[المقدمة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم الحمد لله الكبير المتعال، العزيز المهيمن ذي العظمة والجلال، المنفرد بصفات الكمال، المنزه عما نحله أهل الزيغ والضلال، المعبود بكل مكان، والمسبح بكل لسان، في كل حين وأوان، مصرف الأزمنة والدهور، وجاعل الظلمات والنور، وباعث من في القبور يوم النشور، ليجازي المحسن بإحسانه الذي هداه إليه، ويعاقب المسيء على إساءته التي قدرها عليه، بإرادته السابقة، وحكمته البالغة، لا لنفع يصل إليه بطاعة المطيعين، ولا لضر يلحقه بعصيان العاصين، تعالى الله عن ذلك أعدل الحاكمين، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة من ماء مهين، في قرار مكين، ثم نفخ فيه من روحه وأنشأه خلقا آخر في أحسن تقويم، وهدى بفضله من شاء منهم إلى الصراط المستقيم، ووفقه لما ارتضاه من الدين القويم، الذي جعله طريقا إلى ما أعده لأوليائه من الكرامة في جنات النعيم، ورفع فيها درجات من أراد به خيرا ففقهه في الدين، وجعله مقتفيا لآثار من سلف من الأئمة المهتدين، حمدا يقتضي رضاه، ويوجب المزيد من زلفاه. وصلى الله على محمد نبي الرحمة، [والداعي إلى ربه] وهادي الأمة، وخاتم النبيين، وسيد المرسلين، ورسول رب العالمين، إلى الخلق أجمعين، الشافع في(1/25)
المذنبين، [وقائد الغر المحجلين، يوم الجزاء بالدين، إلى دار المحسنين المطيعين، ومأوى الأولياء المقربين] وعلى أزواجه وذريته وأهل بيته وجميع صحبه البررة الراشدين المهديين، الذين ارتضاهم الله لصحبته، واختارهم لنصرته، فنصروه في حياته، وقاموا بإحياء الدين بعد وفاته، فبلغوا السنن والآثار، وما جاء به من تبيين مجمل القرآن، ونهجوا طرق الأحكام، والفصل بين الحلال والحرام، صلاة تشرفه [بها] ، في القيامة، وتوجب له الحظوة والكرامة، وتوصله إلى ما وعده به من الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة، برحمته إنه منعم كريم.
[قال محمد بن رشد] : أما بعد ما تقدم من حمد الله عز وجل، والثناء عليه بما هو أهله، والصلاة على نبيه المصطفى، وأهل بيته المرتضى، فإن من أسباب الخير التي يسرها الله [تبارك وتعالى] من فضله، وسببها بمنه وطوله، أن دخل علي في صدر سنة ست وخمسمائة بعض الأصحاب من أهل جيان، وبعض الطلبة من أهل شلب يقرأ علي في كتاب الاستلحاق من العتبية، فمر في قراءته علي بحضرته بأول مسألة من سماع أشهب، وهي من المسائل المشكلة؛ لأنه قال فيها: سألنا مالكا أترى العمل على الحديث الذي جاء في القافة أيؤخذ بقولهم اليوم ويصدقون؟ فقال: أما فيما تلحقه من الولد فنعم، وأما بقايا [أهل] الجاهلية فلا أرى أن يؤخذ بقولهم ويصدقوا، ولا يكون ذلك إلا في ولادة الجاهلية. ووقع في بعض الكتب:(1/26)
وأما بقايا [أهل] الجاهلية فلا، وأرى أن يؤخذ بقولهم، وفي بعضها: ولا يكون ذلك في ولادة الجاهلية. فأشكلت على القارئ المسألة، كما أشكلت على من سواه، وحق لها أن تشكل عليهم؛ لما ذكرناه من اختلاف الألفاظ فيها مع تقديم وتأخير وقع في سياقتها. وسألني أن أبينها عليه ففعلت وكان مما بينت عليه من أمرها أن الاختلاف الذي وقع فيها في الكتب يرجع إلى روايتين مستقيمتين، ففي الرواية الواحدة بثبت الواو في " وأرى " وثبت " إلا " في قوله: ولا يكون ذلك إلا في ولادة الجاهلية [وفي الرواية الأخرى بسقط الواو من وأرى، وسقط إلا من قوله: ولا يكون ذلك إلا في ولادة الجاهلية] . وبسطت له القول في ذلك وبينت عليه وجه كل رواية منهما وما يستقيم به معناهما، فسر بذلك هو ومن حضر المجلس، وقالوا: والله لقد ظهرت المسألة وارتفع الإشكال منها، وكم من مسألة عويصة في العتبية لا يفهم معناها وتحمل على غير وجهها، فلو استخرجت المسائل المشكلات منها وشرحتها وبينتها لأبقيت بذلك أثرا جميلا يبقى عليك ذكره، ويعود عليك ما بقيت الدنيا أجره. فقلت لهم: وأي المسائل هي المسائل المشكلات منها المفتقرة إلى الشرح والبيان، من الجليات غير المشكلات التي لا تفتقر إلى كلام ولا تحتاج إلى شرح وبيان؟! فقل مسألة منها وإن كانت جلية في ظاهرها، إلا وهي مفتقرة إلى التكلم على ما يخفى من باطنها.
ابدأ من أول مسألة من كتاب الوضوء: سمعت مالكا قال: لا أرى لأحد أن يتوضأ بفضل وضوء النصراني، فأما بسؤره من الشراب فلا أرى بذلك بأسا. قال ابن القاسم: وقد كرهه غير مرة، وقال سحنون: إذا أمنت أن يشرب خمرا أو يأكل خنزيرا فلا بأس أن يتوضأ به، كان لضرورة أو لغير(1/27)
ضرورة. فهذه مسألة جلية في ظاهرها، مفتقرة إلى التكلم على ما يخفى من باطنها؛ لأنه قال: إنه لا يتوضأ بفضل وضوء النصراني، ولم يبين فضل وضوئه ما هو؟ إذ ليس من أهل الوضوء، ولا بين العلة في الامتناع عن الوضوء منه ما هي؟ ولا هل يمتنع من الوضوء منه مع وجود غيره؟ أو على كل حال وجد غيره أو لم يجد؟ ولا ما يجب عليه إن توضأ به وصلى في الوجهين جميعا؟ ولا هل له أن ينتقل إلى التيمم إن لم يجد سواه أم لا؟ والعلة في جواز ذلك إن جاز والمنع منه إن لم يجز ما هي؟ وما يكون الحكم إن انتقل إلى التيمم على القول بأنه لا ينتقل إليه، وإن لم ينتقل إليه على القول بأنه ينتقل إليه؟ ولا بين العلة في الفرق بين سؤره وفضل وضوئه ما هي؟ ولا هل يستوي ذلك عنده على القول بأنه كره سؤره في جميع الأحوال أم لا؟ فهل هذا كله إلا مما يحتاج إلى بيانه؟ وكذلك يحتاج إلى معرفة قول سحنون في تفرقته التي فرق في سؤر النصراني بين أن يؤمن أن يكون قد أكل خنزيرا أو شرب خمرا، أو لا يؤمن ذلك، هل هي خلاف لقولي مالك جميعا؟ أو لأحدهما؟ أو تفسير لهما؟ فإذا كان الأمر على هذا أو قريب منه في أكثر المسائل، فقصد القاصد إلى التكلم على بعضها تعب وعناء بغير كبير فائدة؛ إذ قد لا يشكل على كثير من الناس ما يظنه هو مشكلا فيتكلم عليه [ويشكل عليهم ما يظنه هو جليا فيهمل التكلم عليه] . وإنما كانت تكون الفائدة التامة التي يعظم النفع بها، ويستسهل العناء فيها، أن يتكلم على جميع الديوان كله مسألة مسألة على الولاء، كي لا يشكل على [أحد من] الناس معنى في مسألة منها إلا ويجد التكلم عليها، والشفاء مما هو في نفسه منها؛ لأنه ديوان لم يعن به أحد ممن تقدم كما عنوا بالمدونة التي قد كثرت الشروح لها، على أنه كتاب(1/28)
قد عول عليه الشيوخ المتقدمون من القرويين والأندلسيين، واعتقدوا أن من لم يحفظه ولا تفقه فيه كحفظه للمدونة وتفقهه فيها، بعد معرفة الأصول، وحفظه لسنن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فليس من الراسخين في العلم، ولا من المعدودين فيمن يشار إليه من أهل الفقه.
فلما سمعوا ذلك من قولي تنبهوا له وشرهوا إليه وحرصوا عليه، ورغبوا إلي فيه في غير ما موطن آحادا مفترقين، وجماعة مجتمعين، فتوقفت عن ذلك مدة مخافة العجز عن بلوغ الغرض والبغية فيه بتمامه، بقاطع يحول دون إكماله. ثم إن الله تعالى شرح صدري للشروع فيه، بعد أن خلصت النية في ذلك لله عز وجل رجاء الأجر على ذلك من الله عز وجل والمثوبة، ودعوت ضارعا في التوفيق والمعونة، ورجوت أن يجازي الله على النية في تمامه إن حال قاطع دون ذلك، فشرعت فيه وبدأت بكتاب الوضوء من أول الديوان مسألة مسألة على الولاء، أذكر المسألة على نصها، ثم أشرح من ألفاظها ما يفتقر إلى شرحه، وأبين من معانيها بالبسط لها ما يحتاج إلى بيانه وبسطه، وأحصل من أقاويل العلماء فيها ما يحتاج إلى تحصيله، إذ قد تتشعب كثير من المسائل وتفترق شعبها في مواضع، وتختلف الأجوبة في بعضها لافتراق معانيها، وفي بعضها باختلاف القول فيها، فأبين موضع الوفاق منها من موضع الخلاف، وأحصل الخلاف في الموضع الذي فيه منها الخلاف، وأذكر المعاني الموجبة لاختلاف الأجوبة فيما ليس باختلاف، وأوجه منها ما يحتاج إلى توجيه بالنظر الصحيح والرد إلى الأصول والقياس عليها، فإن تكررت المسألة في موضع آخر دون زيادة عليها ذكرتها في موضعها على نصها، وأحلت على التكلم عليها في الموضع الأول؛ وإن تكررت في موضع آخر بمعنى زائد يحتاج إلى بيانه والتكلم عليه كتبتها أيضا على نصها وتكلمت على المعنى الزائد فيها وأحلت في بقية القول فيها على الموضع الذي تكلمت عليها فيه من الرسم والسماع الذي وقع الكلام فيه عليها؛ ليكون كل من أشكل عليه معنى من المعاني في أي مسألة كانت من(1/29)
مسائل الكتاب طلبها في موضعها من الكتاب، فإما أن يجد التكلم عليها فيه مستوفى، وإما أن يجد الإحالة على موضعه حيث تقدم.
ولما كمل كتاب الوضوء على هذه الصفة من استيعاب جميع مسائله على نصوصها، والتكلم على كل مسألة منها صغرت أو كبرت بما تفتقر إليه وتكمل به، سررت بما أبان لي من عظيم الفائدة فيه، أنه احتوى مع استيعاب شرح مسائله على شرح عامة مسائل المدونة وتحصيل كثير من أمهاتها لتعلقها بها بما لا مزيد عليه ولا غاية وراءه، وعلمت أنه إن كمل شرح جميع الديوان على هذا الترتيب والنظام، لم يحتج الطالب النبيه فيه إلى شيخ يفتح عليه معنى من معانيه؛ لأني اعتمدت في كل ما تكلمت عليه، بيان كل ما تفتقر المسألة إليه، بكلام مبسوط واضح موجز يسبق إلى الفهم بأيسر تأمل وأدنى تدبر، ورجوت على ذلك المثوبة من الله عز وجل، فأجهدت نفسي في التمادي على شرح بقيته حرصا وإقبالا، فتماديت لا آوي إلى راحة متى ما تفرغت من ليل أو نهار، فكلما أكملت منه كتابا ازددت من التمادي على بقيته حرصا وإقبالا، فتماديت إلى أن أكملت رزمة الصلاة، ورزمة النكاح، ورزمة البيوع، وشرعت في رزمة الأقضية، امتحنت بتولي القضاء، وذلك في جمادى الأولى من سنة إحدى عشرة وخمسمائة، فشغلتني أمور المسلمين عما كنت بسبيله من ذلك، ولم أقدر من التفرغ إليه على أكثر من يوم واحد في الجمعة اعتزلت فيه عن الناس إلا فيما لم يكن منه بد، فما كمل لي على هذا منه في مدة تولية القضاء، وذلك أربعة أعوام غير أيام، إلا نحو أربعة كتب أو خمسة، فأيست من تمامه في بقية عمري، إلا أن يريحني الله عز وجل من ولاية القضاء، وكنت من ذلك تحت إشفاق شديد وكرب عظيم، وذكرت ذلك لأمير المسلمين [وناصر الدين] أبي الحسن علي بن يوسف(1/30)
بن تاشفين - أدام الله تأييده وتوفيقه - في جملة الأعذار التي استعفيت بسببها، وغبطته بالأجر على تفريغي لتمامه، فقبل الرغبة في ذلك لرغبته فيما رغبته فيه من الثواب، وأسعف الطلبة فيه لما رجاه بأن تثقل بذلك موازينه يوم الحساب، والله يدخر له هذه الحسنة ويبوئه منها من درجات الجنة أعلى درجة برحمته، فواليت من حينئذ في إكمال الكتاب إلى أن كمل بحمد الله تعالى وعونه في مستهل شهر ربيع الآخر من سنة سبع عشرة وخمسمائة. والله أسأل المجازاة على ذلك برحمته.
وقد كان بعض الأصحاب سألني أن أمهد في أول كل كتاب منه مقدمة تنبئ عليه مسائله من الكتاب والسنة، وترد إليها بالقياس عليها مع الربط لها بالتقسيم والتحصيل لمعانيها، فرأيت أن أختصر ذلك في كتب هذا الديوان، اكتفاء بما اعتمدته منه في كتب المدونة، وذلك أني جمعت جملا وافرة مما كنت أورده في كل كتاب منها على الأصحاب المجتمعين إلى المذاكرة فيها والمناظرة، وأقدمه وأمهده من معنى اسمه واشتقاق لفظه وتبيين أصله من الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل العلم من ذلك أو اختلفوا فيه، ووجه بناء مسائله عليه وردها إليه، بالتقسيم لها والتحصيل لمعانيها، جريا على سنن شيخنا الفقيه أبي جعفر بن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - وطريقته في ذلك، واقتفاء لأثره فيه، وإن كنت أكثر احتفالا منه في ذلك، لا سيما في أول كتاب الوضوء، فإني كنت أشبع القول فيه ببنائي إياه على مقدمات من الاعتقادات في أصول الديانات، وأصول الفقه في الأحكام الشرعيات، لا يسع جهلها، ولا يستقيم التفقه في حكم من أحكام الشرع قبلها، فله الفضل في التقدم والسبق، فإنه نهج الطريق وأوضح السبيل ودل عليه بما كان يعتمده من ذلك مما لم يسبقه من تقدم من شيوخه إليه، وليس ذلك بغريب، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ومبلغ حديث إلى من هو أوعى له منه، والتوفيق بيد(1/31)
الله يوتيه من يشاء. ووصلت ما جمعت من ذلك ببعض ما استطرد القول فيه من أعيان مسائل وقعت في المدونة ناقصة مفترقة، فذكرتها مجموعة ملخصة مشروحة بعللها، فاجتمع من ذلك تأليف مفيد ينتهي أزيد من خمسة وعشرين جزءا، سميته بكتاب المقدمات الممهدات لبناء ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات، إلا أنه كتاب لم يتخلص بعد، فإذا تخلص بعون الله تعالى ونقل من مسودته إن شاء الله تعالى، وجمعه الطالب إلى هذا الكتاب، حصل على معرفة ما لا يسع جهله من أصول الديانات وأصول الفقه، وعرف العلم من طريقه، وأخذه من بابه وسبيله، وأحكم رد الفرع إلى أصله، واستغنى بمعرفة ذلك كله عن الشيوخ في المشكلات، وحصل في درجة من يجب تقليده في النوازل المعضلات، ودخل في زمرة العلماء الذين أثنى الله تعالى عليهم في غير ما آية من كتابه ووعدهم فيه بترفيع الدرجات. والله تعالى أسأله التوفيق برحمته.(1/32)
[كتاب الوضوء] [الوضوء بفضل وضوء النصراني]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد كتاب الوضوء من كتاب القبلة من سماع ابن القاسم من مالك قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سمعت مالكا قال: لا أرى لأحد أن يتوضأ بفضل وضوء النصراني، فأما بسؤره من الشراب فلا أرى بذلك بأسا. قال ابن القاسم: وقد كرهه غير مرة. قال سحنون: وإذا أمنت أن يشرب خمرا أو يأكل خنزيرا فلا بأس أن يتوضأ به، كان لضرورة أو لغير ضرورة.
قال محمد بن رشد: يريد مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بفضل وضوء النصراني ما بقي من الماء الذي غسل به يديه أو سائر جسده تنظفا أو تبردا؛ لأن غسل اليد يسمى وضوءا في اللسان، إذ هو مشتق من الوضاءة والنظافة. ومنه الحديث: «الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم» ، روي ذلك عن الحسن ومثله لا يكون إلا توقيفا عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،(1/33)
وقد روي عنه نصا، وإنما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه لا يتوضأ به لأجل أنه أدخل يده فيه، وهو قوله في المدونة: لا يتوضأ بسؤر النصراني ولا بما أدخل يده فيه، يريد أنه لا يتوضأ به وجد غيره أو لم يجده، ويتيمم إن لم يجد سواه، فإن توضأ به في الوجهين أعاد في الوقت. ويحتمل أن يريد أنه لا يتوضأ به مع وجود غيره، فإن توضأ به مع وجود غيره أعاد في الوقت، وإن لم يجد غيره توضأ به على كل حال ولم يتيمم. والتأويل الأول أولى وأظهر على مذهبه في رواية ابن القاسم عنه. ووجهه: أنه حمل يده على النجاسة؛ إذ الأغلب منها أنها لا تنفك عن النجاسة لأنها تجول على جسده وفيه النجاسة، ويباشر أيضا [بها] ، سائر النجاسات التي لا يتوقى منها، فكان كأنه قد أيقن بنجاستها. ووجه التأويل الثاني أنه [لما] ، لم يوقن بنجاسة يده وجب أن لا يتوضأ به مع وجود غيره احتياطا، وأن لا ينتقل عن الوضوء المفروض عليه مع وجوده إلى التيمم إلا بيقين على الأصل في أنه لا تأثير للشك في اليقين. وإلى هذا التأويل ذهب ابن حبيب، ولم ير عليه إعادة إن توضأ به وهو يجد غيره. وأما سؤره من الشراب فمرة قال: لا بأس به، أي لا كراهية في الوضوء به إذا لم يجد غيره، بل واجب عليه أن يتوضأ به ولا يتركه ويتيمم، ولا إعادة عليه إن توضأ به وهو يجد غيره، وهو قول ابن عبد الحكم، ومرة كرهه؛ أي كره الوضوء به إن وجد سواه، فإن توضأ به وهو يجد سواه أعاد في الوقت، وإن لم يجد سواه توضأ به ولم يتيمم. وعلى مذهبه في المدونة في مساواته بينه وبين ما أدخل فيه يده لا يتوضأ به، وجد سواه أو لم يجد، ويتيمم إن لم يجد سواه، فإن توضأ به في الوجهين أعاد في الوقت، وهو قول سحنون؛ لأن في قوله إذا أمنت أن يشرب خمرا أو يأكل خنزيرا فلا بأس أن يتوضأ به كان لضرورة أو لغير ضرورة، دليلا على أنه إذا لم يأمن ذلك فلا يتوضأ به كان(1/34)
لضرورة أو لغير ضرورة. ويبين ذلك من مذهبه قوله في نوازله من هذا الكتاب: إنه كالكلب المخلى على القذر والنجاسة، فيتيمم ولا يتوضأ بسؤره. ووجه القول الأول أنه لما كانت النجاسة إن كان قد تناولها بفيه لا تثبت فيه ويزيل عنها منه الريق حمله على الطهارة حتى يوقن فيه بالنجاسة، ولم يحمله في القول الثاني على الطهارة ولا على النجاسة، فكره الوضوء به مع وجود سواه، ولم ير أن ينتقل عنه إلى التيمم إن لم يجد سواه، وهو على مذهبه في المدونة محمول على النجاسة مثل قول سحنون؛ لأنه لما كان لا يرع عنها صار عنده كالكلب المخلى عليها.
[فصل: إن تحققت طهارة يد وفم النصراني فهل يجوز استعمال سؤره]
فصل فإن تحققت طهارة يده وفمه جاز استعمال سؤره وما أدخل فيه يده وإن وجد غيره، وإن تيقنت نجاستهما لم يجز استعمال شيء من ذلك وإن لم يجد غيره، وإنما الاختلاف إذا لم يعلم طهارتهما من نجاستهما، فقيل: إنهما يحملان على الطهارة، وقيل: إنهما يحملان على النجاسة، وقيل: إنه يحمل سؤره على الطهارة، وما أدخل فيه يده على النجاسة، وقيل في سؤره: إنه يكره ولا يحمل على طهارة ولا على نجاسة. وهذا كله على مذهب ابن القاسم ورواية المصريين عن مالك في أن الماء اليسير تفسده النجاسة اليسيرة وإن لم تغير وصفا من أوصافه، وأما على رواية المدنيين عن مالك في أن الماء قل أو كثر لا تفسده النجاسة إلا أن تغير وصفا من أوصافه فسؤر النصراني وما أدخل فيه يده وإن أيقن بنجاسة يده وفمه، مكروه مع وجود غيره ابتداء مراعاة للخلاف، واجب استعماله مع عدم سواه في الطهارة والتطهير، فالذي يتحصل في سؤر النصراني وما أدخل يده فيه من الخلاف(1/35)
أنه إن توضأ به وهو يجد غيره ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا إعادة عليه لصلاته، ويعيد وضوءه لما يستقبل، والثاني: أنه يعيد وضوءه وصلاته في الوقت، والثالث: الفرق بين سؤره وما أدخل فيه يده، فيعيد صلاته في الوقت إن توضأ بما أدخل فيه يده، ولا يعيد إن توضأ بسؤره إلا وضوءه لما يستقبل. وأما إن لم يجد غيره ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يتوضأ به ولا يتيمم، فإن تركه وتيمم أعاد أبدا، والثاني: أنه يتيمم ويتركه، فإن توضأ به أعاد في الوقت خاصة و [قيل] لا إعادة عليه، وقيل: يعيد مما أدخل يده فيه ولا يعيد من سؤره، وبالله التوفيق.
[مسألة: اغتسال الجنب في البئر هل يفسده]
مسألة قال مالك في رجل نزل في بئر معين فاغتسل فيه وهو جنب: إن ذلك لا يفسده على أهله ولا أرى بمائها بأسا ولا أرى أن ينزف.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح لا اختلاف فيه في المذهب أن الماء الكثير لا ينجسه ما حل فيه من النجاسة إلا أن يغير أحد أوصافه، إلا رواية شاذة رواها ابن نافع عن مالك نحا بها مذهب أهل العراق. والدليل على ما عليه عمدة المذهب ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من الأقذار والنجاسات فقال: «الماء طهور ولا ينجسه شيء» ، يريد إلا ما تغير أحد أوصافه، وذلك مذكور في بعض الآثار.(1/36)
وإنما اختلف في جواز الاغتسال فيه ابتداء دون أن يغسل ما به من الأذى، فكرهه مالك للنهي الوارد عن الغسل في الماء الدايم، وأجازه ابن القاسم إذا كان الماء يحمل ما به من الأذى، وذلك قائم من المدونة ومنصوص عليه في رسم "البير" من هذا السماع، وفي رسم "العتق" من سماع عيسى من هذا الكتاب. وفرقوا بين حلول النجاسة المائعة في الماء الكثير الدائم وبين موت الدابة فيه استحسانا على ما يأتي في مسائلهم. ولو وقعت فيه الدابة ميتة وأخرجت من ساعتها قبل أن تطول إقامتها فيه لم يفسد ذلك الماء، وكذلك لو وقعت فيه حية فأخرجت قبل أن تموت. وقد سئل سعيد بن نمر عن فارة وقعت في قصرية شراب فقع فأخرجت حية، فقال: إنه يهراق ولا يوكل، وحكى غيره أن في سماع ابن وهب عن مالك مثله، وهو بعيد وشذوذ لا وجه له، فالله أعلم بصحته.
[مسألة: في حلول النجاسة في الماء والطعام]
] وقال مالك في الماء الكثير تقع فيه القطرة من البول أو الخمر: إن ذلك لا ينجسه ولا يحرمه على من أراد أكله أو شربه أو الوضوء منه، والطعام والودك كذلك إلا أن يكون شيئا يسيرا.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن النجاسة اليسيرة لا تفسد الطعام الكثير ولا تنجسه، كما لا تفسد الماء الكثير ولا تنجسه، وهذا مما لا يقوله إلا داوود القياسي ومن شذ عن الجمهور وخالف الأصول؛ لأن(1/37)
الله تعالى خلق الماء طهورا، فهو يحمل ما غلب عليه من النجاسات، بخلاف ما عداه من الأطعمة والأدم المائعات. والفرق بينهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ماء بير بضاعة وما يلقى فيها من الأقذار والنجاسات فقال: «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته» ، وسئل عن الفارة تقع في السمن فقال: «انزعوها وما حولها فاطرحوه وإن كان مائعا فلا تقربوه» ، وهذا ما لا خلاف فيه بين فقهاء الأمصار، وإنما اختلفوا في جوازه للانتفاع به وبيعه، فمنهم من لم يجز شيئا من ذلك وهو مذهب ابن الماجشون من أصحابنا، ومنهم من أجاز جميع ذلك وهو مذهب ابن وهب من أصحابنا. ودليل رواية ابن القاسم عن مالك في رسم "الشجرة تطعم بطنين في السنة" من كتاب الصلاة في مسألة الصابون، ووقعت أيضا في سماع ابن القاسم من هذا الكتاب في بعض الروايات. ودليل رواية أشهب أيضا في كتاب الضحايا من العتبية. ومنهم من أجاز الانتفاع به ولم يجز بيعه، وهو مذهب ابن القاسم وأكثر أصحاب مالك، فوجب أن لا تحمل الرواية على ظاهرها وأن تتأول على ما ذهب إليه الجمهور مما يطابق الأصول، فنقول: إن معنى قوله: والطعام والودك كذلك؛ أي أن القطرة [من الطعام] والودك إذا وقعت أيضا في الماء الكثير لم تؤثر فيه ولا أخرجته عن حكمه من التطهير كما لم تخرج القطرة من البول أو الخمر الماء الكثير عن حكمه من الطهارة والتطهير. وقوله: إلا أن يكون يسيرا معناه إلا أن يكون الماء الذي وقع فيه شيء من ذلك يسيرا يتغير من ذلك بعض أوصافه فينجس بالنجاسة وينضاف بالطعام. فهذا تأويل سائغ تصح به الرواية على الأصول وما عليه الجمهور.
وقد روي أنه سئل علماء البيرة عن فارة انطحنت مع قمح في رحى الماء، فقالوا: يغربل الدقيق ويؤكل، فبلغ ذلك سعيد بن نمر من قولهم فقال: عليهم بحرز العجول، لا يؤكل على حال.(1/38)
قال محمد بن رشد: وهو الصحيح. وإنما غلط علماء البيرة في هذه المسألة من هذه الرواية بحملها على ظاهرها، والله أعلم.
[مسألة: الدواب تدرس الزرع فتبول فيه]
مسألة وقد سئل سحنون عن الدواب تدرس الزرع فتبول فيه، فخففه للضرورة، كالذي يكون في أرض العدو فلا يجد بدا من أن يمسك عنان فرسه وهو قصير فيبول فيصيبه بوله.
قال محمد بن رشد: وإنما خفف ذلك مع الضرورة للاختلاف في نجاسته كما خفف المشي عن أرواث الدواب وأبوالها في الطرقات مع الضرورة إلى ذلك من أجل الاختلاف في نجاستها. وأما ما لا اختلاف في نجاسته فلا يخفف مع الضرورة.
وقد روى سليمان بن سالم الكندي من أصحاب سحنون أنه كان يقول: إذا وقعت القملة في الدقيق ولم تخرج في الغربال لم يؤكل الخبز، وإن ماتت في شيء جامد طرحت كالفارة. وقاله غيره في البرغوث أيضا، وفرق غيره بينهما فقال: إن البرغوث كالذباب الذي يتناول الدم، وأما القملة فهي من الإنسان كدمه.
قال محمد بن رشد: وهذا إغراق إذا كثر العجين؛ لأن القملة لا تنماع في جملة العجين فتنجسه، وإنما تختص بموضعها منه، فإذا تحرم اللقمة التي هي فيها، فلما لم تعرف بعينها لم يجب أن يحرم أكل اليسير منه إذا كثر، كما لو أن رجلا يعلم أن له أختا ببلدة من البلاد لا يعرف عينها، لم يحرم عليه أن يتزوج من نساء تلك البلدة، بخلاف اختلاطها بالعدد(1/39)
اليسير من النسوة، فإذا خففنا تناول شيء منه لاحتمال أن تكون القملة فيما بقي، خففنا تناول البقية أيضا لاحتمال أن تكون القملة فيما تناول والله أعلم.
ومن كتاب أوله شك في طوافه
[مسألة: توضأ وصلى ثم علم أن عليه الإعادة]
مسألة وقال سحنون: إذا توضأ رجل بماء قد تغير مما وقع فيه تغييرا شديدا فصلى بذلك الوضوء ثم علم أن عليه الإعادة في الوقت [وبعد الوقت] ، قال: وهذه الرواية أحب إلي من رواية ابن القاسم؛ لأنه إذا غلبت عليه النجاسة خرج عن حد الماء وصار كالمصلي بغير وضوء.
قال محمد بن رشد: التغير الشديد هو أن يتغير الماء عن لونه أو طعمه أو تشتد تغير رائحته وإن لم يتغير لونه ولا طعمه، والتغير الذي ليس بشديد هو أن يتبين تغيير رائحته من غير أن يشتد التغير مع أن لا يحول عن لونه ولا عن طعمه؛ لأن ابن الماجشون لا يراعي تغير الرائحة جملة، فأراه نحا إلى قوله في اشتراطه شدة التغير، وقد اشترطه مالك أيضا في آخر سماعه من هذا الكتاب، وسنتكلم عليه في موضعه إذا مررنا به إن شاء الله. وقوله: وهذه الرواية، إشارة منه إلى رواية لم يذكرها قد جرى ذكرها في المجلس كرواية علي بن زياد عن مالك في المدونة، أو ما كان في معناها مما وقع في مختصر ابن عبد الحكم وغيره. ولم يذكر أيضا رواية ابن القاسم التي استحب الرواية التي أشار إليها [عليها] فيحتمل أن يكون أراد رواية ابن القاسم(1/40)
عن مالك الواقعة في هذا الرسم بعد هذه المسألة بمسألة، فإن كان أرادها فإنما اختار الرواية التي أشار إليها عليها - لما فيها من الإجمال والاحتمال. ويحتمل أن يكون أراد أيضا إطلاقه عنه أن من توضأ بماء نجس أعاد في الوقت؛ لأن وصفه بالنجس يقتضي تغير أحد أوصافه من النجاسة، وهو لا يقول: إنه يعيد في الوقت إلا في الماء اليسير الذي لم يتغير أحد أوصافه بما حل فيه من النجاسة. فإن كان أراد هذه الرواية فإنما اختار الرواية التي أشار إليها عليها لفسادها في الظاهر ولأنها أبين منها وأفسر؛ إذ لا يقول ابن القاسم ولا أحد من أهل العلم: إن من توضأ بماء قد غلبت عليه النجاسة وتغير منها تغيرا شديدا أنه لا يعيد أبدا، وهذا حفظنا عن شيوخنا في تأويل قول سحنون هذا وتصحيحه، والله أعلم بحقيقة الصواب في ذلك.
[مسألة: الرجل يصلي بثوب فيه نجاسة]
مسألة روى عيسى في كتاب القطعان عن ابن وهب في الرجل يصلي بثوب فيه نجاسة، قال: يعيد تلك الصلاة متى ما ذكرها في الوقت وبعده.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لابن وهب أيضا في سماع عبد الملك من كتاب الصلاة، ومذهبه أن رفع النجاسات من الثياب والأبدان من فرائض الصلاة، فسواء عن مذهبه صلى بثوب فيه نجاسة ناسيا أو متعمدا أو جاهلا بالنجاسة أو بوجوب رفعها في حال الصلاة أو مضطرا إلى الصلاة فيه لعدم سواه، يعيد أبدا في الوقت وغيره. وإنما يقول: إنه يعيد أبدا في الوقت وغيره إذا كانت النجاسة متفقا عليها كبول بني آدم والرجيع والاحتلام ودم الحيضة والميتة وما أشبه ذلك، كذا روى أبو الطاهر عنه، وذلك مفسد لهذه الرواية. والمشهور في المذهب قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن رفع النجاسات(1/41)
من الثياب والأبدان سنة لا فريضة، فمن صلى بثوب نجس على مذهبهم ناسيا أو جاهلا بنجاسته أو مضطرا إلى الصلاة فيه أعاد في الوقت. واختلف في الوقت الذي يعيد فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: الاصفرار، والثاني: الغروب، والثالث: أنه الغروب في المضطر والاصفرار فيما سواه. وإن صلى به عالما غير مضطر أو متعمدا أو جاهلا أعاد أبدا لتركه السنة عامدا. ومن أصحابنا من قال: إن رفع النجاسات عن الثياب والأبدان فرض بالذكر يسقط بالنسيان، كالكلام في الصلاة، وليس ذلك عندي بصحيح؛ لأنه ينتقض بالذي يصلي فيه مضطرا إلى الصلاة به؛ لأنه ذاكر ولا يعيد إلا في الوقت. وقال بعضهم: فرض مع الذكر والقدرة تحرزا من هذا الاعتراض.
[مسألة: في الفارة تموت في البئر]
] وقال مالك في ثياب أصابها ماء بئر وقعت فيه فارة فماتت وتسلخت، قال: أرى أن يغسل ما أصابه من الثياب، وأما الصلاة فلا يعيد إلا ما أدرك وقته.
قال محمد بن رشد: لم يبين في هذه الرواية إن كان الماء تغير من ذلك أو لم يتغير، وتأويلها يتخرج على الوجهين، فإن كان أراد أن الماء تغير من ذلك، فيحمل قوله: أرى أن يغسل ما أصابه من الثياب على الوجوب، ويحمل قوله على أن الصلاة لا يعيد منها إلا ما أدرك وقته على أنه لم يتوضأ من ذلك الماء، وإنما صلى بما أصابه ذلك الماء من الثياب؛ إذ لو توضأ من ذلك الماء وقد تغير لوجب أن يعيد الصلاة أبدا. وقد وقع ذلك من رواية ابن القاسم في هذا السماع في بعض الروايات، ونص ذلك: قال ابن القاسم عن مالك: إذا تغير لون الماء وطعمه أعاد أبدا، وهذا ما لا اختلاف فيه، وإنما(1/42)
الاختلاف في تغير رائحته خاصة. وإن كان أراد أن الماء لم يتغير من ذلك، فيحمل قوله: إن الثياب تغسل من ذلك - على الاستحباب فيما لا يفسده الغسل كما قال ابن حبيب، وإعادة الصلاة من ذلك في الوقت صحيح كما قال على أصولهم، توضأ بذلك الماء أو صلى بالثياب التي أصابها ذلك الماء ولم يتوضأ به. وفرق في آخر سماع أشهب من هذا الكتاب بين أن يكون الماء فاسدا منتنا أو يكون ذلك فيه شيئا خفيفا. وسنتكلم على معنى ذلك إذا مررنا به إن شاء الله.
[مسألة: في مس القرآن على غير طهارة]
] وسئل مالك عن اللوح فيه القرآن أيمس على غير وضوء؟
فقال: أما الصبيان الذين يتعلمون فلا أرى بذلك بأسا. فقيل له: فالرجل يتعلم فيه؟ قال: أرجو أن يكون خفيفا. فقيل لابن القاسم: فالمعلم يشكل ألواح الصبيان وهو على غير وضوء؟ قال: أرى ذلك خفيفا.
قال محمد بن رشد: إنما خفف مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، للرجل الذي يتعلم القرآن أن يمس اللوح فيه القرآن، وخفف ذلك ابن القاسم أيضا للمعلم يشكل ألواح الصبيان؛ لأن النهي إنما ورد أن لا يمس القرآن إلا طاهر، وحقيقة لفظ القرآن إذا أطلق أن يقع على جملته، وإن كان قد يطلق ويراد به بعضه على ضرب من التجوز، فتقول: سمعت فلانا يقرأ القرآن وإن كنت لم تسمعه يقرأ منه إلا سورة واحدة أو آية واحدة فتكون صادقا في قولك. فلما كان لفظ القرآن يقع على كله وقد يقع على بعضه لم يتحقق ورود النهي(1/43)
في مس بعضه على غير طهارة، فمن أجل ذلك خفف للذي يتعلم القرآن أو يشكل ألواح الصبيان أن يمس اللوح فيه القرآن على غير وضوء لما يلحقه من المشقة في أن يتوضأ كلما أحدث، ولعل ذلك يكون في الأحيان التي يثقل فيها مس الماء فيكون ذلك سببا إلى المنع من تعلمه، وهذه هي العلة في تخفيف ذلك للصبيان؛ لأنهم وإن كانوا غير متعبدين، فآباؤهم فيهم متعبدون بمنعهم مما لا يحل كشرب الخمر وأكل [لحم] الخنزير وما أشبه ذلك. ألا ترى أنه خفف لهم التضاريس يتعلمون فيها في الكتاب، وكره أن يمسوا فيها المصحف الجامع للقرآن إلا على وضوء. ومن الدليل على ما قلناه من الفرق بين جملة القرآن وبعضه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، وكتب إلى هرقل عظيم الروم: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم وأسلم يوتك الله عز وجل أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] إلى قوله: {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] » . ولهذا جاز للرجل أن يكتب في الكتاب الآية والآيتين على غير وضوء في سماع أشهب من كتاب الصلاة. ومن هذا الكتاب في بعض الروايات أن الرجل لا يمس اللوح إذا قرأ فيه على غير وضوء، فإن لم يكن معناه على غير التعلم فهو معارض لهذه الرواية، فتأمل ذلك تجده صحيحا، والله أعلم.
[مسألة: في الوضوء بسؤر الهر]
] وسئل عن الهر يلغ في إناء رجل لوضوئه، أيتوضأ به؟ قال: نعم، وذلك يذكر.(1/44)
قال محمد بن رشد: قوله: وذلك يذكر، يريد يذكر في السنة قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه: «إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات» . فالهر على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك بهذا الحديث محمول على الطهارة حتى يرى في فمه نجاسة، بخلاف غيره من السباع والدجاج المخلاة، إلا في الماء الكثير لقول عمر بن الخطاب: لا تخبرنا يا صاحب الحوض، فإنا نرد على السباع وترد علينا، وإلا في الطعام فإنه لم ير في المدونة أن يطرح إلا بيقين لحرمته.
[مسألة: في سؤال الماء للوضوء]
] سئل ابن القاسم عن الرجل يكون في السفر يعجز ماؤه ومع أصحابه ماء، أترى أن يسألهم لوضوئه أم يتيمم؟ قال: أما المكان الكثير الماء فلا أرى بذلك بأسا، وأما الموضع الذي يتعذر فيه، فأرجو أن يكون واسعا.
قال محمد بن رشد: واجب على الرجل أن يطلب الماء لوضوئه إذا عدمه ولم يجد ممن يشتريه وهو واجد بما يشبه من الثمن على ما في المدونة ممن يليه ويظن أنه لا يمنعه ويعطيه لما قال في سماع أشهب من هذا الكتاب، وليس في قوله في هذه الرواية: فلا أرى بذلك بأسا، دليل على أن له أن يترك الطلب في المكان الكثير الماء الذي يقع في نفسه أنه لا يبخل فيه به عليه؛(1/45)
لأن المعنى في سؤال السائل يكره له سؤال الماء من ناحية أن المسألة مكروهة، فأخبر أنه لا كراهية في السؤال في هذا الكتاب، وإذا انتفت عنه الكراهة تعلق به الوجوب لما يلزمه من الطهارة للصلاة. وقوله في آخر المسألة: وأرجو أن يكون ترك السؤال واسعا في الموضع الذي يتعذر فيه الماء يدل على أنه لا سعة له عنده في ترك السؤال في الموضع الذي يكثر فيه الماء بيان ما قلناه. وفي سماع أشهب من معنى هذه المسألة ما فيه بيان لها وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة
[مسألة: في حد التيمم في اليدين]
] وسئل مالك عمن أفتي بأن التيمم إلى الكفين فتيمم وصلى، ثم أخبر بعد ذلك أن التيمم إلى المرفقين، ما ترى أن يصنع؟ قال: أرأيت لو صلى منذ عشرين سنة أي شيء كنت آمره به؟ ثم قال: أرى أن يعيد ما دام في الوقت. قال مالك: لقد سمعت رجلا عظيما من أهل العلم يقول إلى المنكبين، واعجبا كيف قاله! فقيل له: إنه تأول هذه الآية {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، فقال: أين هو من آية الوضوء فيأخذ بهذا ويترك هذا؟ فيا عجبا مما يقوله!
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أن مالكا، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إنما تعجب ممن يقول إلى الكفين [وجعل قوله إغراقا في الخطأ إذ من أهل العلم من يقول إلى المنكبين، فقيل له إنه قال إلى الكفين] متأولا لآية السرقة(1/46)
فقال: أين هو من آية الوضوء؟ يريد أن رد الأيدي المطلقة في التيمم إلى الأيدي المقيدة في الوضوء بالمرفقين؛ إذ هو بدل منه أولى من ردها إلى الأيدي المطلقة في السرقة؛ لأن المعنى في ذلك مختلف، وذلك بين. ولا دليل في قول مالك: وأين هو من آية الوضوء؟ على أن الحكم عنده أن ترد آية التيمم إليها، إذ لو كان الحكم عنده أن ترد إليها لأوجب على من تيمم إلى الكوعين الإعادة أبدا، وإنما أراد أن حمل آية التيمم على آية الوضوء أولى من حملها على آية السرقة [وإن كان هو لا يرى حملها على واحدة منهما؛ إذ لو حملها على آية السرقة] لأمر المتيمم بالتيمم إلى الكوعين ابتداء، ولو حملها على آية الوضوء لأوجب الإعادة أبدا على من تيمم إلى الكوعين، فالآية عنده على إطلاقها غير مقيدة بآية الوضوء ولا بآية السرقة. فمن تيمم عنده إلى الكوعين أجزأه وإن كان لا يأمره بذلك ابتداء، ويرى عليه الإعادة في الوقت إن فعل مراعاة لقول من يرى آية التيمم محمولة على آية الوضوء، فيوجب التيمم إلى المرفقين على أصله في مراعاة الخلاف، ولم يراع قول من أوجب التيمم إلى المنكبين لشذوذه وبعده من النظر؛ لأن الآية إذا حملت على إطلاقها وجب أن يجزئ التيمم إلى الكوعين لوقوع اسم اليد على الكف إلى الكوع وألا يجب إلى المنكبين، وإن تناول ذلك اسم اليد عند العرب؛ لأن الأصل براءة الذمة من العبادات، فلا يجب منها شيء على أحد إلا بيقين. وقوله فيمن يتيمم إلى الكوعين إنه يعيد في الوقت، مثله في المدونة وفي سماع محمد بن خالد من هذا الكتاب. وقال أصبغ في مختصر ابن أبي زيد: والوقت في ذلك وقت الصلاة المفروضة، وقال ابن نافع ومحمد بن عبد الحكم يعيد أبدا، وقولهما على قياس القول بأن آية التيمم محمولة على آية الوضوء. ولابن لبابة في هذه المسألة اختيار(1/47)
غريب، وهو أن الجنب يتيمم إلى الكعبين وأن المحدث حدث الوضوء يتيمم إلى المنكبين، اتبع في ذلك ظواهر آثار جلبها فانظر ذلك وتدبره.
[مسألة: في صفة تيمم الأقطع]
] وسئل مالك أيتيمم الأقطع للصلاة؟ قال: نعم، فقيل له: وكيف يتيمم؟ فقال: كيف يتوضأ، فقيل له يوضئه غيره، قال: كما يتوضأ كذلك يتيمم، فقلت له: هو مثله؟ قال: نعم، التيمم مثل الوضوء.
قال محمد بن رشد: أما وجهه فلا كلام عليه في أنه يتيمم كما يتوضأ، وكذلك يداه على مذهب مالك ييمم ما بقي منهما إلى المرافق، ويسقط عنه التيمم فيهما على مذهب من يرى أن التيمم إلى الكوعين، وبالله التوفيق.
[مسألة: في وضوء الجماعة من إناء واحد]
] وحدثني ابن القاسم عن مالك عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص أنه كان لهم مركن يسكب فيه الماء فيتوضأ منه أبوها وأهل البيت.(1/48)
قال محمد بن رشد: المركن الإجانة التي تغسل فيها الثياب، قاله الهروي. وفائدة هذا الحديث إجازة وضوء المرأة بفضل الرجل ووضوء الرجل بفضل المرأة؛ لأنه الظاهر منه، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم في ذلك. ومن الحجة لهم «قول عبد الله بن عمر في الموطأ: إن كان الرجال والنساء ليتوضئون جميعا في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وهذه مسألة لأهل العلم فيها خمسة أقوال: أحدها: قول مالك هذا وجميع أصحابه، والثاني: أنه لا يتوضأ واحد منهما بفضل صاحبه شرعا معا أو غاب أحدهما عن الوضوء، والثالث: أنه تتوضأ المرأة بفضل الرجل ولا يتوضأ الرجل بفضل المرأة، والرابع: أنه يتوضأ كل واحد منهما بفضل صاحبه إذا شرعا معا. بخلاف إذا غاب أحدهما على الوضوء، والخامس: أنه لا بأس أن يتوضأ كل واحد منهما بفضل صاحبه ما لم يكن الرجل جنبا أو المرأة حائضا أو جنبا. وقد قيل: إن عائشة هذه صحابية، وإن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - أدركها فهو بذلك من التابعين. والصحيح أنها ليست صحابية؛ لأن الكلاباذي ذكرها في التابعات ولم يذكرها ابن عبد البر في الصحابيات، فانظر ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: في تدلك المغتسل]
] قيل لسحنون: أرأيت قول مالك لا يجزئ الجنب الغسل حتى يمر يديه على جميع جسده كله ويتدلك، أرأيت لو أن رجلا بادنا لا يقدر أن يعم بيديه جميع جسده، قال فليوكل رجلا أو امرأة تجري يدهما على ما قصر عنه يد المغتسل. قيل له: فإن كان في سفر وليس معه أحد؟ قال: فليأخذ ثوبا وليبله ويمره على المواضع التي لا يبلغها بيده.(1/49)
قال محمد بن رشد: المشهور من قول مالك في المدونة وغيرها أن الغسل لا يجزئ الجنب حتى يمر بيده على جميع جسده ويتدلك [قياسا على الوضوء أنه لا يجزئ فيه صب الماء دون إمرار اليد. وقد روى مروان بن محمد الطاطري الشامي عن مالك أن الجنب يجزئه الغسل وإن لم يتدلك] وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم، لما في الحديث من قوله: «ثم اغتسل وأفاض عليه الماء» ، ولم يذكر عركا ولا دلكا.
وقد قال أبو الفرج: إنما قال مالك: لا يجزئ الجنب الغسل إلا أن يتدلك - مخافة أن ينبو الماء عن بعض جسده، ولو أطال البقاء في الماء حتى يوقن بوصول الماء إلى جميع جسده لأجزأه الغسل على مذهبه وإن لم يتدلك. وهذا من التأويل البعيد، والصواب أن ذلك اختلاف من قوله. فإذا لم يدرك الجنب جميع جسده فالصواب ما ذهب إليه ابن حبيب من أنه يمر يديه على كل ما أدركه من جسده ويوالي صب الماء على ما لم يدركه منه، ويجزيه غسله مراعاة للاختلاف في ذلك، ولأنه أشبه بيسر الدين، وبالله التوفيق.
[مسألة: في لباس ما لبس النصراني أو نسج]
] وسئل عن الرجل يشتري من النصراني الخفين أيلبسهما؟ قال: لا، فقيل: فثوبه؟ قال: الذي يلبسه؟ قال: نعم، نعم قال: لا حتى يغسله. قيل له: فما ينسجون، فإنهم يبلون الخمر ويحركونه بأيديهم ويسقون به الثياب قبل أن تنسج وهم أهل نجاسة؟ قال: لا بأس بذلك، ولم يزل الناس يلبسونها قديما.(1/50)
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة، وهو كما قال، ولا فرق في القياس بين ما نسجوا ولبسوا، وإنما هو الاتباع وقد أجاز محمد بن عبد الحكم أن يصلي فيما لبس النصراني. ووجه قوله أنه حمله على الطهارة حتى يوقن فيه بالنجاسة خلاف مذهب مالك، ومعنى ذلك عندي فيما لم يطل مغيبه عليه ولباسه إياه؛ لأنه إذا طال مغيبه عليه ولباسه إياه لم يصح أن يحمل على الطهارة؛ لأن الظن يغلب على أنه لم يسلم من النجاسة. وقد اختلف إذا أسلم هل يصلي في ثيابه التي كان يلبسها قبل أن يغسلها، فوقع لزياد بن عبد الرحمن في سماع موسى من هذا الكتاب أنه لا يغسل منها إلا ما علم فيه نجاسة. وروى أشهب عن مالك في رسم "الصلاة" الثاني من سماعه من كتاب الصلاة أنه لا يصلي فيها حتى يغسلها. وإذا أيقن بطهارتها من النجاسة فالاختلاف في وجوب غسلها يجري على اختلافهم في طهارة عرق النصراني والمخمور، وبالله التوفيق.
[مسألة: في غسل النجاسة]
] وسئل عن قطيفة كان ينام عليها رجل فوجد في وسعها وزغة قد ماتت كأنه بات عليها ولم يجد فيها الدم، قال يغسلها، يريد بذلك الموضع.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما تعلق بالقطيفة من الوزغة الميتة نجس وإن لم يكن دما لأنه ميتة. وقوله: يريد بذلك الموضع صحيح؛ إذ ليس عليه أن يغسل القطيفة كلها، وإنما عليه أن يغسل الأثر الذي رأى فيها، ولا شيء عليه في سائرها إلا أن يشك فيه فينضحه والأصل في ذلك(1/51)
حديث عمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إذا وجد الاحتلام في ثوبه فغسل ما رأى ونضح ما لم ير ".
[مسألة: في الاستبراء من البول]
] وسئل عما يعمل الناس عند البول من أن يبول الرجل ثم يقوم فيقعد ثم يكثر السلت، قال: ليس ذلك بصواب، وقد كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن به حرارة شديدة وإن كان ليقوم في الشيء القريب مرارا فيبول مرارا ويتوضأ ويرجع مكانه، فما رأيت أحدا كان أسرع رجوعا منه ولا أخف وضوءا، فذكر ذلك لابن هرمز، فقال: إنه فقيه، وأعجبه ذلك منه، فقال له الرجل: إني أجد الشيء يخرج مني بعدما أبول فلا تطيب نفسي، فقال: إنما ذلك من الشيطان، وكره ذلك.
قال محمد بن رشد: قد تكرر هذا المعنى في رسم "الوضوء والجهاد" بأوعب من هذا، وليس فيه ما يشكل فيتكلم عليه؛ لأنه من فعل الشيطان ووسوسته التي أقدره الله عليها ومكنه منها ابتلاء لعباده؛ ليجزي المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بعصيانه، فهو يلبس على الناس ويفسد عليهم طاعتهم بما يلقي في نفوسهم من التقصير فيها، فالذي يومر به من اعتراه شيء من ذلك أن يضرب عنه ولا يلتفت إليه، فإن ذلك يقطعه بفضل الله ورحمته. وقد سئل ربيعة عن الرجل يمسح ذكره من البول ثم يتوضأ فيجد البلل، فقال: لا بأس به، فقد بلغ محنته وأدى فريضته.(1/52)
[مسألة: في قدر ما يتوضأ به من الماء]
] وقال مالك: قد رأيت عياش بن عبد الله بن معبد، وكان رجلا صالحا من أهل الفقه والفضل، يأخذ القدح فيجعل فيه قدر ثلث المد ماء بمد هشام، فيتوضأ به ويفضل منه، ثم يقوم فيصلي بالناس وهو إمام، وأعجب مالكا ذلك من فعله.
قال محمد بن رشد: إنما أعجب مالكا فعله واستحبه؛ لأن السنة في الغسل والوضوء إحكام الغسل مع قلة الماء، فقد «روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ بمد وتطهر بصاع» وهو أربعة أمداد. وروي عنه أنه «توضأ بنصف المد» ، وذلك لا يقدر عليه إلا العالم السالم من وسوسة الشيطان. وإلى فعل عياش هذا أشار مالك في المدونة بقوله: وقد كان بعض من مضى يتوضأ بثلث المد، يريد مد هشام؛ لأن ثلث مد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسير جدا لا يمكن إحكام الوضوء به، والله أعلم وبالله التوفيق.
[مسألة: في نقل المتوضئ الماء إلى أعضائه]
] وسئل مالك عن الرجل يأخذ الماء لوضوئه، فإذا حمل الماء نفض يديه من الماء، قال: لا خير فيه، وكرهه.
قال محمد بن رشد: إنما قال: لا خير فيه؛ لأن الغسل إنما يكون بنقل الماء إلى العضو المغسول، فإذا نفض يديه من الماء ورفعهما إلى وجهه(1/53)
مبلولتين فليس بغاسل وجهه وإنما هو ماسح، فلا يجزئه ذلك إلا فيما يمسح لا فيما يغسل. وليس في قوله: وكرهه - دليل على أنه إن فعله أجزأه؛ لأنه قد يطلق هذا اللفظ كثيرا فيما لا يجوز سواه، من ذلك قوله في المدونة: لا يتوضأ بشيء من الأنبذة ولا العسل الممزوج بالماء، والتيمم أحب إلي من ذلك، وهو الواجب الذي لا يجوز سواه، فكذلك هذا، والله أعلم وبه التوفيق.
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
[مسألة: في الاكتفاء في الاستنجاء بالأحجار]
[مسألة في الاكتفاء في الاستنجاء بالأحجار] وسئل مالك عن رجل استنجى بأحجار ثم توضأ ولم يستنج بالماء ثم صلى، أيعيد؟ قال مالك: لا يعيد شيئا مما صلى به، لا في وقت ولا في غيره.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله: استنجى بأحجار؛ أي بثلاثة أحجار؛ لأنه المستحب في الاستنجاء، لما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الاستطابة، فقال: أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار، فإن أنقى بحجر أو حجرين اكتفى به أو بهما» . وقيل: يمسح بتمام الثلاثة الأحجار، فإن اكتفى بالحجر أو الحجرين فلا إعادة عليه، قاله في رسم "أسلم" من سماع عيسى. وفي سماع أبي زيد: وكذلك إن اكتفى بمدرة فلا إعادة عليه، قاله في رسم "المحرم" بعد هذا من هذا السماع. زاد في المدونة: وليغسل ما هنالك بالماء لما يستقبل. وهذا كله ما لم يعد ذلك المخرج، فإن عدا المخرج بكثير أعاد(1/54)
في الوقت، واختلف إن عداه إلى ما لا بد منه، فقيل: لا إعادة عليه، وقيل: يعيد في الوقت، والماء أطهر وأطيب، ومن قدر على الجمع بين الأحجار والماء فهو أولى وأحسن. وقد كان أهل قباء يفعلون ذلك، فنزلت فيهم: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] ، وقال ابن حبيب: لا نبيح اليوم الاستنجاء بالأحجار إلا لمن لم يجد الماء؛ لأنه أمر قد ترك وجرى العمل بخلافه، وبالله التوفيق.
[مسألة: في المسح على الحائل للضرورة]
] قال مالك: في الرجل يشتكي أصابع يده فتنكسر أظافره فيجعل عليها علكا؛ لأن تنبت ويحسن نباتها ويتوضأ على العلك، قال: أرجو إذا كان بهذه الحال أن يكون [خفيفا وهو] في سعة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه مما تدعو إليه الضرورة، فيمسح عليها كالجبيرة.
[مسألة: فيما يكره الاستنجاء به]
] وسمعت مالكا يكره أن يستنجى بالعظم والروث.
قال محمد بن رشد: روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالعظم والجلد والبعرة والروثة والحممة» ، فكره من ذلك مالك في هذه(1/55)
الرواية العظم والروث، وخفف العظم في رواية أشهب من هذا الكتاب، والروث في المجموعة. قال ابن حبيب: واتباع النهي في تجنب ذلك كله أحب إلي. وقد اختلف إن استنجى بشيء مما نهي عن الاستنجاء به، فقيل: إنه لا إعادة عليه، وهو قول ابن حبيب، وقيل: إنه يعيد في الوقت، والوقت في ذلك وقت الصلاة المفروضة، روي ذلك عن أصبغ، وكذلك عنده من استنجى بعود أو خرق أو خزف. فوجه القول الأول: أن الاستنجاء إنما هو لعلة إزالة الأذى عن المخرجين، فإذا أزال الأذى بما عدا الأحجار ارتفع الحكم كما لو زال بالأحجار. ووجه القول الثاني: أن إزالة الأذى عن المخرجين مخصوص بالأحجار؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار» ولقوله: «من استجمر فليوتر» ، فلا يجزي فيه ما عداها إلا الماء؛ لقوله: «إنه أطهر وأطيب» . ومما أجمعوا أنه لا يجوز الاستنجاء به كل ما له حرمة من الأطعمة، وكل ما فيه رطوبة من النجاسات، فإن استنجى بشيء مما له حرمة أعاد في الوقت عند أصبغ، وإن استنجى بما فيه رطوبة من النجاسات أعاد في الوقت قولا واحدا.
[مسألة: في المسافر وصاحب الشجة يريد أحدهما إصابة أهله]
وسئل مالك عن الرجل تصيبه الشجة أو تنكسر يده فيربط عليها عصايب، فيريد أن يصيب أهله وهو بتلك الحال، فقال مالك: أرجو أن لا يكون بذلك بأس، ولعل ذلك يطول عليه وهو محتاج(1/56)
إلى أهله، فلا أرى بذلك بأسا، ولا يشبه المسافر الذي لا يجد الماء، فإذا برأ غسل الموضع.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، وإنما افترق حكم المسافر من صاحب الشجة؛ لأن صاحب الشجة يطول أمره إلى برء شجته في أغلب الأحوال، والمسافر يجد الماء عن قرب في أغلب الأحوال. ولو كان المسافر في موضع يعلم أنه لا يجد الماء إلا بعد طول لكان له أن يطأ أهله إذا أضر به طول الانتظار. وقد حكى ذلك ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وحكى فيه حديثا. ولو كان صاحب الشجة تبرأ شجته عن قريب لما كان له أن يبطأ حتى تبرأ شجته، فيمكنه غسل ذلك الموضع في غسله. وهذا بين؛ لأن الأحكام إنما تتعلق بالمعاني لا بالأسماء إلا فيما قرر الشرع أن الحكم يتعلق بها. وهذا كله في الاختيار وما يستحب له أن يفعل. وأما أن يكون على واحد منها التربص واجبا فلا. وقد روى ابن وهب عن الليث بن سعد أن للمسافر أن يطأ أهله، وإن لم يكن عنده ماء تيمم وصلى، واختاره ابن وهب وقال: الصعيد الطيب يقوم مقام الماء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] الآية وبالله التوفيق.
[مسألة: في غسل الجنابة يوم الجمعة هل يجزي أحدهما عن الآخر]
؟] وسئل مالك عن رجل قام من الليل فاحتلم فأصبح ولم يشعر، وكانت ليلة جمعة، فحضرت الصلاة فاغتسل للجمعة ثم راح وصلى، ثم علم بذلك فوجده في ثوبه، فقال: أرى(1/57)
أن يغتسل الثانية ويعيد الصلاة ظهرا أربعا. فقيل له: ألا ترى غسل الجمعة يكفيه؟ قال: لا، «إنما الأعمال بالنية» . قال ابن القاسم: قال لي مالك: يجزئ غسل الجمعة عن غسل الجنابة إذا نوى به. قال ابن القاسم: ويجزيه عن غسل الجنابة من غسل الجمعة إذا كان عند الرواح.
قال محمد بن رشد: قوله: إن غسل الجمعة لا يجزئ من غسل الجنابة - هو مثل ما في المدونة، وحكاه ابن حبيب أيضا عن مالك من رواية ابن القاسم وعن ابن عبد الحكم وأصبغ، وحكى خلاف ذلك عن مالك أنه يجزيه من رواية مطرف وابن الماجشون وابن نافع وأشهب وابن كنانة وابن وهب.
قال: وليس غسل الجمعة كمن اغتسل تبردا، وإنما هو كمن توضأ للنافلة أو للنوم فإنه يصلي به الفريضة عند مالك وجميع أصحابه ابن القاسم وغيره. والقول الأول أظهر؛ لأن الذي اغتسل للجمعة وهو لا يعلم بالجنابة لم يقصد إلى رفع حدث الجنابة؛ إذ لم يعلم بها، وإنما اغتسل للجمعة غسل سنة لا لرفع حدث؛ إذ قد يجوز له شهود الجمعة بغير غسل، فوجب أن لا يرتفع عنه الحدث به، وليس ذلك كالذي يتوضأ للنوم؛ لأن الذي يتوضأ للنوم وإن كان الوضوء له استحبابا؛ إذ يجوز له النوم بغير وضوء، فقد قصد به إلى رفع الحدث إذا كان محدثا قد علم بحدثه. وأما الذي يتوضأ للنافلة فلا إشكال في الفرق بينه وبين الذي اغتسل للجمعة ناسيا للجنابة؛ لأن النافلة لا تجوز إلا بوضوء والجمعة تجوز بغير غسل. ووجه القول الأول ظاهر لقول النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن(1/58)
اغتسل فالغسل أفضل» ووجه الدليل منه أنه قال: «ومن اغتسل فالغسل أفضل» ، فجعل الغسل الذي هو سنة يجزئ عن الوضوء الذي هو فرض، فوجب على قياس ذلك أن يجزئ عن الغسل للجنابة الذي هو فرض. وقوله: إن غسل الجمعة يجزيه عن غسل الجنابة إذا نوى به صحيح، مثل ما في الصلاة الثاني من المدونة. وقد روى أبو حامد الأسفراييني عن مالك أن الغسل لا يجزيه إذا نوى به الجنابة والجمعة جميعا، وهو بعيد شاذ. وأما قوله: " إنه يجزئ غسل الجنابة من غسل الجمعة إذا كان عند الرواح فهو صحيح؛ لأن غسل الجمعة ليس لرفع حدث، وإنما هو لما شرع لها من التنظف وقد حصل التنظف لها بالغسل للجنابة، واقتضت نية الغسل للجنابة نية الغسل للجمعة؛ لأنها أوجب منها فاستغرقتها، وقد حكى ابن حبيب أن ذلك يجزئ، وهذا أصح لما بيناه، والله أعلم وبه التوفيق.
[: مسألة في تخليل اللحية في غسل الجنابة]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا مسألة في تخليل اللحية في غسل الجنابة وسئل مالك عن الجنب إذا اغتسل أيخلل لحيته؟ قال: ليس ذلك عليه، وقال أشهب عن مالك: إن عليه تخليل اللحية من الجنابة. «ويذكر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخلل أصول شعر رأسه من الجنابة» .(1/59)
قال محمد بن رشد: وجه رواية ابن القاسم عن مالك بإسقاط وجوب تخليل اللحية في الغسل من الجنابة أن الأصل كان ألا يجب تخليل شعر الرأس واللحية؛ لأنه من أصل الخلقة، فإذا كشف صار ما تحته من البواطن، وانتقل فرض الغسل إليه، فخرج من ذلك تخليل شعر الرأس بما ثبت في الحديث، من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يخلل شعر رأسه من الجنابة» ، وبقي شعر اللحية على الأصل. ووجه رواية أشهب بإيجاب تخليلها القياس على شعر الرأس، وما روي من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغسلوا الشعر وانقوا البشر فإن تحت كل شعر جنابة» ، فعم ولم يخص، وبالله التوفيق.
[مسألة في البير تقع فيها الفارة فيصرف ماؤها في طعام يصنع به]
ومن كتاب أوله يسلف في المتاع والحيوان المضمون مسألة في البير تقع فيها الفارة
فيصرف ماؤها في طعام يصنع به وسئل مالك عن بئر وقعت فيه فارة فبلوا بمائها قمحا فقلوه، أترى أن يؤكل؟ فقال مالك: لا يأكلون الميتة.
قال محمد بن رشد: شدد مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في هذه الرواية في أكل القمح المبلول بالماء الذي ماتت فيه الفارة وجعل ذلك كالميتة، فإن كان فهم من سؤال السائل أن الماء كان قد تغير لونه أو طعمه من ذلك أو رائحته على الاختلاف في مراعاة تغير الرائحة فلا إشكال ولا اختلاف في أنه كالميتة لا يحل منه إلا ما يحل من الميتة؛ وإن كان أجاب على أنه لم يتغير من ذلك، فوجه قوله أنه حمله على النجاسة في المنع من أكله ابتداء على سبيل التوقي والتحرز من المتشابه، كما منع من الوضوء به ابتداء، وقال: إنه يتيمم ويتركه،(1/60)
وإن كان لا يراه نجسا على الحقيقة، كأنه يقول: إن توضأ به وصلى لا يعيد إلا في الوقت. وفي رسم "النذر والجنائز والذبائح" ورسم "الوضوء والجهاد" من سماع أشهب، وفي سماع موسى بن معاوية في الخبز المعجون بمثل هذا الماء أنه لا يؤكل، وهذا وجه القول فيه. وفي غسل اللحم المطبوخ به اختلاف من رواية أشهب ورواية موسى عن ابن القاسم، وسنتكلم على ذلك إذا مررنا به إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.
[مسألة: في الغسل في الفضاء]
] وسئل مالك عن الغسل في الفضاء، فقال: لا بأس بذلك.
فقيل له: يا أبا عبد الله إن فيه حديثا، فأنكر ذلك وقال تعجبا: ألا يغسل الرجل في الفضاء، ورأيته يتعجب من الحديث إنكارا له.
قال محمد بن رشد: وجه إجازة مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، للرجل أن يغتسل في الفضاء إذا أمن أن يمر به أحد هو أن الشرع إنما قرر وجوب ستر العورة عن المخلوقين من بني آدم دون من سواهم من الملائكة؛ إذ لا تفارقه الحفظة الموكلون عليه منهم في حال من الأحوال. قال الله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] ، وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11] {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 12] . ولهذا قال مالك تعجبا: ألا يغتسل الرجل في الفضاء؟ إذ لا فرق في حق الملائكة بين الفضاء وغيره، وأنكر الحديث لما كان مخالفا للأصول؛ لأن الحديث إذا كان مخالفا للأصول فإنكاره واجب إلا أن يرد من وجه صحيح لا مطعن فيه فيرد إليها بالتأويل الصحيح. وقد روي عن(1/61)
أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف» . ويكره التجرد لغير ضرورة ولا حاجة في الفضاء وغير الفضاء، ففي رسالة مالك إلى هارون: إياك والتجرد خاليا فإنه ينبغي لك أن تستحي من الله إذا خلوت، وذكر في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديثا.
[مسألة: في حكم طهارة الأزقة والطرق]
] وسئل عن طين المطر والماء الذي لا يستطاع أن يتخلص من أذاه يصيب الثياب من مشي الدابة أو غيرها، قال: أرى أن يكون الناس من ذلك في سعة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة، وزاد فيها: وإن كان فيه أبوال الدواب وأرواثها، يريد ما لم يكن غالبا أو عينا قائمة، وهو كما قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الله قد وسع على هذه الأمة ورفع عنهم الحرج في دينهم، فقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه» ، ومثل هذا المعنى في الآثار كثير، وبالله التوفيق.(1/62)
[مسألة: في مسح الرأس بفضل ماء اللحية أو الذراعين]
] وسئل مالك عمن يمسح رأسه بفضل ذراعيه، فقال: لا أحب ذلك. قيل لابن القاسم: فلو مسح بفضل ذراعيه وبفضل لحيته ثم صلى فلم يذكر حتى خرج الوقت، قال: يعيد وإن ذهب الوقت، وليس هذا بمسح.
قال محمد بن رشد: أما مسح الرجل رأسه بفضل ذراعيه فلا يجوز؛ لأنه لا يمكن أن يتعلق بذراعيه من الماء ما يمكنه به المسح ويكفيه له. وليس في قول مالك: لا أحب ذلك - دليل على أنه إن فعله أجزأه؛ لأنه قد يقول لا أحب تجوزا فيما لا يجوز عنده بوجه، فقد كان العلماء يكرهون أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام فيما طريقه الاجتهاد، ويكتفون بأن يقولوا: أكره هذا ولا أحب هذا ولا بأس بهذا وما أشبه هذا من الألفاظ، فيُجتزى بذلك من قولهم ويُكتفى به. وكذلك فضل اللحية إذا لم يتعلق بها من الماء ما فيه كفاية للمسح، وعلى هذا تكلم ابن القاسم في هذه الرواية بدليل قوله: وليس هذا بمسح، وقد اختلف إذا عظمت فكان فيما يتعلق بها من الماء ما فيه كفاية للمسح وفضل بين، فأجاز ابن الماجشون لمن ذكر مسح رأسه وقد بعد عنه الماء أن يمسح بذلك البلل، ومنع مالك من ذلك في المدونة، وهذا الاختلاف جار على اختلافهم في إجازة الوضوء بالماء المستعمل عند الضرورة، فظاهر قول مالك في المدونة أن ذلك لا يجوز مثل المعلوم من قول أصبغ خلاف قول ابن القاسم، وبالله التوفيق.(1/63)
[مسألة في الخف يصيبه الروث]
ومن كتاب أوله تأخير العشاء في الحرس [مسألة في الخف يصيبه الروث] وسئل عن الخفين يلبسهما الرجل فيأتي المسجد فيصيبهما الروث الرطب فيخلعهما فيصلي ثم يخرج يمشي بهما فيكثر ذلك عليه، أترى أن يمسحهما ويصلي بهما؟ [قال: إن أصابهما روث رطب فلا يصلي بهما] حتى يغسلهما أو يخلعهما. قال ابن القاسم: قد خففه مالك بعد ذلك إذا كان غالبا.
قال محمد بن رشد: هذا المعنى من اختلاف قول مالك متكرر في رسم "المحرم" والرسم الذي بعده، وزاد في رسم "المحرم": وأما العذرة وبول الناس وخرو الكلاب وما أشبهها فلا يجزئ فيها إلا الغسل، وهو كله معنى ما في المدونة، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه أن النجاسات كلها لا يطهرها إلا الماء وإن زال العين بغير الماء فالحكم باق؛ لأنه خفف في أحد قوليه أن يمسح الخفين من أرواث الدواب الرطبة وأبوالها ويصلي فيها دون أن يغسل للمشقة التي تلحق الناس في خلعهما أو غسلهما لكثرة تكرر ذلك عليهم كلما أقبلوا أو أدبروا، والطرقات لا تنفك عنها ولا يمكن التوقي منها، فخص الخف بالمسح من أبوال الدواب وأرواثها الطرية لهذه العلة، كما خص المخرج بالمسح بالأحجار لتكرر الأذى عليه ومشقة غسله أبدا كلما تكرر عليه الأذى، وكما جوز لمن يكثر الترداد إلى مكة من الحطابين وغيرهم أن يدخلوها بغير إحرام، ومثل هذا كثير. وقال ابن حبيب: إن النعل والقدم(1/64)
لا يجزئ فيهما المسح؛ إذ لا مؤنة في نزع النعل ولا في غسل القدم، وفي المدونة دليل ضعيف على أن النعل بمنزلة الخف يجزئ فيه المسح من أرواث الدواب وأبوالها، بخلاف الدم والعذرة. وقد أعمله أبو إسحاق التونسي على ضعفه بحكم منه على مساواته بين النعل والخف. قال: إذ قد يحتاج الرجل أن يصلي في نعليه كما يحتاج أن يصلي بخفيه، وإن غسلهما كلما احتاج إلى الصلاة بهما أفسدهما الغسل. ولما قاله أبو إسحاق وجه إذا احتاج إلى الصلاة بهما لشدة حر الأرض أو بردها، وأما إذا لم يحتج إلى ذلك فما قاله ابن حبيب أظهر؛ إذ لا مؤنة في خلعهما. وقد جاء «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع نعليه في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما انصرف قال لهم: خلعتم نعالكم؟ فقالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا» . وفي هذا دليل؛ إذ خلعهما ولم يكتف بمسحهما. والخفاف الذي عندنا والشمشكات تجري مجرى النعال. وأما القدم فقياسه على الخفين في جواز مسحه لمشقة غسله كلما أراد الصلاة أولى من قياسه على النعلين، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق فيه، وبالله التوفيق.
واختلف في وجه تفرقته بين أرواث الدواب وأبوالها وبين العذرة والدم وخرو الكلاب وما أشبه ذلك، فقيل: إنما فرق بين ذلك مراعاة للاختلاف في نجاسة أرواث الدواب وأبوالها، وقيل: إنما فرق بين ذلك؛ لأن الطرقات لا تنفك من أرواث الدواب وأبوالها غالبا، وهي تنفك مما سوى ذلك من النجاسات، والأول أظهر والله أعلم وبه التوفيق.(1/65)
[مسألة: في وضوء الجنب إذا أراد النوم]
] وسئل مالك عن الرجل تصيبه الجنابة نهارا وهو يريد أن يقيل، أيتوضأ وضوء الصلاة مثل الليل؟ قال: نعم، لا ينام حتى يتوضأ.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة سواء، وإنما سأله عن نوم النهار؛ لأن السنة إنما جاءت في نوم الليل. ذكر مالك في موطاه عن عبد الله بن عمر أنه قال: «ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: توضأ واغسل ذكرك ثم نم» ، فقاس مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - نوم النهار على نوم الليل في ذلك؛ إذ لا فرق بينهما في المعنى، مع أنه ظاهر قول عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنها كانت تقول: " إذا أصاب أحدكم المرأة ثم أراد أن ينام قبل أن يغتسل فلا ينم حتى يتوضأ وضوءه للصلاة " فوضوء الجنب قبل أن ينام من السنن التي الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير خطيئة، بدليل ما روي عن عائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربما نام وهو جنب لهيئته لا يمس(1/66)
ماء» ، وإن كان قد قال ابن حبيب: إن محمل ذلك على أنه يتيمم إذ لم يحضره الماء، وقال: إن الوضوء للجنب لازم لا يسع أحدا تركه، وما قلناه هو الظاهر والله أعلم. ومما يدل على التوسعة في ذلك أن ابن عمر كان لا يغسل رجليه في وضوئه له، وقد اختلف في معنى أمره بالوضوء فقيل: إنما أمر بذلك لعله ينشط فيغسل، وقيل: إنما أمر بذلك مخافة أن يتوفى في منامه فيكون على أدنى الطهارتين، والأول أظهر والله أعلم؛ لأن الوضوء لا يرفع حدث الجنابة. ألا ترى أن الحائض لا تؤمر بذلك إذ لا تملك تعجيل طهرها، وهذا بين، وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله رجل كتب عليه ذكر حق
[مسألة: في غسل المستيقظ من النوم يده قبل أن يدخلها في إنائه]
] وسئل عن الرجل يستيقظ من النوم فيدخل يده في إنائه، قال: لا بأس بذلك، وإنما مثله في ذلك الجرة تكون في البيت فيستيقظ أهل البيت فيغرفون منها فيدخلون أيديهم فيها فلا يكون بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: قوله لا بأس بذلك؛ أي لا بأس بالماء إن فعل ذلك ما لم يعلم بيده نجاسة. ولا ينبغي له إذا استيقظ من نومه أن يدخل(1/67)
يده في وضوئه قبل أن يغسلها؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» ، فإن فعل ذلك وهو موقن بطهارة يده فالماء طاهر، وإن فعله وهو موقن بنجاستها فالماء نجس على مذهب ابن القاسم يتيمم ويتركه، فإن توضأ به أعاد في الوقت مراعاة للخلاف، وإن فعله وهو لا يعلم طهارة يده من نجاستها فهي محمولة على الطهارة حتى يوقن بنجاستها، وسواء أصبح جنبا أو غير جنب على المشهور في المذهب. وقال ابن حبيب: إن كان بات جنبا أنجس ذلك الماء وهو معنى الحديث، وحكي ذلك عن الحسن البصري. فإن كان الإناء مثل المهراس والغدير الذي لا يقدر على أن يغسل يده منه إلا بإدخالها فيه أدخل يده فيه إن لم يعلم بها دنسا، ولا يأخذ الماء بفيه ليغسلها، إذ ليس ذلك من عمل الناس، قاله في آخر سماع أشهب. وأما إن كانت يده قذرة فلا يدخلها فيه حتى يغسلها، وليحتل في ذلك بأن يأخذ الماء بفيه أو بثوب أو بما يقدر عليه، قاله في سماع موسى بن معاوية الصمادحي بعد هذا من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
[مسألة: في المسافرين ينزلون دون المنهل بموضع لا ماء فيه]
] وسئل مالك عن قوم كانوا في سفر وليس معهم ماء فأرادوا أن ينزلوا من الليل دون المنهل بثلاثة أميال خوفا إذا أتوا المنهل من الليل أن يذهب بعض متاعهم أو يسرقوا في ظلمة الليل ويتيممون(1/68)
للصلاة إذا أصبحوا، فكره ذلك وقال: لا يعجبني إلا أن يرسلوا أحدا يأتيهم بماء.
قال محمد بن رشد: فإن فعلوا فقد قال ابن عبد الحكم: لا إعادة عليهم، وهو ظاهر الرواية، وقال أصبغ: يعيدون في الوقت، وقال ابن القاسم: يعيدون في الوقت وبعده، وقع هذا الاختلاف في المبسوطة، والقول الأول أظهر والله أعلم؛ لأنهم فعلوا ما يجوز لهم من النزول دون المنهل بثلاثة أميال للعلة التي خافوها من ذهاب متاعهم. والدليل على جواز ذلك لهم «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أقام على التماس عقد عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حتى أصبح الناس على غير ماء» فلا وجه لمن قال من الشيوخ: إن الخوف على ذهاب المال لا يمنع من الفرض بخلاف الخوف على النفس، مع السنة الثابتة في هذا. وإذا كان لا يلزمه أن يشتري الماء لغسله ووضوئه بما لا يشبه من الثمن إذا رفعوا عليه فيه، وكان له أن ينتقل إلى التيمم ويحوط ماله من أن يشتري الماء بأكثر من ثمنه على ما قال في المدونة، فأحرى أن يكون له أن ينتقل هاهنا إلى التيمم بالنزول دون المنهل حياطة على ماله خوف السرقة عليه، مع أن طلب الماء لا يلزمه إلا بعد دخول وقت الصلاة؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية، وبالله التوفيق.(1/69)
[مسألة: المريض الذي لا يستطيع أن ينهض إلى الماء ولا يجد من يناوله إياه]
ومن كتاب أوله الشريكين يكون لهما مال مسألة وقال مالك في تفسير هذه الآية: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ، أن ذلك في المريض الذي لا يستطيع أن ينهض إلى الماء ولا يجد من يناوله إياه، فإذا كان كذلك يتيمم كما يتيمم المسافر إذا لم يجد الماء.
قال محمد بن رشد: ليس هذا نص التلاوة في الآية، وإنما ساقها على معنى من قدر فيها تقديما وتأخيرا، فأعاد شرط عدم الماء على السفر والمرض، فقال: إن المريض الذي يتيمم هو الذي لا يستطيع أن ينهض إلى الماء ولا يجد من يناوله إياه، فلم يجعل المريض الذي لا يقدر على مس الماء إن كان واجدا له من أهل التيمم، وكذلك الحاضر العادم للماء على قياس هذه الرواية ليس من أهل التيمم. ومن حمل الآية على ظاهرها ولم يقدر فيها تقديما ولا تأخيرا جعلهما جميعا من أهل التيمم، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة؛ لأن تأويل الآية على هذا: وإن كنتم مرضى لا تقدرون على مس الماء ولا تجدون من يناولكم إياه، أو على سفر غير واجدين للماء، فاكتفى بذكر المرض عن ذكر عدم الماء وعدم القدرة على مسه وبذكر السفر عن ذكر عدم الماء لما كان ذلك الأغلب من أحوالهما، وفهم ذلك من مراد الله عز وجل كما فهم من مراده عز وجل {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أن معنى ذلك: فأفطر(1/70)
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . ولما كان الحاضر واجدا للماء في أغلب الأحوال صرح في الآية بشرط عدمه، فقال: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] . والتيمم: القصد، والصعيد: وجه الأرض وهو ما صعد منه أي ارتفع، والطيب الطاهر، وبالله التوفيق.
[مسألة: السيف يقاتل به الرجل فيكون فيه الدم هل يغسل]
مسألة وقال مالك في السيف يقاتل به الرجل في سبيل الله فيكون فيه الدم، هل ترى أن يغسل؟ قال: ليس ذلك على الناس.
قال محمد بن رشد: قال عيسى: وكذلك الذي شأنه الصيد، وهو كما قال؛ لأنه أمر قد مضى الناس على إجازته وتخفيفه. وقد كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلون بأسيافهم وفيها الدم ولا يبالون بذلك، ولو كانوا يغسلون أسيافهم في غزواتهم لصلواتهم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعده لنقل ذلك وعرف، والله أعلم وبه التوفيق.
[مسألة: لبس الخاتم فيه ذكر الله أيلبس في الشمال وهو يستنجى به]
مسألة قال: وسألت مالكا عن لبس الخاتم فيه ذكر الله، أيلبس في الشمال وهو يستنجى به؟ قال مالك: أرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: قوله: أرجو أن يكون خفيفا - يدل على أنه عنده مكروه وأن نزعه أحسن، وكذلك قال فيما يأتي في هذا السماع في رسم "مساجد القبائل"، وفي رسم "الوضوء والجهاد" من سماع أشهب، ومثله لابن حبيب في الواضحة. ووجه الكراهية في ذلك بينة؛ لأن ما كتب فيه اسم الله تعالى فمن الحق أن يجعل له حرمته. وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة: إني لأعظم أن يعمد إلى دراهم فيها ذكر الله وكتابه فيعطاها نجسا، وأعظم ذلك إعظاما شديدا وكرهه. وقول ابن(1/71)
القاسم في رسم "مساجد القبائل": وأنا أستنجي بخاتمي وفيه ذكر الله -ليس بحسن من فعله، ويحتمل أن يكون إنما يفعله؛ لأن الخاتم قد عض بإصبعه، فيشق عليه تحويله إلى اليد الأخرى كلما دخل الخلاء واحتاج إلى الاستنجاء فيكون إنما تسامح في ذلك لهذا المعنى، فهو أشبه بورعه وفضله، والله أعلم وبه التوفيق.
[مسألة المرأة ترى الدم عند وضوئها فإذا قامت ذهب ذلك عنها]
مسألة وسئل عن المرأة ترى الدم عند وضوئها، فإذا قامت ذهب ذلك عنها. قال مالك: أرى ألا تترك الصلاة إلا أن ترى دما تنكره، ولتشد ذلك بشيء.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة أيضا في رسم "يوصي" من سماع عيسى، وزاد فيها من قول مالك: وليس عليها غسل، وهو تفسير لهذه الرواية. ووجه ذلك أن الدم لما كان يتكرر عليها عند كل وضوء دون سائر الأوقات لم يجعل ذلك حيضا، ورآها مستنكحة بذلك من الشيطان، فأمرها بالصلاة ولم ير عليها غسلا، كما فعل عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المرأة التي استفتته في نحو هذا، ذكره مالك في كتاب الحج من الموطأ، عن أبي الزبير المكي، أن أبا عامر الأسلمي عبد الله بن سفيان أخبره أنه كان جالسا مع عبد الله بن عمر، فجاءته امرأة تستفتيه فقالت: إني أقبلت أريد أن أطوف بالبيت، حتى إذا كنت عند باب المسجد هرقت الدماء، فرجعت حتى ذهب ذلك [عني ثم أقبلت حتى إذا كنت عند باب المسجد هرقت الدماء فرجعت حتى ذهب ذلك عني] ، ثم أقبلت حتى إذا كنت عند باب المسجد هرقت الدماء، فقال عبد الله بن عمر: إنما ذلك ركضة من الشيطان فاغتسلي ثم استتري بثوب ثم طوفي. وقد قال ابن أبي زيد: معنى ما أراد مالك أنها(1/72)
تغتسل منه وإن تمادى عند كل وضوء حتى تجاوز أيامها والاستظهار، ثم هي مستحاضة. ومالك أولى بتبيين ما أراد، وقد بينه في رسم "يوصي" من سماع عيسى على ما ذكرناه وبينا هناك وجهه ومعناه.
[مسألة: الرجل يكون في السفر فيريد الصلاة والماء قريب منه ولكن يخشى السباع]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يكون في السفر فتحضره الصلاة والماء منه على ميل ونصف ميل، فيريد أن يذهب إليه وهو يتخوف عناء ذلك أو يتخوف منه أن ينفرد إما من سلابة وإما من السباع، قال: لا أرى عليه أن يذهب إليه وهو يتخوف.
قال محمد بن رشد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وسواء تخوف على نفسه أو على ماله دون نفسه ليس عليه أن يذهب وهو يتخوف على شيء من ذلك على ما صححناه في مسألة رسم "كتب عليه ذكر حق" قبل هذا. ودليل هذه الرواية أنه إن لم يتخوف شيئا فعليه أن يذهب إليه على الميل والنصف ميل. وفي النوادر إن كانت عليه في ذلك مشقة فليتيمم.
قال محمد بن رشد: وذلك على قدر ما يجد من الجلد والقوة، وذلك مفسر في رسم "البز" بعد هذا. وأما الميلان فهو كثير ليس عليه في سفر ولا حضر أن يعدل عن طريقه ميلين؛ لأن ذلك مما يشق، قاله سحنون في نوازله من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يسلس بوله فلا ينقطع عنه]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية مسألة وقال مالك في الرجل يسلس بوله فلا ينقطع عنه، قال: أرى أن يتوضأ لكل صلاة، ولو كان الشتاء واشتد عليه الوضوء ثم فرق بين الصلاتين لم أر بذلك بأسا.(1/73)
قال محمد بن رشد: حكى عبد الحق عن بعض البغداديين أن الذي يسلس بوله أو مذيه من إبردة، إنما يستحب له الوضوء لكل صلاة إذا كان ينقطع المذي أو البول ثم يعود. وأما إن لم ينقطع ذلك البتة فلا معنى لاستحباب الوضوء لكل صلاة، وهو معنى صحيح ينبغي أن يحمل على التفسير لجميع الروايات، فنقول: إن معنى قوله في هذه الرواية فلا ينقطع عنه؛ أي لا يكاد ينقطع، لا أنه يسيل أبدا لا ينقطع، وهذا جائز أن يسمى الشيء باسم ما قرب منه، ومنه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» . وقد اختلف إن صلى صلاتين بوضوء واحد من غير ضرورة ولا مشقة تلحقه، فقيل: يعيد الأخرى في الوقت، وقيل: لا إعادة عليه، حكى ابن المواز القولين جميعا عن مالك في المستحاضة، وهذا مثله؛ لأنه ساوى بينهما على ظاهر قوله في المدونة، وكذلك قال ابن المواز وإن ذلك كالذي يسلس منه البول. وقد يحتمل أن يفرق بينهما للاختلاف في المستحاضة، فقد قيل: عليها الغسل لكل صلاة، وقيل: عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، وللمغرب والعشاء غسلا واحدا، وللصبح غسلا واحدا. وقيل: إنها تغتسل من ظهر إلى ظهر. وذهب مالك إلى أنها تغتسل غسلا واحدا وتتوضأ لكل صلاة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يمرض فتغمز امرأته رجليه ورأسه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يمرض فتغمز امرأته رجليه ورأسه، قال: لا ينقض ذلك وضوءها، والرجل مثل ذلك لامرأته، وإنما ينقض الوضوء ما كان من ذلك للذة. فأما الرجل تناوله امرأته الشيء أو يناولها، فتمسه أو يمسها فليس عليه شيء، وإنما الذي عليه من(1/74)
ذلك الذي هو للذة. وقال مالك في الجسة من فوق الثوب أو من تحته إذا كان على وجه اللذة فأرى عليه الوضوء. وقال سحنون: كان علي بن زياد يروي إن كانت الجسة من فوق ثوب كثيف لا يصل بجسه إلى جسدها فلا شيء عليه. وإن كان ثوبا خفيفا يصل في جسه إلى جسدها فحينئذ يكون عليه الوضوء.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن اللمس مع القصد إلى الالتذاذ يوجب الوضوء وإن لم يلتذ، وهو ظاهر ما في المدونة أيضا، ونص رواية عيسى عن ابن القاسم في رسم "أوصى" من هذا الكتاب خلاف ما في سماع أشهب، وسواء كانت الملامسة من فوق الثوب أو من تحته، إلا أن يكون الثوب كثيفا على ما في رواية علي بن زياد؛ لأنها تحمل على التفسير. وتحصيل هذه المسألة أن من التذ باللمس فلا خلاف في أن الوضوء واجب عليه سواء قصد إلى الالتذاذ به أو لم يقصد. واختلف إذا قصد الالتذاذ به فلم يلتذ على قولين، وأما إن لم يقصد الالتذاذ بذلك ولا التذ به فلا خلاف في أنه لا وضوء عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: ليس على المرأة أن تقوم قبل الفجر فتنظر في طهرها]
مسألة قال مالك: ليس على المرأة أن تقوم قبل الفجر فتنظر في طهرها، وليس هذا من عمل الناس، ولم يكن للناس ذلك الزمان مصابيح.
قال محمد بن رشد: كان القياس أن يجب عليها أن تنظر قبل الفجر بقدر ما يمكنها إن رأت الطهر أن تغتسل وتصلي المغرب والعشاء قبل طلوع الفجر؛ إذ لا اختلاف في أن الصلاة تتعين في آخر الوقت على من لم يصلها في سعة من الوقت، فسقط ذلك عنها في الاتساع ومن ناحية المشقة(1/75)
التي تدركها في القيام من الليل، فخفف ذلك عنها بأن تنظر عند إرادة النوم، فإن استيقظت عند الفجر وهي طاهر فلم تدر لعل طهرها كان من الليل حملت في الصلاة على ما نامت عليه ولم يجب عليها قضاء صلاة الليل حتى توقن أنها طهرت من قبل الفجر، وأمرت في رمضان بصيام ذلك اليوم وأن تقضيه احتياطا. فيجب على المرأة أن تنظر عند النوم للعلة التي ذكرنا، وعند أوقات الصلوات، ويجب ذلك عليها في أوائلها وجوبا موسعا، ويتعين في آخرها بقدر ما يمكنها أن تغتسل وتصلي قبل خروج الوقت. والأصل في هذه المسألة قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية. لأنها دالة على أن التأهب لها بالغسل والوضوء لا يجب إلا عند إرادة فعلها بدخول وقتها، وهو بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: يخرج من منزله وهو على غير يريد منزلا آخر فتغرب عليه الشمس]
مسألة وسئل عن رجل خرج من منزله وهو على غير وضوء وهو يريد منزلا آخر قريبا منه، وهو يرى أنه سيأتيه قبل غروب الشمس، فغربت عليه وبينه وبين الموضع الذي كان يريده ميل أو ميلان، قال: لا يصلي حتى ينتهي إلى موضعه الذي يريد فيتوضأ ويصلي.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الميل أو الميلين يأتي عليهما قبل مغيب الشفق، ولو كان لا يدرك الماء قبل مغيب الشفق لوجب عليه أن يتيمم ويصلي كما قال في المدونة، ولا اختلاف في هذه المسألة؛ لأنه مسافر وإن كان سفرا قريبا لا تقصر فيه الصلاة. وقيل: إنها جارية على الاختلاف في الحاضر العادم للماء هل هو من أهل التيمم أم لا؟ على(1/76)
اختلافهم في آية التيمم هل تحمل على ظاهرها أو يقدر فيها تقديم وتأخير على ما تقدم القول عليه في رسم "الشريكين"؟ وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يفضي بيده إلى فرجه ليس بينهما حجاب هل ينقض الوضوء]
مسألة قال سحنون: حدثني ابن القاسم عن مالك عن يزيد عن عبد المالك بن المغيرة، عن سعيد بن أبي سعيد القبري، عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أفضى بيده إلى فرجه ليس بينهما حجاب فقد وجب عليه الوضوء للصلاة» .
قال محمد بن رشد: قد روي هذا المعنى عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، من وجوه كثيرة، وروي عن طلق بن علي أنه قال: «قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاءه رجل كأنه بدوي، فقال: يا رسول الله، هل ترى في مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ فقال: وهل هو إلا بضعة منك» . فمن أهل العلم من أوجب الوضوء من مس الذكر، ومنهم من لم يوجبه، ومنهم من فرق بين العمد والنسيان، فاستعمل الآثار الواردة في ذلك ولم يطرح منها شيئا. والأقوال الثلاثة قائمة في المذهب لمالك. روى أشهب عنه في هذا الكتاب أنه قال: من مس ذكره انتقض وضوءه، فظاهره في العمد والسهو. وروي عنه في كتاب الصلاة أنه سئل عن مس الذكر، فقال: لا أوجبه وأبى، فروجع في ذلك فقال: يعيد ما كان في الوقت وإلا فلا، فظاهره أيضا في العمد والسهو. وروى ابن وهب عنه في سماع سحنون من هذا [الكتاب] القول الثالث(1/77)
أنه لا إعادة عليه إلا أن يمسه عامدا. وإلى هذا يرجع ما في المدونة على تأويل بعض الناس، وقد تأول ما فيها [على الظاهر] من التفرقة بين باطن الكف وظاهره من غير اعتبار بقصد ولا وجود لذة، وهذا كله إذا مسه على غير حائل. واختلف قوله: إن مسه على حائل خفيف على قولين، أحدهما: أنه لا وضوء عليه، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه في سماع سحنون من هذا الكتاب اتباعا لظاهر هذا الحديث، والثاني: أن عليه الوضوء، وهو قوله في رواية علي بن زياد عن مالك. وأما إن كان الحائل كثيفا فلا وضوء عليه قولا واحدا، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتوضأ ولم يخلل أصابع رجليه]
مسألة وسئل مالك عمن توضأ ولم يخلل أصابع رجليه، قال: يجزئ عنه.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن تخليلها أحسن، وكذلك قال ابن حبيب أن تخليلها مرغب فيه. وفي رسم "نذر سنة" بعد هذا: أنها لا تخلل، ونحوه روى ابن وهب عن مالك في المجموعة، قال: ولا خير في الجفاء والغلو، وبالله التوفيق.
ومن كتاب البز
[مسألة: الرجل يجنب فيدخل البير المعين يغتسل فيه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يجنب فيدخل البير المعين يغتسل فيه، قال: كنت أسمع أن ينهى أن يغتسل الجنب في الماء الدائم والمقيم. فقيل له: إن البير ربما كانت كثيرة الماء، قال: هو ماء مقيم(1/78)
وإن كان معينا، قد قيل لأبي هريرة حين ذكر غسل اليد للوضوء، فقيل له: فأين المهراس؟ قال: أف لك، لا تعارض الحديث، يريد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاله.
قال محمد بن رشد: قد مضى التكلم في أول رسم من هذا السماع على الغسل في الماء الدائم، وفي رسم "كتب عليه ذكر حق" على حكم إدخال اليد في الماء قبل غسلها: وظاهر قول أبي هريرة أنه لا يسعه أن يدخل يده في المهراس قبل أن يغسلها للحديث، ويلزمه أن يحتال لغسلها إلا أن يوقن بطهارتها خلاف ما يأتي في آخر سماع أشهب من تخفيف ذلك، فانظر ذلك وقف عليه. وبالله التوفيق.
[مسألة: المسافر يحضره وقت الصلاة وليس معه ماء والماء متنح عن الطريق]
مسألة وسئل مالك عن المسافر يحضره وقت الصلاة وليس معه ماء، والماء متنح عن الطريق، أترى أن يعدل إليه؟ قال: إن ذلك لمختلف، فمنهم القوي والضعيف، والأمر الذي لا يقوى عليه فهو على قدر ما يطيق، فإن لم يكن يقوى على ذلك وذلك يشق عليه فأرجوه أن يكون ذلك واسعا له إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذا المعنى في آخر رسم "الشريكين" بما أغنى عن إعادته، وبالله التوفيق.(1/79)
[مسألة نضح الثوب ما وجه ذلك]
مسألة وسئل مالك عن نضح الثوب ما وجه ذلك؟ قال: تخفيف، وهو جيد. قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للرجل حين سأله لعلي، قال: «اغسل ذكرك وأنثييك وانضح» . وكان عبد الله بن عمر ينضح، وهو حسن، وهو تخفيف، يريد تخفيفا لما يشك فيه.
قال محمد بن رشد: هذا أصل قد تقرر في المذهب أن ما شك في نجاسته من الثياب يجزي فيه النضح. والأصل في ذلك نضح أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للنبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، الحصير الذي صلى عليه. وأن عمر بن الخطاب لما غسل ما رأى في ثوبه من الاحتلام نضح ما لم ير. وأما احتجاجه في الرواية لذلك بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اغسل ذكرك وأنثييك وانضح» فليس ببين؛ لأن النضح بعد الغسل لما قد غسل ليس لشك في نجاسته، وإنما هو لرفع ما يخشى أن يكون يطرأ عليه بعد ذلك من الشك في أن يكون قد خرج منه بعد الغسل بقية من ذلك المذي، كما قال سعيد بن المسيب: إذا توضأت وفرغت فانضح بالماء، ثم قل: هو الماء. ووجه ما ذهب إليه في احتجاجه أن النضح يرفع الشك الذي قد وقع كما يرفع الشك الذي يتوقع، ويحتمل أن يكون أراد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: " وانضح " أي: انضح ما شككت فيه من ثيابك أن يكون المذي قد أصابه. فعلى هذا التأويل يصحح الاحتجاج بالحديث لوجوب نضح ما شك في نجاسته من الثياب، ويكون بينا لا إشكال فيه. وإنما أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغسل أنثييه لما يخشى أن يكون قد أصابهما من الأذى؛ لأن المذي من شأنه أن يمتد وينفرش، ولذلك قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس على الرجل غسل أنثييه(1/80)
من المذي إلا أن يخشى أن يكون قد أصابهما منه شيء، وهو أصله أن ما شك في نجاسته من الأبدان فلا يجزئ فيه إلا الغسل بخلاف الثياب. ومن الدليل على وجوب غسل ما شك فيه من الأبدان قوله، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» فأمر بغسل اليد للشك في نجاستها، وهذا بين. وفي كتاب ابن شعبان أنه ينضح ما شك فيه من الثياب والأبدان، وهو شذوذ. وذهب ابن لبابة إلى أن يغسل ما شك فيه من الثياب والأبدان، ولم ير النضح إلا مع الغسل في الموضع الذي ورد فيه الحديث. وقال: إن نضح الحصير للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن لنجس، وحكى ذلك عن ابن نافع، وهو خروج عن المذهب. ويحتمل عنده أن يكون معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغسل ذكرك وأنثييك وانضح» أي: انضح واغسل ذكرك وأنثييك؛ لأن الواو لا توجب رتبة، وتكون إرادته بالنضح الصب، فكأنه قال: صب الماء على ذكرك وأنثييك واغسلهما؛ لأن الصب قد يسمى نضحا، ومنه الحديث: «إني لأعرف مدينة ينضح البحر بناحيتها» أي: يصب، والله أعلم بمراده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يدخل حوض الحمام وهو ملآن أترى ذلك يجزيه في طهوره]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يدخل حوض الحمام وهو ملآن، أترى ذلك يجزيه في طهوره؟ قال: نعم، إن كان طاهرا فنعم، يريد بذلك الماء والرجل جميعا.(1/81)
قال محمد بن رشد: قوله نعم؛ يريد أن ذلك يجزيه من غسله إذا فعل بالشرطين اللذين وصف، لا أنه يبيح ذلك ابتداء لوجهين، أحدهما: الاغتسال في الماء الدائم للحديث الوارد في ذلك على ما تقدم له في أول مسألة من هذا الرسم وفي غير ما موضع، والثاني: كراهية الاغتسال بالماء السخن من الحمام، فقد قال في سماع أشهب: والله ما دخول الحمام بصواب، فكيف يغتسل من ذلك الماء؟ وبالله التوفيق.
[مسألة: المسح على الخفين في الحضر أيمسح عليهما]
مسألة وسئل عن المسح على الخفين في الحضر أيمسح عليهما؟
فقال: لا، ما أفعل ذلك. ثم قال: إني لأقول اليوم مقالة ما قلتها قط في جماعة من الناس: قد أقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة عشر سنين، وأبو بكر وعمر وعثمان خلافتهم، فذلك خمس وثلاثون سنة، فلم يرهم أحد يمسحون. قال: وإنما هي [هذه] الأحاديث. قال: ولم يروا يفعلون ذلك، وكتاب الله أحق أن يتبع ويعمل به.
قال محمد بن رشد: كان مالك أول زمانه يرى المسح في السفر والحضر، ثم رجع فقال: يمسح المسافر ولا يمسح المقيم، ثم قال أيضا: لا يمسح المسافر ولا المقيم. والصواب الذي عليه جمهور الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين إجازة المسح في السفر والحضر. وقد روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسح على الخفين نحوُ أربعين من الصحابة، وروي عن الحسن البصري أنه قال: أدركت سبعين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسحون على الخفين. وروي عنه أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أنه من لم ير المسح على الخفين يجزئه حتى يخلعهما فيغسل رجليه لم تجاوز صلاته أذنيه(1/82)
ولو صلى أربعين سنة حتى يتوب. ولم يرو عن أحد من الصحابة إنكار المسح على الخفين إلا عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة. فأما ابن عباس فروي عنه أنه قال: «مسح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الخفين» ، فسل الذين يزعمون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد مسح على الخفين أقبل المائدة أو بعد المائدة، والله ما مسح بعد المائدة، ولأن أمسح على ظهر عير بالفلاة أحب إلي من أن أمسح عليهما. وإنما قال ابن عباس: إنه لم يمسح على الخفين بعد نزول المائدة؛ لأنه لم يره مسح فظن أنه لم يمسح، ومن رأى حجة على من لم ير. فقد روي «أن جرير بن عبد الله البجلي قال: " رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على خفيه، فقالوا: بعد نزول سورة المائدة؟ فقال: إنما أسلمت بعد نزول سورة المائدة ".» وقول ابن عباس: لأن أمسح على ظهر عير بالفلاة أحب إلي من أن أمسح على الخفين، يحتمل أن يكون ذلك منه اختيارا لترك المسح في خاصته؛ لأنه من قوم اختصهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون الناس بإسباغ الوضوء على ما روي عنه أنه قال: «ما اختصنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بثلاث: إسباغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي حمارا على فرس» . ويكون المسح له وللناس باقيا عنده على حكمه قبل نزول المائدة، بدليل ما روي عنه أنه سئل عن المسح على الخفين، فقال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة. وكذلك أبو هريرة قد روي عنه أيضا إجازة المسح. وأما عائشة فقد روي أنها سئلت عن ذلك فتوقفت وقالت: اسألوا عليا فإنه كان يسافر مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسئل فقال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نمسح على أخفافنا» . والصحيح من مذهب مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، الذي عليه أصحابه إجازة المسح في السفر والحضر، فهو مذهبه في موطاه، وعليه مات. روي(1/83)
عن ابن نافع قال: دخلنا على مالك في مرضه الذي مات فيه فقلنا له: يا أبا عبد الله قد أقمت برهة من عمرك ترى المسح على الخفين وتفتي به ثم رجعت عنه، فما الذي ترى في ذلك الآن ونثبت عليه؟ فقال: يا ابن نافع، المسح على الخفين في الحضر والسفر صحيح يقين ثابت لا شك فيه، إلا أني كنت آخذ في خاصة نفسي بالطهور، فلا أرى من مسح قصر فيما يجب عليه، وأرى المسح قويا والصلاة تامة. ومثل هذا في نوازل أصبغ من قوله وروايته عن ابن وهب.
[مسألة: إذا لبس الخفين المقيم والمسافر وهو طاهر فليمسح عليهما]
مسألة أخبرنا سحنون عن ابن وهب أنه قال: سمعت مالكا يقول: إذا لبس الخفين المقيم والمسافر وهو طاهر فليمسح عليهما، ليس عند أهل بلادنا في هذا وقت إذا انتهى إليه لم يمسح على الخفين، ولكن ما داما عليه.
قال محمد بن رشد: هذا هو المعلوم من قول مالك في المدونة وغيرها الذي عليه أصحابه أن لا توقيت في ذلك، وقد روي عن مالك التوقيت في ذلك كالذي يذهب إليه أهل العراق: ثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، في رسالته إلى هارون الرشيد. وقد قيل: إنها لم تصح عنه، والله أعلم وبه التوفيق.
[مسألة: الغسل باللبن والعسل يغسل به رأسه]
مسألة وسئل مالك عن الغسل باللبن والعسل يغسل به رأسه، قال: ما يعجبني ذلك، وغيره أحب إلي منه.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما في رسم "النذور والجهاد" من سماع أشهب، ونحو قول سحنون في نوازله، وفي سماع أشهب أيضا من هذا الكتاب. وقال ابن نافع فيه: لا بأس بالوضوء بالنخالة. وهذا إنما يكره من(1/84)
ناحية السرف والترفه والتشبه بأمر الأعاجم وما للأطعمة من الحرمة، لا لأنه حرام، فمن تركه أجر، ومن فعله لم يكن عليه إثم ولا حرج على حد المكروه؛ لأنه مما في تركه ثواب وليس في فعله عقاب. وقول ابن نافع: لا بأس بالوضوء بالنخالة؛ معناه لا إثم عليه إن فعل ذلك، فليس بخلاف لقول مالك وسحنون. وكذلك ما وقع في سماع أشهب من كتاب الحدود: لا بأس أن تمشط المرأة بالنضوح تعمله من التمر والزبيب، معناه: لا إثم عليها في ذلك؛ لأن النهي إنما جاء في الخليطين للشرب، لكنه مكروه لها من ناحية السرف، فإن تركته أجرت، وإن فعلته لم تأثم، فليس في شيء من ذلك كله تعارض ولا اختلاف، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل تبول الدابة قريبا منه فيشك أن يكون أصابه شيء من بولها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل تبول الدابة قريبا منه فيشك أن يكون أصابه شيء من بولها، فقال: إن استيقن أنه أصابه ولم يره غسل تلك الناحية، وإن شك نضح وهو يجزئ عنه.
قال محمد بن رشد: وهذا على أصله الذي قد قرره في غير ما موضع أن ما شك في نجاسته من الثياب يجزئ فيه النضح، فإن لم يفعل أعاد في الوقت. واختلف إذا وجد في ثوبه احتلاما فغسل ما رأى وترك أن ينضح ما لم ير، فقال في سماع ابن أبي زيد يعيد في الوقت، وقال ابن حبيب: لا إعادة عليه؛ لأن النضح هاهنا إنما هو لتطيب النفس، وهو قول ابن نافع في تفسير ابن مزين، وبالله التوفيق.
[: الفرس في مثل الغزو والأسفار يكون صاحبه يمسكه فيبول فيصيبه بول الفرس]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل [مالك] عن الفرس في مثل الغزو والأسفار يكون صاحبه يمسكه فيبول فيصيبه بول الفرس، قال: أما في أرض العدو(1/85)
فإني أرجو أن يكون خفيفا إذا لم يكن له من يمسكه غيره، وأما في أرض الإسلام فليتقه ما استطاع، ودين الله يسر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه مما لا يستطيع المسافر التوقي منه، لا سيما الغازي في أرض العدو، فهو موضع تخفيف للضرورة، كما خفف مسح الخف من الروث الرطب، وكما جوز للمرأة أن تصلي في الثوب الذي ترضع فيه إذا لم يكن لها ثوب غيره، مع أن تدرأ البول عنه جهدها.
[: الرجل يجعل الخرقة يمسح بها وجهه عند وضوئه]
ومن كتاب أوله مساجد القبائل وسئل مالك عن الرجل يجعل الخرقة يمسح بها وجهه عند وضوئه، قال: لا بأس بذلك، وأنا أفعل ذلك، ثم قال: وما الذين يسألون عن مثل هذا؟ فقيل: إن بعض الناس يذكرون أن بلال بن عبد الله بن عمر نهى رجلا عن ذلك، ويقولون: هو يذهب بنور الوجه، فوعظه أن يحدث بذلك أو يقبله ممن حدثه، قال: ولو قاله بلال أيؤخذ منه ذلك؟
قال محمد بن رشد: إنما أنكر مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والله أعلم، هذا الحديث ووعظ أن يحدث بذلك أو يقبله ممن حدثه لبيان بطلانه، وذلك أن نور الوجه هو بياضه، فإن كان أراد أن مسح الوضوء بالخرقة يذهب بياض الوجه في الدنيا فيسود أو تعلوه كالغبرة، فذلك ترده المشاهدة، وإن كان أراد أنه يذهب بياضه في الآخرة فيسود أيضا أو تعلوه غبرة، فذلك يرده القرآن؛ لأن الله تعالى أخبر في كتابه أن ذلك من علامات الكفار، قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106] .(1/86)
وقال: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس: 40] {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 41] {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 42] وقد «روي أنه، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كانت له خرقة ينشف بها بعد الوضوء» وقع هذا الأثر في المدونة من رواية عائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وقولها: «كانت له خرقة يتنشف بها عند الوضوء» يقتضي أن ذلك كان شأنه الذي يداوم عليه، فلا يعارض هذا ما روي «عن ميمونة أنها قالت: " صببت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسلا فاغتسل به ثم أتيته بمنديل أو خرقة فلم يردها أو لم ينفض بها» ؛ إذ قد يحتمل أن يكون كره الخرقة لشيء علمه فيها، أو كره مناولتها إياه، أو أحب أن يكون هو الذي يتناولها بنفسه تواضعا لله عز وجل، ولعلها قامت بها عليه فكره قيامها؛ إذ ذلك من فعل الجبابرة، وقد قال، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» . ومن الناس من كره ذلك في الغسل دون الوضوء اتباعا للآثار، فهي أقوال. وقد عللت الكراهية فيها بأنه أثر عبادة فكرهت إزالته كدم الشهيد، وهو من التعليل البعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: الخاتم يكون في يد الرجل أيحركه عند الوضوء]
مسألة وسئل عن الخاتم يكون في يد الرجل أيحركه عند الوضوء؟
قال: لا أرى ذلك على أحد أن يحرك خاتمه. فقيل له: أيستنجي به وفيه ذكر الله؟ قال: إن ذلك عنده لخفيف، ولو نزعه لكان أحسن، وفي هذا سعة، وما كان من مضى يتحفظ هذا التحفظ في مثل هذا(1/87)
ولا سئل عنه. وقال ابن القاسم: وأنا أستنجي بخاتمي وفيه ذكر الله.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أرى على أحد أن يحرك خاتمه عند الوضوء مثله في بعض الروايات لأبي زيد بن أبي آمنة في الذي يكون في إصبعه خاتم قد عض به، فهو كما قال؛ لأنه إن كان سلسا فالماء يصل إلى ما تحته ويغسله، وإن كان قد عض بإصبعه صار كالجبيرة لما أباح الشرع له من لباسه إياه، فلا ينبغي أن يدخل في هذا لهذه العلة الاختلاف الموجود في المدنية وفي بعض روايات العتبية فيمن توضأ وقد لسق بظفره أو بذراعه الشيء اليسير من العجين أو القير أو الزفت؛ لأن الأظهر من القولين تخفيف ذلك على ما قاله أبو زيد بن أبي آمنة في بعض روايات العتبية، ومحمد بن دينار في المدنية، خلاف قول ابن القاسم في المدنية، وظاهر قول أشهب في بعض روايات العتبية. وقد روي عن أبي تميم الجيشاني قال: " دخلت أنا وإخوتي على عمر بن الخطاب وعلى بعضهم خاتم فقال له عمر: كيف يتم وضوءك وهذا عليك؟ فنزعه وألقاه ". وهذا شاذ والله أعلم بصحته؛ إذ لو كان هذا واجبا لاتصل به العمل، ونقل نقل التواتر الذي لا يجهل، وبالله التوفيق.
وفي البخاري عن ابن سيرين " أنه كان يغسل موضع الخاتم إذا توضأ "، وذلك من الاعتداء في الوضوء المنهي عنه ومن الغلو في الدين، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77] . وأما الاستنجاء به وفيه ذكر الله فقد مضى القول فيه في رسم "الشريكين"، وبالله التوفيق.(1/88)
[حكم درق البازي]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت قال ابن القاسم: في درق البازي قال: يعيد في الوقت إلا أن يكون الذي يصيب ذكيا، فقيل لابن القاسم: فالحمام تصيب أرواث الدواب، فقال: أحب إلي أن لو أعاد في الوقت من صلى بخروها.
قال محمد بن رشد: ذكر ابن حارث في كتاب يحيى بن إسحاق من رواية أصبغ عن ابن القاسم أن درق البازي نجس، وإن كان الذي يأكل ذكيا. قال أصبغ: ولا يعجبني قوله: إذا كان الذي يأكل ذكيا وأراه طاهرا. وفي المبسوطة أيضا لمالك مثل قول ابن القاسم في رواية أصبغ عنه أنه نجس يعيد منه في الوقت وإن كان الذي يصيب منه ذكيا. وقد روي عن مالك أنه لا يوكل ككل ذي مخلب من الطير لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك. وعلى هذه الرواية يأتي أن درق البازي نجس وإن كان الذي يأكل ذكيا. وقوله في الحمام: يصيب أرواث الدواب أن أحب إليه أن لو أعاد في الوقت من صلى بخروها، إنما إذا علم من حالها أنها تأكل أرواث الدواب ولم يتحقق أنها أكلتها، ولو تحقق ذلك لقال: إنه يعيد في الوقت على كل حال؛ لأن خرو ما يأكل النجس عنده نجس، وبالله التوفيق.
[: خرو الحمام يصيب الثوب]
ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها وسئل مالك عن خرو الحمام يصيب الثوب، قال: هو عندي خفيف، وغسله أحب إلي.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا لم يعلم أنها أكلت نجاسة على ما تقدم في الرسم الذي قبل هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يكون معه الماء القليل لوضوئه أترى يسقيه عطشانا ويتيمم]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يكون معه الماء القليل لوضوئه فيمر(1/89)
به رجل] فيستقيه، أترى أن يسقيه ويتيمم؟ قال: ذلك يختلف، أما رجل يخاف أن يموت فأرى ذلك له، وإن لم يبلغ منه الأمر الخوف فلا أرى ذلك له، وقد يكون عطش خفيف، ولكن إن أصابه من ذلك أمر يخافه فأرى ذلك له.
قال محمد بن رشد: خوفه على الرجل الذي يستقيه كخوفه على نفسه سواء، وقد قال في رسم "الوضوء والجهاد" من سماع أشهب: إنه إذا كان معه من الماء قدر وضوئه فخاف العطش أنه يجوز له أن يتيمم ويبقي ماءه، وهو كما قال؛ لأن الخوف على النفس يسقط حق الله. قال الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] .
[مسألة: نام فاحتلم وصلى الصبح فرأى في قميصه الاحتلام وهو بالسوق]
مسألة وسئل مالك عن من نام فاحتلم وصلى الصبح فرأى في قميصه الاحتلام وهو بالسوق وذلك نهارا بعد أن طلعت الشمس، وهو يريد أن يشتري حاجة، أفترى أن يمضي لحاجته أم ينصرف فيغتسل ويصلي الصبح؟ قال: بل ينصرف ويغتسل ويصلي الصبح.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب الوضوء من المدونة سواء. والدليل على صحته قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها كما كان يصليها في وقتها» ، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وقد قال في كتاب الصلاة الأول من المدونة: من ذكر صلاة قد خرج وقتها فليس له أن يتنفل قبلها، وليس الأمر في ذلك(1/90)
عندي بضيق؛ لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلى إذ نام عن الصلاة في الوادي ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح» وبالله التوفيق.
[مسألة: الفارة تأكل من الخبز أيؤكل من موضعها الذي أكلت منه]
مسألة وسئل مالك عن الفارة تأكل من الخبز أيؤكل من موضعها الذي أكلت منه؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة قال: وسألنا مالكا عن الخبز من سؤر الفارة، فقال: لا بأس بذلك، وهو على أصله فيها أن السباع والدجاج التي تأكل النتن إن شربت من اللبن لم يطرح إلا أن يتيقن أن في مناقرها أذى. ويروى الخبز من سؤر الفارة بفتح الخاء، يريد ما عجن بالماء الذي شربت فيه، وذلك على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك سواء، وإنما يفترق ذلك على مذهب ابن الماجشون الذي يقول إن الكلب إذا ولغ في اللبن أكل، وإذا ولغ في الماء وعجن به أو أصبح أنه لا يؤكل شيء من ذلك؛ لأنه فساد أدخله هو على نفسه بفعله، والله أعلم.
[مسألة: الرجل يدخل إصبعه في فيه عند وضوئه ويدخلها في مائه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يدخل إصبعه في فيه عند وضوئه، ويدخلها في مائه، قال: لا بأس بذلك. فقيل له: فالسواك يدخله في مائه الذي يتوضأ به وقد أدخله في فيه، أيتوضأ بذلك الماء؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إنما سأله عن ذلك لما خشي أن ينضاف الماء لما تعلق بإصبعه أو سواكه من ريقه، فرأى ذلك خفيفا؛ إذ لا يتغير الماء من(1/91)
الريق إلا أن يكثر البصاق فيه. وقد استحب في رسم "الوضوء والجهاد" من سماع أشهب غسل يده قبل أن يعيدها إلى وضوئه وهو حسن، إذ روي عن أبي الحسن القابسي أن الماء اليسير ينضاف بما حل فيه من الطاهر اليسير وإن لم يتغير به، كما تفسده النجاسة اليسيرة وإن لم يتغير بها، وهو شذوذ.
مسألة وسئل مالك عن الاستنثار، أيستنثر الرجل من غير أن يضع يده على أنفه؟ فأنكر ذلك، وقال: لا أعرفه، كأنه يرى أنه يضع يده إذا أراد أن يستنثر.
قال محمد بن رشد: وهو كما قال؛ لأن ذلك هو السنة، والشأن في الاستنثار الذي مضى عليه العمل وأخذه الصغير عن الكبير. ووجه ذلك أنه يضع يده على أنفه إذا استنثر يدفع ما يخرج من أنفه مع الماء الذي استنشقه من أن يسيل على فمه ولحيته، ولذلك أنكر مالك تركه، وهو موضع الإنكار، وبالله التوفيق.
مسألة وسئل مالك عن المتيمم كيف يتيمم؟ قال: ضربة لوجهه، وضربة ليديه، يمر يده اليسرى على اليمنى من فوقها وباطنها، واليمنى على اليسرى مثل ذلك من فوقها وباطنها.
قال محمد بن رشد: هذا هو الاختيار عند مالك في التيمم، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، يمر اليسرى على اليمنى من فوقها وباطنها، الأصابع على ظهور الأصابع، وظهر الذراع والكف على بطن الذراع إلى أصل الكف، ثم اليمنى على اليسرى من فوقها وباطنها كذلك، إلا أنه ينتهي إلى آخر الأصابع، قاله ابن حبيب، وخالفه غيره في ذلك فقال(1/92)
يمسح اليمنى باليسرى إلى أطراف الأصابع، ثم اليسرى باليمنى كذلك. وما في المدونة محتمل للتأويل. والفرض عنده ضربة واحدة للوجه واليدين إلى الكفين، فإن تيمم أحد عنده إلى الكفين أعاد في الوقت، وإن تيمم بضربة واحدة لم يكن عليه إعادة. وقال ابن حبيب يعيد في الوجهين في الوقت، وقال ابن نافع ومحمد بن عبد الحكم: يعيد في الوجهين جميعا في الوقت وبعده. ويتحصل من اختلاف أهل العلم في صفة التيمم تسعة أقوال؛ لأن في حده ثلاثة أقوال، قيل: إلى الكوعين، وقيل: إلى المرفقين، وقيل: إلى المنكبين، قيل بضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين، وقيل بضربة واحدة للوجه واليدين، [وقيل بضربة واحدة للوجه واليدين] وضربة ثانية للوجه أيضا واليدين. واختيار ابن لبابة الذي قد ذكرناه في رسم "الشجرة" قول عاشر في المسألة.
[مسألة: الجنب أيحرك لحيته بالماء إذا اغتسل]
مسألة وسئل مالك عن الجنب أيحرك لحيته بالماء إذا اغتسل؟ قال: نعم. فقيل له: فعند الوضوء؟ قال: يحرك ظاهرها من غير أن يدخل يده فيها، وهو مثل أصابع الرجل أراد أنها لا تخلل.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في تخليل الرجلين في آخر رسم "اغتسل". وأما تخليل اللحية في الوضوء ففيها ثلاثة أقوال: أحدها قوله في هذه الرواية وفي المدونة أنها لا تخلل، وهو قول ربيعة أن تخليلها مكروه، والثاني: أن تخليلها مستحب، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، والثالث: أن تخليلها واجب، وهو قول مالك في رواية ابن وهب وابن نافع عنه حكاه ابن حارث. وقد مضى في رسم "أخذ يشرب خمرا" من توجيه الاختلاف في تخليلها في الغسل ما يدل على ذلك في الوضوء لمن فهم. وأظهر الأقوال(1/93)
استحباب تخليلها، " فقد روي «أن عمار بن ياسر توضأ فخلل لحيته فقيل له: أتخلل لحيتك؟ فقال: وما يمنعني وقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخلل لحيته» وبالله التوفيق.
[رجل جهل في السفر فتيمم فضرب ضربة واحدة ثم سأل عن ذلك بعد أيام]
من كتاب أوله المحرم يتخذ خرقة لفرجه وسئل مالك عن رجل جهل في السفر فتيمم فضرب ضربة واحدة فيمم بها وجهه ويديه وصلى، ثم سأل عن ذلك بعد أيام، قال: أرجو أن يجزئ عنه، وغير ذلك كان أصوب. قال ابن القاسم: لا أرى عليه إعادة في الوقت ولا بعده.
قال محمد بن رشد: قد مضى في الرسم الذي قبل هذا من التكلم على هذه المسألة بما فيه كفاية.
[مسألة: استنجى بدرة ثم توضأ وصلى]
مسألة وسئل عمن استنجى بدرة ثم توضأ وصلى. قال: صلاته تجزئه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم "سن" بما فيه كفاية.
[مسألة: الخفين وما يصيب أهل مصر في أخفافهم من الروث الرطب]
مسألة وسئل مالك عن الخفين وما يصيب أهل مصر في أخفافهم من الروث الرطب أيمسحه الرجل ويصلي به؟ قال: أرجو أن يكون واسعا إن شاء الله، وما الناس كلهم سواء، من الناس من يركب،(1/94)
ومن الناس من يجعل زوجي خفاف لموضع البرد فينزع الأعلى، وأرجو أن يكون خفيفا. فقلت له: فأحب إليك أن ينزعه؟ قال: نعم، هو أحب إلي، ولا أراه ضيقا على الناس. فقيل له: فالعذرة يطأ عليها؟ قال: ليس هذا مثل الروث، والروث أسهل عندي من العذرة، ولا أرى أن يصلي بالعذرة حتى يغسلها. قال: والبول بول الناس عنده مثل العذرة وخرو الكلاب وما أشبهها لا يجزئ فيها إلا الغسل، إلا أرواث الدواب وأبوالها فإن المسح يجزئ فيها.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة قد تقدم الكلام عليها في رسم أوله "تأخير صلاة العشاء ".
[مسألة: الطعام يوقد بأرواث الحمير أيؤكل]
مسألة وسألته عن الطعام يوقد بأرواث الحمير أيؤكل أم لا؟ فقال لي: أما الخبز الذي ينضج فيه فلا يؤكل، وأما ما طبخ في القدر فأكله خفيف وهو يكره بدءا، وقال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما وقع في رسم "شك في طوافه" في بعض الروايات، قال: لا يوقد بعظام الميتة لا الطعام ولا الشراب، قال ابن القاسم: ولا أرى أن يوقد بها في الحمامات، قال ابن القاسم: ولا أرى بأسا أن تخلص بها الفضة من التراب إن شاء الله تعالى، ونفرد القول على هذه المسألة في موضعها. وهذا كما قال؛ لأن الخبز الذي ينضج فيه قد داخله من عين نجاسة الروث النجس وسرى فيه فنجس بذلك. وأما ما طبخ عليه في القدر فلم يصل إليه من عين النجاسة شيء ينجس به من أجل الحائل الذي بينه وبينه، وإنما يكره من أجل ما يصل إليه من دخان الروث النجس؛ لما في ذلك من الشبهة من أجل من يقول: إن الدخان نجس وإن لم يكن عندنا نجسا.(1/95)
[مسألة: الرجل يتوضأ يريد بذلك طهر الوضوء هل يجزئ ذلك للصلاة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتوضأ يريد بذلك طهر الوضوء، ولا يريد بذلك صلاة، فتحضره الصلاة، أفترى أن يصلي بذلك الوضوء؟ قال: نعم إذا أراد بذلك طهرا.
قال محمد بن رشد: لا إشكال أن يصلي صلاة الفريضة بهذا الوضوء؛ لأنه إذا نوى به الطهر فقد قصد به رفع الحدث، فهذا أعم ما ينوي المتوضئ بوضوئه. وإنما الكلام إذا لم يعم ويقصد رفع الحدث، وإنما توضأ لشيء يعنيه هل يصلي بذلك صلاة الفريضة أم لا؟ وهذا ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يتوضأ لما لا يصح فعله إلا بوضوء كمس المصحف أو الصلاة على جنازة وما أشبه ذلك، والثاني: أن يتوضأ لما يصح فعله بغير طهارة والوضوء له مشروع استحبابا كالنوم وقراءة القرآن طاهرا وما أشبهه، والثالث: أن يتوضأ لما لم يشرع له الوضوء أصلا كالدخول على السلطان وما أشبه ذلك. فالأول يصلي به باتفاق، والثاني يصلي به على اختلاف، والثالث لا يصلي به باتفاق، وبالله التوفيق.
[الرجل يمشي بخفيه في مكان القشب الرطب فيصيبه من ذلك أيصلي فيه]
من كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان وسئل مالك عن رجل يمشي بخفيه في مكان القشب الرطب فيصيبه من ذلك، أيصلي فيه؟ قال: لا، حتى يغسله أو يخلعه. قيل له: فالحديث الذي جاء في القشب؟ قال: ذلك القشب اليابس فيما تقول. قال ابن القاسم: ثم سمعته بعد ذلك يخففه في أرواث الدواب وأبوالها إذا مسحت وإن كانت طرية.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة في مواضع، ومضى القول فيها في رسم "تأخير العشاء" ما فيه كفاية، وبالله التوفيق.(1/96)
[مسألة: الرجل يمر تحت السقائف فيقع عليه ماؤها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يمر تحت السقائف فيقع عليه ماؤها، قال: أراه في سعة ما لم يستيقن بنجس.
قال محمد بن رشد: زاد في هذه المسألة في رسم "نقدها" من سماع عيسى: فإن سألهم، فقالوا: هو طاهر، فإنه يصدقهم إلا أن يكونوا نصارى فلا أرى ذلك. وهذا كما قال: إن النصارى يحمل ما سال عليه من عندهم على النجاسة ولا يصدقون إن قالوا: إنه طاهر، بخلاف المسلمين؛ لأنهم ممن يتوقى من النجاسة ويخاف من ربه العقوبة. وقد تكررت في هذا الرسم بعينه من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الدود يخرج من الدبر أترى فيه وضوءا]
مسألة وسئل مالك عن الدود يخرج من الدبر، أترى فيه وضوءا؟ قال مالك: لا، هو عندي مثل البول الذي يفلت من صاحبه. قال ابن القاسم: يريد السلس.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن لا وضوء عليه خرجت الدود نقية أو غير نقية، وهو المشهور في المذهب أن لا وضوء إلا فيما يخرج من السبيلين من المعتادات على العادة، والثاني: أنه لا وضوء [عليه] إلا فيما تخرج غير نقية، وهذا على قول من يرى الوضوء فيما خرج من السبيلين من المعتادات خرج على العادة أو على غير العادة، والثالث: أن عليه الوضوء وإن خرجت نقية، وهو قول ابن عبد الحكم خاصة(1/97)
من أصحابنا؛ لأنه يرى الوضوء مما خرج من السبيلين من المعتادات وغير المعتادات، وبالله التوفيق.
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك رواية سحنون
[تخليل اللحية في الوضوء]
من كتاب الجنائز وسئل مالك عن تخليل اللحية في الوضوء، قال: لا أرى ذلك عليه، يغسل وجهه ويمر يديه على لحيته. قيل له: أفيخلل لحيته من الجنابة؟ قال: نعم ويحركها، قد «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخلل أصول شعر رأسه من الجنابة» .
قال محمد بن رشد: دليل هذه الرواية أن تخليل اللحية مستحب عنده؛ لأنه لما نفى وجوب تخليلها بقوله: لا أرى ذلك عليه، دل على الاستحباب؛ إذ لا يقول أحد إن تخليلها من قبيل المباح. وقد تقدم القول في تخليلها في الوضوء في آخر رسم "نذر سنة" من سماع ابن القاسم، وفي تخليلها في غسل الجنابة في رسم "أخذ يشرب خمرا" منه بما لا معنى لإعادته هاهنا وبالله التوفيق.
[مسألة: تقبيل الرجل أخته أو ابنته أينقض الوضوء]
مسألة وسئل عن تقبيل الرجل أخته أو ابنته أينقض الوضوء؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن القبلة من الملامسة، فإنما ينتقض الوضوء من ناحية اللذة، والنساء في ذلك على ثلاثة أحوال: من لا يوجد في تقبيلهن لذة ومنهن من لا يُبتغى في تقبيلهن لذة، ومنهن من يُبتغى في تقبيلهن اللذة. فأما اللواتي لا يوجد في تقبيلهن لذة وهن الصغيرات اللواتي لا يشتهى مثلهن فلا وضوء في تقبيلهن وإن قصد بذلك اللذة ووجدها بقلبه إلا على مذهب من يوجب الوضوء في الالتذاذ بالتذكار. وأما اللواتي(1/98)
لا يبتغى في تقبيلهن لذة وهن ذوات المحارم فلا وضوء في تقبيلهن إلا مع القصد إلى الالتذاذ بذلك من الفاسق الذي لا يتقي الله؛ لأن القصد في تقبيلهن الحنان والرحمة، فالأمر محمول على ذلك حتى يقصد سواه. وأما اللواتي يبتغى بتقبيلهن اللذة وهن من سوى ذوات المحارم فيجب الوضوء في تقبيلهن مع وجود اللذة أو القصد إليها وإن لم توجد، واختلف إذا عدم الأمران على قولين، وبالله التوفيق.
[مسألة: المسافر لا يجد وفي الرفقة من معه ماء أيتيمم للصلاة ولا يسألهم]
مسألة وسئل عن المسافر لا يكون معه ماء وقد حضرت الصلاة وفي الرفقة من معه ماء، أترى أن يتيمم ويصلي ولا يسألهم؟ أم ترى ألا يتيمم حتى يسألهم؟ فقال: يتيمم وهو يجد ماء، لا، ولكن يسأل من يليه ومن يظن أنه يعطيه. قبل أن يتيمم، وليس عليه أن يتبع أربعين رجلا في الرفقة فيسألهم كلهم، ولكن يسأل من يليه ويرجو ذلك منه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول في هذه المسألة في رسم "شك في طوافه" من سماع ابن القاسم، ويأتي في رسم " أبي زيد " ما فيه زيادة في معناها.
[مسألة: المتوضئ في الصفر والحديد]
مسألة وسئل عن المتوضئ في الصفر والحديد، فقال: لا بأس بذلك، وقد أتي عبد الله بن عمر بوضوء في تور نحاس فأبى أن يتوضأ فيه، قال مالك: وأراه نحاه ناحية الفضة.
قال محمد بن رشد: معنى قول مالك في هذه المسألة: لا بأس بذلك؛ أي لا بأس ولا كراهية فيه عندي، وإن كان عبد الله بن عمر قد كرهه ونحا به ناحية الفضة.(1/99)
[مسألة: أيتوضأ من السقاء من الميتة إذا دبغ]
مسألة وسئل أيتوضأ من السقاء من الميتة إذا دبغ؟ فقال: إني أرجو أن لا يكون به بأس، إن أبغض ذلك إلي الصلاة فيه.
قال محمد بن رشد: قال في كتاب الجعل والإجارة من المدونة: وجه الانتفاع بها الجلوس عليها والغربلة بها، وأما الاستسقاء بها ففي نفسي منه شيء، فأنا أتقيه في خاصة نفسي ولا أحرمه على الناس. فالمشهور من قول مالك المعلوم من مذهبه أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ، وإنما يجوز الانتفاع به في المعاني التي ذكر على حديث عائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت» . وقد روي عن ابن عباس أنه قال: «مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشاة ميتة كان أعطاها مولى لميمونة زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: أفلا انتفعتم بجلدها؟ فقالوا: يا رسول الله، إنها ميتة، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إنما حرم أكلها» . وروي عنه أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» وروي عن عبد الله بن الحكم قال: «قرئ علينا كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض جهينة وأنا غلام شاب أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» فقال ابن لبابة: يشبه أن يكون مالك أسقط حديث ابن عباس الأول؛ لأنه قد اختلف عن ابن شهاب في إسناده ومتنه، فروي عنه مرة عن ابن عباس عن ميمونة، ومرة عن ابن عباس(1/100)
أن شاة لميمونة، وروي عنه «ألا دبغتم إهابها فانتفعتم به» وأسقط حديثه أيضا: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» لأنه منه، وأسقط حديث عبد الله بن حكيم؛ لأنه لم تكن له صحبة، ولأنه قد روي عنه أنه قال: أخبرنا أشياخنا أن كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى إلى جهينة، وتقلد حديث عائشة وحده. وكان شيخنا الفقيه أبو جعفر بن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: لم يسقط مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - شيئا من هذه الآثار بل استعملها كلها، وجعل حديث عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت» مفسرا لها كلها، فقال قوله في حديث ابن عباس الثاني: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» معناه الانتفاع به، وقوله في حديث عبد الله بن حكيم: «ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» معناه قبل الدباغ، وهو كلام جيد؛ إذ لا ينبغي أن يطرح شيء من الآثار مع إمكان استعمالها. وأكثر أهل العلم يقولون: إن جلد الميتة يطهره الدباغ طهارة كاملة يجوز بها بيعه والصلاة به، وهو قول ابن وهب من أصحابنا في سماع عبد الملك من كتاب الصلاة، وفي الصلاة من المدونة دليل على هذا القول، وروى أشهب مثله عن مالك في جلود الأنعام خاصة في كتاب الضحايا، قال: وسئل مالك أترى ما دبغ من جلود الدواب طاهرا؟ فقال: ألا يقال هذا في جلود الأنعام، فأما جلود ما لا يؤكل لحمه فكيف يكون جلده طاهرا إذا دبغ وهو مما لا ذكاة فيه ولا يؤكل لحمه. وقد اختلف في جلد الخنزير فقيل: إنه لا يطهر بالدباغ، وقيل: إنه يطهر به لعموم الحديث. وقد قال أهل اللغة منهم النضر بن شميل: إن الإهاب جلد الأنعام، وما سواه لا يقال له إهاب، وإنما يقال له(1/101)
جلد. وقال إسحاق بن راهويه: هو كما قال النضر، وقال أحمد بن حنبل: لا أعرف ما قال النضر.
[مسألة: أيغسل الصوف صوف الميتة قبل أن يلبس]
مسألة وسئل أيغسل الصوف صوف الميتة قبل أن يلبس؟ فقال: إن كان يعلم أنه لم يصبه أذى فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصله أنه طاهر، بدليل أخذه منها في حال الحياة. وقد قال ابن حبيب: إنه يغسل، واستحب ذلك في المدونة، ولا معنى له إن علم أنه لم يصبه أذى. وذهب الشافعي إلى أن الصوف من الميتة ميتة؛ لأنه رأى أن الروح قد حله فمات بموت الشاة. وفي إجماعهم على جواز أخذه حال الحياة مع السلامة دليل على أن الروح لم يحله. وقد قال بعض من احتج له: إن ذلك كاللبن يؤخذ من الحي ولا يؤخذ من الميت، ولم يأت بشيء؛ لأن اللبن من الميت إنما نجس من كونه في الوعاء النجس، لا أنه مات بموت الشاة. وأما القرن فقد حله الروح، ولذلك كره مالك أخذه حال الحياة أو الموت، ولم يحرمه؛ لأنه أشبه الصوف في أنه لا يؤثر فيه الموت ولا يؤلم البهيمة أخذه منها حال الحياة.
[مسألة: قوله تعالى " يوم تبلى السرائر " هل الوضوء من السرائر]
مسألة وسألته عن قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] أبلغك أن الوضوء من السرائر؟ قال: نعم. الوضوء من السرائر، وقد بلغني ذلك فيما يقول الناس، فأما حديث أحدثه فلا، والصلاة من السرائر، والصيام من السرائر، إن شاء قال: قد صليت ولم يصل، ومن السرائر ما في القلوب يجزي الله به العباد.(1/102)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن السرائر ما يسر العبد في نفسه من إيمان أو كفر أو خير أو شر أو إخلاص عبادة أو الرياء بإظهار طاعة، فيعلم الله ذلك من قلبه ويبلوه من فعله ويحاسبه على ذلك بحكمه ويصيره إلى ما شاء من جنة أو نار بعدله، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه.
[مسألة الأقطع الرجل الواحدة أيجوز له أن يمشي بالنعل الواحدة]
مسألة وسئل عن الأقطع الرجل الواحدة، أيجوز له أن يمشي بالنعل الواحدة؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن النهي عن المشي في النعل الواحدة إنما أريد به من كان ذا رجلين، بدليل قوله في الحديث: «لينعلهما جميعا أو ليخلعهما جميعا» ، فمن كان ذا رجل واحدة لم يتناوله النهي، والله تعالى أعلم.
[مسح مقدم رأسه مثل ما صنع ابن عمر]
ومن كتاب الصلاة وسئل عمن مسح مقدم رأسه مثل ما صنع ابن عمر، فقال: وما يدريك أن ابن عمر مسح مقدم رأسه، فقال: أرى أن يعيد الصلاة. قال أشهب: لا إعادة عليه، فقيل له: إذا مسح بعض رأسه ولم يعم أعاد؟ قال: نعم، أرأيت لو غسل بعض وجهه أو ذراعيه أو رجليه.
قال محمد بن رشد: اختلف أهل العلم في جواز مسح بعض الرأس في الوضوء لاحتمال قول الله عز وجل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] أن تكون الباء للتبعيض وأن تكون للإلزاق، ولما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/103)
«مسح بعض رأسه» . فأما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلم يجز مسح بعض الرأس كما لم يجز في التيمم مسح بعض الوجه واليدين، وإن كان الله قد قال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ، كما قال في الوضوء: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] . وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجماعة من أهل العلم إلى إجازة مسح بعض الرأس لما ذكرناه، وإلى هذا ذهب أشهب في هذه الرواية. وقال محمد بن مسلمة: إن مسح ثلثي رأسه أجزأه، وقال أبو الفرج: إن مسح ثلثه أجزأه، وبالله التوفيق.
[المرأة التي يئست من المحيض تدفق دفقة من دم أو دفقتين]
مسألة وسئل عن المرأة التي يئست من المحيض تدفق دفقة من دم أو دفقتين، قال: يسأل النساء عن ذلك، فإن كانت مثلها تحيض فلتغتسل وتصل.
قال محمد بن رشد: النساء في الحيض ينقسمن على خمسة أقسام: صغيرة لا يشبه أن تحيض، ومراهقة يشبه أن تحيض، وبالغة في سن من تحيض، ومسنة يشبه أن لا تحيض، وعجوز لا يشبه أن تحيض. ولما لم يرد في القرآن ولا في السنة حد يرجع إليه من السنين يفصل به بين المسنة التي يشبه أن لا تحيض والعجوز التي لا يشبه أن تحيض، وجب أن يرجع في ذلك إلى قول النساء كما قال، فيُسألن عنه، فإن قلن: إن هذه المرأة التي دفقت دفقة أودفقتين من دم بعد أن كانت يئست من المحيض فيما كانت(1/104)
ظنت مثلها تحيض، فلتعد ذلك الدم حيضا وتغتسل منه إذا انقطع عنها وتصلي، وإن قلن: إن مثلها لا تحيض فلا تعد ذلك الدم حيضا ولا تترك الصلاة له ولا تغتسل منه، قاله ابن القاسم في المجموعة، وقال ابن حبيب: إنها تغتسل وليس ذلك بصحيح؛ وإن شككن فيها عدت ذلك حيضا؛ لأن ما تراه المرأة من الدم محمول على أنه حيض حتى يوقن أنه ليس بحيض من صغر أو كبر؛ لقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] والأذى الدم الخارج من الرحم، فوجب أن يحمل على أنه حيض حتى يعلم أنه ليس بحيض، وهذا ما لا أعلم فيه خلافا، وبالله التوفيق.
[الرجل يغسل رأسه بالبيض]
ومن كتاب النذور والجنائز والذبائح قال مالك: وسألني رجل عمن غسل رأسه بالبيض فقلت له: ما يعجبني ذلك، ولكل شيء وجه، ما له يدع الغاسول ويغسل بالبيض؟ فقيل له: أرأيت الأرز يغسل به اليد؟ أهو مثله؟ قال: هذا أخف عندي، هذا مثل الأشنان.
قال محمد بن رشد: أما الأرز بإسكان الراء، فإذا لم يكن من الطعام فغسل اليد به جائز لا وجه للكراهة فيه، وأما ما كان من الطعام فغسل اليد والرأس به مكروه، وقد مضى في آخر رسم "البز" وجه الكراهة فيه والجمع بين ما يعارض ظاهره في ذلك من الروايات. وأما الرواية فيه بتحريك الراء وتشديد الزاء فخطأ لا يستقيم الكلام عليها؛ لأنها من رفيع الطعام فلا وجه لتخفيفه على غيره من الطعام، فإن كان لشجر الأرز ثمر يؤكل عند الحاجة أو على وجه التداوي فقوله في تخفيف غسل اليد به وتشبيهه بالأشنان بين؛ لأن الكراهة في هذا إنما هي بحسب حرمة الطعام، فلا شك أن غسل اليد بدقيق الكرسنة أخف منه بدقيق القمح، وبالله التوفيق.(1/105)
[مسألة: الفارة تقع في بير فتتمعط فيها فيعجن بها ويطبخ اللحم]
مسألة وسئل عن فارة وقعت في بير فتمعطت فيها، فعجن بها وطبخ اللحم، أترى أن يؤكل؟ قال: لا يعجبني أن يؤكل. قيل له: فما يصنع به؟ قال: لو أطعمه البهائم، قال: فما غسل به من الثياب؟ قال: لو غسلت لأجزأهم.
قال محمد بن رشد: قال هاهنا في الخبز الذي عجن واللحم الذي طبخ بالماء الذي ماتت فيه الفارة: إنه لا يؤكل، وقال في رسم "سلف" من سماع ابن القاسم في القمح المفلق بالماء الذي ماتت فيه الفارة: إنه لا يؤكل أيأكلون الميتة. يحتمل أن يكون تكلم في مسألة القمح على أن الماء تغير من ذلك، وفي هذه الرواية على أن الماء لم يتغير من ذلك، ومساواته هاهنا بين الخبز المعجون بذلك واللحم المطبوخ به هو نحو ما في سماع يحيى من كتاب الصيد في البيض الذي يسلق فيوجد في إحداهن فرخ أن أكلهن كلهن لا يصلح؛ لأن بعضه سقى بعضا، وخلاف لما في سماع موسى بن معاوية من هذا الكتاب أن اللحم يغسل ويؤكل. وقوله فيما غسل به من الثياب: لو غسل لأجزاهم، ليس بخلاف لما في آخر السماع من قوله: إن الثياب تنضح ولا تغسل إذا لم يكن الماء فاسدا منتنا. والفرق بين المسألتين أن الثياب هاهنا كانت غسلت بذلك الماء فعمتها النجاسة فلم يجز فيها النضح، وفي المسألة التي في آخر السماع لم تغسل الثياب من ذلك الماء، وإنما كان ذلك الماء يصيبها على ما قال فلم تعمها النجاسة، وهذا فرق بين من الكتاب بين المسألتين.
[مسألة: غسل الجواري رجلي عبد الله بن عمر للصلاة]
مسألة قال: وسئل عن غسل الجواري رجلي عبد الله بن عمر للصلاة، قال: نعم في رأيي، قيل له: لا تخاف أن يكون ذلك من(1/106)
اللماس؟ قال: لا لعمري، وما كان ابن عمر يفعل ذلك إلا من شغل أو عذر يجده.
قال محمد بن رشد: قوله في حديث ابن عمر: ويعطينه الخمرة، يريد للصلاة، دليل على ما قال مالك: إن غسلهن لرجليه إنما كان للصلاة، وإذا لم يكن القصد في مس أحد الرجلين صاحبه الالتذاذ فلا وضوء على أحد منهما، إلا أن يلتذ بذلك ويشتهي، فلو التذ عبد الله بن عمر بغسل جواريه رجليه لما صلى بذلك الوضوء؛ إذ قد علم من مذهبه أن الملامسة تنقض الوضوء في بعض الروايات إلا من شغل أو ضعف، وفي روايتها بعضها إلا من ضعف أو عذر يجده، وهي الرواية الصحيحة في المعنى. وقد حكى الطحاوي عن طائفة من أهل العلم أن الفضل في أن يلي المغتسل أو المتوضئ أو المتيمم ذلك بنفسه لنفسه، فإن ولى ذلك غيره أجزأه. وحكى عن طائفة منهم أن ذلك لا يجزئه، قال: ومنهم مالك بن أنس. والذي يظهر من مذهبه وقوله في هذه المسألة خلاف ذلك، إلا أن يفعله استنكافا عن عبادة الله تعالى واستكبارا عنها وتهاونا بها، والله أعلم وبه التوفيق.
[الرجل يكون على وضوء فيجد ريحا فيريد أن يتوضأ للصلاة ولم يمس شيئا قذرا]
ومن كتاب الوضوء والجهاد وسئل مالك عن الرجل يكون على وضوء فيجد ريحا فيريد أن يتوضأ للصلاة ولم يمس شيئا قذرا ولا غيره وهي طاهرة، أيغسلها قبل أن يدخلها في وضوئه؟ فقال: أحب إلي أن يغسلها قبل أن يدخلها في وضوئه، فقيل له: وإن كانت يده طاهرة؟ فقال: هو أحب إلي إلا أن يكون عهده بالماء قريبا، فقلت له: كان على وضوء فأحدث ثم أراد الوضوء، فقال: أحب إلي أن يغسلها قبل أن يدخلها في وضوئه.
قال محمد بن رشد: اختلف في غسل اليد قبل إدخالها في الوضوء(1/107)
إذا أيقن بطهارتها، فقيل: إن ذلك سنة من السنن التي الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير خطيئة، وقيل: إن ذلك استحباب لا سنة، قيل: كان عهده بغسلها قريبا أو بعيدا، وهو أحد قولي مالك في هذه الرواية وقول ابن وهب في سماع عبد الملك من هذا الكتاب وقول ابن القاسم في رسم " أسلم " من سماع عيسى وفي سماع أبي زيد، وقيل: إنما ذلك إذا بعد عهده بالماء، وأما إن كان عهده بالماء قريبا فليس ذلك عليه في سنة ولا استحباب، وهو القول الثاني لمالك في هذه الرواية، وقول أشهب في سماع عبد الملك بن الحسن من هذا الكتاب. ووجه القول بأنه سنة «أن عبد الله بن زيد بن عاصم لما سأله السائل هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ، قال: نعم، فدعا بوضوء فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين مرتين» ، فكان في توقيت غسلهما مرتين مرتين دليل على أن غسلهما عبادة لا لنجاسة، فثبت كون ذلك سنة في الوضوء إذا لم يأت ما يعارضها. ووجه القول بأن ذلك استحباب أن هذه السنة قد عارضها دليل حديث أبي هريرة: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» ؛ لأنه لما علق الأمر بالغسل بالشك في طهارة يده دل ذلك على أنها لا تغسل إذا أوقن بطهارتها، فالاختلاف في غسل اليد قبل إدخالها في الوضوء إذا أوقن بطهارتها هل هو سنة أو استحباب مبني على الاختلاف في القول بدليل الخطاب، وهذا بين لمن تأمل. ويلزم على القول بأنه سنة أن لا يجزئ إلا بنية. وقد اختلف إذا غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء ثم بعد غسلهما مع ذراعيه هل يجزئه ذلك أم لا؟ ففي مصنف عبد الرزاق عن عطاء أن ذلك يجزئه، وقال محمد بن عمر بن لبابة: لا يجزئه. قال محمد بن يحيى: وقول(1/108)
محمد بن عمر أرجح؛ لأنه بمنزلة من صلى نافلة فلا تجزئه عن فريضة؛ إذ أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغسلهما قبل إدخالهما في الوضوء إنما هو زيادة على ما أمر الله به لا عوضا منه، وهو ظاهر، والله أعلم وبه التوفيق.
[مسألة: المتوضئ للصلاة يدخل يده إذا تمضمض في فيه فيدلك بها أسنانه ولسانه]
مسألة قال: وسئل مالك عن المتوضئ للصلاة يدخل يده إذا تمضمض في فيه فيدلك بها أسنانه ولسانه ثم يدخلهما في الإناء قبل أن يغسلهما، فقال: لا بأس به إن شاء الله، وأرجو أن يكون واسعا، وأحب إلي أن يغسلهما، وأرجو أن يكون واسعا.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم "نذر سنة" من سماع ابن القاسم وجه استحبابه لغسل يده قبل أن يعيدها في وضوئه، فلا معنى لإعادة ذلك وذكره.
[مسألة: الأذنان من الرأس وليستأنف لهما الماء]
مسألة قال مالك: الأذنان من الرأس، وليستأنف لهما الماء.
قال محمد بن رشد: هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة وغيرها: إن الأذنين من الرأس، وإنما السنة عنده في تجديد الماء لهما. والدليل على أنهما من الرأس قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث أبي عبد الله الصنابحي: «فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه» وإنما قال(1/109)
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من نسي مسح أذنيه حتى صلى إن صلاته تامة، وإن كان من مذهبه أن استيعاب مسح الرأس فرض؛ لأنه استخفهما ليسارتهما؛ إذ قد قيل: إنه يجزئ مسح بعض الرأس، وإذ قد قيل: إنهما ليستا من الرأس، فقد قيل: إنهما من الوجه، وقيل: إنهما سنة على حيالها ليستا من الوجه ولا من الرأس، وقيل: إن ظاهرهما من الرأس وباطنهما من الوجه.
[مسألة: يد واحدة للمضمضة والاستنثار أيجزئ ذلك]
مسألة وسئل مالك عن يد واحدة للمضمضة والاستنثار، أيجزئ ذلك؟ فقال: نعم يجزئه ذلك إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن ذلك يجزئه، إذا قدر أن يمسك من الماء بكفه ما يكفيه لذلك كله، والاختيار أن يأخذ غرفة فيمضمض بها ويستنثر، ثم يأخذ غرفة أخرى فيمضمض بها ويستنثر أيضا، ثم غرفة ثالثة فيمضمض بها ويستنثر على ظاهر الحديث، فمضمض واستنثر ثلاثا، وإن شاء مضمض ثلاثا بغرفة واحدة أو بثلاث غرفات، ثم استنثر ثلاثا بغرفة واحدة أو بثلاث غرفات، الأمر في ذلك واسع، واتباع ظاهر الحديث أولى، والله أعلم وبه التوفيق.
[مسألة: الاستنجاء بالعظم والحممة]
مسألة وسألته عن الاستنجاء بالعظم والحممة، فقال: والله ما سمعت فيه بنهي عام، وقد سمعته هكذا. فقلت له: فلا ترى به بأسا؟ فقال: أما في علمي أنا فلا أرى به بأسا، وقد سمعت الذي يقال هكذا.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذا المعنى في رسم "سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.(1/110)
[: مسألة البئر يقع فيه الهر فيموت فيه ما ينزف منها]
مسألة قيل له: أفرأيت البئر يقع فيه الهر فيموت فيه ما ينزف منها؟
فقال: الآبار تختلف، فمنها ما ينزف كل يوم، ومنها ما يكثر ماؤها يُستقى منها كل يوم فلا ينزف وتسع البير، فأرى أن ينزع منها قدر ما يطيبها. قلت: أرأيت ما عجن به من مائها من الخبز؟ فقال لي: أما أنا فأرى أن يطرحه أو يعلفه للدواب ولا يؤكل، ولقد جاءني قوم حديثا خبزوا خبزا بماء بئر من دارهم، ثم علموا أن الماء الذي عجن به ماتت فيه دابة من هذه الدواب فأمرتهم بذلك. قيل له: أرأيت من اغتسل به وتطهر حتى صلى صلوات، قال: أما نحن فنقول يعيد ما كان في الوقت، فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليه.
قال محمد بن رشد: وجه النزف من ماء البير التي ماتت فيه الدابة هو أنه يخشى أن يكون قد خرج من الدابة مع خروج نفسها شيء يكون على وجه الماء لا ينماع فيه، فلا يؤمن إذا لم ينزف من الماء شيء أن يحصل ذلك الشيء في المقدار الذي يتوضأ به الرجل. فإذا نزف من الماء شيء خرج ذلك الشيء فيما نزف وانماع بالنزف في الماء فطاب بذلك، ولهذا المعنى لم يكن لما ينزف من الماء حد، ووجب أن يكون على قدر قلة ماء البير وكثرته وعلى ما تطيب به النفس. وهذا إذا لم يتغير الماء بذلك، وأما إذا تغير منه فلا بد أن ينزف منه حتى يذهب التغير. ومعنى ما تكلم عليه في هذه الرواية أن الماء لم يتغير من ذلك، ولذلك قال فيما صلى بالوضوء الذي توضأ من ذلك الماء: إنه لا يعيد إلا في الوقت. وأما قوله في الخبز الذي عجن بذلك الماء: إنه لا يؤكل، فهو مثل ما تقدم في الرسم الذي قبل هذا وعلى طريق التوقي والتحرز من المتشابه على ما ذكرناه في رسم "يسلف" من سماع ابن القاسم، وليس بحرام بين، فقد روى محمد بن يحيى السبائي عن مالك في(1/111)
المدنية أنه كره أكله إلا من حاجته إليه. وقال عيسى عن ابن القاسم: لا يحل أكله إلا إذا حلت له الميتة، وذلك الطعام بمنزلة الميتة فشدد في ذلك.
[مسألة: يصيب امرأته أول الليل فيغتسل ثم يضاجعها ولم تغتسل هي]
مسألة وسئل مالك عن الذي يصيب امرأته أول الليل فيقوم فيغسل ثم يرجع فيضاجعها ولم تغتسل هي، أيغسل شيئا من جلده الذي مسه جلدها؟ فقال: لا، ولكن يتوضأ إذا قام.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا التذ بمضاجعته إياها ولم يكن بجسدها أذى، وأما إن لم يلتذ بذلك ولا قصد الالتذاذ به فلا وضوء عليه باتفاق. وإن كان فيما مس جلده من جلدها أذى يخشى أن يكون قد أصاب جلده فلا بد له أن يغسل ذلك الموضع الذي يخشى أن يكون قد أصابته النجاسة التي في جسدها على المشهور في المذهب أن ما شك فيه من نجاسة البدن فحكمه أن يغسل ولا يجزئ فيه النضح. وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في رسم "اغتسل" من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: الحائض والجنب من النساء أتخضب يدها وهي حائض أو جنب]
مسألة وسئل عن الحائض والجنب من النساء أتخضب يدها وهي حائض أو جنب؟ فقال: نعم، وذلك مما كان النساء يتحرينه لئلا ينقصن خضابهن للطهر للصلاة.
قال محمد بن رشد: وهذا مما لا إشكال في جوازه ولا وجه لكراهيته؛ لأن صبغ الخضاب الذي يحصل في يدها لا يمنع من رفع حدث الجنابة أو الحيض عنها بالغسل إذا اغتسلت، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخولة بنت يسار في الموضع النجس بدم الحيض: «يكفيك الماء ولا يضرك أثره» ، فكيف بهذا؟(1/112)
[مسألة: الرجل يتوضأ وييبس ثيابه ثم تأتيه امرأته فتغلبه على نفسه]
مسألة وسئل عن الرجل يتوضأ وييبس ثيابه ثم تأتيه امرأته فتغلبه على نفسه حتى تقبله وهو يشتمها ويكره ذلك منها ولا يجد له لذة ولا شيئا ولا يحب ذلك منها وهو له كاره، أترى عليه الوضوء؟ قال: نعم أرى عليه الوضوء، ولقد استفتاني ابن النبل عن ذلك فأمرته بالوضوء. قيل له: فمس ساقها أو عضدها ألا ترى عليه الوضوء؟ قال: نعم إلا أن لا يجد لذلك لذة ولا شيئا والوضوء يسير. قال مالك: وقد قالت عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كنت أغرف أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء» . قال مالك: ولا خير في هذا التقزز والتنجس إنما هو من الشيطان، ولم أر أحدا كان أخف وضوءا من ربيعة. قال مالك: وكان يقال: إن الشيطان إذا يئس أن يطاع أو يعبد أتى الإنسان من هذا الوجه.
قال محمد بن رشد: أما إيجابه الوضوء عليه من القبلة وإن لم يلتذ بها ولا قصد الالتذاذ بها فهو دليل ما في المدونة، وقول أصبغ في الواضحة، ولا يحمله القياس؛ لأن القبلة من الملامسة التي عناها الله بقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] . والمعنى في وجوب الوضوء بها عند من أوجبه هو وجود اللذة بها وما يخشى من أن تكون اللذة قد حركت المذي من موضعه وأخرجته إلى قناة الذكر، فإن لم يلتذ بها ولا قصد الالتذاذ بها فالأظهر أن لا وضوء عليه، وهو قول مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم في الواضحة. ووجه ما في الرواية من إيجاب الوضوء فيها وإن لم يلتذ بها(1/113)
ولا قصد الالتذاذ اتباع ظواهر الآثار التي جاءت في إيجاب الوضوء من القبلة مجملة دون تفصيل، وكأنه يعد عنده أن لا يكون التذ بها. وقوله بإثر ذلك: فمس ساقها أو عضدها أترى عليه الوضوء؟ قال: نعم إلا أن لا يجد لذلك لذة شيئا، معناه أنه مس ذلك منها لحاجة على غير شهوة ولا إرادة لذة؛ بدليل احتجاجه على ذلك بقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كنت أغرف أنا ورسول الله من إناء واحد» . وموضع الحجة في ذلك أنهما إذا كانا يغرفان من إناء واحد قد تتماس أيديهما فيتماديان على وضوئهما ولا يبتدئانه. فلو قال في جواب المسألة قال: لا إلا أن يجد لذلك لذة شيئا لكان أليق وأولى، وإن كان ذلك عند الاعتبار والتحقيق سواء. ولما ذكر قول عائشة زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كنت أغرف أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد» تذكر قول من يقول في الرجل والمرأة: إنه لا يتوضأ أحدهما من فضل وضوء صاحبه، فقال: ولا خير في هذا التقزز والتنجس إنما هو من الشيطان إلى آخر قوله. وقد مضى له نحو هذا والقول عليه في رسم "الشجرة تطعم بطنين في السنة" من سماع ابن القاسم.
[الرجل يكثر عليه المذي أيتوضأ لكل صلاة]
مسألة وسئل مالك فقيل له: أرأيت رجلا قد كثر عليه المذي فليس يفارقه منذ كذا وكذا سنة لا يفارقه، أيتوضأ لكل صلاة؟ قال: بلغني أن سعيد بن المسيب كان يقول: لو سال على فخذي ما انصرفت. فقيل لمالك: فما تقول أنت؟ قال: أرى أن يترك هذا ولا يلتفت إليه، فإن هذا من الشيطان، وأرجو أن يكون في تركه ذلك قطع [له عنه] وقد كان من مضى يأمرون إذا كثر مثل هذا أن يترك(1/114)
ويتهاون به ولا يلتفت إليه. قال: وكان يقال: إن الشيطان إذا يئس أن يطاع أو يعبد أتى الإنسان من هذا الوجه حتى يُلَبِّس عليه دينه.
قال محمد بن رشد: هذا إنما هو إذا كثر عليه المذي ودام به من أبردة، وقد اختلف إذا كثر عليه ودام به وتكرر عليه من طول عزبة دون تذكر، فقيل: إن ذلك بمنزلة إذا كثر عليه من أبردة لا شيء عليه إلا أنه يستحب له أن يتوضأ لكل صلاة، وقيل: عليه أن يغسل ذكره ويتوضأ واجبا بمنزلة إذا وجد ذلك عند التذكار، والقولان قائمان من المدونة من اختلاف الرواية فيها. قال في الرواية الواحدة: وإن كان ذلك من طول عزبة إذا تذكر، فدل ذلك أنه إذا كثر عليه المذي من طول عزبة دون أن يتذكر فلا شيء عليه بمنزلة أن لو كان ذلك من أبردة، وقال في الرواية الأخرى: وإن كان من طول عزبة أو تذكر فدل ذلك على أنه إذا كثر عليه من طول عزبة فعليه أن يغسل ذكره ويتوضأ بمنزلة إذا وجد ذلك عند التذكار.
[مسألة: الرجل يمس شعر امرأته أو جاريته تلذذا]
مسألة وسئل عن الرجل يمس شعر امرأته أو جاريته تلذذا، فقال: إن مسه تلذذا فأرى أن عليه الوضوء، وإن مسه لغير ذلك استحسانا أو غيره لم أر عليه وضوءا، وما علمت أن أحدا يمس شعر امرأته تلذذا.
قال محمد بن رشد: الشعر لا لذة في لمسه بمجرده، فيحتمل أن يكون أراد بقوله: إن مسه متلذذا فأرى أن عليه الوضوء إذا مسه على جسمها فيكون في مسه بمنزلة من لمس امرأته أو جاريته على ثوب متلذذا بذلك فالتذ أن عليه الوضوء باتفاق في المذهب، إلا أن يكون الثوب كثيفا. وأما إن مسه على غير جسمها فلا يجب عليه الوضوء وإن التذ بذلك واشتهى إلا على(1/115)
ما ذهب إليه ابن بكير أن التذكار مع وجود اللذة دون لمس يوجب الوضوء، فهذا وجه هذه الرواية عندي، والله أعلم.
[مسألة: الثوب يكون فيه الدم فيتجفف فيه المغتسل]
مسألة وسئل عن الثوب يكون فيه الدم فيتجفف فيه المغتسل، أيغسل الثوب وما أصاب جسده منه؟ فقال: ذلك يختلف، أما الدم اليسير الذي لا يخرج منه بالتجفيف شيء فلا شيء عليه فيه ولا في جسده ولا في الثوب إلا غسل موضع الدم من الثوب. وأما الدم الكثير الكثيف الذي يخاف أن يكون التجفيف فيه قد بله فأخرج منه ما أصاب جسده فإني أرى أن يغسل جسده أو ما أصاب ذلك منه. قيل له: أفيغسل الثوب؟ قال: ما أرى ذلك عليه إلا أن يكون خرج منه شيء فأصاب الثوب فيغسل ذلك الدم وما خرج منه فأصاب الثوب. قيل له: أفيعيد الصلاة؟ قال: لا أرى ذلك، قال الله عز وجل: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] .
قال محمد بن رشد: قوله: وأما الدم الكثيف الذي يخاف أن يكون التجفيف فيه قد بله فأخرج منه ما أصاب جسده فإني أرى أن يغسل جسده أو ما أصاب ذلك منه، يدل على أن من شك في نجاسة جسده يغسله ولا يجزيه نضحه بخلاف الثوب، وهو دليل رواية علي بن زياد في المدونة. والدليل على أن ما شك في نجاسته من الجسد يغسل، قول النبي عليه(1/116)
السلام: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» ، وقوله للذي سأله لعلي: «اغسل ذكرك وأنثييك» . فأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغسل أنثييه لما يخشى أن يكون قد أصابه من المذي لانفراشه. والدليل على أن ما شُك في نجاسته من الثياب يجزئ فيه النضح، نضح أنس بن مالك للنبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، الحصير الذي صلى عليه، ونضح عمر بن الخطاب ما لم ير في ثوبه من الاحتلام إذ غسل ما رأى منه.
[مسألة: الغسل من الماء الساخن من الحمام إذا أراد أن يخرج]
مسألة وسئل عن الغسل من الماء الساخن من الحمام إذا أراد أن يخرج، فقال: ما يعجبني ذلك، والغسل من البئر أحب إلي. فقيل له: إنه يكون الشتاء فيكون البرد فيغتسل لخروجه بماء الحمام السخن، فقال: والله ما دخول الحمام بصواب، فكيف يغتسل من ذلك الماء؟
قال محمد بن رشد: أما كراهية الاغتسال من الماء السخن من الحمام فلوجهين: أحدهما: أنه يسخن بالأقذار والنجاسات، والثاني: أنه تختلف فيه أيدي الناس لأخذ الماء منه، فربما تناول أخذه بيده من لا يتحفظ بدينه. وأما كراهيته لدخوله وإن دخله مستترا مع من يستتر فمخافة أن يطلع على عورته أحد بغير ظن؛ إذ لا يكاد يسلم من ذلك من دخله مع الناس لقلة تحفظهم. وأما دخوله غير مستتر أو مع من لا يستتر فلا يحل ذلك، ومن فعله فذلك جرحة فيه وقدح في شهادته. وقد سأل أصبغُ ابنَ القاسم عن دخول الحمام، فقال: أما إن وجدته خاليا أو كنت تدخل مع النفر يسترون ويتحفظون(1/117)
لم أر بدخوله بأسا. وإن كان يدخله من لا يبالي لم أر أن تدخله وإن كنت أنت متحفظا في نفسك. قال أصبغ: وأدركت ابن وهب يدخله مع العامة، ثم ترك ذلك، ثم كان يدخله مخليا. وقعت رواية أصبغ هذه في الجامع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون معه الماء القليل في السفر فيخاف إن توضأ به العطش أيتيمم]
مسألة وسئل عن الرجل يكون معه الماء القليل في السفر فيخاف إن توضأ به العطش أيتيمم؟ قال: نعم، لا بأس بذلك، إذا علم الله ذلك من قلبه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن خوفه على نفسه الهلاك إن توضأ بالماء الذي معه يبيح له التيمم، كما لو كان الماء منه قريبا وخشي على نفسه إن ذهب إليه ليتوضأ منه لجاز له التيمم. وهذا ما لا خلاف فيه، وقد تقدم هذا المعنى في رسم "نذر سنة" من سماع ابن القاسم.
[مسألة: أيطلب الماء في الرفقة قبل أن يتيمم]
مسألة قيل له: أفترى أن يطلب الماء في الرفقة قبل أن يتيمم؟ فقال: أما الشيء القريب والأمر المعروف فنعم.
قال محمد بن رشد: قد تكرر هذا المعنى في أول رسم من هذا السماع، ويأتي منه في سماع أبي زيد، وقد تقدم القول عليه في رسم "شك في طوافه" من سماع ابن القاسم.
[مسألة: الجنب يدخل يده في ماء مركن قبل أن يغسل يده ثم يغتسل ويلبس ثيابه]
مسألة وسئل عن جنب أدخل يده في ماء مركن قبل أن يغسل يده، ثم اغتسل ولبس ثيابه، أترى ذلك مجزيا عنه؟ قال: نعم، مجزئ عنه لا بأس به إذا لم يكن كان بيده دنس حين أدخلها الماء.(1/118)
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذا المعنى في رسم "كتب عليه ذكر حق" من سماع ابن القاسم، وفي رسم "البز" منه، ويأتي في هذا السماع بعد في موضعين، وفي سماع موسى بن معاوية.
[مسألة: المتوضي للصلاة يوضئ ذراعه اليسرى أو رجله اليسرى قبل اليمنى]
مسألة وسئل عن المتوضي للصلاة يوضئ ذراعه اليسرى أو رجله اليسرى قبل ذراعه اليمنى أو رجله اليمنى، أيجزئ ذلك أم يستأنف الوضوء؟ قال: بل أرى ذلك واسعا.
قال محمد بن رشد: قوله: بل أرى ذلك واسعا؛ أي أراه في سعة مما قد فعل فلا يستأنف الوضوء؛ إذ ليس ذلك من واجباته، وإن كان لا ينبغي له أن يفعل ذلك ابتداء. وهو كما قال؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] فذكر الوجه قبل اليدين، وذكر اليدين معا، وإنما بدئ اليمين منهما على الشمال استحبابا للسنة. وقول علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود: " ما نبالي بدأنا بأيماننا أو بأيسارنا " معناه: لا نبالي بذلك مبالاة من قدم بعض أعضاء الوضوء على بعض، فلا يدل ذلك على نفي استحباب غسل اليمين قبل الشمال، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا تمسح الأرجل إنما تغسل]
مسألة وسئل عن قول الله عز وجل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] أهي أرجلَكم أو أرجلِكم؟ قال: إنما(1/119)
هو الغسل وليس بالمسح، لا تمسح الأرجل إنما تغسل. قيل له: أفرأيت من مسح أيجزئه ذلك؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: أضرب مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عما سئل عنه من قراءة " وأرجلكم " إن كان بالنصب أو بالجر، وقصد إلى المعنى المراد بذلك، فقال: إنما هو الغَسْل وليس بالمسح؛ لأنه الذي ثبت عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قولا وعملا، وأجمع عليه علماء المسلمين في جميع الأمصار. وما روي في ذلك مما يتعلق به من يذهب إلى إجازة المسح من المبتدعين لا يثبت، ولو ثبت لكان مما يقضي بنسخه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «تخلف عنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفرة سافرناها فأدركنا، وقد أرهقتنا صلاة العصر ونحن نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادى: ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا» ومن زعم أن سقوطهما في التيمم يدل على أنهما يمسحان كالرأس؛ إذ لم يسقط فيه ما كان يغسل، ينتقض قوله بغسل البدن من الجنابة، فإنه يسقط في التيمم مع عدم الماء ويجب غسله بالماء عند وجوده.
وأما قراءة من قرأ {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] ، فمن قرأها بالنصب عطفا على اليدين فهو الغسل لا كلام فيه؛ لأن الشيء يعطف على ما يليه وعلى ما قبله، وهو كثير موجود في القرآن ولسان العرب. وأما من قرأ: " وأرجلِكم " بالخفض ففي قراءته لأهل العلم أربعة أوجه: أحدها: أنها معطوفة على اليدين وإنما خفضت للجوار والاتباع، كما قالوا: جحر ضب خرب، وقد قرئ: " يرسل عليكما شواظ من نار ونحاسٍ " بالخفض، والثاني: أنهما معطوفتان على مسح الرأس وأن الغسل إنما وجب بالسنة، والثالث: أن المراد بذلك المسح على الخفين، والرابع: أن الغسل يسمى مسحا عند العرب؛ لأنها تقول: تمسحنا للصلاة، فبين النبي، عليه(1/120)
السلام، أن مراد الله تعالى بقوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] إمرار اليد عليه دون نقل الماء إليه، وأن مراده بأمره بغسل الرجلين إمرار اليد عليهما مع نقل الماء إليهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتزوج المرأة النصرانية أيكرهها على الاغتسال من الجنابة]
مسألة وسئل عن الرجل يتزوج المرأة النصرانية، أله أن يكرهها على الاغتسال من الجنابة؟ فقال: لا، ما علمت ذلك له. قال: وسألته عن اغتسال النصرانية من الحيضة أيجبرها عليه زوجها؟ قال: ليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: إن الرجل لا يجبر زوجته النصرانية على الاغتسال من الحيضة خلاف قوله في المدونة أن يجبرها على ذلك من أجل أن الحائض عنده لا توطأ إذا طهرت من الدم حتى تغتسل بالماء، والاختلاف في هذا جارٍ على اختلافهم في الكفار، هل هم مخاطبون بشرائع الإسلام أم لا؛ لأن المسلم أُمر أن لا يطأ من يجب عليها الغسل من الحيضة حتى تغتسل منها، فإذا كانت النصرانية لا يجب عليها الغسل منها على القول بأنها غير مخاطبة بذلك كانت في حكم من قد اغتسل، وجاز لزوجها وطؤها، فلم يكن له أن يجبرها على الاغتسال. وإذا كان الغسل عليها واجبا منها على القول بأنها مخاطبة بالشرائع لم يكن للزوج أن يطأها حتى تغتسل كالمسلمة سواء، فكان له أن يجبرها على الاغتسال.
فإن قيل: فما فائدة إجبارها على الاغتسال والغسل لا يجزئ عنده إلا بنية والنصرانية لا تصح منها نية؟
قيل له: النية إنما تشترط في صحة الغسل للصلاة، وأما للوطء في حق الزوج فلا؛ لأنه متعبد بذلك فيها مأمور باغتسالها قبل الوطء، وما كان من(1/121)
العبادات يفعلها المتعبد في غيره لم يفتقر في ذلك إلى نية، كغسل الميت وغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب فيه، ومن وضأ غيره فلا نية على الموضِّئ وإنما النية على الموضَّأ. وكذلك لو كانت لرجل زوجة مسلمة فأبت من الاغتسال من الحيضة لجاز له أن يطأها إذا أكرهها على الاغتسال وإن لم يكن لها فيه نية وكانت هي قد خرجت دونه في ذلك ولزمها أن تغتسل غسلا آخر للصلاة بنية؛ إذ لا يجزئها الغسل الذي أكرهت عليه إذا لم يكن لها فيه نية. وقد قيل: إنه إنما لم ير في هذه الرواية أن يجبرها على الاغتسال من أجل أن الغسل لا يجزئ إلا بنية وهي ممن لا تصح منها نية، وأنه إنما قال في المدونة: إنه يجبرها على الاغتسال مراعاة لقول من يقول: إن الغسل يجزئ بغير نية. والتأويل الأول هو الصحيح. وقد ذهب ابن بكير إلى أن الامتناع على مذهب مالك من وطء الحائض إذا طهرت من الدم إلى أن تتطهر بالماء استحبابٌ لتمضي النية خالصة للاغتسال من الحيضة دون الجنابة، بدليل رواية أشهب هذه؛ إذ أجاز له فيها وطء النصرانية إذا طهرت من الدم دون أن تغتسل بالماء، فلم ير من حقه أن يجبرها على الاغتسال، وليس ذلك بِبَيِّن؛ لأن المعنى في الرواية إنما هو ما ذكرناه من أنه أجاز له وطأها قبل أن تغتسل؛ إذ لا يجب الغسل عليها على القول بأن الكفار غير مخاطبين بالشرائع.
والظاهر من مذهب مالك أن وطء المرأة إذا طهرت من الدم قبل أن تغتسل محظور لا مكروه، بدليل قول الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] ؛ لأن المعنى عنده في ذلك، والله أعلم: ولا تقربوهن حتى يطهرن بالماء، فإذا تطهرن به؛ إذ قد قرئ: " ولا تقربوهن حتى يطَّهَّرن " بتشديد الطاء والهاء، وهي القراءة المختارة؛ لأن المعنى يدل [على] أن الطهر الأول هو الثاني(1/122)
إما من الدم وإما بالماء، فمن حملهما جميعا على أن المراد بهما التطهر بالماء؛ إذ هو الأظهر من التفعل أن يراد به الاغتسال بالماء لم يجز وطء الحائض حتى تغتسل بالماء وهو الظاهر من مذهب مالك على ما ذكرناه، ومن حملهما جميعا على أن المراد بهما الطهر من الدم؛ إذ قد يعبر عن الطهر من الدم بالتطهر، كما يقال تكسر الحجر وتبرد الماء، أجاز الوطء إذا ارتفع الدم قبل أن تغتسل بالماء، وإلى هذا ذهب ابن بكير؛ لأن الاستحباب راجع إلى نفي الوجوب، وهو الأظهر في المعنى والقياس؛ لأن العلة في منع وطء الحائض وجود الدم بها، بدليل قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] ، فإذا ارتفعت العلة بزوال الدم جاز الوطء. وأما قول من قال: إن معنى قول الله، عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أي من الدم. {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] أي بالماء، فهو بعيد؛ لأن الله أباح وطْأَهن إذا طهرن بقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ثم بين الوطء الذي أباحه إذا طهرن بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] أي على الوجه الذي أذن الله فيه، فلو كان الطهر الأول من الدم والثاني بالماء لجاز بالأول ما لم يجز بالثاني؛ لأنه أطلق الأول بقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ، وقيد الثاني بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] ، وهذا لا يصح أن يقال، ولا يستقيم في الكلام: لا تفعل كذا حتى يكون كذا فإذا كان كذا لشيء آخر فافعله، وهذا بَيِّن.
وعن مالك في إجبار النصرانية على الاغتسال من الحيضة ثلاث روايات: إحداها: رواية أشهب هذه أنه لا يجبرها على الاغتسال من الحيضة ولا من الجنابة، والثانية: أنه يجبرها على الاغتسال من الحيضة ولا يجبرها على الاغتسال من الجنابة، وهو قوله في المدونة، والثالثة: أنه يجبرها على الاغتسال من الحيضة والجنابة. وقد مضى وجه الاختلاف في إجبارها على الاغتسال من الحيضة، وأما الاختلاف(1/123)
على إجبارها على الاغتسال من الجنابة فليس على ظاهره، والمعنى في ذلك: أنه لا يجبرها على الاغتسال إذا لم يكن بجسدها أذى؛ إذ يجوز له وطؤها قبل أن تغتسل، ويجبرها على الاغتسال إذا كان بجسدها أذى من الجنابة ليباشرها طاهرة الجسم من النجاسة فلا ينجس بذلك، والله أعلم وبه التوفيق.
[مسألة: الوضوء قبل الطعام]
مسألة وقال لنا: دعا عبد المالك بن صالح بوضوء قبل الغداء فتوضأ ثم قال: ناولوا أبا عبد الله، فقلت: لا حاجة لي به ليس من الأمر، فقال لي: أفترى أن أتركه؟ فقلت له: نعم، فما عاد إليه.
قال محمد بن رشد: يريد أنه ليس من الأمر الواجب الذي يأثم من تركه بتركه، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يدل على الترغيب فيه، من ذلك قوله: «الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم» ، وإجماعهم على أن النظافة مشروعة في الدين يدل على ذلك أيضا، وما جاء عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه كان إذا توضأ يغسل يديه قبل أن يدخلهما في وضوئه هو من هذا المعنى.
[مسألة: الكعب الذي يجب إليه الوضوء]
مسألة وسئل عن الكعب الذي يجب إليه الوضوء، فقال: هو الكعب الملتزق بالساق والمحاذي العقب، وليس بالظاهر في ظهر القدم.
قال محمد بن رشد: ما قال مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في هذه الرواية أصح ما قيل في الكعب، والدليل على صحته حديث النعمان بن بشير قال: «أقبل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم، قال فلقد رأيت الرجل(1/124)
يلزق كعبه بكعب صاحبه» . وقد قيل: الكعب هو الظاهر في ظهر القدم، وقيل: هو الدائر بمغرز الساق، وهو مجتمع العروق في ظهر القدم. وقال محمد بن الحسن: في القدم كعب وفي الساق كعب، ففي كل رجل كعبان، والعرقوب مجمع مفصل الساق من القدم، والعقب تحت العرقوب.
[مسألة: الرجل يدنو من أهله فيصيبها ما دون الختان فينزل على ذلك منها]
مسألة وسألته عن الرجل يدنو من أهله فيصيبها ما دون الختان فينزل على ذلك منها، فيداخلها من مائه ولم تلتذ هي بشيء من ذلك، أعليها فيما داخلها من مائه غسل؟ فقال لي: وما يدريها أن ذلك دخلها، هي لا تعلم هذا، ولكن إن كانت التذت بذلك فعليها الغسل. فقلت له: إنها لم تلتذ بذلك ولكن ماء دخلها، أفترى عليها في ذلك غسلا؟ فقال: هي لا تعلم هذا أبدا ولا تعرفه، ولكن إن كانت التذت فلتغسل، فقلت له: أفرأيت إن كان هذا أمرا لا يُعلم فشكت أفترى تغتسل؟ فقال لي: لا، ولكن إن كانت التذت فلتغتسل.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الروايات أنها إن التذت بذلك وجب عليها الغسل، وقال في المدونة: إذا التذت يريد بذلك أنزلت. وفي الآثار التي فيها عن يزيد بن أبي حبيب وعطاء بن دينار ومشايخ من العلماء والليث بن سعد أنه إذا دخلها من مائه شيء فقد وجب عليها الغسل، فالظاهر أنها ثلاثة أقوال، والأصح منها أنه لا غسل عليها إلا أن تنزل؛ لأنها لم توطأ، فلا يجب عليها الغسل إلا بالإنزال أو مجاوزة الختان، كما لا يجب على الرجل الغسل إلا بأحد هذين الوجهين وبالله التوفيق.(1/125)
[مسألة: وقت الدم وهل قليله وكثيره سواء]
مسألة وسئل عن وقت الدم، فقال: ليس له عندنا وقت، فقيل له: فقليله وكثيره سواء؟ قال: لا، ولكن لا أجيبكم إلى هذا الضلال إذا كان مثل الدرهم، ثم قال: أرأيت إن كان الدرهم من هذه البغيلة، الدراهم تختلف، تكون وافية كلها وبعضها أكبر من بعض.
قال محمد بن رشد: هذا هو المعلوم من مذهبه أنه يكره الحد في مثل هذه الأشياء التي لا أصل للحد فيها في الكتاب والسنة، وإنما يرجع فيها إلى الاجتهاد. وقد روى علي بن زياد عنه أن قدر الدرهم من الدم قليل. وذكر ابن حبيب عنه أن قدر الدرهم منه كثير وأن قدر الخنصر منه قليل. قال ابن حبيب: وقد كان عطاء وغيره من العلماء يرون أن الدرهم منه قليل، والاحتياط أحب إلي أن تعاد الصلاة من قدر الدرهم. وقالوا: إن الأصل في حد يسيره بقدر الدرهم عند من رآه الاعتبار بالمخرج؛ لأن الأحجار لا تزيل عنه النجاسة، فوجب أن يقاس عليه الدم؛ لأنه أمر غالب كما أنه أمر غالب، وبالله التوفيق.
[مسألة: مس إبطه ونتفه أترى أن يغسل يده]
مسألة وسئل عمن مس إبطه ونتفه أترى أن يغسل يده؟ قال: نعم، فقيل له: من نتف إبطه غسل يده؟ قال: نعم، ذلك حسن.
قال محمد بن رشد: ما استحسن مالك [- رَحِمَهُ اللَّهُ - من هذا] حسن؛ لأنه مما شرع في الدين من المروءة والنظافة، وإن لم يكن ذلك واجبا كوجوب غسل النجاسة.(1/126)
[مسألة: أينزع الخاتم الذي فيه ذكر الله منقوش عند الاستنجاء]
مسألة وسئل أينزع الخاتم الذي فيه ذكر الله منقوش عند الاستنجاء؟
فقال: إن نزعه فحسن، وما سمعت أحدا نزع خاتمه عند الاستنجاء. قيل له: فإن استنجى وهو في يده فلا بأس به؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم "الشريكين" من سماع ابن القاسم، وتكررت في رسم "مساجد القبائل" منه، والحمد لله.
[مسألة: ماء البيض إذا أصاب الثوب أترى أن يغسل]
مسألة وسئل عن ماء البيض إذا أصاب الثوب أترى أن يغسل؟ فقال: لا إلا أن يكون له ريح، فقيل له: ليس له ريح، فقال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يُغسل إن كان له ريح، هو نحو ما تقدم له في غسل اليد من نتف الإبط، وقد تقدم القول فيه.
[مسألة: الرجل يتوضأ للصلاة ثم يمس ذكره قبل أن يغسل قدميه]
مسألة قال: وسئل مالك عن الرجل يتوضأ للصلاة ثم يمس ذكره قبل أن يغسل قدميه أينتقض وضوءه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن مس الذكر ينقض الوضوء ناسيا كان أو متعمدا؛ إذ لم يفرق بين ذلك، وأن الإعادة واجبة عليه إن صلى بذلك الوضوء أبدا، خلاف رواية أشهب عنه في كتاب الصلاة، وخلاف ما في سماع سحنون من هذا الكتاب. وقد مضى في رسم "اغتسل على غير نية" من الكلام على هذه المسألة ما لا وجه لإعادته.(1/127)
[مسألة: الرجل يتوضأ ثم يطأ الموضع القذر الجاف]
مسألة وسئل عن الرجل يتوضأ ثم يطأ الموضع القذر الجاف، قال: لا بأس بذلك، إن الله وسع على هذه الأمة، ثم تلا: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] .
قال محمد بن رشد: معناه أنه موضع قذر لا يوقن بنجاسته، فحمله على الطهارة؛ لأن الاحتراس من مثل هذا يشق، فهو من الحرج الذي قد رفعه الله في الدين بقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ولو كان الموضع يوقن بنجاسته لوجب أن يغسل قدميه؛ لأن النجاسة تتعلق بهما، وإن كان يابسا من أجل بللهما، وهذا بَيِّن.
[مسألة: الرجل يضطجع على الفراش الذي فيه الجنابة فتصيبه شدة هذا العرق]
مسألة وسئل عن الرجل يضطجع على الفراش الذي فيه الجنابة فتصيبه شدة هذا العرق الذي ترى، فقال: أكرهه، أكره أن يضطجع عليه؛ ولأنه يعرق فيلتصق به، فأنا أكره ذلك، ولكن أرى أن يجعل من فوقه ثوبا ثم ينام عليه إن بدا له. قيل له: أفترى إذا اضطجع عليه فعرق أن يجزئه الوضوء؟ قال: لا، ولكن لو نظر إلى الشق الذي اضطجع عليه فغسله، فقيل: إنه يتقلب إذا كان نائما، فقال: يغسل ما يخاف أن يكون قد أصابه منه شيء. فقيل له: ألا ترى هذا بمنزلة الجنب يعرق في ثوبه؟ فقال: لا، هذا يلصق به والجنابة في الثوب هكذا يكون كثيفا، فإذا عرق فيه أصابه منه، وعرق(1/128)
الجنب لا بأس به، والدابة لا بأس بعرقها، فكيف بعرق الجنب لا بأس بعرقه.
قال محمد بن رشد: قوله: يغسل ما يخاف أن يكون قد أصاب منه شيء هو مثل ما تقدم له في هذا الرسم في الذي يتجفف في الثوب يكون فيه الدم الكثيف، وذلك يدل على أن ما شك في نجاسته من الأبدان أن حكمه أن يغسل ولا يجزئ فيه النضح، وقد ذكرنا الدليل على الفرق في ذلك بين الثوب والجسد في مسألة الدم المذكورة، وفي كتاب ابن شعبان: أن النضح يجزي في الجسد كالثوب وهو شاذ، وقد ذهب ابن لبابة إلى أن النضح لا يجزئ في واحد منهما، وهو خروج عن المذهب جملة، وأما قوله في عرق الجنب: إنه طاهر إذا لم يكن بجسده نجاسة، فهو كما قال؛ لأن جسمه طاهر، وإنما يغتسل عبادة لا نجاسة، فعرق بني آدم تبع للحومهم في الطهارة.
وروي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقيل عند أم سليم، وكان كثير العرق، فاعتدت له قِطْعًا يقيل عليه، فكانت تأخذ عرقه فتجعله في قارورة، فقال: ما هذا يا أم سليم، فقالت: عرقك يا رسول الله أجعله في طيبي، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، فدل ذلك على طهارة العرق، وكذلك عرق سائر الحيوان وألبانها تبع للحومها، فلبن الحمارة نجس، قاله يحيى بن يحيى في سماعه، وإنما قال في المدونة: لا بأس بعرق البردون والبغل والحمار من أجل أن الناس لا يقدرون على التوقي منه، وأما ما يوكل لحمه فعرقه طاهر كلبنه، إلا أن يشرب ماء نجسا، فيختلف في عرقه ولبنه وبوله على أربعة أقوال:
أحدها: أن ذلك كله طاهر، وهو قول أشهب. والثاني: أن ذلك كله نجس، وهو قول سحنون. والثالث: الألبان طاهرة، والأبوال والأعراق نجسة. والرابع: الأبوال نجسة، والأعراق والألبان طاهرة.
وكذلك عرق السكران ولبن المرأة التي شربت الخمر، يتخرج ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها أن اللبن والعرق نجس(1/129)
وهو قول سحنون، وذلك قوله في المدونة: إنما غذاء اللبن مما يأكلن، وهن يأكلن الخنزير ويشربن الخمر. والثاني: أنهما جميعا طاهران وهو قول أشهب. والثالث: اللبن طاهر، والعرق نجس.
[مسألة: الذي يستيقظ من نومه فيدخل يده في وضوئه قبل أن يغسلها]
مسألة قال: وسئل عن الذي يستيقظ من نومه، فيدخل يده في وضوئه قبل أن يغسلها، فيغسلها مرتين أو ثلاثا ناسيا ثم يذكر، أيتوضأ بذلك الماء؟ فقال: إن كان لا يعلم بيده بأسا ولا شيئا، فلا أرى بذلك بأسا أن يتوضأ به كما هو، وما كان الناس يشددون في هذه الأشياء من الوضوء والغسل، والإكثار منه كهيئة الناس اليوم ضيقوا ما لم ينبغ لهم تضييقه، وشددوا على أنفسهم في هذه الأمور، وما كذلك كان الناس، قال مالك: وقد بلغني أن عمر بن الخطاب كان إذا أكل مسح يده بباطن قدمه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الماء الذي أدخل فيه يده إذا استيقظ من نومه قبل أن يغسلها طاهر يتوضأ منه؛ لأن يده محمولة على الطهارة حتى يوقن بنجاستها على الأصل، في أن الشك لا يؤثر في اليقين، وإن كان الاختيار أن يغسلها للحديث؛ إلا أن لا يمكنه ذلك في مثل المهراس على ما يأتي في آخر هذا السماع، خلاف ظاهر قول أبي هريرة في رسم "البز" من سماع ابن القاسم، وقد مضى التكلم على هذه المسألة في رسم "كتب عليه ذكر حق" من سماع ابن القاسم.
ومعنى ما ذكر عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان إذا أكل مسح يده بباطن قدمه إنما هو في مثل التمر والشيء الجاف الذي لا يتعلق بيده منه، إلا ما يذهبه أدنى المسح.(1/130)
وأما مثل اللحم واللبن، وما يكون له الدسم والودك فلا؛ لأن غسل اليد منه مما لا ينبغي تركه، وقد تمضمض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من السويق، وهو أيسر من اللحم واللبن؛ وغسل عثمان بن عفان يده من اللحم، وتمضمض منه، ذكر ذلك مالك في الموطأ، فهذا يدل على ما ذكرناه، والله أعلم.
[مسألة: الوضوء بالدقيق والنخالة والفول]
مسألة قال: وسئل مالك عن الوضوء بالدقيق والنخالة والفول أيتوضأ به؟ فقال: لا علم لي به، ثم قال: ولم يتوضأ به؟ إن أعياه الشيء فليتوضأ بالتراب، قال مالك: قال عمر بن الخطاب: إياكم وهذا التنعم، وأمر الأعاجم. قال العتبي: وسئل سحنون وأنا أسمع عن الوضوء بالنخالة والغسل بها، فقال: لا يجوز، فقلت له: فهل يغسل الرجل رأسه بالبيض؟ فقال لي: لا، فقلت له: فالملح؟ فقال: لا يغسل بشيء مما يوكل. وروى محمد بن خالد، عن ابن نافع: أنه لا بأس بالوضوء بالنخالة.
قال محمد بن رشد: تقدم هذا المعنى في رسم "النذور والجنائز والذبائح" من هذا السماع، ومضى القول في وجه الكراهية في ذلك، وجميع ما يعارض ظاهره ذلك من الروايات في آخر رسم "البز" من سماع ابن القاسم.
[مسألة: الوضوء بالماء السخن]
مسألة قال: وسئل مالك عن الوضوء بالماء السخن، فقال: لا بأس به، وإنا لنفعل ذلك كثيرا، فقيل له: إنما نحوط الوضوء مما مسته النار، قال: كيف يصنع بالدهن، والله ما يدهن إلا بعد الوضوء.(1/131)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الماء القراح لا يخرجه عن حكم الطهارة، وجواز تأدية الفرض به مسيس النار إياه، كما لا يخرج شيئا من الطعام مسيس النار إياه عن حكم الطهارة وجواز أكله، والأمر بالوضوء منه كان عبادة قد نسخت، وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال: «كان آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك الوضوء مما مست النار» فلا وجه للاعتبار بذلك في كراهة الوضوء بالماء السخن، وإنما يعتبر بجواز الوضوء بالماء السخن في ألا وضوء مما مست النار.
وقد روي أن عبد الله بن عمر قال لأبي هريرة لما قال: إنه يتوضأ مما مست النار: ما تقول في الدهن والماء السخن يُتوضأ منه؟ قال: أنت رجل من قريش، وأنا رجل من دوس، قال: يا أبا هريرة، لعلك تلحق إلى هذه الآية {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] لا نتوضأ من شيء نأكله، وقد روي عن مجاهد أنه كره الوضوء بالماء السخن، فيحتمل أن يكون رأى ذلك من التنعم، ورأى الصبر على الوضوء بالماء البارد أعظم للأجر؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؛ إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» ، فإن كان ذهب إلى هذا فقد أصاب، والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: الذي يريد أن يبتدئ الوضوء أيغسل يديه أم يفرغ على يده]
مسألة وسئل عن الذي يريد أن يبتدئ الوضوء، أيغسل يديه أحب إليك، أم يفرغ على يده؟ فقال: يفرغ على يده، قيل له: أي أحب(1/132)
إليك أن يفرغ على يديه قبل أن يغسلهما، قال: نعم، أحب إلي أن يفرغ على يده اليمنى فيغسلهما.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الاختيار في غسل اليدين قبل الوضوء أن يفرغ على يده اليمنى فيغسلهما جميعا اتباعا لظاهر الحديث، وإن أفرغ على يده اليمنى فغسلها وحدها، ثم أدخلها في الإناء، فأفرغ بها على يده اليسرى فغسلها أيضا وحدها أجزأه، ولم يكن عليه في ذلك ضيق، وفي أول سماع عيسى لابن القاسم مثل اختيار قول مالك هذا، واختلف اختيارهما هناك في تمام الوضوء هل يدخل يديه جميعا في الإناء أم يدخل الواحدة، ويفرغ بها على الثانية ويتوضأ على ما سنذكره إن شاء الله، ووقع في بعض الكتب، أم يفرغ على يديه، فقال: بل يفرغ على يديه، وهو خطأ؛ إذ لا يستقيم أن يفرغ على يديه معا، فتدبر ذلك.
[مسألة: الذي ينام في الثوب فيه الجنابة حتى يعرق فيه ثم يقوم أيتوضأ]
مسألة وسئل عن الذي ينام في الثوب فيه الجنابة حتى يعرق فيه، ثم يقوم أيتوضأ قط؟ فقال: بل يغتسل، أحب إليّ أن يغسل جلده، قيل له: أيغسل جلده؟ فقال: نعم، أو يغسل ذلك الموضع الذي أصابه ذلك من جسده.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المني نجس عند مالك، فإذا عرق في الثوب الذي فيه الجنابة، فابتلت النجاسة وتعلقت بجسمه وجب غسله، وقوله: أحب إلي؛ ليس على ظاهره، بل غسل ما أصابه من الجنابة واجب عنده لا يراعي في ذلك قول غيره ممن ذهب إلى أن المني طاهر، والله أعلم.(1/133)
[مسألة: الرجل يكون في رأسه جراح فتصيبه جنابة أيغتسل]
مسألة وسئل عن الذي يكون في رأسه جراح فتصيبه جنابة، أيغتسل وينكب عنها الماء؟ فقال: نعم، لا بأس بذلك، فقلت له: أرأيت إذا برأ، أيغسل رأسه؟ فقال: أو في هذا شك، إنه إذا برأ غسله، نعم يغسله.
قال محمد بن رشد: وهذا بَيِّن كما قال، لا إشكال فيه، إذا نكب الماء عن موضع الشجة في رأسه، فهي لمعة بقيت في رأسه من غسل الجنابة، يجب عليه إذا صح أن يغسلها كما لو نسيها سواء.
[مسألة ماء خليج الإسكندرية هل يتوضأ منه ويغسل فيه الثياب]
مسألة وسئل مالك فقيل له: إن خليج الإسكندرية إذا كان جرى النيل جرت فيه السفن، وكان ماؤه أبيض صافيا، فإذا ذهب النيل ركد، فتغير لونه ورائحته طيبة، والسفن تجري فيه على حالها، والماء كثير فيه، والمراحيض تصب فيها، فهو يغسل فيه الثياب، ويتوضأ منه للصلاة، فقال: إذا كانت تصب فيه هذه المراحيض، وقد تغير لونه فما أحب ذلك، وكان ابن عمر من ائتمه الناس، وكان يقول: إني أحب أن أجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال، قال مالك: فعليك أنت بالذي لا تشك فيه، ودع الناس عنك، ولعلهم في سعة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الماء وإن كان كثيرا صافيا تجري فيه السفن، لا ينبغي أن يتوضأ منه إذا ركد وتغير لونه، من أجل أن المراحيض تصب فيه؛ لاحتمال أن يكون تغير لونه من صب تلك المراحيض فيه، لا من ركوده وسكونه في موضعه، ولو علم أن لونه لم يتغير من صب تلك المراحيض فيه لجاز الوضوء منه، كما أنه لو علم أنه تغير من ذلك لم يحل الوضوء منه، وكان نجسا بإجماع، فإذا لم يعلم بم تغير لونه كان(1/134)
الاحتياط أن يحمل على النجاسة، بخلاف أن لو وُجد متغير اللون، ولم يُعلم لتغيره سبب من نجاسة يشبه أن يكون تغير منه، فإنه يُحمل على الطهارة، وبالله التوفيق.
[مسألة: بئر وجد ماؤها منتنا فنزفت ثم ماؤها منتن على حاله]
مسألة وسئل عن بئر وجد ماؤها منتنا فنزفت، ثم ماؤها منتن على حاله، فقال: إني أخاف أن تكون تسقيها قناة مرحاض، فانزفوها يومين أو ثلاثة أيام، فإن طاب ماؤها توضأتم به، وإن لم يطب لم تتوضئوا به.
قال محمد بن رشد: وجه قوله أنه حمل الماء على أنه إنما أنتن من نجاسته لقنوات المراحيض التي تتخلل الدور في القرى والمدن بخلاف البئر والغدير، يجده الرجل في الصحراء قد أنتن، وهولا يدري مما أنتن، فإنه يحمل على الطهارة، وأنه إنما أنتن من ركوده وسكونه في موضعه؛ إذ لا يعلم لنجاستها سببا يشككه فيه، ولو علم أن نتن ماء البئر ليس من قناة مرحاض إلى جانبه لم يكن به بأس، وقد قاله في آخر هذا الرسم، فهو مبين لقوله هاهنا.
[مسألة: الرجل يأتي المهراس بفلاة من الأرض فيريد أن يتوضأ منه]
مسألة وسئل عن الرجل يأتي المهراس بفلاة من الأرض، فيريد أن يتوضأ منه، فلا يجد شيئا يأخذ به فيصب على يديه، أيدخل يده فيه؟ قال: نعم، يدخل يده فيه، وأين يجد مهراسا بفلاة من الأرض؟ ولكن(1/135)
لو قال غديرا، فقيل له: إن بعض الناس يقول: يأخذ بفيه الماء، فيصب به على يديه حتى يغسلهما، ثم يدخلهما في المهراس، فقال: وما عسى أن يأخذ بفيه، وإنه ليكفي من هذا أنه لم يكن من عمل الناس أن يأخذ بفيه فيصب على يديه.
قال محمد بن رشد: يده محمولة على الطهارة حتى يوقن بنجاستها، ولذلك لم ير عليه أن يأخذ الماء بفيه ليغسلها، ورأى ذلك من التعمق والخلاف لما مضى عليه الناس من التخفيف وترك التشديد على أنفسهم في مثل هذه الأمور، وقد مضى هذا المعنى في الرسم قبل هذا، وفي رسم "كتب عليه ذكر حق" ورسم "البز" من سماع ابن القاسم، ولو كانت يده نجسة لكان عليه أن يحتال لغسلها قبل أن يدخلها في الماء بما يقدر عليه من أخذ الماء بفيه أو بثوب إن كان معه على ما يأتي في سماع موسى بن معاوية من هذا الكتاب.
[مسألة: توضأ ومسح على خفيه فلما مشى وجد في أحدهما حصاة فنزعه]
مسألة وسئل عمن توضأ ومسح على خفيه، فلما مشى وجد في أحدهما حصاة، فنزعه، فأخرجها ثم رد خفه مكانه في رجله ما ترى عليه؟ فقال: أحب إلي أن يغسل قدمه مكانه، قيل له: أيجزي عنه أن يغسل قدمه مكانه؟ قال: نعم. قيل له: إن بعض أهل العراق يقولون: إذا نزعت خفيك انتقض وضوؤك، فقال: قال الله عز وجل:(1/136)
{فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150] ، وقال عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55] .
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الكتب قدمه، وفي بعضها قدميه في الموضعين، والذي تستقيم به المسألة على ظاهر اللفظ أن يكون الأول قدميه بالتثنية، والثاني قدمه بالإفراد، إذ يبعد أن يقول: أحب إلي أن يغسل قدمه بالإفراد؛ لأن ذلك عنده لا يجزئ دونه، ومتى لم يفعل انتقض وضوؤه، وإنما يصح أن يتعلق الاستحباب عنده بخلعهما جميعا، فلما استحب أن يخلعهما جميعا قيل له: أيجزئ عنه أن يغسل قدمه الواحدة مكانه الذي خلع الخف منه لإخراج الحصاة، قال: نعم. فإذا جاز على هذه الرواية أن يغسل الرِّجْل التي خلع منها الخف، ولا يخلع صاحبه، فأحرى إذا لبس خفين على خفين، فمسح على الأعليين، ثم نزع فردا واحدا منها أن يجزئه أن يمسح على الخف الذي تحته ولا يخلع صاحبه.
وقال ابن حبيب: لا بد له من خلع صاحبه في المسألتين جميعا، ومذهب ابن القاسم الفرق بين المسألتين؛ لأن عيسى روى عنه في الخفين على الخفين إذا نزع فردا من الأعليين، وقد مسح عليهما أنه يجزئه أن يمسح على الذي تحته وحده ولا يخلع صاحبه، وروى عنه أبو زيد في الخفين على القدمين إذا مسح عليهما فانخرق أحدهما أنه ينزعهما جميعا ويغسل رجليه، فتحصل في الجملة ثلاثة أقوال، وفي كل مسألة على انفراد قولان، فقف على ذلك، وإنما قال إذا نزع خفيه وقد مسح عليهما: إنه يغسل رجليه ولا ينتقض وضوؤه خلافا لما حكي له عن بعض أهل العراق قياسا على الجبيرة إذا مسح عليها في غسله، ثم برأ أنه يغسل ذلك الموضع ولا ينتقض غسله.
وفي مختصر ما ليس في المختصر لمالك من(1/137)
رواية زيد بن شعيب عنه أن من مسح على خفيه، ثم نزعهما استأنف الوضوء، ووجه ذلك أنه إن غسل رجليه فقد حصل وضوؤه متفرقا عن غير ضرورة، بخلاف الجبيرة، والأول أظهر.
[مسألة: الوضوء من بيوت النصارى]
مسألة وسئل عن الوضوء من بيوت النصارى، فربما كانوا عبيدا للمسلمين، فقال: إني لأكره ذلك، هم أنجاس لا يتطهرون.
قال محمد بن رشد: فإن فعل فلا إعادة عليه؛ لأنه أخف من سؤر النصراني الذي قد اختلف فيه قوله على ما قد تقدم القول فيه من أول سماع ابن القاسم.
[مسألة: بئر ماتت فيه دابة]
وسئل عن بئر ماتت فيه دابة، فكان أهلها يتوضئون منها، ويصيب ماؤها ثيابهم، فقال: إن كان ذلك الماء منتنا فاسدا، فأرى أن تغسل الثياب التي أصابها ذلك الماء، فإن كان ذلك فيه شيئا خفيفا، فأرى أن تنضح تلك الثياب نضحا ولا تغسل، فقيل له: إنما هي فارة ماتت فيها، فكان أهلها يتوضئون منها، ويصيب ماؤها ثيابهم، فقال: نعم، إذا كان ذلك الماء فاسدا جدا غسلت منه تلك الثياب، وإن كان ذلك منه شيئا خفيفا فيها، فأرى أن تنضح الثياب، فقيل له: أرأيت ما صلوا بذلك من صلاة؟ فقال: يعاد ما كان من ذلك في الوقت.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف بين أهل العلم فيما علمت أن الماء إذا أنتن واشتدت رائحته من موت الدابة فيه أنه نجس، وأن من توضأ به يعيد(1/138)
الصلاة في الوقت وبعده، وتغسل منها الثياب، ولا يجزئ فيها النضح.
فقوله في آخر المسألة: يعاد من ذلك ما كان في الوقت، لا يعود على جملة المسألة في الماء المنتن وغيره، وإنما يعود على ما اتصل به من قوله: وإذا كان ذلك منه شيئا خفيفا فيها، فأرى أن تنضح الثياب، ويحتمل أن يعود على جملة المسألة في الصلاة بالثياب التي أصابها ذلك الماء المنتن وغيره، لا في الوضوء من ذلك الماء، والتأويل الأول أظهر بظاهر الرواية، ومعنى قوله: وإن كان ذلك منه شيئا خفيفا، أي يشك في تغير رائحته لخفته، وأما لو تبين تغير رائحته لوجب أن يعيد من توضأ بذلك الماء في الوقت وغيره على مذهب مالك، خلاف ما ذهب إليه ابن الماجشون من ترك الاعتبار بالرائحة في صفة الماء، وقوله: فأرى أن تنضح الثياب، يحتمل أن يريد إن كانت ثيابا يفسدها الغسل على نحو ما ذهب إليه ابن حبيب، ويحتمل أن يكون خفف ترك غسلها، وإن كان الغسل لا يفسدها إذا لم يعفها ذلك الماء النجس، بخلاف المسألة التي تقدمت في رسم "النذور والجنائز"، والله أعلم.
[مسألة: الذي يصب الماء لحماره في الشيء يشرب منه ويفضل أيتوضأ بفضله]
مسألة وسئل عن الذي يصب الماء لحماره في الشيء يشرب منه ويفضل؛ أيتوضأ بفضله؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، وزاد فيها أنه وغيره سواء، قال ابن حبيب: وقد كره بعض العلماء الوضوء من سؤر الدواب التي تأكل أرواثها، ولم ير ابن القاسم بذلك بأسا، إلا أن يرى ذلك بأفواهها عند شربها، قال ابن حبيب: وأما المخلاة التي تقم المزابل، وتأكل الأقذار، فالتيمم خير من سؤرها؛ لأنه نجس.(1/139)
[مسألة: البئر ينتن ماؤها ثم ينزح والماء ما يزال منتنا]
مسألة وسئل فقيل له: إن بئرا لنا قد أنتن ماؤها ونزحناه، وماؤها بعد منتن، فقال: لا أرى أن يتوضأ منه حتى يأتوا ببعض هؤلاء الذين ينظرون إلى الآبار، فإني أخاف أن يكون من قناة مرحاض إلى جانبه، قال: فقلت له: أرأيت إن لم يكن نتنه من ذلك؟ فقال: لو عُلم أن نتنه ليس من ذلك ما رأيت بأسا أن يتوضأ به.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح؛ إنه إذا علم أن نتنه ليس من ذلك، ينبغي أن يحمل على الطهارة كالغدير الذي تجده في الفلاة قد أنتن، ولا يدرى من أي شيء أنتن، وقوله هذا يبين مسألة البئر المتقدمة في هذا الرسم قبل هذا.
[مسألة: الرجل يقرأ القرآن في اللوح، وهو غير متوضئ]
مسألة وسئل عن الرجل يقرأ القرآن في اللوح، وهو غير متوضئ، قال: لا أرى أن يمسه.
قال محمد بن رشد: معناه إذا كان يقرأ فيه على غير وجه التعلم؛ لأنه قد خففه في رسم "شك في طوافه" من سماع ابن القاسم، إذا كان على وجه التعليم، وقد مضى هناك وجه تخفيفه، وحمل كلامه على أن بعضه مفسر لبعض إذا أمكن ذلك أولى من حمله على الخلاف، وبالله التوفيق.
كمل سماع أشهب
والحمد لله رب العالمين، والصلاة الكاملة على مولانا محمد وآله.(1/140)
[الرجل يدخل الحمام لغسل جنابة فيتطهر وهو ناس لجنابته]
كتاب الوضوء الثاني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
من سماع عيسى من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: وسئل ابن القاسم عمن دخل الحمام لغسل جنابة، فخرج إلى الطهور فتطهر، وهو ناس لجنابته، أيجزئه؟ فقال: أرأيت من أمر أهله أن يضعوا له ماء يغتسل من الجنابة، فوضع فجاء فاغتسل، ونسي الجنابة، وذهب إلى البحر ليغسل الجنابة، فاغتسل ونسي الجنابة، أليس ذلك يجزيه في ذلك كله؟
قال محمد بن رشد: قد روي عن سحنون: أن ذلك يجزيه في النهر، ولا يجزيه في الحمام، ووجه ما ذهب إليه أن النية بعدت عنه لاشتغاله بالتحمم قبل الغسل، وكذلك لو ذهب إلى النهر ليغسل ثوبه قبل الغسل، فغسل ثوبه ثم اغتسل، لم يجزه الغسل على مذهبه، ولو لم يتحمم في الحمام لأجزأه الغسل كالنهر سواء.
ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم أنه لما خرج إلى الحمام بنية أن يتحمم ثم يغتسل، لم ترتفض عنده النية، ولا ضره بعدها لبقاء حكمها على ما نواه وخرج عليه، ولو خرج إلى الحمام قاصدا للغسل من الجنابة، ثم بدا له فتحمم، ولم يجدد النية عند الغسل لما أجزأه(1/141)
عندهما جميعا، فالأمر في هذا على هذه الثلاثة الأوجه: إذا خرج إلى الحمام للغسل فاغتسل ولم يتحمم أجزأه الغسل باتفاق، وإذا خرج إليه للغسل ثم بدا له فتحمم، ثم اغتسل لم يجزه الغسل باتفاق، إلا أن يجدد النية، وإذا خرج ليتحمم ثم يغتسل ففعل أجزأه الغسل عند ابن القاسم، ولم يجزئه عند سحنون، إلا أن يجدد النية عند الغسل.
والأصل في جواز تقدم النية قبل أول الغسل بيسير إجماعهم على جواز تبييت الصيام من الليل قبل أول النهار؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» وكذلك يجب في الصلاة إذا تقدمت النية قبل الإحرام بيسير أن يجزئ، وقد فرق في هذا بين الغسل والصلاة بتفاريق لا تلزم، من ذلك مراعاة الخلاف في إيجاب النية في الوضوء والغسل، ومن ذلك أن الصلاة يبدأ فيها بتكبيرة الإحرام وهي فرض، والغسل والوضوء يبدأ فيهما بما ليس فرض من غسل اليد قبل إدخالها في الإناء وغير ذلك من السنن.
[مسألة: في كيفية الوضوء]
مسألة قال: فقلت لمالك: كيف الوضوء؟ أيدخل يديه في الإناء فيغسل وجهه؟ أم يدخل يده الواحدة فيفرغها ثم يتوضأ؟ قال: بل يدخل يديه في الإناء، قال ابن القاسم: في غسل اليد قبل أن يدخلها في الإناء فيفرغها ثم يتوضأ أحب إلي؛ لحديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه أفرغ(1/142)
على يده فغسل يديه ثلاثا» ، قال ابن القاسم: وإن أفرغ على يده فغسلها وحدها، ثم أدخلها في الإناء أجزأ عنه، وأحب إلي الحديث.
قال محمد بن رشد: اختيار ابن القاسم هاهنا في غسل اليد قبل أن يدخلها في الإناء أن يفرغ على يده الواحدة فيغسلهما جميعا؛ اتباعا لظاهر الحديث، هو مثل ما تقدم لمالك في آخر سماع أشهب، ورأى واسعا أن يفرغ على يده فيغسلها وحدها، ثم يدخلها في الإناء فيفرغ بها على الأخرى، فيغسلها أيضا وحدها، وان كان اتباع ظاهر الحديث أحب إليه، وأما في بقية وضوئه فاختار مالك في هذه الرواية أن يدخل يديه جميعا في الإناء، فيغرف بهما لوجهه ثم لسائر أعضاء وضوئه، وظاهر قول ابن القاسم أن يفعل في سائر وضوئه كما يفعل في غسل يده ابتداء، يدخل يده الواحدة في الإناء، فيفرغ بها على الثانية، فيغسل وجهه ثم يفعل كذلك لسائر أعضاء وضوئه؛ لقوله: فيفرغها ثم يتوضأ، وهو أحسن من قول مالك؛ لأن ما يغرف من الماء بيده الواحدة يكفيه لغسل وجهه، وهو أمكن له في الوضوء من أن يغرف بيديه جميعا، ولعل الإناء الذي يتوضأ منه يصغر عن ذلك، وإنما يغرف بيديه جميعا في الغسل؛ لقوله في الحديث: «ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه» والله أعلم.
[مسألة: الرجل يكون عليه زوجا خفاف كيف يمسح]
مسألة وسئل عمن كان عليه زوجا خفاف، قال: يمسح على(1/143)
الأعلى، قيل له: فإن نزع الزوج الأعلى؟ قال: فليمسح على الزوج الأسفل إذا نزع الأعلى، قيل: أرأيت إن نزع فردا من الزوج الأعلى؟ قال: يمسح على الخف الأسفل من تلك الرجل وحدها، ويصلي ويجزئه، وهو قول مالك، قال ابن القاسم: فإن هو لبس الخف التي نزع، ثم أحدث بعد ذلك مسح عليها.
قال محمد بن رشد: قوله فيمن كان عليه زوجا خفاف أنه يمسح على الأعلى منها، هو المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك في المدونة وغيرها، وقد حكى بعض البغداديين أن قول مالك اختلف في إجازة المسح على خف فوق خف، ووجه المنع من ذلك أن السنة إنما جاءت في المسح على الخفين على القدمين، وهو رخصة فلا يقاس عليها، ووجه الإجازة قياس الخفين على القدمين لاستوائهما في المعنى.
وأما قوله إن نزع فردا من الزوج الأعلى: إنه يمسح على الخف الأسفل من تلك الرجل وحدها ويصلي، قد تقدم القول عليه والاختلاف فيه في آخر سماع أشهب، وأما قوله: فإن هو لبس الخف التي نزع ثم أحدث بعد ذلك مسح عليهما، فإنه خلاف قول سحنون في المسألة التي بعدها مثل قول مطرف فيها؛ لأنه لما نزع الخف التي مسح عليها من الرجل الواحدة انتقضت طهارته، فلما مسح على الأسفل صار قد طهر بعد أن مسح على الخف من الرجل الأخرى.
[مسألة: الرجل يتوضأ ويغسل إحدى قدميه ويلبس خفه ثم يغسل الأخرى]
مسألة قيل لسحنون: ما تقول في رجل توضأ فلما فرغ من وضوئه ولم يبق عليه إلا غسل رجليه غسل إحداهما ثم لبس خفه، ثم غسل الأخرى، ثم لبس خفه الأخرى، فأحدث بعد ذلك، أيكون له أن يمسح؟ قال: لا يجوز له أن يمسح، قلت: لم؟ قال: من قبل أنه أدخل(1/144)
إحدى رجليه في الخف قبل استكمال الوضوء. قلت: أرأيت إن هو خلعهما قبل أن يحدث، ثم لبسهما بعد ذلك، فأحدث أيجوز له أن يمسح؟ قال: نعم إذا كان خلعهما ثم لبسهما قبل أن يحدث جاز له أن يمسح. قلت له: وكذلك لو غسل رجليه ثم لبس خفيه وقد نسي مسح رأسه ثم ذكر وقد جف وضوؤه فمسح برأسه، ثم أحدث بعد ذلك لم يكن له أن يمسح، قال: نعم، هي نظيرة ما سألت عنه، إلا أن يخلع خفيه بعد أن مسح برأسه ثم لبسهما قبل أن يحدث، فإنه يمسح.
وسئل مطرف بن عبد الله عن الرجل يتوضأ فإذا فرغ من جميع وضوئه ولم يبق عليه إلا غسل رجليه غسل رجله الواحدة، ولبس خفه قبل أن يغسل الأخرى، ثم غسل رجله الأخرى بعد ذلك ولبس خفه، ثم انتقض وضوؤه أيجوز له المسح على الخفين؟ قال: نعم، جائز له ذلك، ولا بأس عليه بالمسح على خفيه؛ لأنه لبس خفيه ووضوؤه تام، لا يضره أن يغسل الرجل الواحدة فيدخلها في الخف قبل أن يغسل الأخرى، وكل ذلك واحد.
قال محمد بن رشد: الاختلاف في هذه المسألة جار على اختلافهم في المتوضئ للصلاة؛ هل يطهر كل عضو من أعضائه ويرتفع الحدث عنه كلما غسله بتمام غسله، فإذا أكمل وضوءه ارتفع الحدث عنه جملة، وطهر للصلاة؟ أم لا يطهر شيء من أعضائه إلا بتمام الوضوء؟ فمن رأى أنه كلما غسل عضوا من أعضاء الوضوء طهر ذلك العضو، أجاز له أن يمسح على خفيه إذا لبسهما بعد أن غسل رجليه للوضوء، وإن كان ذلك قبل أن يستكمل وضوءه؛ لأنه قد لبسهما عنده ورجلاه طاهرتان بطهر الوضوء على ما جاء في(1/145)
الحديث، وسواء أكمل وضوءه بعد ذلك أو لم يكمله، وهو قول ابن القاسم عن مالك في سماع موسى عنه في هذا الكتاب، ومن رأى أنه لا يطهر عضو من أعضاء المتوضئ إلا بتمام وضوئه لم يجز له أن يمسح على خفيه إذا لبسهما قبل استكمال طهارته؛ لأنه ما لبسهما عنده إلا ورجلاه غير طاهرتين بطهر الوضوء، وسواء أكمل وضوءه بعد ذلك أو لم يكمله، وهو قول سحنون.
وجواز المسح أظهر على القول بأن كل عضو من أعضاء المتوضئ يطهر بتمام غسله؛ بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحديث: «إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض؛ خرجت الخطايا من فيه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه» الحديث، وظاهر قول مطرف أنه لو لم يكمل وضوءه لما جاز له أن يمسح، ووجه قوله أن ما غسل المتوضئ من أعضائه يحكم له أنه قد طهر بتمام غسله إن أكمل وضوءه، ولم ينتقض قبل تمامه، فهي ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يمسح على خفيه إلا أن يكون قد لبسهما بعد إكمال وضوئه. والثاني: أنه يمسح عليهما إن لبسهما بعد أن غسل رجليه للوضوء، وإن لم يتم وضوءه بعد ذلك. والثالث: أنه لا يمسح عليهما إلا أن يتم وضوءه ذلك. وقال. ابن لبابة: إن الاختلاف في هذه المسألة إنما هو من أجل أن طهارة القدمين بطهر الوضوء ليس بلازم، إذ لم يثبت عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولا عن عمر بن الخطاب في القدمين أن تكونا طاهرتين بطهر الوضوء، وإنما الذي ثبت عنهما طاهرتان لا أكثر.
[مسألة: الرجل يسيل عليه ماء العسكر فيسأل أهله فيقولون إنه طاهر]
مسألة وسئل ابن القاسم، عن الرجل يسيل عليه ماء العسكر، فيسأل أهله فيقولون: إنه طاهر، قال: يصدقهم، إلا أن يكونوا نصارى، فلا أرى ذلك.(1/146)
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه يصدقهم، وإن لم يعرف عدالتهم؛ لأنه محمول على الطهارة على ما مضى في رسم "حلف" من سماع ابن القاسم من قوله: أراه في سعة ما لم يستقين بنجس، فسؤالهم مستحب، وليس بواجب، ولو قالوا له لما سألهم: هو نجس؛ لوجب عليه أن يصدقهم؛ لأنهم مقرون على أنفسهم بما يلزمهم في ذلك من الحكم، فالظن يغلب على صدقهم.
ولو كان محمولا على النجاسة لما وجب أن يصدقهم في أنه طاهر إلا أن يعرف عدالتهم، مثل أن يكون العسكر للنصارى فيسأل من كان قاعدا معهم من المسلمين، إذ لا يقبل الخبر حتى يعلم عدالة نقلته، كما لا تقبل شهادة الشهود حتى تعرف عدالتهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، وقول عمر بن الخطاب: والذي نفسي بيده، لا يوسر رجل في الإسلام بغير العدول. وأما إن عرف أنهم غير عدول، فلا إشكال في أنه لا يقبل قولهم؛ لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الآية، وبالله التوفيق.
[الرجل في حضر ومعه بئر وهو إن عالجها طلعت عليه الشمس أيتيمم]
ومن كتاب أوله عبد استأذن سيده في تدبير جاريته وقال: إذا كان الرجل في حضر ومعه بئر إلا أن رشاءها بعيد، وهو إن عالجها طلعت عليه الشمس، قال: يعالجها وإن طلعت عليه الشمس، وقد قال: يتيمم ويصلي إذا خاف طلوع الشمس.
قال محمد بن رشد: قوله: وقد قال: يتيمم ويصلي إذا خاف طلوع الشمس، هو على القول بأن الصبح ليس له وقت ضروري؛ وأما على القول بأن له وقت ضرورة وهو الإسفار، فإنما يعالجها ما لم يخف أن يسفر؛ لأن الذي(1/147)
لا يجد الماء ينتقل إلى التيمم إذا خشي أن يفوته وقت الاختيار، والاختلاف في هذه المسألة إنما هو على اختلافهم في الحاضر العادم للماء، هل هو من أهل التيمم أم لا؟ فقوله: يعالجهما وإن طلعت الشمس على القول بأنه ليس من أهل التيمم، وقوله: يتيمم ويصلي إذا خاف طلوع الشمس على القول بأنه من أهل التيمم.
وفي المدونة لمالك قول ثالث: أنه يعيد بعد الوقت إذا قدر على الماء، ويتخرج في المسألة قول رابع وهو: أن تسقط عنه الصلاة إذا طلعت الشمس عليه قبل أن يصل إلى الماء. وقد اختلف في الذي يكون معه الماء إلا أنه إن توضأ به فاته الوقت، وإن تيمم أدرك الوقت، فقيل: إنه يتوضأ به على كل حال، وإن فاته الوقت؛ لأنه واجد للماء فليس من أهل التيمم، وقيل: إن له أن يتيمم إذا خاف ذهاب الوقت، والأمر محتمل، فانظر ذلك، وبالله التوفيق.
[المستحاضة إذا جاءها أيام الدم التي كانت تحيض فيهن فرأت دما كثيرا تنكره]
ومن كتاب العرية وسئل ابن القاسم عن المستحاضة إذا جاءها أيام الدم التي كانت تحيض فيهن، فرأت دما كثيرا تنكره، فأقامت قدر الأيام التي كانت تحيض، ثم رجعت إلى الدم الذي كانت تصلي به، أو تكون رأت ذلك الدم يوما أو يومين، ثم رجعت إلى الدم الذي كانت تعرفه، هل ترى أن تستظهر بثلاثة أيام أم لا؟ فقال ابن القاسم: إذا رأت دما تنكره لا تشك أنه دم حيضة، فإنها تترك الصلاة، فإذا طال بها الدم الذي تستنكر استظهرت بثلاثة أيام، وإن كان عاودها دم الاستحاضة بعد أيام حيضتها صلت بغير استظهار.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنها تستظهر في الدمين جميعا، وهو(1/148)
قول ابن الماجشون وأصبغ، وقيل: إنها لا تستظهر في الدمين جميعا، قاله في كتاب ابن المواز، فوجه قوله في الرواية: إنها لا تستظهر إن عاودها دم الاستحاضة هو أنها كانت تصلي به قبل أن ترى الدم الذي استنكرته، وكانت به في حكم الطاهر وجب إذا رجعت إليه أن تكون فيه أيضا في حكم الطاهر فلا تستظهر. ووجه قول ابن الماجشون وأصبغ: إنها تستظهر وإن عاودها دم الاستحاضة أن هذا دم اتصل بدم الحيض، فوجب أن تستظهر منه كما لو لم تتقدم لها استحاضة.
وأما ما في كتاب ابن المواز من أنها لا تستظهر وإن تمادى بها الدم الذي استنكرت، فلا وجه له من النظر إلا الاحتياط للصلاة؛ مراعاة لقول من لا يرى الاستظهار أصلا، ولقول مالك أيضا في كتاب ابن المواز إن المستحاضة عدتها سنة، وإن كانت تميز ما بين الدمين؛ لأن الاستحاضة ريبة. فإذا كانت الرواية مبنية على هذا من الاحتياط فيجب إذا تركت الاستظهار فصلت وصامت أن تقضي الصيام، وكذلك المعتدة على هذا القياس. وقد قيل: إنها تتمادى في الدمين جميعا إلى خمسة عشر يوما، وهو قول مطرف.
[المستحاضة لم تر الدم في كل يوم إلا في وقت صلاة واحدة ثم انقطع ذلك عنها]
ومن كتاب أوله يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه قلت: أرأيت إن لم تر الدم في كل يوم إلا في وقت صلاة واحدة، ثم انقطع ذلك عنها في غيرها من الصلوات، أتعد ذلك اليوم يوما تاما؟ وكيف إن رأت الدم صلاة الظهر، فتركت الصلاة، ثم رأت الطهر قبل العصر أتعيد الصلاة؟ قال ابن القاسم: إن رأته وإن كان ساعة، فإنها تعد ذلك يوما، وأما الظهر فإنها تعيدها إذا رأت الطهر نهارا.(1/149)
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه أن الحيضة إذا انقطعت ولم يكن بين الدمين من الأيام ما يكون طهرا فاصلا، فإنها تلفق أيام الدم وتعد اليوم الذي رأت فيه الدم من أيام الدم، وإن لم تره إلا ساعة أو لمعة، وإنما اختلف هل تلفق أيام الطهر، فالمشهور أنها تلغيها ولا تلفقها، وقد قيل: إنها تلفقها إن كانت مثل أيام الحيض أو أكثر منها، فتكون في أيام الدم حائضا، وفي أيام الطهر طاهرا أبدا، وهو قول محمد بن مسلمة.
وإن انقطع عنها وقد بقي من النهار قدر خمس ركعات قبل غروب الشمس أو أكثر صلت الظهر والعصر، وإن كان لم يبق من النهار إلا أربع ركعات فأقل صلت العصر، وسقطت عنها صلاة الظهر، واختلف إذا انقطع عنها لمقدار أربع ركعات من الليل قبل طلوع الفجر، فقيل: إنه يجب عليها صلاة المغرب والعشاء، وهو مذهب ابن القاسم، وقيل: إنه لا يجب عليها إلا صلاة العشاء الآخرة، وهو مذهب ابن الماجشون، وأما قوله: فإنها تعيدها، فإنه تجاوز في اللفظ؛ لأن حقيقة الإعادة إنما هو لما قد فعل، وهي لم تصلها بعد، وقد جاء مثل هذا في القرآن، قال الله عز وجل: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] ، وقال الشاعر، وهو النابغة الجعدي:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
[مسألة: المرأة ترى الدم عند وضوئها]
مسألة قال ابن القاسم: سألت مالكا عن المرأة ترى الدم عند وضوئها، فقال مالك: تشد وتصلي، وليس عليها غسل، ولا تترك الصلاة كما تصنع المستحاضة في أول ما يصيبها.(1/150)
قال محمد بن رشد: يريد ولا تترك الصلاة في أول ما يصيبها كما لا تتركها المستحاضة. وقوله: وليس عليها غسل، يبين قول مالك في رسم "الشريكين" من سماع ابن القاسم، ويرد تأويل ابن أبي زيد عليه، وقد تكلمنا هناك على وجه قول مالك بما أغنى عن رده، والمعنى في هذه المسألة أنه حكم لها بحكم المستحاضة لما كان الدم يتكرر عليها عند كل وضوء؛ لأن معنى قوله: ترى الدم عند وضوئها، أي تراه عند كل وضوء، فإذا قامت ذهب ذلك عنها على ما قاله في رسم "الشريكين" من سماع ابن القاسم.
ولا إشكال في أن الدم إذا تمادى بها على هذه الصفة يكون حكمها حكم المستحاضة، وحكم المستنكحة أيضا لتكرر الدم عليها في أوقات معلومة، وإنما الذي يشكل من المسألة قوله فيها ولا غسل عليها في أول ما يصيبها؛ لأن ما تراه المرأة من الدم ابتداء هو محمول على أنه حيض حتى يعلم أنه استحاضة، فقوله: إنه لا غسل عليها في أول ما يصيبها معناه إذا كان أول ما يصيبها ذلك في مدة الاستحاضة، مثل أن تكون قد رأت الدم خمسة عشر يوما، ثم جعلت تراه عند كل وضوء، فوجب ألا يجب عليها غسل عند أول ما تراه؛ لأنه استحاضة، إذ لا يمكن إضافته إلى الدم الأول، إذ قد تمادى بها خمسة عشر يوما، ولا أن تجعله حيضة ثانية؛ إذ لا فاصل بينهما من الأيام. وكذلك كل ما تكرر على هذه الصفة إلا أن ترى دما تنكره، وتميز أنه دم حيضة على ما قال في رسم "الشريكين" من سماع ابن القاسم. ومعنى ذلك إذا رأت هذا الدم الذي تنكره بعد أن مضى من الأيام ما يكون طهرا فاصلا من بعد انقضاء الخمسة عشر يوما، وهو الوقت الذي حكم فيه باستحاضتها، وبالله التوفيق.
[تفسير يتيمم بجدار]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وسئل ابن القاسم عن تفسير يتيمم بجدار، فقال:(1/151)
تفسيره من ضرورة، بمنزلة المريض لا يكون عنده أحد يوضئه ولا ييممه، فيمد يده إلى الجدار بجنبه إذا كان جدارا أسود، يريد أن يكون الجدار من طوب نيء.
قال محمد بن رشد: وجه هذا السؤال أنه سأله عن تفسير ما روي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم عليه رجل في سكة من السكك، وقد خرج من بول أو غائط، فلم يرد عليه حتى أقبل على الجدار فتيمم» ، فقال تفسيره من ضرورة، أي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعل ذلك إلا من ضرورة، إذ لم يصل إلى الصعيد الطيب؛ لكونه في السكك والطرق التي لا تنفك عن النجاسات، وخشي أن يفوته الرد الذي قد أوجبه الله تعالى بقوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] إن أخره إلى أن يجد الماء فيتوضأ، إذ لا يكون ردا إلا بالقرب، وذلك أن ذكر الله تعالى على غير طهارة كان في أول الإسلام ممنوعا ثم نسخ، فأراد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تيمم الجدار من ضرورة، وهي ما ذكرنا، كما يتيممه المريض من ضرورة إذا لم يكن عنده أحد يوضئه أو ييممه.
وقوله إذا كان الجدار أسود، يريد أن لا يكون قد كسي بجص أو جير، فإن كان كذلك لم يجز التيمم عليه، قاله في كتاب ابن المواز، وهو صحيح، وقوله: من طوب نيء صحيح؛ لأنه إن كان آجرا مطبوخا لم يجز التيمم عليه، وقد قال ابن حبيب: إن المريض يتيمم الجدار آجرا كان أو صخرا أو حجارة أو حصبا إذا لم يجد من يناوله ترابا، ولا من ينقله إلى موضع الصعيد، وهو بعيد إلا أن يريد آجرا غير مطبوخ، والله أعلم، وبه التوفيق.(1/152)
[مريض لم يجد لذة النساء يلمس امرأته ولم يجد له لذة أترى عليه وضوءا]
مسألة وسئل عن مريض دنف لم يجد لذة النساء ولا انبساطا، أراد أن يجرب نفسه، فوضع يده على ذراع امرأته ينظر هل يحرك ذلك منه شيئا ولم يجد له لذة، أترى عليه وضوءا؟ قال: نعم، قد وجدها في قلبه حين وضعها لذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا ظاهر ما في المدونة أن اللمس مع القصد إلى اللذة يوجب الوضوء، وإن لم يلتذ، ووجه ذلك اتباع ظاهر القرآن في قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] لم يشرط وجود لذة. وقوله: قد وجدها في قلبه حين وضعها لذلك؛ لا معنى له؛ لأن اللذة إذا لم تكن كائنة عن اللمس وموجودة به، فلا اعتبار بها إلا على ما ذهب إليه ابن بكير من أن وجود اللذة مع التذكار دون لمس يوجب الوضوء، ويحتمل أن يكون أراد بقوله: قد وجدها بقلبه، أي قد أرادها وقصدها حين وضعها؛ فتستقيم الرواية على هذا التأويل. وأما إن وجد اللذة بلمسه فلا اختلاف في المذهب أن الوضوء عليه واجب سواء قصدها أو لم يقصدها. وأما إن لم يجدها بلمسه ولا قصدها به، فلا وضوء عليه باتفاق، وبالله التوفيق.
[المتيمم يصيب رجله بول]
ومن كتاب أوله سلف دينارا في ثوب إلى أجل قال ابن القاسم من قول مالك في المتيمم يصيب رجله بول: إنه يمسحه بالتراب، قال ابن القاسم: ويعيد الصلاة في الوقت، مثل الرجل يصلي في الثوب الدنس، ولا يجد غيره؛ أنه يعيد في الوقت إن وجد الماء، ومثل المسافر يكون متوضئا ثم يصيب رجله رجيع(1/153)
أو بول، ولا يجد ماء يغسله به أنه يمسحه بالتراب ثم يصلي، يريد أنه يعيد في الوقت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن مسح قدمه بالتراب لا يرفع حكم النجاسة عنه، وإن أزال عينها عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، خلافا لأبي حنيفة وغيره في قوله: إن كل ما أزال العين رفع الحكم. والوقت في هذا للظهر والعصر إلى الغروب، وللمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر، وللصبح إلى طلوع الشمس، قاله ابن القاسم عن مالك في كتاب ابن المواز، وله فيه في المصلي بثوب نجس ناسيا أن الوقت في ذلك للظهر والعصر الاصفرار، وللصبح إلى الإسفار، فكأنه ذهب إلى التفرقة بين المسألتين. ويحتمل أن يكون اختلافا من القول، فتأتي في المسألة ثلاثة أقوال على ما ذكرنا في رسم "شك في طوافه" من سماع ابن القاسم، ومعنى هذا في بول بني آدم الذي يتفق على نجاسته، وتنفك منه الطرق ولو أصاب رجله في مشيه بول الدواب، لم يجب عليه إعادة إذا مسحه وصله به على أحد قولي مالك في المدونة وغيرها.
ولو أصاب رجله بول بني آدم وهو غير متوضئ، وليس معه من الماء إلا قدر ما يتوضأ به لغسله وتيمم على ما حكاه ابن حبيب عن جماعة من أصحاب مالك في المسافر يتوضأ، ويمسح على خفيه فتصيبهما نجاسة ولا ماء معه أنه يخلعهما ويتيمم، قال: لأنه قد أرخص في الصلاة بالتيمم ولم يرخص في الصلاة بالنجاسة، وفي ذلك نظر، فتدبره، وبالله التوفيق.
[يسقى النحل العسل الذي وقعت فيه ميتة]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق قال: وقال مالك: لا بأس أن يسقى النحل العسل الذي وقعت فيه ميتة، قال ابن القاسم: ولا بأس أن يسقى البقر الإناث والغنم(1/154)
الماء الذي وقعت فيه الميتة. قيل لسحنون: فهل تكون أبوال الأنعام إذا شربت من ماء غير طاهر طاهرة؟ فقال: لا وهي نجس، وقال ابن نافع: لا يسقى بالماء النجس كل ما يؤكل لحمه، ولا يسقى به البقل إلا أن يغلى بعد ذلك بماء ليس بنجس.
قال محمد بن رشد: قول مالك: لا بأس أن يسقى النحل العسل الذي وقعت فيه ميتة، هو مثل ما في المدونة، يريد ويكون العسل طاهرا، وكذلك لبن الماشية التي تسقى الماء النجس، طاهر عند ابن القاسم بدليل تخصيصه الإناث في هذه الرواية بخلاف أبوالها، وسحنون يقول: إن ألبانها نجسة كأبوالها، وأشهب يرى ألبانها وأبوالها طاهرة. وقول ابن القاسم في تفرقته بين البول واللبن هو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب. وأما قول ابن نافع: لا يسقى بالماء النجس كل ما يؤكل لحمه، فيحتمل أن يكون كره ذلك من أجل الاختلاف في نجاسة ألبانها، فقد كره ذلك أيضا مالك في رواية ابن وهب عنه لهذه العلة، والله أعلم؛ إذ لا بأس بأكل لحومها، وإن شربت ماء نجسا، فقد قال ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب الضحايا في الجدي يرضع الخنزيرة: أحب إلي أن لا يذبح حتى يذهب ما في بطنه، ولو ذبح مكانه لم أر به بأسا.
ويحتمل أن يكون ابن نافع كره ذلك مخافة أن يذبحه من لا يعلم قبل أن يذهب ما في جوفه من ذلك الماء النجس على ما استحب ابن القاسم من أن لا يذبح الجدي إذا رضع الخنزيرة حتى يذهب ما في جوفه من أجل نجاسته، وما يلزمه من غسله والتوقي منه. وأما قول ابن نافع: إن البقل لا يسقى بالماء النجس إلا أن يغلى بعد ذلك بماء ليس بنجس؛ فلا وجه له، إذ لو نجس بسقيه بالماء النجس لكانت ذاته نجسة، ولما طهر بتغليته بعد ذلك بماء طاهر، وبالله التوفيق.(1/155)
[مسألة: جس امرأته للذة ثم نسي فصلى ولم يتوضأ]
مسألة قال ابن القاسم: من جس امرأته للذة، ثم نسي فصلى ولم يتوضأ؛ أنه يعيد في الوقت وبعد الوقت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الملامسة عند مالك وجميع أصحابه في قول الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] ما دون الجماع، فإذا جس الرجل امرأته فالتذ؛ فقد انتقض وضوؤه عند مالك وجميع أصحابه، وإن لم يلتذ بذلك فعلى قولين، وقد مضى ذلك في رسم "أوصى"، وبالله التوفيق.
[الرجل يستنجي بحجر واحد ثم يتوضأ فينسى أن يستنجي بالماء فيصلي ولم يذكر]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار وسئل عن الرجل يستنجي بحجر واحد، ثم يتوضأ فينسى أن يستنجي بالماء فيصلي ولم يذكر، فقال: إن كان أنقى فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم "سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتوضأ بعد وضوئه ثم يخرج منه ريح فينتقض وضوؤه]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يتوضأ بعد وضوئه، ثم يخرج منه ريح فينتقض وضوؤه، هل ترى عليه غسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء؟ فقال: أحب إلي أن يغسل يده قبل أن يدخلها في الإناء.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في غسل اليد قبل إدخالها في الوضوء في رسم "الوضوء والجهاد" من سماع أشهب، ولما سأله هاهنا عن غسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء، فقال: أحب إلي أن يغسل يده قبل أن(1/156)
يدخلها في الإناء، دل على أن الاختيار عنده في الوضوء أن يدخل يده الواحدة في الإناء فيفرغ بها على الأخرى ويتوضأ، ولا يدخل يديه جميعا في الإناء، فيغرف بهما لوجهه ولسائر أعضاء وضوئه مثل ظاهر قوله في أول رسم "نَقَدَهَا نَقْدَها" من هذا السماع خلاف اختيار مالك، وقد بينا ذلك هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل ينسى شيئا من وضوئه فيذكر ذلك بحضرة الماء ولم يجف وضوؤه]
مسألة قال مالك: إذا نسي الرجل شيئا من وضوئه، فذكر ذلك بحضرة الماء ولم يجف وضوؤه، غسل ذلك الشيء بعينه وأعاد ما بعده، وإذا ذكر ذلك، وقد تطاول ذلك أو جف وضوؤه غسل ذلك بعينه، واستأنف ما صلى إن كان ما نسي من الوضوء من وضوء الكتاب الذي ذكر الله في كتابه.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا ذكر ذلك بحضرة الوضوء غسل ذلك الشيء بعينه وأعاد ما بعده، ولم يفرق ما بين أن يكون نسي من مسنون الوضوء أو مفروضه، يدل على أن ترتيب المفروض مع المسنون عنده سنة، كترتيب المفروض مع المفروض، خلاف قول مالك في موطاه؛ لأنه قال فيه فيمن غسل وجهه قبل أن يمضمض: إنه يمضمض ولا يعيد غسل وجهه، فجعل ترتيب المفروض مع المسنون مستحبا.
وقوله في آخر المسألة: إن كان ما نسي من الوضوء من وضوء الكتاب الذي ذكره الله في كتابه، إنما يعود على قوله، واستأنف ما صلى؛ لأنه إن كان الذي نسي من مسنون الوضوء فذكر بعد أن صلى لم يكن عليه إعادة ما صلى، وإنما يفعل ما نسي لما يستقبل، وما في الموطأ أظهر، فقد قال بعض العلماء: إنما قدمت المضمضة والاستنشاق والاستنثار في أول الوضوء على غسل الوجه وسائره، لما يتضمن ذلك من اختبار طهارة الماء؛ لأنه يخبر طعمه بالمضمضة، وريحه بالاستنشاق، فإذا كان تقديم المضمضة على غسل الوجه لهذه العلة، ولم يكن ذلك عبادة(1/157)
لغير علة وجب إذا غسل وجهه قبل أن يمضمض، ألا يكون عليه أن يعيد غسل وجهه بعد المضمضة؛ لارتفاع العلة كما قال مالك في موطاه، والله أعلم، وبه التوفيق.
[النفساء التي تمرض فلا تستطيع الغسل]
ومن كتاب العشور قال وقال مالك في النفساء التي تمرض فلا تستطيع الغسل: إنها تتيمم، والتيمم لها جائز، قال: ولا بأس أن يرفع إليها التراب في طبق وهي على سرير. قال: وقال ابن القاسم في الرجل يكون على محمله بموضع ليس فيه ماء، وهو يحتاج إلى التيمم، ويريد أن يتنفل على محمله، فقال: يسأل من يناوله ترابا فيتيمم على محمله، كذلك بلغني عن مالك، وقال عيسى: وكذلك قال لي ابن وهب.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما ذهب إليه ابن بكير من أنه لا يجزئ شيء من ذلك؛ لأن العبارة إنما هي في القصد إلى الصعيد، وهو وجه الأرض، وقول مالك هو الظاهر، والدليل على صحته ما روي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جعلت لي الأرض مسجدا، وتربتها لي طهورا» ولم يخص وجه الأرض من غيره. وما روي أيضا من: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "تيمم جدارا» ، وذلك من فعله خلاف ما ذهب إليه ابن بكير، وهذا من قول مالك على أصل مذهبه في أن الجنب يتيمم خلاف مذهب عمر بن الخطاب، وما كان يقول ابن مسعود ثم رجع عنه، وقوله أيضا على أحد قوليه في أن الحاضر من أهل التيمم، وبالله التوفيق.(1/158)
[الجب من ماء السماء تقع فيه الدابة فتموت فيه وقد انتفخت أو انشقت]
ومن كتاب النسمة وسئل ابن وهب عن الجب من ماء السماء، تقع فيه الدابة فتموت فيه وقد انتفخت أو انشقت، والماء كثير لم يتغير منه شيء إلا ما كان منه قريبا منها، فلما أخرجت وحرك الماء ذهبت الرائحة، هل يتوضأ به ويشرب منه؟ قال: إذا أخرجت الميتة من ذلك الماء، فلينزع منه حتى يذهب دسم الميتة وودكها، والرائحة واللون إن كان له لون، إذا كان الماء كثيرا على ما وصفت طاب ذلك الماء إذا فعل ذلك به. قال ابن القاسم: لا خير فيه، ولم أسمع مالكا أرخص فيه قط، وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب هو الصحيح على أصل مذهب مالك الذي رواه المدنيون عنه في أن الماء قل أو كثر لا ينجسه ما حل فيه من النجاسة إلا أن يتغير من ذلك أحد أوصافه على ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في بئر بضاعة، وقد روى ابن وهب، وابن أبي أوس، عن مالك في جباب تحفر بالمغرب فتسقط فيها الميتة، فيتغير لونه ووزنه، ثم يصيب الماء بعد ذلك أنه لا بأس به. وقد قال ابن القاسم في رسم "العتق " بعد هذا: إن للجنب أن يغتسل في الماء الدائم دون أن يغسل ما به من الأذى إذا كان الماء يحمل ذلك. وتفرقته بين حلول النجاسة في الماء الدائم أو موت الدابة فيه إذا حمل ذلك الماء، ولم يتغير منه استحسان ليس بقياس، والله أعلم. وقد مضى في رسم "الوضوء والجهاد" الوجه الذي به تفترق المسألتان فقف على ذلك، وبالله التوفيق.(1/159)
[وطئ وجاوز الختان فلم ينزل فاغتسل ثم خرج الماء الدافق]
ومن كتاب أوله يدبر ماله في التجارة وسألته عمن وطئ وجاوز الختان، فلم ينزل فاغتسل ثم خرج الماء الدافق، قال: يتوضأ ولا غسل عليه.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن عليه الغسل، فلقوله: إنه لا غسل عليه وجهان: أحدهما: أن هذا الماء قد اغتسل له؛ لأنه لم يظهر الآن إلا وقد كان فصل عن موضعه بالجماع، وصار إلى قناة الذكر؛ لأن الماء لا يخرج هكذا سلسا دون لذة قد حركته قبل من موضعه، والثاني: أن هذا ماء خرج على غير العادة، إذ لم تقترن به لذة، فأشبه من ضرب بسيف، فأمنى أو خرج من دبره دود عليه أذى، فقد قيل: إنه لا غسل ولا وضوء فيما خرج من السبيلين من المعتادات، إلا أن يخرج على العادة، ولقوله: إن عليه الغسل؛ وجه واحد، وهو أن تعتبر اللذة المتقدمة في هذا الماء فتضاف إليه، ويصير جنبا بخروجه، فيجب عليه الغسل، وليس عليه أن يعيد الصلاة؛ لأنه إنما صار جنبا بخروج الماء، والوطء قد اغتسل له، فهو فيما بين الغسلين طاهر، وقد قيل: إنه يعيد الصلاة، وله وجه على بعد، وهو ما يخشى من أن يكون فصل الماء من موضعه، وصار إلى قناة الذكر بعد أن اغتسل لمجاوزة الختان، فصار بذلك جنبا فصلى، ثم خرج بعد الذي كان فصل قبل، وبالله التوفيق.
[تذكر فتحركت لذته ثم مكث بعد ذلك حتى طال وصلى ثم خرج منه الماء الدافق]
مسألة قلت: أرأيت من تذكر فحرك اللذة منه، ثم مكث بعد ذلك حتى طال وصلى، ثم خرج منه الماء الدافق بعد ذلك، أعليه غسل؟ أو هل يعيد الصلاة؟ فقال: أحسن ذلك أن يغتسل. قال: قلت: أذلك أحب إليك؟ قال: ما ذلك بالقوي، ثم رجع فقال: بل يغتسل.(1/160)
قال محمد بن رشد: في هذه المسألة أيضا قولان: أحدهما: أنه لا غسل عليه، والثاني: أن عليه الغسل. فإذا قلت: إن عليه الغسل، فهل يعيد الصلاة أم لا؟ في ذلك أيضا قولان. فوجه القول أنه لا غسل عليه أنه ماء خرج بغير لذة على غير العادة، ووجه القول أن عليه الغسل وإعادة الصلاة، وهو قول أصبغ، أن الماء لم يظهر الآن إلا وقد كان فصل عن موضعه حين اللذة، وصار في قناة الذكر فكان جنبا من حينئذ. ووجه القول: إن عليه الغسل ولا إعادة عليه للصلاة، وهو قول ابن المواز، أنه إنما صار جنبا بخروج الماء؛ لأنه خرج بلذة، وإن كانت قد تقدمت فاعتبرت حين خروج الماء.
[مسألة: جدار المرحاض يكون نديا يلصق به الرجل بثوبه]
مسألة وسألته عن جدار المرحاض يكون نديا يلصق به الرجل بثوبه، قال: أما إن كان نديا شبيها بالغبار فليرشه ولا شيء عليه، وإن كان بللا أو شبيها به فليغسله، وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: إذا كان شبيها بالغبار، فلا يوقن بتعلقه بثوبه.
فلذلك قال: إنه يجزيه نضحه؛ لأن النضح طهر لما شك في نجاسته من الثياب، هذا أمر قد تقرر في المذهب على ما مضى القول عليه في رسم "البز" من سماع ابن القاسم، وإذا كان بللا أو شبيها به، فلا إشكال في وجوب غسله لتعلقه بثوبه، وبالله التوفيق.
[الحامل ترى قبل نفاسها باليوم واليومين ماء أبيض ليس بصفرة ولا كدرة فيستمر بها]
ومن كتاب الجواب وسئل عن الحامل ترى قبل نفاسها باليوم واليومين ماء أبيض ليس بصفرة ولا كدرة فيستمر بها، هل عليها غسل؟ وهل تترك الصلاة؟ قال ابن القاسم: لا غسل عليها، ولا تترك الصلاة، ولتمض على حالها كما كانت قبل أن ترى شيئا، وليس ذلك بشيء، وإنما(1/161)
هو بمنزلة البول يتوضأ منه فقط، وأول الحمل وأوسطه وآخره في ذلك سواء.
قال محمد بن رشد: الأظهر في هذا أنه لا يجب فيه وضوء، وهو ظاهر ما في آخر رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب في كتاب الصلاة؛ لأنه ليس من المعتادات، وما خرج من السبيلين من غير المعتادات لا وضوء فيه عند مالك وجميع أصحابه، حاشا محمد بن عبد الحكم؛ فإنه أوجب فيه الوضوء، وخرج في ذلك عن المذهب.
[إذا خطرت اليد على الذكر من غير تعمد]
ومن كتاب القطعان قال ابن وهب: إذا خطرت اليد على الذكر من غير تعمد، فليس فيه عليه وضوء، قال: ومالك يقول: فيه الوضوء.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا في رواية ابن وهب عنه بإيجاب الوضوء في مس الذكر على غير تعمد هو ظاهر ما مضى في رسم "الوضوء والجهاد" من سماع أشهب، وخلاف رواية ابن وهب عنه في سماع سحنون بعد هذا أنه لا وضوء عليه إلا أن يمسه عامدا. وقد مضى تحصيل قول مالك في هذه المسألة في رسم "اغتسل على غير نية" من سماع ابن القاسم، فتأمله هناك، وبالله التوفيق.
[الذي يستنجي بالماء ويؤخر وضوءه]
ومن كتاب أوله باع شاة واستثني جلدها وسئل عن الذي يستنجي بالماء ويؤخر وضوءه، قال: لا بأس بذلك، ولو خرج منه ريح بعد الاستنجاء وقبل أن يتوضأ لم يكن عليه إذا توضأ أن يستنجي مرة أخرى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، ومثله في المدونة؛ لأن الاستنجاء إنما هو لما يتعلق بالمخرج من الأذى، والريح لا يتعلق منه بالمخرج أذى فلا استنجاء فيه، وبالله التوفيق.(1/162)
[اغتسال الجنب في الماء الراكد]
ومن كتاب العتق قال: وقال مالك في اغتسال الجنب في الماء الراكد، وقد غسل الأذى عنه، قال: قد نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الراكد، وجاء به الحديث، ولم يأت في الحديث أنه إذا غسل الأذى عنه جاز له الاغتسال فيه، وقد أدرت مالكا في الاغتسال فيه غير مرة، ورددت عليه كل ذلك، يقول: لا يغتسل الجنب في الماء الراكد وليحتل. قال ابن القاسم: وأنا لا أرى به بأسا إن كان قد غسل ما به من الأذى أن يغتسل، وإن كان الماء كثيرا يحمل ما وقع فيه، فلا أرى به بأسا، غسل ما به من الأذى أو لم يغسله.
قال محمد بن رشد: حمل مالك النهي على أنه عبادة لغير علة، فلم يجز الاغتسال في الماء الدائم على حال، وحمله ابن القاسم على أنه لعلة انتجاس الماء، فإذا ارتفعت العلة عنده زال الحكم بزوال العلة، وهذا الاختلاف قائم من المدونة، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم "البز" منه، ومضى الكلام عليه أيضا، وبالله التوفيق.
[رجل ترك الاستنشاق والمضمضة عامدا أو ناسيا]
ومن كتاب المكاتب من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم قال يحيى: قال ابن القاسم في رجل ترك الاستنشاق والمضمضة عامدا أو ناسيا، فقال: أما الناسي فلا شيء عليه، وأما العامد فأحب إلي أن يعيد ما كان صلى في الوقت، ولا أرى ذلك واجبا عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: أما الناسي فلا شيء عليه، يريد أنه(1/163)
لا شيء عليه في صلاته، ويفعل ذلك لما يستقبل، ولا يعيد الوضوء من أوله، وهذا ما لا خلاف فيه، وأما العامد فقال: إنه يعيد الصلاة في الوقت استحبابا، وقال ابن حبيب: صلاته تامة لا إعادة عليه لها. ويتخرج في المسألة قول ثالث: أنه يعيد أبدا بالقياس على من ترك سنة من سنن الصلاة عامدا كالجهر فيما يسر فيه، وقد قيل: إنه يستغفر الله، ولا شيء عليه، وهو قول أصبغ، وكذلك قال في هذه المسألة: إنه يستغفر الله، ولا شيء عليه على أصله، فيمن أسر فيما يجهر فيه عامدا، وقيل: إنه يعيد في الوقت، وعلى قياس هذا يأتي قول ابن القاسم في هذه المسألة، وقيل: إنه يعيد أبدا، وهو المشهور في المذهب، المعلوم من قول ابن القاسم، فليلزم على قياس هذا القول أن يعيد في هذه المسألة أيضا أبدا، ولم يتكلم في هذه الرواية، هل يستأنف الوضوء من أوله، أو يمضمض ويستنشق لما يستقبل، ولا يعيد الوضوء من أوله، وذلك يجري على اختلافهم في ترتيب المفروض مع المسنون، هل هو سنة أو استحباب؟ فمن رآه سنة فيقول: إنه يبتدئ في الوضوء من أوله، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وعلى مذهب مالك في الموطأ أنه استحباب يفعل ذلك لما يستقبل، ولا يبتدئ الوضوء من أوله، والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: لبن الحمارة يصيب ثوب الرجل]
مسألة وسئل يحيى بن يحيى، عن لبن الحمارة يصيب ثوب الرجل، فقال: يعيد الصلاة في الوقت في بعض الروايات، قال أبو صالح: وبعد الوقت على معنى أنه لا يوكل لحمها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن الألبان تبع للحوم في الطهارة والنجاسة، فما كان من الحيوان لا يؤكل لحمه سوى بني آدم المخصوصة لحومهم بالطهارة، فألبانهم نجسة قياسا على لبن الخنزير، وما كان منها يؤكل لحومها فألبانهم طاهرة قياسا على لبن الأنعام، وأما قول أبي صالح: يعيد بعد الوقت، فمعناه إذا صلى به عامدا على القول بأن من صلى بنجاسة(1/164)
عامدا يعيد أبدا. وقد قال محمد بن بشير، عن مالك في لبن الحمارة: إنه لا بأس به، فيحتمل أن يريد أنه لا إعادة على من صلى به في ثوبه أو بدنه، أو أنه لا بأس بالتداوي به لمن احتاج إليه؛ مراعاة للاختلاف في أكل الحمر؛ فقد روي ذلك عن عباس وعائشة. وهذا نحو ما تقدم من قول سحنون في رسم "أوصى" من سماع عيسى، ومن كتاب الصلاة، أنه لا إعادة على من صلى ببول الفارة؛ لما روي من أن عائشة سئلت عن أكل الفأرة فتلت قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] الآية، فكيف بلبن الحمارة؟ فلا تخرج على هذا التأويل هذه الرواية عن مالك عن القياس الذي ذكرناه، من أن الألبان تابعة للحوم، وبالله التوفيق.
[يتيمم وعليه خفاه ثم نزعهما]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وسئل ابن القاسم عمن يتيمم وعليه خفاه ثم نزعهما، قال: لا ينتقض تيممه وهو على حاله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الرجلين تسقطان في التيمم، فلا يسقط تيمم من تيمم للوضوء وعليه خفاه بنزع خفيه، كما لا ينتقض تيمم من تيمم للجنابة وعليه ثيابه بنزع ثيابه.
[مسألة: الرجل يمس ذكره ثم يصلي ولا يتوضأ]
مسألة قال سحنون: واختلف قول ابن القاسم في الرجل يمس ذكره ثم يصلي ولا يتوضأ، فمرة قال: لا يعيد الصلاة في الوقت ولا غيره، ومرة قال: يعيد الصلاة في الوقت. قال سحنون: وسمعت ابن القاسم(1/165)
سئل غير مرة عن الذي يمس ذكره ثم يصلي ولا يتوضأ، أيجب عليه لذلك إعادة الصلاة؟ فقال ابن القاسم: لا إعادة عليه للصلاة في الوقت ولا غيره، ويعيد الوضوء. قال سحنون: وقد قال لنا ابن القاسم أيضا في ذلك: إنه إن صلى ولم يتوضأ أعاد الصلاة في الوقت، ولقد قال لي غير مرة: إن إعادة الوضوء عندي ضعيف. قال سحنون: وأخبرني ابن وهب عن مالك أنه قال: لا يعيد وضوءه إلا أن يمسه عامدا. قيل: فإن مسه عامدا على غلالة خفيفة؟ قال: لا يعيد وضوءه. قيل له بقول ابن القاسم تأخذ أو بقول ابن وهب؟ قال: بقول ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: رواية سحنون هذه عن ابن القاسم ترجع إلى أن مس الذكر لا ينقض الوضوء بحال؛ لأن الإعادة في الوقت استحباب كرواية أشهب عن مالك في كتاب الصلاة خلاف ظاهر روايته عن في رسم "الوضوء والجهاد" من هذا الكتاب أنه ينقضه بكل حال، ورواية ابن وهب في الفرق بين أن يمسه عامدا أو غير عامد قول ثالث، وإلى هذا ذهب ابن حبيب فقال: إن مسه عامدا أعاد أبدا، وإن مسه ناسيا أعاد في الوقت. وقد مضى في رسم " اغتسل على غير نية" من سماع ابن القاسم القول في هذه المسألة ووجه حصول الاختلاف فيها، وبالله التوفيق.
[رجلين يجدان من الماء في السفر مقدار ما يتوضأ به واحد منهما فيتشاحان عليه]
مسألة وقال في رجلين يجدان من الماء في السفر مقدار ما يتوضأ به واحد منهما فيتشاحان عليه، قال: يتقاومانه.
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح؛ لأن التقاوم شراء، فإذا كان على الرجل الواجد للثمن أن يبتاع الماء لوضوئه بأكثر من قيمته ما لم يرفع عليه في الثمن كما قال في المدونة وغيرها، وجب على كل واحد منهما أن يقاوم(1/166)
صاحبه في هذا الماء الذي قد صار بينهما بوجودهما إياه معا إذا احتاج إليه لوضوئه، فإن أسلمه أحدهما لصاحبه بغير مقاومة أو تركه له في المقاومة قبل أن يبلغ عليه القدر الذي لا يلزمه أن يشتريه به وتيمم وصلى، وجب عليه أن يعيد الصلاة أبدا، إذ لم يكن من أهل التيمم لقدرته على اشتراء الماء بما يلزمه شراء به. ولو كانا معدمين لكان لهما أن يقتسماه بينهما، أو يبيعانه فيقتسمان ثمنه ويتيممان لصلاتهما، وإن كانا متيممين لم ينتقض تيممهما إلا أن يحبا أن يتساهما عليه، فمن صار له بالسهم منهما توضأ به وانتقض تيممه إن كان متيمما، وكان عليه قيمة حظ صاحبه منه دينا، فيكون ذلك لهما.
ولو كان أحدهما موسرا، والآخر معدما لكان للموسر أن يتوضأ به ويؤدي لشريكه قيمة نصيبه منه إلا أن يحتاج إلى حظه منه، فيكون أحق به ويقسم بينهما. هذا وجه قول ابن القاسم به مرة في هذه المسألة، وقوله فيها معارض لقول سحنون في آخر نوازله في الرجل يكون معه من الماء قدر ما يتوضأ به واحد فيهبه لرجلين أو ثلاثة، وهم متيممون فيسلموه لأحدهم أنه لا ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه وحده؛ لأن الماء قد وجب لهم بالهبة، وصاروا فيه شركاء، كما وجب الماء في هذه المسألة للرجلين بوجوده، وصارا فيه شريكين، فوجب أن ينتقض تيمم جميعهم إن لم يتقاوموه. وذهب ابن لبابة إلى أن المقاومة لا تلزم عند ابن القاسم اللذين وجدا الماء إلا أن يتشاحا، وأنهما إن تركاها وأسلم أحدهما الماء لصاحبه جاز للذي أسلم منهما الماء لصاحبه أن يتيمم، وإن كان متيمما لم ينتقض تيممه، بدليل قول سحنون في هذه المسألة التي ذكرناها، وذلك بعيد لا يصح عندي، والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: الرجل يتوضأ فيمسح على الجبائر وهي في مواضع الوضوء فتسقط الجبائر]
مسألة وقال في الرجل يتوضأ فيمسح على الجبائر وهي في مواضع الوضوء، ثم يدخل في الصلاة فتسقط الجبائر، قال: يقطع ما هو فيه ويعيد الجبائر، ثم يمسح عليها، ثم يبتدئ الصلاة. وكذلك لو تيمم(1/167)
ومسح على الجبائر، فلما صلى ركعة أو ركعتين سقطت الجبائر، قال: يعيدها ويمسح عليها، ويبتدئ الصلاة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المسح على الجبيرة ناب عن غسل ذلك الموضع أو المسح عليه في الوضوء أو التيمم، فإذا سقطت في الصلاة انتقضت طهارة ذلك الموضع، فلم يصح له التمادي على صلاته، إذ لا تصح الصلاة إلا بطهارة كاملة، ولم يجز له أيضا أن يرجع إلى صلاته، ويبني على ما مضى منها بعد أن يعيد الجبائر، ويمسح عليها، كما لا يجوز البناء في الحدث بخلاف الرعاف، وهذا ما لا أعلم فيه في المذهب اختلافا. وإنما يصح له أن يعيد الجبائر، ويمسح عليها إذا فعل ذلك بالقرب، فإن لم يفعل ذلك حتى طال الأمر استأنف الوضوء أو التيمم من أوله، وبالله التوفيق.
[مسألة: حد الوجه في الوضوء]
مسألة قلت لسحنون: ما حد الوجه عندك الذي إذا قصر منه المتوضئ وجبت عليه الإعادة؟ فقال لي دور الوجه كله، فقلت فاللحى الأسفل من ذلك والذقن؟ قال: نعم، فأخبرته بقول من يقول: إن الوجه بياض الوجه وليس اللحى الأسفل من الوجه، وكذلك هو من المرأة، وحجته أن مالكا قال في اللحى الأسفل موضحة، فقال لي: أخطأ من يقول هذا، وقد قال مالك: إن الأنف ليس من الوجه ولا موضحة فيه، وإنما هو عظم منفرد، ولو أن متوضئا ترك غسل أنفه وصلى وجبت عليه الإعادة، ولكان ناقصا من وضوئه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الوجه مأخوذ من المواجهة، فاللحى الأسفل والأعلى في وجوب الغسل في الوضوء سواء، وكذلك الذقن، وليس عليه أن يغسل ما تحته، وهذا ما لا أعلم فيه اختلافا.(1/168)
وإنما اختلف من حد الوجه في البياض الذي بين الأذن والعارض، فقيل: إنه من الوجه يغسله المتوضئ، وقيل: إنه ليس من الوجه، فلا يجب غسله على المتوضئ، وقيل: يغسله الأمرد ولا يغسله الملتحي، وهذا أضعف الأقاويل، وقيل: إن غسله سنة من سنن الوضوء، وبالله التوفيق.
[مسألة: اللحية من الوجه]
مسألة قلت: فقول مالك: إن اللحية من الوجه، وأرى أن يمر الماء عليها، أرأيت لو أن رجلا غسل وجهه ولم يمر الماء على لحيته، أكان عليه شيء؟ فقال لي: نعم، ذلك واجب عليه بمنزلة مسح رأسه، ومن قصر عن ذلك كانت عليه الإعادة وإن صلى.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه ليس عليه أن يغسل من لحيته إلا ما اتصل منها بوجهه، وليس عليه أن يغسل ما طال منها واسترسل، وإنه ليس عليه أيضا أن يمسح في وضوئه ما طال من شعره، وزاد على قدر رأسه، وهو ظاهر ما في سماع موسى بن معاوية، عن ابن القاسم، عن مالك. ومن حجة من ذهب إلى أن اللحية ليست بوجه، وأن شعر الرأس ليس برأس، ألا ترى من طالت لحيته لا يقال: طال وجهه، وإنما يقال: طالت لحيته، وكذلك شعر الرأس، وإنما أوجب الله تعالى غسل الوجه ومسح الرأس لا سوى ذلك.
والقول الأول أظهر وأشهر، وهو المعلوم من مذهب مالك وأصحابه في المدونة وغيرها. والدليل على صحته من طريق النظر والقياس أن شعر الرأس واللحية لما نبت في الرأس واللحية وجب أن يحكم له بحكمهما، وإن خرج عن قدرهما، كما أن ما نبت من الشجر في الحرم وجب أن يحكم له بحكم الحرم في أن لا يجوز قطعه، وإن طال حتى خرج من الحرم إلى الحل، وبالله التوفيق.(1/169)
[الزيت تقع فيه الفارة هل يجوز أن ينتفع به]
مسألة وسئل سحنون عن الزيت تقع فيه الفارة، هل يجوز أن ينتفع به؟ قال: لا بأس، أن يستصبح به إذا تحفظ منه، وأن يدهن به مثل الحبل والعجلة. قيل له: فهل يجوز أن يعمل به صابونا يغسل به ثوبه، ولا يعمله للبيع إلا لغسل ثوبه؟ قال: نعم، إذا طهر ثوبه بماء طاهر.
قال محمد بن رشد: إجازة سحنون الانتفاع بالزيت النجس هو قول مالك في رسم "البز" من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، وفي غيره من المواضع، وقول جميع أصحابه حاشا ابن الماجشون، فإنه لا يجيز الانتفاع به في وجه من وجوه المنافع، ودليله أن حكمه حكم الميتة لنجاسته. وقد روي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أن لا يستمتع من الميتة بإهاب ولا عصب» والأول هو الصحيح؛ لأن الحديث يعارضه ما هو أصح منه، وهو حديث ابن عباس في الموطأ: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بشاة ميتة كان أعطاها مولى لميمونة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ألا انتفعتم بجلدها، فقالوا: يا رسول الله، إنها ميتة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنما حرم أكلها» ، وفي قوله: ولا يعمله للبيع دليل على أنه لا يجيز عمله للبيع، وإن بين عند البيع، وهو المنصوص من قول مالك وأصحابه حاشا ابن وهب، وقد وقع من تعليل قول مالك في رسم "الشجرة تطعم بطنين في السنة" من سماع ابن القاسم، من كتاب الصلاة، ومن هذا الكتاب في بعض الروايات، ومن سماع أشهب من كتاب الضحايا ما يدل على(1/170)
إجازة عمله للبيع إذا بين بذلك عند البيع مثل قول ابن وهب، فتدبر ذلك، وبالله التوفيق.
[أرأيت الرجل يكون في السفر ولا يجد الماء فيصيبه المطر هل يتوضأ به]
من نوازل سئل عنها سحنون بن سعيد قلت لسحنون: أرأيت الرجل يكون في السفر ولا يجد الماء فيصيبه المطر، هل يجوز له أن ينصب يديه للمطر ويتوضأ به؟ فقال لي: نعم، فقلت له: وإن كان جنبا هل يجوز له أن يتجرد ويتطهر بالمطر؟ قال: نعم، فقلت: فإن لم يكن المطر غزيرا؟ فقال لي: إذا وقع عليه من المطر ما يبل به جلده فعليه أن يتجرد ويتطهر.
قال محمد بن رشد: أما إذا نصب يديه للمطر، فحصل فيهما من ماء المطر ما يكون بنقله إلى وجهه وسائر أعضائه المغسولة غاسلا لها، ومن بلله ما يمسح به رأسه فيكون ماسحا له، فلا اختلاف في صحة وضوئه، وذهب ابن حبيب إلى أنه لا يجوز له أن يمسح بيديه على رأسه بما أصابه من الرش فقط، وكذلك على مذهبه لا يجزيه أن يغسل ذراعيه ورجليه بما أصابهما من المطر دون أن ينقل إليهما الماء بيديه من المطر، وحكاه عن ابن الماجشون، وهو دليل قول سحنون في هذه الرواية.
وذلك كله جائز على مذهب ابن القاسم، رواه عيسى عنه فيما حكى الفضل. وذلك أيضا قائم في المدونة في الذي توضأ وأبقى رجليه فخاض نهرا فغسلهما فيه أن ذلك يجزيه إذا نوى به الوضوء، وإن كان لم ينقل إليهما الماء بيده. ومثله في سماع موسى بن معاوية، ومحمد بن خالد من هذا الكتاب، وقد أجمعوا أن الجنب إذا انغمس في النهر، وتدلك فيه للغسل أن ذلك يجزيه، وإن كان لم ينقل الماء بيديه إليه، ولا صبه عليه، وذلك يدل على ما اختلفوا فيه من الوضوء، وأما قوله إذا وقع عليه من المطر ما يبل به جلده، فعليه أن يتجرد ويتطهر، فمعناه إذا وقع عليه في أول وهلة من المطر ما يبل به جلده، فعليه أن يتجرد ويتطهر؛ لأنه إذا مكث للمطر تضاعف عليه البلل، وكثر الماء على جسمه فأمكنه به التدلك، والاغتسال(1/171)
لا يكون إلا بإفاضة الماء. ألا ترى إلى قوله في الحديث: «ثم اغتسل وأفاض عليه الماء» وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل تلبسه امرأته الثوب أو تنزع خفيه فيلتذ بذلك أو تلتذ به المرأة]
مسألة قيل له: أرأيت الرجل تلبسه امرأته الثوب، أو تنزع خفيه، أو تفلي رأسه، أو تدهنه فيلتذ بذلك، أو تلتذ به المرأة؟ فقال: أما الفلي والادهان فأرى أن يتوضأ من التذ منهما واشتهى ذلك، وأما التلبيس ونزع الخف وما أشبه ذلك فلا أرى فيه وضوءا على واحد منهما، وإن التذ بذلك واشتهى، وقد يكلمها فيلتذ بذلك، وتلتذ المرأة، فلا أرى عليهما في ذلك وضوءا، وهذا مثل مسألتك في نزع الخفين والتلبيس.
قال محمد بن رشد: قوله في الفلي والادهان: إن من التذ منهما بذلك واشتهى وجب عليه الوضوء صحيح؛ لأن المعنى في إيجاب الوضوء من الملامسة هو وجود اللذة بها، فإذا وجدت اللذة بها فقد وجب الوضوء بوجودها، وإن لم يقصد باللمس إليها، وهذا ما لا اختلاف فيه في المذهب. وقوله في نزع الخف والتلبيس: إنه لا وضوء فيه وإن وقعت اللذة به نحو رواية علي بن زياد، عن مالك في الجسة من فوق ثوب كثيف، أنه لا وضوء فيها، وقد مضى الكلام على هذا المعنى في رسم "اغتسل على غير نية" من سماع ابن القاسم في رسم "الوضوء والجهاد" من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: لم يجد ما يتوضأ به إلا بسؤر النصراني أيتوضأ به]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت إن لم يجد ما يتوضأ به إلا بسؤر(1/172)
النصراني، أيتوضأ به؟ قال: بل يتيمم، وهو عندي بمنزلة الدجاجة المخلاة على القذر، أو الكلب يأكل القذر والنجاسة.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوعبا في أول سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، فلا فائدة في تكراره، وبالله التوفيق.
[مسألة: الوضوء بالنخالة والغسل بها]
مسألة وسئل سحنون عن الوضوء بالنخالة والغسل بها، قال: لا يجوز. قيل له: فهل يغسل الرجل رأسه بالبيض؟ فقال: لا. قيل له: فبالملح؟ فقال: لا يغسل بشيء مما يؤكل.
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه المسألة لا يجوز، يريد بذلك لا يجوز جوازا مطلقا دون كراهية، لا أن ذلك حرام لا يحل، وقد مضى القول على هذه المسألة في آخر رسم "البز" من سماع ابن القاسم، وتكررت أيضا في رسم "النذور والجنائز"، ورسم "الوضوء والجهاد" من سماع أشهب، والحمد لله.
[مسألة: رجل تيمم فلبس خفيه ثم صلى ثم وجد الماء]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل تيمم، فلبس خفيه، ثم صلى، ثم وجد الماء، قال: يمسح على خفيه ولا يخلعهما؛ لأنه أدخل رجليه في خفيه وهما طاهرتان بطهر التيمم، فإن تيمم وصلى ثم لبس خفيه فوجد الماء خلع خفيه، وغسل رجليه، ولا يجزئه المسح عليهما؛ لأنه لما صلى انتقض تيممه، ولو أنه لم يلبس خفيه لم يجزه أيضا أن يصلي بذلك التيمم صلاة أخرى، فهذا يدلك على أنه أدخل رجليه(1/173)
وهما غير طاهرتين، ولا يصلي بتيمم واحد إلا صلاة واحدة. قال سحنون: لا يمسح عليهما، لبسهما قبل الصلاة أو بعد الصلاة.
قال محمد بن رشد: أما على مذهب من يرى أن التيمم يرفع الحدث، وهو قول سعيد بن المسيب وابن شهاب، فالمسح جائز لبسهما قبل الصلاة أو بعد الصلاة؛ لأن التيمم عنده بدل من الوضوء، وأما على مذهب من يرى أن التيمم لا يستباح به إلا صلاة الفريضة، وهو مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة، فلا يجوز المسح عليهما لبسهما قبل الصلاة أو بعد الصلاة؛ لأن التيمم عنده استباحة للصلاة خوف ذهاب الوقت، فلا مدخل في ذلك للمسح على الخفين.
وأما على قول مالك الذي يرى أن التيمم لا يرفع الحدث إلا أنه يستباح به جميع ما يمنع منه الحدث من الفريضة والنافلة ومس المصحف وسجدة التلاوة، فالأظهر على مذهبه إجازة المسح على الخفين إن لبسهما قبل الصلاة كما قال أصبغ، وهو ظاهر ما في المدونة، خلاف قول سحنون؛ لأن الصحيح أن التيمم على مذهبه بدل من الوضوء، وإن كان لا يستباح به إلا صلاة واحدة؛ لأن ذلك كان الأصل فيه، وفي الوضوء بظاهر قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية، فخرج من ذلك الوضوء بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة صلوات بوضوء واحد، وبقي التيمم على الأصل، فلم يقس على الوضوء، إذ لا يقوى البدل قوة المبدل منه، وهذا بين لمن تأمله ووقف على معناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: مسافر بينه وبين الماء ميلان هل يعدل عن طريقه إلى الماء]
مسألة وسئل سحنون عن مسافر بينه وبين الماء ميلان، هل يعدل عن طريقه إلى الماء؟ فقال: أهو في خوف؟ فقال السائل: لا، ولكنه يشق عليه، قال: أما الميلان فأراه كثيرا، وليس عليه أن يعدل عن طريقه. قيل له: فلو خرج عن قريته إلى قرية بعيدة منه، إلا أنه ليس(1/174)
تقصر في مثله الصلاة، فحضرته الصلاة، هل عليه أن يعدل عن الطريق الميلين إلى الماء؟ فقال: لا، وأرى ذلك والسفر واحدا، هذا مما يشق عليه أن يعدل عن طريقه ميلين.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الميلين كثير، فليس عليه أن يعدل عن طريقه ميلين، وقد مضى في رسم أوله "الشريكين يكون لهما مال" من سماع ابن القاسم في الميل والنصف ميل مع الأمن أن عليه أن يعدل إليه إلى ذلك، وذلك للراكب أو للراجل القادر، يبين ذلك ما وقع في رسم "البز" من السماع المذكور، وبالله التوفيق.
[مسألة: يخرج المؤذن خارجا من المسجد يقيم الصلاة ليسمع من حوله]
مسألة قال سحنون: قال ابن القاسم: لا بأس أن يخرج المؤذن خارجا من المسجد يقيم الصلاة؛ ليسمع من حوله وقربه من الناس، وقعت هذه المسألة في بعض الروايات.
قال محمد بن رشد: وجه هذا أن الإقامة لما كانت إشعارا للصلاة، جاز أن يتوخى ذلك بما ذكر، والله أعلم.
[مسألة: الركوب بالمهاميز]
مسألة وسئل عن الركوب بالمهاميز، فقال: لا بأس بذلك، وأراه خفيفا.
قال محمد بن رشد: وهذا خفيف كما قال؛ لأن الدواب لا تملك إلا بذلك، ولا يتأتى فيها ما أذن الله به من ركوبها وتسخيرها إلا به في أغلب الأحوال.(1/175)
[مسألة: سافر الرجل بمهاميز هل يجوز له أن يمسح على خفيه ولا ينزع المهاميز]
مسألة قيل له: فإذا سافر الرجل بمهاميز، هل يجوز له أن يمسح على خفيه ولا ينزع المهاميز؟ فقال: لا بأس بذلك، وأراه خفيفا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما ذكر؛ لأن المسح شأنه التخفيف، ألا ترى أنه ليس عليه أن يتبع غصون الخفين، وقد يكون ذلك أكثر مما يستره شراك المهاميز، وقد كان بعض العلماء يمسح ظهور الخفين، ولا يمسح بطونهما، ففي هذا دليل، وبالله التوفيق.
[مسألة: قوما مسافرين وجدوا ماء فبدرهم إليه رجل فأخذه فتوضأ به]
مسألة قلت: أرأيت لو أن قوما مسافرين وجدوا ماء فبدرهم إليه رجل، فأخذه فتوضأ به، ولم يكن في الماء إلا ما يتوضأ به رجل واحد، هل ينتقض تيمم هؤلاء الآخرين؟ فقال لي: لا؛ لأنه لم يجب لهم فيه حق، وهو لمن أخذه كالصيد. قيل: فلو أنهم حين وجدوا ذلك الماء قالوا: ليس فيه ما يكفينا فخذه يا فلان فأخذه، فقال: أرى أن تيمم هؤلاء قد انتقض.
قال محمد بن رشد: قوله إذا بدرهم إليه رجل فأخذه فتوضأ به: إن تيممهم لا ينتقض؛ لأنه لم يجب لهم فيه حق، إنما ذلك إذا بدرهم إليه قبل أن يصلوا إليه؛ لأنهم لا يستحقونه إلا بالوصول إليه دون غيرهم لا برؤيته على بعد إذا وصل إليه غيرهم قبلهم، وكذلك لو غافصهم فيه أحد بفور وصولهم إليه قبل أن يمكنهم أن يتقاوموه فيما بينهم، لوجب ألا ينتقض تيممهم أيضا إذا غلبوا عليه قبل أن يمكنهم الوضوء به.
وأما لو تراخوا في تقاومه بينهم حتى بدر إليه رجل فأخذه، لوجب أن ينتقض تيممهم بمنزلة إذا دفعوه لرجل باختيارهم وتركوا ما يلزمهم من أن يتقاوموه فيما بينهم، أو قالوا لرجل قبل أن(1/176)
يصلوا إليه: اذهب يا فلان فخذه، وتركوا ما يلزمهم من التدافع عليه حتى يحكم به بينهم كالصيد فيتقاوموه. وقول سحنون في هذه المسألة مثل ما مضى في سماع سحنون، وقد تكلمنا على مسألة سماع سحنون قبل هذا مما بين معنى هذه المسألة، ولسحنون في المجموعة في هذه المسألة أنه لا ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه وحده، خلاف ما هاهنا، مثل ما له في آخر النوازل، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل معه ماء قال لرجلين قد تيمما قد وهبته لأحدكما ولم يسم واحدا]
مسألة قيل: فلو أن رجلا معه ماء قال لرجلين قد تيمما قد وهبته لأحدكما ولم يسم واحدا، فقال: قد وجب لأحدهما وهو مجهول لا يعرف، وليس لهما رد هذه العطية؛ لأنها من البر، فإن أسلمه أحدهما لصاحبه فقد انتقض تيممه. وكذلك لو قاله لثلاثة أو لأربعة هو لأحدكم فأسلموه لواحد منهم انتقض تيممه. قيل له: فإن أعطى ذلك لجماعة جيش أو لقوم كثير فأعطوه واحدا؟ فقال: أما إذا كثروا، فأرى تيممهم تاما ولا ينتقض. قيل: فإن قال لثلاثة: هذا الماء لكم، فقال: ليس مثل الأول؛ لأن هذا قد وجب لكل واحد نصيبه بلا شك، وليس في نصيبه ما يكفيه لوضوئه، فإذا هو أعطى نصيبه لم ينتقض تيممه.
قال محمد بن رشد: تأويل ابن لبابة على سحنون في هذه المسألة: أنه إن قال: قد وهبت هذا الماء لأحدكم، فسواء كانوا ثلاثة أو اثنين أو عشرة آلاف ينتقض تيممهم كلهم، وإن قال: قد وهبت هذا الماء لكم(1/177)
فلا ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه وحده، كانوا اثنين أو عشرة آلاف، والظاهر من قوله خلاف ذلك أنه إن كان عددهم كثيرا، فسواء قال: هذا الماء لكم، أو قال: هو لأحدكم، لا ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه الماء وحده، وإن كان عددهم يسيرا كالرجلين والثلاثة ونحو ذلك فقال: هذا الماء لأحدكم انتقض تيممهم إن أسلموه لواحد منهم. وإن قال: هذا الماء لكم لم ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه وحده.
فأما قوله: إذا كان عددهم كثيرا فسواء قال: هذا الماء لكم، أو قال: هو لأحدكم، لا ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه وحده؛ فصحيح. وأما قوله إذا كان عددهم يسيرا كالرجلين والثلاثة ونحو ذلك فقال: هذا الماء لأحدكم: إنه ينتقض تيممهم إن أسلموه لواحد منهم، فيريد أنه ينتقض تيمم من أسلمه منهم إلى صاحبه كما ينتقض تيمم من أسلم إليه. ووجه ذلك أن كل واحد منهم يخشى أن يكون هو صاحب الماء الموهوب له في غيب الأمر، فوجب أن ينتقض تيممهم جميعا على كل حال. وأما قوله: إن قال: هذا الماء لكم لم ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه وحده، فهو خلاف قوله في المسألة التي قبلها، وخلاف المسألة التي مضت في سماعه لابن القاسم، ومعترض من قوله: إذ لم يوجب المقاومة عليهم؛ لكونهم فيه شركاء بالهبة، والله أعلم، وبه التوفيق.
[: الرجل الطويل الشعر يمسح رأسه هل يجزيه أن يمسح أعلاه بالماء]
ومن سماع موسى الصمادحي من ابن القاسم قال: سئل عبد الرحمن بن القاسم عن الرجل الطويل الشعر يمسح رأسه، هل يجزيه أن يمسح أعلاه بالماء ولا يمر يديه على جميع الشعر إلى أطراف الشعر؟ وكذلك المرأة أيضا؟ وكيف به إن اغتسل من جنابة وشعره مضفور، هل يجزيه أن يصب الماء على رأسه ويحرك شعره وأصوله؟ والمرأة كذلك؟ فقال ابن القاسم: قال مالك: يمسح رأسه فيمر يديه على مقدم رأسه إلى قفاه، ثم يعيدها من(1/178)
تحت شعره إلى مقدمها والمرأة مثله. وإن كان مضفور الرأس، فاغتسل من الجنابة، فإنه يضغثه بيديه إذا اغتسل، والمرأة مثله.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك في هذه الرواية أن الرجل والمرأة ليس عليهما أن يمسحا على الشعر إلى أطرافه، وإنما عليهما أن يمسحا منه قدر رؤوسهما لا أكثر. وقد مضى القول على هذا في سماع سحنون، فتدبره، وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي يمسح خفيه أو على رأسه ببعض أصابعه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يمسح خفيه ببعض أصابعه، أو يمسح على رأسه ببعض أصابعه دون الكف ويصلي، هل يجزيه ذلك، ولا يمسح ثانية؟ فقال ابن القاسم: إذا عم بذلك الرأس وإن مسحه بإصبع واحد أجزأه، وكذلك الخفاف.
قال محمد بن رشد: يريد أن ذلك يجزيه إن فعله، ولا يؤمر بذلك ابتداء؛ لأن السنة في مسح الرأس على ما جاء في حديث عبد الله بن زيد قوله: «ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه فذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حيث رجع إلى المكان الذي بدأ منه» .
[مسألة: الرجل لا يجد ما يكفيه من الماء للوضوء فغسل رجليه قبل ولبس خفيه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل ليس معه من الماء إلا قدر ما يكفيه لوضوئه، فجهل فغسل رجليه قبل ولبس خفيه، ثم توضأ بقية وضوئه، أيجزيه ذلك؟ وكيف الأمر إن كان غسل رجليه ولبس خفيه ونام ولم يتوضأ بقية وضوئه، ثم استيقظ أيجزئه أن يمسح على(1/179)
خفيه أم ينزعهما ويغسل رجليه؟ قال: قال مالك: أحب إلي أن يعيد غسل رجليه بعد وضوئه، وإن لم يفعل لا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: وجه تخفيف مالك المسح على الخفين في هذه المسألة مبني على أن الترتيب في الوضوء غير واجب، وهو مذهبه في المدونة، وعلى أنه كلما غسل المتوضئ عضوا من أعضاء الوضوء ارتفع الحدث عنه بتمام غسله قبل تمام الوضوء على ظاهر حديث أبي عبد الله الصنابحي، وقد تقدم القول على هذا المعنى في رسم "نقَدها نقْدها" من سماع عيسى، وهذا على ما ذهب إليه ابن لبابة وغيره من أن المعنى في قول مالك: أحب إلي أن يعيد غسل رجليه بعد وضوئه، أي أحب إلي إذا توضأ بعد أن نام أن يغسل رجليه ولا يمسح على خفيه، وأن معنى قوله: وإن لم يفعل لم أر عليه شيئا، أي فإن لم يغسل ومسح لم أر عليه شيئا، والأظهر أنه إنما أجاب على حكم التنكيس، وسكت عن حكم المسح إذا توضأ ثانية بعد أن أحدث، فقال: أحب إلي أن يعيد غسل رجليه في آخر وضوئه، ويلغي غسلهما أولا، وإن لم يفعل ذلك لم يكن عليه شيء على أصله في أن الترتيب غير واجب في الوضوء على ما ذكرناه من مذهبه في المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: المسافر يكون معه النبيذ ولا يوجد الماء أيتوضأ بالنبيذ أم يتيمم]
مسألة وسئل ابن القاسم عن المسافر يكون معه النبيذ، ولا يوجد الماء، أيتوضأ بالنبيذ أم يتيمم؟ قال ابن القاسم: قال لي مالك: لا يجزئ الوضوء بالنبيذ على حال من الأحوال، وإن لم يكن معه ماء تيمم، ولا يجزئ النبيذ من غسل جنابة ولا وضوء، ولا يغسل به شيئا، وإن كان مما يحل شربه. قال موسى: وحدثني وكيع، عن(1/180)
سفيان الثوري عن رجل، عن الحسن البصري أنه قال: لا يتوضأ بالنبيذ ولا باللبن.
قال محمد بن رشد: إنما وقع هذا السؤال عن الوضوء بالنبيذ؛ لما روي عن عبد الله بن مسعود: «أنه كان مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجن، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتاج إلى ماء يتوضأ به، ولم يكن معه إلا النبيذ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثمرة طيبة، وماء طهور، فتوضأ به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وفي حديث آخر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأله ليلة الجن، أمعك يا ابن مسعود ماء؟ فقال: معي نبيذ في إداواتي فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اصبب علي. فتوضأ به، وقال: شراب وطهور» ، وهو حديث لا يثبته العلم بالحديث. ومما يضعفه أنه روي عن عبد الله بن مسعود من رواية علقمة: أنه قال: لم أكن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجن، ولوددت أني كنت معه. وروي عن علقمة أيضا أنه قال: «سألت ابن مسعود هل كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجن أحد؟ فقال: لم يصحبه منا أحد، ولكن فقدناه ذات ليلة استطير أم اغتيل، فتفرقنا في الشعاب والأودية نلتمسه، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم نقول: استطير أم اغتيل، فقال: إنه أتاني داعي الجن، فذهبت أقرئهم القرآن، فأرانا آثارهم» ، وتعلق به أبو حنيفة وبعض أصحابه على ضعفه، فقالوا: إن من لم يجد في السفر إلا نبيذ التمر توضأ به، وهم مع تعلقهم بالحديث قد تركوه، إذ لم يجيزوا الوضوء بنبيذ في المصر، ولا فيما حكمه حكم المصر، ولم يكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسافرا ولا خارجا عن حكم مكة؛ لأنه إنما خرج يريدهم وهو يتم الصلاة، ولو ثبت بهذا الأثر الوضوء بنبيذ التمر لجاز الوضوء به في السفر والحضر، ومع وجود الماء وعدمه، فلما أجمعوا أن ذلك لا يجوز خرج نبيذ(1/181)
التمر عن حكم المياه، ولم يجز الوضوء به على حال من الأحوال، وأما الوضوء باللبن أو بالخل أو بما عدا نبيذ التمر من الأنبذة، فلا اختلاف بين أهل العلم في أن ذلك لا يجوز، وإنما ذكر ما روي عن الحسن البصري من أن الوضوء لا يجوز بالنبيذ ولا باللبن حجة على من يجيز من أهل العراق الوضوء بالنبيذ؛ لأنه إمام من أئمتهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتيمم للنافلة يبتدئ ذلك في وقت صلاة أو قبل دخول وقت صلاة مفروضة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يتيمم للنافلة يبتدئ ذلك في وقت صلاة أو قبل دخول وقت صلاة مفروضة، هل يجوز ذلك له؟ فقال ابن القاسم: إذا تيمم للنافلة، ثم صلى مكانه أجزأه، وإن كان في غير وقت صلاة مكتوبة، وإن أخر الصلاة بعد التيمم يجزه ذلك التيمم.
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح على مذهب مالك؛ لأنه يستباح عنده بالتيمم جميع ما يمنع. منه الحدث، بشرط عدم الماء مع طلبه أو طلب القدرة على استعماله، فإذا أراد الرجل أن يصلي نافلة وعدم الماء أو عدم القدرة على استعماله، فطلب الماء فلم يجده، أو طلب من نفسه قدرة على استعمال الماء فلم يجدها، أجاز له أن يتيمم ويصلي ما شاء من النوافل إذا اتصلت؛ لأنها باتصالها في حكم النافلة الواحدة. فإن أخر الصلاة بعد التيمم أو جلس بعد أن صلى نافلة واشتغل ثم أراد أن يصلي نافلة أخرى وجب عليه أن يعيد التيمم، لوجوب تكرار ما هو شرط في صحة التيمم من طلب الماء أو طلب القدرة على استعماله. وهذا كله بين، والحمد لله، وبالله التوفيق.(1/182)
[مسألة: يجد ماء قد تغير ريحه ولا يرى فيه جيفة ولا ميتة هل يتوضأ منه]
مسألة وسئل ابن القاسم، عن الرجل يجد الماء في حوض قد تغير ريحه، ولا يرى فيه جيفة ولا ميتة، هل يتوضأ منه؟ أو يكون قد نظر إلى حمار أو بغل، أو ما لا يؤكل لحمه من الدواب والسباع يشرب منه وهو ينظر، هل يتوضأ منه؟ فقال ابن القاسم: إذا لم ير فيه ميتة أو شيئا علم أن فساد الماء جاء منه، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو معنى ما في المدونة؛ لأن المياه محمولة على الطهارة؛ لقول الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] ، وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] ، فإذا وجد الرجل في الصحراء ماء في غدير أو حوض قد تغير ريحه، فهو محمول على أنه إنما تغير من ركوده وسكونه في موضعه، ما لم يوقن أنه تغير من نجاسة حلت فيه. ولا ينجس ذلك الماء بشرب الدواب والسباع منه، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لها ما أخذت في بطونها، ولنا ما بقي شرابا وطهورا» ، وذلك بخلاف البئر في المدن ينتن ماؤها فيحمل على أنه إنما أنتن من نجاسة لما يتخلل الدور من مجاري النجاسات على ما مضى في آخر سماع أشهب، وقد مضى الكلام عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يرد الحياض وفيها الماء وهو عريان ليس عليه ثوب إلا ثوب نجس]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يرد الحياض، وفيها الماء، وهو عريان ليس عليه ثوب إلا ثوب نجس، وليس عليه ما يأخذ به الماء،(1/183)
ويده قذرة، كيف يصل إلى الماء؟ وهل له أن يتيمم ولا يدخل يده في الحوض ويصلي؟ أم لا يتيمم، ويدخل يده في الحوض فيتوضأ ويغتسل؟ قال ابن القاسم: أرى أن يحتال بما قدر عليه حتى يأخذ من الماء ما يغسل به يده، إما بفيه أو بثوب إن كان معه أو بما يقدر عليه، وإن لم يقدر على حيلة، فإني لا أدري ما أقول فيها إلا أن يكون ماء كثيرا معينا، فلا بأس أن يغتسل به.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة صحيحة؛ لأن معنى قوله: ويده قذرة، أي قذرة من نجاسة، فإذا كانت يده نجسة لم يجز له أن يدخلها في الماء الذي يغتسل فيه قبل أن يغسلها؛ لأنه ينجس على نفسه الماء بذلك، إلا أن يكون ماء كثيرا معينا يحمل ذلك المقدار من النجاسة، ولا بد له أن يحتال في غسل يده قبل أن يدخلها في الماء كما قال: إما بفيه أو بثوب طاهر إن كان معه، أو ما أشبه ذلك. وإن كان الماء إذا أخذه بفيه ينضاف بما يخالطه من ريقه، فلا تطهر بذلك يده ولا يرتفع عنها حكم النجاسة على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإن عينها يزول به من يده، وإن بقي حكمها عليه في أنه لا يجوز له أن يصلي حتى يغسل يده بماء ليس بمضاف.
وإذا أزال عين النجاسة من يده بذلك، لم ينجس الماء الذي أدخلها فيه، وهذا ما لا خلاف فيه. ولو لم يعلم بيده نجاسة لجاز له أن يدخلها في الماء إذا لم يمكنه صب الماء على يده، ولا يكن عليه أن يحتال لغسلها قبل على ما قال في آخر سماع أشهب، خلاف ظاهر قول أبي هريرة في رسم "البز" من سماع ابن القاسم، فإن علم بطهارة يده أدخلها فيه ولم يكن عليه أن يحتال لغسلها بما ذكره من أخذ الماء بفيه أو بثوب. وإن علم بنجاستها لكان عليه أن يحتال لذلك بما ذكره، وإن لم يعلم بها نجاسة ولا تيقن بطهارتها كان عليه أن يحتال لغسلها بما ذكره على ظاهر قول أبي هريرة، ولم يكن ذلك عليه على ما في آخر سماع أشهب، وقد مضى القول فيه، وبالله التوفيق.(1/184)
[مسألة: الجنب يصيبه المطر فيقف فيه وينزع ثيابه فيغتسل مما يصيبه من المطر]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الجنب يصيبه المطر، فيقف فيه وينزع ثيابه، فيغتسل مما يصيبه من المطر هل يجزيه؟ فقال ابن القاسم: إذا تدلك وأعم بذلك جسده أجزأه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الغسل يجزيه إذا وقف للمطر فوقع عليه منه قدر ما يتأتى له به الغسل، فاغتسل به وتدلك، وعم جميع جسده، وقد مضى القول في هذا المعنى وما يتعلق به مبينا في أول نوازل سحنون، وبالله التوفيق.
[مسألة: النصراني يتوضأ وضوء الصلاة ثم يسلم هل يجزيه وضوؤه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن النصراني يتوضأ وضوء الصلاة، ويصيب وضوء السنة ثم يسلم، هل يجزيه وضوؤه الذي كان توضأ وهو كافر؟ وهل يكون عليه أن يغتسل إذا أسلم ولا يجزيه وضوؤه؟ وكيف به إن كان اغتسل قبل أن يسلم، ثم أسلم بعد، هل يجزيه غسله في الكفر؟ فقال مالك: لا يجزئه إلا أن ينوي بغسله الإسلام، فيغتسل وهو يريد أن يسلم، فإن ذلك يجزيه، وإذا اغتسل وأصاب السنة في الغسل، فإن ذلك لا يجزيه إذا لم ينو به الإسلام، ولا يجزيه الوضوء وإن كان نوى به؛ لأن النصراني إذا أسلم لم يجزه إلا الغسل.
قال محمد بن رشد: الغسل والوضوء عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه لا يجزيان إلا بنية، والكافر لا تصح منه نية، فإن اغتسل قبل أن يعتنق الإسلام بقلبه ويظهره بلسانه لم يجزه الغسل عند مالك، وقوله في هذه الرواية: إن الغسل لا يجزيه إلا أن ينوي به الإسلام، يغتسل وهو يريد أن يسلم،(1/185)
معناه إلا أن ينوي به الإسلام وهو يعتقده بقلبه قبل أن يظهره بلسانه؛ لأنه إذا اعتقده بقلبه فهو مسلم عند الله حقيقة، إلا أنا لا نحكم له بحكم الإسلام حتى يظهره إلينا بلسانه، ويستهل به على نفسه. فقوله: وهو يريد أن يسلم، معناه: وهو يريد أن يظهره بلسانه، ويستهل على نفسه بالإسلام الذي اعتقده بقلبه، لتجري عليه في الدنيا أحكامه.
ولو اخترمته المنية قبل أن يلفظ بكلمة التوحيد بعد أن اعتقدها، لكان عند الله مؤمنا، ألا ترى أن الأبكم الذي لا يتكلم يصح إيمانه؛ لأنه من أفعال القلوب، وإنما يجب على الكافر الغسل إذا أسلم إذا كان قد جامع في حال كفره أو أجنب، قاله ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب الصلاة، وهو مفسر لجميع الروايات، فإذا اغتسل نوى باغتساله الجنابة، فإن لم ينو الجنابة، واغتسل للإسلام أجزأه؛ لأنه أراد الطهر من كل ما كان فيه، وقد روى ابن وهب، عن مالك: أنه لا غسل على من أسلم، وهو بعيد في النظر؛ لأنه لو لم يكن عليه الغسل للجنابة التي كانت منه في حال الكفر لوجب أن لا يكون عليه الوضوء للحدث الذي كان منه في حال الكفر، ولكان له إذا أسلم أن يصلي بغير وضوء، إلا أن يحدث بعد إسلامه، وهذا ما لا يقوله أحد.
[مسألة: الرجل إذا أسلم وهو نصراني هل عليه غسل ثيابه]
مسألة قال زياد بن عبد الرحمن في الرجل إذا أسلم وهو نصراني: إنه لا يغسل من ثيابه إلا ما يعلم فيها نجاسة.
قال محمد بن رشد: وفي رسم "الصلاة" من سماع أشهب، من كتاب الصلاة: أنه لا يصلي فيها حتى يغسلها، يريد وإن لم يعلم فيها نجاسة، من أجل عرقه الذي لا تنفك منه ثيابه، خلاف قول زياد إذ لم يلتفت إلى ذلك في ظاهر قوله، فالاختلاف في هذا راجع إلى الاختلاف في نجاسة عرقه. وقد مضى القول في ذلك في رسم "الوضوء والجهاد" من سماع أشهب.(1/186)
[مسألة: الإناء تقع فيه قطرة بول الصبي أو دابة أو فارة أو خفاش]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الإناء تقع فيه قطرة بول الصبي أو دابة أو فارة أو خفاش، أو خرو دجاج أو بول بعير أو ثور أو بردون، أو قطرة من دم أو بول هر، أو لعاب كلب، أو لعاب فرس، أو حمار، أو بغل، أو يصب الماء من الجرة، فتخرج من الماء روثة حمار أو بغل أو بردون، فقال ابن القاسم: إذا كان الماء كثيرا مثل الجرار، فوقعت فيه قطرة من دم أو بول صبي أو دابة، كان مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه، فإن ذلك لا يفسده، وإن كان إناء قدر ما يتوضأ به فإن ذلك يفسده، وما أصاب الماء الذي يكون في الإناء من لعاب كلب أو دابة أو فرس أو حمار فإن ذلك لا يفسده، قال: وروث الدابة مثل بولها إذا كان الماء كثيرا، فوقع منه الشيء القليل أو الكثير، أو يقع في الزير، فإن ذلك لا يفسده إلا أن يكون ماء قليلا قدر ما يتوضأ به.
قال محمد بن رشد: هذه الرواية مبنية على رواية المصريين عن مالك: أن الماء اليسير تفسده النجاسة اليسيرة وإن لم تغيره، وحد فيها أن اليسير الذي تفسده القطرة من الدم والبول، وإن لم تغيره هو مقدار ما يتوضأ به، وإن كان فوق ذلك كالجرار والزير لم يفسده ما وقع فيه من نجاسة قليلة أو كثيرة، يريد إلا أن يتغير من ذلك.
والمعلوم من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أن ما كان من الماء مثل الجرار أو الزير، وإن كان لا يفسد بالقطرة من الدم أو البول يفسد بما هو أكثر من ذلك، وإن لم يتغير منه، بخلاف الماء الكثير كالبير والجب والماجل، ذلك لا يفسده بما حل فيه من النجاسات قلت أو كثرت، إلا أن يتغير من ذلك، فقد قال في المدونة في الجنب يغتسل في القصرية، ولم يغسل ما به من الأذى: إن ذلك يفسد الماء، فيأتي في حد الماء(1/187)
اليسير الذي تفسده النجاسة اليسيرة، وإن لم تغيره على هذا قولان. وفرق ابن القاسم أيضا بين حلول النجاسة في الماء الكثير، وبين موت الدابة فيه على ما مضى في رسم "النسمة" ومساواة ابن القاسم في هذه الرواية بين ما يؤكل لحمه، وما لا يؤكل لحمه من الدواب في أن القطرة منه تفسد الماء اليسير ليس على أصل المذهب، إذ لم يختلف قول مالك في أن أبوال الأنعام، وأرواثها طاهرة، وكذلك كل ما يؤكل لحمه في المشهور عنه، وهو مذهبه في المدونة، فإنما راعى ابن القاسم في هذه الرواية مذهب أبي حنيفة الذي يرى أن أبوال جميع الحيوان، وأرواثها نجسة كانت تؤكل لحومها أولا تؤكل؟ وأن اليسير من ذلك ينجس الماء وإن كثر، وقوله في لعاب الكلب والدابة والفرس والحمار: إنه لا يفسد الماء، هو على ما في المدونة من أنه لا بأس بأسآرها، وقد قال مالك في الكلب يوكل صيده، فكيف يكره لعابه؟
[مسألة: الجب من ماء السماء تقع فيه الفارة أو الحية وما أشبه ذلك]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الجب من ماء السماء، تقع فيه الفارة أو الحية، وما أشبه ذلك مما لا يعيش في الماء من دواب الأرض، أو يقع فيه الروث فيوجد فيه الروث طافيا على الماء رطبا أو يابسا، فقال مالك: لا خير فيه. قال ابن القاسم: أما الروث يقع في الجب فيوجد طافيا على الماء، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: تسهيل ابن القاسم في الروث يوجد في الجب طافيا على الماء، هو الصحيح على أصل المذهب في أن النجاسة لا تفسد الماء الكثير، إلا أن تغير أحد أوصافه، ومساواة مالك بين ذلك وبين موت الفارة أو الحية فيه في أنه لا خير في ذلك، ينحو إلى مذهب أهل العراق في أن(1/188)
الماء الكثير تنجسه النجاسة اليسيرة، وقد روى علي بن زياد، عن مالك في المجموعة نحوه، فقف على ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: وقع في الجب أو البئر من النجس ثم يعجن به العجين أو يطبخ به قدر]
مسألة وسئل ابن القاسم عما وقع في الجب أو البئر من النجس، ثم يعجن به العجين، أو يطبخ به قدر، أو يصنع به شيء من الطعام، ثم يعلم به، أيؤكل ذلك الطعام؟ فقال ابن القاسم: أما ما عجن به من الطعام فلا يؤكل، وأما ما طبخ به من اللحم، فإنه يغسل ويؤكل اللحم. قال موسى: وحدثني بعض أهل العلم عن ابن عباس، عن القدر يطبخ بماء أصابه نجس، فقال: يهرق المرق، ويغسل اللحم ويؤكل، قال: فهذا الحديث قوة لابن القاسم.
قال محمد بن رشد: هذه رواية حائلة خارجة عن أصل المذهب؛ لأنه حكم للماء الكثير بحكم النجس بحلول النجاسة فيه، فقال: إن ما عجن بذلك الماء من الخبز لا يؤكل، وهم لم يقولوا ذلك إلا في موت الدابة فيه، لا في حلول النجاسة، ثم ناقض بقوله: إن ما طبخ من اللحم بذلك الماء يغسل ويؤكل، خلاف ما في رسم "النذور والجنائز" من سماع أشهب، وخلاف ما في سماع يحيى من كتاب الصيد في مسألة البيض يسلق، فيوجد في إحداهن فرخ.
وغسل اللحم لا يصح إذا طبخ بماء نجس؛ لمخالطة النجاسة لجميع أجزائه ومداخلته إياها، وإنما يصح غسله إذا سقطت فيه النجاسة بعد طبخه، وهو الذي روي عن ابن عباس فيما رأيت، فأرى هذه الرواية عنه غلطا، والله أعلم.
روي عن علي بن مسهر أنه قال: كنا عند أبي حنيفة، فأتاه عبد الله بن المبارك فقال له: ما تقول في رجل كان يطبخ قدرا، فوقع فيه طائر فمات؟ فقال أبو حنيفة لأصحابه: ما تقولون فيها؟ فرووا له عن ابن عباس أنه قال: يهرق المرق، ويؤكل اللحم بعد غسله، فقال أبو حنيفة: هكذا نقول، إلا أن(1/189)
فيه شريطة إن كان وقع فيها في حال غليانها، ألقي اللحم وأريق المرق، وإن كان قد وقع فيها في حال سكونها غسل اللحم وأكل، ولم يوكل المرق، فقال ابن المبارك: من أين قلت هذا؟ قال: لأنه إذا وقع فيها في حال غليانها، فقد وصل من اللحم إلى حيث يصل منه الخل والماء، وإذا وقع في حال سكونها ولم يمكث لم يداخل اللحم، وإذا نضج اللحم لم يقبل ولم يدخله من ذلك شيء، فقال ابن المبارك: رزير، يعني الذهب بالفارسية، وعقد بيده ثلاثين، كأنه نسب كلام أبي حنيفة إلى الذهب.
قال محمد بن رشد: وكلام أبي حنيفة في هذه المسألة هو عين الفقه، فقد روي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الفارة تموت في السمن: «إن كان جامدا فكلوه، وإن كان مائعا فلا تقربوه» ، فاللحم بمنزلة الجامد من السمن إذا وقعت فيه النجاسة بعد طبخه، يؤكل بعد أن يغسل مما تعلق به من المرق والنجس، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يعلم الرجل الوضوء بالماء هل يجزيه ذلك من وضوئه للصلاة]
مسألة وسئل عن الرجل يعلم الرجل الوضوء بالماء، هل يجزيه ذلك من وضوئه للصلاة؟ أو يعلمه التيمم في موضع لا يجد فيه ماء، وقد دخل وقت ذلك الصلاة، هل يجزيه ذلك التيمم؟ فقال ابن القاسم: يجزيه الوضوء إذا نوى به للصلاة، والتيمم مثله إذا نوى به الصلاة، قال موسى بن معاوية: فإن لم ينوه لم يجزه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الوضوء والتيمم لا يجزئان إلا بنية، فإذا توضأ أو تيمم لما لا يتوضأ له، ولا يتيمم فرضا ولا نفلا لم يصل بذلك الوضوء ولا بذلك التيمم، إلا أن ينوي به طهر الصلاة، وقد مضى القول على هذا المعنى في رسم "يتخذ الخرقة لفرجه" من سماع ابن القاسم.(1/190)
[مسألة: يتوضأ للصلاة ثم يرتد عن الإسلام ثم يستتاب فيراجع الإسلام]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يتوضأ للصلاة، ثم يرتد عن الإسلام، ثم يستتاب فيراجع الإسلام، هل عليه أن يتوضأ للصلاة أم يجزيه الوضوء الأول؟ فقال ابن القاسم: أحب إلي أن يتوضأ.
قال محمد بن رشد: وقال يحيى بن عمر، بل واجب عليه أن يتوضأ؛ لأن الكفر أحبط عمله. وهذا الاختلاف جار على اختلافهم في الأعمال، هل تحبط بنفس الكفر بظاهر قول الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] أو لا تحبط إلا بشرط الوفاة على الكفر؛ لقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] ، والقولان قائمان من المدونة.
فمن قال بدليل الخطاب لم ير أن تحبط الأعمال بنفس الكفر، ومن لم يقل به رأى أنها تحبط به، ولهذا تفسير، وذلك أن قول الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ، ظاهره أن الأعمال تحبط بنفس الشرك، وفي قوله عز وجل: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] دليل على أن من ارتد ولم يمت كافرا لم يحبط عمله، ولا كان مخلدا في النار. فأما كونه غير مخلد في النار فالإجماع على ذلك يغني عن الدليل فيه، وأما كون عمله غير محبط بالارتداد فيعارضه ظاهر قوله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ، فمن لم يقل بدليل الخطاب من هذه الآية حمل قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] على ظاهره، فقال: إن الأعمال تحبط بنفس الارتداد، وهو قول ابن القاسم وروايته(1/191)
عن مالك في كتاب النكاح الثالث من المدونة في الذي يحج حجة الإسلام، ثم يرتد، ثم يراجع الإسلام أن الحج الذي حج قبل ارتداده لا يجزيه، وكذلك قال على قياس هذا: إن ما ضيع من الفرائض قبل ارتداده لا يلزمه قضاؤه، بدليل قوله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . ومن قال بدليل الخطاب من هذه الآية، أن من ارتد ولم يمت على الكفر لم يحبط عمله، فسر به قوله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] لمعارضته له في الظاهر، فقال: معناه لئن أشركت ووافيت على الكفر ليحبطن عملك، وهو قوله في هذه الرواية؛ لأنه استحب له إذا توضأ ثم ارتد ثم راجح الإسلام، أن يعيد الوضوء، ولم ير ذلك عليه، والقول الأول أظهر أن يحمل قوله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] على ظاهره، بأنه يحبط بنفس الكفر وإن راجع الإسلام، وما في الرواية الثانية من إن مات وهو كافر حبط عمله، وخلد في النار زيادة بيان على ما في الآية الأولى، وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي يتوضأ وينسى غسل رجليه فيمر بنهر ويدخل فيه ويخوضه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يتوضأ وينسى غسل رجليه، فيمر بنهر ويدخل فيه ويخوضه، هل يجزيه من غسل رجليه؟ قال: قال مالك: إذا دلك إحدى رجليه بالأخرى أجزاه. قال ابن القاسم: وإذا دلك إحدى رجليه بالأخرى، وكان يستطيع ذلك فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: ولا بد له من تجديد النية؛ لأنه لما نسي غسل رجليه وفارق وضوءه على أنه قد أكمله ارتفضت النية المتقدمة فيلزمه تجديدها، وكذلك قال في المدونة في الذي توضأ وأبقى رجليه، فخاض نهرا وغسلهما فيه: إن ذلك لا يجزيه إلا بنية؛ لأن معنى ذلك أنه أبقى رجليه ظنا منه أنه قد أكمل وضوءه. ولو أبقاهما قاصدا ليغسلهما في النهر لم يحتج في ذلك إلى تجديد النية وأجزاه غسلهما في النهر دون تجديد نية إن كان النهر(1/192)
قريبا، حتى لا يكون في فعله ذلك مفرقا لوضوئه، ولو كان على النهر، فلما فرغ من وضوئه أدخلهما فيه، فدلك إحداهما بالأخرى، لم يحتج في ذلك إلى تجديد نية. وستأتي المسألة في سماع محمد بن خالد. وفي إجازة دلك إحدى رجليه بالأخرى دون أن يغسلهما بيديه ما يدل على أن الأصابع لا تخلل، وقد مضى ذلك في رسم "اغتسل على غير نية" من سماع ابن القاسم.
[مسألة: الذي نسي أن يمسح أذنيه حتى صلى أو يمسح بعض رأسه مقدمه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي نسي أن يمسح أذنيه حتى صلى، أو يمسح بعض رأسه مقدمه أو مؤخره أو صدغيه ويصلي، قال: قال مالك: لا يعيد الصلاة من نسي مسح أذنيه، أو نسي المضمضة أو الاستنشاق من جنابة أو غيرها. قال ابن القاسم: وإن نسي بعض رأسه ومسح بعضه، فإنه يعيد في الوقت وبعد الوقت.
قال محمد بن رشد: الأذنان عند مالك من الرأس، وإنما السنة عنده في تجديد الماء لهما، فإنما قال فيمن نسيهما في الوضوء: إنه لا إعادة عليه، مع أن استيعاب مسح جميع الرأس عنده واجب؛ مراعاة لقول من قال: إنهما ليسا من الرأس، إذ قيل أيضا: إنه لا يلزم استيعاب مسح الرأس، وقد مضى ذلك في رسم "الصلاة" من سماع أشهب. ولو ترك غسلهما في الغسل لأعاد؛ لأنهما لمعة من جسده، وأما المضمضة والاستنشاق فلا يعيد من تركهما في غسل أو وضوء؛ لأنهما سنة فيهما جميعا، وهذا كله بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتيمم بالتراب هل يجوز لآخرين التيمم بفضل ترابه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يتيمم بالتراب، ثم يأتي نفر آخرون، هل لهم أن يتيمموا بفضل تراب الأول الذي تيمم به. قال ابن القاسم: لا بأس به.(1/193)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن التراب لا يتعلق به من أعضاء التيمم ما يخرجه عن حكم التراب كما يتعلق بالماء من أوساخ أعضاء المتوضئ، فينضاف بذلك، ويخرج به عند أصبغ عن حكم الماء المطلق إلى أن يسمى غسالة، وبالله التوفيق.
[مسألة: معهم ماء يكفي لطهارة رجل فيموت أحدهم هل يكون الميت أولاهم]
مسألة وسئل ابن القاسم عن النفر المسافرين يكون معهم من الماء ما يكفي رجلا منهم للغسل، فيموت رجل منهم، هل يكون الميت أولاهم بذلك الماء؟ وكيف به إن كان الماء بينهم فمات واحد منهم، وأجنب الثاني، وانتقض وضوء الثالث، من أولاهم بذلك الماء؟ وكيف ينبغي لهم أن يصنعوا؟ فقال ابن القاسم: إذا كان الماء للميت فهو أولى به، وإن كان الماء بينهم، وكان قدر ما يكفي واحدا يغتسل به، فالحي أولى به يتوضأ به، وييمم الميت.
قال محمد بن رشد: قوله إذا كان الماء بينهم قدر ما يغسل به واحد منهم، فمات أحدهم، وأجنب الثاني، وانتقض وضوء الثالث، فالحي أولى به يتوضأ به، أي الحي الذي انتقض وضوؤه أولى بنصيبه منه يتوضأ به، وييمم الميت، يريد ويتيمم الحي الجنب أيضا، إذ ليس فيما بقي من الماء بعد أخذ الذي كان عليه الوضوء نصيبه منه ما يكفي واحدا منهما للغسل. ولو كان فيه ما يكفي واحدا منهما لكان الحي أولى به على ما في سماع عبد المالك من كتاب الجنائز، إذ لا يقاوم على الميت ويغرم قيمة حصة الميت لورثته إن كان الماء له ثمن. ولو كان بين رجلين وهو قدر ما يكفي أحدهما للوضوء أو الغسل لتقاوماه فيما بينهما. وأما إن كان الماء لأحدهم فصاحبه أولى به حيا كان أو ميتا.(1/194)
[مسألة: الذي يتوضأ في صحن المسجد وضوءا طاهرا]
مسألة وسئل عن الذي يتوضأ في صحن المسجد وضوءا طاهرا، فقال: لا بأس بذلك، وترك ذلك أحب إلي، وسئل عنها سحنون فقال: لا يجوز ذلك.
قال محمد بن رشد: لا وجه للتخفيف في ذلك، وقول سحنون أحسن؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] ، فأحب أن ترفع وتنزه عن أن يتوضأ فيها لما يسقط من غسالة أعضائه فيها من أوساخ قد تكون فيها، ولتمضمضه فيها أيضا، وقد يحتاج إلى الصلاة في ذلك الموضع، فيتأذى المصلي بالماء المهراق فيه. وقد روي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم» ولقد كره مالك أن يتوضأ رجل في المسجد، وأن يسقط وضوءه في طست. وذكر أن هشاما فعله، فأنكر ذلك الناس عليه.
[مسألة: الرجل يتوضأ على نهر فإذا فرغ من وضوئه خضخض رجليه في الماء]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله عبد الرحمن بن القاسم مسألة قال محمد بن خالد: وسألت عبد الرحمن بن القاسم عن الرجل يتوضأ على نهر، فإذا فرغ من وضوئه، ولم يبق إلا غسل رجليه خضخض رجليه في الماء، فقال: سألت مالكا عن ذلك فقال: يغسلهما بيديه ولا يجزيه ما صنع، فقلت لابن القاسم: فإن غسل(1/195)
إحداهما بالأخرى، فقال: إنه لا يقدر على ذلك، فقلت له: بلى، فقال: إن كان يقدر على ذلك، فذاك يجزيه إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الغسل لا يعقل في اللغة على الحقيقة إلا بصب الماء وإمرار اليد، أو ما يقوم مقام ذلك من دلك إحدى رجليه بالأخرى في داخل الماء إن كان يستطيع ذلك، وقد روي عن محمد بن خالد أنه قال: لا يجزيه حتى يغسلهما بيده، فيحتمل أن يكون رأى أن دلك إحدى رجليه بالأخرى لا يمكنه، ولعله جعل ذلك من فاعله استخفافا بوضوئه وتهاونا به إذا فعله من غير حاجة إلى ذلك ولا ضرورة، وإن ذلك ليشبه، وقد مضى في أول نوازل سحنون ما يتخرج من الخلاف في غسلهما بيديه في داخل النهر دون أن ينقل إليهما الماء، وبالله التوفيق.
[مسألة: تيمم فيمم وجهه ويديه فقط]
مسألة وقال ابن القاسم: من تيمم فيمم وجهه ويديه قط، فإنه يعيد ما كان في الوقت، فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليه، وكذلك قال أصبغ في الذي يتيمم إلى الكوعين: إنه يعيد في الوقت، وكذلك قال مالك. وقال ابن القاسم: فيمن تيمم بضربة واحدة لوجهه ويديه إلى المرفقين ناسيا لم يكن عليه شيء، ثم سألته عن ذلك فقال: هو كما أخبرتك، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة، وذكر الاختلاف فيها في رسم "نذر سنة" من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[: الرجل يستنجي بالماء فإذا فرغ من ذلك قطر منه بول فمس ذكره]
ومن سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب
قال عبد المالك بن الحسن: سألت عبد الله بن وهب عن الرجل يستنجي بالماء، فإذا فرغ من ذلك قطر منه بول، فمس ذكره(1/196)
وحلبه، هل عليه أن يعيد غسل يديه بالماء قبل أن يدخلها في الإناء، أم يجزيه الذي كان حين استنجى أولا؟ فقال: نعم عليه أن يغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء. ولو انتقض وضوؤه بريح يخرج منه رأيت له أن يعيد غسل يديه أيضا قبل أن يعيدهما في وضوئه، وهو قول مالك في هذا، وإنما هذا يستحب له، ويؤمر به، وليس ذلك عليه بواجب. وقال أشهب: إن كان أصاب يده نجس غسل ما أصاب يده من ذلك النجس، وإن لم يكن أصابها شيء توضأ، ولم يكن عليه غسل يديه مرة أخرى، وعهده بغسلهما قريب، وإن كان غسله إياهما كان بعيدا، فإني أرى أن يبتدئ وضوءه ويغسلهما.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة موعبا في أول رسم "الوضوء والجهاد" من سماع أشهب، فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك.
[مسألة: المبطون إذا كان لا يقدر على الوضوء]
مسألة وسئل ابن وهب عن المبطون إذا كان لا يقدر على الوضوء، هل ترى بأسا أن يتيمم، فقال: نعم، لا أرى بذلك بأسا. وسألته عن المائد في البحر إذا كان لا يقدر على الوضوء، هل ترى أن يتيمم؟ قال: لا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب هذا: إن المبطون والمائد في البحر إذا لم يقدرا على الوضوء يتيممان هو مثل ما لمالك في المدونة؛ لأن ذلك مرض من الأمراض، والمريض إذا لم يقدر على مس الماء، وإن كان واجدا له يتيمم على مذهبه فيها، وهو الذي يأتي على قول من حمل آية التيمم على تلاوتها، وجعل فيها إضمارا، ولم يقدر فيها تقديما ولا تأخيرا،(1/197)
وأما من قدر فيها تقديما وتأخيرا، وهو قول محمد بن سلمة من أصحابنا، فلا يجيز للمريض الذي لا يقدر على مس الماء إذا كان واجدا له التيمم، ولا للحاضر العادم الماء؛ لأنه يعيد شرط عدم الماء على المرض والسفر خاصة، وإلى هذا ذهب مالك في رسم "أوله الشريكين يكون لهما مال" من هذا الكتاب، وقد ذكرنا ذلك هناك وبينا وجهه. وسواء إذا كان الماء معهما كانا لا يقدران على الوضوء لضعفهما عن تناوله بأنفسهما لمرضهما، أو لضرر الماء بهما، وأما لو كان الماء غائبا عن موضعهما فلم يجدا من ينقلهما إلى موضعه، ولا من يناولهما إياه لجاز لهما التيمم قولا واحدا؛ لأنهما عادمان للماء، والمريض العادم للماء من أهل التيمم بإجماع، حاضرا كان أو مسافرا، وبالله التوفيق.
[رجل طبخ بانا فلما غلى الدهن وجد فيه فارة ميتة لم تنفسخ أو قد انفسخت]
ومن سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب الزكاة والصيام
قال أصبغ: سمعته يذكر أنه بلغه عن مالك في رجل طبخ بانا بالمدينة، فلما غلى الدهن وجد فيه فارة ميتة لم تنفسخ أو قد انفسخت، وهي من ماء البير حين صبه فيه، وقد طبخه بعد، قال: فأمره مالك أن يتم طبخه، ويأخذ الدهن الأول الذي عجن فيه فيطبخه بماء طيب مرتين أو ثلاثا، وقاله أصبغ: إذا كان كثيرا، وإن كان يسيرا لا كبير ضرر فيه فليطرحه.
قال محمد بن رشد: قد نص في الرواية أن الفأرة وجدت في الدهن بعد أن غلي، وهي قد انفسخت أولم تنفسخ، وذلك يوجب أن يكون الدهن قد نجس بإجماع، وإن كانت الفأرة لم تمت إلا في ماء البير، فيجب على(1/198)
قياس قول مالك هذا أن يجوز غسل الزيت الذي تموت فيه الفأرة؛ إذ لا فرق بين صب الماء على الدهن وطبخه حتى يذهب الماء ويخلص الدهن، وصب الماء على الزيت وغسله بهرق الماء عنه حتى يخلص الزيت. ويؤيد هذا أنه قد روى ذلك عن مالك علي بن زياد، وابن نافع، وما روي عن يحيى بن عمر أنه قال: إنما خفف مالك مسألة الدهن لاختلاف الناس في ماء البير تموت فيه الفأرة، ولم يتغير ماؤها ليس بصحيح، لما تضمنه الرواية من أن الفأرة إنما خرجت من الدهن بعينه بعد أن غلت فيه لا من ماء البئر.
وكذلك ما حكى ابن حبيب في الواضحة، عن ابن الماجشون أنه قال: ولو فعل ذلك فاعل بالزيت الذي تموت فيه الفأرة ما جاز؛ لأن الفأرة لم تمت في زيت البان، وإنما ماتت في ماء البير ليس بصحيح أيضا؛ لأنها وإن كانت لم تمت في زيت البان، فقد غلت فيه ميتة، فنجس بذلك بإجماع كما لو ماتت فيه. وإذا طهر الماء الدهن بصبه عليه لتخلله إياه، ووصوله إلى جميع أجزائه، وإن لم تمت الفأرة إلا في الماء الذي عجن به، فكذلك يطهر الزيت الذي ماتت فيه الفأرة إذا غسل به لتخلله إياه، ووصوله إلى جميع أجزائه، إذ لا فرق بين ذلك في المعنى والقياس، ومراعاة الاختلاف خارج عن القياس، فثبت ما ذهبنا إليه من حمل مسألة الزيت على مسألة الدهن بالقياس، وتفرقة أصبغ بين أن يكون الدهن قليلا أو كثيرا في هذه المسألة وجهها مراعاة الاختلاف الذي ذكرناه في جواز غسله، إذ لا اختلاف في نجاسته لما ذكرناه، فرأى أن يغسل الكثير لحرمة الطعام وحفظ المال، والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: مقدار الفرق ثلاثة آصع]
مسألة قال أصبغ: قال ابن القاسم وسفيان بن عيينة: الفرق ثلاثة آصع، وهو الذي كان يتوضأ منه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويتطهر.
قال محمد بن رشد: يقال: الفرق والفرق - بتحريك الراء وإسكانها - وهو مكيل معروف. وروي عن ابن وهب أنه مكيال من خشب،(1/199)
ولا اختلاف أعلمه أن في كيله ثلاثة آصع، وأن في كل صاع أربعة أمداد. وإنما اختلفوا في المد فقيل: إنه زنة رطلين؟ وقيل: إنه زنة رطل وثلث، قيل بالماء، وقيل بالوسط من الطعام. وقد رويت في هذا الباب آثار ظاهرها التعارض لاختلافها في مقدار ما كان يتوضأ به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويغتسل من الماء. منها ما روي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة» ، ومنها ما روي عن عائشة أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع» ، ومنها ما روي عن أنس بن مالك: "أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ بالمكوك، ويغتسل بخمس مكاكي» ، والذي أقول به في ذلك أن ذلك ليس باختلاف تعارض، وإنما هو اختلاف تخيير وإباحة وإعلام بالتوسعة، فكان يغتسل مرة بثلاثة آصع على ما في الحديث الأول، ومرة بصاع ونصف على ما في الحديث الثاني، ومرة بصاع على ما في الحديث الثالث، ومرة بصاع ومد إذا كان المكوك مدا على ما في حديث أنس، وأن عائشة قصدت في الحديث الثالث إلى الإعلام بأقل ما رأت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ به، ويغتسل من الماء، وقصد أنس بن مالك في حديثه أيضا إلى الإعلام بأقل ما رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ به ويغتسل من الماء، وهي كلها(1/200)
بجملتها تقتضي أن تقليل الماء مع إحكام الغسل هو المختار في الوضوء والغسل، وأنه لا حد في ذلك من الماء يجب الاقتصار عليه. ومن الناس من ذهب إلى أنه لا اختلاف في الأحاديث في مقدار ما كان يتوضأ به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويغتسل من الماء، فصرفها كلها بالتأويل إلى حديث أنس بن مالك بأن قال: يحتمل أنه أراد بالمكوك المد، فقوله: إنه كان يتوضأ بالمكوك هو مثل ما في حديث عائشة من أنه كان يتوضأ بالمد. وقوله: إنه كان يغتسل بخمس مكاكي، يريد أنه كان يتوضأ أولا بمكوك منها، ثم يغتسل بالأربعة مكاكي، مثل ما في حديث عائشة من أنه كان يغتسل بالصاع؛ لأنه يحتمل أن تكون أرادت أنه كان يغتسل بالصاع بعد أن كان يتوضأ بالمد. وقول عائشة: «كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء هو الفرق» يحتمل أن لا يكون الفرق مملوءا من الماء، وأن يكون فيه قدر صاعين ومدين فيتوضأ، كل واحد منهما في أول غسله بمد، ثم يغتسل بأربعة أمداد وهو صاع، وما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل من إناء هو الفرق، يحتمل أن يكون كان يغتسل منه بقدر الصاع، ويفضل من الماء فيه بعد غسله منه قدر صاعين، ويحتمل أن لا يكون مملوءا من الماء، وأن يكون قدر صاع لا أكثر. والذي ذكرته أولا هو الصحيح، ولا يمتنع عندي أن يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل أيضا في بعض المرات بأكثر من ثلاثة آصع، بل هو الظاهر من حديث الموطأ في صفة غسله «أنه كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبدأ فيغسل يديه، ثم يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعر رأسه، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله» ، والله أعلم.
[المسح على الخفين في الحضر والسفر]
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ بن الفرج قال: شهدت ابن وهب في داره بالفسطاط توضأ، ومسح على(1/201)
خفيه، وقال لي: اشهد علي. قال أصبغ: المسح لا شك فيه هو أثبت من كل شيء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبراء أصحابه، قال: وأنا أمسح في الحضر، وأفتي به.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب وأصبغ في إجازة المسح في الحضر كما يجوز في السفر هو الذي رجع إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومات عليه، بعد أن كان اختلف قوله فيه. وقد مضى القول في هذه المسألة بكماله في رسم "البز" من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[رجل جنب لا يستطيع أن يفيض الماء على جلده وهو ممن يجد ماء]
من سماع أبي زيد من ابن القاسم
قال أبو زيد: سئل ابن القاسم، عن رجل جنب لا يستطيع أن يفيض الماء على جلده، وهو ممن يجد ماء، قال: يتيمم لكل صلاة. قيل له: أرأيت إن تيمم فصلى بذلك التيمم صلوات، أترى أن يعيد الصلوات؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الذي يجد الماء ولا يقدر على مسه يتيمم لكل صلاة، هو قول مالك في المدونة على أصله في أن آية التيمم على تلاوتها لا تقديم فيها ولا تأخير، وقد قيل: إنه ليس من أهل التيمم، وهو قول مالك في رسم "الشريكين" من سماع ابن القاسم، ومن متأخري أصحابنا من قال: إن له أن يجمع صلاتين بتيمم واحد. وأما الذي لا يجد الماء في السفر أو لا يجد من يناوله إياه وهو مريض في الحضر، فلا اختلاف في المذهب في أنه لا يجوز له أن يجمع صلاتين بتيمم واحد، إلا ما روي عن أبي الفرج في ذاكر صلوات أنه يجوز له أن يصليها بتيمم واحد.
وقوله: إنه يعيد الصلوات إن صلى بذلك التيمم صلوات، يريد ما بعد الصلاة الأولى من الصلوات، ويريد الوقت وبعده، وهو ظاهر الرواية. وقد قيل: إن كانت الصلاتان اللتان صلى بتيمم واحد مشتركتي الوقت، أعاد الثانية في الوقت، والوقت في ذلك إلى(1/202)
الغروب، وقيل الوقت في ذلك وقت الصلاة المفروضة: القامة للظهر، والقامتان للعصر. وإن لم تكونا مشتركتي الوقت أعاد الثانية أبدا.
وقد قيل: يعيد الثانية ما لم يطل مثل اليومين وأكثر من ذلك. وقد اختلف في المعنى الذي من أجله، لم يجز للمتيمم أن يصلي صلاتين بتيمم واحد، فقيل: إن المعنى في ذلك أن الله أوجب الوضوء لكل صلاة، أو التيمم إن لم يجد الماء بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] ، فخصصت السنة الوضوء؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلى يوم فتح مكة صلوات بوضوء واحد» ، وبقي التيمم على الأصل.
وقيل: بل المعنى في ذلك أن الله لم يبح التيمم إلا أن لا يوجد الماء، ولا يكون غير واجد له إلا إذا طلبه فلم يجده، فصار الطلب للماء شرطا من صحة التيمم للصلاة عند القيام إليها بعد دخول وقتها، وكذلك صار طلب القدرة على استعمال الماء للمريض الذي لا يقدر على مس الماء شرطا في صحة التيمم للصلاة عند القيام إليها، عند من جعله من أهل التيمم، فعلى هذا المعنى أجاز مالك في رواية أبي الفرج عنه لذاكر صلوات أن يصليها بتيمم واحد؛ لأنه جعل الصلوات المذكورة في حكم صلاة واحدة لوجوب صلاتها عليه جميعا حين يذكرها في الوقت الذي يذكرها فيه، ولم يجز ذلك في رواية غيره؛ لأنه رأى أن طلب الماء واجب عليه كلما سلم من صلاة، وأراد القيام إلى أخرى، فالطلب على هذا القول شرط من صحة التيمم لكل صلاة عند القيام إليها، وعلى رواية أبي الفرج هو شرط في صحة التيمم، لما اتصل من الصلوات المفروضات، وعلى هذا المعنى أيضا أجاز من أجاز من متأخري أصحابنا للمريض الذي لا يقدر على مس الماء أن يصلي صلاتين بتيمم واحد؛ لأنه لما كان الأغلب من حاله أنه لا يقدر على مس الماء، لم يوجب عليه طلب القدرة على استعماله، والأظهر(1/203)
أن ذلك عليه واجب، إذ قد يتحامل فيقدر، وليس لما يلزمه من التحامل على نفسه في ذلك حد لا يتجاوز، وإنما هو مصروف إلى استطاعته، وموكول إلى أمانته. وأما على المعنى الأول، فلا يتجه هذا القول ولا رواية أبي الفرج في ذاكر صلوات، والله أعلم، والقياس على المذهب فيمن صلى صلاتين بتيمم واحد أن يعيد الأخيرة أبدا، ومن قال: إنه يعيدها في الوقت، وفرق بين المشتركتين في الوقت وغير المشتركتين، فليس قوله بقياس، وإنما هو استحسان لمراعاة قول من قال من العلماء: إن التيمم يرفع الحدث كما يرفعه الوضوء، وإنه لا وضوء عليه، وإن وجد الماء ما لم يحدث، وبالله التوفيق.
[مسألة: قام من نومه فغسل ما أصابه من احتلام ولم يرش وصلى بذلك الثوب]
مسألة وقال فيمن قام من نومه، وقد أصابه احتلام فغسل ما أصاب منه ثوبه ولم يرش، وصلى بذلك الثوب، قال: يرش الثوب، ويعيد كل صلاة صلاها في ذلك الثوب إذا كان في وقتها، وما فات الوقت فلا إعادة عليه فيه.
قال محمد بن رشد: إنما يجب عليه أن ينضح من ثوبه إذا غسل الاحتلام منه ما شك أن يكون أصابه الاحتلام منه ولم يره لا جميعه، إلا أن يكون شك في جميعه لكثرة تقلبه فيه، وجعل ذلك واجبا، فأوجب عليه الإعادة في الوقت إن لم يفعله، وهو القياس على أصولهم في أن النضح طهور لما شك فيه، وهذا قد شك فيه. وقال ابن حبيب: إن نضح ما لم ير إذا غسل ما رأى لتطيب النفس، فلا إعادة عليه إن تركه، خلاف تركه نضح ما شك فيه، وهو قول ابن نافع في تفسير ابن مزين، وقد مضى ذلك في آخر رسم "البز"، من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: توضأ ومسح على خفيه ثم صلى الظهر فلم يأت العصر حتى انخرق خفه]
مسألة وقال في رجل توضأ، ومسح على خفيه، ثم صلى الظهر فلم يأت العصر حتى انخرق خفه بقدر ما لا يمسح على مثله، ثم(1/204)
حضرت صلاة العصر، قال: ينزع خفيه، ويغسل رجليه ويصلي ولا يعيد الوضوء. وقال أصبغ فيمن انتقض وضوؤه، فمسح على خفيه، ثم نزع الخف الواحد غسل تلك الرجل الواحدة، وصلى ولم يخلع الأخرى، قال أبو عمرو يوسف بن عمر: فعاودته في ذلك وأنكرته، فثبت على هذا القول، وأبي الرجوع عنه.
قال محمد بن رشد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وقع في بعض الكتب قال: ينزع خفه، ويغسل رجله على الإفراد، وذلك خطأ، والله أعلم، وإنما هو ينزع خفيه ويغسل رجليه، بدليل إدخال العتبي قول أصبغ عقبه؛ لأنه إنما أدخله على الخلاف لابن القاسم، إذ لا وجه له إلا ذلك، ولو لم يدخله على الخلاف لاكتفى بأن يقول: وقال أصبغ مثله.
وقد تقدم لابن القاسم في رسم "نقَدها نقْدها" من سماع عيسى في الذي يلبس الخفين على الخفين، فيمسح على الأعلى منهما، ثم ينزع فردا منهما أنه يمسح على الخف الأسفل من تلك الرجل وحده ويصلي، فمذهبه الفرق في ذلك بين أن يكون الخفان على القدمين أو على خفين. وساوى مالك بينهما في آخر سماع أشهب من هذا الكتاب في الجواز، وابن حبيب في المنع، فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال، وقد بينا ذلك في سماع أشهب المذكور، في قوله في هذه الرواية: فلم يأت العصر حتى انخرق خفه، ثم حضر العصر أنه ينزع خفيه نظر؛ إذ يقتضي ظاهر قوله: إنه إن انخرق خفه بقدر ما لا يمسح عليه قبل العصر فأخر خلعهما إلى أن حضرت صلاة العصر أنه يخلعهما حينئذ، ويغسل رجليه ولا ينتقض وضوؤه، والصواب أن وضوءه ينتقض إن لم يخلعهما حين انخرق الخف خرقا لا يمكنه المسح عليه، ولم يبين في الرواية حد الخرق الذي يجوز المسح عليه من الذي لا يجوز، ولا وقع ذلك في الأمهات ما فيه شفاء وجلاء؛ لأنه قال في المدونة: إن كان كثيرا فاحشا يظهر منه القدم فلا يمسح، وإن كان يسيرا لا يظهر منه القدم فليمسح، قال في الواضحة: إن كان فاحشا لا يعد به(1/205)
الخف خفا لتفاحش خرقه وقلة نفعه فلا يمسح، وإن لم يكن متفاحشا مسح، وإن أشكل عليه خلع. وروى ابن غانم عن مالك أنه يمسح عليه ما لم تذهب عامته، وقال في آخر الرواية: إذا كان الخرق خفيفا لم أر بالمسح عليه بأسا. وقال ابن القاسم: معنى قول مالك في الخف الذي أجاز المسح عليه هو الذي لا يدخل منه شيء. فاستفدنا من مجموع هذه الروايات أنه يمسح على الخرق اليسير، ولا يمسح على الخرق الكثير، وإذا كان ذلك كذلك بإجماع وقامت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الثلث هو آخر حد اليسير، وأول حد الكثير، وجب أن يمسح على ما كان الخرق فيه أقل من الثلث، ولا يمسح على ما كان الثلث فأكثر، أعني ثلث القدم من الخف لا ثلث جميع الخف.
وإنما يمسح على الخرق الذي يكون أقل من الثلث إذا كان ملتصقا بعضه ببعض، كالشق لا يظهر منه القدم، وأما إن اتسع الخرق وانفتح حتى يظهر منه القدم، فلا يمسح عليه إلا أن يكون يسيرا جدا ليس بفاحش، فمحصول هذا أنه إذا كان الخرق في الخف الثلث فأكثر، فلا يمسح عليه ظهرت القدم أم لم تظهر، وإن كان الخرق أقل من الثلث، فإنه يمسح عليه ما لم يتسع وينفتح حتى تظهر منه القدم، فلا يمسح عليه إلا أن يكون يسيرا كالثقب اليسير الذي لا يمكنه أن يغسل منه ما ظهر من قدمه؛ لأنه إذا ظهر من قدمه ما يمكنه غسله لم يصح له المسح من أجل أنه لا يجتمع مسح وغسل، فعلى هذا يجب أن تخرج الروايات المسطورة المشهورة. وقد روى علي بن زياد، وأبو المصعب، والوليد بن مسلم عن مالك أنه يمسح على الخفين اللذين يقطعهما المحرم أسفل من الكعبين، وقاله الأوزاعي، وزاد أنه يمر الماء على ما بدا من قدمه، وهو شذوذ، وبالله التوفيق.
[مسألة: المريض الذي لا يجد من يناوله الماء ولا ترابا يتيمم به]
مسألة وقال في المريض الذي لا يجد من يناوله الماء ولا ترابا يتيمم(1/206)
به، ولا يستطيع شيئا، قال: يصلي ويعيد، وإن فات الوقت إذا وجد من يناوله الماء.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يصلي ثم يعيد أبدا استحسان على غير قياس؛ لأن الصلاة إذا كانت لا تجزئه بغير طهارة، فلا وجه لفعلها. والصواب قول من قال: إنه لا يصلي حتى يجد الماء فيتوضأ؛ لقول رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول» وما أشبه ذلك من الآثار المتواترة في هذا المعنى. وقد قيل: إنه إذا لم يجد الماء حتى خرج الوقت فقد سقطت عنه الصلاة، وهي رواية معن بن عيسى عن مالك. ووجه ذلك أنه إذا لم يقدر على الصلاة كان كالمغلوب عليه في حكم المغمى عليه، وبالله التوفيق.
[يخرج من داخل الحمام وقد نزل الحوض النجس فتطهر بالطهور]
مسألة وسئل عمن يخرج من داخل الحمام، وقد نزل الحوض النجس، فتطهر بالطهور، ويغسل يديه ثم يتوضأ منه، وليس معه إناء يغسل يده إذا توضأ قبل أن يرجعها في الطهور، فهو يرفع من الطهور إلى وجهه ثم يردهما في الطهور قبل أن يغسلهما، وقد أمرهما على وجهه، وفي وجهه ذلك الماء النجس من الماء الحار الذي يخرج منه ومثله من مواضع الوضوء، فقال: ليس بهذا بأس ورآه سهلا، وقد قال: هذا مما أجازه الناس.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ماء الحوض ليس بنجاسة محضة كالبول والدم، وإنما هو نجس بما يغلب على الظن من حصول النجاسة فيه بكثرة المنغمسين فيه، إذ يبعد أن تكون أجسام جميعهم طاهرة.(1/207)
ولو وقع في قدر ما يتطهر به الرجل من الماء قطرة من البول أو الدم أو الخمر، لما نجس الماء بذلك على مذهب مالك، وقد مضى بيان ذلك في سماع موسى بن معاوية وغيره، فكيف برد يديه في الطهور قبل أن يغسلهما، إذا اغتسل وفي وجهه ذلك الماء المحكوم بنجاسته، هذا مما ينبغي أن لا يبالى به، وأن يسهل فيه، وأن يستجاز إذ قد أجازه الناس، ولو نجس طهوره برد يديه فيه بعد أن مس بهما جسمه في نقل الماء إليه، وغسله لوجب أن ينجس الماء الذي نقله إليه بملاقاته إياه، فلا يطهر أبدا. وفي الإجماع على فساد هذا ما يقضي بفساد قول من قال: إن الطهور ينجس بذلك، وإن الغسل لا يجزئ به، وبالله التوفيق.
[مسألة: تيمم للوضوء وقد كان أجنب وهو ناس للجنابة]
مسألة قال: ومن تيمم للوضوء، وقد كان أجنب، وهو ناس للجنابة إن ذلك التيمم لا يجزئ عنه من الجنابة حتى يتيمم له ثانية، ولو تيمم للجنابة، أجزأه من تيمم الوضوء.
قال محمد بن رشد: قد روي عن محمد بن مسلمة، أن من تيمم للوضوء وهو ناس للجنابة أجزأه؛ لأنه فرض ينوب عن فرض، وروى ابن وهب عن مالك في أصل سماعه، أن من فعل ذلك أعاد التيمم والصلاة في الوقت، فإن خرج الوقت لم يعد؛ لأن التيمم لهما واحد، وذلك راجع إلى قول محمد بن مسلمة؛ لأن الإعادة في الوقت استحباب. ووجه رواية أبي زيد أن التيمم للوضوء إنما يرفع الحدث عن أعضاء الوضوء خاصة، والتيمم للجنابة يرفع الحدث عن جميع جسمه، وإن كان الفعل لهما واحدا، فافتراق النية فيهما يفرق بين أحكامها، كما أن من أفرد الحج أو قرنه، فالفعل فيهما جميعا واحد عند مالك، وإنما تفترق أحكامهما عنده بالنية، وأن من ضحى عن نفسه خاصة، أو أشرك في أضحيته أهل بيته، فالفعل فيهما سواء، وإنما يفترق حكمهما بافتراق النية، وما أشبه ذلك كثير. ووجه قول ابن مسلمة، ورواية ابن(1/208)
وهب عن مالك أن حدث الوضوء، وحدث الجنابة، لما كانا يستويان في وجوب منعهما من الصلاة، ويستويان في صفة رفعهما بالتيمم، ناب التيمم لكل واحد منهما عن التيمم عن صاحبه؛ لأنه قصد به الطهارة للصلاة.
أصل ذلك المرأة تجنب ثم تحيض، فتغتسل إذا طهرت من الحيضة للحيضة، وتنسى الجنابة أن الغسل يجزيها باتفاق، وكذلك لو اغتسلت للجنابة، ونسيت الحيضة على الصحيح من الأقوال، ورواية أبي زيد أظهر من قول ابن مسلمة، ورواية ابن وهب عن مالك، والحجة لهما أقوى. ومن قال: إن مسألة الجبيرة في المدونة تعارضها، وأنه يلزم على قياسها أن يجزئ تيمم الوضوء عن الجنابة، فليس قوله بصحيح، والفرق بين المسألتين أن التيمم للوضوء إنما هو بدل عن غسل أعضاء الوضوء خاصة، فوجب أن لا يجزئ عن تيمم الجنابة الذي هو بدل عن غسل جميع الجسم، وغسل موضع الجبيرة التي كان مسح عليها في الغسل إذا سقطت أصل في نفسه، ليس ببدل من غيره، ولا يلزم طهارة سواه، إذ قد غسل سائر جسمه، فوجب أن يجزئ غسله بنية الوضوء عن غسله بنية الجنابة، كما يجزئ غسل الجنابة عن غسل الحيضة على الصحيح من الأقوال.
ولو غسل بنية الجنابة ما عليه غسله بنية الوضوء لأجزأه قولا واحدا، مثل أن تكون الجبيرة في موضع من مواضع الوضوء، فيمسح عليها في وضوئه، ثم يظن أن عليه جنابة، فيغتسل لها، وقد سقطت الجبيرة، ثم يعلم أنه لم تكن عليه جنابة، لكان على وضوئه ما لم يحدث باتفاق. والإجماع على هذه المسألة يضعف قول ابن أبي زيد في مسألة الماس لذكره في أثناء غسله، يريد وينويه في إمرار يده على مواضع الوضوء في باقي غسله، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل توضأ فغسل وجهه ويديه ثم أحدث]
مسألة وسئل عن رجل توضأ فغسل وجهه ويديه ثم أحدث، قال:(1/209)
يعيد الوضوء من أوله، ولا يدخل يديه في الإناء حتى يفرغ عليهما الماء.
قال محمد بن رشد: قد مرت هذه المسألة، ومضى الكلام عليها في غير ما موضع، ومضى الكلام عليها موعبا في رسم "الوضوء والجهاد" من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: مسألة نسي الاستنجاء بالماء فذكر بعدما صلى]
مسألة وسئل عمن نسي الاستنجاء بالماء، فذكر بعدما صلى، قال: عليه الإعادة في الوقت.
قال محمد بن رشد: يريد أنه لم يستنج بماء ولا بحجارة، وقد تعلق بمخرجه أذى، أو لم يتعلق بمخرجه أذى، وكان قد استنجى بالحجارة، لم تكن عليه إعادة على ما قال في المسألة التي تليها، أو بحجر واحد، فأنقى على ما في رسم "أسلم" من سماع عيسى، أو بمدرة على ما في رسم "المحرم" من سماع ابن القاسم، وقد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم "سُنّ منه "، وبالله التوفيق.
[مسألة: استنجى بالحجارة ثم توضأ وصلى هل عليه إعادة]
مسألة قال: وسألت مالكا عمن استنجى بالحجارة، ثم توضأ وصلى، هل عليه إعادة؟ فقال: لا إعادة عليه في وقت ولا غيره. وقد كان بعض الناس يقولون: إن عدا المخرج فسألت مالكا عنها، فلم يذكر عدا المخرج ولا غيره. ومن الحجة في ذلك إن قال قائل: إن من مضى إنما كانوا يبعرون، أرأيت البول أليس هو واحدا منهم ومنا، فقد جعلوه في الأمرين جميعا، إذا عدا المخرج فليس هو كذلك، قد كانوا يبعرون وإن كانوا يأكلون السمن واللبن وغيره مما يلين(1/210)
البطون، وقد كان عبد الله بن عمر وغيره من الناس يستنجون بالحجارة ولا يستنجون بالماء، فلم يسمع منهم في ذلك حد، ولست أرى الإعادة عليه إذا استنجى بثلاثة أحجار، ولكن لو أن رجلا نسي أن يستنجي بالحجارة حتى توضأ وصلى، أعاد ما دام في الوقت؛ لأنه إذا لم يستنج بمنزلة ما لو صلى به في جلده أو ثوبه. وكذلك بلغني عن مالك قال: لو بالغ بحجر أو بحجرين، فلا إعادة عليه أيضا.
قال محمد بن رشد: حكم مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما قرب من المخرج، مما لا ينفك من وصول الأذى إليه، ولا له منه بد بحكم المخرج في أن الأحجار تجزي فيه، وذهب بعض الناس إلى أن الأحجار لا تجزي في ذلك، وهو قول عبد العزيز بن أبي حازم في المدنية، وإليه ذهب ابن حبيب في الواضحة، وأما ما بعد من المخرج مما ينفك عن وصول الأذى إليه، وله منه بد، فلا يجزي فيه إلا الماء باتفاق في المذهب، وقول مالك أظهر، والله أعلم، وقد مضى في رسم "سُنّ" من سماع ابن القاسم في هذا المعنى، والحمد لله.
[مسألة: الذي يطلب الماء في رحله فلا يجد فيسأل بعض من معه في الرفقة]
مسألة قال ابن القاسم في الذي يطلب الماء في رحله فلا يجد، فيسأل بعض من معه في الرفقة فيقولون: ليس عندنا ماء فيتيمم، ثم يجد عندهم الماء، قال: إن كان رفقاؤه ممن يظن أن لو علموا بالماء عندهم لم يمنعوه، فإن وجد الماء في رحله فليعد في الوقت، وإن كان يظن أن لو كان معهم ماء منعوه، فلا أرى عليه إعادة. وقد قال مالك: لو نزلوا في صحراء، وليس معهم ماء فتيمموا وصلوا، ثم وجدوا بئرا أو غديرا قريبا منهم لم يعلموا به، فإنهم يعيدون ما كان في الوقت.(1/211)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن وجوده الماء عند من يقرب منه ويليه ممن كان يلزمه أن يطلبه منه، ويسأله إياه بعد أن كان سأله أو طلبه كوجوده عند نفسه، فيعيد في الوقت استحبابا، إذ إنما فعل ما افترض الله عليه من الصلاة بالتيمم بعد أن طلب الماء فلم يجده. وقال أصبغ: يعيد أبدا؛ لأنه قد انكشف أنه كان من أهل الماء، فليس جهله به مما يسقط عنه فرض الوضوء، وقول مالك هو الصحيح؛ لأنه لم يكلف علم ما غاب علمه عنه مما لا طريق له إلى معرفته، وإنما تعبد بطلب الماء إذا لم يجده، فإذا بلغ الحد الذي يلزمه في الاجتهاد في طلبه، فلم يجده وتيمم وصلى، فقد أدى فرضه على ما أمره الله به، ووجب ألا يكون عليه إعادة إلا في الوقت استحبابا، ولو ترك أن يطلب الماء عند من يليه ممن يرجو وجوده عنده، ويظن أنه لا يمنعه إياه وتيمم وصلى لوجب أن يعيد أبدا إذا وجد الماء. أصل هذه المسألة الذي تخفى عليه القبلة في المفازة أنه إن اجتهد في الاستدلال عليها ثم صلى فانكشف له أنه صلى إلى غير القبلة لم تجب عليه الإعادة إلا في الوقت استحبابا، وإن صلى تلقاء وجهه دون أن يجتهد في الاستدلال عليها أعاد أبدا؛ لأنه ترك الفرض الواجب عليه في ذلك. وقد مضى في رسم "شك في طوافه" من سماع ابن القاسم في أول سماع أشهب التكلم في حد ما يلزمه من طلب الماء إذا لم يجده، وبالله التوفيق.
[مسألة: تيمم وصلى الفجر ومكث حتى طلوع الشمس أيصلي به الضحى]
مسألة وسئل عمن تيمم وصلى فقعد يذكر الله حتى طلعت عليه الشمس، أترى أن يركع ركوع الضحى بتيممه ذلك؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه لا يركع ركوع الضحى بتيمم صلاة الصبح؛ لأن الأصل كان ألا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة على ما مضى القول فيه في أول سماع أبي زيد، وأن لا يصلي نافلة بتيمم فريضة، وإن اتصلت بها، فإنما تصلى النافلة بتيمم الفريضة إذا اتصلت بها استحسانا(1/212)
ومراعاة لقول من يقول: إن التيمم يرفع الحدث كالوضوء بالماء، فإذا لم تتصل بها، وطال الأمد بينهما، واتسع الوقت لطلب الماء ثانية للنافلة وجب أن ينتقض التيمم على الأصل، وأن لا يراعى في ذلك الخلاف كما روعي إذا اتصلت بها؛ لكونها في اتصالها بها في معنى الصلاة الواحدة، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجلا تيمم لنافلة ثم خرج من المسجد لحاجة ثم رجع]
مسألة قيل له: أرأيت لو أن رجلا تيمم لنافلة، ثم خرج من المسجد لحاجة ثم رجع، أترى أن يتنفل بتيممه ذلك؟ قال: لا، ولا يقرأ به في المصحف. قيل له: أرأيت إن تيمم لنافلة، فصلى ثم لم يزل في المسجد في حديث، ثم أراد أن يقوم يتنفل بذلك التيمم؟ قال: إن تطاول ذلك فليتيمم تيمما آخر، وإن كان شيئا خفيفا، فأرجو أن يجزيه.
قال محمد بن رشد: القول في هذه المسألة كالقول في التي قبلها، وهو أن الأصل كان أن لا يصلي صلاتين بتيمم واحد نافلة ولا فريضة، وأن لا يجوز التيمم للصلاة عند عدم الماء إلا عند القيام إليها بظاهر قول الله عز وجل، فأجيز أن يصلي بتيمم واحد ما اتصل من النوافل، والنافلة إذا اتصلت بالفريضة استحسانا ومراعاة للخلاف؛ لكونها باتصالها في حكم الصلاة الواحدة، فإذا تباعد ما بينها سقط مراعاة الخلاف، ورجعت المسألة التي حكم الأصل، فوجب إعادة التيمم، وبالله التوفيق.
[مسألة: الحائض تكتب القرآن في اللوح وتمسك اللوح فتقرأ فيه]
مسألة وسئل عن الحائض تكتب القرآن في اللوح، وتمسك اللوح فتقرأ فيه، قال: لا بأس به على وجه التعليم.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم "شك في طوافه"، من سماع(1/213)
ابن القاسم وجه القول في هذه المسألة، والمعنى الذي من أجله وقع التخفيف فيها، فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: المستحاضة تترك الصلاة في الاستظهار وبعده أياما جاهلة]
مسألة وقال في التي تستحاض، فتترك الصلاة في أيام حيضتها وفي الاستظهار، وتترك الصلاة بعد الاستظهار أياما جاهلة. قال: قال مالك: لا تعيد الصلاة للأيام التي تركت الصلاة فيها جاهلة. قال ابن القاسم: ولو أعادت كان أحب إلي، ولكن قد قال مالك: لا تعيد.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أنه لا قضاء عليها لصلاة الأيام التي تركت الصلاة فيها بعد أيام استظهارها جاهلة متأولة، وإن زادت على خمسة عشر يوما، ومثله في مختصر ما ليس في المختصر لابن شعبان، قال: ولو طال بالمستحاضة والنفساء الدم، فلم تصل النفساء ثلاثة أشهر، ولا المستحاضة شهرا لم تقضيا ما مضى إذا تأولتا في ترك الصلاة دوام ما بهما، ولتصليا من حين يستيقنان بالغسل للنفساء والوضوء للمستحاضة.
وقد قيل في المستحاضة: إن كانت تركت بعد أيام أقرائها يسيرا أعادته، وإن كان كثيرا، فليس عليها قضاؤه بالواجب. ووجه هذا القول أن الحائضة لما كانت مأمورة بترك الصلاة في الحيض فتركت الصلاة بعد أيام استظهارها ظنا منها أن ما بها من الدم من الحيض الذي أمرت بترك الصلاة فيه، سقط عنها القضاء بسقوط الإثم في الترك بالتأويل، كما سقطت الكفارة عمن أفطر في رمضان من غير عذر متأولا، إذ لا يجب قضاء الصلاة إلا على من نسيها، أو نام عنها، أو تركها مفرطا فيها، وهذه ليست بمفرطة، ولا نائمة، ولا ناسية.
وقد سألت شيخنا الفقيه أبا جعفر بن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن معنى رواية أبي زيد هذه، فقال معنى قول مالك فيها: لا تعيد الصلاة للأيام التي تركت الصلاة فيها جاهلة أنه أراد ما بينها وبين الخمسة عشر يوما، مراعاة لقول من(1/214)
يقول: إنها لا تغتسل ولا تصلي قبل الخمسة عشر يوما، وهو أحد قوليه. وأما ما تركت الصلاة فيه بعد خمسة عشر يوما، فلا بد لها من القضاء، إذ لا اختلاف في أنه يجب عليها أن تغتسل وتصلي بعد الخمسة عشر يوما، فلا تعذر في ذلك بجهل؛ لأن المتعمد والجاهل في حكم الصلاة سواء. وكذلك قال ابن حبيب في الواضحة.
وقد اختلف في المرأة إذا تمادى بها الدم فاغتسلت بعد الاستظهار إلى تمام الخمسة عشر يوما، فقيل: إن حكمها حكم المستحاضة تصلي إيجابا، وتصوم ويجزيها صومها، ويطؤها زوجها، وإنها تغسل عند تمام الخمسة عشر يوما غسلا ثانيا، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، بدليل قوله في كتاب الحج الثالث منها: إنها تطوف بعد الاستظهار، إذ قال: يحبس عليها كريها أيامها المعتادة والاستظهار، خلاف ما تأول ابن أبي زيد عليه من أنها لا تطوف، ويفسخ الكراء بينها وبينه إن تمادى بها الدم أكثر من أيام الاستظهار. وقيل: إنها تغتسل بعد الاستظهار استحبابا، وتصلي احتياطا، وتصوم وتقضي الصيام، ولا يطؤها زوجها، ولا تطوف حتى تبلغ خمسة عشر يوما، فتغتسل حينئذ غسلا واجبا، وتكون من حينئذ مستحاضة، وهو دليل رواية ابن وهب عن مالك في المدونة، فرأيت أن أحتاط لها فتصلي، وليس ذلك عليها أحب إلي من أن تترك الصلاة وهي عليها، فإن تركت الصلاة ما بين الاستظهار والخمسة عشر يوما وجب عليها أن تقضيها على قياس رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، واستحب لها ذلك على رواية ابن وهب عن مالك فيها، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، وقول مالك فيه لا قضاء عليها لها قول ثالث، فقف على ثلاثة أقوال منصوص عليها في هذا الموضع.
[مسألة: الحياض التي تكون بالريف يغتسل فيها النصراني والجنب أيتوضأ منها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الحياض التي تكون بالريف يغتسل فيها النصراني والجنب، أيتوضأ منها؟ قال: لا. قلت: فإن اغتسل(1/215)
فيها جنب، أيجزيه الغسل؟ قال: لا؛ لأنه هو نجس. قيل له: فإن كان لا يغتسل فيها جنب ولا نصراني؟ قال: فلا بأس بالوضوء منها، وإن كانت الكلاب تشرب منها، وإن كانت الخنازير تشرب منها، فلا يتوضأ منها.
قال محمد بن رشد: قوله في الحياض التي من شأنها أن يغتسل فيها الجنب والنصراني: إنها نجسة لا يتوضأ منها، ولا يجزي أحدا الغسل فيها صحيح، لما يغلب على الظن من حصول النجاسة الكثيرة فيه، وإن لم يتبين تغير أحد أوصافه عن ذلك. ومثل هذا في الواضحة. ولمالك في رسم "حلف ألا يبيع سلعة سماها " من سماع ابن القاسم في بعض الروايات من هذا الكتاب. وقوله: إنه لا بأس بالوضوء منها، وإن كانت الكلاب تشرب منها صحيح أيضا؛ لقول عمر بن الخطاب للذي سأله عمرو بن العاص، هل ترد حوضه السباع: لا تخبرنا يا صاحب الحوض، فإنا نرد على السباع، وترد علينا، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لها ما أخذت في بطونها، ولنا ما بقي شرابا وطهورا» .
والكلب أيسر مؤنة من السباع، إذ قد قيل: إنه محمول على الطهارة حتى يوقن أن في فيه نجاسة، وإن أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بغسل الإناء سبعا من ولوغه فيه: إنه تعبد لا لنجاسة. وأما قوله: وإن كانت الخنازير تشرب منها فلا يتوضأ منها فهو بعيد، إذ لم يفرق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الخنزير وغيره من السباع في قوله: «لها ما أخذت في بطونها، ولنا ما بقي شرابا وطهورا» ، ولا فرق عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين ذلك أيضا في قوله لصاحب الحوض، لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع وترد علينا. ولو كان الخنزير يفترق في ذلك من سائر السباع لسألا صاحب الحوض عن ذلك، ولبينا الحكم في ذلك، والله أعلم.
[سؤر الكلب والخنزير من الماء الطعام]
وفي التفريع لابن الجلاب أن سؤر الكلب والخنزير من(1/216)
الماء مكروه، ومن الطعام مستعمل إلا أن يكون في خطمهما نجاسة، ومعناه في كراهية سؤرهما من الماء إنما هو إذا شربا من الماء اليسير، وأما إذا شربا من الحوض والماء الكثير فلا وجه للكراهة فيه، لما ذكرناه مما جاء فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعمر بن الخطاب في جماعة من الصحابة، وبالله التوفيق لا شريك له، وهو نعم المولى ونعم النصير.
تم كتاب الوضوء الثاني بحمد الله وحسن عونه، وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى نبيه وعبده، يتلوه كتاب الصلاة الأول(1/217)
[كتاب الصلاة الأول] [معنى الخشوع في الصلاة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
كتاب الصلاة الأول
من سماع ابن القاسم من كتاب القبلة قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سمعت مالكا يقول في تفسير {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] قال الإقبال عليها والخشوع فيها.
قال محمد بن رشد: الخشوع في الصلاة هو التذلل لله فيها، والاستكانة والخضوع بالخوف الحاصل في قلب المصلي باستشعاره الوقوف بين يدي خالقه في صلاته ومناجاته إياه فيها، فمن قدر الأمر حق قدره، ولم يفارق الخوف قلبه، خشع في صلاته، وأقبل عليها، ولم يشغل سره بسواها، وسكنت جوارحه فيها، ولم يعبث بيده ولا التفت إلى شيء من الأشياء بعينه، وتوجهت المدحة من الله تعالى إليه على ذلك بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] .
وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبصر رجلا يصلي وهو يعبث بلحيته في صلاته، فقال: «لم يخشع هذا في صلاته، ولو خشع لخشعت جوارحه» ، ثم قال: «تفقهوا واسكنوا في صلاتكم» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من عمل النبوءة الاستكانة في الصلاة» وكان عبد الله بن(1/219)
مسعود إذا قام في صلاته كأنه ثوب ملقى. فقليل من الصلاة مع الإقبال عليها، والفكرة فيها خير من الكثير مع اشتغال القلب عنها. وروي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا وقف في صلاته رفع بصره نحو السماء، فلما نزلت: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] جعل بصره موضع سجوده» بتواضع واستشعار خوف. وليس جعل المصلي بصره في موضع سجوده بواجب عليه، والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يكون بصره أمام قبلته من غير أن يلتفت إلى شيء، أو ينكس بصره، وهو إذا فعل ذلك خشع بصره، ووقع في موضع سجوده على ما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس بضيق عليه أن يلحظ ببصره الشيء من غير التفات إليه، فقد جاء ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبالله التوفيق.
[مسألة: الإسراع في المشي إلى الصلاة إذا أقيمت]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا، وسئل عن الإسراع في المشي إلى الصلاة إذا أقيمت، قال: لا أرى بذلك بأسا، ما لم يسع أو يخب.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة» الحديث. فإذا خاف الرجل أن تفوته الصلاة أو شيء منها، فلا بأس أن يزيد في مشيه ويسرع فيه ما لم يخرج بذلك عن حد السكينة والوقار المأمور به في ذهابه إلى الصلاة، وقد فعل ذلك عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمع الإقامة(1/220)
وهو بالبقيع، فأسرع المشي إلى المسجد. وكذلك إن كان الرجل راكبا لا بأس أن يحرك دابته ليدرك الصلاة، قاله في آخر رسم "يسلف بعد هذا"، ومعناه ما لم يخرج بذلك عن حد السكينة والوقار كالماشي سواء، وبالله التوفيق.
[مسألة: دخل مع قوم في صلاتهم وهو يظن أنها ظهر فتبين له أنه العصر]
مسألة وسئل مالك عن رجل دخل مع قوم في صلاتهم، وهو يظن أنها ظهر، فلما ركع ركعة أو ركعتين سلم إمامهم، فتبين له أنه العصر، قال: يقطع صلاته بتسليم، ثم يستأنف الظهر ثم يصلي العصر؛ لأنه لا ينبغي أن يصلي نافلة، ولم يصل الفريضة. وإن كان الإمام سلم وقد صلى معه ركعة أو ثلاثا، فليشفع بأخرى، ثم يسلم، ثم يبتدئ صلاتيه كلتيهما.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في المذهب أنه لا يجوز للرجل أن يأتم في صلاته بمن يصلي غير تلك الصلاة؛ لأن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة إمامه، وإنما الاختلاف فيمن ائتم به من يصلي تلك الصلاة بعينها على غير الصفة التي يصليها هو كالسفر والحضر، أو الظهر والجمعة، على ما سيأتي بعد هذا في هذا الرسم، وفي رسم "استأذن"، من سماع عيسى، وفي أول سماع سحنون.
ولهذا قال في هذه المسألة في الذي دخل مع القوم، وهو يظن أنها ظهر ركع ركعتين، وسلم إمامهم تبين له أنها العصر، إنه يقطع صلاته بتسليم ثم يستأنف الصلاتين؛ لأنه لو أتم الصلاة معه لم تجده باتفاق، ولوجب عليه إعادتها أبدا. وقوله في آخر المسألة: وإن كان الإمام سلم، وقد صلى معه ركعة أو ثلاثا، فليشفع بأخرى خلاف قوله في أولها: إنه يقطع من الركعة والركعتين؛ لأنه لا ينبغي له أن يصلي نافلة، ولم يصل الفريضة، فهما قولان قالهما مالك في وقتين، فأخطأ المؤلف بأن جمع بينهما، فنسق القول الثاني على الأول كأنه تفسير له، فالقول الأول على ما ذهب إليه ابن حبيب من أنه من ذكر(1/221)
صلاة الظهر وهو يصلي العصر، أو صلاة المغرب وهو يصلي العشاء وحده أو مع إمام أنه يقطع متى ما ذكر، كان على شفع أو على وتر، ويصلي الصلاة التي ذكر؛ لأنه في خناق من وقتها، ثم يستأنف التي كان فيها، بخلاف من ذكر صلاة قد خرج وقتها، وهو في صلاة أنه يتمها إن كان مع الإمام، ويشفع بركعة إن كان وحده، وذكر وهو في وتر.
والقول الثاني على ما في المدونة في الذي يذكر الظهر، وهو مع الإمام يصلي العصر: إنه يتمادى معه ثم يعيد. وعلى ما في رسم "الصلاة" الثاني، من سماع أشهب، في الذي يذكر الظهر وهو يصلي العصر لنفسه أنه يتم ركعتين. وسيأتي الكلام عليهما في موضعها إن شاء الله.
ولو علم ساعة دخل مع القوم في صلاتهم أنها العصر لتمادى مع الإمام إلى تمام ركعتين على القول الثاني، ولم يتمم معه الصلاة، إذ لا تجزيه باتفاق لاختلاف نيته ونية إمامه، بخلاف الذي يذكر الظهر وهو في العصر مع الإمام، ويقطع متى ما ذكر على القول الأول. ويحتمل على بعد في التأويل أن يريد بقوله: ثم يستأنف الظهر ثم يصلي العصر، أي يستأنفهما، ولا يتنفل قبلها نافلة يبتدئها بعد سلامه من الصلاة التي كان فيها مع الإمام، فيعود قوله لأنه لا ينبغي له أن يصلي نافلة، ولم يصل الفريضة على نافلة يبتدئها بعد سلامه من الصلاة التي كان فيها مع الإمام، وإن كان لم يتقدم لذلك ذكر، ذلك مثل قوله في المدونة: إن من ذكر صلاة نسيها فلا يتطوع قبلها، ويكون آخر المسألة مفسرا لأولها، لا اختلافا من القول، وبالله التوفيق.
[مسألة: أقيمت صلاة الجماعة وهو في مكتوبة يصليها لنفسه في المسجد]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: وسئل عمن قامت عليه صلاة الجماعة وهو في مكتوبة يصليها لنفسه في المسجد، قال: إن طمع أن يفرغ منها ويدرك الصلاة مع الإمام أتمها، ثم سلم ودخل مع الإمام، وإن أيس من ذلك قطعها، ثم دخل مع الإمام فصلى، فإذا(1/222)
فرغ رجع فاستأنف الصلاتين كلتيهما: التي كانت قبلها، ثم التي كانت بعدها التي كان مع الإمام فيها. قال ابن القاسم: وأحب إلي أن يتمم ركعتين إن كان قد ركع ركعة ولا يطمع أن يدرك. قال أصبغ: إلا أن يخاف الفوات من ركعة الإمام، فيقطع من ركعته بسلام.
قال محمد بن رشد: قوله: إن طمع أن يفرغ منها ويدرك الصلاة مع الإمام أتمها، يريد إن طمع أن يفرغ منها قبل أن يركع الإمام الركعة الأولى من صلاته، فيدرك الصلاة كلها مع الإمام، وسواء أقيمت عليه الصلاة قبل أن يركع، أو بعد أن يركع. وهذا ما لا اختلاف فيه لوجوب الصلاة التي كان فيها عليه قبل الصلاة التي قامت عليه، بخلاف من قامت عليه الصلاة، وهو يصلي تلك الصلاة بعينها لنفسه، هذا قد قال فيه في المدونة: إنه إن لم يركع قطع، وإن كان يدرك أن يصلي ركعتين قبل أن يركع الإمام.
وقوله: وإن يئس من ذلك قطعها، ظاهره إن يئس من إتمام صلاته قبل أن يركع الإمام قطع، كان قد ركع أو لم يركع، وإن كان يدرك أن يتمم ركعتين قبل أن يركع الإمام خلاف ما استحب ابن القاسم. وفي قوله: ثم دخل مع الإمام فصلى، فإذا فرغ استأنف الصلاتين نظر؛ لأنه إنما يصلي مع الإمام على أنها نافلة، إذ لا يجوز له أن يصلي العصر قبل الظهر، وقد قال في المسألة التي قبل هذه: إنه لا ينبغي له أن يصلي نافلة، ولم يصل الفريضة. ومثله في المدونة، فإنما استحب ذلك في هذه المسألة لما عليه في الخروج من المسجد بعد إقامة الصلاة من أن يعرض نفسه لسوء الظن، ولم يلتفت إلى هذا المعنى في المدونة. وقال في سماع سحنون: إنه يضع يده على أنفه ويخرج. وإذا جاز له أن يصلي مع الإمام وتكون صلاته معه نافلة، فالقياس على هذا إذا كان قد ركع أن لا يقطع إن كان يدرك أن يشفع ركعة بركعة أخرى قبل أن يركع الإمام؛ لأنه قد حصل معه ركن من عمل الصلاة، فلا ينبغي له أن يبطله؛ لقول الله عز وجل:(1/223)
{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] إلا في موضع لا يجوز له التنفل فيه على ما استحب ابن القاسم، فلم يجز مالك في هذه المسألة على قياس، وبالله التوفيق.
[مسألة: صلى وفي ثوبه نجاسة علم به ثم نسيه حتى فرغ من صلاته]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال فيمن صلى وفي ثوبه دم من دم الحيضة، قد علم به قبل أن يدخل في الصلاة، ثم نسيه حتى فرغ من صلاته أو لم يكن رآه، قال مالك: إن كان يسيرا لم أر عليه إعادة، وإن كان كثيرا رأيت أن يعيد الصلاة ما كان في وقتها. قال ابن القاسم: قال لي مالك: دم الحيضة وغيره سواء. قال سحنون: وروى علي بن زياد، وابن نافع، وابن الأبرش، والتونسي، عن مالك: أن دم الحيضة كالبول والرجيع والاحتلام يرجع من الصلاة من قليله وكثيره، وتعاد الصلاة من قليله وكثيره في الوقت.
قال محمد بن رشد: وجه رواية ابن القاسم عن مالك في مساواته بين دم الحيضة وغيره من الدماء، أن الدم اليسير لما خفف وسومح فيه للمشقة الداخلة على الناس في التوقي منه؛ لأنه غالب، كدم البراغيث، وإذ لا ينفك الإنسان في غالب الأحوال من بثرة تكون في جسمه، وجب أن يخفف ذلك للحائض؛ لأنها لا تنفك في الغالب من أن يصيب ثوبها ذلك، وأن يخفف للرجل أيضا لحاجته أن يصلي في ثوب امرأته، ولأنه لما استخف له الدم اليسير كان حكم ما لم يخرج من بدنه حكم ما خرج من بدنه، وكذلك(1/224)
دم الميتة على هذه الرواية، إذ لا تأثير للذكاة في تطهير الدم، فلا فرق بين دم ما ذكي ودم الميتة، كما لا فرق بينه وبين دم الحي، وبالله التوفيق.
[مسألة: دخول الكنائس والصلاة فيها]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: حدثني نافع أن عمر بن الخطاب كره دخول الكنائس والصلاة فيها. قال مالك وغيره: أحب إلي لموضع وطء أقدامهم ونجسهم. قال سحنون: أحب إلي أن يعيد من صلى في كنيسة كان لضرورة أو لغير ضرورة ما كان في الوقت، وإنما هي عندي بمنزلة من صلى بثوب النصراني أنه يعيد الصلاة كان لضرورة أو غير ضرورة.
قال محمد بن رشد: الظاهر من مذهب عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما وقع له هاهنا، وفي المدونة وفي رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب أنه كره دخول الكنائس والصلاة فيها لكونها بيوتا متخذة للشرك بالله والكفر به، فلا ينبغي الصلاة فيها على مذهبه، وإن بسط ثوبا طاهرا لصلاته. وأما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنما كره الصلاة فيها لما يتقى من نجاستها، فإن صلى فيها على مذهبه دون حائل طاهر أعاد في الوقت، إلا أن يكون اضطر إلى النزول فيها، فلا يعيد صلاته إذا لم تتحقق عنده نجاستها.
يبين هذا من مذهبه ما وقع في المدونة، وفي رسم "الصلاة" الثاني، من سماع أشهب. وأما سحنون فحملها على النجاسة، وحكم للمصلي فيها بحكم من صلى بثوب النصراني، فاستوت في ذلك عنده الضرورة وغير الضرورة، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، إلا أنه قال: يعيد أبدا إن صلى فيها دون حائل طاهر على أصله فيمن صلى على موضع نجس، أو بثوب نجس عامدا أو جاهلا أنه يعيد أبدا. وقول سحنون أظهر أنه لا إعادة عليه إلا في الوقت؛ إذ لم يوقن بنجاسة(1/225)
الموضع الذي صلى عليه. وهذا في الكنائس العامرة، وأما الدارسة العافية من آثار أهلها، فلا بأس بالصلاة فيها، قال ابن حبيب: ولا اختلاف أحفظه في ذلك إذا اضطر إلى النزول فيها، وأما إذا لم يضطر إلى النزول فيها، فالصلاة فيها مكروهة على ظاهر مذهب عمر بن الخطاب، ولا تجب إعادتها في وقت ولا غيره.
وقد قال في هذا الحديث في رسم "اغتسل" من هذا السماع من كتاب الجامع: إنه كان يكره الصلاة في الكنائس التي فيها الصور، وفي ذلك دليل على أنه إنما كره الصلاة في الكنائس العامرة؛ لأن العامرة هي التي تكون فيها الصور، وفي أول رسم "البز" مسألة فيها معنى من هذه، سنتكلم عليه إذا مررنا به إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.
[مسألة: لا ينبغي للمسافر أن يقدم مقيما يتم به الصلاة]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: لا ينبغي لقوم سفر أن يقدموا مقيما يتم بهم الصلاة لكي يتموا الصلاة، فإن صلى بهم فصلاتهم تامة، ولكن إن قدموه لسنه أو لفضله، أو لأنه صاحب المنزل، فليصلوا بصلاته صلاة المقيم.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما يأتي في رسم "شك في طوافه"، وفي رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب، ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه الذي تأتي عليه مسائله ومسائلهم أن قصر الصلاة في السفر سنة من السنن التي الأخذ بها فضيلة، وتركها إلى غير خطيئة، فلذلك قال: إنه لا ينبغي أن يقدموا مقيما يتم بهم الصلاة؛ لأن فضيلة السنة في القصر آكد من فضيلة الجماعة، واستحب أن يقدموا ذا السن والفضل، لما في الصلاة خلفه من الرغبة، أو صاحب المنزل لما في ترك اهتمامهم به من بخسه حقه، إذ هو أحق بالإمامة في منزله منهم، وبالله التوفيق.(1/226)
[مسألة: مسافر مر بقوم فصلى معهم فتبين له أنهم مقيمون]
مسألة قال مالك: فيمن مر بقوم فصلى معهم، فلما صلوا ركعتين سلم إمامهم، فتبين له أنهم مقيمون وسبقوه بركعتين، وكان يظن أنهم قوم سفر، قال: يعيد أحب إلي. قال سحنون: وذلك إذا كان الداخل مسافرا.
قال محمد بن رشد: قول سحنون مفسر لقول مالك؛ لأنه لو كان مقيما لأتم صلاته، ولم يضره وجوده القوم على خلاف ما حسبهم عليه من القصر والإتمام؛ لأن الإتمام واجب عليه في الوجهين، فلا تأثير لمخالفة نيته لنية إمامه في ذلك، وقول مالك: يعيد أحب إلي، يريد في الوقت وبعده، أتم صلاته بعد صلاة الإمام أو سلم معه من الركعتين على ما اختاره ابن المواز، وقاله ابن القاسم في رسم "استأذن" من سماع عيسى. وقال ابن حبيب: إنه يتم صلاته ويعيد في الوقت، وقيل: لا إعادة عليه، وهو قول أشهب في أول سماع سحنون.
ووجه قول مالك في إيجاب الإعادة عليه أبدا مخالفة نيته لنية إمامه؛ لأنه إن سلم معه من الركعتين، فقد خالفه في النية والفعل، ففسدت صلاته عنده بذلك، وإن أتم صلاته فقد خالفه في النية خاصة، وأتم صلاته على خلاف ما أحرم به. ولم يراع ابن حبيب شيئا من ذلك فقال: إنه يعيد في الوقت على أصله في المسافر إذا أتم صلاته أنه يعيد في الوقت، وإن كان صلى في جماعة ما لم تكن الجماعة في المساجد الثلاث أو جوامع الأمصار، ولا راعى أشهب شيئا من ذلك فقال: إنه لا إعادة عليه.
وأما إذا دخل المسافر مع القوم وهو يظنهم حضريين، فألفاهم مسافرين سلموا من ركعتين، فقال مالك: فيما يأتي بعد هذا في هذا الرسم: إن صلاته تجزيه، وذلك خلاف أصله في هذا المسألة في مراعاة مخالفة نيته لنية إمامه، وخلاف مذهبه في المدونة؛ لأنه قال فيها في المسافر إذا أحرم بنية أربع ركعات، ثم بدا له فسلم من ركعتين: إنها لا تجزيه. وقال ابن حبيب وأشهب: إن صلاته جائزة على(1/227)
أصله في ترك مراعاة مخالفة نيته لنية إمامه في الحضر والسفر، وإتمامه على خلاف ما أحرم به من ذلك. ولابن القاسم في كتاب ابن المواز أن صلاته لا تجزيه على أصل مالك في هذه المسألة، وهو اختيار ابن المواز، أن صلاته لا تجزئه في الوجهين جميعا لمخالفة نيته لنية إمامه في ذلك. وقال سحنون في هذا الرسم: إنه يعيد في الوقت. ولو دخل المسافر خلف القوم يظنهم مقيمين، فلما صلوا ركعتين سلم إمامهم، فلم يدر إن كانوا مقيمين أو مسافرين لأتم صلاة مقيمين أربعا، ثم أعاد صلاة مسافر، قاله في رسم "استأذن" من سماع عيسى، لاحتمال أن يكون الإمام مسافرا. ولو دخل خلفهم ينوي صلاتهم وهولا يعلم إن كانوا مقيمين أو مسافرين لأجزأته صلاته قولا واحدا. والحجة في ذلك ما جاء من «أن علي بن أبي طالب وأبا موسى الأشعري قدما على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع محرمين، فسألهما - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: بم أحرمتما؟ فكلاهما قال: قلت: لبيك إهلالا كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصوب فعلهما وأمرهما بما يعملان في بقية إحرامهما» .
ومما يتعلق بهذه المسألة ويختلف هل يوافقها في المعنى والقياس أم لا، مسألة الرجل يأتي المسجد يوم الجمعة وهو يظنه يوم الخميس، أو يوم الخميس وهو يظنه يوم الجمعة، فقيل: إنهما متفقان في المعنى، وإن الذي يأتي يوم الخميس وهو يظنه يوم الجمعة بمنزلة المسافر يدخل خلف القوم، وهو يظنهم مسافرين فيجدهم مقيمين؛ لأنهما دخلا مع الإمام جميعا بنية ركعتين، فصليا معه أربعا، وإن الذي يأتي يوم الجمعة ويظنه يوم الخميس منزلة المسافر يدخل مع القوم، وهو يظنهم مقيمين فيجدهم مسافرين؛ لأنهما جميعا دخلا مع الإمام بنية أربع فصليا معه ركعتين، فعلى هذا يدخل في كل مسألة منهما ما في صاحبتها من الأقوال، فيتحصل في كل واحدة منهما أربعة(1/228)
أقوال: أحدها: أن الصلاة جائزة في الوجهين جميعا. والثاني: أنها لا تجوز في الوجهين جميعا. والثالث: الفرق بين الوجهين، فتجوز إذا دخل بنية أربع ركعات فصلى اثنتين، ولا تجوز إذا دخل بنية ركعتين فصلى أربعا، وهو الذي يأتي على قول مالك في هذا الرسم، في مسألة الحضر والسفر. والرابع: الفرق بين الوجهين أيضا بعكس هذه التفرقة، وهو الذي يأتي على ما في المدونة، في مسألة الخميس والجمعة.
وقيل: إنهما مفترقان في المعنى، وإلى هذا ذهب أشهب وابن المواز، فقال كل واحد منهما في مسألة الخميس والجمعة خلاف قوله في مسألة الحضر والسفر. رأى أشهب الصلاة جائزة في مسألة الحضر والسفر، وغير جائزة في مسألة الخميس والجمعة، ووجه الفرق بينهما في المعنى عندهما أن صلاة الجمعة والخميس لا تنتقل واحدة منهما عما هي عليه في حق الرجل بدخوله مع الإمام فيها وهو يظنه غير ذلك اليوم، فإذا صلاهما معه رأى ابن المواز أنهما تجزئانه؛ لأنه صلاهما كما وجبتا عليه، ولم يضره عنده أن يحرم بنية الجمعة ويصلي ظهرا، ولا أن يحرم بنية الظهر ويصلي جمعة، قياسا على ما قال مالك في الرجل يدخل خلف الإمام يوم الجمعة بعد أن رفع رأسه من الركوع، وهو يظنه في الركعة الأولى، فإذا هو في الثانية: إنه يقوم إذا سلم الإمام فيصلي أربعا بذلك الإحرام، ورأى أشهب أنهما لا تجزئان لإحرامه بهما على غير الصفة التي وجبت عليه. ورأى ابن القاسم في المدونة أن تجزئه نية الجمعة عن نية الظهر، ولا تجزئه نية الظهر عن نية الجمعة، قال: لأن الجمعة لا تكون إلا بنية، ووجه قوله أن الأصل هو الظهر والجمعة طارئة عليه، فلا تؤثر نية الفرع في الأصل، وتؤثر نية الأصل في الفرع؛ لأن المسافر تنتقل صلاته من القصر إلى الإتمام بدخوله خلف الإمام المقيم، علم أنه مقيم أو لم يعلم، فرأى ابن المواز أنه إذا دخل خلف المقيم وهو يظنه مسافرا فوجده مقيما، أو وهو يظنه مقيما فوجده مسافرا، فلا تجزئه صلاته مراعاة لقول من يرى أن القصر عليه واجب، وأنه إن أتم وحده أو في جماعة أعاد أبدا.(1/229)
ورأى أشهب أن صلاته جائزة مراعاة لقول من يرى أنه مخير بين القصر والإتمام، فهذا وجه القول في هذه المسألة موعبا، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوتر فظن أنه لم يوتر فأوتر مرة أخرى ثم تبين له أنه قد أوتر مرتين]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال في من أوتر فظن أنه لم يوتر فأوتر مرة أخرى، ثم تبين له أنه قد أوتر مرتين، قال: أن يشفع وتره الآخر ويجتزئ بالأول.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لا يكون وتران في ليلة واحدة، فيشفع وتره الآخر يريد إذا كان بقرب ذلك، ويكون نافلة له، إذ يجوز لمن أحرم بوتر أن يجعله شفعا، كما يجوز لمن صلى صلاة الفريضة ركعة، ثم علم أنه قد كان صلاها أن يضيف إليها أخرى وتكون له نافلة، ولا يجوز لمن صلى ركعة من شفع أن يجعلها وترا، ولا أن يبني عليها فرضا؛ لأن نية السنة أو الفرض مقتضية لنية النفل، ولا تقتضي نية النفل نية السنة ولا الفرض، وهذا كله بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: حكم إمامة الأغلف والمعتوه]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: لا أرى أن يؤم الأغلف والمعتوه الناس. قلت لسحنون: فإن أم الأغلف والمعتوه أترى على القوم إعادة؟ قال: أما إذا أمهم أغلف فلا إعادة عليهم، وأما المعتوه فإنهم يعيدون.
قال محمد بن رشد: الأغلف هو الذي لم يختن، والمعتوه الذاهب العقل. فقول سحنون مبين لقول مالك؛ لأن المعتوه لا تصح منه نية، فوجب أن يعيد أبدا من ائتم به، وأما الأغلف فلا يخرجه ترك الاختتان عن الإسلام، ولا يبلغ به مبلغ التفسيق كشارب الخمرة وقاتل النفس الذي يعيد من ائتم بهما(1/230)
على ما في سماع عبد الملك، إلا أن ذلك نقصان في دينه وحلمه؛ لأن الختان طهرة الإسلام وشعاره. روي عن المسيب بن رافع قال: أوحى الله إلى إبراهيم أن تطهر فتوضأ، فأوحى إليه أن تطهر فاغتسل، فأوحى إليه أن تطهر فاختتن، فصار ذلك من ملته التي أمر الله باتباعها، فلا تجوز إمامته ابتداء؛ لأن الإمامة أرفع مراتب الإسلام، فلا ينبغي أن يؤم إلا أهل الكمال، فإن لم تجب الإعادة على من ائتم به؛ لأن صلاته إذا جازت لنفسه فهي تجوز لغيره، وإنما قرن مالك بينه وبين المعتوه في ألا يؤتم بهما ابتداء، ولم يتكلم على الحكم في ذلك إذا وقع. وهذا الذي قلنا هو الذي يأتي على مذهبه.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: الأغلف لا توكل ذبيحته، ولا تقبل له صلاة، ولا تجوز له شهادة، وذلك تشديد ليس على ظاهره. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الأغلف لا يحج حتى يختتن» ، ومعناه أنه ينبغي له أن يقدم الاختتان عن الحج، فيحج وهو كامل المرتبة، لا أن الحج قبل الاختتان لا يجزيه عن حجة الإسلام والله أعلم. وقد روي عن الحسن أنه رخص للشيخ يسلم أن لا يختتن، ولم ير بإمامته ولا شهادته ولا ذبيحته ولا حجه بأسا. وروي عن الليث بن سعد أنه قال: لا يتم إسلامه حتى يختتن، وإن بلغ ثمانين سنة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يدخل مع قوم مسافرين وهو يظن أنهم مقيمون يتمون الصلاة وهو في سفر]
مسألة قال مالك فيمن يدخل مع قوم مسافرين، وهو يظن أنهم مقيمون يتمون الصلاة وهو في سفر، فيدخل يريد الإتمام معهم، فسلموا من ركعتين أجزأتا عنه. قال سحنون: لا تجزي عنه وعليه الإعادة في الوقت؛ لأن نيته كانت على الإتمام، وهذه خطأ لا أعرفها.(1/231)
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة قبل هذا، والقول فيها موعبا، فلا معنى لرده، وبالله التوفيق.
[مسألة: صلى بقوم صلاة السفر وهو في الحضر ناسيا]
مسألة قال مالك فيمن صلى بقوم صلاة السفر، وهو في الحضر ناسيا، استأنف الصلاة هو ومن خلفه.
قال محمد بن رشد: معنى قوله: ناسيا، أي ناسيا لكونه في حضر يرى أنه في سفر، فلذلك قال: إنه يستأنف الصلاة وهو من خلفه؛ لأنه لما أحرم بنية صلاة السفر لم يجز له أن يبني على صلاته تمام صلاة الحضر، وإذا لم يجز ذلك له وفسدت صلاته لم يجز لمن خلفه البناء أيضا على ما صلوا معه، وإن كانوا أحرموا خلفه بنية الإقامة. ولو كان أحرم بنية الإقامة، ثم نسي أنه مقيم، وظن أنه مسافر، فسلم من ركعتين لجاز له البناء ما كان قريبا، فإن سلم ومضى ولم يرجع أتموا هم صلاتهم إن كانوا أحرموا بنية الإقامة، وبالله التوفيق.
[مسألة: صلى صلاة الحضر وهو في السفر ناسيا]
مسألة قال: وسمعت مالكا قال: من صلى صلاة الحضر وهو في السفر ناسيا استأنف الصلاة وهو من خلفه في الوقت. قال سحنون: وبعد الوقت أبدا، وإن أتم الصلاة عامدا أو جاهلا، فلا إعادة عليه إلا في الوقت من قبل أنه متأول، فأما الناسي فإن عليه الإعادة أبدا من قبل أن ابن القاسم قال لي غير مرة: من زاد في صلاته مثل نصفها ساهيا أعاد الصلاة أبدا. قال سحنون: ولو صلى وهو ناس لسفره يرى أنه في حضر أربعا لم تكن عليه إعادة إلا في الوقت، ولا يكون أسوأ حالا من الذي يتم جاهلا أو متعمدا. قال: وجميع ما أخبرتك من جميع هذه المسألة من الجاهل والمتعمد والناسي(1/232)
لسفره؛ لا إعادة عليه إلا في الوقت، فأما الذي يقوم لصلاته وهو مسافر فيسهو فيتم ساهيا، فهذا يعيد أبدا.
قال محمد بن رشد: قصر الصلاة في السفر على مذهب مالك سنة، فإذا أتم المسافر الصلاة في السفر جاهلا، أو متعمدا، أو متأولا، أو ناسيا لسفره يرى أنه في حضر؛ فلا إعادة عليه إلا في الوقت على طريق الاستحباب؛ ليدرك فضل السنة. واختلف إن أحرم بنية صلاة السفر ركعتين، ثم أتم صلاته متعمدا أربعا على قولين: أحدهما: أنه يعيد في الوقت وبعده، ووجه ذلك أنه لما أحرم بنية القصر فكأنه قد التزم قول من يوجب القصر، فلم يصح له الإتمام على ذلك الإحرام، وقيل: إنه يعيد في الوقت. ووجه ذلك أن القصر لما لم يكن عليه واجبا لم يوجبه عليه التشبث بالصلاة، فعلى القول الأول: المسافر مخير بين القصر والإتمام ما لم يتشبث بالصلاة، فإذا تشبث بها لم يكن له أن يتم على خلاف ما أحرم عليه من القصر أو الإتمام، وهو الذي يأتي على ما في المدونة، وعلى القول الآخر المسافر مخير بين القصر والإتمام مطلقا، فإذا أتم صلاته، وإن كان قد أحرم بنية القصر أعاد في الوقت استحبابا ليدرك فضل السنة.
وأما إن أحرم بنية صلاة السفر، ثم أتم ساهيا؛ ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعيد في الوقت؛ لأن سهوه صادف فعلا صحيحا بمنزلة من صلى خامسة ساهيا، ثم ذكر سجدة من أول ركعة من صلاته، والقول الثاني: أنه يعيد أبدا، وهو قول سحنون هاهنا قياسا على ما روي عن ابن القاسم أن من زاد في صلاته مثل نصفها ساهيا فعليه الإعادة أبدا. والقول الثالث: أنه يسجد سجدتين بعد السلام وتجزئه صلاته، وهو الذي يأتي على ما في رسم "إن أمكنتني" من سماع عيسى، في الذي يصلي المغرب خمس ركعات ساهيا، وعلى ما في سماع أبي زيد في الذي صلى ركعتي الفجر أربعا ساهيا، وعلى ما في المدونة في الذي سها فأضاف إلى الوتر ركعة أخرى، أنه يجزئه ويسجد لسهوه، وبالله التوفيق.(1/233)
[مسألة: إمام سها فلم يسجد]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال في إمام سها فلم يسجد، قال: أرى أن يسجد من كان خلفه إن كان سهوه يسجد له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن السجود قد وجب عليهم، فلا يسقط عنهم بسهوه، فإن كان السجود مما تبطل الصلاة بتركه، ولم يرجع الإمام إلى السجود بالقرب بطلت صلاته وصحت صلاتهم؛ لأن كل ما لا يحمله الإمام عمن خلفه، فلا يكون سهوه عنه سهوا لهم إذا هم فعلوه، وهذا أصل، وبالله التوفيق.
[مسألة: شك في صلاته فبنى على اليقين فلم يرد عليه من خلفه حتى سلم]
مسألة قال مالك فيمن شك في صلاته فبنى على اليقين، فلم يرد عليه من خلفه حتى سلم، فسألهم فقالوا: قد تمت صلاتك، قال مالك: إن أيقنوا ذلك له، فلا سجود عليه، وإن لم يوقنوا سجد وسجدوا. قال مالك: وقد أصاب حين سألهم. قال ابن القاسم: وذلك رأيي، ولا يجوز هذا إلا فيمن كان معه في الصلاة.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح، والأصل في ذلك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سلم من ركعتين فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ أقبل على الناس فسألهم ورجع إلى قولهم لما دخله من الشك بقول ذي اليدين» . وقوله: إنه لا يجوز ذلك إلا فيمن كان معه في الصلاة، هو مثل ما في المدونة. ووجه ذلك أن السنة قد أحكمت إذا شك الرجل في صلاته أن يرجع إلى يقينه؛ فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى(1/234)
ثلاثا أو أربعا، فليصل ركعة» الحديث، فكان الأصل بهذا الحديث إذا شك الرجل في صلاته أن يرجع إلى يقينه، لا إلى يقين من سواه، فذا كان أو إماما، فخرج من ذلك رجوع الإمام إلى يقين من خلفه بحديث ذي اليدين، وبقي ما عداه على الأصل في أن الصلاة واجبة عليه بيقين، فلا يخرج منها إلا بيقين، ولا يحصل معه يقين بقول من ليس معه في صلاة؛ لاحتمال أن يكون أخطأ فيما قاله، إذ لم يلزمه من حفظها ورعايتها ما يلزم من معه في الصلاة.
وكذلك لو شك هل صلى أم لا، فأخبرته زوجته وهي ثقة أو رجل عدل أنه قد صلى، لم يرجع إلى قول واحد منهما إلا أن يكون يعتريه ذلك كثيرا، روى ذلك ابن نافع عن مالك في المجموعة، وفي التفريع لأشهب: إن شهد رجلان عدلان أنه قد أتم صلاته أجزأه، وقد خفف ذلك مالك أيضا في الطواف في رسم "شك في طوافه" من كتاب الحج، والطواف بالبيت صلاة. ووجه ذلك القياس على الحقوق، وذلك بعيد؛ لأنهما أصلان مفترقان في المعنى، وبالله التوفيق.
[مسألة: مسافر حضر الجمعة فأصاب الإمام حدث فقدمه]
مسألة قال ابن القاسم: في مسافر حضر الجمعة، فأصاب الإمام حدث فقدمه، قال: لا أرى أن يصلي بهم؛ لأن الجمعة ليست عليه، فإن فعل فأحب إلي أن يعيدوا الخطبة والصلاة في الوقت، فإن فات الوقت أعادوا ظهرا أربعا. قال سحنون: إذا جاء لها فأراه(1/235)
من أهلها، وأراها لهم تامة، وقال أشهب مثل قول سحنون، وكذلك العبد أيضا.
قال محمد بن رشد: في بعض الروايات، وكذلك العيد أيضا، أي أنه يجوز للمسافر أن يؤم القوم في صلاة العيد كما يجوز له أن يؤمهم في صلاة الجمعة، وفي بعضها، وكذلك العبد أيضا، أي أن إمامة العبد تجوز في الجمعة كما تجوز فيها إمامة المسافر، والروايتان جميعا صحيحتان في المعنى؛ لأنه يجوز عند أشهب وسحنون للمسافر والعبد أن يؤما في الجمعة والعيد. وأما ابن القاسم فلا يجوز على مذهبه وروايته عن مالك في المدونة أن يؤم المسافر ولا العبد في الجمعة ولا في العيد، ولا أن يستخلفهما الإمام فيهما بعد إحرامهما معه؛ لأن صلاة العيد لا تجب عليهما كما لا تجب عليهما الجمعة.
وقد نص على ذلك في المدونة في العبد، والمسافر مقيس عليه عنده. ويجوز على مذهب ابن حبيب للعبد والمسافر أن يؤما في صلاة العيد؛ لأنها تجب عليهما عنده، ولم يجز للمسافر أن يؤم في الجمعة، وأجاز للإمام أن يستخلفه فيها بعد الإحرام، وحكى ذلك عن مطرف، وابن الماجشون. فإن أم المسافر أو العبد في الجمعة على مذهب من لا يجيز إمامتهما فيها، أعاد القوم صلاة الجمعة في الوقت، وقد اختلف فيه فقيل ما لم يدخل وقت العصر. قال أبو بكر الأبهري: فإن أدرك ركعة بسجدتيها قبل دخول وقت العصر أتمها جمعة، وإن لم يدرك ذلك أتمها ظهرا أربعا، وقيل: ما لم تصفر الشمس، وقيل: ما بقي للعصر ركعة إلى الغروب، وهو قول ابن القاسم في رسم "استأذن" من سماع عيسى. وظاهر قوله في المدونة وإن كان لا يدرك العصر إلا بعد الغروب، وقيل: ما لم تغرب الشمس، وهي رواية مطرف عن مالك، وما في بعض روايات المدونة من قوله: وإن كان لا يدرك العصر إلا بعد الغروب، وأعاد ظهرا أربعا بعد الوقت، وأعاد المسافر الصلاة(1/236)
أيضا، قيل في الوقت وبعده، وقيل في الوقت، وقيل: لا إعادة عليه. وهذا على اختلافهم في من جهر في صلاته متعمدا. وأما العبد فقيل: إنه لا إعادة عليه، وقيل: إنه يعيد أبدا، وبالله التوفيق.
[المساجد التي تكون في القرى يتخذونها للضيفان]
ومن كتاب أوله سلعة سماها وسئل عما يتخذ الناس في المساجد التي تكون في القرى يتخذونها للضيفان، يبيتون فيها ويأكلون فيها، قال: أرجو أن يكون خفيفا، وكره الطعام في المساجد مثل ما يصنع الناس في رمضان. ولقد أدركت ناسا في مسجدنا، وأن الرجل ليوتى بالشربة السويق، وما أكره ذلك، كأنه يعني الشربة، إلا لموضع المضمضة، ولو خرج إلى باب المسجد فشرب عليه وأكل لكان أحب إلي.
قال محمد بن رشد: المساجد إنما اتخذت لعبادة الله عز وجل بالصلاة والذكر والدعاء، فينبغي أن تنزه عما سوى ذلك ما أمكن، قال الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] أي أمر بذلك، فمن ترفيعها أن تخلص لأعمال الآخرة، فلا يباع فيها ولا يشترى ولا تعمل فيها الصناعات، ولا توكل فيها الألوان ولا يلغط فيها، ولا ينشد فيها شعر، ولا تنشد فيها ضالة، ولا توقد فيها نار، ولا يغسل فيها شيء، ولا يرفع فيها صوت. فقد كره أهل العلم ذلك حتى في العلم. وبنى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رحبة بناحية المسجد تسمى البطيحاء، وقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة. وخفف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الرواية للضيفان المبيت والأكل في مساجد القرى، وأن تتخذ لذلك للضرورة إلى ذلك، بمعنى أن الباني لها للصلاة فيها يعلم أن الضيفان سيبيتون فيها لضرورتهم إلى ذلك، فصار كأنه قد بناها لذلك، وإن كان أصل(1/237)
بنائه لها إنما هو للصلاة فيها، لا لما سوى ذلك من مبيت الضيفان. وكذلك يجوز لمن لم يكن له منزل أن يبيت في المسجد، وكره الطعام فيه والشربة من السويق لموضع المضمضة، وأجاز شرب الماء فيه. وهذه المعاني مذكورة في مواضع من هذا الكتاب بألفاظ مختلفة، ومعان متفقة، منها ما وقع عند آخر رسم "شك بعد هذا"، وفي رسم "اغتسل على غير نية"، وفي رسم "الشجرة "، وسماع عبد المالك زونان، في كتاب السلطان، في رسم "شك في طوافه" من سماع ابن القاسم، عقب كتاب ذكر الحق في المسجد ما لم يطل، وفي رسم "تأخير صلاة العشاء" منه إجازة قضاء الحق فيه ما لم يكن على وجه التجارة والصرف، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يركع ركعتي الفجر في منزله ثم يأتي المسجد أيركعهما]
مسألة وسئل عن الرجل يركع ركعتي الفجر في منزله، ثم يأتي المسجد، أترى أن يركعهما؟ قال مالك: كل ذلك قد رأيت من يفعله، فأما أنا فأحب إلي أن يقعد ولا يركع. قال لي ابن القاسم: وقد قال لي قبل ذلك أحب إلي أن يركع، وكأني رأيته وجه الشأن عنده. قال سحنون: إذا ركعهما في بيته فلا يعيدهما في المسجد.
قال محمد بن رشد: هذا الاختلاف إنما هو اختلاف في الاختيار، وفي أي الأمرين أفضل، وإنما وقر من أجل أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر» وقال أيضا: «إذا دخل أحدكم المسجد، فليركع ركعتين قبل أن يجلس» فتعارض الحديثان في الظاهر، وكل واحد منهما يحتمل أن يكون مخصصا لعموم صاحبه، احتمالا واحدا. ألا ترى أنه لو قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا صلاة بعد الفجر سوى ركعتي الفجر، إلا لمن دخل المسجد(1/238)
لكان كلاما مستقيما، ولو قال أيضا: من دخل المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس، إلا أن يكون بعد الفجر، وقد ركع ركعتي الفجر لكان أيضا كلاما مستقيما، فلما لم يتحقق أي المعنيين أراد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقع الاختلاف المذكور. ووجه القول بأن الركوع أفضل هو أن الصلاة فعل بر، فلا يقال: إن تركها في هذا الوقت أفضل إلا أن يتحقق النهي عن ذلك؛ ووجه القول بأن ترك الركوع أفضل هو أن النهي أقوى من الأمر؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» . وأيضا فإن قوله: «إذا دخل أحدكم المسجد، فليركع ركعتين قبل أن يجلس» أولى بالتخصيص في هذا الموضع، إذ قد خصص في غيره من المواضع وهي الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، فيحمل هذا الموضع عليها. وهذا القول أظهر. واستحب من رأى الركوع أفضل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دخل أحدكم المسجد، فليركع ركعتين قبل أن يجلس» أن يركعهما بنية الإعادة لركعتي الفجر، رغبة فيما جاء فيهما من الثواب، والله أعلم.
[مسألة: قراء يجتمع الناس إليهم يقرئونهم فكل رجل منهم يقرئ النفر يفتح عليهم]
مسألة وسئل عن قراء مصر الذين يجتمع الناس إليهم يقرئونهم، فكل رجل منهم يقرئ النفر يفتح عليهم. قال: ذلك حسن. قال ابن القاسم: ولا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: كان مالك يكره هذا، ولا يراه صوابا، ثم رجع فخففه، ولم ير به بأسا، وقع اختلاف قوله بعد هذا في رسم "حلف" من هذا السماع، وقال هاهنا: ذلك حسن. ووجه الكراهة فيه بين، وذلك إذا قرأ عليه(1/239)
جماعة في كرة واحدة، لا بد أن يفوته سماع ما يقرأ به بعضهم، ما دام يصغي إلى غيرهم، ويشتغل بالرد على الذي يصغي إليه، فقد يخطئ في ذلك الحين، ويظن أنه قد سمعه، وأجاز قراءته فيحمل عنه الخطأ، ويظنه مذهبا له. ووجه تخفيفه ذلك للمشقة الداخلة على المقرئ بإفراد كل واحد من القراء عليه إذا كثروا. ووجه تحسينه لذلك في هذه الرواية إنما معناه، والله أعلم، إذا كثر القراء عليه حتى لم يقدر أن يعم جميعهم مع الإفراد، فرأى جمعهم في القراءة أحسن من القطع ببعضهم، فهذا تأويل ما ذهب إليه عندي، والله أعلم.
[مسألة: عشور المصحف وتزيينه بالخواتم]
مسألة وسئل عن عشور المصحف، فقال: يعشر بالسواد، وأكره الحمرة، وذكر تزيين المصاحف بالخواتم فكرهه كراهية شديدة، فقيل له: فالفضة؟ قال: الفضة من ورائه، ولم ير به بأسا، ثم قال: إني لأكره لأمهات المصاحف أن تشكل، وإنما أرخص فيما يتعلم فيه الغلمان، فأما الأمهات فإني أكرهه.
قال محمد بن رشد: قوله: من ورائه، أي من خارجه، يريد أنه لا بأس أن تحلى أغشيته بالفضة، ويروى من روائه أي من زينته، يريد زينة أعلاه وخارجه. وقد اختلف قوله في إجازة تحليته بالذهب، فأجاز ذلك في كتاب ابن المواز، وهو ظاهر ما في كتاب البيوع من موطاه، وكرهه في كتاب ابن عبد الحكم. ووجه كراهيته لتزيين داخله بالخواتم وتعشيره بالحمرة بين، وذلك أن القارئ فيه ينظر إلى ذلك، فيلهيه ويشغله عن اعتباره وتدبر آياته. «وقد جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نعليه شراكين جديدين، ثم نزعهما ورد فيهما الخلقين، وقال: "إني نظرت إليهما في الصلاة» ، «وصلى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في(1/240)
خميصة شامية، لها علم، فلما انصرف من الصلاد ردها إلى مهديها إليه أبي جهم، وقال: "إني نظرت إلى علمها في الصلاة، فكاد يفتنني» . وإذا كان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خشي على نفسه الفتنة في صلاته، فهي على من سواه متيقنة غير مأمونة، وفي هذا بيان، ولهذا المعنى كره تزويق المسجد. وأما كراهيته لشكل أمهات المصاحف، فالمعنى في ذلك أن الشكل مما قد اختلف القراء في كثير منه، إذ لم يجئ مجيئا متواترا، فلا يحصل العلم بأي الشكلين أنزل، وقد يختلف المعنى باختلافه، فكره أن يثبت في أمهات المصاحف ما فيه اختلاف. وبالله التوفيق.
[مسألة: الصلاة يقرأ فيها في الركعة الأولى بالشمس وفي الثانية بالبلد]
مسألة وسئل عن الصلاة يقرأ فيها في الركعة الأولى بـ (الشمس وضحاها) ، ويقرأ بعد ذلك في الركعة الثانية: بـ (لا أقسم بهذا البلد) ، قال: لا بأس بذلك، لم يزل هذا من عمل الناس، قيل له: أفلا يقرأ على تأليفه أحب إليك؟ قال: هذا كله سواء.
قال محمد بن رشد: ذهب ابن حبيب إلى أن القراءة على تأليفه أفضل، وحكى ذلك عن مالك من رواية مطرف عنه، وقال ابن الحكم، قال ابن حبيب: وأما أن يقرأ في الركعة الثانية سورة أخرى ليست بإثرها إلا أنها تحتها، فلا بأس به، وهو أجوز من أن يقرأ سورة فوقها. ولعمري إن القراءة في الركعة الثانية بما بعد السورة التي قرأ في الركعة الأولى أحسن من أن يقرأ فيها بما قبلها؛ لأنه جل أعمال الناس الذي مضوا عليه، والأمر في ذلك واسع؛ لقوله عز وجل: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] ، وبالله التوفيق.(1/241)
[مسألة: الصلاة في السفينة قائما أو قاعدا]
مسألة وسئل عن الصلاة في السفينة قائما أو قاعدا؟ قال: بل قائما، فإن لم يستطيعوا فقعودا. قيل: ويؤمهم قعودا؟ قال: نعم إذا لم يستطيعوا أن يقوموا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن القيام في الصلاة من فروضها؛ قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، وقال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] ، فلا يجوز أن يصلي جالسا من يستطيع الصلاة قائما، فإذا لم يستطيعوا الصلاة في السفينة قياما، كانوا كالمرضى، وجاز أن يؤمهم الإمام قعودا وهو قاعد.
[مسألة: القراءة في المسجد]
مسألة وسئل عن القراءة في المسجد، فقال: لم يكن بالأمر القديم، وإنما هو شيء أحدث، ولم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، والقرآن حسن.
قال محمد بن رشد: يريد أن التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات، أو على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كأنه سنة مثل ما يفعل بجامع قرطبة إثر صلاة الصبح، فرأى ذلك بدعة. وأما القراءة على غير هذا الوجه، فلا بأس بها في المسجد، ولا وجه لكراهيتها. وقد قال في آخر رسم "المحرم" بعد هذا، من هذا السماع: ما يعجبني أن يقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد، لا في الأسواق والطرق. وفي هذا بيان ما قلناه، والله أعلم،(1/242)
وسيأتي ما يشبه هذا المعنى في أول رسم "سُنّ" من هذا السماع، وفي رسم "لم يدرك" من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: القرى لا يكون فيها إمام إذا صلى بهم رجل منهم الجمعة أيخطب بهم]
مسألة وسئل عن القرى التي لا يكون فيها إمام، إذا صلى بهم رجل منهم الجمعة، أيخطب بهم؟ قال: نعم، لا تكون الجمعة إلا بخطبة. قيل له: أيؤذن قدامه؟ قال: لا، وعندنا هاهنا - يعني المدينة - إذا لم يكن إمامنا حاضرا، فصلى بنا القاضي أو القاص الجمعة، فإنما يؤذن فوق المنارة.
قال محمد بن رشد: القاص الواعظ الذي يحض الناس على الصلاة ويعلمهم الخير، والأذان بين يدي الإمام في الجمعة مكروه؛ لأنه محدث، ولذلك نهى عنه مالك، وكان لا يفعله القاضي ولا القاص، إذا غاب الإمام. وأول من أحدثه هشام بن عبد الملك. وإنما كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا زالت الشمس وخرج، رقى المنبر، فإذا رآه المؤذنون، وكانوا ثلاثة قاموا فأذنوا في المدينة واحدا بعد واحد كما يؤذنون في غير الجمعة، فإذا فرغوا أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبته، ثم تلاه على ذلك أبو بكر وعمر، وزاد عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما كثر الناس أذانا بالزوراء عند زوال الشمس، يؤذن الناس بذلك أن الصلاة قد حضرت، وترك الأذان في المدينة بعد جلوسه على المنبر على ما كان عليه، فاستمر الأمر على ذلك إلى زمان هشام بن عبد الملك، فنقل الأذان الذي كان بالزوراء إلى المدينة، ونقل الأذان الذي في المدينة بين يديه، وأمرهم أن يؤذنوا معا، وتلاه على ذلك من بعده من الخلفاء إلى زماننا وهو بدعة. والذي كان يفعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء الراشدون بعده هو السنة، وبالله التوفيق.(1/243)
[مسألة: لخطيب الجمعة والعيدين والاستسقاء أن يتوكأ على عصى]
مسألة قال ابن القاسم: واستحب لكل من خطب في جمعة أو عيدين أو استسقاء أن يتوكأ على عصى.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة وغيرها، ولا يكتفى بعمود المنبر كان ممن يرقى عليه أو يخطب إلى جانبه، وهي السنة من فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خطب توكأ على عصى أو قوس، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون بعده، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشين المهديين بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» ، وفي آخر رسم "البز" بعد هذا ما يدل أن ذلك مباح، وهو الصحيح، وبالله التوفيق.
[ترك العمل يوم الجمعة]
ومن كتاب أوله شك في طوافه قال مالك: كان بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكرهون أن يترك يوم الجمعة العمل؛ لئلا يصنعوا فيه كما فعلت اليهود والنصارى في السبت والأحد.
قال محمد بن رشد: وهذا لما روي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بمخالفة أهل الكتاب، وينهى عن التشبه بهم، وروي عنه أنه قال: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» ، وأنه قال: «ألحدوا ولا تشقوا، فإن اللحد لنا، والشق لأهل الكتاب» ، وأنه قال: «فصل ما بين صيامنا وصيام(1/244)
أهل الكتاب أكلة السحر» ، ومثل هذا كثير.
[مسألة: الرجل يتنفل في الصلاة أيحصي الآي بيده]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتنفل في الصلاة أيحصي الآي بيده؟
قال: لا بأس بذلك، ولعله يريد أن يحصي بذلك.
قال محمد بن رشد: لا وجه لإحصائه ما يقرأ به في نافلته من الآيات، إلا أن يكون أوجب على نفسه قدرا ما من القراءة فيها، فيحتمل أن يكون ذلك وجه الرواية، ويدل على ذلك قوله في آخرها، ولعله يريد أن يحصي بذلك، أي يحصي ما أوجب على نفسه من ذلك، إما بنذور، وإما بالنية مع الدخول في الصلاة على مذهب أشهب، في أن من افتتح الصلاة قائما وجب عليه تمامها قائما؛ لأنه رأى أن ذلك يجب عليه بالنية مع الدخول في الصلاة، خلاف ما في سماع موسى، عن ابن القاسم أنه من أحرم بالصلاة، ونوى سورة طويلة، ثم أدركه كسل وملل أنه ليس عليه أن يتمها، وإجازته إحصاء الآي بيديه لهذا المعنى هو نحو ما يأتي في رسم طلق من إجازته، تحويل الخاتم في أصابعه عند ركوعه لسهوه، فتدبر ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يكون في الصلاة فيقعد للتشهد فيضيق به الصف أيتقدم عنه]
مسألة وسئل عن الرجل يكون في الصلاة، فيقعد للتشهد، فيضيق به الصف أيتقدم عنه؟ قال: لا بأس بذلك، وقد رأيت بعض أهل العلم يفعل ذلك.
قال محمد بن رشد: الخروج عن الصف في الصلاة منهي عنه، فإنما أجاز ذلك للضرورة، ولو فعله من غير عذر؛ لكان قد أساء، ولم تكن عليه(1/245)
إعادة، قاله ابن حبيب. وروى ابن وهب عن مالك: أن عليه الإعادة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكرة لما أتى وقد حفزه النفس فركع دون الصف: «زادك الله حرصا، ولا تعد» ؛ لأنه حمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ولا تعد، أي لا تعد إلى الركوع دون الصف. وقد قيل: إن المعنى في ذلك لا تعد إلى التأخير عن الصلاة حتى تأتي، وقد حفزك النفس، وهو الأظهر إذ لم يأمره بإعادة تلك الصلاة لذلك. وقد روي عن وابصة بن معبد: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا في الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة» ، وهذا لا دليل فيه، إذ قد يحتمل أن يكون إنما أمره أن يعيد لمعنى كان منه في الصلاة، لا لأنه صلى في الصف وحده. وكذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا صلاة لفرد خلف الصف» ، لا دليل فيه أيضا؛ لاحتمال أن يريد لا صلاة له متكاملة، كقوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» ، وقوله: «لا وضوء لمن لم يسم الله» ، وما أشبه ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: القارئ إذا أخطأ في الصلاة أيتعوذ وهو يلقن ولا يفقه]
مسألة وسئل مالك عن القارئ إذا أخطأ في الصلاة أيتعوذ وهو يلقن ولا يفقه، قال: أرجو أن يكون خفيفا. فقيل له: يا أبا عبد الله، فإذا(1/246)
لم يستطع أن ينفذ فيها أيركع أم يقرأ سورة غيرها؟ قال: ذلك واسع. قال ابن القاسم: وأحب إلي أن يبتدئ سورة أخرى.
قال محمد بن رشد: خفف مالك التعوذ للقارئ في الصلاة إذا أخطأ في قراءته؛ لأن ذلك من الشيطان، لما روي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرض له الشيطان في صلاته فقال: أعوذ بالله منك» ، ووسع له إذا لم ينفذ فيها أن يركع، واستحب ابن القاسم أن يبتدئ سورة أخرى. ووجه استحبابه أنه لما افتتح بسورة، فقد نوى إتمامها، فاستحب له أن لا يركع حتى يقرأ قدر ما كان نوى قراءته، وبالله التوفيق.
[مسألة: رعف بعدما سلم الإمام]
مسألة وسئل مالك عمن رعف بعدما سلم الإمام، أترى أن يسلم ويجزئ ذلك عنه؟ قال: نعم، إذا أصابه بعد سلام الإمام، فإني أرى ذلك مجزيا عنه أن يسلم، فإن رعف قبل أن يسلم الإمام خرج فغسل الدم عنه، ثم رجع بغير تكبير، فيجلس ثم يتشهد ويسلم.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصله؛ لأن الرعاف ليس بحدث ينقض الطهارة على مذهبه، فإذا رعف بعد سلام الإمام جاز له أن يسلم، وتجزئه صلاته؛ لأنه على طهارة، وإن رعف قبل سلامه جاز له البناء عنده بعد غسل الدم، وقال: إنه يرجع بغير تكبير؛ لأنه لم يخرج من صلاته بالرعاف، وإنما يرجع إلى تمام صلاته بتكبير من خرج منها بسلام، وبالله التوفيق.
[مسألة: المسافر إذا زالت الشمس أترى أن يصلي الظهر]
مسألة وسئل مالك عن المسافر إذا زالت الشمس، أترى أن يصلي الظهر؟ قال: أحب إلي أن يؤخر ذلك قليلا.(1/247)
قال محمد بن رشد: استحب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يؤخر ذلك قليلا لوجهين: أحدهما: أن المبادرة في أول الوقت من فعل الخوارج الذين يعتقدون أن تأخير الصلاة عن أول وقتها لا يحل، والثاني: أن يستبين دخول الوقت ويتمكن؛ لأن أول الزوال خفي لا يتبين إلا بظهور زيادة الظل، والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: الذي يدخل في صلاة الصبح والإمام قاعد فيقعد معه أيكبر حين يقعد]
مسألة وسئل مالك عن الذي يدخل في صلاة الصبح والإمام قاعد فيقعد معه، أترى أن يكبر حين يقعد، أم ينتظر حتى يفرغ فيركع ركعتي الفجر ثم يصلي؟ قال: أما إذا قعد معه فأرى أن يكبر. قال ابن القاسم: ويركع ركعتي الفجر إذا طلعت الشمس.
قال محمد بن رشد: لابن حبيب في الواضحة أنه لا يكبر ويقعد معه، فإذا سلم قام هذا فركع ركعتي الفجر. وقول مالك أولى وأحسن؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» وإن فاتته ركعتا الفجر في وقتها، فقد أدرك فضل الجماعة بدخوله مع الإمام في آخر صلاته على ما جاء من أن من أدرك القوم جلوسا، فقد أدرك فضل الجماعة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصلاة في البرنس]
مسألة وسئل مالك عن الصلاة في البرنس، قال: هي من لباس المصلين، وكانت من لباس الناس القديم، وما أرى بها بأسا، واستحسن لباسها، وقال: هي من لباس المسافر للبرد والمطر. قال: ولقد سمعت عبد الله بن أبي بكر، وكان من عباد الناس وأهل الفضل(1/248)
وهو يقول: ما أدركت الناس إلا ولهم ثوبان، برنس يغدو به، وخميصة يروح بها، ولقد رأيت ناسا يلبسون البرانس، فقيل له: ما كان ألوانها؟ قال: صفر.
قال محمد بن رشد: البرانس ثياب متان في شكل الغفائر عندنا، مفتوحة من أمام، تلبس على الثياب في البرد والمطر مكان الرداء، فلا تجوز الصلاة فيها وحدها إلا أن يكون تحتها قميص أو إزار وسراويل؛ لأن العورة تبدو من أمامه. وهذا في البرانس العربية، وأما البرانس الأعجمية فلا خير في لباسها في الصلاة ولا في غير الصلاة؛ لأنها من زي العجم وشكلهم. أما الخمائص فهي أكسية من صوف رقاق معلمة وغير معلمة يلتحف بها، كانت من لباس الأشراف في أرض العرب، فقوله: برنس يغدو به، يريد يلبسه على ما تحته من الثياب، وخميصة يروح بها، يعني يلتحفها على ما عليه من الثياب، والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: الرجل يقوم عند المنبر وهو يدعو ويرفع يديه]
مسألة قال مالك: بلغني أن أبا سلمة رأى رجلا قائما عند المنبر، وهو يدعو ويرفع يديه، فأنكر عليه وقال: لا تقلصوا تقليص اليهود. فقيل له: ما أراد بالتقليص؟ قال: رفع الصوت بالدعاء ورفع اليدين.
قال محمد بن رشد: إنما كره رفع الصوت بالدعاء؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارفقوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» ، وقد روي أن قول الله عز وجل: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] نزلت في الدعاء. وأما رفع اليدين عند الدعاء، فإنما أنكر الكثير منه مع رفع الصوت؛ لأنه(1/249)
من فعل اليهود، وأما رفعهما إلى الله عز وجل عند الرغبة على وجه الاستكانة والطلب، فإنه جائز محمود من فاعله، وقد أجازه مالك في المدونة في مواضع الدعاء وفعله فيها، واستحب في صفته أن تكون ظهورهما إلى الوجه، وبطونهما إلى الأرض، وقيل في قول الله عز وجل: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] إن الرغب بكون بطون الأكف إلى السماء، والرهب بكونها إلى الأرض، وقد وقع لمالك بعد هذا في رسم "المحرم" من هذا السماع: أنه لا يعجبه رفع اليدين في الدعاء، ومعنى ذلك الإكثار منه في غير مواضع الدعاء، حتى لا يختلف قوله، والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: السدل في الصلاة]
مسألة وسئل عن السدل في الصلاة، وليس عليه قميص سوى إلا أن يرخيه وبطنه مكشوف، قال: لا بأس بذلك، إذا كان عليه غير ذلك.
قال محمد بن رشد: صفة السدل أن يسدل طرفي ردائه بين يديه، فيكون صدره وبطنه مكشوفا، فأجاز ذلك إذا كان عليه غير ذلك، يريد - والله أعلم - إن كان عليه مع الإزار غير ذلك من ثوب يستر سائر جسده. وأجازه في المدونة وإن لم يكن عليه إلا إزار أو سراويل تستر عورته، وحكى أنه رأى عبد الله بن الحسن وغيره يفعل ذلك، ومعنى ذلك إذا غلبه الحر، إذ ليس من الاختيار أن يصلي الرجل مكشوف الصدر والبطن من غير عذر، وقد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة وأبي حجيفة: أنه نهى عن السدل في الصلاة» ، فكره لذلك بعض أهل العلم أن يسدل الرجل في صلاته، وإن كان عليه مع الإزار قميص، وقال: ذلك فعل اليهود، والله أعلم، وبه التوفيق.(1/250)
[مسألة: فضل صلاة العشاء]
مسألة وسئل مالك: هل بلغك عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا ذكر له البادية والخروج إليها قال: فأين صلاة العشاء؟ قال: نعم، قد بلغني أن سعيد بن المسيب كان إذا ذكر له البادية والخروج إليها قال: فأين صلاة العشاء.
قال محمد بن رشد: إنما كان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول ذلك إشفاقا على فوات الصلاة في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخص بالذكر صلاة العشاء لما جاء من الفضل في شهودها، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بيننا وبين المنافقين شهود العشاء والصبح لا يستطيعونها» أو نحو هذا. وقال عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من شهد العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة، ومن شهد الصبح فكأنما قام ليلة، وذلك لا يكون إلا عن توقيف، إذ لا مدخل في ذلك للقياس، ولا يقال مثله بالرأي، ولعله أراد أن أهل البادية لا يصلون العشاء والصبح في جماعة، ولا يرى لنفسه اختيارا أن يأتم بأئمتهم لجهلهم بالسنة، وبالله التوفيق.
[مسألة: المراوح أيكره أن يروح بها في المساجد]
مسألة وسئل مالك عن المراوح، أيكره أن يروح بها في المساجد؟ قال: نعم، إني لأكره ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله؛ لأن المراوح إنما اتخذها أهل الطول للترفيه والتنعم، وليس ذلك من شأن المساجد، فالإتيان إليها بالمراوح من المكروه البين. وستأتي هذه المسألة مكررة في سماع أشهب في أول رسم منه، وبالله التوفيق.(1/251)
[الرجل يقعد مع الإمام في الركعتين فينعس فلا ينتبه إلا لقيام الناس أيقوم أم يتشهد]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يقعد مع الإمام في الركعتين، فينعس فلا ينتبه إلا لقيام الناس، أيقوم أم يتشهد؟ قال: بل يقوم، ولا يقعد للتشهد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله؛ لأن التشهد قد فاته بنعاسه وذهب موضعه، ووجب عليه أن يقوم إذا قام الإمام؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا» الحديث، ولا شيء عليه في التشهد؛ لأنه مما يحمله عنه الإمام، ولا ينتقض وضوؤه بهذا المقدار من النوم؛ لأنه يسير، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتشهد وهو ملتف بساجه فيشير من تحت الساج بأصبعه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتشهد وهو ملتف بساجه، فيشير من تحت الساج بأصبعه، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: أما الإشارة بالأصبع في التشهد فقد استحسنه في رسم "المحرم" بعد هذا، وخير فيه في رسم "نذر سنة". وقوله هاهنا: لا بأس بذلك يدل على التخفيف، وأن ما سواه أحسن، فلا يعود ذلك إلا إلى الإشارة من تحت الساج، لا إلى نفس الإشارة؛ لأنها السنة من فعل الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على ما في الموطأ من رواية ابن عمر. ولابن القاسم في تفسير ابن مزين: أنه كان لا يحركهما، وفي سماع أبي زيد عنه أنه قال: رأيت مالكا إذا(1/252)
صلى الصبح، يدعو ويحرك أصبعه التي تلي الإبهام ملحا. ووجه تحريكها استشعار كونه مقبلا على صلاته؛ لئلا يشتغل باله بما سواها. وقد قيل فيها لهذا المعنى: إنها مدية الشيطان، ومقمعة له. ووجه مدها دون تحريك أن يتأول فاعل ذلك بها أن الله وحده لا شريك له، وبالله التوفيق.
[مسألة: صلاة رسول الله في منى إلى غير سترة]
مسألة قال مالك: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منى إلى غير سترة، ولقد كرهت بنيان مسجد عرفة، وذلك أن الرجل يأتي يمسك بعيره وما أشبه ذلك، وليس لكل الناس من يمسك إبلهم. ولقد أدركت عرفة وما بها مسجد حتى بني بعد، فقيل له: ما اتخذ الناس من البنيان بمنى، فكره ذلك وقال: ذلك مما يضيق على الناس، ولم يعجبه البنيان بها.
قال محمد بن رشد: قوله: صلى رسول الله في منى إلى غير سترة، أي إلى غير سترة مبنية مسجد ولا غيره، لا أنه صلى إلى غير سترة أصلا، فإنه كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى في الصحراء تركز له الحربة، أو توضع بين يديه العنزة، فيصلي إليها. وقد بين العلة في كراهيته للبنيان بمنى، ولبنيان مسجد عرفة، ومثل ذلك كله في الحج الأول من المدونة، وقال فيها: إنما أحدث مسجدها بعد بني هاشم بعشر سنين.
[مسألة: الأقناء التي تعلق في مسجد النبي]
مسألة وسئل مالك عن الأقناء التي تعلق في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أكان ذلك من الأمر القديم؟ قال: نعم، قد كان على عهد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وإنما كان لمكان من كان يأتي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان لموضع ضيافتهم يأكلون منه وأراه حسنا أن يعلق فيه، فقيل له:(1/253)
أفترى لو عمل ذلك في مساجد الأمصار؟ فقال: أما كل بلد فيه تمر فلا أرى بذلك بأسا. قال ابن القاسم: ولم ير مالك بأسا بأكل الرطب التي تجعل في المسجد، مثل رطب ابن عمير، وقد جعل صدقة.
قال محمد بن رشد: الأقناء: العراجين من التمر، وواحدها قنو، ويجمع على أقناء وقنوان. قال الله عز وجل: {قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} [الأنعام: 99] ، وفي هذا ما يدل على أن الغرباء الذين لا يجدون مأوى يجوز لهم أن يأووا إلى المساجد، ويبيتوا فيها، ويأكلوا فيها ما أشبه التمر من الطعام الجاف كله، وقد تقدم هذا المعنى في أول الرسم الذي قبل هذا، ويأتي في غير ما موضع، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة التي ليس لها الزوج الشابة تضع الخضاب ولبس القلادة]
مسألة وسئل مالك عن المرأة التي ليس لها الزوج الشابة، تضع الخضاب ولبس القلادة ولبس القرطين، قال: لا بأس بذلك. فقيل لمالك: أتصلي بغير قلادة ولا قرطين، قال: نعم، لا بأس بذلك، وإنما يفتيهن بهذا العجائز.
قال محمد بن رشد: إنما وقع السؤال عن المرأة التي ليس لها الزوج الشابة، تضع الخضاب ولبس القلادة ولبس القرطين، من أجل ما روي: «أن امرأة جاءت إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تبايعه فقال لها: "ما لك لا تختضبين، ألك زوج. قالت: نعم، قال: فاختضبي؛ فإن المرأة تختضب لأمرين، إن كان لها زوج فلتختضب لزوجها، وإن لم يكن لها زوج فلتختضب لخطبها"، ثم قال: "لعن الله المذكرات من النساء، والمؤنثين من(1/254)
الرجال» ، فلم يكره مالك للمرأة الشابة إذا لم يكن لها زوج أن تدع الخضاب ولبس القلادة والقرطين، وقال: لا بأس بذلك، ومعناه إذا لم تفعل ذلك قصدا منها للتشبه بالرجال. وأما إن كان لها زوج فالخضاب ولبس القلادة والقرطين مما يستحب لها بدليل الحديث، فهو مستحب في حال، ومباح في حال، ومحظور في حال.
والخضاب المأمور به هو أن تخضب المرأة يديها إلى موضع السوار من ذراعيها. وروي: أن عمر بن الخطاب خطب فقال: يا معشر النساء، إذا اختضبتن فإياكن والنقش والتطريف، ولتخضب إحداكن يديها إلى هذا، وأشار إلى موضع السوار. وأما صلاتها بغير قلادة ولا قرطين، فأجاز ذلك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولم ير فيه كراهة، وقال: لا بأس بذلك، وإنما يفتيهن بذلك العجائز، وقوله بَيِّن لا إشكال فيه؛ لأن هذه الأشياء من المعاني التي أبيح للمرأة أن تتزين بها، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] فليست مما يجب عليها في صلاة ولا غير صلاة، وأرى من كان أصل الفتوى بوجوب ذلك عليهن في الصلاة، تأول قول الله عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] ، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الآية إنما نزلت في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، فلا يحتج منها على الوجوب إلا في ستر العورة خاصة، وأما حسن الهيئة في اللباس، وما كان في معناه، فإنما يستدل من الآية على استحبابه.
وإنما نزع بها مالك في كراهية الصلاة في مساجد القبائل بغير أردية، وقد كره جماعة السلف للمرأة أن تصلي بغير قلادة، روي ذلك عن ابن سيرين قال: قلت: لم؟ قال: لأنه تشبه بالرجال. وروى أن أم الفضل ابنة غيلان كتبت إلى أنس بن مالك: أتصلي المرأة وليس في عنقها قلادة؟ فكتب إليها: لا تصلي(1/255)
المرأة إلا وفي عنقها قلادة، وإن لم تجد إلا سيرا. ولم يكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن تصلي بغير قلادة ولا قرطين، وإن كانت القلادة والقرطان للمرأة من زينتها وحسن هيئتها، كما كره للرجل أن يصلي بغير رداء من أجل أن الرداء من زينته وحسن هيئته، والفرق بينهما عنده، والله أعلم أن القلادة والقرطين من الزينة التي أمر الله تعالى أن لا تبديها إلا لزوجها، أو لذي المحرم منها، وبالله التوفيق.
[مسألة: القوم يخرجون إلى السفر فيقدمون الرجل الصالح لفضله ولحاله ويجلونه]
مسألة وحدثنا مالك، عن عبد الرحمن بن المحبر أنه كان مع سالم بن عبد الله في بعض المناهل، فأقيمت الصلاة في المسجد، قال: فقلت له: الصلاة قد أقيمت، قال: نصلي مكاننا، ولا نصلي صلاتين صلاة السفر، وصلاة الحضر.
وسئل مالك عن القوم يخرجون إلى السفر، فيشيعهم الرجل الذي له الفضل والسن، فيقدمونه لفضله ولحاله فيجلونه، فقال: أرجو أن لا يكون بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: رأى سالم بن عبد الله أن القصر أفضل من الصلاة في الجماعة، وهو مذهب مالك؛ لأنه يرى القصر أفضل من الإتمام في جماعة، فإن أتم في جماعة لا يعيد؛ لأن معه فضل الجماعة مكان ما فاته من فضل القصر، وإن أتم وحده أعاد في الوقت ليدرك فضيلة القصر. وإن قدم المسافرون مقيما لفضله لم يكن بذلك بأس عنده. وقد تقدم هذا المعنى في رسم "القبلة"، وسيأتي في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب، وبالله التوفيق.(1/256)
[مسألة: الرجوع على صدور القدمين في الصلاة]
مسألة وقال مالك: ما رأيت أحدا ممن كنت أقتدي به يرجع على صدور قدميه في الصلاة.
قال محمد بن رشد: يريد بين السجدتين، وهذا كما قاله؛ لأن سنة الصلاة أن يكون جلوسه بين السجدتين كهيئة جلوسه في التشهد، وقد رأى المغيرة بن حكم عبد الله بن عمر يرجع في سجدتين في الصلاة على صدور قدميه، فلما انصرف ذكر ذلك لي، فقال: إنها ليست سنة الصلاة، وإنما أفعل ذلك من أجل أني أشتكي.
وقال في حديث آخر إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى. والسنة إذا أطلقت فهي سنة النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حتى تضاف إلى غيره، كما قيل سنة العُمَرَيْن - والرجوع على العقبين بين السجدتين هو الإقعاء المنهي عنه عند أهل الحديث، وعند أهل اللغة جلوس الرجل على أليتيه ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع، وبالله التوفيق.
[البدار بالصلاة في أول الوقت]
مسألة ولقد بلغني أن ابن عمر كان يروح بعد الزوال ثم يسير أميالا قبل أن يصلي الظهر، فقيل له: فأي ذلك أحب إليك؟ قال مالك: مثل الذي فعل ابن عمر يؤخر ذلك، فقيل له: فالجمع بين الصلاتين في السفر؟ قال: إني لأكره ذلك. قيل له: فالنساء؟ قال: ذلك أخف عندي؛ لأن المرأة تستر وخففه فيها.
وقال ما مالك: «بلغني أن عبد الله بن رواحة أقبل إلى المسجد يوم الجمعة فسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول وهو على المنبر للناس اجلسوا قال: فسمعه عبد الله بن رواحة وهو في الطريق فجلس مكانه في الطريق(1/257)
لموضع ما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . فقيل له: فأحب إليك إذا جمع في أي وقت؟ قال: في وسط ذلك بين الصلاتين.
قال محمد بن رشد: رواح عبد الله بن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بعد الزوال قبل أن يصلي الظهر يدل على أنه كان يتحرى أن لا يصلي في أول الوقت حتى يتمكن ويمضي منه بعضه، وهو الذي استحب مالك هنا وفي صدر هذا الرسم؛ لأن البدار بالصلاة في أول الوقت من فعل الخوارج، وأن الذي يتحرى أول الوقت لا يأمن أن يخطئ في تحريه فيصلي قبل أول الوقت.
وكراهية مالك جمع الصلاتين في السفر معناه إذا لم يجد في السير، وهو مثل قوله في المدونة، وخففه في المرأة لمشقة النزول عليها لكل صلاة مع حاجتها إلى الاستتار، مع أنه قد أجيز للرجل أيضا وإن لم يَجِدَّ به السير، وإليه ذهب ابن حبيب، وقد روي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الذي يدل عليه حديث معاذ بن جبل في الموطأ قوله فيه: «فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا» ؛ لأن قوله ثم خرج ثم دخل يدل على أنه كان نازلا غير ماش في سفره.
وقول مالك: إنه يجمع في وسط ذلك بين الصلاتين يريد في آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية، وهو مثل قوله في المدونة، وحديث عبد الله بن رواحة وقع في أثناء المسألة، ولا تعلق له بشيء منها، وفيه دليل على أنه يستحب لمن أتى الجمعة أن يترك الكلام في طريقه إذا علم أن الإمام في الخطبة وكان بموضع يمكن عنه أن يسمع كلام الإمام.
وقد قيل: إن الإنصات لا يجب عليه حتى يدخل المسجد، وهو قول ابن الماجشون ومطرف، وقيل(1/258)
إنه يجب عليه منذ يدخل رحاب المسجد التي تصلى فيه الجمعة من ضيق المسجد، وبالله التوفيق.
[مسألة: الجمع بين المغرب والعشاء إذا جمعتا في المطر]
مسألة وسئل مالك عن الجمع بين المغرب والعشاء إذا جمعتا في المطر أية ساعة يجمعان؟ قال: يؤخر المغرب قليلا. فقيل: أيوتر من جمع قبل أن يغيب الشفق؟ قال: لا، أفلا يستطيع أن يوتر في بيته؟
قال محمد بن رشد: قوله: إن المغرب تؤخر قليلا في الجمع بينهما هو معنى ما في المدونة، وفي رسم "أخذ يشرب خمرا" بعد هذا، وهو المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك أن ينصرف الناس وعليهم إسفار قبل مغيب الشفق وإظلام الوقت.
وقد روي عن مالك أنه يجمع بينهما عند الغروب، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وروي ذلك عن ابن وهب وأشهب.
وهذا القول يأتي على قياس القول بأن المغرب ليس لها في الاختيار إلا وقت واحد، فلما لم يجز على هذا القول تأخير المغرب بعد الغروب إلا لعذر ولا تعجيل العشاء قبل الشفق إلا لعذر أيضا، واستوى الطرفان، رأى التعجيل أولى لما للناس من الرفق في الانصراف والضوء متمكن بعد.
وأما القول الأول فإنه يأتي على مراعاة قول من يرى أن المغرب وقتها في الاختيار إلى مغيب الشفق، وهو ظاهر قول مالك في موطئه، فرأى أن يكون الجمع في وسط وقت المغرب المختار ليدرك من فضيلة وقت المغرب بعضها وتكون العشاء قد عجلت عن وقتها المختار للرفق بالناس كي ينصرفوا وعليهم إسفار قبل تمكن الظلام. وقوله: إنه لا يوتر قبل أن يغيب الشفق صحيح؛ لأن الوتر من صلاة الليل، ولا ضرورة تدعو إلى تعجيله قبل مغيب الشفق، وبالله التوفيق.(1/259)
[مسألة: ينصرف من منى إلى مكة وهو من أهلها فتدركه الصلاة قبل وصوله مكة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل ينصرف من منى إلى مكة وهو من أهل مكة، فتدركه الصلاة من قبل أن يصل إلى مكة، أترى يتم الصلاة؟ قال: نعم. وأهل المحصب يتمون وراءهم مثلهم، وأرى أن يحصب الناس بالمحصب حتى يصلوا العشاء.
وقد حصب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال لي بعد ذلك أرى أن يصلوا ركعتين حين ينزلون بالمحصب إذا أدركهم الوقت فيما بين منى ومكة، وإن تأخروا بمنى صلوا ركعتين. قال ابن القاسم: وقوله الأول أعجب إلي أن يتموا قبل أن يأتوا المحصب.
قال مالك: «حج معاوية بن أبي سفيان فصلى بمنى ركعتين، فكلمه مروان في ذلك وقال: أنت القائم بأمر عثمان، تصلي ركعتين وقد صلى عثمان أربعا، فقال: ويلك أنا صليتهما هاهنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، قال: فلم يزل به مروان حتى صلى أربعا» .
قال محمد بن رشد: أما من قدم مكة ولم ينو المقام بها أربعا حتى خرج إلى الحج فلا اختلاف في أنه يقصر بمنى وفي جميع مواطن الحج لأنه مسافر بعدُ على حاله، وإنما اختلف أهل العلم فيمن نوى الإقامة بمكة أو كان من أهلها وخرج إلى الحج، فقيل: إنه يتم لأنه ليس في سفر يقصر في مثله الصلاة، وهو مذهب أهل العراق، وقيل إنه يقصر لأنها منازل سفر وإن لم يكن سفرا يقصر في مثله الصلاة.
وإلى هذا ذهب مالك، ودليله «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأقام بمكة إلى يوم التروية، وذلك أربع ليال» ، ثم خرج فقصر بمنى، فلم يختلف قول مالك: إنه يقصر بمنى وعرفة، وفي جميع مواطن الحج إلا في رجوعه من منى إلى مكة بعد انقضاء حجه إذا نوى الإقامة بمكة أو كان من أهلها على ما تقدم، فكان أولا(1/260)
يقول: إنه يُتم؛ مراعاة لمن يرى أنه يتم؛ إذ ليس في سفر تقصر في مثله الصلاة، ثم رجع فقال: إنه يقصر حتى يأتي مكة بناء على أصله في أنه من أهل القصر دون مراعاة منه لقول غيره. وكذلك اختلف في ذلك اختيار ابن القاسم، وستأتي هذه المسألة متكررة في رسم "الشريكين" وفي رسم "المحرم " وفي بعض الروايات.
وأما إتمام عثمان، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بمنى فقد روي أن الناس لما أنكروا عليه الإتمام قال لهم: إني تأهلت بمكة، وقد سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من تأهل في بلدة فهو من أهلها» ، ولعله تأول أن رسول الله، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لم يقصر بمنى إلا من أجل أن إقامته بمكة لم تكن إقامة تخرجه عن سفره، ولذلك قصر بمنى. وأما معاوية بن أبي سفيان فالوجه فيما ذكر عنه في هذه الرواية والله أعلم أنه كان مقيما بمكة فقصر بمنى؛ لأنه تأول أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بها، وقد كان مقيما بمكة، فلم يزل به مروان حتى صرفه عن تأويله على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان مقيما بمكة إلى أنه إنما قصر، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأنه لم يكن مقيما بمكة إقامة تخرجه عن سفره.
فالاختلاف هل كان، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، مقيما بمكة قبل خروجه إلى منى أو غير مقيم هو أصل الاختلاف في هذه المسألة، فذهب مالك إلى أنه قصر بمنى وقد كان مقيما، وذهب أهل العراق إلى أنه إنما قصر بمنى من أجل أنه لم يكن مقيما بمكة، وبالله التوفيق.
[مسألة: صلاة النوافل في البيوت]
مسألة وسئل عن الصلاة في النوافل في البيوت أحب إليك أم في المسجد؟ قال: أما في النهار فلم يزل من عمل الناس الصلاة في المسجد يجرون ويصلون، وأما الليل ففي البيوت. وقد كان الرسول، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، يصلي الليل في بيته. وقال مالك: يستحب(1/261)
للذي يصلي بالليل في منزله أن يرفع صوته بالقرآن. وكان الناس إذا أرادوا سفرا تواعدوا لقيام القرآن وبيوتهم شتى، وكانت أصواتهم تسمع بالقرآن، فأنا أستحب ذلك.
قال محمد بن رشد: استحب مالك صلاة النافلة بالنهار في المسجد على صلاتها في البيت؛ لأن صلاة الرجل في بيته وبين أهله وولده وهم يتصرفون ويتحدثون ذريعة إلى اشتغال باله بأمرهم في صلاته، ولهذه العلة كان السلف يهجرون ويصلون في المسجد، فإذا أمن الرجل من هذه العلة فصلاته في بيته أفضل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا الصلاة المكتوبة» ؛ لأنه حديث صحيح محمول على عمومه في الليل والنهار مع استواء الصلاة في الإقبال عليها وترك اشتغال البال فيها؛ وقد سئل مالك في أول الرسم بعد هذا عن الصلاة في مسجد النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، في النوافل، أفيه أحب إليك أم في البيوت؟ قال: أما الغرباء فإن فيه أحب إلي، يعني بذلك الذين لا يريدون إقامة، فدل هذا من قوله أن الصلاة بالنهار في البيوت لغير الغرباء أحب إليه من الصلاة في المسجد.
ومعنى ذلك إذا أمنوا من اشتغال بالهم في بيوتهم بغير صلاتهم، وأما إذا لم يأمنوا ذلك فالصلاة في المسجد أفضل لهم، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ركع ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه» . وإنما كانت صلاة النافلة للغرباء في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل منها لهم في بيوتهم بخلاف المقيمين؛ لأن الصلاة إنما كانت أفضل في البيوت منها في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي جميع المساجد من أجل فضل عمل السر على عمل العلانية، قال الله(1/262)
عز وجل: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] . قال النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله» ، فذكر فيهم: " من ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ومن تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ". والغرباء لا يعرفون في البلد ولا يذكرون بصلاتهم في المسجد، فلما لم تكن لصلاتهم في بيوتهم مزية من ناحية السر وجب أن تكون صلاتهم في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل لما جاء من: «أن الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» . فعلى هذا تتفق الروايات ولا يكون بينها تعارض ولا اختلاف. ووجه استحباب مالك للذي يصلي الليل في بيته أن يرفع صوته بالقرآن ليشيع الأمر ويعلو ويكثر فيرتفع عنه الرياء، ويحصل بفعله الاقتداء، فيحصل له أجر من اقتدى به، وذلك من الفعل الحسن لمن صحت نيته في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: البيتوتة في المسجد]
مسألة وسئل عن البيتوتة في المسجد، فقال: أما من كان له منزل؛ فإني أكره له ذلك، وأما من ليس له منزل والضيفان فلا أرى بذلك بأسا.(1/263)
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى في هذا الرسم وفي أول الرسم الذي قبله فلا معنى لإعادة القول فيه.
[مسألة: المرأة إذا كان عليها الخضاب وهي طاهرة أتصلي به]
مسألة وسئل عن المرأة إذا كان عليها الخضاب وهي طاهرة أتصلي به؟ قال: غيره أحسن منه. قال ابن القاسم: وقد قال لي قبل ذلك لا بأس به وأنا لا أرى به بأسا إذا كانت على وضوء.
قال محمد بن رشد: لم يبين في هذه الرواية إن كان الخضاب على يديها أو على رجليها وقد ربطت عليه بالخرق، فلذلك لم ير به بأسا، ثم رأى غيره أحسن منه، واختيار ابن القاسم أنه لا بأس به إذا كانت على وضوء، يريد أنها لو لم تكن على وضوء لم يجز لها أن تمسح على خضابها وتصلي.
واختلف إذا لبست على خضابها خفين؛ وهي غير طاهرة لتقيه بذلك، فروى مطرف عن مالك أنه لا يجوز لها أن تمسح عليهما، وقد قيل: إنه يجوز المسح، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي. وقال مالك في المدونة: لا يعجبني، فهي ثلاثة أقوال: المنع والإباحة والكراهة.
وأما إذا كان الخضاب على يديها وقد ربطت عليه فلا ينبغي لها أن تصلي به حتى تنزعه قولا واحدا، يبين هذا ما يأتي في رسم "البز" أن الرجل إذا حضرته الصلاة وعليه الأصابع والمضرية؛ وهو يرمي أنه ينتعهما، وكذلك يصلي إلا أن يكون في حرب ويخاف أن يطول ذلك به لأن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه، وبالله التوفيق.
[مسألة: صلاة أهل مكة ووقوفهم في السقائف للظل لموضع الحر]
مسألة وسئل مالك عن صلاة أهل مكة ووقوفهم في السقائف للظل لموضع الحر، قال: أرجو أن يكون خفيفا. فقيل له: فأهل المدينة ووقوفهم في الشق الأيمن من مسجدهم وتنقطع صفوفهم في الشق(1/264)
الأيسر، قال أرجو أن يكون واسعا لموضع الشمس. ثم قال: كان رجل يحمل بطحاء ليسجد عليها، فقيل له: أفتكره ذلك؟ قال: نعم. ويسجد على ثوبه أحب إلي من أن يحمل بطحاء يضعها يسجد عليها.
قال محمد بن رشد: خفف انقطاع الصفوف لضرورة الشمس؛ لأن التراص في صفوف الصلاة مستحب. وهذا نحو قوله في المدونة: إنه لا بأس بالصفوف بين الأساطين إذا ضاق المسجد، وهو بين أن قوله فيها لا بأس أن تقف طائفة عن يسار الإمام في الصف ولا تلصق بالطائفة التي عن يمين الإمام، معناه لا بأس بالفعل إذا وقع لا أن ذلك يجوز ابتداء من غير كراهة، والله أعلم.
والبطحاء التراب، فكره وضعها في المسجد وحملها من موضع منه إلى غيره لما في ذلك من حفر المساجد وتغيير سطوحها، ورأى السجود على ثوبه أخف من ذلك، وهو كما قاله: وسيأتي في رسم "المحرم" التكلم على المصلي وحده في السقائف أو مع غيره إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.
[مسألة: حكم أبوال الأنعام]
مسألة وسئل مالك عن أبوال الأنعام، قال: أبوالها خفيف قيل له: فالظبي من الأنعام؟ قال: لا، إنما الأنعام الإبل والبقر والغنم. قال الله تبارك وتعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام: 143] ، قال الظبي ليس من الأنعام ولا أرى أن يتقرب إلى الله عز وجل بشيء منها، يريد في الضحايا والعقائق وما أشبه ذلك من سنن الإسلام.
قال محمد بن رشد: أما أبوال الأنعام فلم يختلف قول مالك أنها طاهرة، ووقع في سماع أشهب من كتاب الجامع أنه فرق بين أبوال الأنعام(1/265)
وبين أبوال ما يؤكل لحمه من غيرها. وتأول ابن لبابة أنه إنما فرق بين ذلك في إجازة التداوي بشربها لا في نجاستها، للحديث الذي جاء في إجازة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشرب أبوال الإبل للرهط الغربيين الذين قدموا على النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فاستوخموا المدينة.
والمشهور من قول مالك في المدونة وغيرها المساواة بين أبوال الأنعام وبين أبوال ما يؤكل لحمه من غيرها، والذي في هذه الرواية محتمل، ودليلها إجازة الضحايا والعقائق بجميع الأنعام، وهو ظاهر ما في سماع أشهب من كتاب الضحايا خلاف ما في سماع يحيى من كتاب العقيقة لمالك أن العقيقة لا يجزئ فيها إلا الغنم.
[مسألة: الرجل يسلم التسليمة الأولى قبل تسليمة الإمام الثانية]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يسمع تسليم الإمام فيسلم تسليمة واحدة ثم يسلم الرجل ثم يسمعه يسلم الأخرى، قال: أرى أن يسلم أخرى.
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في سلام المأموم والفذ، فكان يقول: إنهما يسلمان تسليمتين ثم يرد المأموم منهما على الإمام، ثم رجع إلى أنهما يسلمان تسليمة واحدة ثم يرد المأموم منهما على الإمام، والقولان قائمان في المدونة. وفي رسم "المحرم" بعد هذا أن المنفرد لا بأس أن يسلم تسليمتين، وأما الإمام فقال فيه: ما أدركت الأئمة إلا على تسليمة واحدة، زاد في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب، وإنما أحدث تسليمتين منذ كانت بنو هاشم.
وقوله في هذه الرواية يأتي على قول مالك الثاني؛ لأنه لم ير أن يسلم تسليمة أخرى اتباعا للإمام، وهو نحو ما في رسم "نذر سنة" من أنه إذا فاته من صلاة الإمام شيء لا يقوم إلى قضائه حتى يفرغ الإمام من سلامه كله.(1/266)
[مسألة: السيجان الإبريسمية وقياسها حرير والملاحف التي يكون لها العلم الحرير]
مسألة وسئل عن السيجان الابريسمية وقياسها حرير، والملاحف التي يكون لها العلم الحرير قدر الأصبعين، أيلبس ذلك؟ قال: ما أحب ذلك وما يعجبني لنفسي ولا أراه حراما.
قال محمد بن رشد: المحرم على الرجل لباسه هو الثوب المصمت الخالص من الحرير، وأما ما كان من ثياب الحرير مشوبا بغيره من قطن أو كتان أو صوف فليس بحرام، أجازه ابن عباس، وكرهه ابن عمر، وبكراهية لباسه أخذ مالك هذا قوله هنا وفي الحج الثاني من المدونة وفي غير ما موضع.
وأجاز ابن حبيب الخز من ذلك خاصة، وكره ما سواه، اتباعا لمن استجاز لباس الخز من السلف، وليس قوله بقياس.
وأما العلم الحرير فكرهه مالك أيضا وأجازه جماعة من السلف وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه أجازه. على قدر الإصبع والإصبعين والثلاثة والأربعة، وقع ذلك في مختصر ما ليس في المختصر لابن شعبان، وبالله التوفيق.
[: طول السجود في النافلة في المسجد]
ومن كتاب قطع الشجر مسألة قال ابن القاسم: سئل مالك عن طول السجود في النافلة في المسجد، قال أكره ذلك وأكره الشهرة.
قال محمد بن رشد: وجه كراهيته لذلك ما يخشى أن يدخل على فاعل ذلك مما تفسد به نيته. وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل عن الزيت تقع فيه الفارة فيطبخ صابونا، أترى أن يباع(1/267)
وأن يغسل بذلك الصابون؟ فقال إني أكره ذلك وما يعجبني. قال: وينتصح على الناس عند غسلهم [فلا يعجبني.
قال محمد بن رشد: كره في هذه الرواية بيعه ثم قال] : وينتصح على الناس عند غسلهم، فكأنه علل الكراهة بذلك. فعلى تعليله لو بين لجاز البيع.
والذي يأتي على المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها أن البيع لا يجوز، وهو قول جميع أصحاب مالك حاشا ابن وهب. وأما غسل الثوب به فجائز على مذهبه، وهو قول سحنون نصا في سماعه من كتاب الوضوء، وقول جميع أصحاب مالك حاشا ابن الماجشون.
[مسألة: الأكل في المسجد]
مسألة وسئل عن الأكل في المسجد فقال: أما الشيء الخفيف مثل السويق والطعام اليسير فأرجو أن يكون خفيفا، وأما الطعام مثل الألوان واللحم فما يعجبني ذلك، فمن الناس من يشتد عليه الصيام، ليس كل الناس في الصيام سواء.
أما الرجل الضعيف وما أشبهه فأرجو إذا كان الشيء الخفيف فلا بأس به. فقيل له: فرحاب المسجد؟ قال لا الرحاب من المسجد للطعام الكثير فلا يعجبني، وكره أكل الإمام الطعام في المسجد.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا في رسم "شك" وفي أول رسم "سلعة سماها " فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يضع يده في الأرض عند سجوده لمكان عنان فرسه]
مسألة وسئل عن الخيل الحصن ينزل أهلها للصلاة فلا يستطيعون(1/268)
أن ينضموا لموضع تحصن خيلهم فيصلون أفرادا وإمامهم أمامهم، قال: لا بأس بذلك. فقيل له: فإن الرجل ربما فزع إلى فرسه ونسي رسنه فلا يجد بدا من أن يمسك عنان فرسه ولا يستطيع أن يضع يده على الأرض، قال أرجوه أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: أما إجازته لصلاتهم متفرقين مأتمين بإمامهم من أجل تحصن خيلهم فصحيح، وأما تخفيفه ألا يضع يده في الأرض عند سجوده لمكان عنان فرسه فوجه ذلك الضرورة الداعية إليه إذا لم يجد بدا من ذلك كما قال، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السجود على سبعة آراب» ، وهذا مثل ما في آخر سماع موسى، وهو أحسن مما يأتي في رسم " اغتسل "؛ لأنه قال فيه أرجو أن يكون في سعة ولا أحب له أن يتعمد ذلك.
[مسألة: أهل أدنة وما أشبهها من المسالح أترى أن يصلوا الجمعة]
مسألة وسئل مالك عن أهل أدنة وما أشبهها من المسالح، أترى أن يصلوا الجمعة؟ قال: إن كانوا في قرى فأرى أن يصلوا، فإنما الجمعة على أهل القرى، فإن كانوا في قرية ولهم عدد فأرى أن يصلوا.(1/269)
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما في رسم "أوله صلى نهارا ثلاث ركعات"، وهو معلوم من مذهب مالك أن الجمعة تجب على أهل القرى المتصلة البنيان إذا كان لهم العدد، أعني لأهل القرية دون المقيمين للرباط، ولم يحد في ذلك حدا على مذهبه في كراهية الحد في الأشياء، وحد ابن حبيب في ذلك الثلاثين، كما تجب على أهل الأمصار خلاف ما يذهب إليه أهل العراق أن الجمعة لا تجب إلا في مصر جامع.
[مسألة: حكم تزويق المساجد]
مسألة وحدثنا سحنون عن ابن القاسم عن مالك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل في نعليه شراكين جددين فأمر أن ينزعا وأن يرد فيهما الخلقتين اللتين كانتا فيهما فقيل له: لم يا رسول الله فقال إني نظرت إليهما في الصلاة» قال مالك: ولقد كره الناس تزويق المسجد حين جعل بالذهب والفسيفساء، وأول ذلك مما يشغل الناس في صلاتهم.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة في كراهية تزويق المسجد. ومن هذا المعنى كره تزيين المصاحف بالخواتم، وقد مضى ذلك في رسم "سلعة سماها "، وكره في أول سماع موسى أن يكتب في قبلة المسجد بالصبغ آية الكرسي أو غير ذلك من القرآن لهذه العلة. ولابن نافع وابن وهب في المبسوطة إجازة تزيين المساجد وتزويقها بالشيء الخفيف ومثل الكتاب في قبلتها، ما لم يكثر ذلك حتى يكون مما نهي عنه من زخرفة المساجد.
[مسألة: كيفية صلاة الجالس]
مسألة وسئل عن صلاة الجالس، فقال متربعا فإذا أراد أن يسجد(1/270)
ثنى رجليه، قيل له: فالمحمل؟ قال متربع مثل الجالس، فقيل له يثني رجليه عند السجود؟ قال إن صاحب المحمل يشق عليه أن يثني رجليه، فإن لم يشق عليه فليفعل ذلك، ولكن أخشى أن يشق عليه.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة، وهو أمر لا اختلاف فيه، في المذهب أن الاختيار للمصلي جالسا في النافلة أن يكون متربعا، وأن الذي لا يقدر على القيام في صلاته يصلي متربعا.
وقد روي عن عائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها قالت: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى متربعا» ، وما روي عن ابن مسعود أنه قال: لأن أجلس على رضفتين أحب إلي من أن أتربع في الصلاة، يحتمل أن يكون معناه على التربع في موضع الجلوس.
ومن أهل العلم من ذهب إلى العاجز عن القيام في صلاته يجلس بدلا من قيامه كجلوسه في تشهده، وهو قول زفر وما ذهب إليه الجمهور، وهو القياس، أن يفرق بين القعود الذي هو بدل من القيام، وبين القعود الذي هو للتشهد. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم غير متربع» وهذا يدل على نقصان صلاة القاعد في النافلة متربعا عن صلاته غير متربع، إلا أنه حديث ليس بالصحيح.
[الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في النوافل]
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته ليرفعن أمرا وسئل مالك عن الصلاة في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النوافل،(1/271)
أفيه أحب إليك أم في البيوت؟ قال مالك: أما الغرباء فإن فيه أحب إلي، يعني بذلك الذين لا يريدون إقامة.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم "شك" فلا فائدة في تكريره.
[مسألة: الرجل يهلك يوم الجمعة فيتخلف عليه الرجل ينظر ما يكون من شأن الميت]
مسألة وقال مالك في الرجل يهلك يوم الجمعة فيتخلف عليه الرجل من إخوانه ينظر في أمره مما يكون من شأن الميت، قال مالك: ما أرى بذلك بأسا أن يتخلف في أمره، ورآه سهلا.
قال محمد بن رشد: شهود الجمعة فرض واجب على الرجال الأحرار البالغين، فلا يحل لأحد منهم التخلف عنها إلا من عذر أو علة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه» . فمن العذر عند مالك ما ذكره من الاشتغال بشأن الميت، ومعناه إذا لم يكن له من يكفيه أمره وخاف عليه التغيير، وكذلك إذا كان في الموت يجود بنفسه يجوز له التخلف عنها بسببه قاله مالك بعد هذا.
وقد روي أن عبد الله بن عمر استصرخ على سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يوم الجمعة وهو على الخروج إليها، فتركها وخرج إليه بالعقيق.
[مسألة: النداء الذي يمنع فيه الناس البيع يوم الجمعة]
مسألة وسئل مالك عن أي النداء يمنع فيه الناس البيع يوم الجمعة؟
قال النداء الذي ينادى به والإمام جالس على المنبر، فإذا أذن تلك الساعة رفعت الأسواق فلم يبع فيه عبد ولا غيره.(1/272)
قال محمد بن رشد: ستأتي هذه المسألة متكررة في رسم "نذر سنة" وفي رسم "العارية" من سماع عيسى، وهي مثل ما في المدونة وغيرها، لقول الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . قوله فلم يبع فيها عبد ولا غيره، يريد أن الأسواق يمنع أن يتبايع فيها العبيد أو غيرهم ممن لا تجب عليهم الجمعة، كما يمنع من ذلك من تجب عليه للذريعة، فإن باع فيها من لا تجب عليه الجمعة لم يفسخ بيعه.
وأما في غير الأسواق فجائز للعبيد والنساء والمسافرين وأهل السجون والمرضى أن يتبايعوا فيما بينهم، فإن باع منهم من لا تجب عليه الجمعة ممن تجب عليه فسخ بيعه، كما يفسخ بيع من تجب عليه ممن لا تجب عليه ما كانت السلعة قائمة، فإن فاتت مضت بالثمن، وقيل إنها ترد إلى القيمة وقت البيع، وقيل بعد أن تحل الصلاة، وقيل إن البيع لا يفسخ وإن كانت السلعة قائمة وقد باء المتبايعان بالإثم ويتصدق البائع بالربح، وقيل ليس ذلك عليه.
[مسألة: التكبير أيكبر الناس أيام منى فيما بين الصلوات]
مسألة وسئل مالك عن التكبير، أيكبر الناس أيام منى فيما بين الصلوات؟ قال نعم. فقيل له: أفرأيت الناس في الآفاق، أترى أن يكبروا كذلك؟ قال إن كبروا لم أر بذلك بأسا، فأما الذين أدركت والذين أقتدي بهم فلم أرهم يكبرون إلا خلف الصلوات. علي بن زياد عن مالك في التكبير بعد الصلوات في أيام التشريق: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولم يحد فيها مالك ثلاثا إلا أنا نستحسن ثلاثا، ولو زاد أحد أو نقص من ثلاثة لم أر به بأسا.(1/273)
قال محمد بن رشد: مثل هذا كله في المدونة، إلا أن التحديد في رواية علي بن زياد وقع فيها من قول مالك، وهنا من قول علي بن زياد. واستحب ابن حبيب التهليل والتحميد مع التكبير، وهو أن يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، وذلك كله واسع.
[مسألة: الجلوس يوم عرفة في المساجد في البلدان بعد العصر للدعاء]
مسألة وسئل مالك عن الجلوس يوم عرفة في المساجد في البلدان بعد العصر للدعاء، فكره ذلك، فقيل له فإن الرجل يكون في مجلسه فيجتمع إليه الناس ويكبرون، قال ينصرف، ولو أقام في منزله كان أحب إلي.
قال محمد بن رشد: كره مالك هذا وإن كان الدعاء حسنا وأفضله يوم عرفة؛ لأن الاجتماع لذلك بدعة. وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أفضل الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» ، وسيأتي هذا المعنى متكررا في رسم "صلى نهارا ".
[مسألة: الذي يدرك الناس وهم يقنتون في صلاتهم الصبح وقنوتهم بعد الركوع]
مسألة وسئل مالك عن الذي يدرك الناس وهم يقنتون في صلاتهم الصبح وقنوتهم بعد الركوع، فقنت معهم ثم صلى، قال: هذا لم يدرك من الصلاة شيئا وعليه القنوت، ولم يره مثل من أدرك معهم ركعة فقنت، ذلك القنوت مجزئ عنه ولا يقنت في الأخرى.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح؛ لأنه إذا لم يدرك الركوع من الركعة الثانية فلا يعتد بالقنوت كما لا يعتد بما أدرك من السجود. وأما إذا(1/274)
ركع الركوع من الركعة الثانية فلا يقنت في الركعة التي يقضي، كان الإمام ممن يقنت بعد الركوع فقنت معه أو ممن يقنت قبل الركوع فلم يدركه معه، وهذا على القول بأن الذي أدرك مع الإمام هو آخر صلاته، وأما على القول بأن ذلك أول صلاته وعلى مذهب أشهب الذي يقول إنه بان في القراءة وصفة القيام والجلوس، فعليه أن يقضي القنوت أدركه مع الإمام أو لم يدركه، والله أعلم.
[مسألة: النفر يكونون في المسجد يقولون لرجل حسن الصوت اقرأ علينا]
مسألة وسئل مالك عن النفر يكونون في المسجد فيخف أهل المسجد فيقولون لرجل حسن الصوت اقرأ علينا يريدون حسن صوته، فكره ذلك وقال إنما هذا يشبه الغناء. فقيل له: أفرأيت الذي قال عمر لأبي موسى: ذكرنا ربنا، قال من الأحاديث أحاديث قد سمعتها وأنا أتقيها، ووالله ما سمعت هذا قط قبل هذا المجلس، وكره القراءة بالألحان وقال هذا عندي يشبه الغناء، ولا أحب أن يعمل بذلك، وقال إنما اتخذوها يأكلون بها ويكسبون عليها.
قال محمد بن رشد: إنما كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - للقوم أن يقولوا للحسن الصوت: اقرأ علينا إذا أرادوا بذلك حسن صوته كما قال، لا إذا قالوا ذلك له استدعاء لرقة قلوبهم بسماع قراءته الحسنة، فقد روي أن رسول الله، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قال: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن» ، أي ما استمع لشيء مما استمع لنبي يحسن صوته بالقرآن طلبا لرقة قلبه بذلك.
وقد كان عمر بن الخطاب إذا رأى أبا موسى الأشعري قال: ذكرنا ربنا فيقرأ(1/275)
عنده، وكان حسن الصوت، فلم يكن عمر ليقصد الالتذاذ بسماع صوته، وإنما استدعى رقة قلبه بسماع قراءته القرآن، وهذا لا بأس به إن صح من فاعله على هذا الوجه.
وقول مالك: إن من الأحاديث أحاديث قد سمعتها وأنا أتقيها، إنما اتقى أن يكون التحدث بما روي عن عمر بن الخطاب من هذا ذريعة لاستجازة القرآن بالألحان ابتغاء سماع الأصوات الحسان والالتذاذ بذلك حتى يقصد أن يقدم الرجل للإمامة لحسن صوته لا لما سوى ذلك مما يرغب في إمامته من أجله.
فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «بادروا بالموت ستا» فذكرها أحدها بشر يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليغنيهم وإن كان أقلهم فقها، فالتحذير إنما وقع في الحديث لإيثارهم تقديم الحسن الصوت على الكثير الفقه، فلو كان رجلان مستويين في الفضل والفقه وأحدهما أحسن صوتا بالقراءة لما كان مكروها أن يقدم الأحسن صوتا بالقرآن؛ لأنها مزية زائدة محمودة خصه الله بها.
وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي موسى الأشعري تغبيطا له بما وهبه الله من حسن الصوت: «لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» . وأما ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» ، فقيل معناه من لم يستغن به، أي من لم ير أنه به أفضل حالا من الغني بغناه، وقيل معناه من لم يحسن صوته بالقرآن استدعاء لرقة قلبه بذلك. وقد قيل لابن أبي مليكة أحد رواة الحديث فمن لم يكن له حلق يحسنه، قال يحسنه ما استطاع. والتأويل الأول أولى؛ لأن(1/276)
قوله في الحديث «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» يدل على أن من لم يفعل ذلك فهو مذموم، وليس من قرأ القرآن ابتغاء ثواب الله عز وجل من غير أن يحسن صوته به مذموما على فعله، وبالله التوفيق.
[مسألة: الغلمان في الكتاب أيصلي بهم بعضهم ولم يحتلم]
مسألة وسئل مالك عن الغلمان في الكتاب، أيصلي بهم بعضهم ولم يحتلم؟ فقال: ما زال ذلك من فعل الصبيان وخففه، فقيل له: فالنساء في قيام رمضان؟ فقال: إن النساء ليفعلن ذلك، وغير ذلك أعجب إلي أن يقدموا المحتلم أو العبد.
قال محمد بن رشد: إنما خفف للغلمان أن يأتموا بالغلام، وكره ذلك للنساء في النافلة وإن كانت الصلاة للغلمان نافلة؛ لأن الغلمان غير مكلفين فلم يلزمهم انتقاء من يأتمون به، وإن كان ائتمامهم بالبالغ الذي تلزمه المحافظة على الطهارة والنية أولى بهم، والنساء مكلفات داخلات في عموم قول النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون» ، فمن النظر لهن أن لا يأتممن في صلاتهن النافلة بمن لم يحتلم إذ لا يأمن أن يصلي بهن بغير طهارة، إذ لا حرج عليه في ذلك. ألا ترى إلى شهادته إذا ردت من أجل أنه لا يؤمن أن يشهد بالزور إذ لا حرج عليه في ذلك.
[مسألة: اشتمال الصماء في الصلاة]
مسألة وسئل مالك عن الصماء كيف هي؟ قال: يشتمل الرجل ثم يلقي الثوب على منكبيه ويخرج يده اليسرى من تحت الثوب وليس عليه إزار، فقيل له: أفرأيت إن لبس هكذا وعليه إزار؟ قال لا بأس بذلك. قال ابن القاسم: ثم كرهه بعد ذلك وإن كان عليه إزار. قال(1/277)
ابن القاسم: وتركه أحب إلى للحديث، ولست أراه ضيقا إن كان عليه إزار.
قال محمد بن رشد: القول الأول هو القياس؛ لأن الحكم إذا ثبت لعلة وجب أن يزول الحكم بزوال العلة. ووجه القول الثاني مخافة الذرائع ولئلا يرى الجاهل الذي لا يعلم علة نهي النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، عن اشتمال الصماء ما هي، فيرى العالم يشتمل الصماء على ثوب فيشتملها على غير ثوب.
[مسألة: الرجل يقرأ للناس في المسجد فيمر بسجدة فيسجد أترى أن يسجدوا]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يقعد إليه النفر إبان الصلاة فيقرأ لهم فيمر بسجدة فيسجد، أترى أن يسجدوا؟ قال لا أحب له أن يسجد ولا يسجدوا معه، وأرى أن ينهى عن ذلك، فإن أبى أن ينتهي وإلا لم يقعد إليه. فقيل له فإنهم جلسوا إليه وشأنهم القرآن فلا يسجدون إذا مروا بسجدة إذا سجد؟ فقال أما أنا فلم أكن أفعل ذلك ولا أحب لأحد أن يفعله.
قال محمد بن رشد: قوله في إبان الصلاة، أي في وقت تحل فيه الصلاة. وجلوس القوم إلى الرجل الذي يقرأ القرآن ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها أن يجلسوا إليه للتعليم، فهذا جائز أن يجلسوا إليه وواجب أن يسجدوا بسجوده إذا مر بسجدة فسجد فيها، واختلف إن لم يسجد فيها، فقيل إنهم يسجدون وإن لم يسجد، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقيل إنه لا سجود عليهم إذا لم يسجد، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، ومثله في الأثر الواقع في المدونة. وقد اختلف في المقرئ الذي يقرأ عليه القرآن، فقيل إنه يسجد بسجود القارئ إذا كان بالغا في أول ما يمر بسجدة، وليس عليه السجود فيما بعد ذلك، وقيل ليس ذلك عليه بحال. والثاني أن يجلسوا(1/278)
إليه ليستمعوا قراءته ابتغاء الثواب في استماع القرآن، فهذا جائز أن يجلسوا إليه، ويختلف أن يجب عليهم أن يسجدوا بسجوده إذا مر بسجدة فسجد، فقال في آخر هذه الرواية إنهم لا يسجدون بسجوده، وقال ابن حبيب إنهم يسجدون بسجوده إلا أن يكون من لا يصح أن يأتم به من امرأة أو صبي.
والذي في المدونة محتمل للتأويل، والأظهر منها أنهم لا يسجدون بسجوده مثل هذه الرواية. والثالث أن يجلسوا إليه ليقرأ ويسجد بهم، فهذا يكره أن يجلسوا إليه وأن يسجدوا بسجوده، وهو معنى قوله في أول هذه الرواية ونص قوله في المدونة.
[مسألة: الرجل يدخل في رمضان وقد صلى الناس ركعة من الركعتين الأوليين]
مسألة قال: وسئل عن الرجل يدخل في رمضان وقد صلى الناس ركعة من الركعتين الأوليين من التسليمة، كيف يصنع إذا سلم الإمام من الركعة الثانية؟ قال: لا يسلم وليدخل معهم في الركعة الثالثة بإحرامهم فإذا فرغوا من الركعة قعد فتشهد ثم سلم ثم قام معهم فأدركهم في صلاتهم، فإذا فرغ الإمام قام فصلى الركعة الأخرى وهي الرابعة.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أنه يدخل معهم لركعته الثانية التي فاتته في ركعتهم الثالثة التي ابتدءوا بها مؤتما بهم فيها، وقد نص على ذلك ابن حبيب عن ابن القاسم، وهو بعيد؛ لأنه يصير مؤتما بهم في الثالثة التي يدخل فيها معهم وهو قد أحرم قبلهم ثم يسلم من صلاته أيضا قبلهم، وهذا خلاف سنة الائتمام بالإمام في الصلاة، إلا أنه نحو ما كان من فعل أبي بكر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إذا صلى بالناس في مرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، استأخر فجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جنبه، فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر(1/279)
إذا قلنا إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان الإمام في تلك الصلاة على ما يدل عليه ما وقع في البخاري من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عن يسار أبي بكر؛ لأن أبا بكر قد عاد مؤتما به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بقية الصلاة وقد أحرم قبله فيها، فهذا نحو ظاهر هذه الرواية وما حكى ابن حبيب عن ابن القاسم.
وقد قيل إن أبا بكر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لم يخرج عن إمامته في هذه الصلاة وإنه كان الإمام فيها بالنبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهو الصحيح في النظر. ويصح أن يتأول عليه ما في الأثر والذي في سماع أشهب مخالف لظاهر هذه الرواية، وذلك أنه قال فيها: يقضي لنفسه الركعة التي فاتته ويتوخى أن يكون قيامه موافقا لقيامهم وركوعه موافقا لركوعهم وسجوده موافقا لسجودهم من غير أن يأتم بهم فيها، وهو أحسن وأصح في المعنى والنظر. وسحنون وابن عبد الحكم يقولان: إنه يقضي لنفسه الركعة التي فاتته ويخفف فيها ثم يدخل مع الإمام، وهذا أولى ما قيل في هذه المسألة، والله أعلم.
[مسألة: الرجل يكون مع صاحبه فيمرض مرضا شديدا أيدع الجمعة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يكون مع صاحبه فيمرض مرضا، شديدا، أيدع الجمعة؟ قال لا إلا أن يكون في الموت.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في أول هذا الرسم فلا وجه لإعادته.
[مسألة: الذي يكون في المسجد فتقام الصلاة أيقيم الصلاة في نفسه]
مسألة قال: وسئل عن الذي يكون في المسجد فتقام الصلاة، أيقيم الصلاة في نفسه، قال لا، قيل له: ففعل؟ قال: هذا مخالف.
قال محمد بن رشد: قوله هذا مخالف، أي مخالف للسنة؛ لأن السنة أن يقيم المؤذن الصلاة دون الإمام والناس، بدليل ما روي أن رسول(1/280)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم وحانت الصلاة جاء المؤذن إلى أبي بكر الصديق فقال: أتصلي للناس فأقيم؟ قال: نعم. وإنما الذي يجب للناس في حال الإقامة أن يدعوا لأنها ساعة الدعاء، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ساعتان تفتح لهما أبواب السماء وقل داع ترد عليه دعوته حضرة النداء والصف في سبيل الله عز وجل» .
[مسألة: حكم صلاة من يمر تحت السقائف فيقع عليه ماء]
مسألة قال: وسئل مالك عن الذي يمر تحت السقائف فيقع عليه ماء، قال: أراه في سعة ما لم يستيقن بنجس.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في هذا الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب الوضوء، وزاد فيها من سماع عيسى منه زيادة فيها تفسير.
[مسألة: يصلي في السقائف وبينه وبين الإمام والصفوف فضاء]
مسألة وسئل عن الذي يصلي في السقائف وبينه وبين الإمام والصفوف فضاء مثل ما يصيب الناس في مكة من الحر، قال: أما من خاف حر الشمس ولم يقو عليه فلا أرى به بأسا، والفضل في التقدم.
قال محمد بن رشد: استخف ترك تقدمه إلى الصفوف لضرورة حر الشمس، ولو فعل ذلك من غير ضرورة لجازت صلاته إن كان معه غيره باتفاق، وإن لم يكن معه غيره على اختلاف، وقد مضت العلة في ذلك في أول رسم "شك في طوافه ".(1/281)
[مسألة: الرجل يبطن خفيه بدم الطحال]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يبطن خفيه بدم الطحال، قال لا أحبه، وكره أن يبطن به الخف. قال سحنون: فإن صلى بها لم تكن عليه إعادة.
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح؛ لأن الطحال قد خرج عن أن يكون دما بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحلت لنا ميتتان ودمان الكبد والطحال والحوت والجراد» ، فإنما الطحال طعام يكره أن يبطن به الخف لحرمته، كما يكره غسل اليد بشيء من الطعام.
[مسألة: الرجل يكون في أرض خوف من اللصوص هل يجوز له أن يخفف صلاته]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يكون في أرض خوف من اللصوص، هل يجوز له أن يخفف صلاته؟ قال رب تخفيف لا ينقص من الصلاة، فأما أن ينقص من صلاته فلا.
قال محمد بن رشد: الذي يباح له من التخفيف أن ينقص من طول القيام والركوع والسجود والجلوس، وأقل ما يجزئه من القيام قدر ما يقرأ فيه أم القرآن، ومن الركوع والسجود أن يتمكن راكعا وساجدا، ومن الجلوس مثل ذلك، فإن نقص من شيء من ذلك بطلت صلاته، وإن لم يزد على هذا القدر فترك التشهد وما سوى أم القرآن من القراءة كان قد أساء ولم تجب عليه إعادة الصلاة إن كان قد اعتدل في القيام من الركوع والرفع من السجود، وإن كان لم يعتدل في ذلك أعاد، وقيل يستغفر الله ولا يعيد، وبالله التوفيق.(1/282)
[مسألة: يترك الجمعة من دين عليه يخاف في ذلك غرماءه]
مسألة وقال مالك: لا أحب لأحد أن يترك الجمعة من دين عليه يخاف في ذلك غرماءه.
قال محمد بن رشد: معناه عندي إذا خشي إن ظفر به غرماؤه أن يبيعوا عليه ماله بالغا ما بلغ وينتصفوا منه ولا يؤخروه، وهو يرجو لتغيبه أن يتسع في بيع ماله إلى القدر الذي يجوز تأخيره إليه عند بعض العلماء.
وأما إن خشي أن يسجنه غرماؤه وهو عديم، فقال سحنون في كتاب ابنه: إنه لا عذر له في التخلف، وفي ذلك نظر؛ لأنه يعلم من باطن حاله ما لو تحقق لم يجب عليه سجن، لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، فهو مظلوم في الباطن محكوم عليه بحق في الظاهر.
وأما إن خشي أن يعتدي عليه الحاكم فيسجنه في غير موضع سجن أو يضربه أو يخشى أن يقتل فله أن يصلي في بيته ظهرا أربعا ولا يخرج.
[مسألة: الملاحف يكون فيها العلم من الحرير قدر الأصبع والأصبعين والثلاثة]
مسألة وسئل عن الملاحف يكون فيها العلم من الحرير قدر الأصبع والأصبعين والثلاثة، فكره ذلك وقال: لا أحب لباسها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تقدمت والقول فيها في آخر رسم "شك"، فلا فائدة في إعادة ذلك.
[مسألة: الرجل يأتي بالصبي إلى المسجد أيستحب ذلك]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يأتي بالصبي إلى المسجد، أيستحب ذلك؟ قال إن كان قد بلغ موضع الأدب وعرف ذلك ولا يعبث في(1/283)
المسجد فلا أرى بأسا، وإن كان صغيرا لا يقر فيه ويعبث فلا أحب ذلك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة مكشوف لا يفتقر إلى بيان، إذ لا إشكال في إباحة دخول الولد إلى المساجد، قال الله عز وجل: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37] . وفي الحديث: «أن الناس كانوا إذا رأوا أول التمر جاؤوا به إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا أخذه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا بالبركة في التمر وللعام ثم يدعو أصغر ولد يراه فيعطيه إياه» .
ومحمل أمره أنه كان في المسجد. وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمع بكاء الصبي في الصلاة فيتجوز في الصلاة مخافة أن تفتن أمه، وإلا فالكراهة في إدخالهم فيه إذا كانوا لا يقرون فيه ويعبثون؛ لأن المسجد ليس بموضع العبث واللعب، وبالله التوفيق.
[مسألة: القراء الذين يقرؤون للناس]
مسألة وسئل عن القراء الذين يقرؤون للناس عندنا، فكرهه وعابه وقال: ما كان يعمل هذا على عهد عمر بن الخطاب، ولا أرى هذا صوابا، ولو كان يقرأ واحد ويثبت من قرأ عليه ويفتي لم أر به بأسا، فأما أن يقرأ ذا ويقرأ ذا فلا يعجبني. قال لي ابن القاسم: ثم خففه بعد ذلك وقال: لا بأس فيه، قال ابن القاسم: وهذا رأيي.(1/284)
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم "سلعة سماها " موفى فليس لإعادة ذلك معنى.
[مسألة: الإمام يقيم اليوم واليومين حتى يجتمع إليه حشمه ثم يسير أيقصر الصلاة]
مسألة وسئل مالك عن أمير المدينة وخرج على مسيرة ثلاثة أميال من المدينة وهو يريد الإقامة به حتى يتكامل ظهره فيه ويأتي أكرياؤه بإبلهم ويجتمع إليه حشمه، أترى أن يقصر الصلاة؟ قال لا؛ لأن هذا لم يخرج يريد المسير، وإنما خرج ليقيم حتى تتكامل له حوائجه، فلا يقصر إلا من أجمع على المسير.
قال محمد بن رشد: قال مالك في هذه المسألة إن الإمام يتم، وقال في رسم "صلى نهارا ثلاث ركعات " بعد هذا في الذي يخرج من الفسطاط إلى بير عميرة وهو يقيم ثم اليوم واليومين مثل ما يصنع الأكرياء حتى يجتمع الناس ويفرغوا إنه يقصر الصلاة.
والفرق عندي بين المسألتين أن الأمير إنما خرج ليقيم حتى يجمع حشمه ويأتي أكرياؤه قرب ذلك أو بعد، وحينئذ يسير، فوجب أن لا يقصر، إذ لم يعزم على المسير قبل أربعة أيام.
ولو خرج على أن يقيم اليوم واليومين حتى يجتمع إليه حشمه ويأتي أكرياؤه ثم يسير لوجب أن يقصر كما قال في مسألة جب عميرة، إذ قد عزم على أن يسير قبل أربعة أيام. وقد كان بعض الشيوخ يفرق بينهما بأن الأمير لما كان لا يمكنه السفر إلا مع حشمه وقد لا يجتمع إليه حشمه، وجب أن يتم، ولما كان الخارج إلى جب عميرة يمكنه السفر وإن لم يجتمع الناس وجب أن يقصر، وليس هذا بصحيح، إذ المنفرد لا يمكنه السفر أيضا. ومنهم من كان يحمل المسألتين على التعارض ويرى ذلك اختلافا من القول، ويقول الأمير كان أحق بالقصر من المسافر لأنه قادر على أن يجبر حشمه على الخروج معه، ولا يقدر المسافر على إخراج الناس معه، وليس ذلك أيضا بصحيح، إذ المعنى إنما(1/285)
هو في عزمه على التحرك من المكان الذي تقدم إليه قبل أربعة أيام، لا على قدرته على جبر من يخرجه معه، بدليل أنه لو كان قادرا على أن يجبر من يخرج معه على الخروج بعد أربعة أيام من خروجه لوجب أن يتم ولم يصح له القصر، وإنما وجب أن يقصر إذا خرج على أن يتحرك من المكان الذي تقدم إليه مع من يجتمع من الأكرياء وإن كان لا يتأتى له السفر دونهم؛ لأن الغالب من أمرهم أنهم يخرجون إلى الميعاد الذي جرت عادتهم بالخروج إليه ولا يتأخرون عنه، وكون غلبة الظن كاليقين أصل في الشرع، وبالله التوفيق.
[مسألة: أيحصب الرجل أحدا يوم الجمعة إذا تكلم والإمام يخطب]
مسألة قال: وقيل لمالك أيحصب الرجل أحدا يوم الجمعة إذا تكلم والإمام يخطب؟ قال لا، وليقبل على شأنه.
قال محمد بن رشد: قد روى مالك في موطاه عن نافع أن عبد الله بن عمر رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة، فحصبهما أن اصمتا، فالأمر في ذلك واسع إن شاء الله تعالى.
[مسألة: التكبير في العيدين قرب الصلاة أيكبر بالطريق وفي قعوده]
مسألة وسئل مالك عن التكبير في العيدين يغدو الرجل قبل الفجر أو بالغلس قرب الصلاة، أيكبر بالطريق وفي قعوده؟ قال مالك ليس يكون التكبير إلا قرب طلوع الشمس في الإسفار البين الذي يكون عند طلوعها، فيكبر الرجل تلك الساعة وفي المصلى حتى يخرج الإمام، فقيل له: التكبير في العيدين جميعا؟ قال: نعم. قال سحنون: أخبرني علي بن زياد أنه لا تكبير إلا على من غدا بعد طلوع الشمس، وهي السنة، وقاله سعيد بن المسيب.(1/286)
قال محمد بن رشد: الأصل في التكبير في الغدو إلى صلاة عيد الأضحى تكبير الحاج عند رمي جمرة العقبة، فهو الذي يتحرى، ولذلك قال مالك في رواية علي بن زياد عنه إنه لا تكبير إلا على من غدا بعد طلوع الشمس؛ لأنه وقت الاختيار في الرمي.
ومن أهل العلم من يرى أن الرمي لا يجزئ قبل طلوع الشمس، ورأى في رواية ابن القاسم عنه التكبير إذا غدا قرب طلوع الشمس أولى من تركه، لقرب ما بين الوقتين، ولجواز الرمي في ذلك الوقت عنده، وإن كان الاختيار أن يكون بعد طلوع الشمس.
والتكبير عند الغدو إلى صلاة عيد الفطر محمول على ذلك عند جميع من يرى التكبير من العلماء، وهم الجمهور، لقوله عز وجل: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] فيكبر عند مالك في العيدين إذا غدا إلى المصلى، وفي المصلى حتى يخرج الإمام. فيكبر بتكبيره وقد قيل إنه يكبر في الطريق ولا يكبر في المصلى، وإلى هذا ذهب الطحاوي لأنه حكى عن ابن عمر وأبي قتادة أنهما كانا يكبران في غدوهما إلى المصلى حتى يأتيا المصلى، وحكي عن شعبة مولى ابن عباس قال. كنت أقود ابن عباس إلى المصلى فيسمع الناس يكبرون فيقول: ما. شأن الناس أكبر الإمام؟ فأقول لا، فيقول أمجانين الناس؟ قال فيحمل إنكار ابن عباس التكبير على التكبير في المصلى حتى لا يختلف ما روي في ذلك عن الصحابة. قال: وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه أنكر التكبير يوم الفطر وقال إنما يفعله الحواكون، قال وما رويناه عن سواه أولى.
[الرجل يكون في الصلاة فيحول خاتمه في أصابعه أصبع أصبع للركوع في سهوه]
ومن كتاب طلق بن حبيب وسئل عن الرجل يكون في الصلاة فيحول خاتمه في أصابعه أصبع أصبع للركوع في سهوه، قال لا بأس بذلك وليس عليه فيه سهو، وإنما ذلك بمنزلة الذي يحسب بأصابعه لركوعه.(1/287)
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما تقدم له في أول رسم "شك " في الذي يحصي الآي بيديه في صلاته، فأجاز ذلك وإن كان الشغل اليسير مكروها في الصلاة؛ لأنه إنما قصد به إصلاح صلاته. وقوله إنه ليس عليه فيه سهو، يريد أنه لا سجود عليه فيه صحيح لأنه لم يفعل ذلك ساهيا، ولو فعله ساهيا مثل أن ينسى أنه في صلاة، لتخرج إيجاب السجود عليه لذلك على قولين.
[مسألة: الإمام يطيل القعود في اثنتين فسبح به أصحابه فقام أترى عليه سجود سهو]
مسألة وسئل مالك عن الإمام إذا طول القعود في اثنتين فسبح به أصحابه فقام، أترى عليه سجود سهو؟ قال لا. قال سحنون: إن طول القعود جدا حتى يخرجها عن حدها ينبغي أن يسجد.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هو الصواب؛ لأن تقصير الجلسة الوسطى من مستحبات الصلاة لا من سننها، ولا يجب السجود إلا في نقصان السنن لا في نقصان الاستحباب. وكذلك يقول ابن القاسم أيضا: إنه لا سجود عليه إذا أطال القيام بعد الركوع أو الجلوس بين السجدتين، مثل أن يشك في شيء من صلاته فيثبت على حاله متفكرا فيما شك فيه حتى يذكر، قاله في سماع موسى، وأشعب يرى عليه في هذا السجود، بخلاف إذا كان ثبوته للتذكر في موضع شرع تطويله في الصلاة، فهو قول ثالث في المسألة أصح من قول ابن القاسم ومن قول سحنون؛ لأن ترك تطويل القيام بعد الركوع وفيما بين السجدتين من السنن لا من الاستحباب.
[مسألة: الرجل يتنفل ويقول أخاف أن أكون ضيعت في حداثتي]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتنفل ويقول: أخاف أن أكون ضيعت(1/288)
في حداثتي فأنا أجعل هذا قضاء لتلك إن كنت فرطت، قال ما سمعت أحدا من أهل الفضل فعل هذا، وما هو من عمل الناس. قال محمد بن رشد: وجه هذا السؤال ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أول ما يحاسب به العبد الصلاة فإن أتمها وإلا قيل أنظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك» ، وهذا معناه والله أعلم فيمن سها عن فريضة ثم ذكرها فكان عليه أن يصليها ثم نسيها ولم يذكرها إلى أن مات، وأما من نسيها ولم يذكرها أصلا إلى أن توفي فلا يحاسب بها لقول النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ» الحديث، وأما من تركها عمدا أو نسيها ثم ذكرها فلم يصلها فلا تجزئه النافلة عنها؛ لأن الأعمال بالنيات، ولا تجزئ نافلة عن فريضة. وكذلك إذا شك في أن يكون ضيع شيئا من صلواته لا تجعل نافلته قضاء مما شك فيه، بل ينبغي له أن يصلي بنية القضاء حتي يوقن أنه قد صلى أكثر مما ضيع، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يصلي فيما بين الأسطوانتين وبينه وبين سترته قدر مصلى صفين]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يصلي فيما بين الأسطوانتين، فيكون مقعده مستقبل القبلة، فيصلي في مجلسه وبينه وبين سترته قدر مصلى صفين، قال ليس ذلك بصواب أن يصلي كذلك. قال والعلماء مختلفون، فمنهم من يقوى على أن يعظ الناس ومنهم من(1/289)
لا يقوى على ذلك، وذكر ذلك في موعظة الذين يصلون إلى غير سترة أواجب هو؟ قال لا أدري ما واجب، ولكنه حسن.
قال محمد بن رشد: زيادته في الجواب قال: والعلماء مختلفون إلى آخر قوله، يدل على أنه سقط من السؤال ما تفتقر إليه هذه الزيادة، وأراه قال في سؤاله كما يفعل الناس فلا ينكر العلماء عليهم.
وقوله إن موعظة الذي يصلي إلى غير سترة حسن وليس بواجب صحيح؛ لأن وعظ من ترك الواجب واجب، ووعظ من ترك المستحب حسن، والصلاة إلى السترة من مستحبات الصلاة ليس من واجباتها.
[مسألة: الرجل يصلي مع الإمام في رمضان الوتر فيوتر معه ثم يريد أن يصلي]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يصلي مع الإمام في رمضان الوتر فيوتر معه، فيريد أن يصلي وتره بركعة أخرى ويوتر هو بعد ذلك، قال لا، ولكن يسلم معه ويقوم فيصلي بعد ذلك لنفسه ما أحب، قال: قال لي مالك قبل ذلك: ويتأنى قليلا أعجب إلي.
قال محمد بن رشد.: وجه كراهيته للداخل مع الإمام في الوتر أن يشفع وتره، يريد وقد صلى بعد العتمة أشفاعا يوترها له هذا الوتر، قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه» . وإذا لم يسلم بسلامه وشفع وتره فقد خالفه في أن ائتم به في شفع وهو في وتر.
وأما لو أوتر مع الإمام بعد أن صلى العتمة قبل أن يصلي نافلة لشفع وتره كما قال في المدونة: إذا أوتر معه قبل أن يصلي العتمة. ومن أهل العلم من يقول: إن الوتر لا يكون إلا في آخر ما يصلى من النوافل، وأن من صلى نافلة بعد أن أوتر انتقض وتره وأوتر مرة أخرى، ومنهم من يقول: إذا أوتر أول الليل بعد أن صلى نافلة ثم أراد أن يصلي آخر الليل يشفع وتره بركعة ثم يصلي ما شاء(1/290)
ويوتره مرة أخرى، وهذا القول مشهور في السلف ويسمونه مسألة نقض الوتر، ولهذا الاختلاف وقع هذا السؤال هاهنا. وأما استحبابه إذا سلم معه أن يتأنى قليلا قبل أن يصلي فهو مثل ماله في المدونة، ووجهه مراعاة ما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر من صلى أن لا يتنفل حتى يتقدم أو يتكلم» ، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرقيق العجم يريدون أن يطعموا ويعلموا الإسلام والصلاة]
مسألة وسئل مالك عن الرقيق العجم يشترون في رمضان وهم مقيمون في بلد فيريدون أن يطعموا ويعلموا الإسلام والصلاة، فيجيبوا إلى أن يصلوا كما يعلمون ويريدون الأكل فيخبرون بذلك ولا يفقهون ما يراد به منهم، أترى أن يجبروا على ذلك أم يطعموا؟ قال أرى أن يطعموا ولا يمنعوا الطعام ويرفق بهم حتى يعلموا ويعرفوا الإسلام.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله؛ لأنهم إذا لم يفقهوا معنى ما يراد منهم فلا معنى لتجويعهم، إذ لا فائدة لصيامهم بغير نية، ولا تصح النية إلا ممن يفقه معناها.
[مسألة: حكم جعل المقصورة في المسجد]
مسألة قال مالك: إن أول من جعل المقصورة مروان بن الحكم حين طعنه اليماني، قال فجعل مقصورة من طين وجعل فيها تشبيكا.(1/291)
قال محمد بن رشد: وجه قوله الإعلام بأن المقصورة محدثة لم تكن على عهد النبي ولا عهد الخلفاء بعده، وإنما أحدثها الأمراء للخوف على أنفسهم، فاتخاذها في الجوامع مكروه، فإن كانت ممنوعة تفتح أحيانا وتغلق أحيانا فالصف الأول هو الخارج عنها اللاصق بها، وإن كانت مباحة غير ممنوعة فالصف الأول هو اللاصق بجدار القبلة في داخلها.
روي عن مالك ذلك. وقوله جعل فيها تشبيكا يريد تخريما يرى منه ركوع الناس فيها وسجودهم للاقتداء بهم.
[مسألة: الرجل لا يدرك من الجمعة إلا التشهد أيركع ركعتين نافلة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل لا يدرك من الجمعة إلا التشهد فيقعد مع الإمام بتكبيرة فيتشهد ثم يسلم الإمام، أيركع ركعتين نافلة؟ أو يقوم يصلي أربعا؟ قال لم يتنفل استنكارا لذلك، ثم قال بل يصلي أربعا كما هو إذا سلم الإمام. قال مالك: وأحب إلي أن يبتدئ بتكبيرة أخرى، ولو صلى بذلك التكبير أجزأ عنه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها؛ لأنه إذا أدرك الإمام في التشهد فإنه يحرم على أن يصلي أربعا؛ لأنه قد علم أن الجمعة قد فاتته، واستحبابه أن يبتدئ بتكبيرة أخرى هو مثل استحبابه في المدونة لمن دخل مع الإمام في التشهد الأخير أن يقوم بتكبير، وخلاف أصله فيمن أدرك من صلاة الإمام ركعة أو فاتته منها ركعة في غير المغرب أنه يقوم بغير تكبير.
ومن الناس من ذهب إلى أن يفرق بين الموضعين، وليس بصحيح. وأما مسألة الاختلاف لو أدرك الإمام وقد رفع رأسه من الركوع فأحرم معه وهو يظن أنه في الركعة الأولى فإذا هو في الركعة الثانية، فقال مالك في كتاب ابن المواز: إنه يبني على إحرامه مع الإمام أربعا، واستحب أن يجدد إحراما آخر بعد سلام الإمام من غير أن يقطع. ويأتي على قول(1/292)
أشهب في أول سماع سحنون على رواية ابن وهب عن مالك في الذي يرعف يوم الجمعة قبل عقد ركعة أنه لا يبني على الإحرام، بخلاف من رعف في غير الجمعة قبل عقد ركعة أنه لا يبني على إحرامه في هذه المسألة؛ لأنه أحرم بنية الجمعة ركعتين.
[مسألة: الرجل يدعو في الصلاة فيقول يا لله يا رحمان]
مسألة وسئل عن الرجل يدعو في الصلاة فيقول: يا لله يا رحمان، قال: يقول يا رحمان، ثم قال واللهم أبين عندي. فقيل له: يدعو بما دعت به الأنبياء؟ قال نعم، في كتاب الله تبارك وتعالى اللهم. قال محمد بن رشد: قوله واللهم أبين عندي أي أحب إلي، لا أن إجازة الدعاء بيا رحمان غير بين، إذ لا اختلاف بين المسلمين أن الرحمن اسم من أسماء الله تعالى المختصة به.
[مسألة: الفرجة يراها الرجل وأمامه صف أيشقه إليها]
مسألة وسئل مالك عن الفرجة يراها الرجل وأمامه صف، أيشقه إليها؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا جائز لا بأس به كما قال، لما جاء من الترغيب في سد الفرج.
[مسألة: الرجل يقطع اللحم النيء فتقام الصلاة أيصلي قبل أن يغسل يديه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يقطع اللحم النيء فتقام الصلاة، أترى أن يصلي قبل أن يغسل يديه؟ قال ليغسل يديه قبل أن يصلي أحب إلي.(1/293)
قال محمد بن رشد: ما استحب مالك من غسل يديه قبل الصلاة من اللحم النيء كما استحبه لأن المروة - والنظافة مما شرع في الدين، وقد استحب في المدونة أن يتمضمض من اللبن [واللحم] ، ويغسل الغمد إذا أراد الصلاة، فكيف باللحم النيء.
[مسألة: أفيقرأ المسافر في الظهر بسبح والمطففين]
مسألة قال مالك: وقد كان ابن حزم يطيل القراءة في الظهر، فقيل له قدر كم؟ فقال: الكهف وما أشبهها، فقيل أفيقرأ المسافر بسبح وويل للمطففين، فإن الأكرياء يسرعون بهم؟ قال: لا بأس بذلك، فقيل له فإذا زلزلت وما أشبهها؟ قال هذه قصار جدا، كأنه يقول: لا.
فقال أصبغ: سألت ابن القاسم عن إمام مسجد عشيرة وما أشبهه يقرأ بقل هو الله أحد وما أشبهها في صلاة الصبح، قال الصلاة تامة. قال سحنون: وقد أخبرني ابن وهب «عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ما من القرآن شيء إلا وقد سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤم بالناس به» ، فلذلك رأيت أن يجزئ.
قال محمد بن رشد: التطويل في قراءة الصبح والظهر مستحب غير واجب، وهما سيان فيما يستحب فيهما من التطويل. ألا ترى أنه استخف في المدونة للمسافر في الصبح من التخفيف القدر الذي استخفه له هاهنا في الظهر.
ويستحب أن تكون الركعة الأولى أطول قراءة من الثانية في الصبح والظهر، لما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطيل أول ركعة من الظهر وأول ركعة من الغداة» ، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى الاختيار في الظهر دون(1/294)
الصبح أن تكون الركعتان الأوليان متساويتين في القراءة، كما أن الركعتين الآخرتين متساويتان في القراءة. ويستحب أن لا يقرأ في الصبح والظهر في مساجد الجماعات بدون طوال سور المفصل، ويقرأ في المغرب بقصارها، وفي العشاء الآخرة بوسطها.
واختلف في العصر فقيل هي والمغرب سيان في قدر القراءة، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وقيل إنها والعشاء الآخرة سيان فيما يستحب فيهما من قدر القراءة. واختلف في حد المفصل فقيل إنه من الحجرات، وقيل إنه من سورة ق، وقيل إنه من سورة الرحمن، روي ذلك عن ابن مسعود، والصحيح قول من قال إنه من سورة ق؛ لأن سورة الحجرات مدنية، والمفصل مكي.
روي عن ابن مسعود أنه قال: أنزل الله على رسوله المفصل بمكة فكنا حججا نقرأ ولا ينزل غيره.
ومن الدليل على ذلك ما روي عن أوس بن حذيفة قال: سألت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف كنتم تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة سورة، وفي بعض الآثار كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحزب القرآن فذكر نحوه؛ لأن القرآن يأتي على هذا سبعة أحزاب بعدد الأيام، المفصل منها حزب من أول سورة ق؛ ولأن الستة الأحزاب تتم إذا عدت السور بسورة الحجرات، ويحتمل أن تكون سورة الرحمن في مصحف ابن مسعود بعد سورة الحجرات، فلذلك قال فيها إنها أول المفصل والله أعلم. وأما جواز صلاة من لم يقرأ في الصبح إلا بقل هو الله أحد فهو إجماع.
ومن الدليل على ذلك قول الله عز وجل: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] . وقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي(1/295)
خراج» . وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي استدل به فلا دليل فيه، إذ ليس فيه أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤم الناس في الصبح بقل هو الله أحد، فالذي يحمل عليه أنه إنما سمعه يؤم الناس بها في المغرب، والله أعلم.
[مسألة: الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرك رجليه]
مسألة وسمعت مالكا يقول: إن أول من أحدث الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرك رجليه رجل قد عرف وسمي إلا أني لا أحب أن أذكره، وقد كان مسمتا، فقيل له: أفعيب ذلك عليه؟ قال: قد قال سحنون: عيب ذلك عليه، وهذا مكروه من الفعل.
قال محمد بن رشد: قال سحنون: الرجل المسمت هو عباد بن كثير، ويروى مسبئا أي يسبأ الثناء عليه، فجائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة، قاله في المدونة، وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على أحدهما دون الآخر؛ لأن ذلك ليس من حدود الصلاة، إذ لم يأت ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين الكرام، وكان من محدثات الأمور.
وأما الاعتماد على اليدين عند القيام من الجلسة الوسطى فمرة استحبه مالك وكره تركه، ومرة استحبه وخفف تركه، ومرة خير فيه، وسيأتي القول على هذا في رسم "باع غلاما "، وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي يقوم الليل أو جله فيأتي إلى صلاة الصبح وهو ناعس]
مسألة وسئل مالك عن الذي يقوم الليل أو جله فيأتي إلى صلاة الصبح وهو ناعس، أفيستحب ذلك له؟ فقال: أما الذي يغلبه النوم(1/296)
في صلاته فلا أحبه، فقيل له: إنه يصيبه النوم والنعاس، قال: أما النعاس والكسل والتكسير فلا بأس به ما لم يصبه نوم يغلبه في ذلك.
قال محمد بن رشد: أما قيام جل الليل إذا لم يوجب ذلك عليه أن يغلبه النوم في صلاة الصبح فذلك من المستحب المندوب إليه، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4] . واختلف قول مالك في قيام جميعه مع أن لا يوجب ذلك عليه أن يغلبه النوم في صلاة الصبح، فمرة أجازه لأن قيام الليل فعل بر فاستيفاء جميعه نهاية في ذلك، ومرة كرهه مخافة السآمة عليه والملل، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» . ولما قيل له في الحولاء بنت تويت إنها لا تنام الليل كره ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى عرفت الكراهية في وجهه وقال: «إن الله لا يمل حتى تملوا اكفلوا من العمل ما لكم به طاقة» . وقال، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، في الذي صام الدهر «لا صام ولا أفطر» .
وقع اختلاف قوله في رسم "باع غلاما " بعد هذا. وأما إذا كان إذا قام الليل لا يصلي الصبح إلا وهو مغلوب عليه فذلك مكروه له، قام الليل أو جله قولا واحدا، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإنه إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله(1/297)
يذهب يستغفر فيسب نفسه» . فيحصل بين أمرين: إما أن يصلي على هذه الحال التي قد نهي عن الصلاة فيها، أو يرقد فتفوته صلاة الصبح في جماعة. وقد قال عثمان بن عفان، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة، وذلك لا يقوله إلا عن توقيف، وبالله التوفيق.
[القوم يجتمعون جميعا فيقرؤون في السورة الواحدة]
ومن كتاب سن رسول الله قال ابن القاسم: قال مالك في القوم يجتمعون جميعا فيقرؤون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية، فكره ذلك وأنكر أن يكون من فعل الناس.
قال محمد بن رشد: إنما كرهه لأنه أمر مبتدع ليس من فعل السلف؛ ولأنهم يبتغون به الألحان وتحسين الأصوات بموافقة بعضهم بعضا وزيادة بعضهم في صوت بعض على نحو ما يفعل في الغناء، فوجه المكروه في ذلك بين والله أعلم. وقد مضى من هذا المعنى في رسم "سلعة سماها "، وتأتي المسألة متكررة في رسم "لم يدرك" من سماع عيسى.
[مسألة: علم الإمام أنه لا يستطيع أن يصلي قائما]
مسألة وقال مالك: إذا علم الإمام أنه لا يستطيع أن يصلي قائما فليأمر غيره يصل بالناس، وليقعد، وليس من هيئة الناس اليوم أن يصلوا جلوسا. قال مالك: لم يفعل ذلك أبو بكر ولا عمر بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما بلغنا، ولعل هذا شيء نسخ، والعمل على حديث ربيعة أن أبا بكر كان يصلي والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بصلاته. وقال مالك عن ربيعة: ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته.(1/298)
قال محمد بن رشد: قوله ليس من هيئة الناس اليوم أن يصلوا جلوسا، أي ليس من هيئتهم أن يصلي المريض الجالس بالأصحاء قياما، يريد أن ذلك إنما كان من هيئة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمرتبته التي لا يشاركه فيها غيره، فكان ذلك من خواصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقوله بعد ذلك ولعل هذا شيء نسخ والعمل على حديث ربيعة إلى آخر قوله، يدل على أنه لم يرد ذلك من خواصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه كان شرعا شرعه لأمته ثم نسخه عنهم بما كان من فعله أيضا في ذلك المرض الذي توفي فيه.
وقد تعارضت الآثار في ذلك فجاء في بعضها ما دل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما خرج في مرضه وأبو بكر يصلي بالناس تأخر أبو بكر عن الإمامة وتقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى بالناس بقية صلاتهم وهو جالس والقوم خلفه قياما، وجاء في بعضها ما يدل على أن أبا بكر لم يتأخر عن الإمامة، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما صلى مؤتما بأبي بكر، فمن الناس من صحح ما دل منها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان الإمام ورأى ذلك شرعا لأمته ثم لم ينسخه عنهم ولا اختص به دونهم، فأجاز إمامة المريض جالسا بالأصحاء قياما، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك، وفي هذا نظر، كيف أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس في صلاة قد دخلوا فيها قبله، إلا أن يتأول أنه أحرم خلف أبي بكر ودخل في الصلاة معه، ثم حينئذ تقدم فصار هو الإمام رجع أبو بكر مأموما، فيستقيم معنى الحديث ويصح التعلق به لمن أجاز إمامة الجالس منه.
ومنهم من صحح أيضا ما دل منها أنه كان الإمام إلا أنه رأى ذلك من خواصه، فلم يجز لأحد بعده إذا كان مريضا أن يؤم الأصحاء قياما، وهو قول مالك في هذه الرواية على ما قلناه.
ومنهم من ذهب إلى أن ذلك كان منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاتين فكان في الصلاة الأولى هو الإمام، وائتم في الثانية بأبي بكر، فكان فعله في الصلاة الثانية ناسخا لفعله في الصلاة الأولى.
وإلى هذا ينحو آخر قول مالك في هذه الرواية على ما قلناه. فعلى هذا التأويل تخلص الآثار من التعارض، فهو أولاها بالصواب، والله أعلم. فإن أَمَّ المريض جالسا بالأصحاء قياما على ما في رواية ابن القاسم عن مالك أجزأته وأعاد القوم(1/299)
أبدا، وقد قيل: إنهم لا يعيدون إلا في الوقت مراعاة لقول من يجيز ذلك ابتداء، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك. وقد قال بعض أصحاب مالك: إن الإمام يعيد، وهو بعيد، وستأتي هذه المسألة أيضا في آخر رسم "استأذن " من سماع عيسى.
وأما ما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه صلى وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا» فلا اختلاف بين أهل العلم أن ذلك منسوخ إلا ما جاء عن أسيد بن الحضير، وجابر بن عبد الله أنهما عملا بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وهو شذوذ، فإن صلى المريض بالأصحاء جلوسا أعادوا في الوقت وبعده، وقد قيل: إنهم لا يعيدون إلا في الوقت، وهو بعيد لضعف الاختلاف في ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: يكبر الإمام إذا صعد المنبر في العيدين]
مسألة قال مالك: من السنة أن يكبر الإمام إذا صعد المنبر في العيدين، ويكبر في الخطبة الثانية.
قال محمد بن رشد: التكبير من شعار العيد. روي عن الحسن بن علي أنه قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نلبس أحسن ما نجد وأن نضحي بأسمن ما نجد: البقرة عن سبعة والجزور عن عشرة وأن نظهر التكبير وعلينا السكينة والوقار» . ولم يحد مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في تكبير الإمام في الخطبة حدا، قاله في رسم "اغتسل " بعد هذا، وقال ابن حبيب: إنه يكبر في(1/300)
مبتدأ الخطبة الأولى تسع تكبيرات، وفي مبتدأ الثانية سبع تكبيرات، وفي خلال كل فصل ثلاث تكبيرات، وحكي ذلك عن مطرف وابن الماجشون، قال: وقد روي عن أبي هريرة أنه يكبر في مبتدأ الخطبة خمس عشرة تكبيرة، والاقتصار على الأولى أحب إلينا.
[مسألة: يصلي المريض المكتوبة على المحمل]
مسألة قال: ولا يصلي المريض المكتوبة على المحمل، وإن اشتد مرضه حتى ينزل بالأرض فيصلي عليها وإن كان يومئ إيماء، ولا يصلي مكتوبة على المحمل.
قال ابن عبد الحكم: إنما ذلك إذا كان المريض يقوى إذا نزل بالأرض على الصلاة جالسا وساجدا؛ لأنه لا يجوز له أن يصلي المكتوبة على المحمل إيماء وهو ممن يقوى على السجود، فإذا كان ممن إذا نزل بالأرض لم يقو على الصلاة إلا مضطجعا وإيماء فلا بأس أن يصلي على المحمل؛ لأن الحالة قد استوت به، ورواه يحيى عن ابن القاسم عن مالك.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم وظاهر روايته هذه عن مالك وما في المدونة أن المريض لا يصلي المكتوبة على المحمل أصلا وإن لم يقدر على السجود بالأرض ولا على الجلوس، ورواية يحيى عن ابن القاسم عن مالك أنه يجوز له أن يصلي على المحمل إذا لم يقدر على السجود وإن قدر على الجلوس، ومثله رواية أشهب عن مالك بعد هذا، فهي ثلاثة أقوال على ما ذكرناه، فرواية يحيى عن ابن القاسم عن مالك مخالفة لقول عبد الحكم ولرواية أشهب عن مالك، فسياقة العتبي لرواية يحيى على أنها مثل قول ابن عبد الحكم سياقة فاسدة، فتدبر ذلك وقف عليه إن شاء الله، وبه التوفيق.(1/301)
[مسألة: الصلاة على السرير]
مسألة وقال لا بأس بالصلاة على السرير، وهو عندي مثل الفراش يكون على الأرض للمريض.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو أمر لا اختلاف فيه؛ لأن الصلاة على السرير كالصلاة في الغرف وعلى السطوح، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يكون في الصلاة فيخرج الرجل من الصف]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يكون في الصلاة فيخرج الرجل من الصف، قال إن كان إلى جنبه فإني أرى أن يشير إليه بالتسوية إذا كان ذلك شيئا يسيرا، فأما الصف يتعرج فإني أرى أن يقبل على صلاته ولا يشتغل به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن اشتغاله بالإقبال على صلاته آكد عليه من الاشتغال بتقويم الصف إذا اعوج؛ لأن الإقبال على صلاته مما يخصه بخلاف تقويم الصف.
[مسألة: حكم وضوء من ينام وهو قاعد]
مسألة وسألته عن الذي ينام وهو قاعد، قال مالك: لا أرى عليه وضوءا إلا أن يتطاول ذلك، ومن الرجال من ينام في المسجد فيتطاول به النوم عامة الليل حتى يذهب ليل طويل وهو قاعد، فأما إذا كان مثل يوم الجمعة وما أشبهه فلا أرى في ذلك شيئا، فقيل له: يا أبا عبد الله ربما رأى الرؤيا في ذلك، فقال: إنما ذلك أحلام وليست برؤيا، فلا أرى في مثل هذا وضوءا.
وحدث ابن القاسم عن مالك عن نافع أن ابن عمر كان ينام وهو جالس ثم يصلي(1/302)
ولا يتوضأ. قال مالك فلا أرى الوضوء إلا على من تطاول ذلك عليه، فأما الرجل ينام يوم الجمعة والإمام يخطب وما أشبهه فلا أرى عليه وضوءا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله؛ لأن النوم ليس بحدث فتنتقض الطهارة بقليله وكثيره، وإنما هو سبب للحدث. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العينان وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء» ، فلا يجب الوضوء إلا من النوم الذي يمكن إذا كان منه الحدث ألا يشعر به، فالقدر الذي يحكم على النائم بانتقاض وضوئه من أجله يختلف باختلاف هيئته في نومه، وهو على أربع مراتب: أقربها إلى انتقاض وضوئه فيها بالنوم الاضطجاع، ثم السجود، ثم الجلوس والركوب، ثم القيام والاحتباء. واختلف في الركوع فقيل إنه كالقيام، وقيل إنه كالسجود، واختلف أيضا في الإسناد فقيل: إنه كالجلوس وقيل: إنه كالاضطجاع.
فإذا نام الرجل مضطجعا وجب عليه الوضوء بالاستثقال وإن لم يطل، وإذا نام ساجدا لم يجب عليه الوضوء إلا أن يطول، وقيل: إنه يجب عليه بالاستثقال وإن لم يطل، وإذا نام جالسا أو راكعا فلا وضوء عليه إلا أن يطول، وإذا نام قائما أو محتبيا فلا وضوء عليه وإن طال؛ لأنه لا يثبت، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة.
[مسألة: أصابه الرعاف يوم الجمعة بعد أن صلى ركعة فغسل الدم عنه]
مسألة قال مالك: فيمن أصابه الرعاف يوم الجمعة بعد أن صلى ركعة فغسل الدم عنه، قال: أرى أن يرجع إلى المسجد فيركع ركعة، وإن صلى في بيته ابتدأ أربعا؛ لأن الجمعة لا تصلى في البيوت.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله أرى أن يرجع إلى المسجد، أنه(1/303)
يرجع إلى المسجد الذي ابتدأ فيه، وهو المشهور في المذهب. ومن أصحابنا من يقول إنه يتم صلاته في أقرب المساجد إليه، وهو الذي يدل عليه تعليله بأن الجمعة لا تصلى في البيوت.
وجه القول الأول أن المسجد شرط في صحة الجمعة، فإذا دخل في الجمعة في مسجد ما تعين عليه إتمام الصلاة في ذلك المسجد. ووجه القول الثاني أنه لا يتعين عليه إلا إتمام الصلاة في مسجد لا في ذلك المسجد بعينه.
ويدل تعليله أيضا على أن الجمعة لو أقيمت في مسجد سوى المسجد الجامع لأجزأت خلاف ما ذهب إليه القاضي أبو الوليد من أن ذلك لا يجوز إلا أن تنتقل إليه الجمعة على التأبيد.
[مسألة: نسي صلوات كثيرة فذكرها في وقت صلاة]
مسألة قال ابن القاسم فيمن نسي صلوات كثيرة فذكرها في وقت صلاة، إن كانت صلاة يوم وليلة فأدنى بدأ بها ثم صلى الصلاة التي حضرته وإن فات وقتها، وإن كانت أكثر من ذلك بدأ بالصلاة التي حضرته ثم قام فقضى ما فاته.
قال محمد بن رشد: جعل في هذه الرواية حد الصلوات الكثيرة الذي يبدأ بما حضر وقته عليها ست صلوات فزائدا، وروى ابن سحنون عن أبيه أن حدها خمس صلوات فزائدا، وقد قيل إن حدها أربع صلوات فزائدا على ظاهر ما في المدونة.
والصواب أن حدها أكثر ما قيل في ذلك وهي الست الصلوات للاتفاق على أنها كثيرة؛ لأن ظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها كما كان يصليها في وقتها» ، يقتضي بحمله على عمومه، إذ الصلاة من ألفاظ العموم، أن يبدأ بالفوائت، قلت أو كثرت ساعة يذكرها قبل ما هو في وقته، فلا يخصص من هذا العموم إلا ما يتفق على تخصيصه منه وهو الكثير، وبالله التوفيق.(1/304)
[الرجل يصلي في الإزار والرداء فيجد الحر فيطرح رداءه على منكبيه]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا قال: وسئل مالك عن الرجل يصلي في الإزار والرداء فيجد الحر ويكون متربعا فيطرح رداءه على منكبيه، قال: أما النافلة فأرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: يكره للرجل أن يصلي مكشوف الظهر والصدر، فاستخف ذلك في النافلة لشدة الحر، ولو لم يفعل لكان أحسن.
[مسألة: الوتر يقرأ فيه الرجل بأم القرآن وحدها ثم يركع]
مسألة وسئل عن الوتر يقرأ فيه الرجل بأم القرآن وحدها ثم يركع، فإذا رفع رأسه ذكر أنه لم يقرأ فيه إلا بأم القرآن وحدها، كيف يصنع؟ قال أرى أن يمضي وتره على حاله، فقيل له: أترى عليه سجود سهو؟ قال: لا وخففه وقال: ألا ترى أن ركعتي المكتوبة اللتين تكونان في آخر الصلاة ليس يقرأ فيهما إلا بأم القرآن وحدها، فلا أرى في مثل هذا سجود سهو.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن سجود السهو إنما يجب لنقصان السنن لا لنقصان الاستحبابات، وقراءة ما عدا أم القرآن في الوتر مستحب.
[مسألة: الجمع بين المغرب والعشاء في المطر]
مسألة وسئل عن الجمع بين المغرب والعشاء كيف هو يكون المطر دائما لا ينقطع وليس لتعجيلها أمر يتعجلان فيه منفعة لأن المطر كما هو، قال أرى أن تجمعا، وما زال الناس يجمعون، فأرى أن تعجل العشاء قليلا عن وقتها وتؤخر المغرب إلى العشاء. قيل له فإنهم إذا(1/305)
فرغوا من المغرب قام المؤذنون يؤذنون واحدا بعد واحد كأنهم يريدون أن يبطئوا بالعشاء قليلا، قال: ذلك أحسن ولا أرى به بأسا، وذلك رفق بالناس في جمع الصلاتين. فقيل له إنه ربما تجلت السماء وانقطع المطر إلا أنه يكون الطين والوحل فيجمعون، فكأنه لم ير به بأسا، قال ما زال الناس يجمعون.
قال محمد بن رشد: سلم السائل قوله إن الجمع لا منفعة لهم فيه لتمادي المطر، وليس ذلك ببين، بل هم مع تمادي المطر في الجمع أعذر، والرخصة لهم فيه أكثر، للمشقة الداخلة عليهم في الذهاب والرجوع مرتين مع تمادي المطر.
وظاهر هذه الرواية أنه أجاز الجمع في الطين والوحل وإن لم يكن مطر ولا ظلمة، إذ لم يشترط الظلمة، وذلك خلاف قوله في المدونة والواضحة، وخلاف ما في قرب آخر الرسم الأول من سماع أشهب، وقد مضى التكلم في وقت الجمع بينهما في رسم "شك في طوافه " فلا وجه لإعادته.
[التكبير خلف الصلوات بأرض العدو]
مسألة وسئل مالك عن التكبير خلف الصلوات بأرض العدو، وقال ما سمعته، إنما هو شيء أحدثه المسودة، فقيل له: فإن بعض البلدان يكبرون دبر المغرب والصبح، فقال هو ما أحدثه المسودة.
قال محمد بن رشد: المسودة هم القائمون على بني أمية بدولة بني العباس، وكانت لهم ألوية سود فنسبوا إليها، وأنكر في هذه الرواية التكبير دبر الصلوات بأرض العدو، وسكت عنه في غير دبر الصلوات، وأجازه في الجهاد من المدونة، وفي سماع أشهب من كتاب الجهاد بحضرة العدو وبغير حضرتهم وسكت عن دبر الصلوات، فكل واحدة من الروايتين مبينة لصاحبتها. وحكى ابن حبيب أن أهل العلم يستحبون التكبير في العساكر(1/306)
والثغور والمرابطات دبر صلاة العشاء وصلاة الصباح تكبيرا عاليا ثلاث تكبيرات، ولم يزل ذلك من شأن الناس قديما، وسمعتهم يكرهون التطريب في ذلك وأن يتقدمهم واحد بالتكبير أو التهليل ثم يجيبه الآخرون بنحو من كلامه جما غفيرا، ولا بأس أن يخترق تكبيره، وما ذهب إليه مالك من كراهية التكبير دبر الصلوات أظهر؛ لأنه أمر محدث لم يكن في الزمن الأول، ولو كان لذكر ونقل، والله أعلم.
[الصلاة في مثل مساجد الحرس أيصلي فيها الظهر والعصر يجمع فيها مرتين]
ومن كتاب أوله يسلف في المتاع والحيوان وسألت مالكا عن الصلاة في مثل مساجد الحرس، أيصلي فيها الظهر والعصر يجمع فيها مرتين؟ فكره ذلك وقال: لا أحب أن تجمع في المسجد صلاة واحدة مرتين يجمع فيها بعد الصلاة.
قال ابن القاسم: إذا كان المسجد يجمع فيه بعض الصلوات ولا يجمع فيه بعضها فلا تجمع فيه صلاة مرتين. قال ابن القاسم: قال لي مالك كل مسجد تجمع فيه بعض الصلوات ولا يجمع فيه بعض فلا أرى أن يجمع فيه مرتين ما يجمع فيه وما لا يجمع.
قال مالك: وقد كان بالمدينة هاهنا مساجد يجمع فيها المغرب والعشاء والصبح ولا يجمع فيها الظهر والعصر. قال ابن القاسم: ولا أعلم إلا أنه كان من قوله فلم يكن يجمع فيها صلاة واحدة مرتين مما لم يكن يجمع فيه.
وفي رواية أشهب وابن نافع من كتاب الصلاة قال: وسئل مالك عن مساجد بالإسكندرية يحرس فيها يصلى فيها المغرب والعشاء والصبح بالأذان والإقامة، ولا يصلى فيها الظهر والعصر، فربما شهدنا الجنازة بالنهار فصلينا فيها الظهر(1/307)
والعصر فتجمع فيها الصلاة منها مرتين، أترى ذلك واسعا؟ قال نعم لا بأس بذلك، وأما الصلوات التي تجمع فلا أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: رواية ابن القاسم في المنع من الجمع مرتين في المسجد الذي يجمع فيه بعض الصلوات التي لا تجمع فيها، تأتي على أن الجمع في مسجد واحد مرتين كره لوجهين:
أحدهما: تفريق الجماعة.
والثاني: لئلا يكون ذلك ذريعة لأهل البدع في اعتزالهم أهل السنة وتفرقتهم بأئمتهم؛ لأن الصلاة التي لا تجمع فيه إذا جمع فيه مرتين كل ذلك ذريعة لأهل البدع إلى ما يذهبون إليه من إظهار بدعهم وإن لم يكن في ذلك تفريق جماعة، إذ ليس لتلك الصلاة في ذلك المسجد جماعة تفرق. ورواية أشهب تأتي على أن الجمع مرتين في مسجد واحد إنما كره لعلة واحدة وهي تفريق الجماعة، فإذا لم يكن لتلك الصلاة في ذلك المسجد جماعة تفرق جاز الجمع فيه مرتين، فهذا وجه الروايتين.
[مسألة: يصلي العصر ثم ينسى أنه صلى فيقوم يصلي ثم يذكر صلى]
مسألة وسئل عن الرجل يصلي العصر لنفسه ثم ينسى أنه صلى فيقوم يصلي الثانية فيركع ركعتين ثم يذكر أنه قد صلى، قال: أرى أن يضم إليها أخرى، فقلت له: يا أبا عبد الله أتكون صلاة بعد العصر؟ فقال قد كان المنكدر يصلي، وقد كان عمر ينهاه عن ذلك، وقد جاء فيها بعض ما جاء، فالشيء إذا كان صاحبه لا يريد به خلاف السنة، وإنما يفعله على غير خلاف السنة رأيت أن يفعل ذلك للذي جاء فيه من الرخصة، وإنما كره من ذلك ما كان صاحبه يتعمد به خلاف الحق.
قال محمد بن رشد: النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الصبح حتى تطلع الشمس نهي ذريعة، وإنما حقيقة الوقت(1/308)
المنهي عن الصلاة فيه عند الطلوع وعند الغروب. ألا ترى أن رجلين لو كان أحدهما قد صلى العصر والثاني لم يصلها لجاز للذي لم يصل العصر أن يتنفل ولم يجز ذلك للآخر والوقت لهما جميعا وقت واحد، فإنما نهي الذي صلى العصر عن الصلاة بعد العصر حماية للوقت المنهي عن الصلاة فيه، لا لأن الصلاة فيه حرام.
روي عن المقدام ابن شريح: «قلت لعائشة كيف كان يصنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الظهر والعصر، قالت: كان يصلي الهجير ثم يصلي بعدها ركعتين. ثم كان يصلي العصر ثم يصلي بعدها ركعتين، قال فقلت: فأنا رأيت عمر يضرب رجلا رآه يصلي بعد العصر، فقالت: لقد صلاهما عمر ولقد علم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاهما، ولكن قومك أهل اليمن قوم طغام فكانوا إذا صلوا الظهر صلوا بعدها إلى العصر وإذا صلوا العصر صلوا بعدها إلى المغرب فقد أحسن» .
فلما كان هذا الذي صلى ركعة من العصر ثم ذكر أنه قد صلاها في وقت ليس بوقت منهي عن الصلاة فيه لأن الصلاة فيه حرام، وجب أن يتم ركعتين ولا يبطل عمله، لقول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، فهذا وجه قول مالك والله أعلم.
ولو ذكر قبل أن يركع لكان الأظهر أن يقطع على قياس قوله في مسألة رسم "أوله مرض " بعد هذا، ولو ذكر قبل أن يركع من صلاة يصلي بعدها لجرى ذلك على اختلاف قول ابن القاسم وأشهب في كتاب الصيام من المدونة في الذي يظن أن عليه يوما من رمضان فيصبح صائما، ثم يعلم أنه لا شيء عليه، وبالله التوفيق.(1/309)
[مسألة: القرآن يكتب أسداسا وأسباعا في المصاحف]
مسألة وسئل عن القرآن يكتب أسداسا وأسباعا في المصاحف، فكره ذلك كراهية شديدة وعابه وقال لا يفرق القرآن وقد جمعه الله تعالى، وهؤلاء يفرقونه، لا أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: أنزل الله تبارك وتعالى القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم أنزل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا بعد شيء حتى كمل الدين، واجتمع القرآن جملة في الأرض كما أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، فوجب أن يحافظ على كونه مجموعا، فهذا وجه كراهية مالك لتفريقه والله أعلم.
[مسألة: الصلاة في الحمام وقراءة الآية والآيتين]
مسألة قال مالك: لا أرى بأسا بالصلاة في الحمام وأن يقرأ فيه بالآية والآيتين والثلاث.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أرى بأسا بالصلاة في الحمام، معناه إذا أيقن بطهارته؛ لأنه قد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «نهى عن الصلاة في سبعة مواطن، أحدها الحمام» ، ومعنى النهي عن ذلك عند مالك لما يتقى من نجاسته إذ هو موضع يتخذ للاغتسال من النجاسة وغيرها، فينبغي أن يحمل داخله على النجاسة حتى يوقن بطهارته، وخارجه حيث يخلع الناس ثيابهم على الطهارة حتى يوقن فيه بالنجاسة.
ولعله تكلم في هذه الرواية على خارج الحمام، ولذلك لم يشترط أن يعلم طهارة الموضع الذي صلى فيه، وتكلم في المدونة على داخله، ولذلك اشترط طهارة الموضع فقال: إذا كان مكانه طاهرا فلا بأس به، ولم يجز أن يقرأ فيه بالآية والآيتين والثلاث، على سبيل الارتياع والتعوذ لأنه قرآن كريم، فواجب أن يجل على أن يتلى في المواضع(1/310)
المكروهة، وقد كره في رسم "المحرم " للرجل أن يقرأ بقية حزبه في طريق مسيره إلى المسجد، فكيف بالتلاوة في الحمام، وبالله التوفيق.
[مسألة: يغدو يوم الجمعة إلى المسجد ليصلي الصبح فيغتسل ويريد بذلك غسل الجمعة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يغدو يوم الجمعة إلى المسجد ليصلي الصبح فيغتسل ويريد بذلك غسل الجمعة فيقيم في المسجد حتى يصلي، قال مالك لا يعجبني ذلك، وكره ذلك الرواح تلك الساعة إلى الجمعة، ولم يعجبه غسل الجمعة تلك الساعة.
قال محمد بن رشد: غسل الجمعة عند مالك لا يكون إلا محصلا بالرواح إليها، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» - وقوله: «إذا جاء أحدكم الجمعة» خرج على المجيء المعروف الذي يكون ساعة الرواح على ما بينه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقوله: «من اغتسل ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة» الحديث، فلما اغتسل هذا الرجل في غير وقت الرواح الذي ندب رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى الرواح فيه بالحديث المذكور بإجماع لم يجزه الغسل عنده وإن كان متصلا بخروجه. وفي سماع زونان لابن وهب أنه يجوز له أن يروح إلى الجمعة بالغسل الذي اغتسله بعد الفجر، قال والفضل أن يكون غسله متصلا برواحه، ومثله في سماع أبي قرة عن مالك، وهو خلاف المشهور من قوله.
[مسألة: المطر إذا كان الطين والأذى في الطريق أيصلي الرجل في منزله]
مسألة وسئل مالك عن المطر إذا كان الطين والأذى في الطريق،(1/311)
أيصلي الرجل في منزله ويكون في سعة من ترك إتيانه إلى المسجد؟ قال: نعم أرجو أن يكون في سعة إن شاء الله تعالى.
قال محمد بن رشد: هذا من نحو إجازته الجمع بين المغرب والعشاء في الطين والوحل على ما تقدم في الرسم الذي قبل هذا؛ لأن فضيلة الوقت أكثر من فضيلة الجماعة، فإذا جاز ترك فضيلة الوقت لهذه العلة جاز ترك فضيلة الجماعة لها.
وقد روي عن زياد عن مالك أن صلاة الصبح في أول الوقت فذا أفضل من صلاتها في آخر الوقت في جماعة.
[مسألة: الرجل يسمع مؤذن المغرب في الحرس فيحرك فرسه ليدرك الصلاة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يخرج إلى الحرس فيسمع مؤذن المغرب في الحرس فيحرك فرسه ليدرك الصلاة، قال مالك: لا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: معناه ما لم يسرع حتى يخرج بذلك عن حد السكينة المأمور بها في الإتيان إلى الصلاة، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من هذا الكتاب.
[مسألة: حكم الاضطباع في الصلاة]
مسألة قال مالك: الاضطباع أن يرتدي الرجل فيخرج ثوبه من تحت يده اليمنى. قال ابن القاسم: وأراه من ناحية الصماء.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال ابن القاسم؛ لأنه إذا أخرج ثوبه من تحت يده اليمنى انكشف جنبه الأيمن فبدت عورته، ولهذه العلة جاء النهي في اشتمال الصماء.(1/312)
[مسألة: الرجل يقعد للتشهد يوم الجمعة في نافلة فيخرج الإمام أيدعو أم يسلم]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يقعد للتشهد يوم الجمعة في نافلة فيخرج الإمام، فأراد أن يدعو إلى أن يقوم الإمام قبل أن يسلم، قال بل يسلم ولا يدعو.
قال محمد بن رشد: قد استحب مالك في رواية ابن وهب عنه إذا لم يبق من صلاته إلا السلام أن يدعو ولا يسلم مادام المؤذنون يؤذنون والإمام جالس، والقياس ما في الكتاب لما جاء من " أن خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام ". فإذا كان خروجه يقطع الصلاة وجب أن لا يكون له أن يدعو ولا يسلم بعد خروجه، كما ليس له أن يدعو ولا يسلم بعد قيامه، وبالله التوفيق.
[الرجل يجعل الخاتم في يمينه أو يجعل فيه الخيط لحاجة يريدها]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء وسئل مالك عن الرجل يجعل الخاتم في يمينه أو يجعل فيه الخيط لحاجة يريدها، قال لا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: وجه إجازة هذا أو تخفيفه واضح، وذلك أن التختم في اليسار ليس بواجب، وإنما كان هو المختار لأن الأشياء إنما تتناول باليمين، فهو يأخذ الخاتم بيمينه فيجعله في يساره، فإذا جعله في يمينه ليتذكر بذلك الحاجة فلا حرج عليه في ذلك. وأما جعله فيه الخيط فليس فيه أكثر من السماجة عند من يبصره ويراه ولا يعرف وجه مقصده بذلك ومغزاه إن شاء الله، وبه التوفيق.(1/313)
[مسألة: الخمر إذا اضطر إليها الرجل أيشرب]
مسألة وسئل عن الخمر إذا اضطر إليها الرجل، أيشرب؟ قال: لا، ولن تزيده الخمر إلا شرا لقول بقطع جوفه. قيل لأصبغ: ما الفرق للمضطر بين الميتة والخمر، أرخص للمضطر في الدم وكره له شرب الخمر إذا اضطر إليها؟ فقال لأن الله ذكر تحريم الميتة فقال: حرمت عليكم الميتة الآية ثم استثنى فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] الآية، وذكر تحريم الخمر فقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية، فلم يستثن فيها للمضطر ولا غيره.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في الرواية ما الفرق للمضطر بين الميتة والخمر أرخص للمضطر في الدم وكره له شرب الخمر، وكان الصواب في الكلام أن يكون أرخص للمضطر في الميتة وكره له شرب الخمر، إلا أنه ذكر الدم مكان الميتة لما كان حكمهما سواء عند الجميع في جميع الأحوال.
ووقع في بعض الروايات: ما الفرق للمضطر بين الميتة والدم؟ وهو خطأ(1/314)
لا يصح له معنى. وقد قال ابن القاسم أيضا في سماع أصبغ من كتاب الصيد: إن المضطر يشرب الدم ولا يشرب الخمر، وقال أيضا إنه يأكل الميتة ولا يقرب ضوال الإبل. واحتج ابن وهب هناك للفرق بينهما وبين الميتة والخمر بمثل حجة أصبغ هنا سواء، وليست بحجة، إلا من جهة التعلق بالظاهر، وليس مذهبنا التعلق به وترك القياس والفرق بين الدم والخمر من جهة القياس أن تحريم الدم عبادة لا لمعنى يتوقع من شربه، وتحريم الخمر لما يتوقع من شربه من وقوع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
والفرق بين الميتة وضوال الإبل من جهة القياس أن الميتة لا ملك لأحد عليها بخلاف ضوال الإبل، فلا يكون باستباحتها عند الضرورة متعديا على أحد كما يكون إذا استباح ضوال الإبل. فإذا قلنا بالفرق بين ذلك من جهة القياس أو من جهة التعلق بالظاهر، فهل يمتنع من الخمر وضوال الإبل وإن لم يجد الميتة؟ أو هل إنما يلزمه الامتناع منهما مع وجود الميتة؟ فالظاهر من قول أصبغ أنه يمتنع منهما بكل حال، والظاهر من قول ابن وهب إنما يلزمه الامتناع منهما إذا وجد الميتة، ويأتي على ما في الموطأ لمالك من أن المضطر إذا وجد مالا لقوم وأمن أن يعد سارقا فتقطع يده كان أكل ما وجد للقوم أولى من أكل الميتة، أنه إذا وجد الميتة وضوال الإبل أكل الضوال ولم يأكل الميتة، فهي مسألة يتحصل فيها أربعة أقوال: أحدها: المساواة بينهما، والثاني: أن الأولى به إذا وجدهما أن يأكل الميتة، والثالث: أن الأولى به إذا وجدهما أن يأكل ضوال الإبل، والرابع: أن لا يقرب ضوال الإبل بحال.
وتعليل قول مالك لقوله إن المضطر لا يشرب الخمر بأنها لا تزيده إلا شرا يدل على أنه لو كان له في شربها منفعة لجاز له أن يشربها، وأن لا فرق عنده بين الميتة والخمر في إباحتهما للمضطر.
وقد استدل محمد بن عبد الحكم في كتاب المولدات على أن هذا مذهب مالك بهذا التعليل الذي علل به قوله، واحتج على صحته بأن من غص بلقمة فخشي على نفسه الموت ولم يجد ماء يستسيغها به إلا بالخمر أن ذلك جائز له، والظاهر من قول أصبغ أن(1/315)
ذلك لا يجوز له كما ذكرنا، وقاله محمد بن عبد الحكم في المحرم يضطر إلى الميتة أنه يأكلها ولا يأكل الصيد، يريد إلا أن لا يجد إلا الصيد فإنه يجوز له أن يأكله على أصله في الذي يغص باللقمة أنه يستسيغها بالخمر.
ولو وجد حمارا أهليا لأكله ولم يأكل الصيد للاختلاف في الحمار الأهلي، ولو وجد المضطر ميتة وخنزيرا لأكل الميتة ولم يأكل الخنزير، فهذا وجه القول في هذه المسألة مستوفى، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا يقصر حتى ينوي حين يخرج من منزله سفرا فيه أربعة برد]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يخرج من بيته إلى السوق، وبينه وبين منزله خمسة عشر ميلا، وخلف ذلك سوق آخر نحو ذلك أو أكثر، وخلف السوقين سوق آخر بينه وبينهما نحو من خمسة عشر ميلا، قرى بعضها خلف بعض، ونيته حين يخرج إن هو باع سلعته في السوق الأول رجع إلى أهله، وإلا تقدم حتى يبلغ آخر تلك الأسواق، أيقصر الصلاة أم يتم؟ قال مالك: لا يقصر على الشك وليتم الصلاة، ولا يقصر حتى ينوي حين يخرج من منزله سفرا فيه أربعة برد، وعندنا هاهنا مثل هذا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة في الذي يطلب حاجة على بردين فلم يزل يقال له هي بين يديك حتى سار مسيرة أيام وليالي، أنه يتم الصلاة في ذلك، وإنما يقصر في رجعته، وهذا ما لا أعرف فيه خلافا.
[مسألة: ينصت الناس في خطبة الاستسقاء والعيدين]
مسألة وقال مالك: ينصت الناس في خطبة الاستسقاء والعيدين كما ينصتون في الجمعة.(1/316)
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح كما قال؛ لأنها خطب مشروعة للصلاة عنده، فوجب أن يكون حكمها حكم خطبة الجمعة في الإنصات لها.
وذهب الطحاوي في خطبة العيدين إلى أنها للتعليم لا للصلاة كخطب الحج فلا يجب الاستماع إليها والإنصات لها.
ودليله ما روي «عن عبد الله بن السائب قال: شهدت العيد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما صلى قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يرجع فليرجع» ، وكذلك خطبة الاستسقاء إذ لا صلاة فيه على مذهبه، وبالله التوفيق.
[مسألة: التروح في الصلاة من الحر]
مسألة وسئل عن التروح في الصلاة من الحر، فقال: الصواب أن لا يفعل. قال ابن القاسم: يريد المكتوبة، ولا بأس به في النافلة إذا غلبه الحر.
قال محمد بن رشد: الاشتغال بالتروح في الصلاة ترك للخشوع فيها، ومجاهدة النفس على الصبر على شدة الحر وترك التروح ربما أدى إلى ترك الإقبال على الصلاة، فرأى مالك ترك التروح والصبر على شدة الحر ومجاهدة النفس على ذلك في الصلاة أصوب من التروح فيها، لقول الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] ، واستخف ذلك ابن القاسم في النافلة إذ ليست بواجبة.(1/317)
[مسألة: الرجل يدخل المسجد الحرام أيبدأ بركعة أم بالطواف]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يدخل في المسجد الحرام، أيبدأ بركعة أم بالطواف؟ قال بل بالطواف.
قال محمد بن رشد: الطواف بالبيت في المسجد الحرام كالصلاة في غيره من المساجد، ولا يتم إلا بركعتين، فإن دخله وهو لا يريد الطواف به تلك الساعة وجب عليه أن يركع ركعتين قبل أن يجلس.
[مسألة: يصلي في صف آخر وقدامه صفوف منحرفة أيشق الصف إليها]
مسألة وسئل عن الصف يكون خلفه الرجل في صف آخر وأمام الصف الذي قدامه صفوف منحرفة، أترى أن يشق الصف إليها؟ قال إن كان ينال ذلك برفق فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الكتب وأمام الصف الذي أمام الصف الذي قدامه، فعلى هذا أجاز له أن يشق صفين لسد الفرجة يراها في الصف المتقدم، ومع ذلك إذا كانت الفرجة أمامه، وأما إن كانت عن يمينه أو يساره فالذي يليها أولى بسدها منه، وقد قال ابن حبيب إن له أن يخرق لسدها الصفوف، وذلك لما جاء في الترغيب في سد الفرجة في الصف، روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سد فرجة في الصف رفعه الله بها درجة في الجنة وبنى له في الجنة بيتا» .
[مسألة: الإمام يكون في الصلاة فينظر إلى رجل مقبل أترى أن ينتظره]
مسألة وسئل مالك عن الإمام يكون في الصلاة فينظر إلى رجل(1/318)
مقبل، أترى أن ينتظره؟ قال لا، وكذلك لو رأى أيضا غيره أكان ينتظره؟ فنهى عن ذلك.
قال محمد بن رشد: كره مالك للإمام هذا لأن حق من دخل معه في الصلاة وتحرم بها عليه في أن يفعل ما يتبعه فيه أولى من حق من قصر عن الإتيان وأبطأ فيه.
ومن أهل العلم من أجاز ذلك في القدر اليسير الذي لا ضرر فيه على من معه في الصلاة، بدليل ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع صوت صبي في الصلاة فخفف» «وأنه صلى فأطال السجود فسئل عن ذلك فقال: إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته مني» .
وقد حكى بعض الناس عن أبي حنيفة فيمن تنحنح به وهو يصلي فانتظر المتنحنح به أن صلاته فاسدة، قال وأخشى عليه، ومعنى ذلك أن يكون قد عمل بعض صلاته لغير الله عز وجل، فيكون بذلك كافرا، وهو بعيد، لما جاء عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما ذكرناه، والصحيح عنه الكراهية لذلك مثل قول مالك، وهو قول الشافعي أيضا. وبالله التوفيق.
[الذي يتنخم في المسجد على الحصير ثم يدلكه برجله]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق وسئل عن الذي يتنخم في المسجد على الحصير ثم يدلكه برجله، فكره ذلك وقال إن القاسم بن محمد رأى رجلا يمضمض في المسجد بعد فراغه من شربه ثم مجه في الحصباء، فنهاه عن ذلك، فقال له الرجل وهو يريد أن يحاجه إنه يتنخم فيه وهو شر من الماء، قال إن ذلك مما لا بد للناس منه، ولم ير مالك بالتنخم تحت الحصير بأسا، وكره مالك تقليم الأظفار ودفن القمل وقتلها في(1/319)
المسجد. وسئل مالك عن التنخم في النعلين في المسجد، فقال أما إن كان لا يصل إلى موضع حصيرة يتنخم تحتها فلا أرى بأسا، وإن كان يصل إلى الحصيرة فإني أستحسنه ولا أحب لأحد أن يتنخم في نعليه.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين. أما كراهيته أن يتنخم في الحصير ثم يدلكه برجله فلأن ذلك لا يزيل أثرها من الحصير، وفي ذلك إذاية للمصلين وإضاعة لحرمة المسجد.
وأجاز أن يتنخم تحت الحصير كما أجاز أن يتنخم في الحصباء ويدفنه، فقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن يواريه» . وهذا كله في المدونة.
وكره تقليم الأظفار في المسجد لحرمته، وكره قتل القملة في المسجد ولم ير دفنها فيه بخلاف النخامة لنجاستها؛ ولأنه قد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل القملة في المسجد وأمر بإخراجها منه» ، وكان قتل البرغوث في المسجد أخف عنده من قتل القملة، وكره التنخم في النعلين، إلا أن لا يصل إلى الحصيرة لظهور ذلك فيهما وربما وضعهما في المسجد فيعلق به شيء من ذلك.
ووقع في بعض الروايات مكان فإني أستحسنه فإني استقبحه، فيعود الاستحسان إلى التنخم تحت الحصير إن كان يصل إليها، والاستقباح إلى التنخم في النعلين إن كان يصل إلى الحصير، وهذا كله مما لا إشكال فيه.
[مسألة: رجل كبر مع الإمام فنعس أو سها حتى سجد الإمام]
مسألة وسئل مالك عن رجل كبر مع الإمام فنعس أو سها حتى سجد الإمام، قال: إن ظن أنه يدركه قبل أن يرفع رأسه من السجود فليركع ويسجد ويلحقه، وإلا فلا يعتد بها وليركع ركعة إذا فرغ من الصلاة.(1/320)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة المدونة، تكررت في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب، وفي أول رسم من سماع عيسى، وفي رسم "لم يدرك منه" أكمل مما وقعت هاهنا. وتلخيص ما وقع فيها من الاختلاف أن لمالك فيها ثلاثة أقوال: أحدها أنه يركع بعد رفع الإمام رأسه ويتبعه كان ذلك في أول ركعة أو بعد أن عقد معه ركعة، والثاني أنه يلغي تلك الركعة ولا يتبع الإمام فيها كان ذلك أيضا في أول ركعة أو بعد أن عقد مع الإمام ركعة، والثالث أنه إن كان ذلك في أول ركعة ألغاها ولم يتبع الإمام فيها وإن كان ذلك بعد أن عقد معه ركعة اتبعه، واختلف قوله إلى أي حد يتبعه على القول الأول إذا عقد معه ركعة على قولين: أحدهما أنه يتبعه ما لم يرفع رأسه من سجود الركعة التي غفل عنها، والثاني أنه يتبعه ما لم يركع في الركعة التي بعدها أو ما لم يرفع رأسه من ركوعها على الاختلاف في قوله في عقد الركعة هل هو الركوع أو الرفع منه.
وسواء على مذهبه غفل أو سها أو نعس أو زوحم أو اشتغل بحل إزاره أو ربطه أو ما أشبه ذلك، وسواء أيضا على مذهبه أحرم قبل أن يركع الإمام أو بعد أن ركع إذا كان لولا ما اعتراه من الغفلة وما أشبهها لأدرك معه الركعة.
وأما لو كبر بعد أن ركع الإمام فلم يدرك أن يركع معه حتى رفع الإمام رأسه فقد فاتته الركعة ولا يجزيه أن يركع بعده ويتبعه قولا واحدا. وأخذ ابن وهب وأشهب بالقول الأول إذا أحرم قبل أن يركع الإمام، وبالقول الثاني إذا أحرم بعد أن ركع الإمام، ولم يفرقا بين الزحام وغيره.
وأخذ ابن القاسم في الزحام بالقول الثاني، وفيما سواه من الغفلة والاشتغال بالقول الثالث. وأخذ بالقول الثاني في الاشتغال، وفيما سواه من الزحام أو السهو أو الغفلة بالقول الثالث. وأخذ محمد بن عبد الحكم في الجمعة بالقول الأول، وفيما عدا الجمعة بالقول الثالث، وبالله التوفيق.
[مسألة: الإمام يدخل المسجد عند الإقامة ولم يصلى ركعتي الفجر]
مسألة وسئل مالك عن إمام مسجد في عشيرته أتى إلى المسجد فلما دخل المسجد أقام المؤذن الصلاة ولم يكن ركع ركعتي(1/321)
الفجر، أترى أن يسكت المؤذن حتى يركع ركعتي الفجر أم يصلي بهم؟ قال بل يصلي بهم الصبح ولا يسكت المؤذن لهما ولا يخرج من المسجد ولا يركع فيه بعد أن دخل المسجد ولا يسكت المؤذن.
قال محمد بن رشد: لم ير للإمام أن يسكت المؤذن لركعتي الفجر، إذ قيل فيهما إنهما من الرغائب وليستا من السنن، وهي رواية أشهب عن مالك، بخلاف الوتر الذي هو سنة، وقد قيل فيه إنه واجب فإن للإمام أن يسكت المؤذن حتى يوتر، وقد فعل ذلك عبادة بن الصامت.
[مسألة: يشرب الماء يوم الجمعة والإمام يخطب]
مسألة قال مالك: لا أحب لأحد أن يشرب الماء يوم الجمعة والإمام يخطب ولا يسقي الماء يدور به على الناس والإمام يخطب.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لما كان حال الخطبة حال الصلاة في الإنصات وجب أن يكون حالها حال الصلاة في الأكل والشرب.
[مسألة: وقت الصلوات كلها]
مسألة قال: مالك وقت الصلوات كلها في كتاب الله عز وجل، فأما قول الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] ، فذلك المغرب والعشاء والصبح؛ وقوله {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] ، فعشيا العصر، وحين تظهرون الظهر؛ وقَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] صلاة الظهر {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] قال: الغسق غيبوبة الشفق واجتماع الليل وظلمته،(1/322)
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] . قال مالك: ذلك وقت صلاة الصبح. قال: والأعراب يقولون صلاة الشاهد صلاة المغرب وذلك أني تفكرت في ذلك فإذا هي لم تنقص في السفر، هي فيه بمنزلتها في الحضر لم تقصر كما قصرت الصلوات، فلذلك سميت صلاة الشاهد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إن وقت الصلوات كلها في كتاب الله، ولكنها فيه مجملة غير محدودة، فلو تركنا وظاهر القرآن لم نعرف منه أوائل الأوقات التي لا تجوز الصلاة قبلها من أواخرها التي لا يجوز تأخيرها إلى ما بعدها، ولا وقت الاختيار من وقت الضرورة، ولا وقت التوسعة من وقت الرخصة للعذر، وقد بينت السنة ذلك كله وأحكمته.
فالأوقات تنقسم على خمسة أقسام: وقت اختيار وفضيلة وهو أن يصلي قبل انقضاء الوقت المستحب، وهو القامة للظهر، والقامتان للعصر، والإسفار للصبح، ومغيب الشفق للمغرب على اختلاف في ذلك، وثلث الليل أو نصفه للعشاء الآخرة؛ ووقت رخصة وتوسعة هو أن يصلي في آخر الوقت المستحب؛ ووقت رخصة للعذر وهو أن يؤخر الظهر إلى آخر وقت العصر المستحب أو يعجل العصر في أول وقت الظهر المستحب وهو أول الزوال أو بعدما يمضي منه مقدار ما يصلي فيه صلاة الظهر على اختلاف ذلك؛ ووقت تضييق من ضرورة وهو أن يؤخر الظهر والعصر إلى غروب الشمس، والصبح إلى طلوع الشمس، والمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر؛ ووقت سنة أخذ بحظ من الفضيلة للضرورة، وهو الجمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة.
وقد قيل إنما سميت المغرب صلاة الشاهد من أجل النجم الظاهر عند غروب الشمس، فالشاهد النجم، وهو أظهر مما ذهب إليه مالك؛ لأن الصبح لم تقصر أيضا هي في السفر بمنزلتها في الحضر.(1/323)
[مسألة: قول الرجل في صلاة العشاء العتمة]
مسألة وسئل عن قول الرجل في صلاة العشاء العتمة، قال مالك: الصواب من ذلك ما قال الله تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] ، فسماها الله تعالى العشاء، فأحب للرجل أن يعلمها أهله وولده ومن يكلمه بذلك، فإن اضطر أن يكلم بها أحدا ممن يظن أنه لا يفهم عنه فإني أرجو أن يكون من ذلك في سعة.
قال محمد بن رشد: وجه كراهية مالك أن تسمى العشاء الآخرة العتمة إلا عند الضرورة ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم إنما هي العشاء ولكنهم يعتمون على إبلهم» . وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا» ، فسمى العشاء في هذا الحديث العتمة، فالوجه في الجمع بين الحديثين أن الذي كانت العرب تعرفه في اسم هذه الصلاة العتمة للمعنى المذكور في الحديث الأول، فكان الأمر على ذلك إلى أن أنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] إلى قوله: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] ، فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تسميتها العتمة. وفي كتاب ابن مزين أن من قال في صلاة العشاء العتمة كتبت عليه سيئة، وبالله التوفيق.(1/324)
[مسألة: براءة أيقرأ فيها بسم الله الرحمن الرحيم]
مسألة وسئل مالك عن براءة أيقرأ فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ قال مالك: تقرأ كما أنزلت وليس فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قال محمد بن رشد: في قوله تقرأ كما أنزلت وليس فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ دليل على أن غيرها من السور أنزلت وفيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ومعنى ذلك أنها أنزلت وفيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ للاستفتاح والفصل بينها وبين التي قبلها لا على أن ذلك قرآن منها، بدليل ما روي «عن ابن عباس أنه قال: كان جبريل إذا نزل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ علم أن السورة قد انقضت» ، وروي «عن أبي بن كعب أنه قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر في أول كل سورة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وكانت براءة من آخر ما نزلت ولم يأمر فيها بذلك فضمت إلى الأنفال إذ كانت تشبهها» ، يريد من أجل أنها إنما نزلت بنقض العهود التي تقدمت في الأنفال، وبراءة على قوله سورتان، وكذلك هما سورتان على ما روي عن البراء أنه قال: " آخر آية نزلت يستفتونك وآخر سورة نزلت براءة " فقيل إنه إنما لم يكتب في أول براءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لأنها نزلت بالحرب والمنابذة والوعيد ونقض العهود، وبسم الله الرحمن الرحيم، إنما تكتب في السلم لا في المنابذة وفي استفتاح الخير لا في الوعيد ونقض العهود. وقيل إنها لم تكتب في أولها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إعظاما(1/325)
لاسم الله في خطاب المشركين، وهذا يرده ما في كتاب الله من قصة سليمان في كتابه إلى صاحبة سبأ ويرد الأول بثبوت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في الهمزة وتبت يدا.
وقد قيل إن براءة من الأنفال فلذلك لم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم. روي عن عثمان بن عفان أنه قال: لما كانت قصتها شبيهة بقصتها وذهب عني أن أسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها، وقع في قلبي أنها منها، فلذلك قرنت بينهما دون فصل ببسم الله الرحمن الرحيم، وبالله التوفيق، [والحمد لله ولا شريك له] ، تم كتاب الصلاة الأول.
* * *(1/326)
[كتاب الصلاة الثاني]
[السهو قبل السلام]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا كتاب الصلاة الثاني ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما مال وقال مالك في السهو قبل السلام إن عليه إذا سجد سجدتين تشهدا آخر، وروى أشهب عن مالك أنه لا تشهد لها.
قال محمد بن رشد: ابن وهب يستحب التشهد في ذلك، وذلك راجع إلى سقوط وجوبه، فوجه سقوطه ظاهر قوله في الحديث: سجد سجدتين ثم سلم ولم يذكر تشهدا ولا جلوسه بعد السجدتين من الجلوس قبلهما، إذ لم يفصل بينهما بسلام ولا ركوع، فلم يجب عليه تشهد آخر.
أصل ذلك لو ظن بعد التشهد أنه في ثالثة فلما قام ذكر أنها رابعة أنه يرجع فيسلم ولا يعيد التشهد. ووجه وجوبه أن هذا جلوس بعد سجدتين فوجب فيه التشهد، أصله الجلوس الذي قبله، وأما السجدتان اللتان بعد السلام فلا اختلاف في أنه يتشهد بعدهما.
[الناس ينصرفون من منى فيدركهم الوقت ويخافوا ذهابه قبل بلوغ مكة]
مسألة وسئل مالك عن أهل منى إذا انصرفوا فأدركهم الوقت ولم يبلغوا الأبطح ولا مكة فيما بين منى ومكة وهم يريدون أن تكون لهم إقامة، وعن أهل مكة إذا أدركهم في ذلك الوقت، قال مالك: من(1/327)
انصرف من أهل مكة من منى إلى مكة فأدركه الوقت وخاف ذهاب الوقت قبل أن يبلغ فإني أرى أن يصلي أربعا؛ لأن صلاة منى قد انقطعت ولا يكون في ميلين ولا ثلاثة ما تقصر فيه الصلاة.
قال مالك: ومن أقام منهم بمنى ليخف الناس عنه ويذهب زحامهم قال: أرى أن يتم الصلاة وإن كان بمنى، وأرى أهل الآفاق ومن كان منهم يريد الإقامة بمكة أكثر من أربعة أيام فأرى أن يقتدي بأهل مكة في ذلك، ومن أقام لمثل زحام الناس ومن خاف فوات الوقت فيما بين مكة ومنى أن يصلي أربعا.
قال ابن القاسم: ثم قال لي مالك ركعتين في ذلك كله. قال ابن القاسم: وقوله الأول أعجب إلي. قال أصبغ: وبه أقول إنه يقصر حتى يأتي مكة، وقال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في رسم "شك في طوافه " فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الرجل يكبر في النافلة فتقام الصلاة]
مسألة قال ابن القاسم: وسئل مالك عن الرجل يكبر في النافلة فتقام الصلاة، قال: ليمض على نافلته ولا يقطعها إلا أن يخاف فوات الركعة. قال ابن القاسم: إن خاف فوات الركعة قطع بسلام، فإن لم يقطع بسلام أعاد الصلاة لأنه على إحرامه الأول، ولا يخرج من الصلاة التي كان فيها إلا بسلام، ولا يجزيه أن يحرم وينوي بذلك القطع.
قال محمد بن رشد: كذا قال في المدونة في هذه المسألة، وقال فيها في الذي يحرم في الفريضة فتقام عليه الفريضة إنه يقطع، فذهب(1/328)
عبد الحق إلى أن الفريضة تفترق من النافلة على مذهبه في المدونة، وأنه إنما قال فيها إنه يقطع في الفريضة بخلاف النافلة؛ لأن الفريضة إذا قطعها يعود إليها، والنافلة إذا قطعها لا يعود إليها؛ ولأن المريضة إذا تمادى عليها تحول نيته إلى نية النفل، والنافلة إذا تمادى عليها لم تحل نيته عما أحرم عليه. والصواب أن لا فرق في هذا بين النافلة والفريضة، وأن الخلاف يدخله في كل واحدة منهما من صاحبتها؛ لأن نية الفرض مقتضية لنية النفل، فلا تأثير لتحول نيته من الفرض إلى النفل في إيجاب القطع؛ ولأن الفريضة وإن كان إذا قطعها يعود إليها فإنه وإن عاد إليها فقد أبطل على نفسه ما هو فيه، وإذا أتمها نافلة لم يبطل على نفسه ما دخل فيه وحصلت له نافلة وفريضة، فاستوت مع النافلة في أن الحظ له في أن لا يقطعها.
ويؤيد هذا الذي قلناه أن ابن حبيب قد قال في الفريضة إنه يتم على إحرامه ركعتين خفيفتين نافلة، ثم يدخل مع الإمام. وقد حكى الفضل أن أصحاب مالك ذهبوا إلى أنه يقطع في الفريضة ويتم في النافلة، وأن عيسى بن دينار ساوى بين الفريضة والنافلة لقول ابن حبيب، وروى أشهب عن مالك أنه يتم في الفريضة ويقطع في النافلة ضد التفرقة المذكورة، فيحصل في المسألة أربعة أقوال: هذان القولان، والثالث أنه يقطع فيهما جميعا، والرابع أنه يتم ركعتين فيهما جميعا على ما صححناه.
وأما إذا أقيمت عليه الفريضة وهو في نافلة أو فريضة وقد عقد منها ركعة فإنه يتم إليها ثانية، ولا اختلاف في هذا إلا في المغرب على ما سيأتي في سماع سحنون إن شاء الله. وإنما قال إنه يقطع بسلام ولا يجزيه أن يحرم وينوي بذلك القطع لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم» ، فإذا دخل مع الإمام قبل أن يتحلل من الصلاة التي دخل فيها بسلام أو كلام بطلت عليه، وهذا بين، وبالله التوفيق.(1/329)
[الدبيب في الركوع إذا كان على قدر صفين أو ثلاثة]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية وقال في الدبيب في الركوع إذا كان على قدر صفين أو ثلاثة فلا أرى بالركوع بأسا والدبيب فيه، وأما إذا كان بعيدا فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة اختلف فيها قول مالك، والذي يتحصل فيها من اختلافه ثلاثة أقوال: أحدها: رواية ابن القاسم هذه عنه أن الركوع والدبيب جائز فيما كان على قدر الصفين أو الثلاثة إذا أمكنه أن يصل إلى الصف والإمام راكع، وهو مذهبه في المدونة، فلم يترجح عنده على هذا، القول أي الأمرين أفضل إن كان الركوع دون الصف، وإدراك الركعة أو ألا يركع حتى يأخذ مقامه في الصف وإن فاتته الركعة، لما جاء في ذلك من نهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الركوع دون الصف، ومن فعل زيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود في ركوعهما دون الصف ودبيبهما راكعين إليه.
والقول الثاني: أنه لا يحرم حتى يأخذ مقامه في الصف، وهي رواية أشهب عنه في رسم "الصلاة" الثاني من هذا الكتاب، فرأى على هذا القول الإحرام في الصف مع فوات الركعة أفضل من الإحرام والركوع دونه مع إدراك الركعة.
والقول الثالث أنه لا يركع حتى يأخذ مقامه من الصف أو يقاربه، حكى هذا القول عنه ابن حبيب في الواضحة.
وهذا القول قريب من رواية أشهب عن مالك لأنه أستخف الركوع إذا قرب من الصف وكره الدبيب إذا بعد منه.
وأما إذا كان إذا ركع دون الصف لا يدرك أن يصل إلى الصف راكعا حتى يرفع الإمام رأسه فلا يجوز له عند مالك أن يركع دون الصف، وليتماد إلى الصف وإن فاتته الركعة قولا واحدا، فإن فعل أجزأته ركعته عنده وقد أساء، ولا يمشي إلى الصف إذا رفع رأسه من الركوع حتى يتم الركعة ويقوم في الثانية، قال ذلك في رسم "الأقضية" الثالث من سماع أشهب.
وقال ابن القاسم في المدونة إنه يركع دون الصف ويدرك الرابعة، فرأى المحافظة على الركعة أولى من المحافظة على الصف، ورجح أبو إسحاق التونسي قول ابن القاسم، وقول(1/330)
مالك عندي أولى بالصواب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر لما ركع دون الصف: «زادك الله حرصا ولا تعد» ، ولما جاء عنه أنه قال: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» . وأما ركوعه على البعد من الإمام بحيث لا يمكنه أن يصل إلى الصفوف بعد قيامه من الركعة لكثرة المشي فلا ينبغي لأحد أن يفعله إلا أن تكون معه جماعة سواه، قاله مالك في رسم "الصلاة" الأول من سماع أشهب، وفرق فيه بين الجماعة الكثيرة والقليلة استحبابا، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصور التي في الرقوم مثل الوسائد يتخذها الرجل]
مسألة وسئل عن الصور التي في الرقوم مثل الوسائد يتخذها الرجل قال: ترك ذلك أحب إلي، ولا أحب أن يصلي على بساط فيه صور إلا أن يضطر إلى ذلك. وقد كان ابن عمر يقول: إني لا أحب أن يجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمه.
قال محمد بن رشد: ذهب مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في كراهة اتخاذ الوسائد التي فيها الصور والصلاة على البساط الذي فيه الصور من غير تحريم إلى ما ذكره في موطئه «عن أبي طلحة الأنصاري: " إذ دخل على سهل بن حنيف فدعا إنسانا فنزع من تحته نمطا، فقال له سهل بن حنيف لم تنزعه؟ قال: لأن فيه تصاوير، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها ما قد علمت، فقال له سهل بن حنيف: ألم يقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلا ما كان رقما في ثوب قال: بلى ولكنه أطيب لنفسي» ، واستظهر لما ذهب إليه بقول ابن عمر الذي ذكره، وهو حقيقة الورع؛ لأن الآثار لما تعارضت في الصور التي في البسط والثياب(1/331)
صار ذلك من قبيل المشتبهات، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى المشتبهات استبرأ لدينه وعرضه» ، الحديث. واختلف أهل العلم في هذا الباب على حسب اختلاف الآثار في ذلك، فيتحصل فيه من اختلافهم بعد إجماعهم على تحريم ما له ظل قائم كالصور المتخذة من الصفر والحديد والخشب ونحو ذلك أربعة أقوال:
أحدها: إباحة ما عدا ذلك سواء كان التصوير في جدار أو في ثوب مبسوط أو منصوب؛ والثاني: تحريم جميع ذلك؛ والثالث: تحريم ما كان من الصور في الجدار والثوب المنصوب، وإباحة ما كان منها في الثوب المبسوط أو المنصوب الذي يوطأ أو يتوسد؟ والرابع تحريم ما كان منها في الجدار خاصة، وإباحة ما كان منها في الثوب المبسوط أو المنصوب، وبالله التوفيق.
[مسألة: هل للإمام في العيدين تكبير ينتهي إليه يعني في الخطبة]
مسألة قال مالك: ليس للإمام في العيدين تكبير ينتهي إليه، يعني في الخطبة على المنبر.
قال محمد بن رشد: هذا على مذهبه المعلوم في كراهية الحد في مثل هذه الأمور، وقد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم "سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ".
[مسألة: أهل البادية يصيبهم كسوف الشمس أعليهم صلاة الكسوف]
مسألة وقال مالك في أهل البادية يصيبهم كسوف الشمس، قال: إن تطوع أحد فصلى بهم صلاة الكسوف لم أر بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: يريد أهل البادية الذين لا تجب عليهم صلاة(1/332)
الجمعة، وأما من كان منهم تجب عليه الجمعة فلا رخصة لهم في ترك الجمع في صلاة الكسوف؛ لأن صلاة الكسوف سنة لا تترك كالعيد، وكذلك قال في المدونة.
[جاء وقد فاتته الصلاة يوم الجمعة والناس قعود فكبر وجلس]
مسألة وقال: ومن جاء وقد فاتته الصلاة يوم الجمعة والناس قعود فكبر وجلس، قال: أرى أن يعود بتكبيرة أخرى ولا يصلي بها، فقلت له: أيسلم أم يكبر؟ قال: لا، ولكن يستأنف بتكبيرة أخرى ثم يصلي.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في رسم "طلق" فلا وجه لإعادتها.
[مسألة: الرجل يصلي في منزله المكتوبة أيصليها بزوجته وحدها]
مسألة وسئل عن الرجل يصلي في منزله المكتوبة، أيصليها بزوجته وحدها؟ قال: نعم وتكون وراءه.
قال محمد بن رشد: قوله للرجل أن يصلي بزوجته وحدها وأنها تكون وراءه صحيح مما أجمع عليه العلماء ولم يختلفوا فيه؛ لأن من سنة النساء في الصلاة أن يكن خلف الرجال وخلف الإمام لا في صف واحد معه ولا معهم، واحدة كانت أو اثنتين أو جماعة.
وإنما الكلام في الرجل أو الرجلين إذا كانا مع الإمام، فأما إذا كان معه رجل واحد فإنه يقوم عن يمين الإمام على ما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عباس وغيره، ولا خلاف في ذلك إلا ما يؤثر عن سعيد بن المسيب أنه يقوم عن يسار الإمام، وأراه تأول أن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ائتم بأبي بكر إذ خرج في مرضه الذي توفي فيه وهو يصلي بالناس، كما تأول مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فيما مضى في رسم "سن". وقد(1/333)
جاء في الحديث الصحيح: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلس عن يسار أبي بكر» ، وقع ذلك في البخاري وغيره، فجعله لما كان في مرضه الذي توفي فيه ناسخا لحديث ابن عباس وغيره.
وأما إذا كان معه رجلان فالجمهور من أهل العلم على أنهما يقومان خلف الإمام على ما في حديث أنس وغيره من قوله: «فصففت أنا واليتيم من ورائه والعجوز من ورائنا فصلى لنا ركعتين ثم انصرف» وذهب طائفة من أهل العراق إلى أن الإمام يقوم وسطهما، لما روي «أن عبد الله بن مسعود صلى بعلقمة والأسود فجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله قالا: ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا فضرب أيدينا بيده وطبق فلما فرغنا قال هكذا فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وقال أبو يوسف: الإمام بالخيار، إن شاء فعل كما روى ابن مسعود، وإن شاء كما روى أنس، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل في رمضان يكون منزله نائيا فيأتيه الطعام فيأكله في المسجد]
مسألة وسئل مالك عن الرجل في رمضان يكون في المسجد ويكون منزله نائيا فيأتيه من أهله الطعام فيأكله في المسجد، قال: أرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في رسم "الشجرة تطعم بطنين في السنة" أكمل من هذه، ومضى التكلم على ما كان في معناه في رسم "سلعة سماها " وغيره فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الرجل تحضره الصلاة فيريد أن يصلي وعنان فرسه قصير لا يبلغ الأرض]
مسألة وقال مالك في الرجل تحضره الصلاة فيريد أن يصلي وعنان فرسه قصير لا يبلغ الأرض، قال: أرجو أن يكون في سعة،(1/334)
ولا أحب أن يتعود ذلك ويكون ذلك شأنه، فأما الرجل يفعله وهو لا يعمد لذلك فأرجو أن يكون في سعة ".
قال محمد بن رشد: الذي مضى في رسم "الشجرة " من تخفيف ذلك إذا لم يجد منه بدا أحسن من هذا، فتأمل ذلك وقف عليه.
[مسألة: يؤم الرجل أصحابه في السفر بغير رداء ولا عمامة]
مسألة وقال: لا بأس أن يؤم الرجل أصحابه في السفر بغير رداء ولا عمامة.
قال محمد بن رشد: قال في المدونة وأحب إلي أن يجعل على عاتقه عمامة إذا كان مسافرا أو صلى في داره. ومثل ذلك في كتاب ابن حبيب. وقد سئل عمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن الصلاة في الثوب الواحد، فقال: " إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، جمع عليه رجل ثيابه صلى في إزار ورداء "، الحديث. ورأى عبد الله بن عمر نافعا يصلي في خلوته في ثوب واحد فقال له: ألم أكسك ثوبين؟ قال: بلى، قال: أفكنت تخرج إلى السوق في ثوب واحد؟ قال: لا، قال: فالله أحق أن يتجمل له.
[المساجد تكون بالأفنية يدخلها الكلاب ويمشى فيها ويدخلها الدجاج]
ومن كتاب أوله البز وسئل مالك عن المساجد تكون بالأفنية يدخلها الكلاب ويمشى فيها ويدخلها الدجاج، أترى أن يصلى فيها؟ قال: نعم لا أرى بذلك بأسا.(1/335)
قال محمد بن رشد: يريد - والله أعلم - ما لم يكثر دخول الكلاب والدجاج فيها ومشيهم فيها، بدليل قوله في أول رسم من هذا الكتاب في الكنائس وغيره أحب إلي لموضع وطء أقدامهم ونجسهم.
[مسألة: الرجل أيقرأ خلف صلواته يعني الركعتين الآخرتين بأم القرآن وحدها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل أيقرأ خلف صلواته يعني الركعتين الآخرتين بأم القرآن وحدها أم يقرأ معها؟ قال: بل بأم القرآن وحدها.
قال محمد بن رشد: هذا قول مالك وجميع أصحابه، وهو مذهب أهل الحجاز، وخالف في ذلك أهل العراق، فمنهم من يقول: يسبح فيهما ولا يقرأ، وروي عن علي بن أبي طالب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كان لا يقرأ فيهما، ومنهم من أجاز التسبيح ورأى القراءة فيهما أفضل. [وهو مذهب أبي حنيفة، ومنهم من أجاز القراءة ورأى التسبيح فيهما أفضل] . وإلى هذا ذهب إبراهيم النخعي؟ ومنهم من قال إن شاء قرأ فيهما بأم القرآن وزاد منه ما كان في معنى الدعاء على ما روي عن أبي عبد الله الصنابحي أنه قال: سمعت أبا بكر الصديق قرأ في الركعة الثالثة من المغرب بأم القرآن وبهذه الآية: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] ، الآية، وإن شاء سبح فيهما ودعا ولم يقرأ.
ولم ير مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فيهما إلا القراءة، فقال في المدونة إنه لا يعرف التسبيح فيهما، وقد قال ابن القاسم في سماع أبي زيد: لو أعلم أن أحدا لا يقرأ في الركعتين الأخيرتين من الظهر ما صليت خلفه.(1/336)
[مسألة: الرجل يكلم وهو في الصلاة فيشير بيده أو برأسه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يكلم وهو في الصلاة فيشير بيده أو برأسه، قال: لا يكثر، فأما الشيء الخفيف فأرجو أن لا يكون فيه بأس، فأما أن يطول ذلك فلا يعجبني.
قال محمد بن رشد: أجاز من ذلك ما خف عند الحاجة والأمر ينزل، ونجد هذا في سماع زونان عن ابن وهب لما جاء من «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد إشارة على من سلم عليه وهو يصلي» .
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: أتيت عائشة زوج النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حين خسفت الشمس فإذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي، فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها نحو السماء وقالت: سبحان الله! فقلت آية؟ فأشارت برأسها أي نعم. وكره ما كثر منه لأنه ترك للخشوع في الصلاة الذي أثنى الله تعالى على من التزمه بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] .
[مسألة: التنحنح في الصلاة]
مسألة قيل له: فالتنحنح في الصلاة؟ قال: هذا منكر لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: يريد إذا تنحنح ليسمع رجلا أو لينبهه في شيء كما يفعل كثير من الجهال بالإمام إذا أخطأ في القراءة في قيام رمضان، فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه على هذه الرواية.
قال أبو بكر الأبهري: لأن التنحنح ليس له حروف هجائية تفهم، وقد «روي عن علي بن أبي طالب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: كان لي من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدخلان، فكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي تنحنح، وروي سبح» وهو أولى لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:(1/337)
«من نابه في صلاته شيء فليسبح» . ولمالك في المختصر أنه إذا تنحنح ليسمع رجلا أو نفخ في موضع سجوده فذلك كالكلام تفسد به الصلاة عليه، وسيأتي في سماع موسى لمالك نحو قوله هنا.
[مسألة: الذي يرمي عن القوس وعليه الأصابع والمضربة]
مسألة وسئل عن الذي يرمي عن القوس وعليه الأصابع والمضربة تحضره الصلاة، أترى أن ينزعهما؟ قال: نعم، قال عبد الله بن عمر: إن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه، وأرى أن ينزعهما إلا أن يكون ذلك في حرب.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة تبين مسألة الخضاب التي تقدمت في رسم "شك في طوافه " على ما ذكرناه فيه.
[مسألة: الذي يقول في الصلاة إذا كبر سبحانك اللهم ربنا وبحمدك]
مسألة وسئل مالك عن الذي يقول في الصلاة إذا كبر سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، قال: " قد سمعت ذلك يقال وما أرى به بأسا إن أحب أحد يقوله، فقيل له الإمام يكبر قط ويقرأ، قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا التوجيه وهو التسبيح والدعاء بعد الإحرام قبل القراءة قد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمما روي عنه أنه كان يقوله في ذلك: «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين» . «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي إلى قوله وأنا أول المسلمين» ، أي وأنا أول المسلمين من القرن الذي بعثت فيهم؛ لأنه قد(1/338)
كان قبله أنبياء ومسلمون. وأنكر ذلك مالك في المدونة ولم ير عليه العمل. قال في المجموعة: ولو كان ما يذكر من ذلك حقا لعرف، قد صلى النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والخلفاء بعده والأمراء من أهل العلم فما عمل به عندنا، وأجازه في هذه الروايات واستحسنه في رواية محمد بن يحيى السبائي عنه. وقال ابن حبيب: إنه يقوله بعد الإقامة وقبل الإحرام وذلك حسن، وبالله التوفيق.
[مسألة: الزيت تقع فيه الفارة هل ينتفع به للمصباح]
مسألة وسئل مالك عن الزيت تقع فيه الفارة هل ينتفع به للمصباح؟ قال: نعم إن قووا على التحفظ في مسه؛ لأن أهل البيت يمسون المصباح، ويأخذون القدح والقصبة وما أشبه ذلك، فإن قووا على التحفظ منه فلا بأس به.
فقيل له: فهل ينتفع به في غيره؟ قال مالك: قد قيل لي نعال يدهنونها به كأنه تجففه. قال ابن القاسم: وزعم لي غيره أنها تغسل بعد ذلك وإنما ذلك في دباغها.
قال محمد بن رشد: إجازته الاستصباح بزيت الفارة صحيح على أصله الذي لم يختلف فيه قوله في المدونة وغيرها من إجازة الانتفاع بالأشياء النجسة، ودليله على ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الميتة: «ألا انتفعتم بجلدها» وتابعه على قوله جميع أصحابه إلا ابن الماجشون فإنه لم يجز الانتفاع بذلك في وجه من وجوه المنافع، لحما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمر أن لا يستمتع من الميتة بإهاب ولا عصب» . وما ذهب إليه ابن القاسم فيما حكاه عمن حكى قوله أن تخفيف مالك لدهن النعال به معناه في(1/339)
الدباغ لأن الغسل يأتي عليها تفسير صحيح، وينبغي أن يحمل على التفسير أيضا لإجازته في سماع أشهب من كتاب الذبائح والصيد أن يدهن به الدلاء.
وقد مضى القول في سماع أصبغ من كتاب الوضوء في إجازة غسله، وأجاز ابن وهب من أصحاب مالك بيعه، وقد مضى لمالك نحوه بدليل في أول رسم "الشجرة تطعم بطنين في السنة ".
[مسألة: يأتي من سفر فيقيم على رأس الميل والميلين أترى أن يقصر الصلاة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يأتي من سفر فيأتي في سعة من النهار لو أحب أن يدخل نهارا دخل، ويكره أن يدخل نهارا حتى يمسي فيقيم على رأس الميل والميلين: أترى أن يقصر الصلاة أم يتم؟ قال: بل يقصر الصلاة إلا إن كان قريبا من القرية.
فقيل له: فما حد القرب؟ قال: ما نجد في ذلك حدا، وإنما يحد في مثل هذا أهل العراق.
قال محمد بن رشد: قوله إلا أن يكون قريبا من القرية معناه فيتم وإن كان لم يصل إلى بيوت القرية وبساتينها، وإنما ذلك من أجل أنه أقام بذلك الموضع لما أراده من حاجته، ولو مشى لكان قد بلغ إلى الموضع الذي يلزمه أن يتم فيه.
وكان القياس أن يقصر حتى يدخل بيوت القرية أو يقاربها وأن لا يعتبر إقامته فيما قرب من ذلك كما لا يعتبرها فيما بعد منه. واستحسانه أن يتم إذا كانت إقامته بالقرب من بيوت القرية كنحو استحسانه لمن أقام بمنى في رجوعه من حجه إلى مكة وهو من أهل مكة، أو ينوي الإقامة بها أن يتم على القول الذي يرى أنه يتم في طريقه من منى إلى مكة، وقد مضت هذه المسألة في رسم "شك في طوافه " ورسم "الشريكين"، فقف على ذلك.
[مسألة: قيام الخطيب على المنبر في الجمعة أعلى يمينه أم على شماله]
مسألة وسئل مالك عن قيام الخطيب على المنبر في الجمعة لا يطلع(1/340)
على المنبر أعلى يمينه أم على شماله؟ قال: إن جل من عندنا ليقومون على يسار المنبر، ولقد كان عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد وغيره ليقومون على يمينه، وأرى ذلك واسعا.
فقيل له فالعصا؟ قال ما أدركت أحدا ممن أدركته ولا ممن كان عندنا إلا وهو لا يعيبها، وإن قائلا ليقول إن فيها لشغلا عن مس اللحية والعبث، فقيل له: أيمس الرجل لحيته في الصلاة؟ قال: نعم، إن الرجل يمس لحيته في الصلاة ولكن لا يعبث.
قال محمد بن رشد: المنبر يكون على يمين المحراب فالجهة التي تليه منه هي يمينه والجهة الأخرى هي يساره، فوجه القيام على يمينه أقرب إلى المحراب وأقل في التخطي إليه إذا فرغ من الخطبة، ووجه القيام عن يساره ليعتمد بيمينه على عمود المنبر فالاختيار عندي لمن لا يمسك بيده عصى يتوكأ عليها في خطبته أن يقوم على يسار المنبر ليعتمد بيمينه على عمود، ولمن يمسك بيده عصا أن يقوم على يمينه.
وظاهر هذه الرواية أن إمساك الخطيب بيده عصا مباح، والذي مضى في آخر رسم "سلعة سماها" أن ذلك مستحب هو الصحيح؛ لأنه الماضي من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده.
وإنما قال إنه لا يعبث بلحيته في الصلاة لأن ذلك ترك للخشوع فيها، وقد روي ذلك عن النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، على ما مضى في أول من هذا السماع.
[المريض يكون مسكنه قريبا من المسجد فهو يتبلغ إليه ماشيا ثم يصلي جالسا]
ومن كتاب أوله باع غلاما وسئل مالك عن المريض يكون مسكنه قريبا من المسجد فهو يتبلغ إليه ماشيا ثم يصلي جالسا، قال: لا يعجبني ذلك، ولو أصابه بعد أن يأتي المسجد أمر وقد جاءه صحيحا لم أر به بأسا أن يصلي جالسا.(1/341)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله؛ لأنه إذا قدر على الإتيان من مسكنه إلى المسجد وإن كان قريبا لا يضعف عن القيام في الصلاة، وإن ضعف عن طول القيام مع الإمام فيلزمه أن يقف معه ما أطاق، فإذا ضعف عن القيام جلس في بقية ركعته، ويفعل ذلك في كل ركعة؛ لأن القيام عليه فرض في كل ركعة، ولا يسقط عنه وهو قادر عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي يكثر عليه السهو في الصلاة]
مسألة وقال مالك في الذي يكثر عليه السهو أرى أن سجدتيه إنما تكونان بعد السلام، وذلك أنه يكثر عليه السهو، وإنما هو شيء يقوله إني أتخوف أن أكون قد سهوت ولا يستيقن، فلا أحب أن يزيد في صلاته شيئا على الشك ولعله لم يسه، ولو كان يستيقن لأمرته أن يجعلهما قبل السلام.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة في الذي يستنكح بكثرة الشك في النقصان، فلا يدري أنقص شيئا أم لم ينقص، ومثل هذا لمالك أيضا في رسم "أوصى" ورسم "إن خرجت" من سماع عيسى، يريد ولا يبني على اليقين لأنه مستنكح بكثرة السهو.
وقال ابن حبيب في الواضحة: إنه يسجد قبل السلام، واختاره الفضل. وقد روي عن مالك أنه لا سجود عليه في نحو هذه المسألة، فقال الفضل: إنها هذه المسألة، وإن ذلك اختلاف من قول مالك، وذهب محمد بن المواز أنها ليست هذه المسألة وإنما قال مالك: إنه لا سجود عليه في الذي يكثر عليه السهو في الصلاة لا الشك فيه، فهذا لا بد له من إصلاح ما سها إذ لا يشك فيه، ثم لا سجود عليه بعد إصلاحه لكثرة سهوه، ويسجد عند فضل في هذه المسألة بعد إصلاح سهوه على ما يوقن به، وبالله التوفيق.(1/342)
[مسألة: مال محمله حتى حول رأسه إلى رأس البعير كيف يصلي]
مسألة وسئل عن الرجل مال محمله حتى حول رأسه إلى رأس البعير، فإذا أراد أن يصلي ويحول وجهه إلى دبر البعير، قال: لا أحب له أن يصلي إلا على سير البعير الذي يسير عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله؛ لأن قبلته التي يصلي إليها إذا صلى على بعيره وجهته التي يصير إليها، لقول الله عز وجل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ، فإذا صلى ووجهه إلى دبر البعير فقد صلى إلى غير قبلته في تلك الحال وإن كان وجهه تلقاء الكعبة، وبالله التوفيق.
[مسألة: صاحب المنزل أولى بالتقدم في الصلاة في منزله]
مسألة قال مالك: لم أزل أسمع أن صاحب المنزل أولى بالتقدم في الصلاة في منزله، ولقد بلغني أن رجالا من أهل الفضل والفقه إن كانوا لينزلون بالرجل في منزله فيقدمونه فيه لأنه منزله، ولم أزل أسمع أن صاحب الدابة أولى بصدرها من الذي يردفه، ورأيته يستحسنه.
قال محمد بن رشد: المعنى في كون صاحب المنزل أحق بالإمامة فيه من غيره هو أنه ليس لأحد أن يصلي في منزل غيره حتى يأذن له في الموضع الذي يصلي فيه منه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعتبان بن مالك: «أين تحب أن أصلي فأشار له إلى مكان من البيت فصلى فيه» .
فإذا لم يكن لأحد أن يتقدم في منزل رجل إلى موضع الإمام منه إلا بإذنه وكان هو أحق بالصلاة في ذلك الموضع من غيره ثبت أنه أحق بالإمامة فيه، غير أنه يستحب له إذا كان(1/343)
في القوم أحق بالإمامة منه أن يقدمه، وكذلك صاحب الدابة هو أولى بصدر دابته إذا أباح للرجل أن يركب معه عليها، إلا أن يأذن له في ركوب مقدمها؛ لأن الذي يركب مقدمها هو الذي يملكها وهو الذي يحكم له بها لو تداعى فيها مع الذي يركب مؤخرها، فليس لأحد أن يزيله عن هذه المرتبة إلا باختياره وبالله التوفيق.
[مسألة: النوم على الوجه وهو ساجد]
مسألة وسئل مالك عن النوم على الوجه وهو ساجد، قال من طال ذلك منه فليتوضأ أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قد تقدم تفصيل القول في هذه المسألة وتبيين وجوهها قبل هذا في رسم "سن " فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: أناس يحيون الليل كله]
مسألة فقيل له: يا أبا عبد الله، إن ناسا يحيون الليل كله، فكره ذلك كراهة شديدة وعابه وقال: إن أحدهم لا يدري ما يقرأ وينام في الصلاة، ولعله لا يصلي الصبح إلا وهو مغلوب. قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه، فأحب للرجل إذا كان يصلي من الليل فأصابه النوم أن ينام حتى يذهب عنه النوم، ولا يصلي وهو يجد ذلك. قال ابن القاسم: رجع بعد ذلك وقال لا بأس بذلك إذا قوي عليه إذا لم يضر ذلك بصلاة الصبح.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في رسم "طلق" فلا فائدة لإعادته.(1/344)
[مسألة: القيام في الصلاة من السجود بغير اعتماد على اليدين]
مسألة وسئل مالك عن القيام في الصلاة من السجود بغير اعتماد على اليدين، فقال: لا بأس بذلك وكرهه أيضا.
قال محمد بن رشد: قال في المدونة إن شاء اعتمد وإن شاء لم يعتمد، وكان لا يكره الاعتماد. وفي رسم "الصلاة" الأول من سماع أشهب أنه كره ترك الاعتماد، فمرة أجاز مالك ترك الاعتماد وفعله ورأى ذلك سواء، وهو مذهبه في المدونة، ومرة استحب الاعتماد وخفف تركه، وهو الذي يدل عليه قوله في هذه الرواية، لا بأس بذلك، أي لا بأس بتركه، ومرة استحبه وكره تركه، وهو قوله في هذه الرواية: وكرهه أيضا، أي كره تركه. وقوله في سماع أشهب أيضا وهو أولى الأقوال بالصواب؛ لأنه قد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، ولكن يضع يديه ثم ركبتيه» فإذا أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يضع يديه بالأرض قبل ركبتيه في سجوده لئلا يشبه البعير في بروكه وجب بدليل قوله أن يضع يديه بالأرض إذا قام لئلا يشبه البعير في قيامه، وهذا بين وإلى هذا نحا بقوله في سماع أشهب ما يطيق هذا إلا الشاب الخفيف اللحم الذي يقول هاتوا من يضع جنبي، فكأنه رأى الاعتماد من السكينة في الصلاة، والله أعلم.
وفي البخاري: " عن ابن عمر أنه كان إذا سجد وضع يديه قبل ركبتيه "، وحكى عنه ابن حبيب خلاف ذلك أنه كان إذا سجد أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه ثم يداه ثم وجهه، وإذا رفع رفع وجهه ثم يديه ثم ركبتيه.
قال محمد بن رشد: وقد روي عن وائل بن حجر أنه قال: " رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل ذلك ". قال ابن حبيب: ومن تحرى هذا فحسن، ومن(1/345)
لم يطقه فلا حرج، وذلك شأن لا يطيقه إلا الشاب الصحيح الجسم الخفيف اللحم كما قال مالك، والذي ذكر عنه البخاري أحسن وأقرب إلى السكينة، والله أعلم.
[القوم يتذاكرون الفقه القعود في ذلك أحب إليك أم الصلاة]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك عن القوم يتذاكرون الفقه، القعود في ذلك أحب إليك أم الصلاة؟ قال: بل الصلاة، فقلت له: فما بين الظهر والعصر؟ قال: قيل لسعيد بن المسيب إن قوما يصلون ما بين الظهر والعصر، فقال سعيد: ليست هذه عبادة إنما العبادة الورع عما حرم الله والتفكير في أمر الله. قال مالك: وإنما كانت صلاة القوم بالهاجرة والليل ولم تكن هذه صلاة القوم.
قال محمد بن رشد: قد روي عن مالك أن العناية بالعلم أفضل من الصلاة، وهو الذي تدل عليه الآثار. روي أن رسول الله، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قال: «مثل المجاهد في سبيل الله مثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر عن صلاة ولا صيام حتى يرجع» ، وقال: «ما أعمال البر كلها في الجهاد إلا كبصقة في بحر وما أعمال البر كلها والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر» ، ورأى في هذه الرواية أن الصلاة في الأوقات المرغب في الصلاة فيها كالهواجر وآخر الليل أفضل من الجلوس لمذاكرة العلم فكأنه ذهب إلى أن محافظة العلماء على الصلاة في هذه الأوقات وإيثارهم لذلك على الجلوس فيها لمذاكرة العلم إجماع منهم على أن ذلك أفضل، فخصص عموم الآثار الواردة في أن طلب العلم أفضل أعمال البر بهذا الإجماع فرأى(1/346)
الصلاة فيها أفضل ورأى فيما سواها الجلوس لمذاكرة العلم أفضل، لا سيما بين الظهر والعصر، لقول سعيد بن المسيب فيها ليست عبادة، أي ليست عبادة من العبادات المرغب فيها، لا أنها ليست عبادة أصلا، ولما جاء من أن عمر بن الخطاب كان إذا صلى الظهر جلس للناس يحدثهم بما يأتيه من أخبار الأجناد ويحدثونه عن أحاديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو قول له وجه والله أعلم.
وروي عن سحنون أنه قال: يلزم أثقلهما عليه. ووجه قوله أن الأدلة استوت عنده من ناحية السمع في الأفضل من ذلك، فرجع إلى ما يوجبه النظر مما قد قرره الشرع من أن الأجود في الأعمال يكون على قدر النصب والعناء فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي يصيبه الوعك أيجمع الصلوات كلها]
مسألة وسئل مالك عن الذي يصيبه الوعك، أيجمع الصلوات كلها؟ فقال: إن أصابه ذلك بعد أن تزيغ الشمس فليصل الظهر والعصر جميعا، فإن أفاق من الليل صلى المغرب والعشاء جميعا فيما بينه وبين طلوع الفجر.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة في الوعك الشديد الذي يشبه المغلوب على عقله فلا يقدر معه على الصلاة. وقوله إن أصابه ذلك بعد أن تزيغ الشمس فليصل الظهر والعصر، معناه إن كان من عادته أن يصيبه ذلك بعد أن تزيغ الشمس فليصل الظهر والعصر جميعا إذا زاغت الشمس قبل أن يصيبه مخافة أن يصيبه فلا يقدر على الصلاة.
ويدل على هذا التأويل قوله في آخر المسألة: فإن أفاق من الليل صلى المغرب والعشاء جميعا فيما بينه وبين طلوع الفجر؛ لأن الذي يقدر على الصلاة مع مرضه إلا أن الجمع به أرفق لا يباح له أن يؤخر المغرب والعشاء إلى عند طلوع الفجر، ويؤمر أن يجمع بينهما عند مغيب الشفق، إلا أن هذا الذي معه عقله إن خشي مغيب الشمس ولم يصل الظهر والعصر أو طلوع الفجر ولم يصل المغرب والعشاء(1/347)
يصلي كيفما أمكنه، ولا يترك الصلاة حتى يخرج وقتها جملة، وستأتي هذه المسألة في آخر سماع موسى وبالله التوفيق.
[مسألة: يصلي في بيته فدخلت عليه شاة فأكلت ثوبا أو عجينا أيطردها]
مسألة وسئل عن الذي يصلي في بيته فدخلت عليه شاة فأكلت ثوبا أو عجينا، أيطردها ينحرف إليها؟ قال مالك: إن كان في المكتوبة فلا يفعل.
قال محمد بن رشد: قال هاهنا فلا يفعل، ووقع من قوله في سماع موسى بن معاوية فلا يقطع، ولا يؤدي ذلك إلى اختلاف.
وإنما المعنى في ذلك أنه يتمادى على صلاته ولا يشتغل فيها بطرد الشاة عن ثوبه أو عجينه إن كان طردها يسيرا لا تفسد عليه به صلاته، ولا يقطع أيضا صلاته لطردها على ذلك إن كان في طردها عنه شغل كثير تفسد عليه به صلاته.
ولم يفرق مالك في هاتين المسألتين بين أن. يكون الذي يخشى عليه من فساد ثوبه أو عجينه ما له بال وقدر وقيمة أو ما لا بال له ولا قدر لقيمته. وإلى الفرق بين ذلك ذهب ابن القاسم في سماع موسى عنه فقال في الرجل يخطف رداؤه وهو يصلي إنه لا بأس أن يقطع ويذهب في طلب ردائه ثم يستأنف صلاته.
وقال في الذي يخاف على الشيء من متاع البيت أن ينفسد مثل زقاق الزيت والخل يخاف عليها أن تنشق ما دل على أنه يسعه أن يسويها ويصلحها ويتمادى على صلاته، خلاف ما ذهب إليه مالك من كراهة الاشتغال في صلاته بنحو هذا، وهو أظهر عندي من قول مالك؛ لأنه إن ترك ذلك الشيء يفسد وله قدر وقيمة كثيرة وتمادى في صلاته ولم يشتغل بإصلاحه دخل عليه من اشتغال باله بتلفه وفساده ما هو أشد عليه من اشتغاله بتلافيه وإصلاحه ورفع الفساد عنه، مع ما في ذلك من إضاعة المال الذي قد نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(1/348)
[مسألة: القرية والثغر يكون فيه قوم يرابطون ستة أشهر أو أكثر أيجمعون الجمعة]
مسألة
وسئل مالك عن القرية والثغر يكون فيه قوم يرابطون ستة أشهر أو أكثر، أيجمعون الجمعة؟ قال: إن كانت قرية فيها بيوت متصلة وسوق فإني أرى لهم جمعة، وإن لم يكونوا كذلك فلا أرى لهم جمعة.
قال محمد بن رشد: يريد إن كان للقرية التي يقيم فيها المرابطون بيوت متصلة لها عدد وسوق دون القوم المرابطين بها، وجبت عليهم الجمعة، وأما إن لم يبلغوا العدد المشترط في وجوب الجمعة إلا بمن فيها من المرابطين فلا تجمع فيها الجمعة.
واختلف قول مالك في اشتراط السوق في ذلك، فمرة ذكره ومرة تركه، فليس بشرط في ذلك على أصل مذهبه. وقد مضى نحو هذا في رسم "الشجرة تطعم بطنين في السنة ".
[مسألة: الذي يقيم الصلاة لنفسه ثم يسمع الإقامة في بعض المساجد]
مسألة وسئل مالك عن الذي يقيم الصلاة لنفسه ثم يسمع الإقامة في بعض المساجد، أترى أن يقطع ويخرج لفضل الجماعة؟ قال لا أرى ذلك إن دخل في الصلاة المكتوبة أن يخرج إلى جماعة، وليتم على صلاته.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة أنه لا يقطع ويتمادى على صلاته. والوجه في ذلك أنه لما دخل في الصلاة وجب عليه إتمامها ولم ينبغ له أن يقطعها إلا لعذر، لقول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، ولا عذر له في الخروج لفضل الجماعة، إذ ليس إتيانها بواجب عليه، فلا ينبغي له ترك واجب لما ليس بواجب، وبالله التوفيق.(1/349)
[خرج من الفسطاط وهو مقيم ثم اليوم واليومين أيتم الصلاة أم يقصر]
مسألة وسئل عمن خرج من الفسطاط إلى بئر عميرة وهو مقيم ثم اليوم واليومين، مثل ما يصنع الأكرياء حتى يجتمع الناس ويفرغوا، أيتم الصلاة أم يقصر؟ قال: بل يقصر.
قال محمد بن رشد: قد تكلمنا على هذه المسألة عندما تكلمنا على المسألة الواقعة قرب آخر رسم "حلف "، وذكرنا هناك الفرق الصحيح عندنا بين المسألتين فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: جمعتان في مدينة واحدة في يوم واحد]
مسألة وسئل مالك عن إمام بلد نزل منها في أقصى المدينة فصلى بمكانه الجمعة واستخلف خليفة على القصبة يصلي بهم، فكان يجمع بمن حضره ويصلي خليفته بأهل المدينة فتكون جمعتان في مدينة واحدة في يوم واحد، قال مالك: لا أرى الجمعة إلا لأهل القصبة؛ لأنه ترك الجمعة في موضعها.
قال محمد بن رشد: الظاهر من قول مالك هاهنا أن الجمعة إنما تكون لأهل القصبة وأنه لا جمعة للإمام ولمن صلى معه في أقصى المدينة، وأن عليهم الإعادة ظهرا أربعا.
وهذا المعنى هنا أبين مما هو في المدونة، وإن كان ظاهرا فيها؛ لأنه لا يكون عنده على هذه الرواية جمعتان في مصر واحد. وقد روى ابن وهب وابن أبي أويس عن مالك أن صلاتهما جميعا جائزة.
وسئل عن ذلك لشك من شك في جواز صلاة من لم يصل مع الإمام، فقال صلاتهم جائزة. قال ابن وهب: ولم يشكوا في جمع الجمعة في موضعين، وإنما شكوا أن تكون الجمعة مع الإمام أوجب منها مع خليفته.
وقد قال يحيى بن عمر ومحمد بن عبد الحكم. أما الأمصار العظام مثل مصر(1/350)
وبغداد فلا بأس أن يجمعوا في مسجدين للضرورة، وقد فعل ذلك والناس متوافرون فلم ينكروه.
[مسألة: القوم يبرزون من مكة إلى ذي طوى أيقصرون بها]
مسألة وسئل عن القوم يبرزون من مكة إلى ذي طوى يريدون المسير، أيقصرون بها؟ قال لا أرى ذلك، ولكن أرى لهم أن يتموا حتى يسيروا.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب الحج الثالث من المدونة، وزاد لأن ذا طوى عندي من مكة، فذكر العلة في ذلك وبان بذلك أن ذلك ليس بمعارض لمسألة جب عميرة التي تقدمت في هذا الرسم.
[مسألة: يكونون في المسجد يوم عرفة فيكبرون ويدعون أيدخل معهم]
مسألة وسئل عن القوم يكونون في المسجد يوم عرفة فيكبرون فيه ويدعون حتى لا يجد بدا من كان فيه إلا أن يدخل معهم، قال: أرى له أن يخرج حتى إذا حضر الوقت رجع فصلى.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى في رسم "حلف بطلاق امرأته "، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مساجد القبائل يصلى فيها بغير أردية]
ومن كتاب أوله مساجد القبائل قال: وسئل مالك عن مساجد القبائل يصلى فيها بغير أردية، فكرهه وقال: قال الله تبارك وتعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] .(1/351)
قال محمد بن رشد: قد استدل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما ذهب إليه من كراهة ترك الرداء في الصلاة في المساجد بالآية التي تلاها. وهو دليل ظاهر؛ لأن الرداء من الزينة، فكان الاختيار أن لا يترك في مسجد من المساجد تعلقا بالعموم والظاهر، وإن كانت الآية إنما نزلت في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، فالفرض من اللباس ما يستر العورة منه، قال الله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26] ، والاختيار منه في الصلاة في المساجد بلوغ الزينة المباحة، قال عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] الآية وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل ينام بعد المغرب وبعد الصبح]
مسألة وسئل مالك عن الرجل ينام بعد المغرب، قال ذلك يكره، قيل له فالنوم بعد الصبح؟ قال ما أعلم حراما.
قال الإمام: إنما كره النوم بعد المغرب؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي برزة الأسلمي أنه نهى «عن النوم قبل صلاة العشاء وعن الحديث بعدها» .
والمعنى في النهي عن النوم قبل صلاة العشاء مخافة أن يغلب النائم النوم فتفوته صلاتها في الجماعة أوفي وقتها المختار، وفي النهي عن الحديث بعدها إراحة الكتاب لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبر أن القلم مرتفع عن النيام، وكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السمر إلا لمصل أو مسافر. وقال مجاهد: لا يجوز السمر بعد العشاء إلا لمصل أو مسافر أو مذاكر. ووجه السؤال عن النوم بعد(1/352)
الصبح ما روي عن عبيد بن عمير أن عبد الله بن الزبير قال: يا عبيد أما علمت أن الأرض عجت إلى ربها عز وجل من نومة العلماء بالضحى مخافة الغفلة عليهم، وما روي عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الصبحة تمنع بعض الرزق» ، وهو حديث يضعفه أهل الإسناد، فلم يصح عند مالك شيء من ذلك، ولذلك قال ما أعلم حراما.
وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يقول: النوم ثلاثة، فنوم خرق، ونوم خلق، ونوم حمق، فأما نومة خرق فنومة الضحى يقضي الناس حوائجهم وهو نائم، وأما نومة خلق فنومة القائلة، وأما نومة حمق فنومة حين تحضر الصلوات وقد كره بعض الناس النوم بعد العصر لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه» . وقد عارض ذلك ما روت أسماء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل عليا في حاجة بعد أن صلى الظهر بالصهباء فرجع وقد صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر فوضع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غابت الشمس فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم إن عبدك عليا احتبس بنفسه على نبيه فرد عليه شرفها قالت أسماء فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض ثم قام علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فتوضأ وصلى العصر ثم غابت الشمس» . وهذا من أجل علامات النبوءة، وفيه الرتبة الجليلة لعلي بن أبي طالب، فتحفظ هذا الحديث واجب، فمن اجتنب النوم في هذه الأوقات لما جاء فيها مما يتقى منها فما أخطا، والله أعلم.
[مسألة: الرجل يركع فيرفع رأسه فلا يعتدل قائما حتى يهوي إلى السجود]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يركع فيرفع رأسه فلا يعتدل قائما حتى(1/353)
يهوي إلى السجود، أترى أن يعيد تلك الركعة؟ قال: لا، ولكن لا يعود. قال ابن القاسم: وهو رأيي.
قال المؤلف: مثل هذا في رسم "التفسير" من سماع عيسى، فالاعتدال في الفصل بين أركان الصلاة على هذا من سنن الصلاة لا من فرائضها، ومن أصحابنا المتأخرين من ذهب إلى أن ذلك من فرائضها، وإن لم يعتدل قائما في رفعه من الركوع ولا جالسا في رفعه من السجود أعاد الصلاة، ودليله ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود» وأنه قال: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه إذا رفع رأسه من الركوع والسجود» . وهذا ليس بدليل قاطع لاحتمال أن يريد لا صلاة له متكاملة الأجر ولا تجزئ الإجزاء الذي هو أعلى مراتب الإجزاء.
واستدل أيضا بما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للذي صلى ولم يتم الركوع والسجود: «ارجع فصل فإنك لم تصل» مرة وثانية.
وهذا أيضا محتمل أن يكون إنما أمره أن يعيد ليعلمه سنة الصلاة، لا لأن الصلاة كانت فاسدة لا تجزئه، ويكون معنى قوله فإنك لم تصل، أي لم تصل الصلاة على السنة والهيئة التي ينبغي أن تصلى عليها. وسيأتي في الرسم المذكور من سماع عيسى القول فيمن خر من ركعته ساهيا ولم يرفع رأسه أصلا إن شاء الله.
[مسألة: قوم في السفر وفيهم الفقيه وذو السن والقارئ من يؤمهم]
مسألة وسئل عن القوم يكونون في السفر، من ترى أن يؤمهم وفيهم(1/354)
الفقيه وذو السن والقارئ؟ قال: الفقيه في رأيي أرى أن يؤمهم، وإن لذي السن حقا. فقيل له أفرأيت الرجل يؤم عمه وهو أصغر منه؟ قال: العم والد فلا أرى أن يؤمه وإن كان العم أصغر منه. قال ابن القاسم إلا أن يقدمه. قال سحنون: وذلك إذا كان العم في العلم والفضل مثل ابن الأخ.
قال محمد بن رشد: قوله إن الفقيه أولى بالإمامة من القارئ صحيح؛ لأنه أعلم بأحكام الصلاة وما تفسد به مما لا تفسد منه، وهو مذهبه في المدونة؛ لأنه قال فيها: يؤم القوم أعلمهم إذا كانت له الحال الحسنة.
قيل له فأقرؤهم؟ قال: قد يقرأ من لا ترضي حاله. هذا معنى قوله، ومعنى ما روي «يؤم القوم أقرؤهم» إن أقرأهم في ذلك الوقت كان أفقههم لأنهم كانوا يقرؤون القرآن بأحكامه من حلاله وحرامه وناسخه ومنسوخه وخاصه وعامه.
وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤم القوم أقرؤهم» ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا.
فإذا اجتمع الفقيه وصاحب الحديث والمقرئ والعابد وذو السن فالفقيه أولى بالإمامة، ثم المحدث، ثم المقرئ الماهر، ثم العابد، ثم ذو السن. وإنما كان الفقيه أولى بالإمامة من المحدث وإن كان أفضل منه لأنه أعلم بأحكام الصلاة منه.
وإنما كان المحدث أولى بالإمامة من المقرئ وإن كان أفضل منه أيضا لأنه أعلم بسنن الصلاة منه. وإنما كان المقرئ الماهر بالقراءة إذا كانت له الحال الحسنة أولى بالإمامة من العابد لأن القراءة مضمنة بالصلاة وليست العبادة مضمنة بها. وإنما كان العابد أولى بالإمامة من ذي السن لزيادة فضله عليه لكثرة قرباته. وإنما كان(1/355)
ذو السن أحق بالإمامة ممن دونه في السن لأن أعماله تزيد بزيادة سنه فهي زيادة في الفضل، فلو كان الأحدث سنا أقدم إسلاما لكان أولى بالإمامة منه إذ لا فضيلة في مجرد السن. ألا ترى إلى ما في الحديث من تقديم الأقدم هجرة على الأقدم سنا.
والإمامة تستوجب أيضا بأربعة أشياء سوى ما ذكرنا، وهي الأبوة، والعمومة، والإمارة، واستحقاق موضع الصلاة. فالأب يؤم ابنه إذا كانت له الحال الحسنة وإن كان أدنى مرتبة منه في العلم والفضل، وكذلك العم أيضا يؤم ابن أخيه، قال في الرواية وإن كان دونه في السن، فإذا جعله أحق منه بالإمامة وإن كان دونه في السن مع أن الزيادة في السن زيادة في الفضل فليلزم على قياس قوله أن يكون أحق منه بالإمامة وإن كان دونه في الفضل والعلم إذا كانت له الحال الحسنة، خلاف قول سحنون.
ويلزم على قياس قول سحنون أن يكون الابن أحق بإمامة أبيه وإن كانت له الحال الحسنة إذا كان الابن أظهر حالا منه في المعرفة أو الصلاح، وذلك بعيد لحق الأب على ابنه.
وأما الأمير وصاحب المنزل فلا كلام في أنهما أحق بالإمامة إذا كانت لهما الحال الحسنة وإن كان غيرهما أعلى مرتبة منهما في العلم والفضل.
[مسألة: العروس يدخل بأهله في ليلة الجمعة أيتخلف عن الجمعة]
مسألة وسئل عن العروس يدخل بأهله في ليلة الجمعة، أيتخلف عن الجمعة؟ قال لا، ولا عن الظهر والعصر لا يتخلف عنهما ويخرج إليهما.
ثم قال إذا كان من ينظر إليه يفتي بالجهالة جرت في الناس. قال سحنون: وقد قال بعض الناس لا يخرج لأنه حق لها من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال مالك: ما يعجبني للعروس ترك الصلاة كلها.(1/356)
قال محمد بن رشد: قول مالك إن العروس ليس له أن يتخلف عن الجمعة، ولا عن الصلاة في الجماعة هو الحق الذي لا وجه لسواه، إذ لا حق للزوجة عليه في منعه من شهود الجمعة والجماعة، ولا له بالمقام عندها عذر في التخلف عنهما، وإنما معنى قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للبكر سبع وللثيب ثلاث» أن يكون معها ويبيت عندها دون سائر أزواجه إن كانت له أزواج سواها، وليس عليه أن يلزم المقام عندها ليله ونهاره فلا يخرج إلى الصلاة ولا يتصرف فيما يحتاج إليه من حوائج دنياه، ولا لها ذلك عليه إن سألته إياه، وإنما الذي لها من الحق أن يقيم عندها المدة التي وقتها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها دون غيرها من نسائه.
قيل عليه وعلى سائر أزواجه، وقيل بل على سائر أزواجه لا عليه. وعلى هذا الاختلاف يختلف أيضا إن لم تكن له زوجة سواها، هل لها عليه حق في المقام معها والمبيت عندها المدة التي وقتها لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما جاء في الحديث أم لا؟ فعلى القول بأن ذلك حق لها عليه وعلى سائر أزواجه يكون ذلك لها، وعلى القول بأن ذلك حق لها على أزواجه لا عليه لا يكون ذلك لها، إذ الحق لها إنما هو على أزواجه إن كانت له أزواج لا عليه.
وقد قيل إن ذلك إنما هو حق له على سائر أزواجه لا حق لها، والأول أظهر. وظاهر ما حكى سحنون عن بعض الناس أن لها من الحق عليه أن لا يخرج إلى جمعة ولا إلى غيرها، وهي جهالة ظاهرة كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغلطة غير خافية. وقول مالك ما يعجبني للعروس ترك الصلاة كلها، معناه عندي ما يعجبني أن يخفف للعروس ترك الصلاة كلها في الجماعة مع الناس في المسجد، وإنما الذي يعجبني أن يخفف له ترك بعضها للاشتغال بزوجه والجري إلى تأنيسها واستمالتها، وهذا فيما عدا الجمعة التي شهودها عليه فرض، وبالله التوفيق.(1/357)
[النبر في القرآن في الصلاة]
مسألة وسئل مالك عن النبر في القرآن في الصلاة، قال إني لأكرهه وما يعجبني ذلك.
قال محمد بن رشد: يريد بالنبر إظهار الهمزة في كل موضع على الأصل، فكره ذلك في الصلاة، واستحب فيها التسهيل على رواية ورش، لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم تكن من لغته الهمزة. روي: " أنه «أتي بأسير يرعد فقال أدفوه "، يريد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدفئوه من الدفء، " فذهبوا به فقتلوه فوداه» رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده ". ولو أراد قتله لقال: دافوه ودَافُّوا ودَافُّوا عليه بالتثقيل.
ولهذا المعنى كان العمل جاريا بقرطبة قديما أن لا يقرأ الإمام في الصلاة بالجامع إلا برواية ورش، وإنما تغير ذلك وتركت المحافظة عليه مند زمن قريب. ويحتمل أن يريد بالنبر في القرآن في الصلاة الترجيع الذي يحدث في الصوت معه نبر في غير موضع النبر ويحتمل أن يريد التحقيق الكثير في الهمزات إلى ما سوى ذلك مما يأخذ بعض المقرئين القرأة عليهم من الترقيق والتغليظ والروم والشم وإخفاء الحركة وإخراج جميع الحروف من حقيقة مخارجها، ولا يتأتى ذلك إلا بالعناء وتقطيع بعض الحروف؛ لأن الاشتغال بذلك في الصلاة يشغل عن تدبره وتفهم حكمه والاعتبار بعبره.(1/358)
[مسألة: أيهم أوجب أركعتا الفجر أم الوتر]
مسألة وسئل مالك أيهم أوجب، أركعتا الفجر أم الوتر؟ قال بل الوتر بكثير. قال مالك: إن ابن عمر لم يكن يركع ركعتي الفجر في السفر.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في سماع أبي زيد، ومثل ما يقوم في المدونة أن ركعتي الفجر سنة خلاف ما في رسم "الصلاة" الأول من سماع أشهب، وخلاف ما لأصبغ في سماع عيسى من كتاب المحاربين أنهما ليستا بسنة. وأصل هذا الاختلاف اختلافهم في المعنى الذي من أجله تسمى النافلة سنة، إن كان لكونها مقدرة لا يزاد عليها ولا ينقص منها، أو لكون الاجتماع لها والجماعة فيها مشروعين لها وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يقرأ مع الإمام فيما أسر فيفرغ من السورة التي ابتدأها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يقرأ مع الإمام فيما أسر فيفرغ من السورة التي ابتدأها فيقرأ معه بغيرها إذا ختمها، وربما قرأ بالسورتين والثلاث قبل أن يفرغ الإمام، قال نعم يقرأ بذلك. قال ابن القاسم: يعني أن يقرأ إذا فرغ من السورة غيرها ولا يقيم ساكتا.
قال محمد بن رشد: هو مخير إن شاء قرأ كما قال، وإن شاء سكت، وإن شاء دعا، الأمر في ذلك كله واسع.
[مسألة: الرجل إذا فاتته ركعتان أهي أول صلاته أم آخرها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل إذا فاتته ركعتان، أهي أول صلاته أم آخرها؟ فقال هي آخر صلاته، ويقضي ما فاته بأم القرآن وسورة.(1/359)
قال محمد بن رشد: ستأتي هذه المسألة في رسم "الجواب "، واختلاف قول مالك فيها، وسنتكلم عليها هناك إن شاء الله.
[مسألة: يدخلان المسجد وتقام الصلاة فيحرم الإمام وهما يتحدثان]
مسألة وسئل مالك عن الرجلين يدخلان المسجد وهما في مؤخر المسجد وتقام الصلاة وهما في مؤخر المسجد مقبلان إلى الإمام، فيحرم الإمام وهما يتحدثان، قال أرى أن يتركا الكلام إذا أحرم الإمام.
قال أبو الوليد: وهذا كما قال؛ لأن تحدثهما والإمام في الصلاة وهما في المسجد مقبلان إلى الصلاة من المكروه البين؛ لأنه لهو عما يقصدانه من الصلاة وإعراض عنه، وبالله التوفيق.
[صلى الظهر ثم جاء إلى المسجد فوجد الناس قعودا في آخر صلاتهم]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت وسئل مالك عن رجل صلى في بيته الظهر ثم جاء إلى المسجد فوجد الناس قعودا في آخر صلاتهم وظن أن عليهم ركعتين، فكبر ثم قعد فسلم الإمام، قال: يسلم وينصرف ولا أرى عليه شيئا. قال ابن القاسم: وقد سمعته يقول لو ركع ركعتين يريد بذلك إذا كانت صلاة يصلي بعدها، وإن انصرف ولم يفعل فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: إنما خفف له القطع إذا لم يعقد ركعة من أجل أنه لم يدخل على نية النافلة، وإنما دخل على نية الفريضة، فلم يلزمه ما لم ينو. وقد مضى في رسم "سلف " ما يشبه هذا المعنى.(1/360)
[مسألة: نسي التشهد حتى سلم الإمام وهو معه]
مسألة قال مالك من نسي التشهد حتى " سلم الإمام وهو معه، قال يتشهد ويسلم ولا يدعو بعد التشهد.
قال محمد بن رشد: يريد ولا سجود سهو عليه؛ لأنه قد تشهد قبل سلامه وإن كان بعد سلام الإمام؛ لأنه لا يخرج من الصلاة بسلام الإمام حتى يسلم هو، وبالله التوفيق.
[: قول الناس: سبحان ربي العظيم وبحمده في التشهد]
ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها وسئل عن قول الناس: سبحان ربي العظيم وبحمده في التشهد، قال: قد كتب إلي الأمير في ذلك فأجبته أني لا أعرف هذا. فقيل له فلا تراه؟ قال: لا. فقيل له فإذا أمكن سجوده وركوعه فقد تم؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا مثل قوله في المدونة إنه لا يوقت في ذلك تسبيحا، وإنه إذا أمكن يديه من ركبتيه في ركوعه وجبهته من الأرض في سجوده فقد تم ركوعه وسجوده، وكان يقول: إلى هذا تمام الركوع والسجود.
وقوله: لا أعرف هذا، معناه لا أعرفه من واجبات الصلاة، وكذلك قوله إنه لا يراه، معناه لا يراه من حد السجود الذي لا يجزئ دونه لا أنه يرى تركه أحسن من فعله؛ لأن التسبيح في سجود الصلاة من السنن التي يستحب العمل بها عند الجميع.
وقد روي «أنه لما نزلت في سورة الواقعة: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت:(1/361)
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: اجعلوها في سجودكم» . وروي عنه أنه قال: «من ركع فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تم ركوعه وذلك أدناه. ومن سجد وقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تم سجوده وذلك أدناه» .
قال ابن حبيب: يريد أن ذلك أدنى التخفيف الذي ينبغي في الركوع والسجود. وقد روي عن يحيى وعيسى بن دينار أنهما قالا: من صلى الفريضة فركع وسجد ولم يذكر الله تعالى في ذلك أعاد صلاته في الوقت وبعده، وهذا على طريق الاستحسان لا على طريق الوجوب، والله أعلم.
[مسألة: قيام الرجل بعد فراغه من الصلاة يدعو قائما]
مسألة وسئل مالك عن قيام الرجل بعد فراغه من الصلاة يدعو قائما، قال: ليس هذا بصواب ولا أحب لأحد أن يفعله. وسئل أيضا عن الدعاء عند خاتمة القرآن، فقال: لا أرى أن يدعو ولا نعلمه من عمل الناس. وسئل عن الرجل ينصرف هو وأصحاب له فيقفون يدعون فأمر بهم، أترى أن أقف معهم؟ قال لا ولا أحب لهذا الذي يفعل هذا أن يفعله ولا يقف يدعو.
قال محمد بن رشد: الدعاء حسن، ولكنه إنما كره ابتداع القيام له عند تمام القرآن وقيام الرجل مع أصحابه لذلك عند انصرافهم من صلاتهم واجتماعهم لذلك عند خاتمة القرآن، كنحو ما يفعل بعض الأئمة عندنا من الخطبة على الناس عند الختمة في رمضان والدعاء فيها وتأمين الناس على(1/362)
دعائه، وهي كلها بدع محدثات لم يكن عليها السلف، «وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» . وهذا من نحو ما مضى في رسم "حلف بطلاق امرأته "، ورسم "صلى نهارا ثلاث ركعات "، من كراهيته للاجتماع للدعاء يوم عرفة بعد العصر في المساجد، فرحم الله مالكا فما كان أتبعه للسنة وأكرهه لمخالفة السلف.
[مسألة: تنقيض الأصابع في المسجد]
مسألة وسئل مالك عن تنقيض الأصابع في المسجد، قال: ما يعجبني ذلك في المسجد ولا في غير المسجد.
قال محمد بن رشد: وقع في المدونة كراهية ذلك في الصلاة خاصة، ولم يتكلم على ما سوى الصلاة، وكرهه مالك هاهنا في الصلاة وفي المسجد وفي غير المسجد؛ لأنه من فعل الفتيان وضعفة الناس الذين ليسوا على سمت حسن، وكرهه ابن القاسم في المسجد دون غيره من المواضع؛ لأنه من العبث الذي ينبغي أن لا يفعل في المساجد، وبالله التوفيق.
[مسألة: تشبيك الأصابع في المسجد]
مسألة وسئل عن تشبيك الأصابع في المسجد أسمعت فيه شيئا؟ قال: إنهم لا يذكرون شيئا ولا أعلم به بأسا. وأخبرنا محمد بن خالد عن عبد الله بن نافع قال: جلس داوود بن قيس إلى مالك ومالك مشبك بين أصابعه، فأومأ داوود إلى يدي مالك ليطلقهما وقال ما هذا؟ فقال له مالك: إنما يكره هذا في الصلاة.(1/363)
قال محمد بن رشد: قد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النهي عن تشبيك الأصابع في الخروج إلى المسجد للصلاة وفي المسجد وفي الصلاة. روي عن أبي أمامة قال: لقيت كعب بن عجرة وأنا أريد الجمعة وقد شبكت بين أصابعي، ففرق بينها وقال: «إنا نهينا أن يشبك أحدنا بين أصابعه في الصلاة» ، فقلت: إني لست في صلاة، فقال: ألست قد توضأت وأنت تريد الجمعة، قال قلت: بلى، قال فأنت في صلاة.
وروي عنه أنه قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إذا توضأ أحدكم وخرج يريد المسجد فهو في صلاة ما لم يشبك بين أصابعه» .
وروي عنه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: يا كعب بن عجرة إذا توضأت فأحسنت الوضوء ثم خرجت إلى الصلاة فلا تشبك بين أصابعك فإنك في صلاة» . ولم يصح عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من هذا كله إلا النهي عن تشبيك الأصابع في الصلاة خاصة، فأخذ بذلك ولم ير بما سواه بأسا.
وإلى هذا ذهب البخاري في كتابه، فإنه بوب باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، وأدخل حديث أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه» ، وحديث أبي هريرة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سلم من ركعتين فقام إلى خشبة معروضة في المسجد واتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على يده اليسرى وشبك بين أصابعه» وذكر تمام الحديث.
فأما حديث أبي موسى فلا حجة فيه لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما فعله للمعنى الذي ذكره على التمثيل والبيان، وأما حديث أبي هريرة فالحجة لمالك فيه قائمة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتنفل في الصلاة أيقرأ بسم الله الرحمن الرحيم]
مسألة وسئل عن الرجل يتنفل في الصلاة أيقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أو يقرأ الحمد لله رب العالمين؟ قال: يقول الحمد لله رب(1/364)
العالمين ويقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في السورة في كل سورة إذا أراد أن يتابع سورا بعضها فوق بعض، فأما في المكتوبة فلا يفعل، وليبدأ بالحمد لله رب العالمين، ولا يقول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قال محمد بن رشد: لم يختلف قول مالك أنه لا يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في الفريضة لا في أول الحمد ولا في أول السورة التي بعدها؛ لأنها ليست عنده آية من الحمد، وإنما تثبت في المصحف في أولها للاستفتاح لا لأنها منها كسائر السور، فبسم الله الرحمن الرحيم ليس من القرآن عند مالك إلا في سورة النمل فإنه فيها بعض آية.
وذهب الشافعي إلى أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية من الحمد فأوجب قراءتها في الصلاة في أول الحمد. ومن أهل العلم من استحب قراءتها في الفريضة في أول الحمد، وهو مذهب محمد بن مسلمة من أصحاب مالك. ومنهم من استحب قراءتها في الفريضة في أول الحمد سرا، فيتحصل في ذلك أربعة أقوال: أحدهما إيجاب قراءتها، وهو مذهب الشافعي ومن تبعه؛ والثاني كراهة قراءتها، وهو من مذهب مالك، والثالث استحباب قراءتها، وهو مذهب محمد بن مسلمة؛ والرابع الإسرار بقراءتها. فوجه كراهة قراءتها لئلا يظنها الجاهل من الحمد فيراها واجبة؛ ولأن ترك قراءتها هو المروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده.
وروي عنهم أنهم كانوا يفتتحون القراءة في الصلاة بالحمد لله رب العالمين. ووجه استحباب قراءتها مراعاة قول من يراها آية من الحمد فتكون الصلاة مجزية تامة بإجماع.
ووجه من رأى الإسرار بها مخافة أن يظن أنها من الحمد وأن قراءتها واجبة.
وأما قراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في النافلة فلمالك في ذلك في الحمد قولان: أحدها أنه لا يقرأ فيها، والثاني أنه يقرؤه فيها. والقولان قائمان من هذه الرواية. وله في ذلك فيما عدا الحمد من السور ثلاثة أقوال: أحدها أنه يقرؤه في كل سورة، وهو قوله في هذه الرواية.(1/365)
والثاني: لا يقرؤه في شيء منها إلا أن يكون رجلا يقرأ القرآن عرضا يريد بذلك عرضه في صلاته، وهو رواية أشهب عنه في رسم "الصلاة" الثاني. والثالث: أنه مخير إن شاء قرأه وإن شاء تركه، وهو قوله في المدونة.
[مسألة: الرجل تفوته الركعة مع الإمام متى يقوم]
مسألة وسئل عن الرجل تفوته الركعة مع الإمام متى يقوم إذا سلم واحدة أو ينتظر حتى يسلم تسليمتين؟ قال إن كان ممن يسلم تسليمتين انتظره حتى يفرغ من سلامه كله ثم يقوم.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم آخر رسم "شك في طوافه " نحو هذه المسألة والقول عليه بما بين معنى هذه، وبالله التوفيق.
[مسألة: البيع يوم الجمعة]
مسألة وسئل مالك عن البيع يوم الجمعة، هل يمنع الناس من ذلك؟ قال: لا أنكره، فقلت له فإذا أذن المؤذن؟ قال: نعم أرى أن يمنعوا. قيل له فأي الأذان هو؟ قال: الذي يكون عند قعود الإمام، ويمنع من ذلك كل من تجب عليه الجمعة ومن لا تجب عليه.
قال محمد بن رشد: السنة في الآذان يوم الجمعة أن يكون بعد قعود الإمام على المنبر، وقوله إن الأذان الذي يكون عند قعود الإمام على المنبر هو الآذان الذي يعتبر به في منع الناس من البيع، إنما يعني أنه إذا أحدث الإمام قبل ذلك أذانا مثل الأذان الذي زاده عثمان، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، في الزوراء عند أول الزوال على ما ذكرناه في آخر رسم "سلعة سماها" لم يعتبر به في ذلك، وقد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في أول رسم "حلف بطلاق امرأته " فلا معنى لإعادته.(1/366)
[مسألة: الرجل يدخل يوم الجمعة والإمام يخطب أيجلس أم يتم صلاته]
مسألة وسئل عن الرجل يدخل يوم الجمعة فيكبر قبل أن يخرج الإمام فيخرج الإمام ولم يركع ويؤذن المؤذنون، أيجلس أم يتم صلاته؟ قال بل يتم ركعتين، وإنما يجلس من لم يحرم حتى يقعد الإمام.
قلت لسحنون: فلو أني دخلت المسجد والإمام جالس والمؤذنون أمامه يؤذنون فأحرمت ساهيا أو غافلا أو كنت جالسا فلم أفرغ من ركعتي حتى فرغ المؤذنون وقام الإمام يخطب، وذكرت له أنها نزلت بي، أترى أن أمضي في صلاتي؟ فقال لي نعم، وإنما يكره ذلك ابتداء، فإذا فعله أحد مضى ولم يقطع. قال العتبي: وجدتها لابن وهب رواية عن مالك.
قال محمد بن رشد: أما من أحرم يوم الجمعة فإنه يتمادى على نافلته حتى يتمها، كان قد ركع أم لم يركع، لما جاء في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما تعلق به من قال أن من جاء والإمام يخطب إنه يركع قبل أن يجلس، وقد قالوا فيمن أحرم في صلاته بالتيميم ثم طلع رجل معه ماء أنه يتمادى على صلاته ولا يقطعها، وكيف بهذا؟ وأما من دخل المسجد والإمام جالس على المنبر والمؤذنون يؤذنون فأحرم جاهلا أو غافلا فإنه يتمادى ولا يقطع على قول سحنون ورواية ابن وهب عن مالك وإن لم يفرغ حتى قام الإمام إلى الخطبة.
وقد قيل إنه يقطع، وهو قول ابن شعبان في مختصر ما ليس في المختصر. وكذلك لو دخل المسجد والإمام يخطب فأحرم لتمادى على قول ابن وهب عن مالك وسحنون، ولقطع على قول ابن شعبان، إذ لا فرق بين أن يحرم والإمام يخطب أو وهو جالس على المنبر والمؤذنون يؤذنون، لما جاء من أن خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام. وذلك لا يكون من قائله(1/367)
رأيا، وهذا عندي في الذي يدخل المسجد تلك الساعة فيحرم، وأما لو أحرم بالصلاة تلك الساعة من كان جالسا في المسجد لوجب أن يقطع قولا واحدا، إذ لا اختلاف في أنه لا يجوز أن يركع تلك الساعة، بخلاف الذي يدخل المسجد تلك الساعة، إذ قد قيل إنه يركع قبل أن يجلس لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» ، ولما جاء أنه أمر سليكا الغطفاني وهو جالس على المنبر أن يركع ركعتين ثم قال: «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين يتجوز فيهما» ، وبالله التوفيق.
[مسألة: الغدو إلى العيدين أية ساعة هي]
مسألة وسئل مالك عن الغدو إلى العيدين أية ساعة هي؟ قال: إذا طلعت الشمس، ثم قال بعد ذلك هو العمل الذي عليه أهل الفقه عندنا. فقيل له: فمتى يكبر؟ قال إذا طلعت الشمس وغدا، فقيل له أفيجهر بالتكبير أم يسره؟ قال: أمر بين ذلك، ويكبر في العيدين جميعا في الفطر والأضحى.
قال محمد بن رشد: هذا هو الوقت المختار في الغدو إلى العيد، فإن غدا قبل طلوع الشمس لم يكبر إلا أن يكون قرب طلوع الشمس أو الإسفار البين. وقال علي بن زياد عن مالك إنه لا تكبير إلا على من غدا(1/368)
بعد طلوع الشمس، وقع ذلك في آخر رسم " حلف بطلاق امرأته " وقد تكلمنا هناك على حكم التكبير ووجهه وما الأصل فيه ومكان الاختلاف منه.
[مسألة: إشارة الرجل بأصبعه في الصلاة]
مسألة وسئل عن إشارة الرجل بأصبعه في الصلاة، قال ليشر إن شاء ولا بأس في التشهد إذا وضع يديه على ركبتيه.
قال محمد بن رشد: معنى الكلام يشير إن شاء في التشهد ولا بأس به، فظاهره التخيير من غير استحسان منه لفعله على تركه، وقد استحسن ذلك في رسم "المحرم" بعد هذا، وهو الصواب؛ لأنها السنة من فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما في الموطأ عنه من رواية عبد الله بن عمر.
وقد مضت هذه المسألة والتكلم عليها في رسم "شك في طوافه" قبل هذا. وفي الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: وسئل عن إشارة الرجل بأصبعه في الصلاة في التشهد وإذا وضع يديه على ركبتيه، قال ليشر إن شاء ولا بأس به، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أي مواضعه أحب]
مسألة وسئل مالك عن الصلاة في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي مواضعه أحب إليك؟ قال: أما النافلة فمصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن القاسم: وهو العمود المخلق، وأما الفريضة فيقدم إلى أول الصف أحب إلي.
قال محمد بن رشد: استحب مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، صلاة النافلة في مصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للتبرك بموضع صلاته، ورأى للصلاة في ذلك الموضع فضلا على سائر المسجد. ومن الدليل على ذلك «أن عتبان بن مالك قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله، إنها تكون الظلمة والسيل والمطر وأنا رجل(1/369)
ضرير البصر فصل يا رسول الله -[صلى الله عليك وسلم]- في بيتي مكانا أتخذه مصلى، فجاءه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أين تحب أن أصلي، فأشار له إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . فإذا كان ذلك الموضع من بيته بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه صلاة واحدة أفضل من سائر بيته، وجب أن يكون الموضع الذي كان يواظب على الصلاة فيه في مسجده أفضل من سائر المسجد بكثير.
وإنما قال: إنه يتقدم في الفريضة إلى أول الصفوف وهو الصف الأول؛ لأن فضل الصف الأول معلوم بالنص عليه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو أولى مما علم فضله بالدليل. ولمالك في رسم "التسليف في الحيوان المضمون" من هذا السماع من كتاب الجامع أن العمود المخلق ليس هو قبلة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكنه كان أقرب العمد إلى مصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خلاف قول ابن القاسم أن العمود المخلق هو مصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبالله التوفيق.
[مسألة: صلاة الجمعة في مجالس حوانيت عمرو بن العاص]
مسألة وسئل مالك عن صلاة الجمعة في مجالس حوانيت عمرو بن العاص ووصفت له، قال: لا بأس بذلك وأراها مثل أفنية المسجد إذا كان إنما يصلى فيها من ضيق المسجد بالناس فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: يريد مصاطب الحوانيت التي لا تأخذها الغلق الشارعة إلى الطرق المتصلة بأفنية المسجد، فحكم لها بحكم أفنية المسجد ولم ير بالصلاة فيها بأسا إذا ضاق المسجد، ولم يعط فيها جوابا بينا إذا صلى فيها والمسجد واسع من غير ضرورة. والأظهر في ذلك من مذهبه هنا وفي المدونة أنه قد أساء وصلاته جائزة، وهي رواية ابن أبي أويس عنه. وقال(1/370)
سحنون: يعيد ظهرا أربعا. ووجه قول مالك أن الصلاة لما كانت في هذه المواضع جائزة لمن ضاق عنه المسجد وجب أن تجوز صلاة من صلى فيها وإن لم يضق عنه المسجد، أصل ذلك من صلى في الصف الثاني وهو يجد سعة للدخول في الصف الأول.
ووجه قول سحنون أن المسجد من شرائط صحة الجمعة، فإذا صلى خارجا منه وهو قادر على الصلاة فيه وجب أن لا تجزئه صلاته، أصل ذلك من صلى مكشوف العورة وهو قادر على سترها.
[قراءة سورة الإخلاص مرارا في ركعة واحدة]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسألته عن قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] مرارا في ركعة واحدة فكره ذلك وقال: هذا من محدثات الأمور التي أحدثوا.
قال محمد بن رشد: كره مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، للذي يحفظ القرآن أن يكرر {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] في ركعة واحدة مرارا لئلا يعتقد آخر أن أجر من قرأ القرآن كله كأجر من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثلاث مرات تأويلا لما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنها تعدل ثلث القرآن» ، إذ ليس ذلك معنى الحديث عند العلماء، ولو كان ذلك معناه عندهم لاقتصروا على قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] في الصلوات بدلا من قراءه السور الطوال، ولكرروها في الركعة الواحدة من فرائضهم ونوافلهم، ولا قتصروا على قراءتها دون سائر القرآن في تلاوتهم، فلما لم يفعلوا شيئا من ذلك وأجمعوا أن من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] في ركعة واحدة لا يساوي في الأجر من أحيا الليل وقام فيه بالقرآن كله.
قال مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إن تكريرها في ركعة واحدة من محدثات الأمور ورأى ذلك بدعة، وهو كما قال، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا دليل على أن تكريرها في ركعة واحدة أفضل من قراءة سورة طويلة تزيد في القدر على قدر ما يجتمع من تكريرها المرات التي كررها فيها، فيما ثبت من حديث أبي سعيد الخدري أنه سمع رجلا يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] يرددها فلما أصبح غدا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/371)
فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» ، إذ قد يحتمل أنه إنما كان يرددها لأنه لا يحفظ سواها، ولم يقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن ذلك من فعله أفضل من قراءة السور الطوال، وإنما علم أنها تعدل ثلث القرآن من أجل أن الرجل كان يتقالها على ما جاء في الحديث، والله أعلم.
وقد اختلف العلماء في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنها تعدل ثلث القرآن» اختلافا كثيرا لا يرتفع بشيء منه على الحديث الإشكال ولا يتخلص عن أن يكون فيه اعتراض وكلام.
وقد حكى ابن عبد البر في الاستذكار عن إسحاق بن منصور أنه قال: قلت لأحمد بن حنبل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] إنها تعدل ثلث القرآن ما وجهه؟ فلم يقم لي فيه على أمر بين، قال: وقال لي إسحاق بن راهويه: معناه أن الله لما فضل كلامه على سائر الكلام جعل لبعضه أيضا فضلا في الثواب لمن قرأه أضعاف غيره منه تحريضا منه على تعليمه لا أن من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثلاث مرات كان كمن قرأ القرآن كله، هذا لا يستقيم ولو قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] مائتي مرة.
قال ابن عبد البر: هذان عالمان بالسنن وإمامان في السنة ما قاما ولا قعدا في هذه المسألة، والذي عليه أهل العلم والسنة الكف عن الجدال والمناظرة فيما سبيله الاعتقاد بالأفئدة والإيمان بما تشابه من القرآن والتسليم له وبما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نحو هذا الحديث وشبهه في أحاديث الصفات.
قال محمد بن رشد: وقد قال بعض المتأخرين إن المعنى في ذلك أن تضعيف الأجر في قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ينتهي إلى أن يكون مثل أجر قراءة ثلث القرآن غير مضاعف، وهذا أشبه ما رأيت في ذلك من التأويلات، إلا أنه بعيد من ظاهر الحديث؛ لأنه إذا لم يعدل أجر قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] مضاعفا لأجر قراءة ثلث القرآن مضاعفا أو أجر قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1](1/372)
غير مضاعف لأجر قراءة ثلث القرآن غير مضاعف فليست بعدل له على الحقيقة. والذي أقول به أن المعنى في ذلك، والله أعلم، أن الله تفضل على من قرأ جميع القرآن بأن كتب له من الأجر في قراءة ماعدا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] مثلي ما كتب له في قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، لا أن من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وحدها يكون له من الأجر مثل من قرأ ثلث القرآن، ولا أن من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثلاث مرات يكون له من الأجر مثل من قرأ القرآن كله.
فالأجر الذي يحصل لقارئ القرآن كله مع {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] يقع منه ثلثه لقل هو الله أحد وثلثاه لسائر القرآن على هذا التأويل. مثال ذلك الصلاة الأجر الذي يحصل للمصلي في جملة صلاته يقع منه لنيته أكثر ما يقع منه لتكبيره وقراءته وقيامه وركوعه وسجوده وتشهده وسلامه، وإن كان التعب والعناء في ذلك كله أكثر من التعب والعناء في النية.
والدليل على ذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نية المؤمن خير من عمله» ؛ لأن العمل لا ينتفع به إذا لم تقارنه نية، فإذا قارنته نية كان جل الأجر لها على معنى ما جاء في الحديث. وكذلك سائر أعمال الطاعات، فصح تأويل ما جاء في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] على ما ذكرناه والله أعلم بمراد نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[الرجل يدخل المسجد النبوي بأي شيء يبدأ]
مسألة وسئل عن الرجل يدخل مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة بأي شيء يبدأ؟ بالسلام على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم بركعتين؟ قال: بل بركعتين، وكل ذلك واسع. قال ابن القاسم: وأحب إلي أن يركع.
قال محمد بن رشد: وجه توسعة مالك البداية بالسلام على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الركعتين قوله في الحديث قبل أن يجلس، فإذا سلم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم(1/373)
ركع الركعتين قبل أن يجلس فقد امتثل أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الركوع قبل الجلوس ولم يخالفه.
ووجه اختيار ابن القاسم للبداية بالركوع قبل السلام على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله في الحديث: «إذا دخل فليركع» والفاء في اللسان تدل على أن الثاني عقب الأول بلا مهلة، فكان الاختيار إذا دخل أن يصل دخوله بركوعه، وأن لا يجعل بينهما فاصلة من الاشتغال بشيء من الأشياء.
[مسألة: الأصبع إذا لم يجد سواكا أيجزئه من السواك]
مسألة وسئل مالك عن الأصبع إذا لم يجد سواكا، أيجزئه من السواك؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رغب في السواك فقال: «عليكم بالسواك» ولم يخص سواكا من غير سواك، فكان الاختيار أن يستاك بسواك لأنه أحلى للأسنان وأطهر للفم، فإن لم يجد سواكا قام الأصبع مقامه لكونه مستاكا به ممتثلا للأمر لأنه عموم إذ لم يخص به سواكا من أصبع ولا غيره، والله أعلم.
ويتصل بهذه المسألة في بعض الروايات مسألة الحاج من أهل مكة في إفاضته من منى إلى مكة، وقد مضت في رسم "الشريكين "، وفي رسم "شك في طوافه "، والكلام عليها مستوفى هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: رفع اليدين في الدعاء وفي الصلاة عند التكبير]
مسألة وسئل مالك عن رفع اليدين في الدعاء، قال ما يعجبني ذلك، فقيل له: فرفع اليدين في الصلاة عند التكبير؟ فقال لقد ذكر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يفعل ذلك إذا كبر وإذا رفع رأسه من(1/374)
الركوع وإذا ركع، وما هو بالأمر العام، كأنه لم يره من العمل المعمول به. فقيل له: فالإشارة بالأصبع في الصلاة؟ قال ذلك حسن، ثم قال على أثر ذلك حجة لتضعيف رفع اليدين في الصلاة: إنه قد كان في أول الإسلام أنه من رقد قبل أن يطعم لم يطعم من الليل شيئا، فأنزل الله عز وجل: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فأكلوا بعد ذلك.
قال محمد بن رشد: كره مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رفع اليدين في الدعاء، وظاهره خلاف لما في المدونة؛ لأنه أجاز فيها رفع اليدين في الدعاء في مواضع الدعاء كالاستسقاء وعرفة والمشعر الحرام والمقامين عند الجمرتين على ما في كتاب الصلاة الأول منها، خلاف لما في الحج الأول من أنه يرفع يديه في المقامين عند الجمرتين.
ويحتمل أن تتأول هذه الرواية على أنه أراد الدعاء في غير مواطن الدعاء، فلا يكون خلافا لما في المدونة، وهو الأولى، وقد ذكرنا هذا المعنى في رسم "شك في طوافه ".
وأما رفع اليدين عند الإحرام في الصلاة فالمشهور عن مالك أن اليدين ترفع في ذلك، وقد وقع في الحج الأول من المدونة في بعض الروايات أن رفع اليدين في ذلك عنده ضعيف، ووقع له في سماع أبي زيد من هذا الكتاب إنكار الرفع في ذلك، وإلى هذا ينحو قوله في هذه الرواية؛ لأنه احتج فيها بما دل على أن الرفع أمر قد ترك ونسخ العمل به كما نسخ تحريم الأكل برمضان بالليل بعد النوم.
والصحيح في المذهب إيجاب الرفع في ذلك بالسنة، فهو الذي تواترت به الآثار وأخذ به جماعة فقهاء الأمصار. وروى ابن وهب وعلي، واللفظ لعلي، أنه سئل(1/375)
عن المرأة أعليها رفع يديها إذا افتتحت الصلاة مثل الرجل؟ فقال ما بلغني أن ذلك عليها وأراه يجزئها أن ترفع أدنى من الرجال. وأما رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه، فمرة كرهه مالك، وهو مذهبه في المدونة ودليل هذه الرواية وما وقع في رسم "الصلاة" الأول من سماع أشهب من حكاية فعل مالك؛ ومرة استحسنه ورأى تركه واسعا، وهو قول مالك في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب.
وروى مثله عنه محمد بن يحيى السبائي؛ ومرة قال إنه يرفع ولم يذكر في ترك ذلك سعة، وهو قوله في رواية ابن وهب عنه؟ ومرة خير بين الأمرين.
والأظهر ترك الرفع في ذلك؛ لأن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر كانا لا يرفعان أيديهما في ذلك، وهما رويا الرفع عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فلم يكونا ليتركا بعد النبي، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ما رويا عنه إلا وقد قامت عندهما الحجة بتركه. وقد روي أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرفع عند القيام من الجلسة الوسطى وعند السجود والرفع منه، وذهب إلى ذلك بعض العلماء، ولم يأخذ مالك بذلك ولا اختلف قوله فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يصلي لنفسه أيسلم اثنتين]
مسألة وسئل عن الرجل يصلي لنفسه، أيسلم اثنتين؟ قال: لا بأس بذلك، إذا فصل بالسلام الأول أن يسلم بعد ذلك عن يساره، فقيل له: فالإمام؟ فقال ما أدركت الأئمة إلا على تسليمة واحدة، فقيل له: تلقاء وجهه؟ قال يتيامن قليلا عن يمينه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في آخر رسم "شك في طوافه "، ومضى طرف من ذلك في الرسم الذي قبل هذا، فقف على ذلك.
[مسألة: عما يعمل الناس به من الدعاء حين يدخلون المسجد وحين يخرجون]
مسألة وسئل عما يعمل الناس به من الدعاء حين يدخلون المسجد(1/376)
وحين يخرجون ووقوفهم عند ذلك، قال هذا من البدع وأنكره إنكارا شديدا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في صدر الرسم الذي قبل هذا، ونحو ما مضى في رسم "حلف بطلاق امرأته "، ورسم "صلى نهارا ثلاث ركعات "، في كراهة الاجتماع للدعاء في المساجد يوم عرفة بعد العصر.
[مسألة: الرجل يصلي في المحمل يعيا في تربعه فيمد رجله يستريح]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يصلي في المحمل يعيا في تربعه فيمد رجله يستريح في ذلك، قال: أرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: وجه التخفيف في ذلك بين لأنها صلاة تطوع، وقد جاء أن له أن يصليها مضطجعا مع القدرة على القيام، روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ومن صلى نائما فله نصف أجر صلاة القاعد» ، فإذا جاز له أن يصلي مضطجعا اتسع له أن يمد رجله للاستراحة، والله أعلم.
[مسألة: الرجل يستتر بالبعير في الصلاة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يستتر بالبعير قال: لا بأس بذلك، فقيل له: فالخيل والحمير؟ قال لا؛ لأن الخيل والحمير أبوالها وأرواثها نجس، وأن أبوال الإبل والبقر والغنم وأرواثها ليس بالنجس، كأنه لا يرى بالسترة بالبقرة [والشاة] في معنى قوله مع الإبل بأسا.(1/377)
قال محمد بن رشد: قد بين في الرواية وجه منعه من أن يستتر بالخيل والبغال والحمير، ولو استتر بشيء من ذلك لكان له سترة تدفع الحرج عمن يمر أمامه وكان هو قد أساء، ولم تجب عليه إعادة؛ لأنه بمنزلة من صلى وأمامه جدار مرحاض أو كافر أو جنب وما أشبه ذلك.
[مسألة: الرجل يصلي في سقائف مكة من الشمس وبينه وبين الناس فرج]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يصلي في سقائف مكة من الشمس وبينه وبين الناس فرج، قال أرجو أن يكون ذلك واسعا، وليس كل الناس سواء، وحر مكة شديد، ولقد وضع عمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثوبه فسجد عليه من شدة الحر، فقيل له: فإن كان رجل يطيق أن يصلي في الشمس ويحمل ذلك أترى أن يتقدم؟ قال نعم.
قال محمد بن رشد: خفف مالك للرجل أن يصلي وحده في السقائف ويترك التقدم إلى الفرج التي في صفوف الناس لموضع الضرورة، ولو فعل ذلك من غير ضرورة لكان قد أساء وصلاته تامة على المشهور من قول مالك.
وقد روى ابن وهب عن مالك أن من صلى خلف الصف وحده أعاد أبدا، وذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم، لما جاء في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما قد ذكرناه في أول رسم "شك في طوافه ".
ولو كان معه في السقائف غيره ولم يكن منفردا فيها وحده لكانت صلاته جائزة بإجماع. وكلما كثر عدد القوم الذين يكونون معه في السقائف كانت الكراهة له في الصلاة معهم وترك التقدم إلى الفرج التي في الصفوف أخف.
وقد روى أشهب عن مالك في رسم "الصلاة" الأول أنه سئل عمن دخل من باب المسجد فوجد الناس ركوعا وعند باب المسجد ناس يصلون ركوعا وبين يديه الفرج أيركع مع هؤلاء عند باب المسجد أم يتقدم إلى الفرج؟ قال: أرى أن يركع مع هؤلاء عند باب المسجد فيدرك الركعة، إلا أن يكونوا قليلا فلا أرى أن يركع معهم،(1/378)
ويتقدم إلى الفرج أحب إلي. وأما إذا كانوا كثيرا فإني أرى أن يركع معهم. ففي هذا دليل على ما قلناه وبالله التوفيق.
[مسألة: صلاة الليل أثلاث عشرة ركعة أم إحدى عشرة ركعة]
مسألة وسئل مالك عن حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الليل أي ذلك أحب إليك أثلاث عشرة ركعة، أم إحدى عشرة ركعة؟ قال: كل ذلك قد جاء، وأكثر ذلك أعجب إلي لمن قوي عليه.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا إشكال فيه أن الكثير من الصلاة أفضل من القليل منها مع استوائها في التطويل، وإنما اختلف أهل العلم في الأفضل من طول القيام أو كثرة الركوع والسجود مع استواء مدة الصلاة، فمن أهل العلم من ذهب إلى أن كثرة الركوع والسجود أفضل، لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ركع ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة وحط بها عنه خطيئة» ، ومنهم من ذهب إلى أن طول القيام أفضل، لما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل أي الصلوات أفضل؟ قال: طول القنوت» ، وفي بعض الآثار: «طول القيام» . وهذا القول أظهر، إذ ليس في الحديث الأول ما يعارض هذا الحديث، ويحتمل أن يكون ما يعطي الله عز وجل للمصلي بطول القيام أفضل مما ذكره في الحديث الأول أنه يعطيه بالركوع والسجود.
وكذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن العبد إذا قام فصلى أتي بذنوبه فجعلت على رأسه(1/379)
وعاتقيه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه» ، لا دليل فيه أيضا على أن كثرة الركوع والسجود أفضل من طول القيام؛ إذ قد يحتمل أن يكون ما يعطي الله عز وجل بطول القيام في الصلاة أكثر من ذلك كله.
[مسألة: الرجل يسافر بعد أن يصبح يوم العيدين قبل أن يصلي]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يسافر بعد أن يصبح يوم العيدين قبل أن يصلي، قال: لا يعجبني ذلك إلا أن يكون له عذر، فقيل له: فما العذر؟ فقال: غير شيء واحد.
قال محمد بن رشد: معنى ما تكلم عليه أنه سافر بعد الفجر قبل طلوع الشمس، فكره ذلك له إلا من عذر إذ لم يجب عليه الخروج لشهود العيد بعد.
ولو طلعت الشمس وحلت الصلاة لما جاز له أن يخرج لسفره، ويدع الخروج لشهود صلاة العيد كالجمعة، فكره له السفر قبل زوال الشمس، ويحرم عليه إذا زالت الشمس وحلت الصلاة؛ لقول الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] ، والله أعلم.
[مسألة: يبقى عليه حزبه من الليل أيقرأه في مسيره إلى المسجد لصلاة الصبح]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يبقى عليه حزبه من الليل فيخرج لصلاة الصبح وقد بقي عليه حزبه، أفترى أن يقرأ في مسيره إلى المسجد؟ قال: ما أدركت أحدا ممن أقتدي به يفعل ذلك، وما يعجبني ذلك. وقال: يقرأ في السوق وما أشبهه ما يعجبني أن يقرأ(1/380)
القرآن إلا في الصلاة والمساجد، قال الله تبارك وتعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] وثبت على ذلك.
قال محمد بن رشد: كره مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في هذه الرواية قراءة القرآن في الأسواق والطرق لوجوه ثلاثة:
أحدها: تنزيه للقرآن وتعظيم له من أن يقرأه وهو ماش في الطرق والأسواق لما قد يكون فيها من الأقذار والنجاسات.
والثاني: أنه إذا قرأه على هذه الأحوال لم يتدبره حق التدبر.
والثالث: لما خشي أن يدخله في ذلك مما يفسد نيته، وهو الذي يدل عليه استدلاله بقول الله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] . وحكى ابن حبيب عنه من رواية مطرف إجازة ذلك، وقال: وقد بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن والِيَيْنِ ومعلمين، فلما قدما اليمن تفرقا في المنزل ثم التقيا، فقال معاذ لأبي موسى الأشعري كيف تقرأ القرآن اليوم؟ -قال مالك: وأحسبهما كانا قد اشتغلا بتعليم الناس الإسلام والقرآن- فقال أبو موسى: أما أنا فأتفوقه تفوقا ماشيا وراكبا وقاعدا وعلى كل حال. قال معاذ أما أنا فأنام أول الليل وأقوم آخره وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
ويدل على جواز هذا أيضا ما وقع في الموطأ عن عمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أنه كان في قوم وهم يقرؤون القرآن فذهب بحاجته ثم رجع وهو يقرأ القرآن " - الحديث. وقد مضى طرف من هذا المعنى في رسم "تسلف".
[مسألة: الرجل يسافر يوم الجمعة بعد أن يصبح]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يسافر يوم الجمعة بعد أن يصبح، قال: ما يعجبني ذلك إلا من عذر.(1/381)
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذا المعنى فوق هذا قبل هذه المسألة، وسيأتي أيضا في آخر سماع موسى بقية القول فيها إن شاء الله تعالى.
[مسألة: المسافر أيصلي بالسيف والقوس على عاتقه]
مسألة وسئل مالك عن المسافر أيصلي بالسيف والقوس على عاتقه؟
قال: إن أعجب إلي أن يجعل على عاتقه عمامة، فالقوس لا يشبه السيف. قال ابن القاسم: وأحب إلي أن لو جعل صاحب السيف على عاتقه عمامة، وما ذلك بضيق، ولا يصلي بالقوس.
قال محمد بن رشد: استحب مالك للمسافر إذا صلى بالسيف والقوس أن يجعل على عاتقه عمامة. ويستفاد من قوله فالقوس لا يشبه عندي السيف أنه أجاز له أن يصلي بالسيف وخفف له أيضا أن يصلي بالقوس، وكره له ابن القاسم أن يصلي بالقوس، فوافق مالكا على إجازته له الصلاة بالسيف مع الاستحباب أن يجعل على عاتقه عمامة، وخالفه في تخفيفه له الصلاة بالقوس؛ وأجاز له ابن حبيب الصلاة بهما جميعا، ولم ير عليه بأسا في أن يجعل على عاتقه عمامة، فكأنه رأى له تقلد السيف وتنكب القوس عن الرداء.
وهذا كله في السفر والجهاد والثغور ومواضع الرباط، وأما في الحضر فيكره له الصلاة بالسيف والقوس. قال ابن حبيب: إلا أن يكون في ذلك عزيمة من السلطان لأمر ينوب فلا بأس أن يصلي بسيفه أو متنكبا قوسه، وليطرح على السيف عطافا أو رداء أو ساجا أو عمامة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يصلي العشاء في منزله ويوتر ثم يسمع الإقامة في قبيلته أترى أن يعيدها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يصلي في منزله صلاة العشاء ويوتر ثم يسمع الإقامة في قبيلته، أترى أن يعيدها؟ قال: لا، قال ابن القاسم: يريد إذا أوتر وإن صلى وحده فلا يعيد في جماعة.(1/382)
قال محمد بن رشد: قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن صلى العشاء وحده ثم أوتر: إنه لا يعيد في جماعة صحيح على أصله فيمن أعاد صلاته في جماعة أنه لا يدري أيتهما صلاته على ما روي أن عبد الله بن عمر قال للذي سأله عن ذلك: أو أنت تجعلها؟ إنما ذلك إلى الله يجعل أيتهما شاء؛ لأنه إذا كانت صلاته هي الآخرة التي صلى في جماعة بطل وتره لحصوله في غير وقته.
وقد قيل إنهما جميعا له صلاتان فريضتان، وعلى هذا تأتي رواية علي بن زياد عن مالك في أن من أعاد صلاة المغرب في جماعة فذكر وهو يتشهد مع الإمام، أنه لا يشفعها برابعة وعليه أن يعيدها ثالثة، وهو الذي يدل عليه تعليل قوله للمنع عن إعادة صلاة المغرب في جماعة: إنه إذا أعادها كانت شفعا إلا إذا كانتا جميعا فريضتين له.
وأما إذا كانت فريضته هي الواحدة منهما والثانية نافلة فلا تكون شفعا. ووجه التعليل للمنع من إعادة صلاة المغرب في جماعة على أصله في أن الواحدة هي صلاته أن يقول: إنه لا يعيدها في جماعة؛ لأن النافلة لا تصلى ثلاثا، ويلزم قياس القول بأنهما له صلاتان فريضتان أن يجوز لمن صلى وحده أن يؤم قوما في تلك الصلاة، وهذا ما لا يقوله مالك ولا أحد من أصحابه.
وقد تأول ما روي أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يذهب فيؤم قومه في تلك الصلاة على هذا. وذهب أهل العراق إلى أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نُسخ، فلم يجيزوا لمن صلى وحده أن يعيد في جماعة إلا على أنها له نافلة، إذا كانت تجوز أن يصلي بعدها نافلة. وقد اختلف إذا صلى العشاء وأوتر ثم أعاد في جماعة هل يعيد الوتر أو لا؟ فقال سحنون: إنه يعيد الوتر، وقال يحيى بن عمر إنه لا يعيده.
وجه قول سحنون أنه لما احتمل أن تكون صلاته هي الآخرة وقد بطل وتره أمر أن يعيده احتياطا. ووجه قول يحيى بن عمر أنه لما احتمل أن تكون صلاته هي الأولى فلا يبطل وتره لم ير أن يعيده على الأصل في أنه لا تأثير للشك في اليقين، ولئلا يكون قد أوتر مرتين في ليلة واحدة، وقد جاء(1/383)
النهي عن ذلك، روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وتران في ليلة» ، وبالله التوفيق.
[يخطب يوم الجمعة فإذا قضى خطبته قدم رجلا فصلى بالناس]
سماع أشهب وابن نافع عن مالك رواية سحنون من كتاب الصلاة الأول وسئل مالك عن الذي يخطب يوم الجمعة فإذا قضى خطبته قدم رجلا فصلى بالناس، أيجوز ذلك له؟ فقال: نعم، لو خطب ثم أصابه مرض أو حدث أو رعاف ثم قدم غيره فصلى بالناس لم أر بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الركعتين إنما حطت من صلاة الظهر لأجل الخطبة، فصارت الخطبة والصلاة كشيء واحد. فإذا أصاب الإمام حدث يمنعه من التمادي على الخطبة أو من الصلاة بعد أن أكمل الخطبة، كان له أن يستخلف على ما بقي من الخطبة وعلى الصلاة، أو على الصلاة إن كان قد أكمل الخطبة، كما يجوز له إذا ضعف عن الخطبة وقوي على الصلاة أن يقدم من يخطب بالناس ويصلي هو بهم، لما ذكرناه من أن الخطبة والصلاة كشيء واحد، فلا يجوز لمن تشبث بالإمامة في شيء من ذلك أن يخرج عن الإمامة إلا من عذر.
[مسألة: هل لي أن أتكلم يوم الجمعة بغير الخطبة]
مسألة قال أشهب: وقال لنا رأيت زفر بن عاصم في الليل من ليلة الجمعة يرسل إلي هل لي أن أتكلم يوم الجمعة بغير الخطبة؟ فقلت له أما الشيء اليسير من الكلام الحسن مثل أن تنهى عن الشيء أو تأمر به فلا بأس بذلك، ثم قال لنا: قد كان عمر بن عبد العزيز(1/384)
يخطب يوم الجمعة فيقول: لولا أن أُنْعِش سنة أو آمر بحق ما أحببت أن أعيش فَوَاقا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في " المدونة " من أن للإمام أن يتكلم يوم الجمعة، وهو على المنبر بغير الخطبة، ولا يكون بذلك لاغيا، قال فيها: وكذلك لا يكون لاغيا من رد على الإمام إذا كلمه وهو يخطب، وهو أمر لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب. والحجة في إجازة ذلك ما روي عن أبى الزاهرية عن عبد الله بن بشر قال: «جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجلس، فقد آذيت وآنيت» ، قال أبو الزاهرية: وكنا نتحدث حتى يخرج الإمام، وما روي عن جابر بن عبد الله قال: «جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر، فقعد قبل أن يصلي، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أركعت ركعتين؟ "قال: لا، قال: "قم فاركعهما".» وهذا نص في جواز تكلم الإمام على المنبر يوم الجمعة بغير الخطبة، وفي جواز الرد عليه لمن كلمه، وتأول أصحابنا أنه إنما أمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالركوع في ذلك الوقت ليرى الناس حاجته فيتصدقون عليه، بدليل ما روي عن أبي سعيد الخدري «أن رجلا دخل المسجد ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر، فناداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما زال يقول: " ادن" حتى دنا، فأمره فركع ركعتين قبل أن يجلس وعليه خرقة خلق، ثم صنع مثل ذلك في الثانية، فأمره بمثل ذلك ثم صنع مثل ذلك في الجمعة الثالثة، فأمره بمثل ذلك وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تصدقوا، فألقوا الثياب، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذ ثوبين..» الحديث. وذهب أهل العراق إلى أنه لا يجوز للإمام أن يتكلم في خطبة بغير الخطبة ولا(1/385)
لأحد ممن كلمه أن يرد عليه، وقالوا: يحتمل أن يكون- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع خطبته ليعلم الناس كيف يفعلون إذا دخلوا المسجد ثم استأنفها، لا أنه تكلم فيها ثم تمادى عليها، وهذا بعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: الإمام يخطب من أمر كتاب يقرؤه ليس أمر الجمعة أينصت من سمعه]
مسألة وسئل عن الإمام يخطب من أمر كتاب يقرؤه ليس من أمر الجمعة ولا الصلاة، أينصت من سمعه؟ قال: ليس ذلك عليهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الإنصات إنما يجب في الخطبة المتضمنة بالصلاة؛ لاتصالها بها وكونها بمعناها في تحريم الكلام فيها، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لصاحبه أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغى» . فالخطب ثلاث: خطبة يجب الاستماع إليها والإنصات لها باتفاق وهي خطبة الجمعة؛ إذ لا اختلاف فيها أنها للصلاة، وخطبة لا يجب الاستماع إليها ولا الإنصات لها باتفاق وهي خطب الحج، وهن ثلاث: أولها قبل يوم التروية بيوم بمكة، والثانية خطبة عرفة يوم عرفة بعرفة قبل الظهر، والثالثة ثاني يوم النحر بمنى بعد الظهر؛ إذ لا اختلاف في أنها للتعليم لا للصلاة، وخطبة يختلف في وجوب الاستماع إليها والإنصات لها وهي خطبة العيدين والاستسقاء على اختلافهم هل هي للصلاة أم لا، وقد مضى ذلك في رسم "أخذ يشرب خمرا" من سماع ابن القاسم.
[تحذير المأموم الإمام بالكلام في الصلاة قبل السلام]
مسألة قال: وقد قيل هل بلغك أن ربيعة صلى خلف رجل من قريش مرة فسها سهوا يكون سجوده قبل السلام، فأطال الجلوس عند(1/386)
انقضاء صلاته، فخشي ربيعة أن يسلم ثم يسجد سجدتي السهو، فقال له: إن السجدتين قبل السلام، فقال: هذا ما سمعته ولا ينبغي، ولو سمعته ما تحدثت به، أيتكلم المرء وهو يصلي؟
قال محمد بن رشد: إنكار مالك لهذا الذي حكي له عن ربيعة من تحذير المأموم الإمام بالكلام في الصلاة قبل السلام عن السهو قبل أن يسهو مخافة أن يسهو -صحيح على أصله في أن السلام من فرائض الصلاة، وأنه لا يتحلل منها إلا به، وأن الكلام فيها قبله يبطلها إلا فيما تدعو إليه الضرورة من إصلاح الصلاة إذا لم يفهم عنه الإمام بالإشارة والتسبيح ولم يجد من ذلك بدا، على حديث ذي اليدين، وإن صح ذلك عنه فيخرج على قول أهل العراق في أن السلام من الصلاة ليس من فرائضها، وأن المصلي إذا جلس في آخر صلاته مقدار التشهد فقد تمت صلاته وإن لم يسلم، والله أعلم.
[مسألة: الذي يصلي إلى جنب الإنسان ليستتر بشقه]
مسألة وسئل عن الذي يصلي إلى جنب الإنسان ليستتر بشقه، فقال: إنما يصلي الناس إلى ظهره، فأما إلى جنبه فلا أرى ذلك، أرأيت لو صلى وهو مقابله، فهذا مثله إذا التفت استقبله بوجهه، فلا أرى ذلك.
قال المؤلف: لما كان لا يجوز للمصلي أن يصلي إلى وجه الرجل مستقبلا له في صلاته لما يدخل عليه بذلك من الشغل عن صلاته، كان الذي يصلي إلى جنب الإنسان قريبا في المعنى؛ لأنه لا يأمن أن يلتفت فيستقبله بوجهه فيدخل عليه بذلك شغلا من صلاته، وذلك بين من تعليله في الرواية؛ ولهذا المعنى كرهت الصلاة إلى المتحلقين؛ وذلك أنه لا بد أن يستقبله بعضهم بوجهه فيشغله عن صلاته، وبالله التوفيق.(1/387)
[مسألة: ينكسر بهم المركب فيتعلقون بالألواح والأرجل كيف يصلوا]
مسألة وسئل عن القوم ينكسر بهم المركب فيتعلق بعضهم بالألواح وبعضهم بالأرجل، فتحضرهم الصلاة وهم على ذلك، أترى أن يصلوا إيماء برؤوسهم؟ فقال: نعم يصلون إيماء برؤوسهم. قلت: أرأيت إن خرجوا أيعيدون الصلاة؟ قال: أرأيت إن خرجوا في وقت؟ فقال: إن خرجوا في وقت فليصلوا.
قال الإمام القاضي: قوله: إنهم يصلون إيماء برؤوسهم إذا لم يقدروا إلا على ذلك صحيح، والأصل في ذلك قول الله -عز وجل-: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] . وقوله: " إنهم يعيدون إن خرجوا في الوقت "هو مثل قوله في " المدونة " في الخائف من السباع أو اللصوص يصلي على دابته: إنه يعيد في الوقت بخلاف العدو، والإعادة في ذلك كله في الوقت إنما هو استحباب؛ ليدرك فضيلة الوقت بالصلاة ساجدا وقائما، فإن تركوا الإعادة في الوقت حتى خرج الوقت لم يعيدوا بعد الوقت، وقيل: إنهم يعيدون بعد الوقت لتركهم الإعادة في الوقت، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وفي سماع أبي زيد عن ابن القاسم من هذا الكتاب دليل عليه، ولو ترك الذين ينكسر بهم المركب ونحوهم الصلاة إيماء لوجب عليهم أن يصلوا إذا قدروا على الصلاة وإن ذهب الوقت بإجماع. وهذا إذا كانوا على وضوء، وأما إذا لم يكونوا على وضوء فاختلف في ذلك على أربعة أقوال: أحدها أنهم يصلون إيماء على حالتهم ولا يعيدون، والثاني أنهم يصلون ويعيدون، والثالث أنهم لا يصلون حتى يقدروا على الوضوء، والرابع أنهم لا يصلون ولا يعيدون. واختلف إن لم يقدروا على الصلاة أصلا بإيماء ولا غيره حتى خرج الوقت، فقيل: إن(1/388)
الصلاة تسقط عنهم، وهي رواية معن بن عيسى عن مالك في الذين يكتفهم العدو فلا يقدرون على الصلاة، وقيل: إنها لا تسقط عنهم وعليهم أن يصلوا بعد الوقت، وهو قوله في " المدونة " في الذين ينهدم عليهم البيت، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقرأ في صلاة العشاء في ركعة منها سرا أترى عليه سجود السهو]
مسألة وسئل عن الذي يقرأ في صلاة العشاء في ركعة منها سرا ثم ذكر فيعيد القراءة جهرا، أترى عليه سجود السهو؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: لم ير عليه سجود السهو في زيادة القرآن في الصلاة سهوا، وهو أصل مختلف فيه، فله مثل هذا في الصلاة الأول من " المدونة " في الذي يسهو عن قراءة أم القرآن حتى يقرأ السورة ثم يرجع فيقرأ أم القرآن والسورة، وفي الذي يقرأ في الركعتين الآخرتين بأم القرآن وسورة، وفي رسم "إن أمكنتني" من سماع عيسى من هذا الكتاب في الذي يشك في قراءة أم القرآن بعد أن قرأ السورة، فرجع فقرأ أم القرآن والسورة، وخلافه أنه يسجد للسهو في رسم "إن خرجت" من سماع عيسى في الذي يسهو فيسر بقراءة أم القرآن، ثم يذكر بعد فراغه من قراءتها فيعيد قراءتها في الصلاة الثاني من " المدونة " والحج الأول منها في الذي ينسى التكبير في صلاة العيدين حتى يقرأ أنه يرجع فيكبر ثم يقرأ، ومن الناس من ذهب إلى أن يفرق بين مسألة العيدين هذين وبين الذي سها عن قراءة أم القرآن حتى قرأ السورة فرجع فقرأ أم القرآن والسورة -بأنه قدم في مسألة العيدين قرآنا على تكبير، وفي المسألة الثانية قرآنا على قرآن، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الأمر عائد في المسألتين إلى زيادة قرآن، فهو اختلاف من القول كما قلنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: التهجير يوم الجمعة]
مسألة قال: وسئل عن التهجير يوم الجمعة فقال: نعم يهجر يوم(1/389)
الجمعة بقدر، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، وقال: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] . وقد كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدون إلى الجمعة هكذا، وأنا أكره هذا الغدو هكذا حتى إن المرء ليُعرف به، وأنا أخاف على هذا الذي يغدو للرواح أن يدخله شيء وأن يحب أن يعرف بذلك وأن يقال فيه، فأنا أكره هذا ولا أحبه، ولكن رواحا بقدر. وقد سمعت إنسانا يسأل ربيعة الأول يقول: لأن أُلْقَى في طريق المسجد أحب إلي من أن أُلْقَى في طريق السوق، فقيل لمالك: فما تقول أنت في هذا؟ قال: هذا ما لا يجد أحد منه بدا، قيل له: أفترى أن يروح قبل الزوال؟ قال: نعم في رأيي، قيل له: أيهجر بالرواح إلى الصلاة يوم الجمعة؟ فقال: نعم في ذلك سعة.
قال الإمام: كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - الغدو بالرواح إلى الجمعة من أول النهار؛ لأنه لم يكن ذلك من العمل المعمول به على ما ذكره من أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا لا يغدون هكذا إلى الجمعة، فاستدل بذلك على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرد بالخمس ساعات في قوله: «من اغتسل ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة» ، ساعات النهار المعلومة من أوله على ما ذهب إليه جماعة منهم الشافعي، وإنما عنى بذلك ساعة الرواح، وهي الساعة التي تتصل بزوال الشمس ووقت(1/390)
خروج الإمام، فهي التي تنقسم على خمس ساعات، فيكون الرائح في الساعة الأولى منها كالمهدي بدنة، والرائح في الساعة الثانية منها كالمهدي بقرة، والرائح في الساعة الثالثة منها كالمهدي كبشا أقرن، والرائح في الساعة الرابعة منها كالمهدي دجاجة، والرائح في الخامسة منها المتصلة بزوال الشمس وخروج الإمام كالمهدي بيضة، ولما لم تكن هذه الساعة المنقسمة على خمس ساعات محدودة بجزء معلوم من النهار قبل الزوال فيعلم حدها حقيقة، وجب أن يرجع في قدرها إلى ما اتصل به العمل وأخذه الخلف عن السلف؛ فلذلك قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنه يهجر بقدر، أي: يتحرى قدر تهجير السلف، فلا ينقص منه ولا يزيد عليه أيضا، فيغدو إلى الجمعة من أول النهار؛ لأنه إذا فعل ذلك شذ عنهم، فصار كأنه فهم من معنى الحديث ما لم يفهموه، أو رغب من الفضيلة ما لم يرغبوه، ولم يأمن أن يحب أن يعرف لذلك ويذكر به، فتدخل عليه بذلك داخلة تفسد عليه نيته، وسيأتي القول على ما يخشى من خواطر النفس في رسم "العقول" من آخر هذا السماع إن شاء الله. ووجه استدلال مالك لما ذهب إليه من أن التهجير إلى الجمعة ينبغي أن يكون بقدر؛ لقول الله- عز وجل-: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] أنه حمل قَوْله تَعَالَى: بِقَدَرِ على عموم ما يقتضيه اللفظ من القدر الذي هو المشيئة والإرادة، والقدر الذي هو التقدير والتحديد، فدخل تحت عموم ذلك جميع مقدرات الشريعة، وأما استدلاله على ذلك بقوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] ، فلا إشكال فيه؛ لأن المعنى {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] ، أي: حد له حدا، فوجب أن يمتثل إذا ثبت بما يجب ثبوته به من نص أو دليل، وبالله التوفيق.
[مسألة: تفوته مع الإمام ركعة فيجلس الإمام للتشهد أيتشهد معه وهي له واحدة]
مسألة وسئل مالك عمن تفوته مع الإمام ركعة، فإذا صلى معه ركعة جلس الإمام فتشهد، أيتشهد معه وهي له واحدة؟ فقال: نعم يتشهد.(1/391)
قال محمد بن رشد: وجه قوله أنه لما جلس بجلوس الإمام وإن لم يكن ذلك له موضع جلوس لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» وجب أن يتشهد لتشهده. وبهذه المسألة احتج ابن الماجشون لما ذهب إليه من أنه يقوم إذا سلم الإمام بتكبير، فقال: إنه لما جلس بجلوس الإمام صار ذلك له موضع جلوس، فوجب أن يتشهد وأن يقوم إذا سلم الإمام بتكبير، وهذا لا يلزم ابن القاسم؛ لأنه لم يتشهد من أجل أن ذلك صار موضع جلوس له، وإنما تشهد لما لزمه من اتباع الإمام في الجلوس لما لم يستطع مخالفته، فإذا سلم الإمام وجب أن يرجع إلى حكم صلاته فلا يكبر؛ إذ قد كبر حين رفع رأسه من السجدة التي كان يلزمه أن يقوم بها، فلا يزيد تكبيرة ثانية بسبب جلوسه مع الإمام في غير موضع جلوس له، وهذا بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله شكرا]
مسألة قال: وسئل عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله شكرا، فقال: لا يفعل، ليس مما مضى من أمر الناس، قيل له: إن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا الله، أفسمعت ذلك؟ قال: ما سمعت ذلك، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول: هذا شيء لم نسمع له خلافا، فقيل له: إنما نسألك لنعلم رأيك فنرد ذلك به، فقال: نأتيك بشيء آخر أيضا لم نسمعه مني، قد فتح على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى المسلمين بعده، أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا، إذا جاءك مثل هذا مما قد كان في الناس وجرى على أيديهم(1/392)
لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك، فإنه لو كان لذكر؛ لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم، فهل سمعت أن أحدا منهم سجد؟ فهذا إجماع، إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه.
قال محمد بن رشد: نهى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن سجود الشكر في هذه الرواية مثل ما له في " المدونة " من كراهة ذلك، والوجه في ذلك أنه لم يره مما شرع في الدين فرضا ولا نفلا، إذ لم يأمر بذلك النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولا فعله، ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله، والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه، واستدلاله على أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل، صحيح؛ إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين وقد أمروا بالتبليغ. وهذا أيضا من الأصول، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجوب الزكاة فيها بعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر» ؛لأنا أنزلنا ترك نقل أخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها، وكذلك ننزل ترك نقل السجود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيها، وقد أباح السجود فيها الشافعي ومحمد بن الحسن، واحتج لهما من نصر قولهما بما قص الله تعالى علينا من سجود داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقوله: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] وهذا لا دليل فيه؛ إذ ليست سجدة شكر، وإنما هي سجدة توبة، ولا يصح قياس سجدة الشكر على سجدة التوبة إلا بعد التسليم لإباحة سجدة التوبة، ونحن لا نسلم ذلك، بل نقول: إن شرعنا مخالف لشرع داود في إباحة السجدة(1/393)
عند التوبة من الذنب بمثل الدليل الذي استدللنا به في المنع من سجود الشكر، وبالله التوفيق.
[مسألة: الدمل يتفقى بالرجل وهو في الصلاة أفينصرف أم يقيم على صلاته]
مسألة وسئل عن الدمل يتفقى بالرجل وهو في الصلاة، أفينصرف أم يقيم على صلاته؟ قال: ذلك مختلف إن كان انفجارا يسيرا فليصل كما هو، وإن كان انفجارا كثيرا فلينصرف.
قال محمد بن رشد: إنما فرق بين اليسير والكثير؛ لأن اليسير من الدم معفو عنه؛ لقول الله -عز وجل-: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] ؛ لأن التوقي من الدم اليسير عسير؛ إذ لا ينفك منه، وحد اليسير في ذلك قدر ما يفتله الراعف من دم الرعاف ويتمادى في صلاته، والكثير ما زاد على ذلك، فإذا انصرف قطع ولم يبن بخلاف الرعاف؛ لأن البناء في الرعاف سنة تتبع، ولا يقاس عليها لمخالفتها القياس.
[مسألة: وضع الرجل إحدى يديه على الأخرى في الصلاة]
مسألة وسألته عن وضع الرجل إحدى يديه على الأخرى في الصلاة المكتوبة يضع اليمنى على كوع اليسرى وهو قائم في الصلاة المكتوبة أو النافلة، قال: لا أرى بذلك بأسا في النافلة والمكتوبة.
قال محمد بن رشد: قول: لا أرى بذلك بأسا، يدل على جواز فعل ذلك في الفريضة والنافلة من غير تفصيل، وذهب في رواية ابن القاسم عنه في " المدونة " إلى أن ترك ذلك أفضل من فعله؛ لأنه قال فيها: لا أعرف ذلك في الفريضة وكان يكرهه، ولكن في النوافل قال: إذا طال القيام فلا بأس(1/394)
بذلك يعين به نفسه، وسقط، وكان يكرهه في بعض الروايات، فالظاهر من مذهبه فيها مع سقوطه أن تركه أفضل؛ لأن معنى قوله: لا أعرف ذلك في الفريضة، أي: لا أعرفه فيها من سننها ولا من مستحباتها، وفي قوله: إنه لا بأس بذلك في النافلة إذا طال القيام ليعين به نفسه، دليل على أن فيه عنده بأسا إذا لم يطل القيام، وفي الفريضة وإن طال القيام، وأما مع ثبوته، وكان يكرهه فالأمر في ذلك أبين؛ لأن حد المكروه ما في تركه أجر وليس في فعله وزر، وذهب في رواية مطرف وابن الماجشون عنه في " الواضحة " إلى أن فعل ذلك أفضل من تركه، وهو الأظهر لما جاء في ذلك من أن الناس كانوا يؤمرون به في الزمان الأول، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك جائز في المكتوبة والنافلة لا يكره فعله ولا يستحب تركه، وهو قوله في هذه الرواية، وقول أشهب في رسم "شك في طوافه" من سماع ابن القاسم من كتاب الجامع. والثاني: أن ذلك مكروه يستحب تركه في الفريضة والنافلة إلا إذا طال القيام في النافلة فيكون فعل ذلك فيها جائزا غير مكروه ولا مستحب، وهو قول مالك في " المدونة " وفي رسم "شك في طوافه" من كتاب الجامع. والثالث: أن ذلك مستحب فعله في الفريضة والنافلة مكروه تركه فيها، وهو قوله في رواية مطرف وابن الماجشون عنه في " الواضحة ". وقد قيل في قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] : إن المراد بذلك وضع اليد اليمنى على الذراع اليسرى في الصلاة تحت النحر، وقد تأول أن قول مالك لم يختلف في أن ذلك من هيئة الصلاة التي تستحسن فيها، وأنه إنما كرهه ولم يأمر به استحسانا مخافة أن يعد ذلك من واجبات الصلاة. والأظهر أنه اختلاف من القول، والله أعلم.
[مسألة: الصبي المراهق أيؤم الناس في الصلوات]
مسألة وسئل عن الصبي المراهق أيؤم الناس في الصلوات؟ فقال(1/395)
لي: أما الصلوات المكتوبات التي هي الصلوات فلا، وأما في النوافل فالصبيان يؤمون الناس فيها. قيل: أفيقدمون في رمضان؟ فقال: نعم لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية أن يؤم الصبي في النافلة وقيام رمضان، وهو استحسان على غير قياس، مراعاة لقول من يرى صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة إمامه، فيجيز إمامة الصبي في الفريضة والنافلة، وللرجل أن يصلي الفريضة خلف من يصلي نافلة. والقياس على مذهبه في أن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة إمامه قوله في " المدونة " أن لا يؤم الصبي في النافلة. وما وقع من كراهة ذلك له في رسم "حلف" من سماع ابن القاسم؛ لأن نافلته وإن وافقت صلاة الصبي في كونها نافلة له على مذهب من يرى أنه مندوب إلى فعل الطاعات، فلا يأمن أن يصلي به على غير وضوء أو بغير نية؛ إذ لا حرج عليه في ذلك؛ لكونه غير مكلف، وبالله التوفيق.
[مسألة: المسافر يصلي على دابته تستقبله الشمس في وجهه فيعرض عنها]
مسألة وسئل عن المسافر يصلي على دابته تستقبله الشمس في وجهه، فيعرض بوجهه هكذا عنها، أيتنفل كذلك؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، سمعت الجواب ولم أفهم ما سئل عنه حتى سألت فأخبرني عنه بذلك بعضهم.
قال محمد بن رشد: هذا خفيف كما قال: إنه لم يقصد بفعله الالتفات في صلاته، وإنما فعله للضرورة.
[مسألة: المرأة تخمر رأسها في الصلاة ونحرها مكشوف]
مسألة وسئل عن المرأة تخمر رأسها في الصلاة ونحرها مكشوف، فقال: النحر موضع الخمار فلا أرى أن تفعل ذلك، وما زال يأخذ(1/396)
بقلبي أن القميص أوفق للمرأة وهو يزر. قال: ومن لباس النساء الدروع، وأنا أكره لباسهن القراقل وأظنه من لباس القبط، والدروع أحب إلي، فقلت له: أفتكره لباس القراقل في الصلاة وغيرها؟ فقال: أما أنا فأكره لباس القراقل، قال: ولم يكن من لباسهن، وقد كان يقال: من شر النساء المشبهة بالرجال.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن النحر مما يلزم المرأة أن تستره في الصلاة، وإنه موضع الخمار، يدل على ذلك قول الله -عز وجل-: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] ، وقال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] ، والذي ظهر منها عند أهل العلم بالتأويل هو الوجه والكفان، فلا يجوز أن يبدو منها في الصلاة إلا ذلك.
[مسألة: المرأة تلد فلا ترى دما هل تصلي]
مسألة وسئل عن المرأة تلد فلا ترى دما، فإنك قد قلت لي فيها قولا منذ سنين، فقال له: وما قلت لك؟ فقال له: قلت لي: إنها تصلي، ولكني إنما شككت في الغسل، فقال له: أوفي هذا شك؟ إنها تغتسل، لا يأتي من الغسل إلا خير.
قال محمد بن رشد: قوله: فلا ترى دما، أي: لا ترى دما كثيرا على عادة النساء عند النفاس؛ لأن خروج المولود دون شيء من دم خرق للعادة، فإذا انقطع الدم ولو من ساعته اغتسلت وصلت؛ لأن دم النفاس لا حد لأقله عند مالك وجميع أصحابه وجمهور أهل العلم، خلافا لأبي يوسف في قوله إن حده خمسة عشر يوما فرقا بينه وبين أكثر الحيض، والغسل عليها واجب،(1/397)
وذلك بين في الرواية من قوله: "أوفي هذا شك؟ إنها تغتسل"، وليس في قوله: " لا يأتي من الاغتسال إلا خير" دليل على تخفيف وجوب الغسل، ومعناه عندي: لا يأتي من تعجيل الاغتسال وترك تأخيره إلى حد أقل دم النفاس عند من حد له حدا إلا خير، ولعله تكلم على خروج المولود نقيا من الدم إن وجد ذلك؛ ولذلك قال: " إنه لا يأتي من الاغتسال إلا خير" ويحتمل أن يكون مذهب من حد لأقل دم النفاس حدا ألا يعتبر بما دونه، فتصلي دون غسل وتعيد صلاة تلك الأيام، وهذا أشبه أن يكون مذهبهم؛ لأنه يبعد أن يكون من قول أحد أن تترك المرأة الصلاة وهي طاهرة لا دم بها، والله -عز وجل -يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] ، فإن كان هذا مذهبهم احتمل أن يكون أشار إليه مالك بقوله: " لا يأتي من الاغتسال إلا خير"، والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: الرجل يخرج من المسجد وفي يده الحصباء قد نسيها أو في نعله]
مسألة وسئل عن الرجل يخرج من المسجد وفي يده الحصباء قد نسيها أو في نعله، أيرده إلى المسجد؟ فقال: إن رده فحسن، وما أرى عليه ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: " إن ذلك حسن وليس بواجب"؛ لأنه أمر غالب لا ضرر فيه على المسجد، فلم يلزم رده، كما أن ما يبقى بين أسنان الصائم من الطعام إذا ابتلعه في النهار مع الريق لم يجب عليه قضاء؛ لأنه أمر غالب، وقال ابن الماجشون: وإن كان متعمدا؛ لأنه ابتدأ أخذه في وقت يجوز له، وهو بعيد.
[مسألة: التغليس بصلاة الصبح]
مسألة قال: وسئل مالك عن التغليس بصلاة الصبح أحب إليك أم(1/398)
الإسفار؟ قال: بل التغليس أحب إلي من الإسفار، وقد غلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها.
قال محمد بن رشد: قوله: وقد غلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها لفظ وقع على غير تحصيل؛ لأن قول القائل: فعل فلان كذا، لا يدل على أكثر من مرة واحدة، وليس في تغليس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصلاة الصبح مرة واحدة دليل على أن ذلك أفضل أوقاتها، كما أنه ليس في إسفاره بها مرة واحدة دليل على أن ذلك أفضل أوقاتها، وإنما يدل على أن التغليس بها أفضل مداومة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، فكان الصواب أن يقول: وقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغلس بها، وهو الذي أراد بحديث عائشة: «إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات» ، الحديث، لكنه تجاوز في اللفظ لنفسه بفهم السائل، وهي حجة ظاهرة على أهل العراق في قولهم: إن الإسفار بها أفضل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسفروا بالصبح، فكلما أسفرتم بها فهو أعظم للأجر» أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومعنى ذلك عندنا الحض على التأخير إلى أن يتضح إسفار الفجر، فلا يرتاب في طلوعه حتى يتفق قوله وفعله؛ لأنه يبعد في القلوب أن يداوم على الإغلاس الذي هو أشق، ويترك الإسفار الذي هو أخف مع كونه أعظم أجرا. فقد قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما خير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه» ، فكيف إذا كان أعظم أجرا! هذا ما لا يصح لمسلم أن يقوله، وكذلك سائر الصلوات أول أوقاتها أفضل من آخرها عند مالك، وقد تأول بعض الشيوخ(1/399)
عليه في إنكاره لحديث يحيى بن سعيد في " المدونة " أن أول الوقت وأوسطه وآخره في الفضل سواء، وهو تأويل لا يصح إلا فيما عدا صلاة الصبح؛ لنصه في هذه الرواية أن التغليس بها أفضل من الإسفار، وفيما عدا صلاة المغرب إذ قد قيل: ليس لها إلا وقت واحد، فحصل الإجماع على القول بالمبادرة بها في أول وقتها، وقد روي أن عمر بن عبد العزيز أخر صلاة المغرب إلى أن طلع نجم أو نجمان فأعتق رقبة أو رقبتين، وبالله التوفيق.
[مسألة: صلى الصبح بعد طلوع الشمس أيصلى ركعتي الفجر]
مسألة وسئل عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين صلى الصبح بعد اطلاع الشمس، أصلى ركعتي الفجر؟ قال: ما سمعت.
قال محمد بن رشد: قد روي في بعض الآثار أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاهما، وفي ذلك دليل على أن الصلاة المنسية وإن كان وقتها حين يذكرها فليس بوقت مضيق لا يجوز تأخيرها عنه بحال، كغروب الشمس للعصر أو طلوعها للصبح، ألا ترى أنهم قالوا فيمن ذكر صلاة قد خرج وقتها وهو مع الإمام في صلاة أنه يتمادى معه ولا يقطع، وكذلك المنفرد عند ابن حبيب لا يقطع وإن لم يركع؛ إذ لا يستدرك بالقطع ما قد فاته من وقت التي ذكرها، وما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الركعتين قبل الصبح، احتج الشافعي لما ذهب إليه أن من ذكر صلاة وهو في وقت صلاة يبدأ بالتي حضر وقتها ولم يثبت ذلك عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: ما سمعت، ولو ثبت لاحتمل أن يفرق بين المسألتين بأن ركعتي الفجر تفوت إن بدأ بالصبح؛ إذ لا تصلى بعد صلاة الصبح، ولا تفوت الصلاة التي حضرها وقتها بالبداية بالفائتة؛ لأنه تصلى بعدها ولو خرج وقتها.(1/400)
[مسألة: القوم يأتون بالمراوح في المسجد يتروحون بها]
مسألة وسئل عن القوم يأتون بالمراوح في المسجد يتروحون بها، فقال: لا أحب ذلك ولا أستحسنه.
قال محمد بن رشد: وجه الكراهية في ذلك بين؛ لأن المراوح اتخذت للترفه، والمساجد وضعت للتعبد، فلا ينبغي أن يعدل بالمساجد عما وضعت له. وقد تقدمت هذه المسألة في رسم "شك" من سماع ابن القاسم.
[مسألة: ركعتي الفجر والوتر أسنة]
مسألة وسئل عن ركعتي الفجر والوتر أسنة؟ فقال: أما الوتر فسنة، وأما ركعتا الفجر فيستحب العمل بهما.
قال محمد بن رشد: أما الوتر فلا اختلاف عندنا في أنه سنة، وذهب أهل العراق إلى أنه واجب، وأما ركعتا الفجر فقيل: إنهما من الرغائب، وهو قول مالك في رواية أشهب هذه عنه، وقول أصبغ في كتاب المحاربين والمرتدين، وقيل: إنهما من السنن وقد مضت هذه المسألة والتكلم عليها في رسم "القبائل" من سماع ابن القاسم.
[مسألة: يدخل مع الناس في قيام رمضان وقد سبقوه بركعة]
مسألة قال: وسألته عن الذي يدخل مع الناس في قيام رمضان وقد سبقوه بركعة، فيركع معهم ركعة، ثم يجلسون فيسلمون، فقال: لا يسلم هو معهم ويقوم معهم، فإذا ركعوا -الثالثة لهم وهي له الثانية- جلس وقاموا هم، فيسلم لنفسه من الاثنتين، ثم اتبعهم حتى يفرغ من صلاته وما أسرع ذلك، ويتوخى أن يكون ركوعه موافقا لركوعهم، فقلت له: لا يسلم في جلوسه معهم في الثانية لهم وهي له واحدة،(1/401)
فإذا أتم لنفسه اثنتين جلس وهم قيام فسلم لنفسه ثم لحقهم، فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول عليها في رسم "حلف بطلاق امرأته" من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة القول فيها.
[مسألة: صلى الظهر في بيته ثم أتى المسجد فوجد الناس جلوسا]
مسألة وسئل عمن صلى الظهر في بيته، ثم أتى المسجد فوجد الناس جلوسا في آخر صلاتهم، ما يصنع؟ فقال: لا يدخل معهم في صلاتهم ويقيم على صلاته التي صلى في بيته.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن السنة إنما جاءت فيمن صلى وحده أن يعيد في جماعة، فإذا لم يدرك من صلاة الجماعة ركعة ودخل معهم، فحكمه حكم المنفرد إذا لم يدرك من الصلاة ما يدخل به في حكم الإمام، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل ينسى الاستنجاء بالماء حتى يصلي]
مسألة وسئل عن الرجل ينسى الاستنجاء بالماء حتى يصلي، قال: أرجو أن لا تكون عليه إعادة.
قال محمد بن رشد: يريد وقد استنجى بالحجارة أو لم يتعلق بمخرجه شيء من الأذى، وأما لو ترك الاستنجاء بالحجارة والماء وقد تعلق بمخرجه شيء من الأذى لكان عليه أن يعيد في الوقت، وقد مضى هذا المعنى في سماع أبي زيد من كتاب الوضوء، وحيث ما تكررت المسألة من الكتاب المذكور. وفي قوله: أرجو أن لا تكون عليه إعادة نظر؛ لأنه إذا لم يتعلق بمخرجه أذى فلا وجه لتعلق ترك الإعادة بالرجاء، وإن كان قد تعلق به أذى ولم يستنج بالأحجار فلا وجه لتخفيف ترك الإعادة، فإن كان تكلم(1/402)
على هذا فلعله أراد ألا تكون عليه إعادة في الوقت وبعده، ويحتمل أن يكون تكلم على أنه استنجى بالحجارة فقال: أحب إلي أن لا تكون عليه إعادة من أجل أن الماء أطهر وأطيب، وقد قال ابن حبيب: إن الاستنجاء لا يباح اليوم إلا من ضرورة؛ لأنه أمر قد ترك وجرى العمل بخلافه.
[مسألة: الإمام يؤم الناس فإذا فرغ من صلاته تنفل في مكانه]
مسألة قال: وسألته عن الإمام يؤم الناس فإذا فرغ من صلاته تنفل في مكانه، فقال: قد رأيت الناس يتنحون، وأرى ذلك واسعا أن يصلي في مقامه أو يتنحى شيئا، أرى في ذلك سعة، قيل: أرأيت الإمام إذا سلم أيجلس مكانه أم يقوم؟ فقال: بل يقوم، فقيل: أيركع مكانه أم يتنحى؟ قال: ذلك واسع، إن شاء ركع مكانه وإن شاء تنحى شيئا.
قال محمد بن رشد: وسع مالك للإمام في هذه الرواية أن يركع في مكانه وأن ينحرف عنه شيئا ولا يقوم، وذلك كله خلاف ما في " المدونة "؛ لأنه كره في الصلاة الأول منها للإمام أن يتنفل في موضعه، وقال: على ذلك أدركت الناس.؟ وكره في الصلاة الثاني منها أن يثبت في موضعه وإن انحرف عنه، وقال: فليقم ولا يقعد إلا أن يكون إماما في السفر أو في فنائه ليس بإمام جماعة، فإن شاء تنحى وإن شاء أقام، وكره ذلك لوجهين أحدهما: مخالفة السلف، والثاني: ما يخشى في ذلك من التخليط على من خلفه؛ إذ قد يظن من يراه جالسا أنه لم يسلم بعد من صلاته، ومن رآه قائما متنفلا أنه إنما قام لإتمام شيء شك فيه من صلاته، والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: القريب من المسجد يجمع بين الصلاتين للمطر مثل البعيد]
مسألة قال: وسئل عن القوم يكون بعضهم قريب المنزل من المسجد إذا خرج منه دخل إلى المسجد من ساعته، وإذا خرج من المسجد(1/403)
إلى منزله مثل ذلك يدخل منزله مكانه، ومنهم البعيد المنزل من المسجد، أترى أن يجمعوا بين الصلاتين كلهم في المطر؟ فقال: ما رأيت الناس إذا جمعوا إلا القريب والبعيد فيهم سواء يجمعون، قيل: ماذا؟ فقال: إذا جمعوا جمع القريب منهم والبعيد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الجمع إذا جاز من أجل المشقة التي تدخل على من بعد دخل معهم من قرب؛ إذ لا يصح لهم أن ينفردوا دونهم فيصلوا كل صلاة في وقتها جماعة؛ لما في ذلك من تفريق الجماعة، ولا أن يتركوا الصلاة في جماعة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» .
[مسألة: خرج ليصلي في المسجد النبوي فلقي الناس منصرفين من الصلاة]
مسألة قال: وسئل عمن خرج إلى مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد الصلاة فيه، فلقي الناس منصرفين من الصلاة قبل أن ينتهي إلى المسجد، فأراد أن يجمع مع القوم الصلاة، أفذلك أحب إليك أم يمضي إلى مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيصلي فيه وحده؛ لما جاء فيه من الحديث أن الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، فقال: بل يصلي في المسجد.
قال محمد بن رشد: قوله: بل يصلي في المسجد، يريد بل يذهب إليه فيصلي فيه منفردا ولا يصلي دونه في جماعة، وذلك مثل قوله في " المدونة "؛ لأنه رأى الصلاة في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منفردا أفضل من الصلاة خارجا عنه في جماعة؛ لما جاء من الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام. وفي بعض الروايات: بل يصلي في(1/404)
الجماعة، يريد خارج المسجد ولا يذهب إلى المسجد؛ إذ قد فاتته الصلاة فيه في جماعة، فرأى في هذه الرواية الصلاة في الجماعة أفضل من الصلاة في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذا، خلاف ما في " المدونة ". ووجه ذلك أنه حمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد» على أنه أراد بذلك الصلاة في الجماعة، فكأنه قال: صلاة في مسجدي هذا في جماعة خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، بدليل أن المساجد إنما اتخذت لإقامة الصلوات المكتوبات فيها بالجماعة، فخرج الحديث على ذلك، ولم تدخل فيه صلاة الفذ كما لم تدخل فيه صلاة النافلة، ويكون على هذا معنى قوله: «أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة» ، يريد بذلك إلا المكتوبة في الجماعة، وذهب ابن لبابة إلى أن ذلك ليس باختلاف من القول، قال: لأنه تكلم في " المدونة " على من دخل المسجد، وفي هذه الرواية على من لم يدخله، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الصلاة إن كانت في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذا أفضل من الصلاة خارجا عنه في جماعة، فالأولى به أن يمضي إليه رغبة في الفضيلة، وإن كانت الصلاة في الجماعة أفضل من الصلاة في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذا فالأولى به إذا فاتته الجماعة فيه أن يخرج منه ويصلي في جماعة رغبة في الفضيلة أيضا، وهذا بين. ووقع في النسخ: بل يصلي في المسجد بالجماعة، وذلك خطأ في الرواية لا وجه له، والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: دخل المسجد فوجد الناس ركوعا أيركع معهم أم يتقدم إلى الفرج]
مسألة وسئل عمن دخل من باب المسجد فوجد الناس ركوعا، وعند باب المسجد ناسا يصلون ركوعا وبين يديه الفرج، أيركع مع هؤلاء الذين عند باب المسجد أم يتقدم إلى الفرج؟ قال: بل أرى أن(1/405)
يركع مع هؤلاء الذين عند باب المسجد فيدرك الركعة إلا أن يكونوا قليلا، فلا أرى أن يركع معهم ويتقدم إلى الفرج أحب إلي، وأما إذا كانوا كثيرا فأرى أن يركع معهم.
قال محمد بن رشد: تفرقته بين أن يكونوا قليلا أو كثيرا استحسان، ولو ركع معهم وهم عدد يسير لصحت صلاته باتفاق، وإنما الخلاف إذا لم يكن معه أحد سواه. وقد مضى هذا المعنى مستوفى في رسم "شك في طوافه" ورسم "اغتسل على غير نية" من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: الغسل للعيدين قبل الفجر]
مسألة قيل: أرأيت الغسل للعيدين قبل الفجر؟ قال: أرجو أن يكون ذلك واسعا.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في آخر هذا الرسم وفي رسم "صلاة العيدين"، وزاد فيها: من الناس من يغدو قبل الفجر، فالمعنى فيها أنه خفف لمن غدا بعد الفجر أن يغتسل قبل الفجر ولم ير من شرط صحة الغسل للعيدين أن يتصل بالغدو لها؛ لكونه مستحبا فيها غير مسنون، وفي " المدونة " من رواية عيسى عن ابن القاسم عن مالك أنه إن رجع إلى منزله بعد صلاة الصبح، فلا يجزيه ذلك الغسل قياسا على غسل الجمعة.
[مسألة: المسجد الذي ذكر الله تعالى أنه أسس على التقوى]
مسألة وقال: المسجد الذي ذكر الله تعالى أنه: {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ} [التوبة: 108] ، هو مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا، ثم قال: أين كان يقوم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أليس في(1/406)
هذا ويأتونه أولئك من هناك؟ وقال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] ، فإنما هو مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد قال عمر بن الخطاب: «لولا أني رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو سمعته، يريد أن يقدم القبلة، وقال عمر ذلك بيده هكذا ما قدمتها» ، ثم قدمها عمر موضع المقصورة الآن، فلما كان عثمان قدمها إلى موضعها التي هي الآن به، ثم لم تحول بعد.
قال محمد بن رشد: هذا الذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أن المسجد الذي ذكر الله تعالى أنه أسس على التقوى هو مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، روي عن أبي سعيد الخدري «أن رجلا من بني خدرة ورجلا من بني عمرو بن عوف امتريا في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال العوفي: هو مسجدنا بقباء، وقال الخدري: هو مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرجا فأتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألاه عن ذلك، فقال: "هو هذا المسجد» مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي ذلك خير كثير، وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه مسجد قباء مسجد سعد بن خيثمة، واستدلوا على ذلك ببنيان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياه، روي عن عائشة أنها قالت: «أول من حمل حجرا لقبلة مسجد قباء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم حمل أبو بكر آخر، ثم حمل عمر آخر، ثم حمل عثمان آخر، فقلت: يا رسول الله ألا ترى هؤلاء يتبعونك؟ فقال: أما إنهم أمراء الخلافة بعدي» . وهذا لا دليل فيه؛ لأنه بنى مسجده أيضا، فلم يختص بنيان مسجد قباء برسول الله- عَلَيْهِ السَّلَامُ - دون مسجده، واستدلوا أيضا بقول الله تعالى:(1/407)
{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] ، يريد الأنصار بما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لما نزلت: "يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم، قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء» ، وفي بعض الآثار: «ونستنجي بالأحجار ثم بالماء، فقال: هو ذاك فعليكموه» . وهذا لا دليل فيه أيضا؛ لأن أولئك الرجال قد كانوا في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه كان معمورا بالمهاجرين والأنصار ومن سواهم من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فصح ما ذهب إليه مالك من أن المسجد الذي ذكر الله تعالى أنه أسس على التقوى هو مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا ما سواه من المساجد، واستدلال مالك لمذهبه بقول عمر لم يستجز نقض أسسه وتبديل قبلته إلا بما سمع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك ورآه قد أراد أن يفعله، وبالله التوفيق.
[مسألة: الاعتماد على اليدين في القيام من الصلاة]
مسألة قال: وسألته عن الاعتماد على اليدين في القيام من الصلاة، فقال لي: لا بأس بذلك وكيف يصنع غير هذا؟ فقلت له: ربما قام الرجل ولا يعتمد، فقال: هذا مصارع يقول: هاتوا من يضع جنبي، ما يطيق هذا إلا الشباب الخفيف اللحم، فقلت: فالاعتماد أحب إليك؟ قال: ذلك صلاة الناس، وأما ذلك الوثوب فلا أدري ما هو.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم "باع غلاما" من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته.(1/408)
[مسألة: دخول النصارى المسجد النبوي]
مسألة وقيل لمالك: قلت في هؤلاء النصارى الذين يبنون في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو أنهم أمروا أن لا يدخلوا المسجد إلا من الباب الذي يلي موضع عملهم، ولا يخترقون المسجد، ولا يدخلون منه ما لا عمل لهم فيه، فقال له مالك: نعما، قلت: ولو أنهم حيزوا من عمله إلى موضع واحد، ثم دخلوا مما يليه لنعما. قلت: وإنه لينبغي أن ينظر في قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف يكشفون سقفه، فقيل له: يجعل عليه خيش، فقال: وما يعجبني الخيش وإنه لينبغي أن ينظر في أمره.
قال محمد بن رشد: لم ينكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بنيان النصارى في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستحث أن يحازوا إلى موضع منه وأن يدخلوا مما يليه ولا يخترقوا ما لا عمل لهم فيه، وإنما خفف ذلك ووسع فيه وإن كان مذهبه أن يمنعوا من دخول المساجد؛ لقول الله -عز وجل-: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] ، الآية، وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» وهم أنجاس لا يتطهرون، مراعاة لاختلاف أهل العلم في ذلك، إذ منهم من أباح أن يدخلوا جميع المساجد إلا المسجد الحرام؛ لقول الله -عز وجل-: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] ، ولما جاء في الصحيح من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث خيلا قبل نجد، فأسروا ثمامة بن أثال، فربطه بسارية من سواري المسجد» ومنهم من أباح أن يدخلوا جميع(1/409)
المساجد والمسجد الحرام وقال: إن معنى الآية ما أمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مناديه أن ينادي به في مواسم الحج من أن لا يحج بعد العام مشرك بدليل توقيت ذلك العام، إذ لا يختص دخول البيت بوقت دون وقت. والفرق عند هؤلاء بين النصراني والجنب- والله أعلم- هو أن النصراني غير متعبد عندهم بشرائع الإسلام. وكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يكشف سقف قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورأى من صونه أن يكون مغطى، ولم ير أن يكتفى في ذلك بالخيش، فكأنه ذهب إلى أن يغطى كتغطية البيوت المسكونة، ولقد أخبرني من أثق به أنه اليوم مكشوف الأعلى لا سقف له تحت سقف المسجد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون لهم مسجد يصلون فيه فيريد رجل أن يبني قريبا منه مسجدا]
مسألة وسئل عن العشيرة يكون لهم مسجد يصلون فيه، فيريد رجل أن يبني قريبا منه مسجدا، أيكون ذلك له؟ فقال: لا خير في الضرار ثم لا سيما في المساجد خاصة، فأما مسجد بني لخير وصلاح فلا بأس به، وأما ضرار فلا خير فيه، قال الله -عز وجل-: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [التوبة: 107] لا خير في الضرار في شيء من الأشياء، وإنما القول أبدا في الآخر من المسجدين.
وسئل سحنون عن القرية يكون فيها مسجد، فيريد قوم آخرون أن يبنوا فيها مسجدا آخر هل لهم ذلك؟ فقال: إن كانت القرية تحتمل مسجدين لكثرة أهلها ويكون فيها من يعمر المسجدين جميعا الأول والآخر فلا بأس به، وإن كان أهلها قليلا يخاف أن يعطل المسجد الأول فلا يوجد فيها من يعمره فليس لهم ذلك، وهؤلاء قوم يريدون أن يبنوا على وجه الضرر.(1/410)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من بنى مسجدا بقرب مسجد آخر ليضار به أهل المسجد الأول ويفرق به جماعتهم فهو من أعظم الضرر؛ لأن الإضرار فيما يتعلق بالدين أشد منه فيما يتعلق بالنفس والمال، لا سيما في المسجد المتخذ للصلاة التي هي عماد الدين، وقد أنزل الله تعالى في ذلك ما أنزل من قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [التوبة: 107] ، إلى قوله: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110] ، وقوله: إنما القول أبدا في الآخر من المسجدين صحيح؛ لأنه هو الذي يجب أن ينظر فيه، فإن ثبت على بانيه أنه قصد الإضرار وتفريق الجماعة لا وجها من وجوه البر وجب أن يحرق ويهدم ويترك مطرحا للزبول، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمسجد الضرار، وإن ثبت أن إقراره مضر بأهل المسجد الأول ولم يثبت على بانيه أنه قصد إلى ذلك وادعى أنه أراد به القربة، لم يهدم وترك معطلا لا يصلى فيه إلا أن يحتاج إلى الصلاة فيه بأن يكثر أهل الموضع أو ينهدم المسجد الأول، وبالله التوفيق.
[مسألة: المسجد يجعل فيه المنار فإذا صعد المؤذن فيها عاين ما في الدور]
مسألة قيل لسحنون: فالمسجد يجعل فيه المنار، فإذا صعد المؤذن فيها عاين ما في الدور التي تجاور المسجد، فيريد أهل الدور منع المؤذنين من الصعود فيها، وربما كانت بعض الدور على البعد من المسجد يكون بينهم الفناء الواسع والسكة الواسعة، قال: يمنع من الصعود فيها والرقي عليها؛ لأن هذا من الضرر، وقد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضرار.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصل مذهب مالك في أن الاطلاع من الضرر البين الذي يجب القضاء بقطعه، وكذلك يجب عندي(1/411)
على مذهب من يرى من أصحاب مالك أن من أحدث في ملكه إطلاعا على جاره لا يقضى عليه بسده، ويقال لجاره: استر على نفسك في ملكك. والفرق بين الموضعين على مذهبهم أن المنار ليس بملك للمؤذن، وإنما يصعد فيه ابتغاء الخير والثواب، والاطلاع على حرم الناس محظور، ولا يحل الدخول في نافلة من الخير بمعصية، وسواء كانت الدور على القرب أو البعد إلا أن يكون البعد الكثير الذي لا يستبين معه الأشخاص والهيئات ولا الذكران من الإناث، فلا يعتبر الاطلاع معه، وقد كان بعض الشيوخ يستدل على هذا بقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس» .
[مسألة: المساجد التي تكون بالمدينة أيجمع فيها بين الصلاتين في الليلة المطيرة]
مسألة وسئل عن المساجد التي تكون بالمدينة، أيجمع فيها بين الصلاتين في الليلة المطيرة؟ قال: لا أدري ما فيه، فأما مسجدنا هذا فنجمع فيه بين الصلاتين، فقيل له: إن عندنا بمصر وبرقة مساجد سوى المسجد الجامع تجمع فيه الصلوات، فتكون الليلة المطيرة فيجمع فيها بين الصلاتين، فقال: أرجو أن لا يكون بذلك بأس، وليس مساجد المدينة كهيئة مساجد الأمصار.
قال محمد بن رشد: ضعف الجمع بالمدينة فيما سوى مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المساجد، ولم يرها في الجمع كمساجد سائر الأمصار. ووجه الفرق في ذلك بين مساجد المدينة ومساجد الأمصار أن لمسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة فضل متيقن معلوم على سائر المساجد بالمدينة، وليس للمسجد(1/412)
الجامع في سائر الأمصار فضل على سائر المساجد بها. ووجه ثان وهو الاتباع، إذ لم يرو أنه جمع في المدينة في الزمن الأول إلا في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتضعيفه في هذه الرواية للجمع فيما سوى مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينحو إلى رواية زياد عنه وهي قوله: وأظن أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ لأن المسجد لم يكن يحبس مطرا ولم يكن حول المسجد عمارة، فلو ترك الناس الجمع اليوم لم أره خطأ.
[مسألة: أحرم بالصلاة خلف الإمام فكبر ورفع يديه حذو صدره]
مسألة قال: ورأيت مالكا أحرم بالصلاة خلف الإمام، فكبر ورفع يديه حذو صدره ولم يبلغ بهما منكبيه، فلما هوى راكعا كبر ولم يرفع يديه، فلما رفع رأسه من الركوع لم يرفع يديه، لم أره يرفع يديه إلا في تكبيرة الإحرام وحدها، فإني رأيته يرفع يديه فيها حذو صدره لا تبلغ حذو منكبيه، ورأيته إذا نهض من السجدة الأخرى من الركعة الأولى ومن الركعة الثانية نهض كما هو قائما ولم يجلس ثم ينهض، فإذا سلم الإمام فقضى سلامه سلم مالك عن يمينه، فقال: السلام عليكم، ثم سلم عن يساره، فقال: السلام عليكم، ثم رد على الإمام وقال: السلام عليكم، سلامه عن يمينه وعن يساره وعلى الإمام سلام واحد، يقول: السلام عليكم، ثلاثا، إلا أنه بدأ عن يمينه ثم عن يساره ثم على الإمام.
قال محمد بن رشد: رفع مالك يديه في افتتاح الصلاة نحو صدره لا يبلغ بهما منكبيه هو نحو قوله في " المدونة ": إنه يرفعهما في ذلك شيئا خفيفا، وله في " المختصر " أنه يرفعهما حذو منكبيه مثل ما في حديث ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومثله في كتاب ابن شعبان، قال ابن وهب: صليت مع مالك في بيته فرأيته يرفع يديه في أول ركعة، وكان إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع(1/413)
رفع يديه حذو منكبيه، وكان يقول: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين"، وقال: أكره أن أحمل الجاهل على ذلك فيقول: إنه من فرض الصلاة، وقد مضى القول في رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه في رسم "يتخذ الخرقة لفرجه"، من سماع ابن القاسم.
وأما نهوضه من السجود إلى القيام دون أن يرجع إلى الجلوس في الركعة الأولى والثالثة، فهو معلوم من مذهبه وعليه العلماء، وذهب الشافعي إلى أنه يرجع إلى الجلوس على ما روي عن مالك بن الحويرث أنه قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا» ، والذي عليه الجمهور هو الصحيح؛ لأن ذلك قد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واتصل به العمل، فدل على أنه كان آخر الأمرين من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويحتمل أن يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما فعل في صلاته ما حكاه عنه مالك بن الحويرث لعلة كانت به حينئذ؛ لأنه إنما أقام عنده أياما ثم رجع إلى أهله، لا لأن ذلك من سنة الصلاة. والنظر يوجب أيضا أن لا يكون من سننها؛ إذ لو كان من سننها لكان له تكبير كالتكبير عند سائر أركان الصلاة.
وأما تسليمه عن يمينه وعن يساره ثم على الإمام فهو كان الأول من قوليه، فقد قال ابن القاسم في " المدونة ": إنه كان يأخذ بذلك ثم تركه، وقد مضى هذا المعنى في آخر رسم "شك في طوافه" من سماع ابن القاسم مستوفى، وأما قوله: يقول السلام عليكم، فهو مثل قوله في " المدونة ": إنه لا يجزئ من السلام من الصلاة إلا السلام عليكم، ووقع هاهنا في بعض الروايات يقول: سلام عليكم سلام عليكم، بغير الألف واللام، وذلك خلاف لما في " المدونة ". وهذا الخلاف إنما هو في السلام الذي يتحلل به من(1/414)
الصلاة، وأما في الرد على الإمام فهو خفيف؛ إذ قد وسع في الثاني من صلاة " المدونة " أن يقول فيه: عليك السلام، وبالله التوفيق.
[مسألة: صلاة العشاء في آخر وقتها وترك الحديث بعدها]
مسألة وقال له اليربوعي: كان سعيد بن المسيب يقول: لأن أنام على العشاء أحب إلي من أن أتحدث بعدها، فقال مالك: أصاب ونعما قال.
قال الإمام: يريد أن ينام عنها إلى آخر وقتها، لا أن ينام عنها حتى يخرج وقتها جملة، فرأى صلاة العشاء في آخر وقتها وترك الحديث بعدها أحب إليه من صلاتها في أول وقتها والتحدث بعدها، وذلك صواب؛ لأن تحدثه محصي عليه منه ما يكتبه صاحب اليمين ومنه ما يكتبه صاحب الشمال، فالتوقي مما يخشى أن يدخل عليه في ذلك من الإثم آكد عليه من الرغبة في زيادة فضيلة أول الوقت.
[مسألة: إمام سها في الركعة الثالثة فجلس فيها]
مسألة وسئل عن إمام سها في الركعة الثالثة فجلس فيها، فرأى من ساعته بحضرة ذلك منه مَنْ خلفه قياما فنهض قائما مكانه، أيسجد سجدتي السهو إذا قضى صلاته؟ فقال: نعم، في رأيي عليه سجدتا السهو إذا كان قد اطمأن جالسا، ثم علم بقيامهم خلفه فقام.
زعم يحيى بن سعيد أن أنس بن مالك صلى بهم في سفر، فنأى للقيام في الركعتين، فسبح به قبل أن يعتدل قائما، فجلس فسجد سجدتي السهو، فقيل لمالك: قبل السلام أم بعده؟ فقال: لم يذكر(1/415)
ذلك يحيى، وأنا أراها بعد السلام، قيل: والذي سألتك عنه من أنه لما ذهب ليجلس في الثالثة رأى من خلفه، قد قاموا فقام، فقال: نعم يسجد في ذلك سجدتين بعد السلام، وذلك يختلف عندي، أما الرجل الذي جلس مجمعا على الجلوس ذلك أراد، فهذا الذي أرى عليه سجدتي السهو، وأما الرجل الشاك الذي إنما يتذكر في جلوسه يريد أن ينظر إلى ما يصنع الناس، فلا أرى على هذا سهوا.
قال محمد بن رشد: أوجب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - سجود السهو على من اطمأن جالسا ساهيا في الركعة الأولى أو الثالثة، ولم يراع قول من يرى ذلك من سنة الصلاة؛ لضعف الاختلاف في ذلك عنده، وقد بينا قبل هذا وجهه، وقال: الجلوس في موضع القيام على القيام في موضع الجلوس، فأوجب في ذلك السجود على ما حكي عن أنس بن مالك، وإن كان قبل أن يعتدل قائما؛ لأن السهو في قيامه وإن لم يعتدل قائما أكثر من السهو في جلوسه إذا لم يطمئن جالسا، مع ما في ذلك من الاختلاف. وقد اختلف فيمن قام في ركعتين من صلاة رباعية على قولين: أحدهما أنه يرجع ما لم يعتدل قائما وإن فارق الأرض على ما فعله أنس، ومثله في آخر هذا الرسم، وقاله ابن حبيب، والثاني قول ابن القاسم: إنه يرجع ما لم يفارق الأرض، ولا اختلاف أنه لا يرجع إذا اعتدل قائما، وإنما يختلف فيما يجب عليه إن رجع جاهلا، فقيل: إنه يعيد الصلاة، وهو قول عيسى بن دينار ومحمد بن عبد الحكم، حكى ذلك عنهما ابن الجلاب في مختصره، وهو قول ابن سحنون أيضا في " النوادر "، وقيل: إنه يسجد سجدتي السهو بعد السلام، وهو قول مالك في آخر هذا الرسم، وقيل: إنه يسجد قبل السلام؛ لأنه زاد الجلوس بعد أن نقصه، فاجتمع عليه نقصان وزيادة، وهو قول أشهب وعلي بن زياد، وقد روي عن مالك من رواية ابن وهب وابن أبي أويس أنه راعى الاختلاف في ذلك، أعني في الذي جلس في وتر من صلاته ساهيا،(1/416)
فلم يوجب فيه سجود السهو إلا أن يكون جلوسه قدر ما يتشهد فيه، وتابعه على ذلك ابن أبي حازم، وقاله ابن كنانة وابن القاسم في " المدنية ". وأما الإمام الذي جلس شاكا غير مجمع على الجلوس إلا لينظر ما يصنع الناس، فبين أنه لا يسجد لما في أصل المسألة من الاختلاف.
[مسألة: الرجل يتقدم قوما في الصلاة فيقول لهم قبل أن يتقدمهم أتأذنون]
مسألة وسئل عن الرجل يتقدم قوما في الصلاة فيقول لهم قبل أن يتقدمهم: أتأذنون؟ فقال: لا أرى بذلك بأسا، فقيل له: وذلك أحب إليك أن يستأذنهم؟ فقال: إن خاف أن يكون منهم من يكرهه أن يؤمهم فليستأذنهم، ربما تقدم المرء القوم ومنهم من يكره ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله في استئذان الرجل القوم في إمامتهم: لا أرى بذلك بأسا، يدل على أنه خفف ذلك، فكأنه رأى ترك الاستئذان أحسن إلا أن يخاف أن يكون منهم من يكرهه، وفي ذلك من قوله نظر؛ إذ قد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لرجل أن يؤم قوما إلا بإذنهم» . ووجه ما ذهب إليه مالك، والله أعلم، أن الرجل إذا كان مع القوم، فحضرت الصلاة وهو أحقهم بالإمامة، وعلم أنهم مقرون له بالتقدم والفضل، رأى سكوتهم على تقدمه بهم إذنا منهم له في ذلك، واستحسن أن لا يفصح باستئذانهم في ذلك؛ لما فيه من إفصاحهم بتقديمه وتفضيله، فيصير متعرضا لثنائهم عليه، إلا أن يخاف أن يكون منهم من يكرهه، فلا يكتفي بسكوتهم حتى يصر حواله بالإذن في ذلك. وأما من قد حصل إماما في مسجد أو في موضع بتقديم أهله إياه، فطرأت عليه جماعة يخشى أن يكون فيها من يكره إمامته، فليس عليه أن يستأذنهم؛ لأن أهل ذلك المسجد أو الموضع أحق بالتقديم منهم، وإن علم أن جماعته أو أكثرها أو ذا النهى والفضل منها كارهون لإمامته وجب عليه أن(1/417)
يتأخر عن الإمامة بهم؛ لما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خمسة لا تجاوز صلاتهم آذانهم» ، فذكر فيهم الذي يؤم قوما وهم له كارهون. وقد روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: "لأن أقرب فتضرب عنقي إلا أن تتغير نفسي أحب إلي من أن أؤم قوما وهم لي كارهون". وأما إن لم يكره إمامته من جماعته إلا النفر اليسير، فيستحب له التأخر عن التقدم بهم من غير إيجاب، وبالله التوفيق.
[مسألة: يؤم القوم في الظهر أيدعو بعد فراغه من التشهد الأول]
مسألة وسألته عن الرجل يؤم القوم في الظهر، أيدعو بعد فراغه من التشهد في الركعتين الأوليين بما بدا له؟ فقال لي: نعم.
قال الشارح: يريد أن ذلك جائز لا كراهة فيه ما لم يطل؛ لأن تقصير الجلسة الأولى من مستحبات الصلاة، ولا يكره الدعاء فيها إلا في ثلاثة مواطن، وهي القيام قبل القراءة، والجلوس قبل التشهد، والركوع، وبالله التوفيق.
[مسألة: إمام الحرس إذا أقيمت الصلاة تقدمهم وعليه جبة وسيف]
مسألة قال: وسئل عن القوم يكونون في الحرس لهم إمام يؤمهم في الصلوات، فإذا أقيمت الصلاة تقدمهم وعليه جبة وسيف مرتدي به لا رداء عليه، فقال: ما يعجبني ذلك، ولكن يجعل على عاتقيه عمامة، فقيل له: إنا رأينا ابن عجلان يأتي المسجد إلى الصلاة متقلدا سيفا مرتديا فوق ذلك بعمامة لم أر أحدا منهم فعله غيره، فقال عيسى: أن يكون أفقه من غيره.(1/418)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في آخر رسم "المحرم يتخذ الخرقة " من سماع ابن القاسم مجردا، فأغنى ذلك عن إعادته ها هنا.
[مسألة: مساجد يصلى فيها بعض الصلوات بالأذان والإقامة]
مسألة قال: وسئل عن مساجد بالإسكندرية يحرس فيها، يصلى فيها المغرب والعشاء والصبح بالأذان والإقامة، ولا يصلى فيها الظهر ولا العصر، وربما شهدنا الجنازة بالنهار، فصلينا فيها الظهر والعصر، فتجمع فيها الصلاة منها مرتين، أفترى ذلك؟ قال: نعم لا بأس بذلك، وأما الصلوات التي تجمع فيها فلا أرى ذلك فيها.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة واختلاف قول مالك فيها والتوجيه له في رسم "يسلف في حيوان مضمون" من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل قرأ في ركعة من الصبح بأم القرآن فقط وأسر بها]
مسألة قال: وسئل عن رجل قرأ في ركعة من الصبح بأم القرآن فقط وأسر بها، أترى عليه إعادة الصلاة؟ فقال: لا أرى عليه إعادة، وأرى ذلك مجزيا عنه ولا سجود سهو عليه، فقيل له: إذا قرأ بأم القرآن فقط سرا فيما يجهر فيه بالقراءة لم تر عليه سجود السهو؟ قال: نعم ولا إعادة عليه، وأرى ذلك مجزئا عنه.
قال الإمام: قوله: إنه لا سجود عليه في ترك الجهر ولا في إسقاط السورة خلاف ما في " المدونة "؛ لأنه أوجب السجود فيها في كل واحد منهما. والذي في " المدونة " هو المشهور. ووجه هذا أنه رأى الجهر في الصلاة وقراءة ما عدا أم القرآن فيها من مستحبات الصلاة لا من سننها، وقد روى أشهب(1/419)
عن مالك أيضا فيمن أسر فيما يجهر فيه أنه يسجد بعد السلام. ووجه هذا أن السجود لما ضعف عنده في ذلك رأى أن يكون بعد السلام لئلا يدخل في نفس صلاته ما ليس منها، وكذلك يقول أشهب فيمن ترك التكبير في الصلاة أو سمع الله لمن حمده: إنه يسجد بعد السلام؛ لأن السجود في ذلك غير لازم، وإن سجد قبل السلام لم تفسد عنده صلاته، بخلاف من سجد عنده قبل السلام لإسقاط القنوت أو التسبيح، وقد كان يحيى بن يحيى يقول: من التزم القنوت في صلاته سجد إذا سها عنه، وأما من جهر فيما يسر فيه من صلاته ناسيا، فلا اختلاف أحفظه في المذهب في أنه يسجد بعد السلام. وقد يقال في الفرق بين الموضعين إن فعل ما تركه سنة أشد من ترك ما فعله سنة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه، وإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم» ، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهود النساء الصلوات إلى المساجد]
مسألة قال: وسئل عن شهود النساء الصلوات إلى المساجد، فقال: ذلك يختلف في المرأة المتجالة والشابة، فالمتجالة تخرج إلى المسجد ولا تكثر التردد، والمرأة الشابة تخرج إلى المسجد المرة بعد المرة، وكذلك هي في الجنائز. وذلك يختلف من العجوز والشابة، وإنما تخرج الشابة في جنائز أهلها وقرابتها.
قال الإمام: أما النساء المتجالات فلا اختلاف في جواز خروجهن إلى المساجد والجنائز والعيدين والاستسقاء وشبه ذلك، وأما النساء الشواب فلا يخرجن إلى الاستسقاء والعيدين ولا إلى المساجد إلا في الفرط، ولا إلى الجنائز إلا في جنائز أهلهن وقرابتهن. هذا الذي يأتي على هذه الرواية وعلى(1/420)
ما في " المدونة "، فيجب على الإمام في مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يمنع النساء الشواب من الخروج إلى العيدين والاستسقاء، ولا يمنعهن من الخروج إلى المساجد؛ لجواز خروجهن إليها في الفرط، فهذا دليل قوله في " المدونة ". وفي تفسير ابن مزين أن المرأة الشابة إذا استأذنت على زوجها في الخروج إلى المسجد لم يقض لها عليه بالخروج، وكان له أن يؤدبها ويمسكها، وليس ذلك بخلاف لما في " المدونة "؛ لأن معنى ما في " المدونة " إنما هو في المنع العام. وأما المرأة الشابة في خاصتها فيكره لها الإكثار من الخروج إلى المسجد، فتؤمر ألا تخرج إليه إلا في الفرط بإذن زوجها إن كان لها زوج، فقد كانت عاتكة بنت زيد بن عمر بن نفيل تستأذن عمر بن الخطاب في الخروج إلى المسجد وهو زوجها، فيسكت، فتقول: والله لأخرجن إلا أن تمنعني فلا يمنعها ولا تخرج إلا تفلة، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تمسن طيبا» . ووجه قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: "إن النساء الشواب لا يمنعن من الخروج إلى المساجد" عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» . ووجه كراهيته لهن الإكثار من الخروج ما خشي على الرجال من الفتنة بهن، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» . ووجه قوله إنهن يمنعن من الخروج إلى العيدين والاستسقاء، مع ما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خروج العواتق وذوات الخدور إلى العيدين- ما أحدثنه من الخروج على غير الصفة التي أذن لهن بالخروج عليها، وهي أن يكن تفلات غير متطيبات ولا يبدين لشيء من(1/421)
زينتهن. وقد قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لو أدرك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أحدثه النساء لمنعهن المساجد كما مُنِعَهُ نساء بني إسرائيل.
وتلخيص هذا الباب على تحقيق القول فيه عندي أن النساء أربع: عجوز قد انقطعت حاجة الرجال منها، فهي كالرجل في ذلك، ومتجالة لم تنقطع حاجة الرجال منها بالجملة، فهي تخرج إلى المسجد ولا تكثر التردد كما قال في الرواية، وشابة من الشواب، فهذه تخرج إلى المسجد في الفرط وفي جنائز أهلها وقرابتها، وشابة فاذة في الشباب والثخانة، فهذه الاختيار لها ألا تخرج أصلا، وبالله التوفيق.
[مسألة: المصلي في المحمل أين يضع يديه]
مسألة وسئل عن المصلي في المحمل أين يضع يديه؟ فقال: على ركبتيه أو فخذيه، فقيل له: فالمصلي على الدابة؟ فقال مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: يريد أنه يضع يديه على ركبتيه أو فخذيه إذا ركع أو إذا تشهد، وأما في سائر صلاته فلا حد في أن تكون يداه على ركبتيه، يدل على ذلك قوله في " المدونة ": فإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه عن ركبتيه، والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: جمع المغرب والعشاء في رمضان في الليلة الممطرة]
مسألة قال: وسئل عن جمع المغرب والعشاء في رمضان في الليلة الممطرة وقد ذهب المطر وبقي الطين والظلمة، أيجمع بينهما؟ فقال: نعم، فقيل له: إنهم لا ينصرفون حتى يقنتوا، فقال: إذا كانوا لا ينصرفون فأحب إلي أن لا يجمعوا بينهما، فقيل له: أرأيت إن جمعوا بينهما ثم قنتوا؟ قال: هم من ذلك في سعة.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله: وبقي الطين والظلمة أن الجمع(1/422)
لا يكون إذا لم يكن مطر إلا باجتماع الطين والظلمة، وهو مثل ما في " المدونة " خلاف ظاهر ما في رسم "أخذ يشرب خمرا"، من سماع ابن القاسم أنه يجمع في الطين والوحل وإن لم يكن مطر ولا ظلمة، وقوله: "إنهم لا يجمعون إذا كانوا لا ينصرفون حتى يقنتوا" صحيح؛ لأن الجمع إنما هو رخصة وتخفيف لمشقة الرجوع في الظلام بعد مغيب الشفق، وقوله: إنهم إن جمعوا ثم قنتوا كانوا من ذلك في سعة يقتضي أن لا إعادة عليهم للعشاء بعد مغيب الشفق. وقال ابن لبابة: إن هذا خلاف لقول عيسى وأصبغ والعتبي وابن مزين في الذي يخاف أن يغلب على عقله، فيجمع بين الصلاتين في أول الوقت أنه يعيد الآخرة منهما في وقتها إن لم يغلب عليه حتى دخل؛ لأن الجمع في هذه المسألة إنما رخص لهم فيه لعلة الافتراق، وهم لم يفترقوا حتى غاب الشفق، فكان يلزم على قول هؤلاء أن يعيدوا العشاء الآخرة؛ إذ قد ارتفعت العلة التي من أجلها أبيح لهم تعجيلها كالذي يخاف أن يغلب على عقله فيسلم مما خاف، وليس قوله عندي بصحيح، والفرق بين المسألتين أن الذي خشي أن يغلب على عقله فصلى قبل دخول الوقت المستحب يؤمر أن يعيد ليدرك ما نقصه من فضيلة الوقت المستحب، والذين جمعوا ثم قنتوا لا يؤمرون بالإعادة؛ لأنهم صلوا في جماعة، فمعهم فضل الجماعة مكان فضل الوقت المستحب، وهذا مثل قول مالك في المسافر يتم الصلاة: إنه يعيد في الوقت إن كان أتم وحده؛ ليدرك فضيلة القصر، ولا يعيد إن كان أتم في جماعة؛ لأن معه فضل الجماعة مكان ما فاته من فضل القصر؛ ولهذا قال مالك في " المدونة " في الرجل يصلي في بيته المغرب في الليلة المطيرة ثم يأتي المسجد والناس يجمعون وقد صلوا المغرب ولم يصلوا العشاء: إنه لا بأس أن يصلي معهم، وقد روي عن ابن القاسم أنه إن صلى معهم أعاد في الوقت وغيره، فقول ابن القاسم في هذه المسألة هو الذي يخالف قول مالك في الرواية لا قول عيسى ومن تابعه في المسألة التي حكى ابن لبابة. ووجه قول ابن القاسم أنه رأى فضيلة الوقت آكد من فضيلة الجماعة فأمره بالإعادة في الوقت(1/423)
وبعد الوقت لما لم يعد في الوقت على أحد قوليه في أن من وجب عليه أن يعيد في الوقت فلم يفعل، أعاد بعد الوقت، فهذا تحقيق القول في هذه المسألة.
[مسألة: يقوم من التشهد أيعتمد على يديه]
مسألة وسئل عن الذي يقوم من التشهد أيعتمد على يديه؟ فقال: ما أبالي أي ذلك فعل، ولقد كان الأمر القديم أن يعتمد على اليدين للقيام في الصلاة.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في هذا الرسم، ومضى القول فيها مُوعَبًا في رسم "باع غلاما" من سماع ابن القاسم.
[مسألة: لم يجهر إمام الصبح بالقراءة ففتحوا عليه فلم يجهر]
مسألة وسئل عن قوم صلوا خلف إمام الصبح، فلم يجهر بالقراءة، ففتحوا عليه فلم يجهر حتى فرغ، فقيل له ما قرأت فقال: بلى في نفسي، فقال مالك: ما أراه قرأ وإنكم تفتحون عليه لا يقرأ، هذا جاهل جدا، فأرى أن تعيدوا أنتم الصلاة، وما أراه قرأ وإنما الذي قلت لكم تعيدوا الصلاة ما كنتم في الوقت، فإذا ذهب الوقت فلا أرى عليكم إعادة.
قال محمد بن رشد: وجه هذه الرواية أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - اتهم الإمام بترك القراءة ولم يحقق ذلك عليه لقوله: بل في نفسي، أي: سرا؛ لأن القراءة في النفس دون تحريك اللسان ليست بقراءة. فلو حقق عليه أنه ترك القراءة جملة أو أنه لم يحرك بها لسانه لأوجب عليه وعليهم الإعادة في الوقت وبعده على أصل مذهبه في أن من لم يقرأ في صلاته أعادها أبدا، ولما فتحوا عليه فلم يقرأ حمل عليه أنه ترك الجهر جاهلا متعمدا فقال: هذا جاهل،(1/424)
وأمرهم بالإعادة في الوقت مراعاة للاختلاف، إذ قد قيل: إن صلاة القوم غير مرتبطة بصلاته، وإنها لا تفسد عليهم بفسادها عليه، وقيل أيضا: إن من أسر فيما يجهر فيه من صلاته جاهلا متعمدا لا إعادة عليه، وقيل: يعيد في الوقت وبعده، ومن مذهبه مراعاة الخلاف، وفي كتاب ابن المواز أنهم يعيدون مطلقا، فظاهره في الوقت وبعده، ولم يتكلم مالك على ما يجب على الإمام في خاصته؛ لأنه صرف الأمر فيه إليه ودينه فيه ليعيد الصلاة أبدا إن كان لم يقرأ أصلا، وإن كان قرأ وأسر القراءة جهلا فعلى الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك من أن لا إعادة عليه أو الإعادة في الوقت، أو في الوقت وبعده، وهو موجود في المذهب، من ذلك ما وقع في رسم "حمل صبيا"، من سماع عيسى من هذا الكتاب، فتدبر ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: نسي في ركعة صلاها سجدة فلم يذكرها إلا وهو راكع في الثانية]
مسألة وسألته عمن نسي في ركعة صلاها سجدة فلم يذكرها إلا وهو راكع في الثانية، أيخر كما هو ساجدا للسجدة التي نسي؟ أم يرفع رأسه من الركوع، فيمضي في صلاته ويلغي الركعة التي نسي منها السجدة؟ فقال: إن اطمأن راكعا قبل أن يذكر وإن لم يرفع رأسه منها فأرى أن يلغي الركعة التي نسي منها السجدة ويتم صلاته، فيرفع رأسه من الركعة ثم يسجد ويبني على صلاته وقد ألغى الركعة التي نسي منها السجدة، وإن لم يكن اطمأن راكعا حتى ذكر أنه نسي سجدة من الركعة التي قبل هذه، فإني أرى أن يخر ساجدا كما هو قاضيا للسجدة التي نسي من ركعته، ويعتد بها ولا يرفع رأسه من الركعة، فإذا قضى السجدة قام مكانه للركعة الثانية فاستأنفها من أولها بالقراءة والركوع.(1/425)
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في عقد الركعة التي تحول بين المصلي وبين إصلاح الركعة التي قبلها، فقال في هذه الرواية: إن ذلك التمكن في الركوع وإن لم يرفع رأسه منه، وقال في رواية ابن القاسم عنه في " المدونة ": إن ذلك لا يكون إلا في الرفع من الركوع. وقد حكى ابن القاسم عنه فيها القولين جميعا أيضا في الذي يقوم في النافلة إلى ثالثة ساهيا فلا يذكر إلا وهو راكع، وهذا الاختلاف مبني على الرفع من الركوع هل هو فرض من تمام الركوع أو سنة والركوع قد تم بالتمكن فيه؟ على ما يأتي من الاختلاف في ذلك في رسم "التفسير" من سماع عيسى، ومن المسائل ما يكون فيه التمكن في الركوع عقدا للركعة باتفاق، وذلك مثل أن ينسى السورة التي مع أم القرآن أو يقدمها على أم القرآن، أو يقدم القراءة على التكبير في العيدين، أو يسلم من ركعتين ساهيا، أو يدخل في نافلة، فلا يذكر شيئا من ذلك إلا وهو راكع. ومن المسائل أيضا ما لا يكون فيه عقد الركعة إلا تمامها بسجدتيها، وذلك مثل أن يذكر صلاة وهو في صلاة، أو تقام عليه الصلاة وهو في صلاة، على مذهب من يفرق في ذلك بين أن يكون قد ركع أو لم يركع، ومثل أن ينسى القراءة جملة في الركعة الأولى على مذهب من لا يقول بالإلغاء، فإنه إن ذكر قبل أن يتم ركعة بسجدتيها قطع، وإن ذكر بعد أن كمل ركعة بسجدتيها أضاف إليها ثانية وخرج عن نافلة، وأتم أربعا وسجد قبل السلام وأعاد، واختلف إن ترك القراءة في الركعة الثالثة، فقيل إنه يرجع إلى الجلوس وسلم من ركعتين ما لم يركع، وقيل ما لم يرفع رأسه من الركوع، وقيل: ما لم يتم الثالثة بسجدتيها. فإن ركع على القول الواحد، أو رفع على القول الثاني، أو أتم الركعة بسجدتيها على القول الثالث، تمادى إلى رابعة وسجد قبل السلام وأعاد الصلاة، ومثل أن يرعف على مذهبه في " المدونة " فإنه يلغي تلك الركعة ما لم تتم بسجدتيها، وبالله التوفيق.(1/426)
[مسألة: يصلي العشاء ثم يصلي بعدها ركعات أيوتر بواحدة أم يصلي اثنتين قبلها]
مسألة قيل له: أرأيت الذي يصلي العشاء ثم يصلي بعدها ركعات، ثم يجلس، ثم يبدو له بعد ذلك أن يوتر، أيوتر بواحدة أم يصلي اثنتين قبلها؟ فقال: أرجو أن يكون له سعة في أن يوتر بواحدة ولا يصلي قبلها إذا كان قد ركع بعد العشاء. قيل له: وإنما الوتر واحدة يفصل بينها وبين الاثنين بسلام؟ فقال: نعم، وأنا كذلك أفعل.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يوتر بواحدة وإن طال ما بين الركعتين والواحدة إذا كان ذلك في الليل قبل الفجر، صحيح على مذهبه أن السنة عنده أن يفصل بين الوتر وما قبله من الشفع بسلام، وهو خلاف ما في آخر رسم "لم يدرك" من سماع عيسى، وخلاف ما في " المدونة " من أنه يركع ركعتين قبل أن يوتر إذا كان الأمر قد طال. ووجه هذا القول مراعاة قول من يرى الوتر ثلاثا تباعا بغير سلام. وأما لو كان ذلك بعد الفجر وقد ركع بعد العشاء لأوتر بركعة واحدة على ما في أول رسم "أسلم" من سماع عيسى قولا واحدا؛ لما جاء من أنه لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتا الفجر، وبالله التوفيق.
[مسألة: أرض طين وحضرت الصلاة على ذلك أيصلي أحدنا قائما إيماء]
مسألة قال: وسئل فقيل له: إنا نسافر بمصر وهي أرض طين، فربما غشينا المطر في السفر فتصير الأرض طينا، فتحضر الصلاة على ذلك، أفترى أن يصلي أحدنا قائما إيماء برأسه، فإنه إن جلس في الطين فملأ ثيابه، فقال: لا، لا يصلي قائما، ولكن يجلس فيصلي جالسا، ويسجد على الطين على قدر طاقته. فقلت له: على قدر طاقته، فقال لي: نعم على قدر طاقته.
قال محمد بن رشد: هذا قول ابن عبد الحكم من أصحاب مالك؛ إنه(1/427)
يسجد ويجلس على الطين والخضخاص من الماء الذي لا يغمره ويمنعه من السجود فيه والجلوس إلا إحراز ثيابه، فإن صلى إيماء على مذهبهما أعاد في الوقت وبعده. وحكى ابن حبيب عن مالك ومن لقي من أصحابه أنه يصلي إيماء كالمريض الذي لا يقدر على السجود ولا على الجلوس، إلا أنه استحب أن يؤخر إلى آخر الوقت رجاء أن يتخلص إلى موضع يمكنه فيه الصلاة، يريد إلى آخر الوقت المستحب، ثم إن تخلص إلى موضع يمكنه فيه الصلاة في بقية الوقت أعاد، وهذا على مذهبه في التيمم. والذي أقول به في هذه المسألة على ما في " المدونة " في الذي لا يجد الماء لوضوئه إلا بثمن أنه إن كان الرجل واسع المال والثياب التي عليه ليست لها تلك القيمة أو لا يفسدها الطين، ولا ضرر عليه في جسمه في الصلاة فيه، لم يجز له أن يصلي إيماء، وإن كان بخلاف ذلك جاز له الإيماء؛ لأنه في الموضعين جميعا انتقال عن فرض وجب عليه لحياطة ماله. ولا اختلاف أحفظه في الراعف يتمادى به الرعاف ويخشى إن ركع أو سجد أن تتلطخ ثيابه بالدم أنه يصلي إيماء، ولا يبعد دخول الاختلاف في ذلك على القول بأن رفع النجاسة من الثياب والأبدان ليست بفريضة؛ لأن الركوع والسجود فرض، فلا يترك فرض لما ليس بفرض. وقد روى زياد عن مالك مثل ما حكى عنه ابن حبيب، وبالله التوفيق.
[مسألة: غسل العيدين أقبل الفجر أم بعده]
مسألة وسئل عن غسل العيدين أقبل الفجر أم بعده؟ فقال ذلك واسع، من الناس من يغدو قبل الفجر.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في هذا الرسم، وقد مضى القول في توجيهها فلا وجه لإعادته.(1/428)
[مسألة: يغتسل للعيدين وينوي بذلك الجمعة]
مسألة قيل له: أرأيت الذي يغتسل للعيدين وينوي بذلك الجمعة، أيجزئه؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قد روى أبو قرة عن مالك أنه يجزئه، قاله ابن وهب في سماع زونان من هذا الكتاب، والأول هو الصحيح؛ لأنه هو الذي يوجبه ظاهر الحديث قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» ولأن الغسل إنما شرع في الجمعة للتنظف من التفل ورائحة العرق، فإذا بعد الغسل ذهب معناه الذي شرع من أجله، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يخرج إلى ضيعة له منه على ليلتين أيقصر الصلاة]
مسألة وسئل عن الرجل يخرج إلى ضيعة له منه على ليلتين، أيقصر الصلاة؟ قال: نعم يقصر الصلاة، وأبين ذلك البرد والأميال والفراسخ على كم ضيعته منه من ميل أو فرسخ، فقيل: على خمسة عشر فرسخا وذلك خمسة وأربعون ميلا، فقال: نعم أرى أن يقصر الصلاة إلى مسيرة ذلك، الصلاة تقصر في مسيرة أربعة برد، وذلك ثمانية وأربعون ميلا، وهذا منه قريب، فأرى أن يقصر الصلاة إلى مسيرة ذلك.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الكتب مكان على ليلتين على ثلاثين، وهو خطأ بما دل عليه الكلام، والأصل عند مالك في أن الصلاة تقصر في ثمانية وأربعين ميلا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة(1/429)
إلا مع ذي محرم منها» ؛ لأنه قصد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذكر أقل ما يكون سفرا، وكانت الثمانية والأربعون ميلا هو المقدار الذي يسار في اليوم والليلة على السير المعتاد. ولما كان هذا المقدار مأخوذا بالاجتهاد دون توقيت حكم لما قرب منه بحكمه، فإن قصر في أقل من خمسة وأربعين ميلا إلى ستة وثلاثين، أعاد في الوقت، وإن قصر فيما دون ستة وثلاثين ميلا أعاد في الوقت وبعده، والميل ألفا ذراع، وهي ألف باع، قيل: بباع الفرس، وقيل: بباع الجمل. والثمانية والأربعون ميلا هي أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخا؛ لأن البريد ثلاثة فراسخ، وهي اثنا عشر ميلا، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل عشر غلاء والغلوة مائتا ذراع، وهي مائة باع، وقد قيل: إن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، وبالله التوفيق.
[أم قوما في العصر فاعتدل من الركعتين قائما فحاولوا إجلاسه فأبى]
مسألة وسئل عمن أم قوما في العصر فقام من الركعتين فاعتدل قائما، فأخذوا بثوبه من ورائه يجلسونه، فأبى أن يجلس؛ لأنه اعتدل قائما، فأشار إليهم أن قوموا، فلم يزالوا يجبرونه من ورائه حتى جلس، متى يسجد سجدتي السهو؟ فقال: أرى أن يسجدهما قبل السلام، فقيل له: أرأيت إن كان سجدهما قبل السلام؟ فقال: لا أرى عليه شيئا، قد سجدهما.(1/430)
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أنه يجب عليه أن يرجع إلى الجلوس ما لم يعتدل، وقد مضى التكلم على هذا في هذا الرسم، وفيما يجب عليه إن رجع جاهلا أو متعمدا، وسيأتي القول في رسم "العتق" من سماع عيسى فيمن وجب عليه سجود السهو بعد السلام فسجد قبله أو قبله فسجد بعده ناسيا أو متعمدا إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.
تم كتاب الصلاة الثاني(1/431)
[كتاب الصلاة الثالث] [مسألة: أنستسقي في العام المرتين والثلاث]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كتاب الصلاة الثالث
صلاة الاستسقاء من سماع أشهب مسألة وسئل عن أهل برقة فقيل له: إن أهلها يشربون من ماء الأمطار، إذا كانت سال لهم واد يشربون منه، وكانت أمطارنا تكثر فيزرع عليها، فيسيل بها وادينا فنشرب منه، حتى كان عندك حديثا قل علينا المطر، فنمطر ما يزرع عليه الزرع الكثير ولا يسيل وادينا، أفترى أن نستسقي؟ فقال: نعم استسقوا، ما بأس بذلك لا بأس به، فقيل له: إنه قيل: إنما الاستسقاء إذا لم يكن مطر وأنتم قد سقيتم وزرعتم عليه زرعا كثيرا؟ فقال: ما قالوا شيئا ولا بأس بذلك.
قال: وسئل أنستسقي في العام المرتين والثلاث؟ فقال: ما في هذا حد ينتهى إليه وما بذلك بأس، فاستسقوا ما بدا لكم، قيل له: أيحول الناس أرديتهم في الاستسقاء إذا حول الإمام رداءه؟ قال: نعم إن ذلك لحسن.
قال: وسئل عن الاستسقاء بعد المغرب والصبح، فقال: لا بأس به، وقد كان يفعل هاهنا وما هو من الأمر القديم.(1/433)
قال محمد بن رشد: قوله في أهل برقة: يستسقون إذا لم يسل واديهم الذي يشربون منه وإن كانوا قد مطررا ما زرعوا عليه الزرع الكثير، إنما يريد بذلك الدعاء لا البروز إلى المصلى على سنة الاستسقاء؛ لأن ذلك إنما يكون عند الحاجة الشديدة إلى الغيث حيث فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد روى أبو المصعب عن مالك أن البروز إلى الاستسقاء لا يكون إلا عند الحطمة الشديدة، فإذا كان ذلك وبرز الناس إلى الاستسقاء فتأخر السقيا والوه كما قال مالك، ولا حد في ذلك؛ لأن الدعاء عبادة، والله يحب من عباده أن يتضرعوا إليه عندما ينزل بهم كما أمرهم حيث يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ، وقد أثنى الله -عز وجل- على الداعين إليه فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] ، وذم من قصر في ذلك فقال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] ، وكذلك قوله أيضا في الاستسقاء بعد المغرب والصبح إنما يريد به الدعاء لا البروز إلى المصلى؛ لأن السنة في ذلك لا تكون إلا في الضحى.
[مسألة: التكبير في الأذان]
مسألة قال: وسأله ابن كنانة عن التكبير في الأذان أهو مثل الإقامة الله أكبر الله أكبر مرتين؟ أم الله أكبر الله أكبر أربع مرات؟ فقال: لا، هو مثله في الإقامة، اكتب إليه: هو مثل ما يؤذن الناس عندنا اليوم.
قال المؤلف: اختلف أهل العلم من الأذان في موضعين: أحدهما: التكبير في أوله هل هو مثنى أو مربع، والثاني: الترجيع في الشهادة، فذهب أهل العراق إلى أن التكبير في أول الأذان مربع على ما روي عن أبي محذورة(1/434)
أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه الأذان تسع عشرة كلمة: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ... » الحديث إلى تمام الأذان، وإلى أنه لا ترجيع في الشهادة؛ إذ لم يذكره في حديث عبد الله بن زيد في الأذان. قالوا: فلما لم يذكره فيه احتمل عندنا أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمر به أبا محذورة؛ لأنه لم يمد به صوته أولا على ما أراد، وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -إلى أن التكبير في الأذان مثنى وإلى الترجيع في الشهادة، والحجة له مع أن ذلك قد روي عن أبي محذورة، فكان ما فيه من الترجيع زيادة على غيره من الأحاديث اتصال العمل به بالمدينة منذ وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما اتصل به العمل من الأخبار فهو أولى مما لم يتصل به عمل منها؛ لأن ذلك يقتضي أنه هو الناسخ لها، والله أعلم.
[مسألة: التثويب في رمضان وغيره]
مسألة قال: وسئل عن التثويب في رمضان وغيره، فقال: ليس ذلك بصواب، وقد كان بعض أمراء المدينة أراد أن يصنع ذلك حتى نهي عنه فتركه.
قال محمد بن رشد: التثويب الذي أنكره مالك وقال: إنه ليس بصواب، وحكى ابن حبيب وغيره عنه أنه قال فيه: إنه ضلال -هو ما أحدثه الناس بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال: بين الأذان والإقامة قد قامت الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح. روي عن مجاهد أنه قال: دخلت مع عبد الله بن عمر مسجدا وقد أذن، ونحن نريد أن نصلي فيه، فثوب المؤذن، فخرج عبد الله بن عمر من المسجد وقال: اخرج بنا من عند هذا المبتدع، ولم يصل فيه، وذلك بين من قوله في رواية ابن وهب عنه في " المجموعة "، وهو نحو مما كان يفعل عندنا بجامع قرطبة من أن يعود المؤذن بعد أذانه قبل الفجر النداء عند الفجر بقوله: حي على الصلاة حي(1/435)
على الفلاح ثم ترك. وقيل: إنه إنما عنى بذلك قول المؤذن في أذانه حي على خير العمل؛ لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنة من الشيعة. وروي أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يقول ذلك في أذانه بعد حي على الفلاح. قال ابن حبيب: وهو خاص، ومن أحب أن يقوله فلا حرج، ولا يحمل عليه العامة. والأول هو التأويل الصحيح، يشهد له ما وقع في " المجموعة " وأن التثويب في اللغة هو الرجوع إلى الشيء، يقال: ثاب إلي عقلي، أي: رجع، وثوب الداعي: إذا كرر النداء، ومنه قيل للإقامة تثويب؛ لأنها بعد الأذان. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون» . وقد يقع التثويب على قول المؤذن في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم، روي عن بلال أنه قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تثويب في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر» . وليس هذا التثويب الذي كرهه أهل العلم؛ لأنه من السنة في الأذان، وبالله التوفيق.
[مسألة: كم الوقت الذي يجب فيه النزول إلى الجمعة والعيدين]
ومن كتاب الصلاة الأول مسألة قال أشهب: قيل لمالك: كم الوقت الذي يجب فيه النزول إلى الجمعة والعيدين؟ فقال: أرى أن الذي يجب فيه النزول إلى الجمعة فرسخ، وهو ثلاثة أميال فما دونها. وإنما أخذنا ذلك من قبل أن أهل العالية كانوا ينزلون يوم الجمعة إلى الجمعة على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من العالية، وأقصى العالية على ثلاثة أميال،(1/436)
ولم يعلم أن من وراءهم نزلوا ولا لزمهم ذلك. قيل له: وكذلك النزول إلى العيدين؟ قال: نعم وأرى الذي يجب في النزول إلى العيدين ثلاثة أميال فدون ذلك، ولقد رأيت ناسا من ولد عمر بن الخطاب ينزلون للعيدين من ذي الحليفة، وما ذلك على الناس، وليس العيدان كالجمعة؛ لأن العيدين إنما يكونان في الزمان والجمعة تكون في كل سبعة أيام.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: " إن النزول يجب إلى الجمعة وإلى العيدين من ثلاثة أميال" فدون خلاف قوله في " المدونة ": إنها إن كانت زيادة يسيرة فأرى ذلك عليه، والذي في " المدونة " أولى؛ إذ ليس الحد في ذلك بنص، وإنما أخذ بالاجتهاد والتأويل من فعل أهل العالية. وقد روى علي بن زياد عن مالك أنه إنما ينزل إليها من ثلاثة أميال؛ لأنه منتهى صوت المؤذن، وهذا لمن كان خارج المصر؛ لقوله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] . وأما من كان في المصر الكبير فتجب عليه الجمعة، وإن كان بين منزله والجامع ستة أميال، وكذلك روى ابن أبي أويس وابن وهب عن مالك. والثلاثة الأميال تعتبر على ظاهر رواية علي بن زياد عن مالك من موضع المؤذن، وقيل: إنها تعتبر من طرف المدينة حيث يقصر الخارج ويتم الداخل، وهو قول محمد بن عبد الحكم. وقد روي عن رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل قباء أنه قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نشهد الجمعة من قباء» . وروي عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة على من آواه الليل إلى أهله» إلا أنه حديث لا يصح، قد(1/437)
ذكره أحمد بن الحسن لأحمد بن حنبل فقال له: استغفر ربك استغفر ربك. والخليقة بالقاف وهي خليقتان: خليقة آل عمر، وخليقة آل المنكدر، وبالله التوفيق.
[مسألة: ما يعلق في أعناق النساء من القرآن وهن حيض]
مسألة قال: وسئل عما يعلق في أعناق النساء من القرآن وهن حيض، فقال: ليس بذلك بأس إذا جعل في كن في قصبة حديد أو جلد يخرز عليه، وكذلك الصبيان فلا أرى بذلك بأسا. قلت: أرأيت إن علق عليها هكذا ليس عليه شيء يكنه، فقال: ما رأيت من يفعل ذلك، وليس يفعل هذا، قيل له: أفرأيت الحبلى يكتب لها الكتاب تعلقه؟ قال: أرجو أن لا يكون بذلك بأس إذا كان ذلك من القرآن وذكر الله شيئا معروفا، وأما ما لا يدرى ما هو والكتاب العبراني وما لا يعرف فإني أكرهه، قيل له: أفترى أن يعقد في الخيط سبع عقد؟ فكرهه.
قال الإمام: إنما استخف ما يعلق في أعناق الصبيان والحيض من النساء من القرآن مع أن السنة قد أحكمت أن لا يمس القرآن إلا طاهر إكراما له من أجل أن ذلك شيء يسير منه. وقد مضى وجه الفرق بين جملته وبعضه في رسم "شك في طوافه" من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك. وإنما شرط في إجازة ذلك أن يكون في كن من قصبة حديد وشبه ذلك؛ صيانة له أن تصيبه نجاسة أو أذى؛ لأن لذلك عنده تأثيرا في جواز مسه على غير طهارة؛ لأنه لا يجوز لغير الطاهر حمل المصحف بعلاقته ولا على وسادة، وكره أن يعلق على الحبلى الكتاب بما لا يدرى، وبالعبراني الذي لا يعرف ما هو؛ لأن الاستشفاء إنما يكون بكلام(1/438)
الله تعالي وبأسمائه الحسنى وبما يعرف من ذكره جل جلاله وتقدست أسماؤه. وأما العقد في الخيط فكرهه؛ لأن الرقى إنما تكون بذكر الله لا بما أمر الله بالاستعاذة منه من فعل السواحر اللائي ينفثن على العقد يرقيها، قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] . وفي جواز تعليق هذه الأحراز والتمائم على أعناق الصبيان والمرضى والحبالى والخيل والبهائم إذا كانت بكتاب الله تعالى وما هو معروف من ذكره وأسمائه، للاستشفاء بها من المرض، أو في حال الصحة لدفع ما يتوقع من العين والمرض- بين أهل العلم اختلاف، فظاهر قول مالك في هذه الرواية إجازة ذلك، وروي عنه أنه قال: لا بأس بذلك للمرضى، وكرهه مخافة العين وما يتقى من المرض للأصحاء.
وأما التمائم بغير ذكر الله تعالى وبالكتاب العبراني وما لا يعرف ما هو فلا يجيزه بحال، لا لمريض ولا صحيح؛ لما جاء في الحديث من أن «من تعلق شيئا وكل إليه» ، «ومن علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له» ؛ ولما رواه في موطاه من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث في بعض أسفاره رسولا والناس في مقيلهم: لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وبر أو قلادة إلا قطعت» . ومن أهل العلم من كره التمائم ولم يجز شيئا منها بحال ولا على حال؛ لما جاء من هذه الآثار، ومنهم من أجازها في المرض ومنعها في حال الصحة لما يتقى منه، أو من العين على ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: "ما علق بعد نزول البلاء فليس بتميمة".(1/439)
وقول مالك في هذه الرواية أولى الأقوال بالصواب من جهة النظر؛ إذ يبعد إجازة تعليق تميمة لا ذكر لله فيها في حال من الأحوال، ولا وجه من طريق النظر للتفرقة فيما كان منها بذكر الله بين الصحة والمرض إلا اتباع قول عائشة في ذلك، إذ لا تقوله رأيا، والله أعلم. وقوله الثاني أتبع للأثر؛ لاستعمال الآثار كلها بحمل النهي على ما ليس فيه ذكر الله تعالى، وقول عائشة على ما كان منها بذكر الله، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: صلى خلف رجل فلما قضى صلاته وجد منه ريح نبيذ]
مسألة وسئل عمن صلى خلف رجل، فلما قضى صلاته وجد منه ريح نبيذ، فقال: إن كان لم يستنكر شيئا من عقله ولا صلاته فلا أرى أن يعيد، لعله نبيذ لا بأس به.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان لم يستنكر شيئا من عقله ولا صلاته فلا أرى أن يعيد، يدل على أنه لو استنكر شيئا من ذلك لوجبت عليه إعادة الصلاة، وذلك صحيح؛ لأن السكران لا تجوز صلاته لنفسه، إذ لا تصح منه نية؛ لذهاب عقله، فلا تجوز صلاته لغيره، فمن صلى خلفه أعاد، قاله مالك في " المدونة ". وفي هذا الرسم متصلا بهذه المسألة في بعض الروايات يعيد في الوقت وبعده، قاله سحنون وأصبغ، وفي قوله: لعله نبيذ لا بأس به دليل على أنه لو تيقن أنه نبيذ مسكر لوجبت عليه الإعادة وإن لم يكن سكر منه، وهذا صحيح على أصل مذهبه في أن ما أسكر كثيره من الأشربة فقليله حرام كالخمر، يجب فيه الحد وإن لم يبلغ به حد السكر، وتسقط به شهادته، ويجب على من ائتم به إعادة صلاته كمن أتم بشارب الخمر على ما قال ابن وهب في سماع عبد الملك أو بفاسق معلن بالفسق من أجل أنه لا يؤتمن على ما لا تصح الصلاة إلا به من الوضوء والنية وشبه ذلك، ولا يراعى في ذلك مذهب أهل العراق فيعذر أحد به؛ لبعده عن الصواب ومخالفته لما صح وثبت من الآثار، وبعده في النظر والاعتبار.(1/440)
[مسألة: أيصلي بعد المغرب في الليلة المطيرة التي يجمع فيها بعد المغرب نافلة]
مسألة وسئل: أحب إليك أن تصلي بعد المغرب في الليلة المطيرة التي يجمع فيها بين الصلاتين بعد المغرب نافلة؟ أم تثبت كما أنت حتى تصلي العشاء؟ قال: بل أثبت كما أنا ولا أتنفل حتى أصلي العشاء. وإنما جمع بين المغرب والعشاء للرفق بالناس، ولئلا ينقلبوا ثم يرجعوا إلى العشاء.
قال محمد بن رشد: الوجه فيما اختاره مالك من ترك التنفل بعد المغرب إذا جمع بين الصلاتين هو أنه لو أبيح ذلك للناس لكثر ذلك من فعلهم، فكان سببا لتأخير صلاة العشاء ذريعة إلى ألا ينصرفوا إلا بعد الظلام، وإنما أريد بالجمع الرفق بالناس لينصرفوا وعليهم إسفار. وهذا من نحو المنع من التنفل في المسجد بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يقرأ القرآن في اللوح وهو غير متوضئ]
مسألة وسئل عن الرجل يقرأ القرآن في اللوح وهو غير متوضئ، فقال: لا أرى أن يمسه.
قال محمد بن رشد: معناه إذا كان يقرأ فيه على غير وجه التعليم؛ لأنه قد خففه في رسم "شك في طوافه" من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء إذا كان على وجه التعليم، ومضى هناك القول على وجه تخفيفه، وحمل كلامه على أن بعضه مفسر لبعض أولى من حمله على الخلاف ما أمكن ذلك، وبالله التوفيق.(1/441)
[مسألة: تفوته ركعة من صلاة الظهر فيقوم لقضائها قبل سلام الإمام]
ومن كتاب الأقضية الثالث
مسألة قال: وسئل مالك عن الرجل تفوته ركعة من صلاة الظهر مع الإمام، فيصلي معه ثلاث ركعات، فإذا جلس الإمام في الرابعة قام فقضى تلك الركعة قبل أن يسلم، جهل ذلك، قال مالك: أرى أن لا يعتد بتلك الركعة، ثم ليجلس مع الإمام حتى يسلم، فإذا سلم قام فقضى تلك الركعة وسجد سجدتين بعد السلام.
قال محمد بن رشد: قوله: جهل ذلك، يريد أنه جهل أن الإمام لم يسلم وظن أنه قد سلم؛ لأنه جهل أن القضاء لا يكون إلا بعد سلام الإمام. ولو جهل ذلك فصلى الركعة قبل سلام الإمام جهلا لأفسد صلاته. وفي " المبسوطة " لابن نافع أنه يعتد بها ويجزيه، وهو نحو ما لابن القاسم في رسم "باع شاة" من سماع عيسى، وذلك شذوذ، وإنما الاختلاف المشهور فيمن صلى في حكم الإمام إذا لم يدرك في صلاته شيئا، ذكر ذلك ابن المواز في كتابه، فتدبر ذلك. وقوله: "سجد سجدتين بعد السلام " خلاف ما في " المدونة " وخلاف المشهور في المذهب من أن كل سهو يكون من المأموم في حكم صلاة الإمام يحمله عنه الإمام، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يدخل المسجد فيجد الإمام في الركعة أيركع دون الصف]
مسألة وسئل عن الرجل يدخل المسجد فيجد الإمام في الركعة، وهو منه على مثل ما يجوز للرجل أن يركع فيه مع الإمام من البعد، فيركع مع الإمام ويريد أن يمشي إلى أن يصل إلى الصفوف، قال: لا يمشي حتى يفرغ من سجود تلك الركعة، ولا يمشي فيما بين الركوع والسجود، ولا يجعل بينه عمل.(1/442)
قال الإمام: قوله: وهو منه على مثل ما يجوز للرجل أن يركع فيه مع الإمام من البعد، أي: وهو منه على مثل ما يجوز للرجل أن يركع فيه معه من البعد، فيدب راكعا إلى الصف، فمعنى المسألة أنه إذا كان على هذا الحد من البعد فركع دون الصف، وعجل الإمام بالرفع قبل أن يصل إلى الصف، أنه لا يمشي حتى يفرغ من سجود تلك الركعة. وقد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في أول رسم "اغتسل " من سماع ابن القاسم، فقف على ذلك وتدبره، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصلاة خلف الإباضية والواصلية]
ومن كتاب الصلاة الثاني مسألة قال: وسئل عن الصلاة خلف الإباضية والواصلية، فقال: ما أحبه، فقيل له: فالسكنى معهم في بلادهم؟ فقال: ترك ذلك أحب إلي.
قال محمد بن رشد: الإباضية والواصلية فرقتان من فرق الخوارج الذين أعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخروجهم على المسلمين ومروقهم من الدين. وقوله في الصلاة خلفهم: لا أحبه، يدل على أنه لا يرى الإعادة على من صلى خلفهم، وهو قول سحنون وكبار أصحاب مالك، وقيل: إنه يعيد في الوقت، وهو قول ابن القاسم في " المدونة "، وقيل: إنه يعيد في الوقت وبعده، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وقاله ابن حبيب، إلا في الوالي أو خليفته على الصلاة؛ لما في ترك الصلاة خلفهم من الخروج عليهم وما يخشى في ذلك من سفك الدماء. وقد تأول بعض الشيوخ ما في " المدونة " لمالك على عكس تفرقة ابن حبيب؛ لقوله: وأرى إن كنت تتقيه وتخافه على نفسك أن تصلي معه وتعيد ظهرا أربعا، والتفرقة بين ذلك استحسان، وكذلك الإعادة في الوقت، فالخلاف في(1/443)
ذلك على وجه القياس راجع إلى قولين: إيجاب الإعادة أبدا على القول بأنهم يكفرون بمآل قولهم، وإسقاط الإعادة جملة على القول بأنهم لا يكفرون بمآل قولهم، وهذا فيما كان من الأهواء والبدع محتملا للوجهين؛ إذ منها ما هو كفر صريح فلا يصح أن يختلف في أن الإعادة على من صلى خلفهم، ومنها ما هو هوى خفيف لا يؤول بمعتقده إلى الكفر، فلا يصح أن يختلف في أن الإعادة غير واجبة على من صلى خلفهم، هذا وجه القول في هذه المسألة، وإن كانت الروايات إنما جاءت في ذلك مجملة، وكره السكنى معهم في بلادهم؛ لوجوه ثلاثة: أحدها: مخافة أن ينزل عليهم من الله سخط فيصيبه معهم، والثاني: مخافة أن يظن أنه معهم فيعرض نفسه لسوء الظن به، والثالث: مخافة أن يسمع كلامهم فيدخل عليه شك في اعتقاده لشبههم.
[مسألة: الطويل الشعر يعتم على شعره بعمامة ثم يصلي بها]
مسألة وسئل عن الطويل الشعر يعتم على شعره بعمامة ثم يصلي بها، فقال: أما أن يكتفه فإنه يكره، وأما أن يستدفئ فلا بأس به.
قال المؤلف: إنما كره أن يكتف شعره في الصلاة لما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يصلي الرجل وشعره معقوص» ، ولقول ابن مسعود: إن الشعر يسجد معه وله بكل شعرة أجر، وذلك لا يكون رأيا، وهو مثل ما في " المدونة "، وبالله التوفيق.
[مسألة: الركاب في السفينة لا يقدرون على الركوع والسجود]
مسألة وسئل عن الركاب في السفينة لا يقدرون على الركوع والسجود إلا أن يركع أحدهم على ظهر صاحبه ويسجد، فقال(1/444)
لم يركبونها؟ فقيل: إلى الحج والعمرة، فقال: ما أرى أن يركبوها لحج أو عمرة، أيركب حيث لا يصلي! ويل لمن ترك الصلاة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن السجود من فرائض الصلاة، فإذا علم أنه لا يقدر في السفينة على السجود إلا على ظهر صاحبه، فلا ينبغي له ركوبها في حج ولا عمرة؛ لأنه لا يدخل على نافلة من الخير لمعصية، فإن فعل وصلى فيها وسجد على ظهر أخيه أعاد أبدا على قوله؛ لأنه قد جعل ذلك كتركه للصلاة، وهو يأتي على مذهب ابن القاسم في " المدونة " في الذي يقدح الماء من عينيه فيصلي إيماء أنه يعيد أبدا. وقال أشهب: لا إعادة عليه، وكذلك يقول في الذي لا يقدر في الزحام على سجود إلا على ظهر أخيه: إنه لا يعيد إلا في الوقت. ووجه ذلك أن الفرض عنده قد انتقل إلى الإيماء من أجل الزحام، فكان كالمريض الذي لا يستطيع السجود، فرفع إلى جبهته شيئا أومأ إليه فسجد عليه أن ذلك يجزيه، وهو عند مالك بخلاف المريض يعيد أبدا إن لم يسجد إلا على ظهر أخيه أو إيماء، فإن كان مع الإمام فلم يقدر على السجود إلا إيماء أو على ظهر أخيه حتى قام الإمام، سجد ما لم يعقد الإمام عليه الركعة التي تليها، وإن كان ذلك في الركعة الأخيرة سجد ما لم يسلم أو ما لم يطل الأمر بعد سلامه على الاختلاف في سلام الإمام هل هو كعقد ركعة أم لا.
[مسألة: الجماعة إذا كانت بموضع فلا يجوز لها أن تفترق طائفتين]
مسألة وسئل عن القوم يكونون في السفينة فينزل بعضهم ويبقى بعضهم، فيقيم الذين بقوا في السفينة الصلاة، ثم يجيء الذين كانوا نزلوا، أيجمعون تلك الصلاة في السفينة؟ فقال برأسه: لا، فروجع فيها فقال: إنما سأل الجمع مرتين فيها، ثم قال برأسه لا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين؛ لأن الجماعة إذا كانت بموضع(1/445)
فلا يجوز لها أن تفترق طائفتين، فتصلي كل طائفة منها بإمام على حدة؛ لقول الله -عز وجل-: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107] . ألا ترى أن الله -تبارك وتعالى- لم يبح ذلك للغزاة مع شدة الخوف، وشرع لهم أن يجتمعوا على إمام واحد، وكذلك أهل السفينة لا يجوز لهم أن يفترقوا على طائفتين في الصلاة، فلما كان ذلك لا يجوز لهم كره للذين نزلوا إذا جاؤوا أن يجمعوا الصلاة لأنفسهم إذا كان الذين بقوا قد جمعوا تلك الصلاة؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى ما لا يجوز من تفرقة الجماعة، لا سيما إن كان الذين بقوا إنما جمع بهم إمام راتب لهم، وأجاز في " المدونة " أن يصلي الذين فوق سقف السفينة بإمام والذين تحته بإمام آخر؛ لأنهما موضعان، فليس ذلك بخلاف لهذه الرواية، والله أعلم.
[مسألة: حكم التبسم في الصلاة]
مسألة وسئل عمن تبسم في الصلاة، فقال: يسجد سجدتي السهو، فقلت له: أقبل السلام أم بعده؟ فقال لي: قبل السلام.
قال محمد بن رشد: أوجب في هذه الرواية سجود السهو قبل السلام في التبسم، ولم يفرق بين أن يكون متعمدا أو جاهلا أو مغلوبا أو ناسيا يرى أنه في غير صلاة، ووجه ذلك أنه أسقط الخشوع فهو في النسيان أظهر فيما عداه، فيحتمل أن يكون ذلك وجه ما أراد على ما في " المدونة "، وفي رسم "البراءة" من سماع عيسى لا سجود عليه ناسيا كان أو متعمدا. وقد نص على ذلك في سماع عيسى فقال: لو كان عليه سجود السهو إذا نسي لكان عليه إعادة الصلاة إذا تعمد، وهو الصواب؛ إذ لا سجود على من التفت في صلاته أو عبث فيها بيده أو سوى الحصباء بنعله، أو فعل ما أشبه ذلك مما يفعله في الصلاة ترك الخشوع فيها ناسيا كان أو متعمدا باتفاق، وسيأتي التكلم(1/446)
على حكم القهقهة في الصلاة في رسم "استأذن" ورسم "البراءة" من سماع عيسى إن شاء الله، وبه التوفيق.
[مسألة: دخل مع الإمام في صلاته فسها لكثرة الناس عن الركوع مع الإمام]
مسألة وسئل عمن دخل مع الإمام في صلاته فسها لكثرة الناس عن الركوع مع الإمام، وربما كان ذلك يوم الجمعة، فسها عن الركوع حتى رفع الإمام رأسه من الركعة، فيعلم بذلك بعد أن يرفع الناس رؤوسهم، أيعتد بها؟ فقال: إن أدركه وهو ساجد فليعتد بها، وإن لم يدركه حتى رفع رأسه من السجود فأحب إلي أن يقضي الركعة.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم "كتب عليه حق" من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته ها هنا، وتأتي متكررة في رسم "نقدها"، ورسم "لم يدرك" من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصلاة في المسجد الجامع في الرداء والسراويل]
مسألة قال: وسئل عن الصلاة في المسجد الجامع في الرداء والسراويل، فقال: لا والله إن الصلاة في السراويل لقبيحة، فقيل له: أرأيت لو توشح الرداء فصلى فيه؟ فقال: ما السراويل من لباس الناس، وكره ذلك، قال: وإنما يصنع ذلك ضعفة الناس، وليست السراويلات من ثياب الناس التي يظهرون إلا أن تكون تحت القميص. قال: ولقد كنت ألبسه فما كنت ألبسه إلا بعد القميص، إن الحياء من الإيمان.
قال القاضي: هذا كما قال، إن تردي الرداء وتوشحه على السراويل دون قميص مما يستقبح من الهيئة في اللباس، ولا يفعله إلا ضعفة الناس؛ لأن السراويل تصف ولا تستر كما يستر الإزار الذي يعطف بعضه على بعض،(1/447)
فلا ينبغي لأحد أن يصلي في المسجد الجامع في الرداء والسراويل دون قميص، تردى الرداء أو توشحه، وإن كان توشحه أخف لكونه أستر؛ لأن التجمل في الصلاة بحسن هيئة اللباس مشروع، قال الله- عز وجل-: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] . وروي عن مالك أنه قال في تفسير ذلك: معناه لتأخذوا لباسكم عند كل صلاة، قيل له: أفمن ذلك مساجد البيوت؟ قال: نعم. وقد سئل عمر بن الخطاب عن الصلاة في ثوب واحد، فقال: "إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم جمع رجل عليه ثيابه"، الحديث. وقال عبد الله بن عمر لنافع مولاه، وقد رآه يصلي في ثوب واحد: إذا صليت فخذ عليك ثوبا آخر، فإن الله أحق من تجملت له. هذا هو المختار المستحب عند أهل العلم كلهم، ولو صلى في ثوب واحد إزارا كان أو قميصا أو سراويل لأجزأته صلاته، وروي عن أشهب أن من صلى في السراويل وحدها وهو يجد الثياب، يعيد في الوقت، قال: وكذلك من أذن في السراويل وحدها أعاد أذانه ما لم يصل، فإن صلى لم يعد، وكان كمن صلى بغير أذان.
[مسألة: العجمي يصلي ولا يعرف القرآن]
مسألة قال: وسئل عن العجمي يصلي ولا يعرف القرآن، قال: ينبغي أن يتعلم، فأما أن يصلي ولا يعرف فهو يصلي ولا يعرف.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن العجمي الذي لا يعرف القرآن- أي: لا يحفظ شيئا منه- ينبغي له أن يتعلم ما يصلي به ولا يتوانى في ذلك؛ لأن القرآن من فروض الصلاة، وينبغي له أن لا يصلي وحده ما لم يتعلم ما يصلي به، فإن صلى وحده بغير قراءة وهو يجد من يأتم به ممن(1/448)
يحسن القرآن أي: يحفظه، لم تجزه صلاته وأعادها، قاله ابن المواز. وإن ائتم به أحد أعاد الصلاة، قاله ابن القاسم في " المدونة ". وكتاب ابن المواز في الذي لا يحسن القرآن أي: لا يحفظ شيئا منه ولا يعرفه، قال ابن المواز: ويعيد هو أيضا؛ لتركه الائتمام به. وقد اختلف في الذي يحسن القرآن، أي: يحفظه ولا يحسن قراءته ويلحنه على أربعة أقوال: أحدها أن الصلاة خلفه لا تجوز، وإن لم يلحن في أم القرآن إذا كان يلحن في سواها، قاله بعض المتأخرين تأويلا على ما لابن القاسم في " المدونة " في الذي لا يحسن القرآن؛ لأنه حمله على الذي لا يحسن القراءة، وقال: إن لم يفرق فيها بين أم القرآن وغيرها، وهو بعيد في التأويل غير صحيح في النظر، والثاني: أن الصلاة خلفه جائزة إن كان لا يلحن في أم القرآن، ولا تجوز إن كان يلحن في أم القرآن، والثالث: أن الصلاة لا تجوز خلفه إن كان لحنه لحنا يتغير به المعنى، مثل أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] بكسر الكاف، و {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] برفع التاء، وما أشبه ذلك، وتجوز إن كان لحنه لحنا لا يتغير به المعنى، مثل أن يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] بكسر الدال من الحمد ورفع الهاء من الله، وما أشبه ذلك، وهذا قول ابن القصار وعبد الوهاب، والرابع: أن الصلاة خلفه مكروهة ابتداء، فإن وقعت لم تجب إعادتها، وهذا هو الصحيح من الأقوال؛ لأن القارئ لا يقصد ما يقتضيه اللحن، بل يعتقد بقراءته ما يعتقد بها من لا يلحن فيها، وإلى هذا ذهب ابن حبيب. ومن الحجة له ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل المسجد يوما، فمر بالموالي وهم يقرؤون ويلحنون فقال: نعم ما قرأتم، ومر بالعرب وهم يقرؤون ولا يلحنون فقال: هكذا أنزل» . وأما الألكن الذي لا تتبين قراءته والألثغ الذي لا يتأتى له النطق ببعض الحروف، والأعجمي الذي لا يفرق بين الطاء والضاد والسين والصاد وما أشبه ذلك، فلا اختلاف في أنه لا إعادة على من ائتم بهم، وإن كان الائتمام بهم مكروها إلا ألا يوجد من(1/449)
يرضى به سواهم. وسيأتي في آخر سماع موسى القول في صلاة الذي لا يحسن القرآن مستوفى، وبالله التوفيق.
[مسألة: النفر يكونون بموضع ليس عليهم إمام يجمعون الجمعة]
مسألة وسئل عن النفر يكونون بموضع ليس عليهم إمام، يجمعون الجمعة؟ فقال: إن لم يكونوا أهل عمود جمعوا، إنما يكون الجمع على أهل القرى. فقيل له: فإن لم يؤمر عليهم؟ فقال: إي والله وإن لم يؤمر عليهم ربما صلى أبو المثنى الجمعة بالناس بغير أمر الإمام، يمرض الإمام أو يموت أو تصيبه علة.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن لم يكونوا أهل عمود جمعوا، ظاهره خلاف ما في أول رسم من سماع عيسى أن الخصوص والمحال إذا كانت مساكن لأهلها كمساكن القرى في اجتماعها، لم يحل لهم أن يتركوا الجمعة، وعلى ذلك كان يحملها الشيوخ عندنا، ويحتمل أن يكون أراد بأهل العمود في الرواية الذين ينتجعون الكلأ ولا يستقرون بموضع، فتتفق الروايات ولا يكون بينها تعارض. والأظهر أن ذلك اختلاف من القول، وأن لا جمعة على أهل العمود؛ لأن الأصل أن الظهر أربع، فلا ينتقل عن ذلك إلا بيقين وهو المصر؛ لأنه المتفق عليه؛ لأنه أصل ما أقيمت الجمعة فيه، فوجب أن لا يجمع إلا في المصر أو فيما يشبه المصر من القرى التي فيها الأسواق والمساجد؛ إذ قد اشترط ذلك مالك في بعض الروايات عنه. وأما الوالي فليس من شرائط إقامة الجمعة عند مالك، وقد روي عن يحيى بن عمر أنه قال: الذي أجمع عليه مالك وأصحابه أن الجمعة لا تقام إلا بثلاثة: المصر، والجماعة، والإمام الذي تخاف مخالفته، وهو قول عمرو بن العاص، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، روي أن قوما أتوه فسألوه أن يأذن لهم في الجمعة، فقال: هيهات، لا يقيم الجمعة إلا من أخذ بالذنوب وأقام الحدود وأعطى الحقوق. وفي(1/450)
" المبسوط " لمحمد بن مسلمة أنه لا يصليها إلا سلطان أو مأمور أو رجل مجمع عليه، وهو قريب من ذلك كله خلاف المعلوم من مذهب مالك في " المدونة " وغيرها، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصلاة بعد الجمعة في المسجد]
مسألة وسئل عن الصلاة بعد الجمعة في المسجد أمكروه؟ فقال: أما الناس فلا، وأما الأئمة فينصرفون ولا يصلون فيه، وقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأئمة ينصرفون إذا فرغوا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب الصلاة الثاني من " المدونة " في الإمام أنه لا ينبغي له أن يركع في المسجد يوم الجمعة على إثر صلاة الجمعة، وخلاف قوله فيه في الناس؛ لأنه استحب لهم فيه أن لا يركعوا، ورأى ذلك لهم واسعا إن ركعوا، وخلاف قوله في الصلاة الأول منها؛ لأنه كره لهم فيه أن يركعوا ولى يوسع في ذلك. فتحصل في ركوع الناس يوم الجمعة في المسجد لمالك ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا كراهة في الركوع ولا استحباب في الجلوس، فإن جلس لم يؤجر، وإن ركع كان له أجر صلاته كاملا، كما لو صلى في غير ذلك الوقت من الأوقات التي لا تكره فيها الصلاة، وهو الذي يأتي على هذه الرواية، والثاني أن الجلوس مستحب والركوع واسع، فإن جلس ولم يصل أجر على جلوسه، وإن صلى أجر على صلاته، والله أعلم أيهما أعظم أجرا، وهو الذي يأتي على قول مالك في الصلاة الثاني من " المدونة "، والثالث أن الركوع مكروه والجلوس مستحب، فإن جلس ولم يصل أجر، وإن صلى لم يأثم، وهذا الذي يأتي على ما في الصلاة الأول من " المدونة "، فالجلوس على هذا القول أولى من الصلاة، والصلاة على القول الأول أولى من الجلوس. وإنما جاء هذا الاختلاف لما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا(1/451)
صلى الجمعة لم يركع في المسجد حتى ينصرف فيركع في بيته ركعتين» فاحتمل أن يكون هذا من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصا للأئمة، واحتمل أن يكون عاما لجميع الناس، بدليل ما روي أن ابن عمر رأى رجلا يصلي ركعتين بعد الجمعة، فدفعه وقال: أتصلي الجمعة أربعا؟! وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا» ، فاستحب بعض العلماء أن يصلي بعد الجمعة أربعا وكره أن يصلي بعدها ركعتين؛ ليجمع بين الحديثين، والله أعلم بالصواب.
[مسألة: أوتر بالناس في رمضان أيسلم بين الاثنتين والواحدة]
مسألة وسئل عمن أوتر بالناس في رمضان، فقال: لو كنت صانعه لم أسلم بين الاثنتين والواحدة؛ لأن بعض الناس قد قالوا: يوتر بثلاث، وإنه ليقال: إن معاذا القارئ كان يوتر بثلاث يفصل بين الاثنتين والواحدة.
قال محمد بن رشد: كذا وقعت الرواية: لو كنت صانعه لم أسلم بين الاثنتين والواحدة، وحكاها ابن حبيب: لو كنت صانعه سلمت بين الاثنتين والواحدة، على ما يوجبه مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. والصحيح في الرواية: لم أسلم بين الاثنتين والواحدة، بدليل اعتلاله لذلك بقول الذين قالوا: إنه يوتر بثلاث، فأراد أنه لو أوتر بثلاث لا يفصل بينهن لما خالف فعله في ترك الفصل؛ إذ من الناس من يقول ذلك. وهذا نحو قول ابن القاسم في رسم(1/452)
"لم يدرك" من سماع عيسى في الذي يدرك الإمام في آخر ركعة من الوتر، وهو ممن لا يسلم أنه يضيف إليها ركعتين بغير سلام، ونحو قوله في " الواضحة " فيمن فاتته الركعة الأولى من شفع الوتر، والإمام ممن لا يفصل بين الشفع والوتر أنه لا يسلم مع الإمام إذا سلم من الوتر، ويقوم إلى الثالثة دون سلام لئلا، يخالف فعل الإمام في ترك الفصل بالسلام وإن كان قد فارقه في الوتر، إذ لم يدخل معه في أول الشفع خلافا لابن مطرف وابن الماجشون في قولهما: إنه يسلم مع الإمام إذا كان الإمام ممن يفصل أو لا يفصل؛ إذ قد فارقه ولم يدخل معه من أول الشفع. وقد اختلف الناس في الوتر، فقيل: إنه ركعة واحدة، وقيل: إنه ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام، وقيل: إنه ثلاث ركعات يسلم في الاثنتين منهن وفي آخرهن. وذهب مالك إلى أن ركعة واحدة عقب شفع أدناه ركعتان على ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عمر قال: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى» ، وبالله التوفيق.
[مسألة: مس الذكر أتعاد منه الصلاة]
مسألة وسئل عن مس الذكر أتعاد منه الصلاة؟ فقال: لا أوجبه، وأبى، فروجع فيه فقال: يعيد ما كان في الوقت وإلا فلا. قال سحنون: لا أرى على من مس ذكره وصلى إعادة، لا في وقت ولا في غيره، ولقد قال لي ابن القاسم غير مرة: إن إعادة الوضوء عندي من مس الذكر ضعيف.
قال محمد بن رشد: هذا كله من رواية أشهب عن مالك، وقول سحنون وروايته عن ابن القاسم يرجع إلى أن مس الذكر لا ينقض الوضوء(1/453)
بحال، خلاف ظاهر ما في رسم "الوضوء والجهاد" من سماع أشهب من كتاب الوضوء. ورواية ابن وهب عن مالك في سماع سحنون منه في الفرق بين أن يمسه عامدا أو غير عامد قول ثالث، وإليه ذهب ابن حبيب. وقد مضت هذه المسألة موعبة في رسم "اغتسل على غير نية" من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء، فقف على ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: وقت الدم]
مسألة قال: وسئل عن وقت الدم، فقال: ليس له عندنا وقت، فقيل له: فقليله وكثيره سواء؟ فقال: لا، ولكن لا أجيبكم إلى هذا الضلال، إذا كان مثل الدرهم، ثم قال: أرأيت إن كان الدرهم من هذه البغيلة، الدراهم تختلف تكون وافية كلها وبعضها أكبر من بعض.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في هذا السماع من كتاب الوضوء، ومضى القول عليها هناك بما أغنى عن إعادته.
[مسألة: الإمام يكبر في العيدين على المنبر]
مسألة وسئل عن الإمام يكبر في العيدين على المنبر، أيكبر الناس بتكبيره؟ فقال: نعم، فقيل: أفينصتون كما ينصتون يوم الجمعة؟ فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله: إنهم يكبرون بتكبير الإمام، يريد سرا في أنفسهم، وذلك حسن وليس بواجب، قال ذلك في الحج الأول من " المدونة "، وهو مفسر لما هاهنا. وقد مضى القول في وجوب الإنصات في خطبة(1/454)
العيدين، وما في ذلك من الاختلاف في أول هذا السماع وفي رسم "تأخير صلاة العشاء" من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: من لم يسمع قراءة الإمام للفاتحة أيقول آمين]
مسألة قال ابن نافع عن مالك: ليس على من لم يسمع قراءة الإمام أن يقول آمين إذا قال الإمام: ولا الضالين.
قال محمد بن رشد: قوله: ليس ذلك عليه، يدل على أن له أن يقوله وإن لم يكن ذلك عليه، بأن يتحرى الوقت كما يتحرى المريض الذي ترمى عنه الجمار وقت الرمي عنه فيكبر. وذهب محمد بن عبدوس إلى أن ذلك عليه، وذهب يحيى بن عمر إلى أنه لا ينبغي له أن يفعل ذلك، فهي ثلاثة أقوال، أظهرها قول يحيى؛ لأن المصلي ممنوع من الكلام، والتأمين كلام أبيح للمصلي أن يقوله في موضعه، فإذا تحرى قد يضعه في غير موضعه.
[مسألة: أدرك الإمام يوم الجمعة ساجدا فلم يسجد معه في الركعة الآخرة]
مسألة قال: وسئل عمن أدرك الإمام يوم الجمعة ساجدا فلم يسجد معه في الركعة الآخرة، أيقيم الصلاة لنفسه؟ قال: نعم، لا يجزيه إقامة الناس.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه لم يحرم مع الإمام، ولو أحرم معه لبنى على إحرامه وأجزأته إقامة الناس، ولم يصح له أن يقيم إلا أن يقطع الصلاة ثم يستأنفها، ولو فعل ذلك في هذه المسألة لأخطأ؛ إذ لا اختلاف في أنه لا يصح له أن يبني فيها على إحرامه، بخلاف الذي قد يجد الإمام ساجدا في الركعة الثانية، فيحرم معه وهو يظن أنه في الركعة الأولى، وقد مضى القول على هذا في رسم " طلق بن حبيب " من سماع ابن القاسم.(1/455)
[مسألة: يقول في دعائه يا سيدي]
مسألة وسئل عن الذي يقول في دعائه: يا سيدي، فكرهه وقال: أحب إلي أن يدعو بما في القرآن وبما دعت به الأنبياء: يا رب، وكره الدعاء بـ"يا حنان".
قال محمد بن أحمد بن رشد: إنما كره الدعاء بذلك للاختلاف الحاصل بين أهل السنة من أيمة المتكلمين في جواز تسمية الله تعالى بسيد وحنان وما أشبه ذلك من الأسماء التي فيها مدح وتعظيم لله تعالى، ولم تأت في القرآن ولا في السنن المتواترة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أجمعت الأمة على جواز تسميته بها؛ إذ منهم من لم يجز أن يسمى الله إلا بما سمى به نفسه في كتابه أو أسماه به رسوله أو أجمعت الأمة على جواز تسميته به، ومنهم من أجاز تسميته بكل اسم لله فيه مدح وتعظيم ما لم تجمع الأمة على أنه لا يجوز أن يسمى الله تعالى به، كعاقل وفهيم ودار وما أشبه ذلك. وأما الدعاء بـ"يا منان" فلا كراهة فيه؛ لأنه من أسماء الله تعالى القائمة من القرآن، قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] .
[مسألة: تأخير الصلاة بسبب غسل الثياب]
مسألة قال: وقيل لعمر بن عبد العزيز: أخرت الصلاة شيئا، فقال: إن ثيابي غسلت.
قال محمد بن رشد: يحتمل إن لم يكن له غير تلك الثياب لزهده في الدنيا وتقلله منها فلذلك أخر الصلاة شيئا بسبب غسلها، أو لعله ترك أخذ سواها مع سعة الوقت تواضعا لله؛ ليقتدى به في ذلك ائتساء بعمر بن الخطاب(1/456)
إذ جعل يغسل الاحتلام من ثوبه حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثياب فدع ثوبك يغسل، فقال: واعجبا لك يا ابن العاص! إن كنت تجد ثيابا أفكل الناس يجد ثيابا، والله لو فعلتها لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر. فقد كان أتبع الناس لسيرته وهديه في جميع الأحوال، وأيا ما كانت فهي منقبة جليلة وفضيلة عظيمة لا تستغرب منه، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[مسألة: المستحاضة ينقطع عنها الدم في غير أيام حيضتها]
مسألة وسئل عن المستحاضة ينقطع عنها الدم في غير أيام حيضتها، فقال: إذا انقطع عنها الدم اغتسلت وصلت. قال: وسألته عن المستحاضة تصلي صلاتين بوضوء واحد، أتعيد الصلاة؟ فقال: لا، قلت له: في الوقت ولا في غير الوقت؟ قال: لا تعيد في الوقت. قلت: أفيتوضأ لكل صلاة؟ فقال: ذلك أحب إلي، ولا أدري أواجب ذلك عليها أم لا.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا انقطع عنها الدم، يريد دم الاستحاضة الذي كانت تصلي به. وقوله: اغتسلت وصلت، يريد اغتسلت استحبابا وصلت كما كانت تصلي قبل انقطاعه، وذلك معلوم من مذهبه ومذهب جميع أصحابه. وسواء كان انقطاعه في غير أيام حيضتها أو في أيام حيضتها، إذ لا فرق بين الموضعين، فمالك لا يرى على المستحاضة غسلا إلا في أول أمرها بعد الاستظهار أو بلوغ الخمسة عشر يوما، ويستحب لها الوضوء لكل صلاة، فإن صلت صلاتين بوضوء واحد لم تعد، وقيل: إنها تعيد الآخرة في الوقت، حكى القولين ابن المواز عن مالك. ومن أهل العلم من يوجب عليها الغسل لكل صلاة، ومنهم من يوجبه من طهر إلى طهر، ومنهم من يوجب عليها أن تغسل للظهر والعصر غسلا واحدا، وللمغرب والعشاء غسلا واحدا، على ما جاء في ذلك من الآثار، وبالله التوفيق.(1/457)
[مسألة: المرأة تخرج من البحر عريانة أتصلي قائمة]
مسألة وسئل عن المرأة تخرج من البحر عريانة، أتصلي قائمة؟ قال: نعم في رأي، إلا أن يراها أحد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنها مأمورة بالصلاة قائمة مستقبلة القبلة، وقد سقط عنها بعدم الثياب ما يختص بالصلاة من فرض ستر العورة عن عيون من سوى الآدميين، فوجب أن تصلي قائمة إلا أن يراها أحد، كما لها أن تغتسل في الفضاء قائمة إلا أن يراها أحد.
[مسألة: يتعمد إسقاط آية من قراءته في الصلاة]
مسألة وذكر يحيى بن سعيد «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة ترك في قراءته آية، فلما انصرف قال للناس: ما أنكرتم من قراءتي شيئا؟ فقيل: نعم، فكأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يجرب حفظ الناس» قال مالك: «وكان أسيد بن الحضير وهو أحد النقباء يصلي فاضطرب فرسه اضطرابا شديدا، فنظر ما يزعرها فلم ير شيئا، فرفع رأسه إلى السماء فرأى شيئا يظله، فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: تلك الملائكة استمعت لقراءتك.
» قال محمد بن رشد: قوله: فكأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يجرب حفظ الناس، هو تأويل من الراوي ليس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعلى القول بتصحيحه يجوز للرجل أن يتعمد إسقاط آية من قراءته في الصلاة، فعلى هذا لا ينبغي أن يفتى في الصلاة من أسقط في قراءته شيئا من القرآن أو خرج من سورة إلى سورة، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، خلاف ما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من «قوله(1/458)
لأبي بن كعب حين أسقط آية من سورة الفرقان: " ما منعك أن تفتح علي؟ قال: خشيت أنها نسخت، قال: فإنها لم تنسخ» . وفيه أيضا دليل على صحة ما ذهب إليه مالك من أن الذي يقرأ السجدة وهو على غير وضوء أو في غير وقت صلاة يختصرها، والصواب أن يختصر جملة الآية لا موضع ذكر السجود خاصة، على ما حكى عبد الحق عن بعض شيوخه؛ لأنه إذا فعل ذلك لم يتسق الكلام وتغير معناه، وقصة أسيد بن الحضير هذه وقعت هاهنا مختصرة، وهي في المصنفات بكمالها، من ذلك قوله فيها: «فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فعرجت إلى السماء حتى لم أرها. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم"، ثم قال: "لقد أوتيت يا أسيد من مزامير آل داود» ، يعني حسن الصوت، وهذه كرامة عظيمة لأسيد بن الحضير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا أنها وما كان مثلها على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنما هي ببركة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهي معدودة من آياته ومن جملة معجزاته. وفي القصة التحريض على تفريغ البال لاستماع القراءة؛ ولذلك أدخلها مالك عقب حديث يحيى بن سعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون له ثوب واحد أترى أن يعقد طرفيه إذا صلى لئلا يسقط عنه]
مسألة وسئل عن الذي يكون له ثوب واحد، أترى أن يعقد طرفيه إذا صلى لئلا يسقط عنه؟ قال: لا بأس بذلك إذا لم يكن له غيره ولم يكن محرما، فإذا كان محرما فلا يفعل، وإن كان له ثوب غيره فأحب إلي أن يأخذ ثوبا آخر أوسع منه، وأحب إلي أن يتزر ويتردى إذا وجد، وكل من لم يجد فيجزئ عنه ما وجده.(1/459)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن السنة في الصلاة في الثوب الواحد إذا لم يكن قميصا أن يخالف بين طرفيه على عاتقيه، فإن شاء رد طرفيه بين يديه، وإن شاء تركهما على عاتقيه، فإن لم يثبت لقصره إلا أن يعقده عقده، إلا أن يكون محرما فلا يعقده، وليتزر به؛ لأن العقد للمحرم مكروه، وإن قصر عن أن يعقده على قفاه فليتزر به، ولا شيء عليه في صلاته مكشوف الظهر والبطن إذا لم يجد، فإن صلى كذلك وهو يجد فقد أساء ولا إعادة عليه، وقيل: يعيد في الوقت. وقد مضى ذلك في صدر هذا الرسم والاختيار إذا وجد ألا يصلي في أقل من ثوبين وإن لم يكن في جماعة الناس.
[يريد أن المصلي بالمدينة يستقبل من البيت الميزاب]
مسألة وقال: يقال: إن قبلة المسجد مسجد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبالة الميزاب.
قال محمد بن رشد: يريد أن المصلي بالمدينة يستقبل من البيت الميزاب؛ لأنه هو الذي يتفق، فليس في هذا معنى يشكل.
[مسألة: آكل الثوم أيكره له المشي في السوق]
مسألة قال: ولقد سألت مالكا عن آكل الثوم أيكره له المشي في السوق؟ فقال: ما سمعت ذلك إلا في المسجد، فقلت له: أرأيت من يأكل البصل والكراث أيكره له من دخول المسجد ما يكره من الثوم؟ فقال: لم أسمع ذلك إلا في الثوم، وما أحب له أن يؤذي الناس.
قال المؤلف: في قوله: ما سمعت ذلك إلا في المسجد، دليل على أنه لا حرج عنده على آكل الثوم في المشي في الأسواق، وإن كره له ذلك في(1/460)
مكارم الأخلاق. والوجه في ذلك أن النهي إنما ورد في المسجد، وله حرمة يختص بها دون الأسواق؛ لقول الله- عز وجل-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] ، ولما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أن تنظف وتطيب، فلم يصح قياس الأسواق عليه في منع آكل الثوم من دخوله، وأما قياس الكراث والبصل على الثوم في منع آكلها من دخول المسجد فصحيح إن كانت تؤذي رائحتها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نص على أن العلة في الثوم هي الإذاية، فوجب أن يعتبر بها حيثما وجدت، وذلك بين من مذهب ابن القاسم في رسم "أوصى" من سماع عيسى. وعلى هذا يجب أن يحمل قول مالك؛ لأن قوله: وما أحب له أن يؤذي الناس، تجاوز في اللفظ، ومراده به ما يجوز له أن يؤذي الناس؛ لأن ترك إذاية الناس من الواجب لا من المستحب، وبالله التوفيق.
[مسألة: ينسى الظهر ثم يذكرها وهو في العصر مأموما]
مسألة قال: وسألته عن الذي ينسى الظهر ثم يذكرها وهو في العصر، يصلي لنفسه ليس مع الإمام؟ فقال: يتم ركعتين ثم ينصرف فيصلي الظهر ثم يصلي العصر. قيل له: وإن كان إنما أحرم في العصر قط؟ فقال: نعم يتم ركعتين.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية: إنه يتم ركعتين ولا يقطع، ركع أو لم يركع، وكذلك لو ذكر صلاة قد خرج وقتها وهو في صلاة مكتوبة لأتم أيضا ركعتين ركع أو لم يركع. وفي " المدونة " أنه يقطع ما لم يركع، وسواء على مذهبه فيها ذكر وهو في العصر صلاة الظهر من يومه أو صلاة قد خرج وقتها. وقد قيل: أنه يقطع أيضا في المسألتين جميعا ركع أو لم يركع، قاله مالك في أحد قوليه في " المدونة " في النافلة، ولا فرق بين النافلة والفريضة في القياس. وقد قيل: إن الفريضة في هذا بخلاف النافلة، فيقطع في النافلة ركع(1/461)
أو لم يركع، ولا يقطع في النافلة ركع أو لم يركع، وقد قيل: إنه إن كان معه ركعة أتم ركعتين، وإن كان لم يركع شيئا أو ركع ثلاث ركعات قطع، وهو اختيار ابن القاسم في " المدونة ". وفرق ابن حبيب بين أن يذكر الظهر في العصر أو المغرب في العشاء، وبين أن يذكر صلاة قد خرج وقتها وهو في صلاة، فقال: إنه إن ذكر الظهر في العصر أو المغرب في العشاء قطع، ركع أو لم يركع، كان مع الإمام أو وحده، وإن ذكر صلاة قد خرج وقتها وهو في صلاة تمادى إن كان مع الإمام، وإن كان وحده أتم ركعتين ركع أو لم يركع. وقد قيل: إنه إن كان في خناق من الوقت قطع ما لم يركع، وإن يكن في خناق منه تمادى وإن لم يركع، فيتحصل في المسألة من الاختلاف سبعة أقوال. وهو كله اختلاف اختيار؛ إذ لا يتعلق بمن فعل شيئا من ذلك حكم عند من رأى خلافه إلا انتقاص الفضيلة. وقد قيل: إنه يخرج من قطع عند من رآى أن يتم ركعتين؛ لقول الله -عز وجل-: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، ويخرج من أتم ركعتين عند من رأى أن يقطع؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها كما كان يصليها في وقتها» ، فإن الله- عز وجل- يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ، فصار من أخر الصلاة المنسية عن وقت ذكرها فيه بالتمادي على التي ذكرها فيها آثما، والأول أظهر أنه لا يأثم بدليل «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتي الفجر يوم الوادي بعد أن طلعت الشمس قبل أن يصلي الصبح» . وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلافهم فيمن ذكر صلاة، وهو في صلاة فتمادى عليها حتى أتمها، أو ذكرها فبدأ بالتي حضر وقتها قبلها، هل يعيد أبدا أو في الوقت؟ وأما من فرق بين أن يذكر الصلاة وهو في صلاة أو قبل أن يدخل فيها، فوجهه اتباع ظاهر ما جاء(1/462)
من أن من ذكر صلاة وهو في صلاة فسدت عليه الصلاة، وهو حديث مروي، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتنفل فيتعيا بالقرآن أفيقف فيفكر أو ينصرف يسلم وينظر]
مسألة وسئل عن الذي يتنفل فيتعيا بالقرآن، أفيقف فيفكر أو ينصرف يسلم وينظر؟ قال: يتفكر تفكرا خفيفا يتذكر ولا يسلم. ولكن يخطرف ذلك أو يستفتح بسورة أخرى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن القرآن كله حسن سواء، فما قرأ منه كفى وأجزأ، قال الله- عز وجل-: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] ، فإذا تعايا في قراءته تذكر يسيرا؛ لأن التذكر الكثير يخرجه عن الإقبال على صلاته، فإن ذكر وإلا خطرف أو استفتح بسورة، إذ ليس موالاة القراءة بواجب، فقد جاء أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسقط آية من قراءته ليجرب حفظ الناس وإن شاء ركع وسجد، ولا يسلم لينظر؛ إذ لا ينبغي لأحد أن يقطع صلاته إلا من ضرورة، قال الله- عز وجل-: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . ولو كان المصحف إلى جنبه ونظر فيه وتمادى على صلاته لكان قد أساء ولم يكن عليه شيء، وجائز للذي لا يحفظ القرآن أن يصلي في المصحف، والفرق بين الموضعين أن الذي يشك في الحرف إذا نظره في المصحف احتاج إلى فتش موضعه، فكان ذلك شغلا في صلاته، والذي يصلي في المصحف يفتحه قبل أن يدخل في الصلاة، ويجعل أمامه الموضع الذي يريد أن يقرأه في صلاته، فينظر من غير أن يشتغل بشيء إلا بتحويل الورقة التي أكمل قراءتها، وذلك يسير.(1/463)
[مسألة: الذي يركع فيتطأطأ جدا]
مسألة وسئل عن الذي يركع فيتطأطأ جدا، فقال: ما ذلك بحسن، وأحسن الركوع اعتدال الظهر، لا يرفع رأسه جدا ولا يخفضه جدا وينصب قدميه أحسن.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، فقد جاء أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا ركع لو وضع على ظهره ماء لاستقر» .
[مسألة: دخول الكنائس للصلاة والأكل فيها]
مسألة قال: سمعت نافعا يذكر أن عمر بن الخطاب صنع له طعام بالشام في كنيسة، فأبى أن يجيب إليه وكره دخول الكنائس وقال: لا أرى أن يصلى في الكنائس. قال: وسئل عن الصلاة في الكنائس، فقال: لا أحب أن يصلى فيها إذا وجد غيرها، هي نجس، قد دعي عمر بن الخطاب إلى طعام بالشام في كنيسة فلم يأته وقال: أرى أن لا تدخل هذه الكنائس التي فيها الصور.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم في هذه المسألة، فتأمله هناك.
[صلى إلى غير القبلة متعمدا أو جاهلا بوجوب استقبال القبلة]
مسألة قال يحيى بن سعيد: سمعت ابن المسيب يقول: حولت القبلة بعد بدر بشهرين، قال ابن المسيب: إنهم صلوا إلى بيت(1/464)
المقدس ستة عشر شهرا، ثم حولت القبلة بعد بدر بشهرين، قال: قال مالك: ذكر لي عبد الله بن دينار «عن عبد الله بن عمر أن الناس بينما هم قيام في الصلاة إلى بيت المقدس، فجاءهم آت فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أنزل عليه أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، فاستداروا إلى القبلة» .
قال محمد بن رشد: وقع هاهنا بعد بدر بشهرين، وفي " الموطأ ": قبل بدر بشهرين، فيحتمل أن يريد بما هاهنا بدرا الأولى وبما في " الموطأ " بدرا الثانية؛ لأنه كان بينهما نحو أربعة أشهر، تحولت القبلة بعد الأولى بشهرين وقبل الثانية بنحو شهرين. وقد قيل: إن ما في " الموطأ " هو الصواب، والذي وقع هاهنا غلط؛ لأن بدرا إذا أطلقت دون وصف فالمراد بها الثانية المشهورة المذكورة في القرآن، وقول ابن المسيب: إنهم صلوا إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، صحيح، لا اختلاف في أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى بيت المقدس منذ قدم المدينة حتى حولت القبلة، وإنما اختلفت الآثار في صلاته بمكة قبل قدومه المدينة، فروي أنها كانت إلى مكة وهو دليل قول سعيد بن المسيب هذا، وروي أنها كانت إلى بيت المقدس، وقيل: إنه كان يصلي إلى بيت المقدس ومكة بين يديه، فكانت صلاته إليهما جميعا، وفي استدارتهم إلى القبلة في صلاتهم معنى يجب الوقوف عليه، وذلك أن أهل العلم بالأصول اختلفوا في الحكم إذا نسخ، فقيل: إنه يكون منسوخا بورود الناسخ جملة، وقيل: إنه لا يكون منسوخا عند من لم يعلم ورود الناسخ إلا بوصول العلم إليه، فيلزم على القول بأنه منسوخ بنفس ورود الناسخ جملة أن يستدير في صلاته إلى القبلة من علم فيها أنه إلى غير القبلة على ما فعل الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بقباء، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وقول مالك:(1/465)
إنه يقطع ويبتدئ بخلاف ما فعل الصحابة يدل على أنه لم ير الحكم منسوخا عنهم إلا بوصول العلم إليهم، إلا أن يفرق بين الموضعين، فإنهم وإن كان الحكم منسوخا عنهم بنفس ورود النسخ قبل دخولهم في الصلاة، فلم يكن منهم تقصير، بخلاف الذي اجتهد في القبلة فبان له بعد الدخول في الصلاة أنه على غير القبلة، وقد اختلف فيمن صلى إلى غير القبلة مستدبرا لها، أو مشرقا أو مغربا عنها، ناسيا أو مجتهدا، فلم يعلم حتى فرغ من الصلاة، فالمشهور في المذهب أنه يعيد في الوقت من أجل أنه يرجع إلى اجتهاد من غير يقين، وقيل: إنه يعيد في الوقت وبعده، وهو قول المغيرة وابن سحنون، كالذي يجتهد فيصلي قبل الوقت، وكالأسير يجتهد فيصوم شعبان، وقاله الشافعي إذا استدبر القبلة. وذكر عن أبي الحسن القابسي أن الناسي يعيد أبدا بخلاف المجتهد. وأما من صلى إلى غير القبلة متعمدا أو جاهلا بوجوب استقبال القبلة، فلا اختلاف في وجوب الإعادة عليه أبدا، وكذلك من صلى بمكة إلى غير الكعبة وإن لم يكن مشاهدا لها فهو كالمشاهد لها في وجوب الإعادة عليه أبدا، من أجل أنه يرجع إلى يقين يقطع عليه، إذ يمكنه أن يصعد على موضع يرى الكعبة منه فيعلم بذلك حقيقة القبلة في بيته. واختلف فيمن صلى بمكة إلى الحجر، فقيل: لا تجزئه صلاته؛ لأنه لا يقطع أنه من البيت، وقيل: تجزئه صلاته؛ لتظاهر الأخبار أنه من البيت، وذلك في مقدار ستة أذرع منه؛ لأن ما زاد على ذلك ليس من البيت، وإنما زيد فيه لئلا يكون مركنا فيؤذي الطائفين، وبالله التوفيق.
[مسألة: رفع المصلي صوته بالقراءة في المسجد]
مسألة
[في رفع المصلي صوته بالقراءة في المسجد] قال مالك: وكان عمر بن عبد العزيز يخرج في الليل- أراه(1/466)
في آخره، وكان حسن الصوت -يصلي، فقرأ، فقال سعيد بن المسيب لبرد: اطرد هذا القارئ عني فقد آذاني، فسكت برد، فقال: ويحك يا برد! اطرد هذا القارئ عني فقد آذاني، فقال له برد: إن المسجد ليس لنا، إنما هو للناس، فسمع ذلك عمر فأخذ نعليه ثم تنحى.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذا ما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج على الناس وهم يصلون في المسجد وقد علت أصواتهم بالقراءة، فقال: إن المصلي يناجي ربه، فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن» . فلا يجوز لمن تنفل في المسجد وإلى جنبه من يصلي أن يرفع صوته بالقراءة؛ لأنه يخلط عليه صلاته، وفي ذلك إذاية له، وكذلك من فاته من صلاة الإمام ما يجهر فيه بالقراءة فلا يجوز له أن يفرط في الجهر إذا كان إلى جنبه من يعمل مثل عمله لئلا يخلط عليه صلاته فيؤذيه بذلك. ومن حق من أوذي أن ينهى من آذاه عن إذايته؛ فلذلك أمر سعيد بن المسيب بردا بما أمره به من طرد القارئ عنه، يريد من جواره لا من المسجد جملة، ولم يهبه لمكانه من الخلافة؛ لجزالته وقوته في الحق وقلة مبالاته بالأيمة، ولا أنف عمر بن عبد العزيز من قوله؛ لتواضعه وخيره وفضله وانقياده للحق، وأخذ نعليه وتنحى عنه. وقد استدل بعض الشيوخ بهذه الحكاية على أن الأصوات من الضرر الذي يجب الحكم على الجار بقطعه على جاره، كالحدادين والكمادين والندافين وشبه ذلك، وليس بدليل بين؛ لأن ما يفعله الرجل في داره من ذلك فيتأذى به جاره، بخلاف ما يفعله في المسجد من رفع صوته بالقراءة لتساوي الناس في الحق فيه، ولو صلى رجل في داره فرفع صوته بالقراءة لما وجب لجاره أن يمنعه من ذلك، والرواية منصوصة عن مالك في أنه ليس(1/467)
للرجل أن يمنع جاره الحداد من ضرب الحديد في داره وإن أضر به سماعه، فكيف بهذا؟ والله أعلم.
[مسألة: ينسى تكبيرة الإحرام وهو إمام فيذكر بعدما قرأ صدرا من قراءته]
مسألة وسئل مالك عن الذي ينسى تكبيرة الإحرام وهو إمام، فيذكر بعدما قرأ صدرا من قراءته، فقال: يبتدئ تكبيرة الإحرام، قلت له: أترى أن يؤذن من خلفه؟ قال: نعم، يقول لهم: إني لم أكن ذكرت تكبيرة الإحرام، فهذا حين دخولي في الصلاة، فادخلوا معي، ثم يقول: الله أكبر، فإن كانوا هم قد كبروا، فإن ذلك لا يجزئهم.
قال محمد بن رشد: قوله: يبتدئ تكبيرة الإحرام، يريد بغير سلام، ولا اختلاف في هذا، بخلاف ما لو لم يذكر إلا بعد ركعة. وقوله: إنه يؤذن من خلفه، صواب؛ لأن تكبيرهم قبله لا يجزئهم، إلا أنه يختلف، هل يقطعون بسلام؟ أو يكبرون ولا يقطعون؟ فقيل: إنهم بمنزلة من لم يكبر يكبرون ولا يسلمون، وهو مذهبه في " المدونة "، وقيل: إنهم يسلمون ويكبرون، ولو لم يؤذنهم فتمادوا معه لأعادوا الصلاة على مذهب مالك. ولو علموا ذلك بعد ركعة وقد كبروا للركوع لكان الاختيار أن يتمادوا مع الإمام ويعيدون، بمنزلة من نسي تكبيرة الإحرام وهو مع الإمام فذكر بعد أن ركع وقد كبر للركوع، وإن شاءوا قطعوا بسلام وأحرموا، وكانوا كالداخلين في الصلاة معه يقضون ركعة بعد سلامه، ولا يجزئهم أن يحرموا بغير سلام.
[مسألة: صلاة الخسوف إذا رفع رأسه من الركعة الأولى أيقرأ بأم القرآن]
مسألة وسئل مالك عن صلاة الخسوف والكسوف] إذا رفع رأسه من الركعة الأولى أيقرأ بأم القرآن في الركعة الثانية؟ قال: نعم.(1/468)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في" المدونة " أنه يقرأ أم القرآن في الأربع ركعات، وعبد العزيز بن أبي سلمة لا يرى أن يقرأ أم القرآن إلا في الركعة الأولى والثانية، وهو القياس؛ لأن القراءة الثانية من الركعة الأولى؛ إذ لم يفصل بينهما سجود، ألا ترى أن من أدرك الركوع الثاني مع الإمام حمل عنه الإمام القراءتين جميعا وإن كان بينهما ركوع؛ لأنهما في حكم القراءة الواحدة. وقول مالك استحسان، وبالله التوفيق.
[مسألة: المصلي لنفسه في المكتوبة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم]
مسألة وسئل عن المصلي لنفسه في المكتوبة، فقال: لا يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. [قلت له: أرأيت الذي يقرأ لنفسه في النافلة بعد المغرب ركعتين أو غيرها من الصلوات، فقال: لا يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] إلا أن يكون رجلا يقرأ القرآن عرضا، يعني بذلك عرضه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم "نذر سنة" من سماع ابن القاسم مستوفى، فلا وجه لإعادته هنا.
[مسألة: الصلاة خلف من استؤجر لقيام رمضان يقوم بالناس]
مسألة وسئل عن الصلاة خلف من استؤجر لقيام رمضان يقوم بالناس، فقال: أرجو أن لا يكون بذلك بأس، إن كان بأس فعليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا بأس بالصلاة خلف من استؤجر لقيام رمضان؛ لأن الإجارة ليست عليه حرام، فتكون جرحة فيه تقدح في إمامته، وإنما هي له مكروهة، فتركها أفضل، ولا تكره إمامة من فعل ما تركه أفضل، كما لا تكره إمامة من ترك ما فعله أفضل من النوافل، ولم يحقق الكراهية في هذه الرواية، إذ قال فيها: إن كان بأس فعليه، وخففها(1/469)
في غير ما كتاب من " المدونة "، ورأى ذلك في المكتوبة أشد لحرمتها ووجوبها عليه، فلم يبح الإجارة فيها على الإطلاق، إلا أن يكون في حيز التبع مما ينضاف إليها من الأذان والقيام على المسجد لعمارته. وقد روى علي بن زياد عن مالك أنه لا بأس أن يأخذ الرجل الإجارة على صلاة الفريضة؛ لأنه يلزمه أن يصليها لنفسه، ولا يأخذ ذلك في النافلة، حكى هذه الرواية بكر القاضي، ووجهها أن صلاة الفريضة لما كانت تلزمه علم أنه لم يعط الأجرة على ما يلزمه، وإنما أعطيها على ما لا يلزمه من أن يصليها في مسجدهم حيث يأتمون به، ولما كانت صلاة النافلة لا تلزمه خشي أن يكون إنما صلى بسبب الأجرة، ولولاها لم يصل، فكرهها لذلك. ووجه ما في " المدونة " من أن ذلك في الفريضة أشد هو أن الصلاة الفريضة، وإن كانت لا تلزمه في مسجد بعينه، فيلزمه من مراعاة أوقاتها وحدودها ما يخشى أن يكون لولا الأجرة لقصر في بعضها، والنافلة لا تلزمه أصلا، فكانت الإجارة عليها أخف؛ لأن الإجارة على ما لا يلزم الأجير فعله جائزة، وإن كان في ذلك قربة، أصل ذلك الأذان وبناء المساجد، والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: الإمام إذا قال سمع الله لمن حمده أيرفع يديه]
مسألة وسئل عن الإمام إذا قال: سمع الله لمن حمده، أيرفع يديه؟ قال: نعم، يرفع يديه ويرفع من وراءه أيديهم إذا قالوا: سمع الله لمن حمده، قيل: أيرفع يديه إذا قال: سمع الله لمن حمده أم يرجئ ذلك حتى يقول: ربنا ولك الحمد؟ فقال: إذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه، وكذلك يفعل من وراءه، وليس رفع الأيدي بلازم، وفي ذلك سعة.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها موعبا في رسم "المحرم يتخذ الخرقة لفرجه"، من سماع ابن القاسم، ومضى منه شيء في أول رسم من هذا السماع، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك.(1/470)
[مسألة: صلى بالناس فقرأ قل هو الله أحد الله الصمد فقال رجل كذلك الله]
مسألة قال: وسئل مالك عن إمام صلى بقوم فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] ، فقال رجل من ورائه: كذلك الله، أيعيد الصلاة؟ قال: لا.
قال أبو الوليد محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إقرار لله بالتوحيد وبما عليه من صفات التنزيه، ولا يفسد الصلاة إلا ما كان من كلام الناس بغير ذكر الله، وسيأتي هذا المعنى قرب آخر هذا الرسم وفي سماع موسى بن معاوية، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل ذرعه القيء في المسجد النبوي يوم الجمعة]
مسألة وسئل مالك عن رجل ذرعه القيء في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة، فقاء قيئا كثيرا ليس فيه طعام، إنما هو ماء، أترى أن ينصرف من ذلك؟ فقال: لا والله أعلم، ما أرى أن ينصرف إن كان ليس إلا ماء، وأرى أن يأمر من ينزع ذلك من المسجد. قلت له: أرأيت من كان يصلي وهو أمامه أينصرف عنه؟ قال: ما ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: قوله أترى أن ينصرف من ذلك، يريد أترى أن ينصرف عن صلاته ويقطعها لما أصابه فيها من ذلك؛ لأن معنى المسألة أن ذلك أصابه في الصلاة، فلم ير أن ذلك يقطع عليه صلاته إن كان ماء، ويقطعها إن كان طعاما، هذا الذي يدل عليه قوله، وهو له في " المجموعة " نصا من رواية ابن القاسم عنه، فأفسد الصلاة بما لا يفسد به(1/471)
الصيام. والمشهور أن من ذرعه القيء لا تفسد صلاته كما لا يفسد صيامه، بخلاف الذي يستقيء طائعا، وهو قول ابن القاسم في أول رسم "استأذن" من سماع عيسى. واختلف قوله إن رده [بعد وصوله في فساد صلاته وصيامه، يريد إن رده ناسيا أو مغلوبا، وأما إن رده طائعا غير ناس فلا اختلاف في أن ذلك يفسد صومه وصلاته. وقد قيل: إن المغلوب أعذر من الناسي في فساد صومه وصلاته، ولا يوجب ذلك الوضوء وإن كان نجسا بتغيره عن حال الطعام إلى حال الرجيع أو ما يقاربه، إذ لا يوجب الوضوء على مذهب مالك إلا ما خرج من السبيلين من المعتاد على العادة باتفاق، أو على غير العادة باختلاف. وقوله: أرى أن يأمر من ينزع ذلك من المسجد، يريد على التنزيه للمسجد مما يستقذر لا على أن ذلك واجب، إذ ليس بنجس. وقد حكى مالك في " موطأه " أنه رأى ربيعة يقلس في المسجد مرارا وهو في المسجد، فلو كان القلس نجسا لما قلس في المسجد، فإذا لم يكن نجسا وهو ماء قد تغير عن حال الماء إلى أن صارت فيه حموضة، فكذلك يجب أن لا يكون القيء نجسا، وإن تغير عن حال الطعام، ما لم يكن تغيرا شديدا يشبه الرجيع أو يقاربه، والله أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: الصلاة على البسط]
مسألة وسئل عن الصلاة على البسط، فقال: ما يعجبني، ولو صلى لم أر عليه شيئا، ويصلي على غيرها أحب إلي، وما البسط إلا مثل الثياب الأكسية والسيجان، ولكن يصلي على الحصر والتراب والخشب. قيل فالصلاة على ثياب الكتان؟ فقال: ثياب الكتان مثل الكرسف، وكره الصلاة عليها.(1/472)
قال محمد بن رشد: الاختيار أن يصلي على الأرض دون حائل؛ لأن ذلك من التواضع الذي هو الشأن في الصلاة. وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال. «يا رباح عفر وجهك في التراب» ، ولأنه العمل القديم؛ لأن مسجد مكة والمدينة كانا محصبين غير مفروشين، فالصلاة على حائل مكروهة إلا أن يكون الحائل مما يشاكل الأرض ولا يقصد به الترفه والكبر، كحصر الحلفاء والبردي والدوم وشبه ذلك مما تنبته الأرض بطبعها. وقد أجاز محمد بن مسلمة الصلاة على ثياب الكتان والقطن؛ لأنهما مما تنبته الأرض. والأظهر ما ذهب إليه مالك؛ لأن الأرض لا تنبتهما بطبعها؛ ولأن ذلك مما فيه الترفه. وإذا كانت العلة في هذا القصد إلى التواضع وترك ما فيه الترفه، فالصلاة مكروهة على حصر السيجان وما أشبهها مما يشترى بالأثمان العظام ويقصد به الكبر والترفه والزينة والجمال، والله أعلم.
[مسألة: الصلاة فوق السطوح التي ليست بمحظورة أيجعل بين يديه سترة]
مسألة وسألته عن الصلاة فوق السطوح التي ليست بمحظورة، أيجعل بين يديه سترة أم يصلي ولا يجعلها؟ فقال: يجعل سترة أحب إلي، فإن لم يقدر فأراه واسعا، وكذلك الصلاة في الصحاري إلى سترة، فإن لم يجد صلى إلى غير سترة. قلت له: ولا يجعل خطا؟ قال: لا يجعل خطا، وأرى ذلك واسعا. قلت له: فأدنى الذي يستر المصلي في صلاته؟ فقال: مثل مؤخرة الرحل في الطول على غلظ الرمح في الغلظ. قيل له: فعصا الحمار؟ فقال: ما أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: في هذه الرواية السترة من هيئة الصلاة وشأنها وسنتها، فكره الصلاة دون سترة، وإن كان بمكان يأمن أن يمر فيه أحد بين(1/473)
يديه. وعلى ما في " المدونة " إنما أمر المصلي بالسترة؛ لتكون سترة له ممن يمر بين يديه، [فإذا صلى بمكان يأمن أن يمر أحد بين يديه] جاز أن يصلي إلى غير سترة. وكذلك إن صلى على سطح غير محظور أرفع من قامة الإنسان جاز أن يصلي إلى غير سترة وإن مر الناس أمامه دون السطح. وقوله: لا يجعل خطا وأرى ذلك واسعا، [أي أرى واسعا أن] يصلي إلى غير سترة إذ لم يجد سترة، لا أنه رأى الخط إذا لم يجد سترة ووسع في تركه؛ لأن الخط عنده باطل لا يراه، وجد السترة أو لم يجدها. وقد روي أن أمة بالمدينة نظرت إلى ابن جريج وقد خط خطا يصلي إليه، فقالت: واعجبا لهذا الشيخ وجهله بالسنة! فأشار إليها أن قفي، فلما قضى صلاته قال: ما رأيت من جهلي؟ قالت: لأنك تخط خطا تصلي إليه، وقد حدثتني مولاتي عن أمها عن أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الخط باطل، وإن العبد إذا كبر تكبيرة الإحرام سدت ما بين السماء والأرض» ، فسألها تقفوه إلى مولاتها ففعلت، فحدثته بذلك فقال لها: تبيعينها مني أعتقها، فإنه ينبغي أن يحفظ من روى شيئا من العلم، قالت: ذلك إليها، فعرض ذلك عليها فقالت: لا حاجة لي بذلك؛ لأن مولاتي قد حدثتني عن أمها عن أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اتقى العبد ربه ونصح مواليه فله أجران» فلا أحب أن أنقص أجرا، ولو كان هذا لقد كانت مولاتي عرضت ذلك علي على أن تعطيني من مالها بالعقيق ما يكفيني. وقوله في قدر السترة في الطول والغلظ هو مثل ما في " المدونة "، ولم ير أن يجتزئ في ذلك بقدر عصا الحمار في(1/474)
الغلظ، وهو المنغاس، وكذلك لم ير في " المدونة " أن يجتزئ بالسوط لرقته؛ لأنه لا يثبت إذا أقيم، وقال ابن حبيب: لا بأس أن تكون السترة دون مؤخرة الرحل في الطول أو دون جلة الرمح في الغلظ، وقد كانت العنزة التي كانت تركز لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون الرمح في الغلظ. وإنما يكره من ذلك ما كان رقيقا جدا، قال: ولا يكون السوط سترة لرقته إلا أن لا يوجد غيره، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقعد يقعد للناس يحدثهم بعد الظهر في المسجد]
مسألة قال: وكان عمر بن الخطاب يقعد بعد الظهر في المسجد.
قال محمد بن رشد: يريد: يقعد للناس يحدثهم بما يأتيه من أخبار الأجناد، ويحدثونه عن أحاديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ذلك مالك في سماع ابن القاسم من الجامع عندما ذكر الصلاة بين الظهر والعصر، ففي هذا جواز التحدث في المسجد في الأمر المباح دون لغط ولا رفع صوت، وأن مذاكرة العلم في هذا الوقت أفضل من الصلاة. وقد مضى القول في هذا في رسم "صلى نهارا" من سماع ابن القاسم. ويحتمل أن يريد أنه كان يقعد فيه للحكم بين الناس والنظر في أمور المسلمين. وقد جاء في بعض الآثار عنه أنه بلغه أن أبا موسى الأشعري يقضي بالعراق في دار سكناه، فبعث إليه رسولا من المدينة وأمره أن يضرمها عليه نارا، فذهب الرسول إلى أن دخل العراق، فوافى أبا موسى في الدار يقضي، فنزل عن بعيره وأوقد النار في بابها، فأخبروا أبا موسى بذلك، فخرج فزعا، فقال له: ما بالك؟ فقال: أمرني أمير المؤمنين أن أضرمها عليك نارا لالتزامك القضاء فيها، ثم انصرف الرسول من فوره ذلك، فلم يعد أبو موسى إلى القضاء في داره. فلا ينبغي للقاضي أن يقضي إلا في المسجد؛ لأن ذلك أقرب إلى التواضع وليصل الناس إليه، فإن ضمته ضرورة إلى القضاء في داره فتح بابه ولم يحجب عنه أحدا، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: حكم تارك الصلاة]
مسألة قال: وسألته عمن ترك الصلاة، قال: يقال له: صل، وإلا ضربت عنقه.(1/475)
قال محمد بن رشد: يريد أنه تضرب عنقه إن أبى أن يصلي حتى خرج الوقت مغيب الشمس للظهر والعصر أو طلوعها للصبح، أو طلوع الفجر للمغرب والعشاء. وهذا ما لا اختلاف فيه في المذهب، وإنما الاختلاف هل يقتل على ذنب أو على كفر، فمن أهل العلم من رآه بترك الصلاة كافرا يقتل على الكفر، فلا يرثه ورثته على ظاهر ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «من ترك الصلاة فقد كفر» ، «ومن ترك الصلاة فقد حبط عمله» ، «ومن ترك الصلاة حشر مع هامان وقارون» ، وقوله: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فذلك المسلم له ذمة الله، ومن أبى فهو كافر وعليه الجزية» ، وقوله لمحجن: «ما منعك أن تصلي معنا ألست برجل مسلم؟» . وقول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. وما أشبه ذلك من الآثار. وليس نفس ترك الصلاة كفرا على الحقيقة، وإنما هو دليل على الكفر، فمن رآه بترك الصلاة كافرا حكم له بحكم الكفر ولم يصدقه في قوله: إني مؤمن، إذا أبى أن يصلي، فهذا وجه تكفير تارك الصلاة، وهو بين قائم من قول أصبغ في سماع عيسى من كتاب المحاربين والمرتدين لمن تأمله، وأما من جحد فرض الصلاة فهو كافر بإجماع، يستتاب ثلاثا، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الإمام يتعمد أن يقرأ بسورة فيها سجدة]
مسألة قلت له: سمعتك تكره للإمام أن يقرأ بسورة فيها سجدة مخافة اختلاط ذلك على من وراءه، أرأيت إن كان من خلفه قليلا(1/476)
لا يخاف أن يخلط عليهم؟ فقال: لا أرى بذلك بأسا، وإن ناسا ليفعلون ذلك.
قال محمد بن رشد: معناه: فيما يجهر فيه، وكرهه في " المدونة " بكل حال؛ إذ لا يأمن أن يخلط على بعضهم وإن كانوا قليلا. وكره ذلك ابن القاسم للفذ وحكى أنه هو الذي رأى مالكا ينحو إليه، وذلك لما يخشى أن يدخل على نفسه بذلك من السهو، والله أعلم؛ إذ قد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ يوم الجمعة بسورة السجدة فسجد فيها، وبسورة "هل أتى على الإنسان» وبالله التوفيق.
[مسألة: المصلي يهوي إلى السجود، فإذا أراد أن يسجد ذكر أنه لم يركع]
مسألة وسألته عن المصلي يهوي إلى السجود، فإذا أراد أن يسجد ذكر أنه لم يركع، قال: يرجع قائما فيركع مكانه ويسجد، ولو أنه قرأ قبل أن يركع كان أحب إلي، ثم يركع ويسجد، فإذا قضى الصلاة سجد سجدتي السهو بعد السلام.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو ذكر ذلك بعد أن سجد يرجع قائما فيركع ويلغي ما سجد، ولو ذكر وهو قائم في الثانية لركع وكانت له أولى صلاته، وسجد في جميع ذلك بعد السلام. ولا اختلاف أحفظه في هذه المسألة، وإنما الاختلاف فيمن كان مع الإمام فترك الركوع معه بسهو أو غفلة أو نسيان أو زحام أو اشتغال حتى سجد الإمام، وقد مضى القول في ذلك محددا في رسم "كتب عليه ذكر حق" من سماع ابن القاسم، وتأتي المسألة متكررة في أول سماع عيسى في رسم "لم يدرك منه".
[مسألة: تشبيك الأصابع في المسجد]
مسألة وسئل عن تشبيك الأصابع في المسجد أيكره ذلك؟ فقال:(1/477)
لا، فقال له أبو المثنى: أخبرني من رأى عبد الله بن هرمز محتبئا قد شبك بين أصابعه، فقال مالك: إن ناسا ليصنعون ذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم "أوله نذر سنة " من سماع ابن القاسم مجردا، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا.
[مسألة: يأتي والإمام راكع فيركع معه ولا يدري أستمكن من الركوع أم لا]
مسألة وسئل عن الذي يأتي والإمام راكع فيركع معه، ولا يدري أركع فاستمكن من الركوع قبل أن يرفع رأسه أم لا، أيعتد بها؟ فقال: لا يعتد بها، وأحب إلي إن كان مثل هذا وخاف أن لا يدري أركع معه أم سبقه بالركوع أن يدع الركوع معه؛ لئلا يخلط على نفسه فلا يدري أهي من صلاته أم لا. ومن الأئمة أئمة يمكنون الناس حتى يركعوا، ومن الأئمة أئمة يعجلون فلا يستمكن معهم.
قال محمد بن رشد: قوله: لا يعتد بها، معناه أنه يلغيها ويقضيها بعد سلام الإمام ويسجد بعد السلام، فجعله كمن شك في ركعة وهو مع الإمام، ولم يراع قول من قال إن الركعة تجزئه وإن شك في تمكنه فيها مع الإمام، أو لعله راعاه وأخذ بالإلغاء كمن ترك قراءة أم القرآن في ركعة. وقال ابن القاسم في رسم "جاع " من سماع عيسى: إنه يسلم مع الإمام ويعيد الصلاة ولا يأتي بركعة مخافة أن تكون خامسة، إذ قد قيل: الركعة مجزئة عنه وإن شك في تمكنه فيها مع الإمام، وهو قول مالك في مختصر ما ليس بالمختصر لابن شعبان، قال: لا أحب أن يركع معه إذا خاف أن لا يدرك الركعة مخافة أن يخلط على نفسه، فإذا ركع وشك فلا أرى أن يعيد تلك الركعة، وذكر عن مجاهد أنه كان يقول: إذا وضعت كفيك على ركبتيك فقد أدركت الصلاة. فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال كمن ترك قراءة الحمد في ركعة: أحدها: أنه(1/478)
يعتد بالركعة وتجزئه صلاته، والثاني: أنه لا يعتد بها ويلغيها ويقضيها، والثالث: أنه يعتد بها ثم يعيد الصلاة احتياطا، وبالله التوفيق.
[مسألة: صلى بسورة فخنقته العبرة فسكت فتركها وقرأ بأخرى]
مسألة قال: وقال لي مالك: قرأ عمر بن عبد العزيز: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] حتى انتهى إلى {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] ، فخنقته العبرة فسكت، ثم عاد فقرأ حتى بلغها فخنقته العبرة فسكت، فلما رأى ذلك تركها وقرأ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] .
قال محمد بن رشد: هذا من فعل عمر بن عبد العزيز نهاية الخوف لله تعالى، ومن بلغ هذا الحد فهو من أهل الجنة بفضل الله تعالى، قال الله -عز وجل-: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] . وقد روى الصلت عن ابن القاسم أنه لا يطلق على من حلف بالطلاق أن عمر بن عبد العزيز من أهل الجنة. وسئل مالك عن ذلك فتوقف وقال: عمر بن عبد العزيز إمام هدى -أو قال: رجل صالح- وفضائله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أكثر من أن تحصى. وقول ابن القاسم بالصواب أولى؛ لأن الأمة قد أجمعت على الثناء عليه والشهادة عليه بالخير، وهي معصومة. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «-: "لن تجتمع أمتي على ضلالة» ، وقال: «أنتم شهداء الله في الأرض، فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار» ، وبالله التوفيق.(1/479)
[مسألة: يسبق الإمام بالسجود ثم يسجد الإمام وهو ساجد]
مسألة وسألته عن الذي يسبق الإمام بالسجود ثم يسجد الإمام وهو ساجد، أيثبت الرجل على سجوده [أم يرفع رأسه ثم يسجد حتى يكون سجوده بعد سجود الإمام؟ فقال: بل يثبت على سجوده كما هو] إذا أدركه الإمام بسجوده وهو ساجد.
قال محمد بن رشد: وكذلك الذي يسبق الإمام بالركوع يرفع ما لم يركع الإمام، فإن ركع الإمام ثبت على ركوعه ولم يرفع رأسه حتى يكون ركوعه بعد ركوع الإمام. ولا كلام في هذين الوجهين، وإنما الكلام إذا سبق الإمام بالرفع من الركوع أو السجود، فحكى ابن حبيب أن ذلك بمنزلة الذي يسبق الإمام بالسجود أو الركوع، يرجع راكعا أو ساجدا حتى يكون رفعه مع الإمام، إلا أن يلحقه الإمام قبل أن يرجع، فليثبت معه بحاله ولا يعود إلى الركوع ولا إلى السجود، وهو محمول عند من أدركنا من الشيوخ على أنه مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد رأيت له نحوه في " النوادر " من رواية ابن القاسم. وقد روي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود أنهما قالا: "إذا رفع أحدكم رأسه والإمام ساجد فليسجد، فإذا رفع الإمام رأسه فليمكث قدر ما رفع قبله"، بدليل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «لا تبادروني إلى الركوع والسجود، فإني قد بدنت، وإني مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني إذا رفعت، ومهما أسبقكم به إذا سجدت تدركوني به إذا رفعت» ، ومن قوله: «إن الإمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم فتلك بتلك» ؛ لأن ذلك يدل على وجوب قضاء ما سبقه به الإمام من الركوع والسجود حتى يستوفي قدر(1/480)
ركوع الإمام وسجوده. فإذا وجب على من رفع من ركوعه أو سجوده قبل الإمام فرجع إلى الركوع أو السجود أن يثبت راكعا أو ساجدا بعده قدر ما رفع قبله؛ ليستوفي قدر ركوع الإمام أو سجوده على ما روي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، وعلى ما دل عليه ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجب على من رفع من ركوعه أو سجوده قبل الإمام فلحقه الإمام قبل أن يرجع إليهما حتى يقضي ما فاته منهما. وقد حكى ابن سحنون أنه رأى أباه سحنونا يفعل ذلك.
فإن قال قائل: إذا لزمه أن يرجع إلى الركوع والسجود ليستوفي ما فاته منهما، فيلزمه أيضا في الذي يسبق الإمام بسجوده ثم يسجد الإمام وهو ساجد أن يرجع إلى القيام ليستوفي ما فاته منه.
قيل له: لا يلزم ذلك. والفرق بين الموضعين أن الركوع والسجود شرع فيهما التطويل، فانبغى أن يقضي ما فاته منهما، والقيام بعد الركوع لم يشرع فيه التطويل، فلم يجب أن يقضي ما فاته منه، وكذلك الجلوس بين السجدتين، ولا يلزمنا على هذا القيام قبل الركوع، إذ قد شرع فيه التطويل؛ لأنه موضع مخصوص بالإجماع، والله أعلم.
[مسألة: حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمامة بنت زينب في الصلاة]
مسألة قال: وسألته عن حمل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رقبته يحملها إذا قام ويضعها إذا سجد، أذلك جائز للناس اليوم على حب الولد أو الضرورة؟ فقال: ذلك جائز على حال الضرورة إلى ذلك، فأما من يجد من يكفيه ذلك فلا أرى ذلك ولا أرى ذلك على حب الرجل ولده.
قال محمد بن رشد: حمل مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هذا على أنه إنما فعله لحاجة وضرورة، فأجاز ذلك عند الضرورة، ولم يجز ذلك لغير الضرورة ولا على حب الرجل ولده. فإن فعل(1/481)
ولم يشغله عن صلاته فلا إعادة عليه، قاله ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية، وينبغي أن يحمل على التفسير؛ لقول مالك: وليس في الأحاديث ما يدل على أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك من ضرورة، وظاهرها العموم. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن ذلك كان في أول الإسلام، وحين كان يجوز في الصلاة الكلام، ثم نسخ ذلك كما نسخ الكلام، فروي «عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، فأمرنا بالسكوت والقنوت والخشوع والإقبال على الصلاة وترك الاشتغال بغيرها من فعل ومن قول» . وقد مضى العمل في الصدر الأول وما بعده على ترك مثل هذه الأفعال في الصلاة، فدل على أنهم علموا النسخ فيها؛ إذ لا يجمعون على خلاف ما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بعد ثبوت نسخ ذلك عندهم، والله أعلم.
[مسألة: الرجل يدخل المسجد يصلي والصبي أمامه في الصف]
مسألة وسئل عن الرجل يدخل المسجد يصلي والصبي أمامه في الصف وهو ممن لا يتحفظ في الوضوء، فقال: أرجو أن يكون ذلك واسعا.
قال محمد بن رشد: قوله: أرجو أن يكون ذلك واسعا يدل على أن الاختيار عنده أن يتنحى عنه حتى لا يكون في قبلته، وسيأتي بيان هذا في رسم "الجواب" من سماع عيسى.
[مسألة: المسافرين ينزلون بالقرية فيحبسهم الرجل فيقدموه ليتم بهم الصلاة]
مسألة وسئل عن المسافرين ينزلون بالقرية، فيحبسهم الرجل من أهل القرية، فيريدون أن يقدموه ليتم بهم الصلاة. فقال: لا أحبه،(1/482)
أحب إلي أن يقدموا رجلا منهم ليقصر بهم. قال: وبلغني أن سالم بن عبد الله كان يسافر، فيقال له إذا نزل القرية: هذا أمير القرية وهذه الصلاة وهذه الجمعة، فلا يأتيه. قلت له: ولم ترك ذلك يا أبا عبد الله؟ فقال: أرى ذلك أنه يجب أن يصلي صلاة المسافر ويكون على حاله، ما كان ألزم الناس لما أدركوا عليه أوليتهم وما ذلك بسواء. أما إذا نزل المسافرون برجل في غنمه أو قريته، فأرادوا أن يجمعوا معه فأرى ذلك ولا أرى به بأسا؛ لأنه أحق بمنزله ومسجده، وكان ابن عمر يصلي بمنى مع الإمام أربعا، فإذا صلى وحده صلى ركعتين. ولقد كان منزله واسعا لو شاء صلى وحده، فما أرى بذلك بأسا. قال: وصاحب المنزل أولى بالصلاة بهم، فقلت: وإن كان عبدا؟ قال: نعم وإن كان عبدا. وقد كان عبد لعائشة يؤمها في الصلاة وعندها ناس يصلي بها وبهم. قلت له: أيؤم العبد في رمضان؟ قال: أما في مساجد الجماعات فلا، وأما في أهله فلا بأس بذلك.
قال الإمام أبو الوليد: قد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم وفي رسم "شك في طوافه" منه القول في تقديم المسافرين للمقيم ليتم بهم الصلاة، وفي رسم "باع غلاما منه " الوجه في كون صاحب المنزل أولى بالإمامة فيه، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي المسجد المرتفع المعلق والصلاة قائمة أيصلي تحته بصلاته]
مسألة وسئل عن الذي يأتي المسجد المرتفع المعلق على العمد والصلاة قائمة فلا يجد فيه موضعا، أيجزئه أن يصلي تحته بصلاته؟ فقال: ما يعجبني أن يصلي أمامه، ولكن لو صلى في الفضاء من(1/483)
ورائه. فقلت له: أرأيت القوم يكونون في السفينة فتضيق عنهم فيكون بعضهم فوقها وبعضهم فيها، فقال: ليس السفينة مثل هذا ولا بأس بذلك، صاحب السفينة في البحر لا يجد بدا من ذلك. قيل له: فأين أحب إليك أن يكون الإمام؟ فقال: لا أدري أي ذلك أصوب؟ أرأيت لو لم تضق السفينة أين كان يكون الإمام؟ قيل: أرأيت إذا كان القوم تضيق عليهم السفينة حتى لا يقدروا أن يصلوا إلا جلوسا، أيصلون؟ قال: إن كانوا لا يقدرون على البر ولا على الصلاة قياما فأرى ذلك لهم.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإمام إذا صلى بقوم في موضع مرتفع جاز للرجل أن يصلي بصلاته في موضع أخفض منه، إلا أن يكون أمام الإمام، فإنه يكره ذلك له ابتداء، فإن فعل أجزأته صلاته. هذا معنى قوله في " المدونة "، وهو نص قوله في هذه الرواية في المسجد المرتفع المعلق على العمد. وأجاز في السفينة إذا صلى الإمام فوقها بمن معه أن يصلي من فيها بصلاتهم وإن كانوا أمام الإمام؛ إذ لا يجدون من ذلك بدا كما قال؛ لأنه موضع ضرورة.
وكذلك على مذهبه إذا صلى الإمام بقوم في موضع منخفض جاز للرجل أن يصلي صلاتهم في مكان أرفع منه؛ لأنه لم يكره في " المدونة " الصلاة على قيقعان وأبي قبيس بصلاة الإمام في المسجد الحرام إلا من أجل بعدهما عن الإمام مع ارتفاعهما، لا من أجل ارتفاعهما خاصة، إلا أن يكون الموضع الذي صلى عليه ظهر المسجد والإمام مع جماعته داخل المسجد، فاختلف في ذلك قول مالك في " المدونة " أجازه مرة وكرهه أخرى، بخلاف الجمعة؛ إذ لم يختلف قوله في أن الجمعة لا يصليها أحد فوق ظهر المسجد، فإن فعل أعاد في الوقت وبعده، قاله ابن القاسم في " المدونة "، ومالك في " المبسوطة "، وقيل: لا إعادة عليه، وهو قول أشهب ومطرف وابن الماجشون وأصبغ في " المدنية "، وقال ابن الماجشون: جائز للمؤذن أن(1/484)
يصلي الجمعة فوق ظهر المسجد؛ لأنه موضع أذانه، وظهر السفينة هو موضع الركوب، فإن ضاقت السفينة عن أهلها فكان بعضهم فوقها وبعضهم أسفلها صلى الذين فوق بإمام، والذي أسفل بإمام، قاله في " المدونة "؛ لأنهما موضعان، فإن لم يكن لهم إلا إمام واحد فالاختيار أن يكون فوق حيث معظم الناس، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية: أرأيت لو لم تضق السفينة أين كان يكون الإمام؟ بخلاف المسجد إذا كان له طبقتان لا يجوز أن يصلي في كل طبقة إمام، ويصلي الإمام بالجماعة في إحدى الطبقتين، فإن لم تحمل الطبقة الواحدة الجماعة فالاختيار أن يصلي الإمام أسفل، ويصلي فوق من الناس من ضاقت عنهم الطبقة، فإن صلى الإمام فوق وصلى أسفل من الناس من ضاقت عليهم الطبقة العليا جاز، ولا ينبغي أن يكون الإمام وحده دون الجماعة في موضع أرفع منهم ولا أخفض إلا أن يكون ذلك يسيرا، فإن فعل بقصد إلي ذلك لتكبره عليهم أو تكبرهم عليه أعادوا في الوقت وبعده؛ لأنهم عابثون. وإن صلى الإمام في مكان أرفع ممن خلفه من غير قصد إلى ذلك، مثل أن يكون الإمام فوق سقف السفينة والقوم تحته فيصلون على حالهم فقد أساؤوا، وصلاتهم تامة. وكذلك لو افتتح الرجل صلاته في موضع مرتفع فأتى قوم فائتموا به. واختلف إذا كان الإمام أسفل والقوم فوق السقف، فقال في " المدونة ": لا بأس بذلك. وعلى ما في سماع موسى بن معاوية لا ينبغي ذلك؛ لأنه قال: إذا كان الإمام أرفع ممن خلفه، أو كان من خلفه أرفع منه فلا بأس به إذا تقارب ذلك فساوى بين الوجهين.
[يشد جبهته بالأرض حتى يؤثر فيها السجود فيبدو ذلك للناس]
مسألة وقد رأى سعد بن أبي وقاص رجلا بين عينيه سجدة، فدعاه فقال: منذ متى أسلمت؟ فقال: منذ كذا وكذا، فقال له سعد: فأنا قد أسلمت منذ كذا وكذا، فهل ترى بين عيني شيئا؟
قال محمد بن رشد: كره له سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يشد جبهته(1/485)
بالأرض حتى يؤثر فيها السجود فيبدو ذلك للناس؛ إذ ليس ذلك المراد بقول الله -عز وجل-: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] ، وإنما هو ما يعتريهم من الصفرة والنحول بكثرة العبادة أو سهر الليل، وقيل: إن ذلك في الآخرة لا في الدنيا، ولعله اتهمه أن يكون قصد بذلك ليعرف به؛ فلذلك وبخه بما قرره عليه في الرواية، والله أعلم. وقد روي أن عمر بن عبد العزيز استعمل عروة بن عياض على مكة، فاستعداه عليه رجل ذكر أنه سجنه في حق، فلم يخرجه من السجن حتى باع ماله منه بثلاثة آلاف وقد كان أعطاه به ستة آلاف، فأبى أن يبيعه منه واستحلفه بالطلاق ألا يخاصمه في ذلك أبدأ، فنظر عمر إلى عروة ونكت بالخيزران بين عينيه في سجدته ثم قال: هذه غرتني منك -لسجدته- ولولا أني أخاف أن تكون سنة من بعدي لأمرت بموضع السجود فقور، ثم قال للرجل: اذهب فقد رددت عليك مالك ولا حنث عليك. وبالله التوفيق.
[مسألة: أذان الصبي وإقامته وإمامته للبالغين]
مسألة وسئل: أيكره من أذان الصبي وإقامته ما يكره من إمامته؟ فقال: نعم، لا يؤذن الصبي ولا يقيم إلا أن يكون مع نساء أو في الموضع الذي لا يوجد غيره، يغيب الرجل فيؤذن لهم ويقيم كذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المؤذن معلم بالأوقات، مؤتمن على مراعاتها، مصدق قوله فيها؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن» فلا يصح أن يؤتمن ويصدق إلا من تعلم أمانته وتجوز شهادته، وبالله التوفيق.(1/486)
[مسألة: يسهو فيتكلم وهو جالس قبل السلام]
مسألة وسئل عن الذي يسهو فيتكلم وهو جالس قبل السلام، قال: يسجد سجدتين. قيل: أرأيت إن أحدث قبل السلام؟ قال: يعيد الصلاة.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على المذهب لا يخرج من الصلاة إلا بالسلام؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها السلام» فسواء على المذهب تكلم أو أحدث بعد التشهد قبل السلام أو في أثناء صلاته. وأهل العراق يقولون: إذا جلس في آخر صلاته مقدار التشهد فقد خرج من الصلاة وإن لم يسلم، ويتعلقون بما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أحدث الرجل وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته» . فعلى قولهم لا يضره الحدث ولا الكلام بعد الجلوس وقبل السلام. وقد راعى ابن القاسم قولهم في رسم "يدير ماله " من سماع عيسى فقال: إن الإمام إذا أحدث بعد التشهد، فتمادى حتى سلم بهم متعمدا أن صلاتهم مجزئة، يريد: وتبطل عليه هو.
[يصلي المرء جالسا أو متوكئا على عصا]
مسألة قال لي: رأيت صفوان بن سليم يصلي وهو متوكئ على عصا، قد جعل على رأسها عصائب من خرق يمسك عليها يديه جميعا، فيجعل إحدى يديه على الأخرى يجعلها أمام وجهه، فقلت لمالك: أفترى ذلك في النافلة؟ فقال: لا بأس بذلك في النافلة(1/487)
والمكتوبة إذا كان من ضعف. قلت له: فأحب إليك أن يصلي المرء جالسا أو متوكئا على عصا؟ فقال: إن قدر أن يتوكأ على عصا فأحب إلي أن يصلي متوكئا من أن يجلس في المكتوبة والنافلة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا لم يقدر على أن يستقل قائما إلا أن يعتمد على شيء فقد سقط عنه فرض القيام، وجاز له أن يصلي جالسا في المكتوبة، وإن كان أحب إليه أن يصلى قائما متوكئا؛ لأنه لما سقط عنه فرض القيام صار له نافلة وفضيلة كما هو في النافلة.
[مسألة: الرجل الضعيف أترى أن يصلي قائما بالسورة القصيرة]
مسألة قيل له: أرأيت الرجل الضعيف أترى أن يصلي قائما بالسورة القصيرة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، أو أحب إليك أن يصلي جالسا ويقرأ من السور الطوال في الصبح والظهر؟ قال: أحب إلي أن يصلي قائما.
قال محمد بن رشد: قوله: أحب إلي أن يصلي قائما، لفظ فيه تجاوز وليس على ظاهره، بل الواجب عليه أن يصلي قائما] ولو لم يقدر منه إلا على قدر ما يقع فيه أم القرآن لم تجزئه صلاته جالسا؛ لأن القيام عليه فرض، والتطويل مستحب، فلا يسقط الفرض عنه بضعفه عن الاستحباب، وهذا بين، والله أعلم.
[مسألة: المريض لا يجد من يعطيه الماء ولا يقدر على أخذه]
مسألة وسألته عن المريض لا يجد من يعطيه الماء ولا يقدر على أخذه، فقال: يتيمم ويصلي، قلت له: وترى أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها؟ قال: لا، بل إلى وسط الوقت.(1/488)
وسألته عن أبي لؤلؤة حين طعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طعنه وهو في الصلاة أو قبل؟ فقال: قبل أن يدخل في الصلاة.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المريض الذي لا يجد من يعطيه الماء ولا يقدر على أخذه يتيمم ويصلي، صحيح لا اختلاف فيه؛ لأنه غير واجد للماء ولا قادر عليه، والله -عز وجل- يقول: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] . وإنما اختلفوا في المريض الذي لا يقدر على مس الماء لمرضه وهو واجد له، فمن حمل الآية على ظاهرها ولم يقدر فيها تقديما ولا تأخيرا رآه من أهل التيمم، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في " المدونة "، ومن قدر فيها تقديما وتأخيرا لم يره من أهل التيمم؛ لأنه يعيد شرط عدم الماء على المرض والسفر، وهو قول مالك في أول رسم "الشريكين" من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء، وقد مضى القول عليه هناك. وقوله: إنه يؤخر إلى وسط، القول هو مثل ما في " المدونة "، ويريد به وسط الوقت المختار. والوجه في ذلك أن فضيلة الماء أفضل من فضيلة أول الوقت، فهو يؤخر الصلاة عن أول وقتها رجاء أن يجد الماء الذي هو أفضل، فإن لم يجده إلى وسط الوقت [المختار] أمر أن يتيمم ليدرك فضيلة ما بقي من الوقت مخافة أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت فلا يجد الماء، فتفوته الفضيلتان جميعا. وذهب ابن حبيب إلى أنه يؤخر إلى آخر الوقت المستحب ثم يتيمم ويصلي، فإن وجد الماء في بقية من الوقت أعاد. وقول مالك أظهر؛ لما ذكرناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يدخل المسجد والإمام ساجد]
مسألة وسئل عن الرجل يدخل المسجد والإمام ساجد، فقال:(1/489)
الصواب أن يسجد ولا يعتد بذلك من صلاته، قيل له: أرأيت الذي إذا رآهم سجودا أرفق في المشي حتى يسبقوه بتلك السجدة؟ فقال: ما أرى أن يفعل. قيل: أرأيت إذا جاء وهو ساجد فكبر ثم سجد معه إذا قام، أيبتدئ بتكبيرة الإحرام أم تكفيه تلك التكبيرة؟ فقال: تكفيه تلك التكبيرة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يسجد السجدة التي أدركها مع الإمام ولا يعتد بها، هو مثل ما في " المدونة " وغيرها، ولا اختلاف فيه، وإنما أوجب عليه أن يسجدها مع الإمام؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون واتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا» وهو مدرك لها مع الإمام فوجب أن يصليها، وإنما وجب أن يلغيها ولا يعتد بها ويقضيها لأن الركوع والسجود كشيء واحد، فإذا وجب أن يقضي الركوع الذي لم يدرك وجب أن يقضي السجود المتصل به؛ لقول عبد الله بن عمر: إذا فاتتك الركعة فقد فاتتك السجدة، فهو مدرك للسجدة في وجوب اتباع الإمام فيها، وفي حكم من لم يدركها في وجوب قضائها بعد سلام الإمام. وقوله: إنه يكتفي بتلك التكبيرة التي كبر حين دخل مع الإمام، ولا يكبر إذا قام خلاف ما في " المدونة " من أنه إذا أدرك الإمام في التشهد الآخر قام بتكبير، إلا أنه صحيح على قياس ما أصله فيها من أنه إذا جلس مع الإمام في موضع ليس له موضع جلوس قام بغير تكبير، فهو تناقض من قوله في " المدونة "، وقد فرق بين المسألتين بتفاريق لا تسلم من الاعتراض، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقرأ في نفسه في الصلاة لا يسمع أحدا]
مسألة وسئل عن الذي يقرأ في نفسه في الصلاة لا يسمع أحدا(1/490)
ولا نفسه، ولا يحرك به لسانا، قال: ليست هذه قراءة، وإنما القراءة ما حرك به اللسان. ولا بأس أن يرفع المرء صوته بالقراءة إذا كان وحده وكان في بيته، ولعل ذلك يكون أنشط له وأقوى له على ذلك. وقد كان الناس بالمدينة يرفعون أصواتهم بالقراءة من جوف الليل، حتى إن القوم يريدون السفر فيقولون: موعدكم الساعة التي يقوم فيها القرآن.
قال محمد بن رشد: أما قراءة الرجل في نفسه ولم يحرك بها لسانه ليست بقراءة، صحيح؛ لأن القراءة إنما هي النطق باللسان، وعليها تقع المجازاة. والدليل على ذلك قول الله -عز وجل-: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تجاوز الله لأمتي عفا حدثت به أنفسها مما لم ينطق به لسان أو تعمل به يد» ، فكما لا يؤاخذ الإنسان بما حدثت به نفسه من الشر ولا يضره، فكذلك لا يجازى على ما حدث به نفسه من القراءة أو الخير المجازاة التي يجازى بها على تحريك اللسان بالقراءة وفعل الخير. وأجاز للذي يصلي من الليل أن يرفع صوته بالقراءة، وإن كان في ذلك إظهار لعمله؛ لما في ذلك من العون له على الصلاة والنشاط عليها؛ لقوله: لا بأس بذلك، واستحب ذلك له في رسم "شك في طوافه" من سماع ابن القاسم، وقد مضى القول هنالك في وجه ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يجد الإمام راكعا قبل أن يصل إلى الصف]
مسألة وسئل عن الذي يجد الإمام راكعا، قال: أحب إلي ألا يركع(1/491)
حتى يصل إلى الصف، قيل: أرأيت الذي يدخل وقد أحرم الإمام، أيحرم أم يمشي فيصل الصف؟ قال: بل يؤخر ذلك حتى يصل الصف ثم يكبر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، وهذا يمشي.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم "اغتسل على غير نية" من سماع ابن القاسم مستوفى، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: متى يكبر في عيد الفطر]
مسألة قال: وسألته متى يكبر في عيد الفطر؟ قال: يكبر حين يغدو إلى المصلى إلى أن يرقى الإمام المنبر وإلى أن يسكت الإمام عن التكبير. قال: وينزل إلى العيدين من مثل ما ينزل به للجمعة ثلاثة أميال.
قال محمد بن رشد: قد مضى في آخر رسم "حلف بطلاق امرأته" من سماع ابن القاسم القول في التكبير في العيدين، وفي رسم "صلاة الاستسقاء " من هذا السماع القول في حد النزول إليها وإلى الجمعة، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا.
[مسألة: كان خلف الإمام فقال: سبحان الله بكرة وأصيلا]
مسألة وسئل عمن كان خلف الإمام فقال: سبحان الله بكرة وأصيلا، فقال: لا أحب أن يفعل ذلك ولا أرى عليه إعادة الصلاة.
قال القاضي أبو الوليد: هذا من التسبيح الحسن، فإنما كرهه - والله أعلم- إذا قاله والإمام يسمع كالجواب لما سمعه من قراءته، كنحو ما مضى في هذا الرسم من قول القائل في صلاته إذا قرأ الإمام:(1/492)
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] : كذلك الله، وما أشبه ذلك. وسيأتي في سماع ابن معاوية نحو هذا المعنى.
[مسألة: امرأة انقطع عنها الحيض سنين ثم رأت صفرة أترى أن تدع الصلاة]
مسألة وسألته عن امرأة انقطع عنها الحيض سنين ثم رأت صفرة، أترى أن تدع الصلاة؟ فقال: يسأل النساء عن ذلك وتصف لهن شأنها، فإن قلن: إن النساء يرين مثل هذا من الحيضة فلتدع الصلاة.
قال المؤلف: الصفرة من الدم، فإن رأته وهي في سن من تحيض من النساء أمسكت عن الصلاة، ولما لم يكن في ذلك حد يرجع إليه في القرآن والسنة، وجب أن يرجع فيه إلى العادة؛ ولذلك قال: إنه يسأل عنه النساء، وهذا معنى ما في " المدونة " وغيرها، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصبي إذا أثغر أيؤمر بالصلاة]
مسألة وسئل عن الصبي إذا أثغر فقال: إذا أثغر الصبي: أمر بالصلاة وأدب عليها ولا يضرب بعض الضرب.
قال محمد بن رشد: ولا يضرب بعض الضرب، معناه: ولا يضرب بعض الضرب الذي يضربه كثير من الناس فيتعدى في الضرب، يريد: أنه لا يضرب إلا ضربا خفيفا.
ووقع في بعض الكتب مكان ولا يضرب وإلا ضرب، وهو خطأ لا معنى له.
قوله إنه يؤدب على الصلاة إذا أثغر خلاف ظاهر ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «إذا بلغ الصبيان سبع سنين فمروهم بالصلاة وإذا بلغوا عشر سنين فاضربوهم عليها وفرقوا بينهم في(1/493)
المضاجع» وفي رسم "الجواب" من سماع عيسى أنه يفرق بينهم في المضاجع إذا أثغروا وهو خلاف ظاهر ما في الحديث أيضا والله أعلم.
[مسألة: الحامل ترى الماء الأبيض على حملها]
مسألة وسألته عن: الحامل ترى الماء الأبيض على حملها، فقال: ليس ذلك بشيء وأرى أن تصلي به.
قال محمد بن رشد: قوله ليس ذلك بشيء يدل على أنه لم ير عليها غسلا ولا وضوءا، وهو الصواب، خلاف قول ابن القاسم في رسم "الجواب من سماع" عيسى من كتاب الوضوء: إن عليها الوضوء.
وقد مضى القول على ذلك هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: التسليمة الواحدة في الصلاة]
مسألة وسئل عن: التسليمة الواحدة في الصلاة، فقال: على ذلك كان الأمر، ما كانت الأئمة ولا غيرهم يسلمون إلا واحدة، وإنما أحدث تسليمتان منذ كانت بنو هاشم.
قال المؤلف: قد مضى القول في هذه المسألة في آخر رسم "شك في طوافه " من سماع ابن القاسم، ومضى من معناها في رسم "نذر سنة" ورسم "المحرم" منه.
[مسألة: رفع الصوت في المساجد]
مسألة قال: وقد قال عمر بن الخطاب: إن مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت.
قال محمد بن رشد: ليس في قوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت - دليل على أن ذلك جائز في غيره من المساجد؛ لأن(1/494)
معنى قوله إن مسجدنا هذا الذي أحضره لا يرفع فيه الصوت؛ لأني أمنع من ذلك، يريد: وكذلك ينبغي لكل وال أن يفعل بمسجد موضعه.
والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم وبيعكم وسل سيوفكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا أداها الله إليك فإن المساجد لم تبن لهذا» ، فرفع الصوت في المسجد مكروه حتى في العلم.
قال ابن حبيب: ولقد كنت أرى بالمدينة رسول أميرها يقف بابن الماجشون في مجلسه إذا استعلى كلامه وكلام أهل مجلسه في العلم، يقول: يا أبا مروان اخفض من صوتك وأمر جلساءك يخفضوا أصواتهم.
[مسألة: يقرأ بالناس في رمضان أيكره له أن يسر بالاستعاذة أو يجهر بها]
مسألة قال: وسألته عن الذي يقرأ بالناس في رمضان، أيكره له أن يسر بالاستعاذة أو يجهر بها؟
فقال: أما في نفسه فليستعذ إن شاء، وأنا أكره له أن يجهر بذلك ولا أجيزه، وأنا أحب له أن يستفتح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] .
ووصف الذين يقولون أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98] ، إن الله هو السميع العليم، فعابه وكرهه(1/495)
ونهى عنه، فقيل له: إنما يحتج بقول الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] ، قال: أفرأيت قوله {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98] ، إن الله هو السميع العليم.
قلت له: أفتجيز له أن يستعيذ من الشيطان الرجيم؟ قال: لا، ولكن هو أيسر.
قال محمد بن رشد: كراهة الجهر بالاستعاذة في قيام رمضان خلاف قوله في " المدونة ".
ووجه هذا: أن الاستعاذة لما لم تكن من القرآن كره أن يجهر بها في قيامه كما يجهر بقراءة القرآن فيه، وأجاز أن يستعيذ في نفسه لقول الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] ، ولم ير ذلك واجبا عليه؛ لأن الأمر بذلك عنده على الندب لا على الوجوب.
ووجه ما في " المدونة ": الاتباع، وبذلك علل قوله فيها، ولم يزل القراء يتعوذون.
وأما استحبابه له أن يستفتح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، ولا يقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقد مضى ما في رسم "نذر سنة" من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: المريض يكون في المحمل فلو نزل يصلي للأرض كيف يصلي]
مسألة وسألته: عن المريض يكون في المحمل فلو نزل يصلي المكتوبة في الأرض صلى إيماء، أيجزئ عنه أن يصلي على المحمل؟ قال: أرجو أن يجزئ عنه ذلك، ولكن يوقف له البعير موجها إلى القبلة، وأحب إلي أن ينزل فيصلي بالأرض.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما في رسم "سُنّ " من سماع ابن القاسم مثل قول ابن عبد الحكم فيه، ورواية يحيى فيه أيضا عن ابن القاسم(1/496)
قول ثالث.
وقد مضى بيان ذلك كله في سماع ابن القاسم المذكور، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي إلى الجمعة والإمام في التشهد فيكبر ويسلم الإمام أيكبر أخرى]
مسألة وسئل: عن الذي يأتي إلى الجمعة والإمام جالس فيكبر ويجلس ويسلم الإمام فيقوم، أيكبر تكبيرة أخرى أم تكفيه التكبيرة الأولى؟
قال: تكفيه الأولى ولا إقامة عليه ويصلي أربعا.
قال محمد بن رشد: استحب في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم أن يبتدئ بتكبيرة أخرى، وقد مضى القول هناك على ذلك فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أهل القرى الذين لا جمعة عليهم أيصلون العيدين]
ومن كتاب صلاة العيدين مسألة قال: وسئل عن أهل القرى الذين لا جمعة عليهم، أيصلون العيدين؟
فقال: ما رأيت أن يصلي العيدين إلا من يصلي الجمعة.
قال محمد بن رشد: لم ير في هذه الرواية أن يصلي العيدين بجماعة وخطبة من لا تجب عليهم الجمعة، وقال في أول رسم من سماع عيسى: إنه لا بأس أن يجتمعوا ويصلوا صلاة العيدين بغير خطبة، وإن خطب فحسن، خلاف هذه الرواية.
وفي " المدونة " في هذه المسألة اختلاف في الرواية.
وأما إذا كانوا ممن تجب عليهم الجمعة فلا اختلاف في أنهم يصلون صلاة العيدين على وجهها بخطبة، وبالله التوفيق.
[مسألة: غسل العيدين أقبل الفجر أم بعده]
مسألة وسئل: عن غسل العيدين أقبل الفجر أم بعده؟
فقال: ذلك واسع، من الناس من يغدو قبل الفجر.(1/497)
قال محمد بن رشد: قد مرت هذه المسألة في صدر رسم الصلاة الأول وفي آخره من هذا السماع، ومضى القول عليها في رسم "الصدر" المذكور بما أغنى عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: المصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يجب أن يعلم ويحب أن يلفى]
ومن كتاب العقول
مسألة قال: وقال مالك: سمعت ربيعة يسأل عن المصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يجب أن يعلم ويحب أن يلفى في طريق المسجد ويكره أن يلفى في طريق غيره، فلا أدري ما أجابه به ربيعة، غير أني أقول: إذا كان أصل ذلك وأوله لله فلا أرى به بأسا، وإن المرء يحب أن يكون صالحا، وإن هذا ليكون من الشيطان يتصدق فيقول له إنك لتحب أن يعلم ليمنعه من ذلك. قلت له: فإذا كان أصل ذلك لله لم تر به بأسا؟
فقال: إي والله ما أرى بذلك بأسا، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما شجرة لا يسقط ورقها شتاء ولا صيفا"، قال عبد الله بن عمر: فوقع في قلبي أنها النخلة فأردت أن أقولها» فقال له عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا، فأي شيء هذا إلا هذا، وإنما هذا أمر يكون في القلب لا يملك، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39] ، وقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] .
قال محمد بن رشد: وقع في هذه الرواية أنه لم يدر بما أجابه به ربيعة، وقد وقع في سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات أنه أنكر ذلك من(1/498)
سؤال السائل ولم يعجبه أن يحب أحد أن يرى في شيء من أعمال الخير والبر.
والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أنه لا بأس بذلك إذا كان أصل ذلك وأوله لله تعالى هو الصحيح إن شاء الله تعالى.
روي «عن معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله ليس من بني سلمة إلا مقاتل فمنهم من القتال طبيعته، ومنهم من يقاتل رياء، ومنهم من يقاتل احتسابا، فأي ذلك الشهيد من أهل الجنة؟ فقال: "يا معاذ بن جبل من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة» .
وهذا نص في موضع الخلاف.
[مسألة: يحرم مع الإمام ثم يسهو فيركع ويسجد والآخر ساه أو مشتغل أو غافل]
سماع عيسى بن دينار من كتاب أوله نقدها نقدها مسألة قال عيسى: سئل مالك عن الذي يحرم مع الإمام ثم يسهو فيركع ويسجد والآخر ساه أو مشتغل أو غافل، وذلك في الركعة الأولى أو غيرها، أيتبعه؟
قال ابن القاسم: قال لي مالك: في هذه أقاويل ثلاثة: أحدها: أنه قال يتبعه ما لم يرفع من الركعة التي نهض إليها، والثاني: أنه يتبعه ما لم يرفع رأسه من سجود الركعة التي غفل عنها، والثالث: إن كان في الركعة الأولى فلا يتبعه رأسا، وإن كان في غيرها اتبعه إن طمع أن يدركه في السجود، وإن لم يطمع فلا يتبعه، وليس فيها قول أبين من هذا.
قال: ثم سألته عن الرجل يصلي مع الإمام فيزحم أو يغفل ينعس عن الركوع مع الإمام حتى(1/499)
يرفع الإمام رأسه من ركعته، قال ابن القاسم: إن كان في أول ركعة دخل مع الإمام في سجوده ولم يركع بعده ويتبعه كما وصفت ويكون كالداخل، والزحام والغفلة والنعسة في هذا سواء.
قال ابن وهب وأشهب مثله.
قال ابن القاسم: وإذا عقد مع الإمام الركعة الأولى وتمت له بسجدتيها ثم عرض له في الركعة الثانية فإنه يركع ويتبعه ما رجا أن يدركه في سجوده، إلا في الزحام فإنه في الأولى والثانية والرابعة سواء، ويعمل في الثانية كما يعمل في الأولى.
قال ابن وهب وأشهب: الغفلة والنعسة والزحام كل ذلك سواء، يركع ويتبعه ما طمع أن يدركه في سجوده.
قال ابن القاسم: ولو اشتغل رجل بحل إزاره أو ربطه حتى سبقه الإمام بالركعة، وذلك فيما بعد الأولى، فأنا أرى أن يتبعه ما طمع أن يدركه في سجوده.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول في تحصيلها في رسم "كتب عليه" ذكر حق من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة القول فيها هاهنا.
ومضت أيضا في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب، وستأتي متكررة أيضا في رسم "لم يدرك" بعد هذا.
[مسألة: صلاة أهل البادية العيدين بجماعة يجتمعون لذلك]
مسألة وقال في صلاة أهل البادية العيدين بجماعة يجتمعون لذلك بحيث لا تجب الجمعة: إنه لا بأس بذلك، إن شاءوا فعلوا، يصلي بهم رجل منهم ركعتين ويكبر تكبيرة الفطر والأضحى وإن لم يخطب، وإن خطب فحسن، ولا أرى الخطبة في مثل هذا إلا في المدائن والقرى التي تجب فيها الجمعة، وإن كانت قرية وبيوت متصلة يجوز أن يجمع فيها الجمعة فلا يصلون العيدين إلا بخطبة،(1/500)
وإن لم يكونوا يجمعون.
ولا ينبغي لهؤلاء أن يتركوا الجمعة كان عليهم وال أو لم يكن، أمرهم الوالي بذلك أو لم يأمرهم، فإن لله حقوقا في أرضه لا تترك لشيء، الجمعة من ذلك.
قال: والخصوص والمحال إذا كانت مساكنهم كمساكن القرى في اجتماعها وكان لهم عدد لم يحل لهم أن يتركوا الجمعة، وليخطب بهم رجل منهم، ويصلي ركعتين كان عليهم وال أولم يكن.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي لا جمعة عليهم إن لهم أن يصلوا صلاة العيدين على سنتها بالإمام والخطبة خلاف ما تقدم في رسم "العيدين" من سماع أشهب، وقد ذكرنا ذلك هنالك.
وأما قوله في الذين يجب عليهم الجمعة إنهم لا يتركونها كان عليهم وال أو لم يكن فهو مثل ما في " المدونة "، وهو المعلوم في المذهب وقد ذكرنا الاختلاف في ذلك في أول رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب.
وأما قوله في الخصوص والمحال إذا كانت مساكنهم كمساكن القرى في اجتماعها إنهم يجمعون الجمعة، فهو خلاف ما مضى في الرسم المذكور من سماع أشهب، وقد مضى القول على ذلك هنالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قرية يجمع في مثلها الجمعة وحولها المنازل فاتتهم الجمعة]
مسألة قيل لأصبغ: ما تقول في قرية يجمع في مثلها الجمعة وحولها المنازل على مسيرة ميلين أو ثلاثة فاتتهم الجمعة، فكيف يصلون؟
قال: يصلون أفرادا ولا يجمعون الظهر لأنهم أهل الجمعة.
قلت: فإن صلوا جماعة ظهرا؟ قال: بئس ما صنعوا ولا أرى عليهم إعادة.
قلت: فإن كان ذلك في المصر مثل الفسطاط وغيرها؟
قال: هو مثله يصلون أفذاذا، فإذا جمعوا الظهر فبئس ما صنعوا ولا أرى عليهم إعادة، ولا أحب ذلك لهم، فإن فعلوا فلا إعادة عليهم.(1/501)
قال المؤلف: قوله في الذين تجب عليهم الجمعة إنهم لا يجمعون إذا فاتتهم الجمعة ويصلون أفذاذا - هو المشهور في المذهب.
وقوله: لا إعادة عليهم إن جمعوا - صحيح؛ لأن منعهم من الجمع ليس بالقوي، وذلك أنهم إذا منعوا من الجمع ليحافظوا على الجمعة؛ لأنهم إذا علموا أنه يفوتهم بفواتها فضل الجمعة والجماعة لم يتهاونوا بها.
وقيل: إنهم إنما منعوا من الجمع لئلا يكون ذلك ذريعة لأهل البدع، وهذه العلة أظهر، فإذا جمعوا وجب أن لا يعيدوا على كل واحدة من العلتين.
وقد روي عن مالك: أنهم يجمعون، وهو قول ابن نافع وأشهب في المجموعة، فلم يراع على هذه الرواية واحدة من العلتين.
وكذلك من تخلف عن الجمعة لغير عذر غالب - المشهور أنهم لا يجمعون، إلا أنه اختلف إن جمعوا، فروى يحيى عن ابن القاسم في رسم "أول عبد أشتريه" فهو حر من هذا الكتاب: أنهم يعيدون، وقال ابن القاسم في المجموعة: إنهم لا يعيدون، وقاله أصبغ في المتخلفين من غير عذر، وهو الأظهر، إذ قد قيل: إنهم يجمعون؛ لأنهم وإن كانوا تعدوا في ترك الجمعة فلا يحرموا فضل الجماعة.
والاختلاف في الإعادة على من جمع في الموضع الذي يقوى فيه ترك الجمع، وهو أن يتخلفوا عن الجمعة لغير عذر أو لعذر غالب - مبني على اختلافهم فيمن وجب عليه أن يصلي فَذًّا فصلى بإمام، فعلى هذا لا يعيد الإمام.
والمشهور في الْمَرْضَى والمسجونين أنهم يجمعون لأنهم مغلوبون على ترك الجمعة.
وقد روى ابن القاسم: أنهم لا يجمعون، وهو غير المعروف من قوله.
ووجهه: أنهم وإن كانوا غلبوا على ترك الجمعة فيمنعون من الجمع من ناحية الذريعة.
واختلف ابن القاسم وابن وهب في المتخلفين عن الجمعة لعذر يجيز لهم التخلف عنها مع القدرة على شهودها.
وسيأتي هذا في رسم "باع شاة" من هذا السماع.
واختلافهما في ذلك على الاختلاف في علة منع من فاتته الجمعة من الجمع هل هي من أجل الذريعة أو ليحافظوا على الجمعة، وبالله التوفيق.(1/502)
[مسألة: فاتته الجماعة وكان على الإمام سهو قبل السلام فسجد معه ثم قام وسها]
مسألة وسئل: عمن فاتته صلاة الإمام وقد كان على الإمام سهو يكون سجوده قبل السلام فسجد معه ثم قام وقضى بعده فدخل عليه سهو يكون زيادة في الصلاة أو نقصانا، قال: يسجد أيضا.
قلت: أرأيت إن كان سجود الإمام بعد السلام فلم يسجد معه وقام يقضي فدخل عليه سهو يكون نقصانا متى يسجد؟ قال: قبل السلام ويجزيه من سهو الإمام، وإن كان أيضا بعد السلام فسجدتان بعد السلام تجزيانه.
قال ابن القاسم: ولو كان سجد مع الإمام قبل السلام فدخل عليه هو أيضا فيما يقضي نقصانٌ فإنه يسجد أيضا قبل السلام.
قال الإمام: اختلف في الذي يدخل مع الإمام في آخر صلاته ولم يدرك منها شيئا وعلى الإمام سجود السهو، فقيل: إنه يسجد معه إن كان السجود قبل السلام ولا يسجد معه إن كان السجود بعد السلام، وهي رواية زياد عن مالك وظاهر هذه الرواية، لقوله فيها فسجد معه في السجود قبل السلام، ولم يسجد معه في السجود بعد السلام.
وأراه قول مالك بدليل عطف قول ابن القاسم عليه في المسألة نفسها.
وقيل: إنه لا يسجد معه، كان السجود قبل السلام أو بعده، وهو قول ابن القاسم في " المدونة " وظاهر قوله هاهنا؛ لأن قوله ولو كان سجد مع الإمام قبل السلام يدل على أنه أراد لو فعل ذلك وهو ليس له أن يفعله، والله أعلم، وقيل: إنه يسجد معه بعد السلام، فأحرى أن يسجد معه قبل السلام، وإن كان لم يفعله إلا إذا أدرك بعض صلاته وهو عنده سواء.
وجه القول الأول: أنه قد دخل مع الإمام فلا يخالفه فيما فعل قبل السلام، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به(1/503)
فلا تختلفوا عليه» .
ووجه القول الثاني ما ذكر في " المدونة " من أنه لم يدرك من الصلاة شيئا فلا يلزمه من سهو الإمام شيء.
ووجه القول الثالث أن السجدتين وإن كانتا بعد السلام فهي من تمام صلاة الإمام، وقد دخل معه فيها فوجب ألا يخالفه في شيء منها.
وقوله إنه يسجد لسهوه فيما يقضي من صلاته زيادة كان أو نقصانا صحيح لا اختلاف فيه.
[مسألة: الرجل يحرم للنافلة ثم تقام فريضة]
مسألة وسئل عن الرجل يحرم للنافلة ثم تقام فريضة كيف يصنع؟ أيسلم قاعدا أو قائما؟ قال: بل قائم، قال عيسى: أحب إلي أن يصلي ركعتين إذا رجا أن يفرغ قبل أن يركع الإمام الركعة الأولى، وإن لم يرج ذلك فليسلم على أي حال أحب.
قال القاضي: اختلف فيمن أحرم في نافلة أو فريضة فأقيمت عليه تلك الفريضة قبل أن يركع على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يقطع في الفريضة والنافلة وإن كان يطمع أن يتم ركعتين قبل أن يركع الإمام، وهو ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية في النافلة، ونص ما في " المدونة " في الفريضة.
والثاني: أنه يتمادى إلى ركعتين إن رجا أن يتممهما قبل أن يركع الإمام في الفريضة أيضا والنافلة، وهو قول مالك في " المدونة "، وقول عيسى بن دينار هنا في النافلة، وقول ابن حبيب وأشهب، ورواية ابن وهب عن مالك في الفريضة.
والثالث: الفرق بين الفريضة والنافلة، فيتمادى في النافلة ويقطع في الفريضة، وهذا القول يتأول على أنه مذهب مالك في " المدونة ".
وحكى الفضل أنه مذهب أصحاب مالك.
ولم يختلفوا إذا أقيمت عليه الصلاة وقد عقد ركعة من الفريضة والنافلة أنه يتمادى إلى تمام ركعتين ولا يقطع، وهذا(1/504)
فيما عدا المغرب.
وأما إذا أقيمت عليه صلاة المغرب فإن كان لم يركع قطع قولا واحدا، وإن كان قد ركع، فقيل: إنه يقطع، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في " المدونة "، وقيل: إنه يتم الثانية وتكون له نافلة ويدخل مع الإمام، وهي رواية سحنون عن ابن القاسم، وقول ابن حبيب في الواضحة.
وإن كان قد صلى ركعتين، فقيل: إنه يتم الثالثة ويخرج من المسجد، وهو قول ابن القاسم في بعض روايات " المدونة "، وقول ابن حبيب في الواضحة.
وقيل: إنه يسلم ويدخل مع الإمام، وهي رواية سحنون عن ابن القاسم.
وإن كان قد أتم الثالثة سلم وخرج من المسجد قولا واحدا، وكذلك إن عقدها بالركوع أو الرفع منه على الاختلاف في ذلك.
قال في سماع سحنون: ويضع يده على أنفه.
فما في " المدونة " مطرد على أنه وقت لا تصلى فيه نافلة، وما في سماع سحنون مطرد أيضا على أنه وقت تصلى فيه نافلة، وقول ابن حبيب في الواضحة متناقض؛ لأنه قال: إن كان قد صلى ركعة أضاف إليها أخرى، وإن كان قد صلى ركعتين أتم الثالثة وخرج من المسجد، فجعل الوقت مرة يصلح للنافلة ومرة لا يصلح لها، والله أعلم.
ومن كتاب أوله استأذن سيده
[مسألة: الذي يقلس طعاما في الصلاة]
مسألة وسئل: عن الذي يقلس طعاما في الصلاة فيلقيه أو يرده، قال: يتمادى في الصلاة ولا شيء عليه.
وقال أيضا: إن كان بلغ مبلغا لو شاء أن يطرحه طرحه فازدرده فأحب إلي أن يقضي يوما مكانه، والصلاة مثله.
قال محمد بن رشد: قوله في أحد قوليه في الذي يرد القيء بعد فصوله أنه لا شيء عليه في صلاته وصيامه، معناه إذا رده ناسيا أو مغلوبا، وأما إن رده عامدا وهو قادر على طرحه فلا ينبغي أن يختلف في فساد صومه(1/505)
وصلاته. وقد روى ابن نافع عن مالك أنه قال في القلس يظهر على لسان الرجل فيبتلعه: بئس ما صنع، وكان ينبغي أن يطرحه، ولكن لا قضاء عليه إن ابتلعه.
وهو بعيد؛ لأن ظاهره العمد.
وأما إن ذرعه القيء أو القلس فلم يرده فلا شيء عليه في صلاته ولا صيامه على هذه الرواية، وهو المشهور.
وقد مضى في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب ما فيه، دليل على أن ذلك يقطع صلاته في القيء بخلاف القلس، وبالله التوفيق.
[مسألة: الإمام يحدث بعد التشهد الآخر أو يرعف]
مسألة وسئل: عن الإمام يحدث بعد التشهد الآخر أو يرعف، قال: يقدم من يسلم بالقوم.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في معنى هذه المسألة ووجه السؤال عنها في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ينسى الظهر فلما صلى العصر من يومه ذلك وسلم منها ذكر الظهر]
مسألة وسألته: عن الذي ينسى الظهر فلما صلى العصر من يومه ذلك وسلم منها ذكر الظهر ولم يعد العصر جهل أو نسي فذكر أو انتبه لذلك بعد الوقت، قال: إن كان خرج وقتها فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قوله جهل يريد جهل أنه مأمور بإعادة الصلاة في الوقت. وكذلك لو جهل أنه في الوقت مثل أن يكون ذكر الظهر قبل الغروب وقد كان صلى العصر فلما صلى الظهر الذي ذكر ظن أن الشمس قد غربت فلم يصل العصر، ثم انكشف أنه لو صلاها لأدرك منها ركعة قبل الغروب.
وقد قال في رسم "أسلم بعد هذا" في الذي جهل الوقت وظن أنه قد كان خرج، أن عليه القضاء بعد خروج الوقت، فهو اختلاف من قوله في الوجوه الثلاثة، إذ لا فرق بينهن، فمرة رأى أنه لا إعادة عليه فيهن بعد خروج(1/506)
الوقت، وهو المشهور من قوله الذي يشهد النظر بصحته؛ لأن الإعادة في الوقت إنما هي استحباب ليدرك فضيلة الترتيب فيه، فإذا خرج الوقت لم يعد بعد الوقت كما لا يعيد بإجماع إذا لم يفرغ من الصلاة التي نسي حتى خرج الوقت؛ ومرة رأى أن الإعادة واجبة عليه بعد الوقت، إذ قد كانت وجبت عليه في الوقت، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في هذا الأصل وحكاه عن ابن الماجشون عن مالك.
[مسألة: أمة صلت ركعة من المكتوبة ثم أتاها العتق ورأسها مكشوف]
مسألة وسئل: عن أمة صلت ركعة من المكتوبة ثم أتاها العتق ورأسها مكشوف فوجدت من يعطيها خمارا فأبت أن تأخذه أو جهلت وهي قادرة أن تأخذه فلم تأخذه، أو لم تجد من يناولها خمارا، أتعيد في شيء من ذلك في الوقت أم لا؟ أو عريان صلى ركعة ثم أتى رجل بثوب ففعل مثل ما فعلته الأمة أيعيد الصلاة أم لا؟
قال ابن القاسم: أما إذا لم تجد من يعطيها فلا إعادة عليها، وأما إذا قدرت عليه فلم تأخذه أو أعطيته فلم تأخذه فإنها تعيد ما كانت في الوقت؛ والعريان كذلك إذا كان يقدر على ثوب.
قال أصبغ: وأنا أرى قول ابن القاسم في التي سبق لها العتق قبل دخولها في الصلاة، فأما التي أعتقت وهي في الصلاة فتمادت وهي تجد سترة فلا إعادة عليها في وقت ولا غيره؛ لأنها عقدت الصلاة بما يجوز لها وهي من أهل الكشف، فهي على ما دخلت به فيها تمضي عليه ويجزي عنها، بمنزلة المتيمم يعقد الصلاة بالتيمم ثم يطلع عليه الماء وهو في صلاته فيمضي على صلاته، وهو أشد من الأمة.
وإنما استحسن لها الاستتار عند ذلك إذا وجدته استحسانا؛ لأنه ليس عليها مضرة في تناوله ولا قطع صلاة، وليس بواجب عليها، ولا يعجبني(1/507)
قول ابن القاسم هذا.
قال أصبغ: ومثل الذي يسبق لها العتق قبل الدخول في الصلاة مثل الذي يكون في رحله الماء فلا يعلم به، فيقوم ويتيمم ويصلي أنه يعيد، فكذلك هذه إذا كانت دخلت في الصلاة وهي حرة وهي تجد سترا أنها تعيد في الوقت.
وأنا أقول في الذكي صلى وفي رحله الماء إنه يعيد أبدا لأنه كان من أهل الماء، فليس جهله الماء أو غفلته أو نسيانه بالذي يخرجه مما وجب عليه.
قيل لسحنون في الأمة يعتقها سيدها وهي في الصلاة وهي مكشوفة الرأس، فقال: أرى أن تقطع وتبتدئ الصلاة، وكذلك لو أن عريانا ابتدأ الصلاة فلما كان في بعض الصلاة وجد ثوبا: إنه يبتدئ ولا يبني.
قال محمد بن رشد: تأول أصبغ عن ابن القاسم أنه إنما تكلم على التي سبق لها العتق قبل الصلاة، إذ بعد عنده أن يوجب الاستتار على التي أعتقت في الصلاة، وليس ذلك بصحيح، إذ قد نص في رواية موسى عنه على أن الاستتار يجب عليها في بقية صلاتها إذا أعتقت في الصلاة، فلا فرق على مذهب ابن القاسم بين أن تعتق في الصلاة أو يأتيها الخبر فيها بأنها قد أعتقت قبل دخولها فيها.
ويتحصل في المسألة أربعة أقوال:
أحدها: أنها إن استترت في بقية الصلاة أو لم تقدر على الاستتار فيها أجزأتها صلاتها. وإن قدرت على الاستتار فلم تفعله أعادت في الوقت، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، فالاستتار عليها في بقية الصلاة على هذا القول، واجب مع القدرة عليه، ساقط مع عدمها.
والقول الثاني: أنها إن استترت في بقية صلاتها أجزأتها، وإن لم تفعل أعادت في الوقت، كانت قادرة على ذلك أو لم تكن، وهو قول ابن القاسم في رواية موسى عنه، فالاستتار على هذا القول في بقية الصلاة واجب عليها بكل حال، فإن قدرت عليه فعلته، وإن لم تقدر عليه خرجت عن نافلة وابتدأت الصلاة.
والقول الثالث: أن الصلاة لا تجزئها وإن(1/508)
استترت في بقيتها وتبتدئ، فإن لم تفعل أعادت في الوقت، وهو قول سحنون. ووجهه: أنه قد حصل جزء من صلاتها بغير قناع بعد عتقها أو بعد وصول العلم إليها بذلك.
والقول الرابع: الفرق بين أن تعتق في الصلاة أو يأتيها الخبر بعتقها بعد أن دخلت فيها، فإن عتقت فيها لم يجب عليها الاستتار في بقيتها إلا استحسانا إن قدرت عليه، فإن لم تفعل فلا إعادة عليها، وإن أتاها الخبر بعتقها بعد أن دخلت في الصلاة لم يجزها وإن استترت في بقيتها، فتقطع وتبتدئ، فإن لم تفعل أعادت في الوقت، وهو قول أصبغ هنا، فحكم لها أصبغ بحكم الحرة من يوم أعتقت، ولم يحكم لها ابن القاسم إلا من حين وصول الخبر بذلك إليها.
وهذا على اختلافهم في الحكم المنسوخ هل يكون منسوخا على المتعبد به بنفس ورود الناسخ أو بوصول العلم إليه بذلك، وقول ابن القاسم في العريان يجد ثوبا في الصلاة فيأبى أن يأخذه أو يجهل ذلك: إنه يعيد في الوقت، يأتي على القول بأن ستر العورة في الصلاة من سننها لا من فرائضها، كالقناع للمرأة الحرة.
وأما على القول إنه من فرائضها فتعيد أبدا كالمريض يفتتح الصلاة جالسا ثم يصح في بقيتها فيتمها جالسا، ولا يقطع إذا وجد ثوبا في الصلاة قياسا على مسألة المريض، خلاف ما ذهب إليه سحنون، وبالله التوفيق.
[مسألة: مسافر دخل في صلاة قوم يظنهم مسافرين فتبين أنهم مقيمون]
مسألة وسئل: عن مسافر دخل في صلاة قوم وهو يظنهم مسافرين فصلى معهم ركعتين ثم تبين له أنهم مقيمون سبقوه بركعتين، فقال: يسلم ويصلي صلاته صلاة مسافر.
قلت له: ولو مر بقوم فدخل في صلاتهم فصلى معهم ركعتين ثم سلموا فلم يدر أمقيمين كانوا أم مسافرين؟ قال: يتم صلاة مقيمين أربعا، ثم يقوم فيصلي صلاة مسافر.
قلت: فما فرق بينهما؟ لأي شيء قطع في الأولى ولم تأمره أن يقطع في هذه؟ قال: لأنه نوى بالأولى ركعتين.(1/509)
قال محمد بن رشد: قوله لأنه نوى بالأولى ركعتين - يبين أنه دخل في الثانية معهم وهو يظنهم مقيمين، وذلك بين، إذ لو دخل معهم وهو يظنهم مسافرين لسلم بسلامهم على أصله ثم أعاد.
وقد تقدمت هذه المسألة والقول فيها موعبا في آخر رسم من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: دخل في صلاة الجمعة وقد فاتته ركعة ولم يدر أخطب الإمام أم لا]
مسألة قيل لسحنون: فلو أن رجلا دخل في صلاة الإمام يوم الجمعة وقد سبقه بركعة ولم يدر أخطب الإمام أم لا، فلما سلم الإمام وانفض الناس عنه فلم يجد من يخبره إن كان اختطب الإمام أم لا، فقال: يصلي ركعة ثم يسلم، فإن كانت جمعة أجزأت عنه، وإن لم يجد من يخبره أنها جمعة صلاها ظهرا أربعا احتياطا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه دخل مع الإمام وهو يرى أنها جمعة، فوجب أن يأتي بركعة رجاء أن تكون له جمعة، ثم يعيد مخافة أن لا يكون الإمام خطب فلا تصح له جمعة.
ولو دخل معه وهو يظنه يصلي الظهر ثم يشك في أن يكون في الجمعة وقد اختطب لوجب على قياس المسألة التي قبلها أن يتم على الركعة التي صلى مع الإمام أربعا، ثم يعيد ثانية مخافة أن يكون الإمام مصليا للجمعة، وبالله التوفيق.
[مسألة: القوم يصلي بهم الجمعة عبد]
مسألة وسألته: عن القوم يصلي بهم الجمعة عبد، قال: إن ذكروا في الوقت أعادوا الجمعة ركعتين بخطبة، وإن لم يذكروا ذلك حتى يخرجوا من الوقت أعادوا ظهرا أربعا.
قلت: فما وقتها؟ قال: النهار كله إلى قدر ما تصلي به الجمعة ركعتين ومن العصر ركعة.(1/510)
قال الإمام: قد مضت هذه المسألة والقول فيها موعبا في آخر رسم من سماع ابن القاسم فقف عليه هناك.
[مسألة: ركع ركعتين من صلاة الظهر فذكر أنه سها عن سجدة من الأولى]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل ركع ركعتين من صلاة الظهر فذكر أنه سها عن سجدة من الركعة الأولى، أيمضي في صلاته ويقضي صلاة الركعة التي نسي منها سجدة في آخر صلاته أو يقضيها في الموضع الذي يذكرها فيه وإن كان ذكره إياها وهو قائم في الثانية، أو ما ترى؟
قال: إن ذكرها في الركعة الثانية في تشهده فإنه يركع ركعة بسجدتيها يقرأ فيها بأم القرآن وسورة معها، ثم يقعد ويتشهد ويجعلها ثانية ويلغي الأولى ويسجد بعد السلام؛ لأن من نسي سجدة من ركعة فلم يذكرها حتى رفع رأسه من الركعة التي بعدها ألغى تلك الركعة التي نسي منها السجدة وصلى ركعة مكانها، وإن ذكرها في الثالثة بعدما رفع رأسه من الركوع جعلها ثانية وسجد سجدتين قبل السلام.
وقد كان مالك يقول فيها بعد السلام، إلا أنه لما ترك السجدة الأولى ولم يقعد في الثالثة التي هي له ثانية وقضى بعد الفراغ ركعة بسجدتيها كان قد اجتمع عليه سهوان زيادة ونقصان، والنقصان أولى بالسجود، وهو وجه ما استحسناه وتكلمنا فيه.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة صحيحة مبنية على المشهور في المذهب من أن ما بطل على الفذ وعلى الإمام ومن معه من ركعة بإسقاط السجود أو الركوع منها أو قراءة الحمد على مذهب من يقول بالإلغاء حتى فاته إصلاحها، يلغيها ويبني على ما صح له، ولا يقضي الركعة التي بطلت عليه(1/511)
بعينها بعد تمام صلاته، خلافا لقول ابن وهب في رسم "القطعان" من هذا السماع أنه يقضي ما بطل عليه بعد تمام صلاته ولا يبني.
وقوله فلم يذكرها حتى رفع رأسه من الركعة التي بعدها ألغى تلك الركعة، هو مثل ما في " المدونة " من أن عقد الركعة رفع الرأس من الركوع.
وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في رسم "الصلاة" الأول من سماع أشهب.
وقول ابن القاسم إنه إذا لم يذكر السجدة من الأولى حتى قام من الثانية: إن سجوده قبل السلام هو الأظهر لتغليب حكم النقصان عند اجتماع الزيادة والنقصان، وما حكي عن مالك من أنه قد كان يقول فيها بعد السلام، ضعفه ابن لبابة، وقال: لعل مالكا إنما قال ذلك فيمن ذكر وهو جالس في الرابعة سجدة لا يدري من أي ركعة، فخر إلى سجدة ثم أتى بركعة؛ لأنه على يقين من الزيادة وشك من النقصان، فاشتبه ذلك على ابن القاسم.
وابن القاسم أعلم بما حكى عن مالك وأجل من أن يحمل عليه الغلط، فهو اختلاف من قوله، وإن كان تغليب حكم النقصان هو المشهور عنه فمرة غلب الزيادة ومرة غلب النقصان، إذ من أهل العلم من يرى السجود في السهو كله بعد السلام، كان زيادة أو نقصانا، ومنهم من يراه كله قبل السلام كان زيادة أو نقصانا.
وقد وقع له في " المدونة " في الذي يصلي النافلة خمسا دون سلام ساهيا يسجد بعد السلام، وهو مثل ما حكي عنه في هذه الرواية؛ لأنه نقص السلام وزاد الركعة.
وقول ابن القاسم في آخر المسألة: وقضى بعد الفراغ ركعة بسجدتيها، لفظ ليس على ظاهره؛ لأنه بان وليس بقاض، فتدبر ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا ينبغي لأحد أن يؤم الناس قاعدا]
مسألة قال: وقال مالك: لا ينبغي لأحد أن يؤم الناس قاعدا.
قال: ومن نزل به شيء وهو إمام قائم حتى لا يستطيع أن يصلي بهم إلا قاعدا، فليستخلف غيره يصلي بالقوم ويرجع هو إلى الصف فيصلي بصلاة الإمام مع القوم.
قال مطرف وابن الماجشون: إن صلى بهم(1/512)
قاعدا أجزأته صلاته، وعليهم الإعادة أبدا، اختلف فيها قول مالك، وروى موسى بن معاوية عن ابن القاسم في المرضى والمقاعد أنه لا بأس أن يؤمهم رجل منهم قاعدا.
وذكر سحنون في روايته أنه لا يجوز لأحد أن يؤم قاعدا بعد ما كان من فعل النبي عليه السلام، ومن أم قاعدا أجزأته وأعاد القوم.
قال محمد بن أحمد: قد مضى القول فيما جاء في إمامة المريض الجالس بالأصحاء قياما، وما في ذلك من الاختلاف في رسم "سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" من سماع ابن القاسم موعبا، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا.
وأما إمامة المريض جالسا بالمرضى الذين لا يقدرون على القيام جلوسا فلا خلاف عندي في جواز ذلك.
وما في رواية سحنون من قوله إنه لا يجوز لأحد أن يؤم قاعدا، معناه بالأصحاء قياما، بدليل استشهاده بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد ما روي: من أنه ائتم بأبي بكر في مرضه ولم يكن هو الإمام، وساقها ابن أبي زيد في النوادر سياقة تدل على أنها في إمامة المريض بالمرضى، وذلك وهم، والله أعلم.
[مسألة: قهقه الإمام متعمدا]
مسألة قال ابن القاسم: إذا قهقه الإمام متعمدا أعاد الصلاة وأعادوا، وإن كان مغلوبا قدم غيره فأتم بهم ويتم هو الصلاة معهم، ثم يعيد إذا فرغوا في بعض الروايات ويعيدون.
قال محمد بن رشد: قوله وإن كان مغلوبا قدم غيره، يدل على أنه إن لم يكن مغلوبا لم يصح له التقديم ويقطع ويقطعون ويستأنفون الصلاة.
فمعنى قوله إذا قهقه الإمام متعمدا أعاد الصلاة وأعادوا، أي قطع وقطعوا واستأنفوا الصلاة من أولها. ويريد بقوله متعمدا أي متعمدا لفعلها قادرا على الإمساك عنها. ولا اختلاف في هذا أنه قد أبطل صلاته وصلاة من خلفه إن(1/513)
كان إماما فيقطع ولا يتمادى عليها، فذا كان أو إماما أو مأموما.
وروي عن يحيى بن عمر أنه قال: قوله وإن كان مغلوبا لا يعجبني إلى آخره، ولا وجه لإنكاره؛ لأن قوله يقدم غيره ويتم معهم صحيح على قول ابن القاسم وروايته عن مالك في " المدونة " وفى رسم "البراءة" بعد هذا في أن المأموم يتمادى مع الإمام ولا يقطع، فإذا لم يقطع المأموم لأجل فضل الجماعة التي قد دخل فيها فالإمام بمنزلته؛ لأنه يحوط من فضل الجماعة ما يحوطه هو والقوم الذين وراءه بذلك أولى وأحرى.
والأظهر أنه لا إعادة عليهم، وهو ظاهر ما في الواضحة لمالك من رواية مطرف عنه.
وأما هو فيعيد على أصله في " المدونة "، وقوله في المأموم: وذهب الفضل إلى أنه إذا قدم من يتم بهم الصلاة يقطع هو ويدخل معهم؛ لأن الصلاة قد فسدت عليه لضحكه فيها، فهو بخلاف الذي يعرض له في صلاته ما يقعده، هذا يتم صلاته مع الذي يستخلفه؛ لأنه لم يستخلف لفساد دخل عليه في صلاته، وإنما استخلف لإصلاح صلاة القوم، وهذا لا يلزم، إذ لا يقطع بفساد صلاته، ولذلك يؤمر المأموم بالتمادي عليها.
وكذلك الناسي كالمغلوب يقدم إن كان إماما ويتمادى مع الإمام إن كان مأموما، قاله ابن حبيب في الواضحة، وروايته عن مالك في رسم "البراءة" من هذا السماع؛ لأنه ساوى فيه بين المتعمد والناسي في أنهما يتماديان مع الإمام إن كانا مأمومين، يريد بالمتعمد الذي يتعمد النظر في صلاته أو الاستماع إلى ما يضحكه فيغلبه الضحك فيها. وأما الذي يضحك مختارا للضحك ولو شاء أن يمسك لأمسك فلا اختلاف في أنه قد أبطل على نفسه صلاته؛ لأن الضحك أشد في إبطال الصلاة من الكلام، لما فيه من اللهو وقلة الوقار ومفارقة الخشوع، ولذلك لم يعذر فيه بالغلبة ولا بالنسيان عند ابن القاسم، خلافا لسحنون في قوله: إن الضحك ناسيا بمنزلة الكلام ناسيا.
ولابن المواز أيضا: إذا صح نسيانه مثل أن ينسى أنه في صلاة، فإذا(1/514)
أبطلها الكلام متعمدا باتفاق، فأحرى أن تبطلها القهقهة تعمدا.
وقد قال إسماعيل القاضي: إن الكلام في قطع الصلاة أبين من الضحك، ألا ترى أن التبسم لا يقطعها وإنما تقطعها القهقهة؛ لأنه يصير فيها ما يشبه حروف الكلام، والأول أبين في أن القهقهة أبين في قطع الصلاة من الكلام، والله أعلم.
وقال ابن كنانة: يستخلف الإمام إذا ضحك في صلاته متعمدا ويقطع ويدخل مع القوم ويقضي إذا سلم مستخلفه ما بقي من صلاته، فإن كان يريد أنه تعمد النظر إلى ما يضحكه فغلبه الضحك فهو الذي ذهب إليه الفضل، وإن كان يريد أنه تعمد الضحك ولم يغلب عليه فهو شذوذ، وبالله التوفيق.
[القاعد لا يومئ بالسجود إلا من علة]
ومن كتاب العرية قال: ولا يومئ القاعد بالسجود إلا من علة، فإن أومأ في النوافل من غير علة أجزأ عنه.
قال عيسى: لا يومئ من غير علة ولا عذر في نافلة ولا مكتوبة.
قال محمد بن أحمد: قوله إن القاعد لا يومئ بالسجود إلا من علة، يريد في الفريضة، صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن السجود فرض كالقيام، فلا يسقط عنه إلا بعدم القدرة عليه.
وإنما قال: إن له أن يومئ في النوافل من غير علة لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد» .
ومعلوم أنه من صلى نائما فإنه يومئ بالركوع والسجود. فإذا جاز أن يترك القعود والسجود مع القدرة عليهما جاز أن يترك السجود دون القعود.
وأما قول عيسى إنه لا يومئ في النافلة من غير عذر ولا علة بناء على ترك الأخذ بالحديث مثل قول مالك في " المدونة ": إنه لا يصلي مضطجعا إلا(1/515)
مريض، فلا يجوز ترك الجلوس ولا السجود إلا من علة، ويحتمل أن يكون لا يجيز الإيماء بالسجود مع القدرة عليه إلا لمن صلى مضطجعا؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلى قاعدا فله نصف أجر صلاة القائم» ، فكان معناه عند أهل العلم جميعا: من صلى قاعدا وساجدا، إذ لم يعلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أحدا من سلف الأمة ترك السجود في صلاة النافلة مع القدرة عليه كما ترك القيام فيها مع القدرة عليه.
وإذا لم تكن صلاة القاعد مثل نصف صلاة القائم إلا مع السجود، فلا تكون صلاة القائم مثل نصف صلاة القاعد إلا مع عدم القدرة على السجود، والله أعلم.
[مسألة: النكاح يعقد بعد قعود الإمام يوم الجمعة]
مسألة وسألته: عن النكاح يعقد بعد قعود الإمام يوم الجمعة، أيفسخ؟
قال: لا، هو جائز دخل أو لم يدخل، النكاح والصدقة والهبة جائزة نافذة في تلك الساعة إلا البيع.
قال أصبغ: فإن اشترى سلعة بعد قعود الإمام على المنبر فباعها بربح لم يجز له أن يأكل ذلك الربح، ويتصدق به أحب إلي، وهو قول ابن القاسم.
قال أصبغ: ولا يعجبني قوله في النكاح وأرى أن يفسخ، وهو عندي بيع من البيوع.
قال القاضي: وجه قول ابن القاسم إن العلة في فسخ البيع لما كانت مطابقة للنهي لم يفسخ النكاح إذ لم تتعد إليه العلة، ووجه قول أصبغ: قياس النكاح على البيع في الفسخ بالمعنى الجامع بينهما، كما يقاس عليه في المنع ويفسخ عند أصبغ ولو فات بالدخول، ويكون لها الصداق المسمى، حكاه ابن مزين عنه.
وهذا على القول بأن البيع إذا فات مضى بالثمن ولم يرد إلى القيمة.
وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في رسم "حلف بطلاق امرأته" من سماع ابن القاسم.
وقوله: لم يجز له أن يأكل ذلك الربح - لفظ(1/516)
ليس على ظاهره ويقضي عليه آخر الكلام، قوله: وأحب إلي أن يتصدق به؛ لأن الربح له حلال على قياس المذهب في انعقاد البيع وانتقال الملك به إليه وكون الضمان منه إن تلفت السلعة. فلو قال: وأحب إلي أن يدفع الربح إلى البائع إن وجده أو يتصدق به عنه إن لم يجده؛ لكان وجه القول والله أعلم، وبه التوفيق.
[رجل أم قوما فصلى بهم ركعة ثم دخل عليه حدث فخرج وقدم رجلا]
ومن كتاب أوله يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه
وسألته: عن رجل أم قوما فصلى بهم ركعة ثم دخل عليه حدث فخرج وقدم رجلا فتوضأ ثم انصرف فأخرج الذي قدم وتقدم، هل تجزئ عنهم صلاتهم؟
قال: قد جاء الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه جاء وأبو بكر يصلي بالناس فسبح الناس بأبي بكر فتأخر وتقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - فأنا أرى أن يصلي بهم بقية صلاتهم، ثم يجلسون حتى يتم هو لنفسه ثم يسلم ويسلمون.
قلت: فلو كان ذكر قبح ما صنع بعد أن صلى ركعة؟ قال: يخرج ويقدم الذي أخرج.
قلت: فإن لم يجده؟ قال: فليقدم غيره ممن أدرك الصلاة كلها.
قلت: أرأيت أنه لو أخرج هذا ودخل ابتدأ لنفسه صلاة نفسه ولم يتبع صلاة الإمام إن كان قد سبقه الناس بركعة لم يجلس هو حتى صلى لنفسه ركعتين ثم جلس، أترى صلاتهم تجزئهم أم لا؟ قال: أرى أن لا إعادة عليهم، اتبعوه أم لم يتبعوه.(1/517)
قال القاضي: الحديث الذي أشار إليه ابن القاسم هو حديث يوم بني عمرو بن عوف إذ ذهب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلح بينهم، فجاء وأبو بكر يصلي للناس فأشار إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يمكث مكانه فلم يفعل برا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستأخر فتقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معناه: أنه تقدم أمام الناس فصلى أمام الناس فصلى مؤتما بأبي بكر لا إماما بالناس، ولو صح أنه تقدم فصلى بالناس ما بقي من صلاتهم لكان ذلك خاصا له أو منسوخا من فعله بما فعله في مرضه، إذ جاء وأبو بكر يصلي فصلى إلى جنبه مؤتما به على الصحيح من التأويلات في الحديث، وإنما أجاز ابن القاسم صلاتهم إذا صلى لهم بقيتها؛ لأنه ابتدأها بهم فراعى مذهب أهل العراق في إجازة البناء في الحدث.
وأما لو لم يبتدئ بهم الصلاة فجاء وهم يصلون فأخرج الإمام وتقدم فصلى بهم بقية صلاتهم لبطلت صلاتهم أجمعين باتفاق، أما هم فمن أجل أنهم أحرموا قبل إمامهم، وأما هو فمن أجل أنه ابتدأ صلاته من وسطها.
والصحيح على المذهب أن صلاتهم باطلة؛ لأنه بالحدث يخرج عن الصلاة، فإذا توضأ وانصرف فأخرج الذي قدم وتقدم هو صار مبتدئا لصلاته من وسطها، وصاروا هم مؤتمين به وقد أحرموا قبله، وذلك مبطل لصلاتهم إلا على مذهب من يرى صلاة القوم غير مرتبطة بصلاة الإمام.
وهذا إذا كان حين انصرف أحرم بعد أن أخرج الذي كان قدم على ظاهر الرواية الذي هو كالمنصوص فيها.
ولو تأول متأول أنه لما انصرف أحرم خلف الإمام الذي قدمه ثم أخرجه بعد ذلك عن الإمامة وتقدم هو موضعه لصح جواب ابن القاسم على تأويله، وإن كان تأويلا بعيدا عن الظاهر.
وكذلك لو حمل ما في الحديث من استيخار أبي بكر وتقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أنه إنما تقدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكانه بعد أن أحرم وراءه ودخل معه في الصلاة لصح بذلك معنى الحديث واستقام بناء المذهب عليه.
[مسألة: لا يصلح للحائض أن تمسك المريض للصلاة ولا ترقده]
مسألة قال ابن القاسم: لا يصلح للحائض أن تمسك المريض للصلاة ولا ترقده، فإن فعلت أعاد في الوقت.(1/518)
قال محمد بن رشد: إنما هذا من أجل أن ثياب الحائض في الأغلب غير طاهرة ولو أيقن بطهارة ثيابها لم تجب عليه إعادة.
[مسألة: الغريق يصلي عريانا ثم يجد ثوبا وهو في الوقت]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الغرق يصلي عريانا ثم يجد ثوبا وهو في الوقت، هل يعيد الصلاة؟ قال: لا يعيد الصلاة.
قال المؤلف: هذا صحيح؛ لأن الفرض في ستر العورة في الصلاة قد سقط عنه لعدم القدرة عليه في الوقت الذي صلاها فيه، إذ هو وقت الوجوب على الصحيح من الأقوال.
هذا إذا قلنا إن ستر العورة من فرائض الصلاة. وأما على القول بأنها فرض في الجملة لا تختص بالصلاة فلا إشكال في أنه لا إعادة عليه أصلا.
[مسألة: الرجل يعرض له المرض فيصلي قاعدا ثم يذهب ذلك عنه]
مسألة وسئل: عن الرجل يعرض له المرض فيصلي قاعدا ثم يذهب ذلك عنه وهو في الوقت، هل يعيد الصلاة؟ قال: لا يعيد الصلاة.
قال محمد بن رشد: الكلام في هذه المسألة كالكلام في التي قبلها لما سقط عنه فرض القيام بعدم قدرته عليه في الوقت الذي صلاها فيه وهو مأمور بالصلاة فيه أجزأته ولم تكن عليه إعادة، وبالله التوفيق.
[مسألة: تفوته ركعة من صلاة العيد فيجد الإمام قائما في الركعة الثانية يقرأ]
مسألة قال ابن القاسم في الذي تفوته ركعة من صلاة العيد فيجد الإمام قائما في الركعة الثانية يقرأ، قال: يكبر تكبيرات، وقال ابن وهب: لا يكبر إلا تكبيرة واحدة.
قال محمد بن رشد: وجه قول ابن القاسم أن التكبير لما كان مما لا يحمله عنه الإمام وجب أن يفعله ما لم يفته وقته بركوع الإمام، ووجه قول(1/519)
ابن وهب أن وقته قد فاته لما فاته لما يلزمه من استماع قراءة الإمام، لقوله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] ، وهو الأظهر، والله أعلم، وبه التوفيق.
[نسي صلاتين ظهرا وعصرا إحداهما للسبت والأخرى للأحد ولا يدري]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وسئل: عمن نسي صلاتين ظهرا وعصرا إحداهما للسبت والأخرى للأحد ولا يدري الظهر للسبت والعصر للأحد أو الظهر للأحد والعصر للسبت، قال: أما أنا فأقول وهو رأيي: أن يصلي أربع صلوات ظهرا للسبت ثم عصرا للأحد ثم عصرا للسبت ثم ظهرا للأحد.
قال ابن رشد: وإن شاء صلى الظهر والعصر للسبت ثم الظهر والعصر للأحد، فقد قال ذلك ابن حبيب، وهو صحيح أيضا؛ لأن ذلك يأتي على شكه، وهذا يأتي على مذهب من يعتبر تعيين الأيام المنسيات فيها الصلوات، ولا يعتبر ترتيب الصلوات الفائتات، وهو مذهبه في " المدونة " أنه لا يعتبر الترتيب في الصلوات الفائتات، خلاف ما يأتي في رسم "بع ولا نقصان عليك"، وعلى مذهب من يعتبر الوجهين جميعا؛ لأن اعتبار الترتيب داخل تحت اعتبار التعيين.
وأما على مذهب من لا يعتبر الترتيب ولا التعيين فيصلي ظهرا وعصرا لا أكثر.
وأما على مذهب من يعتبر الترتيب دون التعيين فيصلي ظهرا وعصرا ثم ظهرا وعصرا.
ولو نسي ظهرا وعصرا إحداهما للسبت والأخرى للأحد لا يدري أيتهما للسبت ولا أيتهما للأحد، ولا إن كانت السبت قبل الأحد أو الأحد قبل السبت من جمعة أخرى لتخرج ذلك على أربعة أقوال: أحدها: أن لا يعتبر التعيين ولا الترتيب فيصلي ظهرا أو عصرا لا أكثر، والثاني: أن يعتبر التعيين والترتيب جميعا فيصلي ظهرا وعصرا للسبت ثم(1/520)
ظهرا وعصرا للأحد، [ثم ظهرا وعصرا للسبت] ، وإن بدأ بالأحد ختم به، والثالث: أن يعتبر التعيين دون الترتيب فيصلي ظهرا وعصرا للسبت وظهرا وعصرا للأحد، والرابع: أن يعتبر الترتيب دون التعيين، فيصلي ظهرا ثم عصرا ثم ظهرا، أو عصرا ثم ظهرا ثم عصرا، ثم يختم بالذي بدأ به، وهذا كله بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: إمام نسي القراءة في ركعتين]
مسألة وقال في إمام نسي القراءة في ركعتين: إنه يعيد ويعيدون متى ذكروا في الوقت وغير الوقت، وإن ذكر في صلاة قطع وابتدأ.
قال المؤلف: لم يختلف قول مالك في أن من لم يقرأ في ركعتين أعاد أبدا.
وقوله: وإذا ذكر وهو في صلاة قطع وابتدأ، يريد: بسلام، وظاهره على أي حال كان.
وحكم الفذ حكم الإمام في الإعادة والقطع.
واختلف قول مالك إذا ترك القراءة في ركعة واحدة، فقال مرة: يسجد لسهوه قبل السلام، ولا يعيد. وقال مرة: يسجد له ويعيد، وقال مرة: يلغي الركعة ويسجد بعد السلام.
قيل: كانت الصلاة من أي الصلوات كانت، وقيل: إنما هذا إذا كانت الصلاة ثلاثية أو رباعية، وأما إن كانت صلاة هي ركعتان فلم يختلف قوله إنه يعيد الصلاة.
والقول الأول هو ظاهر " المدونة "، واختلف اختيار ابن القاسم، فمرة أخذ بالإلغاء، ومرة أخذ بالإعادة.
فعلى القول بالإعادة إن ذكر أنه لم يقرأ قبل أن يركع استأنف القراءة وسجد بعد السلام، وإن ذكر ذلك بعد أن ركع وقبل أن يرفع فقيل إنه يقطع، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وقيل: إنه ينصرف إلى القيام فيقرأ ويركع ويسجد بعد السلام، وهو قوله في سماع سحنون.
وهذا على الاختلاف في عقد الركعة هل هو بالركوع أو بالرفع منه.
وإن ذكر بعد أن رفع رأسه من الركوع قبل أن يسجد قطع، وإن(1/521)
ذكر بعد أن سجد فمرة قال: يقطع، وهو قوله في سماع أبي زيد، ومرة قال: يتم ركعتين، وهو قوله في كتاب ابن المواز.
وإن ذكر وهو واقف في الثانية رجع إلى الجلوس وسلم.
وإن ذكر بعد أن صلى الثلاثة أتم الرابعة وسجد قبل السلام وأعاد الصلاة، وعلى القول بالإلغاء إن ذكر أنه لم يقرأ قبل أن يتم الركعة بسجدتيها ألغى ما مضى فيها واستأنف القراءة من أولها، وإن ذكر وهو واقف في الركعة الثانية جعلها الأولى وألغى الأولى التي لم يقرأ فيها.
وكذلك إن ذكر وهو قائم في الثالثة أنه لم يقرأ في الأولى جعلها ثانية وقرأ فيها بالحمد وسورة، وجلس وتشهد وسجد بعد السلام.
وإن ذكر ذلك بعد أن ركع في الثالثة، وإن لم يرفع رأسه من الركوع تمادى وجعلها ثانية وجلس وتشهد وسجد قبل السلام.
وكذلك إن ذكر ذلك بعد أن قام من الثالثة وهو واقف في الرابعة جعلها ثالثة وسجد قبل السلام.
وأخذ أشهب وابن عبد الحكم وأصبغ بالإعادة في الركعة الواحدة وبالإلغاء في الركعتين والثلاث، إذ لم يختلف قول مالك في أن من ترك القراءة في ركعتين فما زاد: إنه يعيد.
[مسألة: يدرك ركعة مع الإمام ويقوم هو للقضاء ثم يذكر أنه نسي سجدة]
مسألة وقال في الذي يدرك ركعة مع الإمام من الجمعة أو الظهر فيسلم الإمام ويقوم هو للقضاء ثم يذكر قبل أن يركع أنه نسي سجدة من الركعة التي مع الإمام: إنه يخر فيسجد سجدة ثم يبني على تلك الركعة، فإن كانت جمعة أجزأت عنه، وإن كانت ظهرا فمثل ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا على القول بأن سلام الإمام لا يحول بينه وبين إصلاح الركعة التي أدرك معه بالسجدة التي نسي منها.
وستأتي المسألة متكررة والخلاف فيها في رسم "أسلم بعد هذا"، وبالله التوفيق.(1/522)
[مسألة: امرأة طهرت عند غروب الشمس كيف تصلي الظهر والعصر]
مسألة وسئل: عن امرأة طهرت عند غروب الشمس فقدرت خمس ركعات فبدأت بالظهر فلما صلت ركعة غابت الشمس، قال: تضيف إليها أخرى وتكون نافلة ثم تسلم ثم تصلي العصر.
قيل: فلو صلت ثلاث ركعات؟ قال: تضيف إليها أخرى وتصلي العصر.
قال القاضي: هذه مسألة صحيحة لا إشكال فيها، والأصل فيها قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» ، فجعله مدركا للصلاة بإدراك ركعة منها قبل الغروب، فلا تكون المرأة إذا طهرت في آخر النهار مدركة للصلاتين جميعا إلا إذا طهرت لمقدار خمس ركعات فأكثر، فلما غابت الشمس لهذه المرأة التي قدرت أن عليها الظهر والعصر، وهي في الظهر قبل تمامها، تبين لها أن الظهر ساقط عنها، وأن صلاة العصر واجبة عليها إذ كان الوقت لها لا للظهر، فصارت بمنزلة من ذكر صلاة قد خرج وقتها وهي في نافلة تصليها، فيدخل فيها من الخلاف ما فيها، فقيل: إنها تقطع بكل حال، وقيل: إنها لا تقطع حتى تتم ركعتين أو أربعا إن كانت صلت ثلاثا، وقيل: إنها تتم ركعتين إن كانت قد صلت ركعة وتقطع إن كانت لم تصل ركعة أو كانت قد صلت ثلاث ركعات، وهو اختيار ابن القاسم في " المدونة "، وقيل: إنها تقطع إن كانت لم تصل ركعة وتتم ركعتين إن كانت صلت واحدة، وأربعا إن كانت صلت ثلاثا، وهو قوله في هذه الرواية، وهو أحسن الأقوال؛ لأنها إن كانت قد صلت ركعة أو ثلاثا كان الاختيار لها أن لا تقطع حتى تخرج عن نافلة؛ لقول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، فإن كانت لم تصل ركعة كان الاختيار لها أن تقطع لوجوب صلاة العصر(1/523)
عليها بذكرها، وهي ليس معها من صلاتها عمل تام يبطل عليها بالقطع.
ولو علمت وهي تصلي الظهر قبل أن تغيب الشمس أنها إن أكملت الظهر غابت الشمس لوجب أن تقطع على أي حال كانت وتصلي العصر، ولا اختلاف في هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: صلى مع الإمام فرفع رأسه من السجدة الأولى فرأى الناس في الثانية]
مسألة وقال فيمن صلى مع الإمام فرفع رأسه من السجدة الأولى، فرأى الناس سجودا في الثانية فظن أنهم في الأولى كلهم، فرجع إلى السجدة الأولى ليرفع منها برفعهم فرفعوا وقاموا، قال: ينبغي له أن يسجد سجدة يخر ساجدا ويعتد بها، يعني ما بينه وبين أن يركع الإمام في الثانية.
قيل له: فإن لم يفعل حتى سلم الإمام؟ قال: يعيد الصلاة إن طال ذلك بعد سلام الإمام، وإن ذكر ذلك بحضرة ذلك صلى ركعة بسجدتيها وسجد بعد السلام.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يسجد التي ترك من الركعة الأولى ما بينه وبين أن يركع الإمام في الثانية هو مثل ما مضى في رسم "استأذن" وفي غير ما موضع، وكذلك إن ترك السجدة من غير الأولى يسجدها ما لم يعقد الإمام الركعة التي تليها، إما بالركوع وإما بالرفع منه على ما مضى من اختلاف قول مالك في ذلك، ولا اختلاف في هذا، وإنما الاختلاف إذا تركها من الركعة الآخرة، فقيل: إنه يسجدها ما لم يسلم الإمام، فإن سلم الإمام وكان بالقرب صلى ركعة وسجد بعد السلام، وإن طال ابتدأ الصلاة، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية.
وقيل: إنه يسجد السجدة بعد سلام الإمام ما كان بالقرب، فإن طال بعد سلامه ابتدأ الصلاة، وهو على ما مضى من قوله في هذا الرسم، وبالله التوفيق.(1/524)
[مسألة: صلى بقوم المغرب فسلم من ركعتين فسبح به فقام فاستأنف الصلاة واتبعوه]
مسألة وسئل: عمن صلى بقوم المغرب فسلم من ركعتين فسبح به فقام فاستأنف الصلاة واتبعوه، فقال: أما هو فقد تمت صلاته، وأما من خلفه فيعيدون في الوقت وغيره إن كانوا لم يسلموا.
قال المؤلف: ظاهر قوله: أما هو فقد تمت صلاته، يوجب أن سلامه على طريق السهو قد أخرجه عن الصلاة.
وقد روي عن ابن أبي زيد أنه قال: إنما يصح هذا إذا سلم عامدا أو تعمد القطع بعد سلامه ساهيا، فذهب ابن أبي زيد في قوله هذا إلى أن سلامه على طريق السهو لم يخرجه من صلاته مثل ما يأتي في رسم "أسلم بعد هذا"، فلهذا قال: إنما يصح أن تكون صلاته قد تمت إن كان سلم عامدا، يريد بعد سلامه ساهيا، أو تعمد القطع بعد سلامه ساهيا، وإلى أن السلام على طريق السهو لا يُخرج المصلي عن صلاته ذهب ابن المواز، وحكاه عن مالك، وعليه بنى مسائله فقال فيمن دخل مع الإمام في التشهد الآخر فلما سلم الإمام وقام هو يقضي صلاته رجع الإمام فقال: إني كنت أسقطت سجدة من صلاتي، إنه ينظر، فإن ركع الركعة الأولى من قضائه في حد لو رجع الإمام لصح له الرجوع إلى إصلاح صلاته ألغى تلك الركعة؛ لأنه صلاها في حكم الإمام، وإن كان لم يركع في الركعة الأولى من قضائه إلا بعد أن فات الإمام الرجوع إلى إصلاح صلاته صحت له الركعة وسجد قبل السلام؛ لأنه قرأ الحمد في حكم الإمام، فكأنه أسقطها.
فالسلام من الصلاة ينقسم على قسمين: أحدهما: أن يسلم ساهيا غير قاصد إلى السلام والتحلل به من الصلاة، والثاني: أن يسلم قاصدا إلى السلام والتحلل به من الصلاة.
فأما إذا كان ساهيا غير قاصد إلى السلام والتحلل من الصلاة فلا يخلو من أن يكون ذلك في غير موضع السلام أو في موضع السلام، فهو سهو دخل عليه يسجد له بعد السلام، وإن كان ذلك في موضع السلام أجزأه ذلك من السلام وتحلل به من الصلاة إلا أن يقصد به(1/525)
التحلل من الصلاة، مثل أن ينسى السلام الأول ويسلم من على يمينه أو يرد على الإمام، فلا يجزئه على مذهب مالك، ويجزئه على ما ذهب إليه سعيد بن المسيب وابن شهاب من أن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام.
وأما إن سلم قاصدا إلى السلام والتحلل من الصلاة فلا يخلو من أن يكون ذلك وهو يعلم أن الصلاة لم تتم، أو هو يظن أن الصلاة قد تمت؛ فأما إن كان ذلك وهو يعلم أن الصلاة لم تتم فذلك يقطعها عليه ويخرجه عنها، وإن كان ذلك وهو يظن أن الصلاة قد تمت فكان ذلك كما ظن خرج من الصلاة بالسلام، وإن تم ذلك على ما ظن وتبين أنه قد سها فيما كان يظن وأنه لم يكمل صلاته، فهنا هو الاختلاف المذكور في خروجه عن الصلاة بالسلام، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، والله أعلم.
[مسألة: ترك التكبير كله من الصلاة سوى تكبيرة الإحرام]
مسألة وقيل فيمن ترك التكبير كله من الصلاة سوى تكبيرة الإحرام: إنه إن لم يسجد السجدتين في ذلك قبل السلام أعاد الصلاة، وإن ترك الجلوس أيضا في اثنتين فلم يسجد أعاد الصلاة لذلك؛ لأن هذا نقصان.
ولو أسر القراءة في الصلاة كلها لم ير أن يعيد لذلك الصلاة إن لم يسجد وإن تطاول؛ لأنه قد قرأ.
قال المؤلف: سجود السهو يجب في السنن المؤكدات في الصلاة، وهي ثمان: قراءة ما سوى أم القرآن، والجهر في موضع الجهر، والإسرار في موضع الإسرار، والتكبير سوى تكبيرة الإحرام، والتحميد، والتشهد الأول، والجلوس له، والتشهد الآخر، فإن ترك من هذه السنن ثلاث سنن فأكثر سجد لها قبل السلام، فإن لم يسجد قبل فبعد، فإن لم يسجد بعد حتى طال أعاد الصلاة وإن ترك منها أقل من ثلاث ولم يسجد قبل ولا بعد حتى طال فلا إعادة عليه.
فهذا حكم هذه السنن المذكورات ما عدا التكبير سوى تكبيرة الإحرام، فإنه اختلف فيه، فقيل: إنه كله سنة واحدة، وقيل: إن كل تكبيرة سنة(1/526)
سنة. فمن قال: إنه كله سنة واحدة لم ير سجود السهو في تكبيرة واحدة منه، ولا أوجب الإعادة على من تركه كله فلم يسجد له حتى طال، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم، ومن قال: إن كل تكبيرة منه سنة أوجب السجود في التكبيرة الواحدة وفي التكبيرتين، والإعادة على من ترك منه ثلاث تكبيرات فأكثر فلم يسجد حتى طال، وهو قوله في هذه الرواية وأحد قوليه في " المدونة ".
وقوله: إن ترك الجلوس في اثنتين فلم يسجد أعاد الصلاة صحيح على ما أصلناه؛ لأنه يجتمع في تركه له ثلاث سنن، وهي الجلوس والتشهد وتكبيرة القيام.
وقوله: لأن هذا نقصان، يريد لأن هذا نقصان كثير.
وقوله: لو أسر القراءة في الصلاة كلها لم أر أن يعيد - صحيح أيضا على ما أصلناه من أنه سنة واحدة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي عليه السهو فلا يدري أسها أم لا]
مسألة وقال مالك فيمن يأتي عليه السهو فلا يدري أسها أم لا، قال: يسجد سجدتين بعد السلام.
قال المؤلف: معنى يأتي عليه السهو - يكثر عليه الشك، فلا يدري أسها أم لا، وهو المستنكح بكثرة الشك في السهو.
وسيأتي له مثل هذا في رسم "إن خرجت"، وقد مضى له مثله والقول عليه في رسم "باع غلاما" من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: من أكل الثوم فلا يقرب المسجد رأسا]
مسألة قال مالك: من أكل الثوم فلا يقرب المسجد رأسا.
قال ابن القاسم: والكراث والبصل إن كان يؤذي ويظهر فهو مثل الثوم ولا يقرب المسجد أيضا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم(1/527)
" الصلاة" الثاني من سماع أشهب، فلا معنى لإعادة القول في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: صلى ببول الفارة]
مسألة قال: ومن صلى ببول الفارة فإنه يعيد ما كان في الوقت.
قال سحنون: لا إعادة عليه.
وسئلت عائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عن أكل الفارة فتلت هذه الآية: {لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] ... الآية، كأنها رأت إجازته.
قال محمد بن أحمد بن رشد: قول ابن القاسم هو القياس على المذهب؛ لأن الفارة من ذي الناب من السباع، وقد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل كل ذي ناب من السباع.
والأبوال تابعة للحوم، فوجب أن يكون بولها نجسا؛ إذ لا يؤكل لحمها، وأن يعيد في الوقت من صلى ببولها.
وقول سحنون استحسان مراعاة لقول عائشة، - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، في إجازة أكلها لظاهر الآية التي تلتها؛ إذ ليست الإعادة من النجاسات المتفق عليها واجبة، والقول بالمنع من أكلها ونجاسة بولها أظهر؛ لأن السنة مبينة للقرآن.
روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإنه ليس كذلك، لا يحل ذو ناب من السباع ولا الحمار الأهلي» ، وفي رواية أخرى: «ألا وإن ما حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو مثل ما حرم الله» ، وبالله التوفيق.
كمل كتاب الصلاة الثالث بحمد الله.(1/528)
نجز الجزء الأول من كتاب البيان والتحصيل للإمام ابن رشد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من عمل ثمانية عشر جزءا يتلوه أول الثاني: كتاب الصلاة الرابع.(1/529)
[كتاب الصلاة الرابع] [مسألة: افتتح الصلاة المكتوبة فلما صلى ركعتين شك في أن يكون على وضوء]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. كتاب الصلاة الرابع
من سماع عيسى
من كتاب أوله بع ولا نقصان عليك. مسألة: وسئل ابن القاسم عمن افتتح الصلاة المكتوبة، فلما صلى ركعتين شك في أن يكون على وضوء فتمادى في صلاته - وهو على شكه ذلك، فلما فرغ من صلاته، استيقن أنه كان على وضوء. قال: صلاته مجزئة عنه، إلا أن يكون نواها نافلة حين شك.(2/5)
قال محمد بن رشد: إنما قال: إن صلاته تامة- وإن تمادى على شكه، إلا أن يكون نواها نافلة؛ لأنه لما دخل في الصلاة بطهارة متيقنة، لم يؤثر عنده فيها الشك الطارئ عليه بعد دخوله في الصلاة، والأصل في ذلك، ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الشيطان يفسو بين أليتي أحدكم، فإذا كان يصلي فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» . وليس هذا بخلاف لقوله في المدونة: من أيقن بالوضوء وشك في الحدث انتقض وضوؤه؛ لأن الشك طرأ عليه في هذه المسألة بعد دخوله في الصلاة، فوجب ألا ينصرف عليها إلا بيقين- كما جاء في الحديث، ومسألة المدونة طرأ عليه الشك في طهارته قبل الدخول في الصلاة، فوجب ألا يدخل فيها إلا بطهارة متيقنة- وهو فرق بَيِّن. وقد روى سحنون عن أشهب في أول سماعه خلاف هذا في هذه المسألة أن صلاته باطلة، وهذا أظهر لما بيناه.
[مسألة: طهارة السيف من الدم]
مسألة قال: وقال مالك يمسح السيف من الدم ويصلي به. قلت:(2/6)
فلو صلى به ولم يمسحه، هل كنت تراه يعيد الصلاة ما دام في الوقت؟ قال: لا. قال: عيسى بن دينار يريد إذا كان في الجهاد أو الصيد الذي يكون عيشه.
قال محمد بن رشد: أجاز أن يمسح السيف من الدم ويصلي به وإن لم يغسله؛ لأن اليسير من الدم معفو عنه، فإذا مسحه من السيف لم يبق فيه منه إلا أقل مما جوز للراعف أن يفتله بين أصابعه ويمضي في صلاته، ولم ير عليه إعادة إن صلى به ولم يمسحه، لما مضى عليه عمل السلف من استجازة مثل هذا، وترك التعمق فيه- على ما يأتي في رسم "حبل الحبلة" من السماع؛ ولأن ذلك يكثر ويشق على المجاهد، والذي يكون عيشه الصيد، وقول عيسى تفسير وبيان إن شاء الله.
[مسألة: نسي صلاتين واحدة في السفر وأخرى في الحضر]
مسألة وقال في رجل نسي صلاتين: ظهرا وعصرا، واحدة في السفر وأخرى في الحضر، لا يدري أيتهما نسي في الحضر، ولا أيتهما نسي في السفر، ولا أيتهما قبل صاحبتها؟ قال: يصلي ثلاث صلوات، إن شاء صلى الظهر والعصر للحضر مرة، وصلاهما للسفر مرتين، وإن شاء صلى للسفر مرة، وللحضر مرتين، قلت له: كيف يصنع؟ قال: إن أراد أن يصليهما للحضر مرتين بدأ فصلى الظهر والعصر للحضر، ثم صلى أيضا الظهر والعصر للسفر، ثم صلى الظهر والعصر للحضر، فإن كانت صلاة الحضر قبل صلاة السفر، فقد صلاهما كما وجبتا عليه، وإن كانت صلاة السفر قبل صلاة(2/7)
الحضر، فقد صلاها قبلها حين صلى بعدها الظهر (والعصر للحضر) ، وكذلك العمل فيها أيضا لو بدأ بصلاة السفر قبل صلاة الحضر لصلاها مرتين.
قال محمد بن رشد: قوله في المسألة يصلي ثلاث صلوات يريد ثلاث صلوات في كل صلاة، فهي ست صلوات. وقوله: إنه يصليهما حضريتين وسفريتين صحيح؛ لأن صلاة الحضر لا تجزئ عن صلاة السفر إذا خرج وقتها، كما لا تجزئ صلاة السفر عن صلاة الحضر إذا خرج وقتها، فلما لم يدر كيف وجبتا عليه، وجب عليه أن يصليهما للحضر وللسفر حتى يأتي على شكه، ويوقن أنه قد صلاهما كما وجبتا عليه. وأما قوله: إنه يعيدهما بعد ذلك للسفر إن كان بدأ بالسفر، وللحضر إن كان بدأ بالحضر من أجل الرتبة؛ إذ لا يدري هل كان السفر قبل الحضر، أو الحضر قبل السفر، فهو على خلاف أصله في المدونة؛ إذ لا يلزم أن يراعى الترتيب في الفوائت على أصله فيها؛ لأنه قال فيها: إن من ذكر صلاة فتعمد فصلى الصلاة التي هو في وقتها- وهو ذاكر لها، أنه لا يعيدها إلا في الوقت، فإذا كان لا يلزمه أن يعيدها إلا في الوقت- وهو يوقن أنه قد قدمها قبل الأولى، فأحرى أن لا يعيد هذه إلا في الوقت؛ إذ ليس على يقين من أنه قدّمها قبل الأولى- والوقت قد خرج بتمام الصلاة؛ لأن الصلاة الفائتة إذا صلاها فقد خرج وقتها؛ لأنه كأنه قد وضعها في وقتها، وهذا بيّن- وبالله التوفيق.(2/8)
[مسألة: صلى فقرأ سجدة فركع بها]
ومن كتاب
لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس
مسألة وقال: من صلى فقرأ سجدة فركع بها، أنه إن كان تعمد الركوع بها، أجزأته تلك الركعة وقرأها إذا قام في أخرى وسجد. قال: والمكتوبة والنافلة في ذلك سواء، إلا أني لا أحب للإمام أن يخلط على الناس بسجدته أن يقرأ سجدة في المكتوبة. قال: وإن أراد أن يهوي ليسجدها فنسي فركع، فإنه إن ذكر وهو راكع خر من ركعته فسجدها ثم اعتدل فقرأ وركع، وإن لم يذكر حتى فرغ من ركعته، ألغى تلك الركعة. وقال: لا أحب لأحد أن يتعمد الركوع بسجدة، فإن فعل أجزأ عنه. قال أشهب عن مالك: إنه يعتد بها وإن ركعها ساهيًا للسجدة ولا يلغيها.
قال محمد بن رشد: قوله فيمن قرأ سجدة فركع بها (إنه) إن كان تعمد الركوع بها أجزأته تلك الركعة، صحيح لا اختلاف فيه؛ لأنه ركع بنية الركوع الواجب عليه، وترك السجود الذي ليس بواجب عليه. وأما قوله: إنه يقرأها إذا قام في الأخرى ويسجد في المكتوبة والنافلة، فهذا موضع اختلف فيه، فقال ابن حبيب: إنه لا يقرأها إذا قام في المكتوبة ولا في النافلة؛ لأن الركعة التي ركعها لصلاته تجزئه من السجدة، وعلى مذهبه في المدونة: لا يجزئه ركوعه للصلاة عن السجدة، فهو بمنزلة من ترك سجود السجدة(2/9)
يقرأها في الركعة الثانية في النافلة دون الفريضة. وقوله: إلا أني لا أحب للإمام الذي يخاف أن يخلط على الناس بسجدته، أن يقرأ سجدة في المكتوبة، هو مثل ما مضى، ومضى القول فيه في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب- خلاف ما في المدونة.
وأما قوله: إنه إن أراد أن يهوي ليسجدها فنسي فركع، أنه إن ذكرها- وهو راكع يخر من ركعته فيسجدها، ثم يعتدل- قائما فيقرأ ويركع؛ فصحيح على مذهبه في الاعتبار باختلاف نيته في الصلاة، إلا أنه يسجد لسهوه بعد السلام- إن كان قد أطال الركوع قبل أن يذكر - قاله ابن حبيب، وكذلك قوله: إنه إن لم يذكر حتى فرغ من ركعته، أنه يلغيها، صحيح أيضا على مذهبه في الاعتبار باختلاف نيته في الصلاة، وهو قوله في رسم "السلم" بعد هذا: إن من حالت نيته في صلاته إلى نافلة تبطل عليه صلاته- إن طال ذلك، وإذا ألغاها من أجل أنه لم ينو بها الفريضة ونوى بها النافلة، فيأتي بركعة مكانها ويسجد بعد السلام.
وقول أشهب عن مالك: إنه يعتد بها وإن ركعها ساهيا للسجدة ولا يلغيها؛ صحيح أيضا على أصل أشهب في سماع سحنون أن من حالت نيته في صلاته إلى نافلة، فصلاته صحيحة لا تبطل عليه- وإن طال ذلك، وليس تحول النية بشيء، وذلك ينحو إلى قول ابن المسيب وابن شهاب في أن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام، فتدبر ذلك، فإنه أصل واحد.
[مسألة: المسافر يدخل يوم الجمعة حاضرته]
مسألة وقال في المسافر يدخل يوم الجمعة حاضرته، وقد صلى الظهر في السفر، فأتى المسجد فوجد الناس في الجمعة، فدخل معهم، فأحدث الإمام فقدمه فصلى بالناس، قال: أرى صلاتهم مجزئة عنهم؛ لأن كل(2/10)
من دخل حاضرته قبل أن يصلي الإمام، فعليه أن يحضر الجمعة، وإن فاتته ولم يحضرها أو قد كان في الحضر حين صلى الإمام الجمعة، فعليه أن يعيدها ظهرا أربعا، وإن كان قد صلاها في السفر اثنتين حتى يجعل صلاته بعد صلاة الإمام.
قال محمد بن رشد: رأى صلاته التي صلى في السفر منتقضة إذا دخل حاضرته قبل أن يصلي الإمام الجمعة، ولذلك قال: إن صلاتهم مجزئة عنهم إذا صلاها بهم، ونحو هذا في سماع عبد الملك بن الحسن، وقد اختلف في هذا وفي المريض يصلي الظهر يوم الجمعة بعد الزوال قبل صلاة الإمام، ثم يصح في وقت لو مضى إلى الجمعة لأدركها أو ركعة منها، وفي العبد يصلي الظهر أيضا ثم يعتق في وقت لو مضى إلى الجمعة لأدركها أو ركعة منها، وفي الذي يصلي الظهر ناسيا أو على ألا يأتي الجمعة أو هو يظن أن الجمعة قد صليت في وقت لو مضى إلى الجمعة لأدركها أيضا، أو ركعة منها، فقيل: إن الجمعة عليهم كلهم واجبة، وإن فاتتهم أعادوا ظهرا أربعا؛ لأن الصلاة الأولى قد بطلت، وهو الذي يأتي على هذه الرواية، وقيل: إن الأولى هي صلاتهم ويؤمرون بإتيان الجمعة، فإن لم يفعلوا، فلا شيء عليهم، وهو قول ابن نافع، وقيل: إن العبد والمريض والمسافر الذي صلى في السفر لا يلزمه الإتيان إلى الجمعة، بخلاف الذي يصلي الظهر سهوا أو على ألا يصلي الجمعة، أو وهو يظن أن الجمعة قد صُلِّيت، وهذا الذي يأتي على مذهب سحنون، وأشهب، وقال سحنون- على أصله: ليس على المسافر إذا دخل من سفره أن يصلي الجمعة، إلا أن تكون صلاته الظهر على ثلاثة أميال من وطنه. وقال أشهب - على أصله(2/11)
أيضا: إنه إن كان صلى الظهر في سفره في جماعة، فلا ينبغي له أن يأتي الجمعة، كما لا ينبغي له في غير الجمعة إذا صلى في سفره صلاة من الصلوات في جماعة، أن يعيد تلك الصلاة في الحضر في جماعة.
[مسألة: ظن الرجل أنه نقص من صلاته فسجد سجدة أو سجدتين]
مسألة قال ابن القاسم: إذا ظن الرجل أنه نقص من صلاته فسجد سجدة أو سجدتين، ثم ذكر أنه لم ينقص شيئا، فإنه إن ذكر ذلك ولم يسجد إلا سجدة لم يسجد إليها الأخرى، وسجد سجدتين بعد السلام؛ وإن ذكر وقد سجد سجدتين كذلك أيضا، يسجد سجدتين بعد السلام؛ قيل له: فلو كان ظن أنه زاد فسجد سجدة أو سجدتين، ثم علم أنه لم ينقص من صلاته لسهوه بعد السلام، ثم ذكر أنه لم يزد؛ قال: يقطع ولا يسجد إليها أخرى.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا إشكال فيها ولا كلام- على ما في المدونة وغيرها؛ لأنه إذا ظن أنه قد نقص من صلاته فسجد قبل السلام سجدة أو سجدتين، ثم علم أنه لم ينقص من صلاته شيئا، فقد حصل بسجوده للسهو سهو زيادة يسجد له بعد السلام؛ وإذا ظن أنه قد زاد فسجد سجدة واحدة بعد السلام ثم ذكر أنه لم يزد شيئا، وجب ألا يسجد إليها سجدة أخرى؛ إذ السجود إنما شرع للسهو، وهذا لم يسه- وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون في الزحام يوم الجمعة فلا يقدر أن يركع مع الإمام]
مسألة وسألته عن الرجل يكون في الزحام يوم الجمعة فلا يقدر أن يركع مع الإمام هل يركع ويتبعه؟ قال: إذا لم يركع معه فلا يجزئه أن(2/12)
يركع بعده، قلت: فالرجل يغفل أو ينعس فلا ينتبه حتى يعتدل الإمام من ركعته، قال: اختلف قول مالك في ذلك، فمرة كان يقول: يلغي تلك الركعة، ومرة كان يقول: إذا كانت من أول صلاته ألغاها، ومرة كان يقول: يركع ويتبعه، فإن لحقه في السجود، أجزأت عنه؛ فإن لم يلحقه في السجود ألغاها. قلت: فأي شيء تأخذ به أنت؟ قال: أما في الزحام إذا لم يستطع أن يركع مع الإمام، فإنه يلغي تلك الركعة ولا يركع ويتبعه- كانت أول ركعة أو غيرها هو سواء، ولكن يتبعه في السجود ويلغي تلك الركعة ويصلي ركعة مكانها، فإن فاتته الأولى والثانية، قضى ما فاته بعد سلام الإمام، ولو ركع الركعة الأولى مع الإمام فلم يستطع أن يركع الثانية من الزحام، لم يركع ويتبع الإمام- وإن طمع أن يدركه في سجوده وألغى تلك الركعة التي لم يركعها مع الإمام، وصلاها إذا سلم الإمام، والزحام مخالف للغفلة والنعسة إذا لم ينتبه حتى يستقل الإمام من الركعة أو لم ينتبه لركوع الإمام حتى يستقل الإمام، فهذا الذي نعس أو غفل وقد ركع مع الإمام أول ركعة، صلى معه وركع واتبعه ما طمع أن يدركه في سجوده، وإن لم يطمع فلا يتبعه، وإن لم يركع بعد أول ركعة ودخل عليه من الغفلة فيها مما ذكرت، كان أمره وأمر الذي في الزحام سواء في جميع صلاته- إذا لم يركع معه الركعة الأولى.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل الاختلاف في هذه المسألة في رسم "كتب عليه ذكر حق" من سماع ابن القاسم، وتكررت أيضا في رسم(2/13)
الصلاة الثاني من سماع أشهب، وفي أول رسم من هذا السماع، ووجه قوله: إنه يتبع الإمام بالركوع في الركعة الأولى والثانية، (ما ثبت من أمر) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن دخل مع الإمام أن يتبعه في صلاته، من ذلك قوله: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا» - الحديث. والفاء تقتضي التعقيب، وتوجب أن الثاني بعد الأول، والقياس أيضا على ما أجمعوا عليه (حق اتباعه) في السجود إذا فاته السجود معه بغفلة أو ما أشبه ذلك، ووجه قوله إنه لا يتبعه في الأولى ولا في الثانية، ظاهر قول عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة: من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، ومن فاتته الركعة فقد فاتته السجدة. إذ لم يفرقوا بين الأولى والثانية، ووجه تفرقته بين الأولى والثانية، أن الركوع ركن من أركان الصلاة كالسجود، فإذا فاته مع الإمام لم يكن له أن يفعله بعده، إلا أن يكون قد تقدمه ركوع أصل ذلك السجود.
[مسألة: المسافر يؤم بمسافرين فيصلي بهم ركعة ثم يبدو له في المقام]
مسألة وسئل عن المسافر يؤم بمسافرين فيصلي بهم ركعة ثم يبدو له في المقام، قال يخرج فيقدم رجلا يتم بهم ويقطع هو صلاته. قلت: وإن كان خلفه مقيمون ومسافرون كيف يصنع المسافرون؟ قال: إن قدم الخارج مسافرا صلى صلاة مسافر يسلم من ركعتين (بالمسافرين، ثم أتم المقيمون لأنفسهم. وإن قدم مقيما أضاف إلى(2/14)
التي صلى الخارج- ركعة، ثم أشار إليهم كلهم المسافرين والمقيمين: أن اجلسوا، ويتم هو لنفسه، فإذا سلم، سلم المسافرون بسلامه، ثم يتم المقيمون بعد سلام الإمام. قال عيسى: وأحب إلي أن (ينتقض) بهم صلاتهم إذا تحولت نية الإمام.
قال محمد بن رشد: اختلف في المسافر ينوي الإقامة في صلاته على ثلاثة أقوال: أحدها- وهو مذهبه في المدونة -أن تحول نيته مفسد لصلاته، فهو كمن ذكر صلاة في صلاة، (يخرج عن نافلة أو يقطع) على الاختلاف في ذلك، ويصلي صلاة مقيم، فعلى هذا القول يأتي جوابه في هذه المسألة: أن الإمام يقطع ويخرج. وقوله: إنه يقدم رجلا يتم بهم الصلاة على أحد قوليه في الإمام يذكر صلاة وهو في صلاة، أنه يستخلف ويقطع ولا يقطعون، واختيار عيسى في هذه أن يقطعوا، خلاف اختياره في الإمام يذكر صلاة وهو في صلاة، فيحتمل أن يكون ذلك اختلافا من قوله، والأظهر أنه فرق بين المسألتين، لقوة الاختلاف في هذه، (فيكون الإمام على قول من رأى) أنه يتمادى على صلاته وتجزئه إذا قطع، قد أفسد صلاته متعمدا، فوجب أن يفسد عليهم؛ والقول الثاني، وهو اختيار بعض المتأخرين- أنه لا تأثير لتحول نيته في إفساد صلاته، فيتمادى عليها وتجزئه، كالمتيمم (يدخل) في الصلاة (ثم يطلع عليه) رجل معه ماء، أنه يتمادى ولا يقطع. والقول الثالث رواه ابن الماجشون عن مالك واختاره ابن حبيب، أنه إن كان لم يركع، أتم على إحرامه أربعا، وإن كان قد ركع أتم صلاته صلاة سفر، كما ابتدأها وأجزأته،(2/15)
وهو استحسان على غير قياس؛ لأنه راعى تحول نيته في حال دون حال؛ وقال: إنه يتم أربعا- وهو قد أحرم بنية ركعتين. وفي ذلك اختلاف قد مضى القول فيه في أول رسم من سماع ابن القاسم. وقوله: إن قدم مقيما- إلى آخر قوله- صحيح؛ لأنه، إنما استخلفه على الركعة التي بقيت من صلاته، فإذا صلاها بهم وقام إلى إتمام صلاته، لم يصح للمقيمين أن يأتموا به فيها؛ لأن السنة أن يصلوا أفرادا، فإن ائتموا به، جرى الأمر في وجوب الإعادة عليهم على الاختلاف فيمن وجب عليه أن يصلي فذا، فصلى في جماعة على ما يأتي في رسم "إن خرجت بعد هذا"، وفي سماع سحنون، وفي سماع موسى بن معاوية - بعد هذا إن شاء الله تعالى.
[مسألة: المسافر يدخل في صلاة قوم وهو يظنهم مسافرين]
مسألة وسئل ابن القاسم عن المسافر يدخل في صلاة قوم وهو يظنهم مسافرين فلما صلى تبين له أنهم مقيمون، قال: أحب إلي أن يعيد.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها- مجودا في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته.
[مسألة: جمع الصلاتين في الخوف]
مسألة قال ابن القاسم: لا تجمع الصلاتان في الخوف؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] . قال ابن القاسم بعد ذلك ولم أسمع أحدا جمع، ولو جمعوا لم أر به بأسا.
قال محمد بن رشد: يريد جمعهم بين الصلاتين في الخوف على سنة صلاة الخوف - إذا كانوا نازلين بموضع، وخافوا هجوم العدو عليهم فيه، فلم ير ذلك في القول الأول؛ إذ لم يذكر الله فيه إلا بفرقة الجماعة طائفتين على إمام واحد، ولم ير مالك للمسافرين الجمع إلا إذا جد بهم السير، وهؤلاء(2/16)
نازلون غير سائرين، وخفف ذلك في القول الثاني لما جاء من السعة في الجمع لاشتراك الوقتين، فقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الصلاتين في غير خوف ولا سفر. (قال ابن عباس راوي) - الحديث: إنما فعل ذلك لئلا يحرج أمته» - وبالله التوفيق.
[مسألة: دراسة القرآن بعد صلاة الصبح في المسجد]
مسألة وسئل عن دراسة القرآن بعد صلاة الصبح في المسجد يجتمع عليه نفر فيقرؤون في سورة واحدة، فقال: كرهها مالك ونهى عنها ورآها بدعة.
قال محمد بن رشد: قد مضت كراهية مالك لذلك في أول رسم "سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " من سماع ابن القاسم، والقول فيها هناك بما يغني عن رده.
[مسألة: يدخل المسجد في رمضان فيدرك الإمام في آخر ركعة الوتر]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يدخل المسجد في رمضان فيدرك الإمام في آخر ركعة الوتر- وقد صلى معه بعد العشاء نافلة. قال: إذا سلم أضاف إليها أخرى وسلم، ثم أوتر بواحدة- إذا كان الإمام ممن يسلم، وإن كان ممن لا يسلم أضاف إليها اثنتين بغير سلام.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يجتزئ بالنافلة التي صلى بعد العشاء، (لبعد ما بينها وبين الوتر) الذي صلى مع الإمام، ليس على قياس مذهب(2/17)
مالك، ووجهه مراعاة قول من يرى أن الوتر ثلاث لا يفصل بينهن بسلام، والذي تقدم لمالك في رسم "الصلاة" الأول من سماع أشهب والصحيح على قياس مذهبه. وقوله: وإن كان الإمام ممن لا يسلم أضاف إليها اثنتين بغير سلام، هو نحو قول مالك في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب: لو كنت صانعه لم أسلم بين الاثنتين والواحدة، وقد مضى القول على ذلك هناك.
[مسألة: يصلي المغرب في بيته ثم يأتي المسجد فيجد الناس في الصلاة]
مسألة قال ابن القاسم في الذي يصلي المغرب في بيته ثم يأتي المسجد فيجد الناس في الصلاة فينسى فيدخل معهم، قال: إن ذكر قبل أن يركع رجع، وإن ذكر بعد أن صلى ركعة، فإن قطع كان أحب إلي، وإن صلى الثانية ثم قطع، رجوت أن يكون خفيفا، وإن لم يذكر إلا بعد ثلاث ركعات، أضاف إليها ركعة وسلم وخرج. وقال سحنون: وقد روى علي بن زياد أنه لا يشفعها برابعة، وعليه أن يعيدها ثالثة.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة في رواية أبي صالح، واستحباب القطع فيها إذا ذكر بعد ركعة، هو الذي يأتي على ما في المدونة، وقد ذكرنا الاختلاف في مسألة المدونة في آخر رسم "نقدها" من هذا السماع. وقوله: إنه إن ذكر بعد ثلاث ركعات، أضاف إليها رابعة، صحيح على القول بأن من أعاد في جماعة، فالأولى هي صلاته، وهذا القول هو الذي يصح في هذه المسألة- على مذهب مالك؛ إذ لا يرى لمن صلى المغرب أن يعيدها في جماعة، ورواية علي بن زياد تأتي على (أن) من أعاد في جماعة، فهما جميعا له صلاتان فريضتان، وقد مضى هذا المعنى في آخر رسم "المحرم" من سماع ابن القاسم - وبالله التوفيق.(2/18)
[مسألة: صلى المغرب والعشاء من الحاج قبل أن يأتي مزدلفة من غير عذر]
ومن كتاب سلف دينارا في ثوب مسألة وقال فيمن صلى المغرب والعشاء من الحاج قبل أن يأتي مزدلفة من غير عذر، أعادهما بالمزدلفة؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الصلاة أمامك» .
قال محمد بن رشد: قوله من غير عذر- يريد من غير عذر يمنعه من أن يسير بسير الناس؛ لأنه من لم يكن عنده عذر يمنعه من أن يسير بسير الناس، فلا يصلي حتى يغيب الشفق ويصل إلى المزدلفة، فإن صلى قبل أن يصل إلى المزدلفة أو قبل أن يغيب الشفق، أعاد؛ ومن كان له عذر يمنعه من أن يسير بسير الناس ممن وقف مع الناس، فإنه يجمع الصلاتين إذا غاب الشفق قبل أن يصل إلى المزدلفة، ومن أتى متفاوتا ولم يقف مع الناس، فإنه يصلي كل صلاة لوقتها.
[مسألة: عزل الوالي يوم الجمعة]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار مسألة قال ابن القاسم: إذا عزل الوالي يوم الجمعة، وجاء وال آخر فتمادى المعزول فصلى الجمعة بالناس- وهو يعلم بعزله، قال: أرى أن يعيدوا وإن ذهب الوقت، وإن أذن له الوالي القادم فصلى بهم،(2/19)
فصلاتهم جائزة- إذا كان أذن له قبل الصلاة، وإن كان أذن له بعد الصلاة، فإن عليهم الإعادة؛ فإن جاء الوالي- وقد خطب هذا، قال: أرى أن يخطب خطبة أخرى ولا يصلي بهم بخطبة غيره، فإن أذن له بالصلاة وقد خطب هذا، قال: أرى أن يبتدئ الخطبة- ثانية.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة مبنية على معنى ما في المدونة من أن الوالي الأول معزول عن الصلاة بوصول الوالي الثاني إليه وإعلامه بعزله. فإن صلى الوالي الأول قبل أن يقدم الوالي الثاني ويعلمه بالعزل، صحت الصلاة، (وإن قدم وقد خطب ولم يصل، لم يجز له أن يصلي بالناس بخطبة الأول؛ لأنه خطب وهو أمير، ولا يصح أن يخطب أمير ويصلي أمير غيره، كما لا يصح أن يقدم أميران أحدهما على الخطبة والثاني على الصلاة، ولو قدم بعد أن صلى بالناس ركعة، لأتم بهم الركعة الثانية وسلم، وأعادوا الخطبة والصلاة- قاله في كتاب ابن المواز. وذهب مطرف وابن الماجشون إلى أنه يجوز له أن يصلي بالناس بخطبة الأمير الأول، وحجته ما جاء من أن أبا عبيدة قدم- وخالد بن الوليد يخطب، فأمره أبو عبيدة أن يتم بهم الخطبة، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه لما أمره بإتمام الخطبة، حصل مستخلفا له على ذلك وأجزأه من الخطبة ما بقي منها؛ إذ ليست مؤقتة لا يجوز ترك شيء منها، ولو استأنفها من أولها لكان أحسن، وهذا الذي قلناه من أنه إن صلى الوالي الأول قبل أن يقدم الثاني ويعلمه بعزله، صحت الصلاة) ولم تجب إعادتها- وإن كان الوقت قائما- بين من الرواية، بدليل قوله فيها: وهو يعلم بعزله، وهو ينبئ عن فساد ما حكاه عبد الحق عن بعض شيوخه عن المذهب من أن الوالي(2/20)
الثاني إذا قدم بعد أن صلى الأول- والوقت قائم- أنه يعيد الجمعة ولا يعتد بها، كما لا يعتد بالخطبة إذا قدم قبل الصلاة؛ وقد بينا وجه فساد اعتداده بالخطبة إذا قدم قبل الصلاة. وقوله في الرواية: إن صلاة الأول بهم جائزة- بإذن الثاني- إذا كان أذن له قبل الصلاة، معناه قبل الخطبة (والصلاة) ، وهذا كله بين، فتدبره.
[مسألة: جس امرأته للذة ثم نسي فصلى يتوضأ]
مسألة قال: ومن جس امرأته للذة، ثم نسي فصلى- ولم يتوضأ، أنه يعيد في الوقت وبعد الوقت.
قال محمد بن رشد: معناه أنه جسها للذة فالتذ، وأما لو جسها للذة فلم يلتذ، (لما انبغى) أن تجب عليه الإعادة إلا في الوقت؛ لأن كل من عمل في وضوئه أو صلاته، بما اختلف أهل العلم (فيه) ، فلا إعادة عليه إلا في الوقت، وقد اختلف قول مالك في إيجاب الوضوء على من مس امرأته للذة فلم يلتذ، وأما من مسها للذة فالتذ، فلا اختلاف في المذهب أن الوضوء عليه واجب، فلذلك قال: إنه يعيد أبدا، ولم يراع مذهب أهل العراق. وما روي عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، من أن الملامسة للذة لا تنقض الوضوء، لحملهما الملامسة التي عنى الله بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] على الجماع دون ما سواه، احتياطا للصلاة- والله أعلم.(2/21)
[مسألة: خطب يوم الجمعة ففرغ من الخطبة وأحرم بالصلاة فذكر صلاة نسيه]
مسألة وسئل عن إمام خطب يوم الجمعة ففرغ من الخطبة وأحرم بالصلاة، فذكر صلاة نسيها، فقال: يتحول إليهم ويكلمهم حتى يتم صلاته، قيل له: فيبتدئ الخطبة، قال: أحب إلي أن يبتدئ الخطبة، قيل له: فإن ذكر ذلك بعد أن فرغ من الصلاة، أو بعد أن صلى منها ركعة؛ قال: إذا لم يذكر حتى فرغ من صلاته، فصلاتهم مجزئة عنهم، وإن ذكر بعد ركعة، قدم رجلا بنى على تلك الركعة، قال: وكذلك في كل صلاة ذكر فيها الإمام صلاة نسيها- وقد ركع، فإن تلك الركعة التي صلى بهم- وهو ناس للصلاة- مجزئة عنهم، ويبني عليها الذي يقدم. قال عيسى: وقد كان قال لي تنفسخ صلاتهم، ثم رجع إلى هذا؛ وهذا قول ابن دينار، وابن كنانة: إن ما صلى بهم- وهو ناس- فذلك مجزئ عنهم، وبه يأخذ عيسى.
قال محمد بن رشد: قوله الأول: إن صلاتهم تنتقض، ويقطع ويقطعون، ولا يستخلف، هو قول مالك في المدونة، ووجه مراعاة قول من يقول إن صلاته لا تفسد بذكر الصلاة المنسية فيها، فيتمادى عليها وتصح (له) ولهم ويصلي هو وحده الصلاة التي نسي، وقد نحا ابن القاسم في سماع سحنون عنه- إلى هذا القول، فلم ير عليه الإعادة إن تمادى على صلاته إلا في الوقت؛ فلما كان على قول هذا القائل (إنه) إذا قطع قد(2/22)
أفسد على نفسه صلاته (متعمدا) من غير عذر، وجب أن يفسد عليهم، ولا يصح له الاستخلاف؛ وقد قيل: إنه يستخلف- ركع أولم يركع، وهو ظاهر ما (وقع) في رسم "أوصى"- في بعض الروايات؛ ووجه ذلك القياس على ما اتفقوا عليه من جواز الاستخلاف في الأحداث، وقد قيل في الفرق بين المسألتين: إن الأصل كان إذا فسدت الصلاة على الإمام، أن تفسد على من خلفه، لارتباط صلاتهم بصلاته؛ فخرج من ذلك الاستخلاف في الأحداث بالسنة والإجماع، وبقي ما عدا ذلك على الأصل، واستحسن هذا الفرق بعض الناس، وطعن على الأول بما لا يلزم، فهو الأظهر- عندي، وظاهر ما رجع إليه في هذه الرواية، أنه إن ذكر قبل أن يركع قطع وقطعوا، وإن ذكر بعد أن يركع، قدم من يتمم بهم- وهو استحسان؛ وفي المسألة قول رابع لابن كنانة في المبسوطة: أنه إن ذكر قبل أن يركع قطع وقطعوا، وإن ذكر بعد أن ركع تمادى بهم وأجزأتهم، وأعاد هو الصلاة- وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: أدرك من الجمعة ركعة فلما سلم الإمام قام فقضى الركعة]
مسألة وسئل عمن أدرك من الجمعة ركعة، فلما سلم الإمام قام فقضى الركعة، ثم جلس فتشهد فذكر أنه نسي سجدة لا يدري أمن الركعة التي أدرك مع الإمام أم من التي قضى؟ قال: يسجد سجدة ثم يقوم فيصلي ركعة بسجدتيها، ثم يتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهو بعد السلام، ثم يقوم فيصليها ظهرا أربعا؛ لأنه لا يدري لعله نسي السجدة من الأولى فتنتقض جمعته، ولا ينبغي له أن ينصرف من ذلك إلا على شفع؛ قال عيسى: أرى أن يسجد سجدة ويتشهد ثم يسلم، ويسجد بعد السلام، ثم يعيد ظهرا أربعا.
قال محمد بن رشد: لما ذكر سجدة لا يدري إن كانت من التي قضى بعد سلام الإمام، أو من التي صلى مع الإمام والركعة لا تتم إلا بسجدتيها،(2/23)
كان قد تيقن أنه لم يصح له إلا ركعة واحدة لا يدري إن كانت التي صلى مع الإمام، أو التي قضى بعد سلامه، فإن كانت السجدة من التي صلى مع الإمام، فقد صحت له التي صلى بعد سلامه، فوجب أن يضيف إليها ركعة ويخرج عن نافلة، ويصلي الظهر أربعا، وإن كانت من التي صلى بعد سلامه، فقد صحت له التي صلى مع الإمام، ووجب عليه أن يسجد سجدة يصلح بها الركعة التي قضى، وتتم له الجمعة، فلما لم يدر (أي الأمرين عليه) ، جمعهما جميعا عليه، ليكون على يقين أنه قد أتى بما عليه، فهذا وجه قول ابن القاسم؛ وأما قول عيسى إنه يسجد سجدة، ويتشهد ويسلم، ويسجد بعد السلام، ثم يصلي ظهرا أربعا؛ فهو اختيار ابن المواز، ووجهه الاحتياط للجمعة؛ لأنه إن كان ترك السجدة من الركعة التي قضى بعد سلام الإمام، فسجد سجدة ثم أتى بركعة ليخرج عن شفع، فقد أفسد على نفسه الجمعة، فيعمل على أنه ترك السجدة من الركعة التي صلى بعد سلام الإمام، رجاء أن تصح له الجمعة، ثم يصلي ظهرا أربعا- مخافة أن تكون السجدة من التي صلى مع الإمام؛ لأن المحافظة على الجمعة آكد عليه من المحافظة على أن يخرج عن شفع، وأشهب يقول: إنه يأتي بركعة ولا يسجد؛ إذ لا يتحقق أن السجدة من الركعة التي قضى بعد سلام الإمام، ثم يعيد ظهرا أربعا على أصله فيمن ذكر سجدة لا يدري في أي ركعة، أنه يأتي بركعة ولا يخر إلى سجدة؛ إذ لا بد له من الإتيان بركعة وليس على يقين من إصلاح الركعة الأخيرة؛ وقول ابن القاسم أظهر ألا يترك هذه الركعة على شك من تمامها- وهو يقدر على إصلاحها.
[مسألة: كثر السهو على الرجل ولزمه ذلك فلا يدري أسها أم لا]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك إذا كثر السهو على الرجل ولزمه ذلك، فلا يدري أسها أم لا؟ قال مالك: يسجد سجدتي السهو بعد السلام.(2/24)
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في رسم "أوصى" من هذا السماع، ومضت أيضا- والكلام عليها في رسم "باع غلاما" من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته هنا.
[مسألة: سها في صلاته ثم نسي سهوه فلا يدري قبل السلام هو أو بعد السلام]
مسألة وسئل عن رجل سها في صلاته ثم نسي سهوه فلا يدري قبل السلام هو أو بعد السلام، قال: يسجد قبل السلام.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه يسجد قبل السلام؛ لأنه غلب حكم النقصان على حكم الزيادة عند الشك فيها، كما غلبه عليه عند اجتماعهما، لكونه أحق بالمراعاة على المشهور من قوله، وقد مضى القول في ذلك في رسم "استأذن سيده" من هذا السماع.
[مسألة: يسهو فيسر بقراءة أم القرآن فيما يعلن فيه]
مسألة وسئل عن الذي يسهو فيسر بقراءة أم القرآن فيما يعلن فيه، فيذكر بعد فراغه من قراءتها؛ قال: أحب إلي أن يعود لقراءتها فيقرأ ويعلن ويسجد سجدتي السهو بعد السلام.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما يأتي في رسم "إن أمكنتني" من هذا السماع، وخلاف ما مضى في الرسم الأول من سماع أشهب، والقولان قائمان من المدونة، وقد مضى القول على ذلك في الرسم الأول من سماع أشهب.
[مسألة: مسافر أم مقيمين ومسافرين فصلى بهم ركعة ثم أحدث]
مسألة وسألت ابن القاسم عن مسافر أم مقيمين ومسافرين، فصلى بهم ركعة، ثم أحدث فقدم رجلا مقيما فأتم بهم ساهيا، أو صلى بهم(2/25)
مسافر ركعتين ثم سلم فقال: أتموا لأنفسكم فجهلوا، فقدموا رجلا مقيما فأتم بهم؛ فقال: أما في المسألة الأولى فإن المسافرين الذين أتموا مع المقيم يعيدون الصلاة ما كانوا في الوقت؛ وأما المقيمون ففي كلا الوجهين صلاتهم مجزئة، ولو أعادوا لرأيته حسنا.
قال محمد بن رشد: قوله إن المسافرين الذين أتموا مع المقيم يعيدون في الوقت، هو خلاف ما يأتي في سماع سحنون، وخلاف ما تقدم في أول رسم من سماع ابن القاسم؛ لأنهم أتموا بعد أن أحرموا على القصر، وقد مضى هناك القول في تحصيل الخلاف في إتمام المسافر، فلا معنى لإعادته، وإنما استحب للمقيمين الإعادة في كلا الوجهين؛ لأنهم صلوا بإمام ما وجب عليهم أن يصلوه- فذا؛ وسيأتي نحو هذا أيضا في سماع سحنون، وفي سماع موسى بن معاوية؛ وقد اختلف في ذلك، فقال ابن القاسم: إذا صلى- فذا ما يجب عليه فذا، فلا إعادة عليه. وقال أشهب، وعبد الله بن عبد الحكم: يعيدون، وهو مذهب أصبغ، إلا أنه قال: إن أحدث الإمام في تشهده فخرج ولم يستخلف، فسلموا لأنفسهم من غير أن يستخلفوا، فصلاتهم مجزئة عنهم- إذا لم يبق إلا التسليم، فوافق ابن القاسم ههنا؛ قال (محمد) بن رشد: ولهو إذا صلى مع الإمام ما يجب عليه أن يصلي- فذا، أشد- والله أعلم.
[مسألة: أجمع المسافر إقامة أربعة أيام]
مسألة قال ابن القاسم: إذا أجمع المسافر إقامة أربعة أيام، فإنه يصلي صلاة مقيم لا يحسب اليوم الذي يدخل فيه، ولكن إن كان نوى إقامة أربعة أيام وأربع ليال مستقبلة سوى اليوم الذي دخل فيه أتم(2/26)
الصلاة، وإن كان دخل أول النهار، فإني أحب إلي أن يحسب ذلك اليوم.
قال محمد بن رشد: الأصل في تحديد أربعة أيام في هذا، ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم مكة صبيحة رابعه من ذي الحجة، قال: لا يقيمن مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث» ؛ فدل على أن ما فوق ثلاث في حيز الإقامة؛ إذ لم يبح ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمهاجر الذي لا تصح له الإقامة بمكة، وإنما قال ابن القاسم: إنه يلغى اليوم الذي دخل فيه، إلا أن يكون دخل أول النهار، لما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم مكة صبيحة رابعه من ذي الحجة، ثم خرج يوم التروية، وذلك أحد وعشرون صلاة، أو اثنان وعشرون صلاة» ، فقصر بمنى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن أقام بمكة. وإلى هذا ذهب مالك في أن أهل مكة يقصرون- بمنى والله تعالى أعلم؛ وذهب ابن الماجشون وسحنون، إلى أنه إذا نوى إقامة عشرين صلاة من وقت دخوله إلى حين خروجه أتم، وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا من يوم وليلة - وهو مذهب ربيعة - إلى تسعة عشر يوما وهو مذهب ابن عباس، روي عنه أنه قال: «أقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسعة عشر يوما يقصر، فإن زدنا أتممنا» .(2/27)
[مسألة: ينسى الوتر أو ينام عنه فلا يذكر إلا بعد طلوع الفجر]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار مسألة وسئل عن الذي ينسى الوتر أو ينام عنه فلا يذكر إلا بعد طلوع الفجر، قال: إن كان ركع بعد أن صلى العشاء أوتر بواحدة، وإن كان لم يركع شفع الوتر بركعتين.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه يوتر بواحدة- إن كان قد ركع بعد أن صلى العشاء، لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر» ، فليس ذلك بخلاف لما مضى في رسم "لم يدرك" من هذا السماع؛ لأنها مسألة أخرى، وإنما الخلاف فيما بين مسألة (رسم) لم يدرك، ومسألة أخرى أول رسم من سماع أشهب، وقد بينا وجه ذلك هناك.
[مسألة: يصلي ركعتين من مكتوبة فينسى فيسلم ثم يدخل في نافلة]
مسألة وسألته عن الذي يصلي ركعتين من مكتوبة فينسى فيسلم ثم يدخل في نافلة، ثم يذكر ذلك؛ فقال: إن كان طال ذلك استأنف الصلاة، وإن كان ركع استأنف أيضا- طال أو لم يطل، سواء خرج من الركعتين بسلام، أو خرج بغير سلام، فإن كان ذلك منه قريبا حين قام، بنى وسجد.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يستأنف الصلاة، إن طال أو ركع وبنى إن كان ذلك منه قريبا وسجد، مبني على أن ما صلى بنية النافلة لا يعتد به من صلاته، فإن كان قريبا، ألغى ما عمل، واستأنفه وسجد بعد السلام- كما قال(2/28)
في رسم "لم يدرك"- إذا ركع بالسجدة ساهيا، وإن طال ذلك استأنف الصلاة وجعل الركوع مع ما تقدم من القراءة بنية النافلة- طولا؛ ولو ركع بنية النافلة بعد أن قرأ بنية الفريضة، لوجب أن يلغي الركعة ويستأنفها، ويسجد بعد السلام على قياس قوله في هذه الرواية؛ وما قاله في الذي أراد أن يسجد السجدة فركع بها ساهيا، وقد قيل: إنه إن ركع ولم يطل القراءة، ألغى الركعة واستأنفها وسجد بعد السلام، ولم يستأنف الصلاة، وهو قول مطرف، وابن الماجشون، وابن وهب، وابن عبد الحكم، وروايتهم عن مالك؛ فسواء على هذا خرج من الركعتين بسلام، أو بغير سلام- كما قال؛ وإنما يفترق ذلك على مذهب من يرى أن تحول النية في الصلاة لا تأثير له في إفسادها، وهو قول أشهب في سماع سحنون، وروايته عن مالك، فيعتد على هذا القول بما صلى بنية النافلة- إن كان خرج من الركعتين بسلام أو بغير سلام - على القول بأن السلام على طريق السهو لا يخرج المصلي عن صلاته، ولا يعتد بذلك- إن كان خرج من الركعتين بسلام على القول بأن السلام على طريق السهو يخرج به عن صلاته، فإن لم يطل ذلك رجع إلى صلاته وسجد بعد السلام، وإن طال، استأنف صلاته من أولها.
[مسألة: يدرك ركعة من صلاة الجمعة فينسى فيها سجدة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يدرك ركعة من صلاة الجمعة فينسى فيها سجدة فلا يذكرها إلا وهو قائم في إتمام الأخرى، أو بعد أن ركع؛ فقال: إن ذكر قبل أن يركع ألغى ما صلى مع الإمام؛ لأنه كهيئة من لم يستطع أن يسجد من زحام الناس حتى سلم الإمام وصلى ظهرا أربعا، وإن ذكر بعد أن صلى الركعة، أضاف إليها ثلاثة- وكانت له ظهرا؛ وروى أصبغ عن ابن القاسم مثله، وقال(2/29)
من رأيه: لا يعجبني، وأرى أن يسجدها يتم بها الركعة، ثم يتم الجمعة على سنتها بركعة أخرى، ثم يبتدئ الصلاة أربعا للاختلاف؛ وإن جعلها ظهرا أو طرح الجمعة، رأيتها مجزئة، ولم أر عليه الإعادة؛ وقال في كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده أنه يخر فيسجد سجدة، ثم يبني على تلك الركعة إن كانت جمعة، وأجزأت عنه، وإن كانت ظهرا، فمثل ذلك.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة ههنا مستوعبة بما فيها من الاختلاف، وقوله في القول الأول لأنه كهيئة من لم يستطع أن يسجد من زحام الناس حتى سلم الإمام، ليس بحجة؛ لأنها هي المسألة بعينها؛ إذ لا فرق بين أن يزحم أو ينسى؛ لأنه مغلوب على ترك السجود في الوجهين، فالمطالبة بالحجة باقية، فقال له: ولم لم يسجد بعد سلام الإمام الذي زحم عن السجود مع الإمام؟ والحجة له أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» ، «ومن أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة» . والسجدتان من تمام الركعة، (والذي سجد بعد سلام الإمام، لم تتم له الركعة إلا بالإمام، والحجة لقوله الثاني- وهو قول أشهب - قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك الركعة، فقد أدرك السجدة» ، «ومن(2/30)
أدرك ليلة عرفة، فقد أدرك الحج» إذ قد حصل اليقين أنه ليس معنى ذلك أنه يكون مدركا للسجدة بنفس إدراك الركعة) دون أن يفعل السجدة، ولا مدركا للحج بنفس إدراك ليلة عرفة دون أن يفعل بقيته؛ للإجماع على ذلك، ولا أنه أراد أنه يكون مدركا لذلك بفعله مع الإمام؛ (إذ ليس للإخبار بذلك فائدة، فلم يبق إلا أنه يكون مدركا بذلك بفعله بعد الإمام) ، وقول أصبغ استحسان واحتياط للصلاة من أجل هذا الخلاف. ويتخرج في المسألة قول رابع وهو ألا تصح له الجمعة لفوات السجدة مع الإمام، ولا يبني أربعا على ذلك الإحرام؛ لأنه نوى به ركعتين على ما مضى من الاختلاف في أول رسم من سماع ابن القاسم في مسألة المسافر يدخل مع القوم وهو يظنهم مسافرين فيجدهم حضريين.
[مسألة: يصلي في بيته ثم يأتي المسجد فيصلي مع الناس فيذكر أنه غير متوضئ]
مسألة
وسئل عن الرجل يصلي في بيته، ثم يأتي المسجد فيجد الناس في تلك الصلاة فيصلي معهم، فيذكر عند فراغه أن التي صلى في البيت صلاها على غير وضوء، ولم يعمد صلاح تلك بهذه التي صلى مع الإمام، فقال: صلاته التي صلى على الظهر مجزئة عنه، وليس عليه إعادة.(2/31)
قال محمد بن رشد: مثل هذا في سماع سحنون لابن القاسم، وزاد فيه: أن مالكا قاله؛ وفيه لأشهب أن صلاته باطلة، وعليه الإعادة؛ فوجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك، أنه لم يدخل مع الإمام بنية النافلة، وإنما دخل معه بنية الإعادة لصلاته، وإن كان قد صلاها فوجب أن يجزيه إن بطلت الأولى، وأن تجزئه الأولى إن بطلت هذه؛ لأنه صلاهما جميعا بنية الفرض، كالمتوضئ يغسل وجهه مرتين أو ثلاثا، فإن ذكر أنه لم يعم في بعضها، أجزأه ما عم به منها؛ ويؤيد هذا قول عبد الله بن عمر للذي سأله أيتهما يجعل صلاته؟ أو أنت تجعلها، إنما ذلك (إلى) الله. وقد قيل: إنهما جميعا صلاتان له فريضتان، وهو الذي يدل عليه قول مالك؛ لأنه لا يعيد المغرب في جماعة؛ لأنه إذا أعادها كانت شفعا، ووجه قول أشهب، أنه جعل الأولى صلاته؛ إذ إنما دخل مع الإمام لفضل الجماعة، مع ما قد جاء عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنها له نافلة، وليس قوله بجار على المذهب؛ إذ لو كانت الأولى هي صلاته على كل حال، والثانية نافلة؛ لما جاز لمن صلى الصبح أو العصر وحده أن يعيدهما في جماعة؛ إذ لا (يتنفل) بعدهما، وقد قيل: إنه إذا أعاد في جماعة ودخل فيها فقد بطلت الأولى، وحصلت هذه صلاته؛ فإن بطلت عليه لزمه إعادتها، وقيل: إنها لا تبطل عليه الأولى حتى يعقد من الثانية ركعة أو أكثر، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: دخل من نافلة في مكتوبة بغير سلام]
مسألة قال: وقال مالك من دخل من نافلة في مكتوبة بغير سلام، قطع تلك المكتوبة متى ما ذكر واستأنفها؛ وإن ذكر أنه (قد) سلم منها ولم يتم النافلة، مضى على مكتوبته ولا شيء عليه في نقصان النافلة.(2/32)
قال محمد بن رشد: قوله قطع تلك المكتوبة متى ما ذكر، يريد أنه لا يتمادى عليها على أنها مكتوبة؛ إذ قد فسدت عليه ولا تجزئه باتفاق، ويخرج عن نافلة؛ فإن كان على وتر أتم شفعا. وقوله: وإن ذكر أنه قد سلم منها ولم يتم النافلة، مضى إلى آخر قوله؛ يدل على أن السلام على السهو يخرج المصلي به عن صلاته، مثل ما مضى له في رسم "أوصى"، وقد مضى هناك من القول في ذلك ما فيه شفاء.
[مسألة: نسي صلاة فذكرها قبل غروب الشمس]
مسألة قال: وقال مالك: لو أن رجلا نسي صلاة فذكرها قبل غروب الشمس، صلى الصلاة التي نسي وأعاد الظهر والعصر- إن طمع أن يصليهما جميعا، أو طمع أن يصلي الظهر وركعة من العصر؛ فإن لم يطمع إلا بصلاة واحدة بعد التي نسي قبل غروب الشمس، صلى التي نسي وصلى العصر، قال: ولو كان يرى ويظن أنه لا يقدر إلا على صلاة واحدة بعد التي نسي فصلى التي نسي وصلى العصر، فلما فرغ من صلاتهما تبين أن عليه نهارا قدر ما لو صلى حين ابتدأ الصلاة أولا، أدرك التي نسي والظهر والعصر، أو الظهر وركعة من العصر؛ قال مالك: إذا تبين له مثل ما وصفت من بعد فراغه من الصلاة، صلى الظهر ثم أعاد العصر وإن غربت الشمس؛ لأنه قد كان وجب صلاتهما عليه (حين كان عليه) من النهار مثل ما ذكرت، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر» .(2/33)
قال محمد بن رشد: قوله ثم أعاد العصر وإن غربت الشمس، خلاف ما مضى في رسم "أسلم"، وقد بينا وجه ذلك هناك. وقوله: لأنه قد كان وجب صلاتهما عليه، يريد في الوقت، وهو أصل ابن حبيب أن من وجب عليه أن يعيد في الوقت فلم يفعل، أعاد أبدا وبالله التوفيق.
[مسألة: صلى بقوم فأسر فيما يجهر فيه]
ومن كتاب أوله حمل صبيا
مسألة وسئل ابن القاسم عن إمام صلى بقوم فأسر فيما يجهر فيه، فكلم ثم مضى على صلاته وهو يشار إليه، ويعلم الناس أنه قد علم، فتمادى على إسراره ذلك حتى فرغ، فلما فرغ قال: كنت ناسيا، (أو قال: كنت عامدا لذلك، هل عليهم الإعادة؟ . قال ابن القاسم: إن قال: كنت ناسيا) ، سجد وسجدوا سجدتي السهو، وإن كان عامدا، أعاد وأعادوا. قال عيسى: يعيدون في الوقت وبعده، قال أصبغ فيمن أسر فيما يجهر فيه، أو جهر فيما يسر فيه- عامدا، لا إعادة عليه، وليستغفر الله ولا يعود.
قال محمد بن رشد: قوله: إن قال: كنت ناسيا سجد وسجدوا- يريد إذا لم يسجد قبل السلام على المشهور في المذهب، وقد مضى ما في ذلك من الخلاف- قرب آخر أول رسم من سماع أشهب، وإن قال: كنت عامدا أعاد وأعادوا- يريد في الوقت وبعده على ما فسر به عيسى، وقد مضى ما في ذلك(2/34)
من الخلاف أيضا في الرسم المذكور من سماع أشهب، ومن لم يوجب السجدة في ترك الجهر سهوا، (ولا) الإعادة في تركه عمدا، فهو عنده من مستحبات الصلاة، لا من سننها.
[مسألة: قرأ في صلاته بأم القرآن وحدها في الأربع ركعات]
ومن كتاب العشور
مسألة وسألته عمن قرأ في صلاته بأم القرآن- وحدها في الأربع ركعات جميعا- ساهيا، فقال: يسجد سجدتي السهو قبل السلام. قلت: فإن نسيهما حتى طال ذلك ثم ذكر، قال: أرجو ألا يكون عليه شيء؛ قال عيسى: يعيد- جاهلا كان أو عامدا أبدا.
قال محمد بن رشد: (هذا على ما في المدونة، وعلى المشهور في المذهب، أن قراءة السورة مع أم القرآن من سنن الصلاة؛ فإن ترك ذلك سهوا سجد، وإن تركه عمدا أعاد أبدا من أجل التهاون بالصلاة؛ خلاف ما في آخر الرسم الأول من سماع أشهب، فقف على ذلك.
[مسألة: تفوته بعض صلاة الإمام وعلى الإمام سهو]
مسألة قال: وسألته عن الذي تفوته بعض صلاة الإمام- وعلى الإمام سهو يسجد له- بعد السلام، فيجهل فيسجد معه، ثم يقدم فيصلي ما فاته به الإمام؛ أيسجدهما بعد فراغه؟ فقال: نعم، هو أحب إلي أن يكون عليه ويسجدهما متى ما علم. قال عيسى: أحب إلي أن يعيد أبدا- جاهلا كان أو عامدا.
قال محمد بن رشد: قول عيسى إنه يعيد أبدا- إن كان(2/35)
جاهلا أو متعمدا، هو القياس على أصل المذهب؛ لأنه أدخل في صلاته ما ليس منها- متعمدا أو جاهلا، فأفسدها بذلك، (وعذره) ابن القاسم بالجهل، فحكم له بحكم النسيان، مراعاة لقول من توجب عليه السجود مع الإمام، وهو قول سفيان الثوري في المدونة.
[مسألة: سمع شيئا فظن أنه الإمام فسلم ثم سجد سجدتين ثم سمع سلام الإمام]
مسألة قيل لأصبغ: ما تقول في إمام صلى بقوم فسها في صلاته سهوا يكون سجوده بعد السلام، فلما كان في التشهد الآخر، سمع أحدهم شيئا، فظن أنه قد سلم الإمام فسلم، ثم سجد سجدتين، ثم سمع سلام الإمام بعده، فسلم أيضا، وسجد الإمام وسجد معه؟ قال: يعيد الصلاة- إذا كان قد سلم قبل سلامه وسجد.
قال محمد بن رشد: قوله يعيد الصلاة- إذا كان قد سلم قبل سلامه وسجد، صحيح على القول بأن السلام على طريق السهو يخرج المصلي عن صلاته، فلما كان يخرج به عن صلاته؛ أبطل سجوده بعده عليه الرجوع إليها، وأوجب عليه استئنافها، وذلك مثل قوله في المدونة فيمن سلم من ركعتين- ساهيا، ثم أكل أو شرب ولم يطل ذلك: إنه يبتدئ ولا يبني. وأما على القول بأن السلام على السهو لا يخرج به المصلي عن صلاته، فيجب أن يحمل الإمام عنه السجود الذي يسجد بعد أن سلم قبل أن يسلم الإمام؛ لأنه في حكمه، فيرجع إلى صلاته بغير تكبير، ويسلم بسلامه ولا سجود عليه؛ لأن سهوه في داخل صلاة الإمام، ويجب على هذا القول في مسألة المدونة أن يبني على صلاته ويسجد بعد السلام، كما لو أكل أو شرب في(2/36)
أثناء صلاته دون أن يسلم ولم يطل ذلك؛ وقد روى علي بن زياد عن مالك في المجموعة- على قياس هذا القول- في إمام سلم من اثنتين - ساهيا- وسجد لسهو عليه، ثم ذكر أنه يتم صلاته ويعيد سجود السهو. قال سحنون: وكذلك لو كان قبل السلام لأعادهما، وهذا يبين ما ذكرناه، فمن ظن أن الإمام قد سلم فسلم قبل سلامه وعلم قبل أن يسلم، فإنه يرجع إلى صلاته بلا تكبير على القول بأن السلام على طريق السهو لا يخرج به عن الصلاة، وبتكبير - على القول بأنه يخرج به عن الصلاة، وأما إن لم يعلم حتى سلم الإمام، فيسلم بعد سلامه وتجزئه صلاته- على القول بأن السلام على طريق السهو لا يخرج به عن الصلاة، وتبطل صلاته على القول بأن السلام على طريق السهو يخرج به عن صلاته؛ إذ لا يصح أن يرجع إلى صلاته في حكم الإمام بعد خروج الإمام عنها، فهذا وجه القول في هذه المسألة وتحصيله- وبالله التوفيق.
[مسألة: نسى سجدتي السهو اللتين بعد السلام حتى تطاول]
مسألة وسألته عن الذي ينسى سجدتي السهو اللتين بعد السلام حتى تطاول، ثم يذكر فيريد السجود لهما بإحرام؛ قال: لا. قلت: أيهوي ساجدا وهو قائم أم يقعد ويسجد؟ قال: بل يقعد ويسجد، رجع ابن القاسم وقال: لا يرجع إليهما إلا بإحرام.
قال محمد بن رشد: وجه قوله الأول، أنهما سجدتان منفصلتان عن الصلاة بالسلام، فلا يحرم في البعد، كما لا يحرم في القرب؛ إذ لم يوجب البعد انفصالا عن الصلاة لم يكن قبل. ووجه القول الثاني، أن السلام لم يوجب(2/37)
انفصالا باتا من الصلاة بإجماع، وإنما اختلف هل أوجب انفصالا غير بات أو لم يوجبه؟ ألا ترى أنه لو ذكر منها شيئا بقرب سلامه، لجاز له أن يرجع إليه، قيل: بإحرام على القول بأنه أوجب انفصالا (غير بات، وقيل بغير إحرام؛ بدليل ما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر ألا يتنفل أحد بعد الصلاة حتى يقوم أو يتكلم» . ولهذا قال مالك في المدونة فيمن أوتر في المسجد ثم أراد أن يتنفل، أنه يترك قليلا ثم يقوم فيتنفل ما بدا له، وإذا طال الأمر بعد السلام فقد انفصل عن الصلاة انفصالا) باتا لا يجوز له الرجوع إلى شيء يذكره منها بإجماع، وهذا فرق بين الموضعين؛ لأنه إذا أيقن على أنه لم يخرج بالسلام عن الصلاة- خروجا باتا، وجب إذا سلم على أن يسجد ألا يجب عليه أن يحرم، وإذا طال الأمر بعد سلامه، وجب أن يحرم لسجوده؛ إذ قد انفصل عن الصلاة انفصالا باتا، وقد قيل في الفرق بينهما: إن الأصل كان أن يحرم لهما في القرب والبعد؛ لأنفصالهما عن الصلاة، فخرج القرب عن ذلك بالإجماع، وبقي البعد على أصله، وليس بفرق صحيح، لما ذكرناه من أنه إذا سلم على أن يسجد وجب (ألا يجب) عليه أن يحرم- وبالله التوفيق.
[مسألة: الصلاة بالكيمخت]
ومن كتاب حبل حبلة مسألة قال عيسى: قال أبو محمد المخزومي: وسألت مالكا عن(2/38)
الصلاة بالكيمخت فغضب علي وقال: ما هذا التعمق؟ قد كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلون بأسيافهم- وفيها الدم، فلم يزدني على هذا، قال ابن القاسم: ما يعجبني. وروى سحنون عن علي بن زياد، عن مالك، أنه سئل عن الكيمخت، فقال: ما زال الناس يصلون بالسيوف- وفيها الكيمخت، وما يتقون شيئا. وأخبرني موسى بن معاوية الصمادحي، عن جرير، عن عبيدة، عن إبراهيم، قال: كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجعلون الكيمخت في سيوفهم، ويقولون دباغة طهره.
قال محمد بن رشد: الكيمخت: جلد الحمار، وقيل: إنه جلد الفرس، والحمار والفرس لا يؤكلان عند مالك، فلا تعمل الذكاة في لحومهما، ولا يطهر الدباغ جلودهما للصلاة بهما وعليهما؛ واختلف قوله في جلد الميتة مما يؤكل لحمه، فالمشهور عنه أن الدباغ لا يطهر إلا للانتفاع به دون الصلاة عليه، وروى أشهب عنه في كتاب الضحايا ما ظاهره أن الدباغ يطهر، وهو قول ابن وهب في سماع عبد الملك، ومن أهل العلم من يرى أن الدباغ يطهر كل جلد حتى جلد الخنزير، ولعموم قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» . ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا يطهر إلا جلود الأنعام؛ إذ قد قيل: إنه لا يتسمى إهابا في اللغة إلا جلد الأنعام، وأما سائر جلود الحيوان فإنما يقال له جلد ولا يقال له إهاب؛ فالصلاة بالكيمخت على أصل مذهب مالك لا يجوز، إلا أنه استخفه للخلاف فيه، واستجازة السلف له، ورأي المنع له والتشديد فيه من التعمق الذي لا ينبغي. وكرهه ابن القاسم للخلاف فيه من غير تحريم، فقال: ما يعجبني. وقد مضى في سماع أشهب من كتاب الوضوء وجه استعمال الآثار الواردة عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في هذا الباب.(2/39)
[مسألة: المسافر ينوي إقامة أربعة أيام فيقصر الصلاة]
مسألة قال ابن القاسم في المسافر ينوي إقامة أربعة أيام فيقصر الصلاة، قال: عليه الإعادة في الوقت وبعده.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم "إن خرجت ما في هذا التحديد من الخلاف"، إلا أنه ضعف عند ابن القاسم فلم يراعه، ولذلك أوجب الإعادة أبدا على من قصر وقد نوى إقامة أربعة أيام.
[مسألة: أدرك أول صلاة الإمام وقعد في التشهد الآخر شك في الركعة الأولى]
ومن كتاب جاع فباع امرأته (مسألة) وسئل عن الذي يدرك أول صلاة الإمام، فإذا صلى بعد الصلاة وقعد في التشهد الآخر أو قبل ذلك، شك في الركعة الأولى أن يكون ركع معه. قال: لا يصلي مكانها ركعة، ولكن يسلم مع الإمام فيصليها ثانية، يبتدئ الصلاة خوفا أن يكون قد ركعها فيزيد في الصلاة مع الإمام خامسة.
قال محمد بن رشد: وجه هذا القول مراعاة قول من يقول إن الركعة تجزئه، وإن شك في تمكنه فيها مع الإمام فيعمل على أنها تجزئه، ثم يعيد الصلاة احتياطا؛ كمن ترك قراءة أم القرآن في ركعة من صلاته- على القول بالإعادة، وذلك خلاف ما تقدم في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب، وقد مضى هناك من القول في ذلك ما فيه كفاية، وبالله سبحانه التوفيق.
[مسألة: دخل مع إمام في أول صلاته لم يركع الإمام شيئا حتى أحدث فأخذ بيده فقدمه]
مسألة وقال في مسافر دخل مع إمام مقيم في أول صلاته، فلم يركع الإمام شيئا حتى أحدث، فأخذ بيده فقدمه ولم يصل معه شيئا، إلا(2/40)
أنه قد أحرم، قال: يصلي بهم أربعا، قال: وكذلك لو لم يكن مع الإمام المقيم غيره ثم دخل عليه حدث فخرج، كان عليه أن يصلي أربعا- وحده؛ لأنه قد أحرم معه ووجبت عليه صلاة المقيم؛ وقال: أنظر إذا دخل المسافر مع المقيم في صلاته وبقي على الإمام المقيم شيء من صلاته- وإن ركعة، ثم دخل على الإمام حدث، فإن المسافر الذي دخل معه قد وجبت عليه صلاة الحضر- وإن كان لم يركع معه شيئا؛ لأن الركعة التي بقيت على الإمام قد أدركها، فهو لا بد له من أربع قدمه الإمام الخارج أو قدم غيره، وإن لم يبق على الإمام شيء، وإنما أدركه في الجلوس الآخر، فإنه يصلي ركعتين لأنه لم يدرك معه شيئا.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذه المسألة، قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» - يريد أدرك حكمها، فلا اختلاف أحفظه في أن المسافر إذا أدرك ركعة من صلاة الحاضر فصلاها معه، أنه قد أدرك حكم صلاته، ووجب عليه الإتمام؛ وأما إذا دخل معه- وقد بقيت عليه ركعة من صلاته فأكثر، فأحدث الإمام وخرج قبل أن يصلي معه شيئا، فجعله ابن القاسم في حكم المدرك لما بقي على الإمام من صلاته- وإن لم يصله معه على ظاهر قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الصلاة» ؛ إذ لم يقل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلاها معه وأوجب عليه الإتمام، وأن يصلي بالقوم أربعا- إن استخلفه الإمام، وهو مذهب أشهب وغيره من أصحاب مالك، حاشا ابن وهب، فإنه ذهب إلى أنه لا يكون مدركا للركعة، ولا يلزمه حكم صلاة الإمام، إلا إذا صلى معه(2/41)
ركعة من صلاته فأكثر؛ وتأول الحديث على ذلك فقال: إنه إن أحدث المقيم قبل أن يصلي المسافر خلفه ركعة، لم يصح له الإتمام، وبقي على سنته في القصر، ولم يجز للإمام أن يستخلفه؛ فإن فعل وصلى بهم، أفسد على نفسه وعليهم. - يريد على ما قد قيل في المسافر يحرم بنية السفر ثم يتم- متعمدا، أنه يعيد في الوقت وبعده. وأما قوله: وكذلك لو لم يكن مع الإمام المقيم غيره ثم دخل عليه حدث فخرج، كان عليه أن يصلي أربعا، ظاهره أنه يبني على إحرامه مع الإمام، والصواب أن يقطع ويبتدئ؛ لأن من ابتدأ صلاته في جماعة فلا ينبغي أن يتم وحده، فإن لم يقطع وبنى على إحرامه، أجزأته صلاته عند ابن القاسم؛ ولأصبغ في نوازل سحنون، أنه لا يجوز له أن يبني، ويقطع ويبتدئ؛ وقد مضى في رسم "إن خرجت"- ذكر الاختلاف في ذلك، فقف عليه وتدبره.
[مسألة: نسوا ظهرا من يوم واحد فاجتمعوا فذكروا فأرادوا أن يجمعوها]
مسألة قال ابن القاسم: بلغني أن القوم؛ إذا نسوا ظهرا من يوم واحد، فاجتمعوا فذكروا، فأرادوا أن يجمعوها، أن ذلك لهم، قال ابن القاسم: وأنا أستحسنه وآخذ به؛ وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رقد عن صلاة هو وأصحابه حتى طلعت الشمس عليهم، فصلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بأصحابه) جماعة جمعها بهم. فالساهي عنها بمنزلة النائم، قال ابن القاسم: ولو كانت ظهرهم من أيام مفترقة لم يجز لهم أن يجمعوا، وإنما يجمعونها إذا نسوها من يوم واحد. قال عيسى: ولا إعادة على الإمام.
قال محمد بن رشد: قوله: ولو كانت ظهرهم من أيام مفترقة(2/42)
(لم يجز لهم أن يجمعوا، معناه من أيام مفترقة) يعلمونها بأعيانها؛ وهذا على القول بأن من ذكر صلاة- لا يدري إن كانت من السبت، أو من الأحد؟ أنه يجب عليه أن يصلي صلاتين: صلاة للسبت، وصلاة للأحد، وأما على مذهب من لا يراعي التعيين، ويقول: إنما عليه أن يصلي صلاة واحدة ينوي به اليوم الذي تركها فيه، كان الظهر أو العصر، وهو مذهب سحنون، فيجوز لهم أن يصلوا جماعة وإن كانت ظهرهم من أيام مفترقة.
[مسألة: سها عن سجدة من الركعة الأولى فذكرها في الثانية أو الثالثة]
ومن كتاب النسمة (مسألة) قال: وسألت ابن القاسم وابن وهب عمن سها عن سجدة من الركعة الأولى، فذكرها في الثانية أو الثالثة- وهو مع الإمام، فقالا: إن ذكر وهو قائم مع الإمام في الثانية قبل أن يركع، فليهو ساجدا ثم ينهض إلى الإمام؛ وإن ذكرها حين ركع الإمام فليمض مع الإمام، وإن ذكرها أيضا بعد أن رفع الإمام رأسه، أو في الثالثة. فليصل مع الإمام أيضا، ويتبعه فيما بقي، فإذا سلم الإمام فليقض ركعة بسجدتيها ثم يسلم.
قال محمد بن رشد: قوله وإن ذكرها حين ركع الإمام فليمض مع الإمام، وان ذكرها أيضا بعد أن رفع الإمام رأسه؛- معناه إن خشي إن سجد(2/43)
ألا يدرك الإمام - في الركوع؛ وأما لو علم أنه يدرك أن يسجد ويدرك الإمام راكعا، لجاز له أن يسجد ويتبع الإمام على القول بأن عقد الركعة رفع الرأس من الركوع، وهو المعلوم من مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك خلاف رواية أشهب عنه؛ ولو رجا وظن أنه يدرك أن يسجد ويدرك الإمام راكعا فسجد ورفع الإمام رأسه قبل أن يرفع (هو) رأسه من سجوده، لبطلت عليه الركعة الأولى والثانية. وقوله: فإذا سلم فليقض ركعة بسجدتيها ثم يسلم- يريد ويقرأ فيها بالحمد وسورة؛ لأنها ركعة قضاء، ويسجد لسهوه بعد السلام- وبالله التوفيق.
[مسألة: إمام أحدث بعد التشهد فتمادى حتى سلم]
ومن كتاب أوله يدير ماله مسألة قال: وسألته عن إمام أحدث بعد التشهد، فتمادى حتى سلم بالقوم- متعمدا، قال: أرى أن تجزي من خلفه صلاتهم، قال عيسى: يعيد ويعيدون.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، أن الإمام إذا أحدث فتمادى بالقوم - متعمدا، أو جاهلا، أو مستحييا؛ فقد أفسد عليهم الصلاة، ووجبت عليهم إعادتها في الوقت وبعده - خلافا لأشهب، ومحمد بن عبد الحكم - في قوليهما: إن صلاتهم جائزة،(2/44)
ولا إعادة عليهم لها، من أجل أنه ليس له أن يوجب عليهم بقوله صلاة قد سقطت عنهم بأدائهم لها على الوجه الذي أمروا به، وحصل هو ضامنا لها بقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الإمام ضامن» . لا من أجل أن صلاتهم غير مرتبطة بصلاته، لا اختلاف في المذهب في أن صلاة القوم مرتبطة بصلاة إمامهم، وإنما قال ابن القاسم في الإمام إذا أحدث بعد التشهد فتمادى بالقوم حتى سلم بهم عامدا، أنه لا إعادة عليهم لصلاتهم، مراعاة لقول أبي حنيفة في أن الرجل إذا جلس في آخر صلاته مقدار التشهد فقد تمت صلاته وخرج منها- وإن لم يسلم، وقول عيسى بن دينار هو القياس على المذهب في أن السلام من فرائض الصلاة، وأنه لا يتحلل منها إلا به.
[مسألة: المسافر يكون إماما فيصلي ركعة ثم ينوي الإقامة]
مسألة وسألته عن المسافر يكون إماما فيصلي ركعة ثم ينوي الإقامة. قال: يقدم غيره ويخرج. قلت له: فهل يتم لنفسه بركعة أخرى ويجعلها نافلة بمنزلة ما لو كان وحده؟ قال: لا. ويدخل معهم ويقضي باقي الصلاة وتجزئه. قال عيسى بن دينار: وأرى أن يبتدئوا الصلاة هو وهم، قال: قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه يقطع ولا يضيف إليها ركعة، بخلاف المنفرد لما جاء عن النبي عن ذلك بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أصلاتان معا؟!» وقد مضى التكلم على هذه المسألة في رسم "لم يدرك"- مستوفى، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا.(2/45)
[مسألة: يقهقه في الصلاة وهو وحده أو مع إمام ناسيا أو عامدا]
ومن كتاب البراءة مسألة وسئل عن الذي يقهقه في الصلاة- وهو وحده أو مع إمام ناسيا، أو عامدا، أو يبتسم - وهو وحده، أو مع إمام- عامدا أو ناسيا، قال: أما المتبسم وحده أو وراء الإمام، فلا شيء عليه فيه؛ لأنه لو كان عليه سجود السهو في التبسم فيما نسي، لكان عليه إذا تعمد ذلك- إعادة الصلاة، وأما إذا قهقه فإني لم أسمع مالكا يفرق بين نسيانه ولا تعمده، ولو كان عمده يفترق من نسيانه، لفرقه كما فرق الكلام، وأرى أن يعيد منه- ناسيا كان أو عامدا؛ فإن كان مع إمام مضى وأعاد إذا سلم، وكذلك قال لي مالك؛ وإن كان وحده، قطع واستأنف الإقامة والإحرام.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه يقطع ولا يضيف إليها ركعة، بخلاف المنفرد قد مضى القول في التبسم في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب، وفي القهقهة في رسم "استأذن من هذا السماع"- مستوعبا مستوفى، فليس لإعادة شيء من ذلك هنا معنى.
[مسألة: تفوته بعض صلاة الإمام ويدرك بعضها ما أدرك أهو أول صلاته أم آخرها]
ومن كتاب الجواب مسألة قال: وسألت مالكا عن الذي تفوته بعض صلاة الإمام، ويدرك بعضها، أرأيت ما أدرك أهو أول صلاته، أم آخرها؟ قال: بل آخرها. قال سحنون: بل أولها- وهو الذي لم يعرف خلافه، وهو(2/46)
قول مالك؛ هكذا أخبرني (به) غير واحد، ويقضي الذي فاته على ما فاته سواء.
قال محمد بن رشد: قد قيل في اختلاف قول مالك هذا: إنه اختلاف في عبارة، لا في معنى حكم شيء من الصلاة؛ إذ لم يختلف قول مالك في صفة ما يفعله من فاته بعض صلاة الإمام باختلاف قوليه هذين، فهو على كليهما بان في صفة القيام والجلوس، قاض في القراءة؛ فيحسن أن يعبر عما أدرك الرجل مع الإمام بأنه أول صلاته، من أجل أنه بان على ذلك، لما بقي عليه منها في صفة القيام والجلوس؛ ويحسن أن يعبر عنه بأنه آخر صلاته، من أجل أنه قاض لما فاته منها على صفة ما فاته في القراءة؛ ووجه ما اختاره سحنون من قولي مالك أن الذي أدرك مع الإمام هو أول صلاته، هو أنه بذلك ابتدأها، وفيه أو مع تكبيرة الإحرام، وذلك لا يكون إلا في أولها؛ إذ لا يصح أن يبدأ أحد صلاته من نصفها؛ وقد قال، - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وما فاتكم فأتموا» . والتمام لا يكون إلا آخرا لا أولا، ووجه القول الآخر اتباع ظواهر قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فما أدركتم فصلوا» . ومعلوم أن الذي أدرك من صلاة الإمام هو آخرها، فوجب بحق هذا الظاهر، أن يكون ذلك هو آخر صلاته أيضا، وقيل: إن اختلاف قول مالك هذا اختلاف فيما يفعله من فاته شيء من صلاته من قضاء أو بناء، فعلى قوله إن الذي أدرك مع الإمام هو آخر صلاته، يكون قاضيا في القراءة والجهر، وفي صفة القيام والجلوس، كمذهب أبي حنيفة، فيأتي إذا أدرك ركعة من صلاة رباعية بالركعة الأولى أولا فيقرأ فيها بالجهر وسورة ويقوم، ثم يأتي بالركعة الثانية فيقرأ فيها أيضا بالحمد وسورة ويجلس، ثم يأتي بالركعة الثالثة فيقرأ فيها بالحمد وحدها(2/47)
فيجلس ويتشهد (ويسلم) ؛ لأنها آخر صلاته، وعلى قوله إن الذي أدرك مع الإمام هو أول صلاته، يكون بانيا في القراءة، والجهر، وفي صفة القيام والجلوس، كمذهب الشافعي، فيأتي إذا أدرك ركعة من صلاة رباعية بالركعة الثانية يقرأ فيها بالحمد وسورة ويجلس؛ ثم يأتي بالركعة الثالثة يقرأ فيها بالحمد وحدها ويقوم، ثم يأتي بالركعة الرابعة يقرأ فيها بالحمد وحدها ويجلس ويتشهد ويسلم، وهذا التأويل على مالك غير صحيح؛ إذ لا يوجد ذلك له، ولا يعرف من مذهبه؛ والتأويل الأول مرغوب عنه؛ إذ لا فائدة في الاختلاف في الألفاظ- إذا لم يختلف باختلافها شيء من الأحكام، ولا يعد ذلك اختلاف قول، والذي أقول به في اختلاف قول مالك، إنه اختلاف يؤدي إلى اختلاف في كثير من المعاني والأحكام، مع أن قوله لم يختلف في أن من فاته شيء من صلاته مع الإمام، يكون بانيا في صفة القيام والجلوس، وقاضيا في القراءة، والأصل في ذلك عنده اتباع ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» . والإتمام هو البناء، فوجب عنده بحق هذا الظاهر أن يبني على ما أدرك ما فاته، ومعلوم أن الذي فاته يقرأ فيه بالحمد وسورة، فعلى قوله إن الذي أدرك مع الإمام هو أول صلاته، يكون ذلك للإمام آخر الصلاة، وله هو أول الصلاة، ولا يضره اختلاف نيته ونية إمامه في أعيان الركعات- على ما يأتي في رسم "باع شاة"، وإن أدرك معه ركعة من الصبح قنت في الركعة التي يقضي؛ لأنها ثانيته، وإذا أدرك ركعتين يكبر إذا قام؛ لأن ذلك وسط صلاته، وإذا سجد مع الإمام قبل السلام لسهو كان عليه فدخل عليه هو فيما يقضي لنفسه سهو، سجد له أيضا، وإن كان سهو الإمام بعد السلام أضاف سهوه إلى سهو الإمام فسجد قبل السلام- إن كان سهوه سهوا يكون(2/48)
سجوده قبل السلام، وعلى قوله إن الذي أدرك مع الإمام هو آخر صلاته، لا يقنت في الركعة التي يقضي في الصبح، ويقوم إذا أدرك ركعتين بغير تكبير؛ وإذا سجد مع الإمام لسهو، كان عليه قبل السلام فدخل عليه فيما يقضي سهو لم يسجد له؛ وإن كان سهوه بعد السلام لم يضف سهوه إلى سهو الإمام؛ وأما على مذهب أشهب من أصحاب مالك الذي يقول إن من أدرك بعض صلاة الإمام، يبني على ما أدرك منها في صفة القيام والجلوس، وفي القراءة، فإن أدرك من صلاته ركعتين بنى عليهما ركعتين بأم القرآن- وحدها، كمذهب الشافعي، فلا إشكال على مذهبه- أن ما أدرك الرجل مع الإمام فهو أول صلاته.
[مسألة: المجنون الذي لا يعرف الوضوء والغسل يكون أمام الرجل في الصف]
مسألة وسئل عن المجنون المطبق الذي يعرف أنه لا يتوضأ ولا يغتسل من جنابة، يكون أمام الرجل في الصف في الصلاة، وكيف إن صلى وراءه- وهو أمامه- عامدا أو ناسيا، هل يعيد الصلاة؟ أو الصبي الصغير، أو المرأة- على مثل ذلك؟ قال ابن القاسم: المجنون الذي ذكرت، والصبي والمرأة في هذا بمنزلة واحدة، ولا أحب له أن يفعل ذلك؛ ولا يصلي- وهو أمامه، وليتنح عن ذلك أو ينحيهم أو يتقدم عنهم؛ وقد بلغني أن أبا سلمة بن عبد الأسد، كان في الصلاة وكان أمامه رجل مأبون في دبره، فقدم رجلا إلى جنبه ليكون أمامه في مكانه فلم يتقدم الرجل؛ لأنه لم ير خللا ولا فرجة، ولم يأبه لما أراد؛ فلما فرغ من صلاته، عزله في التقدم حين قدمه فلم يتقدم، فكأنه اعتذر بنحو ما أخبرتك؛ فقال أبو سلمه بن عبد الأسد: ألم تر إلى فلان المأبون في دبره أمامنا؟ إنما قدمتك لذلك، وهو أبو سلمة بن عبد الأسد الذي كان زوج أم سلمة زوج النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
قال ابن القاسم: فإن فات ذلك وصلى حذاءهم، أوهم(2/49)
أمامه، لم أر عليه إعادة الصلاة- عامدا كان أو ناسيا أو جاهلا، لا في وقت ولا في غيره- في كل ما سمينا؛ لأنه بمنزلة الرجل يصلي إلى جدار مرحاض أمامه، وقد قيل فيه لاشيء عليه، وكذلك الكافر مثل المجنون، والصبي، والمرأة، في ذلك سواء.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما مضى في رسم "الصلاة " لثاني من سماع أشهب، وليس فيه معنى يشكل فنتكلم عليه؛ إذ قد قدر الشرع تعظيم شأن القبلة، فمن الاختيار للمصلي أن ينزه قبلته في الصلاة عن كل شيء مكروه، ولم يكن قوله في الرجل إنه مأبون في دبره غيبة فيه؛ لأن المقول له كان عالما بما قاله له من ذلك القائل، فلم يتنقصه بقوله ولا اغتابه عنده به- وبالله التوفيق.
[مسألة: متى يفرق بين الصبيان في المضاجع]
مسألة وسألته متى يفرق بين الصبيان في المضاجع؟ فقال ابن القاسم: إذا أثغروا، من نحو التفرقة في البيع، قال عيسى: وحدثني ابن وهب أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بلغ الصبيان سبع سنين، فمروهم بالصلاة، وإذا بلغوا عشر سنين فاضربوهم عليها، وفرقوا بينهم في المضاجع» . قال عيسى: وبه آخذ.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يفرق بينهم في المضاجع- إذا أثغروا، خلاف ظاهر الحديث، وكذلك ما في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب، من(2/50)
أنهم يضربون على الصلاة- إذا أثغروا؛ هو أيضا خلاف ظاهر الحديث، ولا رأي لأحد مع الحديث، فاتباع ظاهره في المعنيين على ما ذهب إليه عيسى - هو الصواب، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: شك في قراءة أم القرآن حتى هم أن يركع وقبل أن يرفع]
ومن كتاب أوله إن أمكنتني من حلق رأسك
مسألة قال: ومن شك في قراءة أم القرآن حتى هم أن يركع وقبل أن يرفع- وقد قرأ السورة التي معها، فإنه يرجع ويقرأ أم القرآن، والسورة التي معها، وليس عليه سجود.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما مضى في رسم "إن خرجت"، ومثل ما في الرسم الأول من سماع أشهب، والقولان قائمان من المدونة، وقد مضى القول في ذلك على مسألة سماع أشهب المذكور، فقف عليه.
[مسألة: صلي بالناس فيجلس في ثالثة أو يقوم إلى خامسة فيسبح به فلا يرجع]
مسألة وسئل عن الإمام يصلي بالناس فيجلس في ثالثة، أو يقوم إلى خامسة، فيسبح به فلا يرجع، فيكلمه إنسان ممن يصلي خلفه؛ قال: قد أحسن وتتم صلاته. قلت: وكذلك لو سأل الإمام أتمت صلاته أم لا؟ قال: نعم، كذلك أيضا يتم على ما صلى. قال: وينبغي للإمام إذا سبح به، أن يجيبهم إذا كان في شك، ولا يدري في ثلاث هو أو في أربع، فليقم إلى أربع، إلا أن يسبح به قد تممت صلاتك فيرجع.(2/51)
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، أن الكلام في الصلاة فيما تدعو إليه الضرورة من إصلاح الصلاة- إذا لم يفهم بالتسبيح، ولا بالإشارة، جائز، لا يبطل الصلاة على ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في حديث ذي اليدين. وذهب ابن كنانة، وابن نافع، وأكثر أصحاب مالك - إلى أن ذلك منسوخ لا يجوز لأحد بعد النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وأخذ سحنون بالحديث في موضعه ولم يقس عليه سائر المواضع. وقوله وكذلك لو سأل الإمام أتمت صلاته، قال: نعم، كذلك أيضا ظاهره قبل السلام وهو بعيد؛ إذ لا ضرورة بالإمام إلى السؤال قبل السلام: هل أكمل صلاته أم لا؟ لأن الواجب عليه إذا شك أن يبني على اليقين، إلا أن يسبح به فيرجع؛ فإن سألهم قبل أن يسلم، أو سلم على شك، فقد أفسد الصلاة، وإن سلم على يقين ثم شك، جاز له أن يسألهم، فينبغي أن يعدل بالكلام عن ظاهره، ويقال: معناه إذا شك في إتمام صلاته بعد أن سلم على يقين؛ وذلك بخلاف الذي استخلف ساعة دخوله- ولا علم له بما صلى الإمام، فإنه يجوز له السؤال إذا لم يفهم بالإشارة على ما في سماع موسى بن معاوية؛ إذ ليس عنده أصل يقين يبني عليه. وقوله: إنه ينبغي للإمام أن يجيب من خلفه إذا سبحوا به- وكان في شك- صحيح، وقد مضى من معناه في أول رسم من سماع ابن القاسم.
[مسألة: صلى المغرب خمس ركعات ساهيا]
مسألة وسئل عن رجل صلى المغرب خمس ركعات- ساهيا، قال: يسجد سجدتي السهو بعد السلام.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما وقع في أول رسم من سماع ابن(2/52)
القاسم من رواية سحنون عن ابن القاسم، أن من زاد في صلاته مثل نصفها، أعاد الصلاة أبدا؛ وهو مثل ما في المدونة فيمن شفع وتره ساهيا. وما في سماع أبي زيد فيمن صلى ركعتي الفجر أربعا من استحباب إعادتها، يقوم منه قول ثالث- وهو الإعادة في الوقت؛ والقول الأول أظهر من جهة القياس - وهو أن الزيادة في الصلاة لما كان يستوي القليل والكثير منها في العمد، وجب أن يستويا في السهو، ووجه القول الثاني، أن الاقتصار في الصلوات على ما وقت فيها من عدد الركعات فرض، والفروض لا تسقط بالنسيان، فكان الأصل أن تبطل صلاة من زاد في صلاته ركعة فأكثر من أي الصلوات كانت، فخرج من ذلك من زاد ركعة في صلاة هي أربع ركعات، بحديث ابن مسعود إذ صلى النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الظهر خمسا» وبقي ما زاد على ذلك على الأصل- وبالله التوفيق.
[مسألة: أدرك الإمام جالسا في التشهد في الصلاة فأحرم ثم جلس فلما سلم الإمام سها]
مسألة وقال في رجل أدرك الإمام جالسا في التشهد في الصلاة، فأحرم ثم جلس، فلما سلم الإمام، سها فسلم معه ثم قام فبنى، قال: عليه سجدتا السهو بعد السلام؛ لأن السلام زيادة.
قال محمد بن رشد: وهذا- كما قال؛ لأنه زيادة خارجة عن حكم الإمام، فوجب السجود له- على مذهب مالك بعد السلام.
[مسألة: ركع فرفع رأسه من الركوع فلم يعتدل حتى خر ساجدا]
ومن كتاب التفسير مسألة قال ابن القاسم من ركع فرفع رأسه من الركوع فلم يعتدل(2/53)
حتى خر ساجدا، فليستغفر الله ولا يعد؛ ومن خر من ركعته ساجدا، فلا يعتد بتلك الركعة، ومن رفع رأسه من السجود فلم يعتدل- جالسا حتى سجد الأخرى، فليستغفر الله ولا يعد؛ وأحب إلي للذي خر من الركعة- ساجدا قبل أن يرفع رأسه، أن يتمادى في صلاته ويعتد بها، ثم يعيد الصلاة، قال سحنون: روى علي بن زياد عن مالك، أنه لا إعادة عليه.
قال محمد بن رشد: قوله فيمن رفع رأسه من الركوع أو السجود فلم يعتدل قائما، أنه يستغفر الله ولا يعد؛ يدل على أن الاعتدال في الرفع منها، عنده من سنن الصلاة، لا من فرائضها، ولا من فضائلها؛ إذ لو كان عنده من فرائضها لما أجزأه الاستغفار، ولو كان من فضائلها، لما لزمه الاستغفار، ويجب على هذا القول إن لم يعتدل قائما في الرفع من الركوع، وجالسا في الرفع من السجود- ساهيا، أن يسجد لسهوه، وروى ابن القاسم عن مالك في المبسوطة، أنه لا سجود عليه، ولا إعادة- وحده كان أو مع الإمام، عامدا كان أو ساهيا، وهذا- عندي - على القول بأنه لا سجود على من نسي تكبيرة واحدة؛ إذ يبعد أن يسهو عن ذلك في جميع صلاته؛ وذهب ابن عبد البر إلى أن ذلك من فرائض الصلاة، وعاب قول من لم يجب في ذلك الإعادة، لقول النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود» ؛ ولقوله للذي رآه يصلي ولا يعتدل في ركوعه وسجوده-: «ارجع فصل، فإنك لم تصل» . قال: وإنما اختلف الناس الطمأنينة بعد(2/54)
الاعتدال. والصحيح أن ذلك سنة لا فريضة على ما دلت عليه هذه الرواية، والآثار التي احتج بها ليست على ظاهرها، بدليل ما في سائرها. وأما الرفع من الركوع فاختلف هل هو فرض لا يتم الركوع إلا به، أو سنة؟ وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلاف قول مالك في عقد الركعة: هل هو الركوع، أو الرفع منه، فعلى القول بأنه سنة- إن خر من ركعته- ساهيا، سجد قبل السلام، وإن كان متعمدا، استغفر الله ولم تكن عليه إعادة، وهي رواية علي بن زياد عن مالك؛ وعلى القول بأنه فرض من تمام الركوع- إن كان متعمدا، أفسد الصلاة، وإن كان ناسيا، رجع إلى الركعة محدودبا- قاله ابن المواز، وأجزأته صلاته، وسجد لسهوه بعد السلام، إلا أن يكون مع الإمام فيحمل ذلك عنه، وإن بعد ذلك وفاته الرجوع إليها، ألغاها وأتى بها وسجد لسهوه إلا أن يكون أيضا مع الإمام يحمل عنه السهو؛ وقول ابن القاسم: إنه لا يعتد بتلك الركعة ظاهر قوله ناسيا كان أو متعمدا، واستحبابه أن يتمادى ويعيد في الوجهين، وجهه مراعاة الاختلاف، كمن ترك أم القرآن من ركعة، فمرة قال بالإلغاء، ومرة قال بالإعادة، وأما الرفع من السجود، فلا اختلاف أنه فرض؛ إذ لا يتم السجود إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، والله- سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
[مسألة: نسي صلاة يوم لا يدري أفي السفر نسيها أو في الحضر]
ومن كتاب القطعان مسألة وسألت ابن القاسم عمن نسي صلاة يوم لا يدري أفي السفر نسيها أو في الحضر؟ قال: يعيد صلاة يوم للسفر، ثم يعيد صلاة يوم للحضر، ولا يعيد الصبح، ولا المغرب للحضر.(2/55)
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يعيد صلاة يوم للسفر، ثم يعيدها للحضر، صحيح- كما قال؛ لأن من ذكر صلاة السفر في الحضر وقد خرج وقتها يصليها سفرية- كما كانت عليه، لقوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها، فليصلها- كما كان يصليها في وقتها.» فإذا لم يدر إن كانت الصلاة التي ذكرها- وقد خرج وقتها- سفرية أو حضرية، وجب أن يصليها سفرية وحضرية، حتى يوقن أنه قد أتى بما عليه. وأما قوله: إنه لا يعيد الصبح ولا المغرب للحضر، معناه إذا لم يعين الأيام، وأما لو عينها مثل أن يقول: لا أدري إن كنت نسيت صلاة يوم السبت في السفر، أو صلاة يوم الأحد في الحضر، لوجب أن يعيد المغرب والصبح ليوم الأحد- على مذهب ابن القاسم، وقد مضى ذلك في أول رسم "أوصى" من هذا السماع.
[مسألة: أهل منى هل يقصرون إذا أرادوا الإفاضة أو أهل عرفة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن أهل منى هل يقصرون إذا أرادوا الإفاضة، أو أهل عرفة؟ فقال: أما أهل عرفة فيقصرون ولا يقصر أهل منى، قال ابن القاسم: وكل من كان بمنى يقصر، فإذا أفاض قصر، وكل من كان بمنى يتم، فإذا أفاض أتم.
قال محمد بن رشد: قوله في الحاج من أهل منى إنهم لا يقصرون في إفاضتهم من منى إلى مكة صحيح، لقرب ما بين منى ومكة. وقوله في أهل عرفة: إنهم يقصرون في إفاضتهم من منى إلى مكة صحيح أيضا، على قياس قوله: إنهم يقصرون بمنى؛ لأنهم إذا كانوا يقصرون بمنى، فهم على ذلك يرجعون إلى وطنهم بعرفة. وفي قوله: إنهم يقصرون بمنى نظر؛ لأنه إنما قال: إنهم(2/56)
يقصرون بها قياسا على تقصير الحاج من أهل مكة بها، وذلك إنما فيه الاتباع لرسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تقصيره بها، ولا يتعدى بالسنة موضعها- إذا لم تكن موافقة للأصول، لا سيما وقد قيل: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن مقيما بمكة، ولذلك قصر بمنى، وإلى ذلك ذهب أهل العراق، فلم يجيزوا للحاج من أهل مكة التقصير بمنى وعرفة، وقد مضى هذا في رسم "شك في طوافه" من سماع ابن القاسم. وقول ابن القاسم: وكل من كان بمنى يقصر، فإذا أفاض قصر، مثل قوله أولا أما أهل عرفة فيقصرون؛ لأن أهل عرفة يقصرون عنده بمنى - على ما تقدم؛ ووقع في بعض الروايات: وكل من كان بعرفة يقصر، فإذا أفاض قصر- وهو غلط؛ لأن قوله يتناقض بذلك، من أجل أن أهل منى يقصرون بعرفة، وهو قد قال: إنهم يتمون إذا أفاضوا.
[مسألة: هل يؤذن المؤذن المؤذن يوم عرفة والإمام على المنبر يخطب]
مسألة فقلت له: هل يؤذن المؤذن، يوم عرفة - والإمام على المنبر يخطب؟ - قال: قال مالك: ذلك واسع، قال عيسى: وقال لي ابن وهب: تلك السنة.
قال محمد بن رشد: قول مالك في أذان المؤذن- والإمام على المنبر يخطب: إن ذلك واسع، يدل على أن الاختيار عنده ألا يؤذن إلا بعد فراغه من الخطبة- كما قال في آخر كتاب الصلاة الثاني من المدونة؛ إذ لا يوسع إلا فيما غيره أحسن منه. فقول ابن وهب تلك السنة، خلاف لقول مالك، إن لا يصح أن يكون الاختيار عنده خلاف السنة، ولو ثبتت السنة عند مالك، لما اختار خلافها، وإن كان ذلك أظهر في المعنى، من أجل أن أذان المؤذن- والإمام يخطب، ترك منه لما أمر به من استماع الخطبة، والإصغاء إليها، وقد(2/57)
قال في كتاب الحج الأول من المدونة: إن ذلك واسع، إن شاء أذن- والإمام يخطب، وإن شاء بعد فراغ الإمام من الخطبة. والوجه في ذلك، أنه لما لم يقطع بثبوت السنة، وكان الأذان بعد تمام الخطبة أولى من جهة النظر والمعنى، خير بين الوجهين فرارا من أن يحض على خلاف ما قد روي عن النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، أو يترك ما يوجبه النظر إلى ما لم يثبت عن النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وهذا منه- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بنهاية في التوقي. وفي الواضحة: أنه يؤذن في جلوس الإمام بين خطبتيه على ما (حكي) من سيرة الحج فيما كتب به القاسم، وسالم - إلى أمير الحج في زمن يزيد بن عبد الملك، وقد روي عن ابن الماجشون أن المؤذن يؤذن بعد صدر من خطبته.
[مسألة: نسي صلاة يوم الجمعة فلم يذكر حتى صلى الجمعة]
مسألة قال ابن القاسم فيمن نسي صلاة يوم الجمعة فلم يذكر حتى صلى الجمعة، قال: يصلي الصبح، ثم يصلي الجمعة أربعا.
قال محمد بن رشد: والوقت في ذلك، النهار كله، قال ذلك ابن المواز؛ وقال أشهب وسحنون والليث بن سعد وغيرهم: أن السلام من الجمعة خروج وقتها، ولو ذكر صلاة الصبح- وهو في الجمعة مع الإمام، لخرج إن أيقن أنه يدرك من الجمعة ركعة بعد صلاة الصبح، وإن لم يوقن ذلك تمادى مع الإمام وأعاد ظهرا أربعا على مذهب ابن القاسم، خلافا لأشهب، ومن قال بمثل قوله: إن السلام من الجمعة خروج وقتها. وجه قول ابن القاسم، أن الجمعة لما كانت بدلا من الظهر، ووقت الظهر قائم بعد، وجب أن يعيد الجمعة ظهرا أربعا، لتعذر إقامتها جمعة؛ ووجه قول أشهب ومن قال بمثل قوله، أنه لما تعذر إقامتها جمعة كما كان صلاها، سقطت عنه الإعادة؛ إذ ليست بواجبة؛ ألا ترى أنها لا تجب بعد خروج الوقت، وستأتي المسألة متكررة في سماع سحنون.(2/58)
[مسألة: صلى بقوم فأصابه حدث فأخذ بيد رجل فقدمه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن إمام صلى بقوم فأصابه حدث، فأخذ بيد رجل فقدمه، فجهل الذي قدم، فقال للذي خلفه: كيف أصنع أبني أم أستأنف؟ فقالوا: بلى ابن، قال ابن القاسم: عليه وعليهم الإعادة.
(قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الكلام جوز من إصلاح الصلاة فيما تدعو إليه الضرورة، لا يوجد من ذلك بد، والجهل ليس بعذر يجيز له التكلم في صلاته، فهو كمتعمد الكلام.
[مسألة: نسي سجدة من أول ركعة فذكرها في تشهد الرابعة]
مسألة وسئل ابن القاسم عمن نسي سجدة من أول ركعة، فذكرها في تشهد الرابعة، قال: يقوم فيقضي ركعة يقرأ فيها بأم القرآن فقط، ويسجد قبل السلام؛ لأنه نقصان وزيادة. قال ابن وهب: يقضي ركعة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة، ويسجد بعد السلام؛ لأنه زيادة فقط. قال عيسى: وقول ابن القاسم أعجب إلي) .
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة في المنفرد، وهو عند ابن القاسم بأن يخالف المأموم على المشهور في المذهب، وعلى هذا يأتي جوابه في هذه المسألة؛ لأن الركعة الأولى التي أسقط منها السجدة تبطل إذ لم يصلحها قبل أن يعقد بعدها ركعة، فتصير الثانية له أولى، وهو قد جلس فيها فزاد الجلوس في غير موضعه، وزاد أيضا عمل الركعة التي أسقط منها السجدة، وتصير الثالثة له ثانية، وهو لم يقرأ فيها إلا بالحمد- وحدها، وقام ولم يجلس فأسقط منها السورة والجلوس، وتصير الرابعة له ثالثة، فيأتي بالركعة الرابعة بأم(2/59)
القرآن فقط، ويسجد قبل السلام؛ لأنه نقصان وزيادة. وقوله في المدونة فيمن أسقط السجود من الركعة الأولى، والركوع من الركعة الثانية: إنه لا يجزيه أن يجعل سجود الركعة الثانية للركعة الأولى؛ لأنه لم ينوه لها، وإنما نواه للركعة الثالثة، معارض لأصله في هذه المسألة، ومعنى قول ابن وهب أنه عنده قاض كالمأموم فتبطل عنده عليه الركعة الأولى، وتبقى الثانية على حالها ثانية، والثالثة ثالثة، والرابعة رابعة؛ ويقوم فيقضي الأولى التي بطلت عليه بترك السجود فيها، فيكون على هذا قد زاد عمل الركعة الأولى التي أسقط منها السجدة. فهذا تفسير قول ابن وهب ومعناه، فجميع أصحاب مالك على أن الفذ بانٍ إلا ابن وهب؛ وجميعهم على أن المأموم قاضٍ، إلا أشهب - وبالله التوفيق.
[مسألة: القوم تفوتهم الجمعة ويريدون أن يجمعوا]
ومن كتاب أوله باع شاة
مسألة وسألت ابن القاسم عن القوم تفوتهم الجمعة ويريدون أن يجمعوا، قال ابن القاسم: كنت مع ابن وهب بالإسكندرية - وكنا في بيت فلم نحضر الجمعة لأمر خفناه، ومعنا ناس كانوا جاءونا، فأردنا أن نصلي، فقال ابن وهب: نجمع، فقلت أنا: لا، فألح ابن وهب فجمع بالقوم، وخرجت أنا عنهم؛ فقدمنا على مالك، فسألناه عن ذلك، فقال: لا تجمعوا، ولا يجمع الصلاة من فاتته الجمعة، إلا أهل الحبس، والمسافرين، والمرضى، فأما غير ذلك فلا.
قال محمد بن رشد: كان تخلفهم عن الجمعة لمكان البيعة، وكانت قامت في ذلك اليوم؛ وقع ذلك في المبسوطة، فحملهم ابن القاسم محمل من فاتتهم الجمعة، لقدرتهم على شهودها؛ وحملهم ابن وهب محمل المسافرين(2/60)
الذين لا تجب عليهم الجمعة، لما لهم من العذر في التخلف عنها؛ فهذا وجه قوليهما، وقد مضى في رسم "نقدها" من هذا السماع- تحصيل القول في هذه المسألة، ونزيد ذلك ههنا بيانا بأن نقول: إن المصلين الجمعة ظهرا أربعا، حيث تجب الجمعة- أربع طوائف: طائفة لا تجب عليهم الجمعة وهم المرضى، والمسافرون، وأهل السجون؛ فهؤلاء يجمعون، إلا على رواية شاذة جاءت عن ابن القاسم - أنهم لا يجمعون ويصلون أفذاذا، فإن جمعوا على هذه الرواية، لم يعيدوا، وطائفة تخلفت عن شهود الجمعة لعذر يبيح لهم التخلف عنها، فهؤلاء اختلف هل يجمعون أم لا- على ما جاء في هذه الرواية من الخلاف بين ابن القاسم، وابن وهب، فإن جمعوا على قول ابن وهب، لم يعيدوا على قول ابن القاسم؛ وطائفة فاتتهم الجمعة، فهؤلاء المشهور أنهم لا يجمعون، وقد قيل إنهم يجمعون، وروي ذلك عن مالك وبعض أصحابه، فإن جمعوا لم يعيدوا، وطائفة تخلفت عن الجمعة لغير عذر، فهؤلاء لا يجمعون، واختلف إن جمعوا، فقيل: إنهم يعيدون، وقيل: إنهم لا يعيدون- على ما مضى في رسم "نقدها".
[مسألة: أحدث فقدم رجلا لم يدرك معه تلك الركعة فسجد بهم]
مسألة وسألته عن الرجل يؤم الناس، فلما استقل من الركعة، أحدث فقدم رجلا لم يدرك معه تلك الركعة فسجد بهم، هل تجزئهم تلك الركعة؟ وعن الإمام يحدث- وهو راكع- كيف يخرج؟ وكيف يصنع؟ قال ابن القاسم: لا تجزئهم الركعة، ولا يعتدون بها؛ لأنه لم يعتد هو بها، ولا ينبغي لهم أن يتبعوه، فإن فعلوا، فسدت صلاتهم جميعا؛ لأني لا آمرهم أن يقعدوا بعد أربع ركعات؛ لأن(2/61)
تلك الركعة لم تجز عنهم حين سجد بهم من لا يجزئ عنه سجوده؛ ولا آمرهم أن يصلوا خامسة، فيكونوا قد صلوا خامسة عامدين، فأحب إلي أن يستأنفوا صلاتهم- إن فعلوا، وإن علم، رأيت له أن يتأخر ويقدم من أدرك ركعة فيسجد بهم. وقال في الإمام يحدث - وهو راكع-: إنه يرفع رأسه ويقدم رجلا يدب راكعا فيرفع بهم ويسجد.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا تجزئهم الركعة ولا الصلاة أيضا- إن سجد بهم السجدتين اللتين بقيتا عليهم من الركعة التي فاتته، هو قول أشهب أيضا، وقد قيل إنه تجزئهم، حكى ابن المواز القولين جميعا؛ فأما القول الأول فقد بين في الرواية وجهه، وهو أنه لما كان هو لا يعتد بها من صلاته، وجب ألا يتبعوه فيها، وأن تبطل صلاتهم إن اتبعوه فيها؛ لأنهم زادوا فيها ما ليس منها، وإن قعدوا ولم يتبعوه في السجود، بطلت عليهم الركعة؛ فلهذا رأى أن يتأخر ويقدم من أدرك الركعة فيسجد بهم، فتصح لهم الركعة والصلاة، ووجه القول الثاني، أنه لما كان لا بد لهم من سجود سجدتي تلك الركعة، استخلف عليهم الإمام، أو لم يستخلف، لم يضرهم أن يعتدوا به في السجود، وكانوا في سجودهم معه كسجودهم- أفرادا، وإذا أنزلنا سجودهم معه كسجودهم أفرادا، فإنما يجزئهم سجود تلك الركعة على القول بأن ما فعل في حكم الإمام يعتد به على ما ذكرته من قول ابن نافع في رسم "الأقضية الثالث" من سماع أشهب؛ لأنهم في حكم المستخلف، وهو شذوذ في المذهب؛ وقوله في الذي يحدث- راكعا- أنه يرفع رأسه ويقدم رجلا يدب راكعا، فيرفع بهم ويسجد، صحيح؛ ولو قدم رجلا قد أحرم معه قبل أن يركع، لوجب أن يركع ويرفع بهم، وجب عليهم أن يرجعوا معه إلى الركوع، حتى يرفعوا برفعه، فإن لم يفعلوا أجزأتهم صلاتهم لأنهم بمنزلة من رفع قبل إمامه.(2/62)
[مسألة: يصلي فيركع بهم ويسجد سجدة ويسهو فلا يسجد غيرها]
مسألة (قال) : وسألته عن الإمام يصلي فيركع بهم ويسجد سجدة، ويسهو فلا يسجد غيرها، فينهض قائما وينهض معه بعض من يصلي معه- عالمين بأنه قد سها عن سجدة، فاتبعوه- اقتداء به، أو ساهون بسهوه، أو سجد بعضهم حين علموا أنه قد ترك سجدة ثم اتبعوه، ثم ذكر الإمام قبل أن يركع فسجدها، هل ترى لمن كان قد سجدها أن يعيدها ثانية مع الإمام، أم يعتدوا هم بسجدتهم التي سجدوا قبل الإمام، أو لم يذكر الإمام حتى ركع، هل ترى للذين سجدوها أن يعتدوا بها؟ قال ابن القاسم: أما الذين سجدوا لأنفسهم، فإنه إن رجع الإمام إلى السجدة قبل أن يركع، فإنهم لا يسجدون معه- ثانية، وسجدتهم الأولى تجزئهم؛ وإن لم يرجع الإمام إلى السجدة وسها عنها حتى يركع، فإن الذين سجدوا يتبعونه في صلاته حتى يتموا أربعا بتلك الركعة التي سها منها الإمام السجدة، فإذا أتموا أربعا، قعدوا وقام الإمام ومن سها معه فصلوا ركعة بسجدتين يؤمهم فيها الإمام، فإذا فرغ وسلم الإمام سلموا بسلامه، ثم سجد الإمام، ويسجد معه من سجد السجدة ومن لم يسجدها.
قال ابن القاسم: وأحب إلي أن لو أعادوا الصلاة الذين سجدوا السجدة بعد سلام الإمام، وهو أحب إلي من أن آمرهم أن يسجدوا معه ثالثة، فيزيدوا في صلاتهم متعمدين، أو أن يقوموا معه ولا يسجدوا فيقطعوا ركعتهم ويصلوا معه- خامسة من غير سهو؛ فالذي أرى أن يمضوا على صلاتهم على سنتها، ثم يعيدوا بعد فراغ(2/63)
الإمام- احتياطا، وأما الذين اتبعوه- عامدين، فصلاتهم منتقضة على كل حال- رجع الإمام من قبل أن يركع، أولم يرجع. قال أصبغ: ولا أدري ما هذا ولا يعجبني. وإن رجع الإمام قبل الركعة ورجعوا معه، فأرجو أن تجزئهم وإلا فلا. قال أصبغ: وهذا فقه هذه المسألة.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة تنقسم على وجهين: أحدهما أن يسهو الإمام عن السجدة- وحده، والثاني أن يسهو عنها هو وبعض من خلفه، فأما إذا سها عنه هو وحده، فلا يخلو من خلفه من حالين: أحدهما أن يسجدوا لأنفسهم، والثاني أن يتبعوه على ترك السجدة- عالمين بسهوه، فأما إن سجدوا لأنفسهم ولم يرجع الإمام إلى السجدة حتى فاته الرجوع إليها بعقد الركعة التي يعدها، فركعة القوم صحيحة باتفاق، ويقضي الإمام تلك الركعة بعينها التي أسقط منها السجدة في آخر صلاته- وهم جلوس، ثم يسلم بهم ويسجد بعد السلام؛ واختلف إن ذكر الإمام قبل أن يركع، فرجع إلى السجود، هل يسجدون معه ثانية أم لا- على قولين، وأما إن اتبعوه على ترك السجود- عالمين بسهوه، فصلاتهم فاسدة باتفاق؛ وأما الوجه الثاني- وهو أن يسهو عنها هو وبعض من خلفه- وهي مسألة الكتاب، فلا يخلو من لم يسه عنها بسهو الإمام من حالين أيضا: أحدهما أن يسجدوا لأنفسهم، والثاني أن يتبعوه على ترك السجود- عالمين بسهوه؛ فأما أن يسجدوا لأنفسهم ولم يرجع الإمام إلى السجود حتى فاته الرجوع إليه بعقد الركعة التي بعدها، ففي ذلك ثلاثة أقوال، أحدها: قول ابن القاسم في هذه الرواية أن السجود يجزئهم وتصح لهم الركعة ويلغيها الإمام ومن سها معه، فإذا أكمل ثلاث ركعات، قام ومن سها معه إلى الرابعة، وقعدوا حتى يسلم فيسلموا بسلامه، ويسجد بهم جميعا سجدتي السهو بعد السلام؛ - وهو أضعف الأقوال، لاعتدادهم بالسجدة، وهم إنما فعلوها في حكم الإمام، ولمخالفتهم إياه بالنية في أعيان الركعات؛ لأن(2/64)
صلاتهم تبقى على نيتها وتصير للإمام ومن سها معه الركعة الثانية أولى، والثالثة ثانية، والرابعة ثالثة؛ ولهذا المعنى قال ابن القاسم في الرواية: وأحب إلي أن لو أعادوا الصلاة، وإنما يسجد الإمام بهم بعد السلام- كما قال- إن كان ذكر بعد أن ركع في الثانية؛ لأنه يجعلها أولى، ويأتي بالثانية بالحمد وسورة، ويجلس فيها فيكون سهوه زيادة كله؛ وأما إن لم يذكر حتى صلى الثالثة أو رفع من ركوعها، فإنه يسجد قبل السلام- على ما اختاره من قول مالك في اجتماع الزيادة والنقصان؛ لأنه يجعلها ثانية، وقد قرأ فيها بأم القرآن- وحدها، وقام ولم يجلس، فأسقط السورة والجلوس منها، فاجتمع عليه في سهوه زيادة ونقصان.
واختلف أيضا في هذا الوجه- إن ذكر الإمام قبل أن يركع فرجع إلى السجدة، هل يسجدون معه ثانية، أم لا؟ على قولين، والقول الثاني: أن صلاتهم فاسدة للمعنى الذي ذكرناه من مخالفة نيتهم لنية إمامهم في أعيان الركعات- وهو قول أصبغ، والقول الثالث: أن السجود لا يجزئهم وتبطل عليهم الركعة، كما بطلت على الإمام ومن معه، ويتبعونه في صلاته كلها وتجزئهم؛ حكى هذا القول محمد بن المواز في كتابه. وأما إن اتبعوه على ترك السجدة- عالمين بسهوه، فقال في الرواية: إن صلاتهم منتقضة، ويتخرج على ما في كتاب محمد: أن تبطل عليهم الركعة، كما بطلت على الإمام ومن معه، ولا تنتقض عليهم الصلاة؛ لأن السجدة إذا كان على مذهبه لا يجزيهم فعلها، فلا يضرهم تركها- وبالله التوفيق.
[مسألة: عليه سجود السهو بعد السلام فيسهو فيسجد قبل السلام]
ومن كتاب العتق مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يكون عليه سجود السهو بعد السلام، فيسهو فيسجد قبل السلام؛ قال: يعيدهما بعد السلام، وإنما هذا سهو دخل عليه.(2/65)
قال محمد بن رشد: جعل في هذه الرواية سجوده قبل السلام سهوا فيما وجب عليه فيه السجود بعد السلام سهوا، دخل عليه قي صلاته فأوجب عليه إعادة السجود بعد السلام، ولم يراع ما في أصل المسألة من الاختلاف، فيلزم على هذا- لو كان جاهلا أو متعمدا- أن يعيد الصلاة؛ وقد روى ذلك أبو زيد عن أشهب، حكى ذلك ابن المواز، وهو خلاف ما في المدونة، وفي آخر الرسم الأول من سماع أشهب؛ فعلى ما في المدونة وفي السماع المذكور لا إعادة عليه للسجود بعد السلام إذا سجد قبل السلام- ناسيا كان أو متعمدا، مراعاة للاختلاف، وقد نص في كتاب محمد بن المواز على ذلك فقال: لا إعادة عليه للسجود بعد السلام- ساهيا كان أو متعمدا، وذهب ابن لبابة إلى أن يفرق بين الناسي والمتعمد في الذي يجب عليه السجود بعد السلام فيسجد قبله، فيجعل رواية عيسى هذه مفسرة لما في المدونة، وإنما هي خلاف لها بما بان مما ذكرته من كتاب محمد ابن المواز - وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي المصلى يوم عيد وقد سبقه الإمام بالتكبير]
مسألة وقال في رجل يأتي المصلى يوم عيد- وقد سبقه الإمام بالتكبير، قال: إن أدركه قائما، دخل معه في الصلاة وكبر سبعا؛ وإن وجده راكعا، كبر تكبيرة واحدة ودخل معه في الركوع- ولا شيء عليه، وإن أدركه في الركعة الثانية، أو بعد أن رفع رأسه من (الركعة) الأولى، قضى بعد تسليم الإمام ركعة بسجدتيها، فكبر فيها سبعا، فإن وجده جالسا في آخر صلاته، أحرم ودخل معه، فإذا سلم الإمام قام فقضى الركعتين، يكبر في الأولى سبعا، وفي(2/66)
الثانية خمسا. قال عيسى: وقد قال ابن القاسم في غير هذا الموضع: إنه يكبر في الأولى ما بقي عليه من التكبير- وذلك ست تكبيرات.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم "يوصي لمكاتبه"، وجه قول ابن القاسم فيمن دخل مع الإمام في العيد- وهو يقرأ، أنه يكبر التكبير الذي فاته معه؛ ووجه قول ابن وهب هناك، أنه لا يكبر بعده- إذا فاته التكبير معه؛ وقوله- ههنا فيمن فاتته الركعة الأولى من صلاة العيد: إنه يكبر إذا قام لقضائها سبعا، هو مثل ما في الحج الأول من المدونة؛ وخلاف أصله في الصلاة الأول منها فيمن جلس مع الإمام في غير موضع جلوس له، أنه يقوم بلا تكبير؛ ومثل قوله فيه فيمن أدرك الإمام جالسا في آخر صلاته، أنه يقوم بتكبير؛ لأنها إنما هي سبع تكبيرات بتكبيرة الإحرام، وهو قد كبر تكبيرة الإحرام، فإذا لم يكبر للقيام على الأصل المذكور، وجب أن يكبر ما بقي من التكبير، وذلك ست تكبيرات على ما قال في القول الثاني- وهو قوله في كتاب الصلاة الثاني من المدونة. وإذا كبر للقيام على قوله في الذي أدرك الإمام- جالسا في آخر صلاته، وجب أن يكبر سبع تكبيرات، واحدة للقيام والست التي بقيت، وهو مذهب ابن الماجشون أنه يقوم بتكبير على كل حال؛ وقد ذهب بعض الناس إلى أن قوله فيمن أدرك الإمام جالسا في آخر صلاته، أنه يقوم بتكبير، ليس بخلاف لأصله في تفرقته بين أن يجلس مع الإمام في موضع جلوس (أو في غير موضع جلوس) ، لكنه استحب لما كان في أول الصلاة أن تتصل قراءته بتكبير، وهذا يضعف بقوله فيمن أدرك الإمام جالسا في صلاة العيد من أنه يكبر سبعا وخمسا؛ لأن الواحدة من السبع هي(2/67)
للقيام، وقد كان معه من بقيه التكبير ما يتصل له به القراءة في أول الصلاة، وهذا كله بين- والله الموفق.
[مسألة: الغلام يحتلم بعد العصر]
مسألة وقال ابن القاسم في الغلام يحتلم بعد العصر، قال: أرى أن يصلي الظهر والعصر- وإن كان قد صلاهما.
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح؛ لأنه إذا احتلم- وقد بقي من النهار ما يدرك (أن يصلي) فيه بعد فراغه من غسله- الصلاة الواحدة، وركعة واحدة من الأخرى؛ وجب عليه أن يصليهما جميعا، لقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر» - الحديث- وإن كان قد صلاهما قبل أن يحتلم؛ لأنهما كانتا له قبل الاحتلام نفلا، ولا تجزئ نافلة عن فريضة- وبالله التوفيق.
[مسألة: الإمام يضعف عن الخطبة يوم الجمعة]
من سماع يحيى (بن يحيى)
من عبد الرحمن بن القاسم من كتاب الصبرة
قال يحيى: قال ابن القاسم في الإمام يضعف عن الخطبة يوم الجمعة: أنه لا ينبغي له أن يصلي بالناس إن اختطب بهم غيره،(2/68)
وليأمر الذي يوكله بالاختطاب أن يصلي بالناس، وليصل الإمام وراءه خيرا له من أن يدع الجمعة، والأعياد مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الخطبة متضمنة بالصلاة، فكانت هي والصلاة كالصلاة وحدها- في أنه لا يجوز أن يفرق على إمامين بالقصد إلى ذلك، فإن حدث للإمام ما يخرجه عن الصلاة- وقد صلى بعضها- جاز له أن يستخلف على بقيتها، فكذلك إذا حدث له ما يمنعه من الصلاة بعد أن خطب، جاز له أن يستخلف على الصلاة؛ وهذا كله بين لا إشكال فيه، وقد مضى ما دل على هذا المعنى في رسم "إن خرجت"- قبل هذا. وقوله: وليصل الإمام وراءه خيرا له من أن يدع الجمعة، كلام ليس على ظاهره، بل هو الواجب عليه أن يصلي وراءه الجمعة، ولا سعة له في التخلف عن ذلك- وبالله التوفيق.
[مسألة: يدخل في أول صلاة الإمام يوم الجمعة وينسى التكبير للإحرام في الركعة الأولى]
(ومن كتاب الصلاة)
مسألة وسئل عن الرجل يدخل في أول صلاة الإمام يوم الجمعة وينسى التكبير للإحرام في الركعة الأولى: أيجزئه أن يكبر في الثانية ويجعلها أول صلاته؟ قال: ذلك مجزئ عنه في الجمعة خاصة، لئلا تفوته، ولا يجزئ ذلك في غيرها.
قال محمد بن رشد: قوله في السؤال أيجزئه، وقوله في الجواب ذلك مجزئ عنه، لفظ غير محرر، وصوابه: أيجوز له، قال: ذلك يجوز له، ولا يجوز له ذلك في غيرها- وهو الذي أراد؛ لأن ذلك إن فعله يجزئه في الجمعة وغيرها،(2/69)
ويجوز له في الجمعة، ولا يجوز له في غيرها؛ لأن الاختيار له في غير الجمعة أن يتمادى مع الإمام على صلاته - رجاء أن تجزئه على قول من يرى تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام، (ثم يعيد مخافة أن لا تجزئه على قول من لا يرى تكبيرة الركوع تجزئ من تكبيرة الإحرام) ، والاختيار له في الجمعة، أن يقطع ويحرم في الثانية، فتكون له جمعة باتفاق. وقد وقع في أصل السماع من كتاب الصلاة أيضا، وقال في الرجل يذكر في صلاة الجمعة بعد ركعة، أنه لم يحرم- وقد كبر للركوع: إن ذلك التكبير يجزئه- ولا شيء عليه، نواه للإحرام أو لم ينوه، وذلك بعيد؛ لأنه إذا أجزأه في الجمعة، كان أحرى أن يجزئه في غيرها، وليس ذلك موجودا لمالك، وإنما هو قول سعيد بن المسيب، وابن شهاب.
[مسألة: يركع ويسجد وهو مغلق اليدين]
مسألة وسألته عن الرجل يركع ويسجد وهو مغلق اليدين، قابضا أصابعه كلها) : صنع ذلك من عذر لشيء في يديه، أو متعمدا من غير عذر؛ قال: يستغفر الله ولا يعد، وليس عليه استئناف في وقت ولا غيره، صنع ذلك من عذر أو غير عذر.
قال محمد بن رشد: قوله يستغفر الله ولا يعد يريد إذا فعل ذلك متعمدا من غير عذر؛ وأما إذا فعله من عذر فلا استغفار عليه في ذلك؛ إذ لم يأت بما يكره له ويستغفر منه، وإيجاب الاستغفار في ذلك عليه، يدل على أنه عنده من سنن الصلاة، لا من فضائلها؛ فيتخرج في ترك ذلك متعمدا من غير عذر- قولان، وبالله تعالى التوفيق.(2/70)
[مسألة: المرأة تصلي العصر وتنسى الظهر ثم تحيض]
ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع
مسألة وسئل عن المرأة تصلي العصر وتنسى الظهر، ثم تحيض وعليها من النهار ما تصلي فيه صلاة واحدة، فقال: سواء عليها؛ إذا حاضت ولم يبق من النهار إلا ما كانت تصلي فيه صلاة واحدة وهي ناسية للظهر قبل ذلك، صلت العصر أولم تصلها، فليس عليها أن تعيد إلا الظهر وذلك أنها لو نسيتهما جميعا، فحاضت ولم يبق من النهار إلا قدر ما تصلي فيه صلاة واحدة، فإنما عليها إذا طهرت إعادة الظهر التي (قد) كان (فرط) وقتها، وتكون إعادة صلاة العصر عنها موضوعة؛ لأنها حاضت في وقتها؛ كما أنها لو حاضت وقد بقي من النهار ما تصلي فيه الظهر والعصر، لم يكن عليها إذا طهرت أن تعيد شيئا، وإنما تعد الوقت الآخر؛ إذا لم يبق من النهار إلا قدر ما كانت تصلي صلاة واحدة لآخر الصلاتين، ولا تعد ذلك الوقت للظهر، بل قد فرط وقت الظهر وبقي وقت العصر، فما فرط قبل أن تحيض، فعليها إعادته إذا طهرت، وما بقي وقته قبل أن تحيض فليس عليها أن تعيد إذا طهرت، كما لو بقي وقتهما جميعا قبل أن تحيض، لم يكن عليها إعادة واحدة منهما- بعد أن(2/71)
تطهر؛ ألا ترى أنها لو صلت الظهر ونسيت العصر وحاضت- وعليها من النهار وقت صلاة واحدة، لم تعد العصر؛ إذا طهرت، وقد قال في سماع عيسى: ليس عليها إعادة الظهر لأنها لما صلت العصر ونسيت الظهر وحاضت وبقي عليها من النهار بقية، جعل وقت ما حاضت فيه الظهر، وقاسها ابن القاسم بالرجل ينسى الظهر في السفر ويصلي العصر، فيدخل الحضر وعليه بقية من النهار، ففيما يتوضأ غربت الشمس، أن عليه الظهر أربعا؛ قال ابن القاسم: ومن قال خلاف هذا، فقد أخطأ.
قال محمد بن رشد: عبر ابن القاسم في هذه المسألة عن القضاء بالإعادة، حيثما وقع منها، وذلك تجوز في العبارة؛ لأن الإعادة إنما تستعمل فيما قد فعل، وأما ما لم يفعل حتى خرج وقته من الصلوات، فإنما يقال فيه قضاء لا إعادة؛ فذلك تجوز في العبارة- كما قلناه. وقوله في سماع عيسى: وقاسها ابن القاسم بالرجل ينسى الظهر في السفر إلى آخر قوله، ليس بوجه القياس؛ لأن حقيقة القياس أن يرد ما اختلف فيه إلى ما اتفق عليه عند الجميع، أو مع المنازع؛ ومسألة المسافر التي قاس عليها مسألة الحائض ليست بمتفق عليها فتجعل أصلا لها، وإنما هي نظيرة لها، فيدخلها من الخلاف ما دخلها؛ وكذلك مسألة الحاضر يسافر لمقدار ركعتين فأقل، وقد صلى العصر ولم يصل الظهر؛ ومسألة الذي يصلي العصر بثوب طاهر، والظهر بثوب نجس، ثم يعلم ذلك قبل الغروب بمقدار أربع ركعات، فأقل؛ هذه الأربع مسائل الاختلاف فيها واحد، قيل: إن الوقت فيها كلها وقت للعصر، صليت أولم تصل؛ قال: هذا من ذهب إلى أن العصر تختص بأربع ركعات قبل الغروب، لا يشاركها فيها الظهر، وهي رواية عيسى هذه عن ابن القاسم،(2/72)
فلا تسقط على هذا القول عن الحائض صلاة الظهر؛ إذ قد خرج وقتها قبل أن تحيض؛ وتسقط إعادتها عن الذي صلاها بثوب نجس؛ إذ قد خرج وقتها قبل أن يعلم؛ ويصليها المسافر سفرية إذ قد خرج وقتها قبل أن يدخل؛ ويصليها الحاضر حضرية؛ إذ قد خرج وقتها قبل أن يخرج؛ وقيل: إن الوقت فيها كلها وقت للظهر التي لم تصل، قال: هذا من ذهب إلى أن الظهر يشارك العصر في الوقت إلى الغروب، وهي رواية عيسى هذه، ورواية أصبغ في سماعه، فعلى هذا القول لا تصليها الحائض؛ لأنها حاضت في وقتها، ويعيدها الذي صلاها بثوب نجس؛ لأنه قد علم في وقتها، ويصليها المسافر حضرية؛ لأنه قد دخل في وقتها؛ والحاضر سفرية؛ لأنه قد خرج في وقتها؛ فهذا هو أصل الاختلاف في هذه المسألة، فوجه القول باختصاص العصر بالوقت دون الظهر، قوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر» . فأضاف الوقت إلى العصر دون الظهر، ووجه القول باشتراك الظهر معها فيه، إجماعهم على أنه يصلي الظهر في ذلك الوقت من آخره إليه.
وأخذ ابن حبيب برواية يحيى أن الوقت وقت للعصر في مسألة الحاضر يخرج خاصة؛ لأن الصلاة تجب على هذا حضرية، وبرواية عيسى وأصبغ: أن الوقت وقت للظهر في سائر المسائل، لوجوب الصلاة على ذلك والإتمام احتياطا للصلاة على غير قياس؛ وكذلك اختلف قول ابن القاسم في المرأة تطهر لمقدار صلاة واحدة، فتذكر أن عليها صلاة منسية، فمرة جعل الوقت الذي طهرت فيه للصلاة المنسية بصلاتها فيه، ويسقط عنها الأخرى؛ ومرة جعل الوقت للصلاة التي طهرت في وقتها فتصلي الصلاة المنسية، ثم تصلي الصلاة التي طهرت في وقتها- وإن خرج الوقت. واختار أصبغ القول الأول، وذكره من قول مالك؛ ووجهه أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(2/73)
وسلم- قال: «إذا نام أحدكم عن الصلاة» - الحديث، فجعل وقت الصلاة المنسية وقت ذكرها. واختار ابن المواز القول الثاني، وقال: إن القول الأول مخالف لأصل قول مالك في موطئه في المسافر يخرج في سفره لمقدار ركعتين من النهار- وهو ناس للظهر والعصر، إنه يصلي الظهر أربعا، والعصر ركعتين. إذ ينبغي على القول الأول أن يجعل الوقت للظهر فيصليها ركعتين، ويصلي العصر أربعا؛ وهذا مما لم يقل به مالك، ولا أحد من أصحابه؛ ووجهه قوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر» . بدليل حمله على عمومه - وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[مسألة: الجنب يجز شعره ثم يصلي وفي ثوبه بعضه]
ومن كتاب المكاتب مسألة قال: وسألته عن الجنب يجز شعره ثم يصلي- وفي ثوبه بعضه، قال: ليس عليه أن يعيد في وقت ولا غيره، إلا أن يكون في الشعر بعينه نجس أصابه، وقد يصلي الرجل على بساط شعر ميتة فلا يكون عليه شيء.
قال محمد بن رشد: هذا استدلال مقلوب؛ لأنه بنى الأصل على فرعه، وذلك لا يصح إلا بعد تسليمه والقول بصحته؛ إذ لا اختلاف بين أحد من أهل العلم في جواز أخذ الشعر من الحي وأنه طاهر، لقوله عز وجل:(2/74)
{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل: 80]- الآية. وإنما اختلفوا في جواز أخذه من الميت؛ إذ من أهل العلم من رآه نجسا (يموت) بموت الميتة؛ إذ قد حله الروح عنده؛ والدليل على أنه طاهر، وأن الروح لم يحله، جواز أخذه من الحي، فهذا هو القياس الصحيح؛ ووجه التنظير بين المسألتين، أن الشعر كما لا ينجس بالموت، لا ينجس بالجنابة.
[مسألة: القريب العهد بالإسلام يصلي المغرب أياما أربعا أربعا]
مسألة وقال في الجاهل من مسالمة أهل الذمة، أو القريب العهد بالإسلام من غيرهم: يصلي المغرب أياما أربعا، أربعا؛ إنه يعيد تلك الصلوات كلها في الوقت، علم بقبيح ما صنع، أو بعد ذهاب الوقت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الجاهل لا يعذر بجهله في الصلاة، فهو كالمتعمد العالم، وهو أصل من الأصول في المذهب.
[مسألة: المريض أيجوز له أن يصلي المكتوبة على المحمل]
مسألة وسألته عن المريض أيجوز له أن يصلي المكتوبة على المحمل، فقال: سمعت مالكا يقول: لا يجوز ذلك- حتى لا يستطيع الصلاة قاعدا؛ فإذا كان على كل حال لا يستطيع أن يصلي إلا إيماء مستلقيا أو مضطجعا، جازت صلاته على المحمل ويحبس له المحمل، ويستقبل به القبلة، كما كان يصنع به لو كان نازلا بالأرض.(2/75)
قال محمد بن رشد: هذه الرواية عن مالك خلاف رواية ابن القاسم عنه في رسم "سن": أنه لا يجوز له أن يصلي المكتوبة على المحمل- أصلا، وخلاف رواية أشهب عنه في آخر رسم "الصلاة" الثاني، أنه يجوز له أن يصلي المكتوبة على المحمل- إذا لم يقدر على السجود- وإن قدر على الجلوس، فهي ثلاثة أقوال، وقد مضى بيان ذلك في رسم "سن" المذكور.
[مسألة: المسافر يريد مسيرة أربعة برد فإذا صار عشرين ميلا أجمع إقامة أربع ليال]
مسألة قال: وسألته عن المسافر يريد مسيرة أربعة برد، فإذا صار عشرين ميلا، أجمع إقامة أربع ليال، فأتم الصلاة، ثم يخرج ماضيا إلى تمام سفره، أيقصر الصلاة أم لا؟ فقال: كل من أجمع إقامة أربع ليال فأتم الصلاة ثم خرج لإتمام سفره، فإنه لا يقصر الصلاة، إلا أن يكون فيما بقي من سفره مسيرة أربعة برد فصاعدا، وهذا يعد بإقامته الأربع ليال التي وجب بهن عليه الإتمام، كمبتدئ السفر من أوله؛ قلت لسحنون: فلو نواه أن يسير يوما ويقيم أربعة أيام، قال: يقصر كلما سار، ويتم كلما أقام؛ وإنما ينظر إلى نيته في منتهى سفره، فإذا كان ما يقصر في مثله الصلاة، فعليه الإقصار في مسيره والإتمام في مقامه إذا نوى مقام أربعة أيام.
قال محمد بن رشد: لا فرق بين المسألتين، فقول سحنون خلاف لقول ابن القاسم: ينظر إلى ما بقي من سفره بعد الإقامة في المسألتين جميعا، فلا يقصر فيهما إلا إن كان بقي من سفره ما تقصر في مثله الصلاة، وسحنون ينظر إلى نيته في ابتداء سفره، فإن كان ذلك ما يجب فيه قصر الصلاة، قصر في مسيرة ذلك، وإن تخلله إقامة أربعة أيام، نوى الإقامة من أول سفره أو لم ينوها- وبالله التوفيق.(2/76)
[مسألة: الرجل يرى في ثوب الإمام نجاسة]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يرى في ثوب الإمام نجاسة، ما ترى له أن يصنع؟ فقال: إن أطاق أن يريه إياه فليفعل، وإن لم يطق ذلك فصلى معه وقد رآه أو علم به، فليعد صلاته في الوقت، وغيره أحب إلي، وإن لم يعد إلا في الوقت أجزأه؛ قال: وإنما رأيت أن يعيد بعد ذهاب الوقت؛ لأن كل من تعمد الصلاة بثوب نجس، فالإعادة عليه واجبة في الوقت وبعده؛ فهذا قد صلى، وهو يعلم أن الإمام قد صلى بثوب نجس؛ قلت له: أكنت تحب أن ينصرف إذا لم يقدر على أن يعلم الإمام بما في ثوبه، أو ترى أن يعلم الناس ويسمعهم، وكيف إن علم أن الإمام غير متوضئ، فماذا يجب، أيجب عليه أن يعلم الناس، أم الإمام دونهم؟ أم ينصرف ولا يصلي بصلاته؟ قال سحنون: إذا كانت بينه وبين الإمام صفوف، فلا أرى بأسا- أن يكلم الإمام ويخبر بأن في ثوبه نجاسة، ثم يبتدئ الصلاة.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي رأى في ثوب الإمام نجاسة - إن أطاق أن يريه ذلك فليفعل، يريد فيخرج الإمام ويستخلف، ويتمادى هو مع المستخلف على صلاته، إلا أن يكون عمل من الصلاة معه عملا بعد أن رآه وقبل أن يريه إياه، فيكون قد أفسد على نفسه صلاته بذلك، فيقطع ويبتدئ- قاله يحيى بن يحيى؛ وهو صحيح على ما قال: إذا لم يطق أن يريه إياه فصلى معه، إنه يعيد في الوقت، وبعده أحب إلي؛ وإنما قال: وإن لم يعد(2/77)
إلا في الوقت أجزأه، مراعاة لقول من يرى أن صلاة المأمومين غير مرتبطة بصلاة إمامهم، مع ما في أصل المسألة من الاختلاف؛ إذ قد قيل في رفع النجاسات من الثياب والأبدان أنه فرض، وهو قول ابن وهب؛ فعلى قوله يعيد من صلى بثوب نجس عامدا أو جاهلا أو ناسيا أبدا؛ وقيل: إنه سنة- وهو المشهور في المذهب، فعلى هذا يعيد من صلى بثوب نجس في الوقت إن كان ناسيا، أولم يجد غيره، وإن صلى به متعمدا أو جاهلا- وهو يجد ثوبا طاهرا، أعاد أبدا، لتركه السنة عامدا مستخفا بصلاته، أو جاهلا فلا يعذر بجهله، ومن الناس من يعبر عن رفع النجاسات من الثياب والأبدان- على هذا- بأنه فرض بالذكر مع القدرة، يسقط بالنسيان، أو عدم القدرة، وليست بعبارة مخلصة.
وقد روى البرقي عن أشهب أن من صلى بثوب نجس عامدا، فلا إعادة عليه إلا في الوقت، وهو ظاهر قوله في المدونة فيمن مسح مواضع المحاجم ولم يغسلها، أنه يعيد في الوقت، - إذ لم يفرق في ذلك بين النسيان والعمد، وعلى ذلك حملها أبو عمران فقال: ناسيا كان أو عامدا، للاختلاف في المسح؛ إذ قد روي عن الحسن وغيره، أنه قال: ليس عليه غسل موضع المحاجم. وقد قال ابن أبي زيد: معناه ناسيا؛ وجعل ذلك ابن حبيب أخف من الدم الذي يفتله الراعف ويتمادى على صلاته، (وحكم الذي يعلم في الصلاة- أن الإمام غير متوضئ، حكم الذي يرى في ثوب الإمام نجاسة- ولا يقدر على أن يريه إياه، لبعد ما بينه وبينه؛ يعلم الإمام بذلك، ويستأنف الصلاة عند سحنون؛ وسكت ابن القاسم عن الجواب في هذا الذي يأتي على مذهبه في ذلك أن يكلمه ويبني على صلاته) - على أصله في إجازة الكلام فيما تدعو إليه الضرورة من إصلاح الصلاة على حديث ذي اليدين؛ وقد قيل: إنه إن قدر أن يفهم الإمام أنه على غير وضوء، وأن في ثوبه نجاسة، بأن يتلو(2/78)
آية الوضوء، أو أول المدثر، فعل ذلك وتمادى على صلاته مع مستخلف الإمام، وهو قول الأوزاعي؛ وقد قيل: إنه لا يمنع الرجل أن يرى الإمام النجاسة في ثوبه بعدما بينه وبينه، وله أن يخرق الصفوف إليه، ثم يرجع إلى الصف، ولا يستدبر القبلة في رجوعه إلى الصف، قاله يحيى بن يحيى، وهو خلاف ظاهر قول سحنون.
[مسألة: يختم القرآن وهو في نافلة ثم يريد أن يبتدئ القرآن من سورة البقرة]
مسألة وسألته عن الرجل يختم القرآن وهو في نافلة قد استفتح الركعة التي ختم فيها بأم القرآن، ثم يريد أن يبتدئ القرآن من سورة البقرة؛ أيجب عليه أن يفتتح بأم القرآن أيضا لابتدائه القرآن من أوله؟ أم يجزئه أن يفتتح البقرة ويدع أم القرآن؟ قال: يفتتح البقرة- ولا جناح عليه في ترك أم القرآن؛ لأنه لا يقرأ أم القرآن في ركعة مرتين.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال- لأن السنة أن يقرأ أم القرآن في كل ركعة مرة، كما قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي علمه الصلاة.
[مسألة: يمنعهم شدة المطر من شهود الجمعة أيجمعون الظهر بمكانهم]
ومن كتاب أول عبد أشتريه فهو حر
مسألة قال: وسئل عن القوم يمنعهم شدة المطر من شهود الجمعة، أيجمعون الظهر بمكانهم الذي هم فيه؟ فقال: إن جاء من(2/79)
ذلك أمر غالب يعذرون به، جاز لهم أن يجمعوا كما جوز مالك للمرضى والمحبوسين، لما تبين من عذرهم؛ وإن كان مطرا لا يمنعهم من شهود الجمعة، فإن جمعوا أعادوا الصلاة- إذا تركوا شهود الجمعة لغير عذر غالب.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مجودا في أول رسم من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة القول في ذلك.
[مسألة: الإمام يرى في ثوبه دما تعاد الصلاة من مثله]
مسألة وسألته عن الإمام يرى في ثوبه دما تعاد الصلاة من مثله، أيجزئه أن ينزعه ويعلم الناس ويبتدئ صلاته؟ أم يخرج ويستخلف مكانه؟ فقال: بل يخرج فينزع ثوبه ويغسله- إن أحب، ثم يرجع فيدخل مع الناس فيما أدرك، ويدخل عند خروجه- رجلا فيبني الداخل على صلاة الإمام؛ لأن ما مضى منها مجزئ عمن خلفه، ومنتقض عليه هو؛ فلذلك لزمه الخروج؛ لأنه لو ابتدأ من خلفه يبني، لاختلط عليهم ما هم فيه.
قال محمد بن رشد: قوله في الإمام يرى في ثوبه نجاسة، أنه ينصرف ويستخلف من يتم بالقوم بقية صلاتهم، هو المشهور المعلوم في المذهب؛(2/80)
والأصل في ذلك ما روي «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى في ثوبه دما في الصلاة فانصرف» ، فإذا وجب عليه أن ينصرف لما في ثوبه من النجاسة، وجب عليه أن يستخلف كما إذا ذكر أنه على غير وضوء وأحدث؛ وقد قال ابن القصار: إن من رأى نجاسة في ثوبه- وهو في الصلاة وعليه ما تجزئه به الصلاة سواه، أنه يخلعه ويتمادى على صلاته، كما فعل النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في النعل الذي علم في الصلاة أن فيه نجاسة؛ وقد فرق بعض الناس بين الثوب والنعل، بأن النجاسة في أسفل النعل، فأشبه أن لو بسط عليها ثوبا أو جلدا، وهي تفرقة ضعيفة، والصواب أن ذلك تعارض بين الآثار؛ ولذلك اختلف أهل العلم في طهارة الثوب والبقعة، هل هو من فرائض الصلاة، أو من سننها- وبالله التوفيق.(2/81)
[مسألة: يدخل المكتوبة فيصلي ركعتين ثم يشك في أنه بقي عليه مسح رأسه]
من سماع سحنون وسؤاله أشهب وابن القاسم مسألة قال سحنون: وسئل أشهب عن الرجل يدخل المكتوبة فيصلي ركعتين، ثم يشك في أنه بقي عليه مسح رأسه، ثم يتم بقية صلاته، ثم يذكر بعد ذلك أنه قد أتم وضوءه، قال: صلاته باطل.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف قول ابن القاسم في أول رسم "بع" من سماع عيسى، وقد مضى هناك وجه قوله، ووجه قول أشهب هذا أن الصلاة واجبة عليه بطهارة، فلا يصح الدخول فيها، ولا التمادي عليها، إلا بطهارة متيقنة غير مشكوك فيها.
[مسألة: يأتي إلى القوم وهم في الصلاة فيدخل معهم فيها وقد صلاها في البيت]
مسألة قيل لأشهب فالرجل يأتي إلى القوم وهم في الصلاة فيدخل معهم فيها- وهو عند نفسه قد صلاها في البيت، فإذا فرغ من الصلاة مع الإمام، ذكر أنه لم يكن صلاها في البيت؛ قال: صلاته باطل، وعليه الإعادة.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما يأتي بعد هذا في هذا السماع من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وخلاف ما مضى أيضا في رسم "أسلم" من(2/82)
سماع عيسى، وقد مضى هناك من توجيه القولين ما أغنى عن إعادته ههنا.
[مسألة: يدخل يوم الجمعة وهو يرى أنه يوم الخميس]
مسألة قال أشهب في الذي يدخل يوم الجمعة- وهو يرى أنه يوم الخميس، أو يدخل يوم الخميس- وهو يرى أنه يوم الجمعة: أرى عليه الإعادة في الأمرين جميعا، قيل له: فإن كان مسافرا دخل مع قوم- وهو يظنهم مسافرين، فأصابهم حضريين، أو وهو يظن أنهم حضريون فأصابهم مسافرين؛ قال: صلاته في الأمرين جميعا مجزئة عنهم.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة موعبا في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: يدخل في الظهر فتتحول نيته وهو يظن أنه في نافلة]
مسألة قيل لأشهب في الذي يدخل في الظهر فتتحول نيته- وهو يظن أنه في نافلة، فيصلي ركعتين ويسلم، ثم يذكر بحضرة ذلك؛ قال: يبني، وصلاته تامة، وليس تحول النية بشيء؛ قال سحنون: قال لي يوسف بن عمرو: قلت له فإن تحولت نيته وظن أنه في عصر حتى صلى ركعتين؟ قال: صلاته مجزئة وليس تحول النية بشيء، وقال سحنون مثله.(2/83)
قال محمد بن رشد: لم يراع أشهب تحول النية في الصلاة وهو على روايته عن مالك في الذي ركع بالسجدة- ساهيا في رسم "لم يدرك" من سماع عيسى خلاف قول ابن القاسم فيه وفي رسم أسلم بعده، وقد مضى في الرسمين من الكلام في ذلك ما فيه كفاية لمن تدبره ووقف عليه.
[مسألة: الحائض تطهر فتغتسل وقد بقي عليها من النهار ما تصلي فيه ثلاث ركعات]
مسألة وسألت أشهب عن الحائض تطهر فتغتسل وقد بقي عليها من النهار ما تصلي فيه ثلاث ركعات، ثم تعلم قبل أن تصلي أن الماء غير طاهر، فإن اغتسلت ذهب النهار. قال: آمرها أن تصلي بهذا الغسل في الوقت، أحب إلي من أن تغتسل بماء طاهر فتصلي وقد ذهب الوقت؛ لأن الصلاة في الوقت في الثوب غير الطاهر خير من الصلاة بعد الوقت بثوب طاهر؛ قيل له: فإن طهرت وقد بقي عليها من النهار قدر ما تصلي فيه خمس ركعات عند نفسها، فصلت الظهر ثم غابت الشمس؛ قال: أخطأت في التقدير، وإنما كان عليها أن تصلي العصر، فعليها أن تعيد العصر أربع ركعات، قيل لأشهب: فإن ظنت أنه إنما بقي عليها أربع ركعات، فبدأت بالعصر ففرغت وقد بقي عليها من النهار قدر ما تصلي فيه ركعة؛ قال: تصلي الظهر وليس عليها إعادة العصر؛ لأن الظهر والعصر كانتا عليها جميعا؛ وإنما ذلك بمنزلة من صلى العصر، ونسي الظهر ثم ذكر قبل مغيب الشمس بقدر ما يصلي ركعة أو أربع ركعات قبل غروب الشمس، فليس عليه إعادة العصر، ولو بقي عليه من النهار قدر خمس ركعات، صلى الظهر(2/84)
وأعاد العصر، فكذلك مسألة الحائض قيل لأشهب: فإن نسي الصبح، ثم ذكر قبل مغيب الشمس بقدر ما يصلي ركعة ولم يكن صلى العصر ابتدأ بالعصر، قال: يبدأ بالصبح- وإن غربت الشمس، وهو قول مالك.
قال محمد بن رشد: قوله في الحائض التي تطهر فتغتسل بماء غير طاهر- وقد بقي من الوقت ما تصلي فيه ثلاث ركعات، أنها تصلي بهذا الغسل؛ لأن الوقت يفوتها- إن لم تصل حتى تعيد الغسل بماء طاهر معناه أن الماء الذي تطهرت به لم يتغير أحد أوصافه بما حل فيه من النجاسة، فهو ماء مختلف في طهارته، لا تجب الإعادة على من تطهر به إلا في الوقت استحبابا فهو ماء تصح به الصلاة، ولو لم تصل به واغتسلت بماء طاهر، فذهب الوقت، لوجب على قياس قوله- أن تصلي بعد ذهاب الوقت؛ لأن الصلاة قد كانت وجبت عليها قي الوقت بذلك الغسل، خلاف قول ابن القاسم في رسم "كتاب السهو" من سماع أصبغ فيها وفي المغمى عليه، وإن علما قبل أن يصليا، أعادا الغسل والوضوء، وعملا على ما بقي لهما بعد فراغهما، ولم ينظر إلى الوقت الأول، إلا أن تحمل رواية أصبغ على أن ذلك الماء قد تغير أحد أوصافه بالنجاسة، والأظهر أنه إنما تكلم على الماء الذي لم تغيره النجاسة، فحكم له بحكم الماء الذي غيرته النجاسة، وذلك على قياس قوله في المدونة أنه يتيمم ولا يتوضأ به؛ فهو خلاف لقول أشهب هذا، وقياسه مسألة الحائض تظن أنه إنما بقي من الوقت أربع ركعات بعد ظهرها، فتصلي العصر ويبقى من الوقت ركعة على الذي يصلي العصر- وهو ناس للظهر، ثم يذكر ولم يبق بينه وبين المغرب إلا مقدار ما يصلي فيه الظهر، أنه لا إعادة عليه للعصر، صحيح، والمعنى الجامع بينهما، أن كل واحد منهما صلى العصر- وهو يظن أن الظهر غير(2/85)
واجبة عليه- وإن افترق موجب ظنهما؛ لأن الحائض ظنت أنها لم يجب عليها باعتقادها أنها طهرت بعد وقتها، والآخر ظن أنه لم يجب عليه اعتقاد أنه قد كان صلاها؛ ولمالك في كتاب ابن المواز في مسألة الحائض: أنها تعيد العصر بعد الغروب.
قال محمد بن المواز: وذلك عندنا- إذا علمت بالركعة قبل أن تسلم من العصر، فأما لو لم تعلم إلا بعد أن سلمت، فلا شيء عليها، إلا الظهر- وحدها فلم ير بين المسألتين فرقا؛ ويحتمل أن يفرق بينهما على مذهب من يرى أن الظهر تختص بأربع ركعات بعد الزوال، لا يشاركها فيها العصر؛ لأن ظهرها آخر الوقت أول الوقت لها، كزوال الشمس لسائر الناس، بخلاف الذي يؤخر الصلاة عن أول وقتها، فلما صلت العصر في الوقت المختص بالظهر على هذا القول، صارت كمن صلى الصلاة قبل وقتها، يجب عليه إعادتها أبدا، وهذا بين- والله أعلم؛ وأما قوله في الذي نسي الصبح فذكر قبل الغروب بمقدار ركعة، أنه يبدأ بالصبح، وإن فات وقت العصر، فذلك ما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب أن ترتيب الصلوات اليسيرة الفوائت مع ما هو في وقته واجب وجوب السنن؛ فإن بدأ بالعصر- جاهلا أو متعمدا، فقيل: لا إعادة عليه بعد خروج الوقت، وقيل: إنه يعيد لترك السنة- عامدا، وقيل: إنه إن بدأ بالعصر- وهو ذاكر للصبح- فلا إعادة عليه إلا في الوقت، وإن ذكر الصبح بعد أن دخل في العصر، أعادها أبدا، للحديث الذي جاء- وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من ذكر صلاة في صلاة، فسدت هذه عليه» - وهو مذهبه في المدونة.(2/86)
[مسألة: دخل المسجد فوجد الإمام ساجدا في آخر صلاته فأحدث الإمام فقدمه]
مسألة وقال أشهب في رجل دخل المسجد فوجد الإمام ساجدا في آخر صلاته، فأحدث الإمام، فقدمه فصلى بهم السجدة التي بقيت عليهم، ثم تشهد بهم وقام يتم لنفسه صلاته، فلما أتم ما عليه سلم بالقوم، أن صلاة القوم الذين وراءه فاسدة؛ لأنه صلى بهم سجدة لا يعتد بها، ولا يبنى عليها.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والاختلاف فيها، وتوجيهه في رسم "باع شاة" من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته ههنا.
[مسألة: أتي المسجد فوجد الإمام قد سبقه بركعة فأحدث الإمام فقدمه]
مسألة قال سحنون: سئل ابن القاسم عن رجل أتي المسجد فوجد الإمام قد سبقه بركعة، فأحدث الإمام فقدمه، فلما قام يقضي لنفسه، قام رجل فائتم به في تلك الركعة؛ لأنه بقيت عليه كما بقيت على الإمام، قال: أرى صلاته مجزئة تامة، ثم رجع فقال: أحب إلي أن يعيد الصلاة.
قال محمد بن رشد: إنما اختلف قوله في وجوب الإعادة من أجل أنه صلى بإمام ما وجب عليه أن يصلي- فذا، وقد مضى ذكر ذلك والاختلاف فيه في رسم "لم يدرك"، ورسم إن خرجت من سماع عيسى، ويأتي في سماع موسى بن معاوية أيضا.(2/87)
[مسألة: يصلي في بيته ثم أتي المسجد فدخل معهم فصلى ركعة ثم انتقض وضوؤه]
مسألة قلت له: فالرجل يصلي في بيته ثم يأتي المسجد فيجد تلك الصلاة قد قامت، فدخل معهم للحديث، فصلى ركعة ثم انتقض وضوؤه، قال: لا إعادة عليه. وكذلك لو دخل على غير وضوء لا إعادة عليه، وكذلك قال لي مالك؛ قال: وإذا صلى في بيته صلاة على غير طهر- وهو لا يدري، ثم توضأ فوجد الناس يصلونها، فدخل معهم للحديث، رأيتها مجزئة، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: قوله في المسألة الثانية إن صلاته مجزئة، خلاف ما تقدم لأشهب في أول هذا السماع، وقد مضى في رسم "أسلم" من سماع عيسى ذكر الخلاف في المسألتين جميعا، وتوجيه ذلك، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يكون عليه صلوات كثيرة فيذكر قبل صلاة الظهر]
مسألة قال سحنون: قال ابن القاسم في الذي يكون عليه صلوات كثيرة- عشر صلوات، أو نحو ذلك، أو أكثر، فيذكر قبل صلاة الظهر؛ قال: إن كان يقدر أن يصلي ما ذكر قبل أن تغيب الشمس وتفوت الظهر والعصر، وذلك أن الناس مختلفون، منهم من يقوى ومنهم من لا يقوى؛ فليصل ما ذكر ثم ليصل الظهر والعصر، وإن كان لا يقدر ويخاف فوات ذلك، فليبدأ بالظهر فليصلها، ثم ليصل العصر، فإن فرغ وبقي عليه نهارا، أعاد الظهر والعصر؛ لأنه أساء التقدير، وإن كانت الصلوات يسيرة مثل(2/88)
الصلاتين، والثلاث، ونحو ذلك، وما قل؛ فليبدأ بما ذكر- وإن ذهب وقت الصلوات التي هو فيها.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف فيمن ذكر صلوات كثيرة، أنه يبدأ بما هو في وقته من الصلوات قبلها، إلا أن يدرك بعد أن يصليها- ما هو في وقته من الصلوات؛ إلا أنه اختلف في حد الوقت في ذلك، فمال ابن حبيب: إنه يبدأ بالفوائت- ما لم يفته وقت الاختيار فيما هو في وقته.
وقال ابن القاسم في مختصر يحيى بن عمر: ما لم تصفر الشمس، وقال في هذه الرواية ما لم تغب الشمس، وكذلك لا اختلاف أيضا في الصلوات اليسيرة، أنه يبدأ بها- وإن فاته وقت ما هو في وقته من الصلوات؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها، فليصلها كما كان يصليها في وقتها» . ولا اختلاف في ست صلوات فأكثر، إنها كثير، ولا في ثلاث صلوات فأقل، إنها يسير؛ واختلف في الأربع والخمس، فقيل: إن ذلك كثير- وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل: إن ذلك يسير- وهو قول ابن القاسم في آخر رسم "سن" من سماعه، وهو أظهر الأقوال، وقد مضى هناك وجهه؛ وقيل: إن الأربع يسير، والخمس كثير- وهو قول سحنون، وظاهر هذه الرواية- وبالله التوفيق.
[مسألة: ذكر صلوات يسيرة يخاف ذهاب وقتها]
مسألة قلت له: أرأيت إن ذكر صلوات يسيرة: صلاة، أو ثلاث صلوات في صلاة، يخاف ذهاب وقتها، فتعمد فصلى الصلاة التي هو فيها وترك القضاء، ثم أخذ يقضي فلم يفرغ حتى خرج وقت الصلاة(2/89)
التي ذكر هؤلاء الصلوات فيها، قال: لا يعيد وقد تمت المكتوبة.
قال محمد بن رشد: إذ قد قال: (إنه) لا يعيدها بعد خروج الوقت، وإن ذكر الصلوات اليسيرة فيها فأحرى ألا يعيدها بعد خروج الوقت إذا ذكر الصلوات اليسيرة قبل ابتدائه بها، وقد قيل: إنه يعيدها أبدا في الوجهين جميعا، وقد فرق بينهما وهو مذهبه في المدونة، وقد تقدم ذلك في هذا السماع.
[مسألة: يصلي بالطائفة الأولى في الخوف ركعة من المغرب فيدخل رجل في الثانية]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الإمام في صلاة الخوف يصلي بالطائفة الأولى ركعة من المغرب، ثم يدخل رجل في الركعة الثانية، قال: إذا صلى الإمام الركعة الثانية وقام فوقف، أتم القوم صلاتهم، ولا ينبغي للداخل أن يقضي- والإمام لم يفرغ؛ لأن الطائفة الأولى، إنما تتم صلاتها ولا تقضي.
قال محمد بن رشد: قال: إنه لا يقضي- والإمام لم يفرغ، ولم يبين ماذا يصنع، وقد اختلف في ذلك فقيل: إنه يصلي لنفسه الثالثة كما تفعل الطائفة الأولى التي هو منها، ثم يقف عن قضاء الركعة التي فاتته حتى يسلم الإمام، وإلى هذا ذهب ابن لبابة، وهو معنى ما ذهب إليه في الرواية؛ وقيل: إنه لا يصلي شيئا فيثبت جالسا حتى يسلم الإمام، وهذا يأتي على مذهب من يرى أنه يبدأ بالقضاء قبل البناء، والقضاء لا يكون قبل سلام الإمام؛ فإذا سلم الإمام على هذا القول، قام فقضى الركعة الأولى التي فاتته بأم القرآن(2/90)
وسورة، فتتم له ركعتان ويبني عليهما الثالثة، وقد قيل: إنه يصلي ركعتين قبل سلام الإمام- وهو أحد قولي سحنون؛ ووجهه أنه من الطائفة الأولى، فكما يصلي الثالثة قبل سلام الإمام؛ لأنه في حكم من خرج من صلاته، فكذلك يقضي الأولى قبل سلامه، وهذا القول أظهر من جهة القياس، وقيل: إنه يقف مع الإمام ولا يصلي شيئا حتى تأتي الطائفة الثانية، فيصلي معهم ويقضي الركعة الأولى بعد سلام الإمام. وهذا القول أضعف الأقوال، لدخوله مع الطائفة الثانية- وهو من أهل الطائفة الأولى، فيصير قد صلى الركعة الثالثة بإمام- وهو إنما وجب عليه أن يصليها- فذا، وقد مضى الاختلاف في ذلك في رسم "إن خرجت" من سماع عيسى.
[مسألة: يجعل الثوب على النار لمكان القمل]
مسألة قال سحنون: أكره أن يجعل الثوب على النار لمكان القمل، قال: ولا بأس به على الشمس، وخفف المهاميز تهمز به الدواب.
قال محمد بن رشد: إنما كره أن يجعل الثوب على النار لمكان القمل، لما جاء من النهي عن المثلة، وعن أن يعذب بعذاب الله، ولما روي أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» . وخفف المهاميز يهمز بها الدواب من أجل أنه لا يتأتى منها في أغلب الأحوال- مما أذن الله به من تسخيرها، والانتفاع بها إلا بذلك، وقد مضى هذا لسحنون أيضا في نوازله من كتاب الوضوء.(2/91)
[مسألة: يصلي المغرب في المسجد ويظن أن الناس قد صلوا ثم تقام الصلاة]
مسألة قلت: فالرجل يصلي المغرب في المسجد- ويظن أن الناس قد صلوا، فيصلي ركعة، ثم تقام الصلاة، أو ركعتين ثم تقام الصلاة، أو يقوم في الثالثة ويمكن يديه من ركبتيه، إلا أنه لم يرفع رأسه ثم تقام الصلاة؛ قال: أما إذا صلى ركعة ثم أقيمت الصلاة، فإنه يضيف أخرى ويسلم ويدخل مع القوم؛ وإن كان قد صلى ركعتين ثم أقيمت الصلاة، سلم ودخل مع القوم؛ وإن أقيمت وقد أمكن يديه من ركبتيه في الثالثة ولم يرفع رأسه، رفع رأسه وتشهد فخرج من المسجد ووضع يده على أنفه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول في هذه المسألة في آخر رسم "نقدها" من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: قراءة الظهر والعصر التي يسر فيها إن حرك لسانه ولم يسمع أذنيه]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن قراءة الظهر والعصر التي يسر فيها إن حرك لسانه ولم يسمع أذنيه، قال: يجزئه، ولو أسمع شيئا، لكان أحب إلي.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا حرك لسانه بالقراءة، فقد قرأ، وإسماعه نفسه أرفع مرتبة في قراءة السر من ألا يسمع نفسه؛ فلذلك استحب أن يسمع نفسه، كما يستحب فيما شرع فيه الجهر أن يرفع صوته؛ ولا يكتفي بأقل مما يقع عليه اسم جهر، وسيأتي في سماع موسى بن معاوية مسألة من نحو معنى هذه- إن شاء الله.(2/92)
[مسألة: النصراني يسلم فيتوضأ ويصلي ولا يغتسل يجهل ذلك]
مسألة وسألت ابن القاسم عن النصراني يسلم فيتوضأ ويصلي ولا يغتسل- يجهل ذلك. قال: يعيد الصلاة- وإن خرج الوقت- إذا كان قد جامع، أو أجنب؛ قلت له: فإن تيمم ولم يجد الماء، أيجزئه التيمم- إذا لم ينو الجنابة؟ قال: يجزئه؛ لأنه إنما تيمم للإسلام. - يريد بذلك الطهر، فهو يجزئه، وكذلك إذا اغتسل ولم ينو الجنابة؛ لأنه نوى بالغسل الإسلام، فقد أراد الطهر من كل ما كان فيه.
قال محمد بن رشد: في قوله إذا كان قد جامع أو أجنب، دليل بين ظاهر على أنه لو لم يجامع ولا أجنب، لما وجب عليه غسل إذا أسلم، وإن كان رجلا قد تجاوز سن البلوغ، وهو صحيح في المعنى، مفسر لجميع الروايات في المدونة وغيرها؛ وقد روى ابن وهب عن مالك أنه لا غسل على النصراني إذا أسلم، وهو بعيد في المعنى، خارج عن الأصول والقياس، وقد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في سماع موسى بن معاوية من كتاب الوضوء.
[مسألة: يحرم مع الإمام إحراما واحدا معا]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يحرم مع الإمام إحراما واحدا معا، أترى أن يجزئه عنه؟ قال: أرى أن يجزئه عنه، ولو أحرم بعده، كان أجزأ وأصوب.(2/93)
قال محمد بن رشد: قوله إذا أحرم مع الإمام معا أنه يجزئه، هو مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة، وقول ابن عبد الحكم؛ وقد قيل: إنه لا يجزئه، وهو قول مالك في المجموعة، وقول أصبغ، وإليه ذهب ابن حبيب - وهو الأظهر، لقوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا» - الحديث. إذ الفاء توجب التعقيب، فإذا لم يتقدمه الإمام بالابتداء بالتكبير للإحرام، فلم يأتم به؛ وهذا الاختلاف إنما هو إذا ابتدأ تكبيرة الإحرام معه معا، فأتمها معه أو بعده؛ وأما إن ابتدأ بها قبله فلا تجزئه، وإن أتمها قبله قولا واحدا؛ وإن ابتدأ بها بعده فأتمها معه أو بعده، أجزأه قولا واحدا؛ والاختيار ألا يحرم المأموم إلا بعد أن يسكت الإمام- قاله مالك، فإن أحرم معه معا، كان الاختيار له أن يعيد الإحرام، فإن لم يفعل، دخل في الاختلاف المذكور، وحكم السلام في ذلك على المذهب حكم الإحرام، يجري على التفصيل الذي ذكرناه؛ لقوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم» . فكما لا يجوز أن يحرم بالصلاة قبل إمامه، فكذلك لا يجوز أن يتحلل منها قبله، خلافا لمن لا يوجب السلام من أهل العراق.
[مسألة: يجعل في بيته محرابا حنيته مثل حنية المسجد]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يجعل في بيته محرابا حنيته مثل حنية المسجد، قال: ليس بالمحراب في المساجد ولا في البيت بأس.
قال محمد بن رشد: أما جواز الفعل، فلا إشكال فيه، ولا وجه للسؤال عنه؛ وإنما موضع السؤال إذا فعل ذلك، هل يتحرم المحراب بحرمة(2/94)
المسجد، ويرتفع ملكه عنه أم لا؟ إذ من أهل العراق من ذهب إلى أنه من بنى في داره مسجدا، وخلى بين الناس وبينه حتى صلوا فيه صلاة واحدة، أنه يتحرم بذلك بحرمة المسجد، ويرتفع ملكه عنه؛ واحتج على من ذهب إلى أنه لا يتحرم بحرمة المسجد إذا كان في دار يغلق بابها عليه، ويحول بين الناس وبينه في حال ما، - بما روي أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر بالمساجد أن تبنى في الدور وتطيب» ، أو كما قال. وهذا لا حجة فيه، لاحتمال أن يكون أراد خلال الدور، لا داخلها؛ لأن الدور المجتمعة لقوم تسمى دارا، قال تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ} [هود: 65] . ومنه الحديث: «خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بلحرث، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير» . قال: هذا بعض من تكلم على معنى الحديث، والذي أقول به على ظاهره: أن من بنى مسجدا في داره أو محرابا للصلاة، فإنه يتحرم بحرمة المسجد في أن ينزه بما تنزه عنه المساجد، دون أن يرتفع ملكه عنه، ما لم يخرجه من غلق داره- وبالله التوفيق.
[مسألة: يتبخر بلحوم السباع]
مسألة قال ابن القاسم: لا بأس أن يتبخر بلحوم السباع إذا كانت ذكية، وإن كانت ميتة، فلم يكن يعلق دخانها بالثياب، كما يعلق الدخان دخان عظام الميتة، فلا بأس به، وأرجو أن يكون خفيفا، وإن كان يعلق بالثياب، فلا يعجبني.(2/95)
قال محمد بن رشد: حكم دخان لحوم الميتة حكم رمادها؛ لأنه جسمها استحال إلى الدخان بالنار، كما استحال به إلى الرماد؛ والاختلاف في طهارة ذلك، جار على الاختلاف في طهارة جلد الميتة المدبوغ؛ لأنه استحال بالدباغ عن صفة الميت الذي يتغير بالبقاء إلى صفة المتاع الذي لا يتغير به؛ ولذلك كره أن يتبخر بها إذا كان دخانها يعلق بالثياب؛ لأنه جسم الميتة المستحيل بالنار، والأظهر فيه من طريق القياس الطهارة؛ لأن الجسم الواحد تتغير أحكامه بتغيير صفاته، ألا ترى أن العصير طاهر، فإذا تغير إلى صفة الخمر، حرم ونجس؛ ثم إذا تغير إلى صفة الخل، حل وطهر؟ وهذا بين، وأما إجازته التبخير بلحوم السباع- إذا كانت ذكية، فهو مثل ما في المدونة من إجازة ذكاتها لجلودها. وفي ذلك اختلاف، وقد قال في سماع أشهب من كتاب الضحايا: إن الذكاة لا تعمل إلا فيما يؤكل لحمه.
[مسألة: المسافر يؤم المسافرين والمقيمين فيصلي بهم ركعة فيحدث]
مسألة وسئل ابن القاسم عن المسافر يؤم المسافرين والمقيمين، فيصلي بهم ركعة، فيحدث فيقدم مقيما فيتمادى بهم ويصلي أربعا، قال: صلاة الإمام تامة، ومن خلفه من المقيمين والمسافرين يعيدون في الوقت وبعده؛ لأنه لا يكون في صلاة واحدة إمامان، وإنما ينبغي للإمام المقيم، أن يتم الصلاة صلاة المسافر، ويقضي ما بقي عليه، ولا يكون فيه إماما.
قال محمد بن رشد: تعليله لإيجاب الإعادة أبدا على المقيمين والمسافرين جميعا، بأنه لا يكون في صلاة واحدة إمامان ليس ببين، وإنما العلة في إيجاب الإعادة على المسافرين أبدا، أنهم أتموا على خلاف ما أحرموا عليه من نية التقصير، وقد مضى في رسم "إن خرجت" من سماع عيسى، أنه(2/96)
لا إعادة عليهم إلا في الوقت، ومضى تحصيل الاختلاف في إتمام المسافر في أول سماع ابن القاسم؛ والعلة في إيجاب الإعادة أبدا على المقيمين، أنهم صلوا بإمام ما وجب عليهم أن يصلوه- فذا، وقد مضى الكلام على هذا المعنى (في رسم "لم يدرك") وفي رسم "إن خرجت" من سماع عيسى، ويأتي أيضا في سماع موسى بن معاوية - وبالله التوفيق.
[مسألة: مسافرا صلى بمقيمين ومسافرين فتعمد الصلاة بهم أربعا]
مسألة قلت لابن القاسم: فلو أن مسافرا صلى بمقيمين ومسافرين فتعمد الصلاة بهم أربعا، وتمادى معه المقيمون، قال: يعيد الإمام في الوقت، والمسافرون الذين خلفه- إن كانوا تعمدوا بتعمده، ونووا ذلك من أول، كانوا مثله؛ وإن كانوا نووا في أول ما عليهم ركعتين، فلما تمادى الإمام تمادوا معه، فأرى عليهم الإعادة في الوقت وبعده- وإن كانوا سهوا فتمادوا معه؛ وأما المقيمون فصلاتهم فاسدة، وعليهم الإعادة في الوقت وبعده؛ لأنه إن كان ساهيا فإنما عليه سجود سهو، ولا يجوز لهم أن يجتزئوا في الفريضة لهم بنافلة (الأول) وإن كان غير ساه، فقد تعمد فسادها عليهم؛ لأن ذلك لا يجزئه في الوقت.
قال محمد بن رشد: أما قوله في المسافرين إنهم إن كانوا تعمدوا بتعمده ونووا ذلك من أول، كانوا مثله؛ فصحيح لا اختلاف فيه. وأما قوله وإن كانوا نووا في أول ما عليهم ركعتين، فلما تمادى الإمام تمادوا معه، فأرى عليهم الإعادة في الوقت وبعده؛ فهو مثل ما تقدم له في المسألة التي قبل هذه؛ لأنه أتم على إحرامه بنية القصر. وأما قوله: وإن كانوا سهوا فتمادوا معه، فيحتمل أن يكون الكلام(2/97)
لا جواب له؛ ويحتمل أن يكون جوابه جواب المسألة التي قبلها لعطفها عليها، وهو أن عليهم الإعادة في الوقت وبعده، فإن كان الكلام لا جواب له، فالجواب فيه على تعليل قوله في إيجاب الإعادة على المقيمين أبدا بأنه إن كان ساهيا، فإنما عليه سجود سهو أن يسجدوا لسهوهم وتجزئهم صلاتهم، وإن كان جوابه جواب المسألة التي عطفها عليها، أن عليهم الإعادة في الوقت وبعده، فقد تناقض قوله في المسألة، وقال بخلاف تعليله فيها، والقولان معلومان لابن القاسم فيمن زاد في صلاته مثل نصفها- ساهيا، وقد مضى توجيهها جميعا في رسم "إن أمكنتني" من سماع عيسى. وقوله: ولا يجوز لهم أن يجتزئوا في الفريضة بنافلة الإمام، يريد بما صلى على طريق السهو، صحيح على أصله في أن من صلى خامسة سهوا، ثم ذكر سجدة من أول صلاته، أنه يأتي بركعة ولا يعتد بما صلى على السهو، وعلى ما ذهب إليه ابن نافع، وابن الماجشون، وسحنون، واختاره ابن المواز، أنه يعتد بما صلى على السهو، ينبغي أن يعتد المقيمون بالركعتين اللتين صلاهما بهم المسافر- ساهيا، وهو منصوص لابن كنانة. وأما قوله: وإن كان غير ساه، فقد تعمد فسادها عليهم؛ لأن ذلك لا يجزئه في الوقت، فهو تعليل غير صحيح؛ لأنه إذا لم يجب على الإمام الإعادة بما تعمد من فسادها إلا في الوقت، فأحرى ألا يجب ذلك عليهم، إلا في الوقت، وهو قول مالك في رسم "الصلاة" الأول من سماع أشهب في بعض الروايات: أنهم يعيدون في الوقت كالإمام، وإنما العلة في أنهم يعيدون في الوقت وبعده، أنهم صلوا بإمام ما يجب عليهم أن يصلوه- فذا، وقد قيل: إنه لا إعادة عليهم في الوقت ولا غيره على الاختلاف في هذا الأصل، وقد مضى ذلك في المسألة التي قبل هذه.
[مسألة: يصلي مع الإمام في رمضان إشفاعا ثم ينقلب ويرجع فيجد الإمام في الوتر]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يصلي العتمة مع الإمام(2/98)
في رمضان، ويصلي معه إشفاعا ثم ينقلب، ثم يرجع ويجد الإمام في ركعة الوتر، فيقول: قد ركعت، والوتر إنما هي واحدة، فأنا أدخل معه وأحتسب بها فيجزئني فيدخل، قال: لا أحب له أن يعتد بها، وأحب إلي أن يشفعها بركعة ثم يوتر؛ قلت له: فإن فعل، قال: فإن فعل، فالوتر ليست بواجبة.
قال محمد بن رشد: قد مضى لابن القاسم مثل هذا في رسم "لم يدرك" من سماع عيسى، وزاد فيه أن الإمام إن كان ممن لا يسلم، أضاف إليها ركعتين بغير سلام، ومضى في آخر الرسم الأول من سماع أشهب خلافه، فتدبر الكلام على ذلك في الموضعين، فقد مضى فيهما مستوعبا.
[مسألة: الإمام يصلي من صلاة الخوف ركعة ثم ينكشف الخوف]
مسألة قال ابن القاسم في الإمام يصلي من صلاة الخوف ركعة، ثم ينكشف الخوف، قال: يتم الصلاة بمن معه ويصلي بالأخرى إمام آخر، ولا أحب لهم أن يصلوا مع هذا الإمام الذي ابتدأ صلاة الخوف، ثم سألته بعد ذلك فقال: لا أرى بأسا أن يصلوا معه الركعة الثانية، وهو أحب إلي - وترك قوله الأول فيها.
قال محمد بن رشد: لا معنى لما كره من ذلك، والقول الذي رجع إليه هو الصواب؛ لأن الطائفة الثانية في دخولهم مع الإمام في الركعة الثانية إذا انكشف الخوف، كمن فاته بعض صلاة الإمام في غير خوف، وإنما الذي لا يجوز أن يصلي رجل من الطائفة الأولى الركعة الثانية مع الإمام إذا صلاها بالطائفة الثانية مع تمادي الخوف، فإن فعل ذلك، جرى على الاختلاف فيمن صلى بإمام ما وجب عليه أن يصليه- فذا، فاشتبهت عليه المسألتان- والله أعلم.
[مسألة: الإمام سها عن القراءة حتى ركع]
مسألة وسألت ابن القاسم عن مثل الذي أصاب إمام الإسكندرية من(2/99)
سهوه عن القراءة حتى ركع، أرأيت لو اطمأن راكعا، أكنت ترى أن يمضي كما يمضي الذي ينهض من اثنتين فيعتدل قائما؟ قال: لا أرى ذلك مثله، وأرى له أن ينصرف فيقوم ثم يركع ويسجد لسهوه بعد السلام.
قال محمد بن رشد: لابن القاسم في كتاب ابن المواز أنه يقطع، وقال أصبغ: إنه يتمادى ويعيد، وقد مضى القول على هذه المسألة مجودا في رسم "أوصى أن ينفق" من سماع عيسى، فقف عليه هناك- وبالله التوفيق.
[مسألة: يعطس وهو يبول أو وهو على حاجته أيحمد الله]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يعطس وهو يبول، أو وهو على حاجته، أيحمد الله؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قد روي عن ابن عباس أنه قال: يكره أن يذكر الله على حالتين على خلائه وهو يواقع أهله؛ والدليل لقول ابن القاسم من جهة الأثر، ما روي من أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا دخل الخلاء، قال: أعوذ بك من الخبث والخبائث» . وما روي عن عائشة أنها قالت: «كان رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكر الله في كل أحيانه» . ومن طريق النظر، أن ذكر الله يصعد إلى الله، فلا يتعلق به من دناءة الموضع شيء.
قال الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] . - فلا ينبغي أن يمتنع من ذكر الله على حال من الأحوال، إلا(2/100)
بنص ليس فيه احتمال، ومن ذهب إلى ما روي عن ابن عباس، تأول ما روي من أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا دخل الخلاء، قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» . - على أن معنى ذلك، كان إذا أراد أن يدخل الخلاء، وأظن ذلك يوجد في بعض الآثار، وإن ثبت ذلك، فأكثر ما فيه ارتفاع النص في جواز ذكر الله على تلك الحال، لا المنع من ذلك؛ وإذا لم يثبت الحظر والمنع في ذلك، وجب أن يكون مطلقا على الأصل في جواز الذكر عموما، وما روي من «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر عليه رجل- وهو يبول فسلم عليه، فقال: إذا رأيتني على هذه الحال، فلا تسلم علي، فإنك إن فعلت لم أرد عليك» ، لا دليل فيه على أن ذكر الله لا يجوز على تلك الحال؛ إذ قد يحتمل أن يكون- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك رد السلام على من سلم عليه في تلك الحال- بعد أن نهاه عن ذلك- أدبا منه (له) على مخالفته نهيه؛ لكونه على تلك الحال، أو لكونه على غير طهارة على ما كان عليه في أول الإسلام من أنه لا يذكر الله إلا على طهارة، حتى نسخ ذلك- على ما روي بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]- الآية.
[مسألة: نسي صلاة ولم يذكرها حتى صلى الجمعة مع الإمام]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل نسي صلاة الصبح- ولم يذكرها حتى صلى الجمعة مع الإمام، قال: يصلي الصبح ويعيد الجمعة ظهرا أربعا.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها - موعبا - في رسم "القطعان" من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته.(2/101)
[مسألة: يصلي بالماء الذي ولغ فيه الكلب]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك كل ما كان من الصلاة لا تعاد بعد أن تصلى، يكره للمرء أن يصلي به فصلى وجهل، لم يؤمر بالإعادة في الوقت؛ فهو إذا ذكره وهو في الصلاة، لم تفسد عليه صلاته، ومضى عليه مثل أن يصلي الرجل بالماء الذي ولغ فيه الكلب، أو يصلي بالدم القليل، أو ما أشبه هذا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المكروه ما تركه أفضل، ولا إثم فيه ولا حرج؛ فإذا افتتح الصلاة بشيء من ذلك جهلا ثم علم به بعد دخوله فيها، لم ينبغ له أن يقطعها، لقوله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] .
[مسألة: يقول في تكبيرة الإحرام الله أعظم الله أعز]
مسألة وسئل سحنون عن الذي يقول في تكبيرة الإحرام الله أعظم، الله أعز، الله أجل؛ قال: صلاته فاسدة، ويعيد في الوقت وبعده، لا يجزئ من تكبيرة الإحرام إلا الله أكبر، ولا من السلام إلا السلام عليكم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو أمر متفق عليه في مذهب مالك: أنه لا يجزئ في الإحرام إلا الله أكبر؛ لقوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تحريم الصلاة التكبير» ؛ ولقوله «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر(2/102)
فكبروا» . ولفظ التكبير إذا أطلق لا يقع على ما سوى الله أكبر مع الإجماع على العمل بذلك، دون خلاف يؤثر فيه منذ زمن النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلى اليوم؛ فلا يجزئ الإحرام بغير لفظ التكبير، ولا بالتكبير على خلاف صفة الله أكبر؛ خلافا لأبي حنيفة في الوجهين، وللشافعي في قوله: إنه يجوز في الإحرام الله أكبر، فخالفا الإجماع المنعقد قبلهما- إلى غير قياس صحيح، أما أبو حنيفة فساوى في الإحرام بين التكبير، والتسبيح، والتهليل، والتحميد، ومعانيها مفترقة؛ ألا ترى أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سبح دبر كل صلاة- ثلاثا وثلاثين، وكبر ثلاثا وثلاثين، وحمد ثلاثا وثلاثين، وختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، غفرت ذنوبه- ولو كانت مثل زبد البحر» .
فلو كانت معانيها متفقة، لقال من سبح دبر كل صلاة، أو كبر، أو هلل، أو حمد، مائة، غفرت ذنوبه- ولو كانت مثل زبد البحر. وأما الشافعي فساوى في التكبير بين الله أكبر، والله الأكبر، وأجاز الإحرام بكل واحد منهما، ولم يجز فيه الله الكبير، فجمع بين الله أكبر، والله الأكبر- وإن كانت معانيها مفترقة؛ لأن الله أكبر أبلغ في المدح من قولك: الله الأكبر؛ لأنه أجل في القصد إلى الوصف بأنه أكبر من غيره؛ لأن الله أكبر جملة تامة- ابتداء وخبر مفيدة بأن الله أكبر مما سواه، لا يحتمل الكلام غير ذلك؛ والله الأكبر، يحتمل أن يريد قائله به الله هو الأكبر، فيكون قد قصد بكلامه إلى الإخبار بأن الله أكبر مما سواه، كقوله الله أكبر- سواء؛ ويحتمل ألا يريد به ذلك، فيجعل الأكبر صفة الله، ويضمر الخبر فيكون إنما قصد إلى استشعار الخبر الذي أضمره، لا إلى أن الله أكبر من غيره؛ وإن كانت الصفة دالة على ذلك، مثل أن يريد الله الأكبر هو الذي هداني إلى الإسلام، ووفقني لفعل الصلاة؛ وليس ما يقتضيه الكلام مما لم يقصد إليه كمثل ما قصد إليه؛ ووجه(2/103)
ما ذهب إليه الشافعي أن بناء الله الأكبر كبناء الله أكبر- سواء، إلا أن الألف واللام زيدت للتعظيم، فكان ذلك بخلاف الله أكبر، لاختلاف البناء والمعنى جميعا؛ لأن الله أكبر، أبلغ في المدح من الله الكبير، وهذا كله بين. وقوله: إنه لا يجزئ من السلام إلا السلام عليكم، هو مثل ما في المدونة، وقد وقع في أول رسم من سماع أشهب في بعض الروايات: يقول سلام عليكم، سلام عليكم- دون معرف بالألف واللام، وذلك خلاف لقول سحنون هذا، ولما في المدونة.
[مسألة: صلى بالطائفة الثانية في الخوف فلما جلس ذكر سجدة نسيها]
مسألة قال سحنون: سألت ابن القاسم عن الإمام في صلاة الخوف؛ إذا صلى بالطائفة الأولى ركعة، ثم ثبت قائما وأتم القوم ومضوا، ثم أتت الطائفة الثانية فصلى بهم ركعة، فلما جلس ذكر سجدة نسيها لا يدري من الأولى أو من الثانية؟ قال: يسجد سجدة وتسجد معه الطائفة الثانية، ثم يقوم ويثبت قائما، وتصلي الطائفة التي معه بقية الركعة الثانية تمام صلاتهم- وحدانا، لا يؤمهم أحد، ويسجدوا بعد السلام، وتأتى الطائفة الأخرى فيصلي بهم الإمام هذه الركعة (التي احتاط بها، ثم يقعد ويسلم، ويسجد للسهو، وتقوم الطائفة الأولى فتتم ركعتها لأنفسها، فإن كانت السجدة التي نسي الإمام من الركعة الأولى، فقد كانت صلاتهم باطلة، وهذه التي صلوا مع الإمام، هي أول صلاتهم، وهي فريضة؛ وإن كانت سجدة من الركعة)(2/104)
الثانية التي كان فيها الإمام قاعدا، فقد كانت صلاتهم تامة، وهذه التي صلوا مع الإمام نافلة.
قال محمد بن رشد: قوله وتسجد معه الطائفة الثانية، معناه إن شكت بشك الإمام، فتصح لها الركعة وتصير هي الطائفة الأولى، لاحتمال أن تكون السجدة من الركعة الأولى، فتكون قد بطلت، وصارت الثانية هي الأولى، وقد قيل إنهم يعيدون، لاحتمال أن تكون السجدة من الركعة الثانية، فتصح صلاة الأولين بصحة الركعة الأولى، ويكون هؤلاء هم الطائفة الثانية- على حالهم- وقد سلموا قبل إمامهم، وهو قول ابن عبدوس، ولو أيقنوا بسلامة الركعة التي صلوا معه، لما سجدوا معه سجدة التحري- على ما لابن القاسم في رسم "باع شاة" من سماع عيسى، ولا وجبت عليهم إعادة باتفاق، لتحققهم أنهم قد صاروا هم الطائفة الأولى؛ وذلك إن كانت الطائفة الأولى تشك في السجدة بشك الإمام، أو توقن بإسقاطها، وأما إن كانت لا تشك في أنها سجدت سجدتين فصلاتهم تامة، ويقضي الإمام تلك الركعة- وحده- قبل أن تقوم الطائفة الثانية التي معه لقضاء ركعتهم، ثم يسلم بهم - وبالله التوفيق.
تم كتاب الصلاة الرابع
بحمد الله وحسن عونه(2/105)
[كتاب الصلاة الخامس]
[مسألة: الكتابة في القبلة بالصبغ شبه آية الكرسي أو نحوها]
كتاب الصلاة الخامس من سماع موسى بن معاوية الصمادحي من ابن القاسم
مسألة قال موسى بن معاوية الصمادحي: سئل ابن القاسم عن المساجد هل يكره الكتاب فيها في القبلة بالصبغ شبه آية الكرسي أو نحوها من قوارع القرآن: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، والمعوذات، ونحوها؟
قال ابن القاسم: كان مالك يكره أن يكتب في القبلة في المسجد شيء من القرآن، أو التزاويق، ويقول: إن ذلك يشغل المصلي؛ قال: ولقد كره مالك أن يكتب القرآن في القراطيس، فكيف في الجدران؟(2/107)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من كراهية تزويق المسجد، والعلة في ذلك ما يخشى على المصلين من أن يلهيهم ذلك في صلاتهم؛ وقد مضى بيان هذا المعنى من الحديث في رسم "سلعة سماها"، ورسم "الشجرة تطعم بطنين في السنة " من سماع ابن القاسم، ومضى في رسم "سلف في حيوان" منه؛ وجه كراهية مالك لكتابة القرآن في القراطيس أسداسا وأسباعا، فكتاب شيء من القرآن في قبلة المسجد، مكروه عند مالك لوجهين، وقد خفف ذلك ابن نافع، وابن وهب في المبسوطة، وقول مالك أولى وأصح في المعنى.
[مسألة: ينزل الماء في عينيه فيريد أن يقدحهما]
مسألة قال: أخبرنا موسى بن معاوية الصمادحي، وسحنون، قالا: أخبرنا علي بن زياد أنه سأل مالكا عن الذي ينزل الماء في عينيه، فيريد أن يقدحهما، فيخبره الطبيب أنه إن قدحهما استلقى على ظهره ثلاثة أيام لا يقوم ولا يقعد؛ ما ترى أن يصنع؟ قال مالك: بل يقولون أربعين يوما، لا أدري ما هذا؟ وأبى أن يجيب فيه.
قال محمد بن رشد: قد أجاب في المدونة بأن ذلك مكروه، لا خير فيه. قال ابن القاسم - بعد هذا- (في هذا) السماع: فإن فعل، قام فصلى- وإن ذهبت عيناه. قال في المدونة: فإن لم يفعل وصلى إيماء أعاد أبدا في الوقت وبعده. وهذا على قياس قول مالك في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب في الذي يركب السفينة وهو لا يقدر على السجود فيها إلا على ظهر(2/108)
أخيه؛ لأن الأصل في ذلك واحد، فلم يعذره بالزحام ولا بالمرض الذي أصابه من قدح عينيه؛ لأنه هو الذي أدخل ذلك على نفسه باختياره، ولو شاء لم يفعل، وقد روى ابن وهب عن مالك أنه يجوز له أن يقدح عينيه ويصلي على قدر طاقته من الإيماء، وتجزئه صلاته؛ وهو قول جابر بن زيد من تابعي أصحاب رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد هذا في هذا السماع، ووجه ذلك القياس على ما أجمعوا عليه من أن للرجل أن يسافر- وإن علم أنه يعدم الماء في سفره فينتقل إلى التيمم، فكما يجوز له أن يسافر وإن أوجب ذلك عليه الانتقال من الوضوء إلى التيمم، فكذلك يجوز له أن يقدح عينيه وإن أوجب ذلك عليه الانتقال من الركوع والسجود إلى الإيماء.
والفرق بين الموضعين على القول الأول، هو أن التيمم بدل من الوضوء عند عدم الماء بنص القرآن، وليس الإيماء ببدل من الركوع والسجود؛ لأنه إذا أومأ فيهما فقد أتى ببعض الانحطاط إليهما، وترك تمامهما دون أن يأتي لما ترك من تمامها ببدل؛ فماله بدل إذا عجز عنه وجب عليه بدله، وما ليس له بدل- إذا عجز عنه سقط وبرئت منه ذمته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . فجاز فيما له بدل أن يفعل ما يضطره إلى البدل، وعلى هذا أجاز مالك لصاحب الحقن الشديد أن يفطر، ويتداوى إذا ألجأ إلى ذلك- وإن كان قادرا على الصيام وترك التداوي دون مرض يصيبه في ذلك- والله أعلم؛ ولم يجز فيما لا بدل له أن يفعل ما يضطره إلى ترك الفرض جملة، فهذا وجه القول الأول.
[مسألة: يصلي على العذرة اليابسة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يصلي على العذرة اليابسة أو الدم اليابس أو المكان القذر، مثل المزابل ونحوها - ولا يشعر، ثم يعلم(2/109)
بعد. قال مالك: يعيدها ما كان في الوقت. قال: وما يصيب الأرض من ذلك مثل ما يصيب الثوب.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب: أن من صلى بثوب نجس، أو على موضع نجس- وهو لا يعلم أعاد في الوقت، والوقت في ذلك إلى اصفرار الشمس؛ قال ابن المواز: فإن صلى به أو عليه- وهو لا يقدر على غيره- مضطرا إلى ذلك، أعاد إلى الغروب، وقد روي عن مالك أنه يعيد إلى الغروب في المسألتين جميعا، ومعنى ذلك أن يدرك الصلاة كلها قبل الغروب، وأما إذا لم يدرك قبل الغروب إلا بعضها، فقد فاته في هذه المسألة وقتها- والله أعلم. وأما إذا كان جاهلا أو متعمدا من غير ضرورة، فإنه يعيد أبدا، بدليل هذه الرواية، وهو المشهور في المذهب، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في رسم "المكاتب" من سماع يحيى، فقف على ذلك هناك، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: يصلي فيخطف رداؤه عنه]
مسألة قال: وسئل عن الرجل يصلي فيخطف رداؤه عنه، هل له أن يخرج ويقطع الصلاة ويطلب خاطفه، أم لا يقطع ويصلي ويدع رداءه يذهب؟ وعن الرجل يخاف على الشيء من متاع البيت السرق والحرق والفساد، مثل قلة الزيت، أو الماء، أو الخل، تقلب فيهراق ما فيها، هل يسعه أن يسويها ويرجع في صلاته؟ ومثل ذلك زقاق الزيت، أو الخل، ونحوه، يخاف عليها أن تنشق أو تنفسخ، أو يفسدها شيء- وهو يصلي، هل يصلح الزقاق ويربطها ويرجع في صلاته؛ أو يقطع صلاته ويستأنف؟ فقال ابن القاسم: إذا(2/110)
خطف ثوبه في الصلاة، فلا بأس أن يقطع ويذهب في طلب الذي أخذه، ويستأنف إذا رجع؛ وأما مالك فكان يكره نحوه، وذلك أني سألته عن الذي يكون في الصلاة فيرى الشاة تأكل الثوب، أو العجين؛ فقال: إن كان في فريضة، فلا يقطع؛ وأما الرجل يصلي وفي البيت قلة أو شيء يخاف عليه أن يهراق، فإن سألت مالكا عن الرجل يقرأ فيتعايا في قراءته، فيأخذ المصحف ينظر فيه - وهو بين يديه- فكرهه، فهذا مثله.
قال محمد بن رشد: قد تقدم الكلام على هذه المسألة في رسم "صلى نهارا ثلاث ركعات" من سماع ابن القاسم مجودا، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: سؤر الهرة]
مسألة قال الصمادحي: وحدثني عبد العزيز الدراوردي، «عن داود بن صالح، عن أمه قالت: بعثتني مولاتي بهريسة إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فجئت وهي تصلي- فأشارت إلي أن أضعها، فجاءت هرة فأكلت منها، فلما قضت الصلاة قالت لنسوة عندها كلن، قال: فأكلن واتقين موضع الهرة؛ فقالت: كلن فإني سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم» .
قال محمد بن رشد: زاد بعض الرواة في الحديث أنها قالت: «وقد رأيت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ بفضلها، وأنها دورتها ثم أكلت من حيث أكلت الهرة» . وهذا من فعل عائشة في أكلها من الموضع الذي(2/111)
أكلت منه الهرة، وأمرتهن بذلك، لما سمعته من النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مثل فعل أبي قتادة في حديث الموطأ: " إذ أصغى لها الإناء حتى شربت، ثم توضأ بسؤرها ". وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه في أن سؤر الهرة طاهر، إلا أن يوقن أنه كان في فيها أذى؛ خلافا لما ذهب إليه أبو حنيفة وغيره من أنه نجس، لما روي عن أبي هريرة من أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر، أن يغسل مرة أو مرتين» ، وهو حديث يوقفه بعض الرواة على أبي هريرة، ولم ير ذلك من ذهب إلى نصرة مذهب أبي حنيفة علة فيه، وضعف حديث أم داوود، لكونها غير معروفة عند أهل العلم بالحديث؛ وقال في حديث أبي قتادة: إنه ليس فيه طهارة سؤر الهرة إلا من فعل أبي قتادة؛ إذ قد يحتمل أن يكون أراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها ليست بنجس في كونها في البيوت ومماستها الثياب.
قال محمد بن رشد: أبو قتادة ألحن بمراد النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن بعده، ويحمل ما روي عنه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله أعلم.
[مسألة: صلى بقوم فمرت به حية أو عقرب]
مسألة وسئل ابن القاسم عن إمام صلى بقوم فمرت به حية، أو عقرب، فيقتلهما أو يرمي طيرا بحجر فيقتله، أو يأخذ قوسا فيرمي به صيدا فيقتله- عامدا غير ناس؛ قال ابن القاسم: خلائه كان مالك قتل الحية والعقرب في الصلاة. قال ابن القاسم: فإن فعل ولم يكن في ذلك شغل عن الصلاة، فلا شيء عليه؛ وكذلك قتل الحية، والطير- يرميه- لا شيء عليه في ذلك، وقد أساء في رميه الطير، ولا يفسد ذلك صلاته إلا أن يطول ذلك، فإن رماه بحجر يتناوله من الأرض، فلا شيء عليه- ما لم يطل ذلك.(2/112)
قال محمد بن رشد: قد روي عن النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من رواية أبي هريرة «أنه أمر بقتل الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب» . وهو حديث حسن من جهة الإسناد، والمعنى في ذلك عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا أراداه. وكذلك قال في أول سماع عبد الملك - بعد هذا- إنه لا يقتلهما إلا أن يريداه، فإذا أراداه، جاز له أن يقتلهما ويتمادى على صلاته، إلا أن يطول ذلك ويكثر الشغل به، فيبتدئ صلاته، وأما إذا لم يريداه، فلا ينبغي له- عنده- أن يشتغل بقتلهما في صلاته، فإن فعل فقد أساء، ويبني على صلاته، إلا أن يطول ذلك فيبتدئ، ومن أهل العلم من أجاز له أن يقتلهما- وإن لم يريداه على ظاهر الحديث، وذلك فيما أمر بقتله من الحيات وهن ذوات الطفيتين، والأبتر، وما سوى حيات المدينة، وعمار البيوت من غيرهن- على الاختلاف في النهي عن قتل عوامر البيوت؛ هل ذلك خاص بالمدينة، أو عام فيها وفي سواها؟ فأما ما سوى الحية والعقرب: من صيد، أو طير، أو ذرة، أو نملة، أو بعوضة، أو قملة؛ فلا اختلاف في أن قتل شيء من ذلك في الصلاة مكروه لا ينبغي، فإن فعل، لم تبطل صلاته إلا بما كان من ذلك فيه شغل كثير، وقال في الرواية إنه إن أخذ القوس فرمى به الصيد، أو تناول الحجر من الأرض، فرمى به الطير، لم تفسد صلاته- إذا لم يطل، وذلك إذا كان جالسا- والحجر أو القوس إلى جنبه، فتناولهما ورمى بهما، وأما لو كان قائما، فتناول الحجر، أو القوس من الأرض، ورمى بهما، لكان بذلك(2/113)
مبطلا لصلاته، وما مضى في رسم "صلى نهارا ثلاث ركعات" من تفسير المسألة المتقدمة قبل هذا، هو من هذا المعنى، فقف عليه وتدبره.
[مسألة: أفلت منه فرس فاتبعه حتى أخذه ورجع إلى مصلاه]
مسألة وحدثنا المسيب بن شريك، عن زياد بن أبي زياد، «عن الأزرق بن قيس، قال: كنا بشاطئ مهران، فجاء رجل على فرس له فنزل عنه يصلي، فأفلت منه فاتبعه حتى أخذه ورجع إلى مصلاه، فقال بعضنا: ما أهون على هذا صلاته، فسمع الرجل، فجاء فوقف بنا، فقال: قد سمعت قائلكم، سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إذا انفلتت دابة أحدكم- وهو يصلي- فليتبعها حتى يأخذها ويرجع إلى صلاته، لا يشتد عليه طلبها» .
قال محمد بن رشد: الرجل المذكور في الحديث، هو أبو برزة الأسلمي، وليس فيه بيان قدر ما اتبع فرسه إليه في قلة ذلك من كثرته، ولا إن كان رجع إلى مصلاه، فابتدأ صلاته من أولها أو بنى عليها، فإن كان أراد أنه رجع إلى مصلاه، فبنى على صلاته، فيحمل أمره على (أن) اتباعه إياه لم يكثر، إنما مشى إليه قليلا عن يمينه، أو عن يساره، أو أمامه، وإن كان أراد أنه قطع صلاته فاتبع فرسه حتى أخذه، ثم رجع إلى مصلاه فابتدأ صلاته؛ فالمعنى في ذلك أنه بعد عنه، أو صار خلفه، فاحتاج أن يستدبر القبلة إليه، وهذا هو قول مالك في المدونة أنه يقطع ويبتدئ- إن بعدت عنه دابته- قداما، أو يمينا أو شمالا، أو صارت خلفه، وهذا إذا كان في سعة من الوقت، وأما(2/114)
إذا كان في خناق (منه) فإنه يتمادى على صلاته- وإن ذهبت دابته، ما لم يكن في مفازة، ويخاف على نفسه إن ترك دابته حتى يصلي- على ما قالوا في الحاج يقبل إلى عرفة قرب الفجر- ولم يصل المغرب والعشاء؛ وهو إن مضى إلى عرفة وترك الصلاة أدرك الوقوف، وإن صلاهما فاته الوقوف والحج في ذلك العام، أنه يبدأ بالصلاة- وإن فاته الحج؛ لأنه قد يلزمه من النفقة والمؤنة في الحج- عاما قابلا أكثر من قيمة الدابة أضعافا، وهذا على القول بأن الحج على التراخي، وأما على القول بأنه على الفور، فهما فرضان قد تزاحما في وقت واحد، فالبداية بالوقوف أولى؛ لأن تأخير الصلاة التي يقضيها بالقرب، أولى من تأخير الحج الذي لا يقضيه إلى عام آخر، ولعل المنية تخترمه دون ذلك، - وبالله التوفيق.
[مسألة: أغلق الباب وهو في الصلاة]
مسألة وحدثني عن المسيب بن شريك، قال: حدثني محمد بن عبيد الله، عن عطاء، عن عائشة، قالت: «أتت هدية- والنبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) يصلي، وأنا نائمة، فكسلت أن أقوم فأفتح الباب، فمضى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى فتح الباب، ورجع إلى مصلاه؛ ثم خرج صاحب الهدية، فكسلت أن أقوم فأغلق الباب، فمضى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أغلق الباب ورجع إلى مصلاه» . - قال الصمادحي: وكانت نافلة.(2/115)
قال محمد بن رشد: قول الصمادحي إنها كانت نافلة صحيح، بدليل أن الفريضة إنما كان يصليها في المسجد بالناس لا في بيته، والمعنى في ذلك- والله أعلم- أن الباب كان في قبلته، وكان قريبا من مصلاه، فتقدم إليه في فتحه وغلقه، ثم رجع القهقرى إلى مصلاه في صلاته - دون أن يستدبر القبلة، وهذا جائز أن يفعل في النافلة، وفي الفريضة أيضا- إذا دعت إلى ذلك ضرورة، كالمسألة التي قبل هذه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[مسألة: صلى بمن معه ركعة فكلمه إنسان في حاجة وكلمه الإمام مجيبا له غير ساه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن إمام صلى بمن معه ركعة، فكلمه إنسان في حاجة، وكلمه الإمام مجيبا له غير ساه؛ هل تفسد صلاته وصلاة من خلفه؟ فقال ابن القاسم: يعيد ويعيدون، وكل ما تعمده الإمام مثل أن يحدث فينهض بهم في صلاتهم- عامدا، أو يكون جنبا فيتعمد الصلاة بهم، فإنه يعيد ويعيدون.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب مالك وأصحابه، أن الإمام إذا قطع صلاته- متعمدا، أو أحدث فيها متعمدا، أو تمادى فيها بعد حدثه متعمدا، أنهم بمنزلته فيما يجب عليه من الإعادة في الوقت وبعده، حاشا أشهب، وابن عبد الحكم، فإنهما ذهبا إلى أن الإمام إذا صلى بالقوم على غير وضوء- متعمدا، أو أحدث فتمادى بهم متعمدا- وهم لا يعلمون أنه لا إعادة عليهم، وقد مضى في رسم "يدير ماله" من سماع عيسى وجه قول أشهب، وابن عبد الحكم، وتفرقة ابن القاسم بين أن يحدث الإمام في أثناء صلاته، أو بعد التشهد الآخر، فيتمادى بهم- متعمدا حتى يسلم بهم؛ فقف على ذلك هناك.
[مسألة: صلى بقوم فنعس]
مسألة وسئل ابن القاسم عن إمام صلى بقوم فنعس في بعض صلاة النهار، حتى استثقل نوما، فلم يستيقظ حتى سبح به القوم، هل(2/116)
تنتقض صلاته وصلاة من خلفه، أم تنتقض صلاته- وحده؟ وهل يكون عليه وضوء النوم- وهو قائم؟ فقال ابن القاسم: هذا كله قريب، وليس عليه شيء- وإن طال ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن النوم ليس بحدث في نفسه، وإنما هو سبب للحدث، فلا ينتقض الوضوء منه، إلا ما يخشى إن كان منه حدث ألا يشعر به؛ والإمام إذا نام في صلاته فلا يبلغ هذا الحد دون أن يسبح به القوم، ولم يبين في الرواية على أي حال كان نومه؛ فإن كان في الركوع، أو السجود، فجوابه على القول بأن النوم في تينك الحالتين لا ينقض الوضوء إلا أن يطول، وقد مضى القول في تفصيل أحوال النائم في حال نومه في رسم "سن" من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الأمة تدخل في الصلاة وهي أمة ثم يدركها العتق وهي في الصلاة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الأمة تدخل في الصلاة- وهي أمة، ثم يدركها العتق- وهي في الصلاة، وليس عليها خمار ولا مقنعة، وليس عندها ولا قربها ثوب، أتمضي في الصلاة؟ أم تقطع وتستأنف؟ قال ابن القاسم: إذا كان قربها ثوب فأخذته فاستترت به، رجوت أن يجزئها، وأحب إلي- إن كانت صلت ركعة، أن تضيف إليها ركعة أخرى وتجعلها نافلة، وتبتدئ الصلاة؛ وكذلك لو لم يكن عندها ثوب إن أعتقت- وهي قد صلت ركعة، أضافت إليها أخرى وابتدأت الصلاة؛ وكذلك قال مالك فيما يشبهه في المسافر يصلي بعض(2/117)
الصلاة، ثم ينوي الإقامة؛ قال مالك: أحب إلي أن يعيد، فكذلك مسألتك؛ لأنها دخلت نيتان.
وسئل ابن القاسم عن المسافرة تصلي في ثوب وخمار أو مقنعة، فيطرح الريح خمارها أو مقنعتها عن رأسها، فتبعدها عنها، فإن اتبعتها انحرفت عن القبلة؛ أتمضي في صلاتها، أم تقطع؟ قال ابن القاسم: أما إذا كانت قريبا تتناوله فلا بأس به، وأما إذا تباعد ذلك، فإنها تسلم وتستأنف.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في رسم "استأذن" من سماع عيسى في الأمة تعتق في الصلاة، أو يأتيها الخبر بالعتق فيها- وهي مكشوفة الرأس، مستوعبا مستوفى، فلا وجه لإعادة القول في ذلك- هنا- مرة أخرى، وقد مضى أيضا في رسم "لم يدرك" منه تحصيل الاختلاف في المسافر ينوي الإقامة بعد أن دخل في الصلاة، فتأمله هناك؛ وأما مسألة المسافرة تدخل في الصلاة بقناع فيطرح الريح خمارها عنها، فهي مسألة صحيحة لا يدخلها من الاختلاف ما يدخل المسألتين المذكورتين، وإنما ساقها حجة لقوله في هذه الرواية: وكذلك حق ما جعل أصلا لما اختلف فيه أن يكون متفقا عليه.
[مسألة: إمام صلى بثوب واحد فلما ركع سقط الثوب]
مسألة وسئل ابن القاسم عن إمام صلى بثوب واحد- متوشحا به، فلما ركع سقط الثوب عن عاتقه إلى الأرض، وانكشف فرجه ودبره، فذهب ليأخذه ويتوشح به، فلم يقدر حتى رفع من الركعة، وعجل بالرفع قبل أن يتمها؛ ما ترى في صلاته وصلاة من خلفه؟(2/118)
وكيف الأمر في الركعة الناقصة هل تجزئه أم يعيدها؟ وكيف ينبغي أن يصنع حين رفع، أيرجع أم يعيد الركعة؟ وهل يضره سقوط الثوب عنه حين انكشف؟ فقال ابن القاسم: إذا أخذ ثوبه ساعتئذ، وإن رفع من الركعة قبل أن يأخذ ثوبه، فلا شيء عليه- إذا تقارب ذلك ولم يتباعد؛ قال سحنون: فإن نظر القوم إلى فرجه- منكشفا، أعاد الصلاة كل من نظر إليه- منكشفا، ولا شيء على من لم ينظر إليه.
قال محمد بن رشد: أجاز ابن القاسم صلاته ولم ير عليه شيئا- وإن انكشف فرجه ودبره فيها بسقوط ثوبه عنه- إذا أخذه بالقرب، وإن كان بعد أن رفع من الركعة قبل أن يتمها. - أي قبل أن يتمكن في ركوعها، ولو لم يأخذه بالقرب، لأعاد في الوقت على أصله في رسم "استأذن" من سماع عيسى، من أن ستر العورة من سنن الصلاة، لا من فرائضها؛ وسيأتي على القول بأن ذلك من فرائضها، أن يخرج ويستخلف من يتم بالقوم (صلاتهم) فإن لم يفعل وتمادى بهم، وإن استتر بالقرب فصلاته وصلاتهم فاسدة، وهو قول سحنون في كتاب ابنه، خلاف قوله ههنا، ولا شيء على من لم ينظر إليه. وأما قوله إنه يعيد كل من نظر إليه منكشفا، فمعناه إذا تعمد النظر إليه؛ لأنه بذلك مرتكب للمحظور في صلاته، ولأن من نظر إليه على غير تعمد، فهو بمنزلة من لم ينظر؛ إذ لا إثم عليه في ذلك ولا حرج، ويلزم على قوله أن تبطل صلاة من عصى الله في صلاته بوجه من وجوه العصيان، خلاف ما ذهب إليه أبو إسحاق التونسي من أنه لا تبطل صلاته بذلك، وقال: أرأيت لو سرق دراهم لرجل في صلاته، أو غصبه ثوبا فيها - وبالله التوفيق.(2/119)
[مسألة: صلى بقوم فمر به إنسان فأخبره بخبر يسره فحمد الله تعالى لذلك عامدا]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل صلى بقوم فمر به إنسان فأخبره بخبر يسره، فحمد الله تعالى لذلك عامدا، هل تفسد صلاته؟ أو يمر به إنسان فيخبره بمصيبة فيتوجع، أو يخبره ببعض ما يسوؤه فيقول: الحمد لله على كل حال، أو يسره حين سمعه فيقول: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، قال ابن القاسم: لا يعجبني، فإن فعل رأيت صلاته تامة؛ لأن مالكا قال: إذا عطس الرجل في الصلاة، يحمد الله ويخفيه في نفسه، وكان أحب إلى مالك ترك ذلك في الصلاة؛ فإن فعل لم تفسد صلاته، وكذلك الذي سألت عنه إن حمد الله لشيء أخبر به، أو استرجع لشيء أخبر به، فلا يعجبني، فإن فعل، رأيت صلاته تامة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المصلي ينبغي له أن يقبل على صلاته ولا يشتغل بما سواها من الإصغاء إلى من يخبره بما يسره فيحمد الله، أو يسوؤه فيتوجع؛ فإن فعل لم تبطل صلاته؛ لأن ذلك من ذكر الله؛ وقد رفع أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يديه في صلاته، وحمد الله على ما أمره به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أن يمكث في موضعه، إلا أن هذا قد أساء؛ إذ أصغى في صلاته إلى استماع ما يسره من أمور الدنيا، فحمد الله على ذلك، وترك ما هو آكد عليه من ذلك- وهو الإقبال على صلاته، وقد مضى ما يشبه هذا المعنى في موضعين من رسم "الصلاة" الثاني في نحو وسطه وقرب آخره- وبالله التوفيق.(2/120)
[مسألة: صلى فدخل عليه داره رجل فصاح به فسبح به]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل صلى فدخل عليه داره رجل فصاح به، فسبح به، فقال: سبحان الله- يريد بذلك أن يخبر صاحبه أنه يصلي، هل يفسد ذلك صلاته؟ قال ابن القاسم: التنحنح عند مالك شديد فكرهه، وأما التسبيح فلا بأس به- وإن تعمد بالتسبيح ليعلم صاحبه مكانه.
قال محمد بن رشد: أجاز التسبيح في الصلاة لما ينوبه فيها- وإن كان ذلك فيما لا يتعلق بإصلاحها، مثل ما في المدونة - سواء؛ ودليله قول النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «من نابه شيء في صلاته فليسبح» ؛ لأنه كلام قائم مستقل بنفسه، فيحمل على عمومه فيما يتعلق بإصلاح الصلاة، وفيما لا يتعلق بإصلاحها، ولا يقصر على ما يتعلق بإصلاحها- وإن كان الكلام خرج على ذلك السبب؛ وقد قيل: إنه يقصر على سببه، والأول أصح القولين في النظر. وقد اختلف فيما عدا التسبيح من ذكر الله، وقراءة القرآن- إذا رفع بذلك صوته لإنباه رجل، فلم ير ذلك أشهب كالكلام، ورآه ابن القاسم كالكلام، فأفسد به الصلاة؛ وانظر في تكبير المكبر في الجوامع، هل: يدخله هذا الاختلاف أم لا؟ والأظهر أنه لا يدخله؛ لأنه مما يختص بإصلاح الصلاة، ويشهد له حديث صلاة الناس بصلاة أبي بكر خلف النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه؛ وأما إنكاره للتنحنح في الصلاة، فهو مثل ما مضى له في رسم "البز" من سماع ابن القاسم، وقد تقدم القول على ذلك هناك.(2/121)
[مسألة: امرأة صلت في صف من صفوف الرجال]
مسألة وسئل ابن القاسم عن امرأة صلت في صف من صفوف الرجال: عن يمينها رجل، وعن يسارها رجل، ومن ورائها رجل؛ هل تفسد صلاة هؤلاء الثلاثة؟ فقال ابن القاسم: لا تفسد صلاتهم. قال موسى بن معاوية: وسئل ابن القاسم عن إمام صلى- وخلفه رجال ونساء، فدخل قوم آخرون فلم يجدوا سعة إلى صفوف الرجال من كثرة النساء، فصلوا من وراء النساء، هل تفسد صلاتهم؟ قال ابن القاسم: قال مالك: لا تفسد صلاتهم- وإن كان النساء بين أيديهم، وصلاتهم تامة؛ وسئل ابن القاسم عن إمام صلى برجل ونساء، فقام الرجل عن يمين صاحبه، والنساء من خلفهما، فأحدث الإمام فقدم صاحبه، هل يصلي بالنساء اللائي خلفه؟ وكيف به إن خرج ولم يستخلف صاحبه، ونوى صاحبه أن يصلي لنفسه ويصلي بمن معه من النساء؟
قال ابن القاسم: يصلي المستخلف بالنساء، وإن خرج الإمام ولم يستخلف، فإن صلاة الباقي تجزئ من خلفه من النساء- إذا نوى أن يكون إمامهن. وسئل ابن القاسم عن إمام صلى خلفه نساء، وعن يمينه نساء، وعن يساره نساء، وبين يديه نساء، يصلين بصلاته، ويأتممن به، - وهو ينوي إمامتهن، والصلاة بهن؛ هل تفسد صلاته وصلاة من معه؟ أم تجزئهم صلاتهم؟ قال ابن القاسم: قد أساء- وصلاة الإمام تامة، وصلاة النساء تامة- إذا أردن أن يأتممن به، أو نوى هو في نفسه أن يؤمهن- وهو قول مالك.
قال محمد بن رشد: المسألة كلها صحيحة بينة في المعنى، غير مفتقرة إلى كلام مثل ما في المدونة - نصا، ومعنى الاشتراط في إمامة الرجل(2/122)
بالنساء- إذا نوى أن يكون إمامهن، فإن ذلك خلاف لما في المدونة من قوله إذا صلى الرجل لنفسه فأتى رجل فائتم به، فصلاته جائزة - نوى أن يؤم به أو لم ينو؛ ودليله حديث «ابن عباس إذ بات مع النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند خالته ميمونة، فلما قام رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الليل يصلي، قام إلى جانبه دون أن يستأذنه حتى يعلم أنه قد نوى أن يؤمه» . ووجه القول الأول، أن الإمام يصلي لنفسه ولمن يأتم به، فيحمل عنهم القراءة، وما سوى الإحرام، والركوع، والسجود، والجلوس الآخر والسلام؛ واعتقاد نية الفريضة بما ألزمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ضمان صلاتهم بقوله: «الإمام ضامن» . فإذا لم ينو الإمامة بهم، لم تنتظم صلاته بصلاتهم، ولا حمل عنهم شيئا منها، ففسدت بذلك عليهم؛ فالقول الأول أتبع للأثر، وهذا أظهر من جهة النظر؛ وقد رأيت لأبي حنيفة - فيما أظن- أن ائتمام الرجل بالرجل دون أن ينوي أن يؤمه جائز، بخلاف ائتمام النساء به دون أن ينوي أن يؤمهن - وهو بعيد؛ ولعله ذهب - إن صح ذلك عنه - إلى أن الأصل الذي يعضده القياس، كان لا يصح الائتمام بمن لا يعتقد الإمامة، فخرج من ذلك ائتمام الرجل بمن لا ينوي الإمام، لحديث ابن عباس؛ وبقي النساء على الأصل في أنهن لا يجوز لهن أن يأتممن من لا ينوي الإمامة- وبالله التوفيق.
[مسألة: قرأ سورة طويلة ونواها في نفسه ثم كسل فترك القراءة وركع وسجد]
مسألة وسئل عمن قرأ في صلاته سورة طويلة ونواها في نفسه، فأدركه كسل وملالة، فترك القراءة وركع وسجد؛ أتجزئه صلاته؟ قال ابن القاسم: ليس عليه شيء.(2/123)
قال محمد بن رشد: لم يوجب عليه إتمام السورة التي ابتدأها ونوى قراءتها؛ إذ لم يوجب ذلك على نفسه بالنذر؛ وهو على أصله فيمن افتتح الصلاة النافلة- قائما على أن يتمها قائما، أن له أن يتمها جالسا مع القدرة على القيام، خلاف ما ذهب إليه أشهب من أنه يلزمه أن يتمها- قائما، كما افتتحها قائما؛ وقول ابن القاسم أظهر: إنه إنما يلزمه إتمامها لا أكثر، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: صلى ركعتين وجلس يتشهد فعرض له شك فيما مضى من صلاته]
مسألة وسئل ابن القاسم عمن صلى ركعتين وجلس يتشهد فعرض له شك فيما مضى من صلاته فجعل يتذكر ساعة بعد التشهد، ثم ذكر أنه قد أصاب الصلاة، ولم ينقص ولم يزد؛ هل يكون عليه أن يسجد لسهوه؛ لأنه قعد بعد التشهد ساعة يتذكر؟ ومتى يكون سجوده قبل السلام أو بعده؟ قال ابن القاسم: ليس عليه شيء- وإن طال الجلوس، ولا يسجد لسهوه. وسئل ابن القاسم عن إمام صلى بقوم ركعة فلما سجد لها، شك في سجوده حين سجد واحدة، فوقف يتذكر وينظر إن كان سجد لركعته سجدتين أم واحدة، فطال فكره، ثم سبح به القوم، فذكر أنه لم يسجد إلا واحدة، فسجد الثانية ومضى في صلاته حتى فرغ، هل عليه سجود السهو؟ ومتى يسجد قبل السلام أو بعده؟ وكيف به إن شك - وهو راكع فيما مضى له من صلاته- (فلم يدر) أمضى له ركعة أو ركعتان؟ فثبت راكعا يتذكر(2/124)
حتى طال ذلك، ثم ذكر بعد ساعة أنه لم يمض إلا ركعة؛ هل يكون عليه في مثل هذا سجود للذي عرض له- إذا وقف لشك عرض له في صلاته وهو قائم أو ساجد؟ أو عرض له بعدما ركع، فوقف يتذكر قبل أن يخر ساجدا؟ أو نحو هذا من الشك؟ ومتى يكون سجوده؟ قال ابن القاسم: الذي يُعلم من قول مالك، أنه لا يكون عليه شيء، كان ذلك منه ساجدا أو راكعا أو قائما أو قاعدا، في التشهد هذا كله سواء؛ لأنه لم يعمل عملا يكون زيادة ولا نقصانا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة، وما فيها من الاختلاف وتوجيهه في أول رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم، فأغنى ذلك عن إعادته- وبالله التوفيق.
[مسألة: مؤذن مسجد أذن قبل زوال الشمس]
مسألة وسئل ابن القاسم عن مؤذن مسجد أذن قبل زوال الشمس، أو قبل وقت العصر أو قبل غروب الشمس، أو قبل غيوب الشفق، ثم علم بذلك قبل أن تُقام الصلاة؛ هل عليه أن يعيد الأذان ثم يقيم؟ وكيف بهم إن صلوا بلا أذان ولا إقامة؟ قال ابن القاسم: يعيد الأذان إن علم قبل الصلاة، فإن صلى لم يعد.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه لا يؤذن لصلاة من الصلوات قبل وقتها، إلا الصبح فإنه ينادى لها قبل: وقتها عند مالك، وأكثر أهل العلم؛ قيل في السدس الآخر من الليل، وقيل: في النصف الثاني منه- إذا خرج وقت العشاء الآخر؛ لقوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» - الحديث. فإذا نودي لما عدا الصبح(2/125)
قبل الوقت، وجب أن يعاد الأذان ما لم يصل؛ لوجهين، أحدهما: أن الأذان الأول لم يجز، والثاني أن يعلم أهل الدور أن الأذان الأول كان قبل الوقت، فيعيد الصلاة من كان صلى منهم؛ فقد روي أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرجع فينادي ألا إن العبد نام، فرجع فنادى، ألا إن العبد نام، ليعلموا أنهم في ليل بعد، حتى يقوم من شاء القيام، ولا يمسك عما يمسك عنه الصوام، ولا يلزم أن يعاد الأذان بعد الصلاة لهذه العلة، مخافة أن يقبل الناس إلى الصلاة- وقد صليت فيعنوا لغير فائدة.
[مسألة: المؤذن يرعف حتى يكثر ذلك عليه وهو يؤذن]
مسألة وسئل ابن القاسم عن المؤذن يرعف حتى يكثر ذلك عليه وهو يؤذن، هل يقطع أذانه ويذهب فيغسل الدم ويرجع فيبني على ما مضى من أذانه أم يستأنف الأذان؟ وهل يجوز لأهل المسجد أن يقدموا رجلا غيره؟ وهل على المقدم أن يبتدئ الأذان من أوله؟ أم يبني على الأذان الأول؟ وهل للمؤذن أن يؤذن- وهو جنب؟ قال ابن القاسم: إن مضى على أذانه في رعافه ذلك حتى فرغ، أجزأه، ولا يجوز له أن يقطع أذانه، فإن قطع أذانه فغسل الدم عنه، ثم رجع، استأنف الأذان، ولا يشبه هذا الذي يرعف في الصلاة، فيبني إذا غسل الدم، قال: ويجوز لأهل المسجد أن يقدموا رجلا- إذا قطع المؤذن الأذان ليغسل رعافه ويبتدئ المقدم الأذان، قال: ولا بأس أن يؤذن- وهو على غير وضوء، ولا يؤذن وهو جنب.
قال محمد بن رشد: الفرق بين الأذان والصلاة في أن الراعف في(2/126)
الأذان يتمادى على أذانه أو يقطع ولا يبني، أن الأذان لما لم يكن من شرط صحته (الطهارة من النجاسة، جاز للراعف أن يتمادى عليه مع رعافه، بخلاف الصلاة؛ ولما لم يجب على من ابتدأه أن يتمه، وكان له أن يقطعه بخلاف الصلاة التي يجب على من أحرم بها أن لا يقطعها؛ وجب إذا لم يقدر على التمادي على أذانه مع رعافه أن يقطع، بخلاف الصلاة؛ ولما كان من شرط صحته) أن يكون متواليا وألا يفرق، لم يجز لمن أذن بعض أذانه أن يستخلف على بقيته؛ لأن ذلك أشد من تفرقته؛ ووجب إذا قطع المؤذن الأذان من أجل رعافه، أن يستأنف رجل آخر الأذان من أوله، ولا يبني على أذان الراعف؛ وأن يستأنف هو الأذان من أوله- إذا غسل الدم عنه، ولا يبني على ما مضى من أذانه، وتفرقته في الأذان بين أن يكون المؤذن جنبا، أو على غير وضوء، استحسان على غير قياس؛ والذي يوجبه القياس ألا فرق بينهما، فيجوز جنبا وعلى غير وضوء، أو لا يجوز لا جنبا ولا على غير وضوء؛ فوجه الجواز فيهما- وهو قول سحنون، ورواية أبي الفرج عن مالك؛ إذا كانت المئذنة في غير المسجد للجنب، هو أن الأذان ذكر لله تعالى، وذكر الله عز وجل يجوز للجنب، كما يجوز للذي هو على غير وضوء. ووجه المنع فيهما- وهو مذهب الشافعي - ما روي أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يؤذن إلا متوضئ» ، - رواه أبو هريرة عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقال به. والجنب بذلك أحرى، والاختيار عند مالك ألا يؤذن الرجل جنبا ولا على غير وضوء، وما روي عن النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إن صح - فمعناه أن ذلك(2/127)
كان في أول الإسلام حين كان ذكر الله ممنوعا إلا على طهارة، ثم نسخ والله أعلم، وإن كان أبو هريرة راوي الحديث متأخر الإسلام، فالمعنى فيه أنه لم يسمعه من النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بعد إسلامه، وإنما أخذه عمن تقدم إسلامه من أصحابه.
[مسألة: المؤذن يقيم الصلاة فيرعف]
مسألة وسئل ابن القاسم عن المؤذن يقيم الصلاة فيرعف أو يدخل عليه ما يقطع وضوءه، أيقطع الإقامة أو يتمها؟ وكيف (به) إن خرج وقطعها؟ هل يستأنف القوم رجلا غيره يقيم لهم الصلاة يبتدئها من أولها، أو يقيم من حيث انتهت إقامة الأول؟ قال ابن القاسم: أرى أن يقطع الإقامة ولا يمضي فيها، ويستأنف رجل آخر بهم الإقامة؛ لأن مالكا قال: لا بأس أن يصلى بإقامة من لم يؤذن.
قال محمد بن رشد: قال فيمن رعف في الإقامة أنه يقطع، بخلاف الأذان؛ والفرق بينهما- مع أنه يؤذن على (غير) وضوء، ولا يقيم إلا على وضوء- أن الإقامة متصلة بالصلاة، فلو تمادى عليها، لترك الصلاة لغسل الدم، فكان تركه الإقامة لذلك أولى من تركه الصلاة له؛ والأذان بائن عن الصلاة، فهو يقدر أن يتمادى على أذانه، ثم يخرج لغسل الدم، ويرجع إلى الصلاة، وأما قوله: إنه يستأنف رجل آخر بهم الإقامة فصحيح؛ لأنه إذا لم يجز في الأذان أن يبني الثاني على ما مضى من أذان الأول، للعلة التي ذكرناها قبل هذا، فالإقامة أحرى ألا يجوز ذلك فيها؛ وأما الصلاة بإقامة من لم يؤذن، فقد تعارضت الآثار في ذلك، فروي عن عبد الله بن الحارث الصدائي أنه قال: «أتيت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما كان أوان الصبح، أمرني فأذنت، ثم قام إلى الصلاة، فجاء بلال ليقيم، فقال رسول الله- صلى الله(2/128)
عليه وسلم: إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم» . وروي أن عبد الله بن زيد حين أري الأذان، «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالا فأذن، ثم أمر عبد الله فأقام» ؛ فأخذ مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالذي يوجبه النظر من ذلك؛ لما تعارضت فيه الآثار، وذلك أن الأذان والإقامة من أسباب الصلاة، فلما جاز أن يقيم الصلاة غير الإمام، جاز أن يقيمها غير الذي أذن؛ إذ هي إلى الصلاة أقرب منها إلى الأذان، وثبت أنهما شيئان يجوز أن يفعل أحدهما غير الذي فعل الآخر، بخلاف الأذان، فإنه لا يجوز لرجلين أن يفعل كل واحد منهما بعضه.
[مسألة: مسجد بين قوم تنازعوا فيه واقتسموه بينهم أيجزئ أن يكون مؤذنهم واحدا]
مسألة وسئل ابن القاسم عن مسجد بين قوم، فتنازعوا فيه واقتسموه بينهم، وضربوا وسطه حائطا، أيجزئ أن يكون مؤذنهم واحدا؟ وإمامهم واحدا؟ قال ابن القاسم: ليس لهم أن يقتسموه؛ لأنه شيء سبلوه لله - وإن كانوا بنوه جميعا، وقال أشهب مثله؛ ولا يجزئهم مؤذن واحدا، (ولا إمام واحد) .
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه ليس لهم أن يقتسموه؛ لأن ملكهم قد ارتفع عنه حين سبلوه؛ فإن فعلوا، فله حكم المسجدين في الأذان؛ والإمام حين فصلوا بينهما بحاجز، يبين به كل واحد منهما عن صاحبه، وإن كان ذلك لا يجوز لهم - وبالله التوفيق.(2/129)
[مسألة: إمام صلى على شَرَف وأصحابه تحته في وطاء]
مسألة وسئل ابن القاسم عن إمام صلى على شَرَف وأصحابه تحته في وطاء، أو يصلي على كدية وهم خلفه على الأرض؟ أو يصلي في الأرض وأصحابه على مصطبة؟ أو يصلي على مصطبة - وهم تحته على الأرض؟ قال ابن القاسم: إذا تقارب ذلك فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أنه ساوى بين أن يكون الإمام أرفع موضعا ممن خلفه، أو من خلفه أرفع موضعا منه، وذلك خلاف ما في المدونة؟ وقد مضت هذه المسألة موعبة بتحصيل ما فيها من الاختلاف، وتوجيهه في رسم "الصلاة" الثاني - من سماع أشهب.
[مسألة: إمام صلى بمن معه ركعة فأصابه نضح بول]
مسألة وسئل ابن القاسم عن إمام صلى بمن معه ركعة فأصابه نضح بول، أو نجس قطر عليه؛ هل يقطع ذلك صلاته وصلاة من خلفه؟ أم لا يقطع صلاته، إلا أن يكون شيئا كثيرا؟ قال ابن القاسم: إذا أصابه قطر من نجس، فإنه يستخلف، بمنزلة ما لو أحدث، ولا يقطع ذلك صلاته، وإن نزع ثوبه ذلك إن كان عليه غيره، أجزأه وأحب إلي أن يستخلف بمنزلة ما لو أحدث.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يستخلف ولا يقطع ذلك صلاته، ليس بصحيح، والصواب: لا يقطع ذلك صلاتهم، وأما هو فتنتقض صلاته بمنزلة ما لو أحدث كما قال، ولو لم يقطع ذلك صلاته لتمادى - ولم يستخلف، وإنما يستخلف ولا يقطع صلاته التي يمرض فيها مرضا لا يقدر معه على القيام فيستخلف؛ إذ لا تجوز إمامة الجالس، ويتم هو وراء المستخلف - جالسا؛(2/130)
والذي قطر عليه نجس في الصلاة، لا يخلو من ثلاثة أحوال، أحدها: لا يكون عليه ولا معه ثوب سواه، تجزئه (به) الصلاة، والثاني: ألا يكون عليه ثوب سواه، ويكون معه ثوب سواه؛ والثالث: أن يكون عليه ثوب سواه، تجزئه الصلاة به، فإذا لم يكن عليه ولا معه ثوب سواه، فإنه يتمادى على صلاته، ويعيد في الوقت إن وجد ثوبا غيره، أو ماء يغسله به؛ وإذا لم يكن عليه ثوب غيره - وكان معه ثوب غيره، فإنه يخرج ويستخلف، (وإن كان وحده قطع، وابتدأ صلاته بالثوب الطاهر الذي معه، وأما إن كان عليه ثوب سواه، تجزيه به الصلاة، فالقياس أن يخرج ويستخلف) ، وإن كان وحده قطع؛ لأنه قد حصل حامل نجاسة. وقال في الرواية: إن ذلك أحب إليه، وإن نزعه أجزأه؛ وإنما قال ذلك - والله أعلم - لحديث ابن مسعود في طرح عقبة بن أبي معيط على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة وهو يصلي - سلا الجزور، وغسل فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ذلك عنه، وتماديه على صلاته؛ وقد روي أنه إنما طرح عليه الفرث بدمه، وآيا ما كان، فلا حجة فيه؛ لأن ذلك كان في أول الإسلام، حيث كانت ذبائح المشركين حلالا؛ والسلا: وعاء الولد، فهو كلحم الناقة المذكاة، وكذلك الفرث طاهر؛ لأن أرواث ما يؤكل لحمه طاهر؛ ولعل الذي كان فيه من الدم يسير.
وأما من علم أن في ثوبه نجاسة - وهو يصلي، فإنه يقطع في المشهور في المذهب؛ وقد قيل(2/131)
إنه ينزعه ويتمادى على صلاته، وقد مضى ذلك في رسم "أول عبد ابتاعه فهو حر" من سماع يحيى، فقف على ذلك.
[مسألة: صلى بقوم فنام]
مسألة وسئل ابن القاسم عن إمام صلى بقوم فنام في صلاته، فلم يستيقظ حتى احتلم في نومه؛ هل يُفسد ذلك صلاة من خلفه؟ وكيف ينبغي له أن يصنع فيما أصابه في صلاتهم؟ أيقدم رجلا يُتِم بهم بقية صلاتهم؟ قال ابن القاسم: لا تفسد صلاتهم، ويقدم رجلا يصلي بهم بقية صلاتهم، بمنزلة ما لو أحدث في صلاته، ولا تفسد صلاة القوم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الاحتلام حدث غلب عليه بالنوم، فكان كالحدث الذي يغلبه سواء.
[مسألة: مؤذن مسجد يؤذن فيه ويصلي بمن جاءه من بعداء الناس]
مسألة وسئل ابن القاسم عن مؤذن مسجد يؤذن فيه ويصلي بمن جاءه من بعداء الناس، فأذن وأقام الصلاة، ولم يأته أحد حتى صلى ركعة، ثم جاء نفر فدخلوا معه في بقية الصلاة، فأحدث قبل أن يركع الثانية، فقدم رجلا من النفر الذين سبقهم بركعة، فصلى بهم بقية صلاة الإمام الذي قدمه؛ كيف يصنع: أيشير إليهم أن امكثوا ويتنحى عن المحراب، فيقوم فيقضي ركعته التي سبقه بها الإمام، ثم يسلم كما كان يصنع الإمام لو لم يحدث؟ أو يقوموا - إذا أقام فيقضوا - أفذاذا - ولا يسلم؟ وكيف الأمر إن كان سها الإمام سهوا قبل أن(2/132)
يدخلوا عليه سهوا يكون سجوده قبل السلام؟ قال: قال مالك يتم بقية صلاة الإمام، ثم يشير إليهم أن امكثوا، ثم يقوم - وهو في مكانه ذلك لا يتحول، فيقضي تلك الركعة، ثم يجلس فيتشهد ويسلم، ويقوموا فيقضوا تلك الركعة؛ وإن دخلوا معه في الثانية فأحدث قبل أن يركع فقدم رجلا منهم، أجزأ عنهم أن يصلي بهم، وعليه أن يقضي ما كان على الإمام من سهو قبل أن يدخلوا معه؛ فإن كان سجودا يكون قبل السلام، فإذا قضى الركعة، سجد بهم وسجدوا معه؛ وإن كان بعد السلام، فإذا قضى الركعة وسلم، سجدهما ولا يسجد معه الآخرون حتى يقضوا الركعة؛ فإذا قضوا الركعة سجدوهما.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة؛ لأن الإمام إذا استخلف بعد أن صلى ركعة مَن فاتته تلك الركعة معه، فإنما استخلفه على ما بقي من صلاته، فإذا صلى بالقوم بقية صلاة الإمام الذي استخلفه؛ قام فقضى الركعة التي فاتته من صلاة الإمام - وهم جلوس، فإذا سلم، قاموا فقضوا لأنفسهم ما فاتهم؛ لأن من فاته شيء من صلاة الإمام، لا يقضي إلا بعد سلامه، وقد حصل المستخلف مكانه، فلا يقضون إلا بعد سلامه أيضا. وقوله: وإن دخلوا معه في الثانية فأحدث قبل أن يركع، فقدم رجلا منهم أجزأ عنهم أن يصلي بهم؛ (تكرير في المسألة لا معنى له، ولا فائدة فيه. وقوله) : وعليه أن يقضي ما كان على الإمام من سهو قبل أن يدخلوا معه صحيح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة؛» لأن المعنى في ذلك، أنه أدرك حكمها، ووجب عليه ما وجب على الإمام فيها من(2/133)
سهو أو إتمام - إن كان مسافرا والإمام مقيم، أو قصر إن كانت جمعة. وأما قوله: فإن كان سجودا يكون قبل السلام، فإذا قضى الركعة سجد بهم، فهو خلاف ما في سماع أصبغ بعد هذا أنه يسجد بهم - إذا انقضت صلاة الإمام الذي استخلفه قبل أن يقوم لتمام ما بقي عليه، ولكلا القولين وجه من النظر.
[مسألة: مسافر صلى بمسافرين ركعة واحدة فجاءه مقيم فصلى خلفه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن مسافر صلى بمسافرين ركعة واحدة فجاءه مقيم فصلى خلفه - وهو يعلم بسفره، فصلى معه ركعة، ثم جاء مقيم آخر فصلى الركعة الثانية، فأحدث الإمام المسافر في التشهد، فقدم أحد الرجلين الذي سبقه بركعة؛ كيف يصنع في صلاته؟ قال ابن القاسم: يتم هذا المستخلف بقية صلاة الإمام المسافر، ثم يشير إليهم فيمكثوا، ثم يقوم فيقضي الركعة التي سبقه بها الإمام المسافر، والركعتين الآخرتين؟ لأنه مقيم، ثم يسلم المسافرون ويقوم المقيمون فيتمون.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في أكثر الكتب، وسئل ابن القاسم عن مسافر صلى بمسافرين ركعة واحدة، وفي بعض الكتب: وسئل ابن القاسم عن مسافر صلى وحده، فجاءه مقيم؛ وليس شيء من ذلك بصواب، والصواب: وسئل عن مسافر صلى بمسافرين فجاءه مقيم؟ وعلى هذا تستقيم المسألة. وقوله فيها: ثم يقوم فيقضي الركعة التي سبقه بها الإمام المسافر، والركعتين الآخرتين؛ لأنه مقيم، هو على قياس قوله في المسألة التي تقدمت قبل هذه، ولم يبين صفة العمل في ذلك؛ والذي يأتي على مذهبه: أن يبدأ بالبناء قبل القضاء؛ لأن الركعة التي فاتته من صلاة الإمام الذي استخلفه قضاء، والركعتين الآخرتين بناء، فيقوم أولا فيأتي بالثالثة فيقرأ فيها بالحمد وحدها ويجلس؛ لأنها ثانية(2/134)
بنائه؛ ثم يأتي بالرابعة فيقرأ فيها أيضا بالحمد وحدها ويقوم؛ لأنها ثالثة بنائه - قاله ابن حبيب. وقال ابن المواز: بل يجلس فيها؛ لأنه لا يقام إلى القضاء إلا من جلوس، فتأتي صلاته على مذهبه - جلوسا كلها، ثم يأتي بالركعة الأولى التي فاتته فيقضيها بالحمد وسورة - كما فاتته، وعلى مذهب سحنون يبدأ بالقضاء قبل البناء، فقف على ذلك وتدبره.
[مسألة: أقام الصلاة وصلى ركعة مع رجل واحد ثم جاء رجل فصلى به ركعة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن إمام مسجد أقام الصلاة وصلى ركعة مع رجل واحد، ثم جاء رجل آخر فصلى به ركعة مع الأول، ثم جاء ثالث فصلى به الثالثة؟ ثم قام في الرابعة فدخل معه فيها رجل رابع، فأحدث الإمام فيها فقدم الرابع - وهو آخرهم؛ كيف يصنع ويصنعون في صلاتهم؟ قال: قال مالك يتم هذا المستخلف بقية صلاة الإمام، ثم يقوم فيقضي ما عليه - وهم قعود، ثم يسلم ويسلم من أتم الصلاة، ويقوم من فاته بعض الصلاة فيتم ما بقي عليه.
قال محمد بن رشد: قوله فيتم ما بقي عليه - يريد فيقضي ما بقي عليه، وهي مسألة صحيحة بينة في المعنى على قياس ما تقدم في المسألتين اللتين قبلها، فلا معنى لإعادة القول فيها.
[مسألة: أحدث فقدم رجلا قد دخل في الصلاة قبل حدث الإمام]
مسألة وسئل ابن القاسم عن إمام أحدث فقدم رجلا قد دخل في الصلاة قبل حدث الإمام - وهو جاهل بما مضى للقوم وللإمام، كيف يصنع المقدَم؟ أيمضي على صلاة نفسه، ويصلي لنفسه حتى يسبح به القوم - إن خالف صلاتهم، ويشيروا إليه بما بقي من صلاة(2/135)
إمامهم؟ أم يسعه أن يشير إليهم ويشيروا إليه - إن لم يفهم بالتسبيح؟ وهل يسعه إن لم يفطن بالإشارة ويفهم بها أن يكلم ويكلموه، ولا يقطع ذلك صلاته؟
قال ابن القاسم: يشير إليهم حتى يفهم ما ذهب من الصلاة، فإن لم يفهم بالإشارة ومضى حتى يسبح به فلا بأس، وإن لم يجد بدا إلا أن يتكلم فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على المعلوم من مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة وغيرها: أن الكلام فيما تدعو إليه الضرورة من إصلاح الصلاة جائز، لا يُبطل الصلاة على حديث ذي اليدين، خلاف ما ذهب إليه ابن كنانة، وسحنون، وجماعة من أهل العلم سواهما.
[مسألة: أحدث فقدم رجلا أميا لا يحسن القراءة]
مسألة وسئل عن رجل أحدث فقدم رجلا أميا لا يحسن القراءة، كيف يصنع أيتأخر ويقدم غيره؟ أم يمضي بالقوم في صلاة الذي استخلفه: يسبح، ويهلل، ويحمد الله، ويكبر؟ وكيف إن كان صلى بهم بغير قراءة حتى فرغ، هل تكون عليهم إعادة الصلاة؟ قال ابن القاسم: يتأخر ويقدم غيره ممن يحسن القراءة، فيصلي بهم؛ وإن لم يفعل ولم يقدم غيره، أعادوا الصلاة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إن كان في القوم من لا يحسن القرآن فلا يصلح له أن يصلي بهم، ويلزمه أن يخرج ويقدم غيره ممن يحسن القراءة؛ فإن لم يفعل وصلى بهم، أعادوا أبدا، وأعاد هو أيضا؛ لأنه كان(2/136)
يقدر أن يصلي خلف من يحسن القرآن - وهو قول سحنون، وابن المواز. وقال أشهب في مدونته: لا إعادة عليه هو، قال: ولا أحب له أن يصلي فذا - وهو يجد من يأتم به ممن يحسن القرآن؛ وعلى قول سحنون وابن المواز لا يجوز له أن يصلي فذا وهو يجد من يأتم به، فإن لم يفعل أعاد؛ وأما إن لم يكن في القوم من يحسن القرآن فإنه يتمادى بهم وتجزئهم صلاتهم.
قال محمد بن سحنون: وفرضه أن يذكر الله في موضع القراءة. وقال أبو محمد عبد الوهاب: ليس يلزمه على طريق الوجوب تسبيح، ولا تحميد، ويستحب له أن يقف وقوفا ما، فإن لم يفعل وركع أجزأه. وقال محمد بن مسلمة يستحب له أن يقف قدر قراءة أم القرآن وسورة، وقد قيل: لا يلزمه الوقوف؛ لأن الوقوف إنما هو للقراءة، فإذا سقط عنه فرض القراءة، لم يلزمه الوقوف لغير فائدة - يريد قائل هذا القول أنه لا يلزمه أن يقف قدر ما كان يلزمه من القراءة، ولا بد أن يلزمه من الوقوف في أول ركعة قدر ما يوقع فيه تكبيرة الإحرام، وفيما سواها أقل ما يقع عليه اسم قيام - والله أعلم.
ومن قال: إنه يلزمه ذكر الله وتسبيحه، وتهليله، مكان القراءة، ذهب إلى ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأعرابي لما أمره بإعادة الصلاة: «إن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله» . وحجة من قال: إن ذلك لا يلزمه، أن هذه الزيادة لم يخرجها أصحاب الصحيح، وقد سقط عنه فرض القراءة لعجزه عنها، فلا يلزم بدلا منها إلا بيقين، ويلزمه ألا يفرط(2/137)
في التعليم، فإن فرط فيه لزمه أن يعيد من الصلوات ما صلى - فذا بعد القدر الذي كان يتعلم فيه، وقد مضى في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب - تمام القول في هذه المسألة.
[مسألة: صلى برجل وامرأتين فأحدث الإمام]
مسألة قال ابن القاسم في إمام صلى برجل وامرأتين فأحدث الإمام، فخرج ولم يقدم صاحبه، ونوى صاحبه أن يؤم نفسه والمرأتين، حتى صلى بقية الصلاة؛ هل تكون صلاتهم مجزئة ولا تفسد عليهم؟ قال ابن القاسم: نعم لا بأس به، وتجزئهم صلاتهم - وإن لم يستخلفه إذا نوى أن يكون إمامهم.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في هذا السماع من اشتراطه في صحة صلاتهم - أن ينوي أن يكون إمامهم، وقد مضى القول في ذلك، فلا معنى لإعادته - وبالله التوفيق.
[مسألة: الإمام إذا أحدث راكعا أو ساجدا أو قاعدا]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الإمام إذا أحدث - راكعا، أو ساجدا، أو قاعدا، فتأخر، كيف ينبغي له أن يتأخر وهو ساجد أو راكع؟ وكيف يتقدم المستخلف؟ قال ابن القاسم: إن كان قاعدا تقدم قاعدا، وإن كان قائما تقدم قائما.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا إشكال فيها، وقد مضت فيها في رسم "باع شاة" من سماع عيسى - زيادة بيان لها.(2/138)
[مسألة: قام يصلي ما بقي من صلاته وهو أمي لا يحسن أن يقرأ كيف يقضي صلاته]
مسألة وسئل ابن القاسم عمن أدرك ركعة من صلاة الإمام، فلما سلم الإمام، قام يصلي ما بقي من صلاته - وهو أمي لا يحسن (أن) يقرأ - كيف يقضي صلاته؟ قال ابن القاسم: أحب إلي أن يصلي الذي لا يحسن القراءة في جماعة، ولا يصلي وحده - إذا قدر، ولا يدع أن يتعلم ما يقرأ به في صلاته؛ فإن صلى كما ذكرت ولا يحسن فأدرك ركعة، قضى ما بقي كيف تهيأ له، وليس في ذلك قدر معلوم.
قال محمد بن رشد: قد تقدم فوق هذا - الكلام على هذه المسألة، فلا معنى لإعادته - وبالله التوفيق.
[مسألة: أدركوا من صلاة الإمام ركعتين فلما سلم قاموا فقدموا رجلا منهم]
مسألة وسئل ابن القاسم عن قوم أدركوا من صلاة الإمام ركعتين، فلما سلم قاموا فقدموا رجلا منهم، فأمهم في الركعتين الباقيتين من صلاتهم، هل تجزئهم صلاتهم؟ قال ابن القاسم: أحب إلي أن يعيدوا في الوقت وبعد الوقت. وسئل ابن القاسم عن إمام مسافر صلى بمسافرين ومقيمين، فلما سلم الإمام، قدم المقيمون رجلين منهم إمامين، كل إمام بطائفة منهم، فأتما بهم الصلاة؟ هل تجزئهم صلاتهم، أم تفسد على الطائفتين جميعا صلاتهم؟ قال ابن القاسم: يعيدون في الوقت أحب إلي وبعد الوقت.
قال محمد بن رشد: في كتاب ابن المواز في المسألة الثانية: أنهم يعيدون في الوقت وبعده، لخلاف سنة المسلمين، ولخلافهم سنة عمر، وقاله أصبغ؛ وقد تقدمت هذه المسألة، ووجه الاختلاف فيها في سماع سحنون، وفي رسم(2/139)
"لم يدرك"، ورسم " إن خرجت " من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة ذلك - وبالله التوفيق
[مسألة: يصلي وفي فيه الدرهم أو في أذنه درهم]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يصلي وفي فيه الدرهم، أو في أذنه درهم، أو على رأسه خرقة، مثل المنديل - وليست بعمامة، أو يصلي في سراويل وليس عليه غيره، أو يصلي في سراويل وعمامة يلقيها على كتفه، أو سراويل وإزار يرتدي به - ولا يتوشح، أو يصلي مشمر الكمين، محتزما بخيط أو حبل، كما كان يعمل، هل تجزئه صلاته؟ أم يعيد ما كان في الوقت؟ وما حد الوقت الذي يعيد فيه الصلاة؟ قال ابن القاسم: إذا كان الدرهم في أذنه فلا بأس به، وأما في فيه فإني أكرهه. قال: وقال مالك: وأما الخرقة والوقاية على رأسه، فلا بأس بالصلاة بذلك - إذا كان طاهرا ما لم يتعمد أن يكفت به شعره من غبار أو غير ذلك؟ وكذلك الذي يصلي مشمر الكمن لا بأس به إذا لم يتعمد بذلك حين يدخل في الصلاة؛ وأما أن يكون الرجل في عمل مشمر الكمن بحضرة الصلاة، فلا بأس به؛ وكان مالك يكره(2/140)
الصلاة في السراويل وحده، إلا ألا يجد غيره، ويقول إذا كان معه إزار توشح به ولم يرتد.
قال محمد بن رشد: هذه المسائل كلها بينة المعنى، أما تخفيف ابن القاسم لصلاته بالدرهم يكون في أذنه، فلأن ذلك مما لا يشغله فيها؛ وأما كراهيته لكونه في فيه، فلما في ذلك من اشتغاله به عند قراءته عما يلزمه من الإقبال على صلاته؛ وأما تخفيف مالك لصلاته بالخرقة والوقاية يجعلها على رأسه، فإنما معناه إذا احتاج إلى ذلك ليستدفئ به، أو نحو ذلك، إذ ليس ذلك من الهيئة المستعملة إلا في الخلوة دون الجماعة، وشرط ألا يقصد أن يكفت بذلك شعره من غبار أو غيره، لما جاء من النهي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أن يصلي الرجل - وشعره معقوص. وأجاز أن يصلي الرجل مشمر الكمين - إذا حضرت الصلاة - وهو على تلك الحال، لعمل كان فيه، فيشمر من أجله لما (قد) يشق عليه في بعض الأحايين من مفارقة شمرته، وتحسين هيئته لصلاته، وكره أن يصلي الرجل في السراويل وحده، إلا ألا يجد غيره، لكونه مكشوف البطن والظهر؛ وقد قال عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] . وقال عمر بن الخطاب: " جمع رجل عليه ثيابه صلى في إزار ورداء في قميص ورداء " - الحديث. فحسن الهيئة في اللباس مشروع في الصلاة؛ لأن المصلي يناجي ربه، ويقف بين يدي خالقه؛ فيجب عليه أن يتأهب لذلك، ويتجمل له بتحسين هيئته في لباسه، فإن الله جميل يحب الجمال. وإذا كان الرجل يلتزم ذلك في المجتمعات، وعند الكبراء من الناس، فما بالك بالوقوف بين يدي الله رب الناس.(2/141)
[مسألة: المرأة تصلي ورأسها مكشوف ليس عليه خمار ولا مقنعة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن المرأة تصلي ورأسها مكشوف ليس عليه خمار ولا مقنعة، أو صلت في درع رقيق يصف جسدها، هل تعيد الصلاة متى ما ذكرت؟ أو صلت في ثوب واحد وهو صفيق؟ أو صلت وعليها ثوب وخمار رقيق يبين قرطيها، وعنقها، ونحرها، وبعض رأسها؟ أو صلت في ملحفة متوشحة بها، قد غطت رأسها واستترت بها، هل يجزئها؟ أم تعيد في الوقت؟ وما حد الوقت الذي تعيد فيه؟ قال ابن القاسم: إذا صلت وليس عليها خمار، أو صلت وعليها ثوب رقيق يصف، أو نحو ذلك مما تعاد فيه الصلاة، فإنها تعيد ما كانت في الوقت؛ والوقت للظهر والعصر إلى اصفرار الشمس، وكذلك قال مالك؛ وأما التي تصلي في ثوب واحد ملتحفة به، فإن كانت تستتر به - كما لو كان عليها درع وخمار، ويستر كل شيء منها بلا اشتغال منها بشيء من ذلك تمسكه بيديها، فلا بأس به؛ فأما إن كانت تمسكه بيديها، فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: ساوى بين أن تصلي المرأة بغير خمار، أو تصلي - وعليها خمار رقيق يصف - فيما تؤمر به من الإعادة، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها» - الحديث. لأنهن إذا لبسن ما يصفهن ولا يسترهن، فهن كاسيات في الفعل والاسم، عاريات في الحكم والمعنى؟ وقال: إنها تعيد إلى اصفرار(2/142)
الشمس، لكون الإعادة عليها مستحبة غير واجبة؛ فأشبهت عنده النافلة، ولذلك لم ير أن يصلى في وقت لا يصلى فيه نافلة، وقد قيل إنها تعيد إلى الغروب. وهذه إحدى المسائل الأربعة التي قد اختلف فيها: فقيل إنها تعيد إلى الغروب، وقيل إلى الاصفرار، والثانية المصلي بنجاسة ولا يعلم، والثالثة المصلي إلى غير القبلة، والرابعة ذاكر صلوات كثيرة قبل أن يصلي الظهر والعصر، فإنه يبدأ بالظهر والعصر، إلا أن يكون إن بدأ بالفوائت التي ذكر، يدرك الظهر والعصر قبل اصفرار الشمس؛ وقيل في هذه قبل ذهاب الوقت المستحب - قاله ابن حبيب، وقد مضى ذلك في سماع سحنون.
[مسألة: المريض الذي لا يستطيع القراءة ولا التكبير]
مسألة وسئل ابن القاسم عن المريض الذي لا يستطيع القراءة ولا التكبير - وهو يعرف الصلاة، أيجزئه أن ينوي التكبير ويومئ في الركوع والسجود بغير قراءة - وتجزئه صلاته؟ قال ابن القاسم: يحرك لسانه بالتكبير والقراءة على قدر ما يطيق، وتجزئه الصلاة ولا يجزئه أن ينوي التكبير والقراءة إذا لم يحرك بذلك لسانه.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة في الذي لا يستطيع القراءة ولا التكبير من أجل مرضه بإسماع نفسه في موضع السر، ورفع صوته في موضع الجهر - ألا يجهر، ومشقة تلحقه في ذلك، وأما لو كان لا يستطيع أن يحرك لسانه بالتكبير والقراءة، لأجزأته صلاته دون أن يحرك لسانه بشيء من ذلك؛ لأن عدم القدرة على الفروض، مسقط لوجوبها بإجماع؛ قال الله تعالى:(2/143)
{لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 233] ، وقد مضت في سماع سحنون مسألة من هذا المعنى.
[مسألة: نزل الماء في عينيه ويؤمر أن يستلقي على ظهره أياما]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي ينزل الماء في عينيه ويؤمر أن يستلقي على ظهره أياما، أيصلي مستلقيا على ظهره، أم يقعد ويومئ برأسه؟ قال ابن القاسم: لا يفعل ولا يقدحهما، فإن فعل وجهل، قام فصلى - وإن ذهبت عيناه، كذلك قال مالك. قال موسى بن معاوية الصمادحي: حدثني هشيم بن خالد عن الربيع، عن رجل، عن جابر بن زيد، أنه قال: لا بأس أن يقدح الرجل عينيه، ويصلي على قفاه ويومئ إيماء.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في أول السماع والكلام عليها - موعبا فلا معنى لرده.
[مسألة: نفر من المرضى مجتمعين في بيت أيجمعون الصلاة في مرضهم]
مسألة وسئل ابن القاسم عن نفر من المرضى مجتمعين في بيت، أيجمعون الصلاة في مرضهم، ويؤمهم رجل منهم؟ وهل يجوز لهم(2/144)
ذلك ولا يستطيعون القيام ويجمعون (قعودا) ؟ أو كيف بهم إن كانوا قعودا - وإمامهم مضطجع لا يقوى على القعود؟ وكيف إن كانوا مضطجعين كلهم، أيجمعون الصلاة؟ قال ابن القاسم: إذا كانوا قعودا لا يستطيعون القيام، فلا بأس أن يؤمهم رجل منهم - وهو قاعد بين أيديهم في القبلة، فأما إذا لم يستطيعوا القعود - وكان إمامهم لا يستطيع الجلوس - فلا أعرف هذا ولا إمامة فيه.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف أعرفه في جواز إمامة المريض الذي لا يستطيع القيام - جالسا - بالمرضى الذين لا يستطيعون القيام - جلوسا، وما وقع في رسم "استأذن" من سماع عيسى لابن القاسم من رواية سحنون عنه - متصلا برواية موسى هذه، من أنه لا يجوز لأحد أن يؤم قاعدا بعد ما كان من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إنما معناه في إمامة المريض الجالس بالأصحاء - قياما، فليس بخلاف لرواية موسى، وقد تقدم ذلك هناك؛ وأما إمامة المضطجع المريض بالمضطجعين المرضى، فمنع من ذلك في الرواية، والقياس أن ذلك جائز - إذا اشتدت حالهم، إلا أن يريد أنهم لا يمكنهم الاقتداء به؛ لأنهم لا يفهمون فعله، لأجل اضطجاعه؛ فيكون لذلك وجه، فإن فعل، أجزأته صلاته، وأعاد القوم - قاله يحيى بن عمر، وهو مبين لقول ابن القاسم - والله أعلم.
[مسألة: صلاة المحموم الذي به الحمى]
مسألة وسئل ابن القاسم عن المحموم الذي به الحمى والنافض، يأخذه ذلك غبا، فيدخل عليه الحين الذي قد عرف أنها تأخذه فيه، فيريد أن يصلي صلاة ذلك الحين قبل أن تأخذه الحمى(2/145)
أو النافض، فتشغله عن الصلاة. قال ابن القاسم: لا يقدم الصلاة قبل وقتها، فإن دخل الوقت وزالت الشمس، فلا بأس أن يجمع الظهر والعصر - وهو قول مالك؛ قال: وإن دخل وقت الصلاة والحمى عليه، فأراد أن يؤخرها حتى تنقلع عنه؛ قال: إن طمع أن تنقلع عنه - وهو في الوقت - أخرها، وإلا صلاها ولم يؤخرها، وصلاها كيف استطاع.
قال محمد بن رشد: قوله: إن دخل عليه وقت الصلاة والحمى عليه، فأراد أن يؤخرها حتى تنقلع عنه، أن ذلك له إن طمع أن تنقلع عنه - وهو في الوقت، قيل يريد الوقت المستحب: القامة للظهر، والقامتين للعصر، ومغيب الشفق للمغرب، وانتصاف الليل للعشاء الآخر. وقيل يريد أنه يؤخر الظهر والعصر إلى آخر وقت العصر المستحب - وهو القامتان، ويؤخر المغرب والعشاء إلى آخر وقت العشاء المستحب - وهو نصف الليل - وهو الأظهر، وقد وقع في رسم "صلى نهارا ثلاث ركعات" من سماع ابن القاسم، ما ظاهره أن له أن يؤخر المغرب والعشاء من أجل مرضه، فيصليهما جميعا فيما بينه وبين طلوع الفجر - وهو بعيد؛ إلا أن يكون معناه في الوعك الشديد الذي يشبه المغلوب على عقله، فلا يقدر معه على الصلاة؛ وقد ذكرنا ذلك هناك، فهذا ما يحتاج إلى بيانه من هذه المسألة، وسائرها صحيح لا إشكال فيه ولا اختلاف.
[مسألة: السفر يوم الجمعة بعد الصلاة]
مسألة قال موسى بن معاوية: حدثنا محمد بن عبد الحكم، عن حيوة بن شريح، عن السكن بن أبي كريمة، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من(2/146)
خرج يوم الجمعة من دار مقامه، دعت عليه الملائكة ألا يصحب في سفره، ولا تقضى حوائجه» . وحدثني عبد الله بن رجاء المكي، عن صدقة بن زيد، عن سعيد بن المسيب، قال: السفر يوم الجمعة بعد الصلاة.
قال محمد بن رشد: ما روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من دعاء الملائكة على من خرج من دار مقامه يوم الجمعة، ليس على ظاهره، إذ لا يجب ترك السفر يوم الجمعة، إلا في الوقت الذي أمر الله بالسعي فيه إليها - حيث يقول: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ؛ لأنه أباح في الآية البيع إلى وقت وجوب السعي، والسفر من أسباب البيع، وقد روى ابن وهب وابن نافع، وابن أبي أويس (عن مالك) أنه قال: لا بأس بالسفر يوم الجمعة ما لم تحضر الجمعة ويفيء الفيء. قال في رواية ابن أبي أويس: وأحب إلي لمن طلع عليه الفجر يوم الجمعة في أهله، ألا يبرح حتى يصلي الجمعة، ومثله في رسم "المحرم" من سماع ابن القاسم، فيحتمل أن يكون معنى الحديث من خرج يوم الجمعة من دار مقامه بعد حضور الجمعة، أو قبل ذلك - رغبة عن شهودها، ومعنى قول سعيد بن المسيب السفر يوم الجمعة بعد الصلاة، أي هو الذي يستحب له ويؤمر به، ومعناه في السفر المباح غير المندوب إليه؛ روي عن ابن عباس قال: «بعث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلك يوم الجمعة، فغدا أصحابه؟ فقال: أتخلف فأصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ألحقهم، فلما(2/147)
صلى مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال له: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ فقال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال: لو أنفقت ما في الأرض، ما أدركت فضل غدوتهم» .
[مسألة: تصلي الفريضة ومعها ولدها تمسكه في الركوع والسجود ولا تضعه في الأرض]
مسألة وسئل ابن القاسم عن المرأة تصلي الفريضة - ومعها ولدها - تمسكه في الركوع والسجود، ولا تضعه في الأرض - حتى تفرغ، هل تعيد تلك الصلاة؟ فقال ابن القاسم: ما أحب لها أن تفعل، فإن فعلت ولم يشغلها عن الصلاة - فلا إعادة عليها.
قال محمد بن رشد: قوله: ما أحب لها أن تفعل ذلك، معناه على حب ولديها من غير ضرورة - إلى ذلك. وأما إذا اضطرت إلى ذلك ولم تجد من يكفيها، وأمكن ألا يشغلها عن صلاتها مع ألا تضعه بالأرض في ركوعها وسجودها، فذلك لها جائز أن تفعله - على ظاهر ما قاله مالك في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب، لما جاء في ذلك من الأحاديث، وقد مضى هناك القول فيه، فقف عليه وتدبره.
[مسألة: صلي ومعه الكيس الكبير وجعله تحت إبطه]
مسألة وسئل عن الذي يصلي ومعه الكيس الكبير الذي لا يقدر على أن يصره في كمه، ولا يستطيع أن يصلي به حتى يجعله تحت إبطه(2/148)
(من ثقله) - وهو يخاف عليه إن وضعه في الأرض أن يخطف؛ هل يصلي به - وهو لا يستطيع أن يضع يده على ركبته، ولا يضع يده في الأرض، هل تجزئه صلاته؟ قال ابن القاسم: إذا اضطر إلى ذلك، وخاف عليه فلا إعادة عليه؛ وأما إذا لم يخف عليه وصنع ذلك حتى لا يستطيع أن يضع يده على ركبته، فأرى أن يعيد؛ لأن مالكا قال في الذي يصلي وعنان فرسه في يده، لا يضع يده على ركبته - إذا خاف على دابته، فلا إعادة عليه.
قال محمد بن رشد: (وقع) قول مالك هذا الذي احتج به في رسم " الشجرة " من سماع ابن القاسم، وهو أصح في المعنى؛ مما في رسم "اغتسل" منه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السجود على سبعة آراب» ؛ لأن ذلك إن لم يقتض إيجاب السجود على السبعة الآراب، فهو يقتضي أن ذلك من سنة السجود، والسنة لا يرخص في تركها إلا من ضرورة - وبالله التوفيق.
[مسألة: إمام مسافر صلى بمسافرين ومقيمين ثم سلم فقدم المقيمون رجلا منهم]
مسألة وسئل ابن القاسم عن إمام مسافر صلى بمسافرين ومقيمين ثم سلم، فقدم المقيمون رجلا منهم، فأتم بهم الركعتين - ولم يصلوا(2/149)
فرادى؛ هل يفسد (ذلك) صلاتهم؟ قال ابن القاسم: يعيدون في الوقت، وبعد الوقت أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة فيما مضى من هذا السماع، ونبهنا على ما مضى فيها من الكلام في مواضعه - والحمد لله.
[مسألة: يصلي في بيته العصر ثم يأتي إلى المسجد فيجد القوم لم يصلوا هل يتنفل]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم (مسألة) قال محمد بن خالد: سألت عبد الرحمن بن القاسم عن الذي يصلي في بيته العصر، ثم يأتي إلى المسجد فيجد القوم لم يصلوا؛ هل يتنفل؟ قال: إن أحب أن ينتظر الصلاة فلا يتنفل، وإن أحب أن ينصرف فلينصرف ولا ينتظر الصلاة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس» ، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وهذا في النوافل عند مالك، وإنما يعيد العصر في جماعة بعد أن صلاها - وحده بنية الفريضة، ولا يدري أيتهما صلاته؟ ومن(2/150)
جعل الأولى صلاته، والثانية نافلة لا يجيز له إعادة العصر، ولا الصبح في جماعة، إذ لا نافلة بعدهما.
[مسألة: يصلي فيمر بين يديه حية أو عقرب هل يقتلهما]
من سماع عبد الملك بن الحسن وسؤال ابن القاسم وأشهب مسألة قال عبد الملك بن الحسن: سئل ابن القاسم - وأنا أسمع - عن الرجل يصلي فيمر بين يديه حية، أو عقرب، هل يقتلهما؟ قال: قال مالك لا يقتلهما إلا أن يريداه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في صدر سماع موسى، والكلام عليه، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: صلى بالناس العصر فلما سلم ذكر أنه لم يكن صلى الظهر]
مسألة (قال) وسألته عن إمام صلى بالناس العصر، فلما سلم ذكر أنه لم يكن صلى الظهر، قال يجزئ عن القوم صلاتهم، ويعيد الإمام الظهر ثم العصر، وإن ذكر ذلك، وقد صلى ركعة أو ركعتين، قدم رجلا غيره.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم "إن خرجت"، والكلام عليها، فلا معنى لإعادته.(2/151)
[مسألة: يسجد في آخر الأعراف ثم يبتدئ بالأنفال]
مسألة قال: وسألت عبد الله بن وهب عن الرجل يسجد في آخر الأعراف ثم يبتدئ قراءة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] ؛ هل يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم أولا؟ قال نعم، يقرؤها ولا يتركها فيها ولا في غيرها من السور، وهو قول مالك؛ وذلك في النوافل، وقيام رمضان، وما أشبهه؛ قال أشهب: لا أرى ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب وروايته عن مالك في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في النوافل، هو مثل ما في رسم "نذر سنة" من سماع ابن القاسم، وقد مضى هناك تحصيل القول في هذه المسألة، فلا معنى لإعادته؛ وقول أشهب هنا: لا أرى ذلك عليه، يقتضي التخيير في ذلك، فهو مثل ما في المدونة.
[مسألة: الرجل أيصلي بالثوب الحرير]
مسألة قال وسألت أشهب عن الرجل أيصلي بالثوب الحرير؟ قال لا، قلت له: فإن صلى به؟ قال إن كان عليه ثوب يواريه غيره، فلا إعادة عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: فلا إعادة عليه يريد لا في الوقت ولا في غيره، ولو لم يكن عليه ثوب غيره، لأعاد على مذهبه في الوقت وغيره. وإلى هذا ذهب ابن حبيب، قال: لأنه شبيه بالعريان حين لم يكن عليه في صلاته إلا ما حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - وهو قول عيسى بن دينار.(2/152)
وقال سحنون: لو صلى بثوب حرير، وعليه أربعون قطيعة، لأعاد في الوقت، وهو مذهب ابن القاسم؛ وفي كتاب ابن الصابوني: مثله لأشهب، ويأتي بعد هذا في هذا السماع - لابن وهب، وابن الماجشون؛ أنه لا إعادة عليه في وقت ولا غيره، وسواء على مذهبهم كلهم فعل ذلك متعمدا وله ثوب غيره، (أو لم يكن له ثوب غيره) ؛ فجعل ابن القاسم تجنب لباس الحرير للرجال في الصلاة من سنن الصلاة، كتجنب النجاسة فيها، لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عنهما جميعا؛ لأن الصلاة عنده بالثوب الحرير، أخف من الصلاة بالثوب النجس - على قوله وروايته عن مالك في المدونة في الذي له ثوب حرير، وثوب نجس، أنه يصلي بالحرير، ويعيد في الوقت؟ خلافا لأصبغ في قوله: إنه يصلي بالنجس، ويعيد في الوقت، فإن صلى بالحرير لم يعد؛ ولم ير ابن وهب، وابن الماجشون، تجنب لباس الحرير مما يختص بالصلاة، فيكون من سننها أو من فرائضها، فلذلك قالا: إنه لا إعادة على من صلى بثوب حرير، لا في الوقت ولا في غيره؛ وقد قيل في الذي لا يكون له إلا ثوب حرير، إنه يصلي عريانا ولا يصلي بالثوب الحرير؛ روى ذلك أصبغ عن ابن القاسم، وذهب إليه أحمد بن خالد.
[مسألة: شارب الخمر هل تجوز الصلاة خلفه]
مسألة وسئل ابن وهب عن شارب الخمر، هل تجوز الصلاة خلفه؟ فقال: لا، فإن صلاها رجل خلفه، أعاده في الوقت وبعد الوقت؛(2/153)
قيل له فالذي يعصر الخمر، أيصلي الرجل خلفه؟ قال لا يصلي خلفه، فإن فعل فلا إعادة عليه.
قال محمد بن رشد: إنما أوجب الإعادة في الوقت وبعده على من صلى خلف شارب الخمر؛ لأن شارب الخمر فاسق لا تقبل شهادته، والفاسق الذي لا تقبل شهادته لا يؤتمن على ما يجب تقليده فيه من إحضار النية والطهارة، والتوقي من النجاسة، وشبه ذلك؛ مما هو موكول إلى أمانته، ولا أمانة له؛ وقد قيل فيمن ائتم بفاسق إن صلاته جائزة، ويعيد في الوقت استحبابا. وقال أبو بكر الأبهري: إن كان فاسقا بتأويل، أعاد من صلى خلفه في الوقت، وإن كان فاسقا بإجماع، كمن ترك الطهارة عمدا، أو زنى، أو سرق، أو شرب خمرا، أعاد من صلى خلفه أبدا. وقال بعض المتأخرين: إن كان فسقه فيما لا تعلق به بالصلاة - كالزنى، والقتل، والغصب، أعاد في الوقت؛ وإن كان فيما له تعلق بالصلاة، كالطهارة، أو يخل بشيء من فرائض الصلاة مثل أن يفعله - وهو سكران - فيعيد أبدا في الوقت وبعده؛ وجعل عصر الخمر من الذنوب التي لا يخرج بها إلى الفسق، ولا تسقط أمانته، وعلى هذا تجوز شهادته، وهو ظاهر ما في كتاب الرجم من المدونة، إلا أنه يعيد، إلا أن يعذر في ذلك بجهل.
[مسألة: اغتسل الرجل يوم الجمعة بعد الفجر إذا نوى غسل الجمعة أن يروح به]
مسألة قال عبد الله بن وهب: لا بأس إذا اغتسل الرجل يوم الجمعة بعد الفجر - إذا نوى غسل الجمعة - أن يروح به، قال والفضل أن يكون غسله متصلا بالرواح.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف المشهور في المذهب من أن غسل(2/154)
الجمعة لا يكون إلا متصلا بالرواح، لقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» . - فشرط الغسل بالإتيان إلى الجمعة. ومن طريق المعنى أن الغسل إنما شرع في الجمعة للتنظف لها، وإزالة التفل والرائحة التي تكون من العرق، فيتأذى بذلك الناس؛ فإذا اغتسل أول النهار ذهب المعنى الذي كان لأجله الغسل، لا سيما في شدة الحر، وقد روى أبو قرة عن مالك أن غسل الجمعة يجزئ في الفجر وهو شذوذ في المذهب.
[مسألة: إشارة الرجل في الصلاة ببلى ونعم]
مسألة قال ابن وهب لا بأس أن يشير الرجل في الصلاة ببلى، ونعم.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، والأصل في جواز ذلك ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى قباء فسمعت به الأنصار؟ فجاءوا يسلمون عليه - وهو يصلي، فرد عليهم إشارة بيده» . فكأن مالكا لا يرى بأسا أن يرد الرجل إلى الرجل جوابا بالإشارة في الصلاة، وأن يرد إشارة على من سلم عليه ولم يكن يكره شيئا من ذلك؛ وقد روى عنه زياد أنه كره أن يسلم على المصلي، وأن يرد المصلي على من سلم عليه - إشارة بيد، أو برأس، أو بشيء، والحجة لهذه الرواية ما روي في «أن ابن مسعود سلم على النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وهو يصلي، فلم يرد عليه» . والأظهر من(2/155)
القولين عند تعارض الأثر من وجوب رد السلام؟ إشارة لقوله عز وجل: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] . وأما إشارة الرجل إلى الرجل في الصلاة ببعض حوائجه فالأولى والأحسن أن يقبل على صلاته ولا يشتغل بشيء من ذلك، إلا أن يكون تركه لذلك سببا لتمادي اشتغال باله في صلاته، فيكون فعله لذلك أولى.
[مسألة: تفسير قوله عليه الصلاة والسلام إذا دبغ الإهاب فقد طهر]
مسألة قال وسألته عن تفسير قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» ، قال بلغني أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «ذكاة كل أديم دباغه» . فلا بأس أن يصلي الرجل بجلود الميتة إذا دبغت، ولا بأس أن يصلي عليها ويبيعها.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم أنه إنما يطهر للانتفاع به، دون الصلاة عليه وبيعه، وقد مضى القول في هذه المسألة مجودا في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الوضوء، فمن أحب الوقوف عليه، تأمله هناك.
[مسألة: المؤذن هل هو في سعة من أذانه في أن يؤذن في أي حين شاء]
مسألة قال وسألته عن المؤذن هل هو في سعة من أذانه في أن يؤذن في أي حين شاء من نصف الليل - إلى آخره؟ قال لا يؤذن المؤذن إلا سحرا. قلت وما السحر عندك؟ قال السدس الآخر.(2/156)
قال محمد بن رشد: الأصل في جواز الأذان لصلاة الصبح قبل دخول وقتها عند مالك، وجميع أصحابه، بخلاف سائر الصلوات؛ قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» . فقيل إن الأذان لها جائز من الليل إذا خرج وقت العشاء، وهو شطر الليل - على ظاهر الحديث: (قوله «إن بلالا ينادي بليل» . ووجه اختياره في الرواية ألا يكون الأذان لها إلا في السحر قرب الفجر، ما جاء في بعض الآثار عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت ولم يكن بينهما إلا مقدار ما ينزل هذا ويصعد هذا.
[مسألة: صلى في بيته الظهر يوم الجمعة لعلة كانت به ثم أتي المسجد]
مسألة وسئل وأنا أسمع عن رجل صلى في بيته الظهر يوم الجمعة لعلة كانت به، ثم أتي المسجد فوجد الناس في صلاتهم؛ أو وجد الإمام يختطب، أو وجد الناس قد فرغوا من صلاتهم، فقال: إذا صلى في بيته الظهر يوم الجمعة، والإمام يختطب، فإنه يصلي الجمعة، فإن أتى المسجد وقد فرغ الإمام من الصلاة؛ اجتزأ بالصلاة التي صلى في بيته، إلا أن يعلم أن صلاته كانت قبل الزوال؛ وإن انتقض وضوؤه - وهو مع الإمام في صلاته - خرج فتوضأ وصلى ظهرا أربعا.
قال محمد بن رشد: سأله عمن صلى الظهر يوم الجمعة في بيته لعلة كانت به، يريد من مرض، أو شبه ذلك مما يمنعه من شهود الجمعة، ثم ذهبت(2/157)
العلة فأتى المسجد، فأجابه عمن صلى في بيته الظهر يوم الجمعة ولم يذكر لعلة، ثم أتي المسجد؛ فدل ذلك على استواء المسألتين عنده، وأن العلة إن ذهبت في المسألة الأولى؛ فأتى المسجد، فأدرك من صلاة الجمعة ركعة أو أكثر أو ذهب في وقت لو أتى المسجد لأدرك من الصلاة ركعة أو أكثر، بطلت صلاته التي صلى في بيته، ووجب عليه أن يعيد صلاته ظهرا أربعا؛ وأن يصلي مع الإمام - إن جاء، فإن لم يفعل، أو انتقض وضوؤه فيها، وجب عليه أن يعيد صلاته ظهرا أربعا، وأن صلاته وإن وقعت في المسألة الثانية، وقد صلاها على ألا يأتي الجمعة، أو وهو يظن أن الجمعة قد صليت في وقت لو أتى الجمعة لأدركها، أو ركعة منها، فهي باطل، وعليه إعادتها إن لم يأت الجمعة، وأن يصليها مع الإمام إن أتى؛ فإن لم يفعل أو انتقض وضوؤه فيها، أعاد الظهر أربعا. وقد روى ابن وهب عن مالك فيمن ظن أن الصلاة يوم الجمعة قد صليت، فصلاها في بيته ظهرا أربعا ثم مر بالمسجد فوجد الناس لم يصلوا، فجهل فمضى لحاجته ولم يصل معهم، أرجو أن تجزئ عنه صلاته. فعلى هذه الرواية لا تبطل صلاته التي صلى في بيته في المسألتين جميعا - أتى إلى المسجد أولم يأت، وإنما يؤمر أن يصلي مع الإمام إن أتي إلي المسجد -استحبابا؛ - لأنه إذا قال إن صلاته التي صلي في بيته، وهو يظن أن الجمعة قد صليت في وقت لو أتى إلى الجمعة لأدركها أو ركعة منها لا تبطل، فأحرى ألا تبطل إذا صلاها في بيته لعلة كانت به من مرض أو شبهه؛ وقد مضت هذه المسألة، وتحصيل الاختلاف فيها في رسم "لم يدرك" من سماع عيسى؛ وأما إذا صلى في بيته قبل صلاة الإمام في قوت لو مضى إلى الجمعة لم يدركها ولا ركعة منها، فلا تبطل صلاته باتفاق، بمنزلة إذا صلاها بعد صلاة الإمام؛ كما أن المحصر بعدو إذا انكشف عنه الوقت في وقت لا يدرك فيه الحج - وإن كانت أيام الحج لم تنقض، فهو محصور كما لو كانت أيام الحج قد انقضت، على ما في كتاب الحج الثاني من المدونة، وهذا كله بين.(2/158)
[مسألة: القوم في المركب فيصلون جلوسا وهم يقدرون على الصلاة قياما]
مسألة وسئل - وأنا أسمع - عن القوم في المركب فيصلون جلوسا - وهم يقدرون على الصلاة قياما، قال يعيدون في الوقت وبعد الوقت. وإن لم يقدروا أن يصلوا قياما، فلا بأس أن يؤمهم إمامهم وهم جلوس.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح لا إشكال فيه؛ لأن القيام فرض في الصلاة، قال الله عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . فمن تركه مع القدرة عليه، فلا صلاة له.
[مسألة: نسي صلاة فذكرها بعد شهر فصلاها]
مسألة وسئل عمن نسي صلاة فذكرها بعد شهر فصلاها، ثم تبين له بعدما صلى أن في ثوبه نجاسة، فقال ابن وهب يعيدها.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب هذا صحيح على أصله في أن رفع النجاسة من الثياب والأبدان من فروض الصلاة، خلاف مذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك؛ لأن الصلاة الفائتة بتمامها يخرج وقتها.
[مسألة: يصلي بثوب حرير متعمدا لذلك وهو يجد غيره]
مسألة وسئل عن الذي يصلي بثوب حرير - متعمدا لذلك - وهو يجد غيره، أنه لا إعادة عليه في وقت ولا غيره، وقاله ابن الماجشون.
قال محمد بن رشد: قد تقدم في هذا السماع - القول في هذه المسألة، فلا معنى لإعادته.(2/159)
[مسألة: يوقد في مساجد يصلى فيها نار]
مسألة قال: وسألته عن مسجدنا - وهو المسجد الذي تصلى فيه الجمعة - إذا كان شهر رمضان، أمر الوالي أن يصنع طعاما في ناحية منه للمساكين والأيتام يفطرون عليه، والنار التي توقد فيه هي في ناحية منه، إلا أنه في داخل المسجد، أترى للإمام أن ينهى عن مثل هذا، ويأمر بإخراجه من المسجد؟ قال سبحان الله! وهل يكون هذا في المساجد؟ فقلت نعم، هذا عندنا ظاهر، فتعاظم ذلك، وقال لا ينبغي أن يوقد في مساجد يصلى فيها نار، وأرى أن ينهى عن ذلك أشد النهي؛ قلت له فماء يكون عندنا طاهرا في المسجد، فإذا كان أيام الطين والمطر، غسل الناس فيه أرجلهم، إلا أنه لا يتوضأ فيه؛ أترى أن يمنع مثل هذا؟ فقال نعم أشد المنع، ولا يكون مثل هذا في المساجد.
قال محمد بن رشد: قد مضى من القول في هذا المعنى، ما فيه كفاية في أول رسم "سلعة سماها" من سماع ابن القاسم.
[مسألة: الجنائز هل ينادى بها في المساجد]
مسألة قلت له: فالجنائز هل ينادى بها في المساجد؟ قال لا ينادى بها في المساجد، ولا ينادى بها إلا على أبواب المساجد.
قال محمد بن رشد: كره في رسم "حلف" من سماع ابن القاسم من كتاب الجنائز، أن ينادى بالجنائز على أبواب المساجد، وأن يصاح خلفه: استغفروا له يغفر الله لكم؛ والوجه في ذلك أنه رآه من ناحية النعي المنهي عنه.(2/160)
[مسألة: إمامة الأقطع والأشل]
مسألة قال ابن وهب لا يؤم الأقطع وإن حسنت حاله، ولا الأشل إذا كان لا يقدر على أن يضع يده على الأرض.
قال محمد بن رشد: قد روى ابن نافع عن مالك، أنه لا بأس بإمامة الخصي والأقطع وكل ذي عيب في جسده في الجمعة والأعياد وغيرها - إذا كانوا لذلك أهلا، وإنما العيوب في الأديان لا في الأبدان؛ وإلى هذا ذهب ابن الماجشون في الواضحة، ووجه قول ابن وهب، أن الأقطع والأشل يعجز كل واحد منهما عما يحاوله من الطهارة والتنظف من النجاسة، عن أن يكون في ذلك بمنزلة الصحيح، والصلاة أولى ما احتيط لها؛ مع أن الأقطع إن تاب وحسنت حاله، وكان القطع كفارة له يؤذي بذلك أيضا، كذلك الزاني، فتكره إمامته أيضا من هذا الوجه الآخر، ووجه أخر أيضا يختص بالأشل - وهو الذي يأتي على تعليل ابن وهب فيه - إذا كان لا يقدر أن يضع يده بالأرض، وهو «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال السجود على سبعة آراب» . وقال عبد الله بن عمر اليدان يسجدان كما يسجد الوجه، فإذا لم يقدر الرجل أن يضع يده بالأرض لشلل بها، وجب ألا تجوز إمامته؛ كما إذا لم يقدر أن يضع جبهته بالأرض لضرر بها. واعتل ابن الفخار للمنع من جواز إمامة الأقطع والأشل، بأنهما ناقصا الفضيلة، وأن ذلك يسري إلى المأمومين ويتعدى إليهم، لارتباط صلاتهم بصلاته.
[مسألة: الإمام يكون ممن يسلم اثنتين فقام رجل بعد أن يسلم واحدة]
مسألة وسئل عن الإمام يكون ممن يسلم اثنتين، فقام رجل بعد أن يسلم واحدة، فقال لا إعادة عليه وبئس ما صنع.(2/161)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن السلام الأول هو الفرض الذي يتحلل به من الصلاة، والثاني سنة؛ فإذا قام الرجل بعد سلامه الأول، فصلاته تامة؛ وقد مضى نحو هذا في رسم "شك في طوافه"، ورسم "نذر سنة" من سماع ابن القاسم.
[يشتري العلج والعلجة هل يجب عليه ختانهما وتعليمهما القرآن]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم
من كتاب الجامع قال أصبغ: سمعت ابن القاسم - وسئل عن الرجل يشتري العلج والعلجة من العجم - فيريد إمساكهما، هل يجب عليه خفض العلجة، وختان العلج، وتعليمهما القرآن، وعدد الصلوات؛ قال: على الرجل أن يختن من عبيده، ويخفض من إمائه ما يجمع على إمساكه، وأن يعلمهم من القرآن السورتين والثلاث، فمن كان منهم أعجميا لا يفصح أمر من يعلمه وقوت الصلوات وعدد الركعات، ويوقفه على الركوع والسجود، وعلى التوحيد والإحرام بالصلاة والتسليم منها، والوضوء؟ قال أصبغ وعليه(2/162)
أن يدخله في الإسلام إذا ملكه، إذا كان من غير أهل الكتاب، من المجوس، والزنج، والسودان، والصقالبة، والبربر، وما أشبههم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن على الرجل أن يختن من عبيده، ويخفض من إمائه ما يجمع على إمساكه؛ لأنهم حوله وملك يمينه؛ فيلزمه من ختان ذكورهم، ما يلزمه من ختان ذكور ولده؛ لأن الختان طهور الإسلام وشعاره، فهو سنة واجبة، ويستحب له من خفاض إناثهم ما يستحب له من خفاض إناث ولده؛ لأن الخفاض في النساء مكرمة، وليس بسنة واجبة، روت أم عطية أن امرأة كانت تختن، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أشمي ولا تنهكي، فإنه أسرى للوجه وأحظى عند البعل» . وعليه - (كما قال) - أن يعلمهم الوضوء، والصلاة، ويوقفهم على حدودها، ويعلمهم من القرآن ما يحتاجون إليه في صلاتهم. قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]- الآية. وقول أصبغ: وعليه أن يدخله في الإسلام، إذا ملكه - يريد صغارا، كانوا أو كبارا، فهو ظاهر قوله ههنا، وفي نوازله من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، مثل رواية ابن نافع عن مالك في المدونة، خلاف ما في سماع ابن القاسم، وسماع يحيى من كتاب التجارة إلى أرض(2/163)
الحرب، فإنه فرق في السماعين بين الصغار والكبار، فلا اختلاف في الصغار من غير أهل الكتاب أنهم يجبرون على الإسلام، ولا يتركون على الكفر - إذا عقلوا؛ واختلف في حكمهم قبل أن يعقلوا على أربعة أقوال: أحدها أنه يحكم له بحكم سيده من الإسلام بملكه إياه، وهو قول ابن دينار، ورواية معن بن عيسى عن مالك. والثاني أنه يحكم له بحكم الإسلام إذا نوى به سيده الإسلام، (وهو قول ابن وهب. والثالث: أنه لا يحكم له بحكم الإسلام) حتى يرتفع عن حدثان الملك شيئا، ويزييه سيده بزي الإسلام، ويشرعه بشرائعه، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. والرابع أنه لا يحكم له بحكم الإسلام حتى يعقله ويجيب إليه، وهو المشهور من مذهب ابن القاسم. وقد قيل إنه لا يحكم له بحكم الإسلام - وإن عقله وأجاب إليه - ما لم يبلغ، وهو مذهب سحنون، ومثله لابن القاسم في النكاح الثالث من المدونة.
واختلف في الكبار على القول بأنهم يجبرون على الإسلام في حكمهم قبل أن يجبروا عليه، فقيل إنه يحكم لهم بحكم سيدهم من الإسلام بملكه إياهم، وهو قول مالك في كتاب النذور من المدونة في الأعجمي إنه يجزئ في الرقاب الواجبة إذا لم يجد غيره، وإن كان من صلى وصام أحب إليه. وقيل إنه لا يحكم له بحكم الإسلام حتى يجيب إليه، وهو قول سحنون في مسألة كتاب النذور المذكورة، وذلك إذا كان قد أجاب إلى الإسلام؛ وهذا كله فيما سبي أو اشتري من رقيق أهل الحرب، وأما ما اشتري من أهل الذمة من(2/164)
المجوس، فإنهم لا يجبرون على الإسلام - على ما بينه أصبغ في نوازله من كتاب التجارة إلى أرض الحرب.
[النصراني يسلم والمغمى عليه يفيق والحائض تطهر قبل غروب الشمس أو طلوع الفجر]
ومن كتاب السهو قال ابن القاسم: قال مالك في النصراني يسلم، والمغمى عليه يفيق، والحائض تطهر - قبل غروب الشمس، أو طلوع الفجر -: إنهم إن كانوا يدركون خمس ركعات من النهار، أو أربع ركعات من الليل قبل طلوع الفجر، صلوا الصلاتين جميعا: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء؛ لأن المغرب ثلاث ركعات، وركعة من العشاء، فوجبت كلها؛ وصلاة النهار للظهر أربع ركعات، ومن صلاة العصر ركعة، فوجبت كلها، قال وإن لم يدركوا من صلاة النهار إلا أربع ركعات فأدنى، ومن صلاة الليل إلا ثلاث ركعات فأدنى، قضوا العصر وحدها، أو العشاء وحدها؛ لأن ذلك وقت لها، وقد خرج وقت ما كان قبلها. قال ابن القاسم: وإنما تنظر الحائض إلى ما بقي من الوقت بعد فراغها من غسلها وجهازها، وليس حين ترى الطهر - إذا لم تكن في ذلك مفرطة ولا متوانية، والنصراني يسلم ينظر إلى الوقت ساعة يسلم، فيقضي ما عليه، وليس بعد فراغه من غسله أو وضوئه؛ لأن مالكا قال في النصراني يسلم في رمضان في يوم وقد مضى بعضه، أنه يكف عن الأكل بقية يومه، ويقضي يوما مكانه؛ فالصلاة في الإعادة أوكد وأحرى أن يكون عليه ما أسلم في وقته، قياسا على قول مالك في الصيام أن يقضي يومأ مكانه، فالصلاة أولى بالقضاء، قلت(2/165)
فالمغمى عليه، أينظر إلى ما بقي من الوقت ساعة يفيق، أو إلى فراغه من وضوئه؟ فقال ينظر إلى ما بقي بعد فراغه من وضوئه، وذلك الشأن والقياس فيه، وفي النصراني؛ إلا أني أستحسن في النصراني ما قلت لك، للذي أخبرتك من قول مالك في الصيام؛ فقال ابن القاسم: ولو أحدثت الحائض بعد فراغها من غسلها، والمغمى عليه بعد فراغه من وضوئه، أو بعد دخولهما في الصلاة، فلم يفرغا من الوضوء ثانية حتى غابت الشمس؛ كان عليهما القضاء؛ لأنها صلاة قد وجبت كليهما، وليس نقض الوضوء بالذي يسقطها، ولو فرغا من وضوئهما الثاني وقد بقي من النهار شيء، لم ينظر إلى ما بقي ساعتئذ، ولكن إلى ما قد وجب عليهما في أول، فيقضيانه على كل حال، ولا يعملان على ما بقي من النهار بعد الوضوء الثاني؛ ولو كانا اغتسلا أو توضآ بماء غير طاهر وصليا، ثم علما بعد غروب الشمس، فلا إعادة عليهما؛ فإن علما قبل أن يصليا، أعادا الغسل والوضوء، وعملا على ما بقي لهما بعد فراغهما، ولم ينظرا إلى الوقت الأول، وهذه المسألة مخالفة للتي قبلها.
قال محمد بن رشد: أما النهار، فلا اختلاف في أن مقدار أربع ركعات منه قبل الغروب وقت للعصر خاصة، وأما الليل فاختلف في مقدار أربع ركعات منه قبل الفجر، فقيل أنه وقت للمغرب والعشاء؛ لأنه إذا بدأ بالمغرب بقيت ركعة للعشاء، وهو مذهب ابن القاسم؛ وقيل إنه وقت للعشاء خاصة؛ لأنه مقدار ما يصلي فيه؟ فليس على الحائض إذا طهرت لمقدار أربع ركعات، أن تصلي إلا العشاء خاصة، روي هذا القول عن ابن الماجشون وهو القياس، وقول ابن القاسم استحسان؛ وعكس هذه المسألة المسافرة تطهر لمقدار ثلاث ركعات قبل الفجر، وسيأتي الكلام عليها في سماع أبي زيد؛(2/166)
ولا اختلاف في الحائض تطهر أنها إنما تنظر إلى ما يبقى من الوقت بعد كمال غسلها؛ لأنها غير مخاطبة بالصلاة في حال حيضها، فلما كانت غير مخاطبة بها في حال حيضها، وكانت لا تملك الطهر عنها، وكانت الطهارة بالماء من شرطها، وجب ألا يجب إلا بعد كمالها، وكذلك القياس في المغمى عليه؛ لأنه غير مخاطب بالصلاة في حال إغمائه وهو لا يملك الإفاقة منه؛ وذهب مطرف، وابن الماجشون، وابن عبد الحكم، إلى أنه إنما ينظر إلى ما بقي عليه من الوقت ساعة يفيق؛ ووجه هذا القول، مراعاة قول من يرى الإغماء كالنوم في أنه لا يسقط الصلاة؛ وأما النصراني يسلم؛ فالقياس فيه أن ينظر إلى ما بقي عليه من الوقت ساعة يسلم؛ لأنا إن قلنا أنه غير مخاطب بالصلاة حتى يسلم، فلا عذر له في تأخير الإسلام إلى الوقت الذي أسلم فيه، إذ قد كان قادرا عليه قبل، بخلاف الحائض، والمغمى عليه؛ فقول ابن القاسم في الرواية، إن القياس في النصراني أن يكون كالحائض والمغمى عليه، ليس بصحيح، لما ذكرناه. وقد قال أصبغ أنه كالحائض، والمغمى عليه إنما ينظر إلى ما بقي عليه من الوقت بعد فراغه من غسله؛ وذلك على قياس القول بأنه غير مخاطب بالصلاة حتى يسلم من غير أن يراعي ما فرقنا به بينه وبين الحائض والمغمى عليه، من قدرته على الإسلام قبل؛ وتفرقته في الحائض بين أن تحدث بعد الغسل أو تغتسل بماء نجس ليس ببين؛ لأنهما جميعا لم يكن منهما تفريط في التأخير، فإما أن تعذر في المسألتين جميعا، فتعمل فيهما على ما بقي من الوقت، بعد الوضوء وبعد الغسل الثاني - على ما روى أبو زيد عن ابن القاسم في كتاب ابن المواز؛ وإما ألا تعذر فيهما جميعا فتعمل فيهما على ما كان بقي من الوقت أولا، ولم يبين في الرواية إن كان الماء الذي اغتسلت به أولا قد تغير من النجاسة أو لم يتغير، فإن كان تكلم فيها على أن الماء لم يكن تغير، فهو خلاف ما مضى من قول أشهب في سماع سحنون، وقد تكلمنا هناك على ذلك، وذكرنا وجه الاختلاف فيه.(2/167)
[مسألة: الطاهرة تنسى الصلاة أو تفرط فيها ثم تحيض]
مسألة قال مالك: والطاهر تنسى الصلاة، أو تفرط فيها، ثم تحيض، أنها إن حاضت في وقت، فلا قضاء عليها فيما حاضت في وقته؛ وما خرج وقته قبل أن تحيض، كان عليها قضاؤه بعد أن تطهر. قال ابن القاسم وتفسير ذلك، أنها إن نسيت الظهر والعصر أو فرطت فيهما، ثم حاضت لمقدار خمس ركعات قبل الغروب، فلا قضاء عليها لهما، وإن كان لمقدار أربع ركعات فأدق، قضت الظهر؛ لأن وقتها قد خرج، ولا قضاء عليها للعصر؛ لأن هذا الوقت لها؛ وإن كانت إنما نسيت العصر وحدها، ثم حاضت قبل الغروب لقدر ركعة أو أكثر، فمثل ذلك لا قضاء عليها لها؟ وإن كانت نسيت الظهر وصلت العصر، ثم حاضت لقدر ركعة أو أكثر، فلا قضاء عليها للظهر؛ لأن هذا وقت لها حين كانت قد صلت العصر، وإنما يكون وقت الظهر خارجا، ويكون آخر النهار وقت العصر، إذا نسيتهما جميعا، فأما إذا كانت قد صلت العصر، فالنهار كله وقت الظهر الذي نسيت؛ فمتى حاضت قبل الغروب، فقد حاضت في وقت ذلك؛ وكذلك هي في صلاة الليل على ما وصفت لك في نسيان الصلاتين، أو إحداهما؛ قال مالك إن كان لقدر أربع ركعات أو أكثر، فهو وقت لهما، وإن كان لقدر ثلاث ركعات أو أدني، فهو وقت للعشاء. قال مالك: والمسافر ينسى الصلاة في سفره، ثم يدخل في يومه، أو ينسى في حضره ثم يخرج من يومه: إنه إن كان دخل في وقت صلى صلاة حضر؛ وإن خرج في وقت صلى صلاة سفر. قال ابن القاسم: وتفسير ذلك، أنه إن نسي الظهر والعصر جميعا في سفره، ثم دخل من يومه، فإنه إن دخل لقدر خمس ركعات؛ صلاهما جميعا صلاة حضر، وإن لم يدخل إلا لقدر أربع ركعات فأدق، صلى الظهر صلاة سفر؟ لأن وقتها قد خرج(2/168)
قبل دخوله، وصلى العصر صلاة حضر؛ لأنه قد دخل في وقتها. وإن كان إنما نسي الظهر في سفره فصلى العصر ثم دخل من يومه، فأي ساعة دخل قبل الغروب لقدر ركعة أو أكثر، فهو وقت للظهر؛ لأنه قد صلى العصر والوقت الذي دخل فيه وقت للصلاة التي نسيها فقضاها فليصلها صلاة حضر، وإن كان في النهار فضل عنها لقدر ركعة، أعاد العصر؛ لأنه في وقتها، وإلا فلا إعادة عليه لها؛ وكذلك هو في الخروج على مثل ذلك في الوقت إن نسيهما جميعا، ثم سافر لمقدار ثلاث ركعات صلاهما صلاة سفر: ركعتين، ركعتين، وإن كان لقدر ركعتين أو أقل، صلى الظهر صلاة حضر؛ لأنه قد خرج وقتها قبل خروجه، وصلى العصر صلاة سفر؛ لأنه مسافر في وقتها، وإن كان إنما نسي الظهر وصلى العصر ثم سافر من يومه، فإن سافر لقدر ركعة فصاعدا، فهو وقت الظهر التي نسيها، فإنما يصليها صلاة سفر، ولا إعادة عليه للعصر، إلا أن يبقى عليه من الوقت قدر ركعة فصاعدا، فيعيد العصر ويعيدها صلاة سفر ركعتين؛ وكذلك هو في صلاة الليل على ما وصفت لك في الدخول والخروج سواء، وفي نسيان الصلاتين جميعا أو إحداهما، إلا أن صلاة الليل كما قد علمت المغرب ثلاثا، والعشاء أربعا، فعلى ذلك كله فقس واعرف ما يجب عليك من ذلك، وما لا يجب، وما تكون العشاء فيه صلاة حضر، أو سفر، قال ولو نسي الظهر في سفره وصلى العصر فدخل من يومه قبل الغروب لقدر ركعة أو أكثر، فانتقض وضوؤه، أو دخل غير متوضئ، أو دخل جنبا، فلم يفرغ من غسله، ولا وضوئه حتى(2/169)
غربت الشمس، فعليه قضاؤها صلاة حضر أربعا، مثل الذي كان وجب عليه حين الدخول؛ وإنما ينظر في مثل هذا إلى الدخول، فما وجب عليه ساعتئذ، قضاه على كل حال، وكذلك هو أيضا في الخروج على مثل ذلك سواء.
قال محمد بن رشد: قوله إذا حاضت لمقدار أربع ركعات من الليل قبل الفجر ولم تكن صلت المغرب والعشاء، إنه وقت لهما جميعا، فليس عليها أن تصليهما، هو على قياس قول ابن القاسم في المسألة التي قبل هذه. وقد ذكرنا أن ابن الماجشون يرى الوقت لصلاة العشاء خاصة؛ لأنه قدر ما تصلي فيه، فعلى قوله يسقط عنها صلاة العشاء في هذه المسألة؛ لأنها حاضت في وقتها، ويكون عليها أن تصلي المغرب؛ لأنه خرج وقتها قبل أن تحيض، وهو القياس، وقول ابن القاسم استحسان؛ وأما قوله إذا صلت العصر ونسيت الظهر ثم حاضت لقدر ركعة فأكثر، فلا قضاء عليها للظهر؛ وإذا صلى المسافر العصر ونسي الظهر ثم دخل قبل الغروب لقدر ركعة أو أكثر فهو وقت للظهر، يصليها صلاة حضر؟ وإذا صلى المقيم العصر ونسي الظهر ثم سافر من يومه لمقدار ركعة فصاعدا، فهو وقت للظهر يصليها صلاة سفر، فهو خلاف رواية يحيى عن ابن القاسم في رسم "يشتري الدور والمزارع" من سماعه، مثل ما وقع له هناك من رواية عيسى عنه، وقد مضى من القول في ذلك هناك ما لا مزيد عليه، وبالله التوفيق.
[: سهو الإمام]
في سهو الإمام
قال: وقال مالك من أدرك من صلاة الإمام ركعة بسجدتيها فصاعدا، فما دخل على الإمام من سهو وجب عليه - زيادة كان سهوه، أو نقصانا، قبل دخوله مع الإمام كان أو بعده؛ لأن من أدرك(2/170)
من الصلاة ركعة فقد أدركها، فهو بمنزلة من دخل معه في أول صلاته. قال ابن القاسم وما وجب على الإمام من سجود السهو، وجب على من خلفه؛ لأنهم له تبع، وإنما جعل الإمام ليؤتم به؛ قال مالك وإن كان سجود الإمام نقصانا، سجد معه هذا الداخل قبل السلام، ثم لا سجود عليه بعد ذلك؛ وإن كان سجود الإمام زيادة، فلا يسجد معه؛ قال ابن القاسم وقد اختلف قول مالك في أن يقوم إذا سلم الإمام لقضاء ما عليه أو ينتظر حتى يفرغ الإمام من سجوده، مرة كان يقول هذا، ومرة كان يقول هذا، وأحب إلي أن يجلس وينتظر حتى يفرغ الإمام؛ لأن قيامه وانفراده بالقيام، والإمام ساجد سماجة وشهرة. قال ابن القاسم وقال مالك فإذا فرغ من قضاء ما عليه سجد لنفسه بعد السلام، كما كان وجب على الإمام. قال ابن القاسم وإن دخل عليه فيما يقضي لنفسه سهو، فإن كان نقصانا سجد قبل السلام لسهوه وسهو الإمام جميعا؛ لأنه نقصان وزيادة اجتمعا، فالسجدتان لهما قبل السلام؛ وإن كان سهوه لنفسه أيضا زيادة، فسجدتان بعد السلام يجمعان له سهوه وسهو الإمام. قال: وإن كان سهو الإمام قبل السلام، فيسجد معه، ثم دخل عليه فيما يقضي لنفسه سهو، سجد له أيضا إن كان قبل السلام، فقيل وإن كان بعد فبعد على سنته؛ قال ابن القاسم وقد سمعت أن مالكا أمره أن يسجد إذا سها فيما يقضي لنفسه وليس(2/171)
(في) تبيان أن سجود الإمام كان قبل أو بعد، وهو - عندي سواء؟ ولو لم آمره أن يسجد فيما يقضي لنفسه إذا كان قد سجد مع الإمام في النقصان، لم آمره أن يسجد في الزيادة؛ وذلك الذي لا شك فيه، وهو عندي سواء، وهو على ما فسرت لك؛ قال وإن أحدث الإمام فقدمه، فإن كان سهو الإمام نقصانا فليسجد بهم إذا انقضت صلاة الإمام الذي استخلفه قبل أن ينهض لقضاء ما عليه، كما كان الأول يفعل؛ ثم يشير إليهم بعد ذلك للجلوس ويقوم لتمام ما بقي عليه، فإن دخل عليه في ذلك سهو، فليسجد فيه لنفسه، إن كان قبل فقبل، وإن كان بعد فبعد، ولا يسجدون معه في شيء من ذلك؛ لأن صلاتهم قد انقضت ولم يبق لهم إلا سلامه، فليس عليهم من سهوه ذلك شيء، وإن سها في بقية صلاة الإمام الأول، فإنه يسجد سجود الإمام الأول قبل السلام، ويجزئه من ذلك كله، كان سهوه في ذلك زيادة أو نقصانا؟ فسجود الإمام يجمع ذلك كله، فإنما يسجد بالقوم سجود من استخلفه، وليس هو إذا كان مستخلفا بمنزلته فيما يفعل لنفسه - إذا انفرد وكان وحده. قال: وإن كان سهو الإمام زيادة فقدمه، فلا يسجد حتى يتم بقية صلاته، ويسلم ويسجد بهم؛ فإن دخل عليه سهو، فسواء كان في بقية صلاة الأول، أو فيما يقضي لنفسه من بقية صلاته؛ وسواء كان زيادة أو نقصانا، فإنما يسجد بعد السلام سجود الإمام الذي استخلفه، ويجمع له ذلك كله ويسجدون معه؛ لأنه إن كان سهوه إنما هو في بقية صلاة الإمام(2/172)
الأول، فهي لهم صلاة يجب عليهم مثل ما وجب عليه فيها، وإن كان سهوه إنما هو فيما يقضي لنفسه، فإنما يسجدون معه بسجود الإمام، وإنما يعمل في ذلك عمل من استخلفه.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة تشتمل على مسائل، وقوله في أولها إن من أدرك من صلاة الإمام ركعة، وجب عليه ما وجب على الإمام من سهو قبل أن يدخل معه في الصلاة، بمنزلة من دخل معه في أول صلاته؛ صحيح لا اختلاف فيه أحفظه، والأصل في ذلك قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» . لأن المعنى في ذلك عند أهل العلم فقد أدرك حكم الصلاة، خرج مخرج قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يريد واسأل أهل القرية. فإذا أدرك الرجل ركعة من صلاة الإمام، كان حكمه في صلاته حكم صلاة الإمام في القصر - إن كانت جمعة، أو الإتمام إن كان الإمام مقيما، وهو مسافر، وفيما يجب من سجود السهو على الإمام، ولا يكون حكمه حكم الإمام إن كان الإمام مسافرا وهو مقيم؛ لأن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بأهل مكة ركعتين، ثم قال: أتموا صلاتكم يا أهل مكة، فإنا قوم سفر» . فخصص هذا الحديث عموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة» . وقوله بعد ذلك وما وجب على الإمام من سجود السهو، وجب على من خلفه؛ لأنهم له تبع، «وإنما الإمام ليؤتم به» ؛ صحيح؛ لأن سجود السهو إنما يجب فيما يحمله الإمام عمن خلفه، وما يحمله الإمام عمن خلفه فسهوه عنه سهو لهم - وإن فعلوه؛ وقول مالك وإن كان سجود الإمام نقصانا، سجد معه هذا الداخل قبل السلام، ثم لا سجود عليه بعد ذلك؛ هو المعلوم في المذهب، وقد حكى ابن عبدوس عن غير ابن القاسم، أنه لا يسجد سجدتي السهو إلا بعد قضاء ما عليه بقرب سلامه؛ وهذا على(2/173)
قياس القول بأن ما أدرك مع الإمام، هو أول صلاته، إذ لا يكون السجود للسهو في وسط الصلاة؛ والقول الأول على قياس القول بأن ما أدرك مع الإمام، هو آخر صلاته مع ما جاء في الأمر من اتباع الإمام، والنهي عن أن يختلف عليه؟ وما حكي بعد ذلك من اختلاف قول مالك في أن يقوم إذا سلم الإمام لقضاء ما عليه، أو ينتظر حتى يفرغ الإمام، هو خلاف ماله في المدونة؛ لأنه خيره فيها بين أن يقوم أو يقعد حتى يفرغ الإمام من سجوده، فهي ثلاثة أقوال لمالك، وثلاثة أقوال أيضا لابن قاسم؛ لأن اختياره ههنا خلاف اختياره في المدونة؛ وحكى ابن حبيب عنه أنه وسع له في القيام لقضاء ما فاته أو القعود حتى يفرغ الإمام من سجوده، فوجه قوله إنه يقعد حتى يفرغ الإمام من سجوده، اتباع ظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» . لأن من ذلك أن يصلي هو ما فاته، والإمام يسجد لسهوه، وهذا معنى قوله في الرواية؛ لأن انفراده بالقيام - والإمام ساجد - سماجة وشهرة؛ ووجه قوله إنه يقوم لقضاء ما فاته مع الإمام ولا ينتظره، ما علل به اختياره في المدونة؛ ووجه التوسعة في ذلك والتخيير فيه، أن الدلائل لما استوت عنده في الأمرين خير بينهما، إذ قد قيل أن الناظر إذا استوت عنده دلائل الحظر والإباحة، كان له أن يأخذ بأيهما شاء. وقوله إنه، إن دخل عليه سهو فيما يقضي لنفسه، فإنه يسجد له إن كان قبل فقبل، وإن كان بعد فبعد، كان سجود الإمام قبل السلام، سجد معه أو بعد السلام فلم يسجد، صحيح؛ لأنه إن كان قد سجد مع الإمام قبل السلام، فيسجد فيما يدخل عليه من سهو فيما يقضي على سنة السجود في الزيادة بعد السلام. وفي النقصان قبل السلام. وإن كان لم يسجد مع الإمام؛ لأن سجوده كان بعد السلام، فيضيف سهوه إلى سهو الإمام؟ فإن كان زيادة، سجد بعد السلام لأن السهو كله زيادة؛ وإن كان نقصانا سجد قبل السلام، لاجتماع الزيادة والنقصان. وخالف ابن الماجشون هذا الأصل كله فقال: إنه إذا سجد مع(2/174)
الإمام للسهو قبل السلام، فلا سجود عليه فيما يدخل عليه من سهو فيما يقضي لنفسه، وهذا على قياس القول بأن ما أدرك مع الإمام فهو آخر صلاته، وإلى هذا يرجع قوله في الواضحة بأنه لا يسجد للسهو في الصلاة - وإن كثر إلا مرة واحدة. وقال أيضا على قياس قوله: إنه إن كان سجود الإمام بعد السلام، فإنما يسجد بعد قضاء ما فاته بعد السلام، لسجود الإمام على كل حال، وإن دخل عليه فيما يقضي لنفسه سهو يكون سجوده قبل السلام. وقوله: إن سهو الإمام إن كان نقصانا فأحدث فقدمه، أنه يسجد بهم إذا انقضت صلاة الإمام الذي استخلفه قبل أن ينهض لقضاء ما عليه، كما كان الأول يفعل؛ هو خلاف ما تقدم في سماع موسى بن معاوية، وخلاف قول أشهب أيضا، ولكلا القولين وجه من النظر. وأما قوله إن سجوده يكون قبل السلام وإن دخل عليه في بقية صلاة الإمام سهو زيادة أو نقصان، فصحيح لا اختلاف فيه، وإنما الاختلاف إذا قدمه وعليه سجود بعد السلام، فقال في الرواية إنه يسجد بعد السلام لسجود الإمام الذي استخلفه، وإن سها في بقية صلاة الإمام، أو فيما يقضي لنفسه سهوا يكون نقصانا. وقال ابن حبيب إنه إن سها في بقية صلاة الإمام سهوا يكون سجوده قبل السلام، سجد قبل السلام لسهوه وسهو الإمام؛ بخلاف إذا كان السهو فيما يقضي لنفسه، فإنه يسجد بعد السلام سجود الإمام الذي استخلفه، وفي كتاب ابن عبدوس عن غير ابن القاسم، أنه إن سهل في بقية صلاة الإمام، أو فيما يقضي لنفسه سهوا يكون سجوده قبل السلام، سجد قبل السلام لسهوه وسهو الإمام، فهي ثلاثة أقوال، أظهرها تفرقة ابن حبيب، والله أعلم.
[مسألة: لم يدرك مع الإمام إلا التشهد وعلى الإمام سهو]
مسألة قلت أرأيت من لم يدرك مع الإمام إلا التشهد، وعلى الإمام(2/175)
سهو يكون قبل السلام أو بعده؟ قال لا يسجد معه لا قبل ولا بعد؛ لأنه لم يدرك من الصلاة شيئا؛ والحديث «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» . وهو لم يدرك شيئا حتى يجب عليه ما يجب على الإمام، ومما يبين (لك) ذلك، لو أن مسافرا دخل مع حضري في الصلاة قد علم أنه حضري، فلم يدرك من صلاته شيئا إلا التشهد أو السجود الآخر، فإنما يصلي صلاة سفر، وليس عليه أن يصلي صلاة حضر، ولا يحل له أن يصليها، وكذلك هذا.
قال محمد بن رشد: قوله ولا يحل له أن يصليها، لفظ ليس على ظاهره في مذهب مالك، إذ ليس القصر على مذهبه فرضا، ألا ترى أنه لا إعادة عليه عنده - إن أتم في جماعة، ولا يعيد أيضا إن أتم وحده إلا في الوقت؟ ووقع في بعض الروايات: ولا ينبغي له، وهو أصح، وقد تقدم في آخر رسم "نقدها" من سماع عيسى، الاختلاف فيمن أدرك التشهد من صلاة الإمام، وعليه سجود السهو قبل السلام أو بعده، وتوجيه ذلك كله، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: صلى نافلة فسها عن السلام فيها حتى تطاول ذلك]
مسألة وسئل عمن صلى نافلة فسها عن السلام فيها حتى تطاول ذلك، أو يحدث، أو تباعد، عليه السجود؛ فقال أحب إلي أن يعيد احتياطا؛ ولاختلاف الناس في ذلك، فأرى أن يسجد متى ما ذكر، ولا يحدث سلاما قبل ذلك؛ لأن طول حديثه وتباعده تسليم، حتى لو دخل في مكتوبة بعد ذلك لم يضره، ولم ينقضها ذلك عليه.(2/176)
قال محمد بن رشد: يريد بقوله، ولاختلاف الناس في ذلك، قول من يقول من أهل العراق وغيرهم: أن التشهد والسلام ليس بواجب في الفريضة، فاستخف لذلك في النافلة أن يصلحها بسجود السهو - إذا طال، أو أحدث، واستحب أن يعيد النافلة احتياطا؛ كما استحب لمن أفطر ناسيا في صيام التطوع، أن يقضي، وعلى أصل المذهب لا قضاء على من أفسد نافلته غير متعمد، وقد مضى ذكر (هذا) الاختلاف في رسم "الصلاة" الثاني من سماع أشهب.
[مسألة: صلى بقوم ركعتين فلما قام في الثالثة أحدث]
مسألة وسئل سحنون عن إمام صلى بقوم ركعتين، فلما قام في الثالثة أحدث، فقدم رجلا دخل ساعتئذ - وقد أدرك الإحرام، فصلى بهم بقية صلاة الإمام المستخلف، ثم رجع إليه الإمام الأول، وهو في التشهد من أربعة، فقال له أنه بقيت علي سجدة من أحد الركعتين الأوليين، لا أدري أمن الثانية أم من الأولى؛ قال سحنون: يقوم الإمام ومن معه فيصلي بهم ركعة يقرأ فيها بأم القرآن وحدها؛ لأنها ركعة بناء، ثم يقوم هو ويقعد القوم فيأتي لنفسه بركعة بسجدتيها، يقرأ فيها بأم القرآن وسورة؛ لأنها ركعة قضاء لنفسه، وليست بناء، ويسجد سجدتي السهو قبل السلام من قبل أن الإمام الأول لما ترك السجود من إحدى ركعتيه، فقد بطلت؛ فإن كانت من الأولى بطلت وصارت الثانية هي الأولى، وإن كانت من الثانية، فقد بطلت الثانية وصحت الأولى؛ وصار المستخلف إنما استخلف على ثانية الإمام الأول - وهي الأولى، وقد قرأ فيها بأم القرآن فقط، وقام فيها، وقد كان عليه أن يقرأ فيها بأم القرآن وسورة، ويجلس، فدخل النقص من ههنا،(2/177)
وصارت الرابعة الثالثة؛ وعليه أن يأتي برابعة الإمام وهي ركعة البناء، فلذلك أمر أن يقرأ فيها بأم القرآن، ثم يأتي لنفسه بركعة القضاء وهي الأولى التي سبقه بها الإمام الأول؛ قال وإن كان القوم على يقين قعدوا وقام الإمام فصلى ما بقي عليه.
قال محمد بن رشد: المسألة كلها صحيحة على أصولهم في أن الإمام إذا ذكر في آخر صلاته سجدة من أولها هو ومن معه أنه يلغي تلك الركعة ويبني على ما معه كالمنفرد، بخلاف إذا أسقط السجدة هو وحده، فمعنى ذلك ما تكلم عليه فيها إذا أسقط الإمام السجدة ومن معه، أو بعضهم، أو شك فيها هو ومن معه أو بعضهم. وقوله في آخرها: وإن كان القوم على يقين - يريد على يقين من أنهم لم يسقطوا شيئا - قعدوا وقام الإمام فصلى ما بقي عليه، يريد أنه يقضي الركعتين اللتين فاتتاه بأم القرآن وسورة؛ لأن الإمام إذا كان إنما أسقط السجدة وحده دون من خلفه، فإنما عليه قضاء تلك الركعة وحده دون من خلفه، وبالله التوفيق.
تم سماع أصبغ بن الفرج بحمد الله وحسن عونه
* * *(2/178)
[قوم ربطهم اللصوص أياما لا يصلون ثم يرسلون]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عن قوم ربطهم اللصوص أياما لا يصلون ثم يرسلون، قال: يقضون تلك الصلوات كلها؛ وينبغي لهم أن يصلوا الصلاة إذا حضر وقتها إيماء إذا لم يقدروا على غير ذلك، ثم يعيدوا إذا أرسلوا - ما أرسلوا في وقته، فإن لم يفعلوا، فعليهم القضاء، قضاء تلك الصلوات.
قال محمد بن رشد: قوله: إنهم إذا لم يصلوا أياما ثم أرسلوا أنهم يقضون تلك الصلوات، صحيح؛ لأنهم لما ربطهم اللصوص فلم يقدروا من أجل ربطهم على الركوع والسجود، انتقل فرضهم إلى الإيماء، فلما تركوا ذلك، كان كمن ترك صلاته - متعمدا حتى خرج الوقت - أنه يجب عليه أن يصليها بعد خروج الوقت ولا اختلاف عندي في هذا الوجه، وهو مثل قوله في المدونة في الذين تحت الهدم، فإن صلوا إيماء، فلا إعادة عليهم إلا في الوقت استحبابا. وقوله: فإن لم يفعلوا فعليهم قضاء تلك الصلوات، يحتمل أن يريد فإن لم يصلوا إيماء، فعليهم قضاء تلك الصلوات أبدا، فإن كان أراد ذلك، فهو صحيح على ما قلناه؛ ويحتمل أن يكون أراد فإن لم يعيدوا في الوقت إذا صلوا إيماء فعليهم القضاء بعد الوقت؛ فإن كان أراد ذلك، فهو على أحد قولي ابن القاسم فيمن أمر بالإعادة في الوقت، فلم يفعل حتى خرج الوقت؛ وقد مضى ذلك في رسم "استأذن" من سماع عيسى، وفي غيره من المواضع؛ وقد روى(2/179)
معن بن عيسى عن مالك في الأسرى يكتفهم العدو أياما لا يصلون، قال لا صلاة عليهم إذا تركوا إلا ما أدركوا وقته، وقاله ابن نافع في الذين تحت الهدم، ورواه أشهب عن مالك؛ ومعنى ذلك - عندي في الذين لا يقدرون على الصلاة أصلا بإيماء ولا غيره، أو في الذين ليسوا على طهارة ولا يقدرون عليها بوضوء ولا تيمم؛ لأن الاختلاف إنما يصح في هؤلاء، فعلى ظاهر ما في المدونة أتجب عليهم الإعادة، إذ لم يفرق فيها بين أن يقدروا على الإيماء أو لا يقدروا؛ ولا بين أن يكونوا على طهارة، أو لا يكونوا؛ وعلى قول ابن نافع ورواية أشهب ومعن بن عيسى عن مالك، لا إعادة عليهم.
وفي سماع أبي زيد من كتاب الوضوء في المريض الذي لا يقدر على الوضوء، ولا على التيمم أنه يصلي على حاله، ويعيد إذا قدر على الوضوء أو التيمم، وقد تكلمنا هناك على وجه ذلك.
[مسألة: رجل حضرته الصلاة وهو في سفر وليس معه إلا ثوبان]
مسألة قال ابن القاسم في رجل حضرته الصلاة وهو في سفر وليس معه إلا ثوبان، أصابت أحدهما نجاسة لا يدري أيهما هو؟ قال: يصلي في أحدهما، ثم يعيد في الآخر - مكانه؛ وقد بلغني عن مالك، أنه قال: يصلي في واحد منهما، ويعيد ما كان في الوقت - إن وجد ثوبا - كما قال في الثوب؛ ولست أرى أنا ذلك، يصلي في أحدهما ثم يعيد في الآخر - مكانه، ثم لا إعادة عليه في وقت ولا غيره - وإن وجد غيرهما.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم استحسان؛ لأنه إذا صلى بأحد الثوبين ثم أعاد في الآخر - مكانه؛ فقد تيقن أن إحدى صلاتيه قد خلصت بثوب طاهر - وفيه نظر؛ لأنه إذا صلى في أحدهما على أن يعيد في الآخر،(2/180)
فلم يعزم في صلاته فيه على أنها فرضه، إذ صلاها بنية الإعادة، فحصلت النية غير مخلصة فيها للفرض؛ وكذلك إذا أعادها في الآخر، لم تخلص النية في إعادته للفرض؛ لأنه إنما نوى أنها صلاته - إن كان هذا الثوب هو الثوب الطاهر. وقول مالك أصح وأظهر من جهة النظر والقياس؛ لأنه يصلي في أحدهما على أنه فرضه فتجزئه صلاته؛ إذ لو لم يكن له غيره فصلى به - وهو عالم بنجاسة لأجزأته صلاته، ثم إن وجد في الوقت ثوبا طاهرا يوقن بطهارته، أعاد استحبابا.
[مسألة: دخل في صلاة العيدين والإمام يقرأ]
مسألة قال ابن القاسم فيمن دخل في صلاة العيدين - والإمام يقرأ، قال يكبر سبعا، قيل فوجده راكعا؟ قال يكبر واحدة ويركع معه.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم "يوصي لمكاتبه" من سماع عيسى مثل هذا لابن القاسم، وخلافه لابن وهب؛ وتكلمنا هناك على توجيه القولين جميعا، فأغنى ذلك عن إعادته (هنا) .
[مسألة: إمام صلى صلاة الخوف تقدم بطائفة فصلى بهم ركعة ثم ذهب العدو وأمنوا]
مسألة قال ابن القاسم في إمام صلى صلاة الخوف، تقدم بطائفة فصلى بهم ركعة، ثم ذهب العدو وأمنوا، قال: يتم بالطائفة التي معه ركعتين، ويقدم الطائفة الأخرى رجلا يؤمهم ويصلي بهم ركعتين.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في سماع سحنون، وزاد فيها زيادة اختلف فيها قوله؟ فبينا الوجه في ذلك بما أغنى عن إعادته (هنا) .(2/181)
[مسألة: لا يقرأ في الركعتين الأخيرتين من الظهر الصلاة خلفه]
مسألة قال ابن القاسم لو كنت أعلم أن أحدا لا يقرأ في الركعتين الأخيرتين من الظهر ما صليت خلفه.
قال محمد بن رشد: القراءة فيهما على مذهب مالك واجبة، ولذلك لم ير ابن القاسم الصلاة خلف من لا يقرأ فيهما، وقد مضى في رسم "البز" من سماع ابن القاسم ذكر الاختلاف في ذلك.
[مسألة: لم يقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن ثم ذكر وهو في الركعتين]
مسألة قال ابن القاسم من لم يقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن، ثم ذكر وهو في الركعتين؛ قال: يسلم ويبتدئ الصلاة، قيل له فلم يقرأ في ركعة واحدة؟ قال: يسلم ويبتدئ.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول في هذه المسألة - موعبا في جميع وجوهها في رسم "أوصى أن ينفق على أمهات أولاده" من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك (هنا) .
[مسألة: مسافرة طهرت وقد بقي عليها من الليل قدر ما تصلي ثلاث ركعات]
مسألة قال ابن القاسم في مسافرة طهرت وقد بقي عليها من الليل قدر ما تصلي ثلاث ركعات، قال: تصلي العشاء وليس عليها في المغرب شيء، وقال أشهب مثله؛ قال أصبغ: هذه آخر مسألة سألت عنها ابن القاسم، قال: وذلك أن ابن عبد الحكم نازعني فيها فقال: تعيد الصلاتين جميعا، وقلت أنا لا تعيد إلا العشاء الآخرة، فصحبت(2/182)
ابن القاسم - وكان خارجا إلى الحج إلى جب عميرة، فسألته عنها وأخبرته بقولي، وبقول ابن عبد الحكم؛ فقال لي يا أصبغ أصبت، وأخطأ ابن عبد الحكم. وسئل عنها سحنون وأخبر بقول أصبغ، وابن عبد الحكم، فرأى ما روى أصبغ عن ابن القاسم - غلطا؛ وقول أصبغ (خطأ) ، ورأى قول ابن عبد الحكم صوابا: أن عليها الصلاتين جميعا؛ لأنها طهرت في وقت منهما جميعا، وذلك أن ركعتين للعشاء الآخرة، وركعة للمغرب، وكذلك لو حاضت قبل الفجر لثلاث ركعات - وقد نسيت المغرب والعشاء، لم يكن عليها من الصلاتين شيء؛ لأنها حاضت في وقتهما؛ ألا ترى أن آخر الوقت لآخر الصلوات، فالركعات من آخر الوقت للعشاء، وركعة قبلها للمغرب، فهو وقت لهما جميعا، فقس على هذا ما ورد عليك - إن شاء الله تعالى.
قال محمد بن رشد: قول ابن عبد الحكم وسحنون، هو الصحيح الذي يوجبه القياس والنظر؛ لأنها قد طهرت في وقت منهما جميعا؛ لأن الوقت إنما يقدر لآخر الصلوات؛ وهي إذا صلت العشاء - وحدها، بقيت ركعة من وقت صلاة المغرب تذهب هدرا، إذ لم تصلها؛ وليس استغراق صلاة المغرب الذي يجب أن تبدأ بها للرتبة لوقت العشاء، بالذي يمنع أن تبدأ بالمغرب - وإن صلت العشاء بعد الفجر كما أن الحائض إذا طهرت لمقدار ركعة أو أربع قبل غروب الشمس - وعليها صلاة قد فرطت فيها، أو نسيتها قبل حيضتها؛ أنها تبدأ بالصلاة التي فرطت فيها أو نسيتها على الصحيح من الأقوال، ثم تصلي العصر(2/183)
بعد الغروب؛ وقد مضى القول في ذلك في رسم "يشتري الدور والمزارع" من سماع يحيى، فتدبر ذلك، تجده صحيحا - إن شاء الله تعالى.
[مسألة: مسافر مر بقوم ممن لا تجب عليهم الجمعة فصلى بهم الجمعة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن إمام مسافر مر بقوم ممن لا تجب عليهم الجمعة، فصلى بهم الجمعة؛ قال يصلون على أثرها ركعتين، ولا يعيد الإمام الصلاة.
قال محمد بن رشد: قوله يصلون على إثرها ركعتين، يريد أنهم يتمون صلاتهم إذا سلم الإمام، وتجزئ الإمام الصلاة ومن معه من المسافرين، وتكون لهم صلاة سفر لا جمعة؛ وهذا مثل قول مالك في موطئه، ومثل قول ابن نافع في بعض روايات المدونة؛ خلاف رواية ابن القاسم عنه فيها: أنهم يعيدون كلهم الصلاة أهل القرية والإمام (ومن) معه من المسافرين؛ وإنما لم تجز الإمام والمسافرين، وتكون لهم صلاة سفر ويبني عليها أهل القرية المقيمون؛ لأنه جهر فيها متعمدا، ففسدت عليه وعليهم؛ هذا وجه رواية ابن القاسم، ووجه رواية أبي زيد، وما في الموطأ، وقول ابن نافع؛ أنه عذر الإمام بالجهل في التأويل؛ ولمالك في المبسوط من رواية ابن نافع عنه، أنهم يعيدون كلهم في الوقت، فهي ثلاثة أقوال فيمن جهر في غير موضع الجهر من صلاته - متعمدا بتأويل.
[مسألة: صلى بثوب حرير في كمه]
مسألة وسألت ابن القاسم عمن صلى بثوب حرير في كمه، قال: أرجو أن يكون خفيفا، ولم ير عليه إعادة، ولم يره من ناحية اللبس.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الحرير ليس بنجس، فيكون إذا صلى به في كمه حامل نجاسة، وإنما نهى عن لباسه من ناحية الترف،(2/184)
والتشبه في لباسه بالكفار؛ فلا إثم عليه في صلاته به في كمه، ولا كراهة إلا من جهة اشتغال باله بحفظه في صلاته، ولذلك قال أرجو أن يكون خفيفا.
[مسألة: أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فأصابه رعاف]
مسألة قال ابن القاسم فيمن أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فأصابه رعاف، فخرج فغسل الدم عنه، ثم رجع إلى المسجد فبنى فيه فسها في الركعة الثانية عن قراءة أم القرآن؛ قال ابن القاسم: يسجد سجدتي السهو ويسلم، ثم يقوم ويصلي الظهر أربعا، وكذلك في الصبح.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب الوضوء من المدونة، وهو أحد أقوال مالك في الصلاة منها؛ والقول الثاني أنه لا إعادة عليه، والقول الثالث أنه يلغي تلك الركعة؛ وقد قيل إن هذا الاختلاف إنما هو فيما عدا الصبح، والجمعة، وصلاة السفر؛ والأول هو أظهر ما في المدونة، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم " أوصى" من سماع عيسى.
[مسألة: حكم ركعتي الفجر]
مسألة وسئل عن ركعتي الفجر أسنة هي؟ فقال لي: نعم. قلت له: فالقنوت في الصبح، فقال لي: ركعتا الفجر أبين؛ ورأيت معنى قوله إن القنوت ليس بسنة.
قال محمد بن رشد: قوله في ركعتي الفجر إنهما سنة، هو دليل ما في المدونة، ومثل ما في رسم "القبائل" من سماع ابن القاسم، خلاف ما في رسم "الصلاة" الأول من سماع أشهب؛ وفي سماع عيسى من كتاب المحاربين والمرتدين لأصبغ، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك، وتوجيهه في رسم "القبائل"(2/185)
المذكور. وقوله: أن القنوت ليس بسنة، هو مذهبه في المدونة؛ لأنه لم ير على من نسيه سجود سهو، فإن سجد لم تفسد صلاته، بخلاف من ترك التسبيح فسجد لذلك؛ وقال أشهب من سجد قبل السلام لترك القنوت أو التسبيح، أعاد صلاته؛ وقد روى زياد عن مالك أن من ألزم نفسه القنوت فنسيه فليسجد.
[مسألة: يصلي وقلنسوة حرير على رأسه]
مسألة وسئل عن الرجل يصلي وقلنسوة حرير على رأسه، قال: لا يفعل؛ قلت: فالتكة؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لباس كله؛ ألا ترى لو أن رجلا حلف ألا يلبس الخز، أو الحرير، فلبس منه قلنسوة، كان لباسا، وكان حانثا، وهذا بين.
[مسألة: يصلي ركعتي الفجر فيقوم في الثالثة]
مسألة وسئل عن الرجل يصلي ركعتي الفجر، فيقوم في الثالثة؛ قال: يرجع فيقعد. قلت: فإن لم يفعل حتى مضى وصلى أربعا وسجد سجدتي السهو، قال: يعيد الركعتين أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم "إن أمكنتني" من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: يقرأ صدرا من الحمد لله ثم يصيبه حدث فيقدم رجلا]
مسألة وسئل عن الذي يقرأ صدرا من الحمد لله، ثم يصيبه حدث فيقدم رجلا، قال لي: يقرأ من حيث انتهى الإمام.(2/186)
قال محمد بن رشد: هذا قول ابن نافع، وابن دينار، وغيرهما من أصحاب مالك. وقد روى محمد بن يحيى السبائي عن مالك، أنه قال: ذلك واسع أن يقرأ من حيث انتهى الإمام، أو يبدأ السورة، وأحب إلي أن يبدأ بها، والأول أظهر: أن الاختيار أن يقرأ من حيث انتهى الإمام؛ لأنه خليفته على الصلاة يحل محله فيها، فكما يبني على ما مضى من ركوعه وسجوده، فكذلك يبني على ما مضى من قراءته - وبالله التوفيق.
[مسألة: الإشارة بالأصبع في تشهد الصلاة]
مسألة قال ابن القاسم: رأيت مالكا إذا صلى الصبح يدعو ويحرك أصبعه التي تلي الإبهام - ملحا، وإذا أراد أن يدعو رفع يديه شيئا قليلا يجعل ظاهرهما مما يلي الوجه - أرانيه ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في الإشارة بالأصبع في تشهد الصلاة، وفي رفع اليدين عند الدعاء - في رسم "شك في طوافه" من سماع ابن القاسم - موعبا مستوفى، فلا وجه لإعادته هنا.
[مسألة: صلى فنسي التكبير كله إلا تكبيرة الإحرام]
مسألة وقال فيمن صلى فنسي التكبير كله إلا تكبيرة الإحرام، قال يسجد سجدتي السهو، وأنكر الإعادة.(2/187)
قال محمد بن رشد: وهذه مسألة قد مضى القول فيها - موعبا في رسم "أوصى" من سماع عيسى، فأغنى عن إعادته.
[مسألة: أراد أن يقرأ في الصبح تبارك فقرأ والسماء والطارق]
مسألة وقال ابن القاسم فيمن أراد أن يقرأ في الصبح تبارك، فقرأ والسماء والطارق، قال: يتمها ويقرأ سورة أخرى طويلة؛ قيل له إمام وغيره؟ قال سواء. ثم قال: كان ابن عمر يقرأ الثلاث سور.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] . فلم يحد في ذلك حدا، فجائز للرجل أن يقرأ مع أم القرآن في الركعتين الأوليين من صلاته بما تيسر من القرآن - بعض سورة كان أو عددا من السور؛ وإن كان الاختيار أن يقرأ في كل ركعة بسورة تامة؛ لأنه المرئي من فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والذي استمر عليه العمل بعده.
[مسألة: تيمم للصبح وصلى ثم قعد يذكر الله إلى طلوع الشمس]
مسألة وقال ابن القاسم من تيمم للصبح وصلى، ثم قعد يذكر الله إلى طلوع الشمس، لا يصل به نافلة؛ لأن الوقت قد ذهب وطال.(2/188)
قال محمد بن رشد: إنما قال ذلك؛ لأن الأصل كان ألا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة - على ما مضى القول فيه في (أول) سماع أبي زيد من كتاب الوضوء، وألا تصلى نافلة بتيمم فريضة وإن اتصلت بها؛ فإنما تصلى النافلة بتيمم الفريضة - إذا اتصلت بها - استحسانا، ومراعاة لقول من يقول: إن التيمم يرفع الحدث كالوضوء بالماء؛ فإذا لم يتصل بها وطال الأمر بينهما، واتسع الوقت لطلب الماء ثانية للنافلة، وجب أن ينتقض التيمم على الأصل، وألا يراعى في ذلك الخلاف، كما روعي إذا اتصلت بها، لكونها في اتصالها بها في معنى الصلاة الواحدة؛ وقد مضت هذه المسألة متكررة في سماع أبي زيد من كتاب الوضوء - والحمد لله.
[مسألة: يرفع يديه في التكبير للصلاة]
مسألة قال ابن القاسم: رأيت مالكا لا يرفع يديه في التكبير للصلاة، ولا أراه ترك ذلك، إلا أنه رأى أن ذلك من تعظيم الله وإجلاله؛ قال ولقد سألنا مالكا عن ذلك، فقال: ولم يرفع يديه؟ أيدرك تبارك وتعالى؟ ! فأنكر مالك رفع اليدين على الجنازة وفي الصلوات.
قال محمد بن رشد: قد أنكر على مالك إنكاره لرفع اليدين في الصلاة، للآثار المتواترة في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر ابن لبابة بطرح هذه الرواية، وقال ما قالت الإباضية بأكثر من هذا؛ - يريد دفع السنن بالقياس والرأي، وقد وقع في بعض الروايات من كتاب الحج الأول من المدونة - تضعيف رفع اليدين في الإحرام وغيره، ونحا في رسم أوله "يتخذ(2/189)
الخرقة لفرجه" من سماع ابن القاسم - إلى أن ذلك منسوخ، وقد مضى التكلم على ذلك هناك.
[مسألة: صلى بثوب واحد ركعة فسقط الثوب عنه حتى بدت سوءة الرجل]
مسألة وسئل عن رجل صلى بثوب واحد ركعة، فسقط الثوب عنه حتى بدت سوءة الرجل؛ قال: يستتر - ولاشيء عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في صدر سماع موسى، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: قصر في ستة وثلاثين ميلا أيعيد الصلاة في الوقت]
مسألة وسئل عمن قصر في ستة وثلاثين ميلا، أيعيد الصلاة في الوقت؟ قال: لا إعادة عليه.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة قد مضى القول عليها في آخر أول رسم من سماع أشهب، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا.
[مسألة: في نوافل رمضان يسلم الإمام من ركعتين ويسهو الرجل عن السلام]
مسألة وسئل عن الرجل يصلي خلف الإمام في نوافل رمضان، فسلم الإمام من ركعتين ويسهو الرجل عن السلام حتى يقوم معه في الثالثة، فيذكر - وهو قائم - قال لي: يجلس ويسلم، ثم يسجد سجدتي السهو، ثم يدرك الإمام؟ قلت: فإن ذكر - وهو راكع، قال لي يمضي معه ويسجد سجدتي السهو؛ قال: ورأيته يخففه ألا يكون عليه شيء.
قال محمد بن رشد: أما إذا ذكر - وهو قائم قبل أن يركع،(2/190)
فلا اختلاف في أنه يرجع إلى الجلوس ويسلم ويسجد لسهوه؛ وأما إذا لم يذكر ذلك إلا وهو راكع، فقال ههنا: إنه يمضي معه ويسجد سجدتي السهو، - يريد قبل السلام لإسقاط السلام، وقيل أنه يرجع إلى الجلوس ما لم يرفع رأسه من الركوع فيسلم ويسجد لسهوه بعد السلام، ثم يدخل مع الإمام، وهذا الاختلاف جار على الاختلاف في عقد الركعة، هل هو الركوع؟ أو الرفع منه؟ والقولان قائمان من المدونة.
[مسألة: يوتر بالمعوذات أيقرأ إذا استفتح بسم الله الرحمن الرحيم بين السورتين]
مسألة
(قال) وسألت ابن القاسم عن الذي يوتر بالمعوذات، أيقرأ إذا استفتح بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بين السورتين؟ قال ترك ذلك أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة وتحصيل ما وقع فيها من الاختلاف في رسم "سنة" من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته هنا وبالله التوفيق.
[صلاة الكسوف هل تصلى في المسجد الجامع في سقفه أوفي صحنه]
مسائل نوازل سئل عنها سحنون بن سعيد وسئل عن صلاة الكسوف: هل تصلى في المسجد الجامع في سقفه أوفي صحنه، أو خارج من بيوت القرية؟ قال: تصلى صلاة الكسوف في المسجد، وكذلك صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الكسوف في المسجد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن السنة في البروز، إنما هي في العيدين والاستسقاء.(2/191)
[مسألة: صلاة المقيم الذي نوى السفر ودخل خلف الذي نوى الإقامة وهو يظنه مسافرا]
مسألة وقال في رجل خرج في سفر فخرج معه رجلان فشيعاه، فحضرت الصلاة فتقدم المسافر فصلى بهما ونوى الإقامة في صلاته، ونوى أحد الرجلين السفر؛ قال: صلاتهم كلهم تامة، وليس يكون السفر بالنية، وإنما يكون بالعمل.
قال محمد بن رشد: قوله: ليس يكون السفر بالنية صحيح؛ لأن من نوى السفر لا يقصر الصلاة بمجرد نيته، حتى يخرج من بيوت قريته، أو يتحرك من موضعه - إن كان خارجا عن القرية، بخلاف من نوى الإقامة - وهو في السفر، فإنه يتم بمجرد نيته، فصلاة المسافر الذي نوى الإقامة تامة بإجماع، وأما صلاة المقيم الذي نوى السفر ودخل خلف الذي نوى الإقامة وهو يظنه مسافرا، فرأى سحنون صلاته تامة أيضا؛ ويدخل ذلك من الاختلاف ما يدخل في الذي يدخل خلف الإمام يوم الخميس وهو يظنه يوم الجمعة، وقد مضى القول في ذلك - موعبا في أول سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[مسألة: أم قوما فصلى بهم ركعتين ثم أحدث فقدم رجلا]
مسألة وقال في رجل أم قوما فصلى بهم ركعتين، ثم أحدث فقدم رجلا، فقال المقدم: إني شككت في سجدتين (من) الركعة الثانية، ولا أدري أسجدتهما أم لا؟ والقوم شاكون بشكه، أو بعضهم يتيقن أنهما من الركعة الثانية، وبعضهم يقول سجدة واحدة من الأولى، وسجدة من الركعة الثانية. قال: يسجدهما الثاني فتتم له ركعة ويسجد معه من كان شك بشكه؛ وأما من أيقن أنهما(2/192)
من الأولى فلا يسجدهما، وتسجدهما الطائفة التي زعمت أن إحداهما من الأولى، والأخرى من الثانية مع الإمام الداخل، فتتم له ركعة، وتبطل عليه الأولى، ثم يبني عليها الإمام؛ فإذا فرغ الإمام، سلم وقامت الطائفة التي زعمت أنهما من الأولى، فتأتي بركعة.
قال محمد بن رشد: المسألة كلها صحيحة، إلا قوله وتسجدهما الطائفة التي زعمت أن إحداهما من الأولى، والأخرى من الثانية، فليس بصحيح؟ إنما ينبغي أن يسجدوا معه منهما الواحدة، ثم يقضوا ركعة بعد سلام الإمام، كما تفعل الطائفة التي زعمت أنها من الأولى - وبالله التوفيق.
[مسألة: أم قوما فتعايا في قراءته]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت رجلا أم قوما فتعايا في قراءته، ففتح عليه رجل فلم يهتد الإمام لما فتح عليه، فتقدم الفاتح إلى الإمام فوقف معه في موضعه، فقرأ بهم حتى فرغ من السورة - والإمام قائم في القبلة منصت حتى ركع بهم الركعة التي بقيت عليهم، ثم سلم بهم الأول الفاتح عليه ومن خلفه بصلاة الإمام الأول؛ فقال: ما أرى صلاتهم كلهم الفاتح على الإمام، وغير الفاتح إلا فاسدة.
قال محمد بن رشد: وهذا بين - كما قال؛ لأنهم ائتموا بمأموم في حكم الإمام، ففسدت صلاتهم أجمعين.
[مسألة: نسي خمس صلوات مختلفات من خمسة أيام]
مسألة وسئل عمن نسي خمس صلوات مختلفات من خمسة أيام، لا يدري أي الصلوات هي؟ قال سحنون: يصلي صلاة خمسة أيام.(2/193)
قال محمد بن رشد: هذا على القول المشهور في المذهب من اعتبار التعيين في الأيام، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم "أوصى أن ينفق على أمهات أولاده" من سماع عيسى، فمن أحب الوقوف عليه تأمله - هناك - وبالله التوفيق.
[مسألة: صلى مع الإمام يوم الجمعة ركعة ثم رعف]
مسألة وسئل سحنون عن رجل صلى مع الإمام يوم الجمعة ركعة ثم رعف فخرج يغسل الدم عنه، فلما غسل الدم عنه، حال بينه وبين الانصراف إلى المسجد واد أو أمر غالب؛ قال: يضيف إليها ركعة أخرى ثم يقوم فيصلي ظهرا أربعا.
قال محمد بن رشد: وهذا - كما قال؛ لأن من شرط الجمعة أن تكون في المسجد، فإذا لم يقدر على الرجوع إليه، بطلت الجمعة، وخرج عن نافلة، وصلى ظهرا أربعا، وقد مضى في رسم "سن" من سماع ابن القاسم - ما فيه بيان لهذه المسألة، فقف على ذلك.
[مسألة: صلي مع الإمام فيسجد قبله ويركع قبله]
مسألة قيل لسحنون أرأيت الرجل يصلي مع الإمام فيسجد قبله، ويركع قبله في صلاته كلها؛ قال: صلاته تامة - وقد أخطأ - ولا إعادة عليه ولا يعد.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا سجد قبله وركع قبله فأدركه الإمام بسجوده وركوعه - وهو راكع وساجد، فرفع برفعه من الركوع والسجود، أو رفع قبله، وأما إن ركع ورفع - والإمام واقف قبل أن يركع، وسجد ورفع من السجود أيضا قبل أن يسجد الإمام؛ ثم لم يرجع مع الإمام في ركوعه وسجوده، وفعل ذلك في صلاته كلها، فلا صلاة له؛ واختلف إن فعل ذلك في ركعة واحدة، أو سجدة واحدة، فقيل تجزئه الركعة وقيل لا تجزئه وقد بطلت(2/194)
عليه، فيأتي بها بعد سلام الإمام، فإن لم يفعل بطلت صلاته؛ وقد مضى في رسم "باع شاة" من سماع عيسى ما يدل على هذا الاختلاف، فتدبر ذلك - وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل في جواره مسجد فتجاوزه إلى غيره]
مسألة وسئل عن رجل في جواره مسجد فتجاوزه إلى غيره، قال: إن كان إلى المسجد الجامع، فلا بأس به، وإن كان إلى غير ذلك، لم أر أن يجاوزه إلى غيره، إلا أن يكون إمامه غير عدل.
قال محمد بن رشد: قد روي عن مالك مثل هذا، وهو يدل على ما ذهب إليه ابن حبيب: أن الصلاة في المسجد الجامع بخمسة وسبعين صلاة، فهي أفضل من الصلاة في سائر المساجد والجماعات؛ خلاف ما ذهب إليه غيره من استواء الفضيلة في جميع المساجد، والجوامع، والجماعات؛ على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا، أو سبعة وعشرين جزءا» . ولم يخص جماعة من جماعة، ولا مسجدا من مسجد، وبالله التوفيق.
[مسألة: الطحال هل يجوز للخراز أن يبطن به الخف]
مسألة قلت لسحنون: أرأيت الطحال هل يجوز للخراز أن يبطن به الخف؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: الطحال حكمه حكم اللحم، لا حكم الدم؛ روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أحلت لنا ميتتان، ودمان: الحوت والجراد، والطحال والكبد.» فهو وإن جاز(2/195)
للخراز أن يبطن به من أجل أنه طاهر ليس بنجس، إذ ليس بدم، فهو يكره من ناحية أن له حرمة الطعام، وقد مضى هذا من قول مالك في رسم "حلف" من سماع ابن القاسم - وبالله التوفيق.
[مسألة: الإمام يسر في الجمعة عامدا أو جاهلا]
مسألة وقال في الإمام يسر في الجمعة عامدا أو جاهلا فعليه الإعادة في قول علي بن زياد، وأما قول مالك فلا يعيد، وإن كان ناسيا - سجد.
قال محمد بن رشد: قد اختلف قول مالك في إيجاب الإعادة على من ترك الجهر في صلاته - متعمدا، وفي إيجاب السجود على من سها عن ذلك؟ وقد مضى ذكر ذلك في أول رسم من سماع أشهب في رسم "حمل صبيا" من سماع عيسى، فمن لم ير في ذلك السجود في السهو ولا الإعادة في العمد، جعله من مستحبات الصلاة لا من سننها - وبالله التوفيق.
[مسألة: العراة يكون معهم ثوب واحد]
مسألة قال ابن القاسم في العراة يكون معهم ثوب واحد، إنهم يصلون به أفذاذا واحدا، واحدا، ولا يجمع بهم إمامهم ليلا كان أو نهارا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ستر العورة في الصلاة واجب على الأعيان، فرض من فرائضها، أو سنة من سننها - على الاختلاف في ذلك؛ والصلاة في الجماعة سنة على الكفاية، فترك الجماعة في الصلاة أولى من ترك ستر العورة فيها، وإن كان الثوب لأحدهم - ولم يكن فيه فضل عما يستر(2/196)
به عورته، لم يجبر على أن يعرى منه ويعطيهم إياه ليصلوا به؛ وأما إن كان فيه فضل عما يستر به عورته، فالواجب يجبر على ذلك؛ لأن المواساة إذا كانت تلزم في باب المعيشة، فهي في باب الدين ألزم - إن شاء تعالى، وبه سبحانه التوفيق.
[مسألة: الأنعام إذا شربت من ماء غير طاهر هل تكون ألبانها طاهرة]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت الأنعام إذا شربت من ماء غير طاهر، هل تكون ألبانها طاهرة؟ قال: لا - وهي نجسة. قال العتبي هي طاهرة، وهي بمنزلة النحل إذا أطعمت العسل الذي ماتت فيه فأرة.
قال محمد بن رشد: قول سحنون شذوذ في المذهب، إلا أن في كتاب الرضاع من المدونة ما ينحو إليه، وهو قوله في المراضع النصرانيات؛ وإنما غذاء اللبن مما يأكلن، وهن يأكلن الخنزير، ويشربن الخمر. وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة قرب آخر رسم "الوضوء والجهاد"، من سماع أشهب من كتاب الوضوء.
[مسألة: أم أحدهما صاحبه ثم يحدث الإمام منهما فيستخلف صاحبه]
مسألة قال أبو زيد: وسئل أصبغ عن رجلين أم أحدهما صاحبه ثم يحدث الإمام منهما، فيستخلف صاحبه؛ قال أصبغ: لا يجوز له أن يبني على الصلاة؛ لأنه ليس معه آخر، فيكون خليفة على نفسه، لا يجوز له، ويقطع ويبتدئ ولا يجوز أن يبني، استخلفه أو لم يستخلفه.(2/197)
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز له أن يبني، وقال: إنه يقطع ويبتدئ؛ لأنه ابتدأ في جماعة، فلم يجز له أن يتم وحده - على أصله فيمن وجب عليه أن يصلي في جماعة فصلى - فذًّا، أن صلاته لا تجزئه؛ وقد مضى هذا المعنى في رسم "جاع"، ورسم إن خرجت من سماع عيسى، فقف على ذلك وتدبره، وبالله التوفيق.
[مسألة: الإمام يصلي بقوم صلاة كسوف فتنجلي الشمس وهو في الصلاة]
مسألة وسئل أصبغ عن الإمام يصلي بقوم صلاة كسوف، فتنجلي الشمس - وهو في الصلاة، وقد عقد ركعة ولم يسجد، قال أصبغ: يقضي صلاته على سنتها حتى يفرغ منها، ولا ينصرف منها إلا على شفع.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأنها صلاة، فإذا دخل فيها لم يصح له أن يقطعها من غير عذر حتى يتمها على سنتها - قياسا على سائر الصلوات؛ خلافا لمن شذ فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما ركع ركعتين في ركعة لينظر إذا رفع هل انجلت الشمس أم لا؟ وهذا التأويل يبطل بأنه إنما صلى في المسجد، لا في الصحراء، وبالله التوفيق.
[مسألة: صلى المغرب بقوم في الخوف فصلى بكل طائفة منهم ركعة وأتم القوم لأنفسهم]
مسألة قال أصبغ في إمام صلى بقوم صلاة المغرب في الخوف، فجهل فصلى فجعل القوم ثلاث طوائف، فصلى بكل طائفة منهم ركعة، وأتم القوم لأنفسهم؛ أرى صلاة الإمام، والأوسطين، والآخرين، تامة؛ وأرى صلاة الأولين فاسدة، وذلك أنهم قضوا ركعتين تامتين في غير موضع قضاء؛ لأن السنة كانت أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين،(2/198)
ثم يتمون لأنفسهم؛ فلما صلى بهم ركعة، ثم صلوا هم بقية صلاتهم دونه؛ كانوا قد صلوا ركعة واحدة من صلاة الإمام بلا إمام، فلذلك فسدت صلاتهم، وأجزأت الآخرين والأوسطين؛ لأن الأوسطين كأنهم دخلوا في صلاة الأولين، فأدركوا من صلاتهم ركعة، فصلوا معهم، ثم قضوا لأنفسهم؛ وأما الآخرون فصلى بهم ركعة - كما كان ينبغي (له) أن يفعل. قلت: فلو كانت صلاته هذه ظهرا، أو خوفا في حضر - فجهل الإمام فجعل القوم أربع طوائف، وصلى بكل طائفة ركعة، قال أصبغ: تجزئ الإمام الصلاة، والطائفة الثانية، والرابعة، وتفسد صلاة الطائفة الأولى والثالثة - على هذا المثال الذي فسرت لك.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف، وابن الماجشون أيضا؛ وقال سحنون في كتاب ابنه: تفسد الصلاة عليه وعليهم أجمين؛ لأنه ترك سنة الصلاة وقام في غير موضع قيام؛ وينبغي أن تفسد صلاة الطائفة الثانية إن كانوا أتموا صلاتهم قبل سلام الإمام - على مذهب من يرى أن الركعة الأولى التي هي قضاء، لا يصلونها إلا بعد سلام الإمام، وهو قول ابن القاسم، وأحد قولي سحنون، وقد مضى القول على ذلك - موعبا في سماع سحنون، فقف عليه - وبالله التوفيق.
[مسألة: تيمم فصلى بتيممه المغرب والعشاء والصبح]
مسألة وقال في رجل تيمم فصلى بتيممه المغرب والعشاء والصبح(2/199)
والظهر، أنه يعيد الصبح والظهر، ولا إعادة عليه للمغرب ولا للعشاء؛ وإن صلى الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء بتيمم واحد، أعاد الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ وإن كان تيممه للركعتين - ولم يكن تيمم للمكتوبة، أعاد الخمس صلوات كلها أبدا؛ وإن تيمم فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، أعاد المغرب والعشاء أبدا؛ فإن تيمم وصلى الظهر والعصر، ثم ذكر وهو في وقت صلاة العصر - أعاد العصر، ووقتها إلى أن يكون ظلك مثليه، ووقت العشاء الآخرة إلى نصف الليل في التيمم، وهذا قول أصبغ، وقد قيل فيها إلى أن يغيب الشفق، وهو قول أبي ضمرة.
قال محمد بن رشد: قد اختلف فيمن صلى صلاتين بتيمم واحد على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يعيد الثانية أبدا، وقيل إنه لا يعيدها إلا في الوقت؛ وقيل إن كانتا مشتركتي الوقت، أعاد الثانية في الوقت؛ وإن لم تكونا مشتركتين، أعاد الثانية - أبدا؛ (وقيل ما لم يطل قبل اليومين والثلاثة، وهو قول لا حظ له في النظر؛ واختلف أيضا في الوقت الذي يعيد الثانية من المشتركتين في الوقت، فقيل: ما لم تغب الشمس، وقيل ما لم يذهب وقتها المستحب، وهو وقت العصر ونصف الليل للعشاء الآخرة) وهو قوله في هذه الرواية. وأما قول أبي ضمرة إن الوقت في ذلك إلى أن يغيب الشفق، فمعناه البياض لا الحمرة؛ لأن ذهاب الحمرة، هو أول وقتها المستحب؛ فيحتمل أن يكون أراد أن مغيب البياض هو آخر وقتها المستحب، لا معنى لقوله غير هذا؛ وقد ذكرنا في أول سماع أبي زيد من كتاب الوضوء المعنى الذي من أجله لم يجز للمتيمم أن(2/200)
يصلي صلاتين بتيمم واحد؛ وبينا وجهه بيانا شافيا، فمن أحب الوقوف عليه تأمله - هناك - وبالله التوفيق.
تم كتاب الصلاة الخامس
بحمد الله، وبتمامه تم كتاب الصلاة
* * *(2/201)
[كتاب الجنائز]
[مسألة: نزع الأردية في الجنائز]
كتاب الجنائز من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس
مسألة قال سحنون: أخبرني ابن القاسم؛ قال: سئل مالك عن نزع الأردية في الجنائز؛ قال: بئس العمل.
قال محمد بن رشد: معنى هذا أن ينحسر الرجل في جنازة أبيه أو أخيه فيتبعه حاسرا بغير رداء - قاله سحنون في نوازله من هذا الكتاب في بعض الروايات، وإنما كرهه مالك؛ لأنه من ناحية النعي المنهي عنه من فعل الجاهلية، لما فيه من إبداء الحزن والجزع للولي على ميته، ومن هذا المعنى ما يفعل(2/203)
عندنا من تبيض الولي على وليه، فهو مكروه من الفعل، لا يفعله إلا مخطئ. وقد استخف ابن حبيب أن ينحسر الرجل في جنازة من يختص به كأبيه الذي يحمل سريره على كاهله، وشبهه من قرابته؛ أو كالرجل الفاضل، أو العالم الذي يختص به ويعنى بأمره؟ وذلك خفيف - كما قال - إذا كان إنما يفعله من أجل حمله وما يتكلفه من التصرف في أمره، فقد فعله عبد الله بن عون في جنازة محمد بن سيرين، ومصعب بن الزبير - وهو أمير في جنازة الأحنف بن قيس؟ وحمل سعد بن أبي وقاص سرير عبد الرحمن بن عوف على كاهله، وفعله عمر بأسيد بن الحضير، وعثمان بأمه، وعبد الله بن عمر بأبي هريرة - وبالله التوفيق.
[مسألة: يحمل الرجل الجنازة وينصرف ولا يصلي]
ومن كتاب القبلة
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالكا يقول: من شهد جنازة فإني لا أرى أن ينصرف حتى يصلي عليها، إلا لحاجة أو علة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل قوله - بعد هذا في رسم "شك في طوافه": ليس هذا من الفعل أن يحمل رجل ولا يصلي. وقال في آخر سماع أشهب: لا بأس أن يحمل الرجل الجنازة وينصرف ولا يصلي، وذلك اختلاف من قوله: كره في سماع ابن القاسم لمن شهد جنازة أن ينصرف حتى يصلي عليها، ولم ير بذلك بأسا في سماع أشهب، والأصل في هذا الاختلاف اختلافهم في تخريج ما تعارض ظاهره من حديث النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في ثواب المصلي على الجنازة وتأويله، وذلك أنه روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «من جاء جنازة فتبعها من أهلها حتى يصلي عليها، فله(2/204)
قيراط، وإن مضى معها حتى تدفن فله قيراطان مثل أحد» . وروي عنه أيضا أنه قال: «من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان» . فذهب بعض الناس إلى أن الحديث الأول مبين للحديث الثاني؛ لأن راويه حفظ من ذكر اتباع الجنازة من أهلها، ما أغفله راوي الحديث الثاني؟ وذهب آخرون إلى أن المعنى في ذلك، أن الله كان كان تفضل بقيراط من الأجر لمن اتبع الجنازة من أهلها وصلى عليها، ثم تفضل بعد ذلك بالزيادة في الثواب فجعل في الصلاة على الجنازة خاصة قيراطا كاملا من الأجر، فمن ذهب إلى التأويل الأول، رأى أن الذي يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتصحيح الأثرين، أن القيراط من الثواب إنما يستحق باتباع الجنازة من أهلها، والصلاة عليها، يقع من ذلك لاتباعها من عند أهلها ما الله به أعلم، وللصلاة عليها ما الله به أعلم أيضا، ويجيء على مذهبه أنه لا ينبغي لمن شهد جنازة أن ينصرف دون أن يصلي عليها لئلا يبطل عمله في اتباعها، إذ جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثواب ذلك مضمنا بالصلاة، فصار معها كشيء واحد، من شرع فيه لم ينبغ له أن يتركه حتى يتمه، لقول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]- فهذا وجه ما في هذا السماع من الكراهية لمن شهد جنازة أن ينصرف دون أن يصلي عليها، ومن ذهب إلى التأويل الآخر، رأى أن اتباع الجنازة ليس بمرتبط بالصلاة عليها، إذ قد تفضل الله لمن صلى عليها بقيراط كامل من الأجر، ولمن اتبعها من أهلها بما هو أعلم به من الأجر، ويجيء على مذهبه: أن لمن اتبع الجنازة من أهلها، أن ينصرف دون أن يصلي عليها(2/205)
لانفصال اتباع الجنازة عنده عن الصلاة عليها، وبينونة كل واحد منهما عن صاحبه بحظه من الأجر؟ كما أن لمن صلى عليها أن ينصرف دون أن يشاهد دفنها، أو يصلي على غيرها؛ لانفصال الدفن عن الصلاة ببينونة كل واحد منهما عن صاحبه بحظه من الأجر، كما تنفصل الجنازة عن غيرها؛ فهذا وجه رواية أشهب عن مالك في أن لمن اتبع الجنازة أن ينصرف دون أن يصلي عليها، وهذا إذا كان ممن لا يقتدى به، وأمن من أن يظن به اعتقاد سوء في نفسه، أوفي الميت؟ ويشهد لهذا القول ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اتبع جنازة وحملها ثلاث مرار، فقد قضى ما عليه من حقها» . وهو حديث غريب ذكره الترمذي في مصنفه.
[مسألة: الغسل على من غسل ميتا]
مسألة قال مالك: أرى على من غسل ميتا أن يغتسل، قال ابن القاسم ولم أره يأخذ بحديث أسماء بنت عميس، ويقول: لم أدرك الناس إلا على الغسل. قال ابن القاسم وهو أحب ما سمعت فيه إلي.
قال سحنون حدثني أنس بن عياض، عن محمد بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتا فليغتسل» .(2/206)
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية إيجاب الغسل على من غسل ميتا - للحديث المذكور، ولمالك في المختصر أن ذلك مستحب وليس بواجب، وقول ابن القاسم: وهو أحب ما سمعت فيه إلي - حمله ابن أبي زيد وغيره على أنه استحب الغسل، مثل قول مالك في المختصر. والظاهر عندي منه أنه إنما استحب القول بإيجاب الغسل، فهو مثل روايته عن مالك، وقد قيل إنه لا غسل عليه، وهو قول مالك في الواضحة، وعليه الجمهور؛ وهو الذي يوجبه النظر والقياس على الأصول؛ لأن غسل الميت ليس بحدث ينقض الطهارة مثل الجنابة؛ بدليل إجماعهم على أنه لا غسل على من غسل ما سوى الميت من الأشياء الطاهرة، أو النجسة؛ فمن أوجب الغسل جعل أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به عبادة لا لعلة، وحمله على مقتضاه من الوجوب، ومن استحبه ولم يوجبه، جعل أمر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - به لعلة؛ واختلفوا ما هي؟ فمنهم من قال إنه إنما أمره بالغسل ليبالغ في غسل الميت؛ لأنه إذا غسل الميت - موطنا على الغسل، لم يبال بما ينتضح عليه منه، فكان سببا لمبالغته في غسله؛ ومنهم من قال ليس معنى أمره بالغسل، أن يغسل جميع جسده كغسل الجنابة؛ وإنما معناه أن يغسل ما باشره به، أو انتضح عليه منه؛ لأنه ينجس بالموت، وإلى هذا ذهب ابن شعبان، فقال: لا يدخل الميت في المسجد؛ لأنه ميتة، وإليه ذهب محمد بن عبد الحكم في قوله: أنه ينجس الثوب الذي يجفف به الميت بعد غسله، خلاف قول سحنون في نوازله من بعض روايات العتبية؛ وهو دليل قول ابن القاسم في كتاب الرضاع من المدونة أن لبن المرأة الميتة الذي في ضرعها ينجس بموتها، لنجاسة الوعاء، فلا يحل شربه.
والصحيح أن الميت من بني آدم ليس بنجس، بخلاف سائر الحيوان التي(2/207)
لها دم سائل؛ لأن عدم الروح من الحيوان ليس بعلة في النجاسة، إذ قد يعدم الروح بالذكاة فيما يؤكل من دواب البر، وبالموت في دواب البحر، فلا ينجس بذلك، فلما لم يكن عدم الروح من الحيوان علة في النجاسة، وجب ألا ينجس بالموت إلا ما يموت مما يحل أكله بذكاة، وهي الميتات؛ لأن الله تعالى سماها رجسا فقال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} [الأنعام: 145] الآية - إلى قوله سبحانه: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] . والميت من بني آدم لا يسمى ميتة، فليس برجس ولا نجس، ولا حرم أكله لنجاسة، إذ ليس بنجس، وإنما حرم إكراما له؟ ألا ترى أنه لما لم يسم ميتة، لم يجز للمضطر أن يأكله بإباحة الله تعالى له أكل الميتة - على الصحيح من الأقوال، هذا من طريق النظرة وأما من طريق الأثر، فقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المؤمن لا ينجس» . وقال ابن عباس في البخاري: لا ينجس المسلم حيا ولا ميتا. وقال سعد بن أبي وقاص: لو كان نجسا ما مسسته. وسئلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هل يغتسل من غسل ميتا؟ فقالت: أو أنجاس موتاكم؟ ولو كان نجسا ما أدخله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسجد، وفي هذا كفاية. ومنهم من قال: إنما أمر أن يغتسل - توقيا لما عسى أن يصيبه من أذى الميت، إذ يخاف ألا يكون طاهرا من النجاسة، لا أن ذاته نجسة، وقد يحتمل أن يتأول في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من غسل ميتا فليغتسل» ، ما يتأول لا قوله: «ومن حمله فليتوضأ» . فيكون المعنى في ذلك أن يغتسل لاغتساله - إن كان غير طاهر، لئلا يغسله - وهو جنب، ومما يدل أن الاغتسال من غسل الميت(2/208)
مستحب غير واجب، حديث أسماء بنت عميس، إذ لو كان الغسل عليها واجبا، لما سقط عنها لشدة البرد، ولوجب أن تتيمم - إن خشيت على نفسها الموت - الله أعلم.
[مسألة: يغسل الجنب الميت]
مسألة قال مالك: لا أحب للجنب أن يغسل الميت حتى يغتسل؛ لأن أمره يسير، ولا بأس بالحائض أن تغسل الميت.
قال محمد بن رشد: قد روى ابن نافع عن مالك أنه لا بأس أن يغسل الجنب الميت، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وظاهر قول ابن القاسم في كتاب ابن عبدوس؛ والأظهر في ذلك الكراهة، لما جاء من أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه جنب، ولأنه يملك طهره؛ وقد يحتمل أن يدل على المنع، من ذلك قوله، - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من غسل ميتا فليغتسل» - على ما ذكرناه قبل هذا مما يحتمله تأويل الحديث؛ فإن غسله وهو جنب، نقص أجره، ولم يأثم على القول بكراهية ذلك؛ لأن حد المكروه ما تركه أفضل - والله أعلم، وبه التوفيق.
[الشهداء تكون عليهم المناطق وقلانس محشوة قزا هل يدفنوا بها]
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع سلعة وسئل عن الشهداء تكون عليهم المناطق وقلانس محشوة قزا، أترى أن يدفنوا بها؟ قال: ما علمت أنه ينزع منهم شيء.
قال ابن القاسم ولا بأس أن يدفنوا في الخفين إذا أصيب - وهما عليه. وقال ابن نافع لا ينزع عنه فروه ولا خفاه. قال مطرف(2/209)
لا تنزع عنه منطقته، إلا أن يكون لها خطب، قال: وأما إن كان الذي فيها من الفضة يسيرا، فلا تنزع عنه؛ ولا ينزع خاتمه إلا أن تكون فضة لها خطب وبال.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: لا بأس أن يدفنوا في الخفين إذا أصيب وهما عليه، يدل على أن نزعهما جائز، وكذلك المناطق والخواتم على قياس قوله؛ فهو خلاف قول مالك وابن نافع ومطرف؛ لأنهم ذهبوا إلى ألا ينزع عنهم شيء مما هو في معنى اللباس - وإن لم يكن من الثياب قياسا على الثياب حاشا دروع الحديد؛ لأنها من السلاح؛ وذهب ابن القاسم إلى أنه ينزع عنهم ما عدا الثياب، تعلقا بظاهر قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: زملوهم بثيابهم، فهذا وجه أقوالهم - والله تعالى أعلم.
[مسألة: رجل مرت به جنازة وهو على غير وضوء]
ومن كتاب أوله شك في طوافة مسألة وسئل مالك: عن رجل مرت به جنازة وهو على غير وضوء، فأراد أن يحمل لموضع الأجر ولا يصلي؛ قال: ليس هذا من العمل أن يحمل رجل ولا يصلي، ولم يعجبه ذلك، وقال: ليس هذا من عمل الناس أن يحملوا على غير وضوء.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم "القبلة" وجه الكراهية في أن يحمل ولا يصلي، وإنما كره له أن يحمل على غير وضوء، من أجل أنه لا يصلي، ولو علم أنه يجد في موضع الجنازة ماء يتوضأ به، لم يكره أن يحمل على غير وضوء، وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتا(2/210)
فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ» . ومعنى قوله عندهم من حمله فليتوضأ أي ليتوضأ إذا أراد أن يحمله كي يصلي عليه إذا حمله، لا أن حمله ينقض طهارة من كان متوضئا.
[مسألة: تعزية المسلم يهلك أبوه وهو كافر]
مسألة وسئل مالك عن الرجل المسلم يهلك أبوه وهو كافر، افترى أن يعزيه به فيقول: آجرك الله في أبيك؟ قال لا يعجبني أن يعزيه به، لقول الله تعالى في كتابه العزيز {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] . فلم يكن لهم أن يرثوهم وقد أسلموا حتى يهاجروا، ومنعهم الله الميراث - وقد أسلموا حتى يهاجروا.
قال محمد بن رشد: ما ذهب إليه مالك في هذه الرواية من أن المسلم لا يعزى بأبيه الكافر، ليس ببين؛ لأن التعزية بالميت تجمع ثلاثة أشياء: أحدها تهوين المصيبة على المعزى وتسليته منها، وتحضيضه على التزام الصبر، واحتساب الأجر، والرضى بقدر الله، والتسليم لأمره. والثاني الدعاء له بأن يعوضه الله من مصابه جزيل الثواب، ويحسن له العقبى والمئاب. والثالث الدعاء للميت والترحم عليه، والاستغفار له، فليس تحظير الدعاء للميت الكافر، والترحم عليه، والاستغفار له، لقوله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]- الآية - بالذي يمنع من تعزية ابنه المسلم بمصابه به، إذ لا مصيبة على الرجل أعظم من أن يموت أبوه الذي كان يحن عليه، وينفعه في دنياه - كافرا، فلا يجتمع به في أخراه، فتهون عليه مصيبته، ويسليه منها، ويعزيه فيها بمن مات للأنبياء الأبرار - عليهم(2/211)
السلام - من القرابة، والآباء الكفار؛ ويحضه على الرضى بقدر الله، ويدعو له في جزيل الثواب إلى الله؟ إذ لا يمنع أن يؤجر المسلم بموت أبيه الكافر، إذا شكر الله، وسلم لأمره، ورضي بقضائه وقدره، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يزال المسلم يصاب في أهله وولده وحامته، حتى يلقى الله - وليست له خطيئة» . ولم يفرق بين مسلم وكافر، وهل يشك أحد في أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجر بموت عمه أبي طالب، لما وجد عليه من الحزن والإشفاق؛ وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن للرجل أن يعزي جاره الكافر بموت أبيه الكافر، لذمام الجوار، فيقول له - إذا مر به: بلغني الذي كان من مصابك بأبيك، ألحقه الله بكبار أهل دينه، وخيار ذوي ملته. وقال سحنون إنه يقول له: أخلف الله لك المصيبة، وجزاك أفضل ما جازى به أحدا من أهل دينه. فالمسلم بالتعزية أولى، وهو بذلك أحق وأحرى. والآية التي احتج بها مالك لما ذهب إليه من ترك التعزية بالكافر، منسوخة؟ قال عكرمة: أقام الناس برهة لا يرث المهاجر في الأعرابي، ولا الأعرابي المهاجر؟ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]- الآية، حتى نزلت {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب: 6] . فاحتج بالمنسوخ كما احتج لما اختاره من الإطعام في كفارة الفطر في رمضان بقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184]- الآية، وهي منسوخة؟ وذلك إنما يجوز على القول بأن الأمر إذا نسخ وجوبه، جاز أن يحتج به على الجواز، وفي ذلك بين أهل العلم اختلاف، واعتلاله بامتناع الميراث ضعيف، إذ قد يعزى الحر بالعبد - وهما لا يتوارثان، ولو استدل على ما ذهب إليه من أن(2/212)
المسلم لا يعزى بالكافر، بقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] . وبقوله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [المجادلة: 22]- الآية، لكان أظهر وإن لم يكن ذلك دليلا قاطعا، للمعاني التي ذكرناها، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة تعتق الرجل فيموت المعتق ثم ولدها وأخوها أحق بالصلاة عليه]
مسألة وسئل مالك عن المرأة تعتق الرجل فيموت المعتق - ثم ولدها وأخوها، من ترى أحق بالصلاة عليه؟ قال ابنها، ما لأخيها وما له؟ ابنها أحق بميراثه، والصلاة عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ابن المرأة أقرب إليها من أخيها - وإن لم يكن من قومها عند مالك، خلاف مذهب الشافعي.
[الرجل يبتاع الوصيف الصغير من سبي الروم]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل عن الرجل يبتاع الوصيف الصغير من سبي الروم - وقد أراد به سيده الإسلام، فيقيم في يديه أياما ثم يموت، أترى أن يصلى عليه؟ قال إن لم يسلم، فلا يصلى عليه.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم وروايته هذه عن مالك، أن الصغير من سبي أهل الكتاب، لا يجبر على الإسلام، ولا يحكم له بحكمه حتى(2/213)
يجيب إليه؛ وقيل إنه يجبر على الإسلام - وإن كان معه أبواه، وهو قول الأوزاعي، والثوري، وظاهر رواية ابن نافع عن مالك في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة، واختيار أبي عبيد؟ قال: لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه؟ وقيل إنه يجبر على الإسلام، إلا أن يكون سبي معه أبوه، كانا في ملك واحد أو لم يكونا؛ ولا يلتفت في ذلك إلى أمه، وهو قول المدنين وروايتهم عن مالك، ورواية معن بن عيسى عن مالك في آخر سماع موسى بن معاوية. وقيل إنه يجبر على الإسلام، إلا أن يكون معه أحد أبويه فيكون تبعا له، ما لم يفرق بينهما الإملاك، وهو قول ابن الماجشون في ديوانه؛ فيتحصل في ذلك ستة أقوال - سنذكر بيانها في سماع محمد بن خالد من كتاب المرتدين والمحاربين إذا وصلنا إليه - إن شاء الله، واختلف إن مات قبل أن يجبر على الإسلام في الموضع الذي يجبر فيه، فقيل إنه يحكم له بالإسلام لملك سيده إياه، وهو قول ابن دينار، ورواية معن بن عيسى عن مالك؛ وقيل إنه لا يحكم له بالإسلام حتى ينويه له سيده، وهو قول ابن وهب؛ وقيل إنه لا يحكم له بالإسلام حتى يرتفع عن حداثة الملك شيئا، ويزييه سيده بزي الإسلام، ويشرعه بشرائعه، وهو قول ابن حبيب، وقيل إنه لا يحكم له بالإسلام حتى يجيب إليه ويعقل الإجابة ببلوغه حد الإثغار أو نحو ذلك، وقيل إنه لا يحكم له بحكم الإسلام حتى يجيب إليه بعد البلوغ، وهو مذهب سحنون؛ وأما الصغير من سبي المجوس، فلا اختلاف في أنه يجبر على الإسلام، إلا أن يكون معه أبواه، أو أحدهما في ملك واحد، أو أملاك متفرقة؛ فعلى ما تقدم من الاختلاف في الصغير من سبي أهل الكتاب وإن مات قبل أن يجبر، فعلى ما تقدم من الاختلاف أيضا؛ واختلف في الكبير من سبي المجوس، هل يجبر على الإسلام أم لا - على قولين، ولم يختلف في الكبير من سبي أهل الكتاب، أنه لا يجبر على(2/214)
الإسلام؛ ومذهب ابن حبيب فيما ولد للنصراني في ملك المسلمين، مثل قول ابن القاسم إنه لا يجبر على الإسلام، بخلاف السبي؛ وذهب أبو المصعب إلى أنه لا يجبر في السبي، ويجبر فيما ولد في ملك المسلمين، عكس تفرقة ابن حبيب، فهذا تحصيل الاختلاف في هذه المسألة، وقد مضى بعضه في أول سماع أصبغ من كتاب الصلاة؛ والذي يشهد له قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه» - الحديث - أن يحكم للصغير من أولاد المشركين كيفما كان، ما لم تكن له ذمة، ولم يكن معه أبواه - بحكم الإسلام.
[مسألة: التكبير لصلاة الجنائز]
مسألة وسئل مالك عن التكبير لصلاة الجنائز فيمن يكبر خمس تكبيرات، أترى أن يكبر معه، أم يقطع ذلك؟ قال بل يقطع ذلك أحب إلي إذا كبر أربعا، ولا يتبعه في الخامسة.
قال محمد بن رشد: إنما استحسن أن يقطع، ولم يقل إنه يكبر معه الخامسة - مراعاة للخلاف، كما قال في الإمام يرى في سجود السهو خلاف ما يرى من خلفه؛ لأن الإجماع قد انعقد بين الصحابة في خلافة عمر بن الخطاب على أربع تكبيرات في صلاة الجنائز، فارتفع الخلاف؛ روي أن الناس كانوا يختلفون في التكبير في الجنازة، فلما ولي عمر ورأى اختلاف الناس في ذلك، شق عليه ذلك، فجمع أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال لهم: إنكم معاشر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متى تختلفون، يختلف من بعدكم؟ ومتى تجتمعون على أمر، يجتمع الناس عليه، فانظروا أمرا تجتمعون عليه؟ فكأنما أيقظهم، فقالوا نعم ما رأيت يا أمير المؤمنين، فتراجعوا الأمر بينهم، فأجمع أمرهم على أربع تكبيرات - عدد ركعات أطول الصلوات،(2/215)
فهذا أولى ما قيل في ذلك، وقد فرق بين الموضعين بأن السجود فعل يظهر مخالفة الإمام فيه، والتكبير قول لا يظهر مخالفة الإمام فيه، وبأن الاختلاف في سجود السهو، ليس في نفسه كالتكبيرة الخامسة في الجنازة، وإنما هو في موضع إيقاعه، وقال أشهب، وابن الماجشون - عن مالك، إنه لا يقطع ويسكت، فإذا كبر الإمام الخامسة سلم بسلامه، وهذا على اختلافهم في المسافر يصلي بالمسافرين، فيتم الصلاة، فقيل إنهم يسلمون لأنفسهم وينصرفون، وقيل إنهم يقدمون منهم من يسلم بهم، وقيل إنهم ينتظرون الإمام حتى يسلم فيسلموا بسلامه، وسيأتي في آخر نوازل أصبغ الاختلاف في: هل يكبر معه الخامسة من فاتته بعض تكبيرة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الجنازة إذا وضعت لتدفن أينتظر الناس فراغها أم ينصرفون]
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته مسألة وسئل مالك عن الجنازة إذا وضعت لتدفن، أينتظر الناس فراغها؟ أم ينصرفون؟ قال إن الناس ليفعلون ذلك اليوم، وما كان من أمر الناس في القديم؛ وقيل له أترى ذلك واسعا لمن أقام أو انصرف؟ فقال نعم، أرى ذلك واسعا.
قال محمد بن رشد: وهذا واسع كما قال؛ لأن الدفن عبادة مبتدأة منفصلة عن الصلاة، مختصة بما لها من الأجر، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شهد الجنازة حتى يصلي، فله قيراط، ومن شهد حتى تدفن، كان له قيراطان» . فقوله «ومن شهد حتى تدفن فله قيراطان» ، يدل على أن ذلك ترغيب؛ وقال زيد بن ثابت: إذا صليت، فقد قضيت الذي عليك؛ وقال حميد ما علمنا على الجنازة إذنا، ولكن من صلى ثم رجع، فله قيراط؟ فلا يلزم(2/216)
من صلى على جنازة، أن يشاهد دفنها؛ ولا يدخل في ذلك من الاختلاف، ما دخل في من حمل جنازة، هل له أن ينصرف دون أن يصلي عليها، وقد مضى بيان ذلك في رسم "القبلة" قبل هذا.
[مسألة: الجنائز يؤذن بها على أبواب المساجد]
مسألة وسئل مالك عن الجنائز يؤذن بها على أبواب المساجد، فكره ذلك وكره أن يصاح خلفه: استغفروا له، يغفر الله لكم. وابتدأ ما هو فيه بالكراهية. قال ابن القاسم وسألت مالكا عن الجنازة يؤذن بها في المسجد يصاح بها، قال لا خير فيه - وكرهه، وقال لا أرى بأسا أن يدار في الحلق يؤذن الناس بها، ولا يرفع بذلك صوته.
قال محمد بن رشد: أما النداء بالجنازة في داخل المسجد فلا ينبغي، ولا يجوز باتفاق، لكراهة رفع الصوت في المسجد، فقد كره ذلك حتى في العلم، وأما النداء بها على أبواب المساجد، فكرهه مالك ههنا ورآه من النعي المنهي عنه، روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «إياكم والنعي، فإن النعي من عمل الجاهلية» ، والنعي عندهم أن ينادى في الناس: ألا إن فلانا قد مات، فاشهدوا جنازته، واستخفه ابن وهب في سماع عبد الملك من هذا الكتاب، ومن كتاب الصلاة؛ وقول مالك: وأما الإذن(2/217)
بها، والإعلام من غير نداء، فذلك جائز بإجماع، وقد «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المرأة التي توفيت فدفنت ليلا: أفلا آذنتموني بها» . وقد روي عن حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «إذا مت فلا تؤذنوا بي أحدا، إني أخاف أن يكون نعيا، وقد سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن النعي» .
[مسألة: النصراني يموت هل لابنه وهو رجل من المسلمين أن يقوم في أمره]
مسألة وسئل مالك عن النصراني يموت أترى لابنه وهو رجل من المسلمين أن يقوم في أمره، ويتبعه إلى قبره من غير شهود له؟ قال ما أرى أن يقوم في أمره ولا يتبعه إلى قبره، قد ذهب الحق الذي كان يلزمه من أمره إذا انقضت حياته، إلا أن يخاف أن يضيع، قال ابن القاسم هذا أثبت ما سمعت من قول مالك وبه آخذ.
قال محمد بن رشد: قد حكى ابن حبيب عن مالك، أنه قال: لا بأس أن يقوم بأمره كله، ثم يسلمه إلى أهل دينه ولا يتبعه، إلا أن يخاف عليه الضيعة، فيتقدم إلى قبره، ولا يلي إدخاله فيه، إلا ألا يجد من يكفيه ذلك؛ ولهذا قال ابن القاسم في روايته عنه: إنها أثبت ما سمع منه، فاختار من قوله ألا يقوم في شيء من أمره، إلا ألا يجد من يكفيه ذلك، وإتباعه إلى قبره إن خشي عليه الضيعة، يكون معتزلا عن الحاملين له من أهل دينه - على ما حكى عنه ابن حبيب، مخافة أن ينزل بهم سخط من الله، فيصيبه معهم.
[التسليم على الجنازة]
ومن كتاب أوله سن رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ابن القاسم في التسليم على الجنازة يسلم الإمام واحدة(2/218)
ويسمع من يليه، ومن وراءه يسلمون واحدة في أنفسهم، وإن أسمعوا من يليهم لم أر بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، فالإمام يسمع من يليه سلامه؛ لأنهم يقتدون به فيسلمون بسلامه، ومن خلفه يسلم في نفسه، وليس عليه أن يسمع من يليه، إذ لا يقتدي بسلامه، وإنما يسلم ليتحلل من صلاته، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم» . والصلاة على الجنائز صلاة، فهي داخلة في عموم لفظ الصلاة، وفي سماع ابن غانم في بعض الروايات، أنه يرد على الإمام من سلم عليه - قياسا على الصلاة الفريضة وهو تفسير لسائر الروايات.
[مسألة: اتخاذ المساجد على القبور]
مسألة قال ابن القاسم في اتخاذ المساجد على القبور، قال إنما يكره من ذلك هذه المساجد التي تبنى عليها؛ فلو أن مقبرة عفت فبنى قوم عليها مسجدا فاجتمعوا للصلاة فيه، لم أر بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في هذا السماع، والرسم بعينه من كتاب الحبس، وهي مسألة صحيحة؛ فوجه كراهية اتخاذ المساجد على القبور ليصلي فيها من أجل القبور، ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» .(2/219)
وقوله، - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - يحذر ما صنعوا -» . وقوله: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . وأما بناء المسجد للصلاة فيه على المقبرة العافية، فلا كراهة فيه - كما قال؛ لأن المقبرة والمسجد حبسان على المسلمين لصلاتهم، ودفن موتاهم؛ فإذا عفت المقبرة - ولم يمكن التدافن فيها، أو استغنوا عن التدافن فيها، واحتيج إلى أن تتخذ مسجدا يصلى فيه، فلا بأس بذلك؛ لأن ما كان لله، فلا بأس أن يستعان ببعض ذلك في بعض على ما النفع فيه أكثر، والناس إليه أحوج؛ وذلك إذا عفت لكراهية درس القبور الجدد المسنمة على ما قال في أول سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية، وفي الواضحة وغيرها، فقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لأن يمشي أحدكم على الرضف خير له من أن يمشي على قبر أخيه» ، وقال: «إن الميت ليؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته» .
[مسألة: يجعل على القبر بلاطة ويكتب فيها]
مسألة وكره ابن القاسم أن يجعل على القبر بلاطة ويكتب فيها، ولم ير بأسا بالحجر، والعود، والخشبة، ما لم يكتب في ذلك ما يعرف به الرجل قبر وليه.
قال محمد بن رشد: كره مالك البناء على القبر، وأن يجعل عليه(2/220)
البلاطة المكتوبة؛ لأن ذلك من البدع التي أحدثها أهل الطول - إرادة الفخر والمباهاة والسمعة، فذلك مما لا اختلاف في كراهته.
[مسألة: النساء يخرجن إلى الجنائز على الرحائل ومشاة]
ومن كتاب البز مسألة وسئل مالك عن النساء يخرجن إلى الجنائز على الرحائل، ومشاة؟ قال قد كان النساء يخرجن فيما مضى من الزمان، ولقد كانت أسماء بنت أبي بكر تخرج تقود فرس الزبير - وهي حامل مثقل، حتى عوتبت في ذلك؛ فقيل له أفترى بخروجهن بأسا؟ فقال ما أرى بأسا، إلا أن يكون أمرا يستنكر.
قال محمد بن رشد: أجاز مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إتباع النساء الجنائز، وخروجهن فيها؛ واحتج في ذلك بالعمل الماضي؛ لأنه عنده أقوى من أخبار الآحاد العدول، إلا أن يأتي من ذلك ما يستنكر فيمنع، وقد قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " لو أدرك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أحدثه النساء لمنعهن المساجد، كما منعه نساء بني إسرائيل ". وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شهد جنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهد حتى تدفن كان له قيراطان» . فدخل في عموم ذلك الرجال والنساء، وما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن زوارات القبور» ، معناه - عند(2/221)
أهل العلم - أن ذلك كان قبل أن يرخص في ذلك، فلما رخص فيه، دخل في الرخصة النساء مع الرجال، وقد قالت أم عطية: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا» . فقيل إنما نهين عن ذلك لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن. وقيل إنما نهين عن ذلك من باب الصون والستر، فالنساء في شهودها ثلاث: متجالة، وشابة، ورائعة بدرة جسيمة ضخمة: فالمتجالة تخرج في جنازة الأجنبي والقريب، والشابة تخرج في جنازة أبيها وأخيها ومن أشبههما من قرابتها، والمرأة الرائعة البدرة الضخمة، يكره لها الخروج أصلا، والتصرف بكل حال، هذا هو المشهور، وقد ذكر ابن حبيب أن خروج النساء في الجنائز مكروه بكل حال: في أهل الخاصة، وذوي القرابة، وغيرهم؛ وينبغي للإمام أن يمنع من ذلك.
[مسألة: الصبي يسبى صغيرا ومن نية صاحبه أن يجعله يسلم]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق مسألة وسئل مالك عن الصبي يسبى صغيرا، ومن نية صاحبه أن يجعله يسلم، فلا يقيم إلا يوما أو يومين حتى يموت؛ أترى أن يصلى عليه؟ قال: إن كان أمر بالإسلام فأجاب إليه فليصل عليه، وإلا فلا يصلى عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول ما هذه المسألة مجودا موعبا في رسم "الشجرة تطعم بطنين في السنة"، فلا معنى لإعادته.(2/222)
[مسألة: جنازة رجل وجنازة امرأة تحضران جميعا من ترى يصلي عليهما]
ومن كتاب الشريكين مسألة قال مالك في الجنازتين تحضران جميعا جنازة رجل، وجنازة امرأة، من ترى يصلي عليهما: أولياء المرأة، أو أولياء الرجل؟ قال مالك: ليس ينظر في ذلك إلى أولياء المرأة، ولا إلى أولياء الرجل، ولكن ينظر إلى أهل الفضل منهم والسن، فيقدم عليهما؛ وقد كان الناس فيما مضى يودون أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلون على جنائزهم - رجاء بركة دعائهم.
قال محمد بن رشد: ذهب ابن الماجشون إلى أن أولياء الرجل، أحق من أولياء المرأة، قال: وقد قدم حسين بن علي - عبد الله بن عمر للصلاة على جنازة أخته أم كلثوم، وابنها زيد بن عمر بن الخطاب أخي عبد الله بن عمر حين كان عبد الله بن عمر أحق بالصلاة على أخيه من حسين بالصلاة على أخته؛ وهذا لا حجة فيه - عندي، إذ قد يحتمل أنه إنما قدمه لسنه، ولإقراره بفضله، لا من أجل أنه أحق بالصلاة على أخيه منه على أخته، وقدم ابنها إلى الإمام في الصلاة عليهما، ولم يورث واحدا منهما من صاحبه؛ لأنه لم يدر أيهما مات قبل صاحبه، فكانت فيهما ثلاث سنن على ما قال ابن الماجشون.
[مسألة: التيمم للجنازة]
ومن كتاب اغتسل على غير نية مسألة وسئل عن التيمم للجنازة، فقال: إن كان بعيدا جدا، بحيث يجوز له التيمم للصلاة يتيمم - يريد في السفر.
قال محمد بن رشد: هذا قول مالك في سماع أشهب، وفي المدونة(2/223)
والواضحة، وغيرهما: لم يختلف في ذلك قوله، وأجاز التيمم في الحضر لها خوف فواتها - جماعة من علماء المدينة وغيرهم، منهم: ابن شهاب، ويحيى بن سعيد، والليث؛ وأخذ به ابن وهب من أصحابه، وقد اختلف قول مالك في الحاضر هل يصلي الفريضة بالتيمم أم لا - على ثلاثة أقوال، أحدها: أنه يصليها به وتجزئه. والثاني أنه يصليها به ويعيدها. والثالث: أنه لا يصليها حتى يجد الماء فيتوضأ ويصلي، وقد قيل إنه إن لم يجد الماء حتى خرج الوقت، سقطت عنه الصلاة، ومن مذهب مالك أن المتيمم يصلي النافلة بالتيمم، ويستبيح به جميع ما يستباح بالوضوء، فيجي على قوله: أن الحاضر من أهل التيمم، وأنه يصلي ولا يعيد - بناء على مذهبه المذكور أن له أن يتيمم لصلاة الجنازة، والعيدين.
[مسألة: هل صلى صهيب على عمر بن الخطاب]
مسألة وسئل مالك: هل صلى صهيب على عمر بن الخطاب؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: حقق ههنا أن صهيبا صلى عليه، وقال في سماع أشهب لم أسمع ذلك، ولكني أظنه، لقوله يصلي بكم صهيب. وهو ظن كاليقين؛ لأنه يبعد في القلوب أن يستخلفه عمر على الصلاة أيام الشورى، فيصلي عليه غيره، وهم لم يجتمعوا بعد على إمام، وهو صهيب بن سنان الرومي، يعرف بالرومي وهو من العرب؛ لأنه أصابه سباء - وهو صغير، فصار أعجمي اللسان، صحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يوحى إليه، ثم أسلم معه بمكة هو وعمار بن ياسر في يوم واحد، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرا، فهو من المهاجرين الأولين؟ وروي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحب صهيبا حب الوالدة ولدها» - والله الموفق.
[صلاة النوافل والجلوس في المساجد أفضل أم شهود الجنائز]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت وسألت مالكا فقلت له: أي شيء أعجب إليك: القعود في(2/224)
المسجد أم شهود الجنائز؟ فقال: بل القعود في المسجد أعجب إلي، إلا أن يكون حق من جوار، أو قرابة، أو أحد ترجى بركة شهوده - يريد به في فضله فيحضره. قال ابن القاسم: وذلك في جميع المساجد.
قال محمد بن رشد: ذهب سعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم، إلى أن صلاة النوافل والجلوس في المساجد، أفضل من شهود الجنائز - جملة من غير تفصيل، فمات علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، فانقلع الناس لجنازته من المسجد، إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم يقم من مجلسه، فقيل له ألا تشهد هذا الرجل الصالح من البيت الصالح؟ قال: لأن أصلي ركعتين، أحب إلي من أن أشهد هذا الرجل الصالح، من البيت الصالح؛ وخرج سليمان بن يسار فصلى عليه واتبعه، وكان يقول شهود الجنائز أفضل من صلاة التطوع جملة أيضا من غير تفصيل، وتفصيل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو عين الفقه، إذ إنما يرغب في الصلاة على من يعرف بالخير، وترجى بركة شهوده؛ فمن كان بهذه الصفة، أو كان له حق من جوار، أو قرابة، فشهوده أفضل من صلاة التطوع - كما قال مالك، لما تعين من حق الجوار، والقرابة؛ ولما جاء من الفضل في شهود الجنازة، فقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أفضل ما يعمل امرؤ في يومه شهود الجنازة» . ولأن مراتب الصلوات في الفضل على قدر مراتبها في الوجوب، فأفضل الصلوات صلاة الفريضة، ثم صلاة الوتر، إذ قد قيل إنه واجب؛ ثم الصلاة على الجنائز لأنها فرض على الكفاية، ثم ما كان من الصلاة سنة، ثم ما كان منها فضيلة، ثم ما كان منها نافلة.(2/225)
[مسألة: الأعجمي يقال له صل فيصلي ثم يموت هل يصلى عليه]
مسألة قال ابن القاسم: سئل مالك عن الأعجمي يقال له صل فيصلي ثم يموت، هل يصلى عليه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن من صلى فقد أسلم، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله؛ ومن أبى فهو كافر، وعليه الجزية» . وقد مضى في رسم "القبلة" ما فيه بيان لهذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مات وعليه دين يحيط بماله]
ومن كتاب أوله باع غلاما بعشرين دينارا وقال مالك: من مات وعليه دين يحيط بماله، فإن الكفن مبدأ على الدين؛ قال مالك: ومن كان له رهن في يدي رجل، ثم مات - ولا مال له غير ذلك، فلا يكفن منه، والمرتهن أحق به من الكفن.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في هذا السماع من كتاب المديان والتفليس، وهي مسألة صحيحة؛ أما قوله إن الكفن مبدأ على الدين، فالأصل في ذلك ما ثبت من أن «مصعب بن عمير قتل يوم أحد، فلم يترك إلا نمرة كانوا إذا غطوا بها رأسه، بدت رجلاه، وإذا غطوا بها رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه من الإدخر» . وما ثبت أيضا من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفن قتلى أحد بثيابهم من غير أن يعتبر ما يبقى لورثتهم، أو لدين - إن كان عليهم، وهذا أمر لا أعلم فيه اختلافا، إلا ما يروى عن(2/226)
سعيد بن المسيب في أحد قوليه: إن الكفن من الثلث؟ والصحيح ما عليه الجماعة: أنه من رأس المال. وأما قوله إنه لا يكفن من الرهن، والمرتهن أحق فهو كما قال ولا اختلاف فيه؛ لأن حق المرتهن قد تعين في عين الرهن، وما تعين من الحقوق في أعيان الأشياء من التركة، فهو مبدأ على ما ثبت منها في الذمة، كأم الولد، وزكاة تمر الحائط الذي أزهى قبل موت المتوفى، والرهن، وما استحق من الأصول والعروض ببينة تشهد على عينه، والله ولي التوفيق.
[مسألة: الإمام يصلي على الجنازة فيتابع بين التكبير ويدع الدعاء]
من سماع زياد عن مالك مسألة قال: وقال مالك في الإمام يصلي على الجنازة فيتابع بين التكبير ويدع الدعاء، أترى ذلك يجزئه؟ قال: أرى أن تعاد الصلاة عليه، كالذي يترك القراءة في الصلاة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن القصد في الصلاة على الميت الدعاء له، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أخلصوه بالدعاء» . ولذلك سميت صلاة لما فيها من الدعاء، فإذا لم يدع للميت فلم يصل عليه.(2/227)
[مسألة: أهل الميت هل يبعث إليهم بالطعام]
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك - رواية سحنون من كتاب الجنائز الأول مسألة قال أشهب: وسئل مالك عن أهل الميت هل يبعث إليهم بالطعام؟ فقال إني أكره المناحة، فإن كان هذا ليس منها فليبعث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن إرسال الطعام إلى أهل الميت لاشتغالهم بميتهم إذا لم يكونوا اجتمعوا لمناحة، من الفعل الحسن المرغب فيه المندوب إليه، روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأهله لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب: «اصنعوا لآل جعفر طعاما، وابعثوا به إليه، فقد جاء ما يشغلهم عنه» ، وبالله التوفيق.
[مسألة: تفضيل علي رضي الله عنه لعمر على عثمان]
مسألة
وأخبرني جعفر بن محمد، عن أبيه، أنه قال لما وضع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسجي عليه، قال له علي: ما على الغبراء، ولا تحت الخضراء، أحد أحب إلي أن ألقى الله بكتابه منك!
قال محمد بن رشد: في هذا تفضيل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لعمر على عثمان، وهو الذي عليه أهل السنة، والحق أن أفضل الصحابة أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وقد روي هذا عن مالك، وروي عنه أيضا الوقوف عن تفضيل بعضهم على بعض. وروي عنه أيضا تفضيل أبي بكر على عمر، ثم الوقوف عن المفاضلة بين علي وعثمان، والأول هو الذي يعتمد عليه من مذهبه - والله أعلم.(2/228)
[مسألة: صلاة من في المسجد على الجنازة بصلاة الإمام عليها بخارج المسجد]
مسألة قال وسمعته يحدث عن أبي النضر، «أن رسول الله - صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد» .
قال محمد بن رشد: ثبت هذا عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ وروي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى في المسجد على جنازة، فلاشيء له» . فاختلف أهل العلم لما تعارض من هذين الحديثين في الصلاة على الجنازة في المسجد، وفي صلاة من في المسجد على الجنازة بصلاة الإمام عليها بخارج المسجد؛ فمنهم من أجاز ذلك وضعف حديث أبي هريرة، وقال معنى قوله فلا شيء له - أي فلا شيء عليه، مثل قوله عز وجل: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أي عليها. ورأى العمل على ما جاء في سهيل بن بيضاء، واستدل على ذلك بإنكار عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - على من أنكر عليها ما أمرت به من إدخال سعد بن أبي وقاص في المسجد؛ وهو مذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل؛ ومنهم من كره ذلك، ورأى ما جاء في سهيل بن بيضاء، أمرا قد ترك وجرى العمل بخلافه؛ وأن حديث أبي هريرة ناسخ له؛ لأنه متأخر عنه، واستدل على ذلك بإنكار الناس - وهم صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عائشة ما أمرت به من أن يمر عليها بسعد بن أبي وقاص في المسجد، إذ كانت الصلاة على الجنازة في المسجد أمرا قد ترك، وجرى العمل بخلافه - بعد أن كان يفعل؛ لما علموه مما هو أولى منه، ولم تعلم بذلك عائشة، وظنت أنهم إنما كانوا تركوا(2/229)
ذلك، ولهم أن يفعلوه، لا لأنهم علموا أن غيره أولى منه؛ وهذا معنى قول مالك في المدونة: لا توضع الجنازة في المسجد، وإن وضعت قرب المسجد لم يصل عليها من في داخل المسجد، إلا أن يضيق خارج المسجد بأهله؛ وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. ومنهم من كره أن يصلى على الجنازة في المسجد، وأجاز إذا وضعت خارج المسجد أن تمتد الصفوف بالناس في المسجد، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وعزاه إلى مالك، وقال: هو من رأيه، ولو صلى عليها في المسجد ما كان ضيقا، وفي صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سهل بن بيضاء في المسجد، دليل على أن الميت ليس بنجس، وقد مضى في أول سماع ابن القاسم من الحجة على ذلك ما فيه كفاية، فإذا كان ليس بنجس، وإنما يكره إدخاله في المسجد - إذا لم يدفن فيه، مخافة أن ينفجر منه شيء فيه، فلا فرق في كراهية الصلاة عليه في المسجد بين أن يكون فيه أو خارجا منه، وهو مذهب مالك في المدونة، وظاهر قوله في الحديث: «من صلى على جنازة في المسجد، فلا شيء له» إذ لم يفرق فيه بين أن تكون الجنازة في المسجد، أو خارجا عنه؛ وإذا قلنا إن ذلك مكروه، فإن فعله لم يأثم ولم يؤجر، وإن لم يفعله أجر؛ لأن حد المكروه ما تركه أفضل من فعله؛ وهو الذي يدل عليه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من صلى على جنازة في المسجد، فلا شيء له» .
[مسألة: المشي أمام الجنازة للرجال والنساء]
مسألة وسئل عن المشي أمام الجنازة للرجال والنساء، أهم في ذلك سواء؟ فقال: لا أرى أن يكون النساء في ذلك بمنزلة الرجال، أيكون النساء مع الرجال بين أيديهم؟ فقال له: إن النساء لا يكن بين أيدي الرجال، ولكن خلفهم أمام الجنازة؛ فقال: أليس الرجال يحملون(2/230)
الجنازة - والنساء أمامها، لا أرى ذلك، وأرى أن يمشين خلفه، والعمل على ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن النساء يمشين خلف الجنازة؛ لأنهن عورة، فلا يكن بين أيدي الرجال، وإنما اختلف أهل العلم في الرجال، فقيل: إن الأفضل أن يمشوا أمام الجنازة، وقيل: إن الأفضل أن يمشوا خلفها، وقيل: إنهم مخيرون في ذلك، ولا فضل لأحد الوجهين على الآخر؛ وقيل: إنهم يمشون خلف الجنازة إلا أن يكون ثم نساء فيمشون أمامها؛ لئلا يختلط الرجال بالنساء، وتوجيه قول كل قائل وما تعلق به يطول، وهو موجود في مظانه، فلا معنى لذكره.
[مسألة: الحمالة عن الميت الذي لم يترك مالا]
مسألة قال: وحدثني أبو النضر، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ههنا من بني فلان؟ فلم يجبه أحد، ثم قالها، فلم يجبه أحد، ثم قالها، فلم يجبه أحد، فقام رجل فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما منعك أن تجيب؟ فقال: خشيت أن يكون نزل فينا من الله قرآن. فقال: لم أكن لأدعو أحدا منكم إلا إلى خير، ولكن صاحبكم حبس لدين عليه دون الجنة» .
قال محمد بن رشد: هذا كان في أول الإسلام - والله أعلم، بدليل ما روي عن أبي هريرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه دين، فيقول: هل ترك لدينه من فضل؟ فإن حدث أنه ترك وفاء، صلى عليه، وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم، فلما فتح(2/231)
الله الفتوح، قام فقال: أنا أوفى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المسلمين وترك دينا، فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فهو لورثته» . وإنما أخبر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قوم المتوفى بحبس ميتهم دون الجنة بما عليه من الدين، رجاء أن يؤدوه عنه، أو يتحملوا به؟ بدليل حديث جابر بن عبد الله، «أن رجلا مات وعليه دين فلم يصل عليه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حتى قال: أبو اليسر، أو غيره، هو إلي؛ فصل عليه يا رسول الله، فجاءه من الغد يتقاضاه، فقال: إنما كان أمس، ثم أتاه من بعد الغد فأعطاه؛ فقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الآن بردت عليه جلده» . وهذا حديث فيه ستة أوجه من الفقه: أحدها جواز الحمالة عن الميت الذي لم يترك مالا، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إن الحمالة باطل؛ إذ لو لم تجز الحمالة لما صلى عليه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ والثاني أنه إذا أدى الدين عن الميت، لم يكن له الرجوع في مال إن طرأ له، إذ لو انتقل الدين إلى الحميل الذي أداه ولم يسقط عن الذي كان عليه، لما بردت جلده بالأداء عنه. والثالث: أن الكفالة لازمة للحميل بغير قبول المكفول له، خلافا لأبي حنيفة في ذلك. والرابع: جواز الكفالة بغير إذن المكفول عنه. والخامس: وجوب أخذ المكفول له بها الكفيل. والسادس: أن ذمة المكفول عنه لا تبرأ بوجوب الكفالة على الكفيل حتى يؤدي عنه، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الآن بردت عليه جلده» . فإذا لم تبرأ ذمته بالكفالة من الدين، كان للذي له الدين أن يتبع بدينه من شاء منهما على أحد قولي مالك، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة. وقيل: إنه ليس له أن يتبع الكفيل، إلا في عدم الذي عليه الدين، وهو أحد قولي مالك، واختيار ابن(2/232)
القاسم، والصحيح في القياس والنظر؛ لأنه إن قضى للمكفول له على الكفيل، قضى في الحين للكفيل على المكفول عنه، فالقضاء للمكفول له على المكفول عنه أولى وأقل عناء، فلا معنى لتبرئة الكفيل بالاتباع مع حضورهما واستوائهما في الملأ واللدد، وبالله التوفيق.
[مسألة: منع النساء في جنائزهن من شق الثياب]
مسألة وقيل له: أتحب أن لو منع النساء في جنائزهن من شق الثياب، وضرب الوجه، وأشباه ذلك؟ فقال: نعم، هذا من عمل الجاهلية.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إنه من عمل الجاهلية، فينبغي للإمام أن يغير ذلك ويمنع منه؛ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس منا من شق الجيوب، وضرب الخدود، ودعا بدعوى الجاهلية» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعهن الناس: النياحة، والطعن في الأحساب، والعدوى؛ أجرب بعير فأجرب مائة بعير، من أجرب البعير الأول؟ والأنواء: مطرنا بنوء كذا وكذا» - ذكره الترمذي.
[مسألة: مولى لامرأة توفي فقام ابن المولاة فقال لابن عم له تقدم فصل عليها]
مسألة وسئل عن مولى لامرأة توفي، فقام ابن المولاة فقال لابن عم له: تقدم فصل عليها، فقال ابن أخي مولاة المتوفى: هو مولى عمي وأنا أولى ممن أمرت، وأنت صبي ممن لا أمر لك؛ فقال مالك: ما أراه إلا كما قال ابن أخي المولاة، يكون ذلك له.(2/233)
قال محمد بن رشد: إنما هذا من أجل أنه صبي، ولو كان رجلا لكان ابن عمه الذي قدم أحق من ابن أخي مولاة المتوفى؛ لأنه حقه له أن يجعله إلى من شاء، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وحكاه عن ابن الماجشون، وأصبغ، وقال ابن عبد الحكم: إذا أبى أن يصلي فالذي بإثره أحق، وليس له أن يجعل ذلك إلى من هو أبعد منه؛ وساق ابن حارث هذه الرواية على أنها مثل قول ابن عبد الحكم، فلم يلتفت إلى قوله فيها: وأنت صبي ممن لا أمر لك، وذلك إغفال منه، فقف على ذلك.
[قراءة القرآن عند رأس الميت]
ومن كتاب الجنائز والصيد والذبائح
قال أشهب: وسئل مالك عن قراءة القرآن عند رأس الميت بـ {يس} [يس: 1] . فقال: ما سمعت بهذا، وما هو من عمل الناس؛ قيل له: أفرأيت الإجمار عند رأسه - وهو في الموت يجود بنفسه؟ فقال أيضا: ما سمعت شيئا من هذا، وما هذا من عمل الناس.
قال محمد بن رشد: استحب ابن حبيب الإجمار عند الميت إذا احتضر، وأن يقرأ عند رأسه بياسين؟ وحكي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «من قرأ ياسين أو قرئت عند رأسه - وهو في سكرات الموت، بعث الله ملكا إلى ملك الموت: أن هوّن على عبدي الموت» . قال: وإنما كره مالك أن يفعل ذلك - استنانا.(2/234)
[مسألة: حضرته الجنازة وليس على وضوء ويخاف إن توضأ فوتها أيتيمم لها]
مسألة قال: وسئل عمن حضرته الجنازة وليس على وضوء، ويخاف إن توضأ - فوتها، أيتيمم لها؟ فقال: لا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم " اغتسل على غير نية "، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: تفوته الجنازة فيأتي بعدما توارى أترى أن يكبر عليه أم يدعو]
مسألة وسئل عن الذي تفوته الجنازة فيأتي بعدما توارى، أترى أن يكبر عليه أم يدعو؟ قال: يدعو ما أحسن أن يدعو.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة: أنه لا يصلى على من قد صلي عليه - وإن لم يدفن، وقيل: إنه يصلى عليه ما لم يدفن. روي أن الزبير بن هشام بن عروة توفي بالعقيق، فصلى عليه أبوه، ثم بعث به إلى المدينة، فأمر أن يصلى عليه بالبقيع ويدفن، وقد فعل ذلك أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلين على سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف؛ وقيل: إنه يصلى على قبره - وإن دفن، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمسكينة التي دفنت ليلا، ولم يؤذن بها. وقد حكى ابن القصار عن مالك إجازة ذلك - ما لم يطل ذلك، وأقصى ما قيل فيه الشهر، وهو شذوذ في المذهب؛ فقد قال في المدونة: ليس على هذا الحديث العمل، وسيأتي في رسم "النسخة" من سماع عيسى، القول في الصلاة على قبر من دفن ولم يصل عليه.
[مسألة: ما تكفن فيه الجارية]
مسألة وسئل عما تكفن فيه الجارية، فقال: ما سمعت قط بأحد(2/235)
سئل عن مثل هذا: ما تكفن فيه الجارية، وما يكفن فيه الغلام، والكفن واسع، فما كفن فيه فهو واسع، وليس على الناس في هذا ضيق؛ «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب بيض» ، «وكفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشهداء يوم أحد اثنين في ثوب» ، وكفن ابن عمر ابنا له في خمسة أثواب، وكفن أبو بكر في ثوب فيه مشق، فلو كان هذا ضيقا كان شيئا واحدا، فليس على الناس في هذا ضيق.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إن الكفن لا حد فيه يجب الاقتصار عليه، فلا يزاد فيه ولا ينقص، وإنما يتكلم على الاستحباب، فمما يستحب فيه الوتر، إلا أن الاثنين عندهم أفضل من الواحد، والثلاثة أفضل من الأربعة، فأدنى الكفن في الاستحباب ثلاثة، وأعلاه في الاستحباب خمسة أثواب. قال ابن حبيب: والخمسة للمرأة ألزم، وقد فرق في الاستحباب بين المرأة والرجل والجارية والغلام، فقال ابن شعبان: إن أدناه للمرأة خمسة أثواب، وأعلاه سبعة أثواب؛ وقال بعضهم: يكفن الصبي - ما لم يطعم في ثوب، فإذا طعم ففي ثلاثة أثواب، والجارية إلى أن تحيض في ثلاثة أثواب، فإذا حاضت ففي خمسة أثواب؛ ومما يستحب في الكفن البياض، وتستحب الحبرة لمن وجد لذلك سعة، لما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثلاثة أثواب أحدها حبرة» ، ويكفن في صماته في مثل(2/236)
ما كان يلزمه في الجمع والأعياد في حياته، ويقضى بذلك عند اختلاف الورثة فيه، وإنما «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشهداء يوم أحد اثنين في ثوب واحد» من ضرورة، ومعناه فيمن عراه العدو؛ لأن السنة أن يدفنوا في ثيابهم - والله أعلم.
[مسألة: الصلاة على المنفوس في المنزل]
مسألة وسئل: أيصلى على المنفوس في المنزل، ثم يرسل به فيدفن؟ فقال: يصلى عليه في المنزل؟ فقيل: نعم، فقال: ما علمت ذلك.
قال محمد بن رشد: استفهامه عن ذلك، وإنكاره أن يكون علم أن ذلك يفعل؛ يدل على أنه كره ذلك من العمل، ووجه الكراهية في ذلك بين. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شهد جنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن اتبعها حتى تدفن فله قيراطان» ، ولم يفرق بين صغير وكبير.
[مسألة: الرجل يموت ويترك ابنا له قد راهق الحلم]
مسألة وسئل عن الرجل يموت ويترك ابنا له قد راهق الحلم، أيصلي ابنه عليه؟ فقال: بل يصلي عليه غيره أحب.
قال محمد بن رشد: المراهق: هو الذي قد أنبت وبلغ من السن ما يشبه أن يكون قد احتلم، ولم يبلغ أقصى سن الاحتلام؛ فهذا إن أقر أنه لم يحتلم، لم يمكن من الصلاة على أبيه؛ لأن من لم يحتلم، ولا بلغ أقصى سن الاحتلام، فليس بمكلف ولا مؤاخذ بذنب، ولا مثاب على طاعة. وقد قيل: إنه يثاب على طاعاته، وإن قال: إنه قد احتلم، فهو الذي قال مالك فيه الرواية يصلي عليه غيره أحب إلي، مخافة ألا يكون صادقا فيما ذكره من(2/237)
احتلامه، فهذا معنى هذه الرواية - والله أعلم؛ لأن اختلاف قول مالك فيمن وجب عليه حد، أو طلق وقد أنبت، إنما يرجع إلى تصديقه فيما يذكر من أنه لم يحتلم، وقد تأول عليه غير ذلك - وليس بصحيح.
[مسألة: أوصت ابنها أن يكفنها في ثلاثة أثواب كانت تلبسها في حياتها]
مسألة وسئل عن امرأة أوصت ابنها أن يكفنها في ثلاثة أثواب كانت تلبسها في حياتها، فأراد ابنها أن يشتري لها جددا مكانها فيكفنها فيها، فقال: لا، أحب إلي أن يفعل ما أمرته به أمه.
قال محمد بن رشد: قوله: أحب إلي أن يفعل ما أمرته به أمه، كلام ليس على ظاهره، بل هو الواجب عليه، وذلك إذا كانت إنما أوصت ابنها أن يكفنها في ثلاثة أثواب بأعيانها تبركا بها لحلها، أو لأنها حجت فيها، أو كانت تشاهد الصلوات بها، أو ما أشبه ذلك مما تريد به وجه البر؛ لأن من أوصى بما فيه قربة، فواجب أن تنفذ وصيته، قال عز وجل: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181] . وأما إن كانت إنما أوصت بذلك حيطة عليه، وقصدا إلى توفير مالها عليه، لا لغرض لها في أعيان الأثواب؛ فله أن يبدلها بغيرها - وإن لم يتحقق غرضها في وصيتها، فالاختيار له ألا يخالف أمرها - والله أعلم.
[مسألة: جارية غارت على سيدها فشربت نورة فقتلت نفسها]
مسألة وسئل عن جارية غارت على سيدها فشربت نورة، فقتلت نفسها، أيصلى عليها؟ قال: نعم يصلى عليها. قيل له: فإن رجلا عندنا ذبح نفسه، أيصلى عليه؟ فقال: ولم ذبح نفسه؟ فقال: كان ابن(2/238)
معاوية قد عذبه عذابا شديدا، ثم قيل له: غدا يفعل بك كذا وكذا، فخافه، فأخذ سكينا فذبح بها نفسه؛ أفترى أن يصلى عليه؟ فقال: نعم، وما سمعت أن أحدا ممن يصلي القبلة ينهى عن الصلاة عليه؛ ولقد قال عمر للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين مات ذلك المنافق، لا تصل عليه يا رسول الله، فأبى النبي ذلك، وصلى عليه، وفيه فيما بلغني نزلت هذه الآية: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] . نزلت بعدما صلى عليه، قال مالك: أفترون أن النفاق من حين ذهب من أولئك، ذهب من الناس؟
قال محمد بن رشد: قوله في التي قتلت نفسها: إنه يصلى عليها، معناه أنها لا تترك بغير صلاة؛ لأنها ممن ترغب في الصلاة عليها؛ فقد قال ابن وهب في المعروف بشرب الخمر والشر: ما حاجتك إلى شهوده؟ دعه يصلي عليه أهله ومن أحب؛ وإنما وقع هذا السؤال لما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده في نار جهنم، يجاء بها في بطنه في نار جهنم - خالدا مخلدا فيها أبدا» . وأنه قال في التردي والسم مثل ذلك، فذهب جماعة من السلف إلى إنفاذ الوعيد عليه، والأكثر منهم يراه في المشيئة، لقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]- الآية. وما في الحديث من تخليد في النار، ليس على ظاهره، ومعناه أنه خالد فيها مخلد أبدا - حتى يخرج منها بالشفاعة مع سائر المذنبين؛ لأن القتل لا يحبط إيمانه، ولا يبطل أعماله، فلا بد من مجازاته على ذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] .
وهذا قول أهل السنة والحق، وقد روي عن جابر بن سمرة(2/239)
«أن رجلا نحر نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . فتعلق بذلك من ذهب إلى أنه لا يصلى على من قتل نفسه، منهم: الأوزاعي، وابن شهاب، ولا حجة لهم في ذلك؛ إذ لم ينه عن الصلاة عليه، وإنما ترك هو الصلاة عليه، إذ كان من سنته ألا يصلي على المذمومين، ويصلي عليهم غيره، كالقاتل والمديان، وشبههما، أدبا لهم وزجرا عن مثل فعلهم؛ وقال أحمد بن حنبل: لا يصلي الإمام على من قتل نفسه، ويصلي عليه الناس؛ وحكم قاتل النفس في ذلك، حكم من قتل نفسه. وقوله في الرواية: وما سمعت أن أحدا ممن يصلي القبلة ينهى عن الصلاة عليه. يروى: ينهى، وينهي، والصواب ينهى على لفظ ما لم يسم فاعله؛ وهذا يدل على أن قوله في القدرية والإباضية: لا يصلى عليهم، إنما معناه أن الصلاة تترك عليهم أدبا لهم، إذ لا يرغب في الصلاة عليهم، لا لأنهم يتركون بغير صلاة أصلا، وقد بين ذلك في كتاب ابن شعبان، فقد قال فيه: إنه لا يصلى عليهم ولا على من يذكر بالفسق والشر، وإنما يرغب في الصلاة على من يذكر فيه خير، ومما يدل على صحة رواية من روى ينهى على لفظ ما لم يسم فاعله، ما احتج به مالك من قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته على عبد الله بن أبي سلول المنافق، وما أنزل الله من النهي عن الصلاة عليهم، إذ هم كفار معدودون في غير أهل القبلة؛ لأن صلاتهم إليها بغير نية ولا اعتقاد.
[مسألة: أتى جنازة فوجدهم قد سبقوه ببعض التكبير عليها]
مسألة قال: وسئل مالك عمن أتى جنازة فوجدهم قد سبقوه ببعض التكبير عليها، أيكبر مكانه؟ أم ينتظر حتى يكبر الإمام فيكبر بتكبيره ثم يقضي ما فاته؟ فقال: بل يكبر تكبيرة واحدة حين يجيء سرا، ثم يقف عما سبقوه به من التكبير بعد التكبيرة الواحدة التي يكبرها حين يقف سرا، تم يترك التكبير حتى يكبر الإمام، فيكبر بتكبيره، ثم يقضي(2/240)
ما بقي عليه من الأربع تكبيرات - بعد فراغ الإمام، ولا يكبر مما فاته مع الإمام شيئا إذا جاء فوقف مع، إلا تكبيرة واحدة، ثم يقف عما بقي حتى يكبر الإمام فيكبر معه، فإذا فرغ الإمام صلى بقدر ما بقي عليه من التكبير، وإنما يكبر مع الإمام التكبيرة الأولى؛ لأن ذلك بمنزلة الصلاة المكتوبة يفوت الرجل منها ركوع ركعة أو ركعتين، ففي ذلك تكبيرة، فإن جاء لم يكبر مما سبقوه به إلا تكبيرة الإحرام قط، ولم يقض ما سبقوه به من التكبير فيما مضى من الركوع، وقد كبر التكبيرة الأولى معهم حين وقف معهم في الصلاة؛ فهذا هكذا في الجنازة إذا فاته من تكبيرها تكبيرتان أو ثلاث، ثم جاء كبر من ذلك تكبيرة واحدة، وأمسك عما بقي حتى يقضيه بعد فراغ الإمام.
قال محمد بن رشد: قياسه في هذه الرواية، ما فاته مع الإمام من التكبير على الجنازة على ما فاته من تكبير الصلاة، لا يستقيم؛ لأن تكبير الصلاة لا يجب منه إلا تكبيرة واحدة، وهي تكبيرة الإحرام، وهي لا تفوته بفواتها، مع الإمام، بل يكبرها متى ما جاء - وإن لم يدرك الإمام إلا في آخر الصلاة؛ وسائر التكبير سنة وفضيلة، فلا يجب على الرجل مع الإمام قضاء ما فاته منه، وإنما يجب عليه قضاء ما فاته من الركعات؛ ألا ترى أنه لو قضى ما فاته مع الإمام من الركعات، ونسي التكبير فيهن؛ لأجزأته صلاته ولم يكن عليه إلا سجود السهو، والأربع تكبيرات في صلاة الجنائز متساوية في الوجوب، كتساوي ركعات الصلاة في الوجوب، ويجب على من فاته منها شيء مع الإمام(2/241)
أن يقضيه، كما يجب عليه أن يقضي ما فاته معه من ركعات الصلاة؛ فإنما الصحيح أن يقاس ما فاته مع الإمام من التكبير، على الجنازة، على ما فاته معه من ركعات الصلاة على ما ذهب إليه في المدونة، إلا أن جوابه في هذه الرواية أصح من جوابه في المدونة، وأجرى على أصله فيها؛ لأنه إذا نزل التكبيرة في صلاة الجنازة، منزلة الركعة في الصلاة في وجوب القضاء، وكان له أن يكبر مع الإمام معا، والأحسن أن يكبر بعده؛ فلا ينبغي أن يفوته التكبير بتكبير الإمام، حتى يكبر الإمام التكبيرة التي بعدها؛ فإذا جاء وقد كبر الإمام تكبيرتين، فإنما فاتته الأولى، ولم تفته الثانية فيكبرها، ويدعو إن أدرك أن يدعو - إلى أن يكبر الإمام التكبيرة الثالثة، فيكبرها معه أو بعده وهو أحسن؛ وإن جاء وقد كبر ثلاث تكبيرات، فإنما فاتته الأولى والثانية ولم تفته الثالثة، فيكبرها ثم يدعو - إن أدرك أن يدعو - إلى أن يكبر الإمام الرابعة فيكبر بتكبيره، ويقضي تكبيرتين بعد سلامه؛ وإن جاء بعد أن كبر التكبيرة الأولى قبل أن يكبر الثانية فلم تفته بعد التكبيرة التي كبر الإمام، فيكبرها ويدعو - إن أدرك أن يدعو - إلى أن يكبر الإمام التكبيرة الثانية، فيكبر بتكبيره، إذ لا يفوته التكبير بأخذه في الدعاء، ولا بتمامه منه؛ إذ لو وجب ذلك لوجب أن يفوته بأقل ما يجزئ منه في كل ركعة، وهو أن يقول: اللهم اغفر له، ولوجب إذا لم يكبر مع الإمام معا وتراخى في ذلك حتى يقول الإمام: اللهم اغفر له، أن يكون قد فاته التكبير، وهذا ما لا يصح أن يقال. فجواب مالك في هذه الرواية أصح من قياسه؛ لأنه جار على أصله في المدونة، وهو أصل صحيح، وجوابه فيها، أعني في المدونة، ليس بصحيح.
[مسألة: فاتته الصلاة على جنازة فصلى عليها في القبر]
مسألة وسئل عمن فاتته الصلاة على جنازة فسار معها حتى (إذا)(2/242)
وضعت على قبرها، استقبل القبلة فصلى عليها، فقال: لا يفعل، وكرهه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في (أول) الرسم فلا وجه لإعادته.
[مسألة: شق النساء ثيابهن على الميت]
مسألة وسئل عن شق النساء ثيابهن على الميت، فقال: بئس ما صنع، من صنع هذا؟ قيل له: ويحترمن ويصحن بالحرب والويل، فقد غاظنا ذلك، فقال: وأنا والله ليغيظني وأكرهه ولا أراه حسنا؛ ولكن هذا أمر لا يقدر أن يغيره أحد إلا السلطان؛ قال مالك: «وكانت زينب تقول لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لست كأحد من نسائك؛ لأن الله زوجنيك» قال مالك: قال الله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] .
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة، قد مضت - والقول عليها في أول رسم من هذا السماع، فلا معنى لإعادته؛ وأما ما ذكر من قول زينب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فلا تعلق له بالمسألة، وإنما ذكره مالك لسبب جرى في المجلس، فذكرت الحكاية وقيدت عنه دون السبب - والله أعلم.
[مسألة: جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعوا]
مسألة (قال) : وسألته عن جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعوا كيف(2/243)
يصلى عليهما؟ فقال لي: يجعل الرجال مما يلي الإمام، ويجعل النساء من ورائهم مما يلي قبلة؛ قلت له: كيف يفعل بهم؟ فقال لي: إن كانا رجلين وامرأتين، جعل الرجلان مما يلي الإمام سطرا واحدا، لا يجعل سرير أحدهما من وراء سرير صاحبه، ولكن يجعل بلصقه سطرا واحدا عرضا - هكذا - وخط بيده في الأرض من نحو يساره حتى ذهب بهما إلى يمينه، ويجعل المرأتان من ورائهما (كذلك) ؛ فإن كثروا، جعلوا صفين سطرين، أو أكثر من ذلك - على هذه الصفة؛ فقال له ابن كنانة: أرأيت إن كانا رجلين قط كيف يصلي عليهما؟ أيجعلان سطرا واحدا؟ أم يجعل أحدهما أمام صاحبه إلى القبلة؟ قال: بل يجعل أحدهما أمام صاحبه إلى القبلة، والآخر من ورائه أحب إلي؛ وإني لأرى ذلك واسعا كله - إن جعلا سطرا، أو جعل أحدهما أمام صاحبه؛ فقيل له: فأيهما ترى أن يجعل مما يلي الإمام، فإن أحدهما أفضل وأشرف؟ قال: أرى ذلك إلى الاجتهاد، قيل له: أرأيت إن كثرت جنائز الرجال كيف يصلي عليهم الإمام الذي يصلي عليهم؟ قال: يجعل أحدهم بين يديه - معترضا، ثم يجعل الآخرين معه عن يمينه وشماله - سطرا هو وسطهم؛ ثم يصلي عليهم ولا يجعل أحدهم مما يلي الإمام؛ والآخر من ورائه، ثم الآخر من ورائه.
قال محمد بن رشد: أما إذا كثرت جنائز الرجال، أو النساء، أو الرجال والنساء؛ فإنهم يجعلون سطرين، سطرين، أو أكثر من ذلك -(2/244)
كما قال قولا واحدا؛ فإن كانت الأسطر وترا وهو الاختيار أن يكون قام الإمام في وسط الأوسط منها، وإن كانت شفعا قام فيما بين رجلي الذي عن يمينه، ورأس الذي على يساره، ويكون الأفضل منهم الذي على يمينه، ثم الذي يليه في الفضل الذي على شماله، ثم الذي يليه في الفضل الذي يلي الذي على يمينه، ثم الذي يليه في الفضل الذي يلي الذي على شماله؛ ثم ينتقل إلى الصف الذي أمامه على هذا الترتيب، ثم إلى الذي بعده على هذا - أبدا؟ وأما إذا قل عدد الجنائز فكانوا اثنين، أو ثلاثة، أو نحو ذلك؛ قال ابن حبيب: إلى ما دون العشرين، فكان مالك - أول زمانه - يرى الأحسن أن يجعل واحد أمام واحد إلى القبلة وهي رواية ابن كنانة عنه في هذه الرواية، ثم رأى ذلك كله واسعا: أن يجعلوا سطرا واحدا من الشرق إلى الغرب، أو يجعل واحد أمام واحد إلى القبلة، ولم يفضل إحدى الصورتين على الأخرى؛ وهذا الاختلاف قائم من المدونة، ويقدم إلى الإمام الذكور على - الخناثى المشكلين صغارا كانوا أو كبارا، أحرارا كانوا أو عبيدا؟ والخناثى المشكلون على النساء صغارا كانوا أو كبارا، أحرارا كانوا أو عبيدا؟ ويقدم الأحرار على العبيد - صغارا كانوا أو كبارا، فتنتهي المراتب على هذا إلى اثنتي عشرة مرتبة، أعلاها الرجال الأحرار، ثم الصبيان الأحرار، ثم الخناثى المشكلون الأحرار الكبار، ثم الخناثى المشكلون الأحرار الصغار؟ ثم العبيد الكبار، ثم العبيد الصغار، ثم العبيد الكبار الخناثى المشكلون، ثم العبيد الصغار الخناثى المشكلون، ثم النساء الأحرار، ثم الصبايا الأحرار، ثم النساء الإماء، ثم الصبايا الإماء، ويقدم من أهل كل مرتبة من هذه المراتب الأفضل، فالأفضل، ثم الأسن، فالأسن، وهذا الترتيب متفق عليه، إلا في تقديم الحر الصغير على العبد الكبير، فقد قيل: إنه يقدم العبد الكبير عليه؛ لأنه يؤم ولا يؤم الحر الصغير، وهو ظاهر ما في آخر سماع موسى بن معاوية لابن القاسم، وقول(2/245)
مالك في المبسوطة، خلاف قوله في الواضحة، وخلاف قول أبي حازم، وخلاف ما حكى الفضل أن العتبي ذكره عن ابن القاسم.
[مسألة: صلاة عمر بن الخطاب على صهيب]
مسألة قال: وقلت له: أبلغك أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى عليه صهيب؟ قال: لم أسمع ذلك، ولكني أظن ذلك لقول عمر بن الخطاب: يصلي بكم صهيب - ثلاثا، وهو ظني أن صهيبا صلى عليه، وذلك لقوله: يصلي بكم صهيب.
قال محمد بن رشد: قد تقدم هذا والقول فيه في رسم "الشريكين" من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: تعظيم الموت بالسكينة والكآبة عند حضور الجنازة]
مسألة قال: وقال أسيد ابن الحضير: لو كنت في حالي كلها مثلي (في ثلاث) - إذا ذكر النبي، وإذا قرأت سورة البقرة، وإذا شهدت جنازة؛ ما شهدت جنازة قط فحدثت نفسي إلا بما تقول، أو ما يقال لها حتى انصرف.
قال محمد بن رشد: هذا مما كان عليه السلف الصالح تعظيم الموت بالسكينة والكآبة - عند حضور الجنازة، حتى لقد كان الرجل يلقى الخاص من إخوانه في الجنازة له عنده عهد، فما يزيده على التسليم، ثم يعرض عنه، كأن له عليه موجدة، اشتغالا بما هو فيه من شأن الميت، فإذا خرج من الجنازة سأله عن حاله ولاطفه، وكان منه أحسن ما كان يعهد، فيكره الضحك في الجنازة، والاشتغال فيها بالحديث والخوض في شيء من أمور الدنيا.(2/246)
[مسألة: المرأة تموت بفلاة من الأرض ومعها ابنها هل يغسلها]
مسألة (قال) : وسئل عن المرأة تموت بفلاة من الأرض ومعها ابنها أيغسلها؟ فقال: ما أحب أن يبلغ ذلك منها؛ قيل له: أفيؤممها؟ فقال: أو يصب الماء عليها من وراء الثوب، أحب إلي من أن يؤممها.
قال محمد بن رشد: اختلف في غسل الرجل ذوات محارمه إذا لم يكن ثم نساء يغسلنها على أربعة أقوال؛ أحدها: أنه لا يغسلها ويؤممها وهو قول أشهب.
والثاني: أنه يصب الماء عليها صبا ولا يباشر جسدها بيده من فوق الثوب ولا من تحته، وهو قول مالك في رواية أشهب هذه.
والثالثة: أنه يغسلها من فوق الثوب، فلا يفضي بيده إلى جسدها، وهو قول مالك في المدونة.
والرابع: قول ابن حبيب: إنه يغسلها - وعليها ثوب يصب الماء فيما بينها وبينه، لئلا يلصق بجسدها فيصف بابتلاله عورتها، وظاهره أنه يفضي بيده في غسله إياها إلى جسدها، ومعنى ذلك - عندي - فيما (عدا ما) بين السرة إلى الركبة، فإنه لا يفضي بيده إلى ذلك منها دون أن يجعل عليه خرقة، إلا أن يضطر إلى ذلك - كما يفعله الرجل بفرج الرجل، إذا غسله؛ إذ لا يختلف في أن الفخذ والسرة من المرأة عورة، ولا يحل أن ينظر إليه من عدا المرأة ممن لا يحل له الفرج باتفاق؛ وتنظر إليه المرأة على القول بأن الفخذ ليس بعورة، وكذلك يختلف أيضا في غسل المرأة ذوي محارمها من الرجال - إذا لم يكن ثم رجال يغسلونه؛ فقال أشهب: إنها تؤممه ولا تغسله.
وقال في المدونة: إنها تغسله، ولم يشترط من فوق الثوب، وقال ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية: أنها تغسله من فوق الثوب، كما قال في المدونة في غسل الرجل ذات محرمه، والأظهر ألا يغسل الرجل ذوات محارمه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في(2/247)
أمه استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة - وأن يغسلنه؛ لأن المرأة في نظرها إلى ذوي محارمها من الرجال، كالرجل في نظره إلى الرجل، فهذا تحصيل الاختلاف في هذه المسألة.
[مسألة: النصراني يموت وله ابن مسلم أيغسله ويكفنه]
مسألة وسئل: عن النصراني يموت وله ابن مسلم، أيغسله ويكفنه ويشهد جنازته؟ فقال: يغسله إلى النار، أهل دينه أولى بذلك، وما يعجبني أن يفعل ذلك؟ قيل له: فيمشي معه؟ قال: يمشي معه - يقول: لا يضيع.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الروايات يقول: لا يضيع، وفي بعضها يقول: لا يصنع، والروايتان صحيحتان، إن لم يخش عليه الضيعة فلا يمشي معه، وإن خشي عليه الضيعة مشى معه - معتزلا عن الحاملين له من أهل دينه، وقد مضى تمام القول في هذه المسألة في رسم "حلف بطلاق امرأته" من سماع ابن القاسم.
[مسألة: أيحمل الرجل الجنازة وينصرف ولا يصلي عليها]
مسألة (قال) : وسألته أيحمل الرجل الجنازة وينصرف ولا يصلي عليها؟ فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم "القبلة"، ورسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم - موعبا فلا وجه لإعادته.(2/248)
[مسألة: الذي يصلي على الجنازة أيرفع يديه مع كل تكبيرة]
مسألة وسئل: عن الذي يصلي على الجنازة أيرفع يديه مع كل تكبيرة؟ فقال: ما سمعت في هذا بشيء لازم للناس، وذلك حسن واسع كله أن يرفع يديه مع كل تكبيرة، وأن يرفع يديه في التكبيرة الأولى.
قال محمد بن رشد: قوله: ما سمعت في هذا بشيء لازم للناس، صحيح لا اختلاف بين أهل العلم في أن رفع اليدين في الصلاة على الجنائز ليس بواجب، وإنما يتكلم في هذا على ما يستحب منه؛ ففي المدونة: أنه يرفع يديه في التكبيرة الأولى خاصة، وفي أصل الأسدية: أنه لا يرفع يديه لا في أول تكبيرة ولا فيما بعدها.
وفي رواية ابن وهب عن مالك في المدونة: أنه يرفع في الأولى وفيما بعدها، واستحب في هذه الرواية أنه يرفع في الأولى، وخيره فيما بعد الأولى، إن شاء رفع، وإن شاء لم يرفع، كل ذلك حسن واسع؛ فوجه قوله: إنه يرفع في الأولى - خاصة، القياس على المشهور عنه في الصلاة أنه لا يرفع إلا في تكبيرة الإحرام، ووجه قوله: إنه يرفع في التكبيرات كلها، أنه قاس سائر التكبيرات على التكبير الأول، لاستوائهما في الوجوب؛ وما في أصل الأسدية أنه لا يرفع في الأولى ولا فيما بعدها، هو على ما في بعض روايات المدونة من كتاب الحج الأول من تضعيف رفع اليدين في تكبيرة الإحرام، وعلى ما في سماع أبي زيد من كتاب الصلاة من إنكاره لذلك؛ وقد مضى التكلم على ذلك كله في سماع أبي زيد المذكور، وفي رسم "يتخذ الخرقة لفرجه" من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة أيضا.
[مسألة: الرجل الجنب يقتل شهيدا في المعترك هل يغسل ويصلى عليه]
مسألة قلت لأشهب: أرأيت الرجل الجنب يقتل شهيدا في المعترك،(2/249)