلاق فيه قبل الفسخ لازم، والميراث فيه واجب، والخلع فيه جائز نافذ، وإن كان الفساد في العقد دون الصداق، وجب فيه جميع الصداق المسمى بالموت، ونصفه بالطلاق قبل الدخول ما لم يفسخ. وكل نكاح لم يختلف في فساده، فلا طلاق فيه ولا ميراث، والخلع فيه مردود؛ لأن مذهب ابن القاسم أن الخلع تابع للطلاق، خلاف قول ابن الماجشون، ومذهب ابن المواز. وقد ذكرنا ذلك في سماع سحنون.
والذي أجازه سحنون، وقال به أكثر الرواة، إن كل نكاح كانا مغلوبين على فسخه، فالفسخ فيه ليس بطلاق، ولا طلاق ولا ميراث فيه قبل الفسخ، حيث يغلبان عليه، فما فسد لصداقه على هذا القول، لا طلاق ولا ميراث فيه قبل الدخول، ويكون الطلاق والميراث فيه بعد الدخول، ولا كتاب النكاح الثالث من المدونة قول ثابت، وهو: أن ما كان من الأنكحة يفسخ قبل الدخول وبعده، فلا طلاق فيه ولا ميراث قبل الدخول ولا بعده، وإن كان قد اختلف فيه، وما كان منها يفسخ قبل الدخول(5/139)
ويثبت بعده، ففيه الطلاق والميراث قبل وبعد، والمشهور في المذهب، أن الحرمة تقع بكل نكاح مختلف فيه، وأجرى ابن حبيب الحرمة مجرى الطلاق والميراث، ومثله لابن القاسم في الدمياطية، قال في المريض يتزوج المرأة في مرضه: إنها تحل لابنه وأبيه إن لم يكن دخل بها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يزوج ابنته ويقبض صداقها وهي بكر وقد استهلكه]
مسألة وعن الرجل يزوج ابنته ويقبض صداقها وهي بكر، وقد استهلكه. قال: إذا أقر به فهو ضامن له. قيل: فقال: قد دفعته إليها، قال: إن كان دفعه إليها عينا فهو له ضامن؛ لأن الأبكار، ليس يدفع إليهن الدنانير، إنما يجهزن. قيل: فدخلت على زوجها، وزعم أنه جهزها بصداق كذا وكذا ودفعه إليها وأنكرت ذلك، قال: يحلف ويبرأ.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة بعينيها على نصها في أول سماع أصبغ، والكلام عليها هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته مرة أخرى.
[مسألة: تزوج امرأة وكان في صداقها خادم فدخل بها فطلبت الخادم]
مسألة وقال: في رجل تزوج امرأة، وكان في صداقها خادم، فدخل بها، فطلبت الخادم، فقال: قد صالحتني منها على دنانير، ودفعتها إليك، قال: لا يصدق الزوج؛ لأنه مدع قال: فإن أقرت بالصلح صدق، ولم يكن لها شيء، إذا قال: قد دفعتها إليك، وإن زعمت أنها لم تقبض شيئا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الزوج لا يصدق في دعواه دفع الدنانير إليها صلحا عن الخادم؛ لأنه مدع في شراء الخادم الذي عليه لها منها، ولا دليل له على ذلك؛ يصدق دعواه، فوجب أن يكون عليه إقامة البينة؛ لقول(5/140)
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» فإن أقرت له بالصلح كان القول قوله في دفع الدنانير إليها؛ لأن تمكينها إياه من الدخول بها دليل على صحة دعواه في الدفع إليها، وبالله التوفيق.
[مسألة: شرط أبو الجارية على أبي الزوج أنه إن أسلم زوج ابنتي فأمرها بيدها أو بيدي]
مسألة وعن نصراني تزوج نصرانية وشرط أبو الجارية على أبي الزوج: أنه إن أسلم زوج ابنتي فأمرها بيدها أو بيدي، قال: إن أسلم الزوج قبل أن يحتلم أو بعدما احتلم وقبل أن يبني، أو بعدما بنى، فلا شيء بيد امرأته، ولا بيد أبيها، ويسقط ذلك كله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن الشروط المنعقدة بين الزوجين من أهل الذمة في نكاحهما لا تلزمهما بعد الإسلام، كانت مما يلزم أهل الإسلام، أو مما لا يلزم؛ لأنه لا يلزم أهل الإسلام منها إلا ما كان بعد يمين من طلاق أو تمليك، وذلك لا يلزم الكافر. وهذا معنى ما وقع في كتاب النكاح الثالث من المدونة على اختلاف في ذلك بين الروايات، يرجع جميعها إلى هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبعث من يزوجه فيزوجه ثم يموت الزوج ولا يدرى أقبل النكاح أو بعد]
مسألة وقال ابن القاسم في الذي يبعث من يزوجه، فيزوجه ثم يموت الزوج، ولا يدرى أقبل النكاح أو بعد؟ إنه لا ميراث بينهما حتى يعلم أنه مات بعده، وإن البينة على المرأة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأنه لا يرث أحد أحدا بشك، والمرأة غير وارثة حتى يعلم أن النكاح وقع قبل موته، فعليها إقامة البينة على ذلك، وبالله التوفيق.(5/141)
[مسألة: يطأ الجارية ثم يزوجها غلامه فتلد منه جارية]
مسألة وقال ابن القاسم في الرجل يطأ الجارية ثم يزوجها غلامه، فتلد منه جارية: إنها لا تحل لابنه. وروى عيسى بن دينار، أنه لا بأس به. قال عيسى: وإنما هو بمنزلة ما لو تزوج امرأة فوطئها ثم طلقها أو مات عنها، ثم تزوجت زوجا فولدت جارية؛ أنه لا بأس به أن يتزوجها ابن الأول من غيرها، ولا بأس أن يتزوج ابنها من الآخر ابنة الأول من غيرها.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في بعض الأمهات في آخر هذا السماع، وقول ابن القاسم في سماع أبي زيد منه: إنه لا يحل للرجل أن يتزوج ابنة عبد أبيه من جارية قد وطئها أبوه بعيد. ورواية عيسى عنه: أنه لا بأس بذلك، هو الصحيح؛ إذ لا حرمة بينه وبينها، إلا أن يكون قد صار لها -أعني الجارية- ابن من وطء أبيه، فلم ينقطع عنها حتى تزوجها العبد، فحملت منه فوضعت وأرضعت ابنتها بذلك اللبن الذي كان أصله من أبيه، ولم ينقطع؛ لأنها تصير بذلك أخته للأب من الرضاعة، على ظاهر ما في المدونة، خلاف ما حكى ابن شعبان، وقال فيه: إنه إجماع من أن لبن المرأة ينقطع من زوجها الأول بوضعها من الثاني.
والمسألة التي شبهها بها عيسى هي مثلها سواء، يدخل كل واحد منهما ما يدخل صاحبتها؛ إذ لا فرق بين الوطء بالملك والنكاح، وبين العبد والحر فيما يوجب ذلك من حرمة النكاح، وقد أجمعوا أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج ما ولدت امرأة أبيه قبل أبيه، واختلفوا هل يجوز له أن يتزوج ما ولدت بعد أبيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك جائز، وهو قول مالك وكافة أصحابه العلماء، ورواية عيسى، عن ابن القاسم هنا. والثاني: أن ذلك لا يحل، وهو قول ابن القاسم في رواية أبي زيد عنه، وقد ذكرنا بعد ذلك، وأنه لا يصح إذا لم ترضعها بلبن لم ينقطع من أبيه. والثالث: أن ذلك مكروه، حكى ذلك ابن حبيب، عن طاوس، وما للكراهية في ذلك عندي وجه، إلا إن كانت أمها أرضعتها بلبن زوجها الثاني، فينفي أن يكون(5/142)
وطء زوجها الأول وهو الأب، قد زاد في لبنها من الزوج الثاني، وإن كان قد انقطع من الأول، أو لم يكن لها منه لبن أصلا.
وإن كانت ولدتها لما تلحق من الأنساب من أبيه، مخافة أن يكون الولد منه؛ لاحتمال أن يكون أهريقت عليه الدم (كذا) فجش الولد في بطنها، وظنت أن ذلك حيض انقضت به عدتها فتزوجت، فلما أصاب الولد الماء، تحرك الولد، ووضعته لما يلحق بها الأنساب من أبيه، فهذا له وجه أيضا. وإلا فلا، والله ولي التوفيق.
تم كتاب النكاح بحمد الله وحسن عونه وتأييده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.(5/143)
[كتاب الرضاع]
[يفارق امرأته وهي ترضع فتكون موسرة وهو معسر لا يجد ما يسترضع به]
كتاب الرضاع(5/145)
من سماع عبد الرحمن بن القاسم، من مالك، رواية سحنون
من كتاب أوله: أخذ يشرب خمرا قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول في الرجل يفارق امرأته وهي ترضع، فتكون موسرة وهو معسر، لا يجد ما يسترضع به، أترى أن تلزم رضاعه؟ قال: نعم، إلا أن تكون لا تقوى على "ذلك، فقيل له: فإن أيسر يوما، أتراه أن تتبعه بما أرضعته؟ قال: لا أراه تتبعه بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المرأة المطلقة تلزم رضاع ولدها إذا لم يكن للأب مال، معناه إذا لم يكن للولد مال أيضا، فإذا لم يكن لواحد منهما مال، ولها لبن ومال، كانت مخيرة بين أن ترضع ولدها، أو تسترضع له من مالها، قال ذلك مالك هاهنا، وابن القاسم في سماع أصبغ.
وقد قيل: إن ذلك لا يلزمها، ولا رجوع لها على من أيسر منهما بشيء، كانت قد أرضعته أو استرضعها له من مالها؛ لأن ذلك قد سقط عنهما بعدمهما؛ لقوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وتوجه عليها بقول الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] لأنه محمول على عمومه في(5/147)
ذات الزوج، والمطلقة مع عسر الأب، والدليل على وجوب الرضاع على الأب إذا فارق وله مال، قول الله عز وجل: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] فمن حق المرأة المطلقة أن ترضع ولدها بأجر مثلها، واختلف إذا وجد الأب من يرضعه له باطلا أو بدون أجرة مثلها وهو موسر، فقيل: لا كلام له في ذلك، وللأم أن ترضعه بأجرة مثلها، وهو قول مالك في المدونة، وقيل: إن الأم إن لم ترد أن ترضعه باطلا أو بما وجد كان له أن يدفعه إلى من يرضعه له باطلا أو بما وجد.
وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه، ومعنى ذلك إذا أرضعته عند أمه ولم يخرجه من حضانتها. وأما إن أبت الأم أن ترضعه، فيستأجر له الأب من يرضعه، وليس عليه أن يكون ذلك عند أمه، وما دامت المرأة في عصمة الزوج، فعليها رضاع ولدها، إلا ألا يكون لها لبن، أو تكون شريفة لا ترضع مثلها، ويقبل الولد غيرها، فيكون على الأب أن يسترضع له من ماله، وبالله التوفيق.
[مسألة: لبن الفحل يحرم كما يحرم من قبل الأم]
مسألة قال: وقال مالك: إن رجلا أفتى بالرضاعة بشيء، كأنه لم يرها إلا من قبل الأم، فقال له عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم: لا تفت بفتيا، لا تتقلب من الليل في فراشك إلا ذكرته.
قال محمد بن رشد: الصحيح الذي عليه فقهاء الأمصار، أن لبن الفحل يحرم كما يحرم من قبل الأم؛ بدليل حديث عائشة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في شان عمها: أفلح، أخي أبي القعيس، وقد كرهته طائفة من العرب، ورخصت فيه أخرى، فأنكر عبد الله بن أبي بكر على من رخص فيه، ورأى أن(5/148)
ذلك لا يقوله إلا من لم ينعم النظر، ونهاه أن يفتي في شيء من الأشياء دون تدبر صحيح، فيندم على ذلك متى ما تذكر، مخافة أن يخرج بالتقصير عما يلزمه من بلوغ الاجتهاد، وبالله التوفيق.
[يسافر مع أخته من الرضاعة هل هو ذا محرم]
ومن كتاب مساجد القبائل وسئل مالك عن الرجل يسافر مع أخته من الرضاعة، هل تراه ذا محرم؟ قال: نعم، أراه ذا محرم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] ، وقال الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة» ، فلا اختلاف أعلمه في أن ذوي المحارم من الرضاعة كذوي المحارم من النسب في جميع الأحكام، إذا كان التحريم من قبل الأم المرضعة، ولم يكن من قبل الفحل الذي اللبن منه، للاختلاف الذي جاء في لبن الفحل، فقد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنه كان يدخل عليها من أرضعه بنات أختها وبنات أخيها، ولا يدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها، فرخص في لبن الفحل جماعة من العلماء؛ لما جاء عن عائشة فيه، وقد مضى القول على ذلك في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب من كتاب النكاح، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة المتجالة تسافر مع غير ولي إلى مكة]
مسألة وسئل مالك عن المرأة المتجالة، تسافر مع غير ولي إلى مكة،(5/149)
قال: تخرج في جماعة من النساء، وناس مأمونين لا تخافهم على نفسها.
قال محمد بن رشد: قوله: إلى مكة يريد في حجة الفريضة، وذكر المتجالة إنما وقع في السؤال، فخرج الجواب عليه، فلا يستدل بذلك على أن غير المتجالة بخلاف المتجالة، بل المتجالة وغير المتجالة. في ذلك سواء عند مالك. هذا قوله في الموطأ وغيره؛ لأن عدم المرأة التي لا زوج لها، أو لها زوج لا يريد الخروج معها وليا يخرج معها لا يسقط فرض الحج عنها، بدليل إجماعهم على أنها إذا أسلمت في بلاد الحرب، يجب عليها الهجرة إلى بلد الإسلام، وإن لم يكن معها ذو محرم، فهذا مخصص من عموم قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم منها» ، بالإجماع، وحجها مع غير ذي محرم إذا لم يكن لها محرم، ولا زوج يحج معها، مخصص منه بالقياس، على ما أجمعوا عليه.
وقد اختلف ألفاظ الأحاديث في حد السفر الذي لا يجوز للمرأة أن تسافره إلا مع ذي محرم منها أو زوج، ففي بعضها البريد، وفي بعضها اليوم، وفي بعضها الليلتين، وفي بعضها ثلاثة أيام، وفي بعضها ألا تسافر المرأة ومعها ذو محرم دون حد. واختلف على ذلك كله الفقهاء، فمنهم من لم يحد للمرأة أن تسافر مع ذي محرم سفرا قريبا ولا بعيدا، وإن كان أقل من بريد، وهو مذهب أهل الظاهر، ومنهم من حد لها في ذلك البريد، ومنهم من حد لها في ذلك اليوم، ومنهم من حد لها في ذلك الليلتين، ومنهم من حد لها في ذلك(5/150)
مسيرة ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة. ومن مذهبه أن المرأة إذا كانت بينها وبين مكة ثلاثة أيام أو أكثر، ولم يكن لها زوج ولا ذو محرم يخرج معها، ففرض الحج سقط عنها، وقد تقدمت الحجة عليه في ذلك لمالك. وذهب مالك إلى أن الحد لا ذلك مسيرة يوم وليلة، على ما في روايته في حديث الموطأ، وجعل ذلك أصلا فيما يقصر فيه الصلاة، كما جعل أبو حنيفة مسيرة الثلاثة أيام التي ذهب إليها في ذلك حدا تقصر فيه الصلاة.
[تزوج أمة فولدت منه ثم أعتق سيد الأمة ولده منها]
ومن كتاب أوله باع غلاما
وسئل عن رجل تزوج أمة، فولدت منه، ثم أعتق سيد الأمة ولده منها، قال: إن الرضاع عليه.
قال محمد بن رشد: الهاء من عليه عائدة على الزوج، لا على السيد المعتق؛ لأن السيد لما أعتقه صار حرا، فسقطت عنه نفقته، ووجبت على أبيه، ولو كان أبوه معدما أو لم يكن له أب لما سقط عنه رضاعه ونفقته في حال صغره؛ لأن من أعتق صغيرا ليس له من ينفق عليه، فنفقته عليه، وبالله التوفيق.
[تزوجت رجلا فولدت منه ثم عمدت إلى أخت لها صغيرة فأرضعتها من لبنه]
ومن سماع أشهب، وابن نافع من مالك رواية سحنون
من كتاب الطلاق الثاني قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عن امرأة تزوجت رجلا فولدت منه، ثم عمدت إلى أخت لها صغيرة، فأرضعتها من لبن ذلك الرجل، ثم مات فتزوجت بعده زوجا غيره، وقد شمت أختها التي أرضعت، فهي أختها وابنتها من لبن زوجها(5/151)
الأول، أفتراها تحرم على زوجها الآخر؟ قال: نعم، أراها من الربائب، هي بنت امرأته، فقيل: أينظر إلى شعرها ويدخل عليها وتدخل عليه؟ قال: نعم، ينظر إلى شعرها، ويدخل عليها، وهي منه بحرمة، قال الله عز وجل: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] .
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الرجل إذا تزوج المرأة ودخل بها، حرم عليه كل ما ولدت من غيره أو أرضعته قبل أن يتزوجها أو بعد أن تزوجها؛ لقول الله عز وجل: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] ، وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة» ، وقوله في الرواية: إنها ولدت من الزوج الأول، وإنها أرضعت أختها بلبنه، لا تأثير له في تحريمها على الزوج الثاني، سواء ولدت منه أو لم تلد، وسواء أرضعت بلبنه، أو بلبن من غير زوج تحرم على الزوج الذي دخل بها؛ لأنها قد صارت ابنتها من الرضاعة بإرضاعها إياها في حولي رضاعها كيف ما كان، وإنما جرى ذلك في السؤال وصفا للحال على ما كان.
[يطلق امرأته، ولها منه ولدا هل لها أن تطرح ولده من ساعتها]
ومن كتاب الطلاق الثالث وسئل عن الرجل يطلق امرأته، ولها منه ولدا، ألها أن تطرح ولده من ساعتها؟ فقال: لا حتى يلتمس له مرضعا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ قال الله عز وجل: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] ليس له أن يأخذ ولده منها إذا أحبت أن ترضعه، ولا لها أن تطرحه إليه إذا لم يجد من يرضعه، وقد مضى في أول(5/152)
سماع ابن القاسم القول فيما ترضعه به من الأجرة إذا أحبت رضاعه، وما في ذلك من الاختلاف، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[المرأة تشرب الشجرة فيدر بشربها لبنها فترضع به أيحرم بذلك الرضاع]
ومن كتاب الطلاق
قال: وسمعته، وسئل عن المرأة تشرب الشجرة فيدر بشربها لبنها فترضع به، أيحرم بذلك الرضاع؟ فقال: نعم، يحرم بذلك، أليس بلبن؟ فقال: بلى، فقال: نعم، يحرم بذلك، وليس ذلك بصواب. وأخاف أن تكون هذه علة، كلما فجرت امرأة وكثر لبنها قالت هذا القول، قيل له: بلغنا أن رجلا شربها فدر حتى أرضع، فقال: بلغك الباطل والزور، وإنما يحدثك بها قوم نفاق. قال الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] يجيء الرجل يرضع.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المرأة إذا در لبنها بشيء تشربه فأرضعت به، إنه لبن يحرم، هو مثل ما في المدونة من أن لبن الجارية البكر يحرم، وأن لبن النساء يحرم على كل حال، بظاهر قول الله عز وجل: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] ولم يخص ذات زوج ممن لا زوج لها، وكره للنساء شرب هذه الشجرة، التي يزعمن أنها تدر اللبن من غير وطء، ولم يحقق ما يزعمن من ذلك، وخشي أن يكون ذلك من قول الفواجر وما يعتذرن به إذا كثر لبنهن من الفجور، ولما قيل له: إن رجلا شربها فدر له لبن أرضع به، أنكر ذلك، وقال: إنه باطل وزور، وهو كما قال؛ لأن ذلك خرق عادة، وقد أجرى الله الأمور على عوائد، فهو لا يخرقها في غير خرق العادات إلا معجزة للأنبياء، أو كرامة للأولياء، وبالله التوفيق.(5/153)
[مسألة: المرأة المسلمة ترضع ولد النصراني]
مسألة وسألته عن المرأة المسلمة ترضع ولد النصراني، فقال: أما أن تعطيه ثديها، فلا أرى بذلك بأسا، وأما أن تذهب فتكون عندهم في بيوتهم فلا يعجبني، وكرهه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا ينبغي للمرأة المسلمة أن ترضع ولد النصراني في بيته، فإن ذلك لها مكروه من وجه امتهانها له، فإن آجرت نفسها منه ظئرا على ذلك، فسخت إجارتها. فإن ماتت مضت، ولم تحرم الأجرة؛ لأن أجرة المسلم نفسه من النصراني أو اليهودي على أربعة أقسام: جائزة، ومكروهة، ومحظورة، وحرام؛ فالجائزة: أن يعمل له عملا في بيت نفسه أو حانوته، كالصانع يعمل للناس، فلا بأس أن يعمل من غير أن يستبد بعمله. والمكروهة: أن يستبد بجميع عمله من غير أن يكون تحت يده، مثل أن يكون مقارضا أو مساقيا. والمحظورة أن يؤجر نفسه منه في عمل يكون فيه تحت يده، كأجير الخدمة في بيته، وإجارة المرأة نفسها منه لترضع له ابنه في بيته، وما أشبه ذلك، فهذه تفسخ إن عثر عليها، فإن فاتت مضت، وكانت له الأجرة، والحرام أن يؤاجر نفسه منه لما لا يحل من عمل الخمر، أو رعي الخنازير وما أشبه ذلك، فهذه تفسخ إن عثر عليها قبل العمل، فإن فاتت بالعمل تصدق بالأجرة على المساكين، ولم يسوغ إياها.
[مسألة: تزوج امرأة كانت تقول لزوجها الذي تزوجها قبل ذلك أخي أخي]
مسألة وسئل عن رجل تزوج امرأة، شهد عليها أنها كانت تسمع تقول لزوجها الذي تزوجها قبل ذلك: أخي أخي، فقال: لا أرى هذا شيئا يحرم نكاحها، وهو أمر لم أسمع أحدا يذكره، وهو ابن(5/154)
خالها، ولم يعلم، وهذا من كلام الناس، تقول المرأة للرجل: أخي أخي، للرجل الذي لا قرابة بينها وبينه، تريد أن تقربه بذلك، لا أرى هذا في رأيي يحرم، هذا من أكثر كلام الناس، ولا أرى عليك في ذلك شيئا، فأقم مع امرأتك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وإخوة لبعض؛ قال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه السلم» الحديث، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حق المسلم على أخيه أن يسلم عليه إن لقيه» الحديث، فوجب ألا يكون ما سمع من قول المرأة للرجل قبل أن تتزوجه: أخي أخي، مما يحرم عليه نكاحها، ولا المقام معها إذا نكحها؛ لأنها تقول ذلك على وجه الإطلاق والتقريب، وقد يقول ذلك الرجل للمرأة قبل أن يتزوجها، فلا يحرم ذلك عليه نكاحها، وقد يقول لامرأته يا أختي، فلا يكون ذلك طلاقا، ولا يعد ذلك فراقا، كما أنه قد يقول الرجل للصبي الذي لا يعرف له نسب يا بني افعل كذا وكذا، ولا تفعل كذا وكذا، فلا يعد ذلك استلحاقا منه له، ولا إقرارا به.
[مسألة: أولم بعد الدخول]
مسألة وسئل فقيل له: أترى إن أولم بعد الدخول؟ فقال: ليس بذلك بأس، أنا أرى أن يفعل ذلك.(5/155)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المعنى الذي من أجله أمر الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالوليمة، وحض عليه بقوله لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاة.» هو ما قاله ربيعة في رسم طلق، من سماع ابن القاسم، من كتاب النكاح، من إشهار النكاح وإظهاره ومعرفته؛ لأن الشهود يهلكون، فإذا كان ذلك هو المعنى في الوليمة، فلا تفوت بالدخول. ويستحب للرجل إذا لم يولم عند الدخول، أن يولم بعده، ليشهر بذلك نكاحه ويظهره، وبالله التوفيق.
[مسألة: أرضعت امرأة ابنا لي ألي أن أتزوج ابنتها]
مسألة قال: وسئل فقيل له: أرأيت إذا أرضعت امرأة ابنا لي، ألي أن أتزوج ابنتها؟ فقال: نعم، وما بينك أنت وبينها لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن إرضاع المرأة ابنه لا توجب حرمة بينه وبين ابنتها؛ لأنها لا تصير بذلك ابنة له، وإنما تصير أختا لابنه، فالحرمة إنما هي بين ابنه وابنتها، هو الذي لا يحل له نكاحها؛ لأن حرمة الرضاع لا تسري من قبل المرضع إلا إلى ولده الذكور والإناث، وإن سفلوا، فيجوز له أن يتزوج ابنة المرأة التي أرضعت ابنه؛ لأنها أخت ابنته من الرضاعة، ويجوز للمرأة التي أرضعت ابن الرجل، أن تتزوج أخو الولد الذي أرضعت، إذ لا حرمة بين الولد والمرأة وبين أبي أختها من الرضاعة، ولا بين الرجل وأم أخيه من الرضاعة، والرضاع في هذا بخلاف النسب، لا يحل للرجل أن يتزوج أم أخته من النسب؛ لأنها زوجة أبيه، ولا يحل للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب؛ لأنها ربيبة، وأما نكاح الرجل أخت أخيه، أو أخت عمته، أو عمة عمته، فذلك جائز في الرضاع والنسب، إذ لا حرمة بينه وبين واحدة منهن.(5/156)
[مسألة: يزوج ابنه صغيرا امرأة كبيرة ثم يباري عنه فيتزوج المرأة أجنبي]
من سماع عيسى عن ابن القاسم
من كتاب نقدها نقدها
وسئل عن الرجل يزوج ابنه صغيرا امرأة كبيرة، ثم يباري عنه، فيتزوج المرأة أجنبي، فترضع تلك المرأة الصبي الذي بارأت، قال: تحرم على زوجها؛ لأنها حليلة ابنه؛ لأن الصغير كان زوجها وهي حليلة له، وقد صار ولدا لزوجها الأجنبي؛ لأنه رضع من لبنه، فقد صار ابنه من الرضاعة.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن المرأة إذا أرضعت صبيا بلبن رجل صار ابنها من الرضاعة، وابنا لزوجها الذي كان اللبن منه من الرضاعة، فلما صار ابنا لزوجها، حرمت على زوجها، إذ قد كانت زوجة له، ولا يحل للرجل أن يتزوج زوجة ابنه؛ لقول الله عز وجل: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] ، وليس في قول الله عز وجل: {مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] دليل على أن حلائل الأبناء من الرضاع حلال؛ لأن ذلك إنما جاء تحليلا لحلائل الأبناء الأدعياء، لا لحلال الأبناء من الرضاعة، وذلك أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما تزوج بنت جحش وقد كانت زوجة لزيد بن حارثة الذي كان تبناه، قال المنافقون: وقد كان ينهى عن ذلك، فأنزل الله عز وجل تجويز الفعلة: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] ، وأنزل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} [الأحزاب: 37] .
[مسألة: يسترضع ولدا من امرأة له قد طلقها]
مسألة وسئل عن الرجل يسترضع ولدا من امرأة له قد طلقها، أو(5/157)
من غيرها، فيعطيها رضاع سنة ثم يموت الأب، قال: إذا مات الأب كان ما بقي من أجر السنة التي بقيت بين الورثة؛ لأنه إنما كان يجب عليه رضاعه ما كان حيا، قيل له: فلو كان ابنه غلاما يأكل الطعام، وهو عند أم له قد طلقها، فهو يجري له النفقة عندها، فقدم إليها نفقة سنة، فمات، أو فلس بعد ستة أشهر، قال: إذا مات فما بقي من النفقة فهو للورثة، وأما إذا فلس، فإن كان حين جعل ذلك هو جائز الأمر قائم الوجه، ولم يأت في ذلك منه سرف ولا محاباة، ولا أمر يتهم عليه، فذلك جائز، وإن كان على غير ذلك، رد ما بقي عنده من النفقة. قد قال ابن القاسم في غير هذا الكتاب، في الرجل يدفع إلى امرأته نفقة ولده، وقد طلقها، فيدفع إليها نفقة كثيرة، ثلاثين دينارا ونحوها ثم يفلس، قال: إن كان يوم دفع إليها عليه دين يحيط بماله، أخذ ذلك كله منها؛ لأنه فار بماله، فإن لم يكن عليه دين لم يؤخذ منها شيء.
قال محمد بن رشد: قوله فيما قدم الرجل من أجرة رضاع ابنه، أو من نفقته إلى التي ترضعه أو تحضنه: إن الابن لا يستوجب ذلك، كالعطية المحوزة، إذ لم يدفعه على وجه العطية له، وإنما دفع ما يرى أنه لازم له، وهو لا يلزمه إلا ما كان حيا، ويكون ما بقي من ذلك إن مات الأب موروثا عنه، هو مثل قوله في كتاب الجعل والإجارة من المدونة، خلاف قول أشهب وروايته عن مالك، في أن ذلك كالعطية للابن يستحقها طول حياته، وإن مات الأب، وإن مات هو في حياة الأب رجع ما بقي منها إليه، كالعبد المخدم حياة المخدم، إن مات المخدم استحقه المخدم طول حياته، وإن مات المخدم رجع العبد إلى سيده المخدم، فكان القياس على قول ابن القاسم، إذ لم يراع تقديم الأب، فيما قدم من أجرة رضاع ابنه أو نفقته، وجعل ذلك كأنه في يده،(5/158)
يكون لورثته إن مات، ما بقي من ذلك أن يكون لغرمائه إن فلس ما بقي من ذلك أيضا، وإن كان يوم دفع ذلك وقدمه لا دين عليه، ولا يترك له من ذلك إلا قدر ما يترك للمفلس، إذا فلس من نفقة ولده الصغير، وذلك نفقة الأيام، على قوله في المدونة، والشهر على ما في الواضحة.
فقوله: إنه إن كان يوم دفع ذلك قائم الوجه، جائز الأمر، جاز ذلك للابن، إنما يصح على مذهب أشهب، وروايته عن مالك، الذي يرى ذلك عطية محوزة للابن، ويريد بقوله قائم الوجه جائز الأمر، أن يكون المفلس مأمونا عليه، مع كثرة ما عليه من الديون، مع ألا يتحقق أنها مستغرقة لجميع ماله، فيقوم من قوله هذا أن من وهب أو تصدق أو حبس أو أعتق، وهو غريم لقوم بديون كثيرة، إلا أنه قائم الوجه غير مخوف عليه الفلس، أن أفعاله غير مردودة، وإن لم يخص الشهود قدر ما معه من المال، وما عليه من الدين، وبهذا كان يفتي ابن زرب، ويستدل بهذه الرواية ويقول: لا يخلو أحد من أن يكون عليه دين. وقوله صحيح، واستدلاله حسن.
وأما إذا علم أن ما عليه من الدين يستغرق ما بيده من المال، فلا يجوز له هبة ولا عتق ولا عطية، ولا شيء من المعروف، ويجوز له أن يتزوج منه، وأن ينفق منه على ولده الذين يلزمه الإنفاق عليهم، وأن يؤدي منه ما لزمه من عقل جرح خطأ، أو عمد لا قصاص فيه، ولا يجوز له أن يؤدي منه عن جرح يجب عليه فيه القصاص. هذا معنى قول مالك في المدونة وغيرها، وبه يقول ابن القاسم؛ فقوله في آخر المسألة في الذي دفع ثلاثين دينارا أو نحوها لنفقة ابنه، ثم فلس: إنه إن كان يوم دفع ذلك عليه دين يحيط بماله أخذ ذلك كله منها؛ لأنه فار بماله، صحيح؛ لا اختلاف فيه إذا فلس بحدثان دفعها قبل أن ينفق منها شيء، وأما إن فلس بعد أن أنفق بعضها، فإنما يرد ما بقي منها، إذ من حق المديان أن ينفق على ولده مما بيده من المال، وإن كانت الديون مستغرقة له، ما لم يفلس.
وأما قوله فإن لم يكن عليه دين لم يؤخذ منها شيء، فقد بينا أن ذلك(5/159)
إنما يصح على قول أشهب وروايته عن مالك، لا على أصل ابن القاسم، وقد مضى في رسم العشور من سماع عيسى، من كتاب النكاح، طرف من هذا المعنى، فقف على ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: تزوج ثلاث نسوة صغار وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغار]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار وسئل عن رجل تزوج أربع نسوة: ثلاث صغار، وواحدة كبيرة، فقامت الكبيرة فأرضعت الثلاث الصغار، فقال: إن كان دخل بالكبيرة حرمن عليه جميعا، وإن كان لم يبن بواحدة منهن، حرمت عليه الكبيرة منهن أبدا، واختار من سائرهن الثلاث الصغار واحدة، وفارق سائرهن في بعض الروايات، ولم يدخلها ولا تكلم عليه القاضي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[أخوين ولد لأحدهما جارية وللآخر غلام فأرضع أحد الصبيين جدة الصبيين أم أبويهما]
من سماع سحنون من ابن القاسم قال سحنون: وسئل ابن القاسم عن أخوين ولد لأحدهما جارية، وللآخر غلام، فأرضع أحد الصبيين جدة الصبيين أم أبويهما، قال: لا يتناكحان أبدا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المرضع منهما يصير ابنا للجدة بإرضاعها إياه، فإن كان المرضع الصبي صار عما للصبية، وإن كانت المرضعة الصبية صارت عمة للصبي، ولا يحل للرجل أن يتزوج عمته ولا ابنة أخيه، وهذا إن كان الرجلان الأخوان اللذان ولد لأحدهما جارية، والآخر غلاما شقيقين أو لأم؛ لأن الأم تجمعها في الوجهين، ويصير من أرضعته أخا لهما جميعا، فيصير عم ابنة الآخر، إن كان المرضع الذكر، أو عمه ابن الآخر إن كانت المرضعة الأنثى، وكذلك إن كانا لأب، فأرضعت أحد الصبيين جدته،(5/160)
أو جدة الآخر من لبن من وطء الجد، وأما إن أرضعته بلبن من غير وطء الجد، فلا يوجب ذلك بينهما حرمة؛ لأن أخت العم وعمة الأخ من الرضاعة والنسب حلال، كأخت الأخ، وعمة العم، وبالله التوفيق.
[الصبي يموت أبوه ولا مال له ولا شيء له وللأم مال ولا لبن لها]
من سماع أصبغ من ابن القاسم سألت ابن القاسم عن الصبي يموت أبوه ولا مال له ولا شيء له، وللأم مال ولا لبن لها، وهي ترضع، أيجب عليها أن تسترضع له من مالها؟ قال: نعم، إني لأرى ذلك، ولو لم يجب ذلك عليها، إذا لم يكن لها لبن؛ أما كان عليها أن ترضعه إذا كان لها لبن؟
قال محمد بن رشد: هذا استدلال مغلوب؛ لأن وجوب إرضاعه عليها إذا كان لها لبن، أصل لإيجاب الله ذلك تعالى عليها بقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البقرة: 233] ، ووجوب ذلك عليها في مالها إذا لم يكن لها لبن، فرع مقيس عليه عند من شهد به، فلا يستدل بالفرع على أصله، وقد ذهب إسماعيل القاضي إلى أن ذلك لا يجب عليها، وإياه اختار أبو إسحاق التونسي، وقال: لو وجب عليها ذلك في عسر الأب إذا لم يكن لها لبن وهي مطلقة؛ لوجب ذلك عليها في يسر الأب إذا لم يكن لها لبن، وهي في عصمته، وقال ابن الكاتب: إنما يجب ذلك عليها من باب وجوب إعانة من يخشى هلاكه، لا من الوجه الذي وجب ذلك على الأب؛ لأن ذلك من النفقة، بخلاف اللبن الذي هو در من درها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري الجارية ولها ابنة ترضعها فيطأها وهي ترضع ابنتها]
مسألة قال أصبغ: قلت لابن القاسم: الرجل يشتري الجارية ولها ابنة ترضعها، فيطأها وهي ترضع ابنتها، ثم تكبر الابنة، فيريد هبتها لابنه يطأها قال: لا خير فيه، ولا يعجبني؛ لأن ماءه وقع في(5/161)
لبنها. قال ابن القاسم: وكذلك الرجل يتزوج المرأة ولها ابنة من غيره ترضعها، فيدخل فيطأها وهي ترضع، ثم تكبر الابنة، فيريد أن يزوجها ابنا له، لا يحل ذلك، ولا خير فيه؛ لأن اللقاح واحد.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه، على القول بأن لبن الفحل يحرم، وهو الذي عليه جماعة فقهاء الأمصار؛ لحديث عائشة، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في شأن عمها أفلح أخي أبي القعيس، وقد رخصت في ذلك طائفة من العلماء لما جاء من فعل عائشة على ما مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم.
[مسألة: له امرأتان وله أخ صغير فأرضعت إحدى امرأتيه أخاه]
مسألة قال أصبغ: قلت لابن القاسم: فالرجل تكون له امرأتان، وله أخ صغير، فأرضعت إحدى امرأتيه أخاه ذلك، فأراد أخوه ذلك أن يتزوج امرأة أخيه الأخرى التي لم ترضعه، وقد مات أخوه عنها أو طلقها، قال: لا يحل له ذلك، إنها امرأة أبيه حين أرضعته بلبنه.
قال محمد بن رشد: وهذا بين أيضا، لا إشكال فيه على القول بأن لبن الفحل يحرم كما مضى في المسألة التي فوق هذه، وبالله التوفيق.
[مسألة: ترضع صبيا بلبن رجل هو زوجها لها منه ولد ومن غيره ولد]
مسألة قال أصبغ: قال ابن القاسم: في المرأة ترضع صبيا بلبن رجل هو زوجها لها منه ولد، ومن غيره ولد، ولذلك الرجل ولد من غيرها، إن جميع ولدها من ذلك الرجل الذي أرضعت الغلام من لبنه، وجميع ولدها من غيرها، وولده من غيرها حرام على ذلك(5/162)
الصبي. قال أصبغ: وما يولد له منها ومن غيرها للأبد، وتلد من غيره حرام عليه. قال ابن القاسم: لأنه صار أبوه من الرضاعة، فكل ولد له أخوه، قال الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» .
قال محمد بن رشد: ويحرم عليه أيضا بنات ولدها، وبنات ولده من الذكران والإناث ما سفلوا؛ لأنهم بنات إخوته، ويحرم عليه أيضا أمهاتها وجميع جداتها وإن علون؛ لأنهن جدات له وبناتهن؛ لأنهن عمات له وخالات، ويحرم عليه أيضا أخواتهما؛ لأن أخوات المرأة خالات له، وأخوات الرجل عمات له، ويحرم عليه أيضا عماتهما وخالاتهما، ولا يحرم عليه شيء من أولاد هؤلاء، وكذلك يحرم أيضا على ولد هذا الصبي وإن سفلوا، بنات المرأة المرضعة، وبنات الرجل الذي اللبن منه دنية، دون شيء من أولاد أولادهما وأمهاتهما وجداتهما، وبنات الأمهات والجدات، وأخواتهما دون شيء من بناتهما، والأصل في هذا أن حرمة الرضاع تسري من قبل المرضعة إلا إلى الولد وولد الولد، وبالله التوفيق.
[مسألة: أرضعته جارية جده بلبن من وطء جده أتحرم عليه بنات عمه]
مسألة قيل لأصبغ: فما تقول فيمن أرضعته جارية جده بلبن من وطء جده، أتحرم عليه بنات عمه أم لا؟ قال: نعم، قد صار عما لهن أخا أبيهن.(5/163)