هل يغسل ويصلى عليه؟ فقال: لا يغسل ولا يصلى عليه، وإن كان جنبا قد ترك غسل من قد اجتمعت الأمة على غسله من موتى المسلمين، وكذلك يترك غسل الجنب إذا كان شهيدا، وقال ابن الماجشون مثل قول أشهب.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قالا؛ لأن غسل الجنابة من العبادات المتوجهة على الأحياء عند القيام إلى الصلاة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]- الآية - إلى قوله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] .
فإذا مات الميت ارتفعت عنه العبادات من الصلاة والغسل لها وغير ذلك، وغسل الميت إنما هي عبادة للأحياء تعبدوا (بها) فيه؛ فهي واجبة عليهم على الكفاية بإجماع، قيل: وجوب السنن، وقيل: وجوب الفرائض؛ ووجه احتجاج أشهب، هو أنه يقول: لما سقط وجوب غسل الميت بالشهادة، وقد كان واجبه وإن لم تكن به جناية، وجب أن يسقط بها - وإن كان جنبا، إذ لا تأثير للجنابة فيما كان يلزم من غسله - لولا الشهادة، وهو احتجاج صحيح من جهة القياس والنظر، وقد جاء بذلك الأثر، ذكر أهل العلم بالسير، أن حنظلة بن أبي عامر الراهب، كان قد ألم بأهله في حين خروجه إلى أحد، ثم هجم عليه من الخروج في النفير، ما أنساه الغسل وأعجله عنه؛ فلما قتل شهيدا، أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن الملائكة غسلته؟ وروي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل امرأته ما كان شأنه؟ فقالت: إنه كان جنبا وغسلت أحد شقي رأسه، فلما سمع الصيحة خرج فقتل؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقد رأيت الملائكة تغسله» ، فسمي حنظلة الغسيل - وكان من الأوس؛ روي أنها افتخرت على الخزرج - وكانا يتنافسان، فقالت الأوس:(2/250)
منا غسيل الملائكة، ومنا من حمته الدبر: عاصم بن ثابت بن (أبي) الأفلح، ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت، ومنا من اهتز العرش لموته: سعد بن معاذ، فقال الخزرجيون: منا أربعة جمعوا القران على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زيد بن ثابت، وأبو زيد، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب - يريدون ولم يقرأه كله أحد منكم، إذ قد قرأه كله جماعة من غير الأنصار؛ منهم عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيرهم.
[الميت يغسل بالعشي فلا يكفن إلا من الغد]
من سماع عيسى بن دينار من عبد الرحمن بن القاسم من كتاب العرية قال: وسئل عن الميت يغسل بالعشي فلا يكفن إلا من الغد، أترى ذلك الغسل يجزئه؟ قال: نعم، أرجو أن يجزئه.
قال محمد بن رشد: الاختيار أن يكون غسل الميت عند ما يحمل، فإن أخر حمله بعد غسله، أو بات، لم يعد غسله، وإن خرج منه شيء(2/251)
غسل مخرجه، وموضعه من الثوب فقط، حكاه ابن حبيب عن أصبغ وغيره، وأما إن خرج منه شيء في حال الغسل، فقد قال بعض العلماء: إن خرج منه شيء بعد أن غسل ثلاثا، غسل خمسا، فإن خرج منه شيء، غسل سبعا؛ فإذا بلغ السبع، لم يزد على ذلك، وذلك مستحب غير واجب عنده - وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة تموت ولا مال لها من يكفنها]
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك مسألة وقال في المرأة تموت ولا مال لها، على من ترى كفنها - وثم أبوها وزوجها؟ فقال: أما إن كانت بكرا فعلى أبيها، وإن كانت متزوجة - وقد دخل بها زوجها فليس ذلك على أبيها، ولا على زوجها، إلا أن يطوعا بذلك؛ ولو كان لها - ولد، كان ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: اختلف في وجوب كفن الزوجة على الزوج على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا يجب على الزوج مليئة كانت أو معدمة، وهي رواية عيسى هذه، والثاني: أنه يجب عليه مليئة كانت أو معدمة، وهو قول ابن الماجشون.
والثالث: أنه يجب إن كانت معدمة، ولا يجب عليه إن كانت مليئة، وهو قول مالك في رواية ابن الماجشون عنه، فوجه القول الأول: أن النفقة إنما كانت واجبة عليه بحق المعاوضة والاستمتاع، وذلك ينقطع بالوفاة، ووجه القول الثاني، أن الكفن تابع للنفقة؛ لأن ذلك من توابع الحياة، وأما القول الثالث: فهو استحسان ليس على حقيقة القياس، وكذلك اختلف في وجوب كفن الابن الصغير، أو الزمن الذي لا مال له على الأب؛ وفي وجوب كفن الأب المعدم على الابن، فقيل: إن ذلك عليهما كالنفقة؛ لأنه من توابع الحياة، وهو رواية عيسى هذه، وقول ابن الماجشون، وروايته عن مالك؛ وقيل: إن ذلك لا يجب عليهما، إذ ليست النفقة في ذلك ثابتة؛ لأن نفقة الأب تحدث، ونفقة الابن تزول، وهو قول سحنون؛ وقيل: إنه يجب على الأب كفن ابنه الصغير، ولا يجب على الابن كفن أبيه، وهو أحد قولي سحنون، ولا اختلاف في وجوب كفن العبد على سيده.(2/252)
[مسألة: هل تكفن المرأة في الثياب المصبوغة]
مسألة وسألته هل تكفن المرأة في الثياب المصبوغة؟ قال: نعم، وتكفن في الورس، والزعفران، وغير ذلك من الألوان، إلا أن مالكا كره المعصفر، إلا ألا يجد غيره.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة؛ لأنه (إذا) كره المعصفر للمرأة لم فهو للرجل أكره؛ لأنه من الزينة؛ وأجازه مالك في رواية علي بن زياد عنه للرجل والمرأة، وأجازه ابن حبيب للمرأة دون الرجل، وأما الورس والزعفران، فهو جائز للرجل والمرأة؛ لأنه من الطيب، وليس من الزينة، - قاله ابن حبيب في الرجل إذا غسل وإن لم يخرج منه لونه - وبالله التوفيق.
[مسألة: يؤتى بجنازتيهما والواحد أحسن حالا والآخر أسن أيهما يقرب إلى الإمام]
ومن كتاب لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس مسألة وسئل: عن الرجلين يؤتى بجنازتيهما، والواحد أحسن حالا والآخر أسن، أيهما يقرب إلى الإمام؟ قال: الأحسن حالا، وقال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: هذا مما لا اختلاف فيه أحفظه، أن الأحسن حالا يقدم على الأسن، وإنما يقدم الأسن على من هو أدنى منه سنا إذا(2/253)
استوت حالتهما في الفضل، والأعلم يقدم على الأفضل، وهذا من ناحية التقديم للإمامة - وبالله التوفيق.
[مسألة: معنى قول عمر عند موته ولا تجعلوا علي حجرا]
ومن كتاب العشور مسألة وسئل ابن القاسم: عن قول عمر عند موته: ولا تجعلوا علي حجرا؟ قال: ما أظن معناه إلا من فوق على وجه ما يبنى على القبر بالحجارة.
وقد سألت مالكا عن القبر يُجعل عليه الحجارة يرصص بها عليه بالطين؟ وكره ذلك، وقال: لا خير فيه، وقال: لا يُجَيَّر ولا يُبنى عليه بطوب ولا بحجارة.
قال محمد بن رشد: البناء على القبر على وجهين؛ أحدهما: البناء على نفس القبر، والثاني: البناء حواليه؛ فأما البناء على نفس القبر، فمكروه بكل حال؛ وأما البناء حواليه، فيكره ذلك في المقبرة من ناحية التضييق فيها على الناس، ولا بأس به في الأملاك - وبالله التوفيق.
[مسألة: ميت دفن فسهوا عن الصلاة عليه]
ومن كتاب النسمة مسألة وسئل ابن وهب: عن ميت دفن فسهوا عن الصلاة عليه، ولم يذكروا إلا بعد ما أرادوا الانصراف عنه؛ قال: قد سمعت من يقول في هذا: إنه لا ينبش، ولكن يصف على قبره حتى يصلى عليه، ويكبر عليه أربع تكبيرات بإمام؛ فإن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل عن مسكينة سوداء كانت تقوم على المسجد، فقيل له: يا رسول الله، توفيت البارحة ودفناها، فكرهنا أن نُخرجك ليلا؛ قال: فانطلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمن معه حتى وقف على قبرها،(2/254)
فصلى عليها وكبر أربع تكبيرات» .
قال عيسى: أرى أن ينبش إذا كان بحضرة ذلك - ويصلى عليه، وإن فات صلى على قبره، قال ابن القاسم - مثله.
قال محمد بن رشد: اختلف فيمن دفن ولم يصل عليه: فقيل: إنه يُخرج ويُصلى عليه ما لم يفت، فإن فات صُلِّي على قبره، وهو قول ابن القاسم، وابن وهب؛ وقيل: إنه يُخرج ما لم يفت، فإن فات (ترك ولم يصل) على قبره؛ لئلا يكون ذريعة إلى الصلاة على القبور، وهو قول أشهب، وسحنون، ومثله في المبسوط لمالك؛ واختلف بماذا يكون الفوت على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يكون بأن يُهَال عليه التراب بعد نصب اللبن، أو دون اللبن، وهو قول أشهب.
والثاني: أنه يكون بالفراغ من الدفن، وهو قول ابن وهب - ههنا.
والثالث: أنه يكون بأن يُخشى عليه التغيير، وهو قول سحنون، وقول عيسى، وروايته عن ابن القاسم - هنا؛ وإنما يصلى على القبر عند من رأى ذلك - ما لم يطل ذلك حتى يذهب الميت بفناء أو غيره، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يصلى على قبر بعد ثلاث، قال: لأنه يصير بعد ثلاث إلى حد لا يُصلى عليه، وقد لا يتغير الميت إلى أبعد من هذه المدة، مع أنه قد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر بعد ثلاث» .
[مسألة: قال لها ختنها أسلمي يا فلانة حتى نغسلك]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن امرأة نصرانية قال لها ختنها: أسلمي يا فلانة حتى نغسلك، ونصلي عليك.
فقالت: نعم، وأمرت(2/255)
بغسل ثيابها، وقالت: كيف أقول؟ قال: قلت لها قولي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته؛ فقالت: كل هذا ثم ماتت، فدفنت في قبور النصارى؛ فقال ابن القاسم: اذهب فانبشها، ثم اغسلوها وصلوا عليها، إلا أن تكون قد تغيرت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الكفار يعذبون في قبورهم، وهي تتأذى من أجل ذلك لمجاورتهم؛ فواجب أن تنبش وتحول إلى مقابر المسلمين، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: الميت ينبش أيغسل ويكفن]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب أوله يشتري الدور والمزارع وسألته: عن الميت ينبش، أيغسل ويكفن؟ قال: لا يعاد غسله، ولكن يكفن ويدفن، قلت: أواجب على أهله أن يكفنوه، أم يستحسن ذلك؟ وإن ترك لم تر به بأسا؟ قال: بل واجب عليهم أن يكفنوه.
قلت: أفمن رأس المال بمنزلة الكفن الأول؟ قال: نعم، قلت: وإن كان عليه دين يحيط بماله، بدئ أيضا كما يبدئ الكفن الأول، قال: نعم، قلت: أفيصلى عليه الثانية؟ قال: الصلاة الأولى تجزئه.
وسئل سحنون: عن رجل مات وكفنه أهله، فدفن وقسم ماله، ثم وجد الميت فوق الأرض منبوشا، ليس عليه أكفانه؛ هل يكون على(2/256)
ورثته أن يكفنوه مرة أخرى من رأس المال؟ أو من الثلث إن كان الميت أوصى بثلث ماله؟ فقال: ليس على أهله أن يكفنوه - مرة أخرى، إلا أن يتطوعوا، ويدفن من غير كفن، ولا يكفن من ثلث ولا غيره؛ لأنه قد كُفن وصلي عليه على سنة الإسلام.
قال محمد بن رشد: ذهب بعض أهل النظر إلى أن قول سحنون مبين لقول ابن القاسم؛ لأنه تكلم على أن المال قد قسم، وتكلم ابن القاسم على أنه لم يقسم، وذلك بعيد من جهة اللفظ والمعنى، أما بُعْده من جهة اللفظ، فهو أن القسمة ذُكرت في السؤال - ولم يعلل بها في الجواب، وإنما علل بأنه قد كفن وصلي عليه على سنة الإسلام، وأما بعده من جهة المعنى، فهو أن الحقوق الطارئة على الشركة لا يُسقطها قسمة المال، فهو اختلاف من القول.
فعلى مذهب ابن القاسم، على الورثة أن يكفنوه من بقية المال - قسم أو لم يقسم، وذلك بيِّن من قوله: إنه بمنزلة الكفن الأول، يبدأ على الدين؛ وعلى مذهب سحنون لا يلزم الورثة أن يكفنوه - ثانية مما بقي من التركة، قسمت أو لم تقسم.
ووجه القول الأول: أن الكفن في ضمان الورثة - وإن دفن الميت به؛ إذ ليس ممن يقبض لنفسه، ولا يجوز لها، وعلى الورثة أن يشتروه بماله من الكفن قبل الدفن وبعده - إذا عري؛ إذ ليست حرمته بعد الدفن بأدنى من حرمته قبله، فهو بمنزلة ما لو استحق من عليه بعد أن دفن؛ أو بمنزلة ما لو سرق من عليه، أو اختلس قبل الدفن.
ووجه القول الثاني: أنه بالدفن يخرج من ضمان الورثة، ويحصل الميت في حكم القابض له بإدخاله به في قبره - وإن كان ممن لا يصح منه القبض؛ لأنه بيته؛ ألا ترى من سرق منه يقطع، وأن الوصي إذا جهّز اليتيمة من مالها وأورده بيت بنائها، يبرأ من الضمان، وتحصل اليتيمة قابضة لذلك، وإن كانت ممن لا يصح منها القبض؛ إذ ذلك أكثر المقدور عليه - وبالله التوفيق.(2/257)
[مسألة: هل يصلى على المنبوذ إذا مات قبل أن يعرف الصلاة]
ومن كتاب المكاتب مسألة وسألته: هل يصلى على المنبوذ إذا مات قبل أن يعرف الصلاة، وفي البلد الذي طرح فيه يهود، ونصارى؟ قال: نعم. يصلى عليه، ولا تترك الصلاة عليه، لما في بلده من اليهود والنصارى؛ لأن السنة ألحقته بأحرار المسلمين في تمام عقله على قاتله - وهو حر لا سبيل لأحد عليه؛ قال: وترك أخذه أحب إليّ، إلا أن يخشى عليه الهلاك إن ترك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه على دين من التقطه من المسلمين، زاد ابن حبيب - وإن وجد في كنيسة، وإن كان عليه زي النصارى - إذا كان في جماعة المسلمين، وهو معنى ما في كتاب تضمين الصناع من المدونة، قال: وذلك بخلاف الكبير يوجد ميتا، أو الغريب يموت ولا يُعلم أنه كان مسلما؟ فإنه لا يصلى عليه - وإن كان مختونا؛ لأن النصارى قد يختتنون. وفي سماع عبد الملك عن ابن وهب: أنه يصلى عليه إن كان مختونا - وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: الكفن أيجعل فيه عمامة أو قميص]
ومن كتاب الأقضية مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم: عن الكفن أيُجعل فيه عمامة، أو قميص؟ أو هل يؤزر الميت؟ فقال: أحب ما كفن فيه الميت إلينا ثلاثة أثواب بيض، وكذلك كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يجعل فيه قميص، ولا عمامة، ولا يؤزر، ولكن يدرج فيهن(2/258)
إدراجا؛ قلت له: فالمرأة أتُدْرَج دَرْج الرجال؟ فقال: أحب إلي أن تؤزر وتخمر، وذلك سواء، ثلاثة أثواب تدرج فيهن لمن وجد لذلك سعة.
قال محمد بن رشد: هكذا وقعت هذه الرواية هنا لابن القاسم. والمعروف من مذهبه وروايته عن مالك في المدونة، وغيرهما: أن من شأن الميت أن يعمم؛ وقد وقع في العشرة في الكتاب الذي أوله يغتصب الأرض براحا؛ قال يحيى: وسألت ابن نافع عن الكفن - المسألة إلى آخرها على نصها - والله أعلم - أنها من قول ابن نافع، لا من قول ابن القاسم - وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: ماذا أعددت لبيت الوحدة]
من سماع موسى بن معاوية من ابن القاسم قال موسى بن معاوية: حدثنا جرير، عن مسعر، قال: كان يقال: إذا أدخل الميت القبر، قال له القبر: ماذا أعددت لبيت الوحدة، وبيت الوحشة، وبيت الدود؟ قال موسى: وحدثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن عبيد الله بن عمير الليثي، عن أبيه، قال: إن القبر ليبكي، ويقول: أنا بيت الدود، وبيت الوحشة، وبيت الوحدة.
قال محمد بن رشد: هذا على المجاز لا على الحقيقة، أي: لو كان القبر ممن يصح منه البكاء والكلام، لبكى وقال هذا القول؛ وهذا مثل قوله عز وجل: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] ، والجدار لا تصح منه الإرادة، ومثل قول عنترة:(2/259)
وشكا إليّ بعبرة وتحمحم
يعني فرسه.
ومثل قول الحارثي:
يريد الرمح صدر أبي براء ... ويرغب عن دماء بني عقيل
ومثل قول غيره:
وعظتْك أحداث صُمْت ... ونعتْك أزمنة خُفْت
وأرتك قبرك في القبو ... ر وأنت حي لم تمت
وتكلمت عن أوجه تبلى ... وعن صور سبت
وهذا كثير في كلام العرب وأشعارهم.
[مسألة: المرأة ذات الشعر تغسل، كيف يصنع بشعرها]
مسألة قال موسى: وسئل ابن القاسم: عن المرأة ذات الشعر تغسل، كيف يصنع بشعرها، أيظفر؟ أم يفتل؟ أم يرسل؟ وهل يجدل بين الأكفان؟ أم يعقص ويرفع مثل ما ترفعه الحية بالخمار؟ وكيف صفة غسلها وكفنها؟ وكيف يصنع بخمارها وشعرها وأكفانها؟ قال ابن القاسم: لم يكن للميت في غسله حد عند مالك، إلا أنه يغسل(2/260)
وينقى؛ وأما الشعر فليفعلوا فيه كيف شاءوا؛ وأما الظفر فلا أعرفه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما حكى ابن القاسم عن مالك: أنه لا حد عنده في غسل الميت - يريد في عدد الغسلات، وإنما الحد في ذلك عنده الإنقاء، ويستحب فيه الوتر، وأدناه ثلاث؛ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته: «اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن» ... " الحديث. كما أنه لا توقيت عنده في الوضوء، وإنما الحد فيه الإسباغ، ولأعداد مستحبة؟ وقوله في الظفر: إنه لا يعرفه - يريد: أنه لا يعرفه من الأمر الواجب، وهو - إن شاء الله - حسن من الفعل، روي عن أم عطية، قالت: «توفيت ابنة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما غسلناها ضفرنا شعرها، فجعلناه ثلاث ضفائر: ناصيتها، وقرنيها، ثم ألقيناها من خلفها» . وقد روي عن بكر بن عبد الله المزني: أنه سأل أعلم بيت من قريش بالغسل عن صفة الغسل، فقالوا: نصنع بالميت ما نصنع بالعروس، غير أنه لا يخلق ولا ينور - والله تعالى أعلم.
[مسألة: الرجل يموت هل تغسله أمته أو مدبرته أو مكاتبته]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يموت، هل تغسله أمته؟ أو مدبرته؟ أو مكاتبته؟ فقال ابن القاسم: لا أرى بأسا أن تغسله أمته، أو مدبرته، كل من كان يحل له، مثل المرأة، قال لي مالك في المرأة تغسل زوجها، وأما المكاتبة فلا.
قال محمد بن رشد: وهذا - كما قال - إنه جائز أن يغسل الرجل(2/261)
أمته، أو مدبرته، كما يجوز ذلك لامرأته؛ لأنهن حلائله؛ وهذا إذا أذن في ذلك أولياؤه. وأما إذا لم يأذنوا في ذلك، وأرادوا أن يلوه بأنفسهم، فذلك لهم في الأمة والمدبرة قولا واحدا؛ إذ لا حق لهما في ذلك معهم؛ وأما الزوجة فهم أحق بذلك منها، لا يقضى لها عليهم بغسله، وقد قيل: إنه يقضى لها عليهم بغسله، وأما الرجل فإنه يقضى له بغسل زوجته الحرة والأمة، وقيل: لا يقضى له بغسل زوجته - إذا كانت أمة، وأهل العراق لا يجيزون للرجل غسل زوجته - لانقطاع ما بينهما بالموت، ولا يجيزون للمرأة غسل زوجها - إذا انقضت عدتها منه بوضع حمل إن كان بها، وهو بعيد؛ إذ لو انقطع ما بينهما بالموت، كما ينقطع بالطلاق البائن، لما توارثا، ويكره مالك للرجل أن يغسل زوجته إذا تزوج أختها، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل المسلم يموت وليس معه من يغسله]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل المسلم يموت وليس معه من يغسله إلا أمه، أو أخته، أو امرأته، أو من ذوات المحارم؛ وليس معهن رجل إلا مشرك؛ وهل يغسل الرجل أمه، أو أخته، أو ذات رحم محرم منه؟
فقال ابن القاسم: يغسله ذوات محارمه من النساء من فوق الثوب: أمه أو ابنته أو أخته، وأما المرأة فإنها تستر عورة أبيها، وأخيها؛ والمرأة تغسل زوجها، والزوج يغسل امرأته في الحضر والسفر، وهو قياس قول مالك؛ وأما الحضر والإقامة فهو قول مالك، قال: تغسل المرأة زوجها، والزوج يغسل امرأته.(2/262)
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم " الجنائز والصيد والذبائح" من سماع أشهب - تحصيل القول في غسل ذوي المحارم بعضهم بعضا، ومضى في المسألة التي قبل هذه القول في غسل أحد الزوجين صاحبه، فلا فائدة في إعادته.
[مسألة: إمام جنازة صلى عليها وهو جنب لم يشعر بجنابته حتى دفنت]
مسألة وسئل: عن إمام جنازة صلى عليها وهو جنب لم يشعر بجنابته حتى دفنت، وكيف إن علموا قبل أن تدفن بجنابته بعد دخولها اللحد؟ أترد للصلاة عليها؟
قال ابن القاسم: أرى صلاتهم جائزة ولا تعاد، ألا ترى أن المكتوبة لو أن رجلا صلى بهم جنبا ناسيا، ثم سلم فعلم، أجزأت عنهم صلاتهم؛ فكذلك الجنازة إذا صلي عليها، أجزأت عنهم صلاتهم عليها.
قال محمد بن رشد: قياسه صلاة الجنازة في هذا على صلاة الفريضة صحيح، لا إشكال في صحته، فيدخل في صلاة الجنائز من الخلاف ما في صلاة الفريضة؛ لأن أهل العراق يقولون: إنها تبطل على المأمومين، كما بطلت على الإمام، وهو القياس على القول بأن صلاة المأمومين مرتبطة بصلاة الإمام؛ وحجة مالك حديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذ صلى الصبح بالناس - جنبا، فأعاد ولم يأمر الناس بالإعادة؛ وله وجه من النظر مع الاتباع، وهو أن الإمام إذا صلى بالناس جنبا، أو على غير وضوء - ولم يعلم بذلك، فقد سقط الفرض عنه وعنهم؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان» ... " الحديث. فإن ذكر بعد ذلك، وجبت عليه الإعادة دونهم؛ لأنهم صلوا بطهارة؛ إذ ليس سهو الإمام عن الطهارة سهوا لهم عنها،(2/263)
فيجب عليهم الإعادة، وإنما يكون سهو الإمام سهوا لمن خلفه، أو إن لم يكن منهم سهو إذا سها عما يحمله عنهم، كالقراءة، فلهذا وجبت الإعادة على المأمومين إذا سها الإمام عن القراءة وإن قرءوا هم، فإذا صلى الإمام بقوم على غير طهارة - وهو لا يعلم ثم علم، أعاد ولم يعيدوا؛ لأن الصلاة فرض على الأعيان. وإذا صلى على الجنازة - وهو على غير طهارة ثم علم، جازت الصلاة، ولم تجب إعادتها عليه ولا عليهم، أما هم فمن قِبَل أنهم صلوا على طهارة، وأما هو فمن قبل أن الفرض قد سقط عنه بصحة صلاتهم؛ لأنها من فروض الكفاية، ولو صلى عليها هو وَهْم على غير طهارة ثم علموا، لوجب أن تعاد الصلاة عليها.
[مسألة: إمام جنازة صلى على جنازة متوضئا ورجل خلفه على غير وضوء]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن إمام جنازة صلى على جنازة متوضئا - ورجل خلفه على غير وضوء، ثم ذكر قبل دفنها، أو بعدما دفنها. قال ابن القاسم: ليس عليه شيء، فصلاته مجزئة عنه.
قال محمد بن رشد: أما قوله ليس عليه شيء، فصحيح بيِّن؛ إذ لا يصلى على من قد صلي عليه، وقد مضى ذلك في رسم "الجنائز والصيد والذبائح" من سماع أشهب، وأما قوله فصلاته مجزئة عنه، فمعناه أنه ليس عليه إعادتها؛ إذ لا يصلى على من قد صلي عليه، وأن له أجر صلاته إذ لم يعلم بكونه على غير وضوء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان، وعما استكرهوا عليه» ؛ لأن صلاة الجنازة على غير وضوء تصح، فهو في صلاته على الجنازة بغير وضوء، كمن أوتر بغير وضوء فلم(2/264)
يعلم حتى صلى الصبح، فيقال: إنه يجزئه وتره، بمعنى أنه ليس عليه قضاؤه، وبالله التوفيق.
[مسألة: إمام جنازة قهقه في صلاته]
مسألة وسئل: عن إمام جنازة قهقه في صلاته، هل عليه وعلى من خلفه إعادة الصلاة، وكيف به إن أحدث وليها؟ هل يجوز له أن يستخلف على ما بقي من الصلاة، أم يعيدون الصلاة؟ أم يمكثوا قياما حتى يذهب وليها - إن كان هو الإمام فيتوضأ ويرجع فيصلي بإعادة الصلاة؟ وكيف إن رعف فذهب يتوضأ، أله أن يستخلف من يتم بهم بقية صلاتهم؟ وكيف إن ذهب ولم يستخلف: كيف يصنع الناس، أيقدمون رجلا منهم؟ أم لا يحدثون شيئا حتى يرجع الولي أو الإمام؟ وكيف إن لم يكن لها ولي ولا إمام جماعة؟
قال ابن القاسم: لا نبالي كان لها وليا أو لم يكن لها وليا إن أحدث أو رعف، فينبغي أن يقدم رجلا ليتم بهم بقية الصلاة؛ وإن لم يقدم أحدا وانصرف وجهل ذلك، تقدم رجل فأتم بهم بقية صلاتهم؛ وأما الذي قهقه، فإنهم يقطعون جميعا ويبتدئون الصلاة من أولها؛ لأن الإمام قطعها، وكذلك لو أحدث متعمدا ابتدءوا الصلاة عليها.
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح على ما قاله؛ لأن الصلاة على الجنائز صلاة، فيقطعها ما يقطع الصلاة؛ ويجب على الإمام من الاستخلاف فيها ما يجب عليه من الاستخلاف في الصلاة.
[مسألة: قوم جهلوا القبلة فصلوا على جنازتهم]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن قوم جهلوا القبلة فصلوا على جنازتهم(2/265)
إلى غير القبلة، ثم علموا بذلك قبل دفنها، أو بعد دفنها؛ أيعيدون الصلاة عليها؟
قال ابن القاسم: إن دفنوها فلا شيء عليهم، وإن لم يدفنوها، فإني أستحسن أن يصلى عليها، ولست أرى ذلك عليهم بواجب.
قال محمد بن رشد: أشهب يرى إعادة الصلاة عليها ما لم تدفن، وسحنون لا يرى ذلك. واستحباب ابن القاسم أن تُعاد الصلاة عليها ما لم تدفن - راجع إلى إسقاط وجوب الإعادة، مثل قول سحنون، فوجه إعادة الصلاة عليها ما لم تدفن، أن من صلى إلى غير القبلة إنما يعيد في الوقت، فجعل حضور الجنازة كحضور الوقت، ودفنها كفواته. ووجه قول من لم ير الإعادة: أن إعادة الصلاة في الوقت إنما هي لإدراك فضيلة الوقت، فلما لم يكن للصلاة على الجنازة وقت معين، كان السلام منها كخروج وقتها، كما قال ابن القاسم فيمن طاف بثوب نجس، فعلم بذلك بعد إكمال الطواف أنه لا إعادة عليه، كمن صلى بثوب نجس فلم يعلم حتى خرج الوقت؛ وقيل: تعاد الصلاة عليها - وإن دفنت، ما لم ينقض النهار - إن كان صلي عليها نهارا، أو الليل - إن كان صلي عليها ليلا، وهو قول ابن نافع؛ فجعل بقية النهار أو الليل لها كالوقت القائم للصلاة المفروضة، فإن ترك الإعادة عليها حتى تدفن على قول من يرى أنها تعاد، تخرج ذلك على قولين: أحدهما: أن الصلاة قد مضت فلا تعاد، والثاني: أن إعادتها قد وجبت، فيصلى عليها في قبرها؛ أو تُخرج ما لم يخش عليه التغير، كمن دفن دون أن يصلى عليه.
[مسألة: القوم ينسون الصلاة على الجنازة فلا يذكرون حتى تدفن]
مسألة وسئل: عن القوم ينسون الصلاة على الجنازة فلا يذكرون حتى تدفن، أتنبش، أم يصلى عليها في قبرها؟ ويؤمهم وليها في الصلاة؟
قال ابن القاسم: إن كان عندما دفنوها، فأرى أن تُخرج ويُصلى عليها؛(2/266)
وإن خافوا من ذلك تغييرا، صلوا عليها في قبرها.
وسئل ابن القاسم: عن الميت يجهل القوم الصلاة عليه، فيدفنونه ولم يصلوا عليه ولم يغسل، فيأتي قوم من المسلمين فيخبرون بذلك ساعتئذ؟
قال ابن القاسم: إن كان بحدثان أمره لم يتغير، ولم يخافوا عليه أن يكون قد دخله غير في قرب ذلك وحدثانه عندما دفنوه؛ رأيت أن يخرج ويغسل ويصلى عليه، وإن خافوا أن يكون قد تغير، رأيت أن يصلوا على قبره ويتركوه.
قال محمد بن رشد: ترك الغسل، والصلاة على الميت أو الغسل دون الصلاة، أو الصلاة دون الغسل - جهالة أو نسيانا، سواء في وجوب الحكم في ذلك؛ لأن الصلاة لا تجزئ دون غسل، فترك الغسل كترك الصلاة؛ وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم "النسمة " من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: إمام جنازة صلى عليها فذكر بعدما دخل في الصلاة أن عليه صلاة نسيها]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن إمام جنازة صلى عليها، فذكر بعدما دخل في الصلاة أن عليه صلاة نسيها؛ كيف يصنع؟ أيمضي في الصلاة ولا يعيدها - وتجزئ الذين معه؟ أو يقطع ويقضي ما نسي ثم يصلي على الجنازة؟ وهل تحبس الجنازة عليه - إن كان إمام المصر، أو ولي الميت، أو ممن يبصر السنة إن كان مع جهال لا يبصرون السنة، حتى يصلي ما نسي ثم يعود فيصلي على الجنازة؟ وكيف الأمر فيها إن خيف على الجنازة الفساد؟
قال ابن القاسم: يمضي في الصلاة على الجنازة ولا يقطع.(2/267)
قال محمد بن رشد: إنما قال إنه يمضي في الصلاة ولا يقطع، بخلاف الإمام يذكر صلاة نسيها، أنه يقطع ويقطعون، أو يقطع ويستخلف من يتم بهم الصلاة - على اختلاف قوله في ذلك؛ لأن الترتيب فيما قل من الصلوات لازم، ولا ترتيب فيما بين صلاة الفريضة والصلاة على الجنازة، ومثل قول ابن القاسم هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون، وأصبغ، ولم يذكر في ذلك اختلافا، ولا فرق بين أن يكون في خناق من وقت الصلاة التي نسيها، أو لا يكون في خناق من وقتها، وذلك خلاف لأصله، والذي يأتي فيها على أصله، أن يخرج ويستخلف إذا كان في خناق من وقت الصلاة التي ذكرها.
[مسألة: يقتله الإمام في المحاربة والحرابة أيصلي عليه الإمام ويغسل]
مسألة وسئل ابن القاسم: عمن أقيد منه في قصاص، أيصلي عليه الإمام؟ وعن الذي يقتله الإمام في المحاربة والحرابة، أيصلي عليه الإمام ويغسل؟ وكيف به إن رأى الإمام صلبه، أيقتله ويغسله ويصلي عليه، أم لا؟ وكيف الأمر فيه في القتل والصلب، أيصلب حيا ثم يقتل ويصلى عليه مصلوبا؟ أم لا يصلى عليه على حال؟
قال ابن القاسم: أما كل من قتل بالسيف أو قودا، وما قتل به من خنق أو غيره، فإنه يغسل ويصلى عليه، وأما الصلب فإنا سألنا مالكا عنه، فقال: ما سمعت فيه بشيء، وما علمت أنه كان من عمل من مضى. قال مالك: ولقد صلب عبد الملك بن مروان الحارث الذي تنبأ وطعنه هو بيده، قال ابن القاسم: ولم يصلبه إلا حيا، قال مالك: وأرى اجتهاد الإمام يسعه في ذلك على المحارب إذا أراد أن يقتله ويصلبه، أو يصلبه حيا، وسعة ذلك على أشنع ذلك، يريد على قدر جرمه.
قال ابن القاسم: فإن قتل قبل أن يصلب، رأيت أن يصلى عليه ثم يصلب؛ وأما الذي يصلب حيا فإني لم أسمع فيه بشيء، قيل لسحنون: فإذا(2/268)
صلبه الإمام حيا وقتله في خشبته، كيف يصلى عليه، قال: ينزل ويكفن ويصلي عليه أهله؟ قلت: ولا يعاد في الخشبة لما يريد الإمام من شنعة ذلك من فعله، ونكالا لغيره، فقال: لا أرى ذلك، وفيما فعل به ما يجزئ، وأرى إذا صلي عليه أن يدفن؛ وقول مالك يجزئه من هذا كله يصلي على كل من قتله الإمام.
قال محمد بن رشد: سأله عن صلاة الإمام على الذي يقتله في قود، أو على حرابة؛ فلم يجبه على ذلك، ومذهبه وروايته عن مالك: أنه لا يصلي عليه، ويصلي عليه أهله والناس؛ قيل: على سبيل الردع والزجر، كما يكره له ولمن سواه من أهل الفضل - الصلاة على أهل الكبائر والشر. وقيل: إنما لم يصل عليه الإمام من أجل أنه منتقم لله بقتله، فلا يكون شافعا إليه بالصلاة عليه؛ والتأويل الأول صحيح في المعنى، إلا أنه لا يسعد قوله لتفرقته فيه بين القتل وغيره، وهذا أسعد به، إلا أن فيه نظرا، إذ لا يمنع أن ينتقم لله منه بما شرعه من القتل في الدنيا، ويشفع له في ألا يعاقبه في الدار الأخرى؛ وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على الجهنية المرجومة. وذهب إلى ذلك محمد بن عبد الحكم.
وقال ابن نافع: يصلي الإمام على من قتله في قصاص، أو حد من الحدود، وليس لترك صلاة الإمام عليه وجه، ولا فرق بينه وبين غيره، ويحتمل أن يفرق على قول محمد بن عبد الحكم بين المرجوم والمقتول في حرابة أو قود، فإن الرجم كفارة للزنا بإجماع، وليس القتل في القود والحرابة بكفارة للذنب، بدليل قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] . ولا اختلاف في أن المقتول في حد أو قود يصلي(2/269)
عليه الناس، إذ لا يخرج بما اجترمه مما أوجب عليه القتل عن الإسلام، لا سيما وقد قيل: إن القتل كفارة به؛ وأما المصلوب، فقيل: إنه يقتل ثم يصلب، وهو قول أشهب. وقيل: إن يصلب حيا ثم يقتل في الخشبة، وهو قول ابن الماجشون. وجعل ابن القاسم الإمام مخيرا في ذلك باجتهاده على قدر ما رأى من جرمه.
وقول ابن الماجشون أظهر؛ لأن الله إنما خير في صفة قتله، ولو كان إنما خير في صلبه بعد قتله، لقال: أن يقتلوا ثم يصلبوا. فإذا قتل قبل أن يصلب، صلى عليه قبل أن يصلب. وأما إذا صلب حيا، فقيل: إنه لا يصلى عليه. وقيل: إنه يصف خلف الخشبة ويصلى عليه؛ اختلف في ذلك قول ابن الماجشون، وقيل: إنه ينزل عن الخشبة ويصلى عليه ويدفن، ولا يعاد في الخشبة؛ وقيل: بل يعاد فيها ليذعر بذلك أهل الفساد، اختلف في ذلك قول سحنون - وبالله التوفيق.
[مسألة: عن أناس ثاروا على خارجي فظفر وقاتل أولئك الذين ثاروا عليه]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن أناس ثاروا على خارجي، فظفر وقاتل أولئك الذين ثاروا عليه، فقتل بعض أصحابه وقتل من أولئك الذين ثاروا عليه وليس فيهم من يرى أنه أراد بصيرة ولا دينا أكثر من طلب الدنيا؛ أيصنع بقتلاهم ما يصنع بالشهداء؟ أم يغسلون ويصلى عليهم؟ أم ليس على من لم يهو هواهم ولم يشهد معهم - أن يغسلهم، ولا يصلي عليهم؟ وأنهم يقتتلون بين أحياء المسلمين، فيكون بين الفئتين قتلى؛ هل يجب غسلهم ودفنهم على أصحاب(2/270)
كل قرية؛ أم على من سمع ذلك أو رآهم من أهل ذلك المحوز أن يذهبوا فيغسلوهم ويصلوا عليهم؟ أم يصنع بهم ما يصنع بالشهداء؟
قال ابن القاسم: ليس هؤلاء مثل الشهداء، ويغسلون جميعا الظالم والمظلوم، ويصلى عليهم؛ وأما دفنهم، فإني أرى ذلك من الحق أن يدفنوا جميعا ولا يتركوا؛ لأنهم من المسلمين، يغسلون ويصلى عليهم ويدفنون؛ وأرى للسلطان أن يواريهم ولا يكره أحدا على ذلك.
وقد سئل مالك عن النصراني يموت مع المسلمين، فقال: يحفر ويوارى للذمة، فكيف للمسلمين.
وسئل ابن القاسم: عن طائفتين من الخوارج مثل الحرورية، والقدرية، ونحوهم، يقتتلون فيقتل من الفريقين قتلى، هل يجب على من بقي من الطائفتين دفن قتلاهم، والصلاة عليهم، وهل يدفنون بدمائهم كالشهداء، أو كيف بهم إن تركوهم ولم يدفنوهم؟ هل يجب على من كان قريبا منهم دفنهم، والصلاة عليهم؟
قال ابن القاسم: يغسلون ويصلى عليهم، وعلى من كان قريبا منهم أن يواريهم ويغسلهم ويصلي عليهم، وليس بواجب، ولكني أستحسنه.
وسئل ابن القاسم: عن الطائفتين من المسلمين يقتتلان، فيقتل بينهما قتلى، أيصلى عليهم أم لا؟ وهل يدفنون بدمائهم، أم يغسلون؟ وكيف إن كانت إحداهما باغية والأخرى عادلة؟
قال: وجه ما سمعنا من مالك أنه يغسل جميع المسلمين، ويصلي عليهم - كان ظالما أو مظلوما؛ لأنه سمعته يقول في(2/271)
الذي يقتل نفسه، إنه يغسل ويصلى عليه، وإثمه على نفسه؛ وليس أحد في الظلم أظلم ممن قتل نفسه، وكل القتلى عند مالك يغسلون ويصلى عليهم، إلا الشهيد في سبيل الله، الذي يموت في المعركة، فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه، ويدفن بثيابه ولا تجرد له؛ قال مالك: وما علمت أنه ينزع منه شيء.
قال محمد بن رشد: هذه المسائل كلها صحاح بينة في المعنى والحجة، فلا إشكال فيها، ولا اختلاف في المذهب في شيء منها؛ إلا أنه قد اختلف التأويل على مالك في قوله في أهل الأهواء والبدع، إنهم لا ينكحون ولا ينكح إليهم ولا يسلم عليهم، ولا يصلى خلفهم، ولا يشهد جنائزهم، فقيل: إن ذلك على وجه التأديب لهم، والكراهة لمخالطتهم، وقيل: إن ذلك لأنهم عنده كفار، بدليل قوله في سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين والمرتدين على ما آية أشد على أهل الأهواء وأهل البدع، من هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] ... الآية. قال: فأي آية أبين من هذه؟ ورأيته يتأولها في أهل الأهواء، والتأويل الأول أولى؛ وقد مضى من قوله في رسم "الجنائز والصيد"، ما سمعت أن أحدا ممن يصلي القبلة ينهى عن الصلاة عليه، ومضى من كلامنا في هذا المعنى في رسم "الصلاة" الثاني، من سماع أشهب من كتاب الصلاة - ما فيه شفاء.
[مسألة: تغطية القبر بالثوب على المرأة]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن تغطية القبر بالثوب على المرأة حين(2/272)
تدفن، أواجب ذلك على الناس؟ ومن أولى من يفعل ذلك؟ ومن أولى من يدخل القبر لدفن المرأة في قرابتها؟ وكيف إن لم يكن لها قرابة؟
قال ابن القاسم: زوجها أولى الناس بها من أبيها وولدها؛ وأما الثوب فأراه حسنا أن يعمل به؛ لأنه ستر لها ألا يرى منها شيء من خلفها، فإن لم يكن قرابة من ذوي محرم، كان أهل الفضل - عندي - وأهل الصلاح أفضل في دخولها.
قال محمد بن رشد: أما استحسانه لستر قبر المرأة بالثوب عند الدفن فبين في المعنى، وأما قوله: إن أولى الناس بإدخالها في قبرها زوجها، فإنه صحيح على أصله في أن له أن يغسلها، وأنه أحق بذلك من قرابتها من النساء، وخالف في ذلك أهل العراق، وتعلقوا بما روي عن أنس بن مالك قال: «ماتت إحدى بنات النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يدخل القبر أحد قارف أهله الليلة» ؛ فلم يدخل زوجها، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن المعنى فيه أنه هو الذي كانت المقارفة بينه وبين أهله تلك الليلة، فعلم ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكره أن يدخل قبرها؛ وأن يواجهه بذلك، إذ كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يواجه أحدا بما يكره، وإنما كان يقول ذلك تعريضا لأخلاقه الكريمة، فامتنع زوجها عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الدخول في قبرها، لما سمعه من قوله، وفهمه من إرادته - وبالله التوفيق.(2/273)
[مسألة: الميت يحرف على القبلة فيوضع على شقه الأيسر ثم يعلم بذلك قوم يعرفون السنة]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الميت يحرف على القبلة فيوضع على شقه الأيسر، ثم يعلم بذلك قوم يعرفون السنة ساعتئذ؛ كيف الأمر فيه؟
قال ابن القاسم: إن كانوا لم يواروه بحدثان ذلك، وألقوا عليه شيئا يسيرا، فأرى أن يحول ويوجه إلى القبلة؛ وإن كانوا دفنوه وفرغوا من دفنه، فليترك ولا ينبش.
قال محمد بن رشد: إنما يوجه الميت في لحده إلى القبلة؛ لأنها أشرف الجهات، إذ رضيها الله تعالى قبلة لعباده في صلواتهم، وليس ذلك بواجب فرضا، لقول الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] . ولذلك لم ير ابن القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ينبش الميت إذا كانوا قد فرغوا من دفنه، لما في ذلك من كشفه لمعنى غير واجب.
[مسألة: يسبق الجنازة إلى المصلى أيجلس حتى يؤتى بها]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الذي يسبق الجنازة إلى المصلى، أيجلس حتى يؤتى بها، أم يقوم؟ وكيف إن سبقها الرجل إلى القبر، أيجلس قبل أن توضع على الأرض أم لا؟
فقال: قال مالك: يجلس ولا بأس به في هذا كله.
قال محمد بن رشد: روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى توضع أو تخلفكم» . وروي عنه - صلى(2/274)
الله عليه وسلم - «إذ مر عليه بجنازة فقام، فقيل: إنه يهودي، فقال: أليس ميتا؟ أو أليس نفسا؟» وروي عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد» .
فكان القيام للجنائز مأمورا به في ثلاثة مواضع: أحدها: من كان جالسا فمرت به أن يقوم حتى يخلفه. والثاني: من اتبع جنازة ألا يجلس حتى توضع. والثالث: من سبق الجنازة إلى المقبرة فقعد ينتظرها، أن يقوم إذا رآها حتى توضع؛ ثم نسخ ذلك كله بما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم في الجنائز، ثم جلس، وأمرهم بالجلوس» . وروي أنه فعل ذلك مرة، وكان يتشبه بأهل الكتاب، فلما نهى انتهى. وأما القيام على الجنازة حتى تدفن فلا بأس به، وليس ذلك مما نسخ؛ روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام على قبر حتى دفن. وقد قيل: إنه منسوخ وليس ذلك بصحيح. روي أن علي بن أبي طالب قام على قبر المكفف، فقيل له: ألا تجلس يا أمير المؤمنين؟ فقال: قليل لأخينا قيامنا على قبره، وهو الذي روى النسخ؛ فدل ذلك على أنه لم يدخل فيه عنده القيام على القبر - عند الدفن وبعده - والله أعلم. وذهب ابن حبيب إلى أنه إنما نسخ من القيام في الجنائز الوجوب فيمن جلس في سعة، ومن قام فمأجور، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: اللوح واللبن والقصب توضع على اللحد]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن اللوح واللبن والقصب توضع على اللحد، ويجعل الرجل في تابوت من خشب، ويدفن فيه أو يبنى عليه الآجر؛ فقال ابن القاسم: أما التابوت فأكرهه، ولا يعجبني أن يدفن(2/275)
فيه أحد، وأما اللبن فهي السنة والشأن، وأما الألواح فلا أرى ذلك إلا ألا يوجد لبن ولا آجر.
قال محمد بن رشد: في بعض الروايات ولا ثرى - مكان - ولا آجر، والصواب: ولا آجر؛ لأن الأفضل فيما يجعل على الميت في قبره اللبن، ثم الألواح، ثم القراميد، ثم الآجر، ثم الحجارة، ثم القصب، ثم سن التراب، وسن التراب خير من التابوت، قال ذلك ابن حبيب. وقد روي عن ابن القاسم وأشهب: أنه لا بأس أن يجعل على اللحد اللبن، أو القصب، أو اللوح، وذلك خفيف. وروي عن سحنون أنه قال: ما سمعت حدا كره اللوح إلا ابن القاسم.
[مسألة: قبة النعش التي تصنع للنساء]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن قبة النعش التي تصنع للنساء، أواجب ذلك لكل امرأة بلغت المحيض أم لا؟ وكيف المرأة التي تموت في السفر، هل تستر بقبة كما يصنع أهل الحضر؟ أم كيف يصنع بها إذا وضعت على سريرها؟ وكم حد طول قبة النعش الذي لا يجوز أن يرفع فوقه؟
قال ابن القاسم: قد فعله عمر بن الخطاب. وأخبرني مالك: أن أول من فعل به ذلك زينب زوج النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فقال عمر للتي فعلته بها: سترتها سترك الله. فقد استحسنه عمر، فأرى ألا يترك في سفر ولا حضر،(2/276)
وهو يقدر على ذلك؟ وأما حد طوله فليس فيه حد إلا ما وارى، وأكره ما أحدث الناس فيه من المباهاة والفخر من طول ذلك، حتى صار عندهم زينة من الزينة، فأنا أكره ذلك.
قال محمد بن رشد: ليس في هذه المسألة معنى يشكل، فيحتاج إلى التكلم عليه، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: نفر من المسلمين وفيهم مشرك وقع عليه بيت فهلكوا كيف يغسلون]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن نفر من المسلمين - وفيهم رجل مشرك - وقع عليهم بيت فهلكوا، أيغسلون جميعا ويصلى عليهم؟
فقال ابن القاسم: ما سمعت من مالك فيه شيئا، وأرى أن يغسلوا ويصلى عليهم، وتكون نيتهم في الصلاة على المسلمين منهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها، وإنما الاختلاف إذا كان نفر من المشركين وفيهم رجل مسلم لا يعرف بعينه، فقال أشهب: إنه لا يصلى عليهم؛ وقال سحنون: إنهم يغسلون ويصلى عليهم، وتكون نيتهم في الصلاة على المسلم منهم، ولا تترك حرمة مسلم تضيع، هكذا وقع هذا الاختلاف في سماع ابن غانم من بعض الروايات.
[مسألة: الميت يوجد بفلاة من الأرض ولا يدرى أمسلم هو أو كافر]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الميت يوجد بفلاة من الأرض، ولا يدرى أمسلم هو أو كافر؟ أيغسل ويكفن ويصلى عليه؟ أو الميت يوجد أحد شقيه بلا رأس، أو يوجد أحد شقيه برأسه؟
فقال ابن القاسم: لم أسمع من مالك فيه شيئا، وأرى أن يوارى ولا يصلى عليه،(2/277)
ويوارى بلا غسل؟ وكذلك لو وجد في مدينة من المدائن ميت في زقاق، ولا يدرى أمسلم هو أو كافر.
قال محمد بن رشد: وإن كان مختونا، إذ قد علم أن اليهود يختنون أولادهم، وقال ابن حبيب: وإن لم يدر إن كان مسلما أو نصرانيا. فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه، وإن كان مختونا، إذ من النصارى من يختتن. وقال ابن وهب في سماع عبد الملك: أنه يجر يده على ذكره، فإن كان مختونا غسله وصلى عليه، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: يصلون على الجنازة فيضعون الرأس موضع الرجلين]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن القوم يصلون على الجنازة فيضعون الرأس موضع الرجلين، ثم يعلمون بذلك قبل دفنها، أيعيدون الصلاة عليها؟
قال ابن القاسم: ما أرى ذلك، وصلاتهم مجزئة عنهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه قد صلى عليه وهو أمامه إلى القبلة، فالأمر في ذلك واسع، وكذلك لو أخطأ في ترتيب الجنائز للصلاة عليها، فقدم النساء على الرجال والصغار على الكبار، لمضت الصلاة، ولم تجب إعادتها، وإن علم بذلك بالقرب قبل الدفن.
[مسألة: أدركوا إمام جنازة حين سلم أتحبس لهم الجنازة]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن قوم أدركوا إمام جنازة حين سلم، أتحبس لهم الجنازة حتى يصلوا عليها فرادى، أم لا تحبس إذا كان قد صلي عليها؟
قال ابن القاسم: لا تحبس ولا تعاد الصلاة عليها.(2/278)
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم "الجنائز والصيد والذبائح" في موضعين، ومضى الكلام عليها في الموضع الأول منهما، فلا وجه لإعادته هنا.
[مسألة: الميت لا يوجد له رأس أو يوجد جسده تام أيغسل ويصلى عليه]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الميت لا يوجد له رأس، أو يوجد جسده تام، أيغسل ويصلى عليه؟ أو الميت يوجد أحد شقيه بلا رأس، أو يوجد أحد شقيه برأسه، أو يوجد صدره برأسه، أو توجد فخذاه من السرة إلى أسفل، أو يوجد يد أو رجل بائنة من الجسد؟ أيصلى عليه على هذه الصفة؟ وهل يجب دفن شيء من ذلك على من وجده؟ وكيف إن وجد رأسه منفردا من الجسد ولم يوجد غيره؟ أو وجد أعضاؤه متفرقة بغير رأس؟ أو وجد الرأس؟ أيجمعها ويصلي عليها؟
فقال ابن القاسم: قال لي مالك: لا يصلى على يد ولا فخذ، ويصلى على الجسد - وإن لم يكن فيه رأس - فقلنا لمالك: فما حد ذلك؟ فقال: إذا وجد جله أو أكثره، صلي عليه. وأما يد، أو رأس، أو فخذ، فإني أرى أن يدفن ولا يصلى عليه. وأما ما ذكرت إذا وجد متقطعا، فإنه ينظر إلى ما وجد من ذلك، فإن كان هو جله أو كله، فلا يبالى كان متقطعا أو مجتمعا، فإنه يغسل ويصلى عليه؛ وإن كان ذلك يسيرا حتى يكون مثل الرجل(2/279)
أو اليد أو الرأس لم يصل عليه، ولا يغسل؛ لأني لا أرى أن يغسل إلا ما كان منه يصلى عليه، وإن كان يسيرا لم يصل عليه. وإن وجد متشدخا لا يستطاع أن يغسل، صب عليه الماء صبا، وكذلك صاحب الجدري وما أشبهه من القروح التي إذا مس سلخ، فإنه يصب عليه الماء ويترفق به، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل قوله في المدونة: إنه لا يصلى على يد، ولا على رجل، ولا على رأس، ولا يصلى إلا على جل الجسد. قال هاهنا: وجد مجتمعا أو متفرقا. وقال في كتاب ابن حبيب: إذا وجد مجتمعا؛ والمعنى في ذلك عند مالك: أنه لا يصلى على غائب، فإذا وجد بعض الميت وغاب بعضه، جعل القليل تبعا للجل مما غاب أو حضر، ولم يجعل الأقل تبعا للأكثر حتى يكون الأكثر هو الجل، وإن أدى ذلك إلى أن لا يصلى عليه أصلا؛ إذ قد يوجد منه أكثر من النصف ودون الجل فلا يصلى عليه، ثم إن وجدت بقيته لم يصل عليها - كما قال أشهب: إنه إذا وجد أحد شقيه برأسه لم يصل عليه، والأظهر أن يجعل الأقل منه تبعا للأكثر فيصلى عليه؛ لأنه إذا صلي عليه وهو أكثر من النصف، فقد أمر أن يصلى على الباقي منه - إذا وجد، وأن يصلى على النصف أيضا إذا وجد؛ لأنه إن لم يصل عليه - وكان من وجد النصف الثاني لم يصل عليه أيضا، بقي الميت بلا صلاة؛ فلأن يصلى عليه مرتين، أولى من أن لا يصلى عليه؛ إلا أنهم لم يعتبروا شيئا من ذلك إلا بقاءه بلا صلاة، ولا الصلاة عليه مرتين، فقد روي عن ابن الماجشون: أنه يصلى على الرأس؛ لأن فيه أكثر الديات، فإذا كان عنده يصلى على الرأس، ويصلى على البدن دون رأس، فلم تبق الصلاة عليه مرتين. فإنما العلة عند مالك وأصحابه(2/280)
في هذه المسألة - ما ذكرناه من أن الصلاة لا تجوز على غائب لا ما سوى ذلك، واستخفوا إذا غاب منه اليسير، الثلث فدون، إلا ما كان من قول ابن الماجشون: إنه إذا وجد الرأس يصلى عليه؛ لأن فيه أكثر الديات، فمن علل مذهب مالك في أنه لا يصلى إلا على جل الجسد بإبقاء الصلاة عليه مرتين، أو بقائه دون صلاة فقد أخطأ؛ وعبد العزيز بن أبي سلمة يرى أن يصلى على ما وجد منه من يد أو رجل، وإن لم يوجد منه شيء وعلم أنه قد مات غريقا، أو أكلته السباع، صلي عليه أيضا عنده، وحجته صلاة النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - على النجاشي بالمدينة - وهو ميت بأرض الحبشة، وإلى هذا ذهب ابن حبيب.
واحتج من نصر قول مالك بما روي عن عمران بن حصين، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه". قال: ونحن نرى أن الجنازة قد أتت، قال: فصففنا فصلينا عليه، وإنما مات بالحبشة فصلى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين دخل المدينة» . قال: فإذا كان الله قد حمله إلى المدينة بلطيف قدرته - حتى وضعه بين يديه بالمصلى فصلى عليه، بطل تعلق عبد العزيز بن أبي سلمة بالحديث، وفي خروج النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلى المصلى للصلاة عليه، دليل على أنه كان بها؛ إذ لو كان بمكانه بأرض الحبشة، لم يكن لخروجه إلى المصلى للصلاة عليه معنى.
واحتج أيضا بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل عليه بعد دفنه - مع ما في الصلاة عليه من عظيم الأجر، والحجة الأولى أظهر، إذ قد قيل: إنما لم يصل على النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بعد ذلك، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يتخذ قبره مسجدا، وقد نهى عن ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(2/281)
[مسألة: الصغير مع أبويه لم يكره على الإسلام]
مسألة قال معن بن عيسى: وقال مالك: إذا كان الصغير مع أبويه لم يكره على الإسلام، وإن كان وحده أمر بالإسلام.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مجودا في رسم " الشجرة تطعم بطنين في السنة" من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: الرجال والنساء والصبيان إذا اجتمعوا في قبر واحد من ضرورة]
مسألة قال موسى بن معاوية: وسئل ابن القاسم: عن الرجال والنساء والصبيان إذا اجتمعوا في قبر واحد من ضرورة، فقال: يكون الرجال من داخل مما يلي القبلة، والصبيان من خلفهم، والنساء من ورائهم؛ فقلت: فكيف يكونون في الصلاة؟
فقال: يكون الرجال مما يلي الإمام، والصبيان إذا كانوا ذكورا إليهم، ثم النساء مما يلي القبلة، وسواء كان الرجال عبيدا أو أحرارا يجعلون أبدا مما يلي الإمام، والنساء إلى القبلة.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن العبد الكبير يقدم إلى الإمام، ثم الحر الصغير من ورائه، وقد مضى من تحصيل القول في هذه المسألة في رسم "الجنائز والصيد " من سماع أشهب، ما لا مزيد عليه، فلا معنى لإعادته هنا مرة أخرى، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: المرأة تتوفى في سفر مع رجال ولا امرأة معهم فتيممها أتدفن في ثيابها]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم مسألة قال محمد بن خالد: سألت عبد الرحمن بن القاسم: عن المرأة تتوفى في سفر مع رجال - ولا امرأة معهم فتيممها، أتدفن في ثيابها؟
فقال ابن القاسم: يفعل في ذلك أفضل ما يقدر عليه؛ قال ابن(2/282)
القاسم: إن ناسا من أهل المغرب سألوا مالكا عن المرأة تخرج معهم حاجة - وليس معها ذو محرم فتسألهم أن يحملوها على الدابة، كيف ترى في ذلك؟ فكان من قوله لهم وما أمرهم به أن يتطأطأ لها الذي يريد أن يحملها، حتى تستوي عليه ثم تركب، وهذا حين لم يقدر على أفضل من ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وأحسن ما يقدر عليه في هذا أن تلف كما هي في ثيابها في ثوب تدرج فيه وتدفن، والله تعالى أعلم.
[مسألة: تكون له امرأة نصرانية فتلد منه ثم يغيب عنها فيموت ولده منها في غيبته]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل تكون له امرأة نصرانية فتلد منه، ثم يغيب عنها فيموت ولده منها في غيبته، فيدفن ولده أولياء أمه مع أهل دينهم، ثم يعلم بذلك من يومهم أو من الغد؛ أفترى أن ينبش فيحول إلى مقبرة المسلمين؟
قال ابن القاسم: إن كان بحضرة ذلك، ولم يخف أن يكون قد تغير، فلا أرى بأسا أن يخرج، ثم يدفن في مقبرة المسلمين؛ وإن خيف عليه التغيير، فلا أرى أن يحرك.
قال محمد بن رشد: قوله فلا أرى بذلك بأسا - يدل على أن ذلك جائز غير لازم، والذي مضى في رسم "النسمة" من سماع عيسى أبين وأوضح؛ لأنه إذا لم يكن في نبشه بأس، فتحويله إلى مقبرة المسلمين لازم.
[مسألة: الرجل يقتل ثم يصلب متى يصلى عليه]
مسألة قال: وأخبرني ابن القاسم في الرجل يقتل ثم يصلب، أنه يصلى عليه قبل أن يصلب، وأما الذي يصلب حيا ثم يقتل، فإني لم أسمع(2/283)
فيه شيئا. قال سحنون: ينزل عن الخشبة ويصلى عليه، ثم يرد فيها ليذعر أهل الفساد.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في سماع موسى، فلا وجه لإعادته - وبالله التوفيق.
[مسألة: رجلين نزلا في قرية فسقط عليهما البيت فلم يدر من المسلم من اليهودي]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون قيل لسحنون: فلو أن رجلين نزلا في قرية أحدهما مسلم، والآخر يهودي، قد عرف ذلك، ولأحدهما مال، والآخر لا مال له، فسقط عليهما البيت فلم يدر من المسلم من اليهودي؟ كيف يصنع بغسلهما والصلاة عليهما؟
قال: يغسلان جميعا ويصلى عليهما، وتكون النية عليهما على من كان منهما مسلما.
قيل له: فالكفن كيف يكفنان جميعا - وأحدهما كان معروفا أنه كان ذا مال، والآخر لا مال له، إلا أنهما لما ماتا لم يعرف صاحب المال من الذي لا مال له؟ فقال: يكون الكفن من المال الذي كان معهما. قيل له: فبقية المال أيكون موقوفا عند السلطان؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله: إنهما يغسلان جميعا - بين، لا سيما على قوله: إن النفر من المشركين إذا كان معهم رجل مسلم فماتوا ولم يعلم المسلم منهم، أنهم يغسلون جميعا، ويصلى عليهم، ولا تترك حرمة مسلم، هكذا يصنع وقد(2/284)
مضى ذلك في سماع موسى بن معاوية، وإذا كفنا جميعا من المال الذي وجد معهما، وأوقفت بقيته عند السلطان، فاستحقه ورثة أحدهما دون صاحبه، جبر عليه ما كفن به الآخر من بيت مال المسلمين؛ لأنه لو علم أنه لا مال له، لكان الواجب أن يكفن من بيت المال، وإن ادعاه ورثتهما جميعا ولم يأت أحدهما ببينة، حلفا واقتسما البقية بينهما، ولم يكن لأحدهما رجوع على صاحبه.
[مسألة: صاحب الصلاة إذا فوض الصلاة إليه الأمير]
مسألة قال سحنون: صاحب الصلاة إذا فوض الصلاة إليه الأمير، أو صاحب الشرطة، أو القاضي، من كان صاحب الصلاة؟ والمنبر منهم، فهو أولى بالصلاة على الجنازة من الأولياء؛ قال: وإن لم تكن الصلاة إلى القاضي، فهو كغيره من الناس، وإن صاحب المنبر أمير الجند؛ وصاحب شرطة إذا كان موكلا بالخطبة والصلاة، أولى من الأولياء، وليس للقاضي في هذا عمل، إلا أن تكون الصلاة إليه؛ قيل: فوكيل أمير الجند على الخطبة والصلاة - إذا غاب الأمير - إن لم يعرف الخطبة مثل وكيله بالناس وليس إليه شرطة، ولا ضرب الجند، ولا شيء من الصلاة؛ قال: لا أرى لهذا في الصلاة على الجنائز شيئا.
قال محمد بن رشد: في هذا الكلام التباس، ومذهبه أنه لا يكون(2/285)
أحق من الأولياء بالصلاة على ميتهم إلا الأمير، أو قاضيه، أو صاحب شرطة، أو مؤمره على الجند - إذا كانت الخطبة والصلاة إلى كل واحد منهم، فإن انفرد أحدهم بالخطبة والصلاة - دون أن يكون إليه حكم بقضاء، أو شرطة أو إمارة على الجند، أو انفرد بالحكم بالقضاء، أو الشرطة، أو الإمارة على الجند، دون أن تكون إليه الخطبة والصلاة، لم يكن له في الصلاة على الجنازة حق؛ وكل من كان إليهم الحكم بوجه من الوجوه والصلاة، فوكيله عليهما جميعا بمنزلته في أنه أحق من الأولياء بالصلاة على الجنازة، وأما إن كان وكله على الحكم دون الصلاة، أو على الصلاة والخطبة دون الحكم، فلا حق له في الصلاة على الجنازة، وهذا مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك، في المدونة. وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم: أن ذلك لكل من كانت إليه الخطبة والصلاة - يريد: وإن لم يكن إليه حكم، ولا يوجد ذلك لابن القاسم نصا، وظاهر ما في سماع ابن الحسن عن ابن وهب أن القاضي أحق بالصلاة على الجنازة من الأولياء، وإن لم تكن الصلاة إليه.
وقال مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ: ليس لواحد من هؤلاء في الصلاة على الجنازة حق سوى الأمير المؤمر الذي تؤدى إليه الطاعة، فهي أربعة أقوال؛ ولا اختلاف في أنه لا حق في الصلاة على الجنائز لمن انفرد بالصلاة دون الخطبة والقضاء، أو بالحكم - دون القضاء، والخطبة، والصلاة، فهذا تحصيل هذه المسألة؛ وأولى الأولياء بالصلاة على الميت الابن، وابن الابن، وإن سفل، ثم الأب، ثم الأخ، ثم ابن الأخ، وإن سفل، ثم الجد، ثم العم، ثم ابن العم، وإن سفل، ثم أب الجد، ثم بنوه، على هذا الترتيب؛ كولاية النكاح، وميراث الولاء؛ فإن استووا في القعد والقرب من الميت، فأعلمهم أولا، ثم أفضلهم، ثم(2/286)
أسنهم، فإن استووا في العلم والفضل والسن، فأحسنهم خلقا؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة القائم بالليل الظامئ بالهواجر» . فإن استووا في ذلك وتشاحوا في الصلاة عليه، أقرع بينهم. وقيل: يقدم أحسنهم خلقا، فإن أراد الأحق بالصلاة أن يقدم أجنبيا من الناس، أو بعيدا من الأولياء على من هو أقرب منه، فقد مضى في آخر أول رسم من سماع أشهب - الخلاف في ذلك. وأما إن أوصى الميت إلى أحد بالصلاة عليه، فهو أحق من الأولياء، ومن الوالي إن حضر، قاله ابن حبيب. وحكاه عن مالك. وروى ابن غانم عن مالك: أنه أحق من الولي. وحكى عنه سحنون في نوازله: أنه أحق منه، إلا أن يعلم أن بينه وبينه عداوة، وإنما أراد بذلك نقصه، فلا تجوز وصيته بذلك، وقع في سماع ابن غانم ونوازل سحنون في بعض الروايات.
[مسألة: أوصى عند موته أن يكفن في ثوب واحد، فزاد ورثته في كفنه ثوبين]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل أوصى عند موته أن يكفن في ثوب واحد، فزاد ورثته في كفنه ثوبين، فقال بعض الورثة: لا نرضى، ونحن نرد هذه الزيادة؛ فقال: إن كان في مال الميت محمل لمثل كفنه الذي كفن فيه، فلا أرى عليهم ضمانا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لا يلزم أن ينفذ من الوصايا إلا ما فيه قربة وبر، ولا قربة ولا فضيلة في أن يكفن الرجل في ثوب واحد، بل المستحب ألا يكفن في أقل من ثلاثة أثواب، كما كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي كتاب ابن شعبان: أنه إذا أوصى بشيء يسير في كفنه وحنوطه لم يكن(2/287)
لبعض الورثة الزيادة فيه بغير ممالاة من جميعهم، وذلك عندي إذا أوصى بشيء يسير في قيمة الأكفان، دون أن ينقص من العدد في الثلاثة الأثواب؛ لأن الرخص في الكفن مستحب، والمغالاة فيه مكروهة؛ لأنه للمهلة كما قال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ولسحنون في كتاب ابنه: أنه إذا أوصى بسرف في كفنه، أو الحفر له، جعل في ثلثه الزائد على القصد، وهو بعيد لوجهين: أحدهما: أنه لم يرد بذلك الثلث، والثاني: أن ذلك مكروه لا طاعة فيه، ولا ينفصل من وصية الميت، إلا ما فيه طاعة. وقيل: إنه يرجع ميراثا، وهو قول مالك وابن القاسم وأشهب. وهو الصواب على ما ذكرناه من أنه لا ينفذ من وصية الميت إلا ما كان فيه طاعة.
[مسألة: الجنازة يحضرها الولي والقاضي]
من سماع عبد الملك بن الحسن وسؤاله ابن وهب مسألة قال عبد الملك بن الحسن: سألت ابن وهب: عن الجنازة يحضرها الولي، والقاضي؛ هل يستحب للولي أن يقدم القاضي؟ أم تراه في سعة من ترك تقديمه؟
فقال: إذا حضر القاضي جنازة لم ينبغ لولي الميت أن يتقدم، والقاضي أولى وأحق؛ قيل له: فصاحب الشرطة، أهو عندك مثل القاضي في مثل هذا؟ قال: لا. قيل له: فالقرشي الذي له الحال والصلاح يحضر الجنازة، وولي الميت حاضر، أهو عندك بمنزلة القاضي؟ فقال: إذا كان على مثل ما وصفت من حاله، وممن ترجى بركة دعائه، فإني استحب لوليه أن يقدمه.(2/288)
قال محمد بن رشد: ظاهر قول ابن وهب هذا، أن القاضي أحق بالصلاة على الجنازة من وليها - وإن لم تكن الصلاة والخطبة إليه، خلاف ما تقدم في نوازل سحنون، وقد تقدم هناك تحصيل القول في ذلك؛ وأما استحسانه لولي الميت أن يقدم القرشي الذي له الصلاة والفضل، فذلك حسن من الفعل؛ لأنه شفيع للميت، فينبغي أن يتوخى فيمن يتقدم للصلاة عليه من يرجى أن يشفع فيه.
[مسألة: يمر بفلاة من الأرض فيجد رجلا ميتا لا يدري أمسلما أو نصرانيا]
مسألة وسئل: عن الرجل يمر بفلاة من الأرض، فيجد رجلا ميتا لا يدري أمسلما أو نصرانيا؟ ما العمل فيه؟
قال ابن وهب: إذا لم يعلم، جر يده على ذكره من فوق الثوب، فإن كان مختونا، غسله وصلى عليه ودفنه، وإن لم يكن مختونا واراه.
قال محمد بن رشد: وقال ابن حبيب: إنه يواريه ولا يغسله ولا يصلي عليه - وإن كان مختونا، إذ من النصارى من يختتن؛ ولو لم يعلم أن كان مسلما، أو كافرا، لواراه بلا غسل، قاله في سماع موسى بن معاوية. ولا اختلاف في هذا أعلمه، إذ قد علم أن اليهود يختتنون.
[مسألة: الميت إذا حضرته الوفاة هل يستقبل به القبلة]
مسألة وسئل ابن وهب: عن الميت إذا حضرته الوفاة، هل يستقبل به القبلة؟
فقال: نعم يستقبل به القبلة، فقيل له: فكيف يستقبل به القبلة؟ فقال: يجعل على شقه الأيمن - إن قدر على ذلك، كما يصنع به في اللحد، وإن لم يقدر على ذلك، جعل مستلقيا على قفاه - ورجلاه مما يلي القبلة.(2/289)
قال محمد بن رشد: اختلف في التوجيه: فروي عن مالك أنه مستحب، وهو الذي عليه الجمهور؛ وروى علي بن زياد عن مالك، أنه قال في التوجيه: ما هو من الأمر القديم، وذلك نحو ما روي عن سعيد بن المسيب أنه أنكر ذلك على من فعله به في مرضه؛ وتأول ابن حبيب أنه إنما كره ذلك لاستعجالهم به قبل أن ينزل به أسباب الموت؛ والأظهر أنه كرهه بكل حال. والذي يدل أنه غير مشروع، أن ذلك لم يرو أنه فعل بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا بأحد من الصحابة المتقدمين الكرام، ولو كان ذلك، لنقل وذكر - والله أعلم.
وإلى هذا نحا مالك في رواية علي بن زياد، لقوله ما هو بالأمر القديم. وأما صفته عند مالك، وجميع أصحابه، فعلى جنبه الأيمن، كما يجعل في لحده، وكما يصلي المريض الذي لا يقدر على الجلوس عندهم. واختلف الذين قالوا في المريض الذي لا يقدر على الجلوس، أنه يصلي على ظهره - ورجلاه إلى القبلة في التوجيه، فمنهم من قاسه على الصلاة، ومنهم من قاسه على جعله في قبره؛ لأن المعاينة سبب من أسباب الموت. فقياس التوجيه فيها على حال الموت، أولى من قياسه على الصلاة، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.
[مسألة: الرجلين يكونان في السفر فيجنب أحدهما ويموت الآخر]
مسألة وسئل: عن الرجلين يكونان في السفر، فيجنب أحدهما، ويموت الآخر - وليس معهما من الماء إلا ما يتطهر به واحد، قال: فالحي أولى بالماء من الميت، قيل: أيتيمم الميت؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: إنما كان الحي أولى بالماء من الميت، من أجل أن الميت لا يقاومه إياه، وإذا اغتسل الحي بالماء، كان عليه قيمة نصيب الميت منه لورثته - إن كانت له قيمة؛ وانظر لو أراد ورثته أن يقاوموه إياه، هل يكون ذلك لهم أم لا؟ وقد مضى في سماع سحنون، وموسى بن معاوية، من كتاب الوضوء، ما يوضح هذه المسألة ويبين معناه، فقف على ذلك هناك - وبالله التوفيق.(2/290)
[مسألة: الجنائز هل ينادى بها في المساجد]
مسألة قلت: فالجنائز هل ينادى بها في المساجد؟ قال: لا ينادى بها إلا على أبواب المساجد.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما تقدم في رسم "حلف" من سماع ابن القاسم، وقد مضى هناك القول على ذلك بأوعب ما فيه، وبالله التوفيق.
تم سماع عبد الملك بن الحسن بحمد الله.
[لفرق بين الروح والنفس]
البيان والتحصيل من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم
من كتاب القضاء العاشر قال أصبغ: سمعت عبد الرحيم بن خالد يقول: بلغني أن الروح له جسد، ويدان، ورجلان، وعينان، ورأس، يسل من الجسد سلا.
قال محمد بن رشد: ذكر هذه الرواية عن عبد الرحيم بن خالد، أن الروح له جسد ويدان ورجلان وعينان ورأس، يسل من الجسد سلا. وحكى ابن حبيب عنه: أن النفس هي التي لها جسد ويدان وعينان ورأس تسل من الجسد سلا، وأن الروح هو النفس المتردد في الإنسان، ففرق عبد الرحيم بن خالد - فيما حكى ابن حبيب عنه - بين الروح والنفس، وسمى نفسا ما سماه في هذه الرواية روحا - وهو الجسد المجسد الذي(2/291)
يحيا الجسم بكونه فيه، ويموت بإخراجه منه - وهو الصواب - أن النفس والروح اسمان لشيء واحد؛ وهو الذي يحيا به الجسم، وإن كان كل واحد منهما قد يقع بانفراده على مسميات لا يقع عليها الآخر، فيقع النفس على ذات الشيء وحقيقته؛ وعلى الدم، وعلى الحياة الموجودة بالإنسان، ويقع الروح على الملك، وعلى القرآن، وعلى النفس المتردد في الإنسان، وعلى الحياة الموجودة فيه وفي غيره من الحيوان، فإذا عبر بالنفس والروح عن شيء واحد، فالمراد به ما يحيا به الجسم، ويتوفاه ملك الموت، فيدفعه إلى ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب؛ وهو النسمة التي قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها: «إنما نسمة المؤمن طائر، يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» .
فالنفس، والروح، والنسمة، شيء واحد؛ وقد يسمى الإنسان نسمة اتساعا ومجازا. والدليل على أن النفس والروح شيء واحد: أن الله - تبارك وتعالى - قال: {يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ نام عن الصلاة في الوادي، حتى طلعت الشمس: «إن الله قبض أرواحنا، ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا» . فسمى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - روحا ما سماه الله نفسا، وهذا بين، وإنما قلنا إنه هو الذي يحيا به الجسم، ولم نقل إنه الحياة الموجودة به؛ لأن الحياة الموجودة به معنى من المعاني، والمعاني لا تقوم بأنفسها، ولا يصح عليها ما وصف الله به الأنفس والأرواح في كتابه، وعلى لسان نبيه من القبض والإخراج والرجوع والطمأنينة والصعود والتنعيم والتعذيب. فمعنى قولنا: الذي يحيا به الجسم، أي: ما أجرى الله العادة بأن الجسم يحييه بكونه فيه،(2/292)
ويميته بإخراجه منه؛ لأن ما يحيا به الجسم وجوبا لإعادة هي الحياة، ولا تكون إلا معنى؛ لأن الجواهر والأجسام لا توجب الأحكام في الأجسام، فإذا قلنا: إن النفس والروح شيء واحد، وإنه هو الذي أخبر الله تعالى أنه يتوفاه عند الموت وعند النوم بقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42] . فقد قال بعض المتقدمين: إن قبضه في حال النوم - هو أن يقبض وله حبل ممدود إلى الجسم كشعاع الشمس، فإذا حرك الجسم رجع إليه الروح أسرع من طرف العين.
والأظهر - عندي - في ذلك أن قبضه في حال الوفاة هو بإخراجه من الجسم، وقبضه في النوم، ليس بإخراج له من الجسد، وإنما معناه منعه من الميز والحس والإدراك، وقبضه عن ذلك، كما يقال: قبض فلان عبده، وقبض السلطان وزيره؛ إذا منعه مما كان مطلقا عليه - قبل، وإن لم يزله عن مكانه في الحقيقة، فالقبض على هذا، والتوفي في الوفاة حقيقة، وفي النوم مجاز، والله أعلم بحقيقة الصواب في ذلك كله، قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ... الآية، وبالله التوفيق.
[مسألة: ولد المسلم يولد مخبولا أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ العمل]
مسألة قال أصبغ: وسألت ابن القاسم: عن ولد المسلم يولد مخبولا، أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ العمل؛ قال: ما سمعت فيهم شيئا، إلا أن الله تبارك وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] ،(2/293)
فأرجو أن يجعلوا معهم، فأما من احتلم وجرى عليه القلم، ثم أصيب بعد ذلك، فإني سمعت بعض أهل العلم والفضل يقول: إنه يطبع على عمله بمنزلة من مات.
قال محمد بن رشد: الذي يولد مخبولا أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ العمل، فهو بمنزلة من مات صغيرا من أولاد المسلمين، إذ لم يلحق بالمكلفين، فهو مولود على الفطرة، وصائر بفضل الله ورحمته إلى الجنة، وما رجاه ابن القاسم بتأويل الآية من أن يلحقوا بآبائهم. فروي عن النبي، - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، روي عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في جنته، وإن لم يبلغها في العمل، لتقر بهم عينه". ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور: 21] » ... الآية. وأما من أصابه الخبل بعد أن احتلم، وجرى عليه القلم، فما حكي أنه سمعه من بعض أهل العلم فيه من أنه يطبع على عمله بمنزلة من مات - صحيح في المعنى؛ لارتفاع القلم عنه بالخبل، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة»
فذكر فيهم: «المجنون حتى يفيق» .
[مسألة: هلك فلم يكن له كفن فطلب له في الناس فجمع له عشرون درهما وعليه دين]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: عن مالك في رجل هلك فلم يكن له كفن، فطلب له في الناس فجمع له عشرون درهما،(2/294)
فكفنه رجل من عنده، وبقيت الدراهم، فأراد غرماؤه أخذها، أو ورثته؛ قال: ليس هي لغرمائه ولا لورثته، وترد إلى أهلها. وقاله ابن القاسم، إلا أن يشاء ويسلموها لورثته، وأحب إلي لأصحابها أن يفعلوا. وفي سماع أبي زيد مثله عن ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: قوله إن العشرين درهما ترد إلى أهلها، هو مثل ما في كتاب المكاتب من المدونة - في المكاتب: إذا أعين في كتابته، ففضلت عنده فضلة مما أعين به، أنه يرد ذلك على الذي أعانوه أو يستحلهم منه - إذا كان ذلك منهم على وجه الفكاك لرقبته، ولم يكن صدقة عليه منهم، ومعارض لما في سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات في السائل يقف بالباب فيأمر له بدرهم فيجده قد انصرف: أنه يتصدق به ولا يسترجعه؛ فيأتي على قياس هذا في مسألة الكفن أن يجعل العشرين درهما أصحابها في كفن غيره، ولا يسترجعونها لأنفسهم مالا من مالهم، واستحب ذلك في سماع ابن القاسم من كتاب العارية في مسألة السائل، ولم يوجبه؛ فكذلك مسألة الكفن يستحب لأصحابها أن يجعلوا العشرين درهما في كفن مثله من غير إيجاب؛ وأما استحبابه لأصحابها أن يسلموها للورثة، ففيه نظر؛ لأنهم لم يقصدوا بذلك الصدقة على الورثة، والله أعلم وبه التوفيق.
[أهل الحرب يغيرون على بعض ثغور الإسلام فيقتلون رجالا هل هم شهداء]
ومن كتاب المجالس وسئل أصبغ: عن أهل الحرب يغيرون على بعض ثغور الإسلام، فيقتلون الرجال في منازلهم في غير معترك، ولا مجتمع، ولا ملاقاة؛ ما حالهم عندك، أحال الشهداء؟ أم كيف يصنع بهم؟
فقال لي: سمعت ابن القاسم يقول في هؤلاء: إنهم يغسلون ويصلى(2/295)
عليهم، ويقول: لا يدفن بدمه وثيابه، وتترك الصلاة عليه، إلا من قتل في معترك ومزاحفة، فأما من قتله أهل الحرب في غير معترك، ولا مزاحفة، فلا. قال أصبغ: فسألت عن ذلك ابن وهب، فقال لي: هم شهداء حيث ما نالهم العدو بالقتل، في معترك أو مزاحفة؛ وهو رأي على ما قال ابن وهب، وهو كان أعلم بهذا وشبهه مما يشاكل الآثار والسنة من جميع أصحابنا. قيل لأصبغ: فسواء عندك ناصبوهم بالسلاح حين غشوهم في منازلهم، أو قتلوهم معافصة نياما، أو غافلين. قال أصبغ: نعم ذلك سواء، وهم شهداء، يصنع بهم ما يصنع بالشهداء. قيل: أرأيت إن قتلوا امرأة بالغة، أو صبية صغيرة، أهم عندك مثل الرجال البالغين؟ وبأي قتلة قتلوا فهم بتلك الحال، يصنع بهم ما يصنع بالشهداء في ترك غسلهم، والصلاة عليهم، وقتلوا بسلاح، أو بغير سلاح؟ قال: نعم، هم عندي سواء في جميع ما ذكرت.
قال محمد بن رشد: المنصوص في المدونة مثل قول ابن وهب، وفيها دليل على مثل قول ابن القاسم. وجه قول ابن القاسم أن قتلى أحد الذين أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، إنما قتلوا في المعترك. ووجه قول ابن وهب: أنه لما كان الذين قتلهم العدو في غير(2/296)
المعترك لهم حكم المقتولين في المعترك في الشهادة، وجب أن يكون لهم حكمهم فيما سوى ذلك، مما يختص به المقتول في المعترك.
[الميت هل يكفن في الحرير]
ومن مسائل نوازل سئل عنها أصبغ وسئل أصبغ: عن الميت هل يكفن في الحرير؟ وعن لباس الملحم للرجال؟ وكيف بالقلنسية منه؟
قال أصبغ: لا يكفن الميت في حرير لا رجل ولا امرأة، إلا أن يضطروا إلى ذلك بموضع لا يوجد غيره؛ ولا يجوز لباس الملحم للرجال، لا قميص، ولا ساج، ولا قلنسوة، لا بما قل منه ولا بما كثر؛ لأنه لباس كله؛ ولو أن رجلا حلف ألا يلبس الحرير، أو الخز، فلبس منه قلنسوة، كان لباسا، وكان حانثا.
قال محمد بن رشد: الملحم الثوب الخالص من الحرير، وسمي ملحما؛ لأنه ألحم فيه الحرير في الحرير، بخلاف الخز؛ لأنه ألحم فيه الخز في الحرير. وقوله "إنه لا يكفن في الحرير الرجال ولا النساء" هو مثل ما في المدونة من كراهيته الحرير والخز والمعصفر في أكفان الرجال والنساء. وإنما كره الحرير في أكفان النساء - وإن كان من لباسهن في حال الحياة؛ لأنه من الزينة، فجاز في الحياة دون الموت كالحلي؛ ولأنه قد قيل: إنه حرام على الرجال والنساء، وممن ذهب إلى ذلك عبد الله بن الزبير، تعلقا بعموم قول النبي - عليه(2/297)
الصلاة والسلام -: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له في الآخرة» . وروي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خطب، فقال: يا أيها الناس، لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة» . قال ابن الزبير: وأنا أقول: من لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] . وليس تأويل ابن الزبير كما تأول؛ لأنه قد روي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة، ولو دخل الجنة يلبسه أهل الجنة ولا يلبسه هو» .
وأجاز ابن حبيب أن يكفن في الحرير والخز والمعصفر النساء دون الرجال؛ لأن ذلك من لباسهن في الحياة، وقد وسع في سماع ابن وهب في ذلك للرجال؛ لأن العبادة قد ارتفعت عنهم، فأشبهوا الصبيان، وفي ذلك بعد؛ لأن العبادة - وإن كانت قد ارتفعت عنهم، فأولياؤهم متعبدون فيهم، فلا ينبغي لهم أن يقلبوهم إلى ربهم بعد وفاتهم، بما حرم عليهم لباسه في حياتهم؛ فهي ثلاثة أقوال، القياس منها قول ابن حبيب، وقول مالك استحسان، وما في سماع ابن وهب توسعة بعيدة.
[مسألة: الشهيد إذا عراه العدو أيكفن]
مسألة وسئل: عن الشهيد إذا عراه العدو، أيكفن؟
فقال: نعم، أرى ذلك حسنا؛ قيل: فإن استشهد وعليه ثيابه - وفيها ما يجزئه - فأراد(2/298)
أولياؤه أن يزيدوه كفنا على ثيابه، فقال: ما أرى به بأسا يفعلون - إن شاءوا.
قال محمد بن رشد: قوله في تكفين من عراه العدو من الشهداء أن ذلك حسن، لفظ فيه تجاوز وتسامح، بل ذلك لازم لا رخصة في تركه. ومما يدل على ذلك: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن الشهداء يوم أحد اثنين في ثوب، فلو كان ترك تكفينهم واسعا، لما جمع منهم اثنين في ثوب، ولكفن من وجد ما يكفنه فيه وترك من لم يجد - والله أعلم؛ وأما الزيادة على ثيابه - إذا كان فيها ما يجزئه، فلا بأس به كما قال، إذ إنما الكراهية في أن ينزع عنهم ثيابهم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زملوهم بثيابهم» .
[مسألة: العلة في ترك الصلاة على الشهيد]
مسألة قيل: من أي وجه تركت الصلاة على الشهيد؟ فقال: هي السنة، من فعل رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال محمد بن رشد: وإن كانت هي السنة، فلا يمتنع أن تعلل السنن إذا وجد لها علة، والعلة في ترك الصلاة على الشهيد، أن الصلاة على الميت شفاعة له، ولا يشفع إلا للمذنبين؛ والشهداء قد غفرت ذنوبهم، وصاروا إلى كرامة الله ورحمته وجنته أجمعين، فارتفعت حالهم عن أن يصلى عليهم، كما يصلى على سائر موتى المسلمين - والحمد لله رب العالمين؛ ولهذا لم يصل على النبي، - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وإنما كان الناس يدخلون عليه أفواجا فيدعون وينصرفون. وقد روي عن ابن وهب: أنه قال: كيف يصلى على(2/299)
حي؟ وهذا اعتلال فيه نظر، إذ لا شك في أنهم قد ماتوا وخرجوا من الدنيا، وصاروا في عداد الموتى ووجب أن تنكح نساؤهم، وتقسم أموالهم، فليس كون أرواحهم حية عند الله، بمانع من الصلاة عليهم، كما لا يمنع ذلك من الصلاة على سائر المؤمنين، وإن كانت لحياتهم مزية بأنهم عند ربهم يرزقون، ويأكلون في الجنة وينعمون، وعند النفخ في الصور لا يفزعون، ولا يخمدون، ولا يصعقون. وأبو حنيفة يرى أن يصلى على الشهيد، ومن حجته ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يوم أحد على حمزة، وقد سئل مالك عن ذلك، فقال: ما سمعت، وأما غسله فلا اختلاف أحفظه في أنه لا يغسل.
[مسألة: الرجل يأتي إلى الرجل في كفن يبتاعه]
مسألة وسئل أصبغ: عن الرجل يأتي إلى الرجل في كفن يبتاعه منه، فيقول له: إن الرجل لم يمت بعد، فأخذه منه بثمن قد سماه، واشترط المبتاع على البائع - إن مات، وإلا رددته؛ قال: لا يجوز، قيل له: فإن فات، قال: فلصاحب الكفن القيمة؛ قيل: فإن كانت القيمة أقل، قال: لم يكن له إلا القيمة؛ قيل له: فإن كانت أكثر، قال: فله الأكثر، إلا أن يشاء أن يمضيه له بذلك الذي واجبه عليه، قيل: فإن الثياب أخذت لنصراني، أترى إن ردت الثياب أن يطهرها؟ قال: أراه خفيفا، وما أرى أن تغسل إلا أن تلبس.
قال محمد بن رشد: قوله إن البيع على هذا الشرط لا يجوز صحيح، وقوله فإن فات فلصاحب الكفن القيمة - بالغة ما بلغت، كانت أقل من الثمن أو أكثر، معناه: إن فات بأن كفن فيه الميت ومضى، وأما إن فات قبل موته،(2/300)
فمصيبته من ربه، إلا أن يتلف بيد المبتاع، ولا يعلم تلفه إلا بقوله، فيلزمه فيه القيمة؛ لأنه إنما هو كرجل اشترى سلعة من رجل بثمن معلوم، إن مات فلان من مرضه، فهو عقد فاسد، يجب أن يفسخ، وترد السلعة إلى بائعها؛ فإن تلفت قبل موت فلان، فمصيبتها من البائع - وإن كانت بيد المبتاع، إلا ألا يعلم تلفها إلا بقوله، فتلزمه فيها القيمة، وإن تلفت أو فاتت بعد موت فلان، بما تفوت به البيوع الفاسدة، صحح البيع فيها بالقيمة، بالغة ما بلغت؛ فهذا وجه القول في هذه المسألة، وليست من بيوع الثنيا، فيكون للمبتاع فيها أن يسقط الشرط، ويلتزم البيع، كما يكون له ذلك في بيوع الثنيا، لما للبائع في هذا الشرط من الحق، إذ لم ينعقد به البيع إلا بموت فلان. وقوله إن الثياب إن كانت أخذت للنصراني وردت، فلا تغسل إلا أن تلبس، صحيح على ما في المدونة من الفرق بين ما نسج النصارى، أو لبسوا - وبالله التوفيق.
[مسألة: أدرك الإمام على الجنازة وهو ممن يكبر خمسا ففاتته تكبيرتان]
مسألة قال أصبغ، في رجل أدرك الإمام على الجنازة وهو ممن يكبر خمسا، ففاتته تكبيرتان، قال أصبغ: يكبر معه الثلاثة ويحتسب بالخامسة؛ فإذا سلم الإمام، كبر واحدة، فصارت له أربعا، ولا يكبر الخامسة؟ قال سحنون: وقال أشهب: لا آمر أن يكبر هذا الذي فاته بعض التكبير مع الإمام الخامسة، فإن كبرها معه لم تجزه، ورأيت إذا سلم الإمام أن يقضي ما فاته من التكبير.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هو القياس على مذهب مالك؛ لأن التكبيرة الخامسة إذا كانت عنده زائدة في الصلاة، لا يراعى قوله فيها إنه(2/301)
لا يتبع الإمام فيها إذا لم يفته من التكبير معه شيء، كما قال في رسم " الشجرة " من سماع ابن القاسم؛ فلا يصح أن يكبرها معه، ويعتد بها مما فاته؛ لأن أرفع أحوالها أن يحكم لها بحكم النافلة؛ ومن مذهبه أنه لا يجوز لمن يصلي فريضة أن يأتم بمن يصلي نافلة، فكيف بمن يصلي ما يكره له أن يصليه؟ وفي الواضحة لمالك من رواية ابن الماجشون عنه مثل قول أشهب - وهو قول مطرف؛ وأما قول أصبغ فهو استحسان على غير قياس، مراعاة لقول من يرى أن صلاة المأموم ليست مرتبطة بصلاة الإمام في الفرائض، فاستخف ذلك في صلاة الجنائز؛ إذ (ليست بفرض) عليه، وإنما هي له نافلة، إذ قد صحت الصلاة على الميت بصلاة الإمام ومن معه سواء، وبالله تعالى التوفيق، والصلاة على محمد وآله.
تم كتاب الجنائز بحمد الله وحسن عونه الجميل(2/302)
[كتاب الصيام والاعتكاف] [مسألة: المعتكفة تحيض فتخرج إلى منزلها فيطلقها زوجها قبل أن ترجع إلى المسجد]
من سماع عبد الرحمن بن القاسم من مالك
من كتاب أوله سلعة سماها قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول في المعتكفة تحيض فتخرج إلى منزلها، فيطلقها زوجها قبل أن ترجع إلى المسجد، أين تعتد؟ قال: إنما هو بمنزلة ما لو طلقها في المسجد، فإذا طلقها في المسجد لم ينبغ لها أن تخرج من المسجد حتى تتم اعتكافها؛ فهذه ينبغي لها أن ترجع إلى المسجد حتى تتم اعتكافها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المعتكفة إذا حاضت في اعتكافها فخرجت إلى منزلها، لا ينتقض اعتكافها، فتكون إذا طهرت مبتدئة لاعتكاف، بل هي باقية في حرمة الاعتكاف الذي دخلت فيه، قيل في حرمته كله، وهو قول سحنون، وقيل في حرمته من جهة لذي الرجال خاصة، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم، فإذا طهرت، رجعت إلى تمامه، فوجب أن(2/303)
يكون حكم طلاق زوجها إياها بعد أن دخلت في الاعتكاف في حال الطهر أو الحيض، سواء فيما يلزمها من التمادي على اعتكافها الذي قد سبق وجوب العدة عليها؛ لأن الاعتكاف إذا سبق العدة، لم تخرج منه حتى ينقضي اعتكافها، كما أن العدة إذا سبقت الاعتكاف، لم تخرج منها إلى الاعتكاف حتى تنقضي عدتها، وإن كان اعتكافا واجبا عليها في أيام بأعيانها، قد كانت نذرت اعتكافها - قاله بعض شيوخ القرويين، وهو صحيح، فقف عليه، وإذا طهرت في بعض يومها فرجعت إلى المسجد، فلا تمسك عن الأكل بقية يومها، ولا تعتد به في اعتكافها، إلا أن تطهر قبل الفجر، فتنوي صيام ذلك اليوم، وتدخل معتكفها - حينئذ، وهي رواية ابن وهب عن مالك؛ وقيل: إنها لا تعتد بذلك اليوم إلا أن تطهر قبل الغروب، وتدخل معتكفها حينئذ في الوقت الذي يبتدئ المعتكف فيه باعتكافه، وهو قول سحنون. وقد قيل: إنها إذا طهرت في بعض النهار، لا ترجع إلى المسجد بقية يومها، قياسا على قول ابن القاسم في الذي يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فيمرض فيها ثم يصح فيغشاه العيد قبل أن يتم اعتكافه، إنه يخرج إلى العيد، ولا يرجع ذلك اليوم من أجل أنه غير صائم، فتدبر ذلك.
[مسألة: ينذر صيام يوم الخميس فيمر يوم الخميس وهو غير ذاكر له]
مسألة وسئل: عن الذي ينذر صيام يوم الخميس، فيمر يوم الخميس - وهو غير ذاكر له، فإذا كان يوم الجمعة، أصبح صائما - وهو يرى أنه يوم الخميس، أترى أن يجزئه من قضاء صيام يوم الخميس الذي جعله عليه؟
قال: نعم، إني أرجو أن يجزئه - إن شاء الله - من صيامه؛ وإني لأكره للرجل أن يجعل على نفسه الشيء، هكذا يصومه حتى كأنه فريضة، ولكن يصوم ولا يجعل على نفسه شيئا؛ فإن شاء صام، وإن شاء أفطر.(2/304)
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أصبح يوم الجمعة صائما يرى أنه الخميس الذي كان نذر صيامه، أنه يجزئه من قضائه صحيح؛ لأن صوم يوم الخميس واجب عليه كوجوب قضائه، فناب في النية فرض عن فرض، وذلك مثل قولهم في الأسير يخطئ في الشهور، فيصوم شوالا - وهو يرى أنه رمضان، فلا اختلاف بينهم في أنه يجزئه؛ وستأتي متكررة في رسم "سلف"، ورسم "جاع" من سماع عيسى، وكراهيته أن ينذر على نفسه صيام يوم بوقته أبدا، هو مثل ما في المدونة، وإنما كره ذلك لمشقة تكرره، وقد يسهو عنه، أو لعله يفرط فيه مع طول المدة فيأثم، والله أعلم.
[مسألة: نذر صياما بمكة أو ببلد من البلدان رجا فيه الفضل]
مسألة وسئل مالك: عمن نذر صياما بمكة، أو بالمدينة، أو بعسقلان، أو بالإسكندرية، أو ببلد من البلدان، رجا فيه الفضل؟
قال: قال مالك: من نذر صياما في مثل المدينة، ومكة، وساحل من السواحل ترجى بركة الصيام فيه، فإني أرى ذلك عليه، ومن نذر في غير ذلك مثل العراق، وما أشبهه، فلا أرى أن يأتيه. قال ابن القاسم: ومعنى قوله: إنه يصوم ذلك الصيام بمكانه الذي هو فيه.
قال محمد بن رشد: فهذا مثل ما في المدونة، والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه» . فمن نذر أن يصوم في موضع يتقرب إلى الله بالصيام فيه، لزمه الخروج إليه؛ ومن نذر أن يصوم في موضع لا قربة لله في الصيام فيه، صام بموضعه ولم يخرج إلى ذلك الموضع؛ إذ ليس لله في ذلك طاعة، وهذا ما لا اختلاف فيه - وبالله التوفيق.(2/305)
[مسألة: عن المعتكف يرقع ثوبه في المسجد ويكتب المصاحف]
ومن كتاب أوله شك في طوافه مسألة وسئل مالك: عن المعتكف يرقع ثوبه في المسجد، ويكتب المصاحف؛ قال: ليس هذا من شأن المعتكف، ليرقع قبل أن يدخل، ويكتب المصاحف إن أحب؛ ورأيته يرى أن وجه من يريد الاعتكاف أن يكون في مؤخر المسجد ورحابه.
قال محمد بن رشد: قوله ليرقع قبل أن يدخل، ويكتب المصاحف إن أحب؛ معناه ليرقع ويكتب المصاحف قبل أن يدخل إن أحب، وهذا على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، الذي يرى أن الاعتكاف يختص من أعمال البر بذكر الله تعالى، وقراءة القرآن والصلاة. وأما على مذهب ابن وهب الذي يبيح للمعتكف جميع أعمال البر المختصة بالآخرة، فيجيز له مدارسة العلم، وعيادة المرضى في موضع معتكفه، والصلاة على الجنائز - إذا انتهى إليه زحام الناس الذين يصلون عليها، فيجوز له أن يكتب المصاحف للثواب، لا ليتمولها، ولا على أجرة يأخذها؛ إلا ليقرأ فيها، وينتفع بها من احتاج إليها، وأما ترقيعه ثوبه فمكروه، ولا ينتقض به اعتكافه إذا كان شيئا خفيفا.
[مسألة: الاعتكاف يوما أو يومين]
مسألة وسئل مالك: عن الاعتكاف يوما أو يومين، قال: ما عرفت هذا من اعتكاف الناس؛ قال ابن القاسم: قد سئل عنه قبل ذلك فلم ير به بأسا، وأنا لست أرى بأسا؛ لأن الحديث قد جاء أدنى الاعتكاف يوم وليلة.(2/306)
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في أدنى الاعتكاف: فمرة قال أدناه يوم وليلة، ومرة قال أدناه عشرة أيام؛ وهو اختلاف في أدنى ما يستحب للرجل أن يعتكفه، إذ لا يقول أحد إن من نذر أن يعتكف ما دون عشرة أيام، يلزمه اعتكاف عشرة أيام على القول بأن أدنى الاعتكاف عشرة أيام، فبان بذلك ما قلناه؛ ويتصور الاختلاف في وجه آخر أيضا - وهو أن من نذر اعتكافا مبهما غير محدود، ودخل فيه ولم ينو شيئا، يلزمه يوم وليلة على القول بأن أدنى الاعتكاف يوم وليلة، أو عشرة أيام على القول بأن أدنى الاعتكاف عشرة أيام.
وقال ابن حبيب: أدنى الاعتكاف في الاستحباب يوم وليلة، وأعلاه في الاستحباب عشرة أيام، فجعل أعلاه في الاستحباب عشرة أيام على القول بأن أدناه يوم وليلة. ولم يتكلم في أعلاه في الاستحباب، على القول بأن أدناه عشرة أيام؛ والذي يصح أن يقال على هذا القول في أعلاه: إنه شهر كامل، ولا يستحب لأحد أن يعتكف أكثر من شهر، بل يكره ذلك له مخافة ألا يفي بشروطه. وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» .
[مسألة: المعتكف يخرج ليلة الفطر من اعتكافه هل عليه إعاد]
مسألة وسئل مالك: عن المعتكف يخرج ليلة الفطر من اعتكافه، أترى عليه إعادة؟ قال: لا. قال سحنون: لا أقول ما قال، وأرى ذلك يفسد اعتكافه؛ لأن ذلك سنة مجتمع عليها ألا يخرج وأن(2/307)
يبيت في معتكفه حتى يصبح. وقال عبد الملك بن الماجشون بقول سحنون: إن ذلك يفسد اعتكافه، قال: وإن أصاب أهلا، أو فعل ما ينقض اعتكافه في ليلة الفطر، كان ذلك ناقضا لاعتكافه؛ لأنها من اعتكافه، له فيها ما للمعتكف، وعليه ما عليه؛ وقاسها ابن الماجشون بركعتي الطواف، وقال: هو من بابه وجدت الطواف ينقضي بالركعتين، ووجدته إن انتقض وضوؤه في الركعتين أو قبلهما، انتقض طوافه، وقد يرى أنهما ليستا من أشواطه السبعة، كما أن ليلة الفطر ليست من ليالي صومه، والاعتكاف لا يكون إلا بصومه.
قال محمد بن رشد: قد احتج ابن الماجشون لقوله، وقول مالك أظهر، ووجهه: أن ليلة الفطر ليست من العشر الأواخر، فلو أن رجلا حلف ألا يكلم فلانا في العشر الأواخر، فكلمه بعد غروب الشمس من ليلة الفطر لم يحنث؛ فكذلك من نوى اعتكاف العشر الأواخر، ودخل فيها أو نذرها، لما يلزمه المقام ليلة الفطر في اعتكافه بموجب نذره، وإنما يؤمر بذلك اتباعا لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإن لم يفعل فقد قضى ما لزمه من الاعتكاف، وقصر في ترك السنة؛ إذ ليس في مقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الفطر في معتكفه، ما يدل على أن الليلة من العشر، ولا أن لها حكم العشر، إذ قد زاد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كثير من الشرائع زيادات، فكانت سننا فيها، ولم يكن لها حكمها في الوجوب؛ من ذلك سنن الوضوء، ورفع اليدين في الإحرام، والركعتان عند الإهلال؛ وقد اشترى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جابر بن عبد الله جملا فقضاه الثمن وزاده زيادة، فلم يكن على من اشترى شيئا، أن يزيد البائع عند القضاء؛ وإن زاد لم يكن للزيادة حكم الثمن المزيد عليه في جميع أحواله، وفي دون هذا كفاية، ولما كانت زيادة الليلة في الاعتكاف تختص باعتكاف العشر الأواخر دون ما سواه من الاعتكاف، ضعف قياس ذلك على ركعتي الطواف، لكونهما أصلا في كل(2/308)
طواف، لا يختص بطواف دون طواف؛ وقد ذهب ابن لبابة إلى أن على كل معتكف أن يزيد في اعتكافه ليلة يخرج في صبيحتها من اعتكافه على ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري من قوله فيه: «وهي الليلة التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه» وهو شذوذ من القول، لا متابع له عليه من الفقهاء؛ لأن أكثر الرواة يقولون في الحديث «وهي الليلة التي يخرج فيها من اعتكافه» - وبالله التوفيق.
[مسألة: النقص من قيام رمضان]
مسألة وسمعت مالكا - وذكر أن جعفر بن سليمان أرسل إليه يسأله أن ينقص من قيام رمضان، قال: فنهيته عن ذلك؛ فقيل له: أفتكره ذلك؟ قال: نعم - وقد قام الناس هذا القيام، فقيل له: فكم القيام عندكم؟ قال: تسعة وثلاثون ركعة بالوتر.
قال محمد بن رشد: لما كان قيام رمضان مرغبا فيه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» . وكان للجمع فيه أصل للسنة، وكان العمل قد استمر فيه على هذا العدد من يوم الحرة إلى زمنه، وذلك أن عمر بن الخطاب كان أمر أبي بن كعب، وتميما الداري، أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، فكانا يطيلان القيام، حتى لقد(2/309)
كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا في فروع الفجر؛ فشكوا ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمرهما أن يزيدا في عدد الركوع، وينقصا من طول القيام؛ فكانا يقومان بالناس بثلاث وعشرين ركعة، وكان القارئ يقرأ بسورة البقرة في ثمان ركعات؛ فإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة، رأى الناس أنه قد خفف، فكان الأمر على ذلك إلى يوم الحرة، ثم شكوا ذلك لما اشتد عليهم، فنقصوا من طول القيام، وزادوا في عدد الركوع، حتى أتموا تسعا وثلاثين ركعة بالوتر، ومضى الأمر على ذلك من يوم الحرة، وأمر عمر بن عبد العزيز أن يقوموا بذلك، وأن يقرءوا في كل ركعة بعشر آيات، فكره مالك أن ينقص من ذلك، إذ لا ينبغي أن يحمل الناس على انتقاص الخير، وإنما ينبغي أن يرغبوا في الازدياد فيه، ويحملوا على ذلك إن أمكن، وكان بالناس عليه طاقة، وإليه نشاط، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: صيام العبد بغير إذن سيده]
ومن كتاب الشجرة مسألة وسئل: عن صيام العبد بغير إذن سيده، قال: لا بأس بذلك، إلا أن يكون مضرا بسيده.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن العبد مكلف، مثاب على طاعته، فليس لسيده أن يمنعه مما يثاب عليه، ولا يضر به؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» ، فإذا لم يكن لسيده أن يمنعه، لم يكن عليه أن يستأذنه. وكذلك خادم الخدمة، بخلاف الزوجة، والسرية، وأم الولد، إلا أن يكون غائبا أو مسنا لا ينبسط للنساء، فلا إذن عليهن؛ وذلك(2/310)
في صيام التطوع، وما أوجبوه على أنفسهم من نذر، أو كفارة يمين، أو ظهار، أو فدية أداء، أو جزاء صيد في الإحرام، أو الحرم، وقد قيل: إنه إذا أذن له في النكاح، كان له أن يصوم في الظهار، وإن كان ذلك مضرا بسيده، كما إذا أذن له في الإحرام، فأصاب خطأ ما أوجب عليه الصيام، والأول أظهر؛ لأنه وإن أذن له في النكاح، فهو أدخل على نفسه الظهار، فهو بمنزلة إذا أذن له في الإحرام فأصاب عمدا ما أوجب عليه الصيام. وأما قضاء رمضان، فلا إذن عليهم فيه، وإذا أذن لهم في صيام التطوع، لم يكن له أن يرجع في الإذن؛ وإذا صاموا بإذنه، فلا يجوز لهم الفطر إلى الليل، وبالله التوفيق.
[مسألة: المؤذن يعتكف أيؤذن فوق المنار]
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان مسألة وسئل مالك: عن المؤذن يعتكف، أيؤذن فوق المنار؟ قال عيسى به وضعفه؛ وقال: وما رأيت مؤذنا يعتكف، وكأنه كره الأذان له؛ وقال ابن القاسم: وقد سمعته يكرهه غير مرة، ويجيزه. وجل رأيه فيما أعلم - الكراهية؛ وقوله: في الكراهية أحب إلي.
قال محمد بن رشد: القولان في المدونة، والكراهة أجرى على أصله في أن الاعتكاف يختص من أعمال البر بذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن. وقد مضى ذلك في رسم "شك في طوافه".
[مسألة: المعتكف ينصرف إلى منزله لأخذ طعامه]
ومن كتاب طلق بن حبيب مسألة وسئل عن المعتكف: ينصرف إلى منزله لأخذ طعامه، قال: لا يعجبني ذلك. قيل له: أيغتسل في موضعه للجمعة الذي يخرج فيه(2/311)
لحاجته، قال: لا بأس بذلك؛ ولغير الجمعة - إن أحب ذلك - تَبَرُّدًا أو غير ذلك، فلا بأس عليه في الغسل؛ ولقد كان رجال من أهل الفضل يغتسلون في كل يوم لرواحهم، منهم: عامر بن عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، كانوا يغتسلون كل يوم.
قال محمد بن رشد: كراهيته للمعتكف أن ينصرف إلى منزله لأخذ طعامه، معناه: إذا كان له من يكفيه ذلك؛ وأما إذا لم يكن له من يكفيه ذلك، فلا يكره له ذلك؛ لأنه مضطر إليه، لكنه يكره له أن يدخل في الاعتكاف - إذا لم يكن له من يكفيه ذلك - على أحد قولي مالك في المدونة، فاختلاف قوله فيها إنما يعود إلى الدخول في الاعتكاف إذا لم يكن له من يكفيه الخروج عن طعامه، فمرة أجاز ذلك له، ومرة كرهه له، ورأى ترك الاعتكاف خيرا له. وأما إذا دخل فيه، فلا اختلاف في أن له أن يخرج عن طعامه - إذا لم يجد من يسوقه إليه؛ لأنه مضطر إلى ذلك، ولا يقطع اعتكافه؛ لأنه قد لزمه. وأما خروجه للغسل إلى الموضع الذي يخرج فيه لحاجة الإنسان، فذلك جائز، إذ لا يصح له فعله في المسجد، وهو مما له أن يفعله تبردا - وإن لم يكن واجبا عليه؛ لأن ذلك يعينه على ما هو فيه، ولأنه من النظافة المشروعة في الدين - وبالله التوفيق.
[مسألة: ينظر إلى أهله في رمضان على غير تعمد فيخرج منه المذي]
مسألة
وسئل: عن الذي ينظر إلى أهله في رمضان على غير تعمد منه، فيخرج منه المذي، ماذا ترى عليه؟
قال: أرى أن يقضي يوما مكانه، ولقد كان رجل من أصحابنا من أهل الفضل إذا دخل رمضان، لا يدخل بيته حتى يمسي، خوفا على نفسه من أهله. قال ابن القاسم:(2/312)
وسمعت مالكا قال: ليس على من قبل امرأته في رمضان قضاء، إلا أن يكون أنعظ ووجد اللذة، فعليه القضاء - وإن لم يمذ إذا كان ذلك حرك منه اللذة التي وجدها؛ وإن أمذى فعليه القضاء؛ قال عيسى: قال ابن القاسم: إذا قبل فلا شيء عليه، أنعظ أو لم ينعظ ما لم يمذ، وإذا باشر فأنعظ فعليه القضاء، أمذى أو لم يمذ؛ أنكر سحنون قول ابن القاسم هذا - ولم يره شيئا.
قال محمد بن رشد: تحصيل القول في هذه المسألة: أنه إن نظر قاصدا إلى التلذذ بالنظر، أو تذكر - قاصدا إلى التلذذ بذلك؛ أو لمس، أو قبل، أو باشر فسلم، فلا شيء عليه؛ وإن أنعظ ولم يمذ، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن عليه القضاء - وهي رواية ابن القاسم. والثاني: أنه لا شيء عليه، وهي رواية أشهب عن مالك في المدونة. والثالث: الفرق بين ما بين المباشرة، وما دونها من قبلة، أو لمس، فإن أنعظ من مباشرة فعليه القضاء، وإن أنعظ فيما دونها فلا قضاء عليه، وهو قول ابن القاسم الذي أنكره سحنون؛ وإن أمذى فعليه القضاء.
وإن أنزل، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن عليه القضاء والكفارة - وهو قول مالك في المدونة في القبلة، والملامسة، والمباشرة؛ والنظر، والتذكر للذة، محمولان على ذلك. والثاني: أن عليه القضاء، ولا كفارة عليه، إلا أن يتابع حتى ينزل، وهو قول أشهب، وأصح الأقوال؛ لأن الكفارة لا تجب إلا على من قصد انتهاك حرمة الصوم، وهذا لم يفعل إلا ما وسع له فيه، فغلبه الإنزال. والثالث: الفرق بين اللمس، والقبلة، والمباشرة، وبين النظر، والتذكر، فإن لمس أو قبل، أو باشر فأنزل، فعليه القضاء والكفارة، وإن لم يتابع ذلك؛ وإن نظر وتذكر فأنزل، فعليه القضاء ولا كفارة عليه؛ إلا أن(2/313)
يتابع ذلك حتى ينزل، وهذا القول هو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة. وأما إن نظر على غير قصد، أو تذكر، فأمذى دون أن يتابع النظر، أو التذكر، ففي ذلك قولان: أحدهما: أن عليه القضاء - وهو قول مالك في هذه الرواية في النظر، والتذكر محمول عليه. والثاني: أنه لا قضاء عليه، إلا أن يتابع ذلك حتى ينزل. وهذا القول رواه ابن القاسم عن مالك في غير المستخرجة في التذكر، والنظر محمول عليه، إذ لا فرق بينهما، وهذا القول أظهر؛ لأن المذي لا يجب به القضاء على أي وجه كان عند الشافعي، وأبي حنيفة، وأكثر أهل العلم. والمتأخرون من البغداديين يقولون: إن القضاء على من قبل وأمذى في مذهب مالك، إنما هو استحباب، فقف على ذلك.
[الصائم إذا باشر فأنعظ فحرك منه اللذة]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مالك: ولا أحب للصائم أن يباشر، وإن لم يحرك ذلك منه شيئا، ولا يقبل؟
قال ابن القاسم: قال لي مالك في الصائم: إذا باشر فأنعظ، فحرك منه اللذة؟ رأيت عليه القضاء، وإن لم يمذ، قال ابن القاسم: وذلك رأي.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في التي قبلها، فلا معنى لإعادته.
[المسافر يقيم في المنهل يوما أو ما أشبه ذلك]
ومن كتاب الشريكين قال مالك في المسافر يقيم في المنهل يوما، أو ما أشبه ذلك؛ قال مالك: يجوز له أن يفطر، ما كان يجوز له أن يقصر.(2/314)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، فهو مما لا اختلاف فيه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] ... الآية، إلا أن مالكا يستحب له الصيام، ويكره له الفطر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] .
[مسألة: الفطر لمن أصبح صائما متطوعا]
مسألة قال: وبلغني أن رجلا له شرف صنع صنيعا، فدعا فيمن دعا حسين بن رستم الأيلي - وكان صائما، وأنه لما خف الناس من عنده، قال له: ألا ندعو لك بطعام؟ قال: إني صائم، فجعل يده عليه - ويديره على الفطر، ويقول: إنك ستصوم يوما آخر مكانه؛ فقال له حسين: إني بَيَّت الصيام، وإني أكره أن أخالف الله ما وعدته؛ وقال: يقال «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، فإنك لن تجد فَقْد شيء تكرهه لله.
قال محمد بن رشد: إنما قال ما قال، فأبى أن يجيبه إلى ما أراده عليه من الفطر؛ لأنه رأى ذلك من المشبهات التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن اتقى المشتبهات استبرأ لدينه وعرضه» ، لاختلاف أهل العلم في جواز الفطر لمن أصبح صائما متطوعا، ولما جاء في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مما يدل على جوازه والمنع له؛ من ذلك: أنه قال: «إذا(2/315)
دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرا فليأكل» . وروي: «فإن شاء فليأكل، وإن كان صائما فليصل» ، أي: ليدع. وروي: «وإن كان صائما فلا يأكل» . وروي عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «لا تصوم امرأة - وزوجها شاهد - يوما من غير شهر رمضان، إلا بإذنه» . وهذا يدل على أن الفطر لا يجوز لها، ولا يجوز لزوجها أن يفطرها.
وروي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عند أم هانئ فأتي بشراب فشرب منه، ثم ناول أم هانئ فشربت، ثم قالت: يا رسول الله، إني كنت صائمة، ولكني كرهت أن أرد سؤرك، فقال لها: "أكنت تقضين شيئا؟ " قالت: لا. قال: "فلا يضرك إن كان تطوعا» . فهذا يدل على جواز الفطر لمن أصبح صائما. وقد جاء: «أن عائشة وحفصة أهدى لهما طعاما فأفطرتا عليه، فدخل عليهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بذلك حفصة، فقال لهما رسول الله: "اقضيا مكانه يوما آخر» .
فاحتمل أن يكون ذلك على الوجوب، وأن يكون على الندب؛ وكان ابن عباس يجيز الفطر لمن أصبح صائما متطوعا. وكان عبد الله بن عمر يجيزه ويشدد في ذلك، فيقول: ذلك الذي يلعب بصومه. وإلى قوله ذهب مالك فقال: إنه لا يفطر، فإن أفطر لغير عذر فعليه القضاء؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة وحفصة: «اقضيا مكانه يوما آخر» . وقد قال(2/316)
مطرف: إن حلف عليه أحد بالعتق، أو الطلاق - أن يفطر، فليحنثه ولا يفطر، إلا أن يرى لذلك وجها؛ وإن حلف هو، فليكفر ولا يفطر، وإن عزم عليه أبواه أو أحدهما في الفطر، فليطعهما وإن لم يحلفا عليه إذا كان ذلك رقة منهما عليه، لإدامة صومه، وبالله التوفيق.
[أكل الطعام في المسجد للمعتكف]
ومن كتاب أوله اغتسل عن غير نية وسألته: عن الرجل في رمضان يكون في المسجد ويكون بمنزله نائما، فيأتيه الطعام من أهله فيأكله في المسجد، وقال: أرجو أن يكون خفيفا؛ وقال: لا أحب لأحد أن يتسوك في المسجد من أجل ما يخرج من فيه من السواك، فيلقيه في المسجد، ولا أحب لأحد أن يتمضمض في المسجد.
قال محمد بن رشد: معنى ما استخف من أكل الطعام في المسجد، هو في الطعام الجاف، وأما الألوان، فقد كره في غير ما موضع أن يؤتى بها إلى المساجد فتؤكل بها، من ذلك ما وقع في رسم "سلعة سماها" من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة وغيره، وأما التمضمض في المسجد وإلقاء ما يخرج من فيه من السواك فيه، فمكروهه بين، مذكور في كتاب الصلاة وغيره.
[مسألة: أكل في رمضان ناسيا]
مسألة قال: إني لأستحب أن يقضي من أكل ناسيا في تطوع، وما أراه عليه بواجب، مثل من أكل في رمضان، وإني لأستحب ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إن ذلك مستحب وليس بواجب؛ لأن من أهل العلم من يجيز الفطر في صيام التطوع - عامدا، ومنهم(2/317)
من يكرهه ولا يرى عليه قضاء - إن فعله - وهو مذهب الشافعي، ومنهم من لا يوجب القضاء على من أكل في رمضان ناسيا، لحديث أبي هريرة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أكل أو شرب في صومه ناسيا، فليتم صومه، فإن الله أطعمه وسقاه» وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وجماعة من أهل العلم سواهما. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: لولا قول الناس، لقلت: إنه يقضي، يريد: لولا طعن الناس لمخالفة الحديث، والله أعلم. وقد راعى ابن القاسم هذا القول في الذي يحلف بالطلاق، أو غيره، أن يصوم غدا فيصبح صائما، ثم يأكل ناسيا، فقال: إنه لا حنث عليه في رسم "سلف من" سماع عيسى من هذا الكتاب، ومن كتاب الأيمان بالطلاق، وفي سماع أبي زيد من كتاب الأيمان بالطلاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: لم يأتهم خبر هلال الفطر إلا بعدما زالت الشمس]
مسألة وقال، فيمن لم يأتهم خبر هلال الفطر، إلا بعدما زالت الشمس: فلا أرى عليهم صلاة من الغدوة لا يخرجون إلى المصلى، وليس عليهم ذلك. وأنكر الخروج في غير يوم الفطر إنكارا شديدا، وقال: من أخطأ يوم الجمعة، أيجعله يوم السبت؟ استنكارا للخروج في غير يوم الفطر.
قال محمد بن رشد: قد روي أن الهلال خفي على الناس في آخر ليلة من شهر رمضان في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأصبحوا صياما، فشهد عند النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بعد زوال الشمس أنهم رأوا الهلال الليلة الماضية، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفطر، فأفطروا تلك الساعة، وخرج بهم من الغد، فصلى بهم صلاة العيد، وذهب إلى هذا قوم، منهم: أبو يوسف. وأكثر رواة الحديث لا يذكرون فيه(2/318)
الصلاة، وإنما قالوا: أمرهم أن يفطروا من يومهم، ثم ليخرجوا لعيدهم من الغد، أو إلى مصلاهم من الغد، فإن صح الحديث فيحتمل أن يكون أمرهم بالخروج، لترى كثرتهم، فيتناهى ذلك إلى عدوهم، فيعظم أمرهم عندهم لا للصلاة؛ ولم يصح عند مالك الحديث، ولا رأى الخروج، ولا الصلاة. وحجته على ذلك بالجمعة حجة صحيحة؛ لأنها لما كانت كالجمعة في أنه لا تقضى بعد خروج وقتها في ذلك النهار، وجب أن يكون مثلها في أنها لا تقضى في يوم آخر.
[المسافر في البحر يريد أن يفطر]
ومن كتاب أوله باع غلاما وسئل مالك: عن المسافر في البحر يريد أن يفطر؟ قال مالك: ذلك له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن المسافر في البحر والبر سواء في جواز الفطر، ووجوب القصر؛ لقوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] ، وهذا ما لا اختلاف فيه أحفظه.
[نذرت أن تصوم بنية شهر فاشتد عليها الحر وهي ترضع]
ومن كتاب صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك: عن المرأة نذرت أن تصوم بنية شهر، فاشتد عليها الحر وهي ترضع، قال: تفطر وتطعم وتصوم بعد ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: أنها تفطر وتطعم؛ لأن حكم نذر الصيام المعين في الوجوب، كحكم صوم شهر رمضان، إلا في وجوب الكفارة على من أفطر فيه متعمدا. وقد روي عن مالك: أن عليها القضاء، ولا إطعام(2/319)
عليها؛ ومن أهل العلم من يرى عليها الإطعام دون القضاء. قال بذلك من رأى قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] ... الآية - محكمة في الموضع، والحامل، والشيخ. ولها على المشهور من مذهب مالك في الفطر ثلاثة أحوال: حال لا يجوز لها فيها الفطر والإطعام، وهي إذا قدرت على الصيام ولم يجهدها الإرضاع. وحال يجوز لها فيها الفطر والإطعام، وهي إذا أجهدها الإرضاع ولم تخف على ولدها، إما بأنه يبقى لها من اللبن إن لم تفطر ما ترمقه به، وإما لأنها تقدر على أن تستأجر له من ترضعه من ماله، أو من مال الأب، أو مالها، إذا كان يقبل غيرها. وحال يجب عليها الفطر والإطعام، وهي إذا خافت على ولدها، إما بأنه لا يقبل غيرها، وإما بأنها لا تقدر على أن تسترضع له بحال؛ فهي قوله "اشتد عليها الحر" أي: اشتد عليها فأجهدها بسبب الإرضاع، ولو لم يجهدها الإرضاع فأفطرت، لكانت بمنزلة غير المرضع، تكفر إن كانت في رمضان كفارة المتعمد، وتقضي، وإن كانت في نذر أيام بأعيانها أتمت وقضت، ولم يجب عليها كفارة ولا إطعام.
[مسألة: عليه نذر صيام هل له أن يتطوع قبل الفراغ منه]
مسألة قال سحنون: قال ابن القاسم: وسئل مالك: عن رجل عليه نذر صيام، هل له أن يتطوع قبل الفراغ منه؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن النذر المبهم يتخرج على قولين: أحدهما: أنه على الفور، والثاني: أنه على التراخي؛ فأما على القول بأنه على الفور، فلا يجوز له أن يتطوع بالصيام قبله؛ لأن ذلك اليوم مستحق عليه(2/320)
صومه في النذر، إلا أن يكون يوما مرغبا في صيامه، كيوم عاشوراء، وشبهه، فيخرج جواز صومه قبل النذر، على ما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلى إذ نام عن صلاة الصبح في الوادي حتى طلعت الشمس ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح» . وأما على القول بأنه على التراخي كقضاء رمضان الذي قد وسع فيه إلى شعبان، فلا ينبغي له أن يتطوع بالصيام قبله، لوجهين: أحدهما: أن صيام التطوع لا يفوته، فهو إن بدأ به فاته فضل بتعجيل النذر. والثاني: مخافة أن يموت قبل أن يقضي النذر، فلا يتقبل منه التطوع، على ما جاء عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا تقبل من أحد نافلة - وعليه فريضة - حتى يؤديها؛ إلا أن يكون يوم مرغب في صيامه، كيوم عاشوراء. فالاختيار على قياس هذا القول: أن يصومه تطوعا قبل النذر؛ لأنه إن صامه للنذر، فاته فضل اليوم. وقيل: إن الاختيار أن يصومه للنذر؛ لأنه إن صامه تطوعا، فاته فضل تعجيل النذر، ولم يأمن أن يموت قبل أن يصوم النذر، فلا يتقبل منه الطوع على ما جاء عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلافهم في: هل يصوم يوم عاشوراء من عليه صيام قضاء رمضان؟ على ما يأتي في رسم "المحرم" بعد هذا.
[مسألة: الرجل يعتكف فيمرض أبوه أو أمه هل يخرج]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يعتكف فيمرض أبوه أو أمه، هل يخرج؟ قال: نعم، يخرج إليهما ويبتدئ اعتكافه، ورواها في كتاب إن خرجت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الخروج إليهما من برهما، وبرهما فرض بنص القرآن، فهو آكد عليه مما دخل فيه من الاعتكاف،(2/321)
لأن الاعتكاف يقضيه، وما فاته من بر أبويه لا يستدركه ولا يقضيه؛ وذلك بخلاف الخروج إلى جنازتهما، لا يخرج من اعتكافه إلى جنازتهما - قاله مالك في موطئه، إذ ليس في ترك شهود جنازتهما عقوق لهما.
[مسألة: صيام الأيام الغر]
ومن كتاب مساجد القبائل مسألة وسئل مالك: عن صيام الغر الثلاثة الأيام: ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر، قال: ليس هذا ببلدنا، وإني أكره أن يتعمد صيامها، قال: والأيام كلها لله.
قال محمد بن رشد: قد روي فيها وفي الأيام البيض: أول يوم من الشهر، ويوم عشرة، ويوم عشرين - أنها صيام الدهر. وقد روي عن مالك: أنه كان يصوم الأيام البيض. وقد كتب إلى هارون الرشيد في رسالته، يحضه على صيام الأيام الغر - ويذكر الحديث فيها؛ فإنما كره في هذه الرواية صيامها، ولم يحض عليها مخافة أن يكثر العمل بذلك؛ لكثرة إسراع الناس إلى الأخذ بقوله، فيحسب ذلك من لا علم له من الواجبات.
[يعتكف في قريته في مسجد لا يجمع فيه وهو ينتاب الفسطاط]
ومن كتاب مرض وله أم ولد فحاضت وقال فيمن كان منزله على أميال - وحضر شهر رمضان، فأراد أن يعتكف في قريته في مسجد لا يجمع فيه، وهو ينتاب الفسطاط(2/322)
يصلي فيه الجمعة؛ قال مالك: يعتكف في قريته، أحب إلي من صلاته الجمعة بالفسطاط.
قال محمد بن رشد: رأى الاعتكاف له أفضل من صلاة الجمعة بالفسطاط، لما كان ممن لا يجب عليه الإتيان إلى الجمعة لبعد منزله من الفسطاط، وهذا على مذهبه في أن الاعتكاف لا يختص بالمسجد الذي تجمع فيها الصلوات، لعموم قوله عز وجل: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} [البقرة: 187] ... الآية. فإذا كان ممن لا يلزمه الإتيان إلى الجمعة، أو ممن لا تجب عليه الجمعة، أو كان اعتكافه أياما يسيرة لا تدركه فيها الجمعة، جاز له أن يعتكف في غير المسجد الذي تجمع فيه الجمعة، فإن مرض في تلك الأيام ثم صح فغشيته الجمعة قبل أن يفرغ من اعتكافه، خرج إلى الجمعة - ولم ينتقض اعتكافه - قاله ابن الماجشون، ورواه ابن الجهم عن مالك؛ قيل: لأنه دخل بما يجوز له، بخلاف ما لو دخل لاعتكاف أيام تأخذه فيها الجمعة، هذا يخرج إلى الجمعة ويبتدئ اعتكافه، قاله ابن الماجشون أيضا. قيل: لأنه دخل بما لا يجوز له، وقد قيل: إن ذلك اختلاف من القول؛ ولا فرق بين أن يدخل بما يجوز له، أو بما لا يجوز له؛ وأما الاعتكاف في مساجد البيوت، فلا يصح عند مالك لرجل ولا امرأة، خلاف قول أبي حنيفة في أن المرأة تعتكف في مسجد بيتها، وبالله التوفيق.
[مسألة: المعتكفة إذا طلقت أو مات عنها زوجها]
مسألة
وسئل: عن المعتكفة إذا طلقت أو مات عنها زوجها، أترى أن تخرج؟ قال: لا تخرج بعدما دخلت الاعتكاف، لا من وفاة، ولا من طلاق؛ وكذلك المرأة المحرمة.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله: وكذلك المرأة المحرمة، أن المحرمة إذا طلقت أو مات عنها زوجها في الطريق، تنفذ لوجهها ولا ترجع إلى بيتها،(2/323)
لتعتد فيه؛ والمسألتان في المدونة، الأولى في كتاب الاعتكاف، والثانية في كتاب طلاق السنة؛ والوجه في ذلك أنها قد دخلت في عمل بر لزمها إتمامه، فلم يجز لها إبطاله؛ لقوله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، ولقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، وهذا ما لا اختلاف فيه، كما أنه إذا سبق الطلاق أو الموت - الاعتكاف والإحرام، لم يصح لها أن تحرم، ولا أن تعتكف، حتى تنقضي العدة؛ لأنها قد لزمتها، فليس لها أن تنقضها، وبالله التوفيق.
[الصيام قبل الاستسقاء]
ومن كتاب نذر سنة وسئل مالك: عن الصيام قبل الاستسقاء أمما يعمل به؟ قال: ما سمعت إنكارا على من عمله.
قال محمد بن رشد: الصيام قبل الاستسقاء مما لم يأت به أثر عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ولا عن الخلفاء الراشدين المهديين بعده، وإنما هو أمر أحدثه بعض الأمراء، فاستحسنه كثير من العلماء؛ فعله موسى بن نصير بإفريقية حين رجع من الأندلس، فاستحسنه الجذامي وغيره من علماء المدينة؛ وإلى هذا ذهب ابن حبيب، قال: استحب للإمام أن يأمر الناس قبل بروزه بهم إلى المصلى، أن يصبحوا صياما يومهم ذلك؛ ولو أمرهم أن يصوموا ثلاثة أيام - آخرها اليوم الذي فيه يبرزون، كان أحب إلي، والمعلوم من مذهب مالك إنكار هذه الأمور المحدثات كلها، من ذلك أنه كره في سماع ابن القاسم القراءة في المسجد، والاجتماع يوم عرفة بعد العصر في المساجد للدعاء، والدعاء عند خاتمة القرآن، فيحتمل ما في هذه الرواية من قوله ما سمعت إنكارا على من(2/324)
عمله، أن يكون انتهى كلام مالك إلى قوله ما سمعت، أي: ما سمعت أن ذلك يفعل، ويكون إنكارا على من عمله من قول ابن القاسم. أخبر أن مالكا أراد بقوله ما سمعت - الإنكار على من عمله، فيكون ذلك مطابقا لمذهبه المعلوم، ويحتمل أن يكون الكلام كله من قول مالك، فيقتضي جواز ذلك عنده؛ إذ قد نفى أن يكون سمع الإنكار على من عمله، والأول من التأويلين أولى - والله تعالى أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: صوم عاشوراء قبل قضاء رمضان]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه مسألة وسئل مالك: عن الرجل يكون عليه قضاء رمضان، أيصوم يوم عاشوراء قبل قضاء رمضان؟ قال: ما يعجبني ذلك، وعسى به أن يكون خفيفا؟ قيل له: أفيصومه في قضاء رمضان؟ قال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: قوله ما يعجبني، وعسى به أن يكون خفيفا، معناه: أني أكره ذلك كراهية خفيفة، وكراهيته له أن يصومه تطوعا، يقتضي أن المستحب عنده أن يصومه في قضاء ما عليه من رمضان؛ وقوله بعد ذلك: لا بأس أن يصومه في قضاء رمضان - مخالف لذلك، إذ لا يقال في الشيء المستحب فعله: لا بأس أن يفعل، وإنما يقال ذلك في المباح الذي فعله وتركه سواء؛ وفي سماع ابن وهب، قيل له: أفيصومه في قضاء رمضان؟ قال: لا. معناه: لا ينبغي له أن يفعل ويصومه تطوعا أحسن؛ فهذه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الاختيار أن يصام لقضاء رمضان، والثاني: أن الاختيار أن يصام تطوعا ويؤخر قضاء رمضان، والثالث: أن الأمرين سواء، يفعل الفاعل أيهما شاء، وهذا الاختلاف إنما يتصور على القول بأن قضاء رمضان على التراخي، بدليل قول(2/325)
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إن كان ليكون علي الصيام من رمضان، فما أستطيع أن أصومه حتى يأتي شعبان، للشغل برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ لو كان القضاء على الفور، لما منعها من ذلك الشغل، والواجب على التراخي تعجيله أفضل، فلما كان إن صام يوم عاشوراء تطوعا، وأخر القضاء، أحرز فضل اليوم، وفاته تعجيل القضاء، وإن صامه للقضاء، أحرز تعجيل القضاء، وفاته فضل صوم النهار؛ وقع الاختلاف، فوجه القول بأن صومه تطوعا أحسن، هو أن فضيلة صومه قد وردت الآثار عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بنصها، وقدرها، وفضيلة تعجيل القضاء إنما علمت بالنظر والقياس، فذلك فيها معدوم، وأيضا فقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس قبل صلاة الصبح، وقضى الصلاة على الفور، فكيف بقضاء الصيام الذي هو على التراخي، ووجه القول بأن صيامه للقضاء أحسن، هو أنه إن صامه تطوعا لم يأمن أن تخترمه المنية قبل القضاء، فلا يقبل منه التطوع على ظاهر ما جاء عن أبي بكر الصديق، من أنه لا يقبل من أحد نافلة، وعليه فريضة حتى يؤديها؛ ووجه القول في تخيير الفاعل فيما شاء من ذلك، هو أن الدلائل استوت عنده، واستواؤها دليل على التخيير، وهذا نحو قوله في الإبل إذا زادت على العشرين ومائة - واحدة، جعل الساعي مخيرا لما استوت عنده الأدلة في مقدار الزيادة المذكورة في الحديث، إن كان المراد بها ما كانت من قليل أو كثير أو زيادة بغير الفرض، ظاهر ما في كتاب الصيام من المدونة: أن قضاء رمضان على الفور؛ لأنه قال فيمن أفطر في رمضان في سفر أو مرض ثم قدم فأقام شهرا، أو صح شهرا ثم مات، وأوصى أن يطعم عنه؛ أن ذلك يكون في ثلثه مبدأ. وكذلك على مذهبه(2/326)
فيما لو مرض شعبان كله بعد أن صح شهرا، لوجب عليه الإطعام؛ فعلى هذا لا يجوز له أن يصوم يوم عاشوراء إذا كان عليه قضاء رمضان، فيأتي في المسألة أربعة أقوال.
[مسألة: جعلت على نفسها يوما سمته من الجمعة ما عاشت ثم نذرت بعد ذلك صيام]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق مسألة وسئل: عن امرأة جعلت على نفسها يوما سمته من الجمعة ما عاشت، ثم نذرت بعد ذلك صيام سنة لأمر شكرت فيه؛ أترى عليها قضاء ذلك اليوم الذي كانت نذرته قبل نذر السنة إذا هي قضت السنة؟ قال: لا أرى عليها قضاء ذلك اليوم.
قال محمد بن رشد: معناه: أن السنة التي نذرت سنة بعينها، فلا تقضي اليوم الذي صامته بالنذر الواجب عليها، ولا رمضان الذي صامته لفرضها، ومثل هذا في المدونة أنها لا تقضي رمضان، ولا يوم الفطر، ولا أيام الذبح، وقال فيها أيضا فيمن نذر صيام ذي الحجة، أن عليها أن تقضي أيام الذبح، فحكي عبد الحق عن بعض شيوخه، أن هذا الخلاف لا يدخل في شهر رمضان؛ لأنه قد صامه؛ وحكي عن غيره أنه يدخل في ذلك، وأن ذلك موجود لمالك في كتاب أبي بكر الأبهري، فعلى هذا يدخل الخلاف أيضا في هذه المسألة، ويكون عليها قضاء اليوم الذي صامته لنذرها، إذ لا فرق بين ما صامته لنذرها، وبين ما صامته لفرضها، وأما لو كانت السنة التي نذرت لأمر شكرت فيه سنة بغير عينها، لكان عليها أن تصوم سنة كاملة، سواء أيام نذرها، وأيام صومها لفرضها - قولا واحدا، وبالله تعالى التوفيق.(2/327)
[دعوة الوليمة حكم إجابتها]
من سماع أشهب، وابن نافع، عن مالك، رواية سحنون من كتاب الطلاق الثاني قال أشهب: وسمعته يسأل: عن الرجل يصنع لأهل المسجد يوم الفطر من رمضان طعاما، فيدعوهم إليه، أترى عليهم إجابته بمنزلة طعام الوليمة؟ قال مالك: ما أرى ذلك، وإني لأكره مثل هذا لأهل المسجد أن يجيبوا إلى من دعاهم هكذا، وهم يزرون عليه ويغمصون، وما أرى ذلك لهم، وإني لأكرهه وما يعجبني ذلك لهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الدعوات إلى الأطعمة على قصد ما عليها بها، فمنها ما لا ينبغي أن يجاب إليها، كهذه وشبهها مما يقصد بها قصدا مذموما من تطاول، وامتنان، وابتغاء محمدة، وشكر، وما أشبه ذلك؛ ومنها ما يجب على المدعو إليها إجابة الداعي إليها، ولا يجوز التخلف عنها إلا لعذر، وهي دعوة الوليمة التي أمر رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها، وحض عليها، وأوجب إجابة الداعي إليها، ومنها ما يجوز إجابة الداعي إليها ولا حرج في التخلف عنها، وهو ما سوى دعوة الوليمة من الدعوات التي تصنع على جري العاديات، دون مقصد مذموم؛ كدعوة العقيقة، والنقيعة، والوكيرة، والخرس، والإعذار، وما أشبه ذلك. ومنها ما يستحب الإجابة إليها، وهي المأدبة التي يفعلها الرجل للخاص من إخوانه وجيرانه، على(2/328)
حسن العشرة، وإرادة التودد والألفة؛ ومنها ما تحرم الإجابة إليها، وهو ما يفعل الرجل لمن يحرم عليه قبول هديته، كأحد الخصمين، والقاضي، وشبه ذلك.
[رأى الناس الهلال في نصف النهار]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب العرية قال عيسى بن دينار: سألت ابن القاسم: عن قوم صاموا شهر رمضان صاموا ثلاثين يوما، فلما كان في تسعة وعشرين كان غيم، فلما أصبحوا تمام ثلاثين، رأى الناس الهلال في نصف النهار، أو عند الزوال، هل ترى على من أفطر تلك الساعة شيئا؟ وكان صيامهم قبل ذلك في غيم أيضا؟
قال ابن القاسم: لا يجوز لأحد أن يفطر حتى الليل، فإنما الهلال لليلة القابلة، فمن أفطر فإنما عليه القضاء؛ لأنه إنما أفطر على تأويل.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك وجميع أصحابه، أن الهلال إذا رئي قبل الزوال أو بعده، أنه لليلة القادمة، إلا ابن وهب فذكر عنه ابن مزين في تفسيره للموطأ، أنه إذا رئي قبل الزوال، فهو لليلة الماضية، وإن رئي بعد الزوال فهو لليلة القادمة، وأخذ بذلك عيسى بن دينار، وإليه ذهب ابن حبيب، وحكاه - مفسرا عن عمر بن الخطاب؛ وقال ابن الجهم: إن ذلك لا يصح عن عمر، والذي رواه عنه رجل مجهول، وليس في رواية مالك عنه للزوال ذكر، ولا فرق بين ذلك؛ وهو قول ابن مسعود، وابن عمر، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة، والتابعين، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.
[مسألة: مرض فقال لله علي إن شفاني أن أصوم خمسة أيام فلم يصمها]
مسألة وسئل: عن رجل مرض في سفر، فقال: لله علي إن شفاني من(2/329)
مرضي أن أصوم في أهلي خمسة أيام، فقدم أهله فلم يصمها، نسي أو غفل، فذكر وهو في سفر. قال: يصومها وهي مجزئة عنه، وليس في صيامها في أهله قربة إلى الله، فليصمها حيث شاء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه» . وقد مضى مثله في أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[قال لله علي صيام هذه السنة وهو في سنة ست وثمانين وقد مضى نصفها]
(ومن كتاب أوله: بع ولا نقصان عليك) قال ابن القاسم: من قال لله علي صيام هذه السنة - وهو في سنة ست وثمانين، وقد مضى نصفها؛ قال: عليه صيام اثني عشر شهرا.
قال محمد بن رشد: إلا أن يكون أراد ما بقي من السنة فتكون له نيته؛ قال ذلك مالك في سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق، فإن لم تكن له نية، فقوله محمول على اثني عشر شهرا يستقبلهن من يوم حلف بعد اليوم الذي هو فيه على مذهب ابن القاسم، ولا يقضيه ولا يعده على مذهب أشهب؛ لأنه يقضيه فيصوم على مذهب ابن القاسم ما بقي من ذلك الشهر من الأيام، ثم أحد عشر شهرا على المشهور، ثم يكمل على الأيام التي صام من الشهر الأول تمام تسعة وعشرين يوما، ويكمل عليها على مذهب أشهب ثلاثين يوما؛ لأنه يقضي اليوم الذي حلف فيه على قوله فيمن نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم نهارا، أنه يقضيه، وبالله التوفيق.(2/330)
[مسألة: الأسير يكون في أرض الحرب فلا يعرف الشهور، فيتحرى فيصوم رمضان]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس مسألة قال: وسألته: عن الأسير يكون في أرض الحرب فلا يعرف الشهور، فيتحرى فيصوم رمضان ثم يخرج إلى أرض المسلمين - وقد صام على التحري سنين، قال: يعيد كل رمضان صامه، إذ لم يدر قبل رمضان صام أو بعده.
قال محمد بن رشد: إذا صام على التحري ثم خرج فلا يخلو أمره من أحد أربعة أحوال: إما أن يعلم أنه صامه قبله، وإما أن يعلم أنه صامه بعده، وإما أن يعلم أنه أصابه بتحريه، وإما أن يبقى على شكه، فأما إن علم أنه صامه قبله، فلا يجزئه باتفاق؛ وأما إن علم أنه صام بعده، فيجزئه باتفاق، وأما إن علم أنه أصابه بتحريه، فلا يجزئه على مذهب ابن القاسم، ويجزئه على مذهب أشهب، وسحنون. وأما إن بقي على شكه، فلا يجزئه على مذهب ابن القاسم، ويجزئه على مذهب ابن الماجشون، وسحنون، ولابن كنانة في المدنية: أنه يستحب أن يقضي، إذا علم أنه صام بعده.
قال ابن الماجشون: ولو انكشف له أنه صام ثلاثة أعوام - شعبان، شعبان، فليعد الشهر الأول، ثم كل شعبان قضاء عن كل رمضان. يريد بقوله: فليعد الشهر الأول، أن يلغي الشعبان الأول، فلا يجزئه، وليس يعني أن يعيد رمضان الأول؛ لأنه عنه وقع شعبان الثاني، والشعبان الثالث قضاء عن الرمضان الثاني، ويبقى عليه الرمضان الثالث فيقضيه. وقال فضل: قول ابن الماجشون خطأ، وعليه قضاء الرماضين الثلاثة. وقول فضل صحيح لا يجزئه ما صامه عن رمضان بعينه عن رمضان غيره، كما لا يجزئه ما صلى عن يوم بعينه عن يوم غيره. وقد قال ابن(2/331)
القاسم في المدونة فيمن صام رمضان قضاء عن غيره: إنه يجزئه، وعليه القضاء على إحدى الروايتين عنه فيها، فعلى هذه الرواية يأتي قول ابن الماجشون، وقول فضل على الرواية الأخرى، وعلى القول بأنه لا يجزئ عن واحد منهما، وهذا أصح القولين - والله أعلم.
[ينذر صيام الإثنين فيصبح يوم الإثنين وهو يظنه يوم الأحد]
ومن كتاب أوله سلف دينارا في ثوب وقال في الذي ينذر صيام الإثنين فيصبح يوم الإثنين - وهو يظنه يوم الأحد، فيدعو بالطعام، فيخبر أنه يوم الإثنين؛ أنه يتم صيامه ولا شيء عليه إذا كان قد بيت صيامه قبل ذلك، إذا أمر به ونواه - وإن كان قبل ذلك بأيام؛ قال: وإن أصبح يوم الثلاثاء صائما - وهو يظنه يوم الإثنين الذي نذر فهو مجزئ عنه.
قال محمد بن رشد: قال فيمن نذر صيام يوم بعينه من الجمعة: إن النية لصيامه تجزئه قبل ذلك بأيام، ومثله في رسم "جاع " بعد هذا، ولمالك في مختصر ابن عبد الحكم - وهو قول أشهب، فجعلوا النية مجزئة عن ذلك اليوم كلما تكرر، وقد روي عن ابن القاسم أن ذلك لا يجوز وهو الصواب الذي يأتي على مذهب مالك في المدونة؛ لأن ظاهر قوله فيها في المرأة تحيض في رمضان ثم تطهر، أن الصيام لا يجزئها إلا أن تجدد النية، ولا تجتزئ بالنية الأولى من أجل الفطر الذي يخلل الصيامين، وقال ابن القاسم فيها: إنها تجتزئ بالنية الأولى، ولم يختلف قول ابن القاسم في ذلك، كما اختلف في مسألة ناذر يوم بعينه يوم الجمعة؛ فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا بد من تجديد النية في المسألتين جميعا وهو مذهب مالك في المدونة، لكن النية الأولى إذا كانت(2/332)
لا تجزئ في مسألة الحائض، والأيام التي أفطرتها لا يصح لها صومها؛ كان أحرى أن تجزئ النية الأولى في مسألة ناذر يوم في الجمعة، لصحة صوم الأيام التي أفطرتها في اليومين. والثاني: أن النية الأولى تجزئ في المسألتين جميعا، وهي رواية عيسى هذه، وقول مالك في المختصر، وقول أشهب؛ لأن النية الأولى إذا كانت تجزئ في مسألة ناذر يوم من الجمعة، كان أحرى أن تجزئ في مسألة الحائض، للعلة التي قدمنا ذكرها؛ والثالث: أنها تجزئ في مسألة الحائض؛ لأن أيام الحيض لما كانت لا يصح صومها، أشبهت الليل، فصار صومها كالمتصل، ولا تجزئ في مسألة ناذر يوم الجمعة، لتحلل الفطر بين الصيامين، وهو أحد قولي ابن القاسم. والصحيح من هذه الأقوال: أنه لا بد من تجديد النية في المسألتين، إذ لو أجزأت النية الأولى في الصيام الثاني ولم تراع ما بينهما من الفطر، لوجب ألا يحتاج في أول رمضان إلى نية، لتقدم النية في صيامه قبل دخوله، وهذا لا يقوله أحد غير ابن الماجشون، قد نحا إليه بقوله: إن أهل البلد إذا عمهم العلم برؤية الهلال، أو بالشهادة فيه عند القاضي، صح صيام من لم يعلم بذلك منهم متى أصبح، وأجزأه ما لم يأكل ولم يشرب، وكذلك لو تخلل صيام شهر رمضان فطر لمرض أو سفر، لم يحتج إلى تجديد النية عند صحته، أو قدومه من سفره، على قياس رواية عيسى هذه في ناذر يوم من الجمعة بعينه، وهو بعيد، والذي يوجبه النظر أنه لا بد من تجديد النية في ذلك، وأن إيقاعها قبل غروب الشمس من ليلة الصوم لا يصح، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» . فيصح إيقاعها في جميع الليل إلى الفجر، وقد قيل: إن إيقاعها مع الفجر معا لا يصح، والأول أصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] . وإذ قد مضى تحصيل(2/333)
القول في حكم النية في الصيام الذي يتخلله فطر - يريد بتخلله فطر نهاري. فالصيام الذي لا يتخلله فطر، ينقسم قسمين: أحدهما: ما يجب متابعته بنص أو نذر، والثاني: ما لا يجب متابعته، فأما ما تجب متابعته كشهر رمضان، وشهري الظهار والنذر المتتابع، وشبه ذلك، بنية واحدة عند أوله تجزئ في المشهور في المذهب، إذ لا يتخلل ذلك فطر في زمن يصح فيه صوم، فكان كاليوم الواحد. وقد حكى محمد بن عبد الحكيم عن مالك: وجوب التبييت في كل ليلة، وهو شذوذ. وأما ما كان من الصيام يجوز تفريقه كقضاء رمضان، وصيامه في السفر، وصيام كفارة اليمين، وفدية الأذى، فاختلف إذا نوى متابعة ذلك، هل تجزئه نية واحدة في أوله؟ أو يلزمه تجديد النية لكل يوم، لجواز الفطر على قولين، الأظهر منهما أن تجزئه نية واحدة في أوله، يكون حكمها باقيا، وإن زال عينها، ما لم يقطعها بنية الفطر عامدا. وأما ما لم ينو متابعته من ذلك، فلا اختلاف في أن عليه تجديد النية لكل يوم، وقد مضى التكلم على المسألة الثانية في أول سماع ابن القاسم، وسيأتي أيضا في رسم "جاع".
[مسألة: يحلف بالله أو بالطلاق أو غيره أن يصوم غدا فيصبح صائما ثم يأكل ناسيا]
مسألة وقال في الذي يحلف بالله، أو بالطلاق، أو غيره، أن يصوم غدا، فيصبح صائما ثم يأكل ناسيا: إنه لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: إنما قال إنه لا شيء عليه إذا أكل ناسيا، أي: لا حنث عليه؛ بخلاف ما لو أصبح مفطرا ناسيا ليمينه، مراعاة للخلاف في وجوب القضاء على من أفطر في التطوع - متعمدا، أو في رمضان ناسيا، لما جاء في ذلك، وقد مضى ذلك في رسم "اغتسل على غير نية" من سماع ابن القاسم، وقد تكررت هذه المسألة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الأيمان بالطلاق - ومضى من كلامنا عليها هناك ما فيه زيادة بيان.(2/334)
[مسألة: إفطار صاحب الخوى الشديد]
مسألة وقال في الأرعن يصيبه الضربان من الخوى: أهو مرض من الأمراض إن جاءه من ذلك ما يحتاج معه إلى الفطر في رمضان؟ فذلك له، وهو مرض من الأمراض. وأرخص مالك لصاحب الخوى الشديد أن يفطر، ويتداوى إذا ألجئ إلى ذلك.
قال محمد بن رشد: قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فللمريض أن يفطر وإن كان قادرا على الصوم - إذا أجهده الصوم باتفاق، أو كان لا يجهده، إلا أنه يخشى أن يزيده في مرضه - على اختلاف، فصاحب الضربان يجهده الصيام، وصاحب الخوى يخشى أن يزيده في مرضه تأخير العلاج إلى الفطر، فلذلك قال فيه: إنه رخصة - والله تعالى أعلم.
[مسألة: أصبح في الحضر صائما في رمضان ثم بدا له أن يسافر]
مسألة قال ابن القاسم: ولو أن رجلا أصبح في الحضر صائما في رمضان، ثم بدا له أن يسافر، فتأول أنه له الفطر، فأكل قبل أن يخرج، ثم خرج فسافر، لم أر عليه إلا قضاء يوم؛ لأنه متأول.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة اختلف فيها على أربعة أقوال:(2/335)
أحدها: أن عليه القضاء والكفارة، سافر أو لم يسافر. والثاني: أن عليه القضاء ولا كفارة عليه، سافر أو لم يسافر. والثالث: الفرق بين أن يسافر أو لا يسافر، والرابع: أنه إن أكل قبل أن يأخذ في أهبة السفر كفر، سافر أو لم يسافر، وإن أكل بعد أن أخذ في أهبة السفر، كفر إن لم يخرج. وأظهر الأقوال: ألا كفارة عليه بحال؛ لأن الكفارة إنما هي تكفير للذنوب، ومن تأول فلم يذنب، وإنما أخطأ، والله تعالى قد تجاوز لأمة نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن الخطأ والنسيان، وعما استكرهوا عليه. ووجه قول من أوجب عليه الكفارة في شيء من ذلك، هو أنه لا يعذره بالجهل إذ كان ذلك عنده من الأمور البينة التي لا يسع أحدا جهلها، فإذا لم يتعلم وكان يلزمه أن يتوقف حتى يسأل، فإذا لم يفعل فإقدامه عليها قبل أن يسأل، يوجب عليه الكفارة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . ولابن القاسم في المجموعة: أن من أراد سفرا فحبسه مطر فأفطر، فإنه يكفر؛ لأنه من التأويل البعيد.
[مسألة: احتجم في رمضان فتأول أن له الفطر فأكل]
مسألة قال ابن القاسم: من احتجم في رمضان، فتأول أن له الفطر فأكل؛ فليس عليه إلا قضاء ذلك اليوم.
قال محمد بن رشد: أوجب عليه ابن حبيب في الواضحة الكفارة، ورآه من التأويل البعيد، وهذا من معنى ما تقدم القول فيه - وبالله تعالى التوفيق.
[جعل عليه صيام يوم الخميس والإثنين فأصبح يوم الخميس وهو يظنه الأربعاء]
ومن كتاب جاع فباع امرأته قال: وقال مالك: من جعل عليه صيام يوم الخميس والإثنين،(2/336)
فأصبح يوم الخميس - وهو يظنه الأربعاء، فلم يأكل حتى علم، قال مالك: يصوم ولا شيء عليه، ويكفيه إيجابه على نفسه أولا في نيته؟ قال: ولو أصبح يوم الأربعاء صائما وهو يراه الخميس ثم علم بذلك، فإن عليه أن يتمم ذلك اليوم ويصوم الخميس؛ قيل لمالك: فلو جاوز يوم الخميس، فلما كان يوم الجمعة أصبح صائما وهو يراه يوم الخميس، قال: يجزئه من يوم الخميس.
قال محمد بن رشد: هذه ثلاث مسائل قد مضى القول على المسألة الأولى منها في رسم "سلف" قبل هذا، وعلى المسألة الثانية في أول رسم من سماع ابن القاسم، وإيجاب ابن القاسم عليه في المسألة الثانية أن يتمم ذلك اليوم يدل على أنه إن أفطره وجب عليه القضاء خلاف قول أشهب في المدونة.
[مسألة: كان في أرض العدو فعمي عليه رمضان وكان عليه صيام شهر نذره]
مسألة وقال مالك: فيمن كان في أرض العدو فعمي عليه رمضان، وكان عليه صيام شهر نذره، فصام رمضان لنذره - وهو لا يراه رمضان، ثم تبين له؛ قال: لا يجزئه لرمضان ولا لنذره.
قال محمد بن رشد: أما قوله لا يجزئه لرمضان فبين؛ لأنه لم ينو به رمضان، ولا تكون الأعمال إلا بالنيات. وأما قوله ولا لنذره، فيدخل ذلك الخلاف من مسألة الذي صام رمضان قضاء عن غيره، وسيأتي القول عليها في أول سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: جعل على نفسه صيام الخميس فأصبح مفطرا وهو يراه الأربعاء]
مسألة
وسئل: عن الذي يجعل على نفسه صيام يوم الخميس فأصبح(2/337)
يوم الخميس مفطرا - وهو يراه الأربعاء، فأكل وشرب، ثم تبين له أنه الخميس، أيكف عن الطعام في بقيه يومه؟ قال: نعم، يكف عن الطعام في بقية يومه، وعليه القضاء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على أصولهم في أن حكم صيام النذر المعين في الوجوب، كحكم صيام رمضان، إلا في وجوب الكفارة على من أفطر متعمدا، وبالله التوفيق.
[يصوم رمضان فينوي به قضاء رمضان قد كان أفطره]
من سماع يحيى بن يحيى من عبد الرحمن بن القاسم من كتاب الصلاة قال يحيى: قال ابن القاسم، في الرجل يصوم رمضان فينوي به قضاء رمضان قد كان أفطره في سفر، أو مرض، قال: لا يجزئ عليه لشهر رمضان عامه ذلك، ولا للذي نوى صيامه قضاء عنه. وعليه أن يبتدئ قضاء الشهر الذي أفسد صومه بما نوى، وقضاء الأول الذي كان أفطره في مرض أو في سفر؛ لأنه أفسد الآخر حين نواه قضاء لما كان عليه من الصوم، ولم يجز عنه في القضاء؛ لأن رمضان لا يكون قضاء عن غيره.
قال محمد بن رشد: هذا هو قول مالك في رواية أشهب، وعلي بن زياد عنه، وقول أشهب وسحنون وابن حبيب، واختيار أحمد بن خالد وابن المواز: أنه لا يجزئه عن واحد منهما؛ لأن رمضان صومه مستحق لعينه، فلا يصح أن يقضى فيه غيره، ولأنه نوى به قضاء غيره، فلا يجزئه عن فرضه، وزاد ابن المواز أنه يكفر عن الأول بمد لكل يوم، ويكفر عن هذا بكفارة العمد عن كل(2/338)
يوم، إلا أن يعذر بجهل؛ وقال أشهب: إنه لا كفارة عليه؛ لأنه قد صامه ولم يفطره - وإن كان لا يجزئه صيامه، وأما كفارة المفرط في الأولى، فيجب عليه إن كان صحيحا مقيما ففرط حتى دخل عليه هذا الرمضان؛ ووقع لابن القاسم في المدونة أنه يجزئه، وعليه قضاء رمضان الآخر - بفتح الخاء - على أنه يجزئه عن هذا الرمضان، ولا يجزئه عن القضاء، وهو الذي يدل عليه لفظه واحتجاجه، إلا أنه بعيد في المعنى أن يجزئه عنه - وهو لم ينوه بصيامه، وروي الآخر بكسر الخاء على أنه يجزئه عن القضاء، ولا يجزئه عن هذا الرمضان؛ وهو أشبه في المعنى؛ لأنه نوى به القضاء، ولم ينو به هذا الرمضان، إلا أنه بعيد مما يدل عليه لفظه، والصحيح الذي يوجبه النظر ما تقدم: ألا يجزئه عن واحد منهما. ولقد روي عن ابن القاسم فيمن صام رمضان في سفر قضاء عن غيره، أنه لا يجزئه، فكيف بمن صامه عنه في حضر، ورأى غيره أنه يجزئه إن فعل - وإن كان ذلك يكره له - وهو القياس؛ لأن له فطره؛ ولو نواه عنهما جميعا، لوجب أن يجزئه عن هذا الرمضان، ولا يجزئه عن القضاء؛ لأنه صامه عما وجب عليه أن يصومه له، فلا يفسد نيته ما زاد فيها مما لا يجوز له من نية القضاء، وهو قول ابن حبيب في الواضحة؛ وقد روي عن أشهب: أنه لا يجزئه عن واحد منهما. وأما إذا خلط النيتين في الحج والنذر، فقال مالك: إنه يجزئه عن النذر. وقال المخزومي: إنه يجزئه عن الفرض. واختلافهما جار على الاختلاف في الحج: هل هو على الفور، أو على التراخي؟ ولم يقل أحد فيما علمت أنه لا يجزئ عن واحد منهما، وهذا يقضي بصحة قول ابن حبيب: إنه إذا صام رمضان ينوي به صيامه وقضاء غيره، أجزأه عن الفرض، ولم يجزه عن القضاء، خلاف قول أشهب.
[مسألة: صام يوما متطوعا ثم أفطر من غير عذر]
مسألة وقال: إذا صام الرجل يوما متطوعا ثم أفطر من غير عذر، كان عليه قضاؤه. ثم إن أفطر أيضا يوم القضاء من غير عذر، كان عليه(2/339)
قضاء يومين، يقضي يوما لليوم الأول الذي كان ابتدأ صيامه، ويوما لليوم الثاني الذي كان يصومه للقضاء؛ قال: فأما الذي يفطر في رمضان من مرض، أو سفر، ثم يقضي صيامه، فيفطر يوما من أيام القضاء بعدما أصبح صائما للقضاء، فإنما عليه أن يقضي يوما مكانه؛ ثم إن أفطر في قضاء القضاء، كان عليه مكانه صيام يومين؛ قال: وأما الحج فمجمع على الذي يفسد حجة بإصابة النساء ثم يحج قابلا ويهدي مكان ما أفسد من حجه أنه إن أفسد الحجة الثانية بإصابة النساء، كان عليه أن يقضي حجتين مستقبلتين، ويهدي هديين لكل حجة أفسدها.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله: أنه فرق بين قضاء التطوع وقضاء رمضان، وبين قضاء رمضان وقضاء قضائه؛ فأوجب في فطر قضاء التطوع يومين، وفي فطر قضاء رمضان يوما واحدا، وفي قضاء قضائه يومين فجعل قضاء قضاء رمضان كقضاء التطوع، بخلاف قضاء رمضان، ولا يصح أن يحمل الكلام على ظاهره في هذا، إذ لا فرق في المعنى، والقياس بين قضاء رمضان وقضاء التطوع، ولا بين قضاء قضاء رمضان، وقضاء قضاء التطوع.
فمعنى قوله في الذي يفطر يوما من أيام قضاء رمضان، إنما عليه أن يقضي يوما مكانه، يريد لفطره يوم القضاء، مع أن عليه يوما آخر لرمضان سكت عنه للعلم بوجوبه عليه، فالمفطر على هذه الرواية متعمدا في قضاء رمضان، كالمفطر متعمدا في قضاء التطوع، يجب عليه يومان هاهنا، ويومان هاهنا؛ يوم لفطره في القضاء، واليوم الذي كان وجب عليه - لإفطاره في رمضان، أو لإفطاره متعمدا في التطوع، ثم إن أفطر بعد ذلك متعمدا في قضاء القضاء، كان عليه صيام ثلاثة أيام، اليوم الذي كان ترتب في ذمته بالفطر في رمضان، أو بالفطر(2/340)
متعمدا في صيام التطوع؛ ويوم لفطره في القضاء متعمدا، ويوم لفطره في قضاء القضاء متعمدا، وقد روى عن ابن القاسم: أنه ليس عليه في ذلك كله إلا يوم واحد، وهو اليوم الذي وجب عليه لفطره في رمضان، أو لفطره في صيام التطوع - معتمدا، ولا شيء عليه لفطره متعمدا في القضاء، ولا في قضاء القضاء - قاله في سماع عيسى من كتاب الحج، وإليه ذهب أصبغ، وضعف قول من أوجب القضاء في القضاء أو في قضاء القضاء، ورأى ذلك في الحج استحسانا، ورأى قول ابن القاسم وروايته عن مالك في ذلك وهما وخطأ، وقع ذلك في بعض روايات المستخرجة، ووجه القول الأول، أنه لما دخل في القضاء، أو في قضاء القضاء، لزمه إتمامه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . فوجب عليه إن أفطره متعمدا قضاؤه؛ ووجه القول الثاني أنه لم يجب عليه إتمامه إلا على الوجه الذي دخل فيه من القضاء، فإن أفطره متعمدا، لم يجب عليه إلا القضاء الذي كان عليه؛ فعلى القول الأول لو دخل في القضاء ثم علم أنه ليس عليه شيء يجب عليه إتمام صيامه، وهو قول ابن القاسم في المدونة؛ وعلى القول الثاني لا يجب عليه إتمامه، وهو قول أشهب في المدونة أيضا.
[تأخير قضاء رمضان]
من سماع سحنون من عبد الرحمن بن القاسم قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سئل مالك: عن الذي يكون عليه صيام رمضان، وصيام تمتع، ويحضره رمضان آخر، قال: إن كان يقدر على أن يصوم صيام التمتع ورمضان قبل أن يدخل الآخر، بدأ بالتمتع، وإن لم يطمع بذلك، بدأ برمضان، ثم قضى التمتع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة المدونة، وإنما قال إنه يبدأ بالتمتع إذا اتسع الوقت له وللقضاء؛ لأن الاختيار ألا يفارق بين الثلاثة الأيام والسبعة(2/341)
بصيام، لقوله عز وجل: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ... الآية. وفي تأخير قضاء رمضان إلى الرمضان الذي بعده سعة، لقول عائشة: إن كان ليكون علي الصيام من رمضان، فما أستطيع أن أصومه حتى يأتي شعبان. وأما إذا ضاق الوقت عن أحدهما، فالبداية بقضاء رمضان أوجب؛ لأنه قد تعين في هذا الوقت، ألا ترى أنه إن أخره عنه، وجب عليه الإطعام.
[مسألة: الحج يفسده صاحبه فيحج حجة أخرى قضاء منها فيفسدها أيضا]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: من كان عليه قضاء صيام يوم، فصامه فأكل فيه - متعمدا، كان عليه قضاؤهما.
قال ابن القاسم: وكذلك الحج يفسده صاحبه، فيحج حجة أخرى قضاء منها فيفسدها أيضا - إن عليه حجتين: واحدة للأولى، وأخرى للأخرى، وهذا بين. قال ابن وهب: ليس عليه إلا حجة واحدة، وهديان: هدي لكل حجة أفسدها.
قال محمد بن رشد: أوجب في هذه الرواية القضاء في القضاء، ولم يفرق بين أن يكون القضاء الذي أفطره - متعمدا من رمضان، أو من تطوع، إذ لا فرق بينهما على ما بيناه في سماع يحيى؛ وساوى بين الحج والصيام، وفرق بينهما على الرواية الثانية في سماع عيسى من كتاب الحج، إذ لم يختلف قوله في الحج، كما اختلف في الصيام؛ وقد قال في سماع يحيى: إن الحج مجتمع عليه - يريد من قول مالك وابن القاسم، إذ قد خالف فيه ابن وهب. ووجه الفرق بينهما: أن الله قد نص على وجوب إتمام الحج والعمرة بقوله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . ولم ينص على وجوب إتمام الصيام، وإنما أوجب بالقياس - وبالله التوفيق.(2/342)
[مسألة: نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه أبوه أبدا]
مسألة وسئل: عن الرجل يقول: لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، مثل أبيه أو أخيه، فيأتي أبوه أو أخوه فينسى اليوم الذي قدم فيه؟ قال: أرى أن يصوم آخر أيام الجمعة - وهو يوم الجمعة؛ لأن أول الجمعة السبت.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة: أنه نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه أبوه أبدا، فلهذا جعله أن يصوم آخر أيام الجمعة - يريد أبدا، ليكون في معنى القاضي، وقد قيل: إنه يصوم الدهر. وقيل: إنه يصوم أي يوم شاء من الجمعة أبدا؟ اختلف في ذلك قول سحنون، وصيام الدهر هو القياس؛ ليأتي على شكه، كمن شك في صلاة من يوم لا يدري أي صلاة هي - أن عليه أن يصلي خمس صلوات، فصيام آخر يوم من الجمعة رخصة، لما جاء من كراهة بعض العلماء صيام الدهر، لما جاء في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من قوله: «لا صام ولا أفطر من صام الدهر» . يريد: ما أفطر إذ لم يأكل، ولا صام إذ لم يؤجر. وأما لو نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه خاصة، لم يجب عليه قضاؤه، إذ قد مضى اليوم الذي نذره، أو قد جاز له الفطر - إن كان قد قدم نهارا، على ما في المدونة. وقال أشهب: يقضيه، ويقضيه على مذهبه، ومذهب ابن القاسم - إن كان يقدم(2/343)
ليلا - أي يوم شاء؛ ولا وجه لتأخيره إلى آخر أيام الجمعة، ولا اختلاف في هذا، فتدبره.
[مسألة: صام رمضان كله من أوله إلى آخره وهو جنب لم يغتسل فيه]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت من صام رمضان كله من أوله إلى آخره، وهو جنب لم يغتسل فيه، هل يجزئه صيامه؟ قال لي: نعم يجزئه صيامه، وإن كان عامدا لم آمره أن يعيد - وقد أخطأ، وظلم نفسه - والله أعلم، وأما الصلاة فلا بد من الإعادة لها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، والأصل فيه ما ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنبا، ثم يصوم ذلك اليوم - وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: نذر أن يصوم الدهر كله فأفطر يوما]
مسألة وسئل سحنون: عمن نذر أن يصوم الدهر كله، فأفطر يوما؛ قال سحنون: إن أفطره ناسيا، أو من عذر، فلا شيء عليه؛ وإن أفطره من غير عذر، فعليه الكفارة، قيل: وما الكفارة؟ قال: إطعام مد، أخبرنيه أبو زيد عن ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: لسحنون في كتاب ابنه: أن عليه إطعام ستين مسكينا، ووجه هذا: أنه لما أفطر متعمدا ما لا يجد له قضاء، أشبه الفطر في رمضان متعمدا في أنه لا يجد له قضاء؛ إذ قد جاء أنه لا يقضيه بصيام الدهر - وإن صامه. ووجه القول الأول: القياس على كفارة التفريط؛ لأنها كفارة وجبت للفطر - متعمدا في موضع لا يجوز فيه الفطر، وهذا أفطر متعمدا في موضع(2/344)
لا يجوز فيه الفطر، واختلف فيمن نذر صيام الدهر، فلزمه صيام ظهار، أو كفارة يمين، قال ابن حبيب: يصوم ذلك ولا شيء عليه. وقال سحنون: يصوم ويطعم عن كل يوم مدا. ومثل قول ابن حبيب في سماع أصبغ من قوله وروايته عن ابن القاسم في رسم "الجامع في بعض الروايات " - وبالله التوفيق.
[الرجل يبيت الصيام في السفر ثم يفطر]
من سماع موسى من ابن القاسم قال موسى بن معاوية: قال ابن القاسم: سألت مالكا غير مرة عن الرجل يبيت الصيام في السفر، ثم يفطر بالطعام؛ وفي بعض سؤالي إياه أقول له: ويرى المسافر أن الفطر له واسع، فيفطر على ذلك؛ قال مالك: أرى عليه الكفارة. وكذلك أن لو وطئ، قال ابن القاسم: والوطء لا يكون أشد من الطعام في شيء من رمضان، وسمعت الليث يرى ذلك أيضا، ويقول: عليه الكفارة في المسافر يبيت الصيام ثم يفطر.
قال محمد بن رشد: هذا يبين مذهب مالك في المدونة أن عليه القضاء والكفارة - وإن كان متأولا، وفي المدنية لمالك: أنه لا كفارة عليه - وإن كان متعمدا من غير عذر، مثل قول ابن كنانة والمخزومي في المدونة، وأشهب يرى عليه الكفارة، إلا أن يكون متأولا؛ وهذا هو أظهر الأقوال، لحديث النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أنه خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر فأفطر الناس» ... الحديث.(2/345)
[مسألة: التبييت في كل ليلة في صيام رمضان للمسافر]
مسألة قال: ولا يجزئه الصيام في السفر إلا أن يبيته في صيام رمضان.
قال محمد بن رشد: معناه أنه لا يجزئه الصيام في السفر في رمضان، إلا أن يبيته في كل ليلة - ولو نوى أن يتابع الصيام في سفره؛ وأما إذا لم ينو متابعة الصيام، فلا اختلاف في أنه لا بد له من التبييت في كل ليلة، وفي المبسوطة لمالك: لا تبييت على من شأنه سرد الصيام، ومثله في الواضحة. وقال أبو بكر الأبهري، ومحمد بن الجهم: هذا استحسان. والقياس أن عليه التبييت في كل ليلة لجواز الفطر له، فما في المبسوطة لمالك، خلاف قول مالك في هذه الرواية، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم "تسلف" من سماع عيسى - وبالله التوفيق.
[كانت في فيه نواة أو حصاة يعبث بها فنزلت في حلقه حال صيامه]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب الزكاة والصيام قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول، فيمن كانت في فيه نواة أو حصاة يعبث بها، فنزلت في حلقه: إنه لا قضاء عليه في صيام النافلة، وفي الذباب يدخل الحلق وينزل إلى الجوف ولا يستطيع رده، فلا قضاء عليه لا في النافلة ولا في الفريضة؛ وليس ذلك بمنزلة النواة يعبث بها يقضي في النواة في الفريضة، وعليه الكفارة مع القضاء، وليس هذا بتأويل أحد يسقط به الكفارة، وهذا تأويل خطأ، وقاله أصبغ؛ وذلك إذا عبث بها وتهاون حتى يبتلعها، فهو بمنزلة المتعمد، والمتعمد عليه في تعمده هذا - القضاء والكفارة؛ وذلك أن للنواة غذاء، وكذلك الطين في هذا؛ وأما الحصاة فإن كان في فريضة(2/346)
- وكان ساهيا - فلا شيء عليه؛ لأن الحصاة ليس يصير لها غذاء، لا تذبل في الجوف كذبول النواة، وهي بمنزلة الدينار والدرهم يبتلعهما ساهيا، فلا شيء عليه؛ وإن تعمد شيئا من ذلك، كان عليه القضاء في الفريضة للتهاون، وعظم حرمة الفريضة وحقها - احتياطا عليه؛ وكذلك اللوزة الصحيحة، والجوزة، والفستقة بقشرها، تجري مجرى الحصاة والدينار، والدرهم.
قال محمد بن رشد: قوله في النواة يعبث بها فتنزل في حلقه، أنه لا قضاء عليه في صيام النافلة - معارض لقوله: إن عبث بها فنزلت في حلقه في الفريضة كانت عليه الكفارة مع القضاء، وإن كان ساهيا فعليه القضاء، فكان يجب على قوله في الفريضة، أن يجب عليه القضاء في النافلة، وعلى قوله في النافلة ألا يجب عليه في الفريضة - الكفارة في العمد، ولا القضاء في السهو، وهذا كله خلاف أصل ابن الماجشون في الواضحة، إذ لم يفرق في شيء من هذا بين ما له غذاء مما ليس له غذاء، وقال: لم يؤخذ هذا من جهة الغذاء، وإنما أخذ من أن حلق الصائم مما لا تجاوزه شيء، فإن كان ناسيا في شيء من ذلك كله، كان عليه القضاء، وإن كان عامدا، كان عليه القضاء والكفارة؛ وقال: على هذا الأصل في الذباب يبذر في الحلق، أن عليه القضاء. ثم خالف أصله هذا، فقال: فيما بقي بين أسنانه من بقية طعامه كحبة التينة، وفلقة الجريدة، فابتلعه في نهاره - ناسيا، أو متعمدا، فلا شيء عليه؛ لأنه ابتدأ أخذ ذلك في وقت يجوز له، وكذلك قال في النخامة: إنه لا شيء عليه في ابتلاعه إياها - ساهيا كان، أو متعمدا - بعد فصولها، أو قبل فصولها، وقال: إن كل ما وجب فيه في الفريضة القضاء والكفارة، وجب فيه في النافلة القضاء، وما لم يجب في الفريضة إلا القضاء، فلا يجب فيه في النافلة قضاء، ولم يلزم ابن القاسم هذا الأصل، فقال في النواة يعبث بها فتنزل في حلقه: إنه لا قضاء عليه في النافلة، وعليه في الفريضة القضاء والكفارة، وقال: إن من استقاء - طائعا، فعليه القضاء في الفريضة والنافلة، ووافق ابن القاسم فيما روى عنه أصبغ في بعض روايات(2/347)
العتبية في النخامة أنه لا شيء عليه في ابتلاعه إياها عامدا. وقال ابن نافع: عليه القضاء وهو يفطره.
[مسألة: أتعب الصائم الحر أو العطش في رمضان]
مسألة
قال أصبغ: قال ابن القاسم: وإن أتعب الصائم الحر، أو العطش في رمضان، فأرجو أن يكون في سعة من الفطر، إذا كان قد بلغ ذلك منه، ولم يقو؛ وقاله أصبغ في سفر كان، أو في حضر - إذا بلغ منه المجهود والخوف على نفسه الموت أو المرض.
قال محمد بن رشد: أما إذا خاف على نفسه الموت مما بلغه، فلا اختلاف في جواز الفطر له، واختلف إذا خاف المرض، فقيل له أن يفطر، وقيل: ليس له أن يفطر لما يخاف من المرض، ولعله لا ينزل به؛ واختلف إذا أفطر، فقال سحنون: يأكل بقية يومه؛ لأنه قد جاز له الفطر، ورواه داود بن سعيد عن مالك، وقال ابن حبيب: لا يفطر إلا بقدر ما يرد به رمقه، ويمسك؛ فإن أفطر بعد ذلك فلا شيء عليه؛ لأنه قد دخل في حد المريض - وبالله التوفيق.
[مسألة: يصيبه الضربان من الخوى هل يفطر رمضان]
مسألة قال ابن القاسم في الذي يصيبه الضربان من الخوى، فهو مرض من الأمراض إذا جاءه من ذلك ما يحتاج معه إلى الفطر في رمضان، فذلك له؛ لأنه مرض من الأمراض.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم "سلف" من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة القول فيها، وبالله التوفيق.(2/348)
[النصرانية تحت المسلم أيفطرها في صومها الذي تصومه مع أهل دينه]
ومن كتاب الجامع قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، وسئل عن النصرانية تحت المسلم: أيفطرها في صومها الذي تصومه مع أهل دينها؟ قال: لا أرى أن يكرهها على ما عليه أهل دينها وملتها، يعني شرائعها، ولا على أكل ما يجتنبون في صيامهم، أو ما يجتنبون أكله رأسا، ليس ذلك له في القضاء؛ قال أصبغ: ولا عليه منعها إياه كرها، ولا له، وقد قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] ، وقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] حتى بلغ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] .
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، أنه ليس له أن يمنعها مما تتشرع به، واختلف: هل له أن يمنعها من شرب الخمر، وأكل الخنزير، والذهاب إلى كنيستها، فقال في المدونة: ليس له أن يمنعها من ذلك، وقال في كتاب ابن المواز: له أن يمنعها من أكل الخنزير، وشرب الخمر؛ لأن ذلك ليس من دينها، وله أن يمنعها من الكنيسة إلا في الفرط.
[المعتكفة تحيض فتخرج إلى منزلها حتى تطهر]
من سماع أبي زيد من ابن القاسم قال أبو زيد بن أبي الغمر: أخبرني ابن القاسم، قال في المعتكفة تحيض فتخرج إلى منزلها حتى تطهر؛ قال: تخرج في حيضتها إلى السوق، وفي حوائجها، وتصنع ما أرادت إلا لذة الرجال: القبلة، أو الجسة، لا تجتنب شيئا إلا اللذة.
قال محمد بن رشد: أنكر سحنون هذه، وقال: هي في حرمة الاعتكاف، إلا أنها تمتنع من المسجد، فلا تصنع إلا ما يصنعه المعتكف، وقد مضى هذا في أول سماع ابن القاسم، وما يتعلق به، وبالله التوفيق.(2/349)
[مسألة: استقاء في نافلة وهو صائم]
مسألة وقال في رجل استقاء في نافلة - وهو صائم، قال: أحب إلي أن يقضي ذلك؛ لأن الحديث جاء: «من استقاء فعليه القضاء» ، وهو عندي في الفريضة والنافلة سواء.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف أصل ابن الماجشون الذي ذكرناه في سماع أصبغ، وقد حكى ابن لبابة عن ابن القاسم من رواية محمد بن خالد - مثل أصل ابن الماجشون، فقف على ذلك.
[مسألة: جعل في نفسه إن كشف الله عني صيام شوال فلم يصح إلا في النصف من شوال]
مسألة وسئل: عن رجل جعل في نفسه إن كشف الله عني - صيام شوال، فلم يصح إلا في النصف من شوال؟ قال: يصوم النصف الذي صح فيه من شوال، وليس عليه أن يتمه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما مضى قد جاز له فطره، وهو مثل ما في المدونة.
[مسألة: تسحر في رمضان في الفجر فظن أن ذلك اليوم لا يجزئ عنه صيامه فأكل متأولا]
مسألة وسئل: عن رجل تسحر في رمضان في الفجر، فظن أن ذلك اليوم لا يجزئ عنه صيامه، فأكل متأولا؛ قال: يقضي يوما مكانه، ولا كفارة عليه؛ قال: وكذلك من قدم من سفر قبل الفجر، فظن أن ذلك اليوم لا يجزئ عنه صيامه فأكل فيه؛ فرأيت في(2/350)
معنى قوله كأنه لا يرى على من تأول شيئا - وهو فيه مخطئ إلا القضاء فقط، ولا يرى عليه كفارة.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين مثل ما في المدونة، فلا معنى للقول فيه.
[مسألة: الذي يرى هلال شوال وحده]
مسألة وقال في الذي يرى هلال شوال وحده، هل يجوز له أن يفطر؟ أو يرى هلال رمضان وحده، هل يصوم ذلك اليوم؟ قال: أما إذا رأى هلال رمضان وحده، فإنه يصوم، ولا ينبغي له إلا ذلك، وأما إذا رأى هلال شوال، فإنه لا يجوز له أن يفطر إلا باجتماع من الناس، إلا أن يكون وحده في سفر، وفي غير جماعة من الناس، مثل المسافر يكون في مفازة، فإنه يصوم برؤية الهلال، ويفطر برؤيته؛ إلا أن يغمى عليه هلال شوال، فيعد ثلاثين يوما من يوم رأى هلال رمضان، ثم يفطر.
قال محمد بن رشد: أما إذا رأى هلال رمضان وحده، فلا خلاف في أنه يجب عليه أن يصوم، فإن أفطر عالما بوجوب الصيام عليه غير متأول، فعليه القضاء والكفارة، وكذلك إن رأى هلال ذي الحجة وحده يجب عليه أن يقف وحده دون الناس، ويجزئه ذلك من حجه - قاله بعض المتأخرين، وهو صحيح. وأما إذا رأى هلال شوال وحده دون الناس - وهو في جماعة، فقال: إنه لا يجوز له أن يفطر إلا باجتماع من الناس، والفطر له فيما بينه وبين الله جائز، بل هو الواجب عليه، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن(2/351)
صيام ذلك اليوم، لكنه حظره عليه لما فيه من تعريض نفسه للتهمة، وعقوبة السلطان، ومثل هذا في المدونة والموطأ وغيرهما من الدواوين، وأبينه قول أصبغ في سماعه من كتاب طلاق السنة، واستحب ابن حبيب أن ينوي الفطر ولا يظهر إفطاره، والصحيح أن هذا هو الواجب عليه أن يفعله - وإن كان ذلك مخالفا للروايات؛ لأن الصوم من أفعال القلوب، فلا يجوز له أن يعتقد الصوم - وهو يعلم أنه عليه حرام.
[المعتكف أيؤم الناس]
ومن مسائل نوازل سئل عنها مطرف وسئل مطرف: عن المعتكف أيؤم الناس؟ قال: لا بأس بذلك، وقد رأيت الحسن بن زيد اعتكف عندنا في المسجد، وكان يؤمنا، وهو إذ ذاك أمير المدينة، فلم أر أحدا أنكر ذلك عليه، وما أرى به بأسا، وقد اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يسمع أنه أمر أحدا يؤمهم، ومحمل أمره عندنا على أنه هو الذي كان يؤمهم - وهو على اعتكافه - كما هو.
قال محمد بن رشد: قوله صحيح؛ لأن الإمامة للمعتكف بالناس في مسجد معتكفه، ليس فيها شغل عن اعتكافه، واستدلاله على أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي كان يؤم الناس في اعتكافه - على حاله - التي كان عليها، فإنه لو استخلف على الصلاة غيره، لنقل ذلك وعلم، استدلال واضح؛ لأن هذا مما يعلم توفر الدواعي على نقله، فلو كان، لنقل.
[مسألة: المعتكف يقبل امرأته]
مسألة وسئل مطرف: عن المعتكف يقبل امرأته، والمتظاهر، ما الذي(2/352)
ترى فيهما؟ قال: أرى أن قد أفسدا ما هما فيه، فأما المتظاهر فأرى أن يبتدئ صيامه، وأما المعتكف فأرى أن يبتدئ اعتكافه، قلت له: في القبلة فقط، فقال: نعم في القبلة، وكذلك لو جساهما بأيديهما، كان ذلك مما يفسد عليهما ما هما فيه، قلت له: فالحاج أو الصائم إذا قبلا؟ فقال: أما الصائم فلا شيء عليه، إلا أن يمذي، وأما الحاج فحجه تام مجزئ عنه، إلا أن عليه الهدي لمكان ما قبل.
قال محمد بن رشد: أما المعتكف فلا اختلاف أحفظه في المذهب في أن القبلة والمباشرة تبطل اعتكافه. وأما المتظاهر فلأصبغ في نوازله من كتاب الظهار: أنه إن قبل في شهري صيامه استغفر الله تعالى، وتمادى على صيامه. وهذا أحد قولي سحنون، قال: لأن المعتكف ممنوع من كل امرأة، والمتظاهر ليس بممنوع إلا من امرأته التي ظاهر منها، ومن أهل العلم في غير المذهب من يبيح للمتظاهر من امرأته التي ظاهر منها، ما دون الجماع قبل الكفارة، كما أن منهم أيضا من لا يبطل الاعتكاف بما دونه. ويحمل قَوْله تَعَالَى في الآيتين جميعا: آية الظهار، وآية الاعتكاف - على الجماع، لا على ما دونه. وأما الصائم فلا يبطل صيامه ما دون الجماع، إلا أن ينعظ أو يمذي على اختلاف، أو ينزل باتفاق، وقد مضى تحصيل ذلك في رسم "طلق" من سماع ابن القاسم، وأما الحاج فلا يبطل حجه بما دون الجماع، إلا أن ينزل، غير أن عليه في ذلك كله الهدي - وبالله التوفيق.
تم كتاب الصيام والاعتكاف بحمد الله وحسن عونه وتوفيقه(2/353)
[كتاب زكاة الذهب والورق] [كانت له عشرة دنانير فحال عليها الحول ثم اشترى بها بعد ذلك مائتي درهم](2/355)
من سماع أبي القاسم من مالك من كتاب أوله نذر سنة يصومها وسئل مالك: عن رجل كانت له عشرة دنانير فحال عليها الحول ثم اشترى بها بعد ذلك مائتي درهم، أترى أن يزكيها؟ قال: نعم، أرى أن يزكيها.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على ما في المدونة، وعلى المشهور في المذهب أن الأرباع مزكاة على أصول الأموال، فهذه المائتا درهم على هذا، كأنها لم تزل في يديه من يوم ملك الأصل الذي اشتراها به وهو العشرة دنانير، وقد قيل: إن الأرباح فوائد، وقيل: إنه إن اشترى بأكثر مما بيده لم يزك من الربح على الأصل إلا ما ينوبه، وقيل: إنما يزكى منه على الأصل ما ينوبه إذا كان قد نقد، فإن لم ينقد كان الربح فائدة، فيتحصل في ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أن الربح مزكى على الأصل - وإن اشترى بأكثر مما بيده. وإن لم ينقد، وهو نص قول مالك في رسم "استأذن" من سماع عيسى.
والقول الثاني: أن الربح فائدة - وإن اشترى بما في يده ونقده، وهذا القول يقوم مما رواه أشهب، وابن عبد الحكم - عن مالك في رجل له عشرون دينارا حال عليها الحول، ولم يزكها فاشترى بها سلعة، ثم باعها بعد الحول بأشهر بثلاثين دينارا؛ أنه يزكي العشرين ويكون حولها في يوم كان حال عليها الحول، ولا زكاة عليه في الربح حتى يحول عليه الحول من يوم ربحه، فجعل الربح فائدة - وإن كان قد نقد العشرين التي كان الربح فيها؛ فعلى هذا القول لا يلزم الرجل الذي كانت له عشرة دنانير، فحال عليها الحول، ثم اشترى بها بعد ذلك مائتي درهم - أن يزكي المائتي درهم حتى يحول عليها - حول آخر من يوم ربحها، وصارت بيده.
والقول الثالث: أنه إن اشترى بأكثر مما بيده، لم يزك من الربح إلا ما ينوب(2/356)
ما بيده منه، وهو قول مالك في رواية زياد عنه، مثال ذلك: أن يكون له عشرة دنانير فيحول عليها الحول، فيشتري بعد حلوله سلعة بعشرين دينارا فينقد العشرة أو لا ينقدها، ثم يبيعها بثلاثمائة درهم، أنه يزكي مائتي درهم - مائة للأصل، ومائة من الربح؛ وهو ما ناب الأصل الذي كان عنده منه؛ ويستقبل بالمائة الثانية من الربح - وهو ما ناب العشرة التي زادها في الثمن على ما كان بيده حولا من يوم صارت بيده.
والقول الرابع: أنه لا يزكي من الربح ما ناب الزائد على الأصل، ولا ما ناب الأصل منه أيضا، إلا أن ينقده، فإن لم ينقد لم يزكه حتى يستقبل حولا، وهو قول مالك في رسم "الزكاة" من سماع أشهب. قال: ويكون حوله من يوم ربحه وصار له، واختار محمد هاهنا أن يكون حول الربح من يوم اشترى وأدان؛ وحكي أن مالكا رجع إلى هذا: أن يحسب حول الربح من يوم أدان الأصل؛ ووجه القول بأن الأرباح فوائد يستقبل بها الحول، قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ليس في المال المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول» ، فعم ولم يخص ربحا من غيره، ووجه القول بأنها مزكاة على الأصول قياسا على غذاء الغنم؛ لأنهما نماءان من المال، مما يشق حفظ أحوالهما لمجيئهما شيئا بعد شيء، فوجب أن يستوي حكمهما في تزكيتهما على الأصل، وأما التفرقة بين أن ينقد أو لا ينقد، وبين أن يشتري بما بيده أو بأكثر منه؛ فإنما هو استحسان، إذ لا يخرج شيء من ذلك عن القولين المتقدمين - والله أعلم.(2/357)
[وجبت عليه في رجب زكاة عشرين فلم يزكها وعمل بها]
ومن كتاب أوله يسلف في المتاع والحيوان وقال: في الرجل يكون عنده عشرون دينارا ويحول عليها الحول وهي عشرون فلا يزكيها ويشتري بها متاعا، فيبيعه بعد شهر أو نحوه بثلاثين دينارا، كم يزكي: العشرين، أم الثلاثين؟ قال: بل أرى أن يزكي العشرين ولا شيء عليه في الربح، وذلك أن العشرين لو تلفت لزمه زكاة عشرين؛ قال ابن القاسم: ويستقبل بالعشرة، والعشرين، حولا من يوم وجبت الزكاة في العشرين، وتفسير ذلك: أن لو وجبت عليه في رجب زكاة عشرين، فلم يزكها وعمل بها، ثم أدى عنها في المحرم - وهي ثلاثون، زكاها كلها في رجب.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على المشهور في المذهب من أن الأرباح مزكاة على الأصول، لقوله فيها: إنه يستقبل بالعشرة والعشرين حولا من يوم وجبت الزكاة في العشرين، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في المسألة التي قبلها، وإنما قال: إنه يزكي العشرين حين البيع؛ لأن زكاتها قد تقررت في ذمته، ووجبت عليه دينا بحلول الحول، وهو في عمله في المال بعد الحول على حول مستأنف، وقول ابن القاسم: ويستقبل بالعشرة والعشرين حولا من يوم وجبت الزكاة في العشرين وهم، وإنما يستقبل الحول بما بقي من الثلاثين بعد إخراج زكاة العشرين منها، وسواء على مذهبه كان له عرض يفي بما أخرج من زكاة العشرين، أو لم يكن، خلافا لقول أشهب في المدونة، وقد روى ابن وهب عن مالك أنه يزكي الثلاثين كلها حين باع المتاع، قيل له: فإن باع بأقل من عشرين، فسكت - وهو وهم؛ لأنه يأتي على أن حوله قد انتقل إلى حين باع المتاع بالثلاثين، ويلزمه على هذا إن باع بأقل من عشرين، أن تسقط عنه الزكاة؛ ألا ترى أنه سكت لما لزمه ما لزمه من الحجة، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(2/358)
[تقسيم سهم المؤلفة]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا وسئل مالك: عن سهم المؤلفة، أترى أن يقسم على سهمان الصدقة؟
قال محمد بن رشد: يريد بالاجتهاد لا بالسواء، وإن رأى أن يجعله في صنف واحد، كان ذلك له، إذ الزكاة على مذهبه إنما توضع في الأصناف المذكورين في الآية - بالاجتهاد، ويتبع في ذلك الحاجة في كل عام، ولا يقسم بينهم أثمان على السواء؛ هذا مذهبه الذي لم يختلف فيه قوله، ولا خالفه فيه أحد من أصحابه، وقيل: يجعل نصف ذلك السهم لعمار المساجد، ونصفه على سائر الأصناف السبعة.
والمؤلفة قلوبهم قوم من صناديد مضر، كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيهم من الزكاة يتألفهم على الإسلام - ليسلم بإسلامهم من وراءهم، منهم: أبو سفيان بن حرب، واختلف في الوقت الذي بدئ فيه بائتلافهم، فقيل: قبل أن يسلموا لكي يسلموا، وقيل: بعدما أسلموا كي يحبب إليهم الإيمان، فكانوا على ذلك إلى صدر من خلافة أبي بكر، وقيل: إلى صدر من خلافة عمر، ثم قال لأبي سفيان: قد أعز الله الإسلام، وأغنى عنك وعن ضربائك، إنما أنت رجل من المسلمين. وقطع ذلك عنهم؛ واختلف هل يعود ذلك السهم إن احتيج إليه، أم لا يعود؛ فرأى مالك أنه لا يعود، وهو مذهب أهل الكوفة، وقد قيل: إنه يعود إن احتيج إليه، ورأى ذلك الإمام، وهو قول ابن شهاب، وعمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب الشافعي.(2/359)
[السنة الثابتة عن النبي عليه السلام في الصدقة]
ومن كتاب الرطب باليابس قال ابن القاسم: سمعت مالكا يذكر أن عاملا لعمر بن عبد العزيز كتب إليه: إن الناس قد أسرعوا في أداء الزكاة ورغبوا في ذلك لموضع عدلك. وأنه قد اجتمعت عندي زكاة كثيرة، فكأن عمر كره ذلك من كتابه لمدحه، فكتب إليه: ما وجدوني وإياك على ما رجوا وظنوا، فاقسمها. قال ابن القاسم: وقال عمر: وأي رأي لي فيها حين كتب.
قال محمد بن رشد: في هذا فضل عمر بن عبد العزيز، وقوله: وأي رأي لي فيها - يريد: أنه لا رأي لأحد في ذلك مع السنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الصدقة: أن تؤخذ من الأغنياء فترد على الفقراء.
[يشتري الحلي فيريد أن يحبسه حتى يصدقه امرأته فيحول عليه الحول وهو عنده]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء وسئل مالك: عن رجل يشتري الحلي فيريد أن يحبسه حتى يصدقه امرأته، فيحول عليه الحول، وهو عنده؟ - أترى أن يزكيه؟ فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: لأشهب في كتاب ابن المواز والواضحة، ولأصبغ في الواضحة، أنه لا زكاة عليه، وقول مالك أظهر؛ لأن الحلي من الذهب والفضة تجب في عينه الزكاة بظاهر ما في القرآن، والسنن، والآثار، فلا تسقط منه الزكاة إلا بحبسه للانتفاع بلبسه في الحال، قياسا على الثياب التي تلبس، والعروض التي تقتنى؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس(2/360)
على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة» . وإسقاط أشهب وأصبغ عنه الزكاة بما نواه فيه ضعيف، إذ قد يبدو له، وقد قال مالك في الذي يقدم مكة ليسكنها إنه ليس كأهل مكة؛ لأنه إنما قدم ليسكنها ولعله أن يبدو له.
[مسألة: له أربعون درهما أو رأس، أو رأسان أيعطى من الصدقة]
مسألة وسئل: عن رجل له أربعون درهما، أو رأس، أو رأسان، أيعطى من الصدقة؟ فقال مالك: إذا كان كثير العيال، فأراه أهلا أن يعطاها في حاله وكثرة عياله.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، وإنما وقع السؤال عن الأربعين درهما لما في حديث الأسدي من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل منكم وله أوقية أو عدلها، فقد سأل إلحافا» . وقد روي عن سهل بن الحنظلية أنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من سأل الناس عن ظهر غنى، فإنما يستكثر من جمر جهنم" فقلت: يا رسول الله، وما ظهر غنى؟ قال: "أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم أو ما يعشيهم» . وروي عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله، عليه(2/361)
السلام: «لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه، إلا جاءت شيئا أو كدوحا أو خدوشا في وجهه يوم القيامة". قيل: يا رسول الله وما غناه؟ قال: "خمسون درهما، أو حسابها من الذهب» . وروي عن رجل من قرينة أنه أتى النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، يسأله، فسمعه يقول: «من سأل الناس وله خمس أواقي سأل إلحافا» .
فأولى هذه المقادير التي رويت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الصدقة تحرم بوجودها - بالاستعمال، ما في حديث المزني بدليل أمر رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - معاذ بن جبل إذ بعثه على الصدقة - أن يأخذها من أغنيائهم فيضعها في فقرائهم، فالفقير من توضع فيه، والغني من تؤخذ منه، وهو من ملك المقدار الذي في حديث المزني، ويحتمل أن يكون - كأن الله عز وجل أولا قد حرم على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصدقة على من عنده قوت يومه، ثم نسخ ذلك تخفيفا عن عباده، فحرمها على من عنده أوقية من فضة، ثم نسخ ذلك تخفيفا عنهم، فحرمها على من يملك خمسين درهما، ثم نسخ ذلك تخفيفا عنهم، فحرمها على من يملك خمس أواقي، فكان حمل هذه الأحاديث على هذا، أولى من حملها على التعارض؛ فمن ملك من الذهب أو الفضة ما تجب فيه الزكاة؛ أو عدل ذلك سوى ما يحتاج إلى سكناه أو استخدامه، لم تحل له الزكاة - وإن كثر عياله، ومن تملك أقل من ذلك، لم تحرم عليه الصدقة - وإن لم يكن له عيال، إلا أن غيره ممن هو أحوج منه أحق وأولى؛ وقد قال المغيرة: إنه لا يعطى الفقير من الصدقة ما تجب فيه الصدقة، ولا يعطى من له الخادم والمسكن من الزكاة - إذا كان في ذلك(2/362)
فضل يبلغ ما تجب فيه الزكاة، وقوله ظاهر بين المعنى على ما ذكرناه.
[أخرج زكاة ماله فسرق منه المال وبقيت الزكاة]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية قال: وسئل مالك: عن رجل أخرج زكاة ماله فسرق منه المال، وبقيت الزكاة، قال: أرى أن يخرجها ولا يحبسها.
قال محمد بن رشد: يريد: وإن سرق منه المال بالقرب في الموضع الذي لو تلف قبل أن يخرج منه الزكاة، لم يلزمه ضمان الزكاة، والوجه في ذلك: أنه رأى إخراج الزكاة عند محلها قسمة صحيحة بينه وبين المساكين؛ فوجب أن يكون ضمان المال منه دونهم، كما يكون ضمان الزكاة المخرجة منهم دونه، إلا أن يمسكها بعد إخراجها فيلزمه ضمانها بالتعدي منه في حبسها، وأما لو سرق منه المال على بعد من إخراجه الزكاة، لم يشكل أن عليه إخراج الزكاة.
[ابتاع سيفا فيه حلية تجب في مثلها الزكاة فيحول عليها عنده الحول]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من الكتاب الذي فيه الحج والوصايا والزكاة رواية سحنون بن سعيد عنهما وسألته: عمن ابتاع سيفا فيه حلية تجب في مثلها الزكاة، فيحول عليها عنده الحول؛ قال: ليس فيه زكاة - وإن أقام عنده سنة. قلت له: إنه يشتريه للتجارة، قال: ليس عليه فيه زكاة؛ قلت له: ربما(2/363)
كان في السيف الفضة الكثيرة، فيكون النصل فيها تبعا لما فيه من الحلية حتى يشترى بالدنانير - وهو جل ذلك، ومن أجله اشتري؛ فقال: لا أرى فيه زكاة حتى يباع، ثم فيه زكاة واحدة، وهو - عندي - مثل الرأس يشتريه الرجل لتجارة.
قال محمد بن رشد: معناه أنه غير مدير، ولو كان مديرا لقومه في كل عام وزكاه على مذهبه؛ وهذا على أصله في رواية أشهب عنه أن الحلي المربوطة بالحجارة كالعرض سواء، يقومه المدير، ويزكيه غير المدير - إذا باعه كان الذهب تبعا للحجارة أو غير تبع، وأما على رواية ابن القاسم عنه فيزكي ما فيه من الفضة تحريا في كل عام، ويقوم النصل وإن كان غير مدير، زكي في كل عام ما فيه من الفضة تحريا، ولا زكاة عليه في النصل حتى يبيع؛ فإذا باع فض الثمن على قيمة النصل، وقيمة الحلى - مصوغا، فزكي ما ناب النصل من ذلك؛ وقد تئول على مذهبه أنه لا يفض الثمن ويزكي ما زاد على ما زكي - تحريا، وسواء كان الحلي تبعا للنصل، أو غير تبع، وقد روى ابن القاسم عنه إن كان الحلي تبعا للنصل - كرواية أشهب.
[مسألة: زكاة الذهب إذا كان مقطوعا]
مسألة وسئل: عن رجل يكون له خمسة عشر دينارا، ونقرة فيها خمسة دنانير، فيشح على أن يعطي نصف دينار، ويأبى إلا أن يعطي ربع العشر من الخمسة عشر، وربع العشر من النقرة التي فيها خمسة دنانير، قال: ذلك له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إذ لا يلزم أن يخرج عن النقرة مسكوكا؛ لأن ذلك أكثر مما عليه، فإن شاء قطع من النقرة ربع عشرها، وإن شاء أخرج من غيرها مثلها، مثل وزن ربع عشرها، وأما الذهب فإن كان مقطوعا(2/364)
مجموعا، أخرج منه، وإن كانت مثاقيل قائمة، لم يكن له أن يقطع منها ما وجب عليه من زكاتها، وأخرج صرف ذلك دراهم، وهذا كله بين.
[مسألة: تجارة الحلي ونقار الذهب والفضة]
مسألة فقلت له: أرأيت الذي تجارته الحلي ونقار الذهب، والفضة، قال: يؤدي زكاة ذلك كل عام ربع عشره، فيخرج ذلك منه - إن شاء، أو من غيره؛ وذلك لأن فيما مضى لم تكن دنانير، إنما كانت الذهب والفضة، وكانت فيها الزكاة، ثم ضربت بعد ذلك، فكان مثل ذلك، سواء كان ذلك مصروفا أو لم يكن ففيه الزكاة كل عام مثل العين.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إن له أن يخرج الزكاة ذلك منه - إن شاء أو من غيره، إذ لا كراهية في قطع النقرة والحلي، بخلاف الدنانير القائمة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يزكي الذهب في كل عام تحريا وتقوم الحجارة إن كان مديرا]
مسألة قيل له: أرأيت إن كان ذلك مربوطا بالحجارة؟ قال: ليس فيه زكاة حتى يبيعه ثم يزكيه مثل البز، إذا باعه زكاه.
قلت له: أرأيت إذا كان الذهب جل حلي ذلك، أو أكثره؛ فقال: لا أبالي لا يزكي ذلك حتى يبيعه، وقاله أشهب.(2/365)
قال محمد بن رشد: معناه أنه غير مدير، ولو كان مديرا لقومه في كل عام - على ما هو عليه - كالعرض في هذه الرواية - رواية أشهب، خلاف رواية ابن القاسم عنه: أنه يزكي الذهب في كل عام - تحريا، وتقوم الحجارة إن كان مديرا، وإن لم يكن مديرا لم يكن عليه في الحجارة شيء حتى يبيع وإن بعد أعوام، فيزكي ما زاد الثمن على ما زكي - تحريا، أو نقص على ما تقدم، وسواء كان الحلي تبعا للحجارة، أو غير تبع، لم يختلف قول مالك في رواية ابن القاسم عنه، كما اختلف في السيف والمصحف إذا كانت الحلية تبعا للنصل، أو للمصحف - على ما مضى فوق هذا.
[مسألة: يؤدي زكاة ماله قبل حلولها قبل أن يحول على ماله الحول]
[مانع الزكاة هل تؤخذ منه قهرا]
مسألة وسئل: عن رجل يؤدي زكاة ماله قبل حلولها قبل أن يحول على ماله الحول، أترى عليه إعادة الزكاة؟ قال: نعم، أرى ذلك عليه، أرأيت الذي يصلي الظهر قبل زوال الشمس، أو الصبح قبل إطلاع الفجر، أليس يعيد؟ فهذا مثله.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية، أنها لا تجزيه إذا أخرجها قبل محلها - وإن كان ذلك قريبا؛ وعلى هذا حمل ابن نافع قول مالك، فقال: معناه أنها لا تجزئه إلا بعد محلها، فإن أداها قبل محلها لم تجزه، قال ابن نافع: وهو رأيي: أنها لا تجزئه قبل محلها بيوم واحد، ولا ساعة، وهو ضامن لها حتى يخرجها بعد محلها، وقد قيل: إنها تجزيه إن كان قريبا.
واختلف في حد القرب على أربعة أقوال: أحدها: أنه اليوم واليومان ونحو ذلك، وهو قول ابن المواز. والثاني: أنه العشر الأيام ونحوها، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. والثالث: أنه الشهر ونحوه، وهو رواية عيسى عن ابن القاسم. والرابع: أنه(2/366)
الشهران ونحوهما، وقع ذلك في المبسوطة، والأظهر أنها تجزيه إذا أخرجها قبل المحل بيسير؛ لأن الحول توسعة، فليس كالصلاة التي وقتها محدود لا يجوز أن تعجل قبله، ولا تؤخر بعده، ولو كانت الزكاة كالصلاة في هذا، لوجب أن يعرف الساعة التي أفاد فيها المال ليخرج الزكاة عندها، وفي هذا تضييق، وقد ساق سحنون رواية أشهب هذه في المدونة على هذا، فقال: إن الذي أداها قبل أن يتقارب، إنما ذلك بمنزلة الذي يصلي الظهر قبل الزوال.
ومن الكتاب الذي فيه قراض ومساقاة وكراء الأرض، وشفعة، وعقول، وزكاة، وذكر المفقود
قال مالك: وزعموا أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه أن رجلا منع زكاة ماله، فكتب إليه عمر أن دعوه فتركوه فندم الرجل، فأداها فقبلها منه عمر.
قال محمد بن رشد: معنى هذا، أنه منع زكاته لسوء رأيه في عمر، لا شحا بها؛ فلما لم يتهمه عمر في إمساكها عن أهلها، كتب أن يترك فترك؛ فندم الرجل في اعتقاده في عمر، ورأى أن دفعها إليه واجب لعدالته، فأداها فقبلها منه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولو اتهمه في إمساكها بخلا بها، لما تركها عنده، ولأمر أن تؤخذ منه شاء أو أبى، وقد قيل: إنه كتب أن لا تؤخذ منه زكاة مع المسلمين - توبيخا له حتى يستبرأ أمره، فإن سمح بها وأداها، وإلا أخذت منه كرها؛ وإلى هذا التأويل ذهب ابن حبيب، والأول أظهر وأشبهه بعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[يبتاع الجارية للبيع فتعجبه فيبدو له فيحبسها للوطء ثم يبدو له بعد مدة فيبيعها]
ومن كتاب الزكاة وسئل مالك: عن رجل يبتاع الجارية فيريد البيع فتعجبه فيبدو(2/367)
له أن يحبسها يطؤها فتقيم عنده ثلاث سنين، ثم يبدو له فيبيعها، أيزكي ثمنها حين يبيعها؟ قال: نعم، يزكي ثمنها حين بيعها؛ قيل له: إنه حين أمسكها، أمسكها لا يريد بيعها؛ فقال: أرى أن يزكي ثمنها - إذا باعها.
قال محمد بن رشد: اتفق ابن القاسم وأشهب في الذي يرث السلعة، أو يشتريها للقنية، أنها لا ترجع إلى التجارة لنيته، واختلفا إذا اشتراها للتجارة ثم نوى بها القنية، فقال أشهب: أنها لا ترجع بنيته إلى القنية؛ ورواه عن مالك، وقال ابن القاسم: إنها ترجع بنيته إلى القنية، ورواه أيضا عن مالك؛ لأن الأصل القنية، فترجع السلعة إلى الأصل بالنية، ولا ترجع عن الأصل بالنية، وذهب أشهب إلى أنهما أصلان، فلا ترجع السلعة من أحدهما إلى الآخر بالنية؛ ورواه عن مالك بقوله في الذي يبتاع الجارية للبيع فتعجبه فيبدو له فيحبسها للوطء، ثم يبدو له بعد مدة فيبيعها؛ أنه يزكي ثمنها حتى يبيعها هو على أصله الذي رواه أشهب عنه في أن ما كان من العروض للتجارة، لا يرجع إلى القنية بالنية، وعلى قول ابن القاسم وروايته عن مالك في أن ما كان أصله للتجارة يرجع إلى القنية بالنية، يستقبل بثمن الجارية حولا من يوم قبضه - وبالله التوفيق.
[مسألة: يبتاع الجارية يختدمها فتقيم عنده سنين تخدمه ثم يبيعها أيزكي ثمنها]
مسألة قال: وسئل: عن الذي يبتاع الجارية يختدمها فتقيم عنده سنين تخدمه، ثم يبيعها، أيزكي ثمنها؟ فقال: نعم، ثم أطرق شيئا ثم التفت إلى السائل، فقال: إن الذي سألت عنه يختلف من الناس من يشتري الولائد يخدمنه، ثم يبيع، فهذا الذي أرى عليه(2/368)
الزكاة إذا باع؛ فأما الذي يشتري الخادم للخدمة ليس يرصد فيها بيعا ولا يهم به ولا يريده؛ فلا أرى عليه زكاة حتى يحول على الثمن الحول.
قال محمد بن رشد: ما فسر مالك في آخر المسألة يقضي على أن جوابه في أولها إنما هو في الذي يشتري الجارية لتخدمه، وفي نفسه إن وجد ثمنا باعها، وأما الذي يشتري الجارية لتخدمه لا يريد بيعها ولا يهم به، فلا اختلاف في أنه لا زكاة عليه في ثمنها - إن باعها حتى يحول عليه الحول، وقوله هذا جار على أصله في رواية أشهب عنه أن ما اشتري للتجارة لا يرجع بالنية إلى القنية، كما لا يرجع ما ورث أو اشتري للقنية إلى التجارة بالنية؛ وذلك أنه لما كانت القنية والتجارة عنده أصلين لا يرجع أحدهما إلى صاحبه - بالنية، فاشترى الجارية للوجهين جميعا، غلب التجارة احتياطا للزكاة كالبينتين إذا أوجبت إحداهما حكما، ونفته الأخرى، أنه يؤخذ بالموجبة للحكم دون النافية له؛ وكما قال مالك فيمن له أهل بمكة، وأهل ببعض الآفاق، إنه متمتع يجب عليه الهدي؛ وهي رواية ابن غانم عن مالك، واختيار سحنون، وعلى مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، إذا اشترى للوجهين جميعا، يغلب القنية؛ فلا تجب عليه الزكاة - إذا باع حتى يستقبل بالثمن حولا على أصله في أن ما اشتراه للتجارة، يرجع إلى القنية بالنية؛ لأنها هي الأصل؛ وقد روى ذلك ابن وهب أيضا عن مالك، واختلف قول مالك في رواية ابن القاسم عنه فيما اشترى للغلة بالكراء من المساكين، أو العبيد، أو الثياب، لا لسكنى ولا استخدام، ولا لباس، فمرة قال: عليه الزكاة - إذا باع، ومرة قال: لا زكاة عليه حتى يستقبل بالثمن حولا، ولسحنون في نوازله مثل ذلك في مسألة السفينة - وبالله التوفيق.(2/369)
[مسألة: يقطع من ماله قطعة قبل أن يحول عليها الحول]
مسألة وسئل: عن الذي يقطع من ماله قطعة قبل أن يحول عليها الحول، فيبعث بها إلى مصر يبتاع بها طعاما يريد أكله، لا يريد بيعا؛ فيحول عليه الحول قبل أن يشتري بها، قال: أرى فيه الزكاة؛ فقيل: إنه قد بعث بها وخرجت من يده بيعا، فقال: ما أرى الزكاة إلا عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن العين في عينه الزكاة وليس مما يقتنى للانتفاع بعينه، فلا تأثير لما نواه من صرفه إلى قوته في إسقاط الزكاة منه، ولا يدخل في هذا الاختلاف الذي مضى في رسم "تأخير صلاة العشاء" من سماع ابن القاسم في الذي يشتري الحلي فيريد أن يحبسه حتى يصدقه امرأة يتزوجها؛ لأن الحلي يصلح اقتناؤه للانتفاع بعينه، بخلاف العين.
وقال ابن نافع في المجموعة: وإن جاءه الطعام وهو كثير لا ينفقه في مثل خمس سنين وشبه ذلك، فإنه إذا باع الحول ما يجاوز قوت مثله، زكى ثمنه، وقوله صحيح؛ ووجهه أنه إذا كان الطعام كثيرا، فقد علم أنه لم يشتره كله لقوته، وإنما أراد أن يتقوت ببعضه ويبيع بعضه؛ فإذا باع بعد الحول ما تجاوز قوت مثله أي من الأعوام، إذ من الناس من يتقوت لعام واحد، ومنهم من يتقوت لعامين، ومنهم من يتقوت للأعوام، وذلك على قدر اليسار والجدة، وما يتمكن من شراء الطعام، ويخاف من غلائه؛ وإنما ذكر الخمس سنين؛ لأنه يبعد عنده أن يتقوت أحد إلى خمس سنين، ولعل الطعام في ذلك البلد يسرع إليه الفساد قبل خمس سنين، فيعلم أنه لم يشتر جملته للقوت - والله أعلم.(2/370)
[مسألة: يكون له المال فيزكيه فيشتري به سلعة بنقد فيبيعها قبل أن ينقد فيها فربح]
مسألة وسئل: عن الرجل كانت عنده مائة دينار، ستة أشهر، ثم اشترى بها برا فلم ينقدها حتى أربحه إنسان في البر ثلاثين دينارا، فباعه إياه وأخذ الثلاثين فجعلها مع المائة، فأقام بذلك ستة أشهر أخرى، فتمت السنة على المائة دينار؛ أيزكي الثلاثين مع المائة دينار التي قد حال عليها الحول؟ قال: لا، ولكن يزكي المائة إذا كان قد حال حولها، ولا يزكي الثلاثين حتى يحول عليها الحول من يوم ربحها وصارت له، وقد قال مالك من رواية ابن القاسم عن مالك من كتاب أوله شك في طوافه.
قال ابن القاسم: سئل مالك: عن الرجل يكون له المال فيزكيه فيشتري به سلعة بنقد، فيبيعها قبل أن ينقد فيها فربح، أترى أن يزكي ذلك الربح مع ماله إذا حال عليه الحول؟
قال: نعم، وكذلك التجار الذين يشترون ويبيعون ولا ينقدون ثمنا؛ هؤلاء الذين يحضرون السوق، فهؤلاء إذا حال عليهم الحول، زكوا ما بأيديهم؛ قال مالك: وجل الناس ليس لهم نقد.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة، وتحصيل ما فيها من الاختلاف في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[يقدم زكاة ماله قبل محلها]
من سماع عيسى من ابن القاسم من كتاب أوله نقدها نقدها قال عيسى: وقال ابن القاسم: في الذي يقدم زكاة ماله قبل محلها، قال: لا يعجبني، إلا أن يكون الشيء القريب، وأرى الشهر(2/371)
قريبا على زحف وكره، ولم أره يرى عليه إعادتها في إخراجه إياها قبل محلها بشهر.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة، وما فيها من الاختلاف في أول رسم من سماع أشهب، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[دفن الرجل بضاعة له فضل عنه موضعها فلم يجدها سنين ثم وجدها زكاتها]
ومن كتاب أوله استأذن سيده قال: وقال مالك: إذا دفن الرجل بضاعة له، فضل عنه موضعها، فلم يجدها سنين، ثم وجدها، فإنه يزكيها لكل سنة مضت، وقال سحنون مثله. وإذا وجد لقطة له سقطت منه، فوجدها بعد سنين، فليس عليه إلا زكاة واحدة؛ قال سحنون: اللقطة بمنزلة المال المدفون - إذا كان الملتقط حبسها ولم يحركها، زكاها ربها لكل سنة غابت عنه اللقطة؛ لأنه لم يكن ضمارا، وإنما الضمار المال المحبوس عن صاحبه الذي يكون على الذي حبسه ضمانه، ألا ترى أن اللقطة لو تلفت في يد الذي التقطها، لم يكن عليه ضمانها، وإنما الضمار المال الذي يغتصبه صاحبه، فيكون في يد الغاصب في ضمانه حين غصبه، فعلى الغاصب فيه الزكاة، ولا يكون على سيده فيه الزكاة للسنين كلها، إلا سنة واحدة؛ وإن كان الملتقط تسلفها لنفسه حتى يصير في ضمانه، فحكمها حكم الدين - زكاة واحدة لما مضى من السنين؛ قال: قلت لأشهب: فهل يقبل قول الملتقط أو المستودع إن كان تسلفها ويضمنها، أم لا؟ فقال: نعم، يسأل عن ذلك، فما قال قبل قوله، وكان ذلك في أمانته؛ فإن قال كنت تسلفتها، لم يجب على صاحبها إلا زكاة واحدة، وإن قال حبستها(2/372)
وكانت عندي موقوفة، كانت على حال ما أعلمتك، يزكيها لكل سنة مضت.
قال محمد بن رشد: فرق مالك في هذه الرواية بين المال المدفون يضل عن صاحبه موضعه، فيجده بعد سنين؛ وبين اللقطة ترجع إلى ربها بعد سنين، فأوجب الزكاة في المال المدفون لجميع السنين، ولم يوجبها في اللقطة إلا لعام واحد؛ ورد سحنون مسألة اللقطة إلى مسألة المال المدفون، فأوجب الزكاة فيها لما مضى من السنين، ورد مالك في رواية علي بن زياد عنه في المجموعة - المال المدفون إلى اللقطة، فلم يوجب الزكاة فيهما جميعا إلا لعام واحد، وهو أصح الأقوال في النظر؛ لأن الزكاة إنما وجبت في المال العين - وإن لم يحركه صاحبه ولا طلب النماء فيه، لقدرته على ذلك، وهو هاهنا غير قادر على تحريكه وتنميته في المسألتين جميعا، فوجب أن تسقط عنه الزكاة فيهما، ولقد روى ابن نافع عن مالك على طرد هذه العلة - أن الوديعة لا زكاة على صاحبها فيها حتى يقبضها فيزكيها لعام واحد، إذ لا قدرة له على تنميتها إلا بعد قبضها - وهو إغراق، إلا أن يكون معنى ذلك أن المودع غائب عنه، فيكون لذلك وجه؛ فهذه الرواية تدل على أن عدم القدرة على تنمية المال، علة صحيحة في إسقاط الزكاة عنه.
ووجه قول مالك في تفرقته بين المال المدفون واللقطة، أنه هو عرض المال بدفنه إياه لخفاء موضعه عليه، بخلاف اللقطة؛ قال ذلك ابن حبيب، وليس بفرق بين؛ لأنه مغلوب بالنسيان على الجهل بموضع المال المدفون، كما هو مغلوب على الجهل بموضع اللقطة، ووجه مساواة سحنون بينهما في وجوب الزكاة فيهما، هو ما اعتل به من استوائهما في الضمان منه فيهما، وعدم القدرة على التنمية هي العلة الصحيحة التي تشهد لها الأصول، وقال ابن المواز: إن دفنها في بيته فلم يجدها ثم وجدها حيث دفنها، فعليه زكاتها لما مضى من الأعوام؛ وإن دفنها في صحراء، فغاب عنه موضعها، فليس عليه فيها إلا زكاة واحدة - إذا وجدها، وهو قول له وجه،(2/373)
لأنه إذا دفنها في بيته، فهو قادر عليها باجتهاده في الكشف عنها؛ وقال ابن حبيب: في اللقطة إذا وجدها بعد أن كان يئس منها، استقبل بها حولا على أصله في المال المغصوب - إذا رد عليه، أنه يستقبل بها حولا كالفائدة، وقول سحنون: إن الملتقط إذا حبس اللقطة - ولم يحركها، زكاها ربها لما مضى من الأعوام، ولم يكن عليه هو فيها زكاة، معناه على مذهبه؛ ورواية ابن القاسم، وابن وهب عن مالك - إذا حبسها ليردها على صاحبها، أو ليتصدق بها عنه، لا ليأكلها؛ فإن حبسها ليأكلها، فليزكها لحول من يوم نوى ذلك فيها؛ ولابن القاسم في المجموعة: أنه لا زكاة عليه فيها إذا حبسها لنفسه ليأكلها بعد أن عرفها سنة - للحديث. ما لم يحركها، فإن حركها، فمن يومئذ تدخل في ضمانه.
قال محمد بن رشد: فإذا دخلت في ضمانه لحبسه إياها لنفسه، أو بتحريكها - على الاختلاف المذكور، سقطت عن ربها فيها الزكاة - قولا واحدا.
[مسألة: قال هذه مائة دينار اتجر فيها ولك ربحها وليس عليك فيها ضمان زكاتها]
مسألة قال: وإذا قال رجل لرجل: هذه مائة دينار اتجر فيها - ولك ربحها، وليس عليك فيها ضمان، فليس على الذي في يديه ولا على الذي هي له زكاتها حتى يقبضها؛ فيزكيها زكاة واحدة لسنة، إلا أن يكون صاحبها ممن يدير، فيزكيها مع ماله إذا علم أنها على حالها. قال سحنون: أراها كالسلف وعليه ضمانها، بمنزلة الرجل يحبس المال على الرجل فينقص منه، إنه ضامن.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في هذه المسألة أنه لا ضمان عليه،(2/374)
لأن رب المال قد صرح بإسقاط الضمان عنه، وإنما قال سحنون: إنه ضامن بمنزلة الرجل يحبس المال على الرجل - إذا قال له اعمل به قراضا - ولك الربح كله، خلاف ظاهر قول ابن القاسم في كتاب القراض من المدونة. فوهم العتبي في سياقه قول سحنون على هذه المسألة، وقول ابن القاسم: إنه لا زكاة فيها على الذي هو في يده صحيح؛ لأنها ليست له، ولا هي في ضمانه؛ فسواء كان له بها وفاء، أو لم يكن، بخلاف السلف.
قال ابن حبيب: فإن ربح فيها عشرين دينارا، استقبل بها حولا، وهو صحيح أيضا؛ لأنها فائدة، إذ لا أصل له يزكيها عليه، فلا اختلاف في أنه يستقبل بها حولا. وأما قوله: إنه لا زكاة على صاحبه فيها، فوجهه: أنه لما أوجب ربحها لغيره لم يقدر أن يحركها لنفسه، فأشبه ذلك اللقطة التي سقطت عنه زكاتها، لعدم قدرته على تحريكها، وطلب النماء فيها؛ ويأتي على قول سحنون في مسألة اللقطة أن زكاتها عليه؛ لأن ضمانها منه؛ ومثله في المختصر لابن شعبان؛ قال: ومن دفع إلى رجل مالا يأكل ربحه، فالزكاة على ربه.
[مسألة: عليه مائة دينار سلفا وليس له منها وفاء فأقامت بيده ستة أشهر]
مسألة وسئل: عن الرجل عليه مائة دينار - سلفا وليس له منها وفاء. فأقامت بيده ستة أشهر لا وفاء له منها، ثم أتته فائدة مائة دينار عند الستة أشهر، هل يزكي المائة التي كانت عنده سلفا - إذا تمت السنة من حين كانت عنده سلفا، أم يستقبل بها سنة من حين كان له بها وفاء، قال: بل يستقبل بها سنة من حين كان له منها وفاء، ولا يحسب في حولها بشيء مما مضى مما لم يكن له منها وفاء.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك في المدونة؛ لأنه قال فيها: إن(2/375)
الذهب السلف إذا وهبت للذي هي عليه بعد حلول الحول، وليس له بها وفاء استقبل بها حولا، إذ لا فرق بين أن يوهب له الذهب بعد أن حال عليه عنده الحول، أو يستفيد بعد حلول الحول فائدة يكون فيها وفاء بها؛ وقد روي عن ابن القاسم أن الزكاة تجب عليه فيها إذا حال عليها الحول، وإن لم يتم للفائدة عنه حول، وعلى هذا يأتي جوابه في مسألة رسم "العرية"، وحكاه ابن المواز عن أشهب، وأصحاب ابن القاسم: أصبغ، وغيره، وقال به، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة: أن عليه الزكاة في الذهب إذا وهبت له بعد الحول - وإن لم يكن له وفاء بها، والقول الأول هو الصواب: أنه لا زكاة في المائة السلف حتى يتم للوفاء بها عنده حولا كاملا؛ لأن ما مضى من المدة قبل أن يستفيد الفائدة التي يجعلها وفاء بما عليه من السلف، لم يكن فيها مال لاستغراق الدين ما بيده من المال؛ فإذا زكاه قبل أن يحول على الفائدة الحول، فقد زكاه قبل أن يحول عليه الحول؛ لأنه لم يكن له مال إلا من يوم ملك الفائدة.
[مسألة: يكون عنده المال سلفا وعنده منه وفاء فيتصدق له عليه قبل الحول أو بعده]
مسألة وسألته: عن الرجل يكون عنده المال سلفا، وعنده منه وفاء، فيتصدق له عليه قبل الحول أو بعده، قال: يزكيه حين يحول عليه الحول؛ لأنه مال من ماله، ولأنه لو لم يتصدق به عليه زكاه.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح بين، وهو في المدونة لسحنون - بيانا لقول مالك، إذ لا اختلاف في ذلك.
[مسألة: له عشرون دينارا يزكيها كل حول فحال حولها ولم يبق عنده منها إلا عشرة]
مسألة وسئل: عن رجل كانت له عشرون دينارا يزكيها كل حول، فحال عليها حول ولم يبق عنده منها إلا عشرة دنانير، فلما كان(2/376)
بعد الحول بأشهر، أسلف عشرين دينارا، فضم العشرين دينارا إلى العشرة، فاتجر فيها حتى صار له من الفضل ما تجب فيه الزكاة - إذا ضمه إلى العشرة؛ فقال: إذا كان قد حال على العشرة الحول، حتى ما صار له من الفضل في الثلاثين: العشرين السلف، والعشرة ما تجب فيه الزكاة إذا ضم إلى العشرة، أخرج العشرين السلف، ثم زكى العشرة وجميع الفضل: فضل العشرين السلف، وفضل العشرة؛ وذلك أني سمعت مالكا - وسئل عن رجل كانت له ثمانون دينارا، فاشترى سلعة بمائتي دينار ونقد فيها الثمانين دينار، أو لم ينقدها حتى مر حول الثمانين؛ فقال: إذا حال حول الثمانين، ضم فضل المائتي إلى الثمانين، فزكاها لا يبالي حال الحول على السلعة من يوم اشتراها، ولم يحل إذا حال عليها حول الثمانين؛ ومثله لو أن رجلا كانت له عشرة دنانير قد حال عليها الحول، فاشترى سلعة بمائة دينار بدين، ونقد فيها العشرة، فإنه يزكيها متى ما صار في فضلها ما يجب فيه الزكاة.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة وتحصيل ما فيها من الاختلاف مجودا في أول مسألة من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادة شيء من ذلك. وقوله في آخر المسألة: فإنه يزكيها متى ما صار في فضلها ما تجب فيه الزكاة - يريد: متى ما صار في فضلها ما تجب فيه الزكاة مع العشرة التي كانت له، وبالله التوفيق.
[له مائتا دينار وحولهما مختلف وعليه مائة دينار دينا]
ومن كتاب العرية وسئل: عن الرجل يكون له مائتا دينار - وحولهما مختلف، وعليه مائة دينار دينا، فيحول حول إحدى مائتيه قبل حلول حول الأخرى،(2/377)
أيجعل دينه في هذه التي حال حولها، وينتظر بالأخرى؛ فإذا حال حولها زكاها، أم يزكي هذه التي حال حولها أولا ويجعل دينه في التي لم يحل حولها؛ (قال: يزكي هذه التي حال حولها أولا، ويجعل دينه في التي لم يحل حولها) ؛ وذلك أني سمعت مالكا يقول في رجل كانت له مائة دينار ناضّة في يديه، ومائة دينار دينا، وعليه مائة دينار، فحال الحول على التي في يديه، فقال: يزكيها ويجعل دينه في المائة الدين، فمسألتك أبين من هذا - إذا كانت على مالئ.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يزكي هذه التي حال حولها ويجعل دينه في التي لم يحل حولها، خلاف ما مضى في الرسم الذي قبل هذا أيضا في الذي عليه مائة دينار سلفا، فأقام ستة أشهر لا وفاء له بها، ثم أفاد مائة فأقام ستة أشهر، أنه لا يزكي المائة التي بيده قد حال عليها الحول، حتى يحول على الفائدة الحول، إذ لم يقل فيها إنه يجعل الدين الذي عليه من السلف في هذه الفائدة التي لم يحل عليها الحول، ويزكي المائة التي بيده وقد حال عليها الحول، كما قال في هذه، وهو مثل قول أشهب وأصبغ، واختيار ابن المواز، ومثل قول غير ابن القاسم في المدونة، ويلزم على قياس هذا القول إذا حل حول المائة الثانية التي جعل دينه فيها، أن يزكيها ويجعل دينه في الأولى التي كان زكاها؛ لأن الثانية تصير كالأولى بحلول الحول عليها، والأولى تصير كالثانية، إذ لم يحل حولها بعد؛ من أجل أن حولها من يوم كان زكاها، فكما زكى أولا الأولى بحلول حولها، وجعل الدين في الثانية التي لم يحل حولها، فكذلك يزكي أيضا الثانية بحلول حولها، ويجعله دينه في الأولى التي لم يحل حولها بعد، من أجل أن حولها من يوم زكاها؛ ثم إذا حل حول الأولى زكاها أيضا، وجعل دينه في الثانية، ثم إذا حل حول الثانية زكاها وجعل دينه في الأولى؛ فلا يزال على هذا(2/378)
القول يزكي كل مائة منها متى ما حال حولها، ويجعل دينه في الأخرى التي لم يحل حولها؛ إلا أن تكون الزكاة قد نقصتها ولم ينجبر النقصان بربح ربحه فيها، فيجعل من دينه فيها بقدر ما بقي منها، ويجعل بقية دينه في التي حال حولها، ويزكي بقيتها؛ بيان هذا، أنه إذا جعل دينه في الثانية التي لم يحل حولها، وزكى الأولى التي حال حولها، رجعت إلى سبعة وتسعين ونصف، فإذا حال حول المائة الثانية، جعل من دينه سبعة وتسعين ونصفا في السبعة وتسعين ونصف التي بقيت من الأولى، وجعل بقية دينه - وذلك ديناران ونصف في هذه الثانية التي حال حولها، وزكى بقيتها - وذلك سبعة وتسعون ونصف؛ هكذا أبدا كلما حل حول المائة الواحدة، جعل من دينه في الثانية عدد ما بقي منها، وجعل بقية الدين في التي حال حولها، وزكى بقيتها، هكذا أبدا، وسواء كان مديرا أو لم يكن؛ لأن المدير يزكي كل مال لحوله - كما يزكيه غير المدير، ولا يصح له من أجل الإدارة إذا كان له مالان مختلفان في أحوالهما، أن يزكيهما جميعا على حول أحدهما بتأخير الذي حل حوله، أو بتعجيل الذي لم يحل حوله.
وقد حكى ابن لبابة عن العتبي أنه قال: وهذا إذا لم يكن مديرا، وأما إن كان مديرا فلا زكاة عليه في المائة الثانية التي جعل فيها دينه إذا حل حولها؛ وذكر أنه سأل عنها ابن المزين، فقال: له عليه فيه الزكاة، وقال له: وسواء كان مديرا أو غير مدير، فقال له: وما دخول المدير هاهنا وغير المدير يا بليد؛ فأعلم العتبي بقوله، فقال له: أخطأ. قال ابن لبابة: وهو كما قال العتبي - قول ابن مزين فيها باطل.
قال محمد بن رشد: والصحيح ما قال ابن مزين: أنه قال: لا يفترق في هذا المدير من غير المدير، للعلة التي ذكرناها من أنهما يستويان في تزكية كل مال على حوله، وإنما يفترق المدير من غير المدير في مسألة سماع أبي زيد، وسيأتي الكلام عليها في موضعها - إن شاء الله تعالى؛ وهذا القول إذن يؤدي إلى ألا يسقط الدين زكاة العين؛ لأنه إذا زكى كل مائة منها لحولها كلما حل،(2/379)
وجعل الدين في التي لم يحل حولها أبدا، فلم يكن للدين تأثير في إسقاط الزكاة؛ فالقول الآخر - وهو قول ابن القاسم في الرسم الذي قبل هذا أصح أن يجعل دينه في المائة التي حال حولها، فلا يزكيها حتى يحول حول المائة الثانية، فيصير حولهما واحدا ومالا واحدا يجعل الدين فيه ويزكي ما بقي منه؛ وأما مسألة مالك التي احتج بها ابن القاسم في الذي بيده مائة قد حال عليها الحول وعليه مائة، وله دين مائة؛ أنه يجعل الدين الذي عليه في الدين الذي له، ويزكي المائة التي بيده؛ فلا حجة له فيها، إذ قد يحتمل أن يكون تكلم مالك على أن الدين الذي له قد حال عليه الحول، فهو لو قبضه اليوم أو باعه بعرض، ثم باع العرض بعين، لوجبت فيه الزكاة، فوجب أن يجعل دينه فيه، ويزكي ما بيده؛ وأما إن كان الدين الذي له لم يحل عليه الحول، فهي ومسألة ابن القاسم سواء في المعنى، ويدخلها الخلاف، فعلى ما في هذا الرسم بجعل الدين الذي عليه في الدين الذي له، وإن كان لم يحل عليه الحول، ويزكي ما بيده؛ وعلى ما في الرسم الذي قبله: لا زكاة عليه فيما في يده حتى يحول على الدين الذي له الحول، فيجعل الدين الذي عليه فيه ويزكي ما بيده، والله الموفق.
[زكاة المستفاد أثناء الحول]
ومن كتاب أوله أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وسئل: عمن كانت بيده عشرة دنانير عشرة أشهر، ثم أفاد عشرة أخرى، فاشترى بهما جميعا سلعة، فباع تلك السلعة بعد حول العشرة الأولى بما يجب في كل واحدة منهما الزكاة بربحها؛ قال: يزكي العشرة الأولى بربحها، ويستقبل بالعشرة الفائدة وربحها - الحول من يوم استفادها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على المشهور من أن أرباح(2/380)
الأموال مزكاة على أصول الأموال، وقد مضى تحصيل ما في ذلك من الاختلاف في أول سماع ابن القاسم.
[مسألة: تسلف عرضا فاتجر فيه حولا وفضل له ما تجب فيه الزكاة]
مسألة وقال: فيمن تسلف عرضا فاتجر فيه حولا، ثم رد ما استسلف من ذلك وفضل له ما تجب فيه الزكاة، أنه يزكي هذه الفضلة، وإن كان عنده أيضا من العروض وفاء لما كان استسلف، زكى ذلك أيضا وجعله بمنزلة من استسلف مائة دينار فاتجر فيها، واشترى عرضا بدنانير فاتجر في ذلك حولا ثم باع بعد الحول.
قال محمد بن رشد: قوله واشترى عرضا بدنانير فاتجر في ذلك حولا، ثم باع بعد الحول، يريد اشترى عرضا بدنانير دينا في ذمته، فاتجر في ذلك حولا، ثم باع بعد الحول، فأدى الثمن وبقي له الربح، وذلك كله صحيح على المشهور في المذهب من أن الأرباح مزكاة على أموال الأصول، إلا أن حول الربح الذي تسلف العرض واتجر فيه، محسوب من يوم اتجر في العرض، لا من يوم استسلفه، من أجل أن العرض لا زكاة في عينه، وحول الربح الذي تسلف الدنانير واتجر فيها، محسوب من يوم تسلف الدنانير؛ لأنه لا ضامن لها بالسلف، وفي عينها الزكاة، وحول ربح الذي اشترى العرض فاتجر فيه، محسوب من يوم اشتراه - إن كان اشتراه للتجارة، وإن كان اشتراه للقنية، ثم بدا له فاتجر فيه، فهو محسوب من يوم باعه، وقيل: من يوم نض ثمنه في يده، والله الموفق للصواب.
[مسألة: الصدقة على آل محمد]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الحديث «لا تحل الصدقة لآل محمد» ،(2/381)
فقال: إنما ذلك في الزكاة، وليس في التطوع؛ قلت له: فمواليهم؟ قال: لا أراهم من ذلك، ولا أرى بأسا أن يُعْطَوْا من الزكاة؛ فاحتججت عليه بالحديث الذي جاء «مولى القوم منهم» . فقال: قد جاء حديث آخر: «ابن أخت القوم منهم» - يضعف بذلك حديث الموالي؛ قال أصبغ: وإنما تفسير «مولى القوم منهم» يريد في الحرمة منه بهم، والبر منهم به، كما يفسر الحديث: «أنت ومالك لأبيك» - يريد في الطواعية والبر، لا في الإلزام، ولا في القضاء؛ قال أصبغ: وآل محمد عشيرته الأقربون: آل عبد المطلب، وآل هاشم، وآل عبد مناف، وآل قصي، وآل غالب.
قال عيسى: قلت لابن القاسم: فلو أن رجلا فرق زكاة ماله، ألا يعطيهم منها وهم محتاجون؟ قال: لا يعطيهم. قلت: فإن فعل، أتجزئ عنه؟ قال: لا تجزئ عنه. قال ابن القاسم: إنما ذلك في بني هاشم أنفسهم.
قال أصبغ: وقد «جاء عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، نادى بأعلى صوته: يا آل قصي، يا آل غالب، يا فاطمة بنت رسول الله، يا صفية عمة رسول الله، اعملوا لما عند الله، فإني لا أملك لكم من الله شيئا» . فتبين بمناداته إياهم، أنهم عشيرته الأقربون؛ وقد اختلف الناس في سهم ذوي القربى من الفيء.
والغنيمة: من هم؟ فمن الناس من قال: محمد وقرابته - خاصة، ومنهم من قال: قريش كلها قربى. وقد بلغني عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك،(2/382)
فقال: نحن هم - يعني آل محمد - وقد أبى ذلك علينا قومنا؛ قال أصبغ: الذي وجدت عليه معاني العلم والآثار، أنهم آل محمد خاصة.
قال محمد بن رشد: آل محمد - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - الذين لا تحل لهم الصدقة هم ذوو القربى الذين جعل الله لهم سهما في الفيء، وخمس الغنيمة؛ لأن الله حرم عليهم الصدقة على لسان نبيه، ونزههم عنها إكراما لهم؛ لأنها أوساخ الناس يغسلونها عنهم، وعوضهم من ذلك فيما جعل لهم من الحق في الفيء، وخمس الغنيمة، وقد اختلف في تمييزهم وتعيينهم، وفيما لهم من الحق في خمس الغنيمة وفي الفيء، وفيما يحل لهم من الصدقة، ويحرم عليهم منها؛ وهل يدخل مواليهم مدخلهم في ذلك أم لا؟ وهل حكمهم في ذلك بعد النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كحكمهم في حياته أم لا؟ اختلافا كثيرا قد أفردنا الكلام فيه، وتحصيله وتلخيصه، وما تعلق به المختلفون في ذلك مسألة حاوية لجميع ذلك؛ فمن تأملها وقف عليها بشفاء من العلم بذلك، ووقف على الحقيقة فيه. وقول ابن عباس نحن هم - يعني أن بني هاشم هم ذوو القربى - دون سائر قريش، يبين ذلك ما روي عنه من أنه قال: وقد أبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها قربى. وقال ابن حبيب: معنى قوله أبى ذلك علينا قومنا أي أبوا أن يكون لنا فيه جزء معلوم، وهو تأويل بعيد، يرده ما روي عنه من قوله، وقد أبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها قربى.(2/383)
[يتسلف مائة دينار وليس له مال غيرها فيشتري سلعة فيربح فيها ما تجب فيه الزكاة]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس قال: وقال مالك: في الذي يتسلف مائة دينار - وليس له مال غيرها، فيشتري سلعة فيربح فيها، ما تجب فيه الزكاة؟ فقال: إذا باع السلعة قضى المائة وزكى ما بقي - إن كان ما تجب فيه الزكاة؛ إذا كان قد حال على المائة الحول.
قال محمد بن رشد: قوله إذا كان قد حال على المائة الحول - يريد من يوم تسلفها، وقد مضت هذه المسألة والقول فيها في الرسم الذي قبل هذا، وبالله التوفيق.
[له عشرة دنانير فيحول عليها الحول عنده ثم يفيد خمسة دنانير فيضمها إلى العشرة]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار قال عيسى: وسألت ابن القاسم: عن الرجل تكون له عشرة دنانير، فيحول عليها الحول عنده، ثم يفيد خمسة دنانير فيضمها إلى العشرة، فيشتري بها سلعة فيبيعها بعشرين دينارا؛ قال: ليس عليه فيها زكاة، ويستقبل بالخمسة والعشرة وربحهما حولا من يوم أفاد الخمسة، إلا أن يتجر في العشرة قبل حلول الخمسة، فيزكيها ساعة يتم ما تجب فيه الزكاة؛ قلت له: فإن باعها بثلاثين دينارا؟ قال: يزكي العشرة وربحها، ويدع الخمسة وربحها حتى يحول عليها الحول من يوم أفادها.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة صحيحة بينة المعنى، لا إشكال فيها، مبنية على المشهور في المذهب من أن الأرباح مزكاة على أحوال أصول(2/384)
الأموال، وعلى أصولهم في أن الفوائد التي لا تجب فيها الزكاة إلا بجمعها، تضاف الأولى منها للآخرة، فتُزَكَّى على قرب الآخرة - وبالله التوفيق.
[يفيد عشرين دينارا فتمكث عنده ستة أشهر ثم يفيد عشرين أخرى زكاتها]
ومن كتاب الثمرة
وقال: سألت ابن القاسم عن الرجل يفيد عشرين دينارا، فتمكث عنده ستة أشهر، ثم يفيد عشرين أخرى؛ قال: يزكي كل عشرين لحولها.
قلت: فإن انكسرت العشرون الأولى عن الزكاة، قال: إن كانت العشرون الأخرى على حالها كما كانت، زكى الأولى عند حولها كما كان يزكيها، ويزكي العشرين الأخرى على حولها - كما هي.
قلت: فإن نقصت العشرون الأخرى عن الزكاة، إلا أنه إذا ضم ما بقي من العشرين الأولى - إلى ما بقي من العشرين الآخرة، وجبت فيها الزكاة؛ قال: أنظره أبدا إذا حل حول الأولى، فانظر، فإن كان فيضا بقي منها، وبقي من الآخرة ما لو جمع وجبت فيه الزكاة، فزكى ما بقي من كل عشرين على حولها أبدا، حتى ينكسرا جميعا عن الزكاة.
قلت: فإن صار ما بقي منهما ما لو ضم بعضه إلى بعض، لم تجب فيه الزكاة؛ قال: فلا زكاة في شيء منهما.
قلت: فإن اتجر فيما بقي من الأولى فصارت بربحها ما إذا(2/385)
ضممته إلى ما بقي من الآخرة كانت فيه الزكاة؛ قال: فإذا صارت كذلك زكاها مكانه، وكان حولها من يوم صارت بربحها ما إذا ضممته إلى ما بقي من الآخرة وجبت فيه الزكاة، وكانت الآخرة على حولها.
قلت: فإن لم تزد شيئا - وكانت على حالها حتى حال حول الآخرة، قال: إذا كانتا جميعا حين يحول حول الآخرة ما لا - تجب فيما بقي منهما الزكاة فضمهما، فمتى صارتا بربحهما ما تجب فيه الزكاة، فزكهما، ثم اجعل حولهما جميعا حولا واحدا من يومئذ.
قلت: فإن كان حل حول الأولى، فنظرنا فيما بقي منهما، وفيما بقي من العشرين الآخرة، فإذا ليس فيهما زكاة إن ضمتا، فتركنا الزكاة، فمضى لها بعد حلول حولها خمسة أشهر - ولم يحل حول الآخرة، بقي لها شهر فصارت قبل حلول حولها بشهر ما يجب فيه الزكاة بربحها - إذا ضممتها إلى ما بقي من الأولى؛ قال: إذا صارت كذلك، فزد ما بقي من العشرين الأولى مكانك، واترك الأخرى إلى حلول حولها، ويكون حلول ما بقي من العشرين الأولى من يوم صار ما بقي من العشرين الآخرة وربحها، ما إذا ضممته إلى ما بقي من العشرين الأولى وجبت فيه الزكاة؛ قال: وكذلك قال مالك في هذا كله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بيّنة في المعنى، مفسرة لما وقع في المدونة فيها من الألفاظ الملتبسة، والأصل فيها أن الفوائد المفترقة إذا كان في الأولى ما يجب فيه الزكاة، فلا يضاف بعضها إلى بعض، وتزكى كل(2/386)
فائدة على حولها - حتى ترجع كلها إلى ما لا زكاة فيه؛ مثال ذلك أن يفيد الرجل ما لا تجب فيه الزكاة، ثم يفيد بعد ذلك بأشهر ما تجب فيه الزكاة، أو لا تجب فيه الزكاة؛ فإنه يزكي كل مال على حوله أبدا، ولا يضيف أحدهما إلى الآخر حتى يرجعا إلى ما لا زكاة فيه (إذا جمعا) فإذا رجعا جميعا إلى ما لا زكاة فيه، وتماديا جميعا ناقصان عما تجب فيه الزكاة، حتى يمر بهما الحولان جميعا - وهما على نقصانهما؛ صارا مالا واحدا، وسقطت منهما الزكاة؛ إلا أن يرجعا بالربح فيهما، أو في أحدهما إلى ما تجب فيه الزكاة، فيزكيهما حين بلغا بالربح ما تجب فيه الزكاة، ويكون حولهما واحدا من حينئذ، وإن زكاهما على حوليهما - ما شاء الله، ثم رجعا بعد أن زكى أحدهما إلى ما لا تجب فيه الزكاة، ثم رجعا جميعا إلى ما تجب فيه الزكاة بالربح فيهما، أو في أحدهما قبل أن يأتي حول المال الثاني، بقيا جميعا على حوليهما المتقدمين بأعيانهما يزكي كل مال منهما على حوله بربحه - إن كان الربح فيهما جميعا، وقد خلطهما، أو لم يخلطهما، (غير أنه إن لم يخلطهما) زكى كل واحد منهما بربحه الذي ربحه فيه، وإن كان قد خلطهما، نضّ الربح عليهما، فزكى مع كل واحد منهما نوبته من الربح، وإن كان الربح في أحدهما، زكاه بربحه، وزكى الآخر بغير ربح؛ وإن زكاهما على حوليهما - ما شاء الله، ثم رجعا إلى ما لا زكاة فيه إذا جمعا، فأتى حول أحدهما وهما ناقصان عما تجب فيه الزكاة، فترك تزكيتهما، ثم لما كان بعد ذلك بأشهر قبل أن يأتي حول المال الآخر، رجعا بالربح فيهما، أو في أحدهما - إلى ما تجب فيه الزكاة، فإنه يزكي حينئذ المال الذي لم يزكه عند حوله بربحه - إن كان الربح فيه، أو بما ينوبه من الربح إن كان الربح فيهما - جميعا - وقد خلطهما، ولو أتى حول المال الآخر - وقد رجعا إلى ما لا زكاة فيه فلم يزكهما؛ إذ لا زكاة فيهما، فلما كان بعد ذلك بأشهر، رجعا إلى ما فيه الزكاة بالربح فيهما أو في أحدهما، لا ينقل أيضا حول هذا المال الآخر إلى حين الربح؛ فهذا بيان هذه(2/387)
المسألة إذا تمادى النقص بالمالين عما تجب فيه الزكاة حتى يمر بهما الحولان - وهما ناقصان عما تجب فيه الزكاة، رجعا مالا واحدا، وبطل ما كان قبل ذلك من حوليهما؛ وإذا رجعا جميعا إلى ما لا تجب فيه الزكاة بعد أن زكي أحدهما، ثم رجعا إلى ما تجب فيه الزكاة بالربح فيهما، أو في أحدهما قبل أن يأتي حول المال الثاني، بقيا على حوليهما المتقدمين بأعيانهما؛ وإذا أتى حول أحدهما - وهما ناقصان عما تجب فيه الزكاة، فلما كان بعد ذلك بأشهر قبل أن يأتي حول المال الآخر، رجعا إلى ما فيه الزكاة، انتقل حول هذا المال إلى حين الربح وبقي المال الآخر على حوله؛ ولو أتى حول المال الآخر - وقد نقصا عما فيه الزكاة، ثم رجعا بعد ذلك بأشهر إلى ما فيه الزكاة؛ انتقل حول هذا المال الثاني أيضا إلى حين بلغا بالربح جميعا ما تجب فيه الزكاة، فهي أربعة وجوه، وجه ينتقض فيه حولاهما جميعا ويرجعان إلى حول واحد، ووجه واحد ينتقل فيه حولاهما جميعا، ويبقيان على حولين أيضا، ووجه ينتقل فيه حول أحدهما ويبقى الآخر على حوله، ووجه يرجعان فيه بالربح على حوليهما المتقدمين بأعيانهما، وبالله التوفيق.
[عليه مائة دينار وله مائة ثم أفاد فائدة من عرض أو عين قبل الحول أو بعد الحول]
ومن كتاب العتق
قال ابن القاسم: من كانت عليه مائة دينار - وله مائة، ثم أفاد فائدة من عرض، أو عين - قبل الحول، أو بعد الحول؛ فإنه لا زكاة عليه فيما بقي في يديه من الناض حتى يحول عليه الحول من يوم أفاد الفائدة.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في رسم "استأذن"، فلا معنى، لإعادته.(2/388)
[مسألة: عنده مائة دينار وعليه دين مائة فحال عليه الحول]
مسألة قلت: أرأيت إن كانت عنده مائة دينار) وعليه دين مائة فحال عليه الحول، قال: لا زكاة عليه؛ لأنه ليس له مال فضل عن دينه؛ فسقطت الزكاة عنه.
قلت: فإنه لما مضى شهر استفاد مائة فقضى بها دينه، قال: لا زكاة عليه في هذه المائة الباقية حتى يحول عليها الحول مرة أخرى؛ لأن الحول الأول مر وليس من أهل الزكاة، فإن تجر بها فربح مكانه عشرين دينارا، قلنا له: أد الزكاة، فإنما سقطت عنك في هذه المائة يوم حل الحول؛ لأنك كنت من غير أهلها، فلما ربحت هذه العشرين، قلنا: هذه العشرين قد حال عليها الحول؛ لأنه حال على الأصل؛ فأما الأصل، فلا زكاة فيه؛ لأنها قد سقطت عنه حين مر حوله، فلا زكاة فيه حتى يحول الحول؛ وأما هذا الربح، فما يسقط (عنه) الزكاة وقد حال عليه الحول، ولا دين اليوم على صاحبه يسقط عنه الزكاة، وقد بلغ ما تجب فيه الزكاة؛ فأرى أن تؤخذ الزكاة من الربح، ولا تؤخذ من المائة، ثم تجعل المائة على حولها الأول، والربح على حوله يوم زكي؛ لأنه إنما وجبت الزكاة فيه يوم ربح.
قال محمد بن رشد: قوله في أول المسألة: إنه إذا كان عنده مائة دينار فحال عليه الحول - وعليه دين مائة، أنه لا زكاة عليه - صحيح لا اختلاف(2/389)
في أن الدين يسقط زكاة العين؛ لقول عثمان بن عفان هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين، فليؤد دينه حتى تحصل أموالكم، فتؤدون منها الزكاة، وأما قوله بعد ذلك: إنه إن استفاد مائة بعد الحول بشهر، فقضى بها دينه، فلا زكاة عليه في المائة التي بيده حتى يحول عليها الحول مرة أخرى، فقد مضى مثله في رسم "استأذن"، وذكرنا هنالك ما فيه من الخلاف، وأما قوله: إنه إن تجر فيها فربح مكانه عشرين دينارا، زكاها، وكان حولها من يوم زكاها، فصحيح على أن الأرباح مزكاة على الأصول، وقد مضى معنى هذه المسألة والقول فيها في رسم "أوصى".
[مسألة: اشترى الدار للتجارة ثم استغل الدار ثم باعها بعد أن مضى الحول]
مسألة قال ابن القاسم: إذا اشترى الرجل الدار للتجارة أو النخل، ثم استغل الدار، وأثمرت النخل عنده، ثم باعهما جميعا - بعد أن مضى الحول، قال: ينظر إلى الغلة، فيستقبل بها حولا من يوم أخذها، وينظر إلى ثمن الدار، فيزكيه مكانه؛ وكذلك النخل إذا أثمرت وحل بيعها، ثم باع الأصل والتمر، فإن الزكاة عليه تمرا، وينظر إلى ثمن النخل والتمر، فينظر كم ثمن التمر من ثمن النخل؛ فإذا عرفته فاستقبل بثمن التمر حولا، وتزكي ثمن الأصل الساعة، ولو كانت دارا للتجارة وفيها غلة خمسون دينارا، فباع الدار وغلتها بألف إردب؛ فإنه لا زكاة عليه في القمح، ويعرف حصة الغلة من القمح من حصة أصل الدار؛ فإذا باع القمح، نظر إلى ما يصير من القمح للغلة فيستقبل بثمنه حولا من يوم باعه، وما كان ثمنا للدار زكاه(2/390)
مكانه؛ فإن لم يكن ما تجب فيه الزكاة، جعل حولها واحدا واستقبل بها سنة.
قال محمد بن رشد: قوله في أول المسألة في الذي اشترى الدار للتجارة فاستغلها، ثم باعهما جميعا بعد أن مضى الحول، معناه أن الغلة طعام أو عروض، فباع الدار بعد أن مضى الحول وما قبض من المكتري في كراء العام الماضي من الطعام، أو العروض، أو ما وجب له على المكتري من ذلك بثمن واحد؛ فإنه يفض الثمن - إذا قبضه على الدار، وعلى الطعام، أو العروض، فما وجب من ذلك للدار زكاه مكانه؛ لأنها كانت للتجارة؛ وما وجب من ذلك الطعام أو العروض استقبل به حولا؛ لأن الغلة فائدة وهي عروض أو طعام، فلا تجب فيه الزكاة، إلا بعد أن يحول الحول على ثمنها من يوم قبضه؛ ولو كانت الغلة دنانير لم يجز له أن يبيعها مع الدار بدنانير؛ لأنه ذهب وعرض بذهب، وقد بين هذا بقوله بعد ذلك، ولو كانت دارا للتجارة - وفيها غلة خمسون دينارا، فباع الدار وغلتها بألف إردب، وهذا ما لا اختلاف فيه إذا كانت الغلة قد وجبت للبائع على المكتري بمضي المدة، أنه لا يجوز بيعها مع الدار بالذهب - إن كانت السلعة ذهبا، ولا بالورق على مذهب ابن القاسم، إلا أن يكون الثمن نقدا، ويكون ذلك أقل من صرف دينار؛ وإنما الخلاف إذا باع الدار وما وجب له على المكتري من الكراء الذي عاقده عليه، لما يأتي من المدة، فكان شيخنا الفقيه ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجيز ذلك، ويعتل بأن الكراء لم يجب للبائع بعد، إذ قد تتهدم الدار فيبطل الكراء على المكتري، وإنما يسكن المكتري الدار بعد عقد البيع فيها على ملك المبتاع، فكأن البائع باع منه الدار وتبرأ إليه من العقد الذي قد لزمه فيها للمكتري، فرضي به، وكان يستدل لما كان يذهب إليه من ذلك بمسائل، منها أول مسألة من سماع سحنون: أن الكراء المقبوض لما يأتي من المدة إذا حل عليه الحول لا يلزم أن يزكي منه، إلا ما يجب منه لما مضى من المدة، وكان غيره من الشيوخ يخالفونه في ذلك، ولا يجيزون البيع ويساوون بين ما يجب لما مضى من المدة، ولما يأتي منها؛ وقول(2/391)
ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصح في المعنى، وأظهر في الحجة؛ إلا أن الرواية عن ابن القاسم منصوصة في الدمياطية: أن ذلك لا يجوز، بخلاف ما كان يذهب إليه؛ وقوله في أول المسألة ينظر إلى الغلة فيستقبل بها حولا - يريد ينظر إلى ما يجب للغلة من الثمن فيستقبل به حولا؛ لأنه إنما تكلم على أنه باع الغلة والدار صفقة واحدة، فوجب أن يفض الثمن على ذلك، لافتراقهما في حكم الزكاة؛ إذ الدار للتجارة، والغلة فائدة، وكذلك لو كانت الدار للقنية، فباعها مع ما هو للتجارة، قد حال عليها الحول، لفض الثمن، فاستقبل بما ينوب الدار منه حولا، وزكى ما ينوب الذي هو للتجارة؛ مثال ذلك أن يكون للرجل بقعة من فائدة، فيبنيها للتجارة، ثم يبيعها مبنية؛ فإنه يزكي من ذلك ما ناب البناء - إذا كان الحول قد حال على المال الذي بناها به، ويستقبل بما ناب البقعة حولا، وقد روي ذلك عن المغيرة - وهو صحيح.
[مسألة: أهل الأهواء هل يعطون من الزكاة إذا كانوا محاويج]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن أهل الأهواء هل يعطون من الزكاة إذا كانوا محاويج، فقال: إن نزلت بهم حاجة، فأرى أن يعطوا من الزكاة - وهم من المسلمين يرثون ويورثون.
قال محمد بن رشد: يريد الهواء الخفيف الذي يبدع صاحبه ولا يكفر، كتفضيل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على سائر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أجمعين، وما أشبه ذلك، وأما الأهواء المضلة كالخوارج، والقدرية، وشبههم، فمن كفرهم بمآل قولهم، قال: لم يجز أن يعطوا من الزكاة؛ ومن لم يكفرهم بمآل قولهم، أجاز أن يعطوا منها إذا نزلت بهم حاجة - وهو الأظهر، لقوله - عليه الصلاة والسلام: «وتتمارى - في الفوق» ، ومن البدع ما لا يختلف أنه كفر، كمن يقول من الروافض إن علي بن أبي طالب كان(2/392)
النبي، ولكن جبريل أخطأ في الرسالة، وكمن يقول منهم: إن الرسل تترى، وأنه لا يزال في كل أمة رسولان، أحدهما ناطق، والثاني صامت؛ فكان محمد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ناطقا، وعلي صامتا، وأن الأئمة أنبياء يعلمون ما كان وما يكون - إلى يوم القيامة؛ فهؤلاء ومن أشبههم لا يعطون من الزكاة بإجماع؛ لأنهم كفار، وقد قال ابن حبيب: لا يعطى تارك الصلاة من الزكاة شيئا، وهذا على أصله بأن تارك الصلاة كافر على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من ترك الصلاة فقد كفر» - وإن تركها مفرطا فيها، أو متهاونا بها - وهو بعيد، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: عنده مائة دينار وعليه مائة دينار وعنده مائتا شاة قيمتها مائة دينار]
مسألة قال: أرأيت الرجل يكون عنده مائة دينار، وعليه مائة دينار - وعنده مائتا شاة قيمتها مائة دينار، قال: يزكيها؛ لأن الغنم وفاء لدينه، والدنانير فضل؛ ولو لم يكن معها المائة دينار، وكانت الغنم وحدها، لم يكن دينه بالذي يسقط عنه الزكاة من رقابها.
قلت: فلم يزكي الغنم - وهي وفاء بالدين، قال: لأنها لا تشبه الدنانير، وهي لو كانت وحدها لم يكن معها المائة دينار لم يكن دينه بالذي يسقط الزكاة من رقابها، ولو لم تكن الغنم وكانت المائة وحدها؛ لم يكن عليه فيها زكاة الغنم، والحوائط والزرع كله لا يمنع صاحب الدين من زكاته.
قال محمد بن رشد: سأله لم لا يسقط الدين زكاة الغنم، ويسقط زكاة العين؟(2/393)
فلم يجبه بأكثر من أن قال: (إن) الغنم لا تشبه الدنانير، وليس ذلك بجواب مقنع، ولا فرق بين، إذ لم يبين المعنى الذي أزال الشبه بينهما؛ والفرق بينهما أن الدين يمنع من تنمية العين، إذ لصاحب الدين أن يقوم بدينه فيحجر على المديان التصرف في ماله، والغنم والزرع والحوائط لا يمنع التحجير على المديان فيها بالدين من نمائها؛ لأنها نامية بأنفسها، وأيضا فإن الله تبارك وتعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]- الآية، فكان هذا عاما فيمن عليه دين، وفيمن لم يكن عليه دين؛ لأن المال مال الذي هو له - وإن كان عليه دين، فخصص من ذلك العين بإجماع الصحابة؛ لأن عثمان بن عفان كان يصيح في الناس: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تحصل أموالكم، فتؤدون منها الزكاة بحضرتهم من غير نكير منهم لذلك، وبقي سائر الأموال من الماشية والحرث على الأصل في وجوب أخذ الزكاة منها، كان على صاحبها دين، أو لم يكن، فهذان وجهان بينان في وجوب إسقاط الدين زكاة العين دون زكاة الحرث والماشية، والحمد لله.
[مسألة: عليه دينا لا يرتجى قضاؤه لو باعه الساعة بعرض باعه بنصف ثمنه هل عليه زكاة]
مسألة قلت: أرأيت لو كان دينا لا يرتجى قضاؤه، وهو لو باعه الساعة بعرض، باعه بنصف ثمنه، أو ثلث ثمنه، هل يحسب ذلك أم لا يحسب؟ قال: إن كان يجزيه ذلك، حسب ذلك الذي يجده وتمام الدين فيما في يديه، وزكى ما بقي إن كان بقي ما تجب فيه الزكاة، قال سحنون: يزكي قيمة الدين ولا يزكي عدده - إذا كان صاحبه موسرا، وابن القاسم يقول: يزكي عدده.(2/394)
قال محمد بن رشد: هذا في المدير الذي يلزمه أن يزكي ماله من الديون، وقوله: إن الدين الذي لا يرتجى إذا كانت له قيمة يحسب تلك القيمة، ينبغي أن يحمل على التفسير لما في المدونة، فيكون قوله فيها إنه لا يزكي الدين الذي لا يرتجى، معناه إذا لم تكن له قيمة، وقد اختلف إذا كان الذي عليه الدين موسرا، هل يزكي عدده أو قيمته؟ على ثلاثة أقوال، أحدها: أنه يزيد عدده حالا كان أو مؤجلا، وهو ظاهر قول ابن القاسم، وروايته عن مالك في كتاب ابن المواز، وظاهر قول ابن القاسم ههنا؛ والثاني: أنه يزكي قيمته لا عدده، وهو قول سحنون، وظاهر ما في المدونة، قال محمد بن المواز: وهو القياس، غير أني ما علمت أحدا من أصحاب مالك يقوله.
والثالث: أنه إن كان حالا زكي عدده، وإن كان مؤجلا زكي قيمته، ومن الناس من يجعل هذا القول مفسرا لقول ابن القاسم ههنا، ولما في المدونة، وكتاب ابن المواز، والأظهر أنه قول ثالث في المسألة، والله الموفق.
[استحق له معدن في أرضه للإمام فيه أمر زكاته]
من سماع يحيى بن يحيي من ابن القاسم من كتاب أوله يشتري الدور والمزارع
قال يحيى: قال ابن القاسم: في رجل استحق له معدن في أرضه للإمام فيه أمر؟ فقال: الأمر كله إليه في جميع المعادن كان في أرض رجل خاصة، أو في أرض أهل الذمة من العنوة أو في أرض موات ليست المعادن لأحد إلا بقطيعة الإمام، وليست لمن أقطعها الإمام، إلا على (حال) ما وصفت لك من الانتفاع بنيلها ما عمل، ثم إن خرج فترك العمل أو مات عنها، أقطعها الإمام من شاء، قال يحيى: قلت لابن القاسم: أفيجوز للإمام إن طال عمله(2/395)
فيها؛ فلم يتركها، ولم يمت عنها، أن يزيل منها غيره فيخرجه ويقطعها سواه، أو إن ترك العمل، ثم نبذه زمانا فطلبها غيره من الإمام، أن ينزعها ويقطعها غيره ممن يعمل؟ قال سحنون: إنما ذلك في المعادن التي في الأرض التي لا تملك بمنزلة الموات، فأما الرجل تكون له الأرض يملكها فيظهر فيها معدن، فهو له يمنعه ويعمل فيه، ولا يجوز له بيعه؛ لأنه غرر لا يدري ما فيه، ولا كم يدوم له، أو ما يجد فيه مما لا يجد، وكذلك برك الحيتان تكون في أرضه، فهو يمنعها ويحميها ممن يريد أن يصيد فيها؛ وليس لأحد الدخول في أرضه وماله؛ قال يحيى: قلت لابن القاسم: فمعادن أرض الصلح أللإمام فيها أمر؟ فقال: أما ما كانوا على دينهم، فلهم صلحهم والوفاء بعهدهم؛ فإن أسلم الذي المعدن في يديه وأرضه رجع أمره إلى الإمام، ولم يكن لصاحب الأرض منه شيء.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم أن المعادن ليست تبعا للأرض، وأمرها إلى الأمام يقطعها لمن يعمل فيها لا على سبيل تمليك أصلها كانت في أرض مملوكة أو غير مملوكة، إلا أن تكون في أرض قوم قد صالحوا عليها، فهم أملك بأرضهم، فإن أسلموا رجع أمرها إلى الإمام؛ هذا قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن أهل الصلح إذا أسلموا على أرضهم رجع ما كان فيها من المعادن إلى الأمام، وليس يلتئم على أصله: أن يرجع إلى الإمام من معادن أهل الصلح، إلا ما ظهر في أرضهم منها بعد إسلامهم؛ وأما ما ظهر فيها قبل إسلامهم، فالواجب على أصله أن يكون لهم؛ لأنهم (قد) أسلموا عليها، ومثل ذلك حكى ابن المواز عن مالك، وقد ظن بعض أهل النظر أن(2/396)
قول مالك في كتاب ابن المواز في أهل الصلح إذا أسلموا على أرضهم، وفيها معادن، أنها لهم مخالف لمذهب ابن القاسم مثل قول سحنون، وليس ذلك بصحيح، بل قول مالك هو الصحيح على أصل ابن القاسم في مالك الأرض لا يملك بملكها ما كان فيها من مجهول لم يعلم به كالمعدن وشبهه، خلاف مذهب سحنون في أنه يملك بملكها ما كان فيها من مجهول - لم يعلم به، وعلى هذا الأصل ذهب في المعادن إلى أنها إن كانت في أرض مملوكة، فهي لصاحب الأرض، وهو قول ابن حبيب في الواضحة.
وجه القول الأول أن الذهب والفضة التي في المعادن التي في جوف الأرض، أقدم من ملك المالكين لها، فلم يحصل ذلك ملكا لهم بملك الأرض، إذ هو الظاهر من قوله عز وجل: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128] ، إذ لم يقل إن الأرض لله يورثها وما فيها (من يشاء من عباده) ، فوجب بحق هذا الظاهر، أن يكون ما في جوف الأرض من ذهب أو ورق في المعادن فيئا لجميع المسلمين، بمنزلة ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب؛ ووجه القول الثاني أنه لما كان الذهب والفضة نابتين في الأرض كانا لصاحب الأرض بمنزلة ما نبت فيها من الحشيش والشجر.
والقول الأول أظهر؛ لأن الحشيش والشجر حادثان بعد الملك، فهما بخلاف الذهب والفضة في المعادن، وأما الحيتان المتولدة في برك أرض الرجل، فقد قيل: أنها لصاحب الأرض؛ لأنها تولدت في أرضه، وهو قول سحنون، وقيل: إنها لمن صادها من المسلمين؛ لأنه غيث ساقه الله لم يملك صاحب الأرض أصله، وروي عن أشهب أنه قال: إن كان صاحب الأرض وضع في البرك الحيتان، فتوالدت فيها فهي له، وإلا فهي لمن صادها من المسلمين، ولكل وجه؛ وسأله في الرواية هل للإمام أن يزيل منها الذي أقطعه إياها إذا طال عمله فيها ولم يتركها، ولا مات عنها، أو تركها ويقطعها غيره أم لا؟ فلم يجبه في ذلك، وقد(2/397)
روى أشهب عن مالك أن ذلك له، وهو ظاهر في الوجهين جميعا؛ لأنه إذا طال عمله فيها، فقد انتفع بما أقطع ولم يستحق المعدن بالإقطاع ملكا، ولا العمل فيه حياته، لا أن يقطعه إياه حياته، فله أن يقطعه غيره، وإذا ترك العمل فيه ونبذه، فقد ترك حقه، فللإمام أن يقطعه غيره.
وأما إذا مات، فقال في كتاب الشركة من المدونة: إن للإمام أن يقطعه لمن شاء، ولم يبين إن كان قد أدرك النيل أو لم يدركه، وقال سحنون: إن كان قد أدرك النيل فليس للإمام أن يقطعه إلا لورثته، وقال أشهب: وإن مات قبل أن يدرك النيل، فورثته أحق به، وهو القياس؛ لأنه إذا قطع لغير ورثته وقد عمل فيه، ذهب عناؤه وعمله باطلا، كان قد أدرك النيل، أو لم يدركه، إلا أن يكون قد أدرك النيل، قدر له مدة لو شاء الإمام أن يقطعه لغيره قبل أن يموت، كان ذلك له، فيكون له أن يقطعه لغير ورثته، هذا هو النظر في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[يكري داره خمس سنين بمائة دينار فيتعجلها]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم
قال سحنون: وسئل ابن القاسم عن الرجل يكري داره خمس سنين بمائة دينار، فيتعجلها، فيحول الحول عليه - وهي عنده، وليس له مال غير الدار؟ قال: يزكيها لأنه كان ضامنا لها، وهي مال من ماله بمنزلة الدين يكون عليه ينظر إلى ما صار له من الكراء فيما سكن، فان كان عشرة دنانير، نظر إلى قيمة الدار، فإن كان قيمتها تسعين زكى المائة كلها؛ لأن في قيمة الدار وفاء مما عليه من التسعين؛ وإن كان قيمتها ثلاثين زكى الأربعين؛ لأنه إنما وجب له عشرة والتسعون دينا عليه، فهو يخاف على الدار أن تنهدم فيبطل الكراء فيما بقي ويرجع عليه بالتسعين؛ فإنما قومناها بعد السنة لتعرف قيمتها، وليجعل الدين فيها، ولا يكون عليه فيما بقي شيء؛ لأنه دين عليه،(2/398)
ولكن ينظر فكل ما سكن أخذ بقدره فزكاه، وإن كان دينارا واحدا؛ لأنه قد حال عليه الحول عنده، وهو من أصل مال قد حال عليه الحول، وذلك أنه كلما وجب له من السكنى شيء حسب عليه؛ لأنه قد كان قبض الكراء كله، وحال عليه من حين قبضه حول، وصار بمنزلة العشرة الأولى التي وجبت له بمضي السنة، وأوقفت الدار في عشرين، فكلما سكن شيئا حسب له من يوم قبضه، فزكاه على ذلك وهو وجه ما سمعت.
قال محمد بن رشد: جواب ابن القاسم في هذه المسألة مبني على القول بأن الرجل إذا كان له مال وعليه دين مثله، فوهب له الدين بعد حلول الحول على المال الذي بيده، أو أفاد مالا فيه وفاء به؛ إنه يزكي ما بيده من المال، ولا يستقبل به حولا ثانيا من يوم وهب له الدين، أو أفاد ما فيه وفاء به؛ وهو قول غير ابن القاسم في المدونة، خلال قول مالك فيها، وأحد قولي ابن القاسم على ما تقدم من اختلاف في قوله في ذلك في سماع عيسى؛ لأنه قال: إنه يزكي من المائة التي قبض مقدمة في كراء داره خمسة أعوام، إذا حال عليها الحول؛ ما يجب منها للعام الماضي مع قيمة الدار، وما يجب منها للعام الماضي قد كان عليه دينا، وإنما سقط عنه الدين فيه بالسكنى شيئا بعد شيء، وسقوط الدين عنه فيه بالسكنى كهبته له سواء، فأوجب عليه فيه الزكاة بحلول الحول، ولم يأمره باستئناف حول من يوم سقط عنه فيه الدين شيئا بعد شيء.
، ويأتي على قياس القول الثاني، وهو الذي في المدونة لمالك، ألا يزكي شيئا من ذلك حتى يحول عليه الحول بعد سقوط الدين عنه بالسكنى، ووجه العمل في ذلك، أن يؤخر حتى يمضي من العام الثاني ماله قدر، فيزكي ما ينوب قدر ذلك من العام الأول؛ لأنه هو الذي حال عليه الحول بعد سقوط الدين عنه، ثم إذا(2/399)
مضى بعد ذلك أيضا ماله قدر، زكى ما ينوب ذلك كذلك أبدا حتى ينقضي العام الثاني، فيزكي بانقضائه ما بقي من واجب العام الأول، وأما تزكيته منها قدر قيمة الدار عند حلول الحول عليها عنده، فلا اختلاف في ذلك؛ لأن الدار وفاء بالدين، وملكها له قديم، وكذلك يدخل هذا الخلاف أيضا فيما يجب عليه من الباقي، فقال في الرواية على أصله فيها: إنه يزكي منه بقدر ما سكن شيئا شيئا، وعلى ما في المدونة لمالك لا يزكي منه بقدر ما سكن حتى يحول عليه الحول من يوم سكنه.
ومعنى قوله: وأوقفت الدار في عشرين، أن هذا الباقي الذي يزكي منه بقدر ما يسكن، إنما هو ما بعد قيمة الدار، وبعد العشرين التي تجب العام الماضي؛ لأنه قال: إن الكراء كان خمس سنين بمائة دينار، ويلزم على قياس القول الآخر - وهو بنى عليه جوابه في الرواية إذا زكى من المائة التي قبض ما يجب لما مضى مما حال عليه الحول، أن يجعل ما بقي من ذلك أيضا فيما عليه من الدين، فيزكي قدره من المائة، كما يجعل في ذلك قيمة الدار، ويزكي قدره منها لأنه إذا أخرج زكاته، صار الباقي منه بعد إخراج الزكاة كما أفاده مكانه، فيجعل الدين فيه على هذا القول، ويزكي قدر ذلك مكانه من غير أن يستقبل بذلك حولا من حينئذ - كما قال ابن المواز؛ على قياس هذا القول فيمن آجر نفسه ثلاث سنين بستين دينارا، وقبضها ومضت سنة ولا عروض له، أنه يزكي تسعة وثلاثين دينارا ونصف دينار؛ لأنه يخرج أولا زكاة عشرين دينارا نصف دينار، ثم يجعل ما بقي منها وذلك تسعة عشر دينارا ونصف دينار - فيما عليه من الدين، ويزكي قدر ذلك مما قبض، وعلى ما في المدونة لمالك لا يزكي بمضي السنة ما يجب لها من الإجارة؛ لأن الحول لم يحل على جميع ذلك منذ وجبت له بسقوط الدين عنه فيها؛ وقد قيل في الذي أكرى داره خمس سنين بمائة وقبضها: إنه يجب عليه أن يزكي جميعها إذا حال عليها الحول عنده؛ لأن(2/400)
الدور مأمونة، وما يطرأ عليها من الهدم نادر، فلا يعتبر به، وهو ظاهر قوله في أول المسألة: يزكيها؛ لأنه كان ضامنا لها وهي مال من ماله، خلاف ما ذكر بعد ذلك من التفسير، فيتحصل في المسألة على هذا أربعة أقوال، أحدها: أنه يزكي إذا حال الحول على المائة بيده المائة كلها، وهو هذا القول، والقول الثاني: أنه يزكي منها قدر قيمة الدار، وما يجب من الكراء للعام الماضي، فكلما سكن بعد ذلك المكتري شيئا زكى مما بقي قدر ذلك، وهو قوله في هذه الرواية.
والقول الثالث: أنه يزكي منها قدر قيمة الدار، وما يجب منها للعام، وما يبقى من ذلك بعد الزكاة، فكلما سكن المكتري بعد ذلك شيئا، زكى مما بقي قدر ذلك، وهذا القول يأتي على ما بنى عليه جوابه في الرواية، وعلى ما ذكرناه عن محمد بن المواز في مسألة الإجارة.
والقول الرابع: أنه يزكي منها قيمة الدار، ولا يزكي مما وجب للعام الماضي، ولا مما يسكن بعد ذلك، إلا ما حال عليه الحول من ذلك بعد السكنى؛ وهذا القول يأتي على مذهب مالك في المدونة على ما ذكرناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبعث بمال إلى إفريقية فتحضره زكاته أيقومه]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يبعث بمال إلى إفريقية فتحضره زكاته، أيقومه؟ قال: إن علم ذلك وتبين كم هو، أو قدر على أن يتوخى قدر ذلك، فعل، وإن أخر ذلك حتى يقدم عليه، زكاه لما مضى له.
قال محمد بن رشد: وهذا في المدير الذي يبعث من ماله بضاعة، فإذا جاء شهر زكاته قومه وزكاه مع ما يزكي من ماله - إن علم قدره، أو قدر أن يتوخاه، وإن لم يعلم ذلك أخر زكاته حتى يقدم عليه، فزكاه لما مضى له من الأعوام على ما يخبره به الذي هو بيده، وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه؛ لأنه ماله ضمانه منه وربحه له، فلا تسقط عنه زكاته لمغيبه عنه.
[مسألة: النصاب من الورق]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل له مائتا درهم ليست كيلا بالأندلس،(2/401)
وهي تجوز عندهم مجاز الكيل، قال: لا يكون عليه فيه الزكاة، إلا أن ينقص من الكيل نقصانا يسيرا.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف بين أهل العلم في أن النصاب من الورق خمس أواق، وهي مائتا درهم كيلا تجيء بوزن زماننا مائتي درهم وثمانين درهما، فإن نقصت من ذلك نقصانا بينا تتفق عليه الموازين، لم تجب فيها الزكاة، إلا أن يجرى عددا، وهي تجوز بجواز الوازنة فتجب فيها الزكاة.
وإن كان النقصان كثيرا، وهو ظاهر ما في الموطأ؛ وقيل: إن الزكاة لا تجب فيه، وإن كان النقصان يسيرا، وإلى هذا ذهب ابن لبابة، وقيل: إن كان النقصان يسيرا، وجبت فيها الزكاة، وإن كان كثيرا، لم تجب فيها الزكاة، وهو قول سحنون هذا؛ وأما إن كانت لا تجوز بجواز الكيل، فلا تجب فيها الزكاة، وإن كان النقصان يسيرا قولا واحدا، فهذا تحصيل الخلاف في هذه المسألة.
[مسألة: حلت عليه الزكاة وهو ممن يدير ماله في التجار]
مسألة وسئل: عن رجل حلت عليه الزكاة وهو ممن يدير ماله في التجارة، فأتى شهره الذي يقوم فيه، هل يجب عليه أن يبيع عروضه بالغا ما بلغ؟ قال: عليه أن يبيع كما يبيع الناس لحاجتهم، ويؤدي زكاة ماله؛ قيل له: فإن لم يبع من العروض حتى تلفت بعدما حال عليه الحول، هل يكون ضامنا للزكاة؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن للرجل أن يتقصى في سلعته للبيع، ويجتهد في تسويقها ليؤدي منها الزكاة دون تفريط ولا تأخير، وليس يلزمه(2/402)
أن يبيعها من حينه بما يعطى فيها من قليل أو كثير؛ لأن ذلك من إضاعة المال، فإن فرط في بيعها حتى تلفت، لزمه ضمان الزكاة؛ وإن تلفت قبل أن يفرط، لم يلزمه ضمان ما تلف، وزكى الباقي إن كان ما يجب فيه الزكاة.
وقيل: إنه تلزمه الزكاة، وإن لم تبلغ ما يجب فيه الزكاة؛ لأن المساكين نزلوا معه بحلول الحول منزلة الشركاء، فما تلف فمنه ومنهم، وما بقي فبينه وبينهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: زكاة ما ورثوه من الناض لكل سنة]
مسألة قال سحنون: في الذي يموت ويترك مالا وولدا صغارا أو كبارا، إن الزكاة على الصغار والكبار لكل سنة من يوم ورثوه - وإن لم يقسم المال، ولا يكون مثل الدين على الرجل، فيقيم عنده سنين، أنه لا يكون عليه إلا زكاة واحدة حتى يقبضه؛ لأن الذي كان في يديه الدين كان ضامنا، ولم يكن رب الدين ضامنا له حتى يقبضه، وإن الميراث، إنما هو في ضمان أهل الميراث من حين ورثوه إن تلف، ومصيبته منهم.
فلذلك كان عليهم زكاته كل سنة من حين ورثوه إلى يوم يصير إليهم؛ لأنه لم يزل ملكا لهم من حين ورثوه، وإن لم يكونوا قبضوه.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب سحنون: أن على الورثة زكاة ما ورثوه من الناض لكل سنة من حين ورثوه، وإن لم يقبضوه ولا علموا به صغارا كانوا أو كبارا، أو صغارا وكبارا، وهو قول المغيرة؛ ووجه ذلك كونه في ضمانهم من يوم ورثوه، وذهب ابن القاسم إلى أنه لا زكاة عليهم فيه حتى يقبضوه ويستقبلوا به حولا من يوم قبضوه، وإن علموا به صغارا كانوا أو كبارا أو صغارا وكبارا، ووجه ذلك أن تنميته لا تصح لهم إلا بعد قبضه، وهي المعنى(2/403)
المقصود بالحول؛ وقد فرق بين أن يعلموا أو لا يعلموا على وجهين، أحدهما: أنهم إن لم يعلموا استقبلوا به حولا بعد القبض، وإن علموا ولم يقدروا على التخلص إليه، زكوه لسنة واحدة؛ وإن علموا وكانوا قادرين على التخلص إليه، زكوه لما مضى من الأعوام، وهذا قول مطرف؛ والثاني: أنهم إن لم يعلموا زكوه لسنة واحدة، وإن علموا زكوه لما مضى من الأعوام، روي هذا عن مالك.
واختلف في قبض الوكيل والوصي والسلطان، فلم يراع ابن القاسم قبض السلطان، ولا قبض الوصي - إذا كان الورثة كبارا أو صغارا أو صغارا وكبارا؛ وإنما رأى قبضه قبضا للصغار إذا كان المال مقسوما، وجعل قبض الوكيل كقبضه؛ وجعل ابن حبيب قبض السلطان والوكيل كقبضه لنفسه، ورأى قبض الوصي قبضا للصغار - مقسوما كان المال أو غير مقسوم، وقد روى أصبغ عن ابن القاسم: أن الوكيل إذا قبض المال وأقام في يديه سنين فليس عليه فيه إلا زكاة عام واحد، فهذا تلخيص الاختلاف في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: المفقود يوقف ماله ويحبس عليه هل تؤدى منه الزكاة]
مسألة وسئل: عن المفقود يوقف ماله ويحبس عليه، هل تؤدى منه الزكاة، فقال: لا تؤدى منه الزكاة؛ لأني لا أدري لعل عليه من الدين أكثر من ماله، أو قال: لعله يلحقه من الدين أكثر من ماله.
قال محمد بن رشد: قد اعتل ابن القاسم لقوله: بعله صحيحة، وهي المخافة أن يكون عليه دين لأن الدين يسقط زكاة العين، وله علة أخرى أيضا وهي أنا لا ندري لعله قد مات، فلا يدرى على ملك من يزكيه من الورثة.
[مسألة: السفينة هل يقومها ويخرج زكاة قيمتها]
مسألة وعن الرجل يكون ممن يدير ماله في التجارة، وتكون له سفينة(2/404)
اشتراها يكريها إلى مصر وإلى الأندلس، هل يقومها في كل سنة، ويخرج زكاة قيمتها، فقال: لا يكون عليه أن يقومها.
قال محمد بن رشد: لو اشتراها للتجارة لقومها، وإنما لم يقومها من أجل أنه اشتراها للكراءة، وقد اختلف قول مالك في هذا المعنى على ما قد ذكرناه في رسم " الزكاة" من سماع أشهب.
[مسألة: يتصدق على رجل بألف درهم وعزلها المتصدق]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يتصدق على رجل بألف درهم، وعزلها المتصدق، فأقامت سنين، فلم يقبلها المتصدق عليه، أو قبلها؛ قال: إن قبلها استقبل بها حولا، وسقط زكاة ما مضى من السنين، وإن لم يقبلها رجعت إلى صاحبها، وأدى عنها زكاة ما مضى من السنين.
قال محمد بن رشد: في النوادر لابن القاسم من رواية سحنون عنه: (أنه) إن قبلها المتصدق عليه، استقبل بها حولا ولم تسقط منه الزكاة، ووجه قول سحنون: (أنه لما تصدق المتصدق بالدنانير، وللمتصدق عليه أن لا يقبلها، صارت الصدقة موقوفة على قبوله؛ فإن قبل، خرجت عن ملك المتصدق يوم تصدق بها، فلم تجب عليه زكاتها؛ كمن باع سلعة رجل بغير إذنه، فأجاز، ووجه قول ابن القاسم) : أن المتصدق عليه لما كان له أن يقبل أو يرد بما أوجب له المتصدق على نفسه، وكان إن قبل وجبت له الصدقة بالقبول، وجب ألا تخرج من ملك المتصدق إلا بالقبول، فكان عليه زكاتها كالمملكة أو المخيرة تختاران الطلاق، أنه يقع عليهما يوم القضاء، لا يوم التخيير والتمليك؛ وهو أن القولين جاريان على اختلافهم في مشتري السلعة(2/405)
بالخيار - إذا اختار البيع، هل تجب له السلعة يوم اشتراها، أو يوم اختار؟ فقد قال في كتاب الشفعة من المدونة في الذي اشترى شقصا بخيار، ثم بيع الشقص الآخر من الدار بيع بت، أنه إن اختار الشراء، كانت الشفعة في الشقص المبيع بالبت، فأوجب له الشراء بالعقد، وعلى هذا يأتي قول سحنون: إنه إن قبل الصدقة، سقطت عن المتصدق فيها الزكاة؛ وقد روي عن ابن القاسم: أن الشفعة لمشتري البت إن اختار مشتري الخيار، فجعل البيع إنما وجب له بالاختيار لا بالبيع، فقيل: هذا يأتي على قول ابن القاسم: إنه إن قبل المتصدق عليه الصدقة، لم يسقط عن المتصدق زكاتها، ولو كانت هذه الصدقة مما له غلة، لكانت الغلة على قول ابن القاسم للمتصدق إلى يوم القبول - وإن قبل، وعلى قول سحنون يكون للمتصدق عليه - إن قبل، وبالله التوفيق.
[مسألة: وجد ركازا في أرض عنوة لمن يكون هذا الركاز]
مسألة قيل لسحنون: ما تقول في رجل وجد ركازا في أرض عنوة، ولم يبق من الذين افتتحوها أحد، ولا من أولادهم، ولا من نسلهم؛ لمن يكون هذا الركاز؟ فقال: يجعل مثل اللقطة، قيل: فيصنع به ماذا؟ قال: يتصدق به على المساكين؛ لأن الذين غنموه لا يعرفون؛ قيل له: فإن كانت أرضا لا تعرف إن كانت مغنومة أو صلحا؟ فقال: يكون لمن أصابه.
قال محمد بن رشد: قوله: ولم يبق من الذين افتتحوها أحد، ولا من أولادهم ولا من نسلهم، معناه ولم يبق منهم أحد يعرف بعينه، ويدل على ذلك قوله في آخر المسألة: لأن الذين غنموه لا يعرفون، ولو كانوا قد بادوا وذهبوا، ولم يبق(2/406)
منهم أحد، لما لزم أن يكون حكم ذلك حكم اللقطة في صرفه إلى الصدقة؛ وإنما الذي كان يجب فيه أن يجعل في بيت مال المسلمين كميراث من مات ولا وارث له؛ لأن هذا الركاز قد وجب للغانمين، فإذا علم أنهم قد ماتوا أو لم يبق منهم أحد، ولا من نسلهم، وجب أن يجعل في بيت مال المسلمين؛ وأما قوله: إذا لم يعرف إن كانت الأرض مغنومة أو صلحا، أنه يكون لمن أصابه فإنما قال: ذلك مراعاة للخلاف، إذ أكثر أهل العلم، يقولون: إنه لمن وجده، سواء كانت الأرض حرة عربية، أو صلحية أو عنوية، وهو قول ابن نافع، وقول مطرف، وابن الماجشون، وروايتهما عن مالك؛ وكان القياس في ذلك على القول بأن الركاز الموجود في أرض العنوة يكون للغانمين لتلك الأرض، وأن الركاز الموجود في أرض الصلح يكون للذين صولحوا على تلك الأرض من أهل الذمة؛ أن يكون حكمه حكم اللقطة يتصدق به على المساكين، إذ لا يعلم لمن هو منهم؛ كما لو أن رجلا وجد لقطة لا يعلم إن كانت لذمي أو مسلم، لوجب أن يتصدق بها على المساكين - إذا يئس من أن يعلم صاحبها بعينه والركاز الذي يخرج خمسه، ويكون لواجده أربعة أخماس حيث ما وجدوا في الأرض الحرة العربية التي ليست بصلحية ولا عنوية على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، هو دفن الجاهلية، وأما المال الإسلامي فليس بركاز، وإنما هو كنز؛ لأن الكنز هو المال المجموع الذي لا تؤدى منه الزكاة مدفونا كان أو غير مدفون، وحكمه حكم اللقطة بإجماع من أهل العلم، وقد اختلف فيمن وجد ركازا في أرض غيره من الأرض الحرة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، أو الحرة وغير الحرة على مذهب غيره، هل يكون للواجد، أو لصاحب الأرض، فذهب ابن حبيب إلى أنه لصاحب الأرض، ورواه عن ابن زياد عن مالك، وحكى الفضل عن ابن القاسم وأشهب أنه للواجد، وكان القياس أن يكون على مذهب ابن حبيب لواجده؛ لأنه لا يراه(2/407)
تبعا للأرض إذا كانت عنوة أو صلحا؛ وعلى مذهب ابن القاسم وأشهب: أن تكون لرب الأرض؛ لأنهما يريانه تبعا للأرض - إذا كانت عنوة أو صلحا، وبالله التوفيق.
[له على رجل مال حال عليه الحول فأخذ منه جزءا لا يجب في مثله الزكاة]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب الزكاة والصيام قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم - وسئل: عن رجل له على رجل مائتا درهم قد حال عليها الحول، فأخذ منها دنانير لا تجب في مثلها الزكاة، أو كانت له عليه عشرون دينارا، فأخذ منه صرف دراهم لا تجب في مثلها الزكاة، أعليه أن يزكي ذلك، قال: ليس عليه زكاة، إلا أن يأخذ مكان الذهب من الدراهم ما تجب فيه الزكاة، أو مكان الدراهم من الذهب ما تجب فيه الزكاة، فيزكي ذلك؛ فأما ما لم تجب فيما يأخذ الزكاة فلا زكاة عليه؛ ولو كان ذلك عليه، لكان عليه أن يزكيها عند الحول - ولم يقبضها.
قال: ولو كان وهبها له، أو تصدق بها عليه، أو أخذ بها منه عرضا، لم يكن عليه فيها زكاة، وقاله أصبغ، وقال أشبه شيء به، والحجة فيه وعنه أخذ العرض، أنه لا يزكي عنها مكانه، ولا تقوم العروض، ولا يزكي ثمن العروض إذا باعه حتى يحول على ثمنه الحول، وفيه ما تجب في مثله الزكاة؛ قال أصبغ: قيل لابن القاسم: أرأيت إن كانت دراهمه عليه أقل من مائتي درهم، أو دنانيره أقل من عشرين دينارا، فأخذ في الدنانير من الدراهم مائتي درهم، وفي الدراهم من الدنانير عشرين دينارا، قال: أرى عليه الزكاة في الوجهين جميعا - كانا من(2/408)
بيع أو سلف قرض؛ فهو سواء يزكي إذا أخذ مائتي درهم، أو عشرين دينارا، إذا كانت السلعة في أصل البيع كانت لتجارة.
وقال أصبغ: وإنما هو رجل أفاد عشرة دنانير، فأقامت عنده حولا، ثم اشترى بها مائتي درهم فليزك؛ لأن فضلها منها، وقد أقرضت بفضلها أو أفاد مائة درهم فأقامت عنده حولا، ثم صرفها بعشرين دينارا، فعليه فيها الزكاة مكانه، بمنزلة من أفاد عشرة دنانير، فاشترى بها سلعة فنمت بفضلها إلى ما تجب فيه الزكاة، ففيها الزكاة.
قال محمد بن رشد: أما المسألة الأولى، وهي الرجل يكون له من الدنانير أو الدراهم دينا على رجل ما تجب فيه الزكاة فيحول عليه الحول، ثم يأخذ منه بذلك ما لا تجب فيه الزكاة من (الدنانير أو الدراهم، أو ما لا تجب فيه الزكاة من) العروض؛ أنه لا زكاة عليه في الدنانير ولا في الدراهم، ولا في العروض، حتى يبيعها ويستقبل بثمنها حولا، معناه إن كان أخذها للقنية فلا اختلاف في ذلك في المذهب، وابن شهاب يرى عليه زكاة الدين إذا حال عليه الحول، وإن لم يقبضه؛ وروي ذلك عن ابن عمر، ولذلك قال أشهب: إنه إن زكاه قبل أن يقبضه أجزأه؛ فعلى قولهما لا تسقط عنه الزكاة في ذلك - وإن أخذ فيه أقل مما تجب فيه الزكاة أو عروضا؛ وأما المسألة الثانية إذا كان له عليه أقل مما تجب فيه الزكاة، وقد حال عليه الحول فأخذ منه ما تجب فيه الزكاة، فقوله فيها: أن عليه الزكاة، هو على المشهور في المذهب من أن الأرباح مزكاة على أحوال أصول الأموال، وقد ذكرنا في أول مسألة من سماع ابن القاسم ما في ذلك من الاختلاف في المذهب موعبا - وبالله التوفيق.
[مسألة: استودع وديعة فأسلفها رجلا فأقامت سنين]
مسألة قال ابن القاسم: فيمن استودع وديعة فأسلفها رجلا، فأقامت سنين، أنه يزكيها إذا قبضها؛ لأنه كان ضامنا لها فصارت دينا له،(2/409)
وقاله أصبغ، وقال: يزكيها لسنة واحدة وهو بمجرى سبيل الديون التي له.
قال محمد بن رشد: أما المودع الذي أقرضها، فيزكيها لسنة واحدة إذا قبضها إن كان له بها وفاء، قد حل عليه الحول باتفاق، أو لم يحل عليه على ما تقدم من الاختلاف في رسم "استأذن" من سماع عيسى؛ وأما الذي أقرض إياها، فيزكيها لكل سنة عنده - إن كان له بها وفاء؛ وأما صاحبها المودع، فيزكيها إذا قبضها زكاة واحدة لجميع السنين التي كانت عند المقرض - كان له بها وفاء أو لم يكن؛ لأنها ماله، وما أقامت بيد المودع قبل أن يقرضها فعليه زكاتها لكل سنة، إلا على رواية ابن نافع عن مالك التي ذكرناها في رسم "استأذن"، وهو شذوذ في المذهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: أكرى داره ثلاث سنين جملة بمائة دينار كيف يزكي]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عمن أكرى داره ثلاث سنين جملة بمائة دينار في كل سنة، فحلت أول سنة، فلم يقبضها ولا الثانية؛ ثم قبض ثلاثمائة بعد الثلاث سنين، كيف يزكي؟ قال: يستقبل بها حولا كلها من يوم قبضها، وليس في ذلك اختلاف من قول مالك بمنزلة ما لو باع سلعة بثمن حال، فاستأخر حتى قبضه بعد سنة، فإنما يستقبل به من يوم يأخذه حولا، أو بمنزلة الدين ورثه من أبيه على رجل فأخره قبله أرفقه به حتى مضت ثلاث سنين؛ فإنما يستقبل به من يوم يأخذه حولا، ثم قال لي في الأولى: إلا أن يكون فعل ذلك هربا من الزكاة، قال أصبغ: ليس استثناؤه هذا بعلم ولا شيء سوى فعله ها هنا هربا من الزكاة أو غير هرب، أو متعمدا أو غير متعمد، وقادرا على أخذه أو غير قادر، هي والثانية سواء، وليس عليه في ذلك(2/410)
زكاة، وإنما يستقبل بذلك كله حولا من يوم يقبضه، ولا يعبأ بما مضى قبل ذلك من الأحوال ولا غيرها، أو بما يقبض منه لما تجب فيه الزكاة إن قبضه مقطعا؛ قال أصبغ: وليس في هذا كلام ولا اختلاف.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هو القياس: ألا فرق بين الأولى، وهي التي باع سلعة بثمن حال، فاستأخر حتى قبضه بعد سنة، وبين الثانية وهي التي ورث الدين عن أبيه على رجل فأخره به (في) أن لا زكاة عليه فيهما - وإن فعل ذلك هربا من الزكاة؛ لاستوائهما في أن الزكاة لا تجب عليه فيهما إلا بعد سنة من يوم القبض، ووجه قول ابن القاسم في تفرقته بينهما: أن الدين في المسألة الأولى من بيع باعه، وقد قال ابن الماجشون والمغيرة: إن العروض المقتناة إذا بيعت بثمن مؤجل، فاقتضى بعد حول، زكى مكانه كدين التجارة؛ وقال ابن شهاب، وعبد الله بن عمر: في إحدى الروايتين عنه أن الدين يزكى، وإن لم يقبض؛ ومن فعل هربا من الزكاة ما يجب عليه به الزكاة في قول قائل، فهو بخلاف من فعل هربا ما يسقط عنه الزكاة باتفاق، وهذا أصل يعتمد عليه؛ ألا ترى أن من كانت له دنانير تجب فيها الزكاة، فاشترى بها عرضا لا غرض له فيه إلا الهروب من الزكاة لم يجب عليه شيء بإجماع؛ وأما المسألة الأولى وهي التي أكرى داره ثلاث سنين جملة بمائة دينار في كل سنة، فلا اختلاف فيها من قول مالك - كما قال - وإن فعل ذلك هربا من الزكاة؛ لأن الكراء غلة، فهو بخلاف ثمن السلعة في المسألة التي بعدها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يدفع إلى الرجل المال قراضا فيقيم في يديه سنين ثم يرجع إليه]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: سألت مالكا عن الرجل يدفع إلى الرجل المال قراضا فيقيم في يديه سنين، ثم يرجع إليه، قال:(2/411)
يزكيه لما مضى من السنين؛ قال ابن القاسم: وإنما أراد بذلك إذا كان المقارض يدير المال في تلك السنين، على ذلك حملناه، وهو الذي أراد، فأما إذا كان لا يدار، فزكاة سنة واحدة إذا رجع إليه، وإن كان العامل لا يدير، ورب المال ممن يدير، زكاه للسنين كلها.
قال أصبغ: قلت لابن القاسم: وكيف ذلك: أبعد أن يرجع إليه؟ أم في كل سنة يقومه مع ما يدير ويقوم؟ فقال: بل في كل سنة يقومه مع ما يدير، ويقوم من ماله هو أحب ما فيه إلي - إن كان عينا موقوفا بحاله بيد العامل زكاه ربه كل سنة على عدده؛ أو إن كان في سلعة قومها كلها إذا جاء شهر زكاته، فزكى بقدر رأس المال وحصته من الفضل؛ وإن كان المقارض عنه غائبا ببلد غيبة لا يدرى كيف حالته فيها، ولا ما حدث عليه، ولا حال ما في يديه، فلا زكاة عليه حتى يعلم ذلك، أو يرجع إليه؛ فإذا رجع إليه زكاه للسنين الماضية على قيمة السلع في تلك السنين - إن كان في سلع، رأيته بمنزلة الرجل الذي يجهز إلى بعض البلدان، ويجيء شهر زكاته ولا يدري حال ماله ذلك، فلا زكاة عليه حتى يرجع إليه علم ذلك؛ فإذا جاءه ذلك زكاه للسنين الماضية التي كان الجهاز فيها غائبا، وقاله أصبغ، وقال: هذا فقه هذه المسألة مجتمع.
قال محمد بن رشد: قول مالك في أول المسألة: إن القراض إذا رجع إلى ربه بعد أعوام، يزكيه لما مضى من السنين إن كان على ما فسر ابن القاسم - يريد أن يزكي لكل سنة قيمة المتاع فيها، كانت قيمته في كل سنة أقل من قيمته في السنة التي قبلها أو أكثر - على ظاهر قوله: يزكيه لما مضى من السنين، وهو ظاهر ما في القراض من المدونة، وقد قيل: إنه إذا زاد في كل سنة يزكيه على(2/412)
ما هو عليه من الزيادة، وإذا نقص يزكيه للأعوام الماضية على ما رجع إليه من النقصان، وأنه هو الذي يأتي على ما في سماع أبي زيد من كتاب القراض، ومثل ما في كتاب القراض من المدونة، وعلى ظاهر هذه الرواية، ورواية عيسى عن ابن القاسم من كتاب القراض من أن مال القراض لا يزكى - وإن كان حاضرا - إلا بعد المفاصلة؛ لأن العلة في أنه لا يزكى إلا بعد المفاصلة مخافة النقصان، إذ لو كان لا يسقط عنه زكاة ما نقص، لم يكن لتأخير إخراج الزكاة إلى حين المفاصلة معنى، فعلى هذا إن كان المال في أول سنة ثلاثمائة، وفي السنة الثانية مائتان، وفي الثالثة مائة، يزكي مائة، مائة لكل سنة، وقد جاء لابن حبيب في هذا (المعنى) اضطراب، ومن قوله أيضا: إن رب المال إذا كان يدير، والعامل لا يدير - وهو حاضر معه، أو غائب عنه، وهو يعلم ما في يده؛ فإنه يقوم كل سنة ما بيد العامل، فيزكي جميعه: رأس المال وجميع الربح، بخلاف رواية أصبغ هذه أنه يزكي رأس المال، وحصته من الربح، ويخرج زكاة ذلك من ماله، لا من مال القراض على قولهما جميعا؛ وأما إذا كان العامل مديرا فلا اختلاف في أنه يزكي رأس المال، وجميع الربح من مال القراض، ولا في أنه لا يزكيه حتى يرجع إليه فيزكيه للأعوام الماضية، وقول ابن القاسم في رواية أصبغ هذه: وإن كان العامل لا يدير، ورب المال يدير، زكاه للسنين كلها ظاهره وإن كان الذي بيد العامل الأكثر، إذ لم يفرق بين ذلك، خلاف قول عيسى بن دينار الواقع في سماع أبي زيد، وأما إن كانا غير مديرين، فلا زكاة عليه فيما بيد العامل حتى يرجع إليه فيزكيه زكاة واحدة، وبالله التوفيق.(2/413)
[مسألة: زكاة الدار المعدة للتجارة]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول فيمن اشترى دارا للتجارة، فلما حل الحول باع النقض بمائة والمصاريع، ثم باع الدار بعد ذلك بمائة دينار، إنه يزكي جميع ذلك كله؛ قال أصبغ: يزكي الأول حين باع ولا ينتظر به، ويزكي الثاني حين يبيع، ويكون حول كل (مال) من يوم يزكيه للمستقبل؛ قال ابن القاسم: وليس النقض والمصاريع بفائدة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن النقض والمصاريع ليس بغلة من الدار، فتكون فائدة، وإنما هي بعضها؛ فذلك كمن اشترى سلعتين للتجارة فباع إحداهما بمائة دينار بعد الحول، ثم باع بعد ذلك الأخرى بمائة أخرى، فقول أصبغ تفسير لقول ابن القاسم وتتميم له.
[له على رجل مائة دينار فدخل عليها الحول]
مسألة وسئل: عن رجل له على رجل مائة دينار، فدخل عليها الحول، ولرجل آخر على صاحب المائة مائة دينار - وقد حال عليها الحول، فأحاله على الذي له عليه المائة، أعلى المحيل بها فيها زكاة؟ قال: نعم، يزكيها.
قال أصبغ: لأنه كقبضها لو قبضها من صاحبها، قيل لابن القاسم أفعلى المحتال فيها زكاة؟ قال: نعم.
قال أصبغ: لأنه كقبضه إياها من صاحبها، وهو دين قد حال؛ ولا يبالي إذا قبضها ممن قبضها، وهو أقوى من الآخر، وأبين في الزكاة - وإن لم يكن عند واحد منهما وفاء فيها.(2/414)
قال محمد بن رشد: قوله: وإن لم يكن عند واحد منهما وفاء بها، مطروح في بعض الروايات، وطرحه صواب؛ لأنه خطأ من أجل أن المحيل له مائة، وعليه مائة فلا زكاة عليه في المائة التي له قبضها من التي عليه، أو أحال بها عليه الذي له عليه المائة، إلا أن يكون له وفاء بالمائة التي عليه؛ وأما المحتال، فالمائة التي استحال بها دين له على المحيل يجب عليه زكاته إذا قبضه منه، أومن المحال عليه؛ ولا يشترط أن يكون له وفاء بها، إذ ليست بدين عليه، وإنما هي دين له؛ ويجب على المحيل زكاة المائة التي له - إذا أحال بها بنفس الإحالة - وإن لم يقبضها المحتال بها؛ لأن المائة التي عليه تسقط عنه بنفس الإحالة، فيصير قابضا لها؛ فكأنه بذلك قد قبضها من الذي كانت له عليه.
وتأول ابن لبابة على أصبغ أن الزكاة لا تجب عليه بنفس الإحالة حتى يقبضها المحتال بها، لقوله: لأنه كقبضها لو قبضها من صاحبها؛ فحمله على الخلاف؛ لقول ابن القاسم وهو تأويل فاسد، إذ لا وجه لمراعاة قبض المحتال فيما يجب على المحيل من الزكاة، وإنما يراعى قبضه فيما يجب عليه هو في خاصة نفسه؛ ومعنى قول أصبغ: لأنه كقبضها، يريد؛ لأن الإحالة كقبضها لو قبضها من صاحبها؛ لأنه يصير بها قابضا من نفسه، وهذا كله بين.
قال محمد بن المواز: وعلى المحتال عليه زكاتها أيضا - إن حال عليها الحول عنده من يوم تسلفها، أو صارت عليه - إن كان له وفاء بها وهو صحيح، فيجب على المحيل زكاة المائة بنفس الإحالة - إن كان له بها وفاء، ويجب على المحال زكاة المائة إذا قبضها، لا بنفس الإحالة على كل حال، إذ لا دين عليه، ولو كان للمحال عليه على المحال مائة قد حال عليها الحول أيضا، فقاصه بها، لوجب على كل واحد منهم زكاتها للمحيل بنفس الإحالة، والمحال عليه بالمقاصة إن كان لكل واحد منهم وفاء بها؛ لأن كل واحد منهم له مائة وعليه مائة، فوجب(2/415)
أن يزكي المائة التي له إذا قبضها، أو صارت إليه بحوالة، أو مقاصة - وله وفاء بالمائة التي عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: بعث بعشرة دنانير إلى مكة ليشترى له بها كسوة لعياله فحلت زكاته]
مسألة وسئل: عن رجل بعث بعشرة دنانير إلى مكة ليشترى له بها كسوة لعياله، فحلت زكاته وحل حولها - قبل أن يشترى بها؛ أعليه زكاتها؟ قال: نعم يزكيها.
قال أصبغ: وذلك إذا لم يكن أشهد عليها لمن أمر أن يشتري له بها، فإن أشهد، خرجت من ماله؛ لأنه لو مات قبل رجوعها، كانت ثابتة لمن أشهد له، فلا زكاة فيها؛ قال: وسألناه عن رجل حال الحول على ماشيته، فلم يأته الساعي فعزل لعياله ضحايا وقسمها، ونحو هذا، ثم جاءه الساعي يوم النحر قبل الذبح؛ قال: إن كان أشهد عليها، فلا زكاة عليه فيها، وإن كان لم يشهد ففيها الزكاة، أنظر أبدا ما كان لو مات كانت ثابتة لمن جعلها له، فلا زكاة عليه فيها، وكل ما لو مات لم يكن لمن جعلها له فهي مال من ماله، فيها الزكاة.
قال أصبغ: فالأول مثل هذا - وهما سواء وقال أبو زيد: عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: وجه تفرقة ابن القاسم بين المسألتين ظاهر، وقوله في المسألة الأولى أصح من قول أصبغ؛ لأن تفرقة زكاة العين إلى صاحبه فهو مصدق فيما (يذكره مما) يسقط عنه الزكاة فيها؛ لأنها موكولة إلى أمانته؛ فإن قال: إن الدنانير التي بعث بها ليشتري بها كسوة لعياله كان قد بتلها(2/416)
لها، لم يكن عليه فيها زكاة: أشهد، أو لم يشهد؛ لأن ذلك فيما بينه وبين الله.
وإن قال: إنه لم ينو تبتيلها وجبت عليه زكاتها؛ لأنها باقية على ملكه - وإن بعث بها ليشتري بها ثوبا لامرأته؛ لأن ذلك -من ناحية العدة، فله أن يرجع فيها ما لم يوجبها على نفسه بالإشهاد، وأما مسألة الغنم، فللساعي ألا يصدقه فيما يدعيه فيها مما يسقط زكاتها الواجبة عليه فيها، لحلول الحول، وقد اختلف إذا ادعى بعد الحول أنه كان تصدق بها قبل الحول على ما في أول سماع ابن القاسم من كتاب زكاة الماشية.
[يتسلف مالا فيشتري به سلعة وذلك قبل حلول حوله بشهرين]
مسائل نوازل سئل عنها أصبغ
قيل لأصبغ: ما تقول في الرجل يتسلف مالا فيشتري به سلعة، وذلك قبل حلول حوله بشهرين أو ما أشبهه، أو لا يشتري به سلعة فيحول عليه الحول؛ أيزكيه - إن كان ناضا، أو (يقوم) ما اشترى به من السلع، فيزكيها مع ما يزكي من ماله؟ قال أصبغ: هو كسائر ماله - إن كان له وفاء بدينه زكاه مع ماله إذا خلطه بماله، وجرت فيه التجارة قبل الحول؛ زكاه عند الحول - إن كان له وفاء غيره - إذا لم يدر، فإن كان يدير قوم عرضه مع ماله - إن كان له وفاء أيضا بدينه - وإن اشترى به، ولم ينض عند الحول.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مخالفة لأصولهم؛ لأن الذي تسلف كالفائدة، فلا زكاة عليه فيه حتى يحول عليه الحول من يوم تسلف وله به وفاء؛ ولا اختلاف بينهم في هذا، وإنما اختلفوا إذا حال عليه الحول، وله به وفاء لم يحل عليه الحول؛ هل يزكيه الآن، أو حتى يحول الحول على الوفاء الذي له به على ما مضى من الاختلاف في ذلك في رسم "استأذن" وغيره من سماع عيسى، وكأنه(2/417)
تأول أنه لما تسلف السلف على ما بيده، كان كأنه منه، وذلك فاسد؛ وقد تأول بعض الناس أن الشراء هو الذي كان قبل حلول حوله بشهرين، أو ما أشبه ذلك وأن السلف قد كان من أول الحول، وهو تأويل بعيد لا تستقيم به المسألة، لقوله: زكاه مع ماله إذا خلطه بماله وجرت فيه التجارة قبل الحول، إذ لو كان السلف من أول الحول لوجبت عليه فيه الزكاة بحلول الحول إذا كان له به وفاء خلطه بماله وجرت فيه التجارة أو لم يخلطه به ولا جرت فيه التجارة.
[مسألة: المقارض يعمل بالمال وله مال لا تجب فيه الزكاة]
مسألة قيل لأصبغ: أرأيت المقارض يعمل بالمال سنة فيفاصل صاحبه ويقبض حصته من الربح - وله مال لا تجب فيه الزكاة، وقد حال عليه الحول، إلا أنه إذا جمع إلى ما ربح في القراض صار به ما يجب في مثله الزكاة، هل يضمه إلى ربح هذا القراض، فيزكيه معه؟ قال: لا يكون له أن يضمه إلى فائدة إن كانت عنده لم يجب فيها شيء، ولهذه يستدل على المساقي يصير في حصته من التمر وسقان، ويجد من نخله ثلاثة أوسق، أن عليه أن يزكي ما صار له، فهذه وتلك سواء على العامل أن يزكي ما صار له واجب، فلما كان ذلك عليه لم يضف إلى غيره، وكان هذا بزكاته وسنته، وهذا بزكاته وسنته.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة لأصبغ في نوازله من كتاب القراض أيضا بزيادة ألفاظ فيها بيان، ومراده في الموضعين أن المقارض لا يضم ما له من مال قد حال عليه الحول ولا يبلغ ما تجب فيه الزكاة ـ إلى ما ربح في القراض فيزكيه مكانه - إن كان يبلغ بإضافته إليه ما تجب فيه الزكاة - وإن كان قد زكى الربح، ولكنه يضيفه إليه ويستقبل به حولا، كما أن المساقي إذا(2/418)
صار له من التمر في حصته وسقان، وجد من نخل له ثلاثة أوسق، لا يضيف الثلاثة الأوسق إلى الوسقين فيزكيها، وإنما يزكي الوسقين خاصة - إذا كان لصاحب الحائط ما إذا أضافه إلى الوسقين وجبت فيه الزكاة؛ وهذا ما لا أعلم فيه نص خلاف؛ لأن الربح إنما يزكيه العامل في القراض على ملك رب المال، وكذلك حظه من تمر الحائط في المساقاة، إنما يزكيه على ملك رب الحائط؛ ألا ترى أنه يزكي حظه من الربح، وحظه من تمر المساقاة - وإن كان لا يبلغ ذلك ما تجب فيه الزكاة؛ فوجب ألا يضيف إلى ذلك ما يزكيه على ملكه، وأن يكون يفرق هذا على سنته، وهذا على سنته؛ وقوله: فهذه وتلك سواء على العامل أن يزكي ما صار له واجب، أي عليه أن يزكي ما صار له من الثمن في المساقاة بإضافته إلى ما صار لصاحب الحائط، فلما كان عليه أن يزكي ذلك، وإن كان لا يبلغ ما تجب فيه الزكاة، لم يضف إلى ذلك الثلاثة الأوسق، ولا كان عليه فيها زكاة، وكان هذا على سنته، وهذا على سنته.
[مسألة: أعتق من زكاة ماله عن المسلمين رقبة لا تجوز في الرقاب أعليه بدلها]
مسألة قيل لأصبغ: فلو أعتق رجل من زكاة ماله عن المسلمين رقبة لا تجوز في الرقاب، أعليه بدلها؟ قال: نعم عليه بدلها من أجل أن الإمام لو كان هو المعتق، لم يكن ليعتق عن المسلمين كافرا ولا ذميا؛ وإنما يعتق عنهم من يستعاض بولائه من ثمنه، ويكون رغبة وثروة وزيادة؛ قيل له: فلو اشترى مدبرا أو مكاتبا فأعتقه، أيجزئ أم لا - وهو الآن لا يرده إلى ما كان عليه، وقد بطل ما كان فيه وصار عتيقا، وصار ولاؤه للمسلمين؟ قال أصبغ: أما قول مالك الأول حين كان يقول: يرد ذلك ولا يجوز، فهو لا يجزئه، وأما قوله الذي رجع إليه حين قال ذلك جائز، ويمضي العتق، فهو يجزئه؛ لأن ذلك العيب الذي كان(2/419)
يكره قد زايله وخرج منه، ولكن أحب إلي أن لو أبدله من غير وجوب.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: أنه لا يجوز للرجل أن يعتق من زكاته إلا رقبة تجوز في الرقاب؛ لأن اللفظ في ذلك سواء في القرآن، ولا يجوز للرجل أن يعتق في شيء من ذلك مكاتبه ولا مدبره ولا أم ولده؛ فأما إن اشترى مكاتبا أو مدبرا لغيره، فأعتقه؛ فذلك جار على ما ذكر من اختلاف قول مالك، وسواء عندي اشتراه - وهو يظنه عبدا، فدلس له بذلك البائع، أو اشتراه وهو يعلم أنه مكاتب أو مدبر، يدخل في ذلك الاختلاف المذكور إذا اشتراه من زكاة ماله فأعتقه، وأما إذا اشتراه في رقبة واجبة عليه فأعتقه، فإن كان عالما فلا ينبغي أن يجزيه؛ لأن ذلك بمنزلة شرائه إياه بشرط العتق، وإن كان لم يعلم، وإنما دلس له بذلك البائع، جرى ذلك على الاختلاف المذكور، يبين ذلك ما وقع من الاختلاف في ذلك في سماع أصبغ من كتاب الوصايا، ومن كتاب العتق، فقف على ذلك وتدبره؛ وما وقع في رسم "صلى نهارا ثلاث ركعات" من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات من إجازة شراء المدبر ابتداء في الزكاة، يحتمل أن يكون معناه أن المدبر كان بيع في موضع يجوز بيعه (فيه) - والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: له دار فباع الطعام كله بثلاثين دينارا أكان يضع عنه ذلك الزكاة]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عن رجل ابتاع طعاما بمائة(2/420)
دينار وحمله إلى بلد بثلاثين دينارا، فلزمه الكراء فباع (منه) بثلاثين دينارا للكراء، وحبس ما بقي؛ قال: عليه أن يزكي تلك الثلاثين دينارا، وأن ما باع من الطعام بمنزلة أن لو كان له دار، فباع الطعام كله بثلاثين دينارا في دين عليه لكراء أو غيره؛ أكان يضع عنه ذلك الزكاة؟ فأرى الزكاة عليه؛ لأن ما بقي من طعامه فيه وفاء لدينه، بمنزلة الدار؛ فإذا باع الطعام، لم يكن عليه زكاة في الثلاثين دينارا التي كانت عرضا لديه؛ وما باع به أكثر من ذلك، زكاه مع الثلاثين التي زكاها أولا التي قضى - وإن كان الذي يفضل عن الثلاثين أقل مما فيه الزكاة؛ لأنها من الأولى.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يزكي الثلاثين دينارا التي باع للكراء، ويجعل الدين الذي عليه للكراء فيما بقي من الطعام، صحيح؛ لا خلاف فيه؛ لأن الطعام قد حال عليه الحول، فلا يدخل في ذلك من الخلاف ما يدخل في الذي عليه مائة دينار (دين، وله) مائتان حل حول إحداهما، ولم يحل حول الأخرى؛ ولا يكون له أن يجعل الدين الذي كان عليه للكراء فيما باع من الطعام، فلا يزكيه كما يكون له أن يجعل المائة التي عليه في المائة التي حال حولها، فلا يزكيها على الصحيح من القولين في ذلك؛ وأما قوله: فإذا باع الطعام لم تكن عليه الزكاة في الثلاثين دينارا التي كانت عوضا لدينه، فيتخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: هذه أنه لا يزكي الثلاثين دينارا التي كانت وفاء للدين الذي كان للكراء عليه، حتى يحول الحول عليها من يوم سقط دين الكراء(2/421)
عنها؛ وهذا يأتي على ما في رسم "استأذن" من سماع عيسى في الذي يفيد فائدة، وعليه دين يستغرق ما بيده، (أنه لا يزكي ما بيده) حتى يحول الحول على الفائدة من يوم أفادها؛ وعلى ما في المدونة لمالك فيمن كان بيده مال وعليه دين مثله، فوهب له بعد أن حال الحول على ما بيده، أنه لا زكاة عليه فيها بيده حتى يحول عليه الحول من يوم سقط الدين عنه، والقول الثاني: أنه يزكي جميع ثمن ما بقي من الطعام بعد ما باع منه الدين ساعة بيعه قرب ذلك أو بعد، لسقوط الدين عنه، وهذا يأتي على قول غير ابن القاسم في المدونة، وعلى ما يلزم ابن القاسم على أصله في مسألة رسم "العرية" من زكاة المائة الثانية إذا حل عليها الحول، وجعله الدين في المائة التي كان زكاها، وهذا تفسير معنى قول ابن أبي زيد في النوادر عقب هذه المسألة، وهذا على قول من قال في المائتين حولهما مختلف، وعليه مائة يزكي مائة واحدة؛ ولو كان له عروض سوى الطعام تفي بالثلاثين دينارا، لزكى جميع ثمن الطعام قولا واحدا، ولو كان مديرا لقوم جميع الطعام إذا حال عليه الحول، فأسقط منه الثلاثين التي عليه للكراء، وزكى الباقي - إن لم يبعه، ولم يكن في ذلك كلام، ولا اختلاف؛ فهذه المسألة يفترق فيها حكم المدير من غير المدير؛ لأن غير المدير يزكي الثلاثين مرتين على ما ذكرناه من أحد القولين، وأما مسألة رسم "العرية" من سماع عيسى، فمن قال: إن حكم المدير يختلف فيها من غير المدير فقد أخطأ - وبالله التوفيق.
[مسألة: أخرج زكاة ماله فسقطت منه ثم وجدها وقد أعدم وعليه دين]
مسألة وقال: في رجل أخرج زكاة ماله، فسقطت منه، ثم وجدها وقد أعدم وعليه دين؛ قال: لا يكون لأهل الدين فيها شيء.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال أنه ليس لأهل الدين فيها شيء،(2/422)
لأنها للمساكين؛ إلا أن يكون قد أداها إليهم لما تلفت، فتكون إذا وجدها لأهل دينه - وبالله التوفيق.
[يدير بعض ماله ولا يدير بعضه كيف يزكيه]
من مسائل سئل عنها عيسى بن دينار قال عيسى بن دينار في الذي يدير بعض ماله، ولا يدير بعضه، ولكن يشتري به السلعة فتربص بها النفاق، ولا يشتري به شيئا، وقد أخرج من ماله صدرا سواه يديره، قال: إن كان الذي يدير هو الأقل، والآخر الأكثر، فليزك الذي يدير على الإدارة، والآخر على غير الإدارة؛ وإن كان الذي يدير هو الأكثر والآخر الأقل، فليزكه كله على الإدارة؛ وسئل أصبغ، فقيل له: الرجل يدير صدرا من ماله النصف أو الثلثين، وسائر ماله بحاله لا يحركه، أو لعله أن يشتري به الأنواع من التجارة، يرتصد بها الأسواق في أيامها، أو يكون له المال فيسلف رجلا نصفه، ويتجر بنصفه على حال الإدارة؛ فيقيم الدين على حاله، هل يزكيه كله زكاة الإدارة؟ قال أصبغ: إن كان حين شغل ما شغل للإدارة، إنما (أبقى) الباقي عنده لمثل ذلك إن رأى ذلك، فليزكه زكاة الإدارة، وإن كان حين شغل ما شغل على عزم أن الباقي لا يدخله في الإدارة أبدا ولا حاجة له بذلك، ولا نواه، فليزك الذي شغل على الإدارة والآخر على سنته.
قال محمد بن رشد: في الواضحة لمطرف وابن الماجشون: إن المالين كانا متناصفين، زكي كل مال منهما على جهته، وإن كان أحدهما أكثر فللأقل(2/423)
حكم الأكثر، وقد تأول ابن لبابة ما في المدونة على أنهما يزكيان جميعا على الإدارة - كان الذي يدار هو الأقل أو الأكثر، وهو ظاهر ما مضى في سماع أصبغ قبل هذا؛ فهذه أربعة أقوال، والقياس أن يزكي كل مال على سنته، كانا متناصفين أو أحدهما تبعا لصاحبه؛ لأن الأصل في عروض التجارة ألا زكاة فيها حتى تباع، إذ لا زكاة إلا في الحرث، والعين، والماشية، فلما كان الذي يدير ماله، لا يقدر على أن يحفظ أحواله، أمر أن يجعل لنفسه شهرا من السنة، فيقوم فيه ما عنده من العروض ويضيفه إلى ما بيده من المال، فيزكي جميع ذلك؛ فإذا كان للرجل مالان يدير أحدهما ولا يدير الآخر، وجب أن يزكي الذي لا يدير على سنة التجارة، لكونه قادرا على حفظ أحواله، والذي يدير على سنة الإدارة، لكونه غير قادر على حفظ أحواله، وقول عيسى بن دينار إنه إذا كان الذي يدير هو الأكثر، زكاه كله على الإدارة، استحسان واحتياط للمساكين على غير قياس؛ لأنه إذا زكى (ما لا يدار - وإن قل - على سنة الإدارة، فجعل مخرجا لزكاة العرض قبل بيعه، ولزكاة الدين قبل قبضه، وقد قال ابن القاسم في المدونة: أما من فعل ذلك لم يجزه، وكان كمن أدى زكاة ماله قبل أن يحول عليه الحول، وظاهر معنى المدونة وسماع أصبغ من أنه يزكي) المالين جميعا على الإدارة - وإن كان الذي يدار هو الأقل - إغراق في الاستحسان، وقول أصبغ قريب منه في الاستحسان؛ لأنه يزكيهما جميعا في مذهبه على الإدارة - وإن كان الذي يدار هو الأقل، إلا أن يكون ما أبقى منه ولم يدخله في الإدارة، أبقاه على عزم أنه لا يدخله في الإدارة، وأما قول مطرف وابن الماجشون: إن الأقل تبع الأكثر، فهو كلام خرج على غير تدبير ولا تحصيل، إذ لا يستقيم أن يزكي ما يدار على غير الإدارة، كما يستقيم أن يزكي ما لا يدار على الإدارة؛ لأن الذي يدير يبيع ويشتري، وغير المدير يزكي - إذا باع، إلا أن يكون معناه في الذي(2/424)
يبيع العروض بالعروض، ولا ينض له ما تجب فيه الزكاة؛ وفي قول عيسى بن دينار لفظ فيه نظر، وهو قوله أولا يشتري به شيئا؛ لأن العين ما لم يشتري به شيئا، فحكمه حكم المدار في أنه تجب زكاته في كل عام؛ ومثله قول أصبغ وسائر ماله بحاله لا يحركه، فتدبر ذلك، وقف عليه، وبالله التوفيق.
* * *(2/425)
[كتاب زكاة الماشية] [تصدق على ابن له بغنم فحازها هل يضمها إلى غنمه في الزكاة]
من سماع ابن القاسم من كتاب أوله شك في طوافه
وسئل عن رجل تصدق على ابن له بغنم فحازها له ووسمها وجعلها في غنمه، فهي إن ضمها مع غنمه كان فيها شاتان، وإن أفردها لم يكن فيها إلا شاة واحدة، أترى أن يضمها مع غنمه؟ قال: لا أرى أن يضمها معها؛ قال: قلت: أرأيت لو ضمها - وقال للمصدق إذا جاءه: ليس لي منها إلا كذا وكذا، وسائرها تصدقت به على ولدي؛ أفترى للساعي أن يقبل قوله ويصدقه، قال: نعم، يصدقه إذا كانت على صدقته بينة.
قال سحنون: لم يصدقه إذا قال(2/427)
إن كانت على صدقته بينة - ولم يكن في كتابه، وإنما هو في رواية عيسى.
قال محمد بن رشد: معنى قوله: يصدقه إذا كانت على صدقته بينة، أنه يصدق على تعيين الغنم المتصدق بها - إذا شهدت له بينة على الصدقة، ولم تعينها، وظاهر قول سحنون أنه مصدق، وإن لم تكن له بينة أصلا، وهو استحسان في الزكاة على غير قياس في الحقوق؛ لأنه قد أقر أن الغنم كانت له وادعى من صدقته بها على ابنه ما يسقط عنه الزكاة في غنمه، واختلف في تصديقه: فقيل بيمين، وقيل بغير يمين، وقيل: إن كان متهما أحلف، وإلا لم يحلف، وقد تؤول أن ذلك ليس باختلاف، وأن القول الثالث يبين القولين الأولين، فيرجع الأمر إلى ألا يحلف إلا المتهم، وهذا التأويل صحيح فيمن ظهر له مال - وادعى ما يسقط الزكاة عنه فيه؛ وأما من لم يظهر له مال - وادعى عليه الساعي أنه غيب ماله، فإن كان ممن لا يتهم، لم يحلف باتفاق؛ وإن كان ممن يتهم، فقيل: إنه يحلف، وقيل: إنه لا يحلف - وهي رواية ابن أبي أويس عن مالك؛ والدليل على وجوب تحليف من اتهم في زكاته - وإن كانت الزكاة من حقوق الله التي تعد عبادة؛ ما روي «عن ابن عباس في قَوْله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] .
قال: كانت المرأة - إذا أتت النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لتسلم، حلفها بالله عز وجل ما خرجت من بغض زوجها؛ وبالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت، إلا حبا لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(2/428)
وسلم-» .
ولو ادعى أنه تصدق بها على ابنه بعد أن حال عليها الحول قبل أن يأتيه الساعي، كان للساعي ألا يصدقه، ويأخذ منه الزكاة، إلا أن يقيم على ذلك بينة على ما في سماع أصبغ قولا واحدا.
[مسألة: الأسنان المحدودة للأخذ في الزكوات]
مسألة قال مالك: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث رجلا مصدقا، فأتى إلى رجل، فإذا عليه بنت مخاض، فقال: والله ما كنت أول من أعطى ما لا يحلب ولا يركب، فأعطى كبيرة، فأبى أن يأخذها، وقال لم أؤمر بذلك، فأقبل الرجل مع الذي بعثه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فذكر للنبي الذي عرض عليه، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأخذها منه، قال: ودعا له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالبركة في إبله؛ قال: فنمت وكثرت» قال: فإنه ليعرف فيها دعوة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى اليوم.
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث أن الأسنان المحدودة للأخذ في الزكوات، ليست بحد لا يزاد عليه ولا ينقص منه، كعدد ركعات الصلوات؛ وإنما هي حد في أن لا يؤخذ من أحد فوقها إلا برضاه، وهذا ما لا خلاف فيه - وبالله التوفيق.
[مسألة: لا يرد عليه الساعي لبعده من موضع مياه الناس]
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته
قال: وسئل عمن لا يرد عليه الساعي لبعده من موضع مياه الناس التي يجمعون عليها مواشيهم للسعاة، فهم لا يجلبون على(2/429)
الساعي، والساعي لا يأتيهم؛ قال: أرى عليهم أن يجلبوا إلى المدينة ما عليهم من الزكاة، فقيل له: إنها ضعاف، ويخاف عليها أن تنكسر، وليس مثلها يجلب؛ وإن انكسر منها شيء، تكلفت مرة أخرى؛ قال: لابد من جلبها، أو يصطلحون على قيمتها؛ قلت: أرأيت إن جلبوها، فقال الساعي: ليس فيها وفاء؛ قال: لا ينظر إلى قوله، وينظر في ذلك؛ فإن كان ما جلبت فيها وفاء، وهي مما تجوز في الصدقات، أخذت منك، قال: إنه يعتل علي ويقول: إن السن قد يكون واحدا، وبينهما في القيمة دنانير.
قال: إذا جلبت ما يجوز في الصدقة - وفيه وفاء قبل منك، ولم ير بالقيمة في مثل هذا أن يشتري صدقته بقيمتها بأسا.
قال محمد بن رشد: إنما وجب عليهم أن يجلبوا إلى المدينة ما عليهم من الزكاة، لبعدهم بمواشيهم عن موضع مياه الناس التي يجتمعون عليها بمواشيهم إلى حيث لا تمر إليه السعاة؛ لأن السنة أن يخرج السعاة إلى حيث يجتمع الناس بمواشيهم على مياههم، ولا يلزمهم أن يتبعوا من بعد بماشيته، كما لا يلزم صاحب الماشية، أن يسوق صدقته إلى الساعي - وهو جالس ببلده؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، فوجب بظاهر قوله عز وجل أن تؤخذ الزكاة من المال، حيث هو إلا أن يبعد به، فيجب عليه أن يسوق زكاته إلى السعاة، أو يصطلح معهم على القيمة - كما قال، وخفف أخذ القيمة في ذلك، لما يخاف من انكسارها في جلبها؛ لأن إعطاء القيمة فيها شراء منه لها، ومالك يكره للرجل شراء صدقته - اتباعا لابن عمر في كراهية ذلك؛ ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه.
» وقد روي إجازة ذلك عن عمر بن الخطاب،(2/430)
وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وجماعة من السلف.
والوجه في إجازة ذلك، قصر الحديث على صدقة التطوع؛ لأنه خرج عليه، وذلك «أن عمر بن الخطاب كان حمل على فرس في سبيل الله، أراد أن يبتاعه من الذي كان عنده برخص، إذ كان قد أضاعه، فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال له: لا تشتره - وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته، كالكلب يعود في قيئه» .
وأيضا فإن الصدقة التي أعطى فيها القيمة، لم تتعين بعد للمساكين، ولا وصلت إليهم، فاشتراها منهم؛ وإنما اشتراها من الناظر لهم فيها، فهذا وجه تخفيف ذلك - والله أعلم.
[مسألة: الساعي يأخذ من قوم ظلما هل لهم أن يحسبوا في صدقاتهم]
مسألة قال: وسئل مالك عن الساعي يخرج - قبل إبان خروجه، فيأخذ من قوم ظلما، أترى أن يحسبوا في صدقاتهم؟ قال: لا - وهو ظلم ظلموا به، وعليهم الصدقة إذا حل الحول.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، وفي رسم "الجواب" من سماع عيسى؛ وقد روى ابن وهب وابن أبي أويس عن مالك مثله، ورويا عنه أيضا أنه قال: تجزئه، وتلا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42] ؛ والقول الأول هو القياس؛ لأن الزكاة لا تجب إلا بمرور الحول، فإذا أخذها قبل الحول فهي مظلمة لا تسقط الزكاة الواجبة عليه بمرور الحول، وقد روى زياد، وابن نافع، عن مالك أنه سئل عن رجل أخذت منه زكاة مال لم تجب فيه الزكاة، أيجوز أن يجعله زكاة مال قد وجبت فيه الزكاة؟ قال: لا أرى ذلك، وهذا مثل الذي تؤخذ منه الزكاة قبل الحول، ووجه القول الثاني مراعاة قول من يقول: إن الزكاة تجب في المال ساعة يستفاد قبل أن يحول عليه الحول) ولو أخذت منه زكاة زرع لم يبد صلاحه، لوجب ألا يجزئه باتفاق؛ إذ لا خلاف في أن الزرع لا تجب زكاته حتى يبدو صلاحه، وقد روى زياد، وابن نافع، عن(2/431)
مالك أن من أخذت منه زكاة زرعه قبل حصاده - والزرع قائم في سنبله، فإن ذلك تجزئ عنه - إذا لم يتطوع بها من نفسه، ومعنى ذلك - والله أعلم - إذا أخذها منه بعد أن أفرك قبل أن ييبس في المكان المختلف في وجوب الزكاة فيه - وبالله التوفيق.
[السعاة ينزلون بالرجل الموسر فيبيتون عنده ومن شأنه أن يصدق أهل تلك القرية]
ومن كتاب طلق ابن حبيب وسئل مالك: عن السعاة ينزلون بالرجل الموسر، فيبيتون عنده - ومن شأنه أن يصدق أهل تلك القرية، وهو ممن يريد أن يصدق ماشيته معهم، فيضيفه ويذبح له، ولعله أن يستعير منه الدابة لبعض أصحابهم إلى قرية أخرى؛ قال: ما يعجبني ذلك، وإن فيه لوجها آخر خوفا من أن يرى (من) يقتدى به يفعل ذلك، ولعله أن يصح منه، فيقول قائل: قد كان فلان يفعل ذلك، فيجر ذلك إلى ما لا يحل ولا ينبغي، والدين مثل ذلك يستضيف الرجل أهل دينه، وأنا أكره ذلك؛ وقد كان بعض من أخبر عنه يكون عليه الدين، فإذا جاءوه أجازهم وهو لا يقضيهم دينهم، فهذا كله مكروه؛ قال ابن القاسم: حسبته ابن شهاب.
قال محمد بن رشد: الأصل فيما كره مالك للسعاة من هذا، ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل ابن اللتبية أحد الأزد - على صدقات بني سليم، فلما جاء وحاسبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي؛ فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا جلست في بيت أبيك وأمك - حتى تأتيك هديتك، إن كنت صادقا، ثم قام في الناس - خطيبا - فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما(2/432)
بعد؛ فإني استعمل الرجل منكم على العمل مما (ولاني) الله عز وجل، فيأتي فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي؛ أفلا جلس في بيت أبيه وأمه - حتى تأتيه هديته، والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه، إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته - إن كان بعيرا له رغاء؛ أو بقرة له خوار، أو شاة تيعر» - الحديث، فمبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الحديث وغيره، أن ما أعطي الساعي - بسبب سعايته - عليه حرام، فلا يحل له أن يستضيف من يسعى عليه، ولا يأكل له شيئا، وأما إذا نزل بالرجل الموسر الذي من عادته وشأنه أن يضيف كل من نزل به، فأضافه وذبح له، ورأى أنه لم يفعل ذلك به بسبب سعايته، وإنما فعله على عادته مع سواه، فذلك مما يكره له - مخافة أن يكون قد زاد في قراه على عادته بسبب سعايته؛ ولئلا يقتدي به غيره أيضا، فيكون ذلك ذريعة إلى استجازة ذلك ممن لا يصح منه ذلك الفعل؛ وكذلك هدية المديان جارية على هذا السبيل، لا يحل لمن عليه دين من بيع أو سلف، أن يهدي لمن له عليه الدين هدية، ولا أن يطعمه طعاما - رجاء أن يؤخره بدينه؛ ولا يحل لمن له عليه الدين أن يقبل ذلك منه - إذا علم ذلك من غرضه، وجائز لمن عليه الدين أن يفعل ذلك - إذا لم يقصد ذلك، ولا أراده وصحت نيته فيه، كما كان يفعل ابن شهاب؛ ويكره للذي له الدين أن يقبل ذلك منه، وأن يحقق صحة نيته في ذلك - إذا كان ممن يقتدى به، لئلا يكون ذريعة لاستجازة ذلك حيث لا يجوز؛ وهذا وجه رد عمر بن الخطاب هدية أبي بن كعب، إذ أسلفه فأهدى له هدية، إذ قد تحقق أن أبي بن كعب لم يهد له لمكان ما أسلفه ليوسع عليه في السلف، إذ ليس ممن يتهم في ذلك، وبالله التوفيق.(2/433)
[استضافة السعاة]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال مالك: لا أحب للسعاة أن ينزلوا بأحد فيستضيفونهم يأكلون طعامهم، ولكن يأكلون من أرزاقهم، قيل له: فيشرب الماء؟ قال: إن ذلك لخفيف.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أحب للسعاة إذا نزلوا، لفظ فيه تجاوز، والمراد به لا ينبغي ذلك ولا يجوز، وقوله: في شرب الماء: إنه خفيف، يدل على أن أكل الطعام ثقيل فهو يبين أن لفظة لا أحب ليست على ظاهرها، وقد تقدم في الرسم الذي قبل هذا ما يبين هذا، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[سوق الناس إلى المصدق]
ومن كتاب أوله كتب على رجل ذكر حق وسئل مالك: عن سوق الناس إلى المصدق، فقال: لم يزل الناس يجتمعون على مياههم؛ فأما أن يساق عليهم من المكان البعيد، فلا أرى ذلك أن يشق عليهم ولا يضيق عليهم في السوق.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم "حلف بطلاق امرأته" ما يبين معنى هذه المسألة - والله الموفق.
[مسألة: المصدق يمر بالماشية فيحصيها فيجدها لم تبلغ ما يجب فيه الزكاة]
مسألة وقال مالك في المصدق يمر بالماشية، فيحصيها فيجدها لم تبلغ ما يجب فيه الزكاة، فيرجع إليها بعد ذلك فيجدها قد بلغت بأولادها(2/434)
ما تجب فيه الصدقة؛ قال: لا ينبغي له أن يأخذ منها صدقة، ولا يأخذ منها شيئا؛ لأنه لا ينبغي للمصدق أن يرجع فيها، ولا يمر بها، ولا بما مر به من الماشية، ولا يمر على الماشية في العام الواحد إلا مرة واحدة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن حول الماشية إنما هو مرور الساعي بها بعد حلول الحول عليها، فلو كان يرجع إليها بعد أن مر بها في ذلك العام، لم يكن لذلك حد، ولا انضبط لها حول، وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه وبالله التوفيق.
[النصاب من المال ما هو]
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك من كتاب الوصايا الذي فيه الحج والزكاة قال سحنون: قال أشهب، وابن نافع: سئل مالك عن النصاب من المال ما هو؟ فقال: خمس من الإبل، أو ثلاثون من البقر، أو أربعون شاة من الغنم.
قال محمد بن رشد: وهذا - كما قال: إن النصاب من المال هو أقل ما تجب فيه الزكاة، وإنما سمي نصابا - والله أعلم - لأنه الغاية التي ليس فيما دونها زكاة، والعلم المنصوب لوجوب الزكاة، والحد المحدود لذلك؛ من قول الله عز وجل: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] ، أي إلى غاية أو علم منصوب لهم يسرعون، ويحتمل أن يكون سمي نصابا؛ لأن المال إذا بلغ هذا المقدار، وجب أن ينصب لأخذ الزكاة سعاة يبعثون لذلك، ويحتمل أن يكون مأخوذا من النصيب؛ لأن المساكين لا يستحقون في المال نصيبا فيما دون هذه المقادير، والله أعلم.(2/435)
[مسألة: حزرات أموال الناس هل توخذ في الزكاة]
مسألة وسألته عن قول عمر بن الخطاب: إياكم وحزرات الناس، ما الحزرات؟ قال: ضنائن الأموال في الصدقات من المواشي، والإبل، وغيرها، يقول: اتركوا الضنائن لا تأخذوها من أهلها تفتنونهم في ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا بين كما قال؛ لأن حزرات أموال) الناس، هي التي يحزر صاحب المال أنها خيار ماله.
[مسألة: زكاة سائمة الغنم إذا بلغت أربعين]
مسألة وسألته عن قول عمر بن الخطاب: وفي سائمة الغنم إذا بلغت أربعين فقال: هو مثل قول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] يقول فيه يرعون.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال في السائمة من الغنم وغيرها من المواشي - هي الراعية منها، ولا دليل في قوله: وفي سائمة الغنم الزكاة: على أنه لا زكاة في غير السائمة عند من يقول بدليل الخطاب؛ لأن المعنى في ذلك عندهم، أن الحديث خرج على سؤال سائل، هل في سائمة الغنم الزكاة؛ فقال: وفي سائمة الغنم الزكاة، فكان مقصورا على سببه، وانتفى بذلك أن يكون فيه دليل على أنه لا زكاة في المعلوفة، وبالله التوفيق.
[مسألة: عنده خمس ذود ستة أشهر فباع منها ثلاثة واشترى أخرى وحال عليه الحول]
مسألة وسألته: عمن كان عنده خمس ذود ستة أشهر من السنة، فباع(2/436)
منها ثلاثة ذود، فأقام بذلك شهرين آخرين، ثم ابتاع ثلاثة ذود - مكانها؛ فحال عليه الحول وعنده خمس ذود، وجاءه الساعي على ذلك، أترى عليه الصدقة، فقال: كانت خمسا فأقامت في يديه ستة أشهر، ثم باع منها ثلاثا أو أربعا، أو باعها كلها، ثم أقام شهرين، ثم ابتاع مكانها، وحال عليها الحول، وجاءه الساعي؛ فلا أرى في ذلك زكاة، فقيل له: أفلا ترى فيها زكاة؟ فقال: لا في رأيي، فقلت له: رأيتها فائدة شراء، قال: هو الذي سمعت.
قال محمد بن رشد: لم يقل في هذه المسألة إنه اشترى الثلاث ذود بالثمن الذي باع به الثلاث ذود الأولى، فإذا لم يشترها به، فلا اختلاف في أنها فائدة تضيف إليها الذودين وتستقبل بالجميع حولا، (وإنما) يختلف إذا اشترى الثانية بثمن الأولى، أو أخذها من ثمنها على ثلاثة أقوال، أحدها: أنها فائدة في الوجهين جميعا - وهو مذهب ابن القاسم، قال ابن المواز: وكذلك لو باعها ثم استقال منها، لكانت فائدة؛ لأن الإقالة بيع حادث.
والثاني: أنه يزكي الثانية على حول الأولى في الوجهين - وهو قول ابن الماجشون في كتاب ابن المواز. والثالث: أنه يزكي الثانية على حول الأولى - إذا أخذها من الذي باع منه بالثمن، ويستقبل بها حولا إذا اشتراها بالثمن من غيره؛ وهذا القول ظاهر ما حكاه ابن حبيب في الواضحة لمالك من رواية مطرف، وابن وهب، وعن أصحاب مالك إلا ابن القاسم؛ واختلف قول ابن القاسم إذا استهلكت له ماشية فأخذ في قيمتها ماشية من صنفها، فمرة جعل ذلك(2/437)
كالبيع تكون فائدة؛ ومرة قال: يزكيها على حول الأولى وهذا إذا كانت الغنم قائمة، لم تذهب أعيانها بما أحدثه الغاصب فيها؛ ولو ذهبت أعيانها، لاستقبل بها حولا كالبيع على مذهبه؛ ولو كانت الغنم قائمة، لم تفت بوجه من وجوه الفوت، لزكاها على حول الأولى كالمبادلة سواء، قاله بعض شيوخ القرويين، وهو بين صحيح - والله أعلم.
[مسألة: بعث السعاة في كل سنة]
مسألة قال: وسألته أترى أن يبعث السعاة في كل سنة لا يؤخرون في الجدب والخصب؟ قال: أما في السنة الجدبة، فلا أرى أن يبعث السعاة حتى يذهب الجدب، وأما في غير ذلك، فأرى أن يبعثوا في كل سنة ولا يؤخروا، وأما في السنة المجدبة الشديدة الجدب، فلا أرى ذلك حتى يحيا الناس ويذهب الجدب؛ قيل (له) : أيترك ذلك لهم يرتفقون بألبانهم؟ قال: (لا) ، ليس ذلك نظرا لهم، ولكن نظرا للمسلمين؛ لأن السعاة يأتون يومئذ إلى ما إن باعوه هنالك لم يوجد له ثمن، وإن جلب، لم ينجلب؛ وإن أعطاه إنسانا، لم يكن في ذلك ما ينفعه عجفا؛ فإنما ينظر في ذلك للمسلمين، ليس لأهل المواشي، قلت له: فإذا كانت السنة المقبلة، وأحيا الناس، أرسل السعاة فأخذوا منهم لعامين، فقال لي: نعم، وإنما يصدقون ما يجدون في أيديهم، قال لي: ولو أنهم أرسلوا اليوم السعاة، رأيت ذلك قد(2/438)
أمطر الناس، وأعشبت الأرض، وعاشت المواشي، وذلك في شهر بيع الأول - وكانوا في جدب، فكان ذلك في أول ما أمطروه، فنرى أن يرسل السعاة حينئذ.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما في سماع أصبغ عن ابن شهاب، أو مالك، أو عنهما - جميعا - أن الصدقة تؤخذ في الخصب والجدب، ولا يؤخذ أحدها ولا يضمونها، وليس في هذا سنة قائمة، ولا أثر يتبع؛ وإنما هو النظر والاجتهاد في تغليب أحد الضررين؛ فقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «إذا اجتمع ضرران بقي الأصغر للأكبر» ففي أخذ الصدقة في الجدب ضرر على المساكين، وفي تركها عند أرباب المواشي ضرر عليهم، ورواية أصبغ أظهر - والله أعلم.
[مسألة: تجارته المواشي يحول عليها الحول عنده]
مسألة قال: وسألته عمن تجارته المواشي يحول عليها الحول عنده، قال: إذا حال عليها الحول أخرج زكاتها - وإن لم يبعها، ليس المواشي مثل العروض، وإن باعها قبل أن يحول عليها الحول، وقد حال على ثمنها من يوم زكاه، زكى ثمنها يوم بيع.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة في بعض الروايات، وهو مثل ما في المدونة وغيرها، وإنما كانت المواشي بخلاف العروض؛ لأن زكاة الماشية في أعيانها، فهي أملك بها من زكاة التجارة في العروض - وبالله التوفيق.(2/439)
[الشنق من الإبل ما يؤخذ في صدقتها]
ومن كتاب الزكاة
قال: وسألته عن الشنق من الإبل، ما يؤخذ في صدقتها: أضأن أم معز؟ فقال لي: إن كان من أهل الضأن، أخذ منه الضأن، وإن كان من أهل المعز، أخذ منه المعز قلت له: أذلك فيمن يكون عنده، أم في اختلاف البلدان؟ فقال لي: بل في البلدان، أن النجد أهل الضأن، فلا يؤخذ منهم إلا الضأن، وهذه الناحية الأخرى أهل الشام أهل المعز، فلا يؤخذ منهم إلا المعز قال: فقلت له: وما الشنق؟ فقال لي: الشنق من الإبل ما لا يؤدى فيه إلا الغنم أربع وعشرون بعيرا فدون ذلك، فإذا كانت خمسة وعشرين، فليست بشنق.
قال محمد بن رشد: لمالك في كتاب ابن سحنون، أن ذلك يؤخذ مما تيسر على رب الإبل، ولا يكلف ما ليس عنده، وقال ابن حبيب: وإن كان من أهل الصنفين، أخذ المصدق من أيهما شاء، ورواية أشهب أشبه بظاهر الحديث؛ لأن لفظ الغنم في الحديث عموم، فيحمل على غنم البلد، كانت عنده أو عند غيره، ولا يقصر على ما عنده إلا بدليل، وما في كتاب ابن سحنون، وابن حبيب، تيسير على رب الإبل، إذ ليس في الحديث بيان برفع القدر، وشأن الزكاة التخفيف، وروي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «إذا خرصتم(2/440)
فخذوا ودعو الثلث، فإن لم تدعوا الثلث، فدعوا الربع» .
وكان محمد بن مسلمة لا يساق إليه شاة فيها وفاء من حقه إلا قبلها، ويأتي في سماع أبي زيد القول في الشنق.
[مسألة: قدما المدينة من البصرة بإبل لهما أيسألهما الساعي عن الصدقة]
مسألة قال: وسألته عن رجلين قدما المدينة من البصرة بإبل لهما، وأحدهما من بني أسد، والأخر من طيء، فسألهما صاحب الصدقة: هل صدقتما إبلكما هذه، وأين كنتما تصدقان؟ فقالا: أما مسكننا وأهلونا وذرارينا فبالبصرة، وأما صدقتنا - وأين كنا نصدق - فإنا والله ما أدينا صدقة قط لا ههنا ولا بالبصرة؛ ومازال هذا وجهنا نكري من البصرة إلى المدينة، أترى أن يصدقا بالمدينة؟ فقال: وما بالهما يصدقان بالمدينة - إن كانا أهل العراق، به إقامتهما وقرارهما وأهلوهما؛ إنما صدقتهما إلى العراق، وأوى أن يسأل أهل عمله عنهما؛ فإن كانا إنما كانت صدقتهما بالمدينة - وهما كاذبان فيما قالا، صدقهما - وإن كان مسكنهما بالعراق؛ وإنما كانا يصدقان بها؛ أو غيبت عنهما بأمر؛ فلا أرى أن يأخذ منهما الصدقة، وإنما صدقتهما بالعراق؛ إما أن تكون قد أخذت منهما بها الصدقة، وإما أن سوف تؤخذ منهما، إما صدقتهما بالعراق - إن كانا من أهلها وبها أهلوهما وقرارهما وأوطانهما.(2/441)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الشأن أن تؤخذ الصدقة من أغنياء كل موضع، فترد على فقرائهم، ولا ينقل عنهم إلى غيرهم، إلا أن يرى الإمام ذلك لحاجة نزلت ببعض البلاد، فلأمير كل إقليم قبض صدقات أهل إقليمه، دون من سواه من الأمراء، وقد سئل سحنون عن رجل له أربعون شاة في أربعة أقاليم، وفي كل إقليم أمير، عشرة بالأندلس، وعشرة بأفريقية، وعشرة بمصر، وعشرة بالعراق، قال: إن كان الولاة عدولا فليخبرهم بذلك، فيأخذ منه كل أمير ربع شاة يأتي بشاة يكون الإمام شريكا له بربعها، هكذا يفعل في كل إقليم، وإن أخذ منه كل أمير قيمة ربع شاة، أجزأه؛ وإن لم يكونوا عدولا، فليخرج هو ما يلزمه - كما أعلمتك، وكذلك إن كان له خمسة أوسق مفترقة - كما ذكرنا، فليعط كل أمير زكاته في بلده؛ وإن لم يكونوا عدولا، أخرج هو ما يلزمه عن جميع ذلك.
[مسألة: زكى غنما له فأقامت عنده ستة أشهر ثم اشترى بها إبلا]
مسألة وسئل عن رجل زكى غنما له، فأقامت عنده ستة أشهر، ثم اشترى بها إبلا؛ متى تجب الزكاة في الإبل، فقال: حتى يحول الحول عليها من يوم زكى الغنم الذي ابتاعها، فقال له: من يوم زكى الغنم؟ فقال: نعم في رأي.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما في المدونة، ومثل ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك وأصحابه إلا ابن القاسم؛ وجه قول ابن القاسم أن شراء الماشية بالماشية المخالفة لها، كشرائها بالدنانير والدراهم في وجوب استئناف الحول بها، ووجه القول الآخر، أن الدنانير إذا كانت تزكى على حول الماشية من أجل أن الماشية في عينها الزكاة، فأحرى أن تزكى الماشية على حول الماشية المخالفة لها؛ لأن الماشية إلى الماشية أقرب من الدنانير(2/442)
إلى الماشية، وأشبه بها، فلكلا القولين وجه، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن قياس المثمون على المثمون أولى من قياسه على الثمن - وبالله التوفيق.
[فضل معاوية وعدله]
ومن كتاب الحج والوصايا والزكاة
قال مالك: سمعت ربيعة يقول: قدم على معاوية رجل من أهل المدينة، فجعل يسأله عن أهل المدينة، ثم سأله عن أصحاب الصدقات، فأخبره، فقال له معاوية أتدري لم أسأل عن المصدقين؟ فقال الرجل: تسأل عن رعيتك وعما لك، فقال لا، إنما أسألك؛ لأن الأعراب قوم جفاة، إن لم يأتهم من يعلمهم ويعدل فيهم ويرفق بهم، هلكوا.
قال محمد بن رشد: ليس في هذا أكثر من فضل معاوية وعدله، ويكفي من الدليل على ذلك، أنه كان أميرا لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على الشام أربعة أعوام، ولعثمان بعده مدة خلافته - اثنتي عشرة سنة، واجتمع الناس عليه حين بايعه الحسن، فكان خليفة عشرين سنة، «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه - وكان يكتب له الوحي -: اللهم علم معاوية الكتاب، والحساب، وقه العذاب» وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: لرجل إبل فسيرها في سفر فحال عليها الحول وهي في سفرها]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب أوله استأذن سيده قال عيسى: وقال ابن القاسم: إذا كان لرجل إبل فسيرها في سفر، فحال عليها الحول - وهي في سفرها، فليس عليه صدقتها حتى تقدم، فإن ماتت فلا صدقة عليه فيها.(2/443)
قال محمد بن رشد: إنما لم تجب عليه صدقتها، من أجل أنه لا يدري ما حدث عليها من تلف أو عطب، ولا يلزمه أيضا أن يخرج زكاتها إلا منها - وهو لا يقدر على ذلك مع مغيبها عنه، وقوله: فإن ماتت فلا صدقة عليه فيها - يريد وإن علم أنها ماتت بعد حلول الحول عليها، إذ لم يفرط وليس عليه أن يخرج زكاتها إلا منها - وإن كانت زكاتها من غيرها.
[مسألة: النفر يكونون خلطاء بأربعين شاة فيأتي الساعي فيأخذ منها شاة]
مسألة وسئل: عن النفر يكونون خلطاء بأربعين شاة، يكونون أربعة نفر، لكل واحد منهم عشرة، عشرة، أو يكون لكل واحد منهم أكثر من ذلك، أو أقل، إلا أن عدد الغنم أربعون شاة، فيأتي الساعي فيأخذ منها شاة؛ قال: يترادونها على عدد ما لكل واحد منهم.
قلت: فلو أخذ منها شاتين، قال: إن كانت أخذت من غنم واحد، كانت الواحدة مظلمة وقعت عليه، ويترادون الشاة الواحدة بينهم على قدر غنمهم؛ وإن أخذ شاتين من غنم رجلين، كانت نصف شاة كل واحد منهما مظلمة وقعت عليه، ويترادون الواحدة بينهم إن كانت أربعين شاة؛ والنفر أربعة، لكل واحد منهم عشرة، عشرة، فإن أخذ شاتين من رجلين، كان نصف شاة كل واحد منهما مظلمة وقعت عليه، ورجعا على صاحبيهما بربعي شاة فاقتسماها.
قال محمد بن رشد: أما إذا أخذ منها شاة واحدة، فإنهم يترادونها على عدد غنمهم؛ فإن كانوا أربعة خلطاء لكل واحد منهم عشرة، فأخذ من أحدهم شاة قيمتها أربعة دراهم؛ رجع الذي أخذت الشاة من غنمه على كل واحد من خلطائه بدرهم، درهم، ولا كلام في هذا الوجه، وأما إن كان أخذ منها شاتين من غنم واحد، فقال: إن الشاة الواحدة تكون مظلمة ويترادون الشاة(2/444)
الأخرى بينهم، وهذا بين - إن كانت الشاتان مستويتين في القيمة؛ وأما إن لم يستويا في القيمة، فيكون نصف كل شاة منهما مظلمة، ويترادون النصفين الآخرين؛ مثال ذلك أن تكون قيمة إحدى الشاتين دينارين، وقيمة الثانية أربعة دنانير، فتكون المصيبة منه في نصفهما جميعا، وذلك ثلاثة دنانير، ويترادون الثلاثة الدنانير الأخرى بينهم؛ فيجب على كل واحد منهم منها ثلاثة أرباع دينار، فيرجع الذي أخذت الشاتان من غنمه على كل واحد من خلطائه بثلاثة أرباع دينار؛ وأما إذا أخذت الشاتان من غنم رجلين، فقال في هذه الرواية: إن نصف شاة كل واحد منهما مظلمة وقعت عليه، ويرجعان على صاحبيهما بربعي شاة فيقتسمانهما، وقال في سماع يحيى: إن قيمة الشاتين تجمعان ثم يكون نصف قيمتها على الأربعة، يقسم بينهم على مالهم من العدد في الغنم، وذلك اختلاف من القول يتبين بالتنزيل، مثال ذلك أن يأخذ من غنم أحدهما شاة قيمتها أربعة دراهم، ويأخذ من غنم الآخر شاة قيمتها درهمان، فيؤخذ على هذه الرواية من اللذين لم يؤخذ من غنمهما شيء ثلاثة أرباع درهم، فيدفع من ذلك درهم وربع درهم - إلى الذي أخذت منه الشاة التي قيمتها أربعة دراهم، ويدفع الربع درهم الباقي إلى الذي أخذت من غنمه الشاة التي قيمتها درهمان، ووجه العمل في ذلك، أن يقال للذي أخذت منه الشاة التي قيمتها أربعة دراهم: الدرهمان من الأربعة دراهم مظلمة لا رجوع لك فيها، وإنما يجب التراد في الدرهمين الباقيين؛ ويقال للذي أخذت منه الشاة التي قيمتها درهمان: الدرهم الواحد من الدرهمين مظلمة عليك، لا رجوع لك فيه، وإنما يجب التراد في الدرهم الباقي، فيجمع ما يجب فيه التراد، وذلك ثلاثة دراهم، فيقسم على جميعهم بالسواء، إن كان لكل واحد منهم عشرة، فيجب على كل واحد منهم من ذلك ثلاثة أرباع درهم؛ فيقال للذي أخذت الشاة من غنمه التي قيمتها أربعة دراهم: قد وجب عليك ثلاثة أرباع درهم في التراد، وأنت قد أديت مما(2/445)
يجب فيه التراد درهمين، فيبقى لك درهم وربع درهم؛ ويقال للذي أخذت من غنمه الشاة التي قيمتها درهمان: قد وجب عليك ثلاثة أرباع درهم في التراد، وأنت قد أديت مما يجب فيه التراد درهما واحدا، فبقي لك ربع درهم، فيؤخذ من الذين لم يؤخذ من غنمهما شيء ثلاثة أرباع درهم من كل واحد، فيدفع من ذلك درهم وربع للذي أخذت من غنمه الشاة التي قيمتها أربعة دراهم، ويدفع الربع درهم الباقي إلى الذي أخذ من غنمه الشاة التي قيمتها درهمان، فيعتدلون فيما وجب التراد بينهم؛ ويؤخذ على ما في سماع يحيى من اللذين لم يؤخذ من غنمهما شيء، ثلاثة أرباع درهم، ومن الذي أخذت من غنمه الشاة التي قيمتها: درهمان، ربع درهم، فيدفع جميع ذلك، وهو درهم وثلاثة أرباع درهم إلى الذي أخذت من غنمه الشاة التي قيمتها أربعة دراهم فيعتدلون فيما وجب فيه التراد بينهم؛ ووجه العمل في ذلك، أن تجمع قيمة الشاتين وذلك ستة دراهم فيكون النصف من ذلك، وهو ثلاثة دراهم مظلمة، درهم ونصف من كل واحد لا رجوع له به، والنصف الثاني وهو ثلاثة دراهم يجب التراد فيه، فيجب من ذلك على كل واحد منهم ثلاثة أرباع درهم، فيقال للذي أدى الشاة التي قيمتها أربعة دراهم، عليك من الأربعة دراهم درهم ونصف مظلمة، لا رجوع لك به على أحد، ويجب عليك مما يجب فيه التراد ثلاثة أرباع درهم (الباقي لك من حقك درهم وثلاثة أرباع درهم، ويقال للذي أدى الشاة التي قيمتها درهمان، عليك من الدرهمين درهم ونصف مظلمة، لا رجوع لك بهما على أحد، ويجب عليك مما يجب فيه التراد ثلاثة أرباع درهم) فيبقى عليك ربع درهم يؤخذ منه ويدفع إلى الذي أخذت منه الشاة التي قيمتها أربعة دراهم مع ما يؤخذ من الذين لم يؤخذ من غنمهما شيء، وذلك درهم ونصف ثلاثة أرباع من كل واحد، فيستوفي جميع حقه، ويعتدلون فيما يجب فيه التراجع بينهم - وبالله التوفيق.(2/446)
[مسألة: له أربعون شاة وللآخر ثلاثون فأخذت شاة من الأربعين أو من الثلاثين كيف الزكاة]
مسألة قلت: فلو كان لواحد أربعون شاة، وللآخر ثلاثون، فأخذت شاة من غنم صاحب الأربعين، أو من غنم صاحب الثلاثين؛ قال: إن أخذها من غنم صاحب الثلاثين، رجع فأخذها من غنم صاحب الأربعين، ولم يكن على صاحب الثلاثين شيء؛ وإن كان أخذها من غنم صاحب الأربعين، لم يكن على صاحب الثلاثين شيء؛ لأن الواحدة وجبت عليه، والأخرى مظلمة وقعت عليه؛ وإن كانتا أخذتا من غنم صاحب الثلاثين، رجع على صاحب الأربعين بالشاة التي كانت وجبت عليه في غنمه، وكانت الأخرى من صاحب الثلاثين؛ لأنها مظلمة وقعت عليه.
قال محمد بن رشد: قوله في الشاتين: أنهما إن أخذتا من غنم صاحب الثلاثين، رجع على صاحب الأربعين بالشاة الواحدة، وكانت الأخرى منه؛ لأنها مظلمة وقعت عليه - بين إن كانت الشاتان معتدلتين، وإن لم تكونا معتدلتين، فإنما يجب عليه أن يرجع بنصف قيمتها جميعا؛ ولو كانت إحداهما تحب في الزكاة، والأخرى لا تجوز فيها، أو لا تجب، لرجع عليه بقيمتها التي تجب في الزكاة؛ ولو كانتا جميعا مما لا يجوز في الزكاة، لم يكن له رجوع بشيء منهما، وبقيت الزكاة على صاحب الأربعين، وسائر المسألة صحيحة بينة على ما في المدونة وغيرها.
[مسألة: له عشرون ومائة وللآخر ثلاثون فأتى الساعي فأخذ شاة من غنم صاحب الثلاثين]
مسألة قلت: فلو كانت لواحدٍ عشرون ومائة، وللآخر ثلاثون، فأتى الساعي فأخذ شاة من غنم صاحب الثلاثين، قال: يرجع ويأخذها من (غنم) صاحب العشرين ومائة، وليس عليه شيء؛ قلت فإن(2/447)
أخذ الساعي شاتين من غنم صاحب الثلاثين أو من غنم صاحب العشرين ومائة، فقال لا تبالي، من غنم من أخذت منهما، يترادانهما بينهما على عدد غنمهما؛ لأن كل ما اختلف فيه الناس، فالأمر إذا وقع بينهم، حملوا على ما وقع عليه الأمر؛ لأن الناس قد قالوا: إنه إذا كان العدد ما يجب فيه الزكاة، أخذت منهما الزكاة، وهما الخليطان لا تبالي أكان في غنم كل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة، أو لم يكن، ففي خمسين ومائة على قولهم شاتان.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه إن أخذ الساعي منها شاتين، فالواحدة على صاحب العشرين ومائة؛ لأنها واجبة عليه، ويترادان الأخرى التي أخذت بسبب خلطتهما، وهو قول ابن وهب، وابن عبد الحكم؛ ويأتي على أصل مذهب مالك في أن الرجلين لا يكونان خليطين، حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الزكاة دون مراعاة قول من يراهما خليطين - وإن لم تبلغ ماشية كل واحد منهما ما تجب فيه الزكاة؛ لأنه قال: إن الشاة الواحدة تكون على صاحب العشرين ومائة؛ لأنها واجبة عليه، والشاة الثانية تكون بينهما على عدد غنمهما؛ لأنها إنما أخذت عنهما عداء على القول بأن من أغرم غرماء على متاع لغيره، أنه على صاحب المتاع وبالله التوفيق.
[زكاة الخليطين إذا كان الراعي واحدا]
ومن كتاب التفسير قلت لابن القاسم: ما قول مالك في الخليطين إذا كان الراعي واحدا، والفحل واحدا، والمراح واحدا، والدلو واحدا، فالرجلان خليطان، أرأيت إن افترقا في بعض هذا الذي وصفه مالك، أتراهما(2/448)
خليطين؟ قال: نعم؛ لأن مالكا قال في القوم يفترقون في المراح، والحلاب، فهم خلطاء؛ ولم يرد في الحديث ألا يفترقوا في شيء من هذا.
قال ابن القاسم: هم خلطاء إذا اجتمعوا في جله - وإن افترقوا في الوجه الواحد منه - كما فسر لي مالك، لا يكونون خلطاء إلا أن يجتمعوا في جل ذلك.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في بعض الروايات، وهي مثل ما في المدونة وغيرها، ولا اختلاف في ذلك في المذهب، والمخالف في هذا، الشافعي، فيقول: إنهما لا يكونان خليطين حتى يشتركا في المراح، والمسرح، والفحل، والدلو، ولا يراهما أيضا خليطين حتى يتخالطا من أول السنة؛ ويقول: إنهما خليطان وإن لم يكن لواحد منهما نصاب، وحجته الحديث: «ولا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة؛ وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» ، وأبو حنيفة لا يرى الخلطة ولا يقول بها على حال من الأحوال، ويقول معنى ما في الحديث من قوله «لا يفرق بين مجتمع» هو أن يكون للرجل مائة وعشرون شاة، فيفرقها الساعي أربعين، أربعين ليأخذ منها ثلاث شياه؛ فنهي عن ذلك، «ولا يجمع بين مفترق» هو أن يكون لرجلين أربعون شاة، عشرون، عشرون، فنهى الساعي أن يجمعهما ليأخذ منهما شاة، ومعنى ما فيه من قوله: «وما كان من خليطين، فإنهما يترادان بينهما بالسوية» هو مثل أن يكون الغنم بين الرجلين مشتركة على الثلث والثلثين، فيجب عليهما في ذلك شاتان: شاة على كل واحد منهما، فيأخذها من جملة الغنم قبل القسمة، إذ ليس عليه انتظار القسمة؛ فيكون إذا فعل ذلك، قد أخذ من حصة الذي له الثلثان: شاة وثلثا، ومن حصة الذي له الثلث ثلثي شاة، فوجب أن يترادا ذلك فيما بينهما حتى يستويا فيما يجب عليهما؛ فقول مالك وسط بين قول الشافعي، وأبو حنيفة، استحسان.(2/449)
[يهرب بغنمه ثلاث سنين زكاته]
ومن كتاب العرية
وسئل: عن الرجل يهرب - بغنمه ثلاث سنين - وهي فيها: أربعون، أربعون في كل سنة، ثم يأتيه الساعي في السنة الثالثة فيجدها ألفا، قد أفادها في تلك السنة؛ قال: يبدأ بما وجب عليه قبل، فيأخذ شاة للأربعين التي كانت عنده ثلاث سنين، ثم يأخذ تسعة لهذه السنة؛ قلت: وكيف وقد قلت: لو أن رجلا عنده ثلاث مائة شاة - ثلاث سنين - هاربا بها، ثم جاء في السنة الرابعة، فلم يجد عنده إلا أربعين شاة؛ أنه يأخذ تسع شياه لثلاث سنين، ويأخذ شاة لهذه السنة من الأربعين، فكيف لا تكسر التسع شياه الأربعين، حتى لا يؤدى منها شيء كما كسرت الشاة المائة من الألف؛ قال: لأنه لو لم يكن عنده في الثلاث سنين إلا ستون ومائتان، كانت عليه ثلاث شياه لكل سنة، وهذه الأربعون التي وجد في يديه كأنها كانت عنده ثلاث سنين، فلا تكسر بعضها بعضا، وأنه إذا كانت في السنتين أربعين، أربعين، ثم وجدها ألفا؛ فإنه يبدأ بالشاة التي وجبت عليه فيأخذها، فإذا أخذها فقد انكسرت عليه المائة من الألف عن الصدقة، ثم يأخذ تسعة، تسعة، وإنما يبدأ - أبدا - بالأول، فالأول، الذي وجب عليه فيأخذه، ثم يزكي ما بعد ذلك على حال ما وجب عليه.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في الأم: ثم يأتيه الساعي في السنة الثالثة، وفي الأصل في السنة الرابعة - وهو الصواب؛ لأنه إذا غاب عنه ثلاث سنين لهروبه، فإنما يأتيه في الرابعة؛ وقد اختلف قول ابن القاسم في الذي يهرب بماشيته عن الساعي، فيجده بعد أعوام، فمرة قال: إنه يبدأ فيأخذ مما(2/450)
وجد بيده ما يجب لذلك العام، ثم يأخذ منه زكاة ما مضى من الأعوام على ما يثبت أنه كان عنده في كل عام منها، أو على الأكثر مما كان بيده يوم هرب، أو يوم وجد، إذ قد يهرب وشاؤه أربعون، ثم يجده بعد أعوام - وشاؤه ألف شاة، فيقول: إنما أفدتها منذ عام، وقد يهرب أيضا وشاؤه ألف شاة، ثم يجده بعد أعوام وشاؤه أربعون شاة؛ فيقول: إن الألف شاة تلفت في العام الذي هربت فيه - ولم يكن عندي فيما بعد ذلك من الأعوام إلا أربعون، أربعون في كل عام، فلا يكسر على هذا القول ما يأخذ منه زكاة غيره من الأعوام؛ روى ذلك عنه أصبغ، وقال به، وهو قول ابن الماجشون، وسحنون في المختصر، واختيار ابن المواز، ومرة قال: إنه يبدأ بالعام الأول، فيأخذ منه ما وجب عليه فيه، فيكون كأنه أخذ منه حينئذ زكاة ما بقي للعام الذي بعده، فلا يأخذ منه للعام الذي وجده فيه إلا زكاة ما بقى بيده بعد ما أخذ منه؛ وهو قوله في رواية عيسى هذه، وقول سحنون في آخر سماعه بعد هذا، فعلى قوله في هذه الرواية، لا يأخذ منه التسع شياه عن التسع مائة شاة، إلا أن يكون قد أفاد الألف قبل توبته بعام؛ لأن الشاة إذا أخذها عن أول سنة من الأربعين التي هرب بها، يرجع إلى أقل من نصاب، فلا يجب عليه زكاة ما أفاد إليها حتى يحول عليه الحول من يوم أفاده، ولو لم يعلم متى أفاد الألف، لم يصدق في أنه أفادها في هذا العام، ويأخذ منه شاة للعام الذي هرب فيه، وتسع شياه، تسع شياه، لكل عام من الأعوام التي بعده؛ ويلزم على قياس قوله في هذه الرواية في الذي هرب وشاؤه ثلاثمائة، ثلاث سنين، ثم جاء في السنة الرابعة فلم يجد عنده إلا أربعين، ألا يأخذ من الأربعين لهذه السنة شيئا؛ لأن الذي أخذ للأعوام الماضية يكسرها، كما كسرت التسع شياه المائة من الألف؛ وكذلك قال ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وتفرقته بين المسألتين ها هنا لا وجه له في القياس، ولاحظ له في النظر - وبالله التوفيق.(2/451)
[انتظار مجيء الساعي في الحول]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس وقال في رجل كانت عنده خمس ذود فضل منها بعير أو شرد، فأتاه الساعي وليس عنده إلا أربع ذود، قال: لا زكاة عليه فيها، فإن وجده، صدقها حين يجده.
قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم في كتاب ابن المواز: ويكون حولها من يومئذ، ولا ينتظر مجيء الساعي في الحول الثاني، وقال ابن المواز غير ذلك أحب إلي أن ينظر، فإن كان صاحبه أيس منه، فليجعل السنة من يوم يجده؛ وإن كان منه على رجاء، فليزكه مع الأربعة للحول الأول، كزكاة الفطر عن العبد الآبق، وفي ذلك كله نظر، ولا يصح فيه على وجه القياس والنظر، إلا أن ينظر؛ فإن لم يكن آيسا منه، زكى حين يجده، ولم ينتقل حوله عما كان عليه، وعلى هذا ينبغي أن تحمل الرواية، ولا تفسر بما لابن القاسم في كتاب ابن المواز؛ ولو انتقل الحول إلى حين إخراجه الزكاة، لا نبغي على أصولهم ألا يزكي حتى يأتي الساعي من العام الثالث، وإن كان آيسا منه، كان وجوده كالفائدة يستقبل حولا من حينئذ، ولا يزكي حتى يمر به الساعي من بعد حلول الحول؛ وهذه المسألة متكررة في سماع أبي زيد بعد هذا، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[يزكي غنمه ثم يخلطها مع آخر]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
وسئل: عن الرجل يزكي غنمه فتلبث ستة أشهر بعد زكاتها، ثم يخلطها مع رجل، فيأتيهم الساعي في شهره ذلك الذي(2/452)
خلط فيه غنمه - وقد وجبت على صاحبه الزكاة في غنمه؛ فقال: يزكي غنم صاحبه - وليس على هذا زكاة حتى يحول على صاحبه الحول من يوم يزكي، إلا أن يخرج غنمه منها قبل ذلك؛ وذلك بمنزلة الرجل يفيد الغنم أو يشتريها، فتلبث في يده ستة أشهر، ثم يأتيه الساعي فليس له أن يزكيها حتى يأتيه من سنة قابل.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: أن الرجلين لا يكونان خليطين ويزكيان زكاة الخلطة، حتى يكون الحول قد حال على ماشية كل واحد منهما؛ ولو زكاهما زكاة الخلطة، وأحدهما لم يحل على ماشيته الحول، لكان ما أخذ زائدا منهما بسبب الخلطة مظلمة على من أخذت من غنمه، ولم يترادا ذلك بينهما؛ إذ لا اختلاف في ذلك، بخلاف إذا زكاهما زكاة الخلطة، وماشية أحدهما أقل من نصاب؛ مثال ذلك أن تكون الماشية التي قد حال عليها الحول مائة، والتي لم يحل عليها الحول خمسين، فيأخذ الساعي منها شاتين، فإنه إن أخذهما من غنم صاحب المائة، لم يكن على صاحب الخمسين شيء؛ لأن الواحدة واجبة عليه، والثانية مظلمة وقعت عليه؛ إلا على القول بأن من أغرم غرماء على مال غيره، فله أن يرجع به على صاحب المال؛ وإن أخذهما من غنم صاحب الخمسين، رجع بالواحدة على صاحب المائة، وكانت الثانية مظلمة وقعت عليه، وإن أخذ واحدة من غنم صاحب المائة، وواحدة من غنم صاحب الخمسين، لم يكن لصاحب الخمسين على صاحب المائة رجوع بالشاة التي أخذت منه؛ لأنها مظلمة وقعت عليه.
[مسألة: يفر بماشيته من الساعي]
مسألة وسئل: عن الرجل يفر بماشيته من الساعي - وهي أربعون شاة، فيغيب عنه الساعي سنين، ثم يأتيه - وهي أربعون لم تزد على الأربعين في السنين الفارطة، قال: ليس عليه إلا شاة واحدة لجميع(2/453)
السنين، وإنما يؤخذ من الفار كل سنة ما وجب عليه - وجدت عنده غنم، أو لم توجد - هو ضامن لما وجب عليه في ماله، وليس هو كمن لم يفر، إلا أن الساعي لم يأته، فذلك إذا جاءه ولم يجد في يده شيئا من الماشية، أو وجد في يده ما لا زكاة فيه، فليس عليه لما مضى من السنين التي لم يأته فيها الساعي شيء.
قال محمد بن رشد: هذا على ما مضى له في رسم "العرية": أن الساعي يبدأ فيأخذ شاة لأول سنة، ثم لا يأخذ منها شيئا؛ لأنها ترجع إلى ما لا يجب فيه الزكاة؛ وعلى قوله الثاني - وهو قول ابن الماجشون، وأحد قولي سحنون - يبدأ بهذه السنة فيأخذ لها شاة، ثم يأخذ منه شاة شاة للأعوام الماضية؛ لأنه كان ضامنا لها، وقد مضى هذا في رسم "العرية"؛ وأشهب يقول: إذا فر بغنمه سنين، ثم وجده الساعي - وقد زادت غنمه، أنه يأخذ منه لكل عام من الأعوام الماضية على ما يجد بيده، ولا يكون أحسن حالا من الذي يغيب عنه الساعي؛ وإذا وجده الساعي وقد نقصت غنمه، فهو ضامن - كما قال ابن القاسم - والله أعلمه.
[يذبح الصدقة ويجزئها على المساكين]
ومن كتاب الجواب وسألته: عن الرجل تجب عليه) البقرة في صدقة بقره، أو الشاة في صدقة غنمه، فيريد أن يذبحها ويجزئها على المساكين، قال ابن القاسم لا يعجبني، ولا ينبغي له أن يفعل ذلك؛ ولكن يخرجها كما هي حية، فيدفعها بحالها، فإن ذبحها وجزأها وأخرجها مذبوحة، لم تجزه وأبدلها.(2/454)
قال محمد بن رشد: مثل ما حكى ابن حبيب عن ابن القاسم أيضا: أنها لا تجزئه، وروى البرقي عن أشهب: أنها تجزئه، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن قيمتها مذبوحة - إن كانت أقل من قيمتها - حية، فقد أخرج أقل قيمة مما عليه؛ وإن كانت مثل قيمتها حية، فهو بمنزلة من أخرج عن العين عرضا لا يجزئه عند ابن القاسم، ويجزئه عند غيره؛ وكذلك أيضا لو كانت قيمتها مذبوحة أقل من قيمتها حية، فأخرج تمام القيمة، لا يجزئه ذلك على مذهب ابن القاسم، ويجزئه على مذهب غيره.
[مسألة: الساعي يقف على الرجل في زكاة زرعه أو صدقة ماشيته]
مسألة وسألته عن الساعي أو العامل يقف على الرجل في زكاة زرعه، أو صدقة ماشيته، فيقاطعه منها بالدراهم طوعا أو كرها؛ هل يجتزئ بذلك، ويعتد بها إن وضع بقية ذلك في وجهها؟ أو هل للرجل أن يشتري صدقته من العامل بعد أن يدفعها إليه؟ قال ابن القاسم: نعم يجتزئ بها، ويعتد بذلك إذا كان العمال والسعاة يضعون ما يأخذون من الصدقة مواضعها، ولا أحب لأحد أن يشتري صدقته، وإن كان بعد أن يقبضها العامل، وإن فعل لم أر بذلك بأسا، ولا أرى عليه شيئا إذا كانوا يضعون الصدقات مواضعها، كما أعلمتك؛ فأما الوالي الجائر الذي لا يضعها مواضعها، فلا يجتزئ عن صاحبها دفعها إليه - طائعا، أو كارها، قاطعه عليها، أو لم يقاطعه، اشتراها منه بعد وصولها إليه، أو لم يشترها، فلا يجزئه على حال، ولا يعتد بها؛ وسألته عن الصدقات والعشور هل يصح الاشتراء منها؟ قال ابن القاسم: إن كانوا يضعون أثمانها مواضعها، فلا بأس بالاشتراء منهم، وإلا فلا يحل؛ قال أصبغ: وقد كان يقول قبل ذلك فيما أعلم إذا أخذت(2/455)
كرها في محلها، أجزأت، ولا أعلمه إلا قاله في المكوس، قال (أصبغ: وقد سمعت) ابن وهب: يقول: تجزئه إذا أخذها كرها، وهو رأي إذا حلت ووجبت في المكوس والسعاة.
قال محمد بن رشد: قوله في المدونة، وأحد قوليه ههنا، وقول ابن وهب، وأصبغ، أن ما يأخذ الولاة من الناس من الصدقات، تجزئ عنهم - وإن كانوا لا يعدلون فيها، ويضعونها غير مواضعها، أصح من قوله الآخر - ههنا: إنها لا تجزئ عنهم، إلا أن يضعوها مواضعها؛ لأن دفعها إليهم واجب لما في منعها من الخروج عليهم المؤدي إلى الهرج والفساد، فإذا وجب أن يدفع إليهم، وجب أن يجزئ عنهم، وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «أما والله لولا أن الله تعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] الآية، ما تركتها عليكم جزية تؤخذون بها من بعدي، ولكن أدوها إليهم، فلكم برها وعليهم إثمها - قالها ثلاث مرات» .
وأما دفع القيمة إليهم في ذلك، فمكروه لوجهين؛ أحدهما: لما في ذلك من معنى الرجوع في الصدقة، والثاني: لئلا تكون القيمة أقل مما عليه، فيكون قد بخس المساكين حقوقهم. وأما شراء الرجل صدقته من العامل بعد أن يدفعها إليه، فهو أخف في الكراهية؛ لأن ذلك إنما يكره لوجه واحد، وهو ما في ذلك من معنى الرجوع في الصدقة، وليس بحقيقة الرجوع فيها، إلا إذا اشتراها من المساكين الذين دفعها إليهم؛ مع أن الحديث إنما ورد في صدقة التطوع،(2/456)
فإذا أكرهه الإمام على أخذ القيمة منه، لم يكن عليه في ذلك بأس؛ وأما شراؤه من العامل صدقات غيره، فذلك جائز إن كانوا يضعون ذلك في مواضعه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تحل الصدقة لغني، إلا لخمسة - فذكر فيهم: أو رجل اشتراها بماله» .
وأما إذا كانوا لا يضعون ذلك مواضعه، فقد قيل: إن الشراء منهم سائغ؛ لأن البيع لهم جائز، وإنما يقع عداؤهم على الأثمان، - قاله ابن حبيب في الوالي يعزل العمال الظلمة فيرهقهم ويعذبهم في غرم يغرمهم لنفسه، أو ليرده إلى أهله، فيلجئهم ذلك إلى بيع أمتعتهم ورقيقهم، والصحيح ما ههنا، أن ذلك لا يحل ولا يجوز؛ لأنه بيع عداء؛ إذ الواجب أن يقسم على المساكين على ما هي عليه، ولا تباع إلا على وجه نظر، مثل أن يحتاج الإمام أن ينقل الزكوات من بلد إلى بلد لحاجة نزلت بأهل ذلك البلد، فيخاف أن يذهب الكراء ببعضها، فيرى أن تباع ويشتري في ذلك البلد بالثمن مثله فيقسم؛ أو يقسم الثمن فيه فيسد للمساكين مسده، فإذا باع الزكوات ليستأثر بها، أو ليتعدى فيها، فهو كمن تعدى على سلعة رجل فباعها، فلا يحل لأحد شراؤها.
[يأتيهم الساعي فيجد لأربعة نفر أربعين شاة فيأخذ منها شاتين]
من سماع يحيى بن يحيى من كتاب أوله يشتري الدور والمزارع
قال يحيى: قال ابن القاسم في القوم يأتيهم الساعي فيجد لأربعة نفر أربعين شاة، لكل واحد منهم عشرة، عشرة، فيأخذ منها شاتين، أنهم يكونون كالخلطاء في الشاة الواحدة، وتكون مصيبة الشاة الأخرى على صاحبي الشاتين؛ لأنها مظلمة دخلت عليهما بغير سبب(2/457)
الغنم، ومظلمة الشاة الأخرى دخلت عليهم أجمعين للشبهة التي تأول المصدق؛ إذ وجدها مجتمعة، فرأى أن فيها شاة إذ هي أربعون، وتعدى في الأخرى فغصبها ربها، فلما لم يعرف التي أخذ للصدقة من التي تعدى على ربها فيها، فقبضها إياه، فإن قيمة الشاتين تجمعان، ثم تكون نصف قيمتهما على الأربعة نفر، تقسم على ما لهم من العدد في الغنم، كالخليطين اللذين يترادان، ثم يكون نصف قيمتهما بين صاحبي الشاتين، على كل واحد منهما نصف ذلك، وهو ربع جميع قيمة الشاتين.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم "استأذن" من سماع عيسى تفسير هذه المسألة، وتبيين موضع الخلاف بين السماعين، فلا معنى لإعادته.
[ما يكون للعامل على الصدقة]
من سماع سحنون بن سعيد وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: سألت ابن القاسم عن وجه ما يكون للعامل على الصدقة، قال: إن ذلك يختلف، ربما بعد المسعى، وقل ما فيه، فيجتهد له ويعطى، وإنما هو بمنزلة الأجير، فيعطى على قدر عناه وشخوصه، وليس في ذلك حد، فإذا كان مثل ما وصفنا، فربما كان له سهمان وثلاثة، وربما قرب المسعى، وكثر ما فيه، فيعطى أيضا على قدر ذلك، فربما لم يصر له إلا ربع سهم، أو أقل، أو أكثر؛(2/458)
قلت له: فيولاها عبد لأنه أجير، قال: لا، الإجارة منها، ولا يجوز أن يليها إلا من كان يجوز له أن يأخذ منها، ثم قال أيولاها نصراني؟ قلت له: فما معنى قول مالك: أعطى طاووس نفقة، وأعطى معاذ بن جبل نفقة؛ قال: هو وجه ما كانوا يعملون عليه، وكانوا يعانون به ويعطون، وإنما ذلك أن يولى الرجل وليست له قوة، فيعان من بيت المال ويجهز، وآخر له قوة، فيخرج بمال نفسه؛ قلت له: فهذا الذي أعين؟ قال: يحط من العطية على قدر ما نابه من العطاء، وعلى ما وصفنا؛ قلت له: فإن كان العامل عليها مديان، أيأخذ منها مثل ما يأخذ الغارمون، قال: لا، إلا أن يعطيه السلطان منها على وجه الاجتهاد.
قال محمد بن رشد: قوله: إن العامل على الصدقة يعطى منها على قدر عنائه في عمالته، هو مذهب مالك، (وقول) عامة العلماء؛ لأن الله تبارك وتعالى لما قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية، دل ذلك من قوله: إن الصدقات التي هي الزكوات مقصورة على الأصناف التي ذكر، لا تخرج عنهم، إلى غيرهم؛ ولم يدل ذلك من قوله على وجوب قسمتها عليهم بالسوية، فيؤثر بذلك أهل الحاجة منهم، وتنتقل بانتقالها؛ ومن أهل العلم من يرى أنها تقسم عليهم بالسواء على ظاهر قَوْله تَعَالَى، فيعطي العامل عليها الثمن، وقيل: السبع؛ لأن سهم المؤلفة قد بطل، وقد قال بعض العلماء: إن تولى الإمام قسمة الزكاة، قسمها على سبعة أصناف، لا يجزئه إلا ذلك، وإن(2/459)
قسم الرجل زكاته، كان عليه أن يضعها في ستة أصناف؛ لأن سهم العاملين يبطل بقسمته هو إياها؛ والصحيح ما ذهب إليه مالك، وعامة العلماء: أنها توضع في الأصناف المذكورين، ويؤثر بذلك أهل الحاجة منهم.
وقوله: إن العبد لا يولى على الصدقة صحيح؛ لأن العمالة عليها في قبضها من أهلها، ووضعها في أهلها، ولاية كالحكم؛ فلا يصح من العبد، لما لسيده عليه من الحجر، مع نقصان مرتبته؛ وقول مالك: لا يجوز أن يليها إلا من كان يجوز له أن يأخذ منها، يستفاد منه أنه لا يجوز أن يولاها أحد من بني هاشم؛ لأن الصدقة لا تحل لهم، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إن الهاشمي يجوز أن يولى على الصدقة؛ لأن الذي يأخذ منها، إنما يأخذه بعمالته، كالغني الذي لا تحل له الصدقة، وهو يأخذ منها بعمالته، وقد خالفه أبو يوسف، وقال بقولنا وهو الصواب؛ لأن الهاشمي لما لم يكن له في الصدقة حق بفقره، كان أحرى ألا يكون له فيها حق بعمالته؛ ومن سواه لما كان له فيها حق بفقره، لم يمتنع أن يكون له فيها حق بعمالته، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لغني، إلا لخمسة - فذكر فيهم: أو لعامل عليها» .
فلما قال: إنها لا تحل لغني إلا بالعمالة، دل أنها تحل له إذا كان فقيرا دون عمالة؛ فخرج من ذلك الهاشمي بالإجماع على أنه لا تحل له إذا كان فقيرا دون عمالة، وقد أجاز أحمد بن نصر أن يستعمل عليها العبد، والنصراني - قياسا على الغني - وهو بعيد، وإنما قال: إن العامل على الزكاة إذا كان مديانا لا يأخذ منها كما يأخذ الغارمون، من أجل أنه هو الذي يقسمها، فلا يحكم لنفسه، وجائز للإمام أن يعطيه من أجل دينه - سوى ما يجب له بعمالته - على مذهبه في أن الزكاة موضوعة في الأصناف بالاجتهاد، لا مقسومة عليهم بالسوية.(2/460)
[مسألة: المحتاج يجد اللقطة]
مسألة قلت له: فالرجل المحتاج يجد اللقطة: الدينار، أو النصف دينار، أو نحوه - وهو محتاج؛ أترى أن يأكله، قال: لا أحب ذلك له، فإن أكله، غرمه إن جاء ربه؛ فأما أنا، فلا آمره بذلك.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن اللقطة لا يجوز لواجدها أكلها بعد التعريف؛ لأن معنى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: عنده فشأنك بها أي: أنه مخير فيها بين أن يزيد في تعريفها، ويمسكها على صاحبها؛ وبين أن يتصدق بها ويخير صاحبها - إذا جاء في أن ينزل على أجرها، أو يغرمه إياها؛ فلم ير له مالك أن يأكلها وينزل نفسه منزلة المساكين - إن كان مسكينا، إذ له أن يتصدق بها على المساكين؛ لأنه إذا فعل ذلك، كان هو الحاكم لنفسه، فلم ير ذلك له، وأوجب عليه الغرم؛ لأنه لو تصدق بها لغرمها، ولم ينزله في سقوط الغرم عنه منزلة غيره من المساكين - لو تصدق بها عليهم؛ لأنه حكم لنفسه بإسقاط الضمان عنها، فلم يجز ذلك له؛ وقوله في هذه المسألة، نحو قوله في المسألة المتقدمة: إن العامل على الصدقة - إذا كان مديانا، لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة، كما يأخذ الغارمون؛ ونحو ما في رسم "البز" من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع، والوكالات، في الذي يبعث معه بمال ليعطي منه كل منقطع به، فانقطع به هو فأخذ منه، أن عليه أن يبين ذلك لصاحبه، إذ ليس ما يحكم به بين الناس، كما يحكم به بينه وبين الناس، وقد اختلف في واجد اللقطة: هل له أن يأكلها بعد التعريف - على أربعة أقوال؛ أحدها: هذا أنه ليس له أن يأكلها - وإن كان محتاجا إليها، والثاني: أن له أن يأكلها - وإن كان غنيا؛ ويغرمها لصاحبها - وهو مذهب الشافعي.
والثالث:(2/461)
أنه ليس له أن يأكلها، إلا أن يكون محتاجا إليها - وهو قول أبي حنيفة.
والرابع: أنه ليس له أن يأكلها، إلا أن يكون له وفاء بها.
[مسألة: الهرب عن الساعي بالغنم]
مسألة قال سحنون: لو أن رجلا له أربعون شاة، أو عشرون دينارا، فأقامت في يده سنين كثيرة - هاربا عن الساعي بالغنم، وشحا عن إعطاء الزكاة في الدنانير، (أنه) إن كانت له عروض، ضمن الزكاة في الدنانير لجميع السنين، وذلك أن الزكاة صارت عليه دينا؛ فأنت تنظر: فإن كان له مال سوى هذه الدنانير، ضمن الزكاة لجميع السنين، وإن لم يكن له مال سوى هذه الدنانير يضمن فيها الزكاة، لم يكن عليه إلا زكاة واحدة لجميع السنين؛ قال: وأما الغنم فليس عليه إلا شاة واحدة لجميع السنين كلها - كان له مال غيرها، أو لم يكن؛ لأنه بمنزلة ما لو أن رجلا وجبت عليه الزكاة في غنمه - وعليه دين، زكاها ولم يمنعه الدين من الزكاة.
قال محمد بن رشد: أما مسألة الدنانير، فإن لم تكن له عروض تفيء بما عليه من الزكاة للأعوام الماضية، فليس عليه إلا زكاة سنة واحدة، واختلف إن كانت له عروض تفيء بما عليه من الزكاة للأعوام الماضية، فقيل: إنه يزكي للأعوام الماضية، ويجعل دين الزكاة في عروضه، وهو قول سحنون هذا؛ وقول أشهب في المدونة، خلاف ظاهر قول ابن القاسم فيها، ونص قوله في سماع سحنون من كتاب زكاة العين في بعض الروايات، وجه قول ابن القاسم: إن الزكاة لما كانت متعينة في عين المال، وجب أن تؤخذ من عينه لأول سنة، فإذا أخذت فكأنها قد أخذت حين وجبت، فلا يزكي للعام الذي بعده إلا ما بقي -(2/462)
إن كان ما بقي تجب فيه الزكاة، وإن كانت له عروض، ووجه قول أشهب، وسحنون، أن الزكاة، وإن كانت متعينة في المال، فقد ترتبت في الذمة بتأخيرها عن وقتها، فأشبهت سائر الديون، ووجب أن تجعل في العروض، وتزكى لجميع السنين، وأما مسألة الغنم، فسواء كانت له عروض، أو لم تكن له عروض، إذ لا يسقط الدين زكاة الماشية؛ قيل: إنه يبدأ بالعام الأول فيزكي زكاة واحدة، وهو قول سحنون هذا، وقول ابن القاسم في رسم "العرية"، ورسم أسلم من سماع عيسى، وقيل: إنه يبدأ بالعام الآخر، ثم يؤخذ منه زكاة ما مضى من الأعوام؛ لأنه كان ضامنا لها، وهو قول ابن الماجشون، وقول أصبغ، وروايته عن ابن القاسم، وقول سحنون في المختصر - وبالله التوفيق.
[الرجل تقيم عنده أربعون شاة مدة متى يزكيها]
من سماع أبي زيد من ابن القاسم
قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عن الرجل تقيم عنده أربعون شاة ستة أشهر، ثم يبيعها بعشرين دينارا، فتقيم العشرون دينارا أشهرا، ثم يبتاع بها أربعين شاة، متى يزكيها؟ قال: يستقبل بها حولا من يوم اشتراها.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة، وتحصيل القول فيها في أول رسم من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: عنده أربعون شاة حال عليها الحول ولم يأته المصدق]
مسألة وقال في رجل كانت عنده أربعون شاة، حال عليها الحول - ولم يأته المصدق، ثم باعها بعد الحول؛ هل عليه زكاة فيما باعها به؟ قال: إن كان باعها بعشرين دينارا، كان عليه نصف دينار ساعتئذ؛ وإن باعها بأقل من عشرين دينارا، فلا زكاة عليه فيها.(2/463)
قال محمد بن رشد: هذا على أحد قولي مالك في المدونة، وغيرها، أنه يزكي الدنانير على حول الماشية المقتناة؛ لأنها لما كانت في عينها الزكاة، كانت بخلاف العروض المقتناة.
والقول الثاني: أنه يستقبل بالثمن حولا من يوم قبضه، ولو كانت الغنم أقل مما تجب فيه الزكاة أو باعها بأقل مما تجب فيه الزكاة، لكان الثمن فائدة من يوم قبضه قولا واحدا.
[مسألة: غاب عنه الساعي سنين]
مسألة وسئل: عمن غاب عنه الساعي سنين، فلما حضرته الوفاة، أوصى أن تؤدى زكاة ماشيته لتلك السنين، وأوصى بوصايا؛ أتبدأ، أم يحاص بها الوصايا؟ قال: بل يحاص بها الوصايا.
قال محمد بن رشد: وهذا (على) أصولهم في أن حول الماشية بمجيء الساعي، وأن من غاب عنه الساعي سنين، ثم هلكت ماشيته قبل أن يأتيه، فلا شيء عليه، فلما أوصى بما لم يجب عليه، كان ذلك كسائر وصاياه - وبالله التوفيق.
[مسألة: زكاة الخليطين في الإبل]
مسألة وسئل: عن الخليطين في الإبل تجب عليهما ابنة مخاض، فتؤخذ من إبل أحدهما، فيريد شريكه أن يعطيه الذي يجب عليه في إبله من الغنم، ويأبى ذلك، قال ذلك له أن يرجع عليه ببقية البكرة، فيتحاصان فيها على عدد إبلهما.
قال محمد بن رشد: قوله: فيتحاصان فيها - يريد في البكرة، فيرجع عليه ببقيتها - أي بما يجب عليه منها، وهذا صحيح؛ لأنه إنما يرجع عليه بما(2/464)
غرم عنه، وهو الذي يصير على غنمه من قيمة البكرة، وقد قيل: إنه يرجع عليه بالمثل، فيأتي ببكرة فيشاركه فيها وهو القياس.
[مسألة: على السعاة أن يأتوا أصحاب المواشي على مائهم]
مسألة قال ابن القاسم: على السعاة أن يأتوا أصحاب المواشي على مائهم مكانا يسقون ماشيتهم، ولا ينبغي لهم أن يقعدوا في قرية ويرسلوا تجلب عليهم المواشي.
قال محمد بن رشد: قد تقدم هذا المعنى في رسم "حلف" من سماع ابن القاسم، فلا فائدة لإعادته.
[مسألة: له خمس ذود فضل منها بعير أو شرد فأتاه الساعي]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل له خمس ذود فضل منها بعير، أو شرد، فأتاه الساعي - وليس عنده إلا أربع ذود؛ قال: لا زكاة عليه فيها، فإن وجده صدقها حين يجده، ولا ينتظر به الحول - وإن وجده بعد السنة بثلاثة أشهر.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة، والقول فيها في رسم "لم يدرك" من سماع عيسى.
والذود ثلاثة، وأربعة، وخمسة - إلى سبعة؛ وما فوق السبعة: شنق - إلى أربع وعشرين؛ وما فوق ذلك إبل، ولا ينقص الذود، ولا يكون الذود واحدا، كما لا ينقص من عدد النفر، ولا يكون النفر واحدا، والنفر من ثلاثة إلى سبعة، وفوق السبعة إلى العشرة رهط، وفوق ذلك إلى الأربعين عصبة؛ وفوق ذلك إلى المائة فأكثر، أمة، وقال ابن مزين: أقل الذود واحد، هذا قول ابن حبيب - أعني قوله: إن الذود ثلاثة، وأربعة، وخمسة(2/465)
إلى سبعة، وما فوق السبعة شنق، وهو خلاف قول مالك في رسم "الزكاة" من سماع أشهب: أن الشنق من الإبل، ما لا يؤدى فيه إلا الغنم؛ فعلى رواية أشهب عن مالك: الخمس شنق - إلى أربعة وعشرين، ولا يقال: شنق لما دون الخمسة، ولا لما فوق الأربعة والعشرين؛ وهو الصحيح في المعنى؛ لأن ذلك إنما سمي شنقا؛ لأن الساعي يكلف رب الإبل أن يأتيه بما ليس عنده ويشد عليه في ذلك، وإن شنق - عليه - مأخوذ من شناق البعير الذي يشنق به ويضغط، ويحمل على غير اختياره، وبالله تعالى التوفيق.
[الساعي يأتي الرجل فيجد ماشيته عجافا كلها]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب الزكاة والصيام
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: سأل عثمان بن الحكم مالكا عن الساعي يأتي الرجل فيجد ماشيته عجافا كلها، قال: يأخذ منها - وإن كانت عجافا؛ قال سحنون: وهو قول المخزومي.
قال محمد بن رشد: زاد في كتاب ابن المواز من قول مالك في هذه الرواية قال: ولو كانت ذوات عوار كلها وتيوسا، فليأت بغيرها؛ قال محمد: وكذلك العجاف فليشتر له ما يعطيه.
وقول محمد خلاف لقول مالك؛ لأن قول مالك: ولو كانت ذوات عوار كلها وتيوسا، فليأت بغيرها، يدل على أن العجاف يأخذ منها، ولا يأتي بغيرها، وقد وقع لمحمد في موضع آخر أنه قال: معنى قول مالك: يأخذ منها - وإن كانت عجافا، أنه يزكيها لا يدعها، ولكن لا يأخذ عجافا، وما يدل (عليه) قوله أولى - من تأويل غيره - والله أعلم، والقياس أن يأخذ منها - عجافا كانت، أو ذوات عوار، فيتحصل في(2/466)
المسألة ثلاثة أقوال، قولان وتفرقة، وكذلك الصغار، القياس أن يأخذ منها - إذا كانت كلها صغارا؛ وقد ذهب بعض من تعلق بظواهر الروايات، أن الخلاف لا يدخل في الصغار، وليس ذلك - عندي بصحيح.
[مسألة: لا يؤخر الساعي الصدقة عند أهلها]
مسألة وأخبرني ابن وهب عن ابن شهاب، أو مالك، أو جميعا، قال: لا يؤخر الساعي الصدقة عند أهلها - وإن كانت عجافا، ولكن يأخذ في الخصب والجدب ولا يؤخر أخذها ولا يضمنوها.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع أشهب، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: له نصاب ماشية فأفاد إليها غنما أخرى]
مسألة وقال بعض المصريين: لو أن رجلا كان له نصاب ماشية، والنصاب ما تجب فيه الزكاة من الغنم؛ فأفاد إليها غنما أخرى، فلما حل حول الغنم الأولى، لم يكن في الغنم الأولى ما تجب فيه الزكاة، نقصت عن حالها بموت أو بأكل أو بغير ذلك؛ وفيما بقي منها ما إن ضمه إلى ما أفاد إليها، وجبت فيها الزكاة؛ أنه لا زكاة عليه في شيء من غنمه حتى يحول عليها حول الآخرة، فيزكيها عند ذلك؛ قال: وكذلك لو أن رجلا كانت عنده ثلاثون شاة، فأفاد إليها غنما أخرى، فلما حل حول الغنم الأولى، كانت الزكاة تجب فيها توالدت، فبلغت ما تجب الزكاة في مثلها؛ فإنه يزكيها، ويزكي معها ما أفاد إليها، ويكون حولها من يوم زكاها، وأصل هذا أنك تنظر إلى الغنم(2/467)
الأولى فإذا حال حولها، فإن كانت الزكاة تجب فيها، فهي توجب الزكاة فيما أفاد إليها، وإذا حل حولها والزكاة لا تجب فيها، فهي تسقط الزكاة عن غيرها مما أفاد إليها، وإن كان لرجل نصاب ماشية، فأفاد إليها غنما، فهو يزكي ما أفاد إليها على حول نصاب الذي عنده - إذا حل عليها الحول وهي على حالها، لم تنقص عما تجب الزكاة في مثله؛ فإن نقصت فرجعت إلى ما لا زكاة فيه، ثم توالدت فرجعت إلى ما تجب فيه الزكاة - محل حولها، وهي مما تجب الزكاة فيها، فتزكيها على حولها - كما كنت تزكيها لو لم تنقص، وزك معها ما أفدت إليها، وإن حال حولها - وهي على نقصانها - فلا شيء عليك فيها، ولا فيما أفدت إليها، وزكها كلها على حول الآخرة - إلى أن ترجع الغنم الأولى إلى حالها الأول، أو تبلغ ما تجب في مثلها الزكاة، فتزكيها عند ذلك، وتزكي معها ما أفدت إليها، ويكون حولها من يوم زكيت، إلا أن تكون ممن يأتيك الساعي فتؤخر زكاتك إلى مجيئه؛ لأن حولك مجيء الساعي وحلوله عليك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها بينهم، وإنما وجب أن تزكى الفائدة على حول النصاب في الماشية، بخلاف العين، لعلة افتراق الحول من أجل أن الساعي لا يخرج إلا مرة واحدة، ويزكيها على حول النصاب - وإن كان في بلد لا يخرج فيه السعاة - قاله بعض شيوخ القرويين،(2/468)
ونسبه إلى المستخرجة - وهو قائم من آخر هذه المسألة، فقيل إن العلة في ذلك مخافة أن يخرج السعاة، إذ لا يأمن ذلك، فلا يمكن أن تبقى أحواله على ما رتبها.
[مسألة: زكاة خليط الإبل]
مسألة وقال بعض المصريين: لو أن رجلا كانت له ثلاثون من الإبل ولثلاثة نفر ثلاثون، لكل واحد منهم عشرة، عشرة، وكان خليطا، لكل واحد منهم بعشرة من إبله، فجاءهم الساعي، فإنه يحسب على الذي له العشرة الثلاثين كلها التي هي لصاحبه؛ لأنه يجمعها على صاحبه فيأخذ من صاحب العشرة ما يصير على عشرته - إذا جمعت كلها، وتفسير ذلك أن الساعي يبدأ بأحد الثلاثة نفر، فيقول له: إن لك عشرة من الإبل، ولفلان صاحبك معك عشرة أخرى، هو لك خليط بها، فهذه عشرون، وله عند فلان وفلان عشرون، فهذه أربعون، فلابد من أن أجمعها عليك كلها فأعرف ما يصير عليك يا صاحب العشرة - إذا جمعتها فأخذه منك، فأربعون من الإبل فيها ابنة لبون، وعليك يا صاحب العشرة من ابنة اللبون التي تجب في إبلكما الربع، ثم يرجع إلى الثاني والثالث، فيفعل بهما مثل ما فعل بالأول، ويأخذ من كل واحد ربع قيمة ابنة اللبون التي وجبت عليهم، ثم يرجع إلى صاحب الثلاثين، فيقول: إن لك ثلاثين من الإبل، ولأصحابك ثلاثين أخرى، وأنت لهم بإبلك خليط، فلا بد من أن أحسب عليك ما لأصحابك، فأعرف ما يصير عليك - إذا جمعتها عليك كلها وأخذه منك، فجميع إبلكم إذا جمعتها ستون،(2/469)
وفيها حقة طروقة الفحل، فعليك يا صاحب الثلاثين نصفها فهاتها، فيأخذ ذلك منه ويستوفي الساعي صدقته كلها؛ قال: وإنما يأخذ قيمة النصف الذي وجب عليه دنانير، أو دراهم، قال: وكذلك لو أن رجلا كانت له خمسة عشر من الإبل، ولثلاثة نفر خمسة عشر، لكل واحد منهم خمسة، خمسة؛ فكان خليطا، لكل واحد منهم بخمسة، فإن الساعي يبدأ بأحدهم فيقول له: إن لك خمسة، ولصاحبك معك خمسة، فهذه عشرة، وله مع فلان خمسة، ومع فلان خمسة، فهذه عشرون؛ ولا بد لي من أن أجمعها عليكم؛ لأنه لك بها كلها خليط، وأعرف ما يجب عليك فيها، وما يصير عليك يا صاحب الخمسة، فالذي يجب في عشرين من الإبل أربع شياه، والذي يصير على صاحب الخمسة شاة يأخذها منه، ثم يرجع إلى الثاني، والثالث، فيفعل بهما مثل ذلك، ثم يرجع إلى صاحب الخمسة عشر فيقول له: إن لك خمسة عشر، ولأصحابك مثلها؛ فهذه ثلاثون، وأنت لهم خليط بإبلك، ولا بد من أن أجمعها عليك فأعرف ما يصير فيها إذا جمعتها، ثم آخذ منك ما يصير على إبلك؛ فالذي يجب في ثلاثين من الإبل بنت مخاض، والذي يصير على الخمسة عشر نصفها، فيأخذ منه نصف قيمة ابنة مخاض التي وجبت عليهم - إذا جمعت إبلهم، ثم يذهب عنهم؛ قال: ومجرى الغنم، والبقر، مجرى الإبل؛ والعمل في ذلك كالعمل في الإبل سواء الأمر فيه كما وصفت لك، فافهم هذا واعرفه، فإنه باب حسن.(2/470)
(قال محمد بن رشد) : معنى هذه المسألة أن الذي له ثلاثون من الإبل هو خليط، لكل واحد من خلطائه بعشرة، عشرة، وليس بعض خلطائه خليطا لبعض، وهي مسألة حسنة - كما قال جارية على ما في المدونة في الذي له أربعون من الغنم مع خليط له أربعون، ولخليطه أربعون أخرى ليس له فيها خليط: أن الذي ليس له إلا أربعون يكون خليطا لصاحبه بجميع غنمه، فيأخذ المصدق منهم شاة يكون ثلثها على رب الأربعين، وثلثاها على رب الثمانين، وقد قيل في مسألة المدونة: إنه يكون كل واحد منهما خليطا لصاحبه بما خالطه به لا أكثر فيأخذ الساعي منهما عن الثمانين التي هما فيها خليطان - شاة، ويأخذ من صاحب الثمانين عن الأربعين التي لا خليط له فيها - نصف شاة؛ لأنه يضيفها إلى الأربعين التي قد زكاها مع خليطه، فيكون عليهما - على هذا القول شاة ونصف شاة، وهو مذهب ابن الماجشون، وسحنون، ويأتي على هذا القول في مسألة الإبل، أن الساعي يقول لواحد من أصحاب العشرة، ولصاحب الثلاثين: أنتما خليطان بعشرين، عشرة لكل واحد منكما، فعليكما أربع شياه، فيأخذها منهما شاتين من كل واحد منهما، ثم يفعل بالثاني منهم، وبصاحب الثلاثين - مثل ذلك، ثم بالثالث، وبصاحب الثلاثين - أيضا - مثل ذلك، فيكون قد أخذ منهم جميعا فيما وجب عليهم - اثنتي عشرة شاة، ستة من صاحب الثلاثين، واثنتين، اثنتين، من أصحاب العشرة، وقيل في مسألة المدونة أيضا: إن الذي ليس له إلا أربعون، يكون خليطا للذي (خالطه بما) خالطه به لا أكثر، ويكون الذي خالطه خليطا له بجميع(2/471)
غنمه، فيأخذ الساعي من الذي له أربعون نصف شاة؛ لأنه يقول له: لك أربعون، ولخليطك معك أربعون، فجميع ذلك ثمانون، وفيها شاة عليك نصفها، ويأخذ من الذي له ثمانون ثلثي شاة؛ لأنه يقول له: لك ثمانون، ولخليطك أربعون، فجميعها مائة وعشرون - وفيها شاة، عليك ثلثاها، فيكون عليهما على هذا القول شاة وسدس شاة، ويأتي على هذا القول في مسألة الإبل - أن الساعي يقول لواحد من أصحاب العشرة أن لك عشرة من الإبل، وأنت بها خليط لعشرة من الإبل، فجميعها عشرون، وفيها أربع شياة، فعليك منها شاتان تأخذها منه؛ ثم تفعل بالثاني والثالث مثل ذلك، ثم يقول لصاحب الثلاثين: إن لك ثلاثين - وأنت بها خليط لخلطائك بثلاثين، فجميعها ستون؛ وفيها حقة طروقة الفحل، فعليك نصفها، فهاتها فيأخذ منه نصف قيمتها، وقد قيل: إنه يأتي بها فيكون شريكا معه فيها؛ وقد قيل في مسألة الإبل إنهم كلهم خلطاء الخليط وخليط الخليط، فيأخذ منهم حقة طروقة الفحل؛ لأن الجميع ستون، فتكون بينهم على عدد ما لكل واحد منهم من الإبل، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وحكاه عن ابن الماجشون، وقاله بناء على رواية مطرف عن مالك في مسألة قال فيها بمثل جوابه فيها، ولم يتكلم في المدونة على خليط الخليط، وإنما تكلم على الخليط - إذا كانت له غنم لم يخالط بها؛ فاحتمل أن يكون مذهبه فيها في خليط الخليط - على ما في العتبية عن بعض المصريين، واحتمل أن يكون على ما ذهب إليه ابن حبيب، والأول هو الذي حفظناه عن الشيوخ؛ وعلى قياس ما ذكرناه يجري القول في المسألة الثانية - وهي التي يكون له خمسة عشر من الإبل، وهو بكل خمسة منها خليط لرجل بخمسة على حدة؛ ففي مسألة المدونة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنهما خليطان بجميع الغنم، والثاني: أنهما لا يكونان خليطين إلا بما يخالطان به منها، والثالث: أن صاحب الأربعين يزكي على ما خالط به، وصاحب الثمانين يزكي على أنه خليط بجميع غنمه؛ وفي مسألة العتبية أربعة أقوال، الثلاثة منها على قياس الثلاثة الأقوال في مسألة المدونة - إذا لم يزك غنم خليط الخليط - على الخلطة، والقول الرابع: تزكية جميعهم على الخلطة، وقد مضى بيان ذلك كله وتفسيره، وتبين الأربعة الأقوال(2/472)
بمسألة يتنزلها - وهي أن يكون لرجل ستون شاة، ثلاثون منها مع خليط بثلاثين، والثلاثون الأخرى مع خليط آخر بثلاثين - أيضا؛ فجميع الغنم على هذا مائة وعشرون، يأخذ منها المصدق شاة واحدة على القول بأنها تزكى كلها على الخلطة، ويأخذ منها شاتين على القول: بأنه يزكي كل واحد منهما مع الذي خالطه بما خالطه به، وذلك أنه يقول لصاحب الستين ولخليطه: - أنتما خليطان بستين، فيأخذ منهما شاة بينهما، ثم يقول لصاحب الستين أيضا، ولخليطه الآخر: أنتما خليطان بستين، فيأخذ منهما شاة أيضا بينهما، ويأخذ منهما شاة ونصفا على القول بأنه يزكي كل واحد من الخليطين على أنه خليط بما خالط به لا أكثر، وأنه يزكي الذي خالطهما جميعا على الخلطة في الجميع؛ وذلك أنه يقول لأحد الخليطين لك ثلاثون من الغنم، (ولخليطك ثلاثون، فجميعها ستون؛ وفيها شاة، فعليك نصفها، فيأخذ منه نصف شاة، ويقول لصاحبه مثل ذلك، فيأخذ منه نصف شاة أيضا، ثم يرجع إلى صاحب الستين فيقول له: لك ستون، وأنت خليط لخليطيك بستين، فجميعها مائة وعشرون، وفيها شاة، فعليك نصفها، فيأخذ منه نصف شاة، فيستوفي صدقته، ويأخذ منها شاة وسدسا - على القول بأن يزكي كل واحد من الخليطين على أنه خليط للذي خالطه بجميع غنمه، وإن لم يخالطه إلا ببعضها، وأنه يزكي الذي خالطهما جميعا على الخلطة في الجميع، وذلك أن يقول لأحد الخليطين: لك ثلاثون من الغنم) ، ولخليطك ستون، فجميعها تسعون، وفيها شاة عليك ثلثها، فيأخذ منه ثلث شاة، ويقول لصاحبه مثل ذلك، فيأخذ منه ثلث شاة أيضا، ثم يرجع إلى صاحب الستين، فيقول له: لك ستون، وأنت خليط لخليطيك بستين، فجميعها مائة وعشرون وفيها شاة، فعليك نصفها فيأخذ منه نصف شاة.
فهذه أربعة أقوال بينة في مسألة واحدة، وهذا التنزيل على مذهب من لا يراعي النصاب في الخلطة، ومالك يراعيه في الانتهاء دون الابتداء؛ ولو كانت لرجل عشرون من الإبل خالط بكل عشرة منها خليطا بعشرة - على(2/473)
حدة، لوجب للساعي فيها على القول الأول بنت لبون، يأخذها من جميعهم، ويترادون فيها على عدد إبلهم، ويجب له فيها على القول الثاني ثمان شياه: أربع شياه على صاحب العشرين، وشاتان، شاتان - على كل واحد من صاحبي العشرة، وذلك أنه يقول لصاحب العشرين، ولأحد خليطيه: أنتما خليطان بعشرين عشرة، عشرة، لكل واحد منكما، فعليكما أربع شياه: شاتان على كل واحد منكما، ثم يقول لصاحب العشرين أيضا، ولخليطه الآخر: أنتما خليطان بعشرين: عشرة، عشرة لكل واحد منكما، فعليكما أربع شياه: شاتان، شاتان، على كل واحد منكما؛ ويجب له فيها على القول الثالث نصف ابنة مخاض، وأربع شياه؛ وذلك أنه يقول لصاحب العشرين: لك عشرون من الإبل، ولخليطيك عشرون، فجميعها أربعون، وفيها ابنة لبون، وعليك نصفها، فيأخذ منه نصف ابنة لبون، ثم يقول لأحد الخليطين - صاحب العشرة: لك عشرة من الإبل، ولخليطك عشرة من الإبل، فجميعها عشرون، وفيها أربع شياه، عليك منها شاتان، فيأخذ منه شاتين، ويفعل بصاحبه مثل ذلك، فيستوفي حقه نصف ابنة لبون، وأربع شياه، ويجب له فيها على القول الرابع ثلثا ابنة لبون مخاض ونصف ابنة لبون، وذلك أنه يقول لأحد الخليطين صاحب العشرة: لك عشرة من الإبل، ولخليطك عشرون، فجميعها ثلاثون، وفيها ابنة مخاض، فعليك ثلثها، فيأخذ منه ثلث ابنة مخاض، ويفعل بصاحبه مثل ذلك، فيأخذ منه ثلث بنت مخاض أيضا؛ ثم يرجع إلى صاحب العشرين فيقول له: إن لك عشرين من الإبل، ولخليطيك عشرون: عشرة، عشرة، فجميعها أربعون، وفيها ابنة لبون، عليك منها نصفها، يأخذ ذلك منه ويستوفي جميع حقه؛ وهذه أيضا أربعة أقوال بينة في هذه المسألة على(2/474)
مذهب مالك في الابتداء والانتهاء، فقس عليها سواها تصب - (إن شاء الله) - وبالله تعالى التوفيق.
* * *(2/475)
[كتاب زكاة الحبوب والفطر] [زكاة الحنطة]
من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب القبلة قال سحنون: أخبرني ابن القاسم، قال: سمعت مالكا قال في زرع الحنطة وما أشبهه مما فيه الزكاة، يبيعه صاحبه بعد أن ييبس ويستحصد، وهو قائم قبل أن يحصده: فلا بأس أن يأمن المبتاع عليه - إذا فرغ وكاله، أخبره بما وجد فيه، فأخرج البائع زكاة ذلك، قال ابن القاسم: فإن باعه من نصراني فأحب إلي أن يتحفظ من ذلك حتى يعلم ما خرج منه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الزرع إذا أفرك واستغنى عن(2/477)
الماء، فقد وجبت فيه الزكاة على صاحبه؛ وكذلك الثمرة إذا أزهت، فإذا باع شيئا من ذلك بعد وجوب الزكاة فيه، فالزكاة واجبة عليه حتى يؤديها، وله أن يأمن المبتاع في مبلغ ما رفع فيه - إن كان مأمونا، وإن لم يكن مأمونا، أو كان ذميا، فعليه أن يتوخى قدر ذلك ويزيد ليسلم؛ قاله ابن المواز، وهو صحيح؛ كمن عليه صلوات ضيعها لا يعرف مبلغها، فإنه لا يصلي حتى لا يشك أنه قد قضى أكثر مما عليه، وقد اختلف إن أعدم البائع قبل أن يؤدي الزكاة، ووجد المصدق الطعام بيد المشتري، فقال ابن القاسم: يأخذ الزكاة منه ويرجع المبتاع على البائع بقدر ذلك من الثمن، وقال غيره: لا سبيل له على المشتري، ويتبع البائع - وهو الأظهر؛ لأن البيع كان له جائزا بظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الحب في سنبله حتى يبيض في أكمامه» «ونهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها؛» وقد قال محمد بن المواز: قول ابن القاسم أحب إلي؛ لأن البائع باع ما لم يكن له أن يبيعه - وهو بعيد، إذ لو كان البائع باع ما لم يكن له أن يبيعه، لوجب أن تؤخذ الزكاة من المشتري - وإن كان قد أكل الطعام مليا، كان البائع أو معدما - على حكم الاستحقاق؛ أو أن يكون البيع فاسدا - على تأويل في المذهب، وهو مذهب الشافعي: أنه إذا باع من الثمار ما تجب فيه الزكاة بعد الزهو، فالبيع فاسد، إلا أن يبيع تسعة أعشارها ونصف عشرها إن كان نضجا، فقول ابن القاسم استحسان على غير قياس، وكان ينبغي إذا أخذت الزكاة من الطعام على هذا - أن يرجع المشتري على البائع بالمثل؛ لأن المكيلة وجبت على البائع، فكأن المبتاع أداها عنه، لا بقدر ذلك من الثمن على حكم الاستحقاق، إذ ليس ذلك باستحقاق، وإذا رجع عليه بقدر ذلك من الثمن - على ما قاله ابن القاسم، فيرجع عليه أيضا بقدر ذلك من النفقة التي أنفقها في عمله؛ لأن العمل كان على البائع فلا يخسره المبتاع، وبالله التوفيق.
مسألة قال مالك: ليس على أهل الحوائط أن يحملوا ما عليهم من صدقات ثمارهم، إنما يؤخذ ذلك منهم في حوائطهم.(2/478)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103]- الآية، فوجب أن تؤخذ الزكاة من المال بموضعه الذي هو فيه، ولا يلزم أصحاب الأموال حمل زكواتهم إلى من يأخذها منهم، إذ لم يؤمروا بذلك، كالجزية التي قال الله فيها: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]- الآية، وقد مضى القول في هذا المعنى في سماع ابن القاسم من كتاب زكاة الماشية، ويأتي أيضا في أول سماع أشهب من هذا الكتاب.
[صاحب الزرع أن يحسب كل ما أكل منه قبل الزكاة]
ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما المال
قال: وقال مالك فيما أكل الناس من زرعهم، وما يستأجرون به، مثل القتة التي يعطى منها حمل الجمل بقته قال مالك: أرى أن يحسبوا كل ما أكلوا واستحملوا به، فيحسب عليهم في العشور - إذا أخذ منهم؛ وأما ما أكلت منه الدواب والبقر إذا كانت في الدرس، فلا أرى فيه شيئا.(2/479)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الزرع إذا أفرك فقد وجبت فيه الزكاة: العشر، أو نصف العشر - حبا مصفى تكون النفقة في ذلك من ماله، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر، وفيما سقي بالنضح - نصف العشر.
فعلى صاحب الزرع أن يحسب كل ما أكل منه، أو أعلفه، أو استأجر به في عمله، لوجوب ذلك عليه في ماله، قال ابن المواز: وكذلك ما تصدق به، إلا أن يكون ذلك كله تافها يسيرا لا قدر له؛ وقد قيل: إنه ليس عليه أن يحصي ما أكل منه أو تصدق به - وهو فريك، أو قبل أن ييبس، لقوله عز وجل: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وهو مذهب الليث بن سعد.
وأما ما أكل منه بعد يبسه، أو أعلفه، فلا اختلاف في أنه يجب عليه أن يحصيه، واختلف فيما تصدق به بعد اليبس - إن كانت الصدقة على المساكين، إذ قد قيل في قوله عز وجل: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] : أنه أن يعطي منه المساكين ما تيسر عند حصاده من غير الزكاة - سوى الزكاة - ندبا، وقيل: فرضا واجبا - مع فرض الزكاة، وقيل: نسخه فرض الزكاة: قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر» فمن جعله ندبا، أو فرضا واجبا - مع الزكاة، فليس عليه أن يحصيه، ومن رآه منسوخا بالزكاة، أو قال: إن المراد به الزكاة - وهو مذهب مالك، أوجب عليه أن يحصيه - كما قال ابن المواز، ولا يجوز له أن يحسبه من زكاته - إذا نوى به صدقة التطوع، وكذلك لو أعطاه - ولا نية له في تطوع، ولا زكاة، وقد اختلف(2/480)
إذا أخذت منه الزكاة كرها - على قولين؛ أحدهما: أنه تجزئه من الزكاة؛ لأن الزكاة متعينة في المال، فإذا أخذها منه من إليه أخذها، أجزأت عنه، كما تجزئ عن الصبي، والمجنون؛ والثاني: أنها لا تجزئه، إذ لا نية له، والأول أظهر؛ لأن النية في ذلك موجودة من المأمور بأخذها، وأما ما أكلت منه الدواب والبقر، في حين الدرس، فليس عليه أن يحصي شيئا من ذلك؛ لأنه أمر غالب بمنزلة ما لو أكلته الوحوش، أو ذهب بأمر من السماء، وبالله تعالى التوفيق.
[حب القرطم هل فيه زكاة أم لا]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية قال مالك: في حب القرطم الصدقة، سحنون أحب إلي ألا تكون فيه الصدقة، وهو قول مالك؛ وقد كان ابن القاسم يرى فيه الصدقة من زيته، ولا يعجبني ذلك.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم خلاف قولي مالك جميعا؛ لأن الظاهر من قول مالك في حب القرطم الصدقة، - أن الصدقة تؤخذ منه حبا، فتحصيل الاختلاف في ذلك، أن فيه قولين؛ أحدهما: أن الزكاة لا تجب فيه، والثاني: أنها تجب فيه، قيل في حبه - وهو ظاهر أحد قولي مالك، وقيل في زيته - وهو قول ابن القاسم، وقول مالك في الرسم الذي بعد هذا، والأظهر أن الزكاة لا تجب فيه؛ لأنه ليس من الحبوب التي تدخر للاقتيات بها، ولا من الثمار، فالقول بأن الزكاة تؤخذ من زيته إغراق، ومن أوجب الزكاة فيه قاسه على الزيتون، وما أنفق الناس على الزيتون في قياسه على ثمار النخيل، والأعناب؛ لأن الشافعي لا يرى فيه الزكاة - وهو مذهب ابن وهب من أصحابنا، فالشافعي لا يرى الزكاة في شيء من الثمار، إلا في ثمار النخيل والأعناب؛ ومالك يراها في ثمار النخيل، والأعناب، والزيتون، وابن حبيب يراها في جميع الثمار الثابتة - كان مما يدخر أو مما لا يدخر، بظاهر قوله عز وجل:(2/481)
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141]- إلى قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]- بعد أن ذكر الرمان فيما ذكر، وأبو حنيفة يراها في كل ما أنبتت الأرض مما يؤكل، بظاهر قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر - وبالله التوفيق.
[زيت القرطم هل فيه زكاة أم لا]
ومن كتاب أوله تسلف في المتاع والحيوان
وقال مالك: أرى في زيت القرطم زكاة إذا كان يعصر منه مثل ما ذكرتم، قال ابن القاسم: قال مالك: وليس في (حب) بزر الكتان ولا في زيته شيء.
قال محمد بن رشد: أما الزكاة في القرطم، فقد مضى القول فيه في الرسم الذي قبل هذا، وقول مالك في هذا الرسم، مثل قول ابن القاسم في الرسم الذي قبله؛ وأما حب بزر الكتان، فلم يختلف قول مالك في أن الزكاة لا تجب فيه، ولأصبغ في كتاب ابن المواز، أن الزكاة فيه، ولا فرق في القياس بين بزر الكتان، وحب القرطم؛ لأن الزكاة إنما وجبت فيهما عند من أوجبها فيهما، من أجل ما يعصر منهما من الزيت - قياسا على الزيتون؛ وإنما فرق مالك في أحد قوليه بينهما؛ لأنه رأى الناس يعصرون الزيت الكثير من القرطم، ويتخذونه لذلك، ولا يفعلون ذلك في بزر الكتان - والله أعلم.
[مسألة: دفع زكاة الفطر أيدفع إليه منها]
مسألة وسئل مالك: عمن دفع زكاة الفطر، أيدفع إليه منها؟ فأنكر(2/482)
ذلك وقال: كيف تدفع إلى من دفع؟ لا أرى ذلك، ثم رجع عنها بعد ذلك، فقال في نعم: إني لأستحب ذلك - إذا كان محتاجا.
قال محمد بن رشد: زكاة الفطر إنما هي زكاة الرقاب، ليست بزكاة الأموال، فهي تجب على من لا مال له إذا كان عنده فضل عن قوت يومه، وفيه ما يؤديها منه - قاله ابن حبيب؛ وقال غيره: إلا أن يضر ذلك به، ويؤدي إلى جوعه، وجوع عياله، ومن ليس له إلا هذا المقدار، فهو من الفقراء الذين تحل لهم الزكاة، فلهذا وقع الاختلاف في هذه المسألة، فوجه قول مالك الأول، هذا ممن تجب عليه زكاة الفطر، فلا يأخذها قياسا على سائر الزكوات؛ ووجه القول الثاني أنه مسكين، فجاز أن يأخذ صدقة الفطر - قياسا على سائر المساكين - وإن كان هو ممن دفعها؛ وإذا جاز دفعها إليه، فهو أولى من غيره بما تبين من فضله؛ إذ دفع الزكاة مع مسكنته وحاجته، قال الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9]- الآية، فهذا وجه استحسان قول مالك لذلك، وهذا إذا دفعها إليه الذي تجمع عنده، ويلي تفرقتها، وكذلك يصلح إن يقرأ كيف يدفع على ما لم يسم فاعله، وأما أن دفعها إليه المسكين الذي دفعها هو إليه، فذلك مكروه - إن كانت هي بعينها، من أجل الرجوع في الصدقة، فمن أوجبها على من له فضل عن قوت يومه، قدرها لم يجز لمن يجب عليه أن يأخذها، لم يجز أن يعطي زكاة الفطر لمن عنده قوت يومه؛ ولا أن يعطي لمسكين واحد أكثر من صاع، إلا أن يكون ذا عيال، وهو قول أبي مصعب: إنه لا يعطاها من أخذها، ولا يعطى فقير أكثر من زكاة إنسان.
[مسألة: الحمص والفول الذي يبيعه أصحابه أخضر كيف تخرج زكاته]
مسألة وقال مالك في الحمص والفول الذي يبيعه أصحابه أخضر:(2/483)
أرى أن يتحروا ذلك كما هو يابس، ثم يؤدون حمصا وفولا يابسا؛ قال مالك: وهو عندي وجه الصواب.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الزكاة قد وجبت في ذلك بالإفراك، والاستغناء عن الماء، فبيع ذلك أخضر بمنزلة بيع الحائط من النخل أو الكرم إذا أزهى، أنه ينبغي له إذا لم يدر كم بلغ ما فيه من التمر، أو الزبيب، أن يتحرى ذلك؛ وقد مضى في أول رسم من هذا السماع، مثل هذا المعنى، ولمالك في كتاب ابن المواز في الفول والحمص: أنه إن أدى من ثمنه، فلا بأس به، ولم يقل ذلك في النخل والكرم، والفرق بينهما على هذا القول، أن تمر النخل والكرم، إنما يشتريه المشتري لييبسه، فهو ينقص في ثمنه لذلك؛ والحمص والفول إنما يشتريهما المشتري للأكل إذا اخضر، لا للتيبيس، فلا ينقص في الثمن من أجل التيبيس الذي يجب على البائع شيئا، فإذا أعطى المساكين من الثمن، فلم يبخسهم شيئا، وبالله التوفيق.
[مسألة: سقى نصف سنته بالعيون ثم انقطعت عنه فسقى بقية عامه بالنضح]
مسألة وقال مالك في رجل كانت له نخل أو زرع أو كرم، مما يزكى، فسقى نصف سنته بالعيون، ثم انقطعت عنه، فسقى بقية عامه بالنضح، أو بالسواقي؛ قال مالك: أرى أن يخرج نصف زكاته عشورا، والنصف الآخر نصف العشر، قال ابن القاسم: قال لي مالك: أما ما كان مثل هذا، فعلى هذا يعمل فيه، وأما ما كان على غير هذا، فالذي به تم - وهو أكثر، فعليه أن يزكي به إن كان بالنضح فنصف العشر، وإن كان بالعين فعليه العشر، قال سحنون عن علي بن زياد، عن مالك مثله.(2/484)
قال محمد بن رشد: إرادته (أنه) إن كان ما سقي بالعين مثل ما سقي بالنضح، أو زاد أحدهما على صاحبه شيئا يسيرا، فليخرج نصف زكاته عشرا، ونصفها نصف عشر؛ وإن كان أحدهما قليلا، والآخر كثيرا: الثلثين أو أكثر، فليخرج على الأكثر كان هو الأول أو الآخر؛ لأن به تم، كذا هو مفسر لمالك، وابن القاسم، وابن الماجشون - في غير هذا الموضع، فعليه يحمل ما في الرواية؛ لأن في لفظها بعض الإشكال، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[ليس طعامهم إلا التين أيؤدون منه الزكاة في الفطرة]
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا (إلى السلطان)
وسئل مالك عن قوم وليس طعامهم إلا التين، أيؤدون منه الزكاة في الفطرة، قال لا يؤدون منه الزكاة.
قال محمد بن رشد: هذا يبين أن ما في المدونة من كراهية إخراج التين في الفطرة لمالك، معناه: وإن كان ذلك عيشهم، وهو مثل قول أشهب فيها إن إخراجها من القطنية لا يجزئ - وإن كان ذلك عيشهم، خلاف رواية أبي زيد عن ابن القاسم: أنها تجزئ إن كان ذلك عيشهم، وقد روي عن ابن القاسم مثل قول أشهب؛ ومذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، أن زكاة الفطر، تخرج من غالب عيش البلد من تسعة أشياء، وهي: القمح، والشعير، والسلت، والتمر، والأقط، والزبيب، والأرز، والذرة، والدخن؛ فإن كان عيشه وعيش عياله غير الصنف الذي هو غالب عيش البلد من هذه الأصناف، أخرج من الذي هو غالب عيش البلد، كان الذي يتقوت (هو)(2/485)
به أرفع، أو أدنى، إلا أن يعجز عن أن يخرج أفضل مما يتقوت به، وذهب محمد بن المواز إلى أنه إنما يخرج مما يتقوت (هو) به، كان أفضل مما يتقوت به أهل البلد، أو أدنى، إلا أن يكون الذي يتقوت به هو أدنى بخلا ولوما، فيلزمه أن يخرج مما يتقوت به أهل البلدة وزاد ابن حبيب على هذه التسعة الأشياء - العلس، وله في مراعاة ما يتقوت به هو وأهل بلده - تفصيل يطول جلبه، من أحب الوقوف عليه تأمله في موضعه، وقد قيل: إنها لا تخرج إلا من ستة أشياء، وهي: القمح، والشعير، والسلت، والتمر، والأقط، والزبيب - وهو قول أشهب، وقيل: إنها لا تخرج إلا من خمسة أشياء، وهي: القمح، والشعير، والتمر، والزيت، والأقط - وهو قول ابن القاسم في رواية يحيى عنه في العشرة، وقاله ابن الماجشون؛ إلا أنه جعل السلت مكان الزبيب، وذهب أهل الظاهر إلى أنها لا تخرج إلا من التمر، والشعيرة، وذكر وجه كل قول من هذه الأقوال، وما يتعلق به قائله، يطول، فتركت ذلك اختصارا، وبالله التوفيق.
[دفع القيمة في زكاة الفطر]
ومن كتاب أوله يتخذ الخرقة لفرجه
وسئل عن الرجل لا يكون عنده قمح يوم الفطر، فيريد أن يدفع ثمنه إلى المساكين يشترونه لأنفسهم، ويرى أن ذلك أعجل؛ قال: لا يفعل ذلك، وليس كذلك قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ومن رواية عيسى قال ابن القاسم: ولو فعل لم أر به بأسا.
قال محمد بن رشد: رواية عيسى هذه عن ابن القاسم، خلاف لرواية أبي زيد عنه بعد هذا؛ وقد قيل: إنها ليس بمخالفة لها، وإنما خفف ذلك(2/486)
في رواية عيسى هذه؛ لقوله: يشترونه لأنفسهم، فإنما دفع الثمن إليهم على ذلك - والله أعلم، وبه التوفيق.
[يحمل الطعام إلى أهل مكة هل يؤخذ منه نصف العشر مثل المدينة]
من سماع أشهب، وابن نافع من مالك من كتاب أوله وصايا ثم حج ثم زكاة
قال أشهب، وابن نافع: سئل مالك: عمن يحمل الطعام إلى أهل مكة، أترى أن يؤخذ منه نصف العشر مثل المدينة؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: زاد مالك في كتاب ابن سحنون، والمجموعة: وكذلك من بأعراضهما من القرى، ليكثر حملهم لذلك، فأما في القطنية فيؤخذ منهم العشر، وذكر ابن سحنون في كتابه من رواية ابن نافع يؤخذ من أهل الذمة من الزيت، والطعام، العشر إن تجروا في بلاد المسلمين إلى المدينة، ومكة، وغيرهما، وإنما أخذ منهم عمر نصف العشر في الحنطة، والزيت، ليكثر الحمل إلى المدينة، وقد أغنى الله المدينة، وغيرها، فيؤخذ منهم اليوم العشر من الزيت، والطعام، وقال ابن نافع: لا يؤخذ منهم بهذين البلدين، إلا نصف العشر، كما فعل عمر، وإن استغنوا اليوم عن ذلك، مثل ما في العتبية، وهو الأظهر؛ لأنهم وإن استغنوا عن ذلك، ففيه رفق لهم على كل حال، وقد فعله عمر فلا يترك، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» وبالله التوفيق.
[مسألة: يخرص عليه نخله فيجد في تمره أكثر مما خرص عليه]
مسألة وسئل مالك: عن الذي يخرص عليه نخله فيجد في تمره أكثر مما خرص عليه، قال: أرى أن يؤدي فضل ذلك؛ قلت: أرأيت إن وجد أقل مما خرص عليه؟ قال: إن ترك فلا يعطهم، ولو أطاعوني، لأمرتهم ألا يأخذوا منه شيئا.(2/487)
قال محمد بن رشد: قوله: أرى أن يؤدي فضل ذلك - يريد واجبا عليه، وهو أصح ما في المدونة، لأنه قال فيها: أحب إلي أن يؤدي؛ لأن نهاية خرص الخارص، أن يجعل في القوة كحكم الحاكم، وقد أجمعوا أن الحاكم إذا حكم بما لم يختلف فيه أنه خطأ، تنقض قضيته؛ وهذا الاختلاف إنما هو إذا خرصه عالم (في زمن العدل) وأما إذا خرصه جاهل، أو عالم في زمن الجور، فلا يلتفت إلى ذلك، ويعمل صاحب المال على ما وجد، فقول أشهب: إن كان في زمن العدل عمل على ما خرص - زاد أو نقص، وإن كان في زمن الجور، عمل على ما وجد - زاد أيضا أو نقص -؛ مفسر لما في المدونة، وكذلك ما روي عن مالك من أنه إن خرصه عالم، عمل على ما خرص؛ وإن خرصه جاهل، عمل على ما وجد مفسر أيضا لما في المدونة، وقد كان بعض الناس يحمل الروايات على ظاهرها فيجعلها أربعة أقوال، وهو تأويل خطأ - والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: أيكلف الناس أن يحملوا زكاة ثمارهم إلى من يلي أخذها]
مسألة وسئل: أيكلف الناس أن يحملوا زكاة ثمارهم إلى من يلي أخذها؟ قال: ولكن يأخذونها يأتونه في حائطه، ولا يكلفون حمل ذلك إليهم؛ كذلك أهل الزرع يؤتون في مواضعهم، ولا يكلفون حمل ذلك إليهم، وكذلك أصحاب المواشي لا يكلفون المشقة، ولا جلبها إليهم، ولكن يؤتون في مجامعهم.(2/488)
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة، والقول فيها في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي سماع ابن القاسم أيضا من كتاب زكاة الماشية، فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: تجارته المواشي يحول عليها الحول عنده]
مسألة قال: وسألته عمن تجارته المواشي يحول عليها الحول عنده، قال: إذا حال عليها الحول عنده، أخرج زكاتها، وإن لم يبعها؛ ليس المواشي مثل العروض (وإن باعها) قبل أن يحول عليها الحول - وقد حال على ثمنها الحول من يوم زكاه، زكى ثمنها يوم يبيع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة مثل ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف فيها، وذلك أن الغنم في أعيانها الزكاة، فإذا حال عليها الحول عنده - وهي ما تجب فيه الزكاة، أخذت منها زكاة السائمة، كان اشتراها للتجارة أو للقنية، فإن باعها قبل أن يحول عليها الحول، رجع في زكاتها إلى زكاة العين، فزكى الثمن إن كان قد حال عليه الحول، وهو ما تجب فيه الزكاة، إن كان اشتراها للتجارة.
واختلف قول مالك إن كان اشتراها للقنية، فمرة قال: إنه يستقل بالثمن حولا من يوم قبضه، ومرة قال: إنه يزكيه على حول الغنم من يوم ابتاعها للقنية، والقولان في المدونة.
[مسألة: الذي يقسم الصدقة يصدق المسكين فيما يدعي من المسكنة والحاجة]
مسألة وقال مالك: زعم لي يزيد بن رومان، أن عمر بن الخطاب خرج يوما إلى خيبر، وأنه يوما لقائل تحت شجرة يستظل بها، إذ جاءته امرأة من العرب - وهو نائم فدنت منه فمست قدمه فنبه، فقال: ما لك؟(2/489)
ما حاجتك يا أمة الله؟ فقالت: توسمت فيك الخير، وأن أمير المؤمنين بعث إلينا عام الأول - محمد بن مسلمة ساعيا، وأمره أن يأخذ من أغنيائنا ويرد على فقرائنا؛ فجاءنا فلم يعطنا شيئا، وأنا امرأة مؤتمة؛ وقد بلغني أن عمر باعثه إلينا العام، فأحب أن تمشي معي إليه توصيه وتكلمه لي، عسى إن قدم علينا أن يعطيني، فقال عمر: يا يرقا اذهب فادع إلي محمد بن مسلمة، فقالت: إني لم أرد هذا؛ إنما أردت أن تذهب معي إليه، فقال: إن لم يأتنا جئناه؛ فأتاه يرقا، فقال له: يدعوك أمير المؤمنين، فاستنكر ذلك وقال: ما شأنه؟ فقال: ما أدري، إلا أني رأيت امرأة، قال محمد: هي إحداهن؛ فلما جاءه، قال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين - ورحمة الله، فلما سمعت ذلك المرأة، استحيت وجمعت عليها ثيابها؛ فقال له عمر: هل تدري كيف كنا وأنتم قبل الإسلام؟ فقال: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين، فقال: إنا كنا أكلة رأس والعرب أعداؤنا من (كل) ناحية، فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل علي، قال: بعثتك مصدقا على هؤلاء، وأمرتك أن تأخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فلم تعط هذه المرأة شيئا، فقال: يا أمير المؤمنين، أما أن أكون تعمدت تركها، فما كان ذلك؛ ولكن عسى أن أكون أخطأتها، أو لم تأتنا، قال: إن بعثتك العام إليهم، فأعطها للعام الأول، وللعام الثاني، ثم قال عمر: الحقي بخيبر، آمر لك.(2/490)
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث أن الذي يقسم الصدقة يصدق المسكين فيما يدعي من المسكنة والحاجة: إذا رأى عليه هيئة ذلك، ولا يكلف البينة؛ لأن عمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، صدق المرأة فيما ادعت من الحاجة، وأمر محمد بن مسلمة أن يعطيها لقولها، دون أن يكلفها بينة، وكذلك قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رسم "البز" من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع، والوكالات.
[مسألة: حمل من أهل الذمة الطعام من تيماء ووادي القرى إلى المدينة أعليهم عشور]
مسألة وسئل: عمن حمل من أهل الذمة الطعام من تيماء، ووادي القرى إلى المدينة، أعليهم عشور؟ فقال: أما أهل تيماء، فأرى ذلك عليهم، وأما أهل وادي القرى، فلا؛ لأني أخاف أن يكون من المدينة وهي قريبة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن أهل الذمة إنما يلزمهم العشر فيما اتجروا به إذا خرجوا من أفق إلى أفق: من الحجاز إلى اليمن، أو من الشام إلى العراق، وما أشبه ذلك، فرأيتها خارجة من الحجاز، فأوجب على من قدم منها بطعام إلى المدينة العشر - يريد فيما عدا الحنطة والزيت؛ لأنه قد قال في أول الرسم: إنه لا يؤخذ منهم بمكة والمدينة من الطعام إلا نصف العشر، وقد مضى ما في ذلك من الاختلاف هنالك، وشك في وادي القرى لقربها، وخشي أن يكون من الحجاز، فلم ير أن يؤخذ منهم العشر بالمدينة؛ والأندلس كلها أفق واحد، فلا يؤخذ من الذمي، إذا خرج تاجرا من أعلاها إلى أسفلها شيء، وبالله التوفيق.
[مسألة: رد الصدقة المأخوذة من الأغنياء على الفقراء]
مسألة قال: وسمعت أن «رجلا جاء فقال: هذا ابن عبد المطلب المرتفق؟(2/491)
فقالوا: نعم، فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أشياء، فكان فيما سأله عنه أن قال: أنشدتك الله، آلله أمرك أن تأخذ من أغنيائنا صدقة فتردها على فقرائنا؟ فقال: نعم» .
قال محمد بن رشد: يريد بقوله: المرتفق، أنه كان متكئا على مرفقه بين أصحابه، فأشار إليه بقوله هذا، وفي الحديث إيجاب رد الصدقة المأخوذة من الأغنياء على الفقراء، فهو أصل لما أمر به عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، محمد بن مسلمة في المرأة التي شكت إليه أنه لم يعطها شيئا، ولذلك ساقه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فصوابه أن يكون متصلا به.
[الجلجلان والأرز أمن القطنية هما]
ومن كتاب الزكاة
قال: وسئل عن الجلجلان والأرز، أمن القطنية هما؟ فقال: ليس من القطنية، القطنية: الجلبان، واللوبيا، والحمص، والكرسنة، وما أشبه ذلك، يطحنه أهل الشام ويأكلونه، فهذه القطنية، والجلجلان على حدة، والأرز على حدة.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب أن الجلجلان، والأرز، ليسا من القطنية، وأنهما صنفان لا يضافان إلى غيرهما، ولا يضاف بعضهما إلى بعض، وكذلك الذرة، والدخن؛ وقد روي عن مالك أن الأرز، والجلجلان، من القطنية، روى ذلك عنه زياد، وأما الكرسنة، فذهب ابن حبيب إلى أنها صنف على حدة، وقال ابن وهب: لا زكاة فيها، واختار ذلك يحيى بن يحيى - وهو الأظهر؛ لأنها علف وليست بطعام؛ ولم يختلف في القطنية(2/492)
أنها صنف واحد في الزكاة، وإن كان قد اختلف فيما هو قطنية مما ليس قطنية، فإذا اجتمع من جميعها ما تجب فيه الزكاة، أخذ من كل صنف بحسابه، واختلف قول مالك فيها في البيوع على ثلاثة أقوال، فمرة جعلها صنفا واحدا، ومرة جعلها أصنافا متفرقة، ومرة جعل ما تقاربت منفعته منها صنفا واحدا، وما تباعدت أصنافا مفترقة.
[مسألة: الوسق كم هو]
مسألة قال: وسألته عن الوسق كم هو؟ فقال: ستون صاعا بصاع النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فخمسة أوسق ثلاثمائة صاع بصاع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإذا كان التمر، أو الحنطة، ثلاثمائة صاع بصاع النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وجبت فيه الزكاة، فما زاد على ذلك، أخذت منه الزكاة بحساب ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه أن الوسق ستون صاعا، وأن الخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع، وكذلك لا يختلف أيضا أن الصاع أربعة أمداد بمد النبي، - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ واختلف في قدر المد بالوزن، فقيل: زنته رطل وثلث، وهو المشهور في المذهب؛ قيل بالماء، وقيل: بالوسط من البر، وقيل: رطل ونصف، وقيل: رطلان، وهو مذهب أهل العراق؛ واختلف في قدره بالكيل من المد الهشامي، فقيل: إنه ثلاثة أخماس مد هشام، وهو الذي في المدونة من أن مد هشام مدان إلا ثلث بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقيل: إنه نصف مد هشام، وهو تأويل البغداديين على مالك أنه رأى الإطعام في الظهار مدين بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حملا على فدية الأذى المقيدة في السنة؛ لأنهما جميعا مطلقتان في القرآن، قالوا: ولذلك قال فيه: يطعم بمد هشام؛ لأنه مدان بمد النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ واختلف أيضا في قدر مدنا الجاري عندنا بقرطبة من مد النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فقيل: إن (قدره) قدره سواء، وأن كيلنا أربعة أمداد بمد(2/493)
النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فهو صاع؛ فالوسق خمسة أقفزة، والنصاب خمسة وعشرون قفيزا، وقيل: إن في كيلنا ثلاثة أمداد وثلث بمد النبي، - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فيأتي النصاب على هذا ثلاثون قفيزا، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وقيل: إن في كيلنا ثلاثة أمداد ونصف بمد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فيأتي النصاب على هذا ثمانية وعشرين قفيزا وأربعة أسباع قفيز، وقيل: إن في كيلنا أربعة أمداد إلا ثلثا بمد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فيأتي النصاب على هذا سبعة وعشرين قفيزا وثلاثة أجزاء من أحد عشر في القفيز، وما قدمته أولا من أن النصاب خمسة وعشرون قفيزا بالكيل القرطبي، هو أولى الأقاويل وأحوط في الزكاة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الأوقية كم هي]
مسألة قلت: أفرأيت، الأوقية كم هي؟ فقال لي: الأوقية من الفضة أربعون درهما، قلت له: أفرأيت الأوقية من الذهب، أمعروفة لها شيء معلوم؟ قال لي: لا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الأوقية من الفضة أربعون درهما، يريد من الوزن القديم المعروف بالكيل، وهو يزيد على وزن زماننا بخمسيه، فالدرهم الكيل بوزننا درهم وخمسا درهم؛ فيدخل في مائة درهم كيل من وزن زماننا مائة درهم وأربعون درهما، ولذلك سميت دراهمنا دخل أربعين، فالنصاب بوزننا من الدراهم مائتا درهم وثمانون درهما، خمسة وثلاثون دينارا دراهم؛ فمن ملك من الفضة أو الدراهم أقل من ذلك، لم تجب عليه زكاة، هذا الذي عليه العلماء، وذهب ابن حبيب إلى أنه يزكي أهل كل بلد على وزنهم وهو بعيد خارج عن أقوال العلماء؛ وأما سؤاله عن الأوقية من الذهب هل هي معروفة لها شيء معلوم، أم لا؟ فالمعنى في ذلك هل يسمى قدر(2/494)
ما من الذهب أوقية، كما يسمى قدر أربعين درهما كيلا من الفضة أوقية أم لا؟ فأخبر أن الأوقية إنما هي تسمية لقدر ما من الفضة، لا لقدر ما من الذهب؛ وأما قدر ما يجب من الذهب في الزكاة لأوقية من الفضة فمعروف، وذلك أربعة مثاقيل؛ لأن الدينار في الزكاة بعشرة دراهم سنة ماضية، ومثقال الذهب اثنان وسبعون حبة، أربعة وعشرون قيراطا، كل قيراط من ثلاث حبات؛ روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدينار أربعة وعشرون قيراطا، والقيراط ثلاث حبات الشعير، فلم تختلف الأوزان في ذلك، كما اختلفت في الدراهم؟ وقد كانت الدراهم مختلفة الوزن، درهم من ثمانية دوانق، ودرهم من أربعة دوانق إلى زمن عبد الملك بن مروان، فاتفق رأي الفقهاء على أن جعلوا الدرهم من ستة دوانق، فكانت العشرة دراهم منها تزن سبعة مثاقيل، وسموا ذلك الوزن كيلا، فكانت الأوقية منها أربعين درهما، واستقام النصاب في الفضة على أنه مائتا درهم، فلم تزل الدراهم ينقص وزنها بعد ذلك إلى أن جعل الدرهم وزن نصف مثقال، فكانت العشرة دراهم كيلا أربعة عشر درهما؛ والأوقية ستة وخمسون درهما، والخمس الأواقي المائتا درهم مائتا درهم وثمانون درهما؛ فهذا وجه القول في الأوزان، وقد وقع في تفسير ابن مزين لعيسى بن دينار أن الذهب والفضة في الزكاة كيل في كل ذلك، وهو غلط؛ لأن ذلك يوجب ألا تجب الزكاة في أقل من ثمانية وعشرين مثقالا، وذلك خلاف الإجماع.
[مسألة: زكاة ما يأخذ الأجراء من الزيتون]
مسألة (وسئل) فقيل له: فالرجل يستأجر الأجراء على زيتونه يلتقطونه على أن لهم الثلث وله الثلثان، على من ترى زكاة الثلث(2/495)
الذي يأخذه الأجراء في التقاطهم إياه، فقال: أرى (زكاة) ذلك على رب الزيتون الذي استأجرهم، يؤخذ ذلك منه زيتا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن زكاة ما يأخذ الأجراء من الزيتون على رب الزيتون صحيح؛ لأن التقاط الزيتون كحصاد الزرع، وجداد التمر، وذلك على رب المال، فلا اختلاف في ذلك عند من يوجب الزكاة في الزيتون، وأما قوله: يؤخذ ذلك منه زيتا، فهو على قوله إن عصر الزيتون على ربه، وخالفه في ذلك كثير من أصحابه، منهم: ابن كنانة، ومحمد بن مسلمة، ومحمد بن عبد الحكم، فقالوا: تؤخذ الزكاة منه حبا.
وقال محمد بن عبد الحكم: والله ما اجتمع الناس على حبه، فكيف على زيته؟ وهو قول الشافعي ببغداد: إن الزكاة تؤخذ من حبه - وبالله التوفيق.
[مسألة: الكرم إذا كان يتزبب فأراد أن يجعل منها ربا]
مسألة وسئل: عن القوم تكون لهم الكرمات، ولو خرصت وجب في مثلها الزكاة، فلا يزبب منها إلا اليسير، ويعمل بقيتها ربا، فقال: أرى أن تخرص، فقيل له: إنه لا يعمل (منها) زبيب إلا شيء يسير ويجعل سائرها ربا، فقال: أرى أن يزبب قدر زكاتها، ثم يجعلون بقيتها ما بدا لهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الكرم إذا كان يتزبب، فأراد أن يجعل منها ربا، فعليه أن يزبب منه قدر زكاته، أو يأتي بذلك زبيبا من غيره؛ لأن الزبيب هو الذي تجب عليه فيه، ولو كان لا يتزبب فعمل منه ربا، لم يلزمه(2/496)
أن يخرج من الرب زكاته، إلا أن يشاء ويعطي عشر قيمته عنبا، ولو أعطى العنب أجزأه، وينبغي أن يفعل من ذلك الذي هو خير للمساكين.
[مسألة: الكرم يخرص فيكون فيه ما يجب فيه الزكاة ثم يفسد]
مسألة قيل له: أرأيت الكرم يخرص فيكون فيه ما يجب فيه الزكاة، ثم يفسد؛ فقال: إذا فسد، فلا زكاة فيه؛ قيل له: إنه إذا فسد بيع، فقال: أرى أن يؤدي زكاته من ثمنه الذي باعه به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا فسد فسادا لا منفعة فيه ولا ثمن له، فلا زكاة فيه، وإن فسد فسادا لطفت به ثمرته ولم تذهب فباعه، فعليه أن يؤدي زكاته من ثمنه الذي باعه به، ومعنى ذلك عندي إذا كان الفساد الذي حدث به يمنع من تيبيسه، وإنما يباع ممن يأكله عنبا؛ وأما لو كان مما ييبس مع فساده ويباع على ذلك، لوجب أن يؤدي خرص ما يخرج منه زبيبا على حاله من الفساد، ولو ذهب الفساد ببعض الثمرة، فلم يبق منه ما تجب فيه الزكاة، فلا زكاة عليه.
[مسألة: يغيب عن أهله أيؤدي زكاة الفطر بموضعه الذي هو به]
مسألة وسئل: عن الرجل يغيب عن أهله، أيؤدي زكاة الفطر بموضعه الذي هو به؟ فقال: أما عن نفسه، فأرى أن يؤدي عنها زكاة الفطر - ههنا؛ لأنه لا يدري أيؤدى عنه أم لا؟ قيل له: أفيؤدي عن عياله؟ قال: تشتد عليه النفقة، فأما أهله فأرى له أن يؤخرهم، فلعلهم أن يكونوا قد أدوا عن أنفسهم؛ فأما هو فأرى أن يؤدي عن نفسه؛ لأنه لا يدري لعل أهله لا يؤدون عنه.
قال محمد بن رشد: معنى هذا إذا كان قد ترك عند أهله مالا يؤدون(2/497)
منه الزكاة، ولم يأمرهم بذلك، فهو إذا لم يدر ما يفعلون، يؤدي عن نفسه، ولا يؤدي عنهم؛ لأن الأقرب أن يؤدوا عن أنفسهم ولا يؤدوا عنه، ولو أمرهم أن يؤدوا عنه الزكاة في مغيبه، لم يكن عليه أن يؤدي عن نفسه في مغيبه؛ ولو لم يترك عندهم ما يؤدون منه الزكاة، لزمه أن يؤدي بموضعه عنه وعنهم؛ لأن الزكاة عليه فهذا الوجه في هذه المسألة.
[مسألة: مقدار زكاة الفطر]
مسألة وسئل مالك فقيل له: إن بعض الناس يقول في زكاة الفطر مدان، قال: القول ما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له الأحاديث الذي تذكر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مدين من الحنطة في زكاة الفطر، فأنكرها، وقال عقيل - وتبسم، وقال: إذا كان الشيء من أمر دينك، فعليك أبدا في أمره بالثقة، وأنه لن ينجيك أن تقول: سمعت، وقد كان يقال: كفى بالمرء كذبا - أن يحدث بكل ما سمع.
قال محمد بن رشد: معنى قول مالك: القول ما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أي لا حجة إلا في قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أن عنده من قول رسول الله: «الأمر بصاع من بر في زكاة الفطر» .
ومن الدليل على ذلك، أنه استدل على أنه لا يجزئ من القمح إلا ما يجزئ من غيره - أن ما ذكر في الحديث بعضه أعلى من بعض، والكيل متفق، قال: فكذلك الحنطة - وإن كانت أفضل، هذا معنى قوله في كتاب ابن المواز: فلما ذكرت له الأحاديث أنكرها، والحديث الذي أنكره وتبسم تضعيفا لروايته، هو ما رواه عقيل بن خالد، وغيره،(2/498)
عن هشام بن عروة (عن أبيه) «عن أسماء؛ قالت: كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مدين من حنطة، أو صاعا من تمر» .
وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية ثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه، قال: قال لي النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أدوا صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير، أو نصف صاع من بر، أو قال: قمح، عن كل إنسان: صغير، أو كبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، غني أو فقير» .
فهذه الآثار وما أشبهها، احتج من ذهب إلى أنه يجزئ مدان من قمح في زكاة الفطر، واعتلوا في حديث أبي سعيد الخدري «كنا نخرج زكاة الفطر - صاعا من طعام، أو صاعا من شعير» - الحديث - بأن بعض الرواة لا يذكر فيه الطعام، وبعضهم يسقط، أو فيقول صاعا من طعام، صاعا من شعير - تفسيرا للطعام؛ قالوا: وإن صح فيه ذكر الطعام، فيحتمل أن يكون أدوا صاعا من قمح - والمفروض عليهم منه مدان.
واستدلوا لصحة تأويلهم بما روي عن أبي سعيد الخدري أنه يجزئ(2/499)
مدان في زكاة الفطر.
وقد روي عن «عبد الله بن عمر أنه قال: أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصدقة الفطر عن كل صغير، وكبير، حر، وعبد، صاعا من شعير، أو صاعا من تمر» قال: فعدله الناس بمدين من الحنطة؛ وفي بعض الآثار من حديث أبي سعيد الخدري: فلما كثر الطعام في زمن معاوية جعلوه مدين من حنطة، ولم يلتفت مالك إلى شيء من هذا ولا رآه.
وقد روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال لما قال: لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صاعا من تمر أو صاعا من زبيب، أو صاعا من أقط.
فقال له رجل: أو مدين من قمح، فقال أبو سعيد لا، تلك قيمة معاوية، لا أقبلها، ولا آخذ بها، وبالله التوفيق.
[الترمس هل من أصناف الزكاة]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب بع ولا نقصان عليك قال عيسى: قال ابن القاسم: الترمس من القطنية تزكى معها.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب، أن الترمس من القطنية يضاف إليها في الزكاة.(2/500)
[يحمل طعام العشور من البلد الذي أخذ فيه وإن كان فيه مساكين إلى بلد آخر]
ومن كتاب العشور وسئل مالك: عن الإمام يستشير فيذكر له أن ناحية من عمله كثيرة العشور، قليلة المساكين، وناحية أخرى قليلة العشور، كثيرة المساكين، فهل له أن يتكارى ببعض ذلك العشر حتى يحمله إلى الناحية الكثيرة المساكين، القليلة العشر، فكره ذلك؛ قال ابن القاسم: ولا أرى أن يتكارى عليه من الفيء، ولكن يبيعه ويشتري بثمنه طعاما بالموضع الذي يريد قسمته (به) ؛ وذلك إلى اجتهاده بعد المشورة.
وقال ابن القاسم أيضا في غير هذا الكتاب، ورواه عن مالك أرى أن يتكارى عليه من الفيء أو يبيعه.
قال محمد بن رشد: أجاز أن يحمل طعام العشور من البلد الذي أخذ فيه - وإن كان فيه مساكين - إلى بلد آخر - إذا كان المساكين فيه أكثر، خلاف ظاهر قول سحنون في نوازله بعد هذا، وكره أن يتكارى عليه في حمله منه، وقال ابن القاسم: أنه يبيعه ويشتري بثمنه طعاما بالموضع الذي يريد قسمته به، ولا يتكارى عليه من الفيء، إلا أن يؤدي إلى ذلك اجتهاده بعد المشورة، وهو معنى ما رواه عن مالك أنه يتكارى عليه من الفيء أو يبيعه؛ لأن التخيير في ذلك إنما هو بالاجتهاد، والاجتهاد في ذلك هو أن ينظر إلى ما ينتقصه من الطعام في بيعه هنا، واشترائه هناك؛ وإلى ما يتكارى به عليه، فإن كان يتكارى عليه بأكثر باعه، وإن كان يتكارى عليه بأقل، اكترى عليه، وإذا جاز أن يبيعه هنا ويشتري به هناك أقل منه، فما الذي يمنع إذا لم يكن ثم من الفيء ما يتكارى به عليه من أن يكتري عليه منه - إذا رأى ذلك أرشد من بيعه، وقد أجاز ذلك ابن حبيب، ورواه مطرف، وابن وهب عن مالك؛ والوجه في جوازه بين، وذلك أن الله تعالى جعل للعاملين على الزكوات سهما منها، فإذا جاز أن يأخذ العامل على الزكاة من الزكاة بعمالته عليها، جاز أن يأخذ منها من يوصلها(2/501)
إلى المساكين الذين تفرق عليهم؛ لأن ذلك من وجه العمل عليها، ولأن الله تعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]- الآية، فإذا كان الواجب على الإمام أن يأخذ منهم الصدقة في مواضعهم، ولم يجب على أرباب الأموال حملها إلى موضع المساكين، جاز للإمام أن يكتري على حملها منها - وإن كان عنده من الفيء ما يكتري عليه به، وأما إن لم يكن عنده فيء يكتري منه عليها، فلا اختلاف في جواز الاكتراء على حملها منها - إن كان ذلك أرشد من بيعها، وشراء غيرها في الموضع الذي تفرق فيه، فالاختلاف إنما يعود إلى كراهية الكراء عليها منها مع وجود الفيء، فكره ذلك مالك في قوله الأول، ورأى الكراء عليها من الفيء أحسن؛ وأجاز ذلك ابن القاسم ولم يكرهه؛ لأن قوله ولا أرى أن يتكارى عليه من الفيء، معناه لا أرى ذلك واجبا عليه، لا أن ذلك لا يجوز له أن يفعله؛ هذا ما لا يجوز أن يقال؛ لأن الفيء يجوز لمن تحل له الصدقة؛ وسيأتي هذا المعنى في رسم "نقدها" من سماع عيسى من كتاب النذور، وقد ذكر ابن عبدوس عن مالك من رواية ابن القاسم، وابن وهب، أنه لا يعطى من الفطرة من يحرسها، وهو نحو قول مالك هنا في كراهية الكراء على طعام العشور منه، فتدبر ذلك وقف عليه، وبالله التوفيق.
[العبد يكون شريكا لسيده في الزرع فلا يدفعان إلا خمسة أوسق هل يكون فيه زكاة]
ومن كتاب الجواب
وسألته: عن العبد يكون شريكا لسيده في الزرع، فلا يدفعان إلا خمسة أوسق، هل يكون فيه زكاة، أو يكون خليطا له في الغنم، لكل واحد منهما عشرون شاة، هل عليهما صدقة، قال ابن القاسم: قال مالك: ليس عليهما ولا على واحد منهما في ذلك قليل ولا كثير، لا في الزرع، ولا في الغنم؛ قال ابن القاسم وهذا مما لا شك فيه ولا كلام، واحذر من يقول غير هذا أو يرويه، فإن ذلك ضلال.
قال محمد بن رشد: من يقول إن العبد لا يملك، وأن مال العبد(2/502)
لسيده، يوجب الزكاة عليه في الزرع والغنم، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة؛ وفي المدنية - لابن كنانة نحوه، قال يخرج الزكاة من جميع ذلك، ثم يصنع هو مع عبده ما أحب.
[باع أرضا فيها زرع لم يطب فاشترط المشتري الزكاة على البائع]
ومن كتاب العرية
قال ابن القاسم: في رجل باع أرضا وفيها زرع لم يطب، فاشترط المشتري الزكاة على البائع قبل أن يطيب الزرع، أو يكون قد طاب؛ قال: قال مالك: هو على المشتري ولا يجوز أن يشترط الزكاة على البائع قبل أن يطيب الزرع، فإذا طاب فهي على البائع، إلا أن يشترطها على المشتري.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، أما إذا اشترى الأرض وفيها الزرع لم يطب فاشترطه، فالبيع جائز، والزكاة عليه؛ فإن اشترط الزكاة على البائع، فسد البيع؛ لأنه اشترط عليه مجهولا لا يعلم قدره ولا مبلغه؛ وأما إذا طاب الزرع فاشترى الأرض بزرعها، فالزكاة على البائع، فإن اشترطها البائع على المشتري، فذلك أجوز للبيع، إذ قد قيل: إنه إذا باع جميع الزرع ولم يشترط جزء الزكاة - فسد البيع؛ لأنه باع ما ليس له - وهو مذهب الشافعي، وقد مضى ذلك في أول سماع ابن القاسم.
[نخل بيع وفيه خمسة أوسق وقد وجبت الزكاة فيها على البائع فأصابتها جائحة]
ومن سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الصبرة قال يحيى: وسئل ابن القاسم عن ثمر نخل بيع وفيه خمسة أوسق، وقد وجبت الزكاة فيها على البائع، فأصابتها جائحة تنقصها من الخمسة الأوسق التي كانت الزكاة إنما وجبت على البائع من(2/503)
أجلها؛ أتوضع الزكاة عن رب الثمرة للجائحة التي نقصتها مما يجب الزكاة في مثله؟ فقال: إن بلغ ما أصاب الثمرة من الجائحة الثلث فأكثر حتى يلزم البائع أن يضع ذلك عن المشتري، سقطت عنه الزكاة بذلك؛ لأن الثمرة قد صارت في البيع إلى ما لا يجب فيه الزكاة؛ وإن كان ما أصاب الثمرة من الجائحة أقل من الثلث، لم يوضع ذلك عن المشتري، ولم تسقط الزكاة عن البائع؛ لأنه قد باع خمسة أوسق تجب فيها الزكاة، ثم لم يرد من الثمن شيئا للجائحة، فإذا لم يسقط ثمن الجائحة عنه، فالزكاة واجبة عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما أجيح من الثمرة إذا لم يبلغ ذلك الثلث، فالمصيبة فيه من المبتاع؛ لأنه تلف على ملكه بعد وجوب الزكاة على البائع، وما أجيح منها فبلغ الثلث، فإنما تلف على ملك البائع، فالمصيبة منه، فوجب أن يعتبر ذلك في النصاب، وهذا على مذهب من يجيز البيع ويرى الحكم بالجائحة، وهو قول مالك، وجميع أصحابه؛ وأما على مذهب من يجيز البيع، ولا يرى الحكم بالجائحة، فالزكاة واجبة على البائع - وإن أذهبت الجائحة الثمرة كلها، وأما على مذهب من لا يجيز البيع، فالجائحة وإن قلت: تسقط الزكاة إذا صارت الثمرة بها إلى أقل مما تجب فيه الزكاة، ويفسخ البيع، وهو مذهب الشافعي - وبالله تعالى التوفيق.
[أكل من حائطه بلحا أومن زرعه قبل أن يفرك الزكاة فيه]
ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع
وسئل: عن الرجل يأكل من حائطه بلحا، ثم يأتي الخارص، أيحسب على نفسه فيما يخرص عليه ما أكل بلحا، فقال: ليس ذلك عليه، وليس هو مثل الفريك يأكله من زرعه، ولا مثل الفول يأكله أخضر، أو الحمص، وما أشبه ذلك.(2/504)
قال محمد بن رشد: أما ما أكل من حائطه بلحا، أومن زرعه قبل أن يفرك؛ فلا اختلاف في أنه لا يحسبه، لأن الزكاة لم تجب عليه (بعد) فيه؛ إذ لا تجب الزكاة في الزرع حتى يفرك، ولا في الحائط حتى يزهى؛ واختلف فيما أكل من ذلك كله أخضر بعد وجوب الزكاة فيه بالإزهاء في الثمار، أو بالإفراك في الحبوب، على ثلاثة أقوال؛ أحدها: قول مالك: إنه يجب عليه أن يحصي ذلك كله (ويخرج زكاته، والثاني: أنه ليس عليه أن يحصي ذلك) ولا يخرج زكاته، وهو قول الليث بن سعد، ومذهب الشافعي، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] .
والثالث: أنه يجب عليه ذلك في الحبوب، ولا يجب ذلك عليه في الثمار، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع» وهو قول ابن حبيب إن الخراص يتركون لأصحاب الحوائط قدر ما يأكلون أخضر ويعطون، وقد روي مثل ذلك عن مالك؛ وهذا إنما يصيح على القول بأن الزكاة لا تجب في الثمار إلا بالجذاذ، وهو قول محمد بن مسلمة؛ وفائدة الخرص على هذا - إنما هو مخافة أن يكتم منها شيء بعد اليبس، أو بعد الجذاذ، فإن خشي ذلك في الزرع، فقد قال ابن عبد الحكم: يوكل الإمام من يتحفظ بذلك؛ قيل: إنه يخرص إن وجد من يحسن خرصه، وهو أحسن - والله أعلم.
والمغيرة يرى الزكاة تجب في الثمار بالخرص، ففي (حد) وجوب الزكاة في الثمار ثلاثة أقوال؛ أحدها: المشهور في المذهب أنها تجب بالطياب، والثاني: أنها تجب بالجذاذ، وهو قول محمد بن مسلمة، والثالث: أنها تجب بالخرص - وهو قول المغيرة - جعل الخرص فيها كالساعي في المواشي، فإن مات صاحب الثمرة قبل أن يخرص، خرصت على الورثة إن كان في حظ كل واحد منهم ما تجب فيه الزكاة.(2/505)
[مسألة: وقت بيع الزرع]
مسألة وسئل: عن الرجل يبيع الزرع - وقد أفرك، والفول - وقد امتلأ حبه وهو أخضر، أو الحمص، أو العدس، أو ما أشبه ذلك، فيتركه مشتريه حتى ييبس ويحصده، أيجوز بيعه؟ فقال: إن علم به قبل أن ييبس، فسخ البيع، وإن لم يعلم به إلا بعد أن ييبس، مضى البيع ولا يفسخ، وليس هو مثل أن يشتري الثمرة قبل أن تزهي؛ لأن النهي جاء في بيع الثمرة قبل أن تزهي من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ واختلف العلماء في وقت بيع الزرع، فقال بعضهم: إذا أفرك، وقال بعضهم: حتى ييبس، فأنا أجيز البيع - إذا فات باليبس، لما جاء فيه من الاختلاف، وأرده - إذا علم به قبل اليبس.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن العقد فيه فوت، وقيل: إن القبض فيه فوت، وقيل: إنه لا يفوت بالقبض حتى يفوت بعده - وهو ظاهر ما في السلم الأول من المدونة، فهي أربعة أقوال، وهذا إذا اشتراه على أن يتركه حتى ييبس، وكان ذلك العرف فيه؛ وأما إن لم يشترط تركه، ولا كان العرف ذلك؛ فالبيع فيه جائز - وإن تركه مشتريه حتى ييبس، وقد قيل: إن بيع الفول أخضر يشترط أن يتركه المبتاع حتى ييبس جائز، والقولان قائمان من كتاب الجوائح في المدونة، وأما بيع الحب إذا أفرك على أن يترك حتى ييبس، فلا اختلاف في المذهب في أن ذلك لا يجوز ابتداء؛ وإنما يختلف في الحكم فيه - إذا وقع، والشافعي لا يجيز بيعه - وإن يبس - حتى يصفى؛ لأنه عنده غرر، ولو بيع قبل أن يفرك - لفسخ - وإن فات بعد القبض - وبالله التوفيق.
[يعطي الرجل نصف ثمرة حائطه قبل أن تطيب]
من سماع سحنون من ابن القاسم
قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن الرجل يعطي الرجل نصف ثمرة حائطه قبل أن تطيب، قال: الزكاة في الحائط، ثم(2/506)
يقتسمان ما بقي، والسقي عليهما، قلت له: فإن كان أعطى النصف للمساكين، قال: إن السقي على رب الحائط.
قال محمد بن رشد: قوله الزكاة في الحائط - يريد إن كان في حظ كل واحد منهما من ثمرته ما تجب فيه الزكاة، أو كان له ثمر من حائط آخر ما إذا أضافه إليه، وجبت فيه الزكاة؛ لأن الثمرة الموهوبة قبل الطياب لمعينين، مزكاة على ملك الموهوب لهم عند ابن القاسم، وهو قوله في المدونة، وغيرها؛ وقد قيل: إنها مزكاة على ملك الواهب، وهو مذهب سحنون؛ فصرفنا هذه الرواية بالتأويل إلى المعلوم من مذهب ابن القاسم - وإن كان ظاهرها مثل قول سحنون، وكذلك العرية على المعينين كالصدقة يزكيان على ملك المتصدق، والمعري؛ وقيل: إنهما يزكيان على ملك المتصدق عليه والمعرَى؛ وقيل: إن العرية تزكى على ملك المعرَى، (والصدقة على ملك المتصدق عليه؛ وقيل: إن زكاة العرية تؤخذ من مال المعرى، لا من ثمرة المعرى؛ ففي العرية - على هذا قولان؛ أحدهما: أنها على المعرى في ماله، والثاني: أنها لا تجب إلا في ثمرة العرية؛ فإذا قلت: إنها تجب في ثمرة العرية، فهل تؤخذ منها على ملك المعرى) أو على ملك المعري؛ في ذلك قولان، فهذا تحصيل القول في هذا، وأما إن كان أعطى النصف للمساكين، فلا اختلاف في أنه يزكى على مالك المعطي، ولا في أن الزكاة تجب فيه إن بلغ جميع ثمر الحائط ما تجب فيه الزكاة أو كان لرب الحائط ثمر سواه - إذا أضافه إليه، وجبت فيه الزكاة.(2/507)
[نقل الزكاة عن فقراء الموضع الذي أخذت فيه إلى غيره]
نوازل سئل عنها سحنون قيل لسحنون: أرأيت القوم يكونون في الحضر ومزارعهم من الحاضرة على البريد، أو النصف بريد أيقسم المصدق صدقة زرعهم ومواشيهم في تلك القرى؟ أم على أهل الحاضرة؟ فقال: إن كانت تلك القرى مسكونة وفيها فقراء، فهم أولى بها من غيرهم، قيل له: فما أخذ العامل على أربعة أميال، أو ثلاثة؟ فقال: يقسم على فقرائهم، ولا ينقل إلى المدينة.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذا، أنه لا ينبغي أن تنقل الزكاة عن فقراء الموضع الذي أُخذت فيه إلى غيره، وإن كان الفقراء في غير ذلك الموضع أكثر، خلاف ما مضى في رسم "العشور" من سماع عيسى.
[مسألة: وجبت عليه زكاة ماله فأخرجها فوضعها في غير قريته]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل وجبت عليه زكاة ماله، فأخرجها فوضعها في غير قريته - وفي قريته فقراء، هل تجزئه زكاة؟ قال: لا تجزئه.
قال محمد بن رشد: يريد أنها لا تجزئه في الاختيار والاستحسان، لا أنه يجب عليه إعادتها فرضا، بدليل قوله في المسألة التي قبلها وفي المسألة التي بعدها؛ وكذلك تأول عليه قوله محمد بن اللباد، وغيره، وقد روى علي بن زياد، وابن نافع، عن مالك أن من زرع من أهل الحاضرة على عشرة أميال، فلا بأس أن يحمل من زكاته إلى ضعفاء عنده بالحاضرة، ومثله في كتاب ابن سحنون، وقال مالك في كتاب ابن المواز في الذي يبعث من زكاته إلى العراق، أن ذلك واسع، وأحب إلي أن يؤثر من عنده من أهل الحاجة - إن كانت الحاجة عندهم.(2/508)
[مسألة: زرع في أرض قريته ثم يحمل زرعه إلى قرية يسكنها غير التي زرع فيها]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل زرع في أرض قريته ثم يحمل زرعه إلى قرية يسكنها غير التي زرع فيها، وكل ذلك في إقليم واحد، أو في إقليمين، إلى من يدفع زكاته، قال: أحب إلي أن يدفع زكاة كل زرع إلى فقراء أهل كل موضع ينبت فيه الزرع، إلا أن يكون بين الموضعين قريب، فتجمع الزكاة في موضعه؛ لأنه ملك واحد.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة من قول سحنون، تبين قوله في المسألة التي قبلها؛ لأن الزكاة ليست لمساكين بأعيانهم، فتضمن إن دفعت إلى غيرهم؛ وإنما هو الاختيار والاستحسان في دفعها إلى أولى الناس بها بالاجتهاد - وإن كانت هذه أخف من تلك؛ لأنه إنما فرق زكاته في موضع سكناه بخلاف تلك، وبالله التوفيق.
[زكاة الفطر عن خادمين من رقيق امرأته]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب الزكاة والصيام قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: يؤدي الرجل زكاة الفطر عن خادمين من رقيق امرأته - إذا كان لها شرف وغناء، وإلا فواحدة.
قال أصبغ: ذلك عندي حسن، كما أن عليه أن ينفق على خادمين لها - إذا كانت بذلك الموضع من القدر والغناء، والشرف، والتوسط فيه؛ لأن مثل هذه لا تكتفي بخدمتها وأمورها - الخادم الواحدة، فإنما ذلك على الأقدار والحالات، ولو ارتفع قدرها جدا مثل(2/509)
ابنة السلطان العظيم، والقدر الكبير، ومثل بنت الملك، نحو الهاشميات، رأيت أن يزاد في عدد الخدم لبيتها وخدمتها وخدمة ما يقوم مثله من الخدم بخدمتها في بيتها، وشأن نفسها من الأربع والخمس، ويلزم الزوج نفقتهم وزكاتهم.
قال محمد بن رشد: نحو هذا لمالك في مختصر ابن شعبان، وفي المبسوط، والمبسوطة، وفي العشرة ليحيى عن ابن القاسم، أنه ليس على الزوج أن ينفق من خدم زوجته على أكثر من خادم واحدة، ولا يؤدي صدقة الفطر إلا عن التي ينفق عليها، ولو ارتفع قدرها ما عسى أن يرتفع ليس عليه أكثر من ذلك، وهو ظاهر ما في المدونة.
[مسألة: الرجل من زرعه ويعطي ويعلف فرسه أيحسبه في زكاة عشوره]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: يأكل الرجل من زرعه، ويعطي ويعلف فرسه ودوابه، ويحسب ذلك في زكاة عشوره، يتحراه ويحتاط فيه، وقاله أصبغ؛ هو عليه ولو قدر قتة قرط أو ربطة يحسبها، ويخرج عنه العشر.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم "يشتري الدور والمزارع" من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الاشقالية التي تكون بالأندلس هل فيها زكاة]
مسألة قال ابن القاسم: وسئل عن الاشقالية التي تكون بالأندلس - ووصفت له، فقال: فيها الزكاة، وقال: لا تجمع إلى القمح، ولا إلى الشعير، وهي صنف وحدها.
قال أصبغ: وسمعت ابن وهب وزيادا فقيه الأندلس يسأله عنها ويصفها له، فرأى فيها أيضا الزكاة، قال أصبغ: وذلك رأيي، وهو يزرع بالأندلس تكون في أكمام كالزرع،(2/510)
وتكون علوفة البقر، وربما احتيج إليها طعاما - إذا أجهدوا، وهي حبة مستطيلة مصوفة في طول الشعير - وليس على خلقته؛ وهي إلى خلقة السلت، وإلى القمح في خلقه أقرب، وليس من القمح، ولا الشعير، وهو صنف كالذرة وغيرها من حبوب الزكاة.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ في الاشقالية: إنها ليست من القمح ولا الشعير، وإنها صنف كالذرة وغيرها، هو مثل قول ابن القاسم: إنها لا تضم إلى القمح، ولا إلى الشعير، خلاف ما حكى عنه ابن حبيب، وعن جميع أصحاب مالك - إلا ابن القاسم من أنها تضم إلى القمح، والشعير، والسلت، وقال الشافعي - في العلس: إن خرج من أكمامه اعتبر فيه خمسة أوسق، وإن لم يخرج من أكمامه، فإذا بلغ عشرة أوسق، أخذت صدقته؛ لأنه حينئذ يكون خمسة أوسق، ولا يضم إلى غيره من الحبوب على أصله من أنه لا يضم من الحبوب إلى غيره ما انفرد باسم دونه، وخالفه في الخلقة، والطعم؛ وتجب الزكاة عند مالك في جميع الحبوب، والقطاني التي تدخر للاقتيات؛ وقول الشافعي نحوه، قال: ما كان منها يدخر ويقتات مأكولا، أو خبزا، أو سويقا، أو طحينا؛ وقال الليث: كل ما يختبز، فيه الصدقة؛ وقال الأوزاعي مرة مثل قول مالك، ومرة لا تجب الزكاة من الحبوب إلا في القمح، والشعير، والسلت - والله أعلم بالصواب.
[يكون عليه زكاة حب فيخرج عينا]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: وقال ابن القاسم: في الرجل يكون عليه زكاة حب فيخرج عينا، قال: أرجو أن تجزئ عنه؛ قيل له: فرجل(2/511)
وجب عليه عين فأخرج حبا؟ قال: يعيد، قيل له: فإن أخرج في زكاة الفطر عينا؟ قال: يعيد، قيل له: فإن أخرج في زكاة الفطر عدسا، أو حمصا - وذلك عيش أهل تلك البلدة؟ قال: هذا لا يكون، ولو كان ذلك عيشهم، رجوت أن يجزئ عنهم.
قال محمد بن رشد: وجه تفرقة ابن القاسم بين أن يخرج عن العين حبا، أو عن الحب عينا؛ هو أن العين أعم نفعا؛ لأنه يقدر أن يشتري به ما شاء من جميع الأشياء، والحب قد يتعذر عليه أن يشتري به شيئا آخر حتى يبيعه بعين فيُعْنَى من ذلك ولعله يبخس فيه، وقال ابن حبيب: إنه لا يجزيه في الوجهين - جميعا، إلا أن يجب عليه عين فيخرج حبا - إرادة الرفق بالمساكين عند حاجة الناس إلى الطعام - إذا كان عزيزا غير موجود، وقال ابن أبي حازم، وابن دينار، وابن وهب، وأصبغ: لا أحب له أن يفعل ذلك أبدا، فإن فعل وكان فيه وفاء لما كان وجب - أي ذلك كان - أجزاه، وهذا القول أظهر الأقوال؛ ووجه الكراهية في أن يخرج خلاف ما كان عليه، وإن كان فيه وفاء بما عليه، ما في ذلك من معنى الرجوع في الصدقة؛ لأنه قد اشترى الصدقة التي كانت عليه بما دفع فيها، وليس ذلك بحقيقة الرجوع فيها، إذ لم يدفعها بعد، وأيضا فإن الحديث إنما جاء في صدقة التطوع، وقد روي إجازة ذلك عن جماعة من السلف، منهم: عمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعمر بن عبد العزيز، وأبو الزناد، ووجه تفرقة ابن القاسم بين أن يُخرج العين عن الحب، أو عن زكاة الفطر هو أن زكاة الفطر قد جاءت السنة بتسمية ما يخرج منه، فلا يتعدى ما جاءت به السنة في ذلك، وقد مضى في رسم "حلف" من سماع ابن القاسم - القول فيما تؤدى منه زكاة الفطر، فلا معنى لإعادته.(2/512)
[مسألة: النصراني يسلم والعبد يعتق وقد أزهى ثمره متى تجب عليهم الزكاة]
مسألة
وسئل عن نصراني أسلم، أو عبد أعتق، أو مكاتب أدى كتابته وقد أزهى ثمره، أو استحصد زرعه، متى تجب عليهم الزكاة؟ قال ابن القاسم: إذا أسلم النصراني، أو أعتق العبد، أو أدى المكاتب كتابته قبل حلول بيع الثمار فعليهم الزكاة، وإن كان بعد حلول بيع الثمار، فلا زكاة عليهم فيه، وهو بمنزلة الورثة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن النصراني، والعبد، ليسا من أهل الزكاة، فلا زكاة عليهما، إلا أن تبلغ الثمرة أو الزرع - حد وجوب الزكاة فيهما - وهما من أهل الزكاة؛ وهذا ما لا اختلاف فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الاشقالية هل تجمع في الزكاة مع القمح والشعير]
ومن كتاب المدنيين مسألة وسئل ابن كنانة عن الاشقالية - وفسر له أمرها ومنفعتها - هل تجمع في الزكاة مع القمح والشعير، أو هل فيهما زكاة؟ فقال: نعم، هذا صنف من الحنطة، يقال له العلس يكون باليمن - وهو يجمع مع الحنطة في الزكاة، وفيها الزكاة؛ قال ابن القاسم: فيها الزكاة، ولا تجمع إلى القمح، ولا إلى الشعير.
قال محمد بن رشد: قد روي عن مطرف أنه لا زكاة فيها، وقد مضى بقية القول في هذا في سماع أصبغ، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.(2/513)
[كتاب الجهاد الأول] [ما غنمه المسلمون من متاع العدو فلم تكن له قيمة]
من سماع ابن القاسم من مالك رواية سحنون بن سعيد من كتاب أوله حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها قال سحنون: أخبرني ابن القاسم، قال: سمعت مالكا يقول في القوم يكونون في الغزو (فيغنمون الغنائم) ، فيلقون أشياء مثل القصعة، وأشباه ذلك، لا يبتغونها ويسلمونها، فيأخذها الرجل، أترى أن تكون له؟ قال إذا أسلموها فارتحلوا عنها، فأراها له ولا أرى فيها خمسا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما غنمه المسلمون من متاع العدو فلم تكن له قيمة، ولا وجد له ثمن لزهادة الناس فيه، وعجز الإمام عن حمله فلم يقبله، ولا ضمه إلى غنائم المسلمين؛ فالواجب أن يخلى بين الناس وبينه لمن أخذه على غير قسم دون سائر الجيش، ولا يكون فيه خمس؛(2/515)
لأن الوجه فيه - إن لم يأخذه أحد، أن يحرق ولا يترك للعدو ينتفعون به؛ فلما كان هذا هو الوجه فيه، وجب أن يكون لمن أخذه وانصرف إلى بلده حلالا، ولا يكون عليه أن يتمخى من شيء منه، والأصل في هذا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في ضالة الغنم: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» . هذا فيما تقرر الملك عليه، فكيف بما لم يتقرر عليه الملك للمسلمين، لكونه بعدُ في حوزة المشركين، وكذلك إن أخذ ذلك أحد فحازه، ثم عجز عن حمله فألقاه وتركه، كان لمن أخذه بعده فاحتمله، ولا اختلاف في هذا - أعلمه، وإنما اختلفوا فيمن صار إليه شيء من غنائم المسلمين باشتراء أو قسم، فضعف عن حمله وتركه على وجه اليأس منه في حوزة العدو، فوجده أحد من الناس فأخذه واحتمله، فقيل هو كالأول يكون لمن أخذه واحتمله - وإن كان مما له ثمن من السبي والمتاع، وهو قول ابن حبيب؛ وقيل إنه للأول - وعليه أجر الحمل والمؤنة، وهو قول أصبغ، وسحنون؛ وجه القول الأول أن الأول لم يملكه ملكا تاما فأشبه ما أخذه مما أسلم وترك من غنائم المسلمين بغير شراء ولا قسم؛ ووجه القول الثاني: أن الأول لما كان قد اشتراه أو صار له في سهمه، كان لمن وجده فاحتمله - حكم الشاة الضالة يجدها الرجل في الفيفاء فيقدم بها إلى الأحياء، أن ربها بها أولى؛ وأما إن كان ترك ذلك في حوزة الإسلام، فهو للذي تركه، وعليه مؤونة حمله قولا واحدا؛ قال ابن حبيب: فإن كان في ذلك شيخ أو عجوز فهم أحرار؛ لأن تركه مثل أولئك، إنما هو على وجه التخلية لهم والتحرير، وأما ما كان من متاع العدو يقبله الإمام ولا يضعف عن حمله، وله(2/516)
ثمن وإن قل، فأخذه غلول، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة» .
[مسألة: القوم يخرجون إلى الغزو ومعهم بفضل أموال يشترون من الغنائم]
مسألة وسئل مالك عن القوم يخرجون إلى الغزو ويخرجون معهم بفضل أموال يشترون من الغنائم إذا سبوا الجواري والخرثى، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله لا بأس بذلك أمر جائز للرجل إذا خرج للجهاد أن يخرج معه بفضل مال ليشتري به من مغانم المسلمين ما يرجو الربح فيه، ولا ينقص ذلك من أجر جهاده، ولا يقدح في نيته، يريد إذا كان أصل خروجه لله، ولم يكن أصل خروجه ابتغاء التجارة، كما لا يقدح في نيته ما يرجوه من الغنيمة، وقد قال الله عز وجل {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] . يريد الشهادة أو الغنيمة. وقد أباح الله تعالى التجارة في الحج بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] . يريد في مواسم الحج، وقد قرئ ذلك؛ وكذلك الجهاد، بل هو فيه أجوز، لما في ذلك من النفع لأهل الجيش؛ لأن الشأن أن تقسم الغنائم في بلد الحرب قبل القفول، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والخلفاء بعده، فما كان منها ما لا ينقسم، باعه الإمام(2/517)
وقسم ثمنه، فلو لم يكن مع أحد من أهل الجيش فضل مال، لما أمكنه أن يقسم ما لا ينقسم، إلا بعد الخروج إلى قاعدة يكون فيها الأسواق، ويمكن فيها البيع؛ وفي ذلك ضرر على الجيوش لما لهم من الرفق في تفرقهم من طريقهم إلى بلادهم، وترك رجوعهم إلى بلد واحد؛ ولهذا المعنى قال ابن حبيب: إنه لا ينبغي للإمام أن يبيع شيئا من متاع الغنيمة الذي لا ينقسم، إلا بالنقد إلا أن يرى في ذلك ضررا على الناس فيبيع ويكتب على المبتاعين الأثمان حتى يخرجوا، ثم يتقضاها منهم ويقسمها بين الناس قبل أن يتفرقوا.
[مسألة: يعطي الذهب في سبيل الله فتفضل الفضلة أيردها إلى أهلها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يعطي الذهب في سبيل الله، أو في حج يحج به فتفضل الفضلة؛ أيردها إلى أهلها؟ أم كيف يصنع؟ قال: أرى أن يعطي أهل سبيل الله، فقيل له: ولا ترى أن يردها؟ قال: لعله لا يجد صاحبها، وأحب إلي أن يجعلها في سبيل الله يعطيها غيره. وقال في الحج: يردها إلى أهلها.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك أن من أعطى رجلا شيئا في السبيل - عينا كان أو عرضا، فأمره محمول على أنه قد بتل ذلك في السبيل، فلا ينفق المعطى شيئا منه إلا في سبيل الغزو منذ يخرج إلى أن يبلغ رأس مغزاه، واختلف هل ينفق منه في فعله حتى يرجع إلى أهله، فأجاز ذلك له ابن حبيب، ومنع منه مالك في رواية أشهب عنه في رسم "الوضوء والجهاد "، ولا يستحق منه ما فضل بعد الغزو ملك، ولا يرجع ذلك إلى معطيه ملكا أيضا، ويجعله في السبيل - إن رده إليه، واستحب في هذه الرواية ألا يرد الفضلة إلى صاحبها مخافة ألا يجده، وأن يجعلها هو في السبيل. وقال في رسم "الوضوء والجهاد" من سماع أشهب ذلك واسع إن رد الفضلة إلى صاحبها، أو جعلها هو في السبيل، ونحوه في رسم "طلق" بعد هذا، وإن قال معطي الشيء في السبيل أنه لم يبتله في(2/518)
السبيل، وأراد أن يأخذ الفضلة نوى في ذلك، وكان القول قوله على ما في رسم حديث طلق بعد هذا من هذا السماع، وكذلك إن قال: أردت أن يكون للمعطى ما فضل من ذلك بعد غزوه - ملكا يضع به ما شاء، نوى من زكاة أيضا، وكان من بمنزلة أن لو نص على ذلك فقال له: افعل به ما شئت إذا بلغت غزوك؛ وهو كذلك على ما يأتي في رسم "باع غلاما" من هذا (السماع) أيضا، فمذهب مالك في هذه المسألة على ما ذكر في موطئه عن عبد الله بن عمر، أنه كان إذا أعطى شيئا في سبيل الله، يقول لصاحبه إذا بلغت وادي القرى، فشأنك به، خلاف ما ذكر فيه عن سعيد بن المسيب من أنه كان يقول إذا أعطى الرجل الشيء في الغزو فبلغ به رأس مغزاته فهو له؛ وقول عبد الله بن عمر الذي ذهب إليه مالك أظهر من قول سعيد بن المسيب؛ لأن ظاهر اللفظ التبتيل في السبيل، فينبغي أن يحمل على ذلك حتى ينص المعطي على خلاف ذلك، أو يدعي أنه نواه، وقد روي عن سحنون كان من أعطى شيئا في السبيل يستحقه المعطى ملكا ببلوغه رأس مغزاه - على قول سعيد بن المسيب؛ وحكى الفضل أنه مذهب مالك وأصحابه، وليس ذلك - عندي بصحيح؛ ومكحول يرى أنه يستحقه بالأدراب، وتأول فضل أن ذلك هو مذهب ابن عمر في الموطأ، وهو تأويل بعيد، وقد روي عن سحنون أنه إن أعطيه لينفقه في السبيل - على نفسه، رد الفضل على صاحبه؛ وإذا أعطيه لينفقه في السبيل - وليس على نفسه، يرد ما بقي في السبيل ولم يرده على صاحبه، واختلف إن كان الذي أعطى في السبيل فرسا أو سلاحا، فقيل: إنه محمول على التحبيس حتى ينص على التبتيل، حكى ذلك سحنون عن ابن القاسم عن مالك، وقيل: إنه محمول على التبتيل حتى ينص على التحبيس، وهو(2/519)
ظاهر ما يأتي في رسم طلق، وفي رسم "باع غلاما"، ورسم "صلى نهارا"، وأما من أعطى رجلا شيئا في حج، فما فضل على الحج، راجع إلى المعطى ملكا؛ والفرق عند مالك بين المسألتين: أن السبيل لا نهاية له، فحمل على التبتيل، والحج له نهاية ينقضي إليها، فحمل على ذلك، ولم يحمل على التبتيل؛ فعلى قياس هذا لو أعطاه الذهب في غزوة بعينها، لوجب أن يرجع إليه ما فضل له عنها؛ ويأتي على قياس قول سعيد بن المسيب إن من أعطى رجلا ذهبا في حج يحج به، فما فضل عن الحج هو للمعطى، لا يرجع إلى المعطي؛ لأنه إذا قال ذلك في السبيل الذي لا نهاية له، فأحرى أن يقوله في الحج الذي له نهاية.
[مسألة: يهلك فيوصي بالمال في سبيل الله كيف يقسم]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يهلك بالفسطاط، أو بقرية من القرى، فيوصي بالمال في سبيل الله، أترى أن يُبعث به إلى الثغور والرباط فيقسم، أم يعطى إن وجد أحدا بموضعه ممن يغزو؟ قال: أرى أن يعطى إن وجد أحدا ممن يغزو، فقلت له: إنه يقول إني أخاف أن يموت الذي يعطى قبل أن يبلغ غزوه، قال: وما ذلك عليه أن يقول أخاف أن يموت.
قال محمد بن رشد: إنما استحب أن يعطى ذلك بالبلد - إن وجد من يغزو منهم ولا يبعث به إلى الثغور - مخافة أن يبعث به إلى هناك، فيضيع على ما قاله بعد هذا في رسم " طلق "، وقد خير بين ذلك في رسم "الوصايا" من سماع أشهب من كتاب الوصايا، قال ابن المواز: وإنما يعطيه لمن قد عزم لا لمن لا يخرج إلا بما يعطى، وقوله يحمل على التفسير لقول مالك؛ لأن من لم يعزم على الخروج إذا أعطي على أن يخرج لعله يأخذ المال فلا يخرج.
[مسألة: ذبح الغزاة في أرض العدو من الجزر في جلودها هل يطرح في المقاسم]
مسألة وسئل مالك عما ذبح الغزاة في أرض العدو من الجزر في(2/520)
جلودها، أترى أن تطرح في المقاسم؟ أم يأخذها الذين يذبحونها؟ قال: أرى إن كان لها ثمن أن تطرح في المقاسم، وإن لم يكن لها ثمن، لم أر به بأسا أن يأخذوها.
قال محمد بن رشد: قوله إن الذين يذبحونها يأخذون الجلود إذا لم يكن لها ثمن. يريد - وإن لم يحتاجوا إليها على معنى ما تقدم في أول مسألة من هذا الرسم، وقد مضى بيان ذلك، وأما إن كان لها ثمن فلا يجوز لهم أخذها إذا لم يحتاجوا إليها؛ لأن ذلك من الغلول وتُطرح في المقاسم؛ واختلف إن احتاجوا إليها لشد قتب بعير أو نعل، أو شبه ذلك؛ فقال ابن نافع: لا يأخذونها إذا كان لها ثمن - وإن احتاجوا إليها. وروى ابن القاسم عن مالك في المدنية أنه لا بأس أن يأخذوها إذا احتاجوا إليها - وإن كان لها ثمن؛ ومثله في الواضحة، وهو ظاهر ما في المدونة وبالله التوفيق.
[الرباط أو الغارات في أرض العدو أيهما أعجب]
ومن كتاب
أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك أي ذلك أعجب إليك: الرباط أو الغارات في أرض العدو؟ قال: أما الغارات، فلا أدري كأنه كرهها؛ وأما السير في أرض العدو على الإصابة - يعني إصابة السنة فإنه أعجب إليّ. قلت له يا أبا عبد الله إن عندنا مدائن على البحر، وإنها قد ضيعت من الغزو وفيها جماعة حشو من نساء وصبيان، ويخاف(2/521)
عليهم؛ أفرباطها أعجب إليك؟ أم الدخول في أرض الروم؟ قال: ما زالت الولاة يضيعون مثل هذا، وما يدفع الله أكثر، وما في هذا حد، وما زال الله يدفع وما في هذا حد، إلا على ما يرى من ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله إن السير في أرض العدو على إصابة السنة أعجب إلي من الرباط، وهو مثل ما روي عن ابن وهب أنه قال: سمعت مالكا يقول: الغزو على الصواب، أحب إلي من الرباط؛ والرباط أعجب إلي من الغزو على غير الصواب؛ ولا إشكال في أن الرباط أفضل من الغزو على غير الصواب، فقد قال معاذ بن جبل: الغزو غزوان: فغزو تنفق فيه الكريمة وتياسر فيه الشريك، ويطاع فيه ذو الأمر، ويجتنب فيه الفساد؛ فذلك الغزو خير كله؛ وغزو لا تنفق فيه الكريمة، ولا تياسر فيه الشريك، ولا يطاع فيه ذو الأمر، ولا يجتنب فيه الفساد، فذلك الغزو لا يرجع صاحبه كفافا، وإنما الكلام في الغزو على الصواب، فجعله مالك في هذه الرواية أفضل من الرباط. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: فرض الجهاد لسفك دماء المشركين، والرباط لحقن دماء المسلمين، فحقن دماء المسلمين أحب إلي من سفك دماء المشركين؛ ولا ينبغي أن يحمل هذا على أنه اختلاف من القول، إذ لا يصح أن يقال إن أحدهما أفضل من صاحبه على الإطلاق، وإنما ذلك على قدر ما يرى وينزل، فيحمل قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أن ذلك عند شدة الخوف على الثغور، وخوف هجوم العدو عليها، وما روي عن مالك من أن الجهاد أفضل عند قلة الخوف على الثغور، والأمن من هجوم العدو عليها، وذلك بين من قول مالك في هذه الرواية، لما ذكر له تضيع المدائن التي على البحر، والخوف على (من فيها) من النساء والصبيان؛ قال: ما في هذا حد، إلا على ما يرى من ذلك؛ ومن قوله في رسم "صلى نهارا ثلاث ركعات" بعد هذا: أن(2/522)
جهاد المصيصة أعجب إلي من الرباط، إلا إذا خيف على موضع الرباط، ولم يكن فيه غناء، وقد قيل: إن قول ابن عمر حين دخل الجهاد ما دخل، والتأويل الأول أولى - والله أعلم، وإنما كره مالك الغارات في الرواية استثقالا لاسمها لا لمعناها إذا كانت على وجهها، وهذا نحو من «قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما سئل عن العقيقة: لا أحب العقوق» كراهية الاسم. وقال: «من ولد له ولد، فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل» .
[مسألة: الإبرة أهي من الغلول]
مسألة وسئل مالك عن الإبرة أهي من الغلول؟ فقال إن كان ينتفع بها، فلا أرى ذلك - يعني لا بأس بالانتفاع بها، كما ينتفع بالجلود للنعل والخف وما أشبهه يرفع به ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: أن الإبرة إذا أخذها للانتفاع بها - ولم يأخذها مغتالا لها، فليست من الغلول، وليس عليه إذا قضى حاجته بها أن يردها في المغانم، إذ لا قيمة لها ولا يقبلها منه صاحب المغانم؛ وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أدوا الخياط والمخيط» . كلام خرج منه على التحذير من قليل الغلول وكثيره، إلا أن هذا القدر على الحقيقة يلزم أداؤه ورده إلى الغنيمة، وقد قال مالك في رسم "كتاب الغزو" من سماع أشهب في الذي يأتي بالكبة من الخيط يشتريها بدانق فيطرحها في المقاسم، هذا شيء يراءون به،(2/523)
وما هذا التضييق على الناس؟ فهو يبين ما قلناه في معنى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أدوا الخياط والمخيط» . من أنه كلام خرج على التقليل، كقوله في الأمة إذا زنت في الثالثة بيعوها ولو بضفير. وكقوله: «من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتا في الجنة» . ومثل هذا كثير.
[مسألة: يحمل رمحه وسلاحه في الغزو ومعه من يحمله له]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يحمل رمحه وسلاحه في الغزو ومعه من يحمله له، فقال: لا بأس بذلك، فقيل له ويحمله غلامه فقال لا بأس بذلك، ولعله يكون ذلك خيرا له؛ وأقوى له إن احتيج إلى قتاله ألا يتعب نفسه، فما أرى بذلك بأسا، وأراه حسنا يحمله غلامه ويحمله عنه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن ذلك جائز لإكراهه فيه، بل هو حسن من الفعل؟ لما فيه من إبقاء قوته لوقت لقاء العدو، وقد أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس بالفطر في رمضان في سفره عام الفتح، وقال: تقووا لعدوكم. فالتقوي للعدو بكل ما يقدر عليه مرغب فيه ومندوب إليه، وبالله التوفيق.(2/524)
[مسألة: أموال الرهبان في أرض العدو]
مسألة وسئل مالك عن أموال الرهبان في أرض العدو، قال: يترك لهم من ذلك ما يصلحهم، والبقرتان تكفيان الرجل؛ ولو قبل قوله لادعى الشيء الكثير، ولكني أرى أن يترك لهم ما يصلحهم.
قال محمد بن رشد: معنى هذه الرواية، أن الرهبان إذا وجدت عندهم الأموال، وادعوا أنها لهم ولم يعرف صدق قولهم، لم يصدقوا، وترك لهم من ذلك ما يصلحهم؛ والبقرتان تكفيان الرجل، وذلك بين من قوله ولو قبل قوله لادعى الشيء الكثير؟ وأما إذا علم أنها أموالهم فلا يؤخذ لهم منها شيء - وإن كثرت على ظاهر ما يأتي في رسم "اغتسل" بعد هذا، وهو نص رواية ابن نافع عن مالك؛ فليس شيء من ذلك باختلاف من قول مالك في العتبية أو سحنون، ويذهب إلى أنه لا يترك للراهب من ماله إلا ما يستر عورته من الكسوة ويعيش له الأيام من الطعام؛ قال: وكذلك يترك للشيخ الكبير مثل ما يترك للراهب، وهو نحو قول مالك في المدونة؛ وقد كان بعض أهل النظر يقول معنى هذه الرواية أنه لا يترك لهم من أموالهم وإن علم أنها أموالهم، إلا ما يصلحهم: البقرتان للرجل وشبه ذلك نحو قول سحنون، وما في المدونة خلاف ما في رسم "اغتسل" من أنه لا يؤخذ لهم من أموالهم شيء، ومنهم من كان يقول معنى ما في رسم "اغتسل" أن ذلك يسير بقدر ما يصلحهم، نحو قول سحنون، وقول مالك في المدونة، وما في هذه الرواية فلا يأتي في المسألة على هذا التأويل اختلاف، والصواب ما بدأنا به أن ذلك ليس اختلاف من قول مالك في العتبية، وإنما الخلاف قول سحنون وما في المدونة والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: لبس الحرير للجنود]
مسألة قال: وسئل مالك عن رجال بالإسكندرية يتهيأون يوم(2/525)
العيد بالسلاح ويلبسون عليها ثيابا من حرير ليتهيبوا بها العدو. قال مالك: ما يعجبني لبس الحرير، ولم ير ابن القاسم بأسا أن يتخذ منه راية في أرض العدو.
قال محمد بن رشد: أما اتخاذ الراية فلا اختلاف في جواز ذلك، وأما لباسه عند القتال، فقد أجازه جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول ابن الماجشون، وروايته عن مالك؛ لما عندهم في ذلك من المباهاة بالإسلام، والإرهاب على العدو، ولما يقي عند القتال من النبل وغيره من السلاح؛ أو هو قول محمد بن عبد الحكيم، وحكاه ابن شعبان عن مالك من رواية عيسى عن ابن القاسم عنه من أنه قال «من قتل عصفورة فما فوقها بغير حقها سأله الله عز وجل عن قتلها، قيل يا رسول الله وما حقها؟ قال: " تذبحها فتأكلها ولا تقطع رأسها فترمي بها» . ولهذا قال أبو بكر الصديق، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليزيد بن أبي سفيان إذ شيعه إلى الجهاد: " ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة " (48) وما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نهيه عن المثلة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يغل في أرض العدو ثم يتوب]
مسألة (قال) : وسئل مالك عن الرجل يغل في أرض العدو، ثم يتوب(2/526)
ويرد ما غل؛ أترى أن يعاقب؟ قال: ما سمعت فيه بشيء، ولو فعل ذلك به لكان لذلك أهلا؛ قال ابن القاسم: إذا جاء تائبا، لم أر عليه أدبا؛ قال كالمرتد والراجع عن شهادة شهد بها.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة- عندي- إذا تاب قبل القسم، ورد ما غل في المغانم، فحينئذ يسقط عنه الأدب، عند ابن القاسم وسحنون، كالمرتد والراجع عن شهادة شهد بها عند الحاكم قبل الحكم؛ وقول مالك لو فعل به ذلك لكان له أهلا، هو مثل ما في كتاب السرقة من المدونة في الشاهد يرجع عن شهادة شهد بها قبل الحكم، ويدعي الوهم والتشبيه، ولا يتبين صدق قوله؛ وأما لو تاب بعد القسم وافتراق الجيش، لما سقط عنه الأدب عند جميعهم على قولهم في الشاهد يرجع عن شهادته بعد الحكم بها؛ لأن افتراق الجيش مي معنى نفوذ الحكم، بل هو أشد! إذ قد يقدر أن يغرم للمحكوم عليه ما أتلف عليه بشهادة، ولا يقدر أن يوصل إلى الجيش بعد افتراقه ما وجب لكل واحد منهم من المال الذي غل؛ قال مالك في كتاب ابن المواز: ولو ظهر عليه قبل أن يتوب أدب وتصدق به إن افترق الجيش، وإن لم يفترق رد في المغانم؛ وقال الليث إن لم يعرف الجيش جعل خمسه في بيت المال وتصدق بما بقي، وقال عبد المالك وأصبغ وسهمه فيه قائم كيف كان.
[يدفع المال إلى من يغزو به]
ومن كتاب طلق بن حبيب وسئل عن الرجل يجعل المال في سبيل الله بالمدينة، فيجد من يخرج؛ أفأحب إليك أن يعطى قوم يخرجون من ههنا، أم يبعث(2/527)
به إلى المصيصة فيعطى؟ ثم قال: أحب إلي إن وجد من يثق به ههنا أن يدفع إليه ذلك، ولا يؤخره إلى المصيصة، ولعله يبعث به إلى هناك فيضيع.
قال محمد بن رشد: يبين في هذه المسألة وجه استحبابه في أن يدفع المال إلى من يغزو به من هنا، ولا يبعث به إلى المصيصة، فذلك مفسر لقوله في أول رسم من هذا السماع.
[مسألة: يعطيه الفرس ليتقو به في سبيل الله فيغزو عليه ثم يموت فيطلبه صاحبه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يعطي الرجل الفرس فيقول له تقو به في سبيل الله، فيغزو عليه، ثم يموت، فيطلبه الرجل؟ فقال: كيف يأخذه وقد مات الذي أعطيه؟ قيل له إن صاحبه يقول إنما أعطيته ليتقوى به في سبيل الله ولم أبتله؟ قال مالك: ذلك له هو أعطاه وهو أعلم بنيته؛ وسئل مالك عن الرجل يعطي الشيء في سبيل الله فيغزو فيه وتفضل منه الفضلة، أتراها له؟ قال: بل أرى أن يردها إلى صاحبها، أو يجعلها حيث جعل ذلك؛ فقيل له: فالرجل يغزو وينفق على أهله، فقال يعطى الشيء في سبيل الله، ثم يشتري به الدجاج والقمح ويقعد يأكله؛ ما أرى ذلك له، ولقد كان ههنا رجال من أهل الفضل والخير يعطون الشيء في سبيل الله فلا يقبلون.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هاتين المسألتين مستوفى في أول رسم من هذا السماع، فلا معنى لإعادته، وفي قوله في آخر المسألة ولقد كان ههنا رجال من أهل الفضل والخير يعطون الشيء في سبيل الله فلا(2/528)
يقبلون، دليل على أنه قد كان منهم من يقبل ذلك؛ وهذا في أهل الغناء، منهم: من كره ذلك ورأى الغزو بماله أعظم لثوابه، ومنهم من لم ير بأسا أن يقبل ما أعطي من غير مسألة؛ فإن احتاج إليه أنفقه، وإن استغنى عنه فرقه في السبيل؛ وأما الضعيف الفقير فقبول ما أعطي من غير مسألة أفضل بإجماع، لما في ذلك من إعلاء كلمة الله بالقوة على الجهاد في سبيل الله.
[مسألة: يريد أن يخرج إلي المصيصة يجاهد بها وعليه دين]
مسألة وسأل رجل مالكا فقال له: إن علي ألفا وستمائة درهم لناس (شتى، في أقطار الأرض، منهم من قد مات، وله ورثة، ومنهم من هو حي، ومنهم من قد مات - ولا أعرف له ورثة؛ والذي لهم علي يختلف، منهم من له المائة درهم، والخمسون، والألف، وأقل من ذلك وأكثر؛ وهم في بلدان شتى، وقد عجزت عنه، وطلبت فيه نحوا من ثلاثين سنة) . فلم أقو على أدائها، ولم أرزق شيئا، فأحببت أن أخرج إلى المصيصة فأجاهد بها، فإن يدركني بها موت، فأحب المواضع إلي؛ وإن أرزق بها شيئا قضيت بها ديني؟ قال مالك: ما أرى بأسا، وأمره أن يفعل ذلك، وأن يخرج إليها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الذي عليه الدين، إذا كان عديما، فله أن يغزو بغير إذن الذي له عليه الدين؛ إذ لا منفعة للذي له عليه الدين في تركه الغزو، وقد يرزق في الغزو ما يودي به الدين عن نفسه، ففي الغزو منفعة له ولصاحب الدين، وأما من عليه دين وهو مليء فلا يجوز له أن يغزو بغير إذن صاحب الدين، إلا أن يكون الدين الذي عليه لم يحل بعد، فيوكل من يقضيه عنه عند حلوله، قاله سحنون في كتاب ابنه، وحكى(2/529)
ابن حبيب في الواضحة عن مالك، أنه كان يوسع لمن عليه دين أن يغزو إذا خلف وفاء من دينه، أو أذن له غرماؤه بالخروج، وإن لم يدع وفاء من دينه، فظاهر قوله أنه ليس عليه أن يستأذن غريمه، إلا إذا لم يدع وفاء وهو بعيد.
[يقول له اشتر هذا الفرس وأحملك عليه فلا يدري ما يبلغ من الثمن]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ابن القاسم: وكره مالك أن يقول الرجل للرجل اشتر هذا الفرس وأحملك عليه، فلا يدري ما يبلغ من الثمن حتى يوقت له ثمنا، قال سحنون أراه جائزا وليس له معنى.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة تكلم عليها ابن لبابة في منتخبه فقال: فيها الكراهة لمالك، والتعليل بجهل مبلغ الثمن لابن القاسم، وتعليل ابن القاسم ليس بشيء؛ لأن من وكل رجلا أن يشتري له سلعة بعينها، أو مسماة بغير عينها، ولم يسم له ما يشتريها به، فاشتراها له بما يشبه من الثمن لزمه، وكراهة مالك صحيحة بينة على مذهبهم؛ لأنه استأجره على ابتياع الفرس بحمله عليه، فإن كان بتله له، فقد أوجبه له في أجرته قبل أن يملكه، ولا يجوز لأحد أن يبيع ما ليس في ملكه، ولا أن يستأجر به، وإن كان لم يبتله له وإنما أعطاه ركوبه، دخله مع ذلك أيضا الغرر، إذ لا أمد للركوب؛ هذا معنى قول ابن لبابة دون لفظه، وليس قوله - عندي - بصحيح؛ بل لا وجه للكراهة إلا ما عللت به من الجهل بمبلغ الثمن، وهي كراهة ضعيفة؛ ولذلك أجاز سحنون المسألة ولم ير لكراهيتها معنى، وبيان هذا أن الفرس لم يأمر الرجل أن يشتريه له، - أعني الأمر إذا لم يقل له اشتر لي هذا الفرس وأحملك عليه، وإنما قال: اشتر هذا الفرس وأحملك عليه، فإنما أمره أن يشتريه للسبيل ويحمله عليه، فهو بنفس الشراء يجب للسبيل(2/530)
ويكون المشتري أحق بركوبه في السبيل من غيره، وإن كان بتله له، فلم يأمره أيضا أن يشتريه له، وإنما أمره أن يشتريه لنفسه؛ فهو بنفس الشراء يجب للمشتري كالآمر؛ فإن سمي له الثمن، لم يكن لكراهة ذلك وجه؛ لأنه بمنزلة من قال لرجل اشتر لنفسك فرس فلان بعشرة مثاقيل والثمن علي؛ وإذا لم يسم له الثمن، دخلته الكراهية، إذ لا يدري المأمور بما رضي الآمر أن يشتريه به، ولعله سيقول له إذا اشتراه لم أرد أن يشتريه بهذا الثمن؛ وقد كنت قادرا على أن تشتريه بأقل مما اشتريته به، فتعديت علي وقصدت إلى الإضرار؛ فيقع في ذلك بينهما خصومات، فهذا وجه الكراهية في ذلك عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[مسألة: فرس اعتل على صاحبه بأرض العدو]
مسألة وسئل مالك عن فرس اعتل على صاحبه بأرض العدو، قال مالك: يعقره ولا يتركه واثقا ذبحه.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في رسم "حلف بطلاق امرأته" قبل هذا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[يعطى الفرس في سبيل الله أو السلاح هل يقبله]
ومن كتاب
أوله أخذ يشرب خمرا
قال: وسئل مالك عن الرجل يعطى الفرس في سبيل الله، أو السلاح؛ أترى أن يقبله؟ قال: إن كان غنيا عنه، فلا أرى له ذلك؛ وإن كان محتاجا إليه، فلا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: قد تقدم في رسم طلق ذكر اختلاف أهل العلم في الأفضل في ذلك للغني على أن ينفقه إن احتاج، وإلا جعله في السبيل، وأما المحتاج، فالاختيار له قبول ما أعطي في السبيل من غير مسألة قولا واحدا.(2/531)
[ينتقل إلى الساحل وفيها دار قد جعلت في سبيل الله أيسكنها أم لا]
ومن كتاب أوله سلف في المتاع والحيوان المضمون
قال: وسئل مالك عن الرجل ينتقل إلى الساحل وفيها دار قد جعلت في سبيل الله، أترى أن يسكنها؟ قال مالك: إن كان غنيا عنها، فأحب إلي أن يسكن غيرها؟ وإن كان سكنها، لم أر بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن الاختيار للغني ألا يسكنها، فإن سكنها لم يكن عليه في ذلك حرج؛ وهذا إذا كان فيها فضل عن سكنى المحتاجين من أهل السبيل، وقد مضى في الرسم الذي قبل هذا ما يدل على أن الاختلاف لا يدخل في هذا.
[مسألة: المال يجعل في سبيل الله أيعطى منه المرضى]
مسألة وقال مالك: في المال يجعل في سبيل الله، أيعطى منه المرضى؟ قال: نعم - في رأيي، ويستأذن صاحبه في ذلك؛ فقيل له يا أبا عبد الله، إنها وصية؟ فقال: الله أعلم وكأني رأيته يريد أن يخففه، ولم يبين لنا فيه شيئا، قال ابن القاسم: ولا أرى بذلك بأسا، إلا أن يكون المريض قد أيئس منه، أو يكون به ضرر، مثل المفلوج، والأعمى، وما أشبهه الذي لا قتال عنده؛ فلا أرى أن يعطوا ذلك؛ وسئل مالك عن الرجل يعطى المال في سبيل الله يفرقه، فيكون في الثغر غلمان قد راهقوا الحلم، ورموا عن القسي - ولم يحتلموا وقد راهقوا؛ أترى أن يعطوا منه شيئا؟ قال: لا - وغيرهم أحب إلي، قال ابن القاسم: فقيل له فلو قاتلوا أترى(2/532)
أن يسهم لهم؟ فقال: نعم - إذا بلغوا مبلغ القتال وقاتلوا، ولا يعطوا من المال الذي يجعل في سبيل الله حتى يحتلموا.
قال محمد بن رشد: أما المريض الذي ترجى إفاقته، فلا اختلاف في أنه يسهم له ويعطى من المال الذي يجعل في السبيل؛ وأما المريض الذي قد يئس منه والمفلوج، وشبههما؛ فلا اختلاف في أنه لا يسهم لهم إلا أن يصيبهم ذلك بعد وجوب السهم لهم، ولا يعطون من المال الذي يجعل في السبيل؛ وأما الأعمى فلا يعطى من المال الذي يجعل في السبيل. واختلف هل يسهم له أم لا؟ فروى محمد بن سحنون عن أبيه أنه يسهم له، والذي تدل عليه الرواية أنه لا يسهم له؛ وكذلك المقعد، والمرأة، والصبي - إذا بلغا مبلغ القتال وقاتلا، لا يعطوا من المال الذي يجعل في السبيل شيئا؛ واختلف هل يسهم لهم، فروى محمد بن سحنون عن أبيه في المقعد أنه يسهم له؛ لأنه يقاتل راكبا؛ وقال ابن حبيب في الصبي المراهق، والمرأة - إذا قاتلا أنه يسهم لهما، مثل ما قال ههنا في الصبي الذي قد بلغ مبلغ القتال وقاتل، خلاف ما في المدونة فيهما جميعا؛ وأما المقطوع إحدى الرجلين، أو المقطوع اليد اليسرى، فإنه يسهم لهما ولا يعطيان من المال الذي يجعل في السبيل شيئا.
[مسألة: أبقت منه جاريته فأخذها المشركون ثم باعوها من رجل من المسلمين]
مسألة وسئل مالك عن رجل يكون في أرض المشركين، فأبقت منه جاريته فأخذها المشركون، ثم باعوها من رجل من المسلمين - والمشتري يعرف أنها للرجل؛ قال: قال مالك: إن عرفها فليردها إلى صاحبها، قال ابن القاسم، يريد بالثمن وهو رأيي؛ قال ابن(2/533)
القاسم: وهو مصدق في الثمن، إلا أن يأتي بأمر يستنكر حتى يستدل على كذبه حيث لا يشك في كذبه، فيأخذها بالقيمة؛ لأن مالكا قال: ما أبق من المسلمين إلى العدو من رقيق المسلمين، فهو مثل ما أسر؟ وإذا وقعت فيه المقاسمة، فلا شيء لصاحبه، إلا أن يشاء أن يفتديه بالثمن الذي بيع به.
قال محمد بن رشد: قول مالك إن صاحب الجارية أحق بها بالثمن الذي اشتريت به، أو وقعت به في المقاسم؛ إن شاء أن يأخذها بذلك، وسواء أبقت إليهم، أو غلبوا عليها؛ هو قول مالك في المدونة وغيرها، ولا اختلاف في ذلك في المذهب؛ وقول ابن القاسم إنه مصدق في الثمن إلا أن يأتي بأمر يستنكر حتى يستدل على كذبه حيث لا يشك في كذبه، فيأخذها بالقيمة؟ مبين لقول مالك، إلا أنه قول مجمل إذ لم يبين فيه هل يصدق بيمين أو بغير يمين، وتفسير ذلك أنه إن ادعى من الثمن ما يشبه، فهو مصدق دون يمين؟ وإن ادعى ما لا يشبه صدق بيمين، وإن ادعى ما يستنكر حتى لا يشك في كذبه، أخذها ربها بالقيمة - يريد قيمتها يوم اشتراها في الموضع الذي اشتراها فيه من بلد العدو - إن عرفت قيمتها بذلك الموضع، وإن جهلت قيمتها بذلك الموضع، ففي أقرب المواضع إلى ذلك الموضع الذي تعرف قيمتها به دون يمين أيضا؛ وهذا إن لم يدع صاحبها معرفة ما اشتراها به المشتري، وأما إن ادعى معرفة ذلك فتداعيا فيه واختلفا، فالقول قول المشتري مع يمينه - إن أتى بما يشبه؛ فإن أتى بما لا يشبه، كان القول قول صاحبها - إن أتى بما يشبه؛ فإن أتى أيضا بما لا يشبه، حلفا جميعا وأخذها بالقيمة على ما ذكرناه من الموضع الذي تقوم فيه؛ وإن نكل أحدهما وحلف الآخر، كان القول قول الحالف منهما، وإن أتى بما لا يشبه لأن صاحبه قد أمكنه من دعواه بنكوله؛ وهذا التفصيل الذي ذكرناه في هذه المسألة مبني على اختلاف الشفيع والمشتري في ثمن الشقص الذي فيه الشفعة، فهو قائم(2/534)
من مسألة الشفعة في المدونة، ومن سماع أشهب من كتاب الشفعة؛ لأن العلة في كون القول قول المشتري في المسألتين جميعا، كون الشيء المدعى فيه بيده؛ فقف على ذلك، وسيأتي في آخر رسم "الجواب" من سماع عيسى في اختلاف الفادي والمفدي في الفدية ما فيه بيان لهذا - والله الموفق.
[مسألة: يعطى الشيء في السبيل مثل الفرس يحمل عليه]
ومن كتاب
أوله الشريكان يكون لهما المال وسألت مالكا عن الرجل يعطى الشيء في السبيل، مثل الفرس يحمل عليه، " أو الدنانير يعطاها " قال مالك: أما الوالي، فإني لا أرى بذلك بأسا. قال ابن القاسم: يعني الخلفاء، وأما غيرهم فلا يجوز الأخذ منه؛ وأما الناس بعضهم لبعض، فإن كان غنيا فلا أحب ذلك (له) وتركه أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في تفسير قول مالك صحيح؛ لأن الخلفاء إليهم الاجتهاد في إعطاء مال الله وقسمته، فجائز لمن أعطوه شيئا في السبيل أن يقبله، وأما من دونهم من العمال، فلا يجوز لأحد أن يأخذ منهم شيئا؛ لأنهم مضروب على أيديهم، وكذلك الولاة، إلا أن يكون الخليفة قد فوض إليهم النظر في قسمة المال وإعطائه، فينزلون في ذلك منزلته، ويجوز الأخذ منهم؛ وقد مضى في رسم طلق بن حبيب، ورسم أخذ يشرب خمرا الكلام في إعطاء الناس بعضهم بعضا المال في السبيل، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(2/535)
[من تجهز للغزو إذا بدا له أن يقيم أيدفع جهازه إلى غيره]
ومن كتاب
أوله اغتسل على غير نية وسئل مالك عن الذي يتجهز للغزو إذا بدا له أن يقيم، أيدفع جهازه إلى غيره؟ قال: إني لأحب ذلك.
قال محمد بن رشد: استحب ذلك له ولم يوجبه عليه؛ لأنه نوى أن ينفقه في سبيل الله، فكره له أن يرجع فيما نوى - ولم ينذر نفقته في السبيل، فيكون ذلك عليه واجبا بالنذر؛ ولو بدا له أن يؤخر خروجه إلى غزوة أخرى، لأمر أن يرفع جهازه حتى يغزو به؛ إلا أن يخشى عليه الفساد، فيبيعه ويرفع ثمنه حتى يغزو به؛ إلا أن يكون موسرا يجد مثل جهازه إذا أراد الغزو فيفعل بجهازه ما أحب؛ - قاله مالك في موطئه في الذي يريد الغزو فيمنعه أبواه أو أحدهما، وهذا مثله سواء، وبالله التوفيق.
[مسألة: أموال الرهبان وعبيدهم وزروعهم يمر بهم الجيش]
مسألة وسألته عن أموال الرهبان وعبيدهم وزروعهم يمر بهم الجيش، فقال: لا أرى إذا علموا أنها للرهبان، أن يمسوا منه شيئا ولا يهيجوه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم أوله "الشجرة تطعم بطنين في السنة "، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الجاسوس من المسلمين يؤخذ وقد كاتب الروم]
ومن كتاب البز
وسئل مالك عن الجاسوس من المسلمين يؤخذ وقد كاتب الروم وأخبرهم خبر المسلمين، ماذا ترى فيه؟ قال: ما سمعت فيه(2/536)
شيئا، وأرى فيه اجتهاد الإمام. قال ابن القاسم: أرى أن تضرب عنقه، وهذا مما لا تعرف له توبة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم صحيح؛ لأن الجاسوس أضر على المسلمين من المحارب، وأشد فسادا في الأرض منه؛ وقد قال الله تعالى في المحارب: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]- الآية. فللجاسوس حكم المحارب إلا أنه لا تقبل له توبة باستخفافه بما كان عليه، كالزنديق، وشاهد الزور؛ ولا يخير الإمام فيه من عقوبات المحارب، إلا في القتل والصلب لأن القطع أو النفي لا يرفعان فساده في الأرض وعاديته على المسلمين عنهم؛ وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول مالك: أرى فيه اجتهاد الإمام (أي) بين أن يقتله أو يصلبه؛ ومما يدل على وجوب القتل عليه، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما قال في حاطب بن أبي بلتعة، إذ كتب إلي أهل مكة يخبرهم بقصد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إليهم، فأوحى الله تعالى بذلك إليه: دعني أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، ولم ينكر عليه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قوله، ولا قال له إن ذلك لا يجب في ذلك الفعل؛ وإنما أخبر أنه لا يجب على حاطب، لكونه من أهل بدر، مع قبوله لعذره والذي اعتذر به لعلمه بصدقه في ذلك من جهة الوحي؛ فذلك خصوص له، لا يشاركه فيه غيره، ولا يقاس عليه.
[مسألة: أعطى سوارين في سبيل الله في الحضر فأراد أن يبيعهما قبل أن يخرج]
مسألة وسئل مالك عن رجل أعطى سوارين في سبيل الله في(2/537)
الحضر، فأراد أن يبيعهما قبل أن يخرج، وقبل أن يبلغ رأس مغزاه، يتقوى بثمنهما في سبيل الله؛ فقال: لا بأس بذلك، وإنما ذلك بمنزلة ما لو أعطى من الدنانير والدراهم ما يتقوى بها ويتكارى ويأكل منها؛ فقيل له أفيخلف لأهله منها نفقة، قال لا آمره أن يتخلف من ذلك عندهم شيئا.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة في مواضع، ومضى القول عليها موعبا في أول رسم من هذا السماع، فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: قسمة الأرض التي أخذت عنوة]
مسألة قال مالك: بلغني أن بلالا كلم عمر بن الخطاب في هذا المال بالشام في قسمه - وكان من أشد الناس عليه كلاما، فزعم من ذكر أن عمر دعا عليهم؛ فقال: اللهم اكفنيهم. قال مالك: فبلغني أنه ما حال الحول عليهم - وواحد منهم حي؛ قال ابن القاسم: وإنما كان بلال وأصحابه سألوا عمر أن يقسم لهم الأرض التي أخذت عنوة بين الناس، فأبى ذلك عليهم عمر، قال ابن القاسم: وبلغني عن مالك - أنه قال: ليس من الشأن قسم الأرض، ولكن تترك بحالها؛ وكل ما افتتح بعد عمر من العنوة، فالشأن فيه أن يترك كما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال سحنون: وحدثني ابن القاسم عن ابن كنانة، أنه كان يقول ذلك، قال سحنون: وأخبرني به ابن نافع عن مالك.(2/538)
قال محمد بن رشد: ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس أرض خيبر وقسمها بين الموجفين عليها بالسواء، وأن عمر بن الخطاب أبقى سواد العراق، ومصر، وما ظهر عليه من الشام؛ ليكون ذلك في أعطية المقاتلة، وأرزاق المسلمين ومنافعهم؛ فقيل إنه استطاب أنفس المفتتحين لها، فمن شح بترك حقه منها، أعطاه فيه الثمن؛ فعلى هذا لا يخرج فعله عما فعله النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في أرض خيبر، وإلى هذا ذهب بعض أهل العراق؛ وقال إن أقر فيها أهلها لعمارتها كانت ملكا لهم، بدليل ما روي أن عمر وضع الخراج على بياضها وسوادها؛ إذ لو كانت للمسلمين، لكان وضع الخراج على سوادها، بيعا للتمر قبل أن يخلق، وقيل إنه أبقاها بغير شيء أعطى الموجفين عليها، وأنه تأول في ذلك قوله عز وجل في آية الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]- الآية. وإلى هذا ذهب مالك وجميع أصحابه، خلافا للشافعي في قوله إنها تقسم كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض خيبر؛ وقد اختلف على هذا في آية الفيء هذه، وآية الغنيمة التي في سورة الأنفال، فقيل إنهما محكمتان على سبيل التخيير في أرض العنوة بين أن تقسم على ما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض خيبر - مبينا لآية الأنفال - أنها على عمومها، وبين أن تبقى كما أبقاها عمر بدليل آية الحشر؛ وإلى هذا ذهب أبو عبيد - وهو قول أكثر الكوفيين أن الإمام مخير بين أن يقسمها - كما فعل الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أرض خيبر، وبين أن يبقيها كما فعل عمر في سواد العراق؛ وقيل إن آية الحشر ناسخة لآية الأنفال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين بفعله في أرض خيبر - أنها على عمومها في جميع الغنائم من الأرض وغيرها، وإلى هذا ذهب إسماعيل القاضي؛ وقيل إن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال ومفسرة لها، ومبينة أن المراد بها ما عدا الأرض من الغنائم،(2/539)
وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قسم أرض خيبر؛ لأن الله وعد بها أهل بيعة الرضوان، فقال: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] . فهي مخصوصة بهذا الحكم دون سائر الأرضين المغنومة؛ وإذا أبقى الإمام أرض العنوة، وأقر فيها أهلها - لعمارتها، ضربت عليهم الجزية على ما فعل عمر في السواد، ووضع عليهم الخراج في البياض بقدر اجتهاد الإمام، وهو وجه قول مالك في المدونة لا علم لي بجزية الأرض، فأرى أن يجتهد الإمام في ذلك ومن حضره إن لم يجد علما يشفيه - أي إن لم يثبت عنده مقدار ما وضع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عليها من الخراج؛ لأنه إنما توقف في مقدار ذلك؛ وقيل إنه إنما توقف: هل عليها خراج أم لا خراج عليها، وتترك لهم فيستعينون بها على أداء الجزية دون خراج، وقيل إنه إنما توقف فيما يوضع عليها من الخراج: هل يسلك به مسلك الفيء أم مسلك الصدقة، قال ذلك الداودي، وحكي عن ابن القاسم أنه قال: والذي ينحو إليه مالك أن يسلك به مسلك الفيء، وهذا التأويل أبعد التأويلات - عندي؛ وذهب ابن لبابة إلى أن جزية الأرض توضع فيما أوقف الأرض له الإمام، فقال: إنما توقف مالك فيما يصنع بها إذا لم يدر لماذا أوقفها الإمام، ولا إن كانت افتتحت عنوة بقتال، أو عنوة بغير قتال؛ واختار هو إذا جهل ذلك أن يحمل على أنها افتتحت عنوة بقتال، فيكون أربعة أخماس ذلك لورثة من افتتحه - إن عرفوا، وإلا كان سبيل ذلك كله سبيل الخمس، والله الموفق.(2/540)
[يعطي الرجل الفرس في السبيل فيهلك الذي دفع إليه قبل أن يخرج]
ومن كتاب
أوله باع غلاما بعشرين دينارا وسئل مالك عن الرجل يعطي الرجل الفرس في السبيل، فيهلك الذي دفع إليه قبل أن يخرج، فيقول ورثته نحن نغزو عليه ونأخذه؛ قال: لا أرى ذلك لهم، وأرى أن يأخذه صاحبه وينفذه في الوجه الذي جعله فيه في الغزو؛ ولو أنه أعطاه دنانير ثم هلك قبل أن يخرج، رأيتها بتلك المنزلة، يأخذها الذي أعطاها وينفذها في سبيل الله.
قال محمد بن رشد: وإذا قال صاحبه لم أبتله في السبيل، وإنما أردت عين الرجل، وأراد أن يأخذه؛ كان ذلك له على ما مضى في رسم طلق، وإن لم تكن له نية، مضى في السبيل؛ وفي ذلك اختلاف لسحنون في كتاب ابنه فيمن أوصى لفلان بمال في السبيل، فمات فلان قبل أن يأخذه، أنه يرجع ميراثا للورثة؛ وقال مالك، والأوزاعي، ومكحول، إن الورثة يضعونه في السبيل، وهو الذي يأتي على هذه الرواية.
[مسألة: حمل على فرس في سبيل الله الانتفاع بشيء منه]
مسألة قال: من حمل على فرس في سبيل الله، فلا أرى له أن ينتفع بشيء من ثمنه في غير سبيل الله؛ إلا أن يقال له شأنك به، فافعل به ما أردت، وقال مالك في الدنانير تدفع إلى الرجل في سبيل الله، فيستنفق منها في غزوة ثم يفضل معه منها فضلة؛ قال:(2/541)
لا أحب له أن ينفقها إلا في غزوه، ولكني أحب أن يردها إلى صاحبها ويجعلها في سبيل الله - إذا هو رجع؛ ولا أرى له أن ينفقها في غزوه، إلا في سبيل الغزو ولا يضعها في غير ذلك - يعني لا يشتري بها - وإن كان في الغزو - إلا ما يجعل في الغزو، ولا يشتري به لامرأته أو بناته شيئا، ولا يضعها في غير ذلك؛ فذكر له حديث ابن المسيب وغيره، فلم ير ذلك، وقال: هذا الذي أرى؛ قال: وأرى لو أن رجلا دفع إلى رجل فرسا، أو ذهبا في سبيل الله، فيقول اصنع بها ما شئت هو لك؛ قال: إن كان قال له ذلك، فأراه لصاحبه مالا من ماله، يعمل به في غزوه إذا هو بلغه ما يعمل به في ماله؛ وإن كان وصى، قال: له ذلك، لم أر أن قول الوصي في ذلك جائز أن يصرفه في غير سبيل الله؛ قال سحنون: جيدة صحيحة.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في مواضع، ومضى القول عليها موعبا في أول رسم، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[الرباط وجهاد المصيصة أي ذلك أعجب]
ومن كتاب
أوله صلى نهارا ثلاث ركعات وسألت مالكا عن الرباط وجهاد المصيصة: أي ذلك أعجب إليك؟ فقال: المصيصة، إلا أن يكون ما عندكم(2/542)
أخوف؛ فإذا كان كذلك، اثر الرجل ناحيته؛ فإن كان فيه غنما، فالمصيصة أحب إلي، ولا أرى أن يقاتلوا إلا أن يدعوا ورأيته يكره التبييت.
قال محمد بن رشد: روي في الرباط فضل كثير، وقد قيل إنه أفضل من الجهاد؛ وقد مضى القول في ذلك في رسم "الشجرة تطعم بطنين في السنة "، فلا معنى لإعادته. وقوله رأيته يكره التبييت - يريد قبل أن يتقدم إليهم بالدعوة؛ وأجاز التبييت محمد بن المواز، واحتج بقصة كعب بن الأشرف - يريد أن ذلك جائز فيمن قد بلغته الدعوة، إن التبييت تابع لها، فهو لا يجوز حين تجب الدعوة، ويكره حيث تستحب الدعوة، ويجوز حيث لا تجب الدعوة، وقد قيل إن ذلك اختلاف من القول - حيث لا تجب الدعوة، فمرة أجازه، ومرة كرهه، لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جاء قوما بليل لم يغز حتى يصبح، وذلك لوجهين: أحدهما مخافة أن يصيبوا الولدان والنساء. والثاني: مخافة أن يؤتى عليهم في ذلك لجهلهم بالبلد - والله أعلم، وسيأتي القول في الدعوة قبل القتال في أول نوازل أصبغ من هذا الكتاب.
[مسألة: النفقة يعطاها الرجل في سبيل الله فيفضل معه فضلة فيريد أن يخرج]
مسألة وسئل مالك عن النفقة يعطاها الرجل في سبيل الله، فيفضل معه فضلة فيريد أن يخرج، قال مالك: ليردها إلى من دفعها إليه إن شاء، أو يفرقها في سبيل الله؛ قال مالك: ومن أعطي شيئا في الحج للنفقة، فليرد ما فضل من دفعها إليه؛ إلا أن يكون استؤجر استئجارا، فيكون له ما فضل؛ ومن أعطي شيئا يقسمه في سبيل الله، فليقسمه كما أعطي، فإن لم يجد فليرده.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة متكررة في مواضع، وقد مضى القول عليها - موعبا في أول رسم من هذا السماع، فلا وجه لإعادته.(2/543)
[مسألة: يغزو أرض العدو فيصنع سرجا ويصنع نشابا فيرمي ببعضها ويبقى بعض]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يغزو أرض العدو فيصنع سرجا ويصنع نشابا، فيرمي ببعضها ويبقى بعض؛ قال مالك: ذلك يسير، ما أرى أن يرد منها شيئا في المقاسم، مثل السرج والنشاب وما أشبهه.
قال محمد بن رشد: قوله ذلك يسير ما أرى أن يرد منها شيئا في المقاسم، يدل على أن الكثير عنده بخلاف ذلك؛ وقد اختلف فيه إذا كان كثيرا على ثلاثة أقوال، أحدها: أنه له بيعه ويخرج به ولا شيء عليه فيه، والثاني: أنه يأخذ إجارة ما عمل فيه والباقي يصير فيئا، وهذان القولان في المدونة. والثالث أن جميعه فيء ولا أجرة له في عمله، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون؛ وأما اليسير فلا اختلاف في أنه له ولا شيء عليه فيه، وهذا الاختلاف إنما هو فيما عمل مما لا ثمن له، أو مما له ثمن على مذهب من يرى أن للرجل أن يأخذ من أرض العدو ما لم يجزه إلى بيوتهم من أشيائهم المباحة، وإن كان له في أرض العدو ثمن مثل المسن والدواء، من الشجر، والطير التي للاصطياد - إذا صادها، وهو قول ابن وهب، وابن عبد الحكم؛ وأما على مذهب من يرى أنه ليس له أن يأخذ شيئا من ذلك - إذا كان له ثمن، وأن ما صاده للأكل، حكمه حكم طعام الغنيمة - إن باع منه شيئا، جعل الثمن في المقاسم، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وعزاه إلى مالك وأصحابه، وقول ابن القاسم في رسم الجواب من سماع عيسى(2/544)
بعد هذا، فيتخرج الحكم أن من عمل من ذلك شيئا على قولين، أحدهما: أنه يرد في المقاسم ولا أجرة له، والثاني: أن يكون له فيه إجارة مثله، والباقي فيئا.
[مسألة: مات فرسه أيركب فرسا من خيل العدو ويقاتل عليه]
مسألة قيل له: يا أبا عبد الله، أرأيت لو مات فرسه، أيركب فرسا من خيل العدو، ويقاتل عليه ويقفل عليه؟ قال: نعم، أرى أن يقاتل عليه ويقفل عليه، فإذا بلغ بلاد المسلمين، رده في المقاسم.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا، مثل قول ابن القاسم في المدونة، خلاف رواية ابن وهب، وعلي بن زياد عنه - في أنه لا ينتفع بدابة، ولا بسلاح، ولا بثوب، ولو جاز ذلك، لجاز أن يأخذ دنانير فيشتري بها.
قال ابن رشد: وهذا الاختلاف إنما هو فيما عدا الانتفاع بالخيل والسلاح في معمعة الحرب، إذ لا اختلاف في جواز الانتفاع بها في معمعة الحرب؛ وإنما اختلفوا هل له أن يمسكها بعد الحرب حتى ينقضي القتال، ويقفل على الخيل أم لا؟ وقد روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم فيركبها حتى إذا أنقصها ردها في المغانم، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من(2/545)
المغنم، حتى إذا أخلقه رده في المغانم» . فمن حمل الحديث على عمومه، منع من ذلك إلا في معمعة الحرب، ومن تأوله فقال: معناه إذا فعل ذلك على وجه الخيانة، أو على غير حاجة إلى ذلك إلا ليقي ماله؟ أجاز الانتفاع بذلك على كل حال - إذا احتاج - قياسا على ما أجمعوا عليه من إجازة أكل الطعام واستهلاكه، لحاجة المسلمين إلى ذلك.
[مسألة: يعطى الفرس في سبيل الله أيبيعه]
مسألة وسئل مالك عن الذي يعطى الفرس في سبيل الله، أيبيعه؟ قال: نعم إذا كان يريد أن يشتري بثمنه غيره، أو يتكارى بثمنه في سبيل الله؛ فأما أن يبيعه ويأكل ثمنه في أهله، فلا أرى أن يبيعه وهو في غير رباط.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في رسم "باع غلاما"، وفي رسم طلق، وقد قيل إنه محمول على التحبيس حتى ينص أنه أراد بذلك التبتيل، وقد ذكرنا ذلك في أول رسم من هذا السماع.
[مسألة: أهل المصيصة لا يقاتلوا حتى يؤذنوا ولا يغار عليهم]
مسألة وسئل مالك عن أهل المصيصة إذا أغاروا في أرض الروم، فأتوا حصنا لهم، أترى أن يغيروا حتى يؤذنوا؟ قال مالك: لا أحب لهم أن يغيروا حتى يؤذنوا. فقيل له: فإن الدعوة قد بلغتهم، قال مالك: وإن كان، فإني أرى أن لا يقاتلوا حتى يؤذنوا ولا يغار عليهم.
قال محمد بن رشد: قوله لا أحب لهم أن يقاتلوا حتى يؤذنوا،(2/546)
ولا يغار عليهم - يريد حتى يؤذنوا، أي حتى يعلموا أنهم إنما يقاتلونهم على الدين، لا على الغلبة - وإن كانت دعوة الإسلام قد بلغتهم؛ إذ قد يجهلون ما يقاتلون عليه، فاستحب إذا دخلوا أرض الروم فأتوا حصنا لهم، أن يمسكوا عن الغارة عليهم حتى يدعوهم إلى الإسلام؛ وذلك حسن، لا سيما إن طمعوا أن يجيبوهم إليه، ويدخلوا فيه، وإنما استحب ذلك ولم يوجبه، لاحتمال أن يكونوا قد علموا أيضا على ما يقاتلون، والاستحباب يرجع إلى نفي الوجوب، وهو أحد قولي مالك في المدونة؛ وقد قال يحيى بن سعيد: فيها إن ذلك من الحق عليهم، وسيأتي في أول نوازل أصبغ بيان هذه المسألة - إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.
[مسألة: اللينة ماهيتها وهل يجوز قطعها]
مسألة قال مالك في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5]- الآية. قال: اللينة ما سوى العجوة من الثمار من الألوان.
قال محمد بن رشد: قد قيل في اللينة إنها لون من النخل، روي ذلك عن ابن عباس، وقال مجاهد: اللينة النخل كلها: العجوة وغيرها. ويشهد بصحة قول مالك، ما روي عن ابن عباس وغيره: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقطع نخل بني النضير إلا العجوة، وذلك لأنها كانت قوتهم الذي يعتمدون عليه، وهي التي جاء الحديث في فضيلتها: قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «العجوة من الجنة» ، وثمرها يغذو ما لا يغذو غيره - والله أعلم، فشق ذلك عليهم وقالوا: أنتم تزعمون أنكم تكرهون الفساد وهذا من الفساد، دعوا النخل لمن غلب، فأنزل الله تعالى الآية بتصويب فعل(2/547)
النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأن ما أمر به كان عن إذنه عز وجل، وقيل إنهم لما قطعوا بعضا، وتركوا بعضا، سألوا رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هل لهم أجر فيما قطعوا، أو عليهم وزر - فيما تركوا؟ فأنزل الله الآية، فهي دالة على إباحة القطع، وعلى ألا حرج في الترك؛ وتوقف مالك في المدونة في الأفضل من ذلك، وتأول الآية على أنه لا بأس بالقطع؛ والأظهر أن القطع أفضل من الترك، لما في ذلك من إذلال العدو، وإصغارهم ونكايتهم، وقد قال عز وجل: {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] . إلا أن يكون بلدا يرجى أن يصير للمسلمين، فيكون التوقف عن القطع والتحريق والتخريب أفضل، بدليل نهي أبي بكر أمراء جيوشه إلى الشام عن ذلك، لما علم أن المسلمين يفتتحونها بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحديث المشهور: ويفتح الشام، فيأتي قوم فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم - لو كانوا يعلمون. وبحضه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصلاة في بيت المقدس، وبشد المطايا إليها. وما أشبه ذلك من الآثار الدالة على ذلك، وإنما نهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قطع العجوة؛ لأنها من ثمار الجنة على ما روي عنه - والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: أوصى بسلاحه في سبيل الله أيعطاه أهل الديوان]
مسألة وسئل مالك عن رجل أوصى بسلاحه في سبيل الله، أيعطاه(2/548)
أهل الديوان؟ قال مالك: لست أحب أن يعطاه أهل الغناء، ولكن يعطاه أهل الحاجة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن أهل الحاجة أحق وأولى؛ لأنهم إن لم يعطوا لم يقدروا على الخروج، ففي جعل المال فيهم قوة على الجهاد، واستظهارا على العدو بكثرة العدد.
[مسألة: متى فتحت مصر]
مسألة قال مالك: فتحت مصر سنة عشرين.
قال محمد بن رشد: اختلف في مصر فقيل إنها افتتحت عنوة، وقال الليث: نحن أعلم ببلدنا، إنما أخذت صلحا، أخبرني بذلك جوهرتا البلدين - يريد ابن حبيب، وعبيد الله بن أبي جعفر. - يعني أن الصلح وقع على أن تكون الأرض للمسلمين - كما فعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ببعض أرض الحجاز، لا على أنها تركت لأهلها؛ لأن ذلك لا يبيح الدخول فيها، وقد اختلف في السبب الذي دخل به الليث فيها، فقيل بالاشتراك وقيل بالاكتراء، وقيل بالانقطاع، وإنكار الليث أن تكون أخذت عنوة يدل على أن مذهبه في أرض العنوة، أن تخمس وتقسم، وقيل إنها فتحت صلحا ثم نقضوا، فأخذها عمرو بن العاص عنوة، وبالله التوفيق.
[يبتاع الفرس فيحمل عليه في سبيل الله ثم يجد به عيبا]
ومن كتاب
أوله نذر سنة يصومها
وسئل مالك: عن الرجل يبتاع الفرس فيحمل عليه في سبيل الله، ثم يجد به عيبا؛ أترى أن يرجع بقيمة العيب على الذي باعه منه؟ قال: إن كان قد مضى وخرج به، فأرى ذلك له؛ وأما إذا كان(2/549)
حاضرا - وكان بيده، فإني أرى أن يرده على الذي ابتاعه منه، ويبدل غيره بموضع ما أنفذه فيه.
قال محمد بن رشد: إنما كان له أن يرده بالعيب إن كان لم يخرج به الذي حمل عليه - وإن كان قد أنفذه في السبيل، من أجل أنه لم يتعين للحمول عليه في عينه حق بالحملان، ولا فات بتحبيس عينه في السبيل، لجواز بيعه وإنفاق ثمنه في السبيل - على ما مضى في هذا الرسم وغيره؛ فأشبه ذلك من اشترى دارا فتصدق بها على المساكين، ثم وجد بها عيبا قبل أن تباع ليفرق ثمنها على المساكين؛ إن ذلك ليس بفوت، وترد بالعيب، ويتصدق بالثمن على المساكين، وعلى القول بأنه محمول على التحبيس، يكون ذلك فوتا، ويرجع بقيمة العيب فيجعله في فرس حبيس، أوفي السبيل - على اختلاف في هذا الأصل، قد مضى في سماع أصبغ من كتاب الضحايا.
[مسألة: يأخذ مسن الشيء من أرض العدو]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يأخذ مسن الشيء من أرض العدو، مثل الحجر والرخام والمسن والدواء، من الشجر، والعصا؛ قال: أما العصا والدواء، فلا أرى به بأسا، وأما الرخام والمسن ففيه شك؛ لأنه لم ينل ذلك الموضع إلا بجماعة الجيش فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنه لا يجوز له أن يأخذ شيئا من ذلك - إذا كان له ثمن، وقيل إنه يجوز له أن يأخذه وإن كان له ثمن؛ لأنه مما لم يملكه العدو، ولا حازوه إلى بيوتهم - على ما مضى في رسم "صلى نهارا ثلاث ركعات"، وتفرقة مالك ههنا بين ما أنبتته الأرض وما لم تنبته، على ما فسر به قول مالك ابن القاسم في المبسوطة قول ثالث، ولا يعضده أصل، وأما ما لا ثمن له من ذلك كله، فلا بأس بأخذه قولا واحدا.(2/550)
[مسألة: توافقوا في الغزو أن يتخارجوا النفقة من عندهم فيأكلون معا]
مسألة وسئل مالك عن القوم يغزون في سبيل الله ويرابطون، فيعطى رجل ذهبا في سبيل الله ثم ينزلون جميعا، وربما كانوا جماعة فيخرجون خراجا، ويخرج معهم الذي أعطى والذي أعطي؛ أترى على الذي أعطى شيئا فيما يأكل من أجل الذي أعطي في سبيل الله؟ قال: لا بأس بهذا، وليس هذا مما يتقي؛ وقد قال الرسول، - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في لحم بريرة: هو لها صدقة، وهو منها إلينا هدية. وهذا لا بأس به وهو خفيف.
قال محمد بن رشد: استخف إذا توافق في الغزو الذي أعطى والذي أعطي - أن يتخارجوا النفقة من عندهم، فيأكلون معا، ولم ير ذلك مما يتقى - إذا لم يقصد المعطي أن يأكل أكثر مما أخرج؛ وإنما فعلوا ذلك لما لهم فيه من الرفق، وعلى العادة الحسنة في حسن المعاشرة بين الرفقاء في الأسفار؛ فحجته بحديث بريرة ليست ببينة؛ لأن من أعطى شيئا في سبيل الله، فلا يجوز له أن يرجع فيه ولا في شيء منه بوجه من الوجوه: من شراء، أو عطية، أو هبة، أو صدقة؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لعمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذ أراد شراء الفرس الذي كان حمل عليه في سبيل الله، لما أضاعه صاحبه، وأراد بيعه: لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد، فإن «الذي يعود في صدقته، كالكلب يعود في قيئه» . وإنما الحجة في جواز ذلك، قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ} [البقرة: 220]- الآية.(2/551)
فأباح للوصي خلط نفقته بنفقة يتيمه - إذا قصد بذلك رفق يتيمه، لا الارتفاق بماله، فكذلك هذه المسألة - سواء، وعلى هذا يأتي قول ابن القاسم في رسم "يدير ماله" من سماع عيسى من كتاب النذور - إن من حلف ألا يأكل من طعام رجل، فاصطحبا في سفر، واشتريا طعاما فأكلاه؛ أنه لا حنث عليه - إن لم يأكل أكثر من نصيبه، وبالله التوفيق.
[الجوار بمكة بعد الحج]
ومن كتاب
أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه
وسئل مالك عن الحج: القفل أحب إليك أم الجوار؟ قال: ما كان الناس إلا على الحج والقفل، ورأيته يرى أن ذلك أعجب إليه، فقلت له: والغزو يا أبا عبد الله؟ فإن ناسا يقولون ذلك، فلم يره مثله، قال: وقد كانت الشام حين افتتحت - وكانت بحال حرب، فأقام فيها غير واحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم أبو أيوب، ومعاذ، وبلال، وأبو عبيدة.
قال محمد بن رشد: كره الجوار بمكة بعد الحج، واستحب القفل إثر تمام الحج، بخلاف الغزو - اتباعا للسلف، ولذلك وجه من طريق المعنى، قد ذكرته في رسم "صلى نهارا" من سماع ابن القاسم من كتاب الحج، فاختصرت ذكره ههنا اكتفاء بذكره هناك.
[مسألة: لإمام الجيش ألا يعجل على أصحابه وأن يكون في وسطهم]
مسألة قال مالك: ينبغي لإمام الجيش ألا يعجل على أصحابه، وأن يكون في وسطهم، ويبعث سراياه ليلا يقطع بالناس، وهو يستحب أن يكون في آخرهم، ويقدم الناس، وقد كان عمر بن الخطاب إذا(2/552)
كان في السفر، كان في آخر الناس حتى يقدم المعتل بعيره والضعيف؛ وهذا مما ينبغي لإمام الجيش أن يفعله: أن يكون في آخر الناس، وأن يقدمهم ويرفق بهم، ولا يعجلهم؛ كأنه يقول إذا فعل ذلك، فإن فيه هلاك بعضهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، ليس فيه ما يشكل، ومن الحجة في ذلك، قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، «إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم الكبير، والسقيم، والضعيف؛ وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء» . وقد روي عنه أنه قال المضعف أمير القوم، لما يلزمهم من الوقوف عليه إذا وقف، والتأخير بسببه إذا تأخر، والسير بسيره إذا سار، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل من الأندلس يريد أن يلحق بالمصيصة وله أهل بالأندلس]
مسألة وسئل مالك عن الرجل من أهل الأندلس، أراد أن يلحق بالمصيصة والسواحل - وله ولد وأهل بالأندلس؛ أترى له في ذلك سعة؟ قال: نعم، ثم قال: أيخشى عليهم الضيعة؟ قال: نعم، فكأنه لم يعجبه ذلك حين خاف الضيعة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن قيامه على أهله وولده وترك إضاعتهم - واجب عليه، بخلاف الغزو والرباط، ولا ينبغي لأحد أن يضيع فرضا واجبا عليه لما هو مندوب إليه.(2/553)
[مسألة: الغزو في البحر]
مسألة قال سحنون: أردت غزوا في البحر، فسألت عن ذلك ابن القاسم فنهاني.
قال محمد بن رشد: إنما نهاه - والله أعلم - لأنه علم أنهم كانوا لا يغزون فيه على الصواب، ولا يحافظون فيه على الصلاة في أوقاتها؛ فخشي عليه إن غزا معهم، ألا يقدر على محافظة ما يضيعون، ولا على السلامة مما يصنعون؛ لأن الغزو في البحر إذا كان على السنة وإصابة الحق، فهو من أفضل أعمال البر، بدليل حديث «أنس بن مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نام عند أم حرام، ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكا على الأسرة» ، أو مثل الملوك على الأسرة، وأنه دعا لها أن يجعلها منهم بسؤالها إياه ذلك؛ وهذا بين، والله الموفق.
[هل يرضخ للنساء والصبيان من الغنيمة]
ومن كتاب
أوله مرض وله أم ولد فحاضت
قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول «لما انهزم أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين، قبضت أم سليم امرأة أبي طلحة الأنصاري على عنان بغلة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قالت يا رسول الله مر هؤلاء الذين انهزموا أن تضرب رقابهم، فقال لها رسول الله: أوخيرا من ذلك يا أم سليم؛ فقيل له أفأسهم لها ولمن(2/554)
كان يخرج مع رسول الله من النساء في مغازيه لدواء الجرحى، أو لغير ذلك؟ فقال: ما علمت أنه أسهم لامرأة في شيء من مغازيه» .
قال محمد بن رشد: قوله أو خير من ذلك يا أم سليم - يريد الدعاء إلى الله عز وجل بإنجاز ما وعده به من النصر؛ وكذلك فعل: رفع يديه إلى الله يدعو يقول: اللهم إني أنشدك ما وعدتني ونادى أصحابه وقبض قبضة من الحصى، فحصب بها وجوه المشركين ونواحيهم كلها، وقال: شاهت الوجوه، فأقبل إليه أصحابه سراعا يبتدرون، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الآن حمي الوطيس فهزم الله أعداءه من كل ناحية، حصبهم فيها رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأتبعهم المسلمون يقتلونهم، وغنمهم الله نساءهم وذراريهم وشاءهم، وإبلهم. وفي ذلك يقول تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]- الآية، وقال عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25]- إلى قوله: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 26] . وأما قوله ما علمت أنه أسهم لامرأة في شيء من مغازيه، فهو مما لا اختلاف فيه: أنه لا يسهم للنساء، ولا للصبيان، ولا للعبيد؛ وإنما اختلف هل يرضخ لهم من الغنيمة على غير وجه قسم، فلم ير ذلك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذهب ابن حبيب إلى أن ذلك مما يستحب للإمام أن يفعله.(2/555)
[مسألة: الأنصار وإيثار المهاجرين عليهم]
مسألة قال: وسمعت مالكا يقول حدثني يحيى بن سعيد، عن «أنس بن مالك، أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دعا الأنصار فأراد أن يقطع لهم بالبحرين، فقالوا: لا يا رسول الله، حتى نقطع لإخواننا من المهاجرين، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه ستصيبكم أثرة من بعدي، فاصبروا حتى تلقوني.
» قال محمد بن رشد: مصداق هذا الحديث في كتاب الله حيث يقول في ثنائه على الأنصار {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9]- الآية. نزلت في الذي ضافه منهم ضيف، فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته نومي الصبية وأطفئي السراج، فجعل يري ضيفه أنه يأكل معه ولا يأكل.
[مسألة: حلف في أمر قد سلف لو كان كذا وكذا لفعلت كذا وكذا مما يمكنه فعله]
مسألة قال: وسمعت مالكا يقول: لما نزلت هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 66]- الآية. فقال أبو بكر والذي بعثك بالحق إن كنت لفاعلا.(2/556)
قال محمد بن رشد: لا شك أن أبا بكر من القليل الذي استثنى الله تعالى في الآية، فلا أحد أحق بهذه الصفة منه، ويمينه على ذلك برة؛ وفي هذا حجة لرواية ابن الماجشون عن مالك فيمن حلف في أمر قد سلف: لو كان كذا وكذا، لفعلت كذا وكذا - مما يمكنه فعله لا حنث عليه، خلافا لقول أصبغ أنه حانث؛ لأنه لا يدري هل كان يفعل أو لا يفعل.
[مسألة: المبادرة بالأعمال قبل حلول الآجال]
مسألة قال مالك: بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مثلي ومثلكم، مثل قوم بعثوا طليعة إلى عدوهم، فأراد أن يرجع إليهم، فأعجله ما رأى منهم أن يرجع إليهم فألاح إليهم، أتيتم، أتيتم» .
قال محمد بن رشد: هذا مثل ضربه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقرب قيام الساعة، والحض على المبادرة بالأعمال قبل حلول الآجال، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بعثت أنا والساعة كهاتين» . «ولما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، ناداهم فقال: اعملوا إلى ما عند الله، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، وقال إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» .
[مسألة: خصاء الخيل]
مسألة وقال مالك: في الفرس إذا كلب وامتنع، فلا أرى بخصاه بأسا - إذا كان على هذا الوجه.(2/557)
قال محمد بن رشد: قد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النهي عن خصاء الخيل، ومعنى ذلك عند مالك إذا فعله لغير ضرورة، بدليل هذه الرواية، وبالله التوفيق.
[الرهبان في ديارات ليس في صوامع أيسبون]
ومن سماع أشهب وابن نافع من مالك
رواية سحنون من كتاب الجهاد قال أشهب: سمعت مالكا وسئل عن الرهبان، فقيل إنهم يعتزلون في ديارات ليس في صوامع، أيسبون؟ قال: لا أرى أن يهاجوا، فقيل له وسواء عليك الرهبان في الديارات، أو أصحاب الصوامع؟ قال هاه يقول الله سبحانه وتعالى: {قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82]- الآية. ولم ير أن يهاجوا، فقيل له فالرهبان من النساء؟ قال النساء عندنا - والله - أحق ألا يهجن.
قال محمد بن رشد: إنما سأله عن الرهبان إذا اعتزلوا في الديارات، ولم يعتزلوا في الصوامع؛ لما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نهيه عن قتل أصحاب الصوامع، روي عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا بعث جيوشه، قال: «اخرجوا بسم الله، تقاتلون من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع» . فرأى مالك لرهبان الديارات حكم رهبان الصوامع، لاستوائهم في العلة التي من أجلها(2/558)
نهى عن قتلهم - وهي اعتزالهم لأهل دينهم، وترك معونتهم لهم بقتال أو رأي؛ واستدل أيضا بظاهر قوله عز وجل، {قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82] . إذ لم يخص لترهبهم موضعا من موضع، وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه نهى عن قتال الرهبان، ولم ينه عن قتلهم لخير عندهم، بل هم أبعد من الله، لاستبصارهم في كفرهم، وإنما نهى عن قتلهم، لاعتزالهم أهل دينهم، وترك معرنتهم لهم بيد أو رأي؛ مع أنه ظاهر قوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29]- الآية؛ لأن المقاتلة مفاعلة من الفريقين، ودليل قول الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في المرأة التي وقف عليها وهي مقتولة، فقال «هاه ما كانت هذه تقاتل» . إذ يدل ذلك من قوله على أنه إنما يقتل من أهل الكفر من يقاتل، وكما لا يقتل الرهبان (فلا يسبون - رجالا كانوا أو نساء، - وهو ظاهر هذه الرواية، وقد قيل في الرهبان) من النساء أنهن يسبين - ذكره ابن سحنون؛ ووجه قول مالك، إن الرهبان من النساء تبع لرجالهم في ألا يسبوا، كما أن النساء من غير الرهبان تبع لرجالهم في أنهم يسبون، ووجه قول سحنون إن النساء لما كن بمنزلة سواء في أنهن لا جزية عليهن ولا يقتلن، رواهب كن أو غير رواهب. وجب أن يكن بمنزلة سواء في أنهن يسبين رواهب كن أو غير رواهب، وكما لا يقتل الرهبان ولا يسبون، فلا تضرب عليهم الجزية؛ لأن الجزية إنما هي ثمن لتأمينهم، وحقن دمائهم؟ وقد اختلف فيمن ترهب من أهل الذمة بعد أن وضعت عليه الجزية، فقيل إنها توضع عنه، وهو قول ابن القاسم، وظاهر قول مالك وسفيان الثوري وأبي حنيفة في الواضحة؛ وقال مطرف وابن الماجشون عن مالك أيضا أنها(2/559)
لا توضع عنه. وقد روي عن مالك أن الرهبان يقتلون؛ لأن فيهم التدبير والبغض للدين، فهم أنكأ من غيرهم، وكذلك الشيخ الكبير الذي لا يدع الجيوش والسرايا، وقع ذلك في بعض روايات المدونة.
[مسألة: افتداء من أسر]
مسألة وسئل مالك، أواجب على المسلمين افتداء من أسر منهم؟ قال: نعم، أليس واجب عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذوهم؟ قال: بلى. قال: فكيف لا يفتدونهم بأموالهم؟ قال: قال عمر بن الخطاب: ما أحب أن افتتح حصنا من حصونهم بقتل رجل من المسلمين.
قال محمد بن رشد: معنى قول مالك هذا، أن ذلك واجب على الجملة، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فكوا العاني» . لأنه أمر فهو محمول على الوجوب، بدليل ما احتج به مالك في الرواية، فواجب على الإمام أن يفك أسارى المسلمين من بيت مالهم، فما قصر عنه بيت المال، تعين على جميع المسلمين في أموالهم - على مقاديرها، ويكون هو كأحدهم - إن كان له مال، فلا يلزم أحدا في خاصة نفسه من فك أسرى المسلمين، إلا ما يتعين عليه في ماله على هذا الترتيب؛ فإذا ضيع الإمام والمسلمون ما يجب عليهم من هذا، فواجب على كل من كان له مال من الأسارى، أن يفك نفسه من ماله؛ إذ لا يحل له أن يبقي نفسه أسيرا في دار الكفر، ويمسك ماله، وهذا وجه قول مالك، وأكثر العلماء يقولون إن من فك أسيرا بغير أمره وله مال، أن(2/560)
له أن يرجع عليه بما فداه به، وقد قيل لا يرجع عليه بشيء، روي ذلك عن ابن سيرين، والحكم، وغيرهما، واحتج بعض من ذهب إلى هذا بأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «فكوا العاني» . فإنما يجب ذلك على المسلمين، فلا يعود ذلك على الأسير - وهو قول له وجه إذا حملنا قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فكوا العاني» ، على عمومه فيمن له مال وفيمن ليس له مال؛ لأن الأول أظهر، ويحتمل أن يكون معنى الحديث فيمن لا مال له، فلا يلزم أحد أن يفتك من له مال، ولا يلزم الإمام ذلك أيضا من بيت مال المسلمين، إلا أن يرى ذلك على وجه النظر كالجائزة يجيزها لمن له مال؛ وأما من فدى أسيرا لا مال له بغير أمره، فالصحيح الذي يوجبه النظر والقياس، أنه ليس له أن يتبعه بما فداه به؛ لأن ذلك إنما يتعين على الإمام وجميع المسلمين، وظاهر الروايات خلاف ذلك وهو بعيد.
[مسألة: الإمام مخير في الأسارى]
مسألة قال: وسئل مالك عن قول عمر بن الخطاب لا يجلب إلينا من هؤلاء العلوج أحد مرت عليه المواسى؛ ما تراه أراد بذلك؟ فقال: أراد بذلك ألا يستحيوا.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك أن الإمام مخير في الأسارى على وجه الاجتهاد بين خمسة أشياء: إما أن يقتل، وإما أن يأسر ويستعبد، وإما أن يعتق، وإما أن يأخذ فيه الفداء، وإما أن يعقد عليه الذمة ويضرب عليه الجزية؛ لأنه استعمل الآيات الواردة في ذلك في القران، وفسر بعضها ببعض، ولم ير فيها ناسخا ولا منسوخا؛ فإن كان الأسير من أهل النجدة(2/561)
والفروسية والنكاية للمسلمين، قتله ولم يستحيه، وإن لم يكن على هذه الصفة وامتدت عليه غائلته وله قيمة استرقه للمسلمين، أو قبل فيه الفداء، إن بذل فيه أكثر من قيمته، وإن لم تكن له قيمة ولا فيه محمل لأداء الجزية، كالزمنى أعتقه؛ وإن لم تكن له قيمة وفيه محمل لأداء الجزية، عقد له الذمة، وضرب عليه الجزية، واختلف قوله - إذا لم يتعرف حاله: هل هو من أهل النجدة والفروسية، أو له غائلة، أم لا؟ فمرة قال: إنه لا يقتل إلا أن يكون معروفا بالنجدة والفروسية، أو تعرف له غائلة، ومرة قال: إنه يقتل ويحمل إن لم يكن معروفا بالنجدة والفروسية على أن له غائلة؟ وهو الذي ذهب إليه عمر بن الخطاب في هذا الحديث، وإن رأى الإمام باجتهاده مخالفة ما وصفناه من وجوه الاجتهاد، كان ذلك له، مثل أن يبذل الفارس المعروف بالنجدة والفروسية في نفسه المال الواسع الكثير، فيرى الإمام أخذه أولى من قتله، لاستعانته بذلك على جهاد المشركين، وما أشبه ذلك من وجوه الاجتهاد؛ فهذا تحصيل القول في حكم الأسارى على مذهب مالك. ومن أهل العلم من قال: إن الأسير يقتل على كل حال، لقوله عز وجل: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ} [الأنفال: 57]- الآية، ومنهم من ذهب إلى أنه لا يجوز قتل الأسير - صبرا، لقوله عز وجل: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] . والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قتل وأسر، فوقع فعله موقع البيان لما في القرآن؛ لأن قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]- الآية، معناه قبل الإثخان. وقوله عز وجل: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]- الآية، ليس على(2/562)
الإلزام، وإنما معناه إباحة شد الوثائق وترك القتل بعد الإثخان؛ بدليل قوله، عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] . وقد حكى الداودي أن أكثر أصحاب مالك يكرهون فداء الأسرى بالمال، ويقولون: إنما كان ذلك ببدر؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علم أنه سيظهر عليهم، وإنما يتفق على جواز فدائهم بأسرى المسلمين.
[مسألة: بأرض الروم أشجارا تبلغ إذا حملت إلى أرض العرب ثمنا كثيرا حكم جلبها]
مسألة قال: وقيل (له) إنه يقال إن بأرض الروم أشجارا تبلغ إذا حملت إلى أرض العرب ثمنا كثيرا، وشأنها هنالك خفيف، وحملها يسير، قال: ما أرى بهذا بأسا، وإن أخذه للبيع وإن جاء بذلك العود وتلك الشجرة إلى صاحب المقاسم، لم يقبله ولم يقسم على الجيش.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: أنه إذا لم يكن لها ثمن في بلاد العرب، ولا قبلها صاحب المقاسم؛ فله أن يأخذها، ولا اختلاف في ذلك أعلمه؛ وقد مضى بيان هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم نذر سنة يصومها منه.(2/563)
[مسألة: يحمل على الجيش من العدو وحده]
مسألة قال: وسئل مالك. عن رجل من المسلمين يحمل على الجيش من العدو وحده، قال: قال الله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66]- الآية. فجعل كل رجل برجلين بعد أن كان كل رجل بعشرة، فأخاف هذا يلقي بيده إلى التهلكة وليس ذلك بسواء أن يكون الرجل في الجيش الكثيف فيحمل وحده على الجيش، وأن يكون الرجل قد خلفه أصحابه بأرض الروم أحاطوه فتركوه بين ظهراني الروم، فهو يخاف الأسر فيستقتل فيحمل عليهم، فهذا - عندي - خفيف، والأول عندي في كثف وقوة، وليس إلى ذلك بمضطر، يختلف أن يكون الرجل يحمل احتسابا بنفسه على الله، كما قال عمر بن الخطاب " الشهيد من احتسب نفسه على الله، أو يكون يريد بذلك السمعة والشجاعة.
قال محمد بن رشد: أما إذا فعل ذلك إرادة السمعة والشجاعة، فلا إشكال ولا اختلاف في أن ذلك من الفعل المكروه؛ وأما إن اضطر إلى ذلك بإحاطة العدو به، ففعله مخافة الأسر، فلا اختلاف في أن ذلك من الفعل الجائز، إن شاء أن يستأسر، وإن يشاء أن يحمل على العدو ويحتسب نفسه على الله، وأما إذا كان في صف المسلمين وأراد أن يحمل على الجيش من العدو وحده محتسبا بنفسه على الله، ليقوي بذلك نفوس المسلمين(2/564)
ويلقي به الرعب في قلوب المشركين؛ فمن أهل العلم من كرهه ورآه مما نهى الله عنه من الإلقاء إلى التهلكة، لقوله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . وممن روي ذلك عنه عمرو بن العاص، ومنهم من أجازه واستحبه لمن كانت به قوة عليه - وهو الصحيح، وروي أن جعفر بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين لاحمه القتل يوم مؤتة، اقتحم عن فرس (له) شقراء ثم عرقبها وقاتل حتى قتل، فلم ينكر ذلك عليه من كان معه من بقية الأمراء وسائر الصحابة، ولا أنكره النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عليه، إذ لا شك في تناهي علم ذلك إليه، ولا نهى المسلمون عن مثل ذلك؛ فدل على أن ذلك من أجل الأعمال، وأن الثواب عليه أعظم الثواب؛ وروي أن رجلا خرج من صف المسلمين بالقسطنطينية، فحمل على الروم حتى دخل فيهم، ثم خرج إليهم، فصاح الناس به سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس، إنكم لتتأولون هذه الآية على غير تأويلها، إنما أنزلت فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه، وكثر ناصروه، قلنا فيما بيننا سرا من رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إن أموالنا قد ضاعت، فلو قمنا فيها فأصلحنا منها ما ضاع، فأنزل الله عز وجل في كتابه - يرد علينا ما هممنا به - فقال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] فكانت التهلكة الإقامة التي كنا هممنا بها، فأمرنا بالغزو، فما زال أبو أيوب غازيا في سبيل الله حتى قبضه الله عز وجل. والقولان قائمان من الرواية: قوله فيها - فهذا عندي خفيف، والأول عندي في كثف وقوة ليس(2/565)
إلى ذلك بمضطر، يدل على الكراهة، وقوله يختلف أن يكون الرجل يحمل احتسابا بنفسه على الله، كما قال عمر بن الخطاب إلى آخر قوله، يدل على الجواز، وهو قول القاسم بن مخيمرة، وبالله التوفيق، والحمد لله كما يجب لجلاله.
[مسألة: هل للوالي أن يحابي أحدا من أهل الصلاح]
ومن كتاب الغزو مسألة قال أشهب: سئل مالك عن البعوث المكروهة تقطع على الناس إلى المغرب ومثلها، فيتجاعلون فيها، فيغرم المتخلفون للخارجين، ويكون للوالي الهوى في بعضهم من أهل الصلاح والفضل، فيرفعهم فيجعلهم في رفعة، لئلا يكون عليهم غرم من المتخلفين الجاعلين لمن خرج؛ فقال: ما أدري ما هذا: يخرجهم من الغرم ويغرم غيرهم، ما له لا يعطيهم من ماله - وكأنه كرهه: قيل له: إن الوالي يكون له رفع على كل حال لا بد له منهم يرفعهم، فإن احتاج إليهم استعان بهم - إن بدا له، فإذا وقع البعث المكروه الذي يكون فيه الغرم، جاء الرجل منهم الذي له الصلاح والفضل، فطلب الرفع في رفع الوالي لأن ينجو من الغرم؛ فقال مالك ليس هذا بالذي سأل عنه الرجل، وأرى هذا شيئا قد(2/566)
جعل إلى السلطان، فهو أحق من الأول؛ فقيل له: لا ترى بهذا بأسا؟ فقال هذا أخف.
قال محمد بن رشد: يريد بالبعوث المكروهة المخوفة التي يكره الخروج إليها لخوفها، فيكثر الغرم على الجاعلين فيها من أهل الديوان للخارجين إليها منهم؛ لأن المجاعلة إنما تجوز لأهل الديوان فيما بينهم، فكره مالك للوالي أن يحابي أحدا من أهل الصلاح، بأن يجعله في أهل رفعة الذين يمسكهم مع نفسه لحاجته إليهم، ولا يتركهم يخرجون في ذلك البعث ليسقط بذلك عنهم ما كان يلزمهم من الغرم مع المتخلفين الجاعلين للخارجين؛ وخفف له إذا لم يقصد إلى محاباة أحد، ولم يكن له بد من أن يمسك مع نفسه بعضهم لحاجته إليهم، وأن يجيب من سأله من أهل الصلاح أن يجعله منهم إلى ما سأله من ذلك، وذلك مكروه للسائل، فإذا قصد الوالي إلى محاباة أحد بهذا الفعل دون أن يسأله ذلك، كانت الكراهة في حيزه دون الرجل، وإذا سئل ذلك ففعله، كان الأمر أخف عليه منه على الرجل السائل، فهذا معنى قول مالك عندي في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأكل في أرض الإسلام فضلة ما يخرج به من طعام العدو]
مسألة وسئل مالك عن الذي يصيب القربة أو العسل في أرض الروم - وربما لت بالعسل جريرته، أينصرف إلى بلاده يأكله؟ قال: لا بأس بذلك إذا كان يسيرا.
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها(2/567)
من أن للرجل أن يأكل في أرض الإسلام فضلة ما يخرج به من طعام العدو إذا كان يسيرا.
[مسألة: الغازي يجد الغرارة يحتاج إليها يجعل فيها متاعه]
مسألة فقيل له: أفرأيت الغازي يجد الغرارة يحتاج إليها يجعل فيها متاعه، والجلد يحتذيه، والشيح لدواء البطن، فقال: ما أرى به بأسا أن يأخذه، وهذا تضييق على الناس، وما كل الناس يكون معه في الغزو ما يكفيه مما يحتاج إليه؛ قيل له فإن أحدهم أتى بكبة الخيط فيشتريها بدانق، فيطرحها في المقاسم، قال هذا شيء يراؤون به، وما هذا التضييق على الناس؟ !
قال محمد بن رشد: أما ما لم يكن له من هذا كله ثمن، فله أن يأخذه - احتاج إليه أو لم يحتج إليه، وأما ما كان له من ذلك ثمن، فله أن يأخذه إن احتاج إليه على ما في المدونة، خلاف قول ابن نافع، وقد مضى بيان هذا كله في أول رسم من سماع ابن القاسم، وهذا إذا كان الشيح مما قد حازه الروم في بيوتهم؛ وأما إن كان من نبات الأرض المباح الذي لم يحوزوه إلى بيوتهم؛ فقد مضى القول فيه في رسم "نذر سنة" من سماع ابن القاسم.(2/568)
[مسألة: الوالي يخرج بالخيل للقتال فيأتيه الرجل يستعيره فرسا يقاتل عليه]
مسألة وسئل مالك عن الوالي يخرج معه بالخيل في أرض العدو فيأتيه الرجل فيستعيره فرسا من خيله يقاتل عليه، فيعيره فيقاتل عليه؛ لمن ترى سهما الفرس؟ فقال سهمه للذي استعاره، أرى ذلك له.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو اشتراه، أو اكتراه، أو تعدى عليه أو وجده عابرا عند حومة القتال فقاتل عليه، لكان سهماه إليه؛ وكذلك لو أعاره ذلك (على أن) يكون سهما الفرس بينهما، أو على أن يكونا لصاحب الفرس، إلا أنه يكون عليه فيه أجرة مثله، ولو لم يكن للرجل إلا فرس واحد فتعدى عليه رجل فركبه، وقاتل عليه - وصاحبه حاضر، أو وجده عند القتال - وهو عاثر، لكان سهماه لصاحبه، بخلاف الاشتراء والعارية والكراء، وبخلاف التعدي إذا لم يكن صاحبه حاضرا، وهذا على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في أن السهم إنما يستحق بالقتال لا بالإيجاف، وأما على مذهب ابن الماجشون الذي يرى أن السهم يستحق بالإيجاف، فلا يكون للذي قاتل على الفرس سهمانه في شيء من هذه الوجوه، إلا أن يوجف عليه أو يصير بيده بحدثان الإيجاف وقبل مشاهدة القتال، حتى يتمكن في كينونته له وفي يده.(2/569)
[مسألة: يغزو بفرسين أيسهم لهما جميعا]
مسألة وسئل فقيل له: أفرأيت الذي يغزو بفرسين، أيسهم لهما جميعا؟ فقال: لا يسهم إلا لفرس واحد.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك وأصحابه في المدونة وغيرها، وقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسهم لفرسين، ولا يسهم لأكثر من ذلك. وذهب إلى ذلك غير واحد من العلماء، وعمل به عمر بن عبد العزيز في خلافته، وأخذ به ابن وهب من أصحاب مالك.
[مسألة: استؤجرأعوان يكونون في المراكب قذافين أيقسم لهم]
مسألة وسئل مالك فقيل له: إنا إذا أردنا الغزو استؤجر لنا أعوان يكونون في المراكب قذافين، وغير ذلك من الأعمال من رفع الصواري، ووضعها، وإمساك الحبال والأرجل، وما يحتاج إليه المركب، يكون ذلك لهم شيئا لازما لذلك استؤجروا؛ فإذا قدموا أرض الروم، كان منهم المسلم والمولد الحر، ترك منهم من كان كذلك، فشهدوا القتال، وأبلوا بلاء عظيما، فلا يقسم(2/570)
لهم؛ أفترى أن يقسم لهم؟ فقال: وأين هذا؟ فقيل في البحر، فقال: يتخذون مثل هذا في الصوائف؟ فقيل نعم، يستأجرون فعلة لتسوية الطريق، وقطع الشجر، وإصلاح المواضع التي فيها ضرر على المسلمين: يوسعون ضيقها، ويرفعون حجارتها عن الطريق، وغير ذلك مما يحتاج إليه؛ يستأجرونهم رصدة ذلك وعدة، ثم يشهدون القتال مع الناس فيقاتلون؛ أفيعطى هؤلاء شيئا؟ فقيل لا؛ فقال: فهؤلاء مثلهم - وكأنه لم ير لهم شيئا؛ قيل له إن ابن معيوف كان يحلف الرجل يخرج مع عمه أو مولاه يخدمه وينفعه، فيحلفه على أنه لم يخرج لخدمته، فإن لم يحلف لم يسهم له؛ فقال: بئس ما صنع ابن معيوف، وفي الغزو أيمان؟ وإن الرجل ليخرج مع أبيه أو مع مولاه في الغزو يعينه ويكفيه، فبئس ما صنع.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما في المدونة، والواضحة، من أن الأجير يسهم له إذا شهد القتال وقاتل؛ وفي كتاب محمد بن المواز أنه يسهم له إذا شهد القتال - وإن لم يقاتل؛ وأما إذا لم يشهد القتال، فلا اختلاف في أنه لا يسهم له؛ قال محمد عن أبيه: والذي يكرى للغزو لا سهم له إلا أن يقاتل؛ وكذلك مكتري الدواب في الغزو مثل الأجير، قال سحنون: ويحط عن الأجير من أجرته بقدر ما اشتغل عن خدمة الذي استأجره؛ ومن أهل النظر من ذهب إلى أن رواية أشهب هذه، ليست بمخالفة لما في المدونة، وغيرها؛ وقال: معنى هذه الرواية في الإجارة العامة، ومعنى ما في المدونة(2/571)
وغيرها في الإجارة الخاصة، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الإجارة العامة هي أقرب أن يكون له فيها السهم - إذا قاتل من الإجارة الخاصة، فإذا لم يوجب له السهم في الإجارة العامة، فأحرى ألا يوجبها له الإجازة الخاصة - والله أعلم؛ وإنما أنكر على ابن معيوف تحليف الرجل خرج مع ابن عمه أو مولاه، أنه لم يخرج لخدمته، إذ لم يره كالأجير؛ وكان الحكم فيه عنده أن يسهم له قاتل أو لم يقاتل؟ وأما من ادعي عليه أنه أجير فأنكر، فلا يبعد عليه اليمين - إن لم يقاتل على ما في المدونة، وإن قاتل على هذه الرواية، وبالله التوفيق.
[رفع الأصوات بالتكبير على السواحل أو في الرباط]
ومن كتاب الأقضية وسئل مالك عن رفع الأصوات بالتكبير على السواحل، أو في الرباط بحضرة العدو، أو بغير حضرتهم؛ هل ينكره، أو يسمع الرجل نفسه؟ فقال: أما بحضرة العدو فلا بأس، وذلك حسن؛ وأما بغير حضرتهم على السواحل فلا بأس بذلك أيضا، إلا أن يكون رفع صوته يؤذي الناس، لا يستطع أحد أن يقرأ ولا يصلي، فلا أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب الجهاد من المدونة، وزاد فيه أنه أنكر التطريب؛ وأنكر ابن حبيب أن يتقدمهم واحد بالتكبير، أو التهليل، ثم يجيبه الآخرون بنحو من كلامه جما غفيرا، وأجاز أن يحزن تكبيره وأنكر في رسم "أحد يشرب خمرا" من كتاب الصلاة - التكبير دبر الصلوات بأرض العدو، وسكت عن التكبير في غير دبر الصلوات؛ فذلك كله مفسر بعضه لبعض، ليس فيه اختلاف من قول مالك؛ وما حكى ابن حبيب من(2/572)
استحباب التكبير ثلاثا دبر صلاة العشاء والصبح، في الثغور والمرابطات والعساكر، خلاف لمذهب مالك - ومذهبه أظهر؛ لأنه أمر محدث لم يكن في الزمن الأول، ولو كان، لنقل وذكر - والله أعلم.
[مسألة: أسلم من المشركين بعد إساره أيمنعه ذلك من القتل]
مسألة وسئل مالك عمن أسلم من المشركين بعد إساره، أيمنعه ذلك من القتل؟ قال: نعم في رأيي.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» . أي والله يحاسبهم عما قي نفوسهم إن كانوا أظهروا للإسلام وهم لا يعتقدونه بقلوبهم. وقد روي «أن المقداد قال لرسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ بشجرة فقال: أسلمت لله؛ أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها، فقال رسول الله: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك - قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لأسامة لما قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله - ظنا منه أنه قالها تعوذا، «فكيف يصنع بلا إله إلا الله» ، وأعاد ذلك عليه حتى تمنى أنه أسلم ذلك اليوم، وبطل ما كان قبل ذلك من عمله، وبالله تعالى التوفيق، لا إله إلا هو.(2/573)
[يغزون أرض الروم فيقتلون من أبقارهم بالسيوف فتعرقب ثم تذبح فتقطع بالسيف]
ومن كتاب الجنائز والذبائح والنذور قال: وسئل مالك عن القوم يغزون أرض الروم فيقتلون من أبقارهم بالسيوف، فتعرقب ثم تذبح فتقطع بالسيف؛ فقال: ما هذا بحسن، ولا أحب أكله.
قال محمد بن رشد: يحتمل أن يكون معنى هذه الرواية أنها عرقبت ثم ذبحت قبل أن تنفذ مقاتلها بالسيوف، فيكون وجه كراهيته لأكلها قطعهم إياها بالسيوف بعد ذبحها على سبيل الانتهاب للحمها، - لما جاء في النهبة، وقد مضى القول فيها في رسم "سن" من سماع ابن القاسم من كتاب العقيقة؛ ويحتمل أن يكون معناها إنما ذبحت بعد إنفاذ مقاتلها بالسيوف لامتناعها، فيكون قوله: ما هذا بحسن، ولا أحب أكله، ليس على ظاهره في التخفيف؛ لأن المعلوم من مذهبه أن الإنسي لا يذكى بما يذكى به الصيد - وإن امتنع، ولا يؤكل إلا أن يذبح أو ينحر، كان له أصل في التوحش أو لم يكن؛ خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أن البقر الإنسية وما أشبهها مما له أصل في التوحش - إذا ندت وامتنعت؛ كان سبيلها سبيل الصيد في ذكائها؛ بخلاف الإبل وما أشبهها مما الأصل له في التوحش، ومن أهل العلم من جعل سبيلها سبيل الصيد - وإن لم يكن لها أصل في التوحش؛ وحكى ذلك البخاري عن ابن مسعود، وابن عباس، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وعائشة؛ وبوب باب ما ند من البهائم، فهو بمنزلة الوحش، وأدخل حديث «رافع بن خديج - وفيه قال: وأصبنا نهب إبل وغنم، فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء، فافعلوا به هكذا» . وهذا لا حجة فيه، لاحتمال أن(2/574)
يكون السهم حبسه دون أن ينفذ مقاتله فذكي، وكذلك ما حكى ابن حبيب من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا استوحشت الإنسية أو امتنعت، فإنه يحلها ما يحل الوحشية، يحتمل أن يريد بذلك الإنسية من الوحش، فتتخرج الأحاديث على مذهب مالك.
[مسألة: يغيرون في أرض الروم فيوافون قدورهم على النار مملوءة لحما أتؤكل]
مسألة وسئل عن الجيش يغيرون في أرض الروم، فيوافون قدورهم على النار مملوءة لحما، أتؤكل؟ فقال: وما يمنعه أن يأكل؟
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال أن آكل ذلك له حلال، لقول الله عز وجل: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] . إلا أن يدع رجل في خاصة نفسه، مخافة ألا تكون قدورهم طاهرة - على ما مضى في أول سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح والصيد.
[السرية كم هي]
ومن كتاب الوضوء والجهاد
وسئل مالك عن السرية كم هي؟ قال: وما يقال فيها؟ فقيل: يقال خير السرايا أربع مائة. قال: قد بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا عبيدة على سرية فيهم ثلاثمائة، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبعث الرجل والرجلين على سرية، أفكانت سرايا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعمائة؟(2/575)
قال محمد بن رشد: قد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة، إلا أن تفترق كلمتهم» . ولهذا وقع سؤال مالك عن خير السرايا، فأنكر سؤال السائل؛ إذ لم يعرف الحديث، قد روي، فإذا اتفق أن تكون السرية أربعمائة، والجيش أربعة آلاف، كان الخير لهم مرجوا والنصر لهم مأمولا أكثر من غيرهم - وإن زاد عددهم - إن شاء الله.
[مسألة: خيبر افتتحت عنوة أم بقتال]
مسألة وقال مالك: لما غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر غشيها في برد شديد، فقال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنا لا نستطيع القتال، فقال لهم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لم؟ فقالوا البرد والجوع والعري، فقال الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اللهم افتح عليهم اليوم أكثرها طعاما وودكا» ، ففتح الله عليهم خيبر.
قلت لمالك: أفرأيت خيبر افتتحت عنوة أم بقتال؟ فقال: افتتحت بقتال شيء يسير منها.
قلت: فخمست؟ قال: نعم خمست، إلا ما كان منها عنوة أو صلحا، فإن ذلك لم يخمس وهو يسير.
قلت له: العنوة والقتال أليس بواحد؟ فقال لي: إنما أردت الصلح، وقد سمعت ابن شهاب يقول: افتتحت عنوة منها بقتال،(2/576)
وإنما أردت الصلح، وقد قال ابن شهاب: عنوة وقتال، ولست أدري ما أراد بذلك، وقال مالك: قسمت خيبر ثمانية عشر سهما على ألف وثمانمائة رجل، لكل رأس سهمه؛ لعمر بن الخطاب سهمه، ولبلال سهمه، ولفلان سهمه - حتى سمى رجالا، قال مالك: وصدقات رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كانت من أموال بني النضير - ولم تخمس؛ لأنها كانت صافية، وخمس رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قريظة؛ لأنها كانت بقتال، وقال مالك: أجلى عمر أو النبي أهل خيبر، وأما أهل فدك، فصولحوا على النصف لهم، والنصف للمسلمين، فلما كان عمر بن الخطاب أجلاهم منها، وأقام لهم النصف الذي كان لهم، فأعطاهم به حبالا وأقتابا؛ وما فضل لهم أعطاهم به ذهبا، اشترى ذلك عمر بن الخطاب منهم؛ فقال المسلمون: اشتراه عمر لنفسه، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فخطب الناس وأخبرهم بالذي بلغه، وقال: بأي شيء اشتراه ابن الخطاب، أبمال أبيه وأمه؟ إنما اشتراه من بيت مال المسلمين؛ فقيل له أفرسول الله صالح أهل فدك؟ قال: نعم، وعمر بن الخطاب الذي أجلاهم.(2/577)
قال محمد بن رشد: إنما قال رسول الله عليه السلام في خيبر «اللهم افتح عليهم اليوم أكثرها طعاما وودكا» ؛ لأنه كان لخيبر حصون كثيرة، ففتح الله عليهم ذلك اليوم بدعاء النبي عليه السلام خيبر نفسها، ولا شك أنها كانت أكثرها طعاما وودكا، وقد قيل في حصن الصعب بن معاذ إنه لم يكن في حصون خيبر أكثر طعاما وودكا منه، وكانت خيبر نفسها أكثر طعاما وودكا منه؛ بدليل الحديث المذكور - والله أعلم - وقول مالك في خيبر إنها افتتحت بقتال شيء يسير منها - يريد إنما قوتل اليسير من حصونها، وأكثرها غلبهم عليها المسلمون دون مناصبة لقتال، فخمس جميع ذلك؛ إذ كان مما أوجف عليه بالخيل والركاب - وإن لم يكن في بعضها قتال، وإنما كان عنوة بغير قتال، وقوله إلا ما كان منها عنوة أو صلحا، فإن ذلك لم يخمس وهو يسير. معناه: إلا ما كان منها عنوة وصلحا؛ لأن أو قد تكون بمعنى الواو، قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]- " يريد آثما ولا كفورا. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث الجهاد - مع ما نال من أجر أو غنيمة. يريد من أجر وغنيمة؛ لأن الغنيمة لا تحبط الأجر، فالمراد بقوله إلا ما كان منها عنوة أو صلحا. أي إلا ما اجتمع فيه الأمران جميعا؛ لأنهم لما خافوا الغلبة وأيقنوا بها، أرسلوا إلى النبي عليه السلام في أن يصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، ويخلوا له الأموال، ففعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان ذلك في حصنين من حصونهم الوطيح، والسلاليم، فكان لهذين الحصنين حكم ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب - على ما ذهب إليه مالك، وابن شهاب؛ فلم تخمس، ولا كان لأحد فيها مع رسول الله عليه السلام شيء، فقطع منها لأزواجه على ما قال في آخر السماع، وكذلك الكتيبة قيل فيها، إنها كانت صلحا صافية لرسول الله،(2/578)
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كبني النضير، وفدك، التي قال فيها الله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6]- الآية. وذهب ابن إسحاق إلى أن خيبر كانت عنوة كلها. وإلى هذا ذهب ابن عبد البر، فقال: الصحيح ما قاله ابن إسحاق، وأن رسول الله، - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خمَّس أرض خيبر كلها، وقسمها بين من شهد الغزاة وهم أهل الحديبية؛ لأن أرض ذينك الحصنين مما غلب عليه المسلمون كسائر أرض خيبر، وإنما كان الصلح في الرجال والذرية والعيال. ومعنى قول ابن شهاب عنوة وقتال يريد صلحا لجؤوا إليه لما خافوا الغلبة والأسر في ذينك الحصنين، وقتالا فيما سواهما؛ أو ما له حكم القتال مما أوجف عليه بالخيل والركاب، ولم يكن فيه صلح ولا قتال. فهذا معنى قول ابن شهاب على ما يعرف من مذهبه في أن بعض خيبر افتتحت بصلح، فما أوجف عليه بالخيل والركاب، فاستفتح بغير قتال، مثل أن يفر عنه أهله قبل وصولهم إليهم، أو ينزلوا إليهم ويستأسروا في أيديهم، أو يصالحوهم على جزء من أموالهم وأراضيهم، أو على ذهب يعطونهم على أن ينصرفوا عنهم، فذلك كله بمنزلة ما استفتحوه وغنموه بقتالهم، يخمس ويقسم الباقي بينهم على حكم الغنيمة، وما جلى عنه أهله مخافة أن يغزوا أو أرسلوا فصالحوا مخافة ذلك، فهي فيء لا تخمس، ويكون له كله حكم الخمس، وذهب ابن لبابة(2/579)
إلى أن العنوة على وجهين، فما كان منها بقتال يخمس وتكون الأربعة الأخماس بين الموجفين، وما كان منها بغير قتال، فهو كالصلح يكون فيئا ولا يخمس، وقال: إن ذلك معنى ما في المدونة، وتبينه رواية أشهب هذه؛ وتؤول أن معنى قوله فيها افتتحت خيبر بقتال شيء يسير منها، أن القتال كان يسيرا، والإصابة كثيرة؛ وقال: إن الذي دل عليه قول مالك، وابن شهاب فيها، أنه افتتح أكثرها عنوة بقتال، وهو الذي خمسه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقسمه، وافتتح بقيتها - وهو اليسير منها بعضه عنوة بغير قتال، وبعضه صلحا، فلم يخمس وكان صافيا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقوله فيما ذهب إليه من تفصيل العنوة بعيد من الصواب. وقول مالك قسمت خيبر ثمانية عشر سهما، يريد إلا ما كان منها صلحا على سبيل العنوة بغير قتال، فلم يخمس ولا قسم على ما تقدم من قوله، وعلى ما يأتي له في آخر السماع؛ وقد مضى في رسم "البز" من سماع ابن القاسم، القول في وجه قسم رسول الله عليه السلام أرض خيبر على مذهب مالك، وما ذكر من الاختلاف في ذلك، وقول مالك: إن صدقات رسول الله عليه السلام كانت [من أموال بني النضير، ولم تخمس؛ لأنها] صافية، يبين أن ما وقع في المدونة من أنه قسم النضير بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار، معناه ما بقي بعد صدقاته منها، وإنما خص بذلك المهاجرين دون الأنصار، حاشا سهل بن حنيف، وأبا دجانة، والحارث بن الصمة؛ لأنه كان شرط على الأنصار في بيعة العقبة أن يواسوا من يأتيهم من المهاجرين، فكانوا يكفونهم المئونة، ويقاسمونهم في الثمر، فلما جلى بنو قينقاع وبنو النضير، قال لهم رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:(2/580)
«إن شئتم بقيتم على ما كنتم عليه وقسمت لكم، وإن شئتم رجعت إليكم أموالكم وقسمت لهم دونكم، فاختاروا ذلك. ففعله رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» ، والشك في قوله أجلى عمر أو النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أهل خيبر، إنما هو ممن دون مالك من الرواة - والله أعلم؛ لأنه قد علم أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أقرهم لعمارة الأرض، وأن عمر بن الخطاب هو الذي أجلاهم في خلافته، لما صح عنده أن النبي عليه السلام قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» . فأخذ المسلمون سهامهم فتصرفوا فيها تصرف المالكين، وجزيرة العرب مكة والمدينة واليمن - قاله مالك.
[مسألة: رهنه أبوه في أيدي العدو ثم مات أبوه]
مسألة قال: وسئل مالك عن رجل من المسلمين رهنه أبوه في أيدي العدو، ثم مات أبوه، فخرج رجل من المسلمين إلى أرض العدو فافتكه وجاء به؛ على من ترى ما افتكه به الرجل، أعلى الغلام في حصته من مال أبيه؟ أم من جملة مال أبيه؛ لأنه هو الذي رهنه؟ فقال: لو افتداه السلطان أيترك رجل من المسلمين في أرض العدو؟
قال محمد بن رشد: قوله لو افتداه السلطان يريد من بيت مال المسلمين صحيح؛ لأنه هو الذي يجب في جميع من أسر من المسلمين، وقد مضى القول على هذا المعنى في أول رسم من السماع، فإن لم يفعل السلطان ذلك، ولا تطوع به أحد من المسلمين؛ فالواجب أن يكون ما افتكه(2/581)
به من رأس مال أبيه الذي رهنه، فإن لم يف ماله بذلك، كان ما بقي في مال الابن المفدى - إن كان له مال - اتبع به دينا في ذمته على ظاهر الروايات، والذي يوجبه النظر ألا يتبع بشيء من ذلك، وهذا إذا كان الأب أسيرا فرهن ابنه مكانه، وأما إن كان رهنه في تجارة أخذها، فلا يلزم السلطان (أن يفتكه) إن كان في تركته وفاء بذلك؛ قال سحنون: وإن كان رهنه في مصلحة المسلمين، وما ينزل بينهم وبين العدو، ثم التاث الأمر، فعلى الإمام فداؤه واجب.
[مسألة: السرية تخرج في أرض الروم مغيرة فهلكت دابة أحدهم]
مسألة وسئل مالك عن السرية تخرج في أرض الروم مغيرة. وهم إذا هلكت دابة أحدهم لم يعطفوا عليه ولم يتخلفوا له؛ وقالوا له غيض حتى يرجع العسكر، فيدعونه في أرض الروم، وتوجهوا؛ فإن ظفر به الروم أخذوه؟ أفيعجبك أن يدخل معهم - وهم هكذا؟ فقال: إذا كان هكذا، فما يعجبني ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الغرر في ذلك بين، والهلاك فيه أغلب؛ ولا ينبغي للرجل أن يغرر بنفسه، ولا أن يدخل في السرية، إلا إلى موضع تكون فيه النجاة عنده أغلب، والله تعالى أعلم.
[مسألة: الإقامة بأرض العدو والانقطاع إليها]
مسألة وسئل عن الإقامة بأرض العدو والانقطاع إليها، أذلك أفضل، أم الإقبال والإدبار؟ فقال: ذلك حسن واسع.(2/582)
قال محمد بن رشد: إنما لم يفضل أحد الوجهين على الآخر، من أجل أنه لا نص في ذلك؛ والفضائل لا تدرك بالقياس، وإنما هي عطايا من الله على قدر نية العبد؛ «قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في عثمان بن مظعون إن الله قد أوقع أجره على قدر» نيته. وقال: «نية المؤمن خير من عمله» .
[مسألة: البقر من بقر الروم لا يقدر المسلمون على أخذها إلا بالعقر والطعن]
مسألة قال: وسئل مالك عن البقر من بقر الروم، لا يقدر المسلمون على أخذها إلا بالعقر والطعن؛ فإذا عقرت ذبحت بعد ذلك، فقال: إنسية؟ فقيل نعم بقر الروم؛ فقال: لا أرى ذلك، هؤلاء قوم يطلبون الخير في الغزو وهم يفعلون هذا، فقيل له: إن لم يفعلوا بها هذا لم يقدروا عليها؛ فقال: أرأيت البدنة إذا لم يقدروا على نحرها - وكانت هكذا، أيعقرها ثم ينحرها؟ هذه الأباطيل!
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم "الجنائز، والذبائح، والنذور "، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الجيش يصاح فيهم بأرض الروم السلاح]
مسألة قال: وسئل مالك عن الجيش يصاح فيهم بأرض الروم: السلاح، فيأخذ الرجل عليه سلاحه، ثم يتوجه فيلقى جيشهم، أترى بأسا أن ينحاز راجعا - إلى أصحابه؟ فقال لا أرى بذلك بأسا.(2/583)
قال محمد بن رشد: وهذا بين - كما قال إنه إنما انحاز إلى فيئته، وقد قال عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] .
[مسألة: تحريق بيوت الروم وأشجارهم]
مسألة وسئل عن تحريق بيوت الروم وأشجارهم، فقال: لا أرى بذلك بأسا، قد قطع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النخيل، قيل له فترى أن يقتل خنازيرهم؟ فقال: نعم تقتل.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في رسم "صلى نهارا" من سماع ابن القاسم ما في تحريق بيوت الروم وتخليهم، فلا معنى لإعادة ذلك؛ وأما خنازيرهم، فلا إشكال في أن الواجب فيها أن تقتل.
[مسألة: الرجل يشتري الجارية في مقاسم الروم]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يشتري الجارية في مقاسم الروم، فإذا انصرف بها وجد معها الحلي؛ فقال: لا أرى بما كان من هذا يسيرا بأسا من القرطين وأشباهها، فأما ما كان منها كثيرا له بال، فلا أرى ذلك؛ فقيل له: إنهم أيضا ربما باعوا بأرض(2/584)
الروم الكبب والخيوط، وما أشبه ذلك - بالدرهم ونحوه؛ فإذا انصرف الرجل إلى بلده، فاحتاج إلى - تلك الخيوط، ففتحها وجد فيها الصليب من الذهب، يكون فيه سبعون مثقالا، فقال: أرجو ألا يكون بذلك بأس، كيف يصنع به وقد تفرقوا وصار إلى بلده، وهؤلاء ههنا بالشام لا يدري ما يصنع به.
قال محمد بن رشد: قوله فيما يجد من الحلي مع الجارية التي اشترى في المقاسم، فأما ما كان منه كثيرا له بال - فلا أرى ذلك - يريد وإن كان يشبه أن يكون من هيئتها ولباسها، خلاف ظاهر ما في رسم "إن خرجت" من سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، وهذا هو الصحيح؛ إذ إنما يصح أن يكون للمشتري ما يكون من هيئتها ولباسها - وإن كان كثيرا، إذا كان ذلك عليها حين البيع فعلمه البائع، وأما ما أخفته عنه فلم يعلم به فهو له، يبين هذا ما في أول سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع، وقوله فإذا انصرف بها - يريد إلى رحله لا إلى بلده، بدليل قوله في مسألة الصليب بعدها، أرجو ألا يكون بذلك بأس إذا رجع إلى بلده، ووجه قوله أرجو ألا يكون بذلك بأس، هو أنه لما لم يمكنه قسمة ذلك عن الجيش لافتراقه، وكان قد حصل عنده بأمر جائز، لا عن غلول؛ صار حكمه حكم اللقطة بعد التعريف واليأس من وجود صاحبها - في جواز أكلها لملتقطها،(2/585)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: شأنك بها. لأن مالكا إنما كره له أكلها بعد التعريف، (مخافة أن يأتي صاحبها فيجده عديما لا شيء له، ولو علم أنه لا يجد صاحبها أبدا، لما كره) له أكلها، وافتراق الجيش في هذه المسألة كاليأس من وجود صاحب اللقطة، وهذا في الأربعة الأخماس الواجبة للجيش؛ وأما الخمس، فواجب عليه أن يضعه في موضع الخمس، ولو كان قد غل السبعين مثقالا ثم تاب بعد افتراق الجيش، لوجب عليه أن يتصدق بها، ولما جاز له أكل شيء منها على ما مضى في رسم "حلف بطلاق امرأته" من سماع ابن القاسم.
[مسألة: لأهل الإسكندرية المقام بها إذ هي محرس يخشى العدو فيها]
مسألة قال: وسئل مالك فقيل له: أترى علينا بأسا في تخليفنا أهلنا بالإسكندرية وإقامتنا عندكم، ولم ندرك الإسكندرية نزل بها عدو قط، وإنهم ليخافون، فقال: أنتم تخبروني أن ما ثم ضائع، وأنه مخوف، وإن أهلها قليل، وإن محارسها خالية، فأرى لو لحقتم بها، فإني أرجو لهم في ذلك خيرا، تكونون مع أهليكم ومن ورائهم، ومن وراء المسلمين أيضا. فقيل له: أتخاف علينا مأثما في مقامنا عن أهلنا، وتخليفنا إياهم هناك - وهم على(2/586)
ما وصفت لك؟ فقال: أما مأثم، فلا أدري ما المأثم؟ ولكني أرى في ذلك خيرا، وأنتم أعلم بقدر خوفكم عليها، والخوف الذي هم فيه، وإني لا أرى حسنا أن يكون الرجل في مثل هذا عند أهله، ويكون من وراء المسلمين؛ ولا أدري ما المأثم في تركهم، ولكن ذلك أحب إلي.
قال محمد بن رشد: رأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأهل الإسكندرية المقام بها، إذ هي محرس يخشى العدو فيها، أفضل لهم من الإقامة عنده لتعلم العلم، ولم ير ذلك فرضا عليهم فيأثمون بتركه؛ فقال: لا أدري ما المأثم؟ ولكن أرى في ذلك خيرا؛ وإذ رأى ذلك لهم أفضل من الإقامة على تعلم العلم، فهو عنده أفضل لهم من الجهاد؛ لأن تعلم العلم أفضل من الجهاد - على ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وذلك لما اختص بهم من حفظ محارسهم التي هي بلادهم، بخلاف الرباط، إذ من قوله " إن الغزو على إصابة السنة أفضل من الإقامة " - على ما مضى في رسم "الشجرة تطعم بطنين في السنة" من سماع ابن القاسم.
[مسألة: يعطى الشيء يقسمه في سبيل الله على المجاهدين وهو أحدهم أيأخذ منه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يعطى الشيء من المال يقسمه في سبيل الله على المجاهدين وهو أحدهم، أيأخذ منه لنفسه شيئا؟ فقال: أحب إلي أن يعلم رب المال إذا كان من المجاهدين؛(2/587)
قال: وسئل مالك عمن أعطي ثلاثين دينارا أو أربعين دينارا، فقيل له: خذ هذه فاقسمها في سبيل الله، فإن احتجت إلى شيء منها فخذه؛ فخرج بها فيحتاج منها إلى دينار يقضي به دينا عليه، فيأخذه فيقضيه رب الدين، وإنما يعطي الناس منها نصفا نصفا، قال: إن كان الذي أعطاه إياها أراد هذا، فلا بأس عليه في ذلك؛ فقيل له: أما هو فقال إن احتجت إلى شيء منها فخذه، وكان عليه دينار، فأخذه منها فقضاه؛ قال: إني أخاف أن يكون عليه لآخر ثلاثون دينارا، فإن كان صاحب الدنانير أراد هذا فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: استحب مالك لمن أعطي مالا يقسمه على صنف من الناس - وهو منهم، ولم يقل له معطيه إن احتجت إلى شيء منه فخذه - وكان عليه دينار فأخذه منها - ألا يأخذ لنفسه منه شيئا، إلا أن يعلمه بذلك، فإن أخذ ولم يعلمه، أعلمه بذلك، - قاله في سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات؛ فإن استأذنه في الأخذ - ولم يأذن له لم يجز له أن يأخذ، وإن أعلمه بما يأخذ فلم يمضه له، وجب عليه غرمه؛ لأنه أعلم بما أراد بماله؛ وإن لم يستأذنه في الأخذ ولا أعلمه بما أخذ حتى فات إعلامه، تخرج ذلك على قولين، أحدهما: (أنه) لا شيء عليه فيما أخذ؛ لأنه من ذلك الصنف؛ فهو يدخل مدخلهم بالمعنى، وهو مذهب مالك؛ لأنه إنما استحب له استئذانه وإعلامه ولم يوجب ذلك عليه. والثاني:(2/588)
أنه يجب عليه إخراج ما أخذ حتى يضعه في الصنف الذي أمره أن يضعه فيهم، وهذا جار على اختلاف أهل الأصول في الأمر بالشرع، هل يدخل في الأمر أم لا يدخل فيه؟ لأنه يأتي على مذهب من رأى أنه يدخل فيه الأمر؛ لأنه من جنس المأمورين المشروع لهم الشرع أن يأخذ منهم المقاسم؛ لأنه من جنس المقسوم عليهم، وكان صاحب المال أعلم قاسمه الذي دفعه إليه أنه قد أوجبه لذلك الصنف، فدخل مدخلهم فيه؛ وأما إذا قال له إن احتجت إلى شيء منه فخذه، فجائز له أن يأخذ منه مثل ما يعطي غيره بالمعروف دون أن يحابي نفسه، ولا يجوز له أن يأخذ منه لنفسه أكثر مما يعطي غيره، إلا أن يعلم أن صاحب الدنانير يرضى بذلك ويريده.
[مسألة: أعطي شيئا في سبيل الله فقضى رباطه وقد بقي معه منه فضل]
مسألة قال: وسئل مالك فقيل له: إني ربما أعطيت الدراهم لأقسمها في سبيل الله، فأجد الرجل قد قضى رباطه وهو يريد الانصراف إلى أهله، فلا يجد ما يتحمل به؛ أفترى أن أعطيه منها؟ فقال: إنما أعطيتها لتجعلها في سبيل الله، وهذا منقلب ليس في سبيل الله، فأحب إلي أن تعطيها غيره. قال: وسألته عمن أعطي شيئا في سبيل الله فقضى رباطه، وأراد الانصراف إلى أهله، وقد بقي معه منه فضل؛ أينصرف به فيأكله في انصرافه أم في أهله؟ فقال: ما يعجبني ذلك، وأرى أن يعطيه غيره من أهل السبيل، أم يرده إلى الذي أعطاه إياه.
قلت: فأيهما أحب إليك " أيعطي بقية ذلك رجلا من أهل(2/589)
سبيل الله؟ أم يرده إلى الذي أعطاه إياه؟ قال لي: كل ذلك واسع.
قال محمد بن رشد: أما في بلده بعد انصرافه، فلا يجوز له أن يأكل منه شيئا باتفاق، واختلف هل يأكل منه في انصرافه أم لا؟ وقد مضت هذه المسألة في مواضع من سماع ابن القاسم، والقول عليها موعبا في أول رسم منه، فلا وجه لإعادة شيء منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يخرجون في أرض الروم مع الجيش فيحتاجون إلى العلف لدوابهم]
مسألة قال: وسئل مالك عن القوم يخرجون في أرض الروم مع الجيش، فيحتاجون إلى العلف لدوابهم، فتخرج الجماعة إلى هذه القرية، وهذه الجماعة إلى هذه القرية الأخرى - يتعلفون لدوابهم، فربما غشيهم العدو فيما هنالك - إذا رأوا غرتهم وقلتهم، فقتلوهم أو أسروهم، أو نجوا منهم؟ فقال لهم: لا أرى ذلك لكم أن تغروا بأنفسكم فتخرجوا في غير كثف تخرجون في قلة؛ فإذا فعلتم، فلا تبيعوا من ذلك شيئا، فقيل له: ما يفعل؟ قال: قد بلغني ذلك عندكم، فلا أرى (لكم) أن تبيعوا منه شيئا، فقيل له: إنه ربما تعلفنا ولا نستأذن الإمام، وربما يخرج علينا، فإن تركنا دوابنا هلكت، قال: أرى إذا استطعتم استئذان الإمام أن تستأذنوه، ولكن الناس أكثر من ذلك، فلا أرى أن تغرروا بأنفسكم فتعتلفون في غير عدة ولا كثرة، لا أرى ذلك. وسئل مالك عن العدو ينزل بساحل من سواحل المسلمين، أيقاتلهم المسلمون بغير استئمار الوالي؟(2/590)
فقال: أرى إن كان الوالي قريبا منهم - أن يستأذنوه في قتالهم قبل أن يقاتلوهم، وإن كان بعيدا لم يتركوهم حتى يقعوا بهم، فقيل له: بل الوالي بعيد منهم، فقال: كيف يصنعون أيدعونهم حتى يقعوا بهم، أرى أن يقاتلوهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كله كما قال إنه لا ينبغي لهم أن يغرروا بأنفسهم في تعليفهم، وأن الاختيار لهم أن يستأذنوا الإمام في ذلك إن استطاعوا، ويلزمهم ذلك إذا كان الوالي عدلا على ما قاله ابن وهب في سماع زونان، وإنه لا يجوز لهم أن يبيعوا شيئا من ذلك؛ لأن سنة الطعام في أرض الحرب أن يؤكل ويعلف ولا يباع، فإن بيع شيء منه صار مغنما، وأن قتال العدو بغير إذن الإمام لا يجوز، إلا أن يدهمهم فلا يمكنهم استئذانه.
[مسألة: افتتاح فدك]
مسألة قال. وسألته عن افتتاح فدك، فقال: افتتحت عنوة بغير قتال على النصف لرسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والنصف لهم؛ فلم يكن لمن دخلها مع رسول الله فيها شيء، ولم يكن فيها خمس؛ لأنها افتتحت عنوة بغير قتال. قال: ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فلم يكن فيها خمس ولم يكن لأحد دخلها مع رسول الله عليه السلام فيها شيء؛ فهي اليوم قائمة ليس لأحد فيها شيء، ولم يكن فيها خمس، وافتتحت خيبر، فمنها ما افتتح عنوة بغير قتال، ومنها ما افتتح بقتال؛ فأما ما افتتح عنوة بغير قتال، فلم(2/591)
يكن فيها خمس، ولم يكن لأحد ممن دخلها مع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيها شيء، قطع رسول الله لأزواجه منها؛ وأما ما افتتح منها بقتال، فخمسه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقسم ما بقي على الذين افتتحوها، كانوا ألفا وثمانمائة، فقسم ذلك رسول الله على ثمانية عشر سهما، كل مائة رجل لهم سهم؛ فإنما يكون الخمس فيما غنمه المسلمون بقتال؛ لأنه أوجف عليهم بالخيل والركاب؛ وأما ما افتتح عنوة بغير قتال، فليس لأحد ممن افتتح ذلك فيه شيء، ولا خمس فيه؛ لأنه لم يوجف عليه بالخيل والركاب. قال مالك: والعنوة من الصلح يطيعون لهم بغير قتال فيفتتح ذلك بغير قتال، ولا إيجاف خيل ولا ركاب.
قال محمد بن رشد: كان فدك مما أفاء الله على رسوله بما نصره به من الرعب، وخصه به، فلم يكن لأحد معه فيه شيء، كبني النضير، وبني قينقاع؛ قال عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] . وما افتتح بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عنوة، فهو للذين افتتحوه بالإيجاف عليه، وفيه الخمس وإن لم يكن بقتال وما جلى عنه أهله من العدو فتركوه بغير إيجاف ولا قتال، فهو كله فيء حكمه حكم الخمس، وقد مضى القول في افتتاح خيبر في أول هذا الرسم، فلا معنى لإعادته.
[قالوا له تؤمننا وإلا قتلناك فأمنهم]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب أوله أوصى أن ينفق على أمهات أولاده قال عيسى بن دينار: قال ابن القاسم: لا أمان مع(2/592)
السيف - إذا قالوا له تؤمننا؛ وإلا قتلناك؛ فأمنهم على ذلك، فلا أمان لهم، ويقتلون؛ فإذا خلوه ثم قالوا تؤمننا فأمنهم، فهو أمان بمنزلة ما لو قالوا له نخليك على أن تؤمننا، قيل له: إن كان يخاف إن لم يفعل أن يقتلوه، قال: وما يدريه - أو يحملوك إلى موضع آخر ويذهبوا به؛ وفي المسألة: ولو شاؤوا أن ينفذوا نفذوا، وفي بعضها بعدما أشرف عليهم المسلمون، ليس هذا كله بأمان، إلا أن يخلوه ولا يشترطوا عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: اضطرب قوله في الرواية إذا قالوا له نخليك على أن تؤمننا، فقال: في أولها إن ذلك أمان بمنزلة إذا أمنهم بعد أن خلوه. وقال في آخرها ليس ذلك بأمان، إلا أن يخلوه ولا يشترطوا عليه شيئا، وهو نص قول ابن حبيب في الواضحة، واختلف إذا أمنهم وهو أسير دون أن يخلوه، فقال: في سماع أصبغ بعد هذا إن أمانه جائز - إن كان آمنا على نفسه، وقوله في ذلك مقبول، قال ابن المواز: فإن اختلف قوله في ذلك أخذ بقوله الأول، وقال سحنون: لا يجوز أمانه ولا يصدق أنه كان آمنا على نفسه، وهذا من الضرر على المسلمين، وما يقدر الأسير إذا طلب منه الأمان إلا أن يؤمنهم، ولا اختلاف في جواز أمانه بعد أن خلوه، ولا في أن أمانه لا يجوز - إذا قالوا له تؤمننا وإلا قتلناك.
[مسألة: الهدية تأتي الإمام في أرض العدو من العدو]
مسألة وقال في الهدية تأتي الإمام في أرض العدو من العدو، أتكون له خاصة أم للجيش؟ قال: لا أرى هذا يأتيه إلا على وجه(2/593)
الخوف، فأراه لجماعة الجيش، إلا أن يعلم أن ذلك إنما هو من قبل قرابة أو مكافأة كوفئ بها؛ فأراها له خاصة - إذا كان كذلك؛ ومثل الرومي يسلم فيولى فيدخل فيهدي (له) القرابة وما أشبه ذلك، قيل له: فالرجل من الجيش تأتيه الهدية، قال: هذا له خاصة لا شك فيه؛ ومثل أن يحلوا بحصن فيعطيه بعض أقاربه المال - وهو من الجيش، فهو له خاص.
قال محمد بن رشد: قال في الهدية تأتي الإمام في أرض العدو إنها لجماعة الجيش، إلا أن يعلم أن ذلك من قبل قرابة أو مكافأة - ولم يفرق بين أن تأتيه من الطاغية، أو من رجل من الحربيين، وذلك يفترق، أما إذا أتته من الطاغية، فلا اختلاف في أنها لا تكون له، واختلف هل تكون غنيمة للجيش، أو فيئا لجميع المسلمين؛ فقال: ههنا إنها تكون للجيش - يريد غنيمة لهم، وتخمس، وقيل إنها تكون فيئا لجميع المسلمين لا خمس فيها كالجزية، وهذا يأتي على ما حكى ابن حبيب فيما أخذه والي الجيش صلحا من بعض الحصون التي نزل عليها، وأما ما أتته من رجل من الحربيين، فقد روي عن أشهب أنها تكون له إذا كان الحربي لا يخاف منه، واختلف إذا أتت الأمير الهدية من الطاغية أو غيره من العدو قبل أن يدرب في بلاد العدو، فحكى الداودي في كتاب الأموال أنها تكون له، والصحيح المشهور المعلوم أنها تكون فيئا لجميع المسلمين، وأن الأمير في ذلك بخلاف النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فيما قبل من هدايا عظماء الكفار، ككسرى، والمقوقس صاحب مصر، وملك ذي يزن، والنجاشي، وغيرهم؛ لأن الله اختصه في أموال الحرب بخاصة، خالف فيها بينه وبين غيره من أمته، بما نصره به من الرعب، فقال:(2/594)
{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} [الحشر: 6]- إلى قوله سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6] . من ذلك أموال بني النضير - كانت صافية لرسول الله، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، ويجعل ما بقي في الخيل والكراع؛ فكذلك هداياهم إنما كانت تأتيه إجلالا له لحرمته وهيبة النبوءة، وما خصه الله به من الرعب لا لهيبة السلطان؛ إذ لو زال عنه السلطان، لما نقصت حرمته وهيبته، لما خصه الله به من النبوة والكرامة والمنزلة الرفيعة، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وجميع الرسل؛ وقد روي أن عياض بن حمار - وكان حرمي رسول الله - أهدى له هدية فردها، وقال: إنا لا نقبل رفد المشركين. فقيل: إنما رد على عياض بن حمار هديته، وقبل من غيره من الكفار؛ لأن عياض بن حمار كان من المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث، فهم في العرب كالمجوس في العجم، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم. وغيره ممن قبل الهدية منهم، كانوا أهل كتاب، وقد قال الله فيهم: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} [العنكبوت: 46]- الآية. فكان قبول هديتهم أحسن من ردها، وقيل كان ذلك قبل أن ينزل الوحي عليه بقوله عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ} [الحشر: 6]- الآية - والله أعلم. وأما الرجل من الجيش تأتيه الهدية في أرض الحرب من بعض قرابته وما أشبه ذلك، فلا اختلاف - أعلمه - في أنها له.(2/595)
[مسألة: يغزو أرض العدو فيشهد القتال فيغنموا وهو حي ثم يموت فيغنموا بعده]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يغزو أرض العدو فيشهد القتال فيغنموا وهو حي، ثم يموت فيغنموا بعده مغانم وفتوحا؛ أيقسم له فيما غنم بعد موته مع ما غنم قبل موته؟ قال: إن ذلك الشيء دائما متتابعا في ذلك الفوز فتحوا حصنا، ثم مات ففتحوا آخر بعده، أو قاتلوا قبل أن ينقطع ذلك؛ قسم له في ذلك، فإن كانوا رجعوا قافلين وما أشبه ذلك ثم غنموا بعد ذلك، فلا يقسم له إلا فيما شهد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها أربعة أقوال في المذهب، لكل قول منها وجه؛ أحدها قول ابن الماجشون: إن الرجل من الجيش يستحق سهمه من كل ما غنم الجيش إلى حين قفوله إذا مات بالأدراب - وإن لم يكن في حياته لقاء عدو. والثاني: أنه لا يستحق ذلك بالأدراب إلا أن يكون في حياته لقاء عدو فشاهد القتال، وهو قول ابن القاسم في رسم "الكبش" (من سماع يحيى) بعد هذا. والثالث: أنه لا يستحق بمشاهدة القتال - إذا مات بعده إلا ما غنم، أو افتتح بقرب ذلك، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى هذه. والرابع: أنه لا يستحق بمشاهدة القتال إذا مات بعده إلا ما غنم وافتتح بذلك القتال خاصة، ومثل أن يكون حصن تحت سور فأخذ ربض ثم مات فتخطى بعده إلى ربض آخر، وأما ما ابتدئ قتاله من الحصون بعد موته، فلا سهم له فيه - وإن كان قريبا.(2/596)
[مسألة: الفرس يوجد في المغنم موسوما في فخذه]
مسألة وسئل أصبغ بن الفرج عن الفرس يوجد في المغنم موسوما في فخذه: حبس في سبيل الله، قال: أرى ألا يجعل فيئا، وأن يكون في سبيل الله حبسا؟ قال سحنون مثله وكذلك لو كان في فخذه لله؛ ولم يكن فيه حبس؛ كان حبسا إذا علم أنه من خيل الإسلام ولم يشك فيه، وكان بمنزلة فرس لم يقع في المقاسم حتى أتى صاحبه أو عرف صاحبه، فإنه يرد إليه لأن المسلمين كلهم فيه أشراك.
قال محمد بن رشد: لسحنون في كتاب ابنه أن ذلك لا يمنعه من القسم؛ لأن الرجل قد يرشم في فخذ دابته: حبس في سبيل الله ليمنعه ممن يريده منه، قال: ولو باع رجل فرسه وفي فخذه: حبس في سبيل الله، لكان ذلك له - إن علم أنه لم يرد به التحبيس في السبيل، وهو القياس إذ لا يجب الحكم بالرشم لو وجد في يد رجل فرس مرشوم بالحبس لم يصح إخراجه من يده بذلك؛ كذلك إذا وجد في المغنم؛ لأن أهل الجيش قد استحقوه بالغنيمة، فلا يخرج من أيديهم إلا بما تستحق به الحقوق، والقول الأول استحسان - مراعاة لقول من يقول إن العدو لا يملكون على المسلمين ما حازوه من أموالهم، وأن صاحب المال أحق بماله بغير ثمن، قسم أولم يقسم؛ لأن الواجب على هذا القول ألا يقسم في الغنيمة(2/597)
ما علم أنه من أموال المسلمين، وأن يوقف لهم - إن لم يعلموه، كما يفعل فيما يوجد بأيدي اللصوص، فيأخذه من ادعاه بالشبهة - وإن لم تكن له بينة؛ واختلف قول الأوزاعي أيضا في هذه المسألة، فمرة قال إنه يقسم كالسيف يوجد فيه مكتوب حبس في السبيل، ومرة قال: إنه يحمل عليه في السبيل ولا يقسم، بخلاف السيف ولا فرق في القياس بين السيف والفرس، وبالله التوفيق.
[الرجل يحمل على الفرس في سبيل الله ولا يذكر ثغرا ولا مغزى]
ومن كتاب
أوله سلف دينارا في ثوب قال ابن القاسم: قال مالك: في الرجل يحمل على الفرس في سبيل الله - ولا يذكر ثغرا ولا مغزى، قال يجعل حيث ما كان أنكى للعدو مثل المصيصة ونحوها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه يعلم أنه إنما قصد التقرب إلى الله تعالى بفعله، والتقرب إليه إنما يكون على قدر الثواب؛ فوجب إذا لم يسم موضعا أن يجعل في أهم الثغور وأخوفها وأكثرها نكاية للعدو؛ لأن الأجر في الجهاد، إنما هو على قدر النكاية في العدو، والإرهاب عليه، والنيل منه، قال عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]- الآية. وقال تعالى: {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120] .(2/598)
[مسألة: الكلب يوجد في أرض العدو وهو ثمن دنانير كثيرة أيدخل في المغانم]
مسألة قلت لابن القاسم: فالكلب يوجد في أرض العدو - وهو ثمن دنانير كثيرة أيدخل في المغانم؟ قال: نعم يدخل في المغانم، وكذلك الظباء، وما أشبهه يصاد في أرض العدو؛ وقال إنه يدخل في غنائم المسلمين.
قال محمد بن رشد: روي «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن ثمن الكلب» . فحمله مالك على عمومه في جميع الكلاب - ما أذن في اتخاذه منها وما لم يؤذن، واستحسن ابن القاسم ههنا، وفي رسم "المكاتب" من سماع يحيى - أن يجعل الكلب المأذون في اتخاذه في المغانم، ويقسم في المقاسم مراعاة لقول من يجيز بيعه، ويخصصه من عموم الحديث؛ وهو مذهب جماعة من العلماء، وسحنون من أصحابنا، وجاء ذلك مفسرا في بعض الأحاديث، فروي «أن الرسول عليه السلام نهى عن ثمن السنور، والكلب، إلا كلب الصيد» . ووجه استحسان ابن القاسم لبيع الكلب المأذون في اتخاذه في المغانم، هو أن الله تعالى لما أباح لنا ما غنم من أموال الكفار(2/599)
بقول الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41]- الآية. وكان الكلب المأذون في اتخاذه من أموالهم، وجب ألا يخرج من الغنيمة بلفظ محتمل، ورواية معن بن عيسى عن مالك في آخر رسم "المكاتب" من سماع يحيى، أنه لا يدخل في المقاسم، هو القياس على مذهبه.
[أبق عبده إلى أرض الحرب ثم خرج برقيق استألفهم]
ومن كتاب
أوله إن خرجت من هذه الدار قال: وسئل ابن القاسم عن رجل أبق عبده إلى أرض الحرب، ثم خرج برقيق استألفهم؟ لمن تكون تلك الرقيق؟ أو هل فيها خمس؟ قال: الرقيق لسيد العبد ولا خمس فيهم، وكذلك لو استألفهم رجل فخرج بهم، كانوا له ولا خمس فيهم؛ قال عيسى: إنما هذا إذا استألفهم على أن يكونوا عبيدا له، وأما إذا استألفهم على أن يكونوا أحرارا، فذلك عهد ولا يكونون له.
قال محمد بن رشد: قول عيسى تفسير لقول ابن القاسم، وقوله إنه لا خمس فيهم صحيح؛ لأن الخمس لا يكون إلا فيما غنم وأوجف عليه بالخيل والركاب. وأما قوله إن الرقيق لسيد العبد، فمعناه أن له انتزاعهم منه؛ لأن العبد ماله له حتى ينتزعه منه سيده على مذهب مالك في أن العبد يملك.
[يلحق بأرض الشرك فيتنصر فيصيب دماء المسلمين وأموالهم]
ومن كتاب
أوله أسلم وله بنون صغار وسألته عن رجل من المسلمين يلحق بأرض الشرك فيتنصر فيصيب دماء المسلمين وأموالهم، ثم يؤخذ أسيرا فيشهد بالتوحيد(2/600)
ويجيب إلى الإسلام، فقال إن كان ما أصاب من ذلك أصابه وهو على ارتداده ثم أجاب إلى الإسلام حين أخذ، هدر عنه القتل وما أصاب من ذلك؛ وإن كان على الإسلام يوم أصاب ذلك، أقيد منه، وكذلك روى سحنون عن ابن القاسم في كتابه. وقال يحيى سألت عنها ابن القاسم فقال لي على الإمام أن يقتله ولا يستبقيه، ولا يجعل أمره إلى أولياء الذي قتل من المسلمين؛ لأن أمره كأمر المحارب الخارج على المسلمين بالسلاح، وهو يقتل ولا يستتاب كاستتابة المرتد في دار المسلمين، ولا يجوز لأولياء المقتول الدفع عنه.
قال محمد بن رشد: رواية يحيى عن ابن القاسم هذه، ليست بخلاف لرواية عيسى التي قبلها؛ لأنه إنما تكلم في رواية عيسى على أنه أسلم - إذا أخذ بعد أن حارب في بلد الحرب؛ وتكلم في رواية يحيى على أنه لم يسلم، فهي مسألة أخرى، فوهم العتبي في سياقته إياها عليها، وقوله فيها: وسألته عنها وهي ليست هي، ولا اختلاف في أنه إذا لحق بدار الشرك فتنصر وأصاب الدماء والأموال، ثم أخذ فأسلم، أنه يهدر عنه جميع ما أصاب كالحربي - إذا أسلم سواء؛ وهذا إذا صح ارتداده بكونه على بصيرة منه في الكفر، وأنه لم يفعل ذلك مجونا وفسقا؛ ولو ارتد وأصاب الدماء والأموال في بلد الإسلام، ثم أسلم لهدرت عنه حقوق الله، هي: الربى، والسرقة، وحد الحرابة، وأخذ بحقوق الناس من الأموال والدماء، والجراح - على مذهب ابن القاسم، وحكى ابن حبيب عن أصبغ واختاره، هو أن الردة لا تسقط عنه الطلاق، ولا الحدود من الزنا، والسرقة، وشرب الخمر؛ لأنه يتهم أن يرتد في الظاهر ليسقط ذلك عن نفسه؟ واختلف قول ابن القاسم: هل ينظر إلى(2/601)
حاله في الجراح والقتل يوم الجناية، أو يوم الحكم - على ثلاثة أقوال، أحدها: أنه ينظر إلى حاله في جميع ذلك يوم الجناية. والثاني أنه ينظر إلى حاله في جميع ذلك يوم الحكم. والثالث أنه ينظر إلى حاله في القود يوم الجناية، وفي الدية يوم الحكم. ولا اختلاف أيضا في أنه إذا لحق بدار الشرك فتنصر وأصاب الدماء والأموال بخروجه عن المسلمين، ثم أخذ على ارتداده؛ أنه يقتل ولا يستتاب كما يستتاب المرتد في دار الإسلام - إذا لم يحارب؛ لأنه إذا حارب في بلد الإسلام، فأخذ على ارتداد، يقتل أيضا لحرابته ولا يستتاب، ولا يجوز لأولياء من قتل العفو عنه، فلا يفترق حكم ما أصاب المرتد في بلد الحرب، أو في بلد الإسلام - إذا لم يسلم، وإنما يفترق ذلك - إذا أسلم على ما قد ذكرناه. وقوله: وإن كان على الإسلام يوم أصاب ذلك، أقيد منه؛ - معناه إن كان أصاب ذلك - وهو على الإسلام - قبل أن يرتد؛ لأن الارتداد يسقط عنه حكم الحرابة إذا أسلم، ويقاد منه لمن قتل.
[مسألة: يحمله على الفرس في سبيل الله على إن سلم فهو رد عليه فيصاب الفرس]
مسألة وسألته عن الرجل يحمل الرجل عن الفرس في سبيل الله على إن سلم فهو رد عليه، فيصاب ذلك الفرس فيجعل أمير الجيش الخلف لمن أصيب له فرس، لمن يكون ذلك الخلف؟ فقال لسيد الفرس، ليس للمحمول عليه منه شيء.
قال محمد بن رشد: وهذا بين كما قال؛ لأن الإمام إنما قصد أن يجبر على من تلف له فرس - فرسه، لا أن يعطي فرسا لمن أصيب تحته فرس لغيره.(2/602)
[الأسارى من المسلمين يصيبهم العدو في البحر]
ومن كتاب حبل حبلة قال عيسى: قلت لابن القاسم: فالأسارى من المسلمين يصيبهم العدو في البحر، فيوثقونهم ويوجهون بهم إلى بلادهم، فيثب عليهم الأسارى، فيقتلون بعضهم؛ ويأسرون بعضهم، ويصيبون متاعهم ومركبهم؛ هل ترى للإمام فيه خمس؟ فقال: إن كان يسار بهم في البحر إلى أرضهم ولم يصلوا بعد إلى أرضهم؛ فأراهم بعد في حربهم، وأرى فيما أصابوا الخمس؛ وإن كانوا قد وصلوا بهم إلى بلادهم، ثم خلصوا منهم على ما ذكرت؛ فأرى ما أصابوا لهم، وليس للسلطان فيه خمس.
قال محمد بن رشد: الوجه في هذا أنهم إن فعلوا ذلك قبل أن يستحكم أسرهم، فهم بعدُ في حربهم، يكون فيما أصاب منهم الخمس، وإن فعلوا ذلك بعد أن يستحكم أسرهم، فما أصابوا لهم، ولا خمس عليهم فيه، وإنما يستحكم أسرهم - إذا ساروا بهم إلى موضع يأمنون فيه لحوق مراكب المسلمين بهم، فمعنى الرواية: إذا علم أنهم لا يأمنون إلا بالوصول إلى أرضهم؛ لكثرة مراكب المسلمين عليهم. ولو أمنوا قبل الوصول إلى أرضهم، لكان لهم بالوصول إلى موضع الأمن حكم الوصول إلى أرضهم - والله أعلم، يبين هذا الذي قلناه - مسألة آخر سماع سحنون من هذا الكتاب في حد الموضع الذي يجعل فيه تجار الحربيين إذا أخذوا في انصرافهم - وبالله التوفيق.(2/603)
[مسألة: الأسير يكون مخلى بأرض الحرب أيخذ من المتاع شيئا]
مسألة قلت: فالأسير يكون مخلى بأرض الحرب، هل يجوز له أن يعدو على بعض متاع الذي هو في يديه أو غيره، فيهرب ولم يخله بعهد؟ قال: الذي كنا نحفظ من قول من يرضى - وأنا أشك أن يكون مالكا - أنه إن كان أرسل على أمان لم يحل له أن يهرب، ولا أن يأخذ من أموالهم شيئا، وإن أرسلوه على غير أمان بمنزلة ما يملكون من الرقيق قوة عليه لا يخافونه، فليقتل وليأخذ ما شاء؛ وما خرج به من ذلك فهو له، وليس للسلطان فيه خمس؛ لأنه لم يوجف عليه، وهذا الذي سمعت - وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في سماع أصبغ بعد هذا، وفي الواضحة لمطرف وابن الماجشون، وروايتهما عن مالك أن له أن يهرب بنفسه وإن أطلقوه على وجه الائتمان له والطمأنينة إليه، ما لم يأخذوا على ذلك عهده، وفي المبسوطة للمخزومي، وابن الماجشون، أن له أن يهرب، وأن يأخذ من أموالهم ما قدر عليه، ويقتل إن قدر - وإن ائتمنوه ووثقوا به واستحلفوه؛ فهو في فسحة من ذلك كله، ولا حنث عليه في يمينه؛ لأن أصل أمره الإكراه؛ فهي ثلاثة أقوال، أصحها في النظر قول ابن الماجشون، ومطرف، وروايتهما عن مالك في الواضحة: أنهم إن ائتمنوه على أن لا يهرب ولا يقتل، ولا يأخذ من أموالهم شيئا، فله أن يهرب بنفسه، وليس له أن يقتل، ولا يأخذ من أموالهم شيئا؛ لأن المقام عليه ببلد الكفر حرام، فلا ينبغي له أن يفي بما وعدهم به من ذلك؛ بخلاف القتل، وأخذ المال؛ لأن ذلك جائز له وليس بواجب عليه، فوجب عليه الوفاء به؛ وأما قوله: إن ما خرج به من(2/604)
المال فهو له، ولا خمس عليه فيه، فهو مثل ما تقدم في المسألة التي قبل هذه، وهو المشهور في المذهب؛ وقال ابن المواز: إن عليه الخمس فيما خرج به إن كان خرج للإصابة، فأسر ببلد الحرب؛ لأنه لم يصل هو إلا بالإيجاف، بخلاف إذا أسر من بلاد المسلمين. وقوله بعيد على أنه إنما ساقه في كتابه على جهة التفسير للمذهب.
[يغنمون الرقيق هل يشترى منهم وهم لم يؤدوا خمسها]
ومن كتاب
أوله جاع فباع امرأته وسألته عن القوم يغنمون الرقيق، هل يشترى منهم - وهم لم يؤدوا خمسها.
قال: لا يشترى منهم إذا لم يؤدوا خمسها.
قلت: فإن كانوا قوما صالحين يظن بهم أنهم لا يحبسون خمسها.
قال: لا يشترى منهم إلا أن يعلموا أنهم يؤدون خمسها.
قال محمد بن رشد: أما إذا كانوا قوما صالحين لا يظن بهم أن يحبسوا خمسها، فلا وجه للمنع من الشراء منهم، وأما إذا لم يعلم حالهم فترك الشراء منهم، هو وجه التورع؛ وأما إذا علم أنهم يبيعون ولا يؤدون الخمس، فاختلف في جواز الشراء منهم؟ روى يحيى بن عمر عن أبي المصعب أنه يشترى منهم وتوطأ الأمة، وإنما الخمس على الذي يبيع، وعلى هذا يأتي ما قاله ابن حبيب في الوالي يعزل الظلمة العمال، فيرهقهم ويعذبهم في غرم يغرمهم لنفسه، أو ليرده على أهله؟ فيلجئهم(2/605)
ذلك إلى بيع أمتعتهم ورقيقهم، أن الشراء منهم جائز، وقيل: إن الشراء منهم لا يجوز - إذا علم أنهم يبيعون - ولا يؤدون الخمس؛ لأنه بيع عداء، وهو قول سحنون، وعلى قياس هذا يأتي قول ابن القاسم في رسم "الجواب" من سماع عيسى من كتاب زكاة الماشية: إن الصدقات والعشور لا يحل الاشتراء منها - إن كانوا لا يضعون أثمانها في مواضعها، وهذا الاختلاف عندي إنما ينبغي أن يكون إذا كانت الرقيق لا تنقسم أخماسا، فكان الواجب أن تباع ليخرج الخمس من أثمانها؛ وأما إذا كانت تنقسم أخماسا فلم يخرجوا منها الخمس، وباعوها ليستأثروا بها، فهم كمن تعدى على سلعة لغيره فباعها، فلا يجوز لمن علم ذلك شراؤها.
[يأتي أرض المسلمين بغير أمان فيؤخذ في أرض الإسلام]
ومن كتاب الجواب
وسألته عن الرجل من العدو يأتي أرض المسلمين بغير أمان، فيؤخذ في أرض الإسلام، أو قبل أن يصل إلى أرض الإسلام، فيقول جنحت إلى الإسلام، هل يقبل ذلك منه - وهم ربما تلصصوا الواحد والاثنان؛ قال ابن القاسم: أما الذي يؤخذ قبل أن يدخل أرض الإسلام، فهو الذي لا يشك فيه أن يقبل منه، أو يرد إلى مأمنه؛ وكذلك قال مالك فيه، وكذلك إن قال: جئت أطلب الفداء على مثل ذلك سواء؛ وأما الذي يؤخذ في أرض الإسلام، فهو على مثل ذلك سواء أيضا عندي - إذا كان أخذه بحدثان سفره وقدومه، وبأثر ذلك وفي فوره ووجهه؛ فأما أن يطول زمانه وإقامته بين أظهر المسلمين لا يعلم به، فإذا ظهر عليه، قال: جنحت إلى الإسلام، أو جئت أطلب الفداء، أو ما أشبه ذلك؛(2/606)
فلا أرى أن يقبل ذلك منه، وأراه رقيقا يرى الإمام فيه رأيه بالاجتهاد، وليس هو لمن أخذه؛ ولا أرى أن يقتل إلا أن يعلم أنه أتى جاسوسا يتجسس عورات المسلمين ليطلع عليها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها اختلاف كثير، وتحصيله مخلصا مقربا: أن فيها ثلاثة أقوال، أحدها: أنه لا يقبل قولهم فيما ادعوا من أنهم جنحوا إلى الإسلام، أو جاؤوا يطلبون الفداء أو التجارة - بعد أن يؤخذوا إذا لم يظهروه قبل أن يؤخذوا، ويكونون فيئا للمسلمين؛ يرى فيهم الإمام رأيه: إن شاء قتل، وإن شاء استرق؛ وسواء أخذوا في بلد الإسلام، أو قبل أن يصلوا إلى بلد الإسلام؛ وسواء كانوا من أهل بلد عودوا الاختلاف إلى بلاد المسلمين المثل ما ادعوا، أو لم يعودوا - وهو قول أشهب في الواضحة وغيرها. والثاني أنه يقبل قولهم أو يردوا إلى مأمنهم، أن يتبين كذبهم فيما ادعوا، مثل أن يقولوا نحن تجار أردنا التجارة - وليس معهم أسباب التجر، ومعهم السلاح؛ قيل إذا أخذوا قبل أن يصلوا إلى بلاد المسلمين؛ وأما إن أخذوا في بلاد المسلمين، فهم فيء للمسلمين، وهو قول يحيى بن سعيد في المدونة، وظاهر قول مالك فيها، وقول سحنون، وقيل إن أخذوا في بلاد المسلمين - إذا كان أخذهم بحدثان قدومهم، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية. وقيل وإن أخذوا بعد أن طال مقامهم في بلاد المسلمين، إلا أن يتبين كذبهم، وهو ظاهر قول ابن القاسم في أول رسم "الصلاة" من سماع يحيى. والقول الثالث أنهم إن كانوا من(2/607)
أهل بلد قد عودوا الاختلاف لما ادعوه من الفداء، أو التجارة، أو الاستئمان، قبل قولهم، أو ردوا إلى مأمنهم، وإلا فهم فيء للمسلمين، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة، وعزاه إلى مالك من رواية المدنيين والمصريين، وهو قول ربيعة في المدونة، وسحنون في سماعه بعد هذا، وعيسى في تفسير ابن مزين، وإليه نحا ابن القاسم فيه، وأما إن أظهروا ما ادعوا قبل أن يؤخذوا، وقبل أن يصلوا إلى بلاد المسلمين، فلا اختلاف في أنهم لا يسترقون، ويقبل منهم ما ادعوا، أو يردوا إلى مأمنهم.
[مسألة: الطير والحيتان تصاد في أرض العدو وتباع هل يجعل أثمانها في المقاسم]
مسألة وسألته عن الطير والحيتان تصاد في أرض العدو، وتباع، هل يجعل أثمانها في المقاسم، أم هي لمن أصابها؟ قال ابن القاسم: بل تدفع في المقاسم لا شك فيه، ولا يحل غيره، وإن أراد أن يخرج بالطير حيا، فإن كانت من الطير التي لها الأثمان للاصطياد، وما أشبه ذلك، لم يخرج بها، وردها في المقاسم، وإن كانت طيرا للأكل وأراد أن يتزود منها أو من الحيتان ما يبلغه، فلا بأس بذلك؛ فإن فضلت معه فضلة منها بعد رجوعه، باعها وتصدق بثمنها؛ إلا أن يكون ذلك الشيء يسيرا تافها لا قدر له، فلا أرى عليه بيعه، ولا بأس عليه في أكله في أهله.
قال محمد بن رشد: حكم ابن القاسم في هذه الرواية لما صاد الرجل في بلاد الحرب من الحيتان والطير - بحكم طعام العدو الذي قد حازوه وملكوه، فكذلك على هذه الرواية ما كان له ثمن من أشيائهم المباحة،(2/608)
حكمه حكم ما حازوه إلى بيوتهم من أموالهم، وقد مضى القول في هذه المسألة - مجودا - في رسم "صلى نهارا"، ورسم نذر من سماع ابن القاسم، وفي غيره من المواضع أيضا.
[مسألة: أهل الذمة إذا نقضوا العهد ومنعوا الجزية وخرجوا من غير عذر]
مسألة وسألته عن القوم من أهل الذمة ينزع رجالهم ويحاربون، فيظفر بهم؛ هل يستحل بذلك ذراريهم ونساؤهم ومن يزعم من ضعفاء رجالهم أنه استكره، ومن يرى أنه مغلوب على أمره ولا يملك من أمره شيئا - دخلوا أرض الحرب، أو لم يدخلوا؟ قال ابن القاسم: إن كان الإمام عدلا قوتلوا أو قتلوا، واستحلت نساؤهم وذراريهم وأولادهم المراهقون، والأبكار تبع لهم يستحلون ويسبون، وهم من النساء والذرية؛ وأما من يرى أنه مغلوب على أمره، وأنه لم يعن مثل الضعيف والشيخ الكبير الزمن؛ فلا أرى أن يستحلوا، ولا يقتلوا، ولا يسترقوا على حال. قال وإن نقضوا وقاتلوا وظهر على الذرية قبل أن يظهر عليهم، استحلوا أيضا وسبوا، وكانوا كسبيل ما فسرت لك؛ وذلك إذا كان الإمام عدلا لم ينقموا منه شيئا، وإن نقضوا وخرجوا إلى دار الحرب، وبقيت الذرية بين أظهر المسلمين؛ لم تستحل الذرية، ولم يكن إلى الذرية سبيل بوجه من الوجوه؛ وإن تحملوا الذرية معهم، وظفر بهم قبل أن يصلوا إلى دار الحرب؛ فهم كلهم فيء بحال ما فسرت لك - إذا كانوا قد نقضوا وامتنعوا، وكان الإمام عدلا - كما أخبرتك، وإن كان الإمام غير عدل ونقموا شيئا يعرف ما قاموا به، لم يقاتلوا ولم يقتلوا؛ قال مالك: وإلى من يردونهم إلى من يستحل نساءهم وبناتهم، فإن ظهر عليهم في تلك الحال، لم يسترقوا ولم يستحلوا، ولاشيء من(2/609)
نسائهم ولا ذريتهم، وتركوا على حالهم، وذمتهم؟ وإن تحملوا إلى أرض الحرب بذريتهم ثم ظهر عليهم، لم يستحل منهم شيء من الأشياء - كما فسرت لك - إذا كان الإمام غير عدل؛ إلا أن يعينوا على المسلمين بعد دخولهم إلى العدو، أو يقاتلوا مع العدو فيستحلون بفعلهم ذلك، ويسن بهم وبذراريهم عند ذلك سنة أهل الحرب؛ لأنهم قد صاروا حينئذ حربا وعدوا.
قال محمد بن رشد: اتفق أصحاب مالك على اتباع قول مالك في أن أهل الذمة إذا نقضوا العهد، ومنعوا الجزية، وخرجوا من غير عذر، أنهم يصيرون حربا وعدوا، يسبون ويقتلون، إلا أشهب في المدونة، فإنه قال لا يعود الحر إلى الرق، وما اتفق عليه مالك وأصحابه أصح في النظر من قول أشهب؛ لأن الحرية لمن تثبت لهم بعتاقة من رق متقدم، فلا ينقض، وإنما تركوا على حالهم من الحرية التي كانوا عليها آمنين على أنفسهم ودمائهم بين أظهر المسلمين، بما بذلوه من الجزية عن يد وهم صاغرون مساناة ما بذلوها، لقول الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29]- الآية. فإذا منعوا الجزية لم يصح لهم العوض، وكان للمسلمين الرجوع فيه. وذلك أيضا كالصلح ينعقد بين أهل الحرب وبين المسلمين على شروط، فإذا لم يفوا بها، انتقض الصلح بقول الله عز وجل: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10]- الآية. وكمن اكترى دارا(2/610)
مشاهرة، فإذا منع الكراء، أخرج من الدار؛ وقد احتج لذلك ابن الماجشون في كتاب ابن المواز بأن قال: وكذلك فعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في سبي قريظة وغيرهم، وقاله محمد، ولا حجة في ذلك - عندي؛ لأن الذي كان بين النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وبين قريظة وغيرهم من اليهود، إنما كانت مهادنة ومعاهدة - وهم في بلادهم؛ ولم يكونوا كأهل الذمة الذين غلبوا، فأقروا تحت ملكة المسلمين على أداء الجزية، ومما يدل على هذا أن ابن القاسم لم يحتج به في المدونة، وإنما قال فيها قد مضت في ذلك السنة من الماضين؛ فذكر قتال عمرو بن العاص - الإسكندرية - ثانية، فلو كانت عنده في ذلك سنة عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، لذكرها - والله أعلم؛ وفرق في الرواية بين النساء والذرية، وبين الشيوخ والزمنى، وساوى بين ذلك ابن الماجشون، وأصبغ، وجعلا نقض كبارهم نقضا عليهم، أن صلحهم صلح عليهم، واختاره ابن حبيب، ولا ينبغي أن يختلف فيهم، إذا علم أنهم مغلوبون مكرهون غير راضين، لقوله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . ويحمل الخلاف على أنه إذا جهل أمرهم وادعوا الإكراه والغلبة على ما يحملون، فلا يستباحون على مذهب ابن القاسم إلا بيقين، ولا يمتنع من سبيهم وقتلهم على ما ذهب إليه ابن حبيب إلا بيقين - والله أعلم.
[مسألة: الكبير والكبيرة من المسلمين يصيبهما العدو ثم يصيبهما المسلمون]
مسألة وسألته عن الكبير والكبيرة من المسلمين يصيبهما العدو، ثم(2/611)
يصيبهما المسلمون، ولا يدعيان شيئا حتى تجرى عليهما المقاسم، ويتداولهما المشترون؛ ثم يثبت أمرهما ويظهر ويعرف؛ وهل الكبير والصغير في هذا سواء؟ قال ابن القاسم: لا أرى عليهما غرم شيء من أثمانهما، وهما بمنزلة الصغير في ذلك - إذا كان ممن يجهل مثل هذا، ولا يعلمان بأنهما لا يسترقان، ويظنان أن ذلك عليهما، ويعذران في ذلك، فإن كانا ممن لا يعذران في ذلك وسكتا على علم، وتعمدا ذلك؟ رأيت عليهما غرم أثمانهما؛ وإن كانت الجارية قد وطئت في ذلك، لم أر عليها شيئا - إذا عذرت بنحو ما أخبرتك من الجهالة والتأويل والنسيان؛ وقد قال في سماع يحيى بن يحيى من كتاب يشترى الدور والمزارع، ليس اشتراؤه إياهما في الأسر بمنزلة اشترائه إياهما في المغانم؛ لأنهما في أرض العدو في رق استنقذهما منه، وهما حين صارا بأيدي المسلمين فقد خرجا من ذلك الرق، وصارا إلى الحرية التي كانا عليها؛ قال يحيى: قلت لابن القاسم فما ترى في حق المشتري إن كان أخذهما في سهامه، أو اشتراهما في المقاسم؟ قال: أراها مصيبة دخلت عليه، إلا أن يدرك ذلك قبل القسم فيسقط عنه الثمن.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف إذا عذرا بجهل أنه لا شيء عليهما، وإنما اختلف قول ابن القاسم إذا لم يعذرا بجهل وسكتا - وهما يعلمان أن الاسترقاق لا يلزمهما، فأوجب عليهما في رواية عيسى عنه غرم أثمانهما للمشتري إن فات القسم، ولم يكن له على من يرجع، ولم يوجب ذلك له عليهما في رواية يحيى، وهو قول سحنون، واختيار ابن المواز،(2/612)
قال: وذلك بخلاف العروض أو الرقيق، أو الحيوان، أو غيره مما قسم في المغنم، أو بيع فيه، فلا يأخذه صاحبه إلا بالثمن الحر والحرة - إن بيعا في المغنم يخرجان حرين، ولا يتبعان بشيء، وسواء كانا مسلمين أو ذميين؛ قال: ولم يقل أحد من أصحابنا إنه يرجع عليهما - إلا أشهب، وقد قاله ابن القاسم في رواية عيسى هذه، وهو قوله أيضا في رسم "لم يدرك" من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق في الرجل والمرأة يقران بالمملكة، فيباعان فتوطأ المرأة فتلد - وقد مات بائعها أو فلس - أن أثمانها تكون للمشتري دينا عليهما؛ وهذا الاختلاف جار على مجرد الغرور بالقول: هل يلزم به غرم أو لا، وعلى رواية عيسى هذه التزم الموثقون أن يكتبوا في عهد الرقيق - إذا كان العبد أو الأمة: قد بلغا إقرارهما بالرق لبائعهما، ليكون للمشتري اتباعهما بأثمانهما - إن استحقا بحرية، وثبت عليهما العلم بذلك، والبائع ميت أو عديم - وهو ضعيف؛ لأن السكوت عند ابن القاسم في رواية عيسى عنه في هذه المسألة كالإقرار، يجب به للمشتري الرجوع، وعلى رواية يحيى وقول سحنون وما اختاره ابن المواز، وحكي أنه إجماع من أصحاب مالك - إلا أشهب، لا فائدة في كتابه، إذ لا يوجب شيئا؛ وقد قال ابن حبيب إن الغلام إذا استحق حرية والبائع غائب، أنه يرفع مع المشتري إلى موضع البائع، ليأخذ رأس ماله منه، كما لو استحق برق؛ ومعنى ذلك إذا علم بحريته وغر من نفسه، وكذلك قال ابن كنانة، وأما إن كان الرق قد جرى عليه من الصغر - ولم يعلم بحريته، فلا يجب أن يرفع معه؛ وحكى ابن عبدوس عن ابن القاسم في الجارية أنها لا ترفع معه، وإنما يكتب له السلطان بصفتها، معناه وإن غرت من نفسها، فالاختلاف في هذا، إنما هو إذا غرت من نفسها على قياس الاختلاف في وجوب اتباعها بالثمن، إذا كان البائع ميتا، أو عديما، والله أعلم.(2/613)
[مسألة: يفدي الرجل المسلم من العدو فإذا بلغا بلاد المسلمين اختلفا في الفدية]
مسألة وسألت عن الرجل يفدي الرجل المسلم من العدو، فإذا بلغا بلاد المسلمين، اختلفا في الفدية: يدعي المفدي أكثر مما يقول المفدى، قال ابن القاسم: القول قول المفدى فيما أقر به من ذلك، قليلا كان أو كثيرا، كان يشبه فداء مثله أو لا يشبهه؛ لأن مالكا قال: لو أنكر أن يكون فداه أصلا وقد خرجا من بلاد العدو، كان القول قوله، إلا أن يكون للآخر بينة أنه فداه؛ قال ابن القاسم: ولو ادعى كل واحد منهما أنه الذي فدى صاحبه - وقد خرجا جميعا من بلاد الحرب، ولا يدرى علم بذلك، فإنهما يحلفان جميعا، ويتتاركان، ولا يكون لواحد منهما على صاحبه شيء؛ لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: إذا اختلف الفادي والمفدى في مبلغ الفدية: إن القول قول المفدى، أشبه قوله، أو لم يشبه، ليس على أصولهم في مراعاة دعوى الاشتباه في التداعي، لاتفاقهما على أنه فداه، فذلك بخلاف إذا ادعى أحدهما على صاحبه أنه فداه فأنكر، والذي يأتي على أصولهم إذا اختلفا في مبلغ الفدية، أن يكون القول قول المفدى - إذا أتى بما يشبه؛ فإن أتى بما لا يشبه، كان القول قول الفادي - إن أتى بما يشبه، فإن أتى بما لا يشبه أيضا، حلفا جميعا، وكان للفادي ما يفدي به مثله من ذلك المكان؛ وكذلك إن نكلا جميعا، وإن نكل أحدهما وحلف الآخر كان له ما حلف عليه وإن لم يشبه؛ لأن صاحبه قد أمكنه من ذلك بنكوله، وقال سحنون: القول قول الفادي - إذا كان الأسير بيده. ولابن(2/614)
أبي حازم في المدنية مثله، وزاد: إلا أن يدعي ما لا يفدى به مثله في ذلك المكان فيكون له ما يفدى به مثله في ذلك المكان، وفي ذلك من قولهما نظر، إذ ليس الأسير بمال فيكون إذا كان بيده شاهدا له على ما يدعي كالرهن، فإذا لم يكن شاهدا له على ما يدعي، ولا كان في كونه بيده دليل على قلة الفدية من كثرتها، وجب أن يكون القول قول المفدى - فيما يقر به من الفدية - إذا أشبه على ما قلناه، وإنما كان ينتفع الفادي بكون الأسير في يده - لو أنكر أن يكون فداه؛ لأن كونه في يده، دليل على أنه فداه، وليس بدليل على ما يدعي أنه فداه به، وهذا كله بين، فلا يصح في المسألة إلا ما ذكرناه، وقد روي عن الأوزاعي أنه قال القول قول الفادي، وهو يعيد أيضا ما كان بيده أو لم يكن؛ إلا أن يكون معناه إذا أشبه قوله، ولم يشبه قول المفدى، والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق، لا رب غيره، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(2/615)
[كتاب الجهاد الثاني] [مسألة نفر من أهل الذمة يغزون مَن يليهم من العدو أترى أن يخمس ما يصيبون]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما كتاب الجهاد الثاني من سماع يحيى بن يحيى من كتاب الكسب مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن نفر من أهل الذمة من ثغرنا من النصارى يغزون مَن يليهم من العدو مع غير المسلمين فيغنمون، أترى أن يخمس ما يصيبون؟ فقال: لا أحب للإمام أن يأذن لهم بالغزو.
قلت: لِمَ كرهت ذلك، وهم لا يغزون معنا في عساكرنا؟
فقال: لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمشرك: «ارجع فلن نستعين بمشرك» ، وغزو هؤلاء من العون، وإن لم يكونوا مع المؤمنين في عسكرهم.(3/5)
قلت: فإن وقع الأمر فماذا ترى؟
قال: لا أرى عليهم خمسا.
قلت: فإن قسم بينهم حَكَمُ المسلمين أيقسم على سنة الإسلام؟
قال: نعم، إذا حكَّموه ورضوا به فليقسم بينهم بقَسْم الإسلام، وإن لم يحكِّموه فأمرهم إلى أساقفتهم وأهل دينهم، يقسمون بينهم على سنتهم.
قال محمد بن رشد: لا يجوز عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، للإمام أن يستعين بالكفار على قتال الكفار، ولا أن يأذن لهم في الغزو مع المسلمين ولا منفردين أيضا؛ لأنه وجه من العون؛ ولأنهم يستبيحون فيه ما لا يجوز في الغزو على ما قاله أصبغ في نوازله؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لن أستعين بمشرك» ، ولما روي من «أن الأنصار قالوا يوم أحد: ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا حاجة لنا فيهم» .
وفي قول ابن القاسم في هذه الرواية: لا أحب للإمام أن يأذن لهم بالغزو، دليل على أنهم إن لم يستأذنوه لم يجب عليه أن يمنعهم، وعلى هذا يحمل غزو صفوان بن أمية رسول الله حنينا والطائف، خلاف قول أصبغ في نوازله: إنهم يُمنعون من ذلك أشد المنع. وقد حكى أبو الفرج عن مالك: أنه لا بأس على الإمام أن يستعين بالمشركين في قتال المشركين إذا احتاج إلى ذلك، وهو دليل قوله للأنصار: لا حاجة لنا فيهم.
وقد روي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنه بلغه جمع أبي سفيان(3/6)
ليخرج إليه يوم أحد، استعان يهود النضير فقال لهم: "إنا وأنتم أهل كتاب، وإن لأهل الكتاب النصر على أهل الكتاب، فإما قاتلتم معنا، وإما أعرتمونا سلاحا» ، فإن غزوا بإذن الإمام أو بغير إذن الإمام منفردين تُركت لهم غنيمتهم ولم تُخمس، وإن غزوا مع المسلمين في عسكرهم لم يكن لهم في الغنيمة نصيب، إلا أن يكونوا متكافئين، أو هم الغالبون، فتقسم بينهم وبين المسلمين قبل أن تخمس، ثم يخمس سهم المسلمين خاصة.
وأهل الكتاب وغيرهم عند مالك في هذا سواء، وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه أنه أجاز الاستعانة بأهل الكتاب دون من سواهم من المشركين عبدة الأوثان والمجوس، وصحّح الآثار على ذلك، قال: وإنما لم يستعن رسول الله بحلفاء الأنصار من يهود للحلف الذي كان بينهم وبين عبد الله بن أبي المنافق؛ لأنهم خرجوا بذلك من حكم أهل الكتاب، وهو من التأويل البعيد؛ ولا بأس بأن يُستعار السلاح من الكفار كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأجاز ابن حبيب أن يقوي الإمام من سالمه من أهل الحرب على من لم يسالمه منهم بالقوة والسلاح، وأن يسايروه بحداء عسكر المسلمين ما لم يكونوا في داخله وسبيل أهله.
[مسألة حكم الإسهام في الغنيمة لمن لم يسمع كلام الأمير]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن أمير سرية خرج بأصحابه حتى إذا دنا من أرض العدو عرض لهم نهر، فقال لأصحابه: اعبروا النهر لعل الله أن يغنمنا، فكره ذلك بعضهم وقالوا: لا تغرر بنا، فإن إجازة هذا النهر شديد الخطر، وذكروا له بعض ما اعتذروا له، وأشاروا إليه ألا يجوزوه، وأطاعه بعضهم، فأجاز بهم(3/7)
وتخلف العصاة، فمضى بمن أطاعه، فغنم غنائم كثيرة، وسلم هو وأصحابه، فلما رجعوا وجدوا المتخلفين عنهم بمكانهم لم يبرحوا، أترى لهم في الغنيمة حقا؟ وإن أنكروا أن يكونوا تخلفوا عنه، أيجوز شهادة من زعم أنه أجاز مع الإمام؟ أو هل يقبل قول الإمام على من تخلف، ولمن زعم أنه أجاز معه؟ فقال: إن أقروا بالتخلف أو شهد به عليهم رجلان ممن تخلف، أو ممن ليس منهم، ولا من الذين دخلوا مع الإمام، فلا قسم لهم، ولا حق في الغنيمة للذين غابوا على الذين أصابوها راضين بالتخلف عنهم؟ وإن لم يشهد عليهم بالتخلف، وأنكروا أن يكونوا تخلفوا إلا بعض الداخلين أو قول الإمام، فالقول قولهم، ولا يقبل عليهم قول الإمام إلا ببينة تشهد من غير الداخلين؛ لأن كل من دخل فهو إذا شهد عليهم جارٌّ إلى نفسه، والإمام كأحدهم. وقال ابن وهب مثله.
قال محمد بن رشد: لم يبين في الرواية إن كانت إجازة النفر على ما ذكره من كره إجازتهم من الغرر وشدة الخطر أم لا، فإن لم يكن على ذلك، وكان قولهم اعتلالا على جوازه، فلا إشكال، ولا اختلاف في أنه لا حق ولا نصيب لمن تخلف عن إجازته فيما غنمه من أجازه؛ لأنهم قد رضوا بترك حقوقهم فيما غنموه؛ إذ لا عذر لهم في ترك إجازته.
وأما إن كانت إجازة النهر على ما ذكروه من الغرر، وشدة الخطر والمهلكة، فظاهر الرواية أيضا أنه لا حق لمن تخلف عن الإجازة فيما غنمه من جازه، ولسحنون في كتاب ابنه: أنهم يدخلون معه فيما غنموه؛ لأن لهم عذرا في التخلف عن(3/8)
إجازته. وقد أخطأ الذين جازوه، والذي ينبغي عندي على أصولهم أن ينظر في ذلك، فإن رئي أن لمن أجاز النهر في وصول من لم يجزه معهم إليه، ووقوفهم بمكانهم إلى حين انصرافهم بغنيمتهم إليهم وجهُ منفعة، مثل أن يكون بالنهر من الغرب من بلد العدو، بحيث يمكن أن يكون العدو قد بلغه جمعهم، وكثرة عددهم، فيظنوا أنهم أجازوا النهر بجمعهم، فيكون لهم الدخول فيما غنموه؛ إذ لعل ما ظنه العدو من جوازهم هو الذي فتّ في أعضادهم، فكان ذلك عونا للغانمين على غنيمتهم؛ وإن رئي أنهم لم يكن في وصولهم معهم إلى النهر، ووقوفهم عليه وجه منفعة لم يكن لهم دخول معهم في غنيمتهم.
ولا اختلاف في أنه لا يجوز شهادة من جاز مع الإمام بالتخلف على من أنكره؛ لأنه يجر بشهادته إلى نفسه ما يجب لهم من سهم المشهود عليهم، إلا أن يكون الذي يجب لهم من ذلك يسيرا، فيجري ذلك على الاختلاف في جواز شهادة العدل إذا شهد لغيره شهادة يجر بها إلى نفسه ما لا يُتهم على مثله لنزارته، فقد أجازها مالك في سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق. وأما شهادة الإمام فقال ابن القاسم في هذه الرواية: إنها لا تُقبل على المتخلفين إلا ببينة؛ لأنه كأحد الحائزين في الجر إلى نفسه بشهادته، ولسحنون في كتاب ابنه أن قول الإمام مقبول على من تخلف إذا كان عدلا من غير طريق الشهادة، وقوله بعيد؛ لأنه إن حكم هو عليهم بألا حق لهم في الغنيمة كان حاكما بعلمه جارًّا بذلك لنفسه، وإن رفع الأمر إلى غيره من الحكام، فشهد عنده بعلمه استوى هو وغيره في الشهادة، ووجب أن تبطل بما تبطل به شهادة من سواه، ووجهه أنه أجاز قوله في ذلك على قياس مذهبه في أن للقاضي أن يقضي بعلمه فيما أقر به عنده الخصم في مجلس قضائه.
[مسألة: حصرَهم العدو فخرج نفر منهم فقاتلوا العدو فأصابوا خيلا وأسلابا]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن أهل حصن من(3/9)
المسلمين حصرَهم العدو، فخرج نفر من أهل الحصن فقاتلوا العدو الذين حصروهم، فأظفرهم الله بقتل رجال منهم، فأصابوا خيلهم وأسلابهم، وأسروا بعضهم، أيقسم ما أصابوا بينهم وبين جميع أهل الحصن، أو يكون لمن خرج متعرضا للقتال أو لمن قاتل دون لمن خرج ممن لم يقاتل؟ فقال: بل يقسم بين جميع من خرج قاتل أو لم يقاتل، وبين جميع أهل الحصن بعد إخراج الخمس. قلت: أيقسم لخيل من لم يخرج وخيل من خرج راجلا وخلى فرسه في الحصن؟ قال: نعم، إذا كانوا بموضع رباط، وضعوا فيه رصدة للعدو ولذلك سكنوا، ولو كانوا على غير ذلك لم يكن لهم شيء.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال؛ لأن الحكم في الغنيمة أن تقسم بعد إخراج الخمس بين جميع الغانمين الرجال الأحرار البالغين، من قاتل منهم ومن لم يقاتل؛ لكون من لم يقاتل منهم ردءا لمن قاتل وعونا لهم على الغنيمة؛ لأن نفوسهم تقوى بوقوفهم، وتزيد في جرأتهم على العدو، والعدو يرهبهم، فربما كانوا هم السبب لانهزامهم. فكذلك الذين في الحصن بهم قويت نفوس من خرج لكونهم ردءا لهم، ولعل العدو إنما انهزموا بسببهم. وهذا يبين ما ذهب إليه في المسألة التي قبل هذه، وستأتي هذه المسألة بعد هذا الرسم كاملة أكمل من هذه، وبالله التوفيق.
[مسألة: ناس من العدو أعطاهم الإمام عهدا أيوفى لهم بالعهد]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن ناس من العدو كانوا خرجوا إلى رجل كان في الثغر من أهل الخلاف للإمام، وكان يلي مدينة من الثغر قد غلب عليها، فأعطاهم عهدا فأمنوا بذلك عنده؛ إذ كان فيما أحدث من الخلاف والاستعانة بالعدو على من أراده من(3/10)
المسلمين، فقلت: أيوفى لهم بالعهد الذي كان أعطاهم، أم يستحلون؛ لأنهم خرجوا إليه وقبلوا عهده، وقد علموا خلافه للإمام؟ فقال: لا تحل دماؤهم ولا ذراريهم ولا أموالهم لأحد؛ لأن عهده عهد، وهو رجل من المسلمين يعقد لهم أمانا على جميع المسلمين، ولكن يقال لهم: إن عهده لا يمضيه الوالي فارجعوا إلى مكانكم، فإذا ردوا إلى أرضهم عادوا إلى حالهم الأول، فكانوا من أهل الحرب ما هم، فقلت: فإن اختاروا الإقامة على الجزية أترى للإمام أن يقرهم؟ قال: نعم، لا أحب له ردهم إذا رضوا بالجزية.
قال محمد بن أحمد: قوله: إنهم يحرمون على المسلمين بالعهد إن أعطاهم المخالف على الإمام صحيح؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يجير على المسلم أدناهم» وذلك ما لم يغيروا بعد معاهدته إياهم على المسلمين أمرا بينه وبينهم وأمسكوا، فإن أغاروا على المسلمين لمخالفة الإمام انتقض العهد الذي أعطاهم، ووجب أن يقاتلوا ويستحلوا، قاله أصبغ في نوازله بعد هذا، وهو مفسر لقول ابن القاسم هذا.
[مسألة: ذميون هربوا إلى أرض العدو فأسرهم المسلمون فخمسوا وقسموا]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن ناس من أهل الذمة هربوا إلى أرض العدو ليلا، فأدركتهم خيل المسلمين، وقد دخلوا أرض الحرب فخمسوا وقسموا، ثم ادعوا إنما كان هروبهم خوفا من البيع والظلم، وكانوا مجاورين لقوم من العرب أهل استطالة وظلم(3/11)
وقهر لمن جاورهم من أهل الجزية ومن مثلهم هرب وخيف، غير أنه لا يعرف ما ادعوا مما خافوا، وهل أريد بهم سوء أم لا؟ فقال: إن عرف التصديق في ناحية ما شكوا مما خافوا؛ لسوء الذين خافوا وقدرتهم على من أرادوا ظلمه أخرجهم كرها، أو يكونوا في يده لجورهم واستحلالهم للتعدي على من جاورهم، فلا أرى أن يباعوا ولا يستحلفوا، وليصدقوا للذي عرف من ظلم الذين خافوا على أنفسهم، وليردوا إلى جزيتهم إن كان الذي أتى بهم إليه يقوى على دفع الظلم عنهم، والوفاء بالعهد لهم، وإن لم يأمن عليهم ظلم الذين هربوا خوفا منهم، أو ظلم غيرهم من أشباههم، فليخل سبيلهم ليسيروا حيث أحبوا إلى أرض عدو وغيرها، قال أصبغ: وإن أشكل أمرهم فكذلك أيضا لا يستحلوا حتى يتبين أنهم نقضوا العهد على غير شيء من تحت إمام عدل.
قال محمد بن أحمد: قول أصبغ تفسير لمذهب ابن القاسم؛ لأن الذمة قد انعقدت لهم، فلا تنقض إلا بيقين، والمسألة كلها صحيحة على مذهب مالك وأصحابه حاشى أشهب، في أن أهل الذمة إذا خرجوا ومنعوا الجزية، ونقضوا العهد من غير ظلم يركبون به أنهم يصيرون حربا وعدوا، ويجوز سبيهم واسترقاقهم، وقد مضى القول على هذأ في رسم الجواب، من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته.(3/12)
[مسألة: عبد أبق إلى أرض العدو ثم رجع طوعا ومعه أموال وعبيد]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن عبد لرجل من المسلمين أبق إلى أرض العدو، ثم رجع طوعا ومعه أموال وعبيد، وقد أصاب ذلك في أرض العدو، أترى أن يخمس ما خرج به؟ فقال: ليس ذلك عليه، وليس فيما خرج به العبد الآبق خمس، وهو كله له، ولسيده إن أراد أخذه منه.
قلت: أرأيت إن أنكر العبيد أن يكونوا غالب لهم خارجا بهم على حال العبودية، فقالوا: نحن قوم أحرار حبب إلينا أرض العرب، وذكر لنا عدلهم، وحسن حالهم، فتبعناه مصطحبين بأمن حتى نوصل إليكم، لا سبيل له علينا؟ قال: القول قولهم، وعلى الإمام أن يفي لهم بعهد العبد إن كان أعطاهم عهدا، أو يردهم إلى مأمنهم، وإن خرجوا بلا عهد فأمرهم إلى الوالي يرى فيهم رأيه، قال أصبغ مثله قال: ولا يقبل قول العبد إلا أن يعلم أنه أخرجهم كرها، أو يكونوا في يديه يحوزهم، قال: قلت: أرأيت إن كانوا في يد العبد في وثاق حتى تبين أنهم في يديه؟ قال: أراهم عبيدا إذا تبين أنهم في ملكه، وأنه لهم قاهر، وعليهم قادر، قلت: فإن ادعوا أنه إنما أوثقهم في دار الإسلام حين خافوا على أنفسهم؟ فقال: إن استدل على تصديق ما قالوا بسبب ظاهر مثل أن يعينه على وثاقهم غيره، أو يتبين أنه إنما قهرهم بعد خروجهم معه، فالقول قولهم، وإن لم يعرفوا عند(3/13)
خروجهم إلا في ملكه ووثاقه، فهم له عبيد، وإن قالوا: قهرنا في الطريق، ونقض العهد؛ فإنهم لا يصدقون لجماعتهم ووحدته، وقدرتهم على الامتناع منه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن ما خرج به العبد الآبق له ولسيده إن أراد أخذه منه، ولا خمس عليه فيه، مثل ما تقدم في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، ولا خلاف في ذلك؛ إذ لا يكون الخمس إلا فيما تعمد الخروج لإصابته، فأوجف عليه بالخيل والركاب، وإن كانوا عبيدا وخرجوا معه على أن يكونوا أحرارا، فعلى الإمام أن يفي لهم بعهد العبد، أو يردهم إلى مأمنهم، ولا يجوز قتلهم ولا استرقاقهم؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يجير على المسلمين أدناهم» .
وقوله: إنهم إن خرجوا معه بلا عهد، فأمرهم إلى الإمام يرى فيهم رأيه، ظاهره وإن عثر عليهم بفور قدومهم خلاف ما يأتي في هذا الرسم بعد هذا، وخلاف ما مضى في رسم الجواب، من سماع عيسى، وقد مضى هناك تحصيل الخلاف في هذه المسألة، فلا معنى لإعادته، وأما إذا ادعى العبد أنهم خرجوا معه على أن يكونوا له عبيدا، أو أنه سرقهم أو غنمهم، وأنكروا ذلك، وقالوا: خرجنا معه على أن نكون أحرارا، فالقول قولهم إلا أن يكونوا في وثاقه كما قال، ومثل ذلك في سماع سحنون، ولا اختلاف في ذلك؛ لأن العبد مدع عليهم، إلا أن يكونوا في وثاقه، وقد أحكمت السنة أن: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر.
وقد اختلف إن كان أسيرا، فأطلقه على أن يأتيه بهم فأتاه بهم، وزعم أنه سرقهم أو غنمهم، وادعوا أنهم خرجوا معه على أن يكونوا أحرارا، هل يكون خروجه على أن يأتي بهم شبهة توجب أن يكون القول قوله أم لا؟ على قولين: أحدهما: ما في سماع أصبغ أراه لأشهب أن القول قول الذي أتى بهم، وخروجه عنهم شبهة توجب أن يكون(3/14)
القول قوله، وقال ابن المواز: القول قولهم، ولم ير ذلك شبهة للعبد، وهو القياس، والأول هو اختيار أحمد بن ميسر، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد خرج متلصصا في بعض قرى العدو فأصاب غنائم أتخمس أم لا]
مسألة قيل له: فالعبد يخرج متلصصا في بعض قرى العدو، فيصيب غنائم، أتخمس أم لا؟ فقال: تخمس، ويكون فضل ذلك له، فما فرق بين العبد المتلصص والعبد الآبق إذا رأيت أن الخمس فيما أصاب العبد المتلصص، ولا خمس فيما خرج به الآبق؟ فقال: إنما الخمس فيما تعمد الخروج لإصابته، فأوجف عليه بالخيل والركاب، والعبد الآبق ليس للإصابة خرج، ولا للقتال تعرض، فلذلك لم أر فيما خرج به خمسا.
قلت: فإن خرج حر وعبد متلصصين فغنما؟
قال: يخمس ما أصابا، ثم يقسم ما بقي بينهما.
قلت: ولم يقسم ما أصاب العبد والحر بينهما، وأنت لا تجعل للعبد في الغزو من المغانم شيئا؟
قال: لا أرى حال التلصص والغزو واحدا.
قلت: فالذمي يخرج متلصصا مع الحر المسلم فيغنمان؟
قال: أرى أن يقسم بينهما ما أصابا، فيخمس حظ المسلم، ولا خمس في حظ النصراني.(3/15)
قلت: ولم جعلت ما أصابا بينهما، وأنت لا تقسم للنصراني إذا غزا مع المسلم؟
قال: هذا مثل الأول؛ لأن المسلمين لا يستعينون بالعبيد والنصارى في عساكرهم، وهذا إنما خرج على وجه التلصص وحده، أرأيت لو كان نصرانيا وحده، أكان يؤخذ ما في يديه؟ قال سحنون في العبد المسلم والحر يخرجان جميعا إلى أرض العدو متلصصين مثل ما قال ابن القاسم في الذمي والحر المسلم: يكون ما أصاب العبد والحر بينهما نصفين، فما صار للحر فعليه فيه الخمس، ولا خمس على العبد في سهمه، مثل قول ابن القاسم في الذمي.
قال محمد بن رشد: لأصبغ في نوازله بعد هذا في هذا الكتاب: أنه لا خمس على العبد فيما غنم كالنصراني، مثل قول سحنون، خلاف قول ابن القاسم، ووجه قول ابن القاسم: أن العبد إذا لم يكن في جملة عسكر المسلمين كالحر، في أن له ما غنم وجب أن يكون مثله في أن عليه فيه الخمس كأنه مؤمن، والله تعالى يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] ، إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال: 41] ، ووجه قول سحنون وأصبغ: أن الخطاب في الآية إنما هو للأحرار دون العبيد، بدليل إجماعهم أنهم لا حق لهم مع الأحرار في الغنيمة إذا غزوا معهم في عسكرهم، فوجب أن يكونوا كالنصارى في أن لا خمس عليهم فيما غنموه إذا لم يغزوا في جملة عسكر المسلمين؛ لخروجهم من الآية، وإنما لم يكن للعبيد والنصارى في الغنيمة حق مع الأحرار المسلمين إذا غزوا معهم في عسكرهم من أجل أنهم في حيز التبع لهم، فإذا(3/16)
لم يكونوا في حيز التبع لهم كان لهم حق في الغنيمة، وكذلك إذا خرج العبد أو النصراني مع الرجل أو الرجلين أو الثلاثة أو الأربعة كان لكل واحد منهما سهمه من الغنيمة.
[مسألة: خيل المسلمين تقاتل العدو قتالا متفاوتا أيتساوون في العطاء]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن العدو يغيرون على ناحية من ثغر المسلمين، فيطلبهم خيل المسلمين، والطلب متفاوت على قدر الطاقة، فأدركهم بعض من طلب، والناس في آثارهم متساربون، فقاتلهم الأولون، فأظفرهم الله فقتلوا وأسروا وأصابوا ما كان معهم، أترى أن يقسموا على من حضر القتال، أم يكون ما أصابوا لجميع من خرج في الطلب، أم لأهل القرى التي خرج هؤلاء منها؟ قال: إن كان خرجوا من مسالح منصوبة للرباط، أهلها مقيمون للذب عن جميع من وراءهم من الإسلام، قسم ما أصابوا بين أهل تلك المسالح الخارج والمقيم من قاتل أو لم يقاتل، أو خرج أو لم يخرج، قال: وكذلك إن كانوا من أهل حصن في رأس الثغر، قال: وإن كانت قرا إنما فيها أهلها الذين يسكنون فيها بعيالهم، وإنما فجأهم أمر فركبوا في طلب الذين أغاروا عليم قسم ما أصابوا بين كل من طلب، أدرك القتال أو لم يدركه، حضره أو غاب عنه إذا تبين أنهم ممن خرج طالبا بالبت واليقين، وليس لمن لم يخرج في الطلب من أهل تلك القرى شيء، والخمس في جميع ذلك واجب.
قال محمد بن أحمد: هذه مسألة صحيحة حسنة، ذكرها ابن سحنون(3/17)
لأبيه فأعجبته، وقد تقدمت في أول هذا الرسم والقول فيها، وإن كانت هذه أكمل بالمعنى بينها جميعا سواء، وبالله التوفيق.
[مسألة: قوم من أهل الذمة هربوا إلى العدو طائعين ثم أصيبوا بعد ذلك]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن قوم من أهل الذمة كانوا في أرض مدينة المسلمين، فلما نزل بهم العدو مع رجل من المسلمين قادهم إليها، هربوا إلى العدو طائعين، ثم أصيبوا بعد ذلك، أيستحلوا أم لا؟ فقال: إن هربوا من ظلم كان يرتكب منهم؛ لم يحل لهم شيء من نسائهم ولا دمائهم ولا أموالهم، وإن هربوا من غير أن يتعدى عليهم، ولم يخافوا ذلك من ناحية أحد معروف بالظلم، فإنهم وإن أصيبوا، وقد لحقوا بأرض العدو، وفارقوا دار الإسلام فقد حلوا، قلت: فإن أصيبوا عند الذي أخرج العدو على أهل الإسلام فماذا ترى في أمرهم إن قالوا: إنما ارتحلنا إلى ناحية من دار الإسلام، ولم نخرج إلى دار العدو، ولا إلى العدو، وإنما خرجنا إلى هذا الرجل، وهو رجل من المسلمين، وإن كان قد أحدث خلافا؟ فقال: لا أرى لأحد أن يستحلهم ما كانوا في دار الإسلام، وإن كان نزوعهم إلى مثل ما وصفته، فإن لهم في ذلك عذرا وشبهة يحرم بها دماؤهم وأموالهم.
قال محمد بن أحمد: إنما لم ير أن يستباحوا حتى يلحقوا بأرض العدو، ويفارقوا دار الإسلام، وإن كانوا قد صاروا مع العدو، من أجل الرجل الذي قاد العدو، فرأى في ذلك شبهة، ولولا ذلك لكان حصولهم مع العدو الذي هربوا إليه كوصولهم إلى العدو، ولا يستباحون إذا خرجوا إلى غير(3/18)
عدو يريدون بلد العدو فأدركوا قبل أن يصلوا إلا أن يقاتلوا ويمتنعوا على ما قال في رسم الجواب، من سماع عيسى، فلا خلاف بين هذه الرواية وما في رسم الجواب من سماع عيسى المذكور، ولا فيما بين ذلك وبين ما في آخر سماع يحيى، وإنما هي زيادات يفسر بعضها بعضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: ناس من أهل الذمة كانوا من أهل مدينة للمسلمين وكانوا يتجسسون للعدو]
مسألة قال يحيى: سألت ابن القاسم عن ناس من أهل الذمة نصارى ويهود، كانوا من أهل مدينة للمسلمين غلب عليها العدو، فأقاموا بها بعدما غلب عليها العدو، فشكا أهل مدينة للمسلمين تليهم أنهم يتجسسون للعدو، ويكونون لهم عيونا، وإذا أغار المسلمون على أهل تلك المدينة فطلبهم العدو طلب معهم أولئك النصارى الذين كانوا أهل ذمة المسلمين، فاستنقذوا ما أدركوا، وقتلوا إن قدروا، فإذا أصاب المسلمون منهم أحدا قالوا: إنا نؤمن بالذي نصنع، ونقهر عليه، فنحن نخاف إن لم أفعل أن نقتل، ولا يعرف ما يدعون من القهرة والتخويف بالقتل على ما يصنعون إلا بقولهم، قلت: أفترى أن يستحل قتلهم إذا ظفر بهم، وقد علم أنهم ركبوا من المسلمين الذي وصفت لك من شكية أهل الحصن الذين جاوروهم؟ فقال: أرى أن يقتل فيهم من علم أنه قتل، وأما من لم يعلم أنه قتل غير أنه يرى في الطلب للمسلمين، واستنقاذ ما غنموا وما أشبه هذا، فلا يستحل قتله، ولكن أرى أن يحبسوا ويطال(3/19)
حبسهم، قلت: أرأيت إن أقاموا مع العدو بعد الأجل الذي أجل إليهم في الرحيل إلى أرض الإسلام، فأغاروا مع من يغير من العدو فسبوا وأضروا بالمسلمين، فزعموا أنهم منعوا من الرحيل، وأمروا بالغارة على المسلمين، ولا يعرف الذي ادعوا إلا بقولهم، أيستحلوا أم لا؟
قال محمد بن رشد: هؤلاء أهل ذمة لم يتبين نقضهم للعهد؛ لكونهم بمكانهم، فهم فيما يفعلون من طلبهم مع العدو واستنقاذهم ما أدركوا، وقتلهم إن قدروا بمنزلة من حارب من أهل الذمة، يحكم عليه بحكم المحارب من المسلمين، إلا أن لهم شبهة فيما يدعون من الإكراه على ذلك، وخوف القتل إن لم يفعلوا، فيسقط عنهم حكم الحرابة، فهذا عندي معنى الرواية، وقوله فيها أرى أن يقتل من علم أنه قتل معناه يقتل قصاصا به، ويكون لأولياء المقتول العفو عنه على حكم النصراني يقتل المسلم على غير حرابة، ورأى أن يطال حبسهم اجتهادا، إذا لم يثبت ما ادعوه من الإكراه، ولو ثبت ذلك لم يجب على من يقتل منهم شيء، وهذا هو الحكم فيهم أيضا إذا فعلوا ذلك بعد الأجل الذي أجل لهم، وادعوا أنهم منعوا من الرحيل، وأكرهوا على الغارة؛ لاحتمال صدقهم فيما يدعون.
[مسألة: أعلاج من العدو خرجوا إلينا بغير عهد ثم ادعوا السكنى]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن أعلاج من العدو، خرجوا إلى أرض الإسلام بغير عهد، فلما أخذوا في دار الإسلام، أو أخذوا في مفازة بين المسلمين والعدو مقبلين إلى دار الإسلام مرتحلين،(3/20)
ليسوا على حال الحرب، ولا بحال من يتقنص فرصة يصيبها، فزعموا أنهم إنما أرادوا السكنى في أرض الإسلام، يكونون على حال الأحرار، ولا يغرمون جزية؛ ماذا يجوز للإمام أن يقرهم عليه؟ فقال: أما بيعهم فلا يحل للإمام ولا قتلهم، ولكنه يفرض عليهم غرم الجزية، فإن قبلوا أقرهم، وإن كرهوا ردهم إلى مأمنهم ولم يستحلوا، قال: وإن كانوا حين خرجوا دعوا إلى الجزية، فقد لزم السلطان أن يقرهم على ذلك، وليس له أن يقول لهم: لا أقبل منكم إلا أن أبيعكم إن أجبت، أو أردكم إلى مأمنكم، قال: وإنما يكون الإمام محتكما في أمر من أخذ من العدو بغير عهد يرى فيهم رأيه، إذ أخذ منهم قوم انكسرت سفينتهم واضطروا إلى موضع، فصاروا فيه كالأسرى، فأخذهم المسلمون بغير عهد، وقد تبين أنهم لم يتعمدوا الخروج إلى دار الإسلام، ولكنهم ألجئوا وصاروا بأيدي من ألجئوا إليه كالأسرى في أيدي المسلمين، فأولئك إن رأى الإمام بيعهم باعهم أو يضعهم في أي منافع العامة رأى في اجتهاده لهم أي الأمور رأى فيهم مما ينظر به للعامة، فذلك إليه، قلت: أيجوز له قتلهم إن رأى ذلك؟ قال: لا أحب له قتلهم، وقد سألت مالكا عن الأسارى أيقتلون؟ قال: لا، إلا أن يخاف منهم أحد فيقتل، فإن كان في هؤلاء من يخاف مثل الرجل من العدو المشهور بالنجدة والفروسية ونحو ذلك فرأى أن يقتله، فذلك له.
قال محمد بن رشد: قال في هذه المسألة: إنهم يصدقون فيما ادعوا إذا أخذوا في دار الإسلام، ولم يفرق بين قرب ولا بعد، فظاهره مثل ظاهر ما في أول رسم الصلاة بعد هذا، خلاف ظاهر ما مضى في هذا الرسم، من أن أمرهم إلى الإمام، وخلاف ما مضى في رسم الجواب، من سماع عيسى من التفرقة بين القرب والبعد، وقد مضى هناك تحصيل الخلاف في هذه المسألة(3/21)
فلا معنى لإعادته لك، وقوله في الأسير: إنه لا يقتل إلا أن يكون الفارس المعروف بالنجدة والفروسية خلاف ما يأتي في آخر الرسم الذي ذكره بعد هذا، من أنه يقتل بعد الإسار المرأة والغلام إذا قاتلا ولا يتركان لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتال النساء والصبيان؛ لأنهما قد استوجبا القتل بقتالهما، وقد مضى القول في وجه هذا الاختلاف، وتحصيل مذهب مالك في حكم الأسير، وما الواجب في أمره في أول رسم من سماع أشهب مجودا، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الرجل يقتل في المعترك ولم يقاتل أيقسم له]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يقتل في المعترك في أرض العدو أو يخرج فيموت بعد أيام، أو يمرض فيموت بعد شهود القتال، ولا يكون فيمن شهد القتال، غير أنه كان في الجيش فمات بعد المعترك؛ أيقسم له أم لا؟ فقال: يقسم له في كل ما سألت عنه، قيل له: أرأيت إن لم يكونوا غنموا إلا بعد قتله أو موته أيقسم له؟ قال: نعم، قيل له: وإن لقي الجيش بعد موته أو قتله جيوشا، فقاتلوهم فقتلهم الله، فغنم المسلمون ما كان معهم، وافتتحوا حصنا بعد موته، أو قتله أيقسم له من جميع ذلك، أم لا يقسم له إلا ما غنموا قبل قتله أو موته؟ قال: بل يقسم له مما غنموا قبل قتله أو موته، ومما غنموا بعد ذلك كانت غنيمتهم من أسلاب أهل جيش قتلوهم بعد قتله أو بعد موته، أو من حصن فتح أوجفت عليه الخيل مما يصيب سرايا العسكر، أو على أي حال نالوا الغنيمة، فسهمه يجري في جميع ذلك، قيل له: أرأيت إن مات قبل القتال، فلقي الجيش العدو(3/22)
بعد موته أو قتله، ولم يكن في حياته لقاء عدو، غير أنه قد أدرب مع الناس ثم مات أيقسم له؟ قال مالك: لا يقسم له.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أنه إذا شهد القتال ثم قتل أو مات، كان له سهمه من كل غنيمة تكون بعد ذلك إلى قفول الجيش، قربت أو بعدت، وقد مضى تحصيل الاختلاف في هذه المسألة في أول رسم، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: الأسير من المسلمين يهرب من العدو بأموال أصابها أتخمس]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الأسير من المسلمين يخرج من أرض العدو هاربا منهم، فيخرج بأموال أصابها لهم، أيخمس ما خرج به أم لا؟ فقال: لا خمس فيها عليه، وإنما يخمس ما يوجف عليه بالخيل والركاب، قلت: أرأيت إن خرج برقيق فادعى راتن - كذا - منها أنه حر مسلم فاستخبر، فإذا هو فصيح ينتسب إلى قوم، ويخبر بنعت منازلهم، ويزعم أنه سبي صغيرا، فسئل القوم وفيهم عدول، فيزعمون أن الذي ذكر حق، غير أنهم لا يدرون أهو الذي أصيب يوم يصف أم لا؟ فقال: هو له مملوك حتى يقيم البينة على ما ادعى من جنسه بعينه من عدول المسلمين، أو يثبت له أنه كان معروفا بالإسلام في أرض الشرك، فلا يجوز لأحد أن يسترقه بإخراجه من أرضه، ولا بشيء يصيبه.
قال محمد بن أحمد: هذا صحيح كما قال؛ لأن ما خرج به الآبق من الرقيق على أن يكونوا عبيدا باستيلافه إياهم، أو كان قد سرقهم وغنمهم، فقد صح أنه ملكهم، فلا يصدق من ادعى منهم الحرية من الأصل إلا ببينة تثبت له دعواه.(3/23)
[مسألة: الآبق من عبيد المسلمين يلحق بأرض العدو ثم يأتي فيتعلق به صاحبه]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الآبق من عبيد المسلمين، لحق بأرض العدو، ثم إن أهل تلك البلدة أرادوا مصالحة العدو، فقدم منهم ناس بعهد لما طلبوا من الصلح، وقدم معهم العبد الآبق فتعلق به صاحبه، هل له إلى أخذه سبيل، وهو يحتج والذين قدم معهم أنهم إنما خرجوا بعهد؟ وكيف إن لم يخرج الآبق مع الرسل غير أنه أقام بأرض العدو حتى صالحوا، ولم يستثن الإمام رد إباق، ولم يستثنوا شيئا، أترى أن يؤخذ مما في أيديهم من آبق وأسير؟
فقال: أما الآبق الذي خرج مع الرسل، فلا سبيل إلى حبسه، وأرى أن يرد ليوفي لهم بعهدهم، وأما كل من صالح من العدو على هدنة أو أداء جزية، فلهم كل ما في أيديهم مما حازوه قبل ذلك من أموال المسلمين، وما أصابوا من أحرار هم أسارى، لا ينبغي للإمام أن يقضيهم شيئا من ذلك، ولا ينزعه منهم إلا أن يفادوا عن طيب أنفس منهم، وسواء ما حازوا بالسبي والغلبة، وما نزع إليهم من إباق عبيدنا، هم أحق بهم للوفاء بالعهد لهم، إذا لم يستثن ذلك عليهم حين صالحوا.
قال محمد بن أحمد: مساواته في هذه المسألة بين من صالح من الحربيين على هدنة أو أداء جزية في أنه لا ينتزع منهم ما في أيديهم من أسارى المسلمين الأحرار إلا أن يفادوا عن طيب أنفس منهم بعيد جدا لا يصح، وهي من المسائل التي وقعت على غير تحصيل؛ لأن هذا إنما يصح فيمن صالح منهم على هدنة، لا فيمن صالح منهم على أداء جزية؛ لأن من صالح منهم على هدنة فليسوا بأهل ذمة؛ لأنهم بائنون بدارهم(3/24)
لا تجري أحكامنا عليهم، ومن صالح منهم على أداء الجزية، فهم أهل ذمة تجري أحكامنا عليهم، وأهل الذمة يباع عليهم من أسلم من رقيقهم، ولا يتركون تحت ملكتهم بعد إسلامهم، فكيف بأحرار المسلمين؟ فالصحيح فيهم ما في سماع سحنون أنهم يعطون قيمتهم من بيت مال المسلمين ويخرجون أحرارا، وإنما يستوي منهم من صالح على هدنة، وعلى أداء الجزية في الأموال والرقيق الذين ليسوا بمسلمين، وأما الآبق الذي خرج مع الرسل فلا سبيل لصاحبه إليه، إلا أن يشتريه منهم برضاهم، وسواء على مذهب ابن القاسم كان مسلما أو كافرا؛ لأن الرسل مؤمنون، ومذهبه أن المستأمنين كتجار الحربيين وغيرهم ممن دخل بأمان، لا يباع عليهم العبيد المسلمون، ولا ينزع منهم أسارى المسلمين من الرجال والنساء، ويكون لهم الرجوع بهم إلى بلادهم، خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أنهم في حكم أهل الذمة يباع عليهم من أسلم من رقيقهم، ويعطون قيمة أسارى المسلمين، ولا يمكنون من الرجوع، وحكى أن ذلك إجماع من قول مالك وأصحابه إلا ابن القاسم، وسنزيد هذه المسألة بيانا في سماع سحنون، إن شاء الله.
[مسألة: الذميون لو سرقوا أموالا فكتموا ذلك حتى حاربوا وذلك في أيديهم أيؤخذ منهم]
مسألة قلت: أرأيت أهل ذمتنا لو سرقوا أموالا لنا وعبيدا، فكتموا ذلك كما تكتم السرقات، وأخفوها حتى حاربوا وذلك في أيديهم، ثم صالحوا على أن رجعوا إلى حالهم من غير غرم الجزية التي كانت عليهم، أيؤخذ منهم ما كانوا سرقوا قبل المحاربة وقبل الصلح الذي استحدثوا؟ قال: لا أرى إلا أن يوفى لهم بالعهد، ولا ينزع منهم شيء مما حاربوا عليه ثم صالحوا، وهو في أيديهم.
قلت: أفترى إذا اطلعنا على السرقات المتقادمة في أيديهم(3/25)
وهم يوم سرقوها أهل ذمة لنا أن يخيرهم الإمام بين أن يردوها طوعا، أو يردوهم إلى حالهم من الحرب ثم يقاتلهم إن أبوا مردها.
قال: نعم، أرى ذلك للإمام إلا أن يشترطوها في صلحهم، ولا أرى ما في أيديهم من السرقات التي وصفت بمنزلة ما حازوا في أوان حربهم فهو لهم، ولا خيار للإمام في نقض صلحهم من أجلها، كما يجوز له ذلك في هؤلاء.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في تجار الحربيين إذا نزلوا بأمان، فسرقوا أموال المسلمين وعبيدهم وأحرارهم، ثم رجعوا إلى بلادهم، فنزلوا ثانية على أمان، وذلك في أيديهم، أيوخذ لهم أو يترك لهم؟ وقع اختلاف قوله في ذلك، في رسم يدير ماله، من سماع عيسى، من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، واختلاف قوله داخل في هذه المسألة، إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى، وأصح القولين أن يؤخذ ذلك منهم ولا يترك لهم، لا سيما في مسألة أهل الذمة إذا حاربوا، ثم رجعوا إلى غرم الجزية والدخول في الذمة لوجهين؛ أحدهما: أنهم يتهمون على أنهم قصدوا إلى أن يحاربوا، ثم يرجعوا ليكون لهم ما أخذوا، والثاني: مراعاة قول من يقول: إن ذمتهم لا تنتقض، وإن جزيتهم لا تبطل، والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: العلج من العدو يخرج إلى دار الإسلام بلا عهد فيوجد عند أقاربه]
ومن كتاب الصلاة مسألة وسألته عن العلج من العدو يخرج إلى دار الإسلام بلا عهد(3/26)
فيوجد عند أقاربه، فيقول: أردت أن أكون من أهل الجزية أوديها إلى المسلمين، وأقيم ببلدهم، أو يقول: جئت زائرا لقرابتي.
فقال: لا أرى للإمام أن يسترقه ولا يبيعه.
قلت: فالذي قدر عليه، وأخذه عند قرابته ما ترى له فيه حقا؟
قال: لا حق له فيه، ولكن إن رأى الإمام أن يقره على غرم الجزية، فذلك له إن قبل العلج، وإن كره غرمها كان على الإمام رده إلى مأمنه، ولا يستحل دمه ولا رقه.
قال محمد بن أحمد: لم يفرق في هذه الرواية بين أن يوجد عند أقاربه بالقرب أو بالبعد، فالظاهر منها أن ذلك عنده سواء، خلاف ما مضى في رسم الجواب، من سماع عيسى، وقد مضى هناك تحصيل القول في هذه المسألة، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: العلج من العدو يخرج بأمان إلينا فيستودع الرجل من المسلمين مالا]
مسألة وقال ابن القاسم في العلج من العدو يخرج بأمان إلى أرض الإسلام، فيستودع الرجل من المسلمين مالا، ثم يرجع إلى أرضه فيصيبه المسلمون بعد، فيباع في المغانم: إن ذلك المال المستودع يكون فيئا للمسلمين بإصابتهم العلج، وببيعهم إياه؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من باع عبدا له مال، فالمال للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» .
قال: وإن أسر ثم قتل، فالمال الوديعة أيضا فيء للمسلمين؛(3/27)
لأن رقبته قد صارت في ملكهم، فما كان بأيدي المسلمين من ماله المستودع فهو كما أصابوا معه من ماله.
قال: وإن قتل في المعركة بلا أسر، أو مات في أرضه رد المال المستودع إلى ورثته حيت كانوا؛ لأنه اؤتمن عليه، ثم لم يملك المسلمون رقبة العلج بعد ذلك، فأحق الناس بماله إذا لم يصر رقا للمسلمين من ورث ذلك عنه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الأسير إذا بيع في المقاسم أو مات أو قتل بعد الأسر، يكون المال الذي كان له في بلد الإسلام مستودعا للمسلمين، معناه يكون غنيمة للجيش، يخمس وتجري فيه السهام، وكذلك قال ابن حبيب في الواضحة، وحكاه عن ابن الماجشون وأصبغ، وعزاه إلى ابن القاسم، وذلك بين في المعنى، قائم من قوله في الكتاب: فهو كما أصابوا معه من ماله، وحمل فضل قول ابن القاسم على ظاهره من أنه يكون فيئا لجميع المسلمين ولا يخمس، وهو بعيد في المعنى، وإن كان عليه دين فغرماؤه أحق به من الجيش، بخلاف ما غنم معه.
[مسألة: أسير استودع ماله فقتل في المعركة ولم يؤسر]
مسألة قال ابن القاسم: في سماع عيسى وأصبغ من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، وسيأتي القول على ذلك هناك إن شاء الله تعالى، وأما إذا قتل في المعركة ولم يؤسر، فجعله ابن القاسم بمنزلة إذا مات بأرضه يرد المال المستودع إلى ورثته، وقال ابن حبيب: إنه يكون فيئا لجميع المسلمين، وعزاه إلى ابن القاسم، ولا يخمس، ولكلا القولين وجه من النظر، وبالله التوفيق.(3/28)
قال: ولا بأس أن ترمى الحصون بالمجانيق حصون العدو، وإن كان فيهم نساء وصبيان.
قلت: أيحرقون عليهم إذا اعتصموا بالغيران والقلاع التي لا تنال إلا بالتحريق، أو يدخن عليهم حتى يغموا، فيستأسروا، وربما مات بعضهم غما؟ فقال: والتدخين عليهم مكروه، ولا يصح أن يقاتلوا به.
قلت: فكيف يصلح لنا أن نقاتلهم في السفن برمي النفط؟
قال محمد بن أحمد: قوله: لا بأس أن يرمي الحصون - حصون العدو - بالمجانيق، وإن كان فيهم نساء وصبيان هو دليل ما في المدونة والحجة في إجازته، ما روي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى أهل الطائف بالمجانيق، فقالوا: يا رسول الله، إن فيها النساء والصبيان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هم من آبائهم» ، وكراهيته التدخين عليهم والتحريق، إذا اعتصموا بالغيران والقلاع، معناه إذا كان معهم النساء والصبيان، بدليل عطفه السؤال على مسألة النساء والصبيان، فذلك مثل ما في المدونة سواء، وقوله: فكيف يصلح لنا أن نقاتلهم في السفن برمي النفط؟ معناه إذا كان فيهم النساء والصبيان، بدليل عطفه إياها على مسألة النساء والصبيان، فلم يجبه على الفرق في ذلك بين الحصون والسفن، والفرق بينهما الضرورة إلى ذلك في السفن؛ لأنهم إن لم يرموهم بالنار رموهم به، فأحرقوهم ولا يقدرون على ذلك في الحصون، وفيما يجوز من ذلك كله مما لا يجوز اختلاف كثير في المذهب، تحصيله أن الحصون إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة، فأجاز في المدونة أن يرموا بالنار، ومنع من ذلك(3/29)
سحنون، وقد روى ذلك عن مالك، من رواية محمد بن معاوية الحضرمي، ولا خلاف فيما سوى ذلك من تغريقهم بالماء، ورميهم بالمجانيق وما أشبه ذلك، وأما إن كان فيهم مع المقاتلة النساء والصبيان، ففي ذلك أربعة أقوال؛ أحدها: أنه يجوز أن يرموا بالنار، ويغرقوا بالماء، ويرموا بالمجانيق، وهو قول أصبغ فيما حكاه عنه ابن مزين. والثاني: أنه لا يجوز أن يفعل بهم شيء من ذلك كله، وهو قول ابن القاسم، فيما حكاه عنه الفضل. والثالث: أنه يجوز أن يرموا بالمجانيق، ويغرقوا بالماء، ولا يجوز أن يرموا بالنار، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. والرابع: أنه يجوز أن يرموا بالمجانيق، ولا يجوز أن يغرقوا ولا يحرقوا، وهو مذهب مالك في المدونة، وأما إذا كان فيه مع المقاتلة أسارى المسلمين، فلا يرموا بالنار ولا يغرقوا بالماء، واختلف في قطعه عنهم، ورميهم بالمجانيق، فقيل: ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم وأشهب في سماع سحنون، وقيل: لا يجوز، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وحكاه عن مالك وأصحابه المدنيين والمصريين، وأما السفن فإن لم يكن فيها أسارى المسلمين جاز أن يرموا بالنار للعلة المتقدمة، وإن كان فيها النساء والصبيان قولا واحدا، وإن كان فيها أسارى المسلمين، فقيل: إن ذلك جائز، وهو قول أشهب في سماع سحنون، وقيل: لا يجوز، وهو قول ابن القاسم فيه، والله الموفق.
[مسألة: المرأة والغلام الذي لم يحتلم من العدو يقاتلان مع العدو ثم يوسران]
مسألة وقال في المرأة والغلام الذي لم يحتلم من العدو يقاتلان مع العدو، ثم يوسران إن قتلهما بعد الإيسار حلال جائز، كما كان يحل ذلك منهما في حال القتال والمكابرة قبل الأسر ولا يتركان؛ «لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل النساء والصبيان» ؛ لأنهما قد استوجبا القتل بقتالهما.
قال محمد بن أحمد: يريد بقوله: لا يتركان؛ لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أي لا يترك قتلهما تحرجا، إذ لا تؤمن غائلتهما؛ لأن قتلهما واجب، وإن أمنت(3/30)
غائلتهما، وذلك بين من قوله في أول المسألة إن قتلهما حلال جائز، وهذا خلاف ما مضى في الرسم الذي قبل هذا من أن الأسير لا يقتل إلا أن يكون من أهل النجدة والفروسية، والاختلاف في هذه عائد إلى ما هو محمول عليه، فمرة حمله على أن له غائلة حتى يتحقق أنه لا غائلة له، ومرة حمله على أنه لا غائلة له حتى يتحقق أن له غائلة، وكذلك أيضا إن جهل حال الأسير، هل هو من أهل النجدة والفروسية، أو ليس من أهلها، يجري على هذا الاختلاف، وقد مضى في أول رسم من سماع أشهب تحصيل القول في حكم الأسير على مذهب مالك، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: العدو يرسل رجلا إلى المسلمين للهدنة فإذا هو ممن نزع إليهم من المسلمين]
ومن كتاب المكاتب مسألة قال: وسألته عن العدو يرسلون رجلا إلى المسلمين للهدنة، فإذا هو ممن نزع إليهم من المسلمين، وارتد في دارهم، أيستتاب أم يرد إليهم؟
قال: إن كان أمن فليرد إليهم، وليوف له بالعهد، وإن كان جاء بغير أمان، ولا عهد، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل، حاله حال المرتد في دار الإسلام.
قلت: أرأيت إن كان أبواه مسلمين أصابهما العدو، فولد في دار الشرك فتنصر، وترك دين أبويه وظفر به؟
قال: لا يستتاب ولكن حاله حال السبي والأسر إن أذن الإمام في قتله قتلوه، وإن استحيي فهو فيء للمسلمين الذين أصابوه.
قلت: وليس حاله حال الذي يولد في دار الإسلام؟
قال: لا، قلت: فالذي يولد في دار الإسلام، ثم يصاب صغيرا مع أبويه أو دونهما، فتنصر أيستتاب إذا أصيب؟(3/31)
قال: لا يقتل ولكن يجبر على الإسلام بالضرب والتهديد والغلظة والشدة من الإمام عليه، ويكون حرا لا يسترق ولا يكون فيئا للذين أصابوه، وذلك أنه ولد في دار الإسلام فأصابه العدو أو خرج به أبواه، فهو من أبناء المسلمين الأحرار.
قال محمد بن أحمد: اختلف إذا أمن الرجل على أنه حربي، فانكشف على أنه مرتد أو عبد لمسلم أو ذمي، فقيل: له الأمان، ولا يستتاب إن كان مرتدا، ولا يرد إلى سيده إن كان عبدا، وهو قول ابن القاسم، هذا واحد قولي أشهب، وقيل: لا أمان له، وإن اشترط أن لي الأمان وإن كنت مرتدا أو عبدا، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة، وحكاه عن مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ وأشهب، وقيل: لا أمان له إلا أن يشترط، روي ذلك عن ابن القاسم، وهو دليل قول الأوزاعي وسحنون، ومن يرى أن المحارب من المسلمين إذا امتنع فأمن على أن ينزل أن له الأمان، وما ذهب إليه ابن حبيب أظهر الأقوال؛ لأنه إن لم يشترط فلا يكون له الأمان، إذ قد انكشف من حاله خلاف ما أمن عليه، وإن اشترط فالشرط إنما هو إبطال حد الله فيه إن كان مرتدا، وإبطال حق صاحبه فيه إن كان عبدا، وذلك مما لا يجوز.
وأما قوله: إن كان أبواه مسلمين أصابهما العدو، فولد في أرض الشرك فتنصر، وترك دين أبويه وأخذ بغير عهد؛ أنه لا يستتاب، وحاله حال الأسير إن رأى الإمام أن يقتله قتله، وإن رأى أن يبقيه كان فيئا لمن أصابه، فالوجه فيه أنه حكم له بحكم الدار في الكفر لا بحكم أبويه في الإسلام، فغلب حكم الدار على حكمهما الذي هو أن يكون الولد مثلهما بإسلامهما، وجعل الدار له بمثابة أن لو كان أبواه كافرين في أنهما «يهودانه أو ينصرانه» ، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المشهور(3/32)
المعروف، وهذا على أصله في المدونة فيمن أسلم في بلد الحرب، فغزا المسلمون تلك الدار فأصابوا فيها ماله وولده؛ أنهم فيء؛ لأنه حكم له بحكم الدار في الكفر، ولم يرهم مسلمين بإسلام أبيهم خلاف قول بعض الرواة فيها، ومذهب سحنون: أن ماله تبع له في الإسلام، فعلى قول بعض الرواة فيها ومذهب سحنون يكون حال الولد في هذه المسألة حال المرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل إذا كان أبواه مسلمين، وإن ولد في دار الكفر، وسواء على ظاهر قول ابن القاسم، هذا بقي أبواه معه في بلد الحرب أو لم يبقيا، خلاف ما حمل عليه أبو إسحاق التونسي قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، من أن معناه: إذا خرج بعد إسلامه، فسبي المال والولد بعد خروجه، إلا أن يفرق بين المسألتين بكون الأبوين مسبيين في هذه المسألة، فإذا لم يفرق بذلك بين المسألتين تحصل فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يحكم للولد بحكم الدار. والثاني: أنه يحكم له بحكم الأب. والثالث: الفرق بين أن يكون الأب مقيما مع ولده ببلد الحرب أو لا يكون. ولا إشكال فيما اكتسب الأسير في بلد الحرب، وهو فيه على وجه الملك لا على وجه الحرية، أنه لا تراعى يده عليه.
وقوله بعد ذلك في الذي يولد في دار الإسلام: ثم يصاب صغيرا مع أبويه أو دونهما، أنه لا يستتاب، فيقتل إن أبى الإسلام، وأنه يكون حرا لا يسترق استحسان على غير قياس، إذ لم يحكم له بحكم الإسلام بولادته في بلد الإسلام، فيقول: إنه يستتاب فإن تاب، وإلا قتل كما قال: إنه يكون حرا لا يسترق، ولا يحكم له بحكم دار الكفر التي نشأ فيها، فيقول: إنه يسترق، وكما قال: إنه لا يقتل إذا أبى الإسلام، والوجه فيما ذهب إليه أنه رأى ولادته في بلد الإسلام شبهة تمنع من استرقاقه، ونشأته في دار الكفر من صغره على الكفر شبهة توجب ألا يقتل إن أبى الإسلام، وما كان ينبغي أن يختلف إذا أصيب(3/33)
صغيرا لا يعقل ابن سنة ونحوها دون أبويه، فنشأ على الكفر في أنه يكون فيئا، ولا يجبر على الإسلام، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يشترى من المقاسم فزعم أن له فداء يرغب في مثله فيرهن سيده ابنه]
مسألة وسألته عن العبد يشترى من المقاسم، فزعم أن له فداء يرغب في مثله، فيرهن سيده ابنه أو ابنته، ثم يطلقه ليأتي بالفداء، فيحتبس ويقيم ببلده؛ أيسترق الولد؟
قال: إن كان الولد كبيرا قد بلغ الحلم، فإنه يسترق ويستخدم إن خاتر أبوه بسيده.
قلت له: أيبيعه كما كان يجوز له بيع الأب؟
قال: نعم، إذا تبين خبر الأب، ونقض ما ترك عليه من العهد للرجوع بالفداء.
قال: وإن كان الولد صغيرا لم يبلغ الحلم، رأيت أن يطلقه إذا تبين ختر أبيه بالعهد، والترك للوفاء مما يطلق عليه.
قلت: فالابنة عندك بمنزلة الابن سواء؟
قال: نعم، إذا بلغت المحيض وعرفت ما يراد بها، فأمرها وأمر الابن واحد.
قلت: أرأيت إن مات في أرضه بالطريق أو قتل، فعلم أنه لم يختر سيده، أو حبس عن الرجوع حتى يتبين عذره ما يحل للسيد من الولد المرتهن؟(3/34)
قال: إذا ثبت براءته، حرم على السيد استرقاق ولد المرتهن، ولزمه إطلاقه، ورده إلى مأمنه.
قال محمد بن أحمد: أجاز في المدونة اشتراء أولاد الحرب من آبائهم إذا لم يكن بيننا وبينهم هدنة، وإذا جاز اشتراؤهم منهم جاز ارتهانهم منهم، وبيعهم فيما رهنوهم فيه على ما يأتي في سماع أصبغ عن أشهب، ولم يجز في هذه المسألة لسيد العبد بيع ابنه الذي رهنه إياه إذا خاتر به، وترك الرجوع لفدائه، فالفرق بين المسألتين أن الحربي حاكم على ولده في بلده، فجاز له اشتراؤه منه إذا باعه، وارتهانه منه إذا رهنه، وبيعه فيما رهنه به، والعبد الأسير لا حكم له على ولده الباقي في دار الحرب، فإذا رهنه عند سيده برضاه وهو صغير من غير أن يسترقه أو يأذن له في ذلك مالك أمرهم ووالي بلدهم، ثم لم يرجع لفدائه، لم يجز لسيده أن يبيعه إذا لم يرض بذلك، ولا علم قدر ما أدخل فيه نفسه لصغره بخلاف الكبير، وقد ذهب كثير من أهل النظر إلى أن هذه المسألة معارضة لما في المدونة، ولما في سماع أصبغ عن أشهب، والصحيح ألا تعارض في ذلك على ما بيناه من حكم الفرق في ذلك.
[مسألة: رجل يأسره العدو يسبون معه امرأته وأمته أيجوز له وطء الأمة والمرأة]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يأسره العدو يسبون معه امرأته وأمته، أيجوز له وطء الأمة والمرأة؟ قال: إن أمن أن يطاهما الذي أصابهما من العدو، وأيقن بالبراءة من ذلك، فلا جناح عليه في وطئهما على التحليل، غير أني أكره ذلك لما أخاف من بقاء ذريته في أرض الحرب، وما أرجو له من السلامة.
قيل له: أفترى وطء الأمة والمرأة في ذلك سواء؟(3/35)
فقال: كأني أرى الذي سباهم من العدو قد ملك الأمة ملكا، لو أسلم لم تنتزع منه، والحرة ليست كذلك، فلو ترك الأمة لكان أحب إلي.
قال محمد بن أحمد: أما الحرة فالأمر في وطئها على ما قال باتفاق، وأما الأمة فيتخرج جواز وطئها إذا أيقن بالبراءة على مذهب من قال: إن أهل الحرب لا يملكون على المسلم ماله، وأنه أحق به إذا غنم منهم قبل القسم وبعده بغير ثمن، وتحريمه إن أيقن بالبراءة على مذهب من يرى أنهم يملكون عليه ماله، فيكون إن غنم منهم غنيمة للجيش لا سبيل لصاحبه إليه، وإن أدركه قبل القسم، وكراهيته على مذهب مالك في أنه أحق بماله إن أدركه قبل القسم بغير ثمن، وأنه إذا لم يعلم صاحبه بعينه، وإن علم أنه للمسلمين.
[مسألة: الأسير أيقسم له]
مسألة قال: وسألته عن الأسير أيقسم له؟ قال: نعم، إذا كان الإيسار بعد القتال.
قلت: ولفرسه إن أصيب معه، أو عقر تحته، أو خلفه عند أصحابه؟
فقال: في ذلك كله: يقسم له ولفرسه إذا شهد القتال.
قال محمد بن أحمد: قد مضى تحصل القول في هذه المسألة في أول رسم، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.(3/36)
[مسألة: الكلب يصيبه الرجل في أرض العدو أيجوز للإمام بيعه]
مسألة قال: وسألته عن الكلب يصيبه الرجل في أرض العدو، أيجوز للإمام بيعه إذا كان له ثمن؟
قال: نعم، ولا يجوز لأحد يصيبه أن يحبسه دون الإمام، ولا أرى بأسا أن يباع في المغانم، وروى معن بن عيسى عن مالك أنه قال في كلاب العدو الصائلة وغيرها: إنها لمن أخذها، وليس عليه أن يأتي بها إلى صاحب المقاسم.
قال محمد بن أحمد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها، في رسم سلف دينارا في ثوب إلى أجل، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: للفرس سهمين وللرجل سهما]
ومن كتاب الأقضية مسألة قال يحيى: وسألت ابن نافع عما جاء من سهمان الفرس، إذ جعل له سهمان، وللرجل سهم، أيرفع ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم لا؟ فقال: حدثني عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض للفرس سهمين، وللرجل سهما» ، قال: وحدثني أيضا عن عبد الله بن عمر بن حفص، عن رجل أخبره قال: غزا أبي على عهد عمر بن الخطاب غزاة(3/37)
بهارلد، فأصابوا غنائم كثيرة، قال: فأخبرني أنه قسم له ولفرسه ثلاثة وثلاثين ألفا، وقسم للراجل من الغزاة يومئذ أحد عشر ألفا.
قال ابن نافع: بذلك مضت السنة.
محمد بن أحمد: هذا أمر متفق عليه في المذهب، وقال ابن سحنون: ما علمت من علماء الأمة من قال: إن للفرس سهما وللفارس سهما غير أبي حنيفة، وقد خالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وما أرى أن يدخل هذا في الاختلاف.
[مسألة: ذميون استألفوا عبيدا للمسلمين وجمعوا أموالهم وذراريهم فأسروا]
ومن كتاب أوله أول عبد أبتاعه فهو حر مسألة قال: وسألته عن ناس من أهل الذمة استألفوا عبيدا للمسلمين، وجمعوا أموالهم وذراريهم، أو الأموال بغير ذراري، أو خرجوا بأبدانهم مع العبيد الذين استألفوهم، أو بغير عبيد، فركبوا البحر، فبينما هم يسحلون برية الإسلام ليمكنهم طيب الريح، أو لعلهم أرادوا إلى مينا ليقلعوا منها ذاهبين، إذ شعر بهم المسلمون فأسروهم، أيحل دماؤهم وأموالهم بركوبهم البحر، وخروجهم من دار الإسلام بغير علم الإمام أو علم أحد من المسلمين؟
قال: لا أرى لأحد أن يستحلهم ولا أموالهم؛ لأن لهم في ركوب البحر عذرا بأن يقولوا: أردنا أن ننتجع ناحية للمير أو لرفق(3/38)
يذكرون نزوعهم إليه، قلت: فإن لججوا في البحر حتى ينقطع عنهم ما اعتذروا به من مسايرة الساحل؟
قال: ولا أرى أن يحلوا بذلك.
قلت له: فيما تراهم يستحلون به؟ قال: إذا لحقوا بدار الحرب، وصاروا في منعتهم.
قلت: أرأيت إن امتنعوا في الساحل حين أراد المسلمون إنزالهم، وأنكروا عليهم ركوبهم، فدفعوا وامتنعوا حتى أسروا وصنعوا مثل ذلك في لجج البحر.
قال محمد بن أحمد: ما لم يجاوب عليه في هذه المسألة قد تقدم جوابه فيه في رسم الجواب، من سماع عيسى، ومضت المسألة هناك، وفي رسم الكبش من هذا السماع، باختلاف ألفاظ وزيادات في بعضها تبين غيرها، ومضى القول على ذلك كله، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: غزوا بعض جزائر الروم وكان لهم رسول أيشركهم فيما أصابوا]
مسألة وسألته: عن أهل مركب غزوا في البحر بعض جزائر الروم، فلما نزلوا ببعض مياههم أرسلوا رجلا منهم إلى ناحية من الجزيرة ليخبر لهم ما فيها من مراكب المسلمين، فأبطأ الرسول عنهم فأقلعوا إلى موضع فأصابوا فيه غنائم، أيشركهم الرسول فيما أصابوا مما غاب عنه، وقد كان الرسول حين أتى الموضع الذي أرسل إليه وجد مراكب المسلمين فدخلها؟(3/39)
قال: إن كان الرسول ذهب إلى ما أمر به، وجاء فوجد أصحابه قد ذهبوا عنه فسهمانه فيما أصابوا واجب، وإن كان قعد عنهم تاركا لهم مستقلا عنهم إلى الذي أقام عندهم، فلا حق له فيما غنم أصحابه الذين تركهم.
محمد بن أحمد: هذا بين على ما قال؛ لأن الرسول إنما أرسلوه فيما يخصهم من أمر عدوهم، فإذا لم ينتقل عنهم إلى غيرهم وذهب لما أمر به، فقدم عليهم بعد أن غنموا، فسهمانه في ذلك واجب؛ لأنه كان معينا لهم في مغيبه عنهم، وكذلك لو أرسلوه قبل خروجهم فيما يخصهم من أمر عدوهم على أن يلحقهم فلم يدركهم إلا بعد أن غنموا، لوجب أن يكون له سهمه معهم في ذلك، وإنما اختلف أهل العلم من هذا المعنى في المدد يقدم على العسكر بأرض الحرب بعد الغنيمة، فذهب مالك والشافعي إلى أنه لا حق لهم في الغنيمة، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنهم يشركونهم في الغنيمة؛ لأنهم ما كانوا ببلد الحرب لا يأمنون أن يطرأ عليهم من العدو من ينتزع الغنيمة منهم، والحجة لمالك ما روي عن أبي هريرة قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبان بن سفيان على سرية من المدينة قبل نجد، فقدم أبان وأصحابه على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر بعدما افتتحت، وسألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقسم لهم، فلم يقسم لهم شيئا» .
واعتل من احتج لأبي حنيفة بأن قال: يحتمل(3/40)
أن يكون النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لم يقسم لهم؛ لأنهم لم يقدموا عليه إلا وخيبر قد صارت دارا للمسلمين فاستغنى عن معونتهم.
قال: ويحتمل أيضا أن يكون لم يقسم لهم؛ لأن خيبر كان لأهل الحديبية بوعد الله إياهم إياها في سورة الفتح: روي عن أبي هريرة أنه قال: «ما شهدت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مغنما إلا قسم لي إلا خيبر؛ فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة» .
قال: وفي ترك إنكار رسول الله عليهم سؤالهم دليل على أنهم لم يسألوا محالا، والله أعلم.
[مسألة: رجل من المسلمين تخلف عنهم ثم أغار عليهم وأخافهم وسبى وقتل]
مسألة وسألته عمن تخلف من أهل برشلونة من المسلمين، عن الارتحال عنهم بعد السنة التي أجلت لهم يوم فتحت في ارتحالهم،(3/41)
فأغار على المسلمين وأخافهم، وسبى وقتل ولم يقتل، غير أنه قد أصاب الأموال، أيحل دمه وماله أو استرقاقه إن أسر، وإنما إقامته على الإسلام تعوذا مما يخاف من القتل إن ظفر به؟ فقال: ما أراه إلا بمنزلة المحارب الذي يتلصص في دار الإسلام من المسلمين، وذلك أنه مقيم على دين الإسلام، فإن أصيب فأمره إلى الإمام يحكم فيه بمثل ما يحكم به في أهل الفساد والحرابة، وأما ماله فلا أراه يحل لأحد أصابه، قال: وإن كان ما يصنع مما يكره عليه ويؤمر به، فلا يستطيع عصيان من يأمره خوفا على دمه، فلا أراه حاربا، ولا أرى عليه إن أخذ قتلا ولا عقوبة إذ تبين أنه يخاف ويؤمر به.
قال محمد بن أحمد: قوله: إنهم في غاراتهم على المسلمين بمنزلة المحاربين، صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن المسلم إذا حارب، فسواء كانت حرابته في بلد الإسلام أو في بلد الكفر الحكم فيه سواء، وأما قوله في ماله: إنه لا يحل لأحد أصابه، فهو خلاف ظاهر قول مالك في المدونة في الذي يسلم في بلد الحرب ثم يغزو المسلمين تلك الدار، فيصيبون أهله وماله وولده، أن ذلك كله فيء إذ لم يفرق فيها بين أن يكون غنم الجيش ماله وولد قبل خروجه أو بعد خروجه، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن معنى قوله: إذا كانت غنيمة ماله وولده بعد خروجه، فحمل قول مالك على الوجه الذي تكلم عليه ابن القاسم إذا كانت الغنيمة بعد خروجه، وقد مضى في أول رسم المكاتب ما يدل على أنه لا يمتنع أن يدخل الخلاف في ذلك، ويحكم للمال والولد بحكم الدار في السبي والدين وإن كان مقيما به، ولم يخرج بعد منه،(3/42)
وأما قوله: لا أرى عليه إن أخذ قتلا، ولا عقوبة إذا تبين أنه مخالف ويؤمر به، فمعناه لا يقتل بالحرابة؛ لأن الإكراه يسقط عنه حكمها لا أنه يسقط القتل عنه قودا بمن قتل، ولو ادعوا الإكراه ولم يثبت وأشبه دعواهم، ولم يتبين كذبهم؛ لوجب أيضا أن يسقط عنهم حكم الحرابة بالشبهة، ويؤخذون بحقوق الناس من الدم والمال، ويطال سجنهم أدبا لهم على قياس ما قال في رسم الكبش في أهل الذمة.
[مسألة: رجل أسره العدو ثم غنمه المسلمون فيشتريه رجل ثم يتبين أنه حر]
ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع مسألة وسألته عن الرجل من سفلة الناس يأسره العدو أو الذمي، ثم يغنمهم المسلمون فيشتريهما رجل في المقاسم أو يأخذهما في سهمانه، ثم يتبين له أنهما حران؟ فقال له: لا أرى له عليهما سبيلا؛ لأنهما حران ساعة أصابهما المسلمون، قلت: أفلا يتبعهما بالذي اشتراهما به؟ أرأيت لو كان اشتراهما في أرض العدو وهما أسيران، أما كان يتبعهما بما اشتراهما به؟ فقال: بلى، وليس اشتراؤه إياهما في الأسر بمنزلة اشترائهما في المغانم؛ لأنهما في أرض العدو في رق استنقذهما منه، وهما حين صارا بأيدي المسلمين فقد خرجا من ذلك الرق، وصارا إلى الحرية التي كانا عليها، قلت: فما ترى في حق المشتري إن كان أحدهما في سهمانه أو اشتراهما في المقاسم؟(3/43)
فقال: أراهما مصيبة دخلت عليه، إلا أن يدرك قبل المقاسم، فيسقط ذلك الثمن عنه.
قلت: فإن فات ذلك أينبغي للإمام أن يخلف له من الخمس أو من بيت المال؟ فقال: نعم، ذلك حسن.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول عليها مستوفى قرب آخر سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[الحصن يرمى بالنار والمنجنيقات ومعهم الصبيان]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن الحصن يرمى بالنار والمنجنيقات ومعهم الصبيان، قال المنجنيقات فذلك وجه الشأن فيه، وإن كان معهم الصبيان، وأما النار فلا أحب ذلك، وليس هو مثل المراكب؛ لأن المراكب ذلك هم بدءونا به، وقاتلونا بالنار، فمن ثم جاز لنا أن نقاتلهم بالنار.
قال محمد بن أحمد: هذه المسألة قد مضى القول عليها محصلا مستوفى في رسم الصلاة، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وكان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكره أن يقاتل العدو بالنبل المسموم والسلاح المسموم، قال: لم يبلغني أن رسول الله قاتل أحدا بشيء من السم.
[مسألة: رمي على مركب المسلمين نار فخافوا النار فهل يلقوا بأنفسهم في الماء]
مسألة قلت: فإن رمي على مركب المسلمين نار، فخافوا النار، أترى لهم سعة في أن يلقوا بأنفسهم في الماء فيموتوا؟ قال: نعم، كذلك قال مالك.(3/44)
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة لمالك أجاز الفرار من موت إلى موت أيسر منه، ولم ير ذلك عونا على قتل نفسه، واختلف فيه قول ربيعة، فمرة قال: لا يحل ذلك، ومرة أجازه، والصواب إن شاء الله أن ترك ذلك أفضل، وفعله جائز لا إثم على فاعله فيه؛ لأنه إذا أيقن بالهلاك ولم يشك فيه، فلم يعن على قتل نفسه، وإنما سعى في التخفيف عنها، والله تعالى أسأل في العافية.
[مسألة: عقر غنم وبقر أعداء المسلمين]
مسألة قال: وقال مالك: تعقر غنمهم وبقرهم إن لم يحتاجوا إلى ذلك، وكل ما قدروا على أن يهلكوهم به.
قال محمد بن أحمد: يريد أنها تعقر بالإجهاز عليها، وتحرق بعد ذلك إن خشي أن ينتفع العدو بها بعد عقرها، وذلك أفضل من تركها لهم يبغون بها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] ، وإنما نهى أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يزيد بن أبي سفيان بقوله: ولا تعقرن شاة أو بعيرا إلا لمأكلة، لما علمه من ضعف العدو ورجائه من سرعة تصيير ذلك للمسلمين.
[مسألة: رسل من الروم أسلم بعضهم فقام عليهم أصحابهم وأرادوا ردهم معهم]
مسألة قال: وقال ابن القاسم: أرسل ملك الروم للخليفة رسلا من الروم، فأسلم بعضهم، فقام عليهم أصحابهم، وأرادوا ردهم معهم، فقال مالك: ذلك لهم أن يردوا معهم إلى بلادهم. قال ابن القاسم: وكذلك فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أبي جندل.(3/45)
قال محمد بن أحمد: ذهب ابن حبيب إلى أن الرسول إذا أسلم يقبل إسلامه إلا أن يشترطوا ذلك، فهي ثلاثة أقوال، والحجة لمالك في أنه يرد إليهم بعد إسلامه إن لم يشترطوا ذلك؛ ما روي «عن أبي رافع قال: أقبلت بكتاب من قريش إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رأيته ألقي في قلبي حب الإسلام، فقلت: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم، فقال رسول الله: إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم، فإن كان في قلبك بعد أن ترجع إليهم الذي في قلبك الآن فارجع. قال: فرجعت إليهم، ثم أقبلت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وأما ما احتج به ابن القاسم من فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أبي جندل، فلا حجة فيه؛ لأنه إنما رده إليهم بالشرط الذي كان بينه وبينهم أن يرد إليهم من جاءه مسلما من عندهم، وقد قيل: إن ذلك منسوخ؛ بقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58] الآية، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، والله أعلم، في ترك إعمال الشرط، وقال في حديث أبي رافع: إنما رده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لم يكن أسلم بعد، وإنما حبب إليه الإسلام، فأحب المقام عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فهذا تأويل الحديث، وإنما فيه أن الرسول إذا رفض ما أرسل فيه وأحب المقام بلا إسلام؛ لم يجز للإمام أن يمكنه من ذلك.
[مسألة: كتب العدو إلى المسلمين إن تهبونا ما أخذنا نجيبكم إلى الإسلام أو الجزية]
مسألة وسئل ابن القاسم عن قوم من العدو غلبوا على مدينة من مدائن المسلمين، وعلى رجالهم ونسائهم ثم يكتبون إلى المسلمين، أو خرج إليهم المسلمون، فأرسلوا إليهم إن تهبونا ما أخذنا من أموالكم ورجالكم ونجيبكم إلى الإسلام، أو نعطيكم الجزية،(3/46)
خرجوا إليهم، أو كتبوا هم إلى المسلمين، قال: أما الذي أرى الآن، فإني أرى أن ينظر المسلمين، فإن كانوا يقووا عليهم لم أر أن يجيبوهم في شيء من الأحرار والمماليك، وأما الأموال فإني أرجو أن يكون ذلك سهلا إذا لم يطمعوا أن ينالوهم إلا بقتل من المسلمين، وإن علم أنهم لا يقووا عليهم رأيت ذلك للمسلمين، وكانوا بمنزلة الروم أن لو أرسلوا إلينا يطلبون الإسلام، وفي أيديهم أسارى من المسلمين أجبناهم، وكانوا لهم مماليك، فهؤلاء مثلهم إذا لم يطمع بهم، وأما إذا أجابوا إلى الإسلام، وهؤلاء في أيديهم عتقوا عليهم، وإن لم يسلموا فصالحوا على الجزية لم تؤخذ منهم الأموال، ورأيت أن يباع العبيد المسلمون عليهم بمنزلة من أسلم من مماليكهم، وأما الأحرار الذين في أيديهم، فإني أرى أن يدفع إليهم قيمتهم، ويخرجوا أحرارا من بيت مال المسلمين.
قال محمد بن أحمد: لا اختلاف في أن أهل الحرب إذا أسلموا وفي أيديهم أسارى من المسلمين الأحرار يطلقونهم؛ إذ لا يحل لهم أن يتملكوهم، فقوله في هذه الرواية: إنه ينظر للمسلمين، فإن كانوا يقوون عليهم لم أر أن يجيبوهم للإسلام في شيء من الأحرار والمماليك على أن يعطوا قيمة الأحرار، ويكون لهم المماليك، وإن علم أنهم لا يقوون عليهم رأيت للمسلمين أن يجيبوهم إلى ذلك، وقوله بمنزلة أن لو أرسلوا إلينا يطلبون الإسلام، وفي أيديهم أسارى من المسلمين، يريد أسارى من العبيد المسلمين، يقول: فكما يكون لهم إذا أسلموا ما كان في أيديهم من العبيد المسلمين أسارى، فكذلك يكون لهم إذا أجبناهم إلى الإسلام قيمة ما في أيديهم من أسارى المسلمين الأحرار، ويجوز لنا أن نجيبهم إلى الإسلام على ذلك إذا(3/47)
لم نقو على غلبتهم عليهم، وقوله: إذا أجابوا إلى الإسلام وهؤلاء في أيديهم عتقوا عليهم يريد إذا أطلقوا من أيديهم ولم يمكنوا من استرقاقهم؛ لأنهم يعتقون عليهم، فيكون لهم ولاؤهم، وقوله: وإن لم يسلموا وصالحوا على الجزية لم يؤخذ منهم الأموال، ورأيت أن يباع العبيد المسلمون عليهم إلى آخر قوله؛ صحيح لا اختلاف فيه أيضا، يقضي على ما مضى في سماع يحيى، مما وقع فيه على غير تحصيل على ما ذكرناه، ولا اختلاف أيضا في أنهم إذا صالحوا على هدنة لا يؤخذ ما في أيديهم من أسارى المسلمين ولا رقيقهم ولا أموالهم، وإنما اختلف إذا استأمنوا فدخلوا بأمان فيما أسلم من رقيقهم، وفيما الفيء في أيديهم من أسارى المسلمين ورقيقهم المسلمين، فحكم لهم ابن حبيب في ذلك كله بحكم أهل الذمة، وحكى أنه إجماع من مالك وأصحابه إلا ابن القاسم، وذهب ابن القاسم إلى أنه لا ينتزع منهم شيء من ذلك، ولا يحال بينهم وبين وطء ولا رجوع بهم إلى بلادهم، إلى أن يفادى منهم أو يبتاع برضاهم وطيبة أنفسهم كالمصالحين على الهدنة، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد يسبيه العدو ثم يقع في سهمان رجل ثم يبيعه ثم يأتي سيده]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن العبد يسبيه العدو، ثم يقع في سهمان رجل، ثم يبيعه ثم يتداوله رجال ثم يأتي سيده، قال: إن أحب أن يأخذ العبد بما وقع به في المقاسم أخذه، وليس له أن يأخذه بأي ثمن شاء، وإنما له أن يأخذه بما أخذ به في المقاسم، وليس هو مثل الشقص يباع من الدار فيتداوله رجال، ثم يأتي الشفيع فيأخذ بأي الأثمان شاء، من قبل أن الشفيع لو باع شريكه من رجل فأجاز، ثم باع الذي أجاز له، رجع بشفعته فأخذوا الذي سبي عنده، ثم وقع في سهمان رجل لو جاء به الذي وقع في سهمانه ثم باعه ذلك الرجل؛ لم يرجع على العبد أبدا، فمن ثم يقال له: إن أحببت أن تأخذ العبد(3/48)
فخذه بما وقع في المقاسم، وليس لك غير ذلك، وكان للشفيع أن يأخذ بأي الأثمان شاء.
قال محمد بن أحمد: قوله: إنه يأخذ العبد إذا تداولته الأملاك بالثمن الذي وقع به في المقاسم خلاف قوله في المدونة في الذي يشتري العبد في بلاد الحرب، ثم يقدم به فيبيعه، أنه ليس لصاحبه إلا ما بين الثمنين؛ إذ لا فرق بين المسألتين، وخلاف ما يأتي على قول غيره فيها أيضا من أنه يأخذه من المشتري الثاني، بالذي اشتراه به، وقد روي عن ابن القاسم أنه يأخذه بأي ثمن شاء، وهو قول ابن الماجشون وأحد قولي سحنون، فهي أربعة أقوال، وجه قول ابن القاسم في المدونة أن له ما بين الثمنين، وليس له أن يأخذ العبد هو أن البيع فوت لشبهة ملك العدو إياه؛ إذ قد قيل لصاحبه إليه، وإن أدركه قبل القسم فله ما استفضل فيه المبتاع، إذا كان له أن يأخذه بالثمن، ووجه قول غيره في المدونة أنه يأخذه من المشتري الثاني بالثمن الذي اشتراه به هو أنه لا حجة للمبتاع الثاني إذا أعطاه جميع الثمن الذي وزن فيه كما لم يكن للذي اشتراه من المقاسم في ذلك حجة، ووجه قوله في هذه الرواية أنه يأخذه بالثمن الأول، هو أن ذلك حق وجب له لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للذي وجد بعيره في المغنم، وقد كان أصابه العدو: «وإن وجدته قد قسم فأنت أحق به بالثمن إن أردته» ، فلا يسقط حقه في ذلك بيع المشتري إياه، ولا تداول الأملاك فيه، ووجه القول الرابع أنه يأخذه بأي ثمن شاء، قياس ذلك على الشفعة إذا تداولت الأملاك الشقص.
[مسألة: عبد تداوله رجال فسباه العدو ثم سبي فوقع في سهمان رجل فأتى ساداته]
مسألة قلت: فإن تداوله رجال ثم سباه العدو ثانية، ثم سبي فوقع في سهمان رجل، فأتى ساداته كلهم، قال: ما لهم وله؟ إنما الكلام للذي(3/49)
سبي من يديه أخيرا من اشتراه أو سيده الأول، إلا أن الذي اشتراه أخيرا أحق به أن يأخذه بعد أن يدفع إلى الذي هو في يديه ما وقع به في المقاسم أو يتركه، فإن تركه فسيده الأول بالخيار إن شاء أن يأخذه بما وقع به في القسم الثاني، وليس له أن يأخذ بما وقع به في القسم الأول؛ لأنه مالك ثان أملك به من الأول.
قال محمد بن أحمد: وقع في أكثر الكتب مكان فإن تركه فسيده الأول بالخيار إن شاء، فإن أخذه فسيده الأول بالخيار، وكذلك نقله أبو إسحاق التونسي، ووجهه بأن قال: إن أراد أن ما فداه به ملغى لو جنى عبده جناية، فافتداه بها أو يأخذه ربه بما كان أخرج هذا فيه في القسم الذي قبل هذا، فلهذا وجه، وهذا لا يصح بوجه، ولا يستقيم على ما نص عليه في المسألة، فهذا غلط في الرواية لا شك فيه، والصواب فإن تركه، وعلى هذا فتستقيم المسألة؛ لأنه جعل الحق في أخذه بما وقع به في المقسم الثاني للسيدين جميعا، إلا أنه بدأ الثاني بالأخذ، فإن أخذ بطل حق الأول، ولم يكن له شيء، وإن ترك ولم يأخذ أخذ الأول، وهذا بين ولا إشكال فيه، وقد قيل: إن الأول هو المبدأ بافتكاكه، واختلف على هذا القول بماذا يفتكه؟ فقال: إنه يفتكه بالأكثر، فإن كان الأكثر هو ما أخذ به المقتسم الثاني بطل حق الأول، وإن كان الأقل كان للأول ما فضل، وهذا قول سحنون في نوازله من كتاب الجنايات، وقيل: إنه يفتكه بالثمنين جميعا، وهو قول محمد بن المواز، وكذلك إذا جنى العبد جناية، ثم سبي فوقع في المقاسم، يفتكه سيده على مذهب سحنون بالأكثر،(3/50)
وعلى مذهب ابن المواز بالأمرين جميعا، وقيل: إنه الذي يأتي على مذهب ابن القاسم في المدونة، فإن ترك السيد الأول افتكاكه بالأكثر من الثمنين أو بهما جميعا على ما ذكرناه من الاختلاف في ذلك، كان للسيد الثاني أن يفتكه بما وقع به في المقسم الثاني.
[مسألة: مسلم معه علج من العدو يقول المسلم أسرته أو اشتريته وهو ينكر]
مسألة وقال ابن القاسم في الرجل المسلم يخرج من أرض العدو، ومعه علج من أعلاج العدو، فيقول المسلم: أسرته أو اشتريته، ويقول العلج: بل خرجت معه رغبة في دار الإسلام: إن القول قول العلج، وعلى المسلم البينة فيما ادعى، وإلا فهو حر.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» ، إلا أن يكون العلج في وثاقه، فيصرف مع يمينه، قاله سحنون وابن حبيب، ومضى مثل ذلك، والقول فيه في رسم الكبش، من سماع يحيى، ويأتي في سماع أصبغ: أن القول قول الذي أتى به إن كان أسيرا في يد رجل، فأطلقه سيده على أن يأتي به.
[مسألة: نصرانيين خرجا من أرض العدو فادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه عبده]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن رجلين نصرانيين خرجا من أرض العدو، فادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه عبده، فقال: لا شيء لواحد منهما على صاحبه إلا أن يأتي ببينة على ما ادعى، وإلا فهما حران جميعا.(3/51)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، وقد مضى ما يشبهها، والقول فيها مستوفى في آخر سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: رمي الأعداء بالنار]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن المراكب من الروم يغيرون على بعض المسلمين، ثم يدركهم المسلمون فيقاتلونهم الروم بالنار، أفترى للمسلمين أن يرموهم بالنار، أم يكفوا لمكان من معهم من المسلمين؟ فقال ابن القاسم: لا أرى أن يرموهم بالنار؛ لما معهم من المسلمين خوفا أن يقتلوا مسلما، قال أشهب: نعم، أرى أن يرموهم بالنار، وكيف لا يرمون وهم يرموننا بها، قال سحنون: قلت لابن القاسم: فإذا حاصر المسلمون الحصن وفيه المسلمون مع الروم، أيقطع عنهم المير والماء ويرمون بالمنجنيقات؟ قال: نعم، قال أشهب مثله: لا بأس بذلك.
قال محمد بن أحمد: هذه مسألة قد مضى القول فيها موعبا في رسم الصلاة، من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: حربيا استأمن فدخل بلاد المسلمين فوجد كنزا]
مسألة قال: وسألت أشهب عن العبد الحربي يدخل بلاد المسلمين فيسلم، أو يدخل بأمان فيقيم على كفره، ثم يقدم سيده على أثره فيسلم أو يثبت على كفره، قال: لا سبيل له إلى العبد، قلت لأشهب: فلو أن حربيا استأمن فدخل بلاد المسلمين، فوجد كنزا، قال: هو له بعد إخراج الخمس منه، وقال سحنون: قال أشهب في الحربي(3/52)
يستأمن ويدخل بلاد المسلمين فيسلم أو يقيم على دينه، ثم يستأمن عبد له، فيدخل بلاد المسلمين، قال: إن أسلم بيع على سيده، ودفع إليه ثمنه، وإن لم يسلم فهو لسيده.
قال محمد بن أحمد: قوله: إذا تقدم خروج العبد قبل سيده، أنه لا سبيل لسيده إليه صحيح؛ لأن العبد بنفس خروجه مسلما كان أو كافرا على مذهب مالك وجميع أصحابه لا ولاء لأحد عليه؛ لأن المعنى فيما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق يوم الطائف من خرج إليه من عبيد الطائف أنه عتقهم بخروجهم لا باستئناف العتق لهم بعد خروجهم، وفي كتاب محمد أنه خرج ساداتهم قبل إسلام العبيد رجع إليهم ولاؤهم، وإن خرجوا وقد أسلم العبيد لم يرجع إليهم ولاؤهم، قال أبو إسحاق التونسي: وليس هذا بينا؛ لأنهم إنما عتقوا بنفس خروجهم، فإن كان عتقهم لأنهم غنموا أنفسهم، فيجب ألا يرجع ولاؤهم إلى ساداتهم بحال، وإن كان إنما وقع العتق على السادة، فيجب أن يرجع إليهم الولاء، وإن قدموا بعد إسلام العبيد؛ لأنهم عتقوا عليهم، وهم كفار، والعبيد كفار، ووجه ما في كتاب ابن المواز: أن العتق إنما يقع على السادة حين خروجهم، أعني خروج السادة، وذلك مراعاة لمذهب أبي حنيفة في أنه لا يكون حرا لخروجه، إلا إذا خرج مسلما، وأما إذا خرج كافرا فهو غنيمة لجميع المسلمين بإحراز دار الإسلام إياه على قول أبي حنيفة، أو لمن سبق إلى أخذه، وهو قول صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن، قالا مرة بعد إخراج الخمس منه لأهله، وقالا مرة لا خمس فيه، وأما إذا تقدم خروج السيد مستأمنا قبل عبده، فقوله: إنه يكون لسيده ويباع عليه إن أسلم، هو على قول بعض الرواة في كتاب النكاح الثالث من المدونة، خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في الجهاد منه؛ إذ حكما بحكم الدار لمال(3/53)
الحربي، وأسقطا ملكه عنه إذا أسلم، وخرج أو لم يخرج على ما تقدم بيانه في رسم المكاتب من سماع يحيى، والذي يأتي على هذا أنه حر بنفس خروجه، خرج قبل سيده أو بعده، وقوله في المستأمن يجد الكنز في بلاد المسلمين: إنه له بعد إخراج الخمس منه، ظاهره حيث ما وجده من بلاد المسلمين مثل قول ابن نافع، وأما على مذهب ابن القاسم، فلا يكون له بعد إخراج الخمس منه إلا إذا وجده في أرض حرة لم تفتتح بصلح ولا عنوة.
[مسألة: النشاب والملال في أرض الروم يصيد الحيتان والطير فيبيعه]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يعمل النشاب والملال والسروج والمحمل في أرض الروم، ويصيد الحيتان والطير فيبيعه، قال: أرى ثمنه فيئا، قلت: ولا يكون له أجرة مثله؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة وتحصيل القول فيها موعبا، في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يبيع الطعام في بلاد الروم ممن يأكله ثم يعلم بذلك]
مسألة قلت له: فالرجل يبيع الطعام في بلاد الروم ممن يأكله، ثم يعلم بذلك بعدما خرج والمال في يده ما ترى أن يصنع به؟ قال: يرد في المقاسم، ولا يرد على المشتري، قلت له: فالوالي إن رأى أن يبيع الطعام من الناس في بلاد الحرب لحاجتهم إليه في بلاد المسلمين، وهم مستغنون في بلاد الحرب قال: لا أرى بذلك بأسا.(3/54)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الطعام غنيمة من أموال الكفار، إلا أنه أبيح للناس أكله في بلد الحرب لحاجتهم إليه، فإن باع أحد منهم شيئا، أو استغنى الناس عنه فباعه الإمام، صار غنيمة لأهل الجيش بعد إخراج الخمس كسائر أموال الكفار.
[مسألة: تجار الروم إذا نزلوا برقيق فصالحناهم على عشر ما معهم من الرقيق فأسلم الرقيق]
مسألة وسئل ابن القاسم عن تجار الروم إذا نزلوا برقيق، فصالحناهم على عشر ما معهم من الرقيق، فأسلم الرقيق، أو صالحناهم على الدنانير فأسلم الرقيق، ثم أرادوا الرجوع بمن معهم من الرقيق بعدما أسلموا، قال: يؤخذ منهم ما صالحوا عليه، ويرجعون بالرقيق وإن أسلموا.
قال محمد بن أحمد: هذا مثل ما في سماع سحنون، من كتاب التجارة إلى أرض الحرب سواء، وكذلك لو قدموا بعبيد لهم مسلمين؛ لكان لهم الرجوع بهم إن شاءوا، قال في سماع أبي زيد بعد هذا: ويقدم إليهم في ذلك ألا يعودوا، وهذا على أصل ابن القاسم في أن المستأمن في بلد المسلمين من الحربيين لا ينتزع منهم أسارى المسلمين ولا عبيدهم المسلمين، ولا يباع عليهم من أسلم من رقيقهم، ويرجعون بذلك كله إن شاءوا، خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب، وحكى أنه إجماع من مالك وأصحابه إلا ابن القاسم، وفي المدنية لابن نافع، ولمالك من رواية داوود بن سعيد عنه مثل قول ابن القاسم، وقد مضت هذه المسألة محصلة في صدر هذا السماع.(3/55)
[مسألة: مراكب لقوا مراكب في البحر فقاتلوهم فسأل العدو الأمان]
مسألة وسئل سحنون عن مراكب لقوا مراكب في البحر، فقاتلوهم فوقع بينهم جراحات وقتال، فسأل العدو المسلمين الأمان فأعطوهم فاستساروا في أيدي المسلمين، فقدموا بهم برية الإسلام، فهل ترى إلى مثلهم سبيلا؟ فإن كان لا سبيل إلى قتلهم، فهل يباعوا أم هل يخلى سبيلهم؟ وكيف ترى في أموالهم إن خلي سبيلهم، أترد عليهم أم لا؟ قال سحنون: إن كانوا إذ سألوا الأمان أمنوا على أن يكونوا ملكا أو ذمة، فالشرط لهم، ولا سبيل إلى القتل، فإن لم يكن شرط إلا أمان مسجل، فلا سبيل إلى قتلهم، ولا إلى استرقاقهم، وأرى أن يردوا إلى مأمنهم، إلا أن يرضوا بالمقام على الجزية أو يسلموا.
قال محمد بن أحمد: وهذا صحيح على ما قال؛ لأن الأمان إذا وقع مسجلا وجب أن يحمل على عمومه في كل شيء من حقن دمائهم وترك استرقاقهم وأخذ أموالهم، إلا أن يستثنى من ذلك شيء في الأمان، فيصح للمسلمين بوقوع البيان، وبالله التوفيق.
[مسألة: مكاتبا لحق بأرض الروم ثم قدم علينا منهم رجل معاهد ومعه المكاتب]
مسألة وقال: لو أن مكاتبا أو مدبرا لحق بأرض الروم، ثم قدم علينا منهم رجل معاهد ومعه المكاتب أو المدبر، إن المكاتب تكون كتابته له، فإذا كان حرا كان ولاؤه لسيده، وإن عجز كان له رقيقا، وأما المدبر فتكون له خدمته، فإن مات سيده فحمله الثلث عتق، وإن لم يحمله عتق منه ما حمل الثلث، وكان ما بقي للمعاهد رقيقا.(3/56)
قال محمد بن أحمد: وجه قول سحنون هذا أنه لما كان من عرس من الحربيين على أن يكون ذمة، ويؤدي الجزية، أنه لا يؤخذ منه ما أبقى بيده من أموال المسلمين ورقيقهم، وجب أن يكون للمعاهد على ذلك في المدبر والمكاتب، ما كان لسيدهما فيهما من بقية الرق، ولا يمكن من استرقاقهما، إذ لو عوهد وبيده حر لم يمكن من استرقاقه يعطى قيمته، ولا يؤخذ منه بغير شيء على ما مضى لابن القاسم في صدر السماع، فكان القياس على هذا أن يعطى من بيت المال قيمة ما فيهما من الحرية أن لو كان ذلك رقيقا وجاز بيعه على الرجاء والخوف بأن يقال: كم يساوي هذا المكاتب على أنه إن أدى كتابته إلى سيده كان مملوكا للمشتري؟ وكم يساوي هذا المدبر على أن تكون خدمته لسيده، فإن مات فحمله الثلث أو حمل بعضه كان ما حمل منه رقا للمشتري؟ وإن رأى الإمام أن يعطيه قيمتهما، ويعجل لهما العتق أو تطوع أحد بذلك لزم ذلك، وعلى ما وقع آخر رسم الكبش، من سماع يحيى، يمكن المعاهد من استرقاق المدبر والمكاتب، إلا أنا قد ذكرنا أنها رواية شاذة خطأ، خارجة عن الأصول، وقعت على غير تحصيل.
[مسألة: حصن مسلمين ارتدوا عن الإسلام فهل يقاتلون]
مسألة قال سحنون: قال ابن القاسم في حصن مسلمين ارتدوا عن الإسلام، فإنهم يقاتلون ويقتلون ولا تسبى ذراريهم وأموالهم فيئا للمسلمين، قال سحنون قال أشهب: أهل الذمة وأهل الإسلام في هذا سواء، لا تسبى ذراريهم ولا أموالهم، ولا يعادون إلى الرق، ويقرون على جزيتهم كما كانوا.(3/57)
قال محمد بن أحمد: قول ابن القاسم، ولا تسبى ذراريهم وأموالهم فيئا للمسلمين، يريد أن نسلهم وذراريهم لا يسبون، وأن أموالهم لا تكون فيئا وغنيمة للجيش الذين قاتلوهم كأموال الحربيين؛ لأن حكم أموالهم على مذهبه في قوله: إن ذراريهم لا يسبون حكم مال المرتد إذا قتل على ردته، يكون لجماعة المسلمين على حكم الفيء، وقد وقع في بعض الكتب: ولا تسبى ذراريهم، وأما أموالهم فهي فيء للمسلمين، وهو الصحيح، وفيه بيان ما تأولنا عليه قول ابن القاسم بنصب فيئا على الحال، وإلى هذا ذهب عامة العلماء وأئمة السلف، وهو قول ابن الماجشون وربيعة فيما حكى عنهما ابن حبيب، وقال أصبغ: تسبى ذراريهم ونساؤهم، وتقسم أموالهم ويقتل كبارهم على حكم الناقضين من أهل الذمة؛ لأنهم جماعة، وإنما يكون الارتداد في الواحد وشبهه.
وهذا هو الذي خالفت فيه سيرة عمر بن الخطاب سيرة أبي بكر الصديق، في الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سار فيهم أبو بكر بسيرة الناقضين، فقتل الكبار، وسبى النساء والصغار، وجرت فيهم المقاسم وفي أموالهم، فلما ولي عمر بعده نقض ذلك، وسار فيهم سيرة المرتدين رد نساءهم وصبيانهم إلى عشائرهم وإلى الحرية، وأخرجهم من الرق والسبي، وحملهم محمل ذرية المرتدين أنهم على الإسلام إلا من أباه منهم بعد بلوغه، وما أباه أحد منهم على عمر ولا قبل ذلك، بل أقر كلهم بالإسلام ساعة سبوا، حكى هذا ابن حبيب، وفي قوله: إنه رد نساءهم وصبيانهم إلى عشائرهم، وأخرجهم من الرق بيان أن الذي قضى فيهم أبو بكر بالسبي هم الذين نقض فيهم عمر القضية، وذلك خلاف ما قالوا من أن القاضي لا يرد ما قضى به غيره قبله باجتهاده فتدبر ذلك، وقول أشهب: إن أهل الإسلام في هذا سواء، لا تسبى ذراريهم ولا أموالهم، ولا يعادون إلى الرق، ويقرون على الحرية، مثل ما له في المدونة وغيرها، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ مساواة(3/58)
أشهب بينهم في تحريم سبيهم، ومساواة أصبغ في إيجاب ذلك، وتفرقة ابن القاسم بين ذلك، وهو القول الصحيح من جهة النظر؛ لأن المرتدين أحرار من أصولهم، والمعاهدين لم تتم حريتهم بالمعاهدة، وإنما كانت عصمة لهم من القتل والسبي، فإذا نقضوها رجعوا إلى الأصل، فحل دماؤهم وسباهم، وقد مضى بيان القول في هذا في رسم الجواب، من سماع عيسى.
[مسألة: ثمار بين عمران الإسلام والشرك هل يحل للمسلمين الأكل منها]
مسألة وسئل سحنون وذكرت له ثمار تكون في مفاز الأندلس بين عمران الإسلام وعمران الشرك، كانت لأهل الإسلام، وتركوها وصارت خارجة عن ملكهم بأرض مفازة، وصار العدو لسيد أبقاؤه عليها ولأهل الإسلام، وكلهم فيها سواء في الخوف، فمر بها جيوش المسلمين وسراياهم وصوابقهم، هل يحل لهم الأكل من تلك الثمار؟ قال: أما الجيوش الغالبة العظيمة التي شأنها القهر والغلبة، فلا أرى لهم الأكل منها؛ لأنه يصير لتلك الثمرة ثمن، وأما السرية والنفر اليسير الذي شأنهم التحلل، فلا أرى بأسا إن أكلوا منها، وهي عندي بمنزلة الضالة يجدها الرجل في الفلاة نائية عن القرى، فإنه في سعة من أكلها؛ لأنه قد جاء الحديث فيها، فقال: «هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» . وأما العسكر الكبير فإنما الثمرة بينهم بمنزلة الشاة الضالة، توجد بقرب العمران وموضع الأمان، فلا تحل لمن وجدها.(3/59)
قال محمد بن أحمد: قول سحنون هذا صحيح، وتفرقته بين العسكر العظيم والسرية الصغيرة ظاهرة، واحتجاجه بالحديث بين، وذلك إذا كان أهل تلك الثمار لم يبيدوا، وأمكن أن يعرفوا؛ لأن الواجب على الإمام إذا كان الأمر على هذا، ومر بجيشه على تلك الثمار أن يأمر ببيعها في العسكر، وتوقف أثمانها لأربابها وينشر بها، وكذلك يجب على كل من أخذ منها شيئا أن يبيعه ويمسك ثمنه، ويعرف به ليوصله إلى صاحبه، وأما إن كان الأمر قد طال وباد أهل تلك الثمار، وأيس من أن يعرفوا، أو يعرف أحد ممن تصيرت إليه بالوراثة، فالثمرة لأهل الجيش الكبير في حكم اللقطة إذا لم يوجد صاحبها بعد التعريف، يجري الأمر في جواز أكلها على الاختلاف بين أهل العلم في جواز أكل اللقطة بعد التعريف؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها» ، فمالك يكره له أكلها، وإن كان محتاجا إليها، ويرى الصدقة له بها أفضل، ومن أهل العلم من يبيح له أكلها وإن كان غنيا، ومنهم من لا يبيح له أكلها إلا إذا كان فقيرا، وقد مضى في رسم الوضوء والجهاد، من سماع أشهب، من قول مالك ما يدل على أن أكل ذلك أخف من أكل اللقطة بعد التعريف، وقد بينا هناك الوجه في ذلك.
[مسألة: الروم إذا نزلوا بأمان فباعوا واشتروا ثم ركبوا البحر متى يحلون]
مسألة وسئل سحنون عن الروم أو غيرهم إذا نزلوا بأمان فباعوا واشتروا، ثم ركبوا البحر راجعين متى يحلون، وإلى أي موضع من(3/60)
البحر يحلون فيه؟ قال: لا يحلون أبدا حتى يصيروا من البحر إلى الموضع الذي يأمنون فيه من عدوهم، ويذهب عنهم الخوف، فإذا صاروا إلى تلك حلوا، فقال له بعض أهل الغزو والمعرفة بالبحر: إنهم اليوم لا يأمنون حتى يقعوا بلادهم، ويخرجوا من البحر؛ لأن مراكب المسلمين قد كثرت عليهم، فقال لهم: فلا يحلون إلا في الموضع الذي يأمنون فيه، وهو الخروج من البحر إن كان الأمر كما وصفت، وقد قال الله: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] قلت له: فهو حلال إذا جاءنا ما لم يعط الأمان، وإن قرب من مرسانا أو بعد، فقال: أما من عرف بالتجارة من المسلمين، فلا يحل إذا أخذ، وهو مقبل إلى الأمان فيما قرب من المرسى ولا فيما بعد، لا يحل أبدا إلا أن يؤخذ في بلده، أو يؤخد وهو يريد إلى غير المسلمين، وأما قوم لم يعرفوا بالتجارة فهم حلال.
قال محمد بن رشد: قوله في تجار الحربيين إذا ركبوا البحر راجعين: وإنهم يحلون إذا صاروا من البحر إلى موضع الأمن، وإن لم يصلوا بعد إلى بلادهم، ينبغي أن يحمل على التفسير لما في المدونة في هذه المسألة؛ إذ لم يفرق فيها هذه التفرقة، ولمسألة حبل حبلة، من سماع عيسى، ويحمل عليها ما أشبهها من المسائل، من ذلك إذا غنم العدو في بلاد المسلمين شيئا من أموال المسلمين، ثم غنمه المسلمون منهم قبل أن يصلوا به إلى بلادهم، هل يقسم إذا لم يعرف صاحبه أم لا؟ وهل يأخذه صاحبه إن قسم بغير ثمن(3/61)
أم لا؟ فقد كان يختلف في ذلك عندنا، وهذه المسألة أصل ذلك، وأما من قدم بلاد الإسلام بغير أمان، فزعم لَمَّا أُخِذَ فيما قرب أو بعد أنه أتى للتجارة أو طالبا لأمان، أو راغبا في فدية أسير، أو ما أشبه ذلك مما تقتضيه هذه المسألة، فقد مضى القول فيها محصلا مستوفى موعبا في أول رسم الجواب، من سماع عيسى، فأغنى ذلك عن إعادته.
[مسألة: أخذ المسلمون يهودا مقبلين من بلاد الإفرنج فادعوا الذمة لصاحب الأندلس]
مسألة قلت له: فلو أخذوا في البحر مركبا فيها يهود مقبلون من بلاد الإفرنج أو غيرها من بلاد الشرك، فلما أخذوا قالوا: نحن ذمة لصاحب الأندلس، وإليه نؤدي الجزية، قال: يُكلفوا البينة على ما ادعوا من ذلك، فإن بينوا ذلك لم يعرض لهم، وإلا كانوا فيئا، قلت: فإذا ثبت أنهم ذمة لصاحب الأندلس، وادعوا على الذين أخذوهم أنهم أخذوا منهم أموالا، قال: إن كان الذين أخذوهم قوما أمناء صالحين مأمونين، فلا يمين عليهم، وإن كانوا ناسا غير مأمونين استُحلفوا.
قال محمد بن أحمد: إنما قال: إنهم يكونون فيئا إن لم يبينوا ما ادعوا، من أجل أنهم ادعوا ما لا يشبه؛ لوجودهم مقبلين من بلاد الإفرنج؛ إذ لا ينبغي أن تؤخذ الجزية إلا ممن هو في بلاد المسلمين، أو حيث يمكن أن تجرى عليهم أحكامهم على ما قال ابن وهب في سماع زونان بعد هذا؛ لقول الله عز وجل: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، ولو ادعوا ما يشبه، وضعفوا عن إثبات ذلك؛ لوجب أن لا يستباحوا إلا بيقين، وأن يوقفوا وما وجد معهم حتى يكتب في خبرهم إلى حيث يتحقق به صدقهم من كذبهم، فيعمل على ذلك، وإنما قال:(3/62)
إنه لا يحلف الذين أخذوهم إن ادعوا عليهم أنهم أخذوا لهم مالا، إلا أن يكونوا غير مأمونين؛ لأنهم ادعوا عليهم التعدي في الأخذ، فهو باب يجوز إليهم، بخلاف ما لو ادعوا عليهم مالا من معاملة.
[: القوم يواقعون العدو هل لأحد منهم أن يبارز بغير إذن الإمام]
من سماع عبد المالك بن الحسن من ابن وهب قال عبد المالك بن الحسن: سئل عبد الله بن وهب عن القوم يواقعون العدو، هل لأحد منهم أن يبارز بغير إذن الإمام؟ فقال: إن كان الإمام عدلا لم يجز له أن يبارز إلا بإذنه، وإن كان غير عدل فليبارز وليقاتل بغير إذنه، قلت له: والمبارزة والقتال عندك واحد؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الإمام إذا كان غير عدل، لم يلزم استئذانه في مبارزة ولا قتال؛ إذ قد ينهاه عن عدة قد ثبتت له على غير وجه نظر يعضده؛ لكونه غير عدل في أموره، فتلزمه طاعته، فإنما يفترق العدل وغير العدل في الاستئذان لا في طاعة إذا أمر بشيء أو نهى عنه؛ لأن الطاعة للإمام من فرائض الغزو، فواجب على الرجل طاعة الإمام فيما أحب أو كره، وإن كان غير عدل، ما لم يأمره بمعصية، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره، ما لم يؤمر بمعصية» ، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة؛ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا الله، وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع، فاسمعوا وأطيعوا ما أقام لكم كتاب الله» ، وقد قيل في قول الله عز(3/63)
وجل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] : إنهم أمراء المزايا، وقد مضى طرف من هذا المعنى في أول سماع أشهب.
[مسألة: يحاصرون حصنا من حصون العدو فيدعوهم العدو إلى أخذ الجزية]
مسألة وسئل ابن وهب عن القوم يحاصرون حصنا من حصون العدو، فيدعوهم العدو إلى أخذ الجزية منهم، هل ترى للمسلمين أن يقاتلوهم إذا دعوهم إلى أخذ الجزية؟ فقال: إذا كان ذلك العدو الذين دعوا إلى الجزية هم بموضع لا يصل المسلمون إليه إلا بخوف شديد على أنفسهم، فإني أرى أن يقول لهم المسلمون: الحقوا بدار الإسلام تؤدوا الجزية، فإن أبوا قوتلوا، وإن كانوا بموضع يقدر المسلمون على الاختلاف إليهم، ولا يخافون على أنفسهم كفوا عن قتالهم، وأخذوا الجزية منهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنهم إذا كانوا بموضع لا يصل المسلمون إليهم إلا بخوف على أنفسهم لم يأمنوا إن انصرفوا عنهم أن ينكثوا عليهم، ويكون ما سألوه مكيدة منهم، وأيضا فإن من شرط الجزية أن تؤدى بذل وصغار، كما قال عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، وإن كانوا بائنين بدارهم لا يصل المسلمون إليهم إلا بخوف شديد على أنفسهم، لم يلزم قبول الجزية منهم، وهم على هذه الحال إذا لم يبذلوها على ما شرطه الله عليهم فيها، وبالله التوفيق.(3/64)
[مسألة: الغزاة لا يقاتلون على الخيل لاستغنائهم عنها أيقسم لها]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب الجهاد مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن الغزاة يقتلون رجلا، فلا يقاتلون على الخيل لاستغنائهم عنها، وخيلهم في رحالهم أيقسم لها؟ قال: نعم، يقسم لها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهذا مما لا اختلاف فيه؛ لأنه كما يقسم لمن شهد القتال، وإن لم يقاتل فكذلك يقسم لفرس من شهد بفرسه، وإن لم يقاتل عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: فيما أحرز العدو من متاع المسلمين ثم جاءوا به بأمان يبيعونه أيحل اشتراؤه]
مسألة وقال: عن مالك فيما أحرز العدو من متاع المسلمين ثم جاءوا به بأمان يبيعونه، ولا يعرف له أهل، أو يعرف؛ أيحل اشتراؤه؟ قال مالك: أحب إلي ألا يبتاعه أهل الإسلام.
قال محمد بن رشد: ابن المواز لا يرى بأسا أن يشتريه أهل الإسلام، فإذا عرفه صاحبه كان له أخذه بالثمن إن شاء، قال: واشتراء العبد المسلم من العدو إذا باعه الحربي أفضل من تركه، فنحى مالك في قوله منحى الورع مراعاة لقول من لا يراعي ملك العدو، ويراهم فيما غنموا من أموال المسلمين كاللصوص، فيوجب لمن وجد متاعه بيد من اشتراه من العدو، صار له في مقسم أن يأخذه بغير ثمن، ورأى محمد شراء المتاع خيرا لصاحبه من أن يتركه فيرجع به الحربي إلى بلده، وقول مالك أحسن؛ إذ قد يكون في رجوع الحربي به إلى بلده خير لصاحبه؛ إذ قد يغنمه المسلمون بعد(3/65)
فيدركه قبل القسم، فيأخذه من غير ثمن، وأما العبد المسلم فلا شك أن شراءه أولا أفضل من ترك الحربي يرجع به إلى بلده، وكذلك الجارية، ولا يحل له إذا علم صاحبها بعينه أن يطأها حتى يعرضها عليه، وإن لم يعلمه بعينه، ويعلم أنها للمسلمين، فيكره له وطأها، هذا ظاهر ما في المدونة، وهو صحيح على أصولهم.
وقول محمد بن المواز: إن شراء العبد المسلم إذا باعه الحربي أفضل من تركه صحيح على مذهب ابن القاسم في أن له الرجوع به إلى بلده إن شاء، وأما على مذهب أصحاب مالك سواه، فيباع عليه شاء أو أبى، ولا يترك والرجوع به إلى بلده، وقد تقدم ذلك في غير ما موضع، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يركب البحر غازيا فيشتري بأرض الروم متاعا من المقاسم]
مسألة قال: وسمعت ابن القاسم، وسئل عن الرجل يركب البحر غازيا، فيشتري بأرض الروم متاعا من المقاسم أو غيرها للتجارة، ويحمله في السفن التي هو فيها بغير إذن الوالي، قال: لا أرى ذلك ولا أرى للوالي أن يأذن به لبعض الناس في حمل ما يضر بأصحابه ويتعب السفن.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا الذي قاله بين لا إشكال فيه؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ضرر ولا ضرار» .
[مسألة: يفرق بين الجدة وولد ابنها وولد ابنتها في البيع]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: يفرق بين الجدة وولد ابنها وولد ابنتها في البيع في المملكة وفي السباء.(3/66)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه؛ لأن النهي عن التفرقة إنما جاء في الأم والولد خاصة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توله والدة على ولدها» ، وقال: «لا يفرق بين الوالدة وولدها» ، وقال: «من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» وإنما الاختلاف في حدها، وهل هو من حقها، أو من حق الولد على ما سيأتي القول عليه في رسم الشريكين، في سماع ابن القاسم، من كتاب التجارة، إلى أرض الحرب.
[مسألة: الأسير إذا خلوه في بلادهم على وجه المملكة والقهر فهرب]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الأسير إذا خلوه في بلادهم على وجه المملكة والقهر فهرب: فله أخذ ما قدر عليه من أموالهم، وليقتل ما قدر عليه منهم، وليهرب إن استطاع، وليستق من نسائهم وذراريهم ما استطاع، قال: وأما إذا كان عندهم في وثاق فخلوه على وجه الائتمان ألا يبرح ولا يحدث شيئا فلا، ولا يقتل منهم أحدا ولا يخونه، قال أصبغ: ولا يهرب، وهو كالعهد، ولا ينقض العهد، ولا يحبس به، وسواء كان حين سايره على هذه السيرة في وثاق أو غير وثاق.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم حبل حبلة، من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته.(3/67)
[مسألة: يكونون في ثغر من وراء عورة المسلمين هل يخرجون سراياهم لغرة يطمعون بها]
مسألة
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، وسئل عن أناس يكونون في ثغر من وراء عورة المسلمين، هل يخرجون سراياهم لغرة يطمعون بها من عدوهم بغير إذن الإمام، والإمام منهم على أيام؟ قال: إن كانت تلك الغرة بينة قد تبينت لهم منهم، ولم يخافوا أن يلجئوا بأنفسهم، فلا أرى بأسا، وإن كانوا يخافون أن يلقوا ما لا قوة لهم به، أو يطلبون فيدركون، فلا أحب ذلك لهم.
قال محمد بن رشد: إنما جاز لهم أن يخرجوا سراياهم لغرة قد تبينت بغير إذن الإمام؛ لكونه غائبا عنهم على مسيرة أيام، ولو كان حاضرا معهم لم يجز لهم أن يخرجوها بغير إذنه إذا كان عدلا على ما مضى من قول ابن وهب في سماع زونان، وقد مضى طرف من هذا المعنى في آخر سماع أشهب.
[مسألة: يعطى الفرس أو البرذون في سبيل الله هل يحرث على البرذون]
مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن الرجل يعطى الفرس أو البرذون في سبيل الله، هل يحرث على البرذون ويسافر عليهما في قضاء دين أو لحاجة؟ قال: أما يحرث عليه بمرابطة الذي هو به الشيء الخفيف الذي هو له منفعة في قوته، ولا يضر به، وما أشبه ذلك، فلا أرى به بأسا، وأما أن ينزيه لغيره أو لنفسه، أو يسافر عليه في حوائجه، فلا يعجبني ذلك، إلا أن يكون مل له مالا من ماله،(3/68)
فيصنع به ما شاء، وإلا فلا يتقوى بشيء من أمره ولا بثمنه، إلا في سبيل الله.
قال محمد بن رشد: لسحنون في كتاب ابنه: أنه لا يحرث عليه لنفسه ولا للفرس، وإنما يأخذه من يضمن مؤنته، ولو جاز أن يحرث لقوته جاز أن يكريه ممن يقضي عليه حوائجه لقوته، وقال: لا يركب الفرس إلا لمصلحته، وأما في حوائج نفسه فلا، وإنما يركب في السفر الذي حبس فيه، قال: فإن أعطاه المحبس عليه في ثغر آخر ضمن، وقاله الأوزاعي، وتخفيف ابن القاسم أن يحرث عليه الشيء اليسير الذي لا يضر به لقوته بموضع مرابطة أحسن من تشديد سحنون في ذلك إن شاء الله؛ لأن ذلك عون له على مقامه بموضع مرابطه، فهو من سبيل الجهاد والعون عليه إن شاء الله، وقد مضى في أول رسم، من سماع ابن القاسم، من حكم من أعطى شيئا في السبيل ما يبين هذه المسألة.
[مسألة: أصابوا أعلاجا ثم أدركهم ما أدركهم فخافوا فأرادوا أن يقتلوهم]
مسألة قال أصبغ: سمعت أشهب يسأل عن سريه ساروا، فأصابوا أعلاجا، ثم أدركهم ما أدركهم، فخافوا أن يعينوا عليهم، فأرادوا أن يضربوا أعناقهم، فقال: إن كان استحيوهم فليس لهم إلى قتلهم سبيل إلا أن يقاتلوهم حتى يتبين لهم منهم فيقتلونهم، وإن كانوا لم يكونوا استحيوهم ضربوا أعناقهم إن شاءوا، قيل له: وما الاستحياء هاهنا؟ فقال: إن كانوا تركوهم رقيقا للمسلمين، وفيئا لهم، فأما إن كانوا تركوهم على أن يأتوا بهم الإمام، فيكون مخيرا إن شاء قتل وإن شاء استحيا كما يصنع، ضربوا أعناقهم إن خافوهم، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا صحيح على أصولهم، فلا وجه للقول فيه.(3/69)
[مسألة: عدو يخرج على المسلمين فيهزمهم الله هل فيما أصابه المسلمون الخمس]
مسألة وسئل عن خيل العدو يخرجون على المسلمين في بلاد الإسلام، فيهزمهم الله على غير قتال، فتشتت أمورهم، فينهزمون، هل فيما أصابه المسلمون منهم الخمس؟ أو هل هم فيء؟ أو لكل إنسان منهم ما أصاب؟ فقال: هذا لا يكون، ولو كان يكون، لكان مما قد أوجف عليه بالخيل والركاب، فكان فيه الخمس، وكان مقسوما بين الذين ولوا الإيجاف عليهم والقتال لهم.
قال محمد بن رشد: أبعد أن يكون ما سأله عنهم من انهزامهم دون هازم لهم، أو خارج إليهم، أو موافق لهم؟ فلم يعطه فيه جوابا بينا، وما هو ما سأله عنه إلا في الممكن مثل أن يموت رئيسهم، فتشتت أمورهم، ويتراءى لهم على البعد سواد، فيظنون ذلك عسكرا لمسلمين، فيفرون على وجوههم، ويتفرقون ويختفون في الشعاري؛ لظنهم أنهم يتبعون ويستأسرون لمن لقيهم من المسلمين، أو مروا به من قراهم، ويتركون أمتعتهم ورحائلهم ودوابهم، فهذا لو كان لوجب أن يكون ما أصابه المسلمون منهم فيئا لجميعهم، حكمه حكم الخمس، ولو نزلوا على بعض ثغور المسلمين، فتداعى عليهم المسلمون فانهزموا على غير قتال ولا لقاء، فأصابوا غنائمهم؛ لخمست وكان سائرها لأهل المكان الذي كان منهم التداعي في النفير إليهم؛ لأنهم منهم رعبوا فانهزموا فهو إيجافهم، قاله ابن حبيب في الواضحة، وهو صحيح يؤيد ما قلنا.(3/70)
[مسألة: نفر أقبلوا وعليهم سلاحهم فزعموا أنهم جنحوا إلى السلم والإسلام]
مسألة وسئل عن ثلاثة نفر أقبلوا على خيولهم، وعليهم سلاحهم حتى دخلوا قرية في آخر عمران المسلمين، فزعموا أنهم جنحوا إلى السلم والإسلام، أو قالوا: أردنا الجزية أيقبل قولهم؟ قال: إن لم يظفر بهم حتى أظهروا ما ذكرت إن ادعوا إسلاما، أو أرادوا أن يكونوا ذوي عهد.
قال محمد بن رشد: المسئول في هذه المسألة أشهب، وقوله فيها معلوم من مذهبه في الواضحة وغيرها أن قولهم: لا يقبل منهم إذا لم يظهروه قبل أن يؤخذوا، قال في الواضحة: والمسلم كان أحق بالتصديق إذا أخذ سكرانا أو زانيا، فقال: تزوجت أو أكرهت على الشرب، فلا يقبل منه، ويقام عليه الحد، قال: فكذلك هؤلاء إذا لم يظهروا ذلك قبل أن يؤخذوا لم يقبل منهم، ويكون الوالي فيهم بالخيار إن شاء قتل، وإن شاء استحيا، واسترق للمسلمين إلا أن يسلموا، فيكونوا عبيدا للمسلمين ولا يقتلون، قال عبد الملك: وهو من أحسن ما سمعت فيه، وقد سألت عنه غير واحد، فقالوه واستحسنوه، وقد مضى تحصيل الخلاف في هذه المسألة مجودا في رسم الجواب، من سماع عيسى، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا.
[مسألة: الأسير من أهل الحرب يستأذن سيده المسلم أن يخليه على أن يأتيه بابن نفسه]
مسألة وسئل عن الأسير من أهل الحرب يستأذن سيده المسلم أن يخليه على أن يأتيه بابن نفسه وبامرأته وبأبي نفسه على ذلك(3/71)
فداؤه، فيفعل فيأتي بهم، فيزعمون أنهم خرجوا معه بعهد، ويقول الآخر: بل سرقتهم أو غنمتهم ما ترى في ذلك؟ فقال: يقبل في ذلك قول الذي جاء بهم، ولا يقبل قولهم فيه.
قال محمد بن رشد: المسئول في هذه المسألة أشهب بدليل عطفها على ما قبلها، والله أعلم، وإنما قال: إن القول في ذلك قول الذي جاء بهم من أجل أنه خرج من عند سيده، على أن يأتي بهم، فجعل ذلك شبهته توجب أن يكون القول قوله، وإلى هذا ذهب أحمد بن ميسر، ونص على العلة فقال: لأنه سبق له أمان قبلهم، وقال ابن المواز: القول قولهم، ولم يراع ما أطلقه سيده عليه، ولو أتى بهم دون سبب متقدم؛ لكان القول قولهم باتفاق، إلا أن يكونوا في وثاقه على ما مضى في رسم الكبش، من سماع يحيى، وفي سماع سحنون، وبالله التوفيق.
[مسألة: إمام الجيش هل يسهم له من الفيء]
مسألة وسئل عن إمام الجيش، هل يسهم له من الفيء كسهمان الناس، أو هل له رأس الفيء أو الخمس شيء أم لا؟ فقال: إنما والي الجيش كرجل منهم، له مثل الذي لهم، وعليه مثل الذي عليهم.
قال محمد بن أحمد: لا حق للإمام من رأس الغنيمة عند مالك وجل أهل العلم، وما جاء من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له شيء يصطفيه من رأس الغنيمة فرس أو عبيد أو أمة أو بعير، على حسب حال الغنيمة، خصوص له أجمع العلماء على ذلك، إلا أبا ثور؛ حكي عنه ما يخالف هذا الإجماع، فقال: الآثار(3/72)
في الصفي ثابتة، ولا أعلم شيئا نسخها فيؤخذ الصفي، ويجري مجرى سهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وكذلك لا حق له عنده في الخمس إلا الاجتهاد في قسمته بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما لي مما أفاء الله عليكم، ولا مثل هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم» ، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن الخمس مقسوم على الخمسة الأصناف المذكورين في الآية بالسواء، وأن سهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد وفاته للخليفة بعده، وأن سهم قرابته لقرابة الخليفة بعده، وفي هذا أثر مرفوع إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «إذا أطعم الله نبيا طعمة فهي للخليفة بعده» .
[مسألة: العبد من أهل الحرب يخرج بامرأته وولدها وملكه للمسلم]
مسألة وسئل أيضا عن العبد من أهل الحرب يخرج بامرأته وولدها وملكه للمسلم، فيقول العبد خرجوا معي بعهد، وينكر ذلك سيده والعبد معروف بالسبي والتلصص في أرض العدو، قال: القول قول العبد في ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يجير على المسلمين أدناهم» .(3/73)
[مسألة: شد رجل من السرية فأسره العدو فلما أحسوا طلبوا من الأسير الأمان]
مسألة وسئل عن سرية خرجت، فشد منها رجل فأسره العدو فذهبوا به فطلبتهم الخيل، فلما أحسوا طلبوا من الأسير الذي في أيديهم الأمان فأمنهم وأدركتهم الخيل، هل يجوز لهم أمان المسلم على تلك الحال أم لا؟ قال: إن كان أمنهم وهو آمن على نفسه فذلك جائز، وإن كان خائفا فليس ذلك بجائز، وقول الأسير في ذلك مقبول.
قال محمد بن رشد: زاد ابن المواز في هذه المسألة، وإن اختلف قوله أخذ بقوله الأول، وقال سحنون: لا يجوز أمانه، ولا يصدق أنه كان غير خائف، إذ لا يقدر إذا طلبوا منه الأمان إلا أن يؤمنهم، واختلف أيضا إذا أطلقوه على أن يؤمنهم بشرط، ولم يختلف في أن أمانه جائز إذا أمنهم بعد أن أطلقوه، وهو آمن على نفسه، ولا في أن أمانه لا يجوز إذا قالوا له: تؤمننا وإلا قتلناك، هذا تحصيل هذه المسألة، وقد مضى ذلك في أول سماع عيسى.
[مسألة: أبقت منه علجة فأصابها بعد ذلك بسنين فوجد معها أولادا]
مسألة وعن رجل أبقت منه علجة، فأصابها بعد ذلك بسنين، فوجد معها أولادا، فزعم أن أولادها منه، قال: أولادها منه إن كانوا في بطن، وإن كانوا ليس في بطن ألحق به البطن الأول منهم إلا أن يدعي استبراء قبل إباقتها، فيكون ذلك له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ إذ لا اختلاف فيمن ادعى ولد امرأة، فزعم أنها كانت له زوجة أو ملك يمين، أن قوله مقبول، ويلحق به نسبه إلا أن يتبين كذبه بأن تكون قد ولدته لأكثر مما تلده النساء من يوم باعها(3/74)
إن كانت أمة، أو طلقها إن كانت حرة، فإذا أبقت من الرجل العلجة بعد أن وطئها، وقبل أن يستبرئها، فوجد معها أولادا لا يعلم متى وضعتهم فادعاهم، وجب أن يلحقوا به إلا أن يكونوا ليسوا بني بطن، فلا يلحق به إلا البطن الأول، لتبين كذبه في البطن الثاني؛ إذ لا يمكن أن يكون ولدان من وطء واحد، ويكون بين وضعهما ستة أشهر فأكثر، إلا أن يدعي استبراء قبل إباقتها، فلا يصدق ولا يلحق به الولد.
وقوله في الرواية، فيكون ذلك له ليس بوجه الكلام، وإنما كان من حقه أن يقول: فلا يصدق ولا يلحق به الولد، ولو علم أنها وضعتهم لما يلحق به الأنساب، لوجب أن يلحقوا به، وإن لم يدعهم إذا ادعت أنهم منه، إلا أن يدعي استبراء قبل إباقتها، فيكون ذلك له، ولا يلحق به الولد إلا أن تكون وطئت في بلد الحرب، فإن كانت قد وطئت في بلد الحرب على وجه الملك لم يلحق به الولد إذا أنكره وأقر بالوطء، ولم يدع الاستبراء إلا بالقافة، ولو كانت إنما وطئت في بلد الحرب على وجه الزنا ما لحق به الولد بغير قافة؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» ، وكذلك يلزم على قياس قول من يقول: من أبق منه عبده إلى بلد الحرب، أن صاحبه يأخذه ممن اشتراه من الحربي، أو صار له في المغانم بغير ثمن، ولو علم أنها وضعته لما لا يلحق به الأنساب منه لما ألحقوا وإن ادعاهم.
[مسألة: فرس حبس أبدله صاحبه بفرس حبس فأصيب بأحدهما عيب]
مسألة وسئل عن فرس حبس أبدله صاحبه بفرس حبس، فأصيب بأحدهما عيب، هل ترى له أن يرده لما وجد به من العيب ويأخذ فرسه؟ قال: نعم، وبئس ما صنعا حين تبادلا، ولو لم يجد به عيبا(3/75)
ثم أراد أحدهما أن يرده، رأيت ذلك له إلا أن يكونا تبايعا ذلك من عصاص أو حطم، أو ضعف عن الجهاد، فيجوز ولو كان ذلك في أحدهما والآخر سليم، رأيت أن يرد السليم منهما إلى صاحبه.
قال محمد بن رشد: أما قوله: إذا تبادلا بالفرسين الحبيسين، فوجد بأحدهما عيب فصحيح لا اختلاف فيه، إذ لا يصح أن يلزم العيب من لم يرض به في المبادلة، كما لا يصح في المبايعة، قال ابن أبي زيد: ولو وجد بأحدهما عيب، وأصيب الآخر لرد المعيب، وأخذ قيمة فرسه الفائت، وحكاه عن ابن القاسم من كتاب ابن المواز، وهو بعيد لا وجه له، إلا أن يكونا تبايعا ذلك من عصاص أو حطم أو ضعف عن الجهاد؛ لأن من اشترى فرسا حبيسا فتلف عنده كان له أن يرجع بالثمن، ولو لم يكن عليه ضمان، كمن اشترى عبدا فمات عنده ثم استحق بحرية.
وأما قوله: إن لمن أراد منهما الرد أن يرد، وإن لم يجد عيبا، فإنه كلام فيه نظر؛ لأنه إذا لم ير المبادلة بينهما جايزة إلا أن يكونا تبايعا ذلك من عصاص أو حطم أو ضعف عن الجهاد، وكما قال، فكان يلزم على قوله أن يقول: إن الترداد لازم لهما؛ لفساد المبادلة بينهما، والأظهر أنها جائزة، وأنه لا رد لأحدهما إلا أن يجد عيبا على ما في المدونة من إجازة المبادلة في طعام العدو ببلد الحرب، إذ لا فرق بين المسألتين؛ لأن الطعام لا يملك أخذه في بلد الحرب، وإنما له الانتفاع بأكله في بلد الحرب، فهو كالفرس الحبيس الذي لا يملك، وإنما للذي هو بيده الانتفاع بركوبه في السبيل، فهذه الرواية تأتي على ما روي عن مالك من أن المبادلة في ذلك كالمبايعة لا تجوز.
وأما قوله: ولو كان ذلك في أحدهما،(3/76)
والآخر سليم، رأيت أن يرد السليم منهما إلى صاحبه، يريد ويرد المعيب أيضا، إلا أن يفوتا فتكون فيه القيمة على حكم البيع الفاسد؛ إذ لا يختلف في فساد البيع، إذا كان أحدهما سليما لا يجوز بيعه، والآخر منتقصا لا يصلح للجهاد يجوز بيعه، فإن كانا منتقصين جازت المبادلة فيهما باتفاق إلا على مذهب من لا يجيز بيع الفرس الحبيس، وإن انتقص ولم ينتفع به في الجهاد، وإن كان أحدهما منتقصا لم تجز المبادلة فيهما باتفاق، وإن كانا جميعا متناقصين، فعلى ما ذكرناه من الاختلاف.
[مسألة: الحر المسلم يشترى في أرض العدو بأضعاف الثمن]
مسألة وسئل عن الحر المسلم يشترى في أرض العدو بأضعاف الثمن، قال: يأخذه به أي يتبعه بكل ما اشتراه به قليلا أو كثيرا على ما أحب أو كره، وهو حر ولا يرق نفسه.
قال محمد بن رشد: قد مضى في أول رسم من سماع أشهب القول في هذه المسألة، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حكم شراء أولاد أهل الحرب منهم]
مسألة وسمعته وسئل عن علج دخل بأمان في فداء امرأته، ففداها بسبعين دينارا من صاحبها، وأرهنه ابنا له كان معه حتى يأتي بها، فذهب فلم يأت ما سبيل ذلك الابن؟ قال: يستأنى به، فإن جاء وإلا بيع عليه رقيقا، واستوفى ماله فإن فضل فضلٌ حبسه لصاحبه حتى يأتي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على ما في المدونة من أنه يجوز لنا أن نشتري من أهل الحرب أولادهم إذا باعوهم منا، ولم يكن بيننا وبينهم هدنة، وذهب كثير من أهل النظر إلى أن مسألة رسم المكاتب من سماع(3/77)
يحيى معارضة لهذه المسألة، ولما في المدونة، والصواب ألا تعارض على ما مضى القول فيه هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: علج من العدو أسر فبلغ الإمام بالصياح عليه ثم رأى الإمام قتله]
مسألة وسئل عن علج من العدو أسر، فبلغ الإمام بالصياح عليه، فبلغ أحد عشر دينارا، ثم رأى الإمام قتله فأراد أن يقتله، قال ذلك له يقتله. قال أصبغ: بل أرى إن كان إنما صاح على بيعه تجربة، ليعرف ما يبلغ فيرى رأيه، فذلك له كما قال، وإلا فلا.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ صحيح، ينبغي أن يحمل على التفسير؛ لقول القاسم؛ لأن الأمان شديد، فإذا أمر الإمام بالصياح على الأسير لبيعه ويقسم ثمنه عازما على ذلك، فقد استرقه للمسلمين وحرم قتله.
[مسألة: السرية تبعث في أرض العدو فيجعل لها ثلث ما أصابت]
مسألة قال أصبغ: وسألت ابن القاسم، وسئل عن السرية تبعث في أرض العدو، فيجعل لها ثلث ما أصابت أو ربعه أو جزء منه، فكره ذلك، ونهى عنه، وقاله أصبغ: ولا أرى للوالي أن يفعل ذلك بالناس، فيفسد نياتهم في الجهاد، ويرغبون في الإصابة، ويخرج منهم من لا يريد إلا الدنيا وطلبها، فهذا فساد عظيم يصنع بالناس، يقتتلوا في طلب الدنيا والتماسها وغير الجهاد في سبيل الله، ولا أرى لمن خرج معهم في مثل هذا أن يأخذ منهم شيئا مما جعل، ولا يخرج(3/78)
في سريتهم، ولا أرى بالخروج معهم بأسا لمن لا يريد أن يأخذ من ذلك شيئا إذا صحت نيته، ولم يخرجه إلا حب الجهاد والرغبة فيه، وقد بلغني عمن بلغه أن بعض أهل العلم والفضل قد خرج معهم، ولا أرى ما يأخذون حراما، ولا أرى بخروج السرايا افتداء على غير هذا، ولا ببعثة السرايا وانتشارها سرا وعلانية بأسا، ولم تزل السرايا من أمر الجهاد وسيرته وقوته، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يرد على المسلمين أقصاهم» ، فالسرايا من ذلك تصير وتصيب وترد على الجيش والعسكر وعنهم، ولا أرى أن تكون السرايا إلا كتيفة وتقاوة وشجاعة وإن قلوا، فقد يكون الرجل خيرا من كثيبة، وخيرا من عدد، وخيرا من مائة، ما لم يبعثوا القلة على الجماعة الحصون، وما أشبهه من الجموع، ولا ينبغي أن تكون السرية غدرا، ولا إلى الموضع غرة ولا غررا، قال: ووهن السرية وهن العسكر وغررها غرر العسكر.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب مالك في المدونة وغيرها أنه لا يجوز للإمام أن ينفل قبل القتال، لئلا يرغب الناس في المال، فتفسد نيتهم في الجهاد، فإن وقع ذلك مضى للاختلاف الواقع في ذلك والآثار المروية فيه، من ذلك ما روي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمرو بن العاص: «هل لك أن أبعثك في جيش، فيسلمك الله، ويغنمك، وأرغب لك في المال رغبة صالحة» ، وما روي من أنه «كان ينفل السرايا في البدأة الثلث، وفي الرجعة الربع» ، «وأنه نفل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البدأة الربع وحين نفل الثلث» .
وذهب إليه جماعة من(3/79)
العلماء، وقال أكثرهم: لا يزيد على الثلث؛ لأنه أكثر ما روي، ومنهم من ذهب إلى أنه إنما ينفل الربع أو الثلث بعد الخمس، ومنهم من ذهب إلى أن له أن ينفل السرية كلما غنمت، وأما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فلا يجيز النفل قبل القتال، ولا يراه بعد القتال إلا من الخمس؛ لأن قسمة الخمس عنده مصروفة إلى اجتهاد الإمام، والأربعة الأخماس للغانمين، فلا يجيز للإمام أن يعطي أحدا منها فوق سهمه.
ومن أهل العلم من قال: إن النفل لا يكون إلا من خمس الخمس، ذهب إلى هذا من رأى أن الخمس يقسم بالسواء بين الخمسة الأصناف المذكورة في الآية، ومنهم من أجاز للإمام أن ينفل من رأس الغنيمة قبل الخمس على ما قد ذكرنا من مذهب من أجاز للإمام أن ينفل السرية كلما غنمت، ومنهم من قال: لا ينفل من الخمس، وإنما ينفل من الأربعة الأخماس بعد إخراج الخمس على ما قد ذكرناه في حكم تنفيل السرية أيضا، وما ذكره من كراهة التغرير للسرية صحيح، ينبغي للإمام ألا يأذن في ذلك ويمنع منه، قال سحنون في كتاب ابنه: وأصحابنا يرون في سرية تخرج في قلة وغرر بغير إذن الإمام، أن للإمام منعهم الغنيمة أدبا لهم، قال سحنون: فأما جماعة لا يخاف عليهم، فلا يحرمون الغنيمة، وإن لم يستأذنوه، يريد وإن أخطئوا.
[مسألة: الرجل من أهل الإسلام يسبى أعلى المسلمين أن يفتدوه]
مسألة قال أشهب: سئل مالك عن الرجل من أهل الإسلام يسبى؛ أعلى المسلمين أن يفتدوه بكل ما يقدرون عليه؟ قال مالك: نعم، إن لم يقدروا على افتدائه إلا بكل ما يملكون فذلك عليهم.(3/80)
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه الرواية لأشهب في أول سماعه، والقول عليها هناك، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الروم يطلبون من المسلمين في المفاداة الخمر والخيل والسلاح]
مسألة قال أشهب: في الروم يطلبون من المسلمين في المفاداة الخمر والخيل والسلاح، قال: أما الخيل والسلاح فلا بأس، وأما الخمر فلا يصلح؛ لأنه لا ينبغي لأحد أن يدخل في نافلة من الخير بمعصية.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول أشهب هذا أنه أجاز أن يفدى الأسير بالخيل والسلاح، وإن كثر ذلك، إذا لم يقدر إلا على ذلك، وهو نص قول سحنون خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب، من أنه إنما يجوز ذلك ما لم يكن الخيل والسلاح أمرا كثيرا، يكون لهم به القوة الظاهرة.
وأجاز سحنون أيضا أن يفدى منهم بالخمر والخنزير والميتة، قال: ويأمر الإمام أهل الذمة أن يدفعوا ذلك إليهم، ويحاسبهم بقيمته في الجزية، فإن أبوا لم يجبروا على ذلك، ولم يكن بأس بابتياع ذلك لهم، وهذه ضرورة، وقد روي عن ابن القاسم أن المفاداة بالخمر أحق منها بالخيل والسلاح، وهو كما قال؛ إذ لا ضرر فيه على المسلمين في المفاداة منهم بالخمر، وعليهم الضرر في المفاداة منهم بالخيل، وقول أشهب في تفرقته بين الخيل والسلاح وبين الخمر؛ لأنه لا ينبغي لأحد أن يدخل في نافلة من الخير بمعصية ليس بصحيح؛ لأن بيع الخيل والسلاح منهم معصية كما أن بيع الخمر منهم معصية، فإذا جاز أن يعطوا الخيل والسلاح في فداء مسلم لحرمة المسلم كان أجوز يعطوا فيه الخمر لحرمة المسلم؛ إذ لا ضرر في ذلك على المسلمين(3/81)
والدخول في نافلة من الخير بمعصية إنما هو مثل أن يسرق مال أحد أو يغصبه، فيفدي به أسيرا، أو يفعل به خيرا، وما أشبه ذلك، وسواء على مذهب ابن القاسم كان الأسير في بلد الحرب، أو قدم به بأمان إلى بلد المسلمين؛ إذ له على مذهبه أن يرجع به إلى بلده إن شاء خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أنه لا يمكن من الرجوع به إلى بلده، ويؤخذ منه بالقيمة شاء أو أبى، وقد تقدم في سماع يحيى وسحنون ما دل على هذا المعنى، ومن فدى مسلما بخمر أو خنزير أو ميتة، فلا رجوع له عليه بشيء، إلا أن يكون المعطي ذميا، فليرجع عليه بقيمة الخمر والخنزير والميتة إن كانت مما يملكونها، قاله سحنون في كتاب ابنه، ومعناه إذا فداه بذلك من عنده، وأما إن ابتاعه ليفديه به، فإنه يرجع عليه بالثمن الذي اشتراه به، والله تعالى هو الموفق لا رب غيره.
[دعي إلى الإسلام أو الجزية غير مرة فأبى فجوهد وجاهدوا وحاربوا وسبوا]
ومن مسائل نوازل سئل عنها أصبغ قيل لأصبغ: أرأيت من قد دعي إلى الإسلام أو الجزية غير مرة فأبى، فجوهد وجاهدوا وحاربوا وسبوا، أيدعى هؤلاء أبدا؟ قال أصبغ: أما الجيوش الظاهرة الغالبة والصائلة، فإني أرى الدعوة عليهم، ولا أرى لهم أن يقاتلوا قوما، ولا حصنا إلا بدعوة؛ لأن هؤلاء لم يخرجوا بطلب غرة، ولا انتهاز فرصة، وإنما خرجوا قاهرين ظاهرين لتخريب العامر، وللإدخال في الإسلام وما أشبه هذا، وأما السرايا وما أشبهها التي تطلب الغرر، وانتهاز الفرصة، فلا أرى على هؤلاء في مثل من وصفت دعوة ولو دعي مثل هؤلاء؛ لكان إنذارا على أنفسهم وتجليبا عليهم.
قال: وهذا أحب ما سمعت إلي، مع ما جاء من الاختلاف في الدعوة، قد قال جل الناس: إنها قد بلغت العالم(3/82)
جميعا. قال أصبغ: وقد بلغني أن عمر بن عبد العزيز كتب ألا تقاتلوهم حتى تدعوهم؛ فإنا إنما نقاتلوهم على الدين، وإنما تخيل إليهم وإلى كثير منا، أنا إنما نقاتلوهم على الغلبة، فلا تقاتلوهم حتى تبينوا لهم.
قال محمد بن رشد: الكفار في حكم دعائهم إلى الإسلام قبل القتال على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكونوا ممن لم يبلغه أمر النبوة والإسلام. والثاني: أن يكونوا قد بلغه أمر النبوة والإسلام، إلا أنهم يجهلون أنهم إنما يقاتلون ليدخلوا في الإسلام، أو يؤدوا الجزية، ويظنون أنهم يقاتلون ليغلبوا ويسترقوا لا لما سوى ذلك. والثالث: أن يكونوا يعلمون أنهم إنما يقاتلون على الإسلام؛ ليدخلوا فيه أو يؤدوا الجزية.
والدعوة في القسم الأول والثاني واجبة قبل القتال في الجيوش، إلا أن الحكم يفترق فيهما، إن قوتلوا قبل، بين أن يدعوا ويسبوا، فلا يمضي ذلك في أهل القسم الأول، ويمضي في أهل القسم الثاني. وقد قال جل أهل العلم: إن دعوة الإسلام قد بلغت جميع العالم، فعلى هذا يسقط القسم الأول، وهي في القسم الثالث غير واجبة على السرايا، لا يلزم أن يتقدم إليهم قبل بعث السرايا إليهم؛ لعلمهم بما يتقدم به إليهم. وذلك جائز للإمام أن يفعله إن شاء، وأما أمير السرية إذا دخل، فلا يجوز له الدعوة ولا يحل؛ لأن في ذلك تجليبا للعدو على نفسه وإهلاكا لها، واختلف في وجوبها على الجيوش والصوائف، فأوجبها أصبغ في هذه الرواية، ظاهر قوله، وإن لم يرجوا أن يستجيبوا لهم إذا دعوهم، وقد قيل: إنه إنما يجب عليهم أن يدعوهم إذا رجوا أن يجيبوهم إذا دعوهم، أو أيقنوا(3/83)
بذلك، وهو قول يحيى بن سعيد في المدونة: ولعمري إنه للحق على المسلمين ألا ينزلوا بأحد من العدو في الحصون ممن يطمعون بهم، ويرجون أن يستجيب لهم إلا دعوه. وقد قيل: إنه إنما يجب عليهم إذا أيقنوا أنهم إن دعوهم أجابوهم لخوفهم من تغلب المسلمين عليهم، وأما إن لم يوقنوا بذلك ورجوه استحبت لهم الدعوة، وإن علموا أنهم لا يجيبونهم جازت لهم ولم تستحب، والذي يأتي على مذهب مالك أنها غير واجبة، وإن أيقنوا بإجابتهم، وهو قول سحنون في كتاب ابنه؛ لأنه أنكر التفرقة وقال: إن وجبت فعلى الجميع، وإن لم تجب سقطت في الوجهين يريد أن تسقط في هذا القسم عن الجيوش كما تسقط عن السرايا، وأنها تجب في القسم الأول والثاني، أو في القسم الثاني إن سقط القسم الأول على السرايا كما يجب على الجيوش والصوائف، وأما إن شك في بلوغ الدعوة إليهم فمن بعد عن الدرب محمولون على أن الدعوة لم تبلغهم لم يختلف في ذلك قول مالك، واختلف قوله فيمن قرب من الدروب في المدونة، فمرة حملهم على أن الدعوة لم تبلغهم، فأوجب دعاءهم قبل القتال، ومرة حملهم على أن الدعوة قد بلغتهم، فلم يوجب دعاءهم قبل القتال، فهذا وجه اختلاف قول مالك في المدونة، والله أعلم، وإذا سقطت الدعوة، ووجب القتال لم يؤذنوا، واستعمل في حربهم ما أمكن من المكر والخديعة، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحرب خدعة» .
[مسألة: عبدا من المغنم أبق ولحق بدار الحرب ثم غنم أيكون غنيمة مبتدأة]
مسألة قيل لأصبغ: فلو أن عبدا من المغنم أبق ولحق بدار الحرب ثم غنم، أيكون غنيمة مبتدأة أم يرد إلى الغنيمة الأولى؟ قال: بل يرد إلى الغنيمة الأولى الذين كانوا غنموه، ولا يكون فيه إلا خمس واحد، ولا يكون لهؤلاء الذين غنموه آخرا قليل ولا كثير، إلا أن يكون إباقه(3/84)
بحدثان الآخذ وفوره قبل استحكام الغنيمة، فيكون كما لم يوسر مثل الذي ينفلت من الآخذ، ومن الرباط وينسل، ويختفي في سوقه وما أشبه ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن العبد إذا استحكمت غنيمته، فقد وجب لغانميه بعد تخميسه، فإذا أبق ثم غنمه آخرون، فهم أحق به إن أدركوه قبل القسم بغير ثمن وبعده بالثمن إن شاءوا أن يأخذوه.
[مسألة: أهل الذمة يخرجون غزاة إلى أرض الحرب متسررين متلصصين]
مسألة وسئل أصبغ عن أهل الذمة يخرجون غزاة إلى أرض الحرب متسررين متلصصين، ليس معهم أحد من أهل الإسلام، أو لعل معهم النفر إلا أنهم الغالب على السرية والأكثر، أترى أن يتركوا وذلك، أو يخرج منهم الواحد والاثنان والثلاثة، متلصصين متسررين، هل الواحد عندك والكثير سواء؟ فقال: أرى أن يمنعوا من ذلك منعا شديدا ويزجروا عنه، وذلك لوجهين؛ أما أحدهما: فمن أجل أن الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لن أستعين بمشرك» ، والوجه الآخر: أنهم يعملون بعمل الشرك، فيستحلون ما نهي عنه من قتل النساء، والصبيان، والغلول، وغير وجه واحد، ولا يجاهد عدو الله إلا بسنة وإصابة ودعوة، وإن أهل ذمة المسلمين بمنزلتهم؛ لأن منعهم وتركهم إليهم، فإن كانوا قد غزوا وأصابوا تقدم إليهم ونهوا عن العودة، وتركت غنيمتهم بأيديهم، ولا يؤخذ منهم شيء إلا أن يكون معهم مسلم فيخمس سهمانه وحده، والقليل والكثير سواء إذا انفردوا، هكذا يمنعون أشد المنع.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في أول سماع يحيى، فلا معنى لإعادته.(3/85)
[مسألة: العبيد يجتمعون فيسرون وهم مسلمون فيصيبون العمل والسنة في الغزو]
مسألة قيل لأصبغ: فالعبيد يجتمعون فيسرون كنحو هؤلاء، وهم مسلمون فيصيبون العمل والسنة في الغزو والإصابة، وقد أذن لهم أربابهم فقال: هؤلاء مثلهم أرى أن يمنعوا أيضا، وليس من وجه أنهم لا يصيبون، ولكن من وجه أنهم لا حق لهم في الفيء، ولا خمس في غنيمتهم، فإن وقع وغنموا رأيت أن يترك ذلك لهم، ولا يخمسوا ويتقدم إليهم إلا يعودوا ويمنعوا أشد المنع.
قال محمد بن رشد: ابن القاسم يرى في غنيمتهم الخمس، وقد مضى ذلك من قوله في سماع يحيى، فعلى قوله لا يمنعون من الغزو منفردين؛ لأن الخطاب في قول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] الآية، وإن كان متوجها إلى الأحرار والعبيد تبع لهم إذا كانوا في جملتهم، فهو يراهم بمنزلتهم، إذا انفردوا قياسا عليهم في أن الخمس عليهم والأربعة الأخماس لهم، فكذلك يجب أن يكونوا بمنزلتهم في أن لا يمنعوا من الغزو، وبالله التوفيق.
[مسألة: غشيهم العدو فبادروا إلى دوابهم فأخذ كل واحد منهم دابة صاحبه]
مسألة وسئل أصبغ عن أناس من المسلمين كانوا في كمين ناحية العدو، فغشيهم العدو، فبادروا إلى دوابهم، فأخذ كل واحد منهم دابة صاحبه على العمد ممن أخذ أو أخطأ، فأصيب بعض الدواب وسلم بعضها، وكيف إن أصيب خيارها كيف الأمر فيه؟ قال: أراه ضامنا عمدا كان أو خطأ؛ لأنها أصيبت تحته.(3/86)
قال محمد بن رشد: لمالك في رسم يتخذ الخرقة من سماع ابن القاسم، من كتاب الجنايات نحو هذه المسألة، فإنه يعذر بالخوف في بلد الحرب في السفر، ويسقط عنه الضمان، وقال سحنون هناك: إنه ضامن مثل قول أصبغ هاهنا، وهو الأظهر على أصولهم في أن الأموال تضمن في العمد والخطأ، ونهاية ما في هذا أن يجعل بالخوف في حكم المغلوب عليه كالمكره، ومن قولهم: إن من أتلف مال غيره مكرها لا يعذر بالإكراه، ويجب عليه الغرم.
[مسألة: ينزع من جماعة المسلمين فيصالح العدو الذين يلونه ويستمد بهم على المسلمين]
مسألة وسئل أصبغ عن الوالي ينزع من جماعة المسلمين، وهو في حصن من حصون المسلمين، فيصالح العدو الذين يلونه، ويستمد بهم على المسلمين، فهل يحرمون بذلك الصلح على الإسلام. قال: أما ما لم يغيروا بعد معاهدته إياهم وأمسكوا فلا أرى أن يستحلوا، وأما إذا عابوا وأعاروا لهواء ما بينه وبينهم، فقاتلوا المسلمين بهذا الوجه فأرى أن يقاتلوا، وأن يستحلوا فأرى أمرهم حينئذ أن يكونوا كاللصوص هم وهو ويكونون ناقضين؛ لأن هذه ليست معاهدة، إنما المعاهدة الإمساك، فإن لم يمسكوا قوتلوا.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لأصبغ في الثامن من الثمانية حرفا بحرف، وهو مفسر لقول ابن القاسم في سماع يحيى.
[مسألة: دخل أرض الحرب بسويق له بلا لتات فلته بإدام من المغانم]
مسألة قيل لأصبغ: فلو أن رجلا دخل أرض الحرب بسويق له بلا لتات، فلته بإدام من المغانم أو ثوبا، فصبغه بصبغ من المغانم، ثم(3/87)
خرج به، ما ترى في ذلك؟ قال أصبغ: إن كان الذي زاد فيه اللت والصبغ الزيادة التافهة اليسيرة، فلا أرى عليه تمخيا منه بمنزلة لو خرج بالإدام نفسه والصبغ، وإن كان زاد فيه زيادة ذات بال، وقد كان شريكا بقيمة ثوبه أو سويقه بلا صباغ ولا لت، وتمخى من سائر ذلك.
قال محمد بن أحمد: وهذا بين كما قال؛ لأن الصباغ واللتات عين قائمة في جميع الأحكام من المرابحة والعيوب والاستحقاق والسرقة وغير ذلك، فوجب أن يكون في هذه المسألة كذلك إلا أن في مساواته في اليسير بين الصبغ والإدام نظرا؛ لأن له أن يخرج من الإدام يسيرا، وليس له أن يخرج من الصبغ بماله ثمن وإن قل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شراك وشراكان من نار» ، فالصواب أن عليه أن يتمخى الصبغ من قليله وكثيره.
[مسألة: النصراني يشتري النصراني ثم يخرج العبد إلى أرض العدو فيسلم]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم مسألة قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عن النصراني يشتري النصراني، ثم يخرج العبد إلى أرض العدو فيسلم ثمة، ثم يأسره المسلمون، قال: هو حر، ولا يقع في المقاسم.(3/88)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة خارجة عن أصل المذهب في أن أهل الذمة وأهل الإسلام سواء فيما حازه أهل الحرب من أموالهم، بسبي منهم أو إباق من العبيد إليهم، ثم سباه المسلمون بعد ذلك أنهم أحق به إن أدركوه قبل القسم بغير ثمن، وإن لم يدركوه حتى قسم كان لهم أن يأخذوه بالثمن الذي وقع به في المقاسم إن شاءوا، والذي يأتي فيها علم المذهب أنه لا يكون إذا سبي حرا، ويكون سيده أحق به قبل القسم بغير ثمن وبعده بالثمن إن شاء، ويباع عليه لإسلامه؛ لأن إسلام عبد الذمي لا يسقط ملك سيده عنه بإجماع، وكذلك إباقه إلى بلد الحرب لا يسقط ملك سيده عنه على المذهب، فوجب أن يكون له إذا سبي أسلم أو لم يسلم، ويباع عليه إن أسلم، وإنما يصح جوابه فيها على مذهب من يقول: إن أهل الحرب يملكون على المسلمين، وأهل الذمة ما صار إليهم من أموالهم، فلا يكون لهم إليها سبيل وإن أدركوا قبل القسم، ولا يكون العبد حرا إذا أسلم في بلد الحرب فسباه المسلمون، أو خرج إليهم مسلما إلا إذا كان سيده حربيا كعبيد أهل الطائف الذين أسلموا أو خرجوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأعتقهم بخروجهم إليه، وإنما كان يصح جوابه لو خرج النصراني بالنصراني الذي اشترى إلى بلد الحرب ناقضا للعهد، فأسلم العبد في بلد الحرب، ثم غنمه المسلمون، ولو قدم السيد الحربي قبله بأمان فأسلم أو لم يسلم، ثم سبى العبد بعد ذلك، لتخرج على الاختلاف الواقع في المدونة وغيرها في تغليب حكم الدار، وقد ذكرنا ذلك في أول رسم المكاتب، من سماع سحنون، وفي سماع سحنون، ويأتي أيضا في رسم الجواب، من سماع عيسى، من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، وبالله التوفيق.
[مسألة: يجد الغنيمة في أرض العدو فيتركها ولا يأخذها]
مسألة وعن الرجل يجد الغنيمة في أرض العدو فيتركها ولا يأخذها(3/89)
كراهية أن تتعب ذاته بحملها إلى العسكر. فقال: أراه في سعة من ذلك، ولا يلزمه حملها إلا أن يكون. شيئا نفيسا من متاع أو جوهر، فلا أرى أن يتركه.
قال محمد بن رشد: أوجب عليه فيما كان شيئا نفيسا من متاع أو جوهر لا مؤنة عليه في حمله، إلى الذي تجمع عنده الغنائم في العسكر أن يحمله ولا يتركه يضيع، بخلاف اللقطة التي اختلف في الأفضل من أخذها، أو تركها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن تركها أفضل رجاء أن يرجع صاحبها فيجدها. والثاني: أن أخذها أفضل مخافة أن يتركها فيجدها من يذهب بها ولا يعرفها. والثالث: الفرق بين اليسير والكثير، والأول مذهب أبي عمران، والأخيران لمالك؛ لأن اللقطة إن أخذها لزمه تعريفها، وربما لم يجد صاحبها، وإن تركها ربما رجع عنها صاحبها فوجدها حيث سقطت منه، وهذا إن تركه ضاع، وإن أخذه لم يلزمه؛ لأنه يبرأ بدفعه إلى صاحب الغنائم، فهو كمن وجد لقطة يعلم صاحبها، ويوقن أنه إن تركها، ولم يأخذها؛ ضاعت، وبالله التوفيق.
[مسألة: سبى رومي جارية ممن بيننا وبينه هدنة هل يجوز شرائها ووطئها]
مسألة قال ابن القاسم: لو أن روميا أهدى إلي ابنته، لم يكن به بأس أن أطأها أو غير ابنته، ولو سبى رومي جارية ممن بيننا وبينه هدنة مثل النوبة وما أشبههم؛ لم ينبغ أن أشتريها ولا أطأها.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في التجارة إلى أرض الحرب من المدونة سواء، ومثل ما قد مضى لأشهب في سماع أصبغ، في جواز الارتهان، وليس ما مضى في سماع يحيى، بخلاف لشيء من ذلك على ما بيناه فيه.(3/90)
[مسألة: خرجوا إلى العدو فلما التقوا دفع علج منهم إلى رجل من المسلمين دنانير]
مسألة وعن قوم خرجوا إلى العدو، فلما التقوا دفع علج منهم إلى رجل من المسلمين دنانير، قال: هو أحق بها، قيل له: وإن دفعها إلى وال؟ قال: أما الوالي فلا أدري كأنه يراها فيئا للمسلمين.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في أول رسم من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يدخل أرض الإسلام ومعه رقيق مسلم أيباعون عليه فيعطى أثمانهم]
مسألة وعن الرجل من الروم يدخل أرض الإسلام بصلح في تجارة أو غير ذلك، فيدخل معه رقيقا له مسلمين، أيباعون عليه فيعطى أثمانهم، أم يعتقون، أم يقرون بيده يخرج بهم إلى أرضه، أم كيف يفعل بهم؟ قال: لا يتركون وذلك، ويمنعون من ذلك أشد المنع، يتقدم إليهم في النهي عن ذلك، فإن عادوا عوقبوا.
قال محمد بن أحمد: قد مضى في سماع سحنون أن لهم أن يرجعوا بهم إن شاءوا، ومثله في سماع سحنون من كتاب التجارة إلى أرض الحرب أيضا، وهو المعلوم من مذهب ابن القاسم، وقد مضى القول عليه في موضعين من سماع سحنون، وفي سماع من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، من قول ابن القاسم ما يعارض المعلوم من مذهبه في ذلك، وسنبين ذلك إذا مررنا به إن شاء الله.
[مسألة: اشترى امرأة من السبي فحملت منه ثم جاء أهلها يريدون لها الفداء]
مسألة قال ابن القاسم في رجل اشترى المرأة من السبي، أسرت فحملت منه، ثم جاء أهلها يريدون لها الفداء، أترى للسيد أن يفعل؟(3/91)
قال: لا، قيل له: فلو أعتقها؟ قال: فلا أرى بأسا أن يدفعها في الفداء بعد أن يستبرئ رحمها من مائه. قيل له: فلو كانت قد ولدت منه؟ قال: نعم.
قال محمد بن أحمد: أما إذا كانت حاملا منه، فلا إشكال في أنه لا يجوز أن يدفعها في فداء مسلم، ولا في مال يأخذه؛ لأن ولده منها في بلد الحرب يتنصر، أو ينصر إن فعل ذلك، وأما إذا أعتقها أو ولدها، فإنما يجوز أن يدفعها في فداء مسلم لا في مال يأخذه برضاهما على أن لا يسترقا، قال ذلك ابن أبي زيد قياسا على قول سحنون في إجازة دفع الذمي برضاه في فداء مسلم على ألا يسترق، وبالله التوفيق.
[مسألة: الأسير هل يجوز قضاؤه في ماله إذا قامت على قوله البينة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الأسير، هل يجوز قضاؤه في ماله إذا قامت على قوله البينة، أم لا يكون ذلك إلا في ثلث ماله، كيف الأمر في ذلك؟ قال: قال مالك: يجوز صدقته وعتق من رأس المال، قال مالك: وتجوز وصيته في ثلثه إذا قامت على ذلك بينة، وإنما تجوز صدقته وعتقه في المرض إذا قامت على ذلك بينة.
قال محمد بن رشد: إنما تجوز صدقته وعتقه من رأس ماله، إذا كان قد طال مكثه عندهم، وأمن من القتل، وأما إن كان ذلك في فور أسره وبقرب ذلك، فهو من الثلث كالذي يحبس للقتل، قاله ابن حبيب في الواضحة، وهو صحيح مفسر لقول ابن القاسم، وبالله التوفيق، حسبي الله ونعم الوكيل.
تم كتاب الجهاد بحمد الله وحسن عونه، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.(3/92)
[كتاب النذور الأول] [مسألة: المملوك يتقاضى من غريم سيده بدون إذنه ليقضي دينا عليه]
من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس مسألة أخبرنا ابن عمر قال: أخبرنا محمد التابعي قال: أخبرنا سحنون قال: أخبرنا ابن القاسم قال: سئل مالك عن مملوك لرجل حلف لغريم له، ليقضينه حقه إلى عشرة أيام، فلما مضت تسعة أيام ولم يقضه حقه خاف الحنث، فعمد إلى غريم لسيده فتقاضى منه بغير إذن سيده، فقضى غريمه، فلما علم السيد بعد أنكر ذلك، فأخذ من الغريم ما قضاه الغلام بغير إذن سيده، هل تراه حانثا؟ قال: أراه حانثا، وكذلك لو سرقها فقضاه إياها كان حانثا، قيل له: يا أبا عبد الله، أرأيت لو أجاز السيد بعد العشرة أيام؟ قال مالك: ما أرى من أمر بين، قال ابن القاسم في هذا أراه حانثا حين لم يجزه له قبل أن يقضي الأجل لأنه لو شاء أن يأخذ ما أعطاه عبده من ماله أخذه، فإنما وقع القضاء بعد الأجل.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة لا يخلو الأمر فيها من وجهين؛ أحدهما: أن يعلم السيد بذلك قبل العشرة الأيام. والثاني: أن لا يعلم بذلك إلا(3/93)
بعد العشرة الأيام، فأما إذا علم بذلك قبل العشرة الأيام، فإن أجاز ذلك بر العبد، وإن لم يجز وأخذ ديناره حنث العبد، إلا أن يقضي غريمه ثانية قبل العشرة الأيام، ولا اختلاف في هذا الوجه.
وأما إذا لم يعلم بذلك إلا بعد العشرة الأيام، ففي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: قول ابن القاسم هاهنا: أن العبد حانث، أجاز السيد الأمر أو لم يجزه، وأخذ ديناره إن لم يجزه، انتقض القضاء، فكأنه لم يكن، وإن أجازه فكان القضاء إنما وقع يوم الإجازة إذ كان له ألا يجيزه، وهو ظاهر ما في المدونة إذا استحق مستحق ما قضى، إذ لم يفرق فيها بين أن يأخذ المستحق ما استحق أو لا يأخذ، وظاهر ما في نوازل سحنون في مسألة السوار، وعلى قياس هذا يأتي قول أشهب في العبد يباع بيعا فاسدا قبل يوم الفطر، فيمضي يوم الفطر وهو بيد المشتري لم يفت أن الفطرة فيه على البائع، وإن فات بعد يوم الفطر، فلزمت المشتري فيه القيمة ولم يرد إليه. والثاني: قول ابن كنانة: إنه إن أجاز السيد القضاء بر العبد في يمينه، وإن لم يجز وأخذ ديناره حنث؛ لأنه إن رد وأخذ ديناره انتقض القضاء، وإن أجازه فكأنه لم يزل جائزا من يوم وقوعه على أصولهم فيمن اغتصب عبدا فباعه وأعتقه المشتري، ثم استحقه سيده أنه إن أجاز البيع نفذ عتق المشتري فيه؛ لأن البيع كأنه لم يزل جائزا من يوم وقوعه، وإن لم يجزه وأخذ عبده انتقض العتق، ولهذا المعنى توقف مالك في الإجازة فقال: ما أرى من أمر بين، وعلى قياس هذا يأتي قول ابن الماجشون في العبد يباع قبل يوم الفطر بيعا فاسدا، فيمضي يوم الفطر، وهو بيد المشتري لم يفت أنه إن نقض البيع فيه ففطرته على البائع، وإن لم ينقض لفواته عند المشتري، وإن بعد يوم الفطر ففطرته على المشتري.
والقول الثالث: أنه لا حنث على العبد أجاز السيد القضاء أو لم يجزه وأخذ ديناره؛ لأن الأجل ما مضى، إلا وقد اقتضى الغريم حقه(3/94)
وذلك في ضمانه، ولو تلف كانت مصيبته منه، فوجب أن يبر العبد بذلك، وإن لم يجز السيد ذلك وأخذ ديناره، وهو قول أشهب في سماع أصبغ بعد هذا في الذي عليه لرجل طعام من ابتياع إلى أجل فيحلف ليقضينه إياه قبل الأجل، فيقضيه طعاما ابتاعه قبل أن يستوفيه، فلا يعلم ذلك إلا بعد الأجل أن القضاء يفسخ ويبر الحالف بيمينه بذلك القضاء الفاسد، وإن نقض لكون المحلوف عليه ضامنا لما قبض، وعلى قياس هذا يأتي قول ابن القاسم في مسألة العبد يباع فاسدا، فيمضي يوم الفطر، وهو عند المشتري أن فطرته عليه؛ لأن ضمانه منه، ونفقته عليه، وإن رده على البائع بعد يوم الفطر.
وقول ابن القاسم أولى الأقوال بالصواب؛ لأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، وهذا الاختلاف كله إنما هو إذا قامت البينة على الدينار بعينه عند الغريم أنه هو الذي سرقه العبد أو اقتضاه من غريم سيده فقضاه إياه على القول بأن الدينار يتعين، وأما إذا لم تقم عليه بينة، أو قامت عليه بينة على القول بأن الدينار لا يتعين، وهو قول أشهب وأحد قولي ابن القاسم في المدونة، فلا يكون للسيد على غريم العبد سبيل، ويرجع على عبده بالدينار، وإن كان وكيلا له على الاقتضاء أو على غريمه إن كان العبد متعديا في الاقتضاء، ويبر العبد في يمينه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف أن لا ينفع فلانا بشيء هل يأخذ من صدقته]
مسألة وسئل مالك عن رجل حلف أن لا ينفع فلانا بشيء، والذي حلف وصي لرجل قد أوصى أن يقسم على المساكين أوسقا من ماله لفلان وفلان، والذي حلف عليه أن لا ينفعه منهم، هل ترى أن يجري تلك الصدقة على يديه، كالذي أوصى به صاحبه، فيكون هذا(3/95)
قد انتفع بذلك مما جرى على يد الحالف الذي حلف ألا ينفعه؟ قال: ذلك إلى نيته، وإن كان إنما نوى ألا ينفعه بشيء هو له بعينه، أو يعطيه إياه، ولعله أن يكون قد كانت تكون إليه أشياء غير واحدة من صنائع المعروف، فإن كانت هذه نيته، فليس عليه بأس أن يدفع إليه دينا له قبله أو ميراثا أو وصية، أو ما كان مما لا يكون من مال الحالف، قال ابن القاسم: وإن لم تكن له نية، فلا يجري عليه شيئا، وهو وجه ما سمعت من مالك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه عم جميع الوجوه والمنافع كانت من ماله أو من مال غيره بحلفه ألا ينفعه بشيء، فوجب أن يحنث بإجراء تلك الصدقة عليه؛ لأنها داخلة تحت عموم لفظه، إلا أن تكون له نية في أنه إنما أراد ألا ينفعه بما له، فتكون له نيته التي نوى، ويصدق فيها، وإن لم تكن كانت إليه منه قبل ذلك صنيعة من صنائع المعروف، إذ لم يجعل ذلك شرطا في قبول نيته، وإنما قال: ولعله أن يكون قد كانت إليه منه شيئا من صنائع المعروف، فيكون ذلك بينا في قبول نيته، وهذا إذا كانت يمينه التي حلف بها مما لا يقضى عليه بها، وأما إن كانت يمينه التي حلف بها بعتق أو طلاق وما أشبه ذلك مما يقضى به عليه، فلا ينوى، ويحكم عليه بالعتق أو الطلاق إلا أن يكون قد كانت إليه منه قبل ذلك أشياء من صنائع المعروف، فينوى فيما ادعاه مع يمينه هذا الذي يأتي في هذا على أصولهم، إذ من قولهم: إن من ادعى نية مخالفة لظاهر لفظه فيما يحكم به عليه لا يصدق فيها إلا بسبب يدل على صدق قوله.(3/96)
وقال مالك فيمن سيم بسلعة له، فأعطي بها عشرة، فقال: والله ما قامت علي بعشرة، وقد قامت عليه بدون العشرة، فلا ينبغي إلا أن يكون ينوي الكراء والمؤنة، فذلك له مخرج وإن لم يسمه.
قال محمد بن رشد: الأصل في معرفة ما يحتاج فيه من ذلك إلى النية مما لا يحتاج فيه إلى النية أن ما كان في السلعة عينا قائمة يحسب في المرابحة، ويحسب له ربح كالصبغ والكمد والفتل، وما أشبه ذلك، فهذا لا يحنث إن قامت عليه السلعة دون أن يحسب هذه الأشياء بدون العشرة إذا كانت قد قامت عليه بها بفوق العشرة، وإن لم تكن له نية، وأما ما سوى ذلك مما يحسب في أصل الثمن، ولا يحسب له ربح، أو لا يحسب رأسا فهو حانث، إلا أن ينويه، ولو كانت يمينه بغير الله مما يقضى به عليه؛ لوجب على أصولهم ألا ينوى إلا فيما يحسب ولا يحسب له ربح، إلا فيما لا يحسب رأسا كنفقة نفسه، وكراء ركوبه، وما أشبه ذلك.
[مسألة: حلف ألا يدخل بيتا بليل فدخل بعد الفجر]
مسألة قال مالك: من حلف ألا يدخل بيتا بليل، فدخل بعد الفجر لم يحنث، وإن كان قد قال نهارا فقد حنث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن النهار في الشرع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» ، فبين بذلك أن طلوع الفجر آخر الليل وأول النهار، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(3/97)
«إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم» ، فبين بذلك أيضا أن غروب الشمس آخر النهار وأول الليل، فوجب أن لا يحنث من حلف ألا يدخل بيتا بليل إذا دخله بعد الفجر، وألا يحنث من حلف ألا يدخل بيتا بنهار إذا دخله بعد غروب الشمس، ولولا وجوب اتباع ما أحكمه الشرع من هذا؛ لوجب أن يحنث الذي يحلف ألا يدخل بيتا بليل إذا دخله بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، كما يحنث إذا دخله بعد غروب الشمس وقبل مغيب الشفق؛ لأن الذي يوجبه النظر أن يكون النهار من طلوع الشمس إلى غروبها، والليل من غروبها إلى طلوعها، إلا أن ينوي ألا يدخله في ظلام الليل، أو يكون ليمينه بساط يدل على ذلك، فيحنث إن دخله بعد الفجر أو قبل مغيب الشفق على معنى مما لأصبغ في نوازله، من كتاب الأيمان بالطلاق، في الذي يحلف: لتدخلن عليه امرأته ليلة الجمعة، فدخلت عليه بعد الفجر من تلك الليلة، أنه لا حنث عليه إن كانت عادة الناس في تلك البلدة إدخال النساء على أزواجهن بعد طلوع الفجر، وبالله التوفيق.
[مسألة: حكم ما أوجب العبد على نفسه من النذر والحدود]
مسألة وقال مالك في العبد يجعل على نفسه الشيء في سبيل الله، ثم يجيء العلم أنه حر حين جعل ذلك على نفسه أن ذلك عليه، وكذلك الحدود.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما أوجب العبد على نفسه من النذر والحدود يجب أن يلزمه، ولا يسقط عنه منها شيء يظنه أنها لا تجب(3/98)
عليه؛ لأنه لم يعتق، كما يجب على الحر البالغ ما أوجب على نفسه من ذلك، ولا يسقط عنه شيء منه، يظنه أنها لا تجب عليه؛ لأنه لم يبلغ، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لشيء من ماله دابة أو عبد أهديك]
مسألة وقال مالك: من قال لشيء من ماله دابة أو عبد أهديك، فهو مخير في قيمته أو ثمنه ما بلغ يجعله في هدي.
قال محمد بن رشد: قال في المدونة فيمن أهدى عبده: إنه يخرج بثمنه هدايا، فذهب بعض أهل النظر إلى أن ذلك خلاف لهذه الرواية، إذ لم يقل: إنه يخرج بثمنه أو بقيمته هدايا كما قال في هذه الرواية، وخلاف لما في رسم البز، من سماع ابن القاسم، من كتاب الصدقات والهبات، في المرأة التي جعلت خلخالين لها في سبيل الله إن شفاها الله من مرض، أنه كره لها أن تحبسهما وتخرج قيمتهما.
وقال سحنون: إنما كره من أجل الرجوع في الصدقة؛ وليس ذلك عندي على ما ذهب إليه، بل هذه الرواية مفسرة لما في المدونة، وما في رسم البز من كتاب الصدقات والهبات، مسألة أخرى فلا اختلاف في شيء من ذلك، فإذا أهدى الرجل ما أهدى من الإبل والبقر أو الغنم، أو جعل في سبيل الله ما ينتفع بعينه فيه من الخيل والسلاح، فلا اختلاف في أنه لا يجوز له أن يمسكه، ويخرج قيمته؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعمر بن الخطاب في الفرس كان حمل عليه في سبيل الله، ثم أراد ابتياعه: «لا تشتره، ولا تعد في صدقتك» ؛ لأن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه، وإذا أهدى ما لا يمكن أن يهدى من ثوب أو عبد، فجائز أن يمسكه ويخرج قيمته إذا لم يتعين في عينه حق الله، وإنما يجب على من أهداه إخراج العوض عنه، وإذا جعل في السبيل ما لا ينتفع فيه بعينه، ولا بد من بيعه؛ لينفق ثمنه في السبيل كالخلخالين وشبههما، فيكره له إخراج قيمة ذلك وإمساكه من(3/99)
ناحية الرجوع في الصدقة؛ لإمكان إخراجه بعينه في السبيل، وليس ذلك بحرام، إذ لا ينتفع بالذي أعطيه في السبيل بعينه، فعلى هذه الثلاثة الأقسام ينقسم هذا الباب.
[مسألة: حلف ألا يقضي الحق الذي عليه حتى يسجنه فيه الطالب]
ومن كتاب أوله سلعة سماها مسألة وعن رجل كان له على رجل حق فمطله بذلك، فقال الذي عليه الحق: عليه عتق ما يملك إن قضاه حتى يسجن له ثم يسجن، يريد بذلك أياما، وحلف الآخر بالعتق إن أنظره إلا أن ينظره السلطان، فارتفع إلى السلطان، فضرب له الأجل أياما، فلما كان في آخر الأجل تغيب عنه، فقال له عمه: أنا أقضيك حقك عنه، أفترى عليه شيئا؟ قال: ما أرى بذلك بأسا أن يقتضي من عمه، وقال: ليس عليه حنث، وإن علم بقضاء العلم عنه غير أن اليمين عليه في قضائه عنه كما كانت لصاحب الحق لا يقضيه حتى يسجن أياما كمن حلف وإلا حنث.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة؛ لأن الأيمان إنما هي على المعاني فيها والمقاصد بها، فالذي حلف ألا ينظر غريمه حتى يأخذ حقه منه لا شيء عليه إن قبضه من غيره؛ لأنه إنما أراد ألا ينظره حتى يصل إليه حقه، والذي حلف ألا يقضي الحق الذي عليه حتى يسجنه فيه الطالب تلزمه اليمين لمن قضاه عنه؛ لتحول الحق الذي حلف ألا يقضيه حتى يسجن فيه إليه، ولا يحنث بعلمه بقضاء الحق عنه؛ إذ ليس له أن يمنعه من ذلك، وقال: إنه لا يقضي الحق الذي عليه لعمه الذي قضاه عنه حتى يسجن له فيه أياما ظاهره في مرة واحدة، وإنما رأى أنه يبر بذلك؛ لأنه قال في السؤال يريد بذلك(3/100)
أياما، وروي عن ابن القاسم في غير العتبية أنه قال: أحب إلي أن يقيم في كل مرة يوما وليلة، ثم يطلق، ثم يستعدى عليه فيسجن كذلك حتى يسجن ثلاث مرات، ولا معنى لهذا الاستحباب؛ لأنه إن كان أتى مستفتيا فله نيته، وإن كان مشهودا عليه ومخاصما، فيتخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: وهو الأصح منهما أنه يبر حتى يسجن ثلاث مرات يقيم في كل منها يوما وليلة فأكثر. والثاني: أنه يبر ويسجن مرة واحدة إذا أقام فيه أياما، والأصل في هذا اختلافهم في الذي يقول: إذا حملت امرأتي فهي طالق وهي حامل، هل التمادي في الحمل كابتداء حمل وتطلق عليه أم لا تطلق عليه إلا إذا حملت حملا آخر، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يعين بطعام ولا بزيت]
مسألة وسئل مالك عن رجل حلف ألا يعين بطعام ولا بزيت، فكان زيت مقتته أترى أن يعين به؟ فقال: لا أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: يعني بمقتت مطيب، يريد بأشجار الأرض، لا بصريح الطيب، ومثله لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المجموعة، وقال غيره فيها: إن نوى الزيت خاصة لم أبلغ به الحنث؛ لأني أكره بعضه ببعض متفاضلا، كما أكره التفاضل في السرح والزنيق، ولم ير مالك ما يقتت بأشجار الأرض يخرج من صنفه، وإنما يخرج ذلك إذا طيب بصريح الطيب كالمسك والعود وشبهه، وقول غير مالك في المجموعة: إن نوى الزيت خاصة لم أبلغ به الحنث لا معنى له؛ لأن اللفظ أقوى من النية، وهو قد لفظ بالزيت، فالجواب(3/101)
فيه أنه يحنث بالزيت المطيب ما لم يخرجه ما فيه من الطيب عن صنفه، حتى يجوز فيه التفاضل إلى أجل إلا أن ينوي الزيت الخالص، فلا يحنث بالمطيب على حال إذا أتى مستفتيا، والله أعلم.
[مسألة: حلف بعشرين نذرا إن قبل لأبيه هبة أبدا وأبوه الذي يمونه]
مسألة وسئل عمن حلف بعشرين نذرا إن قبل لأبيه هبة أبدا، وأبوه الذي يمونه قال: هل جعل لذلك مخرجا من صيام أو حج؟ قال: لم يجعل لذلك مخرجا من صيام ولا حج، إنما كانت مسجلة، قال: يكفر عشرين يمينا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما يمونه به هبة له، فقبوله منه ذلك بعد يمينه قبول لهبته، إلا أن ينوي سوى ما يمونه به، أو يكون ليمينه بساط يدل على ذلك، فلا يحنث في استمرار مؤنته إياه، وقوله له: إنه يكفر عشرين يمينا إذا حنث، ولم يسم لنذره مخرجا، صحيح على ما في المدونة وغيرها أن من نذر نذرا، ولم يجعل له مخرجا، فكفارته كفارة يمين، وقد روي ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، من رواية عقبة بن عامر الجهني، ولم يختلف فيمن قال: علي نذر ثلاثة أو أربعة إن فعلت كذا، ولا نية له، فحنث أن عليه ثلاث كفارات أو أربعا، واختلف إذا قال: علي ثلاثة أيمان أو أربعة إن فعلت كذا وكذا، فحنث فقيل: عليه ثلاث كفارات أو أربع، وقيل: عليه كفارة واحدة، إلا أن ينوي ثلاث كفارات أو أربعا، حكاه ابن أبي زيد، عن ابن المواز.
[مسألة: حلف في بيع طعام ألا يزيد في عامه هذا على ثلاثة أرادب]
مسألة وسئل عن رجل حلف في بيع طعام ألا يزيد في عامه هذا على ثلاثة أرادب وويبتين بدينار، فبعث إليه أخ له بذهب يبيعه به(3/102)
طعاما بعشرين دينارا، فكتب إليه أني قد بعتك بثمانية عشر دينارا، ثلاثة أرادب وويبتين لكل دينار، وبدينارين حمص وجلبان بأكثر مما يكون به سعرهما، يكون قد جعل الدينار له دينارين أو ثلاثة في رخصه، قال: أراه قد حنث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا رخص له فيما باعه إياه من الحمص والجلبان مع الطعام في صفقة واحدة، فقد رخص له في الطعام، وزاد له في سعره على ثلاثة أرادب وويبتين فحنث، والله الموفق.
[مسألة: دخل على امرأته فوجد عندها قرابة لها فعاقبها فحلفت بالمشي إلى بيت الله]
مسألة وسئل عن رجل دخل على امرأته فوجد عندها قرابة لها، فعاقبها في ذلك، وغضبت فحلفت بالمشي إلى بيت الله إن دخل عليها منهم أحد، فمات أو طلقها أترى لها أن تدخلهم عليها، فقال: أرى أن تنوى، فإن كانت إنما أرادت بذلك ألا تدخلهم وهي عنده، لم أر عليها شيئا، وقيل له: أرأيت إن لم تحضرها نية، قال: فأحب إلي أن تأخذ بالاحتياط، وألا تدخلهم عليها.
قال محمد بن رشد: إذا لم يكن لها نية، فالواجب أن ينظر إلى ما قرن يمينها من عتاب زوجها إياها، فإن كان إنما عاتبها لعصيانها إياه في أن تدخلهم بيتها، وهو يكرههم ويشنأهم، فلا حنث عليها بعد موته أو طلاقه، وإن كان إنما عاقبها لما كره لها من مخالطتها إياهم فهي حانثة إن أدخلتهم عليها بعد موته أو طلاقه، وإن لم يتحقق أحد الوجهين كان الاستحباب أن تأخذ بالاحتياط كما قال مالك.(3/103)
[مسألة: يسأل عن الأمر فيقول علي صدقة أو مشي وهو كاذب]
مسألة وسئل عن الرجل يسأل عن الأمر فيقول: علي صدقة أو مشي، وهو كاذب، إنما أراد بذلك أن يمنعه، فقال: لا شيء عليه، إنما يكون ذلك عليه في العتق والطلاق، يعني إذا قامت على ذلك بينة.
قال محمد بن رشد: هذا بين كما قال: إن ما لا يحكم به عليه، فهو موكول إلى أمانته، وحسابه على الله، يوم تبلى السرائر.
[مسألة: حلف لامرأته أنت علي حرام إن أنفقت عليك حتى تستأذني علي]
مسألة وسئل عن رجل حلف لامرأته: أنت علي حرام إن أنفقت عليك حتى تستأذني علي، وقالت الأخرى: مالي في المساكين صدقة إن استأذنت عليك، فكيف ترى؟ قال: هو كما قالا، واليمين عليهما، فإن شاءت أن تقيم تنفق على نفسها فعلت، قيل له: فإن استأذنت قال: أرى أن تخرج ثلث مالها فتتصدق به، فقيل له: أفترى على زوجها بأسا إن هي استأذنت أن ينفق عليها أكثر من قوتها؟ قال: لا بأس بذلك، إلا أن يكون نوى ذلك حين حلف ألا ينفق عليها أكثر من قوتها، وإن لم تكن له نية، فلا أرى ذلك عليه إذا استأذنت عليه وأنفق عليها، إنما أراد ألا ينفق، ولم يرد ألا يفضل، فلا أرى عليه شيئا إلا أن يكون نوى ذلك.
محمد بن أحمد: وهذا كما قال؛ لأنه إنما حلف على الإنفاق، ولم يحلف على الإفضال؛ إذ ليس مما يستأذن عليه فيه، فإذا استأذنت عليه في الإنفاق، لم يكن عليه شيء في الإفضال.(3/104)
[مسألة: يكون بينه وبين الرجل الدار فيحلف ألا يبيعه صفقة ثم يريد بيعه]
مسألة وسئل عن الرجل يكون بينه وبين الرجل الدار، فيحلف بيمين غليظة ألا يبيعه صفقة، ثم يريد بيعه بعد ذلك، فيقول: إني إذا بعت أخذ صاحبي بالشفعة، فهل ترى عليه حنثا؟ قال: أرى أنه لا يبيعه ممن يظن أنه إنما يشتريه له أو من ناحيته. فقال: لا، ليس هو منه بسبيل إلا رجل يشتري لنفسه أخذ ذلك أو ترك، إلا أنه يقول الحالف: علي في يميني شيء إن أخذ، فقال: لا شيء عليه، وذلك أن تباعة بيعه على الذي يأخذ منه، ولو أراد أن يجعل تباعته على شريكه الأول وكتابة عهدة شرائه عليه، لم يكن ذلك له، فلا أرى عليه شيئا في يمينه.
قال محمد بن رشد: هذا بين أنه إذا لم يكن الذي باع منه وكيل شريكه المحلوف عليه، أو من هو بسببه وناحيته كالصديق، والملاطف وشبهه ممن هو في عياله أنه لا حنث عليه؛ لأنه لم يره في المدونة حانثا، وإن اشترى للمحلوف عليه، فكيف إذا اشترى لنفسه فأخذه ذلك منه المحلوف عليه بالشفعة، فإن كان وكيله أو من سببه، فباع منه ولم يعلم بذلك، فنص في المدونة في الوكيل على أنه إذا لم يعلم أنه له وكيل، فلا حنث عليه، وكذلك قال أشهب فيمن هو بسببه أنه إذا باع ولم يعلم أنه من سببه، فلا حنث عليه، روى ذلك عن مالك.
وقد تأول بعض الناس على ما في المدونة أنه حانث، وإن لم يعلم أنه من سببه، بخلاف الوكيل وهو بعيد؛ إذ لا فرق في ذلك بين الوكيل وبين من هو بسببه، والله أعلم، وعلى تعليله في هذه المسألة بالتباعة أن يحنث إن اشترى للمحلوف عليه لا لنفسه، وإن لم يكن من سببه؛(3/105)
لأن تباعته تكون عليه، فكيف إذا كان من سببه ولم يعلم بذلك؟ وابن حبيب يقول في الوكيل ومن هو بسببه: إنه حانث، وإن لم يعلم أنه وكيل ولا أنه من سببه، ولا يرى أنه يكون من سببه إلا من يقوم بأمره من وكيل أو قريب، وأما من لا يقوم له بأمر وإن كان صديقا أو جارا، فهو عنده كالأجنبي، وقوله: إن تباعة الشفيع على المشتري، وليس له أن يجعلها على البائع هو المعلوم في المذهب، وقد وقع في كتاب الشفعة من المدونة لفظ يدل على أنه مخير في أن يجعل عهدته على من شاء منهما، والأول هو الصحيح في المذهب، وسواء كان المشتري قبض أو لم يقبض، قال أبو حنيفة: إن قبض الشقص من يد المشتري فعهدته عليه، وإن قبضه من يد البائع فعهدته عليه، وقال ابن أبي ليلى: العهدة على البائع بكل حال، والله الموفق.
[مسألة: جعلت لزوجها عند موته أن مالها في سبيل الله وأن عليها عشرة نذور]
مسألة وسئل عن امرأة جعلت لزوجها عند موته أن مالها في سبيل الله، وأن عليها عشرة نذور، قال ابن القاسم: ولا أعلم إلا أن في المسألة وعليها عهد الله إن تزوجت ووكلها بولده، وقد كان سألها ذلك في وصيته أن عليها ذلك، وأنه أعطاها خلافته على ولده منها بذلك على أن لا تتزوج حتى يبلغ ولده، وأنها تزوجت الجارية، وبقي الغلام وهو صغير، قال: أرى عليها الوفاء بالعهد الذي جعلت من ذلك، ولا أعلم لها كفارة، فإن الله يقول: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] ، وإنما جعلت ذلك له بالذي أعطاها، فقيل له فإن هي تزوجت أترى خلافتها من ولدها تنفسخ؟ قال: نعم؛ لأنها تركت الذي أعطاها، وإنما(3/106)
استحلفها للذي أعطته، فقيل له: فإن هي فعلت فما كفارتها؟ فقال: لا أعلم لها كفارة، وأرى إن توفي بالذي عاهدته عليه، وكأنه قال هو عهد.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها تنفسخ خلافتها على ولدها إن تزوجت صحيح؛ لأنه إنما استخلفها على ولدها ألا تتزوج، فذلك بمنزلة قوله في وصيته: إن تزوجت فلا وصية لها، ولو استخلفها على ولدها بغير شرط، وقال في وصيته: إن تزوجت فانزعوا الولد منها فتزوجت، قال مالك: إن عزلتهم في مكان عندها مع نفقة وخادم فهي أولى بهم، وإلا نزعوا منها.
قال محمد بن المواز: لأن الميت لم يقل: إن تزوجت فلا وصية لها، وإنما قال: إن تزوجت فانزعوا الولد منها، وقوله: إنه لا كفارة لها في العهد الذي عاهدته عليه صحيح، ومثله في كتاب ابن المواز والواضحة؛ أن العهد إذا لم يخرج مخرج اليمين، وإنما خرج مخرج المعاهدة والمعاقدة، مثل أن يقول الرجل للرجل: لك علي عهد لله أن أنصحك، وألا أخونك، وألا أفعل كذا وكذا، فهو أعظم من أن يكون فيه كفارة، فيلزمها إذا تزوجت أن تتوب إلى الله، وتستغفره وتتقرب إليه بما استطاعت من الخير، وتكفر عشرة أيمان؛ لقوله: وعليها عشرة نذور، وتجعل ثلث مالها في السبيل لما أوجبته على نفسها من أن مالها في سبيل الله، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال كل مملوك لي حر إن أخبرت به أحدا واستثنى في نفسه إلا فلانا]
ومن كتاب أوله شك في طوافه مسألة وسئل عن رجل سأل رجلا أمرا يخبره قال: فاحلف لي أنك لا تخبره أحدا ولتكتمنه، قال: كل مملوك لي حر إن أخبرت به أحدا(3/107)
واستثنى في نفسه إلا فلانا، قال: لا أرى ذلك له، ولا أرى الثنيا إلا ما حرك به لسانه، فأما استثناؤه في نفسه، فلا أرى ذلك له ثنيا، وسئل مالك عن هذا فقال: إذا حرك به لسانه فله ثنياه، فقيل لابن القاسم: وإن لم يعلم المحلوف له، قال: نعم، وليس عليه أن يعلمه، وسئل عنها سحنون فأنكرها، وقال: ليست له ثنيا وإن حرك لسانه؛ لأن اليمين للذي استحلفه.
قال محمد بن رشد: قوله في الاستثناء بإلا لا أرى الثنيا إلا ما حرك به لسانه، هو المشهور في المذهب أنه لا بد فيه من تحريك اللسان، وقد روى أشهب عن مالك بعد هذا في رسم الجنائز والنذور: أن النية تجزئ في ذلك، وقاله ابن حبيب في الذي يحلف بالحلال عليه حرام، ويستثني في نفسه إلا امرأته، وقول ابن القاسم: إن استثناءه ينفعه إذا حرك به لسانه، وإن لم يعلم المحلوف له، وليس عليه أن يعلمه نص منه في أن اليمين على نية الحالف لا على نية المحلوف له، وذلك خلاف رواية عيسى عنه في رسم حمل صبيا من سماعه، من كتاب الأيمان بالطلاق، وخلاف قول سحنون هاهنا، ومثل ما لمالك في رسم البز، من سماع ابن القاسم، من كتاب الأيمان بالطلاق، ولابن وهب في سماع زونان وعيسى من الكتاب المذكور، وقد اختلف في هذا اختلافا كثيرا، فقيل: إن اليمين على نية الحالف، وقيل: إنها على نية المحلوف له، وقيل: إن كان مستحلفا فاليمين على نية المحلوف له، وإن كان متطوعا فاليمين على نية الحالف، وهو قول ابن الماجشون وسحنون، وقيل بعكس هذه التفرقة، وهو دليل ما في سماع عيسى، عن ابن القاسم، في رسم أوصى، من هذا الكتاب، ونص رواية يحيى، عن ابن القاسم في الأيمان بالطلاق، وقيل: إنما يفترق أن يكون مستحلفا أو متطوعا باليمين فيما يقضى به(3/108)
عليه، وأما فيما لا يقضى به عليه فلا يفترق ذلك، وتكون النية نية الحالف، وهو قول ابن القاسم في أول سماع أصبغ بعد هذا، وقيل: إن ذلك لا يفترق أيضا، وتكون النية في الوجهين نية المحلوف له، وهو قول أصبغ في سماعه المذكور، وهذا ما لم يقتطع بيمينه حقا لغيره، فإن اقتطع بها حقا لغيره فلا تنفعه في ذلك نية إن نواها بإجماع، وهو آثم، عاص لله عز وجل، داخل تحت الوعيد، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اقتطع حق امرئ مسلم، حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار» الحديث.
[مسألة: حلف بالله لأفعلن كذا وكذا فقيل له إنك ستحنث فقال لا والله لا أحنث]
مسألة وسئل مالك عن رجل حلف بالله: لأفعلن كذا وكذا، فقيل له: إنك ستحنث، فقال: لا والله لا أحنث فما ترى عليه؟ فقال: عليه كفارتان.
قال محمد بن رشد: يريد عليه كفارتان إن حنث، كفارة لحنثه في يمينه ليفعلن، وكفارة ثانية لحنثه أيضا في يمينه، والله لا أحنث، وقد قيل: ليس عليه إلا كفارة واحدة، وهو قول ابن القاسم في المبسوطة، قال: لأن الكلام في ذلك في معنى واحد وجه القول الأول أن يمينه الثانية لما كانت على غير لفظ اليمين الأول، لم تحمل أنه أراد بها التأكيد لها، وحملت على أنه أراد يمينا أخرى يوجبها على نفسه كالنذر إن حنث، كأنه قال: علي كفارة أخرى إن حنثت لما قيل له: إنك ستحنث، ويجب عليك الكفارة، ووجه القول الثاني أن اليمين الثانية لما كانت بغير لفظ اليمين الأولى وفي معناها، حملت على أنه أراد بها غيرها، وقد قال في المدونة: إذا نوى باليمين الثانية غير الأولى، فعليه(3/109)
يمين واحدة، حتى يريد إيجاب الكفارتين على نفسه كالنذور، والأصل براءة الذمة، فلا توجب عليه كفارة ثانية إلا بيقين.
[مسألة: باع سلعة فحلف ألا يضع من ثمنها شيئا فأوفاه المشتري ثمنها]
ومن كتاب أوله ليرفعن أمرا مسألة وسئل مالك عن رجل باع سلعة، فحلف ألا يضع من ثمنها شيئا، فأوفاه المشتري ثمنها، ثم قال له بعد ذلك: هب لي ما شئت، فقال مالك: إن كانت عليه يمينه غليظة، فلا يفعل ولا يهب شيئا، وإن كانت يمينا يكفرها، فليفعل وليكفر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما رد إليه في المجلس من الثمن الذي قبضه منه، فكأنه لم يقبضه منه؛ إذ لم ينتفع به، والحالف ألا يضع من حقه شيئا، إنما مقصوده قبض جميع حقه، ليبين به وينتفع به، فوجب أن يحنث على أصولهم في أن الأيمان يراعى فيها قصد الحالف بها، لا مجرد لفظه، وسيأتي له نحو هذا في رسم الجنائز، من سماع أشهب، في الذي يحلف ألا يضع في بيع سلعته من كذا وكذا، فيبيع بما حلف عليه، ثم يضع له من الثمن في المجلس؛ إذ لا فرق بين المسألتين عنده، ولو رد إليه من الثمن شيئا أو وضعه عنه في غير المجلس بنية حدثت له في هبته، وأتى مستفتيا لنوي، ولم يكن عليه حنث على أصولهم، ولو كانت يمينه بعتق أو ما يقضى به عليه لم يصدق إلا بعد اليومين أو الثلاثة مع يمينه، قاله مالك في رسم طلق، من سماع ابن القاسم، من كتاب العتق، وهو على أصله في المدونة في مسألة الصرف من كتاب الصرف، ومسألة القراض من كتاب القراض، وغير ما مسألة من الحكم بالذرائع، وبالله التوفيق.(3/110)
[مسألة: حلف إن نام حتى يوتر فعليه صدقة دينار فنام ليلة من ذلك قبل أن يوتر]
مسألة وسئل مالك عن رجل حلف إن نام حتى يوتر فعليه صدقة دينار، فنام ليلة من ذلك قبل أن يوتر، أترى عليه في ليلة أخرى إن نامها شيئا، أم قد أجزأ عنه الأمر الأول؟ قال: ذلك إلى ما نوى، وهو أعلم بما أراد به من ذلك، وما رأيت أحدا يفعل هذا الوجه ليس الوتر أعني، ولكن ما يوجب على نفسه في غير هذا من هذه الأشياء، إلا أن عليه في كل ما فعل ما حلف عليه، وما يريد أحد في مثل هذه الأشياء مرة واحدة، إلا أن ينويه.
قال محمد بن رشد: هذه الرواية مخالفة لما في المدونة، من ذلك مسألة من حلف ألا يكلم رجلا عشرة أيام، فكلمه فحنث، ثم كلمه مرة أخرى بعد أن كفر أو قبل أن يكفر، أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة، ومخالفة أيضا لجميع روايات العتبية، من ذلك أول مسألة من سماع أشهب، في الذي يحلف إن أبق غلامه ليضربنه، ومن ذلك أول مسألة من رسم من باع غلاما، من سماع ابن القاسم، من كتاب طلاق السنة، وأول مسألة من رسم شك، من سماع ابن القاسم، من كتاب الأيمان بالطلاق، في الذي يحلف إن خرجت امرأته إلى بيت أهلها أن يضربها، فخرجت فضربها؛ أنه ليس عليه أن يضربها مرة أخرى، إلا أن ينوي ذلك، ومسألة في سماع أبي زيد، من هذا الكتاب المذكور، وهذا الاختلاف جار على اختلاف الأصوليين في الأمر المقيد بصفة هل يقضي تكراره بتكرار الصفة أم لا؟ فمسألة الوتر على القول بوجوب تكراره بتكرار الصفة؛ لأنه أوجب عليه صدقة دينار لكل ليلة نام فيها قبل أن يوتر، إلا أن ينوي مرة واحدة، وكذلك ما يوجب على نفسه من هذه الأشياء، ومسايل(3/111)
المدونة والعتبية على القول بأن الأمر لا يجب تكراره بتكرار الصفة؛ لأنه لم يوجب عليه ما حلف به كلما تكرر الفعل الذي جعله شرطا فيما حلف به، إلا أن ينوي ذلك.
[مسألة: حلف على جاريته بعتق ما يملك في عود كان في يده ليكسرنه]
ومن كتاب طلق ابن حبيب مسألة وسئل عن رجل حلف على جارية له بعتق ما يملك في عود كان في يده ليكسرنه على رأسها، فكسر العود ثم ضربها حتى انفلق، قال: أرى أن قد وقع عليه الحنث، ولا أراه بر.
قال محمد بن أحمد: هذا بين كما قال؛ لأن الذي فعل ليس هو المعنى الذي حلف عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يساكن رجلا فسافر معه]
مسألة وسئل عن رجل حلف ألا يساكن رجلا، فسافر معه، قال: أرى أن ينويه ما أراد، وإن جل ما يحلف الناس فيه لما يدخل بين الناس في العيال والولد، وما السفر من السكنى، ولكن أرى أن ينوى ما أراد، قال عيسى: قلت لابن القاسم: فإن لم تكن له نية؟ قال: فلا شيء عليه، إلا أن يكون نوى شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على ما في المدونة، في الذي يحلف ألا يساكن رجلا، فزاره أن الزيارة ليست سكنى، وينظر إلى وجه يمينه،(3/112)
فإن كان لما يدخل بين العيال والصبيان فهذا حق، وإن كان أراد التنحي عنه فهو أشد، فكذلك هذه المسألة، لا حنث عليه إلا أن يكون أراد مجانبته والتنحي عنه، وهو معنى بين.
[مسألة: حلف بالمشي إلى الكعبة ليقضين فلانا ثم هلك الذي حلف عليه]
ومن كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسألة وسئل عن رجل حلف بالمشي إلى الكعبة ليقضين فلانا، ثم هلك الذي حلف عليه، قال مالك: إن كان إنما حلف على وجه القضاء، فلا أرى عليه شيئا، قال ابن القاسم: ورأيت معنى قول مالك: إن كان أراد أن يوصله إليه وبتله في يديه، وتلك نيته، فهو حانث إذا كان قد أقام بعد اليمين ما لو شاء أن يوصله إليه أوصله إليه، قال ابن القاسم: وذلك رأيي.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال: إن كان إنما حلف على وجه القضاء، فلا حنث بموت المحلوف عليه؛ لأنه يبر بقضاء الورثة، وإن أراد أن يحنث نفسه، ويمشي إلى البيت، كان ذلك له؛ لأن يمينه على حنث، وإن كان أراد أن يوصله إليه وبتله في يديه، فهو حانث كما قال إذا كان قد أقام بعد اليمين، ما لو شاء أن يوصله إليه أوصله، فإن أراد أن يحنث نفسه هاهنا، ويمشي إلى بيت الله كان ذلك على مذهب ابن القاسم، ولم يكن ذلك عند ابن المواز؛ لأن موت المحلوف عليه عنده كالأجل؛ فلا يجزئه المشي إلا بعد موته، فإن لم تكن نية، فلا يحنث بموت المحلوف عليه، ويحمل يمينه على وجه القضاء حتى يريد أن يوصله إليه، وبتله في يديه، هذا مذهب مالك(3/113)
في المدونة وغيرها؛ لأن مقصد الحالف بيمينه أداء ما عليه من الدين لا منفعة صاحب الدين بدفع دينه إليه، فيحمل يمينه على ذلك حتى يريد سواه، وفي رسم من سماع ابن القاسم، من كتاب العتق ما ظاهره أنه محمول على أن يوصله إليه وبتله في يديه، إذا لم تكن له نية، وقد قيل في الحالف: أن يفعل فعلا، ولم ينو تعجيل ما حلف عليه ولا تأخيره أنه على التعجيل، ويحنث إن أخر فعل ذلك الفعل، فلا يفترق على هذا القول إذا حلف ليقضين فلانا الحكم بين أن يحلف على وجه القضاء أو يريد بيمينه أن بتله في يديه، وهذان القولان جاريان على الاختلاف في الأمر، هل يقتضي الفور أم لا؟ وسنزيد هذه المسألة بيانا في رسم سن، من سماع ابن القاسم، من كتاب العتق.
[مسألة: حلف ألا يضع من ثمن خادم باعها شيئا وأنه باعها بالثمن الذي حلف عليه]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا مسألة قال: وسئل عن رجل حلف ألا يضع من ثمن خادم باعها شيئا، وأنه باعها بالثمن الذي حلف عليه، ثم إن المبتاع ندم، فسأل البائع أن يقيله، قال: لا خير في ذلك، رب إقالة هي خير من وضيعة، فلا يعجبني ذلك، قال ابن القاسم: فإن أقاله فكانت قيمتها أقل من الثمن حنث.
قال محمد بن رشد: هذه مثل مسألة المدونة سواء في الذي يحلف ليقضين فلانا حقه، فيشتري به منه سلعة، فقال مالك فيها: إن كانت السلعة تسوى حقه ذلك، فلا حنث عليه، مثل قول ابن القاسم هنا وهناك، ثم كرهه بعد ذلك هناك، مثل قوله هاهنا، وقال: إن كانت السلعة تسوى ذلك، فلم لا يعطيه(3/114)
دنانيره، خلاف قول ابن القاسم، فلا اختلاف في أنه حانث إذا أقاله، وقيمتها أقل من الثمن، قال ابن أبي حازم في المدنية، إلا أن يكون حلف ألا يضع له، وهو ينوي الإقالة، فإن نوى أن يقيل، ولا يضع، فلا شيء عليه.
قال عيسى: قال ابن القاسم: لا تنفعه النية إلا أن يتكلم بها حين حلف، وقول ابن القاسم: إن النية لا تنفعه في ذلك، إلا أن يتكلم بها؛ صحيح على ما قاله ابن المواز، في أن الاستثناء بإن وبإلا لا بد فيه من تحريك اللسان باتفاق؛ لأن النية هاهنا ليست بنية، وإنما هي استثناء بإلا أن، كأنه قال: والله لا أضع عنك من ثمنها شيئا، إلا أن أقيلك منها، وقول ابن أبي حازم خلاف لما حكى ابن المواز أنه اتفاق، وقد ذهب الناس ممن لم ينعم النظر إلى أن قول مالك في المدونة في الذي يحلف ألا يفارق غريمه، فيفر منه، أنه حانث إلا أن يكون نوى إلا يفارقه مثل ما يقول الرجل: لا أخلي سبيلك إلا أن تفر، فلا شيء عليه، مخالف لما قاله ابن المواز في أن الاستثناء بإلا أن لا بد فيه من تحريك اللسان باتفاق، ولم يقل مالك: إنه إن نوى ألا يفر غريمه، فلا شيء عليه، وإنما قال: إن نوى ألا يفارقه، فهو في المعنى مثل أن يقول بلسانه: لا أخلي سبيلك إلا أن تفر، فلا يكون عليه شيء، وقوله بين؛ لأن المفارقة مفاعلة منهما جميعا، فإذا نوى هو بقوله لا أفارق غريمي لا أفارقه أنا في خاصتي، لم يكن عليه شيء إن فر عنه غريمه؛ لأنه يحصل بما نواه كالقائل: لا أفارق غريمي إلا أن يفر عني، ولو حلف ألا يفارق غريمه، ونوى إلا أن يبدو له، أو إلا أن يرى خيرا من ذلك، وما أشبه ذلك؛ لم ينتفع بذلك على مذهب مالك، وما قاله ابن المواز، واختلف إذا حلفه أن لا يضع عنه فأنظره؛ ففي أول رسم الأقضية الثالث، من سماع أشهب، من كتاب الأيمان بالطلاق، ما يقوم منه أنه لا حنث عليه، وروى ابن وهب، عن مالك أنه حانث وقال: رب نظرة خير من وضيعة، وحكى عنه ابن حبيب مثل ذلك، ولو حلف ألا ينظره فوضع عنه لم يحنث، ولا أعلم في ذلك خلافا.(3/115)
[مسألة: حلف ألا ينقص جارية له من خمسين ثم باعها لرجل بخمسين وأوجبها]
مسألة وسئل عن رجل حلف ألا ينقص جارية له من خمسين، وأنه باعها من رجل بخمسين، وأوجبها له، فقال له رجل عند ذلك: إن استقالك بائعك فأقله، فأنا آخذها منك بأحد وخمسين، أفترى أن يقيله؟ قال: لا، رب إقالة خير من وضيعة، كأنه يرى أن إقالتها ثمن، حتى كأنه قد نقص من الخمسين فيما أظن به قاله.
قال محمد بن رشد: ساوى بين هذه المسألة والتي قبلها في الإقالة؛ إذ لا فرق عنده في الوضيعة بين أن يحلف ألا يضع من الثمن شيئا بعد أن باع وبين أن يحلف ألا يضع في بيع سلعة من كذا وكذا، فيبيع بما حلف عليه، ثم يضع من ذلك، وقد ذكرنا هذا المعنى في رسم حلف ليرفعن أمرا، وفرق ابن حبيب في الإقالة بين المسألتين، فقال: إن من حلف ألا ينقص سلعة من ثمن سماه فباعها بذلك الثمن، ثم أقال المبتاع منها، لا حنث عليه، غير أنه إن كان أقاله بحضرة البيع، فاليمين عليه بحالها، وإن لم يقله بحضرة البيع، فقد خرج من يمينه، وليبعها بعد بما شاء، وقال فيمن حلف ألا يضع من ثمن سلعة باعها، فأقال منها ما قال ابن القاسم: إنه إن كانت السلعة تساوي الثمن، فلا حنث عليه، وحكى ابن عبدوس عن غير ابن القاسم أنه إذا أقاله بحضرة البيع نظر، فإن كان بيعه صحيحا لأمد السنة فيه، فقد خرج من يمينه، وليبعها بعد بما شاء، وسيأتي أيضا بيانه في رسم الجنائز، من سماع أشهب.
[مسألة: باع بيعا فحلف البائع ألا يقيل ولا يضع ثم إن المشتري وجد في بيعه جرادا]
ومن كتاب يسلف في المتاع والحيوان مسألة وسئل مالك عن رجل باع بيعا، فحلف البائع ألا يقيل(3/116)
ولا يضع، ثم إن المشتري وجد في بيعه جرادا، وذلك فيما أرى تمرا باعه، فقال له المشتري: أنا أخرجك من يمينك، أنا أعطيك دينارا، واقبل مني الطعام، فكره ذلك وقال: لا أقبله إلا بأمر السلطان يخاصمه، فإن رده كان مخرجا ليمينه، وإن ألزمه صبر على ذلك.
قال محمد بن أحمد: هذا كما قال؛ لأنه حلف ألا يقيله، ولا يضع عنه، فإذا أخذ منه طعامه ودينارا، فقد أقاله بزيادة دينار، فوجب أن يحنث إذ لم يستثن إلا بزيادة، ولعل أيضا قيمة الطعام الذي أخذ مع الدينار أقل من الثمن الذي كان له عليه، فيكون قد وضع عنه، فيحنث بالوجهين جميعا، فإن رده السلطان عليه بالعيب لم يحنث؛ إذ ليس الرد بالعيب من معنى ما حلف عليه من الإقالة والوضيعة في شيء؛ إذ لا يجب الحكم عليه بالإقالة ولا بالوضيعة، ولو اطلع المبتاع على عيب، فسأل البائع أن يضع عنه من الثمن شيئا بسبب العيب أو يرده عليه ويعطيه ثمنه، فحلف البائع ألا يفعل شيئا من ذلك، فحكم عليه بأحد الوجهين يحنث على ما في آخر سماع أشهب، من كتاب الأيمان بالطلاق، فيمن حلف ألا يفعل فعلا، فقضى به عليه السلطان، وعلى ما يقوم من كتاب التخيير والتمليك من المدونة، خلاف قول ابن الماجشون في الواضحة.
[مسألة: حلف على آخر لينتقلن من داره فانتقل ثم بدا له أن يرده إليها]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء مسألة وسئل مالك عمن حلف على آخر: لينتقلن من داره، فانتقل ثم بدا له أن يرده إليها، قال: منذ كم انتقلت؟ قال: منذ خمسة عشر يوما، قال: زد على ذلك، قال ابن القاسم: لا أرى عليه إن رجع بعد خمسة عشر ليلة شيئا، وأحب إلي أن يبلغ الشهر ونحوه، إلا أن يكون أراد ألا يساكنه، فإن كانت تلك نيته، فلا يساكنه أبدا.(3/117)
قال محمد بن أحمد: استحب ابن القاسم ألا ينتقل حتى يبلغ الشهر، ليكون ذلك أبرأ من الحنث؛ لأن الشهر قد جعل حدا في وجوه كثيرة من العلم، من ذلك الزكاة لا يقدم قبل محلها بشهر، والمعتق إلى أجل ينتزع ماله قبل حلول أجله بشهر، والذي يحلف أن يطيل هجران رجل يبر بشهر، ونحو ذلك كثير، ولم ير عليه حنث إن رجع بعد خمسة عشر يوما، وكذلك لو رجع بعد أن أقام أكثر من يوم وليلة؛ لم يحكم عليه بالحنث، فقد قال ابن المواز في ذلك، في الذي يحلف أن يخرج من المدينة: إن القياس فيه ألا يلزمه أن يخرج إلا إلى مكان لا يلزمه أن يأتي منه إلى الجمعة، فيقيم فيه ما قل أو كثر، وما قيل فيه سوى هذا فهو استحسان، وسنتكلم على هذه المسألة، إذا مررنا بها في رسم الطلاق الأول، من سماع أشهب، من كتاب الأيمان بالطلاق، إن شاء الله، وسيأتي في آخر رسم منه إذا حلف الرجل: لينتقلن عن جاره على ما هو محمول القول في ذلك، إن شاء الله، واختلف إذا أبى المحلوف عليه بالانتقال من الانتقال، وكان ممن ليس للحالف أن يجبره على الانتقال على قولين؛ أحدهما: أنه يضرب له من الأجل بقدر ما يرى أن الحالف أراده بيمينه، فإن انتقل إلى ذلك الأجل وإلا حنث الحالف، واختلف إن كانت اليمين بالطلاق، هل للحالف أن يطأ في التلوم؟ فإن كان أجل التلوم من أربعة أشهر دخل على الحالف الإيلاء على القول بأنه لا يطأ. والقول الثاني: أنه كالحالف على فعل نفسه، يؤمر المحلوف عليه بالانتقال، ولا يجبر على ذلك، ولا يضرب له في ذلك أجل، ولا يحنث الحالف إلا بموت المحلوف عليه، فإن كانت يمينه بالطلاق، لم يكن له أن يطأ وضرب له أجل الإيلاء إن طلبت امرأته ذلك.(3/118)
[مسألة: حلف لا يشتري لامرأته شيئا فاشترى لنفسه فتسأله امرأته أن يوليها شيئا]
مسألة وسئل عن الرجل يحلف ألا يشتري لامرأته شيئا، فيشتري لنفسه أو لبنته شيئا، ثم تسأله امرأته أن يوليها شيئا مما اشترى لنفسه أو لبنته، قال: لا أحب له أن يفعل، ولكن يوكل غيره يشتري لها.
قال محمد بن أحمد: قال مالك في هذه الرواية: لا أحب له أن يفعل، يريد أنه يحنث إن فعل، وكان بحضرة ذلك، وهو نحو ما لمالك في رسم سلف، من سماع ابن القاسم هناك: إن كان عند مواجبة البيع وبحضرته حنث؛ لأن التباعة على البائع، وفي التفسير ليحيى: إذا صح ذلك منهما فلا حنث عليه، وإن عملا على وجه الدلسة فهو حانث وإن ربح عليها؛ لأن الربح يكون مع الدلسة أجرة للزوج، ويكون إنما اشترى لها، وتحصيل الاختلاف في هذا عندي أنهما إن عملا على ذلك فهو حانث، وإن ولاها بربح بعد افتراقهما، وإن لم يعملا على ذلك، واشترى لنفسه أو لابنته شراء صحيحا، ثم ولاها ذلك بربح، وإن كان ذلك عند مواجبة البيع أو بعد افتراقهما بربح أو بغير ربح، فلا حنث عليه.
واختلف إن اشترى لنفسه شراء صحيحا، ثم ولاها ذلك بالثمن دون ربح عند مواجبة البيع على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه حانث وإن كانت التباعة على الزوج المولى، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية، وفي رسم سلف، من سماع عيسى. والثاني: أنه لا حنث عليه، وإن كانت التباعة على البائع، وهو ظاهر ما في التفسير ليحيى. والثالث: أنه حانث على القول بأن التباعة على البائع، وغير حانث على القول بأن التباعة على الزوج المولي، وهو الذي ذهب إليه ابن القاسم في رسم سلف، من سماع عيسى.
وقد اختلف قول مالك في التباعة، فقال في موطئه: إن التباعة على المولي، وقال في رسم سلف، من سماع عيسى: إن التباعة على البائع، واختلف في ذلك أيضا(3/119)
قول ابن القاسم، فقال في رسم السلم، من سماع عيسى، من كتاب السلم والآجال: إن التباعة على البائع، وقال في رسم أسلم، من سماع عيسى، من كتاب العيوب: إن التباعة على المولي، وهذا إذا أتى الزوج مستفتيا، أو كانت يمينه مما لا يحكم به عليه، وأما إن كان مشهودا عليه ومخاصما، فلا يحكم عليه بالحنث إن كانت التولية بربح أو بعد الافتراق، وإن كانت قبل الافتراق بغير ربح، فعلى الثلاثة الأقوال المذكورة، ولا يمين عليه في مجرد دعوى التباعة، حيث لا يجب عليه الحكم بالحنث، هذا الذي يأتي على أصولهم في هذا، والله أعلم.
[مسألة: حلفت في عبد لها ألا تبيعه ولا تهبه فأرادت أن تتصدق به]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية مسألة عن امرأة حلفت في عبد لها ألا تبيعه ولا تهبه، فأرادت أن تتصدق به على ولدها، فقال: لا يعجبني ذلك، وأرى هذا على نحو الهبة.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال، وهو بين؛ لأن الهبة تعتصر، والصدقة لا تعتصر، فإذا حنث بالهبة فالصدقة أحرى أن يحنث بها، ولا تنوى في ذلك إن ادعت نية، وكانت يمينها مما يحكم به عليها، ولو حلفت ألا تتصدق به فوهبته لابنها، وهو ممن لها أن تعتصر منه، فادعت أنها إنما حلفت على الصدقة من أجل أنها لا تعتصر، لوجب أن تنوى في ذلك.
[مسألة: يبيع الجارية فيحلف ألا يضع من ثمنها شيئا فيجدها المبتاع معيبة]
مسألة وسئل عن الرجل يبيع الجارية، فيحلف ألا يضع من ثمنها شيئا، فتمكث عنده، ثم يجد بها الذي ابتاعها عيبا، فيردها منه، فيضع له السلطان، فقال: ما أرى على صاحبها حنثا؛ لأنه لم يحلف على ذلك.(3/120)
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال؛ لأنه إنما حلف ألا يضع عن المبتاع من حقه الواجب له عليه شيئا، وذلك ما لا يصح أن يحكم به عليه، فوضيعة السلطان عنه لمكان العيب إنما هو حكم له بإسقاط ما لا يلزمه، وذلك ما لم يحلف عليه البائع، ولو سأله المبتاع ذلك، فحلف عليه فرفعه المبتاع إلى الحكم، فحكم عليه به يجري ذلك على الاختلاف الذي ذكرناه في رسم تسلف في المبتاع والحيوان، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا تواكله امرأته في صحفة واحدة فجاءته برطب في طبق فأكلت]
ومن كتاب البز مسألة وسئل مالك عن رجل حلف ألا تواكله امرأته في صحفة واحدة شهرا، فجاءته برطب في طبق، فإذا فيه بضعة لحم، فقال لها: ما هذه البضعة؟ قالت: إن الخادم وضعتها، والمرأة لا تأكل معه، وكان الرجل يأكل في طبق رطبا، وهي لا تأكل معه، فتناولت المرأة البضعة لتأكلها، فأخذها من يدها، فقال: قد حلفت ألا تأكل معي في صحفة، ثم أمسكها في يده، ووامر نفسه ثم قال: إنما قلت: في صحفة فناولها إياها فأكلتها، قال مالك: أخاف عليه الحنث، وكان طلاقه إياها واحدة، فأمره أن يطلقها واحدة ثم يرتجعها، قال: فقلت له: الطبق والصحفة واحد؟ من حلف ألا يأكل في صحفة، فأكل في طبق حنث؟ قال: نعم، وهو واحد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على الأصل في أن الأيمان إنما ينظر فيها إلى معانيها، لا إلى مجرد ألفاظها كما يقول أهل العراق؛ لأن الحالف ألا تواكله امرأته في صحفة إنما معناه ألا تواكله في إناء واحد،(3/121)
فخرجت يمينه على الصحفة؛ لأن الصحاف هي التي يأكل الناس فيها في غالب الأمر، لا لأنه قصد الصحفة دون غيرها من الآنية والظروف، فوجب أن لا يعتبر بتسمية الصحفة لهذه العلة، ولو اعتبر لوجب ألا يحنث إذا أكلت معه في جفنة أو في برمة، أو في صحفة صغيرة، وهذا ما لا يمكن أن يقال بوجه؛ لكونها في معنى الصحفة سواء، فلو سمي - على هذا القياس الذي أصلناه وهو صحيح - ما لا يوكل فيه في غالب الأمر، لوجب أن يراعى تسميته، ولا يحنث إذا واكلته في غيرها؛ لما يظهر من قصده إلى الحلف على ما سمي دون سواه، فإذا حلف ألا يأكل مع امرأته في طبق لم يحنث إذا أكلت معه في صحفة، وكذلك لو سمى الطبق مما لم تجر العادة أن يوكل فيه إلا نادرا، ولو حلف ألا يأكل معها فاكهة في طبق، فأكل معها فاكهة في غير طبق صحفة أو غيرها من الآنية لحنث؛ لأن الفاكهة لما كانت لا توكل في غالب الأمر إلا في الأطباق علم أن يمينه إنما خرجت على الطبق لذلك؛ لأنه قصد إلى الطبق دون ما سواه من الآنية والظروف، وهذا أصل يطرد.
من ذلك قولهم: من حلف ألا يأكل خبزا، فأكل كعكا أنه يحنث، ومن حلف ألا يأكل كعكا، فأكل خبزا أنه لا يحنث، ومن حلف ألا يدخل على فلان بيتا، فدخل عليه الحمام أو السجن حنث، ومن حلف ألا يدخل على فلان حماما ولا سجنا، فدخل عليه بيتا ليس لحمام ولا سجن لم يحنث، ومثل هذا كثير، وقوله في المسألة: فأمره أن يطلقها واحدة، كلام ليس على ظاهره من أنه أمره أن يستحدث لها طلاقا، وإنما معناه أنه أمره أن يعد ما قد وقع عليه من الحنث بأكلها البضعة من الطبق طلقة واحدة ثم يرجعها، ولو استحدث لها طلاقا على ظاهر لفظه؛ لكانت طلقة أخرى سوى الطلقة التي حنث بها، وهذا بين لا إشكال فيه.(3/122)
[مسألة: حلف لا يشتري من رجل سلعة فاشترى منه رجل سلعة فأشركه فيها]
مسألة وسئل عن رجل حلف ألا يبتاع من رجل سلعة، فاشترى منه رجل سلعة، فأراد أن يشرك ذلك الرجل فيما اشترى، قال: لا يعجبني ذلك، قيل له: أيشتري منه غلامه؟ قال: لا أرى ذلك له.
قال محمد بن أحمد: إنما قال في الذي حلف أن لا يشتري من رجل سلعة، فاشترى منه رجل سلعة، فأشركه فيها لا يعجبه ذلك؛ لأن عهدته تكون عليه، فضارع عهدة من حلف ألا يشتري من فلان سلعة، فوكل غيره فاشتراها له منه أنه حانث، ولم يكن عنده بمنزلة ذلك سواه، ولذلك قال: لا يعجبني ولم يقل: لا يجوز؛ لأنه من حلف ألا يشتري سلعة من فلان فأمر غيره فاشتراها له منه هو حانث على كل حال، إلا أن يكون نوى ألا يلي هو الشراء منه بنفسه، فبينوا في ذلك أنه إن أتى مستفتيا، أو كانت يمينه مما لا يقضى عليه بها، أو في شراء غلامه منه تفصيل، أما إن كان الغلام يعمل بمال سيده، فاشترى منه بأمره، فلا إشكال في أنه حانث بمنزلة الذي يحلف ألا يشتري السلعة من رجل، فوكل غيره على أن يشتريها له منه، ولم يتكلم في الكتاب على هذا الوجه، وإنما تكلم إذا اشترى منه بغير أمره، وهو يعمل أيضا بمال سيده؛ لأن معنى قوله: أفيشتري منه غلامه بغير إذنه يريد بغير علمه، فقال: لا أرى ذلك له يريد أنه يحنث إن فعل؛ لأن الشراء يجب له، والعهدة تكون على المحلوف عليه، فذلك بمنزلة المسألة التي قال فيها: لا يعجبني، وأما إن كان العبد يعمل بمال نفسه، فيتخرج ذلك على الاختلاف في الذي يحلف ألا يركب دابة لغيره، فيركب دابة عبده، والقولان في النذور في المدونة.(3/123)
[مسألة: طلب منه مالا فحلف بالمشي إلى الكعبة إن كان معه إلا عشرة]
مسألة وسئل مالك عن رجل جاءه أخ له يستسلفه خمسة عشر دينارا، فحلف بالمشي إلى الكعبة، إن كان معه إلا عشرة، ففتح كمه فلم يجد إلا تسعة دنانير، قال مالك: لا أرى عليه حنثا، قال ابن القاسم: ولو كان معه أحد عشر دينارا حنث، وإنما سقط عنه الحنث حين لم يجد معه إلا تسعة؛ لأنه حلف على أنه ليس معه أكثر من عشرة، فلذلك لم يكن عليه شيء.
قال محمد بن أحمد: هذا بيِّن لا إشكال فيه ولا اختلاف؛ لأن معنى يمينه أنه ليس معه أكثر من عشرة إذ طلب منه المستسلف خمسة عشر دينارا، وإلى ذلك قصد بيمينه، لا إلى أن معه عشرة.
[مسألة: قال بعيراي هذان بعد سنة في سبيل الله فأقاما في يديه ثم هلك الرجل]
مسألة وسئل مالك عن رجل قال: بعيراي هذان بعد سنة في سبيل الله، فأقاما في يديه ثم هلك الرجل قبل السنة، أتراهما من رأس المال أم من الثلث؟ قال: ما علمت أن هذا يُفعل، فإن جعل شيئا في سبيل الله فلينفذه، قيل له: أفلا تراه مثل الذي يعتق إلى سنة؟ قال: لا، قد يدبر العبد، وليس في الإبل تدبير، فكأنه يقول: ليس هذا بشيء.
قال محمد بن أحمد: قوله: إنه إن هلك الرجل قبل السنة بطل ذلك، ولم يكن في رأس مال ولا ثلث، صحيح على أصولهم؛ لأنه صدقة في الصحة لم تُحَزْ عنه حتى مات، فوجب أن تبطل، وكذلك لو أتت السنة وهو مريض، فمات من مرضه ذلك على مذهب ابن القاسم، وقد قيل فيما أحسب إن ذلك يكون من الثلث، وإن أتت السنة وهو حي صحيح نفذا في(3/124)
السبيل، واختلف هل يحكم عليه بذلك إن أبى أن ينفذه على الاختلاف في الذي يتصدق على المساكين، فيأبى أن ينفذ ذلك، والقولان في المدونة على اختلاف الرواية في ذلك، وليس له أن يبيعهما ولا يفوتهما قبل السنة، واختُلف هل يحكم عليه بذلك أم لا على الاختلاف المذكور، ولو قال: بعيراي هذان بعد سنة صدقة على فلان؛ لحُكم عليه ألا يبيعهما قبل السنة، وأن يسلمهما إليه بعد السنة إن أتت، وهو صحيح قولا واحدا على ما قاله ابن القاسم، في رسم الجواب، من سماع عيسى، من كتاب الصدقات والهبات، فقوله في آخر المسألة، فكأنه يقول: ليس هذا بشيء يريد أنه يبطل إن مات قبل السنة، إلا أن قوله: لا يوجب حكما، ويبطل في كل حال؛ لأن الحكم فيه يجري على ما قلناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قضي عليه بيمين فأراد أن يفتدي منها]
ومن كتاب أوله باع غلاما مسألة وسئل مالك عن ابني عم وقع بينهما ميراث فتشاجرا، فحلف أحدهما بيمين غليظة إنْ دفع إليه شيئا حتى يقضي به عليه السلطان فاختصما، فقضي على الحالف باليمين، وأراد أن يفتدي من اليمين، ويدفع إليه في ذلك حقا، فكره ذلك، وقال: لا يدفع إليه شيئا، ويحلف إن كان بارا، فقيل له: لو أن رجلا قضي عليه بيمين، فأراد أن يفتدي منها، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن أحمد: قوله: إنه لا يفتدي من اليمين بثمن يدفعه إليه صحيح؛ لأنه قد حلف ألا يدفع إليه شيئا، إلا بقضاء سلطان، والسلطان لم يقض عليه إلا باليمين، لا بما افتدى به منها، وقوله: ويحلف إن كان بارا(3/125)
صحيح أيضا؛ لأنه إن نكل على اليمين فحلف ابن عمه، وأخذ ما ادعى حنث هو في يمينه، فإن كان غير بار لم يحل له أن يحلف، ويحلف ابن عمه ويأخذ ما ادعى، ويحنث هو في يمينه؛ إذ كان إنما حلف وهو عالم بصحة دعواه، ليقتطع حقه، فإن اجترأ على الله، وحلف بر في يمينه وأثم في اقتطاع حق ابن عمه بيمينه الفاجرة، كمن حلف أن يسرق أو يزني أو يشرب خمرا، وكذلك إن لم يعلم إن كان ما يدعي ابن عمه حقا أو باطلا؛ إذ لا يجوز له أن يحلف على غير يقين، وقد وقع في أول رسم البراءة، من سماع عيسى، من كتاب الأيمان بالطلاق لفظ، قال فيه بعض الناس: إنه يدل على أن له أن يحلف فيما لا يوقن به، وهو بعيد، فالصواب أن يتأول على ما تأولناه عليه هناك، فلا يدل على أنه يجوز له أن يحلف على ما شك فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصبي هل يلزمه بعد بلوغه ما نذره على نفسه قبل بلوغه]
مسألة قال مالك: كان حلف عبد الله بن أبي حنيفة في الجرو القتاء بعد أن احتلم.
قال محمد بن أحمد: قوله صحيح؛ لأنه لو كان لم يحتلم لما لزمه النذر؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاث» فذكر فيهم الصبي حتى يحتلم، ولا اختلاف أعلمه في أن الصبي لا يلزمه بعد بلوغه ما نذره على نفسه قبل بلوغه، إلا أنه يستحب له الوفاء به، وقد قال ابن كنانة: إن الصغير إذا حلف به قبل بلوغه لزمه إذا حنث فيه بعد بلوغه، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن المشرك إذا نذر في حال الكفر يلزمه الوفاء به بعد الإسلام؛ لما(3/126)
روي من أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في المسجد الحرام، فقال له النبي: فِ بنذرك» ، وهو عندنا وعند أكثر أهل العلم على أن ذلك على الندب لا على الوجوب، ومما يدل على ذلك أيضا أن " فِ " لا تُستعمل إلا فيما ليس بواجب، يقال: وفى بالوعد، وأوفى بالحق والنذر، فيلزم على قول من أوجب على الكافر الوفاء بالنذر بعد إسلامه أن يوجب على الصغير الوفاء بالنذر بعد بلوغه، بل هو أحق أن يجب عليه على مذهبه؛ لأن الصغير وإن كان لا تُكتب عليه السيئات، فتُكتب له الحسنات على الصحيح من الأقوال، والكافر لا تكتب له الحسنات وتكتب عليه السيئات، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلفت على أختها ألا تشهد لها محيا ولا مماتا فماتت ابنة أختها]
مسألة وسئل عن امرأة حلفت على أختها ألا تشهد لها محيا ولا مماتا، فماتت ابنة أختها، فأرادت أن تنتظرها عند باب المسجد فتصلي عليها، وقد كانت حلفت بالمشي إلى الكعبة، فكره ذلك لها.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا صلت عليها، فقد شهدت جنازتها، فوجب أن تحنث، وإن كانت لم تشهدها ولا عَزَّتْهَا ولا قامت معها في شيء من أمرها؛ لأن الحنث يقع بأقل الوجوه، وقوله: فكره ذلك لها، معناه الوجوب، وأنها إن فعلت حنثت، والله أعلم.
[مسألة: قال لشريكه هذه الدنانير صدقة على المساكين إن كان لك عندي شيء]
مسألة وسئل عن رجل كان له شريك فحاسبه ثم لقيه، فقال له: قد بقي عندك كذا وكذا، وكان مع شريكه دنانير في يده، فقال عند ذلك: هذه الدنانير صدقة على المساكين، إن كان لك عندي شيء.(3/127)
ثم ذهب إلى منزله فنظر إلى كتب عنده، فإذا هو ما قال شريكه حق، قال: أرى أن يتصدق بالدنانير، ولا ينفعه إن كان حلف، وهو يرى أنه إنما حلف على حق، وإنما ينفعه ذلك في الحلف بالله، فأما الصدقة والعتق والمشي، فلا ينفعه ذلك، وليس اللغو في الصدقة والمشي، إنما اللغو في الحلف بالله، لا يكون إلا في اليمين بالله أو بشيء من صفاته وأسمائه، أو في نذر لا يسمى له.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، وحكمه في المذهب في أن اللغو مخرج؛ لأن الله لم يذكره إلا في اليمين التي أوجب فيها الكفارة، فقال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] الآية، ويجيء على مذهب من أوجب كفارة اليمين بالله في الحلف بالمشي والصدقة، وما أشبه ذلك مما فيه قربة وطاعة، أن يكون اللغو في ذلك.
[مسألة: قال لغريمه إن لم تقض صدرا من حقي يوم كذا فَعَلَيّ المشي إلى بيت الله]
مسألة وسئل مالك عن رجل كان له على رجل حق، فقال لغريمه: إن لم تقض صدرا من حقي يوم كذا وكذا، فَعَلَيّ المشي إلى بيت الله إن لم ألزمك بحقي كله، قال مالك: أرى الصدر الثلثين، ولو أن رجلا قال: النصف؛ لكان قولا، ولكن الثلثان أحب إليّ إلا أن يكون حين حلف قد أجمع على أمر شيء من أمره، فهو على ما أجمع.(3/128)
قال محمد بن أحمد: لابن نافع في المبسوطة أنه إذا قال: جل، فذلك أكثر من الثلثين، وإذا قال صدرا فذلك الثلث فما فوقه، وهو في القياس أظهر؛ لأن صدور الأشياء هي الجمل من أوائلها، فالصدر ثم النصف ثم الجل، والله أعلم.
[مسألة: قال علي نذر ألا أكلم فلانا]
ومن كتاب أوله صلي نهارا ثلاث ركعات مسألة وسئل مالك عن رجل قال علي نذر ألا أكلم فلانا قال: ليكلمه ولا أرى عليه، إنما ذلك مثل ما يقول عليّ نذر أن أكلمه أو أحمل هذا الحجر فلا شيء عليه، إنما كان نذره في كلامه.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال: إن من قال علي نذر أن أكلم فلانا أو لا أكلمه إنه لا شيء عليه كلمه أو لم يكلمه إذ لا طاعة لله في كلامه ولا في ترك كلامه، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» ، فالنذور تنقسم على أربعة أقسام، نذر في طاعة يلزم الوفاء به، ونذر في معصية يحرم الوفاء به، ونذر في مكروه يكره الوفاء به، ونذر في مباح يباح الوفاء به وترك الوفاء به، وسواء كان ذلك كله في فعل أو في ترك فعل، ولا كفارة عند مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ - على من لم يف بما نذر؛ إما لأنه معصية لا يجوز له الوفاء به وإما لأنه عجز عن الوفاء به، ومن أهل العلم من أوجب في ذلك الكفارة لما روي من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين» ، وإنما تجب الكفارة عند مالك في اليمين بالنذر، مثل أن يقول: علي نذر إن فعلت كذا وكذا أو إن لم أفعل كذا وكذا، كان ذلك للذي حلف على فعله مما يجوز له(3/129)
فعله أو مما لا يجوز، وكان الذي حلف على تركه مما يجوز له تركه أو مما لا يجوز؛ غير أنه إن كان ذلك مما لا يجوز أُمِرَ بالحنث والكفارة، فإن اجترأ وبر سقطت عنه الكفارة.
[مسألة: له عند امرأته ذهب فأسلفته أخا لها فعلم الزوج بذلك فحلف ليأخذن حقه]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت مسألة وسئل مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن رجل كان له عند امرأته ذهب فأسلفت منه أخا لها فعلم الزوج بذلك فحلف ألا يخرج حتى يأخذ حقه منه أو يقضي به عليه سلطان، فقالت امرأته: أنا التي أسلفته وأنا له ضامنة، وقد كان يريد سفرا. قال: لا يخرج حتى يأخذها ولا يقبل ضمانها إلا أن يؤخره السلطان إذا رأى السلطان ذلك.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال؛ لأن الزوج مخير له أن يأخذ بماله من شاء منهما، إن شاء زوجته التي تعدت على ذهبه فأسلفته، وإن شاء أخاها الذي أسلفته إياه؛ فإن أخذ بذهبه الزوجة كان لها أن تتبع أخاها بذلك، وإن أخذ به أخ الزوجة سقطت التباعة عن الزوجة، فإذا حلف ألا يخرج حتى يأخذ حقه من أخي الزوجة إلا أن يؤخره السلطان فليس له أن يترك اتباعه ويرجع عن امرأته، فإن فعل ذلك حنث بما حلف به، وفي قوله: "إلا أن يؤخره السلطان إن رأى ذلك" دليلٌ على أن للسلطان أن يؤخر الغريم بما حلّ عليه من الديون على ما يراه من موجب للنظر في ذلك، ومثله في أول رسم ابن القاسم من كتاب المكاتب، وبذلك جرت الفتيا عندنا بقرطبة، خلاف ما كان يحكم به في غيرها أن الغريم إذا حل أجل ما عليه من دين لم يؤخر ساعة ولا حينا وبيعت عليه عروضه بالغة ما بلغت إن لم يكن له ناضّ يؤدي منه ما عليه، وهو خلاف ظواهر الروايات عن مالك وأصحابه، وبالله التوفيق.(3/130)
[مسألة: حلف بالمشي إلى بيت الله فحنث]
مسألة قال مالك: من حلف بالمشي إلى بيت الله فحنث، فإنه يمشي من حيث حلف وكانت يمين صاحبه ألا يفعل كذا وكذا حتى ينتقل من منزله وكان صاحب خيمة، قال مالك: ولا أحب أن يحولها إلى مكان قريب حتى ينتقل نقلة يعرف أنها نقلة من ذلك الموضع إلى غيره ثم يفعل ما حلف عليه إن أراد إن كان إنما أراد بذلك مخرجا من يمينه.
قال محمد بن أحمد: تكررت هذه المسألة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج، وقوله فيها هنا وهناك: إنه يمشي إذا حنث من حيث حلف لا من حيث حنث يأتي على ما في كتاب ابن المواز العتق الأول من المدونة في الذي يقول: إن كلمت فلانا فكل مملوك أملكه من الصقالبة فهو حر فيشتري بعد يمينه وقبل أن يكلمه صقالبة ثم يكلمه إنهم يعتقون عليه خلاف ما في سماع عبد المالك من كتاب الأيمان بالطلاق الذي يقول: إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها بمصر طالق فتزوج ثم كلمه أنه لا شيء عليه في التي تزوج قبل يمينه، وإنما يلزمه الحنث فيما تزوج بعد كلامه، ولم ير إذ كانت يمينه ألا يفعل كذا وكذا حتى ينتقل من منزله أن اليمين تنحل عنه حتى يكون له أن يفعل ما حلف عليه وإلا لحنث إلا بانتقال من ذلك الموضع إلى غيره من المواضع، وخشي إن حولها إلى مكان قريب ألا يكون ذلك انتقالا تنحل عنه اليمين، فقال: ولا أحب أن يحولها إلى مكان قريب حتى ينتقل نقلة تعرف، وبالله التوفيق.(3/131)
[مسألة: حلف في رقيق لابنه ألا يبيعهم بثمن سماه وللحالف أب]
ومن كتاب المحرم يتخذ خرقة مسألة وسئل مالك عن رجل حلف في رقيق لابنه ألا يبيعهم بثمن سماه وللحالف أب فقال له: أنا أبيعهم ليس هم لك فقال له: أسفيه هو؟ يريد الحالف فقالوا: لا فقال: لا أرى أن يبيعهم.
قال محمد بن أحمد: في قوله: لا أرى أن يبيعهم إذا لم يكن سفيها دليل على أن له يبيعهم إذا كان سفيها فجعله في حكم الوصي على ولد ابنه ما دام ابنه سفيها فيلزم على هذا أن يكون وصي الأب وصيا على ولد الولد الذين إلى نظره بإيصاء الأب وهو نحو ما في مختصر ابن شعبان عن مالك أن للوصي أن يزوج بنات يتيمه بعد بلوغهن، فإن رضي الأب بذلك قبل أن يبلغن فلا يلتفت إلى رضاه لسقوط ولايته فهن كاليتامى، قال ابن وهب في أصل سماع أصبغ: والرفع إلى السلطان أحسن، وليس من ذلك ما في كتاب ابن المواز أن المولى عليه إذا قتل وله ولد أصاغر أن وصي الأب أولى من عمومة الصبي، بالدم، وقد كان بعض شيوخه لا يرى وصي الأب وصيا على صغار الولد الموصى بهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف أن يحمل الشيء على عنقه إلى بيت الله فلا يقدر]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يحلف أن يحمل الشيء على عنقه إلى بيت الله فيكون ممن لا يقدر على المشي فيركب أترى عليه هديين أم هديا واحدا؟ قال: يهدي هديا واحدا وليس هذا من الأمور(3/132)
التي مضت فيها سنة ولا أمر، قيل له: فهدي واحد يجزئ عنه؟ قال: نعم.
قال محمد بن أحمد: أوجب مالك على الحالف في هذه المسألة الهدي لركوبه ولم يوجب عليه شيئا لما وضع عن نفسه من حمله الشيء على عنقه فلو مشى ولم يركب لم يجب عليه شيء على هذه الرواية خلافا لما في المدونة في الذي يقول: أنا أحمل هذا العمود أو هذه الطنفسة أو ما أشبه ذلك إلى بيت الله أنه يحج ماشيا ويهدي لموضع ما وضع على نفسه من المشقة في حملان تلك الأشياء إلا أن يفرق بين النذر واليمين مراعاة لقول من لا يرى الشيء واجبا باليمين، والأظهر أن ذلك اختلاق من القول، وألا يكون على الذي قدر أن يحمل الشيء على عنقه إلى بيت الله إلا المشي راجلا كما قال في الذي نذر أن يمشي إلى بيت الله حافيا أنه ينتعل، وإن أهدى فحسن، وإن لم يهد فلا شيء عليه، وهو خفيف إذ لا طاعة لله في حفائه ولا في حمله الشيء على عنقه، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ، فوجب أن يسقط عنه ما قدّره على نفسه مما لا طاعة لله فيه ولا يلزمه في ذلك شيء ولو لزمه في ذلك شيء لكان الواجب في ذلك كفارة يمين لما جاء في ذلك عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأخذ به جماعة من العلماء على ما قد ذكرناه في رسم "صلى نهارا ثلاث ركعات" قبل هذا.
[مسألة: المرأة المولى عليها تحلف بصدقة ما تملك على المساكين]
مسألة وسئل مالك عن المرأة المولى عليها تحلف بصدقة ما تملك(3/133)
على المساكين أو بأنها تحمل ابن عم لها إلى بيت الله إن تزوجته فقدر لها أن تزوجته. فقال: أرى أن تمشي إلى بيت الله، قال: إنها لا تستطيع أن تمشي، قال: فلتركب ولتهد قال: إنها صرورة، قال: فلتدخل بعمرة إن أحبت وتمشي بعد حجتها عن نفسها قال: أيجزيها أن تدخل بعمرة في مشيها فتحج لنفسها؟ قال: نعم، قال: أفترى عليها هديين؟ قال: نعم إن اعتمرت في أشهر الحج، فعليها هدي لتمتعها وهدي لما ركبت، وهديان في هذا يجزيان عنها. فقيل له: أفتأكل منهما جميعا؟ فقال: نعم، وأرى عليها صدقة ثلث مالها، قال سحنون: هذا خطأ وما ينفعها الولاية إذا كانت تنفق مالها؟ فليس هو كما قال.
قال محمد بن أحمد: حمل مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ - حلف المرأة بحمل ابن عمها إلى بيت الله على أنها أرادت حمله على عنقها فأوجب عليها إذا حنثت المشي إلى بيت الله والهدي إن لم تستطع المشي فركبت، وذلك خلاف لما في المدونة في موضعين. أحدهما حمل يمينها على أنها أرادت حمله على عنقها؛ لأنه قال في المدونة فيمن قال أنا أحمل فلانا إلى بيت الله: أنه يحج راكبا ويحج معه بالرجل إلا أن ينوي حمله على عنقه، والموضع الثاني قوله: أنها تمشي إلى بيت الله وتهدي إن لم تستطع المشي فركبت على ما قاله في المسألة التي قبلها؛ لأنه قال في المدونة: إن أراد حمله على عنقه حج ماشيا وأهدى يريد لما وضع عن نفسه من حملانه على عنقه، فعلى قوله فيها: يهدي إن لم يستطع المشي فركب هديين، هديا لركوبه وهديا لما وضع من المشقة في نفسه، وقوله: إنها إن كانت صرورة كان لها أن تدخل بعمرة وتحج بعد ذلك لنفسها وتهدي لتمتعها إن كانت عمرتها في أشهر الحج صحيح مثل ما في المدونة وغيرها لا اختلاف في ذلك، وقوله وأرى عليها صدقة ثلث مالها معناه إذا ملكت أمرها وصار مالها إليها، وكان ذلك هو المال الذي كان(3/134)
لها يوم حلفت فإن كان قد زاد لم يكن عليها أن تتصدق بثلث مالها الزائد، وإن كان قد نقص لم يكن عليها أن تتصدق إلا بثلث الباقي، وأما ما وجب عليها من الهدي لتمتعها ومشيها؛ فإن كان الولي منعها من مالها ولم تصم فعليها إذا ملكت أمر نفسها أن تهدي من مالها كان ذلك المال أو غيره، وفي آخر أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح أنه لا يلزمها في مالها صدقة ولا شيء بسبب الولاية مثل قول سحنون هنا، وهو أظهر؛ لأنه إنما حجر عليها نظرًا لها، فلو كان يلزمها إذا رشدت ما فعلت في حال الولاية لما أغنت عنها شيئا، بخلاف العبد والزوجة ذات الزوج والغريم الذي يقع التحجير عليهم لحق غيرهم، وهذا الاختلاف في المولى عليها إنما هو إذا لم يرد الولي فعلها حتى ملكت أمر نفسها وصار مالها بيدها، وبالله التوفيق لا رب غيره.
[مسألة: حلفت لزوجها ألا تتزوج بعشرة نُذُرٍ إلا أن يغلبها أمر لا تملكه فطلقت]
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة مسألة وسئل عن امرأة حلفت لزوجها ألا تتزوج بعشرة نُذُرٍ إلا أن يغلبها أمر لا تملكه فطلقها زوجها فاحتاجت وأرادت التزويج، فقال لها: هل جعلت لذلك مخرجا من حج أو عمرة أو عتق أو صيام؟ قالت: لا، ولكن كان مني مُسْجَلَة، قال: فأطعمي مائة مساكين بالمد الأصغر لكل مسكين مد، فإن لم تقدري فصومي ثلاثين يوما.
قال محمد بن أحمد: قولها إلا أن يغلبها أمر لا تملكه معناه إلا أن تشتهي الرجال أو تخاف على نفسها العنت، وعلى هذا حمل مالك استثناءها؛ ولذلك لم ير الحاجة مما يسقط عنها اليمين، وقوله: إنها تطعم مائة مسكين إن(3/135)
كانت لم تجعل لما نذرت مخرجا صحيح على أصولهم في أن من نذر نذرا، ولم يجعل له مخرجا فكفارته كفارة يمين، وبالله التوفيق.
[مسألة: أبق له غلام فأخذه فحلف له إن عدت لأضربنك فعاد فأبق فلم يضربه]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب الأقضية مسألة قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع قالا: سئل مالك عمن أبق له غلام فأخذه فحلف له إن عدت لأضربنك، فعاد فأبق فلم يضربه ثم عاد فأبق له فضربه أتراه خرج عن يمينه؟ قال: لا أراه وقّت وقتا وأرى ذلك قد أخرجه عن يمينه إذا ضربه الضرب الذي حلف عليه ضربا لا عذابا ولا دون.
قال محمد بن أحمد: هذا خلاف ما مضى في رسم حلف ليرفعن أمرا من سماع ابن القاسم في مسألة الوتر، وقد مضى القول على ذلك هناك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لله علي إن جاءني الله بأبي يوم كذا وكذا أن أتصدق أو أعتق]
ومن كتاب الأقضية مسألة وسئل عن الرجل يقول: لله علي إن جاءني الله بأبي يوم كذا وكذا أن أتصدق أو أعتق أو أصوم أو أصلي، قال: لا بأس بذلك، قال عز وجل: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] ، {قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] آل عمران، 35.(3/136)
قال محمد بن أحمد: أجاز مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أن يقول الرجل: لله علي أن أفعل كذا وكذا من الخير ولم ير به بأسا، وقد كره جماعة من أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم النذر، لما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النذر، وقال: " إنه لا يغني شيئا " ولكن يستخرج به من البخيل» ولما روي عنه أيضا من رواية أبي هريرة أنه قال: «لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا. وإنما يستخرج به من البخيل» ويحتمل أن يكون النهي لم يصح به عند مالك ويحتمل أن يكون معنى النذر المنهي عنه في الحديث تعجيل ما يجب تعجيله أو تأخير ما يجب تأخيره مما لا عمل للنذر فيه إذ لا يغني من القدر شيئا كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فالنذر على مذهب مالك ينقسم ثلاثة أقسام:
نذر مستحب وهو النذر المطلق الذي يوجبه الرجل على نفسه شكرا لله على ما كان ومضى.
ونذر جائر وهو النذر المقيد بشرط يأتي.
ونذر مكروه وهو المؤقت الذي يتكرر مع مرور الأيام فقد كرهه في المدونة لشدته مخافة التفريط في الوفاء به، والله أعلم.
[مسألة: ابتاع من رجل سلعة ثم سأله أن يضع عنه عشرة دنانير]
مسألة وسئل عمن ابتاع من رجل سلعة ثم سأله أن يضع عنه عشرة دنانير فقال له البائع: الله يعلم أني لا أضع لك أله مخرج؟ فقال:(3/137)
نعم لو كفر عن يمينه، قيل له: لو كفر عن يمينه؟! قال: نعم يطعم عشرة مساكين.
قال محمد بن أحمد: ظاهر قول البائع الإخبار عن الله تعالى بأنه يعلم أنه لا يضع له وهو قول علمه عز وجل بألا يعلم إذ لا يدري هل يضع عنه أم لا يضع فإن كان سبق في علم الله تعالى أنه يضع عنه فهو عالم أنه يضع عنه وإن كان سبق في علمه أنه لا يضع عنه فهو عالم أنه لا يضع عنه، إلا أنه لما قصد البائع بما قاله من هذا الامتناع من الوضيعة احتمل عنده أن يكون قصد بذلك اليمين بأن يجعل يعلم صفة لله بمعنى عالم، فتكون إرادته الله العالم أقسم به أني لا أضع لك، فأمره بالكفارة احتياطا إن لم يضع عنه، فإن كان أراد اليمين وقعت الكفارة في موضعها، وإن كان أراد الإخبار ولم يرد اليمين رجا أن تكون الكفارة تكفر عنه الإثم في أن قال على الله ما لا يعلم هذا وجه هذه الرواية عنده، والله أعلم.
وقد روي عن سحنون فيمن قال علم الله إن فعلت كذا فقال: إن أراد العلم فهو كالحالف بصفة من صفات الله تعالى، وإن لم يرد العلم فلا شيء عليه، يريد بذلك أنه أراد فعلم العلم، فكأنه قال: وعلم الله، وقد يحذف واو القسم، وإن لم يرد العلم فقوله إخبار لا يلزمه به شيء وهو يريد ما قلناه، والله أعلم.
[مسألة: حلف وقال إن شاء الله ينوي به الاستثناء]
مسألة قال أشهب: وسئل مالك عن قول ابن عمر: من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى، فقال: إنا لنقول غير هذا نقول إذا حلف وقال: إن شاء الله ينوي به الاستثناء فذلك له ولا حنث عليه، وإن(3/138)
كان إنما قال إن شاء الله لهجا بذلك مثل قول الله عز وجل: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] ، ومثل قوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] ، فليس ذلك باستثناء ولا يغني عنه ذلك شيئا.
قال محمد بن أحمد: قول مالك: إن قول الرجل إذا حلف وقال إن شاء الله لا يكون استثناء إلا أن ينوي به الاستثناء ويقصد به إلى حل اليمين صحيح ليس مما يختلف فيه، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات» ولا يمكن أن يقول ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، خلاف ذلك، فقول مالك: إنا لنقول غير ذلك معناه إنا لنقول ما هو أفسر من قوله وأبين من كلامه لما جاء من إجماله، والله أعلم.
[مسألة: كان عليه مشي إلى بيت الله فمشى حتى انتهى إلى مكة وقد فاته الحج]
ومن كتاب الحج مسألة وسئل مالك عن رجل كان عليه مشي إلى بيت الله فمشى في حج حتى انتهى إلى مكة وقد فاته الحج فطاف بالبيت وركع ركعتين وسعى بين الصفا والمروة فصار حجه عمرة فحل أقد انقضى مشيه؟ .
فقال: نعم قد انقضى مشيه وعليه حج قابل، قلت له: أرأيت إذا حج قابلا أعليه أن يمشي من مكة إلى منى حتى يقضي حجه؟ قال: ليس عليه ذلك، قيل له: إنه قد كان مشى في حج ففاته الحج، فقال:(3/139)
قد كان مشى في حج وليس ذلك عليه فإذا فاته الحج فقد صار عمرة وقضى مشيه ولا شيء عليه فيما يستقبل.
قال محمد بن أحمد: هذا مثل قوله في المدونة إنه إذا كان عليه مشي فجعله في حج ففاته الحج أنه يحمل العمرة ويجزيه المشي ويحج عاما قابلا راكبا، وليس عليه أن يمشي بقية مناسك الحج التي فاتته بخلاف إذا نذر المشي في حج، هذا عليه إذا فاته الحج فحل بعمرة ثم حج عاما قابلا راكبا أن يمشي بقية مناسك الحج التي فاتته. وقال فضل: القياس أن يكون عليه إذا رجع أن يمشي ما بقي عليه من المناسك إذا جعل مشيه في حج ففاته الحج وإن كان لم ينذره في حج، وقوله عندي صحيح إذ لا اختلاف في وجوب مشي المناسك عليه إذا جعل مشيه في حج وإن كان لم ينذره في حج، فإذا وجب عليه أن يمشي جميع مناسك الحج لجعله مشيه فيه وجب إذا فاتته أن يقضيها ماشيا، كما لو أن نذر. وقد قال بعض أهل النظر: إن القياس على أصل ابن القاسم في الحج الثالث من المدونة ألا يجزئ شيء لأنه متحلل بعمل العمرة وليست عنده بعمرة صحيحة. قال: لحلف فيه قول ابن القاسم يريد في المدونة لأنه قد نص فيها أن الذي يصير إلى العمرة وتحلل بعمرة على ما قاله مالك في هذه الرواية من أن حجه بصير قال بما في الذي يجامع بعد أن فاته الحج أن لا عمرة عليه وكان القياس على قوله أن يصير عمرة أن يكون عليه قضاء العمرة إذا وطئ بعد أن فاته الحج. وقال أيضا في الذي(3/140)
يتعدى الميقات فأحرم بالحج بعدما تعداه ثم فاته الحج أنه لا دم عليه لتعديه الميقات وكان القياس أيضا على قوله إن حجه يصير عمرة أن يكون عليه الدم لترك الميقات كمن جاوز الميقات ثم أحرم بعمرة وإلى هذه المسألة من لحج الثالث أشار بعض أهل النظر والله أعلم. ووجه ما ذهب إليه أنه لما كان ما ترك من الإحرام من الميقات لا يعتبر فيه فيلزمه فيه الهدي إذ قد فاته الحج الذي أحرم به فذلك لا يجزيه المشي الذي مشى في إحرامه بالحج إذ قد فاته الحج، والله أعلم.
[مسألة: حلف بالمشي من الأندلس إلى مكة]
مسألة وسئل مالك عمن حلف بالمشي من الأندلس أترى له سعة في ركوب البحر؟ قال: نعم كيف يصنع إلا ذلك لا بد له منه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن الذي يحلف بالمشي إلى مكة إنما تقع يمينه على مشي ما يمكن مشيه من الطريق الناجد كمن نذر صوم سنة بعينها أو صلاة يوم بعينه إنما يصح نذره على ما يصح صيامه من الأيام وصلاته من الأزمان وليس عليه أن يحلق في طريقه حتى يقل ركوبه للبحر، بل لا يسوغ له ذلك لأنه يتعب نفسه فيما لا طاعة فيه ولا قربة، إذا لو نذر رجل بالمدينة أن يمشي إلى مكة على الشام أو على العراق أو من الأندلس على غانة وشبهها لم يلزمه ذلك ولا ساغ له، ولو أن رجلا أراد أن يحلق في طريقه إلى المسجد لتكثر خطاه لما جاء من الثواب في ذلك لكان مخطئا في فعله وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف الناسي]
مسألة وسألت امرأة فقالت: إن ابني استخبأني دراهم، ثم إنه سألها مني فرددتها عليه فأخذها ثم رد علي منها خمسة دراهم فخبأتها في(3/141)
خماري فلما كان بعد ذلك طرحت الخمار عني وأقبلت على عمل بيتي، فجاءني ابني فقال: هات الدراهم الخمسة التي استخبأتك، فقالت له: ما استخبأتني شيئا إلا التي رددت عليك، فقال: بل رددت علي الدنانير والدراهم ثم استخبأتك بعد ذلك خمسة دراهم، فقالت: لا والله، فقال: انظري إن كنت خبأتها في الفراش أو الخصفة، فقلت: علي المشي إلى مكة إن كنت خبأتها في فراش أو خصفة أو شيء، ثم ذهبت أطلب فوجدتها في خماري كما جعلتها فذكرتها، فما ترى علي؟ فقال لها: أليس إنما حلفت ناسية لإعطائه إياك؟ قالت: بلى، فقال: فامش إلى بيت الله، فإن كنت لا تقدرين فامش واهدي، وليس عليك عجلة حتى تجدي وتقوي على ذلك، وأرجو ألا يكون عليك بأس إن شاء الله أبشري، قال لنا: وما هدي مثل هذه؟ قال: أرى هديها شاة، ثم قال: كان يقال: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» ، لئن دخلت هذه السوداء الجنة فما ضرها سوادها، خافت يمينها هذا الخوف وأخرى أهيأ منها لا تخاف خوفها.
قال محمد بن أحمد: قال لها أليس إنما حلفت ناسية لإعطائه إياك، فقالت: بلى، من أجل ما رأى بها من الفزع لأنها أتت وهي ترعد على ما ذكر في هذه الحكاية في غير هذا الموضع مخافة أن تكون قد وقعت من الإثم والحرج فيما لا مخلص لها منه، ويدل على ذلك قوله خافت يمينها هذا(3/142)
الخوف فلم يكن عليها في يمينها إثم ولا كفارة لأنها كانت لغوا إذ حلفت بالله تعالى ناسية لإعطائها إياها الخمسة الدراهم، ووجب عليها المشي إلى بيت الله إذ لا يكون اللغو في المشي ولا فيما سوى اليمين بالله تعالى. وقوله: فإن كنت لا تقدرين فاركبي واهدي، معناه فاركبي إذا عجزت عن المشي بعد أن تمشي ما قدرت عليه واهدي، ولم يأمرها أن ترجع ثانية فيحتمل أن يكون رأى من حالها أنها لا تقدر أن تمشي الطريق كله في مرتين، ولذلك لم يأمرها بالرجوع ثانية إذ لم يختلف قوله فيما علمت أن الحالف بالمشي يلزمه الرجوع ثانية لمشي ما عجز عنه فركبه، ويرى عليه الهدي مع ذلك لتفريق المشي، وأهل المدينة سواه يرون عليه الرجوع ثانية دون الهدي، وأهل مكة يرون عليه الهدي دون الرجوع، ومن أهل العلم من لم يوجب عليه الهدي ولا الرجوع، وقد روي ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقوله: وليس عليك عجلة حتى تجدي وتقوي، تخفيف منه عليها لما رأى بها من الضعف على القول بأن الأمر لا يقتضي الفور فإن الحج على التراخي، ولتخفيفه عنها في هذا. قال لها: وأرجو أن لا يكون عليك بأس، وقال لها: أبشري لما رجاه لها من النجاة والخير لشدة ما رآه بها من الخوف، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلقها فحلفت بالعتق ألا تقبل منه منفعة فكسا جاريتها]
ومن كتاب العتق مسألة وسئل عن امرأة طلقها زوجها فحلفت بالعتق ألا تقبل منه منفعة فندم وخدمته جاريتها وقامت عليه، فلما أراد الخروج(3/143)
كسا جارية لها ثوبا وأعطاها دريهمات، فقال: لا أرى أن تقبل ذلك وأرى أن ترده عليه لأن تلك الكسوة. هي تنتفع بها تكف عنها كسوة خادمها، وتلك الدريهمات تنتفع بها خادمها وتقوى بها على عملها فلا أرى لها أن تقبل ذلك وأرى أن ترده عليه فإن كان غائبا فلتبعث به إليه، وإن هلك الرجل قبل أن تبعث به إليه ولم تقبله فلا شيء عليها، فإن كان ذلك أمرا قد فات وقبلته فأرى أن تدين في ذلك، فإن قالت: لم أرد هذا، وليس هذا الذي أردت ولم أرد خادمي ولا عبدي رأيت أن تنوى فتحلف على نيتها ولا حنث عليها إلا أن تكون انتفعت بذلك، فإن كانت انتفعت بشيء منه قليلا أو كثيرا فقد حنثت، ورأيت ذلك لازما لها لأنها حلفت ألا تقبل منه منفعة فقد انتفعت وإن كان الذي نالت منه الوليدة إنما هو طعام أكلته رأيت ذلك خفيفا.
قال محمد بن أحمد: المسألة صحيحة على أصولهم لا كلام فيها إلا قوله في آخرها وإن كان الذي نالت منه الوليدة إنما هو طعام أكلته رأيت ذلك خفيفا، فمعناه في الطعام اليسير الذي لا ينحط به عنها من مؤنة نفقة خادمها شيء؟ وكذلك قال مالك في أول سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق، وهو مفسر لهذا والله أعلم. وإيجابه اليمين عليها إن قبلت ما وهبه إياها لخادمها وادعت أنها لم ترد خادمها صحيح؛ لأنها نية محتملة لا يشهد بصحتها شاهد من ظاهر حال أو دليل لفظ أو عرف مقصد وما أشبه ذلك فتسقط عنها اليمين من أجل ذلك ولا هي أيضا مخالفة لظاهر لفظ اليمين فلا تصدق فيها بيمين ولا بغير يمين؛ لأن ما يدعي الحالف من النية فيما(3/144)
يحكم به عليه إذا لم يأت مستفتيا لا يخرج عن هذه الثلاثة الأقسام، وأما إذا أتى مستفتيا أو كانت يمينه مما لا يحكم بها عليه فينوي فيما نواه دون يمين وإن كانت نيته التي نواها مخالفة لظاهر لفظه وبالله التوفيق.
[مسألة: كان مع أخ له في منزله وكانت له شاة فحلف بالمشي إلى مكة ليبيعنها]
ومن كتاب الأقضية مسألة وسئل مالك عن رجل كان مع أخ له في منزله وكانت له شاة فحلف بالمشي إلى مكة ليبيعنها وليخرجنها عنه، فباعها وأخرجها عنه ثم باعها المبتاع من آخر والآخر من آخر ثم أراد أن يبيعها بثمن وكس فأراد صاحبها الأول أن يشتريها فخاف أن يدخل على أخيه في يمينه شيء، وألا يكون خرج من يمينه، فقال: لا يشتريها. نعم يدخل عليه يمينه شيء وخاف إن اشتراها ألا يكون أخوه خرج من يمينه.
قال محمد بن رشد: حمل يمينه على أخيه أن يبيع الشاة ويخرجها عنه على أنه إنما أراد ألا تكون معه في داره خلاف ما لفظ به، فرأى عليه الحنث إن ردها بعد أن باعها وأخرجها وتداولتها الأملاك. وقال في رسم تأخير العشاء من سماع ابن القاسم في الذي يحلف على رجل لينتقلن من داره فانتقل أنه لا حنث عليه إن رده إليها بعد أن انتقل عنها إلا أن يكون أراد ألا يساكنه فحمل يمينه على الانتقال الذي لفظ به حتى يريد ترك المساكنة وذلك تعارض بين في الظاهر، وبينهما من جهة المعنى فرق ظاهر، وهو أن يكون الرجل مع الحالف في داره لفظا يختص به وهو السكنى، فلما عدل(3/145)
الحالف إلى الانتقال حملت يمينه إذا لم تكن نية على ما لفظ به من الانتقال لاحتمال أن يكون أراد معاقبته بذلك، وليس لكون الشاة معه في داره لفظ يختص به، فلما لم يكن لذلك لفظ يختص به فعدل عنه إلى ما لفظ به حملت يمينه على أنه إنما أراد ألا تكون الشاة معه في داره إذ لا غرض يظهر في بيعها وإخراجها من داره إلا ذلك والله أعلم.
[مسألة: حلف ألا يأخذ لفلان مالا فمات المحلوف عليه]
مسألة ومن حلف ألا يدخل على فلان بيتا حياته فدخل عليه ميتا حنث، ولو حلف ألا يأخذ لفلان مالا فمات المحلوف عليه فأخذ الحالف من تركته مالا فإنه لا حنث عليه إلا أن يكون الميت المحلوف عليه أوصى بوصية أو كان عليه دين فإنه حانث بذلك.
قال سحنون: وكذلك حلف ألا يأكل من طعام رجل فمات المحلوف عليه فأكل الحالف من المال قبل أن يجمع ويقسم، فإن كان عليه دين أو أوصى بوصايا فإنه حانث وذلك أن المال للميت إذا كان عليه دين وعنه يقضى، وليس للورثة مراثا إلا بعد قضاء الدين، وكذلك إذا كانت وصايا ولم يكن عليه دين فهو شريك للورثة بوصاياه في الثلث، فإن أكل من ذلك شيئا حنث، وقد قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، فإنما يكون للورثة ما بعد الدين قاله أصبغ.(3/146)
قال محمد بن أحمد: قوله فيمن حلف ألا يدخل على فلان بيتا حياته فدخل عليه ميتا إنه يحنث هو مثل ما لأصبغ في نوازله بعد هذا في من حلف ألا يدخل بيت فلان ما عاش.
وقال سحنون: لا حنث عليه، وجه القول الأول أن قول الحالف حياته أو ما عاش لا يحمل على أنه أراد بذلك أجلا وقته ليمينه؛ لأن الظاهر من إرادته أنه أراد ألا يدخل عليه أبدا، فعبر عن ذلك بحياته أو ما عاش لأن ذلك هو الغاية التي يقصد بها الناس التأبيد في عرف كلامهم، من ذلك قول الرجل: لا أدخل هذه الدار حياتي أو ما عشت أو لا آكل من هذا الطعام حياتي أو ما عشت ولا أكلم فلانا حياته أو ما عاش إذا أراد أنه لا يفعل شيئا من ذلك كله أبدا، ووجه قول سحنون اتباع ظاهر اللفظ دون مراعاة المعنى، فقول مالك أولى بالصواب، ولو قال الرجل: لا أدخل على فلان بيتا أبدا فدخل عليه ميتا حنث إلا أن يريد حياته قولا واحدا على ما في أول رسم الطلاق الأول من سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق، وما في سماع أبي زيد منه، وقوله فيمن حلف ألا يأخذ لفلان مالا فمات فأخذ من تركته أنه حانث إن كان أوصى بوصية أو كان عليه دين. قال ابن القاسم في المجموعة وإن لم يكن الدين محيطا به وقد قيل: إنه لا حنث عليه وإن أحاط الدين بتركته، وقاله أشهب وهو الأظهر؛ لأن الميت إذا مات فقد ارتفع ملكه من ماله ووجب لمن يجب له منه أخذه من ورثته وأهل وصاياه وغرمائه إن كان عليه دين، وهذا الاختلاف إنما هو إذا لم يكن للحالف نية ولا كان ليمينه بساط فإن كانت يمين الحالف كراهية للمال لخبث أصله فهو حانث على كل حال كان على الميت دين وله وصية أو لم يكن، وإن كان كراهية لمنه عليه فلا حنث عليه على حال كان على الميت دين أيضا وكانت له وصية أو لم يكن.(3/147)
[مسألة: حلف على صديق له بعتق رقبة إن كلمه حتى يمنع امرأته النفقة]
مسألة وقال أشهب: سئل مالك عن رجل حلف على صديق له بعتق رقبة إن كلمه حتى يمنع امرأته النفقة فلا ينفق عليها ما دخلت عليها فلانة وكف عن كلامه فكان الرجل يلقاه ويسلم عليه فلا يرد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مخافة أن يحنث، فلما أكثر عليه من ذلك عمد إلى أخ له فقال: تعلم أني حلفت على فلان ألا أكلمه حتى يكف عن النفقة على امرأته فلا ينفق عليها ما دخلت عليها فلانة وأنه يلقاني فيسلم علي وإني أخاف أن أرد عليه فأحنث، فقال له الرجل: أنا أكفيكه، ثم إن الرجل زوج المرأة لقي الحالف فسلم عليه فرد عليه فخاف أن يكون قد حنث فذهب إلى ذلك الرجل الذي كان استعان به. فقال له: تعلم أن فلانا لقيني فسلم علي فرددت عليه، إني أخاف أن أكون قد حنثت، فقال له الرجل: لم يحنثك الله قد لقيته قبل أن يلقاك ويسلم عليك فذكرت له ما ذكرت لي فقال لي: إني كنت قد منعتها النفقة قبل ذلك وأنا مجمع على ألا أنفق عليها فيما أستقبل، قال مالك: وما يدريه أن هذا الرجل قد صدقه لعله قد كذبه، أحب إلي أن يعتق رقبة، فقال له السائل: لا والله ولكنه قد صدقه، فقال له مالك: من يضمن له ذلك أنت؟ أحب إلي أن يعتق رقبة لأنه لا يدري لعله قد كذبه والناس يهونون على الناس في مثل هذا من القول فأحب أن يعتق رقبة.
قال محمد بن أحمد: استحب له أن يعتق رقبة لأنه لا يدري هل(3/148)
صدقه الرجل أو كذبه، فدل ذلك من قوله أنه لو استيقن أنه صدقه لم يكن لاستحبابه له العتق وجه، ففي ذلك من قوله. نظر؛ لأنه وإن صدق هو فيما أخبر به عن الرجل فقد يكون الذي أخبره قد كذب فيما أخبره به عن نفسه من أنه قد منع امرأته النفقة وأجمع على ألا ينفق عليها فيما يستقبل، فالاختيار له أن يعتق رقبة إلا أن يستيقن أن الرجل قد منع امرأته النفقة قبل أن رد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والذي يستيقن به ذلك شهادة رجلين عدلين بذلك. قال سحنون في كتاب ابنه في نحو هذه المسألة وفي أول رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب الشهادات في نحو هذه المسألة إنه لا يقبل في ذلك شهادة أربع نسوة، وهو دليل ما في رسم العرية من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب، ولو أخبره مخبر عدل قبل أن يكلمه أنه قد منع امرأته النفقة لجاز له أن يكلمه ولا يكون عليه شيء من طريق قبول خبر الواحد لا من طريق الشهادة، فاعرف الفرق في ذلك بين أن يكون الإخبار قبل أن يكلمه، أو بعد أن كلمه؛ لأنه قبل أن يكلمه بمعنى الإخبار وبعد أن كلمه بمعنى الشهادة وبالله التوفيق.
[مسألة: قالت له زوجته إيذن لي فحلف ألا يأذن لها حتى يقدم فتأخر أيأذن لها]
ومن كتاب الجنائز والذبائح والنذور مسألة قال أشهب: وسئل مالك عمن تجهز يريد العمرة حتى إذا حضر مسيره، قالت له امرأته: إيذن لي إلى المخارج التي كنت أخرجها، فحلف ألا يأذن لها حتى يقدم، فبلغه شدة الحر ومرض رقيق كان يريد المسير بهم فأراد المقام بهم حتى يبرد الزمان ويبرأ رقيقه أله أن يأذن لها؟ فقال: إن كان نوى ألا يأذن لها في غيبته لأنه لا واعظ لها ولا معاتب وخاف كثرة الخروج فهو أخف.
قال محمد بن أحمد: يريد أنه إن نوى ذلك فهو أخف وله أن يأذن لها(3/149)
إن لم تخرج للعلة التي ذكر ولا يكون عليه شيء، وإن لم يكن نوى ذلك فليس له أن يأذن لها إلى مقدار ما كان يرجع إليه من عمرته لو خرج إليها ولم يعقه عن ذلك عائق، فإن أذن لها حنث، وفي سماع أصبغ من كتاب الأيمان بالطلاق في الذي يحلف بالطلاق ألا تدخل امرأته موضعا سماه حتى يقدم من سفر الحج كان أو غيره ثم يبدو له ألا يخرج إن اليمين عليه إلى مقدار رجعته من سفره ولا ينوى في ذلك، فالظاهر أن ذلك خلاف رواية أشهب لأنه لم ينوه، ونواه في رواية أشهب، وعلى الخلاف كان الشيوخ يحملون الروايتين. وليس ذلك بصحيح، والفرق بين المسألتين أن يمين الحالف في رواية أشهب خرجت على سؤال امرأته إياه أن يأذن لها في الخروج في غيبته إلى المخارج التي كانت تخرجها وكان بساط اليمين شاهدا لما ادعاه من أنه أراد ألا يأذن لها في غيبته فوجب أن يصدق في ذلك لا سيما وهو مستفت إذ لم يأذن لها بعد، وإنما سأل هل يحنث إذا أذن لها، ولعل يمينه أيضا مما لا يقضى به عليه، ورواية أصبغ خرجت يمين الحالف فيها ابتداء على غير سبب فلم يصدق فيما ادعى من النية إذ هي مخالفة لظاهر لفظه ولا دليل عليها من بساط ولا غيره، فوجب أن لا يصدق في ذلك لأن يمينه بالطلاق وهو مما يقضي به عليه ولم يأت مستفتيا، وأما لو كانت اليمين مما لا يقضى به عليه أو أتى مستفتيا لنوي على كل حال باتفاق وإن كانت النية التي يدعي مخالفة لظاهر لفظه وبالله التوفيق.
[مسألة: اليمين والنذور في الغضب]
مسألة وسألته عن اليمين والنذور في الغضب.
فقال: تلزم صاحبها.
قال محمد بن أحمد: لا اختلاف في المذهب في أن النذور واليمين بالطلاق لازمان في الغضب كما يلزم فيه جميع الحدود من القتل والقذف وغير ذلك إذ ليس الغاضب بمجنون فالقلم عنه غير مرفوع، وما روي من أن(3/150)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين» ليس بصحيح من جهة الإسناد ولا من جهة المتن أيضا؛ لأنه إن كان في حكم المجنون فلا ينبغي أن تلزمه كفارة، وإن كان في حكم الصحيح فينبغي أن يلزمه النذر الذي سماه بعينه إن لم تكن معصية، وقد تأول بعض من ذهب إلى أن من نذر معصية فكفارته كفارة يمين إلى أن معنى لا نذر في غضب أي في غضب الله يريد في معصيته، وهو تأويل بعيد، وما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق ولا إعتاق في إغلاق» معناه عندنا في إكراه؛ لأن الإغلاق هو الإطباق من أغلقت الباب فكأن المكره قصر عن الفعل وأغلق عليه حتى فعله، وقول من قال: إن الإغلاق الغضب لا يصح؛ لأن الطلاق أكثر ما يكون في الغضب، وإلى ذلك نحا البخاري لأنه بوب باب الطلاق في الإغلاق والكره واستشهد بقوله، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،: «إنما الأعمال بالنيات» وبقول ابن عباس: الطلاق عن وطر، والعتاق ما أريد به وجه الله تعالى.
[مسألة: حلف في جارية له بمشي إلى بيت الله ألا يبيعها بثلاثمائة دينار]
مسألة قال: وسألته عمن حلف في جارية له بمشي إلى بيت الله ألا يبيعها بثلاثمائة دينار حتى يزاد فباعها بثلاثمائة دينار فسأله ابن عم له بعد أن انتقد الثمن أن يهب له خمسة عشر دينارا بعد أن فرغا من البيع ولم يكن ذلك على شرط ولا موعد، فوهبها له فأعطاها ابن عمه المشتري، فخاف أن يكون قد حنث فقال مالك: والله إني لأخاف ذلك قد علم أنه إنما يعطيه إياها.(3/151)
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال لأن ما رد إليه من الثمن في المجلس فكأنه لم يبع به ولا قبضه فوجب أن يحنث؛ إذ لا فرق بين أن يردها هو عليه أو يعطيها لمن يعلم أنه يردها عليه وقد مضى بيان هذا في رسم حلف ليرفعن أمرا، ورسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم ولو لم يعلم أنه يعطيه إياها وظن أنه إنما استوهبه إياها لا ليردها عليه لما كان بذلك حنث ولا يصدق في ذلك إن كانت يمينه مما يقضى عليه به إلا أن يأتي مستفتيا لأن ظاهر الأمر خلاف ما يدعيه.
[مسألة: يحلف ويستثني فيقول علمي]
مسألة وسئل عن الحالف يحلف ويستثني فيقول علمي، فقال: ذلك له إن شاء الله ما أوجدها إن كان صادقا أن ذلك علمه.
قال محمد بن أحمد: استثناء الرجل علمه إنما يتصور في الماضي فلا يوجب حكمه إلا فيما يكون فيه اللغو من الأيمان لأن من حلف بالله ما دخل فلان أمس الدار وذلك يقينه وعلمه، ثم انكشف أنه قد كان دخلها فلا شيء عليه لأن يمينه لغو. ولو قال: علي المشي إلى بيت الله ما دخل فلان أمس الدار وذلك يقينه وعلمه ثم انكشف له أنه قد كان دخلها وجب عليه المشي إلا أن يكون قد استثنى في يمينه فقال: علي المشي إلى بيت الله ما دخل فلان أمس الدار في علمي فينفعه عليه استثناؤه ولا يكون عليه مشي إن انكشف له أنه قد كان دخلها أمس، وقد وقعت من هذا مسألة في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق وهذا من الاستثناء الذي يكون بغير حرف الاستثناء في شرط(3/152)
اتصاله بالكلام وتحريك اللسان وهو أن يقيد عموم لفظ يمينه بصفة لأن تقييد اللفظ العام بالصفة يخرج منه ما ليس على تلك الصفة فهو بمنزلة أن يستثنيه بإلا أو بسائر حروف الاستثناء، مثال ذلك أن يحلف فيقول: والله لأعطين أخوال فلان درهما درهما فإن لم يعمهم بالإعطاء حنث إلا أن يستثني بعضهم بتقييد صفة مثل أن يقول متصلا بيمينه قبل أن يسكت الصغار ويحرك بذلك لسانه فينفعه استثناؤه ولا يكون عليه أن يعطي الكبار، بمنزلة أن يقول متصلا بيمينه قبل أن يسكت إلا الكبار؛ لأن تقييد لفظ الأحوال بالصغار يخرج منهم الكبار وعلى هذا فقس ما شابهه من هذا النوع وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بالمشي إلى بيت الله ثلاثين حجة إن بات مع أمه]
مسألة وسئل عمن يحلف بالمشي إلى بيت الله ثلاثين حجة إن بات مع أمه في قاعة الدار سنة، فقال: أحب إلي ألا يبيت معها في قاعة الدار سنة فما أقرب ذلك، قيل له: إن يبت معها في السطح من بيتها وإنما قال في قاعة الدار؟ قال: يسأل عما أراد.
قال محمد بن أحمد: قوله: أحب إلي ألا يبيت معها في قاعة الدار سنة معناه أحب إلي أن لا يبيت معها في قاعة الدار سنة فيبر من أن يبيت معها فيها فيحنث ويجب عليه المشي فلا يمشي إذ لا يتعلق الاستحباب إلا في المشي إذا حنث، وقال في ذلك: أحب إلي وإن كان واجبا عنده إذ ليس بمتفق على وجوبه وقوله: يسأل عما أراد إن بات معها في سطح بيتها صحيح؛ إذ قد يريد التنحي عن المبيت معها ومجانبة ذلك وإنما قال في قاعة الدار لأن عادته كانت أن يبيت معها فيها فخرجت يمينه على ذلك من غير قصد إليه، وقد يريد ألا يبيت معها في قاعة الدار لمعنى أصابه فيها مما يختص بها من حر أو برد أو ما أشبه ذلك، فإن أراد مجانبة المبيت معها فهو حانث حيثما بات معها، وإن أراد ألا يبيت معها في قاعة الدار فلا شيء عليه إن بات معها بغير(3/153)
قاعتها، وإن لم تكن له نية فله أن يبيت معها في غير قاعة الدار؛ لأن الأيمان إذا عريت عن النيات وعما يدل عليها من بساط أو عرف تحمل على مقتضى ألفاظها.
[مسألة: حلفت لزوج ابنتها لئن أنت لم تفعل إلى الليل لا أدخل لك بيتا سنة]
مسألة قال: وسئل عن امرأة بعثت إلى زوج ابنتها أن ابعث إلي ابنتي، وحلفت لئن أنت لم تفعل إلى الليل لا أدخل لك بيتا سنة، فذهب الرسول ولم يجده فغاب حتى الليل ثم جاء فأخبر وقال: لم أعلم، ولو جاءني الرسول لم أمنعها فأطرق فيها ثم قال: ذهبت فوجدته قد مات، ذهب إلى السوق قد سافر قد ذهب إلى العقيق، كنت أرى في مثل هذا أن تدين، يقول: لم أرد أن أجده قد مات إنما أردت التغليظ عليه لئلا يمنعني، ولم أرد أن أجده قد سافر وغاب، ومثل ذلك أن يرسل الرجل إلى أخ له إن لم تأتني الآن فعلي كذا وكذا، فيجده الرسول قد مات أو غاب أو سجن.
قال محمد بن رشد: إذا كانت نيتها ذلك فهو بين أن لا شيء عليها، وإن لم تكن لها نية فيمينها محمولة على ذلك أيضا؛ لأنه المعنى المفهوم من قصدها بيمينها فلا شيء عليها إلا أن تكون أرادت ألا تدخل له بيتا إن لم يرسل إليها ابنتها ذلك اليوم إلى الليل وصل إليه رسولها بذلك أو لم يصل وجد أو لم يوجد وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف على رجل إن أدخلت فلانا بيتك لا أدخل لك بيتا سنة]
مسألة قال مالك: وسئل عن رجل حلف على رجل إن أدخلت فلانا(3/154)
بيتك لا أدخل لك بيتا سنة وحلف بالحرية، ثم إن الحالف أراد أن يدخل الرجل منزله الذي كان حلف عليه ألا يدخله، وأبى الذي حلف عليه أن يدخله، فقال: إذا أدخله رأيته قد حنث إلا أن يكون استثنى إلا برضاي، فإن أدخله ولم يكن استثنى إلا برضاي فقد حنث.
قال محمد بن رشد: هذا بين أنه يحنث إن أدخله المحلوف عليه برضى الحالف لأنه أبهم يمينه فعمت رضاه وسخطه، فوجب أن يحنث إن أدخله برضاه إلا أن يكون استثنى فقال: إلا برضاي متصلا يمينه محركا بذلك لسانه على المشهور في المذهب، أو يكون كان أراد أن أدخله بيته بغير رضاه ونوى ذلك بنية عقد عليها يمينه، فينفعه ذلك وتكون له نيته ولا يحنث أيضا إن أدخله برضاه وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أعاهد الله عهدا لا أخيس به ألا تدخلي بيت أمك]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: أعاهد الله عهدا لا أخيس به ألا تدخلي بيت أمك أو أهلك ثم أراد أن يأذن لها بذلك، فقال: يكفر كفارة يمين يطعم عشرة مساكين ويزيد أحب إلي على ذلك يتقرب إلى الله تعالى، «وقال أبو لبابة حين أصاب الذنب لرسول الله: " أجاورك وأنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله "، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يجزيك من ذلك الثلث» . وقال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] الآية. وقال على إثر هذا: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] .(3/155)
قال محمد بن أحمد: قول الرجل أعاهد الله ألا أفعل كذا يمين كفارتها كفارة اليمين، له أن يحنث ويكفر إن شاء، كقوله: علي عهد الله لا أفعل كذا سواء عند مالك، ولم ير ما زاده في اليمين بالعهد من قوله عهدا مما لا أخيس به مما يخرج به اليمين عن حكم اليمين إلى حكم العهد الذي يخرج مخرج المعاقدة والمعاهدة فلا يكون له مخرج إلا الوفاء به، ويكون أعظم من أن يكون فيه كفارة وأن يأذن لها ويكفر كفارة يمين، واستحب أن يزيد على ذلك تقربا لله لحلفه على منع أهله من دخول بيت أمها وأهلها لما في ذلك من قطع ما أمر الله بوصله من صلة الرحم حيث يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] يريد أن تقطعوها على ما جاء في تفسير الآية، فرأى ذلك ذنبا، واستحب له الصدقة من أجله لما جاء فيها من أنها تكفر الذنوب، واستدل على استحباب الصدقة لها زيادة على الكفارة بما ذكره من حديث أبي لبابة حين أصاب الذنب إلى سائر ما ذكره في الرواية، ومما وكد الإثم عليه عنده في حلفه على امرأته ألا تدخل بيت أمها وأهلها استلحاحه على منعها من ذلك أبدا بقوله عهدا لا أخيس عليه به لأن معنى لا أخيس به لا أرجع فيه بأن آذن لها وأكفر على ما ندب إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليفعل الذي هو خير وليكفر عن يمينه» ، ومما يدل على أنه أثم في يمينه ما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استلحح على امرأته فهو أعظم إثما» يريد من غيره من الحالفين على ما سوى ذلك والله أعلم، وقد روى ابن أبي جعفر عن ابن القاسم في هذا رواية شاذة خارجة عن الأصول.
قال: سئل ابن القاسم عمن قال علي عهد الله عهدا لا أخيس به إن أذنت لامرأتي، قال: ليس في هذا كفارة، قيل له: هذا أعظم لأنه قال: لا أخيس(3/156)
به قال برأسه نعم. وإنما قلنا فيها: إنها خارجة عن الأصول لأنه يلزم على قوله فيها أن هذه اليمين أعظم من أن تكون فيها كفارة إلا أن للحالف بها أن يحنث نفسه فيها بالإذن لامرأته، وذلك باطل لا سيما إن كان حلف ألا يأذن لها فيما يلزمه الإذن لها فيه، ويكون في الإصرار على الامتناع من ذلك عاصيا أو قاطعا الرحم. وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على قطيعة رحم أو معصية فحنث فذلك كفارة» ، يريد والله أعلم كفارة من الذنب، وعليه كفارة يمين، وإنما العهد الذي يكون أعظم من أن يكون فيه كفارة ما خرج مخرج المعاهدة على ما يسأل الرجل إياه فيقول لك: عهد الله أن أفعل لك ما سألتني إياه، فهذا الذي لا يحل إلا الوفاء بما عاهد الله لصاحبه عليه، وهذا بين كله، والحمد لله.
[مسألة: حلف أحدهما بمشي إلى بيت الله إن بنى معه في منزله لبنة على لبنة]
مسألة قال: وسئل عن رجلين كان بينهما منزل فوقع فيه شيء فحلف أحدهما بمشي إلى بيت الله إن بنى معه فيه لبنة على لبنة، أترى من ذلك إن بنى الجدار بينهما في القسم. فقال ذلك إلى نيته إن كان أراد إلا جدار القسم فذلك له وإن لم يكن أراد شيئا فهذا بنيان ويخرجه من يمينه أن يمشي إلى بيت الله. قال أشهب: لا يجوز ذلك إلا أن يكون تكلم بلسانه في استثنائه.
قال محمد بن رشد: قول أشهب إن الاستثناء بإلا لا بد فيه من تحريك اللسان هو المشهور في المذهب، وكذلك سائر حروف الاستثناء،(3/157)
وقد مضى ذلك في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، وأما الاستثناء، بإن وبإلا أن، فحكى ابن المواز أنه لا بد من تحريك اللسان فيه باتفاق، وقد مضى القول في ذلك في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم أيضا، وإن دعا المحلوف عليه الحالف إلى أن يبني معه جدارا بينهما لم يلزمه ذلك إلا أن يشترطاه في قسمتهما، ويقال له: استر على نفسك في حظك، وإن اشترطاه لزمهما، وأخذ من حظ كل واحد منهما نصف بنائه، وكانت النفقة بينهما بنصفين إلى أن يبلغ حد السترة إن لم يشترطا في ذلك حدا، وسواء كانت أنصباؤهما متفقة أو مختلفة، ولا يدخل في هذا الاختلاف الذي في أجرة القسام أن كانت تكون على قدر الانصباء أو على عدد الرؤوس.
[مسألة: جعل على نفسه طعام مساكين فأراد أن يطعم كل مسكين خمس ثمرات]
مسألة وسئل عمن جعل على نفسه طعام مساكين، فأراد أن يطعم كل مسكين خمس ثمرات. فقال: ما هذا وجه إطعام المساكين إلا أن يكون نوى ذلك فأرى ذلك له وإن لم يكن نوى شيئا فأرى أن يطعم كل مسكين مدا بالمد الأصغر. قال عز وجل: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] وليس فيه تسمية كم يطعم كل مسكين؟ فكان هذا لكل مسكين فأرى أن يطعم كل مسكين مدا بالمد الأصغر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا ينبغي أن يبر بإطعام خمس ثمرات لكل مسكين إذ ليس وجه ما حلف عليه إلا ما يرد جوعه إن كان جائعا، فلا يبر بأقل مما يعينه على الغداء أو العشاء، وليس قياس ما يبر فيه في اليمين على كفارة اليمين بواجب عند مالك، وإنما ذلك استحسان منه،(3/158)
والله أعلم لأن الله تعالى قد وصف قدر الإطعام فيها بقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] فلذلك كان مدا لكل مسكين، ألا ترى أن ما كان من الإطعام لم يوصف قدره في القرآن لم يجز فيه مد واحد كفدية الأداء فوجب أن يقاس ما يبر به في اليمين على ما في القرآن لكان الأولى أن يقاس على فدية الأداء التي سماها الله في القرآن صدقة، ولم يصف قدرها فيه فلا يبر بأقل من مدين لكل مسكين، فالصحيح أنه إذا لم يكن للحالف نية أن يبر بما يرد به جوع المسكين غداء أو عشاء كما قلناه؛ لأنه أقل ما يقع به الانتفاع للآكل، وسيأتي في سماع سحنون ما يبر به من حلف بصدقة ولم تكن له نية، وهو يبين ما ذهبنا إليه إذ لم يرد ذلك إلى ما في القرآن، وبالله التوفيق.
[مسألة: الحلف على ما لا يملك]
مسألة وكان ابن مسعود يشير إلى الشيء فيقول: ما أحب أن أقسم لا لمحمد هذا لأن البلاء موكل بالقول.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن القلوب بيد الله هو مالكها ومقلبها، وقد «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيرا ما يحلف لا ومقلب القلوب» فالحالف على ذلك حالف على ما لا يملك متجرئ على الله في يمينه على ما يملك دونه فلا يأمن بأن يعاقبه الله بأن يريه عجزه عما حلف مما لا يملكه.
[مسألة: حكم الحلف بالله]
مسألة وكان عيسى ابن مريم يقول: يا بني إسرائيل إن موسى كان ينهاكم أن تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون، ألا وإني أنهاكم أن تحلفوا بالله كاذبين أو صادقين.(3/159)
قال محمد بن أحمد: ظاهر قول عيسى ابن مريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أن شرعه مخالف لشرع موسى، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قبله في إباحة الحلف بالله على الصدق ومخالف لشرعنا أيضا لأن الله تعالى أمر نبيه، - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالحلف باسمه تعالى في غير ما آية من كتابه، فقال: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] ، وقال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] ، وقال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] . «وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيرا ما يحلف: لا والذي نفسي بيده» ، «ولا ومقلب القلوب» ، ولا وجه لكراهة ذلك لأن القصد إلى الحلف بالشيء تعظيم له، فلا شك أن في ذكر الله تعالى على وجه التعظيم له أجر عظيم، ويحتمل أن يكون عيسى ابن مريم، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إنما كره لهم اليمين بالله صادقين مخافة أن يكثر فيهم فيكون ذريعة إلى حلفهم بالله على ما لم يقولوه يقينا أو يواقعوا الحنث كثيرا ويقصروا في الكفارة فيواقعوا الإثم من أجل ذلك لا من أجل اليمين، وبالله التوفيق.
[مسألة: نذرت لتسيرن إلى مسجد الرسول فماتت قبل أن تقضي ذلك]
مسألة وسئل عن امرأة نذرت لتسيرن إلى مسجد الرسول فماتت قبل أن تقضي ذلك هل يقضي ذلك عنها أحد؟ قال: لا يصلي أحد عن أحد، قيل له: ما ترى؟ قال: ما مسيرة ذلك إلى المدينة؟ قال: خمس ليال، قال: فأرى أن تتصدقوا عنها وما زادوا في الصدقة فهو خير، قالوا له: فكم؟ فقال: إني أريد أن أقدر كراها وزادها مقبلة ومدبرة، ولقدومها مثله فيتصدق بذلك عنها.
قال محمد بن أحمد: ولا يلزم ورثها ذلك إلا أن توصي بذلك، أو بأن يقضى عنها الواجب عليها في نذرها، وكذلك لو كان نذرها بالمشي إلى مكة(3/160)
فأوصت أن يقضى عنها الواجب عليها في ذلك، لوجب أن يخرج عنها من ثلث ما لها قدر الكراء والنفقة إلى مكة لا غير ذلك، يجعل في هدايا؛ لأن الهدايا لمكة أفضل من الصدقة، قاله في سماع سحنون من كتاب الحج، وقد مضى في رسم حلف ليرفعن أمرا من سماع ابن القاسم منه القول فيما إذا أوصت أن يمشي عنها فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف وهو بالريف ألا يكلمه حتى يرجع من مكة فرجع فلقيه بالفسطاط]
من سماع عيسى من ابن القاسم من كتاب نقدها نقدها مسألة قال عيسى: وقال ابن القاسم في أخوين يسكنان الريف فأراد أحدهما الخروج إلى مكة فحلف الآخر وهما بالريف ألا يكلمه حتى يرجع من مكة، فرجع فلقيه هاهنا بالفسطاط فأراد أن يكلمه، قال: لا يكلمه حتى يرجع إلى الريف، وقال: أرأيت لو لقيه بالجحفة أكان يكلمه؟ .
قال محمد بن أحمد: في كتاب ابن المواز: إن كلمه بالفسطاط فلا شيء عليه إلا أن يكون نوى موضعه، وقول ابن القاسم هو الذي يوجبه النظر والقياس؛ لأن مقتضى يمينه ألا يكلمه حتى يرجع إلى المكان الذي كان معه فيه حين حلف، وما في كتاب محمد بن المواز استحسان يقرب ما بين الموضعين كنحو ما في سماع أبي زيد في الذي يقول: إن قضى الله عني مائة دينار فعلي صيام ثلاثة أشهر، فقضاها الله عنه إلا دينارا ونصفا فصام الثلاثة الأشهر، ثم قضى الله عنه الدينار والنصف أن صيامه يجزيه على ضعف، ولو حلف وهو معه بمكة ألا يكلمه حتى يرجع من حجه فكلمه بعد رجوعه من مكة بالطريق قبل أن يصل إلى بلده ولا نية له يجزي في ذلك على(3/161)
الاختلاف في المتمتع لا يجد الهدي فيصوم السبعة الأيام التي قال الله فيها: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] في الطريق قبل أن يصل إلى بلده، وقد ذكرنا ذلك في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الحج.
[مسألة: رجل قال مالي هدي]
مسألة وقال في رجل قال: مالي هدي، قال: يهدي ثلثه وتكون النفقة عليه وكل شيء حتى يبلغه من غير الثلث، وذلك أني سمعت مالكا، وسئل عن الذي يجب عليه صدقة ماله وهو بموضع ليس فيه مساكين، فقال: يحمله إلى المساكين ويكري من عنده حتى يبلغه، فمسألتك مثل هذه، وقال: من قال: إبلي هدي قال: يكون عليه أن يبلغها ولا يبيع منها شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي قال مالي هدي إن النفقة على الثلث الذي يلزمه إهداؤه منه يكون من غير الثلث صحيح في القياس والنظر، ولا إذ لو سمى الثلث فقال: ثلث مالي هدي لوجب عليه أن يهدي جميع ثلث ماله ينفق عليه من غيره؛ لأنه أوجبه هديا، والهدي لا يكون إلا بالغ الكعبة كما قال تعالى، فكذلك إذا لم يسم الثلث وقال: جميع مالي، وأما إذا قال: عبدي هذا أو إبلي هدي فالأمر في أنه يجب عليه أن يبلغها ولا يبيع منها شيئا واضح بين لا إشكال فيه، وقال في الذي يجب عليه صدقة ماله وهو في موضع ليس فيه مساكين أنه يحمله إلى المساكين ويكري عليه من عنده حتى يبلغه، ولم يبين إن كانت صدقة أوجبها على نفسه مثل أن يقول: لله علي أن أتصدق بهذا الطعام أو صدقة زكاة ماله، فأما إن كانت صدقة أوجبها على نفسه فبين أن عليه أن يوصلها إلى المساكين من ماله؛ لأن ذلك مقتضى(3/162)
نذره، كمن قال: إبلي هدي أن عليه أن يوصلها إلى الكعبة، وأما إن كانت صدقة زكاة ماله فلا يلزمه ذلك، وإنما يؤمر به استحبابا لأن الله قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] فالواجب أن تؤخذ منهم الزكاة في مواضعهم ولا يكلفون حملها، فإذا لم يأخذها منهم الإمام ولا بعث فيها إليهم جاز لهم من الكراء عليها منها ما يجوز للإمام، وقد مضى في رسم العشور من سماع عيسى من كتاب زكاة الحبوب ما فيه بيان هذا.
[مسألة: قال لرجل امرأته طالق إن كلمه إلى الصدر]
مسألة قال: وسئل عن رجل قال لرجل امرأته طالق إن كلمه إلى الصدر أي الصدرين فكلمه، قال: آخر الصدرين، فإن كلمه في الصدر الأول فلا شيء عليه، الصدر الأول لمن تعجل في يومين، قيل له: فإن قال: إن لم أكلم فلانا في الصدر فامرأته طالق. قال: يكلمه في الصدر الأول، فإن لم يفعل حتى الصدر الآخر فلا شيء عليه.
قال محمد بن أحمد: ساوى بين الصدرين في وجوب البر والحنث لأن الله خير بينهما فجعلهما بمنزلة سواء، وفرق بينهما فيما يأمره به من البر والحنث ابتداء لأن ذلك أنزه لنفسه وأبلغ في علم البراءة من يمينه، والله أعلم.
[مسألة: حلف ألا يأكل طعام رجل فتسلف منه قمحا فأكله]
مسألة وعن رجل حلف ألا يأكل طعام رجل فتسلف منه قمحا فأكله، قال: أرى أن ينوى، فإن كان أراد وجه ما يمن به عليه يهبه له(3/163)
أو يصله به ولم يرد وجه أن يبتاع أو يتسلف فلا شيء عليه، وإن لم تحضره نية في الابتياع والسلف فهو حانث.
قال محمد بن رشد: قوله: إن لم تكن له نية في الابتياع والسلف فهو حانث في السلف يدل أنه حانث أيضا في البيع عنده إن لم تكن له نية فيه، وذلك بين إذ لا فرق بين البيع والسلف في انتقال الملك إليه بكل واحد منهما، فإذا لم تكن له نية أصلا وجب أن يحنث بكل واحد منها، كما لو كانت يمينه لرداءة مكسبه وأما إذا كانت يمينه لمنة عليه فلا حنث عليه في الاشتراء إذا لم يحابه، ويحنث في السلف. وقال يحيى بن عمر: أخاف عليه فيه، وحنثه به بين، ألا أن تكون يمينه خرجت منه على منة مما سواه من الهبة والصدقة وإطعام الطعام، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لرجل ليقضينه حقه إلى أجل إلا أن يؤخره رسوله]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل حلف لرجل ليقضينه حقه إلى أجل إلا أن يؤخره رسوله أو يؤخره، فلما حل الأجل أبى صاحب الحق أن يؤخره فأخره رسوله، قال: إذا أخره رسوله فلا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: حكى يحيى أن أبا زيد روى عن ابن القاسم أنه لا يجوز تأخير رسوله إذا أبى صاحب الحق أن يؤخره. قال يحيى في الرواية الأولى على أن الحالف ينتفع بتأخير الرسول في ألا يجب عليه الحنث إذا لم يقضه حتى حل الأجل، ولم يقل إن تأخيره إياه يلزم صاحب الحق إذا أبى أن يؤخره إذ لا يصح أن يقال ذلك؛ لأنه معروف يصنعه في مال صاحب المال وهو كاره له، وتكلم في الرواية الثانية على أن تأخيره إياه لا يجوز عليه(3/164)
ولا يلزمه، ولم يقل إن الحالف يحنث إذا لم يقضه حتى حل الأجل إذا كان قد أخره؛ إذ يبعد أن يقال ذلك؛ لأنه قد استثنى في يمينه تأخير رسوله، ولم يشترط أن يكون ذلك برضاه، فهو يحمل على عمومه إلا أن يقر على نفسه أنه أراد أن يؤخره رسوله برضاه فيلزمه ذلك ويحنث إن لم يقضه حتى حل الأجل إلا أن يؤخره هو أو رسوله برضاه وهذا بين، والله أعلم.
[مسألة: حلف الإنسان في الشيء الواحد يردد فيه الأيمان يمينا بعد يمين]
ومن كتاب العرية مسألة قال سفيان بن عيينة التوكيد والله، ثم والله ثم والله.
قال محمد بن أحمد: هذا قول مالك وجميع أصحابه إن التوكيد حلف الإنسان في الشيء الواحد يردد فيه الأيمان يمينا بعد يمين، وكفارته كفارة واحدة مثل كفارة اليمين، وما روى مالك عن ابن عمر في الموطأ من أنه كان يقول من حلف بيمين يؤكدها ثم حنث فعليه عتق رقبة أو كسوة عشرة مساكين، ومن حلف بيمين فلم يؤكدها ثم حنث فعليه لكل مسكين مد من حنطة، وهو استحسان منه دون إيجاب، بدليل قوله فيه إنه يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين مد من حنطة لكل مسكين، وكان يعتق إذا وكد اليمين ولا اختلاف في ذلك؛ لأن الله خير الحالف في تكفير يمينه بين الإطعام والكسوة والعتق ولم يخص تأكيدا من غيره وقوله عز وجل: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] معناه في المعاهدة في الواجب، يقول أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا عهدكم بعد تأكيدها {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} [النحل: 91] بما التزمتم من دينه والسمع والطاعة لنبيه، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.(3/165)
[مسألة: قال كل شيء له حر إن وضعت ابنته عن زوجها شيئا من مهرها]
مسألة وقال في رجل استأذنته ابنته في أن تضع عن زوجها مهرها، فقال لها: كل شيء له حر وامرأته طالق وماله صدقة وعليه المشي إلى بيت الله إن وضعته عنه إن حضرت لك فرحا أو حزنا، فقالت له: والله لقد تصدقت به عليه منذ سنين، وشهد أربع نسوة على الصدقة بذلك عليه منذ سنتين، قال: ما أرى عليه حنثا إلا أن يكون أراد إن كانت وضعت ذلك عنه، وإن كان لم يرد إلا فيما يستقبل فما أرى عليه شيئا إذا استيقن أنها وضعت ذلك عنه قبل يمينه.
قال محمد بن أحمد: وإن لم تكن له نية في مضي أو استقبال فلا حنث عليه لأن يمينه على الاستقبال الذي حلف عليه حتى يريد غيره، ومثله في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب العتق، وقوله في آخر المسألة فما أرى عليه شيئا إذا استيقن أنها وضعت ذلك قبل يمينه وهو قد قال: إن الصدقة قد شهد عليها أربع نسوة منذ سنتين يدل على أن الاستقبال في ذلك لا يكون بشهادة النساء. وقد حكى محمد بن سحنون أن هذه الرواية ذكرت لأبيه فسر بها، وقال: لا يستيقن ذلك بالنساء ولكن بشاهدي عدل، وقد مضى هذا المعنى في رسم الأقضية من سماع أشهب، والله تعالى هو الموفق.
[مسألة: هل يكسى الصغار أو يطعمون من الكفارات]
ومن كتاب أوصى لمكاتبه مسألة قال: وسألته هل يكسى الصغار أو يطعمون من الكفارات، قال مالك: نعم يكسون ويطعمون في الكفارات، ولكن إنما(3/166)
يطعمون ويكسون مثل ما يطعم الكبار ومثل ما يكسون، إن أطعمهم أعطاهم من الطعام مثل ما يعطي الكبار، وإن كان إنما يصنع لهم طعاما يغذيهم ويعشيهم فلا يجوز له أن يغذي ويعشي إلا الكبار، قلت له: فإن غذى وعشى هل له أن يعطي الصغار من الخبز واللحم وما يطعمهم مثل ما يطعمهم بقدر ما يأكل كل رجل منهم كبير فيعطي الصغير قدره، قال: نعم، وأما الكسوة فإنه إن كسا الصبيان الصغار فإنه لا يجوز له أن يعطيهم أقمصة صغارا ولكن يعطي كل صغير منهم قميصا كبيرا مثل ما يعطي الكبير، فإن كسا الجواري الصغار كسا كل واحدة منهن درعا وخمارا كبيرا، مثل كسوة الكبيرة، والكفارة واحدة لا ينقص منها للصغير ولا يزاد فيها للكبير.
قال محمد بن أحمد: قوله إن أطعم الصغار أعطاهم من الخبز واللحم قدر ما يأكل الكبار معناه إذا كانوا قد بلغوا أن يأكلوا الطعام، قاله ابن القاسم عن مالك في كتاب الظهار من المدونة، وابن المواز أيضا، وليس إطعامهم اللحم بواجب، ويجزئ ما دونه من أدم البيت، وقوله إن كسا الصغار فإنه لا يجوز له أن يكسوهم أقمصة صغارا هو نحو قول محمد بن المواز من رأيه، خلاف ما حكي عن ابن القاسم من أنه لم يكن يعجبه كسوة الأصاغر بحال، وكان يقول: من أمر بالصلاة منهم فله أن يكسوه قميصا مما يجزئه، ومعنى ذلك إذا لم يقصد إليهم لصغرهم كي تخف عنه الكفارة، وإنما تحرى الصواب وقصد الحاجة فكان فيمن علم منهم صغير قد أمر بالصلاة فيراه أحق من غيره لشدة مسكنته فيكسوه على هذه الرواية قميصا مما يجزئه، ولعله أن يكون في كبر ثيابه وطول قامته وإن كان قريب الاثغار تقرب كسوته من كسوة الكبار. قال ابن حبيب: إنه إن كسا الصبايا الصغيرات اللواتي لا صلاة عليهن كساهن درعا بغير خمار، ومثله حكى ابن المواز في كسوة الصغار عن(3/167)
أشهب، ومعناه ذلك على ما فسرنا به مذهب ابن القاسم في كتاب ابن المواز في كسوة الصغار، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لينتقلن وانتقل وترك من السقط ما لا حاجة له به]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده مسألة قال: وسمعته يقول في رجل حلف لينتقلن وانتقل وترك من السقط ما لا حاجة له به مثل الوتد والمسمار والخشبة وما أشبه ذلك فتركه، قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن أحمد: أما إذا تركه رافضا له على ألا يعود إليه فلا اختلاف في أنه لا حنث عليه بتركه واختلف إن تركه ناسيا ففي كتاب ابن المواز أنه لا حنث عليه، وما في سماع عبد المالك بن وهب أنه يحنث بتركه ناسيا، وإما إذا تركه على أن يعود إليه فيأخذه فإنه حانث إلا على مذهب أشهب الذي يقول إنه لا يحنث بترك متاعه كله إذا انتقل بأهله وولده لأنه إذا انتقل بأهله وولده فليس بمساكن وإن بقي متاعه، وقول ابن القاسم أظهر لأنه لا يسمي من خرج من الدار بأهله وولده وترك فيها متاعه منتقلا عنها وإنما يسمى خارجا عنها بأهله وولده، والله أعلم.
[مسألة: استخان رجلا وهو معه في سفر فقال احلف لي أنك لم تخني]
مسألة وسألته عن الرجل استخان رجلا وهو معه في سفر، فقال: احلف لي أنك لم تخني فحلف له أنه ما خانه منذ صحبه وهو يريد منذ صحبه في سفره هذا ولم يحرك به لسانه وقد كان صحبه في أسفار قبل ذلك وخانه فيها فقال: ما أرى عليه إذا كان لذلك سبب مثل أن يقول: إنما استخانه في سفره ذلك، يقول: خنتني في هذا القمح وهذا الشيء فاستحلفه ولم يكن هو ابتداء باليمين متطوعا من عنده من غير أن يسأله ذلك، فإنه إن ثبتت خيانته التي خانه في غير(3/168)
سفره ذلك وعلى يمينه بينة فادعى هذه النية كان ذلك له ولا يطلق عليه القاضي إذا كان الأمر على ما وصفت من سببه ووجهه وأراها نية وليست ثنيا إذا قال هذا، قال أصبغ: وذلك رأيي كله.
قال محمد بن أحمد: قوله ما أرى عليه شيئا إذا كان لذلك سبب مثل أن يكون إنما استخانه في سفره ذلك يريد ما أرى عليه حنثا بما حلف به من الطلاق لأنه مصدق فيما ادعاه من النية على أصولهم وإنما وجب أن يصدق في النية مع يمينه على ذلك، وإن كانت مخالفة لظاهر لفظه لأجل البساط الذي خرجت عليه يمينه وهو استخانته إياه في ذلك السفر ولو حلف بالطلاق ابتداء على غير بساط أنه ما خانه منذ صحبه فلما شهد عليه أنه قد خانه في غير هذا السفر ادعى أنه نوى منذ صحبه في سفره هذا لم يصدق، كمن حلف أنه ما كلم فلانا بالطلاق فلما شهد عليه أنه كلمه أمس، قال: إنما نويت أني ما كلمته اليوم، أو حلف ألا يكلم فلانا بالطلاق فكلمه بعد ذلك، وقال: نويت اليوم أو شهرا أنه لا ينوى في شيء من ذلك ولا يصدق فيما ادعاه وهذا ما لا اختلاف فيه في المذهب، وقوله: لم يكن هو ابتداء باليمين متطوعا من عنده من غير أن يسأله ذلك يدل على أنه لو تطوع له باليمين لم ينو وإن كانت يمينه خرجت على سبب استخانته إياه، ولزمه الطلاق على نية المحلوف له، وذلك يأتي في مثل قول أصبغ في سماعه بعد هذا، ومثل ما في سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق أن اليمين على نية المحلوف له إن كان الحالف متطوعا باليمين وعلى نية الحالف إن كان مستحلفا خلاف قول ابن الماجشون وسحنون، وقد مضى تحصيل الخلاف في هذه المسألة في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، ومعنى قوله وأراها نية وليست ثنيا أنه لو كانت ثنيا لم ينفعه إلا أن يحرك لسانه على المشهور في المذهب، وقد مضى ذلك في رسم الجنائز من سماع أشهب وفي رسم شك من سماع ابن القاسم وغيره.(3/169)
[مسألة: حلف على أمر ألا يفعله إلا أن يقضي الله عز وجل غير ذلك]
مسألة وقال فيمن حلف على أمر ألا يفعله إلا أن يقضي الله عز وجل غير ذلك: هذا ليس ثنيا أو يريد الله غير ذلك كذلك أيضا ليس ثنيا. قال عيسى: هو في اليمين بالله ثنيا وهو مثل قوله إن شاء الله. وقوله: إلا أن يريني الله غير ذلك ثنيا.
قال محمد بن أحمد: قال عيسى بن دينار: إن الاستثناء في اليمين بالله بإلا أن يقضي الله أو يريد الله استثناء مثل إلا أن يشاء الله وهو الذي يوجبه القياس والنظر الصحيح لأن قضاء الله ومشيئته وقدره هي إرادته فلا فرق بين الاستثناء بقدر الله وقضائه ومشيئته وإرادته، وجه قول ابن القاسم أن الحالف بالله ألا يفعل فعلا أو ليفعلنه قد علم أنه لا يفعله ولا يترك فعله إلا بقضاء إلا وقدره وإرادته ومشيئته فعلى ذلك انعقدت يمينه، وهي نيته وإرادته إذا كان من أهل السنة، فكان الأصل إذا وجبت عليه الكفارة بالحنث ولم ينفعه ما نواه من ذلك كله ألا ينفعه الاستثناء بشيء منه وأن يكون لغوا إذ لا زيادة فيه على ما نواه وعقد عليه فخرت من ذلك الاستثناء بمشيئة الله بالسنة والإجماع وبقي ما سواه على الأصل في ألا يسقط الكفارة الواجبة بالحنث، والله تعالى الموفق. وقول عيسى في قوله إلا أن يريني غير ذلك ثنيا صحيح إذ لا فرق بين ذلك وبين أن يقول إلا أن أرى غير ذلك وهو قول ابن القاسم، وفرق أصبغ بينهما في كتاب ابن المواز فلم ير قوله إلا أن يريني الله غير ذلك أنه ثنيا وليس قوله بشيء ولا وجه له.
[مسألة: حلف ألا يأكل لحما فأكل مرق لحم]
مسألة وسئل عمن حلف ألا يأكل لحما فأكل مرق لحم، قال: إني أخاف أن يحنث.
قال محمد بن أحمد: الحنث في ذلك بين لأن المرق قد أماع فيه(3/170)
الشحم وذبل فيه اللحم وتهرى فأكل مرق اللحم أكل اللحم، قال ابن المواز: فلا نية له في ذلك إن ادعاها يريد مع قيام البينة فيما يحكم به عليه، وقال ابن حبيب: إن أراد اللحم ما كان لحما فله نيته وكذلك يقول ابن القاسم في الشحم من اللحم والنبيذ من التمر والزبيب والعصير من العنب والخبز من القمح، هذه الخمسة الأشياء يحنث عنده فيها سواء حلف ألا يأكلها أولا يأكل منها وما عداها من الأشياء إذا حلف ألا يأكله فأكل ما يخرج منه فلا حنث عليه إلا أن يحلف ألا يأكل منه كالجبن من اللبن والسمن من الزبد والبسر من الطلع والتمر من الرطب والرطب من البسر، وقد روي عن ابن القاسم أنه أخرج القمح من هذه الخمسة الأشياء إلى حكم ما عداها، وألحق ابن وهب بالخمسة الأشياء غيرها كالسمن من الزبد والتمر من الرطب ولم ير أشهب البسر من الطلع لبعد ما بينهما، فمن حلف عنده ألا يأكل هذا الطلع أو من هذا الطلع فلا شيء عليه في أكله بسرا.
[مسألة: قال أنت طالق إن اشتريت لك ثلاثة أشهر لحما ولا حيتانا ولم ينو شيئا]
مسألة وقال في رجل اشترى لأهله حيتانا فسخطتها وكان بينهما في ذلك كلام فقال لها: أنت طالق إن اشتريت لك ثلاثة أشهر عشاء لحما ولا حيتانا ولم ينو شيئا فحلف خرجت يمينه هكذا ألا نية له في شيء فأراد أن يشتري لها لحما أو حيتانا في الغداء: إنه لا بأس بذلك ولا شيء عليه في ذلك إذا لم تكن له نية ولا يكون فيما اشترى فضل عن الغداء، ولو أنه غدى رجلا عنده قدم طعامه إليه فحلف بطلاق امرأته إن غداه أبدا ولا نية له لم يكن عليه شيء إن عشاه، وإنما مثل ذلك مثل رجل آذاه جار له في داره فقال: امرأته طالق إن جاورتك أو ساكنتك في هذه الدار أبدا فأراد أن يساكنه أو يجاوره في غيرها فلا بأس بذلك إذا لم يكن أراد أن لا يساكنه ولا يجاوره(3/171)
أبدا، فإن لم تكن له نية وكانت يمينه مسجلة لا نية فيها فلا بأس بذلك ولا شيء عليه، وكذلك لو حلف ألا يساكنه بمصر أبدا فساكنه بغيرها مثل ذلك سواء، أو حلف لينقلنه من داره لإيذاء آذاه به وشتمه فنقله منها ثم أراد بعد أن طال ذلك أن يرده فلا بأس إذا لم تكن له نية، فكذلك الذي حلف ألا يشتري عشاء لحم ولا حيتان فاشتراه في الغداء فلا شيء عليه إلا أن يكون أراد ألا يشتري تلك الأشهر التي حلف فيها، فإن لم يكن أراد ذلك فلا شيء عليه وإنما هو أحد وجهين إن كان أراد شيئا قلنا له تجنب ما أردت وإن لم يكن أراد شيئا ولا نواه فلا شيء عليه إلا فيما حلف، وكذلك لو كساها قرقل كتان فسخطته، فقال لها: أنت طالق إن كسوتك قرقل كتان سنة فكساها قرقل خز ولا نية عليه فلا شيء عليه، قال: ولا بأس في المسألة الأولى أن يشتري لها عشاء غير اللحم والحيتان كأنه يقول: إلا أن يكون أراد ترك العشاء.
قال محمد بن أحمد: قوله في الذي حلف ألا يشتري لامرأته ثلاثة أشهر لحما ولا حيتانا لما سخطت الحيتان التي كان اشتراها لها أن لا بأس أن يشتري لها لحما أو حيتانا للغداء إذا لم يكن فيها فضل عن الغداء للعشاء، وأنه لا بأس أن يشتري لها عشاء غير اللحم والحيتان إذا لم تكن له نية، صحيح على أصولهم لأن يمينه لما خرجت على كراهتها للحيتان التي اشتراها لها ولم تخرج على كراهية التوسع في الإنفاق عليها وجب ألا يحنث فيما عدا ما لفظ به وحلف عليه من شراء اللحم والحيتان للغداء والعشاء أو شراء ما عداهما للعشاء إلا أن يكون نوى ذلك، وكذلك قوله في الذي غدى رجلا ثم حلف ألا يغديه أبدا ولا نية له أنه لا شيء عليه إن عشاه صحيح أيضا؛ لأن يمينه لما لم تخرج على كراهية كذا لمؤن الإنفاق عليه ولعله(3/172)
إنما حلف ألا يغديه لما رأى من تقصيره في الأكل ورجا أن يكون أكله في العشاء أكثر وجب ألا يحنث إلا فيما حلف عليه من الغداء وألا يحنث إن عشاه إلا أن ينوي ذلك، وكذلك قوله أيضا في الذي حلف ألا يجاور الرجل أو يساكنه في دار عينها أنه لا بأس أن يجاوره أو يساكنه في غيرها إذا لم يكن أراد ألا يساكنه أو يجاوره أبدا صحيح أيضا؛ لأن يمينه لما كانت بسبب إذايته في الدار ولم يكن لما يدخل بين العيال والصبيان في السكنى وجب ألا يحنث إلا بالسكنى معه في الدار التي عينها وألا يحنث بالسكنى معه في غيرها إلا أن يكون نوى ذلك وأراده بيمينه، وكذلك القول في الذي حلف ألا يساكن رجلا بمصر فساكنه في غير مصر، والقول في الذي حلف لينقلن رجلا من داره لأذى أذاه به وشتمه فنقله عنها ثم رده إليها إذ هما من شرح المسائل التي بينا وجه صحة قوله فيها. وكذلك قوله أيضا في الذي حلف ألا يكسو امرأته قرقل كتان سنة لما سخطت قرقل كتان كان كساها إياه، فكساها قرقل خز أنه لا حنث عليه صحيح أيضا لأن مخرج يمينه على ألا يكسوها ما تكره لباسه، فلو كساها في السنة قرقل غير الكتاب وهو أدنى من الكتان لحنث إلا أن يكون نوى أن يكسوها ما هو أدنى من قرقل الكتان، ولو أعطاها في هذه المسألة من الدراهم لكسوتها ما تشتري به أرفع من قرقل كتان فاشترت به لنفسها ثوبا لم يحنث، فليست هذه المسألة مخالفة لمسألة المدونة في الذي يحلف ألا يكسو امرأته فأعطاها دراهم فاشترت بها ثوبا أنه حانث لأنه إذا أعطاها دنانير فقد كساها وهو قد حلف ألا يكسوها ولم تكن ليمينه بساط تحمل عليه كهذه.
[مسألة: حلف فقال لعمر الله وأيم الله]
مسألة وقال في الذي يحلف يقول لعمر الله وأيم الله: إني أخاف أن(3/173)
يكون يمينا. قال أصبغ: هي يمين إذا حلف بذلك ليفعلن أو لا يفعل فحنث.
قال محمد بن أحمد: أما ايم الله. فلا إشكال في أنها يمين؛ لأن ايمن الله وايم الله وم الله كلها لغات للعرب في القسم. فمن النحاة من ذهب إلى أنه بدل من حرف القسم كما أبدلوا الواو والتاء من الباء ومنهم من ذهب إلى أن الأصل فيها عندهم ايمن الله جمع يمين، ثم حذفوا على عادتهم في الحذف ما كثر استعماله فقالوا ايم الله لا فعلت أو لأفعلن كما قالوا يمين الله لا فعلت أو لأفعلن. قال الشاعر:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
ومنهم من ذهب إلى أن ألف ايمن ألف وصل وإنما فتحت لدخولها على اسم غير متمكن واشتقاقه من اليمن والبركة، وأما لعمر الله ففي القول بأنها يمين نظر؛ لأن الأيمان التي تكون أيمانا ويجب فيها كفارة اليمين بالله عز وجل باسم من أسمائه وبصفة من صفات ذاته كعلمه وقدرته وإرادته وحياته وما أشبه ذلك من صفاته، والعمر هو العمر وليس ذلك بصفة لله تعالى إذ لا يوصف بأنه ذو عمر بإجماع من الأمة. فوجه قوله في لعمر الله إنها يمين هو أن الحالف بذلك محمول على أنه أراد بعمر الله بقاء الله تعالى، فكان ذلك يمينا على قولهم فيمن لفظ بكلمة ليست من حروف الطلاق فأراد بها الطلاق وأنه طلاق. وقد قال في المدونة في الذي يقول لا مرحبا يريد بذلك الإيلاء أنه مول، فجعل قوله لا مرحبا بمنزلة قوله: والله لا أطأ امرأتي إذا أراد به ذلك، على أنه قد ذهب بعض الناس إلى أن معنى هذه مسألة المدونة إذا قال والله لا مرحبا وأراد بـ لا مرحبا لا أطأ امرأتي، وأما إن قال: لا مرحبا وأراد بذلك والله لا أطأ امرأتي فلا يكون موليا إذ لا يعبر عن اسم الله تعالى بما ليس له باسم، والأمر محتمل على ما قلناه وإنما لم يحقق ابن القاسم أن ذلك يمين. وقال: أخاف أن يكون يمينا لاختلاف أهل العلم في القدم والبقاء(3/174)
فمنهم من أوجبهما صفتين لله تعالى ومنهم من نفى ذلك وقال: إنه باق لنفسه قديم لنفسه لا لمعنى موجودية، وأن معنى القديم الذي لا أول لوجوده ومعنى الباقي المستمر الوجود، والذي عليه الأكثر والمحققون إثبات البقاء صفة لله ونفي أن يكون القدم صفة لله، فكأن ابن القاسم ذهب إلى قول من نفى أن يكون البقاء صفة لله، وقال: أخشى أن يكون يمينا إذ من أهل العلم من يثبته صفة لله تعالى، وذهب أصبغ إلى قول من أثبته صفة لله فحقق القول بأن ذلك يمين وهو مثل ما في المدونة لابن القاسم.
[مسألة: يحلف بالقرآن أو بالكتاب أو بالمصحف أو بما أنزل الله]
مسألة وقال في الذي يحلف بالقرآن أو بالكتاب أو بالمصحف أو بما أنزل الله أفترى ذلك كله يمينا واحدة؟ فقال: أحسن ما سمعت والذي تكلمنا فيه أن يكون يمينا يمينا كل ما سمي من ذلك، قال سحنون عن علي بن زياد عن مالك في قوله لا والقرآن لا والمصحف ليست بيمين ولا كفارة فيه على من حلف به فحنث.
قال محمد بن أحمد: في كتاب ابن المواز عن عطاء مثل رواية علي بن زياد في غير كتاب ابن المواز أن الناقل عن عطاء شك فقال: سئل عن اليمين بالكعبة أو بكتاب الله، قال بعض أهل النظر: وهذا أشبه أن يكون شكا عن الناقل عن عطاء. وقال أبو محمد ابن أبي زيد في رواية علي بن زياد عن مالك يحتمل إن صحت الرواية أن يريد جسم المصحف دون المفهوم منه، والله أعلم، والذي كان يمضي لنا فيها عند من أدركنا من الشيوخ أنها رواية ضعيفة شاذة خارجة عن الأصول مضاهية لقول أهل القدر القائلين بخلق القرآن لأنه قد جمع فيها بين القرآن والمصحف، فإن تأول في المصحف ما قال ابن أبي زيد بقي القرآن لا وجه له من التأويل، وهو الذي أقول به إن له وجها صحيحا من التأويل يصح عليه وهو أن القرآن قد يطلق على كلام الله(3/175)
القديم الذي هو صفة من صفات ذاته المتلو في المحارب المكتوب في المصاحف، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78]- الآية، وقد يطلق أيضا على ما هو مخلوق، من ذلك أنه يطلق بإجماع على المصاحف من أجل أنه مكتوب ومفهوم فيها، والدليل على ذلك ما في كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم من أن «لا يمس القرآن إلا طاهر» يريد المصحف بإجماع لاستحالة مس ما ليس بمخلوق، «ونهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو» ويريد المصحف أيضا بإجماع لاستحالة السفر بما ليس بمخلوق، وقد يطلق أيضا على القراءة المخلوقة المتعبد بها لأنها مصدر قرأت قراءة وقرآنا، قال عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] أي قراءته.
وقال الشاعر:
ضجوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
وقد يطلق أيضا على السور المجموعة المؤلفة المختلفة في الطول والقصر من قولهم قريت الماء في الحوض إذا جمعته، فإذا حلف الرجل بالقرآن وأراد به كلام الله تعالى القديم فلا اختلاف بين أحد من أهل السنة في أن ذلك يمين يجب فيها كفارة اليمين، وإذا حلف بالقرآن ولم يرد به كلام الله وأراد به ما لا اختلاف في جواز إطلاقه عليه مما هو مخلوق كالمصحف دون المكتوب فيه والقراءة دون المفهوم منها أو السور المجموعة المؤلفة(3/176)
المختلفة بالطول والقصر دون المفهوم منها من الأمر والنهي والوعد والوعيد والاستخبار والخبر فلا اختلاف بين أحد من الأمة في أن ذلك ليس بيمين، وإذا حلف به ولم تكن نية فحمله مالك في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور عنه على كلام الله القديم فرآه يمينا أوجب فيها كفارة اليمين، وحمله في رواية علي بن زياد عنه على ما جاز إطلاقه عليه مما سوى كلام الله تعالى، فلم ير ذلك يمينا ولا أوجب فيه كفارة يمين وهذا على القول بأن القرآن اسم لغوي من قولهم قريت الماء في الحوض إذا جمعته فيه، فقد يطلق على نفس كلام الله تعالى، فلم ير ذلك يمينا ولا أوجب فيه كفارة يمين، كلام الله تعالى، ويطلق على ما هو أصل موضوعه في اللغة، والقول الأول أظهر؛ إذ قد بان أن القرآن اسم ديني لكلام الله القديم يقع عليه حقيقة ولا يقع على ما سواه إلا مجازا، والعدول بالكلام عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا بدليل، ووجه القول الثاني إن القران لما كان يجوز أن يطلق على كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق وعلى ما سواه مما هو مخلوق على ما ذكرناه وجب أن يحمل إذا لم يعلم المراد به على ما يصح إطلاقه عليه مما هو مخلوق لأن الأصل براءة الذمة فلا توجب فيها الكفارة إلا بيقين وكذلك الذي يحلف بالمصحف ولا نية له حمله ابن القاسم وهو المعلوم من مذهب مالك على المكتوب في المصحف المفهوم منه فرأى ذلك يمينا أوجب فيها الكفارة، وحمله مالك في رواية علي ابن زياد عنه على نفس المصحف دون المكتوب فيه المفهوم عنه فلم ير ذلك يمينا ولا أوجب فيه كفارة، والقول الأول أظهر أيضا لأن الحلف بنفس المصحف دون المكتوب فيه المفهوم عنه لا يجوز لقول النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» ، فحمل يمين الحالف على ما يجوز له الحلف به أولى من حملها على ما لا يجوز له الحلف به، وقول ابن القاسم أحسن ما سمع وتكلم فيه في الذي يحلف. بالقرآن أو بالكتاب أو بالمصحف أن يكون يمينا، كل ما سمي من ذلك ظاهره أنه إذا جمعها في يمين واحدة فقال: وحق(3/177)
القرآن والكتاب والمصحف لا فعلت كذا وكذا أو لأفعلن فحنث أن عليه ثلاث كفارات لاختلاف التسميات وإن كان المحلوف به واحدا وهو كلام الله تعالى القديم، وهو خلاف قول سحنون في نوازله من حلف بالتوراة والإنجيل في كلمة واحدة أن عليه كفارة واحدة، ويلزم على ظاهر قول ابن القاسم هذا أن يلزم الرجل إذا قال والله والرحمن والسميع والعليم لا فعلت كذا فحنث أربع كفارات لاختلاف التسميات أيضا وإن كان المحلوف به واحدا وهو الله عز وجل، وليس في المدونة في هذا بيان، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه لا يجب في ذلك إلا كفارة واحدة؛ لأن المحلوف به واحد قال: وكذلك الصفات إذا كان معناها واحدا مثل العظمة والجلال والكبرياء، وأما إن كانت معانيها مختلفة كالقدرة والعلم والإرادة فعليه إذا جمعها في يمين واحدة كفارة لكل ما سمي منها؛ لأن كل واحدة منها تفيد معنى في الموصوف بخلاف معنى الآخر، وليس بين الصفات المختلفة المعاني والأسماء المشتقة منها فرق بين لأن اسم المشتق من الصفة يفيد معناها فإذا وجبت في الحلف بعلم الله وقدرته وإرادته في يمين واحدة ثلاث كفارات من أجل أن كل صفة تفيد في الموصوف صفة تخالف الصفة الأخرى وجب أيضا في الحلف بالعالم والقادر والمريد في يمين واحد ثلاث كفارات من أجل أن كل اسم منها يفيد في المحلوف به صفة تخالف ما يفيده الاسم الآخر من الصفة، فإن قال قائل: إن العالم هو المريد وهو القادر وليس العلم هو الإرادة ولا الإرادة هي القدرة. قيل: وإن لم يكن العلم هو الإرادة ولا الإرادة هي القدرة فليس هي غيرها إلا في المحدث لا في القديم، فليس من أوجب في العلم والإرادة كفارتين من أجل أن العلم ليس هو الإرادة بأظهر قول ممن لم يوجب فيهما إلا كفارة واحدة من أجل أن العلم ليس هو غير الإرادة، والله أعلم.
[مسألة: حلف فقال علي عهد الله وغليظ ميثاقه إن فعلت كذا وكذا ففعله]
مسألة وقال فيمن حلف فقال: علي عهد الله وغليظ ميثاقه وكفالته(3/178)
وأشد ما اتخذ أحد على أحد أن فعلت كذا وكذا ففعله، فإن كان لم يرد العتاق ولا الطلاق وعزله عن ذلك فليكفر ثلاث كفارات ولا شيء عليه، في قوله عهد الله كفارة وقوله وغليظ ميثاقه كفارة وقوله أشد ما اتخذ أحد على أحد كفارة وإن لم تكن له نية حين حلف فليكفر كفارتين في قوله عهد الله وغليظ ميثاقه ويعتق رقيقه ويطلق نساءه ويمشي إلى بيت الله ويتصدق بثلث ماله لقوله وأشد ما اتخذ أحد على أحد.
قال محمد بن رشد: إنما أوجب عليه كفارتين في قوله عهد الله وغليظ ميثاقه؛ لأن ذلك كنذر أوجبه على نفسه مثل أن يقول علي كذا وكذا يمينا أو كذا وكذا نذرا، ولو أقسم بها في يمين واحدة، فقال: وعهد الله وغليظ ميثاقه لا فعلت كذا وكذا لما وجب عليه إن حنث إلا كفارة واحدة لرجوعهما جميعا إلى معنى واحد وهو كلام الله تعالى إلا على ظاهر ما مضى من قول ابن القاسم في المسألة التي قبل هذه في الذي يحلف بالقرآن والكتاب والمصحف في يمين واحدة، وإنما لم يوجب في قوله وكفالته كفارة ثالثة؛ لأنه حمل يمينه على أنه أتى بكفالته مخفوضة عطفا على ميثاقه فلم يوجب على نفسه إلا شيئين، أحدهما عهد الله والثاني غليظ ميثاقه وكفالته، ولو حمل عليه أنه أتى بها مرفوعة مقطوعة معطوفة على العهد والميثاق لأوجب عليه فيها كفارة ثالثة؛ لأنه بذلك يكون موجبا لها على نفسه كالعهد وغليظ الميثاق، فليس ذلك بخلاف لما في المدونة على ما ذهب إليه بعض الناس، وإيجابه عليه في أشد ما اتخذ أحد على أحد الطلاق والعتاق والمشي والصدقة بثلث ماله صحيح وله وجهان من النظر، أحدهما أن أشد ما يتوثق به الرجل من الرجل فيما يريده منه يختلف باختلاف أحوال الناس فرب رجل قادر على المشي ولا عبيد له ولا مال وله زوجة يشق عليه فراقها فيكون أشد ما يتخذ عليه في التوثق منه فراقها، ورب رجل قادر على المشي لا زوجة له وقال(3/179)
سوى عبيده فيكون أشد ما يتخذ عليه في التوثق منه عتق عبيده، ورب رجل قادر على المشي ولا زوجة له ولا عبيد وله مال فيكون أشد ما يتخذ عليه في التوثق منه الصدقة بماله، ورب رجل لا عبيد له ولا زوجة ولا مال ويشق عليه المشي فيكون أشد ما يتخذ عليه في التوثق منه المشي، فلما كان كل واحد من هذه الأشياء قد يكون أشد ما يتوثق به من الرجل ولم تكن له نية في أحدها وجب أن تجب عليه كلها، كمن حلف ولم يدر بما حلف به إن كان بعتق عبيده أو بطلاق نسائه أو بصدقة ماله أو بمشي إلى بيت الله. والوجه الثاني أن يمينه محمولة على أنه أراد بها أشد ما جرت به عادة الناس به من التوثق، وهو ما كان الناس يؤخذون به من الأيمان في البيعات وقد كانوا يؤخذون فيها بذلك فوجب أن يلزمه ويجب عليه، وعلى هذا كان من أدركنا من الشيوخ ومن لم ندركه منهم فيما بلغنا عنهم يحملون يمين الحالف بالأيمان اللازمة فيوجبون على الحانث فيها الطلاق ثلاثا وعتق رقيقة ذكورهم وإناثهم والصدقة بثلث ماله والمشي إلى مكة في حج أو عمرة وكفارة يمين وإيجاب ذلك كله في ذلك صحيح لأن الأيمان لفظ يعم جميع الأيمان فإذا قال الرجل: الأيمان لي لازمة إن فعلت كذا أو إن لم أفعله لم يكن بد من أحد وجهين، إما أن يحمل يمينه على نوع من الأيمان أرادها بعهد يعلم أن يمينه خرجت عليه وهو ما كان الناس يؤخذون به من الأيمان في البيعات وإما أن يحمل على جميع الأيمان لاستغراق لفظ يمينه جميع الجنس فتلزمه جميع الأيمان اللازمة ما كان الشيوخ يلزمونه منها وما كانوا لا يلزمونه. وقد كان بعض الشيوخ يلزمه في ذلك أيضا كفارة ظهار فلا وجه لمن أسقط عن الحالف بهذه اليمين شيئا مما كان الشيوخ يلزمونه فيها ولا لمن جعل الطلاق فيها طلقة بائنة ولا طلقة رجعية ولا لمن لم يوجب عليه في ذلك إلا كفارة يمين قياسا على قول ابن وهب في سماع عبد المالك بن الحسن فيمن قال:(3/180)
علي عهد الله وأشد ما اتخذ أحد على أحد أن عليه في العهد كفارة يمين وليس عليه في أشد ما أخذ أحد على أحد إلا كفارة يمين؛ لأن لفظ أشد ما اتخذ أحد على أحد لفظ إفراد فحمله ابن القاسم في هذه الرواية على توثق واحد بأيمان البيعة التي كانوا يؤخذون بها لأنه المفهوم عنده من ذلك، وحمله ابن وهب في رواية زونان عنه على يمين واحد ورآها اليمين بالله تعالى لأنها أعظم الأيمان قدرا وأشدها على من تهاون بها وأثم فيها، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار» ، وجاء في الحديث في اليمين الغموس إنها من الكبائر وأنها تذر الديار بلاقع، فرأى شدتها في الكذب فيها والمخادعة بها وترك تعظيمها لا فيما يلزم الحنث فيها من الكفارة فهذا وجه قول ابن وهب، والله أعلم.
[مسألة: يقول امرأته طالق البتة إن دخل دار فلان ولا كلم فلانا فكلمه بعد شهر]
مسألة قال ابن القاسم: ولا تكون الثنيا إلا ما حرك به لسانه والنية تنفعه وإن لم يحرك به لسانه ومثل ذلك في النية أن يقول امرأته طالق البتة إن دخل دار فلان ولا كلم فلانا فكلمه بعد شهر وقال: إنما نويت شهرا، قال مالك: إن كانت عليه بينة فرق بينه وبينها، وإن أتى مستقيما وذكر أنه إنما نوى شهرا دين وكان القول قوله، والثنيا أن يقول: إن كنت صحبت اليوم قرشيا ويستثني في نفسه إلا فلانا وإن كنت أكلت اليوم طعاما ويستثني في نفسه إلا لحما فامرأته طالق فهذا لا ينفعه إلا أن يحرك به لسانه فإن لم يحرك به لسانه وإنما هي ثنيا في نفسه حنث فما ورد عليك من هذه الأشياء بعضه على هذين الوجهين.
قال محمد بن رشد: تفرقته في النية والثنيا في اليمين صحيحة لأن النية هي أن يريد الرجل بيمينه ما يحتمله كلامه وإن كان مخالفا لظاهره فإذا عقد يمينه على ما نواه صحت له نيته وإن لم يحرك بها لسانه على ما ذكر،(3/181)
وهذا ما لا خلاف فيه، وأما الثنيا فهو ما يستدركه الرجل بالاستثناء بعد أن فرطت منه اليمين دون نية وذلك على وجهين، أحدهما استثناء يخرج من الجملة بعد ما اقتضاه اللفظ العام والعدد المسمى في جميع الأحوال. والثاني استثناء يخرج به جميع الجملة في بعض الأحوال، فأما الاستثناء الذي يخرج به بعض ما اقتضاه اللفظ العام أو العدد المسمى في جميع الأحوال فهو الاستثناء بإلا وسائر حروف الاستثناء، مثاله أن تقول: والله لأعطين القرشيين إلا فلانا ثلاثة دراهم إلا درهما فأخرجت من القرشيين فلانا بالاستثناء وأخرجت من الثلاثة دراهم درهما بالاستثناء فهذا القسم من الاستثناء المشهور فيه في المذهب أن النية فيه لا تنفع وأنه لا بد فيه من تحريك اللسان كما قال في هذه الرواية، وقد مضى في آخر سماع أشهب لمالك خلافه، وجه القول الأول القياس على ما أجمعوا عليه في الاستثناء بمشيئة الله أنه لا بد فيه من تحريك اللسان، ووجه القول الثاني أن حقيقة الكلام إنما هو المعنى القائم بالقلب وتحريك اللسان عبارة عنه كالرمز والإشارة والكتابة فإذا استثنى في نفسه وجب أن ينفعه استثناؤه وإن لم يحرك به لسانه، وعلى هذا تأتي رواية أشهب عن مالك في كتاب الأيمان بالطلاق وإن من أجمع في نفسه على أنه قد طلق امرأته فقد لزمه الطلاق، والأصل في ذلك إجماعهم على أن من اعتقد الإيمان بقلبه فهو مؤمن عند الله وإن لم يلفظ بكلمة التوحيد وأن من اعتمد الكفر بقلبه فهو كافر عند الله وإن لم يلفظ بكلمة الكفر، وأما الاستثناء الذي يخرج به جميع الجملة في بعض الأحوال فهو الاستثناء بإن وبإلا أن، مثاله أن يقول: والله لأعطين القرشيين ثلاثة دراهم إن كان كذا وإلا أن يكون كذا فهذا لا بد فيه من تحريك اللسان قولا واحدا؛ لأنه في معنى الاستثناء بأن شاء الله وبإلا أن يشاء الله، ومن أهل العلم من شذ فأجاز الاستثناء في القلب بمشيئة الله وعلى هذا يحمل ما روي عن ابن عباس من إجازة الاستثناء بعد عام أنه أظهر بعد عام من الاستثناء ما كان اعتقده حين اليمين منه؛ إذ لا اختلاف بين أحد من أهل العلم في أن الاستثناء لا بد أن يكون موصولا(3/182)
باليمين، بل قد قال ابن المواز: إنه لا بد أن ينويه قبل آخر حرف من اليمين يريد من الكلام الذي به تمت اليمين، هذا معنى قوله الذي يجب أن يحمل عليه كلامه، وقد قيل: إن الاستثناء من العدد لا بد أن يعقد عليه يمينه كالنية، ولا يجوز له أن يستدركه وإن أوصله بيمينه أو قبل آخر حرف من كلامه، مثال ذلك أن يقول: امرأتي طالق ثلاثا إلا واحدة والقولان قائمان من المدونة بالمعنى، وذلك أنه قال في كتاب الأيمان بالطلاق منها في الذي يقول لامرأته قبل أن يدخل بها أنت طالق وأنت طالق وأنت طالق إنها ثلاث تطليقات إلا أن يريد بتكرار الطلاق إسماعها، وقال في كتاب الظهار منها في الذي يقول لامرأته أنت طالق البتة وأنت علي كظهر أمي إنه لا يلزمه فيها الظهار إن تزوجها بعد زوج وذلك اختلاف من القول فعلى ما في كتاب الظهار لا يلزم الذي قال لزوجته قبل أن يدخل بها أنت طالق وأنت طالق وأنت طالق إلا طلقة واحدة، وعلى ما في كتاب الأيمان بالطلاق يلزم الذي قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا وأنت علي كظهر أمي الظهار إن تزوجها بعد زوج، فإذا قال الرجل: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة كان له استثناؤه، على ما في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة إذا وصله بيمينه وإن لم يعقد يمينه عليه، وعلى ما في كتاب الظهار لا يكون له استثناؤه ولا ينفعه فيه إلا أن ينويه من أول ويعقد عليه يمينه، والقول الأول أظهر؛ لأن الطلاق لا يقع على المطلق في الصحيح من الأقوال بنفس تمام اللفظ حتى يسكت بعده سكوتا يستقر به الأمر وعلى هذا تأتي مسألة الأيمان بالطلاق التي ذكرناها من المدونة فقف على ذلك كله وتدرب، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال مالي لوجه الله]
مسألة وسئل عمن قال: مالي لوجه الله، قال: يخرج ثلثه، قال أصبغ: ويجعله في الصدقة دون ما سواها من سبل الخير فهو مخرج النذر به كما لو قال في عبده هو لوجه الله كان مخرج العتق، وكما لو قال(3/183)
في ماله هو لسبيل الله أو في سبيل الله كان مخرجه الغزو والجهاد خاصة دون سائر السبل.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال لأن ما أنفق الرجل من ماله رجاء ثواب الله ولوجه الله، إلا أن سبيل الله قد تعرف بالجهاد دون سائر السبل فإذا جعل الرجل شيئا من ماله في سبيل الله كان مخرجه الجهاد وإذا قال فيه لله ولوجه الله كان مخرجه الصدقة إلا أن يكون له وجه يختص به فيحمل عليه، كالعتق في العبد والهدي فيما يهدى بمكة، وبالله التوفيق.
[مسألة: باع من رجلين سلعة إلى أجل واتخذ عليهما صاحب الحق يمينا إلى أجل]
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك مسألة وسئل عن رجل باع من رجلين سلعة إلى أجل واتخذ عليهما صاحب الحق يمينا إلى أجل أن يقضياه فحل الأجل فقضاه أحدهما جميع الحق بغير أمر صاحبه، قال: هو حانث إلا أن يكونوا حملاء بعضهم عن بعض، قلت: فإن كان شريكه فيها شريك عقد فقال: الشريك والأجنبي سواء في هذا هو حانث إن لم يأمره ولم يتحمل بعضهم عن بعض، والشريك والأجنبي في ذلك سواء، ولو أن رجلا حلف بطلاق امرأته أن يوفي حقه إلى أجل فغاب عند الأجل فقضاه عنه رجل لم يأمره كان حانثا.
قال محمد بن رشد: إذا اشترى الرجلان من رجل سلعة بثمن إلى أجل وحلفا أن يؤدياه إليه إلى الأجل فإن لم يكن أحدهما حميلا بصاحبه فيبر كل واحد منهما بأن يقضي عن نفسه ما يجب له من الثمن ولا يبر بما يقضي عنه صاحبه إلا أن يأمره بذلك إذ ليس بوكيل له على أن يقضي عنه، وإن كان كل واحد منهما حميلا بصاحبه فيبر كل واحد منهما بأن يقضي عن نفسه(3/184)
ما يجب عليه من الثمن وبأن يقضي ذلك عنه صاحبه؛ لأن الحمالة تقتضي أن يكون كل واحد منهما وكيلا عن صاحبه على أن يقضي عنه ما تحمل به عنه وإن كان كل واحد منهما حميلا بصاحبه ولصاحب الحق أن يأخذ من شاء منهم بحقه فلا يبر واحد منهم إلا بأن يقضي جميع الحق لأنه مطلوب به كالشريكين المتفاوضين يشتريان السلعة بثمن إلى أجل ويحلفان أن يؤديا إلى البائع حقه إلى أجل فعلى هذه الوجوه الثلاثة تفترق أحكام البر والحنث في هذه المسألة وشريك العقد الذي قال فيه إنه والأجنبي سواء معناه أن يتعاقد الرجلان على أن يشتريا السلعة بدين على أن يكونا شريكين فيها لا يريد بذلك عقد المفاوضة لأن المتفاوضين لا يبر واحد منهما إلا بأداء جميع الحق على ما ذكرناه لأنه حميل له، وقوله إن من حلف ليقضين رجلا حقه لا يبر بأن يقضيه عنه رجل بغير أمره صحيح وكذلك لو كان وكيله على البيع والتقاضي والقيام بحوائجه، قاله ابن القاسم في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق فلا يبر الحالف على القضاء إلا بأن يقضي هو الحق عن نفسه أو يقضيه عنه رجل بأمره أو وكيل مفوض إليه في جميع الأشياء أو مجعول إليه فيها جعل القضاء، وبالله التوفيق.
[مسألة: خطب ابنته وهي بكر فقال عليه المشي إلى بيت الله إن زوجها إياه]
ومن كتاب لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس
مسألة وقال في رجل خطب إليه رجل ابنته وهي بكر، فقال: عليه المشي إلى بيت الله وهو يحملها إلى بيت الله إن زوجها إياه، فقال له هؤلاء لأي شيء لا تزوج فلانا، فقال: علي فيه يمين وليتك أخرجتني من يميني فزوجه المولي بعلمه وأعرس ودخل بها، قال: النكاح ثابت، وعليه المشي.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال لأنه إذا زوجه هؤلاء بعلمه فكأنه(3/185)
هو الذي زوجه لأن يد الوكيل كيد موكله فمن حلف ليضربن عبده فضربه غيره بر إلا أن ينوي أن يضربه هو بيده، ومن حلف ألا يضرب عبده فضربه غيره بأمره حنث إلا أن يكون نوى ألا يضربه بيده، قال عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] فجعل طاعة رسوله طاعة له حقيقة، وعلى هذا يضاف فعل المأمور إلى الآمر فيقال ضرب السلطان وقطع وقتل وكتب وإن لم يفعل شيئا من ذلك بيده وإنما فعله أعوانه بأمره، وقد أضاف الله عز وجل أعوان ملك الموت إلى ملك الموت: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] ، وأعوانه هم الذين يلون قبض الأرواح بإذنه ثم يلي هو قبضها منهم فيرفع روح المؤمن إلى ملائكة الرحمة وروح الكافر إلى ملائكة العذاب على ما روي في تأويل قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] ، الآية بلفظ الجماعة وهذا كله بين والحمد لله كثيرا.
" تم النذور الأول "(3/186)
[كتاب النذور الثاني] [مسألة: حلف ألا يكلم فلانا فأشار إليه بالسلام أو غيره]
من سماع عيسي من كتاب أوله سلف دينارا مسألة وقال في رجل حلف ألا يكلم فلانا فأشار إليه بالسلام أو غيره، فقال: ما أرى الإشارة كلاما وأحب إلي ترك ذلك وكأنه لا يرى عليه حنثا إن فعل.
قال محمد بن أحمد: مثل هذا في المجموعة لابن القاسم وهو ظاهر ما في كتاب الإيلاء من المدونة وفي أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق، وقال ابن الماجشون إنه حانث واحتج بقوله عز وجل: {قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] . فجعل الرمز كلاما لأنه استثناه من الكلام وليس ذلك بحجة قاطعة لاحتمال أن يكون الاستثناء في الآية منفصلا غير متصل مقدرا بلكن، مثل قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] ، ومثل قوله: {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2] {إِلا تَذْكِرَةً} [طه: 3] ومثل هذا كثير، ومثل قول ابن الماجشون لأصبغ في سماعه(3/187)
بعد هذا من هذا الكتاب، وجه القول الأول أن الكلام عند الناس فيما يعرفون إنما هو الإفهام بالنطق واللسان، فيحمل يمين الحالف على ذلك إذا عرت من نية أو بساط يدل على ما سواه، ووجه القول الثاني أن حقيقة الكلام والقول هو المعنى القائم في النفس، قال عز وجل: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة: 8] ، الآية، وقال عز وجل: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ} [الملك: 13] ، الآية، فإذا أفهم الرجل الرجل ما في نفسه بلفظ أو إشارة فقد كلمه حقيقة لأنه أفهمه ما في نفسه من كلامه بداية دون واسطة من رسول أو كتاب والقول الأول أظهر لأن التكليم وإن كان يقع على ما سوى الإفهام باللسان فقد يعرف بالإفهام بالنطق باللسان دون ما سواه فوجب أن يحمل الكلام على ذلك وألا يحنث الحالف على ترك تكليم الرجل بما سواه إلا أن ينويه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف في دابة ألا يبيعها حتى تأكل الربيع فأكلته يوما أو يومين]
مسألة وسئل عن رجل حلف في دابة ألا يبيعها حتى تأكل الربيع فأكلته يوما أو يومين. قال: إن كان نوى شيئا فهو ما نوى وإن لم تكن له نية فإذا أكلته يوما أو يومين فقد بر ولا شيء عليه. قيل له: أرأيت إن كان أراد وجه السمن فلم تسمن ألذلك حد؟ قال: إلى ما يسمن في مثله.
قال محمد بن أحمد: قال إنه إذا لم تكن له نية فأكلته يوما أو يومين فقد بر، وإن أراد السمن في ذلك ما يسمن إلى مثله، وسكت عن البساط فلم يقل إن كان ليمينه بساط يدل على السمن حملت يمينه عليه فالظاهر من قوله أنه لم يراعه مثل ما في سماع سحنون لمالك وابن القاسم، والمشهور في المذهب مراعاته وأن يحمل يمينه عليه وإن لم يكن نواه كما لو نواه، وبالله التوفيق.(3/188)
[مسألة: حلف ألا يشرب الخمر بعينها فشرب الطلا]
مسألة وقال في رجل حلف ألا يشرب الخمر بعينها فشرب الطلا أنه إن كان لم يبلغ حدا يسكر وكان كثيره يسكر فهو حانث؛ لأن الطلا أبدا خمر حتى يطبخ طبخا لا يسكر، وأما غيرها من الأشربة مثل النبيذ والاسكركة - كذا - فهو حانث إذا شرب منها شيئا يسكر إلا أن ينوي الخمر بعينها، فإن كانت تلك نيته وأتى مستفتيا فلا أرى عليه شيئا، وإن شهد عليه وقد شرب رأيت أن لا ينوى.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصل مذهب مالك في أن كل ما أسكر كثيره من الأنبذة والأشربة فهو خمر، فالحالف على ألا يشرب الخمر بعينها حالف عنده ألا يشرب مسكرا من جميع الأشربة لأن كل مسكر فهو عنده خمر بعينه، وقوله: إلا أن ينوي الخمر بعينها فتكون له نيته إذا لم تكن عليه بينة وأتى مستفتيا معناه إلا أن ينوي الخمر بعينها عند أهل العراق والذين يقولون: إنما الخمر من العنب خاصة أو من العنب والتمر خاصة أو من التمر والعنب ونقيع الزبيب خاصة على اختلاف بينهم في ذلك، وفي رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود ورسم أسلم من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق أنه ينوى في ذلك مع قيام البينة عليه مراعاة لقول من يقول إن الخمر من هذه الأشياء، وذهب محمد بن المواز أنه لا ينوى وإن أتى مستفتيا، قال: ولو نفعته النية لنفعه قوله الخمر بعينها؛ لأن القول أقوى من النية وإلى هذا ذهب ابن حبيب فقال: إنه لا نية له في أن يقول إنما أردت العنب وحكاه عن مالك أيضا ابن أبي جعفر الذعاطي عن ابن القاسم عن مالك، وذلك خارج عن أصولهم فيمن حلف ألا يكلم فلانا فقال: أردت شهرا أو حلف ألا يلبس ثوبا فقال: أردت ثوب وشي أنه ينوى في ذلك إن أتى مستفتيا.(3/189)
[مسألة: حلف ألا يشتري لامرأته شيئا فاشترى لنفسه شيئا فسألته امرأته أن يوليها إياه]
مسألة وقال فيمن حلف ألا يشتري لامرأته شيئا فاشترى لنفسه شيئا فسألته امرأته أن يوليها إياه، فقال: سمعت مالكا يستثقل أن يوليها، قال ابن القاسم: فإن فعل لم أر عليه حنثا لأن التولية هاهنا بيع إلا أن يكون ذلك عند مواجبة البيع وبحضرة البيع الأول فأراه حانثا لأن تباعته هاهنا على البائع الأول وكونه حينئذ اشترى لها، وكذلك سمعت مالكا يقول في التباعة.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته هنا.
[مسألة: حلف ألا يكلم رجلا إلا ناسيا فكلمه وهو لا يعرفه غير ناس]
مسألة قال: ومن حلف ألا يكلم رجلا إلا ناسيا فكلمه وهو لا يعرفه غير ناس فهو حانث، ومن حلف بطلاق امرأته البتة إن كلم فلانا إلا أن لا يعرفه فكلمه وهو يعرفه ناسيا ليمينه حنث.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال لأن يمين الرجل ألا يكلم رجلا ظاهره العموم في الزمان والمكان والعمد والنسيان والمعرفة بالمحلوف عليه والجهل به، فوجب أن يحمل يمينه على ما يقتضيه عموم لفظه ولا مخرج من ذلك إلا ما استثناه من النسيان أو الجهل خاصة.
[مسألة: يحلف للرجل ليرضينه من حقه إما أن يحيله وإما أن يرهنه]
مسألة قال ابن القاسم في الرجل يحلف للرجل ليرضينه من حقه إما أن يحيله وإما أن يرهنه أو يقضيه بعضه أو يعطيه به حميلا فذلك له مخرج حقه كله، وأما إن أنظره فليس ذلك رضى، إنما يصير(3/190)
صاحب الحق هو أرضى الحالف ولم يرض الحالف صاحب الحق ليس من يحلف على الرضى يريد أن ينظره ولم يتعلق به لينظره وأراه حانثا إذا أنظره.
قال محمد بن أحمد: إنما يبر بالحوالة والحمالة والرهن وقضائه إياه بعض الحق بشرطين أحدهما أن يرضى بذلك الذي له الحق، والثاني أن يكون المحال عليه مليا أو الحميل فيه ثقة للمتحمل له والرهن فيه كفاف بجميع الحق أو بالثلث فما فوقه والذي قضاه من الحق الثلث فما فوقه، فإن عدم الشرطان جميعا حنث الحالف، وإن عدم الأول ووجد الثاني حنث الحالف إلا أن يدعي أنه نوى ذلك وأراده فينوى فيه إن أتى مستفتيا، وإن وجد الشرط الأول وعدم الثاني فلا يبر الحالف إلا على مذهب من يرى أنه يبر إذا أنظره صاحب الحق وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه وأحد قولي ابن القاسم، حكى ابن حبيب أن قوله اختلف في ذلك لا أنه إذا أحاله على مفلس أو أعطاه حميلا لا ثقة له فيه، وإن قضاه من حقه ما لا بال له أو رهنه رهنا لا قدر له فصاحب الحق هو الذي أرضى الحالف هذا الذي يأتي في هذه المسألة على أصولهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف أن يصوم غدا فيصبح صائما ثم يأكل ناسيا]
مسألة وقال في الذي يحلف بالله أو بالطلاق أو غيره أن يصوم غدا فيصبح صائما ثم يأكل ناسيا لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في هذا السماع من كتاب الصيام وفي سماع عيسى وأبي زيد من كتاب الأيمان بالطلاق ورأيت لابن دحون فيها أنها مسألة حائلة والحنث يلزمه فيها على أصولهم فيمن حلف ألا يفعل شيئا ففعله ناسيا أو حلف أن يفعل شيئا فنسي فعله حتى فات وليس ذلك على ما قال بل هي مسألة صحيحة لأن الأكل ناسيا لا يخرج الحالف عن أن يكون(3/191)
صائما ولا يبطل به أجر صيامه، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا قضاء على من أكل في رمضان ناسيا، وروي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للذي سأله عن ذلك: أتم صومك ولا شيء عليك الله أطعمك وسقاك» ، فأكله ناسيا في ذلك اليوم بخلاف ما لو أصبح ناسيا مفطرا، هذا يلزمه الحنث على أصولهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل قال علي نذر لا كفارة له إلا الوفاء به]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار
إلى رأس الحول لدار يسكنها فامرأتي طالق مسألة وسئل عن رجل قال: علي نذر لا كفارة له إلا الوفاء به، قال: عليه كفارة يمين.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال لأن من نذر نذرا لم يجعل له مخرجا فكفارته كفارة يمين، روي ذلك عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، من رواية عقبة بن عامر الجهني فالوفاء به هو كفارة يمين كما لو جعل له مخرجا كان ما سماه هو الوفاء به وهذا بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلفت بثلاثين نذرا مشيا إلى بيت الله فحنثت]
مسألة وسئل عن امرأة حلفت بثلاثين نذرا مشيا إلى بيت الله فحنثت، فأرادت أن تخرج تمشي وأراد زوجها حبسها، قال ابن القاسم: ليس لها أن تخرج ولزوجها أن يمنعها من ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه إذا كان من حقه أن يمنعها من الخروج متطوعة كان له أن يمنعها من الخروج إذا نذرت ذلك لأنها متعدية عليه في أن نذرت ما ليس لها أن تفعله إلا بإذنه لتسقط بذلك حقه في منعها، والدليل على أن من حقه أن يمنعها، قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» ؛ إذ لو لم يكن ذلك من حقه لما ندبه إلى فعله ولقال: ليس لكم(3/192)
أن تمنعوا إماء الله مساجد الله، ألا ترى أنك تقول لا تؤدب ابنك على ما جناه إذ له أن يؤدبه على جنايته، ولا تقول لا تؤدب أباك على جنايته إذ ليس له أن يؤدبه على ذلك وإنما تقول: ليس لك أن تؤدب أباك على جنايته وهذا بين.
[مسألة: حلف على كراء له في منزله ألا يكريه له إلا بثمانية دنانير]
مسألة وسئل عن رجل حلف على كراء له في منزله ألا يكريه له إلا بثمانية دنانير، فأراد أن يكريه نصف ذلك بأربعة دنانير هل ترى عليه حنثا، قال: لا حنث عليه، قيل له: فإن أكراه النصف بأدنى من أربعة دنانير قال: يحنث.
قال محمد بن أحمد: لا اختلاف في أنه لا حنث عليه إذا أكراه النصف بأربعة دنانير فأكثر، وأنه يحنث إذا أكراه النصف ابتداء بأقل من أربعة دنانير وإنما اختلف إذا أكرى النصف الثاني بتمام الثمانية وهو أقل من أربعة، فقال ابن القاسم في سماع أصبغ بعد هذا إنه حانث وفي الواضحة أنه لا حنث عليه وهو الأصح في النظر؛ لأنه قد استوفى في الكل ما حلف عليه.
[مسألة: كان له عليه دينار فأراد أن يقضيه دراهم فحلف عليه ألا يأخذ منه دراهم]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل كان له على رجل دينار فأراد أن يقضيه دراهم فحلف عليه ألا يأخذ منه دراهم فأحال رجلا بالدينار فتقاضى منه فيه دراهم هل عليه حنث؟ قال: لا حنث عليه.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال؛ لأنه إنما حلف ألا يأخذ منه دراهم فوجب ألا يكون عليه فيه حنث إذا أخذ غيره فيه دراهم من المحال عليه، ولو حلف ألا يأخذ في ديناره دراهم ولم يقل منه لوجب أن يحنث إن أخذ فيه دراهم من المحال عليه أو غيره؛ لأن يمين الحالف محمولة على مقتضى لفظه إذا عريت من نية تخالف اللفظ، وقد قيل: إنما تحمل على(3/193)
مقتضى اللفظ إذا عريت عن النية وعن البساط، وقد مضى هذا المعنى في رسم سلف قبل هذا وفي غيره من المواضع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف ألا يبيع سلعته إلا بثمانية عشر دينارا بحبتين حبتين]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
مسألة قال: وسئل عن الرجل يحلف ألا يبيع سلعته إلا بثمانية عشر دينارا بحبتين حبتين فيبيعها بتسعة عشر دينارا بخروبة خروبة وهي أكثر في الوزن إذا جمعت مما حلف عليه، فقال: إن كان إنما حلف على الزيادة فلا شيء عليه وإن كان إنما حلف على الدنانير بأعيانها ألا يأخذها إلا بحبتين حبتين فهو حانث وإن لم تكن له نية فهو حانث.
قال محمد بن أحمد: معنى قوله بحبتين حبتين أي ينقصان حبتين حبتين من كل دينار، وكذلك معنى قوله بخروبة خروبة أي ينقصان خروبة خروبة من كل دينار والخروبة ثلاث حبات، ولا شك أن تسعة عشر دينارا ينقص كل دينار منها خروبة أكثر في الوزن من ثمانية عشر دينارا ينقص كل دينار منها حبتان، فإن كان ألا أرد بيع سلعته بأقل مما حلف عليه فلا حنث عليه لأنه إنما باع بأكثر، وإن كان أراد بيع سلعته بمثاقيل لا ينقص كل مثقال منها أكثر من حبتين فهو حانث لأنه قد باع بغير ما حلف عليه، وإن لم تكن له نية فهو حانث أيضا؛ لأن يمين الحالف إذا لم تكن له نية محمولة على مقتضى لفظه، وقيل: إذا لم تكن له نية ولا كان ليمينه بساط، وقد مضى هذا المعنى في رسم سلف وغيره.(3/194)
[مسألة: حلف ألا يسلف أحدا شيئا فاشترى سلعة فوجد بها عيبا فأراد ردها]
مسألة وسئل عمن حلف ألا يسلف أحدا شيئا فاشترى سلعة فوجد بها عيبا فأراد ردها فقال له البائع: أخرني بالثمن وأنا أقبل سلعتي، فقال له: لا يفعل فإن فعل حنث.
قال محمد بن أحمد: قول ابن القاسم إنه يحنث إن أخره بالثمن على أن يقبل منه السلعة ويصدقه فيما يدعي من العيب فيسقط عنه بذلك ما يلزمه من الإثبات أو اليمين صحيح على أصله في أن ذلك جائز لأنه قد وجب له رد السلعة وأخذ الثمن معجلا فتأخيره به معروف منه صنعه به، فوجب أن يحنث بذلك لأنه في معنى السلف سواء، وإن كان ذلك لا يسمى سلفا وإنما يسمى إنظارا، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة أو بكل يوم مثله صدقة» على ما روي عنه من ذلك ولم يقل من السلف معسرا إذ لا يسمى سلفا إلا ما دفع عن ظهر يد، فلو ادعى الحالف أنه أراد بيمينه ألا يسلف أحدا سلفا عن ظهر يد لوجب أن ينوي وإن حضرته بينة فيما يقضى به عليه، ويأتي في هذه المسألة على القول بأنه لا يجوز أن يؤخره بالثمن على أن يقبل منه السلعة أنه لا يحنث بذلك إن فعله؛ لأنه ليس بسلف عن ظهر يد ولا في معنى السلف إذ لم يؤخره بالثمن إرادة الرفق به وإنما أخره عنه لما أسقط عنه مما كان يلزمه إياه بالحكم من إثبات العيب أو اليمين، فأشبه المبايعة وخرج عن حكم السلف، وهذا على ما في رسم البدع من سماع أشهب من كتاب المديان وعلى ما يدل عليه قول مالك في كتاب الصلح من المدونة خلاف قول ابن القاسم فيه، وهو أظهر لأن إثبات العيب أو اليمين ليس بلازم له في باطن الأمر وتكليف البائع إياه ذلك لا يحل له إن كان عالما بصدق ما يدعي، وسيأتي في رسم من باع شاة مسألة من حلف ألا يسلف رجلا فأنظره بحق كان له عليه.(3/195)
[مسألة: حضرته الوفاة فأوصى إلى ابنه أن يحج عنه لنذر كان عليه وابنه صرورة]
مسألة وسئل عن رجل حضرته الوفاة فأوصى إلى ابنه أن يمشي عنه لنذر كان عليه وابنه صرورة، فخرج ماشيا عن أبيه وهو ينوي بحجه حجة الإسلام وحجة نذر أبيه، فقال: قال مالك: الحجة جائزة عنه لحجة الإسلام، وليس المشي عن أبيه بشيء لأنه لا يمشي أحد عن أحد.
قال محمد بن أحمد: قد مضى القول في هذه المسألة في كتاب الحج في رسم تسلف، وفي رسم باع غلاما، ورسم ليرفعن أمرا إلى السلطان من سماع ابن القاسم، وفي سماع سحنون منه أيضا، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك لاكتفاء من أراد الوقوف عليه بما هنالك إن شاء الله وبه التوفيق.
[مسألة: يحلف على غريم له أن لا يؤخره فيريد أن يتحول بالحق على غيره]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يحلف على غريم له أن لا يؤخره فيريد أن يتحول بالحق على غيره من أهل الملا قال: إن فعل فهو حانث.
قال محمد بن أحمد: حنثه في هذه المسألة بما ظهر إليه من معنى أنه أراد أن لا يؤخره وأن يأخذ حقه منه فحنثه بالإحالة إن لم يأخذ حقه منه ولو حمل يمينه على ما يقضيه لفظه كما فعل في أول مسألة من هذا الرسم وفي آخر مسألة من الرسم الذي قبله لما حنثه إذ لم يؤخره إلا أن ينوي أن يأخذ حقه منه فذلك العارض من قوله فقف عليه وبالله التوفيق.
[مسألة: قال عليه المشي إلى بيت الله إن لم يصنع له شيئا فصنعه له آخر]
مسألة وسئل عن رجل جاء إلى صناع ليصنع له شيئا في بيته فقال الصناع: إني لأستحيي أن آخذ في هذا شيئا، فقال الذي جاء: عليه(3/196)
المشي إلى بيت الله إن لم يعطه، فجاء إلى منزله فإذا بصناع آخر يصنع ذلك الشيء أو أدخله هو بعد أن جاء وانصرف هذا المحلوف، قال: إن كان هو الذي أبى أن يعمل ورجع من غير أن يرده عن ذلك العمل فلا حنث عليه، وإن كان الذي جاء به هو رده ولم يتركه يعمل فليعطه وإلا حنث، قال ابن القاسم: إن كانت له نية في الذي أدخل مثل أن يقول: إنما أردت إن لم يكن له عمل فكانت تلك نيته فلا أرى عليه شيئا، وإن لم تكن له نية رأيته حانثا إن لم يعطه.
قال محمد بن أحمد: المعنى في هذه المسألة بيّن؛ لأن وجه يمينه أن يعطيه إن مضى وعمل، فإذا أبى أن يعمل لم يكن له عليه حنث إن لم يعطه، وإذا منعه هو من العمل وجب أن يعطيه وإلا حنث؛ لأنه كان يعمل لولا منعه هو إياه عن العمل، فكأنه قد عمل؛ إذ هو مغلوب على ترك العمل إلا أن يكون أراد ألا يعطيه إن لم يكن له عمل، وإن منعه هو عن العمل فتكون له نيته ولا يكون عليه حنث إذا منعه عن العمل ولم يعطه، هذا معنى قوله وهو صحيح إن شاء الله.
[مسألة: قال علي المشي إلى بيت الله إن قاصصتك بالعبد الذي لي عندك]
ومن كتاب العشور مسألة وقال في رجل اشترى عبدا من رجل بعشرة دنانير ووجب البيع بينهما وللمشتري على البائع دينار فدفع إليه المشتري تسعة دنانير، وقال: لي عليك دينار فهذه عشرة دنانير، فقال البائع: علي المشي إلى بيت الله إن قاصصتك به، وقال الآخر: هو حر في العبد إن أخذته منك إلا مقاصة، قال ابن القاسم: إن اختصما حنث(3/197)
أحدهما وقضي عليه وهو البائع الذي عليه المشي إلى الكعبة، وإن تتاركا البيع جميعا برضى منهما وإن لم يختصما فلا حنث على واحد منهما.
قال محمد بن أحمد: قد اختلف فيمن حلف ألا يفعل فعلا فقضى عليه السلطان به، فقيل: إنه يحنث وهو قول مالك في آخر سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق ودليل ما في كتاب التخير والتمليك من المدونة وقول ابن القاسم في الواضحة وعليه يأتي قوله في هذه المسألة، وقال ابن الماجشون: لا حنث عليه إلا أن يريد ولا بسلطان أو يحلف بحضرة السلطان فيتبين أنه أراد مغالبته، وأما قوله: إنه يقضي على البائع بالمقاصة فهو على المشهور في المذهب من وجوب الحكم بها، وقد روى زياد عن مالك أنه لا يحكم بها ومثله في كتاب الصرف من المدونة خلاف ما في كتاب النكاح الثاني والسلم الثاني والوكالات منها، وقد اختلف على القول بوجوب المقاصة إذا اشترى منه على ألا يقاصه، فقيل: الشرط باطل ويحكم عليه بالمقاصة وهو قول مالك في سماع أشهب من كتاب المديان، وقيل: الشرط عامل وهو قول ابن كنانة وابن القاسم في المدنية، وقد تأولت مسألة كتاب الصرف من المدونة على هذا لأن الصرف لما كان على المتاجرة فكأنها شرطا ترك المقاصة، وتعليله يرد هذا التأويل فيها، وقيل: إن البيع فاسد إذا كان الذين حالا؛ لأنه إذا شرط ترك المقاصة فكأنه شرط أن يؤخره بالدين فيدخله البيع والسلف، روي ذلك عن ابن القاسم وقال أصبغ: هو خفيف إذا لم يضرب للدين أجلا ولم يشترط أن يقضيه ذلك اليوم، وبالله التوفيق.(3/198)
[مسألة: قال الحلال عليه حرام إن غبت عن دار القاضي حتى أعطيك حقك]
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته مسألة وسئل عن رجل تعلق به غريمه فلط به وسأله حميلا أن يوافيه دار القاضي فقال الحلال عليه حرام إن غبت عن دار القاضي حتى أعطيك حقك أو يفصل بيننا القاضي، قال: فاختلف أبدا كل يوم إلى دار القاضي في حين يختلف الناس إلا أن توفيه حقه فلا يكون عليك شيء، قال: فإن وضع عني؟ قال: إن وضع عنك حنث، قيل له: فإن غاب الذي له الحق؟ قال: احضر أنت، فإن غاب ليس عليك شيء.
قال محمد بن أحمد: قوله في الذي يحلف ألا يغيب عن دار القاضي إنه ليس عليه ألا يغيب عن دار القاضي أبدا وإنما عليه ألا يغيب عنه في حين اختلاف الناس إليه، نحوه في سماع أصبغ، وهو صحيح؛ لأن الأيمان إنما تحمل على ما يُعرف من مقاصد الناس بها ولا تحمل على مقتضى ألفاظها إذا تبين أن المقصد خلافها، فقد يكون المقصد متيقنا معلوما فلا يختلف في وجوب الاعتبار به كنحو هذه المسألة؛ إذ قد علم أن الحالف لم يرد أن يلازم دار القاضي ليلا ونهارا؛ إذ قد علم أنه لا بد له من مفارقته لما لا بد له من حاجة الإنسان والوضوء والصلاة فيحمل يمينه على أنه إنما أراد ألا يفارق دار القاضي في الأحايين التي يقضي فيها بين الناس وينتفع المحلوف له بموافاته إياه فيها، ومثل هذا أن يذكر رجل بقلة الجماع فيحلف إذا بلغه ذلك أنه لا ينزل عن بطن امرأته وما أشبه ذلك كثير، والأصل فيه قائم من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قال عز وجل: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15](3/199)
وقال: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] ، وقال: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] ، فهم من هذا كله ضد ظاهر لفظه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» يفهم من ذلك وصفه بكثرة وقوع الضرب منه، وقد يكون المقصد مظنونا فيختلف في وجوب الاعتبار به، كمن حلف ألا يأكل بيضا فأكل بيض السمك أو حلف ألا يدخل بيتا فدخل المسجد وما أشبه ذلك، وأما قوله: إن وضع عنه حنث فصحيح على ما في المدونة وغيرها من أن من حلف ليقضين حقه لا تخرجه الهبة والصدقة من يمينه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف من أهل البادية لا يجاور رجلا أسماه]
ومن كتاب النسمة
مسألة وسئل عن رجل حلف من أهل البادية لا يجاور رجلا أسماه، فكم ترى له أن يتباعد عنه حتى لا يكون له جارا؟ قال: يخرج من تلك البادية إلى بادية أخرى إلا أن يكون نوى شيئا فيحمل بما أنواه، قال ابن القاسم: يذهب عنه في مثل ما يكون من تباعد أهل البادية حتى لا يكونا جارين.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال إنه إذا لم يكن له نية فيبعد عنه إلى أن يفارق المعنى الذي حلف من أجله، فإن كان معه في قرية واحدة خرج عنه إلى قرية أخرى، وإن لم يكن معه في قرية واحدة أبعد عنه إلى حيث لا يجتمع معه في مسقى ولا محطب ولا مسرح، وكذلك إن حلف(3/200)
الرجل ألا يجاور رجلا وهو معه ساكن في ربض واحد انتقل عنه إلى ربض آخر حيث لا يجتمعان للصلاة في مسجد واحد، وإن لم يكن معه في ربض واحد ولا حيث يجمعهما مسجد واحد فلا يبر إلا بالخروج عن المدينة كلها؛ لأن أهل المدينة الواحدة متجاورون. قال عز وجل: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 60] ، إلى قوله: {لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا} [الأحزاب: 60] .
[مسألة: قال لرجل والله لا أكلمك غدا والله لا أكلمك بعد غد]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل قال لرجل: والله لا أكلمك غدا والله لا أكلمك بعد غد، قال: عليه كفارتان إن كلمه غدا وبعد غد، وإن كلمه غدا وكف عنه بعد غد فكفارة واحدة، وإن كف عنه غدا وكلمه بعد غد فكفارة واحدة.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال لأن تكليمه في غد غير تكليمه في بعد غد فهو كالحالف على فعلين مختلفين بيمين على كل واحد منهما يجب عليه في فعلهما جميعا كفارتان، وفي فعل أحدهما دون الآخر كفارة، بخلاف إذا جمعهما جميعا في يمين واحدة وهذا ما لا أعرف فيه اختلافا.
[مسألة: قال والله لا أبيعك ثوبي ثم قال لآخر والله لا أبيعكما فباعهما جميعا]
مسألة وقال مالك: إذا قال رجل لرجل: والله لا أبيعك ثوبي أنت ثم قال لآخر: والله لا أبيعكما فباعهما جميعا فقال مالك: عليه كفارة إن باع أحدهما وإن باعهما جميعا كفارتان.
قال محمد بن أحمد: هذه مسألة صحيحة وقياسها قياس الذي قبلها لأنه أفرد أحد الرجلين باليمين عليه أن لا يبيع منه، ثم جمعه مع غيره في يمين أخرى فصار حالفا على أحدهما ألا يبيع منه بيمين واحدة وعلى الثاني(3/201)
ألا يبيع منه بيمينين، فإن باعهما جميعا وجب كفارتان إذ ليس في اليمين المؤكدة إلا كفارة واحدة، وكذلك إن باع أحدهما لم يجب عليه إلا كفارة واحدة كان الذي حلف عليه يمينا واحدة أو الذي حلف عليه يمينين إذ لا يجب في اليمين المؤكدة بتكرار اليمين إلا كفارة واحدة وبالله التوفيق.
[: حلف ليقضين غريمه حقه إلى شهر إلا أن يؤخره فأراد أن يؤخره]
ومن كتاب الرهون وعن رجل حلف ليقضين غريمه حقه إلى شهر إلا أن يؤخره، فأراد أن يؤخره، قال: إن أراد أن يؤخره فليشهد على ذلك لئلا ينازع بعد ذلك فيقول لم أؤخره ولا يجد على ذلك بينة أنه أخره.
قال محمد بن أحمد: إنما يجب عليه أن يشهد إذا كانت يمينه بطلاق أو عتاق أو ما أشبه ذلك مما يقضى به عليه؛ لأنه إن لم يشهد على تأخيره إياه فحل الشهر ولم يقضه قضي عليه بالعتق أو الطلاق ولم يصدق فيما يدعيه من تأخيره إياه، ولو كانت بما لا يقضى به عليه لم يحتج إلى إشهاد لأن ذلك فيما بينه وبين الله فهو موكول إلى أمانته.
[مسألة: يمين المتطوع لغيره باليمين دون أن يستحلفه]
مسألة وعن رجلين ابني رجل اسم أحدهما عبد الله بن عمر والآخر سعيد بن عمر، فسأل عبد الله بن عمر رجلا يطلب له إلى بعض الناس حاجة واستكتمه عبد الله بن عمر ذلك ففعل، فعلم به رجل آخر وقال: أطلبت لابن عمر إلى فلان؟ فقال: امرأته طالق البتة إن كنت طلبت لابن عمر إلى فلان، يريد بقوله ذلك سعيد بن عمر وقد كان طلب لعبد الله بن عمر، فجاء الرجل مستفتيا يستهل بذلك وعليه شهود شهدوا عليه أنك أخبرتنا أنك مشيت مع ابن عمر قبل أن تحلف في حاجته، فقال الرجل: إنما مشيت مع ابن عمر في(3/202)
حاجة أريد بذلك عبد الله بن عمر ومعه مشيت، وإنما كانت يميني بالطلاق أني لم أمش مع ابن عمر أريد بذلك سعيد بن عمر، فقال أرى أن يدين في ذلك ويجعل إلى نيته، وأرجو ألا يكون هذا بالحنث وأراه بمنزلة رجل من الناس ليس بأخيه ليس بابني رجل واحد هذا رجل من العرب فواطأ اسمه اسم هذا الرجل واسم أبيه، وذلك الذي نوى حين حلف وخرجت يمينه على علم منه بما حلف عليه فإني أرى أن يدين في ذلك ويستحلف كانت عليه بينة أو لم تكن.
قال محمد بن أحمد: قوله كانت عليه بينة أو لم تكن معناه إذا طلب باليمين فأقر بها إذ لا تأثير للبينة عليه مع الإقرار، ولو أنكر أن يكون حلف فلما قامت عليه البينة باليمين ادعى النية لم يصدق فيها ولم يقبل منه يمين، ولو أتى مستفتيا غير مطلوب لصدق فيما زعم أنه نواه دون يمين، وقال ابن القاسم في المجموعة وكتاب ابن المواز: لا يعجبني قول مالك في هذه ألا يحنث وقد سمعت من مالك فيما يشبهه أنه حانث، وإن كان قاله فلعله قد رجع عنه، قال ابن ميسر: الأول أجود وهذا الاختلاف على اختلافهم في يمين المتطوع لغيره باليمين دون أن يستحلفه هل يكون على نيته أو على نية المحلوف له، فالأكثر على أنها على نية الحالف، وهو قوله في هذه الرواية، وقد قيل: إنها على نية المحلوف له وهو قول ابن القاسم في رسم أوصى قبل هذا وفي سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق، وقول أصبغ في سماعه بعد هذا، وعلى هذا يأتي ما لابن القاسم في المجموعة وكتاب ابن المواز في هذه المسألة، وقد مضى تحصيل الاختلاف في هذا المعنى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.(3/203)
[مسألة: استفتح المحلوف عليه في صلاة ففتح عليه الحالف]
ومن كتاب الثمرة مسألة قال ابن القاسم: إذا استفتح المحلوف عليه في صلاة ففتح عليه الحالف فهو حانث، قال ابن وهب: فتح عليه أو رد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الصلاة فهو حانث لأن الرد ليس من الصلاة وقد كان عبد العزيز يذكر ذلك.
قال محمد بن أحمد: لا اختلاف في أن الحالف يحنث إذا فتح على المحلوف عليه كان معه في صلاة أو لم يكن لأن فتحه عليه ليس من سنة الصلاة وقد نفعه بذلك فهو معنى ما حلف عليه، ولا في أنه لا يحنث بالتسلمة الأولى التي يخرج بها من الصلاة كان إماما والمحلوف عليه وراءه أو مأموما والمحلوف عليه عن يمينه لأن ذلك من الصلاة فليس من معنى ما حلف عليه. واختلف في رد السلام على الإمام أو على من على يساره، فقال في المدونة: إنه لا يحنث، وقال ابن وهب وعبد العزيز: إنه يحنث، ومثله في كتاب ابن المواز، وكذلك اختلف أيضا هل يحنث الإمام بالتسلمة الثانية إذا كان ممن يسلم التسلمتين والمحلوف عليه عن يساره، ففي كتاب ابن المواز أنه يحنث، وقال ابن ميسر: إنه لا يحنث، وكذلك إذا كان مأموما فسلم على يساره تسليمة ثانية من غير رد والمحلوف عليه عن يساره، والاختلاف في هذا كله على ما ذكرناه في رسم جاع من الاختلاف في مراعاة المقصد إذا خالف اللفظ وكان مظنونا غير متيقن وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يبيع رجلا ثوبا أبدا وهو يريد قطع معاملته لنفسه]
ومن كتاب أوله يدير ماله مسألة قال في من حلف ألا يبيع رجلا ثوبا أبدا وهو يريد قطع معاملته لنفسه وقطع المنفعة عنه وإرفاقه وينوي إن جاءه ليشتري(3/204)
لغيره منه فباع منه ابن للحالف صغير في حجره، قال: إن كان هذا الابن قد باع واشترى إلا أنه يستشير أباه كما يستشير غيره وكما استشير أنا وأنت فلا شيء عليه وإن كان لا يشتري ولا يبيع إلا بأبيه ولا ينفذ له بيع ولا شراء إلا بأبيه فهو حانث إن أجاز بيعه، وقال لي ابن وهب مثله وقال أشهب مثله.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال لأنه إذا أطلقه على البيع والشراء صار في ذلك كالمالك لأمر نفسه ولم يكن له أن يرد شيئا من بيوعاته وأشريته فوجب ألا يحنث بما باع منه بغير أمره ولا علمه إذ لا سبيل له إلى تعقب ذلك ولا رده وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى سلعة بدنانير إلى أجل وحلف ليقضيه إياها إليه فوجد بالسلعة عيبا]
مسألة وسئل عن رجل اشترى سلعة بدنانير إلى أجل وحلف ليقضيه إياها إليه، فوجد بالسلعة عيبا فأراد ردها، قال: يقضيه الثمن ثم يخاصمه، قال أصبغ: ولو خاصمه قبل أن يقضيه حتى يرد عليه بغير شيء ويسقط موضع القضاء كان حانثا ثم إن رجع بعد ذلك يعطيه الثمن قبل الأجل لم ينتفع بذلك أيضا وقد وجب عليه الحنث، وسألت ابن وهب عن ذلك فقال لي مثله وأحب إلي أن يقضيه ثم يخاصم.
قال محمد بن أحمد: تكررت هذه المسألة في هذا السماع من كتاب الأيمان بالطلاق في رسم إن خرجت وفي رسم إن أمكنتني ووجوب الحنث عليه إن لم يقضه الثمن بين إن كانت السلعة قايمة لأنه مخير بين أن يرد السلعة أو يدفع جميع الثمن، فإن لم يدفعه حنث، وأما إن فاتت السلعة ووجب له الرجوع بقيمة العيب فيستحب له أن يدفع إليه جميع الثمن ثم يقوم عليه فيأخذ منه قيمة العيب، فإن لم يفعل يحنث لأن العيب قد كشف أنه(3/205)
لم يكن عليه جميع الثمن الذي حلف بدفعه، وقد قيل: إنه يحنث إن لم يدفع له جميع الثمن، والأول أظهر، والقولان في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى مع كتاب الأيمان بالطلاق، ولو لم يكن عليه يمين فظهر من السلعة علي عيب قبل أن ينقد الثمن فطلب البائع أن ينقده جميع الثمن ثم يخاصمه فيما يدعيه من العيب وأبى هو أن يدفعه إليه حتى يحاكمه فيه لم يكن ذلك له إلا أن يكون شيئا ينقضي من ساعته، قاله ابن مزين.
[مسألة: حلف رجل في عبده ألا يبيعه فرهنه فباعه السلطان عليه]
مسألة قال ابن القاسم: إذا حلف رجل في عبده ألا يبيعه فرهنه فباعه السلطان عليه في ذلك الرهن حين لم يكن له مال غيره فإنه لا حنث عليه وإن اشتراه يوما ما فلا شيء عليه فيه.
قال محمد بن رشد: لم يبين في الرواية بم كانت يمين الحالف عليه؟ فقال يحيى بن عمر: إنما قال إنه لا حنث عليه لأن يمينه إنما كانت بحرية عبده فوقع الحنث ولا مال له غيره فكان الدين أولى من العتق، وهو تأويل جيد تصح به المسألة إذا قلنا: إن الحنث يقع عليه ببيع السلطان إليه، وهو المعلوم من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، فيكون معنى قوله في الرواية لا حنث عليه أي لا يعتق عليه بالحنث من أجل الدين، ويكون معنى قوله: وإن اشتراه يوما ما فلا شيء عليه أي لا يعتق عليه إن اشتراه بالحنث المتقدم؛ لأن الدين قد رده لا أن اليمين تنحل عنه بل ترجع عليه باشترائه إياه، فإن باعه عتق عليه على ما في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب العتق في الذي يحلف بعتق رقيقه ألا يكلم فلانا فيحنث فيرد الغرماء عتقه فيباعون في الدين ثم يشتريهم بعد ذلك أن اليمين ترجع عليه ويعتقون إن كلم فلانا، ويحتمل أن يكون معنى قوله: إن اشتراه يوما ما فلا شيء عليه أن اليمين تنحل عنه فلا يكون عليه شيء إن باعه بعد ذلك خلاف ما في سماع عيسى من كتاب العتق؛ لأن لذلك وجها وهو أنه قد يحنث ببيع السلطان(3/206)
فوجب أن يعتبر بحنثه وإن كان العتق قد رده الدين فلا يحنث مرتين على ما قالوا في من حلف ألا يفعل فعلا ففعله مرة فحنث أنه لا يحنث بفعله مرة أخرى، ورجوع اليمين عليه أظهر لأن العتق إذا رد فكان الحنث لم يقع إذ لم يلزمه به حكم على ما قالوا في من حلف بعتق عبده ألا يفعل فباع العبد ثم فعل ذلك الفعل ثم اشتراه ففعله ثانية إن العتق يلزمه إذ لم يلزمه بالفعل الأول والعبد في غير ملكه شيء، ولو كانت يمينه ألا يبيع عبده من غير عتقه فرهنه فباعه السلطان عليه في ذلك الرهن لجرى وجوب حنثه على الاختلاف في من حلف ألا يفعل فعلا فقضى عليه السلطان به، وقد مضى ذلك في رسم العشور وغيره، فإذا حنث على القول بتحنيثه لم ترجع عليه اليمين إلا في مسألة الوتد في رسم حلف من سماع ابن القاسم، وإذا لم يحنث على القول بأنه لا يحنث رجعت عليه اليمين إلا على القول بأن الملك الثاني كعبد آخر، وإن من حلف ألا يفعل فعلا بعتق عبده فباعه ثم اشتريه ففعل ذلك الفعل لم يكن عليه شيء، وإلى هذا ذهب ابن بكير، جعل رجوع العبد إليه بعد البيع كرجوع الزوجة بعد الثلاث. وقال الشافعي: لا ترجع عليه اليمين في العبد بعد الشراء ولا في الزوجة بعد النكاح واحدة طلقها أو ثلاثا.
[مسألة: حلف على قريب له ألا يعيره ثوبا فوهبه له]
مسألة قال عيسى: قال ابن القاسم: لو أن رجلا حلف على قريب له ألا يعيره ثوبا فوهبه له قال: إن كان أراد ألا ينفعه فهو حانث وإن لم يكن أراد ألا ينفعه فالهبة غير العارية فلا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن أحمد: وكذلك لو حلف ألا يعيره عارية فوهب له هبة ولو حلف ألا يهب له هبة فأعاره عارية لحنث إلا أن تكون له نية، قاله في المدونة، وذلك كله صحيح، والفرق بين المسألتين أن العارية هبة لأنها هبة لمنافع الشيء المعار، وليست الهبة عارية إذ لا ترجع إلى الواهب فإذا حلف الرجل ألا يعير رجلا ثوبا فوهبه له لم يكن عليه حنث إذ ليست الهبة عارية إلا(3/207)
أن يكون نوى ألا ينفعه فيحنث بكل وجه من وجوه المنافع وإن لم تكن عارية، وإذا حلف ألا يهبه هبة فأعاره عارية حنث؛ لأن المعير واهب لمنافع الشيء الذي أعاره، وهو قد عم بحلفه ألا يهبه هبة جميع الهبات الرقاب والمنافع، فوجب أن يحمل يمينه على عمومها إلا أن تكون له نية بأن يقول: إنما أردت هبة الرقاب ولم أرد هبة المنافع فينوى في ذلك وإن حضرته بينة فيما يقضى به عليه بخلاف من حلف ألا يهب لرجل ثوبا فوهبه ثوب كتان وقال: إنما أردت ثوب خز أو حرير؛ لأن لهبة المنافع اسما يختص بها كالعارية والإسكان والإمناح والإرفاق وشبه ذلك، ولو حلف ألا يهبه ثوبا فأعاره إياه عارية لم يحنث، فحلف الرجل ألا يهب الرجل ثوبا بخلاف حلفه ألا يهبه هبة، وحلفه ألا يعيره ثوبا مثل حلفه ألا يعيره عارية سواء، فقف على ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يأكل من طعام فلان فاشتريا طعاما فأكلاه جميعا]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل حلف ألا يأكل من طعام فلان فاصطحبا في سفر فاشتريا طعاما فأكلاه جميعا، قال: إن كان لم يأكل أكثر من نصيبه وإنما أكل نصيبه فما دونه فما أرى عليه شيئا، وقد سمعت عن مالك شيئا وهو رأيي لو ترك ذلك، وما أحب ذلك له بدءا، قلت له: أرأيت أن قدما سفرتيهما أو طعاميهما من غير اشتراء فأكلا جميعا من الطعامين فكان ذلك كفافا، قال: هذا لا يعجبني وأخاف أن يحنث، قال أصبغ: لا يحنث وإنما هو كالاشتراء كأنه اشترى منه ما أكل بما أكل فإذا كان مثلا فدون لم يكن أكثر حتى يكون له الفضل عليه فلا حنث عليه إن شاء الله.
قال محمد بن أحمد: أما إذا اشريا طعاما فأكلاه جميعا فلا إشكال في أنه لا حنث على الحالف إذا لم يأكل أكثر من نصفه، والأصل في ذلك(3/208)
قوله عز وجل: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فأباح للوصي خلط نفقته بنفقة يتيمه إذا قصد بذلك الرفق بيتيمه ولم يرد بذلك الارتفاق لماله، فإذا لم يكن بهذا الفعل آكلا لمال يتيمه فلا يكون به آكلا لمال المحلوف عليه، وأما إذا قدما سفرتيهما أو طعاميهما من غير اشتراء فأكلا جميعا منهما فجعل ذلك أصبغ كالاشتراء، ولم يرج ذلك حنثا إذا لم يأكل الحالف أكثر من نصيبه، ولم يعجب ذلك مالكا وخشي عليه الحنث، ووجه ذلك الاشتراء يفتقر إلى رضى المتبايعين فلعل المحلوف عليه لا يسلم له ما أكل من طعامه بما أكل هو من طعامه إلا على سبيل الإفضال عليه وإن كان أقل قيمة منه إذ لا يلزمه أن يبيع طعامه إلا بما شاء من قليل الثمن وكثيره، وهذا إذا كانت يمينه على وجه المن ولم يكن لخبث أصل طعام الرجل ورداءة مكسبه، وقد مضى هذا المعنى في رسم نقدها نقدها من سماع عيسى، وقد مضى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد نحو هذا المعنى وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ليقضين فلانا حقه في انسلاخ الهلال]
ومن كتاب البراءة
مسألة قال ابن القاسم في من حلف ليقضين فلانا حقه في انسلاخ الهلال قال: إذا غابت الشمس ولم يقضه فهو حانث، فإن قال إلى انسلاخ الهلال، فمثل ذلك يحنث إذا غابت الشمس ولم يقضه، وإذا قال لانسلاخ الهلال فهو حانث إذا غربت الشمس، وإذا قال إلى استهلال الهلال فهو حانث إذا غربت الشمس، وإذا قال إلى رؤية الهلال فهو حانث إذا غربت الشمس، وإذا قال إلى رمضان فهو(3/209)
حانث إذا غربت الشمس، وإذا قال آخر رمضان فهو حانث إذا غربت الشمس، وإذا قال في انقضاء رمضان فهو حانث إذا غربت الشمس، قال: والانقضاء مثل الانسلاخ فهو حانث إذا غربت الشمس، وإذا قال إلى دخول الهلال فهو حانث إذا غربت الشمس وإذا قال عند آخر الهلال فهو حانث إذا غربت الشمس وإذا قال إلى أخر الهلال فهو حانث إذا غربت الشمس، وإذا قال إلى ذهاب الهلال فهو حانث إذا غربت الشمس، وإذا قال إلى رأس الهلال فهو حانث إذا غربت الشمس، وإذا قال في ذهاب الهلال فهو حانث إذا غربت الشمس، وإذا قال في رمضان وهو في رمضان فهو حانث إذا غربت الشمس، وإذا قال إلى حلول رمضان فهو حانث إذا غربت الشمس من آخر يوم من شعبان، وإذا قال وهو في شوال في حلول وإذا حل وحين يحل وفي مجيء ولمجيء يوم وليلة وإذا قال إلى مجيء فهو حانث إذا غربت الشمس، وإذا قال حين ينقضي فله يوم وليلة أرجو ذلك، وإذا قال حين يسهل مثل ذلك أيضا، وإذا قال حين يذهب فله يوم وليلة، وإذا قال إذا استهل فله يوم وليلة وفي رؤية الهلال فله يوم وليلة، وإذا قال عند رؤية الهلال له يوم وليلة، وإذا رئي الهلال له يوم وليلة، وإذا قال انقضى الهلال له يوم وليلة، ولرؤية الهلال له يوم وليلة، وإذا قال عند انقضاء رمضان له يوم وليلة، وإذا قال إذا دخل هلال رمضان فله يوم وليلة، وإذا قال إذا حل الهلال له يوم وليلة، وإذا قال إذا جاء الهلال له يوم وليلة، وإذا قال عند دخول الهلال له يوم وليلة، وإذا قال إذا جاء الهلال له يوم وليلة وإذا دخل الهلال له يوم وليلة، وإذا قال حين يجيء الهلال له(3/210)
يوم وليلة، وإذا قال: عند الهلال له يوم وليلة، وعند رأس الهلال له يوم وليلة، وإذا جاء رأس الهلال له يوم وليلة، وإذا قال إذا ذهب الهلال فله يوم وليلة، وإذا قال عند ذهاب الهلال فله يوم وليلة، وإذا قال في استهلال الهلال له يوم وليلة، وإذا قال عند استهلال الهلال ولاستهلال الهلال له يوم وليلة.
قال محمد بن رشد: هذه ألفاظ كلها وهي نحو خمسين مسألة إنما يختلف ما يختلف منها ويتفق ما يتفق منها بحسب موضوعها في اللسان بما أتى فيه منها بإلي التي هي للغاية فهو حانث فيها بغروب الشمس سواء سمى معها ما هو من آخر شعبان أو من أول رمضان، وأما ما لم يأت فيه بإلى فينظر فيه فما كان منها يقتضي كون القضاء قبل تمام شعبان فهو حانث بغروب الشمس، وما كان منها يقتضي كون القضاء بعد تمام شعبان فله يوم وليلة من أول رمضان، فمنها ألفاظ بينة ومنها ألفاظ مشكلة محتملة يظهر فيها اضطراب من قول ابن القاسم، من ذلك تفرقته بين أن يقول ويتخرج على حمله على الاستقبال والحال جميعا ثلاثة أقوال، أحدها أنه يلزمه إخراج ثلث جميع ما يملك وجميع ما يفيد إلى ذلك الأجل، والثاني أنه يلزمه ثلث جميع ما يملك ويفيد إلى ذلك الأجل، والثالث أنه يلزمه ثلث ماله الساعة ولا شيء عليه فيما يفيده إلى ذلك الأجل، وذلك خمسة أقوال على ما قلناه، وهذا كله في اليمين، وأما إذا نذر الرجل أن يتصدق بجميع ما يفيده أبدا فيلزمه أن يتصدق بثلث ذلك قولا واحدا، وإن نذر أن يتصدق بجميع ما يفيده إلى أجل كذا أو في بلد كذا فيلزمه إخراج جميع ذلك قولا واحدا لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] ، وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75](3/211)
الآية إلى قوله: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] . وقَوْله تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» ، الحديث، وإن كان لم ينص في المدونة وغيرها على التفرقة في هذا بين النذر واليمين، فالوجه في ذلك عندي أن تحمل هذه المسائل على اليمين دون النذر، وإنما يستوي النذر واليمين عند مالك وعامة أصحابه في صدقة الرجل بجميع ما يملك من المال «لقوله، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لأبي لبابة وقد نذر أن ينخلع من جميع ماله: يجزيك من ذلك الثلث» ، والله الموفق.
[مسألة: حلف ألا يكلم رجلا فكتب إليه ذلك الرجل الذي حلف عليه ألا يكلمه]
ومن كتاب القطعان مسألة وسئل عمن حلف ألا يكلم رجلا فكتب إليه ذلك الرجل الذي حلف عليه ألا يكلمه، فقال ابن القاسم: هو حانث إن قرأ كتابه وإنما ذلك بمنزلة ما لو أن الحالف نفسه هو الذي كتب إليه.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في سماع أبي زيد من كتاب الأيمان بالطلاق، وحكى ابن المواز عن أشهب وعن ابن القاسم من رواية أبي زيد أيضا أنه لا يحنث الحالف بقراءة كتاب المحلوف عليه واختاره وزعم أنه أنكر جماعة من أصحاب ابن القاسم قول ابن القاسم بإيجاب الحنث عليه، وكذلك هو قول بعيد؛ لأن معنى تكليم الرجل إفهامه ما في نفسه، وليس في(3/212)
قراءة الحالف كتاب المحلوف عليه إفهام له شيئا مما في نفسه من كلامه وإنما فهمه لما في نفس المحلوف عليه من الكلام فذلك بمنزلة ما لو كلمه المحلوف عليه ولم يراجعه عليه ووجه تحنيثه هو أن الحالف ألا يكلم رجلا قد أراد قطيعته، وقراءته لكتابه من باب الصلة له وفي ذلك بعد.
[مسألة: حلف ألا يأكل جبنا فأكل لبنا]
مسألة قال ابن القاسم: وليس الجبن من اللبن ولا اللبن من الجبن ولا السمن من الزبد ولا الزبد من السمن، كل هذا مفترق على حدة فمن حلف ألا يأكل جبنا فأكل لبنا فلا شيء عليه، ومن حلف ألا يأكل لبنا فأكل جبنا فلا شيء عليه، ومن حلف ألا يأكل زبدا فأكل سمنا فلا شيء عليه، ومن حلف ألا يأكل سمنا فأكل زبدا فلا شيء عليه، ومن حلف ألا يأكل لبنا فلا بأس أن يأكل الجبن والزبد والحالوم والسمن.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح، ومذهب ابن القاسم أنه إذا حلف ألا يأكل شيئا سماه عينه أو لم يعينه فأكل شيئا مما يخرج منه لم يحنث إلا أن يكون قال منه فيحنث إن كان شيئا مما يخرج منه ما عدا خمسة أشياء الشحم من اللحم، والنبيذ من التمر، والزبيب والعصير من العنب، والخبز من القمح والمفرق من اللحم فإنه يحنث بها عينها أو لم يعينها، قال منه أو لم يقل منه، وأما إذا حلف ألا يأكل شيئا فأكل ما خرج منه ذلك الشيء فلا شيء عليه عينه أو لم يعينه. قال منه أو لم يقل منه، وقد مضى هذا المعنى في رسم أوصى وبعض ما في ذلك من الخلاف.(3/213)
[مسألة: حلف ألا يأكل لبنا فأصاب لبن الضان وقال إنما أردت لبن المعز]
مسألة ومن حلف ألا يأكل لبنا فأصاب لبن الضان وقال: إنما أردت لبن المعز، أو أكل لبن المعز وقال: إنما أردت لبن الضان، أو أكل لبن البقر أو لبن الإبل وقال: إنما أردت لبن الغنم فإن كانت عليه بينة لزمه الحنث وإن جاء مستفتيا دين في ذلك، ومن حلف ألا يأكل سمنا فأكل سمن البقر وقال: إنما أردت سمن الغنم فمثل ذلك أيضا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم فمن ادعي نية مخالفة لظاهر لفظه أنه لا يصدق فيما يقضى به عليه إلا أن يأتي مستفتيا فلا خلاف في ذلك، ونظائرها في الأمهات أكثر من أن تحصى بعد أو يبلغها حصر.
[مسألة: حلف ألا يبيع سلعة فاغتصبها رجل منه فوجدها قد فاتت عنده]
مسألة وسئل عن رجل يحلف ألا يبيع سلعة فاغتصبها رجل منه فوجدها قد فاتت عنده بنجاء أو نقصان، قال: إن فاتته عنده بنجاء فأخذ لها ثمنا فقد حنث، وإن فاتت بنقصان فكان ذلك النقصان فاحشا يكون الثلث فأكثر فأخذ لها ثمنا فليس عليه شيء، وإن كان الشيء التافه فأخذ لها ثمنا فقد حنث، قلت: فإن كانت قد فاتت بنقصان فكان ذلك نقصانا فاحشا يكون أكثر من الثلث فأخذ من الغاصب سلعة مثل سلعته فأراد بيعها؟ قال: ليس عليه شيء لأنه إنما كانت وجبت له عليه دنانير، وقال في كتاب المكاتب من سماع يحيى وعيسى وسئل عن رجل حلف في سرج له ألا يبيعه فعدا عليه عاد فانتزعه منه غصبا فأراد الحالف أن يأخذ له ثمنا أو عوض سرجه، قال: إن كان السرج قائما لم يفت فأخذ له ثمنا أو عوضا(3/214)
فهو حانث، وإن كان السرج قد فات فأخذ له قيمة أو سرجا فلا حنث عليه، وقال في كتاب باع شاة، قال عيسى: سألت ابن القاسم عن الرجل يحلف بحرية عبده ألا يبيعه فيغتصبه منه إنسان فينتقص عنده فهل له أن يأخذ قيمته؟ قال: إن كان الذي نقصه منه أمرا جاءه من الله فأخذ قيمته فقد حنث لأنه كان مخيرا على الغاصب إما أن يأخذه بعيبه ولا شيء عليه في العيب، وبين أن يسلمه ويأخذ قيمته، فلما أسلمه وأخذ قيمته كان بايعا له، ولو أصابه غيره بأخذ له إنشاء أو لم يأخذ له فأسلمه كان حانثا إذا رضي بالقيمة من غاصبه ولو أنه أخذه وأخذ ما أخذ الغاصب في جرحه أو اتبع الجارح بما جنى على عبده لم يكن عليه شيء.
قال محمد بن رشد: الذي يتحصل من هذه الرواية ثلاثة أقوال، أحدها أنه لا يحنث بأخذ القيمة منه إذا فاتت عنده فواتا توجب له تضمين القيمة إياه يسيرا كان النقصان أو كثيرا بأي وجه كان وهو الذي في كتاب المكاتب، والثاني أنه يحنث بأخذ القيمة منه فيها وإن فاتت ووجب له تضمين القيمة إياه يسيرا كان النقصان أو كثيرا بأي وجه كان، وهو الذي في كتاب باع شاة، والثالث أنه يحنث بأخذ القيمة فيها منه إن كان النقصان يسيرا، ولا يحنث إن كان النقصان كثيرا أكثر من الثلث، وجه القول الأول إن ذلك ليس بيعا لأن البيع إنما يكون برضى المتبائعين والغاصب مجبور على أخذ القيمة منه، ووجه القول الثاني أن ذلك بيع من أجل أنه مخير بين أن يأخذ سلعته ويضمنه ما نقص يسيرا كان النقصان أو كثيرا وبين أن يسلمها إليه ويأخذ منه قيمته، فأشبه من حلف ألا يبيع سلعة فباعها على أنه فيها بالخيار أنه يحنث إن أمضاها له وإن كان المبتاع مجبورا على أداء الثمن فيها للعقد المتقدم، والقول الثالث لا يخرج عن القولين، فهو استحسان على غير حقيقة القياس، وبالله التوفيق.(3/215)
[مسألة: حلف ألا يستسلف من رجل شيئا وللحالف للمحلوف عليه حق]
ومن كتاب أوله باع شاة مسألة وسئل عن رجل حلف ألا يستسلف، من رجل شيئا وكان على الحالف للمحلوف عليه حق، فسأله أن يؤخره، قال: إن سأله أن يؤخره فأخره حنث قلت: فرجل حلف ألا يسلف رجلا شيئا وكان له عليه حق فسأله أن يؤخره فأخره حنث؟ قلت: أفيتوانى في تقاضيه منه من غير تأخير؟ قال: لا.
قال محمد بن أحمد: إنما وجب أن يحنث الحالف ألا يستسلف بالانتظار والحالف ألا يسلف بالإنظار لأن ذلك في معنى السلف وإن لم يسم ذلك سلفا والحكم للمعاني دون الأسماء فلو ادعى كل واحد منهما أنه أراد السلف ولم يرد الإنظار لوجب أن ينوى على أصولهم وإن كانت على يمينه بينة، وقد مضى ذلك في رسم أسلم وأما إذا توانى في تقاضيه من غير تأخير فالصواب أنه لا يحنث إن فعل وإن كان لا ينبغي له أن يفعل ليكون ذلك أبر له وأبرأ من الحنث إذ لم يقع منه سلف ولا ما هو في معناه من الإنظار، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لينتقلن]
مسألة وقال مالك: من حلف لينتقلن فلينتقل بكل شيء له، وليقم شهرا ثم ليرجع إن شاء، ولو قال: امرأتي طالق البتة لانتقلن عنك فإنه يطلب ويرتاد لنفسه منزلا ولكن لا يطأ حتى ينتقل.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم وجه استحسانه للمنتقل أن يقيم شهرا قبل رجوعه، ومضى في رسم أوصى من هذا السماع القول في انتقاله بجميع متاعه فلا معنى لإعادة ذلك، وأما قوله إنه إن حلف بالطلاق فلا يطأ حتى ينتقل فهو قوله في(3/216)
المدونة وغيرها؛ لأنه على حنث فإن رفعت امرأته أمرها وطلبته بالوطء ضرب له أجل الإيلاء من يوم ترفعه، فإن بر بالانتقال وإلا طلق عليه بالإيلاء وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يسأل رجلا شيئا فأعطاه ذلك الرجل شيئا]
ومن كتاب العتق مسألة وسئل عن رجل حلف ألا يسأل رجلا شيئا فأعطاه ذلك الرجل شيئا، قال: لا حنث عليه إن لم يسأله إلا أن يكون نوى ألا يأخذ منه شيئا.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال، والأصل في ذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المسألة وأباح للرجل قبول ما أعطي من غير مسألة، فلم يكن ما أباح من جنس ما نهى عنه، وفي هذه المسألة زيادة في سماع أصبغ سيأتي القول عليها في موضعها إن شاء الله تعالى.
[مسألة: حلف ألا يجاور رجلا فمرض المحلوف عليه فأتاه عائدا]
من سماع يحيى من ابن القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ -
من كتاب الصبرة
مسألة قال يحيى: وسئل عن رجل حلف ألا يجاور رجلا فيرتحل عنه ثم يمرض المحلوف عليه فيأتيه الحالف عائدا فيقيم عنده أياما أو يأتيه زائرا فيقيم أياما، قال: لا حنث عليه في إقامته اليومين والثلاثة ونحو ذلك، قيل له: فإن كانت إقامته عنده ومعه أهله أترى في إقامته اليومين والثلاثة مع أهله وعياله بأسا وقد ارتحل عنه رحيلا بائنا؟
قال محمد بن رشد: من حلف ألا يسكن رجلا ولا يجاوره ولا نية له في مجانبته والتنحي عنه فلا يحنث بالزيارة ما لم تطل؛ إذ ليست بسكنى على ما في المدونة وغيرها، واختلف إن طالت فقيل: إنه لا يحنث إذا لم يكن على(3/217)
وجه السكنى، وهو قول أشهب في كتاب ابن المواز وأحد قولي أصبغ، وقيل: إنه يحنث إذا طالت لأنه يكون بها في معنى المساكن وإن لم يكن مساكنا، وهذا على ما ذكرناه في رسم جاع من سماع عيسى من اختلافهم في مراعاة المقصد المظنون إذا خالف ما يقتضيه اللفظ المظنون به، واختلف في حد الطول الذي يكون به الزائر في معنى المساكن على قولين، أحدهما أنه ما زاد على الثلاثة الأيام ونحوها وإن كان معه في حاضرة واحدة، وهو ظاهر هذه الرواية ولم يجب إن كان معه أهله وولده في هذه الأيام، والظاهر أنه لا يحنث أيضا إلا أن يكون أصل يمينه لما يدخل بين النساء والصبيان، والثاني أن الطول في ذلك أن يكثر الزيارة بالنهار أو يبيت في غير مرض إلا أن يشخص إليه من بلد آخر فلا بأس أن يقيم اليوم واليومين والثلاثة على غير مرض وهو قول ابن القاسم وروايته عن ملك في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك وأصحابه، والاختلاف في هذا راجع إلى العرف والعادة في الزيارة فيحنث عند جميعهم إذا أقام أكثر مما جرت العادة بإقامته في الزيارة، وإنما اختلفوا لأن كل واحد منهم أجاب بما غلب على ظنه من العرف في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة يحلف إن فعل كذا فماله صدقة على المساكين بأيمان مختلفة فيحنث]
ومن كتاب الصلاة
مسألة قال يحيى: وسئل ابن القاسم عن الرجل يحلف إن فعل كذا وكذا فماله صدقة على المساكين يحلف بأيمان مختلفة في أيام مفترقة أو غير مفترقة فيحنث في إحدى الأيمان اليوم وفي يمين أخرى غدا، وفي يمين ثالثة بعد الغد، يحنث في أيمان كثيرة على هذا النحو، أيلزمه أن يتصدق بثلث ماله لأول حنثه ثم بثلث ما بقي للحنث الثاني ثم بثلث ما بقي للحنث الثالث؟ يكون على هذا يلزمه في كل حنث إخراج ثلث ما بقي أم لا يلزمه إلا إخراج ثلث ماله مرة(3/218)
واحدة وإن حنث في جميع أيمانه؟ فقال: إن كانت أيمانه في كلمة واحدة أو كلام مختلف وأيمان شتى وأزمان متباعدة ذلك كله سواء لا يلزمه من ذلك إلا إخراج ثلث ماله مرة واحدة حنث في جميع أيمانه أم لم يحنث إلا في يمين واحدة إلا أن يكون حنث فأخرج ثلث ماله ثم حلف بعد ذلك وحنث فهو الذي يجب عليه أن يخرج ثلث ما بيده كلما حنث على هذه الحال، فأما ما وكد من الأيمان أو أكثر من الحنث قبل أن يخرج ثلث ماله لحنثه وإن كان ذلك في أمور كثيرة مختلفة فليس عليه إلا ما على من لم يحنث إلا يمينا واحدة في أمر واحد، ثم إذا حنث في إحدى الأيمان فأخر ثلث ماله ثم حنث في بقية الأيمان التي كان عقد قبل أن يخرج ثلث ماله فلا شيء عليه في جميع تلك الأيمان حنث فيها قبل إخراج الثلث أو بعده، قلت: أرأيت إن حلف وماله ألف دينار فأنفقه إلا مائة دينار ثم حنث؟ قال: ليس عليه أن يخرج إلا ثلث المائه الدينار، قيل له: فإن حلف وماله ألف دينار فلم يحنث حتى أدارها فصارت ألفي دينار ودخلت عليه فوائد؟ قال: ليس عليه أن يخرج إلا ثلث ما كان بيده يوم حلف، كذلك قال لي مالك. قلت: أرأيت ما استنفق بعد ما حنث من المال الذي كان بيده يوم حلف؟ قال: أحب إلي أن يخرج ثلث جميع ما كان بيده يوم حنث مما كان يملك يوم حلف، ولا أرى ذلك عليه واجبا.
قال محمد بن رشد: قوله في من حلف بصدقة ماله مرات على أشياء شتى إنه ليس عليه إذا حنث في أيمانه كلها إلا ثلث ماله مرة واحدة فإن حنث فيها كلها قبل أن يخرج ثلث ماله أخرج ثلثه مرة واحدة وإن حنث في بعضها فأخرج ثلث ماله في بقيتها فليس عليه شيء صحيح؛ لأن عقد اليمين(3/219)
لا يوجب عليه الصدقة بثلث ماله وإنما يوجب ذلك عليه الحنث فإذا حلف بصدقة ماله على شيء ألا يفعله ثم حلف قبل أن يحنث بصدقة ماله ثانية على شيء آخر ألا يفعله فحنث في اليمين فليس عليه فيهما إلا ثلث ماله مرة واحدة سواء حنث فيهما جميعا قبل أن يخرج الثلث أو حنث في أحدهما فأخرج الثلث ثم حنث في الآخر بعد ذلك؛ لأنه إنما هو حالف في اليمين بشيء واحد وهو ثلث ماله، فإن كان قد أخرجه إن حنث في اليمين الأولى فلم يبده ما يحنث به في اليمين الثانية، وإن كان لم يخرجه فهو الذي يجب عليه إخراجه بمنزلة من قال: إن فعلت كذا وكذا فعبدي فلان حر فليس عليه أكثر من حرية عبده حنث في اليمينين أو في أحدهما، وقد وقع في سماع أبي زيد بعد هذا ما لابن القاسم، وأما لابن كنانة على ما يحتمله ذلك من التأويل أن عليه إخراج ثلث ماله لليمين الأول ثم ثلث ما بقي لليمين الثانية ثم ثلث ما بقي لليمين الثالثة، وهو بعيد بدليل ما ذكرناه، وإنما يجب عليه في القياس إخراج ثلث ماله لليمين الأولى وثلث ما بقي لليمين الثانية وثلث ما بقي لليمين الثالثة إذا حلف وحنث ثم حلف وحنث ثم حلف وحنث لأنه إذا حنث فقد وجب عليه إخراج ثلث ماله فإذا حلف بصدقة ماله بعد وجوب ذلك عليه فإنما تقع يمينه بصدقة ما بقي من ماله فيجب عليه إخراج ثلثه إذا حنث لا يدخل بعض ذلك في بعض خلاف ما تدل عليه هذه الرواية وخلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك وبعض أصحابه من أنه لا يجب عليه إلا ثلث واحد للأيمان كلها، وذلك استحسان على غير قياس مراعاة للاختلاف في أصل اليمين، وأما إذا حلف وحنث فأخرج ثلث ماله ثم حلف بعد ذلك وحنث فلا اختلاف في أن عليه إخراج ثلث ما بقي بيده بعد ما أخرج لليمين الأولى، ولا اختلاف في أنه إذا حلف بصدقة ماله ثم حنث وقد نقص المال أنه لا يجب عليه أن يتصدق إلا بما بقي بيده يوم حنث، واختلف إذا حنث وقد زاد المال بتجارة أو بولادة رقيق كانوا فيه، فقال في الرواية: إنه ليس عليه أن يخرج ثلث النماء، ومثله في الواضحة وغيرها لابن(3/220)
القاسم، وهو صحيح؛ لأنه على بر، وقد قال ابن القاسم في الذي يحلف بعتق رقيقه ألا يفعل فعلا فيولد لهم أولاد إن القياس ألا يدخل أولادهم في اليمين لأنه علي بر، وإن كان قد قال مالك إنهم يدخلون في اليمين، وفي المبسوطة لابن دينار أن ربح المال يدخل في الصدقة ولا يدخل أولاد الرقيق في اليمين بعتقهم، ولو قال في ذلك بالعكس لكان أشبه من أجل الاختلاف في اليمين بصدقة المال، وأما ما استنفق بعد ما حنث مما كان بيده يوم حلف فالقياس أن عليه أن يخرج ثلث ذلك، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في المبسوطة وقول ابن حبيب في الواضحة، وقول ابن المواز، قال: لأنه كالزكاة يجب عليه ما أنفق، وإسقاط ذلك عنه في الرواية استحسان مراعاة للاختلاف في اليمين، وأما ما تلف من المال بعد الحنث فقال في الهبات من المدونة لا شيء عليه فيه فرط أو لم يفرط، ومثله في الواضحة وفي المبسوطة من رواية أصبغ عن ابن القاسم، وله فيها أيضا ما يدل على أن عليه أن يخرج ثلث ما تلف إذا فرط، وهذا الذي يوجبه النظر قياسا على المال يفرط في إخراج الزكاة منه بعد الحول حتى يتلف فالقول الأول استحسان على غير قياس، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف على رجل ألا يؤمنه فقدم مكانا يقدر فيه ذلك الرجل السلطان عليه]
ومن كتاب المكاتب مسألة وسألته عن رجل من ذوي السلطان يحلف على رجل ألا يؤمنه فقدم ذلك الرجل مكانا يقدر فيه ذلك الرجل السلطان عليه ويناله من عقوبته ما أحب فتجافى عنه وتركه غير مؤمن ولا معاقب أترى أن قد حنث؟ قال: نعم أراه حانثا إذا كان أمره على ما وصفت، قلت: أرأيت إن كان المحلوف عليه مختفيا يعلم السلطان بمكانه فتركه على خوف أذلك عندك بمنزلة ما لو كان ظاهرا كالآمن وهو غير مؤمن؟ فقال: أما إذا علم بمكانه وكان قادرا عليه فتركه فقد حنث،(3/221)
قلت: أرأيت إن كان يريد أن يعاقبه ليبر في يمينه أيضره سكوته عنه أياما بعد علمه بمكانه؟ قال: نعم أراه حانثا إلا أن يكون تركه تركا يسيرا اليوم ونحوه وهو يروي في أخذه وعقوبته.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه حمل يمينه ألا يؤمنه على ما ظهر إليه من أنه أراد ليعاقبه فحنثه بتأخير عقوبته، فالاختلاف في هذه المسألة في موضعين: أحدهما حمل يمينه على المقصد المظنون دون ما يقتضيه اللفظ المظنون به، وقد مضى ذكر ذلك في مواضع منها رسم جاع من سماع عيسى، والموضع الثاني أنه حمل يمينه ليفعلن على التعجيل حتى يريد التأخير فحنثه بتأخير العقوبة، وذلك نحو ما في سماع أبي زيد من كتاب العتق في الذي يقول: إن لم يصنع لنا فجاريتي حرة، ومثل ما في المدونة من رواية ابن القاسم عن مالك في الذي يحلف لينتقلن أنه لا يقيم طرفة عين وليخرج ساعة حلف وإن كان في جوف الليل إلا أن تكون له نية، خلاف المشهور من أنه على التأخير حتى يريد التعجيل، من ذلك قولهم في من حلف بطلاق امرأته ليفعلن فعلا أنه لا يطأ امرأته حتى يفعل ويضرب له أجل الإيلاء إن طلبت امرأته الوطء، وقوله في المسألة التي بعد هذا وقد نص على اختلاف قول مالك في المبسوطة، وهو على اختلافهم في الأمر هل يقتضي الفور أم لا. وقد ذكرنا ذلك أيضا في رسم سن من سماع ابن القاسم، وقول ابن القاسم في هذه المسألة على قياس قول مالك في رسم العتق من سماع أشهب من كتاب العتق في الذي يقول: كل مملوك له حر إن عفوت عنك إلا أن يعفو عنك السلطان فقف على ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأبق عبده فيحلف إن أظفره الله ليعاقبنه فيظفر فيؤخر عقوبته]
مسألة وسألته عن الرجل يأبق عبده فيحلف إن أظفره الله ليعاقبنه فيظفر فيؤخر عقوبته، قال: لا يكون حانثا إلا أن يموت الحالف قبل(3/222)
أن يعاقبه فيكون حنثه في ثلث ماله، قلت: أرأيت إن فرط في العقوبة وهو قادر عليها حتى يأبق ثانية أتراه حانثا؟
قال محمد بن أحمد: لم يحمل يمينه في هذه المسألة على التعجيل، فقوله فيها خلاف قوله في المسألة التي قبلها، وسكت عن وجوب الحنث عليه إن فرط في عقوبته حتى يأبق ثانية، والذي يأتي على قياس قوله في أول المسألة أنه لا يحنث إلا أن يموت الحالف قبل أن يقدر عليه فيكون حنثه في ثلث ماله، وكذلك قال محمد فيها إنه لا حنث عليه، والعمل في ذلك إن مات الميت وأوصى بوصايا مال أن يخرج من ثلث مال الميت سوى العبد الآبق فيعطى من ذلك لأهل الوصايا بقية ثلث مال الميت مع العبد الآبق ويوقف الباقي، فإن وجد العبد الآبق أو علم أنه كان حيا حين مات الحالف نفذت له الحرية ورد ما وقف إلى الورثة وإن لم يوجد ولا علمت حياته حين مات الحالف وأيس من علم ذلك كان ما وفق لأهل الوصايا، مثال ذلك أن يترك الميت ثلاثين دينارا ويوصي لرجل بعشرة دنانير وقيمة الآبق عشرة دنانير فيخرج ثلث الثلاثين عشرة دنانير فيدفع منها للموصى له بالعشرة دنانير ثلاثة دنانير وثلث دينار؛ لأن الورثة تقول له لعل الآبق حي فلا يحنث لك إلا ثلاثة وثلث دينار؛ لأن جميع المال يكون أربعين يبدأ العبد في ثلثها بعشرة لأن العتق مبدأ على الوصية فلا يجب لك إلا البقية، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال علي نذر أن أعتق عبدي فلانا]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يقول: علي نذر أن أعتق عبدي فلانا ماذا عليه؟ فقال: أحب له الوفاء بما جعل لله عليه من التقرب بعتق رقبة عبده، ولا أرى ذلك لازما له كالحنث فيه وإنما هو رجل نذر ليفعلن خيرا فليوف بنذره.(3/223)
قال محمد بن أحمد: قوله أحب الوفاء بما جعل لله عليه من ذلك ليس على ظاهره من أن ذلك يستحب له أن يفعله فإن فعله أجر وأن لم يفعله لم يأثم، فهو تجاوز في العبارة لأن من نذر ما لله فيه طاعة فالإيفاء به عليه واجب، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» . وقولي: ولا أرى ذلك لازما له كالحنث معناه ولا أرى أن يحكم به عليه كما يحكم عليه بالحنث؛ لأن ذلك ليس بلازم له فيما بينه وبين خالقه كالحنث بل هو واجب عليه وألزم له فيما بينه وبين خالقه من الحنث؛ إذ لم يختلف أهل العلم في وجوب ما لله فيه طاعة بالنذر، واختلفوا في وجوب ذلك باليمين، وأشهب يرى أن يحكم بالعتق على من نذره على نفسه، وهو أظهر ووجه قول ابن القاسم أن الحكم عليه بالعتق لا وفاء له به؛ لأن الأعمال بالنيات فتركه عسى أن يفي أولا من أن يفوت عليه الوفاء فيحصل في إثم لا مخرج له منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالمشي إلى بيت الله]
ومن سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم مسألة قال: وسئل ابن القاسم عن الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله يمشي ذراعا ويحفر ذراعا، قال: يمشي ولا هدي عليه في الحفر، ولا يحفر.
قال محمد بن أحمد: أما المشي فلا اختلاف في وجوبه عليه بالنذر لأنه طاعة لله، وقوله: إن الحفر لا هدي فيه عليه صحيح على ما مضى في رسم المحرم من سماع ابن القاسم، وفي ذلك اختلاف قد ذكرناه هناك فلا معنى لإعادته.(3/224)
[مسألة: قال لرجل والله لا أكلمك يوما وذلك في الضحى أو نصف النهار]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول للرجل: والله لا أكلمك يوما وذلك في الضحى أو نصف النهار، قال: يكف عن كلامه بقية يومه وليلته إلى مثل تلك الساعة، قلت: وكذلك لو قال له في الليل والله لا أكلمك ليلة قال: يكف عن كلامه بقية ليلته ويومه من غد إلى ذلك الحين من ليلة غد حين حلف.
قال محمد بن أحمد: اليوم يقع على واحد من جنسه تقول يوم وأيام والليلة كذلك أيضا تقع على واحد من جنسها تقول ليلة وليال فالليلة تختص بالزمان الذي يكون من غروب الشمس إلى طلوعها أو إلى طلوع الفجر على ما مضى فيه في رسم القبلة من سماع ابن القاسم، واليوم يختص بالزمن الذي يكون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس أو من طلوعها إلى غروبها على ما مضى القول أيضا في ذلك في رسم القبلة، ومن قال: إن اليوم يقع علي الزمن الذي يكون من طلوع الشمس إلى طلوعها أو من غروبها إلى غروبها يرثه قول الله عز وجل: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7] . فإذا حلف الرجل ألا يكلم رجلا يوما وهو في بعض النهار وجب ألا يكلمه حتى يستكمل يوما كاملا من حين حلف، وذلك لا يكون إلا بأن يمسك عن كلامه من حين يمينه إلى ذلك الحين من يوم آخر؛ لأن اليوم يتعين من حين يمينه، ولو حلف ألا يكلمه أياما لوجب أن يمسك عن كلامه عدد الأيام التي حلف عليها إلى ذلك الحين من اليوم الذي حلف فيه على قياس هذا القول، وقد قيل: إنه يلغي بقية ذلك اليوم، اختلف قول مالك في ذلك، وقع اختلاف قوله في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، وإذا حلف الرجل ألا يكلم ليلة وهو في بعض الليل فعلى قياس ذلك أيضا، ولو حلف وهو في النهار ألا يكلم فلانا ليلة أو كذا وكذا ليلة وهو في(3/225)
الليل ألا يكلم فلانا يوما أو كذا وكذا يوما لم يكن عليه أن يمسك عن كلامه بقية يومه ولا بقية ليلته واستأنف حساب ما حلف عليه من الليالي بعد انقضاء يومه وما حلف عليه من الأيام بعد انقضاء ليلته ولسحنون في كتاب ابنه أنه إذا حلف ألا يكلمه ليلة فذلك على بقية ليلته، وإذا حلف ألا يكلمه يوما فلا بد أن يكون الليل والنهار، فجعل قوله ليلة بمنزلة قوله هذه الليلة فلم يلزمه الإمساك عن تكليمه إلا بقية ذلك اليوم إلى الغروب، فقوله إنه لا بد أن يكون في ذلك الليل والنهار إنما يخرج على قول من قال: إن اليوم يقع على الليل والنهار من الطلوع إلى الطلوع أو من الغروب إلى الغروب، أو من أي وقت كان إلى مثل ذلك الوقت من يوم آخر، وقد بينا أن القرآن يرد هذا القول، والنهار يقع على الجنس الذي يكون فيه الضياء من الزمان، والليل يقع على الجنس الذي يكون فيه الظلام من الزمان، فإذا حلف الرجل ألا يكلم رجلا نهارا فلا يكلمه أبدا نهارا إلا أن يريد هذا النهار، وإذا حلف ألا يكلمه ليلا فلا يكلمه أبدا ليلا إلا أن يريد هذه الليلة، وبالله التوفيق.
[مسألة: قالت مالي في المساكين صدقة إن دخلت دار أخي فأرادت الدخول]
مسألة وسئل سحنون عن امرأة قالت: مالي في المساكين صدقة إن دخلت دار أخي فأرادت الدخول وتخرج ثلث مالها في المساكين، فمنعها الزوج من الصدقة، قال: لا أرى أن تمنع من الثلث وقد لزمها ذلك إن حنثت وليس له أن يحول بينها وبين الثلث ولو كانت حلفت بأكثر من الثلث لم يكن عليها شيء إذا كره الزوج ذلك لها.
قال أصبغ بن الفرج: لا شيء عليها في ثلثها ولا غير ذلك إذا منعها الزوج من ذلك خلاف ما يلزمها إخراج ثلث مالها.
قال محمد بن أحمد: هذه المسألة مبنية على اختلافهم إذا قصدت المرأة بصدقة ثلث مالها الإضرار بزوجها هل له أن يرد ذلك أم لا؟ فقول سحنون في هذه المسألة على روايته عن ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب(3/226)
الصدقات والهبات قوله هناك، وقول أصبغ على قول مالك في سماع أشهب من كتاب الأقضية وقول ابن القاسم في رواية يحيى، واختلف إذا تصدقت بأكثر من الثلث، فقال ابن القاسم ورواه عن مالك: يرد الزوج الجميع، وقال ابن الماجشون: ليس له أن يرد إلا ما زاد على الثلث ورواه عن مالك وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة قال ابن الماجشون: وإنما يكون له أن يرد الجميع في العتق من أجل أنه لا يبغض وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالتوراة والإنجيل في كلمة واحدة]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون مسألة لله علي صيام، قيل لسحنون: أرأيت من حلف بالتوراة والإنجيل في كلمة واحدة عليه كفارات أو كفارة واحدة؟ قال: عليه كفارة واحدة.
قال محمد بن أحمد: قد تقدم القول في هذه المسألة موعبا في رسم أوصى من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: قال لله علي الصيام]
مسألة وقال في رجل قال: لله علي الصيام ولم يقل غير هذا أو قال صدقة ولم يقل غير هذا، قال: يصوم ما شاء ويتصدق بالدرهم والنصف والربع، قيل له: فالفلس والفلسان قال: ما زاد فهو أحسن.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال من أجل أن كل ما يتصدق به مما يكون للمتصدق عليه فيه وجه منفعة وإن قل فاسم الصدقة متناول له، فوجب إذا لم يكن للحالف نية ولا بساط أن يحمل يمينه عليه ولا عرف ولا مقصد تصرف يمينه إليه أن يبر بذلك، وقد مضى من القول في سماع أشهب نحو هذا وبالله التوفيق.(3/227)
[مسألة: حلف ألا يشتري أكثر من عشرة شياه فاشترى ثلاثين مع ثلاثة نفر]
مسألة وفي رجل حلف ألا يشتري أكثر من عشرة شياه فاشترى ثلاثين شاة مع ثلاثة نفر لكل واحد ثلثها، قال مرة يحنث ومرة لا يحنث إذا قاسم شريكه، فإن صار له في ثلثه أكثر من عشر شياه حنث، وإن صار له عشرة فأدنى لم يحنث.
قال محمد بن أحمد: هذا إنما يصح على القول بأن القسمة تمييز حق؛ لأنه انكشف بها أنه لم يزل مالكا من يوم اشترى إلا لما صار له الآن في القسمة، فوجب أن يحنث إذا كان الذي صار له في القسمة أكثر من عشرة شياه، وأما على القول بأنها بيع من البيوع فلا حنث إلا أن يصير له في القسمة أكثر من خمس عشرة شاة لأنه إذا صار له بها خمس عشرة شاة فإنما اشترى من شريكه ثلثها وذلك عشرة بثلث الخمس عشرة التي صارت لشريكه فلا يحنث إلا أن يكون الذي صار له بالقسمة أكثر من خمس عشرة لأنه حينئذ يكون قد اشترى من شريكيه أكثر من عشر شياه وهذا بين إذا تدبرت.
[مسألة: باع مالا وحلف ألا يقيل صاحبه ولا يضع عنه فأمره السلطان بردها]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم مسألة قال محمد بن خالد: سألت ابن القاسم عن رجل باع مالا لي أو سلعة ما كانت؟ وحلف ألا يقيل صاحبه ولا يضع عنه فقضى عليه السلطان بردها، قال: لا حنث عليه وليس هذا مما حلف عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة وقد مضى القول فيها في رسم يسلف من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.(3/228)
[مسألة: حلف ألا يأكل ديكا فأكل دجاجة]
ومن سماع عبد المالك بن الحسن
وسؤاله ابن القاسم مسألة قال عبد المالك: قال ابن القاسم: من حلف ألا يأكل دجاجا فأكل ديكا حنث، ومن حلف ألا يأكل دجاجة فأكل ديكا فلا حنث عليه لأن الديكة دجاج في كلام الناس واسم الدجاج لجميع الذكور منها والإناث ومن حلف ألا يأكل ديكا فأكل دجاجة لم يحنث ومن حلف ألا يركب فرسا فركب برذونا حنث ومن حلف ألا يركب برذونا فركب فرسا لم يحنث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن يمين الحالف إذا عريت عن نية أو بساط أو مقصد يخالف لفظه حملت على ما يقتضيه اللفظ في اللسان، والدجاج لا يتسمى ديكا، فإذا حلف ألا يأكل ديكا أو ديكة فلا يحنث بأكل الدجاج والدجاج يقع على الذكور والإناث فمن حلف ألا يأكل دجاجا فأكل ديكا حنث لأن لفظه اقتضاه، وكذلك البرذون تسمى فرسا والفرس لا تسمى برذونا فوجب أن يحنث من حلف ألا يركب فرسا فركب برذونا وألا يحنث من حلف ألا يركب برذونا فركب فرسا وبالله التوفيق.
[مسألة: قال: علي عهد الله وأشد ما حمل أحد على أحد]
مسألة قال: وسألت ابن وهب عمن قال: علي عهد الله وأشد ما حمل أحد على أحد، قال عليه في العهد كفارة يمين، وليس في أشد ما حمل أحد على أحد إلا كفارة يمين.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم أوصى من سماع عيسى فأغنى ذلك عن إعادته.(3/229)
[مسألة: حلف ألا يطأ امرأته فوطئها وهي حائض]
مسألة وسئل عمن حلف ألا يطأ امرأته فوطئها وهي حائض، فقال: هو حانث قلت: فإن حلف أن يطأها فوطئها وهي حائض؟ قال: هو حانث إلا أن يكون نوى ذلك.
قال محمد بن أحمد: أما الذي حلف ألا يطأ امرأته فوطئها وهي حائض فلا إشكال في أنه حانث ولا اختلاف لأنه إذا لم تكن له نية في ألا يطأها وهي طاهر وجب أن يحنث لأنا إن حملنا يمينه على المجانبة حنث، وإن حملناها على مقتضى لفظه حنث ولا يصح أن يحمل يمينه على أنه أراد ترك نوع الوطء دون غيره إذ قد عم جميعها لفظ النفي، وأما الذي حلف ألا يطأها فوطئها وهي حائض، فقال في الرواية: إنه حانث ويدخل في ذلك اختلاف بالمعنى؛ لأن الوطء المعروف هو الوطء في حال الطهر، فالظاهر من أمر الحالف أنه قصد إلى ذلك لا إلى الوطء في حال الحيض فإن غلب الظن بذلك، وحملت يمينه عليه لم نحنثه، وإن لم نغلب الظن بذلك وحملنا يمينه على مقتضى لفظه حنثناه؛ لأن الوطء في حال الحيض وطء، والواطئ فيه واطئ حقيقة وقد مضى من هذا النحو مسائل كثيرة منها مسألة الذي حلف أن يأكل الطعام فأكله بعد الفساد في رسم إن كلمتني من سماع عيسى، فالاختلاف فيها داخل في هذه لاستوائهما في المعنى.
[مسألة: حلف لينتقلن من منزله فترك شيئا في بيته]
مسألة وسئل عن رجل حلف لينتقلن من منزله فترك شيئا في بيته مثل الزم والوتد والفخار، قال ابن وهب: إن كان تركه وهو لا يريد الانصراف فيه فلا حنث عليه وإن كان نسيه فأراه حانثا.
قال محمد بن أحمد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم أوصى من سماع عيسى فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.(3/230)
[مسألة: حلف لرجل في حق بالمشي إلى بيت الله فحنث فقال نويت المسجد]
من سماع أصبغ بن الفرج عن ابن القاسم
من كتاب النذور مسألة قال أصبغ: قلت لابن القاسم: أرأيت إن حلف رجل لرجل في حق بالمشي إلى بيت الله فحنث فقال: إنما نويت المسجد أينفعه ذلك أم يفترق ابتدأه باليمين أم لم يبتدئ، قال: أرى ذلك ينفعه وأرى ذلك إلى نيته وما أراد ابتدأه باليمين أم لم يبتدئه ولا شيء عليه وليس يفترق ذلك، قال: قلت: فكيف أفرق في حلفه له بالطلاق أو الحلال عليه حرام؟ فقال: تلك حقوق كان يقضى فيها إن ظهرت، وهذا هنا مما ليس يقضى فيه إن ظهر ولا يلزمه فلذلك تركه ونيته، قال أصبغ: ليس يفترق إلا في الأحكام، فأما في الحنث فيما بينه وبين الله فأراه عليه وأراه لازما له ولا تنفعه نيته إذا كان في حق أو وثيقة فيما أحلفه أو حلف له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى من تحصيل القول فيها في رسم شك من سماع ابن القاسم ما يغني عن إعادته هاهنا وبالله التوفيق.
[مسألة: له على رجل حق فحلف المطلوب إن بات الليلة لك على شيء]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عن رجل له على رجل حق فحلف المطلوب إن بات الليلة لك على شيء ما حد المبيت؟ قال: قدر نوم الناس ما يؤخر له صلاة العشاء وذلك ثلث الليل الأول، قال أصبغ: لا أرى ذلك وإنما الإيمان بمعاني أمور الناس وما يعرف، فأراه إن كان حلف نهارا قال: غروب الشمس ودخول الليل، وإن كان حلف عشيا فإلى انقطاع الرجل وهو والناس إلى بيوتهم، هذا(3/231)
الذي ترى أنه يراد، وليس أن يبيت معه حتى يعطيه في ثلث الليل قبل نومه إن شاء الله تعالى.
قال محمد بن رشد: أما قول أصبغ فبين على مراعاة المقصد وترك الاعتبار بمقتضى اللفظ؛ لأنه حنثه بتجاوز القدر الذي جرت عادة الناس بالقضاء فيه؛ لأنه حمل يمينه على ذلك، وأما قول ابن القاسم فبناه على الاعتبار بمقتضى اللفظ وترك مراعاة المقصد، وفيه نظر إذ جعل المقام إلى ثلث الليل مبينا لحنثه فحنثه إن لم يقضه فيما بينه وبينه، فالصواب أنه لا حنث إن قضاه قبل نصف الليل إذ لا يكون الرجل بائتا في المكان إلا إذا أقام فيه أكثر من نصف الليل، وهذا متعارف عند الناس، ألا ترى أنك إذا لقيت رجلا قبل نصف الليل حسن أن تسأله أين تبيت، وإذا لقيته بعد نصف الليل حسن أن تسأله أين بات، وهذا قائم من قول مالك في المدونة إنه لا دم على من بات في غير منى ليالي منى إلا أن يبيت ليلة كاملة أو جلها؛ لأن الدم إنما يجب في المبيت عن منى، لا في الإقامة عنها بعض ليلة، بدليل ما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن المبيت في غير منى ليالي منى» ، وأنه كان يزور البيت في كل ليلة من ليالي منى فلم يجعل مالك الرجل بايتا عن منى إلا إذا أقام في غيرها جل الليلة وهو أكثر من نصفه وبالله التوفيق.
[مسألة: قال الرجل وحق الله]
مسألة قال أصبغ: وقال ابن القاسم وإذا قال الرجل: وحق الله ولا وحق الله يمين مثل لعمر الله، كفارته كفارة اليمين بالله.
قال محمد بن أحمد: إنما مثل ابن القاسم القسم، بـ وحق الله بالقسم بـ " لعمر الله " لأنه حمله في الوجهين على أنه قسم بصفة من صفات الله تعالى، ذلك مفهوم عنده من قصد الحالف وإرادته نحو الله قدرته وعظمته وجلاله وعمر الله بقاؤه، وحقق هاهنا أن لعمر الله يمين، ولم يحقق ذلك في رسم أوصى من سماع عيسى وقد مضى القول على ذلك هناك.(3/232)
[مسألة: يحلف للرجل في حق له وثيقة بالحلال عليه حرام ليدفعنه إلى أجل فحنث]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الذي يحلف للرجل في حق له وثيقة بالحلال عليه حرام ليدفعنه إلى أجل فحنث وعلى يمينه بينة ويزعم أنه حاشى امرأته فقال لي هذا أمر قد اختلف فيه ورددني فيه غير مرة، ثم قال: قد بلغني عن مالك فيها شيء وأنه حنثه، قال أصبغ: وقال ابن القاسم: وقد كلمت فيها غير واحد من أهل المدينة ابن أبي حازم وغيره، فلم يروا عليه شيئا ورأوا أن ذلك له، قال: وهذا رأي أرى ذلك له، قلت: وإن كانت عليه بيمينه بينة، قال: نعم وإن كانت عليه بينة بيمينه، قال أصبغ: وله قول غير هذا وقد فسرته لك.
قال محمد بن رشد: قول القائل الحلال علي حرام لفظ عام يدخل تحته الزوجة في القياس على أصولهم إذا ادعى محاشاتها وقد حضرته بينة أن لا ينوي لادعائه نية مخالفة لظاهر لفظه، كمن حلف ألا يكلم فلانا ثم قال: نويت شهرا أو لا يشتري ثوبا ثم قال: نويت رسيا، وتنويته مع حضور البينة له استحسان مراعاة لاختلاف أهل العلم في أصل اليمين؛ إذ منهم من لا يوجب فيها إلا كفارة يمين إلى ما سوى ذلك من الأقاويل المختلفة، وأما إذا لم تحضره بينة وادعى المحاشاة ففي ذلك أربعة أقوال على قياس المذهب، أحدها أن يمينه على نيته فله ما ادعاه من المحاشاة ولا تطلق عليه، والثاني أن يمينه على نية المحلوف له فلا ينفعه ما ادعى من المحاشاة وتطلق عليه، والثالث الفرق بين أن يكون مستحلفا أو متطوعا باليمين فلا ينوى إذا كان مستحلفا وينوى إذا كان متطوعا باليمين، والرابع القول بعكس هذه التفرقة، وقد مضى ذلك في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم وعلى مراعاة الخلاف في اليمين تكون له نيته على كل حال ولا تطلق عليه، وأما إذا حلف(3/233)
الرجل على نفسه ولم يحلف لغيره فلا اختلاف في أن له نيته إذا أتى مستفتيا وبالله التوفيق.
[مسألة: صناع أوذي فحلف ألا يعمل لأحد من أهل تلك القرية إلا لفلان وفلان]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عن رجل صناع وقع في قرية فكان يعمل فيها لأهلها فأوذي فحلف ألا يعمل لأحد من أهل تلك القرية إلا لفلان وفلان لأقوام سماهم بأعيانهم فأراد بعض أولئك النفر الذين استثنى في يمينه أن يستأجره لنفسه بأجرة ثابتة له في رقبة المستأجر سنة ثم يجعله يعمل له ذلك العمل في حانوت فما دخل كان للمستأجر، فقال: إن كان إنما هو أجير يعمل بيده للذي استأجره لا يأخذ ولا يعطي ولا يلي معاملة الناس والأخذ والإعطاء فلا بأس ولا شيء عليه، وإن كان إنما استأجره ثم يطلقه في حانوته يكون بيده وصاحب المعاملة فيه والأخذ والإعطاء وهو حانث إن فعل لأن الضمان في ذلك يقع عليه لمن عامله ودفع إليه وذلك الذي كره في مخرج يمينه أنه إنما كره معاملة الناس والضمان، فأراه حانثا إن فعل، وقاله أصبغ إلا أن يكون إنما كره أيضا الصنعة ووجه قطعها وقطع منفعتها فيه عنه وتوليها له وجريها على يده ونحو ذلك فلا يجوز له ذلك على حال.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ مفسر لقول ابن القاسم ويمينه محمولة بساطها على أنه إنما كره معاملة الناس والأخذ والإعطاء فيجوز له أن يعمل أعمال أهل القرية لأولئك النفر الذين استثنى إذا كانوا هم الذين يلون المعاملة والأخذ والإعطاء إلا أن يكون كره الصنعة وجريها على يده فلا يجوز له أن يعمل لهم عملا وإن كان النفر الذين استثنى هم الذين يلون المعاملة والأخذ والإعطاء دونه وإنما يكون له أن يعمل لهم ما يخصهم من أعمالهم.(3/234)
[مسألة: حلف ألا يساكن أخاه وهما في دار واحدة]
مسألة قال ابن القاسم: لا يجوز للذي يحلف ألا يساكن أخاه وهما في دار واحدة أن يبنيا جدارا بينهما ويمكث معه.
قال محمد بن رشد: يريد ويحنث إن فعل، خلاف قوله في المدونة إنه لا بأس بذلك ولا حنث عليه إن فعل، قال في العشرة: إذا لم يكن بينهما خوخة ولا شيء يحصل منه عيال أحدهما إلى الآخر وينال به الحاجة من غير خروج إلى باب، قال ابن حبيب: ولا أحب الجدار من الجريد ولم يعجب ذلك مالكا فيها أعني في المدونة وكرهه، ولا يختلف في أن ذلك يجوز له إذا كانت يمينه لما يقع بين النساء والصبيان ولا في أن ذلك لا يجوز له إن كان إنما كره جواره وأراد التنحي عنه، وإنما الاختلاف إذا لم تكن له نية ولا كان ليمينه بساط فحمله في أحد قوليه على كراهة التنحي وكراهة الجوار توقيا من الحنث، وحمله على القول الثاني ما يقتضيه لفظه من المساكنة فلم يحنثه؛ لأن الجدار يقطع المساكنة بينهما وهو القياس، ولو عين الدار فحلف ألا يساكنه في هذه الدار لما بر بأن يبنيا بينهما فيها جدارا والله أعلم.
[مسألة: حلف لرجل ليوافينه من يوم كذا بموضع كذا فأتى الحالف فلم يجده]
مسألة قال: وسئل عن رجل حلف لرجل ليوافينه من يوم سماه بموضع كذا وكذا فيأتي الحالف ذلك الموضع في ذلك اليوم فلا يجده، قال: إذا أتى الموضع الذي حلف أن يوافيه في اليوم الذي سمي فلم يجده فلا شيء عليه، قال أصبغ: وذلك إذا ظل يومه كله به ولم يأته ولم يكن بينهما وقت لحين من النهار من ذلك اليوم فيأتي له وينقضي ولم يأته، فأما أن يأتي متى أحب ويمسح ذلك مسحا ويذهب حين لا يجبره عند مجيئه فهو حانث وليس هذا مجيئا ولا موافاة.(3/235)
قال محمد بن أحمد: ليس الأمر على ظاهر قول ابن القاسم من أنه يبر بأن يأتي ذلك الموضع مرة واحدة وإن لم يجده ولا على ظاهر أصبغ من أنه لا يبر إذا لم يجده إلا بأن لا يفارق الموضع يومه كله، والذي يبر به على قولهما جميعا إذا لم يجده أن يتكرر على الموضع في الأوقات التي يرجو وجوده فيها يبين ذلك ما وقع في رسم جاع من سماع عيسى وقد مضى الكلام على ذلك هنالك والمسألة متكررة في سماع أبي زيد من كتاب الأيمان بالطلاق حاشى قول أصبغ.
[مسألة: حلف ألا يحضر عرسه فصنع له بعد العرس طعاما ودعاه]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عمن حلف ألا يحضر عرس بعض إخوانه فأعرس وفرغ من عرسه وصنيعه فصنع بعد ذلك طعاما فدعاه أيجيبه كان بحدثان ذلك أو بغير حدثانه؟ فقال: إن كان إنما صنع ذلك الطعام له لمكان العرس وبسببه ومن أجله فلا يدخله، وإن كان إنما صنع طعاما هكذا وليس لذلك فلا بأس به، قلت: أرأيت إن كان إنما صنع ذلك الطعام له لمكان ما لم يحضر من عرسه، قال: فلا يفعل لا يدخل، قال أصبغ: ولا يدخله إذا صنع بحرارة العرس، وإن صنعه زعم لغير ذلك لما يخالط الناس من الشك في ذلك واستجسارة الناس مثل ذلك وتأويلهم فيهم والتهمة للصانع في ذلك فإن فعل حنث.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال: إن الحالف ألا يحضر عرس رجل لا يجوز له أن يحضر طعاما صنعه له مكان العرس لمغيبه عنه لأن معنى ما حلف عليه ترك صلته في عرسه وإدخال الغم عليه بمغيبه عنه وإظهار الكراهة لنكاحه بذلك، فوجب أن يحنث إن شهد شيئا من توابع العرس إن طعاما صنعه له عوض العرس إلا أن يكون إنما حلف ألا يشاهد عرسه كراهة(3/236)
الزحام لا كراهة لصلته ولا لنكاحه، فلا يحنث بإجابته إلى طعام صنعه له لمكان ما لم يحضر من عرسه إذا لم يكن فيه زحام على أصولهم، وما قاله ابن القاسم في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق.
[مسألة: حلف على رجل ألا يسأله حاجة فتعرض له من غير سؤال]
مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عمن حلف على رجل ألا يسأله حاجة أبدا فاحتاج إلى ما في يديه فلزم الجلوس معه بتعرضه أن يصله من غير أن يسأله، فقال: إن تعرضه بالكلام مثل أن يكلم غيره وهو يريده فأراه حانثا، والتعريض بهذا مثل مسألة ما لو حلف ألا يكلمه فكلم غيره وهو يسمع وهو يريده، وقاله أصبغ وإن تعرضه فذكر الحاجة وصرح بها وذكرها عن نفسه أنه محتاج ولم يكلم بذلك أحدا لا هو ولا غيره إلا ذكر حاجة نفسه عن نفسه وما بلغت منه ونحو ذلك، فأراه تعريضا يحنث به لأنه كلام وتعريض بكلام، قال أصبغ: فقلت لابن القاسم: فإن تعرض بالجلوس فقط لا يتعرضه بشيء من الكلام ولا الفعل إلا الجلوس وحده، ولم يكن يجالسه، قال: لا أحب له أن يفعل ذلك فإن فعل لم أر عليه شيئا ولا أحب له أن يفعل يعني ويكف ولا يعود، وقال أصبغ مثله إن سلم من فنون ذلك والحركة فيه على الأوجه كلها، كالذي يحلف ألا يكلم امرأته فيجلس معها ويأخذها ويطأها أو التطاول فيه وله، أو المطاولة عليه حتى يستدل المطلوب بذلك على إرادته وحاجته فهو حانث.
قال محمد بن أحمد: قوله إن التعريض بالسؤال سؤال يحنث الحالف به صحيح؛ إذ قد يكون من التعريض ما هو أبلغ في السؤال من التصريح به(3/237)
ولذلك يجب الحد في التعريض بالقذف، وسواء كان تعريضه بأن يذكر له حاجته وما بلغت منه، أو يذكر ذلك لغيره وهو يريد إسماعه؛ لأن من حلف ألا يكلم رجلا فكلم غيره يريد إسماعه فسمعه حنث باتفاق، وإنما يختلف إذا أراد إسماعه ولم يسمعه، ولم ير ابن القاسم أنه يحنث بالتعريض بالجلوس، وهو على أصله في من حلف ألا يكلم رجلا فأشار إليه بكلام فهمه عنه أنه لا حنث عليه فهم المحلوف عليه من طول جلوسه وحركته حاجته أو لم يفهم، وفي تفرقة أصبغ بين ذلك نظر؛ لأن الجلوس وحده إذا لم يكن يجالسه قبل تعريض بالمسألة، بدليل قوله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] لأن المعتر هو الزائر الذي يعتريك ولا يسألك، فيجب أن يحنث الحالف به إذا أراد به التعريض وإن لم يكن معه زيادة عليه ولا فهم ذلك عنه المعرض له على القول بأن الإشارة كالكلام لأنه يفهم منه التعريض بالمسألة وإن لم تكن معه إشارة كما يفهم بالإشارة.
[مسألة: حلف ألا يأكل في المسجد من ماله شيئا فأكل منه شيئا خارجه]
مسألة قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن رجل حلف ألا يأكل في المسجد من ماله شيئا، قال: فكنت أفطر في المسجد مع أصحابه من طعامهم فخرجت ليلة من المسجد إلى خارج الباب فناولني إنسان قرصا فدخلت المسجد فأكلته، وقيل لأشهب: إنها نازلة، فقال: ما أبالي أنازلة أم واقعة لا حنث عليه، فقيل له: أولا نراها قد صارت في ملكه ومالا من ماله حين أعطيها؟ فقال وهو أيضا إذ دعي في المسجد يأكل معهم فإذا رفع اللقمة إلى فيه فقد صارت مالا من ماله، لا يرى هذا كله مالا من ماله في وجه ما حلف عليه.(3/238)
قال محمد بن رشد: الجواب صحيح والانفصال مما اعترض به عليه القائل عليه غير صحيح، ووجه الجواب أن يمين الحالف إنما يحمل على ما يملك يوم اليمين لا على ما يستفيد بعد ذلك لأن الذي يقول: مالي على المساكين صدقة إن فعلت كذا وكذا فأفاد مالا ثم فعله الاختلاف فيه في أنه لا يلزمه أن يتصدق إلا بثلث ما كان يملكه يوم اليمين إلا أن يقول: مالي يوم أفعل كذا وكذا على المساكين صدقة إن فعلته، أو يريد ذلك، فكذلك هذه المسألة لا يدخل ما أعطي بعد اليمين فيما حلف عليه إلا أن ينص على ذلك أو يريده ولو نص على ذلك أو أراده لحنث إن أكل في المسجد القرص الذي أعطي على بابه؛ لأنه قد صار مالا من ماله قبل أن يأكله، ولو شاء لم يأكله وذهب به إلى بيته أو صنع به ما شاء، ولو أراد إذا دعاه أصحابه ليأكل معهم كلما قطع لقمة ورفعها إلى فيه أن يجعلها في كمه ويذهب إلى بيته أو يعطيها لغيره لم يكن ذلك له إذا لم يأذن له فيه أصحابه، فبان الفرق بين الموضوعين وبطل الانفصال من الاعتراض كما قلناه.
[مسألة: حلف ألا يبيع سلعة بمائه دينار حتى يزداد فازداد دينارا]
مسألة وسئل عمن حلف ألا يبيع سلعة بمائه دينار حتى يزداد فازداد دينارا حسبته قال: فلا شيء عليه وذلك يبريه.
قال محمد بن أحمد: وقعت هذه المسألة في أول نوازل أصبغ أكمل مما وقعت هنا فأرجأ الكلام فيها إلى أن نمر بها هناك.
[مسألة: حلف ألا يدخل بلدة وفلان عليها فمر بقرية من عملها مجتازا إلى بلد آخر]
مسألة وسئل عن رجل حلف ألا يدخل بلدة وفلان عليها وال، فاحتاج أن يمر بقرية من عملها مجتازا إلى بلد آخر بينها وبين المدينة الأخرى اليوم واليومان ولا يدخل المدينة، قال: إذا يحنث.(3/239)
قال محمد بن رشد: وكذلك لو كان بينهما وبين المدينة أكثر من ذلك، ولا اختلاف في ذلك إذ قد صرح بأن يمينه ألا يدخل البلدة إنما هو من أجل أن فلانا عليها وال فلا يدخل شيئا من عملها قرب أو بعد من أجل ولايته عليها، واختلف إذا حلف ألا يدخل بلدة ولم يذكر لذلك علة ولا كانت نية، فقيل: إن يمينه محمولة على عملها حتى يريد الحاضرة بعينها، وقيل: إن يمينه محمولة على الحاضرة بعينها حتى يريد عملها، والأول قول ابن كنانة، والثاني قول ابن القاسم، واختلف في حد عملها إذا نواه أو لم تكن له نية على القول بأن يمينه محمولة عليه، فقيل: عملها وإن بعد وهو قول ابن كنانة، وقيل: أقصاه ما يقصر فيه الصلاة، وهو قول ابن القاسم، واختلف أيضا في حد الحاضرة إذا نواها أو لم تكن له نية على القول بأن يمينه محمولة عليه، فقيل: حدها أقصى ما تقصر فيه الصلاة أربعة برد وهو قول ابن كنانة، وقيل: حدها ما يجب منه الإتيان للجمعة وهو قول مالك وابن القاسم وأحد قولي أصبغ واختيار ابن المواز، وقيل: حدها ما يقصر فيه الخارج ويتم فيه الداخل وهو أحد قولي أصبغ.
[مسألة: حلف ألا يأكل من عمل امرأته شيئا ثم طلب منها شربة حريرة من ماله]
مسألة وسئل عن رجل عاتبته امرأته فقالت: نأكل من غزلي وعمل يدي وكسبي فحلف ألا يأكل من عملها شيئا ثم دخل عليها يوما فدعا بشربة حريرة من ماله ودعا بعسل كان له في التابوت فأخطأت المرأة، فجاءت بزيت كان لها من عمل يدها أو دهن اشترته لرايتها فصبته فيه فشربه، فقال: إن كان زيتا فهو حانث وإن كان دهنا فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: إنما لم يحنثه في الدهن من أجل أن الدهن لما كان مما ليس أن يتخذ للأكل حمل يمينه على ما يتخذ؛ إذ رأى أن ذلك هو(3/240)
مقصده بها ويحنث به على القول إنه لا يراعي المقصد المظنون ويحمل يمينه على ما يقضيه اللفظ المظنون به، وقد مضى ذلك في سماع عبد المالك وفي مواضع من سماع عيسى وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ليقضيه طعاما له عليه فأحاله به قبل أن يقضيه ومضى الأجل]
مسألة وسئل أشهب عن رجل حلف لرجل ليقضيه طعاما له عليه إلى أجل من ابتياع فابتاع طعاما فأحاله به قبل أن يقضيه ومضى الأجل، فقال: إن كان المحال قد قبضه قبل الأجل فالحالف بار في يمينه، وقاله أصبغ في اليمين، وينفسخ البيع بعد بينهما وقد بر إن شاء الله تعالى.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها موعبا في أول سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: حلف ألا يبيع سلعتين له إلا بعشرة فباع إحداهما بعشرة والأخرى بخمسة]
مسألة وسئل عن رجل حلف ألا يبيع سلعتين له إلا بعشرة دنانير فباع إحداهما بعشرة ثم باع الأخرى بخمسة، فقال: إن كان الذي يصيب قيمتها من العشرة التي كان عليها فلا شيء عليه، وإنما ينظر إلى ما يصيبها من العشرة في القيمة فإن كان يصيبها في القيمة ستة فباع بها أو سبعة فلا شيء عليه، وإن كان يصيبها خمسة فباع بستة فلا حنث عليه، وإن باع بأربعة فهو حانث إذ باع ذلك بأقل مما يصيبها في القيمة من العشرة فهو حانث، قلت له: فإن باع الأولى بأقل مما يصيبها من العشرة في القيمة ثم باع الثانية بتمام القيمة أو أكثر قال: هو حانث ساعتئذ، قال أصبغ: مثل هذا الآخر وهو القول فيها والصواب.(3/241)
قال محمد بن رشد: قوله في آخر المسألة فهو حانث ساعتئذ معناه ساعة بيع السلعة الأولى، وقد مضت هذه المسألة وتحصيل القول وما فيها من الاختلاف في رسم إن خرجت من سماع عيسى، وسيأتي في نوازل أصبغ بعد هذا القول في الذي يحلف ألا يبيع سلعته إلا بثمن سماه مع سلعة أخرى صفقة واحدة؛ لأنها وقعت هناك وفي سماع أبي زيد من كتاب الأيمان بالطلاق حايله عن غير تحصيل.
[مسألة: له على رجل مال فجحده ثم ظفر له بمال فأراد أن يأخذ منه مقدار حقه]
مسألة وسئل عن رجل كان له على رجل مال فجحده ثم ظفر له بمال فأراد أن يأخذ منه مقدار ما له عنده ويرد ما بقي فإن استحلفوه عليه أيحلف؟ قال: لا أرى أن يحلف كاذبا إلا أن يقبلوا منه أن يحلف ما لك عندي شيء فإن من الناس من لا يقبل هذا إلا أن يحلف عليها، فإن قبلوه منه فليحلف ما لك عندي شيء إن شاء الله. قال محمد بن أحمد: ظاهر قوله أنه أباح له الأخذ ولم ير له أن يحلف أنه ما أخذ منه شيئا لأنه يكون في يمينه بذلك كاذبا، فأما إباحته له الأخذ فإن كان أشهب وهو الظاهر من أجل أن المسألة معطوفة على التي قبلها والتي قبلها معطوفة على قوله فهو منصوص من قوله في المبسوطة، وهو قول ابن وهب أيضا وروايته عن مالك وقول ابن الماجشون، وزاد: بل أرى له إعمال الحيلة حتى يأخذ منه مثل ما أخذ له وإن كان ابن القاسم فذاك خلاف قوله وروايته عن مالك في المدونة وغيرها أنه لا يأخذ للحديث الذي جاء: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» ، والأول أظهر؛ لأن من أخذ(3/242)
حقه فليس بخائن، فمعنى قوله «لا تخن من خانك» أي لا تأخذ أكثر من حقك فتكون قد خنت من خانك، بدليل أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هنداً أن تأخذ من مال زوجها حقها الواجب لها ولولدها قبله بالمعروف إذا مسك عنها، فقال: «خذي يا هند ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، فعلى هذا يتخرج الحديثان ولا يحملان على التعارض، وقوله: لا أرى أن يحلف كاذبا معناه عندي لا أرى أن يحلف كاذبا في ظاهر يمينه مع أن ينوي يصح له بها الحلف، فإن فعل لم يكن آثما إذ لم يقتطع بيمينه حقا للمحلوف، وقد مضى الاختلاف في هل تكون له نية أم لا في رسم شك من سماع ابن القاسم؟ وأما إن كذب دون نية ينويها فذلك لا يحل ولا يجوز لأنها يمين غموس وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يبتدئ رجلا فصالح امرأته فابتدأه ثم راجع امرأته فابتدأه]
مسألة وسئل عن رجل حلف ألا يبتدئ رجلا فصالح امرأته فابتدأه ثم راجع امرأته فابتدأه، قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه حلف بطلاق امرأته ألا يبتدئه فالذي يأتي فيها على مذهب مالك أن اليمين ترجع عليه إذا راجعها ويحنث إن ابتدأه بعد مراجعته إياها؛ لأنه حالف بجميع الملك فلا تسقط عنه اليمين إلا أن يطلقها ثلاثا، وقد قال ابن زيد في النوادر: قوله فابتدأه فلا شيء عليه ليس على أصولنا، وقد سقط في بعض الكتب وأراه غلطا، وقوله صحيح إنما يأتي على مذهب الشافعي الذي يقول: اليمين لا ترجع في العبد بعد الشراء ولا في الزوجة بعد النكاح واحدة طلقها أو ثلاثا، وقد مضى هذا المعنى في رسم يدير من سماع عيسى وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف في السلعة لا يبيعها بمائة دينار حتى يزاد]
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ مسألة وسئل أصبغ عن الرجل يحلف في السلعة لا يبيعها بمائة دينار(3/243)
حتى يزاد، كم ترى تبرئه يمينه فيها؟ وكم الزيادة التي يخرج بها من الحنث؟ قال: الدينار في المائة تبرية يمين، وأرى النصف دينار في الخمسين تبرية يمين، وهو قول ابن القاسم لي، قلت: والعشرون الدينار هل ترى خمس دينار فيها تبرية يمين على حساب الدينار في المائة؟ قال: لا أرى ذلك لأن الدينار إذا جزيته على المائة لم يصب منه العشرين الدينار أو الثلاثين الدينار أو ما أشبهها إلا الأمر اليسير الذي لا بال له ولا قدر، وإذا اجتمع النصف الدينار في الخمسين ونحوها والنصف والدينار في المائة كان له قدر وموقع وبال إلا أن يكون للحالف نية فيما أراد من الزيادة فيما حلف فله ما نوى، فإن لم تكن له نية فأرى هذا يبريه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: لأن الأيمان إنما تحمل على ما يقتضيه لفظ الحالف إذا لم يكن له نية ولا ظهر له مقصد إرادة وقد علم بالعرف والعادة أن الحالف إذا حلف ألا يبيع سلعته بكذا حتى يزاد على ذلك، أنه إنما أراد زيادة لها قدر على حال الثمن فليس من حلف ألا يبيع سلعته بألف مثقال حتى يزاد كمن حلف ألا يبيع سلعته بعشرة دنانير حتى يزاد إذ يعلم أن المثقال الواحد وما يقرب منه لا قدر له عند الألف مثقال، وأن ربع دينار ونحوه له قدر عند العشرة دنانير، والحد في ذلك ليس فيه أن يرجع إليه ولا قياس يبنى عليه، وإنما هو الاجتهاد على غير قياس، وطريقة غلبة الظن بمقدار ما قصده الحالف من الزيادة ليمينه، ولذلك وقع الاختلاف بينهم في ذلك، فاستحب ابن الماجشون في الواضحة ألا يبر في المائة الدينار إلا بالثلاثة دنانير ونحوها، وإلى نحو هذا ذهب سحنون فلم ير زيادة دينار في المائة بتبرية يمين، وذكر له قول بعض الناس أن ربع دينار في المائة تبرية يمين؛ لأن القطع يجب فيه فأنكره؛ إذ لا وجه للاعتبار بالقطع في ذلك لمخالفة معناه معنى اليمين، ومحمد بن عبد الحكم أنه يبر بأقل من ذلك،(3/244)
وقوله مبني على الاعتبار بما يقتضيه اللفظ دون مراعاة المقصد، وهو في هذه المسألة بعيد لظهور المقصد فيها ونيته بما يخالف للفظ، وأشهب يرى خمس دينار في العشرين دينارا تبرية على حساب الدينار في المائة دينار.
[مسألة: له سلعة قيمتها ثمانون فيحلف ألا يبيعها بأقل من مائة فيبيعها بمائتي دينار]
مسألة قلت: فإن باع هذه السلعة التي حلف فيها مع سلعة أخرى فأراد أن يضع من ثمن هذه السلعة الأخرى شيئا بعد أن استقصى في السلعة التي حلف فيها تبرية يمينه، قال: إن وضع من هذه السلعة التي أدخل مع التي حلف فيها من ثمنها الذي يراه أهل البصر أقصى ثمنها فهو حانث.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر لأن السلعتين إذا بيعتا في صفقة واحدة وسمي لكل واحدة منهما ثمن فالتسمية غير معتبرة، والواجب أن يفض جميع الثمن الذي بيعتا عليه على قيمة السلعتين فإن رفع للسلعة التي حلف فيها من جميع الثمن ما حلف عليه فأكثر بر وإن وقع عليها أقل مما حلف عليها حنث فقد لا يضع من قيمة السلعة التي ضم إليها فباعها معها صفقة واحدة شيئا فيحنث، وذلك مثل أن يكون له سلعة قيمتها ثمانون فيحلف ألا يبيعها بأقل من مائة فيبيعها بمائتي دينار مع سلعة أخرى قيمتها مائة دينار على أن ثمن كل سلعة منها مائة دينار لأن المائتي دينار تفض على قيمة السلعتين فيجب منها للسلعة المحلوف عليها أقل من مائة دينار وهو قد حلف ألا يبيعها بأقل من مائة، وقد يضع من قيمة السلعة التي ضم إليها فباعها صفقة واحدة شيئا فلا يحنث، وذلك مثل أن يكون له سلعة قيمتها مائة دينار وعشرة دنانير فيحلف ألا يبيعها بأقل من مائة فيبيعها بمائتي دينار مع سلعة أخرى قيمتها مائة دينار وعشرة دنانير على أن ثمن كل سلعة منها مائة دينار لأن المائتي دينار تفض على قيمة السلعتين فيجب للسلعة المحلوف(3/245)
عليها مائة دينار كما حلف، وكذلك يكون الحكم أيضا في هذه المسألة في البر والحنث على القول باعتبار التسمية لأن البيع لا يجوز على هذا القول، وهو قول مالك في الدمياطية وفي سماع ابن القاسم من كتاب كراء الدور في بعض روايات العتبية، إلا أن يكون سمي لكل سلعة من الثمن ما يقع لها منه على قدر قيمتها من قيمه صاحبتها، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يجامع رجلا تحت سقف بيت فأدخله الإمام الحبس كارها]
مسألة وقال في رجل حلف ألا يجامع رجلا تحت سقف بيت فأدخله الإمام الحبس كارها، قال: هو حانث وقد جامعه تحت سقف بيت إلا أن يكون له نية ألا يدخل طائعا.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا سجنه الإمام في حق، وحكى الإمام ابن حبيب عن ابن الماجشون وأصبغ أنه لا حنث عليه إذا سجن والمحلوف عليه في السجن مسجونا أو غير مسجون ولا إذا سجن فدخل عليه المحلوف عليه في السجن أيضا مسجونا أو غير مسجون، وهذا الاختلاف على اختلافهم فيمن حلف ألا يفعل فعلا فقضى به عليه السلطان، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك من رسم تسلف من سماع ابن القاسم، وأما إذا سجن مظلوما في غير حق فلا حنث عليه، قاله ابن المواز، وهو صحيح لأنه مكره بمنزلة من حلف ألا يفعل فعلا فأكره على فعله، ولا اختلاف في ذلك، وإنما اختلف فيما إذا حلف ليفعلن فعلا فمنع من فعله وحيل بينه وبينه، فالمشهور أنه حانث إلا أن يكون نوى إلا أن يغلب، وقال ابن كنانة: لا حنث عليه، وأما إذا دخل الحالف السجن باختياره غير مسجون والمحلوف عليه فيه مسجونا أو غير مسجون أو دخل عليه فيه مسجونا أيضا أو غير مسجون فلا اختلاف في أنه حانث، ولو جامعه في المسجد لم يحنث، قال مالك: لأنه ليس على هذا حلف، ولو جامعه في الحمام حنث، قال في كتاب ابن المواز: لأنه لو شاء لم يدخله، وليس هذا التعليل ببين؛ لأن له مندوحة عن دخول المسجد أيضا(3/246)
إلى غيره من المساجد، ولا فرق بين الحمام والمسجد في هذا على تعليل مالك، ولا على التعليل الذي في كتاب محمد، فإما أن يحنث فيهما دون مراعاة المقصد، وإما أن لا يحنث فيهما جميعا على اعتبار ما يقتضيه اللفظ دون مراعاة المقصد، وقد مضى في رسم جاع من سماع عيسى وفي غيره من المواضع بيان هذا.
[مسألة: حلف ألا يجيز جاريته البحر هو ولا ابنه فباعها ممن أجازها]
مسألة وقال في رجل اشترى جارية من رجل، فقال: إني أخاف أن تجيز بها البحر أنت أو ابنك فحلف ألا يجيزها البحر هو ولا ابنه، فباعها ممن أجازها، فقال البائع: إنما أردت ألا يجاز، قال أصبغ: ممن يجيزها فهو حانث أو باعها مبهما ولم يحذر إجازتها فأراه حانثا فأما إن كان باعها ممن لا يجيزها فأجازها الذي اشتراها فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: إنما حنث المشتري الذي حلف للبائع ألا يجيز الجارية البحر هو ولا ابنه ببيعه إياها، ممن أجازها إذا لم يشترط على مشتريها منه ألا يجيزها؛ لأنه جعل يمينه على نية البائع المحلوف له وهو قد قال: إنما أردت الإيجاز فكان كأنه قد حلف ألا يجيزها البحر هو ولا ابنه ولا أحد بإباحة ذلك له، فإذا باعها ولم يشترط على المشتري ألا يجيزها فأجازها فقد أباح له إجازتها ووجب عليه الحنث، وإذا باعها شرط على المشتري لا يجيزها فأجازها لم يحنث إذ لم يبح ذلك له، وقد اختلف في البيع على هذا الشرط فقيل: إنه بيع فاسد يجبر المتبايعان على فسخه ما كان قائما ويكون فيه القيمة بالغة ما بلغت إن فات، وقيل: إنه يفسخ ما دام البائع متمسكا بشرطه فإن ترك الشرط جاز البيع وإن فات كان فيه الأكثر من القيمة أو الثمن، وقيل:(3/247)
إنه إذا فات على هذا القول كان للبائع قدر ما نقص من الثمن بسبب الشرط، وذلك ما بين القيمتين من الثمن، ولا تأثير للاختلاف الواقع في حكم هذا البيع فيما ذكرناه من أن البائع يبر في يمينه به.
[مسألة: حلف بصدقة سلعة إن نقصها من ثمن سماه فباعها بأقل]
مسألة وقال في الرجل يحلف بصدقة سلعة إن نقصها من ثمن سماه فباعها بأقل، قال أصبغ: هو حانث ويمضي البيع عليه ويكون عليه أن يتصدق بالثمن الذي باعها به إلا أن يكون حابى فيكون عليه أن يتصدق بقيمتها، فإن كانت السلعة من مال قراض، قال: فعليه أن يتصدق بما يصيبه منها، قال: وكذلك لو أن رجلا تصدق بسلعة بينه وبين رجل تصدق بها كلها، فليس عليه إلا ما كان له فيها وليس لشريكه أن يمضي عليه نصيبه ويأخذ منه قيمته، ولكن إن شاء أن يمضي على نفسه فهو أعلم.
قال محمد بن رشد: أما الذي حلف بصدقة سلعة ألا يبيعها إلا بكذا فباعها بأقل فلا اختلاف في المذهب أن الأمر على ما قال من أنه يكون عليه أن يتصدق بأكثر من قيمتها أو الثمن الذي باعها به، يريد ولا يجبر على ذلك بالحكم وإنما لم يجبر على ذلك بالحكم لاختلاف أهل العلم في وجوب ذلك عليه من وجهين. أحدهما لزوم اليمين بالصدقة. والثاني الرجوع في الصدقة ما لم يقبض، وأما إن كانت السلعة من مال قراض فقد قيل: إن المقارض الحالف له أن يتصدق بما يصيبه منها إذ لا يتقرر فيها حق إلا بعد نضوض رأس المال إلى صاحبه لجواز أن يخسر فيما يستقبل فيكون عليه أن يجبر رأس المال مما يجب له من ربح هذه السلعة، والقولان قائمان من كتاب القراض من المدونة، وأما الذي تصدق بسلعة بينه وبين رجل فالاختلاف إنما هو في حصة شريكه، فقيل: إنه يلزمه فيها القيمة إذا رضي شريكه أن يضمنها له بالقيمة ويكون جميع السلعة للمتصدق بها عليه،(3/248)
والقولان في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الهبات والصدقات، وأما حصة المتصدق منها فيلزمه فيها الصدقة إلا أن يكون له مع شريكه فيها شركة مع غيرها مما يقسم معها قسما واحدا؛ ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنها تقسم، فإن صارت السلعة المتصدَق بها للمتصدق في سهمه كانت للمتصدق عليه، وإن صارت لشريكه لم يكن له شيء، وهو قول ابن القاسم على أن القسمة تمييز حق، والثاني أنه ليس للمتصدَق عليه إلا حصة المتصدق من السلعة، فإن صارت لشريكه كان له من حظ المتصدق من غيرها قدر ذلك، وهو قول ابن الماجشون على قياس القول بأن القسمة بيع من البيوع، والثالث أنه إن صارت السلعة للمتصدق كانت للمتصدق عليه وإن صارت لشريكه كان له من حظ المتصدق من غيرها قدر غيرها وهو قول مطرف، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ليتزوجن إلى أيام]
مسألة وقال في من حلف ليتزوجن إلى أيام، قال أصبغ: الأيام ثلاثة، فإن لم يتزوج حنث إلا أن يكون له نية في أكثر من ذلك، والذي يحلف ألا يتزوج أياما مثله وهو أشد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن أقل الجمع ثلاثة في عرف الكلام، وقد قيل: إنه كذلك في موضع اللسان، فوجب أن يحمل بمنزلة الحالف على ذلك، ولا يراعى فيها قول من ذهب إلى أنه في موضوع اللسان اثنان، وإن كان ذلك هو مذهب مالك في أن الاثنين من الإخوة يحجبان الأم من الثلث إلى السدس؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وقوله: والذي يحلف ألا يتزوج أياما مثله يريد أنه يبر بالثلاثة الأيام كما يحنث الأول بالثلاثة الأيام، وإنما قال فيه وهو أشد؛ لأنه كلما ترك النكاح كان أبين في البر، وهذا بيّن، والله أعلم.(3/249)
[مسألة: يحلف لا يجلس على بساط فمشى عليه]
مسألة وقال في الذي يحلف لا يجلس على بساط فمشى عليه، قال: هو حانث إذا كان إنما أراد اجتنابه أو الانتفاع بالجلوس عليه إلا أن يكون له نية أو سبب.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في بعض الكتب أو الانتفاع بالجلوس عليه وليس بصحيح؛ لأنه إذا أراد ألا ينتفع بالجلوس عليه فلا حنث عليه بالمشي عليه في بعضها والانتفاع بالجلوس عليه بإسقاط الألف وهو الصحيح، فإذا أراد اجتنابه فهو حانث بالمشي عليه على أي حال كان، وإذا أراد اجتناب الانتفاع به فهو حانث بالمشي عليه في الموضع الذي يبسط للانتفاع به، وإذا أراد اجتناب الانتفاع بالجلوس عليه إن كان ليمينه سبب يدل على ذلك فلا حنث عليه بالمشي عليه على أي حال كان وإن لم تكن له نية، فقال في الرواية: إنه يحنث بالمشي عليه. وتحمل يمينه على الاجتناب، والذي يأتي على أصولهم إذا لم تكن له نية ولا كان ليمينه سبب أن تحمل يمينه على مقتضى لفظه فلا يحنث بالمشي، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يأكل في كل يوم إلا خمس قرص فعملت امرأته قرصا أكبر]
مسألة وسئل عن رجل حلف من أهل الريف ألا يأكل في كل يوم إلا خمس قرص، فعملت امرأته القرص أكبر مما كانت ولم تزد على خمس قرص في العدد قال: إن أكل حنث إذا زاد على القدر الذي كان قبل أن يحلف لأنه إنما أراد ذلك القدر بعينه، فإن زاد على ذلك القدر فهو حانث إن أكل القرص كلها.
قال محمد بن أحمد: المعنى في أن الحالف أراد ألا يأكل أكثر من قدر الخمس قرص ولا أكثر من عدتها، فلا اختلاف في وجوب حمل يمينه(3/250)
على ذلك ولو ادعى أنه أراد عدد القرص لا قدرها لم ينو في ذلك إلا أن يأتي مستفتيا، ولو قال قائل: إنه لا ينوي في الفتوى أيضا لبعد النية في ذلك لكان قولا، فقد قيل في الذي يحلف ألا يشرب الخمر فيقول: إنما أردت خمر العنب إنه لا ينوي في قضاء ولا فتيا، وقد مضى ذلك في رسم تسلف من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يأكل خبزا وإداما فأكل خبزا وملحا]
مسألة قال أصبغ: سمعت أشهب في من حلف ألا يأكل خبزا وإداما فأكل خبزا وملحا، قال: هو حانث وسواء كان الملح محضا أو مطيبا. قال محمد بن رشد: لم يره في الواضحة إداما يحنث به؛ قال: وإنما يحنث بكل ما يثبت معرفته عند الناس إنه إدام كان مما يطبخ به كالسمن والزيت والودك أو مما لا يطبخ به كالزيتون والجبن والحلوم وشبه ذلك، وإن ابن حبيب تكلم على ما يُعرف بالأندلس من أن الملح الحريش أو المطيب لا يأتدم الناس به، وتكلم أشهب على ما يعرف بمصر وغيرها من بلاد المشرق، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه لا يكون إداما إلا ما يطبخ فيه، حتى قالا: إن الشواء واللحم ليس بإدام، واستدلوا بقوله، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «نعم الإدام الخل» ، وبقوله: «اتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة» وهذا بعيد، فقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اللحم سيد إدام الدنيا والآخرة» ، وذهب محمد بن الحسن إلى أن كل ما يؤكل الخبز به ويستطاب فهو إدام، واستدل بما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ كسرة من خبز من شعير فوضع عليها تمرة، فقال: هذه إدام هذه» ، فأكلها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقوله صحيح على القول بأن الحالف إن لم تكن له نية يحنث بما يقتضيه لفظه ولا يراعى مقصده، فوجب إذا حلف الرجل ألا يأكل خبزا وإداما فأكل خبزا بشيء مما يستطاب به(3/251)
الخبز أن يكون حانثا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التمرة، ولأن العرب تقول للزوجين أدم الله بينكما يريدون بذلك الألفة والمحبة، فدل ذلك أن كل ما يطيب به الخبز فيؤكل به يسمى إداما لقوله وإن لم ينطلق عليه اسم إدام على انفراده، وهذا أصل مختلف فيه في المذهب، أعني مراعاة المقصد، وقد مضى ذلك في غير ما موضع، فإذا حلف الرجل ألا يأكل إداما لم يحنث بأكل التمر والتين والعنب، وما أشبه ذلك؛ إذ لا ينطلق عليه اسم إدام، ومن حلف ألا يأكل خبزا بإدام فأكل خبزا بتمر أو تين أو عنب أو ما أشبه ذلك جرى ذلك على الاختلاف في مراعاة المقصد، والأشهر في المذهب مراعاته، وألا يكون الحالف حانثا بذلك، وقد اختلف في الذي يحلف ألا يأكل خبزا وإداما أو خبزا وزيتا ولا نية له هل هو محمول على أنه أراد ألا يجمع بينهما فلا حنث بأكل أحدهما وهو ظاهر. قول أشهب هذا، وقيل: إنه محمول على أنه أراد ألا يأكلهما جميعا فيحنث بأكل أحدهما كمن حلف ألا يفعل فعلين ففعل أحدهما، وهذا على الاختلاف أيضا في مراعاة المقصد، فلم يراعه في هذه المسألة في المدونة.
[مسألة: حلف ألا يأخذ من فلان درهما أبدا فأخذ منه قميصا وفيه درهم]
مسألة قال أصبغ في من حلف ألا يأخذ من فلان درهما أبدا فأخذ منه قميصا وفيه درهم وهو لا يعلم به، ثم علم بالدرهم فرده على صاحبه، قال: ليس عليه شيء.
قال محمد بن رشد: لابن القاسم في المبسوط: إنه حانث إلا أن تكون له نية، وهو على أصله في المدونة فيمن حلف أنه لا مال له وله قدر ورثه لم يعلم به، وقال ابن كنانة فيها مثل قول أصبغ فيما لا يسترفع في مثله الدرهم، ويأتي على مسألة السرقة في المدونة الفرق بين ما يسترفع فيه الدرهم أو لا يسترفع، في ثلاثة أقوال، أحدهما أنه لا يحنث على القول(3/252)
بمراعاة المقصد، والثاني أنه يحنث على القول بالاعتبار باللفظ دون مراعاة المقصد، والتفرقة استحسان، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يدخل بيت فلان ما عاش فمات فلان هل يدخل بيته وهو ميت]
مسألة ومن حلف ألا يدخل بيت فلان ما عاش، فمات المحلوف عليه فأراد أن يدخل بيته وهو ميت قبل أن يُدفن، قال: لا يدخل عليه حتى يدفن، فإن دخل قبل أن يدفن حنث، وكذلك لو قال: لا أدخل بيت فلان حتى يموت، إنه إن دخل قبل أن يدفن وإن كان قد مات فهو حانث.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم الأقضية من سماع أشهب مستوفًى فليس لإعادة شيء من ذلك هنا معنى.
[مسألة: حلف ليقضين غريمه في الصيف]
مسألة ومن حلف ليقضين غريمه في الصيف فإذا انقضى آب وهو أُغُشْت فهو حانث ومن حلف ليقضين غريمه في الشتاء فإذا انقضى شباط وهو فبراير ولم يقضه فقد حنث، ومن حلف ليقضين غريمه في الربيع فإذا انقضى أيار وهو مايه ولم يقضه فقد حنث، ومن حلف ليقضين غريمه في الخريف فإذا انقضى تشرين الآخر وهو نونبر ولم يقضه فقد حنث، ومن حلف ليقضين غريمه إلى الحصاد فإنه يقضى عليه في وسط الحصاد وعظمه، ولا يحنث إلا بانقضاء الحصاد كله، وكذلك إلى القطاف والجداد وإلى الصدر وإلى العطا وما أشبهه.
قال محمد بن رشد: قال عز وجل: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الحجر: 16] فبروج السماء بإجماع من العلماء اثنا عشر برجا، وهي الحمل والثور(3/253)
والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت تقطعها الشمس كلها في، اثني عشر شهرا من شهور السريانيين وشهور العجم، وهي سنة كاملة يناير وفبراير ومارس وإبريل ومايه ويونيه ويوليه وأغشت وستنبر وأكتوبر ونونبر ودجنبر، وهذه السنة هي السنة الشمسية، وتنقسم على أربعة فصول: ربيع وخريف وشتاء وصيف، كل فصل من ثلاثة أشهر فيتلو الربيع الصيف ويتلو الصيف الخريف ويتلو الخريف الشتاء، واختلف في حد هذه الفصول، فذهب أصبغ وحكى ابن حبيب مثله في الواضحة عن ابن الماجشون وعن ابن القاسم من رواية أصبغ عنه أن أول فصل الربيع أول شهر مارس وأخره آخر شهر ماي، ثم يتلوه سائر فصول السنة ثلاثة أشهر ثلاثة أشهر، وذهب ابن حبيب في رأي وقع له ذلك في الزكاة إلى أن أول فصل الربيع من نصف فبراير إلى نصف ماي، ثلاثة أشهر تتمة شهر فبراير وشهر مارس وإبريل ونصف ماي، ثم يتلوه سائر فصول السنة على هذا الترتيب تمام الشهر والشهران بعده ونصف الشهر، وهو أعدل من القول الأول؛ لأن فصل زمان الربيع والخريف هو الزمان الذي يعتدل فيه الزمان ويستوي فيه الليل والنهار، وفصل زمان الصيف هو الفصل الذي يتناهى فيه طول النهار، وفصل الشتاء هو الذي يتناهى فيه قصر النهار، واعتدال الليل والنهار يكون إذا حلت الشمس بأول برج الحمل، وذلك في نصف شهر مارس، ثم يأخذ النهار في الزيادة، فقول من جعل أول فصل الربيع قبل الاعتدال بشهر وآخره بعد الاعتدال بشهرين أعدل من قول من جعل أوله قبل الاعتدال بنصف شهر وآخره بعد الاعتدال بشهرين ونصف، وكان القياس أن يكون أوله قبل الاعتدال بشهر ونصف وآخرها بعد الاعتدال بشهر ونصف، فيكون فصل الربيع على هذا أول فبراير وآخره إبريل، إلا أن هذا لم يقولوه، فكأنهم ذهبوا إلى مراعاة تقارب كل فصل من الفصول في الحر والبرد لا إلى تقارب كل فصل منها في الطول والقصر ومراعاة تقارب كل فصل منها في الطول والقصر أولى وأظهر، والله أعلم.(3/254)
وأما قوله في من حلف ليقضين غريمه إلى الحصاد فإنه يقضى عليه في وسط الحصاد وعظمه ولا يحنث إلا بانقضاء آخره، فمثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ وابن القاسم وغيره من أصحاب مالك، وحكي أنه قول مالك أيضا، وفيه نظر؛ لأن إلى غاية، فكان القياس في الذي حلف ليقضين رجلا حقه إلى الحصاد أن يحنث إن لم يقضه فيما بينه وبين أول عظمه كما يقضى عليه إذا بايعه إلى الحصاد بالقضاء في عظمه، وإنما يصح ألا يحنث إلا بانقضاء الحصاد وأن يقضى عليه في وسطه إذا حلف ليقضين رجلا حقه في الحصاد، وهذا بين، وكذلك من بايع رجلا إلى شهر كذا ولم يقل أول شهر كذا، أو قال محل أجله شهر كذا فإنه يقضى عليه بالحق في نصف الشهر على هذا القياس، وقد كان ابن لبابة يذهب إلى أن من بايع رجلا وقال محل أجله شهر كذا فالبيع فاسد؛ لأنه أجل مجهول، وتابعه على ذلك غيره من أهل عصره، والرواية عن مالك مسطورة بخلاف ذلك في رسم شك في طوافه من سماع عن ابن القاسم من كتاب الديات.
[مسألة: قال لله علي نذر شرب الخمر]
مسألة وقال ابن القاسم في النذور: إنما هي خمسة وجوه، إذا قال: لله علي نذر شرب الخمر أو قال: لله علي أن أشرب الخمر، أو قال: لله علي نذر أن أشرب الخمر فليس عليه في ذلك كله شيء فعله أو لم يفعله، وإن قال: لله علي نذر إن شربت الخمر فشربها فليكفر، وإذا قال: لله علي نذر إن لم أشرب الخمر قيل له: لا تشربها وكفر، فإن فعل واجترأ علي الله تعالى في شربها فلا كفارة عليه، وإنما الذي يقول لله علي نذر إن شربت الخمر أو إن كلمت أبي أو فلانا بمنزلة الذي يقول: والله لا فعلت كذا وكذا ثم يحنث، قال: والنذور(3/255)
في الأب والأجنبي سواء إن قال: إن كلمت أبي أو أجنبيا فهو واحد يكفر إذا حنث.
قال محمد بن رشد: جوابه في الوجوه التي ذكرها صحيح، وتقسيمه لها إلى خمسة وجوه ليس بكلام محصل؛ لأن ذلك إنما يرجع إلى وجهين نذر ويمين بنذر، والنذر على وجهين نذر أن يفعل ونذر ألا يفعل واليمين على وجهين يمين بنذر ألا يفعل ونذر بيمين ليفعلن، فإذا نذر أن يفعل فعلا أو ألا يفعله وجب ذلك عليه إن كان طاعة، وحرم عليه إن كان معصية، وكان مخيرا فيه إن لم يكن طاعة ولا معصية، وقد مضى القول على هذا في رسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم، وإذا حلف بالنذر وقال: علي نذر إن فعلت كذا وكذا أو لأفعلنه فحكمه حكم اليمين بالله ولا اختلاف في ذلك.
[مسألة: حلف لغريمه ليبعثن بحقه مع فلان يوم كذا أو لأبعثن بحقك يوم كذا]
مسألة وعن رجل حلف لغريمه ليبعثن بحقه مع فلان يوم كذا وكذا أو لأبعثن بحقك يوم كذا وكذا فذلك سواء، إن لم يصل إليه الحق يوم حلف ليبعثن به يوم كذا وكذا فهو حانث.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه لا يبر إلا بوصول الحق إليه ذلك اليوم لا ببعثه إليه فيه لأن ذلك هو مقصد الحالف، وإذا كان المقصد ظاهرا حملت اليمين عليه في المشهور في المذهب إن خالف ذلك ما يقتضيه اللفظ، وقد مضى هذا المعنى فوق هذا وفي غير ما موضع.
[مسألة: حلف أن فلانا في هذا البيت وأن في كم فلان دينارا ولم يكن يعلم]
مسألة وعن رجل حلف أن فلانا في هذا البيت وأن في كم فلان دينارا ولم يكن يعلم، فجاء الأمر على ذلك، قال: سمعت ابن القاسم يقول في مثل هذا لا حنث عليه إذا صادف ذلك كما قال،(3/256)
وهو بمنزلة الذي يحلف لمطيرن غدا فلا يوبه له حتى يكون ذلك فلا حنث عليه، وقد سمعت ابن القاسم يقول في رجل حلف في قيد رجل عنده أو غيره أن فيه كذا وكذا رطلا، ولا يدري ما فيه فتوزن فيوجد ذلك أو أكثر أنه لا حنث عليه، وإنما هو رجل غرر فوجد كما غرر.
قال محمد بن رشد: أما إذا حلف على ذلك عن تجربة فانكشف الأمر على ما حلف عليه فلا اختلاف في أنه لا حنث عليه، واختلف إن كانت يمينه على ادعاء علم غيب أو مصحح على الشك دون سبب من تجربة أو توسم شيء ظنه فقيل: إنه يحنث وإن وجد الأمر على ما قال، وهو قول المغيرة المخزومي رأيت ذلك له في بعض احتجاجاته على أبي يوسف في مجالس مناظرته له، وهو قول عيسى بن دينار من رأيه، ودليل رواية أبي زيد عن ابن القاسم في كتاب الأيمان بالطلاق، وقيل: إنه لا حنث عليه إن لم يطلق عليه حتى انكشف أن الأمر على ما حلف عليه، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الأيمان بالطلاق والصحيح في النظر؛ لأنه إنما أوجب على نفسه الطلاق بشرط وجود الأمر بخلاف ما قال، فإذا لم يطلق عليه حتى بان الأمر على ما قال وجب ألا يطلق عليه؛ إذ لا يصح أن يوجب على أحد طلاق ولا عتق ولا شيء لم يوجبه على نفسه، ولو كانت يمينه بالله عز وجل لما سقط عنه الإثم في جرأته على الله في الحلف باسمه على غير يقين بانكشاف الأمر على ما حلف عليه.
[مسألة: جاره يؤذيه فأعطاه دنانير على أن يرتحل من جواره فمات]
مسألة وسمعته وسئل عن الرجل يكون له الجار يؤذيه كما يقول فيعطيه دنانير على أن يرتحل من جواره فيموت قبل الرحلة، هل(3/257)
ترى له الدنانير؟ قال أصبغ: أرى إن كان طول جدا، وقد أمكنته الرحلة التي تراد منه وجاوز إقامتها بالرحلة فأرى أن ترد ما لم يكن المعطي قد علم ذلك فأمسك عن انتظاره ورضي، وإن كان الأمر لم يكن كله حتى مات فهي له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إنما أعطاه الدنانير على أن يرتحل عنه، فإن ترك الرحلة وقد أمكنته حتى مات كان للمعطي أن يرجع في دنانيره؛ لأن الذي أعطى دنانيره عليه لم يتم له، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون على شروطهم» ، إلا أن يكون قد علم ولم ينكر فيكون ذلك منه رضى بإسقاط شرطه، وذلك مثل ما لو أعطى رجل رجلا دنانير على أن يعتق عبده فلم يفعل حتى مات العبد، وهو على قياس قول ابن القاسم وروايته عن مالك في الذي يبيع العبد من الرجل على أن يعتقه فيؤخر ذلك حتى يموت العبد، وقد علم البائع أو لم يعلم، وقع ذلك في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب جامع العيوب، وفي رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ منه.
[مسألة: حلف ألا يبيع رجلا ثوبا أبدا فأراد أن يبيع مقارضا له]
من سماع ابن أبي زيد من ابن القاسم
مسألة قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عن رجل حلف ألا يبيع رجلا ثوبا أبدا فأراد أن يبيع مقارضا له فكرهه، وقال: ما يعجبني.
قال محمد بن رشد: إن كانت يمينه؛ لأنه أراد ألا ينفعه أو لأنه كره ماله فلا امتراء في أن الحنث عليه واجب، وإن لم تكن نية فالقياس ألا حنث؛ لأنه لم يبع منه شيئا إلا أنه كره له من أجل أن العهدة لما كانت تكون عليه أشبه بيعه، وستأتي المسألة مكررة في سماع أبي زيد من كتاب الأيمان بالطلاق.
[مسألة: حلف ليقضينه حقه إلى شهر فدفع إليه نصف الحق ورهنه الباقي]
مسألة وقال في رجل حلف لغريم له ليقضينه حقه إلى شهر أو رهنا(3/258)
بحقه فدفع إليه نصف الحق ورهنه رهنا بالنصف الباقي، قال: لا شيء عليه، ولو قال: لأقضينك حقك وأرهنك داري فقضاه نصف الحق ورهنه نصف الدار في الباقي فإنه يحنث.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة بعينها في هذا السماع من كتاب الأيمان بالطلاق، وهي مسألة صحيحة ليس فيها كلام؛ لأن من حلف أن يرهن رجلا رهنا بحق له عليه يبر بالقضاء باتفاق؛ إذ هو أبلغ من الرهن، فإذا حلف الرجل أن يقضي غريمه حقه أو يرهنه رهنا وجب أن يبر إذا قضاه نصف الحق ورهنه بالنصف الباقي رهنا؛ لأن ذلك أبلغ من أن يرهنه بالجميع رهنا ولا يقضيه منه شيئا، وأما الذي حلف أن يقضيه حقه أو يرهنه داره فلا يبر إلا بأحد الوجهين، وإن قضاه نصف الحق لم يبر إلا أن يرهنه بما بقي من حقه جميع الدار وهذا بيِّن.
[مسألة: حلف ألا يأكل هذا الطعام حتى يأكل فلان فأكلا جميعا معا]
مسألة وسئل عن رجل حلف ألا يأكل هذا الطعام حتى يأكل فلان فأكلا جميعا معا، قال: هو حانث إلا أن يكون أراد بقوله حتى يأكل فلان أي حتى يأكل معي، قيل: فإن قال لا أشتري ميمونا حتى أشتري مباركا؟ قال: هو حانث إلا أن يكون نوى حتى يشتريهما جميعا، قيل: فإن قال: لا أنكح فلانة حتى أنكح فلانة لامرأة أخرى فنكحهما جميعا معا؟ قال لي: هو مثله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الأظهر من اللفظ ألا يفعل شيئا من ذلك إلا بعد الفعل الآخر، فوجب أن يحمل يمينه على ذلك إلا أن تكون له نية أن يفعله معه فينوي في ذلك، وإن كانت على يمينه بينة فيما يقضى به عليه؛ لاحتمال اللفظ ذلك.(3/259)
[مسألة: سلف في طعام وحلف له البائع ليوفينه إلى أجل سماه بساحل الفسطاط]
مسألة وسئل عن رجل سلف في طعام وحلف له البائع ليوفينه إلى أجل سماه بساحل الفسطاط، قال ابن القاسم: إن أوفاه بالموضع كان حانثًا.
قال محمد بن رشد: وهو كما قال إنه حانث؛ إذ لم يوفه إياه في الموضع الذي حلف ليوفينه فيه.
[مسألة: قال لله علي إن رزقني الله ثلاثة دنانير أن أصوم ثلاثة أيام]
مسألة وسئل عن رجل قال: لله علي إن رزقني الله ثلاثة دنانير أن أصوم ثلاثة أيام فرزقه الله دينارين فصام ثلاثة أيام، فرزقه الله الدينار الثالث بعد أن صام، قال: يبتدئ صيام الثلاثة الأيام.
وسئل عن رجل قال: لله علي إن قضى الله عني مائة دينار كان تحمل بها لرجل عن أخ له، فله علي صيام ثلاثة أشهر فقضاها الله عنه إلا دينارا ونصفا، فصام الثلاثة الأشهر ثم قضى الله الدينار والنصف بعد، أترى أن يجزيه صيامه؟ قال: أرجو أن يجزئ عنه، وأفتى به ورأيته عنده ضعيفا، وقد سأله هل له نية؟ فقال: ما نويت شيئا وهكذا كانت يميني.
قال محمد بن رشد: القياس أنه لا يجزيه؛ لأنه صامه قبل أن يجب عليه إذ لا يجب عليه إلا بقضاء الجميع إلا أنه رجا أن يجزئه؛ لأنه إنما نذر لله ما نذر من أجل ثقل الدين عليه، فإذا لم يبق عليه منه إلا اليسير الذي لا يثقل عليه فقد بلغ الله أمله وحصل له غرضه، وفي أول سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات ما يقوم منه أنه يلزمه أن يصوم من الصيام الذي نذره. بقدر ما أدى الله عنه من الدين، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال.(3/260)
[مسألة: رجل حلف ألا يتعشى فشرب ماء]
مسألة وسئل عن رجل حلف ألا يتعشى فشرب ماء، قال: لا شيء عليه إذا شرب ماء، قيل له: فشرب نبيذا؟ قيل له: أيشرب سويقا؟ قال: يحنث، قيل له: أيتسحر؟ قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: إنما حنثه بالسويق ولم يحنثه بالنبيذ؛ لأن النبيذ شراب وليس ينطلق عليه اسم طعام، والسويق طعام وليس ينطلق عليه اسم شراب، وإن شُرِبَ، وكفى من الحجة في ذلك ما جاء في الحديث من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا في سفره إلى خيبر بالصهباء بالأزواد فلم يؤت إلا بالسويق» ، والعَشاء إنما تقع على الطعام لا على الشراب، وإنما يحنث بالسحور؛ لأن السحور إنما ليس بعشاء، وإنما هو بدل من الغداء، وقد سماه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداء، فروي عنه أنه قال للمقدام بن معدي: «عليك بهذا السحور فإنه هو الغداء المبارك» ، فوجب ألا يحنث من حلف ألا يتعشى إذا تسحر كما لا يحنث إذا تغدى.
[مسألة: قال مالي في سبيل الله إن دخلت هذه الدار أو كلمت فلانا فحنث]
مسألة وقال في رجل قال: مالي في سبيل الله إن دخلت هذه الدار، ثم قال مالي في سبيل الله إن كلمت فلانا، ثم قال مالي في سبيل الله إن فعلت أبدا أجرا فحنث في كل ما حلف به، أترى أن يجزئه من ماله الثلث؟ قال: هذا رأي ابن كنانة ولست أقوله وأنا أرى أن يخرج(3/261)
ثلث ماله في سبيل الله، ثم يخرج ثلث ما بقي بعد ذلك فيجعله أيضا في سبيل الله، ثم يخرج ثلث ما بقي بعد ذلك فيجعله في سبيل الله.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن ابن القاسم حكى عن ابن كنانة أنه يجزئه ثلث واحد، وأنه لا يرى هو ذلك، ولا يقول به ويوجب عليه إخراج ثلث ماله لليمين الأولى وثلث ما بقي لليمين الثانية، وثلث ما بقي لليمين الثالثة، وذلك خلاف المعلوم من مذهبه في سماع يحيى المتقدم، وفي غير ذلك من الدواوين، وخلاف الأصول أيضا على ما ذكرناه، وبيانه في رسم الصلاة من سماع يحيى المذكور، فيحتمل أن يكون انتهى جواب ابن القاسم إلى قوله قال هو رأي؛ ووصل العتبي بجوابه قول ابن كنانة، فقال ابن كنانة ولست أقوله، فيكون معناه قال ابن كنانة: ولست أقوله - يعني قول ابن القاسم - إنه يجزئه ثلث واحد، وأنا أرى أن يخرج ثلث ماله إلى آخر قوله، وهو تأويل ممكن محتمل، والله أعلم.
[مسألة: قال لابنه أنت بدنة]
مسألة وقال في من قال لابنه: أنت بدنة، قال: لا شيء عليه إلا أن يكون نوى الهدي.
قال محمد بن رشد: قوله في ابنه هو بدنة بمنزلة قوله: أنحره، فقوله: لا شيء عليه إلا أن يكون نوى الهدي، هو أحد أقوال مالك في المدونة، والذي يتحصل من أقواله فيها أنه إن أراد الهدي أو سمى النحر فعليه الهدي قولا واحدا، وإن لم تكن له نية ولا سمى المنحر فمرة رأى عليه كفارة يمين، ومرة لم ير عليه شيئا، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية.
[مسألة: قال لله علي ألا أصوم غدا ولله علي ألا أكلم فلانا]
مسألة وإذا قال: لله علي ألا أصوم غدا، ولله علي ألا أكلم فلانا، ولله(3/262)
علي ألا أدخل المسجد، أنه يدخل المسجد ويصوم غدا ويكلم فلانا ولا شيء عليه إلا أن يقول: لله علي نذر إن صمت غدا، ولله علي نذر إن كلمت فلانا، ولله علي نذر إن دخلت المسجد، إن فعل شيئا من هذه الوجوه فعليه في ذلك كله كفارة.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في آخر نوازل أصبغ في رسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: قال رجل لله علي نذر عتق رقبة لأصومن غدا]
مسألة قال: ولو قال رجل لله علي نذر عتق رقبة لأصومن غدا، قال: هو مخير إن شاء صام غدا ولا عتق عليه، وإن شاء أعتق رقبة ولم يصم غدا.
قال محمد بن رشد: قوله هو مخير إن شاء صام غدا ولا عتق عليه وإن شاء أعتق رقبة ولم يصم غدا ليس بصحيح؛ لأنه حلف بعتق رقبة أن يصوم غدا فيمينه على بر؛ لأنه يحنث بمضي غد، ولا يجوز لمن كانت يمينه على بر بطلاق أو مشي أو عتق أو ظهار أو صيام، أو ما سوى ذلك مما عدا اليمين بالله أن يطلق ولا أن يمشي ولا أن يعتق ولا أن يكفر عن ظهار ولا أن يصوم قبل أن يحنث، فإن فعل شيئا من ذلك قبل أن يحنث لم يجزه، ولزمه أن يفعله مرة أخرى إذا حنث، وقد وقع في كتاب الظهار من المدونة لمالك في من آلى من امرأته بعتق رقبة بغير عينها فأعتق رقبة قبل أن يحنث أن ذلك يجزئه وسقط عنه الإيلاء، وهي رواية شاذة خارجة عن الأصول، وعليها يأتي قول ابن القاسم في هذه المسألة.
[مسألة: اختلس كتابا فقال صاحبه والله لا تقرؤه وقال الذي اختلسه والله لأقرأنه]
مسألة وسئل عن رجل اختلس من رجل كتابا، فقال صاحب الكتاب: والله لا تقرؤه، وقال الذي اختلسه: والله لأقرأنه فتجابذا الكتاب فصار(3/263)
في يد صاحبه نصفه وفي يد الذي اختلسه نصفه فقرأ ذلك النصف، فقال: أحب إليّ أن يكفرا جميعا؛ قيل له: سواء قرأ نصفه أو قرأه كله؟ قال: لا، إذا قرأه كله لم يكن عليه شيء.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها من أن من حلف ألا يفعل فعلا يحنث بفعل بعضه، ومن حلف أن يفعل فعلا لا يبر إلا بفعل جميعه؛ لأن الحالف ألا يفعل فعلا حالف ألا يفعل شيئا فوجب أن يحنث إن فعل بعضه، والحالف أن يفعل فعلا حالف أن يفعل جميعه فوجب ألا يبر بفعل بعضه، وإنما افترق البر من الحنث من أجل أن لفظ الحالف اقتضى ذلك فحمله على عمومه في الوجهين، وإلى هذا يرجع قول من يعلل بأن يقول الحنث يدخل بأقل الوجوه، والبر لا يكون إلا بأكمل الوجوه، وإنما قال: أحب إليّ أن يكفرا جميعا ولم يوجب ذلك عليهما جميعا من أجل أن الحالف أن يقرأه لم يتقرر بعد حنثه إذا حلف يقدر على النصف الآخر فيقرأه فيبر، ولو فات النصف الثاني فواتا لا يمكنه قراءته أصلا لوجبت عليه الكفارة كما وجبت على صاحبه.
[مسألة: طلق امرأته واتخذ عليها إن تزوجت بعده فمالها للمساكين صدقة]
مسألة وقال في رجل طلق امرأته واتخذ عليها إن تزوجت بعده فمالها للمساكين صدقة، فقال: قد ظلم حين فعل، فإن تزوجت كان ثلث مالها في المساكين، قال ابن القاسم: إن كانت حلفت على ضرورة فليس عليها شيء في يمينها، وهي بمنزلة التي تعطيه مالها على ضرورة ثم يعلم بذلك فهي ترجع عليه ثم أخذ منها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا طلقها على أن مالها في(3/264)
المساكين صدقة إن تزوجت لا يلزمها اليمين إذا كانت إنما حلفت عن ضرورة لأن إكراه الرجل امرأته إكراه، ويمين المكره لازمة له.
[مسألة: حلف ألا يعين أخاه في حاجة فمرض فأراد أن يعوده]
مسألة وسئل عن رجل حلف ألا يعين أخاه في حاجة فمرض فأراد أن يعوده أو دعاه إلى طعام في منزله أيجيبه؟ قال: لا أرى بذلك كله بأسا إلا أن يكون أراد اعتزاله له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن عيادته إياه وإجابته إلى طعامه ليس من العون له في حاجة بسبيل، فإذا لم ينو اعتزاله بيمينه فلا حنث عليه.
[مسألة: قال أثمانهن صدقة إن وطئت منهن واحدة وهو يريد أثمان ثياب الجواري]
مسألة وقال في رجل عاتبته امرأته في جوار له يطؤهن فوضع يده على ثياب لهن فجمعها فقال أثمانهن صدقة إن وطئت منهن واحدة وهو يريد أثمان الثياب يلغز لها ذلك؛ قال: لا أرى عليه بأسا وأرى ذلك ينفعه ولكن إن فعل فليتصدق بتلك الثياب التي وضع يده عليها وحدها إلا أن يكون نوى كل ثيابهن.
قال محمد بن رشد: اليمين في هذه المسألة على نية الحالف وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم شك من سماع ابن القاسم وفي سماع أصبغ ما يغني عن إعادته.
[مسألة: حلف ليقضينه دينارا إلى أجل فخاف الحنث فجاءه فاستسلف منه دينارا]
مسألة وقال في من حلف ليقضين عبد الله دينارا إلى أجل فلما خاف الحنث جاء إلى عبد لعبد الله وهو وكيله والقائم بأمره فاستسلف منه دينارا فقضى عبد عبد الله، فقال: لا يبر؛ قيل له: يقول قد قضيت غلام(3/265)
عبد الله الدينار قبل الأجل وقد زعم ذلك العبد؛ قال: لا ينفعه ذلك إلا ببينة أنه قد قضى العبد الدينار قبل الأجل الذي حلف عليه ليقضينه إلى ذلك الأجل.
قال محمد بن رشد: قوله إن الحالف لا يبر بعد القضاء بين لأنه إنما قضاه ماله الذي أخذه من عبده فكأنه لم يقضه شيئا، وأما ادعاؤه بعد الأجل أنه قد قضى الغلام قبل الأجل فهو بمنزلة ما لو ادعى بعد الأجل أنه قد قضى المحلوف عليه قبل الأجل فصدقه المحلوف فيدخل في ذلك من الاختلاف ما دخل في هذه، فقيل إنه يبر بتصديقه وهو أحد قولي سحنون وقوله إن يحلف مع شهادته إن كان مأمونا ويبر في اليمين، وقيل: إن كان صاحب الحق مأمونا، وقد روي عن مالك أنه يحلف لتسقط عنه اليمين ويكون عليه الحق بغير يمين إن كان صاحب الحق منكرا للاقتضاء.
[مسألة: مر بناقة على زقاق فحبقت عليه فقال أنت بدنة إن لم تمري فحبقت فلم تمر]
مسألة وقال في رجل مر بناقة على زقاق فحبقت عليه، فقال أنت بدنة إن لم تمري فحبقت فلم تمر، فقال: ما أرى إلا أن يخرجها.
قال محمد بن رشد: حكى ابن حبيب أن أعرابيا سأل مالكا عن ناقة له نفرت فانصرفت، فقال لها: تقدمي وإلا فأنت بدنة، فقال له: أردت زجرها بذلك لكي تمضي؟ فقال: نعم، قال: لا شيء عليك، قال: رشدت يا ابن أنس، وذكرها ابن المواز عنه في كتابه، فقال فيها: إنه حانث كرواية أبي زيد.
قال محمد بن رشد: أما إيجاب إخراجها فالوجه في ذلك أنه رآها يمينا بخروجها مخرج اليمين، فأوجب عليه إخراجها على أصل المذهب في أن اليمين بما لله فيه طاعة كالنذر يلزم، ووجه ما حكى ابن حبيب عن مالك أنه لم ير ذلك يمينا لأن الرجل إنما يحلف على ما يملك أو على من يعقل، وصرف ذلك إلى معنى النذر فلم يوجب عليه إخراجها إذ لم تكن له نية في(3/266)
ذلك وإنما قصد زجرها لا القربة إلى الله تعالى بإخراجها هديا وهو الأظهر لقول النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «إنما الأعمال بالنيات» .
[مسألة: حلف ألا يشهد له ولا عليه فكتب كتابا وشهد على نفسه فيه]
مسألة وقال في رجل حلف ألا يشهد لي ولا علي فبعته سلعة إلى أجل وكتبت كتابا وشهد على نفسه في الكتاب، كتب شهادته بيده على نفسه قال: يحنث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن شهادة الرجل على نفسه شهادة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] الآية.
[مسألة: قال لغلام لأبيه في حياة أبيه يوم أملكك فأنت حر فهلك الأب وملكه]
مسألة وقال في من قال لغلام لأبيه في حياة أبيه يوم أملكك فأنت حر، فهلك الأب وملكه، قال: إن كان يوم قال ذلك سفيها فلا أرى عليه عتقا، وإن كان يومئذ حليما فإني أرى أن يعتق عليه، قال: وإن قال: أنت عتيق في مالي ولم يقل يوم أملكك أو يوم أكسبك فليس بشيء لا عتق عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه في المذهب أن من حلف بعتق ما يملك قبل أن يملكه، أو أوجبه على نفسه بشرط ملكه له فخص ولم يعم أن ذلك لازم له، والأصل في وجوب ذلك عليه قوله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] إلى قوله: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] . لأنه إذا لزمه ذلك في الصدقة كان ذلك في(3/267)
العتق أولى أن يلزمه، وإما إذا قال لعبد أبيه أنت حر أو حر في مالي ولم يقل يوم أملكك ولا نوى ذلك فلا شيء عليه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم» ، تم كتاب النذر بحمد لله.(3/268)
[: كتاب الصيد والذبائح]
[مسألة: بهيمة وقعت في ماء فذبحها صاحبها ورأسها في جوف الماء]
كتاب الصيد والذبائح
من سماع عبد الرحمن بن القاسم
من كتاب القبلة مسألة قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سمعت مالكا يقول في بهيمة وقعت في ماء فلم يستطع صاحبها أن يذبحها إلا ورأسها في جوف الماء، فقال: إن وصل إلى مذبحها وهي حية فلا أرى بذلك بأسا وإن رأسها في جوف الماء إذا اضطر إلى ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله إذا اضطر إلى ذلك شرط فيه نظر، إذ لا فرق في هذه المسألة في إعمال الذكاة بين أن يضطر إلى تذكيتها على تلك الحال أو لا يضطر إلى ذلك، وإنما تفترق الضرورة من غير الضرورة في إباحة الفعل ابتداء فيكره له أن يفعل ذلك من غير ضرورة مراعة لقول من يقول إن تذكيتها في حرف لا تجوز على حال، وهو قول ابن نافع في المبسوطة، قال: إن رفع رأسها على الماء فذبحها ثم تركها فهي حلال، وإن لم يرفع رأسها وذكاها تحت الماء فلا ذكاة فيها، ووجه ذلك أنه لا يدري إن كانت ماتت من ذبحه أو من الغم في الماء لاشتراك الأمرين جميعا فيها، كما قال مالك في المدونة في الصائد يذكي الصيد والكلاب تنهشه وهو يقدر على أن يتخلصه منها لا يؤكل مخافة أن يكون إنما مات من نهشها، وقال ابن القاسم: إنه يؤكل إن كان ذكاه وهو يستيقن أن حياته فيه مجتمعة، فقول مالك في المدونة خلاف قوله في هذه المسألة ومثل قول ابن نافع فيها، وقول ابن القاسم في المدونة(3/269)
مثل قول مالك في هذه المسألة خلاف قول ابن نافع فيها، ولو ذكى الصائد الصيد والكلاب تنهشه وهو لا يقدر على أن يتخلصه منها لأكل باتفاق، فهذه المسألة يفترق فيها الضرورة من غير الضرورة في إعمال التذكية لا مسألة الذبح في الماء، فقف على ذلك واعلمه فإن المعنى في ذلك بين، وهو أن الصيد يؤكل إذا قتلته الكلاب قبل أن يدركه الصائد بخلاف إذا مات في الماء قبل أن يدركه، ولو قتله في جوف الماء بما يقتل به الصيد لم يؤكل لأنه قد صار أسيره، قاله ابن حبيب جعل النهر كالحفرة بخلاف الغيضة والغار، وبالله التوفيق.
[مسألة: بهيمة طرحت جنينا حيا فذكي وهو يركض]
مسألة قال مالك في بهيمة طرحت جنينا حيا فذكي وهو يركض، قال: ما أحب أن يؤكل قال، قال مالك وكذلك الذي لم يتم خلقه.
قال محمد بن رشد: قوله لا أحب ليس على ظاهره، ومراده بذلك لا يحل فتجوز في اللفظ وهو بين من إرادته بدليل تمثيله إياه بالذي لم يتم خلقه، ولا يجوز تذكيته إلا أن يعلم أنه لو أرجئ عاش، وأما إن علم أنه لو ترك لم يعش أو شك في ذلك فلا يصح تذكيته.
[مسألة: ذبيحة السكران]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالك يقول في ذبيحة السكران الذي لا يعقل والمجنون الذي لا يعقل: إنها لا تؤكل إذا كانا لا يعقلان.
قال محمد بن رشد: وأما السكران الذي لا يعقل أصلا فهو كالمجنون المطبق الذي لا يعقل فلا تؤكل ذبيحته بإجماع؛ لأن من شرط التذكية النية وهو القصد إلى الذكاة، وذلك لا يصح ممن لا يعقل له أصلا،(3/270)
وأما السكران الذي يخطئ ويصيب فلا ينبغي لأحد أن يأكل ذبيحته لأنه لا يدري هل صحت منه النية في الذبح أم لا؛ ولا يصدق في ذلك لأنه ممن لا تجوز شهادته ولا يقبل قوله، ولو أتى مستفتيا في خاصة نفسه يزعم أنه عرف ما صنع وقصد الذكاة بذلك لوجب أن ينوي في خاصة نفسه ويباح له أكل ذبيحته وإن كان في تلك الحال ممن يقع عليه اسم سكران، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] . والخطاب لا يتوجه إلا لمن يعقل، فدلت الآية أن السكران قد يعقل وهذا بين.
[مسألة: حكم أكل جبن المجوس]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول:، وأما السمن والزيت فلا أرى به بأسا إذا كانت آنيتهم لا بأس بها، فإن كان في آنيتهم بعض ذلك فلا أرى أن يؤكل، وإن شككت في آنيتهم وكانوا يأكلون الميتة فلا أحب ذلك.
قال محمد بن رشد: أما جبن المجوس فبين أنه لا خير فيه لأنه إنما يجعلون فيه من أنافيح ذبائحهم التي لا تحل لنا، فقوله أكره ذلك لفظ فيه تجاوز، وقد روي أن أبا موسى الأشعري، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كتب إلى عمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، يذكر أن المجوس لما رأوا المسلمين لا يشترون جبنهم وإنما يشترون جبن أهل الكتاب عمدوا فصلبوا على الجبن كما يصلب أهل الكتاب ليشترى من جبنهم، فكتب إليه عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ما تبين لكم أنه من صنعتهم فلا تأكلوه، وما لم يتبين لكم فكلوه، ولا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم، قال ابن حبيب: وقد تورع عمر بن الخطاب وابن(3/271)
مسعود وابن عباس في خاصة أنفسهم عن أكل الجبن إلا ما أيقنوا أنه من جبن المسلمين وأهل الكتاب خيفة أن يكون من جبن المجوس، ولم يفتوا الناس به ولا منعوهم من أكله، فمن أخذ بذلك في البلد الذي فيه المجوس مع أهل الكتاب فحسن، وأما السمن والزيت فكما قال لا يجب أن يمتنع من أكله إلا أن يعلم بنجاسة آنيتهم فإن شككت في نجاستها فالتورع أفضل.
[مسألة: ما ذبح أهل الكتاب لأعيادهم وكنائسهم]
مسألة وقال مالك: ما ذبح أهل الكتاب لأعيادهم وكنائسهم وأعدوه فلا أحب أكله، ولست أراه حراما. قال ابن القاسم: ولا يعجبني أكله. قال عيسى: لا أرى به بأسا، وابن وهب مثله. سحنون: كل ما ذبحوا لأعيادهم فلا يحل أكله، وما ذبحوا لأنفسهم فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: كره مالك ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم لأنه رآه مضاهيا لقوله عز وجل: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] ، ولم يحرمه إذ لم ير الآية متناولة له وإنما مضاهية له؛ لأن الآية عنده معناها ما ذبحوا لآلهتهم مما لا يأكلون، ورأى سحنون الآية متناولة له فحرمه، وأجازه من أجازه لأنه من طعامهم الذي يأكلونه، وقد قال عز وجل: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد المالك من كتاب الضحايا فقف على ذلك وبالله التوفيق.(3/272)
[مسألة: الحوت يؤخذ حيا أيقطع قبل أن يموت]
ومن كتاب أوله سلعة سماها مسألة قال: وسئل مالك عن الحوت يؤخذ حيا أيقطع قبل أن يموت؟ قال: لا بأس فيه لأنه لا ذكاة فيه، وأنه لو وجد ميتا أكل، فلا بأس بأن يقطع قبل أن يموت، وأن يلقى في النار وهو حي فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قد كره هذا في رسم الجنائز والصيد من سماع أشهب كراهية شديدة. وظاهر هذه الرواية الإباحة والوجه في ذلك أن الحوت لما كان لا يحتاج إلى تذكية وكان للرجل أن يقتله بأي نوع من أنواع القتل في الماء، وأن يقطعه فيه إن شاء كان له أن يفعل ذلك به بعد خروجه من الماء، والوجه في كراهية ذلك أن الحوت مذكى، فالحياة التي فيه بعد صيده بمثابة الحياة التي تبقى في الذبيحة بعد ذبحها فيكره في كل واحد منهما ما يكره في الآخر.
[مسألة: حكم أكل جبن الروم الذي يوجد في بيوتهم]
مسألة وسئل مالك عن جبن الروم الذي يوجد في بيوتهم، قال: ما أحب أن أحرم حلالا، وأما أن يكرهه رجل في خاصة نفسه فلا بأس بذلك، وأما أن أحرمه على الناس فلا أدري(3/273)
ما حقيقته، قد قيل: إنهم يجعلون فيه أنفحة الخنزير وهم نصارى؛ وما أحب أن أحرم حلالا، وأما أن يتقيه رجل في خاصة نفسه فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: كره للرجل في خاصة نفسه من أجل ما قيل له إنهم يجعلون فيه من أنفحة الخنزير، ولو لم يسمع ذلك لم يكن عليه أن يبحث عن ذلك؛ لأن الله قد أباح لنا أكل طعامهم بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . فأكل طعامهم جائز ما لم يوقن فيه بنجاسة، فإن خشي ذلك الرجل لشيء سمعه استحب له أن يتركه، ويبين هذا ما ذكرناه قبل هذا عن عمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وابن عباس وابن مسعود من تورعهم في خاصة أنفسهم عن أكل الجبن مخافة أن يكون من جبن المجوس.
[مسألة: البازي يضطرب على الشيء يراه ولا يراه صاحبه فيرسله صاحبه]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن البازي يكون في يد صاحبه فيضطرب على الشيء يراه ولا يراه صاحبه فيرسله صاحبه فربما أخذ صيدا وربما أخذ الحية وما أشبهها مما ليست بصيد، قال: إذا كان إنما اضطرب على غير صيد فأرسله وهو لا يرى شيئا فأخذ صيدا فقتله فلا أحب له أن يأكله، ولعله أن يضطرب على صيد ويأخذ صيدا غيره إلا أن يستيقن أن اضطرابه إنما كان على الصيد الذي أخذ، مثل أن يكون يراه غيره ولا يراه هو، والطيرة يأخذها ولا يطير حولها شيء، ومثل هذا مما يستيقن فلا بأس بأكله.(3/274)
قال محمد بن أحمد: معنى هذه المسألة أنه أرسل البازي ينوي صيد ما اضطرب عليه، وذلك بين من قوله: ولعله أن يضطرب على صيد ويأخذ صيدا غيره، ولو كان لما اضطرب أرسله ينوي ما صاد كان الذي اضطرب عليه أو غيره لأكل ما صاد على معنى ما في المدونة في الذي يرسل كلبه على الجماعة من الصيد وينوي، إن كان وراءها جماعة أخرى لم يرها فيأخذ ما لم ير أنه يأكله، ويبين هذا التأويل أيضا قول مالك في كتاب ابن المواز، قال: ومن رأى كلبه يحد النظر وكالملتفت يمينا وشمالا فأرسله على صيد لم يره، فليأكل ما أخذ وهو كإرساله في الغياض والغيران لا يدري ما فيها عرف أن فيها صيدا أو لم يعرف، ومن الناس من حمل هذه الرواية على الخلاف لما في المدونة مثل قول أشهب إنه لا يصح له أن ينوي في إرساله ما لم يره من الصيد، ومثل قول سحنون في رسم لم يدرك من سماع عيسى أنه إذا أرسل كلبه في الحجر والغامصة ينوي اصطياد ما فيهما وهو لا يدري أفيهما شيء أم لا، فأصاب فيهما صيدا أنه لا يؤكل، والتأويل الأول أظهر والله أعلم.
[مسألة: الحوت يشترى فيوجد في بطنه حوت أخرى]
ومن كتاب أوله شك في طوافه مسألة وسئل مالك عن الحوت يشترى فيوجد في بطنه حوت أخرى، أترى أن يؤكل؟ قال: نعم، لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصل مذهب مالك في جواز أكل ما وجد من الحوت ميتا طافيا على الماء وغير طاف عليه قد حسر عنه(3/275)
الماء على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «هو الطهور ماؤه والحل ميتته» . ولم يفرق بين ما صيد أو وجد ميتا، من أهل العلم من يقول: إنه لا يؤكل الطافي من الحوت، ومنهم من يقول: لا يؤكل إلا ما صيد حيا. فعلى قول هؤلاء لا يجوز أكل الحوت يوجد في بطن الحوت.
[مسألة: بيع الجزرة من النصراني وهو يعلم أنه يريدها لذبح أعيادهم في كنائسهم]
مسألة وسئل مالك عن بيع الجزرة من النصراني وهو يعلم أنه يريدها لذبح أعيادهم في كنائسهم، فكره ذلك، فقيل له: أيكرون الدواب والسفن إلى أعيادهم، قال: يجتنبه أحب إلي. وسئل ابن القاسم عن الكراء منهم، فقال: ما أعلم حراما وتركه أحب إلي.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قالا إن ذلك مكروه وليس بحرام لأن الشرع أباح البيع والاشتراء منهم والتجارة معهم وإقرارهم ذمة للمسلمين على ما يتشرعون به في دينهم من الإقامة لأعيادهم، إلا أنه يكره للمسلم أن يكون عونا لهم على ذلك، فرأى مالك هذا على هذه الرواية من العون لهم على أعيادهم فكرهه. وقد روي عنه إجارة ذلك، وهو على القول بأنهم غير مخاطبين بالشرائع أولا يكون قد أعانهم على معصية إلا على القول بأنهم مخاطبون بالشرائع، وقع اختلاف قوله في ذلك في سماع سحنون من كتاب السلطان، فإن وقع البيع والكراء منهم على هذا مضى ولم يفسخ، وإن كان ازداد في ثمن الجزرة أو كراء الدابة بسبب أعيادهم شيئا على القيمة أرى أن يتصدق بالزائد على القول بأن ذلك مكروه استحبابا، والله أعلم.(3/276)
[مسألة: يرمي الصيد بسهم مسموم، فيدرك ذكاته أترى أن يؤكل]
مسألة وسئل مالك عن الذي يرمي الصيد بسهم مسموم، فيدرك ذكاته أترى أن يؤكل؟ قال: لا أرى أن يؤكل وإن ذكي. قيل له: إن السم يجتمع في بضعة واحدة ويقطع، قال: لا أرى ذلك، ونهى عنه وقال: أخاف أن يكون السم قتله وأخاف على من يأكله الموت منه ونهى عنه.
قال محمد بن رشد: أما إذا لم ينفذ السهم بالسم مقتله ولم يدرك ذكاته فلا يؤكل باتفاق، واختلف إن أدركت ذكاته، فقال في الرواية: إنه لا يؤكل، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة، قال: لأنه ساعة يمس السم الدم جرى به إلى قتله. وقال سحنون: إنه يؤكل وهو أظهر؛ لأنه قد ذكي وحياته فيه مجتمعة قبل أن ينفذ مقاتله، وأما إذا أنفذ السهم بالسم مقاتله، فقال ابن حبيب: إنه لا يؤكل لأن السم قد شاركه في إنفاذ مقتله ويدخل في ذلك الاختلاف بالمعنى من مسألة الذبح في الماء على ما ذكرناه في أول رسم من السماع وبالله التوفيق.
[مسألة: حيتان في برك يقل ماؤها فيطرح فيها السيكران فيسكرها ذلك فتؤخذ]
مسألة وسئل مالك عن حيتان في برك يقل ماؤها فيطرح فيها السيكران فيسكرها ذلك فتؤخذ أفترى أن تؤكل؟ قال: ما يعجبني ذلك، ثم قال: أفيخاف على الذين يأكلونها؟ فقيل له: لا، قد جرب(3/277)
ذلك وإنه لا يضر ذلك، قال: ما يعجبني ذلك وكرهه، وقال: هذا من عمل العجم.
قال محمد بن أحمد: إنما كره أكلها من ناحية الخوف على من يأكلها وكأنه لم ير التجربة تصح في ذلك قد يضر بعض الناس ولا يضر آخرين لا من ناحية أن ذلك مما يؤثر في ذكاة الحيتان لأنها لا تحتاج إلى ذكاة، وقد قال في رسم الصيد والجنائز: إنه لا بأس بأكل ما مات منها بالسيكران أو السكر فأخذ باليد، وهو مفسر لهذه الرواية في جواز أكلها إلا أنه لا يجوز بيعها إلا بعد أن يبين بذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: شراء قديد الروم]
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته
مسألة قال مالك: لا أحب شراء قديد الروم ولا جبنهم الذي ينزلون به من بلادهم مثل أهل طربلس.
قال محمد بن أحمد: قد مضت هذه المسألة، والقول فيها في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها.
[مسألة: يكون بينه وبين اليهودي شرك في شاة فيقول له اليهودي دعني أذبحها]
مسألة قال: وسئل مالك عن الرجل يكون بينه وبين اليهودي أو النصراني شرك في شاة، فيقول له اليهودي: دعني أذبحها فإنا لا نأكل ذبائحكم، قال مالك: لا أحب له أن يمكنه من ذلك، فقيل له: فإنا لا نأكل ذبائحهم التي ذبحوا لأنفسهم، قال: إنما نأكل(3/278)
ما ذبحوا لأنفسهم، وأما إنا نعطيهم شيئا أو يكون معهم شرك فتمكنهم فلا أحب للمسلم أن يفعل ذلك ولا ينبغي للمسلم أن يستأجرهم ولا يقارضهم ولا يأتمنهم.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في سماع أشهب من كتاب الضحايا فلا معنى لإعادته وسيأتي هذا المعنى أيضا في سماع أشهب وفي سماع يحيى وبالله التوفيق.
[مسألة: متردية اندق عنقها أو انكسر ظهرها أو خربت فأتيت وهي تتنفس فذكيت]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق مسألة قال مالك: وكل متردية اندق عنقها أو انكسر ظهرها أو خربت فأتيت وهي تتنفس فذكيت، قال مالك: ما أدرك من متردية اندق عنقها وإن كان مثلها لا يعيش أو ضربت، وإن تركت لم تعش فذكيت فهي توكل لأن بعضها مجتمع إلى بعض، وأما كل شيء خرق جوفه حتى انتثر أمعاؤها وأحشاؤها أو أكل معاؤها فلا أرى أن تذكى ولا توكل، قال مالك في المندقة العنق وما أشبهها: وإن كان مثلها لا يعيش لو ترك فذكي فهو ذكي وتوكل إلا أن ينقطع نخاعها فذكى، قال: ولم يجز بيعه. وقد روي عن مالك ما يدل على جواز بيعه من ذلك ما وقع في رسم الشجرة من سماع ابن(3/279)
القاسم من كتاب الصلاة في مسألة الصابون وما في سماع أشهب أيضا من هذا الكتاب على ما سنذكره إن شاء الله إذا مررنا به.
[مسألة: كيفية نحر البدن]
ومن كتاب أوله باع غلاما بعشرين دينارا مسألة قال مالك: تنحر البدن قياما أحب إلي، وكأني رأيته يراه وجه الأمر فيها، قال: والبقر والغنم تذبح وتضجع، قال: ويلي الرجل نحر بدنته وذبح ضحيته بيده أحب إلي، ويقول: بسم الله، الله أكبر، وإن أحب قال ربنا تقبل منا، وكره أن يقول اللهم منك وإليك وعابه وشدد الكراهية فيه، وقال إذا أعق: اللهم منك وإليك؛ وإذا تصدق قال: اللهم منك وإليك، فكره ذلك ولم يره من العمل ولم يستحسنه.
قال محمد بن رشد: هذا كله مثل ما في المدونة وإنما استحب أن تنحر البدن قياما، وقال: إنه وجه الأمر فيها كما قال في الحج الثالث من المدونة إنه الشأن اتباعا لظاهر قوله عز وجل: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36] ، أي سقطت إلى الأرض، ولم ير ابن القاسم في المدونة أن تنحر معقولة إن امتنعت ولم يحفظ عن مالك هل تنحر معقولة أم تكون مصفوقة، وقوله عز وجل: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] . أي مصطفة لا يدل على كونها معقولة، فلذلك لم يستحب ابن القاسم أن تعقل إذا لم تمتنع، وقد قرئ فاذكروا اسم الله عليها صوافن أي على ثلاث قوائم معقولة إحدى يديها، واستحب ذلك بعض العلماء، وقد قرئ صوافي أي صافية خالصة لله(3/280)
تعالى، واستحب أن يلي الرجل نحر هديه وذبح ضحيته بيده تواضعا لله وتأسيا برسول الله في ذلك، فإن ذبح له غيره بأمره أجزأه عند مالك، قال ابن عبد الحكم في مختصره: وقد قيل لا يجزيه والأول أحب إلينا، وأما إن ذبحها له نصراني أو يهودي فلا يجزيه إلا عند أشهب، وقد مضى دليل قوله في سماع أشهب من كتاب الضحايا، واستحب في صفة التسمية على الذبيحة أن يقول بسم الله والله أكبر لأنه الذي مضى عليه أمر الناس، قال ابن حبيب في الواضحة: فإن قال: باسم الله والله أكبر وحده اكتفاه بذلك، وكذلك لو قال: لا إله إلا الله أو سبحان الله أو لا حول ولا قوة إلا بالله لاكتفي بذلك؛ لأنه إنما أمر أن يسمي الله، فكيف ما ذكره فقد سماه.
وأجاز أن يقول بعد التسمية صلى الله على رسول الله، وكره أن يقول معها محمد رسول الله، وظاهر المدونة أنه كره الأمرين جميعا وما في الواضحة أبين؛ لأن الصلاة على النبي دعاء له فلا وجه لكراهيته، بخلاف ذكر اسمه بغير دعاء ذلك مكروه؛ لأن الذبح إنما هو لله تعالى وحده فلا يذكر هناك إلا اسم الله تعالى وحده كما أمر حيث يقول: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34] . وتسمية الله سنة في الذكاة وليست شرطا في صحتها؛ لأن معنى قوله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، أي لا تأكلوا الميتة التي لم يقصد إلى ذكاتها لأنها فسق، ومعنى قوله عز وجل: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118] . كلوا مما قصد إلى ذكاته، فكنى عز وجل عن التذكية بذكر اسمه كما كنى عن رمي الجمار(3/281)
بذكره حيث يقول: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] ومن الدليل على أن مراده عز وجل بما لم يذكر اسم الله عليه ما لم يقصد إلى ذبحه قوله عز وجل: {وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] . وبين بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] . إلى قوله: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] . فبين بتسمية هذه الأشياء التي حرمها الله في هذه الآية بقوله فسقا أنها هي التي نهى عن أكلها لأنها فسق بقوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] . فمن ترك التسمية ناسيا أكلت ذبيحته، وأجاز ابن حبيب أن يقول مع التسمية على الضحية: اللهم منك وبك ولك، أي منك الرزق وبك الهدي ولك النسك، وحكاه عن علي بن أبي طالب وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهو قول سحنون، وكره ذلك مالك في هذه الرواية وشدد الكراهية في ذلك، وقال في المدونة: إن ذلك بدعة، فالمعنى في ذلك والله أعلم أنه إنما كره التزام ذلك على وجه كونه مشروعا في ذبح النسك كالتسمية، فمن قاله على غير هذا الوجه في الفرط لم يكن عليه إثم ولا حرج، وأوجر في ذلك إن شاء الله.
[مسألة: الحبالة يضعها الرجل للصيد فلمن يكون الصيد إذا وقع فيها]
مسألة وسئل مالك عمن وضع جبحا للعسل في الجبل فدخل فيه ذباب النحل فأطعم فيه، أتراه له دون الناس؟ فقال: إنما ذلك(3/282)
عندي بمنزلة الحبالة يضعها الرجل للصيد فهو لمن وضع حبالته إذا وقع فيها، بذلك الجبح ما كان فيه من عسل فهو لمن جعله مثل الحبالة التي وصفت لك.
قال محمد بن أحمد: قال العتبي: إنما ذلكم لمن جعلها بعيدا من العمران حيث لا ينتهي إليه سرح النحل، وأما إن جعلها في موضع ينتهي إليه سرح النحل فلا يحل له ذلك، ولو أن السلطان علم بذلك لكان عليه أن يؤدبه، وقوله صحيح مفسر لقول مالك؛ لأن النحل إذا صارت في الأجباح كانت كحمام الأبراج لا يجوز لأحد أن يصيد حمام الأبراج، وسنزيد هذه المسألة بيانا في نوازل سحنون إن شاء الله.
[مسألة: جبن الحبشة وهم مشركون]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات مسألة وسئل مالك عن جبن الحبشة وهم مشركون، قال: أخاف أن يجعلوا فيه ميتة فأنا أكرهه.
قال محمد بن أحمد: في بعض الروايات وسئل عن سمن الحبشة وهو الصحيح في الرواية والله أعلم لأن المشركين ليسوا بأهل كتاب وإنما هم عبدة أوثان، فذبائحهم محرمة علينا كذبائح المجوس، فالامتناع من أكل جبنهم واجب لأنهم يجعلون فيه من أنفحة ذبائحهم وهي ميتة لا تحل، وأما سمنهم فكرهه مالك مخافة أن يكون الإناء الذي هو فيه قد جعلوا فيه ميتة، وقد مضى في أول رسم من هذا السماع ما يدل على هذا، وبالله التوفيق.(3/283)
[مسألة: الديكة المذبوحة من أقفيتها]
ومن سماع أشهب وابن نافع مسألة قال سحنون: سمعت أشهب وعبد الله بن نافع يقولان: سمعنا المسور بن عبد المالك المخزومي يحدث مالكا أن أبا الحويرث حدثه أن محمد بن جبير بن مطعم أمر بثلاثة ديكة له أن تسمن حتى إذا امتلأن شحما أمر غلاما له أن يذبحها فذبحها من أقفيتها فلما نظر إليها محمد بن جبير بن مطعم، قال: لأظنه قد حرمها، فقلت له: كلا، فخرجت معه إلى سعيد بن المسيب حتى سأله عن أكلها، فقال له ابن المسيب: لا تؤكل فليس ذلك بذكاة، كل أنسية ذبحت من غير مذبحها فلا تؤكل، ولكن لو كانت وحشية أكلت، فقيل لمالك: أترى ما قال سعيد بن المسيب أن هذه الديكة المذبوحة من أقفيتها لا تؤكل؟ قال: نعم، إذا ذبحت من أقفيتها فلا تؤكل، وأرى أن تطرح، وأما لو ذهب يذبح فأخطأ فانحرف شيئا لم أر بأكلها بأسا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها أن من ذبح من القفا لم تؤكل ذبيحته، والمعنى في ذلك بين؛ لأن من ذبح من القفا فقد قطع النخاع وهو المخ الذي في عظم الرقبة قبل أن يصل إلى موضع الذبح، فيكون بفعله قد قتل البهيمة بقطعه نخاعها إذ هو مقتل من مقاتلها قبل أن يذبحها في موضع ذكاتها، وقول سعيد بن المسيب ولو كانت وحشية أكلت(3/284)
فذلك كلام فيه نظر؛ لأن الوحشية إذا ملكت لا تذكى إلا بما تذكى به الأنسية من الذكاة في موضع الذكاة على وجه الذكاة، فمراده والله أعلم إذا فعل ذلك لها في حال الاصطياد لها وهو غير قادر عليها وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: ذبح ذبيحة على سفينة فجرت في الماء فماتت فيه]
ومن كتاب الجنائز والصيد
مسألة وسئل عمن ذبح ذبيحة على سفينة فجرت في الماء فماتت فيه، فقال: لا يأكلها إلا إن كان قد تم ذبحه، فقيل له: إنا نخاف أن يكون قتلها الغم في الماء وإن كان قد تم ذبحه فلا بأس بها.
قال محمد بن رشد: هذا نص ما في المدونة إذا أكمل ذبحها قبل أن تسقط في الماء فأكلها جائز، وهو مما لا اختلاف فيه، بخلاف إذا ذبحها في جوف الماء، وقد مضى القول على هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[مسألة: ذبيحة النصراني]
مسألة قيل لمالك: فالرعاء يكونون عندنا نصارى فيأتي أحدهم بالشاة قد ذبحها، فقال: أرجو ألا يكون به بأس، قال: وقال لي ابن أبي حازم في ذلك ما كان في يدك ملكه فلا تولهم ذبحه، وأما ما ذبحوا هم لأنفسهم فكله، وما وليتهم ذبحه فلا بأس بأكله وبئس ما صنعت.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم حلف بطلاق(3/285)
امرأته من سماع ابن القاسم، ومضت أيضا والقول عليها في سماع أشهب من كتاب الضحايا فلا معنى لإعادته.
[مسألة: النفخ في اللحم عند السلخ]
مسألة وسمعت مالكا يقول: أرى أن يؤدب الجزارون الذين ينفخون اللحم وأن يمنعوا من ذلك.
قال محمد بن رشد: يريد النفخ الذي يفعلون بعد السلخ ليظهر اللحم سمينا، وأما النفخ عند السلخ فلا بأس به لأن فيه منفعة إذ لا يتأتى السلخ إلا به ففيه صلاح، وأما الذي يفعلون بعد السلخ فيكره لوجهين، أحدهما: إن ذلك غش إذ يوهم الجاهل بفعلهم فيظن أن ذلك الامتلاء من سمانة اللحم. والثاني: إن ذلك يغير طعم اللحم، وكذلك قال مالك في سماع ابن القاسم من كتاب السلطان وبالله التوفيق.
[مسألة: كيفية ذبح الحمام والطير]
مسألة وسئل مالك عمن يذبح الحمام والطير هكذا وأشار بيده وهو قائم يذبحها، قال: ما أراه بمستقيم هذا على وجه الاستخفاف، فقيل له: إن الصائد ربما فعل ذلك، فقال: إلا أنه غير فقيه ولا مفلح، فقيل له: فيؤكل، قال: نعم، إذا أحسن ذبحنا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال مالك إن ذلك لا يفعله إلا المتهاون بالذبح المستخف بما يلزمه من الاستثبات في الذكاة والتمكن فيها وأخلق بفاعل ذلك ألا يحافظ على ما يلزمه من التسمية واستقبال القبلة وفاعل ذلك غير فقيه ولا مفلح كما قال مالك.
[مسألة: حد الشفرة قبل الذبح]
مسألة وقال مالك: مر عمر بن الخطاب على رجل قد أضجع شاة(3/286)
وهو يحد شفرته فعلاه بالدرة، فقال له: علام تعذب الروح؟ هلا حددت شفرتك قبل.
قال محمد بن رشد: هذا مروي عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، روي عنه من رواية ابن مسعود أنه مر برجل قد صرع شاة وجعل يديها من وراء قرنها ثم جعل رجله على عنقها، فقال: هلم الشفرة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فهلا تركتها قائمة ولم تعذبها حتى تحضر شفرتك ثم تضعها وضعا لينا رفيقا ثم تذبحها» ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بحد الشفار وأن يوارى بها عن البهائم، وقال: «إذا ذبح أحدكم فليجهز» ، هذا من سنة الذبح ومما ينبغي للذابح أن يتوخاه، وقد روي عن ربيعة أنه كره أن يذبح الشاة وأخرى تنظر، وخفف ذلك مالك واحتج بالبدن التي تنحر مصفوفة بعضها إلى جنب بعض واختار ابن حبيب قول ربيعة، ورأى صف البدن عند نحرها من سنتها، قال: وليس ذلك في الذبائح.
[مسألة: سرق شاة فذبحها أتؤكل]
مسألة وسئل مالك عمن سرق شاة فذبحها أتؤكل؟ قال: نعم تؤكل، ولا يشك في هذا أحد يعرف الذبح، وإنما حرم عليه السرقة.
قال محمد بن رشد: هذا أمر متفق عليه في المذهب ولا خلاف فيه أيضا بين فقهاء الأمصار، وقد روي عن عكرمة أنه قال: لا تؤكل ذبيحة السارق والغاصب، وهو قول إسحاق وداود بن علي، والحجة عليهم لفقهاء الأمصار ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الشاة التي أخبر لما ألاك منها أكلة: إنها ذبحت بغير إذن صاحبها أطعموها الأسرى» وإذ لو لم تكن ذكية لما أطعمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدا فأخبرت المرأة التي كانت دعت رسول الله إلى الطعام(3/287)
أنها شاة بعث به إليه أهل أخيها بغير إذنه، فمن دخل داره سارق فذبح له شاة ووجدها مذبوحة فإن كان بلدا فيه مجوس مع المسلمين وأهل الكتاب فلا يأكلها مخافة أن يكون ذبحها مجوسي، وإن كان ليس فيه إلا المسلمون وأهل الكتاب فلا بأس بأكلها، قال ذلك ابن حبيب في الواضحة، وليس ترك أكلها إذا كان في البلد مجوس بلازم في وجه الحكم، وإنما هو على سبيل التورع على ما مضى عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود في أول رسم من سماع ابن القاسم، ويؤيد هذا ما روي عن ناس من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم «سألوا رسول الله، فقالوا: أغارب يأتوننا بحيتان مشروحة والجبن والسمن ما ندري ما كنه إسلامهم؟ قال: " انظروا ما حرم الله عليكم فأمسكوا عنه، وما سكت عنه فإنه عفا لكم عنه، وما كان ربك نسيا، واذكروا اسم الله عز وجل» ، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فأنزل الله عز وجل نبيه وأنزل كتابه وأحل له حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، ثم تلا: {لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} [الأنعام: 145] ، الآية.
وإلى هذا ذهب ابن بكير، فقال: لا حرام إلا ما ذكر تحريمه في هذه الآية، وما سواه من الخيل والبغال والحمير وذوي الناب من السباع مكروه وليس بحرام، إذ لا جائز أن تنسخ السنة القرآن، وقد اختلف الذين ذهبوا إلى تحريم ما عدا ما ذكر تحريمه في الآية من الدواب أو ذوي الناب من السباع أو ذوي المخلب من الطير بسنة أو إجماع أو دليل خطاب، كاستدلال مالك على أن الدواب لا تؤكل بأن الله إنما ذكرها للركوب والزينة في تأويل الآية على أقوال، أحدها: أن ذلك نسخ لبعض ما اقتضت(3/288)
الآية من التحليل، قال بذلك من ذهب إلى جواز نسخ القرآن بالسنة. والثاني: أن ذلك ليس بنسخ لأن ما عدا ما ذكر تحريمه فيها عموم يحتمل الخصوص، فيخصص بما يخصص به العموم من أخبار الآحاد والقياس والإجماع. والثالث: ما ذهب إليه الشافعي من أن الآية لا تتناول بظاهرها تحليل جميع ما عدا ما ذكر تحريمه فيها؛ لأن معناها عنده قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه مما يأكلونه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير، وقد كانوا لا يأكلون أشياء تقذرا، منها السباع التي تعدو وتفترس والعقبان والرخم والنسور والخنافيس وشبهها، قال: فلم تدل الآية على تحليل شيء من ذلك، ودخلت هذه الأشياء في معنى الخبائث التي ذكر الله، وقوله: وإنما حرمت عليه السرقة استدلال صحيح. يقول: لو كان السارق لا تؤكل ذبيحته إذا ذبح متاع غيره لوجب أن لا تؤكل ذبيحته إذا ذبح متاع نفسه، كالمحرم لما لم تؤكل ذبيحته إذا ذبح صيد غيره لم تؤكل ذبيحته إذا ذبح صيد نفسه.
[مسألة: ذبيحة الخصي]
مسألة وسئل عن ذبيحة الخصي، فقال: أحب إلي ألا يذبح، فإن ذبح أكلت. قيل له: فذبيحة العبد؟ قال: هو يؤم الناس في النافلة وفي السفر، فأما صلاة الجماعات في المساجد فلا. قيل: أرأيت إن أم خصي قوما أيعيدون الصلاة حين علموا؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: كره ذبح الخصي ولم يكره ذبح العبد وكلاهما لا يكون إماما راتبا ولا تجب الإعادة على من صلى خلفه، فالفرق بينهما أن الخصاء أمر ثابت فنحا به ناحية التأنيث، والعبودية ليست بثابتة قد يعتق العبد، وإنما لم يجز أن يكون إماما راتبا من أجل حق السيد في أن يصرفه في(3/289)
حوائجه ويمنعه من ملازمة المسجد للصلاة بالناس فيه، ولا يذبح الصبي ضحيته، والأظهر أن لا تذبح المرأة ضحيتها إلا من ضرورة بدليل ما جاءني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر عن أزواجه في الحج ولم يرو أنهن نحرن بأنفسهن، وتجوز ذبيحة الجنب والحائض والأغلف والمسخوط في دينه وإن كان الأولى في ذلك الكمال في الطهارة والدين، فقد كان الناس يبتغون لذبائحهم أهل الفضل والإصابة على ما مضى في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم، فستة لا تجوز ذبائحهم، وستة تكره ذبائحهم، وستة يختلف في جواز ذبائحهم، فأما الذين لا تجوز ذبائحهم فالصغير الذي لا يعقل والمجنون في حال جنونه، والسكران الذي لا يعقل، والمجوسي، والمرتد، والزنديق وأما الذين تكره ذبائحهم فالصغير الذي يعقل والمرأة والخنثى والخصي والأغلف والفاسق، وأما الذين يختلف في جواز ذبائحهم فتارك الصلاة والسكران الذي يخطئ ويصيب والبدعي الذي يختلف في تكفيره، والعربي النصراني والنصراني يذبح للمسلم بأمره، والعجمي يجيب إلى الإسلام قبل البلوغ، هذا كله على مذهب مالك وفي خارجه ما يخرج عن هذا التقسيم، من ذلك ما روي عن سعيد بن المسيب أن المجوسي تؤكل ذبيحته، وعن ابن عباس الأغلف لا تؤكل ذبيحته، وقد ذكرنا ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة.
[مسألة: ينخع الرجل ذبيحته بشفرة أو بغيرها]
مسألة وقال: سمعت أهل العلم يكرهون أن ينخع الرجل ذبيحته بشفرة أو بغيرها.(3/290)
قال محمد بن رشد: يريد قبل أن تزهق نفسها، وذلك مثل ما في المدونة وغيرها ولا اختلاف في كراهية ذلك.
[مسألة: الذبيحة يخرج من بطنها جنين ميت]
مسألة وسئل مالك عن الذبيحة يخرج من بطنها جنين ميت أيؤكل؟
قال: نعم إذا كان قد نبت شعره، قال: أيمر على حلقه السكين؟ قال: نعم حتى يخرج الدم.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه في المذهب لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذكاة الجنين في ذكاة أمه» ، وقد مضى القول على ذلك في آخر رسم أبي زيد من كتاب الضحايا فلا معنى لإعادته.
[مسألة: المنخنقة أتذبح وهي في خناقها أم حتى تطلق من خناقها]
مسألة وسئل مالك عن المنخنقة أتذبح وهي في خناقها أم حتى تطلق من خناقها؟ قال: لا والله، لكن تذبح إذا كانت أهلا للذبح، قيل: وما حد ذلك؟ قال: تكون تتنفس وعينها تطرف.
قال محمد بن رشد: يريد والله لا ينبغي أن تذبح وهي في خناقها ولكن تذبح بعد أن تطلق من خناقها إذا كانت أهلا للذبح وذلك أن تكون تتنفس وعينها تطرف، يريد وإن لم تكن مرجوة الحياة على قوله بعد هذا وما مضى له في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم خلاف ما مضى في سماع أشهب من كتاب الضحايا وقد مضى القول هناك على وجه الاختلاف، ولم يجب في هذه الرواية هل تؤكل إن ذبح في خناقها مع أن(3/291)
تكون تتنفس وعينها تطرف على قياس قوله إنها تؤكل إذا ذكيت بعد أن تطلق من خناقها، ويتخرج ذلك على قولين أحدهما: كالذي يرمي الصيد بسهم مسموم فينفذ مقاتله أو يذبح في جوف الماء حسبما مضى القول في أول سماع ابن القاسم في رسم شك في طوافه منه.
[مسألة: شرب أبوال الإبل]
مسألة وسئل مالك أيشرب أبوال الإبل في الدواء؟ قال: لا بأس بذلك، قال: لا بأس بشرب أبوال الأنعام والإبل والبقر والغنم، قيل له: فأبوال الأتن؛ قال: لا خير فيه، قيل له: فأبوال الناس، قال: لا خير فيه، قيل له: فالشاة تحلب فتبول في اللبن، قال: أرجو ألا يكون به بأس.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه لا بأس بشرب أبوال الأنعام في الدواء، والدليل على ذلك ما جاء في «الرهط العرنيين الذين قدموا على النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فاستوخموا المدينة فأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخرجوا في لقاحه فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا حتى إذا صحوا وسمنوا قتلوا الراعي واستاقوا الدود» ، الحديث، وقال مالك في المشهور عنه: أبوال سائر ما يؤكل لحمه في الطهارة على أبوال الأنعام، وروى أشهب عنه في جامع المستخرجة أنه فرق بين أبوال الأنعام وبين أبوال سائر ما يؤكل لحمه من الحيوان، وذهب ابن لبابة إلى أنه إنما فرق بين ذلك في إجازة التداوي بشربها لا في طهارتها على ما ذكرناه في آخر رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، وقاس أبوال ما لا يؤكل لحمه على أبوال بني آدم في النجاسة، فأبوال الأتن نجسة إذ لا يؤكل لحومها فلا يجوز التداوي بشربها، وما اختلف(3/292)
في جواز أكله اختلف في نجاسة بوله حملا على ذلك، وذهب أبو حنيفة إلى أن الأبوال تابعة للدماء في النجاسة لا للحوم، فرأى أبوال الأنعام وغيرها نجسة فأبعد في القياس وخالف الأثر، وأما الألبان فهي تابعة للحوم في الطهارة فما كان من الحيوان لا يؤكل لحمه سوى بني آدم المخصوصة لحومهم بالطهارة فألبانهم نجسة، فألبان الأتن نجسة، وقد قال يحيى بن يحيى في سماعه من كتاب الوضوء أن من أصاب ثوبه لبن حمارة فصلى به يعيد في الوقت كمن صلى بثوب نجس، إلا أنه جوز التداوي بها مراعاة للاختلاف في جواز أكل لحومها حكى ذلك ابن حبيب عن مالك وسعيد بن المسيب والقاسم وعطاء، وروي إباحة التداوي بها عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وإلى إجازة ذلك ذهب ابن المواز أيضا.
[مسألة: تذكية الشاة يعدو عليها الذئب فتدرك وهي تركض]
مسألة وسئل مالك عن الشاة يعدو عليها الذئب فتدرك وهي تركض، قال: أترى أن تذكى؟ قال: أما إن بعج بطنها أو أصاب مذبحها فلا أرى ذلك، ولا أرى أن تؤكل إذا كانت في سبيل المذبوحة فإن الشاة تذبح وهي تركض، فقيل له: أرأيت إذا كان لو خيط بطنها عاشت؟ فقال: لو كان هذا يكون كان، ولكن لا أظنه يكون، فقيل له: فإذا أصابها ما لا تعيش منه لم تذك؟ قال: نعم إذا كان جوفها أو مذبحها.
قال محمد بن رشد: قوله إنها لا تذكى ولا تؤكل إذا كانت في سبيل المذبوحة يريد بقوله إذا كانت في سبيل المذبوحة إذا يئس من حياتها وإن لم يصب مقتلها؛ لأن بعج البطن ليس بمقتل عند جميعهم إذا سلم المصير(3/293)
ولم ينثر الحشوة، فقول مالك هذا مثل قوله بعد هذا ومثل ما في سماع أشهب أيضا من كتاب الضحايا خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وفي رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، وفي قوله في آخر هذه المسألة إذا كان جوفها أو مذبحها إشكال، والمعنى في ذلك أنه رأى أن إصابته إياها إذا كان في جوفها أو مذبحها يصح أن يتحقق به أنها لا تعيش منه وإن لم يبلغ بذلك لها مقتلا، وما سوى الجوف والمذبح لا يصح أن يتحقق به ذلك؛ ففي هذا دليل أنه لو أشكل أمرها هل تعيش أو لا تعيش مما أصابها به لذكيت وأكلت خلاف قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم في الواضحة؛ فيتحصل في المنخنقة وأخواتها إذا سلمت مقاتلها ثلاثة أقوال، أحدها: أنها تذكى وتؤكل علم أنها لا تعيش من ذلك أو أشكل أمرها كالمريضة سواء، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك على القول بأن الاستثناء في الآية متصل، والثاني: أنها لا تؤكل ولا تذكى علم أنها لا تعيش أو أشكل أمرها بخلاف المريضة، وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم على القول بأن الاستثناء في الآية منفصل، والثالث: الفرق بين أن يعلم أنها لا تعيش أو يشكل أمرها وهو الذي يقوم من هذه الرواية، وهو أيضا على القول بأن الاستثناء في الآية منفصل لأنه لم يجز التذكية في التي قيس منها بهذه الأسباب وجعلها بخلاف التي يئس منها بالمرض، وحمل التي أشكل أمرها محمل التي رجيت حياتها فأجاز تذكيتها خلاف مذهب ابن الماجشون وابن عبد الحكم في حملهما إياها محمل التي يئس منها وبالله التوفيق.
[مسألة: الحيتان تصطاد فيغمس رأسها في الطين لتموت]
مسألة وسئل عن الحيتان تصطاد فيغمس رأسها في الطين لتموت فكرهه ولم يره سديدا.(3/294)
قال محمد بن رشد: هذا نحو قوله بعد هذا في طرح الحوت في النار حيا قبل أن يموت، وهو خلاف ما مضى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وقد مضى هنالك توجيه القولين فلا معنى لإعادته.
[مسألة: حكم العتيرة]
مسألة وقال مالك: العتيرة شاة كانت تذبح في رجب يتبررون بها كانت في الجاهلية، وقد كانت في الإسلام ولكن ليس الناس عليها.
قال محمد بن رشد: قول مالك إن العتيرة هي الرجبية الشاة التي كانت تذبح في الجاهلية في رجب على سبيل التبرر، وإنها قد كانت في الإسلام يريد معمولا بها كالضحايا مروي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، روي عنه قال بعرفة: «يا أيها الناس إن على كل بيت في كل عام أضحاة وعتيرية، وهل تدرون ما العتيرية؟ "، قال الراوي للحديث مخنف بن سليم: فلا أدري ما كان من ردهم عليه، قال: هي التي يقول الناس الرجبية» ، وقوله: ولكن ليس الناس عليها يريد أنها نسخت بما روي عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، من قوله: «لا فرع ولا عتيرة» والفرع هو أنهم كانوا يذبحون في الجاهلية أول ولد تلده الناقة أو الشاة فيأكلون ويطعمون، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه لما سئل(3/295)
عنه: «أن تدعه حتى يكون زخرفا خير لك من أن تنحره فيحق لحمه بوبره فتكفأ إناك منه وتوله ناقتك» . يقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خير له أن يتركه حتى يشتد ولا يذبحه صغيرا فيختلط لحمه بوبره، فتحزن ناقته وينقطع لبنها بذبح ولدها صغيرا فيكفأ إناه إذا لم يكن لها لبن، وقد اختلف في قوله، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا فرع ولا عتيرة» ، فقيل: إن ذلك نهي عنها فلا بر في فعلها، وقيل: إن ذلك إنما هو نسخ للوجوب وفعل ذلك بر لمن شاء أن يفعله، واحتج من ذهب إلى هذا بما روي عن الحارث بن عمر السهمي أنه لقي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع، قال: «فقلت يا رسول الله العتائر والفرائع؟ قال: من شاء أفرع ومن شاء لم يفرع، ومن شاء عتر ومن شاء لم يعتر» ، وبما روي عن لقيط بن عامر من حديث وكيع أنه سأل النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قال: «إنا كنا نذبح في رجب ذبائح فنطعم من جاءنا، فقال النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لا بأس» ، قال وكيع: لا أتركها أبدا.
قال محمد بن أحمد: العتيرة هي الرجبية، وقال الشافعي كقول مالك إن العتيرة هي الرجبية، والفرع شيء كان أهل الجاهلية يطلبون به البركة في أموالهم بأن يذبح الرجل منهم بكر ناقته أو شاته ولا يعدوه رجاء البركة فيما يأتي بعده، ويرد قول محمد بن الحسن قوله، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لا فرع ولا عتيرة.(3/296)
[مسألة: قوله تعالى وما أكل السبع إلا ما ذكيتم]
مسألة قال: وسئل مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] الآية، فقال: من ذلك ما يؤكل ومنه ما لا يؤكل، إذا سقطت فأصابها شيء فشق جوفها فلا أرى أن تؤكل، وإذا ضرب وسطها فانقطعت بأي شيء تذكى أرأسها ما أرى أن تؤكل، قيل: أفرأيت قوله تبارك وتعالى {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3] الآية فقال: مما فيه ذكاة.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الكتب فشق حشوتها مكان فشق جوفها، والجواب صحيح على الروايتين جميعا؛ لأنه إذا شق حشوتها فلا تذكى ولا تؤكل باتفاق إلا على دليل رواية أبي زيد عن ابن القاسم في كتاب الديات؛ لأن ذلك مثل، وإذا شق جوفها ولم يشق حشوتها فلا تذكى ولا تؤكل على مذهبه في رواية أشهب عنه، وقد مضى القول على ذلك في المسألة التي قبل هذه المسألة.
[مسألة: فأرة ماتت في جرة زيت فيها خمس مائة رطل فباعه صاحبه]
مسألة وسئل مالك عن فأرة ماتت في جرة زيت فيها خمس مائة رطل فباعه صاحبه من رجل واشترط عليه أنه يبيعه إياه يدهن به الدلاء وصلاة الزرانيق والقنوات ولا يبيع منه شيئا، وإن كان لا يجوز بيعه فأخبرنا ندركه من قريب، فقال: لا والله ما أرى أن يباع ولا يؤكل ثمنه، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها» ، قيل له: إن المشتري يقول أنا اشتريته بما اشترطت ولست أريد أكله، فمر أنت البائع بما بدا لك، فقال(3/297)
لا والله ما حرم على البائع فلا يحل للمبتاع، ثم قال مالك بعد أن ذهب السائل: ولقد ندمت بأن لا أكون قد سألته بكم باعه، فإن هؤلاء يوفون بما يشترطون، فإن كان هذا إنما اشتراه لما ذكره فإنما يشتريه بأقل من نصف ثمنه، ولكن هم يقولون مثل هذا ويشترونه بأقصى ثمنه أو قريب منه ثم يبيعونه ولا يوفون بما يشترطون.
قال محمد بن رشد: قوله في آخر المسألة فإن هؤلاء لا يوفون بما يشترطون ولكنهم يقولون ذلك ثم يشترونه بأقصى ثمنه أو قريب منه ولا يوفون بما يشترطون يدل على أنه إنما لم يجز بيعه على الشرط مخافة ألا يفي المشتري بما شرط عليه من ذلك، ولو أمن من ذلك لأجازه فلما لم يأمن من ذلك لم يفسخ بيعه حماية للذرائع، لا لأن بيعه حرام لذاته كالخمر والخنزير والميتة، فعلى هذا لو باعه ممن يعلم ثقته ويأمن من أن يغش به لجاز له البيع وساغ له الثمن ولم يحرم عليه، وهذا قول ابن وهب وجماعة من السلف، ودليل ما في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة في مسألة الصابون. وقد روي عن أبي موسى الأشعري أنه أجاز بيعه من غير المسلمين، والمشهور عن مالك المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها أن بيعه لا يجوز، وقد جعله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم قبل هذا كالميتة في أن بيعه لا يجوز، والأظهر في القياس أن بيعه جائز ممن لا يغش به إذا بين؛ لأن تنجسه بسقوط النجاسة فيه لا يسقط ملكه عنه ولا يذهب جملة المنافع منه ولا يجوز أن يتلف عليه، فجائز له أن يبيعه ممن يصرفه فيما كان له هو أن يصرفه فيه، وهذا في الزيت على مذهب من لا يجيز غسله،(3/298)
وأما على مذهب من يجيز غسله، وقد روي ذلك عن مالك على ما قد ذكرناه في سماع أصبغ من كتاب فسبيله في البيع سبيل الثوب النجس.
[مسألة: أكل ما عدا السمك من دواب البحر]
مسألة وسئل مالك عن اللبس الذي يقال له ترس الماء ربما أخذ ميتا وهو إذا أخذ حيا أقام أياما حتى يذبح أتراه من صيد البحر؟ فقال: ما أراه إلا من صيد البحر، إذا كان لا بأس على المحرم في صيده، فما بأسه يؤكل ميتا؟ وما أرى ذبحهم إياه إلا يستعجلون بذلك موته، قال عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] الآية، فما أراه إلا من صيد البحر، وما أرى من ذبحه إلا يستطيل حياته، ومن الطير فيما بلغني من يطيل المكث في الماء ويعيش فيه وهو من صيد البر، قيل له: أرأيت إذا أخذ حيا أترى بأسا أن يذبح؟ قال: ما أرى بذلك بأسا إلا أن يكون ذلك يشكل أمره على الناس، فقلت: لقد شكك الناس فيه لما رأوا من ذبحه، فقال لي: هو كذلك، قيل له: إنه تطول حياته فأحب إليك أن يذبح أم يقتل؟ قال: ما أكره الذبح إلا لما يدخل على الناس فيه من الشك فإذا لم يكن ذلك فلا بأس بذبحه.
قال محمد بن رشد: اختلف أهل العلم في أكل ما عدا السمك من دواب البحر، فذهب مالك إلى أنها كالسمك في جواز أكلها بغير ذكاة وجدت طافية أو سلم على الماء أو حسر عنها الماء فماتت أو أخذت حية وإن(3/299)
كانت تعيش في البر فلا يحتاج فيها عنده إلى ذكاة الضفدع ودرس الماء وغيره إلا أنه كره خنزير الماء، وقال: أنتم تقولون خنزير، وقال الليث بن سعد: لا يؤكل خنزير الماء ولا إنسان الماء، ومن أهل العلم من فرق بينهما وبين السمك فلم يجز أكلها على حال، ومنهم من لم يجز أكلها إلا بذكاة، ومنهم من أوجب الذكاة فيما كان منها يعيش في البر، وهو قول ابن دينار من أصحاب مالك في المدينة لا أرى أن تؤكل ترس الماء إلا بذكاة لأنه يكون في البر والبحر، وقد بلغني أنه لا يكون بيضه إلا في البر، فإذا كان يعيش في البر والبحر فلا يؤكل حتى يذكى.
وقال عيسى عن ابن القاسم: كل ما كان مستقره ومأواه الماء فهو يؤكل بغير ذكاة وإن كان يرعى في البر وما كان مأواه ومستقره في البر فلا يؤكل بغير ذكاة وإن كان يعيش في الماء، فهذه الرواية عن ابن القاسم تفسر مذهب مالك واعتبار مالك في جواز أكل كل ما يعيش في البر من دواب البحر بغير ذكاة، بأن المحرم يصيده صحيح؛ لأنه إنما جاز له صيده من أجل أنه مذكى لا يحتاج إلى تذكية. فمن قال: لا يؤكل إلا بذكاة وأجاز للمحرم صيده فقد تناقض، واتفق أهل العلم كلهم في جواز أكل سمك البحر، وهو كل ما له سفتق من الحوت إلا الطافي منه فإن منهم من لم يجز أكله، وقد روي عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، من رواية جابر أنه قال: «ما ألقى البحر أو حسر عنه فكلوه وما طفا فلا تأكلوه» . ولم يصح عن مالك هذا الحديث فأجاز أكل الطافي وغيره، وقد سأل عبد الرحمن بن أبي هريرة عبد الله بن عمر عما لفظ به البحر فنهاه عن أكله ثم انقلب فدعا بالمصحف فقرأ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] .(3/300)
فأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي هريرة أنه لا بأس بأكله، وتأول من لم يجز أكله بأن طعام البحر ملحه لا ما لفظه أو مات فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: عما صاد المجوسي من الجراد]
مسألة قال: وسألته عما صاد المجوسي من الجراد، فقال لي: لا خير فيه إلا إن ابتاعه منه مسلم حيا، فأما ما قطعوا رأسه أو جاءوا به مقتولا فلا خير فيه ولا يؤكل فقلت له: فما قطعوا رأسه أو عملوه قبل أن يأتوا به فلا بأس به؟ فقال لي: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصل مذهبه وقول الجمهور إنه من صيد البر يحتاج إلى التذكية وفدية المحرم إذا قتله، وعلى مذهب من جعله من صيد البحر وأجاز للمحرم أخذه وأكله يجوز أكله إذا صاده المجوسي، وهو قول عروة بن الزبير وروي ذلك عن ابن عباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو مذهب كعب الأحبار على ما في الموطأ عنه من أنه أفتى أصحابه المحرمين أن يأخذوه ويأكلوه، فقال عمر بن الخطاب: ما حملك على أن تفتيهم بهذا؟ قال: إنه من صيد البحر، فقال له: وما يدريك؟ قال: يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده إن هي إلا نثرة حوت تنثره في كل عام مرتين.
[مسألة: الذبح بالقصبة والعظم]
مسألة قال: وسألته عن الذبح بالقصبة والعظم، فقال لي: ليس بالذبح بالقصبة والعظم بأس إذا اضطررت إليه فلم تجد حديدا، قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] .(3/301)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها أنه لا بأس بالذبح بما عدا الحديد إذا لم يجد حديدا ولا بأس بأكل ما ذبح بغير الحديد وإن كان واجدا للحديد إذا أنهر الدم بذلك كله، والأصل في جواز ذلك ما روي أن «جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما لها بسلع فأصيبت شاة منها فذكتها بحجر فسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " لا بأس بها فكلوها» ، وما روي عن عدي بن حاتم قال: «قلت يا رسول الله أرسل كلبي فيأخذ الصيد فلا يكون معي ما أذكيه به إلا المدوة والعصا، فقال: أنهر الدم بما شئت واذكر اسم الله إلا العظم والسن» . فإن أهل العلم اختلفوا في جواز الذبح بهما لما روي عن رافع بن خديج أنه قال: يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مدى، قال: «ما أنهر الذم وذكرت اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر، فسأخبرك أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة» على ثلاثة أقوال: أحدها: جواز الذبح بهما منزوعين كانا أو مركبين، والثاني: أن الذبح لا يجوز بهما منزوعين كانا أو متركبين، والثالث: أن الذبح يجوز بهما إذا كانا منزوعين ولا يجوز إن كانا مركبين، وإلى هذا ذهب ابن حبيب وهو الصحيح من الأقوال من جهة المعنى واستعمال الآثار، أما المعنى فهو ما قال ابن حبيب من أن الذبح بهما إذا كانا مركبين إنما هو خنق ونهش وليس بذبح، وإذا كانا منزوعين وعظما حتى أمكن إنهار الدم بهما فهما كسواهما مما ينهر الدم وإن لم يكونا ذكيين، وأما وجه استعمال الآثار على ذلك فهو أن قول النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، في حديث عدي ابن حاتم أنهر الدم بما شئت لفظ عام في جواز الذبح بكل شيء يحتمل الخصوص، ونهيه في حديث رافع بن خديج(3/302)
على أن الذبح بالسن وكذا العظم خاص، والخاص يقضي على العام فيحمل على البيان له والتخصيص لما قابله منه، إلا أنه لما احتمل أن يريد النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بنهيه في حديث رافع بن خديج عن الذبح بالسن والظفر - السن والظفر المنزوعين - وأن يريد بهما المركبين لم يصح أن يخصص من ذلك إلا ما يتحقق أنه أراده منهما وهما المركبان؛ لأنه إذا كان أراد بذلك المنزوعين فقد أراد المركبين لأنهما أولى بالنهي من المنزوعين وإن كان أراد المركبين فلم يرد المنزوعين فتحققنا بهذا أنه أراد المركبين لا محالة وشككنا في المنزوعين، فوجب أن لا يخص من اللفظ العام إلا ما يتحققه لا ما يشك فيه فخصصا منه المركبين وبقي المنزوعان على أصل الإباحة بالأمر العام وهذا أبين.
[مسألة: أكل ما مات أو سكر من الحيتان بالسيكران]
مسألة فقيل له: إن عندنا بالأندلس أنهارا وبركا ماؤها يكثر ثم يقل فتبقى فيها الحيتان لا مخلص له، فيعمد إلى شجرة يقال لها السيكران فنطرحها في ذلك النهر فتأكلها الحيتان فتموت ومنها ما يسكر فنأخذها بالأيدي، أيؤكل ما مات من ذلك وما سكر؟ قال: لا بأس بذلك، ثم قال: لعل من أكل منها يسكر؟ فقيل له: لا، فقال: لا بأس بذلك وفيها أيضا من يموت بغير شيء فلا بأس بأكله.
قال محمد بن أحمد: إجازته في هذه الرواية لأكل ما مات أو سكر من الحيتان بالسيكران يبين أن كراهيته لذلك في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم إنما هو للخوف على من يأكلها لا من أجل أن ذلك يؤثر في ذكاتها إذ لا يحتاج إلى ذكاته وقد ذكرنا هذا هنالك.
[مسألة: إذا كان الشتاء قلة اللحوم فلا يكاد يوجد إلا في مجزرة يهودي أفيشترى منه]
مسألة وسئل مالك فقيل له: إن بالأندلس إذا كان الشتاء قلة اللحوم(3/303)
فلا يكاد يوجد إلا في مجزرة يهودي أفيشترى منه؟ قال: أما أنا فلا أحب أن أفعل ذلك ولا أن يتخذ اليهودي إماما.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه لا ينبغي للمسلم أن يشتري اللحم في مجزرة يهودي وهو يجد من ذلك مندوحة، فقد كانوا يبتغون لذبائحهم أهل الفضل والإصابة فكيف باليهودي والنصراني والكتابيين.
[مسألة: اللبن الذي ماتت فيه خنفساء أترى بأكله بأسا]
مسألة وسئل مالك عن لبن ماتت فيه خنفساء، أترى بأكله بأسا؟ قال: لا بأس بأكله إنما الخنفساء في هذا بمنزلة الذباب يموت في الطعام، وهذا الخشاش مثل هذه الأشياء التي لا دم لها فلا بأس بما مات فيه أن يؤكل أو يشرب، قيل له: أرأيت إن باع ما ماتت فيه هذه الخنفساء أترى أن يبين ذلك للمشتري؟ قال: نعم، إني لأرى ذلك إذا باعه أن يبين ما مات فيه لما يكره الناس من هذه الأشياء التي تموت فيها الدواب، فأرى إذا باع ذلك أن يبين ما سقط فيه من هذه الأشياء ولا أرى بأكله بأسا، والعقرب مثل ذلك لا بأس بأكل ما مات فيه.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها من أن كل ما لا لحم له ولا دما سائلا من الخشاش فلا يفسد ما وقع فيه ومات من طعام أو شراب، والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وقع الذباب(3/304)
في شراب أحدكم فليغمسه كله ثم يطرحه فإن في أحد جناحيه سما وفي الآخر شفاء وأنه يقدم السم ويؤخر الشفاء» وفي بعض الآثار فليملغه ومعلوم أنه لضعفه قد يموت إذا غمس في الشراب من ساعته ويلزم على قياس هذا أن يؤكل بغير ذكاة، وهو قول عبد الوهاب في التلقين إن حكم هذه الأشياء التي لا لحم لها ولا دم سائلا حكم دواب البحر لا تنجس في أنفسها ولا تنجس ما مات فيها خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أنه لا يؤكل شيء من ذلك إذا احتيج إليه حتى يذكى بما يذكى به الجراد مثل الحية والعقرب وبنات وردان والذر والنمل والسوس والحلم والدود والبعوض والذباب وما أشبهه ذلك، وفي تذكية الجراد اختلاف، وإنما أوجب على البائع أن يبين ذلك للمشتري لما قد يكره ذلك بعض الناس تقززا لا لنجاسة، قال مالك في كتاب ابن المواز: وكذلك طافي الحوت، فإن لم يبين كان للمشتري الرد وذلك في طافي الحوت أبين إذ من أهل العلم من لا يجيز أكله على ما مضى فوق هذا في هذا الرسم.
[مسألة: الجراد إذا طرح في النار وهو حي]
مسألة وسئل مالك عن الجراد إذا طرح في النار وهو حي، قال: ما أرى بذلك بأسا تلك ذكاة، وأحب إلي أن يقطع رأسه، وأرجو ألا يكون به بأس وإن لم يقطع رأسه؛ لأن الجراد يطير وهو يكبر(3/305)
ويصغر فإن قطف رؤوسها كلها واحدا واحدا طال ذلك، فلا أرى بأسا أن تؤخذ فتطرح في المرعف حيا وإن لم تنزع رؤوسها.
قال محمد بن رشد: اختلف في الجراد، فقيل: إنه لا يحتاج فيه إلى ذكاة ويجوز أكل ما وجد منه ميتا، وقيل: إنه لا بد فيه من الذكاة وذكاتها أن يفعل بها ما تموت به معجلا باتفاق كقطع رؤوسها أو نقرها بالإبر أو الشوك أو طرحها في النار أو الماء الحار وما أشبه ذلك، أو أن يفعل ما تموت به وإن لم يكن معجلا على اختلاف كقطع أرجلها وأجنحتها وإلقائها في الماء البارد وما أشبه ذلك؛ لأن سحنون وغيره لا يرى فيها ذكاة، وقد قيل: إن أخذها ذكاة وتوكل إن ماتت بعد أخذها بغير شيء فعل بها، وهو قول ابن حبيب من أصحاب مالك، وحكي ذلك عن بعض أصحاب النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وجه القول الأول ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحلت لنا ميتتان ودمان الحوت والجراد والكبد والطحال» ، واختلف في تعليل جواز أكلها ميتة بغير ذكاة، فقيل: إن العلة في ذلك أنها من صيد البحر على ما روي عن كعب الأحبار أنها نثرة حوت ينثرها في كل عام مرتين، فأجاز للمحرم أخذها وأكلها، وقيل: إن العلة في ذلك لا لحم لها ولا دم سائل، فمن علل بالعلة الأولى أوجب الذكاة فيما لا لحم له ولا دما سائلا من الحيوان لتحريم الله عز وجل الميتة، وهو مذهب ابن حبيب، ومن علل بالعلة الثانية لم يوجب الذكاة في شيء من الحيوان الذي لا لحم له ولا دم سائل؛ لأنه يدخل في حكم الجراد المذكور في الحديث كما يدخل دواب البحر في حكم الحوت المذكور فيه، وهو قول عبد الوهاب في التلقين، ووجه القول الثاني: أن الله تعالى لما حرم الميتة لقوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فعم(3/306)
ولم يخص حيوانا من غيره ووجب أن يخص من ذلك ما قد أجمع أهل العلم على تخصيصه من ذلك وهو ما يصيده المحرم من صيد البحر.
[مسألة: الحوت أيطرح في النار حيا]
مسألة وسألته: عن الحوت أيطرح في النار حيا؟ فقال: ما أكره كراهية شديدة وهو إن تركه قليلا مات.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما تقدم في هذا الرسم خلاف ما مضى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وقد مضى هناك توجيه القولين، فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: الذكاة في الحلق واللبة]
مسألة قال مالك: وأمر عمر بن الخطاب مناديا ينادي ألا إن النحر في اللبة والحلق.
قال محمد بن رشد: أراد ألا إن الذكاة في الحلق واللبة فعبر عن الذكاة بالنحر؛ لأنه جل عملهم في ذلك اليوم يوم النحر من أجل أنه جل عمل الناس، وإن كان قد يذبح فيه ما يذبح كما ينحر فيه ما ينحر، وإنما نادى بهذا على الناس في الموسم يوم النحر بمنى حين نحرهم لهداياهم لئلا يتعدى أحد منهم اللبة في نحره ما ينحر مما ينحر والحلق في ذبحه ما يذبح مما يذبح وعرف مراده به ولم يرد، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن يخير في النحر بين أن يكون في الحلق أو اللبة؛ لأن النحر لا يكون في موضع الذبح كما أن الذبح لا يكون في موضع النحر، ألا ترى لو أن أحدا نحر شاة في مذبحها لم تؤكل باتفاق؛ لأن الذكاة لا تكون إلا بقطع الأوداج والحلقوم، والنحر لا يأتي على ذلك(3/307)
فهو ما نحر ولا ذبح، وقد حمل بعض المتأخرين من المؤلفين قول عمر على التخيير بين اللبة والتحليق في النحر، فقال: وظاهر المذهب أنه حيث ما طعن بين اللبة والمذبح أجزأ إذا كان في الودج، واحتج بقول عمر هذا، وبقول مالك في المدونة: ما بين اللبة والمذبح مذبح ومنحر فإن ذبح فجائز، وإن نحر فجائز، وإلى هذا ذهب ابن لبابة في المنتخب، وهذا لا يصح، أما قول عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقد ذكرنا وجهه، وأما قول مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فلم يرد أن ما بين اللبة والمذبح هو موضع للنحر والذبح مع القدرة على ذبح ما يذبح في نحره، ونحر ما ينحر في لبته، وإنما معنى قوله: إنه أجاز النحر والذبح فيما بين اللبة والمذبح إذا لم يصل إلى المذبح، ولا إلى المنحر لسقوط البهيمة في البئر مراعاة لقول من أجاز نحرها، حيث ما أمكن من جنب أو غيره عند الضرورة، لا أنه يرى ذلك موضعا للذبح والنحر من غير ضرورة، وهذا بين من مراده في المدونة إذا تأمل، ولو كان المذبح من البعير موضعا لنحره لكان الذبح هو المختار فيه لأنه أجهز، وهذا خلاف ما أجمعوا عليه من أن الإبل تنحر ولا تذبح، وإنما اختلفوا هل تؤكل إذا ذبحت أم لا تؤكل وهذا كله بين.
[مسألة: ذبح ذبيحة فأخطأ بالغلصمة أن تكون بالرأس]
مسألة وعن عيسى بن الوليد عن أبي زيد بن عبد الرحمن ابن أبي الغمر عن ابن القاسم عن مالك في من ذبح ذبيحة فأخطأ بالغلصمة أن تكون بالرأس: أن تلك الذبيحة لا تؤكل حتى تكون الغلصمة في الرأس.
قال سحنون وأصبغ وأشهب مثله.
وقال ابن وهب: لا بأس بأكلها، وقال محمد بن عبد الحكم: لا خير في أكله.(3/308)
قال محمد بن رشد: الغلصمة هي آخر الحلقوم، فإذا ألقاها إلى الجسد في الذبح فلم يقطع من الحلقوم شيئا فالاختلاف في هذه المسألة على اختلافهم في قطع الحلقوم هل هو شرط في صحة الذكاة أم لا؟ فقول مالك في هذه المسألة: إنها لا تؤكل هو على قوله في كتاب الذبائح من المدونة إنها لا تؤكل الذبيحة إلا بقطع الأوداج والحلقوم جميعا، وقد روي عن مالك ما ظاهره: أن قطع الحلقوم ليس بشرط في صحة الذكاة، من ذلك قوله في كتاب الصيد: إذا أدرك الصائد الصيد وقد فرى الكلب أو البازي أوداجه، قال: هذا قد فرغ من ذكاته، وقوله في المبسوط في من ذبح ذبيحة فقطع أوداجها، ثم سقطت في ماء أنه لا بأس بأكلها، وهو ظاهر قول ابن عباس في الموطأ ما فرى الأوداج فكلوه، وقد روي ذلك عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، من رواية أبي أمامة الباهلي، وهو ظاهر ما في الصحيحين عنه من قوله، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما أنهر الدم فكلوه» ؛ لأنه وإن كان ورد فيما تصح به الذكاة فهو يقتضي موضع الذكاة، فعلى هذا تؤكل الذبيحة، وإن كان العقدة في الجسد، وإلى هذا ذهب أبو المصعب وأنكر قول من قال: إنها لا تؤكل، وقال: هذه دار الهجرة وفيها المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان لم يذكروا عقدة ولا غيرها، أفكانوا لا يعرفون الذبح؟ وعلى القول الأول لا تؤكل إلا أن تصير منها في الرأس حلقة مستديرة كالخاتم، وإن قطع بعضها وبقي سائرها في الجسد لم تؤكل على القول الأول أيضا، هذا كله على ما لابن القاسم وابن كنانة في المدونة: أنه إن قطع الودجين ونصف الحلقوم أجزأه، وقال سحنون: لا تؤكل، وبالله التوفيق.
[مسألة: النمس وصيده]
مسألة قال ابن نافع: سئل مالك: عن النمس وصيده، فقال: لا أعرف هذا، فوصف له أمره وصيده، فقال: إن أكل من صيده فلا خير(3/309)
فيه، قال ابن القاسم: لا أدري ما يأكل؟ الكلاب والبزاة تأكل قبل أن تدرك، ولكن إن كان نفعه وألا فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة وقعت في بعض الروايات من كتب المدنيين لابن نافع في الكتاب الذي أوله السارق الذي يدخل البيت، والذي قاله ابن القاسم صحيح، إذ ليس من شرط تعليم الجوارح على مذهب مالك إلا أن يقفه الزجر والإشلاء، وأما أن يترك الأكل فلا، وقال ابن حبيب: إنما ذلك في الكلاب، وأما في الجوارح فتعليمها أن تدعى فتجيب، وأما أن تزجر فتزدجر فليس ذلك فيها، ولا يمكن ذلك منها، وليس ذلك بخلاف لما في المدونة؛ لأنه إنما شرط ذلك فيها إن كان يمكن ذلك منها، وتكلم ابن حبيب على ما يعرف من أن ذلك لا يمكن فيها، وليس قول مالك في النمس مخالفا لأصله في أنه لا يعتبر بأكل الكلب من صيده إذا قفه الزجر والاشلاء، ووجهه أنه لما وصف له من حاله أنه لا يقفه الزجر والاشلاء جعله بترك الأكل من صيده إن كان يمكن أن يقفه ذلك أيضا، فقال: إن أكل من صيده فلا يؤكل، كما أن الطيور التي لا تقفه الزجر يكتفى من تعليمها بأن تدعى فتجيب، وقال ابن حبيب في النمس: إنه ليس يقفه شيئا، فلا يؤكل صيده إلا أن يدرك ذكاته وبالله التوفيق.
[مسألة: أكل ما بات من الصيد]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب نقدها نقدها مسألة قال عيسى: قال ابن القاسم: وسئل عن الاصماء والانماء(3/310)
فقال: الاصماء ما لم يبت والانماء ما بات، يعني من الصيد.
قال محمد بن رشد: روي عن ابن عباس أنه قال: ما أصميت فكل، وما أنميت فلا تأكل، وأظنه مرفوعا إلى النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «نهى عن أكل ما بات من الصيد» ، وأنه قال: «لا أدري لعل هوام الأرض قتلته أو أعانت على حتفه» ، واختلف أهل العلم في هذا، فمنهم من حمل النهي على عمومه، ولم يجز أكل ما بات من الصيد، إلا أن تدرك ذكاته، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، ومنهم من قال: معنى النهي إذا لم ينفذ الكلب أو البازي مقاتل الصيد، وأما إذا أدركه من الغد قد مات وسهمه في مقاتله أو قد أنفذتها كلابه فلا بأس بأكله؛ لأنه قد أمن مما خافه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أن يكون قد أعان على قتله بعض هوام الليل، وهذا قول ابن الماجشون، وأشهب، وابن عبد الحكم، ومنهم من فرق بين السهم والكلب، فقال: يأكله إذا وجده من الغد ميتا وسهمه في مقاتله، ولا يأكله إذا وجد الكلب قد أنفذ مقاتله، إذ لا يؤمن أن ذلك من فعل الكلب، وهذا قول أصبغ وهو أظهر الأقوال، وهذه الثلاثة الأقوال إنما هي مع إنفاذ المقاتل، وأما إذا وجده من الغد ميتا غير منفوذ المقاتل، فلا اختلاف في أنه لا يؤكل وبالله التوفيق.
[مسألة: يرسل كلبه فيعينه عليه كلب آخر]
من كتاب العرية مسألة وسألته: عن الرجل يرسل كلبه، فيعينه عليه كلب آخر معلم أو غير معلم، فقال: لا يؤكل ذلك الصيد كان معلما أو غير معلم إلا أن يكون الكلب الذي أعانه معلما وقد أرسله صاحبه على الصيد بعينه إذا نوياه جميعا فقتله كلباهما فهو حلال لا بأس بأكله.(3/311)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة مبينة لما في المدونة؛ لأنه قال فيها: من أرسل كلبه على صيد فأعانه عليه كلب غير معلم لم يؤكل، وهو لا يؤكل أيضا، وإن كان الكلب الذي أعانه عليه معلما إلا أن يكون صاحبه قد أرسله أيضا عليه بعينه كما قال في هذه الرواية إلا أن يعلم أن كلبه الذي أرسله هو الذي أنفذ مقاتل الصيد، فإنه يأكله وبالله التوفيق.
[مسألة: يضرب فخذي الصيد بالسيف فيطيرهما هل يحل أكلهما]
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك مسألة وسئل ابن القاسم: عن الذي يضرب فخذي الصيد بالسيف، فيطيرهما هل يحل أكلهما، فقال: كل ضربة ضرب بها من الورك إلى الرأس فجعله جزأين فجميعه حلال، فأما إذا ضربه، فأبان فخذيه ولم يجز له باثنين ولم تبلغ ضربته إلى الجوف، فلا يحل ما أبان منه، وغيره ذكي طيب.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف أنه لا يؤكل ما أبان منه إذا أبان فخذيه ولم يجز له باثنين، ولا اختلاف في أنه يؤكل الجميع إذا أبانه بنصفين، وبلغت ضربته إلى الجوف، وليس في الرواية بيان إذا أبان وركيه مع فخذيه فجعله جزأين ولم يقسمه بنصفين، ولا بلغت ضربته إلى الجوف، وقد اختلف في ذلك، ففي كتاب ابن المواز عن ربيعة ومالك أنه لا يؤكل ما أبان منه، وقال ابن حبيب: إنه لا يؤكل إلا أن يكون العجر كله في الجزء الأسفل؛ لأنك قد قطعت من جوفه فكأنك قد قطعت وسطه، والصواب: أنه إذا أبان فخذيه مع وركيه فجعله جزأين، وإن كان العجز كله أو بعضه في الجزء الأسفل أن يؤكل الجميع؛ لأنه لا يمكن أن يتعيش، فهذا هو الأصل لا مراعاة النصف(3/312)
ولا الجوف، ألا ترى لو قطع نصف رأسه لأكل الجميع، إذ لا يمكن أن يعيش وقد قطع نصف رأسه؛ لأن ذلك مقتل، ولو أبان خطمه لم يؤكل الخطم إذ ليس بمقتل، وإن كان لا يمكن أن يعيش إذ إنما يموت جوعا، إذ لا يمكن أن يرعى ولو صب في حلقه ما يتغذى به لا يمكن أن يعيش.
[مسألة: أصاب الصيد بسلاحه فأطار رجله فمات]
مسألة قال ابن القاسم: إذا أصبت الصيد بسلاحك فأطرت رجله أو خسقت في لحمه، ثم فاتك بنفسه فمات فأكله حلال، وإن لم تدرك ذكاته.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها، وهو مما لا اختلاف فيه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] الآية.
[مسألة: الرجل يأتي إلى الغار فيدخل كلبه فيه هل يحل أكل ما قتل]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس مسألة وسألته: عن الرجل يأتي إلى الغار، فيدخل كلبه فيه وهو لا يدري أفيه شيء أم لا؟ وهو ينوي ما فيه هل يحل أكل ما قتل؟ قال: سألنا مالكا عن ذلك، فقال: ما قتل فهو حلال، قال سحنون في الذي يرسل كلبه في الجحر وهو لا يدري أفيه شيء أم لا، وينوي إن كان فيه شيء أرسله عليه فأصاب فيه صيدا فقتله، فقال: لا يحل أكله، وكذا لو أن رجلا أرسل كلبه في غايضة ولا يرى شيئا ونيته إن كان فيها شيء صاده، فأصاب صيدا أنه لا يؤكل.(3/313)
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم على أصله في المدونة خلاف قول سحنون، وقد مضى القول على هذا في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم.
[مسألة: يسرح كلبه على صيد بعينه فتتبعه صيود فيجد كلبه قد قتل صيدا]
مسألة قلت لابن القاسم: فالرجل يسرح كلبه على صيد بعينه فتتبعه صيود، فتند كلها فيتوارى عنه فيجد كلبه قد قتل صيدا قال: لا يحل أكله حتى يعرفه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال صحيح على ما في المدونة وغيرها: أنه لا يأكل ما قتله كلبه إلا أن ينويه أو يدرك ذكاته سواء رآه أو لم يره على مذهب ابن القاسم خلاف قول سحنون في المسألة التي قبل هذه وبالله التوفيق.
[مسألة: يسد في خليج بحر للصيد]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار مسألة قال ابن القاسم: ليس لأحد أن يسد في خليج بحر، ولا واد، أن يسد سد الصيد أن يمنع الناس من الصيد فيه، وهو والناس والصيد فيه سواء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن النهر لجميع المسلمين، فليس أحد أحق فيه بالصيد من أحد، وإن كان يليه بأرضه من جانبيه، ولا له أن يسد فيه سدا للصيد، ولا أن يعمل فيه منصبا للصيد ينفرد فيه دون غيره، فإن فعل كان أحق بالصيد فيه حتى يأخذ قدر حاجته، ثم يشترك جميع الناس معه(3/314)
فيه، قال ذلك مطرف، وابن الماجشون في الواضحة، وذلك عندي بعد أن يستغل منه قدر نفقته فيه وبالله التوفيق. .
[مسألة: خلص الصيد من الكلب فبدر إلى شفرة فمات الصيد ولم يخرجها]
ومن كتاب التمرة مسألة قال ابن القاسم، وابن وهب: إذا خلص الرجل الصيد من الكلب فبدر إلى شفرة فبينما يخرجها وهي في حزامه مات الصيد، فلا بأس بأكله قال ابن القاسم: وهذا إذا كانت الشفرة معه، وأما إن كانت في خرج فمات فلا تؤكل.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، والمعنى في ذلك بين؛ لأن الشفرة إذا كانت معه في حزامه ولم يفرط وصار ذلك بمنزلة ما لو لم يدركها حتى قتلها الكلب، وأما إن لم تكن الشفرة معه، وكانت في خرجه أو مع رجل ينتظره حتى يلحق أو ما أشبه ذلك مما يكون فيه بعد فلا يؤكل؛ لأنه عسى لو كانت الشفرة معه لأدرك ذكاته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل ينصب الحبالة للصيد فيصطاد بها القوم هل لصاحب الحبالة شيء]
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل ينصب الحبالة للصيد، أو الفخ أو يعمل الحفرة ليقع فيها الصيد، فيخرج قوم فيطردون الصيد إلى ذلك المنصب فيه هل ترى لصاحب الحفرة أو الفخ أو الحبالة شيئا من الصيد؟ قال: نعم أرى أن يكون شريكا معهم في ذلك الصيد(3/315)
بقدر ما يرى له، قال أصبغ: أراه للذي طرد الصيد إلى الحبالة أو الحفرة واضطره إليها، وإلى الوقوع فيها، وعليه قيمة ما انتفع بالحبالة أو الحفرة، وإنما مثل الحبالة مثل ما لو تعدى على قوس رجل فرمى به صيدا فصاده أو خرج بأكلبه أو بزاته متعديا فصاد بها فالصيد له، وعليه قيمة ما انتفع به من قوسه ونبله وكلابه وبزاته، قال عيسى: قلت لابن القاسم: فلو لم يكونوا طردوا الصيد إلى ذلك المنصب، ولا أرادوه إلا أنهم طردوا صيدا، فاتبعوه حتى وقع فيه فقال: إن كان الصيد قد انقطع من الذين طردوه وهم منهم حيث شاء فسقط في ذلك المنصب فهو لصاحب المنصب دون الذين طردوه، وإن كانوا قد أعيوه، وأشرفوا منه على الرجاء والأخذ وكان كالشيء الذي قد حازوه لقدرتهم عليه حتى أسقطوه، فوقع في ذلك المنصب فهو للذين طردوه دون صاحب المنصب وليس لصاحب المنصب فيه قليل ولا كثير إذا كان على ما وصفت لك، وقال أصبغ مثله، قلت له: من حفر حفرة للصيد أو نصب حباله أو فخاخه، فوقع فيه الصيد فهو له، وإن وجد غيره قد وقع فيه الصيد لم يكن له أن يأخذه؟ قال: نعم ذلك له دون جميع الناس، وليس للذي وجده فيه قليل ولا كثير.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة على معنى ما في المدونة في مسألة الصيد يطرده القوم حتى يدخل دار رجل وهم على بعد منه أو قرب، فيأخذه فيه، وعلى ما حكى ابن حبيب في الواضحة، ولا إشكال على مذهبه إذا طردوه إلى المنصب وقصدوا إيقاعه فيه فوقع فيه(3/316)
وهو متبوعون له على قرب منه أو بعد ما لم ينقطع عنهم أنهم فيه شركاء بقدر ما يرى له ولهم، وكذلك لا إشكال على مذهبه إذا كانوا على بعد منه ويئس من أخذه فمشى باختياره، وقد انقطع عنهم حتى وقع فيه أنه لصاحبه ولا حق لهم فيه، وكذلك لا إشكال على مذهبه لو طردوا صيدا ليأخذوه وهم لا يريدون إيقاعه في المنصب، فلما أعيوه وأشرفوا على أخذه، وكان كالشيء الذي قد ملكوه وحازوه لقدرتهم عليه وقع في المنصب دون أن يقصدوا إيقاعه فيه أنه لهم، ولا شيء لصاحب المنصب فيه، وانظر لو كانوا إنما طردوه وأعيوه وأكلوه وهم لا يريدون إيقاعه في المنصب فلما أشرفوا على أخذه قصدوا إيقاعه في المنصب ليخف عنهم في أخذه بعض النصب، فلم يقع في ذلك من قوله في هذه الرواية ولا في الواضحة بيان، والذي ينبغي في ذلك على مذهبهم أن يكون لهم، ويكون عليهم لصاحب المنصب قيمة انتفاعهم بمنصبه، وكذلك ينبغي أن يكون الجواب لو طردوا صيدا إلى دار رجل فأخذوه فيه، وقد حكى عبد الحق في ذلك عن شيوخه قولين؛ أحدهما: أنه لا- حق لصاحب الدار في ذلك إذ لم يتخذ الدار للصيد، والثاني: أن يكون معهم شريكا فيه كالمنصب سواء وكلا القولين عندي بعيد، والذي قلته أشبه وأولى، ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم في هذه المسألة أنه لما كان المنصب هو الذي أمسك الصيد على الطارد حتى أخذه صار معاونا له على الصيد ومشاركا له فيه، فوجب أن يكون بينه وبين صاحب المنصب كما لو تعدى رجل على عبد رجل فخرج به وصاد معه صيدا أنه يكون بينهما، ووجه قول أصبغ أنه جعل المنصب والحبالة كقوس الرجل أو كفرسه يتعدى عليه الرجل فيصطاد به عند الجميع أو كبازه وكلبه على مذهبه، ولو قيل: إن الصيد يكون لصاحب المنصب، ويكون عليه للذين طردوا الصيد إليه أجرة مثلهم إلا أن يشاء(3/317)
أن يسلم الصيد إليهم قياسا على قول ابن القاسم في الذي يتعدى على كلب رجل أو بازه فيصيد به صيدا لكان قولا وبالله التوفيق.
[مسألة: طير يصاد بالخمر يوضع لها الحياض فتأتي فتشرب فتسكر]
ومن كتاب العتق مسألة وقال ابن القاسم في طير يصاد بالخمر يوضع لها الحياض، فتأتي فتشرب فتسكر، قال: لا بأس بأكلها وقد بلغني عن ابن القاسم بن محمد أنه قال في جدي رضع لبن الخنزيرة: لا بأس بأكله، ولا أرى أيضا بأكله بأسا، ولا بأكل الطير الذي يأكل الجيفة قبل حدثان ذلك أو بعد حدثانه، قال: نعم ذلك سواء لا بأس به، قال: وحدثني عن مالك عن ابن عمر أن ناقة له سقيت خمرا أو شحم خنزير فكره ركوبها.
قال محمد بن رشد: كراهية ابن عمر لركوب الناقة التي سقيت الخمر أو لحم الخنزير نهاية في التوقي ومبالغة في الورع، والأمر في ذلك خفيف، ووجه ما خافه من ذلك والله أعلم أن يصيبه شيء من عرقها أو بولها؛ لأن ذلك ينجس بنجاسة ما سقيت إياه من ذلك، وكذلك يستحب أن لا يذبح شيئا مما أكل النجس حتى يذهب ما في جوفه منها، وقد مضى القول على بقية المسألة في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الضحايا.
[مسألة: امرأة ترضع جديا بلبنها هل يؤكل]
مسألة قيل لسحنون: فالمرأة ترضع جديا بلبنها هل يؤكل؟ قال: نعم، قيل لسحنون: فأكل الخطاطيف هل يكره؟ قال: أما أنا فلا، وقد(3/318)
أخبرني علي بن زياد عن مالك أنه كان يكره أكلها، وكان ابن القاسم لا يكره أكلها.
قال محمد بن رشد: قد مضت هاتان المسألتان والقول فيهما في نوازل سحنون من كتاب الضحايا، فلا معنى لإعادته وهي ساقطة أيضا في بعض الروايات.
[مسألة: الكلب يصيد ما أرسل عليه فيتوارى به فيوجد على صيده قد قتله]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الصلاة مسألة قال يحيى: قال ابن القاسم في الكلب يصيد ما أرسل عليه فيتوارى به فيوجد على صيده قد قتله: أنه لم ير منه قريبا صيدا فشككه في أن يكون غير الذي أرسله عليه فأكله حلال، وإن خفت أن يكون وقع غير الذي أرسلته عليه، فلا تأكله، قال: وكذلك الذي تقتله برميك إذا توارى عنك إن عرفت سهمك ورمحك بعينه فكله، وإن لم تجده فيه فخفت أن يكون غير صيدك الذي رميت، فلا تأكله بالشك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى؛ لأن هذا صيد وجده مقتولا، فلا يجوز له أن يأكله حتى يعلم أنه هو الذي رماه أو أرسل كلبه عليه.(3/319)
[مسألة: النصراني يخرج في طلب صيد مع المسلمين فيسبق إليه فيذكيه]
ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر مسألة قال: وسألته عن النصراني يخرج في طلب صيد مع المسلمين فيسبق إليه فيذكيه أتراه بمنزلة ما يتعمده به المسلم من ذبيحته، أم تراه من طعام النصراني الذي يحل لنا أكله؟ فقال: أما إذا كان بادر إلى ذبحه خوفا من فواته وعلى حال الضرورة، فهو حلال لمن أكله، وإن كان الذي معه من المسلمين قد تمكنوا بذبحه فقدموه بذلك وبدءوه بالذبح فلا أحب أكله.
قال محمد بن رشد: ها هنا في ذبحه النصراني بتقديم المسلم إياه لذلك لا أحب أن يؤكل، وقد مضى من قول ابن أبي حازم في سماع أشهب لا بأس بأكله وبئس ما صنعت، وقد روى ابن أبي أويس عن مالك أنه قال: إنما يحل لنا أن نأكل ما ذبحوا لأنفسهم، وأما ما نوليهم ذبحه فلا، فظاهر هذا تحريم أكله إلا أن يتأول أنه أراد إنما يحل لنا أن نأكل دون كراهية ما ذبحوا لأنفسهم، وأما ما نوليهم ذبحه فلا يحل لنا أن نأكله إلا بكراهية، وقد مضى وجه الكراهية في ذلك في سماع أشهب من كتاب الضحايا ومضت المسألة أيضا في رسم حلف بطلاق امرأته من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب.
[مسألة: يرمي الصيد قريبا من الحرم فيصيبه بسهمه إصابة لم تبلغ مقاتله]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب
مسألة قال سحنون: سئل أشهب: عن الذي يرمي الصيد قريبا(3/320)
من الحرم فيصيبه بسهمه إصابة لم تبلغ مقاتله، ثم يتحامل فيدخل الحرم ثم يموت في الحرم أيؤكل؟ قال:. نعم.
قال محمد بن رشد: فهذا كما قال إنه يؤكل ولا جزاء عليه فيه؛ لأنه فعل ما يجوز له من إصابته في الحل وبالله التوفيق.
[مسألة: تعدى على باز رجل فاصطاد به صيدا]
من نوازل سئل عنها سحنون بن سعيد
مسألة وسئل: عن الذي يتعدى على فرس رجل فيركبه فيعقر عليه صيدا لمن يكون هذا الصيد؟ فقال: الصيد لمن صاده ولرب الفرس أجر مثله، قيل له: فإن تعدى على باز رجل فاصطاد به صيدا، فقال: هو للذي صاده ولرب الباز أجر بازه.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب أصبغ خلاف مذهب ابن القاسم في تفرقته بين الفرس والبازي، وستأتي هذه المسألة في سماع أصبغ بكمالها، والقول عليها إن شاء الله.
[مسألة: الذبيحة يقطع منها شيء قبل أن تزهق نفسها]
مسألة وسئل سحنون: عن الصيد يعقره الناس في المغازي، فيقطعونه قبل أن يموت، وقد أنفذت الرماح مقاتله، قال: لا ينبغي لأحد أن يفعله ولا أحرمه.
قال محمد بن رشد: أما قطعه قبل أن يموت على سبيل الاقتسام له من غير انتهاب، فذلك مكروه كما يكره أن تنخع الذبيحة أو يقطع منها شيء قبل أن تزهق نفسها من غير أن يحرم ما قطع منها بعد كمال ذكاتها، وأما اقتطاعها على سبيل الانتهاب، فذلك حرام؛ لأن من صاده فيه شركاء بالسوية(3/321)
فلا يحل لأحد منهم أن يأخذ أكثر من حقه منه إلا برضا شركائه، وقد جاء أن النهبة حرام، وذلك فيما لم يأذن فيه صاحبه والله أعلم وسيأتي هذا المعنى في رسم سن من كتاب العقيقة وبالله التوفيق.
[مسألة: شاة غرقت فغطس عليها صاحبها بسكين فذكاها في داخل الماء]
مسألة وسئل سحنون: عن شاة أو بقرة وقعت في ماء فغرقت فغطس عليها صاحبها بسكين فذكاها في داخل الماء وهو يعرف أنها حية مجتمعة الحياة وهو يذبح، قال: لا بأس بأكلها.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة، والقول فيها في أول سماع ابن القاسم من هذا الكتاب فلا معنى لإعادته.
[مسألة: فرخ نحل يضرب في شجرة ثم يخرج فرخ لرجل آخر فيضرب عليه]
مسألة وسئل سحنون: عن النحل يفرخ فيخرج الفرخ يضرب في شجرة، ثم يخرج فرخ لرجل آخر فيضرب عليه، قال: هو للأول، ولو ضرب فرخ في بيت نحل لرجل آخر، قال: فهو كذلك أيضا هو لصاحب العامر.
قال محمد بن رشد: قال أبو إسحاق التونسي في هذه المسألة: لعله أراد أن الفرخين دخلا في جبح الأول، وأما لو دخلا في جبح الثاني لكان له ولو بقيا في الشجرة، فعاشا فيها وأفرخا لوجب أن يكونا وما أحدثا من عسل بينهما؛ لأن أحدهما لا مزية له على الآخر، وكلام أبي إسحاق التونسي تفسير، وله تفسير وذلك إنما يصح أن يكون الفرخان جميعا لمن دخلا في جبحه إذا لم يعلم ذلك بحدثانه حتى فات إخراج الفرخ من الجبح وقسمه(3/322)
بينهما؛ لأن حكم النحل في هذا حكم الأبرجة إذا دخلت حمام برج في برج آخر، فإن استُطيع ردها إلى برجها وإلا فهي لمن ثبتت في برجه، فكذلك فرخ النحل إذا لم يستطع أن يرد فرخ كل واحد منهما إلى صاحبه، فهو لمن ثبت في جبحه.
[مسألة: يسقط بعير أو شاة في بئر فلا يستطاع نحر البعير ولا ذبح الشاة]
مسألة قال سحنون: قال عبد العزيز بن أبي سلمة: يؤكل ما أصله الذبح بالنحر، ويؤكل ما أصله النحر بالذبح، وإن لم تكن ضرورة.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف قول مالك في أنه لا يؤكل ما أصله النحر بالذبح، ولا ما أصله الذبح بالنحر إلا من ضرورة، والضرورة مثل أن يسقط بعير أو شاة في بئر، فلا يستطاع نحر البعير ولا ذبح الشاة، وقد قيل: إن عدم ما ينحر به ضرورة تجيز ذبحه، وإن عدم ما يذبح به ضرورة تجيز نحره، وقد قيل: إن الحبل في ذلك ضرورة، وذهب ابن بكير: أنه إن ذبح ما ينحر أكل، وإن نحر ما يذبح لم يؤكل، وأما البقر التي جاء فيها الذبح والنحر فالاختيار فيها عند مالك أن تذبح لقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ، فإن نحرت من غير ضرورة أكلت، ولا اختلاف في هذا أحفظه.
[مسألة: وجد أحدهم عشا فقال هو لي أنا رأيته قبلكم فبادره إليه رجل فأخذه]
مسألة قلت: أرأيت لو أن قوما كانوا سائرين في طريق، فوجد أحدهم عشا، فقال: هذا العش لي أنا رأيته قبلكم، فلا تأخذوه، فبادره إليه رجل فأخذه، فقال: هو لمن أخذه وليس قوله: هو لي قبض منه له ولا حيازة، قلت: فلو وجدوه كلهم فبادرهم إليه أحدهم فأخذه؟ قال:(3/323)
هو لمن أخذه، قلت: فلو وجدوه كلهم فأراده كل واحد منهم لنفسه وتدافعوا عليه ولم يترك بعضهم بعضا يصل إليه؟ قال: إذا أقضي به بينهم خوفا أن يقتتلوا عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها، وهي أصل لما يختلف فيه من النفر المتيممين يجدون من الماء في الصحراء قدر ما يتوضأ به واحد منهم يسلمونه لأحدهم ليتوضأ به هل ينتقض تيمم جميعهم أو ينتقض تيمم الذي أسلم إليه وحده؟ وقد مضت هذه المسألة، والقول فيها مستوفا في سماع سحنون ونوازله من كتاب الوضوء، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يجتمعون فيخرجون للصيد ويشتركون في كل ما يصيبون]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم مسألة قال محمد بن خالد: سألت ابن القاسم عن القوم يجتمعون فيخرجون للصيد، ويشتركون في كل ما يصيبون من ذلك الصيد على أن يكون بينهم شرعا سواء، فقال ابن القاسم: إذا كانوا لا يفترقون فيه وكانوا يتعاونون عليه فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب الشركة من المدونة من أن شركة الأعمال بالأبدان لا تجوز إلا أن يكونا في موضع آخر ويتعاونان، والمعنى في ذلك بين؛ لأنهما إذا لم يتعاونا كان غررا؛ لأن كل واحد منهما يصير قد باع من صاحبه نصف ما صاد بنصف ما صاد هو، قال في المدونة: ولو اشتركا على أن ما صادا ببازيهما أو بكلبيهما فذلك بينهما بنصفين لم يجز إلا أن يتعاون الكلبان والبازيان أو يكونا بينهما، وقد قيل: إن الشركة جائزة،(3/324)
وإن لم يتعاون البازيان والكلبان إذا تعاونا هما؛ لأن عملهما أكثر من عمل الكلبين والبازيين.
[مسألة: تعدى على كلب رجل فاصطاد به]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم
من كتاب الزكاة والصيام مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في من تعدى على كلب رجل فاصطاد به: إن الصيد لصاحب الكلب إلا أنه بالخيار إن شاء دفع إلى المعتدي أجر مثله في عنائه وصيده وأخذ الصيد، وإن شاء أسلم الصيد، وإنما كان الصيد لصاحب الكلب؛ لأن كلبه هو الذي أخذه وصاده بمنزلة عبد الرجل يتعدى عليه الرجل فيبعثه يصيد له الحيتان، فما صاد فهو لسيده؛ لأن عبده الذي صاد، وضمان العبد والكلب إن عطبا من الرجل الذي صاد بالكلب وتعدى على العبد، والبازي مثل ذلك، ولكن لو تعدى على فرس رجل فصاد عليه لكان الصيد للرجل المتعدي؛ لأنه هو الصائد، وليس الفرس الصائد، وكان عليه في اصطياده أجرة مثله، قال أصبغ: بئس ما قال في الكلب، وليس الكلب كالعبد، العبد عامل بيديه مستغن بذاته، والكلب لا يصيد إلا بالإشلاء والزجر والتعليم والتوجيه، ولا يفعل ذلك إلا بصاحبه، والرجل ها هنا الصائد، فالصيد له، وعليه أجرة الكلب لصاحبه كالدابة يعمل عليها أو الجمل وما أشبه ذلك، قال سحنون: الكلب والفرس سواء، والصيد للصائد ويعطى صاحب الكلب والفرس أجرة كلبه وفرسه.
قال محمد بن رشد: لا يختلفون في الذي يتعدى على فرس الرجل(3/325)
أو قوسه أو نبله فذلك أن الصيد للمتعدي وعليه أجر المثيل في الفرس والقوس والنبل، ولا يختلفون أيضا في الذي يتعدى على العبد، فيبعثه يصيد له أن الصيد لصاحب العبد، واختلفوا في الذي يتعدى على كلب رجل أو بازه فيصيد به فحمله أصبغ وسحنون محمل الذي يتعدى على فرس رجل أو قوسه للعلة التي ذكر أصبغ من أن الكلب والباز لا يصيدان بذاتهما دون مرسل ومحرض فجعلا جل العمل للصائد المتعدي، وحمله ابن القاسم محمل الذي يتعدى على العبد فيرسله يصيد له، وقوله أظهر من قولهما؛ لأن جل العمل إنما هو للكلب والباز؛ لأنهما هما اتبعا الصيد وهما أخذاه، وإنما للمتعدي في ذلك الإرسال والإشلاء خاصة، فوجب أن يكون صاحب الكلب والباز أحق بالصيد؛ لأن له في صيده شيئين الإتباع والأخذ، وليس للمتعدي فيه إلا التحريض على ذلك على ما تأول من مذهب ابن القاسم في المزارعة الفاسدة أن الزرع يكون فيها لمن أخرج شيئين أرضا وبذرا، أو أرضا وعملا، أو بذرا وعملا، لمن أخرج شيئا واحدا أرضا أو عملا أو بذرا، وقد مضى في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى اختلافهم في من طرد صيدا إلى فخ رجل فأوقعه فيه وأخذه، وتوجيه قول ابن القاسم: أنهما فيه شريكان خلاف قول أصبغ وسحنون: أنه للطارد وعليه قيمة ما انتفع فيه من فخ الرجل، ومن الدليل على صحة قوله في ذلك أيضا أنهما لو اشتركا في الصيد على أن يعمل أحدهما المنصب ويطرد الآخر الصيد إليه لكانت شركة صحيحة.
[مسألة: شرب الدم والخمر للمضطر]
مسألة قال أصبغ: قال ابن القاسم: يشرب المضطر الدم ولا يشرب الخمر، قال ابن القاسم في الميتة وضوال الإبل يأكل الميتة(3/326)
ولا يقرب ضوال الإبل، وقال لي ابن وهب مثل ذلك كله، وقال: الحجة في ضوال الإبل أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنها، وقد أرخص الله في الميتة والدم ولحم الخنزير للمضطر، ولم يرخص في الخمر، فذلك كله أحل من الخمر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تكلمنا عليها كلاما شافيا في رسم تأخير صلاة العشاء في الحرس من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك.
[مسألة: الدابة التي لا يؤكل لحمها يطول بها المرض أو تعيى على صاحبها]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الدابة التي لا يؤكل لحمها يطول بها المرض أو تعيى على صاحبها في أرض لا علف فيها، وما أشبهه أفيذبحها أفضل؟ قال: بل يدعها ولا يذبحها، قال ابن القاسم: ولو كانت لرجل دابة مريضة زمنة قد يئس من المنتفع بها على كل وجه ولا يريد علفها لم أر بأسا بذبحها وذبح هذه أحب إلي من تركها.
قال محمد بن أحمد: قال في الدابة التي يطول بها المرض أو تعيا على صاحبها في أرض لا علف فيها: أنه يدعها ولا يذبحها رجاء أن يجدها من يقوم عليها حتى تصح ويعلفها حتى تستريح، وقد اختلف إن وجدها صاحبها قد صحت عند الذي قام عليها هل يكون أحق بها أم لا؟ فروى ابن القاسم عن مالك في سماعه من كتاب اللقطة: أنه يكون أحق بها بعد أن يدفع إلى الذي قام عليها ما أنفق عليها، وقد قيل: إنها لمن قام عليها حتى حييت كمن أحيا أرضا مواتا، ولا سبيل لصاحبها إليها إلا أن يكون أسلمها في ماء ومرعى، وقال الليث بن سعد وغيره: صاحبها أحق بها بعد يمينه أنه كان على الرجوع فيها، واستحب في الزمنة التي قد يئس من المنتفع بها على كل حال(3/327)
أن يذبحها؛ لأن في ذلك إراحتها، وقد قيل: إنها تعقر ولا تذبح لئلا يشكك ذلك الناس في جواز أكلها، وهو الذي يأتي على قوله في سماع أشهب في الدابة التي تحيا بعد خروجها من البحر، وعلى ما في سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد في الدابة التي تقف على صاحبها في أرض العدو، وقد قيل: إنها لا تعقر ولا تذبح ولا يصنع بها شيء من ذلك لنهي النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، عن المثلة، وقول أبي بكر الصديق: ولا يعقرون شاة أو بعيرا إلا لمأكلة، وهو قول ابن وهب وما ها هنا من إجازة ذبحها فهو على ما في كتاب الجهاد من المدونة.
[مسألة: رجل طبخ بإناء فلما غلى الدهن وجد فيه فأرة ميتة]
مسألة قال ابن القاسم: بلغني عن مالك أنه قال في رجل طبخ بإناء في المدينة، فلما غلى الدهن وجد فيه فأرة ميتة لم تنفسخ أو قد انفسخت وهي من ماء البئر حين صبه فيه، وقد عجنه به وطبخه بعد، فأمر مالك أن يتم طبخه ويأخذ الدهن الأعلى الذي عجن به فيطبخه بماء طيب.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة ها هنا في بعض الروايات، وهي في هذا السماع من كتاب الوضوء ثابتة في كل رواية، وزاد في القليل أنه يهراق، وقد مضى القول عليها هناك مستوفى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: دخل الصيد في ولجة لا يستطيع الخلاص منها فغشيه الكلب]
مسألة قلت لأصبغ: فلو خرجت طالبا فأثرت صيدا فأرسلت كلابي عليه فبينما هي طالبة إذ وقع في حفرة لا يستطيع الخروج منها ولا الخلاص، أو دخل في ولجة لا يستطيع الخلاص منها، فغشيه(3/328)
الكلب فيها فدخل عليه فقتله أيطيب لي أكله؟ فقال: أما ما كان مثل ما وصفت، وكل موضع لا يستطيع الخلاص منه ولا النجاة أدركه الكلب فيه فقتله، فإنه لا يؤكل؛ لأنه قد صار أسيرا لك، وهو مثل ما أنك لو أخذته وأثبته وأمكنك ذبحه، ثم أرسلت عليه كلبك فقتله فإنك لا تأكله وهي ميتة؛ لأنه قد صار في ذلك كالأنسية لا تؤكل إلا ذبحا أو نحرا، قلت له: فلو أدركه الكلب في غايضة فقتله فيها، أو دخل غارا فدخل عليه فيه فقتله أيطيب لي أكله؟ قال: نعم، هو طيب وهو خلاف الأول؛ لأن هذا يجوز له فعله ابتداء؛ لأنه إذا جاء إلى الغار ولا يستطيع الدخول فيه، وإلى الغايضة جاز له أن يرسل فيها كلابه تطلب الصيد فيها ويشليها ويحضها فما قتلت فيهما من شيء جاز له أكله وهكذا يبتغى الصيد.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية أن يرسل كلبه في الغار والغايضة يطلب الصيد فيهما، ويأكل ما قتل، ومثل هذا في كتاب محمد بن المواز، وقد روي عن ابن القاسم أنه أجاز ذلك في الغار، ولم يجزه في الغايضة مخافة أن يكون دخل في الغايضة بعد أن أرسل كلبه فيها ما كان خارجا عنها مما لم ينوه؛ لأنه إنما نوى ما كان في الغايضة ولا يخشى مثل هذا في الغار، وقد مضى لسحنون في رسم لم يدرك من سماع عيسى أن ذلك لا يجوز في الغار ولا في الغايضة؛ لأن مذهبه أنه لا يصح له أن ينوي من الصيد إلا ما رأى، وهو أحد قولي أشهب فهي ثلاثة أقوال.
[مسألة: يرسل بازه على فراخ الطير في شاهقة الجبل فيصيدها]
مسألة قلت لأصبغ: فالوكر يكون في شاهقة جبل أو على شجرة(3/329)
يكون فيها فراخ الطير فيرسل بازه عليها، فيصيدها أيأكلها أم لا؟ فقال: أما إن كانت بموضع عال مثل ما وصفت مما لم يوصل إلى الرقي عليها، ولا يوجد سبيل إلى صرعها ولا إنزالها على حال أو لعله يطاق ذلك إلا أنه يخاف في ذلك العطب والعنت، فإني لا أرى بأسا أن يرسل عليها بازه ويأكلها وإن قتلها، وهو مثل الغائضة والغار الذي لا ينال ما فيها إلا بمثل هذا، قال: وأما إن كانت بموضع قريب ينال بالطلوع إليها أو بأن يصرع بالرمح أو نحو ذلك، أو الاحتيال إليها فيقع إلى الأرض فيؤخذ فمثل هذا إن أرسل بازه عليها، فقتلها لم يأكلها وهذه لا تؤكل إلا بذكاة وهذه مأسورة مملوكة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها ولا إشكال ولا موضع للكلام، وبالله التوفيق.
[مسألة: بقرة أزلقت ولدها]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم مسألة قال أبو زيد: قال ابن القاسم في بقرة أزلقت ولدها إنه ينظر، فإن كان مثل ذلك يحيى ويعيش لم يكن بأكله بأس، وإن كان مثله لا يعيش لم يؤكل وإن ذكي، وإن شك في أمره فقالوا: مثله يعيش ومثله لا يعيش، لم يؤكل وإن ذكي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا أعرف فيها نص خلاف، والفرق بين الجنين الذي أزلقته البهيمة وبين المريضة في جواز تذكيتها، وإن علم أنها لا تعيش إذا تحققت حياتها عند الذبح بوجود علامات الحياة فيها بعد الذبح، هو أن المريضة قد علمت حياتها بطول مدة إقامها حية إلى أن ذبحت، والجنين الذي أزلقته البهيمة لم يتحقق حياته؛ لأن حياته في بطن أمه(3/330)
لا يعتبر بها؛ لأنه كعضو من أعضائها بدليل كون ذكاته في ذكاتها، وقد قال ابن حبيب: إنما لم يذك إذا شك هل يعيش أم لا خيفة أن يكون الذي سبق إليه من إزلاق أمه هو الذي ألقاه في الموت، وليس ذلك بعلة صحيحة إذا لو اعتبرت حياته في بطن أمه فكان إنما لم يذك إذا شك هل يعيش أم لا مخافة أن يكون إزلاق أمه هو الذي ألقاه في الموت لوجب أن يكون حكمه حكم المنخنقة وأخواتها في جواز تذكيته وإن علم أنه لا يعيش على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وهو بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: رمى صيدا فأصاب مقاتله ثم والى عليه بالرمي بعد حتى قتله]
مسألة وعن رجل رمى صيدا فأصاب مقاتله، ثم والى عليه بالرمي بعد حتى قتله ولو شاء أن يذكيه ذكاه، قال: يأكله.
قال محمد بن رشد: وهذا بين؛ لأنه قد فرغ من ذكاته بإنفاذ مقاتله، فهو بمنزلة من ذبح ذبيحة، ثم نخعها أو قطعها أو بقر بطنها قبل أن تزهق نفسها فلا يحرم شيء من ذلك عليه أكلها، وبالله التوفيق.
[مسألة: شاة أدركها أمر الله فوجدت وهي تضطرب فيدرك ذكاتها]
مسألة وقال ابن كنانة وابن القاسم في شاة أدركها أمر الله، فوجدت وهي تضطرب فيدرك ذكاتها فيذكيها ولم يخرج من الدم شيء، قال: إذا ذبحها وهي تضطرب فلا يضره، وإن لم يخرج من الدم شيء.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله: تضطرب تتحرك تحركا يعلم به حياتها، وأدنى ذلك أن تطرف بعينها أو تحرك ذنبها أو تركض برجلها أو يوجد منها ما يقوم مقام التحريك مما يعلم به حياتها، وهو استفاضة نفسها في حلقها، وأما إن لم يكن اضطرابها إلا إرتعاشا وارتعادا أو شبه ذلك من مد يد أو رجل أو قبضة، فلا يلتفت إلى ذلك ولا يعد لها به حياة، وكذلك لو لم يكن(3/331)
منها إلا سيلان الدم خاصة لم يحكم لها به بالحياة ولم تؤكل، وهذا كله مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم في المريضة إذا وجدت العلامات المذكورة التي يستدل بها على حياتها بعد ذبحها، واختلفوا إذا لم توجد بعد الذبح، ووجدت في حال الذبح وإجراء الشفرة على الحلق، فظاهر قول ابن حبيب في الواضحة أنها تؤكل، ووقع في موطأ ابن وهب عن مالك: أنها كانت قبل أن تذبح تعرف حياتها ويجري نفسها، فلا بأس بها، ظاهره وإن لم يوجد شيء من العلامات في حال الذبح ولا بعده وهو بعيد، وأما الصحيحة التي لا مرض فيها، فلا اختلاف بينهم أنها تؤكل وإن لم يتحرك منها شيء بعد ذبحها إذا سال دمها، ولو لم يسل دمها لجرى جواز أكلها على الاختلاف في المنخنقة وأخواتها إذا بلغ بها ما أصابها مبلغا يعلم أنها لا تعيش منه دون أن يصيب ذلك لها مقتلا؛ لأنه إذا لم يجر دمها يعلم بذلك أنها لو تركت لم تعش إذ لا يكون ذلك إلا من انقطاع بعضها من بعض، وقد مضى الاختلاف في ذلك أعني في المنخنقة وأخواتها في سماع أشهب من هذا الكتاب ومن كتاب الضحايا، وقد اختلف في ذلك أيضا أصحاب النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقال أبو هريرة: لا بأس بها، وقال زيد بن ثابت: إن الميتة لتتحرك ونهى عن أكلها، ذكر ذلك عنه مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في موطأه؛ لأنها إنما كانت شاة تردت على ما جاء مبينا في غير الموطأ والأظهر قول من قال: إنها تؤكل قياسا على ما أجمعوا عليه في المريضة.
[مسألة: رمى صيدا فأصاب مقاتله وأدركه وقد افترسه سبع وسهمه في مقاتله]
مسألة وفيمن رمى صيدا، فأصاب مقاتله وأدركه وقد افترسه سبع وسهمه في مقاتله، أو وقع في بئر أو تردى من جبل، قال: إذا علم أنه قد أصاب مقاتله، فلا بأس بأكله، وإن لم يعلم أنه أصاب مقاتله فلا يقربه إلا أن يذكيه.(3/332)
قال محمد بن رشد: هذا بين إن كان ما أصابه بعد إنفاذ المقاتل فلا يضره إذ قد فرغ من ذكاته، وهو مثل من ذبح ذبيحة، فسقطت في ماء فماتت فيه أو تردت من جبل أنها تؤكل، قال: ذلك في المدونة وفي سماع أشهب وفي غير ما موضع، وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.(3/333)
[: كتاب الضحايا والعقيقة] [مسألة: يضحي بالضحية بينه وبين اليتيم في حجره]
من سماع ابن القاسم من مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية سحنون من كتاب القبلة مسألة قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سمعت مالكا يقول: لا ينبغي لأحد أن يضحي بالضحية بينه وبين اليتيم في حجره.
قال محمد بن رشد: يريد أنه لا يجعل بعض ثمنها من ماله وبعضه من مال يتيمه فيشاركه فيها، ولا يدخله أيضا في أضحيته، وإن اشتراها من ماله، وكان في عيال إلا أن يكون من قرابته فيكون حينئذ من أهل بيته، وهذا مثل ما في المدونة وغيرها أنه لا يشترك في الضحايا، وقد روى ابن وهب عن مالك إجازة الاشتراك في الهدي التطوع، فيلزم ذلك في الضحية على القول: بأنها غير واجبة، وتحصيل الاختلاف في هذه المسألة أن فيها قولين؛ أحدهما: أن الاشتراك فيها جائز.
والثاني: أن ذلك لا يجوز، فإذا قلت: إن الاشتراك فيها جائز ففي صفته ثلاثة أقوال؛ أحدها: جواز الاشتراك في الشاة والبقرة والبدنة، وإن كانوا أكثر من سبعة أنفس.
والثاني: أنه يشترك في البدنة والبقرة سبعة أنفس فدون.
والثالث: أنه يشترك في البدنة عشرة أنفس وفي البقرة سبعة نفس، وإذا قلت: إن الاشتراك فيها لا يجوز، ففي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا يجوز لأحد أن يدخل في أضحيته غيره.
والثاني: أن له أن يذبح أضحيته عنه وعن أهل بيته وهو مذهب مالك.
والثالث: أن له أن يذبحها عنه وعمن سواه وإن كانوا أهل أبيات شتى وأهل بيت الرجل الذي يجوز له أن يدخلهم(3/335)
في أضحيته على مذهب مالك أزواجه ومن في عياله من ذوي رحمه كانوا ممن يلزمه نفقتهم أو ممن لا يلزمه نفقتهم غير أن من كان منهم ممن تلزمه نفقته لزمه أن يضحي عنه إن لم يدخلهم في أضحيته حاشى الزوجة، وقد قيل: إنه يلزمه أن يضحي عنها إن لم يدخلها في أضحيته، وهو قول ابن دينار، ومن كان منهم لا يلزمه نفقته لم يلزمه أن يضحي عنه إن لم يدخله في أضحيته ولزمه هو أن يضحي عن نفسه إن كان له مال، وأما من في عياله من الأجنبيين، فلا يجوز له أن يدخلهم في أضحيته.
[مسألة: الضحية إن شح عليها أهل الميراث]
مسألة قال مالك في الضحية: إن شح عليها أهل الميراث باعوها وذلك قبل أن يضحى بها، وإذا مات وقد ذبحها كانت لأهله يأكلونها ولم تبع، وهو قول مالك، وإن كان قد أفرز منها شيئا لأحد من أهله، فهي له إذا أشهد عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن لأهل الميراث أن يبيعوا الضحية إذ مات عنها الميت قبل أن يذبحها صحيح؛ لأنها لا تجب إلا بالذبح خلاف الهدي الذي يجب بالتقليد والإشعار، وقوله: إذا مات وقد ذبحها أنها تكون لأهله يأكلونها يريد لأهل بيته يأكلونها على ما كانوا يأكلونها لو لم يمت ورثة كانوا أو غير ورثة، وهو أظهر مما يأتي في رسم سن من هذا السماع، وفي رسم العتق من سماع عيسى من أن الورثة إنما يقسمونها بينهم على الميراث؛ لأن الورثة إنما يقسمون على الميراث ما تكون فيه الوصية والذين قال الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] . وقوله: إذا مات وقد أفرز شيئا منها لأهله كان له إذا أشهد عليه صحيح؛ لأن ذلك كالهبة لا تصح مع التنازع إلا بالبينة.(3/336)
[مسألة: جز الضحية بعد أن تسمى قبل أن يذبحها]
مسألة قال: وسمعت مالكا قال: لا تجز الضحية بعد أن تسمى قبل أن يذبحها؛ لأن ذلك ينقص من ثمنها، ولكن إذا ذبحت فيجزها إن شاء لنفسه، فإنما هي بمنزلة اللحم، قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول: فإن جزها، ثم ذبحها لم يعد لغيرها وبئس ما صنع ولينتفع بصوفها ولا يبعه، قال سحنون: ولو باع الصوف لم أر بأسا أن يأكل ثمنه إذا كان جزه قبل الذبح، فإن جزه بعد الذبح فلا يأكله.
قال محمد بن رشد: الضحية عند مالك لا تجب أضحية وتصير نسكا إلا بالذبح، وإن اشتراها ليضحي بها وسماها أضحية، فلا يجب عليه بذلك ذبحها، وله أن يبدلها بخير منها، فكراهيته لها أن يجز صوفها من نحو كراهيته له أن يبدلها بدونها، ويستفضل من الثمن، وذلك بين من قوله: لأن ذلك ينقص من ثمنها، وقوله: إن جزها فلينتفع بصوفها ولا يبعه، يريد أنه يؤمر بذلك استحبابا كما يؤمر أن يتصدق بما استفضل من ثمنها إذا باعها واشترى غيرها؛ لأن ذلك عليه واجب، وإنما يستحب له ذلك لئلا يرجع عما نوى من الخير، قال إسماعيل القاضي: ولو اشترى الرجل أضحية، فقال: قد أوجبتها أضحية لوجب عليه ذبحها ولم يكن له بيعها، قال غيره: وتكون بذلك كما أشعر وقلد من الهدي في جميع الأمور إن تعدى عليه أحد فذبحه أجزأ عن صاحبه، وإن أصابه عيب لم يضره، وهو بعيد؛ لأنه يلزم عليه إن مات قبل أن يذبحه أن يجزيه ولا يكون عليه أن يعيد بأضحية أخرى على القول: بأن الضحية غير واجبة، وأما التسمية من غير إيجاب فلا يحرم عليه بيعها ولا بدلها، فقول سحنون: ولو باع الصوف لم أر بأسا بأكل ثمنه يريد أنه لا حرج عليه في ذلك إن فعل، فهو تفسير لقول مالك والله أعلم.(3/337)
[مسألة: تلقي السلع]
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها مسألة وسئل مالك: عن الرجل يخرج يوم الأضحى إلى مثل الاصطبل وهو نحو من ميل ليشتري ضحايا، وهو موضع يجتمع فيه الغنم والناس يخرجون إلى السوق ليشتروا منها، قال: ما يعجبني ذلك، وقد «نهى عن تلقي السلع» ، فلا أرى أن يشتري حتى يهبط إلى السوق، والضحايا أفضل ما احتيط فيها؛ لأنه يتقرب إلى الله بذلك فلا أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تلقي السلع حتى يهبط بها إلى السوق» ، فلا يجوز للرجل أن يخرج من الحاضرة إلى الجلائب التي تساق إليها، فيشتري منها ضحايا ولا ما يأكل ولا التجارة، وكذلك إن مرت به على بابه في الحاضرة، فلا يجوز له أن يشتري منها شيئا حتى يهبط بها إلى الأسواق، إذ لا مؤنة عليه في النهوض إلى السوق لقربه، وأما إن مرت به على قريته على أميال من الحاضرة، فيجوز له أن يشتري منها ما يحتاج إليه لا لتجارة لمشقة النهوض عليه إلى الحاضرة، يبين هذا ما وقع بعد هذا في رسم تأخير صلاة العشاء، وفي رسم أوله عبد استأذن سيده من سماع عيسى، فإن ضحى بما اشترى في التلقي فروي عن عيسى بن دينار أنه قال: عليه البدل في أيام النحر ولا يبيع لحم الأولى، وهذا عندي على الاستحباب ليس على الوجوب؛ لأنه إنما ضحى بما دخل في ضمانه بالابتياع على قول من لا يوجب فسخ البيع، وعلى قول من يوجب فسخه لمطابقته النهي؛ لأنه بالذبح يمضي بالثمن أو يلزمه فيه القيمة يوم القبض، فإنما ضحى بما قد ملكه قبل الذبح ملكا صحيحا أو بشبهة ارتفعت بالذبح، ووجه استحسان البدل مراعاة قول من يقول: إن البيع الفاسد كلا بيع، ولا ينتقل به ملك البائع وتكون المصيبة منه إن(3/338)
تلفت ببينة، فيكون على هذا القول كأنه قد تعدى على كبش رجل فضحى به، وفي ذلك اختلاف من القول سيأتي القول عليه في رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده من سماع عيسى وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري الضحية ثم يبدو له أن يعطيها أمه]
ومن كتاب أوله شك في طوافه
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يشتري الضحية، ثم يبدو له أن يعطيها أمه، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: يريد ويشتري هو لنفسه غيرها مثلها أو أفضل فيضحي بها ضحت أمه بالتي أعطاها أو لم تضح بها، ولو اشترى شاتين ليضحي بهما، ثم بدا له أن يعطي أمه إحداهما، فإن كان أعطاها إياها لتضحي بها، فذلك جائز ولا شيء عليه إذ لم تخرج الشاة عن كونها متقربا بها كمن اشترى شاة ليضحي بها، ثم بدا له أن يشرك فيها أهل بيته عنه وعنهم، وأما إن كان أعطاها إياها لتملكها ولا تضحي بها، فلا يجوز له ذلك إلا أن يشتري ضحية فيضحي بها مثلها أو أفضل منها.
[مسألة: مكان ذبح أضحية الإمام]
مسألة وسئل مالك: عن الإمام أترى أن يأتي بأضحيته إلى المصلى فيذبحها فيه؟ قال: نعم أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في الصلاة الثاني من المدونة وهو مما يستحب للإمام أن يفعله ليقتدي الناس به، فيذبحوا بعد ذبحه لما جاء من «أن أبا بردة بن دينار ذبح أضحيته قبل أن يذبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يعود بأضحية أخرى» ، الحديث، فإن لم يفعل ذلك الإمام وجب على الناس أن يؤخروا ذبح ضحاياهم إلى قدر ما يبلغ الإمام فيذبح عند وصوله، وليس لهم انتظاره إن تراخى في الذبح بعد وصوله لغير عذر، فإن أخر الذبح لعذر من(3/339)
اشتغال بقتال العدو أو غيره انتظروه ما لم يذهب وقت الصلاة بزوال الشمس، وقال أبو المصعب: إذا لم يخرج الإمام أضحية إلى المصلى، فليس على الناس أن ينتظروه حتى يرجع إلى منزله، ومن ذبح بعد القدر الذي كان يذبح فيه بالمصلى فأضحيته في ذلك جائزة، والمراعى في ذلك الإمام الذي يصلي صلاة العيد بالناس إذا كان مستخلفا على ذلك، ومن أهل العلم من يرى أن من ذبح قبل ذبح الإمام فأضحيته جائزة إذا ذبح بعد الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة، وحجتهم ما جاء من «أن عويمر بن الأشقر ذبح أضحيته قبل أن يغدو يوم الأضحى، وأنه ذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمره أن يعود بأضحية أخرى» ، وما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ثم خطب فأمر من كان ذبح قبل الصلاة أن يعيد» ، ومن طريق النظر أنه لما كان الإمام وغيره سواء في الذبح قبل الصلاة لا يجزي وجب أن يكون هو وغيره سواء في الذبح بعد الصلاة جائز، قالوا: ومما يدل أن الذبح مرتبط بالصلاة لا بنحر الإمام أن الإمام لو لم يضح لم يسقط عنهم الذبح، وأما أهل البوادي الذين لا يصلون صلاة العيد، فينحرون صلاة أقرب الأئمة إليهم وذبحه، فإن تحروا فأخطأوا أجزاهم، قاله ابن القاسم، ورواه عن مالك، وإن لم يتحروا وذبحوا قبل أن يذبح الإمام أعادوا، قاله أشهب، ورواه عن مالك، وقال ربيعة: يجزيهم ما لم يذبحوا قبل طلوع الشمس.
[مسألة: ضحي بمكسورة القرن]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة مسألة وسئل مالك: عن الرجل يضحي بالمكسورة القرن، قال: لا بأس بذلك إنما هي مثل الجلما إلا أن يكون يدمي، فلا يعجبني ذلك، قال: وما يحتاج إلى القرن؟ فأما الأذن، فإني أكرهه، فقيل له: والتي قد سقطت أسنانها، فقال: أما ما كان من ذلك من الكبر والهرم(3/340)
مثل أن يسقط من الكبر وحفاء الأسنان، فلا أرى بذلك بأسا، وأما لو لم يكن بها كبر وسقط أسنانها لكان ذلك عيبا فلا أرى أن يضحى بها.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز أن يضحى بالمكسورة القرن إذا كان يدمى؛ لأنه رأى ذلك مرضا من الأمراض، وفي الحديث والمريضة البين مرضها، ولأشهب في كتاب ابن المواز أنه إن ضحى بها أجزأته، وإن كان يدمي فلم ير ذلك من المرض البين ورآه خفيفا، وقد قيل: إنه يضحى بها، وإن كانت لا تدمى إذا كان القرن الداخل مكسورا لما روي عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، من أنه «نهى أن يضحى بالأعصب القرن والأذن» ، وهو قول النخعي وإليه نهى ابن حبيب، وذهب ابن حبيب أيضا إلى التي ذهبت أسنانها من الكبر لا يجوز أن يضحى بها كالتي كسرت أسنانها بخلاف التي سقطت أسنانها من إثغار، فالتي كسرت أسنانها لا يجوز باتفاق، والتي سقطت أسنانها من إثغار تجزئ باتفاق، والتي ذهبت أسنانها من الكبر تجزئ على اختلاف، فقف على ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: يهلك وعنده لحم من لحوم الأضاحي]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسألة وسئل مالك: عن الرجل يهلك وعنده لحم من لحوم الأضاحي، قال: لا تباع؛ لأنه نسكه وإن كان عليه دين لأنه نسك، ولكني أرى أن يقتسمه ورثته ومعنى قوله: كراهية البيع.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الورثة يقتسمونه خلاف ما تقدم في أول السماع، ولم يقل: كيف يقسمونه بأن كان على الميراث كما قال في رسم العتق من سماع عيسى، أو على قدر ما يأكلون على ظاهر ما في الواضحة لابن حبيب، والأظهر إذا خص الورثة له وأنزلهم فيه منزلة الميت ألا يقتسموه(3/341)
على الميراث وأن يقتسموه على قدر ما يأكلون فيكونون كأنهم لم يقتسموه إذ قيل: إن القسمة بيع من البيوع. .
[مسألة: النصرانية ظئرا للرجل تأتيه يوم النحر لتأخذ فروة أضحية ابنها]
مسألة وسئل مالك: عن النصرانية تكون الظئر للرجل فيضحي فتأتيه يوم النحر فتريد أن تأخذ فروة أضحية ابنها، قال: لا بأس بذلك أن توهب لها الفروة وتطعم من اللحم، قال ابن القاسم رجع مالك، فقال: لا خير فيه، والأول أحب قوليه إلي.
قال محمد بن رشد: اختلاف قول مالك هذا إنما معناه إذا لم تكن في عياله، فأعطيت من اللحم ما تذهب به على ما يأتي في رسم اغتسل، فأما لو كانت في عياله أو غشيتهم وهم يأكلون لم يكن بأس أن تطعم منه دون خلاف، وهذا يرد تأويل ابن حبيب إذ لم يجعل ذلك اختلافا من قول مالك، وقال: معناه إنه كره البعثة إليهم إذا لم يكونوا في عياله وأجاز أن يطعموا منه إذا كانوا في عياله.
[مسألة: يجلب الغنم فيمر بها في بعض النواحي هل للرجل أن يشتري منها ضحايا]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء في الحرس
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يجلب الغنم فيمر بها في بعض نواحي الفسطاط أترى للرجل أن يشتري منها ضحايا أو حاجة إن كانت له؟ قال: إنه ليكره أن يشتري حتى يهبط بها إلى السوق، فقيل: أفرأيت إن مر بها على قرية من الفسطاط على ستة أميال؟ فقال: أما ما يحتاج إليه من ضحايا أو غير ذلك مما يحتاج إليه، فلا أرى بذلك بأسا وأما ما يريد به تجارة فلا يفعل(3/342)
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم حلف فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الأضحية الشاة الهرمة]
مسألة وسئل مالك: عن الشاة الهرمة أيضحى بها؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: يريد ما لم يكن هرما بينا، قاله أصبغ أو ما لم تسقط أسنانها من الهرم فيجري ذلك على الاختلاف الذي تقدم في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة.
[مسألة: يشتري الضحايا يسميها ثم يريد أن يبدل ضحيته لغيره]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق مسألة وسئل مالك: عن الرجل يشتري الضحايا له أو لغيره يسميها ثم يريد أن يبدل ضحيته لغيره، ويذبح عنه ما سمى لغيره، قال: أرى إن أبدلها بخير منها فما أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: أما ذبحه عن نفسه ما كان سمي لغيره أفضل من التي سمى لنفسه، فلا بأس بذلك، وأما ذبحه عن غيره ما كان سمى لنفسه، وهي أدنى من التي كان سمى له فذلك مكروه؛ لأنه قد وعده أن يذبح عنه سمينا فيكره له أن يذبح عنه أدنى مما كان وعده به، فالاختيار له إذا ذبح عن نفسه ما كان سمى لغيره أن يشتري لغيره مثله أو أفضل وهذا بين.
[مسألة: إعطاء أهل الذمة من الضحايا]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية مسألة وسئل مالك: عن أهل الإسلام أيهدون من ضحاياهم لأهل(3/343)
الذمة من جيرانهم؟ فقال: لا بأس بذلك، ورجع عنه بعد ذلك، وقال: لا خير فيه غير مرة.
[مسألة: البدنة والبقرة تجزئ في التطوع عن السبعة في الضحايا]
ومن كتاب أوله باع غلاما بعشرين دينارا مسألة قال: وقال مالك: أرى البدنة والبقرة تجزئ في التطوع عن السبعة في الضحايا أو أكثر من ذلك، كل واحد منهما، والكبش يذبحه الرجل عن أهل البيت، وأحب ذلك إلي إذا كان موسرا أن يذبح كل إنسان منهم شاة شاة يريد بذلك الضحايا، ولا يشترك في شيء من البدن تطوعا ولا غيره في الهدي، وإن كان أهل بيت واحد.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من استحبابه أن يذبح عن كل نفس شاة شاة، وروى حديث ابن عمر أنه لم يكن يضحي عما في البطن إذ فيه دليل على أنه كان يضحي عن المولود إذا ولد أحب إليه من حديث أبي أيوب الأنصاري «كان الرجل يضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته، ثم تباهى الناس بعد فصارت مباهاة» .
[مسألة: توسم الغنم في وجوهها]
مسألة قال مالك: أكره أن توسم الغنم في وجوهها، ولا أرى بآذانها بأسا أن توسم، وذلك أن الشعر والصوف يغشي جسدها كله فيغيب السمت، وأما البقر والإبل فتوسم في غير ذلك من جسدها؛ لأنها ليست في أوبارها وأشعارها مثل الضان والمعز.
قال محمد بن رشد: إنما كره أن توسم الغنم في وجوهها لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المثلة، ولم يكن سبيل إلى أن توسم في أجسادها من أجل أن(3/344)
الشعر يغشاها، فيغيب السمت أجاز أن توسم في آذانها للحاجة إلى سمتها، والمعنى في هذا بين.
[مسألة: الضحية أيطعم منها النصراني]
ومن كتاب أوله مساجد القبائل
مسألة وسئل مالك: عن الضحية أيطعم منها النصراني؟ قال: غيره أحب إلي منه، قال ابن القاسم: ما يعجبني.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة، والقول فيها في رسم سن وفي رسم اغتسل فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أهل منى هل عليهم أضاحي]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات مسألة قال مالك: ليس على أهل منى أضاحي من حج منهم، وإن كان من أهلها ولم يحج فعليه، وحدثني عن عبد الله بن أبي بكر كان لأبيه غنم كثيرة بمنى، فما كان يضحي منها بشيء.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها: أن الحاج سنتهم الهدايا دون الضحايا كانوا من أهل منى أو غيرهم، وأن سائر الناس سنتهم الضحايا دون الهدايا كانوا من أهل منى أو غيرهم؛ لأن الله ذكر الهدايا في الحج، وأهدى رسول الله في الحج، وضحى في غير الحج، فصار ذلك منهاج الإسلام وشرعته، وفي المبسوطة لابن كنانة أنه لا يضحي أحد بمنى ظاهره، وإن لم يكن من الحاج وهو شذوذ، وروي عن عائشة أنها كانت لا تنكر على من ضحى ممن حج ولا على من لم يضح.(3/345)
[مسألة: أفضل الضحايا]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت مسألة قال مالك: في الضحايا الضأن أعجب إلي من المعز، والمعز أعجب إلي من البقر، وإناث الضأن أعجب إلي من فحول الضأن المعز.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في المذهب أن الغنم في الضحايا أفضل من الإبل والبقر، بخلاف الهدايا، وظاهر هذه الرواية أن البقر أفضل من الإبل، فأفضل الضحايا فحول الضأن، ثم خصيانها، ثم إناثها ثم فحول المعز، ثم خصيانها ثم إناثها ثم ذكور البقر، ثم إناثها ثم ذكور الإبل ثم إناثها، وقال ابن شعبان: بعد إناث المعز ذكور الإبل، ثم إناثها ثم ذكور البقر ثم إناثها، وجه قول مالك أن المقصود في الضحايا طيب اللحم لا كثرته؛ لأنه لأهل البيت فالأفضل فيها الأطيب لحما، وإن كانت أقل، كما أن الضأن أفضل من البقر؛ لأنها أطيب لحما، وإن كانت أقل منها، فكذلك البقر أفضل من الإبل؛ لأنها أطيب لحما وإن كانت أقل منها ووجهه كما ذهب إليه ابن شعبان: أن الغنم إنما كانت أفضل في الضحايا من أجل أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما ضحى بالغنم اتباعا لملة إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ فدى الله تعالى ابنه، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بكبش فضحى به مكان ابنه، وقال تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] ، فإذا لم يضح بالغنم المرغب في التضحية بها للتأسي بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبيه خليل الرحمن فالإبل أفضل من البقر؛ لأنها أعلى ثمنا وأكثر لحما، وقد «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي رقاب أفضل؟ فقال: أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها» ، والشافعي يذهب إلى أن الضحايا كالهدايا الإبل، ثم البقر ثم الغنم ومن حجته الحديث من اغتسل، ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، الحديث إلى قوله: «فكأنما قرب كبشا أقرن» ، وهذا لا حجة فيه لاحتمال أن يريد الهدي، وكذلك في بعض الآثار «من اغتسل ثم راح في الساعة الأولى، فكأنما أهدى بدنة» فسقطت حجته(3/346)
بالحديث، وقال أشهب في ديوانه: الضحية بالغنم أحب إلي بالأمصار وبالإبل والبقر أحب إلي بمنى، ولا ضحية على الحاج بمنى، وبالله التوفيق.
[مسألة: يهب لجاريته جلد أضحيته أترى أن تبيعه]
ومن كتاب نذر سنة مسألة وسئل مالك: عن الرجل يهب لجاريته جلد أضحيته أترى أن تبيعه؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز لها أن تبيعه؛ لأنها أمته وله انتزاع مالها والتحجير عليها فيه، فإذا باعته فكأنه هو البائع له، ولو وهب الجلد لمسكين لجاز للمسكين أن يبيعه لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة» ، الحديث، ولقوله في اللحم الذي تصدق به على بريرة «هو عليها صدقة ولنا هدية» .
[مسألة: تغالي الناس في الضحايا]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من كتاب الجنائز والذبائح والنذور مسألة قال سحنون: قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عن تغالي الناس في الضحايا، قال: إني أكرهه، وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأصحابه ليشتر كما يشتري الناس وإن غلت، وربما غلت الأشياء فتنوولت على ذلك، وأما الذي يجد بعشرة دراهم فيذهب فيشتري بمائة درهم، فأنا أكرهه، هذا يدخل على الناس مشقة إذا كان هكذا.
قال محمد بن رشد: هذا مكروه كما قال؛ لأن العمل به يدخل على الناس ضررا في أموالهم وفسادا في نياتهم وأعمالهم؛ لأن ذلك يتراقى في الناس حتى يفعلوه مباهاة وسمعة لا ابتغاء قربه، وقد قال أبو أيوب الأنصاري:(3/347)
«كان الرجل يضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهله، ثم تباهى الناس بعد فصارت مباهاة» وذلك في ذلك الزمان، فكيف به الآن؟
[مسألة: الكباش تطول أذنابها فيقطع الراعي قدرا منها ليخف أفيجتنب في الضحايا]
مسألة وسئل مالك: عن الكباش تطول أذنابها حتى تسحبها فيقطع الراعي منها قدر قبضة ليخف أفيجتنب في الضحايا؟ قال: نعم أرى أن يجتنب إذا وجد غيرها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الكاملة الخلق التي لم يقطع من ذنبها شيء أفضل؛ لأنها توضع في يوم القيامة في ميزانه بكمال خلقها ووفاء شعرها، وروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إراقة دم، وإنه ليأتي يوم القيامة في قونه أي كتاب حسناته بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الذم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع في الأرض فطيبوا بها نفسا» ، وهي تجزئ إلا أن تكون بتراء، وهي التي قطع من ذنبها النصف أو الثلث، قاله ابن حبيب، وهو قول ابن وهب، ولم يحد فيه في المدونة نصفا من ثلث، وقال ابن المواز: النصف كثير من غير أن يحد فيه حدا، فظاهر قوله: إن الثلث عنده يسير فيأتي في الثلث قولان؛ لأنه آخر حد اليسير وأول حد الكثير، والربع يسير باتفاق، والنصف كثير باتفاق، والأذن كالذنب فيما يستحب منه مما لا يستحب، وأما اليابسة الأطبا، فإن بقي بعضها فإنها تجزي قاله ابن المواز.
[مسألة: الضحية في السفر]
مسألة قال: وسألته عن الضحية في السفر فقال: أحب إلي أن(3/348)
يضحي إذا قدر على ذلك، والضحية في السفر والحضر سواء، إلا أن المسافر عسى به أن يشتغل ولا يقدر على الإقامة في التماس الضحايا، قال مالك: بلغني أن رجلا سافر فأدركه الأضحى في السفر، فمر على راع وهو يرعى على رأس جبل، فقال: يا راعي، أتبيع مني شاة صحيحة أضحي بها؟ قال: نعم، قال: أنزلها فاتركها فاشتراها منه، ثم قال له: اذبحها عني فذبحها الراعي، وقال: اللهم تقبل مني، فقال له ذلك الرجل: ربك أعلم بمن أنزلها من رأس الجبل، ثم سار وتركها.
قال محمد بن رشد: حكى ابن حبيب عن أصبغ أنه قال: إن ما في هذا الحديث أن ابن عمر ضحى في السفر، وأما المبالغة فيما فعل الراعي على طريق الفقه، فالأجزى وتجزي عن الراعي، ويضمن قيمتها له، ويضحي بغيرها كمن تعدى على أضحية رجل، فذبحها عن نفسه، وتابعه الفضل على تأويله فقال: بل لا يجزئ عن واحد منهما على أصله المتقدم، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الراعي لم يتعد على ابن عمر في ذبح أضحيته، وإنما ذبحها بأمره فهو حاضر مستنيب له في ذلك، فوجب أن تكون النية في ذلك نيته لا نية الراعي، كمن أمر رجلا أن يوضئه فوضأه النية في ذلك نية الآمر الموضإ لا نية المأمور الموضئ، ألا ترى أنه لو نوى فيها لابن عمر خلاف نيته من ذبحه إياها له على أنها شاة لحم لم يؤثر ذلك في نيته، وإنما قوله فيما ذبح لغيره وبأمره: اللهم تقبل مني بمنزلة قوله: اللهم تقبل مني صلاة فلان وصيامه، فذلك لغو ودعاء غير مقبول، على أنه يحتمل أن يكون الراعي أراد: اللهم تقبل مني عملي في ذبحي الذبيحة عنه ومعونتي إياه على نسكه ولا تحرمني الأجر في ذلك، ولعله ظن بعمله أن الأجر في ذلك له لا لابن عمر، إذ تولى ذبحها هو(3/349)
عنه وفهم ذلك منه ابن عمر، ولذلك قال له: ربك أعلم بمن أنزلها من رأس الجبل، ولو رأى ابن عمر أنها لا تجزيه لما قال للراعي: ضح بغيرها، وهذا كله بين وفيه دليل لقول أشهب في النصراني واليهودي: يذبح أضحية رجل بأمره أنها تجزيه، وبئس ما صنع.
[مسألة: يأتي إلى الراعي بفلاة من الأرض ليشتري منه الشاة]
مسألة وسئل مالك: عن الذي يأتي إلى الراعي بفلاة من الأرض ليشتري منه الشاة، فقال: ذلك مختلف من الرعاة، ربما كان الراعي صاحب الغنم، فأما الغلام الرغد الأسود الأعجمي الذي ليس مثله يؤتمن، فأحب إلي ألا يشتري منه شيئا، وأما العبد الفصيح الذي مثله يبيع لا مثله يقول لي فيها أو أمرني أهلي أن أبيع، فأرجو أن يكون ذلك واسعا، وهذا البيع فرصة.
قال محمد بن رشد: يريد أنه إن كان العبد في هيئته ممن يشبه أن يؤتمن على البيع صدقا اشترى منه، وإن كان ممن لا يشبه ذلك منه لم يصدقه ولم يشتر منه، وفي سماع أشهب من كتاب المديان والتفليس ما ظاهره أنه لا يشتري منه إلا بإذن أهله ولا يصدقه في قوله إذا لم يكن ممن يبيع ويشتري، ويحتمل أن يفسر ما ها هنا، فإن حمل على ظاهره فذلك على التورع لا على ما يلزم، ويجوز بدليل فعل ابن عمر في المسألة التي قبل هذه.
[مسألة: المنهوش يوصف له أن يشق بطن شاة حية فيدخل رجله في كرشها]
مسألة وسئل مالك: عن المنهوش يوصف له أن يشق بطن شاة حية فيدخل رجله في كرشها، فقال: ما يعجبني، ولو فعل ما أقول له فذبحها، ثم يشق جوفها وهي تركض فيدخل رجله في كرشها وهي(3/350)
حية تركض، قال: إنه يقال: إن هذا أبلغ، قال: ما يعجبني هذا وما هو بالبين، قيل له: أيصلح أن يذبحها ثم يشق بطنها وهي حية تركض؟ فقال: يقول: إنه على وجه الدواء، وكأنه يكرهه.
قال محمد بن رشد: لم يجز مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - شق بطن الشاة وهي حية للتداوي بذلك، وخشي أن يكون ذلك من العيث الذي قد حرمته الشريعة، وروي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مثل عصفورة فما فوقها عيثا بغير حقها يسأله الله عز وجل عن مثلها، قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: يذبحها ولا يأكلها ولا يقطع رأسها فيرمي بها» ، ولهذا قال أبو بكر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ليزيد بن أبي سفيان إذ شيعه في الغزو: ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة وخفف شق جوفها بعد ذبحها قبل أن تزهق نفسها، وإن كان ذلك عنده مكروها لضرورة التداوي، فقوله: ما يعجبني لفظ ليس على ظاهره؛ لأنه يقتضي الكراهة دون الحظر، والحظر في فعل ذلك أبين، وقوله: وما هو بالبين يريد وما شق جوفها بعد ذبحها للتداوي بذلك بين فكيف بشقها قبل ذبحها.
[مسألة: الشاة انكسرت ثم جبرت أتجزي للضحية]
مسألة وسألته عن الشاة انكسرت، ثم جبرت أتجزي للضحية؟ قال: نعم، إن كانت قد صحت حتى لا ينقص ذلك من ثمنها ولا من صحتها ولا من مشيها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنها إذا صحت ولم يصبها من ذلك نقص، فكأنها لم يكن بها قبل كسر، وإن بريت وبها عتل أو عرج نظر إلى قدره، فإن كان يسيرا أجزأت، وإن كان كثيرا لم تجز لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والعرجاء البين عرجها» .(3/351)
[مسألة: اليتيم يكون له ثلاثون دينارا أيضحي عنه وليه]
مسألة وسمعت مالكا وسئل عن اليتيم يكون له ثلاثون دينارا أيضحي عنه وليه بالشاة بنصف دينار ونحوه؟ قال: نعم، ورزقه على الله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن اليتيم وغيره من الأحرار في الضحية سواء، فيلزم الوصي أن يضحي عنه من ماله إلا أن يكون ماله يسيرا وثمن الضحية كثيرا فيخشى عليه الحاجة إن ضحى عنه، ورأى الضحية بنصف دينار من ثلاثين دينارا مما يلزم الوصي أن يفعله ويصدق في ذلك كما يصدق في تزكية ماله وفي النفقة عليه إذا كان في عياله، وإن كانوا إخوة ومالهم في يده مشتركا بينهم ضحى عن كل واحد منهم شاة شاة، ولم يجز أن يضحي عنهم من مالهم المشترك بينهم شاة واحدة، ويجوز له أن يضحي عنهم كلهم بشاة واحدة من ماله إن كانوا في بيت واحد، ولا يجوز له أن يدخلهم في أضحيته إن كانوا في عياله إلا أن يكونوا من قرابته.
[مسألة: الأكل من ذبيحة اليهودي وأكل اليهودي من ذبيحة المسلمين]
مسألة وسئل مالك قيل له: إن اليهودي يذبح لنفسه فيطعمك من ذبيحته، فإذا ذبحت أنت شاة لنفسك لم يأكل منها، ويقول: إن أردت أن آكل فهات حتى أذبحها أنا، أفترى أن يمكنه منها؟ قال: لا والله ما أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الله إنما أباح لنا أكل ما ذبحوا لأنفسهم بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] ، فأما أن نوليهم ذبح شيء نملكه من أجل أنهم لا يأكلون ذبائحنا، فإن هذا مما لا ينبغي للمسلم أن يفعله؛ لأنا إذا كنا نحن نأكل(3/352)
ذبائحهم فهم أحق بأكل ذبائحنا، فإذا أرادوا أن يوجبوا لأنفسهم في دينهم مزية علينا في ديننا بترك أكل ذبائحنا.
فمن الحق علينا ألا نمكنهم من ذبح ما نملكه ولا ننعمهم بذلك عينا؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وكذلك لو كانت الشاة بين مسلم ونصراني لم ينبغ للمسلم أن يمكنه من ذبحها، قال ذلك مالك في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح والصيد والذي ينبغي له أن يفعل أن يقاومه إياها، ولا يمكنه من ذبحها كما لا يمكنه هو من ذبحها، فإن فعل أكلت وبئس ما صنع.
قال ذلك ابن أبي حازم في سماع أشهب من كتاب الذبائح، وقال في سماع يحيى منه لا أحب أن تؤكل، وقد روي عن مالك ما يدل على أنها لا تؤكل وسنذكر ذلك هناك.
[مسألة: هل يضحى أو يعق بشيء من الوحش]
مسألة وسألته هل يضحى أو يعق بشيء من الوحش، فقال لي: لا، ليس يتقرب إلى الله بشيء من الوحش ولا الطير، ولا يتقرب إلى الله في هذا إلا بالأنعام، قال عز وجل: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143] الآية، وقال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج: 28] . . {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] . ولا يتقرب إلى الله في شيء من هذا إلا بالأنعام.
قال محمد بن رشد: أما الوحش فلا اختلاف في أنه لا يتقرب إلى الله بشيء منها ولا ينسك به في هدي ولا ضحية ولا عقيقة ولا فيما سوى ذلك من الأشياء، وظاهر قوله في هذه الرواية إجازة العقيقة بالإبل والبقر، ومثل ذلك لمالك في كتاب ابن حبيب، وفي سماع سحنون من كتاب العقيقة(3/353)
لمالك: أن السنة في العقيقة الغنم فلا يجزي فيها الإبل، ومثل ذلك في كتاب ابن المواز، والأظهر أنه يجوز فيها الإبل والبقر، وإن كان الأفضل فيها الغنم قياسا على الضحايا؛ لأن حكمها حكمها، وفي وقت ذبحها من النهار وفي جواز الأكل منها وتحريم بيع لحمها وجلدها، ويحمل ذكر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الشاة فيها دون البدنة والبقرة على أنه إنما ذكره تيسيرا على أمته.
[مسألة: أيضحي الرجل عن أمهات أولاده]
مسألة وسألته: أيضحي الرجل عن أمهات أولاده؟ قال لي: إن شاء، قلت: هل هو من ذلك في سعة؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن الضحايا من العبادات المتوجهة إلى الأموال، فليست تجب إلا على من يملك ماله ملكا لا تحجير لأحد عليه فيه بحق الحجر، وهم الأحرار، وحكم أم الولد حكم العبيد في تحجير السيد عليها في مالها وفيما سوى ذلك من جل أحوالها إذ الحرية فيها تبع لرقها.
[مسألة: الذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء]
مسألة وسألته: عن الذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء؟ قال: إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل.
قال محمد بن رشد: إذا لم يشق الأمعاء فليس شق البطن بمقتل إلا أن ينثر الحشوة، فقوله في هذه المسألة: لا أرى أن تؤكل إذا شق بطنها يريد، وإن ذكيت وهي قائمة الحياة هو مثل قوله في سماع أشهب من كتاب الذبائح، والصيد خلاف قوله في المدونة في المدقوقة العنق إنها تذكى وتؤكل، وإن كان مثلها لا يعيش، وخلاف قوله أيضا في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح والصيد في المتردية، والقولان فيها كلها جاريان(3/354)
على اختلافهم في قول الله عز وجل: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] . هل هو استثناء متصل أو منفصل؟ فمن رآه استثناء منفصلا أجاز الذكاة منها كلها، وإن كانت قد بلغت مما أصابها مبلغا يعلم أنها لا تعيش منه ما لم تكن قد أنفذت مقاتلها، وهي خمس متفق عليها، وهي قطع الأوداج، وخرق المصيرة، وانتثار الحشوة، وانتثار الدماغ، وقطع النخاع، وهو انقطاع للمخ الذي يكون في عظام الرقبة والصلب، واختلف في اندقاق العنق من غير أن يقطع النخاع، فلم يره ابن القاسم مقتلا، وفي خرق الأوداج من غير أن تقطع، فلم يره ابن عبد الحكم مقتلا، ومن رآه استثناء منفصلا لم يجز الذكاة في شيء منها إذا علم أنها لا تعيش مما أصابها، وإن لم ينفذ ذلك لها مقتلا وهو قول مالك في هذه الرواية، وأما إذا أصاب شيء من ذلك مقاتلها، فلا تذكى ولا تؤكل، وإن كانت الحياة فيها بعد قائمة إلا على قياس رواية أبي زيد عن ابن القاسم في كتاب الديات في الذي ينفذ مقاتل رجل، ثم يجهز عليه آخر أن الآخر يقتل به دون الأول، وهو شذوذ من القول، وبالله التوفيق.
[مسألة: الضحية والعقيقة أيطعم منها أحد من النصارى أو غيرهم]
مسألة وسألته: عن الضحية والعقيقة أيطعم منها أحد من النصارى أو غيرهم ممن على غير الإسلام؟ فقال: ما سمعت ذلك، وأحب إلي ألا يطعم واحد منهم شيئا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم سن من سماع ابن القاسم.
[مسألة: دبغ جلود الدواب]
مسألة وسئل مالك: قيل له: أترى ما دبغ من جلود الدواب طاهر؟ قال: إنما يقال هذا في جلود الأنعام، فأما جلود ما لا يؤكل لحمه فكيف يكون جلده طاهرا إذا دبغ وهو مما لا ذكاة فيه ولا يؤكل(3/355)
لحمه، وقد كان ابن عمر يقول: إني لأحب أن أجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال، ولا أحرمه.
قال محمد بن رشد: في ظاهر جواب مالك في هذه المسألة تناقض؛ لأن قوله فيه إنما يقال: هذا في جلود الأنعام يدل على أن جلود ما سوى الأنعام لا يطهرها الدباغ، وقوله فيه فأما جلود ما لا يؤكل لحمه، فكيف يكون جلده طاهرا إذا دبغ وهو مما لا ذكاة فيه يدل على أن جلود جميع ما يؤكل لحمه من الأنعام وغيرها يطهرها الدباغ ويقتضي كلامه أن جميع ما لا يؤكل لحمه من الدواب والسباع لا تعمل الذكاة في جلودها، ولا يطهرها الدباغ خلاف مذهبه في المدونة في جلود السباع؛ لأنه أجاز فيها تذكيتها لأجل جلودها، وقال في الصلاة: الأول منها لا بأس بالصلاة عليها إذا ذكيت مراعاة للاختلاف في أكل لحومها، كما راعى ذلك أيضا في السلم الثالث منها في جواز بيعها باللحم فكرهه، وإطلاقه الطهارة في هذه الرواية في جلود الأنعام أو في جلود كل ما يؤكل لحمه على ما ذكرناه من الاضطراب بالدباغ، يقتضي الطهارة الكاملة له صلاة وغيرها خلاف المشهور عنه في المدونة وغيرها من أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ إلا للمنافع دون الصلاة، فيتحصل فيما يطهر بالدباغ من جلود الميتات؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» ، خمسة أقوال؛ أحدها: أنه لا يطهر به إلا جلود الأنعام خاصة، وهو الذي يدل عليه قول مالك في هذه الرواية، إنما يقال ذلك في جلود الأنعام، ووجه هذا القول، إن أهل اللغة قد قالوا منهم النضر بن شميل وغيره: إن الإهاب إنما هو جلد الأنعم، وما عداه فإنما يقال له جلد، ولا يقال له إهاب.
والثاني: إنه يطهر به جلود الأنعام وجلود جميع ما يؤكل لحمه من الوحش وهو دليل قول مالك أيضا في هذه الرواية ما بيناه.
والثالث: إنه يطهر جميع الجلود إلا جلود الدواب وجلود الخنزير، وهو الذي يأتي على مذهب مالك في المدونة أنه قال فيها: إنه يصلي بجلود السباع إذا ذكيت ولا يصلي بجلد الحمار، وإن(3/356)
ذكي، ووقف في الكيمخت، وما يعمل فيه الذكاة على مذهبه يطهره الدباغ.
والرابع: إنه يطهر جميع الجلود كان مما يؤكل وتعمل فيه الذكاة أو مما لا يؤكل ولا تعمل فيه الذكاة حاشا جلد الخنزير، وهذا قول جل أهل العلم منهم الشافعي وأبو حنيفة وهو مذهب ابن وهب من أصحاب مالك وقع قوله في سماع عبد المالك من كتاب الصلاة وفي رسم حبل حبلة من سماع عيسى منه عن إبراهيم النخعي، قال: كان أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يجعلون الكيمخت في سيوفهم ويقولون: دباغه طهوره.
والخامس: إنه يطهر جميع الجلود وجلد الخنزير، وهو قول سحنون ومحمد بن عبد الحكم ومذهب داود بن علي من أهل الظاهر لعموم قول النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «إذا دبغ الإهاب فقد طهر؛» لأنهم يرون أن الإهاب اسم لكل جلد، وقد قال أحمد: لا أعرف قول النضر بن شميل، وجل أهل العلم يرون طهارة الدباغ للجلود طهارة كاملة للصلاة والبيع وغير ذلك حاشى المشهور من قول مالك على ما ذكرنا، وذهب ابن حبيب إلى أن الذكاة لا تعمل في جلود السباع العادية ولا في جلود البغال والحمير ويطهرها الدباغ للانتفاع بها خاصة، وتعمل في جلد الفرس وفي جلود السباع التي لا تعدو ولا تفترس، وقد مضى في سماع أشهب من كتاب الوضوء وجه استعمال الآثار الواردة عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، في هذا الباب على المشهور من مذهب مالك فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك.
[مسألة: الضحية إذا ذبحت فوجد جوفها فاسدا كله أيجزيه]
مسألة وسئل مالك: عن الضحية إذا ذبحت فوجد جوفها فاسدا كله أيجزيه؟ فقال: إن المريضة من الضحايا لا تجوز، فإن لم تكن مريضة فهي مجزية لا بأس بها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا علم بعد الذبح أنها مريضة بما وجد من فساد جوفها لم يجز لقول النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «والمريضة(3/357)
البين مرضها» ، وإن كانت لا يجب له أن يردها على البائع بذلك؛ لأنه مما يستوي البائع والمشتري في الجهل بمعرفته إلا أن يشبه أن يكون فساد جوفها من ضربة فيجب على البائع اليمين ما علم بذلك، ولا يبيع من لحمها شيئا؛ لأنه ذبحها على أنها نسك، قال ذلك مالك في الواضحة، وقد قيل: إن بيعها لا يحرم عليه إذ لا يضحي بالمعيبة وبالله التوفيق.
[مسألة: سلف في ضحايا يأتي بها للأضحى]
ومن كتاب الأقضية مسألة وسئل مالك: عمن سلف في ضحايا يأتي بها للأضحى، فلا يأتي بها البائع إلا بعد ذلك، فيقول المشتري: إنما أردتها ضحايا وقد ذهب ذلك الإبان، فقال مالك: هو مثل الذي يبتاع الغطاء للشتاء فيأتيه بها في الصيف، والقمح لإبان يغلو فيه فيأتيه بعد ذلك، فأرى عليه أن يقبله، قلت: أرأيت الذي يتكارى للحج فيأتيه بعد إبان الحج أيكون مثله؟ فقال: ما الحج من هذا فيما أرى ولا مثله.
قال محمد بن رشد: الفرق بين مسألة السلم في الأضاحي يأتيه المسلم إليه بها بعد الأضحى وبين الذي يتكارى للحج فيأتيه الكري بعد إبان الحج أن الذي تسلف في الأضاحي على أن يأتيه المسلم إليه في الأضحى إنما تسلف أن يأتيه في الأضحى رجاء نفاقها في ذلك الوقت وليس على يقين من ذلك إذ قد تكون الكباش في غير الأضحى أنفق منها في الأضحى فيتم غرضه المبتغى، وإن لم تكن أنفق فلها قيمة وفيها منفعة على كل حال، والحج لا ينتقل عن وقته، فإذا لم يأته الكري إلا بعد إبانه فقد علم فوات غرضه، وأنه لا منفعة له في السير في غير إبان الحج، فوجب أن ينفسخ الكراء بينهما، وفي مسألة الضحايا اختلاف، قد قيل: إنه إذا أتاه بها بعد الأضحى(3/358)
بعد اليوم واليومين لزمه، وإن أتاه بها بعد الأيام الكثيرة لم يجبر على أخذها، روى ذلك مطرف عن مالك، وذلك جار على الاختلاف في السلم ينعقد على تعجيل رأس المال فيتأخر النقد إلى حلول الأجل بهروب من المسلم وهو عرض على ما في المدونة أو عين على ما حكى ابن حبيب في الواضحة، فعلى ما في المدونة من أن السلم جائز لازم للمسلم إليه ولا خيار له فيه يأتي قوله في هذه الرواية أن المسلم يلزمه أخذ الضحايا وإن لم يأته بها إلا بعد الأضحى بكثير، وعلى ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن القاسم وهو قول ابن وهب من أن المسلم إليه باختيار إذا هرب له المسلم برأس المال حتى حل الأجل يكون المسلم إليه بالخيار في مسألة الضحايا إذا لم يأته بها إلا بعد الأضحى بكثير، وهي رواية مطرف عن مالك، وفي إلزامه بالقرب دون البعد نظر لكساد اللحم قرب أيام النحر لكثرته بأيدي الناس من ضحاياهم.
[مسألة: سرق رجل رأس أضحية رجل]
ومن كتاب المدلس من سماع عيسى بن دينار من كتاب أوله نقدها نقدها مسألة قال عيسى: قول ابن القاسم في رؤوس الضحايا يخطأ بها في الأفران، يذهب برأس أضحية هذا إلى هذا فيأكلان ذلك، ثم يعلم ذلك، قال: يتحللان ولا شيء عليهم، وإن طلب كل واحد منهما قيمة الذي له أو فضل الذي له على الذي لصاحبه فلا شيء له، وإنه إن سرق رجل رأس أضحية رجل أنه ما أحرى أن يضمن في السرقة، وما هو بالقوي عندي وأحب إلي أن يتركها ولا يأخذها يريد القيمة ألا يأخذها، كأنه رأى أنه قد باع بعض أضحيته إذا أخذ لها(3/359)
ثمنا، قال عيسى: أحب إلي أن يأخذ الثمن من السارق ويتصدق به.
قال محمد بن رشد: فرق ابن القاسم في رؤوس الضحايا بين الاختلاط والسرقة، فقال: لا شيء على الذي أكل أفضل من متاعه للذي أكل متاعه في الفضل، وكذلك على قوله لو أخطأ فأكل رأس غيره، ولم يأكل له أحد شيئا لم يكن عليه شيء في الذي أكل على سبيل الخطأ إذ لا فرق في القياس بين الكل والفضل، وقال في السرقة: أن يضمن السارق في السرقة، وإن كان الأحب إليه ألا يفعل، وذلك استحسان إذ لا فرق في وجه القياس بين الخطأ والعمد لوجوب ضمان الأموال بها جميعا وجوبا واحدا، فوجب أن يضمن في الوجهين أيضا على القول: بأن أخذ القيمة فيما استهلك ليس ببيع وألا يضمن في الوجهين أيضا على القول: بأن أخذ القيمة فيما استهلك بيع، وإذا أخذ القيمة على القول بأن ذلك ليس ببيع فله أن يتمولها ويفعل ما شاء؛ لأن الحرمة إنما كانت في عين لحم الأضحية لا في القيمة المأخوذة عنه، وكذلك قال ابن حبيب في الواضحة إن له أن يأخذ القيمة ويصنع بها ما شاء إذ ليس ذلك ببيع كمن حلف ألا يبيع سلعة له فاستهلكها له رجل أن له أن يضمنه قيمتها ولا يحنث قال ذلك في رأس الأضحية يسرق أو جلدها يضيع عند الرقاق، ومثله في كتاب ابن المواز لمالك، قال: وإذا اختلطت الرؤوس في الفران كرهت لك أن تأكل متاع غيرك ولعل غيرك لا يأكل متاعك، أو متاعه خير من متاعك، قال: ولو اختلطت برؤوس الفران كان خفيفا؛ لأنه ضامن كما يضمن لحم الأضاحي بالتعدي والزرع الذي لم يبد صلاحه، وقول عيسى بن دينار أحب إلي أن يأخذ الثمن من السارق ويتصدق به قول ثالث في المسألة لا وجه له؛ لأن أخذ القيمة من السارق إن لم يكن بيعا له فلا وجه لاستحباب التصدق بها، وإن كان بيعا له فلا يجوز ذلك وأن يتصدق بها ألا ترى أنه لا يجوز للرجل أن يبيع جلد أضحيته ولا شيئا منها ليتصدق بالثمن وأصل(3/360)
ما يقاس عليه هذه المسألة ويبين به صحة ما ذكرناه فيها مسألة الجناية على أم الولد، وذلك أن بيعها لا يجوز ويجوز الاستمتاع بها، كما أن لحوم الضحايا لا يجوز بيعها ويجوز أكلها والاستمتاع بجلودها، واختلف فيها إن قتلت، فقيل: إنه لا قيمة على قاتلها إذ لا يجوز بيعها، ولأنه إنما أتلف على سيدها متعة، وهو قول سحنون، وقيل: إن عليه قيمتها وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، ولم يقل أحد إنه يأخذ القيمة ويتصدق بها، ولا فرق في ذلك بين العمد والخطأ، فوجب أن ترد مسألة الضحايا إلى ذلك، وإنما كره مالك في كتاب محمد بن المواز للرجل إذا اختلطت رؤوس الضحايا في الأفران أن يأكل متاع غيره ولم يحرم ذلك؛ لأن حكم ذلك حكم لقطة مالا يبقى من الطعام حيث لا يوجد له ثمن إذ لا يجوز بيعه فأكله جائز إذا لم يعلم صاحبه، وخشي عليه الفساد؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الشاة: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» . والتصدق بذلك أفضل، بخلاف الخبز واللحم من غير الأضاحي يختلط في الفران فلا يعلم الرجل لمن هذا الذي سيق إليه ولا عند من صار متاعه، فإنه يجب عليه أن يبيعه ويوقف ثمنه على حكم اللقطة.
[مسألة: الغنم تجلب إلى الحاضرة ويقدمون بها إلى المدينة فيشتريها الجزارون منهم]
ومن كتاب أوله
عبد استأذن سيده في تدبير جاريته مسألة قال ابن القاسم: وسألت مالكا عن الغنم تجلب إلى الحاضرة فإذا كانت على الميلين أو الثلاثة تركها أصحابها في المرعى ويقدمون إلى المدينة فخرجوا بالجزارين فاشتروها منهم، فقال: لا خير فيه وهذا من تلقي السلع، قلت له: فإن عندنا في الأضحى يوما يؤتى بالغنم فيمر بها في المدينة إلى موقفها الذي توقف فيه فتمر(3/361)
بباب الرجل فيريد أن يبتاع أضحيته، فقال: لا يفعل حتى تنهي إلى موقفها، وقال: الضحايا وما يتقرب به إلى الله أحق ما احتيط فيه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم حلف من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته.
[مسألة: يشترون الضحايا قبل يوم النحر بيوم فيخرج بها الراعي فتختلط]
ومن كتاب أوله أوصى أن ينفق على أمهات أولاده مسألة قال ابن القاسم في القوم يشترون الضحايا قبل يوم النحر بيوم فيخرج بها الراعي بأفنيتهم ويخلطونها ويأخذ الرجل منهم الكبش وهو يراه كبشه فيذبحه ويضحي به، ثم يتبين له أنه غير كبشه، وأنه لغيره، قال: أرى أن يعود فيذبح كبشه الذي كان سمى لنفسه ويخير صاحب الكبش المذبوح فإن شاء أخذ لحم كبشه ولم يكن له غير ذلك، وإن شاء أخذ قيمته يوم ذبحه، فقلت له: أرأيت إذا أخذ من الذي ذبحه قيمة كبشه هل ترى للذي ذبح الكبش وغرم قيمته أن يبيع ذلك اللحم؟ قال: لا أرى له أن يبيعه وليأكله إن شاء أو يتصدق به وأكره أن يبيعه.
قال محمد بن أحمد: وإن أخذ صاحب الكبش اللحم ولم يضمنه القيمة كان له أن يبيعه ويصنع به ما شاء؛ لأنه لم يذبحه هو على الضحية به، وقد قيل: إنه يجزيه الضحية إذا أغرمه رب الكبش القيمة، وفرق ابن حبيب بين أن يضمنه القيمة واللحم قائم، أو بعد فواته، وقد مضى بيان هذا كله في آخر أول رسم من سماع أشهب من كتاب الحج فلا معنى لإعادته.(3/362)
[مسألة: ضلت منه أضحية فوجدها بعد أيام الذبح وقد ضحى بأخرى]
مسألة قلت: أرأيت إن ضلت منه أضحية فوجدها بعد أيام الذبح وقد ضحى بأخرى أو لم يضح هل له أن يبيعها؟ قال مالك: نعم يصنع بها ما شاء بعد أن ضحاها في أيام النحر، قال ابن القاسم: ولو أصابها في أيام النحر وقد كان ضحى ببدلها لم يكن عليه أن يذبحها؛ لأن له أن يبدلها بخير منها.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على ما في المدونة وغيرها من أن الضحية لا تجب إلا بالذبح، فإذا وجدها وقد مضى ضحى ببدلها أو بعد أيام الذبح لم يجب عليه فيه شيء، إذ لا يضحي أحد في غير أيام النحر، وقد مضى في أول سماع ابن القاسم ما فيه بيان هذا.
[مسألة: يخرج قبل يوم النحر فيشتري الكبش فينفلت منه]
مسألة قلت: فالرجل يخرج قبل يوم النحر بيوم إلى سوق الغنم، وقد كثر الناس الجلائب فيشتري الكبش يضحي به فيدفعه إلى غلامه فينفلت فيدخل بعض تلك الأدواد فلا يعرفه صاحب الدود ولا مشتريه، قال: يكون مشتريه شريكا لصاحب الدود فإن كانت غنمه مائة أعطى جزءا من مائة جزء، وجزء، قلت: أرأيت إن كان مشتريه يريد أن يتعجل أخذ شاة لحاجته؟ قال: يكون ذلك له ويعطى شاة من وسط الغنم بالقيمة ولا يعطى من أدناها ولا من أعلاها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة المعنى على معنى ما في كتاب بيع الغرر من المدونة في الذي اشترى العدل بالبرنامج على أن فيه خمسين ثوبا فوجد فيه أحدا وخمسين ثوبا، والاختلاف في هذا هنا كالاختلاف في(3/363)
تلك هناك سواء؛ لأنه قال فيها: إن المبتاع يرد جزءا من أحد وخمسين جزءا من الثياب، يريد يكون البائع شريكا له بذلك في جميع الثياب كما قال ها هنا: إن صاحب الكبش يكون شريكا لصاحب الدود بجزء من مائة جزء وجزء، إن كانت غنمه مائة، فإن أراد القسمة على هذا القول ضربا بالسهام على الغنم وعلى الثياب، فإن خرج السهم على كبش من الكباش وقيمته أكثر من جزء مائة جزء وجزء كان لصاحب الكبش منه من مائة جزء وجزء، وكانت بقيته لصاحب الدود يكون شريكا له فيه بذلك، وإن خرج السهم على ثوب من الثياب وقيمته أكثر من جزء واحد وخمسين جزءا كان للبائع منه بجزء من أحد وخمسين جزءا وكانت بقيته للمشتري يكون شريكا له فيه بذلك، وإن ضرب بالسهام على الغنم والثياب، فخرج السهم على كبش من الكباش وقيمته أقل من جزء من مائة جزء وجزء كان لصاحب الكبش، وضربا ثانية على الكباش فما خرج عليه السهم منها كانا فيه شريكين صاحب الكبش بما بقي من جزئه وصاحب الدود ببقيته وكذلك إن خرج السهم على ثوب من الثياب وقيمته أقل من جزء من أحد وخمسين جزءا كان للبائع، وأعيد السهم ثانية فما وقع عليه من الثياب كانا فيه شريكين أيضا البائع بما له من جزئه والمبتاع ببقيته، ثم قال بعد ذلك خلاف هذا الجواب: إنهما إن أرادا الاقتسام يعطى صاحب الكبش شاة من وسط الغنم بالقيمة أي بجزء من مائة جزء وجزء، فإن لم يكن في الغنم كبش يكون قيمته جزءا من مائة جزء وجزء من جميع الغنم إلا كبشا واحدا، أخذه ولم يكن له غيره، وإن وجد فيها كباشا يكون قيمة كل واحد منها جزءا من مائة جزء وجزء، ضربا عليها بالسهام، فكان لصاحب الكبش منها الذي يقع عليه السهم إلا أن يتفقا على أن يأخذ أحدها من غير قرعة فيجوز ذلك، كما قال في المدونة أيضا في مسألة الثياب، خلاف جوابه الأول أنه يرد ثوبا كأنه عيب وجده فيه يريد أنه يعطيه من الثياب ثوبا قيمته جزء من أحد وخمسين جزءا من الثياب، فإن لم يكن في الثياب ثوب تكون قيمته جزءا من واحد وخمسين جزءا من جميع الثياب إلا ثوبا واحدا أخذه البائع(3/364)
ولم يكن له غيره، وإن وجد فيها عددا من الثياب قيمة كل واحد منها جزء من أحد وخمسين جزءا ضربا عليها بالسهام فكان للبائع منها الذي يقع عليه السهم، إلا أن يأخذ أحدها دون قرعة، فهذا تفسير هذه المسألة ومسألة المدونة، والقول الأول فيهما جميعا أظهر أنهما يكونان شريكين في الغنم والثياب ويضربان عليها بالسهم إذا أرادا القسمة، ولا يكون لصاحب الدود أن يعطي لصاحب الكبش كبشا من وسطها، بالقيمة التي هي جزء من مائة جزء وجزء إلا أن يخرجه له السهم ولا للمبتاع أن يرد على البائع ثوبا تكون قيمته جزءا من أحد وخمسين جزءا إلا أن يخرجه له السهم، وهو اختيار ابن القاسم في المدونة، وكذلك يختلف في هاتين المسألتين اختلافا واحدا إن تلف من الثياب أو الغنم شيء أو استحق قبل القسمة، فقيل: إن ما تلف أو استحق منها وما بقي بينهما على التجزئة المذكورة وحكم الشركة الثابتة الصحيحة، وهو مذهب مالك المشهور عنه، وقوله الأول في هاتين المسألتين، وقيل: إن ما تلف أو استحق لا يكون منهما إذ لم تتقرر الشركة بينهما بعد؛ لأنها شركة يوجبها الحكم فلا تنعقد بينهما إلا بعد التقويم والرضي بالبقاء على حكم الشركة، ويبقى التداعي بينهما في الباقي، فإن كان الذي تلف من الغنم كبشا واحدا كان لصاحب الدود تسعة وتسعون كبشا ونصف كبش، ولصاحب الكبش نصف كبش، ويقتسمان الغنم على هذه التجزئة فيكون منها لصاحب الكبش نصف جزء من مائة جزء ولصاحب الدود تسعة وتسعون جزءا ونصف جزء، وهو مذهب ابن القاسم، وهذه الشركة التي يوجبها الحكم إذا وقعت فيما فيه الشبهة لا يجب بها الشفعة إلا فيما بيع بعد التقويم والرضي بالبقاء على حكم الشركة على مذهب ابن القاسم الذي لا يرى المصيبة فيما تلف قبل ذلك بينهما.
ومثال ذلك أن يشتري الرجل من أرض قربه قد عرفها ووقف عليها مبدراحد دون أن يعين موضعا أو يشترط أن يختار أو يوهب له منها مبدراحد أيضا ثم يباع بعد ذلك جزء من القرية على الإشاعة قبل أن تكسو الأرض فيعرف مبلغ الأمد المشتراة أو الموهوبة فيتراضيان على البقاء على حكم(3/365)
الشركة فيجب له الشفعة على قول مالك الأول في هذه المسألة وفي مسألة بيع البرنامج المذكور واختيار ابن القاسم فيها ولا يجب على قول مالك الثاني فيهما ولا على قول ابن القاسم الذي ذكرناه.
[مسألة: شاة ذبحها يهودي فوجدها لا تحل له هل ترى أكلها للمسلمين حلالا]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار إلى رأس الحول فأنت طالق مسألة وسئل ابن القاسم: عن شاة ذبحها يهودي فوجدها لا تحل له هل ترى أكلها للمسلمين حلالا؟ قال: قال مالك: إني لأكرهه وما هو عندي بحرام، قيل له: فالشحم؟ قال: والشحم مثلها أو أكره منه، قال ابن القاسم: وأنا ليس يعجبني أكله ولا أراه حراما، قال ابن نافع: ولا بأس به وليس عندنا فيه كراهية، وإنما بمنزلة طعامهم ونهى ابن كنانة عن أكلها.
قال محمد بن رشد: لابن القاسم في المدونة أنه لا يؤكل، مثل قول ابن كنانة، فهي ثلاثة أقوال، الإجازة والكراهة والمنع، ترجع إلى قولين الإجازة والمنع؛ لأن الكراهة من قبيل الإجازة، وفرق أشهب وغيره بين الشحم وما حرموه على أنفسهم مما ليس محرما عليهم في التورية، والأصل في هذا الاختلاف اختلافهم في تأويل قوله عز وجل: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . هل المراد بذلك ذبائحهم أو ما يأكلون، فمن ذهب إلى أن المراد بذلك ذبائحهم أجاز أكل شحومهم؛ لأنها من ذبائحهم ومحال أن تقع الذكاة على بعض الشاة دون بعض، وأجاز أيضا أكل ما ذبحوه ليأكلوه مما وجدوه فاسدا فلم يأكلوه؛ لأنه من ذبائحهم، ويؤيد هذا التأويل ما روي من إباحة رسول الله شحوم يهود على ما جاء من «أن رجلا وجد في بعض حصون خيبر عند افتتاحها جرابا مملوا شحما فبصر به صاحب المغانم فنازعه فيه،(3/366)
فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خل بينه وبين جرابه يذهب به إلى أصحابه» ، ومن ذهب إلى أن المراد من ذلك ما يأكلون لم يجز أكل شحومهم؛ لأن الله حرمها عليهم في التورية على ما أخبر به القرآن، فليست مما يأكلون، واختلفوا فيما حرموه على أنفسهم مما ذبحوه فوجدوه فاسدا هل يحمل محمل الشحوم التي حرمها الله عليهم، أم لا، فشحومهم يجوز أكلها على التأويل الأول باتفاق، ولا يجوز على التأويل الثاني باتفاق، وما ذبحوه مما وجدوه فاسدا فلم يأكلوه فيجوز أكله على التأويل الأول باتفاق وعلى التأويل الثاني باختلاف، فهذا معنى قول مالك في المدونة: والشحم مثله أو أكره؛ لأن من مذهبه مراعاة الخلاف فكلما ضعف الاختلاف في إجازته قويت فيه الكراهية، فعلى هذا الذي ذكرناه لا يحل لنا أكل ما ذبحوه من كل ذي ظفر إذ لم يقصدوا إلى ذكاته من أجل أنهم لا يأكلونه فهو كالميتة، هذا نص قول ابن حبيب في الواضحة، ولا أعرف في هذا نص اختلاف إلا ما وقع لأشهب في المبسوطة، وهو محتمل للتأويل، وذهب ابن لبابة إلى خلاف هذا الأصل كله، فقال: كل ما كان حلا لنا ومن طعامنا فهو حل لهم ومن طعامهم؛ لأن الله أحل لهم طعامنا كما أحل لنا طعامهم، فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] . فجائز لنا أن نأكل من طعامهم كل ما يجوز لنا أكله، من الشحوم والمذبوح والمنحور وغير ذلك، كان مما حرمه الله عليهم في التورية أو حرمه إسرائيل عن نفسه من قبل أن تنزل التورية، أو حرموه هم على أنفسهم؛ لأن ما حل لنا حل لهم، وما حرم علينا حرم عليهم لوجوب الإسلام عليهم، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] . وبطل ما هم عليه من البقاء على شرائعهم، قال: وكما لا نستبيح من طعامهم ما يأكلونه إذا كنا نحن لا نأكله، فكذلك نستبيح من طعامهم ما لا يأكلونه إذا كنا نحن نأكله، وقد يحرمون على أنفسهم ما ذبحوه(3/367)
أو اصطادوه يوم السبت من الحيتان ولا يحرم علينا من ذلك شيء؛ لأنه طعامهم وإن لم يأكلوه، هذا معنى قوله دون لفظه، فبناه على أن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام، وهذا لا يصح فيما نحروه أو ذبحوه من كل ذي ظفر؛ لأنهم يعتقدون تحريم ذلك عليهم، فهو كالميتة إذ لا يقصدون بذلك ذكاة كمن رمى شاة يريد قتلها فأصاب مذبحها فقطع ودجيها وحلقومها، أو كمن ذبح شاة بالليل وهو يظنها خنزيرا، ولو ذبح ذلك لمسلم بأمره لتخرج جواز أكله على الاختلاف في المسلم يولي النصراني ذبح ما ينسكه؛ لأن النية في ذلك نية الأمر على ما بيناه في سماع أشهب من معنى قول ابن عمر للراعي: ربك أعلم بمن أنزلها من رأس الجبل، وإنما يصح في شحوم ما ذبحوه مما يأكلون على تأويل، إذ قد يحتمل أن يكون المراد بقوله عز وجل: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] أي: وطعامهم الذي هو حل لهم حل لكم، ويحتمل أن يكون المراد أي وطعامهم الذي أحل لهم وللمسلمين بالقرآن حل لكم، وأما على القول بأنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة فشحومهم محرمة علينا على كل حال، إلا على مذهب من يأول أن المراد بذلك ذبائحهم، وذهب ابن لبابة أيضا إلى تحريم أكل ما ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم أو سموا عليه اسم المسيح، تعليقا بظاهر قوله عز وجل: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] . وبظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] وسيأتي القول بعد هذا في رسم زونان فيما ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم، وفي رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح في معنى قوله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] .(3/368)
[مسألة: هل يجوز للمرء أن يضجع الذبيحة إذا أراد ذبحها على أي شقيها]
مسألة وسئل ابن القاسم: هل يجوز للمرء أن يضجع الذبيحة إذا أراد ذبحها على أي شقيها شاء؟ قال ابن القاسم: الصواب عندي في ذلك على ما مضى عليه أمر المسلمين الشق الأيسر، ولو فعل ذلك رجل جاهل لم أحرم عليه أكلها ولم يكن في ذلك شيء.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الصواب أن يضجعها على شقها الأيسر؛ لأنه الذي عليه عمل الناس من أجل أنه الذي يتأتى به الذبح للذابح مع استقباله القبلة؛ لأنه يمسك رأسها بشماله ويذبح بيمينه، ولا يتأتى له ذلك إذا أضجعها على الشق الأيمن دون كلفة ومشقة إلا أن يكون إلى غير القبلة، فإن أضجعها على الشق الأيمن وذبح دون أن ينحرف عن القبلة فأكلها جائز وبئس ما صنع.
[مسألة: أكل الجدي الذي رضع الخنزيرة]
ومن كتاب أوله حمل صبيا على دابة مسألة قال ابن القاسم في الجدي يرضع الخنزيرة: أحب إلي ألا يذبح حتى يذهب ما في جوفه من غذائه، ولو ذبح مكانه وأكل لم أر به بأسا؛ لأن الطير تأكل الجيف والدجاج تأكل النتن فتذبح مكانها، فأكلها حلال.
قال محمد بن رشد: إنما احتج لجواز أكل الجدي الذي رضع الخنزيرة بجواز أكل الجلالة من الطير، لاتفاق أهل العلم على جواز أكل ذوات الحواصل من الجلالة، واختلافهم في ذوات الكروش منها، فكره جماعة من السلف أكل لحوم الجلالة منها وشرب ألبانها، لما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل لحوم الجلالات وألبانها» ، وهي في القياس واحد كما(3/369)
قال ابن القاسم: فلا اختلاف في المذهب أن أكل لحوم الماشية والطير التي تغذى بالنجاسات حلال جائز، وإنما اختلفوا في الألبان والأعراق والأبوال على ما مضى القول فيه في مواضعه من كتاب الوضوء من ذلك في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب ورسم سلف دينارا من سماع عيسى.
[مسألة: شاة وضعت للذبح فذبحت فلم يتحرك منها شيء هل تؤكل]
ومن كتاب النسمة مسألة وسئل ابن القاسم وابن وهب: عن شاة وضعت للذبح فذبحت فلم يتحرك منها شيء، هل تؤكل؟ قالا: نعم تؤكل إذا كانت حين تذبح حية، فإن من الناس من يكون ثقيل اليد عند الذبح حتى لا تتحرك الذبيحة، وآخر يذبح فتقوم الذبيحة تمشي، فإن كانت حية حين تذبح فلا بأس بها.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا سال دمها أو استفاض نفسها في حلقها بعد ذبحها استفاضة لا يشك معه في حياتها، وهذا في الصحيحة، بخلاف المريضة لا تؤكل وإن سال دمها إلا أن يعلم حياتها بأن تطرف بعينها أو تركض برجلها أو تحرك ذنبها أو تستفيض نفسها في حلقها بعد ذبحها.
والفرق بينهما أن الصحيحة الحياة فيها قائمة بينة، فيكتفى من وجود علامات الحياة بعد الذبح بأقلها وهي سيلان الدم، وأما المريضة فلا يكتفى من وجود علامات الحياة فيها بعد الذبح بسيلان الدم وحده دون التحريك أو ما يقوم مقام التحريك من استفاضة نفسها في حلقها لخفاء الحياة فيها قبل ذبحها من أجل مرضها.
[مسألة: الرجل يظن أن يوم التروية من أيام النحر فينحر فيه]
ومن كتاب أوله باع شاة واستثنى جلدها مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يظن أن يوم التروية من أيام(3/370)
النحر فينحر فيه، هل له أن يبيع لحم تلك الأضحية؟ فقال: لا يبيعه وليضح بأخرى وهو مثل من نحر قبل الإمام يوم النحر أنه يعيد بأخرى ولا يبع من لحم تلك الأضحية شيئا.
قال محمد بن رشد: ما هما سواء أما الذي نحر قبل الإمام فبين أنه لا يبيع من لحمها شيئا؛ لأنها أضحية تجزئه عند جماعة من العلماء إذا ذبح بعد الصلاة، وأما الذي ذبح يوم التروية فليس تحظير بيع لحمها عليه ببين، إذ ليس يوم التروية من أيام الذبح بإجماع، فمن ذبح فيه فليس من النسك في شيء، وإنما هو لحم قدمه لأهله على ما جاء في الحديث، فليس ببين أن يمنع من بيعه، روي عن البراء بن عازب قال: «خرج إلينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أضحى إلى البقيع، فبدأ فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: إن أولى نسكنا في يومنا هذا أن نبتدئ بالصلاة، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم عجله لأهله فليس من النسك في شيء» ، الحديث.
[مسألة: يخرجون في الصائفة غزاة في أرض الروم ويدركهم الأضحى]
مسألة وقال ابن القاسم في الذين يخرجون في الصائفة غزاة في أرض الروم ويدركهم الأضحى في أرض الروم، أترى أن يضحوا من غنمهم؟ قال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الغزاة لهم أن يأخذوا الطعام في أرض العدو ويذبحوا الغنم، وليس عليهم أن يرفعوا شيئا من ذلك إلى صاحب المغنم، فلما كان لمن أخذ شيئا من الغنم أن يذبحه ويأكله ويكون أحق به من غيره إلا أن يحتاج فيواسيه به جاز له أن يضحي به إن شاء الله تعالى.(3/371)
[مسألة: الرجل يشتري الضحية فيموت قبل ذبحها أيذبحها عنه الورثة]
ومن كتاب العتق مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يشتري الضحية فيموت قبل ذبحها أيذبحها عنه الورثة؟ وكيف إن كان قد ذبحها أيقسم لحمها كسائر ماله، وكيف إن لحق مشتريها دين قبل أن يذبحها أتبتاع؟ وكيف إن لحقه بعد تقليد بدنته وإيجابها أتباع؟ قال: من مات قبل ذبح أضحيته فإن أحسن ذلك أن يذبحها عنه الورثة إن شاءوا، فإن أبوا وشحوا فهي مال من ماله، وإن كان قد ذبحها لم يبع من لحمها شيء واقتسمها الورثة على الميراث، وإن لحقه دين قبل ذبح أضحيته أخذها غرماؤه، فإن ذبحت لم تبع، وأرى في الذي يقلد البدنة أن للغرماء أيضا أخذها، وإن قلدت، وليس تقليد البدنة أشد من العتق وهو يرد.
قال محمد بن رشد: قوله: إن مات قبل أن يذبح أضحيته إن الورثة لا يلزمهم أن يذبحوها عنه إلا أن يشاءوا، وإن للغرماء أن يأخذوها فيما لحقه من الدين بعد شرائها صحيح على أصولهم في أنها لا تجب إلا بالذبح، هذا قول مالك في المدونة ومذهبه ومذهب جميع أصحابه، وأما قوله: إنه إن مات بعد ذبحها فيقسمها الورثة بينهم على الميراث فقد مضى من القول على ذلك في رسم سن من سماع ابن القاسم ما فيه كفاية، وأما قوله في البدنة للغرماء: أخذها وإن قلدت، فمعناه في الدين القديم قبل التقليد، لا في الدين الحادث بعد التقليد، بدليل مسألة العتق التي احتج بها فوقع جوابه على غير ما سأله عنه؛ لأنه إنما سأله هل تباع فيما لحقه من الدين بعد التقليد والإشعار.(3/372)
[مسألة: اشترى أضحية فباعها ليشتري أفضل منها فوجد ثمن الأفضل أقل]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل اشترى أضحية فباعها ليشتري أفضل منها، فوجد أفضل بأقل من الثمن الذي باع به، وكيف إن كان أقر الأولى ولم يبعها، ثم اشترى أفضل منها فلم يأت الأضحى حتى كانت الأولى أفضل وأسمن؟ فقال: أما الذي باع ليشتري أفضل منها فوجد أفضل بأقل من الثمن، فإن مالكا كره أن يشتري بأقل من الثمن الذي باع به، وإن كانت أفضل، ورأى أن ينقد الثمن كله في أضحيته، وذكر له الحديث فلم يعجبه، وأما الذي اشترى الضحية، ثم تركها واشترى أفضل منها فأتى يوم النحر والأولى أفضل فإنه يذبح الأفضل منهما كانت الأولى أو الأخيرة.
قال محمد بن رشد: وجه كراهية مالك لمن اشترى أضحية فباعها ليشتري أفضل منها أن يستفضل من الثمن شيئا، وإن اشترى أفضل منها واستحبابه ليشتري شاة بجميع الثمن، هو أنه قد نوى القربة إلى الله تعالى بما أخرج من الثمن في الضحية الأولى، فكره له أن يرجع في شيء من ذلك، ولم يوجب ذلك عليه إذ لم يوجبه على نفسه بالنذر، فإن اشترى أفضل منها أو مثلها بأقل من الثمن الذي باع به تصدق بالفضل من الثمن، وإن اشترى دونها بأقل من الثمن تصدق بما استفضل من الثمن وبما بين قيمة التي أبدل على قيمة التي ضحى بها، وإن اشترى دونها بمثل الثمن أو بأكثر تصدق بما بين القيمتين لا أكثر، والحديث الذي ذكره له فلم يعجبه هو ما روي «أن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بعث مع حكيم بن حزام بدينار ليشتري له به أضحية، فاشترى بها بدينار فباعها بدينارين، واشترى له أضحية أخرى بدينار فجاء بها وبالدينار الفاضل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتصدق به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعا له بالبركة في تجارته» ، وإنما لم يعجب الحديث مالكا ولم ير العمل به؛ لأن(3/373)
حكيم بن حزام لم يفعل ذلك بأمر النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولا أباح النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ذلك من فعله، بدليل تصدقه بالدينار الذي استفضل في الضحية التي كان ابتاعها له، وشكر له اجتهاده، فدعا له بالبركة في تجارته ولم يلمه على ما فعل، إذ قصد الخير واجتهد وخفي عليه وجه الكراهية في بيع الضحية والاستفضال من ثمنها، والله أعلم.
[مسألة: دهنه بشحم أضحيته]
ومن كتاب مسائل المدنيين مسألة قال سعيد بن حسان: أخبرنا أبو موسى هرون قاضي المدينة أنه سمع مالكا سأله أحد عن دهنه بشحم أضحيته شرك النعال، فنهاه عن ذلك وكرهه.
قال محمد بن رشد: وجه الكراهية في ذلك بين؛ لأنه إذا باع النعال بالثمن يقع على الجلد والعمل وجميع ما ألانها وحسنها من الادهان بالشحم وغيره، فصار بائعا لشحم أضحيته.
[مسألة: البيض يصلق فيوجد في إحداهن فرخ]
ومن سماع يحيى بن يحيى من كتاب الصلاة مسألة قال يحيى: قال ابن القاسم في البيض يصلق فيوجد في إحداهن فرخ إن أكلهن كلهن لا يصلح؛ لأن بعضه يسقي بعضا، قال ابن وهب مثله، وسئل: عن أقداح بيض النعام أيشرب فيها إذا كان الفرخ الذي يخرج منها ميتا، فكرهه، وقال: أرأيت لو أن رجلا أراد أن يتداوى بشرب تلك القشرة بعينها أكان يصلح له ذلك وقد سقتها الميتة التي كانت في داخلها؟ فلا أحب ولا أراه حسنا.
قال محمد بن رشد: قوله في البيض يصلق فيوجد في إحداهن فرخ(3/374)
إن أكلهن كلهن لا يصلح؛ لأن بعضه سقى بعضا، صحيح للعلة التي ذكرها من سقي النجس منها للطاهر؛ لأنه يرشح في الصلق، وهذا يرد قوله في سماع موسى بن معاوية في كتاب الوضوء: إن اللحم إذا طبخ بالماء النجس يغسل ويؤكل، وقد مضى هنالك من القول على ذلك ما فيه كفاية، وكذلك البيضة تخرج من الدجاجة الميتة لا تؤكل مخافة أن يكون سقتها الميتة، قاله مالك في المدونة، وقال ابن نافع: لا بأس بها، يريد إذا اشتد قبضها، ولها وجه ظاهر وهو أن الميتة لا تسقي البيضة بعد موتها؛ لأنها تبرد بالموت فلا يسري إليها منها شيء كما ألقيت البيضة بقشرها في دم أو بول بارد، بخلاف الصلق في الماء النجس، وأما كراهيته الشرب في أقداح بيض النعام التي تخرج منها الميتة فصحيح على مذهب مالك في كراهيته الامتشاط بعظام الميتة والادهان بمداهنها، وقد أجاز ذلك جماعة من السلف منهم عروة بن الزبير وابن شهاب وربيعة وقتادة والليث، وأخذ به ابن وهب ومطرف وابن الماجشون وأصبغ، وروي عن ابن شهاب أنه قال: كان سلف هذه الأمة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمتشطون بأمشاط عظام الفيل ويدهنون بمداهنها لا يرون بذلك بأسا، وجعل ابن وهب تلقيتها في الماء كالدباغ في الجلد وأجاز بيعها، وقشرة بيض النعام التي يخرج منها الميتة محمولة على ذلك بالمعنى والقياس، إذ لا فرق بينه وبينها.
[مسألة: يشتركان في الأضحيتين في اشترائهما فإذا أرادا أن يضحيا اقتسماهما]
من نوازل سئل عنها سحنون مسألة وسئل عن الفريقين يشتركان في الأضحيتين في اشترائهما، فإذا أرادا أن يضحيا اقتسماهما فقال أحدهما: أنا أضحي بهذه وأنت بهذه فضحيا كذلك وقد استويا جميعا في السمانة، قال: لا بأس بذلك، قيل: فلو كانت إحداهما أسمن من الأخرى؟ فقال: أكره ذلك(3/375)
للذي أخذ الأدنى؛ لأنه لا يجوز له أن يبدل أضحيته إلا بأجود منها، قيل له: فإذا وقع هل يجزئ عنه؟ فقال: إنما أكره أن يفعل ذلك فإذا وقع رأيته جائزا ما لم يأخذ لفضل الزيادة ثمنها، ولا يعود.
قال محمد بن رشد: أما كراهيته ذلك للذي أخذ الأدنى فبينة، وأما قوله: إذا وقع ذلك رأيته جائزا ما لم يأخذ لفضل الزيادة ثمنها ولا يعود فليس ببين، إذ لا فرق في المعنى بين أن يأخذ لفضل الزيادة ثمنا ولا يأخذ لها ثمنا ويتركه لرفيقه؛ لأنه في الحالتين جميعا قد ضحى بالأدنى، وذلك هو الذي يكره له، فإن أخذ لفضل الزيادة ثمنا تصدق به، وإن لم يأخذ له ثمنا تصدق بماله بما بين القيمتين، هذا الذي يؤمر به والذي كان ينبغي لهما أن يفعلاه ابتداء أن يتفقا وما الأسمن؟ ويبيعا الأدنى ويبتاع الذي خرج عن الأسمن بنصيبه من ذلك مثل الذي ضحى به رفيقه أو أسمن مما وجد وإن زاد على الثمن من ماله، وقد مضى في رسم العتق من سماع عيسى ما يدل على هذا.
[مسألة: المرأة ترضع جديا بلبنها هل يؤكل]
مسألة وسئل عن المرأة ترضع جديا بلبنها هل يؤكل؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا إشكال فيه؛ لأن الألبان تابعة للحوم ولحوم آدم طاهرة، فألبان النساء طاهرة بإجماع، فلا يضر إرضاعها الجدي.
[مسألة: أكل الخطاطيف التي تعشش في البيوت]
مسألة وسئل: عن أكل الخطاطيف التي تعشش في البيوت هل يكره أكلها؛ لأنها قد تحرمت بمن نزلت عليه وعششت عنده؟ فقال: أما أنا(3/376)
فلا، فقال: أخبرني علي بن زياد عن مالك أنه كره أكلها، وكان ابن القاسم لا يكره أكلها، قال سحنون:. وما أرى بأكلها بأسا.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إجازة أكل جميع الطير الغربان والأحدية والنسور والعقبان بظاهر قوله عز وجل: {لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] الآية لأنه لم يصح عنده عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النهي عن أكل ذي مخلب من الطير، فبقي ذلك على ما يقتضيه عموم الآية من تحليل ما عدا المذكور تحريمه فيها، وخصص من ذلك ما صح عنده فيه التحريم من الحمر الأنسية وشبهها، وكره أكل الخطاطيف في رواية علي بن زياد عنه للمعنى الذي ذكره مع قلة الانتفاع بأكلها لهزالها وضعفها كما كره عروة بن الزبير أكل الغراب والحداة لتسمية النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إياهما الفاسقين.
[مسألة: اشترى أضحية ليضحي بها فلما انصرف من المصلى مات]
من سماع عبد المالك بن الحسن من أشهب وابن وهب مسألة قال عبد المالك بن الحسن: سألت أشهب بن عبد العزيز: عمن اشترى أضحية ليضحي بها، فلما انصرف من المصلى مات، قال: لا يضحى بها عنه وتكون ميراثا.
قال محمد بن رشد: قوله: لا يضحى بها عنه أي ليس يلزمهم ذلك إلا أن يشاءوا على ما قال ابن القاسم في رسم العتق من سماع عيسى إذ لا تجب الضحية إلا بالذبح.(3/377)
[مسألة: يسلف في الضحايا ويشترط أن يأتيه بها قبل يوم النحر فيؤخرها المسلف]
مسألة قال: وسألت ابن وهب عن الرجل يسلف في الضحايا ويشترط أن يأتيه بها قبل يوم النحر فيؤخرها المسلف إليه إلى بعد يوم النحر أيلزم المسلف أخذها؟ قال: نعم يلزم المسلف أخذها وإن أتاه بها بعد يوم النحر.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والتكلم عليه في رسم الأقضية من سماع أشهب فلا معنى لإعادته.
[مسألة: ما يذبح للكنائس]
مسألة وسألته: عما يذبح للكنائس، قال: لا بأس بأكله.
قال محمد بن رشد: كره مالك في المدونة أكل ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم، وتأول في ذلك قوله عز وجل: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] . ووجه قول أشهب أن ما ذبحوا لكنائسهم لما كانوا يأكلونه وجب أن يكون حلا لنا لأن الله تعالى يقول: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . وإنما تأويل قوله: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] . ما ذبحوه لآلهتهم مما يتقربون به إليها ولا يأكلونه، فهذا حرام علينا بدليل الآيتين.
[مسألة: الضحية يوجد بها العيب كان عند البائع بعد ما ذبحت]
ومن سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الضحية يوجد بها العيب كان عند البائع بعد ما ذبحت فيأخذ قيمته ما يصنع به؟ قال: إن كان ذلك العيب مما يجوز في الضحايا كان له قيمته يصنع بها ما شاء، وأبدل مكانها إن كان في أيام النحر، وإن كان قد فات أيام الذبح(3/378)
كان بمنزلة من لم يضح والأرش له يصنع به ما شاء، وإن كان عيبا يجوز به في الضحايا تصدق بما يأخذ في قيمته؛ لأنه قد أوجبها وسماها ضحية، فليست عندي بمنزلة عتق التطوع؛ لأن العتق ليس يشتريه أحد حين يشتريه على أنه حر إنما يشتريه لنفسه، ثم يعتق بعد وهذه يشتريها وهي أضحية قد سماها وأوجبها.
قال محمد بن رشد: أما قوله في العيب يوجد في الضحية بعد ذبحها، فصحيح لا أعلم فيه نص خلاف وحكم الضحية والرقبة الواجبة والهدي الواجب في وجود العيون بها بعد ذبح الضحية وتقليد الهدي وتنفيذ العتق سواء إلا في أن الضحية مرتبطة بوقت، فإن كان العيب مما لا يجوز به الضحية ولا الرقبة ولا الهدي فقيمة العيب له، ويعتق عبدا آخر ويهدي هديا آخر ويضحي أضحية أخرى إن كانت أيام الذبح لم تفت، وإن فاتت أيام الذبح لم يكن عليه في الأرش شيء، وكان بمنزلة من لم يضح ولا اختلاف في هذا كله إلا قول داود بن أبي زبير في سماع محمد بن خالد من كتاب الظهار، وإن كان العيب مما تجوز به الضحية والرقبة والهدي لم يتمول قيمة العيب التي يرجع في شيء من ذلك، إلا أنه في الضحية يتصدق به، وفي الرقبة يجعله في رقبة، فإن لم يكن فيه رقبة شارك به في رقبة أو أعان به في رقبة يتم به عتقها أو جعله في كتابة يتم له عتقها، وفي الهدي يجعله في هدي، فإن لم يكن فيه هدي لم يشارك به في هدي من أجل أن الهدي لا يشترك فيه عند مالك وتصدق به، وأما الرقبة التطوع والهدي التطوع فاختلف في وجود العيب بهما على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا شيء عليه في قيمة العيب فيهما جميعا وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب الظهار.
والثاني: أنه لا يتمول ما يرجع به للعيب فيهما جميعا، ويجعل ذلك في الهدي في هدي، أو يتصدق به إن لم يبلغ أن يكون فيه هدي، ويجعله في عتق في العتق أو يعين به إن لم يبلغ رقبة تامة، والثالث: تفرقته في المدونة(3/379)
بين عتق التطوع والهدي التطوع، وسواء كان العيب في هذا مما يجوز في الرقاب والهدي أو مما لا يجوز، الحكم في ذلك سواء. فهذا تحصيل هذه المسألة.
[مسألة: باع بعض أهله جلد أضحيته]
مسألة قال ابن القاسم في رجل باع بعض أهله جلد أضحيته، قال: أرى أن يتصدق بثمنه، قلت: أرأيت إن كان أهله قد استنفقوا الثمن أيخرجه من عنده ويتصدق به؟ قال: أرأيت لو وضع لهم لحما من لحم أضحيته فباعوه واستنفقوا الثمن أعليه أن يخرجه من عنده، قال: لا. أرى ذلك عليه في الوجهين إذا لم يجد الثمن بعينه، قال أصبغ: إذا لم يرخص لهم في البيع ولا أذن لهم فيه ولم يعطهم الجلد على وجه ذلك ليصنعوا به ما شاءوا من بيع أو غيره، فإن فعل فهو البائع وعليه إخراج مثل الثمن والصدقة إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: أما إذا رخص لهم في البيع أو أذن لهم فيه فلا إشكال عليه في أن يخرج الثمن من ماله إن كان قد استنفق؛ لأنه هو البائع فكأنه قد باع وأخذ الثمن ودفعه إليهم فأنفقوه، وأما إذا لم يأذن لهم في ذلك ولا رخّص لهم فيه وفات البيع، ولم يقدر على رد فقال في الرواية: إنه يتصدق بالثمن إذا وجده بعينه، ولا شيء عليه فيه إن كانوا قد استنفقوه، ومعنى ذلك عندي إن كانوا قد استنفقوه فيما له عنه غنى، وأما إن كانوا استنفقوه فيما يلزمه مما لابد له منه ولا محيص له عنه، فعليه أن يخرجه من ماله ويتصدق به؛ إذ لا فرق بين ذلك وبين أن يجده قائما بعينه؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك فكأنه قد أنفقه هو إذ قد وقى به ماله.(3/380)
[مسألة: دفع جلد أضحيته إلى رجل يدبغه له فادعى أنه سُرق منه]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
مسألة قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عمن دفع جلد أضحيته إلى رجل يدبغه له، فادعى أنه سُرق منه، فقال: إن كان يثق به فلا أرى أن يأخذ منه فيه شيئا، وإن كان متهما أن يكون كذبه فإني أرى أن يأخذ منه قيمته ويتصدق به فهو أحب إليّ وضعفه.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم في قوله: إنه يأخذ القيمة ويتصدق بها، مثل قول عيسى بن دينار في أول رسم من سماعه وقد مضى هنالك القول في تضعيفه.
[مسألة: اشترى أضحيتين واحدة له وأخرى لامرأته فذبحهما جميعا لنفسه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل اشترى أضحيتين واحدة له وأخرى لامرأته فذبحهما جميعا لنفسه وعلى اسمه ساهيا، قال أحب إلي أن يبدل أضحية امرأته، فإن أبى فليست لامرأته أضحية ولا يجزئ عنها ما صنع.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن؛ لأن الضحية لا تجب إلا بالذبح ولا يجب على الرجل أن يضحي عن امرأته ولا أن يدخلها في أضحية إلا أن يشاء على مذهب مالك وجميع أصحابه حاشى ابن دينار.
[مسألة: ضحى بنعجة حامل فلما ذبحها وجد ولدها يركض في بطنها]
مسألة قال ابن القاسم: ضحيت بنعجة حامل فلما ذبحتها يركض ولدها في بطنها فأمرتهم أن يتركوها حتى تموت في بطنها، ثم(3/381)
أمرتهم فشقوا جوفها فأخرج ميتا فذبحته فسال منه دم فأمرت أهلي أن يشووه لي.
قال محمد بن رشد: روي عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، من رواية جابر بن عبد الله وغيره أنه قال: «ذكاة الجنين ذكاة أمة» ، قال ابن عمر وسعيد بن المسيب وغيرهما من الصحابة والتابعين وجمهور علماء المسلمين: وذلك إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه، وذلك إذا خرج ميتا أو خرج وبه رمق من الحياة، غير أنه يستحب أن يذبح إن خرج يتحرك، فإن سبقهم بنفسه قبل أن يذبح أُكل، وسواء مات في بطن أمه بموتها أو أبطأ موته بعد موتها ما لم يخرج وفيه روح، فإن خرج وفيه روح وهو ترجى حياته أو يشك فيها فلا يؤكل إلا بذكاة، وإن كان الذي فيه من الحياة رمق يعلم أنه لا يعيش فإنه يؤكل بغير ذكاة وإن كان الاستحباب أن يذكى عن مالك، وروي عن يحيى بن سعيد أنه قال: إنما يؤكل بغير ذكاة إن خرج ميتا، وأما إن بُقر عليه فأُخرج يتحرك فلا يؤكل إلا بذكاة، وهو اختيار عيسى بن دينار في المبسوطة، وأبو حنيفة لا يرى ذكاة الجنين في ذكاة أمه، ويقول: إنه لا يؤكل إلا أن يخرج حيا ويذكى، وقوله خلاف الجمهور وما جاء عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، في ذلك من الخبر المأثور، ومن أهل العلم من يرى ذكاة الجنين في ذكاة أمه ويقول: إنه يؤكل وإن لم ينبت شعره، وقد روي عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أنه قال: «ذكاة الجنين في ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر» إلا أنه حديث ضعيف فمذهب مالك هو الصحيح من الأقوال الذي عليه عامة فقهاء الأمصار.
تم كتاب الضحايا بحمد الله(3/382)
[مسألة: العقيقة أيدخر منها أهلُها]
كتاب العقيقة من سماع ابن القاسم من مالك
من كتاب أوله حلف ألا يبيع سلعة سماها
مسألة قال سحنون: حدثني ابن القاسم قال سئل عن العقيقة أيدخر منها أهلُها؟ فقال: ما شأن الناس فيها إلا إطعامها، وما أرى بذلك بأسا، وضرب مثلا، قال: أضحايا يدخرون ويأكلون؟
قال محمد بن رشد: قاس مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، العقائق على الضحايا في جواز الادخار منها؛ لأنها بمنزلتها في أنها نسك يُتقى فيها من العيوب ما يُتقى في الضحايا، ولا يجوز فيها إلا الجذع من الضأن والثني، ولا يباع لحمها ولا جلدها ولا يعطى الجزار على جزارتها شيئا من لحمها، قال في الموطأ: وتكسر عظامها ولا يُمَسّ الصبي بشيء من دمها؛ لأن ترك كسر عظامها وأن يلطخ رأس الصبي بدم من أفعال الجاهلية، وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «في الغلام عقيقة فاهرقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى» ، فقيل: إن إماطة الأذى عنه المأمور به في الحديث هو ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من لطخ رأسه بدمها، وقيل بل ذلك حلق شعر رأسه وهو الأظهر، قال عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] . الآية،(3/383)
فأوجب على المحرم الفدية لإماطة الأذى عن نفسه بحلق شعر رأسه، فكأن العقيقة فيها معنى الفدية عن المولود لإماطة الأذى عنه بحلق شعر رأسه، ولهذا المعنى والله أعلم قال عطاء: يبدأ بالحلق قبل الذبح بخلاف نحر الهدايا في الحج.
[مسألة: حكم العقيقة]
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته ليرفعن أمرا إلى السلطان مسألة قال: وسمعته يقول: إنه ليقع في قلبي من شأن العقيقة أن النصارى واليهود يعملون لصبيانهم شيئا يجعلونهم فيه يقولون قد أدخلناهم في الدين مثل ما يُنَصِّر النصارى صبيانهم، وإن من شأن المسلمين الذبح في ضحاياهم «وعق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن حسن وحسين» ، فيقع في قلبي في الذبح عنهم أنها شريعة الإسلام، وقد سمعت غيري يذكر ذلك.
قال محمد بن رشد: اعتبار مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في أن العقائق من شرائع الإسلام بما ذكره اعتبار بيِّن، ويوضحه أن العقيقة كانت في الجاهلية فأُقرت في الإسلام، فروي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: «كنا في الجاهلية إذا وُلد لنا غلام ذبحنا عنه شاة ولطخنا رأسه بدمها، ثم كنا في الإسلام إذا وُلد لنا ولد غلام ذبحنا عنه شاة ولطخنا رأسه بالزعفران» ، فالعقيقة مشروعة في الإسلام، قيل: سنة غير واجبة يُكره تركها، وهو قول ابن حبيب، وقيل: مستحبة وليست سنة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وُلد له ولد(3/384)
فأحب أن ينسك عنه فليفعل» ، وما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: «الغلام مرتهن بعقيقته تُذبح عنه يوم سابعه، ويحلق رأسه، ويسمى» يدل على وجوبها، وتأويل ذلك عنده أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ بقوله: يخير من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل، وسقط الوجوب.
[مسألة: حلق شعر الصبي يوم السابع]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية مسألة وسئل مالك عن حلاق الصبي يوم السابع، ويتصدق بوزن شعره فضة، قال: ليس ذلك من عمل الناس، وما ذلك عليهم.
قال محمد بن رشد: يريد ليس ذلك مما التزم الناس العمل به ورأوه واجبا، لا أنه أنكره ورآه مكروها، بل مستحب من الفعل، روي: أن فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وزنت شعر حسن وحسين وزينب وأم كلثوم، فتصدقت بزنة ذلك فضة.
[مسألة: العقيقة كيف يصنع بها]
ومن كتاب أوله سلف في المتاع والحيوان مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا عن العقيقة كيف يصنع(3/385)
بها؟ أتطبخ ألوانا، ويُدعى لها الرجال؟ قال مالك: أما الأمر عندنا، فإنها تذبح يوم السابع وتطبخ، ويأكل منها أهل البيت، ويطعم منها الجيران، فأما أن يدعى الرجال، فإني أكره الفخر، وهذا الأمر عندنا في أن يأكل منها أهل البيت، ويطعم الجيران، ويسمى الصبي يوم السابع.
قال محمد بن رشد: لما كانت شاة العقيقة نسكا لله، وقربة إليه؛ استحب ألا يعدل فيها عن سيرة السلف الصالح، أن يأكل منها أهل البيت، ويطعم منها الجيران، وكره أن تطبخ ألوانا فيدعى إليها الرجال؛ لئلا يدخل ذلك الفخر، فتفسد بذلك النية في معنى الطاعة لله بها والقرب، فإن أراد أن يدعو الرجال صنع من غيرها، ودعا عليها على ما قال بعد هذا في سماع أشهب، بعد أن يمضي النسك بنية خالصة لله، لا يشوبها شيء، يتقي أن يفسدها.
وأما قوله: ويسمى الصبي يوم السابع، فهو اختيار مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لما جاء في الحديث من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغلام مرتهن بعقيقة، يذبح عنه يوم السابع، ويحلق رأسه، ويسمى» ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «سموا المولود يوم سابعه» ، والأمر في ذلك واسع، وروي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين ولد له إبراهيم: «ولد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم» ، وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُتِيَ بعبد الله بن أبي طلحة صبيحة الليلة التي وُلد فيها، فحنكه بتمر عجوة، ودعا له وسماه عبد الله» في حديث طويل، ويحتمل أن يكون معنى ما في الحديث من تسمية المولود يوم(3/386)
سابعه ألا تؤخر تسميته عن ذلك؛ لأنه إذا سماه قبل السابع فهو مسمى يوم السابع وبعده، فتتفق الآثار على هذا، قال ابن حبيب على اختيار مالك: ولا بأس أن يتخير له الأسماء قبل السابع ولا يوقع عليه الاسم إلا يوم السابع، فإن مات قبل يوم السابع يسمى بعد موته، ولم يترك بدون تسمية؛ لأنه ولد يُرجى شفاعته، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن السقط ليظل محبنطئا على باب الجنة، يقال له: ادخل الجنة، فيقول: لا أدخل حتى يدخل أبواي» ، وذكر لمالك الحديث الذي ذكر أن «السقط يقول يوم القيامة لأبيه: تركتني بلا اسم» ، فلم يعرفه.
[مسألة: ذبح عقيقة ابنه قبل طلوع الشمس]
ومن كتاب أوله باع غلاما مسألة قال مالك: وجه ذبح العقائق ضحوة، وهي سنة الذبائح في الضحايا وأيام منى، وهي ساعة الذبائح.
قال محمد بن رشد: قاس مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - العقائق على الذبائح في وقت ذبحها، كما قاسها عليها في جواز الادخار من لحمها في أول رسم من السماع، فإن ذبح عقيقة ابنه قبل طلوع الشمس لم يجزه على قياس قوله هذا، وهو نص قوله في المبسوطة، وقال عبد المالك بن الماجشون يجزيه إن كان بعد طلوع الفجر، وهو أظهر؛ لأن العقيقة ليست مضمنة بصلاة، فكان قياسها على الهدايا أحسن من قياسها على الضحايا، وأما إن ذبحها بليل فلا تجزيه، وهو نص قول ابن القاسم في سماع يحيى بعد هذا، وقد اختلفت من أي وقت يحسب سابع الولادة إذا ولد، على أربعة أقوال: أحدها: أنه يحسب له سبعة أيام بلياليها، من غروب الشمس، ويلغى ما قبل ذلك إن ولد في النهار أو في الليل بعد الغروب، ويعق عنه في ضحى اليوم السابع، وهو قول(3/387)
ابن الماجشون في ديوانه.
والثاني: إن ولد في النهار بعد الفجر ألغي ذلك اليوم، وحسب له سبعة أيام من اليوم الذي بعده، وإن ولد قبل الفجر، وإن كان ذلك في الليل حسب له ذلك اليوم، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها. والثالث: أنه إن ولد في شباب النهار قبل الزوال حسب ذلك اليوم، وإن لم يولد إلا بعد الزوال ألغي ذلك اليوم، وهذا القول حكى ابن الماجشون أنه كان قول مالك أولا، ثم رجع عنه. والرابع: أنه يحسب ذلك اليوم وإن ولد في بقية منه قبل الغروب، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، واختار أصبغ أن يلغى ذلك اليوم، فإن حسب أيام من تلك الساعة إلى مثلها اجتزأ بذلك، وهو قول حسن، فيذبح بعد كمال ستة أيام من الساعة التي ولد فيها، ودخوله في اليوم السابع، وإن كان ذلك في آخر النهار لما جاء عنه في الحديث من أنه يذبح عنه يوم سابعه.
[مسألة: فيما ينثر على الصبيان عند خروج أسنانهم وفي العرائس]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مسألة قال مالك: أخبرني شيخ قديم قال: لما كانت فتنة ابن الزبير انتهب الناس تمر مال الله، قال: فاشترت أمي من ذلك التمر، فعملت منه خلا حتى طاب، وذهبت الفتنة، فأمرتني أمي أن أذهب إلى ابن عمر أسأله عن ذلك، فأتيت ابن عمر فسألته عن ذلك، فأفتاني أن أهريقه ولا نأكله، قال مالك: أرى ابن عمر إنما كرهه لموضع النهبة، قال مالك فيما ينثر على الصبيان عند خروج أسنانهم، وفي العرائس، فيكون فيه النهبة قال: لا أحب أن يؤكل منه شيء إذا كان يُنتهب.(3/388)
قال محمد بن رشد: وجه فتوى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المرأة أن تهريق الخل ولا تأكله، هو أن التمر الذي عملته منه كان من مال الله، فكان الحق فيه أن يقسمه الإمام بالاجتهاد، فلما لم تكن هي ممن لها الاجتهاد في ذلك، لم يأمرها بالتصدق به، ورأى لها الخلاص أن تهريقه ولا تأكله؛ لأن تصدقها به من غير أن يكون لها الاجتهاد في ذلك من جنس النهبة التي وقعت فيه أولا، والله أعلم، ويحتمل أن يكون ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أفتاها بإراقته، وترك أكله عقوبة لها على ما فعلت من عملها إياه من التمر المنهوب، ولم يأمرها بالصدقة؛ لئلا يظن ظان أنه تتصدق به على مِلْكها، فتكون مأجورة في فعلها، فيكون ذلك ذريعة إلى استجازة ذلك الفعل، وهذا من نحو ما قيل في من فعل ما لا يجوز له من تخليل الخمر، أنها لا تؤكل وتهرق ولا يتصدق بها.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن «أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإكفاء القدور يوم خيبر من لحوم الحمر الأهلية» إنما كان من أجل أنها كانت منتهبة، وأما ما ينثر على الصبيان عند خروج أسنانهم، وفي العرائس، فيكون فيه النهبة، فكرهه مالك بكل حال؛ لظواهر الآثار الواردة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك، من ذلك نهيه عن النهبة، وأنه قال: «النهبة لا تحل» ، وأنه قال: «من انتهب فليس منا» ، وفي ذلك تفصيل، أما ما ينثر عليهم ليأكلوه على وجه ما يؤكل دون أن ينتهب، فانتهابه حرام لا يحل ولا يجوز؛ لأن مُخرِجه إنما أراد أن يتساووا في أكله على وجه ما يؤكل، فمن أخذ منه أكثر مما كان يأكل منه مع أصحابه على وجه الأكل، فقد أكل حراما، وأكل سحتا لا مرية فيه، ودخل تحت الوعيد، وأما ما ينثر عليهم لينتهبوه فهذا كرهه مالك، وأجازه غيره، وتأول أن نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الانتهاب إنما معناه انتهابا ما لم يُؤذن في انتهابه، بدليل ما روي عن عبد الله بن قرط، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحب الأيام إلى الله يوم(3/389)
النحر، ثم يوم القر، فقرب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدنات خمسا أو ستا، فطفقن يزدلفن إليه بأيهن يبدأ، فلما وجبت جنوبها قال: كلمة خفية لم أفهمها، فقلت للذي كان إلى جنبي ما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: من شاء انقطع» ، وما روي من «أن صاحب هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا رسول الله، كيف أصنع بما عطب من الهدي؟ فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "انحرها ثم الو قلائدها في دمها، ثم خل بين الناس وبينها يأكلونها» ؛ لأنه أباح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذين الحديثين للناس الذين يحل لهم الهدي أن يأخذ منهم من شاء ما أخذ من غير مقدار، ولا قسم معلوم، وفي هذا بيان إن شاء الله.
[مسألة: الضأن والمعز سواء تجزي في العقيقة]
مسألة قال مالك: الضأن والمعز سواء تجزي في العقيقة والمعز سواء، يريد في الإجزاء لا في الأفضل؛ إذ لا اختلاف أن الضأن أفضل من المعز، وفي قوله دليل أنه لا يجزي فيها ما عدا الضأن والمعز، وهو قوله في سماع يحيى بعد هذا، وقد مضى في سماع أشهب من كتاب الضحايا ما ظاهره ظهورا بينا أن البقر والإبل تجزي في(3/390)
ذلك أيضا، وهو الأظهر قياسا على الضحايا، وقد مضى الاختلاف في ترتيب الأفضل في ذلك في الضحايا في رسم مرض وله أم ولد فحاضت من سماع ابن القاسم، وهو يدخل في العقائق على قياس هذا القول، وبالله التوفيق، لا رب غيره، ولا معبود سواه.
[مسألة: لم يعق عن ولده حتى كبر وعقل]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك رواية سحنون مسألة قال سحنون أخبرني ابن القاسم وابن نافع قالا: سئل مالك عمن لم يعق عن ولده حتى كبر وعقل، أترى أن يعق عنه إذا كبر؟ فقال: لا، فقيل له: أفرأيت الذي لا يتهيأ له ما يعق به عن ولده حتى يمر السابع؟ قال: لا، إلا أن يكون قريبا، ويعق عنه أيضا بعد ما خضب لحيته، أرأيت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين لم يعق عنهم في الجاهلية، أعقوا عن أنفسهم في الإسلام؟ هذه الأباطيل.
قال محمد بن رشد: المشهور عن مالك مثل ما يأتي له بعد هذا في هذا السماع، أنه لا يعق عن المولود إلا يوم سابعه، فإن لم يفعل حتى غربت الشمس من يوم السابع، فقد فاتت العقيقة، خلاف قوله في هذه الرواية: إنه يعق عنه بعد السابع إذا كان قريبا، وروى ابن وهب أنه إن لم يعق عنه يوم سابعه عق عنه يوم السابع الثاني، فإن لم يفعل عق عنه في الثالث، فإن جاز ذلك فقد فات موضع العقيقة، وروى مثله عن عائشة، وروى ابن عبد الحكم القولين عن مالك، واختار رواية ابن وهب، ومن أهل العلم من أوجب العقيقة بظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الغلام مرتهن بعقيقته» ، وبغيره(3/391)
من الأحاديث التي يدل ظاهرها على الوجوب، فقال: إن لم يعق عنه وهو صغير يلزمه أن يعق عن نفسه وهو كبير، واستدل بما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من «أنه عق عن نفسه بعد ما جاءته النبوة» ، ولم يصح ذلك عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأنكره في هذه، وقال: إن ذلك من الأباطيل.
[مسألة: العقيقة أهي عن الغلام والجارية]
مسألة وسئل عن العقيقة أهي عن الغلام والجارية سواء؟ فقال: نعم، الغلام والجارية سواء، يعق عنهما يوم سابعهما.
قال محمد بن رشد: قد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من أحب أن ينسك عن ولده فلينسك عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاتان» ، والمكافأتان المتماثلتان المشتبهتان، وذهب إلى هذا جماعة من أهل العلم منهم ابن عمر، وعائشة زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فمن أخذ به فما أخطأ، ولقد أصاب.
[مسألة: وقت العقيقة]
مسألة قيل: أرأيت إن لم يتهيأ له يوم سابعه ويتهيأ له بعد ذلك بيوم أو بيومين أو في السابع الثاني؟ قال: لا يعق إلا في اليوم السابع، قيل له: أفيؤكل منها، فقال: نعم، يؤكل منها ويطعم، قيل له: أيعمل منها الطعام فيدعى عليه الناس؟ قال: ما رأيت الناس هاهنا عندنا على هذا، وما رأيتهم يفعلونه، إنما رأيتهم يقطعونه ثم يجمعونه في شيء، ثم يأكلون منه ويطعمون منه، ورأيتهم يبعثون به إلى الجيران، فإذا أرادوا أن يصنعوا طعاما صنعوه من غيرها، ثم دعوا عليه.(3/392)
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يعق عنه بعد السابع وإن قرب هو قول ابن القاسم، وهو المشهور من قول مالك، خلاف ما تقدم في أول السماع، وقد مضى هناك الخلاف في ذلك وما بعد ذلك من أنه يؤكل منها ويطعم الجيران، ولا يصنع طعام يدعى عليه الناس إلا من غيرها هو معنى ما مضى في رسم سلف في المتاع والحيوان المضمون، من سماع ابن القاسم، وقد مضى عليه من القول هناك ما فيه كفاية ومقنع.
[مسألة: وقت تسمية الغلام]
مسألة وسئل مالك فقيل له: أيكره أن يسمى أحد قبل يوم السابع؟ قال: ما رأيت أحدا يسمى قبل يوم السابع، إنما يعق عنه ويسمى يوم السابع.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام أيضا على هذه المسألة في رسم سلف في المتاع والحيوان، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يولد فيموت قبل السابع أعليه فيه عقيقة]
مسألة قيل له: أرأيت الذي يولد فيموت قبل السابع، أعليه فيه عقيقة؟ فقال: لا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه؛ لأن العقيقة إنما يجب ذبحها عنه يوم السابع إذا حلق رأسه، وأميط عنه الأذى على ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ومضى القول فيه في أول رسم، من سماع ابن القاسم، فإذا مات قبل ذلك سقطت عنه العقيقة.
[مسألة: إذا عق عن الولد يوم السابع أيجوز أن يطعم في ذلك لحما نيا]
مسألة قيل: أرأيت الرجل إذا عق عن الولد يوم السابع، أيجوز أن يطعم في ذلك لحما نيا؟ قال: لا بأس بذلك، وفي ذلك سعة إن(3/393)
شاء الله، وإن أطعم نيا أو غيره، وقد كان الناس يطعمون ذلك الجيران.
قال محمد بن رشد: قد تكرر هذا المعنى في هذا السماع، في سماع ابن القاسم وغيره، ومضى القول فيه، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: كان سابع ابنه يوم الأضحى هل تجزئ عنه في العقيقة والأضحية]
مسألة قال موسى بن معاوية: قال معن: وسئل مالك عن رجل كان سابع ابنه يوم الأضحى، وليس عنده إلا شاة هل تجزئ عنه في العقيقة والأضحية؟ فقال: بل يعق بها.
قال محمد بن رشد: معنى هذا إذا رجا أن يجد أضحية في بقية أيام الأضحى، وأما إذا لم يرج ذلك، فليضح بالشاة؛ لأن الضحية أوجب من العقيقة عند مالك وجميع أصحابه؛ لأن الأضحية قيل فيها: إنها سنة واجبة، وقيل: سنة غير واجبة، والعقيقة قيل فيها: إنها سنة غير واجبة، وقيل فيها: إنها سنة مستحبة، وقد مضى هذا في رسم حلف، من سماع ابن القاسم، ولو كان ذلك في آخر أيام النحر لكانت أولى، قاله العتبي، وهو على قياس ما قلناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: العقيقة أيطعم منها الرجل جيرته الأغنياء]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب أوله نقدها نقدها مسألة قال عيسى: وسئل ابن القاسم عن العقيقة، أيطعم منها الرجل جيرته الأغنياء؟ قال: أهل الحاجة أحب إلي، وإن فعل فأرجو ألا(3/394)
يكون عليه شيء، قيل له: أيصنع صنيعا يدعو إليه؟ قال: لا يعجبني.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن أهل الحاجة من جيرته أولى أن يطعمهم منها من الأغنياء، وإن كانت تحل للأغنياء؛ لأن الله تعالى حض على إطعام الفقراء من لحوم الهدايا التي تحل للأغنياء، قال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] ، وقال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] ، والقانع هو الفقير، وأما كراهيته أن يصنع صنيعا يدعى إليه، فمعناه من شاة العقيقة على ما تقدم في سماع أشهب، وفي رسم سلف في المتاع والحيوان المضمون، من سماع ابن القاسم، وأما من غير شاة العقيقة فلا بأس بذلك، وقد كان عبد الله بن عمر وغيره من السلف يدعون على الولاد والختان، ولا بأس على من دعي إلى ذلك أن يجيب إليه، وقد مضى في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم، من كتاب الصيام، ما تجب فيه إجابة الداعي مما لا تجب مستوفى، وبالله التوفيق.
[مسألة: العقيقة هل يدعو إليها الرجل والرجلين من إخوانه]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
مسألة وسئل ابن القاسم عن العقيقة هل يدعو إليها الرجل والرجلين من إخوانه؟ قال: لا يدعو لها أحدا، وإنما هي لجيرانه يقرب لهم منها.(3/395)
قال محمد بن رشد: قد مر هذا المعنى متكررا في هذا السماع، وسماع أشهب، وسماع ابن القاسم، ومضى من القول عليه ما لا زيادة فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: ذبح عقيقة ابنه بليل أيجب عليه بدلها]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب الصلاة مسألة قال يحيى: وسألته عمن ذبح عقيقة ابنه بليل، أيجب عليه بدلها كما يجب على من ذبح أضحيته ليلا؟ قال: أرى ذلك عليه واجبا، وحالهما عنده واحد، يريد الضحية والعقيقة.
قال محمد بن رشد: أما من ذبح عقيقته بليل فلا تجزئ، واختلف أن ذبحها قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر على ما مضى القول عليه في رسم باع غلاما، من سماع ابن القاسم.
[مسألة: سنة العقائق]
مسألة قال سحنون: قال مالك: لا تجزئ في العقائق الإبل ولا المعز، وإنما سنة العقائق الغنم لا غير، وكذلك جاءت السنة.
قال محمد بن رشد: وهذا مثل ظاهر قوله أيضا في رسم سن، من سماع ابن القاسم، خلاف ما حكى عنه ابن حبيب، من أنه لا يضحى ولا يعق إلا بالضأن والمعز والإبل والبقر، والضأن أفضلها، وهو ظاهر ما في سماع أشهب، من كتاب الضحايا، فقف على ذلك وتدبره.(3/396)
[مسألة: الجوز واللوز والسكر ينثر في الإمكاك أو الختان]
من سماع أصبغ من ابن القاسم مسألة وسئل أصبغ عن الجوز واللوز والسكر ينثر في الإمكاك أو الختان، هل ترى ذلك جائزا؟ قال: نعم، ذلك جائز لا بأس به، ولا تجوز الخلسة فيه، فأما نثره للناس وعليهم للأكل، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته هاهنا مرة أخرى، وبالله التوفيق.
تم كتاب العقيقة(3/397)
[: كتاب الحج الأول]
[مسألة: رمى الجمرة الأولى ثم الأخيرة ثم الوسطى]
كتاب الحج الأول من سماع ابن القاسم من مالك
من كتاب قطع الشجرة
مسألة قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك في من رمى الجمرة الأولى ثم الأخيرة ثم الوسطى، فإنه يرجع فيرمي الأخيرة، ثم حسبه، قال مالك: وإن رمى الأخيرة، ثم الوسطى، ثم الأولى؛ عاد لرميه من الوسطى، وإن رمى الأولى ثم الأخيرة، رمى الوسطى ثم الأخيرة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الترتيب في رمي الجمرات الثلاث في كل يوم من أيام منى من سنة الرمي، فإن ذكر ذلك من يومه أصلح رميه، بأن يلغي ما قدمه ووضعه في غير موضعه، فيفعله مرة أخرى، وما بعده حتى يخلص له الترتيب ولا دم عليه، وإن لم يذكر ذلك في يومه حتى غابت الشمس، أصلح رميه أيضا بما ذكرناه حتى يصلح له الترتيب ما لم تنقض أيام منى، وكان عليه الدم، وقيل: لا دم عليه على اختلاف قول مالك في المدونة، فيمن ترك رمي جمرة من الجمار حتى غابت الشمس، ولم تنقض أيام منى، وإن لم يذكر ذلك إلا بعد أيام منى، فقد فاته الإصلاح، وعليه الدم قولا واحدا، قال ابن المواز: ولو رمى الجمار بحصاة حصاة، كل جمرة حتى أتمها(3/399)
بسبع، فيلزم الثانية بست، ثم الثالثة بسبع، وهو صحيح؛ لأن الترتيب يصح له بهذا.
[مسألة: أفاض وطاف بالبيت ثم وطئ أهله]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول فيمن أفاض وطاف بالبيت ثم وطئ أهله، قبل أن يركع: إنه إن كان بمكة أفاض مرة أخرى فطاف وركع، ثم خرج معتمرا ويهدي، وإن خرج إلى أهله ركع ركعتين حيث كان وأهدى.
قال محمد بن رشد: هذا على أصله فيمن وطئ بعد رمي الجمرة وقبل الإفاضة، أنه يهدي ويعتمر ليأتي بطواف الإفاضة الذي أفسده بالوطء قبله في إحرام صحيح، فلما كان الذي نسي الركعتين من طواف الإفاضة يجب عليه أن يعيد طواف الإفاضة ما كان بمكة أو قريبا منها، كان الذي وطئ قبل أن يعيد الطواف في حكم من وطئ قبل الطواف في وجوب الهدي والعمرة عليه.
وقوله: وإن خرج إلى أهله ركع ركعتين حيث كان، وأهدى هديا، معناه إن لم يذكر ذلك حتى رجع إلى أهله، ولو علم وهو بمكة أو قريب منها أنه وطئ قبل الركعتين فخرج إلى بلده لوجب عليه الرجوع لما وجب عليه من إعادة الإفاضة، ومن العمرة، وهذا على القول بأن من وجب عليه أن يعيد في الوقت، فلم يعد حتى ذهب الوقت أنه يجب عليه أن يعيد بعد الوقت، ولأهل العلم فيمن وطئ قبل الإفاضة وبعد الرمي ثلاثة أقوال؛ أحدها: هذا أنه يعتمر ويهدي. والثاني: أنه يهدي ولا عمرة عليه، وقد ذكر ابن القاسم في الأول من حج المدونة أن هذا هو قول جل الناس. والثالث: أنه قد أفسد حجه، وهو قول عبد الله بن عمر وجماعة من السلف، وظاهر قول عمر بن الخطاب: من رمى الجمرة، فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب، وفي بعض الروايات والصيد، واختلف قول مالك فيمن وطئ بعد الوقوف بعرفة(3/400)
وقبل رمي الجمرة، فالمشهور عنه أنه قد أفسد حجه، وقد روي عنه أن حجه تمام وعليه العمرة والهدي، وأما من وطئ قبل الوقوف بعرفة، فلا خلاف بين أهل العلم في أنه قد أفسد حجه.
[مسألة: ترك أهله بمكة من الآفاق وخرج لغزو أو تجارة]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول: ليس على من ترك أهله بمكة من الآفاق، وخرج لغزو أو تجارة إذا قدم في أشهر الحج متعة، كما ليس على أهل مكة متعة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، ومعناها أنه قدم مكة قبل أشهر الحج، فترك أهله بها على نية الاستيطان لها، ثم خرج لغزو أو لتجارة، فقدم معتمرا في أشهر الحج، وكذلك لو سكنها بغير أهل قبل أن يتمتع، قاله ابن المواز، فليست هذه المسألة بخلاف لمسألة كتاب الحج الأول من المدونة في الذي يقدم مكة في أشهر الحج معتمرا، ينوي استيطانها؛ لأنه لم يتقدم له استيطانها قبل قدومه معتمرا، فلذلك قال فيها: إنه ليس كأهل مكة؛ إذ لعله سيبدو له فيما نوى، قوله فيها معارض لما في إرخاء الستور من المدونة، وموضع الخلاف بينهما، هل يصدق فيما يدعي أنه أراد من ذلك أم لا؟
[مسألة: يلبي بالحج وهو مولى عليه]
مسألة وقال مالك في الرجل يلبي بالحج، وهو مولى عليه، والمرأة عند أبيها، أو عند زوجها إن ذلك من السفه، ولا يجاز ذلك، ولا يمضي لمن فعله، وليس على المرأة أن تقضيه إذا هلك زوجها أو أبوها.(3/401)
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنهم أحرموا من بيوتهم دون الميقات، وقبل أشهر الحج، فلذلك كان للأب والزوج والولي ألا يمضوا فعلهم، وأن يحلوهم من إحرامهم؛ لأن ذلك خطأ منهم وتعد، وقوله: وليس على المرأة أن تمضيه إذا هلك زوجها أو أبوها، مثل ما في المدونة؛ لأن معنى المسألة أنهم أحرموا بحجة الفريضة، فليس عليهم إذا قضوا حجة الفريضة للإحرام الذي حللهم منه شيء، ولو كانوا إنما أحرموا بحج التطوع، وتركوا الفريضة لوجب عليهم قضاء الحجة التي حللوا منها بعد قضاء حجة الفريضة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، خلاف قول أشهب: إن العبد إذا أحرم بغير إذن سيده، فحلله سيده من إحرامه أنه لا يجب عليه في ذلك قضاء؛ لأنه إنما حله بحجة بعينها، كمن نذر صوما بعينه، فمنعه من صيامه عذر، وقال ابن المواز: إن المولى عليه والمرأة عند أبيها لا يلزمهم قضاء الإحرام الذي حللوا منه، كما لا يلزمهم العتق إذا ولوا أنفسهم، وهذا هو مذهب أشهب الذي ذكرناه.
[مسألة: خرج يريد التمتع فألفى الناس قد فرغوا من الحج]
مسألة قال مالك: لو أن رجلا خرج يريد التمتع، فألفى الناس قد فرغوا من الحج، لم يقع عليه شيء.
قال محمد بن رشد: قوله يريد التمتع، أي يريد العمرة في أشهر الحج مثل الحج، فإذا أحرم بعمرة أو بحج، فألفى الناس قد فرغوا من الحج، فلا شيء عليه كما قال، إلا إكمال العمرة التي أحرم بها؛ لأنه قد فاته الحج(3/402)
في ذلك العام، وفي بعض الروايات خرج يريد الحج، والصحيح خرج يريد التمتع؛ لأن من خرج يريد الحج، فألفى الناس قد فرغوا من الحج، لا إشكال في أنه لا شيء عليه إن كان لم يحرم، وإن كان قد أحرم، فلا بد له من قضاء الحج الفائت، وعليه الهدي.
[مسألة: هلك رجل بالفسطاط وأوصى أن يحج عنه]
مسألة قلت لابن القاسم: لو هلك رجل بالفسطاط، وأوصى أن يحج عنه، فدفع عنه إلى رجل ليحج عنه، ولم يشترطوا عليه أن يحرم من ذي الحليفة أو غيرها، فخرج فأحرم عن نفسه من ذي الحليفة بعمرة، وحج عن الميت من مكة؟ قال: أراه ضامنا للحجة، أو يرد المال، ولا أبالي اشترطوا عليه الإحرام أو لم يشترطوا؛ لأن من دفع إليه مالا ليحج به عن ميت، فليحرم من ميقات الموضع الذي يحج منه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه ضامن، وإن لم يشترطوا عليه الإحرام من ذي الحليفة، هو القول الذي رجع إليه ابن القاسم في المدونة، وكان أولا يقول: إنه لا ضمان عليه إلا أن يشترط عليه الإحرام من ذي الحليفة، وفي أصل السماع أنه لا ضمان عليه، وإن اشترطوا عليه أن يحرم من ذي الحليفة، ولا حجة للمستأجر عليه في أن قدم بين يدي حجه عمرة، وإن اشترط عليه ألا يفعل وهو بعيد، فهي ثلاثة أقوال؛ أبينها القول الذي رجع إليه ابن القاسم في المدونة، وهو قوله في هذه الرواية، وقوله أراه ضامنا للحجة أو يرد المال ليس معناه أنه مخير في ذلك، وإنما معناه أنه ضامن للحجة إن كان أخذ المال على الإجارة، إذ لم تقع الإجارة على أن يحج عليه في ذلك العام بعينه، وإن قال: استأجرك على أن يحج عنه في هذه العام، فلا يتعين بذلك العام، كمن استأجر سقاء على أن يسوق له اليوم قلة ماء، فإن لم يسقها ذلك اليوم وجب عليه أن يسوقها في اليوم الذي بعده، وإن استأجره على الحج(3/403)
وسكت فهو على أول سنة، فإن لم يحج في أول سنة لزمه أن يحج فيما بعدها، وذهب ابن العطار إلى أن السنة تتعين بذكرها، ولا تصح الإجارة عنده إلا بتعيينها، فقال: عقد الإجارة في ذلك على سنة مسماة لم تأت بعد، على أنه موسع عليه في تعجيلها، فأما قوله: إنها تتعين بذكرها، فقد قيل ذلك أنها تتعين إذا عينت، وهو الذي يدل عليه ما في الحج الثالث من المدونة، وأما ما ذهب إليه من أن الإجارة لا تصح إلا بتعيينها، فليس بصحيح، قد أجاز في سماع أبي زيد من هذا الكتاب الاستئجار على حجة مقاطعة في غير سنة بعينها، وسيأتي الكلام عليها هناك إن شاء الله، وأنه يرد المال إن كان أخذه، على البلاغ؛ لأنه إذا أخذه على البلاغ، فإنما هو رسول لهم لم يضمن الحج، فإذا تعدى فأنفق مالهم في غير ما إذن له فيه، صار ضامنا له، وترتب في ذمته، ومن ترتب في ذمته مال لم يجز أن يصرف في إجارة عند مالك وجميع أصحابه.
[مسألة: خرج في مشي عليه فمرض في بعض الطريق]
ومن كتاب القبلة مسألة قال ابن القاسم، وسمعت مالكا: قال فيمن خرج في مشي عليه، فمرض في بعض الطريق، فركب يوما أو ليلة، ثم مشى بعد ذلك حتى بلغ، فأرجو أن يجزئ عنه، ويهدي ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد صام عشرة أيام.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها من الدواوين أنه إن كان الذي ركب اليسير الأميال واليوم وشبهه، فليس عليه أن يعيد ثانية، ويجزئ الهدي، وسواء قرب مكانه أو بعد، وقد روى ابن وهب، عن مالك: أنه لا هدي عليه إن بعد مكانه كمصر وشبهها، وأما إن كان كثر ما ركب، ولم يكن جل الطريق، فإنه يرجع ثانية للمشي ما ركب باتفاق في المذهب إن كان(3/404)
موضعه قريبا كالمدينة ونحوها، واختلف إن كان موضعه بعيدا كمصر ونحوها، فقيل: إنه يرجع، قاله في كتاب ابن المواز، وهو ظاهر ما في المدونة في تفسير ابن مزين أنه لا يرجع، وأما إن بعد موضعه جدا كإفريقية والأندلس، فليس عليه أن يرجع ويجزئه الهدي؛ لأن الرجوع ثانية من الأندلس وشبهها من البعد أشق من الرجوع من المدينة ونحوها ثالثة، وأما إن كان الذي ركب جل الطريق فيما قرب، فعليه أن يمشي الطريق كله ثانية، رواه ابن الماجشون عن مالك في المبسوطة، ومثله في كتاب ابن المواز.
[مسألة: حق أهل مكة وغيرهم ممن يقدم عليهم من الناس في دور مكة]
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع سلعة سماها مسألة وسئل مالك عن تفسير هذه الآية: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] ، أي سواء في الحق والسعة، والباقي في أهل البادية وغيرهم ممن يقدم عليهم، وقد كانت الفساطيط تضرب في الدور، ولقد سمعت أن عمر بن الخطاب كان ينزع أبواب بيوت مكة إذا قدم الحاج.
قال محمد بن رشد: تأويل مالك لهذه الآية على أن حق أهل مكة وغيرهم ممن يقدم عليهم من الناس في دور مكة سواء، واستدلاله على ذلك بما ذكر من فعل عمر بن الخطاب، يدل على أنها لا تباع ولا تكرى خلاف ظاهر قول ابن القاسم في كتاب كراء الدور والأرضين، وكتاب الحوائج من المدونة، لما ذكر من نفاق كراء الدور بها في أيام الموسم، وليس في الآية بيان يدفع القدر؛ لاحتمال رجوع الضمير من قوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25](3/405)