تقتضي التحجير على المشتري في السلعة التي اشترى؛ فهذا النوع من البيوع اختلف فيه إذا وقع شيء منها على قولين، (أحدهما) أنه يفسخ ما دام البائع متمسكا بشرطه، وإن ترك الشرط صح البيع، وإن فاتت السلعة كان فيها الأكثر من القيمة أو الثمن. وقيل: إنه يرجع البائع على المشتري إذا فاتت بمقدار ما نقص من الثمن بسبب الشرط على كل حال، ولا ينظر في ذلك إلى القيمة، كانت أقل من الثمن أو أكثر؛ ووجه العمل في ذلك على هذا القول أن تقوم السلعة بشرط وبغير شرط، فما كان بين القيمتين من الأجزاء رجع البائع على المبتاع بذلك الجزء من الثمن؛ فهذا حكم هذا الباب على هذا القول. وهو المشهور في المذهب - إلا في مسألة واحدة، وهي شراء الرجل السلعة على أنه فيها بالخيار إلى أجل بعيد لا يجوز الخيار إليه، فإنه يفسخ فيها البيع على كل حال، ولا يمضي - إن رضي مشترط الخيار بترك الشرط، لأن رضاه بذلك ليس تركا منه للشرط، وإنما هو مختار للبيع على الخيار الفاسد الذي اشترط. والقول الثاني أن حكم هذه البيوع كلها حكم ما فسد من البيوع للإخلال بشرط من شروط صحتها، فيفسخ على كل حال، كانت قائمة أو فائتة، شاء المتبايعان أو أبيا، ولا خيار في ذلك لواحد منهما؛ فإن كانت السلعة قائمة ردت بعينها، وإن كانت فائتة ردت قيمتها على البائع بالغة ما بلغت ورد الثمن على المشتري.
فصل
واختلف أيضا في البيع والسلف إذا وقع، فقيل: يفسخ ما دام مشترط السلف متمسكا بشرطه، فإن رضي بتركه على مذهب سحنون أو رده على مذهب ابن القاسم - يريد - والله أعلم - قبل أن يغيب عليه غيبة ينتفع فيها به، صح البيع - ولم يفسخ، فإن فاتت السلعة، قال ابن حبيب: ولم يقبض السلف، كان فيها الأقل من الثمن أو القيمة - إن كان المشتري هو مشترط السلف، أو الأكثر من القيمة، أو الثمن إن كان البائع هو مشترط السلف، كالحكم في بيوع الثنيا سواء، هذا قول ابن القاسم في المدونة وفي العشرة ليحيى عن ابن القاسم: أن فيها القيمة بالغة ما بلغت،(2/65)
كانت أقل من الثمن أو أكثر، وهي ظاهر روايته عنه في السلم والآجال، من العتبية، وعلى هذا يفسخ البيع إن شاء المتبايعان أو أبيا إذا كانت السلعة قائمة.
فصل فيحتمل أن تكون رواية يحيى عن ابن القاسم هذه على مذهب من يرى في بيوع الثنيا أنها فاسدة، فتفسخ على كل حال ولا خيار لأحد المتبايعين في إمضائها؛ ويحتمل أن يكون رأي اشتراط السلف في البيع أشد من تلك الشروط، لأن شرط السلف في البيع إنما أراد الانتفاع به إلى الأجل الذي سمياه، والانتفاع به مجهول، فآل الأمر إلى الجهل بالثمن إن كان البائع هو مشترط السلف، أو إلى الجهل بالمثمون إن كان المشتري هو مشترط السلف، والعلم بالثمن والمثمون مشترط في صحة البيع، وقد جعل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في رواية أشهب عنه من كتاب العيوب من العتبية البيع والسلف أخف من بيوع الثنيا، فقال في الذي يبيع الجارية بشرط أن تتخذ أم ولد: إن البيع يفسخ وإن رضي البائع بترك الشرط، وفي الذي باع بشرط السلف، أن البيع لا يفسخ إذا رضي البائع بترك السلف، فلم ير على هذه الرواية أن اشتراط السلف من أحد المتبايعين على صاحبه - يوجب مجهلة في الثمن لا في المثمون، إذ لم يتحقق عنده أن مشترط السلف قصد إلى بيع سلعته بالثمن الذي سماه وبما يربح في السلف، إذ قد لا يريده للتجارة فيه وإنما غرضه فيه أن يبتاع به عرضا يقتنيه أو ثوبا يلبسه أو طعاما يأكله أو ينفع به رجلا فيسلفه إياه أو يهبه أو يتصدق به عليه أو ما أشبه ذلك من وجوه المنافع الموجودة فيه، لأن الشرط إذا آل به البيع إلى الغرر، أو المجهلة في الثمن أو المثمون، فالبيع فاسد مفسوخ على كل حال، ولا خيار في إمضائه لأحد المتبايعين في قيام السلعة، وفيه القيمة بالغة ما بلغت في فواتها.
فصل وإنما قلنا ذلك؛ لأن الشروط المشترطة في البيوع على مذهب مالك رحمه(2/66)
الله تنقسم على أربعة أقسام، (أحدهما) يفسخ به البيع على كل حال، ولا خيار في إمضائه لأحد المتبايعين، فإن كانت السلعة قائمه ردت بعينها؛ وإن كانت فائتة، صح البيع فيها بالقيمة - بالغة ما بلغت، كانت أكثر من الثمن أو أقل؛ وهو ما آل البيع به إلى الإخلال بشرط من الشروط المشترطة في صحة العقد، كعدم الربا والغرر في الثمن أو المثمون وما أشبه ذلك. (والثاني) يفسخ فيه البيع ما دام مشترط الشرط متمسكا بشرطه، فإن رضي بترك الشرط صح البيع إن كان لم يفت، وإن كان قد فات كان فيها الأقل من الثمن أو القيمة، أو الأكثر من القيمة أو الثمن على التفسير الذي قدمناه في بيوع الثنيا. (والثالث) يجوز فيه البيع والشرط، وذلك إذا كان الشرط صحيحا ولم يؤل البيع به إلى غرر ولا فساد في ثمن ولا مثمون، ولا إلى ما أشبه ذلك من الإخلال بشرط من الشرائط المشترطة في صحة البيع، وذلك مثل أن يبيع الرجل الدار ويشترط سكناها أشهرا معلومة، أو يبيع الدابة ويشترط ركوبها أياما يسيرة أو إلى مكان قريب، أو يشترط شرطا يوجبه الحكم، وما أشبه ذلك. (والرابع) يجوز فيه البيع ويفسخ الشرط، وذلك ما كان الشرط فيه غير صحيح، إلا أنه خفيف فلم يقع عليه حصة من الثمن، وذلك مثل أن يبيع السلعة ويشترط إن لم يأت بالثمن إلى ثلاثة أيام أو نحوها فلا بيع بينهما، مثل الذي يبتاع الحائط بشرط البراءة من الجائحة، لأن الجائحة لو أسقطها بعد وجوب البيع، لم يلزمه ذلك، لأنه أسقط حقا قبل وجوبه؛ فلما اشترط إسقاطها في عقد البيع، لم يؤثر ذلك عنده في حصته؛ لأن الجائحة أمر نادر فلم يقع لشرطه ذلك حصة من الثمن، ولم يلزم الشرط، إذ حكمه أن يكون غير لازم إلا بعد وجوب الرجوع بالجائحة وما أشبه ذلك؛ فهذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الشروط المقترنة بالبيع، وعلى هذا الترتيب لا يتعارض ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الباب، خلاف ما ذهب إليه أهل العراق، روي أن عبد الوارث بن سعيد قال: قدمت مكة فوجدت فيها أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، فسألت أبا حنيفة فقلت: ما تقول في رجل باع بيعا واشترط شرطا، فقال: البيع باطل والشرط(2/67)
باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته فقال: البيع جائز والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة فسألته فقال: البيع جائز والشرط جائز؛ فقلت: سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا في مسألة واحدة، فأتيت أبا حنيفة فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط» . ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أشتري بريرة وأعتقها - وإن اشترط أهلها الولاء، فإن الولاء لمن أعتق» البيع جائز والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا، حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار، عن «جابر قال: بعت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناقة وشرط لي حلابها وظهرها إلى المدينة،» فالبيع جائز، والشرط جائز؛ فعرف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الأحاديث كلها واستعملها في مواضعها، وتأولها على وجوهها؛ فأما أبو حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فلم يمعنوا النظر، ولا أحسنوا تأويل الآثار، والله يوفق من يشاء.
وأما البيوع المكروهة، فهي التي اختلف أهل العلم في إجازتها، والحكم فيها أن تفسخ ما كانت قائمة، فإن فاتت لم ترد، مراعاة للاختلاف فيها، كذا روى ابن وهب عن مالك أن البيع المكروه لا يرد إذا فات، وبعضها أشد كراهية من بعض، فمنها ما العقد فيه فوت، ومنها ما القبض فيه فوت، ومنها ما فوات العين فيه فوت، ومنها ما يختلف فيما يفوت به، كشراء الزرع إذا أفرك قبل أن ييبس، وما أشبه ذلك.(2/68)
فصل فلا يخرج شيء من البيوع عن هذه الأقسام، وإن وجد بين أصحاب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اختلاف في بيع من البيوع، فإنما ذلك لاختلافهم من أي قسم هو من الأقسام المذكورة.
فصل ومن بيوع الشروط ما يختلف فيه: هل هو بيع أو غير بيع، مثل أن يبيع الرجل السلعة على أن لا نقصان على المشتري، فاختلف هل هو بيع فاسد، أو إجارة فاسدة؛ ومنه أن يبيع الرجل السلعة على أنه متى جاءه بالثمن فهو أحق بها، فاختلف فيه هل هو بيع فاسد أو سلف جر منفعة، والقولان في كتاب بيوع الآجال من المدونة.(2/69)
[كتاب الغرر] [ما جاء في بيع الغرر وتبيين وحوهه وأحكامه]
ما جاء في بيع الغرر وتبيين وجوهه وأحكامه: ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى عن بيع الغرر» وبيع الغرر هو البيع الذي يكثر فيه الغرر ويغلب عليه حتى يوصف به، لأن الشيء إذا كان مترددا بين معنيين لا يوصف بأحدهما دون الآخر، إلا أن يكون أخص به وأغلب عليه.
فصل ووجوه الغرر في البيوع كثيرة لا تحصى، من ذلك بيع العبد الآبق، والجمل الشارد، والجنين في بطن أمه، ومن ذلك ما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيع الملامسة والمنابذة، والملامسة أن يلمس الرجل الثوب ولا ينظر إليه ولا يتأمل ما فيه، أو يبتاعه ليلا ولا ينظر ما فيه، والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه على غير تأمل منهما، ويقول كل واحد منهما: هذا بهذا، فهذا الذي نهي عنه من الملامسة والمنابذة، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المضامين والملاقيح،(2/71)
والمضامين: ما في بطون الإناث، والملاقيح ما في ظهور الجمال؛ وقيل بعكس ذلك: إن الملاقيح ما في بطون الإناث، والمضامين ما في ظهور الجمال، والتفسير الأول في الموطأ لمالك أو لابن شهاب أو لسعيد بن المسيب، وإليه ذهب أبو عبيد، والتفسير الثاني لابن حبيب وغيره، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع حبل الحبلة، وهو بيع نتاج النتاج، وقيل: هو البيع إلى نتاج النتاج، وأي الأمرين كان فهو غرر، إما في المثمون، وإما في أجل الثمن، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الحصاة، وهو أن يساوم الرجل الرجل في سلعة وبيد أحدهما حصاة، فيقول لصاحبه: إذا سقطت الحصاة من يدي فقد وجب بيع بيني وبينك، وقيل: هو أن تكون السلعة منشورة فيرمي المبتاع حصاة، فأيها وقعت عليه وجبت له بما سميا من الثمن، وأي ذلك كان فهو أيضا من الغرر المنهي عنه، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيعتين في بيعة، على الاختلاف في معنى ذلك، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع العربان، وتفسيره أن يشتري الرجل السلعة ويعطيه دينارا أو درهما فيقول له: إن أخذتها فذلك من الثمن، وإن تركتها كان ذلك باطلا بغير شيء، وذلك أيضا غرر بين، وكانت هذه كلها بيوعا كان أهل الجاهلية يتبايعون بها، فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها، لأنها من أكل المال بالباطل، قال الله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] معناه: تجارة لا غرر فيها ولا مخاطرة ولا قمار، لأن التراضي بما فيه غرر أو خطر أو قمار لا يحل ولا يجوز، لأنه من الميسر الذي حرمه الله في كتابه حيث يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] .(2/72)
فصل فلا يصح البيع إلا أن يكون سالما من الغرر الكثير، لأن الغرر اليسير الذي لا تنفك البيوع منه مستخف مستجاز فيها.
فصل وإنما يقع الاختلاف بين العلماء في فساد بعض أعيان العقود لاختلافهم فيما فيه من الغرر، هل هو من جنس الكثير الداخل تحت نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر المانع من صحة العقد، أو من جنس اليسير المستخف المستجاز في البيوع الذي لا يمنع من صحة العقد.
فصل والغرر الكثير المانع من صحة العقد يكون في ثلاثة أشياء (أحدهما) العقد (والثاني) أحد العوضين: الثمن أو المثمون، أو كليهما. (والثالث) الأجل فيهما أو في أحدهما، فأما الغرر في العقد فهو مثل نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيعتين في بيعة وعن بيع العربان، وعن بيع الحصاة، على أحد التأويلين، وما أشبه ذلك مما لا جهل فيه في ثمن ولا مثمون، وإنما حصل الغرر فيه بانعقاده بين المتبايعين على هذه الصفات؛ ومن هذا المعنى بيع المكيل والجزاف في صفقة واحدة، والقول فيما يجوز من بيع الجزاف والمكيل في صفقة واحدة، يتحصل بأن يعلم أن من الأشياء ما الأصل فيه أن يباع كيلا ويجوز بيعه جزافا، كالحبوب، وأن منها ما الأصل فيه أن يباع جزافا ويجوز بيعه كيلا، كالأرضين والثياب، وأن منها عروضا لا يجوز بيعها كيلا ولا وزنا كالعبيد والحيوان، فالجزاف مما أصله أن يباع كيلا كالحبوب لا يجوز بيعه مع المكيل منه، ولا مع المكيل مما أصله أن يباع جزافا، كالأرضين والثياب باتفاق، والجزاف مما أصله أن يباع جزافا لا يجوز أن يباع مع الميكل منه باتفاق أيضا،(2/73)
واختلف في بيعه مع المكيل مما أصله أن يباع كيلا على قولين، (أحدهما) أن ذلك جائز، وإليه ذهب ابن زرب وأقامه من إجازته في السلم الأول من المدونة، أن يسلم في ثياب وطعام صفقة واحدة (والثاني) أن ذلك لا يجوز، وإليه ذهب ابن العطار في وثائقه، ولا اختلاف في جواز بيع الكيلين في صفقة واحدة وجزافين في صفقة واحدة أيضا على كل حال، ولا يجوز بيع الجزاف مع العروض في صفقة واحدة إلا عند ابن حبيب، فإنه ذهب إلى أن الجزاف مما أصله أن يباع كيلا، لا يجوز بيعه مع العروض في صفقة واحدة، وهو بعيد، وأما بيع الجزاف على الكيل، فلا ينضاف إليه في البيع شيء بحال على الصحيح من الأقوال، وهو مذهب ابن القاسم. وأما بيع الجزافين على الكيل، فإن كانا على صفة واحدة وبكيل واحد، جاز باتفاق، وإن اختلف الكيل والصفة جميعا لم يجز باتفاق، وإن اتفق أحدهما واختلف الآخر، جاز على اختلاف بين ابن القاسم وأشهب، فعلى مذهب ابن القاسم لا يجوز أن يبيع الرجل قريته تكسيرا، كل قفيز بكذا، إلا أن يستوي أرضها في الطيب والكرم ولا يكون فيها ثمرة ولا دار تدخل في البيع، فإن باع منها زرعا مسمى من موضع بعينه، أو على أن يأخذ المشتري من أي موضع أحب، فعلى ما تقدم لا يجوز أن يضاف إلى ذلك في الصفقة جزاف مما أصله أن يباع جزافا ولا مما أصله أن يباع كيلا؛ وكذلك إن باعها كلها على أن تكسيرها كذا وكذا على مذهب من حكم لذلك بحكم شراء الذرع المسمى إن كان فيها أكثر مما سمى، كان الزائد للبائع، وإن كان فيها أقل، كان بالخيار بين أن يأخذ ما وجد بحسابه من الثمن أو يرد، إلا أن يكون النقصان يسيرا فيلزمه ما وجد بحسابه من الثمن، وأما على مذهب من جعل ذلك كالصفة للأرض إن وجد فيها أكثر من الذرع المسمى، كان للمبتاع، وإن وجد أقل، كان المبتاع بالخيار بين أن يأخذ بجميع الثمن أو يرد، فلا يجوز أن ينضاف إلى ذلك في الصفقة كيل مما أصله أن يباع جزافا باتفاق، ولا كيل مما أصله أن يباع كيلا على ما تقدم من الاختلاف،(2/74)
وكذلك القول في الثوب والخشبة وما أشبههما إذا اشترى ذلك كله، كل ذراع بكذا، أو على أن فيه كذا وكذا ذراعا، أو اشترى منه ذرعا كذا، وحكم الموزون والمعدود في جميع ما ذكرناه حكم المكيل.
فصل وأما الغرر في الثمن والمثمون أو في أحدهما، فإنه يكون بثلاثة أوجه، (أحدها) الجهل بصفة ذلك أو بمقداره، فأما الجهل بصفة ذلك، فهو مثل أن يبيع جنينا في بطن أمه، أو غائبا على غير صفة، أو يبيع سلعة بدنانير مسماة من غير صفة ونقد البلد مختلف، وما أشبه ذلك، وأما الجهل بمقداره، فهو مثل أن يبيع الطعام بكيل مجهول، أو يبيع سلعة بجزاف من الدنانير والدراهم، (والثاني) عدم القدرة على تسليمه، وذلك مثل أن يبيع العبد الآبق، والجمل الشارد والسلعة بيد غاصب منكر للغصب ولا بينة عليه، أو مقر به ممتنع من دفعها وهو ممن لا تأخذه الأحكام؛ وقد اختلف إن كان الغاصب منكرا للغصب ممن تأخذه الأحكام وعليه بالغصب بينة؛ ومثل شراء الدين على الحاضر المنكر إذا كانت عليه بينة، وشراء ما فيه خصومة، وأخف ذلك شراء الدين على الغائب القريب الغيبة على مسيرة اليومين والثلاثة إذا لم يعلم إقراره من إنكاره وعليه بينة، وأما إذا لم تكن عليه بينة فلا يجوز ذلك، (والثالث) الجهل بمآل حاله - وهو أمر مختلف فيه، وذلك مثل أن يبيع الرجل العبد المجروح موضحة قبل أن يبرأ ويحكم له بأرشها من غير أن يبرأ الجاني من الجناية، أو يبيع العبد المريض إذا كان المرض قد بلغ به إلى الحد الذي لا يجوز للمريض فيه القضاء في جميع ماله، أو يشتري الأنقاض قائمة على القلع من قاعة ليست للبائع ولا للمبتاع، وما أشبه ذلك، ومما يشبهه أن يكون للرجل على الرجل دنانير أو دراهم أو عروض، فيصالح رجل أجنبي صاحب الدين على أن يدفع إليه خلاف الدين مما يصير الذي عليه الدين مخيرا في صنفين.(2/75)
فصل وأما الغرر بالأجل في الثمن والمثمون، فذلك مثل أن يبيع منه السلعة بثمن إلى قدوم زيد أو إلى موته، أو يسلم إليه في سلعة إلى مثل ذلك الأجل، وما أشبه ذلك.
فصل وإذا وقع بيع الغرر فسخ ما كان قائما، فإن فات بيد المبتاع صحح بالقيمة، وضمانه على مذهب ابن القاسم من البائع ما لم يقبضه المبتاع، وإن دفع الثمن أو دعي إلى قبضها، وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم أن ضمانها من البائع - وإن قبضها المبتاع - وهو بعيد، وقال أشهب: إن ضمانها من المبتاع وإن كانت بيد البائع - إذا نقد الثمن، أو دعي إلى قبضها - وإن لم ينقد الثمن.
فصل وقد اختلف الذين رأوا أنها لا تدخل في ضمان المبتاع إلا بالقبض إذا عقد فيها عقدا من عتق أو بيع أو صدقة أو هبة وما أشبه ذلك من العقود، هل يكون ذلك قبضا وفوتا أم لا؟ على أربعة أقوال، (أحدها) أنه لا يكون شيء من ذلك كله قبضا ولا فوتا، وهو قول سحنون، (والثاني) أن ذلك كله يكون قبضا وفوتا، وهو قول ابن القاسم في كتاب العيوب، لأنه رآه فوتا في الصدقة، فهو فيما سواه أحرى أن يكون فوتا (والثالث) أنه لا يكون فوتا شيء من ذلك إلا العتق لحرمته، وهو قول ابن القاسم في الكتاب المذكور، قوله في البيع إذا كان الأول قد قبضها (والرابع) أنه لا يكون فوتا وقبضا إلا العتق والبيع خاصة.
فصل وبيع السلعة الغائبة على الصفة خارج مما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيع الغرر في مذهب مالك وجميع أصحابه، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في قوله:(2/76)
إن الغائب لا يجوز بيعه على الصفة، لأنه لا عين مرئية ولا صفة مضمونة ثابتة في الذمة، وخلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في قوله: إن شراء الغائب على الصفة وعلى غير الصفة جائز، وللمبتاع خيار الرؤية إذا نظر إليها، وقد روي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مثل هذا القول، والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه من أن شراء الغائب على الصفة جائز، وذلك للمبتاع لازم - إن وجد الغائب على الصفة التي وصف بها، لأن الصفة تقوم مقام رؤية الموصوف، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنعت المرأة المرأة للزوج حتى كأنه ينظر إليها» أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فشبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المبالغة في الصفة بالنظر، وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] وجه الدليل من هذه الآية أن اليهود كانوا يجدون في التوراة نعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصفته، فكانوا يحدثون بذلك ويستفتحون به على الذين كفروا؛ أي يستنصرون به على كفار العرب، يقولون: اللهم آت بهذا النبي الذي يقتل العرب ويذلهم؛ لأنهم كانوا يرجون أن يكون منهم؛ فلما بعثه الله تعالى من العرب ولم يكن منهم، حسدوه وكفروا به، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته؛ فقالوا: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو هذا الذي كنا نخبركم به، فأنزل الله عز وجل تكذيب قولهم في كتابه، وذلك قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] فلما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة: 89] وهم لم يعرفوه قبل إلا بصفته التي وجدوها في التوراة، دل ذلك على أن المعرفة بالصفة معرفة بعين الشيء الموصوف، وذلك ما أردنا أن نحتج له، وفي قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في(2/77)
حديث أبي هريرة الواقع في الكتاب: «لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها» ، دليل بين على أن الخبر عنها بمنزلة النظر إليها، وإذا جاز أن يسلم الرجل إلى الرجل في ثوب أو عبد على صفة، ولم يكن ذلك غررا، جاز أن يبتاعه على الصفة ولا يكون ذلك غررا، إذ لا فرق بين الموضعين، ومن الدليل أيضا على جواز البيع على الصفة قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الحب في سنبله حتى يبيض في أكمامه» فإذا جاز بيع الحب في أكمامه وهو غير مرئي على صفة ما فرك منه إن كان حاضرا، جاز أن يشتري منه إذا كان غائبا على صفة، إذ لا فرق إذا غاب المبيع بين أن يبيعه على الصفة أو على مثال يريه إياه، وهذا الحديث أيضا حجة في بيع الجزر والفجل وما أشبه مما هو مغيب تحت الأرض، لأنه يقلع منه شيء فيستدل به على بقيته، ويستدل عليه أيضا بفروعه.
فصل ومن هذا بيع الجوز واللوز والباقلاء في قشره الأعلى، فأجازه مالك وأصحابه؛ خلافا للشافعي وأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ودليلنا قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ولأنه مأكول في أكمام من أصل الخلقة، فجاز بيعه كالرمان والموز، ولأن
الضرورة تدفع
إلى ذلك، لما بالناس من الحاجة إلى بيع ذلك رطبا، إذ ليس كل أحد يمكنه تجفيفه، وفي نزع قشره إفساد له، فلم يبق إلا جواز البيع، بيد أنه لا يجوز الاجتزاء بالصفة عن النظر إلا مع الضرورة إلى ذلك، لأن النظر أبلغ في المعرفة من الصفة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس المعاينة كالخبر» .(2/78)
فصل فمن الضرورة إلى ذلك أن تكون السلعة المبيعة على الصفة غائبة في بلد آخر، أو يكون المبيع متاعا كثيرا مشدودا في أعداله وأحماله، فيجوز بيعه على صفة البرنامج، لأن فتحه كله ونشره مما يضر بصاحبه ويشق عليه، وأما الثوب الواحد والثياب اليسيرة فلا يجوز بيعها على الصفة إذا كانت حاضرة حال العقد، وقد أجاز أشهب بيع الساج المدرج في جرابه على الصفة، وذلك في الثوب الرفيع الذي يغيره ترداد نشره على السوام وتقليبهم إياه، وأما الثوب الذي ليس على هذه الصفة، فلا ينبغي أن يختلف فيه.
فصل وقد اختلف في السلعة الحاضرة في البلد الغائبة عن موضع العقد فقيل: إن بيعها على الصفة لا يجوز، لأنها كالحاضرة، إذ لا تتعذر رؤيتها، وقيل: إن بيعها على الصفة جائز - وإن كانت في البلد، لأنها إذا لم تكن حاضرة في موضع العقد فلم يقصد إلى الغرر بشرائها على الصفة وأشبهت الغائبة عن البلد.
فصل وبيع الغائب على مذهب ابن القاسم جائز ما لم يتفاحش بعده والعقد عليه صحيح، وإن لم يعلم إن كان حين العقد قائما أو تالفا، فإن وجد قد تلف قبل العقد وقبل البيع باتفاق، وإن تلف بعد العقد وقبل القبض، فاختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك، فمرة قال: إن مصيبته من البائع وينتقض البيع كتلفه قبل العقد، وهو آخر قوله، ومرة قال: إن مصيبته من المبتاع ويصح البيع.
فصل ويجوز لمشتري السلعة الغائبة أن يبيعها قبل القبض من غير الذي اشتراها منه بما شاء ولا ينتقد بشرط، إلا أن يكون قريب الغيبة، وأما من الذي باعها(2/79)
منه فلا يجوز له أن يبيعها منه بمثل الثمن ولا بأكثر ولا بأقل، لأنه فسخ الدين في الدين، إلا أن يكون نقد الثمن بغير شرط على كلا القولين في مذهب ابن القاسم، وقال سحنون: يجوز أن يبيعها منه على القول الذي يرى فيه الضمان من البائع؛ قياسا على ما أجازه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الإقالة في الجارية التي في المواضعة، وقوله أظهر في القياس.
فصل وأما إن باعها منه بخلاف الثمن الذي اشتراها به مما يجوز بيعها به، فذلك جائز إذا لم ينتقد بشرط، إلا أن يكون قريب الغيبة مما يجوز النقد فيه، قال في الكتاب: لا أرى بذلك بأسا إذا علم أن الثوب قائم حين وقعت الصفقة الثانية في مسألة من آجر داره من رجل شهرين بثوب موصوف في بيته، ثم باع ذلك الثوب منه قبل أن يقبضه منه بدراهم أو بدنانير أو بثوبين مثله من صنفه، أو بسكنى دار له أخرى، وهو كلام فيه نظر إذ ليس من شرط صحة العقد على الغائب أن يعلم قيامه حين العقد، كما يظهر من ظاهر اللفظ؛ إذ لو كان ذلك من شروط صحته لما جاز بيع غائب بحال، إذ لا طريق إلى معرفة قيام الشيء للغائب في حال غيبته، فمعنى الكلام والمراد به أن الصفقة إذا وقعت فعلم بعد وقوعها أن الثوب كان قائما في حين وقوعها، صحت وعلم انتقال الملك بها من المشتري إلى البائع، والضمان أيضا من البائع إلى المشتري، على قول مالك رحمه اللة تعالى الآخر واختيار ابن القاسم، أو من المشتري إلى البائع، على قول مالك الأول، وإن وجدت السلعة بعد الصفقة قد تلفت قبل الصفقة، أو لم يعلم إن كان تلفها قبل الصفقة أو بعدها، فالصفقة باطلة لا ينتقل بها ملك الثوب ولا ضمانه عما كان عليه، وقد تكلم عبد الحق على توجيه هذا اللفظ فحكى عن بعض شيوخه القرويين أنه قال:(2/80)
إنما شرط ابن القاسم إن علم أنه عنده وقت الصفقة الثانية، لأنه إن كان موجودا عنده وانهدمت الدار في بعض المدة، ينتقض من الثوب مقدار ذلك، وإن كان الثوب ليس عنده وقت الصفقة الثانية، فكأن الكراء إنما وقع بالدراهم، فإذا انهدمت الدار كان الرجوع فيها، فوجب لهذا لما كان لا يدري فيما ذا يرجع من الدراهم ومن الثوب، أن لا يجوز حتى يعلم ذلك فيدخلان على أمر معروف، وقال غيره: إنما شرط إذا علم أنه عنده، لأنه لا يدري هل باع منه شيئا موجودا أم لا، فعقد البيع إذا وقع جائز، ثم ينظر: فإن علم أنه عنده فقد صحت لنا الصفقة الأولى، وإلا فلا، وقوله: ينتقض من الثوب مقدار ذلك، يريد أنه إن انهدمت الدار وقد سكن نصف المدة، رجع عليه بنصف قيمة الثوب، وإن كان أقل فأقل، وإن كان أكثر فأكثر على هذا الحساب، لأن الثوب الذي هو عوض السكنى قد فات بالبيع منه، فهو بمنزلة فواته بالبيع من غيره أو بغير ذلك من وجوه الفوت، وهو صحيح، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه إنما يرجع في الثمن الذي دفع بقدر ما بقي له من السكنى، وعلته في ذلك أنه قد استحق من الثوب الذي باع بقدر ما انهدم من الدار، فوجب أن ينتقض البيع في مقدار ذلك من الثوب، وهو تعليل غير صحيح، لأن الثوب ثمن السكنى، فإنما يجب الرجوع فيه ويكون كالمستحق إذا كان قائما لم يفت والبيع فيه فوت؛ وإن كان إنما باعه منه إذ لا فرق في فواته بالبيع منه أو من غيره، ألا ترى أن من اشترى عبدا بيعا فاسدا فباعه من بائعه منه بيعا صحيحا أنه فوت فيمضي، ويصحح البيع الفاسد بالقيمة، ويلزم في هذا على تعليل أبي إسحاق التونسي أن ينتقض البيع الصحيح ولا يكون فوتا لرجوع السلعة إلى يد البائع وينفسخ البيع الفاسد، وهو بعيد، وأما قوله، أعني قول بعض شيوخ القرويين: فإن كان الثوب ليس عنده وقت الصفقة الثانية، فكأن الكراء إنما(2/81)
وقع بالدراهم، فإذا انهدمت الدار كان الرجوع فيها فلا يصح، وإنما الواجب إن كان تلف الثوب قبل الصفقة الأولى أو بعد الصفقة الأولى وقبل الصفقة الثانية على القول الذي يرى الضمان من البائع في السلعة الغائبة ما لم يقبضها المبتاع، أن يرجع صاحب الدار على صاحب الثوب بقيمة ما سكن الدار إلى وقت انهدامها، لأن صاحب الدار لم يقبض شيئا لكون مصيبة السلعة من صاحبها بمنزلة من اكترى دارا بثوب فسكنها بعض المدة واستحق الثوب، فإن رب الدار يرجع على صاحب الثوب بقيمة ما سكن، وإن كان إنما تلف بعد الصفقة الأولى وقبل الصفقة الثانية على القول الذي يرى ضمان الغائبة من المبتاع إذا كان سليما يوم الصفقة، أن يرجع المكتري على صاحب الدار في قيمة الثوب بقدر ما بقي من السكنى، لأنه قد تلف ومصيبته منه، ويرجع عليه أيضا بالثمن الذي دفع إليه فيه لانتقاض البيع بتلفه قبل وقوع الصفقة؛ وأما قول غيره: إنما شرطه إذا علم أنه عنده، لأنه لا يدري هل باع منه شيئا موجودا أم لا، فعقد البيع إذا وقع جائز، فإنه كلام صحيح جيد، وأما قوله: ثم ينظر، فإن علم أنه عنده فقد صحت لنا الصفقة الأولى، وإلا فلا، فإنما معناه على قول مالك الثاني واختيار ابن القاسم أن ضمان الغائب من البائع ما لم يقبض، فيكون عقد البيع عليه قبضا له وتصح الصفقة الأولى، فإن قبضه البائع الأول بابتياعه، صحت الصفقة الثانية أيضا، وإن فات قبل أن يقبضه كانت مصيبته من المشتري الأول وهو البائع الثاني، وأما على قول مالك الأول، فإن علم أنه قائم يوم وقعت الصفقة الثانية فقد صحت الصفقة الأولى والثانية.
فصل وبيع السلع المغيبات لا يجوز إلا على ثلاثة أوجه، (أحدهما) على الرؤية، (والثاني) على الصفة في الموضع الذي يجوز بيعها فيه على الصفة على ما قدمناه (والثالث) أن يشترط أنه بالخيار إذا رآها ولا ينقد بشرط كانت قريبة أو بعيدة، هذا(2/82)
قول مالك في المدونة في السلم الثالث منها وقد قيل: إن البيع في العروض المغيبات لا يجوز إلا برؤية أو بصفة، وفي كتاب الغرر دليل على هذا القول وهو الصحيح الذي يحمله القياس، وأما النقد فيها بشرط إذا اشتريت بصفة، فلا يجوز في البعيد الغيبة، واختلف قول مالك في ذلك إذا كانت قريبة الغيبة، فله في المدونة أن ذلك جائز، وله في الموطأ أن ذلك لا يجوز، وهي رواية ابن وهب عن مالك في موطئه، ورواية ابن القاسم عنه في أصل سماعه؛ وهذا إذا اشتراها بصفة المخبر والرسول، وأما إذا اشتراها بصفة صاحبها فلا يجوز النقد فيها بشرط على حال، قربت الغيبة أو بعدت؛ وأما الرباع فاشتراط النقد فيها جائز - قربت غيبتها أو بعدت، وذلك أيضا إذا لم يشترها بصفة صاحبها، كذلك روى أشهب عن مالك وهو تفسير لما في المدونة وغيرها، وبقية أحكام شراء الغائب يأتي التكلم عليها في مواضعها من الكتاب، إن شاء الله، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(2/83)
[كتاب بيع الخيار] [فصل في بيان جواز البيع على الخيار]
فصل في بيان جواز البيع على الخيار، البيع على الخيار جائز لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار، كل واحد منهما على صاحبه ما لم يفترقا، إلا بيع الخيار» وفي بعض الآثار: «إلا أن تكون صفقة خيار» فأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من البيع ما يكون فيه خيار، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحبان بن منقذ أو لأبيه منقذ بن عمرو الأنصاري، على اختلاف في ذلك: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثا» وذلك أنه قد أتى عليه من السنين ثلاثون ومائة سنة، فكان إذا باع غبن فشكا ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثا» . فقيل: إن ذلك خصوص من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك الرجل: أن جعل الخيار له ثلاثا فيما باع أو اشترى- وإن لم يشترط ذلك، وقيل: بل إنما جعل له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يشترط الخيار لنفسه ثلاثا، مع قوله: لا خلابة، فيكون الحديث على هذا مستعملا، وأيا ما كان، فيه إجازة الخيار في البيع.(2/85)
فصل والخيار في بيع في أصله غرر، وإنما جوزته السنة
لحاجة
الناس إلى ذلك، لأن المبتاع قد لا يخبر ما ابتاع فيحتاج إلى أن يختبره ويعلم إن كان يصلح له أم لا، وإن كان يساوي الثمن الذي ابتاعه به أم لا، وقد يحتاج في ذلك كله إلى رأي غيره، فيريد أن يستشير فيه، فجعل له الخيار رفقا به، ولا يلزم مثل هذا في النكاح وإن كان الرجل قد يحتاج إلى اختبار الزوجة التي يتزوج والتثبت في إن كانت ممن تصلح له أم لا، والاستشارة في أمرها، أكثر مما يحتاج إليه في السلعة التي يبتاع، لأن البيع طريقه المكايسة والمتاجرة، والنكاح طريقه المكارمة والمواصلة، فافترق لذلك موضوعهما.
فصل والخيار يكون لوجهين: المشورة واختبار المبيع، أو لأحد الوجهين، فالعبد يختبر عقله وخلقه وخدمته وبلادته ونشاطه، وكذلك الجارية يختبر عقلها وخلقها وقوتها على الخدمة وإحكامها لما تتناوله من الطبخ والخبز وما أشبه ذلك من الصنعة، والدار يختبر بناؤها وجيرانها ومكانها وينظر إلى أسسها وحيطانها ومنافعها، والدواب يختبر خلقها وسيرها وقوتها من ضعفها ونشاطها من عجزها وأكلها وحالها في وقوفها ووضع آلتها عليها وما أشبه ذلك، وأما الثياب والعروض فلا وجه للاختبار فيها، وإنما الخيار فيها للمشورة خاصة، أو ليقيس على نفسه ما اشترى من ذلك للباسه.
فصل فإن اشترط المشتري الخيار فيما يصح فيه الاختبار ولم يبين أنه إنما اشترط الخيار للاختبار، وأراد قبض السلعة ليختبرها، وأبى البائع من دفعها إليه وقال: إنما لك المشورة - إذ لم تشترط قبض السلعة في أمد الخيار للاختبار؛ فالقول قول(2/86)
البائع، ولا يلزمه دفعها إليه، إلا أن يشترط ذلك عليه، ولا يكون اشتراط الخيار في العبد والجارية الجمعة ونحوها، وفي الدار الشهر والشهرين بدليل على أنه إنما أراد الاختبار، لأن المشورة في ذلك لا تتساوى أيضا، بل تفترق بافتراق المبيع، إذ ليس البحث والسؤال عن دار يريد اقتناءها وسكناها ويتعذر عليه الاستبدال بها إذا لم توافقه، كالعبد والخادم، ولا العبد والخادم كالسلع التي لا مئونة عليه في بيعها والاستبدال بها.
فصل وللبائع من اشتراط الخيار مثل ما للمبتاع سواء، فإن اشترطه أحدهما كان له الأخذ والرد دون صاحبه، وإن اشترطاه جميعا جاز أيضا، فإن اجتمعا على رد أو إجازة، جاز ما اجتمعا عليه من ذلك، وإن اختلفا فأراد أحدهما إمضاء البيع وأراد الآخر رده؛ فالقول قول من أراد رده، ولا يتم البيع إلا باجتماعهما جميعا على الإجازة، لأن الذي أراد إمضاء البيع مسقط لحقه في الرد بائعا كان أو مبتاعا، والذي أراد البيع منهما أخذ بحقه غير مسقط له، فلا يسقط بإسقاط الذي أراد إمضاء البيع حق نفسه وهذا بين.
فصل وإذا كانت العلة في إجازة البيع على الخيار حاجة الناس إلى المشورة فيه وإلى الاختبار، فحده قدر ما يختبر فيه البيع ويرتأى فيه ويستشار، على اختلاف أجناسه وإسراع التغير إليه وإبطائه عنه، فيجوز الخيار في الدواب اليوم واليومين والثلاثة، ولا يجوز فيها أكثر من ذلك، لإسراع التغير إليها، ولأن اختبارها والعلم بما هي عليها من أحوالها، يحصل في هذه المدة؛ إذ ليست من ذوي الميز الذي يخشى منها أن تستر ما فيها من الأخلاق الذميمة والعيوب التي تزهد فيها، وتستعمل ما يرغب فيها من أجله، وكذلك العروض والثياب يجوز الخيار فيها اليوم(2/87)
واليومين والثلاثة، كالدواب سواء؛ لأنها وإن كانت مما لا يختبر كما تختبر الدواب، فإنها لا يسرع إليها التغير، كما يسرع إلى الدواب، فلم يضيق في أجل الخيار فيها لهذه العلة؛ وأما الرقيق فيجوز الخيار فيها أكثر من ذلك، قال في المدونة: الخمسة الأيام والستة إلى الجمعة. وقال ابن المواز: الأربعة الأيام والخمسة، ولا أفسخه في عشرة، وأفسخه في الشهر، وروى ابن وهب أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - أجاز الخيار في العبد شهرا وأباه ابن القاسم وأشهب في الشهر، فوجه رواية ابن وهب عن مالك أن الرقيق ذو ميز، فربما ستر العبد والجارية ما فيهما من الأخلاق الذميمة، واستعملا ما يرغب فيهما من أجله، فاحتيج في اختبارهما إلى مدة لا يستتر فيها ما طبعا عليه من الأخلاق غالبا، وإن رأى ما ستره وهو الشهر عنده، ووجه قول ابن القاسم أنه وإن كان يحتاج في الرقيق إلى الاختبار الكثير بما وصفناه من علة الميز، فإن الشهر بعيد يتغير إليه الرقيق، فمنع من ذلك لعلة التغير، وأجاز من الخيار فيهما ما قد يحصل فيه الاختبار ومعرفة الحال ولا يخشى معه التغير والانتقال - وهو الجمعة ونحوها، وحمل الصغير الذي لا يميز في ذلك محمل الكبير المميز، جعل الباب في ذلك واحدا لما لم يكن لوقت ميزه حد يرجع إليه لا يختلف، وأما الدور التي يحتاج فيها إلى الاختبار ويؤمن عليها التغير، فيجوز الخيار فيها إلى الشهر؛ قال ابن حبيب: والشهرين في الدور والأرضين، ولم يذكر في المدونة الأرضين وما في الواضحة مفسر لما في المدونة.
فصل فأمد الخيار في البيع إنما هو بقدر ما يحتاج إليه في الاختبار والارتياء مع مراعاة إسراع التغير إلى المبيع وإبطائه عنه، خلافا للشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله في قولهما: إنه لا يجوز الخيار في شيء من الأشياء فوق ثلاث.(2/88)
فصل فإن زاد في أجل الخيار إلى فوق ما يحتاج إليه، فسد البيع ولم يجز، لخروجه بذلك إلى الغرر الذي لا يجوز في البيوع، وأما إن لم يضربا للخيار أجلا واشترطاه، فلا يفسد البيع ويضرب لهما من الأجل بقدر ما تختبر إليه تلك السلع، لأن الحد في ذلك معروف، فإذا أخلا بذكره، فإنما دخلا على العرف والعادة.
فصل ولكل واحد من المتبايعين أن يشترط الخيار لغيره، فإن اشترطه أحدهما دون صاحبه لغيره، فاختلف في ذلك على أربعة أقوال، (أحدهما) أن ذلك حق لمشترطه من المتبايعين دون صاحبه، فإن كان البائع منهما هو مشترط الخيار لغيره، كان له أن يمضي البيع للمبتاع إن شاء ويرد إن شاء، ولا يلزمه إجازة من اشترط له الخيار - إن أراد هو الرد، ولا رده - إن أراد هو الإجازة - إن أراد المشتري أن يلزمه ذلك. إذ لا حق له في ذلك معه؛ وإن كان المبتاع منهما هو مشترط الخيار لغيره، فكذلك أيضا يكون بالخيار بين أن يأخذ أو يرد، ولا يلزمه إجازة من اشترط الخيار إن أراد هو الرد، ولا رده إن أراد هو الإجازة وأراد البائع أن يلزمه ذلك، إذ لا حق له في ذلك معه على هذا القول، كالمشورة التي لمشترطها تركها والقضاء بما أحب من رد أو إجازة سواء؛ هذا قول ابن حبيب في الواضحة واختيار ابن لبابة في كتابه المنتخب، (والقول الثاني) أن الرد والإجازة بيد من جعل إليه الخيار، وذلك حق للباقي من المتبايعين دون من اشترط ذلك منهما لغيره، فإن أراد الذي اشترط الخيار منهما لغيره أن يرد أو يجيز وأبى الباقي منهما إلا أن يلزمه ما(2/89)
يقضي به من جعل إليه الخيار من رد أو إجازة، كان ذلك له، هذا قوله في المدونة في المبتاع إذا اشترط الخيار لغيره وله في البائع إذا اشترط الخيار لغيره مثله في موضع منها، لأنه قال فيه: فإن رضي فلان البيع فالبيع جائز، ودليل هذا الكلام أنه إن لم يرض ورد فهو مردود، ولا كلام في ذلك للبائع الذي اشترط رضاه أو خياره. (والقول الثالث) أن ذلك حق لهما جميعا، حق للبائع إن أراد إمضاء البيع للمبتاع، وأراد الذي جعل إليه البائع الخيار أن يرد؛ وحق للمبتاع إن أراد الذي جعل إليه البائع الخيار إمضاء البيع، وأراد البائع أن يرد، فبيان هذا الوجه أنه إن أراد البائع إمضاء البيع لزم ذلك المبتاع، وإن أراد الذي جعل إليه البائع الخيار أن يرد، وإن أراد الذي جعل إليه البائع الخيار - إمضاء البيع، كان للمبتاع أن يأخذ ولزم ذلك البائع، وإن كره وأراد الرد، فيلزم المبتاع البيع، وإن كره برضى البائع ويلزم البائع البيع - وإن كره برضا من جعل إليه الخيار، إلا أن يوافق المبتاع البائع على ما أراد من الردة، وكذلك إن كان المبتاع منهما هو الذي اشترط الخيار لغيره وأراد الأخذ، كان ذلك له؛ وإن أراد الذي جعل إليه أن يرد، فإن أراد الذي يشترط له الخيار الإجازة، كان للبائع أن يلزم المبتاع البيع. وبيان هذا الوجه أن البيع يلزم البائع وإن كره برضى المبتاع، ويلزم المبتاع وإن كره برضى الذي جعل إليه الخيار. هذا قوله في المدونة في البائع إذا اشترط رضى غيره في موضع منها، لأنه قال فيه: فإن رضي البائع أو رضي فلان البيع، فالبيع جائز، ومثله يلزم في المبتاع على مذهب من لم ير بين اشتراط البائع والمبتاع في ذلك فرقا، وجعل اختلاف جوابه في السؤالين اختلاف قول، لا من أجل افتراق المسألتين؛ وتأول أبو إسحاق التونسي ما في المدونة في البائع بجعل الخيار لغيره أن ذلك بمنزلة الوكالة، ومن سبق منهما فرده أو أجازه مضى ما فعل؛ قال: وهو القياس، ومثله يلزم في المبتاع خلاف ما في المدونة. (والقول الرابع) الفرق بين أن يشترط ذلك البائع أو المبتاع، وعلى ذلك تأول ما في المدونة ابن أبي زيد وأبو إسحاق التونسي وابن لبابة، إلا أنهم اختلفوا في التأويل إذا اشترط ذلك البائع: فذهب ابن لبابة إلى أن البيع يلزم المبتاع برضى البائع، ويلزم البائع برضى الذي جعل إليه الخيارة، ومثله تأويل ابن(2/90)
أبي زيد، على هذا حمل ابن لبابة قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الموطأ، وقول ابن نافع في تفسير ابن مزين، والأظهر من قولهما - عندي - أن للذي جعل إليه البائع الخيار الرد والإجازة، وأن ذلك حق للمبتاع؛ وذهب أبو إسحاق التونسي إلى ما حكيناه عنه، أن ذلك بمنزلة الوكالة؛ ولم يختلفوا في تأويل ما وقع في المدونة إذا اشترط ذلك المبتاع، والظاهر- عندي فيما وقع في المدونة - أن ذلك اختلاف من قوله في البائع لا يدخل في المبتاع، فمرة جعل اشتراط البائع ذلك كاشتراط المبتاع، ومرة فرق بينهما، وقد قيل: إن ما وقع في المدونة ليس باختلاف قول، وإنما يرجع ذلك إلى الفرق بين البائع والمباع، وقد قيل: إن ذلك اختلاف قول يدخل في البائع والمبتاع، وأما المشورة فلا اختلاف بينهم أن لمشترطها تركها، وأن الحق في ذلك لمشترطها من المتبايعين دون صاحبه، إلا ما حكى أبو إسحاق التونسي أن ظاهر ما في كتاب محمد بن المواز - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن المشورة كالخيار في أنه إذا سبق فأشار بشيء لزم، وهو بعيد؛ فتأمل قوله في الأصل. وأما ما حكاه أبو إسحاق التونسي عن ابن نافع أن المشورة كالخيار سواء في أن للمشترط مشورته الأخذ أو الرد، فهو نقل غير صحيح، لأنه إنما تكلم على مشورة مقيدة بالخيار، وذلك كمجرد الخيار، فتأمل ذلك في تفسير ابن مزين.
فصل ولا يجوز للبائع أن يشترط النقد في أيام الخيار، فإن فعل فسخ البيع بذلك، لأن النقد المدفوع يصير مرة ثمنا - إن تم البيع، ومرة سلفا - إن لم يتم؛ فإن فعل، فسخ البيع - على كل حال وليس كالبيع والسلف الذي إذا أراد مشترط السلف إسقاطه صح البيع على أحد القولين، هذا هو ظاهر المدونة؛ لأنه ذكر القيمة فيمن اشترى بالخيار بيعا فاسدا، لاشتراطه النقد ثم وجد عيبا ولم يقل الأقل من القيمة أو الثمن. وفي كتاب ابن سحنون أنه كالبيع والسلف، ولا فرق(2/91)
عندي بين المسألتين؛ وأما النقد من غير شرط فجائز إلا فيما لا يمكن التناجز فيه بعد أمد الخيار، كالسلم والعبد الغائب والجارية التي فيها المواضعة، لأنه إن تم البيع دخله فسخ الدين.
فصل وكما لا يجوز للبائع اشتراط النقد لينتفع به أمد الخيار، فكذلك لا يجوز للمبتاع اشتراط الانتفاع بالمبيع أمد الخيار، لأنه غرر أيضا، إن لم يتم البيع كان قد انتفع بالسلعة باطلا من غير شيء، وإنما جوز له من ذلك قدر ما يقع به الاختبار - خاصة فيما يختبر بالاستعمال كركوب الدابة، واستخدام العبد في الشيء اليسير الذي لا ثمن له.
فصل والمبيع بالخيار في أمد الخيار على ملك البائع، كان الخيار له أو للمبتاع أو لهما، فإن تلف فمصيبته منه، كان بيده أو بيد المبتاع، إلا أن يكون بيد المبتاع، ويغيب عليه وهو مما يغاب عليه ويدعي تلفه، ولا يعرف ذلك إلا بقوله، فلا يصدق في ذلك ويكون عليه قيمة الثمن؛ لأنه يتهم أن يكون غيبه وحبسه عن صاحبه، فذلك رضا منه بالثمن؛ وقد روي عن مالك أن الضمان من المشتري فيما بيع على الخيار - إن كان الخيار له، ومن البائع - إن كان الخيار له - وهو قول ابن كنانة.
فصل والخيار في هذا بخلاف الاختيار على مذهب ابن القاسم، لأنه إذا اشترى ثوبا من ثوبين أو عبدا من عبدين، على أن يأخذ أيهما شاء بثمن قد سمياه فتلفا، فالضمان في أحدهما من البائع، وفي الثاني من المبتاع - قامت على تلفهما بينة أو لم تقم - فيكون عليه نصف الثمن، إذ لم يعرف الذي قبضه على الاشتراء من الذي قبضه على الائتمان، وكذلك لو اجتمع الخيار والاختيار على مذهب ابن(2/92)
القاسم، فادعى تلفهما - ولم يعرف ذلك إلا بقوله؛ وأما لو قامت بينة على تلفهما، لكانت مصيبتهما من البائع لأن الواحد قبضه على الائتمان فضمانه من البائع، (والثاني) على الخيار فضمانه من البائع أيضا - لقيام البينة على تلفه؛ هذا مذهب ابن القاسم في هذه المسألة، وفيها اختلاف كثير، ولها تفصيل وتفسير ليس هذا موضع ذكره.
فصل وإنما يجوز اشتراء الثوب من الثياب على الاختيار والإلزام في الصنف الواحد، وهو في الصنفين من بيعتين في بيعة، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيعتين في بيعة» ومعنى ذلك أن يتناول عقد البيع مبيعين لا يتم البيع مع لزومه للمتبايعين أو لأحدهما إلا في أحد المبيعين؛ وإنما قلنا: في أحد المبيعين، ولم نقل: أحد الثمنين، ولا أحد المثمونين، لأعم بذلك الوجهين؛ إذ لا فرق بين أن يتناول ثمنين أو مثمونين على الوجه المذكور، لأن الثمن مبيع بالمثمون، كما أن المثمون مبيع بالثمن.
فصل فإذا انعقد البيع في مثمون واحد على ثمنين أو في مثمونين على ثمن واحد، أو في مثمونين على ثمنين، فلا يخلو ذلك من وجهين (أحدهما) أن يجوز تحويل أحدهما في الآخر، (والثاني) أن لا يجوز ذلك؛ فأما إذا لم يجز تحويل أحدهما في الآخر، فإن ذلك لا يجوز باتفاق مع ظهور التهمة، فإن سلما من التهمة، جاز ذلك، مثل أن يختلف المبيعان فيما عدا الطعام في القلة والكثرة مع النقد أو التساوي في الأجل، أو الاختلاف فيه، مثل أن يكون المؤجل أو الذي هو أبعد أجلا أقل عددا؛ إذ لا غرض في ذلك يتوخى ويقصد إليه، مثل أن يبيع منه سلعة بدينار نقدا، أو بدينارين نقدا، أو يبيعها منه بدينارين نقدا أو دينارين إلى أجل؛ فهذا وإن كان لا(2/93)
يجوز تحويل أحد الثمنين في الآخر فإن البيع على أحدهما من غير تعيين مع لزومه للمتبايعين أو لأحدهما جائز، لأنه يعلم أن البيع إنما وجب بالأكثر إن كان الخيار للبائع، أو بالأقل إن كان الخيار للمبتاع؛ إذ لا يشك في أنه هو الذي يختار، إذ لا غرض في اختيار الثمن الآخر عليه. وأما الوجه الثاني وهو أن يجوز تحويل أحد الثمنين أو المثمونين في صاحبه، فإن ذلك ينقسم على أربعة أقسام (أحدها) أن يكون الثمنان والمثمونان صنفين مختلفين مما يجوز أن يسلم أحدهما في الآخر، (والثاني) أن يكونا صنفا واحدا إلا أن صفتهما مختلفة متباينة، (والثالث) أن يكونا صنفا واحدا وصفة واحدة، إلا أنهما متفاضلان في الجودة، والرابع أن يكونا صنفا واحدا وصفة واحدة متساويين في الجودة.
فصل فأما إن كانا صنفين مختلفين مما يجوز أن يسلم أحدهما في الآخر، فلا يجوز إلا على قول عبد العزيز بن أبي سلمة؛ وكذلك إن كانا صنفا واحدا إلا أن الصفة اختلفت وتباينت حتى جاز سلم أحدهما في الآخر، وأما إن كانا صنفا واحدا إلا أن صفتهما مختلفة متباينة تباينا لا يجوز معه سلم أحدهما في الآخر، فيجوز عند ابن المواز وعلى قول عبد العزيز بن أبي سلمة أيضا؛ وأما إن كانا صنفا واحدا إلا أنهما متفاضلان في الجودة، فيجوز على ما في المدونة ومذهب ابن المواز وقول عبد العزيز بن أبي سلمه، ولا يجوز عند ابن حبيب؛ وأما إن كانا صنفا واحدا وصفة واحدة، فيجوز عند جميع أصحابنا، خلافا للشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله في قولهما: إنه لا يجوز لهما أن يفترقا إلا على ثمن معلوم؛ والدليل على صحة قولنا أن الثمن معلوم ودخول الاختيار في أحد الثوبين لا تأثير له في الثمن، وإنما يعود ذلك إلى تعيين المبيع، وذلك لا يمنع صحة العقدة، كما لو اشترى منه قفيز قمح من جملة صبرة فيها أقفزة.
فصل والبيع لازم للمتبايعين إذا تم البيع بينهما بالكلام وإن لم يفترقا بالأبدان، إلا(2/94)
أن يشترطا الخيار، وما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عمر وغيره أنه قال: «المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يفترقا، إلا بيع الخيار» لم يأخذ به مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا رأى العمل عليه لوجهين، (حدهما) استمرار العمل بالمدينة على خلافه، وما استمر عليه العمل بالمدينة واتصل، فهو عنده مقدم على أخبار الآحاد العدول، لأن المدينة دار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبها توفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه متوافرون، فيستحيل أن يتصل العمل منهم في شيء على خلاف ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلا وقد علموا النسخ فيه. (والثاني) احتماله للتأويل، لأن الافتراق في اللغة يكون بالكلام والإنجاز إلى المعاني والتباين فيها؛ قال الله عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] وقال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تفترق أمتي على اثنتين وسبعين فرقة» فيكون معنى الحديث أن المتساومين كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يكملا البيع بالقول ويستبد كل واحد منهما بما صار إليه عوضا عما صار لصاحبه؛ لأن المتساومين يقع عليهما اسم متبايعين، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» فسمى التساوم بيعا لأن المتبايعين لا يوصفان حقيقة بأنهما متبايعان، إلا في حين مباشرة البيع والتلبس به. وأما بعد كماله وانفصال كل واحد منهما عن صاحبه واستبداده بما صار إليه، فلا يوصفان بأنهما متبايعان إلا مجازا لا حقيقة.(2/95)
فصل فإذا احتمل الحديث أن يحمل على هذا لم يصح أن يفرق بين عقد البيع وسائر العقود اللازمة باللفظ، إلا بنص جلي لا يحتمل التأويل، وليس ذلك بموجود في مسألتنا هذه، بل ظاهر القرآن وما في السنن الثابتة والآثار، يدل على أن الأملاك المبيعة تنتقل بتمام اللفظ بالبيع على ما يتراضى عليه المتبايعان وإن لم يفترقا بأبدانهما، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فوصف تعالى التجارة التي تنتقل بها الأملاك بالتراضي خاصة دون التفرق بالأبدان، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» . فظاهره قبل الافتراق وبعد، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق بيعه بعد الاستيفاء من غير أن يقيد ذلك بالافتراق؛ وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اختلف المتبايعان، فالقول ما قال البائع أو يترادان» فسواء كان اختلافهما قبل التفرق أو بعده على ظاهر الحديث، والتراد إنما يكون بعد تمام البيع، وإنما أدخل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الحديث في موطئه عقيب حديث البيعان بالخيار، على طريق التفسير له والبيان لمعناه.
فصل وأما قول من قال: إن حديث البيعان بالخيار، منسوخ بحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع أو يترادان» وما أشبهه من ظواهر الآثار، فلا يصح، لأن النسخ إنما يكون فيما يتعارض من الأخبار، ولا يمكن الجمع بينهما، والجمع بين هذين الحديثين ممكن بحمل التفرق المذكور في الحديث على التفرق بالأبدان أو التفرق بالكلام، وإنما يستدل على أنه منسوخ(2/96)
باستمرار العمل بالمدينة على خلاف ما قدمناه؛ وقد روي عن ابن عمر راوي الحديث ما يدل على أنه حديث ترك العمل بظاهره في زمن الصحابة بالمدينة، إما لنسخ علموه فيه، وإما لتأويل تأولوه عليه، وذلك أنه قال: "بعت من عثمان أمير المؤمنين ما بالوادي بمال لي بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من عنده خشية أن يراد في البيع، وكانت السنة أن البيعين بالخيار ما لم يفترقا " ولا يقال: كان كذا وكذا، إلا لما قد كان وذهب، لا لما هو قائم ثابت بعد؛ وفي قوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كانت السنة، يريد حين مبايعته عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذلك بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إشكال، لأن النسخ لا يكون بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا وجه لقوله عندي - والله أعلم: كانت السنة، إلا أنه أراد: أي كانت السنة عندي وفي مذهبي - على ما كنت أحمل عليه الحديث، أن المراد بالتفرق فيه التفرق بالأبدان؛ وهذا يدل على أنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجع عن مذهبه في أن البيعين بالخيار ما لم يفترقا بأبدانهما - إلى أن البيع يلزم المتبايعين بتمام البيع بالكلام - وإن لم يفترقا عن مجلسهما.
فصل فإن قيل: إذا قلت في حديث البيعين بالخيار: إن المتبايعين هما المتساومان، بطلت فائدة الحديث؛ إذ لا يشك أحد أن المتساومين كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتم البيع بالكلام، هذا معلوم بالفطرة لا يحتاج إلى بيان؛ فالجواب عن ذلك أن فائدة الحديث لا تبطل، لأن المستفاد منه على ما تأولناه: أن البيع يلزم بمجرد العقد، إلا أن يكون البيع شرط فيه الخيار فيثبت فيه الخيار على حسبما شرط فيه، وبكون الاستثناء في قوله: إلا بيع الخيار، مما يقتضيه لفظ الحديث ويدل عليه، كأنه قال: المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يفترقا، فإن تفرقا، معناه باللفظ، فلا خيار لهما إلا في بيع الخيار وهذا بين.
فصل وقد يحتمل أن تكون فائدة الحديث والمراد به عند من ذهب إلى أن الفرقة(2/97)
بالأقوال أن من أوجب البيع من المتساومين لصاحبه، لا يلزمه وله الرجوع عنه في المجلس ما لم يجبه صاحبه بالقبول فيه، وهذا ظاهر إلا أنه ليس على مذهب مالك، وإنما هو قول محمد بن الحسن؛ والذي يأتي على المذهب أن من أوجب البيع من المتبايعين لصاحبه، لزمه إن أجابه صاحبه في المجلس بالقبول ولم يكن له أن يرجع عنه، قبل ذلك، ويحتمل أن يكون معنى الحديث وفائدته التي سيق إليها أن المتساومين ما لم يوجب أحدهما لصاحبه البيع فلا يلزم البائع البيع بما طلب من الثمن ولا المبتاع الأخذ بما بذل منه في حال المساومة، وأن لكل واحد منهما أن يرجع عن ذلك ما لم يتم البيع بالكلام، وهذا يأتي على قول مالك في المدونة.
فصل وإذا حمل الحديث على هذا جاز أن يحمل الاستثناء في قوله في الحديث: إلا بيع الخيار، على ما تقدم، وأن يحمل على معنى أن يقول أحدهما لصاحبه: اختر أو رد، فيختار، فيلزم بذلك البيع وينقطع به الخيار على ما روي في بعض الآثار: أن «المتبايعين كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يفترقا، إلا أن يقول أحدهما لصاحبه: اختر» ؛ وهذا اللفظ تعلق به الشافعي وكل من حمل الحديث على ظاهره فرأى الخيار للمتبايعين وإن تم البيع بينهما بالكلام ما لم يفترقا بالأبدان، والتأويل الأول أظهر، لأن لفظ الخيار إذا أطلق في الشرع إنما يفهم منه إثبات الخيار لا قطعه، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن المراد بالفرقة فرقة الأبدان، إلا أنها فرقة تحل العقد وتبطل ما أوجبه أحد المتبايعين على نفسه لصاحبه، وهو معنى حسن يخرج على المذهب، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(2/98)
[كتاب العيوب]
تحريم التدليس بالعيوب أصل ما بنيت عليه أحكام هذا الكتاب: كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أن الله تبارك وتعالى نهى عن أكل المال بالباطل في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبته المشهورة: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت ألا هل بلغت ألا هل بلغت» وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» ، والتدليس بالعيوب من أكل المال بالباطل الذي حرمه الله في كتابه وعلى لسان رسوله عيه، ومن الغش والخلابة اللذين نهى عنهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لحيان بن منقذ: «إذا بايعت فقل: لا خلابة» وقال: «من غشنا فليس منا» أي ليس(2/99)
على مثل هدينا وطريقتنا لأن الغش لا يخرج الغاش من الإيمان، فهو معدود في جملة المؤمنين إلا أنه ليس على هديهم وسبيلهم، لمخالفته إياهم في التزام ما يلزمه في شريعة الإسلام من النصح لأخيه المسلم، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمن أخ المؤمن، يشهده إذا مات، ويعوده إذا مرض وينصح له إن غاب أو شهد» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» ، فلا يحل لامرئ مسلم أن يبيع عبدا أو أمة أو سلعة من السلع أو دارا أو عقارا أو ذهبا أو فضة أو شيئا من الأشياء - وهو يعلم فيه عيبا، قل أو كثر، حتى يبين ذلك لمبتاعه ويقفه عليه وقفا يكون علمه به كعلمه، فإن لم يفعل ذلك وكتمه العيب وغشه بذلك، لم يزل في مقت الله ولعنة ملائكة الله، روي عن واثلة بن الأسقع أنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت الله، أو: لم تزل الملائكة تلعنه» ، وقد يحتمل أن يحمل قوله: «من غشنا فليس منا» على ظاهره فيمن غش المسلمين مستحلا لذلك، لأنه من استحل التدليس بالعيوب والغش في البيوع وغيرها، فهو كافر حلال الدم يستتاب، فإن تاب من ذلك وإلا قتل.
فصل والعيوب تنقسم على قسمين: عيب يمكن التدليس به، وعيب لا يمكن التدليس به، أما ما لا يمكن التدليس به، فلا يجب الرد به في القيام ولا الرجوع بقيمته في الفوات. وهو على وجهين، (أحدهما) ما استوى البائع والمبتاع في الجهل بمعرفته، وكان في أصل الخلقة باتفاق، أو لم يكن في أصلها على اختلاف لم(2/100)
يختلف أصحاب مالك في جملة هذا، واختلفوا في تفصيله على ما سيأتي في موضعه من الكتاب إن شاء الله، (والثاني) ما استوى البائع والمبتاع في المعرفة به، وذلك ما كان من العيوب ظاهرا لا يخفى، وأما ما يمكن التدليس به فإنه على ثلاثة أوجه، (أحدها) أن لا يحط من الثمن شيئا ليسارته، أو لأن المبيع لا ينفك منه، (والثاني) أن التدليس يحط من الثمن يسيرا، (والثالث) أن يحط منه كثيرا؛ فأما ما لا يحط من الثمن شيئا ليسارته، أو لأن المبيع لا ينفك منه، فإنه لا حكم له، وأما ما يحط من الثمن يسيرا فإنه لا يخلو من أن يكون في الأصول أو في العروض، فإن كان في الأصول فإنه لا يجب به الرد وإن كان المبيع قائما، وإنما الواجب فيه الرجوع بقيمة العيب، وذلك كالصدع في الحائط وما أشبه ذلك؛ وأما إن كان في العروض، فظاهر الروايات في المدونة وغيرها أن الرد يجب به كالكثير سواء، وقيل: إنه كالأصول، لا يجب الرد به وإنما فيه الرجوع بقيمته، وعلى هذا كان الفقيه ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحمل ظاهر الروايات حيثما وقعت ويقول: لا فرق بين الأصول في ذلك والعروض، ويؤيد تأويله في ذلك أن زيادا روى عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن ابتاع ثوبا فإذا فيه خرق يسير يخرج في القطع أو نحوه من العيوب، لم يرد به، ووضع عنه قدر العيب، وكذلك هو في جميع الأشياء. وقعت هذه الرواية في الكتاب الجامع لقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - المؤلف للحكم، وفي المختصر الكبير نحوه. قال: ولا يرد من العيوب إلا من عيب كثير ينقص ثمنه وتخاف عاقبته ولا ينظر في ذلك إلى ما يرده التجار، فانظر في ذلك.
فصل ولا أعرف للمتقدمين من أصحابنا حدا في اليسير الذي لا يجب الرد به في العقار أو في الدور والعروض على أحد القولين، وقد رأيت لابن عتاب - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنه سئل عن العيب الذي يحط من الدار ربع الثمن، فقال: ذلك كثير يجب الرد به، وقال ابن القطان: إن كان قيمة العيب مثقالين فهو يسير يرجع المبتاع(2/101)
بهما على البائع ولا يرد البيع، وإن كان قيمته عشرة مثاقيل فهو كثير يجب الرد به، فقال: إن عشرة مثاقيل كثير ولا يبين من أي الثمن، والذي عندي أن عشرة مثاقيل من مائة مثقال كثير يجب الرد به.
فصل وأما ما يحط من الثمن كثيرا فلا يخلو المبيع فيه من خمسة أحوال (أحدها) أن يكون بحسبه لم يدخله زيادة ولا نقصان، (والثاني) أن يدخله زيادة، (والثالث) أن يدخله نقصان ولا تفوت عينه، (والرابع) أن تفوت عينه أو أكثر العين بخروجه عن ملكه، (والخامس) أن يعقد فيه عقدا يمنعه من رده.
فصل فأما الحال الأولى، وهو أن يكون المبيع قائما بحسبه لم يدخله زيادة ولا نقصان، فإن المبتاع فيه بالخيار بين أن يرد ويرجع بجميع الثمن، أو يمسك ولا شيء له من الثمن، والأصل في ذلك حديث المصراة، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر» .
فصل وأما الحال الثانية، وهو أن يدخل المبيع زيادة، فإن الزيادة لا تخلو من خمسة أوجه (أحدها) زيادة بحوالة الأسواق، (والثاني) زيادة في حال المبيع، (والثالث) زيادة في عين المبيع بنماء حادث فيه أو بشيء من جنسه مضاف إليه، (والرابع) زيادة من غير جنس المبيع مضافة إليه، (والخامس) ما أحدثه المشتري في المبيع من صنعة مضافة إليه، كالصبغ والخياطة وما أشبه ذلك مما لا ينفصل عنه إلا بفساد.(2/102)
فصل فأما الزيادة بحوالة الأسواق فإنه لا يعتبر بها ولا توجب للمبتاع خيارا، وكذلك الزيادة في حال المبيع، مثل أن يكون عبدا فيتعلم الصناعات ويتخرج، فتزيد قيمته لذلك، وأما الزيادة في عين المبيع لنماء حادث فيه، كالدابة تسمن أو الصغير يكبر، أو بشيء من جنسه مضاف إليه كالولد يحدث للمبيع، فاختلف أصحابنا في ذلك: فلهم في الدابة تسمن والولد يحدث قولان، (أحدهما) أن ذلك ليس بفوت، وهو مخير بين أن يرد الدابة بحالها، أو يردها بولدها إن حدث لها ولد، أو يمسك ولا شيء له، (والثاني) أن ذلك فوت، وهو مخير بين أن يرد الدابة بحالها أو يردها بولدها إن حدث لها ولد، وبين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، ولهم في الصغير يكبر هذان القولان، وقول ثالث في المدونة أن ذلك فوت وله قيمة العيب ولا خيار له في الرد، ولا فرق بين المسائل الثلاث ما لم يكن الكبر نقصا كالهرم وما أشبه ذلك.
وأما الزيادة المضافة إلى المبيع من غير جنسه، فذلك مثل أن يشتري العبد ولا مال له فيفيد عنده مالا بهبة أو صدقة أو كسب من تجارة ما لم يكن ذلك من خراجه، أو يشتري النخلة ولا ثمرة فيها، فتثمر عنده ثم يجد عيبا، فإن هذا لا اختلاف فيه أن ذلك لا يوجب له خيارا ويكون مخيرا بين أن يرد العبد وماله والنخل بثمرتها ما لم تطب ويرجع بالسقي والعلاج، على مذهب ابن القاسم، أو يمسك ولا شيء له في الوجهين جميعا.
وأما الزيادة بما أحدثه المشتري في المبيع من صنعة مضافة إليه كالصبغ والخياطة والكمد، وما أشبه ذلك مما لا ينفصل عنه إلا بفساد، فلا اختلاف أن ذلك يوجب له الخيار بين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، أو يرد ويكون شريكا بما زاد مما أحدثه من الصبغ وشبهه، لأنه أخرج ماله فيه، فلا يذهب هدرا.
فصل ووجه العمل في ذلك: أن يقوم الثوب يوم البيع سليما من عيب التدليس، فإن كان قيمته مائة قوم أيضا يوم البيع بقيمة التدليس، فإن كانت قيمته ثمانين، قوم أيضا(2/103)
يوم الحكم غير مصبوغ، فإن كانت قيمته خمسة وثمانين، قوم أيضا يوم الحكم مصبوغا؛ فإن كانت قيمته خمسة وتسعين، كان مخيرا بين أن يمسك ويرجع بخمس الثمن، أو يرد ويأخذ جميع الثمن ويكون شريكا في الثوب بما يقع للعشرة التي بين القيمتين من الخمسة والتسعين - وذلك جزآن من تسعة عشر، وإن كانت الأسواق حالت بنقصان، لم يقوم يوم الحكم غير مصبوغ وقوم مصبوغا، فإن كانت قيمته يوم الحكم مصبوغا خمسة وثمانين، كان شريكا في الثوب إن رده بجزء من سبعة عشر - وهو ما تقع الخمسة التي بين قيمته يوم الحكم مصبوغا، وبين قيمته يوم الشراء غير مصبوغ من قيمته يوم الحكم مصبوغا؛ وتحصيل هذا الذي قلناه: أن الأسواق إن كانت حالت بزيادة لم يكن بد أن يقوم في الرد يوم الحكم مصبوغا وغير مصبوغ؛ إذ لا يصح أن يكون شريكا بما زادت الأسواق؛ وإن كانت الأسواق حالت بنقصان لم يقوم يوم الحكم إلا مصبوغا خاصة، وكان شريكا بما زادت قيمته يوم الحكم مصبوغا على قيمته يوم الشراء غير مصبوغ، على ما ذكرناه؛ وهذا قول بعض أهل النظر - وفيه عندي نظر، والقياس أن يقوم يوم الحكم مصبوغا وغير مصبوغ، وإن حالت الأسواق بنقصان، فيكون شريكا بما زاد الصبغ على كل حال، لأن حوالة الأسواق ليس بفوت في الزيادة ولا في النقصان، ويلزم البائع أن يأخذ ثوبه بزيادته ونقصانه، فكما تكون له الزيادة، ولا يشاركه بها المبتاع، وإنما يشاركه بما زاد الصبغ خاصة، فكذلك يكون عليه النقصان ويشاركه المبتاع بما زاد الصبغ ولا ينقص من ذلك بسبب نقصان حوالة الأسواق.
فصل وأما الحال الثالثة وهو أن يدخل المبيع نقصان، فإن النقصان أيضا لا يخلو من خمسة أوجه (أحدها) نقصان بحوالة الأسواق، (والثاني) نقصان بتغير حال المبيع، (والثالث) نقصان بتغير عين المبيع، (والرابع) نقصان من غير جنس المبيع، (والخامس) بما أحدثه المبتاع في المبيع؛ فأما النقصان بحوالة الأسواق فلا يعتبر به، وهو مخير بين أن يرد ولا شيء عليه، أو يمسك ولا شيء له، وأما النقصان بتغير حال المبيع مثل أن يشتري الأمة فيزوجها أو العبد فيتزوج، أو يزني أو يسرق(2/104)
أو يشرب خمرا أو ما أشبه ذلك مما تنتقص به قيمته، فاختلف في ذلك، قال في المدونة في الذي يشتري الأمة فيزوجها ثم يجد عيبا، أن التزويج نقصان، ولا يردها إلا وما نقص النكاح منها، معناه: أو يمسك ويرجع بقيمة العيب، قال ابن حبيب: إن ما أحدثه العبد من زنا وشرب خمر أو سرقة، فإن ذلك ليس بنقص يرد معه المشتري ما نقصه إذا وجد به عيبا، وقد يحتمل أن يفرق بين الوجهين بأن التزويج عيب يعلم حدوثه بعد الشراء، فلا يرده إلا أن يرد معه ما نقصه، وما ظهر بالعبد من السرقة وشرب الخمر والزنا بعد الشراء لا يدري لعله كان كامنا فيه من قبل الشراء فلم يلزمه رد ما نقصه؛ وبهذا المعنى فرقوا بين الشاهد يشهد للمرأة ثم يتزوجها قبل الحكم لها بشهادته، أو يشهد للرجل ثم تقع بينه وبينه خصومة وعداوة قبل الحكم بشهادته، وبين الشاهد يشهد للرجل ثم يحدث شرب خمر أو زنا أو سرقة قبل الحكم بشهادته، أن شهادته مردودة في هذا وجائزة في المسألتين الأوليين
فصل فإذا قلنا بهذا، فالنقصان في حال المبيع ينقسم على وجهين، (أحدهما) نقصان يعلم حدوثه بعد الشراء، ونقصان يظهر سببه بعد الشراء، ولا يدرى هل حدث بعده أو قبله، وأما النقصان بتغير عين المبيع، فإنه لا يخلو من ثلاثة أوجه (أحدها) أن يكون يسيرا، (والثاني) أن يكون كثيرا ولا يذهب بجل المبيع ويتلف أكثر منافعه، (والثالث) أن يذهب جله ويتلف أكثر منافعه؛ فأما النقصان اليسير كذهاب الظفر والأنملة من الوخش والحمى والرمد وصرع الجسم وما أشبه ذلك، فليس بفوت، ويخير المبتاع بين أن يمسك ولا شيء له أو يرده ولا شيء عليه، وأما النقصان الكثير إذا لم يذهب بجل المبيع، ولا أتلف أكثر منافعه؛ فإنه يوجب للمبتاع الخيار بين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، وبين أن يرد ويرد ما نقص منه(2/105)
العيب الحادث عنده، خلافا للشافعي وأبي حنيفة في قولهما: إنه ليس له أن يرد، ويرد ما نقصه العيب الحادث عنده، إنما له أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، والدليل على صحة قولنا قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ابتاع شاة مصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر» ، وجه الدليل من هذا الحديث أن المبتاع لما أتلف بعض المبيع - وهو اللبن المصرى في الضرع خيره النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بين أن يرد ويغرم قيمة ما أتلف من اللبن وهو الصاع، وبين أن يمسك، وهذا نص في موضع الخلاف؛ ومن جهة المعنى والقياس أن هذين عيبان حدث أحدهما عند البائع، والثاني عند المبتاع، وكل واحد منهما غير راض بالتزام ما حدث عند صاحبه بقيمته، فلما تعارض الحقان كان أولاهما بالتغليب حق المبتاع، لأنه لم يدلس ولا أخطأ على صاحبه، والبائع لا يخلو من أن يكون دلس على المبتاع أو أخطأ عليه بأن باع منه معيبا على أنه صحيح ولم يتثبت في ذلك.
فصل ووجه العمل في هذا إن أراد أن يمسك أو يرجع بقيمة العيب أن يقال: ما قيمتها يوم البيع سليمة من عيب التدليس ومن العيب الحادث عند المشتري؟ فإن قيل: مائة، قيل: ما قيمتها يومئذ بعيب التدليس سليمة من العيب الحادث عند المشتري؟ فإن قيل: ثمانون، رجع المبتاع على البائع بخمس الثمن، كان أقل من ماله أو أكثر؛ لأن البائع لم يدفع إليه إلا أربعة أخماس ما باع منه وأخذ منه ثمن الجميع، فوجب أن يرد خمس الثمن؛ لأنه قبضه باطلا بغير عوض، وإن أراد أن يرد ويرد ما نقصها العيب الحادث عنده، قيل: ما قيمتها أيضا يومئذ بعيب التدليس وبالعيب الحادث عنده؟ فإن قيل: ستون وقيمتها يومئذ سليمة مائة، وبعيب التدليس ثمانون - كما ذكرنا - كان على المبتاع خمس الثمن، وإن شئت قلت: ربع الثمن بعد أن يسقط منه خمسه؛ لأنه دلس بخمس المبيع فأخذ خمس الثمن باطلا وذلك سواء، لأن هذا الجزء هو الذي ذهب عند المبتاع فيمضي ما ينوبه من(2/106)
الثمن، وذلك أنه قبض على هذا التنزيل أربعة أخماس المبيع، وبقي عند البائع خمسه، فذهب عنده ربع ما قبض وهو خمس الجميع، فذلك الذي يلزمه ثمنه ويسقط عنه سائر الثمن، إن كان لم يدفعه، وإن كان قد دفع الثمن، رجع بأربعة أخماسه وبقي للبائع خمسه، لأن الخمس الذي تلف عند المبتاع مصيبته منه فيمضي بالثمن، كما لو اشترى سلعة فاستهلك خمسها بانتفاع بأكل أو جناية، ووجد بالباقي عيبا، رده ولزمه خمس الثمن بما استهلك؛ وهذا كله بين لا خفاء به ولا ارتياب في صحته، فلا بد على هذا في الرد من ثلاث قيم، وفي الإمساك من قيمتين، وقال أحمد بن المعدل: إن أراد أن يمسك ويرجع بقيمة العبد، فليرجع بقيمته من الثمن الذي اشتراها به، كقول ابن القاسم سواء، وإن أراد أن يرده فليرده ويرد قيمة العيب يوم الرد، فينظر كم قيمته يومئذ وبه العيب القديم، وكم قيمته بالعيب الثاني، فيرد معه قيمة العيب الثاني، وهو ما بين القيمتين دون أن يرجع في ذلك إلى أصل الثمن؛ لأنه فسخ بيع؛ ألا ترى لو نما العبد أو نقص لرد بنمائه ونقصانه ولا شيء عليه؛ فكذلك يرد قيمة العيب يوم الرد بخلاف العيب القديم، لأن العيب القديم البائع ألزمه المشتري يوم الشراء، فيومئذ ينظر إلى قيمته ويرجع عليه المبتاع في الثمن الذي أخذه منه ولم ينفسخ بينهما بيع. قال أحمد: وما علمت أحدا من أصحابنا تكلم عليها، قلت: تكلم عليها أحمد بن المعدل وحده وكل مجر بالخلاء يسري، ولو رأى كلام ابن القاسم وتدبره، لبان له صوابه ولم يسعه خلافه؛ لأن ما نقصه العيب الحادث قد فات بيد المبتاع، فتم فيه البيع، فوجب عليه ما ينوبه من الثمن، وهذا بين.
فصل وأما إن ذهب النقصان بجل المبيع وأتلف أكثر منافعه مثل أن يفقأ عيني العبد جميعا، فيبطله، أو يقطع يديه أو رجليه أو يشتري صغيرا فيهرم، أو ثوبا فيقطعه تبابين، ومثله لا يقطع تبابين، فيفسده بذلك وما أشبهه، فإن هذا كله كذهاب عينه، فلا يجب للمبتاع إلا الرجوع بقيمة العيب.(2/107)
فصل وأما النقصان من غير المبيع مثل أن يشتري النخل بثمرتها قبل الطياب، قبل الإبار أو بعده، أو العبد بماله فيذهب مال العبد بتلف، أو ثمر النخل بجائحة أتت عليه، ثم يجد به عيبا، فإن هذا ليس فيه اختلاف أن ذلك ليس بفوت، وهو بالخيار بين أن يرد ولا شيء عليه أو يمسك ولا شيء له؛ وأما النقصان بما أحدثه المبتاع في المبيع مما جرت العادة أن يحدث فيه مثل أن يشتري الثوب فيصبغه أو يقطعه فينقص لذلك من ثمنه، فإن هذا فوت باتفاق، والمشتري مخير بين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، أو يرد ويرد ما نقصه ذلك عنده، إلا أن يكون مدلسا فلا يكون عليه بالنقصان شيء يرده من أجله، واختلف إن أراد أن يمسك، هل له أن يرجع بقيمة العيب أم لا؟ على قولين، أحدهما قول ابن القاسم: إن ذلك له، (والثاني) قول ابن المواز وأصبغ: إن ذلك ليس له فيما كان نقصه بغير صناعة كالقطع؛ وإنما يكون له ذلك فيما كان نقصه بصناعة كالصبغ وشبهه، ولكلا القولين وجه من النظر، وهو محمول على غير التدليس حتى يثبت ذلك عليه أو يقر به على نفسه؛ فإن أنكر أن يكون علم أو ادعى أنه نسي، أحلف على ذلك، فإن حلف، خير المبتاع عند ابن القاسم؛ وحكى ابن المواز عن مالك أنه لا يحلف إلا بعد أن يخير المبتاع فيختار الرد، إذ لا معنى ليمينه إذا اختار الإمساك والرجوع بقيمة العيب.
فصل وهذه إحدى خمس المسائل التي يفترق فيها حكم المدلس من الذي لم يدلس، (والثانية) أن يصيب المبيع عند المشتري عيب أو عطب من العيب الذي باعه به، مثل أن يبيعه آبقا فيأبق عند المشتري، أو سارقا فيسرق عند المشتري فتقطع يده وما أشبه ذلك؛ فإنه إن كان البائع مدلسا بذلك البيع، كان ضمان ما أصابه عند المشتري منه، وإن لم يكن مدلسا، فلا ضمان في ذلك من المشتري، (والثالثة)(2/108)
أن يبيع الرجل سلعة وبها عيب ثم يشتريها من المبتاع بأكثر من الثمن الذي باعها به منه؛ فإن كان مدلسا لم يكن له الرجوع على المبتاع، وإن كان غير مدلس رجع عليه بما زاده على الثمن، (والرابعة) أن من دلس في سلعة بعيب فردت عليه به لم يلزم السمسار أن يرد الجعل، بخلاف إذا لم يدلس، (والخامسة) من باع بالبراءة مما يجوز بيعه بالبراءة، فإنه يبرأ مما لم يعلم به ولا يبرأ مما علم به فدلس به.
فصل وأما الحال الرابعة وهو أن يذهب عين المبيع، فلا يخلو من وجهين (أحدهما) أن يكون ذهابه بخروجه عن ملكه بعوض، (والثاني) أن يكون خرج عن ملكه بغير عوض، فأما الوجه الأول وهو أن يخرج عن ملكه بعوض، وذلك أن يبيعه أو يهبه للثواب، فإنه لا يخلو أيضا من وجهين (أحدهما) أن يبيعه من بائعه، (والثاني) أن يبيعه من غير بائعه، فأما إن باعه من بائعه بمثل الثمن فلا شيء عليه، لأنه كان قد رده عليه، وإن باعه منه بأقل من الثمن رجع عليه بتمام الثمن، فيكون كأنه قد رده عليه؛ فإن لم يثبت قدم العيب عند البائع الأول وأمكن أن يكون حدث عند المشتري الأول وهو البائع الثاني، حلف البائع الأول بالله ما كان عنده يوم باعه على البت إن كان ظاهرا، أو على العلم إن كان خفيا باطنا - ولم يكن للمشتري الأول - وهو البائع الثاني - أن يرجع عليه بشيء، وكان له هو أن يرده عليه- وإن أمكن أيضا أن يكون حدث عند البائع الأول بعد أن اشتراه من المشتري الأول، حلف البائع الثاني وهو المشتري الأول أن العيب لم يحدث عنده في علمه، إن كان خفيا، ولم يكن للبائع الأول وهو المشتري الثاني أن يرد عليه ولزمه البيع فيه بالثمن الثاني، إذ قد برئ من غرم ما بين الثمنين بيمينه، أو لأن العيب لم يحدث عنده وإن باعه منه بأكثر من الثمن الذي اشتراه به منه وكان البائع الأول قد علم بالعيب فدلس به لزمه البيع ولم يكن له أن يرده على المشتري الأول وهو البائع الثاني، فإن كان البائع لم يعلم بالعيب، كان له أن يرده على المشتري الأول - وهو البائع الثاني، ثم كان للبائع الثاني وهو المشتري الأول أن يرده على البائع الأولى وهو المشتري الثاني، فإن رده كل واحد منهما على صاحبه، تقاصا بالثمن ورجع(2/109)
المشتري الثاني على المشتري الأول بالزيادة؛ فإن لم يثبت قدم العيب عند البائع الأول وأمكن أن يكون حدث عند المشتري الأول - وهو البائع الثاني، كان للبائع الأول أن يرده على البائع الثاني - وهو المشتري الأول؛ فإن رده عليه - وأراد هو أن يرده على البائع الأول - لم يكن ذلك له إذا لم يثبت أن العيب كان به عنده ولزمته اليمين ما علم أن العيب كان به عنده، إن كان من العيوب التي تخفى، وإن كان من العيوب الظاهرة حلف على البت على مذهب ابن القاسم، وإن أمكن أن يكون العيب حدث أيضا عند البائع الأول بعد أن اشتراه من المشتري الأول، حلف المشتري الأول وهو البائع الثاني أنه ما علم أن العيب حدث عنده، ولزم البائع الأول العبد ولم يكن له رده، وأما إن باعه من غيره، فقال ابن القاسم في المدونة: هو فوت ولا يرجع على البائع للعيب بشيء لأنه لا يخلو من أن يكون علم بالعيب فباعه على معرفة فهو رضا منه، أو لم يكن علم فلم ينقص بسبب العيب شيء، قال: سماع عيسى: إلا أن يرجع عليه بشيء فيرجع بقيمة العيب من ثمنه الذي اشتراه به، ظاهر الرواية، وإن كان ذلك أكثر مما رجع به عليه؛ وكذلك لو نقص بسبب العيب شيئا وإن كان قد باع بمثل الثمن أو أكثر منه مثل أن يبيعه وكيل له ويبين العيب أو يبيعه هو ويبين العيب - وهو يظنه حدث عنده، لوجب أن يرجع بقيمة العيب بالغة ما بلغت - على قياس هذه الرواية، ومعنى ما في المدونة، ولابن القاسم في كتاب ابن المواز أنه إن باعه بأقل من الثمن ونقص بسبب العيب، رجع على البائع بالأقل من بقية رأس ماله أو قيمة العيب، ما شاء من ذلك، البائع مخير، فلو باع على قول ابن القاسم هذا بمثل الثمن أو أكثر لم يكن له على البائع رجوع، وإن كان قد نقص بسبب العيب، ومن قوله أيضا في كتاب ابن المواز أنه إن باعه ففات عند المبتاع الثاني فرجع عليه بقيمة العيب رجع هو على بائعه بالأقل من قيمة العيب من ثمنه هو، أو بما رجع به عليه، ظاهره: وإن كان ذلك أكثر من بقية رأس ماله، خلاف ما تقدم له من أنه إذا نقص بسبب العيب يرجع على البائع بالأقل من بقية رأس ماله أو قيمة العيب، ولم يحمله محمد بن المواز على الخلاف فقال فيه: يريد ما لم يكن(2/110)
ذلك أكثر من بقية رأس ماله، فإنما له الرجوع بالأقل من ثلاثة أشياء، والصواب أن ذلك اختلاف من قوله، فيتحصل له في المسألة ثلاثة أقوال، (أحدها) أنه إن رجع عليه في العيب شيء أو نقص بسببه من الثمن شيء رجع على البائع منه بقيمة العيب من ثمنه بالغا ما بلغ- وهي رواية عيسى عن ابن القاسم، (والثاني) أنه يرجع عليه بالأقل من قيمة العيب من ثمنه أو ممن رجع به عليه، وهو أحد قولي ابن القاسم في كتاب ابن المواز، (والثالث) أنه يرجع عليه بالأقل من قيمة العيب من ثمنه أو مما رجع به عليه أو من بقية رأس ماله، الأقل من الثلاثة الأشياء، وهو اختيار ابن المواز وأحد قولي ابن القاسم في كتابه، وقال أشهب إذا باعه وإن لم يسقط بسبب العيب شيء فيرجع بالأقل من قيمة العيب من ثمنه أو من بقية رأس ماله، وقال ابن عبد الحكم: يرجع بقيمة العيب كله على البائع، باعه من الأجنبي بمثل الثمن أو أقل أو أكثر.
فصل وأما الوجه الثاني- وهو أن يكون خرج من يده بغير عوض، فلا يخلو من أن يكون ذلك باختياره وفعله أو مغلوبا عليه بغير اختياره؛ فأما إن كان ذلك مغلوبا عليه بغير اختياره مثل أن يكون عبدا فيموت أو يقتله خطأ أو يغصب منه وما أشبه ذلك، فلا اختلاف أن له الرجوع بقيمة العيب، وأما إن كان ذلك بفعله واختياره مثل أن يكون عبدا فيقتله عمدا أو يهبه أو يتصدق به أو يعتقه أو يكاتبه أو ما أشبه ذلك، فروى زياد عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن ذلك فوت ولا رجوع له بقيمة العيب، والمشهور من قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الذي عليه أصحابه أن ذلك فوت وله الرجوع بقيمة العيب.
فصل
وأما الحال الخامسة وهو أن يعقد فيه عقدا يمنعه من رده، فإن هذا العقد لا يخلو من أن يتعقبه رجوع إلى ملكه أو لا يتعقبه رجوع إلى ملكه؛ فأما إن كان لا يتعقبه رجوع إلى ملكه وذلك كالكتابة والاستيلاد والعتق إلى أجل والتدبير، فهو(2/111)
فوت وليس فيه إلا الرجوع بقيمة العيب، وأما إن كان العقد يتعقبه الرجوع إلى ملكه كالرهن والإجارة والإخدام، ففيه بين أصحابنا اختلاف؛ قال ابن القاسم: إذا رجع إلى ملكه رده وليس ما عقده فيه فوت؛ وقال أشهب: إن كان أمد ذلك قريبا، رده وإن كان بعيدا فهو فوت، وقال أصبغ في الإجارة: إنها ليست بفوت وله الرد ولا تنتقض الإجارة؛ لأنه عقدها بموضع يجوز له، كما لو زوج العبد ثم وجد به عيبا لرده بعيبه ولم ينفسخ النكاح؛ فانظر هل يرد ما نقصه ذلك وقابله بمن اشترى ثوبا فقطعه ثم وجد به عيبا.
فصل فالرد بالعيوب القديمة قبل العقد واجب على التفصيل الذي ذكرناه، علم البائع بها أو لم يعلم، إذا كان مما يمكن معرفته، إلا أن يبيع بالبراءة، فإن باع بالبراءة فيما يجوز فيه البيع بالبراءة برئ مما لم يعلم من العيوب، على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، ولا يبرأ مما علم فدلس به؛ وأما ما حدث بالمبيع من العيوب بعد عقد البيع، فلا يجب به الرجوع، إلا أن يكون الحادث من العيوب في الرقيق في عهدة الثلاث أو جنونا أو جذاما أو برصا في عهدة السنة.
فصل فالعيوب على هذا تنقسم على ثلاثة أقسام: عيب قديم يعلم قدمه عند البائع ببينة تقوم على ذلك، أو بإقرار البائع به أو بدليل العيان، وعيب يعلم حدوثه عند المشتري ببينة تعلم ذلك، أو بإقرار المشتري بحدوثه عنده، أو بدليل العيان على ذلك، وعيب مشكوك فيه، يحتمل أن يكون قديما عند البائع، ويحتمل أن يكون حدث عند المشتري.
فصل فأما العيب القديم فيجب الرد به في القيام والرجوع بقيمته في الفوات على(2/112)
التقسيم الذي ذكرناه، وأما الحادث فلا حجة للمبتاع فيه على البائع، وأما المشكوك فيه فليس على البائع فيه إلا اليمين، قيل: على البت، وهو قول ابن نافع في المدنية، ورواية يحيى عن ابن القاسم في العتبية، والحجة في ذلك أنه لو ثبت أنه كان قديما عند البائع لوجب أن يرد عليه وإن لم يعلم به، فإذا رد عليه وإن لم يعلم به وجب أن لا يبرأ منه بيمينه على العلم، وهذا لا يلزم، لأنه إنما يرد عليه وإن لم يعلم به إذا ثبت كونه عنده، وفي مسألتنا لم يثبت كونه عنده، وقال أشهب: يحلف على العلم في الظاهر والخفي، وفرق ابن القاسم بين ذلك فقال: يحلف في الظاهر على البت، وفي الخفي على العلم؛ فإن نكل عن اليمين رجعت على المبتاع في الوجهين جميعا، على العلم أنه ما حدث عنده، هذا قول ابن القاسم في سماع عيسى من العتبية، وروي عنه في المدنية أنها ترجع على المبتاع على نحو ما كانت على البائع، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة، وقال ابن نافع: يحلف على البت على أصله في يمين البائع، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم في العتبية وعلى قول أشهب يحلف على العلم في الوجهين جميعا.
فصل فإن نكل عن اليمين ففي المدنية من رواية عيسى عن ابن القاسم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى أن البيع يلزمه، وهذا يقتضي أنه ليس له بعد النكول أن يرجع إلى اليمين، وفيها من قول ابن نافع: فإن نكل عن اليمين لم ترد أبدا حتى يحلف، وهذا يقتضي أن له بعد النكول أن يحلف.
فصل وهذا في العيوب التي تكون ظاهرة في البدن، وأما ما لا يظهر مثل الإباق والزنى والسرقة وما أشبه ذلك، فادعى المبتاع أنه كان بالعبد قديما، فقال ابن القاسم: يحلف البائع، واحتج بروايته عن مالك، وقال أشهب: لا يمين عليه، واحتج(2/113)
في ذلك بروايته عن مالك أيضا وفرق محمد بن المواز من رأيه بين أن يظهر العيب عند المبتاع أو لا يظهر، فألزمه اليمين إذا ظهر ولم ير ذلك عليه إذا لم يظهر عنده، وإنما أراد أن يحلفه بمجرد دعواه.
فصل
واختلف في الرد بالعيب هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع؟ فجعله ابن القاسم في كتاب الاستبراء من المدونة ابتداء بيع، إذ أوجب المواضعة على المشتري، وروي ذلك عن مالك، وله في كتاب العيوب خلاف ذلك في الذي أعتق عبده فرد الغرماء عتقه فباعه السلطان في دينه، ثم ثبت أنه كان به عند البائع عيب وأنه علم به، أن البيع يرد ويعتق على البائع بالعتق الأول إن كان له مال تؤدى منه ديون الغرماء؛ وقال أشهب في كتاب الاستبراء: هو نقض بيع، وروي ذلك عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في العتبية، وله خلاف ذلك في مسألة كتاب العيوب المذكورة أن العبد لا يعتق، فجعله راجعا إليه بملك مستأنف لا على الملك الأول.
فصل واختلف بماذا تدخل السلعة المردودة بالعيب في ضمان البائع، فقيل: إذا
أشهد المبتاع على العيب وأنه غير راض به، فقد برئ من ضمان السلعة المردودة بالعيب ما لم يطل الأمر حتى يرى أنه راض به، وهو قول أصبغ؛ وقيل: هي في ضمان المبتاع حتى يثبت العيب عند السلطان، وقيل: هي في ضمان المبتاع وإن ثبت العيب عند السلطان حتى يقضى برده على البائع، أو يرضى صاحب العبد بقبض عبده.
فصل
فإن كان المبيع المردود بالعيب مما له غلة ويلزم فيه نفقة، فالغلة للمبتاع والنفقة عليه، لا رجوع له بها على البائع، ولا يلزمه أن يرد الغلة لأن الضمان منه،(2/114)
روي «أن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء الله، ثم وجد به عيبا، فخاصمه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرده عليه، فقال البائع: يا رسول الله قد استغل غلامي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الغلة بالضمان» . لا اختلاف بين أهل العلم في هذا على الجملة، وإنما اختلفوا فيه على التفصيل؛ لاختلافهم فيما هو غلة للمبتاع مما ليس بغلة له، وفي وجوب الرجوع له بما أنفق على ما لا يصح اغتلاله؛ وبيان هذا أن الغلات تنقسم على قسمين (أحدهما) ما لا يتولد عن المبيع وإنما غلته بالانتفاع بعينه، كالعبيد الذين يستخدمون أو يؤاجرون، والمساكن التي تسكن، أو تكرى، وما أشبه ذلك، و (الثاني) : ما يتولد عنه كثمر النخل وصوف الغنم ولبنها، وما أشبه ذلك؛ فأما ما لا يتولد عن المبيع، فللمبتاع ما اغتل منه إلى يوم يرده بالعيب، وعليه النفقة، ولا إشكال في هذا الوجه يفتقر إلى بيان؛ وأما ما يتولد عنه فإنه ينقسم على قسمين (أحدهما) أن يكون ما يتولد عنه وجهه أن يقبض شيئا شيئا كلما تولد، كلبن الغنم وما أشبهها. و (الثاني) أن يكون ما يتولد عنه لا يقبض إلا في أوقاته المعهودة، كثمر النخل وصوف الغنم وما أشبه ذلك؛ فأما الوجه الأول فحكمه حكم ما لا يتولد عن المبيع: للمبتاع منه ما اغتل إلى يوم الرد؛ وأما الوجه الثاني فإن الثمار مفارقة النخل وما أشبهها من الثمار، فلا تخلو من أربعة أحوال، (إحداها) أن تكون يوم البيع لا ثمرة فيها، (والثانية) أن تكون يوم البيع فيها ثمرة لم تؤبر، (والثالثة) أن تكون فيها ثمرة قد أبرت، (والرابعة) أن تكون فيها ثمرة قد طابت، فأما الحال الأولى وهو أن تكون النخل لا ثمرة فيها يوم الابتياع فلا يخلو من أربعة أوجه، (أحدها) أن يجد بها العيب فيردها به قبل أن تصير لها ثمرة، (والثاني) أن يجد بها العيب فيردها به وقد صار لها ثمرة لم تؤبر، (والثالث) أن يجد بها العيب فيردها به وقد أبرت الثمرة، (والرابع) أن يجد بها العيب فيردها به وقد طابت الثمرة، يبست أو لم تيبس، جدت أو لم تجد، قائمة كانت بعد الجد أو فائتة. وأما الحال الثانية، وهي أن تكون في النخل يوم الابتياع ثمرة لم تؤبر، فلا تخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يجد العيب فيرد به والثمرة بحالها لم تؤبر، (والثاني) أن يجد العيب فيرد به والثمرة قد أبرت،(2/115)
(والثالث) أن يجد العيب فيرد به والثمرة قد طابت، وأما الحال الثالثة وهي أن تكون في النخل يوم الابتياع ثمرة مأبورة فيستثنيها المبتاع، فلا تخلو من وجهين (أحدهما) أن يجد العيب فيرد به والثمرة على حالها لم تطب، (والثاني) أن يجد العيب فيرد به والثمرة قد طابت؛ وأما الحال الرابعة وهو أن يشتري النخل بثمرتها بعد الطياب، فليس فيها إلا وجه واحد - وهو أن يجد بها العيب قبل الجداد أو بعده وهما سواء، فهذه عشرة أوجه، أربعة في الحال الأولى، وثلاثة في الحال الثانية، واثنتان في الحال الثالثة، ووجه واحد في الحال الرابعة، يتصور في كل وجه منها أربعة معان، سواء الرد بالعيب يطرأ على الملك فيخرجه من يد مالكه بوجه الحكم، وهي الرد بالعيب الفاسد والاستحقاق والشفعة والتفليس، فأنا أذكر حكم الرد والعيب فيها ثم أعود إلى ذكر سائر المعاني الأربعة وتبيين وجه الحكم فيها، إن شاء الله، وما توفيقي إلا بالله؛ فأما الوجه الأول من الحال الأولى وهو أن يشتري النخل ولا ثمر فيها فيجد بها عيبا قبل أن يصير لها ثمرة فإنه يردها به إن شاء ولا يرجع بالسقي والعلاج إن كان قد سقى وعالج، وقيل: إنه يرجع به على مذهب ابن القاسم - وينبغي أن يجري هذا على اختلاف قوله في الرد بالعيب هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع؛ وأما الوجه الثاني من الحال الأولى - وهو أن يشتري النخل ولا ثمر فيها فيسقيها ويعالجها حتى تكون لها ثمرة فيجد بها عيبا قبل أن تؤبر، فإنه يردها بالعيب ويرجع بالسقي والعلاج عند ابن القاسم وأشهب، ولا يرجع به عند ابن الماجشون وسحنون.
فصل
فإن جد الثمرة في هذه الحال، فلا أذكر لأصحابنا في ذلك نصا والذي يوجبه النظر عندي على أصولهم أن ذلك فوت، لأن جد الثمرة في هذه الحال يعيب الأصل وينقص قيمته، فيكون مخيرا بين أن يرد ما نقص أو يمسك ويرجع بقيمة العيب، وأما الوجه الثالث من الحال الأولى وهو أن يشتري النخل ولا ثمرة فيها فيجد بها العيب بعد الإبار، فإنه يردها بثمرتها ويرجع بقيمة السقي والعلاج عند ابن القاسم وأشهب، خلافا لابن الماجشون وسحنون، هذا قول مالك وأصحابه، - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى، لا أعرف في ذلك بينهم نص خلاف في أنه يردها بثمرتها، إلا أن القياس(2/116)
على مذهب من يرى الرد بالعيب ابتداء بيع، أن يرد النخل وتبقى له الثمرة، وقد قاله أصبغ في الواضحة في البيع الفاسد؛ فيلزم مثله في الرد بالعيب، فإنه نقض بيع أيضا لأن فسخ البيع الفاسد نقض له باتفاق، فهما قولان ظاهران.
فصل فإن جد الثمرة في هذه الحال أيضا، كان الحكم فيها على ما تقدم في جداده إياها قبل الإبار، وأما الوجه الرابع من الحال الأولى وهي أن يشتري النخلة ولا ثمرة فيها فيسقي ويعالج حتى تصير لها ثمرة فتطيب ثم يجد بها العيب بعد طيابها، يبست أو لم تيبس، جدت أو لم تجد، قائمة كانت أو فائتة؛ فإن الثمرة للمبتاع، لأنها غلة قد وجبت له بالضمان؛ هذا قول ابن القاسم في المدونة ولا أعرف له في ذلك نص خلاف، إلا أنه يلزم على ما له في كتاب ابن المواز في الاستحقاق أن يردها بثمرتها ويرجع للسقي والعلاج ما لم تيبس، وعلى ما روى أبو زيد عنه في الاستحقاق أيضا أن يردها بثمرتها ويرجع بالسقي والعلاج ما لم تجد، وهو قول أشهب في المدونة إذا اشترى الثمرة وقد أبرت، ولا فرق على مذهبه في هذا بين شرائه النخل ولا ثمرة فيها أو فيها ثمرة، لم تؤبر أو قد أبرت؛ لأنه رآها، ما لم تطب؛ تبعا للأصول، لم تقع عليها حصة من الثمن، وإن كانت لا تجب له إلا بعد الإبار إلا باشتراطه إياها؛ إذ لا يصح بيعها مفردة دون الأصول، وهذا قول ابن الماجشون في البيع الفاسد أنه يرد بثمرته ما لم تجد، ولا فرق في هذا بين الرد بالعيب وبفساد البيع والاستحقاق.
فصل فيتحصل على هذا في الحد الذي تصير به الغلة للمبتاع في الرد بالعيب والاستحقاق والبيع الفاسد أربعة أقوال، (أحدها) أنه تصير له غلة بالإبار، (والثاني) أنه لا تصير له غلة إلا بالطياب، (والثالث) أنه لا تصير له غلة إلا باليبس، (والرابع) أنه لا تصير له غلة إلا بالجداد؛ فوجه القول الأول أن الثمرة قد صارت بعلاجه وعمله إلى الحد الذي يكون في البيع للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع، فوجب أن تكون غلة له، أصل ذلك إذا طابت أو يبست - ووجه القول الثاني أنها لا تصير له(2/117)
غلة - وإن أبرت ما لم تطب، لأنها قبل الطياب لا يجوز بيعها مفردة دون الأصول، أصل ذلك إذا لم تؤبر، ووجه القول الثالث أنها ما لم تيبس متشبثة بالأصول، إن باعها دونها لم تدخل في عقد البيع في ضمان المشتري لما يجب له فيها من الرجوع بالجائحة، فوجب أن ترد معها ولا تكون غلة له؛ ووجه القول الرابع أنها وإن يبست ما لم تجد متشبثة بالأصول ليست كالطعام الموضوع في جواز بيعه بالطعام، لتعلقه بملك البائع، فوجب أن ترد مع الأصول ولا تكون غلة؛ أصل ذلك إذا لم تؤبر، وأما الوجه الأول من الحال الثانية، وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة لم تؤبر فيجد بها عيبا - وهي لم تؤبر بعد - فاختلف قول ابن القاسم إذا ردها هل يرجع بالسقي والعلاج إن كان قد سقى وعالج، حكى عنه الفضل، وعن أشهب أنه يرجع به وله في المدونة دليل على أنه لا يرجع به.
فصل فإن جد الثمرة في هذه الحال قبل أن يجد العيب كان ذلك نقصانا يوجب له التخير بين أن يرد ويرد ما نقص، أو يمسك ويرجع بقيمة العيب على ما وصفنا فيما تقدم؛ وأما الوجه الثاني من الحال الثانية وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة لم تؤبر فيجد العيب والثمرة قد أبرت، فالحكم فيه على ما تقدم إذا اشترى النخل ولا ثمرة فيها فوجد بها العيب وقد أبرت الثمرة، وقد وصفنا ذلك، وأما الوجه الثالث من الحال الثانية وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة لم تؤبر فيجد بها العيب وقد طابت الثمرة، فالحكم فيه أيضا على ما تقدم إذا اشترى النخل ولا ثمرة فيها ثم وجد بها العيب وفيها ثمرة قد طابت، وقد وصفنا ذلك وما يدخله من الاختلاف، وأما الوجه الأول من الحال الثالثة وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة مأبورة فيجد بها العيب قبل الطياب، فإنه يردها بثمرتها عند الجميع ويرجع بالسقي والعلاج عند ابن القاسم وأشهب.(2/118)
فصل فإن جد الثمرة قبل أن يجد العيب كان مخيرا بين أن يرد وما نقص، أو يمسك ويرجع بقيمة العيب على ما تقدم في جده إياها قبل الإبار، وأما الوجه الثاني من الحال الثالثة وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة قد أبرت فيجد العيب وقد طابت فإنه يردها بثمرتها على مذهب ابن القاسم، وإن يبست أو جدت وكانت قائمة، فإن فاتت رد المكيلة إن عرفت، أو القيمة إن جهلت، أو الثمن إن بيعت، ويرجع بالسقي والعلاج في ذلك كله على مذهبه، ولم يمضها إذا طابت بما ينوبها من الثمن كما أمضاها في الشفعة إذا يبست، وقد عد ذلك سحنون اختلافا من قوله، وفرق ابن عبدوس بين المسألتين؛ وقال أشهب: إذا جدت فهي غلة للمبتاع؛ فتلخيص القول في هذا الوجه أن الذي يتحصل فيه ثلاثة أقوال، أحدها، أن يرد الثمرة مع الأصل على كل حال، وهو مذهب ابن القاسم، والثاني أنها تكون غلة للمبتاع، والثالث أنها تمضي بما ينوبها من الثمن.
فصل فإذا قلنا: إنها تمضي بما ينوبها من الثمن، أو: إنها تكون غلة للمبتاع، ففي حد ذلك ثلاثة أقوال، أحدها الطياب، والثاني اليبس، والثالث الجداد، ولا اختلاف في أن الثمرة إن ذهبت بجائحة في هذا الوجه، ترد ويرجع بجميع الثمن؛ وأما الحال الرابعة وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة قد طابت ثم يجد بها عيبا، فإنه يردها بثمرتها على كل حال وإن جدت، ما كانت قائمة، فإن فاتت رد المكيلة إن عرفت، كمشتري سلعتين يجد بأرفعهما عيبا، فإن جهلت المكيلة مضت بما ينوبها من الثمن ورد النخل بما ينوبها، وقيل: يرد قيمة الثمرة ويرجع بجميع الثمن.(2/119)
فصل فهذا حكم الرد بالعيب في جميع الوجوه التي قسمناها قد بيناه كما شرطنا، والرد بفساد البيع مثله سواء في جميع الوجوه، حاشا أن الرد بفساد البيع لا خيار فيه لأحد المتبايعين، فهو نقض بيع على كل حال، فلا يدخل فيه من الاختلاف إلا ما يدخل في الرد بالعيب على القول بأنه نقض بيع ويكون جداد الثمرة فيه إذا جدها قبل الإبار أو بعده - وقبل الفيات - فوتا يوجب تصحيحه بالقيمة.
فصل وأما الاستحقاق والشفعة والتفليس فتتفق أحكامها في بعض الوجوه المذكورة بأحكام الرد بالعيب وبفساد البيع، وتختلف في بعضها، فأنا أذكر جملة أحكامها باقتصار بعضها - للتقسيم الذي ذكرته في الرد بالعيب، إرادة التقريب، وذلك أن النخل يوم الابتياع لا تخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن لا يكون فيها ثمرة أصلا، وأن يكون فيها ثمرة، إلا أنها لم تؤبر، (والثاني) أن يكون فيها يوم الابتياع ثمرة مأبورة، (والثالث) أن يكون فيها يوم الابتياع ثمرة قد طابت، فأما الوجه الأول وهو أن لا يكون فيها يوم الابتياع ثمرة، أو يكون فيها ثمرة إلا أنها لم تؤبر، فيطرأ على المبتاع فيها - والثمرة لم تؤبر مستحق، أو شفيع أو يفلس فيريد البائع أن يأخذ نخله، فإن هذا لا اختلاف فيه أنهم يأخذون النخل بثمرته، وإنما الاختلاف في وجوب رجوع المبتاع عليهم بما سقى وعالج إن كان له فيه سقي وعلاج، وذلك على ما ذكرته في حكم الرد بالعيب، وقد رأيت في بعض الكتب القديمة رواية عن ابن القاسم أن المفلس لا يرجع بما سقى، فإن صحت هذه الرواية عنه فهذا خلاف من قوله يدخل في الرد بالعيب والأخذ بالشفعة، وجه القول الأول تشبيهه بالاستحقاق والرد بفساد البيع لما فيه من الخيار للمبتاع، ووجه(2/120)
القول الثاني تشبيهه بالبيع لما فيه من الخيار للمبتاع والشفيع، وقد روي عن أشهب في الشفعة والاستحقاق أنه يأخذ الثمرة بقيمتها على الرجاء والخوف، وعلته في ذلك أن السقي والعلاج قد يكون أكثر من قيمة الثمرة - وهو لو جدها لم يكن له رجوع بما سقى وعالج.
فصل فإن جد الثمرة كانت غلة له إن كان ابتاع النخل قبل أن يكون فيا ثمرة، وإن كان ابتياعه لها وفيها ثمرة لم تكن له غلة وحاسبه بها الشفيع فأخذ النخل بما ينوبها من الثمن، وحاسبه بها البائع في الاستحقاق فلم يرجع عليه إلا بما ينوب الأصول الطياب، وحاسبه بها الغريب في التفليس فأخذ النخل بما ينوبها من الثمن، وحاص الغرماء بما ينوب الثمرة.
فصل فأما إن طرأ عليه بعد إبان الثمرة، ففي ذلك أربعة أقوال، (أحدها) أنهم لا حق لهم في الثمرة بعد الإبار وهي غلة للمبتاع لا يحاسب بها، (والثاني) أنهم أحق بها ما لم تطب الثمرة، (والثالث) أنهم أحق بها ما لم تيبس، (والرابع) أنهم أحق بها ما لم تجد، المنصوص عليها من هذه الأقوال في الاستحقاق قولان، (أحدهما) في كتاب ابن المواز أن المستحق أحق بها ما لم تيبس، (والثاني) رواية أبي زيد عن ابن القاسم أنه أحق بها ما لم تجد، (والقول الثالث) أنه لا حق له فيها بعد الإبار - وهي غلة للمبتاع، قاله أصبغ في الرد بفساد البيع ولا فرق. (والقول الرابع) أنه أحق بها ما لم تطب، قاله ابن القاسم في الرد بالعيب- ولا فرق؛ والمنصوص منها في الأخذ بالشفعة قولان، أحدهما: أنه قول بعض المدنيين في المدونة وقول أشهب وأكثر الرواة أنه لا حق للشفيع في الثمرة إذا لم يدركها حتى أبرت، وهذا يأتي على أن الأخذ بالشفعة محمل البيع، أو على أن الثمرة تصير غلة بالإبار، (والثاني) قوله في المدونة: إنه أحق بها ما لم تيبس، والثمرة ههنا يأخذها الشفيع(2/121)
بحكم الاستحقاق لا بحكم الشفعة، إذ لم تقع عليها حصة ميت الثمن، فيدخل فيها بالمعنى القولان الآخران كما دخلا في الاستحقاق، والمنصوص منها في التفليس قولان، (أحدهما) قوله في المدونة: إن البائع أحق بها من الغرماء ما لم تجد، (والثاني) قوله في سماع عيسى من كتاب المديان: إنه أحق بها ما لم تطب، والقولان الآخران يتخرجان بالمعنى والقياس، لأنه جعل أخذ البائع نخله بمنزلة الاستحقاق؛ إذ جعله أحق بالثمرة ما لم تجد أو ما لم تطب. فوجب أن يدخل في ذلك من الاختلاف ما دخل في الاستحقاق، ولو جعله بمنزلة البيع لوجب أن لا يكون أحق بالثمرة بعد الإبار قولا واحدا، فإذا أخذ والنخل بثمرته كان للمبتاع الرجوع عليهم بسقيه وعلاجه، على الاختلاف المتقدم؛ فإن جد الثمرة بعد الإبار قبل الطياب، فهي غلة لا يحاسب شيء منها، وقد قال أشهب قولا أنكره سحنون، أن الشفيع والمستحق إذا قدما قبل طيب الثمرة، كانت له بقيمتها على الرجاء والخوف، وقد تقدم ذلك بعلته، وأما الوجه الثاني، وهو أن يكون في النخل يوم الابتياع ثمرة مأبورة فيطرأ عليه قبل طيب الثمرة، فإنهم يكونون أحق بها على حالها بعد أن يردوا السقي والعلاج، على الخلاف المتقدم؛ وأما إن لم يطرأ عليه إلا بعد طيب الثمرة ولم تيبس، أو بعد يبسها ولم تجد، أو بعد جدادها - وهي قائمة أو فائتة، ففي ذلك في الاستحقاق والشفعة ثلاثة أقوال، (أحدها) أن الشفيع والمستحق يأخذ الثمرة مع الأصل - وإن جدت، ويرجع بالسقي والعلاج، قاله ابن القاسم على قياس قوله في الرد بالعيب، وقاله أشهب ورواه عن مالك في الشفعة في كتاب ابن المواز، ووجهه أنه حمل الأخذ بالشفعة محمل الاستحقاق، (والثاني) أنها تكون غلة للمبتاع وهو مذهب أشهب في كتاب العيوب، (والثالث) أنها تمضي بما ينوبها من الثمن - وهو قول ابن القاسم في كتاب الشفعة.(2/122)
فصل فإذا قلنا: إنها تمضي بما ينوبها من الثمن؛ إذ إنها غلة للمبتاع، ففي ذلك ثلاثة أقوال، (أحدها) الطياب، وهو قول ابن القاسم في كتاب العيوب، (والثاني) اليبس وهو قول ابن القاسم في المدونة، (والثالث) الجداد وهو قول أشهب في كتاب العيوب.
فصل وأما التفليس، فالمنصوص لهم فيه قول واحد، أنه أحق بها ما لم تجد، فإن جد كان أحق بالأصول بما ينوبها من الثمن ويدخل فيه الاختلاف بالمعنى.
فصل وأما الوجه الثالث وهو أن يكون في النخل يوم الابتياع ثمرة قد أزهت وطابت، فإنه في الاستحقاق أحق بها وإن جدت، فإن كانت قائمة أخذها وإن أكلها غرم المكيلة إن عرفت، أو القيمة إن جهلت، وإن باعها وكانت قائمة بيد المبتاع كان له أن يأخذها أو يجيز البيع ويأخذ الثمن؛ فإن تلفت بيد المبتاع فليس له إلا الثمن، قاله في كتاب ابن المواز، وهذا على القول بأنها لا تصير غلة للمبتاع إلا باليبس أو الجداد؛ وأما على القول الذي يرى أنها تصير له غلة بالطياب، فلا حق له فيها إذا أزهت عند البائع، لأنها قد صارت له غلة بالطياب، ويأخذ المستحق النخل وحدها ويرجع المستحق منه على البائع بما ينوبها من الثمن ويسقط عنه ما ناب الثمرة لبقائها بيده، إلا أن يكون اشتراؤه إياها من غاصب أو مشتر اشتراها بعد الإبار، على مذهب ابن القاسم، وأما في الشفعة فإن الشفيع أحق بها ما لم تجد ويغرم السقي والعلاج، قاله ابن القاسم في المدونة؛ وله فيها إذا اشتراها مع الأصول قبل الطياب أو اشتراها دون الأصول بعد الطياب، أنه أحق بها بالشفعة ما لم تيبس، فقيل: إنه فرق بين المسألتين، والصواب أن ذلك اختلاف من القول؛ وأما في التفليس فالبائع أحق بالنخل والثمرة وإن جدت ما كانت قائمة كمشتري سلعتين يفلس.(2/123)
فصل وأما صوف الغنم فإن تولد عند المشتري فجزه، فهو غلة له في الرد بالعيب والاستحقاق وأخذ البائع لها في التفليس، وأما بالبيع الفاسد، فإنه لا يتولد ويحمل إلا وقد فات رد الغنم، ووجب أن يصحح البيع بالقيمة ولم يجزه، فإنه تبع الغنم في جميع ذلك، ولا يرجع المبتاع بشيء من نفقته عليها، بخلاف النخل، والفرق بينهما أن للغنم غلة تبتغى منها سوى الصوف، ولو جزه المبتاع بعد أن اطلع على العيب، لكان جزه له رضا بالعيب، وكذلك لو اشتراها وعليها صوف قد كمل وتم، على مذهب أشهب - لأنه عنده تبع للغنم في دخوله في الصفقة دون اشتراط أصله، إذا اشترى النخل بثمرتها قبل الإبار، بخلاف ما إذا كانت الثمرة قد طابت؛ ولا يلزمه على هذا ألا تكون الثمرة غلة له إذا اشتراها مع الأصول قبل الطياب وقد أبرت، لأنها ما لم تطب فهي عنده تبع للأصول، إذ لا يجوز بيعها منفردة دونه إلا على الجد، خلاف ما إذا طابت؛ وأما ابن القاسم فذهب إلى أن الغنم إذا كان عليها يوم الشراء صوف قد تم وكمل، فليس بغلة له وإن جزه، ويرده في العيب إن كان قائما، أو مثله إن كان فائتا؛ وكذلك في الاستحقاق يأخذه المستحق إن كان قائما، أو مثله إن كان قد استهلكه المبتاع، أو الثمن إن كان باعه، وكذلك في التفليس يكون البائع أحق به وإن جزه المفلس ما كان قائما، فإن فات أخذ الغنم بما ينوبها من الثمن وحاص الغرماء بما ينوب الصوف، وإن شاء ترك الغنم وحاص الغرماء بجميع دينه، وقول ابن القاسم: إن الغنم إذا كان عليها صوف قد تم وكمل يوم الشراء، أنه ليس بتبع للغنم وقد وقع عليه قسطه من الثمن، وإن كان داخلا في الصفقة دون اشتراط، أظهر من قول أشهب، أصله إذا اشترى الأرض وفيها نخل أنها تدخل في الصفقة دون اشتراط، ولا يحكم لها بحكم البيع إن قطعها البائع أو ذهبت بجائحة في حكم الرد بالعيب والاستحقاق وأخذ البائع لها في التفليس، وبالله سبحانه التوفيق.(2/124)
[كتاب المرابحة] [فصل في تقسيم أجناس البيوع]
فصل في تقسيم أجناس البيوع، البيوع تنقسم على أربعة أقسام: بيع مرابحة، وبيع مكايسة، وبيع مزايدة، وبيع استئمانة واسترسال؛ وقال ابن حبيب: إن الاسترسال إنما يكون في الشراء دون البيع، وليس ذلك بصحيح، إذ لا فرق في ذلك بين البيع والشراء.
فصل فأما بيع المرابحة، فإنه على وجهين، أحدهما أن يبايعه على ربح مسمى على جملة الثمن، (والثاني) أن يبايعه على أن يربحه بالدرهم درهما وللدرهم نصف درهم، وللعشرة أحد عشر أو أقل من ذلك أو أكثر مما يتفقان عليه من الأجزاء.
فصل فأما إذا بايعه على أن يربحه للدرهم درهما أو للدرهم نصف درهم، أو(2/125)
للعشرة أحد عشر، وما أشبه ذلك، فإن ما كان في السلعة المبيعة مما له عين قائمة كالصبغ والكمد والفتل وما أشبه ذلك، فإنه بمنزلة الثمن يحسب ويحسب له الربح؛ وأما ما ليس له عين قائمة فإنه على وجهين، أحدهما ما يختص بالمبتاع، والثاني ما لا يختص به؛ فأما ما لا يختص بالمبتاع فإنه لا يحسب في أصل الثمن، ولا يحسب له ربح؛ وذلك كنفقته وكراء ركوبه وكراء بيته إن خزن المتاع فيه، لأن العادة جارية أن يخزن الرجل متاعه في بيت سكناه، وأما ما يختص بالمتاع، فإنه ينقسم أيضا على وجهين، أحدهما ما يتولاه التاجر بنفسه ولا يستأجر عليه غالبا كشراء المتاع وشده وطيه وما أشبه ذلك. والثاني ما يستنيب عليه غالبا ولا يتولاه بنفسه كحمل المتاع ونفقة الرقيق وما أشبه ذلك، فأما ما جرت العادة أن يتولاه التاجر بنفسه غالبا كطي المتاع وشرائه وشده فاستأجر عليه، فإنه لا يحسب في رأس المال، لأن المبتاع يقول له: لا يلزمني ذلك، لأنك إنما استأجرت من ينوب عنك فيما جرت العادة أن تتولاه بنفسك، فلا يجب علي في ذلك شيء؛ وأما ما يستأجر عليه غالبا ولا يتولاه بنفسه، كحمل المتاع ونفقة الرقيق وما أشبه ذلك، فإنه يحسب في أصل الثمن ولا يحسب له ربح، لأنه ليس له عين قائمة.
فصل فيجب على هذا إذا اشترى من المبتاع ما يعلم أنه لا يشتريه إلا بواسطة وسمسار تجري العادة بذلك، أو اكترى منه مخزنا ليخزن فيه المتاع، ولولا ذلك لم يحتج إليه أن يحسب في أصل الثمن ولا يحسب له الربح؛ وقد رأيت ذلك لبعض أهل العلم.
فصل وهذا إذا بين هذه الأشياء كلها فقال: اشتريت هذه السلعة بكذا وصبغتها بكذا واكتريت عليها بكذا، وأعطيت عليها السمسار كذا، فأبيعها بربح(2/126)
للعشرة أحد عشر، فحينئذ يكون العمل على هذا، وينظر إلى ما سم مما له عين قائمة، فيحسب ويحسب له الربح، وما لم تكن له عين قائمة إلا أنه يختص بالمتاع ولا يتولاه التاجر بنفسه، فإنه يحسب ولا يحسب له ربح؛ وإن كان يتولاه التاجر بنفسه أو لا يختص بالمتاع، فإنه لا يحسب رأسا ولا يحسب له ربح إلا أن يشترط البائع أن يربحه على ذلك كله بعد أن يسميه ويبينه، فيجوز ذلك.
فصل وأما إن قال: قامت علي هذه السلعة بكذا وكذا وأبيعها بربح للعشرة أحد عشر، وما أشبه ذلك، ولم يبين هذه الأشياء، فالعقد على هذا فاسد، لأن المشتري لا يدري كم رأس المال الذي يجب له الربح؛ وكم أضيف إليه مما يحسب ولا يحسب له ربح ومما لا يحسب رأسا ولا يحسب له ربح، وهذا جهل بين في الثمن، وقد قال في كتاب ابن المواز: إنه يعمل في هذا على ما ذكرناه مما يحسب أو لا يحسب، وما يكون له ربح مما لا يكون له ربح، وهو ظاهر قول سحنون في نوازله منها وهو بعيد والصواب ما قدمناه.
فصل وأما الوجه الثاني من وجوه المرابحة وهو أن يبيع ربح مسمى على جملة الثمن، فإن سمى أيضا ما اشتراها به وما أنفق عليها فيما له عين قائمة وفيما ليس له عين قائمة مما يحسب أو لا يحسب، جاز البيع وطرح عن المبتاع ما لا يحسب رأسا، كنفقته وكراء بيته، وما أشبه ذلك، إلا أن يشترطا أن يحسب ذلك فيجوز، وكذلك إن قال: قامت علي هذه السلعة بكذا، على قياس ما في كتاب محمد وظاهر قول سحنون في نوازله، والقياس أن العقد على هذا فاسد على ما بيناه.
فصل ويلزمه أيضا فيما له عين قائمة كالصبغ والكمد والفتل- أن يبين فيقول: اشتريت بكذا وكذا وصبغت بكذا وكذا، في الوجهين جميعا، باع بربح مسمى على(2/127)
جملة الثمن أو للعشرة أحد عشرة، فإن لم يفعل وقال: شراء هذه السلعة بعشرة، وقد كان اشتراها بخمسة وصبغها بخمسة؛ فالمشتري بالخيار إن كانت السلعة قائمة بين أن يأخذها بالثمن أو يردها، وإن فاتت مضت بجميع الثمن ولم ترد إلى القيمة؛ هذا قول سحنون في العتبية، وقد كان القياس إذا خيره في القيام أن يرده في الفوات إلى القيمة، إن كانت أقل من الثمن - على مذهب ابن القاسم في مسائل الغش والخديعة، أو القيمة على مذهب سحنون يوم قبضها ما لم تكن أكثر من الثمن الذي اشتراها به، أو أقل من قيمتها يوم ابتاعها على أصل مذهبه في مسائل المرابحة؛ وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه ليس عليه أن يبين ذلك، كسلعتين باعهما مرابحة صفقة واحدة وقد كان اشتراهما في صفقتين.
فصل ولا يجوز في بيع المرابحة أن يكتم البائع من أمر سلعته ما إذا ذكره كان أوكس للثمن أو أكره للمبتاع، لأن ذلك من أكل المال بالباطل الذي نهى الله عنه وحرمه، ومن الغش والخديعة والخلابة المنهي عنه بالسنة.
فصل فيلزم من باع مرابحة أن يبين ما عقد عليه وما نقد، وإن كان اشترى بنقد أو إلى أجل أو في أي زمن اشتراها؛ لأن التجار على الطرى أحرص، وهم فيه أرغب، وإن كان تجوز عنه في الثمن أو أخر به أو بشيء منه، وإن كان حدث بها عيب عنده أن يبين به، وأن عنده حدث، وما أشبه ذلك من الأشياء حتى يعلم المبتاع من أمر السلعة ما علم منها البائع؛ فإن لم يفعل وكتم شيئا من ذلك، فلا يخلو ما كتمه من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يكون ذلك من باب الكذب في الثمن(2/128)
والزيادة فيه، (والثاني) أن يكون من باب الغش والخديعة، (والثالث) أن يكون من باب التدليس بالعيب ولكل وجه من هذه الوجوه حكم يختص به.
فصل فأما من باع مرابحة وزاد في الثمن، فحكمه أن المبتاع في قيام السلعة مخير بين أن يمسك بجميع الثمن أو يرد إلا أن يشاء البائع أن يحط عنه الزيادة وما ينوبها من الربح، فيلزمه البيع؛ فإن فاتت وأبى البائع أن يحط عنه الزيادة ونوبها من الربح، كان للبائع القيمة إلا أن تكون أكثر من الثمن الذي باع به، فلا يزاد عليه أو أقل من الثمن الصحيح وما ينوبه من الربح، فلا ينقص المبتاع منه شيئا.
فصل وأما من باع مرابحة وخدع المبتاع وغشه، فإن كتمه من أمر سلعته ما يكرهه ولم يزد عليه في الثمن ولا دلس له بعيب، فحكمه أن يكون المبتاع في قيام السلعة بالخيار بين أن يمسك بجميع الثمن أو يرد، وليس للبائع أن يلزمه إياها وإن حط عنه بعض الثمن، وإن كانت فاتت، كان فيها الأقل من القيمة أو الثمن.
فصل وأما من دلس بعيب في بيع المرابحة، فحكمه حكم من باع غير مرابحة في قيام السلعة وفواتها - إن كانت قائمة، خير بين أن يرد ويرجع بجميع الثمن، أو يمسك - ولا شيء له، وإن كانت قد فاتت بعيب مفسد، كان مخيرا بين أن يرد ويرد ما نقصه العيب الحادث عنده، وبين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب وما ينوبها من الربح.
فصل
فعلى هذه الثلاثة الأوجه يجري حكم المرابحة كلها على مذهب ابن القاسم إلا في مسألتين شذتا عن هذا الأصل فلم يحكم فيهما بحكم الكذب في بيع(2/129)
المرابحة، ولا بحكم الغش والخديعة، ولا بحكم العيب؛ (إحداهما) من باع مرابحة وحسب ما لا يحسب أو ربح ما يحسب ولا يحسب له ربح، (والثانية) من باع مرابحة على ما عقد عليه ولم يبين ما نقد؛ وأما سحنون فوافق ابن القاسم في الوجهين، وخالفه في الثالث؛ وافقه في حكم التدليس بالعيب وفي حكم الكذب، وخالفه في حكم الغش والخديعة؛ لأن الغش والخديعة عنده في المرابحة ينقسم على قسمين (أحدهما) أن لا يكون للغش والخديعة تأثير في زيادة الثمن، (والثاني) أن يكون له تأثير في زيادة الثمن، فأما ما لا تأثير له في زيادة الثمن فيوافق فيه ابن القاسم، وذلك مثل: أن يرث السلعة أو توهب له فيبيعها مرابحة، أو مثل: أن يشتري السلعة فتطول إقامتها عنده ولا تحول أسواقها وما أشبه ذلك. وأما ما له تأثير في زيادة الثمن فخالف فيه ابن القاسم ورده إلى حكم الكذب في القيام والفوات، وذلك مثل: أن يشتري السلعة بثمن إلى أجل فيبيعها مرابحة بذلك الثمن؛ لأن من المعلوم أن من اشترى إلى أجل يزيد في الثمن وأجل التأخير، مثل أن: يشتري الثوبين صفقة واحدة، فيبيع أحدهما مرابحة بما ينوبه من الثمن؛ لأن الجملة يزاد فيها على ما ذهب إليه ابن عبدوس - وإن لم يزد فيها فيتهم البائع في أنه قد وضع على أحد الثوبين من الثمن أكثر مما ينوبه.
فصل
فإن اجتمع على مذهبه الغشان جميعا؛ غش له تأثير في زيادة الثمن وغش لا تأثير له في زيادة الثمن - مثل أن: يشتري السلعة فتطول إقامتها عنده وتحول أسواقها بنقصان، فإنه يوافق ابن القاسم في قيام السلعة؛ لأن البائع إن أراد أن يلزم المبتاع السلعة بأن يحط عنه من ثمنها ما قابل الكذب ونوبه من الربح، احتج عليه بطول الإقامة، ويخالفه إذا فاتت السلعة فيحكم لها بحكم الكذب؛ ووجه العمل في ذلك أن تقوم السلعة يوم باعها مرابحة، فتكون تلك القيمة هو الثمن(2/130)
الصحيح، ثم تقوم يوم قبضها إن تأخر قبضها فتكون له القيمة - ما لم تكن أكثر من الثمن الذي باع به، أو أقل من القيمة الأولى وما ينوبها من الربح؛ هذا نص قول سحنون، وهو كلام فيه اعتراض، والصحيح أن تقوم السلعة يوم ابتاعها، ثم تقوم يوم باعها مرابحة، فينظر ما بين القيمتين من أجل حوالة الأسواق ويحط ذلك الجزء من الثمن وربحه، فما بقي كان هو الثمن الصحيح الذي لا ينقص منه إن كانت القيمة أقل.
فصل
وقد يجتمع في مسألة واحدة التدليس بالعيب والكذب في الثمن، والتدليس بالعيب والغش والخديعة والكذب، فينظر في ذلك كله على مذهب ابن القاسم، ويكون للمبتاع المطالبة بأي ذلك شاء مما هو أنفع له، وقد تجتمع أيضا الثلاثة الأشياء في مسألة واحدة: التدليس بالعيب، والكذب في الثمن، والغش والخديعة.
فصل فأما إذا اجتمع في مسألة واحدة التدليس بالعيب والكذب في الثمن، فإن ذلك لا يخلو من خمسة أحوال:
(إحداها) أن تكون السلعة قائمة لم تفت بوجه من وجوه الفوت، (والثانية) أن تكون السلعة قد فاتت بحوالة أسواق أو نقص يسير، (والثالثة) أن تكون قد فاتت ببيع، (والرابعة) أن تكون قد فاتت بالعيوب المفسدة، (والخامسة) أن تكون قد فاتت بذهاب عينها أو ما يقوم مقام ذهاب العين من العتق والكتابة والتدبير والصدقة والهبة لغير الثواب، وما أشبه ذلك.
مثال ذلك: أن يشتري الرجل السلعة فيحدث بها عنده عيب، أو تكون جارية فيزوجها ثم يبيعها مرابحة بجميع الثمن الذي اشتراها به ولا يبين العيب الذي حدث عنده، ولا أن لها زوجا إن كان زوجها؛ لأنه قد زاد في ثمنها ما نقص العيب من قيمتها، فإن كانت على الحال الأولى لم تفت بوجه من وجوه الفوت لم يكن للمشتري المطالبة إلا بحكم العيب، فكان مخيرا بين أن يمسك ولا شيء له أو يرد ولا شيء عليه، ولا يكون للبائع أن يلزمه إياها وإن حط عنه الكذب وهو قيمة العيب وما ينوبه من الربح؛ لأن(2/131)
من حجته أن لا يرضى بالعيب؛ وأما إن كانت على الحال الثانية قد فاتت بحوالة سوق أو نقص يسير، فالمبتاع مخير بين أن يطالب بحكم العيب فيمسكها ولا شيء له، أو يردها ولا شيء عليه؛ إذ لا يفيت ردها بالعيب حوالة الأسواق ولا النقص اليسير، وليس للبائع أن يلزمه إياها بأن يحط عنه الكذب وهو قيمة العيب وما ينوبه من الربح؛ إذ ليس له أن يلزمه العيب شاء أو أبى، وبين أن يطالب بحكم الكذب ويرضى بالعيب؛ إذ قد فاتت في حكم الكذب؛ فإن اختار ذلك كان وجه العمل فيه أن يعرف ما نقص التزويج من الثمن الذي اشتراها به البائع يوم اشتراها.
وذلك أن تقوم يومئذ معيبة وغير معيبة، فما كان بين القيمتين حط ذلك المقدار من الثمن، فما بقي منه كان ذلك هو الثمن الصحيح؛ ثم تقوم يوم ابتاعها أو يوم قبضها على الاختلاف في ذلك، فيكون على المبتاع تلك القيمة؛ إلا أن تكون أقل من الثمن الصحيح فلا ينقص البائع منه شيئا أو يكون أكثر من الثمن الذي اشتراها به، فلا يزاد البائع عليه شيئا، وأما إن كانت على الحال الثالثة من فواتها بالبيع فليس للمشتري المطالبة إلا بحكم الكذب، إذ لا رجوع للمشتري في العيب بشيء بعد البيع على مذهب ابن القاسم ويعمل في ذلك على ما بيناه من وجه العمل فيه.
وأما إن كانت على الحال الرابعة من فواتها بالعيوب المفسدة، فله المطالبة بأي الوجهين شاء ويكون مخيرا في ثلاثة أوجه:
(أحدهما) أن يرد ويرد ما نقصها العيب الحادث عنده، (والثاني) أن يرجع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح، (والثالث) أن يرضى بالعيب ويطالب بحكم الكذب فتكون عليه القيمة إلا أن تكون أكثر من الثمن الذي ابتاعها به فلا يكون عليه أكثر منه، لأنه هو يطلب الفضل قبل البائع أو تكون القيمة أقل من الثمن الذي اشتراها به البائع بعد طرح قيمة العيب من ذلك، وما ينوبه من الربح يوم ابتاعها البائع على ما تقدم من العمل والتفسير.
وأما إن كانت على الحال الخامسة من ذهاب عينها أو ما يقوم مقام ذهاب العين، فله المطالبة بأي الوجهين شاء إما بالعيب فيرجع بقيمته وما ينوبه من الربح؛ وإما بالكذب فتكون عليه القيمة ما لم تكن أقل أو أكثر على ما فسرناه وقد وقع في(2/132)
المدونة في هذا الوجه كلام طويل واختلاف في الرواية يرجع الكلام على الرواية الواحدة إذا حملته على ظاهره أن المبتاع يرجع على البائع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح على حكم التدليس بالعيب بانفراده؛ وعلى هذه الرواية اختصر المسألة ابن أبي زمنين وهي جل الروايات؛ وعلى الرواية الثانية جعل الحكم في المسألة حكم الكذب في الثمن بانفراده وهو الأظهر من مراد ابن القاسم - في الكتاب وقصده؛ لأنه لو قصد إلى حكم العيب بانفراده، لقال: يرجع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح، فاستُغنِي عن التطويل في ذكر القيمة واعتبارها بما إذا حصل لم يرجع إلى معنى فيه فائدة، وهذا كله فيه نظر؛ والصحيح ما نذكره بعد ونعتمد عليه من التأويل إن شاء الله تعالى؛ لأن الرجوع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح أفضل للمشتري في هذه المسألة؛ فإذا كان ذلك أفضل له، فمن حقه أن يطالب به على مذهب ابن القاسم؛ لأن العتق والتدبير والصدقة على مذهبه فوت يوجب للمبتاع الرجوع بقيمته.
فهذه الرواية على هذا التأويل تضاهي رواية زياد عن مالك: أن من اشترى عبدا فوهبه أو تصدق به فهو فوت ولا رجوع له بقيمة العيب إلا أن يتأول أن المعنى فيها أنه رضي بالعيب، فطالب بحكم الكذب، وأما الرواية الأولى فتحمل على ما تأول ابن أبي زمنين أن تكون إنما أرجع المبتاع فيها بقيمة العيب وما ينوبه من الربح على حكم التدليس بالعيب؛ لأن ذلك هو أفضل للمشتري وهو بعيد في الظاهر.
فصل ولو اشترى السلعة معيبة وهو عالم بعيبها، ثم باعها مرابحة بأكثر مما اشتراها به وكتم العيب، لكان أبين في اجتماع الكذب والتدليس بالعيب، ولوجب إذا فاتت السلعة بذهاب عينها أو ما يقوم مقام ذهاب العين، أن يكون للمشتري المطالبة بالوجهين جميعا، فيرجع على البائع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح، ثم يقال للبائع: حط عنه الكذب أيضا وما ينوبه من الربح؛ فإن أبى من ذلك، كانت على المبتاع القيمة، إلا أن تكون أكثر من الثمن الذي باع به بعد إلغاء قيمة العيوب وما ينوبه من الربح؛ فلا يزاد البائع على ذلك، أو تكون القيمة أقل من الثمن الصحيح بعد إلغاء قيمة العيب. وما ينوبه من الربح فلا ينقص المبتاع من ذلك؛ وعلى هذا(2/133)
الوجه ينبغي - عندي - أن يحمل كلام ابن القاسم في المدونة الثابت في جل الروايات فيصح معناه، فالأولى أن يتأول على ابن القاسم في الكتاب أنه رجع في آخر المسألة إلى التكلم على هذا الوجه - وإن كان لم يُبتدَأ الكلام عليه، من أن يجعل - كلامه عليه لغوا وتكريرا لغير فائدة كما فعل ابن أبي زمنين والله أعلم.
فصل وأما إن اجتمع في مسألة واحدة التدليس بالعيب والغش والخديعة، فإن ذلك لا يخلو من خمسة أحوال:
(إحداها) أن تكون السلعة قائمة لم تفت بوجه من وجوه الفوت، (والثانية) أن تكون قد فاتت ببيع، (والثالثة) أن تكون قد فاتت بحوالة أسواق أو نقص يسير، (والرابعة) أن تكون قد فاتت بعيوب مفسدة، (والخامسة) أن تكون قد فاتت بفوات العين أو ما يقوم مقام فوات العين، مثال ذلك: أن يشتري السلعة المعيبة وهو عالم بعيبها فتطول إقامتها عنده ثم يبيعها مرابحة ولا يبين بالعيب ولا بطول الإقامة، فإن كانت السلعة على الحالة الأولى، كان مخيرا بين أن يرد بالعيب والغش والخديعة، أو يمسك بجميع الثمن ولم يكن للبائع أن يلزمه إياها بأن يحط عنه بعض الثمن؛ وإن كانت على الحال الثانية من فواتها بالبيع، فليس له المطالبة إلا بحكم الغش والخديعة، فيكون عليه القيمة إن كانت أقل من الثمن، وإن كانت على الحال الثالثة، كان مخيرا بين أن يرد بالعيب أو يرضى ويطالب بحكم الغش والخديعة فيرد له السلعة إلى قيمتها إن كانت أقل من الثمن الذي ابتاعها به، وإن كانت على الحال الرابعة، كان مخيرا في ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يردها وما نقصها؛ (والثاني) أن يمسك ويرجع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح، (والثالث) أن يرضى بالعيب ويطالب بحكم الغش والخديعة فيرد عليه السلعة إلى قيمتها إن كانت أقل من الثمن الذي باعها بها، وإن كانت(2/134)
على الحالة الخامسة، كان مخيرا في وجهين، أحدهما: أن يطالب بحكم العيب، فيحط عنه من الثمن قيمته وما ينوبه من الربح، والثاني: أن يرضى بالعيب ويطالب بحكم الغش والخديعة فيرد له السلعة إلى قيمتها - إن كانت قيمتها أقل من الثمن.
فصل وأما إن اجتمع في مسألة واحدة الكذب في الثمن والغش والخديعة، فإن ذلك لا يخلو من حالين، (أحدهما) أن تكون السلعة قائمة لم تفت بوجه من وجوه الفوت، (والثاني) أن تكون قد فاتت بحوالة سوق أو نماء أو نقصان، فما زاد على الاختلاف في ذلك؛ مثال ذلك: أن يشتري الرجل السلعة بعشرة دنانير فتطول إقامتها عنده فيبيعها باثني عشر دينارا ولا يبين بطول إقامتها عنده، فإن كانت السلعة على الحال الأولى كان مخيرا بين أن يمسك أو يرد، ولم يكن للبائع أن يلزمه إياها بأن يحط عنه الكذب ونوبه من الربح؛ لأنه يحتج عليه بطول الإقامة وهو غش وخديعة، وإن كانت على الحال الثانية، فالمطالبة بحكم الغش والخديعة أفضل له فترد له السلعة إلى قيمتها إن كانت القيمة أقل من الثمن.
فصل وأما إذا اجتمع في مسألة واحدة التدليس بالعيب والغش والكذب في الثمن والغش والخديعة، فإن ذلك لا يخلو أيضا من خمسة أحوال:
(إحداها) أن تكون السلعة قائمة لم تفت، (والثانية) أن تكون السلعة قد فاتت ببيع، (والثالثة) أن تكون قد فاتت بحوالة سوق أو نقص يسير، (والرابعة) أن تكون قد فاتت بالعيوب المفسدة، (والخامسة) أن تكون قد فاتت بفوات العين أو ما يقوم مقام فواته؛ مثال ذلك: أن يشتري الرجل الجارية ولا ولد لها فيزوجها وتلد عنده أولادا، ثم يبيعها مرابحة بجميع الثمن الذي اشتراها به دون أولادها ولا يبين أن لها ولدا؛ لأن أولادها عيب، وطول إقامتها عنده إلى أن ولدت الأولاد غش وخديعة، وما نقص التزويج والأولاد من قيمتها كذب في الثمن، فإن كانت الجارية على الحال الأول(2/135)
من القيام دون فوات، لم يكن للمشتري إلا أن يرد ولا شيء عليه أو يمسك ولا شيء له، ولا يكون للبائع عليه أن يلزمه إياها بحطيطة شيء من الثمن، لأنه يحتج عليه بالعيب والغش والخديعة؛ وإن كانت على الحال الثانية من فواتها بالبيع فلا شيء للمشتري في العيب والمطالبة بحكم الغش والخديعة أنفع له من المطالب بحكم الكذب، فترد له السلعة إلى قيمتها إن كانت القيمة أقل من الثمن. وإن كانت على الحال الثالثة من فواتها بحوالة الأسواق والنقص اليسير؛ فيكون المشتري مخيرا بين أن يرد بالعيب أو يرضى به، فيرد له السلعة إلى قيمتها إن كانت القيمة أقل من الثمن على حكم الغش والخديعة؛ لأن المطالبة بذلك أفضل له من المطالبة بالكذب.
وإن كان على الحال الرابعة من فواتها بالعيوب المفسدة، كان مخيرا في ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يردها ويرد ما نقصها العيب الحادث عنده، أو يمسك ويرجع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح، أو يرضى بالعيب فترد له السلعة إلى قيمتها إن كانت القيمة أقل من الثمن على كلمة الغش والخديعة؛ لأن المطالبة بذلك أنفع من المطالبة بحكم الكذب وإن لم يرد وكان الولد صغارا لم يبلغوا حد التفرقة، جبر على أن يجمع بينهما في ملك واحد أو يرد البيع.
وإن كانت على الحال الخامسة بفواتها بفوات عينها أو ما يقوم مقام ذلك كان مخيرا بين أن يرجع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح أو يرضى بالعيب فيرد له السلعة إلى قيمتها إن كانت أقل من الثمن؛ لأن المطالبة بالغش والخديعة أفضل له من المطالبة بحكم الكذب.
فصل فحكم اجتماع التدليس بالعيب والكذب في الثمن والغش والخديعة في مسألة واحدة حكم اجتماع التدليس بالعيب والغش والخديعة لا غير من أجل ما بيناه من أن المطالبة للمشتري بحكم الغش والخديعة أنفع له من المطالبة بحكم الكذب؛ وكذلك حكم اجتماع الكذب والغش والخديعة في مسألة واحدة، كحكم انفراد الغش والخديعة دون الكذب في القيام والفوات من أجل أن المطالبة بحكم الغش والخديعة أنفع للمشتري.(2/136)
فصل فأحكام المرابحة جارية على هذه الوجوه وهي سبعة، (أحدها) الكذب في الثمن بانفراده، (والثاني) التدليس بالعيب بانفراده، (والثالث) الغش والخديعة بانفراده، (والرابع) اجتماع الكذب والتدليس بالعيب، (والخامس) اجتماع الكذب والغش والخديعة، (والسادس) اجتماع الغش والخديعة والتدليس بالعيب، (والسابع) اجتماع الثلاثة الأشياء: الكذب في الثمن، والغش والخديعة، والتدليس بالعيب، فقف عليها واعرف افتراق أحكامها على ما بيناه وقسمناه، فإنها مستقصاة صحيحة على أصل ابن القاسم ومذهبه، ولم أرها ملخصة لأحد ممن تقدم كهذا التلخيص.
فصل وسحنون يرد بعض مسائل الغش والخديعة إلى حكم الكذب ويجعل القيمة فيها كالثمن الصحيح، يريد يوم باعها، في مثل الذي اشترى السلعة فحالت سوقها بنقصان، ثم باعها مرابحة ولم يبين - ويريد - والله أعلم - يوم ابتاعها - في مثل الذي اشترى السلعة فطالت إقامتها عنده وحالت أسواقها بزيادة، ثم باع ولم يبين؛ ويأتي على مذهبه في الذي ابتاع السلعة بثمن إلى أجل، ثم باعها مرابحة ولم يبين أن تكون القيمة الصحيحة يوم باعها بأن كانت أسواقها قد حالت بنقصان من يوم ابتاعها إلى يوم باعها، وأن تكون القيمة الصحيحة منها يوم ابتاعها إن كانت حالت أسواقها بزيادة من يوم ابتاعها إلى يوم باعها.
فصل وإن ادعى البائع الغلط في بيع المرابحة وأتى في ذلك بما يشبه من رقم أكثر مما باع به أو إشهاده قوما قاسموه، أو ما أشبه ذلك؛ صدق وكان له الرجوع؛ فهذا حكم بيع المرابحة ملخصا، وسيأتي مفصلا مفسرا في مواضعه من الكتاب إن شاء الله تعالى.(2/137)
فصل وأما بيع المكايسة فهو أن يساوم الرجل الرجل في سلعته، فيبتاعها منه بما يتفقان عليه من الثمن، ثم لا قيام للمبتاع فيها بغبن ولا بغلط على المشهور من الأقوال، وقد قيل: إنه يرجع بالغلط، وهو ظاهر ما في كتاب الأقضية من المدونة وما في سماع ابن القاسم من جامع البيوع، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم في الكتاب المذكور في الذي يشتري ياقوتة وهو لا يظنها ياقوتة ولا يعرفها البائع ولا المشتري أن البيع يرد خلاف ما في سماع أشهب؛ وأما بالغبن - وهو الجهل بقيمة المبيع - فلا رجوع له في بيع المساومة، وهذا ظاهر ما في سماع ابن القاسم من كتاب الرهون، ولا أعرف في المذهب في ذلك نص خلاف، وكان من الشيوخ من يحمل مسألة سماع أشهب من الكتاب المذكور على الخلاف في ذلك وليس بصحيح؛ لأنها مسألة لها معنى من أجله أوجب الرد بالغبن، فليست بخلاف المشهور في المذهب ولظاهر رواية ابن القاسم عن مالك المذكور، وقد حكى بعض البغداديين على المذهب ورواه ابن القصار أنه يجب الرد بالغبن إذا كان أكثر من الثلث.. فتأمله وقف عليه إن شاء الله.
وأما بيع المزايدة فهو أن يطلق الرجل سلعة في النداء ويطلب الزيادة فيها، فمن أعطى فيها شيئا لزمه إلا أن يزاد عليه فيبيع البائع من الذي زاد عليه أولا يمضيها له حتى يطول الأمد وتمضي أيام الصياح، فإن أعطى رجلان فيها ثمنا واحدا تشاركا فيها على مذهب ابن القاسم، وقيل: إنها للأول ولا يأخذها غيره إلا بالزيادة وهو قول عيسى بن دينار في سماعه من كتاب الجعل والإجارة، قال: وإنما يشتركان فيها إذا أعطيا الثمن معا في حال واحدة.(2/138)
فصل وأما بيع الاستئمانة والاسترسال، فهو أن يقول الرجل: اشتر مني سلعتي كما تشتري من الناس، فإني لا أعلم القيمة، فيشتري منه بما يعطيه من الثمن، وقال ابن حبيب: إن الاسترسال إنما يكون في البيع أن يقول الرجل للرجل: بع مني كما تبيع من الناس وأما في الشراء فلا، ولا فرق بين الشراء والبيع في هذا، والله أعلم.
فصل فالبيع والشراء على هذا الوجه جائز، إلا أن البيع على المكايسة أحب إلى أهل العلم وأحسن عندهم والقيام بالغبن في البيع والشراء إذا كان على الاسترسال والاستئمانة واجب بإجماع؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غبن المسترسل ظلم» وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(2/139)
[كتاب الاستبراء] [القول في حقيقة الاستبراء]
القول في حقيقة لفظ الاستبراء.
الاستبراء هو: البحث عن الأمر والكشف عنه والوقوف على حقيقته؛ هذا موضوع هذه اللفظة في اللغة.
إلا أنها قد تصرفت عند الفقهاء بالكشف عن حال الأرحام ليعلم أَن كانت بريئة من الحمل أو مشغولة به؛ وذلك يكون بالحيض الذي كتبه الله على بنات آدم، وجعله حفظا للأنساب، وعلما لبراءة الأرحام، أو ما يقوم مقام الحيض عند عدمه من الشهور والأيام.
فصل واستبراء الإماء في البيع واجب لحفظ النسب كوجوب العدة التي فرضها الله في كتابه وجعلها حدا من حدود عباده، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم سبى أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يغشى رجلان امرأة في طهر واحد» . فوجب على كل من(2/141)
انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو ميراث أو وصية أو بأي وجه كان من وجوه الملك - ولم يعلم براءة رحمها - أن لا يطأها حتى يستبرئها، وسواء كانت الأمة رفيعة أو وضيعة كبيرة أو صغيرة إذا كانت ممن يوطأ مثلها، ولا يؤمن الحمل عليها، فإن أمن الحمل عليها لصغرها أو كبرها، وكانت الصغيرة ممن يوطأ مثلها، فمذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وأكثر أصحابه إيجاب الاستبراء فيها، وذهب مطرف وابن الماجشون إلى أنه لا يجب الاستبراء فيها، وجاء ذلك عن جماعة من السلف منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وابن شهاب، وأبو الزناد، وربيعة، وابن هرمز وغيرهم.
فصل والاستبراء يجب بأربعة أوصاف وهي الملك، وأن لا يعلم براءة الرحم وأن يكون الفرج حلاله وأن لا يكون حلاله قبل ذلك فمتى انخرم وصف من هذه الأوصاف لم يجب الاستبراء.
فصل فإذا قلنا هذا فإن الاستبراء يحصل بما يغلب على الظن ببراءة الرحم به من الحمل، وذلك حيضة واحدة في ذوات الحيض، إذ لا يتعلق بها معنى من العبادة ولا حرمة الحرية، فيشترط فيه تكرير الحيض كالعدة.
فصل فأما من لا تحيض من صغر أو كبر، فاستبراؤها على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وأصحابه ثلاثة أشهر، وقيل: شهران، وقيل: شهر ونصف، وقيل: شهر واحد، وحجة من قال: شهر - أن الله جعل العدة في الطلاق ثلاثة قروء في ذوات الحيض، وفي اليائسة من المحيض، والتي لم تحض ثلاثة أشهر، فكان بإزاء كل قرء(2/142)
شهر، فكما وجب على الأمة في الاستبراء حيضة واحدة إذا كانت ممن تحيض وجب عليها - إذا كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر شهر واحد، وهذه حجة من قال استبراؤها شهران في الشهر الواحد.
وقال في الثاني: إنه زيد عليها استقصاء للريب؛ وحجة من قال: شهر ونصف، أن عدة الحرة اليائسة من المحيض أو التي لم تحض ثلاثة أشهر، والأمة على النصف من الحرة في عدة الطلاق؛ فشددوا عليها في البيع فبلغوها في الاستبراء فيه مبلغ الاستبراء في الطلاق، وهذا كله لا حجة فيه؛ والقول ما قال مالك وأصحابه؛ لأن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، والاستبراء إنما هو ليعلم براءة الرحم من الحمل، فإذا لم يتبين الحمل في أقل من ثلاثة أشهر، وجب أن لا يحصل الاستبراء بدونها، وهذا بين لمن تأمله.
فصل فإن كانت الأمة ممن تحيض فاستحيضت أو ارتفعت حيضتها، فقيل: تستبرئ تسعة أشهر رواه ابن وهب وأشهب عن مالك، وروى ابن غانم وابن القاسم عنه أن ثلاثة أشهر تجزئ في استبرائها إذا نظر إليها النساء فلم يجدن بها حملا.
فصل وأما إن كانت لا تحيض من مرض أو رضاع، أو لا تأتيها حيضتها إلا من فوق التسعة الأشهر إلى مثل ذلك، فثلاثة أشهر تبرئها من الاستبراء، ولا أعلم في هذا نص خلاف وقد يدخل الخلاف في بعض هذه الوجوه بالمعنى، واختلف قول ابن القاسم إذا كانت تحيض من فوق الثلاثة الأشهر إلى فوق الثلاثة فيما دون التسعة الأشهر، هل تنتظر الحيض أو تبرأ بالثلاثة الأشهر.
فصل فإن اشترى الرجل أمة فوطئها قبل أن يستبرئها فعليه العقوبة الموجعة مع(2/143)
طرح الشهادة، فإن حملت فماتت قبل أن تضع وقد كان البائع وطئها في ذلك الطهر، فمصيبتها منه كان موتها بأقل من ستة أشهر من يوم وطئها المشتري، أو لأكثر منها ما بينها وبين ما تلحق به الأنساب من الأول، وإن لم يكن البائع وطئها في ذلك الطهر فمصيبتها من المبتاع.
فصل فإن لم تمت ووضعت فلا يخلو وضعها من أن يكون لأقل من ستة أشهر أو لأكثر منها، فإن كان لأقل من ستة أشهر والبائع مقر بالوطء في ذلك الطهر، فالولد ولده والأمة أم ولد له سقطا كان الولد أو تماما، حيا كان أو ميتا، وأما إن كان البائع منكرا للوطء في ذلك الطهر، فالولد ولد الأمة لا والد له والمشتري بالخيار إن شاء أن يأخذها وإن شاء أن يتركها؛ لأن ذلك عيب فيها؛ وهذا إذا ولدته حيا أو ميتا تام الخلقة، لا يشبه أن يكون من المشتري، وأما إن وضعته سقطا يشبه أن يكون من المشتري فهو منه وهي أم ولد له، وأما إن أتت به لستة أشهر فصاعدا، قال في رواية أصبغ عن ابن القاسم أو مقدار نقصانها بالأهلة والبائع مقر بالوطء في ذلك الطهر، فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: أن تكون وضعته حيا، والثاني: أن تكون وضعته ميتا أو سقطا، فأما إن كان حيا فإنه تدعى له القافة، فمن ألحقوه به منهما لحق به، وكانت الأمة أم ولد له، وهذا إذا لم يدعيا الولد؛ فأما إن ادعياه جميعا فإن الأمة تكون معتقة منهما جميعا ويرجع المشتري بنصف الثمن على البائع؛ وأما إن كان ميتا أو سقطا ففي ذلك اختلاف، روى أصبغ عن ابن القاسم أنه من المبتاع وأن الأمة أم ولد له، وقال يحيى بن سعيد في المدونة: تعتق عليهما جميعا، والأظهر أن يلحق بالبائع وتكون الأمة أم ولد له؛ وأما إن كان البائع منكرا للوطء فالأمة أم ولد للمبتاع وولدها لاحق به، وقد قيل: إن الولد للأول والأمة أم ولد منه، فإن ولدته حيا لأكثر من ستة أشهر فلا تدعى له القافة؛ لأن فراش الأول صحيح وفراش الثاني فاسد، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» .(2/144)
وأجمعوا - لهذا الحديث - أن الزوجين إذا وطئا المرأة في طهر واحد أن الولد للأول وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر لصحة فراشه، ولا فرق بين الموضعين.
فصل وإن بقيت الأمة المبيعة بيد البائع فوطئها بعد البيع قبل الاستبراء، وقد كان المبتاع ائتمنه على استبرائها وهي ممن تجب مواضعتها لرفعتها، أو لأن البائع كان يطؤها فإنها تكون أم ولد له ويبطل البيع، وإن كان وطؤه إياها بعد استبرائها بائتمان المبتاع له على استبرائها وكانت من وخش الرقيق التي لا مواضعة فيها، وقد انتقد فإنه يحد ولا يلحق به الولد وتكون الأمة وولدها للمبتاع، واختلف إن كان لم ينقد ووطئها وهي عنده محبوسة بالثمن؛ فقال ابن القاسم: يدرأ عنه الحد بالشبهة ويأخذ المشتري جاريته وتكون على البائع قيمة الولد، وقال سحنون: تكون له أم ولد ويبطل البيع، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل في معنى المواضعة ووجوبها قد مضى الكلام في الاستبراء، وأنه واجب عند الجميع لحفظ النسب كوجوب العدة التي أوجبها الله في كتابه وجعلها حدا من حدود عباده.
وأما المواضعة، وهي: أن توضع الأمة المستبرأة على يدي امرأة عدلة حتى تحيض، فإن حاضت تم البيع فيها للمشتري، وإن لم تحض وألفيت حاملا ردت إلى البائع، إلا أن يشاء المشتري إذ يقبلها إن لم يكن الحمل من البائع؛ فهي واجبة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وعامة أصحابه لرفع الغرر والخطر والسلف الذي يجر المنافع - إن نقد في الأمة الرفيعة التي تراد للوطء وليست بظاهرة الحمل ولا معرضة لحمل يتبعها في البيع، كذات الزوج والزانية وفي التي وطئها البائع وإن كانت وضيعة؛ وأخصر من هذه العبارة أن نقول: إن المواضعة تجب في الأمة التي(2/145)
ينقص الحمل من ثمنها كثيرا وفي التي وطئها البائع فيصح ذلك؛ لأن الوخش وذات الزوج والزانية لا ينقص الحمل من قيمتها كثيرا، والصغيرة لا يخشى منها الحمل، إذا كان مثلها لا يوطأ.
فصل واختلف في التي توطأ ولا يحمل مثلها لصغرها، فرأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيها المواضعة، وقال مطرف وابن الماجشون: لا مواضعة فيها وهو مبني على استبراء من كانت في هذا الحد. وقد تقدم ذكر ذلك.
فصل وإنما وجبت المواضعة فيمن كانت هذه صفتها من الإماء ولم يكن الحمل إن ظهر بها كسائر ما يظهر من العيوب بالمبيع فيكون المشتري مخيرا بين الرد والإمساك، أو كالجنون والجذام والبرص الذي إن ظهر بالعبد أو الأمة في السنة رد به وجاز البيع من غير مواضعة؛ لأن الجنون والجذام والبرص أمر نادر في توقيف العبد والأمة حولا كاملا لاستبراء الجنون، والجذام والبرص ضرر بين بالمتبايعين؛ وأما الحمل في الأمة فليس بنادر بل هو أمر عام، وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: جل النساء على الحمل ومدة إيقافها للمواضعة يسيرة لا ضرر في ذلك على المتبايعين، وفيه رفع الغرر والخطر وغير ذلك مما لا يجوز من السلف الذي يجر نفعا إن نقد المشتري الثمن.
فصل والحكم بالمواضعة واجب في كل بلد كانت جارية فيه أو لم تكن، لم يختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك كما اختلف في العهدة؛ وكذلك تجب أيضا عنده على كل أحد كان حاضرا أو مسافرا، وقد سئل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ذلك في أهل منى وأهل مصر عند الخروج إلى الحج في الغرباء الذين يقدمون، فرأى أن يحملوا على ذلك على ما أحبوا أو كرهوا، وسواء باع الأمة ربها أو وكيل له، أو(2/146)
باعها عليه السلطان في الدين - وإن كان بيعه بيع براءة، المواضعة في ذلك كله واجبة؛ لأن بيع البراءة لا يسقط المواضعة عند مالك، وسواء باع بنقد أو إلى أجل، كان ممن يطأ أو لا يطأ؛ إلا أنه إن باع بنقد لم يجز النقد في المواضعة بشرط - لما قدمناه من أنه يدخل ذلك البيع والسلف الذي يجر منفعة.
فصل وقد اختلف في توقيف الثمن في أيام المواضعة؛ هل يحكم به أم لا؟ على قولين، وظاهر ما في كتاب البيوع الفاسدة من المدونة أنه يوضع على يدي عدل، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الواضحة وكتاب ابن عبدوس وقول ابن المواز، وفي العتبية لمالك خلاف ذلك، أنه لا يحكم بوضعه على يدي عدل ولا يجب على المشتري إخراج الثمن حتى تجب له الأمة بخروجها من الاستبراء وهو ظاهر ما في كتاب الاستبراء من المدونة.
فصل فإن وضع الثمن على يدي عدل فتلف قبل خروجها من الاستبراء كانت مصيبته ممن كان يصير إليه، هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في كتاب الاستبراء من المدونة، وقيل: إن الثمن من المبتاع، وروي ذلك عن مالك، وعلى قوله هذا: إن خرجت الجارية صحيحة من المواضعة لزمه ثمن آخر للبائع وتم البيع بينهما، وقيل: إنه يفسخ البيع؛ ومعناه - عندي - إن لم يرد أن يؤدي ثمنا آخر من عنده، واختلف أيضا: إن خرجت معيبة في المواضعة والثمن قد تلف، فقيل: إنه يأخذها بالثمن التالف، وقيل: ليس ذلك له إلا بثمن آخر، وفرق ابن الماجشون في ديوانه على ما فسر ابن عبدوس عنه بين أن يحدث العيب قبل تلف الثمن أو بعده، فقال: إن حدث العيب قبل تلف الثمن، كان له أن يأخذها معيبة بذلك الثمن التالف؛ لأن الخيار قد كان وجب له قبل تلف الثمن، فليس يسقط ذلك عند تلف الثمن، وإن تلف الثمن بعد حدوث العيب لم يكن له أن يأخذها بذلك الثمن التالف إلا بثمن يدفعه.(2/147)
فصل وضمان الأمة في عهدة المواضعة ومن البائع والنفقة عليه فما لحقها من موت أو نقص جسم فهو من البائع، وللمبتاع في الموت إمساك جميع الثمن إن كان لم يخرجه، وارتجاعه إن كان أخرجه؛ وله فيما كان من نقص في جسدها خيار الرد بالعيب والإمساك، وأما ما كان في غير جسدها كالزنا والسرقة وشرب الخمر وما أشبه ذلك، فجمهور أصحاب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على أن له الرد بذلك، وحكى ابن حبيب عن أصبغ أنه لا يردها به، وجه قول الجمهور: أن هذا عيب لو كان أقدم من أمد التبايع لردت به، فإذا حدث في مدة المواضعة كان له الرد به كنقص الجسم؛ ووجه قول أصبغ: أن مثل هذا يمنع البائع بيعها أبدا؛ لأنها متى أرادت البقاء عنده أحدثت مثل هذا في مدة المواضعة فترد عليه، وما كان بهذه الصفة وجب أن يمنع منه.
فصل وما حدث لها من مال بهبة أو صدقة أو ما أشبه ذلك فهو للبائع، إلا أن يكون المشتري اشترط مالها في البيع، فيكون ما حدث لها من مال في المواضعة تبعا للمال.
فصل وأما ما حدث لها من ولد، فقال ابن القاسم: هو للمبتاع؛ لأنه كعضو منها أصله نماء الجسم، وقال أشهب: هو للبائع، ووجه قوله: إنه نماء منفصل عنها في مدة المواضعة، أصله نماء المال.
فصل فإن اشترط البراءة من الحمل في الرفيعة فالبيع فاسد والمصيبة فيها من المشتري إن تلفت بعد قبضه لها كحكم البيوع الفاسدة، وذلك بعد خروجها من(2/148)
عهدة الثلاث - والله أعلم، هذا هو المشهور من قول مالك وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وقيل: الشرط باطل والبيع جائز، وقع هذا القول في كتاب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال ابن عبد الحكم: الشرط جائز والبيع جائز قياسا على ما رجع إليه مالك من إجازة البراءة من الجنون والجذام والبرص، بعد أن كان يقول: لا تجوز البراءة فيما يعظم من الأشياء.
فصل وأما إن باعها بشرط ترك المواضعة، فالبيع جائز والشرط باطل، ويحكم بينهما بالمواضعة وتخرج من يد المشتري إلى المواضعة، فإن تلفت بيد المشتري قبل أن يعثر على ذلك فيما يكون فيه استبراء لها من المدة - وذلك شهر على ما قاله ابن المواز وابن حبيب، إن لم تكن أيام حيضتها معروفة؛ إذ الشهر أغلب أحوال النساء في الحيض، وإن كانت أيام حيضها معروفة، بقدرها، كانت مصيبتها من المشتري.
وإن لم يمض لها من المدة ما تستبرَأ فيه فماتت، كان ضمانها من البائع، هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة وفي المبسوط لإسماعيل القاضي عن مالك رحمهما الله: أن المصيبة من المشتري إن كان تلفها عنده بعد انقضاء عهدة الثلاث في البيع على هذا الوجه؛ وجه هذا القول أن هذا الشرط لا يفسد البيع فيعمل ما لم يحكم بنقضه؛ ووجه القول الأول أن الشرط فاسد يجب الحكم بفسخه فلا يجب إعماله قبل الفسخ؛ وقد قال أبو بكر الأبهري: إن البيع على شرط ترك المواضعة فاسد، ومثله في كتاب ابن المواز في قول، وهو على مذهب ابن عبد الحكم بيع جائز وشرط لازم، وأما إن دفعها إلى المشتري جهلا بصفة المواضعة ولم يشترط إسقاطها، فالبيع جائز باتفاق وتخرج إلى المواضعة، وأما إن باعها وتبرأ من حملها - وهو مقر بوطئها - فجعله في المدونة بيعا فاسدا، وذهب ابن حبيب إلى أنه ليس بفاسد وتخرج إلى المواضعة.
فصل فإن أراد المبتاع بعد أن اشترى على المواضعة وصح عقد البيع أن يسقط المواضعة ويرضى بالأمة وإن كانت حاملا كان ذلك له عند ابن القاسم وإن كره(2/149)
البائع، وقال سحنون: لا يجوز، ووجه قوله أنه أسقط الضمان عن البائع على أن يتعجل خدمة الجارية، ويدخله على مذهب سحنون سلف جر منفعة؛ لأنه عجل له النقد بما تعجل من منفعة الجارية.
فصل والمواضعة تكون بما يحصل به الاستبراء، قد تقدم الكلام على ذلك، فإن اشتراها في أول دمها أجزأته تلك الحيضة في المواضعة، وإن كانت في آخر الحيض لم يجزه ذلك واستقبلت المواضعة في الحيضة الثانية؛ ووجه ذلك: أن الرحم في أول الحيض لا يقبل المني لما ترخيه من الدم، وفي آخره قد يقبله لقلة الدم؛ فافترق لذلك أول الحيض من آخره، وقد قيل: إنه لا بد من حيضة مستقلة كالمعتدة لا تعتد إلا بالطهر، حكى هذا القول ابن شعبان في الزاهي، واختاره وأخذ به وحكاه الفضل عن مالك من رواية أشهب عنه.
فصل والمواضعة في الاستقالة واجبة إذا استقاله بعد أن خرجت من الحيضة؛ لأن الإقالة بيع حادث، واختلف في الرد بالعيب، هل تجب فيه المواضعة أم لا؟ على اختلافهم فيه: هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع.
وانظر من تزوج امرأة بجارية رائعة، هل تجب فيها المواضعة أم لا؟ فإني لا أعرف في هذه المسألة لأصحابنا نصا وهي محتملة؛ لأن النكاح طريقه المكارمة ويجوز فيه من الغرر ما لا يجوز في البيوع، وإيجاب المواضعة فيها أظهر، والله أعلم وبه التوفيق.(2/150)
[كتاب التجارة إلى أرض الحرب] [ما جاء في التجارة إلى أرض الحرب ووجه الكراهية في ذلك عند أهل العلم]
ما جاء في التجارة إلى أرض الحرب، ووجه الكراهية في ذلك عند أهل العلم.
كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - الخروج إلى بلاد الحرب للتجارة في البر والبحر كراهية شديدة، قال في سماع ابن القاسم وقد سئل عن ذلك، فقال: قد جعل الله لكل نف5554س أجلا تبلغه ورزقا ينفذه، وهو تجرَى عليه أحكامهم فلا أرى ذلك. وأصل الكراهية لذلك، أن الله تعالى أوجب الهجرة على من أسلم ببلاد الكفر، إلى بلاد المسلمين حيث تجرى عليه أحكامهم؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] ، نزلت هذه الآية - فيما قال ابن عباس وغيره من أهل التأويل والتفسير - في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله ورسوله فتخلفوا عن الهجرة معه حين هاجر فعرضوا على الفتنة فافتتنوا وشهدوا مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول(2/151)
معذرتهم التي اعتذروا بها؛ حيث يقول مخبرا عنهم: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] ، أي: فتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم، {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] ، ثم أنزل الله تعالى عذر أهل الصدق، فقال: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] ، أي: لا يهتدون سبيلا يتوجهون إليه لو خرجوا لهلكوا، {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 99]- يعني: في إقامتهم بين ظهراني المشركين.
فصل فكانت الهجرة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل فتح مكة على من أسلم من أهلها واجبة مؤبدة، افترض الله عليهم فيها البقاء مع رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حيث استقر، والتحول معه حيث تحول، لنصرته ومؤازرته وصحبته، وليحفظوا عنه ما يشرعه لأمته، ويبلغوا ذلك عنه إليهم ولم يرخص لأحد منهم في الرجوع إلى وطنه، وترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ألا ترى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في حجة الوداع: «لا يقيمن مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث» .
خص الله بهذا من آمن من أهل مكة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهاجر إليه؛ ليتم له بالهجرة إليه والمقام معه وترك العودة إلى الوطن - الغاية من الفضل الذي سبق لهم في سابق علمه، وهم الذين سماهم الله بالمهاجرين، ومدحهم بذلك فلا ينطلق هذا الاسم على أحد سواهم.
فصل فلما فتح الله مكة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مضت الهجرة لأهلها» ، أي فازوا بها وحصلوا عليها وانفردوا بفضلها دون من بعدهم، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، فإذا استنفرتم فانفروا» أي: لا يبتدئ أحد من أهل مكة(2/152)
ولا غيرهم هجرة بعد الفتح، فينال بذلك درجة من هاجر قبل الفتح، ويستحق أن يسمى باسمهم ويلحق بجملتهم؛ لأن فرض الهجرة منسقط، بل الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيامة، واجب بإجماع المسلمين على من أسلم بدار الكفر: أن لا يقيم بها حيث تجرى عليه أحكام المشركين، وأن يهاجر ويلحق بدار المسلمين حيث تجرى عليه أحكامهم، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا بريء من كل مسلم مقيم مع المشركين» ، إلا أن هذه الهجرة لا يحرم على المهاجر بها الرجوع إلى وطنه، إن عاد دار إيمان وإسلام، كما حرم على المهاجرين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجوع إلى مكة للذي ذخره الله لهم من الفضل في ذلك.
فصل فإذا وجب بالكتاب والسنة وإجماع الأمة على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر ويلحق بدار المسلمين ولا يثوي بين المشركين ويقيم بين أظهرهم، لئلا تجرى عليه أحكامهم، فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلادهم؛ حيث تجرى عليه أحكامهم في تجارة أو غيرها، وقد كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن يسكن أحد ببلد يسب فيه السلف، فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن وتعبد فيه من دونه الأوثان، لا تستقر نفس أحد على هذا إلا وهو مسلم سوء مريض الإيمان.
فصل ولا يجوز لأحد من المسلمين دخول أرض الشرك لتجارة ولا لغيرها إلا لمفاداة مسلم، فإن دخلها لغير ذلك طائعا غير مكره كان ذلك جرحة فيه تسقط إمامته(2/153)
وشهادته؛ قال ذلك سحنون، وينبغي أن يحمل قوله على التفسير لما في كتاب الولاء والمواريث من المدونة من إجازة شهادتهم، لاحتمال أن يكونوا لم يدخلوا بلاد الشرك طائعين، وإنما ردتهم الريح إليها وهم يريدون غيرها، وإن كان تكلم على أنهم دخلوا طائعين، فلعله إنما أجاز شهادتهم بعد أن تابوا وظهر صلاحهم، وهذا محتمل يتناول قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه يبعد أن تجاز شهادة من سافر إلى أرض الحرب للتجارة وطلب الدنيا - وهو عارف بأن ذلك لا يجوز له، وأن أحكام الشرك تجري عليه، وبما هو أدنى من هذا يجرح الشاهد وتسقط شهادته.
فصل فواجب على والي المسلمين أن يمنع من الدخول إلى أرض الحرب للتجارة ويضع المراصد في الطرق والمسالح لذلك، حتى لا يجد أحد السبيل إلى ذلك، لا سيما إن خشي أن يحمل إليهم ما لا يحل بيعه منهم مما هو قوة على أهل الإسلام لاستعانتهم به في حروبهم.
فصل وأما مبايعة أهل الحرب ومتاجرتهم إذا قدموا بأمان، فذلك جائز، روي «عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: بينما نحن عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاء رجل مشرك مشعار طويل بغنم يسوقها، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبيعا أم عطية أم هبة؟ فقال: بل بيع، فاشترى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها شاة»
بوب البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على هذا الحديث: باب البيع والشراء مع المشركين وأهل الحرب.
فصل إلا أنه لا يجوز أن يبايعوا شيئا مما يستعينون به في حروبهم من كراع أو سلاح أو حديد، ولا شيئا مما يرهبون به على المسلمين في قتالهم مثل الرايات وما يلبسون في حروبهم من الثياب فيباهون بها على المسلمين، وكذلك النحاس؛ لأنهم يعملون منه الطبول فيرهبون بها على المسلمين، ولا يجوز أن يباع منهم العبد النصراني؛ لأنه يكون دليلا على المسلمين وعورة عليهم.(2/154)
فصل وإنما يجوز أن يباع منهم من العروض ما لا يتقوى به في الحرب ولا يرهب به في القتال، ومن الكسوة ما يقي الحر والبرد لا أكثر، ومن الطعام ما لا يتقوت به مثل الزيت والملح وما أشبه ذلك، وقد اختلف فيما يتزينون به في كنائسهم وأعيادهم مثل الثياب، هل يجوز أن يباع منهم ذلك أم لا؟ على قولين؛ ففي سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد تخفيف ذلك، وحكى ابن المزين عن أصبغ، أن ذلك لا يجوز؛ وجائز أن يعطوا ذلك في فداء المسلمين باتفاق.
وكذلك الخيل والسلاح إذا لم يقبلوا في الفداء غير ذلك فلا بأس أن يفادى بها. قال ابن حبيب: مثل الرجل والرجلين والشيء بعد الشيء في الفرط، وأما الشيء الكثير الذي تكون فيه القوة الظاهرة في العدد الكثير فلا يجوز، وأجاز ذلك سحنون إذا لم يرج فداؤه بالمال وذلك ما كان الأسير في بلادهم؛ وأما إن قدموا به بأمان للفداء، فلا يفادى منهم بالسلاح، فإن أبوا إلا ذلك أخذ منهم بالقيمة صاغرا قمئا، ولم يترك والرجوع به إلى بلده، قال ذلك ابن حبيب في الواضحة، وانظر هل يأتي هذا على مذهب ابن القاسم أم لا؟ فإن مذهبه أن من أسلم من عبيدهم لا يباعون عليهم ويتركون وللرجوع بهم إلى بلادهم، وقد اختلفت الروايات عن ابن القاسم في هذا في العتبية، وجائز أن يفادى منهم المسلمون بالعبد النصراني، وبأم ولد المسلم النصرانية؛ قال ابن أبي زيد: على أن لا يسترقوها؛ وبالذمي على شرط أيضا أن لا يسترق - قاله سحنون؛ فأما مفاداتهم بالخمر والخنازير، فقال أشهب في العتبية: لا يجوز؛ لأنه لا يحل الدخول في نافلة من الخير بمعصية، وأجاز ذلك سحنون قال: لأنها ضرورة، وقد روي عن ابن القاسم أن ذلك أخف من الخيل والسلاح يريد لما على المسلمين من الضرر في فادئهم بالخيل والسلاح.(2/155)
فصل وجائز لنا أن نشتري منهم أولادهم وأمهات أولادهم إذا لم تكن بيننا وبينهم هدنة تمنعنا من ذلك؛ وأما ما قدموا به من أموال المسلمين التي حازوا في أوان حربهم، فقال في المدونة: لا أحب شراء ذلك منهم، وقال محمد بن المواز: لا بأس بشراء ذلك منهم، فإن جاء صاحبه كان له أخذه بالثمن، قال: واشتراء العبد المسلم منهم إذا باعوه أفضل من تركه، وكذلك الأمتعة عندي.
فصل وكذلك معاملة أهل الذمة جائزة أيضا وإن كانوا يستبيحون بيع الخمر والخنازير ويعملون بالربا، كما قال الله تعالى عنهم: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] ، لأن الله تبارك وتعالى قد أباح أخذ الجزية منهم وقد علم ما يفعلون وما يأتون وما يذرون، ولأنهم لو أسلموا لأحرزوا بإسلامهم ما بأيديهم من الربا، ومن الخمر والخنازير؛ لقول الله عز وجل: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] ، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء فهو له» ، إلا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كره أن يباع منهم بالدنانير والدراهم المنقوشة، لما فيها من اسم الله تعالى، وكره أيضا أن يبيع الرجل من الذمي سلعة بدينار أو درهم يعلم أنه أخذه في خمر أو خنزير، ولم ير بأسا أن يأخذ ذلك منه في دين له عليه؛ وهذا على طريق التنزه والتورع؛ وأما في القياس وما يوجبه النظر، فهو جائز لأنه ماله وملكه لا(2/156)
يصح لنا نزعه من يده، ولو أسلم عليه، لساغ له ملكه ولم يكن عليه أن يتنحى عن شيء منه، وذلك إذا باع بذلك الدينار الخمر من ذمي؛ وأما إن باعها به من مسلم، فهو أشد؛ لأن سحنون يرى أن يتصدق به على المساكين وإن قبضه، خلافا لابن القاسم، فعلى قول سحنون لا يجوز أن يبيعه بذلك الدينار شيئا إذا علم أنه ثمن الخمر التي باعها من المسلم، إلا على تأويل ضعيف؛ وهو أن الدينار لا يتعين للمساكين على مذهب من يرى أن العين لا تتعين.
فصل وقد اختلف أصحابنا إذا لم يقبض ثمن الخمر والخنازير، وكان قد باع ذلك من نصراني حتى أسلم، هل يصح له قبضه بعد إسلامه أم لا على قولين، (أحدهما) أنه لا يصح له قبضه قياسا على ما كان له من الربا لم يقبضه، وهو قول ابن دينار وابن أبي حازم، (والثاني) أنه يجوز له قبضه بعد إسلامه وهو قول أشهب والمغيرة والمخزومي، وهو مذهب أكثر أصحابنا.
فصل وفي هذا خمس مسائل:
(إحداها) أن يسلم إليه دينارا في دينارين، (والثانية) أن يسلم إليه دينارا في دراهم أو دراهم في دينار، (والثالثة) أن يبيع منه خمرا بدنانير أو دراهم، (والرابعة) أن يسلم إليه دنانير في خمر أو خنزير، (والخامسة) أن يقرضه خمرا أو خنازير فيسلمان جميعا أو أحدهما؛ فأما المسألة الأولى وهي أن يسلم إليه دينارا في دينارين، فإن أسلما جميعا أو أسلم الذي أسلم الدينار، فليس للمسلم إلا ديناره الذي دفع؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] ، وأما إن أسلم المسلم إليه فقال مالك في المدونة: لا أدري أخاف إن قضيت عليه برد الدينار أن أظلم الذمي، وله في كتاب ابن المواز(2/157)
أنه يغرم الدينارين إلى النصراني، ومثله لابن القاسم في سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، خلاف قوله في المدونة: إنه يقضى عليه برد الدينار - كما لو أسلما جميعا، وأما الثانية وهي أن يسلم إليه دينارا في دراهم أو دراهم في دينار، فإن أسلما جميعا رد المسلم إليه ديناره الذي قبض منه أو دراهمه، وكذلك إن أسلم أحدهما على مذهب ابن القاسم في المدونة؛ وأما على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فإن أسلم المسلم فتؤخذ الدراهم من النصراني المسلم إليه فيبتاع فيها للمسلم دينارا، فإن فضل فضل رد على النصراني، وإن لم يكن فيها دينار يبتاع له بها منه ما بلغ ولم يكن على النصراني أكثر من ذلك، وأما إن أسلم المسلم إليه فيؤدي الدراهم التي عليه للنصراني - على رواية عيسى عن ابن القاسم، وما في كتاب ابن المواز؛ لأنها نظير المسألة التي توقف فيها مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وأما الثالثة وهي أن يسلم إليه دينارا في خمر أو خنازير، فإن أسلما جميعا أو أسلم المسلم إليه فإنه يرد إليه ديناره، وكذلك إن أسلم المسلم على مذهب ابن القاسم في المدونة، وأما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فتوقف فيها، وقال: لا أدري أخاف أن أظلم الذمي إن قضيت عليه برد الدينار وعليه خمر أو خنازير، وله في كتاب ابن المواز أن الخمر تؤخذ من النصراني فتهراق على المسلم، ومثله في سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب.
وأما الرابعة وهي أن يبيع منه خمرا - بدنانير أو دراهم، فالثمن ثابت على المبتاع في كل حال أسلما جميعا أو أحدهما في قول أشهب والمخزومي، وعلى ذلك يأتي قول غير ابن القاسم في كتاب النكاح الثالث من المدونة، وقيل: إنه يبطل الثمن عنه إذا أسلما جميعا، أو أسلم البائع، وهو قول ابن أبي حازم وابن دينار؛ وعليه يأتي قول ابن القاسم في كتاب النكاح الثالث من المدونة.
وأما إن أسلم المبتاع، فعليه أن يؤدي الثمن إلى النصراني ولا أعلم في هذا الوجه نص خلاف؛ إلا أنه يتخرج فيه على المذهب قولان سوى هذا القول، (أحدهما) أن الثمن يبطل عنه، (والثاني) أن عليه قيمة الخمر يوم قبضها وانتفع بها.
وأما الخامسة وهي أن يقرض النصراني النصراني الخمر أو الخنازير؛ فإن أسلما جميعا سقط القرض،(2/158)
وإن أسلم المقترض، فقيل: إن القرض يسقط عنه وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الواضحة، وقيل: إن القيمة تلزمه للمقرض وهي رواية عيسى عن ابن القاسم، وأما إن أسلم المقرض، فقال ابن القاسم في سماع عيسى: أحب إلي أن تؤخذ الخمر من النصراني فتهراق، والخنازير فتطرح.
فصل فمعاملة الذمي على كل حال أخف من معاملة المربي؛ لأن المربي، إذا تاب لم يحل له ما أربى فيه ووجب عليه رده إلى صاحبه إن عرفه، والصدقة به عنه إن لم يعرفه، وقد قال أصبغ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مال المربي وعاصر الخمر والغاصب والظالم وتارك الزكاة: إنه فاسد كله لا يجوز أن يؤكل منه شيء دون شيء ولا يشرب، وما لا يؤكل ولا يشرب، فلا يجوز أن يباع ولا يشترى. فلا يبايع به ولا يعامل، وإن عامله فيه أحد رأيت أن يخرجه كله ويتصدق به، وقد قيل: إن مبايعة من استغرق الحرام ماله جائزة إذا بايعه بالقيمة ولم يحابه، وأما هبته وصدقته ومعروفه فلا يجوز؛ لأنه كمن استغرق الدين ماله فلا يجوز له فيه معروف إلا بإذن أهل الدين، وأما الميراث فلا يطيب المال الحرام للوارث، هذا هو الصحيح الذي يوجبه النظر، وقد روي عن بعض من تقدم أن الميراث يطيبه للوارث وليس ذلك بصحيح.
فصل ولا يجوز بين المسلم والذمي في التعامل إلا ما يجوز بين المسلمين، فإن تعاملا بما لا يجوز بين المسلمين لم يخل ذلك من ثلاثة أوجه:
(أحدها) أن يبيع منه ما لا يجوز بيعه ويجوز ملكه كتراب الصواغين، والعبد الآبق والحمل الشارد، وما أشبه ذلك، (والثاني) أن يبيع منه ما يجوز ملكه وبيعه بيعا فاسدا، (والثالث) أن يبيع منه ما لا يجوز ملكه كالخمر والخنزير والحر والدم والميتة، وما أشبه ذلك. فأما الوجه الأول والثاني فالحكم فيهما إذا وقعا كالحكم فيما بين(2/159)
المسلمين؛ وأما الوجه الثالث فالحكم فيه إذا وقع بين المسلم والذمي بخلاف الحكم فيه إذا وقع بين المسلمين في بعض المواضع، وبيان ذلك أن المسلم إذا باع الخمر من المسلم أو النصراني فعثر على ذلك والخمر بيد البائع قد أبرزها ولم يدفعها إلى المشتري بعد - كسرت عليه وانتقض البيع وسقط الثمن عن المشتري إن كان لم يدفعه، وإن كان قد دفعه رد إليه في قول وتصدق به على المساكين أدبا له في قول؛ وإن لم يعثر على ذلك حتى قبضها المبتاع، فقيل: إنها تكسر على البائع أيضا وينتقض البيع ويكون الحكم في الثمن على ما تقدم من الاختلاف؛ وقيل: إنها تكسر على المبتاع ويمضي البيع أو يتصدق بالثمن على المساكين قبض أو لم يقبض، إذ لا يحل للبائع ولا يصح تركه للمشتري، وأما إن لم يعثر على ذلك حتى استهلك المبتاع الخمر، فههنا يفترق الحكم بين أن يكون المبتاع مسلما أو نصرانيا، فإن كان مسلما تصدق بالثمن على المساكين قبض أو لم يقبض قولا واحدا؛ إذ لا سبيل إلى نقض البيع بإغرام المسلم ثمن الخمر التي استهلكها وكسرها على البائع. وإن كان نصرانيا، فقيل: إنه يغرم مثل الخمر وتكسر على البائع فينتقض البيع ويسقط الثمن عنه إن كان لم يدفعه، وإن كان قد دفعه رد إليه أو تصدق به على المساكين أدبا له على الاختلاف المذكور، وقيل: إنه يمضي البيع ويتصدق بالثمن على المساكين قبض أو لم يقبض، وأما إذا باع النصراني خمرا من مسلم فعثر على ذلك والخمر قائمة بيد البائع النصراني قد أبرزها للمسلم، فإنها تكسر على البائع وينفسخ البيع ويسقط الثمن عن المبتاع المسلم إن كان لم يدفعه إلى البائع، وإن كان قد دفعه إليه، فقيل: إنه يرد إلى المبتاع وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وقيل: إنه لا يرد إليه ويتصدق به عليه أدبا له، وهذا يأتي على ما في المدونة، وإن لم يعثر على ذلك حتى قبضها المبتاع، فقيل: إنها تكسر على البائع ويرد الثمن إلى المبتاع. إن كان قد دفعه ويسقط عنه إن كان لم يدفعه، روي ذلك عن مالك بن أبي أويس وغيره، وقيل: إنها تكسر على(2/160)
المبتاع ويتصدق بالثمن إن لم يقبضه البائع أدبا له وإن قبضه ترك له عند ابن القاسم، وعند سحنون يتصدق به قبضه البائع أو لم يقبضه أدبا له، وقيل: إنها تكسر على البائع وينفسخ البيع ويسقط الثمن عن المبتاع إن كان لم ينقده، فإن كان نقده كسرت على المبتاع ومضى الثمن للبائع ولم يؤخذ منه، وهذا قول ابن أبي حبيب في الواضحة؛ وإن لم يعثر على ذلك حتى قبض المسلم الخمر وفاتت في يده أخذ منه الثمن وتصدق به على المساكين إن كان لم يدفعه إلى النصراني أدبا له، وإن كان قد دفعه إليه ترك له ولم يؤخذ منه عند ابن القاسم وابن حبيب، وعند سحنون يتصدق به على كل حال أدبا له.. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(2/161)
[كتاب الجعل والإجارة] [فصل في حقيقة الإجارة]
فصل
في حقيقة لفظ الإجارة..
لفظ الإجارة مأخوذ من الأجر وهو الثواب، فمعنى استأجر الرجل الرجل، أي: استعمله عملا بأجرة، أي: بثواب يثيبه على عمله، من قولهم: أجرك الله يأجرك، أي: أثابك يثيبك؛ قال الله عز وجل: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} [هود: 51] ، أي: لا أسألكم عليه ثوابا إن أرجو الثواب في ذلك إلا من الله الذي فطرني. وقال: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] ، وقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} [آل عمران: 57] ، وقال: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} [النساء: 96] ، وهذا في القرآن كثير.
فصل في أصل جواز الإجارة من الكتاب، وأصل جواز الإجارة قول الله عز وجل:(2/163)
{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] ، يقول تبارك وتعالى: ليستسخر هذا هذا في خدمته إياه، ويعود هذا على هذا بما في يديه من فضل الله رحمة منه لعباده ونعمة عددها عليهم بأن جعل افتقار بعضهم إلى بعض سببا لمعاشهم في الدنيا وحياتهم فيها، حكمة منه لا إله إلا هو.
فصل والاستئجار الذي أذن الله فيه لعباده وجعله قواما لأحوالهم وسببا لمعاشهم وحياتهم ليس على الإطلاق، بل هو مقيد على ما أحكمته السنة والشريعة، فمنه الجائز ومنه المحظور، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من «عمل عملا ليس على أمرنا فهو رد» .
فصل فالجائز منه يكون على وجهين، (أحدهما) بعوض، (والثاني) بغير عوض؛ فأما ما كان منه على غير عوض، فهو هبة من الهبات لا يحل إلا عن طيب نفس من واهبه، وأما ما كان على عوض، فإنه ينقسم على وجوه شتى، منها الجعل والإجارة وهما قائمان من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال الله تبارك وتعالى في الإجارة: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] ، وقال تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] ، أي: ثوابا تأكله. وقال تبارك وتعالى حاكيا عن إحدى ابنتي شعيب في قصة موسى وشعيب - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26](2/164)
وقوته: أنه استوهب الرعاء دلوا فوهبوه إياه فنزعه وحده وكان لا ينزعه إلا عشرة رجال، وقيل: أربعون رجلا فدعا فيه بالبركة فكفى ماشيتهما، فذلك قَوْله تَعَالَى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] ، وقيل: إنه رفع عن فم البئر صخرة كانت عليه وحده وكان لا يرفعها إلا عشرة رجال، وقيل: أربعون رجلا.
وأمانته التي وصفته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها هي أنه لما مشت أمامه خشي أن تكشف الريح عنها ثوبها فيرى بعض عورتها وكان يوم ريح، فأمرها أن تمشي خلفه، وقال لها: دليني على الطريق وصفيه لي، قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27] ، أي: على أن ترعى لي ماشيتي ثمانية أعوام، {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27] ، وروي «عن ابن مسعود أنه قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أمرنا بالصدقة، انطلق أحدنا إلى السوق فتحامل، أي: يحمل على ظهره فيصيب المد، وإن لأحدهم اليوم لمائة ألف» . قال الراوي عنه: ما أراه أراد إلا نفسه. «واستأجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا له نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا بأجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل. فقال لهم: لا تفعلوا أكملوا بقية يومكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت(2/165)
لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: ما عملنا لك باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال: أكملوا بقية عملكم فإن ما بقي من النهار شيء يسير فأبوا، واستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور»
فصل والإجارة تنقسم على ثلاثة أقسام: جائزة ومكروهة ومحظورة، فالجائزة ما يسلم من الجهل والغرر إلا اليسير منهما المغتفر، وكان في المباح من الأعمال.
فصل فلا تجوز الإجارة إلا بأجرة مسماة معلومة وأجل معروف، أو ما يقوم مقام الأجل من المسافة فيما يحمل، أو توفية العمل بتمامه فيما يستعمل، وعمل موصوف أو عرف في العمل والخدمة يدخل عليه المتاجرون فيقوم ذلك مقام الصفة، يدل على ذلك قول الله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فسمى الأجرة وضرب الأجل ولم يصف الخدمة والعمل؛ لأن العرف والعادة أغنياهما عن ذلك، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استأجر أجيرا فليعلمه أجره» . وقال: «من استأجر أجيرا فليؤاجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم» . فأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتسمية الأجرة وضرب الأجل، وسكت عن وصف العمل إذ قد يستغنى عن ذلك بالعرف والعادة اللذين يقومان مقامه.
فصل وهي من العقود اللازمة تلزم المستأجرين بالعقد كالبيع سواء، وتنقسم على قسمين، أحدهما: إجارة ثابتة في ذمة الأجير، والثاني: إجارة للذمة في عينه، فأما(2/166)
الإجارة الثابتة في ذمته، فحكمها حكم السلم الثابت في الذمة في تقديم الإجارة وضرب الأجل ووصف العمل، وقال عبد الوهاب: يجب فيها تعجيل أحد الطرفين من الأجرة أو الشروع في الاستيفاء، يريد: إذا كان العمل يسيرا ليخرج عن الدين بالدين، فأما الإجارة اللازمة في عينه، فإنها تنقسم على قسمين، أحدهما: أن يستأجره على عمل موصوف لا يرتبط بعين، (والثاني) أن يستأجره على عمل موصوف يرتبط بعين، فأما القسم الأول وهو أن يستأجره على عمل موصوف لا يرتبط بعين، فلا تنفسخ الإجارة فيه إلا بموت الأجير، وهو على نوعين، (أحدهما) أن لا يكون له غاية كخدمة البيت ورعاية الغنم بغير أعيانها، وحمل حمل بغير عينه، وما أشبه ذلك، (والثاني) أن يكون له غاية معلومة كخياطة ثوب بغير عينه أو طحن قفيز قمح بغير عينه، وما أشبه ذلك، فالأول لا بد فيه من ضرب الأجل بالأيام والشهور فيما كان من الخدمة والعمل وتسمية المواضع والبلدان فيما كان من النقل والحملان؛ فإذا ضرب في النقل والحملان مع تسمية المواضع والبلدان أجلا من الشهور والأيام، فسد ولم يجز لأنه غرر؛ ومما نهي عنه من شرطين في البيع على المشهور من المذهب، وقد قيل: إن ذلك جائز. وذلك بتأويل ما في الرواحل والدواب من المدونة، وعلى ما وقع في أول سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة من العتبية، (والثاني) لا يجوز فيه ضرب أجل على ما ذكرناه من المشهور في المذهب؛ وأما القسم الثاني وهو أن يستأجره على عمل موصوف يرتبط بعين، فإنه ينقسم على خمسة أنواع:
(أحدها) أن يستأجره على عمل في شيء بعينه لا غاية له إلا بضرب الأجل فيه، وذلك مثل أن: يستأجره على أن يرعى له غنما بأعيانها، أو يتجر له في مال بعينه شهرا أو سنة وما أشبه ذلك؛ فهذا اختلف في حد جواز الإجارة فيه، فقيل: إنها لا تجوز إلا بشرط الخلف، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة وغيرها؛ وقيل: إنها تجوز بغير شرط الخلف والحكم يوجب الخلف، وهو قول سحنون وابن حبيب وقول أشهب في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ من كتاب الجعل والإجارة، فهذا حكم هذا الوجه إلا في أربع(2/167)
مسائل، فإن الإجارة تنفسخ فيها بموت المستأجر له، (إحداها) موت الصبي المستأجر على رضاعه، (والثانية) موت الصبي المستأجر على تعليمه، (والثالثة) موت الدابة المستأجر على رياضتها، (والرابعة) من استأجر رجلا على أن ينزي له أكداما معروفة على رمكة، فتعف الرمكة قبل تمام الأكدام، فإن الإجارة تنفسخ فيما بقي منها، ولا يقال للمستأجر: جِئ بمثل الرمكة لما بقي من الأكدام.
والنوع الثاني: أن يستأجره على عمل في شيء بعينه لا غاية له إلا بتسمية المواضع. وهو الاستئجار على حمل شيء بعينه، فهذا لا اختلاف في جواز الإجارة فيه - وإن لم يشترط الخلف؛ واختلف إن تلف على أربعة أقوال، (أحدها) - وهو المشهور أن الإجارة لا تنتقض وإليه ذهب محمد بن المواز، فقال: تعيين الحمل إنما هو صفة لما يحمل، ومثله في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، وفي رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، وفي أول رسم من سماع أصبغ منه، (والثاني) أن الإجارة تنتقض بتلفه - وهو قول أصبغ وروايته عن ابن القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماعه من كتاب الرواحل والدواب، ويكون له من كرائه بقدر ما سار من الطريق، (والثالث) الفرق بين أن يأتي تلفه من قبل ما عليه استحمل، أو من أمر من السماء؛ فإن أتى تلفه من قبل ما عليه استحمل، انفسخ الكراء فيما بقي له من كرائه بقدر ما مضى من الطريق، وإن كان تلفه بأمر من السماء أتاه المستأجر بمثله ولم ينتقض الكراء، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أول رسم من سماع أصبغ من كتاب الجعل والإجارة، (والرابع) أنه إن كان تلفه من قبل ما عليه استحمل، انفسخ الكراء ولم يكن له فيما مضى كراء، وإن كان تلفه بأمر من السماء أتاه المستأجر بمثله ولم ينفسخ الكراء، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك. (والنوع الثالث) أن يستأجره على عمل شيء بعينه له غاية مجهولة، وذلك مثل أن يستأجره(2/168)
على أن يبيع له هذا العبد أو هذا الثوب أو هذه الأثواب في هذا البلد أو في بلد آخر بثمن سماه أو بما يراه، فهذا لا بد فيه من ضرب الأجل ولا يحتاج فيه إلى اشتراط الخلف على ظاهر ما في المدونة، والحكم يوجبه إن تلف؛ وقيل: إنه لا يجوز على مذهبه إلا بشرط الخلف إن تلف، فإن باع العبد أو الثوب قبل تمام الأجل انفسخت الإجارة فيما بقي من الأجل، وكان له من إجارته بحساب ما مضى منه، ولا يجوز النقد في ذلك بشرط، هذا قوله في المدونة في هذه المسألة، والذي يأتي على مذهب سحنون فيها أن الإجارة لا تنفسخ فيما بقي من المدة ويستعمله فيما يشبه ذلك؛ فإن اشترط أن يفسخ الكراء فيما بقي من الشهر لم يجز عنده وإن لم ينقد ولو استأجره على أن يبيع له الدابة أو الثوب بذلك البلد أو ببلد آخر وللقيام ببيعه غاية معلومة على أن له أجرته باع أو لم يبع للحق بالنوع الرابع وجاز، ولا يسمي للسوق والبيع أجلا لأن قدر ذلك معروف - قاله أشهب في آخر أول رسم من سماع أصبغ من كتاب الجعل والإجارة.
والنوع الرابع: أن يستأجره على عمل شيء بعينه له غاية معلومة، مثل أن: يستأجره على خياطة ثوب بعينه، أو على طحن قمح بعينه، أو على حصاد زرع بعينه، فلا يجوز ضرب الأجل فيه؛ لأنه مدتان في مدة ويضارع ما نهي عنه من بيعتين في بيعة إلا على ما ذكرنا من الاختلاف في ذلك القائم من كتاب الرواحل والدواب من المدونة، ومن أول سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، وتجوز الإجارة فيه دون شرط الخلف باتفاق - وإن تلف قبل العمل أو بعد. إن مضى بعضه، فالمشهور في المذهب أن الإجارة تنفسخ فيه أو فيما بقي منه. وهو قول مالك في رسم المحرم من سماع ابن القاسم، ويكون له فيما عمل ما يجب له من الأجر؛ لأنه كلما عمل شيئا فالمستأجر له قابض ولا ضمان على الآجر فيه، بخلاف الصانع الذي هو ضامن إن تلف الثوب عنده قبل فراغه من عمله وقامت البينة على تلفه، فلا شيء له فيما عمل؛ واختلف قول ابن القاسم إن تلف ببينة بعد تمامه من العمل قبل أن يسلمه إلى ربه، هل يجب له أجرة أم لا؟ على قولين، وقد قيل: إن الإجارة لا تنفسخ ويستعمله في مثله. وهو قول(2/169)
ابن القاسم في رسم الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب الجعل والإجارة، والنقد في هذه الإجارة جائز؛ لأن التلف نادر فلا يعتبر به.
والنوع الخامس: أن يستأجره على دار يبنيها في هذه البقعة أو بئر يحفرها فيها إجارة لازمة في عينه غير ثابتة في ذمته وماله، فهذا إن استحقت البقعة أو عرقت انفسخت الإجارة وإن أكمل البنيان وجبت له أجرته إن انهدم بعد تمامه؛ لأن المستأجر قابض له بتمامه، واختلف إن انهدم قبل تمامه: فقال سحنون: لا شيء له إلا بتمام العمل، وقال ابن القاسم: له من الأجر بحساب ما عمل إلا أن تكون الإجارة فيما لا يملك من الأرضين، فاختلف في ذلك قوله في المدونة فمرة قال: له بحساب ما عمل، ومرة قال: لا شيء له إلا بتمام العمل كالجعل وهذا حكم الإجارة الجائزة.
فصل وأما الإجارة المكروهة فهي ما تتعارض الأدلة في صحة عقده مع السلامة من الجهل والغرر كالإجارة على الصلاة والحج وكإجارة المسلم نفسه من الذمي أو فيما فيه من الجهل والغرر. هل هو من قبيل اليسير المستخف أو من قبيل الكثير الذي لا يستخف؛ وحكمها أن يرد ما لم يفت، فإن فاتت مضت بالإجارة الأجرة المسماة. ومنها ما يفوت بالعقد ومنها ما لا يفوت إلا باستيفاء العمل على قدر قوة الكراهية فيها.
ومن الإجارات ما يختلف فيها في المذهب هل هي مكروهة أو فاسدة محظورة كالمسألة الواقعة في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، ونصها:
قال: وسئل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عن رجل شارط رجلا على عين يحفرها على خمسة آلاف ذراع وما وجد في الأرض من صفا، فعلى صاحب العين أن يشقه فعمل فيها فوجد في الأرض نحو مائة ذراع فشقها(2/170)
الرجل، فلما فرغ قال له الرجل: اعمل لي بدلها وموضعها الذي يعمل هو أكثر عملا من الموضع الذي وجد فيها الصفا؛ فقال: لقد دخلت في أمر لا خير فيه، فأرى عليك قدر ذلك الموضع الذي شقه ذلك الرجل تغرمه، وليس عليك أن تعمل له بدله - يريد أن ينظر إلى قدر كم ذلك من الأرض من قدر العمل فيرد منه بقدر ذلك مما أخذ؛ قال ابن القاسم: لست آخذ فيه بقول مالك، وأرى أن يعطى أجرة مثله، قال سحنون: وهو رأيي، وقوله فيها أفضل وأجود، هذا نص هذه المسألة وفيها التباس قد أشكل على كثير من الناس معناها فتأولها على غير معناها، منهم ابن لبابة؛ فإنه وهم في تأويلها فجعلها جعلا، وقال: إن مالكا تكلم على أن العامل هو الذي شق الصفا، وقد كان شقها واجبا على رب الأرض بالشرط، وأن ابن القاسم وسحنون تأولا على مالك أنه إنما أجاب في المسألة على أن رب الأرض هو الذي شق الصفا وقد كان شقها على العامل، وقد بين في المسألة أن المعاملة إنما وقعت بينهما على أن يشق رب الأرض ما وجد فيها من الصفا، وأن العامل هو الذي شق الصفا، بدليل قوله: فلما فرغ قال له: اعمل لي بدلها، وقد سألني بعض أصحابنا عن معنى قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيها وتبيين ما فسره ابن القاسم من إرادته، ووجه مخالفته إياه ومتابعته سحنون له على خلافه؛ فقلت: الذي أقول به في ذلك - والله الموفق للصواب برحمته أن هذه المسألة محتملة لوجوه من التأويل؛ إذ لم يبين كيف انعقد الاستئجار بينهما على حفر الخمسة الآلاف الذراع إن كان على شرط أن يشق صاحب العين ما وجد فيها من صفا ويسقط عنه من الإجارة التي سمياها بقدر ما ينوب ذلك منها، أو على أن يشق ما وجد فيها من صفا دون أن يحط عنه لذلك من الإجارة شيئا، فالغرر في الإجارة على هذا بين والأظهر فيها الفساد، وقول ابن القاسم وسحنون: إن للعامل أجرة مثله في جميع عمله، هو القياس، ووجه قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على هذا التأويل وعلى ما ذيله ابن القاسم من التفسير له بقوله: يريد أن ينظر إلى قدر كم ذلك من الأرض من قدر العمل فيرد منه بقدر ذلك؛ مما أخذه هو أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رأى العقد على هذا الشرط من(2/171)
العقود التي يكرهها ابتداءً فإذا وقعت صح العقد وبطل الشرط؛ وذلك أن العقود المقترنة بها الشروط، تنقسم على ثلاثة أقسام؛ منها ما يبطل العقد والشرط، وهو ما كان الشرط المشترط فاسدا له تأثير في الثمن، كالذي يبيع الدابة على أن يسافر عليها سفرا بعيدا وما أشبه ذلك، ومنها ما يصح البيع والشرط، وهو ما كان الشرط المشترط حلال لا يئول به البيع إلى غرر ولا فساد في ثمن ولا مثمون، كالذي يبيع الدابة على أن يركبها اليوم واليومين وما أشبه ذلك. ومنها ما يصح البيع ويبطل الشرط وهو ما كان الشرط فاسدا إلا أنه خفيف لا يرى أنه نقص من الثمن ولا زاد فيه من أجله شيئا، وذلك مثل أن: يبيع السلعة على أنه إن لم يأته بالثمن إلى يومين أو ثلاثة فلا بيع بينهما، ومثل أن: يبيع الثمرة على أن لا قيام له عليه بجائحة إن أجيحت وما أشبه ذلك، فرأى عقد الإجارة في مسألتنا على هذا الشرط من هذا القبيل من الشروط إذ غلب على ظنه أن العامل إنما شرط على رب العين شق ما وجده من صفا فيها، والأغلب عندهما أنه لا صفا فيها لندور الصفا في ذلك الموضع على ما قد علم بالاختيار، فلم يحط من الإجارة لذلك الشرط شيئا ولا كان له تأثير فيها فأمضاها إذا وقعت وأسقط الشرط مع كراهيته لها ابتداء، كما أمضى البيع بشرط إسقاط الجائحة إذا وقع وأبطل الشرط إذ لم ير له تأثيرا في الثمن؛ لأن الأغلب السلامة من الجوائح وأراد العامل لما شق ما وجد في الأرض من صفا، وقد كان اشترط ذلك على رب العين أن يحفر له رب العين بدلها ويستحق هو إجارته كلها على ما اشترطا؛ فلم ير ذلك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذهب إلى أن الشرط ينفسخ والعقد على ذلك مكروه ابتداء على ما بيناه، فقال لهما: قد دخلتما في أمر لا خير فيه، فأرى عليك - يريد على صاحب العين قدر ذلك الموضع يريد قيمة حفر ذلك الموضع الذي شقه الرجل يريد العامل ولم يكن ذلك عليه، لاشتراطه إياه على صاحب العين؛ ومعنى ذلك على أصولهم - إن كان رب العين ممن يستأجر على شق ذلك ولا يتولاه بنفسه وعبيده، وسكت مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن تمام الحكم في(2/172)
المسألة، وفسره ابن القاسم على ما فهم من مذهبه في إجازة العقد إذا وقع وإبطال الشرط على ما بينا، فقال: يريد أن ينظر إلى قدر كم ذلك من الأرض من قدر العمل فيرد منه بقدر ذلك مما أخذ، ومعنى ذلك أن ينظر ما تقع الصفا التي شقها العامل من جملة الخمسة الآلاف الذراع فيرد من الأجرة التي قبض ذلك الجزء لإبطال الشرط مع إمضاء العقد، إذ لا فرق بين أن يشق صاحب العين الصفا أو يشقها العامل فيأخذ حقه في شقها، وإن كان ما وجب للعامل في شقه الصفا من جنس الأجرة التي قبض قاصه بذلك فيما يجب عليه رده منها، فمن كان له منهما في ذلك فضل، رجع به على صاحبه وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل ولولا تأويل ابن القاسم على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لكان الأظهر من قوله: قد دخلتما في أمر لا خير فيه، أن العقد فاسد ويكون للعامل أجرة مثله في شقه الصفا وفي سائر عمله، ويرد جميع الأجرة إن كان قبضها أو تسقط إن كان لم يقبضها؛ لأنه إنما تكلم على ما يجب للعامل في شق الصفا وسكت عن تمام الحكم في المسألة؛ إلا أن ابن القاسم أحق بتبيين إرادة مالك في المسألة، لمشافهته إياه فيها.
فصل وإن كانت الإجارة انعقدت بينهما على أن يشق رب العين ما وجد فيها من صفا، ويسقط عنه من الأجرة التي سمياها ما ينوبها منها، فيتخرج جوازها بغير اشتراط النقد على قولين، الأشهر منهما في المذهب الإجازة؛ لأن السوم معلوم وجملة الثمن مجهول. لا يعلم حال العقد كبيع الصبرة جزافا على الكيل الذي أجازه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه، ومنع منه عبد العزيز بن أبي سلمة، وكاستئجار الأجير على أن يأتيه بمتاع من بلد على أنه إن وجده في الطريق رجع وكان له بحسابه الذي أجازه مالك وابن القاسم رحمهما الله تعالى، ومنع منه سحنون، ومن(2/173)
ذلك أيضا اختلافهم في استئجار الأجير شهرا على أن يبيع له ثوبا بعينه أو يرعى له غنما بأعيانها دون أن يشترط الخلف وما أشبه ذلك؛ فمعنى ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها على هذا التأويل، أنه كرهها ابتداء مراعاة للخلاف؛ ويحتمل أن يكون كرهها من أجل النقد - وإن لم يكن مشترطا؛ إذ لا يصح النقد فيها بشرط إجماعا، وأجازها إذا وقعت على أصل مذهبه وحكم للعامل بأجر مثله في شق الصفا وأوجب عليه أن يرد من الأجرة ما يقع للصفا من جملة الخمسة الآلاف الذراع، ورأى ابن القاسم وسحنون أنها إجارة فاسدة للعلة التي ذكرها وهي الجهل بجملة الثمن حال العقد، فأوجبا للعامل أجرة مثله في جميع عمله، فأما سحنون فجرى في ذلك على أصله في الذي يستأجر الكرى على أن يأتيه بمتاعه من بلد كذا، فإن وجده في الطريق رجع وكان له بحسابه، وأما ابن القاسم فخالف أصله وذلك اختلاف من قوله؛ وكلا التأويلين سائغان، والتأويل الأول أظهر والله أعلم.
وقد تأول بعض الناس أن مالكا تكلم على أن رب العين هو الذي شق الصفا، وأن ابن القاسم وسحنون تكلما على أن العامل هو الذي شقها وهو بعيد من التأويل لا معنى له؛ إذ لا تأثير لشق العامل إياها في فساد العقد، وتأول أيضا بعض من سألني عن معنى هذه المسألة فنهجت له القول فيها بما ذكرته أن مالكا تكلم على الوجه الآخر من الوجهين اللذين ذكرنا، وأن ابن القاسم وسحنون تكلما على الوجه الأول وذلك محتمل أيضا، ومنهم من ذهب إلى أنهم تكلموا جميعا على الوجه الأول. وأن إرادة مالك أن الإجارة فاسدة بدليل قوله: قد دخلتما في أمر لا خير فيه، وأن تفسير ابن القاسم ليس بصحيح، والصواب أن تفسيره لمذهبه صحيح، فهو أقعد بمعنى ما ذهب إليه، والله أعلم.
فصل وأما الإجارة المحظورة فتنقسم على ثلاثة أقسام، (أحدها) الاستئجار على(2/174)
ما يجب على الأجير فعله، (والثاني) الاستئجار على ما لا يحل له فعله، (والثالث) الاستئجار على المباح من الأعمال بما لا يجوز من الغرر أو الحرام أو على وجه لا يجوز مما يدخله غرر أو جهل؛ فأما الاستئجار على ما لا يجوز الاستئجار عليه لوجوب فعله على الأجير، فينفسخ إن عثر عليه قبل العمل فإن فات بالعمل لم يكن للأجير شيء من الأجرة، وردت كلها إلى المستأجر - إن كان قد دفعها؛ وأما الاستئجار على ما لا يجوز الاستئجار عليه لتحريم فعله عليه، فالحكم فيه إذا وقع أن يفسخ أيضا متى ما عثر عليه، فإن فات بالعمل لم يكن للأجير من الأجرة شيء وتصدق بها عليه على التفصيل الذي ذكرناه في كتاب التجارة إلى أرض الحرب في بيع المسلم الخمر من النصراني أو المسلم، وأما الاستئجار على المباح من الأعمال بما لا يجوز أو على وجه لا يجوز، فالحكم فيه إذا وقع أن يفسخ ما لم يفت؛ فإن فات بالعمل كانت فيه القيمة والله ولي التوفيق برحمته.
فصل
في ماهية الجعل وأصل جوازه
وأما الجعل فهو أن يجعل الرجل للرجل جعلا على عمل يعمله له إن أكمل العمل، وإن لم يكمله لم يكن له شيء، وذهب عناؤه باطلا؛ فهذا أجازه مالك وأصحابه - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - مما لا منفعة فيه للجاعل إلا بتمام العمل، خلافا لأبي حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى في أحد قوليه، وهو في القياس غرر إلا أن الشرع قد جوزه؛ والأصل في جوازه قول الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين: " من قتل قتيلا فله سلبه "، وقوله يوم بدر: " من فعل كذا فله كذا، ومن فعل كذا وكذا فله كذا وكذا "، وإن كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد كره ذلك، فإنما كرهه لئلا(2/175)
تفسد نيات الناس في الجهاد، لا أنه عنده حرام؛ ومن الحجة في ذلك أيضا ما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أنه قال: «انطلق نفر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذي نزلوا عندنا لعله أن يكون عند بعضهم شيء فأتوهم، فقالوا لهم: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وقد سعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فهل عند أحدكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة. قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا به، فقدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا ذلك له، فقال: " وما يدريك أنها رقية "؟ ثم قال: " قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم بسهم "، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وأيضا فإن الجعل مما كان موجودا في معاملات الناس جاهلية وإسلاما، فأقر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله - ولم يتعرض لإبطاله مع علمه بذلك، ولا فرق بين ما يبتدئ إجازته شرعا وبين ما يقر على إجازته؛ وأيضا فإن الضرورة تدعو إلى ذلك أشد مما تدعو إلى القراض والمساقاة، والضرورة مستثناة من الأصول وقد مضى عمل المسلمين على ذلك في سائر الأمصار على قديم الأوقات والأعصار.
فصل والجعل أصل في نفسه كالقراض والمساقاة، لا يقاس على الإجارة، ولا تقاس الإجارة عليه وإن أخذ شبها منها.(2/176)
فصل ومن شروط صحة المجاعلة أن يكون الجعل معلوما وأن لا ينقد، وأن يكون لا منفعة فيه للجاعل إلا بتمامه، وأن لا يضرب للعمل المجعول فيه أجلا، فإن ضرب له أجلا ولم يشترط أن يتركه متى شاء لم يجز، واختلف إن اشترط ذلك، هذا قوله في المدونة فيمن قال: بع لي هذا الثوب اليوم - ولك درهم - أن ذلك لا يجوز إلا أن يشترط متى شاء أن يتركه تركه، وقد اختلف في تأويل قول سحنون في آخر المسألة، وقد قال في مثل هذا: إنه جائز، وهو جل قوله الذي يعتمد عليه فاختصره ابن أبي زيد على أنه أجاز أن يوقت في الجعل يوما أو يومين دون شرط، وقال أبو عمر بن القطان: يريد سحنون أنه قال مثل قوله في الباب في مثل مسألة الباب، وهو أن يجيز الجعل ويضرب له يوما أو يومين ويشترط عليه أنه متى شاء أن يرد رد، قال سحنون: له مثل هذا القول وهذا القول جل قوله الذي يعتمد عليه. يريد قول الكتاب وما يشبهها وقوله: جل قوله، يقتضي الخلاف، والخلاف موجود له في رواية عيسى عنه؛ قلت: أرأيت إن قال جد نخلي اليوم فما جددت فبيني وبينك ومتى ما شئت أن تخرج خرجت ولك نصف ما عملت؛ قال: لا خير فيه وتأول ابن لبابة على سحنون أنه أراد أن ابن القاسم إنما اختلف قوله على أنها إجارة، فمرة رآها إجارة جائزة، ومرة رآها إجارة فاسدة، وذلك كله مدخول؛ وأما قول ابن أبي زيد، فهو خطأ صراح؛ لأن الجعل إذا سمى فيه أجلا ولم يشترط أن يترك العمل متى شاء لم يجز باتفاق، فكيف يصح أن يقال: إنه جل قوله الذي يعتمد عليه؛ وأما تأويل ابن القطان، فهو بعيد على ظاهر لفظ الكتاب، إلا أن معناه صحيح تصح به المسألة؛ وأما تأويل ابن لبابة فهو بعيد على ظاهر اللفظ غير صحيح المعنى؛ لأنها إذا كانت إجارة، فهي جائزة - ولا وجه لفسادها، وإنما معنى المسألة عندي أن قول ابن القاسم اختلف إذا قال الرجل للرجل: بع لي هذا الثوب اليوم ولك درهم - فقال في الباب: إنه جعل، ولا يجوز إلا أن يشترط متى شاء أن يترك ترك، وله قول آخر أن ذلك جائز وهي إجارة لازمة لا جعل؛ فإن باع في بعض اليوم، كان له من الأجرة(2/177)
بحساب ذلك، فقال سحنون: إن هذا القول هو الذي يعتمد عليه من قول ابن القاسم، وهذا القول لابن القاسم قائم من أول الكتاب؛ قال في الذي يبيع من الرجل نصف الثوب على أن يبيع له النصف الآخر، إن ذلك جائز إذا ضرب لذلك أجلا؛ لأنه إذا ضرب لذلك أجلا كانت إجارة واختار سحنون هذا القول؛ لأنه إذا قال: بع لي هذا الثوب اليوم ولك درهم، احتمل أن يريد على وجه الجعل فيكون جعلا فاسدا، واحتمل أن يريد على وجه الإجارة فيكون جائزا. وإذا كان اللفظ محتملا للجواز والفساد مترددا بينهما، فهو على مذهبه في مسائل كثيرة محمول على الجواز حتى يتبين الفساد، من ذلك من اكترى راعيا على رعاية غنم بأعيانها، فالإجارة عنده جائزة - وإن لم يشرط الخلف خلاف مذهب ابن القاسم في هذه المسألة مثل قوله في المسألة التي حكيناها في أول الكتاب؛ ومثل قوله فيمن قال: بع لي هذا الثوب ولك درهم - أن ذلك جائز فحمله على الجعل فأجازه مع احتمال أن يريد بذلك الإجارة، فتكون فاسدة إذا لم يضرب لها أجلا؛ فلما كان هذا القول جاريا على مذهب سحنون، اختاره واستحسنه، فقال فيه: إنه جل قوله الذي يعتمد عليه، ولو بين فقال: أستأجرك على أن تبيع لي هذا الثوب اليوم ولك درهم جاز باتفاق، ولو بين أيضا فقال: أجاعلك على أن تبيع لي هذا الثوب اليوم. ولك درهم. لم يجز باتفاق، إلا أن يشترط متى ما شاء أن يترك ترك، وإذا لم يقع بيان فهي مسألة الكتاب التي اختلف فيها قول ابن القاسم؛ فالمسألة تنقسم على هذه الثلاثة الأقسام، فهذا أولى ما تحمل عليه هذه المسألة، ولم أره لغيري - وهو صحيح بين لا ينبغي أن يلتفت إلى ما سواه، ومسألة نفض الزيتون من هذا الأصل فتدبر ذلك، وكذلك الخلاف الحاصل بين ابن القاسم وأشهب فيمن باع من رجل دارا على أن ينفق عليه حياته، جاز على هذا الأصل ومثل هذا كثير.
فصل وقد اختلف؛ هل من شروط صحته أن يكون للجاعل فيه منفعة أم لا؟ على قولين.(2/178)
فصل وليس من شروطه أن يكون العمل المجعول فيه معلوما بل يجوز في المعلوم والمجهول.
فصل ولا يلزم المجعول له العمل وله أن يترك شرع فيه أو لم يشرع، ولا شيء له إلا بتمام العمل؛ واختلف في الجاعل فقيل: إن الجعل يلزمه بالعقد وإلى هذا ذهب ابن حبيب في أحد قوليه وهو ظاهر رواية عيسى عن ابن القاسم في الجعل والإجارة، وقيل: لا يلزمه حتى يشرع المجعول له في العمل وهي رواية علي بن زياد عن مالك ورواية أشهب عنه أيضا في تضمين الصناع من العتبية ومذهب سحنون وهو أظهر القولين؛ لأنه لما كان المجعول له لا يلزمه وجب أن لا يلزم الجاعل إلا أن يشرع المجعول له في العمل، لئلا يبطل عليه عمله، ووجه القول الأول هو أن الجاعل لما كان ما أخرج معلوما ولم يجز أن يكن مجهولا لزمه، ولما كان العمل الذي يخرجه العامل في الجعل يجوز أن يكون مجهولا جاز له أن يرجع عنه متى شاء ولم يلزمه، ألا ترى أن الإجارة لما كانت معلومة في معلوم لزمتهما جميعا، ولم يكن لواحد منهما الرجوع.
فصل فعلى هذا إذا مات الجاعل قبل أن يشرع المجعول له في العمل على قول ابن حبيب، وظاهر رواية عيسى عن ابن القاسم أو بعد شروعه في العمل على رواية علي بن زياد وأشهب عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يلزم ذلك ورثته، ولا يكون لهم أن يمنعوا المجعول له من العمل؛ فإن مات المجعول له بعد أن شرع في العمل أو قبل أن يشرع فيه على أحد القولين، نزل ورثته منزلته؛ ولم يكن للجاعل أن يمنعهم من العمل؛ وقد روى أصبغ عن ابن القاسم خلاف هذا في المجاعلة في(2/179)
اقتضاء الديون، فجعل موت المجعول له كموت المقارض - إن كان قد شرع في العمل نزل ورثته منزلته إن كانوا أمناء، وإن كان لم يشرع في العمل ولا اقتضى منه شيئا، فلا حق لورثته، وقال: إن الجعل ينتقض بموت الجاعل - مات قبل شروع المجعول له في العمل أو بعده، فلم يحمله في هذا الطرف محمل القراض، ولا محمل الجعل في حق الجاعل له للزوم المجاعل له بالعقد أو شروع المجعول له في العمل - على ما قدمناه من الاختلاف في ذلك؛ وأما اشتراطه في موت المجعول له للأمانة في الورثة فصحيح لا ينبغي أن يختلف في ذلك؛ لأن هذا مما ينبغي فيه الأمانة.
فصل وليس من شروط صحة الجعل أن يكون في القليل، وإن كان قد قال ذلك عبد الوهاب وغيره، فليس بصحيح، وإنما الصحيح أنه جائز في كل ما لا يصح للجاعل فيه منفعة إلا بتمامه كما قدمناه كان قليلا أو كثيرا؛ وغير جائز فيما يكون للجاعل فيه منفعة قبل تمامه كان قليلا أو كثيرا؛ ولذلك قال ابن المواز: إن الجعل على حفر الآبار لا يجوز إلا فيما لا يملك من الأرضين؛ لأن ما يملك من الأرضين إن ترك المجعول له العمل بعد أن حفر بعض البئر، انتفع الجاعل بما حفر منها بوجوه كثيرة من وجوه المنافع، وما لا يملك من الأرضين منفعة للجاعل فيما حفر المجعول له منها إن لم يتم حفرها. فإذا لم يكن للجاعل في العمل المجعول فيه منفعة إلا بتمامه، جاز الجعل قياسا على قول الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، لأنه إذا لم يأت المجعول له في الطلب بالمطلوب لم ينتفع الجاعل بغايته في الطلب، وهذا بين.
فصل وقوله: إنما جوز مالك الجعل في الشيء اليسير مثل الثوب والثوبين، وقوله: إن الكثير من السلع تصلح فيه الإجارة ولا يصلح فيه الجعل، والقليل يصلح(2/180)
فيه الجعل والإجارة؛ إنما يريد بذلك كله في البيع خاصة؛ لأن الكثير من السلع إذا جاعله على بيعها ودفعها إليه إن بدا له في بيعها وصرفها إليه كان الجاعل قد انتفع بحفظه لها مدة كونها بيده، ولو لم يدفعها إليه، لجاز الجعل إذا جعل له في كل ثوب يبيعه منها جعلا مسمى، ولزم الجاعل الجعل في بيع جميعها؛ ألا ترى أن الجعل في الشراء على الثياب الكثيرة جائز؛ إذ لا يتولى حفظها، وكلما ابتاع ثوبا أسلمه إلى الجاعل ووجب له فيه جعله؛ ولو شرط الجاعل في الشراء على المجعول له أن يمسك الثياب وتكون في أمانته وقبضه حتى يتم شراء العدد الذي جاعله عليه، لم يجز للعلة التي قدمنا وهذا كله بين.
فصل والأعمال تنقسم على ثلاثة، منها: ما يصح فيه الجعل والإجارة، ومنها: ما لا يصح فيه الجعل ولا الإجارة، ومنها: ما لا يصح فيه الجعل وتصح فيه الإجارة.
فأما ما يصح فيه الجعل والإجارة فكثير، من ذلك بيع الثوب والثوبين وشراء الثياب القليلة والكثيرة، وحفر الآبار واقتضاء الديون، والمخاصمة في الحقوق على أحد قولي مالك، وقد روي عنه أن الجعل في الخصومة لا يجوز. وأما ما لا يصح فيه الجعل ولا الإجارة فنوعان، أحدهما: ما لا يجوز للمجعول له فعله، (والثاني) ما يلزمه، وأما ما تصح فيه الإجارة ولا يصح فيه الجعل فكثير أيضا، من ذلك خياطة الثوب وخدمة الشهر وبيع السلع الكثيرة، والسلعة الواحدة التي تباع من جاعل ويعلم أن الثمن فيها موجود أو على أن تباع ببلد آخر، وما أشبه ذلك مما يبقى للجاعل فيها منفعة إن لم يتم المجعول له العمل.
فصل واختلف في الجعل الفاسد إذا وقع، فقيل: إنه يرد إلى حكم نفسه فيكون(2/181)
للمجعول له جعل مثله إن كان أتم العمل، وإن لم يتمه فلا شيء له، وقيل: إنه يرد إلى حكم غيره وهي الإجارة؛ فيكون له إجارة مثله - أتم العمل أو لم يتمه؛ وقيل: إنه يرد إلى تجارة مثله في بعض المسائل وإلى جعل مثله في بعضها كالقراض الفاسدة، قيل: إنه يرد إلى حكم نفسه وهو قراض المثل؛ وقيل: إنه يرد إلى حكم غيره وهي الإجارة، فيكون له إجارة مثله، وقيل: إنه يرد القراض الفاسد إلى قراض مثله في بعض المسائل، وإلى إجارة المثل في بعضها وهو مذهب ابن القاسم؛ وقد يأتي في الجعل الفاسد أقوال خارجة عما أصلناه وهذا هو الصحيح فيها.
فصل ولا يجتمع الجعل والإجارة؛ لأن الإجارة لا تنعقد إلا معلوما في معلوم؛ والجعل يجوز فيه المجهول، فهما أصلان مفترقان لافتراق أحكامهما، متى جمع بينهما فسدا جميعا، وقد روي عن سحنون أنه أجاز المغارسة والبيع وهو من هذا المعنى، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(2/182)
[كتاب الرواحل والدواب]
قال الله عز وجل: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7] ، وقال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] ، وقال: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] ، وقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: 79] {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر: 80] ، وقال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] ، وقال:(2/183)
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} [يونس: 22] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء: 70] .
فصل فملكنا الله تعالى الأنعام والدواب وذللها لنا وأباح لنا تسخيرها والانتفاع بها رحمة منه تعالى بنا وما ملكه الإنسان وجاز له تسخيره من الحيوان، فكراؤه له جائز بإجماع أهل العلم لا اختلاف بينهم في ذلك.
فصل والكراء من العقود اللازمة يلزم المتكاريين الكراء بالعقد ولا يكون لأحدهما خيار في حله، إلا أن يشترط أحدهما الخيار لنفسه كالبيع سواء؛ لأنه ثمن ومثمون، فلا يجوز فيه الغرر والمجهول، ولا يصح إلا معلوما في معلوم، ولا بد فيه من تسمية الكراء وضرب الأجل إن اكترى الدابة مدة ما أو تسمية المسافة، إن أكراها إلى موضع ما، ولا بد من تسمية ما يحمل على الدابة أو ما يسخرها فيه، إلا أن يدخلا على عرف قد علماه فيقوم العرف في ذلك مقام التسمية.
فصل فإن أكرى الدابة وضرب لكرائها أجلا وسمى موضعا أو عين عملا، كان ذلك من باب مدتين في مدة فضارع ما نهى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيعتين في بيعة، ومن شرطين في بيع، وجرى على قولين، أحدهما: أن الكراء فاسد يفسخ، فإن مات كان للمكري كراء مثله على سرعة السير وإبطائه. والثاني: أن الكراء جائز لا يفسخ ويكون للمكري الكراء المسمى إن بلغ الموضع الذي سمياه في الأجل الذي وقتاه، وكراء مثله إن لم يبلغ إليه في الأجل، وهذا إذا كان الأجل واسعا يعلم أنه يدرك الوصول إلى الموضع الذي سمياه فيه، إلا أن يقصر أو يفرط، وأما إن كان(2/184)
الأجل ضيقا يمكن أن يصل فيه إلى ذلك الموضع، وألا يصل، فلا يجوز الكراء باتفاق، وكذلك إذا قال له: إن بلغت إليه إلى أجل كذا وكذا، فلك كذا وكذا، وإن لم تصل إليه إلا إلى أجل كذا وكذا فلك كذا وكذا، لا يجوز باتفاق، ويفسخ؛ فإن فات بالمسير، كان له كراء مثله بالغا ما بلغ على سرعة السير وإبطائه عند ابن القاسم، وعلى قول غيره في كتاب الجعل والإجارة لا ينقص من الأقل ولا يزاد على الأكثر، وللشيوخ في قول غيره المذكور ثلاثة وجوه من التأويل، (أحدها) أنه لا ينقص من الأقل ولا يزاد على الأكثر، سواء بلغ في الأجل أو لم يبلغ. (والثاني) أنه إن بلغ في الأجل وكان كراء مثله أقل من أقل الكراءين، لم ينقص من أقل الكراءين، وإن كان له كراء مثله أكثر من أكثر الكراءين، كان له ذلك. وإن لم يبلغ في الأجل وكان كراء مثله أكثر من أكثر الكراءين، لم يزد على أكثر الكراءين؛ وإن كان كراء مثله أقل من أقل الكراءين لم يكن له إلا ذلك، وهذا تأويل ابن أبي زمنين. (والثالث) أنه إن بلغ في الأجل لم ينقص من أكثر الكراءين، إن كانت القيمة أقل منه ولا يزيد عليه إن كانت أكثر منه، وإن لم يبلغ في الأجل، لم ينقص من أقل الكراءين إن كانت القيمة أقل منه، ولا زيد عليه إن كانت القيمة أكثر منه.
فصل وكراء الرواحل والدواب على وجهين، أحدهما: أن يكون مضمونا، والثاني: أن يكون معينا؛ فأما المعين فهو أن يقول: أكتري منك دابتك هذه أو راحلتك هذه، قال بعينها أو لم يقل، أو دابتك الفلانية أو راحلتك الفلانية، وذلك جائز بالنقد وإلى أجل، إذا شرع في الركوب أو كان إنما يركب إلى الأيام القلائل العشرة ونحوها، قاله مالك، وقال ابن القاسم: لا يعجبني إلى عشرة أيام يريد إذا نقد، وهذا إذا كانت الدابة أو الراحلة حاضرة، وأما إن كانت غائبة فلا يجوز تعجيل النقد؛ لأن النقد لا يصلح في شراء الغائب، وأما إن اكترى الراحلة بعينها على أن(2/185)
لا يركبها إلى فوق العشرة الأيام، قال في المدونة: إلى ثلاثين يوما أو نحوها، فلا يجوز الكراء بالنقد، ويجوز بغير النقد، وقال غيره: لا يجوز الكراء وإن لم ينقد لأنه من التحجير.
فصل وهذا الكراء المعين ينفسخ الكراء فيه بموت الراحلة أو الدابة، فإن ماتت في بعض المسافة فأراد أن يعطيه دابة أخرى بعينها يبلغ عليها إلى منتهى غايته، فإن كان لم ينقد فذلك جائز؛ لأنه كراء مبتدأ، كان قد نقده لم يجز؛ لأنه فسخ الدين في الدين: فسخ ما يجب له الرجوع به من بقية رأس ماله قي راحلة يركبها، إلا أن يكون ذلك في مفازة حيث لا يجد الكراء، فيجوز ذلك للضرورة؛ قال ابن حبيب: كما يجوز للمضطر أكل الميتة، وهذا على مذهب ابن القاسم، وأما على مذهب أشهب فذلك جائز؛ لأنه يجوز له أن يتحول من دين له إلى خدمة عبد بعينه أو كراء دابة بعينها، ولا يرى ذلك من فسخ الدين في الدين؛ لأنه إنما تحول إلى الانتفاع بشيء معين فجعل قبضه إياه لاستيفاء المنافع منه قبض لجميع المنافع، ولا يجوز له أن يكري منه بما يجب له به الرجوع عليه من الكراء كراء مضمونا باتفاق من ابن القاسم وأشهب وغيرهما.
فصل فإن فلس رب الراحلة في الكراء المعين، فالمكتري أحق بها إلى منتهى غايته قبضها أو لم يقبضها نقد الكراء أو لم ينقد.
فصل وأما كراء الدابة المضمونة أو الراحلة المضمونة وهو أن يقول: أكرني دابة أو(2/186)
راحلة فإنه يجوز أيضا بالنقد وإلى أجل إذا شرع في الركوب، وأما إن لم يشرع في الركوب، وإنما تكارى كراء مضمونا إلى أجل كالمتكاري إلى الحج في غير إبانه، فالقياس أنه لا يجوز إلا بتعجيل الكراء؛ لأنه كالسلم الثابت في الذمة فلا يجوز إلا بتعجيل رأس المال، إلا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد خفف، أن يعربن الدينار إلى أن يأتي الكري بظهره؛ لأن الأكراء قد قطعوا بالناس وقال: كم من كري قد هرب وترك أصحابه، فأجاز تأخير الكراء لهذه الضرورة، واستحب أن ينقد أكثر الكراء أو نحو ثلثيه.
فصل ولا ينفسخ الكراء بموت الدابة في الكراء المضمون، إلا أن الكري إذا قدم إلى المكتري دابة فركبها فليس له أن يبدلها تحته إلا برضاه؛ وإن فلس الكري كان المكتري أحق بها إلى منتهى غايته إذا كان قبضها وإن كان يبدل دوابه تحته فهو أحق بما كان تحته يوم التفليس، وإن كانت يوم التفليس قد نزل عنها وأخرجت إلى المرعى، فليس ذلك بمانع له من أن يكون أحق بها من الغرماء قاله ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب المديان، وغمز محمد بن المواز قول ابن القاسم هذا وقال: إنما يجب أن يكون أحق بها إذا كانت معينة، وهو معنى قول غير ابن القاسم في الكتاب ليس الراحلة بعينها كالمضمون، وقد تؤول أن معنى ذلك في اختلافهما في الكراء لتقدم المسألتين جميعا واحتمال إعادة قوله المذكور على كل واحد منهما.
فصل وأما إن فلس الكري قبل أن يقبض المكتري الدابة في الكراء المضمون، فهو أسوة الغرماء يحاصهم بقيمة الكراء يوم الحصاص لا يوم الكراء، فما صار له(2/187)
أكرى له به وما بقي اتبعه به دينا في ذمته، قال محمد: وسواء نقد الكراء أو لم ينقد، إلا أنه إن لم ينقد غرم الكراء ثم حاص فيه الغرماء وفي سائر ماله، فإن صار له نصف الكراء اتبعه بنصف الحمولة وليس بالثمن.
فصل فإذا قلنا: إن الكراء على وجهين: مضمون ومعين، فلا يخلو عقد الكراء من ثلاثة أوجه، أحدها: أن يقع على معين ببيان ونص، وذلك أن يقول: أكتري منك دابتك هذه أو دابتك الفلانية، قال: بعينها أو لم يقل، الحكم في ذلك سواء؛ والثاني: أن يقع على مضمون ببيان، وذلك أن يقول: أكر مني دابة بغلا أو حمارا أو راحلة صفة كذا وكذا من غير أن يسميها أو يشير إليها. والثالث: أن يعرى العقد في ذلك من البيان، وذلك أن يقول: أكتري منك دابتك بغلك أو حمارك أو راحلتك ولا يزيد على ذلك؛ فأما الوجهان الأولان، فلا كلام فيهما لهما في المضمون حكم المضمون، وفي المعين حكم المعين، على ما تقدم، وأما الوجه الثالث: إذا قال: أكتري منك بغلك أو راحلتك، ولم يزد على ذلك، فهي على أنها مضمونة غير معينة حتى يعينها بالتسمية لها أو بالإشارة إليها، روى ذلك ابن القاسم عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في كتاب الرواحل والدواب، وإليه ذهب ابن حبيب، قال في الصانع: إذا استعمله الرجل عملا فهو عليه مضمون في ماله إن مات قبل أن يتم ما استعمل إلا أن يشترط عمل يده أو يكون إنما قصده لرفقه وإحكامه، وحكي ذلك عن أصبغ وأنه مذهب قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وروى أيضا ابن القاسم عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نحوه في أول سماعه من كتاب الجعل والإجارة، وهو الذي يأتي على ما في كتاب النذور من المدونة، قال في الذي يحلف أن لا(2/188)
يدخل دار فلان: إنه يجوز له أن يدخلها إذا خرجت عن ملكه ما لم يقل دار فلان هذه، فيعينها بالإشارة إليها، ومثله أيضا في سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق فرق بين أن يحلف الرجل، فيقول: لا دخلت جنانك أو لا دخلت هذه الجنان. وفي سماع عيسى عن ابن القاسم في الكتاب المذكور في الذي يحلف أن لا يستخدم عبد فلان فيعتق فلان عبده ذلك، أنه لا يجوز له أن يستخدمه بعد العتق وإن لم يقل هذا العبد، فيدخل الاختلاف في هذه الرواية بالمعنى في مسألة الكراء، والأول هو المشهور المنصوص عليه.
فصل وهذا إذا اتفقا على الإبهام وتصادقا عليه ولم يدعيا البيان، وأما لو ادعيا البيان واختلفا، فقال أحدهما: مضمونا، وقال الآخر: معينا، لوجب أن يتحالفا ويتفاسخا إن كان المكتري لم يقبض؛ لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه، وأما إن قبض المكتري الدابة ثم اختلفا، فقال المكتري: هذه الدابة التي قبضت هي التي اكتريت بعينها، وقال رب الدابة: لم أكرها بعينها وإنما أكريت منك كراء مضمونا أو ادعى المكتري أنه اكترى إكراء مضمونا، وقال رب الدابة: ما أكريت منك إلا تلك التي دفعت إليك بعينها، فالقول قول الذي ادعى تعيين الدابة المدفوعة مع يمينه منها إن فاتت الدابة، وأما إن كانت الدابة قائمة لم تفت ولا دخلها عيب، فلا معنى ليمين من ادعى التعيين؛ إذ لا تفيد يمينه في هذه الحالة شيئا؛ لأنه إن كان الذي ادعى التعيين هو المكتري، فإنه يقول للمكري: هب الأمر كما تقول إنها مضمونة قد دفعت إلي هذه الدابة فليس لك أن تنزعها مني، وإن كان الذي ادعى التعيين هو رب الدابة فإنه يقول للمكتري: هب الأمر كما تقول إنها مضمونة ليس لك أن تلزمني بدلها ما لم تمت أو يدخلها عيب أو مرض. وبالله التوفيق.(2/189)
فصل
في التداعي
الأصل في التداعي من كتاب الله عز وجل قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] ، وقَوْله تَعَالَى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ؛ فوجب بهذا على كل من ابتدأ قولا وابتدع مذهبا أن يأتي بالدليل على صدق قوله، والبرهان على صحة مذهبه، وعلى من ادعى على أحد دعوى في مال أو دم أو عرض أو غير ذلك، أن يأتي بالبينة على دعواه، وقد بين ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعموم قوله: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» . وبقوله للرجل الذي خاصم إليه في الأرض التي زعم أنه انتزى عليها في الجاهلية فأنكر ذلك من دعواه: «شاهداك أو يمينه» .
فصل فوجه معرفة الفصل في الحكم بين المتداعيين تمييز المدعي الذي يكلف إقامة البينة على دعواه ولا يمكن من اليمين من المدعى عليه الذي يمكن من اليمين ولا يكلف إقامة البينة بالوقوف على العلة المفرقة بينهما الموجبة لتبدئة المدعى عليه باليمين دون المدعي، إذ قد يكون القول قول المدعي إذا كان في معنى المدعى عليه وتكون على المدعى عليه إقامة البينة إذا كان في معنى(2/190)
المدعي؛ لأن المدعى عليه لم يكن القول قوله من أجل أنه مدعى عليه، ولأن المدعي لم يكلف إقامة البينة على دعواه من أجل أنه مدع، إذ ليست الأحكام للأسماء، إنما هي للمعاني، فالمعنى الذي من أجله كان القول قول المدعى عليه هو أن له سببا يدل على صدقه دون المدعي في مجرد دعواه وهو كون السلعة بيده إن كانت الدعوى في شيء بعينه، أو كون ذمته بريئة على الأصل في براءة الذمم إن كانت الدعوى فيما في ذمته، والمعنى الذي من أجله وجب على المدعي إقامة البينة على دعواه هو مجرد دعواه من سبب يدل على صدقه فيما يدعيه، فإن كان له سبب يدل على تصديق قوله أقوى من سبب المدعى عليه، كالشاهد الواحد، أو الرهن، أو ما أشبه ذلك من إرخاء الستر، وجب أن يبدأ باليمين دون المدعى عليه، فإن لم يكن لواحد منهما سبب يدل على صدقه كالسلعة يتداعيانها وليست بيد واحد منهما، أو كان لكل واحد منهما سبب مكافئ لسبب صاحبه لا مزية له عليه، كتكافؤ البينة وليست السلعة في يد واحد منهما، لم يبدأ أحدهما باليمين دون صاحبه، ووجب أن يحلفا جميعا ويقسما السلعة بينهما.
فصل والأصل في هذا أن المبدأ باليمين من المتداعيين هو من كان منهما أشبه بالدعوى بسبب يدل على تصديقه، كان المدعي أو المدعى عليه؛ لأن المدعي والمدعى عليه متداعيان في الحقيقة، مثال ذلك: أن من ادعى دارا في يد رجل هما متداعيان فيها؛ لأن كل واحد منهما يدعيها لنفسه دون صاحبه فيستويان في الدعوى، وفضله الذي في يده الدار باليد، فكان أشبه بالدعوى، فجعل القول قوله لهذا المعنى، لا من أجل كونه مدعى عليه.(2/191)
فصل وقول سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أيما رجل عرف المدعي من المدعى عليه لم يلتبس عليه ما يحكم به بينهما، فالمدعي أن يقول: الرجل قد كان، والمدعى عليه أن يقول: الرجل لم يكن ليس على عمومه في كل موضع، وإنما يصح إذا تجردت دعوى المدعي في قوله قد كان من سبب يدل على تصديق دعواه، فإن كان له سبب يدل على تصديق دعواه أقوى من سبب المدعى عليه القائل لم يكن برئ عليه باليمين، مثال ذلك: أن من حاز شيئا مدة تكون فيه الحيازة عاملة في وجه المدعى فادعى الشراء، كان القول قوله مع يمينه في ذلك، وهو مدع يقول: قد كان، والمدعى عليه يقول: لم يكن، وكذلك المودع يدعي رد الوديعة، القول قوله وهو مدع، يقول: قد كان، والودع: يقول لم يكن، ومثل هذا كثير.
فصل يتبين بهذا الذي قلناه أن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» عام في جميع الدعاوى من الأموال والدماء وغير ذلك، وخاص فيما تجردت دعواه من المتداعيين عن سبب يدل على صدق قوله، والله أعلم.
فصل وهذه جملة لا اختلاف بين أحد من أهل العلم فيها وما يوجد من الاختلاف بينهم في التداعي ليس بخارج عن هذا الأصل، إنما هو اختلافهم في قوة السبب الدال على تصديق أحد المتداعيين وضعفه على ما يؤديه الاجتهاد إلى كل واحد منهم.
فصل والاختلاف بين المتكاريين كالاختلاف بين المتبايعين؛ لأن الكراء بيع من(2/192)
البيوع، والأصل في ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما بيعين تبايعا فالقول ما قال البائع أو يترادان» .
فصل واختلافهما لا يخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يختلفا في المسافة، (والثاني) أن يختلفا في الكراء، (والثالث) أن يختلفا في الأمرين جميعا. فأما اختلافهما في المسافة فإنه على وجهين، (أحدهما) أن يختلف في غايتها، مثل أن يقول المكري: أكريت منك إلى قرمونة، ويقول المتكاري: بل اكتريت منك إلى إشبيلة، (والثاني) أن يختلفا في جملتها، مثل أن يقول المكري: أكريت منك إلى إشبيلة، ويقول المتكاري: إنما تكاريت منك إلى غرناطة، وما أشبه ذلك.
وأما اختلافهما في الكراء، فإنه على ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يختلفا في نوعه مثل أن يقول أحدهما: دنانير، والآخر: دراهم أو طعام أو عروض وما أشبه ذلك، (والثاني) أن يختلفا في الصفة، مثل أن يقول أحدهما: دنانير هاشمية، ويقول الآخر: عتق سليمانية، أو يقول أحدهما: وازنة، ويقول الآخر: ناقصة، أو يقول أحدهما: دراهم سود، ويقول الآخر: بيض، وما أشبه ذلك، أو يقول أحدهما: قمح على صفة كذا وكذا، ويقول الآخر: بل على صفة كذا وكذا، وما أشبه ذلك؛ (والثالث) أن يختلفا في قلته وكثرته، مثل أن يقول المكري: أكريت منك بعشرة دراهم أو عشرة أرادب، ويقول المكتري: اكتريت منك بثمانية دراهم، أو ثمانية أرادب وما أشبه ذلك.
فصل فأما إذا كان اختلافهما في جملة المسافة أو في نوع الكراء، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان من غير تفصيل.(2/193)
فصل وصفة أيمانهما أن يحلف المكري في اختلافهما في جملة المسافة ما أكرى منه إلى بلد كذا وكذا وليس عليه أن يزيد في يمينه، ولقد اكترى منه إلى بلد كذا وكذا إلا أن يشاء رجاء أن ينكل صاحبه عن اليمين، فلا يحتاج إلى يمين أخرى، وإن شاء أن يقول: ما أكريت منه إلا إلى بلد كذا وكذا فيجمع المعنيين في لفظ واحد، ثم يحلف المكتري بالله ما اكتريت منه إلى موضع كذا ولا يزيد في يمينه ولقد اكتريت منه إلى بلد كذا، إذ لا فائدة له في ذلك؛ لأن المكري قد نفاه بيمينه إلا أن يكون هو المبدأ باليمين على غير الاختيار في تبدئة البائع باليمين، وعلى ما كان الشيوخ يتأولون على رواية يحيى من جامع البيوع من العتبية وليس بتأويل صحيح، فيزيد ذلك في يمينه إن شاء، أو يقول ما اكتريت منه إلا إلى موضع كذا وكذا رجاء أن ينكل المكري عن اليمين، فلا يحتاج إلى يمين أخرى، وعلى هذا فقس أيمان المتبايعين والمتكاريين حيثما وجب التحالف والتفاسخ بينهما.
فصل فإن نكل أحدهما وحلف الآخر، كان القول قول الحالف منهما، ولا بد أن يحلف ههنا على المعنيين جميعا أو يجمعهما، إن شاء في لفظ واحد على ما تقدم.
فصل واختلف إن حلفا جميعا هل يقع الفسخ بينهما بتمام التحالف أم لا؟ على أربعة أقوال، (أحدها) أن الفسخ يقع بينهما بتمام التحالف وهو قول سحنون وظاهر(2/194)
ما في كتاب الشفعة من المدونة؛ (والثاني) أنه لا يقع الفسخ بينهما بتمام التحالف وهو مذهب ابن القاسم في السلم الثاني من المدونة، (والثالث) أن ذلك إن كان بحكم وقع الفسخ بتمام التحالف، وإن لم يكن بحكم لم يقع الفسخ إلا بتراضيهما عليه بعد الأيمان، (والرابع) أن ذلك إن كان بحكم من الحاكم لم يقع الفسخ حتى يحكم به الحاكم بينهما، وإن كانت أيمانهما دون حكم وقع الفسخ بتمام التحالف، بعكس القول الثالث، ووجه هذا القول أن رضاهما بالتحالف دون الحكم رضا منهما بالفسخ، وهذان القولان للمتأخرين من أصحابنا.
فصل فإذا قلنا: إن البيع والكراء لا ينفسخ بينهما بتمام التحالف حتى يفسخه الحاكم بينهما، ففي ذلك اختلاف، قال في المدونة: إن للمبتاع أن يأخذ بما قال البائع، وظاهره: أن ليس للبائع أن يلزمها المبتاع بما قال، وقال محمد بن عبد الحكم: إن للبائع أن يلزمها المبتاع بما قال، فظاهره أيضا أنه ليس للمبتاع أن يأخذها بما قال البائع، وقد قيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول، وإنما تكلم في المدونة على المبتاع وسكت عن البائع؛ وتكلم محمد بن عبد الحكم على البائع، وسكت عن المبتاع، فيجمع بين القولين بأن القول إن أراد المبتاع أن يأخذ بما قال البائع، لزم ذلك البائع، وإن أراد البائع أن يلزمها المبتاع بما قال، لزم ذلك المبتاع، وهذا هو الذي حملناه عن الشيخ أبي جعفر بن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإنما يصح ذلك إذا كان اختلافهما في القلة والكثرة أو في غاية المسافة، وأما إن كان اختلافهما في الأنواع أو في جملة المسافة فلا يصح أن يحمل عليه إلا على أنه اختلاف من القول؛ إذ لا يصح أن يجمع بينهما في ذلك، فيكون على مذهب ابن القاسم للمكتري أن يركب إلى البلد الذي قال المكري إن كان اختلافهما في جملة المسافة، وأن يركب النوع الذي قال المكري إن كان اختلافهما في(2/195)
الأنواع ويكون على مذهب محمد بن عبد الحكم للمكري أن يلزم المكتري الركوب إلى البلد الذي ادعى إن كان اختلافهما في جملة المسافة، وأن يلزمه الركوب بالنوع الذي ادعى إن كان اختلافهما في الأنواع.
فصل واختلف أيضا إذا نكلا جميعا، فذهب ابن القاسم إلى أن ينزل نكولهما جميعا بمنزلة حلفهما جميعا، وهو قول شريح في كتاب الخيار من المدونة: إن حلفا ترادا، وإن نكلا ترادا، وذهب ابن حبيب إلى أنهما إن نكلا كان القول قول البائع، وحكى نحو ذلك عن مالك في مسألة الوكيل، هكذا أتت الرواية عنه مجملة دون تبيين، وذهب بعض أهل العلم إلى أن معنى ذلك بعد أن يحلف، ووجه ما ذهب إليه أن اليمين التي نكل عنها إنما هي قوله: إني ما أكريت إلى مكان كذا وكذا، وما أكريت بكذا وكذا، وأما زيادته في يمينه ولقد أكريت إلى موضع كذا وكذا ولقد أكريت بكذا وكذا، فلم ينكل عنه إذ لم يجب عليه اليمين بذلك ولا كلف إياه، وإنما هو أمر طاع بالحلف عليه رجاء أن ينكل صاحبه عن اليمين على ما قدمناه. فوجب أن لا يعتبر بنكوله عن يمين لم تجب عليه، ولا يستحق بها ما حلف، ولا يصح أن يكون القول قول من نكل عن اليمين إذا ردها على صاحبه فنكل عنها، إلا إذا كانت يمينا واجبة عليه لو حلف بها لاستحق بيمينه ما حلف عليه، كمن أقام شاهدا على حقه فنكل عن اليمين، فردها على المدعى عليه فنكل عن اليمين، فإن المدعي يأخذ ما ادعى بلا يمين؛ لأنه لو حلف لأخذ ما ادعى بيمينه، أو كمن وجب له على المدعى عليه اليمين فنكل عنها فردها على المدعي فنكل عن اليمين، فإن المدعى عليه تسقط عنه الدعوى دون يمين؛ لأنه لو حلف لسقطت عنه يمينه، وأما من نكل عن يمين غير واجبة عليه، فلا يستحق بنكوله ما نكل عنه إذا نكل صاحبه، أصل ذلك من ادعى على رجل دعوى فقال المدعى عليه للمدعي: أنا أبرئك باليمين احلف وخذ ما ادعيت، فقال المدعي: لا أحلف(2/196)
قد رددت عليك اليمين، احلف أنت وابرأ، فقال: لا أحلف ونكل عن اليمين، لم يستحق المدعي ما نكل عنه، وهو لو حلف عليه لاستحق، إذ لم تجب عليه اليمين التي نكل عنها، فأحرى أن لا يستحق في مسألتنا بنكوله ما نكل عنه إذا نكل صاحبه إذ ما نكل عنه لم يجب عليه، وإذ لو حلف عليه لما استحقه وهذا بين.
فصل فإذا قلنا: معنى ما ذهب إليه ابن حبيب أن القول قول البائع مع يمينه، فهو أظهر من قول ابن القاسم؛ لأن البائع إذا نكل أولا عن اليمين، فمن حجته أن يقول إذا نكل المبتاع، أنا أحلف لقد بعت سلعتي بكذا وكذا؛ لأنني في ذلك مدع على المبتاع، فلما نكل عن اليمين وجب لي أن أحلف وآخذ على حكم المدعي والمدعى عليه، ولو كان من حقي أن أحلف وآخذ ما حلفت عليه لم أنكل عن اليمين، فإن نكل البائع على هذا عن اليمين بعد نكول المبتاع حلف المبتاع وأخذ السلعة لما حلف عليه، وهذا كله بين؛ لأن البائع في التمثيل مدع على المبتاع أنه ابتاع بعشرة، فلما نكل عن اليمين وجب أن يحلف هو ويستحق العشرة، والمبتاع مدع على البائع أنه باع بثمانية، فلما نكل عن اليمين وجب أن يحلف هو ويستحق السلعة بثمانية، وكذلك على هذا إذا اختلف المتكاريان في عدد الكراء أو في نوعه وجملة المسافة، أو في غايتها فنكلا عن اليمين يكون القول قول المكري مع يمينه، فإن نكل عن اليمين، كان القول قول المكتري مع يمينه إلا في اختلافهما في جملة المسافة، فيأتي على هذا أنه إن نكل كل واحد منهما عن الحلف على تكذيب قول صاحبه، حلف كل واحد منهما على ما ادعى واستحقه على صاحبه، فلزم المكتري أن يمضي مع المكري إلى البلد الذي حلف عليه، ولزم المكري أن يمضي مع المكتري إلى البلد الذي حلف عليه أيضا، فلو قال قائل: إن معنى قول ابن القاسم إن نكلا ترادا، أما وإن كل واحد منهما نكل عن اليمين قبل نكول صاحبه، وبعد نكوله وأبى من اليمين جملة، لقلت له: ما أبعدت في التأويل، ولقد قلت قولا(2/197)
وسطا نفيت به الاعتراض عن ابن القاسم والاختلاف بينه وبين ابن حبيب، وحمل الروايات على الاتفاق ما أمكن، أولى من حملها على الخلاف. لا سيما إذا كان في حملها على ظاهرها من الخلاف اعتراض على أحد القولين، كمسألتنا هذه.
وأما من حمل قول ابن حبيب على ظاهره في أن القول قول البائع بلا يمين إذا نكلا عن اليمين يعد قوله مثل قول أهل العراق في القضاء بالنكول دون رد اليمين ولم يمكنه الجمع بين مذهبه ومذهب ابن القاسم، فالتأويل الأول أظهر، والله أعلم.
فصل واختلف إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة وأتى أحدهما بأشبه مما أتى به صاحبه، هل يتحالفان ويتفاسخان، أو يكون القول قول من أتى منهما بالأشبه، فالمشهور من المذهب الصحيح من الأقوال أنهما يتحالفان ويتفاسخان، ولا ينظر في ذلك إلى الأشبه من غيره، وذهب ابن وهب إلى أن القول قول من أتى منهما بما يشبه، وقاله ابن حبيب في بعض مسائله، منها إذا ادعى أحدهما حلالا والآخر حراما، ومنها إذا اختلفا في صفة النقد، وقاله ابن القاسم في سماع عيسى في الكرى، يقول: أكريت منك إلى المدينة، ويقول المكتري: اكتريت منك إلى مكة، وذلك في أيام الحج، وقاله أيضا في سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات في الذي يبيع الأرض وفيها الماء، فيقول: أنا بعت الأرض دون الماء بشرط وبيان، ويقول المبتاع: بل اشتريت الأرض بمائها، وأقام ذلك القاضي أبو الوليد الباجي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - من كتاب الرواحل والدواب من المدونة، ولا يصح ما ذهب إليه من ذلك؛ لأن الذي في المدونة إنما هو مع الفوات.
فصل فأما مسألة الكراء والأرض والماء والاختلاف في صفة النقد فيجري ذلك على الاختلاف، وأما مسألة الاختلاف في الحلال والحرام، ففيه تفصيل، وذلك(2/198)
أن السلعة لا تخلو من أن تكون قائمة أو فائتة، فإن كانت قائمة وكان اختلافهما لا يؤدي إلى اختلاف في الثمن ولا في المثمون، فإن القول قول من يدعي الصحة والحلال منهما، وإن كان اختلافهما يؤدي إلى اختلاف في الثمن والمثمون جرى ذلك على اختلافهم في مراعاة دعوى الأشباه مع القيام، فيكون القول قول مدعي الصحة على مذهب من يراعي دعوى الأشباه مع القيام، إلا أن يكون العرف الحرام، فيكون القول قول مدعي الحرام، وروى أبو زيد عن ابن القاسم أن القول قول من ادعى العرف منهما، فإن كان الناس يتعاملون بالحلال والحرام أحلفا وفسخ الأمر بينهما، فلم ير في هذه الرواية لمدعي الحلال مزية في دعواه على مدعي الحرام، وبناها على مراعاة دعوى الأشباه مع القيام، ويتحالفان ويتفاسخان على مذهب من لا يراعي دعوى الأشباه، كذا أتت الرواية أنهما يتحالفان ويتفاسخان، والذي ينبغي أن يكون القول قول مدعي الفساد بائعا كان أو مبتاعا، فإن حلفا انفسخ البيع ولا معنى ليمين صاحبه؛ لأن البيع يفسخ حلف أو نكل إذا حلف مدعي الفساد فإن نكل، حلف مدعي الصحة وثبت البيع، وأما إن كانت السلعة قد فاتت وكان اختلافهما لا يؤدي إلى اختلاف في الثمن ولا في المثمون، أو يؤدي إلى اختلاف في قلة الثمن وكثرته، أو في صفته دون نوعه، فإن القول قول مدعي الحلال منهما وإن كان اختلافهما في الأنواع، جرى ذلك على الاختلاف في مراعاة دعوى الأشباه مع القيام، هذا الذي يتحصل عندي في هذه المسألة على أصولهم.
فصل وقد كنا ذكرنا في أول المسألة أن المتكاريين إذا اختلفا في جملة المسافة، أو في نوع الكراء، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان من غير تفصيل، ومضى القول في حكم التحالف والتفاسخ في ذلك، وكذلك يتحالفان ويتفاسخان أيضا إذا اختلفا في عدد الكراء قبل الركوب أو بعد الركوب بشيء يسير لا ضرر فيه في(2/199)
الرجوع عليهما تعد أو لم نقد إلا على مذهب أشهب الذي يرى التحالف والتفاسخ في القيام والفوات، فيتحالفان ويتفاسخان ركب أو لم يركب نقد أو لم ينقد، وكذلك الحكم إذا اختلفا في صفة الكراء إلا ما حكيناه، عن ابن حبيب من مراعاة العرف في اختلافهما في صفة النقد، وقلنا: إن ذلك من قوله يأتي على مراعاة الأشباه مع القيام في موضع التحالف والتفاسخ، وكذلك يتحالفان ويتفاسخان أيضا إذا اختلفا في غاية المسافة قبل الركوب أو بعد الركوب بشيء يسير لا ضرر فيه عليهما في الرجوع منه نقد أو لم ينقد على مذهب ابن القاسم، وقال غيره: إذا نقد فالقول قول المكري، وعلى قول أشهب يتحالفان ويتفاسحان ركب أو لم يركب نقد أو لم ينقد.
فصل وأما إن اختلفا في عدد الكراء أو في صفته بعد أن سارا من الطريق ما عليهما في الرجوع منه ضرر.. فالقول قول المكتري نقد أو لم ينقد أشبه ما قال المكري أو لم يشبه، فإن نكل عن اليمين، كان القول قول المكري - أشبه ما قال أو لم يشبه. وإن لم يشبه ما قال المكتري وأشبه ما قال المكري، كان القول قوله، وإن لم يشبه ما قال أيضا تحالفا وكان عليه كراء المثل ولم يفسخ الكراء لما عليهما من الضرر في الرجوع، وكذلك إن نكلا جميعا، وأما إن حلف أحدهما ونكل الآخر، فالقول قول الحالف منهما مع يمينه، وإن لم يشبه كانت الراحلة بعينها أو لم تكن على مذهب ابن القاسم، وقال غيره في المدونة ليس الراحلة بعينها كالضمون يريد أن المضمون ينفسخ الكراء فيه بينهما إذا تحالفا ولا يلزمه أن يبلغه إلى المسافة بخلاف المعين.
فصل وأما إن كان اختلافهما في غاية المسافة بعد الركوب الكثير بلغا إلى الغاية التي اتفقا عليها أو لم يبلغا وقبل النقد فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه، (أحدها)(2/200)
أن يشبه قولهما جميعا أو يشبه قول المكتري ولا يشبه قول المكري، (والثاني) أن لا يشبه قول واحد منهما، (والثالث) أن يشبه قول المكري دون المكتري، فأما الوجه الأول وهو أن يشبه قولهما جميعا، أو قول المكتري دون المكري، فإنهما يحلفان جميعا وينفسخ الكراء في الغاية التي اختلفا فيها ونقض الكراء على الجميع، فيكون للمكري منه ما ناب الغاية التي اتفقا عليها ويركب المكتري إليها إن كان اختلافهما قبل الوصول إليها، بخلاف المتكاريين في وجيبة كراء الدار، وكذلك الحكم إن نكلا جميعا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف منهما، فإن كان المكتري هو الذي نكل عن اليمين، كان الكراء كله للمكري فيما أقر به من المسافة، وإن كان المكري هو الذي نكل، كان للمكتري الركوب إلى حيث ادعى، وأما الوجه الثاني وهو أن لا يشبه قول واحد منهما، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان في المسافة التي اختلفا فيها، ويكون للمكري في المسافة التي اتفقا عليها كراء مثلها، وكذلك الحكم أيضا إن نكلا جميعا؛ فإن نكل أحدهما وحلف الآخر، كان القول قول الحالف منهما وإن لم يشبه؛ لأن صاحبه قد مكنه من دعواه بنكوله عن اليمين، وأما الوجه الثالث وهو أن يشبه قول المكري دون المكتري فالقول قوله مع يمينه على دعوى المكتري، فإن نكل المكري عن اليمين كان القول قول المكتري ويركب إلى حيث ادعى وإن لم يشبه؛ لأن المكري قد مكنه من ذلك بنكوله.
33355 -
فصل وأما إن كان اختلافهما في ذلك بعد النقد فلا يخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يشبه قولهما جميعا أو قول المكري الذي انتقد، (والثاني) أن لا يشبه قول واحد منهما، (والثالث) أن يشبه قول المكتري ولا يشبه قول المكري، فأما الوجه الأول وهو أن يشبه قولهما أو قول المكري الذي انتقد، فالقول قوله مع يمينه، فإن نكل حلف المكتري وكان القول قوله في الركوب بما نقد إلى الغاية التي ادعى، وأما الوجه الثاني وهو أن لا يشبه قول واحد منهما، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان في(2/201)
المسافة التي اختلفا فيها ويكون للمكري في المسافة التي اتفقا عليها كراء مثلها، فإن كان ذلك أكثر مما قبض وفاه المكتري الزيادة، وإن كان أقل مما قبض رد الزيادة، وكذلك إن نكلا جميعا، فإن حلف أحدهما ونكل الأخر، كان القول قول الحالف منهما، وأما الوجه الثالث وهو أن يشبه قول المكتري ولا يشبه قول المكري، فإنهما يتحالفان على مذهب ابن القاسم ويفض الكراء المنقود على المسافتين، فما ناب المسافة التي اتفقا عليها، كان للمكري، وما ناب المسافة التي اختلفا فيها صرفه المكري على المكتري، وكذلك إن نكلا جميعا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف منهما.
فصل وعلى هذا فقس اختلافهما في الوجهين جميعا الكراء وغاية المسافة القول قول المكري أبدا في غاية المسافة أشبه أو لم يشبه على مذهب ابن القاسم. وفيما قبض من الكراء أنه إنما قبضه إلى الغاية التي يقر بها، والقول قول المكتري أنه لم يكتر إلا بكذا وكذا لما يقر به وفي أنه إنما اكتري به إلى الغاية التي يدعيها إن كان لم ينقدها ويفض الكراء على الغايتين جميعا عليه من ذلك ما ناب الغاية الأولى، ومن أتى منهما بما لا يشبه لم يصدق وكان القول قول صاحبه إن أتى بما يشبه إلا المكري في غاية المسافة على ما قدمناه، وإن أتيا جميعا بما لا يشبه حلفا وكان على المكتري كراء المثل في المسافة الأولى، وكذلك إن نكلا جميعا، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف منهما أشبه أو لم يشبه، ولا بد من ركوب المكتري إلى الغاية الأولى للضرر الداخل عليه في فسخ الكراء دونها في الطريق، ولو كان اختلافهما قبل الركوب أو بعد ركوب شيء يسير لا ضرر عليهما في الرجوع منه، تحالفا وانفسخ الكراء في الجميع، والله أعلم وبه التوفيق.
فصل
في الإقالة في الكراء وما يجوز منها مما لا يجوز. الإقالة في الكراء(2/202)
المضمون كالإقالة في العروض المسلم فيها يعتبر الفساد فيها في وجهين: أحدهما: أن تنعقد الإقالة بمجردها على ما لا يجوز، والثاني: أن تكون الإقالة بمجردها لا مكروه فيها إلا أنك إذا أضفتها إلى الصفة الأولى، ظهر المكروه فيها، فاتهما على القصد إلى ذلك والعمل عليه، فمنعا من ذلك حماية للذرائع، وأما الكراء المعين، فاختلف في الإقالة فيه على قولين، أحدهما: أن ذلك كالسلم الثابت في الذمة يعتبر فيها الوجهان جميعا، والثاني: أن ذلك كالإقالة من العروض المعينات لا يعتبر فيها إلا انعقادها بمجردها على ما لا يجوز.
فصل وبيان هذه الجملة: أن الرجل إذا اكترى كراء مضمونا ثم تقايل مع صاحبه على زيادة فلا يخلو ذلك من وجهين، أحدهما: أن تكون الزيادة من قبل المكتري، والثاني: أن تكون الزيادة من قبل المكري، فأما الوجه الأول، وهو أن تكون الزيادة من قبل المكتري، فإن ذلك ينقسم على قسمين، أحدهما: أن يكون ذلك قبل النقد، والثاني: أن يكون بعد النقد قبل الافتراق والغيبة على النقد أو بعده، إذ لا فرق في زيادة المكتري إذا نقد قبل أن يغيب المكري على النقد أو لا يغيب، وفي كل وجه من هذين الوجهين ست مسائل، إذ لا تخلو الزيادة أن تكون ذهبا أو ورقا أو عرضا نقدا، فهذه ثلاث مسائل، أو تكون مؤجلة فهذه ثلاث مسائل أخر تتمة ست مسائل، فيأتي اثنا عشر سؤالا في زيادة المكتري، وكذلك تنقسم الزيادة من المكري إلى قسمين، إلا أن أحدهما أن يكون ذلك قبل النقد أو بعده وقبل الغيبة عليه، إذ لا فرق في زيادة المكري بين أن يكون لم ينقد أو قد انتقد ولم يغب على النقد، والثاني: أن يكون ذلك بعد النقد والغيبة عليه، وفي كل وجه من هذين الوجهين ست مسائل أيضا على التقسيم المذكور في زيادة المكتري.
فصل فإذا استقال المكتري المكري في الكراء المضمون قبل النقد بزيادة، فإن كانت الزيادة مؤجلة، فلا يجوز باتفاق؛ لأن الكراء تحول من الكراء الذي وجب له(2/203)
على المكتري إلى الركوب الذي عليه وإلى الزيادة المؤجلة، فيدخله فسخ الدين في الدين إن كانت الزيادة عرضا، وإن كانت دنانير دخله عرض وذهب بذهب إلى أجل، وإن كانت دراهم، دخله الصرف المتأخر، وإن كانت الزيادة دنانير معجلة أو عروضا معجلة، جاز ذلك، وإن كانت الزيادة دراهم معجلة والكراء بدنانير، لم يجز ذلك على مذهب ابن القاسم، إلا أن يكون أقل من صرف دينار، وقيل: إن ذلك جائز وإن كان أكثر من صرف دينار، وذلك يأتي على مذهب من يجيز البيع والصرف ويرى انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وقيل: إن ذلك لا يجوز وإن كان أقل من صرف دينار وذلك يأتي على مذهب من يرى انحلال الذمم بمنزلة انعقادها، وهو قول أشهب وابن نافع، فيدخله الصرف المتأخر على مذهبهما، وذهب الفضل إلى أن الصرف المتأخر لا يدخله على مذهبهما، إلا أن يكون الكراء مؤجلا لم يحل، ولا فرق عندي في الكراء المضمون بين أن يحل أو لا يحل؛ لأنه وإن حل فلا يمكن المكتري قبضه إلا شيئا فشيئا، وذهب ابن لبابة إلى أن الإقالة في الكراء المضمون قبل النقد لا يجوز أصلا، وشبه ذلك بالإقالة من السلعة الغائبة قبل النقد. وقوله على قياس القول بأن انحلال الذمم بمنزلة انعقادها.
فصل وإن كان استقاله بزيادة بعد النقد قبل أن يغيب عليه أو بعد أن غاب عليه وكانت الزيادة ذهبا، فلا تجوز إلا أن تكون مقاصة من الكراء الذي نقد على ما نص عليه في المدونة، وإن كانت دراهم فعلى الثلاثة الأقوال المتقدمة: الجواز، والمنع، والفرق بين أن تكون الدراهم أقل من صرف دينار أو أكثر.
وإن كانت عروضا جاز أن تكون معجلة ومؤجلة؛ لأن المكتري باع الركوب الذي وجب له والعرض الذي دفع معجلا أو مؤخرا بالكراء الذي يسترجعه، وذلك جائز، فهذا وجه القول في الاثنتي عشرة مسألة في استقالة المكتري بزيادة.(2/204)
فصل وأما إن كان المكتري هو المستقيل بزيادة ولم ينتقد أو انتقد ولم يغب على النقد، فذلك جائز، إن كانت الزيادة معجلة دنانير كانت أو دراهم أو عروضا؛ لأن المكتري باع الركوب الذي وجب له على المكري بالزيادة التي أخذها معجلة وبالكراء الذي استرجعه من المكري إن كان قد نقده إياه أو بسقوطه عن ذمته إن كان لم ينقده إياه، فلا وجه من المكروه في ذلك، وإن كانت الزيادة مؤجلة لم تجز على حال ودخله فسخ الدين في الدين.
فصل وأما إن كان المكري هو المستقيل بزيادة بعد أن انتقد وغاب على النقد، فلا يجوز على حال كانت الزيادة معجلة أو مؤخرة ما كانت وتدخله الزيادة في السلف؛ لأنهما يتهمان على إظهار الكراء والإقالة ليجيزا بينهما السلف على الزيادة إلا أن يكون قد سار من الطريق ما يرفع التهمة عنهما، فيجوز إن كانت الزيادة نقدا، ولا يجوز إن كانت إلى أجل؛ لأنه يكون من الدين بالدين، ألا ترى أن المكتري تحول من الركوب الذي كان له على المكري في ذمته إلى زيادة مؤجلة، فهذا وجه القول في الاثنتي عشرة مسألة التي في استقالة المكري بزيادة.
فصل قال في المدونة: وهذا خلاف البيوع، يريد أن الكراء المضمون بخلاف السلم الثابت في الذمة في جواز الإقالة في الكراء بعد الركوب والمنع منها في(2/205)
السلم بعد قبض السلم بزيادة معجلة يزيدها المسلم إليه والمكري بعد أن انتقد وغاب على النقد خلاف مذهب أشهب في مساواته بين الوجهين، ويحتمل أن يريد أن الكراء المعين بخلاف بيع السلع المعينات في أن الإقالة بزيادة المكري بعد الغيبة على النقد لا تجوز كانت الزيادة معجلة أو مؤجلة، بخلاف الإقالة في السلع المعينات بعد الغيبة على الثمن بزيادة معجلة أو مؤجلة، وهذا على القول الذي حكم فيه للكراء المعين بحكم الكراء المضمون، ويحتمل أن يريد أن حكم الكراء المضمون الثابت في الذمة بخلاف البيع في السلع المعينات في أنه لا يجوز لمن أكرى كراء مضمونا أن يستقيل بعد النقد بزيادة معجلة ولا مؤجلة، إلا أن يكون قد سار من الطريق ما يرفع التهمة عنهما، فيجوز بزيادة معجلة، ويجوز لمن باع سلعة أن يستقيل بعد أن غاب على النقد بزيادة مؤخرة ومعجلة.
فصل وأما إن كان الكراء في دابة معينة؛ فإن ذلك ينقسم على وجهين: (أحدهما) أن يكون الكراء مؤخرا بشرط أو عرف أو حكم. (والثاني) أن يكون الكراء نقدا بشرط أو عرف، فأما الوجه الأول وهو أن يكون الكراء مؤخرا فإن ذلك ينقسم على وجهين، (أحدهما) أن يكون المكتري هو المستقيل بزيادة. (والثاني) أن يكون المكري هو المستقيل بزيادة، ففي كل وجه من هذين الوجهين ست مسائل على ما ذكرناه في الكراء المضمون.
فصل فإن استقاله المكتري بزيادة وكانت الزيادة عرضا، جاز ذلك نقدا ولم يجز إلى أجل، فإن كانت الزيادة ذهبا والكراء بذهب لم يجز إلا إلى محل أجل الكراء على المقايضة ولا يجوز نقدا لأنه يدخله "ضع وتعجل"، ولا إلى أجل سوى(2/206)
محل أجل الكراء، وإن كانت الزيادة دراهم لم يجز نقدا ولا إلى أجل؛ لأنه يدخله الصرف المتأخر وهذا كله على مذهب ابن القاسم الذي يرى انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وعلى مذهب أشهب أيضا الذي يرى انحلال الذمم بمنزلة انعقادها، ويجيز التحول من الدين في كراء شيء بعينه، وأما على مذهب من يرى انحلال الذمم بمنزلة انعقادها ويقول بقول ابن القاسم إن من كان له دين على رجل، لا يجوز له أن يحوله في ركوب دابة بعينها؛ فلا تجوز الإقالة على حال؛ لأن المكري تحول من الكراء الواجب له على المكتري هي ركوب لا يتنجز قبضه، فيدخله فسخ الدين في الدين.
فصل فإن استقاله المكتري بزيادة وكانت الزيادة عرضا جاز إن كان معجلا ولم يجز إن كان مؤجلا؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين، وكذلك إن كانت الزيادة ذهبا والكراء بذهب، يجوز إن كانت معجلة ولا يجوز إن كان مؤجلة؛ لأنه إن كانت معجلة فالمكتري تحول من الركوب الذي له على المكري إلى الكراء الذي عليه وإلى الذهب الذي يزيده إياها المكري معجلة، فلم يكن بذلك بأس، وإن كانت مؤجلة دخله فسخ الدين في الدين؛ لأن المكتري تحول من الركوب الذي له على المكري إلى الكراء الذي له عليه، وإلى الزيادة المؤجلة التي يزيده إياها، وهذا على مذهب ابن القاسم الذي يرى انحلال الذمم بخلاف انعقاد، وعلى مذهب أشهب أيضا الذي يرى انحلال الذمم بمنزلة انعقادها ويجيز التحول من الدين في كراء شيء بعينه، وأما على مذهب من يرى انحلال الذمم كانعقادها ولا يجيز التحول من الدين في كراء شيء بعينه، فلا تجوز الإقالة بحال، وإن لم يزد أحدهما صاحبه شيئا؛ لأن كل واحد منهما يتحول بماله على صاحبه في شيء لا يتنجز قبضه.(2/207)
فصل وأما الوجه الثاني، وهو أن يكون الكراء نقدا بشرط أو عرف، فإنه ينقسم على وجهين: (أحدهما) أن يكون لم ينقد، (والثاني) أن يكون قد نقد غاب على النقد أو لم يغب إن كان المكتري هو المستقيل بزيادة، وإن كان البائع هو المستقيل بزيادة قلت فيه: إنه ينقسم على وجهين: (أحدهما) أن يكون لم ينقد أو نقد ولم يغب على النقد. (والثاني) أن يكون قد نقد وغاب على النقد، وتتفرع هذه الأربعة الأقسام على أربعة وعشرين سؤالا على التفسير الذي قسمناه في الكراء المضمون وشرحنا وجوهه، فما كان منها لا يجوز بفسخ الكراء في زيادة مؤجلة يزيدها المكتري للمكري فلا يجوز أيضا في الكراء المعين، كذلك ما كان منها لا يجوز بفسخ الركوب المضمون في زيادة مؤجلة يزيدها المكري للمكتري قبل النقد، وما كان منها لا يجوز لزيادة يزيدها المكري للمكتري معجلة أو مؤجلة بعد الغيبة على النقد، فيتخرج ذلك على قولين على ما أصلناه في أول الباب وأحكمنا القول فيه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وحكم الإقالة في كراء الدار كحكم الإقالة في كراء الراحلة المعينة في جميع الوجوه حاشا وجه واحد سأذكره إن شاء الله، فإذا اكترى الرجل الدار ثم استقال منها أو أقال بزيادة ما كانت وممن كانت، فعلى القول بأن كراء الدار كالسلم الثابت في الذمة المضمون، لاقتضاء المنافع شيئا شيئا يعتبر الفساد في ذلك باجتماع الصفقتين من طريق التهمة حماية للذرائع كبيوع الآجال، وفي الإقالة بمجردها، وعلى القول: إن ذلك كالسلع المعينات لا يعتبر الفساد في ذلك إلا في الإقالة بمجردها أن تنعقد على ما لا يجوز من فسخ الدين في الدين، أو الصرف المتأخر أو ما أشبه ذلك مما لا يجوز في البيوع، وبيان هذه الجملة، أن الرجل إذا اكترى الدار(2/208)
ثم تقابل مع صاحبه على زيادة، فلا تخلو الزيادة أن تكون من المكتري أو من المكري، فإن كانت من المكتري فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يكون الكراء مؤجلا، (والثاني) أن يكون الكراء بنقد ولم ينقد. (والثالث) أن يكون بنقد وقد نقد غاب على النقد أو لم يغب ذلك سواء، وفي كل وجه من هذه الأوجه الثلاثة ست مسائل؛ إذ لا تخلو الزيادة أن تكون ذهبا أو ورقا أو عروضا معجلة، فهذه ثلاث مسائل أخر تتمة ست مسائل، فيتحصل في زيادة المكتري على هذا التفريع ثماني عشرة مسألة، وفي زيادة الكري مثلها أيضا؛ لأن ذلك لا يخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يكون الكراء مؤجلا، (والثاني) أن يكون بنقد فلم ينقد أو نقد ولم يغب على النقد، (والثالث) أن يكون قد نقد وغاب على النقد، وفي كل وجه منها ست مسائل أيضا على حسبما ذكرناه في زيادة المكتري فأما إن كانت الزيادة من المكري والكراء مؤجلا بدنانير فلا يجوز أن يزيده دنانير نقدا، ولا إلى دون الأجل؛ لأنه ضع وتعجل، ولا إلى أبعد من الأجل؛ لأنه بيع وسلف، ويجوز إلى أجل على المقاصة، ولا يجوز أن يزيده دراهم نقدا ولا إلى أجل، ويجوز أن يزيده عروضا نقدا لا إلى أجل، وهذا كله على مذهب ابن القاسم الذي يرى انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وأما على مذهب من يرى انحلالها كانعقادها ويقول بقول ابن القاسم إن كان له دين على رجل، لا يجوز أن يحوله في كراء دار، فلا تجوز له الإقالة على حال عنده؛ لأن المكري تحول من الكراء الواجب له على المكتري إلى كراء دار، فيدخله فسخ الدين في الدين ويجوز أن يزيده دنانير، وأما إن كانت الزيادة من المكتري أيضا والكراء بنقد ولم ينقد، فلا يجوز أن يزيده شيئا إلى أجل؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين، ويجوز أن يزيده دنانير معجلة أو عروضا معجلة على القول بأن انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وإن زاده دراهم نقدا تخرج ذلك على ثلاثة أقوال، قد ذكرناها في استقالة المكتري في الكراء المضمون؛ وأما إن كانت الزيادة من المكتري أيضا وقد نقد الكراء فإن زاده ذهبا لم يجز إلا أن تكون مقاصة من الكراء، وإن زاده دراهم تخرج ذلك أيضا على(2/209)
ثلاثة أقوال، وإن زاده عروضا، جاز أن تكون معجلة ومؤجلة؛ لأن المكتري باع الركوب الذي وجب له بالذي دفع معجلا أو مؤخرا بالكراء الذي يسترجعه وذلك جائز، وأما إن كانت الزيادة من المكري والكراء مؤجل، فإن كانت الزيادة معجلة جاز ذلك كانت دنانير أو دراهم أو عروضا على القول بأن انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وإن كانت مؤجلة لم يجز على حال ويدخله فسخ الدين في الدين، وكذلك إن كان الكراء نقدا ولم ينقد أو نقد ولم يغب على النقد يجوز أن تكون الزيادة معجلة ما كانت على حال، ولا يجوز أن تكون مؤجلة وأما إن كانت الزيادة من المكتري بعد أن انتقد وغاب على النقد، فعلى القول بأن الكراء في الإقالة كالسلم الثابت في الذمة لا يجوز ذلك ما كانت الزيادة على حال، وإن كان قد مضى بعض المدة بخلاف كراء الدابة، إذا كان قد سار من المسافة ما تسقط التهمة به، وعلى القول بأنه كالسلع المعينات يجوز إن كانت الزيادة معجلة، ولا يجوز إن كانت مؤجلة.
فصل وحكم الإقالة في كراء الأرض كحكم الإقالة في كراء الدار، إلا أن تكون غير مأمونة، فإن تقايلا فيها والزيادة من المكري في الموضع الذي تصح فيه الإقالة على أن الزيادة منه لم يجز أن ينقد الزيادة وتكون موقوفة عينا كانت أو عرضا إلا أن تكون الأرض مأمونة؛ لأن المكري يحصل في الإقالة مكتريا، فإن لم ترو الأرض انفسخ الكراء الأول ولم تصح الزيادة.
فصل فتنحصر مسائل الإقالة في الكراء إلى ستين مسألة تنتهي إليها لا تزيد عليها: أربعة وعشرون في الكراء المضمون، وست وثلاثون في الكراء المعين على ما بان بما قسمناه ولخصنا القول فيه وأحكمناه، وبالله التوفيق.(2/210)
[كتاب كراء الدور]
الكراء: اشتراء المنافع، فهو بيع من البيوع يحله ما يحل البيوع ويحرمه ما يحرم البيوع، ولا يجوز فيه الغرر والمجهول.
والكراء في الدور والرباع جائز عند جميع العلماء بجميع الأثمان المعلومة، وهو يكون على وجهين، أحدهما: أن يعقده المتكاريان لمدة معينة معلومة، والثاني: أن يسميا الكراء ويتفقا عليه ولا يتواجبان على مدة معينة معلومة.
فصل فأما الوجه الأول، وهو أن يعقد الكراء لمدة معينة معلومة، فإن ذلك جائز بالنقد وإلى أجل قبض الدار أو لم يقبضها إلى سنة، قال ابن حبيب: أو سنتين كالبيع؛ لأن الدور مأمونة، فإن بعد الأجل فوق ذلك، لم يكن بالكراء بأس دون نقد.
فصل فإذا عقد الكراء لمدة معينة معلومة لزمهما جميعا ولم يكن للمكتري أن(2/211)
يخرج، ولا لصاحب الدار أن يخرجه قبل تمام المدة، إلا أن يشترط المكتري أن يخرج متى شاء فيجوز ذلك ما لم ينقد بشرط ولا طواعية؛ لأنه كراء الخيار فلا يجوز فيه النقد بشرط ولا طواعية.
فصل وهذه المدة تتعين بأربعة ألفاظ، (أحدها) أن يقول: أكري منك هذه الدار أو هذا الحانوت شهر كذا أو سنة كذا، (والثاني) أن يقول: أكري منك ذلك هذا الشهر أو هذه السنة، فإن قال: هذا الشهر وكان ذلك أول الهلال، لزمهما الكراء في ذلك الشهر على الهلال كل تسعة وعشرين يوما أو ثلاثين يوما، وإن كان ذلك في بعض الشهر لزمهما الكراء في ثلاثين يوما من يوم عقداه بقران بقية أيام هذا الشهر ثم يكملان عليهما تمام ثلاثين يوما من الشهر الذي يليه، وكذلك إن قال: هذه السنة وهما في أول الشهر لزمهما الكراء في اثني عشر شهرا متصلة على الأهلة كان ذلك في أول شهر المحرم أو غيره من الشهور، ولا يقع الكراء على ما بقي من السنة، إذا قال: أكري منك هذه السنة كل شهر بكذا وكذا وقد مضى بعضها إلا ببيان، يبين ذلك رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الصيام فيمن قال: لله علي صيام هذه السنة لسنة ست وثمانين، وقد مضى بعضها، أن عليه صيام اثني عشر شهرا، وروايته عنه في كتاب الأيمان بالطلاق فيمن قال: امرأته طالق ثلاثا، إن فعلت كذا وكذا هذه السنة، أنه إن كان قد نوى ما بقي من السنة فله نيته، وإن لم ينو شيئا فليستقبل اثني عشر شهرا من يوم حلف. وإن كان ذلك في بعض شهر، عد بقية أيام هذا الشهر ثم إحدى عشر شهرا على الأهلة، ثم أكمل على ما كان بقي من الشهر تمام ثلاثين يوما، هذا قولهم في الكراء والأيمان والعدد التي تكون(2/212)
بالشهور والأيام، واستحب ابن القاسم في العدد والأيمان، إن كان قد مضى بعض يوم أن يلغي ذلك اليوم، واختلف فيه قول مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكان قوله أولا أن تعتد المرأة من الساعة التي توفي فيها زوجها، إلى مثلها فتنقضي عدتها، ثم قال بعد ذلك بإلغاء بقية ذلك اليوم، واختلاف قوله داخل في الكراء أيضا، فعلى قوله الأول يلزم المتكاريين الكراء من الساعة التي عقدا فيها الكراء إلى مثلها من الشهر أو من السنة، وعلى قوله الذي رجع إليه لا يلزم المتكاريين الكراء إذا عقداه وقد مضى من النهار بعضه إلا بغروب الشمس؛ لأن الليلة أول اليوم وهي مقدمة على النهار، (والثالث) أن يقول: أكري منك هذه الدار شهرا أو سنة، فإن السنة أو الشهر متعينان من يوم عقد الكراء بمنزلة قوله هذا الشهر أو هذه السنة، سواء على التفسير الذي قدمناه في ذلك مما يعد بالأيام أو يكون على الأهلة، إلا في وجه واحد، فإنه فرق في كتاب ابن المواز فيه بينهما، فقال: إنه إذا قال أكريك شهرا بكذا فسكن شهرا ودخل في ثان فخرج قبل تمامه، فعليه بحساب ما أكرى ولو كان بعينه، لكان عليه في الثاني كراء المثل، وقيل: إن كان أقل لم ينقض، وإن كان كراء المثل أكثر، حلف وأخذه على اختلاف في اليمين؛ لأنها يمين تهمة. (والرابع) أن يقول أكتري منك إلى وقت كذا وكذا.
فصل فإذا انعقد الكراء لمدة معينة بأحد هذه الألفاظ، لزمهما جميعا ولم يكن لأحدهما الخروج إلا أن يشترطه على صاحبه ولا ينقد فيجوز على ما قدمناه.
فصل فأما الوجه الثاني وهو أن يتفقا على الكراء ويسمياه دون أن يتواجبا على مدة(2/213)
يعينانها، فذلك مثل أن يقول: أكري منك الشهر بكذا أو السنة بكذا أو في كل شهر بكذا أو في كل سنة بكذا أو كل شهر بكذا، أو كل سنة بكذا، أو في الشهر بكذا أو في السنة بكذا، فإنه إذا وقع الكراء على هذا كان للمكتري أن يخرج متى شاء وللمكري أن يخرجه متى شاء، كان ذلك في أول الشهر أو آخره أو وسطه، ويؤدي من الكراء بحسبما سكن ولا يلزم واحدا منهما الكراء في الشهر الأول ولا فيما بعده إلا أن يقع فيها بينهما شرط أن لا يخرج أو لا يخرجه أو يعجل الكراء، فهو كالاشتراط قاله ابن حبيب، وهو مذهب ابن القاسم، وذهب ابن الماجشون إلى أنه يلزمه الكراء في الشهر الأول إذا قال: الشهر بكذا أو في كل شهر بكذا، وكذلك على مذهبه للسنة الأولى إذا قال: السنة بكذا أو في كل سنة بكذا، وروى ابن أبي أويس عن مالك في البيوت التي تكرى شهرا بشهر فيخرج قبل ذلك أن كراء ذلك الشهر عليه وإنما يكون عليه بحساب ما سكن إذا تكارى كل يوم بدرهم.
فصل ففي كراء الدور مشاهرة على هذا ثلاثة أقوال، أحدها: قول ابن القاسم: إنه لا يلزمه الشهر الأول ولا ما بعده وله أن يخرج متى شاء ويلزمه من الكراء بحساب ما سكن، والثاني: قول ابن الماجشون: إنه يلزمه الشهر الأول ولا يلزمه ما بعده، والثالث: رواية ابن أبي أويس عن مالك أنه يلزم كراء الشهر بسكنى بعضه كان أول الشهر أو لم يكن، وكذلك الثلاثة الأقوال داخلة في كراء الدور مساناة مثل أن يقول: السنة بكذا، أو في كل سنة بكذا أو ما أشبه ذلك لا يلزمهما الكراء في أول سنة ولا فيما بعدها على مذهب ابن القاسم ويلزمهما الكراء في أول سنة على مذهب ابن الماجشون لا فيما بعدها ويلزمهما الكراء في كل سنة بسكنى بعضها على رواية ابن أبي أويس عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فتدبر ذلك.(2/214)
فصل ويجوز الكراء في الدور السنين ذوات العدد، والحد في ذلك ما لا تتغير الدار إلى مثله، وذلك يختلف باختلاف إتقان بنيانها، فإن اكتراها من المدة إلى ما لا يؤمن تغير الدار فيها، جاز العقد ولم يجز النقد ولا ينفسخ الكراء المنعقد لمدة معينة بفوت أحد المتكاريين، وقد اختلف؛ هل يحل الكراء المؤجل على المكتري بموته إذا مات قبل استيفاء السكنى أو لا؟ على قولين للمتأخرين جاريين على أصل مختلف فيه بين المتقدمين من أصحاب مالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى، وإنما ينتقض الكراء بين المتكاريين باستحقاق الدار أو استحقاق منافعها المكتراة، أو انهدام جميع بنيانها، فإن انهدم بعض بنيانها، ففي ذلك تفصيل وتقسيم، وهو أن الهدم في الدار المكتراة ينقسم على قسمين: (أحدهما) أن يكون يسيرا، (والثاني) أن يكون كثيرا، فأما إن كان يسيرا فإنه على ثلاثة أوجه: (أحدها) أن يكون لا مضرة فيه على الساكن ولا ينقص من قيمة كراء الدار شيئا كالشرفات ونحوها، فهذا لا خلاف فيه أن الكراء للمكتري لازم ولا يحط عنه منه شيء (والثاني) أن يكون لا مضرة فيه على الساكن إلا أنه ينقص من قيمة كراء الدار، فهذا يلزمه السكنى ويحط عنه ما حط ذلك من قيمة الكراء إن لم يصلحه رب الدار ولا يلزمه إصلاحه، فإن سكت وسكن لم يكن له شيء. (والثالث) أن يكون فيه مضرة على الساكن من غير أن يبطل من منافع الدار شيئا يلزمه الإصلاح كالعطل وشبهه، فهذا اختلف فيه على قولين، (أحدهما) قول ابن القاسم: إن رب الدار لا يلزمه الإصلاح إلا أن يشاء، فإن أبى كان المكتري بالخيار بين أن يسكن بجميع الكراء أو يخرج، فإن سكت وسكن لزمه جميع الكراء. (والثاني) قول غيره: إن رب الدار يلزمه الإصلاح، فإن سكت وسكن لزمه جميع الكراء، وأما إن كان الهدم(2/215)
كثيرا فلا يلزم رب الدار الإصلاح بإجماع وهو أيضا على ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يعيب السكنى وينقص من قيمة الكراء ولا يبطل شيئا من المنافع، مثل: أن تكون الدار مبلطة مجصصة فيذهب بتبليطها وتجصيصها، فهذا يكون المكتري بالخيار بين أن يسكن بجميع الكراء أو يخرج إلا أن يصلح ذلك رب الدار، فإن سكت وسكن لزمه جميع الكراء على مذهب ابن القاسم في المدونة خلاف مذهبه في رواية عيسى عنه، وقد قيل: إن الحكم في هذا الوجه كالبيت ينهدم من الدار ذات البيوت وهو بعيد. (والثاني) أن يبطل اليسير من منافع الدار كالبيت ينهدم منها شيء وهي ذات بيوت، فهذا يلزمه السكنى ويحط عنه ما ناب البيت المنهدم من الكراء. (الثالث) أن يبطل أكثر منافع الدار أو منفعة البيت الذي هو وجهها أو يكشفها بانهدام حائطها وما أشبه ذلك، فهذا يكون المكتري فيه مخيرا بين أن يسكن بجميع الكراء، أو يخرج، فإن أراد أن يسكن على أن يحط عنه ما ينوب ما انهدم من الكراء، لم يكن ذلك له إلا أن يرضى بذلك رب الدار، فإن رضي بذلك جرى جوازه على الاختلاف في جواز جمع الرجلين سلعتيهما في البيع، فإن بنى المكري الدار قبل أن يخرج المكتري منها لزمه الكراء ولم يكن له أن يخرج وإن بناها بعد أن خرج، لم يكن عليه الرجوع إليها إلا أن يشاء وإن سكت وسكن الدار مهدومة لزمه جميع الكراء على مذهب ابن القاسم في المدونة خلاف رواية عيسى عنه في العتبية.
فصل ويجوز أن يكري الرجل داره من مسلم ونصراني إلا أنه إذا أكراها من نصراني فلا يخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يكريها منه على أن يسكنها أو يبيع فيها ما يشاء من الأشربة الحلال. (والثاني) أن يكريها منه على أن يبيع فيها خمرا أو(2/216)
ما لا يجوز من الحرام. (والثالث) أن يكريها منه كراء مبهما، فأما إذا أكراها منه على أن يسكنها أو يبيع فيها ما يشاء من الأشربة الحلال، فالكراء جائز، فإن صرفها المكتري إلى بيع الخمر وما أشبه ذلك من الحرام، فلم يمنعه من ذلك، تصدق بجميع الكراء قاله ابن حبيب، قال بعض المتأخرين: وهذا إن كان أكراه ليسكن؛ لأن السكنى في الدار خلاف بيع الخمر فيها، فإذا لم يمنعه، فكأنه فسخ الأول في الثاني ولو كان أكراه ليبيع فيها الأشربة الحلال، فباع فيها الخمر والحرام فلم يمنعه من ذلك لما وجب عليه أن يتصدق إلا بما زادت قيمة كرائها على أن يباع فيها الخمر على الكراء الذي كان أكراها به؛ وهذه تفرقة لا وجه لها، كأنه أيضا قد فسخ الأول في الثاني، وإن كان يشبهه في أنه بيع شراب، فالصواب أنه إذا علم فلم يمنعه تصدق بجميع الكراء، وإذا لم يعلم تصدق بما بين الكراءين من غير تفصيل بين أن يكون أكرى منه للسكنى أو لبيع الأشربة الحلال، ولا اختلاف إذا لم يعلم ببيعه فيها الخمر، في أنه لا يجب عليه أن يتصدق إلا بما زادت قيمة كرائها على أن يباع فيها الخمر على الكراء الذي أكراها به، كان أكراها لبيع الأشربة الحلال أو للسكنى، وأما إن كان أكراها منه على أن يبيع فيها خمرا، وما أشبه ذلك، فالكراء فاسد يفسخ إن عثر عليه قبل السكنى، فإن لم يعثر عليه حتى فات بانقضاء أمد الكراء تصدق بجميع الكراء على المساكين كان أقل من القيمة أو أكثر، قيل: لأنه لا يحل للمكري كثمن الخمر، وقيل: أدبا له لا من أجل أنه حرام كعين الخمر، وظاهر ما في سماع سحنون من كتاب السلطان أن الثمن يترك له ولا يتصدق به؛ لأنه قال فيه: فإن فات مضى، إلا أن يريد بقوله: يمضي إذا فات أنه لا يرد إلى القيمة بعد الفوات، وذلك محتمل، وإن لم يبع المكتري فيه خمرا وصرفه للسكنى أو لسائر الأشياء المباحة في الكراء، فقال ابن حبيب: يسوغ الكراء للمكري إلا أن يكون يزيد في كرائها لبيع الخمر على كرائها لغير الخمر، فيتصدق بالزيادة،(2/217)
والقياس أن يكون فيه القيمة على ما صرفها إليه بالغة ما بلغت سائغة للمكري؛ لأن العقد كان فاسدا، فيصحح بالقيمة إذا فات بصرفها إلى وجه مباح، وأما إذا كان أكراها منه كراء مبهما، فقال ابن حبيب: ذلك جائز، وإن علم أنه يبيع فيها خمرا، وله أن يمنعه من ذلك، وقال ابن القاسم في المدونة: الكراء فاسد إن علم أنه يبيع فيها خمرا، وقد تقدم الحكم فيه واتفقا في العنب أنه لا يجوز أن يبيعها ممن يعلم أنه يعصرها خمرا، والفرق بينهما عند ابن حبيب أن العنب يغيب المبتاع عليه فلا يقدر البائع على منعه من عصره بخلاف بيع الخمر في داره، واختلف إذا وقع فقيل يفسخ فيه البيع وقيل يباع على المبتاع والله أعلم.
فصل واختلف في كراء بيوت مكة؛ فكان سفيان الثوري لا يرى أن تكرى ولا يرى على من سكنها بأسا أن يمسك الكراء، وهو مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأكثر أصحابه؛ لأنهم ذهبوا إلى أن مكة فتحت عنوة، وذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أنها مؤمنة والأمان كالصلح، فرأى أهلها مالكين لرباعهم، وأجاز بيعها وكراءها، ولا خلاف عند مالك وأصحابه في أنه افتتحت عنوة، فقيل: إنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من على أهلها بها. فلم تقسم ولا سبى أهلها لما عظم الله من حرمتها، وقيل: إنها أقرت للمسلمين، وعلى هذا يأتي اختلافهم في جواز كرائها، فالظاهر من مذهب ابن القاسم في المدونة إجازة ذلك، والظاهر من قول مالك في سماع ابن القاسم من كتاب الحج المنع في ذلك، وحكى الداودي عنه أنه كره كراءها في أيام الموسم، وقال اللخمي: اختلف قوله في كراء دور مكة وبيعها؛ فمنع من ذلك مرة، وحكى أبو جعفر الأبهري عنه أنه كره بيعها وكراءها، فإن بيعت أو أكريت لم يفسخ(2/218)
ذلك؛ فيتحصل عنه في ذلك أربع روايات: الجواز والمنع والكراهة وكراهة كرائها في أيام الموسم خاصة، وقد روي عن عبد الله بن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها» وروى ابن عباس عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «مكة كلها مباح لا تباع رباعها ولا تؤجر بيوتها» ". وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(2/219)
[كتاب كراء الأرضين]
قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64] {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} [الواقعة: 66] {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 67] . وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27] ، وقال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] ، وقال تبارك وتعالى: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس: 24] ، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] ، ومثل هذا في القرآن كثير.
فصل فلما كان النبات الذي يخرج من الأرض وينبت فيها ليس بمقدرة آدمي، ولا(2/221)
لزارعه فيه عمل ولا كسب، وإنما الله تبارك وتعالى هو الذي يخرجه من الأرض وينبته فيها، وينقله بقدرته من حال إلى حال حتى يصير إلى حد الانتفاع به رحمة منه تعالى بعباده؛ لم يجز لذلك كراء الأرض بشيء مما يخرج منها وإن لم يؤكل، ولا بشيء من الطعام وإن لم يخرج منها؛ لأنه إن كان الذي أكري به طعاما، فإنما أعطى المكتري صاحب الأرض طعاما على أن يأخذ ما ينبته الله تعالى في أرضه من الطعام بعلاجه وعمله، فيدخله الطعام بالطعام إلى أجل مع التفاضل فيما لا يصح فيه التفاضل؛ وبيع الغرر والمزابنة، وهي المحاقلة التي نهى عنها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ وإن لم يكن طعاما وكان مثل الكتان والقطن وما أشبه ذلك، دخلته المزابنة، وكان ذلك من المخابرة التي نهى عنها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأنها مأخوذة من الخبر وهو حرث الأرض، فالمخابرة كراء الأرض ببعض ما يخرج منها. وجاز بما سوى ذلك من الدنانير والدراهم والعروض والحيوان المعينة والموصوفة. هذا هو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأكثر أصحابه.
فصل وقد اختلف أهل العلم في كراء الأرض اختلافا كثيرا لتعارض ظواهر الآثار الواردة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك. من ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع، روي ذلك عنه من رواية رافع بن خديج بألفاظ مختلفة، وروي عنه من رواية «جابر بن عبد الله أنه قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "من كانت له(2/222)
أرض فليزرعها أو ليزرعها ولا يؤاجرها» . ولم يختلف عن جابر في هذا، واختلف فيه عن رافع بن خديج اختلافا كثيرا: فروي عنه أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه أو ليدعها» ، كنحو حديث جابر؛ وروي عنه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا طعام» . فدليل هذا إجازة كرائها بما عدا الطعام من الأثمان المعلومة؛ وروي عنه، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها، أو رجل منح أرضا فهو يزرع ما منح، أو رجل استكرى بذهب أو فضة» . فظاهر هذا أن كراءها لا يجوز إلا بالذهب والفضة. ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المحاقلة والمخابرة وهي كراء الأرض بالطعام وبما يخرج منها ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المزارعة، وهي كراء الأرض بالجزء مما يخرج منها، وإعطاؤه يهود خيبر الأرض والنخل على أن يعملوها ويزرعوها على شطر ما يخرج منها، معارض في الظاهر لنهيه عن المزارعة، فقالت طائفة منهم: لا يجوز كراء الأرض أصلا بذهب ولا فضة ولا بشيء من الأشياء؛ لأنهم حملوا ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من النهي عن كراء المزارع على العموم واطرحوا ما خالف ظاهره من الآثار، وهو مذهب طاوس، وإليه ذهب ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بآخرة روي عنه أنه كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج كان يحدث «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كراء المزارع فترك كراءها» وهذا يبعد في النظر لأن الخاص يقضي(2/223)
على العام. فما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كراء الأرض بالدنانير والدراهم يخصص عموم نهيه عن كراء المزارع؛ وقال آخرون: لا يجوز كراء الأرض إلا بالدنانير والدراهم خاصة، واحتجوا بما «روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية رافع بن خديج أنه قال: " إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها، ورجل منح أرضا فهو يزرع ما منح، ورجل استكرى بذهب أو فضة» ، وقالوا: لا يجوز أن يتعدى هذا الحديث لما فيه من البيان، وليس كما قالوا؛ لأن البيان في الحديث إنما هو في إجازة كراء الأرض بالذهب والفضة، وأما في المنع من كرائها بكل ما عدا ذلك فلا؛ لأن لفظة "إنما" لا ترد إلا على سبب، فهي تنفي الحكم عن السبب الذي وردت من أجله وتحققه في المنصوص عليه، ولا تدل على نفيه عما سواه. والدليل على ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الولاء لمن اعتق» ، فنفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله هذا أن يكون الولاء لمن باع، واشترط الولاء على المشتري المعتق؛ لأن ذلك كان سببه وحقق به أن الولاء للمعتق، ولم يكن في قوله بيان أن غير المعتق لا ولاء له؛ ألا ترى أن الولاء يكون لولد المعتق وعصبته وإن كانوا غير معتقين. ومثل ذلك أيضا قولهم: إنما النبي محمد، وإنما الكريم يوسف، وإنما الشجاع عمرو، فلا ينفي ذلك النبوة عن غير النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولا الكرم عن غير يوسف، ولا الشجاعة عن غير عمرو؛ وإنما تحقق ذلك لهم وتنفيه عمن كان سببا لوروده، فكذلك مسألتنا. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بكل شيء إذا كان معلوما عدا الطعام، وحجتهم ما روى رافع بن خديج عن(2/224)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا طعام» . وهذا أيضا لا يصح في النظر؛ لأنهم أجازوا كراء الأرض بما يخرج منها من غير الطعام، وقد ثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نهى عن المخابرة» وهي كراء الأرض بما يخرج منها؛ لأنه يدخله ما نهى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المزابنة والغرر؛ لأنه إذا أكرى الأرض بكتان أو قطن فقد أعطى الكتان أو القطن فيما تخرج له الأرض من ذلك، وذلك الغرر والمزابنة التي لا تجوز. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بالدنانير والدراهم والعروض والطعام وكل شيء إذا كان معلوما، وإنما لا يجوز الجزء مما يخرج منها؛ لأنه غرر، فهي المزارعة التي نهى عنها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهذا هو مذهب الشافعي، وهو ظاهر قول مالك في كتاب المساقاة من الموطأ؛ لأنه قال فيه: ولا ينبغي أن يساقي الأرض البيضاء وذلك أنه يحل لصاحبها كراؤها بالدنانير والدراهم وما أشبه ذلك من الأثمان المعلومة، إلا أن ذلك ليس بمعلوم من مذهبه، وحجة من ذهب إلى هذا ما روي «عن رافع بن خديج أنه سئل عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال: لا بأس بذلك، إنما كان الناس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكرون الأرض بما على الماذيانات وأقبال الجداول فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا، ويهلك هذا، فلذلك زجر عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " فأما شيء مضمون معلوم فلا» . وقد روي مثل هذا القول عن الليث بن سعد، وهو غير صحيح أيضا «لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن المحاقلة والمخابرة» : وهو استكراء الأرض بالحنطة وبما يخرج منها كان طعاما أو لم يكن. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بالدنانير والدراهم والعروض والطعام والجزء مما يخرج منها، وحجتهم في إجازة كراء الأرض بالجزء(2/225)
مما يخرج منها، إعطاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهود خيبر الأرض والنخل على شطر ما يخرج من ذلك، وتأولوا في المحاقلة أنها اشتراء الزرع بالحنطة وذلك لا يصح؛ لأن النص عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ورد من رواية رافع بن خديج في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع والطعام، وحديث المساقاة يمكن تأويله على ما تأوله عليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أن الأرض كانت يسيرة بين أضعاف السواد. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بالجزء مما يخرج منها، ولا يجوز بشيء مضمون مما يخرج منها، وهو مذهب الليث بن سعد. وحجة هؤلاء «حديث ابن عمر في إعطاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهود خيبر النخل والأرض على أن يعملوها ويزرعوها بشطر ما يخرج منها» وقالوا: إنه حديث صحيح أصح من أحاديث رافع بن خديج؛ لأنها مضطربة المتون؛ وقال ابن نافع من أصحاب مالك: لا تكرى الأرض بقمح ولا شعير ولا سلت، وتكرى بما سوى ذلك على أن يزرع فيها خلاف ما تستكرى به. وقال ابن كنانة: يجوز أن تكرى الأرض بكل شيء إذا زرع فيها لم ينبت، واختاره عيسى بن دينار، وذلك كله معترض؛ فالقول في هذه المسألة ما قدمناه عن مالك وجمهور أصحابه أن كراء الأرض لا يجوز بشيء مما يخرج منها وينبت فيها - كان طعاما أو لم يكن، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المخابرة، وهي كراء الأرض ببعض ما يخرج منها مما يزرع فيها، ولا بشيء من الطعام وإن لم يخرج منها؛ لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المحاقلة، وهي استكراء الأرض بالحنطة، وكذلك جميع الطعام لأنه في معنى الحنطة، وقد روي ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نصا من رواية رافع بن خديج أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا طعام» . ويجوز مما عدا هذين الوجهين من الدنانير والدراهم والعروض المعينة المعلومة والثابتة في الذمة الموصوفة؛ لأن ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من النهي عن كراء المزارع ليس على عمومه؛ لأنه خرج على سبب النهي، فهو مقصور على سببه، وذلك أن الناس كانوا على عهد(2/226)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكرون المزارع بالثلث والربع وبما على الماذيانات وأقبال الجداول، فخرج نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع على ذلك فقصر عليه، وقيل في سبب النهي غير ذلك: «روي عن زيد بن ثابت أنه قال: يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلان من الأنصار قد اقتتلا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كان هذا شانكم فلا تكروا المزارع» . فسمع رافع قوله: لا تكروا المزارع، فحدث به.
فصل وقد اختلف أهل العلم في اللفظ العام المستقل بنفسه الوارد على سبب، هل يقصر على سببه أو يحمل على عمومه على قولين، الأصح منهما عند أهل النظر أن يحمل على عمومه ولا يقصر على سببه؛ لأن الحجة إنما هي في قول صاحب الشرع ليس في السبب؛ لأن السبب لو انفرد لم تكن فيه حجة؛ ولو انفرد لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوجبت به الحجة؛ وأما نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع، فالأصح فيه أن يقصر على سببه ولا يحمل على عمومه، إذ قد خص بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها ورجل منح أرضا فهو يزرع ما منح، ورجل أكرى بذهب أو ورق» . وقد قال جماعة من أهل العلم: إن اللفظ العام إذا خص منه شيء عاد مجملا. وسقط الاحتجاج بعمومه وإن كان ليس هذا بمذهب مالك ولا أصحابه، فإنه يؤيد قصر النهي على سببه، وقد حكى أبو بكر الأبهري في كتابه أن مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يقصر اللفظ العام الوارد على سببه ولا يحمل على عمومه.
فصل فإذا قصر نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع، على كرائها بالثلث والربع والماذيانات وأقبال الجداول لم يمنع مانع من كرائها بالدنانير والدراهم والعروض التي لا تنبتها الأرض مع النص الوارد عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في كرائها(2/227)
بالدنانير والدراهم، ولو لم يقصر النهي على سببه وحمل على عمومه فيما بعد الدنانير والدراهم المخصوصة منه بالنص عليها، لخصصت العروض التي لا تنبت الأرض منه أيضا بالقياس على الدنانير والدراهم لأن القياس على الخصوص جائز يخصص به العموم، ومثل هذا قول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ؛ فكان هذا عاما في كل زان وزانية، كانا حرين أو عبدين، ثم خص من ذلك الإماء بقوله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . ثم خص من ذلك العبيد بالقياس على الإماء بعلة الرق الجامعة بينهما؛ فكذلك ما عاد إلى مسألتنا؛ فإن نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع عام خص من ذلك الكراء بالدنانير والدراهم بالنص، ثم خص من ذلك الكراء بالعروض التي لا تنبتها الأرض بالقياس على الدنانير والدراهم، بالعلة الجامعة بينهما، وهي أن الكراء بالعروض المعلومة التي لا تنبتها الأرض كراء بثمن معلوم لا غرر فيه ولا مزابنة ولا محاقلة ولا مخابرة، فجاز أصله الكراء بالدنانير والدراهم.
فصل فما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كراء الأرض أصح أقاويل أهل العلم في ذلك؛ لأنه استعمل الأحاديث المروية عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في هذا الباب، ولم يحمل شيئا منها على التعارض، بل جعل بعضها مركبة على بعض ومبينة لها، ولم يطرح شيئا منها، واستعمال الآثار عند أهل العلم أولى من طرحها ما أمكن ذلك ووجد السبيل إليه.(2/228)
[فصل في حد جواز كراء الأرض وجواز النقد ووجوبه]
فصل
في حد جواز كراء الأرض وجواز النقد ووجوبه اعلم أن الأرضين تنقسم على ثلاثة أصناف: أرض نيل، وأرض مطر، وأرض تسقى بالأنهار والعيون والآبار.
فصل والكلام في حكم هذه الأرضين على ثلاثة أوجه:
أحدها: جواز عقد الكراء فيها.
والثاني: جواز النقد فيها.
والثالث: وجوب النقد فيها.
فأما جواز عقد الكراء فيها، فإنه جائز على مذهب ابن القاسم في المدونة فيها كلها من غير تفصيل، كانت مأمونة أو غير مأمونة للسنين الكثيرة. وتنقسم في جواز النقد فيها - عنده - على قسمين: مأمونة، وغير مأمونة، فما كان منها مأمونا كأرض النيل وأرض المطر المأمونة وأرض السقي بالأنهار والعيون الثابتة والآبار المعينة، فالنقد فيها للأعوام الكثيرة جائز، وما كان منها غير مأمون فلا يجوز النقد فيه إلا بعد أن تروى وتمكن من الحرث، كانت في أرض النيل أو المطر أو السقي بالعيون والآبار، وتنقسم في وجوب النقد فيها على قسمين:
أحدهما: أرض النيل، والثاني؛ أرض السقي والمطر؛ فأما أرض النيل فيجب النقد فيها عنده إذا رويت؛ لأنها لا تحتاج إلى السقي فيما يستقبل، فبالري يكون المكتري قابضا لما اكترى، وأما أرض السقي والمطر فلا يجب على المكتري فيها دفع الكراء حتى يتم الزرع ويستغنى عن الماء؛ وكذلك إن كانت أرضا تزرع(2/229)
بطونا فلا يلزمه نقد الكراء في البطن حتى تسلم وتستغني عن الماء، ووافق ابن الماجشون ابن القاسم على مذهبه في أرض النيل أن النقد يجب فيها إذا رويت، وفي أرض المطر وأرض السقي غير المأمون أن النقد لا يجب فيها حتى يتم الزرع ويستغنى عن الماء؛ وخالفه في أرض السقي إذا كان مأمونا فجعله مثل أرض النيل يجب الكراء فيه نقدا، إذا رويت؛ فأرض النيل لا اختلاف في وجوب الكراء فيها بالري وأرض المطر، والسقي غير المأمون لا اختلاف أن الكراء لا يجب فيها حتى يسلم الزرع ويستغني عن الماء، واختلف في أرض السقي المأمون فجعله ابن الماجشون كأرض النيل، وجعله ابن القاسم كأرض المطر والسقي غير المأمون؛ وتنقسم الأرضون على مذهب ابن الماجشون في جواز عقد الكراء فيها والنقد على أربعة أقسام:
أحدها: أرض النيل المأمونة.
والثاني: أرض السقي بالأنهار والآبار.
والثالث: أرض السقي بالعيون.
والرابع: أرض المطر.
فأما أرض النيل المأمونة فيجوز الكراء فيها للأعوام الكثيرة بالنقد وبغير النقد - قرب إبان شربها وريها - هذا قوله في المدونة.
فأما أرض السقي بالأنهار والآبار، فيجوز الكراء فيها للعشرة الأعوام لا أكثر، والنقد فيها على مذهبه جائز، قاله الفضل.
وأما أرض السقي بالعيون، فلا يجوز كراؤها، إلا للثلاثة الأعوام والأربعة، ولا ينقد إلا سنة بسنة، يريد أنه ينقد السنة الثانية قبل تمام الأولى بيسير وإن لم ترو الأرض، هذا قوله ومذهبه في الواضحة.(2/230)
وأما أرض المطر فلا يجيز الكراء فيها إلا لعام واحد، قرب إبان ريها، ولا يجوز النقد فيها حتى تروى ريا مبلغا له أو لأكثره مع رجاء وقوع غيره، قاله في المدونة، هذا الذي حصلت من مذهبه، وبالله التوفيق.
[فصل في بيان مذهب ابن القاسم وغيره في الكتاب فيمن حرث أرض رجل فتداعيا في ذلك]
فصل
في بيان مذهب ابن القاسم وغيره في الكتاب
فيمن حرث أرض رجل فتداعيا في ذلك هذه مسألة تنقسم على قسمين:
أحدهما: أن يقوم رب الأرض على الذي حرثها في إبان الزرع.
والثاني: أن يقوم عليه في ذلك بعد الإبان.
فأما القسم الأول وهو أن يقوم عليه في ذلك وهو في الإبان، فلا يخلو الذي حرث الأرض من أربعة أوجه:
أحدها: أن يصدق رب الأرض في أنه حرثها بغير إذنه.
والثاني: أن يصدقه في أنه لم يكرها منه إلا أنه يدعي أنه حرثها بعلمه وهو حاضر لا يغير ولا ينكر.
والثالث: أن يدعي عليه أنه أكراها منه.
والرابع: أن يدعي عليه أنه أكراها منه وأنه حرثها بعلمه وهو حاضر.
فأما الوجه الأول وهو أن يصدقه في أنه حرثها بغير علمه، فإن لصاحب الأرض أن يأخذ أرضه ويأمر الزارع بقلع زرعه فيقلعه إن كانت له فيه منفعة، ولا يجوز لرب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا كالبنيان؛ لأنه يدخله بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه، وقد قيل: إن ذلك جائز؛ لأنه في أرض مبتاعة وبالعقد يدخل في ضمانه فيرتفع الغرر في ذلك، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي؛ فإن لم(2/231)
تكن له فيه منفعة لم يكن للزارع أن يقلعه لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» . ويبقى لصاحب - الأرض لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» .
وأما الوجه الثاني وهو أن يصدقه في أنه لم يكر منه إلا أنه يدعي أنه حرثها بعلمه فلم يغير عليه ذلك ولا أنكر، فإن اليمين يلزم رب الأرض: ما علم بحرثه إياها إن لم يكن للذي حرث الأرض على ذلك بينة؛ فإن حلف رب الأرض على ذلك، كان له أن يأخذ أرضه ويكون الحكم في الزرع على ما تقدم، وإن نكل عن اليمين، حلف الذي حرث الأرض على ذلك ولم يقلع زرعه وكان عليه في الأرض كراء مثلها، وكذلك إذا كانت للذي حرث الأرض بينة على حرثه إياها بعلمه ومعرفته.
وأما الوجه الثالث: وهو أن يدعي عليه أنه أكراها منه، فالقول قول صاحب الأرض مع يمينه ما أكراها منه، فإن حلف على ذلك، استحق أرضه وكان الحكم في الزرع على ما تقدم، وإن نكل عن اليمين، حلف الذي حرث الأرض لقد أكراها منه بكذا وكذا، كان الذي ادعى من الكراء قليلا لا يشبه، أو كثيرا أكثر من كراء المثل؛ وإنما كان القول قوله، وإن كان الذي ادعى من الكراء لا يشبه؛ لأن رب الأرض قد مكنه من ذلك بنكوله، هذا هو المشهور في المذهب خلاف ما وقع في كتاب القراض من المدونة إذا ادعى صاحب المال أنه دفع إليه المال على سبيل البضاعة، وادعى العامل أنه دفع إليه على سبيل القراض، فنكل صاحب المال عن اليمين، فقال: إن العامل يحلف إذا كان مثله يستعمل في القراض وإنما وجب(2/232)
أن يحلف وإن كان الذي أقر به من الكراء أكثر من كراء المثل؛ لأنه إن نكل عن اليمين وجب أن يقلع زرعه.
وأما الوجه الرابع، وهو أن يدعي عليه أنه أكراها منه وحرثها بعلمه ومعرفته، فالقول قول صاحب الأرض يحلف على الوجهين جميعا إن لم يكن للذي حرث الأرض بينة على ذلك، فإن حلف، كان مخيرا بين أن يأخذ منه الكراء الذي أقر به، وبين أن يأخذ أرضه ويأمر الزارع بقلع زرعه؛ وهذا إذا كان للزارع في قلعه منفعة، وأما إذا لم يكن له في قلعه منفعة وكان الحكم يوجب بقاءه لصاحب الأرض، فلا يجوز أن يتركه للمكتري بما أقر به من الكراء، أو بكراء المثل؛ لأنه بيع له بما يأخذ من الكراء، وقد تقدم القول إذا كان للزارع في قلعه منفعة فأراد رب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا، وإن نكل عن اليمين حلف الذي حرث الأرض لقد أكراها بكذا وكذا، قل أو كثر كان يشبه أو لا يشبه، وقد تقدم وجه ذلك؛ فإن نكل عن اليمين أخذ رب الأرض أرضه وإن أبى رب الأرض أن يحلف على الوجهين جميعا، وقال: أحلف ما علمت بحرثه إياها ولا أحلف ما أكريت منه، لم يكن ليمينه على هذا معنى، إلا أن ينكل الذي حرث الأرض عن اليمين؛ لأنه إن حلف لقد أكريتها بكذا وكذا أدى ما حلف عليه وإن لم يشبه ذلك كراءها؛ لأن رب الأرض قد مكنه من ذلك بنكوله على أن يحلف ما أكريتها منه، حلف ما علم بحرثه إياها أو لم يحلف، فإن نكل الذي حرث الأرض عن اليمين، قيل لرب الأرض ههنا: احلف أنك ما علمت بحرثه إياها وخذ أرضك واقلع الزرع إن شئت.
فصل وإن أبى رب الأرض أن يحلف على الوجهين جميعا وقال: أحلف ما أكريت منه، ولا أحلف ما علمت بحرثه إياها، لم يمكن من اليمين على ذلك عند ابن القاسم؛ لأنه إذا نكل عن أن يحلف ما علمت بحرثه إياها، وجب أن يحلف الذي حرث الأرض بالله لقد علم بحرثي إياها، وإذا حلف على ذلك كان بمنزلة إذا أقام(2/233)
على ذلك بينة أو أقر له به رب الأرض، وإذا أقر بذلك رب الأرض أو قامت للذي في حرث الأرض بذلك بينة كانت شبهة توجب أن يكون القول قول الذي حرث الأرض أنه اكتراها منه بكذا وكذا إذا كان يشبه أن يكون ذلك كراء مثلها، فيحلف الذي حرث الأرض إذا نكل رب الأرض عن اليمين أنه ما علم بحرثه إياها على الوجهين جميعا: يقول: بالله لقد علم بحرثي إياها، ولقد اكتريتها منه بكذا وكذا إذا أشبه أن يكون ما ادعى كراءها، فإن لم يشبه أن يكون ذلك كراءها لم يصدق في ذلك، وحلف رب الأرض ما أكراها منه واستحق كراء مثلها، ولم يكن له أن يقلع زرعه إذا حلف الذي حرث الأرض أنه حرثها بعلمه ومعرفته، فإن لم يحلف على ذلك ونكل عنه، كان لصاحب الأرض أن يأخذ أرضه ويقلع الزرع.
فصل فإن كانت للذي حرث الأرض بينة على أنه حرث الأرض بعلمه ومعرفته ولم تكن له بينة على الكراء، كان القول قوله مع يمينه في الكراء إذا أتى بما يشبه، فإن لم يأت بما يشبه، لم يصدق وحلف رب الأرض أنه ما أكرى منه، وكان عليه كراء المثل، فإن نكل رب الأرض عن اليمين، كان القول قول الذي حرث الأرض، وإن أتى بما لا يشبه؛ لأن رب الأرض قد مكنه من دعواه بنكوله، وإن كان الذي أقر به الذي حرث الأرض من الكراء، كراء المثل فأكثر، لم يكن عليه في هذا الوجه يمين، هذا مذهب ابن القاسم في المدونة ومساواته فيها بين أن تكون للذي حرث الأرض بينة على علمه ومعرفته، أو يأبى اليمين في أن القول قول الذي حرث الأرض مع يمينه في الكراء، إذا أشبه، إنما يريد إذا نكل عن اليمين - على أنه ما حرثها بعلمه ومعرفته بخاص؛ وأما إذا نكل عن اليمين على أنه لم يكرها منه، فالقول قول الذي حرث الأرض وإن لم يشبه. ولا اختلاف في هذا بينهم، إلا ما يقوم من مسألة كتاب القراض، وقد ذكرناها؛ وأما غير ابن القاسم في المدونة، فلم ير حرثه الأرض بعلم ربها شبهة توجب أن يكون القول قوله في مبلغ الكراء، وجعل قول رب الأرض مع يمينه أنه ما أكرى منه أرضه؛ فإذا حلف على ذلك، استحق كراء(2/234)
المثل، وإن كان الذي أقر به المكتري من الكراء أكثر من كراء المثل، فلا يكون على واحد منهما يمين، وسواء على قول غيره هذا - علم أو لم يعلم - فلا يحلف على مذهبه إن لم يعلم بحرثه الأرض، وإنما يحلف أنه ما أكراها منه ويستحق كراء المثل، ولو نكل عن اليمين على ذلك، لحلف الذي حرث الأرض، وإن أتى بما لا يشبه.
فصل وأما القسم الثاني، وهو أن يقوم عليه في ذلك بعد الإبان، فإن صدقه أنه لم يكن منه فله كراء المثل دون يمين ادعى عليه أنه حرثها بعلمه ومعرفته، أو لم يدع ذلك عليه؛ وأما إن ادعى عليه أنه أكراها منه ولم يدع عليه أنه حرثها بعلمه ومعرفته، فإن رب الأرض يحلف أنه ما أكراها منه ويأخذ منه كراء المثل؛ وإن نكل عن اليمين، حلف الذي حرثها على ما ادعاه من الكراء؛ وأما إن ادعى عليه أنه أكراها منه وأنه حرثها بعلمه ومعرفته، فيحلف على الوجهين جميعا؛ فإن حلف أخذ كراء المثل؛ وإن نكل عن اليمين على الوجهين جميعا، أو على أنه لم يكر منه، حلف الذي حرث الأرض على ما ادعى من الكراء، وإن كان الذي أقر به من الكراء أكثر من كراء المثل، فلا يمين على واحد منهما، وإن نكل رب الأرض أن يحلف ما حرثها بعلمه ومعرفته، حلف الذي حرث على مذهب ابن القاسم: لقد حرثها بعلمه ومعرفته، ولقد أكريتها منه بكذا وكذا، إذا أشبه ذلك، فإن لم يشبه، حلف رب الأرض أنه ما أكرى منه وأخذ كراء المثل، وعلى قول غيره يحلف رب الأرض ما أكراها منه ويأخذ كراء المثل.(2/235)
[فصل في المغارسة]
المغارسة تنقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون على وجه الإجارة، مثل أن يقول له: اغرس لي هذه الأرض كرما أو تينا أو فرسكا أو ما أشبه ذلك، ولك كذا وكذا، فهذا إن كانت الغروس من عند رب الأرض، فلا إشكال في جوازه، سمى له عدد ما يغرس في الأرض أو لم يسمه؛ لأن ذلك معروف عند الناس، ولا بد أن يصف قدر الغروس في الصغر والكبر؛ لأن المشقة في ذلك مختلفة، إلا أن يدخلا في ذلك على عرف فيستغنى به عن الصفة؛ وأما إن كانت الغروس من عند الغارس فيدخل في ذلك ما دخل مسألة الذي استأجر الأجير على أن يبني له دارا على أن الآجر والجص من عند البناء؛ لأنه يجتمع في ذلك إجارة وسلم، والإجارة والسلم أحكامها مختلفة، إذا كان الأجير بعينه؛ لأن السلم لا بد فيه من ضرب الأجل وتعجيل رأس ماله، والأجير بعينه لا يجوز أن ينقد إجارته إلا بعد شروعه في العمل الذي قد ضرب له الأجل؛ فلا يجوز استئجار الأجير بعينه على الغرس بشرط أن تكون الغروس من عنده إذا كانت لها قيمة إلا بثلاثة شروط، وهي: تعجيل الإجارة، والشروع في العمل، وأن يكون الغرس لا يتم إلا في مدة طويلة يستحق فيها ما تعجل من الغروس في جنب ما تأخر منها؛ وأما إذا أستأجره على الغرس إجارة ثابتة في ذمته على أن الغروس من عنده، ولها قيمة، فذلك جائز؛ لأن حكم الإجارة الثابتة في الذمة حكم السلم، فإن قدم إليه إجارته وضرب للغرس أجلا، مثل أن يقول: أستأجرك على غرس هذه الأرض في شهر كذا بكذا وكذا، والغروس من عندك جاز، وهو معنى قول غير ابن القاسم في المدونة إذا كان ذلك على وجه القبالة ولم يشترط عمل رجل بعينه، فلا بأس بذلك إذا قدم نقده.
والوجه الثاني: أن تكون المغارسة على وجه الجعل مثل أن يقول له: اغرس لي هذه الأرض أصولا تينا أو كرما أو ما أشبه ذلك، ولك في كل ثمرة تنبت كذا وكذا، فهذا جائز على حكم الجعل المحض.(2/236)
والوجه الثالث: أن يغارسه في الأرض على جزء منها فهذا أجازه أهل العلم قياسا على ما جوزته السنة من المساقاة، فليست بإجارة منفردة ولا جعل منفرد، وإنما هي سنة على حيالها، وأصل في نفسها أخذت بشبه من الإجارة والجعل، فهي تشبه الإجارة في لزومها بالعقد، وتشبه الجعل في أن الغارس لا يجب له شيء إلا بعد ثبوت الغرس وبلوغه الحد المشترط؛ فإن بطل قبل ذلك، لم يكن له شيء، ولا كان من حقه أن يعيده مرة أخرى، وقد قيل: لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب المغارسة: إن المغارسة في الأرض على جزء من الأرض لا تجوز إلا على وجه الجعل بأن لا يلزم المغارس الجعل ويكون له أن يذهب ويترك العمل إن شاء، فعلى هذا لا تكون المغارسة إلا على قسمين، وهي: الجعل والإجارة - كان له نصيب من الأرض أو لم يكن -.
فصل واختلف إن ثبت منها يسير وبلغ الحد وبطل سائر ذلك أو بطل منه يسير وثبت سائر ذلك، فقيل: إن القليل تبع للكثير، إلا أن يكون الذي ثبت أو بطل له قدر وبال، وإن كان الأقل فلا يكون تبعا ويثبت حقه فيما يثبت ويبطل مما بطل، وهي رواية حسين بن عاصم، وهو الذي يأتي على المشهور من المذهب، فإن المغارسة على جزء من الأرض جائزة على أنها لهما جميعا لازمة، وقد قيل: إن حقه يثبت فيما بلغ، ويبطل فيما لم يبلغ، يسيرا كان أو كثيرا، تبعا كان أو غير تبع؛ وهو الذي يأتي على القول بأن المغارسة في الأرض على جزء منها لا تجوز إلا على وجه الجعل.
فصل ولا تجوز المغارسة على جزء من الأرض إلا على شروط قد حدها أهل(2/237)
العلم، من ذلك: أن يكون الحد إلى ما دون الإطعام، واختلف إن كان حدها الإطعام أو إلى أجل من السنين دون الإطعام، أو يسكتا عن الحد في ذلك أو الأجل على قولين، وأما إن كان الحد إلى فوق الإطعام فلا يجوز، وكذلك لا يجوز إن اشترطا أن يكون الشجر أو الغلة بينهما دون الأصل.
فصل فإن وقعت المغارسة على شيء مما وصفنا أنه لا يجوز باتفاق أو على قول من لا يجيزها فيما ذكرنا فيه الخلاف، فإن ذلك ينقسم على قسمين:
أحدهما: أن لا يجعل له جزءا من الأصل.
والثاني: أن يجعل له جزءا منه.
فأما إذا لم يجعل له جزءا من الأصل وإنما غارسه على أن تكون الثمرة بينهما، أو الشجر دون موضعها من الأرض فاختلف في ذلك على قولين:
أحدهما: أنه يحكم لذلك بحكم الكراء الفاسد.
والثاني: أنه يحكم له بحكم الإجارة الفاسدة، وهذا الاختلاف مبني على ما غرسه الغارس من الغرس هل هو على ملكه - أو ملك رب الأرض، فمن علل بأن الغرس على ملك الغارس جعله كراء فاسدا؛ لأنه كان الغارس اكترى منه الأرض إلى أمد غير معلوم بنصف الثمرة التي يغرسها لنفسه في الأرض، أو بنصف الشجرة التي يغرسها فيها لنفسه على أن يدفعها إليه عند بلوغها إلى الحد الذي اشترطاه، وكان الحكم فيه أن يكون على الغارس كراء المثل في الأرض قبل يوم أخذها، وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى عنه، ومعنى ذلك: إن كان أخذها منه في وقت(2/238)
يمكنه وضع الغرس فيه فيها، وقيل: من يوم وضع الغرس فيها وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى عنه، ومعناه عندي من يوم يمكنه وضع الغرس فيه فيها، فلا تكون على هذا رواية يحيى مخالفة لرواية عيسى، خلاف ما كان الشيوخ يحملونها عليه من الخلاف لها، وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب البيان في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب المغارسة، وقيل من يوم أثمرت الشجرة وهو قوله في سماع أبي زيد، وسماع حسين بن عاصم، وتكون له الغلة كلها يرد عليه رب الأرض ما أخذ منها المكيلة، إن عرفت أو خرصها إن جهلت ويقلع غرسه إلا أن يشاء رب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا، وقيل: إن له قيمة غرسه قائما، قاله يحيى في سماعه من كتاب السداد والأنهار في المعاملة الفاسدة في بناء الأرحى ولا فرق.
فصل ومن علل بأن الغرس على ملك رب الأرض، جعله إجارة فاسدة؛ لأنه كأن رب الأرض استأجر الغارس على أن يغرس له هذه الأرض بنصف ثمرتها أو بنصف الشجر إذا بلغت الحد المشترط، وكان الحكم فيه أن يكون للغارس على رب الأرض قيمة غرسه يوم وضعه في الأرض مقلوعا، وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه، وتكون الغلة كلها لرب الأرض يرد عليه الغارس ما أخذ منها المكيلة إن عرفت أو خرصها إن جهلت.
فصل
وأما إذا جعل له جزءا من الأرض على وجه لا يجوز في المغارسة، مثل أن يقول له: اغرس هذه الأرض وقم على الغرس، كذا وكذا سنة، أو حتى تبلغ كذا وكذا، لأجل واحد يكون الإطعام دونه، أو يقول له: اغرسها وقم على الغرس حتى(2/239)
يثمر أو إلى أجل كذا وكذا مما لا يثمر النخل دونه، أو اغرسها وهي بيني وبينك مبهما من غير حد ولا أجل على مذهب من لا يجيز ذلك؛ ففي ذلك ثلاثة أقوال، أحدها: أنها إجارة فاسدة يكون على رب الأرض للغارس قيمة غرسه يوم وضعه في الأرض، وأجرة مثله في غرسه إياه وقيامه عليه، وتكون جميع الغلة له يرد عليه الغارس ما أخذ منها المكيلة إن عرفت، أو خرصها، إن جهلت! وهذا قول سحنون وهو يأتي على مذهب من علل بأن الغرس على ملك رب الأرض، فكأنه استأجره على غرس جميع الأرض بنصف الأرض والغرس عند بلوغه الحد الذي شرطاه، وبنصف ما أثمر الغرس.
والثاني: أنه بيع فاسد في نصف الأرض قد فات بالغرس فيكون على الغارس فيه قيمته يوم غرسه، وكراء فاسد في النصف الثاني، فيكون على الغارس فيه لرب الأرض كراء مثله يوم أخذها، أو يوم وضع الغرس فيها، أو يوم أثمرت على الاختلاف المذكور في ذلك؛ ويقلع الغارس غرسه، إلا أن يشاء رب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا؛ وعلى قول يحيى بن يحيى المتقدم لا يأخذه إلا بقيمته قائما، ويكون جميع الغلة للغارس يرد عليه رب الأرض ما أخذ منها المكيلة إن عرفت، أو خرصها إن جهلت، وهذا هو قول ابن القاسم في رواية حسين عنه، وهو يأتي على أن الغرس على ملك الغارس.
والثالث: أنه بيع فاسد في نصف الأرض قد فات بالغرس، فيكون على الغارس فيه قيمته يوم غرسه؛ وإجارة فاسدة في النصف الثاني، فيكون فيه على رب الأرض للغارس قيمته مقلوعا يوم وضعه في الأرض، وأجرة مثله في غرسه وقيامه إلى وقت الحكم! وقيل: إنه يكون عليه للغارس نصف قيمة الغرس قائما يوم(2/240)
يحكم فيه من أجل سقيه وعلاجه، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم، وقيل: إنه يكون عليه للغارس قيمة نصف غرسه يوم بلغ وتم، وأجرته من يومئذ في قيامه عليه إلى يوم يحكم فيه، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، والغلة بينهما في جميع ذلك على ما اشترطاه؛ والصحيح من ذلك ما بدأنا به من أن تكون عليه نصف قيمة غرسه مقلوعا يوم وضعه في الأرض، وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه إلى يوم الحكم؛ وهذا يأتي على أن الغرس نصفه على ملك الغارس، ونصفه على ملك رب الأرض - ومن الله التوفيق والحمد لله وحده -.(2/241)
[كتاب تضمين الصناع] [فصل في وجه تضمين الصناع]
فصل في وجه تضمين الصناع الأصل في الصناع ألا ضمان عليهم وأنهم مؤتمنون؛ لأنهم أجراء وقد أسقط النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الضمان عن الأجراء في الائتمان، وضمنوهم نظرا واجتهادا،
لضرورة
الناس إلى استعمالهم؛ فلو علموا أنهم يؤتمنون ولا يضمنون، ويصدقون فيما يدعون من التلف؛ لتسارعوا إلى أخذ أموال الناس، واجترءوا على أكلها؛ فكان ذلك ذريعة إلى إتلاف الأموال وإهلاكها، وللحق أرباب السلع في ذلك ضرر شديد؛ لأنهم بين أن يدفعوها إليهم فيعرضونها للهلاك أو يمسكوها مع حاجتهم إلى استعمالها فيضر ذلك بهم إذ لا يحسن كل أحد أن يخيط ثوبه ويعمل جميع ما يحتاج إلى استعماله، فكان هذا من الأمور العامة الغالبة التي يجب مراعتها والنظر فيها للفريقين جميعا، فكان الحض في دفعها إليهم على التضمين حتى إذا علم إهلاكها بالبينة من غير تضييع، لم يضمنوا، لإزالة الضرر عنهم، كما إذا لم يعلم الهلاك والتلف ضمنوا لإزالة الضرر عن أهل الأموال. هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ أنهم ضامنون لما غابوا عليه وادعوا تلفه ولم يعلم ذلك إلا بقولهم، ولا ضمان عليهم فيما ثبت ضياعه بالبينة من غير تضييع وتابعه على ذلك جميع أصحابه(2/243)
إلا أشهب، فإنه ضمنهم وإن قامت البينة على التلف؛ وكذلك الرهن عنده قياسا على العارية، إنها مؤداة - للحديث -، والعلة الجامعة بينهما أنه قبض الرهن لمنفعة نفسه خالصا كما قبض العارية لمنفعة نفسه خالصا؛ وأما الصناع فلا يصح له قياسهم على العارية؛ لأنهم قبضوا السلع لمنفعتهم ومنفعة أرباب السلع، إلا أن لقوله حظا من النظر، فوجه قوله أنه لما وجب أن يضمنوا للمصلحة العامة، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى إتلاف الأموال، لم يسقط الضمان عنهم بالبينة، حسما لباب الذريعة؛ لأن ما طريقه المصالح وقطع الذرائع لا يخصص في موضع من المواضع، أصل ذلك شهادة الابن لأبيه لما لم تجز للذريعة، لم تجز. وإن ارتفعت التهمة في البابين، الفضل: ولأن من ضمن بلا بينة، ضمن وإن قامت البينة؛ أصله الغاصب، ولأن من قبض لمنفعة نفسه فضمن بلا بينة، ضمن وإن قامت البينة، أصله القرض.
فصل وقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وابن القاسم أصح؛ لأن الصانع أجير، فإذا ثبت هلاك ما دفع إليه بغير تفريط، أشبه الصانع الخاص والراعي، ولأن الذريعة قد لا تراعى مع العذر الظاهر، مثل من فاتته الجمعة، فإنا نمنعه أن يصلي الظهر في جماعة، لئلا يكون ذلك ذريعة لأهل البدع؛ ثم يجوز ذلك لأهل العذر الظاهر كالمرضى والمحبوسين، وكذلك في مسألتنا إذا كان عذر الصانع ظاهرا بإقامته البينة على التلف من غير تضييع، لم نراع معه الذريعة، وفي هذا اختلاف قد ذكرناه وحصلناه وبينا وجهه ومعناه في كتاب البيان في رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب الصلاة الثالث.(2/244)
فصل وهذا في الصانع المشترك الذي قد نصب نفسه للناس، وأما الصانع الخاص الذي لم ينصب نفسه للعمل للناس، فلا ضمان عليه فيما استعمل إياه أسلم إليه أو عمله في منزل رب المتاع، وسواء على مذهب مالك استعمل الصانع بأجر أو بغير أجر، وخالفه أبو حنيفة فأسقط عنه الضمان إذا عمل بغير أجر؛ لأنه أشبه عنده المودع، وخالفهما الشافعي وأسقط الضمان عمل بأجر أو بغير أجر، والحجة عليه أن تضمينهم إجماع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب حكما بتضمينهم، وقال علي: لا يصلح للناس إلا ذلك، وقال يحيى بن سعيد: ما زال الخلفاء يضمنون الصناع، ولم يكن الخلفاء، ليضمنوهم والصحابة متوافرون إلا بعد مشورتهم واجتماع ملائهم على ذلك، وقد ادعوا على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواية أخرى مثل قولهم، ولم تثبت، ولو ثبتت لحمل ذلك على أنه قد رجع عنها إلى قول الجماعة، وإجماع الصحابة حجة على من بعدهم.
فصل ومما يحتج به عليهم من طريق النظر: أنهم لما قبضوا السلع لمنفعتهم، لم يقيدوا قولهم في تلفها كالقراض على مذهبهم، والعارية؛ فإن قالوا: إنما ضمن المستعير؛ لأنه إنما قبض لمنفعة نفسه وحده، وليس كذلك الصناع، قبضوا لمنفعة أنفسهم ومنفعة أرباب السلع، قلنا: إنا لا نسلم أنهم قبضوا لمنفعة أنفسهم ومنفعة أرباب السلع، بل إنما قبضوا لمنفعة أنفسهم خاصة بدليل نصبهم أنفسهم لذلك، إلا أن انتفاع المالك شرط في حصول المنفعة للقابض ولو سلمنا اشتراكهم في المنفعة، لانتقض ذلك بالقراض؛ لأنهما مشتركان في منفعته. فإن قالوا: المعنى في تضمين المقارض: أنه تمليك بلا بدل. والجواب عن ذلك: أنه لا يمتنع أن تختلف أسباب الضمان، فيكون في بعضها لذلك، وفي بعضها لعلة أخرى، وهي ما ذكرناه من المصلحة والذريعة.(2/245)
فصل وتلخيص هذا الباب وتحصيله على مذهب مالك: أن قابض مال غيره بإذن المالك له على غير وجه الملك لا يخلو من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يقبض ذلك لمنفعة نفسه خاصة.
والثاني: أن يقبضه لمنفعة صاحبه خاصة.
والثالث: أن يقبضه لمنفعتهما جميعا.
فصل فأما الوجه الأول وهو أن يقبضه لمنفعة نفسه خاصة فلا يخلو من وجهين:
أحدهما: أن يقبض ذلك على أن ينتفع به ويرد عينه.
والثاني: أن ينتفع به بتحويل عينه فيرد مثله.
فأما إذا قبضه لينتفع به ويرد عينه، مثل الرهن والعارية، فهو ضامن له إلا أن تقوم له بينة على التلف من غير تعد ولا تضييع، أو يكون مما لا يغاب عليه، وأما إن قبضه لينتفع به ويرد مثله، فهو ضامن له على كل حال كان مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه وذلك كالقرض.
فصل وأما الوجه الثاني وهو أن يقبضه لمنفعة صاحبه خاصة، فلا ضمان عليه فيه، كان مما يغاب عليه كالعين والعروض أو مما لا يغاب عليه كالحيوان والدور، قبض ذلك على أن يحول عينه كالبضائع، أو على ألا يحول عينه كالودائع، الحكم في ذلك كله سواء.
فصل وأما الوجه الثالث: وهو ما قبضه لمنفعتهما جميعا فإنه يغلب فيه منفعة(2/246)
صاحب المال، ويصدق القابض في دعوى التلف كان مما يغيب عليه كالعين والعروض أو مما لا يغيب عليه كالحيوان والدور، قبض ذلك على أن يحول عينه بتصرفه فيه كالقراض أو على ألا يحول عينه كالمستأجر على حمله أو على رعايته أو على استعماله أو ما أشبه ذلك، حاشا الصانع المشترك الذي قد نصب نفسه للعمل للناس والأجير على حمل الطعام، فإنهما لا يصدقان في دعوى التلف فيما يغاب عليه للعلة التي قدمنا ذكرها، وهي الذريعة
ومصلحة العامة.
فصل وإنما قلنا في أول التقسيم: قبض مال غيره بإذن المالك له؛ لأن قابض مال غيره بغير إذن مالكه ضامن له على كل حال؛ لأنه غاصب أو متعد، وإنما قلنا: على غير وجه الملك؛ لأنه إذا قبضه على وجه الملك: إما بشراء أو صدقة أو هبة أو وصية أو ما أشبه ذلك من الوجوه التي تنتقل بها الأملاك، فلا اختلاف أيضا أن الضمان منه كان البيع صحيحا أو فاسدا.
فصل وكل موضع يصدق فيه القابض في دعوى الضياع مثل الوديعة والقراض ورهن ما لا يغاب عليه، أو عارية ما لا يغاب عليه، فإنه يصدق في دعوى الرد إذا قبضه بغير بينة فإن قبضه ببينة لم يصدق في دعوى الرد، هذا هو المشهور المعلوم من قول ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك، وقد روى أصبغ عن ابن القاسم أنه يصدق في دعوى الرد. وإن قبضه ببينة، قاله في دعوى المستأجر ضياع العروض التي استأجر، وخالفه أصبغ واعترض عليه بالقراض والوديعة؛ ولا يلزمه اعتراض أصبغ؛ لأنه لا يفرق على هذه الرواية بين القراض والوديعة والشيء المستأجر، بل يرى أن يصدق في ذلك كله، إذا ادعى رده وإن كان دفع إليه ببينة؛ لأنه إذا صدقه في رد الشيء المستأجر، وإن قبضه ببينة، فأحرى أن يصدقه في(2/247)
الوديعة؛ إذ لا منفعة له فيها؛ وإذا صدقه في الشيء المستأجر فالقراض مثله سواء؛ لأن المنفعة فيهما جميعا لهما جميعا؛ ويشبه أن يفرق بين القراض والشيء المستأجر وبين الوديعة؛ لأن الإشهاد على الوديعة لا وجه له إلا التوثق من عينها، والإشهاد على القراض والشيء المستأجر، يحتمل أن يكون القصد فيه إلى التوثق من الإجارة أو من جزء القراض؛ فيتحصل على هذا في دعوى الرد مع الإشهاد أربعة أقوال:
أحدها: أنه يصدق فيها كلها على رواية أصبغ.
والثاني: أنه لا يصدق فيها كلها على قول أصبغ.
والثالث: الفرق بين الشيء المستأجر وبين القراض والوديعة على ما تأول أصبغ على ابن القاسم.
والرابع: الفرق بين الشيء المستأجر والقراض وبين الوديعة على ما ذكرناه من وجه الفرق في ذلك.
فصل فإذا صدق في دعوى الرد، فإنه يحلف على كل حال من غير تفصيل؛ وأما في دعوى الضياع فلا يحلف إلا أن يكون متهما على مذهب ابن القاسم، وروى ابن نافع ومحمد بن يحيى السبائي عن مالك: أنه يحلف المتهم وغير المتهم في دعوى الضياع؛ وكان ابن زرب - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إن المتهم يحلف لقد ضاعت من غير تفريط ولا تضييع، وأن غير المتهم يحلف ما ضيع ولا فرط؛ ولا يحلف على الضياع، وهو قول له وجه من النظر، ولا يفرق في دعوى الضياع بين أن يقبض ذلك ببينة أو بغير بينة.
فصل وكل موضع لا يصدق فيه في دعوى الضياع فلا يصدق فيه في دعوى الرد إلا في الصناع، فإن ابن الماجشون يرى أن يصدقوا في دعوى الرد إلا أن(2/248)
يشهد عليهم بالدفع، وإن كان لا يصدقون في دعوى الضياع، ونفى أن يكون مالكا قال: إنهم لا يصدقون في دعوى الرد، والمشهور المعلوم من قول مالك وجميع أصحابه ابن القاسم وغيره، أنهم لا يصدقون في دعوى الرد كما لا يصدقون في دعوى الضياع، وقد قاله ابن الماجشون أيضا في موضع آخر، وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم في كتاب الوديعة ما يدل على أنه يصدق في رد الرهن إذا قبضه بغير بينة مثل الوديعة وهو بعيد.
فصل وإذا ادعى الصانع ضياع المتاع الذي استعمل إياه، فإنه يضمن قيمته يوم دفع إليه على ما يعرف من صفته حينئذ، إلا أن يقر أن قيمته يوم ضاع كان أكثر من قيمته يوم دفعه إليه، فيكون عليه قيمته يوم أقر أنه تلف أو يظهر عند الصانع بعد دفعه إليه بمدة، فتكون عليه قيمته يوم ظهر عنده على ما شهد به من قيمته يومئذ؛ وإن كانت قيمته يومئذ أقل من قيمته يوم دفعه إليه، وكذلك الرهن والعارية، وقد وقع في موضع من سماع عيسى من كتاب الرهون أنه يضمن قيمة الرهن، إذا تلف عنده يوم ضاع، وتأويل ذلك عندي على أنه ظهر عنده في الوقت الذي ادعى أنه تلف فيه؛ لأن قيمته يوم ضاع قد تكون أقل من قيمته يوم رهنه إياه فإذا لم يظهر عنده من حين رهنه إياه فلا يصدق في وقت تلفه كما لا يصدق في تلفه ويلزمه قيمته يوم رهنه إياه على ما يعرف من صفته حينئذ، وعلى ما يقر به منها مع يمينه على ذلك، وقد تأول الشيوخ قوله في الرواية: يغرم قيمة الرهن يوم ضاع، أن معنى ذلك إذا لم تعرف له قيمة يوم الرهن فيغرم قيمته يوم ضاع على ما يقر به من الصفة مع يمينه، وهذا بعيد، وتأويلنا الأول هو الصحيح، ويؤيده ما وقع في سماع أصبغ من كتاب الوديعة لابن القاسم وأصبغ.
فصل فإذا أراد صاحب الثوب إذا ادعى الصانع تلفه، أن يؤدي إليه أجرة عمله(2/249)
ويضمنه قيمته معمولا، لم يكن ذلك له إلا أن يقر الصانع أنه تلف بعد العمل، فيكون لرب الثوب أو يؤدي إليه أجرة عمله ويضمنه قيمة ثوبه معمولا إن شاء؛ على القول الذي يرى أنه إذا قامت البينة على تلفه معمولا، لزمه أداء أجرة العمل، وتكون مصيبته منه، وهو أحد قولي ابن القاسم في كتاب ابن المواز، ألا ترى أنه على هذا القول لو أقام الصانع البينة على أنه قد عمل الثوب وادعى تلفه منه بعد العمل، لوجب على رب الثوب أن يؤدي أجرة العمل ويضمنه قيمة الثوب معمولا، فإذا ادعى ذلك ولم يبينه كان لرب الثوب أن يصدقه في دعواه إن شاء، وعلى ما في سماع يحيى من كتاب الرواحل والدواب في مسألة المستأجر على حمل الطعام يتعدى عليه فيبيعه في الطريق، وما في سماع أصبغ عن ابن القاسم من كتاب تضمين الصناع في القمح ينقص عند الطحان يلزم رب الثوب أن يؤدي أجرة العمل ويضمنه قيمة الثوب معمولا إذا ادعى الصناع ضياعه قبل العمل أو بعده خلاف ما في المدونة.
فصل وكذلك يضمن الصناع كل ما أتى على أيديهم من خرق أو كسر أو قطع إذا عمله في حانوته، وإن كان صاحبه قاعدا معه، إلا ما كان فيه تغرير من الأعمال مثل ثقب اللؤلؤ ونقش الفصوص وتقويم السيوف واحتراق الخبز عند الفران أو الثوب في قدر الصباغ، وما أشبه ذلك؛ فإنه لا ضمان عليهم فيما أتى على أيديهم فيه، إلا أن يعلم أنه تعدى فيها أو أخذها على غير وجه ما أخذها فيضمن حينئذ؛ ومثل ذلك البيطار يطرح الدابة فتموت من ذلك، أو الخاتن يختن الصبي(2/250)
فيموت من ختانه، أو الطبيب يسقي المريض فيموت من سقيه، أو يكويه فيموت من كيه، أو يقطع منه شيئا فيموت من قطعه، أو الحجام يقلع ضرس الرجل فيموت المقلوع ضرسه، فلا ضمان على واحد من هؤلاء في ماله ولا على عاقلته في جميع هذا؛ لأنه مما فيه التغرير على ذلك الشيء، فكأن صاحبه هو الذي عرضه لما أصابه، وهذا إذا لم يخطئ في فعله، وأما إذا أخطأ في فعله، مثل أن: يسقي الطبيب المريض ما لا يوافق مرضه، أو تزل يد الخاتن، أو القاطع فيتجاوز في القطع، أو يد الكاوي فيتجاوز في الكي، أو يد الحجام فيقلع غير الضرس التي أمر بها، فلا يخلو من وجهين:
أحدهما: ألا يكون من أهل المعرفة فيغر من نفسه.
والثاني: أن يكون من أهل المعرفة فلا يغر من نفسه.
فأما إذا كان من أهل المعرفة، ولم يغر من نفسه، فذلك خطأ يكون على العاقلة إلا أن يكون أقل من الثلث، فيكون ذلك في ماله. وأما إن كان ممن لا يحسن وغر من نفسه، فعليه العقوبة من الإمام بالضرب والسجن، واختلف في الدية فقيل: إنها تكون عليه في ماله ولا يكون على العاقلة من ذلك شيء وهو ظاهر قول مالك في سماع ابن القاسم وأشهب من كتاب السلطان، وقال عيسى بن دينار - من رأيه ذلك خطأ - وهو على العاقلة إن كان الثلث فصاعدا، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الديات؛ قال في الطبيب يسقي النصراني أو المسلم الدواء فيموت منه: إنه لا شيء عليه إلا أن يعلم أنه أراد قتله؛ لأن تأويل ذلك أن الدية على عاقلته مثل قول ابن دينار.
فصل فإن اشترط الصانع أنه لا ضمان عليه لم ينفعه شرط وكان عليه الضمان، هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة، وفي سماع أشهب من كتاب تضمين الصناع من العتبية، وينبغي على هذا القول أن يكون له أجر مثله لأنه إنما رضي بالأجر(2/251)
المسمى، لإسقاط الضمان عنه، وقال أشهب: ينفعه الشرط ويسقط عنه الضمان، فعلى قوله يكون له الأجر المسمى، وكذلك المستعير، والمرتهن، إذا اشترطا ألا ضمان عليهما فيما يغاب عليه، لم ينفعهما الشرط على مذهب مالك وابن القاسم، خلاف قول أشهب؛ لأنه إذا أعمل الشرط في الصناع وأسقط عنهم الضمان، فأحرى أن يعمله في المستعير ويسقط عنه الضمان، وله في بعض روايات العتبية من كتاب العاريات أن الشرط باطل، مثل قول ابن القاسم، والذي يوجبه النظر أن يكون الشرط عاملا في المستعير؛ لأنه إذا أعاره ما يغاب عليه وأسقط عنه فيه الضمان، فقد فعل معه معروفين؛ وكذلك الرهن إذا لم يكن مشترطا في أصل البيع، وإن طاع له بعد عقد البيع، فيتحصل في هذا ثلاثة أقوال، إعمال الشرط، وإبطاله، والفرق بين المستعير والمرتهن بعد عقد البيع، وبين الصانع والمرتهن في عقد البيع.
فصل وأما إذا اشترط على المستعير والمرتهن الضمان فيما لا يغاب عليه، فقول مالك: إن الشرط باطل، ينبغي إذا اشترط المعير على المستعير الضمان فيما لا يغاب عليه فأسقط عنه بالحكم - أن يلزم الإجارة في استعماله -؛ لأن ذلك قد خرج من حد العارية وسننها إلى باب الإجارة الفاسدة؛ لأن رب الدابة لم يرض أن يعيره إياها إلا بأن يحرزها في ضمانه، وقد رأيت بذلك رواية عن أشهب حكاها أبو إسحاق التونسي وقال: إن ظاهر ما في المدونة خلاف ذلك، أن الشرط باطل ولا أجرة عليه، وقول أشهب ظاهر، وما ينبغي أن يحمل إلا على التفسير، وقع قول أبي إسحاق في كتاب الرهون من كتابه، وحكى ابن حبيب عن مطرف في ذلك تفصيلا، وهو أنه إن كان شرط عليه الضمان لأمر خافه من طريق مخوفة أو لصوص أو ما أشبه ذلك، فيلزمه الشرط إن تلف في ذلك المعنى الذي خافه، وإن تلف في سواه، لم يلزمه الشرط؛ وقال أصبغ: لا شيء عليه في الوجهين جميعا، وهو مذهب مالك، وبالله التوفيق.(2/252)
[كتاب الأقضية] [ما جاء في الأقضية]
ما جاء في الأقضية انفرد الله تبارك وتعالى بالحكم والقضاء بين عباده في الآخرة، فقال سبحانه: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر: 20] . وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل: 78] . وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 93] . وقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس: 54] . وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] .
وصرف - تبارك وتعالى - الحكم والقضاء بينهم في الدنيا إلى من استخلفه في الأرض عليهم من الأنبياء، ومن بعدهم من الخلفاء وأولي الأمر من القضاة والحكام والعلماء، وفرض عليهم العدل بينهم في الحكم، وألا يتبعوا الهوى، ولا يشتروا بآياته ثمنا قليلا، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] .(2/253)
وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] . وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] . وقال: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] . وقال: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] . وقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] .
فصل وفرض لهم على الناس التسليم والطاعة والانقياد، فقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] الآية. وقال تعالى:(2/254)
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، فقارن - تعالى - طاعته بطاعة رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وبطاعة أولي الأمر من عباده. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني» .
فصل فمن عصى إماما أو قاضيا أو حكما من الحكام فيما أمر به من الحق أو حكم فيه بوجه العدل، فقد عصى الله ورسوله، وتعدى حدوده، وأما إن قضى بغير العدل، أو أمر بغير الحق، فطاعته غير لازمة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ، إلا أن يخشى أن تؤدي مخالفته إلى هرج أو فساد، فتجب عليه الطاعة على كل حال.
فصل فالحكم بين الناس بالعدل من أفضل أعمال البر وأعلى درجات الأجر. قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المقسطون على منابر من نور يوم القيامة على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» . فبدأ بالإمام العادل، وظل الله في هذا الحديث رحمته وجنته.(2/255)
قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] ، وقال: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] ؛ ومن كان في ظل الله ورحمته يوم القيامة فهو آمن من هول الموقف وشدته، سالم مما يلحق الناس فيه من الشدة والضيق، وهذه نهاية في الأجر والثواب.
فصل والجور في الأحكام واتباع الهوى فيها من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، قال الله عز وجل: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] . وقال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أعتى الناس على الله وأبغض الناس إلى الله وأبعد الناس من الله يوم القيامة: رجل ولاه من أمة محمد شيئا ثم لم يعدل فيهم» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من أحد أقرب من الله يوم القيامة بعد ملك مصطفى أو نبي مرسل من إمام عادل، ولا أبعد من الله من إمام جائر يأخذ بحبه» أي يحكم بهواه.
فصل فالقضاء محنة، ومن دخل فيه فقد ابتلي بعظيم؛ لأنه قد عرض نفسه للهلاك، إذ التخلص منه على ما ابتلي به عسير؛ روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: وددت أن أنجو من هذا الأمر كفافا لا لي ولا علي. وروي عن أبي(2/256)
هريرة أنه قال: من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين. وقال أبو قلابة: مثل القاضي العالم كالسابح في البحر، فكم عسى أن يسبح حتى يغرق. وكتب سلمان إلى أبي الدرداء بلغني أنك جعلت طبيبا تداوي، فإن كنت تبرئ، فنعما لك وإن كنت متطببا فاحذر أن تقتل إنسانا فتدخل النار فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما فقال: ارجعا إلي أعيدا علي قصتكما- متطبب والله.
فصل فالهروب عن القضاء واجب، وطلب السلامة منه لا سيما في هذا الوقت لازم؛ وقد روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دعا رجلا ليوليه فأبى، فجعل يديره على الرضى فيأبى حتى قال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أي ذلك تعلم خيرا لي؟ قال: ألا تلي، قال: فاعفني. قال: قد فعلت. وقال مالك: قال لي عمر بن حسين: ما أدركت قاضيا استقضى بالمدينة إلا رأيت كآبة القضاء وكراهيته في وجهه، إلا قاضيين سماهما.
فصل وطلب القضاء والحرص عليه حسرة وندامة يوم القيامة، روي عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ستحرصون على الإمارة وتكون حسرة وندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة. فمن طلب القضاء وأراده وحرص عليه، وكل إليه وخيف فيه الهلاك عليه، ومن لم يسأله وامتحن به، وهو كاره له خائف على نفسه فيه، أعانه الله عليه» . روي عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من طلب القضاء أو استعان عليه وكل إليه، ومن لم يطلبه ولا استعان عليه،(2/257)
أنزل الله ملكا يسدده» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسل الإمارة فإنك إن تؤتها من غير مسألة، تعن عليها، وإن تؤتها عن مسألة توكل إليها» .
فصل فيجب ألا يولى القضاء من أراده وطلبه، وإن تجمعت فيه شروط القضاء مخافة أن يوكل إليه فلا يقوم به ولا يقوى عليه. قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا لا نستعمل على عملنا من أراده» ، ونظر عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى شاب في وفد وَفَد عليه فاستحلاه وأعجبه، فإذا هو يسأله القضاء، فقال له عمر: كدت أن تغرنا من نفسك إن الأمر لا يقوى عليه من يحبه.
فصل وللقضاء خصال مشترطة في صحة الولاية، وخصال ليست مشترطة في صحة الولاية، إلا أن عدمها توجب عزل القاضي عن الولاية، وخصال ليست مشترطة في صحة الولاية ولا يوجب عدمها عزل القاضي عن الولاية إلا أنها مستحبة فيها، ويستحب بعدمها عزله عنها، فأما الخصال المشترطة في صحة الولاية، فهي أن يكون حرا مسلما بالغا ذكرا عاقلا واحدا، فهذه الستة خصال لا يصح أن يولى القضاء على مذهبنا إلا من اجتمعت فيه، فإن ولي من لم تجتمع فيه، لم تنعقد له الولاية، وإن انخرم شيء منها بعد انعقاد الولاية، سقطت الولاية، وقال أبو حنيفة: يجوز أن تلي القضاء المرأة في الأموال دون القصاص، وقال محمد بن الحسن، ومحمد بن جرير الطبري: يجوز أن تكون المرأة قاضية على كل حال؛ وأما الخصال التي ليست مشترطة في صحة الولاية إلا أن عدمها يوجب فسخ الولاية،(2/258)
فهي أن يكون سميعا بصيرا متكلما عدلا؛ فهذه الأربع خصال لا يجوز أن يولى القضاء إلا من اجتمعت فيه؛ فإن ولي من لم تجتمع فيه، وجب أن يعزل متى عثر عليه، ويكون ما مضى من أحكامه جائزة إلا الفاسق الذي ليس بعدل، فاختلف فيما مضى من أحكامه، فقيل: إنها جائزة وهو قول أصبغ، وقيل: إنها مردودة، وهو المشهور في المذهب؛ فعلى هذا القول العدالة مشترطة في صحة الولاية كالإسلام والحرية والبلوغ والعقل والذكورة، على مذهبنا والتوحد.
وأما الخصال المستحبة فكثيرة، منها أن يكون من أهل البلد، ورعا، عالما، يسوغ له الاجتهاد غنيا ليس بمحتاج ولا مديان، معروف النسب ليس بابن لعان ولا ولد زنا، جزلا نافذا، فطنا غير مخدوع لغفلة، ولا محدود في زنا ولا قذف، ولا مقطوع في سرقة، وروي عن عمر بن عبد العزيز منها خمس خصال، وهي: أن يكون عالما بالفقه والسنة، ذا نزاهة عن الطمع، مستخفا بالأئمة. يريد أنه يدير الحق على من دار عليه ولا يبالي بمن لامه على ذلك، وقيل: باللائمة يريد أنه يقضي بالحق ولا يهابهم فيه، والأول آمن، حليما عن الخصم، مستشيرا لأولي العلم.
وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يصلح أن يلي القضاء إلا من كان حصيف العقل، شديدا في غير عنف، لينا في غير ضعف، قليل الغرة، بعيد الهيبة، لا يطلع الناس منه على عورة؛ ومن الخصال المستحبة على ما يوجبه مذهبنا: ألا يكون أميا، وليس لأصحابنا في ذلك نص، ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان، أحدهما: المنع، والآخر: الجواز، والأظهر عنده الجواز؛ لأن إمام المسلمين وسيد المرسلين وأفضل الحاكمين كان أميا، ومن طريق المعنى أنه لا يلزمه قراءة العقود ويجوز أن ينوب عنه في ذلك وفي تقييد المقالات غيره، وأن للمنع من ذلك وجها، لما فيه من تضييق وجوه الحكم، والنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليس كغيره؛ لأنه معصوم؛ فهذه الخصال المستحبة ينبغي توخيها وبعضها آكد من بعض، فيقدم الذي يجتمع فيه منها آكرها، وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أرى(2/259)
خصال القضاء تجتمع اليوم في أحد، فإذا اجتمع فيه منها خصلتان، رأيت أن يولى العلم والورع. قال ابن حبيب: فإن لم يكن علم فعقل وورع، فبالعقل يسأل وبالورع يقف، وإذا طلب العلم وجده وإن طلب العقل لم يجده. يريد بالعقل العقل الحصيف.
وأما العقل الذي يوجب التكليف، فإنما هو مشترط في صحة الولاية على ما قدمناه. قال ابن حبيب: ويكون عالما بالسنة والآثار ووجه الفقه الذي يؤخذ منه الكلام. حكي ذلك عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، قالوا: ولا يصلح أن يكون صاحب رأي لا علم له بالسنة ولا بالآثار، ولا صاحب حديث ولا علم بالفقه والرأي؛ لأنه يخاف من الجهل مثل ما يخاف من الجور.
قال أصبغ: ويعزل الجاهل إلا ألا يوجد غيره، فيقر ويؤمر أن يستكثر من المشورة، ويتفقد أمره في كل حين. قال: وإذا لم يجد الإمام إلا رجلين، أحدهما عدل مأمون لا علم له بالقضاء والسنة، والآخر عالم وليس مثل الآخر في العدالة، فإن كان العالم لا بأس بحاله وعفافه، وإن كان دون الآخر، فليول هذا، وإن كان غير مرضي ولا موثوق به في عفافه وصلاحه، ولعله يقارب ما لا ينبغي، فلا يولى هذا ولا هذا إلا ألا يوجد غيرهما فإن لم يجد غيرهما ولي العدل القصير العلم، وليجتهد وليستشر، وإن وجد من يجمع العلم والعدل، فلا يولى غيره وإن لم يكن من أهل البلد؛ وقال سحنون: وإن كان الرجل العالم فقيرا وهو أعلم من بالبلد وأرضاهم، استحق القضاء، ولكن لا ينبغي أن يجلس حتى يغنى ويقضي عنه دينه، قال: ولا بأس أن يستقضى ولد الزنا ولا يحكم في الزنا، كما أن القاضي لا يحكم لابنه.
فصل فالقضاة ثلاثة كما روي عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، وأما الذي في النار فرجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى بين الناس(2/260)
على جهل فهو في النار» ، وروي عنه- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «الحكام ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، حكم جهل فخسر فأهلك أموال الناس وأهلك نفسه ففي النار، وحكم علم فهزل - يعني جار- فأهلك أموال الناس وأهلك نفسه ففي النار، وحكم علم فعدل وأحرز أموال الناس وأحرز نفسه ففي الجنة» . وروي عن ابن عمر أنه قال: بلغني «أن القضاة ثلاثة، رجل جار فهو في النار، ورجل تكلف فقضى بما لا يعلم فهو في النار، ورجل علم فاجتهد فذلك ينجو كفافا لا له ولا عليه» .
وهذا يرده الحديث، قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» . وقال إياس بن معاوية للحسن: بلغني أن القضاة ثلاثة، فذكر فيهم: رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، فقال الحسن: إن فيما قضى الله علينا من نبأ داود وسليمان ما يرد قول هؤلاء الناس. يقول الله سبحانه: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] ، فأثنى على سليمان ولم يذم داود.
وقد روي في حديث معاذ بن جبل أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أذن له أن يجتهد رأيه فيما لم يكن في الكتاب والسنة، قال له لما بعثه إلى اليمن: "كيف تقضي؟ " قال له: أقضي بما في كتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ "، قال: ففي سنة رسوله، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: أجتهد رأيي، فقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي رسوله» .(2/261)
فإذا اجتهد الحاكم فله أجر الاجتهاد وإن أخطأ باجتهاده. روي عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» .
فصل وهذا إذا كان من أهل الاجتهاد، وأما إن لم يكن من أهل الاجتهاد، فهو آثم وإن أصاب باجتهاده لتقحمه وجرأته على الله في الحكم بغير علم.
فصل
فيحكم الحاكم بما في كتاب الله، فإن لم يكن، ففيما جاء عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صحبته الأعمال؛ فإذا كان خبرا صحبت غيره الأعمال، قضى بما صحبته الأعمال، وهذا معلوم من أصول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العمل مقدم على أخبار الآحاد، وكذلك القياس عنده مقدم على أخبار الآحاد، على ما ذهب إليه أبو بكر الأبهري، فإن لم يجد في السنة في ذلك شيئا، نظر في أقوال الصحابة فقضى بما اتفقوا عليه، فإن اختلفوا قضى بما صحبته الأعمال من ذلك فإن لم يصح عنده أيضا اتصال العمل بقول بعضهم، تخير من أقوالهم ولم يخالفهم جميعا.
وقد قيل: إن له أن يجتهد وإن خالفهم جميعا، وكذلك الحكم في إجماع التابعين بعد الصحابة، وفي كل إجماع ينعقد في كل عصر من الأعصار إلى يوم القيامة؛ لقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] . ولقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تجتمع أمتي على ضلالة» ، وأنه قال: «يد الله على الجماعة» .(2/262)
فإذا تضمن الله حفظ الجماعة، لم يجز عليها الغلط والسهو، فإن لم يجد في النازلة إجماعا، قضى فيها بما يؤديه النظر والاجتهاد في القياس على الأصول بعد مشورة أهل العلم، فإن اجتمعوا على شيء، أخذ به، وإن اختلفوا نظر إلى أحسن أقوالهم عنده، وإن رأى خلاف رأيهم قضى بما رأى، إذا كان نظيرا لهم، وإن لم يكن من نظرائهم، فليس له ذلك، قاله ابن حبيب، وهو قول فيه اعتراض.
والصحيح أنه إذا كان من أهل الاجتهاد، فله أن يقضي بما رأى، وإن كانوا أعلم منه؛ لأن التقليد لا يصح للمجتهد فيما يرى خلافه بإجماع، وإنما يصح له التقليد على مذهب من يرى التقليد ويقول به ما لم يتبين له في النازلة حكم، فإنما الخلاف هل للمجتهد أن يترك النظر والاجتهاد، ويقلد من قد نظر واجتهد أم لا على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك له.
والثاني: أن ذلك ليس له.
والثالث: أن ذلك ليس له إلا أن يخاف فوات النازلة، وأما إن لم يكن من أهل الاجتهاد ففرضه المشورة والتقليد، فإن اختلف عليه العلماء، قضى بقول أعلمهم، وقيل بقول أكثرهم على ما وقع في المدونة في الحكاية عن الفقهاء السبعة، والأول أصح. وقيل: إن له أن يحكم بقول من شاء منهم، إذا تحرى الصواب بذلك ولم يقصد الهوى، وله أن يكتفي بمشورة واحد من العلماء، فإن فعل ذلك فالاختيار أن يشاور أعلمهم، فإن شاور من دونه في العلم وأخذ بقوله، فذلك جائز إذا كان المشاور أهل النظر والاجتهاد.(2/263)
فصل والاجتهاد بذل الوسع في طلب صواب الحكم، وهذا على مذهب من قال: إن الحق في طرف واحد، وإن المكلف إنما كلف طلب الحق ولم يكلف إدراكه، وهذا مذهب جماعة من أهل العلم؛ وقد استدل جماعة من أصحابنا على أن هذا هو مذهب مالك بقوله: - لما سئل عن اختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مخطئ ومصيب، وهذا لا دليل فيه، لاحتمال أن يريد اختلافهم فيما طريقه العلم، مثل ما وقعت بينهم فيه الحروب، أو يكون معنى قوله: إن منهم من أصاب النص، ومنهم من أخطأه باجتهاده فيما طريقه الاجتهاد، والأول أظهر - والله أعلم.
وأما عن مذهب من قال: إن كل مجتهد مصيب، فالاجتهاد عنده بذل الوسع في إدراك صواب الحكم، وإلى هذا ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وحكى أن هذا هو مذهب مالك واستدل على ذلك من مذهبه بأن المهدي أمره أن يجمع مذهبه في كتاب يحمل عليه الناس، فقال له مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد تفرقوا في البلاد، وأخذ أهل كل ناحية عمن وصل إليهم، فدع الناس وما هم عليه؛ فلولا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - رأى أن كل مجتهد مصيب، لما رأى أن يقرهم على ما هو الخطأ عنده، وعلى هذا أصحاب الشافعي.
وقد روي عن أبي حنيفة القولان جميعا، وكذلك فقد روي عن أبي الحسن الأشعري - رَحِمَهُ اللَّهُ - القولان جميعا، والصحيح عنه أن كل مجتهد مصيب- وهو الحق والصواب؛ لأن المجتهد إذا اجتهد فيما لا نص فيه ولا إجماع، فأداه اجتهاده إلى تحليل أو تحريم، يعلم قطعا أنه متعبد بما أداه اجتهاده إليه، من ذلك مأمور به، ولا يصح أن يأمره الله تعالى بشيء ويتعبده به وهو خطأ عنده، وقد استدل بعض من ذهب إلى أن الحق في واحد باختلاف المجتهدين في طلب سمت القبلة وهذا غلط بين، إذ ليس اختلاف المجتهدين في الأحكام كاختلاف المجتهدين في طلب سمت القبلة؛ لأن الكعبة في موضع واحد، فمن وافق جهتها باجتهاده فهو مصيب، ومن لم يوافق جهتها فهو مخطئ، لاستحالة كون الكعبة في موضعين، وليس كذلك ما عاد إلى(2/264)
مسألتنا؛ لأن المجتهدين إذا اختلفا في اجتهادهما فأدى أحدهما اجتهاده إلى تحليل، والثاني إلى تحريم، فكل واحد منهما متعبد في نفسه بما أداه إليه اجتهاده، وليس في ذلك وجه من وجوه الاستحالة؛ لجواز ورود النص من عند الله تعالى به. فإذا جاز ورود النص به من عند الله لامتناع الاستحالة، وقام الدليل على أنه لا يجوز أن يأمر الله أحدا بشيء ويتعبده به- وهو خطأ عنده، وجب القول بتصويب المجتهدين وإن كان من أخطأ سمت القبلة باجتهاده فصلى إلى تلك الناحية مخطئ الكعبة فهو مصيب عند الله- وإن وقعت صلاته إلى غير القبلة؛ لأن غرضه إنما هو الاجتهاد في طلب السمت لا إدراكه؛ فالمختلفون باجتهادهم في طلب سمت القبلة مصيبون عند الله على هذا المعنى، وهذه جملة كافية لمن بصره الله وأفهمه في بيان صحة القول بتصويب المجتهدين، وهي من المسائل القطعيات.
فصل فإذا صح القول بتصويب المجتهدين واستحال أن الحق في واحد بقيام الأدلة على ذلك، وجب أن يتأول قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر» على ما لا ينافي الدليل، فيقول ليس معنى قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث: أخطأ أي أخطأ الحق عند الله؛ لأن الحق عنده في جهة ما تعبده به أو إنما معناه أخطأ النص إن كان قد ورد في ذلك نص لم يعلم به، أو أخطأ في الحكم بالمال لمن لم يجب له في باطن الأمر، وذلك ممكن مع الحكم بالنص لا بالاجتهاد، وذلك مثل أن يكون لرجل على رجل حق بشهادة شاهدين عدلين فيهبه له أو يقبضه منه- ولم يعلم الشهود بذلك، ثم يقوم عليه بحقه أو على ورثته بشهادة شهيديه، فإن الحاكم يحكم له بشهادتهما ويعديه بحقه، فيكون مصيبا في الحكم عند الله بحكمه بنص الكتاب مخطئا في دفع المال إلى من لم يجب له فيه حق في باطن الأمر، وإذا احتمل الحديث هذه الوجوه، بطل الاحتجاج به في أن الحق واحد، وكذلك سائر ما يحتجون به ينفصل عنه بوجوه كثيرة من الانفصالات، وليس هذا موضع ذكرها.(2/265)
فصل وحكم الحاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا على من علمه في باطن الأمر؛ لأن الحاكم إنما يحكم بما ظهر- وهو الذي تعبد به ولا ينقل الباطن عند من علمه عما هو عليه من تحليل أو تحريم، قال الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار» . وهذا إجماع من أهل العلم في الأموال، واختلفوا في حل عصمة النكاح أو عقدها بظاهر ما يقضي به الحكم وهو خلاف الباطن، فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي وجمهور أهل العلم إلى أن الأموال والفروج في ذلك سواء، لأنها حقوق كلها تدخل تحت عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار» .
فلا يحل منها القضاء الظاهر ما هو حرام في الباطن. وقال أبو يوسف وأبو حنيفة وكثير من أصحابه: إنما ذلك في الأموال خاصة؛ فلو أن رجلين تعمدا لشهادة بالزور على رجل أنه طلق امرأته فقبل القاضي شهادتهما لظاهر عدالتهما عنده- وهما قد تعمدا الكذب أو غلطا ففرق بشهادتهما بين الرجل والمرأة، ثم اعتدت المرأة، أنه جائز لأحد الشاهدين أن يتزوجها وهو عالم بأنه كاذب في شهادته؛ لأنها لما حلت للأزواج بالحكم في الظاهر، كان الشاهد وغيره سواء؛ لأن قضاء القاضي وحكمه فرق بينها وبين زوجها وقطع العصمة بينهما؛ ولولا ذلك ما حلت لزوج غيره؛ واحتجوا بحكم اللعان وقالوا: معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب الذي لو علم الحاكم كذبها فيه، ما فرق بينها وبين زوجها، ولحكم فيه بغير ذلك من وجوب(2/266)
الحد عليها أو الرجم. قالوا: فلم يدخل هذا في معنى قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا» . قالوا: ألا ترى أن من شهد عليه بالنكاح أو بالطلاق وقضى القاضي عليه بذلك، لم يكن له الامتناع منه وجاز الحكم بشهادة الشهود عليه. ولزمه التسليم له كانت فرقته في الظاهر فرقة عامة، فلما كان ذلك دخل فيه الشاهد وغيره، ولهم في ذلك احتجاجات كثيرة لا تصح، والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي رحمهما الله ومن قال بقولهما.
فصل ويستحب للقاضي الجلوس للحكم في رحاب المسجد الخارجة عنه من غير تضييق عليه في جلوسه في غيرها، ليصل إليه اليهودي والنصراني والضعيف وهو أقرب للتواضع، ولا ينبغي له أن يجلس الفقهاء معه في مجلس قضائه، ولكن يتخذهم مستشارين إذا ارتفع عن مجلس قضائه؛ وهكذا كان عمر بن الخطاب يفعل بأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذا قول ابن حبيب في الواضحة.
واستحب أشهب ألا يقضي إلا بحضرة أهل العلم؛ لكي إن أخطأ في حكمه رد مكانه قبل أن يفوت القضاء به، فلا يقدر على رده إلا أن يخاف الحصر من جلوسهم عنده، أو يشتغل قلبه بهم وبالحذر منهم، وهو اختيار ابن المواز؛ ولا ينبغي للقاضي أن يقضي بين الخصمين- وبه من الضجر أو الغضب أو الجوع أو الهم ما يخاف على فهمه منه الإبطاء والتقصير، وما كان من ذلك كله خفيفا لا يضر به في فهمه، فلا بأس أن يقضي وذلك به.
فصل ويلزم القاضي تحري العدل بين الخصمين عنده فيكون مجلسهما منه واحدا ونظره إليهما سواء، وقد تكلم الناس في آداب القضاة وما يلزمهم أن يلتزموه في أنفسهم وأعوانهم، وبسطوا ذلك في كتبهم، فأغنانا ذلك عن ذكره، وكتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أصل في الأحكام فيجب تحفظه والوقوف عليه، وهو: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى(2/267)
عبد الله بن قيس؛ سلام عليك، أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، وانفذ إذا قضيت، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا؛ لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة- أمرا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة، أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية؛ فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى؛ المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان، وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم، والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن عليه الذخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه، شانه الله، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته- والسلام ".(2/268)
[كتاب الشهادات]
قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]- أي خيارا عدولا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .
فصل وهذه الشهادة تكون في الدنيا ويوم القيامة في الأخرى- على ما أتت به الآثار عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأما كونها في الدنيا، فبيانه: ما روي «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر عليه بجنازة فقيل لها: خير وتتابعت الألسن بالخير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وجبت؛ ومر عليه بجنازة فقيل لها: شر وتتابعت الألسن بالشر؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وجبت، أنتم شهداء الله في الأرض» ، زاد في حديث آخر: «فمن أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار» ، وما روي عنه أيضا أنه قال: «إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه، فانظروا ماذا يتبعه(2/269)
من حسن الثناء» . وأما كونها يوم القيامة، فبيانه: ما روي في الحديث أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «يدعى بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت ما أرسلت به؟ فيقول: نعم، فيقال لقومه: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال له: من يعلم ذلك؟ فيقول: محمد وأمته، فيأتون فيشهدون له بالتبليغ» .
ويروى أن الله تعالى إذا جمع عباده يوم القيامة، كان أول من يدعى إسرافيل، فيقول له ربه: ما فعلت في عهدي هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم يا رب قد بلغته جبريل؛ فيدعى جبريل فيقال له: هل بلغك إسرافيل عهدي؟ فيقول: نعم قد بلغني، فيخلى عن إسرافيل، ويقال لجبريل: هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم قد بلغت الرسل، فيدعى الرسل فيقال لهم: هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون: نعم ربنا؛ فيخلى عن جبريل، ثم يقال للرسل ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون: بلغنا أممنا؛ فتدعى الأمم فيقال لهم: هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذب ومنهم المصدق؛ فيقول الرسل: إن لنا عليهم شهودا يشهدون أن قد بلغنا مع شهادتك؛ فيقول: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتدعى أمة محمد، فيقال لها: أتشهدون أن رسلي هؤلاء قد بلغوا عهدي إلى من أرسلوا إليه؟ فيقولون: نعم- ربنا- شهدنا أن قد بلغوا، فتقول تلك الأمم: - ربنا- كيف يشهد علينا من لم يدركنا؛ فيقول لهم الرب: كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك فقصصت علينا أنهم قد بلغوا، فشهدنا بما عهدت إلينا،(2/270)
فيقول الرب: نعم صدقوا " فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .
فصل وهذه شهادة صحيحة، لأنهم شهدوا بما علموا بأخبار من علموا صدقه بالأدلة الظاهرة والبراهين القاطعة، ومن هذا المعنى شهادة خزيمة بن ثابت للنبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - على الأعرابي أنه اشترى منه الفرس ولم يحضر ولا شهد.
فصل وكذلك كل من علم شيئا بوجه من الوجوه التي يقع بها العلم، وجب عليه الشهادة به إذا دعي إليها؛ والعلم يدرك بأربعة أشياء فلا يصح لشاهد شهادة بشيء حتى يقع له العلم ويحصل عنده بأحدها، إذ لا تصح الشهادة إلا بما يعلم ويقطع على معرفته، لا بما يشك فيه، ولا بما يغلب على الظن معرفته. قال الله عز وجل: {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] .
فصل فأحد الوجوه التي يدرك بها العلم العقل بانفراده، فإنه يدرك به بعض العلوم الضرورية، مثل أن الاثنين أكثر من الواحد، وأن السماء فوقه والأرض تحته؛ ويعلم به حال نفسه من صحته وسقمه، وإيمانه وكفره؛ وتصح بذلك شهادته على نفسه، وما أشبه ذلك.
والثاني العقل مع الحواس الخمس: حاسة السمع، وحاسة البصر، وحاسة(2/271)
الشم، وحاسة الذوق، وحاسة اللمس؛ فيدرك بالعقل مع حاسة السمع الكلام وجميع الأصوات المسموعات؛ ويدرك بالعقل- مع حاسة البصر جميع الأجسام والأعراض والأشخاص المبصرات، ويدرك بالعقل مع حاسة الشم جميع الروائح المشمومات، ويدرك بالعقل مع حاسة الذوق جميع الطعوم المذوقات، ويدرك بالعقل مع حاسة اللمس جميع الملموسات- على اختلافها في اللين والخشونة، وما أشبه ذلك.
والثالث: الأخبار المتواترة، فإنه يعلم بها أخبار البلدان النائية، والقرون الماضية، وظهور النبي، ودعائه إلى الإسلام، وما أشبه ذلك.
فصل فالعلوم المدركة من هذه الوجوه الثلاثة: علم ضرورة يلزم النفس لزوما لا يمكنها الانفصال منه ولا الشك فيه.
والوجه الرابع: الذي يدرك به العلم هو النظر والاستدلال، والنظر والاستدلال مبني على علم الضرورة، أو على ما بني على علم الضرورة، أو على ما بني على ما بني على علم الضرورة- هكذا أبدا إلى ما أمكن ضبطه، وصح وجوده؛ مثال ذلك أن الإنسان عالم بوجود نفسه- ضرورة فهذا أصل تبنى عليه العلوم الضروريات، فإذا علمت نفسي ضرورة، نظرت هل أنا محدث أو قديم؛ فلا يصح أن أنظر هذا النظر قبل علمي بوجود نفسي، فإذا نظرت، علمت أني محدث بالنظر الصحيح، فالعلم بحدثي علم نظري، مبني على العلم بوجود نفسي الذي هو ضرورة؛ ثم لما علمت أني محدث، نظرت هل لي محدث أو ليس لي محدث؛ فعلمت بالنظر الصحيح أنه لا بد لي من محدث، فهذا أيضا علم نظري مبني على علم نظري، مبني على علم ضروري؛ ثم أنظرُ بعد ذلك أيضا في محدثي: هل(2/272)
هو قديم أو محدث؟ فأعلم بالنظر الصحيح أنه قديم؛ فالعلم بأن محدثي قديم علم نظري مبني على العلم بأن لي محدثا الذي هو علم نظري، وهو مبني على العلم بحدثي، الذي هو أيضا علم نظري، وهو مبني على العلم بوجودي وهو ضرورة.
فصل فالعلم النظري يقع العلم به عقيب النظر، ويستوي مع الضروري في أنه معرفة المعلوم على ما هو به، فالشهادة بما علم من جهة النظر والاستدلال جائزة، كما تجوز بما علم من جهة الضرورة، وذلك مثل ما روي أن خزيمة بن ثابت شهد للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه اشترى الفرس من الأعرابي ولم يحضر ولا شهد؛ ومثل ما روي أن أبا هريرة شهد أن رجلا قاء خمرا، فقال له عمر: أتشهد أنه شربها؟ فقال: أشهد أنه قاءها، فقال له عمر بن الخطاب: ما هذا التعمق؟ فلا وربك ما قاءها حتى شربها؛ ومن ذلك: شهادة الحكماء في قدم العيوب وحدوثها، وشهادة أهل المعرفة في قدم الضرر وحدوثه؛ ومن هذا المعنى شهادة أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم القيامة للنبيين على أممهم بالبلاغ، وهذا بين من أن يحتاج إلى تبيانه؛ لأن كل مؤمن فإنما يشهد أن الله وحده لا شريك له وأنه حي، عالم، قادر، مريد، سميع، بصير، متكلم- إلى غير ذلك من الصفات التي هو عليها- لعلمه بذلك، ولا طريق له إلى العلم بشيء من ذلك إلا من جهة النظر والاستدلال.
فصل وكذلك الشهادة أيضا بما علم من جهة الأخبار المتواترة جائزة كالولاء والنسب والموت، وولاية القاضي وعزله، وضرر الزوجين، وما أشبه ذلك؛ يصح(2/273)
للرجل إذا وقع له العلم بهذه الأمور وما أشبهها من جهة الخبر أن يشهد بذلك ويقطع عليه وتبت الشهادة عليه.
فصل فالله تبارك وتعالى شاهد على خلقه، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98] . والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاهد على أمته، وأمته شاهدة على جميع الأمم - يوم القيامة، وشاهدة لله بما شهد به لنفسه، وبما شهدت له به ملائكته وأولو العلم؛ وبعضها شاهد لبعض فيما يدور بينهم في الدنيا من المعاملات والهبات، والجنايات وسائر ما يقع بينهم من الأمور الدائرات.
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] ، وقال تبارك وتعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] . وقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 106]- الآية وقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] .(2/274)
وقال: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ، وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . وقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهدي عدل» . وقال: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه» . وقال: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها، أو بخبر شهادته قبل أن يسألها» . وقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» . وقال للذي خاصم إليه: «شاهداك أو يمينه» .
فصل فاقتضت هذه الآيات الواردة في القرآن وما أوردناه من السنن والآثار خمسة فصول: أحدها: الإشهاد على الحقوق على اختلافها من البيع والنكاح والرجعة وما أشبه ذلك مما لا يتعلق به حق لسوى الشهداء، مما يتعلق فيه حق لسواهم على ما سنبينه إن شاء الله.
والثاني: القيام بالشهادة.
والثالث: صفة الشهود الذين يجب قبول شهادتهم.
والرابع: مراتب الشهود في الشهادات.
والخامس: مراتب الشهادات.(2/275)
فصل فأما الفصل الأول- وهو الإشهاد على الحقوق على تفاصيلها- فإن منها البيع وقد أمر الله تبارك وتعالى بالإشهاد عليه فقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] واختلف أهل العلم في وجوبه، فالذي عليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور أهل العلم أن الإشهاد على البيع مندوب إليه وليس بواجب؛ وذهب أهل الظاهر إلى أنه واجب، وأصل اختلافهم في هذا، اختلافهم في الأمر الوارد إذا ورد عاريا من القرائن: هل يحمل على الوجوب أو على الندب أو على الإباحة إذ لا اختلاف بين أحد من أهل العلم أن الأمر قد يرد والمراد به الوجوب، مثل قَوْله تَعَالَى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] ، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وما أشبه ذلك. وقد يرد والمراد به الندب، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] . ومثل قوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] .
وقد يرد والمراد به الإباحة مثل قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] ، و {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] . فإذا ورد الأمر عاريا من القرائن التي تدل على الوجوب أو الندب أو الإباحة، فمن أهل العلم من قال إنها تحمل على الإباحة، ومنهم من قال إنها تحمل على الندب، ومنهم من قال تحمل على الوجوب، ومنهم من قال: يتوقف فيه ولا يحمل على ندب ولا وجوب؛ حتى يدل الدليل على المراد به، ولكل واحد منهم على مذهبه حجاج يطول ذكرها، وليس هذا موضع إيرادها، وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنه(2/276)
محمول على الوجوب- إذا دل النظر على تعريته من القرائن التي تخرجه عن الوجوب، والذي يدل على ذلك من مذهبه أنه احتج لوجوب إتمام ما دخل الرجل فيه من القرب بظواهر الأوامر من قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] .
فصل فإذا كان مذهبه أن الأمر محمول على الوجوب إذا تعرى من القرائن، فإنما قال: إن أمر الله تعالى بالإشهاد على البيع ندب وليس بواجب، للأدلة الظاهرة على ذلك، منها قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] فلما جاز أن يترك الرهن الذي هو بدل الشهادة ويؤتمن صاحبه، جاز ترك الإشهاد، إذ يفرق المخالف بين ترك الإشهاد والرهن الذي هو بدله، بل يقول بوجوب كل واحد منهما، ومنها قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، والبيع عقد من العقود، فأمر الله تعالى بالوفاء به، دليل على جوازه بغير إشهاد؛ لأن الأمر بالوفاء مع الإشهاد لا معنى له؛ لأنه إن جحد لزمه الحق بالشهود، ومن طريق السنة «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ابتاع من أعرابي فرسه ولم يشهد، فلما نازعه الأعرابي وأنكر البيع قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: من يشهد لي؛ فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد لك، قال وبم تشهد؟ قال: أصدقك في أخبار الآخرة ولا أصدقك في أخبار الدنيا؛ فقضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه بشهادته فسمي ذا الشهادتين» ومن الدليل أيضا على ذلك: الإجماع على(2/277)
إجازة ترك الإشهاد في القليل التافه، كابتياع البقل وما أشبه ذلك، والأدلة على ذلك كثيرة وفيما ذكرناه كفاية.
فصل فإن قال قائل: فإذا سقط الوجوب فلم لم يكن محمولا على الإباحة وحمل على الندب؟ فالدليل على ذلك أن الله تبارك وتعالى قد أمر بحفظ المال في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال تبارك وتعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] ونهى النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن إضاعته، وفي الإشهاد حفظ المال، فهذا دليل على الندب.
فصل وكذلك الدين أمر الله تعالى فيه بالكتاب والإشهاد فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ؛ الآية. وذلك مرغب فيه ومندوب إليه وليس بواجب، ومن أهل العلم من قال: إنه واجب.
فصل فإذا قلنا: إنه غير واجب فيهما، فإنه حق لكل من دعا إليه من المتبايعين أو المتداينين على صاحبه يقضى له به عليه إن أباه؛ لأن من حقه ألا يأتمنه،(2/278)
ولذلك وجب على من باع سلعة لغيره الإشهاد على البيع، فإن لم يفعل ضمن؛ لأن رب السلعة لم يرض بائتمانه؛ وكذلك كل ما فيه حق لغائب، الإشهاد فيه واجب. قال الله- عز وجل- في الزانيين {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . فأمر بالإشهاد لما يتعلق بذلك من حق غيره، ومن ذلك اللعان لا يكون إلا بمحضر جماعة من الناس، لانقطاع نسب الولد وغير ذلك من الأحكام.
فصل وكذلك الإشهاد على عقد النكاح ليس بواجب على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإنما يجب الإشهاد عند الدخول لنفي التهمة والظنة عن نفسه، ومعنى قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهدي عدل» . أي لا يكون وطء النكاح إلا باجتماع هذه الأشياء؛ لأن النكاح حقيقة إنما يقع على الوطء، وإنما سمي العقد نكاحا؛ لأن النكاح الذي هو الوطء يكون به؛ فسمي باسم ما قرب منه؛ ولا يصح أن يحمل الحديث على العقد؛ لأنه قد ذكر فيه الصداق وذلك ما لا يفتقر إليه العقد بإجماع؛ لأن القرآن قد جوز نكاح التفويض.
فصل وأما الإشهاد في الرجعة فاختلف فيه في المذهب، حكى ابن القصار في كتابه أن الإشهاد على الرجعة مستحب وليس بواجب، وحكى إسماعيل القاضي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإشهاد على الرجعة واجب؛ لرفع الدعاوى وتحصين الفروج والأنساب، وحكى عبد الحق عن بعض شيوخه القرويين أن الإشهاد على الرجعة واجب بخلاف الطلاق والبيع، وذكر الفرق في ذلك بين الرجعة والبيع أن الله قد قال في البيع: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] فدل(2/279)
ذلك على أن الإشهاد في البيع غير واجب، وسكت عن الفرق بين الرجعة والطلاق - ولا فرق بينهما؛ لأن الله- تعالى- قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] في أول سورة الطلاق عقيب ذكره الطلاق والإمساك بالرجعة والمفارقة بانقضاء العدة، فوجب أن يرجع ذلك إلى الجميع رجوعا واحدا؛ إما وجوبا وإما ندبا، وقد قال ابن بكير: معنى ذلك أن يشهد ذوي عدل على مراجعتها إن راجعها، وعند انقضاء عدتها إن لم يراجعها- أنه قد طلقها، وأن عدتها قد انقضت- خوفا من أن يموت فتدعي أنها زوجة لم تطلق، أو تموت هي فيدعي الزوج مثل ذلك، قال: وينبغي إن طلق طلاقا بائنا أن يشهد حين الطلاق أنها قد بانت منه خشية ما ذكرنا؛ لأن معنى البائن هي التي قد انقضت عدتها، فيلزم على قياس قوله أن يلزم الإشهاد في الطلاق الرجعي حين الطلاق مخافة الموت، فتدعي الميراث وتزعم أن عدتها لم تنقض.
فصل فإذا قلنا إنه واجب فمعنى ذلك أنه يكون بتركه آثما لتضييع الفروج وما يتعلق بذلك من غير أن يكون ذلك شرطا في صحة الطلاق والرجعة.
فصل وأما الفصل الثاني- وهو القيام بالشهادة - فإن الله تبارك وتعالى أمر به فقال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وقال: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] وقال: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وذلك ينقسم على وجهين:(2/280)
أحدهما: أن يدعى ليشهد على الشهادة ويستحفظ إياها.
والثاني: أن يدعى ليشهد بما علمه- استحفظه إياه أو لم يستحفظه.
فصل فأما الوجه الأول وهو أن يدعى ليشهد ويستحفظ الشهادة فإن ذلك واجب وفرض على الجملة، يحمله بعض الناس عن بعض كالجهاد والصلاة على الجنائز وما أشبه ذلك، فإذا كان الرجل في موضع ليس فيه من يحمل ذلك عنه تعين عليه الفرض في خاصته، والدليل على ذلك؛ أن الله تبارك وتعالى أمر بالقيام بالشهادة فقال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] ، فإذا قيم بها فقد امتثل الأمر وسقط الفرض، إذ لا معنى لقيام من قام بها بعد ذلك.
وأما الوجه الثاني- وهو أن يدعى ليشهد بما علمه واستحفظ إياه فإن ذلك واجب عليه؛ لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] . وقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وقوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] .
فصل فمن كانت عنده شهادة فلا يحل له أن يكتمها ويلزمه إذا دعي إليها أن يقوم بها، وأما إن لم يدع إلى القيام بها، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها أو يخبر بشهادته قبل أن يسألها» . وهذا ينقسم(2/281)
على وجهين:
أحدهما: أن يكون حقا لله تعالى.
والثاني: أن يكون حقا لآدمي، فأما إن كان حقا لله عز وجل، فإنه ينقسم على قسمين:
قسم لا يستدام فيه التحريم، وقسم يستدام فيه التحريم؛ فأما ما لا يستدام فيه التحريم- كالزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك، فلا يضر الشاهد ترك إخباره بالشهادة؛ لأن ذلك ستر ستره عليه؛ والأصل في ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لهزال: «يا هزال هلا سترته بردائك» . وإن علم الإمام بذلك، فقد قال ابن القاسم في المجموعة: يكتمونه الشهادة ولا يشهدوا في ذلك إلا في تجريح إن شهد على أحدث وأما ما يستدام فيه التحريم كالعتق والطلاق والأحباس والمساجد والقناطير، وما أشبه ذلك، فيلزمه أن يخبر بشهادته ويقوم بها غيره، فإن لم يخبر بشهادته سقطت شهادته؛ لأن سكوته على ذلك جرحة فيه؛ فإن هو قام بالشهادة، فاختلف هل تقبل شهادته؟ ذهب ابن القاسم إلى أنه لا تجوز شهادته إذا كان هو القائم بها.
وذهب مطرف وابن الماجشون وأصبغ إلى أن شهادتهم جائزة- وإن كانوا هم القائمين بها؛ فإن قام غيره بالشهادة، سقط عنه الفرض وكان قيامه بذلك استحبابا؛ لأن فيه عونا على إقامة الحق؛ وإن لم يقم بالشهادة سواه، تعين عليه القيام بها؛ وأما الضرب الآخر: وهو أن يكون حقا لآدمي، فيلزمه أن يخبر بشهادته صاحب الحق، فإن لم يفعل فروى عيسى عن ابن القاسم أن شهادته تبطل.
وذهب سحنون إلى أنها لا تبطل، وقد وقع في المبسوطة لأشهب ما ظاهره أن شهادته لا تبطل بالسكوت وترك الإخبار في حقوق العباد ولا في حق الله تعالى- وهو بعيد، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه واجب على كل من دعي إلى شهادة أن يجيب(2/282)
سواء دعي إلى أن يستحفظ الشهادة أو يؤدي ما حفظ، لقول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وليس ذلك بصحيح؛ لأن الشاهد لا يصح أن يسمي هذا إلا بعد أن يكون عند علم بالشهادة؛ وأما قبل أن يعلم فليس بشاهد، ولا يدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]- وهذا بين- والحمد لله.
[فصل في صفة الشاهد الذي تقبل شهادته]
اعلم أن للشاهد في شهادته حالين: حال تحمل الشهادة، وحال أدائها. فأما حال تحملها فليس من شرط الشاهد فيها إلا أن يكون على صفة واحدة وهي الضبط والميز- صغيرا كان أو كبيرا، حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا عدلا كان أو فاسقا.
وأما حال أدائها، فمن شرط جواز شهادة الشاهد فيها أن تجتمع فيه خمسة أوصاف: متى عري عن واحد منها لم تجز شهادته، وهي: البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والعدالة.
فصل وإنما شرطنا في ذلك البلوغ؛ لأن الشاهد مأمور بأداء الشهادة والقيام بها، منهي عن كتمانها؛ والأمر والنهي لا يتوجه إلا على المكلفين، ومن لم يبلغ فليس بمكلف ومن جهة المعنى أن الشاهد يجب أن يكون ممن يخاف ويتحرج من الإثم فيشهد بالحق ويتوقى الباطل؛ والصغير لا يلحقه إثم ولا يتوقى عقوبة؛ لأن القلم مرتفع عنه، فوجب ألا تجاز شهادته، وهذا ما لا اختلاف فيه إلا ما أجيز من(2/283)
شهادة الصبيان في الجراح والقتل - على اختلاف بينهم في ذلك ما لم يتفرقوا، أو لم يغيبوا على ما نذكر في موضعه- إن شاء الله.
فصل وإنما شرطنا في ذلك العقل؛ لأن عدمه معنى ينافي التكليف كالصغير، وإنما شرطنا في ذلك الحرية، خلافا لمن أجاز شهادة العبد لغير سيده؛ لأن ظاهر قول الله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] . وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . يدل ألا مدخل في ذلك للعبيد لأن مثل هذا اللفظ إنما يختص بالأحرار، ولا يدخل تحته العبيد إلا بدليل؛ ألا ترى أن الله تبارك وتعالى قال: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ، فلم يدخل في ذلك العبيد؛ إذ لو دخلوا فهب ذلك لكان قوله: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ، لا فائدة فيه.
ومن الدليل أيضا على أن العبيد لا مدخل لهم في الشهادة: أن الله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] ، والعبد لا يجوز إقراره على نفسه، فلما لم تجز شهادته على نفسه لم تجز على غيره، وقال تبارك وتعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ، والعبد ملكه بيد سيده لا يجوز له أن يشهد إلا بإذن سيده؛ فخرج ممن خوطب بالشهادة؛ ألا ترى أن العبد لما لم يجز أن يغزو إلا بإذن سيده، لم يكن مخاطبا بالجهاد، ولم يكن له في الفيء نصيب؛ ولأن الرق نقص يمنع الميراث، فنافى الشهادة كالكفر.
فصل وإنما شرطنا في ذلك الإسلام؛ خلافا لمن أجاز شهادة الكافر في الوصية(2/284)
في السفر- تعلقا بقول الله عز وجل: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] ؛ لأن الله قال: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، والإسلام شرط في صحة العدالة والرضا، وإنما شرطنا في ذلك العدالة لقول الله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وقد اختلف في حد العدالة والرضا الذي تجوز به شهادة الشاهد اختلافا كثيرا، وأحسن ما قيل في ذلك- عندي أنه الشاهد الذي يجتنب الكبائر ويتوقى الصغائر- على أنه لا صغيرة على الإطلاق؛ لأن كل ما عصى الله به فهو كبيرة، وإنما يقال لها صغائر بإضافتها إلى الكبائر.
فصل ومن شرط جواز شهادة الشاهد، أيضا: أن يكون من أهل اليقظة والتحرز؛ لأنه إن كان من أهل الغفلة والبله لم يؤمن عليه التميل من أهل التحيل، فيشهد بالباطل، واختلف هل من شرطه أن يكون مالكا لأمر نفسه، فروى أشهب عن مالك أن شهادة المولى عليه جائزة- إن كان عدلا، وهي رواية ابن عبد الحكم أيضا عنه. وقال أشهب: لا تجوز شهادته- وإن كان مثله لو طلب ماله أعطيه، واختار ذلك محمد بن المواز قال؛ "ولا تجوز شهادة البكر في المال حتى تعنس وإن كانت من أهل العدل ".
[فصل والشاهد ينقسم على ثلاثة أقسام]
شاهد معروف بالعدالة.
وشاهد معروف بالجرحة.
وشاهد مجهول الحال لا يعرف بعدالة ولا جرحة.
فأما الشاهد المعروف بالعدالة، فتجوز شهادته ويحكم للطالب بها بعد(2/285)
الإعذار إلى المطلوب فيها؛ وأما الشاهد المعروف بالجرحة فلا تجوز شهادته إلا أن تثبت توبته من الجرحة التي علم بها، وسواء علم القاضي بجرحته أو ثبت عليه عنده.
وأما الشاهد المجهول الحال، فيتوقف في شهادته حتى يسأل عنها، ولا يحمل على جرحة ولا عدالة، ومن أهل العلم من رأى أنه محمول على العدالة حتى يعلم جرحته على ظاهر قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلود في حد أو مجرب عليه شهادة زور - وهو قول الحسن، ومذهب الليث بن سعد، فعلى قول هؤلاء لا يحتاج إلى التزكية، وإنما يقول القاضي للمشهود عليه: دونك فجرح إن كان عندك ما تدفع به شهادة من شهد عليك، وأجاز ابن حبيب شهادة المجهول الحال على التوسم فيما يقع بين المسافرين في السفر للضرورة إلى ذلك، قياسا على إجازة شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح.
من أصحابنا المتأخرين من أجاز شهادة المجهول الحال في اليسير جدا من المال، وهذا كله استحسان؛ والقياس ألا تجوز شهادة أحد حتى تعرف عدالته، لقول الله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقد اتفقوا في الحدود، والقصاص على أن الشهادة لا تجوز في ذلك إلا بعد المعرفة بعدالة الشاهد، وهذا يقضي على ما اختلفوا فيه- إن شاء الله.
[فصل في مراتب الشهود في الشهادات على مذهب مالك]
وأما مراتب الشهود في الشهادات، فإنها إحدى عشرة مرتبة: فأولها الشاهد المبرز في العدالة العالم بما تصح به الشهادة، ثم الشاهد المبرز في العدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، ثم الشاهد المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، ثم الشاهد المعروف بالعدالة إذا قذف قبل أن يحد، ثم الشاهد الذي يتوسم فيه العدالة، ثم الشاهد الذي لا يتوسم فيه العدالة ولا الجرحة، ثم الشاهد(2/286)
الذي يتوسم فيه الجرحة، ثم الشاهد الذي ثبتت عليه جرحة قديمة أو يعلمها الحاكم فيه، ثم الشاهد المقيم على الجرحة المشهور بها، ثم شاهد الزور.
فصل فأما الشاهد المبرز في العدالة العالم بما تصح به الشهادة، فتجوز شهادته في كل شيء وتزكيته وتجريحه، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به من ذلك كله إذا أبهمه، ولا يقبل فيه التجريح إلا بالعداوة، وقد قيل: إن التجريح لا يقبل فيه أصلا لا بعداوة ولا بغيرها، وكذلك الشاهد المبرز في العدالة غير العالم بما تصح به الشهادة إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك، وأما الشاهد المعروف بالعدالة العالم بما تصح به الشهادة، فتجوز شهادته إلا في ستة مواضع على اختلاف في بعضها، وهي: التزكية، وشهادته لأخيه ولمولاه، ولصديقه الملاطف، ولشريكه في غير التجارة، وإذا زاد في شهادته أو نقص منها؛ ويقبل فيه التجريح بالعداوة وغيرها، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد فيه إذا أبهم ذلك.
وكذلك الشاهد المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك؛ وأما الشاهد المعروف بالعدالة إذا قذف قبل أن يحد، فاختلف في إجازة شهادته: لم يجزها ابن الماجشون وأصبغ - وهو مذهب الشافعي، وأجازها ابن القاسم - وهو المشهور في المذهب.
وأما الشاهد الذي تتوسم فيه العدالة، فتجوز شهادته دون تزكية- فيما يقع بين المسافرين في السفر من المعاملات على مذهب ابن حبيب، ولا تجوز فيما سوى ذلك دون تزكية.
وأما الشاهد الذي لا تتوسم فيه العدالة ولا الجرحة فلا تجوز شهادته في موضع من المواضع دون تزكية؛ إلا أن شهادته تكون شبهة في بعض المواضع، وعند بعض العلماء فتوجب اليمين وتوجب القسامة، وتوجب الحميل وتوقيف الشيء المدعى فيه؛ وأما الشاهد الذي تتوسم فيه الجرحة فلا تجوز شهادته دون تزكية، ولا تكون شبهة توجب حكما، وأما الشاهد الذي تثبت عليه جرحة قديمة أو(2/287)
يعلمها الحاكم به فلا تجوز شهادته دون تزكية، ولا تقبل فيه التزكية على الإطلاق، وإنما تقبل ممن علم جرحته إذا شهد على توبته منها ونزوعه عنها؛ والمحدود في القذف بمنزلته على مذهب مالك؛ لأن تزكيته لا تجوز على الإطلاق، وإنما تجوز بمعرفة تزيده في الخير؛ وأما الشاهد القيم على الجرحة المشهور بها، فلا تجوز شهادته، ولا تقبل فيه التزكية- وإن زكى؛ وإنما تصح تزكيته فيما يستقبل إذا تاب؛ وأما شاهد الزور، فلا تجوز شهادته أبدا، وإن تاب وحسنت حاله؛ وروى أبو زيد عن ابن القاسم أن شهادته تجوز إذا تاب وعرفت توبته بتزيد حاله في الصلاح؛ قال: ولا أعلمه إلا قول مالك؛ فقيل: إن ذلك اختلاف من القول، وقيل: معنى رواية أبي زيد إذا أتى تائبا مبتهلا مقرا على نفسه بشهادة الزور- قبل أن يظهر عليه وهو الأظهر - والله أعلم.
فصل فإن حدثت الجرحة بالشاهد بعد أداء الشهادة لم تجز شهادته فيما يستقبل، وبطلت في هذه، وقد قيل- وهو قول ابن الماجشون: إنها لا تبطل في هذه إذا كانت الجرحة شيئا ظاهرا كالجراح، والقتل، وما أشبه ذلك؛ وأما التهمة الحادثة بعد أداء الشهادة، فلا تبطل الشهادة كالرجل يتزوج المرأة بعد أن يشهد لها، أو يقع بينه وبين الرجل خصومة بعد أن يشهد عليه.
فصل وأما التهمة الحاصلة في بعض الشهادة، فإنها تبطل جملة الشهادة على المشهور المعلوم في المذهب، مثل أن يشهد رجل أن له ولابنه أو لرجل أجنبي على فلان ألف درهم من معاملة أو سلف أو ما أشبه ذلك؛ وقد وقع في المدونة وغيرها في شهادة الشاهد يشهده أن رجلا أوصى له ولغيره بوصية مال اختلاف(2/288)
كثير، يفتقر تحصيله إلى تفصيل وتقسيم، وذلك أنها مسألة تنقسم على قسمين كل قسم منها لا يخلو من وجهين: أحد القسمين أن يكون الموصي أشهد على وصية مكتوبة قد أوصى فيها للشاهد بوصية، والقسم الثاني: أن يكون أشهد على وصيته لفظا بغير كتاب، فيقول: لفلان كذا، ولفلان كذا، ولفلان كذا، لأحد الشهود؛ فأما القسم الأول: - وهو أن يشهد الموصي على وصية مكتوبة وقد أوصى فيها للشاهد بوصية فلا يخلو أن يكون ما سمى للشاهد فيها يسيرا أو كثيرا، فإن كان يسيرا، ففي ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أن شهادة الموصى له لا تجوز لنفسه ولا لغيره؛ لأنه يتهم في اليسير كما يتهم فيه في غير الوصية، وهي رواية ابن وهب عن مالك في المدونة.
والثاني: أن شهادته تجوز لنفسه ولغيره، فإن كان وحده حلف الموصى لهم مع شهادته أن ما شهد به من الوصية حق، وأخذ هو ماله فيها بشهادته مع أيمانهم؛ لأنه في حين التبع لجملة الوصية، وإن كان معه غيره ممن أوصي له أيضا فيها بيسير، ثبتت الوصية بشهادتهما، وأخذ كل واحد منهما ماله فيها بغير يمين؛ وإن كان الشاهد الذي معه ممن لم يوص له فيها بشيء، ثبتت الوصية أيضا بشهادتهما، وأخذ هو ماله فيها بغير يمين؛ وهذا هو قول ابن القاسم في المدونة، ورواية مطرف عن مالك في الواضحة.
والثالث: أن شهادته تجوز لغيره ولا تجوز لنفسه، فإن كان وحده حلف الموصى لهم مع شهادته واستحقوا وصاياهم ولم يكن له هو شيء، وإن كان معه غيره ممن أوصى له فيها بشيء يسير أيضا، ثبتت الوصية بشهادتهما لمن سواهما(2/289)
فأخذوا وصاياهم بغير يمين وحلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه فاستحق وصيته؛ وإن كان معه لم يوص له فيها بشيء، ثبتت الوصية بشهادتهما لمن سواه وحلف هو مع شهادة صاحبه فاستحق وصيته، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة.
والرابع: أن شهادته تجوز له ولغيره - إن كان معه شاهد غيره فتثبت الوصية بشهادتهما ويأخذ ماله فيها بغير يمين؛ وكذلك صاحبه أيضا إن كان له فيها شيء يأخذ ماله فيها بغير يمين. وتجوز لغيره ولا تجوز لنفسه إن لم يكن معه شاهد غيره فيحلف غيره مع شهادته ويستحق وصيته ولا يكون له هو شيء؛ وهو قول يحيى بن سعيد في المدونة؛ وإن كان الذي أوصى به للشاهد كثيرا، فلا تجوز شهادته له ولا لغيره في المشهور من الأقوال، وتجوز شهادته لغيره ولا تجوز لنفسه على قياس قول أصبغ في نوازله من كتاب الشهادات في العبدين يشهدان بعد عتقهما أن الذي أعتقهما غصبهما من رجل مع مائة دينار، أن شهادتهما تجوز في المائة، ولا تجوز في غصب رقابهما؛ لأنهما يتهمان أن يريدا إرقاق أنفسهما؛ ولا يجوز لحر أن يرق نفسه؛ إذ يقوم من قوله في هذه المسألة أن الشهادة إذا رد بعضها للتهمة، جاز منها ما لا تهمة فيه- وهو خلاف المشهور المعلوم.
وأما القسم الثاني: وهو أن يشهد الموصي على وصيته لفظا بغير كتاب فيقول: لفلان كذا، ولفلان كذا، ولفلان كذا - لأحد الشهود، فلا يخلو أيضا من أن يكون الذي أوصى به لأحد الشهود كثيرا أو يسيرا، فإن كان يسيرا، فلا تجوز شهادته لنفسه باتفاق، وتجوز لغيره؛ فإن كان وحده حلف الموصى لهم مع شهادته واستحقوا وصاياهم؛ وإن كان معه غيره ممن شهد لنفسه بيسير أيضا، حلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه واستحق وصيته وأخذ من سواهما وصاياهم بشهادتهما دون يمين، وإن كان معه غيره ممن لم يشهد لنفسه بشيء حلف هو(2/290)
معه واستحق وصيته وأخذ من سواه وصيته بشهادتهما دون يمين، وقد يقال: إنه لا تجوز شهادته لنفسه ولا لغيره - بتأويل ضعيف، وإن كان الذي شهد به لنفسه كثيرا، فلا تجوز شهادته لنفسه باتفاق، وتجوز لغيره على قول مطرف وابن الماجشون، ولا تجوز على ما في سماع أشهب من كتاب الشهادات؛ فإن لم يكن معه غيره على مذهب ابن الماجشون ومطرف، حلف الموصى لهم واستحقوا وصاياهم بأيمانهم مع شهادته وإن كان معه غيره ممن يشهد لنفسه بكثير أيضا، حلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه فاستحق وصيته إن لم تكن شهادة كل واحد منهما لصاحبه في مجلس واحد على مذهبهما في الشهود يشهد بعضهم لبعض أن شهادتهم لا تجوز إن كانت على رجل واحد في مجلس واحد، وأخذ من سواهما وصيته بشهادتهما دون يمين.
فصل فالمشهور في المذهب أن الشهادة إذا رد بعضها للتهمة، ردت كلها؛ وقد قيل: إنه يجوز منها ما لا تهمة فيه على قياس قول أصبغ الذي حكيناه، والمشهور في المذهب أيضا: أن الشهادة إذا رد بعضها للسنة، جاز فيها ما أجازته السنة، وقد قيل: إنها ترد كلها وذلك قائم من المدونة من قوله في شهادة النساء للوصي أن الميت أوصى إليه أن شهادتهن لا تجوز- إن كان فيها عتق وإيضاع النساء، وكذلك المشهور في المذهب أيضا أن الشهادة إذا رد بعضها لانفراد الشاهد بها دون غيره، أنها تجوز فيما يصح فيه شهادة الشاهد الواحد، وتبطل فيما لا يصح إلا بشهادة شاهدين، مثل أن يشهدا لرجل على وصية رجل وفيها عتق ووصايا لقوم، فإن الموصى لهم بالمال يحلفون مع شهادة الشاهد وتكون وصاياهم فيما بعد قيمة العتق، وقد قيل: إن الشهادة كلها مردودة، حكى ذلك المزني عن أشهب(2/291)
وجميع جلسائه؛ وأما إذا لم يأت الشاهد بالشهادة على وجهها وسقط عن حفظه بعضها، فإنها تسقط كلها بإجماع، وبالله التوفيق.
[فصل في مراتب الشهادات]
فصل
في مراتب الشهادات والشهادات على مراتب أربع، إحداها: شهادة توجب الشيء المشهود به دون يمين، والثاني: شهادة توجب الشيء المشهود به مع اليمين. والثالثة: شهادة لا توجب الشيء المشهود به إلا أنها توجب حكما من الأحكام. والرابعة: شهادة لا توجب شيئا.
فصل فأما الشهادة التي توجب الشيء المشهود به دون يقين فإنها على سبعة أقسام:
أحدها: أربعة شهود في الزنا.
والثاني: شاهدان فيما سوى ذلك.
والثالث: شاهد وامرأتان في الأموال.
والرابع: شهادة امرأتين فيما لا يطلع عليه الرجال من العيوب والاستهلال، وما أشبه ذلك.
والخامس: شهادة السماع فيما جوز أهل العلم فيه شهادة السماع على الإطلاق.
والسادس: شاهد واحد فيما يبتدأ الحكم فيه بالسؤال وفيما كان علما يؤديه. والسابع: شهادة الصبيان فيما أجيزت شهادتهم فيه.
فصل وأما الشهادة التي توجب الشيء المشهود به مع اليمين، فإنها على خمسة أقسام:
أحدها: شاهد عدل وامرأتان عدلتان في الأموال.(2/292)
والثاني: شاهد غير عدل تجب القسامة به على رواية أشهب عن مالك.
والثالث: ما يقوم مقام الشاهد من الرهن وإرخاء الستر ونكول المدعى عليه ومعرفة العفاص والوكاء واليد مع مجرد الدعوى، أو مع تكافؤ البينتين وما أشبه ذلك.
والرابع: الشهادة بغالب الظن فيما لا سبيل فيه إلى القطع.
والخامس: الشهادة على السماع في الولاء على مذهب ابن القاسم.
فصل وأما الشهادة التي توجب حكما ولا توجب الحق، فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: شهادة الشهود غير العدول في استحقاق الشيء المعين فإنها توجب توقيفه عند أصبغ.
والثاني: شهادة شاهدين أو شاهد وامرأتان أنه سرق له مثل ما يدعي أو شاهدين إذا جرحا- على اختلاف بينهم في ذلك.
والثالث: شاهد عدل وامرأتان على الطلاق والعتق، فإنها توجب اليمين عند جميعهم، أو على الخلطة، فإنها توجب اليمين عند بعضهم، أو على النكاح، فإنها تسقط الحد أو على دعوى المعروف، فإنها توجب اليمين على المدعى عليه عند من لا يرى القضاء باليمين مع الشاهد، وإذا نكل المدعي عن اليمين مع شاهده.(2/293)
[كتاب حريم الآبار]
قال الله عز وجل: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9] {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10] {رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 11] . وقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18] . وسئل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن تفسير هذه الآية فقيل له: أهو الخريف فيما بلغك؟ فقال: لا والله، بل هذا في الخريف والشتاء وفي كل شيء ينزل الله من السماء ماء إذا شاء، ثم هو على ذهاب به لقادر، فجميع مياه الأرض من ماء السماء أنزله الله إلى الأرض وجعله فيها ثابتا لا يزول، وهو على إزالته قادر؛ وقال عز وجل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} [الفرقان: 50] يريد المطر، ويروى أن في الدنيا أربعة أنهار من الجنة، وهي: النيل، والفرات، وشيحان، وجيحان.
فصل فمياه الأرض تختلف باختلاف مواضعها، ويختلف الحكم فيها لاختلافها؛ ويختلف أهل العلم في بعض وجوهها على ما سنبينه ونفصله- إن شاء الله، ولا قوة(2/295)
إلا بالله؛ والأصل في ذلك كله «قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سيل مهزور ومذينب: "يمسك الأعلى إلى الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل» ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يمنع نقع بئر، ولا يمنع رهو ماء» ، وقوله: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» وقوله: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» .
فصل فأما مهزور ومذينب: فواديان معروفان من أودية المدينة يسيلان بالمطر يتنافس فيهما أهل المدينة، فقضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يمسك الأعلى إلى الكعبين، ثم يرسل على الأسفل؛ وهذا الحكم في كل ماء غير متملك يجري على قوم إلى قوم دونهم أن من دخل الماء أرضه أولا فهو أحق بالسقي به حتى يبلغ الماء في أرضه إلى الكعبين، ثم اختلف إذا بلغ الماء إلى الكعبين: هل يرسل جميع الماء إلى الأسفل، أو لا يرسل إليه إلا ما زاد على الكعبين؟ فقال مطرف وابن الماجشون، وابن وهب: يرسل على الأسفل ما زاد على الكعبين، وقال ابن القاسم: بل يرسل جميع الماء ولا يحبس منه شيئا- والأول أظهر، وروى زياد عن مالك أن معنى الحديث أن يجري الأول الذي هو أقرب إلى الماء من الماء في ساقيته إلى حائطه بقدر ما يكون الماء في الساقية إلى حد كعبيه حتى يروى حائطه، ثم يفعل الذي يليه كذلك ما بقي من الماء شيء. قال: وهذه السنة فيهما وفيما يشبههما مما(2/296)
لا حق فيه لأحد بعينه - أن الأول أحق بالتبدئة، ثم الذي يليه، إلى آخرهم رجلا؛ فيحتمل أن يكون معنى رواية زياد هذه عن مالك إذا كان ماء الوادي كثيرا فوق ما يتأتى به السقي لواحد، فلا يكون على هذا التأويل رواية زياد مخالفة لما تقدم، والأظهر أن ذلك اختلاف من القول، وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب البيان في رسم القسمة من سماع عيسى من كتاب السداد والأنهار.
فصل وأما نقع البئر وهو الماء المجتمع فيها قبل السقي، وقيل: هو فضل مائها، وقيل: الموضع الذي يلقى فيه ما يكنس منها، وقيل: مخرج مسيل مائها وهو الماء المجتمع أيضا؛ قال الله عز وجل: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24] . واختلف أهل العلم في تأويل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنع نقع بئر ولا يمنع رهو ماء» . فحمله جماعة من أهل العلم على عمومه، فقالوا: لا يحل بيع الماء ولا منعه بحال- كان من بئر، أو غدير، أو عين، في أرض متملكة، أو غير متملكة، غير أنه إن كان متملكا كان أحق بمقدار حاجته منه، وهو قول يحيى بن يحيى في العتبية: أربع لا أرى أن يمنعن: الماء، والنار، والحطب، والكلأ. وقال بعضهم: تأويل ذلك في مثل البئر تكون بين الشريكين يسقي هذا يوما، وهذا يوما أو أقل، أو أكثر، فيسقي أحدهما يومه فيروى زرعه أو نخله في بعض يومه، فيستغني عن الماء- بقية يومه، فليس له أن يمنع شريكه من السقي في بقية ذلك اليوم؛ إذ لا(2/297)
منفعة له في منعه ولا يضره تركه؛ وقال بعضهم: إنما تأويل ذلك في الذي يزرع على مائه فتنهار بئره- ولجاره فضل ماء أنه ليس لجاره أن يمنعه فضل مائه إلى أن يصلح بئره؛ والتأويلان قريبا المعنى، والله أعلم.
وأما نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن منع فضل الماء ليمنع به الكلأ، فإنما هو في بئر الماشية التي تحتفر في البراري والمهامه؛ لأن المواشي لا ترعى إلا حيث تجد المياه، فإذا منعت من الماء، كان منعا لها عن الكلأ.
[فصل المياه تنقسم على قسمين]
فصل فالمياه تنقسم على قسمين:
أحدهما: أن تكون في أرض ممتلكة.
والثاني: أن تكون في أرض غير ممتلكة.
فأما ما كان منها في أرض ممتلكة، فسواء كانت مستنبطة مثل بئر يحفرها أو عين يستخرجها، أو مواجل يتخذها، أو غير مستنبطة، مثل عين في أرضه لم يستخرجها أو غدير وما أشبه ذلك؛ فهو أحق به ويحل له بيعه ومنع الناس منه إلا بثمن، إلا أن يرد عليه قوم لا ثمن معهم، ويخاف عليهم الهلاك- إن منعهم فحق عليه أن لا يمنعهم، فإن منعهم، كان لهم مجاهدته، هذا قول ابن القاسم في المدونة؛ لأنه لم يحمل نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن منع نقع البئر على عمومه، بل تأوله على ما تقدم، إلا أنه يستحب له ألا يمنع الشرب من العين أو الغدير تكون في أرضه من أحد من الناس من غير حكم يحكم به عليه، وله في واجب الحكم أن يمنع ماءه إذا شاء ويبيحه إذا شاء، واختلف في الرجل يكون له زرع قد زرعه على بئره(2/298)
فانهارت بئره- ولجاره فضل ماء، فقيل: إنه يقضى له بفضل ماء بئر جاره قيل: بثمن وقيل بغير ثمن؛ فمن حمل الحديث على عمومه، أو تأوله في هذا المعنى، قال: بغير ثمن، ومن تأول في الشريكين في الماء قال: لا يقضى عليه إلا بالثمن؛ والقولان لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ وأما ما كان منها في أرض غير متملكة، فلا يخلو من أن تكون مستنبطة أو غير مستنبطة؛ فأما ما كان منها مستنبطا مثل البئر يحفرها في الصحاري والبراري لماشيته أو المواجل، فهو أولى به حتى يروي ماشيته؛ ثم يشترك الناس في الفضل، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ» . وهذه البئر لا تباع ولا تورث على وجه الملك، إلا أن الورثة ينزلون منزلة موروثهم في التبدئة بالشرب؛ وإن أوصى بثلث ماله لرجل، فلا يبدؤون بالشرب ولا ينزلون منزلة الموصي في ذلك، هذه رواية أصبغ عن ابن القاسم في العتبية.
فصل فإن تشاح أهل البئر في التبدئة، فقد قال ابن الماجشون إن كانت لهم سنة من تقديم ذي المال الكثير أو قوم على قوم وكبير على صغير، حملوا عليها، وإلا استهموا، وهذا- عندي إذا استوى تعددهم من حافرها، وأما إن كان بعضهم أقرب إليه، فهو أحق بالتبدئة- قلت ماشيته أو كثرت، ولا حظ فيها لزوجة ولا زوج بالزوجية وهما كالأجنبي إذا لم يكونا من ذلك البطن؛ والبئر والماجل والجب في ذلك سواء عند مالك، خلاف قول المغيرة في أن له أن يمنع فضله ماء جب الماشية، ووجه قوله أن الجب يتكلف فيه نفقة كثيرة وليس بمعين كالبئر التي إذا نزف منها شيء عاد فيه مثله، فلا يحمل أمره على أنه أراد به الصدقة إلا ببيان، وهو في بئر الماشية يحفرها في المهامه، - محمول على أنه إنما أراد به الصدقة؛ فإن ادعى أنه لم يرد الصدقة، وأنه أراد أن يبيع ماءها لم يصدق، ومنع من ذلك(2/299)
بالحكم؛ ولو أشهد عند حفره إياها أنه إنما يحفرها لنفسه، لوجب ألا يمنع من بيع مائها، وأن يستحقها ملكا بالإحياء على حكم إحياء الموات؛ قال في المدونة: أكره بيع ماء بئر الماشية، وقال في المجموعة لا يجوز ذلك؛ فقيل إنه لا اختلاف من القول، والصحيح أن ذلك إنما يعود إلى الفرق بين أن يحفرها على وجه الصدقة، أو على غير وجه الصدقة- والله أعلم.
فصل ووجه التبدئة في الشرب في بئر الماشية إذا اجتمع أهل البئر والمارة وسائر الناس بمواشيهم والماء يقوم بهم: أن يبدأ أولا أهل الماء فيأخذوا لأنفسهم حتى يرووا، ثم المارة حتى يرووا، ثم دواب أهل الماء حتى يرووا، ثم دواب المارة حتى يرووا، ثم مواشي أهل الماء حتى يرووا، ثم الفضل لسائر مواشي الناس. وبدأ أشهب دواب المسافرين قبل دواب أهل الماء.
فصل فأما إن لم يكن في الماء فضل وتبدئة أحدهم يجهد الآخر فإنه يبدأ بأنفسهم ودوابهم من كان الجهد عليه أكثر بتبدئة صاحبه، فإن استووا في الجهد تساووا، هذا مذهب أشهب، وعلى ما ذهب إليه ابن لبابة أنهم إذا استووا في الجهد، فأهل الماء أحق بالتبدئة لأنفسهم ودوابهم؛ وأما إن قل الماء جرا أو خيف على بعضهم بتبدئة بعض- الهلاك فإنه يبدأ أهل الماء فيأخذون لأنفسهم ما يذهب عنهم الخوف فإن فضل فضل أخذ المسافرون لأنفسهم بقدر ما يذهب الخوف عنهم؛ فإن فضل فضل، أخذ أهل الماء لدوابهم بقدر ما يذهب الخوف عنهم؛ فإن(2/300)
فضل فضل أخذ المسافرون لدوابهم بقدر ما يذهب الخوف عنهم، ولا اختلاف - عندي في هذا الوجه؛ هذا الذي يتحصل عندي من قول أشهب وابن لبابة.
فصل وأما ما كان منها غير مستنبطة مثل الأنهار والعيون والغدر، فهي لجماعة المسلمين يشتركون في المنفعة بها فيما يحتاجون إليه من الصيد والمرور بقواربهم لحوائجهم ومنافعهم؛ ومن كان يلي النهر من جهتيه بأرضه فله أن ينشئ عليها رحى ويكون أحق بها؛ وأما إن كانت الضفتان لرجلين فليس لأحدهما أن يعمل رحى في جهته وينفذ سده إلى برية صاحبه إلا بإذنه، فإن اجتمعا على عمل الرحى فاشتركا فيها، وإلا اقتسما الماء- فأخذ كل واحد منهما نصفه فعمل فيه رحى- إن قدر على ذلك.
فصل وذلك بخلاف الصيد ليس لمن على النهر من جانبيه أن يختص بالصيد فيما يوازي أرضه دون جماعة الناس - لو عمل في ذلك الموضع مصائد للحوت بالقصب والخشب وما أشبه ذلك مما يعرفه أهل الاصطياد بدءوا بالاصطياد فيها؛ فإذا نالوا حاجتهم، خلوا بين الناس وبينها يصطادون فيها، وبهذا قال مطرف وابن الماجشون في الواضحة؛ وذلك عندي بعد أن يصير إليهم فيما صادوا بها قدر ما أنفقوا فيها؛ واختلف في الصيد في الغدر التي تكون في ملك الرجل؛ فقال ابن القاسم: ليس لصاحب الأرض أن يمنع أحدا من الصيد فيها،(2/301)
وقال مطرف وابن الماجشون وسحنون: له أن يمنع الناس من الصيد فيها؛ وروي عن أشهب التفرقة في ذلك بين أن تكون الحيتان تولدت فيها من الماء أو يكون طرح هو فيها حيتانا تولدت منها؛ واختلف أيضا في الخشب التي يمر بها في الأنهار فلا يقدرون على الجواز بها إلا بخرق السداد هل لهم أن يخرقوا السداد ويجوزوا بخشبهم، أم ليس لهم ذلك على قولين؛ ففي سماع حسين بن عاصم من كتاب السداد والأنهار من العتبية؛ أن ذلك لهم؛ وروى مثله سحنون عن ابن القاسم في غير العتبية، وقال محمد بن إبراهيم بن دينار المدني؛ وكتب إليه من الأندلس عن الخشب التي تقطع بالمغرب - عندنا- فتطرح بالوادي، فربما مرت بأصحاب السداد فيمنعونهم من خرق السداد وهم يصلحونه- كما كان؛ قال إن كان خرقهم إياه يضر بأصحاب السد لم أر أن يخرقوا شيئا- وإن كان لا يضر بهم- وهو يصلحونه. لا يخاف عليه حالة من أجل ما خرق صاحب الخشب بعد إصلاحهم إياه، فأرى ألا يمنعوا من خرق ما مروا به- على ما ذكرت لك، وبالله التوفيق.(2/302)
[كتاب المديان]
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] . وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فدل ذلك من قوله على جواز التداين، وذلك إذا تداين في غير سرف ولا فساد- وهو يرى أن ذمته تفي بما تداين به.
فصل وقد رويت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آثار كثيرة في التشديد في الدين، منها: ما روى ابن أبي قتادة عن أبيه أنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، أيكفر الله عني خطاياي؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم. فلما أدبر الرجل، ناداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو أمر به فنودي له، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف قلت؛ فأعاد عليه قوله، فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نعم، إلا الدين، فإنه كذلك قال لي جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛» ومنها: ما روي عنه أنه «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان جالسا مع أصحابه في موضع الجنائز، إذ رفع رأسه ثم نكسه(2/303)
ثم وضع راحته على جبهته ثم قال سبحان الله ماذا أنزل الله من التشديد في الدين» أو قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صاحب الدين مأسور يوم القيامة بالدين» وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نفس المؤمن معلقة بدينه» أو قال: «ما كان عليه دين حتى يقضى عنه» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان هاهنا من بني فلان؟ " فلم يجبه أحد، ثم قالها فلم يجبه أحد ثم قالها فلم يجبه أحد، ثم قالها فلم يجبه أحد؛ فقام رجل، فقال له رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما منعك أن تجيب؛ " فقال خشيت أن يكون نزل فينا من الله قرآن، فقال: "لم أكن لأدعو أحدا منكم إلا إلى خير، ولكن صاحبكم حبس بدين عليه دون الجنة» .
«وقال لسعد بن الأطول: " إن أخاك محبوس في دينه فاقض عنه» . فيحتمل أن تكون هذه الأشياء إنما وردت فيمن تداين في سرف أو فساد غير مباح، أو فيمن تداين وهو يعلم أن ذمته لا تفي بما تداين به؛ لأنه متى فعل ذلك فقد قصد إلى استهلاك أموال الناس؛ وقد قيل: إن هذا كله كان من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدين قبل أن يفتح الله عليه الفتوحات، وقبل أن يفرض على الناس الزكوات؛ فما أنزل الله تعالى براءة، ففرض فيها الزكوات وجعل منها للفارسي سهما، وأنزل آية الفيء والخمس، فجعل فيها حقا للمساكين وابن السبيل، قال حينئذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا فعلي» .
فصل فكل من ادَّان في مباح وهو يرى أن ذمته تفي بما ادَّان به فغلبه الدين فلم(2/304)
يقدر على أدائه حتى توفي، فعلى الإمام أن يؤدي ذلك عنه من بيت مال المسلمين، أو من سهم الغارمين من الصدقات، أو من الصدقات كلها- إن رأى ذلك على مذهب مالك، ومن يرى أنه إن جعل الزكاة كلها في صنف واحد، أجزأه، وقد قيل: لا يجوز أن يؤدى دين الميت من الزكاة، فعلى هذا القول إنما يؤدي الإمام دين من مات وعليه دين من بيت المال من الفيء الحلال للفقير والغني.
فصل وواجب على كل ذي دين أن يوصي بأدائه، فإذا فعل وترك من المال ما يفي بدينه، فليس بمحبوس عن الجنة من أجل دينه؛ وكذلك إن لم يترك وفاء دينه، فعلى الإمام أن يؤديه عنه من بيت المسلمين، أو مما فرض الله في الزكاة للغارمين، فإن لم يفعل، فهو المسئول عن ذلك وليس صاحب الدين بمحبوس عن الجنة من أجل دينه إذا لم يقدر على أدائه في حياته وأوصى بأدائه بعد مماته.
وقد استعاذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الدين فقال: «اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم» وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إياكم والدين فإن أوله هم، وآخره حرب.
فصل ومن كان عليه دين ولم يكن له مال يؤديه منه، فهو في نظرة الله تعالى إلى أن يوسر، ولا يحبس ولا يؤاجر ولا يستخدم ولا يستعمل؛ لأن الدين إنما تعلق بذمته، فلا يصح أن يؤاجر فيه. قال ابن المواز حرا كان أو عبدا: مأذونا له في التجارة وهذا قول مالك وجمهور أهل العلم، خلافا لأحمد بن حنبل في قوله: إن المعسر يؤاجر في الدَّين، والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، معناه إن حضر ذو(2/305)
عسرة، أو وقع ذو عسرة، فالآية عامة في كل من أعسر بدين، كائنا ذلك الدين ما كان؛ وقد روي عن ابن عباس وقوم من المفسرين أن الآية نزلت في الربا، وإلى هذا ذهب شريح فقال: إن المعسر يحبس في الدين؛ لأن الله قد أمر بأداء الأمانة، والآية في إنظار المعسر إلى أن يوسر، إنما أنزلت في الربا، وإنما قال ذلك شريح ومن قال بقوله؛ لكونها بعقب ذكر الربا، فظنوا أنها فيه وليس ذلك بصحيح لوجهين؛ (أحدهما) : أن الربا قد أحبطه الله وأبطله، فكيف يكون فيه نظرة. والثاني: أن القراءة إنما هي: وإن كان ذو عسرة- بالرفع، فلما كان كذلك، علم أنه لم يعن بها صاحب الربا، ولو عنى بها صاحب الربا- كما قال شريح، لقيل: وإن كان ذا عسرة، أي إن كان الذي عليه الربا ذا عسرة، وكذلك في قراءة أبي بن كعب.
فصل ولو قال الذي قال: إن الآية معطوفة على الربا-: إنها معطوفة على رأس مال الربا، لكان سائغا على هذه القراءة، ولوجب أن يقاس سائر الديون على رأس مال الربا؛ إذ لا فرق بين رأس مال الربا وغيره من الديون، فبان بما أردناه صحة ما ذهب إليه مالك: أن المطالبة بالدين إنما تجب مع القدرة على الأداء، فإذا ثبت الإعسار، فلا سبيل إلى المطالبة، ولا إلى الحبس بالدين؛ لأن الخطاب مرتفع عنه إلى أن يوسر.
فصل وهذا في المعسر المعدم، إذ ليس كل معسر معدما، وكل معدم معسر؛ فالإعسار أعم من الإعدام؛ فالغرماء على هذا ينقسمون على ثلاثة أقسام:(2/306)
غريم غني، وغريم معسر غير معدم، وغريم معسر معدم؛ فأما الغريم الغني، فتعجيل الأداء عليه واجب، ومطله به عليه حرام غير جائز؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» وأما المعسر الذي ليس بمعدم - وهو الذي يحرجه تعجيل القضاء ويضر به، فتأخيره إلى أن يوسر ويمكنه القضاء من غير مضرة تلحقه، مرغب فيه ومندوب إليه؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» . والآثار في ذلك كثيرة، والمطل بالأداء وهو جاهد فيه غير مقصر ولا متوان، غير محظور عليه إن شاء الله؛ وكان الشيوخ بقرطبة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يفتون بتأخيره بالاجتهاد على قدر المال وقلته، ولا يوكلون عليه في بيع عروضه وعقاره في الحال، وعلى ذلك تدل الروايات، خلاف ما كان يفتي به سائر فقهاء الأندلس من التوكيل عليه ببيع ماله وتعجيل إنصافه؛ وأمما المعسر المعدم فتأخيره إلى أن يوسر واجب، والحكم بذلك لازم؛ لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] .
فصل والغريم محمول على الملأ حتى يتبين عدمه - كان قد أخذ في الدين الذي يطلب به عوضا أو لم يؤخذ له عوضا؛ لأنه إن كان أخذ عوضا فهو مال قد حصل إليه، فلا يقبل منه دعوى العدم حتى يبينه؛ وإن كان لم يأخذ له عوضا، فالمعلوم من حال الناس التكسب وطلب المال، فهو محمول على ما يعلم من حال الناس وما جبلهم الله عليه؛ هذا قول أبي إسحاق وغيره، ويدخل- عندي- في هذا الوجه الآخر الاختلاف بالمعنى من مسألة الذي يغيب عن امرأته ثم تطلبه بالنفقة.
فصل وحبس الغريم إنما يكون ما لم يظهر عدمه ويثبت فقره، والدليل على(2/307)
إجازة حبسه في هذه الحال، قول الله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] . فإذا جازت ملازمته ومنعه من التصرف، جاز حبسه ولا خلاف في هذا بين فقهاء الأمصار.
[فصل حبس المديان على ثلاثة أوجه]
فصل وحبس المديان على ثلاثة أوجه:
أحدها: حبس تلوم واختبار فيمن جهل حاله.
والثاني: حبس من ألد واتهم بأنه خبأ ماله وغيبه.
والثالث: حبس من أخذ أموال الناس وتقعد عليها وادعى العدم، فتبين كذبه؛ إذ لم يعلم أنه جرى عليه سبب أذهب ما حصل عنده من أموال الناس.
فأما حبس التلوم والاختبار في المجهول الحال، فبقدر ما يستبرأ أمره ويكشف عن حاله، وذلك يختلف باختلاف الدين فيما روى ابن حبيب عن ابن الماجشون، فيحبس في الدريهمات اليسيرة- قدر نصف شهر، وفي الكثير من المال أربعة أشهر، وفي الوسط منه شهرين؛ ووجه ذلك أنه يسجن على وجه اختبار حاله، فوجب أن يكون على قدر الحق الذي يسجن من أجله.
وأما حبس من ألد واتهم بأنه خبأ مالا وغيبه، فإنه يحبس حتى يؤدي، أو يثبت عدمه فيحلف ويسرح.
وأما حبس من أخذ أموال الناس وتقعد عليها وادعى العدم فتبين كذبه، فإنه يحبس أبدا حتى يؤدي أموال الناس، أو يموت في السجن؛ وروي عن سحنون أنه يضرب بالدرة- المرة بعد المرة حتى يؤدي أموال الناس، وليس قوله هذا بخلاف مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فقد قال مالك يضرب الإمام الخصم على اللدد، وأي لدد أبين من هذا؛ فالقضاء بما روي عن سحنون في مثل هؤلاء الذين(2/308)
يقعدون على أموال الناس، ويرضون بالسجن ويستخفونه ليأكلوا أموال الناس ويستهضمونها؛ هو الواجب الذي لا تصح مخالفته- إن شاء الله؛ وقد قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. وما حكى ابن الهندي عن سحنون أنه قال في أمر ابن أبي الجواد إذ ضربه حتى مات- إن صح، فلا يدل على رجوعه عن مذهبه، وإنما يدل على ثبوته عليه واستبصاره فيه مع ورعه وفضله؛ لأنه قال: لم أقتله أنا وإنما قتله الحق، وأشفق مع ذلك إشفاق المؤمن الحذر الخائف لربه مخافة أن يكون جاوز في اجتهاده ائتساء بعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: لو مات حمل بشاطئ الفرات ضياعا، لخشيت أن يسألني الله عنه.
فصل فإن سأل المحبوس للتلوم والاختبار أن يعطي حميلا حتى يتبين حاله ويكشف عن أمره ولا يحبس، فقال في المدونة في هذا الوجه: يحبس أو يؤخذ عليه حميل، ولم يبين إن كان بالوجه أو بالمال؛ قال أبو إسحاق التونسي بالوجه دون المال في مذهب ابن القاسم - يريد حميلا بإحضاره عند انقضاء المدة التي يجب سجنه فيها لاختبار حاله، فإذا أحضره عندها برئ من الضمان وحبس إن تبين أن له مالا حتى يؤدي؛ وإن كان لم يتبين أن له مالا أطلق بعد اليمين، وإن لم يحضره غرم وإن تبين أنه عديم من أجل اليمين اللازمة له وإن سأل المحبوس للدد والتهمة- أن يعطي حميلا بوجه إلى أن يثبت عدمه، لم يمكن من ذلك؛ لأن التضييق بالسجن واجب عليه للتهمة اللاحقة به رجاء أن يؤدي، فإن أراد ألا يسجن أعطى حميلا غارما لا يسقط عنه الغرم إثباته للغريم المطلوب العدم؛ وكذلك إن أقام بينة بالعدم ولم تزك- قاله سحنون.
وأما إن أثبت العدم وسأل الطالب أن يعذر إليه في الشهود الذين شهدوا له بالعدم، فإن قدر على حميل بوجهه ليحضره فيعاد إلى السجن- إن دفع في البينة، أو يستحلف إن عجز عن الدفع؛ لم يسجن، وليس قول ابن القاسم بمخالف لقول سحنون في هذا الوجه، ولا قول سحنون بمخالف(2/309)
لقول ابن القاسم في الوجه الأول. وأما المحبوس لتقعده على أموال الناس، فلا ينجيه من السجن والضرب على ما روي عن سحنون إلا حميل غارم، وهذا كله بين.
فصل ويحبس الوصي فيما على الأيتام من دين - إذا كان لهم في يده مال وكذلك الأب في دين الولد- إذا كان له بيده مال؛ رواه ابن سحنون عن ابن عبد الحكم، ومعنى ذلك أنه قبض مالا ولم يعلم إنفاذه فلا يقبل قوله؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر من حاله، ويحبس الأب إذا امتنع من الإنفاق على ولده الصغير، ولا يحبس له في دينه إذا كان له عليه دين والفرق بينهما أن تركه للإنفاق على ولده الصغير من الإضرار به، فالسلطان يأخذه بذلك ويلزمه إياه ويحبس المسلم الكافر والسيد لمكاتبه؛ ووجه ذلك أن الحقوق لا يعتبر فيها الحرمة والمنزلة إلا الوالد في حق الولد؛ لأن حقه عليه ليس لأجل حرمته ومرتبته؛ لأن حرمتهما واحدة، وإنما ذلك لما له عليه من حق الأبوة الموجبة للنفقة، ويحبس سائر القرابات من الأجداد وغيرهم- والله أعلم.
فصل وهذا لمن لم يتفالس ويقول: لا شيء لي، وأما إذا حل الدين فسأل أن يؤخر ووعد بالقضاء، فليؤخره الإمام حسبما يرجو له، ولا يعجل عليه بالتفليس وبيع عروضه عليه في الحين؛ والروايات بذلك مسطورة في المدونة والعتبية والواضحة وغيرها من الدواوين، وتأخير الأخذ بالشفعة بالنقد من هذا المعنى.(2/310)
فصل وإذا أخر الغريم بما حل عليه، أخذ منه حميل - قاله سحنون في كتاب ابنه، فإن لم يكن له حميل سجن، ووجه هذا إن تعذر القضاة قد يتجه على أكثر الناس، إلا أن يكون رجلا يعرف بالوفر، وأن عنده الناض فلا يؤجل ولا يؤخر.
فصل فإن لم يعلم أنه من أهل الناض وادعى الغريم أن عنده مالا ناضا، وأنه إنما يريد اللدد به والإضرار بتأخير حقه عنه، ودعا إلى تحليفه على ذلك؛ فيجري الأمر على الاختلاف في يمين التهمة؛ وكان أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضعف اليمين في ذلك، ويحتج لتضعفها بقول مالك في سماع أشهب من كتاب الزكاة: وجل الناس ليس لهم نقد؛ وأما إن حقق عليه الدعوى فاليمين له عليه واجبة باتفاق، فإن نكل عليها حلف الطالب وجبر المطلوب على الأداء، ولم يؤخر قليلا ولا كثيرا.
فصل فإن سأل الطالب أن يفتش عليه داره وقال: إنه قد غيب فيها ماله، فإن الشيوخ المتأخرين كانوا يختلفون في ذلك، حكى الفقيه أبو الأصبغ، وابن سهل - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه- شاهد الفتيا والحكم بطليطلة إذا دعا الطالب إلى أن يفتش مسكن المطلوب عند ادعائه العدم بالحق، أن يفتش مسكنه فما ألفي فيه من متاع الرجال بيع عليه وأنصف الطالب منه، لا يختلف فقهاؤهم في ذلك، وأنه أنكر ذلك على أكثرهم فاستصروا فيه ولم يرجعوا عنه، وأنه سأل عن ذلك الفقيه ابن عتاب - رَحِمَهُ اللَّهُ - فأنكره، وأنكره أيضا ابن مالك وقال: أرأيت إن كان الذي يلفى في بيته ودائع؛ قال: فقلت له ذلك محمول على أنه ملكه حتى يتبين خلافه؛ فقال: يلزم إذا توقيفه والاستيناء به حتى يعلم هل له طالب أو يأتي بمدع فيه؛ قال: وأعلمت ابن(2/311)
القطان بعمل طليطلة في ذلك، فقال لي ما يبعد ولم ينكره، وأنا أراه حسنا فيمن ظاهره الإلحاد والمطل واستسهال الكذب، والله أعلم بالصواب.
فصل وإذا ثبت عدم الغريم وانقضاء أمد سجنه، فلا يطلق حتى يستحلف ما له مال ظاهر ولا باطن، ولئن وجد مالا ليؤدين إليه حقه؛ وإنما وجب أن يحلف مع ثبوت عدمه؛ لأن الشهود إنما يشهدون له على العلم كالذي يستحق العرض بشهادة الشهود، فلا بد أن يحلف أنه ما باع ولا وهب، إذ شهادة الشهود في ذلك، إنما هي على العلم لا على القطع.
فصل فإذا حلف، خلي سبيله ولم يكن للطالب عليه سبيل حتى يتبين أنه قد أفاد مالا، فإن قام عليه بعد ذلك وادعى أنه قد أفاد مالا- ولم يأت على ذلك ببينة وسأل أن يحلفه: ما أفاد بعد ذلك مالا، لم يكن ذلك له؛ لأنه قد استحلف على ذلك؛ لئلا يتعنته باليمين في كل يوم؛ فهذا هو فائدة زيادة قوله في اليمين، ولئن وجد ليؤدين إليه حقه، والله أعلم.
فصل فإن شهد له قوم بالعدم وشهد عليه آخرون بالملأ ولم يعينوا له مالا، ففي أحكام ابن زياد أن شهادة من شهد بالملأ أعمل، وإن كانوا أقل عدالة، ويحبس بشهادتهم حتى تقوم له بينة أنه أعدم بعد ذلك بحاجة أتت عليه؛ وهذا- عندي بعيد، ولا يصح عندي في المسألة إلا رواية أبي زيد أن ذلك تكاذب وتهاتر، وأن بينة العدم أعمل؛ لأنها أثبتت حكما، وهو تحليفه وتسريحه، والثانية: نفت(2/312)
الحكم وإنما يشبه أن يقال: إن بينة الملأ أعمل إن كان هذا الاختلاف بين البينتين بعد أن حلف وسرح؛ لأن البينة التي شهدت عليه بالملأ تكون هاهنا هي التي أوجبت الحكم- وهو رده إلى السجن، والله أعلم.
ورواية أبي زيد قد وقعت في كتاب المديان والتفليس في بعض الروايات، قال فيها: إنه لا ينظر إلى هؤلاء وإلى هؤلاء، ويدس في ذلك أهل الصلاح والفضل؛ فإن كان له مال ضيق عليه حتى يؤخذ منه الحق، وإن لم يكن له شيء خلي حتى يرزقه الله تعالى، فعلى هذه الرواية جعل البينتين متعارضتين تسقطان جميعا إذا استوت في العدالة، ويرجع إلى أصل حاله؛ فإن كان متهما بأنه خبأ مالا، حبس حتى يأتي ببينة على العدم أعدل من البينة التي شهدت عليه بالملأ، وإن كان إنما سجن تلوما واختبارا، أطلق إذا انقضت مدة اختباره على ما حكيناه عن ابن الماجشون من التفصيل في ذلك.
فصل ومن أحاط الدين بماله فلا تجوز له هبة ولا صدقة ولا عتق ولا إقرار بدين لمن يتهم عليه، ويجوز بيعه وابتياعه- ما لم يحجر عليه؛ وكذلك له أن ينفق على زوجه وعلى كل من يلزمه الإنفاق عليه، وأن يتزوج من المال الذي بيده ما لم يضرب على يديه ويحجر عليه فيه، وليس له إن جنى جناية عمدا فيها القصاص أن يصالح بما بيده من أموال غرمائه- على رفع القصاص عن نفسه، ولو كانت الجناية خطأ أو عمدا لا قصاص فيها، كان ذلك له؛ وإن وهب أو تصدق- وعليه ديون كثيرة، وبيده ما لا يدري أن كان يفي بما عليه من الديون أم لا، فالهبة والصدقة جائزة حتى يعلم أن ما عليه من الدين يستغرق ماله، قاله ابن زرب، واحتج على ذلك برواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الرضاع في الذي يدفع إلى المطلقة نفقة سنة، ثم يفلس بعد ستة أشهر، أنه إن كان يوم دفع النفقة قائم الوجه جائز الأمر ولم يظهر من فعله سرف ولا محاباة؛ فذلك جائز وبالله التوفيق.(2/313)
[كتاب التفليس]
الفلس: عدم المال، والتفليس: خلع الرجل من ماله لغرمائه؛ والمفلس: المحكوم عليه بحكم الفلس، والمفلس: الذي لا مال له، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أتدرون من المفلس من أمتي؟ قالوا: المفلس الذي لا دراهم له. قال: المفلس الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وصدقة، ويجيء وقد ظلم هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا، وشتم هذا؛ فيقعد فيقتص لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، ولم تف بما قبله من الذنوب والخطايا؛ أخذ من خطايا القوم فطرحت عليه ثم طرح في النار» .
وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: «أصيب رجل في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تصدقوا عليه، فتصدق عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك» ، وهو معاذ بن جبل، فلم يزد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غرماءه على أن خلع لهم ماله، ولم يأمر ببيعه ولا حبسه، وعلى هذا فقهاء الأمصار: أن المفلس لا يؤاجر في الدين ولا يحبس فيه؛ لقول الله عز وجل:(2/315)
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، خلافا لأحمد بن حنبل في قوله: إن المفلس يؤاجر فيما عليه من الدين وهو مذهب ابن شهاب حكاه عنه الطحاوي، وقال: ما علمت أحدا قاله غيره، وخلافا لشريح في قوله: إنه يحبس في الدين؛ لأن الآية عنده إنما وردت في الربا. ولو كان ذلك، لكانت القراءة: وإن كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة. وإنما القراءة وإن كان ذو عسرة، معناه إن وقع ذو عسرة، أو حضر ذو عسرة، فهو عام في الربا وغيره من الديون، وقد تقدم الكلام على هذا.
وروي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رفع إليه أن رجلا من جهينة كان يشتري في الرواحل فيغلي بها، ثم يسرع السير فيسبق الحاج فأفلس، فقام عمر فقال: أما بعد فإن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج، وأنه أدان مقرضا فأصبح قد دين به، فمن كان له عليه دين، فليأتنا حتى نقسم ماله بين غرمائه بالغداة، وإياكم والدين، فإن أوله هم وآخره حرب.
وروي أن عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي برجل غرق في دين، فقضى أن يقسم ماله بين غرمائه ويتركه حتى يرزقه الله.
فصل وقد كان الحكم من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أول الإسلام بيع المديان فيما عليه من الدين إذا لم يكن له به وفاء على ما كان عليه من الاقتداء بشرائع من قبله من الأنبياء- فيما لم ينزل عليه فيه شيء؛ إذ كان من شرائعهم إجازة استرقاق الأحرار، قال الله عز وجل في قصة يوسف - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75]- أي استعباده قيل: سنة، وقيل: أبدا- قضاء منهم على أنفسهم بقضاء أبيهم يعقوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولذلك حكمهم؛ ليصل بذلك إلى أخذ أخيه، إذ لم يكن في حكم الملك إلا أن تؤخذ السرقة من السارق أو يغرم ثمنها أو مثلي ثمنها، ومن ذلك ما روي أن الخضر سأله مسكين أن يتصدق(2/316)
عليه بوجه الله، فقال: لقد سألت بعظيم- وما عندي ما أعطيك إلا أن تأخذني فتبيعني؛ قال: ويستقيم ذلك لي؟ قال: نعم الحق أقول لك، لا أخيبك- وقد سألت بعظيم؛ فأخذه فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم، فمكث عند المشتري ما شاء الله لا يستعمله، فقال له: إنما اشتريتني التماس خير بي، ومتى نعمل؟ قال: أكره أن أشق عليك، إنك شيخ كبير؛ فقال: ما يشق علي، قال: فقم فانقل هذه الحجارة؛ فقام- وخرج الرجل إلى بعض حاجاته، ثم انصرف، وقد نقل الحجارة في ساعة، وكان لا ينقلها أقل من ستة نفر في يوم؛ ثم عرض له سفر فقال: إني أحسبك أمينا فاخلفني في أهلي خلافة حسنة؛ قال: أوصني بعمل، فقال: اضرب من اللبن حتى أقدم عليك، فقدم وقد شيد بناءه؛ فقال له: أسألك بوجه الله العظيم ما جنسك؟ وما أمرك؟ فقال: سألتني بوجه الله- ووجه الله ألقاني في العبودية، فقص عليه قصته، وقال: أخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر. وقف يوم القيامة وليس لوجهه جلد ولا لحم ولا عظم يتقعقع؛ قال آمنت بذلك، فأشفق عليه وأعتقه وخلى سبيله- يعبد الله؛ فقال: الحمد لله الذي أوقعني في العبودية واستنقذني منها- اختصرت كثيرا من متن الحديث لطوله.
والحديث في بيع المديان فيما عليه من الدين: ما روى زيد بن أسلم «عن عبد الرحمن بن البيلماني قال: كنت بمصر فقال لي رجل: ألا أدلك على رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقلت: بلى، فأشار لي إلى رجل فجئته فقلت: من أنت - يرحمك الله؟ فقال: أنا سرق، فقلت: سبحان الله ما ينبغي أن تسمى بهذا(2/317)
الاسم - وأنت رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! فقال: إن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماني سرقا، فلن أدع ذلك أبدا، فقلت: ولم سماك سرقا؟ قال: لقيت رجلا من أهل البادية ببعيرين له يبيعهما فابتعتهما منه، وقلت له: انطلق معي حتى أعطيك، فدخلت بيتي، ثم خرجت من خلف لي، وقضيت بثمن البعيرين حاجتي. وتغيبت حتى ظننت أن الأعرابي قد خرج، فخرجت- والأعرابي مقيم- فأخذني فقدمني إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته الخبر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما حملك على ما صنعت؟ فقلت: قضيت بثمنهما حاجتي يا رسول الله، قال: فاقضه، قلت: ليس عندي شيء قال: أنت سرق، اذهب يا أعرابي فبعه حتى تستوفي حقك؛ فجعل الناس يسومونه بي، ويلتفت إليهم فيقول: ما تريدون؟ فيقولون: نريد أن نبتاعه منك ونعتقه؛ قال: فوالله ما منكم أحوج إليه مني، اذهب فقد أعتقتك، ثم سبح الله» . هذا من حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، وبالله التوفيق.
فصل فالحكم في الرجل إذا غرق في الدين وقام به غرماؤه أن يضرب على يده، ويحجر عليه فيما يوجد له من المال، ويحبس استبراء؛ فإذا اجتمع أهل دينه قسم ما وجد له من مال بينهم بالحصص بعد أيمانهم، واستحلف فيما بقي قبله من الدين- إذا انقضى أمد استبرائه بالحبس؛ وذلك يختلف في قلة المال وكثرته على ما روي عن ابن الماجشون: بالله الذي لا إله إلا هو ما له مال ظاهر ولا باطن، ولئن وجد مالا ليؤدين إليه حقه.(2/318)
فصل وإنما يتحاص في مال المفلس من ثبت دينه ببينة، أو بإقرار من المفلس قبل التفليس لمن لا يتهم عليه، وأما بعد أن يفلس ويحال بينه وبين ماله ويمنع من البيع والشراء والأخذ والإعطاء، فإن إقراره حينئذ بدين في ذمته لا يجوز لقريب ولا بعيد.
[فصل فيما يجوز من إقرار المفلس وأفعاله قبل التفليس وبعده مما لا يجوز من ذلك]
فصل ومدار هذا الكتاب على ستة فصول:
أحدها: معرفة ما يجوز من إقرار المفلس وأفعاله قبل التفليس وبعده مما لا يجوز من ذلك.
والثاني: معرفة ما يحجر عليه فيه من ماله ويتحاص فيه الغرماء، مما يترك له ولا يتحاص فيه الغرماء.
والثالث: معرفة حكم ضمان ما يحجر عليه فيه من المال.
والرابع: معرفة وجه الحكم في المحاصة.
والخامس: معرفة ما يتحاص به من الديون مما لا يتحاص به منها.
والسادس: معرفة ما يكون الغريم أحق به في التفليس من الغرماء مما يحاصهم فيه ولا يكون أحق به منهم.
فأما الفصل الأول وهو ما يجوز من أفعاله وإقراره قبل التفليس وبعده مما لا يجوز، فأما قبل التفليس فلا يجوز له إتلاف شيء من ماله بغير عوض فيما لا(2/319)
يلزمه مما لم تجر العادة بفعله من هبة أو صدقة أو عتق أو ما أشبه ذلك، وإنما قلنا فيما لا يلزمه تحرزا من نفقته على آبائه وأبنائه في الحد الذي يلزمه ذلك لهم؛ لأنه إتلاف مال بغير عوض- وهو يجوز له؛ لأنه يلزمه، فقد دخل معه الغرماء على ذلك؛ وتحرزا أيضا من نفقته على نفسه؛ لأن الإنفاق على نفسه بالقصد والسداد واجب عليه لإبقاء رمقه، ولا يجوز له في شيء من ذلك السرف؛ لأنه إتلاف مال على غير عوض فيما لا يلزمه ولا يجب عليه.
فصل وإنما قلنا مما لم تجر العادة بفعله؛ لأن إتلافه المال فيما جرت العادة بفعله جائز له، كالكسوة يعطيها السائل والتضحية والنفقة في العيد من غير سرف وما أشبه ذلك.
فصل وكذلك إنفاقه في المال على عوض يجوز فيما جرت العادة بفعله كالتزوج والنفقة على الزوجة، وما أشبه ذلك؛ ولا يجوز فيما لم تجر العادة بفعله من الكراء في الحج التطوع، وما أشبه ذلك؛ وانظر هل له أن يحج حجة الفريضة من أموال غرمائه أم لا - وإن كان يأتي ذلك على الاختلاف في الحج هل هو على الفور؟ أو على التراخي؟ وهل له أن يتزوج أربع زوجات؟ وتدبر ذلك.
ويجوز بيعه وابتياعه ما لم تكن فيه محاباة؛ وإقراره بالدين لمن لا يتهم عليه من صديق ملاطف أو قريب باتفاق. ولمن يتهم عليه على اختلاف؛ واختلف قول مالك في قضائه بعض غرمائه دون بعض ورهنه، فقال مرة: ذاك جائز له، وقال مرة: لا يجوز ويدخل عليه في ذلك جميع الغرماء؛ وقد قيل: إنه يجوز قضاؤه ولا يجوز رهنه - وهو قائم من المدونة بدليل؛ وهذا إذا قضى أو رهن من لا يتهم عليه،(2/320)
وأما إذا قضى أو رهن من يتهم عليه فلا يجوز، وذلك ما لم يتشاور الغرماء في تفليسه على مذهب ابن القاسم؛ وقال أصبغ: قضاؤه ورهنه جائز للأجنبيين- وإن كانوا قد تشاوروا في تفليسه ما لم يفلسوه، وسواء في إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه وبيعه وابتياعه- كان صحيحا أو مريضا- في مذهب مالك وابن القاسم، بخلاف رهنه وقضائه بعض غرمائه دون بعض، وإقراره لمن يتهم عليه، فإن ذلك لا يجوز على مذهب ابن القاسم في المرض- إذا كان مرضا مخوفا يمنع فيه القضاء في ماله؛ وكذلك روى أصبغ عن ابن القاسم - وهو مفسر لقوله في المدونة: وقال غيره إن قضاءه جائز؛ لأن بيعه وشراءه جائز، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة.
وأما إقرار المريض بالدين إذا لم يكن عليه دين، فيجوز إذا لم يتهم، مثل أن يقر لأجنبي وله ولد؛ ولا يجوز إذا اتهم، مثل أن يقر لصديق ملاطف- وورثته كلالة؛ وفي إقرار الزوج لزوجته بدين في المرض تفصيل، والذي يتحصل عندي فيه على منهاج قول مالك وأصحابه؛ إن أمره لا يخلو من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يعلم منه ميل إليها وصبابة بها.
والثاني: أن يعلم منه الشنآن لها والبغض فيها.
والثالث: أن يجهل مذهبه فيها وحاله معها.
فأما إذا علم منه ميل إليها وصبابة بها، فلا يجوز إقراره لها إلا أن يجيز ذلك الورثة؛ وأما إذا علم منه البغض فيها والشنآن لها، فإقراره جائز لها على الورثة؛ وأما إذا جهل حاله معها في الميل إليها والبغض لها فلا يخلو أمره من وجهين: أحدهما: أن يورث بكلالة.
والثاني: أن يورث بولد.
فأما إذا ورث بكلالة، فلا يجوز إقراره لها؛ وأما إذا ورث بولد، فإن الولد لا يخلون من أن يكونوا إناثا أو ذكورا صغارا أو كبارا، واحدا أو عددا، منها أو من(2/321)
غيرها؛ فأما إن كان الولد إناثا يرثنه مع العصبة، فسواء كن واحدة أو عددا، صغارا أو كبارا منها، يتخرج ذلك عندي على قولين:
أحدهما: أن إقراره جائز.
والثاني: أنه لا يجوز من اختلافهم في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنة وعصبة، فإن كن صغارا منها لم يجز إقراره لها قولا واحدا. وأما إن كان الولد ذكرا - وكان واحدا فإقراره لها جائز صغيرا كان الولد أو كبيرا، منها أو من غيرها؛ وأما إن كان الولد ذكورا عددا، فإقراره لها جائز إلا أن يكون بعضهم صغيرا منها وبعضهم كبيرا- من غيرها فلا يجوز إقراره لها، فإن كان الولد الكبير في الموضع الذي يرفع التهمة عن الأب في إقراره لزوجه عاقا له، لم ترفع عنه التهمة وبطل الإقرار على ما في سماع أصبغ من العتبية، وإحدى الروايتين في المدونة؛ وإن كان بعضهم عاقا له، وبعضهم برا به يخرج على ما ذكرته من الاختلاف في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنة وعصبة؛ وكذلك الحكم سواء في إقرار الزوجة لزوجها، ولا فرق أيضا بين أن يقر أحدهما لصاحبه بدين، أو يقر أنه قبض منه ما له عليه من دين، وبالله التوفيق.
فصل وأما بعد التفليس، فلا يجوز له في ماله بيع ولا شراء ولا أخذ ولا إعطاء؛ ولا يجوز إقراره بدين في ذمته لقريب ولا بعيدة، واختلف في إقراره بمال معين مثل أن يقول: هذا المال بيدي لفلان وديعة أو قراض، وما أشبه ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن إقراره بذلك جائز وهو قول مالك في سماع عيسى من كتاب المديان.
والثاني: أن إقراره بذلك لا يجوز- وهو قول ابن القاسم في كتاب الوصايا الثاني من المدونة وقول مالك في سماع ابن القاسم، وفي سماع أشهب عنه من(2/322)
الكتاب المذكور، وقال يقال له: أفسدت أمانتك ولعلك أن تخص هذا أو تدانيه ليرد عليك..
والثالث: أنه إن كان على أصل القراض والوديعة بينة صدق- أن هذا هو ذلك المال، وإن لم يكن على أصل ذلك المال بينة لم يصدق وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم في الكتاب المذكور.
فصل وحد التفليس الذي يمنع قبول إقراره، هو أن يقوم عليه غرماؤه فيسجنوه، أو يقوموا عليه فيستتر عنهم فلا يجدوه؛ قال محمد: ويحولوا بينه وبين التصرف في ماله بالبيع والشراء، والأخذ والإعطاء إلا أن لا يكون لواحد منهم بينة، فإقراره جائز لمن أقر له إذا كان ذلك في مجلس واحد أو قريب بعضه من بعض؛ قال ابن حبيب: وإن كان المقر لهم ممن يتهم عليه، أو يكون من له بينة لا يستغرق ماله، أو يكون إقراره عند القيام عليه قبل أن يستسلم ويسكت فيجوز إذ لا يقدر على أكثر من هذا؛ وقد روي عن مالك أن إقرار المفلس يجوز لمن يعلم منه إليه تقاض ومداينة وخلطة مع يمينه، ويحاص من له بينة ولذلك وجه.
[فصل في معرفة ما يحجر فيه على المفلس ويتحاص فيه الغرماء]
فصل وأما الفصل الثاني: وهو معرفة ما يحجر عليه فيه ويتحاص فيه الغرماء مما يترك له، فقال في المدونة: يترك له ما يعيش به هو وأهله الأيام، قال في الواضحة: المشهور نحوه، قال في العتبية: هو وولده الصغير، ويترك له كسوته إلا أن يكون(2/323)
فيها فضل عن كسوة مثله، وشك مالك في كسوة زوجته، هل تترك لها؛ لأنها لا تجب إلا بمعاوضة وبطول الانتفاع بها، فيكون ذلك كالنفقة لها بعد المدة المؤقتة؛ وقال سحنون: لا تترك له كسوة امرأته، ويباع ما سوى ذلك من ثيابه وعروضه، ويباع خاتمه وسلاحه وثوبا جمعته، إلا أن لا يكون لهما تلك القيمة، وقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ثوب يواريه، وهو قول ابن كنانة: إنه لا يترك له شيء؛ واختلف في كتب العلم هل تباع عليه في الدين أم لا على قولين، قال مالك في كتاب ابن المواز: لا تباع عليه كتب العلم، وهو الذي يأتي على مذهبه في المدونة؛ لأنه كره بيع كتب الفقه، وفي سماع ابن القاسم من كتاب الرهون إجازة رهنها، فكذلك بيعها يجوز على هذه الرواية وهو قول أكثر أصحاب مالك أن بيعها جائز في الدين وغيره، إذ لا فرق بين بيعها في الدين وغيره، وهذه المسألة مبنية على اختلافهم في جواز بيعها وكراهيته، وقد قال محمد بن عبد الحكم: بيعت كتب ابن وهب بثلاثمائة دينار وأصحابه متوافرون، فما أنكروا ذلك.
وأما المصحف فإنه يباع في الدين لم يختلف في جواز بيعه في المذهب، ولا تؤاجر أم الولد في الدين، وتؤاجر المدبرة. وتباع كتابة المكاتب في دين سيده، ولا يجبر المفلس على اعتصار ما وهب لولده، ولا على الأخذ بشفعة له فيها فضل، ولا على انتزاع مال أم ولده ومدبره؛ هذا قول مالك في كتاب المأذون له في التجارة؛ وفي سماع ابن القاسم من كتاب الحبس ما يعارض ذلك- وهي مسألة من حبس حبسا، وشرط في حبسه إن شاء المحبس عليه أن يبيع باع، ولا على قبول ما وهب له أو تصدق به عليه أو أوصي له به أو أسلف إياه، أو أعير له؛ وإن وهب له أبوه من يعتق عليه عتق عليه، ولم يبع في الدين؛ لأن الذي وهبه له إنما وهبه ليعتق لا ليأخذه أهل الدين هذه علته في الرواية، فانظر على ذلك: لو وهبه إياه وهو لا يعلم أنه ممن يعتق عليه؛ وأما إذا ورثه فاختلف في ذلك: روى أبو زيد عن ابن القاسم أنه يباع في الدين ولا يعتق عليه، وقال أشهب: يعتق عليه.(2/324)
فصل فإن كان. المفلس امرأة فليس للغرماء أن يأخذوا معجل مهرها قبل الدخول ولا بعده بأيام يسيرة، ولا يجوز لها أن تقضي منه في دينها إلا الشيء اليسير؛ قال في المدونة: الدينار ونحوه في كتاب الديات، وقال مالك في كتاب ابن المواز: الدينار والدينارين والثلاثة؛ وأما ما تداينت به بعد الدخول، فإن مهرها يؤخذ فيه، هذا نص رواية يحيى عن ابن القاسم وفيها نظر، ولم يعط جوابا بينا في كالئها هل للغرماء أن يتبعوه في دينهم أم لا؟ والأظهر أن ذلك لهم، وأنه لا يلزمها أن تتجهز به إليه.
فصل فإن ادعى في أمة أنها أسقطت منه لم يصدق، إلا أن تقوم بينة بذلك من النساء، أو يكون قد فشا ذلك قبل ادعائه؛ وإذا كان لها ولد قائم فقوله مقبول أنه منه؛ لأن الولد يرفع التهمة في ذلك، هذا قوله في كتاب أمهات الأولاد ولا اختلاف في ذلك.
[فصل في معرفة حكم ضمان المال المحجر عليه فيه]
فصل وأما الفصل الثالث: وهو معرفة حكم ضمان المال المحجر عليه فيه، فقال أشهب: مصيبته من الغريم المفلس عينا كان أو عرضا حتى يقضي إياه الغرماء ورواه عن مالك؛ وقال ابن الماجشون: مصيبته من الغرماء إذا احتجبه السلطان عينا كان أو عرضا، ورواه عن مالك وقال ابن القاسم - ورواه عن مالك إن كان عينا فمصيبته من الغرماء معناه: إن كانت ديونهم عينا، وإن كانت عروضا فمصيبته في الغريم المفلس،(2/325)
- معناه: إذا كانت ديونهم عينا أو عرضا مخالفة لها، وأما إن كانت ديونهم عروضا مماثلة لها فمصيبتها منهم؛ لأنهم يتحاصون فيها ولا يحتاجون إلى بيعها، فتحصيل مذهبه أن ما يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغريم؛ لأنه إنما يباع على ملكه وما لا يحتاج إلى بيعه، فضمانه من الغرماء، وقال أصبغ: المصيبة في الموت من الغرماء وفي التفليس من الغريم المفلس.
فصل وأما الفصل الرابع: - وهو معرفة وجه التحاص، فإن الحكم في ذلك أن يصرف مال الغريم من جنس ديون الغرماء دنانير إن كانت ديونهم دنانيرا، أو دراهم إن كانت ديونهم دراهم، أو طعاما إن كانت ديونهم طعاما- على صفة واحدة؛ أو عروضا إن كانت ديونهم عروضا على صفة واحدة، فإن كانت ديونهم مختلفة دنانير ودراهم، أو دنانير وعروضا، أو دراهم وطعاما، وما أشبه ذلك، صرف مال الغريم عينا: إما دنانير، وإما دراهم - على الاختيار في ذلك إذا كان الصنفان جاريين في البلد، ويباع ماله من الديون إلا أن يتفق الغرماء على تركها حتى تقبض عند حلولها، ثم تحصل جميع ديونهم إن كانت صفة واحدة، أو قيمتها إن كانت مختلفة حلت أو لم تحل؛ لأن التفليس معنى يفسد الذمة، فاقتضاء حلول الدين كالموت، لقول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] هذا مذهب ابن القاسم، وقال سحنون: إن العرض المؤجل يقوم يوم التفليس على أن يقبض إلى أجله - وهو بعيد؛ لأن المال لو كان فيه وفاء لعجل له حقه أجمع، وإذا قاله في(2/326)
العرض، فيلزمه مثله في العين المؤجل- وهذا ما لم يقله هو ولا غيره، وينظر ما يقع من ذلك جميع مال المفلس: فإن كان النصف كان لكل واحد منهم نصف دينه وأتبع الغريم بالنصف الباقي، وإن كان الثلث كان له الثلث وأتبع الغريم بالثلثين، وإن كان الربع كان له الربع وأتبع الغريم بثلاثة أرباع دينه؛ فمن كان دينه منهم من صنف مال الغريم- دنانير أو دراهم، دفع إليه ما وجب له منه، ومن لم يكن دينه من صنف مال الغريم، أتبع له ما وجب له نصف عرضه إن كان دينه عرضا، أو نصف طعامه إن كان دينه طعاما، ولم تسلم إليه دنانير؛ فإن أراد أن يأخذها ولا يشترى له بها شيء لم يجز ذلك إن كان الذي له طعام من سلم؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى إن كان الذي صار له في المحاصة أقل مما ينوب ذلك الجزء من الطعام أو أكثر، وإن كان مثله سواء، دخله البيع والسلف؛ وإن كان الذي له طعام من قرض، فذلك جائز بكل حال لا يدخله شيء؛ وإن كان الذي له عرض من سلم لم يجز، وقد قيل: إنه جائز؛ لأن الحكم بالتفليس يرفع التهمة- وذلك يأتي على الاختلاف في مسألة سماع أشهب من كتاب السلم والآجال.
فصل ولو أراد أن يأخذ الذي صار له في المحاصة بجميع حقه ولا يتبع الغريم بشيء، جاز إن كان الذي صار له في المحاصة بجميع حقه، ولا يتبع الغريم بشيء جاز - إن كان الذي صار في المحاصة، مثل رأس ماله أو أقل، إلا أن يكون الدين طعاما من سلم فلا يجوز إلا أن يكون الذي صار له في المحاصة مثل رأس ماله سواء - لا زيادة فيه ولا نقصان، ولو كان الدين طعاما من قرض لجاز، ذلك كان الذي صار له في المحاصة مثل رأس ماله أو أقل أو أكثر.(2/327)
فصل فإذا قلنا: إن ما صار له في المحاصة بالعروض يشترى له به مثل الذي له، فإن غلا السعر أو رخص فاشتري له بذلك أقل مما صار له في المحاصة لغلاء السعر، أو أكثر لرخص السعر؛ فلا تراجع في ذلك بينه وبين الغرماء، إلا أن يكون فيما صار له أكثر من جميع حقه، فيبرأ بالفضل إلى الغرماء، وإنما التحاسب في زيادة ذلك ونقصانه بينه وبين الغريم فيتبعه بما بقي من حقه قل لرخص السعر أو كثر لغلائه.
[فصل في معرفة ما يتحاص به من الديون مما لا يتحاص به منها]
فصل وأما الفصل الخامس وهو معرفة ما يتحاص به من الديون مما لا يتحاص به منها، فإن المحاص لا تجب إلا بما تقرر من الديون في الذمة، لا بالسلع المعينات؛ لأنه اشترى سلعة بعينها ففلس البائع، فالمبتاع أحق بها من الغرماء بإجماع العلماء.
[فصل في أقسام الديون الثابتة المتقررة في الذمة]
فصل والديون الثابتة المتقررة في الذمة تنقسم على قسمين:
أحدهما: أن تكون واجبة عن عوض.
والثاني: أن تكون واجبة على غير عوض.
فأما ما وجب منها عن عوض- يتمول أو لا يتمول، فلا يخلو من أن يكون العوض مقبوضا أو لا يكون مقبوضا؛ فأما إذا كان مقبوضا كأثمان السلع المقبوضة وأروش الجنايات، ونفقة الزوجات؛ لما سلف من المدة، ومهور الزوجات(2/328)
المدخول بهن، وما حق لهن عليه من شيء غير موصوف في الذمة، فإن المحاصة بذلك واجبة؛ وأما ما كان منها غير مقبوض، فإن ذلك ينقسم على خمسة أقسام:
أحدها: ألا يمكنه دفع العوض بحال.
والثاني: ألا يمكنه دفع العوض ويمكنه دفع ما يستوفى فيه.
والثالث: أن يمكنه دفع العوض ويلزمه.
والرابع: أن يمكنه دفع العوض ولا يلزمه.
والخامس: ألا يكون إليه تعجيل دفع العوض.
فأما ما لا يمكنه دفع العوض كنفقة الزوجات؛ لما يأتي من المدة، فلا محاصة في ذلك بوجه؛ وأما ما لا يمكنه دفع العوض فيه ويمكنه دفع ما يستوفى فيه مثل أن يكتري الرجل دارا بالنقد أو يكون العرف فيه النقد، فيفلس المكتري قبل أن يقبض الدار، أو بعد أن قبض وسكن بعض السكنى، فأوجب ابن القاسم في المدونة للمكري المحاصة بكراء ما بقي من السكنى إذا شاء أن يسلمه، وله مثل ذلك في العتبية؛ وعلى قياس هذا إن فلس قبل أن يقبض الدار، فللمكري أن يسلمها ويحاص بجميع كرائه؛ وهذا إنما يصح على قياس قول أشهب الذي يرى أن قبض أوائل الكراء قبض لجميع الكراء؛ فيجيز أخذ الدار للكراء من الدين، وأما ابن القاسم فالقياس على أصله أن يحاص الغرماء بكراء ما مضى ويأخذ داره ولا يكون له أن يسلمها ويحاص الغرماء بجميع الكراء؛ ولو لم يشترط في الكراء النقد، ولا كان للعرف فيها النقد، لوجب على المذهب المتقدم- إذا حاص- أن يوقف ما وجب له في المحاصة؛ فكلما سكن شيئا أخذ بقدره من ذلك؛ وأما ما يمكنه دفع العوض ويلزمه كرأس مال السلم إذا فلس المسلم إليه قبل دفع رأس المال، ففي كتاب ابن المواز يلزمه أن يدفعه ويحاص به الغرماء ولا يكون أحق به، إذ ليس برهن، وهذا على قول أشهب في المدونة: إنه لا سبيل له على العيش،(2/329)
وهو فيه أسوة الغرماء وفي قوله إذ ليس برهن نظر؛ لأن بالتفليس يحل ما على المفلس،. فإذا حل بالتفليس كان للمسلم أن يمسك رأس المال- إن كان لم يدفعه على ما قالوا في الكالئ إذا حل قبل البناء: إن للزوجة أن تمنعه من الدخول حتى تقبضه، وفي ذلك اختلاف؛ وأما على قول ابن القاسم الذي يرى أنه أحق بالعين في التفليس، فيكون له أن يمسكه ولا يلزمه أن يدفعه ويحاص الغرماء، ولو كان رأس مال السلم عرضا، لكان له أن يمسكه على قوليهما جميعا.
فصل وأما ما يمكنه دفع العوض ولا يلزمه- كالسلعة إذا باعها ففلس المبتاع قبل أن يدفعها إليه البائع، فهو بالخيار بين أن يمسك سلعته أو يسلمها ويحاص الغرماء بثمنها، ولا خلاف في هذا الوجه.
فصل وأما الوجه الخامس وهو ألا يكون إليه تعجيل دفع العوض فذلك مثل أن يسلم الرجل إلى الرجل دنانير في عروض إلى أجل فيفلس المسلم قبل أن يدفع رأس المال وقبل أن يحل أجل المسلم، فإن رضي المسلم إليه أن يعجل العروض ويحاص الغرماء برأس مال المسلم، فذلك جائز إن رضي بذلك الغرماء؛ وإن أبى ذلك أحدهم حاص الغرماء برأس المال الواجب له فيما وجد الغريم من مال، وفي العروض التي عليه إذا حلت، وإن شاءوا أن يبيعوها بالنقد ويتحاصوا فيها الآن، كان ذلك لهم؛ وأما إن فلس المسلم بعد حلول السلم على المسلم إليه، فهو برأس المال أسوة الغرماء فيما حل عليه من السلم، وله أن يمسكه ويكون أحق به على مذهب ابن القاسم - وإن لم يكن بيده رهنا ويكون ذلك على مذهب أشهب الذي جعله كالرهن - وإن كان لم يرتهنه منه. وأما إن فلس بعد دفع السلم(2/330)
- وهو قائم- فيجري ذلك أيضا على اختلاف قول ابن القاسم وأشهب في العين: هل يكون أحق به من الغرماء أم لا.
فصل ولا يخرج على هذا التقسيم الذي قسمناه إلا الحكم في مهور الزوجات، فإن المحاصة بها واجبة وإن لم يقتض العوض- أعني إذا فلس الزوج قبل الدخول، ولا خيار للمرأة في نفسها كما يخير بائع السلعة في سلعته إذا فلس المبتاع قبل أن يدفعها- لوجهين:
أحدهما: أن النكاح قد انعقد ولا خيار للمرأة في حله، إذ ليس بيدها طلاق.
والثاني: أن الصداق ليس بعوض للبضع على الحقيقة، وإنما هو نحلة من الله تعالى للزوجات، أوجبه لهن على أزواجهن بالعقد هذا الصحيح من الأقاويل، بدليل وجوب جميعه بالموت قبل الدخول، وقد كان يجب ألا تحاص إلا بالنصف على قياس قول من يقول: إنه لا يجب للمرأة بالعقد إلا نصف الصداق، لكنه قول ضعيف لا يعضده نظر، والصحيح أن الصداق يجب جميعه بالعقد، إلا أنه يجب وجوبا غير مستقر، ولا يستقر جميعه إلا بالموت أو الدخول.
فصل فإن حاصت المرأة زوجها بجميع الصداق قبل الدخول ثم طلقها الزوج، فقيل: إنها ترد ما زاد على النصف- إن صار لها في المحاصة-، أكثر من(2/331)
النصف، وقيل إنها تحاص الآن بالنصف، فيكون لها نصف ما صار لها بالمحاصة وترد نصفه وهو قول ابن القاسم، والأول قول ابن دينار.
فصل وأما إن طلقها قبل التفليس- ولم تقبض من صداقها شيئا، فإنما تحاص- بالنصف الواجب لها، فإن كانت قد قبضت جميعه، كان لها منه النصف وردت الباقي، وكان للزوج محاصة الغرماء به إن كان عليها دين، وإن كانت قد قبضت النصف ثم فلس زوجها فطلقها بعد التفليس: فقيل: إنها لا ترد منه شيئا، وهو قول ابن كنانة، وابن الماجشون وأصبغ، وقيل: إنما يكون لها منه النصف، وترد النصف وتحاص به الغرماء وهو مذهب ابن القاسم، قال ابن المواز: وأما إن طلقها قبل التفليس- وهو قائم الوجه ثم فلس فلا ترد شيئا؛ لأنه قد وجب لها ما أخذت واستحقته قبل فلسه، وهذا الذي قاله ابن المواز صحيح، إلا أن يكون النصف الذي دفع معجلا والنصف الباقي مؤجلا، فيجب عليها أن ترد نصف ما قبضت، وإن طلقها قبل التفليس وهو قائم الوجه ما. لم يتناجزا في ذلك ويرضى الزوج بترك الرجوع عليها؛ لأن من حقه أن يرجع عليها بنصف المعجل الذي دفع إليها ويبقى عليه نصف المؤجل إلى أجله.
فصل وأما إن دفع إليها نصف الصداق بعد الطلاق فلا ترد منه شيئا؛ لأنه لم يدفعه إليها إلا على أنه الواجب عليه.(2/332)
فصل وأما ما كان من الحقوق الواجبة في الذمة على غير عوض فإنها تنقسم على قسمين:
أحدهما: أن تكون واجبة بالشرع من غير أن تلتزم.
والثاني: ألا تجب بالشرع إلا أن تلتزم.
فأما ما كان منها غير واجبة بالشرع إلا أن تلتزم كالهبات والصدقات والنحل التي لم تنعقد عليها الأنكحة، فلا اختلاف أن المحاصة لا تجب بها؛ لأن الفلس يبطلها كما يبطلها الموت.
فصل وأما النحل التي تنعقد عليها الأنكحة وحمل أثمان السلع في عقود البيع، وحمل الصدقات في عقود الأنكحة والحمالات بالأثمان في عقود البيع، فالمحاصة بها واجبة؛ لأنها لزمت على عوض وفي النحل التي تنعقد عليها الأنكحة اختلاف، وكذلك اختلف أيضا في حمل الثمن بعد العقد وفي حمل الصداق بعد العقد: فقيل: إن المحاصة بها واجبة؛ لأن المحمول له ترك اتباع ذمة غريمه من أجل ذلك فأشبه العوض، وقيل: إن المحاصة بها غير واجبة، لأنها خرجت على غير عوض وهذا الاختلاف يجب أن يدخل في الحمالة بعد عقد البيع وإن كان الموجود لهم لزوم ذلك في الحياة وبعد الممات، ووجوب المحاصة به.
فصل وأما ما كان منها واجبا بالشرع دون أن يلتزم كنفقة الآباء والأبناء وما تحمله العاقلة من الدية، فاختلف فيه على قولين:(2/333)
أحدهما: أن المحاصة لا تجب بها، والثاني أن المحاصة تجب بها- إذا ألزمت بحكم من السلطان وهو قول أشهب، والأول قول ابن القاسم.
[فصل في معرفة ما يكون الغريم أحق به من الغرماء في الموت والفلس]
فصل
وأما الفصل السادس: وهو معرفة ما يكون الغريم أحق به من الغرماء في الموت والفلس، أو في الفلس دون الموت - مما لا يكون أحق به في شيء من ذلك ويحاص الغرماء؛ فتحصيله أن الأشياء المبيعة بالدين تنقسم في التفليس على ثلاثة أقسام: عرض يتعين، وعين اختلف هل يتعين أو لا يتعين، وعمل لا يتعين، فأما العرض فإن كان في يد بائعه لم يسلمه حتى فلس المشتري، فهو أحق به في الموت- والفلس جميعا؛ لأنه كالرهن بيده، وهذا ما لا خلاف فيه؛ وإن كان قد دفعه إلى المشتري ثم فلس وهو قائم بيده، فهو أحق به من الغرماء في الفلس دون الموت- عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه- على ما وردت به السنة الثابتة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا، فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء» خلافا لأبي حنيفة في قوله: إنه أسوة الغرماء في الموت والفلس جميعا، وخلافا للشافعي في قوله: إنه أحق بسلعته في الفلس والموت جميعا؛ وله عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يترك سلعته ويحاص الغرماء؛ وإن أراد أخذ سلعته، فللغرماء أن يفتكوها منه بالثمن.
قال ابن الماجشون: من مال الغريم أو من أموالهم، وقال ابن كنانة ليس لهم أن يدفعوا إليه الثمن من أموالهم، وإنما لهم أن يبدوه به من مال الغريم المفلس وقال أشهب: ليس لهم أن يأخذوها إلا أن يزيدوا على الثمن زيادة يحطونها عن المفلس من دينهم، خلافا للشافعي في قوله: إنه لا خيار للغرماء في شيء من ذلك.(2/334)
فصل فإن كان قد قبض بعض الثمن ووجد سلعته قائمة، فهو بالخيار بين أن يرد ما قبض ويأخذ سلعته، أو يتركها ويحاص الغرماء بما بقي له من حقه، خلافا للشافعي في قوله: إنه ليس له أن يرد إنما يكون له من السلع بقدر ما بقي له من ثمنها - إن أراد أن يأخذها، وخلافا لأهل الظاهر في قولهم: إنه إذا قبض شيئا من الثمن فهو أسوة الغرماء تعلقا، بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحديث: «ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فهو أحق به» قالوا: ففي هذا دليل أنه إذا قبض من الثمن شيئا فلا حق له فيها، وهو أسوة الغرماء، وليس كما قالوا لاحتمال الكلام من الدليل غير ما قالوا.
فصل وكذلك ما أشبه البيع من جميع وجوه المعاوضات كالهبة للثواب، أو الرد بالعيب على مذهب من يرى أنه ابتداء بيع- أعني إذا رد السلعة بعيب ففلس البائع قبل أن يرد إليه الثمن فوجد المبتاع السلعة قائمة بيد البائع المفلس؛ فإنه يكون أحق بها من الغرماء إن شاء على القول بأن الرد بالعيب ابتداء ببيع، وأما على القول بأنه نقض بيع، فلا يكون له إليها سبيل، وإنما يكون أحق بالثمن الذي دفع إن وجده بعينه في الموت والفلس جميعا، لانتقاض البيع ووجوب رد عين ماله؛ وأما إن لم يجده بعينه، فهو به أسوة الغرماء على القولين جميعا؛ وقد اختلف على القول بأن الرد بالعيب نقض بيع؛ هل يكون المبتاع أحق بالسلعة حتى يستوفي الثمن إذا فلس البائع قبل أن يردها عليه على قولين؛ وأما على القول بأنه ابتداء بيع، فيكون أحق به قولا واحدا، وكذلك اختلف أيضا فيمن اشترى سلعة بيعا فاسدا ففلس البائع قبل أن يردها عليه المبتاع: هل يكون أحق بها حتى يستوفي(2/335)
ثمنها أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يكون أحق بها وهو قول سحنون.
والثاني أنه لا يكون أحق بها وهو قول ابن المواز.
والثالث: أنه إن كان ابتاعها بنقد، فهو أحق بها؛ وإن كان ابتاعها بدين فلا يكون أحق بها- وهو أسوة الغرماء، وهو قول ابن الماجشون ولا اختلاف بينهم أنه إن وجد الثمن الذي دفعه بعينه أنه أحق به في الموت والفلس جميعا وكذلك من اشترى سلعة بسلعة فاستحقت السلعة التي قبض كان أحق بالسلعة التي دفع- إن وجدها بعينها في الموت والفلس جميعا- قولا واحدا؛ - وكذلك من تزوج امرأة بسلعة بعينها فدفعها إليها ففلست ثم طلقها قبل الدخول أو ألفي النكاح مفسوخا، فهو أحق بجميع السلعة- إن وجد النكاح مفسوخا، أو بنصفها إن كان طلقها وأدركها قائمة بعينها في الموت والفلس جميعا- قولا واحدا.
فصل وإن كان دفعه إلى المشتري ثم فلس بعد أن فات بيده أو لم يعرف بعينه فهو أسوة الغرماء، والقول بما يفوت به مما لا يفوت مسطور في كتاب العلماء منهم ابن حبيب وغيره- وهو يتعين بأحد وجهين: إما ببينة تقوم عليه، وإما بإقرار المفلس به قبل التفليس؛ واختلف إذا لم يقر به إلا بعد التفليس على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن قوله مقبول قيل: مع يمين صاحب السلعة، وقيل: دون يمين، وقيل: إن قوله غير مقبول ويحلف الغرماء أنهم لا يعلمون أنها سلعته، وقيل: إن كانت(2/336)
على الأصل بينة قبل قوله- في تعيينها، وإلا لم يقبل؛ وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم. وأما العين فهو أحق به أيضا في الموت والفلس ما كان بيده.
واختلف إذا دفعه إلى من بايعه فيه ففلس أو مات- وهو قائم بيده يعرف بعينه: فقيل: إنه أحق به كالعرض في الفلس دون الموت- وهو قول ابن القاسم وقيل: إنه لا سبيل له عليه وهو أسوة الغرماء- وهو قول أشهب، والقولان جاريان على الاختلاف في تعين العين؛ وأما إن لم يعرف بعينه، فهو أسوة الغرماء في الموت والفلس جميعا.
فصل وأما العمل الذي لا يتعين، فإن أفلس المستأجر قبل أن يستوفي عمل الأجير، كان الأجير أحق بما عليه من العمل في الموت والفلس جميعا وانتقضت الإجارة كالسلعة إذا كانت بيد البائع؛ وإن كان فلسه بعد أن استوفى عمل الأجير، فالأجير أسوة الغرماء بأجرته التي شارطه عليها في الموت والفلس جميعا، إلا أن لا تكون بيده السلعة التي استؤجر على عملها كالصانع يستأجر على خياطة الثوب أو صياغة الحلي فيفلس صاحب الثوب بعد أن عمل الصانع العمل والثوب والحلي بيده لم يسلمه بعد، فيكون أحق بذلك في الموت والفلس جميعا؛ لأنه كالرهن بيده، فإن أسلمه كان أسوة الغرماء بعلمه، إلا أن يكون له فيها شيء أخرجه، فهو أحق به في الفلس دون الموت- على ما ثبت في الأمهات من وجه العمل في ذلك، وكذلك المكتري يفلس وقد حمل المكري ما استحمل إياه من المتاع على إبله ودوابه، فهو أحق بالمتاع حتى يستوفي كراءه في الموت والفلس جميعا لكنه(2/337)
قابض للمتاع، لكونه على ظهور دوابه؛ وإن لم يكن معها وكان قد أسلمها إلى المكتري فهو كالرهن بيده ما لم يقبض الكراء فيحوز رب المتاع متاعه ويقبض هو دوابه، وكذلك السفينة وهذا بين في العتبية أنه إنما يكون أحق بالمتاع ما كان في سفينته، أو على ظهور دوابه، وقد تأول أحمد بن خالد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما في المدونة أنه أحق بالمتاع أبدا، وإن قبضه ربه وفارق ظهور الدواب لتعليله فيها من أجل أنه إنما بلغ الموضع على دوابه وهو بعيد في المعنى غير جار على قياس.
فصل فلا خلاف في مذهبنا أن البائع أحق بها كان بيده في الموت والفلس جميعا، وأنه أحق بما أسلمه فألفاه قائما في الفلس دون الموت، وأنه أسوة الغرماء في الموت والفلس فيما لم يكن بيده، ولا ألفاه عند المبتاع قائما يعرف بعينه؛ وما يوجد من الخلاف في بعض المسائل، فليس بخلاف لما قسمناه وأحكمناه، وإنما وقع الخلاف بينهم فيها، لاختلافهم من أي قسم هو منها، فمن تأول أن ذلك بيده، رآه أحق به في الموت والفلس ومن تأول أن ذلك قد خرج من يده- وهو قائم- رآه أحق به في الفلس دون الموت، ومن تأول أن ذلك قد خرج من يده وليس بقائم عند المبتاع، رآه أسوة الغرماء في الموت والفلس جميعا، وذلك كمسألة من استؤجر على سقي حائط، فسقاه حتى أثمر ثم فلس؛ قال في المدونة: إنه أحق بالثمرة في الفلس دون الموت؛ وروى أصبغ أنه أحق في الموت والفلس؛ والأظهر أنه أسوة الغرماء في الموت والفلس وكذلك اختلف أيضا فيمن اكترى أرضا فزرعها ثم فلس، ولتوجيه كل قول منها وتخريجه على المعنى الذي ذكرته، مكان غير هذا والله ولي التوفيق.(2/338)
[كتاب المأذون له في التجارة]
قال الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75]- فوصف الله تعالى العبد بالعجز وعدم القدرة، وجعله بخلاف الحر في بسط يده بالإنفاق فيما رزق من المال؛ فدل ذلك على أن أمر العبيد في الأموال مخالف لأمر الأحرار، وإن ملكهم لأموالهم ناقص عن ملك الأحرار، وأن لساداتهم التحجير عليهم في أموالهم بحق ملك رقابهم، فلا يجوز للعبد في ماله صنع إلا بأمر سيده، وهو له ملك حتى ينتزعه منه؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من باع عبدا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» . فأضاف المال إلى العبد إضافة الملك بقوله: وله من مال؛ لأن هذه اللام لام الملك؛ فإذا أضيف بها المال إلى من يصح منه الملك، دل ذلك على وجوب الملك له، ولم يصح أن يحمل على المجاز؛ لأن الكلام لا يخرج على الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل؛ ومن الدليل على أن العبد يملك، قول الله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] ومحال أن يصف الله بالفقر والغنى من لا يملك- وهذا بين.(2/339)
فصل فالعبد يملك على مذهب مالك ما ملكه سيده أو ملكه غيره، ما لم ينتزعه منه سيده، فملكه لماله ليس كملك الحر الذي لا يحل لأحد أن يأخذ شيئا من ماله إلا عن طيب نفسه؛ إلا أنه مال له على مذهبه يجوز له أن يتسرى فيه إذا أذن له سيده، ويطأ بملك يمينه- ولو لم يكن عنده ماله لم يجز له أن يطأ بملك يمينه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يبح الفرج إلا بالنكاح، أو ملك اليمين، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وعلى هذا أسقط الزكاة عن السيد في مال عبده وقال: إنه إذا حلف بعتق عبيده فحنث لا يعتق عليه عبيد عبيده؛ فهذا أصل مذهبه.
وأما قوله: إن العبد إذا ملك من يعتق على سيده يعتق عليه. وقوله: إن الرجل إذا حلف ألا يركب دابة رجل فركب دابة عبده أنه حانث؛ فقد حمل بعض الناس ذلك على أنه اضطراب من قوله في أن العبد يملك، وجريان منه على غير أصله في ذلك، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه إنما حنثه في ركوب دابة عبده، من أجل أنه لا يجوز له ركوبها- وإن أذن له العبد إلا بإذن سيده؛ والحنث يقع بأقل الوجوه؛ وإنما قال: إنه يعتق عليه من ملك العبد ممن يعتق عليه من أجل أنه يملك انتزاعهم منه، فلما كان يملك انتزاعهم عتقوا عليه، إذ لو انتزعهم لعتقوا عليه بإجماع، فيجري ذلك على الاختلاف في الرجل يشتري من يعتق عليه على أنه فيه بالخيار ولا يدخل الاختلاف على هذا في الزكاة في مال العبد، ولا في عتق عبيد عبيده بالحنث؛ لأن الحنث والزكاة قد وجبا قبل الانتزاع، فلا يلزم بالانتزاع شيء وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن العبد لا يملك شيئا بحال من الأحوال، فكل ما بيده من مال على مذهبهم، فإنما هو للسيد فلم يجيزوا له(2/340)
التسري بوجه من الوجوه ولا يحل له عندهم وطء فرج إلا بنكاح يأذن له سيده فيه، واستدلوا على ذلك بالإجماع على أن لسيده أن ينتزع منه كل ما له من المال من كسبه وغير كسبه، وبالإجماع على أنه لا يرث قرابته، قالوا فلما أجمعوا أن للسيد أن ينتزع مال عبده، دل ذلك على أنه كان لا يملكه، إذ لو كان يملكه لما صح له انتزاعه منه كما لا ينتزع الرجل مال مكاتبه؛ قالوا أيضا: ولما أجمعوا أن العبد لا يرث، دل على أن ما يحصل بيده من مال، إنما هو لسيده، وأنه لا يملكه؛ وحملوا إضافة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المال إلى العبد في قوله: «من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» - على المجاز، كما يقال: غنم الراعي، وسرج الدابة، وباب الدار، وهذا كله لا يصح.
فأما احتجاجهم بالإجماع على أن للسيد أن ينتزع مال عبده، فلا حجة لهم فيه؛ لأن الإجماع لا يتناول موضع الخلاف، إذ الخلاف بيننا وبينهم إنما هو قبل الانتزاع، وكذلك احتجاجهم بالإجماع على أن العبد لا يرث لا حجة لهم فيه؛ إذ لا يسلم لهم أن العلة في منع ميراث العبد أنه لا يملك، فلا يصح لهم ما استدلوا به إلا بعد إقامة الدليل على صحة العلة، ولا دليل لهم على صحتها إلا غالب ظنهم، إذ ليس في الكتاب ولا في السنة نص ولا تنبيه على أنها هي العلة، ولا أجمعت الأمة على ذلك، فليسوا بأسعد ممن يقول: إن العلة في ذلك عدم استقرار ملك العبيد على أموالهم.
فصل فالعبد محجور عليه في ماله لا يجوز له فيه فعل بغير إذن سيده، ولا يجوز له أن يتجر إلا أن يأذن له سيده في التجارة؛ فإن أذن له فيها جاز له أن يتجر بالدين(2/341)
والنقد- وإن لم يأذن له في التجارة بالدين ولزمه ما داين به في جميع أنواع التجارات؛ وإن لم يأذن له إلا في نوع واحد منها على مذهب ابن القاسم في المدونة، إذ لا فرق بين أن يحجر عليه في التجارة بالدين، أو يحجر عليه في التجارة في نوع من الأنواع؛ وهو قول أصبغ في التحجير في الدين؛ وذهب سحنون إلى أنه ليس له أن يتجر بالدين إذا حجر عليه في التجارة به، وكذلك يلزم على قوله إذا حجر عليه في التجارة في نوع من الأنواع، إلا أن يشهر ذلك ويعلنه في الوجهين جميعا، فلا يلزمه. قاله بعض شيوخ صقلية، وهو صحيح في المعنى، قائم من المدونة والعتبية بدليل؛ ولا يجوز له في ماله معروف إلا ما جر إلى التجارة؛ فأما هبته وصدقته وعتقه، فموقوف على إجازة السيد، أو رده، فإن لم يعلم بذلك حتى يعتق مضى ولزم ذلك العبد ولم يكن للسيد أن يرده.
فصل ومما يشبه هذا عتق المرأة ذات الزوج وهبتها وصدقتها فيما زاد على الثلث بغير إذن زوجها، وعتق المديان بغير إذن غرمائه، وعتق السفيه بغير إذن وليه أو بإذنه؛ فأما الغريم فينفذ عليه العتق والصدقة إن بقي ذلك بيده إلى أن ارتفعت علة المنع بزوال الدين، وإن كان قد أخرج ذلك من يده قبل زوال الدين ببيع أو ما أشبه ذلك، نفذ ولم يلزمه شيء، وسواء في هذا- كان السلطان قد رد العتق أو لم يرده؛ لأن رد السلطان ليس برد للعتق وإنما هو توقيف إلى أن يكشف حال الغريم؛ وأما الزوجة فالمعلوم من قول مالك وأصحابه أنه إذا لم يعلم الزوج أو علم ولم يقض برد ولا إجازة حتى مات عنها أو طلقها، أن ذلك لازم لها، وانظر وإن كانت قد فوتت ذلك من يدها قبل زوال العصمة ببيع أو هبة، هل ينقض البيع والهبة وينفذ عليها العتق والصدقة أم لا؛ ففي كتاب الاعتكاف من المدونة أن الأمة لا تلزمها الصدقة بعد العتق إلا أن يكون المال بيدها، وقد يمكن أن يفرق بين المسألتين فيقال: إن العتق والصدقة يلزمها كان المال بيدها أو لم يكن- إذا لم يرد الزوج حتى زالت العصمة؛ لأن تحجير السيد على عبده، أقوى من تحجير الزوج على امرأته؛ ومسألة كتاب الاعتكاف ليس فيها بيان أن ذلك كان قبل الرد- وهذا هو المعنى(2/342)
فيها؛ ومن تأول أن معنى ذلك بعد الرد فلا يصح، لأن المعلوم من قولهم في الزوجة أن الصدقة والهبة لا تلزمها بعد زوال العصمة- وإن بقي المال بيدها، إذا كان الزوج قد رده وإنما اختلفوا في العتق على ما سنذكره، وهذا أحرى أن لا يختلف فيه، لقوة تحجير السيد على عبده، وقد كان يجب في الزوجة ألا يلزمها العتق والصدقة على مذهب من يرى أفعالها فيما زاد على الثلث على الرد- حتى يجيزه الزوج، وإن بقي المال بيدها لم تفوته حتى مات عنها أو طلقها قبل أن يعلم بذلك، أو قبل أن يرده إن كان قد علم- وقد رأيت ذلك لبعض أصحاب مالك؛ فإن رد الزوج ذلك، وبقي المال بيدها لم تفوته- إلى أن زالت العصمة، لم يلزمها شيء في الهبة والصدقة؛ وأما العتق، فاختلف فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يلزمها إنفاذه بفتيا ولا قضاء- وهو قول أشهب.
والثاني: أنه يلزمها ذلك بالقضاء - وهو قول ابن الماجشون ومطرف.
والثالث: أنها تؤمر بذلك- ولا يقضى عليها به وهو مذهب ابن القاسم. واختلف إذا لم يعلم الزوج حتى ماتت هل له أن يرد ذلك بعد الموت أم لا؟ على قولين منصوص عليهما في المذهب جاريين على الاختلاف في فعلها هل هو على الجواز- حتى يرد؛ أو على الرد حتى يجاز؟ وأما العبد فيما وهب أو أعتق، فإذا لم يعلم السيد بذلك، أو علم فلم يقض فيه برد ولا إجازة حتى عتق العبد- والمال بيده، فإن ذلك لازم له، ولا أعلم في هذا نص خلاف، وهو دليل على أن فعله على الإجازة- حتى يرد وهو القياس على ما أوضحناه من صحة ملكه على مذهب مالك، إلا أن الاختلاف الذي حكيناه عن بعض أصحاب مالك في الزوجة على ضعفه- داخل في العبد بالمعنى.
فصل فإن فوت العبد المال في يده قبل أن يعتق ببيع أو هبة، بطلت الصدقة والعتق - قاله في الصدقة في كتاب الاعتكاف؛ والعتق مقيس عليه إلا أن يفرق بينهما(2/343)
مفرق، بحرمة العتق- وهو بعيد، فإن رد السيد ذلك وبقي المال بيده لم يفوته إلى أن أعتق، لم يلزمه شيء قاله في المدونة في الهبة والصدقة، والعتق مقيس على ذلك لا يدخل فيه من الاختلاف ما يدخل في الزوجة- والله أعلم؛ وأما السفيه فلا يلزمه بعد أن ولي نفسه إنفاذ ذلك، كان الولي قد رده أو لم يرده، واختلف إن كان ذلك بيمين فحنث فيها بعد ولاية نفسه، واختلف أيضا إن لم يعلم بذلك حتى مات هل للورثة رد ذلك على قولين- حكاهما ابن حبيب في الواضحة.
فصل فلا يصح للإنسان التصرف في ماله إلا بأربعة أوصاف، وهي: البلوغ، والحرية، وكمال العقل، وبلوغ الرشد؛ فأما اشتراط الحرية في ذلك، فإن العبد لا يملك ماله ملكا مستقرا، إذ لسيده انتزاعه منه، فهو محجور عليه فيه بحق الملك- وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى.
وأما الرشد فلأن الله تبارك وتعالى جعل الأموال قوام العيش وسببا للحياة وصلاحا للدين والدنيا، ونهى عن إضاعتها وتبذيرها في غير وجوهها، نظرا منه لعباده ورأفة بهم، فقال: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]- وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] ، وأمرنا ألا نمكن منها السفهاء حراسة لها من أن تبذر وتنفق في غير وجوهها- فقال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 5] ، وقال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . وأما اشتراط البلوغ وكمال العقل في ذلك،(2/344)
فلأنهما جميعا مشترطان في صحة الرشد وكماله؛ إذ لا يصح رشد من صبي لضعف ميزه بوجوه منافعه، ولا من مجنون لسقوط ميزه وذهاب رأيه؛ فوجب الاحتياط للأموال وقطع مادة الضرر عنها بأن يمنع من التصرف فيها من ليس بأهل التصرف فيها، ويحجر عليه فيها ويحال بينه وبينها- خشية الإضاعة لها امتثالا لأمر الله فيها.
فصل فأما البلوغ فحده الاحتلام في الرجل، والحيض في النساء أو أن يبلغ أحدهما من السن أقصى سن من لا يحتلم، واختلف فيه من خمسة عشر عاما إلى ثمانية عشر عاما، واختلف قول مالك فيمن وجب عليه حد وقد أنبت ولم يبلغ أقصى سن من لا يحتلم، فادعى أنه لم يحتلم، هل يصدق فيما ادعاه أو يقام عليه الحد بما ظهر من إنباته على قولين، الأصح منهما تصديقه وألا يقام عليه الحد بشك في احتلامه؛ ولا اختلاف- عندي أنه لا يعتبر بالإنبات فيما بينه وبين الله تعالى من الأحكام؛ وأما العقل، فمحله القلب، وحده: علوم يتميز من وصف بها من البهيمة والمجنون، وهي كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الضدين لا يجتمعان، وأن الجزءين لا بد أن يكونا مجتمعين أو مفترقين، وأن السماء فوقنا والأرض تحتنا، وما أشبه ذلك.
فصل فحد البلوغ وكمال العقل بينان تدرك معرفتهما بأدنى حظ من النظر والاستدلال، وأما الرشد فحده حسن النظر في المال ووضع الأمور في مواضعها، واختلف هل من شرط كماله الصلاح في الدين أم لا؟ - على قولين، وهو مما يخفى ولا يدرك معرفته إلا بطول الاختبار في المال والتجربة له فيه، ولهذا المعنى وقع(2/345)
الاختلاف بين أهل العلم في الحد الذي يحكم للإنسان فيه بحكم الرشد ويدفع إليه ماله ويمكن من التصرف فيه.
فصل والاختلاف في هذا إنما هو على حسب الأحوال وهي تنقسم على أربعة أقسام، حال الأغلب من صاحبها السفه، فيحكم له فيها بحكمه وإن ظهر رشده. وحال الأغلب من صاحبها الرشد، فيحكم له فيها بحكمه- وإن علم سفهه. وحال محتملة للرشد والسفه، والأظهر فيها السفه؛ فيحكم له بحكم ما لم يظهر رشده؛ وحال محتملة أيضا للرشد والسفه، والأظهر من صاحبها الرشد فيحكم له فيها بحكمه ما لم يظهر سفهه على اختلاف كثير بين أصحابنا في بعض هذه الأقسام.
فصل فأما الحال التي يحكم له فيها بحكم السفه- وإن ظهر رشده - فمنها حال الصغر، لا اختلاف بين مالك وأصحابه أن الصغير الذي لم يبلغ الحلم من الرجال والمحيض من النساء، لا يجوز له في ماله معروف من هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق- وإن أذن له في ذلك الأب أو الوصي- إن كان ذا أب أو وصي، وإن باع أو اشترى أو فعل ما يشبه البيع والشراء مما يخرج على عوض ولا يقصد فيه إلى فعل معروف، كان موقوفا على نظر وليه- إن كان له ولي، فإن رآه سدادا وغبطة أجازه وأنفذه، وإن رآه بخلاف ذلك رده وأبطله، وإن لم يكن له ولي قدم له ولي ينظر له في ذلك بوجه النظر والاجتهاد، وإن غفل عن ذلك حتى يلي أمره كان النظر إليه في إجازة إنفاذ ذلك أو رده.
واختلف إذا كان فعله سدادا ونظرا مما كان يلزم الولي أن يفعله: هل له أن يرده وينقضه إن آل الأمر إلى خلاف ذلك بحوالة الأسواق أو نماء فيما باعه أو نقصان فيما ابتاعه، أو ما يشبه ذلك، فالمشهور المعلوم في المذهب أن ذلك له، وقيل: إن ذلك ليس له وهو الذي يأتي على ما وقع لأصبغ في(2/346)
الخمسة، وعلى رواية يحيى في كتاب التخيير والتمليك- خلاف ما يقوم مما وقع لأصبغ في نوازله من كتاب المديان والتفليس، ويلزمه ما أفسد وكسر في ماله مما لم يؤتمن عليه؛ واختلف فيما أفسد وكسر مما أؤتمن عليه، ولا يلزمه بعد بلوغه ورشده عتق ما حلف بحريته وحنث به في حال صغره، واختلف فيما حلف به في حال صغره، وحنث به في حال رشده، فالمشهور أنه لا يلزمه؛ وقال ابن كنانة: ذاك يلزمه ولا يلزمه يمين فيما ادعي عليه فيه واختلف إذا كان له شاهد واحد هل يحلف مع شاهده لم لا؟ فالمشهور أنه لا يحلف ويحلف المدعى عليه، فإن نكل غرم- ولم يكن على الصغير يمين- إذا بلغ، وإن حلف برئ- إلى بلوغ الصغير فإذا بلغ حلف وأخذ حقه، وإن نكل لم يكن له شيء، ولا يحلف المدعى عليه ثانية، وقد روي عن مالك والليث أنه يحلف مع شاهده ولا شيء عليه فيما بينه وبين الله من الحقوق والأحكام؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث» - فذكر فيهم الصبي حتى يحتلم.
فصل ومنها حال البكر ذات الأب والوصي ما لم تعنس على مذهب من يعتبر تعنيسها، وقد اختلف في حده على ما سنذكره بعد- إن شاء الله- أو ما لم تتزوج ويدخل بها زوجها- على مذهب من لا يعتبر تعنيسها؛ ومنها حال من تثبت عليه ولاية من قبل الأب أو من قبل السلطان حتى تطلق منها على قول مالك وكبراء أصحابه- خلافا لابن القاسم.
فصل وأما الحال التي يحكم له فيها بحكم السفه- ما لم يظهر رشده، فمنها..(2/347)
حال الابن بعد بلوغه في حياة الأب على المذهب. وحال البكر ذات الأب أو اليتيمة التي لا وصي لها- إذا تزوجت ودخل بها زوجها من غير حد، ولا تفرقة بين ذات الأب واليتيمة على رواية ابن القاسم عن مالك، خلافا لمن حد في ذلك حدا، أو فرق بين ذات الأب واليتيمة- على ما سنذكره- إن شاء الله.
فصل وأما الحال التي يحكم له فيها بحكم الرشد ما لم يظهر سفهه، فمنها حال البكر المعنس على مذهب من يعتبر تعنيسها، واختلف في حده أو التي دخل بها زوجها ومضى لدخوله بها العام أو العامان أو السبعة الأعوام على الاختلاف في الحد المؤقت في ذلك بين من وقته، أو حال الابن ذي الأب بعد بلوغه، والابنة ذات الأب بعد بلوغها على رواية زياد عن مالك.
فصل ولا يخرج عن هذا التفصيل الذي فصلناه وقسمناه إلى أربعة أقسام - شيء من الاختلاف الحاصل ببين أصحابنا في هذا الباب، وأنا أذكر من ذلك ما حضر لي حفظه بالاختصار- ما أقدر عليه- إن شاء الله تعالى؛ وأما الابن فهو في ولاية أبيه ما دام صغيرا لا يجوز له فعل إلا بإذنه، ولا هبة ولا صدقة؛ وإن كان ذلك بإذنه، فإذا بلغ فلا يخلو أمره من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون معلوم الرشد.
والثاني: أن يكون معلوم السفه.
والثالث: أن يكون مجهول الحال لا يعلم رشده من سفهه.
فأما إذا كان معلوما بالرشد فأفعاله جائزة ليس للأب أن يرد شيئا منها وإن لم يشهد على إطلاقه من الولاية فقد خرج منها ببلوغه مع ما ظهر من رشده؛ وأما إن(2/348)
كان معلوما بالسفه، فلا يخرجه الاحتلام من ولاية أبيه- وأفعاله كلها مردودة غير جائزة، وأما إن كان مجهول الحال لا يعلم رشده من سفهه، فاختلف فيه على قولين:
أحدهما: أنه محمول على السفه حتى يثبت رشده- وهو نص رواية يحيى عن ابن القاسم في كتاب الصدقات والهبات، قال فيها ليس الاحتلام بالذي يخرجه من ولاية أبيه حتى تعرف حاله ويشهد العدول على صلاح أمره- وهو ظاهر سائر الروايات عنه، وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة وغيرها من ذلك ما وقع في المدونة في الكتاب الأول من النكاح، وفي كتاب الهبة والصدقة، وفي كتاب الجعل والإجارة.
والثاني: أنه محمول على الرشد حتى يثبت سفهه ويخرج بالاحتلام من ولاية أبيه إذا لم يعرف سفهه- وإن لم يعرف رشده، روى ذلك زياد عن مالك وهو ظاهر ما وقع في أول كتاب النكاح من المدونة قوله: إذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء، إلا أن يتأول إن أراد بنفسه لا بماله- كما تأول ابن أبي زيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ واستحسن بعض الشيوخ ألا يخرج من ولاية أبيه حتى يمر به بعد الاحتلام العام ونحوه، وإلى هذا ذهب ابن العطار في وثائقه، على أنه قد اضطرب في ذلك قوله - فذكر أنه لا يجوز للرجل تسفيه ابنه إلا أن يكون معلوما بالسفه ولم يفرق بين قرب ولا بعد، وحكى غيره من الموثقين أن تسفيهه جائز وإن لم يعلم سفهه إذا كان بحرارة بلوغه قبل انقضاء عامين.
فصل فإن مات الأب- وهو صغير وأوصى به إلى أحد، أو قدم عليه السلطان، فلا يخرج من ولاية وصي أبيه أو مقدم السلطان- حتى يخرجه منها الوصي أو السلطان، إن كان الوصي مقدما من قبله، وأفعاله كلها مردودة- وإن علم رشده ما لم يطلق من الحجر، إن هذا قول ابن زرب أن الوصي من قبل القاضي لا يطلق من الولاية إلا بإذن القاضي، وقد قيل: إن إطلاقه من إلى نظره بغير إذن القاضي(2/349)
جائز وإن لم يعرف رشده إلا بقوله، وقيل: لا يجوز إطلاقه إياه بغير إذن القاضي إلا أن يكون معروفا بالرشد، فإذا عقد له بذلك عقدا ضمنه معرفة شهدائه لرشده؛ وأما وصي الأب فإطلاقه جائز- وهو مصدق فيما يذكر من حاله وإن لم يعرف ذلك إلا من قوله؛ وقيل: إن إطلاقه لا يجوز إلا أن يتبين حاله ويعلم رشده، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الوصايا من العتبية.
فصل وقولنا: إن أفعاله كلها مردودة- وإن علم رشده ما لم يطلق من ثقاف الحجر أن الذي لزمه هو المشهور في المذهب المعمول به، وقد قيل: إن حاله مع الوصي كحاله مع الأب، وأنه يخرج من ولايته إذا علم رشده أو جهل حاله على الاختلاف المتقدم، وهو ظاهر ما وقع في كتاب الهبة والصدقة من المدونة؛ قوله فقد منعهم الله من أموالهم مع الأوصياء بعد البلوغ إلا بالرشد، فكيف مع الآباء الذين هم أملك بهم من الأوصياء، وإنما الأوصياء بسبب الآباء؛ ونحوه لابن الماجشون في الواضحة قال: إن البكر إذا عنست أو نكحت جازت أفعالها - كانت ذات أب أو وصي؛ وأما ابن القاسم فمذهبه أن الولاية لا يعتبر ثبوتها إذا علم الرشد، ولا سقوطها إذا علم السفه- أعني في اليتيم لا في البكر؛ وقد روى ابن وهب عن مالك مثل قول ابن القاسم، وروى زونان عن ابن القاسم أن من ثبت عليه ولاية، فلا تجوز أفعاله حتى يطلق منها- وإن ظهر رشده مثل قول مالك وكبار أصحابه.
فصل فإن مات الأب ولم يوص به إلى أحد ولا قدم عليه السلطان وصيا ولا ناظرا، ففي ذلك أربعة أقوال:
أحدها: قول مالك وكبراء أصحابه: إن أفعاله كلها بعد البلوغ جائزة نافذة - رشيدا كان أو سفيها، معلنا بالسفه أو غير معلن به؛ اتصل سفهه من حين بلوغه، أو سفه بعد أن آنس منه الرشد من غير تفصيل في شيء من ذلك.(2/350)
والثاني: قول مطرف وابن الماجشون أنه إن كان متصل السفه من حين بلوغه، فلا يجوز شيء من أفعاله؛ وأما إن سفه بعد أن آنس منه الرشد فأفعاله جائزة عليه ولازمة له ما لم يكن بيعه بيع سفه وخديعة بينة، مثل أن يبيع ثمن ألف دينار بمائة دينار، وما أشبه ذلك؛ فلا يجوز ذلك عليه ولا يتبع بالثمن إن أفسده من غير تفصيل بين أن يكون معلنا بالسفه أو غير معلن به.
والثالث: قول أصبغ إنه إن كان معلنا بالسفه، فأفعاله غير جائزة، وإن لم يكن معلنا به، فأفعاله جائزة من غير تفصيل بين أن يتصل سفهه أو لا يتصل؛ وذهب ابن القاسم إلى أنه ينظر إلى حاله يوم بيعه وابتياعه، فإن كان رشيدا جازت أفعاله، وإن كان سفيها، لم يجز منها شيء من غير تفصيل بين أن يتصل سفهه أو لا يتصل؛ واتفق جميعهم أن أفعاله جائزة لا يرد منها شيء إن جهلت حاله ولم يعلم بسفه ولا رشد.
فصل وأما الابنة البكر فلا اختلاف أيضا بين أصحابنا أن أفعالها مردودة غير جائزة ما لم تبلغ المحيض، فإذا بلغت المحيض لا يخلو أمرها من ثلاثة أحوال:
أحدها: إن تكون ذات أب.
والثاني: أن تكون يتيمة ذات وصي قد أوصى عليها الأب أو السلطان.
والثالث: أن تكون يتيمة لا وصي لها من قبل أبيها ولا مقدما من قبل السلطان.
فأما ذات الأب فاختلف فيها على ثمانية أقوال:(2/351)
أحدها: رواية زياد عن مالك أنها تخرج بالحيض من ولاية أبيها، ومعنى ذلك- عندي- إذا علم رشدها أو جهل حالها؛ وأما إن علم سفهها، فهي باقية في ولايته.
والثاني: قول مالك في الموطأ والمدونة، وفي الواضحة من رواية مطرف عنه أنها في ولاية أبيها حتى تتزوج ويدخل بها زوجها ويعرف من حالها أي يشهد العدول على صلاح أمرها، فهي على قول مالك هذا ما لم تنكح ويدخل بها زوجها في ولايته مردودة أفعالها وإن علم رشدها فإذا دخل بها زوجها حملت على السفه وأقرت في ولايته وردت أفعالها- ما لم يظهر رشدها؛ فإن علم رشدها وظهر حسن حالها، جازت أفعالها وخرجت من ولاية أبيها- وإن كان ذلك بقرب بناء زوجها عليها إلا أن مالكا استحب في رواية مطرف عنه أن يؤخر أمرها العام ونحوه استحبابا من غير إيجاب.
والثالث: أنها في ولاية أبيها ما لم تعنس أو يدخل بها زوجها ويعرف من حالها، فهي على هذه الرواية بعد التعنيس محمولة على الرشد مجوزة أفعالها- ما لم يعلم سفهها- وقبله مردودة أفعالها وإن علم رشدها؛ ولا يخلو إن تزوجت أن يكون دخول زوجها بها قبل حد التعنيس أو بعده، فإن دخل بها قبل حد التعنيس فهي من حين يدخل بها إلى أن تبلغ حد التعنيس محمولة على السفه حتى يتبين رشدها وبعد بلوغها حد التعنيس محمولة على الرشد حتى يتبين سفهها- وإن دخل بها بعد التعنيس، فلا يؤثر دخوله بها في حكمها الذي قد ثبت لها بالتعنيس من كونها محمولة على الرشد حتى يتبين سفهها؛ وقد اختلف في حد تعنيس هذه فقيل أربعون عاما، وقيل من الخمسين إلى الستين وروي عن مالك أن هباتها وصدقاتها وأعطياتها وعتقها جائزة بعد التعنيس- إن أجازها الوالد، معناه إن قال الوالد في المجهولة الحال: إنها رشيدة في أحوالها، إذ التي علم سفهها لا يجوز للوالد إجازة أعطياتها، والتي علم رشدها، لا يجوز للوالد رد أعطياتها، فعلى هذه(2/352)
الرواية لم يحمل المعنسة المجهولة الحال على السفه ولا على الرشد، وأعمل قول الوالد في ذلك، فهذا القول الثالث يتفرع إلى ثلاثة أقوال- على ما بيناه- تتمة خمسة أقوال. والقول السادس أنها في ولاية أبيها حتى تمر بها سنة بعد دخول زوجها بها- وهو قول مطرف في الواضحة، وظاهر قول يحيى بن سعيد في المدونة؛ فعلى هذا القول تكون أفعالها قبل دخول زوجها بها مردودة- وإن علم رشدها وبعد دخول زوجها بها ما بينها وبين انقضاء العام- مردودة. ما لم يعلم رشدها، وبعد انقضاء العام جائزة ما لم يعلم سفهها، ووافقه ابن الماجشون في تحديد السنة وخالفه في تركه الاعتبار بالتعنيس، فرأى أنها إذا عنست وعلم حسن مالها خرجت من ولاية أبيها ووصيها.
والقول السابع: أنها في ولاية أبيها حتى يمر بها عامان- وهو قول ابن نافع في كتاب الصدقات والهبات في العتبية. والقول الثامن أنها في ولاية أبيها حتى يمر بها سبعة أعوام، وهذا القول يعزى إلى ابن القاسم، وبه جرى العمل عندنا؛ وقال ابن أبي زمنين إن الذي أدرك عليه الشيوخ أن تجوز أفعالها وتخرج من ولاية أبيها - إذا مضى لها في بيت زوجها من الستة الأعوام إلى السبعة- ما لم يجدد الأب عليها السفه قبل ذلك؛ وهذا قريب من القول الثامن، فيكون حالها بعد هذا الأمر محمولا على الرشد حتى يعلم خلافه على ما بيناه.
وقول ابن أبي زمنين ما لم يجدد الأب عليها السفه قبل ذلك به كان يفتي القاضي ابن زرب - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإليه ذهب ابن العطار في وثائقه وهو أمر مختلف فيه، كان أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يذهب إلى أن ذلك لا يجوز عليها ولا يلزمها، إلا أن يكون قد تضمن عقد التجديد للسفه معرفة شهدائه لسفهها، وبه كان يفتي أبو عمر بن القطان - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ وهو القياس على مذهب من حد لجواز أفعالها حدا؛ لأنه حملها ببلوغها إليه على الرشد، وأجاز أفعالها فلا يصدق الأب في إبطال هذا الحكم لها بما يدعيه من سفهها، إلا أن يعلم صحة قوله؛ ويتخرج قول ابن أبي زمنين ومن ذهب مذهبه على الرواية التي رويت عن مالك أن عتقها وهباتها وصدقاتها جائزة بعد التعنيس - إن أجازها الوالد وقد تكلمنا على معنى الرواية بما يؤيد تأويلنا هذا فيها.(2/353)
فصل واختلف أيضا المتأخرون من شيوخنا الذين حكموا بأعمال التسفيه عليها في الأب يولي على ابنته بعد دخول زوجها بها وقبل أن تبلغ الحد الذي وقت لجواز أفعالها، ثم تتراخى مدته إلى أن تبلغ ذلك الحد، ثم تموت بعد ذلك، هل يلزمه حكم تلك الولاية الثابتة أم لا على قولين:
فمنهم من رأى أن إيصاءه عليها لازم لها، كتجديد السفه عليها الذي لا تنفك ولا تخرج منه إلا بثبات رشدها بالبينة العادلة.
ومنهم من لم ير ذلك لازما لها بخلاف تجديد السفه عليها، وقالوا مثل ذلك الأب يولي على ابنته وهي بكر ثم يزوجها فتقيم مع زوجها سبع سنين أو أكثر فيموت، أن الإيصاء ساقط عنها؛ واحتجوا أيضا برواية أشهب عن مالك الواقعة في كتاب الوصايا من العتبية، ولم أعلمهم اختلفوا في لزوم الولاية لها إذا أوصى عليها بعد دخول زوجها بها، ثم مات قبل بلوغها الحد الذي وقت لخروجها من ولايته، ولا يبعد دخول الاختلاف في ذلك بالمعنى، وأما من أوصى على ابنته وهي صغيرة أو بكر ثم مات وهي بكر قبل دخول زوجها بها أو بعد دخول زوجها بها قبل مضي المدة المؤقتة لخروجها من ولايته، فالولاية لها لازمة.
فصل وأما إن كانت يتيمة ذات وصي من قبل أبيها أو مقدم من قبل القاضي، فلا تخرج من الولاية- وإن عنست أو تزوجت ودخل بها زوجها وطال زمانها وحسنت حالها- ما لم تطلق من ثقاف الحجر أن الذي لزمها بما يصح إطلاقها منه به، وقد بينا ذلك قبل هذا، هذا هو المشهور في المذهب المعمول به؛ وقد تقدم من قول ابن الماجشون أن حالها مع الوصي، كحالها مع الأب في خروجها من ولايته بالتعنيس أو النكاح- يريد مع طول المدة وتبين الرشد، وهي رواية مطرف، وابن عبد الحكم، وعبد الرحيم - عن مالك.(2/354)
فصل وأما إن كانت يتيمة لم يول عليها بأب ولا وصي، فاختلف فيها على قولين:
أحدهما: أن أفعالها جائزة- إذا بلغت المحيض، وهو قول سحنون في العتبية، وقول غير ابن القاسم في المدونة، ورواية زياد عن مالك.
والثاني: أن أفعالها مردودة ما لم تعنس، واختلفت في حد تعنيس هذه على خمسة أقوال:
أحدها: ثلاثون سنة- وهو قول ابن الماجشون، وقيل أقل من الثلاثين وهو قول ابن نافع.
وقيل أربعون- وهي رواية مطرف عن مالك، وأصبغ عن ابن القاسم.
وقيل من الخمسين إلى الستين، وهي رواية سحنون عن ابن القاسم؛ وفي المدونة لمالك من رواية ابن القاسم عنه- أن أفعالها لا تجوز حتى تعنس وتقعد عن المحيض، أو ما لم تتزوج ويدخل بها زوجها وتقيم معه مدة يحمل أمرها فيها على الرشد، قيل: أقصاها العام. وهو قول ابن الماجشون، وإليه ذهب ابن العطار في وثائقه.
وقيل ثلاثة أعوام ونحوها؛ وقال ابن أبي زمنين إن الذي أدرك الشيوخ عليه ألا تجاز أفعالها حتى يمر بها في بيت زوجها مثل السنتين والثلاث.
فصل قد أتينا بحمد الله على ما شرطنا من بيان الحدود المميزة بين من يجوز(2/355)
فعله ممن لا يجوز في الأبكار وغيرهن، فنرجع الآن إلى ذكر القول في أحكام أفعال من لا تجوز أفعاله من السفهاء البالغين، إذ قد تقدم القول في أحكام أفعال الصبيان؛ فنذكر من ذلك ما أمكن ذكره وحضر حفظه على شرط الإيجاز والاختصار، وترك التطويل والإكثار- إن شاء الله، وهو المستعان.
اعلم- وفقنا الله وإياك أن السفيه البالغ يلزمه جميع حقوق الله التي أوجبها الله على عباده في بدنه وماله، ويلزمه ما وجب في بدنه من حد أو قصاص، ويلزمه الطلاق- كان بيمين حنث فيها أو بغير يمين، وكذلك الظهار وينظر له وليه فيه بوجه النظر، فإن رأى أن يعتق عنه ويمسك عليه زوجته فعل، وإن رأى ألا يعتق عنه - وإن آل ذلك إلى الفراق بينهما، كان ذلك له ولا يجزيه الصيام ولا الإطعام إذا كان له من المال ما يحمل عتق رقبة، وقال محمد بن المواز إذا لم ير له وليه أن يكفر عنه بالعتق فله هو أن يكفر بالصيام.
ولا يطلق عليه في مذهبه إلا بعد أن يضرب له أجل الإيلاء- إذا طلبت امرأته ذلك؛ لأن له أن يكفر بالصيام، وعلى القول الأول تطلق عليه من غير أن يضرب له أجل الإيلاء إذا رفعت المرأة ذلك، وهو قول أصبغ ولا حد في ذلك عند ابن القاسم؛ وقال ابن كنانة لا يعتق عنه وليه إلا في أول مرة، فإن عاد إلى الظهار لم يعتق عنه؛ لأن المرة الواحدة تأتي على الحليم والسفيه، وإلى هذا ذهب محمد بن المواز؛ وأما الإيلاء فإن دخل عليه بسبب يمين بالطلاق وهو فيها على حنث، أو بسبب امتناع وليه عن أن يكفر عنه في الظهار لزمه، وأما إن كان حلف على ترك الوطء، فينظر إلى يمينه: فإن كانت بعتق أو صدقة أو ما أشبه ذلك مما لا يجوز له فعله ويحجر عليه في ذلك وليه، لم يلزمه به إيلاء، وإن كانت بالله تعالى، لزمه الإيلاء- إن لم يكن له مال، ولم يلزمه إن كان له مال، وإن(2/356)
كانت يمينه بصيام أوجبه على نفسه أو صلاة أو ما أشبه ذلك مما يلزمه، لزمه به الإيلاء؛ وعلى قول محمد بن المواز يلزمه الإيلاء باليمين بالله- وإن كان له مال، ولا يلزمه هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق ولا شيء من المعروف في ماله، إلا أن يعتق أم ولده فيلزمه عتقها، لأنها تشبه الزوجة التي ليس له فيها إلا الاستمتاع بالوطء، واختلف هل يتبعها مالها أم لا على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يتبعها وهو قول مالك في رواية أشهب عنه.
والثانية: أنه لا يتبعها. وهي رواية يحيى عن ابن القاسم.
والثالث: التفرقة بين أن يكون مالها قليلا أو كثيرا- وأراه قول أصبغ، وقال المغيرة وابن نافع لا يلزمه عتقها، ولا يجوز عليه، بخلاف الطلاق، ولا يجوز إقراره بالدين إلا أن يقر في مرضه فيكون في ثلث ماله- قاله ابن كنانة، واستحسن ذلك أصبغ - ما لم يكثر. وإن حمله الثلث؛ وأما بيعه وشراؤه ونكاحه وما أشبه ذلك مما يخرج على عوض ولا يقصد به قصد المعروف، فإنه موقوف على نظر وليه- إن كان له ولي: إن رأى أن يجيزه أجازه، وإن رأى أن يرده رده بوجه النظر له والاجتهاد، وإن لم يكن له ولي، قدم له القاضي ناظرا ينظر له في ذلك نظر الوصي؛ فإن لم يفعل حتى ملك أمره، كان هو مخيرا في رد ذلك أو إجازته؛ فإن رد بيعه وابتياعه وكان قد أتلف الثمن الذي باع به، أو السلعة التي ابتاعها لم يتبع ماله بشيء من ذلك.
واختلف إن كانت أمة فأولدها: فقيل: إن ذلك فوت ولا ترد، وقيل: إن ذلك ليس بفوت كالعتق وترد، ولا يكون عليه من قيمة الولد شيء؛ واختلف إن كان قد أنفق الثمن فيما لا بد له منه مما يلزمه إقامته: هل يبيع ماله بذلك أم لا على قولين: وإن كان الذي اشترى المشتري منه أمة فأولدها أو أعتقها، أو غنما فتناسلت، أو بقعة فبناها، أو شيئا له غلة فاغتله، كان حكمه في جميع ذلك حكم من اشترى من ملك فيما يرى فاستحق من يده ما اشترى بعد أن أحدث فيه ما ذكرت، يرد إلى المولى عليه الأمة التي أعتقت، وينتقض العتق فيها، ويأخذ(2/357)
الأمة التي ولدت منه وقيمة ولدها على الاختلاف المعلوم في ذلك؛ وإن كان الولد من غيره بتزويج، أخذهم مع الأم، وكذلك يأخذ الغنم ونسلها- وكان عليه فيما بناه قيمة بنيانه قائما، وكانت الغلة التي اغتل له بالضمان؛ هذا كله إن كان لم يعلم بأنه مولى عليه لا يجوز بيعه؛ وأما إن علم أنه مولى عليه متعد في البيع بغير إذن وليه لسفه يقصده، فحكمه حكم الغاصب يرد الغلة ويكون له فيما بناه قيمته منقوضا؛ واختلف فيما فوت السفيه من ماله بالبيع والهبة والصدقة والعتق، وما أشبه ذلك، فلم يعلم به حتى مات؛ هل يرد بعد الموت أم لا على قولين، واختلف إذا تزوج فلم يعلم وليه بنكاحه حتى مات، هل ترثه المرأة ويلزمه الصداق أم لا على ثلاثة:
أحدها: أنه لا ميراث لها ولا صداق، إلا أن يكون قد دخل بها فيكون لها منه قدر ما استحل به.
والثاني: أن لها الميراث وجميع الصداق.
والثالث: أن لها الميراث وينظر الولي في النكاح: فإن كان نكاح غبطة مما لو نظر فيه الولي في حياته لم يفسخه وأجازه، فلها الصداق مع الميراث- دخل بها أو لم يدخل، وإن كان نكاحه نكاح فساد وعلى غير وجه غبطة، وجب لها الميراث وردت الصداق- دخل بها أو لم يدخل، ويترك لها في الدخول ربع دينار؛ وهذا قول أصبغ في الخمسة، والقولان المتقدمان لابن القاسم - وهما جاريان على الاختلاف في فعله: هل هو على الجواز حتى يرد، أو على الرد حتى يجاز؛ واختلف هل يزوجه الولي بغير أمره كالصغير، أم لا يزوجه إلا بأمره على قولين قائمين من المدونة، ومنصوصين في الواضحة؛ وكذلك اختلف أيضا هل يخالع عنه بغير إذنه أم لا على قولين، فله في المدونة أنه لا يخالع عنه إلا بإذنه، وروى عيسى عن ابن القاسم أنه يخالع عنه بغير إذنه كالصبي، ويلزمه في ماله ما أفسد(2/358)
وكسر مما لم يؤتمن عليه باتفاق، ومما اؤتمن عليه باختلاف، ولا يلحقه يمين فيما ادعي عليه به في ماله. وأما ما ادعي عليه مما يجوز عليه فيه إقراره، فتلحقه فيه اليمين؛ ويحلف مع شاهده في حق يكون له، فإن حلف، استحق حقه، فإن نكل عن اليمين حلف المدعى عليه وبرئ في مذهب ابن القاسم؛ وقال ابن كنانة إن نكل عن اليمين، حلف المدعى عليه وبرئ إلى أن يحسن حاله فيكون له أن يحلف مع شاهده ويستحق حقه كالصغير - إذا بلغ، ويعقل مع العاقلة ما لزم العاقلة من الجرائر؛ ويجوز عفوه عن دمه خطأ كان أو عمدا؛ واختلف في عفوه عما دون النفس مما في بدنه من الجراح أو الشتم، هل يجوز ذلك أم لا على قولين؟
أحدهما: قول مطرف وابن الماجشون: أن عفوهم لا يجوز في شيء من ذلك.
والثاني: قول ابن القاسم: أن عفوهم عن كل ما ليس بمال جائز، واختلف في شهادته إذا كان مثله لو طلب ماله أخذه- وهو عدل، فروى أشهب عن مالك أن شهادته جائزة، وقال أشهب لا تجوز- وهو الذي يأتي على المشهور من مذهب مالك: أن المولى عليه لا تجوز أفعاله- وإن كان رشيدا في أحواله حتى يخرج من الولاية، وبالله التوفيق.(2/359)
[كتاب الرهون] [فصل في جواز الرهن في السفر والحضر]
فصل في جواز الرهن في السفر والحضر
مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجل أهل العلم- إجازة الرهن في السفر والحضر؛ لأن الله- تبارك وتعالى- نص على جوازه في السفر؛ لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، وأجازته السنة في الحضر على ما ثبت في الآثار الصحاح، من ذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيح من رواية عائشة وغيرها «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه» : وروي أن «رجلا جاء إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتقاضاه، فأغلظ له في القول، فقال له رجل من القوم: ألا أراك تقول لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تقول؛ فقال: "دعه فإنه طالب حق "، ثم قال للرجل: "انطلق إلى فلان فليبعنا طعاما إلى أن يأتينا شيء"، فأبى اليهودي فقال لا أبيعه إلا بالرهن؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذهب إليه بدرعي أما والله إني لأمين في السماء وأمين في الأرض» . - وتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودرعه مرهونة عند يهودي. - وهو حاضر غير مسافر.(2/361)
فصل ولا أعلم أحدا من أهل العلم منع من الرهن في الحضر، وأجازه في السفر بظاهر الآية غير مجاهد، ولا تعلق له بظاهرها، إذ ليس في ذكره تعالى الرهن في السفر دليل على المنع منه في الحضر، وإنما أرشدنا الله تعالى إلى التوثق بالرهن عند عدم التوثق بالكتاب والإشهاد، فذكر تعالى السفر؛ لأنه الحال الذي يتعذر فيها الكتاب في الأغلب من الأحوال.
فصل روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يغلق الرهن» ، وأنه قال: «الرهن محلوب ومركوب بنفقته» ، وأنه قال: «الرهن بما فيه» ، وأنه قال: «الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه» ، فدلت هذه الآثار كلها على جواز الرهن؛ لأن تعلق الأحكام به يفيد جوازه، واقتضت بعمومها السفر والحضر وهذا بين.
فصل فأما قوله: «لا يغلق الرهن» ، فمعناه ما فسره به مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه وذلك أنه قال تفسيره فيما نرى- والله أعلم- أن يرهن الرجل الرهن عند الرجل بالشيء - وفي الرهن فضل عما رهن فيه، فيقول الراهن للمرتهن إن جئتك بحقك إلى أجل كذا وكذا وإلا فالرهن لك بما فيه؛ قال: فهذا لا يصلح ولا يحل، وهذا الذي نهى عنه، وإن جاء صاحبه بالذي رهن به بعد الأجل، فهو له، وأرى(2/362)
هذا الشرط مفسوخا، وتفسيره صحيح؛ لأن غلق الرهن معناه ألا يفك، قال: زهير.
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
وأما قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن محلوب ومركوب بنفقته» ، فالذي تأوله عليه أصحابنا على المذهب أن الراهن الذي له الرقبة هو يركبه ويحلبه أي له أجر الركوب وما يحلب منه من اللبن، إذ عليه النفقة؛ وأما قوله الرهن بما فيه، فمعناه إذا هلك وعميت قيمته، وكذلك قال أشهب وابن القاسم وأصبغ "؛ وأما قوله «الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه» ، فغنمه نماؤه وزيادته، وغرمه تلفه ونقصانه؛ فأما النماء والزيادة، فلا خلاف أنها للراهن على ما ورد في الحديث؛ وإنما الاختلاف هل يدخل في الرهن على ما سنبينه- إن شاء الله.
وأما قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عليه غرمه فيتناول فيما لا يغاب عليه أو فيما يغاب عليه، إذا قامت البينة على تلفه من غير تعدي المرتهن.
فصل فالرهن يجوز ويلزم بالعقد ولا يتم وينبرم ويصح التوثق به إلا بالحيازة لقول الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . ومن أهل العلم من قال إنه لا يكون رهنا حتى يكون مقبوضا - وهذا مذهب الشافعي وأهل العراق، وفائدة الخلاف بيننا وبينهم في ذلك أنه إذا قال رهنتك هذا الثوب فقبل المرتهن، ثم بدا للراهن في إرهانه، فإنه يجبر عندنا على أن يقبضه؛ لأن الرهن قد تم عقده؛ وعندهم أنه يكون مخيرا بين أن يقبض فيلزم، وبين ألا يقبضه فلا يلزم؛ فإذا قبضه لزم؛ واستدلوا على ذلك، بقوله- عزو جل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، وقالوا لما وصفها الله- عز وجل- بالقبض، وجب أن يكون ذلك من شروط كونها رهنا، وأن يكون القبض مصاحبا لها كما أنه لما وصف الرقبة بالإيمان، كان الإيمان شرطا فيها، مصاحبا(2/363)
لها. وقالوا فلأن قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، لا يخلو أن يكون خبرا، أو أمرا، فإن كان خبرا، كان شرطا فيه لامتناع أن يقع الخبر بخلاف مخبره؛ وإن كان أمرا، فهو على وجوبه؛ والدليل على صحة قولنا، قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . والعقد قد حصل؛ لأنه الإيجاب والقبول- وذلك موجود، وأيضا فإنه قال: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، فجعل القبض من صفاتها فدل ذلك على أنها تكون رهنا قبل القبض؛ لأن وصف الشيء بصفة، يجب أن يكون معنى زائدا على وجوده ولا ناقد، اتفقنا على أنه إذا أقبضه الرهن، فإنه يصح ويلزم وليس يخلو أن يكون القول الأول الذي تلاه القبض قد انعقد به الرهن أو لم ينعقد، فإن كان قد انعقد به، فذلك ما قلناه؛ لأنه إنما أقبضه ما ثبت رهنا، - فيجب أن يكون كونه رهنا سابقا للإقباض؛ وإن كان لم ينعقد به لم يجز أن يصير رهنا بهذا القبض؛ لأن مجرد القبض لا يجعل المقبوض رهنا، ففي اتفاقنا على لزومه بالقبض دليل بين على انعقاده بالقول.
فصل واختلف إذا جعل الرهن على يدي عدل، فقالت طائفة ليس بمقبوض، والذي ذهب إليه مالك أنه مقبوض، فيكون بذلك شاهدا له، ويكون أحق به من الغرماء. حكى هذا عن مالك إسماعيل القاضي في الأحكام، وقاله ابن المواز - وهو ظاهر الروايات في المدونة وغيرها؛ وقال أصبغ في سماع يحيى من كتاب الرهون أنه لا يكون له شاهدا إذا كان على يدي عدل، وهو ظاهر قول مالك في موطئه.
فصل ولما جعل الله- عز وجل- الرهن بدلا من الكتاب والإشهاد في التوثقة عند عدم الكاتب، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ،(2/364)
دل أن الرهن يقوم مقام الكتاب في بعض أحواله، إذ لا يجوز أن يعوض شيء من شيء وهو لا ينوب منابه في حال، ألا ترى أن التيمم لما جعله الله بدلا من الوضوء فقال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] ، ناب منابه في استباحة الصلاة به، فنوبه مناب التوثق بالإشهاد، هو ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الرهن شاهد لمرتهنه إلى مبلغ قيمته؛ لأنه إنما صار رهنا من أجل قيمته، فكان الرهن شاهدا بقيمته، كما أن الشهود قيام بما أشهدوا به، خلافا لأهل العراق - في قولهم إن القول قول الراهن؛ لأنه مقر مدعى عليه؛ وهذا غلط منهم، بل الراهن مدع؛ لأنه يدعي أنه مستحق لقبض الرهن بما يذكره، فمن أجل هذه النكتة دخل في حيز المدعين فلم يجز أن يعطى بدعواه.
وكذلك أصول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، يقول في الزوجين إذا اختلفا في الصداق قبل الدخول أنه لا جائز أن يحكم للزوج بدعواه؛ لأنه يقول إنه مستحق لقبض المرأة وبضعها بما يذكره فهو مدع. وكذلك المتبايعان إذا اختلفا في الثمن قبل القبض، أن المشتري يقول إنه مستحق لقبض السلعة بما يذكره من الثمن فهو في هذه الحال مدع؛ فكذلك الراهن مدع لقبض الرهن بما يذكره، والمرتهن يقول غير ذلك؛ فأعدل الأمور ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يرد الأمر إلى مبلغ قيمة الوثيقة. وهي الرهن، ويستحلف مع ذلك لإمكان أن يرهن بأقل من قيمته وأكثر.
فصل وما يدعي المرتهن من الفضل على قيمة الرهن لا وثيقة له به، فهو فيه مدع؛ فإذا ضاع الرهن، أو دخل الزوج بالمرأة، أو قبض المشتري السلعة؛ كان القول في هذه الحال قول الراهن، وقول الزوج، وقول المشتري- مع أيمانهم؛ لأنهم في هذه الحال مقرون مدعى عليهم، لا يدعون أنهم مستحقون لشيء بإقرارهم هذا.(2/365)
فصل وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن كل متداعيين إذا كان مع أحدهما من البرهان على دعواه ما ليس مع صاحبه - وإن لم يكن قاطعا، كان هو المبدأ باليمين والمحكوم له بها؛ فمن ذلك البدء عند تكافؤ البينتين- والشاهد العدل واختلاف الزوجين في متاع البيت وإرخاء الستر، وما أشبه ذلك.
فصل وقال مالك إن المرتهن يحلف على جميع دعواه. وإن كان أكثر من قيمة الرهن، إذ لا جائز أن يحلف الإنسان على بعض دعواه- دون بعض، فما كان من الفضل على قيمة الرهن لم يلزم الراهن بيمين المرتهن، فيحلف الراهن حينئذ من أجل هذا الفضل، فإن حلف برئ منه، وإن نكل لزمه ذلك بنكوله مع ما تقدم من يمين المرتهن.
فصل ولو لم يكن الرهن شاهدا- وكان القول قول الراهن كما يقول أهل العراق، لم يكن لقول الله عز وجل: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]- معنى؛ لأنه إذا ائتمنه ولم يستوثق منه بالرهن فيما داينه به، فالقول قوله أيضا فيما يقر به من الدين، ولا يجوز أن تكون الحال الثانية كالتي قبلها، فالقرآن دال على خلاف قول أهل العراق في هذه المسألة ومن أهل العلم من يقول إن القول قول المرتهن وإن ادعى أكثر من قيمة الرهن. وهو شاذ، ففي المسألة ثلاثة أقوال.
فصل ولا تنفع الشهادة في حيازة الرهن إلا بمعاينة الرهن؛ لأن في تقارر(2/366)
المتراهنين بالحيازة، إسقاط حق غيرهما؛ إذ قد يفلس الراهن فلا يقبل منه إقراره بعد التفليس بالحيازة.
فصل ولو وجد الرهن بيد المرتهن بعد التفليس، فادعى أنه قبضه قبل التفليس - وجحد ذلك الغرماء؛ لجرى الأمر على الاختلاف في الصدقة توجد بيد المتصدق عليه بعد موت المتصدق، فيدعي قبضها في صحته؛ وفي المدونة دليل على القولين جميعا. ولو لم يتعلق بذلك للغرماء حق، لوجب أن يصدق الراهن ويقبل إقراره له أنه قد حاز الرهن، فيكون بإقراره له شاهدا على حقه إلى مبلغ قيمته.
فصل واختلف في ضمان الرهن إذا هلك بيد المرتهن من غير أن يكون هو مستهلكه، فقالت طائفة من أهل العلم: إن كان الرهن مثل الدين أو أكثر منه، فهو بما فيه؛ وإن كان أقل من الدين، ذهب من الدين بقدره ورجع المرتهن على الراهن بما نقص من حقه؛ وقالت طائفة يذهب الرهن بما فيه من الدين كانت قيمته مثل الدين أو أكثر منه أو أقل، ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء. وقالت طائفة يترادان الفضل بينهما- إن كانت قيمة الدين أكثر من قيمة الرهن، رجع المرتهن على الراهن بالفضل، وإن كانت قيمة الرهن أكثر، رجع الراهن على المرتهن بما فضل من قيمة الرهن على الدين؛ ويروى هذا القول عن ابن عمر، وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنه إن كان الرهن مما يغاب عليه ويخفى هلاكه نحو الذهب والفضة والعروض والطعام والمتاع، ترادا الفضل فيما بينهما؛ إلا أن تقوم بينة على هلاكه من غير سببه، فيكون ضمانه من الراهن ويكون الدين ثابتا بحاله، وقد روي عن مالك - رحمه(2/367)
الله- أن المرتهن ضامن، ويترادان الفضل- وإن قامت بينة على الهلاك- وهو قول أشهب، وذكر القولين عن مالك محمد بن المواز في كتابه، فوجه سقوط الضمان هو أن المعنى الذي لأجله ضمناه عدم العلم بصدقه فيما يدعيه، فإذا علم صدقه، لم يبق سبب لإيجاب الضمان، ألا ترى أن ما يظهر هلاكه لا يضمنه؛ لأن العلم بصدقه يعلم من غير جهته، وكذلك إذا قامت البينة بهلاك ما يخفى هلاكه؛ ووجه وجوبه هو أن العلة إذا وضعت حسما للباب، لم تخصص في موضع من المواضع؛ ألا ترى أن منع قبول شهادة الأب لابنه، والابن لأبيه - لأجل التهمة الغالبة في الطباع، فحمل الباب محملا واحدا- ولم ينقض بنادر؛ وكذلك في مسألتنا أصل العروض والذهب والفضة مما يخفى هلاكه- وإن جاز أن يخرج من هذا الأصل- نادر بأن يعلم هلاكه بغير صنع المرتهن؛ لأن الحكم أجري مجرى واحدا على غالبه- حسما للباب.
وإن كان الرهن مما يظهر هلاكه نحو الدور والأرضين والحيوان وهلك، فهو من الراهن، ودين المرتهن ثابت على حاله؛ وقالت طائفة من أهل المدينة وأهل مكة وغيرهم، منهم الزهري وغيره إذا تلف الرهن، فهو في مال الراهن ودين المرتهن ثابت على حاله- كان مما يغاب عليه، أو مما لا يغاب عليه؛ وهذا على قول الشافعي، وأحمد بن حنبل؛ واحتجوا بحديث الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه» . قالوا: فغنمه: زيادته ونماؤه، وغرمه نقصانه وذهابه.
فصل والحجة لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تفرقته بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه، هي أن الرهن لم يجر مجرى الأمانات المحضة، ولا مجرى المضمون المحض؛ لأنه أخذ شبها من الأمرين، فلم يكن له حكم أحدهما على التحديد؛ وذلك لأن الأمانة(2/368)
المحضة هي التي لا نفع فيها لقابضها، بل النفع فيها للمالك- كالوديعة، أو جل النفع كالقراض، والمضمون المحض هو ما كان النفع كله لقابضه كالقرض، أو تعدي جناية كالغصب؛ وفي مسألتنا لما لم يكن تعد ولا جناية فيضمن، ولا ينفرد المالك بالمنفعة فيسقط الضمان على المرتهن- وكانت المنفعة لهما؛ أما للمالك بأن حصل له ما ابتاعه أو سلفه وبقي الدين في ذمته لأجل الرهن، ولولاه لم يملكه؛ والمرتهن بحصول التوثق له، فلم يقبضه لمالكه؛ - لم يجز أن ينفرد بحكم أحدهما على التحديد، لأخذه شبها منهما جميعا.
وإذا وجب بهذه الجملة ألا يحكم فيه بحكم أحدهما ووجب الفصل بينهما، حصل من ذلك ما قلناه؛ لأن أحدا لم يفصل بينهما إلا بما ذكرناه؛ فهذه نكتة المسألة وفقهها؛ والدليل على فساد قول من أوجب على المرتهن ضمان الرهن- كان مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه. جملة من غير تفصيل- وهو مذهب أبي حنيفة -: استصحاب الحال في براءة ذمة المرتهن في الأصل، وثبوت الدين في ذمة الراهن، فعلى مدعي نقل ذلك عما هو عليه- في الأصل الدليل؛ ويدل عليه أيضا قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه» .
وقوله: "ممن رهنه "، يفيد أن تلفه منه، وذلك ينفي أن يضمنه المرتهن؛ وما احتجوا له مما روي أن «رجلا ارتهن فرسا من رجل فنفق في يده، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرتهن: ذهب حقك» لا حجة له فيه؛ لاحتمال أن يكون ذهب حقك من الوثيقة لا دينك، وفائدته أنه لا يلزم الراهن رهن آخر بدله.
فصل والدليل على فساد قول الشافعي ومن أسقط الضمان عن المرتهن جملة من غير تفصيل فيما يغاب عليه وفيما لا يغاب عليه، قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ، وعلى من حروف الإيجاب. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن بما فيه» ، وهذه(2/369)
عبارة عن وجوب ضمانه على المرتهن وأما ما احتجوا به من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» ، وقالوا معناه أن الحق لا يسقط بتلفه؛ فلا يصح لأن هذه دعوى في التأويل، وإنما معناه أنه لا يستحق بتعذر أداء الحق على ما كانت الجاهلية تفعله. واحتجوا أيضا بقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه وعليه غرمه» أي منه تلفه وعطبه؛ وهذا مخصوص فيما يظهر هلاكه، بدليل ما قدمناه فلا حجة لهم فيه.
فصل وأجمع أهل العلم على أن المرتهن ليس له الانتفاع بشيء من الرهن فيما سوى الحيوان، واختلفوا في الحيوان: فقالت طائفة من أهل العلم إذا كان الرهن حيوانا- شاة أو بقرة أو غير ذلك، فله أن يحتلب الشاة والبقرة، ويركب الحمار بقدر ما يعلفه؛ واحتجوا بحديث أبي هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «الرهن يحلب ويركب بقدر نفقته ". وعلى الذي يحلب ويركب نفقته» وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه؛ وقال جمهور أهل العلم ليس له أن ينتفع بشيء من الرهن- حيوانا كان، أو غيره- وهو قول مالك والشافعي، وقال الشافعي معنى قول أبي هريرة الرهن محلوب ومركوب بنفقته. أن الراهن هو الذي يركبه ويعلفه؛ لأنه ملكه لا المرتهن؛ واحتج هو وغيره بحديث ابن عمر عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» .
فصل فإذا قلنا إن المرتهن ليس له من نماء الرهن ولا من غلته شيء، فهل يدخل ذلك في الرهن أم لا- في ذلك تفصيل، وذلك أن النماء على ضربين؛ نماء متميز عن الرهن، ونماء غير متميز عنه، فأما ما كان غير متميز عن الرهن، فلا خلاف أنه يدخل في الرهن وذلك كسمن الدابة والجارية، وكبر الصغير وما أشبه(2/370)
ذلك؛ وأما ما كان متميزا عن الرهن، فإنه أيضا على وجهين، أحدهما أن يكون على خلقته وصورته، والثاني أن لا يكون على خلقته وصورته؛ فأما ما كان على خلقته وصورته- كالولد فإنه داخل مع الأم في الرهن من بني آدم، ومن سائر الحيوان؛ وكذلك ما كان في معناه من فسلان النخيل؛ فإنه داخل مع الأصول في الرهن؛ وأما ما لم يكن على خلقته وصورته؛ فإنه لا يدخل في الرهن- كان متولدا عنه كثمرة النخيل، ولبن الغنم وصوفها؛ أو غير متولد عنه ككراء الدار، وخراج الغلام؛ هذا هو المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك. وقد روي عنه أن ذلك كله داخل في الرهن- كان متولدا عنه، أو غير متولد عنه.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يدخل في الرهن كل نماء متميز منه متولد عنه على غير خلقته، قياسا على نسل الحيوان وعلى النماء المتصل بالرهن الذي لا يتميز منه؛ وذهب الشافعي إلى أنه لا يدخل في الرهن من النماء إلا ما كان غير متميز منه كسمن الجارية والدابة، واستدل من نصر قوله على ذلك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «له غنمه» فالولد من غنمه، قالوا ولأنه حق متعلق بعين قد يستوفي من ثمنها، فوجب ألا يسري إلى ولدها أصله أرش الجناية، وهو أن الأمة إذا جنت ثم حملت أن الولد لا يدخل في الجناية، ولأن كل ما لا يتبع الجانية في الجناية فلا يتبع المرهونة في الرهن، أصله الكسب، فهذه مقدمات في الرهون تبنى عليها مسائل الكتاب- إن شاء الله تعالى وبه التوفيق.(2/371)
[كتاب الكفالة] [فصل في تفسير الكفالة ومعناها]
فصل
في تفسير الكفالة ومعناها.
الكفالة هي الضمان ومعناها: التزام القيام بالشيء والاستطلاع به؛ وللضامن في اللغة سبعة أسماء، وهي: زعيم، وكفيل، وقبيل، وأذين، وحميل، وصبير، وضامن. يقال من ذلك زعم يزعم زعامة فهو زعيم، وكفل يكفل كفالة فهو كفيل، وقبل يقبل قبالة فهو قبيل، وأذن يأذن إذانة فهو أذين. وحمل يحمل حمالة فهو حميل، وصبر يصبر صبرا فهو صبير، وضمن يضمن ضمانا فهو ضامن- بمعنى واحد وهي موجودة في القرآن، وفي السنن والآثار، وفيما يحتج به من الأشعار، وقائمة من ذلك؛ قال الله- عز وجل في الزعيم-: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وقال تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] . وقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» ، وقال: «لا تقوم الساعة حتى يكون زعيم القوم أرذلهم» ،(2/373)
أي من يتحمل الكلام- عنهم، ويتقدم فيه دونهم، وينوب فيه منابهم؛ وقال تعالى في الكفيل: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} [النحل: 91] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته: أن يدخله الجنة أو يرده إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة» . وذكر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا؛ قال: ائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا؛ قال صدقت؛ فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبا يركبه يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبا؛ فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبها، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني تسلفت فلانا ألف دينار فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضي بك؛ وسألني شهودا فقلت: كفى بالله شهيدا فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له؛ فلم أقدر عليه؛ وإني استودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه- وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده؛ فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا؛ فلما نشرها وجد المال والصحيفة؛ ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار وقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك(2/374)
بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلى شيئا؛ قال: أخبرك أني لم أجد مركبا غير الذي أتيت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة؛ قال: فانصرف بالألف الدينار راشدا» وقال تعالى في القبيل: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا} [الإسراء: 92] . والأذين مأخوذ من قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167] ، ومن قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] ، وقال الشاعر:
فقلت قدي وغضي الطرف إني ... أذين بالترحل والأفود
وقال امرؤ القيس:
وإني أذين إن رجعت مملكا ... بسير ترى منه الفواتق أزورا
وإنما كان الأذين بمعنى الحميل؛ لأن الأذين والأذان، والإذن، وما تصرف من ذلك، إنما هو بمعنى الإعلام؛ فلما كان بمعنى الإعلام الذي لا يكون إلا بمعلوم متيقن حاصل لا يصح أن يوجد بخلافه، إذ هو مأخوذ من العلم الذي هو معرفة المعلوم على ما هو به، بخلاف الإخبار الذي يصح أن يوجد بخلاف مخبره بما يدخله من الصدق والكذب، كان قول الرجل: أنا أذين بما لفلان على فلان إيجابا منه على نفسه أداء المال إليه، إذ لا يستعمل ذلك اللفظ إلا في الواجب المتيقن الذي لا يصح أن يكون الأمر بخلافه- والله أعلم. والحميل مأخوذ من قوله(2/375)
تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18] ، وأما الضامن فإنه بين المعنى.
فصل فالكفالة بالمال جائزة في الشرع، لازمة في صريح الحكم؛ وهي من المعروف، وتجوز عند مالك وأصحابه في المعلوم والمجهول- خلافا للشافعي في قوله: إنها لا تجوز في المجهول؛ والأصل في جوازها الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ فأما الكتاب فهو ما تلوناه من قول الله عز وجل: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وقوله: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] ، وأما السنة فكثير، منها: ما روي «أن قبيصة بن المخارق أتى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله وقال له إني تحملت بحمالة، فقال: " نحن نخرجها عنك من الصدقة يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا في ثلاث: رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك» ، ففي إحلاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسألة لمن تحمل بحمالة- دليل على جواز الحمالة ولزومها ووجوبها عليه؛ وقد استدل أيضا بظاهر هذا الحديث- من قال إن للمكفول له مطالبة الكفيل وإن كان المكفول عنه مليا، إذ أباح رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسألة المحرمة بنفس الحمالة، ولم يعتبر حال المتحمل عنه، وفيه أيضا دليل على إجازة الحمالة بالمال المجهول؛ لأن فيه تحملت بحمالة- ولم يذكر لها قدرا ولا مبلغا- وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما، خلافا للشافعي في قوله: إن الحمالة بالمال المجهول لا تصح، لأنها مخاطرة على ما قد ذكرناه عنه. وأما الإجماع فلا خلاف بين الأمة في جوازها- وإن اختلفوا في كثير من شروطها وأحكامها.
فصل فالحمل والحمالة في اللغة سواء في المعنى، لأنهما جميعا مصدران من(2/376)
حمل يحمل حملا وحمالة، ويفترق معناهما عند الفقهاء بعرف التخاطب، فالحمالة عندهم أن يتحمل بالحق أن يؤديه عن المطلوب ويرجع به عليه؛ وكذلك الكفالة، والإذانة، والزعامة، والقبالة؛ والحمل- عندهم هو أن يتحمل بالحق عن المطلوب- على أن يؤديه عنه ولا يرجع به عليه؛ ولفظ الضمان عندهم محتمل للوجهين جميعا؛ فإذا ضمن الرجل عن الرجل المال في عقد البيع أو بعد عقد البيع، أو ضمن عنه الصداق بعد عقد النكاح، فهو على الحمالة حتى ينص أنه أراد بذلك الحمل- بلا خلاف، وأما إذا ضمن عن الزوج الصداق في عقد النكاح- ابنه كان أو أجنبيا، فاختلف فيه هل هو محمول على الحمل حتى يبين أنه أراد بذلك الحمالة، أو على الحمالة حتى يريد به الحمل؛ فمذهبه في المدونة أنه على الحمل حتى يريد به الحمالة- وهو قول ابن حبيب في النكاح من الواضحة، وقول ابن القاسم في رواية سحنون عنه من العتبية، وروى عيسى عنه في غير العتبية أنه على الحمالة حتى يريد به الحمل.
فصل فإذا حمل الرجل عن الرجل المال في عقد البيع، أو حمل عنه الصداق في عقد النكاح، فذلك لازم له ثابت في ذمته وماله في الحياة وبعد الممات واختلف إذا حمل ذلك عنه بعد عقد البيع، أو بعد عقد النكاح: فروى أصبغ عن ابن القاسم أنه يلزمه في الحياة ويسقط عنه بعد الوفاة- كالهبة إذا لم تقبض حتى مات الواهب- وقاله ابن حبيب في النكاح من الواضحة؛ وقال ابن الماجشون في الحمالات منها: إن ذلك لازم له في الحياة وبعد الوفاة. كالحمالة؛ قال: لأنها ثمن لما ترك المحمول له من ذمة غريمه ومن حقه عليه، فكأنه قال له ابتداء: أعطه كذا وكذا من مالك- وهي لك علي: أو أعطه ثوبك- وثمنه علي واختاره ابن حبيب هاهنا خلاف ما وقع له في النكاح.(2/377)
فصل والحمالة على مذهب مالك تجوز عن الحي والميت. غير أنه إن تحمل عن الحي فأدى عنه، كان له الرجوع عليه بما أدى عنه، واتباعه به إن كان معدما- كان تحمل عنه بإذنه أو بغير إذنه؛ وإن كان تحمل عن ميت لا وفاء له بما تحمل به عنه، لم يكن له أن يرجع بما أدى عنه في مال- إن طرأ له، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إن من تحمل عن رجل بغير أمره، لم يكن له أن يرجع عليه بما أدى عنه، وأن الحمالة عن الميت- إذا لم يترك وفاء لا تجوز؛ لأن الدين قد توى بذهاب الذمة، والكفالة بالتاوي كفالة بما قد بطل، فلا معنى لها، والحجة لمالك في أن الحمالة عن الميت وإن لم يترك وفاء جائزة، وأن الكفيل لا رجوع له في مال- إن طرأ للميت: ما «روى جابر بن عبد الله أن رجلا مات وعليه دين فلم يصل عليه النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - حتى قال أبو اليسر أو غيره: هو إلي فصل عليه، فجاءه من الغد فتقاضاه فقال: إنما كان أمس، ثم أتاه من بعد الغد، فأعطاه فقال: الآن بردت عليه جلده» .
فلو لم تكن الحمالة بما عليه جائزة، لما صلى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو كان الدين قد تحول إلى الذي أداه عنه- ولم يسقط عن الذي كان عليه، لما برد جلده بالأداء عنه؛ لبقاء الدين عليه، وهذا بين وقد احتج الطحاوي لأبي حنيفة بهذا الحديث فيمن قضى دينا عن رجل بغير أمره، أنه لا رجوع له به عليه، ومالك أسعده الحديث؛ لأنه استعمله في موضعه ولم يعده إلى الحي.
وفيه أيضا حجة له على أبي حنيفة في أن الكفالة لازمة للكفيل بغير قبول المكفول له، ودليل على جواز الكفالة بغير إذن المكفول عنه، ووجوب أخذ المكفول له بها- الكفيل، وأن ذمة المكفول عنه لا تبرأ بوجوب الكفالة على الكفيل حتى يودي عنه؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الآن بردت عليه جلده. قال الطحاوي فإذا كانت الحمالة لازمة للحميل،(2/378)
وكان للمكفول له مطالبته بها على ما في الحديث، كان المكفول عنه إذا كان مليا أحرى بالمطالبة، إذ لم يسقط الدين عن ذمته بالكفالة؛ فوجب أن يكون مخيرا في مطالبة من شاء منهما على ما قاله الشافعي وأبو حنيفة، خلاف ما روي عن مالك؛ قلت: وهذا لا يلزمه؛ لأن الحديث إنما هو فيمن لم يترك وفاء، ولذلك لم يصل عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فليس هذا موضع الخلاف.
وقول مالك الذي اختاره ابن القاسم أظهر أن الكفالة لا تلزم الكفيل مع ملأ المكفول عنه وحضوره واستوائهما في اللدد؛ لأنه إن قضى للمكفول له على الكفيل، قضى في الحين للكفيل على المكفول عنه، فالقضاء له على المكفول عنه أولى وأقل عناء، وبالله التوفيق.
فصل والحمالة لا تجوز إلا فيما تصح فيه النيابة، وذلك إنما يكون في المال المتعلق بالذمة، أو ما يؤول إلى المال المتعلق بها؛ وأما ما يكون في الأبدان ولا يتعلق بالأموال- كالقتل والسرقة والحدود والتعزير، فلا تجوز فيه الحمالة، إذ لا تصح فيه النيابة.
فصل وهي تنقسم على قسمين: حمالة بالمال وحمالة بالوجه.
فأما الحمالة بالمال فإنها لازمة في الحياة وبعد الممات، كانت في أصل البيع أو بعد عقد البيع؛ لأنها وإن كانت من المعروف، فكأنها إنما خرجت عن عوض، وهو ما رضي به المتحمل له من دفع سلعته أو تأخير غريمه؛ وأيضا فإنه إذا غرم، يرجع بما غرم.
واختلف قول مالك في الحميل بالمال: فمرة قال: إن المتحمل له بالخيار يأخذ أيهما شاء بحقه إن شاء الحميل، وإن شاء المتحمل عنه، وإن كان الغريم مليا؛ ومرة قال: لا سبيل له إلى الحميل إلا في عدم الغريم- وهو اختيار ابن القاسم.(2/379)
فصل واختلف على هذا القول إذا قام المتحمل له على الحميل، فقال: إن الغريم عديم، وقال الحميل: بل هو مليء - فمن يكون القول قوله منهما؟ وعلى من تكون إقامة البينة؟ فعلى ما قاله سحنون في نوازله من كتاب الكفالة: إن القول قول المتحمل له، وعلى الكفيل إقامة البينة أن الغريم مليء، فإن عجز عن ذلك وجب عليه الغرم؛ لأنه إذا قال: إذا لم يعلم للغريم مال ظاهر، فالحميل غارم.
وظاهر ما في سماع سحنون من كتاب النكاح أن الغريم محمول على اليسار، فلا سبيل إلى إغرام الحميل حتى لا يوجد للغريم مال، فعلى المتحمل له إقامة البينة على عدم الغريم.
فصل وكذلك اختلف على هذا القول إذا شرط أن يأخذ أيهما شاء بحقه: فقال ابن الماجشون، وابن كنانة، وأشهب: شرطه باطل ولا سبيل له إلى الحميل إلا في عدم الغريم، واختلف في ذلك قول ابن القاسم: فمرة قال: إن الشرط جائز عامل وهو المشهور عنه المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها، وبه قال أصبغ؛ ومرة قال ابن القاسم: إن الشرط لا يجوز إلا في القبيح المطالبة، أو ذي السلطان؛ وقد تؤول عليه أنه إنما أعمل الشرط من غير استثناء إذا كانت الحمالة في أصل البيع، وبالاستثناء إذا كانت الحمالة بعد عقد البيع؛ والصحيح ما بدأنا به أن ذلك اختلاف من قوله، وألا فرق بين أن تكون الحمالة في عقد البيع أو بعده.
فصل وكذلك اختلف - إن اشترط المتحمل له على الحميل أن حقه عليه، وأبرأ الغريم: فظاهر قول ابن القاسم في كتاب الحوالة أن الشرط جائز ولا رجوع له(2/380)
على الغريم، وروى ابن وهب عن مالك أنه لا رجوع له عليه إلا أن يموت الحميل، أو يفلس، وروى مطرف عن مالك في الواضحة أن له الرجوع على الغريم إن شاء ولم يشترط موتا ولا فلسا؛ وقال ابن الماجشون: شرطه باطل ولا يعدى عليه حتى يملأ الغريم؛ لأنها حمالة حتى يسميها حوالة- يقول له: أحتال عليك من حقي، فعند ذلك يكون حقه عليه ولا يكون له الرجوع على غريمه الأول.
فصل وهذا الاختلاف- عندي- إنما هو إذا وقع الشرط على ألا تباعة للمحتمل له قبله ولا رجوع له عليه، وأن الحميل يرجع عليه بما يؤدي عنه إلى المتحمل له، وأما إذا وقع الشرط على ألا تباعة قبله للمتحمل له، ولا للحامل فقد سقط الدين عنه باتفاق، ولا رجوع لأحدهما عليه في مال- لا للحامل- إن أداه إلى الطالب المتحمل له، ولا للطالب- إذا أعدم الحميل أو مات، ومن الناس من يحمل رواية ابن وهب عن مالك في المدونة على التفسير لقول ابن القاسم فيها، ويقول: معنى ما ذهب إليه ابن القاسم أنه لا رجوع للمتحمل له للطالب- على غريمه الأول- إلا أن يموت أو يفلس؛ ويحتمل- عندي- أن يتأول قول ابن القاسم على أنهما قد أبرءا الغريم جميعا من الدين جملة؛ فيكون ابن القاسم إنما تكلم على غير الوجه الذي تكلم عليه في رواية ابن وهب عن مالك. فهو ممكن سائغ محتمل.
فصل فإن تحمل بالمال حملا في صفقة واحدة، فيلزم كل واحد منهم ما ينوبه منه على عددهم إلا أن يشترط أن كل واحد منهم حميل عن صاحبه، أو عن أصحابه قال بجميع المال، أو لم يقل فيؤخذ المليء منهم بالمعدم، كما يؤخذون بعدم الغريم، ويأخذ أيهم شاء على أحد قولي مالك، وعلى كليهما إذ اشترط أن(2/381)
يأخذ أيهم شاء: فإن أخذ أحدهم بما ينوبه من المال، فاختلف هل للمأخوذ منه ذلك أن يرجع على من وجد من أصحابه حتى يساويه في ذلك، فقيل: إن ذلك له وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي، وقيل: إن ذلك ليس له وهو الصواب؛ لأن ما ينوبه من المال، فإنما أداه عن نفسه لا رجوع له به كما لو ثبت عليه من أصل دين، ومثله في كتاب ابن المواز، وفي سماع أبي زيد وهو الذي يأتي على ما في المدونة لغير ابن القاسم في مسألة الستة كفلاء- وهي مسألة ناقصة، وفي بعض وجوهها انغلاق، فأنا أشرح ما انغلق منها وأبين ما أشكل فيها وأكمل ما نقص منها- إن شاء الله، وما توفيقي إلا بالله.
فصل في تفسيرها وشرحها وبيانها
إن سأل سائل عن تفسير الستة الكفلاء الواقعة في كتاب الكفالة من المدونة لغير ابن القاسم، ومعرفة الحكم في رجوع من غرم منهم جميع المال، وأكثر ما يجب عليه منه بسبب الحمالة على أصحابه إذا لقيهم مجتمعين، أو مفترقين، ووجه العمل في ذلك؛ فالجواب عنه أن الحكم في ذلك هو أن يرجع من غرم من المال شيئا بسبب الحمالة على أصحابه بما غرم عنهم على السواء إن لقيهم مجتمعين، وإن لقيهم مفترقين واحدا بعد واحد، رجع على من لقي منهم بما ينوبه مما أدى عنه بسبب الحمالة، وبنصف ما ينوب ما أدى عن أصحابه.
وإن لقي منهم اثنين معا، رجع على كل واحد منهما بما ينوبه مما أدى عنه بالحمالة، وبتلقي ما ينوب ما أدى عن الباقين، وإن لقي منهم ثلاثة معا، رجع على كل واحد منهم- بما ينوبه من ذلك؛ وبثلاثة أرباع ما ينوب ما أدى بالحمالة عمن غاب، وإن لقي اثنان منهم واحدا، رجعا عليه بما أديا عنه من أصل الحق، وبثلث ما أديا عن أصحابه بالحمالة، وإن كانوا ثلاثة فلقوا واحدا، رجعوا عليه بما أدوه عنه في(2/382)
خاصته، وبربع ما أدوه عن أصحابه بالحمالة، فاقتسموا ذلك بينهم بالسواء؛ وإن لقي واحد منهم من أصحابه من قد غرم بسبب الحمالة شيئا، حاسبه بذلك ورجع عليه بنصف الباقي؛ وإن كان الذي لقي قد غرم بسبب الحمالة شيئا أو أغرم هو سواه، حاسبه بالباقي على ما وصفناه؛ وإن لقي واحد منهم أحد أصحابه فرجع عليه، ثم لقيه ثانية بعد أن رجع هو على غيره، رجع عليه فساواه فيما رجع به؛ ثم إن لقي المرجوع عليه الغير الذي كان رجع عليه رجع عليه ثانية بما انتقصه الأول إذا لقيه ثانية، ثم إن لقيه الأول ثالثة رجع عليه، فلا يزال التراجع يتردد بينهم حتى يستووا ثلاثتهم، ولا يزال يرجع بعضهم على بعض أبدا كلما التقى واحد منهم. مع صاحبه- وقد أدى أكثر منه حتى يرجع إلى كل واحد منهم ما غرم بسبب الحمالة، فيكون قد أدى ما عليه من أصل الحق دون زيادة ولا نقصان، ولا تنحصر وجوه التراجع بينهم إلى عدد، إذ قد يلتقون على رتب مختلفة، وصور شتى غير متفقة؛ ولا ينقضي التراجع بينهم بأقل من خمس عشرة لقية- على أي رتبة التقوا عليها؛ ما لم تلق منهم الجماعة للجماعة أو الواحد للجماعة، أو الجماعة للواحد؛ وتنقضي بخمس عشرة لقية إذا التقوا على رتبة ما سأذكرها فيما بعد مفسرة- إن شاء الله.
ووجه العمل في المسألة لا يتبين إلا بتنزيلها وتصويرها، فأنا أنزلها وأذكر من وجوه التراجع فيها ما ذكره في الكتاب بتفسير ما أشكل منها، ثم أتبع ذلك بما سكت عنه من بقية التراجع على الرتبة التي بدأنا بها حتى يصل إلى كل واحد منهم ما أدى بالحمالة، ويعتدلوا فيما أدوه من أصل الحق، ثم أذكر- إن شاء الله- حكم التراجع بينهم- مفسرا إذا التقوا على الرتبة التي ذكرنا أن التراجع ينقضي بينهم بخمس عشرة لقية. مع ألا يلتقي منهم أكثر من اثنين معا- إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.(2/383)
فصل في المسألة وهي رجل باع سلعة من ستة رجال بستمائة درهم- على أن كل واحد منهم حميل عن أصحابه بجميعها، وشرط أن يأخذ منهم من شاء بجميع حقه، فإن وجد البائع أحدهم، كان له أن يأخذ منه الستمائة كلها؛ لأن المائة الواحدة منها واجبة عليه من أصل الحق، والخمسمائة يأخذها منه بالحمالة عن أصحابه الخمسة الباقين، فإن أخذها منه ثم لقي الذي أخذت منه أحد الخمسة الباقين، فإنه يرجع عليه بثلاثمائة؛ لأنه يقول له: أديت أنا ستمائة، فمائة منها واجبة علي لا أرجع بها على أحد، والخمسمائة الباقية أديتها عنك وعن أصحابك الأربعة الباقين مائة، مائة عن كل واحد منكم، فادفع إلي المائة التي أديت عنك في خاصتك، ونصف ما أديت عن أصحابك بالحمالة، وذلك مائتان؛ لأنك حميل معي بهم، فيأخذ منه ثلاثمائة، فيستويان فيما غرما عن أنفسهما وبالحمالة عن أصحابهما.
فصل فإن لقي الثاني المأخوذ منه الثلاثمائة الثالث من الخمسة الباقين، فإنه يرجع عليه بمائة وخمسة وعشرين؛ لأنه يقول له: أديت أنا ثلاثمائة، المائة الواحدة منها عن نفسي لا أرجع بها على أحد، والمائتان الباقيتان عنك وعن أصحابك الثلاثة الغيبة الباقين خمسون، خمسون عن كل واحد منكم؛ فادفع إلي الخمسين التي أديت عنك في خاصتك، وخمسة وسبعين نصف المائة والخمسين التي أديت عن أصحابك بالحمالة؛ لأنك حميل معي بهم هذا كله بين لا إشكال فيه في الكتاب.
ثم قال فيه: وكذلك إذا لقي الرابع المأخوذ منه المال- الثالث من الباقين، فإنه يأخذه بما أدى عنه من أصل الدين، وبنصف ما أدى عن أصحابه؛ وهو كلام فيه احتمال يفتقر إلى بيان، ومراده به أن الثالث من الغارمين المأخوذ منه مائة وخمسة وعشرين، لقي أحد الثلاثة الباقين وسماه رابعا؛ لأنه رابع الباقين فيرجع.(2/384)
عليهم بخمسين، لأنه يقول له أديت أنا مائة وخمسة وعشرين، خمسون منها عن نفسي من المائة الواجبة علي من أصل الحق لا أرجع بها على أحد، وخمسة وسبعون بالحمالة عنك وعن صاحبيك الغائبين خمسة وعشرون عن كل واحد منكم؛ فادفع إلي الخمسة والعشرين التي أديت عنك في خاصتك، وخمسة وعشرين نصف الخمسين التي أديت عن صاحبيك بالحمالة، لأنك حميل معي بهما، فيأخذ منه الخمسين.
فصل ثم قال في الكتاب: فإن لقي الرابع الآخر من الأولين الذي لم يرجع على الرابع بشيء - يريد أن الأول الذي غرم الستمائة ورجع منها على الثاني بثلثمائة، لقي الثالث الذي رجع عليه الثاني بمائة وخمسة وعشرين ولم يرجع هو بعد عليه بشيء، ويريد أنه لقيه قبل أن يرجع هو على الرابع بالخمسين وسماه في الكتاب رابعا لأن الباقين ثلاثة فهو رابعهم - وهو ثالث الغارمين فيرجع عليه بما أدى عنه من أصل الدين وذلك خمسون درهما، وينظر فيما بقي مما أداه بالحمالة عنه، فإذا هو مائة وخمسون درهما وقد أدى الرابع بالحمالة خمسة وسبعين درهما، فيرجع عليه الذي أدى خمسين ومائة - بسبعة وثلاثين ونصف حتى يعتدلا فيما أدياه بالحمالة عن الثلاثة، فيصير كل واحد منهما قد أدى مائة واثني عشر ونصفا، يريد أن الأول والثالث اللذين التقيا هما اللذان اعتدلا فيما غرما بالحمالة؛ وأما الثاني فإنما أدى بالحمالة خمسة وسبعين، لأن الأول كان رجع عليه بثلاثمائة فرجع هو منها على الثالث بمائة وخمسة وعشرين على ما بيناه، فبقي له مما أدى عن الثلاثة بالحمالة خمسة وسبعون، لأن المائة منها واجبة عليه في خاصته لم يؤدها بالحمالة، فيرجع الأول والثالث على هذا الثاني بخمسة وعشرين: اثني عشر ونصف لكل واحد منهما. إن لقياه معا، فيصير الأول والثاني والثالث قد أدى كل واحد منهم بالحمالة عن الثلاثة الباقين مائة مائة، وعن أنفسهم مائة مائة، فاعتدلوا في ذلك بمنزلة أن لو لقياه معا، ألا ترى أن الأول والثاني اللذين غرما الثلاثمائة لو لقيا الثالث معا،(2/385)
لرجعا عليه بمائة، مائة؛ لأنهما كانا يقولان له قد أدينا ستمائة منها عن أنفسنا مائتان في خاصتنا والأربعمائة عنك وعن أصحابك الثلاثة - مائة، مائة عن كل واحد منكم فادفع إلينا المائة التي أدينا عنك وثلث الثلاثمائة التي أديناها عن أصحابك الثلاثة لأنك حميل معنا بهم؛ فعليك ثلثها فيأخذان منه المائتين ويقتسمانها بينهما بنصفين وهذه الزيادة في هذا الوجه سكت عنها في المدونة ولم يذكرها فيها وبها تتم.
فصل فهذا ما ذكره في المدونة من وجوه هذه المسألة مشروحا مبينا، ولو كان إنما لقي الأول الثالث بعد أن رجع على الرابع بالخمسين على ما نزلناه، لوجب أن يرجع عليه بمائة واثني عشر ونصف، وتفسير ذلك أنه كان يقول له غرمت أنا ثلثمائة، لأني رجعت من الستمائة التي غرمتها بثلاثمائة، مائة منها علي من أصل الدين لا أرجع بها على أحد، والمائتان غرمتهما بالحمالة خمسون عنك ومائة وخمسون بالحمالة عن أصحابك، فادفع إلي الخمسين التي غرمت عنك من أصل الدين، ونصف ما غرمت بالحمالة - زائدا على ما غرمت أنت وذلك اثنان وستون ونصف؛ لأني غرمت أنا مائة وخمسين بالحمالة وغرمت أنت بها خمسة وعشرين؛ لأن الخمسة والسبعين التي غرمت بالحمالة للثاني قد رجعت منها على الرابع بالخمسين، فأسقط الخمسة وعشرين التي غرمت أنت من المائة والخمسين التي غرمت أنا، تبقى مائة وخمسة وعشرون، فادفع إلي نصفها - وذلك اثنان وستون ونصف، فإذا دفع ذلك إليه، اعتدلا بما غرما بالحمالة ومن أصل الدين.
فصل فإن لقيا جميعا الثاني الذي أخذ منه الأول ثلاثمائة ورجع هو على الثالث(2/386)
بمائة وخمسة وعشرين رجعا عليه بأربعة وسدس أربعة وسدس فيعتدلون ثلاثتهم فيما غرموا بالحمالة، وذلك أن الأول والثالث غرما بالحمالة على هذا مائة وخمسة وسبعين - سبعة وثمانين ونصفا، كل واحد منهما، وغرم الثاني بالحمالة خمسة وسبعين؛ فإذا رجعا عليه بأربعة وسدس أربعة وسدس، اعتدلوا ثلاثتهم فيما غرموا بالحمالة وكان كل واحد منهم قد أدى بها ثلاثة وثمانين وثلثا.
فصل فإن لقي الرابع المأخوذ منه خمسون أحد الاثنين الباقيين رجع عليه على هذا الترتيب بثمانية عشر وثلاثة أرباع، لأنه يقول له غرمت أنا خمسين خمسة وعشرون منها واجبة علي لا أرجع بها على أحد، وخمسة وعشرون بالحمالة عنك وعن صاحبك الغائب، الباقي اثنا عشر ونصف - على كل واحد منكما، فادفع إلي الاثني عشر ونصفا التي أديت عنك في خاصتك وستة وربعا نصف الاثني عشر ونصف عن صاحبك الغائب بالحمالة، لأنك حميل معي به، فيأخذ منه ثمانية عشر وثلاثة أرباع على ما قلناه.
فصل وإن لقي هذا الخامس المأخوذ منه ثمانية عشر وثلاثة أرباع الباقي من الستة، رجع عليه بستة وربع التي أدى عنه لا غير؛ لأن الاثني عشر ونصفا إنما أداها عن نفسه فلا يرجع بها على أحد، وهذه الثلاثة الأوجه لم يذكرها في الكتاب، وعلى هذا القياس والعمل، يرجع الأول والثاني والثالث على الرابع وعلى الخامس وعلى السادس بما أدوا عنه مما يجب عليهم في خاصتهم، وبما يجب عليهم مما أدوه عن أصحابهم بالحمالة، لقوهم مفترقين أو مجتمعين حتى يستووا فيما أدوا، فيكون كل واحد منهم قد أدى بمائة كما وجب عليه من أصل الدين.(2/387)
فصل فإن لقي الأول والثاني والثالث معا بعد أن استووا في الغرم على ما رتبناه - الرابع الذي غرم خمسين ورجع منها على الخامس بثمانية عشر وثلاثة أرباع، فإنهم يرجعون عليه بمائة وأربعة عشر ونصف ثمن، لأنهم يقولون له أدينا نحن خمسمائة وخمسين كل واحد منا مائة وثلاثة وثمانين وثلثا، وأديت أنت إحدى وثلاثين وربعا والواجب عليك ربع الجميع، لأنك رابعنا وذلك مائة وخمسة وأربعون وثمنان ونصف ثمن، أديت من ذلك إحدى وثلاثين وربعا، فبقي لنا عليك مائة وأربعة عشر ونصف ثمن، يأخذونها منه فيقتسمونها بينهم ثلاثتهم، فيجب لكل واحد منهم منها ثمانية وثلاثون وسدس ثمن، فيكون كل واحد منهم قد أدى مائة وخمسة وأربعين وثمنين ونصف ثمن، كما أدى هو؛ ولو لقوه مفترقين واحدا بعد واحد، لرجع كل واحد منهم عليه بما أدى عنه بالحمالة في خاصته، وبنصف ما أدى عن صاحبيه الغائبين بعد أن يسقط من ذلك ما أدى هو أيضا بالحمالة على ما بيناه فيما تقدم؛ فإذا التقوا ثلاثتهم، رجع بعضهم على بعض حتى يعتدلوا فيما أدوه، بمنزلة أن لو لقوه ثلاثتهم معا على ما فسرناه.
فصل فإن لقي الأول والثاني والثالث والرابع معا بعد أن استووا في الغرم فصار على كل واحد منهم مائة وخمسة وأربعون وثمنان ونصف ثمن الخامس الذي رجع عليه الرابع بثمانية عشر وثلاثة أرباع، فرجع هو منها على السادس بستة وربع، فإنهم يرجعون عليه بمائة وستة وخمس وربع خمس يقتسمون ذلك فيما بينهم أربعتهم فيجب لكل واحد منهم ستة وعشرون وخمسان وثلاثة أرباع(2/388)
الخمس وربع ربع الخمس، فيسقط ذلك من المائة والخمسة والأربعين والثمنين والنصف الثمن الذي أدى، فيكون الباقي الذي أدى كل واحد منهم مائة وثمانية عشر وثلاثة أخماس وثلاثة أرباع الخمس - كما أدى هو؛ لأنه أدى إليهم مائة وستة وخمسا وربع خمس؛ وكان قد أدى اثني عشر ونصفا - للرابع كما وصفناه، فالجميع مائة وثمانية عشر وثلاثة أخماس، وثلاثة أرباع الخمس؛ كما أدى كل واحد منهم؛ ولو لقوه مفترقين واحدا بعد واحد، لرجع كل واحد منهم عليه بما أدى عنه بالحمالة في خاصته وبنصف ما أدى عن صاحبه الغائب؛ لأنه حميل معه به بعد أن يسقط من ذلك ما أدى هو أيضا بالحمالة على ما بيناه فيما تقدم؛ فإذا التقوا أربعتهم رجع بعضهم على بعض حتى يعتدلوا فيما أدوه، بمنزلة أن لو لقوه أربعتهم، رجع بعضهم على بعض حتى يعتدلوا فيما أدوه بمنزلة أن لو لقوه أربعتهم معا على ما فسرناه.
فصل فإن لقي الأول والثاني والثالث والرابع والخامس معا بعد أن استووا، في الغرم، فصار على كل واحد منهم مائة وثمانية عشرة وثلاثة أخماس وثلاثة أرباع الخمس على ما وصفناه - السادس الذي رجع عليه الخامس بستة وربع، فإنهم يرجعون عليه بثلاثة وتسعين وثلاثة أرباع، فيقتسمونها بينهم خمستهم بالسواء، فيصير لكل واحد منهم ثمانية عشر وثلاثة أخماس وثلاثة أرباع الخمس وقد كان أدى مائة وثمانية عشر وثلاثة أخماس، وثلاثة أرباع الخمس. فيصير الذي أدى كل واحد منهم مائة، مائة - كما وجب عليهم من أصل الدين، وقد كان السادس أدى أيضا إلى الخامس ستة وربعا، فصار ذلك بالثلاثة والتسعين والثلاثة الأرباع التي أدى الآن إلى جميعهم - مائة كما وجب عليه من أصل الدين فاعتدل جميعهم في الغرم، ولو لقوه مفترقين - واحدا بعد واحد، لرجع كل واحد منهم عليه بما أدى عنه من أصل الدين، وبنصف ما أدى عنه بالحمالة؛ فإذا التقوا(2/389)
هم خمستهم رجع بعضهم على بعض حتى يعتدلوا فيما أدوه، فيكون كل واحد منهم أيضا قد أدى مائة كما وجب عليه من أصل الدين بمنزلة أن لو لقوه معا على ما صورناه.
فصل في تفسير المسألة على الرتبة التي ذكرنا وهي أن يلقى الأول الذي غرم جميع المال أو أكثر مما يجب عليه منه - الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع، ثم الخامس، ثم السادس، فيستوفي بذلك أيضا - جميع ما أداه بالحمالة؛ ثم يلقى الثاني الذي رجع عليه الأول - الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم السادس فيستوفي بذلك أيضا جميع ما أداه بالحمالة؛ ثم يلقى الثالث الذي رجع عليه الأول والثاني - الرابع، ثم الخامس، ثم السادس، فيستوفي بذلك أيضا ما أداه بالحمالة؛ ثم يلقى الخامس الذي رجع عليه الأول والثاني والثالث والرابع - السادس فيستوفي أيضا ما أداه بالحمالة؛ ووجه العمل في ذلك إذا لقي المأخوذ منه الستمائة الثاني من أصحابه أن يرجع عليه بثلاثمائة، لأنه يقول له أديت أنا ستمائة منها مائة واجبة علي من أصل الدين، والخمسمائة أديتها بالحمالة عنك وعن أصحابك الأربعة الغائبين مائة، مائة، عن كل واحد منكم فادفع إلي المائة التي أديت عنك ونصف الأربعمائة التي أديتها عن أصحابك، لأنك حميل معي بهم؛ فإذا رجع عليه بذلك استويا فيما غرما عن أنفسهما، وبالحمالة عن أصحابهما، وهذا الوجه في المدونة مشروحا مبينا.
فصل ثم إن لقي أيضا الثالث رجع عليه بمائة وخمسة وعشرين، لأنه يقول له بقي لي مما أديت ثلاثمائة منها مائة واجبة علي من أصل الدين، والمائتان أديتهما بالحمالة عنك وعن أصحابك الثلاثة الغائبين - خمسين، خمسين عن كل واحد(2/390)
منكم، فادفع إلي الخمسين التي أديت عنك، ونصف المائة وخمسين التي أديت عن أصحابك، - لأنك حميل معي بهم، فإذا رجع بذلك عليه، بقي له مما أدى مائة وخمسة وسبعون.
فصل ثم إن لقي أيضا الرابع رجع عليه بخمسين؛ لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة خمسة وسبعون أديتها عنك وعن صاحبيك الغائبين خمسة وعشرين؛ خمسة وعشرين - عن كل واحد منكم، فادفع إلي الخمسة والعشرين التي أديت عنك، ونصف الخمسين التي أديت عن صاحبيك بالحمالة، لأنك حميل معي بهما، فإذا رجع عليه بذلك، بقي له مما أدى بالحمالة خمسة وعشرون.
فصل ثم إن لقي الخامس رجع عليه بثمانية عشر وثلاثة أرباع، لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة خمسة وعشرون أديتها عنك وعن صاحبك الغائب اثني عشر ونصف، اثني عشر ونصف - عن كل واحد منكما، فادفع إلي الاثني عشر ونصف التي أديت عنك في خاصتك، ونصف الاثني عشر ونصف التي أديت عن صاحبك الغائب لأنك حميل معي به فإذا رجع عليه بذلك، بقي له مما أدى بالحمالة ستة وربع يرجع بها على السادس إذا لقيه فيستوفي بذلك جميع حقه الذي أدى بالحمالة.
فصل فإن لقي الثاني الذي رجع عليه الأول بثلاثمائة - الثالث الذي رجع عليه الأول بمائة وخمسة وعشرين، رجع عليه بسبعة وثمانين ونصف، لأنه يقول له أديت للأول ثلاثمائة منها مائة واجبة علي لا أرجع بها على أحد، والمائتان أديتهما إليه(2/391)
بالحمالة خمسون عنك ومائة وخمسون عن أصحابك الثلاثة الغائبين، وقد أديت أنت بالحمالة إلى الأول خمسة وسبعين فادفع إلي الخمسين التي أديت عنك ونصف ما بقي من المائة والخمسين التي أديت عن أصحابك بالحمالة بعد طرح الخمسة والسبعين التي أديتها أنت بالحمالة من ذلك وذلك سبعة وثلاثون ونصف؛ فإذا رجع عليه بذلك بقي له مما أدى بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف.
فصل ثم إن لقي أيضا الرابع الذي رجع عليه الأول بخمسين، رجع عليه باثنين وستين ونصف؛ لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف، أديتها عنك وعن صاحبيك الغائبين سبعة وثلاثون ونصف عنك وخمسة وسبعون عن صاحبيك الغائبين، وقد أديت أنت بالحمالة إلى الأول خمسة وعشرين، فادفع إلي السبعة والثلاثين ونصفا التي أديت عنك ونصف ما بقي من الخمسة والسبعين التي أديت بالحمالة عن صاحبيك بعد طرح الخمسة والعشرين التي أديتها أنت إلى الأول بالحمالة، وذلك خمسة وعشرون فجميع ذلك اثنان وستون ونصف - كما قلناه، فإذا رجع عليه بذلك بقي له مما أدى بالحمالة خمسون.
فصل ثم إن لقي أيضا الخامس الذي رجع عليه الأول بثمانية عشر وثلاثة أرباع، رجع عليه بأربع وثلاثين وثلاثة أثمان، لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة خمسون أديت نصفها عنك ونصفها عن صاحبك الغائب بالحمالة، وقد أديت أنت بالحمالة إلى الأول ستة وربعا، فادفع إلي الخمسة والعشرين التي أديت عنك ونصف ما بقي من الخمسة والعشرين التي أديت عن صاحبك بعد طرح الستة وربع(2/392)
التي أديتها أنت بالحمالة إلى الأول من ذلك وذلك تسعة وثلاثة أثمان، فجميع ذلك أربع وثلاثون وثلاثة أثمان - كما قلناه؛ فإذا رجع عليه بذلك، بقي له مما أدى بالحمالة خمسة عشر وخمسة أثمان يرجع بها على السادس الذي رجع عليه الأول بستة وربع إذا لقيه، فيستوفي بذلك جميع حقه الذي أدى بالحمالة عنهم.
فصل فإذا لقي الثالث الذي رجع عليه الأول بمائة وخمسة وعشرين ورجع عليه الثاني بسبعة وثمانين ونصف - الرابع الذي رجع عليه الأول بخمسين، والثاني باثنين وستين ونصف، رجع عليه بخمسين؛ لأنه يقول له تحمل فيما أديت للأول والثاني مائتان واثنا عشر ونصف منها مائة عن نفسي لا أرجع بها على أحد، والمائة والاثنا عشر ونصف أديتها عنك وعن صاحبيك الغائبين، سبعة وثلاثون ونصف عنك وخمسة وسبعون عن صاحبيك، وقد أديت أنت بالحمالة للأول خمسة وعشرين، وللثاني خمسة وعشرين، فادفع إلي السبعة والثلاثين ونصفا التي أديت عنك في خاصتك، ونصف ما بقي من الخمسة والسبعين التي أديتها عن صاحبيك بالحمالة؛ إذا طرحت منها الخمسين التي أديتها أنت بالحمالة أيضا - وذلك اثنا عشر ونصف فيصير ذلك خمسين على ما قلناه؛ فإذا رجع عليه بذلك، بقي له مما أدى بالحمالة اثنان وستون ونصف.
فصل فإن لقي الخامس الذي رجع عليه الأول بثمانية عشر وثلاثة أرباع،(2/393)
ورجع عليه الثاني بأربعة وثلاثين وثلاثة أثمان، رجع عليه بتسعة وثلاثين ونصف ثمن، لأنه يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة اثنان وستون ونصف، أديتها عنك وعن صاحبك الغائب. أحد وثلاثون وربع عنك وأحد وثلاثون وربع عن صاحبك الغائب بالحمالة - وقد أديت أنت بالحمالة للأول ستة وربعا، وللثاني تسعة وثلاثة أثمان، فادفع إلي الأحد والثلاثين وربعا التي أديت عنك في خاصتك، ونصف ما بقي من الأحد والثلاثين وربع التي أديت عن صاحبك بالحمالة إذا طرحت منها الخمسة عشر والخمسة الأثمان التي تحملت فيما أديت أنت بالحمالة للأول والثاني وذلك سبعة وستة أثمان ونصف ثمن فيصير ذلك تسعة وثلاثين ونصف ثمن على ما قلناه؛ فإذا رجع عليه بذلك بقي له مما أدى بالحمالة ثلاثة وعشرون وثلاثة أثمان ونصف ثمن يرجع بها على السادس الذي رجع عليه الأول بستة وربع والثاني بخمسة عشر وخمسة أثمان، إذا لقيه فيستوفي بذلك جميع حقه الذي أدى بالحمالة عنهم أجمعين.
فصل فإن لقي الرابع الذي رجع عليه الأول بخمسين، ورجع عليه الثاني باثنين وستين ونصف، والثالث بخمسين - الخامس الذي رجع عليه الأول بثمانية عشر وثلاثة أرباع، والثاني بأربعة وثلاثين وثلاثة أثمان، والثالث بتسعة وثلاثين ونصف ثمن، رجع عليه بخمسة وثلاثين وثمن وربع ثمن؛ لأنه يقول تحمل فيما أديت للأول والثاني والثالث مائة واثنان وستون ونصف، منها مائة عن نفسي لا أرجع بها على أحد، والاثنان وستون ونصف أديتها بالحمالة عنك وعن صاحبك الغائب أحد وثلاثون وربع عنك، وأحد وثلاثون وربع عن صاحبك بالحمالة وقد أديت أنت بها للأول ستة وربعا، وللثاني تسعة وثلاثة أثمان، وللثالث سبعة وستة أثمان ونصف ثمن، تحمل في ذلك ثلاثة وعشرون وثلاثة أثمان ونصف ثمن، فادفع إلي الأحد(2/394)
والثلاثين والربع التي أديت عنك في خاصتك، ونصف مما بقي مما أديت بالحمالة - إذا طرحت منها الثلاثة والعشرين والثلاثة الأثمان ونصف الثمن التي أديت أنت بها وذلك ثلاثة وسبعة أثمان وربع ثمن فيصير ذلك خمسة وثلاثين وثمنا وربع ثمن كما قلناه، فإذا رجع عليه بذلك بقي له مما أدى بالحمالة سبعة وعشرون وثمنان وثلاثة أرباع الثمن، يرجع بها على السادس إذا لقيه، فيستوفي جميع حقه الذي أدى بالحمالة عنهم أجمعين.
فصل فإن لقي الخامس الذي رجع عليه الأول بثمانية عشر وثلاثة أرباع والثاني بأربعة وثلاثين وثلاثة أثمان والثالث بتسعة وثلاثين ونصف ثمن والرابع بخمسة وثلاثين وثمن وربع ثمن - السادس الذي رجع عليه الأول بستة وثمن، والثاني بخمسة عشر وخمسة أثمان، والثالث بثلاثة وعشرين وثلاثة أثمان ونصف ثمن والرابع بسبعة وعشرين وثمنين وثلاثة أرباع ثمن، رجع عليه بسبعة وعشرين وثمنين وثلاثة أرباع ثمن، لأنه يقول له تحمل فيما أديت للأول والثاني والثالث والرابع مائة وسبعة وعشرون وثمنان وثلاثة أرباع ثمن، مائة منها واجبة علي لا أرتجع بها على أحد، والسبعة والعشرون والثمنان وثلاثة أرباع الثمن، أديتها بالحمالة عنك، فادفعها إلي، فإذا رجع عليه بذلك استوفى جميع حقه الذي أدى بالحمالة عنهم أجمعين؛ وكان هذا السادس إذا رجع عليه بهذا العدد قد غرم مائة كاملة كما وجب عليه من أصل الدين وكما غرم كل واحد منهم؛ لأنه غرم للأول ستة وربعا، وللثاني خمسة عشر وخمسة أثمان، وللثالث ثلاثة وعشرين وثلاثة أثمان ونصف ثمن، وللرابع سبعة وعشرين وثمنين وثلاثة أرباع الثمن وللخامس سبعة وعشرين وثمنين، وثلاثة أرباع الثمن. فصار جميع ذلك مائة - كما قلناه؛ فقد أتينا بحمد الله على ما شرطنا من شرح المسألة على الوجهين المذكورين، فمن فهم ذلك ووقف على معناه، لم يلتبس عليه وجه العمل فيها على أي رتبة التقوا عليها - وهي كثيرة يعسر إحصاؤها، ويطول استقصاؤها، وقد كان أكثر الشيوخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا يقرونها(2/395)
ويقولون - اعتذارا في ترك قراءتها -: إنها مسألة حساب فلا معنى للاشتغال بها، وليس ذلك كما كانوا يقولون، إنما انغلاقها من جهة الفقه لا من جهة الحساب، فمن فهمها من جهة الفقه لم يلتبس عليه شيء منها من طريق الحساب ولا من المسألتين الواقعتين بعدها في الباب - وهما إذا اشترط صاحب الدين أن كل اثنين منهم حميل بجميع المال أو كل ثلاثة حميل بجميع المال، فلذلك عنيت بشرحها وتفسيرها، والتوفيق بيد الله لا شريك له ولا معبود سواه.
فصل وقد وقع في الكتاب في آخر مسألة الثلاثة نفر الذين اشتروا السلعة على أن كل واحد منهم حميل بما على صاحبه كلام فيه إشكال يفتقر إلى بيان ونص ما لا إشكال فيه منها: قال: وسألت ابن القاسم عن ثلاثة نفر اشتروا سلعة من رجل وكتب عليهم أيهم شئت أخذت بحقي وكل واحد منهم حميل بما على صاحبه، فمات أحد الثلاثة فادعى ورثة الهالك أنه قد دفع المال كله إلى بائع السلعة وأقاموا شاهدا، قال: يحلفون مع شاهدهم ويبرأون ويرجعون على الشريكين الباقيين بما أدى صاحبهم عنهما؛ وأما قوله: قلت فإن أبى الورثة أن يحلفوا إلى آخر قوله، ففيه إشكال، وبيانه أن الورثة إذا نكلوا عن اليمين مع شاهدهم، فإن الأمر لا يخلو من أن يكون الميت مليا أو معدما؛ فأما إن كان الميت مليا فإن الأمر لا يخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يصدق الشريكان الورثة فيما ادعوا من أن الميت دفع جميع الحق من ماله إلى البائع عن نفسه وعنهما ليرجع عنهما بما ينوبهما منه.
والثاني: أن يقولا إنما جميع ذلك من أموالنا بوكالتنا إياه على ذلك.
والثالث: أن يقولا إنما دفع ذلك من ماله إلى البائع - وأموالنا إذ كنا قد دفعنا إليه ما ينوبه منه وكلناه على دفعه عنا.(2/396)
فأما الوجه الأول وهو أن يصدق الشركان الورثة فيما ادعوا من أن الميت دفع جميع الحق من ماله، إلى البائع عن نفسه وعنهما ليرجع عليهما بما ينوبهما منه، فيرجع اليمين على البائع فيحلف على تكذيب ما شهد به الشاهد، ويرجع بجميع حقه فيأخذ ثلثيه من الشريكين وثلثه من مال المتوفى، وليس للورثة أن يرجعوا على الشريكين بما ينوبهما من المال الذي أقرا أن موروثهم أداه على ما شهد به الشاهد - وإن كانا قد صدقاه في شهادته بذلك، لأن الميت ضيع في تركه الإشهاد، فالمصيبة منه؛ قال ابن أبي زيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يكون الدفع بحضرتهما، فيكون لهم الرجوع بذلك عليهما، وذلك على ما روى أبو زيد عن ابن القاسم، خلاف ما روى عنه عيسى من أنه لا رجوع لهم عليهما وإن كان الدفع بحضرتهما، قال في هذا الوجه في الكتاب ولا يحلف الشريكان لأنهما يغرمان، فأما قوله إنهما لا يحلفان فصواب، لأن الشاهد ليس هو لهما وإنما هو للورثة عليهما، وأما قوله لأنهما يغرمان فتعليل فيه نظر يوهم أنه أراد أنهما لا يحلفان، لأنهما إن حلفا غرما للورثة؛ وإن لم يحلفا غرما للبائع: ولذلك لم يحلفا. ولو كان مراده ذلك، لكان من حقهما أن يحلفا إن شاءا ليسقطا طلب البائع عنهما لما قد يرجوان من مسامحة الورثة لهما في الاقتضاء ولا يصح أن يكون مراده ذلك، لما بيناه من أنه لا رجوع للورثة عليهما بما ينوبهما مما أدى الميت عنهما من ماله وإن صدقاه على الدفع إلا أن يقرا أنه كان بحضرتهما على إحدى الروايتين المذكورتين عن ابن القاسم، وإنما كان يجب أن يقول ولا يحلف الشريكان ويغرمان للبائع، فإن نكل البائع في هذا الوجه عن اليمين بعد نكول الورثة، سقط حقه ورجع الورثة على الشريكين بما ينوبهما من الحق.
وأما الوجه الثاني - وهو أن يقولا إنما دفع جميع ذلك من أموالنا بوكالتنا إياه على ذلك، ففي ذلك بين المتأخرين اختلاف: قال ابن أبي زيد يحلف الشريكان لقد دفع الميت ذلك ويبرآن ويرجع البائع على الورثة بما ينوبهم بنكولهم بعد يمينه أنه ما قبض من وليهم شيئا، وللشريكين أن يحلفا الورثة إن كانوا كبارا: ما يعلمون أنهما دفعا إلى وليهم شيئا، فإن نكلوا عن اليمين حلفا لقد دفعا جميع الحق إليه، ورجعا عليهم بالثلث الذي ينوبهم منه؛ وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن البائع يحلف فيأخذ من جميعهم ماله ويحلف الورثة للشريكين أنهم ما يعلمون أنهما دفعا(2/397)
إلى وليهم شيئا، فإن نكلوا عن اليمين، حلف الشريكان لقد دفعا ذلك إليه ورجعا عليهم في التركة بما ينوب الميت من ذلك؛ قال: ولا يكون للشريكين أن يحلفا لقد دفع الميت ذلك من أموالهما ويبرآن، لأن ما في يد الميت على ملكه حتى يثبت الدفع إليه، وذهب بعض الأندلسيين إلى أن الشريكين يحلفان لقد دفع الميت ذلك من أموالهما ويبرآن ويرجعان على الورثة بما ينوبهما منه إذا لم يحلفوا فهذه ثلاثة أقوال في هذا الوجه:
أحدها: أن الشريكين يحلفان، ويبرآن من نصيبهما، ولا يرجعان على الورثة بما ينوبهما.
والثاني: أنهما يحلفان ويبرآن من نصيبهما ويرجعان على الورثة بما ينوبهما.
والثالث: أنهما لا يمكنان من اليمين.
والذي يوجبه النظر - عندي - إذا لم يكن للشريكين بينة على ما ادعيا من دفع المال إلى الميت ولا شهد بذلك الشاهدان، يقال للورثة احلفوا أنكم ما تعلمون أنهما دفعا إليه شيئا، فإن حلفوا على ذلك لم يمكن الشريكان من اليمين، وحلف البائع لنكول الورثة ورجع عليهما وعلى الورثة بحقه؛ وإن نكلوا عن اليمين، حلف الشريكان لقد دفعا ذلك إليه ولقد دفع هو ذلك إلى البائع وبرئا من نصيبهما ورجعا على الورثة بما ينوبهما.
وأما الوجه الثالث - وهو أن يقولا إنما دفع ذلك إلى البائع من ماله وأموالنا، ففي قول ابن أبي زيد يحلف الشريكان ويبرآن ويحلف البائع ويرجع على الورثة بما ينوبه من ذلك، وعلى ما ذهب إليه أبو إسحاق التونسي لا يمكن الشريكان من اليمين، ويحلف البائع ويرجع على جميعهم بماله؛ والذي يوجبه النظر - عندي على ما تقدم - أن يقال للورثة احلفوا أنكم ما تعلمون أنهما دفعا إليه شيئا، فإن حلفا على ذلك لم يمكن الشريكان من اليمين، وحلف البائع ورجع على جميعهم(2/398)
بماله؛ وإن نكلوا عن اليمين، حلف الشريكان لقد دفعا ذلك إلى الميت، وحلفا مع الشاهد لقد دفع ذلك الميت إلى البائع وبرئا من نصيبهما، وحلف البائع ما دفع إليه شيئا، ورجع على الورثة بما ينوبه.
فصل وكذلك إذا كان الميت معدما لا يخلو الأمر أيضا من الثلاثة الوجوه المذكورة:
فأما الوجه الأول منها، وهو أن يصدق الشريكان الورثة فيما ادعوا من أن الميت دفع جميع الحق من ماله إلى البائع عن نفسه وعنهما ليرجع عليهما بما ينوبهما منه، فذهب ابن أبي زيد إلى أن للشريكين أن يحلفا مع الشاهد ليبرآ من حمالة الثلث الذي الميت به عديم، قال: فإذا حلفا غرما للورثة الثلثين ورجع البائع عليهم في ذلك بالثلث إذا حلف أنه لم يقبض من وليهم شيئا، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن الشريكين إذا حلفا مع الشاهد ليبرآ من حمالة الثلث الذي الميت به عديم لا يغرمان الثلثين للورثة وإنما يغرمان ذلك للبائع بعد يمينه وهو الصحيح على ما بيناه من أنهما لا يلزمهما للورثة ما دفع الميت عنهما من ماله، لأنه أتلف ذلك على نفسه بتضييعه الإشهاد، وقد مضى القول على الوجه الثاني والثالث إذا كان الميت مليا ولا فرق فيهما بين أن يكون مليا أو معدما إلا في اتباع ذمته بما يلزمه إن طرأ له مال وبالله التوفيق.
[فصل في الحمالة بالوجه]
فصل وأما الحمالة بالوجه فإنها جائزة إذا كان المتحمل به مطلوبا بمال ولم يكن مطلوبا بشيء يجب عليه في بدنه من قتل أو حد أو قصاص أو تعزير، هذا(2/399)
مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، ومن أهل العلم من يرى الكفالة في الحدود والقصاص والجراح، ذكر البخاري في كتابه عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه أن عمر بعثه مصدقا، فوقع رجل على جارية امرأته فأخذ حمزة من الرجل كفيلا حتى قدم على عمر. وكان عمر قد جلده مائة جلدة فصدقهم وعذره بالجهالة؛ وقال جرير والأشعث لعبد الله بن مسعود في المرتدين استتبهم وكفلهم، فتابوا فكفلهم عشائرهم.
فصل وأصل جواز الحمالة بالعين قائم من كتاب الله - عز وجل قال الله تعالى في قصة يعقوب: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] ، فهذه حمالة بالنفس ووثيقة بالعين.
فصل فمن رأى الكفالة فيما يتعلق بالأبدان من حد أو قصاص أو جراح، فيلزم الكفيل إن لم يأت بالمكفول به من طلبه ما يلزم الحميل بالوجه إذا اشترط أنه لا شيء عليه من المال؛ وقال عثمان البتي إذا تكفل بنفس في قصاص أو جراح، فإنه إن لم يجيء به لزمته الدية وأرش الجراحة وكانت له في مال الجاني، إذ لا قصاص على الكفيل.
فصل والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أنه لا كفالة في الحدود ولا في القصاص ولا في الجراح ولا في التعزير، وإنما الواجب في ذلك السجن لا الكفالة، فقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجن قوما بالمدينة في تهمة دم، وقد قيل إن(2/400)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر الصديق لم يسجنا ولا كان لهما سجن، والصحيح أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد حكم بالضرب والسجن - ذكر ذلك ابن شعبان؛ وأما عمر بن الخطاب فلم يختلف عنه في أنه كان له سجن وقد سجن الحطيئة على الهجو، وسجن ضبيعا على سؤاله عن المشكلات، وكذلك من بعده من الأمراء والحكام، حكموا بالسجن فيما يجب فيه السجن.
فصل وقد ضعف الشافعي الحمالة في المال في الوجه، فيأتي في المسألة على هذا ثلاثة أقوال:
أحدها: إجازة الحمالة بالوجه في المال والحدود والقصاص.
والثاني: أن الحمالة بالوجه لا تجوز في شيء من ذلك.
والثالث. تفرقة مالك وأصحابه.
فصل والحميل بالوجه يلزمه غرم المال إذا لم يحضر العين؛ فإن أحضره بريء من المال - وإن كان عديما، إلا أن يشترط ألا شيء عليه من المال فينفعه الشرط ولا يجب عليه غرم المال وإن لم يحضره إلا أن يكون قادرا على الإتيان به فيفرط في ذلك ويتركه أو يغيبه حتى يذهب، فيكون ضامنا للمال بإهلاكه إياه؛ وما لم يفعل شيئا من ذلك، فلا ضمان عليه في المال، وإنما يلزمه الطلب خاصة على ما اشترط وفيما يلزمه من الطلب اختلاف بين أصحاب مالك، وهو موجود في الأمهات؛ من ذلك ما وقع في سماع حسين من كتاب الكفالة، وما حكى ابن حبيب في الواضحة، فمن أراد الوقوف على الاختلاف في ذلك، تأمله في مواضعه - إن شاء الله؛ قال في كتاب ابن المواز وكذلك لو قال لا أضمن إلا وجهه لم يلزمه ضمان المال إن لم يأت بالعين، وهذا فيه نظر عندي - إذ لا فرق بين أن يقول أنا(2/401)
ضامن لوجهه - ولا يزيد على ذلك، أو يقول لا أضمن إلا وجهه في وجوب ضمان الوجه عليه؛ ومن ضمن الوجه، فهو ضامن للمال إن لم يأت بالوجه؛ كما لا فرق بين أن يقول الرجل أسلفني فلان ألف مثقال، أو يقول ما أسلفني إلا ألف مثقال - في وجوب الألف مثقال عليه، وإنما يصح ما قال ابن المواز إذا كان لكلامه بساط يدل على أنه إنما أراد ضمان الوجه بلا مال وذلك مثل أن يقال له تحمل لنا بوجه فلان، فإن جئت بوجهه فأنت بريء من المال، فيقول: لا أضمن لكم إلا وجهه، وما أشبه ذلك.
فصل واختلف إذا قال أنا حميل أو كفيل - وعري الكلام عن دليل - فقيل هو محمول على حمالة الوجه حتى ينص على المال، وقيل هو محمول على حمالة المال حتى ينص على الوجه، والأصح أنه محمول على حمالة المال حتى ينص أنه حميل بالوجه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحميل غارم، والزعيم غارم» ؛ وأما إن تداعيا البيان لا الإبهام، فالقول قول الحميل مع يمينه أنه إنما تحمل بالوجه ويبرأ من المال إذا أتى بالعين، لأنه المدعى عليه، ولا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه، وبالله التوفيق.(2/402)
[كتاب الحوالة] [فصل في القول في الحوالة]
فصل في القول في الحوالة «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق إلا مثلا بمثل، يدا بيد» ونهى عن الدين بالدين ورخص في الحوالة فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم، ومن أتبع على مليء فليتبع» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فليتبع، أمر والمراد به الندب والإرشاد، لا الوجوب والإلزام، فليس بواجب عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأكثر أهل العلم ليحيل على مليء أو معدم أو يستحيل عليه إلا أن يشاء، لأنه: إنما رضي بذمة غريمه، فليس عليه أن ينتقل عنها إلا برضاه، خلافا لأهل الظاهر في قولهم على المحال فرضا واجبا إذا أحيل على مليء أن يستحيل عليه.
فصل والحوالة بيع من البيوع إلا أنها خصصت من الأصول لما كانت على سبيل المعروف، كما خصص شراء العرية بخرصها من المزابنة لما كان على سبيل المعروف، وكما خصصت الشركة والتولية والإقالة في الطعام المكيل(2/403)
والموزون، وأخرج من البيع لما كان ذلك على سبيل المعروف، ولم يكن على وجه المكايسة، فكذلك الحوالة إنما تجوز إذا كانت على وجه المعروف، فإن دخلها وجه من وجوه المكايسة رجعت إلى الأصل فلم تجز.
[فصل في شروط جواز الحوالة]
فصل فلجواز الحوالة ثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون دين المحال حالا، لأنه إن لم يكن حالا كان بيع ذمة بذمة، فدخله ما نهي عنه من الدين بالدين، وما نهي عنه من بيع الذهب بالذهب، أو الورق بالورق، إلا يدا بيد، إذا كان الدينان ذهبا أو ورقا؛ إلا أن يكون الدين الذي ينتقل إليه حالا، ويقبض ذلك مكانه قبل أن يفترقا - مثل الصرف، فيجوز ذلك.
والثاني: أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الدين الذي يحيله عليه في القدر والصفة، لا أقل ولا أكثر ولا أدنى ولا أفضل، لأنه إن كان أقل أو أكثر أو مخالفا له في الجنس والصفة، لم تكن حوالة، وكان بيعا على وجه المكايسة، فدخلها ما نهي عنه من الدين بالدين أيضا.
والثالث: أن لا يكون الدينان طعاما من سلم أو أحدهما، ولم يحل الدين المستحال به على مذهب ابن القاسم، وللزومهما شرط واحد، وهو أن لا يغره من فلس عليه من غريمه.
فصل
والحوالة جائزة في جميع الديون إذا تساوت في الوزن والصفة، وحل الدين المحال به - كانت من بيع أو قرض أو تعد، إلا أن يكونا جميعا طعاما من سلم، فلا تجوز الحوالة بأحدهما على الآخر حلت الآجال أو لم تحل، أو حل(2/404)
أحدهما ولم يحل الآخر؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى، استوت رؤوس أموالهما أو لم تستو على مذهب ابن القاسم، خلافا لأشهب في قوله إنه إذا استوت رؤوس أموالهما جازت الحوالة، وكانت تولية؛ فإن كان أحدهما من قرض والآخر من سلم، فلا تجوز حوالة أحدهما على الآخر حتى يحلا جميعا، هذا مذهب ابن القاسم.
وحكى ابن حبيب في الواضحة عن جماعة أصحاب مالك حاشا ابن القاسم - أنهما بمنزلة إذا كانا جميعا من سلف يجوز أن يحيل أحدهما على الآخر إذا حل المحال به.
فصل وينزل المحال في الدين الذي أحيل عليه منزلة من أحاله ومنزلته في الدين الذي أحيل به فيما يريد أن يأخذ به منه أو يبيعه به من غيره؛ فإن كان احتال بطعام، كان له من قرض في طعام من سلم، أو بطعام كان له من سلم في طعام من قرض، لم يجز له أن يبيعه من غيره قبل استيفائه؛ لأنه إن كان احتال من القرض في السلم، لم يجز له أن يبيعه قبل أن يستوفيه، لنزوله فيه منزلة من أحاله، وإن كان احتال من السلم في القرض لم يجز له أن يبيعه حتى يستوفيه لنزوله فيه منزلته في الطعام الذي احتاله به ولا يجوز له أن يأخذ منه إلا الطعام الذي أحيل به أو مثل رأس مال السلم سواء، فيصير بمنزلة الإقالة؛ فإن كانا جميعا من قرض جاز له أن يبيعه قبل أن يستوفيه منه ومن غيره بكل ما يجوز أن يباع به طعام القرض، لأنه كان يجوز له أن يبيع الطعام الذي احتال به؛ وكان للذي أحاله أن يبيع الطعام الذي أحاله عليه، لكونهما جميعا من قرض؛ وكذلك لو احتال بعرض كان له(2/405)
من قرض في عرض من قرض؛ فإن كانا جميعا من سلم وكان أحدهما سلم دنانير، والآخر دراهم، لم يجز له أن يبيعه - أعني العرض منه قبل أن يستوفيه بدنانير ولا بدراهم لما قدمناه؛ وجاز له أن يبيعه منه بعرض مخالف له إن كان الأجل لم يحل، وبما شاء من العروض - إن كان الأجل قد حل. وأما من غيره فيجوز له أن يبيعه بما شاء من الدنانير والدراهم والعروض المخالفة لها إذا تعجلها وألا يجوز له أن يبيعها بعروض من صنفها - أقل منها أو أكثر؛ وإن تعجلها إلا أن يعجلها هو أيضا، فيكون يدا بيد مثل الصرف؛ وإن كان سلم كل واحد منهما في عرضه دنانير أو دراهم، مثل ما سلم صاحبه جاز له أن يبيعه منه بمثل ذلك أو أقل - ولم يجز بأكثر منه، لأنه يدخله سلم دنانير أو دراهم في أكثر منها إلى أجل، وإن كان سلم أحدهما في عرضه أكثر مما سلم صاحبه في عرضه، لم يجز له أن يبيع العرض الذي أحيل عليه إلا بمثل أقل الثمنين فأقل، ولا يجوز بأكثر من أحدهما وإن كان مثل الآخر أو أقل منه؛ وإن كان أحدهما من قرض والآخر من سلم فاحتال بأحدهما في الآخر لم يجز له أن يبيعه إلا بمثل رأس مال السلم فأقل كان الذي احتال عليه هو القرض أو السلم لما قدمناه من مراعاة الوجهين؛ ومن له دنانير من قرض فاحتال بها على ثمن طعام، فلا يجوز له أن يأخذ من الذي عليه بها طعاما، لأنه ينزل فيها منزلة من أحاله فيدخله الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما؛ وكذلك إن كان له دنانير من ثمن طعام باعه، فأحيل بها على دنانير من قرض، لم يجز له أن يأخذ منه فيها طعاما لأنه ينزل منزلته فيما كان له على الذي أحاله، فكما لا يجوز له أن يأخذ من الذي أحاله طعاما، فكذلك لا يجوز له أن يأخذ من هذا الذي أحيل عليه طعاما، لأنه غريم غريمه، وبالله التوفيق.(2/406)
[كتاب الحبس والصدقة والهبة]
أجمع أهل العلم على جواز الهبة والصدقة وثبوت حكمها في الشرع، والأصل في ذلك قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] . وقوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] ، وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] ، وقوله: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88] ، وقوله: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن: 17] . ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي الدحداح تصدق بحديقة له فأعطاه الله في الجنة ألف ألف حديقة. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تصدق بصدقة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيبا - كان إنما(2/407)
يضعها في كف الرحمن يربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» ، وما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «كان يقبل الهدية ويثيب عليها» ، وقوله: «لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت» ، وقوله: «ولا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده» ، وقوله: «الراجع في صدقته، كالكلب يعود في قيئه» ، «وقوله للنعمان بن بشير: " أكل ولدك نحلته مثل هذا» ، وقوله: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول» ، والآثار الواردة في هذا أكثر من أن تحصى كثيرة.
فصل وإنما اختلف أهل العلم هل تلزم الهبة والصدقة بالقول أم لا؟ وإذا لزمت بالقول، فهل تفتقر إلى حيازة أم لا؟ وهل تجوز إن كانت مجهولة أو مشاعة غير مقسومة أم لا - على أقاويل شتى؟
فصل فالذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه أنها تلزم بالقول وتجب به وتفتقر إلى الحيازة فيحكم على الواهب أو المتصدق بدفعها ما لم يمرض أو(2/408)
يفلس - خلافا للشافعي وأبي حنيفة في قولهما إن الهبة والصدقة لا يلزمان بالقول ولا يجبان إلا بالقبض، وأن للواهب أو المتصدق الرجوع فيها ما لم تقبض منه وتحز عنه، والحجة لمالك ومن قال بقوله في وجوبه الصدقة والهبة بالقول، قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، والعقد هو الإيجاب والقبول، وذلك موجود في مسألتنا وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده» ، ومن طريق المعنى: فإن الصدقة والهبة لو لم ينعقدا بالقول، لما لزما بالقبض؛ لأن مجرد القبض إذا ألغي القول ولم يجعل له حكم لا يوجب الصدقة ولا الهبة، ففي اتفاقنا على لزوم الصدقة والهبة بالقبض، دليل على انعقادهما بالقول، إذ القبض لا بد أن يكون تاليا لعقد متقدم، ومتى لم يكن تاليا لعقد متقدم، لم يوجب حكما بانفراده.
فصل والعقود التي تنتقل بها الأملاك تنقسم على قسمين: بعوض وعلى غير عوض.
فأما ما كان منها على عوض فلا يفتقر إلى حيازة، لارتفاع التهمة في ذلك، وما كان بغير عوض كالهبة والصدقة، فمن شرط تمامه وكماله القبض عند مالك وجميع أصحابه.
فصل وقد اختلف في الزيادة في ثمن السلعة أو صداق المرأة، فحكم لها بحكم الهبة في افتقارها إلى الحيازة والقبض في بعض المواضع دون بعض، أما مالك وأصحابه فلم يجروا في ذلك على قياس، وخالفهم جماعة من فقهاء الأمصار، فحكموا لها بحكم الثمن في كل موضع كان البيع وقع عليها؛ واحتجوا «بحديث جابر بن عبد الله أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ابتاع منه بعيره وزاده عند القضاء(2/409)
قيراطا» ، فقالوا محال أن يكون جابر بن عبد الله يملك ما ملكه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير الوجه الذي ملكه به، واحتجوا أيضا بحديث ابتياع عبد الله بن عوف بن عثمان بن عفان الفرس الغائبة وزيادته بعد كمال البيع أربعة آلاف على أن يكون الضمان منه، فدل ذلك على إلحاق الزيادات بعقود البياعات، وقد كان ذلك بحضرة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الذين تمنوا أن يعرفوا أيهما أجد في البيع، وهذا ما كان المبيع يمكن رده واستئناف البيع فيه، لم يفت بعتق ولا موت ولا خروج عن يد مبتاعه؛ فإن كانت الزيادة بعد فواته بشيء من ذلك، حكم لها بحكم الهبة - قولا واحدا. فوجه ما ذهبوا إليه من ذلك أنه إذا زاده في الثمن بعد كمال البيع وقبل منه الزيادة، فكأنهما تناقضا البيع الأول واستأنفا بيعا جديدا بالثمن الأول والزيادة؛ وأما إن كانت الزيادة بعد عقد ما لا يصح نقضه - كالصلح على دم العمد أو على شيء من المجهول، فقيل إن الزيادة ترد إلى صاحبها - وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقيل إنه يحكم لها بحكم الهبة في جميع الوجوه - وهو الأشهر والأكثر؛ وعلى هذا المعنى اختلفوا في افتقار النحلة عند عقد النكاح إلى الحيازة، وفي جواز بيع مال العبد بعد كمال البيع، ومسائل من هذا المعنى كثيرة وبالله التوفيق.
فصل والهبة والصدقة وما أشبههما على مذهبنا تفتقر إلى حيازة ولا تتم إلا بها، ومتى لم تحز عن الواهب أو المتصدق حتى مات أو فلس، فقد بطلت.
فصل وإنما كانت الحيازة من شرط تمام الهبة والصدقة، لأنهما لو أجيزا دون حيازة، لكان ذلك ذريعة إلى أن ينتفع الإنسان بماله طول حياته ثم يخرجه عن(2/410)
ورثته بعد وفاته - وذلك ممنوع؛ لأن الله تعالى فرض الفرائض لأهلها، وتوعد على تعديها فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] ، وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] ، وبذلك ورد الخبر أيضا عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فأما خبر أبي بكر الصديق، فهو حديثه في قصة عائشة أنه كان نحلها جداد عشرين وسقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال وإرث، وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله؛ قالت عائشة: فقلت يا أبت والله لو كان كذا وكذا، لتركته وإنما هي أسماء، فمن الأخرى، فقال: ذو بطن بنت خارجة أراها جارية.
وأما خبر عمر بن الخطاب؛ فقوله ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها، فإن مات ابن أحدهم، قال مالي بيدي لم أعطه أحدا؛ وإن مات هو قال هو لابني قد كنت أعطيته إياه من نحل نحلة فلم يحزها الذي نحلها حتى تكون إن مات لورثته فهي باطل.
وأما خبر عثمان بن عفان، فقوله: من نحل ولدا له صغيرا لم يبلغ أن يجوز نحله فأعلن ذلك وأشهد عليه، فهي جائزة وإن وليها أبوه فأوجب الحيازة فيما وهب الأب لابنه الكبير، ورخص في حيازته ما هب لابنه الصغير.(2/411)
فصل واتفاق الخلفاء على وجوب الحيازة حجة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» . وقد ادعى أصحابنا أن ذلك إجماع من الصحابة، لأن ذلك مروي أيضا عن أنس بن مالك وغيره، ولا مخالف لهم من الصحابة، وذلك صحيح بين من حديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لأنه قال بمحضر الصحابة ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا - الحديث، فلم ينكر عليه أحد منهم قوله ولا خالفه فيه، بل سكت الكل منهم وسلم، فدل على موافقتهم له على مذهبه.
فصل وتجوز الهبة والصدقة على مذهب مالك - وإن كانت مجهولة أو مشاعة غير مقسومة، كانت مما ينقسم أو مما لا ينقسم؛ خلاف أهل العراق في قولهم إن الهبة والصدقة لا تلزمان بالقول ولا تجبان إلا بالقبض، وأن تكون مقسومة مفروزة معلومة غير مجهولة، وأن للواهب أو المتصدق أن يرجع في هبته وصدقته ما لم يحوزها؛ ومنهم من فرق في ذلك بين الهبة والصدقة، فألزم الصدقة - وإن لم تقبض، قالوا لأنه يراد بها وجه الله، وهو أحد قولي الشافعي؛ والصواب ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هبة الغرر والمجهول جائزة كميراث لا يعلم كميته، والعبد الآبق، والبعير الشارد، والثمرة التي لم يبد صلاحها، لأنا إنما نهينا عن بيع الغرر، والهبة إنما هي على وجه المعروف والتبرر، لا يقصد بها تقامرا ولا تغابنا؛ وقد أجمع أهل العلم أن من أوصى بجزء من ماله الثلث فدونه - وهو لا يعرف مبلغه من الوزن والقدر، أنه جائز ماض، وهذا يرد قول من رد صدقة الحر في ثلثه مع قول النبي -(2/412)
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - لزهير أبي صرد خطيب أهل هوازن: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» فأعطاهم ما لم يقف على مبلغه من الجزء والقدر جميعا، ولا خلاف بين الناس أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي، فهو صدقة» وهو شيء لا تعلم حقيقته، لأن نفقة النساء تزيد وتنقص، وكذلك مؤونة العامل - قد تكثر في عام، وتقل في آخر؛ وهذا في فدك وخيبر وبني النضير؛ وقالت طائفة من أهل العلم - منهم أحمد بن حنبل وأبو ثور - الهبة والصدقة جائزة لازمة بالقول، لا تفتقر إلى حيازة كالبيع سواء؛ وتأولوا حديث أبي بكر في قصة عائشة على أن تلك الهبة لم تكن معلومة، ولذلك ردها أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لا لأنها لم تقبض لقوله إني نحلتك جداد عشرين وسقا؛ ولو باع رجل جداد عشرين وسقا من نخل له لم يجز فيه البيع، لأن ذلك مجهول.
فصل ففي المسألة أربعة أقوال:
أحدها: هذا أنها تلزم بالقول وتتم به ولا تفتقر إلى حيازة - كالبيع سواء؛ والثاني قول مالك ومن تابعه أنها تنعقد بالقول وتلزم به ولا تتم إلا بالحيازة.
والثالث: أنها تنعقد بالقول ولا تجب به، وإنما تجب بالقبض والحيازة وهو مذهب أهل العراق، وقد تقدم الكلام على تضعيف هذا المذهب وتصويب مذهب مالك بما أغنى عن رده ههنا.
والرابع: التفرقة بين الهبة والصدقة على ما حكيناه.
فصل ولا تفترق الهبة من الصدقة على مذهب مالك إلا في وجهين:(2/413)
أحدهما: أن الهبة تعتصر وأن الصدقة لا تعتصر.
والثاني: أن الهبة يصح الرجوع فيها بالبيع والهبة، والصدقة لا يجوز الرجوع فيها ببيع ولا هبة إلا أن تكون الصدقة على الابن، فعن مالك في ذلك ثلاث روايات:
إحداها: أن الرجوع فيها لا يجوز إلا من ضرورة، مثل أن تكون أمة فتتبعها نفسه، أو يحتاج فيأخذ لحاجته وهو ظاهر ما في المدونة.
والثانية: أن الرجوع فيها بالبيع والهبة يجوز وإن لم تكن ضرورة، ولا يكون له الاعتصار - وهو قول مالك في كتاب ابن المواز واختيار محمد.
والثالثة: أن الرجوع فيها بالبيع والهبة يجوز وأن الاعتصار يكون له - وهو قول مالك في سماع عيسى من كتاب الصدقات؛ لأنه أجاز أن يأكل مما تصدق به على ابنه الصغير، وذلك لا يكون إلا على معنى الاعتصار؛ لأن الصغير لا يصح منه إذن، وهو ظاهر ما في سماع ابن القاسم أيضا، إذ لم يفرق في الرواية بين صغير ولا كبير.
[فصل في القول في الحبس]
فصل
في القول في الحبس
وأما الحبس فاختلف أهل العلم في جوازه: فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم إلى إجازة الحبس ومنع منه أبو حنيفة وأصحابه، واستدلوا على ذلك بقوله - تعالى -: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] ، وبقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136]- إلى قوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136](2/414)
وبقوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] ، إلى قوله: {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139] ، وبقوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} [الأنعام: 138] ، إلى قوله: {بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 138] ، وقال: في آخر القصة: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144] .
فصل وهذه الآيات كلها لا دليل لهم في شيء منها على إبطال الحبس والمنع منه، لأنها إنما تقتضي التوبيخ على ما كانت الجاهلية تحرمه على أنفسها من أنعامها تشرعا وتدينا وافتراء على الله، واتباع خطوات الشيطان، فليس ذلك مما يحبسه الرجل على ولده أو في وجه من وجوه البر التي يتقرب بها إلى الله بسبيل.
فصل وكذلك استدلوا لمذهبهم بما رواه ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حبس بعد سورة النساء» ، وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حبس عن فرائض الله - تعالى» ، وبما روي عن شريح أنه قال: لما نزلت سورة - المائدة، جاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإطلاق الحبس، وروي بمنع الحبس، وبما روي «عن عبد الله بن يزيد أنه قال:(2/415)
قلت يا رسول الله تصدقت على أمي بصدقة - وقد ماتت - فقال: قبل الله صدقتك وعادت إليك بالميراث» . قالوا: ومن يذهب إلى جواز الحبس يمنع عوده إلى المحبس، قالوا ولأنه إخراج ملك لا إلى ملك فوجب ألا يلزم؛ أصله السائبة أو إذا قال: أخرجت هذه الدار عن ملكي، فإنها لا تخرج، فكذلك مسألتنا؛ قالوا ولأنه إزالة ملك عن المنفعة، فوجب ألا يزول الملك عن الرقبة، أصله العارية.
فصل وهذا كله لا دليل فيه، ولا حجة، لأن الحبس الذي جاء محمد بإطلاقه، هو البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي الذي ذكره الله في كتابه، والدليل على ذلك: أنه المذكور في سورة المائدة، وهذا التأويل مروي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ وأما حديث ابن عباس فعنه جوابان:
أحدهما: أن المراد به حبس الزاني البكر، وذلك أن الله عز وجل قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام» - الحديث.
والجواب الثاني وهو المعتمد عليه - أن المراد بذلك منع البحيرة والسائبة، والوصيلة، والحامي الذي كانت الجاهلية تفعله، إذ لا يعرف جاهلي حبس داره على ولده، أو في وجه من الوجوه المتقرب بها إلى الله تعالى. أما(2/416)
حديث عبد الله بن يزيد، فإنه في صدقة تمليك غير وقف، بدليل قوله عادت إليك ميراثا؛ وعند المخالف أن الوقف يورث عن الواقف، لا عن الموقوف عليه؛ على أن في قوله عادت إليك دليلا على خروجها عن ملكه بالوقف - وهم لا يقولون بذلك؛ وأما قولهم: لأنه إخراج ملك لا إلى ملك كقوله أخرجت هذه الدار عن ملكي، فغير صحيح، لأن الوصف غير موجود في الأصل، لأن قوله أخرجت هذه الدار عن ملكي، ليس بإخراج، وينتقض ذلك بالعتق، فإنه إخراج عن الملك إلى غير ملك - وهو لازم وكذلك قياسهم على العارية ينتقض بالعتق وبناء المسجد ووقفه.
فصل فالصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجل أهل العلم من إجازة الحبس، وقد حبس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي، وطلحة والزبير، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعمرو بن العاص - دورا، وحوائط، «واستشار عمر بن الخطاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صدقته، فقال: يا رسول الله، إني أصبت مالا لم أصب أعجب إلي منه، وأريد أن أتصدق به؛ فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس الأصل وسبل الثمرة، فكتب: هذا ما تصدق به عمر بن الخطاب صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث - على الفقراء، وذوي القربى، وفي سبيل الله، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف» . وروي عن مالك أنه قال: جعل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صدقة للسائل والمحروم، وكتب عبد الله بن عمر بعده في صدقته للسائل والفقير، فبينها عبد الله بن عمر.
فصل فالأحباس سنة قائمة عمل بها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والمسلمون من بعده، وقد(2/417)
قيل لمالك: إن شريحا كان لا يرى الحبس ويقول لا حبس عن فرائض الله، فقال مالك: تكلم شريح ببلاده - ولم يرد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأصحابه، والتابعين بعدهم - هلم جرا إلى اليوم؛ وما حبسوا من أموالهم لا يطعن فيه طاعن؛ وهذه صدقات النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سبعة حوائط؛ وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبرا؛ وبهذا احتج أيضا مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما ناظر أبا يوسف بحضرة الرشيد فقال: هذه أحباس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصدقاته ينقلها الخلف عن السلف - قرنا بعد قرن، فقال حينئذ أبو يوسف: كان أبو حنيفة يقول إنها غير جائزة، وأنا أقول إنها جائزة، فرجع في الحال عن قول أبي حنيفة إلى الجواز، وروي أن رجلا من أهل العراق سأل مالك عن صدقة الحبس فقال: إذا حيزت مضت. فقال العراقي: إن شريحا قال لا حبس عن كتاب الله، قال: فضحك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكان قليل الضحك - وقال: يرحم الله شريحا لو درى ما صنع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ههنا - ما قاله. وقد امتنع أصحاب أبي حنيفة المتأخرون من إطلاق القول بإبطال الحبس، وقالوا هو جائز ولكن لا يلزم إلا بأحد أمرين: إما أن يحكم به حاكم، أو يوصي به في مرضه أن يوقف بعد موته، فيصح ويكون من ثلث ماله - كالوصية، إلا أن يكون مسجدا، أو سقاية؛ فإن وقف ذلك، يصح ولا يحتاج إلى حكم حاكم؛ وهذا بعيد، لأن ما لا يجوز للرجل أن يفعله في حياته، فلا يجوز أن يوصي به بعد وفاته، وما لا يحل، لا يحله حكم الحاكم. قال الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] ، وحكى محمد بن عبد الحكم عن أبي حنيفة فيما زاده في مختصر أبيه، أنه قال: كل(2/418)
حبس اشترط فيه المنافع للولد وغيرهم من القرابات المياسر، فهو باطل؛ وكل حبس خرج في سبيل الله والصدقات، فهو جائز.
فصل فإذا ثبت بما قلناه جواز الحبس ولزومه، فمن شرط تمامه القبض والحيازة - كالهبة والصدقة، فإن لم يقبض عنه ولا خرج عن يده حتى مات فهو باطل يكون موروثا عنه، والعقد يصح ويلزم، وإن لم يقارنه القبض وليس للمحبس الرجوع فيه، ويلزمه إقباضه للمحبس عليه، فإن امتنع من ذلك، جبر عليه، ولا يبطل العقد بتأخير القبض ما لم يمت المحبس عليه في القبض حتى يفوته المحبس، وهذه جملة لها تفصيل وفي بعض وجوهها اختلاف سيأتي ذكر ذلك كله في موضعه - إن شاء الله تعالى -.
فصل وللتحبيس ثلاثة ألفاظ: حبس، ووقف، وصدقة.
فأما الحبس والوقف فمعناهما واحد لا يفترقان في وجه من الوجوه، فإذا حبس الرجل داره، أو عقاره، فلا يخلو تحبيسه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون على معينين.
والثاني: أن يكون على مجهولين غير محصورين ولا معينين.
والثالث: أن يكون على محصورين غير معينين، وقد ذكر عبد الوهاب في شرح الرسالة أن الوقف لا يكون أبدا إلا محرما - وليس ذلك بصحيح، إذ لا فرق بين قول الرجل قد أوقفت هذه الدار على فلان، أو قد حبستها عليه.
فأما الوجه الأول - وهو أن يحبس على معين فيقول هذه الدار حبس على(2/419)
فلان، فاختلف قول مالك: هل تكون صدقة محرمة لا ترجع إلى المحبس وتكون بعد موت المحبس عليه لأقرب الناس بالمحبس حبسا عليه، أو لا تكون صدقة محرمة وترجع بعد موت المحبس عليه إلى المحبس - ملكا مطلقا يبيعه ويصنع به ما شاء على قولين منصوصين عليه في المدونة، وسواء قال حياته أو لم يقل حياته.
هذا ظاهر المدونة، وهو قول سحنون؛ وقد قيل إنه إن قال حياته، رجع بعد موته إلى المحبس ملكا، وإن لم يقل حياته رجع بمرجع الأحباس على أقرب الناس بالمحبس. قاله ابن المواز، وهو غير بين في المعنى، إلا أن يقول حبسا صدقة أو حبسا لا يباع ولا يوهب، فحكى ابن القاسم في المدونة أن قول مالك لم يختلف في هذا: أنها تكون صدقة محرمة ترجع بمرجع الأحباس إلى أقرب الناس بالمحبس؛ ولا ترجع إلى المحبس ملكا مطلقا، وليس ذلك بصحيح، وقد روى ابن عبد الحكم عن مالك في كتابه: أنها ترجع إليه ملكا بعد موت المحبس عليه. وإن قال حبسا صدقة إذا كان على معين - وهو قول ابن وهب في العتبية أنه يرجع إليه ملكا مطلقا - إذا حبس على معين - وإن قال في حبسه لا يباع ولا يوهب، لاحتمال قوله لا يباع ولا يوهب حياة المحبس عليه.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يحبس داره أو عقاره على مجهولين غير معينين ولا محصورين مثل أن يقول على المساكين، أو في السبيل، أو على بني زهرة، وما أشبه ذلك؛ فإن هذا ليس فيه اختلاف أنها صدقة محرمة موقوفة على الوجه الذي سبلها فيه لا ترجع إلى المحبس أبدا.
وأما الوجه الثالث وهو أن يحبس على محصورين غير معينين مثل أن يقول هذه الدار حبس على ولد فلان، أو على عقبه، أو على بنيه، أو على نسله، أو على ذريته، وما أشبه ذلك؛ فإن هذا ليس فيه اختلاف أنها صدقة محرمة لا ترجع إلى المحبس وتكون بعد انقراض المحبس عليهم - حبسا على أقرب الناس(2/420)
بالمحبس، «لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي طلحة: " وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» ، إلا أن يقول حياتهم؛ فذهب ابن الماجشون إلى أنها ترجع إليه ملكا - بعد انقراض العقب، بيد أن هذه الألفاظ تفترق عند بعض العلماء بافتراق معانيها على ما سنذكره - إن شاء الله - وهي خمسة ألفاظ: الولد، والعقب، والبنون، والذرية، والنسل؛ وفي كل لفظ منها خمس مسائل:
إحداها في لفظ الولد: قوله حبست على ولدي أو على أولادي - ولم يزد على ذلك.
والثانية قوله: حبست على ولدي وولد ولدي، أو على أولادي وأولاد أولادهم.
والثالثة قوله حبست على ولدي وأولادهم، أو على أولادي وأولادهم.
والرابعة قوله حبست على ولدي ذكورهم وإناثهم من غير أن يسميهم بأسمائهم وعلى أولادهم.
والخامسة قوله حبست على أولادي فلان وفلان وفلانة يسميهم بأسمائهم ذكورهم وإناثهم وعلى أولادهم.
فصل في المسألة الأولى فأما إذا قال المحبس حبست على ولدي، أو على أولادي - ولم يزد على ذلك، فيكون الحبس على أولاده - دنية - الذكران والإناث، وعلى أولاد بنيه الذكران دون الإناث، ولا يدخل في ذلك أولاد البنات - وعلى مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه المتقدمين؛ لأن الولد في الشرع لا يقع حقيقة إلا على من يرجع(2/421)
نسبه إليه من ولد الأبناء دون ولد البنات؛ ومن حجتهم على ذلك: الإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم، مع قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] ، وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن ولد البنات من الأولاد والأعقاب، وأنهم يدخلون في الأحباس بقول المحبس حبست على ولدي أو على عقبي؛ وقال بذلك من الشيوخ المتأخرين من خالف مذهب مالك، منهم: أبو عمر بن عبد البر، وغيره، واحتجوا بقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، قالوا فلما حرم الله البنات فحرمت بذلك بنت البنت بإجماع، علم أنها بنت، ووجب أن تدخل في حبس أبيها إذا حبس على ولده أو عقبه؛ واحتجوا أيضا «بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحسن: إن ابني هذا سيد» فسماه ابنا؛ وهو احتجاج غير صحيح، لأن ولد البنت - وإن وقع عليه اسم ولد في اللغة لوجود معنى الولادة فيه، كما وقع على ولد الابن لوجود معنى الولادة، فليس بولد في الشرع، كما ليس ولد الزنى بولد في الشرع - وإن وقع عليه اسم ولد في اللغة - لوجود معنى الولادة فيه، لأنه قد تعرف باسم الولد في الشرع من يستحق الميراث والنسب منهم دون من لا يستحقه؛ كما يعرف الوضوء والصلاة والصيام والحج في الشرع بنوع مما يقع عليه في اللغة، ألا ترى أن الوضوء في اللغة اسم لكل غسل، وقد تعرف في الشرع ببعض ذلك النوع - وهو الغسل الذي أوجبه الله عند القيام للصلاة - بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6](2/422)
الآية، وأن الصلاة في اللغة هي اسم لكل دعاء، قال الله عز وجل: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]- أي ادع لهم، وقد تعرفت في الشرع بنوع من الدعاء مخصوص، وأن الصيام في اللغة اسم لكل إمساك، وقد تعرف في الشرع بنوع من الإمساك مخصوص، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس - مع مقارنة النية، وأن الحج هو في اللغة اسم لكل قصد، وقد تعرف في الشرع بنوع من القصد مخصوص دون غيره؛ فمن غسل جميع أعضائه أو بعضها على غير الوجه الذي شرعه الله للصلاة، فلا يسمى فعله ذلك وضوءا في الشرع، ولا ينطلق عليه اسم وضوء - وإن كان في اللغة وضوءا؛ وكذلك من دعا في شيء من الأشياء لا يسمى دعاؤه صلاة في الشرع، ولا ينطلق عليه اسم صلاة - وإن كان في اللغة صلاة، وكذلك من أمسك عن شيء من الأشياء، أو عن الطعام والشراب على غير الوجه الذي شرعه الله، لا يسمى إمساكه عن ذلك صياما في الشرع، ولا ينطلق عليه اسم صيام - وإن كان ذلك في اللغة صياما، وكذلك من قصد موضعا من المواضع، أو قصد مكة على غير الوجه الذي شرعه الله، لا يسمى قصده ذلك حجا في الشرع، ولا ينطلق عليه اسم حج - وإن كان ذلك في اللغة حجا.
فصل فلا يفهم من إطلاق الوضوء والصلاة والصيام والحج إلا الوضوء الشرعي والصلاة الشرعية، والصيام الشرعي، والحج الشرعي؛ ولا يحمل على ما سوى ذلك مما يقع عليه في اللغة إلا بنص وبيان، ألا ترى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بالوضوء مما مست النار، فحملوه على الوضوء الشرعي دون غسل اليد؛ وروى الراوي عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا رعف، انصرف فتوضأ ثم رجع فبنى ولم(2/423)
يتكلم؛ فحمل ذلك من قوله على الوضوء الشرعي دون غسل الدم، وكذلك سائر الشرائع المذكورة؛ فإذا كان من أخبر عن نفسه أنه توضأ أو صلى أو صام أو حج لا يفهم منه أنه أراد إلا الوضوء الشرعي، والصلاة الشرعية، والصيام الشرعي، والحج الشرعي، دون غيره مما ينطلق عليه الاسم في اللغة، ولا يحمل إلا على ذلك، فكذلك من قال: حبست على ولدي لا يفهم من قوله أنه أراد إلا الولد الشرعي الذي تثبت له أحكام الشرع الشرعية من الموارثة والنسب، دون الولد اللغوي الذي لا يستحق الميراث ولا النسب، كولد الزنى، وولد البنت، ولا يحمل أمره إلى على ذلك.
فصل
وعرف الاستعمال يكون في الكلام من ثلاث جهات:
إحداها: جهة الشرع وقد تقدم ذكر ذلك والأدلة عليه.
والثانية: جهة اللغة كتسميتنا دابة للخيل والبغال والحمير من ذوات الأربع - خاصة - وإن كان الاسم في اللغة واقعا على ما يدب من جميع الحيوان؛ قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور: 45]- الآية.
والثالثة: من جهة الصناعة كتسميتنا العالم بالحديث والرأي فقيها دون العالم بما سواه من العلوم - وإن كان في اللغة فقيها في ذلك الشيء الذي علمه وفقه فيه، وكتسميتنا العالم بأصول الديانات متكلما - وإن كان كل ناطق معرب عما في نفسه بلسانه يسمى متكلما في اللغة، وكنحو تسمية أهل الديوان الكتاب زماما، وأهل الإبل الخطام زماما، وما أشبه ذلك؛ فيحمل لفظ كل طائفة على عرفها وعادتها.(2/424)
فصل
فالولد على هذا ينقسم على ثلاثة أقسام:
ولد يسمى ولدا من جهة اللغة والشرع - وهو الولد الذي ثبتت له أحكام الشريعة من الموارثة والنسب.
وولد يسمى ولدا من جهة اللغة خاصة - وهو الولد الذي يوجد فيه معنى الولادة، ولا تثبت له أحكام الشريعة.
وولد يسمى ولد مجازا لا حقيقة، كأولاد الأدعياء، والرجل يقول للصبي الأجنبي يا ولدي - يريد تقريبه بذلك، وما أشبه ذلك.
فصل فحمل قول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]- على عمومه في كل من يقع عليه اسم أم أو بنت في اللغة بوجود معنى الولادة فيه، فحرمت بنت البنت وإن سفلت، وأم الأم وإن علت؛ وثبت بالسنة والإجماع أن مراد الله عز وجل بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11]- من ينتسب إليه من أولاده دون من لا ينتسب إليه منهم، وتخصص بذلك الولد الشرعي من غيره، والفرق أيضا من جهة النظر بين التحريم والميراث في ابنة البنت ظاهر، لأن الأشياء قد قيل إنها في الأصل على الحظر، فلا تستباح بنت البنت إلا بيقين، ولا تورث إلا بيقين - وهذا أيضا بين؛ ومن أهل العلم من قال إن ولد البنت لا يسمى ولدا إلا مجازا، وحمل «قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحسن: إن ابني هذا سيد» - على المجاز دون الحقيقة؛ وليس ذلك بصحيح، بل هو ولد على الحقيقة في اللغة، لوجود معنى الولادة فيه؛ ولأن أهل العلم قد أجمعوا على تحريم بنص البنت من قول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، إذ لا جائز أن يقول أحد إنها محرمة بغير القرآن، لأن الله - تعالى - قد قال بعد أن نص على المحرمات:(2/425)
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، واستدل أيضا بعض من ذهب إلى هذا المذهب يقول الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وهذا لا دليل فيه، لأن معنى قوله: إنما هو أن ولد بنيه الذكران، هم الذين لهم حكم بنيه في الموارثة والنسب؛ وأن ولد بناته ليس لهم حكم بناته في ذلك، إذ لا ينتسبون إليه، وإنما ينتسبون إلى غيره، فأخبر بافتراقهم في الحكم، مع اجتماعهم في التسمية، ولم ينف عن ولد البنات اسم الولد، لأنه إنما قال وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد، فاستدل من قوله من احتج به على أنه أراد: وليسوا بأبنائنا، وليس في هذا نفي اسم الولد عنهم، وإنما هو من لطيف الاستعارة، كما يقول الرجل في ولده: ليس هو بابني، إذ لا يطيعني ولا يرى لي حقا. فلا يريد بذلك نفي اسم الولد عنه، وإنما يريد به أن ينفي عنه حكمه، ومن استدل بهذا البيت على أن ولد البنت لا يسمى ولدا، فقد أفسد معناه، وأبطل فائدته، وتأول على قائله ما لا يصح، إذ لا يمكن أن يسمى ولد الابن في اللسان العربي ابنا، ولا يسمى ولد الابنة ابنا، من أجل أن معنى الولادة التي اشتق منها، اسم الولد فيه أبين وأقوى، لأن ولد الابنة هو ولدها بحقيقة الولادة، وولد الابن إنما هو ولده بماله فيه مما كان سببا للولادة؛ ولم يخرج مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولاد البنات من حبس من حبس على ولده، من أجل أن اسم الولد غير واقع عليه عنده في اللسان؛ وإنما أخرجهم منه قياسا على الميراث، ليعرف اسم الولد في الشرع فيمن يستحق الميراث والنسب، دون من لا يستحق ذلك - على ما بيناه فيما سلف، وبالله التوفيق.(2/426)
فصل في المسألة الثانية وأما إذا قال المحبس: حبست على ولدي وولد ولدي، أو على أولادي وأولاد أولادي؛ فذهب جماعة من الشيوخ إلى أن ولد البنات يدخلون في ذلك، وهو ظاهر اللفظ، لأن الولد يقع على الذكر والأنثى؛ فإذا قال على ولدي وولد ولدي، فهو بمنزلة قوله على أولادي - ذكرانهم وإناثهم، وعلى أعقابهم، وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب ابن عبدوس، ومن رواية ابن وهب عنه في بعض روايات المدونة - أنه لا شيء لولد البنات في ذلك؛ ووجه الروايات عنه في ذلك: أن لفظ ولد الولد لا يتناول عنده - بإطلاقه - ولد البنات، ولا يقع - إذا أطلق دون بيان إلا على من يرجع نسبه إلى المحبس من ولد ولده؛ لأن ولد بنته - وإن سميناه ولد ولده - لوقوع اسم الولد على الذكر والأنثى، والواحد والجمع - وقوعا واحدا قي اللسان العربي - كما ذكرت، فلا يرثه في الشرع، ولا ينتسب إليه، وإنما يرث رجلا آخر وإليه ينتسب؛ فهو بذلك الرجل أخص منه به، لأن ولد ابن الرجل هو ولد ولده من جهة ابنه، يختص به ويرثه وينتسب إليه، وولد ولد رجل آخر من جهة زوجة ابنه بالتسمية خاصة دون الميراث والنسب؛ وولد ابنته هو ولد ولده من جهة ابنته بالتسمية خاصة دون الميراث والنسب، وولد رجل آخر من جهة زوج ابنته يختص به ويرثه وينتسب إليه؛ فإذا صح ذلك وثبت أن لفظ ولد الولد يقع على من ينتسب إليه ويرثه من ولد ولده، وعلى من لا ينتسب إليه منهم ولا يرثه، وجب أن يخصص فيمن يرثه منهم وينتسب إليه، دون من لا يرثه ولا ينتسب إليه؛ لأنه المعنى الذي يراد له الولد ويرغب فيه من أجله؛ قال الله عز وجل - فيما قص علينا من نبإ زكريا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6](2/427)
وذلك أن زكريا كان من آل يعقوب وتحرر من هذا قياسا فنقول: إن هذا لفظ عام يقع على من يرث المحبس وينتسب إليه، وعلى من لا يرثه ولا ينتسب إليه - مع الاستواء في الحرية والإسلام؛ فوجب أن يقصر على من يرث منهم دون من لا يرث، أصل ذلك قول المحبس حبست على ولدي - ولم يزد أن ذلك مقصور على من يرثه من ولده الذكور والإناث، وولد ولده الذكور وينتسب إليه منهم دون من لا يرثه منهم ولا ينتسب إليه، كأبناء الزنى وأبناء البنات؛ وإن كان لفظ الولد يعمهم ويجمعهم في اللسان العربي - وهذا بين إن شاء الله. ووجه ثان صحيح المعنى ظاهر في القياس يأتي على الصحيح - عندي من أصل مختلف فيه في المذهب - وهو مراعاة عرف ألفاظ الناس ومقاصدهم في أيمانهم، يمهد لذكره أصلا يثبته عليه ونرده إليه - وهو أنه لا اختلاف في أن الألفاظ المسموعة إنما هي عبارة عما في النفوس، فإذا عبر المحبس عما في نفسه من إرادته بلفظ غير محتمل، نص فيه على إدخال ولد بناته في حبسه، أو إخراجهم منه؛ وقفنا عنده ولم يصح لنا مخالفة نصه، وإذا عبر عما في نفسه بعبارة محتملة للوجهين جميعا، وجب أن نحملها على ما يغلب على ظننا أن المحبس أراده من محتملات لفظه بما يعلم من قصده، لأن عموم ألفاظ الناس لا تحمل إلا على ما يعلم من قصدهم واعتقادهم، إذ لا طريق لنا إلى العلم بما أراده المحبس إلا من قبله، فإذا صح هذا الأصل الذي أصلناه وقدرناه، وقد علمنا أنه لا يعلم من الناس أن الولد بإطلاقه يقع على الذكر والأنثى إلا الخاص منهم العالم باللسان، وأكثرهم يعتقد أن الولد لا يقع إلا على الذكر دون الأنثى، وإن سألت منهم من له ابنة ولا ابن له: هل لك ولد؟ يقول لك ليس لي ولد، وإنما لي ابنة، وجب أن يخصص بهذا عموم لفظ المحبس، ويحمل على أنه إنما أراد ولد ولده الذكور دون ولده(2/428)
الإناث، إذ الأغلب في الظن أنه لم يرد إناث ولده، إذ لا يعلم أن إناث ولده يسمون ولدا؛ كما يخصص عموم لفظ الحالف بما يعلم من مقاصد الناس في أيمانهم وعرف كلامهم.
وتحرير القياس من هذا أن يقال إن هذا لفظ عام يقع في اللسان العربي على الذكر والأنثى من ولد المحبس وولد ولده، فوجب أن يحمل على ما يقع عليه عند الناس في عرف كلامهم ووجه مقصدهم - وهو الذكر دون الأنثى من ولده وولد ولده، أصل ذلك قول من قال فيمن حلف ألا يأكل لحما أو بيضا، فأكل لحم الحيتان أو بيضها - أنه لا يحنث، لأن الحيتان ليست بلحم في عرف كلام الناس ووجه مقاصدهم - وإن كان لحما في اللسان العربي؛ قال الله عز وجل: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] ، وهو قياس صحيح لا اختلاف في صحته عند جميع العلماء من أهل السنة القائلين بالقياس، لأن القياس - عندهم هو حمل الفرع على الأصل في نفي الحكم وإثباته بالعلة الجامعة بينهما؛ فالفرع في مسألتنا هذه قول المحبس حبست على ولدي وولد ولدي، والحكم المطلوب هو نفي دخول ولد الأنثى من ولد المحبس وولد ولده تحت اللفظ الذي لفظ به المحبس، والأصل قول الحالف: والله لا أكلت لحما أو بيضا - ولا نية له، فأكل لحم الحيتان أو بيضها؛ والعلة الجامعة بينهما: أن الناس لا يوقعون اسم اللحم في عرف كلامهم ووجه مقصدهم إلا على لحم ذوات الأربع دون ما سواه من اللحوم؛ ولا اسم البيض إلا على بيض ذوات الريش، دون ما سواه من البيض؛ كما لا يوقعون الولد في عرف كلامهم ووجه مقصدهم، إلا على الذكر دون الأنثى.
فصل ويؤيد هذا الجواب ما حكى ابن أبي زمنين في مقربه عن مالك من كتاب ابن المواز فيمن حبس على أولاده وأعقابهم، بهذا اللفظ أن ولد البنات لا يدخلون في الحبس؛ فلو حمل لفظ أولاده على عمومه في الذكران والإناث، لرد ضمير الجمع(2/429)
في أعقابهم إلى جميعهم؛ إذ لا يصح رده إلى الذكران منهم دون الإناث بغير دليل؛ فليس وجه الرواية إلا ما ذكرناه من أنه حمل لفظ أولاده على الذكران دون الإناث بما علم من قصد الناس في أن لفظ الأولاد لا يوقعونه إلا على الذكران دون الإناث، فرد الضمير إليهم لا وجه للرواية عندي غير هذا - والله أعلم.
فصل فإن قال قائل قول العالم ليس بحجة ومن أهل العلم من يوجب على الحالف ألا يأكل اللحم أو البيض - الحنث بأكل لحم الحيتان أو بيضها، لوقوع اسم اللحم والبيض على ذلك، فلا يصح أن يجعل قول من قال في مسألة اليمين أنه لا يحنث أصلا، يقيس الفرع عليه إلا بعد ثبوت صحته؛ دليلنا على صحته بالإجماع على أن الألفاظ إنما تحمل على ما يعلم من قصد المتكلم بها، لا على ظواهرها، قال الله - عز وجل: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] ، فهذا لفظ ظاهره الإباحة والتخيير، وهو محمول على النهي والوعيد المفهوم من معناه دون الإباحة الظاهرة من مجرد لفظه؛ وقال في قصة شعيب: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] ، فظاهر مجرد اللفظ المدح والثناء، ومعناه المفهوم منه عند الجميع ما قصدوا به من الذم والإزدراء، لكراهية ما أمرهم به؛ ومن مثل هذا كثير في القرآن والسنن والآثار يفوت إحصاؤه، ولا يمكن حصره واستقصاؤه.
فصل
فإذا وجب أن يحمل اللفظ بما يعلم من قصد المتكلم به على خلافه في اللفظ والمعنى، فأحرى أن يجب حمل اللفظ العام المحتمل للتخصيص بما يعلم من قصد المتكلم به على بعض محتملاته بغلبة الظن فيما طريقه غلبة الظن دون العلم والقطع.(2/430)
فصل فإن قال قائل كيف حكمت بصحة هذا القياس الذي دللت به على صحة قول مالك وهو لا يقول بموجبه، لأنه يدخل بنات المحبس في الحبس بهذا اللفظ، وما قلت من حملك إياه على ما يغلب على الظن من أن المحبس لا يعلم أن البنت تسمى ولدا، يوجب ألا يدخلن فيه.
فالجواب عن ذلك أن البنات قد كره إخراجهن من الحبس، لأنه من أفعال الجاهلية؛ قال الله عز وجل: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] ، ولما فيه أيضا مما نهي عنه من تفضيل بعض الولد على بعض في العطية، ومن مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنهن يدخلن فيه - وإن نص المحبس على إخراجهن منه - ما لم يفت الأمر، فكيف إذا أتى بهذا اللفظ الذي يوجب دخولهن فيه بظاهره في اللسان العربي، وولد البنات، لم يكره إخراجهن من الحبس، فوجب ألا يدخلوا فيه بهذا اللفظ الذي يقتضي دخولهم فيه، لوقوعه على الذكر والأنثى في اللسان العربي - إذا غلب على الظن أن المحبس لم يرد إيقاعه إلا على الذكران خاصة بما يعلم من مقاصد الناس بألفاظهم وعرف كلامهم، فلا يخرج البنات من الحبس إلا بالنص على إخراجهن منه، ولا يدخل ولد البنات فيه إلا بالنص على دخولهم فيه، أو اللفظ العام إذا لم يقترن به ما يدل على تخصيص ولد البنات منه.
فصل ولو حبس على ولد رجل أجنبي، لوجب على قياس هذا ألا يدخل فيه بناته، وعلى هذا المعنى والقياس، تأتي رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الوصايا فيمن أوصى لولد فلان، أن الوصية تكون لذكور ولده ولا يدخل فيها إناثهم،(2/431)
بخلاف إذا أوصى لبني فلان، فإنه يدخل في ذلك ذكورهم وإناثهم؛ فإن قيل فهل تقولون إن هذا هو مذهب مالك، قلنا الأمر محتمل، إذ لا ندري لعل رأيه فيمن حبس على ولده وولد ولده - أن أولاد البنات لا يدخلون في الحبس على جوابنا الأول فإن كان على جوابنا الأول، فليس هذا مذهبه، وبناته يدخلن عنده بلفظ الولد - وإن كان رأيه على جوابنا الثاني، فهذا مذهبه بناء على طرد قياسه والله أعلم.
فصل فإن قال قائل: فما فائدة قول المحبس وولد ولدي إذا كان لا يدخل في الحبس بقوله وولدي وولد ولدي إلا من يدخل بقوله: ولدي؛ فالجواب عن ذلك أن لقوله وولد ولدي فائدة وهي البيان أنه لم يرد أن يخصص بحبسه ولده دنية دون من تحتهم منه ولد الولد الذكور والخروج من الخلاف؛ إذ من أهل العلم من يرى أن الحبس مقصور على الولد دون ولد الولد حتى يقول: وولد ولدي، وعلى هذا القول تأتي رواية سحنون عن غير ابن القاسم في سماعه من كتاب الحبس، والأجوبة في هذا وإن كثرت وكانت معانيها مختلفة فهي كلها في الإرشاد إلى الطلوب متفقة، لأنها أدلة على صحة قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما ذهب إليه، والأدلة الصحاح لا تتعارض.
فصل فمن أدخل من شيوخنا المتقدمين ولد البنات في الحبس بهذا اللفظ، أو ولد بنات البنات - إذا كرر اللفظ ثالثة، وعزاه إلى مذهب مالك؛ فقد أخطأ ولم يجر على أصله في حمل الألفاظ على معانيها دون مجرد أسمائها؛ وجهل الرواية عنه(2/432)
في ذلك والله أعلم؛ ويحتمل أن يكون علمها وتأولها على مذهبه بأن حمل قوله لا يدخل في ذلك ولد البنات - على أنه إنما أراد بذلك ولد بنات أبناء المحبس وعلى أصل قوله، ومذهبه في أن ولد البنات ليسوا بولد ولا عقب - يريد في الشرع على ما بيناه، إلا أنه تأويل بعيد، لمخالفته ظاهر قوله ومعناه على ما بيناه؛ ويحتمل أن يكونوا عدلوا عن قوله وخالفوه إلى ما يوجبه القياس عندهم باتباع ظاهر اللفظ - والله أعلم.
فصل في المسألة الثالثة وأما إذا قال حبست على ولدي وأولادهم أو أولادي وأولادهم، فحكى ابن أبي زمنين في مقربه عن مالك أن ولد البنات لا يدخلون في الحبس بهذا اللفظ، ووجه ذلك على ما قدمناه من أن الأولاد في عرف كلام الناس لا يقع إلا على الذكران دون الإناث، فرجع ضمير الجمع من قوله وأولادهم عليهم خاصة، فلم يكن في ذلك لولد البنات دخول، وأدخل ولد البنات خاصة دون من تحتهم من ولد بنات البنات بهذا اللفظ من الشيوخ، من أدخلهم بقوله حبست على ولدي وولد ولدي إلا أن يزيد درجة فيقول: وأولاد أولادي، فيدخلون في الدرجة الثانية؛ وكذلك كلما زاد درجة يدخلون إلى حيث انتهى المحبس بقوله وبإدخالهم بهذا اللفظ، قضى القاضي محمد بن السليم بفتوى أكثر أهل زمانه، ودخولهم به أبين من دخولهم باللفظ الأول لأن اللفظ الأول - وهو قوله ولدي وولد ولدي يتخصص في ولد الذكور من ولده دون إناثهم بوجهين:
أحدهما: عرف الشرع.
والثاني: عرف كلام الناس؛ والتخصيص بعرف الشرع لا اختلاف فيه، واللفظ الثاني - وهو قوله أولاد أولادي وأولادهم، لا يتخصص إلا بعرف كلام الناس خاصة، وهو معنى رواية أصبغ في كتاب الوصايا من العتبية فيمن أوصى لولد(2/433)
عبد الله أن الوصية تكون لذكور ولده دون إناثهم، والتخصيص بعرف كلام الناس أصل مختلف فيه من قول مالك وغيره، فيتخرج دخول ولد البنات في الحبس بهذا اللفظ على قول مالك الذي لا يرى التخصيص به؛ وأما قول الشيوخ إنه إن كرر اللفظ فقال: وأولاد أولاد أولادي أن ولد بنات بنات المحبس يدخلون في الحبس، وكذلك إن زاد درجة يدخلون إلى حيث انتهى من الدرجات؛ فلا يتخرج على مذهب مالك بحال، وإنما يأتي ذلك على اتباع ظاهر اللفظ في اللغة دون الاتباع بشيء من المعاني.
فصل في المسألة الرابعة وأما إذا قال حبست على أولادي ذكورهم وإناثهم - ولم يسمهم بأسمائهم، ثم قال وعلى أعقابهم، فالظاهر من مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن أولاد البنات يدخلون في ذلك كما لو سمي؛ بخلاف إذا قال أولادي ولم يقل ذكرانهم وإناثهم للعلة التي قدمناها من أن لفظ الأولاد لا يوقعه الناس إلا على الذكران دون الإناث؛ وقد وقع في كتاب محمد بن المواز مسألة استدل بها بعض الناس على أن ولد البنات لا يدخلون في الحبس على مذهب مالك. وإن قال: حبست على أولادي ذكرانهم وإناثهم وعلى أعقابهم وهي قوله فيمن حبس على ولده الذكر والأنثى، وقال: فمن مات منهم فولده بمنزلته؛ قال مالك: لا أرى لولد البنات شيئا وهو استدلال ضعيف؛ ووجه هذا القول إن سلمنا استدلال قائله على ضعفه: أن يحمل قوله وأعقابهم على أنه إنما أراد به أن يبين أنه لم يرد أن يخصص بحبسه بنيه الذكران والإناث - دنية دون من تحتهم من بني البنين، لإدخال من لم يتناوله لفظ الولد الذكران والإناث؛ وإذا لم يسلم الاستدلال، فالفرق بين المسألتين أن تحمل هذه المسألة على ظاهرها، ويحمل قوله في مسألة كتاب ابن المواز: ومن مات منهم فولده بمنزلته على البيان والتفسير لمن تناوله اللفظ الأول وبالله تعالى التوفيق.(2/434)
فصل في المسألة الخامسة وأما إذا قال حبست على أولادي - ويسميهم بأسمائهم - ذكورهم وإناثهم، ثم يقول: وعلى أولادهم؛ فإن ولد البنات يدخلون في ذلك على مذهب مالك وجميع أصحابه المتقدمين والمتأخرين: ابن أبي زمنين، وأبي عمر الإشبيلي، ومن تلاهم من شيوخنا الذين أدركناهم؛ إلا ما روي في ذلك عن ابن زرب وهو خطأ صراح لا وجه له، فلا يعد خلافا؛ لأنه لم يقله برأيه، وإنما بناه بالقياس الفاسد على ما ذهب إليه من تقليد غيره، وذلك أنه كان يفتي بما عليه الجماعة من دخول ولد البنات إلى أن نزلت، فقال رأيت لموسى بن طارق قاضي زبيد - أنه سأل مالكا عمن حبس على ولده وولد ولده، فقال ولد البنات في هذه المسألة ليسوا بعقب؛ فقال له موسى هل تعلم في ذلك اختلافا بين فقهاء المدينة؛ فقال: لا أعلم في ذلك اختلافا بينهم، فرجع عن مذهبه وأشهد على رجوعه؛ فكان من قوله في الذي يقول داري حبس على ولدي فلان وفلان وفلان، وفلانة، وعلى أعقابهم وأعقاب أعقابهم؛ أنه ليس لولد فلانة شيء كقول الرجل على أولادي وأعقابهم - وفيهم أنثى، قال وكذلك إذا قال حبس على ولدي فلان وفلان وفلانة، وعلى أعقابهم؛ لاحتمال رجوع ضمير الجمع إلى الاثنين، ليس يرجع إلى الذكر خاصة ولا يدخل في ذلك ولد البنات إلا بحق لا شك فيه، وذلك تحكم لا دليل عليه؛ والذي ذهبت إليه الجماعة من أن الضمير عائد على جميعهم الذكران والإناث هو الصواب الذي لا يصح القول بخلافه، لأن الظاهر من لفظ المحبس رجوع الضمير على جميع المذكورين، فلا(2/435)
يخصص الإناث من ذلك ويخرجن من الحبس - والمحبس قد أدخلهن فيه بما ظهر من لفظه إلا بدليل يدل على ذلك؛ ورجوع ابن زرب على القول بهذا إلى ما حكيت عنه من أجل الرواية التي حكاها غلط بين، لأن الرواية إنما هي فيمن حبس على ولده وولد ولده - وهي مسألة أخرى غير المسألة التي رجع عن جوابه فيها لأن الرواية وجهها ما بيناه من أجل الناس يعتقدون أن الولد لا يقع إلا على الذكران دون الإناث بل لا يعرف أن اللفظ يتناول الذكران والإناث إلا الخاص من العلماء، ولا يمكن أن يقال إن أحدا من الناس يجهل أن لفظ ضمير الجمع يرجع إلى جميع المذكورين، بل يعتقد كثير من الناس أنه لا يصح أن يرجع إلى بعضهم، وقد ذهب إليه كثير من العلماء فقالوا في عموم آي القرآن المخصصة بغيرها - إنها منسوخة بها، ولم يقولوا إنها مبينة لها؛ ومعنى آخر وهو أنه يحتمل أن يكون رأي مالك أن لفظ ولد الولد بإطلاقه لا يقع من ولده إلا على من يرجع نسبه إليه منهم، لأنهم المختصون به، ومن لا يرجع نسبه منهم إليه فليس بمختص به وإنما يختص بمن يرجع نسبه إليه، ولا يمكن أن يقول أحد أن لفظ ضمير الجمع - بإطلاقه راجع إلى بعض المذكورين، وإنما يرد إلى بعضهم إذا قام الدليل على أنه لا يجوز رده إلى جميعهم، مثل قول الله عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأنعام: 130] ، لأنا علمنا أن مراده بقوله رسل منكم الإنس دون الجن، إذ لم يبعث - تعالى - من الجن رسولا وهذا بين.
فصل ولو كرر التعقيب، لدخل ولد البنات إلى الدرجة التي انتهى إليها المحبس على ما ذهب إليه الشيوخ، خلاف مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما ذكرناه.(2/436)
فصل وحكم هذه المسائل الخمس في لفظ العقب على ما ذكرناه في لفظ الولد سواء، إذ لا فرق عند أحد من العلماء بين لفظ العقب والولد في المعنى، وإنما اختلف الشيوخ في الذرية والنسل: فقيل إنهما بمنزلة الولد والعقب لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب مالك، وقيل إنهم يدخلون فيهما؛ وفرق ابن العطار - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين الذرية والنسل: فقال إن النسل بمنزلة الولد والعقب لا يدخل فيه ولد البنات - إلا أن يقول المحبس نسلي ونسل نسلي على ما ذهب إليه في لفظ التعقيب؛ وقد بينا أن ذلك لا يصح على مذهب مالك، وأن الذرية يدخل فيها ولد البنات؛ واحتج لذلك بقول الله عز وجل - وقوله الحق: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84]- إلى قَوْله تَعَالَى: وَعِيسَى، فجعله من ذرية إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو من أولاد البنات، إذ لا أب له، وهو احتجاج صحيح في أن ولد بنت الرجل من ذريته، وكذلك يقول أيضا إنه من نسله، وأنه من عقبه، كما أنه من ولده؛ خلاف ما ذهب إليه ابن العطار في ذلك، وقد بينا وجه إخراج مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولد البنات من الحبس المعقب مع كونهم من الأبناء والأعقاب، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن ولد بنت الرجل ليس من ذريته، وضعف الاحتجاج بهذه الآية على أن ولد الابنة من الذرية - بأن قال إن عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما لم يكن له أب، قامت له الأم مقام الأب والأم، فكان من ذرية جده للأم إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بخلاف غيره ممن له أب وهذا غير صحيح، لأن عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان من ذرية جده للأم من جهة أمه خاصة إذ لم يكن له أب، فغيره من الناس هو من ذرية جده للأم من جهة أمه، ومن ذرية أبيه وجده لأبيه من جهة أبيه؛ إذ له أب، لأن كون عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مخلوقا في بطن أمه من غير مباشرة ذكر، لا يزيدها مزية في الاختصاص به على من خلق الله ولدها في بطنها بمباشرة ذكر - على ما أجرى به العادة، ولا ينتفي أن يكون من ذرية جده لأم من جهة حمل أمه إياه ووضعه بكونه من ذرية أبيه وجده لأبيه إذا كان له أب.(2/437)
فصل وأما لفظ البنين في قوله: حبست على بني أو على بني وبني بني، أو على بني وبنيهم؛ فالحكم في ذلك كالحكم في لفظ الولد والعقب على القول بأن لفظ جمع المذكر يدخل فيه المؤنث، وعلى القول بأنهن لا يدخلن فيه ينفرد الذكران من بنيه وبني بنيه بالحبس دون الإناث. وأما إذا قال حبست على بني ذكورهم وإناثهم - سماهم أو لم يسمهم، وعلى أعقابهم؛ فالحكم في ذلك على ما ذكرته في الولد والعقب، وبالله التوفيق.
فصل وأما الصدقة فلا تخلو أيضا من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتصدق بداره أو عقاره على معينين.
والثاني: أن يتصدق بها على مجهولين غير معينين ولا محصورين.
والثالث: أن يتصدق بها على محصورين غير معينين.
فأما الوجه الأول وهو أن يتصدق بذلك على معينين مثل أن يقول هذه الدار صدقة على فلان، فهذا لا اختلاف فيه أنها لفلان ملكا يبيعها ويهبها وتورث عنه.
وأما الوجه الثاني وهو أن يتصدق على غير معينين ولا محصورين مثل أن يقول هذه الدار صدقة على المساكين أو في السبيل أو على بني زهرة أو على بني تميم، فإنها تباع ويتصدق بها على المساكين على قدر الاجتهاد، إلا أن يقول - صدقة على المساكين يسكنونها أو يستغلونها، فتكون حبسا على المساكين للسكنى والاستغلال، ولا تباع.(2/438)
وأما الوجه الثالث وهو أن يتصدق بذلك على غير المعينين إلا أنهم محصورون، مثل أن يقول داري صدقة على فلان وعقبه، واختلف هل ترجع بعد انقراض العقب بمرجع الأحباس على أقرب الناس بالمحبس، أو تكون لآخر العقب ملكا مطلقا على قولين: روى أشهب عن مالك أنها تكون لآخر العقب ملكا مطلقا، وحكى ابن عبدوس أنها ترجع بمرجع الأحباس - وهو قول مالك وبعض رجاله في المدونة، وقد قيل في المسألة قول ثالث إن ذلك إعمار وترجع بعد انقراض العقب إلى المتصدق ملكا؛ وأما إن جمع الأمرين فقال: حبسا صدقة، فلا اختلاف أنها تكون صدقة محرمة، ولا ترجع لآخر العقب ملكا مطلقا، وقد أخبرتك باختلاف قول مالك إذا جمع اللفظين جميعا في معنيين، وبالله التوفيق.(2/439)
[كتاب الهبات] [فصل في تقسيم الهبات]
فصل في تقسيم الهبات روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: المواهب ثلاثة؛ موهبة يراد بها وجه الله.
وموهبة يراد بها وجوه الناس.
وموهبة يراد بها الثواب؛ فموهبة الثواب يرجع فيها صاحبها إذا لم يثب منها.
فصل وهذا كما قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن للواهب بهبته ما نوى بها وقصد فيها، وأنه لا يخلو في هبته من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يريد بها وجه الله ويبتغي عليها الثواب منه.
والثاني: أن يريد بها وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها، ويثنوا عليه من أجلها.
والثالث: أن يريد بها الثواب من الموهوب له، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله(2/441)
ورسوله» - الحديث. فأما إذا أراد بهبته وجه الله وابتغى عليها الثواب من عنده، فله ذلك عند الله بفضله ورحمته؛ قال الله عز وجل: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] ، وقال: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17] ، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] ، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] ، ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي الدحداح تصدق بحديقة له فأعطاه الله في الجنة ألفي ألف حديقة. وأما من أراد بهبته وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلها، فلا منفعة له في هبته: لا ثواب في الدنيا ولا أجر في الأخرى؛ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264] . وأما من أراد بهبته الثواب من الموهوب له فله ما أراد من هبته، وله أن يرجع فيها ما لم يثب منها بقيمتها على مذهب ابن القاسم، أو ما لم يرض منها بأزيد من قيمتها - على ظاهر قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ ومن وهب هبة يرى أنه أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها ما لم يرض منها؛ وهو قول مطرف في الواضحة أن الهبة ما كانت قائمة العين وإن زادت أو نقصت فللواهب الرجوع فيها وإن أثابه الموهوب له فيها أكثر من قيمتها.(2/442)
فصل وأصل جواز الهبة للثواب قول الله عز وجل: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] ، ويقرأ: (وَمَا أوتيتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) . والقراءتان متقاربتان في المعنى، وهو أن يعطي الرجل الرجل الشيء ليعطيه أكثر منه، فلما أخبر الله عز وجل أن من أعطى عطية يبتغي بها النماء والزيادة - في ماله من مال المعطى، أن ذلك لا يربو عنده ولا يزكو لربه، دل ذلك على أنه ليس له بعطية إلا ما قصد بها من الزيادة في ماله والثواب من المعطى لا من الله عز وجل، وأن ذلك جائز فليس لمن أعطى عطاء للثواب في عطيته أجر، ولا عليه فيها وزر؛ لأنها بيع من البيوع، فهي من قبيل الجائز المباح، لا من قبيل المندوب إليه والمرغوب فيه.
فصل وهذا مما أباحه الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين، وحرمه على نبيه سيد المرسلين - إكراما له، وتنزيها وترفيعا به وتنويها، فقال تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] ، أي لا تعط لتعطى أكثر منه، لأن ذلك تعريض بالمسألة والمسألة مكروهة مذمومة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره، خير له من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل ذا سلطان في أمر لا يجد(2/443)
منه بدا» ، وقال: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم» ، ولأن الزائد أيضا على قيمة هبته من ناحية الصدقة التي لا تحل له. وقد قيل في معنى قوله عز وجل: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] ، أن معنى ذلك: ولا تمنن بعطيتك وعملك ولا تستكثره، هذا قول الحسن فعلى هذا يكون الخطاب للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. والمراد به أمته؛ وقال مجاهد بل معناه لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه، فوجه معنى لا تمنن: أي لا تضعف، من قول العرب حبل منين - إذا كان ضعيفا. وقال زيد: إن لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس تأخذ عليه منهم أجرا وعرضا من الدنيا، وما قدمناه أكثر وأولى.
فصل والهبة للثواب لا تخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يهب على ثواب يرجوه ولا يسميه ولا يشترطه.
والثاني: أن يهب على ثواب يشترطه ولا يسميه.
والثالث: أن يهب على ثواب يسميه ولا يشترطه.
فأما الوجه الأول - وهو أن يهب على ثواب يرجوه ولا يسميه ولا يشترطه - فهو على مذهب ابن القاسم كنكاح التفويض يكون الموهوب له مخيرا ما كانت الهبة قائمة لم تفت بين أن يثيبه ما يكون فيه وفاء بقيمة الهبة، أو يردها عليه؛ ولا تجب عليه القيمة إلا بالفوت؛ وعلى قول مطرف وروايته عن مالك وظاهر قول عمر بن الخطاب: لا يلزم الواهب الرضى بقيمة الهبة إلا بعد فواتها بذهاب عينها، كقول ابن الماجشون في الذي يتزوج المرأة - على حكمها - أنه لا يلزمها الرضى بصداق المثل إلا بعد الدخول، خلاف مذهب ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ في قولهم إنه يلزمها الرضى بصداق المثل إذا فرضه لها كالتفويض سواء.(2/444)
فصل وقد اختلف في الفوت الذي يلزم به الموهوب له القيمة على أربعة أقوال:
أحدها: أن القبض فوت يوجب القيمة على الموهوب له وهو قول مالك في رواية ابن الماجشون عنه أن القبض فوت يوجب القيمة فيها وليس له أن يردها إلا عن تراض منهما جميعا.
والثاني: قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز أن حوالة الأسواق فوت. والثالث: أنه لا يكون فيها فوت إلا بالزيادة أو النقصان وهو قول ابن القاسم في المدونة وإحدى روايتي عيسى عنه في العتبية.
والرابع: أنه لا يكون فيها فوت، إلا بالنقصان، وأما الزيادة فليست بفوت وهو قول ابن القاسم في إحدى روايتي عيسى عنه في العتبية.
فصل واختلف أيضا فيما يلزم الواهب به أخذ القيمة من الموهوب له إذا بذلها ولا يكون له أن يسترد هبته إذا لم يرض منها على أربعة أقوال:
أحدها: أن الهبة توجب على الواهب قبض القيمة فيها من الموهوب له إذا بذلها له وإن لم يقبض الهبة، وهذا على قياس القول بأن الواهب يلزمه دفع الهبة ولا يكون من حقه أن يمسكها حتى يقبض الثواب فيها، خلاف ما في المدونة: أن من حقه أن يمسك هبته حتى يقبض الثواب.
والثاني: أنه القبض وهو المشهور من قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها.
والثالث: أنه التغير بزيادة أو نقصان. وهو قوله في كتاب الشفعة من المدونة.(2/445)
والرابع: أنه فوات العين جملة بموت أو استهلاك أو تفويت بعتق أو غيره! وأما إن تلف بعضها أو جلها فله أن يأخذ الباقي منها إلا أن يرضى من هبته. ولا اختلاف إذا تلفت عينها عند الموهوب له أو أفاتها باستهلاك أو عتق - أن القيمة لازمة له: قيل يوم الهبة، وقيل يوم القبض.
فصل واختلف هل يلزم الواهب للثواب دفع الهبة قبل أن يقبض الثواب أم لا يلزمه أن يسلمها حتى يقبض ثوابه على قولين:
أحدهما: أن ذلك كالبيع وللواهب أن يمسك هبته حتى يقبض ثوابه - وهو نص ما في كتاب الهبة من المدونة.
والثاني: أن ذلك ليس له، لأنه مكارمة مخالفة للبيع في ذلك.
فصل فإذا قلنا إن الواهب يلزمه تسليم الهبة قبل أن يقبض الثواب فضمانها بعقد الهبة من الموهوب له على كل حال ولا يدخل فيها من الاختلاف ما يدخل في المحبوسة بالثمن وتلزمه القيمة إن فاتت يوم الهبة لا يوم القبض باتفاق؛ وأما إذا قلنا إنه لا يلزمه تسليم الهبة، وأن له أن يمسكها بالثواب؛ فالاختلاف في مصيبتها ممن تكون قبل القبض. كالاختلاف في المحبوسة بالثمن؛ فقيل إنها من البائع على كل حال وأن عليه فيها حق توفية. وقيل إن ضمانها من المشتري إن عرف هلاكها بالبينة، وإن لم يعرف ذلك وادعاه البائع لم يصدق في ذلك كالرهن - وهو مذهب ابن القاسم، وقيل إن ضمانها على كل حال من المشتري بالعقد؛ وإن لم يعرف هلاكها فالبائع مصدق في دعواه إياه - وهو أحد قولي مالك في كتاب العيوب(2/446)
من المدونة؛ وعلى هذا يأتي غير قول ابن القاسم في كتاب الرواحل والدواب في دعوى البائع هلاك ما اشترط الانتفاع به في البيع - إنه مصدق وقد تأول فيه غير هذا التأويل أن البائع إنما صدق في دعواه التلف على مذهب من يرى أن المستثنى ليس بمبقى على ملك البائع، وأنه بمنزلة المشترى؛ فكأنهما انفصلا وبان المشتري بالسلعة ثم اكتراها منه البائع بعد ذلك، فوجب أن يصدق في دعواه تلف ما اكتراه، وليس هذا بصحيح؛ لأنهما لو كانا قد انفصلا لجاز أن يشترط منفعة شهر وأكثر، وهو لم يجز ذلك إلا فيما قل كاليوم واليومين.
فصل ويختلف أيضا على هذا المعنى متى تكون القيمة فيها إذا فاتت فقيل يوم الهبة وهو قول مالك في سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، وقول ابن القاسم في سماع عيسى وأصبغ من الكتاب المذكور، ومثله في آثار كتاب الحبس من المدونة؛ وقيل يوم القبض وهو قول مالك في موطئه، ومثله في كتاب الشفعة من المدونة؛ والاختلاف في هذا جار على اختلافهم؛ في الضمان، وقد تقدم ذكر ذلك، واختار محمد بن المواز أن تكون القيمة يوم القبض، إلا أنه اعتل في ذلك بعلة غير صحيحة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك فقال: إنه بالخيار في ردها قبل أن يقبضها، لأنه بالخيار أيضا على مذهب ابن القاسم في ردها بعد قبضها، ما لم تفت فيلزم على تعليله أن تكون القيمة عليه فيها يوم الفوت، وهذا ما لم يقولوه ولا يوجد لهم، ولو قيل، لكان له وجه، وهو القياس على الذي يشتري السلعة على أنه فيها بالخيار، وإنما يستقيم قول ابن المواز على قياس رواية ابن الماجشون عن مالك في أن القيمة تلزم الموهوب له بقبض(2/447)
الهبة، ويلزم الواهب أخذها، ولا ترجع إلى الواهب إلا برضاهما جميعا، ووجه هذه الرواية أن الواهب لما دفع الهبة وقد كان من حقه ألا يدفعها حتى يثاب منها؛ فقد رضي بأخذ القيمة فيها؛ وأن الموهوب لما قبضها وقد كان له، ألا يقبل ولا يقبض فقد رضي بدفع القيمة فيها؛ ولو قيل إن الموهوب له تلزمه القيمة بالقبول، لكان قولا له وجه، وهو القياس على البيع؛ لأن الهبة على الثواب بيع من البيوع؛ والصحيح على مذهب ابن القاسم ما روي عن عيسى، وأصبغ - أن القيمة تكون عليه يوم الهبة؛ لأن مذهبه أن السلعة المبيعة تدخل بالعقد في ضمان المشتري، وتكون مصيبتها منه إذا عرف هلاكها بالبينة.
فصل وللموهوب له أن يثيب على الهبة للثواب بما شاء من العروض ما لم تكن من العروض التي لا يتعاطاها الناس فيما بينهم في الثواب، كالحطب والتبن، وما أشبه ذلك؛ وسواء على مذهب ابن القاسم كان ذلك قبل الفوات أو بعده - إذ لم يفرق بين ذلك في المدونة، ولو كان ذلك عنده يفترق لبينه - والله أعلم، وقال سحنون: له أن يثيبه بما شاء من العروض - إذا كان فيه وفاء بالقيمة؛ وقال أشهب: ليس له أن يعطي في الثواب إلا الدنانير والدراهم، إلا أن يتراضيا على غير ذلك؛ فإن تراضيا عليه، فينبغي ألا يجوز على مذهبه إلا بعد معرفتهما بالقيمة.
فصل فإن تمت الهبة فأراد الموهوب له ردها وأبى الواهب، جرى ذلك على اختلاف قول ابن القاسم في النماء: هل هو فوت أم لا؟ فلا يجب ذلك له على القول الذي يرى النماء فيه فوتا وإن كان مذهبه أن له أن يثيب العروض بعد الفوات، فالفرق بين السؤالين أن الواهب إنما دفع ليعطي غيره متى رضي به أو فات لا ليعطى هو، ويجب ذلك له على القول الذي لا يرى النماء فوتا، وهو قول أشهب وإحدى روايتي عيسى عن ابن القاسم.(2/448)
فصل وقد اختلف قول محمد بن المواز في أخذها بعد الفوت هل يحتاج إلى معرفة القيمة في ذلك أم لا، والصواب ألا بد من معرفة القيمة في أخذها بعد الفوت على مذهب ابن القاسم، إذ ليس له أن يردها بعينها على مذهبه إلا بتراضيهما على ذلك؛ وأما في أخذ غيرها بعد الفوت، فلا يحتاج فيه إلى معرفة القيمة - إذا قلنا إن له أن يثيب العروض بعد الفوات على ما تأولناه على مذهبه، وإن قلنا إنه ليس له أن يثيب العروض بعد الفوات، إلا بتراضيهما على ذلك، فلا بد من معرفة القيمة، فهذا الذي ينبغي أن يقال في المسألة، ولا معنى لاختلاف قول محمد بن المواز في إيجاب معرفة القيمة في ردها بعينها بعد الفوات والله أعلم، وهذا إذا صدق الموهوب له الواهب في أنه أراد بهبته الثواب، وأما إن أكذبه في ذلك فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يرى أنه إنما أراد بهبته الثواب.
والثاني: أن يرى أنه لم يرد بها الثواب.
والثالث: ألا يتبين مراده بها أن كانت للثواب أو لغير الثواب.
فأما إن رأى في أنه أراد بها الثوب، فحكمها حكم الهبة للثواب، وقد تقدم الكلام عليه.
وأما إن رأى أنه لم يرد بها الثواب، فلا ثواب له فيها.
وأما إن لم يتبين مراده بها، فالقول قوله أنه أراد بها الثواب قيل بيمين، وقيل بغير يمين - على ما سنبينه - إن شاء الله.(2/449)
فصل ومما يتبين به مراده من ذلك مما لا يتبين يحتاج إلى بيان وتقسيم، وتفصيل وذلك أن الهبة لا تخلو من أربعة أوجه:
أحدها: أن يقصد بها وجه الله تعالى.
والثاني: أن يقصد بها وجوه الناس.
والثالث: أن يقصد بها وجه الموهوب له.
والرابع: أن يريد بها وجه الله ووجه الموهوب له.
فأما إذا قصد بهبته وجه الله تعالى وعلم ذلك بإقراره على نفسمه، أو تبين ذلك من قصده، مثل أن يهب الغني للفقير، أو يهب لصلة رحم محتاجة، وما أشبه ذلك؛ فحكمها حكم الصدقة لا ثواب فيها ولا اعتصار ولا رجوع؛ وكذلك إذا قصد بهبته وجوه الناس إلا أنه لا أجر له في هبته، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله» . الحديث. وأما إذا أراد بهبته وجه الله تعالى ووجه الموهوب له. وذلك مثل أن يهب هبة على غير وجه صدقة ولا صلة رحم، فيقول فيها لله أو لوجه الله، فلا ثواب له فيها ولا اعتصار إلا أن يشترط ذلك؛ وقيل إن له الاعتصار دون شرط إذا كانت الهبة لمن يصح منه الاعتصار.
وأما إذا قصد بها وجه الموهوب له - وذلك مثل أن يهب هبة مرسلة على غير وجه صدقة ولا صلة رحم، فإنها تنقسم على خمسة أقسام:
أحدها: أن يريد بها وجه الموهوب له لمحبته إياه ومودته له.
والثاني: أن يريد بها وجهه ليستجر مودته ومحبته.
والثالث: أن يريد بها وجهه ليتأكد ما بينهما من المودة والمحبة.(2/450)
والرابع: أن يريد بها التودد والمكافأة.
والخامس: أن لا يتبين أن كان قصد بها مجرد التودد إلى الموهوب له دون المكافآت أو قصد بها الوجهين جميعا.
فأما إذا أراد بهبته وجه الموهوب له لمحبته إياه ومودته له وعلم ذلك بإقراره به على نفسه، أو تبين ذلك من قصده - مثل أن يهب الوالد لولده، أو يهب الرجل الهبة للعالم، أو للرجل الصالح، وما أشبه ذلك مما يعلم بالعرف الجاري أنه إنما وهبه لمحبته فيه، أو لمكانه من العلم والخير والصلاح، أو أراد بها وجه الموهوب له ليستجر بذلك مودته ومحبته وعلم ذلك بإقراره به على نفسه أو تبين ذلك من قصده مثل أن يقدم الرجل من سفره فيهدي له جاره الشيء يتحفه به مثل الفاكهة وما أشبه ذلك، أو يقدم الرجل من سفره فيهدي لجيرانه وإخوانه مما جلبه من تحف البلاد التي قدم منها، وما أشبه ذلك مما يعلم بالعرف الجاري فيه أن أحدا لا يريد بذلك ثوابا، وإنما يفعله للتودد والتحبب - كالسلطان يهب لبعض رعيته؛ فهذان الوجهان لا ثواب فيهما إلا أن يشترط الثواب، فإن لم يشترطه وادعى أنه أراده لم يصدق، وإن ادعى أنه اشترطه على الموهوب له، كان له أن يحلفه، فإن نكل عن اليمين حلف هو واستحق العوض.
فصل وأما إذا أراد بهبته وجه الموهوب له ليتأكد ما بينهما من المودة والمحبة وأقر بذلك على نفسه أيضا أو علم ذلك من قصده مثل أن يهب أحد الزوجين(2/451)
لصاحبه، أو الولد لوالده، فيعلم بالعرف الجاري أن القصد بذلك تأكيد التودد لما بينهما مما يقتضي حاجتهما إلى التودد، فهذا الوجه اختلف فيه إن ادعى الواهب أنه أراد بذلك الثواب والمكافأة على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يصدق إلا أن يظهر من صورة الحال ما يدل على صدقه، وهذا نص قوله في المدونة.
والثاني: أنه لا يصدق ولا يكون له الثواب إلا أن يشترطه وهو ظاهر قول ربيعة في المدونة، وقول مالك الذي يتلوه لقول سحنون، وقال مالك والليث مثله.
والثالث: أنه يصدق وإن لم يظهر ما يدل على صدقه وهذا القول حكاه عبد الوهاب في المعونة.
فصل فإذا صدق في هذا الوجه على مذهب من يصدقه فيه، فإنما يصدق باليمين، فإن نكل عن اليمين، لم يكن له ثواب ولم يحلف الموهوب له؛ ولو ادعى أنه اشترط الثواب على هذا القول - ونكل عن اليمين، لرجعت اليمين على الموهوب له فإن حلف بريء وإن نكل لزمه الثواب وأما على القول الذي لا يصدق فيه ولا يكون له الثواب إلا أن يشترطه، فإن ادعى الشرط ولم تكن له بينة، حلف الموهوب له وسقط عنه الثواب؛ فإن نكل حلف الواهب واستحق الثواب؛ وأما على القول الذي لا يصدق فيه ولا يكون له الثواب إلا أن يظهر من صورة الحال ما يدل على صدقه، فيتخرج إيجاب اليمين عليه إن ظهر من صورة الحال ما يدل على صدقه على قولين.
فصل وأما القسم الرابع وهو أن يريد بهبته التودد والمكافأة - ويظهر ذلك من قصده(2/452)
وفعله، مثل أن يهب الفقير للغني هبة مبتدأة على غير سبب، فيدل ذلك من فعله على أنه أراد به الثواب من عنده، فهذا له الثواب إن ادعاه دون يمين.
فصل وأما القسم الخامس - وهو الأبين إن كان أراد بهبته مجرد التودد دون المكافأة، أو قصد الوجهين جميعا، وذلك مثل هبة النظراء والأكفاء من أهل الوفر والغناء - بعضهم لبعض - كانوا أجنبيين أو أقرباء، فهذا الوجه قال فيه في المدونة: إن القول قول الواهب - ولم يبين إن كان بيمين أو بغير يمين، واختلف الشيوخ في تأويل ذلك، فمنهم من قال معناه بيمين، ومنهم من قال بغير يمين، والذي أقول به إن ذلك ينقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يقول أردت ذلك ولم أشترطه.
والثاني: أن يقول اشترطت ذلك على الموهوب له فيقول الموهوب له لم تشترط علي شيئا.
والثالث: أن يقول الواهب اشترطت عليك الثواب ويقول الموهوب له بل بينت وذكرت أنه لا ثواب لك علي.
فأما إذا قال أردت ذلك، ولم أشترطه فيجري ذلك على الاختلاف في يمين التهمة: هل تتعلق دون تحقيق الدعوى أم لا.
وأما إذا قال: اشترطت ذلك على الموهوب له، وقال الموهوب له لم تشترط علي شيئا فلا يلزمه اليمين على القول الذي يوجب عليه اليمين في التهمة إلا بعد أن يحلف الموهوب له أنه ما اشترط عليه الثواب، فإن نكل عن اليمين لم يلزم الواهب يمين، وكان له الثواب دون أن يحلف، وأما على القول الذي لا يوجب عليه يمينا في التهمة، فلا يحلف بوجه.
وأما إن قال: اشترطت عليك الثواب، وقال الموهوب له بل بينت ألا ثواب(2/453)
لك علي فيها فالقول قول الواهب مع يمينه أنه اشترط عليه الثواب، فإن نكل كان القول قول الموهوب له أنه بين له أن لا ثواب عليه، فإن نكل عن اليمين كان للواهب الثواب دون يمين - على حكم المدعي، والمدعى عليه، وبالله التوفيق لا شريك له.
فصل وأما الوجه الثاني من تقاسيم الهبة للثواب وهو أن يشترط الثواب ولا يسميه، فقيل إنه كالهبة التي يرى أنه أراد بها الثواب، وقيل إن ذلك غرر لا يجوز لأنه قد باع منه السلعة بقيمتها - قاله ابن الماجشون، والأول قول أصبغ - وهو مذهب ابن القاسم.
وأما الوجه الثالث - وهو أن يشترط الثواب ويسميه، فهو بيع من البيوع يحله ما يحل البيوع ويحرمه ما يحرم البيوع، وبالله تعالى التوفيق.(2/454)
[كتاب الوديعة]
الوديعة أمانة، والمودع مؤتمن؛ والأمانة أمانتان: أمانة بين العبد وخالقه، وأمانة بين المخلوقين.
فأما الأمانة التي بين العبد وخالقه، فهي الأمانة في الدين عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان - أي آدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحملها ولده بعده - وهي الفرائض التي افترضها الله على عباده، عرضها - تعالى - على السماوات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت، وإن ضيعت عوقبت؛ فأبت حملها شفقا منها وخوفا ألا تقوم بالواجب لله فيها، وحملها آدم إنه كان ظلوما لنفسه، جهولا بالذي فيه الحظ له، وجهولا بأمر ربه؛ وذلك أنه لما قبلها بما فيها، ما كان إلا ما بين صلاة العصر - إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة؛ وهي السرائر التي قال الله تعالى فيها: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق: 10]
وسئل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقيل له: أبلغك أن الوضوء من السرائر؟ فقال: نعم، الوضوء من السرائر؛ وقد بلغني ذلك فيما يقول الناس، فأما حديث أحدثه(2/455)
فلا، والصلاة من السرائر - إن شاء قال: صليت ولم يصل؛ ومن السرائر ما في القلوب يجزي الله بها العباد؛ ومن ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] .
فصل وأما الأمانة التي بين المخلوقين، فهي الودائع وما أشبهها من الأمانات التي يأتمن الناس بعضهم بعضا فيها؛ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] . وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . وقال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] وقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» ، وأداء الأمانات من علامات الإيمان وعمل المؤمنين. والخيانة من علامة النفاق وعمل الفساق؛ وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب،(2/456)
وإذا خاصم فجر، وإذا أؤتمن خان» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اكفلوا لي ست خصال أكفل لكم الجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا أؤتمن فلا يخن، غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم» .
فصل
ولا تحل خيانة من خان، وقد اختلف فيمن استودع رجلا وديعة تجحده إياها ثم إنه استودعه وديعة أو ائتمنه على شيء هل يحل له أن فجحده فيها ويقتطعها لنفسه فيما جحده من وديعته: فقال مالك في رواية ابن القاسم عنه في المدونة لا يجحده، قال ابن القاسم حسبت أنه قاله للحديث الذي جاء: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» . وروى أشهب عنه أنه قال: لا آمره بذلك، ولا آمره إلا بطاعة الله؛ وإن أردت أن تفعله، فأنت أعلم. وروى ابن وهب عن مالك أنه يأخذ إن لم يكن عليه دين، وإن كان عليه دين أخذ قدر ما يجب له في المحاصة؛ وزاد ابن نافع عنه إن أمن أن يحلف كاذبا. - يريد إن قبل منه أن يحلف ماله عندي حق - على ما في سماع أصبغ من كتاب النذور. وقال ابن شعبان تقبل منه يمينه أنه ماله عندي وديعة ولا غيرها بخلاف الحقوق الثابتة في الذمة من المبايعة والقرض، لأن الوديعة لا تلزم ذمته إلا بالتفريط، فما كان لا يلزم ذمته، فإنما يحلف على أقل ما يبرئه من فروعه؛ وذكر عن إياس بن معاوية أنه استحلف جاحد الوديعة ماله عندي وديعة ولا غيرها، قال ابن شعبان: وينبغي أن يزيد في يمين المستودع - مع هذا الذي حكم به إياس بن معاوية: ماله عندي وديعة، ولا وجب له في ذمته حق - بسبب الوديعة التي يذكرها - مخافة أن يكون فرط فيها فوجبت في ذمته، فإن حلف ماله عندي وديعة، حلف على صدق؛ لأنها(2/457)
قد ذهبت بتفريط أو بغير تفريط، فما هي عنده، وقال ابن عبد الحكم له أن يأخذ - وإن كان عليه دين، وهو قول الشافعي، وهذا الاختلاف جار على اختلاف قول مالك في المدونة في إجازة رهن المديان وقضائه بعض غرمائه، وقال ابن الماجشون أرى له استعمال الحيلة بكل ما يقدر عليه حتى يأخذ حقه؛ ففي المسألة أربعة أقوال:
أحدها: المنع من الأخذ.
والثاني: الكراهية لذلك.
والثالث: الإباحة له.
والرابع: استحباب الأخذ - وهو قول ابن الماجشون كان عليه دين أو لم يكن؛ وقيل إنما هذا إذا لم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين لم يكن له أن يأخذ إلا قدر ما يجب له في المحاصة، وهو قول خامس في المسألة؛ وأظهر الأقاويل إباحة الأخذ، «لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح ذلك لهند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس لما شكت إليه أن زوجها أبا سفيان بن حرب لا يعطيها من الطعام ما يكفيها وولدها، فقال لها خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف؛» فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمعروف معناه: أن تأخذ مقدار ما يجب لها ولا تتعدى فتأخذ أكثر مما يجب لها؛ وكذلك يتأول قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا تخن من خانك» . أي لا تتعدى فتأخذ أكثر من الواجب لك فتكون قد خنته - أخرى، كما خانك هو أولا؛ لأن من أخذ حقه الواجب له، فليس بخائن بل فعل المعروف الذي أباحه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند بنت عتبة، فعلى هذا يخرج الحديثان جميعا ولا يحملان على التعارض، وقد كان الفقيه ابن رزق شيخنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يحدثنا أن هذا الحديث خرج على سؤال سئل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن وطء امرأة ائتمنه عليها رجل قد كان هو ائتمن ذلك الرجل على امرأته فخانه فيها ووطئها، وكان يضعف الاحتجاج لقول مالك في هذه المسألة بعموم هذا الحديث، لهذا المعنى الذي كان يذكره؛ وهذا الحديث وإن كان واردا على سبب على ما كان يذكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه عام مستقل بنفسه، وقد اختلف قول مالك(2/458)
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يقصر على سببه، أو يحمل على عمومه على قولين، الأصح منهما عند أكثر أصحابه العراقيين كإسماعيل القاضي، والقاضي أبي بكر وغيرهما أنه يحمل على عمومه، ولا يقصر على سببه - لأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها؛ فالاحتجاج لقول مالك في هذه المسألة بعموم هذا الحديث - وإن كان واردا على السبب المذكور - صحيح على الأصح من قولي مالك - والله أعلم. قال ابن شعبان: ومن أصحابنا من يقول إن المستودع إذا جحد ما كان بيده وهو من غير الذهب فوجد له المجحود ما بقي به من الدراهم أو العروض؛ لم يكن له أخذه ولا بيعه بمثل ما كان له، لأنه لم يوكل في ذلك وبه أقول.
فصل فالأمانة التي تكون بين المخلوقين أمرهم الله فيها بالتقوى والأداء، ولم يأمرهم بالإشهاد كما فعل في ولي اليتيم، فدل ذلك على أنهم مؤتمنون في الرد إلى من ائتمنهم دون إشهاد، فوجب أن يصدق المستودع في دعواه رد الوديعة مع يمينه - إن أكذبه المودع، كما تصدق المرأة فيما ائتمنها الله عليه مما خلق في رحمهما من الحيض والحمل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228] . إلا أن يكون دفعها إليه بإشهاد فيتبين أنه إنما ائتمنه على حفظها ولم يأتمنه على ردها، فيصدق في الضياع الذي ائتمنه عليه، ولا يصدق في الرد الذي استوثق منه فيه ولم يأتمنه عليه، هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه: ابن القاسم وغيره، حاشا رواية أصبغ عن ابن القاسم في دعوى المستأجر رد ما استأجره من العروض، أنه يصدق - قبض ذلك منه، ببينة أو بغير بينة، ولا فرق في هذا بين ما استؤجر أو استودع، وقد تأول(2/459)
عليه أصبغ، أنه فرق بين القراض والوديعة، وبين ما استأجر من العروض في دعوى الرد إذا قبض ذلك ببينة؛ ووقع في النوادر لابن القاسم ما ظاهره مثل ما تأول عليه أصبغ، والصحيح ألا فرق بين ذلك، لأنه إذا صدق في رد ما استأجر وإن قبضه ببينة، فهو أحرى أن يصدق في الوديعة، لأنه قبضها لمنفعة صاحبها خالصا، والشيء المستأجر قبضه لمنفعتهما جميعا؛ وكذلك القراض قبضه لمنفعتهما جميعا، فلا فرق بينه وبين العرض المستأجر، بل هو أحرى ألا يصدق؛ لأن من أهل العلم من يراه ضامنا له إذا ادعى تلفه إلا أن يقيم البينة على التلف - كالرهن والعارية، وإلى هذا ذهب الشافعي أن المودع مصدق في رد الوديعة دفعت إليه ببينة أو بغير بينة، وقد كان يشبه أن يفرق بين الوديعة والشيء المستأجر، فإن الشيء المستأجر إذا شهد على دفعه إليه احتمل أن يكون القصد بالإشهاد التوثق من الإجارة لا التوثق من عين الشيء المستأجر لولا أن هذا ينكسر علينا بالقراض، إذ لا فرق في دعوى الرد بين القراض والشيء المستأجر فيتحصل على هذا في المسألة أربعة أقوال:
أحدها: وهو المشهور أنه لا يصدق في دعوى الرد إذا دفع إليه ببينة لا في الوديعة ولا في القراض ولا في الشيء المستأجر.
والثاني: أنه يصدق في جميع ذلك وإن دفع إليه ببينة وهو الذي يأتي على رواية أصبغ في دعوى رد الشيء المستأجر، لأنه إذا صدق على الرد مع البينة على الدفع في الشيء المستأجر الذي قبضه لمنفعتهما جميعا. فأحرى أن يصدق في الوديعة التي قبضها لمنفعة صاحبها - خاصة، وهو مثل القراض الذي قبضه لمنفعتهما جميعا.
والثالث: تفرقة أصبغ بين الشيء المستأجر وبين القراض والوديعة فيصدق(2/460)
في الشيء المستأجر ولا يصدق في الوديعة، ولا في القراض على ما تؤول على ابن القاسم.
والرابع: الفرق بين الوديعة وبين القراض والشيء المستأجر فلا يصدق في الوديعة إذا دفعت إليه ببينة ويصدق في رد الشيء المستأجر والقراض وإن دفع إليه ببينة؛ لاحتمال أن يكون القصد بالإشهاد إلى التوثق من الإجارة ومن الجزء في القراض، لا إلى التوثق من عين الشيء المستأجر ولا من مال القراض، وبالله التوفيق.
فصل وهذا فيمن دفع الأمانة إلى اليد التي دفعتها إليه، وأما من دفعها إلى غير اليد التي دفعت إليه، فعليه ما على ولي اليتيم من الإشهاد، قال الله عز وجل: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] ، فإن لم يشهد، فلا يصدق في الدفع - إذا أنكر القابض، لا أحفظ في هذا الوجه نص خلاف، إلا على قول ابن الماجشون فيمن بعث ببضاعة مع رجل إلى رجل أنه لا يلزمه الإشهاد في دفعها إليه، وهو مصدق - وإن أنكر القابض كانت دينا أو صلة؛ ويمكن أن يقول ابن القاسم مثله بالمعنى في مسألة اللؤلؤة الواقعة في كتاب الوكالات، - لأنها تقتضي تعمير الذمة، أعني ذمة الآمر بقول المأمور: قد فعلت ما أمرتني به من الدفع وإذا وجب أن يعمرها بقوله قد فعلت ما أمرتني به من الشراء، وجب(2/461)
أن يخلي ذمة نفسه بقوله قد فعلت ما أمرتني به من الدفع؛ وإذا وجب أن يخلي ذمته بقوله، فإخلاء أمانته بقوله أوجب؛ ومن رواية عيسى عنه في كتاب الخيار في الذي يشتري الثوب من الثوبين على أن أحدهما قد وجب عليه بخياره، فيضيع أحدهما فيدعي أنه قد كان اختار هذا الباقي ورضيه، أنه يصدق في ذلك.
فصل فإن أقر بالقبض وادعى التلف، فلا يخلو من أن يكون قبض إلى ذمة أو إلى أمانة، فإن كان قبض إلى أمانة، فاختلف في ذلك قول ابن القاسم. قال مرة يبرأ الدافع بتصديق القابض - وتكون المصيبة من الآمر، وهو قوله في الكتاب؛ وقال مرة لا يبرأ الدافع إلا بإقامة البينة على الدفع، أو يأتي القابض بالمال، وهو قوله في كتاب ابن المواز؛ وفي مختصر الأسدية لأبي زيد القولان جميعا؛ وأما إن كان قبض إلى ذمة مثل أن يقول: ادفع الوديعة التي لي عندك إلى فلان سلفا أو تسليفا في سلعة، أو إلى صانع يعمل بها عملا، أو ما أشبه ذلك، فلا يخلو من وجهين:
أحدهما: أن تكون الذمة قائمة.
والثاني: أن تكون خربة.
فأما إن كانت الذمة قائمة، فإن الدافع يبرأ بتصديق القابض بلا خلاف؛ وأما إن كانت الذمة خربة، فاختلف في ذلك: قيل إن الدافع يبرأ بتصديق القابض، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب البضائع والوكالات في مسألة الصناع، وقيل إنه لا يبرأ بتصديقه إياه لخراب ذمته، والقولان مكشوفان في اختصار الأسدية لأبي زيد بن أبي الغمر؛ فقيل إن هذين القولين في هذا الوجه جاريان على الاختلاف المتقدم إذا دفع إلى أمانة، لاستواء الأمانة والذمة الخربة في كون(2/462)
المصيبة من الآمر، وقد فرق بعض المتأولين - أراه الفضل بن سلمة - بين المسألتين، فعلى ما ذهب إليه يأتي في حملة المسألة ثلاثة أقوال.
أحدها: أن الدافع يبرأ بتصديق القابض - قبض إلى أمانة أو إلى ذمة.
والثاني: أنه لا يبرأ بتصديق القابض - قبض إلى أمانة أو إلى ذمة إذا كانت خربة.
والثالث: أنه يبرأ بتصديق القابض إذا قبض إلى ذمة وإن كانت خربة ولا يبرأ بتصديقه إذا قبض إلى أمانة.
فصل وهذا التقسيم كله في دفع الأمانة، وأما دفع ما ثبت في الذمة فلا يخلو من أن يدفع ذلك إلى ذمة أو إلى أمانة.
فأما إن دفع ذلك إلى أمانة، فإنه لا يبرأ بتصديق القابض إذا ادعى التلف ولا يبرأ إلا بإقامة البينة على معاينة الدفع، أو يأتي قابض المال بالمال، هذا نص ما في المدونة، ولا أعرف في هذا الوجه خلافا؛ إلا أن يدخل فيه الخلاف بالقياس على الأمانة، وكذلك لا يصدق إذ أنكر، وقد يدخل فيه الاختلاف بالمعنى من مسألة اللؤلؤة المذكورة وإنما اختلف إذا غرم الدافع المال: هل له أن يرجع به على القابض الذي قبضه منه وادعى تلفه: فقال مطرف يرجع به، لأنه فرط في دفع ذلك إلى الذي وكله حتى ضاع ذلك عنده، وقال ابن الماجشون لا يرجع عليه بشيء حتى يتبين منه تفريط وتعريض لتلف ما قبض، وهذا إذا علمت الوكالة ببينة قامت عليها، أو بإقرار الموكل بها؛ وأما إن كان ادعى القابض الوكالة وأنكرها الموكل، فقيل القول قول الموكل ويحلف ما وكله على شيء ويضمن؛ وقيل القول قول(2/463)
الوكيل، لأن الدافع قد صدقه فيما ادعى من الوكالة، فإذا قلت إن القول قول الموكل، يضمن الوكيل؛ وهو الذي يأتي على ما في كتاب الوديعة من المدونة، وعلى قول أشهب وابن القاسم في سماع سحنون من كتاب العارية، فإن رجع الموكل عليه لم يكن له رجوع على أحد وبريء الغريم، فإن رجع على الغريم كان للغريم الرجوع عليه؛ وإذا قلت إن القول قول الوكيل لأن الغريم قد صدقه إذا دفع إليه وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى عنه من كتاب العارية، ففي رجوع الغريم عليه إذا غرم من الاختلاف ما قد ذكرته عن مطرف، وابن الماجشون.
فصل وأما إن دفع إلى ذمة، فلا يخلو أن تكون الذمة قائمة أو خربة، فإن كانت قائمة، فإنه يبرأ بتصديق القابض إياه باتفاق، وإن كانت خربة، فإنه لا يبرأ بتصديق القابض إذا ادعى التلف إلا أن يقيم بينة على الدفع، هذا الذي يصح - عندي على مذاهبهم، ولا أعرف فيها نص خلاف، إلا أن يدخل فيها الخلاف بالقياس على الأمانة، فهي أربعة وجوه: دافع من ذمة إلى ذمة، ومن أمانة إلى أمانة، ومن أمانة إلى ذمة، ومن ذمة إلى أمانة؛ وقد تقدم الكلام على جميع ذلك فصلا، فصلا، ووجها، وجها.
فصل واختلف إن ادعى الوكيل المفوض إليه أو غير المفوض إليه، أنه دفع إلى موكله ما قبض له من غرمائه فأنكره، فروى ابن القاسم عن مالك في كتاب البضائع والوكالات: أنه يصدق مع يمينه جملة من غير تفصيل، ومثله في الوكالات من المدونة، وروى مطرف عن مالك أنه إن كان الأمر بحضرة قبض المال أو(2/464)
بقرب ذلك بالأيام اليسيرة، فالقول قول الموكل أنه ما قبض منه شيئا مع يمينه؛ وعلى الوكيل إقامة البينة وإن تباعد الأمر مثل الشهر ونحوه، فالقول قول الوكيل مع يمينه يحلف ويبرأ، وإن طال الأمر جدا، لم يكن على الوكيل ولا على الزوج يمين - وكان برئا. وقال ابن الماجشون وابن عبد الحكم: إن كان بحضرة ذلك وقربه بالأيام اليسيرة صدق الوكيل مع يمينه - وإن طال الأمر جدا، صدق دون يمين، وقال أصبغ مثله في الوكيل المفوض إليه؛ وأما الوكيل على الشيء بعينه، فهو غارم حتى يقيم البينة على الدفع؛ قال مطرف وابن الماجشون فإن مات الوكيل، والزوج بحدثان ما جرى على أيديهما ذلك، كان ذلك في أموالهما - إذا عرف القبض وجهل الدفع؛ وإن كان موتهما بعد حدثانه وما يكون في مثله المخرج والقضاء والدفع، فلا شيء في أموالهما وإن لم يعرف الدفع ولم يذكر.
فصل ولا يلزم من استودع قبض الوديعة وجد المودع من يودعه أو لم يجد قال ذلك ابن شعبان؛ فأما إذا وجد من يودع غيره، فبين أنه لا يلزمه قبولها، لأن الله تعالى إنما أمره بالأداء، ولم يأمره بالقبول؛ وأما إذا لم يجد من يستودع سواه، فينبغي أن يلزمه القبول قياسا على من دعي إلى أن يشهد على شهادة، أنه يلزمه ذلك إن لم يكن في البلد من يشهد غيره؛ ومن أهل العلم من يرى أن ذلك لازم له - وجد في البلد من يشهد أو لم يوجد؛ لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ، وهذا عند مالك إذا دعي لأداء الشهادة؛ وأما إذا دعي ليستحفظه إياها ويشهد عليها فلا؛ وقوله في ذلك بين، لأن الله تعالى يقول: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ولا يسمى الرجل شاهدا حتى يكون عالما بالشهادة، فيجب عليه أداؤها.(2/465)
فصل فإذا قبلها، وجب عليه حفظها وصيانتها؛ فإن ضيعها أو تعدى أمر صاحبها فيها، فهو ضامن لها وله أن يستدفع ما أودع عند عياله الذين يأمنهم على ماله وهو تحت غلقه من زوج أو ولد أو أمة أو والدة ومن أشبههم، ويحتاط فيها مع هذا؛ ولا إشهاد عليه في دفعها إلى أحد من هؤلاء، لأن العادة والعرف ألا يشهد عليهم فيما يستدفعون إياه، والعرف كالشرط فكان ذلك كالذي يؤمر بدفع الوديعة إلى رجل فيشترط أنه يدفعها إليه بلا إشهاد.
فصل وتدفع الوديعة فيما يدفع فيه مثلها وعلى ما جرت به عادة الناس في حرز أموالهم وحياطتها وحفظها، وقد سئل ابن وهب في سماع أصبغ عنه فيمن استودع وديعة في المسجد فجعلها على نعليه فذهبت، فقال: إنه لا ضمان عليه؛ قال ابن الماجشون ومطرف ولو نسيها في الموضع الذي دفعت إليه فيه وقام فتركها لضمن؛ وكذلك لو كانت في داره فأخذها وأدخلها في كمه يظنها دراهمه فسقطت لضمن، لأنها جناية؛ وقال أبو إسحاق التونسي: إن التضمين بالنسيان ينبغي أن يختلف فيه، لأنهم اختلفوا في الرجل يستودع الرجل الوديعة ثم يأتي هو وآخر فيدعيانها جميعا، وينسى هو من دفعها إليه منهما؛ فقيل إنهما يحلفان جميعا ويقتسمانها بينهما - ولا ضمان عليه، وقيل إنه يضمن لكل واحد منهما لنسيانه؛ وفي كتاب ابن شعبان ومن أودع وديعة فجعلها في جيب قميصه فضاعت ضمن، وقيل لا يضمن، والأول أحوط للحديث: فانجابت عن المدينة انجياب الثوب، أي خرجت عن المدينة كما خرج الجيب عن الثوب، وما خرج عن الحرز، فليس بحرز، فأما اختياره فصحيح، لأن الجيب ليس العادة أن تدفع فيه الودائع وجاعلها فيه معرض لتلفها، وأما احتجاجه بالحديث فليس بشيء.(2/466)
فصل ولا أجر للمودع على حفظ الوديعة وإن كانت مما يشغل منزله، فطلب أجر الموضع الذي كانت فيه، فذلك له وإن احتاجت إلى غلق أو قفل فذلك على ربها، وبالله التوفيق.(2/467)
[كتاب العارية] [ما جاء في العارية]
ما جاء في العارية
إعارة المتاع من عمل المعروف وأخلاق المؤمنين، فينبغي للناس أن يتوارثوا ذلك فيما بينهم ويتعاملوا به ولا يشحوا به ويمنعوه، ومن منع ذلك وشح به فلا إثم عليه ولا حرج؛ إلا أنه قد رغب عن مكارم الأخلاق ومحمودها، واختار لئيمها ومذمومها، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» ، والماعون الذي توعد الله على منعه في قوله - عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] ، إنما هو الزكاة المفروضة، هذا الذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور أهل العلم، وقد روي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود - أنهما قالا هو عارية متاع البيت الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم من الفأس، والدلو، والحبل، والقدر، وأشباه ذلك؛ والويل واد في جهنم من عصارة أهل النار في النار على ما روي؛ فأخبر الله تعالى أنه للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون - وهذه صفة المنافقين، لأنه لا يرائي بأعماله، ويريد بها غير وجه الله إلا منافق، فالآية نزلت في المنافقين والوعيد تعلق بهم على(2/469)
مذهب مالك، ومن رأى الماعون الزكاة على النفاق ومنع الزكاة، ويتعلق في مذهب من جعل الماعون عارية متاع البيت على النفاق ومنع العارية من المسلمين بغضا لهم - وهو الأظهر، لأن المنافقين كفار، في الدرك الأسفل من النار، ومن كان بهذه الصفة، لا تلتمس منه الزكاة، لأن الله إنما جعلها تطهيرا لمن تؤخذ منه بقوله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، والمنافقون لو أخذت منهم لم تطهرهم ولم تزكهم؛ ثم قال عز وجل: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] ، فكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاءه المؤمنون بزكواتهم يصلي عليهم، فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى» - إذ جاء ابنه بصدقة أبيه أبي أوفى، وكان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لا يصلي على المنافقين - والله أعلم.
فصل «واستعار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند غزوه إلى هوازن بحنين من صفوان بن أمية أداة وسلاحا ذكر له أنها كانت عنده، فأرسل إليه فسأله إياها عارية، فقال صفوان: أمن الأمان أتأخذها غصبا؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن شئت أن تمسك أداتك فأمسكها، وإن أعرتناها فهي ضامنة علي حتى تؤس إليك. فقال صفوان: ليس بهذا بأس وقد أعرتك - يا محمد، فبعث إليه بمائة درع وأداتها، وكان صفوان كثير السلاح؛ فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اكفنا حملها، فحملها له صفوان؛ وروي أنه قال له أعارية مضمونة، أم عارية مؤداة؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بل عارية مضمونة مؤداة» وفي بعض الآثار أنه قال: «بل عارية مؤداة» ، وروى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس على المستعير ضمان» . وروى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «على(2/470)
اليد ما أخذت حتى تؤديه» . فاختلف أهل العلم في ضمان العارية لتعارض ظواهر هذه الآثار، فمنهم من قال: إنه ضامن للعارية قامت البينة على التلف أو لم تقم، كان مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه - على ظاهر قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بل عارية مضمونة مؤداة» . وهذا قول أشهب وأحد قولي مالك ومذهب الشافعي. ومنهم من قال إنه لا ضمان عليه بحال على ظاهر قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على المستعير ضمان» ، وهو قول أبي حنيفة. ومنهم من قال لا ضمان عليه إلا أن يشترط عليه الضمان، حكى هذا القول ابن شعبان وعابه؛ ومنهم من قال يضمن فيما يغاب عليه إذا لم يقم على التلف بينة. ولا يضمن فيما لا يغاب عليه ولا فيما قامت البينة على تلفه من غير ضيعة، وهذا هو المشهور من قول مالك وهو مذهب ابن القاسم وأكثر أصحاب مالك، وأصح الأقوال وأولاها بالصواب لاستعمال جميع الآثار وصحته في النظر والاعتبار.
فصل فأما وجه استعمال جميع الآثار، فهو أن يتأول ما روي عنه من وجوب الضمان في العارية فيما يغاب عليه، إذا لم يعلم هلاكه، وما روي عنه من سقوط الضمان فيما لا يغاب عليه وفيما يغاب عليه إذا علم هلاكه، على أن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بل عارية مضمونة مؤداة» ، من الألفاظ التي لا تستقل بأنفسها، فلا يصح بها الاحتجاج على وجوب الضمان؛ لأن ما لا يستقل بنفسه، فوجهه أن يقصر على سببه، ولا يحمل على عمومه، لا اختلاف بين أهل العلم بالأصول في ذلك، وإنما اختلفوا في اللفظ العام المستقل بنفسه إذا ورد على سبب، هل يقصر على سببه، أو يحمل على عمومه على قولين، الأصح منهما عند أهل النظر حمله على عمومه؛(2/471)
فإنما كان يصح الاحتجاج بظاهر هذا الحديث في وجوب الضمان لو قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مجاوبا لصفوان إذ قال له أعارية مضمونة أو مؤداة -: «العارية مضمونة مؤداة» ، وأيضا فإن في مقابلة هذا الحديث ما روي عنه أنه قال: «بل عارية مؤداة» ، فنفى الضمان وأوجب الأداء؛ إلا أن للقائل أن يقول إن هذه زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة؛ وكذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ، إنما تفيد مع بقاء العين، فأما مع تلفها فلا يصح ولا يجوز حمله على القيمة، لأنه لم يجر لها ذكر، ولأنه إنما أوجب أداء ما أخذت اليد - واليد لم تأخذ القيمة.
فصل فأما ما يدل على صحته من جهة النظر والاعتبار، فإن الأسباب التي تقبض بها الأعيان لاستيفاء المنافع على وجهين:
أحدهما: عقد فيه بدل وهو الإجارة.
والآخر عقد لا بدل فيه - وهو العارية.
والإخدام والبدل مؤثر في الضمان، وسبب لتعلق ضمان البدل؛ فإذا كان المقبوض لاستيفاء المنفعة بإذن مالكه ببدل مضمون، وسبب مؤثر في وجوب الضمان، لا يوجب ضمان العين، فما لم يقبض ببدل أولى ألا يكون مضمونا.
فصل ووجه قول من أوجب الضمان وإن قامت البينة على التلف: أن أصله مأخوذ على الضمان، فلا ينتقل على أصله حسما للباب؛ والرواية الأولى أصح على ما قدمناه، لأن قيام البينة ينفي التهمة والتفريط، وذلك معنى يسقط الضمان.
فصل
فإن اشترط المستعير ألا ضمان عليه فيما يغاب عليه فشرطه باطل وعليه(2/472)
الضمان - قاله ابن القاسم في بعض روايات المدونة، وهو أيضا في العتبية لأشهب وابن القاسم من رواية أصبغ عنهما في بعض الروايات من كتاب العارية، وعلى ما حكى ابن أبي زيد في المختصر عن أشهب في الصانع يشترط ألا ضمان عليه أن شرطه جائز ولا ضمان عليه، ينفعه الشرط في العارية؛ لأنه إذا ألزم في الصناع فأحرى أن يلزم في المستعير لأن المعير إذا أعاره على ألا ضمان عليه فقد فعل المعروف معه من جهتين، فالأظهر إعمال الشرط وما لإسقاطه وجه، إلا أن يكون ذلك من باب إسقاط حق قبل وجوبه، فلا يلزم على أحد القولين.
فصل وأما إن اشترط المعير على المستعير الضمان فيما لا يغاب عليه، أو مع قيام البينة فيما يغاب عليه، فقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه أن الشرط باطل جملة من غير تفصيل حاشا مطرف فإنه قال إن كان شرط عليه الضمان لأمر خافه من طريق مخوفة، أو نهر أو لصوص، أو ما أشبه ذلك فالشرط لازم إن عطب في الأمر الذي خافه واشترط الضمان من أجله؛ وقال أصبغ لا شيء عليه في الوجهين مثل قول مالك وأصحابه، وينبغي إن شرط المعير على المستعير الضمان فيما لا يغاب عليه فأبطل الشرط بالحكم عن المستعير - أن يلزم إجارة المثل في استعماله العارية، لأن الشرط يخرج العارية عن حكم العارية وسنتها إلى باب الإجارة الفاسدة، لأن رب الدابة لم يرض أن يعيره إياها إلا بشرط أن يحوزها في ضمانه فهو عوض مجهول يرد إلى المعلوم.
فصل وإذا وجب على المستعير ضمان العارية، فإنما يضمن قيمة الرقبة يوم انقضاء(2/473)
أجل العارية على ما ينقصها الاستعمال المأذون فيه بعد يمينه لقد ضاعت ضياعا لا يقدر على ردها، لأنه يتهم على أخذها بقيمتها بغير رضى صاحبها؛ فإن استعملها في غير ما أذن له فيه، فنقصها الاستعمال الذي استعملها أكثر من الاستعمال الذي أذن له فيه ضمن ما أنقصها الاستعمال بعد القدر الذي نقصها الاستعمال المأذون له فيه، فإن أنهكها ذلك وأعطبها، ضمن قيمتها يوم انقضاء أجل العارية - على ما ينقصها الاستعمال الذي أعاره إياها عليه؛ فإن أراد رب العارية أن يأخذ منه قيمة إجارة ما استعملها فيه بعد أن يطرح من ذلك قيمة إجارة ما كان أذن له فيه، لم يكن له في قول - إن كانت أكثر من قيمتها، وفي قول يكون له ذلك، وأما إذا كان ذلك أقل من قيمتها، لم يمنع من ذلك.
فصل وأجرة حمل العارية على المستعير، دليل قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصفوان في السلاح التي أعاره إياها اكفنا حملها. واختلف في أجرة ردها فقيل على المستعير - وهو الأظهر، وقيل على المعير لأن العارية معروف، فلا يكلفه أجرا بعد معروف صنعه - وهو عرضه لحمله حيث أحب، وكذلك المكتري.
فصل ومن حق المستعير أن يشهد على المعير في رد العارية عليه وإن كان دفعها إليه بلا إشهاد، بخلاف الوديعة؛ لأن العارية تضمن والوديعة لا تضمن.
فصل والعارية تكون في الدور والأرضين والحيوان وجميع ما يعرف بعينه - وإن غيب عليه، إلا في الفروج خاصة؛ وأما ما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه من المكيل والموزون كله فعاريته قرض على حكم القرض، وبالله التوفيق.(2/474)
[كتاب اللقطة] [فصل في بيان معنى اللقطة]
فصل في بيان معنى اللقطة لقط الشيء: أخذ واجده له، قال الله عز وجل: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 19] {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] فمعنى شروه باعوه، وذلك أن إخوته كانوا يرعون على مقربة من الجب، فلما أخرجته السيارة جاءوا فقالوا عبد لنا آبق، وقالوا ليوسف بالعبرانية إن لم تقر لنا بالعبودية أخذناك منهم فقتلناك، فأقر لهم بالعبودية فباعوه منهم بثمن بخس. أي ظلم، لأنهم علموا أن بيعه لا يحل لهم وكانوا فيه من الزاهدين، لأنهم أحبوا بعده على أبيه، وقيل إن الضمير راجع على الثمن، وأنهم زهدوا في الثمن. ولكن باعوه لمن يمضي به إلى مصر؛ وقيل إن معنى شروه أي اشتراه التجار بثمن بخس أي محطوط، وكانوا فيه من الزاهدين إذ لم يعلموا منزلته عند الله عز وجل.
فصل وقد اختلف في اللقيط: فقيل إنه عبد لمن التقطه، وقيل إنه حر وولاؤه(2/475)
للمسلمين، وقيل ولاؤه لمن التقطه؛ ولا وجه لقول من قال إنه مملوك لمن التقطه، لأنه لا يخلو من أن يكون ابن أمة، فهو لسيدها لا ينتقل ملكه عنه إلا بما تنتقل به الأملاك؛ أو يكون ابن حرة، فهو حرة والصواب الذي عليه أهل العلم: أنه حر، لأن الناس كلهم من آدم وحواء - عليهم أفضل السلام؛ فالأصل الحرية؛ وذلك مروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: المنبوذ حر. وقال علي بن أبي طالب: " اللقيط حر ". وتلا قول الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] . وموضع الحجة من الآية أن اللقيط لو كان مملوكا لمن التقطه، لما احتاجوا إلى شرائه - وهذا بين.
فصل فإذا لم ينتقل اللقيط عن أصله بالالتقاط ولا صار مملوكا لمن التقطه؛ فكذلك اللقطة لا ينتقل ملك صاحبها عنها ولا يحل لملتقطها أكلها بعد التعريف إلا على وجه السلف لا على وجه الملك في قول بعض أهل العلم، وهو مذهب الشافعي أن له أن يستنفق اللقطة بعد التعريف - وإن كان غنيا عنها؛ وحجته ما روي «عن علي بن أبي طالب أنه وجد دينارا فجاء به إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال يا رسول الله وجدت هذا، فقال عرفه، فذهب ما شاء الله ثم قال قد عرفته فلم أجد أحدا يعرفه؛ قال: " فشأنك به ". فذهب فرهنه في ثلاثة دراهم وطعام وودك، فبينما هو كذلك؛ إذ جاء صاحبه ينشده فجاء علي إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال هذا صاحب الدينار، فقال: " أده إليه "، فأداه علي إليه بعدما أكلوا منه»(2/476)
فقال فهذا الحديث يدل على أن اللقطة حلال للملتقط بعد الحول - وإن كان غنيا عنها؛ لأنها لو كانت ترجع إلى الصدقة، لما حلت لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه من صليبة بني هاشم، ولأن الصدقة عليه حرام؛ وأما مالك فلا يجيز له أكلها. ومعنى قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنده. «فشأنك بها» - أنه مخير بين أن يمسكها لصاحبها ويزيد في تعريفها، وبين أن يتصدق بها ويضمنها لصاحبها - إن جاء، إلا إن شاء أن يجيز الصدقة ويكون له الأجرة، وقيل إنه ليس له أن يستنفقها إلا أن يكون محتاجا إليها، وهو قول أبي حنيفة وسائر أصحابه؛ وقيل إن ذلك لا يجوز له إلا أن يكون له وفاء بها - وهو الصحيح؛ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» فيتحصل في هذا أربعة أقوال:
أحدها: أن استنفاقها لا يجوز له بحال.
والثاني: أن استنفاقها جائز له بكل حال.
والثالث: أن استنفاقها لا يجوز له إلا أن يكون محتاجا إليها.
والرابع: أن استنفاقها لا يجوز له، إلا أن يكون له بها وفاء - والله أعلم.
فصل وهذا الاختلاف إنما هو فيما عدا لقطة مكة، فأما مكة فقد ورد النص فيها أنه لا تحل لقطتها إلا لمنشد، فلا يحل له استنفاقها بإجماع، وعليه أن يعرفها أبدا وإن طال زمانها. ويروى لا يرفع لقطتها إلا منشد، ولا ترفع لقطتها إلا لمنشد؛ فقيل:(2/477)
إن معنى الأول أن سبيل من رأى لقطتها أن يرفعها بيده فيقول لمن هذه منكم أيها الناس.
ومعنى الثاني أنه لا يأخذها إلا أن يسمع من ينشدها فيرفعها بيده فيقول أهي هذه؟ فيرجع تأويل الحديثين إلى اجتناب أخذها كلقطة الحاج - والله أعلم.
فصل ويلزم أن يؤخذ اللقيط ولا يترك، لأنه إن ترك ضاع وهلك؛ وإنما قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لسنين أبي جميلة ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ لأنه اتهمه أن يكون غير منبوذ، وأنه إنما أخذه لأمر، فلما قال له عريفه إنه رجل صالح أمره بما يصنع في أمره، فقال له اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته؛ ولا اختلاف بين أهل العلم في هذا، وإنما اختلفوا في لقطة المال على ثلاثة أقوال: فقيل إن الأفضل تركها من غير تفصيل، وروي ذلك عن عبد الله بن عمر أنه كان يمر باللقطة فلا يأخذها. وقيل إن الأفضل أخذها وتعريفها، لأنها مال يجمع على ربه ويمسك عليه، وهو أحد قولي مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وممن ذهب إلى هذا سعيد بن المسيب، وخالفه فيه أهل المدينة وأهل مكة، وأحسبه قال: إن حرمة المال كحرمة النفس. وتقلد قوله - الحسن بن صالح بن حي. والقول الثالث: أنه إن كان الشيء الذي له بال، فأخذه أفضل، وإن كان الشيء اليسير فتركه أولى وأحسن، وهذا القول أحد روايتي ابن القاسم عن مالك، وهذا الاختلاف إنما هو إذا كانت اللقطة بين قوم مأمونين - والإمام عادل لا يخشى أن يأخذها إذا علم بها بتعريفه إياها؛ وأما إن كانت اللقطة بين قوم غير مأمونين والإمام عدل فأخذها عليه واجب قولا واحدا والله أعلم؛ ولو كانت اللقطة بين قوم مأمونين والإمام غير عادل، لكان الاختيار ألا يأخذها قولا واحد - والله أعلم؛ ولو كانت بين(2/478)
قوم غير مأمونين والإمام غير عادل لكان مخيرا بين أخذها وتركها، وذلك بحسبما يغلب على ظنه من أكثر الخوفين، وهو أيضا - أعني هذا الاختلاف فيما عدا لقطة الحاج، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها ومعنى نهيه عنها مخافة ألا يجدر بها بتفرق الحاج إلى بلدانهم المختلفة، فتبقى في ضمانه؛ فلا ينبغي لأحد أن يلتقط لقطة الحاج للنهي الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فإن التقطها وجب عليه من تعريفها ما يجب في سواها.
فصل قال ابن عبدوس: وما وجد على المنبوذ من ثياب أو وجد عليه من فراش، أو دابة أو ثياب، أو مال قد قوم عليه أو شد معه فهو كله له؛ وأما ما وجد قريبا منه، فهو لقطة لا شيء له فيه؛ والحكم في اللقطة على ما وردت به السنة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ذكر مالك في موطئه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني، أنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن اللقطة فقال: اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها. قال فضالة الغنم يا رسول الله؛ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال: فضالة الإبل؟ قال مالك: ولها؛ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها»
[فصل في أقسام اللقطة]
فصل
فاللقطة تنقسم على ثلاثة أقسام:
قسم يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف إن ترك كالدنانير والدراهم والعروض.(2/479)
وقسم لا يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف إن ترك كالشاة في الفيفاء والطعام الذي يسرع إليه الفساد.
وقسم يبقى في يد ملتقطه ولا يخشى عليه الضياع والتلف إن ترك كالإبل.
فصل فأما القسم الأول - وهو ما يخشى عليه التلف إن ترك - ويبقى في يد ملتقطه إن التقطه - فإنه ينقسم أيضا إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون يسيرا جدا لا بال له ولا قدر لقيمته، ويعلم أن صاحبه لا يطلبه لتفاهته، فإن هذا لا يعرف وهو لمن وجده - إن شاء أكله وإن شاء تصدق به؛ والأصل في ذلك ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بتمرة في الطريق فقال: لولا أن تكون من الصدقة، لأكلتها» - ولم يذكر فيها تعريفا، وقد قال أشهب في الذي يجد العصا والسوط أنه يعرفه، فإن لم يفعل، فأرجو أن يكون خفيفا.
والثاني: أن يكون يسيرا إلا أن له قدرا ومنفعة وقد يشح به صاحبه ويطلبه، فإن هذا لا اختلاف في وجوب تعريفه؛ إلا أنه يختلف في حده: فقيل سنة كالذي له بال - وهو ظاهر ما حكى ابن القاسم عن مالك في المدونة، وروى عيسى عن ابن وهب في العتبية أنه يعرفه إياها - وهو قول ابن القاسم من رأيه في المدونة.
والثالث: أن يكون كثيرا له بال، فإن هذا لا اختلاف في وجوب تعريفه حولا كاملا.
فصل وأما القسم الثاني - وهو ما لا يبقى بيد ملتقطه ويخشى عليه التلف إن تركه - كالشاة في الفيفاء، والطعام الذي لا يبقى؛ فإن هذا يأكله غنيا كان أو فقيرا - لقول(2/480)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في الشاة هي لك أو لأخيك أو للذئب. فأوجبها له ملكا، واختلف إن وجد هذا الطعام الذي يسرع إليه الفساد ولا يبقى في الحاضرة وحيث الناس: فقال ابن حبيب في الواضحة: إن تصدق به فلا غرم عليه لصاحبه، وإن أكله غرمه له - لانتفاعه به، وقيل إنه يغرمه لصاحبه - تصدق به أو أكله - وهو ظاهر قول أشهب. وقيل إنه لا ضمان عليه فيه أكله أو تصدق به - وهو ظاهر ما في المدونة.
فصل وأما القسم الثالث - وهو ما يبقى بيد ملتقطه ولا يخشى عليه التلف إن تركه كالإبل - فالاختيار فيها ألا تؤخذ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها» . فإن أخذت عرفت، فإن لم تعرف ردت حيث وجدت - على ما جاء عن عمر بن الخطاب؛ فقيل إن ذلك في جميع الأزمان - وهو ظاهر قول مالك في المدونة، وفي سماع أشهب من العتبية وقيل بل هو خاص في زمان العدل وصلاح الناس، وأما في الزمن الذي قد فسد فيه الناس، فالحكم فيها أن تؤخذ فتعرف، فإن لم تعرف بيعت ووقف ثمنها لصاحبها؛ فإن لم يأت وأيس منه، لصدق به عنه على ما فعله عثمان بن عفان - لما دخل الناس في زمانه من الفساد، وقد روي ذلك عن مالك؛ واختلف إن كانت الإبل بعيدة من العمران حيث يخاف عليها السباع: فقيل إنها في حكم الغنم لواجدها أكلها، وقيل إنها تؤخذ فتعرف، إذ لا مشقة في جلبها، وأما البقر فالمنصوص عليه في المدونة: أنها في ذلك بمنزلة الغنم، وذلك لما في جلبها من المشقة، فلا يدخل فيها الاختلاف الذي دخل في الإبل، وبالله التوفيق.
فصل وفي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث: «اعرف عفاصها ووكاءها "، فإن جاء(2/481)
صاحبها وإلا فشأنك بها» . دليل على أنها تدفع لواصفها وإن لم تكن له بينة عليها، وهذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابنا - في هذا لا اختلاف بينهم فيه، خلافا للشافعي، وأبي حنيفة في قولهما: إنها لا تدفع للواصف حتى يقيم البينة عليها - وهو بعيد، وقد روى هذا الحديث حماد بن سلمة والثوري ومالك أيضا، فزادوا فيها: فإن جاء صاحبها فعرف العفاص والوكاء، فادفعها إليه، وإلا فشأنك بها. وهذا نص في موضع الخلاف، وإنما اختلف أصحاب مالك هل تدفع إليه بيمين أو بغير يمين، فظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة أنها تدفع إليه بغير يمين، وأن الصفة في اللقطة التي لا دافع فيها كالبينة القاطعة فيما له من يدفع عنه، وقال أشهب لا تدفع إليه إلا بيمين، واضطرب في ذلك قول ابن حبيب: فقال إنه لا تدفع إليه إلا بيمين، وقال إن وصفها رجلان أحلفا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، فهي لمن حلف منهما، وإن نكلا جميعا أو حلفا جميعا، قسمت بينهما، فقوله إنها تقسم بينهما مع نكولهما رد لقوله أولا، لأن نكولهما عن الأيمان كرضاهما، إلا أن يحلف أحدهما صاحبه؛ وإذا رضيا بذلك، فالقياس على قوله ألا تقسم بينهما حتى يحلف كل واحد منهما أنها له ليوجب يمينه أنها له دون غيره ممن لم يحضر ولا ادعاها من الناس، ولو لم يتفقا على أن يسقط كل واحد منهما اليمين عن صاحبه، لوجب أن يحلف كل واحد منهما أنها له، ليوجب بيمينه أنها له دون صاحبه هذا، ودون غيره من الناس؛ فافهم هذا واعلم أن يمين كل واحد منهما على أنها له توجب معنيين، فإن سقطت اليمين عنهما في المعنى الواحد لنكولهما جميعا، واتفاقهما على إسقاطها، لم تسقط من أجل المعنى الآخر؛ وعلى مذهب من لا يوجب اليمين على الواصف الواحد إذا انفرد يحلف كل واحد منهما إذا اجتمعا على الصفة أنها له ليوجب بيمينه أنها له دون صاحبه،(2/482)
وإن شاء زاد ذلك في يمينه، فيحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنها له، وما لصاحبه فيها حق، ولا يحتاج أن يقول ولا لغيره.
فصل ومما يعتبر به في دفع اللقطة إلى صاحبها بالصفة قول الله عز وجل: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 27] .
فصل ويصف مدعي اللقطة العفاص والوكاء وما اشتملا عليها وأحاطا به من صفة الدنانير وعددها، وذلك موجود في الحديث، رواه يحيى بن سعيد بإسناده وزاد فيه فإن جاء باغيها ووصف عفاصها ووكاءها وعددها فادفعها إليه والزيادة من الحافظ مقبولة.
فصل فإن وصف مدعي اللقطة بعضا وجهل بعضا، أو غلط فيه، ففي ذلك اختلاف وتفصيل؛ فأما جهله بالعدد، فلا يضره إذا عرف العفاص والوكاء وكذلك غلطه فيه بالزيادة لا يضره، لجواز أن يكون قد اغتيل في شيء منها واختلف في غلطه فيه بالنقصان إذا عرف العفاص والوكاء على قولين وكذلك اختلف أيضا إذا جهل صفة الدنانير، وعرف العفاص والوكاء. وأما إذا غلط في صفة الدنانير، فلا أعلم خلافا أنه لا شيء له؛ وأما العفاص والوكاء إذا وصف أحدهما وجهل الآخر، أو غلط فيه، ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعا.
والثاني: أنه يستبرأ أمره، فإن لم يأت أحد فأثبت مما أتى به دفعت إليه.(2/483)
والثالث؛ أنه إن ادعى الجهالة استبرئ أمره - وإن غلط لم يكن له شيء، وهذا أعدل الأقاويل - عندي.
فصل وواجد اللقطة على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يأخذها ولا يريد التقاطها ولا اغتيالها.
والثاني: أن يأخذها ملتقطا لها.
والثالث: أن يأخذها مغتالا لها.
فأما الأول فهو مثل أن يجد ثوبا فيأخذه وهو يظنه لقوم بين يديه ليسألهم عنه، فهذا إن لم يعرفوه ولا ادعوه، كان له أن يرده حيث وجده - ولا ضمان عليه فيه - قاله ابن القاسم في المدونة، ورواه ابن وهب عن مالك، لأنه لم يصر في يده ولا تعدى عليه، وإنما أعلم به من ظن أنه له - ولم يلزم فيه حكم اللقطة، وهذا إذا ردها بالقرب؛ وأما إن ردها بعد طول، فهو ضامن.
والوجه الثاني أن يأخذها ملتقطا لها، فهذا قد لزمه عند ابن القاسم حفظها وتعريفها، فإن ردها بعد أن أخذها ضمنها؛ وقال أشهب لا ضمان عليه إن ردها في موضعها بقرب ذلك أو بعده، ولا إشهاد عليه في ردها، وعليه اليمين: لقد ردها في موضعها؛ فإن ردها في غير موضعها، ضمن كالوديعة - إذا تسلف منها ثم رد ما تسلف منها فإنه لا يبرأ من الضمان، وقول ابن القاسم أبين وأظهر.
وأما الوجه الثالث إذ قبضها مغتالا لها، فهو ضامن لها ولا يعرف الوجه الذي التقطها عليه إلا من قبله، فإن تلفت عنده أو ادعى تلفها وادعى أنه أخذها ملتقطا لها ليحرزها على صاحبها، فهو مصدق في ذلك دون يمين يلزمه إلا أن يتهم، وسواء أشهد حين التقطها أو لم يشهد على مذهب مالك، لأن الإشهاد على ما روي(2/484)
عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله «من التقط لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغير، فإن جاء ربها، فهو أحق بها، وإلا فمال الله يؤتيه من يشاء» إنما أمر به تحصينا لربها، فهو مستحب له غير واجب عليه وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه ضامن لها إن لم يشهد، وهذا لا معنى له إذ قد يشهد بخلاف ما أضمر إعذارا لنفسه - ولو فرقت هذه التفرقة في المتهم دون الذي لا يتهم، لكان قولا حسنا - والله أعلم، وبالله التوفيق.(2/485)
[كتاب الغصب] [فصل في وجود لفظ الغصب في القرآن]
فصل في وجود لفظ الغصب في القرآن قال الله عز وجل: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] إلى قوله غصبا أي كل سفينة صحيحة غصبا، وقد قريء وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا. ولذلك خرقها الخضر - صلى الله على نبينا وعليه. وفي حرف بن مسعود وأبي بن كعب: كل سفينة صالحة غصبا.
فصل فالتعدي على رقاب الأموال بالأخذ لها ينقسم على سبعة أقسام، لكل قسم منها حكم يختص به، وهي كلها محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ قال الله عز وجل: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] . وقال: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] إلى قوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 30] وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188](2/487)
إلى قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] . وقال في أموال اليتامى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] . وقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] فإذا كان هذا الوعيد الشديد لمن طفف في المكيال والميزان، فكيف بمن اقتطع الجميع وأخذه. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ظلم شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين» . وقال في خطبته المعروفة الغد من يوم النحر بمكة في حجة الوداع: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ألا هل بلغت، ألا هل بلغت، ألا هل بلغت» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار» الحديث. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله» . وأما الإجماع، فمعلوم من دين الأمة ضرورة - أن أخذ أموال الناس واقتطاعها بغير حق حرام، لا يحل ولا يجوز؛ فمن قال إن ذلك حلال جائز، فهو كافر حلال الدم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.(2/488)
فصل
فأحد الأقسام السبعة: أخذ الأموال على وجه الحرابة.
والثاني: أخذها على وجه الغصب من غير حرابة.
والثالث: أخذها على وجه الاختلاس.
والرابع: أخذها على وجه السرقة.
والخامس: أخذها على وجه الخيانة.
والسادس: أخذها على وجه الإدلال.
والسابع: أخذها على وجه الجهد والاقتطاع.
فصل فنتكلم ههنا على الغصب وحكمه، إذ هو الذي بنيت عليه مسائل هذا الكتاب؛ وأما سائر الأقسام فلنتكلم عليها في مواضع، هي أخص بها من هذا.
فصل
فأما غصب الأموال فهو أخذها بغير الحق على سبيل القهر والغلبة والملك للأصل والرقبة، ويستوي في حكمه الأحرار البالغون من أهل الذمة والمسلمين: القرابة والأجنبيين، إلا الوالد من ولده، والجد للأب من حفيده؛ فقيل إنه لا يحكم له بحكم الغاصب الأجنبي، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» .(2/489)
فصل فسواء غصب مسلم من مسلم، أو ذمي من ذمي، أو مسلم من ذمي، أو ذمي من مسلم، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ظلم ذميا أو معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن رائحة الجنة لتوجد من مسيرة خمسمائة سنة» .
فصل ويجتمع في الغصب حق لله تعالى، وحق للمغصوب منه، فيجب على الغاصب لحق الله تعالى الأدب والسجن على قدر اجتهاد الحاكم ليتناهى الناس عن حرمات الله، ولا يسقط ذلك عنه عفو المغصوب منه.
فصل فإن كان الغاصب صغيرا لم يبلغ الحلم، سقط عنه الأدب الواجب لحق الله تعالى، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث - فذكر فيهم الصبي حتى يحتلم» ، ومعناه في رفع الإثم والحرج عنه فيما بينه وبين الله تعالى، وإذا ارتفع عنه الإثم والحرج، سقط عنه التعزير والأدب، وقد قيل، إن الإمام يؤدبه كما يؤدب الصغير في المكتب، وأخذ بحق المغصوب منه، واختلف إن كان صغيرا لا يعقل فقيل إن ما أصابه من الأموال والديات هدر كالبهيمة العجماء التي(2/490)
جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جرحها جبارا. وقيل إن ما أصابه من الأموال في ماله وما أصابه من الدماء حملته العاقلة - إن كان الثلث فصاعدا كالخطأ - سواء. وقيل إن ما أصابه من الأموال هدر، وما أصابه من الدماء حملته العاقلة - إن بلغ الثلث وحكم هذا حكم المجنون المغلوب على عقله.
فصل والذي يجب على الغاصب بحق المغصوب منه: أن يرد إليه ماله بعينه إن كان قائما، أو قيمته يوم الغصب إن كان فائتا، إلا في المكيل والموزون والمعدود الذي لا يختلف أعيان عدده كالبيض والجوز وما أشبه ذلك، فإنه يرد مثله.
فصل ولا يفيت الشيء المغصوب حوالة الأسواق ويفيته النقصان والعيوب وإن لم تكن مفسدة كانت بأمر من السماء أو بجناية الغاصب أو جناية غيره، غير أنها إن كانت بأمر من السماء، لم يكن للمغصوب منه إلا أن يأخذه ناقصا، أو يضمنه قيمته يوم الغصب عند ابن القاسم؛ ويتخرج على مذهب سحنون أنه يأخذه ويضمن الغاصب قيمة العيب يوم الغصب؛ وإن كانت بجناية الغاصب فالمغصوب منه مخير بين أن يضمنه القيمة يوم الغصب أو يسقط عنه حكم الغصب فيأخذه وما نقصته جنايته يوم الغصب عند ابن القاسم، وقال سحنون: إنه مخير بين أن يضمنه القيمة يوم الغصب أو يأخذه. وذهب أشهب إلى أنه مخير بين أن يضمنه القيمة(2/491)
يوم الغصب أو يأخذه ناقصا ولا شيء له في الجناية؛ ولابن القاسم مثله في المدونة في السارق يهزل ركوبه الدابة، وفي كتاب القذف في الأمة بين الشريكين يطؤها أحدهما وفي غير ما موضع من العتبية والمدونة أيضا؛ وإن كانت بجناية غير الغاصب، فالمغصوب منه مخير بين أن يضمن الغاصب القيمة يوم الغصب ويتبع الغاصب الجاني، وبين أن يسقط عن الغاصب طلبه ويتبع الجاني بحكم الجناية؛ وقد قيل إن للمغصوب منه أن يضمن الغاصب في الوجوه كلها التي تفيت المغصوب القيمة أي يوم شاء، فيكون له عليه أرفع القيم، حكى هذا القول ابن شعبان عن ابن وهب، وأشهب، وغيرهما.
فصل واختلف في نقله من بلد إلى بلد إن كان عرضا أو حيوانا على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك فوت، فالمغصوب منه بالخيار بين أن يأخذ متاعه أو يضمنه قيمته يوم الغصب، وهو قول أصبغ وظاهر روايته عن أشهب في سماعه من كتاب الغصب.
والثاني: أن ذلك ليس بفوت، فليس للمغصوب منه إلا أن يأخذ متاعه - وهو قول سحنون لأنه رأى نقل ذلك كله من بلد إلى بلد بمنزلة حوالة الأسواق.
والثالث: الفرق بين الحيوان والعروض فتفوت العروض ويكون المغصوب فيها بالخيار بين أن يأخذها وبين أن يضمن الغاصب قيمتها يوم غصبها في البلد الذي غصبها فيه. ولا يفوت الحيوان، فيأخذها المغصوب منه حيث وجدها، ولا يكون له أن يضمن الغاصب قيمتها، وهذا في الحيوان الذي لا يحتاج إلى الكراء عليهم كالدواب والوخش من الرقيق؛ وأما الرقيق الذي يحتاج إلى الكراء عليهم من(2/492)
بلد إلى بلد، فحكمهم حكم العروض، فهي ثلاثة أقوال: قولان متضادان وتفرقة. وأما الطعام إذا حمله الغاصب من بلد إلى بلد ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ليس للمغصوب منه إلا مثل طعامه في البلد الذي اغتصبه فيه.
والثاني: أن المغصوب منه بالخيار بين أن يأخذ طعامه بعينه وبين أن يضمنه مثله في البلد الذي اغتصبه فيه.
والثالث: تفرقة أصبغ بين أن يكون البلد الذي حمله إليه قريبا أو بعيدا.
فإن كان قريبا كان بالخيار بين أن يأخذ طعامه وبين أن يضمنه مثله في البلد الذي اغتصبه فيه.
وإن كان بعيدا، لم يكن له إلا مثله في البلد الذي اغتصبه فيه.
فصل وأما النماء فينقسم على قسمين:
أحدهما: أن يكون من فعل الله تعالى كالصغير يكبر، والمهزول يسمن، أو العيب يذهب.
والثاني: أن يكون مما أحدثه الغاصب.
فأما الوجه الأول فليس بفوت على حال.
وأما النماء بما أحدثه الغاصب في الشيء المغصوب، فإنه ينقسم في مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك على وجهين:
أحدهما: أن يكون قد أخرج فيه من ماله ما له عين قائمة كالصبغ والنقض في البنيان، وما أشبه ذلك.(2/493)
والثاني: ألا يكون أخرج فيه من ماله سوى العمل كالخياطة والنسج وطحن الحنطة والخشبة يعمل منها ثوابت وأبوابها، وما أشبه ذلك.
فأما الوجه الأول وهو أن يخرج فيه من ماله ما له عين قائمة فينقسم على وجهين:
أحدهما أن يكون ذلك الشيء يمكنه إعادته، على حاله كالبقعة بينهما وما أشبه ذلك.
والثاني أن لا يقدر على إعادته على حاله كالثوب يصبغه أو الجلد يدبغه أو السويق يلته، وما أشبه ذلك.
فأما الوجه الأول: فالمغصوب منه مخير بين أن يأمر الغاصب بإعادة البقعة على حالها وإزالة ما له فيها من نقض إن كان له فيها نقض، وبين أن يعطي الغاصب قيمة ما له فيها من النقض مقلوعا مطروحا بالأرض بعد أجر القلع - قال ابن شعبان، وإليه ذهب ابن المواز. وهذا إذا كان الغاصب ممن لا يتولى ذلك بنفسه ولا بعبيده، وإنما يستأجر عليه؛ وقيل له لا يحط من ذلك أجر القلع على مذهب ابن القاسم في المدونة، وإلى هذا ذهب ابن دحون، واعتل في ذلك أن الغاصب لو هدمه لم يكن للمغصوب منه أن يأخذه بالقيمة بعد الهدم، وإن لم يكن في البنيان الذي بنى الغاصب ما له قيمة إذا قلعه لم يكن للغاصب على المغصوب منه شيء لأن من حقه أن يلزم الغاصب هدم البناء وإعادة البقعة إلى حالها؛ فإذا أسقط حقه قبله في ذلك، فلا حجة له؛ ويؤيد ذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» .
وأما الوجه الثاني فهو فيه مخير بين أن يدفع قيمة الصبغ وما أشبهه ويأخذ ثوبه، وبين أن يضمنه قيمة الثوب يوم غصبه، إلا في السويق الذي يلته بالسمن،(2/494)
وما أشبه ذلك من الطعام؛ فلا يخير فيه عنده لما يدخله من الربا، ويكون ذلك فوتا يلزم الغاصب فيه المثل أو القيمة فيما لا مثل له.
وأما الوجه الثاني وهو ألا يكون أخرج الغاصب فيما أحدثه في الشيء المغصوب سوى العمل فإن ذلك ينقسم على وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك يسيرا لا ينتقل به الشيء عن اسمه مثل الخياطة في الثوب أو الرفوله، وما أشبه ذلك.
والثاني: أن يكون العمل كثيرا ينتقل به الشيء المغصوب عن ذلك الاسم كالخشبة يعمل منها تابوتا أو أبوابا، أو القمح يطحنه أو الغزل ينسجه أو الفضة يصوغها حليا، أو يضربها دراهم، وما أشبه ذلك.
فأما الوجه الأول فلا حق فيه للغاصب ويأخذ المغصوب منه الشيء المغصوب معمولا.
وأما الوجه الثاني: فهو فوت يلزم الغاصب قيمة الشيء المغصوب يوم غصبه، أو مثله فيما له مثل؛ هذا تحصيل مذهب ابن القاسم في هذا الوجه.
وأشهب يجعل في ذلك كله أصله مسألة البنيان فيقول إنه لا حق للغاصب فيما لا يقدر على أخذه من الصبغ والرفو والنسج والدباغ والطحن وعمل التابوت والأبواب من الخشبة، وما أشبه ذلك. وقد روي عن ابن القاسم أن الصبغ تفويت يلزم الغاصب به القيمة يوم الغصب، ولا يكون للمغصوب منه أن يعطيه قيمة الصبغ ويأخذ الثوب؛ وكذلك ما أشبه الصبغ؛ وقد قيل إنهما يكونان شريكين بقيمة الصبغ وقيمة الثوب إن أبى رب الثوب أن يدفع قيمة الصبغ، وأبى الغاصب أن يدفع قيمة الثوب؛ وهذا القول أنكره في كتاب اللقطة من المدونة، وقال إن الشركة لا تكون إلا فيما كان بوجه شبهة.(2/495)
فصل والغاصب ضامن لما اغتصب بوضع يده عليه وإن تلف بأمر من السماء كان مما يزال به أو مما لا يزال به إذا قصد إلى غصب الرقبة خلافا لأبي حنيفة في قوله إن الغاصب لا يضمن الدار إذا اغتصبها فانهدمت.
فصل
واختلف في غلات المغصوب على قولين:
أحدهما: أن حكمها حكم الشيء المغصوب.
والثاني: أن حكمها بخلاف حكم الشيء المغصوب.
فمن ذهب إلى أن حكمها حكم الشيء المغصوب، وهو قول أشهب - فيقول إنه يلزمه قيمة الغلة يوم قبضها، أو أكثر ما انتهت إليه قيمتها على الاختلاف في الشيء المغصوب، وإن تلفت بأمر من السماء وتلف الشيء المغصوب، يضمن قيمته يوم الغصب أو أي يوم شاء المغصوب منه على ما حكاه ابن شعبان من الاختلاف في ذلك.
فصل وأما الذين ذهبوا إلى أن حكم الغلة خلاف حكم الشيء المغصوب، فاختلفوا في حكمها اختلافا كثيرا بعد إجماعهم على أنها إن تلفت ببينة فلا ضمان على الغاصب فيها وأنه إن ادعى تلفها لم يصدق وإن كان مما لا يغاب عليه.
فصل وتحصيل هذا الاختلاف أن الغلل تنقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: غلة متولدة عن الشيء المغصوب على هيئته وخلقته وهو الولد.(2/496)
وغلة متولدة عنه على غير خلقته وهيئته - وهي ثمر النخل ولبن الماشية وجبنها وصوفها وما أشبه ذلك. وغلل غير متولدة عن الشيء المغصوب وهي الأكرية والخراجات، وما أشبه ذلك.
فأما ما كان متولدا عنه على هيئته وصورته - وهو الولد فالاختلاف بينهم أن على الغاصب رده مع الأم إن كانت الأم قائمة وإن ماتت الأم كان مخيرا بين المولد وقيمة الأم.
وأما ما كان متولدا عنه على غير خلقته وهيئته، فاختلفوا فيه على قولين:
أحدهما: أن ذلك للغاصب بالضمان لا يلزمه رده على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الغلة بالضمان» .
والثاني: أنه يلزمه ردها إن كانت قائمة أو قيمتها إن ادعى تلفها ولم يعرف ذلك إلا بقوله مع عين الشيء المغصوب. وإن تلف الشيء المغصوب كان مخيرا بين أن يضمنه قيمته ولا شيء له في الغلة، وبين أن يأخذ الغلة ولا شيء له من القيمة.
وأما ما كان غير متولد عنه، فاختلفوا فيه على خمسة أقوال:
أحدها: أنه لا يلزمه رده جملة من غير تفصيل. الثاني: أنه يلزمه رده جملة من غير تفصيل بين أن يكري أو ينتفع أو يعقل، والثالث: أنه يلزمه الرد إن أكرى ولا يلزمه إن انتفع أو عطل. والرابع: أنه يلزمه إن أكرى أو انتفع ولا يلزمه إن عطل. والخامس: الفرق بين الحيوان والأصول.
فصل وهذا كله فيما اغتل من العين المغصوبة مع بقائها وقيامها.
وأما ما اغتل منها بتصريفها وتفويتها وتحويل عينها كالدنانير يغتصبها(2/497)
فيغتلها بالتجارة فيها، أو الطعام يغتصبه فيغتله بزرعه في أرضه، فالغلة له قولا واحدا في المذهب.
فصل وأما إذا لم يقصد إلى غصب الرقبة، فهو ضامن للغلة التي قصد إلى غصبها سواء أكرى أو انتفع أو عطل، وسواء كان ذلك مما يزال به أو مما لا يزال به خلافا لأبي حنيفة في قوله إن من تعدى على دابة رجل فركبها أو حمل عليها، فلا كراء عليه في ركوبه إياها ولا في حمله عليها قريبا كان تعديه ذلك عليها أو بعيدا، لأنه ضامن لها إن تلفت في تعديه وهو بعيد.
فصل وكذلك من استكره أمة أو حرة فوطئها، فعليه في الحرة صداق مثلها؛ وفي الأمة ما نقصها بكرا كانت أو ثيبا مع الأدب الوجيع خلاف قول أبي حنيفة إنه لا صداق عليه مع الحد، وهذا إذا ثبت عليه الوطء بأربعة شهداء على معاينة الفعل، أو أقر بذلك على نفسه، أو ادعت ذلك عليه مع قيام البينة على غيبته عليها.
وأما إن ادعت عليه أنه استكرهها فغاب عليها ووطئها ولا بينة لها على دعواها، فإن ذلك ينقسم على وجهين: أحدهما أن تدعي ذلك على رجل صالح لا يليق به ذلك، والثاني: أن تدعي ذلك على رجل متهم يليق به مثل ذلك؛ وكل واحد من هذين الوجهين ينقسم على وجهين:
أحدهما: أن تأتي مستغيثة متعلقة به متشبثة فاضحة لنفسها تدمى إن كانت بكرا.
والثاني أن تدعي ذلك عليه من غير أن تكون متشبثة به ولا تدمى وهي بكر فيأتي في جملة المسألة أربعة أقسام.(2/498)
فأما الوجه الأول من القسم الأول وهو أن تدعي ذلك على رجل صالح لا يليق به ذلك وهي غير متعلقة به فهذا لا اختلاف أنه لا شيء على الرجل وأنها تحد له حد القذف وحد الزنا إن ظهر بها حمل.
وأما إن لم يظهر بها حمل، فيتخرج وجوب حد الزنا عليها على الاختلاف فيمن أقر بوطء أمة رجل وادعى أنه اشتراها منه أو بوطء امرأة وادعى أنه تزوجها فتحد على مذهب ابن القاسم، إلا أن ترجع عن قولها ولا تحد على مذهب أشهب وهو نص قول ابن حبيب في الواضحة، وكذلك المجهول الحال في هذا الوجه إذا كانت هي مجهولة الحال أو لم تكن من أهل الصون.
وأما إن كانت من أهل الصون - وكان هو مجهول الحال، فيتخرج وجوب حد القذف عليها له على قولين، ويحلف بدعواها على القول بأنها لا تحد له؛ فإن نكل عن اليمين حلفت هي وكان لها صداقها عليه.
وأما الوجه الثاني من القسم الأول وهو أن تدعي ذلك على رجل صالح لا يليق به ذلك وتأتي متعلقة به متشبثة قد بلغت فضيحة نفسها، فهذا الوجه يسقط عنها فيه حد الزنا - وإن ظهر بها حمل لما بلغت من فضيحة نفسها؛ واختلف هل تحد له حد القذف أم لا: فذهب ابن القاسم إلى أنها تحد له حد القذف وحكى ابن حبيب في الواضحة أنها لا تحد له حد القذف ولا يمين لها عليه على القول بأنها تحد له.
وأما على القول بأنها لا تحد له فيحلف على تكذيب دعواها، فإن نكل عن اليمين حلفت واستحق عليه صداقها؛ وهذا إذا كانت ممن تبالي بفضيحة نفسها.(2/499)
وأما إن كانت ممن لا تبالي بفضيحة نفسها، فتحد له قولا واحدا. وإن كان مجهول الحال لم تحد له قولا واحدا - إذا كانت ممن تبالي بفضيحة نفسها.
وإن كانت ممن لا تبالي بفضيحة نفسها - وهو مجهول الحال فيتخرج إيجاب حد القذف عليها له على قولين.
وأما الوجه الأول من القسم الثاني وهو أن تدعي ذلك على من يشار إليه بالفسق ولا تأتي متعلقة به، فهذا الوجه لا يجب عليها فيه حد القذف للرجل ولا حد الزنى لنفسها إلا أن يظهر بها حمل، ولا صداق لها وينظر الإمام في أمره فيسجنه ويستخبر عن أمره ويفعل فيه بما ينكشف له منه، فإن لم ينكشف في أمره شيء استحلف، فإن نكل عن اليمين، حلفت المرأة واستحقت عليه صداق مثلها.
وأما الوجه الثاني من القسم الثاني وهو أن تدعي ذلك على من يشار إليه بالفسق، وتأتي متعلقة به متشبثة تدمى إن كانت بكرا، فهذا الوجه يسقط عنها فيه حد القذف للرجل وحد الزنى - وإن ظهر بها حمل، واختلف في وجوب الصداق بها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يجب لها وهي رواية أشهب عن مالك في كتاب الغصب، لأنه إذا أوجب للأمة ما نقصها فأحرى أن يوجب للحرة صداق مثلها.
والثاني: أنه لا يجب لها وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الحدود في القذف، قال ولو كان أشر من عبد الله الأزرق في زمانه.
والثالث: قول ابن الماجشون في الواضحة أنه يجب لها الصداق إن كانت حرة ولا يجب لها شيء إن كانت أمة.(2/500)
واختلف إذا وجب لها الصداق بدعواها مع ما بلغت إليه من فضيحة نفسها هل يجب بيمين أو بغير يمين، فروى أشهب عن مالك أنها تأخذه بغير يمين وذهب ابن القاسم إلى أنها لا تأخذه إلا بعد اليمين - وهو أصح - والله أعلم.
وإن كان مجهول الحال لم يكن لها صداق واستحلف هو، فإن نكل عن اليمين حلفت وأخذت صداقها، وبالله تعالى التوفيق.(2/501)
[كتاب الاستحقاق] [فصل في معنى الاستحقاق]
فصل في معنى الاستحقاق قال الله عز وجل: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة: 107]- أي باطلا يوجب إثما فالاستحقاق هو أن يحق الرجل الشيء لنفسه بما تثبت به الحقوق وتمضي لأهلها، وذلك شاهد عدل، أو شاهد وامرأتان، أو شاهد ويمين على مذهب من يرى القضاء باليمين مع الشاهد فإذا أقام ذلك، وجب الحق ولزم القضاء به في الظاهر بعد الإعذار، وإن كان الأمر في الباطن على خلاف ذلك، فليس حكم الحاكم بالذي يحله له؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188]- الآية. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار» . وروي «أن رجلا من حضر موت ورجلا من كندة اختصما إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أرض باليمن، فقال الحضرمي أرضي اغتصبها أبو هذا، فقال الكندي يا رسول الله أرضي ورثتها عن أبي؛ فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للحضرمي:(2/503)
هل لك بينة؟ فقال لا، ولكن يحلف بالله ما يعلم أنها أرضي غصبها لي أبوه؛ فتهيأ الكندي لليمين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يقتطع رجل مالا بيمين إلا لقي الله - عز وجل - وهو عليه غضبان - فتركها الكندي»
فصل فإن كان الشيء المستحق له غلة قد اغتلها المستحق منه، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج بالضمان» ، وقوله: الخراج بالضمان لفظ عام مستقل بنفسه إلا أنه ورد في البيع على ما روي، وذلك «أن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء الله، ثم وجد به عيبا، فخاصمه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرده عليه، فقال له الرجل يا رسول الله، قد استغل غلامي، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الخراج بالضمان» ، أخرجه أبو داود، وقد اختلف أهل العلم في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يقصر على سببه، أو يحمل على عمومه - على قولين، الأصح منهما عند أهل النظر: حمله على عمومه، لأن الحجة إنما هي في كلام صاحب الشرع، لا في - السبب؛ إذ لو انفرد السبب، لم يوجب حكما، ولو انفرد لفظ النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دون السبب - لكان له الحكم فلا يعتبر السبب.
فصل وكذلك اختلف أهل العلم في قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الخراج بالضمان،» هل يحمل على عمومه في الغاصب والمشتري، ومن ضمن بشبهة وبغير شبهة أو يقصر على المعنى الذي خرج عليه، فيحمل على ما ضمن بوجه شبهة - على قولين؛ واختلف في ذلك أيضا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فروى أشهب عنه أن الغاصب لا يرجع عليه بالغلة وتكون له بالضمان في الأصول والحيوان - أكرى ذلك كله وقبض الخراج، أو سكن الدار واستخدم العبد، وما أشبه ذلك؛ فعلى هذه الرواية حمل(2/504)
الحديث على عمومه، وروى عنه أنه أوجب على الغاصب رد الغلة في الحيوان والأصول، وهذا أحد قوليه في المدونة، فقصر الحديث - على هذه الرواية على ما خرج عليه - وهو ما ضمن بوجه شبهة، وهذان القولان جاريان على قياس.
وأما تفرقته بين الحيوان والأصول، فاستحسان وليس بقياس؛ ووجهه أنه حمل الحديث على عمومه فيما كان بوجه شبهة وبغير وجه شبهة في الحيوان الذي ليس بمأمون، وخصص الأصول من ذلك لكونها مأمونة، لا يخشى عليها التلف، فلا تضمن إلا في النادر، والنادر لا يحكم له؛ وكذلك تفرقة من فرق في الأصول بين أن يكري أو يسكن، وفي رواية أبي الفرج عن مالك وتفرقة من فرق بين ذلك في الحيوان أيضا استحسان وليس بقياس، إلا أنها كلها أقاويل مشهورة معلومة.
فصل وهذا في الخراج والاستخدام، وأما ما كان من الغلل المتولدة عن الشيء المستحق كاللبن والصوف في الحيوان والثمرة في الأصول فنصوص الروايات أن الغاصب يرد ذلك كله مع الأصول إن كان قائما، أو مكيلة خرصه - إن كان فائتا، ولا فرق في القياس بين ذلك؛ وقد عده محمد بن المواز اختلافا من القول وهو الصحيح - إن شاء الله؛ ومما يدل على أنه اختلاف من القول: رواية ابن المعذل عن مالك فيما كان من الغلل متولدا عن الشيء المغصوب أنه للغاصب بالضمان، ولا يلزمه رده؛ ولم أر هذه الرواية في أصل كتاب، وإنما أخبرني بها بعض أصحابنا.
فصل وتحصيل هذا الباب أن الضمان ينقسم على وجهين:
أحدهما: ضمان بشبهة.(2/505)
والثاني: ضمان بغير شبهة.
فأما الضمان بالشبهة، فلا اختلاف أن الغلة تكون فيه بالضمان، لورود النص في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وأما الضمان بغير شبهة - كالغاصب والسارق وشبههما، فاختلف فيه على ستة أقوال:
أحدها: أن الغاصب لا شيء له من الغلات كلها كانت متولدة عن الأصول أو غير متولدة عنها، استغل ذلك بقبض الغلات المتولدات وقبض الأكرية والخراجات أو انتفع بذلك ولم يغتله أو عطله فلم يكره ولا انتفع به يلزمه في ذلك كله الكراء كراء المثل إن انتفع به أو عطله ولم ينتفع به. وإن أكرى وقبض الخراج، فالأكثر من كراء المثل، أو ما أكراه به، هذا قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة.
والقول الثاني: أنه يلزمه رد الغلة والكراء إن أكرى أو انتفع بالاستخدام والسكنى، فإن لم يكر ولا انتفع بشيء من ذلك، فلا شيء عليه.
والقول الثالث: أنه إن أكرى كان عليه الكراء؛ وإن لم يكر، فلا شيء عليه؛ وإن سكن واستخدم، وهي رواية أبي الفرج عن مالك.
والقول الرابع: التفرقة بين الحيوان والأصول.
والقول الخامس: التفرقة بين ما كان من الغلل متولدا عن الشيء المستغل كاللبن والصوف والثمرة، أو غير متولد عنها كخراج العبيد وكراء المساكن.
والقول السادس: أن له الغلات كلها وإن كانت متولدة عن الشيء المغصوب.(2/506)
فصل
وأما ما استحق مما لا ضمان فيه على المستحق منه، فإنه ينقسم أيضا على قسمين:
أحدهما: أن يكون قد أدى فيما استحق من يده ثمنا.
والثاني: أن يكون لم يؤد في ذلك ثمنا.
فأما ما أدى فيه ثمنا، فلا ضمان عليه فيه، لوجوب الرجوع له بالثمن إن تلف عنده، كالرجل يشتري العبد ثم يستحق من يده بحرية أو يشتري الأصل ثم يستحق من يده بحبس؛ فقيل إن الغلة تطيب له بالثمن الذي أدى لأنه ضامن للثمن الذي دفع في عدم البائع إن تلف ذلك الشيء وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الاستحقاق من العتبية، وبه جرى العمل عندنا فيما يستحق من الأصول بالحبس؛ وقيل إنه يرد الغلة، لأنه إن تلف رجع بالثمن، فلم يكن ضامنا لشيء وهو ظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة لأنه علق الغلة بالضمان فيها - أعني في المدونة؛ وأما ما لم يؤد فيه ثمنا ولا كان عليه فيه ضمان كالوارث يرث ثم يأتي من هو أحق منه بالوراثة، فلا اختلاف أنه يرد ما اغتل أو سكن لانتفاء وجوه الضمان عنه. واختلف قول مالك إذا سكن ولم يكر فأتى من يشاركه في الميراث، لا من هو أحق به منه على قولين، الأصح منهما رواية علي بن زياد عن مالك بوجوب الكراء عليه في حصة الوارث الطارئ عليه، لانتفاء جميع وجوه الضمان عنه.
وأما الحبس إذا استغله بعض المحبس عليهم وهم يرون أنهم ينفردون به، أو سكنوه، فقيل إنه لا يرجع عليهم بالغلة ولا بالسكنى وهي رواية ابن القاسم عن مالك في الصدقات والهبات. وقيل يرجع عليهم بالغلة والسكنى جميعا، وهذا يأتي على رواية علي بن زياد عن مالك في المدونة وهو القياس. وقيل إنه يرجع(2/507)
عليهم بالغلة ولا يرجع عليهم بالسكنى وهو نص قول ابن القاسم في المبسوطة، ولا فرق في القياس بين الحبس وغيره، ولا بين الاستغلال والسكنى.
فصل فإن اعترض على هذا بالموهوب له يستغل ما وهب له ثم يستحق ذلك من يده أو الوارث يرث فيستغل ثم يستحق ذلك من يده أن الغلة تكون له وهو لم يؤد ثمنا ولا هو ضامن؛ فالجواب عنه أن الوارث والموهوب له يحلان محل من صار إليهما ذلك عنه في وجوب الغلة لهما؛ ألا ترى أن الواهب أو الموروث إذا كان غاصبا حل الوارث والموهوب له محلهما فرد الوارث الغلة، وكذلك الموهوب له؛ إلا أنه يختلف فيمن يبدأ على ثلاثة أقوال:
أحدها: المشهور عن ابن القاسم أن الغاصب هو المبدأ ولا يرجع على الموهوب له إلا في عدم الغاصب، واختلف على هذا القول إن وجد الغاصب عديما فرجع على الموهوب له، هل للموهوب له أن يرجع على الغاصب أم لا على قولين. قيل يرجع عليه وهو القياس، وقيل إنه لا يرجع عليه وهو قول ابن القاسم في كتاب كراء الدور من المدونة.
والثاني: قول غير ابن القاسم في كتاب الاستحقاق من المدونة وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الشركة منها، وهو قول أشهب في رواية أصبغ عنه من كتاب البضائع والوكالات: أن الموهوب له هو المبدأ - ولا يرجع على الغاصب - إلا في عدم الموهوب له؛ واختلف على هذا القول إن وجد الموهوب له عديما فيرجع على الغاصب، هل للغاصب أن يرجع على الموهوب له أم لا على قولين.
والثالث: أنه مخير بين أن يرجع على أيهما شاء - يريد ولا رجوع لمن رجع عليه منهما على الآخر، حكى هذا القول ابن عبدوس عن أشهب واختاره سحنون؛ ومثله بالطعام يبتاعه الرجل من الغاصب فيأكله، أنه مخير في اتباع من شاء منهما؛(2/508)
وهو تمثيل غير صحيح، لأن المشتري إذا رجع عليه، رجع هو على الغاصب بالثمن؛ والموهوب له إذا رجع عليه، لم يرجع هو على أحد. وقد روي عن أصبغ أن الغاصب إذا وهب فاغتل الموهوب له أنه لا يرد الغلة وذلك بعيد، إلا أن يتأول قوله على أنه إنما أراد ألا يرجع عليه إذا كان الغاصب مليا، أو يكون قوله على مذهب من يرى أن الغلة للغاصب بالضمان فينزل الموهوب له منزلته.
فصل واختلف في الحد الذي يدخل فيه الشيء المستحق في ضمان المستحق وتكون الغلة له ويجب التوقيف به على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يدخل في ضمانه ولا تجب له الغلة حتى يقضى له به وهو الذي يأتي على قول مالك في المدونة إن الغلة للذي في يديه حتى يقضى بها للطالب وعلى هذا القول لا يجب توقيف الأصل المستحق توقيفا يحال بينه وبينه، ولا توقيف غلته، وهو قول ابن القاسم في المدونة أن الرباع التي لا تحول ولا تزول ولا توقف، مثل ما يحول ويزول، وإنما توقف وقفا يمنع من الإحداث فيها.
والثاني: أنه يدخل في ضمانه وتكون له الغلة ويجب توقيفه وقفا يحال بينه وبينه إذا ثبت له بشهادة شاهدين أو شاهد وامرأتان - وهو ظاهر قول مالك في موطئه إذ قال فيه إن الغلة للمبتاع إلى يوم يثبت الحق، وقول غير ابن القاسم في المدونة إذ قال إن التوقيف يجب إذا أثبت المدعي حقه، وكلف المدعى عليه المدفع.(2/509)
والقول الثالث: أنه يدخل في ضمانه وتجب له الغلة والتوقيف بشهادة شاهد واحد - وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الدعوى والصلح - أنه يحلف مع شهادة شاهده وتكون المصيبة منه، وروايته عنه في الكتاب المذكور في مسألة الزيتون إذا ادعاها وأقام شاهدا واحدا أن الثمرة له إذا تؤولت أن معنى المسألة أنه استحق الأصل دون الثمرة؛ وأما على تأويل من تأول أنه إنما ادعى الأصل والثمرة وشهد له بهما جميعا الشاهد الذي أقامه، فتخرج الرواية عن هذا الباب إلى وجه متفق عليه، وما وقع في أحكام ابن زياد أن التوقيف يجب في الدار بالقفل وتوقيف الغلة بشهادة الشاهد الواحد يأتي على هذا القول؛ وكذلك النفقة أيضا تجري على هذا الاختلاف، وقد فرق في رواية عيسى عن ابن القاسم من كتاب الدعوى والصلح بين النفقة والضمان، وساوى بينهما عيسى من رأيه وهو القياس؛ وكذلك ظاهر المدونة أنه فرق بينهما والصواب أنه اختلاف من القول.
فصل واختلف أيضا في الحد الذي تكون به الثمرة في استحقاق الأصل غلة فيستوجبها المستحق منه ببلوغها إليه: إما بالحكم والقضاء، وإما بثبوت الحق بشهادة شاهدين، وإما بأن يشهد للمستحق شاهد واحد على الاختلاف المذكور في ذلك؛ فروى أبو زيد عن ابن القاسم أن الثمرة تكون للمستحق ما لم تجد، وفي كتاب ابن المواز ما لم تيبس، ويرجع عليه بالسقي والعلاج، وعلى ما قال في المدونة في الرد بالعيب ما لم تطب. إذ لم يفرق بين المسألتين؛ وهذا إذا كان المستحق منه اشترى الأصول قبل إبار الثمرة، وأما إن كان اشتراها بعد الإبار فالثمرة للمستحق على مذهب ابن القاسم، - وإن جدت، ويرجع عليه بالسقي والعلاج كالرد بالعيب، وعلى مذهب أشهب تكون الثمرة للمستحق - ما لم تجد، فإن جدت، كانت غلة للمشتري، وأما إن كان اشترى الأصل - والثمرة من هبة، فاشترطها، ففي كتاب ابن المواز أن الثمرة تكون للمستحق كيف كانت يبست أو(2/510)
جدها أو باعها أو أكللها، ويغرم المكيلة - إن عرفها، وإلا فالقيمة، وفي البيع يغرم الثمن الذي باعها به إن فاتت؛ وإن كانت بيد مبتاعها، فهو مخير في أخذها أو إنفاذ بيعها وأخذ الثمن؛ وإن تلفت عند المبتاع، فليس له إلا الثمن؛ وهذا على القول بأنها لا تصير غلة للمبتاع إلا باليبس أو الجداد. وأما على القول الذي يرى أنها تصير له غلة بالطياب، فلا حق له فيها إذا أزهت عند البائع، لأنها قد صارت له غلة بالطياب، ويأخذ المستحق النخل وحدها، ويرجع المستحق منه على البائع بما ينوبها من الثمن، ويسقط عنه ما ناب الثمرة - لبقائها بيده، إلا أن يكون اشتراؤه إياها من غاصب، أو من مشتر اشتراها بعد الإبار على مذهب ابن القاسم؛ فهي ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يكون المستحق منه اشتراها قبل الإبار.
والثاني: أن يكون اشتراها بثمرتها بعد الإبار.
والثالث: أن يكون اشتراها بثمرتها بعد الإزهار والطياب وقد تقدم الكلام عليها.
فصل ولو وجد المشتري الثمرة بعد الإبار وقبل الطياب، ثم استحق الأصل مستحق نظرت: فإن كان اشتراها قبل الإبار فهي غلة له ويرجع بجميع الثمن على البائع؛ وإن كان اشتراها بعد الإبار جرى الحكم فيها على اختلاف قول ابن القاسم وأشهب في العيوب، فتكون للمستحق على مذهب ابن القاسم - إن كانت قائمة بيده لم تفت، ويغرم له مكيلة خرصها - إن كانت فائتة، وعلى مذهب أشهب هي غلة للمشتري؛ وأما إن كان جدها المشتري قبل الإبار، فلا شيء للمستحق فيها باتفاق، وينظر: فإن كان ابتاعها وفيها ثمر، حاسبه البائع بما ينوبها من الثمن؛(2/511)
وإن كان ابتياعه إياها قبل أن تكون لها ثمرة، فهي غلة لا يحاسبه البائع بشيء من ثمنها.
فصل وحيثما وجبت الثمرة للمستحق، يجب للمشتري المستحق منه الرجوع عليه بالسقي والعلاج - إن كان عالج وسقى - حتى انتلفت الثمرة بسقيه وعلاجه من حال إلى حال على مذهب ابن القاسم وأشهب، وذلك مثل أن يشتري النخل ولا ثمرة فيها فيسقي ويعالج حتى تصير فيها ثمرة، ثم يستحقها مستحق؛ أو يشتريها وفيها طلع لم يؤبر فيسقى ويعالج حتى يؤبر ثم يستحقها منه مستحق بعد الإبار. ولو لم تنتقل بسقيه وعلاجه من حال إلى حال، لرجع أيضا به على مذهب ابن القاسم في الاستحقاق والبيع الفاسد والرد بالعيب على القول بأنه نقض بيع، والشفعة على القول بأن محملها محمل الاستحقاق لا محمل ابتداء بيع، والتفليس أيضا يتخرج الأمر فيه على قولين، وعلى مذهب ابن الماجشون وسحنون لا يجب للمشتري المستحق منه رجوع على المستحق بشيء مما عالج وسقى؛ فهذا تلخيص هذه المسألة، وهي إحدى المسائل الخمس التي تتشابه أحكامها وتفترق في بعض وجوهها.
والثانية: الرد بالعيب.
والثالثة: الأخذ بالشفعة.
والرابعة: التفليس.
والخامسة: الرد بالبيع الفاسد، وقد كتبتها في كتاب العيوب ملخصة فأغنى ذلك عن إعادتها هاهنا - وبالله التوفيق.
فصل وإن كان الشيء المستحق من يد المشتري عبدا أو دابة فزعم المستحق منه(2/512)
أن بائعه الذي باع ذلك منه غائب ببلد آخر، وأراد الذهاب به إلى ذلك البلد ليسترجع الثمن من بائعه، فذلك له بعد أن يضع للمستحق قيمته؛ فإن وضع له قيمته وذهب به إلى ذلك البلد بكتاب القاضي فوجد به بائعه فرجع عليه بحقه، وزعم البائع المرجوع عليه أن بائعه الذي باعه منه غائب ببلد آخر، وأراد الذهاب به إلى ذلك البلد، ليسترجع الثمن من بائعه؛ فذلك له أيضا بعد أن يضع للمستحق منه الذي رجع عليه قيمته بذلك البلد، إلا أن تكون قيمته بذلك البلد أقل من القيمة التي وضعها هو للمستحق، فليس له أن يأخذه ويذهب به حتى يضع له مثل القيمة التي وضع - وإن كانت قيمته بذلك البلد أكثر من القيمة التي وضعها هو، مثل أن تكون القيمة التي وضعها ثلاثين، - وقيمته بذلك البلد أربعون، لم يكن له أن يذهب به حتى يضع قيمته أربعين، لأن ذلك من حق المستحق صاحب الدابة أو العبد، فإن وضع الأربعين قيمة ذلك فذهب به وتلف قبل أن يرده، كانت الأربعون للمستحق صاحب الدابة أو العبد وأخذ المستحق منه الثلثين التي وضعها، وإن لم يتلف ورده، أخذ الأربعين التي وضع ورد المستحق منه الدابة أو العبد إلى صاحبه الذي استحقه، وأخذ الثلاثين التي وضعها له؛ وإن تلف في رجوعه به كان لصاحبه المستحق له الثلاثون التي وضع له، وكذلك إن أراد البائع الأول الذي رجع عليه واضع الأربعين أن يذهب به إلى بلد بائعه، لم يكن ذلك له حتى يضع للذي باع منه الأربعين التي وضع، أو قيمته - إن كانت أكثر من الأربعين، مثل أن تكون قيمتها خمسين، لأن ذلك من حق المستحق صاحب الدابة أو العبد وكذلك الحكم في البائع من البائع الأول إن أراد أن يذهب به إلى موضع بائعه لاستخراج حقه منه، وفي المرجوع إليه - أبدا من البائعين - ما تكرر وتناهى، وهذه مسألة لي فيها جواب وقد كتب عني ملخص مبين محتو على جميع فصولها يقف عليه من أراد أن يشفي نفسه بمعرفتها وبالله تعالى التوفيق.(2/513)
[كتاب الصلح] [ما جاء في الصلح]
ما جاء في الصلح
قال الله عز وجل: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] وهذا عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين؛ وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] . وقال: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] . وقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحسن: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فكان كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وذهب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني عمرو بن عوف(2/515)
ليصلح بينهم. «وروي أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك فقال: " اذهبوا بنا نصلح بينهم» «وعرض جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على غرماء أبيه أن يأخذوا الثمر بما لهم عليه فأبوا ولم يروا أن فيه وفاء، فأخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك فقال له: " إذا جذذته ووضعته في المربد فآذني "، فلما كان ذلك، آذنه فأتى هو وأبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فجلس عليه ودعا بالبركة فيه، ثم قال: " ادع غرماءك فأوفهم "، فكال منه لأهل دينه وبقي منه مثل الذي كان فيه بعد قضاء الدين» .
فصل فالإصلاح بين الناس فيما يقع بينهم من الخلاف والتداعي في الأموال وغيرها من نوافل الخير المرغب فيها المندوب إليها. ولا بأس على الإمام أن يشير على الخصوم بذلك، روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء - وهو يقول: والله لا أفعل، فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أين المتألي على الله؟ ألا يفعل المعروف؟ فقال: أنا يا رسول الله. فله أي ذلك أحب» . وروي «أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في عهد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في بيته فخرج حتى كشف سجف حجرته، فنادى كعب بن مالك فقال: يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر، فقال كعب قد فعلت يا رسول الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قم فاقضه» وهذا الحديث أصل لما تلهج العامة به من قولها خير الصلح الشطر، ولا صلح إلا بوزن.(2/516)
فصل وإذا أشار الإمام على المتخاصمين بالصلح وندبهما إليه وحضهما عليه فأبيا أو أبى أحدهما، فلا يجبرهما عليه، ولا يلح عليهما فيه إلحاحا يشبه الإلزام؛ ولكنه يفصل بينهما بواجب الحق وصريح الحكم، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. روي في الصحيح «أن الزبير بن العوام خاصم رجلا من الأنصار في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري فقال يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال: اسق واحبس حتى يبلغ الجذر» . فاستوفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير حقه - وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير برأي سعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استوفى للزبير حقه في صريح الحكم. قال عروة قال الزبير والله ما أحسب هذه الآية نزلت: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] إلا في ذلك.
فصل وإنما ينبغي للإمام أن يندب المتخاصمين - إلى الصلح ويديرهما - عليه ما لم يتبين له أن الحق لأحدهما، فإذا تبين له ذلك، لم يتأن في الحكم له - رجاء أن يصالحا، فقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رسالته إلى أبي موسى الأشعري، فاحرص على الصلح ما لم يتبين لك فصل القضاء.
فصل ولا يجوز الصلح بالحرام قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصلح جائز بين المسلمين،(2/517)
إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا» . فكل ما يتراضى عليه المتصالحان فهو جائز ما لم يجر ذلك إلى تحليل حرام أو تحريم حلال، واختلف فيه إذا وقع: فقيل إنه يفسخ ويرد ولا يمضي وهو قول جمهور أهل العلم، وذهب أصبغ إلى أنه يجوز في وجه الحكم ولا يحل له فيما بينه وبين الله أن يأخذ إلا ما يجوز في التبايع؛ واحتج لذلك بما روي أن علي بن أبي طالب أتي بصلح فقرأه فقال: هذا حرام، ولولا أنه صلح لفسخته - والأول أصح، لثبوته عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قولا وعملا؛ فأما قوله فهو ما روي عنه في الصحيح أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» . وأما عمله وقضاؤه فهو ما حكاه مالك في موطئه من رواية أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال أحدهما يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله وقال الآخر الحديث بطوله إلى قوله: " أما غنمك وجاريتك فرد عليك» ". وأبطل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط.
فصل والصلح إنما هو قبض شيء عن عوض، فهو يشبه المبايعة ويجري مجراها في أكثر الوجوه؛ فلا ينبغي أن يمضي فيه؛ الحرام كما لا يمضي في البيوع، ولا اختلاف إذا انعقد الصلح بين المتصالحين على حرام لا يحل لواحد منهما في أنه يفسخ، مثل أن يدعي رجل على رجل أن له عليه عشرة دنانير فيقر له منها بخمسة وينكر الخمسة، فيصالحه عن جميع دعواه بدراهم إلى أجل، وما أشبه ذلك؛ وإنما يختلف إذا انعقد الصلح على حرام في حق أحد المتصالحين دون صاحبه، مثل أن يدعي عليه عشرة دنانير فينكره فيها فيصالحه عنها بدراهم إلى أجل، لأن المدعي لا يحل له أن يأخذ في عشرة دنانير له دراهم إلى أجل، والمدعى عليه جائز له أن(2/518)
يصالحه عن يمينه الواجب له عليه بدعواه على دراهم إلى أجل؛ فهذا أمضاه أصبغ، ولم يفسخه بحكم على ما جاء عن علي بن أبي طالب، والمشهور أنه يفسخ، وأما الصلح المكروه فقيل إنه يجوز إذا وقع، وقال ابن الماجشون يفسخ إذا عثر عليه بحدثانه ما لم يطل، وهو أن يقع بين المتصالحين على وجه ظاهره الفساد ولا يتحقق في جهة واحدة منهما مثل أن يدعي كل واحد منهما على صاحبه دنانير أو دراهم وينكره فيها ولا يقر له بشيء منها، فيصالحان على أن يؤخر كل واحد منهما صاحبه بما يدعيه قبله إلى أجل، لأن كل واحد منهما يقول: لا حرام فيما فعلت، لأني واهب لما أعطيت؛ والظاهر أن كل واحد منهما أخر صاحبه بما له عليه على أن يؤخره بما له عليه، فيدخله أسلفني وأسلفك، ويخشى أن يكون لكل واحد منهما على صاحبه بعض ما يدعيه عليه، فيكون كل واحد منهما قد أخر صاحبه بما له عليه على أن يزيده فيه، وذلك الربا المحرم بالقرآن؛ فقف على أنها ثلاثة وجوه:
وجه يفسخ فيه الصلح باتفاق.
ووجه يفسخ فيه على اختلاف.
ووجه لا يفسخ فيه باتفاق إلا أن يعثر عليه بحدثانه فيفسخ على اختلاف.
فصل ومن مسائل الصلح التي تجري مجرى البيوع فيما يحل فيها ويحرم منها - مسألة الصلح في العيب يوجد بالعبد وهي مسألة وقعت في المدونة ناقصة الوجوه غير كاملة المعاني، فرأيت أن أوردها هنا باستيعاب وجوهها وكمال معانيها - إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله؛ فإذا باع الرجل عبدا فادعى المبتاع أن به عيبا وأراد مصالحة البائع، فإن الأمر لا يخلو في ذلك من وجهين:(2/519)
أحدهما: أن يكون العبد فائتا.
والثاني: أن يكون قائما.
فصل فأما إن كان فائتا فلا يخلو الأمر من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون باعه بنقد فانتقد.
والثاني: أن يكون باعه بنقد فلم ينتقد.
والثالث: أن يكون باعه إلى أجل.
فأما إذا باعه بنقد وانتقد ثم وجد المبتاع به عيبا بعد فواته، فجائز للبائع أن يصالحه على دنانير أو دراهم أو عروض نقدا بعد معرفتهما بقيمة العيب؛ لأن قيمة العيب من الثمن الذي نقد، قد وجبت للمبتاع قبل البائع فجائز له أن يبيعها بما شاء إذا تعجل، ولا يجوز له أن يصالحه على دراهم إلى أجل - إن كان البيع بدنانير، ولا على عروض إلى أجل لأنه يدخله في العروض فسخ الدين في الدين، وفي الدراهم الصرف المتأخر؛ وإن صالحه على دنانير إلى أجل لم يجز إلا أن يكون مثل قيمة العيب فأقل، فإن كانت أكثر من قيمته فلا يجوز.
فصل
وأما إن لم ينقد الثمن حتى اطلع على العيب فجائز للبائع أن يصالحه على عرض معين يدفعه، أو موصوف إلى أجل يجوز إليه السلم، ولا يجوز بدراهم نقدا ولا إلى أجل، إلا أن يكون يدا بيد مثل الصرف وأما بالذهب فلا أعرف في ذلك نص رواية والنظر يوجب - عندي ألا يجوز على مذهب مالك إلا مراطلة كفة بكفة بعد معرفتهما بقيمة العيب وتقاربهما عليه.(2/520)
وأما إن ادعاه المبتاع وأنكره البائع فلا يجوز وإن أحضر المبتاع قيمة العيب، من الذهب وراطله بها، لأنه لم يرض بهذه المراطلة إلا بما طرح عنه البائع من مئونة إثبات العيب والعناء في ذلك أو اليمين؛ لأن البائع لو نكل عن اليمين وجبت على المبتاع فصار إنما رضي بالمراطلة بما أسقط عنه من اليمين، فيدخله التفاضل بين الذهبين؛ وأما على مذهب ابن القاسم، فينبغي أن يكون الصلح بالذهب جائزا إذا أحضر قيمة العيب وراطله بها. وإن كان البائع منكرا للعيب، لأن المبتاع إن نكل يدعي باطلا فلا يجوز له أن يأخذ منه قليلا وكثيرا. وإن كان يدعي حقا، فجائز له أن يراطله بما يعلم أنه قد سقط من قيمة العيب، وإنما الذي يجوز بلا كلام أن يحط عنه من الثمن الذي عليه ما يتفقان عليه من قليل أو كثير.
فصل وأما إن كان الثمن مؤجلا، فجائز له أن يصالحه على عروض أو طعام نقدا، ولا يجوز على عروض مؤجلة؛ لأنه يدخله الدين بالدين؛ ولا على دراهم نقدا ولا إلى أجل، وأما الدنانير فقال في المدونة: إنه لا يجوز، فقيل إن معنى ذلك إن كانت الدنانير التي صالحه عليها أقل من قيمة العيب.
وأما إن كانت مثلها أو أكثر منها، فذلك جائز؛ لأنه لا يتهم أن يعطي ذهبا ويأخذ مثلها أو أقل منها - إذا حل الأجل؛ هذا تأويل ابن أبي زيد وأحمد بن خالد؛ وقيل إن ذلك لا يجوز بحال وإن كانت الدنانير مثل قيمة العيب أو أكثر منها إذا كان البائع منكرا للعيب، لأن البائع إنما رضي بدفع دنانيره في مثلها أو في أقل منها إلى أجل، لما طرح عنه المبتاع من الخصومة في قيمة العيب، فصار ذلك سلفا جر نفعا، ودنانير في دنانير إلى أجل.(2/521)
فصل وأما الوجه الثاني - وهو أن يكون العبد قائما لم يفت، فلا يخلو أيضا من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون باعه بنقد فانتقد.
والثاني: أن يكون باعه بنقد فلم ينتقد.
والثالث: أن يكون باعه بثمن إلى أجل.
فصل
فأما الوجه الأول وهو أن يبيعه بنقد فينتقد ثم يجد المبتاع به عيبا فلا يخلو أيضا من وجهين:
أحدهما: أن يصالحه البائع بشيء يعطيه على ألا يرده عليه.
والثاني: أن يصالحه المبتاع بشيء يعطيه على أن يرده عليه.
فصل
فأما إذا صالحه المبتاع بشيء يزيده على أن يرده عليه، فإن كانت الزيادة عرضا فلا بأس به نقدا أو إلى أجل؛ وإن كانت الزيادة ورقا وقد باع بذهب، فلا بأس به نقدا إذا كان أقل من صرف دينار، ولا يجوز إلى أجل؛ وإن كانت الزيادة ذهبا، فلا تجوز نقدا ولا إلى أجل، لأنه ذهب وعرض بذهب؛ فلا يجوز إلا على المقاصة.
وأما إن صالحه البائع بشيء يزيده على ألا يرده عليه، فإن كانت الزيادة دنانير نقدا وقد باع بدنانير فذلك جائز؛ لأنه كان استرجع ذلك من الثمن وأمضى العبد بما بقي.
فإن كانت الزيادة دنانير إلى أجل، فلا يجوز لأنه بيع وسلف؛ وإن(2/522)
تأخرت الدنانير من غير شرط، فذلك جائز، وإن صالحه على دراهم إلى أجل، فلا يجوز؛ لأنه يدخله الصرف المتأخر كأنه باع منه عبدا ودراهم إلى أجل بدنانير نقدا؛ وإن كانت الدراهم نقدا، فذلك جائز إن كانت أقل من صرف دينار على مذهب ابن القاسم؛ ويجوز على مذهب أشهب - وإن كانت أكثر من صرف دينار. وإن كانت الزيادة عروضا نقدا. فذلك جائز - وإن كانت العروض إلى أجل فاختلف في ذلك قول ابن القاسم فأجازه مرة ومنع منه أخرى.
فصل وأما الوجه الثاني - وهو أن يبيعه بنقد، فلا ينتقد حتى يجد المبتاع عيبا فلا يخلو أيضا من وجهين:
أحدهما: أن يصالحه البائع بزيادة على ألا يرده عليه.
والثاني: أن يصالحه المبتاع بزيادة على أن يرده عليه.
فأما إذا صالحه البائع على أن لا يرده عليه ويزيده، فإن كانت الزيادة دنانير، لم يجز إلا أن تكون مقاصة؛ لأنه إذا انتقده يصير قد باع عبدا ودنانير بدنانير، وإن زاده دراهم لم يجز إلا أن يكون نقدا، ويكون أقل من صرف دينار على مذهب ابن القاسم؛ وإن زاده عروضا نقدا أو مؤجلة موصوفة، فذلك جائز، وأما إذا صالحه المبتاع على أن يرده عليه بزيادة يزيده إياها، فإن كانت الزيادة دنانير نقدا، فذلك جائز؛ وإن كانت الزيادة إلى أجل، لم يجز؛ لأنه بيع وسلف أعطاه العبد ببعض الثمن الواجب له عليه على أن يؤخره ببقيته، وإن كانت الزيادة دراهم يسيرة أقل من صرف دينار جاز؛ لأنه كأنه قد باع منه العبد ببعض الثمن على أن صرف منه بقيته، وإن كانت الزيادة عرضا نقدا، فذلك جائز؛ وإن كانت الزيادة شيئا إلى أجل، لم يجز لأنه فسخ دين في دين.(2/523)
فصل وأما الوجه الثالث وهو أن يشتري منه العبد بدنانير إلى أجل ثم يجد المبتاع به عيبا، فلا يخلو أيضا من وجهين:
أحدهما: أن يصالحه البائع على ألا يرده عليه.
والثاني: أن يصالحه المبتاع على أن يرده عليه.
فأما إذا صالحه البائع على ألا يرده عليه بزيادة يزيده إياها، فإن كانت الزيادة دنانير - وقد كان باعه إياها بدنانير، فإن كانت الدنانير نقدا أو إلى غير أجل الثمن، فلا يجوز، لأنه كأنه قد باعه عبدا ودنانير بدنانير إلى أجل؛ وإن كانت الدنانير إلى أجل الثمن فذلك جائز، لأنه مقاصة إذا حل الأجل قاصه بها من الثمن وأخذ بقيمته فكأنه حط عنه بعض الثمن من أجل العيب الذي طعن فيه. وإن كانت الزيادة دراهم فلا يجوز نقدا كانت أو مؤجلة؛ وإن كانت الزيادة عروضا فذلك جائز نقدا ولا يجوز إلى أجل، وأما إذا صالحه المبتاع على أن يرده عليه بزيادة يزيده إياها، فإن كانت الزيادة عرضا معجلا، فذلك جائز - ولا يجوز إلى أجل، وإن كانت الزيادة دنانير معجلة أو مؤجلة، لم يجز إلا إلى ذلك الأجل بعينه؛ لأنه يكون مقاصة، وإن كانت الزيادة دراهم، لم يجز نقدا ولا إلى أجل، لأنه إن كانت الزيادة عرضا مؤجلا دخله فسخ الدين في الدين: فسخ ما وجب عليه من الثمن المؤجل في عرض معجل وهو العبد، وعرض مؤجل وهي الزيادة؛ وإن كانت الزيادة دنانير نقدا وقد باعه بدنانير، دخله ما يدخل إحدى مسألتي ربيعة: ضع وتعجل، وعرض وذهب بذهب - إلى أجل، وكذلك إن كانت الدنانير التي زاده مؤجلة، وإن كانت الزيادة دراهم نقدا أو مؤجلة دخله الصرف المتأخر؛ هذا تحصيل هذه المسألة فانحصرت وجوهها إلى تسع مسائل: ثلاث في فوات العبد، وست في قيامه، وبالله تعالى التوفيق.(2/524)
[كتاب العرايا] [فصل في اشتقاق لفظ العرية]
فصل في اشتقاق لفظ العرية العرية مأخوذة من قولهم عروت الرجل أعروه إذا جئته تلتمس بره ومعروفه، من قوله عز وجل: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] . وقيل إنها مأخوذة من تخلي الإنسان عن ملكه على الثمرة، من قوله عز وجل: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} [الصافات: 145] . وقيل: إنما سميت عرية، لأنها تعرى من المساومة عند البيع إذا جعلها عامة للمحتاج، والفعل الإعراء من أعرى يعري إعراء؛ قال صاحب العين فعلى هذه الوجوه: العرية اسم للثمرة الموهوبة، وقد قيل إن أصل هذه الكلمة مأخوذة من النخل تعرى من ثمرتها بالهبة لثمرتها، فسميت عرية لذلك؛ فعلى هذا تكون العرية اسما للنخلة التي وهبت ثمرتها لا للثمرة الموهوبة، والأول أظهر وأولى لتأييد الآثار له.
فصل في معنى الإعراء
والإعراء: هبة الثمرة في أصول الشجر والثمرة الموهوبة هي العرية، والعرية تختص بالرخصة الواردة فيها عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ويكون سقيها(2/525)
وزكاتها على المعري إذا سماها عرية على مذهب ابن القاسم؛ فإن لم يسمها عرية - وإنما قال وهبتك الثمرة، لم تختص بالرخصة، وكان السقي والزكاة على الموهوب له، وذهب ابن حبيب إلى أن هبة الثمر في رؤوس الشجر عرية - سماها عرية أو هبة، تختص بالرخصة وتكون الزكاة والسقي على المعري والواهب؛ وحكى سحنون في المدونة عن كبار أصحاب مالك أنهم لم يفرقوا في السقي والزكاة بين العرية والهبة يريد وإن افترق ذلك عندهم في الرخصة الواردة، فإنه لا يفترق في السقي والزكاة، ويكون ذلك على المعرى والموهوب له، وحكى ابن المواز أنهم لم يختلفوا في سقي العرية أنها على المعرى، وإنما اختلفوا في زكاتها فقال أشهب: إنها على المعرى كالهبة إلا أن يعريه بعد الزهو؛ قال: وما روي عن مالك أنها على رب الحائط رمية رمى بها، والصحيح أن الاختلاف داخل في السقي أيضا على ما ذكرناه، وكثيرا ما يفعل هذا محمد بن المواز ينفي الاختلاف الموجود، وسحنون يقول إن كانت العرية بيد المعري يسقيها ويقوم عليها، فالزكاة عليه، وإن كانت بيد المعرى يسقيها ويقوم عليها فالزكاة عليه.
فصل والمعنى في الفرق بين الهبة والعرية عند من فرق بينهما: أن العرية هي ما يقصد به المواساة في الثمرة لا - عين المعرى - على ما كان عليه الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من المواساة بثمر حوائطهم لمن لا حائط له؛ فكأنها على ملك المعري - ما لم تطب، يجب عليه سقيها وزكاتها، ولا تجب للمعرى إلا بالطياب - وإن قبضها قبل ذلك، إذ لم يقصد بها عينه؛ والهبة ما قصد بها عين الموهوب له، فخرجت عن ملك الواهب، ووجبت للموهوب له بالقبض.
فصل والعرية هبة من الهبات، فإذا سماها عرية علم أنه قصد بها المواساة لا عين(2/526)
المعرى، وإذا لم يسمها عرية وإنما قال وهبتك الثمرة احتمل أن يريد بها عين الموهوب له على سبيل الهبة المحضة له، وأن يكون إنما قصد بها المواساة على معنى العرية، لا عين الموهوب له، فحملها ابن القاسم على الهبة المحضة حتى يبين أنه أراد بها العرية؛ وحملها ابن حبيب على العرية حتى يبين أنه أراد الهبة المحضة؛ وأوجب كبار أصحاب مالك في المدونة السقي والزكاة في العرية على المعرى؛ ووجه ذلك أن العرية قد وجبت للمعرى بالقبض وجوبا لو أراد المعري صرفها إلى غيره، لم يكن ذلك له، فأشبه الهبة المحضة المقصود بها عينه؛ ويلزم على هذا أن تجب له وتورث عنه - إذا قبضها أبرت أو لم تؤبر - كالهبة؛ فيأتي على هذا التعليل فيما تجب به العرية للمعرى أربعة أقوال:
أحدها هذا، والثاني: أنها تجب له بالإبار قياسا على قول أشهب في الحبس.
والثالث أنها لا تجب لها إلا بالطياب، وهي رواية محمد بن خالد عن ابن القاسم.
والرابع: أنها تجب له وتورث عنه إذا قبض الأصول، وإن لم تطلع الثمرة بعد على ظاهر ما في كتاب الهبة والصدقة من المدونة، القولان منها على القول بالعرية لا يقصد بها عين المعرى، وإنما يقصد بها المواسة، والقولان الآخران على القول بأن العرية يقصد بها عين المعرى، فلا تفترق من الهبة إلا في الرخصة.
وأما قول من فرق بين الزكاة والسقي في العرية، فلا وجه له عندي من جهة النظر، لأن الثمرة إن كانت قد وجبت للمعرى بقبض الأصول أو بقبضها مع الطلوع على القول بأنها تجب له بذلك، وإن مات المعري، فيجب أن يكون عليه سقيها كما تكون عليه زكاتها؛ لأن من حق المعري أن يقول للمعرى: لا أسقي(2/527)
الثمرة، إذ لا حق لي فيها - وأنت بالخيار إن شئت فاسق ثمرتك وإن شئت فدع؛ وإن كانت الثمرة لم تجب للمعرى إلا بالطياب على القول بأنها باقية على ملك المعري ما لم تطب؛ وإن قبضها المعرى فيجب أن تكون على المعرى زكاتها كما يكون عليه سقيها؛ ووجه الفرق بينهما من جهة الاستحسان: أن سقي الثمرة لما كان فيه منفعة الحائط سلمت الثمرة أو ذهبت كان السقي على ربه - وهو المعري؛ وإن كانت الثمرة قد وجبت للمعرى وكانت زكاتها عليه ولا يحمل ذلك القياس؛ لأن من حق صاحب الحائط ألا يسقي حائطه وإن تلف.
فصل وأرخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيع العرية بخرصها، ذكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه عن نافع عن عبد الله بن عمر عن زيد بن ثابت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها» . وعن داود بن الحصين، عن سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق» شك داود: قال خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق. فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها، وأرخص في بيع العرايا بخرصها دليل على أن العرية اسم للثمرة الموهوبة لا للأصول التي أعريت ثمرتها. ومن قال إن العرية اسم للأصول التي أعريت ثمرتها، ذهب إلى أن معنى قوله أرخص في بيع العرايا، أرخص في بيع ثمرة العرايا، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يريد أهل القرية، وهذا كثير في كلامهم، إلا أنه من المجاز، وحمل الكلام على الحقيقة، أولى من حمله على المجاز.(2/528)
فصل فبيع العرايا بخرصها إلى الجداد مستثناة من المزابنة وسائر وجوه الربى بالرخصة، لوجهين:
أحدهما نفي الضرر الداخل على المعري ببقاء يد المعرى على عريته، وذلك أن الناس كانوا يتواسون فيما بينهم فيطعم من له نخل لمن لا نخل له - النخلة والنخلات من نخله، فكان يشق على المعري دخول المعرى عليه لجمع عريته والقيام عليها؛ لامتناعه بذلك من الانفراد في حائطه بأهله وولده - على ما جرت به عادتهم؛ فيؤدي ذلك من المشقة عليه إلى ما يمنع من الإعراء في عام آخر.
والوجه الثاني القصد إلى المعروف والرفق دون المكايسة وذلك أن المعرى إذا احتاج إلى حفظ عريته وجمع سواقطها والقيام عليها، لزمه من المشقة في ذلك أكثر من قدر قيمتها، فيؤدي ذلك إلى أن لا ينتفع بعريته فاحتاج المعرى إلى من يكفيه مؤونته عريته، كما احتاج المعري إلى الانفراد في حائطه، فرخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهذا المعنى أن يخرص على المعري عريته التي أعراها ويكون عليه خرصها ثمرا عند الجداد إذا تراضيا بذلك واتفقا عليه.
فصل فبيع العرية بخرصها من معريها، ليس ببيع على الحقيقة؛ وإنما هو معروف اتبعه معروفه الأول ونفى به الضرر على نفسه بأن التزم له عريته بخرصها إلى الجداد، كما تخرص عليه الزكاة التي تجب لأهل الزكاة، لما يلحقه من الضرر بمشاركتهم له في الحائط ويجري قياس جواز أخذ العرية بخرصها على خرص الزكاة بأن نقول إن هذا معنى حد الشرع بخمسة أوسق، فجاز أن تخرص ثمرته على أن يعطي مكيلة خرصه تمرا عند الجداد، أصل ذلك الزكاة؛ وإنما سماه(2/529)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيعا، لما فيه من معنى البيع - وإن لم يكن بيعا على الحقيقة؛ وهو أن مبتاع العرية بخرصها يملكها ويجوز له التصرف فيها، كما لو اشتراها بالدنانير والدراهم؛ ولا يجوز ذلك له أيضا إلا باجتماع منهما جميعا واتفاق ورضى واختيار كالبيع، بخلاف خرص الزكاة التي النظر فيها إلى الأمام، ولا خيار فيه إلى رب الحائط، فلذلك لم يرد فيه الشرع بلفظ البيع.
فصل
فمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجيز بيع العرية بخرصها إلى الجداد للعلتين جميعا، وابن الماجشون لا يراعي إلا الضرر ولا يرى العلة في جوازها سواه، والعلة التي هي أملك بجوازها نفي الضرر، ألا ترى أن شراء العرية في مذهب مالك وجميع أصحابه لا يجوز بخرصها إلا لمعريها، أو لمن صار إليه ثمر الحائط بشراء أو هبة أو غير ذلك من وجوه الملك.
فصل ومن الحجة لمالك في ألا يجوز للمعرى بيع عريته ممن شاء بخرصها إلى الجداد مع ما تقدم من علة نفي الضرر - ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا» فقوله أهلها - يريد أهل الحائط المعرين للثمرة - والله أعلم؛ ودخل من صارت إليه الثمرة بوجه من وجوه الملك مدخلهم بالقياس، وفي بعض الآثار «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص لصاحب العرية أن يبيعها من معريها بخرصها ثمرا عند الجداد» وهذا نص في موضع الخلاف.
فصل وقد ذهب جماعة من أهل العلم، منهم أحمد بن حنبل إلى أنه يجوز لصاحب العرية بيع عريته بخرصها ممن شاء على ظاهر ما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها مطلقا من غير تقييد، وهو ظاهر قول(2/530)
يحيى بن سعيد في المدونة؛ لأنه قال: العرية الرجل يعري الرجل النخلة والنخلتين يسميهما من ماله ليأكلها فيبيعها بثمر - لم يقل من المعري ولا من غيره، والقول ما قاله مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وذهب إليه؛ لأن المطلق يجب حمله على المقيد في هذه المسألة وفاقا بما دل عليه من الدليل.
فصل وبيع العرايا لا يجوز بخرصها على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا على ستة شروط:
أحدها: أن تزهي الثمرة.
والثاني: أن تكون خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق. فإن زادت على ذلك لم يجز وقد قيل لا يجوز إلا في أقل من خمسة أوسق وهي رواية أبي الفرج عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الأظهر؛ لأن الأصل المنع لأنه مزابنة، فلا يستباح منه شيء إلا بيقين، لأن الشك لا يقدح في اليقين.
والثالث: أن يعطيه الخرص عند الجداد، فإن أعطاه ذلك نقدا لم يجز.
والرابع: أن يكون من صنفها، ونوعها، فإن كان من خلافها لم يجز.
والخامس: أن تكون العرية مما ييبس ويدخر.
والسادس: أن يبيعها من معريها أو ممن صار له ثمر الحائط، وعلى مذهب ابن القاسم في المدونة يحتاج في ذلك إلى شرط سابع - وهو أن يسميها عرية لا هبة مطلقة، لافتراق أحكام الهبة المطلقة عنده من العرية.
فصل واتفق مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي وأبو حنيفة على جواز أخذ المعرى في عريته بخرصها ثمرا، إلا أنهم اختلفوا في تعليل ذلك؛ فأما مالك فقد(2/531)
تقدم مذهبه؛ وأما الشافعي، فلم يقصد ذلك على العرية وأجاز بيع ما دون خمسة أوسق ممن الرطب في رؤوس النخل بالثمر يدا بيد، كان ذلك من عرية أو شراء أو لمن يريد أن يبيع ذلك المقدار من حائطه لعلة أو لغير علة، والرخصة عنده إنما وردت في المقدار المذكور فخرج ذلك المقدار من المزابنة، وما زاد عليه فهو منها؛ وإنما خصت عنده العرايا بالذكر في ذلك، لأن السؤال وقع عنها، أو لأنها إنما تقع في هذا المقدار في الأغلب من الحال؛ وقالوا أيضا إن العرية ليست اسما لما أعري ووهب وأعطي وإنما هو اسم لما أفرد عن جملة - سواء كان للهبة أو للبيع أو للأكل، كأنه عري عن الأصل وأفرد عنه؛ والصحيح ما قدمنا ذكره عن أهل اللغة أنه اسم للعطية مخالف الشافعي وما جاء في بعض الآثار من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص لصاحب العرية أن يبيعها من معريها بخرصها تمرا عند الجداد» في ثلاثة مواضع.
أحدها: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرط في جواز بيعها أن يكون من معريها دون غيره - وهو يجيز بيعها من المعري وغيره.
والثاني: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيعها بخرصها تمرا عند الجداد، والشافعي يمنع ذلك عند الجداد، ويجيزه نقدا ويقول إن تفرقا قبل القبض فسد.
والثالث: أن العرية اسم الفعل المعروف مستثنى من الأصول بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للخراص خففوا، فإن في المال العرية والوصية. فأجراهما مجرى واحدا وهو يقول إنه المقدار وإن لم يكن عرية.
وأما أبو حنيفة فعلته في جواز أخذ المعري عريته بخرصها أنها هبة مبتدأة على أصله أن للواهب الرجوع فيما وهب ما لم تحز عنه، فكأنه ارتجع عريته من(2/532)
المعرى ثم وهبه تمرا عند الجداد؛ وإنما سمي بيعا على المجاز والاتساع، وأما على الحقيقة فلا يجوز ذلك، لأنه بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض وهذا أبعد الأقاويل؛ لأنه رد لأحاديث الرخصة في بيع العرية بخرصها جملة، وإبطال لفائدتها ومعناها، إذ الهبة المبتدأة لا يصح أن يشترط في جوازها أن يكون أصلها عرية، ولا أن يكون خمسة أوسق فدون هذا مما لا يصح لأحد أن يقوله ولا يعتقده؛ لانعقاد الإجماع على جواز ابتداء هبة القليل والكثير من غير حد ولا تقدير؛ ويلزم على قياس قوله ألا يجوز للمعرى بيع العرية بخرصها من المعري إذا قبض عريته - إما بقبض الأصول، وإما بقبضها مع الطلوع، إلا أن يكون من مذهبه أن القبض لا يكون إلا بالجد.
فصل والعرية تجوز في الثمار كلها كان مما يدخر أو مما لا يدخر لعام واحد وأعوام كثيرة، لأنها هبة من الهبات؛ وأما أخذها بخرصها عند الجداد، فلا يجوز إلا فيما ييبس ويدخر من الثمر كالتمر، والعنب والتين، والجوز، واللوز، والزيتون، وما أشبه ذلك؛ هذا هو المشهور في المذهب الموجود لمالك في المدونة وكتاب ابن المواز والمبسوط، وقد روي عنه أيضا في كتاب ابن المواز أن ذلك لا يجوز إلا في النخل والعنب خاصة، وهو قول الشافعي.
فصل وقد اختلف في الحيازة التي تصح بها العرية للمعرى إن مات المعري فقال ابن حبيب لا تصح العرية للمعرى إن مات المعري إلا أن يكون قد قبض الأصول وطلع فيها الثمر قبل موته، واختلف الشيوخ في تأويل ما في المدونة في ذلك،(2/533)
وهل الهبة والصدقة بمنزلة العرية أم لا على ما أذكره إن شاء الله، أما أبو عمر بن القطان، فكان يقول قول ابن حبيب مفسرا لما في المدونة في العرية والهبة والصدقة، ولا فرق بين العرية والهبة والصدقة في أن المعري أو الواهب أو المتصدق، إذا مات فلا شيء للمعرى أو الموهوب له أو المتصدق عليه إلا أن يكون كل واحد منهم قد قبض الأصول قبل موته وطلعت فيها الثمرة، وكان يحتج لمساواته بين الهبة والعرية والصدقة برواية يحيى عن ابن القاسم في كتاب الهبات والصدقات من العتبية الواقعة في رسم الصلاة منه؛ ورأيت لأبي مروان بن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كان يقول ما قال ابن حبيب خلاف لما في المدونة - يريد والله أعلم أن العرية تصح للمعرى بقبض الأصول في حياة المعري وإن لم تطلع فيها الثمرة على ظاهر ما وقع في كتاب الهبة والصدقة في الهبة والصدقة، فتستوي عنده الهبة والعرية في أنها تصح للمعرى والموهوب له بقبض الأصول وإن لم تطلع فيها الثمرة؛ وكان الفقيه أبو جعفر بن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول قول ابن حبيب مفسر لما في المدونة في العرية، وخلاف لما فيها في الهبة والصدقة؛ ومذهبه في المدونة: الفرق بين العرية والهبة، هذا قوله وتأويله وهو أظهر التأويلات على ما في المدونة؛ وأشهب يقول إذا أبرت النخل قبل موت المعري صحت للمعرى، لأنه لا يمنع من الدخول إلى عريته؛ وأما إن قبض الأصول وحازها؛ فهي له وإن لم تؤبر. وأما إن مات المعرى فلا تجب لورثته العرية، وإن كان قد قبضها، إلا أن يكون مات بعد طيب الثمرة، هذه رواية محمد بن خالد عن ابن القاسم في العتبية حملها محمل الحبس لا محمل الهبة، وذلك صحيح على قياس القول بأن السقي والزكاة على المعرى، ويلزم على قول أشهب في الحبس أن الثمرة تجب لورثة المحبس عليه بالإبار: أن تجب أيضا لورثة المعرى بالإبار، وبالله التوفيق.(2/534)
[كتاب الجوائح] [فصل في بيان معنى الجائحة من القرآن]
فصل في بيان معنى الجائحة من القرآن قال الله عز وجل: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] ، وقال تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا} [الكهف: 39] {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 41] {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف: 42] . وقال تعالى:(2/535)
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 19] فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، يقول تبارك وتعالى: إنا اختبرنا وامتحنا مشركي قريش، كما امتحنا أصحاب الجنة وأصحاب الجنة هؤلاء على ما ذكر بعض أهل التفسير قوم كانت لهم جنة وهي البستان ويقال إنها أرض باليمن يقال لها ضوران فكان فيها رجل من بني إسرائيل كانت له هذه الجنة فكان يؤدي حق الله فيها إلى المساكين؛ وجاء في التفسير أنه كان يأخذ منها قوت سنة ويتصدق بالباقي، وجاء أيضا أنه كان يترك ما أخطأ المنجل، وما كان في أسفل الأكداس، وما أخطأه القطاف من العنب، وما خرج عن البساط الذي يبسط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع من ذلك شيء كثير؛ فلما مات ورثه بنوه فقالوا والله إن كان أبونا لأحمق حين كان يطعم المساكين - ونحن جماعة؛ فإن فعلنا بالمساكين ما كان يفعل أبونا ضعنا، فحلفوا ليصرمنها بسدفة من الليل، قال الله عز وجل: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] ، أي لم يقولوا: إن شاء الله فلما كان في أول الوقت الذي اتعدوا فيه في أول الصبح بسدفة، غدوا إلى جنتهم ليصرموها؛ {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم: 25] أي على جد من أمرهم؛ وقيل على قصد أي قادرين في أنفسهم على قصد جنتهم، لا يحول بينهم وبينها آفة؛ وقيل على منع قادرين، من قولهم حاردت السنة إذا منعت خيرها، وحاردت الناقة إذا ارتفع لبنها. وقيل على غضب، فلما رآوها أي رأوا جنتهم أنكروها من سوادها: فقال بعضهم لبعض: إنا لضالون أي طريق الجنة وما هذه جنتنا؛ فلما تبينوا، قالوا بل نحن محرومون أي حرمنا ما كنا نأمل فيها من القوت والسعة على أهالينا وأيتامنا، قال أوسطهم أي أعدلهم ألم أقل لكم لولا تسبحون أي تستثنون في قسمكم؛ وقال بعضهم أي تصلون؛ فقال وظنوا أنهم أوتوا من قبل ترك الصلاة؛ {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم: 29](2/536)
أي ننزه ربنا عز وجل عن بخلنا ولومنا، {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 19] ، أي أتاها ليلا، والطائف لا يكون إلا بالليل، فإذا كان بالنهار قالوا طفت به نهارا: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 20] ، أي كالليل الأسود. والصريم أيضا النهار - وهو من الأضداد، وقيل كالصريم أي كالمقطوع من أصله، وقيل كالصريم أي كالمصروم الذي قد أخذ حمله، أي ليس فيها ثمر. وقيل فأصبحت كأرض تدعى الصريم - وهي أرض باليمن معروفة على ستة أميال من صنعاء.
فصل فالجوائح من الله تعالى ابتلاء منه يبتلي به عباده بما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير قال الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] .
فصل فمن أصيب بجائحة فصبر واحتسب ورضي بقدر الله وسلم لأمره، كان من المهتدين المبشرين من الله بالصلاة والرحمة - حيث يقول تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157]
فصل فإذا نزلت بالرجل جائحة في شيء مما اشتراه من الثمار أو ما تخرجه الأرض من غير الثمار، فإن أهل العلم اختلفوا في وضع الجائحة عنه اختلافا كثيرا إذا كان قد اشترى ذلك دون الأصل، أو اشتراه مع الأصل بعد حلول بيعه؛ وأما إن اشتراه مع الأصل قبل حلول بيعه، فلا جائحة فيه بإجماع.(2/537)
فصل وهذا الاختلاف مبني على خمس مسائل هي أصله وعليها مداره:
إحداها: معرفة وجوب وضع الجائحة.
والثانية: معرفة الحال التي توضع فيها.
والثالثة: معرفة مقدار ما يوضع منها مما لا يوضع.
والرابعة: معرفة ما يوضع فيه مما لا يوضع.
والخامسة: معرفة ما هو جائحة يجب وضعها مما ليس بجائحة يجب فيه الوضع.
فصل فأما وجوب وضع الجائحة في الجملة فالأصل فيه ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح، وما روي أنه قال «من باع ثمرة فأصابتها جائحة فلا يأخذ من مال المشتري شيئا على ما يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق» وما روي أنه «نهى عن بيع الثمار حتى تزهى وقال: أرأيت إذا منع الله الثمرة، ففيم يأخذ أحدكم مال أخيه» .
فصل فأخذ مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه بهذه الآثار وتقلدوا الحكم بوضع الجائحة، وخالفهم في ذلك أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه وأصحابهما. فقالوا إذا قبض المشتري لم يوضع عنه للجائحة شيء أصلا، وعللوا هذه الآثار بعلل يطول جلبها، واحتجوا لمذهبهم بظواهر آثار لا حجة لهم فيها، من ذلك ما روى أبو سعيد الخدري «أن رجلا ابتاع ثمارا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأصيب فيها، فكثر دينه فأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالصدقة عليه، فتصدق عليه فلم يكن فيما(2/538)
تصدق به عليه وفاء دينه، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك» . قالوا ولو كان له حق أن يرجع على البائع، لقال ذلك له، وهذا لا حجة لهم فيه كما قلنا لأنه حكاية عن فعل وقضية في عين، فيحتمل أن يكون أصيبت بعدما استجدت أو أصيب منها ما دون الثلث أو سرقة أو غير ذلك مما لا يوجب له الرجوع على البائع، أو يكون البائع لم يوجد أو لم يكن له ماله، وإذا احتمل الحديث هذه الاحتمالات، بطل الاحتجاج به؛ واحتجوا أيضا بما روي «أن رجلا ابتاع ثمر حائط فعالجه وقام فيه حتى تبين له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع عنه أو يقيله، فحلف ألا يفعل؛ فذهبت أم المشتري إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تألى ألا يفعل خيرا، فسمع ذلك رب الحائط فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله هو له» ... ولم ينقل أنه أجبره على ذلك، بل ظاهر قوله: «تألى أن لا يفعل خيرا» ، أنه على وجه الطوع وهذا لا حجة لهم فيه أيضا، لأنه لم يذكر في الخبر أن جائحة أصابته، فلعله إنما كان خسرانا في الثمن، وحوالة في الأسواق: وهو الظاهر من قوله: فعالجه وقام فيه حتى تبين له النقصان؛ وهذا لا يوجب على البائع شيئا، واحتجوا لذلك أيضا بالقياس على العروض والحيوان. وهذا لا يلزم، لأن العروض والحيوان لم يبق على البائع فيها بعد القبض حق توفية، وليس كذلك الثمار؛ لأنه قد بقي عليه فيها حق توفية، بدليل أن الجائحة لو أصابتها من قبل العطش لكانت من البائع - وفاقا، فليست التخلية بمجردها قبضا تاما، ولو كانت مقبوضة للمشتري بمجرد التخلية، لكان ضمانها منه كالعبد والثوب.
فصل وأما معرفة حال وضعها، فإنه يجب وضع الجائحة في الثمرة إذا أجيحت في حال يفتقر فيه إلى بقائها في الأصول، وذلك أن الجائحة في الثمرة إنما وجب(2/539)
وضعها عن المبتاع من أجل ما بقي له على البائع من حق التوفية، إذ لم يقبضها بقبض الأصول قبضا تاما ناجزا لبقاء السقي على البائع فيما يحتاج منها إلى السقي، والإجماع على الرجوع عليه بما يكون من جائحة بسببه، ولافتقار الثمرة إلى بقائها في الأصول، تفصيل في بعض وجوهها اختلاف سيأتي بيانه في التكلم على المسألة الرابعة - إن شاء الله.
فصل وأما معرفة قدر ما يوضع منها مما لا يوضع، فإنما يجب وضعها في مذهب مالك وأصحابه إذا بلغت الثلث فأكثر، ولا توضع فيما دون ذلك، والفرق بين الموضعين من وجهين:
أحدهما الظاهر.
والثاني المعنى.
فأما الظاهر، فهو ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح» والجائحة لا تنطلق إلا على ما أتلف جميع المال أو جله؛ وأما من ذهب اليسير من ماله فلا، ويبين ذلك أن من يملك ألف دينار إذا ذهب من ماله الدينار والعشرة والعشرون، لا يقال إن ماله اجتيح؛ وكذلك من سرق له من جملة متاعه الكثير - شيء يسير، لا يقال إن اللصوص اجتاحوا ماله؛ وإذا صح ذلك، ثبت الفرق في هذا بين القليل والكثير، وثبوت ذلك يقتضي فصلا بينهما ولا فصل إلا ما قلناه؛ لأن الثلث آخر من اليسير، وأول حد الكثير، يقوم ذلك بالاعتبار من نص التنزيل قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3]- يريد من النصف {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4] ، يريد أيضا على النصف ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20] ،(2/540)
فأخبر عز وجل عنه في هذه الآية بامتثال ما أمره به في أول السورة من القيام، فقوله تعالى: {أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [المزمل: 20] ، هو قوله في أول السورة {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4] ، يريد على النصف وقوله ونصفه هو قوله في أول السورة: نصفه وقوله: وثلثه، هو قوله في أول السورة أو انقص منه قليلا - يريد من النصف فدل ذلك على أن الثلث من النصف قليل، وذلك على قراءة من قرأ ونصفه وثلثه بالفتح فيهما جميعا - وهي أبين في المعنى من قراءة من قرأهما بالخفض.
فصل وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن كل ما يجب فيه اعتبار القليل من الكثير فإن الثلث عنده في حيز اليسير، إلا في ثلاثة مواضع، أحدها الجائحة، فإن الثلث فيها عنده في حيز الكثير يجب وضعه ومعاقلة المرأة الرجل، فإنها تعاقله فيما دون الثلث؛ فإذا بلغت الثلث، رجعت إلى عقل نفسها، وما تحمل العاقلة من الدية فإنها تحمل الثلث فما فوقه ولا تحمل ما دونه؛ وما عدا هذه المواضع الثلاثة؛ فإنه يحكم فيها للثلث بحكم اليسير؛ والفرق عنده بين هذه المواضع الثلاثة وغيرها: أن هذه الثلاثة المواضع ليس فيها موضع قصد يراعى وما عداها يراعى فيها القصد، فلا يظن بأحد أنه يدخل في المحظور الكثير من أجل القليل.
فصل وأما المعنى، فلان المشتري دخل لا محالة على ذهاب اليسير من الثمرة، وأنها لا تسلم كلها، هذا معلوم بالعادة لا يكلم من يدفعه، لأن من يقول إن المشتري دخل على أن تسلم الثمرة من ذهاب رطبه وبسره ورطل أو رطلين، أو اجتياز المعتفين أو أكل الطير اليسير، فقد خرج عن العادة؛ وإذا ثبتت ذلك اقتضى أنه لا يرجع في اليسير، وأنه يرجع بالكثير؛ لأنه لم يدخل عليه، وإنما دخل على سلامة الجل، فبان بذلك مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(2/541)
فصل وهذا في الثمار، وأما البقول فاختلفت الرواية عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها: فمرة قال يوضع فيها القليل والكثير، ومرة قال: حكمها حكم الثمار لا توضع الجائحة فيها إلا في الثلث فما زاد؛ فوجه قوله إنه توضع الجائحة فيها في القليل والكثير. «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر بوضع الجوائح» عموما، فتناول ذلك الثمار والبقول، فخرجت الثمار من ذلك بما دل عليه من الدلائل، وبقيت البقول على الأصل في العموم، ولأن العادة في الثمار ذهاب بعضها للحاجة إلى تبقيتها على رؤوس النخل، فالمشتري على ذلك دخل، وليس كذلك البقول، لأنه لا عادة في تلفها ولا في تلف شيء منها، بل العادة سلامة جميعها؛ وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يوضع قليلها وكثيرها، ووجه قوله إنه إنما يوضع منها الثلث فصاعدا، الاعتبار فيها بسائر الثمار بعلة أنه وضع جائحة في نبات، وقد قيل عن مالك إنه لا توضع فيها جائحة أصلا، وقيل إنه ما جاز فيه المساقاة مع العجز كالفجل والاسفنارية واللفت فلا توضع فيه الجائحة إلا أن يبلغ الثلث، وما لا تجوز فيه المساقاة من البقول وضعت الجائحة في قليله وكثيره؛ وهذه رواية سحنون عن ابن القاسم في العتبية، ومثله في كتاب ابن المواز؛ وهو خلاف لما في المدونة.
فصل وأما معرفة ما توضع فيه الجوائح مما لا توضع فالأصل في ذلك أن كل ما لم يمكن المشتري أن يبين به إلا بفساد، كالثمرة التي يبتاعها عند بدء صلاحها، فلا يقدر على قطعها قبل أن يصل طيبها ويتناهى إلا بفساد لها، فإن الجائحة فيها ما لم يكمل طيبها ويتناهى باتفاق عند من أوجب الجائحة، لأن له حقا على البائع في إبقاء الثمرة في أصولها لصلاحها وكمال طيبها، فقد بقي له فيها عليه حق توفية، ألا(2/542)
ترى أن السقي عليه إن كانت مما تسقى ولو أراد البائع أن يجبره على الجداد قبل انتهاء طيبها أو يبسها إن كانت مما لا يجد حتى ييبس، لم يكن ذلك له، وما كان مما يمكن المبتاع أن يأخذه ويبين به بغير فساد له، إلا أن على المشتري في تعجيل أخذ ذلك والبينونة به ضررا، إذ لم يشتر إلا على أن يجده ويأخذه على وجه ما يعرف من التراخي في ذلك، كالثمرة التي تقطع خضراء إذا اشتراها بعد انتهاء طيبها، أو اشتراها قبل انتهاء طيبها فاجتيحت بعد انتهاء طيبها وإمكان جدادها، بمضي مدة يمكنه ذلك فيها قبل بلوغ الحد الذي يعرف من التراخي في جدها، فيجري الأمر في هذا - عندي على اختلاف قول مالك في جائحة البقول مرة، قال فيها الجائحة، ومرة قال لا جائحة فيها؛ لأن العلة في وجوب الجائحة فيها هي أنها تلفت قبل بلوغ الحد الذي اشتراها عليه من التراخي في قطعها وفي سقوطها، هي أنه قد قبضها بتخلي البائع له عنها، فلو شاء أن يقطعها قطعا، ولم يكن في قطعه إياها فساد لها؛ فإنما قد تركها على ملك نفسه لمنفعة يرجوها، وهاتان العلتان موجودتان في الثمرة بعد انتهاء طيبها؛ وعلى هذا يأتي الاختلاف في جائحة القصب، ويدخل في الفول الأخضر؛ وأما إن اجتيحت الثمرة أو البقل بعد بلوغ الحد الذي يعلم من التراخي في جدها، فلا خلاف أنه لا جائحة في ذلك، لأن البائع لم يدخل معه على ذلك ولو اجتيحت الثمرة بعد انتهاء طيبها قبل أن يمضي من المدة ما يمكنه فيه جدها، أو أجيح البقل بعد انعقاد البيع وتخلي البائع له عنه قبل أن يمضي من المدة ما يمكنه فيها جده، لدخل الاختلاف في ذلك أيضا - عندي، وجرى على الاختلاف في ضمان المكيال إذا تلف بعد أن يمتلئ في يد المشتري قبل أن يفرغه في وعائه، فيأتي في المسألة على هذا التعليل ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الثمرة تدخل في ضمان المشتري ويسقط عن البائع فيها حكم الجائحة بتناهي طيبها - وإن لم يمض من المدة بعد تناهي طيبها ما يمكنه فيه قطعها.(2/543)
والثاني: أنها لا تدخل في ضمانه ويرتفع عن البائع حكم الجائحة إلا بعد تناهي طيبها، وإن لم يمض من المدة بعد تناهي ما لو شاء المبتاع أن يجدها فيه جدها.
والثالث: أنها لا تدخل في ضمانه ويرتفع عن البائع حكم الجائحة حتى يمضي من المدة بعد انتهاء طيبها ما جرى عليه العرف من التراخي في ذلك واشترى عليه المشتري ودخل عليه البائع، لأن العرف البين عندهم كالشرط، وهذه مسألة جيدة مستقصاة محصلة غاية التحصيل لم أرها مجموعة ولا محصلة ملخصة لمتقدم، ولا سمعتها من متأخر - والله الموفق للصواب الهادي بعزته.
فصل وأما معرفة ما هو جائحة مما ليس بجائحة، فتحصيله أن الجوائح تنقسم على قسمين:
أحدهما: ما لم يكن أمرا غالبا وأمكن دفعه والاحتراس منه.
والثاني: ما كان أمرا غالبا ولم يمكن دفعه والاحتراس منه.
فأما ما لم يكن أمرا غالبا وأمكن الاحتراس منه وقدر على دفعه فليس بجائحة أصلا.
وأما ما كان أمرا غالبا ولم يمكن دفعه ولا قدر على الاحتراس منه، فإن ذلك ينقسم على قسمين:
أحدهما: أن يكون ذلك من فعل الله تعالى ولا اكتساب لمخلوق فيه.
والثاني: أن يكون من اكتساب المخلوقين المكلفين.
فأما ما كان من فعل الله تعالى ولا اكتساب لمخلوق مكلف فيه، فلا اختلاف أنه جائحة يجب القضاء بها، كالريح تسقط الثمرة أو تفسدها. قال الله عز وجل {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42](2/544)
وقال تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117] ، أو المطر قال الله عز وجل: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] ، أو البرد: قال الله عز وجل: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ} [النور: 43] ، وكذلك ما أشبهه من الجراد والجليد والطير الغالب. وأما انقطاع الماء، فإنه جائحة في القليل والكثير بإجماع واتفاق، قال الله عز وجل: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 41] .
فصل وأما ما كان من اكتساب المخلوقين المكلفين ولا يمكن الاحتراس منه كالجيش والسارق، فاختلف فيه هل هو جائحة أم لا فذهب ابن القاسم إلى أن ذلك جائحة، لأنه عنده مما لا يمكن الاحتراس منه، ولا يقدر على دفعه، وذهب ابن الماجشون ومطرف إلى أن ذلك ليس بحائحه، لأن ذلك مما يمكن عنده دفعه؛ لأن السلطان يكف الجيش ويمنعه؛ وكذلك السارق يتحصن منه؛ وقال ابن نافع الجيش جائحة وليس السارق بجائحة، فكأنه رأى أن الجيش مما لا يمكن دفعه، وأن السارق يقدر على التحفظ منه والتحصن عنه. ومن أهل العلم من يرى أن الجائحة توضع في القليل والكثير - وهو قول أحمد بن حنبل وطائفة من أهل الحديث، وأحد قولي الشافعي؛ ففي المسألة ثلاثة أقوال القولان: طرفان في الإغراق، ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه عدل بينهما، وكذلك تجد مذهبه أبدا أعدل المذاهب وأوسطها، فإنه كان موقفا مؤيدا، فهذه جملة تبنى عليها مسائل الكتاب - إن شاء الله، وبه التوفيق.(2/545)
[كتاب المساقاة]
المساقاة عمل الحائط على جزء من ثمرته، وهي مأخوذة من السقي لأن السقي جل عمل الحوائط، وهو يصلح ثمرتها وينميها؛ قال الله عز وجل: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] .
فصل «ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وعن بيع ما لم يخلق، وعن بيع الغرر، وعن الاستئجار بأجر مجهول» فقال «من استأجر أجيرا فليؤاجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم» ، والمساقاة من بيع الغرر، ومن الاستئجار بأجر مجهول، ومن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، إلا «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساقى يهود خيبر يوم افتتحها في النخل على أن لهم نصف الثمرة بعملهم، والنصف يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، فقال لهم: " أقركم ما أقركم لله على أن الثمرة بيننا وبينكم "، فكان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص بينه وبينهم، ثم يقول لهم: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي، فكانوا يأخذونه.» فكان هذا من(2/547)
فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخصصا لما نهى عنه من بيع الغرر ومن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ومن الاستئجار بأجر مجهول، لأن ذلك عموم ومساقاته ليهود خيبر في النخل خصوص، والخاص يحمل على التفسير العام، والتخصيص له والبيان للمراد به.
فصل فالمساقاة جائزة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، وعند الشافعي؛ وخالف في جوازها أبو حنيفة؛ والدليل على صحة قول من قال بجوازها، «أن رسول الله ساقى يهود خيبر على أن لهم نصف الثمرة بعملهم، وكان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرصها عليهم» ثم أقرهم أبو بكر على ذلك ثم عمر بن الخطاب إلى أن بعث ابنه عبد الله ليخرص عليهم، فسحروه فتكوعت يده؛ ثم إنه أجلاهم عنها إلى الشام. ثم عمل عثمان بعده على المساقاة والخلفاء بعده؛ وفي إقرار أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يهود خيبر على مساقاتهم التي ساقاهم عليها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وعمل الخلفاء بعدهما بها، بيان واضح على أن المساقاة حكم من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، محكم غير مفسوخ؛ هذا من طريق الأثر، ومن طريق النظر أيضا: أن الأصول مال لا ينمو بنفسه ولا تجوز إجارته وإنما ينمى بالعمل عليه، فجاز العمل عليه ببعض ما يخرج منه كالقراض، بل المساقاة أولى بالجواز من القراض، لأن الغرر والخطار في القراض أكثر، لأنه قد يكون في المال ربح، وقد لا يكون فيه ربح، وجواز أحد الأمرين كجواز الآخر، ليس أحدهما أغلب من صاحبه، والنخل قد أجرى الله العادة بأن تحمل كل سنة، فلا بد أن يكون للنخل ثمرة في الغالب من الأحوال؛ وهذا بين وإنما قلنا في قياسنا هذا ولا تجوز إجارته تحرزا من أن يلزمنا عليه كراء الأرض بالجزء مما يخرج منها.(2/548)
فصل وذهب من خالفنا في جواز المساقاة إلى أن فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع يهود خيبر منسوخ بنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المخابرة، وقالوا هو مشتق من خيبر - ومعناه النهي عن العمل الذي فعل بخيبر، وذلك ليس بصحيح، لأن عقود المعاوضات لا يشتق لها الأسماء من أماكنها بخلاف قولهم أتهم وأنجد لأنا قد عرفنا من لغة العرب اسم الفاعل من نزوله بالمكان، وعقود المعاوضات بخلاف ذلك؛ ولأن العرب كانت تعرف المخابرة قبل الإسلام، وهو عندهم اسم لكراء الأرض ببعض ما يخرج منها، ولأن الصحابة قد عملوا بالمساقاة بعده، فبطل ما ادعوه بكل وجه.
فصل وعللوا أيضا حديث المساقاة بأن قالوا إن أهل خيبر كانوا عبيدا للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والمسلمين، لأن الله تعالى أفاء عليهم خيبر وأهلها، فلذلك جازت المساقاة بينه وبينهم على جزء من الثمرة، وصح أن تخرص الثمرة عليهم فيخيرهم الخارص بين أن يلتزموا نصيب المسلمين بما خرصه به، أو يلتزم هو نصيبهم على ما ورد في الحديث، وهذا ما لا يصح؛ ولنا عنه أجوبة، منها أن عبد الله بن رواحة كان يخرص عليهم، فقالوا له أكثرت علينا يا ابن رواحة، فقال إن شئتم فلكم وتضمنون نصيب المسلمين، وإن شئتم فلي وأضمن نصيبكم؛ وعلى قولهم: إن السيد لا يصح ضمانه من عبده، لأن العبد لا يملك عندهم، فماله لسيده، وبيع الثمر في رؤوس النخل بخرصها إلى الجداد، من المزابنة التي لا تجوز إلا فيما خصصته السنة من بيع العرايا في خمسة أوسق، أو فيما دون خمسة أوسق. وقوله في هذا الحديث إن شئتم فلكم وتضمنون نصيب المسلمين، وإن شئتم فلي وأضمن نصيبكم، هو والله أعلم مما نسخ بنسخ الربا، لأنه متأخر - وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان من آخر ما أنزل الله على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آية الربا، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يفسرها، فدعوا الربا والريبة. وقد قيل إن ابن رواحة إنما كان يخرص ليعرف قدر الزكاة التي كانت تلزم المسلمين، كما يخرص(2/549)
على المسلم حائطه لإحصاء الزكاة فيه، وهو مذهب مالك وجماعة من أهل العلم سواه، والآثار لا تدل على ذلك، بل تدل على خلافه وعلى أن الخرص إنما كان فيما بينهم وبين المسلمين، ليضمنوا نصيب المسلمين بما خرص عليهم. روي «عن جابر بن عبد الله قال أفاء الله خيبر على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأقرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم ثم قال: يا معشر اليهود، أنتم أبغض خلق الله إلي قتلتم أنبياء الله وكذبتم على الله؛ وليس يحملني بغضي إياكم أن أحيف عليكم، وقد خرصت عشرين ألف وسق من تمر فإن شئتم فلكم وإن شئتم فلي» - يريد والله أعلم - بعد إخراج الزكاة من الجميع، لأن المساقاة إنما تزكى على ملك صاحب الحائط، لا على ملك العامل ولا على ملكهما؛ وروي «عن عبد الله بن عمر قال فخرصها عليهم عبد الله بن رواحة، فصاحوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خرصه، فقال لهم عبد الله بن رواحة أنتم بالخيار، إن شئتم فهي لكم، وإن شئتم فهي لنا بخرصها، ونؤدي إليكم نصفها؛ فقال بهذا قامت السماوات والأرض؛» وذكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر، فيخرص بينه وبين يهود خيبر، قال: فجمعوا له حلي نسائهم، فقالوا هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة يا معشر يهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذلك بحاملي على أن أخفف عليكم؛ فأما ما عرضتم من الرشوة، فإنها سحت وإنا لا نأكلها فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض» . فقوله في هذا الحديث خفف عنا وتجاوز في(2/550)
القسم، يدل على أن الخرص إنما كان في القسمة بين المسلمين واليهود، فهو حجة لمالك فيما قاله، وتابعه عليه جميع أصحابه من جواز قسمة ثمر النخل بالقسمة بين الشركاء بالخرص، لأن اليهود كانوا. أشراكا للمسلمين في الثمر بعملهم؛ ويحتمل أن يكون هذا في طائفة من اليهود في بعض حصونهم ومواضعهم. وجاء في سائر الآثار من تضمين اليهود نصيب المسلمين بما خرص عليهم ومن تخييرهم في أخذه دون ذكر ضمان مع طوائف غيرها في مواضع سواها، لأن خيبر كانت حصونا كثيرة؛ فأما تخييرهم في أخذهم الثمر في رؤوس النخل بما خرص عليهم من الثمر، ليؤدوه عند الجداد من غير تضمين فليس بضيق، وقد أجازه جماعة من أهل العلم، وهو على قياس ما قاله مالك في الخرص بسبب الزكاة؛ وأما تخييرهم في التزامهم الثمرة في رؤوس النخل بما خرصت به عليهم من الثمر يؤدونه عند الجداد مضمونا عليهم فهو من المزابنة، ولا يكون ذلك إلا منسوخا كما ذكرنا - والله أعلم. وقد ذكر عن بعض أهل العلم إجازته وهو بعيد. وأما المساقاة فمحكمة غير منسوخة، بدليل ما ذكرناه من إقرار أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اليهود على المساقاة التي ساقاهم عليها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ ومن أجوبتنا على أن يهود خيبر لم يكونوا عبيدا للمسلمين. أن أبا بكر وعمر أقراهم على المساقاة، ثم أجلاهم عمر إلى الشام، ولو كانوا عبيدا للمسلمين، لم يكن ليتلف عليهم أموالهم، فليس أهل العنوة بعبيد إذا أقروا في مواضعهم، وضربت عليهم الجزية؛ وإنما هم أهل ذمة أحرار وقد سئل ابن القاسم عن نساء أهل الذمة الذين أخذوا عنوة مثل أهل مصر، هل يحل أن ينظر الرجل إلى شعورهن؛ قال: لا يحل أن ينظر الرجل إلى شعورهن ولا إلى شيء من عوراتهن؛ قيل له ليس هن بمنزلة الإماء؛ قال: لا بل هن أحرار، كان دية من قتل منهن خمسمائة، ومن أسلم منهن كان حرا، فهن أحرار يحرم منهن ما يحرم من الأحرار؛(2/551)
هذه رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب التجارة إلى أرض الحرب، واتقى في سماع سحنون منه تزويج بناتهم ولم يره حراما.
فصل والمساقاة مستثناة من الأصول الممنوعة لضرورة الناس إلى ذلك وحاجتهم إليه، إذ لا يمكن للناس عمل حوائطهم بأيديهم، ولا بيع الثمرة قبل بدو صلاحها للاستئجار من ثمنها على ذلك - إن لم يكن لهم مال، فلهذه العلة رخص في المساقاة.
فصل والمساقاة أصل في نفسها وعقد على حياله، فلا تنعقد إلا بلفظ المساقاة على مذهب ابن القاسم لو قال رجل لرجل أستأجرك على عمل حائطي هذا بنصف ثمرته، لم يجز على مذهبه؛ كما لا تجوز الإجارة بلفظ المساقاة، وذلك بين من قوله في الكتاب إذا ساقاه في ثمرة قد طاب بعضها أن ذلك لا يجوز وتكون إجارة؛ بخلاف قول سحنون فإنه يجيزها ويجعلها إجارة؛ ولمالك في كتاب ابن المواز مثله، وكلام ابن القاسم أصح، لأن المساقاة والإجارة أصلان، وأحكامهما مفترقة، فلا ينعقد أحدهما بلفظ الآخر.
فصل وهي من العقود اللازمة تنعقد باللفظ وتلزم به؛ بخلاف القراض الذي إنما ينعقد ويلزم بالعمل لا باللفظ؛ واختلف في المزارعة: فقيل إنها تنعقد وتلزم باللفظ، وقيل إنها لا تنعقد وتلزم إلا بالعمل، وقيل إنها تنعقد وتلزم بالشروع في العمل، وأما الشركة فإنها لا تلزم باللفظ ولا بالعمل واختلف بماذا تنعقد به فقيل إنها تنعقد باللفظ، وقيل إنها لا تنعقد إلا بالعمل والقولان قائمان من المدونة.(2/552)
فصل
ولا تجوز المساقاة إلى أجل مجهول، وإنما تجوز إلى سنين معلومة وأعوام معدودة، إلا أنها تكره فيما طال من السنين وانقضاء السنين فيها بالأجرة لا بالأهلة فلا تجوز المساقاة إلى أشهر معلومة.
فصل وليس في قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليهود خيبر: «أقركم ما أقركم الله» ، دليل على جواز المساقاة إلى أجل مجهول، لأن قوله ذلك إنما كان عدة منه لهم في أن يقرهم في المساقاة على شروطها - ما أقرهم الله أي لم يأمره الله تعالى بإجلائهم عنها، وترك معاملتهم فيها، وكان يرجو ذلك من الله، فلم يأذن له فيه إلا في مرضه الذي مات منه، فأوصى بذلك وأجلاهم عمر بعده لأنه ساقاهم مدة مجهولة أو مدى أعمارهم، وإنما قال ذلك لهم بعد عقد المساقاة معهم كما يقول الرجل للرجل إذا شاركه أو قارضه: أنت شريكي ما أحيانا الله، لا يريد بذلك ضرب مدة مجهولة، وإنما يريد إني أبقى معك على القراض. والشركة على شروطها؛ هذا تأويل الحديث عندنا - والله أعلم. وقد قيل إنه إنما قال ذلك لهم وكان يخرص عليهم، لأنهم عبيده أفاءهم الله بأرضهم عليه؛ ويجوز بين العبد وسيده من الغرر ما لا يجوز بين الأجنبيين، وقد تقدم تضعيف هذا التأويل فلا معنى لإعادة القول فيه.
فصل وتجوز المساقاة في كل أصل له ثمرة ما لم يحل بيع الثمرة - كان الأصل ثابتا أو غير ثابت، إلا أنه ما كان ثابت الأصل كالنخل والشجر والزيتون فتجوز فيه المساقاة - عجز عنها صاحبها أو لم يعجز، وما كان غير ثابت الأصل كالمقاثي والباذنجان والكمون والزرع وقصب السكر، فلا تجوز فيه المساقاة حتى يعجز عنه صاحبه؛ هذا على مذهب مالك؛ وابن نافع يجيز المساقاة في ذلك كله - عجز عنه صاحبه، أو لم يعجز؛ والشافعي لا يجيز المساقاة إلا في النخل والكرم الذي جاء(2/553)
فيه الخرص، وكان أبو عمر بن القطان يقول: المساقاة جائزة على ما في المدونة في الياسمين والورد والقطن - عجز عنه صاحبه، أو لم يعجز، خلاف المقاثي والزرع؛ وهو بعيد من التأويل، إذ لا يعضده دليل؛ وإذ لا فرق في حقيقة القياس بين القطن والزرع والمقاثي وقصب السكر في جواز المساقاة فيها من غير عجز، لأن أصولها غير ثابتة، بخلاف الياسمين والورد التي أصولها ثابتة، فلا ينبغي أن يختلف في أن المساقاة في الياسمين والورد جائزة على مذهب مالك - وإن لم يعجز صاحبها عن عملها؛ ولو قال قائل إن المساقاة في المقاثي والقطن وما كان في معناهما، جائزة. وإن لم يعجز صاحبها عن عملها، بخلاف الزرع وقصب السكر وما كان في معناهما، لكان له وجه، لأن هذه ثمار تجنى من أصولها، فأشبهت ثمار الأصول الثابتة والزرع وقصب السكر وما أشبههما لا تجنى من أصولها إلا بقطع الأصول، ففارقت ثمر الأصول؛ إلا أن هذا لم يقولوه ولا يوجد لهم، وليس في قوله في المدونة: لا بأس بمساقاة الياسمين والورد والقطن - ما يوجب استواءها في أنه لا بأس بالمساقاة فيها كلها وإن لم يعجز عنها، لاحتمال قوله: لا بأس بالمساقاة فيها كلها، إذا عجز عن عمل القطن منها.
فصل
ولا تجوز المساقاة في شيء مما ليس له أصل ثابت لأعوام ولا لعام واحد، إلا بعد أن ينبت ويستقل كالزرع سواء وقبل أن يحل بيعه.
فصل ولا تجوز في شيء من البقول، لأن بيعها يحل إذا نبتت واستقلت، وأجاز ابن دينار فيها المساقاة، ومعناه إذا نبتت قبل أن يستقل على القول بجواز المساقاة - في الزرع إذا نبت قبل أن يستقل؛ لأن البقول إذا نبتت واستقلت، جاز البيع فيها، ولا تجوز مساقاة ما يجوز بيعه؛ واختلف في الفجل والاسفنارية فجعلهما في المدونة من البقول في حكم وضع الجائحة، فعلى قوله فيهما لا تجوز المساقاة(2/554)
فيهما، لأن من أصل ابن القاسم أن كل ما وضعت الجائحة في قليله وكثيره، لم تجز المساقاة فيه، وما لم توضع الجائحة فيه إلا في الثلث، جازت فيه المساقاة؛ وروى سحنون عن ابن القاسم أن المساقاة جائزة فيهما أي في الفجل والاسفنارية، وعلته في جواز المساقاة فيهما: أن لهما حدا يجوز إليه بيعهما فيما لم يبلغا حد جواز البيع فيهما، أشبها الزرع وقصب السكر ونحو ذلك في جواز المساقاة فيها بعد نباتها واستقلالها.
فصل وتجوز المساقاة على ما اتفقا عليه من الأجزاء، وعلى أن تكون الثمرة كلها له بعمله؛ وقد قيل إن إعطاء الرجل الرجل ثمر حائطه كلها بعمله فيه منحة وعطية كإخدام العبد، لأن المخدم ينفق عليه فيفتقر إلى الحيازة، ويبطل بالموت، وهو بعيد؛ ولا يجوز أن يشترط أحدهما على صاحبه زيادة دنانير ولا دراهم ولا شيئا من الأشياء إلا ما استخف من اشتراط الشيء اليسير على العامل من العمل الذي لا يلزمه، مثل سد الحظيرة، وإصلاح الغفيرة وهي مجتمع الماء من غير أن ينشئ بناءها، لأن المساقاة عقد مستثنى من الأصول جوز للضرورة، فلا يجوز منه إلا قدر ما جوزه الشرع، والذي جوزه الشرع منه ما كان متعلقا بإصلاح الثمرة، وما زاد على ذلك كان ممنوعا بالأصل، لأنه إجارة مجهولة وبيع الثمر قبل بدو صلاحها.
فصل وعمل الحائط على وجهين:
فمنه ما يتعلق بإصلاح الثمرة.
ومنه ما لا يتعلق بإصلاحها.
فأما ما لا يتعلق بإصلاح الثمرة، فلا تجب على المساقي، ولا يصح أن يشترط عليه من ذلك إلا الشيء اليسير - كما تقدم.(2/555)
وأما ما يتعلق بإصلاح الثمرة، فإنه ينقسم على ضربين:
ضرب منه ينقطع بانقطاعها ويبقى بعدها الشيء اليسير.
وضرب منه يتأبد ويبقى أثره.
فأما ما ينقطع بانقطاع الثمرة ويبقى بعده الشيء اليسير، فهذا الذي يلزم المساقي ويجب له به العوض، وذلك مثل الحفر والسقي وزبر الكرم، وتقليم الشجر، والتسريب، وإصلاح مواضع السقي، والتذكير والجداد، وما أشبه ذلك.
وأما ما يتأبد ويبقى بعد الثمرة مثل إنشاء حفر بئر أو إنشاء ظفيرة للماء، أو إنشاء غراس، أو بناء بيت تجنى فيه الثمرة كالجرين، وما أشبه ذلك فلا يلزم العامل، ولا يجوز اشتراطه عليه عند المساقاة؛ لأنه إذا اشترط ذلك عليه، فقد وقع له حصة من الثمن، وهو لو استأجره عليه على انفراده بجزء من الثمرة لم يجز، لأنه بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فكذلك إذا اشترطه عليه في المساقاة، لأن العوض قد حصل عليه في الموضعين.
فصل فإذا وقعت المساقاة على غير الوجه الذي جوزه الشرع، فإنها تفسخ ما لم تفت بالعمل ويرد الحائط إلى ربه، واختلف إذا فاتت بالعمل ماذا يجب للعامل فيها بحق عمله على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يرد إلى إجارة مثله جملة من غير تفصيل، وهذا يأتي على قول عبد العزيز بن أبي سلمة في القراض الفاسد.
والثاني أنه يرد إلى مساقاة مثله جملة أيضا من غير تفصيل، وعليه يأتي قول أصبغ في العتبية في الذي يساقي الرجل في الحائط على أن يحمل أحدهما(2/556)
نصيبه من الثمرة لصاحبه إلى منزله - وهو بعيد، وهو على أصل ابن الماجشون وروايته عن مالك وقول أشهب في القراض الفاسد.
والثالث: أنه يرد في بعض الوجوه إلى إجارة المثل، وفي بعضها إلى مساقاة المثل - وهو مذهب ابن القاسم - وذلك استحسان ليس بقياس على نحو قوله أيضا في القراض، والأصل في ذلك عنده أن المساقاة إذا خرجا فيها عن حكمها إلى حكم الإجارة الفاسدة، أو إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بما اشترطه أحدهما على صاحبه من زيادة يزيده إياها خارجة عنها؛ فإنه يرد فيها إلى إجارة المثل إذا لم يعثر عليها حتى فاتت بالعمل، وذلك مثل أن يساقيها في حائطه على أن يزيد أحدهما صاحبه دنانير، أو دراهم، أو عرضا من العروض، وما أشبه ذلك؛ لأنه إذا ساقاه على أن يزيده صاحب الحائط دنانير أو دراهم أو عرضا من العروض، فقد استأجره على عمل حائطه بما أعطاه من الدنانير أو الدراهم أو العروض، وبجزء من ثمره، فوجب أن يرد إلى إجارة مثله، ولأنه إذا ساقاه على أن يزيده العامل دنانير أو دراهم أو عرضا من العروض فقد اشترى منه الثمرة بما أعطاه من الدنانير أو الدراهم أو العروض، وبعمله في الحائط، فوجب أن يرد إلى إجارة مثله، أيضا، وأما إذا لم يخرجا عن حكمها وإنما عقداها على غرر، مثل أن يساقيه حائطا على الثلث، وحائطا على النصف وما أشبه ذلك، أو اشترط أحدهما فيها على صاحبه من عمل الحائط ما لا يلزمه مما لا يبقى لرب الحائط منفعة مؤبدة، فإنه يرد في ذلك إلى مساقاة مثله؛ وهذه جملة تأتي عليها مسائل كثيرة، هي مبسوطة مسطورة لابن حبيب وغيره، والذي يوجد لابن القاسم أنه رده فيه إلى مساقاة المثل في أربع مسائل: اثنتان في المدونة وهي إذا ساقاه في حائط وفيه ثمر قد أطعم.
والثانية إذا شرط المساقى على المساقي أن يعمل معه، والاثنتان في(2/557)
العتبية الواحدة منهما في سماع عيسى من كتاب النكاح وهي المساقاة مع البيع في صفقة واحدة.
والثانية منها في سماع عيسى من كتاب الجوائح والمساقاة وهي إذا ساقاه في حائطه سنة على الثلث أو سنة على النصف؛ فقال إنه يرد فيهما جميعا إلى مساقاة مثله؛ وكذلك يلزم على هذا إذا ساقاه في حائطين أحدهما على الثلث، والثاني على النصف؛ وكذلك ما أشبه هذا المعنى؛ ومثله إذا ساقاه في حائط على أن يكفيه مؤونة حائط آخر. فقال إنه يكون إجارة مثله في الذي شرط عليه كفايته، ويرد في الآخر إلى مساقاة مثله.
والقول الرابع أنه يرد إلى مساقاة مثله ما لم تكن أكثر من الجزء الذي شرط عليه إن كان الشرط للمساقي أو أقل - إن كان الشرط للمساقى وكان يمضي لنا عند من أدركناه من الشيوخ أن الذي ترد فيه إلى مذهب ابن القاسم من المساقاة الفاسدة إلى مساقاة مثله. هذه الأربع مسائل المنصوص عليها وسائرها كلها يرد فيها - إلى مذهبه - إلى إجارة المثل فعلى قولهم في تأويلهم على ابن القاسم، يكون هذا قولا خامسا في المسألة، والصواب أن ما ذهب إليه ابن حبيب على الأصل الذي ذكرناه، مفسر لمذهب ابن القاسم لا خلاف له.
فصل فما يرد العامل فيه إلى أجرة مثله يفسخ ما عثر عليه قبل العمل وبعده، ويكون له فيما عمل إلى وقت العثور عليه أجرة مثله؛ وأما ما يرد فيه إلى مساقاة مثله، فإنما يفسخ ما لم يفت بالعمل، فإذا فات بالعمل لم تفسخ المساقاة إلى انقضاء أمدها وكان فيما بقي من الأعوام على مساقاة مثله، وبالله تعالى التوفيق.(2/558)
[كتاب القراض] [فصل في معرفة اشتقاق اسم القراض]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب القراض فصل في معرفة اشتقاق اسم القراض القراض مأخوذ من القرض. وأصل القرض ما يفعله الرجل ليجازى عليه من خير أو شر، بدليل قول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 11] لأن فيه دليلا على أن القرض قد يكون حسنا وغير حسن. ومن ذلك سمي السلف قرضا لأنه إنما يفعله الرجل بصاحبه ليجازيه الله به.
وسمى الله تعالى إنفاق المال في سبيله ابتغاء ما عنده قرضا حسنا لإمضائه إياه وتبتيله له لوجهه خالصا رجاء ثوابه عليه فقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] وقال: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17] فلما كان صاحب المال والعامل فيه على جزء منه منتفعين جميعا يقصد كل واحد منهما إلى منفعة صاحبه لينفعه هو اشتق له من معناه اسم وهو القراض والمقارضة، من قارض يقارض لأنها مفاعلة من اثنين كالمقاتلة والمشاتمة. هذا اسمه عند أهل الحجاز. وأما أهل العراق فلا يقولون قراضا البتة ولا عندهم كتاب القراض، وإنما يقولون مضاربة وكتاب المضاربة، أخذوا ذلك من قول الله عز وجل {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء: 101] وقوله:(3/5)
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يدفع إلى الرجل ماله على أن يخرج به إلى الشام وغيرها فيبتاع المتاع على هذا الشرط. وفي قول الصحابة لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قصة ابنيه عبد الله وعبيد الله: لو جعلته قراضا، دليل على صحة هذه التسمية في اللغة، لأن الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هم أهل اللسان وأرباب البيان، وإذا كان يحتج في اللغة بقول امرئ القيس والنابغة فالحجة بقول هؤلاء أولى وأقوى.
فصل ومما يحتج به في جواز القراض قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] وقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] الآية لأن القراض تجارة من التجارات. والقراض هو مما كان في الجاهلية فأقر في الإسلام لأن الضرورة دعت إليه لحاجة الناس إلى التصرف في أموالهم وتنميتها بالتجارة فيها، وليس كل امرئ يقدر على ذلك بنفسه، فاضطر فيه إلى استنابة غيره، ولعله لا يجد من يعمل له فيه بإجارة لما جرت عادة الناس في ذلك على القراض، فرخص فيه لهذه الضرورة، واستخرج بسبب هذه العلة من الإجارة المجهولة على نحو ما رخص في المساقاة وبيع العرية والشركة في الطعام والتولية فيه، وصار لهذا الوجه سنة، فلا خلاف في جوازه بين الأمة في الجملة وإن اختلفوا في كثير من شروطه وأحكامه، سعمل به الصحابة والسلف، واتبعهم عليه الخلف.
فصل وأول قراض كان في الإسلام قراض يعقوب مولى الحدقة مع عثمان بن عفان(3/6)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وذلك أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث من يقيم من السوق من ليس بفقيه، فأقيم يعقوب فيمن أقيم، فجاء إلى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبره فأعطاه مزود تبر قراضا على النصف، وقال له إن جاءك من يعرض لك فقل المال لعثمان، فقال ذلك فلم يقم، فجاء بمزود رأس المال ومزود ربح. ويقال إن أول قراض كان في الإسلام قراض عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب - رضي الله عن جميعهم-. وذلك أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خرجا في جيش إلى العراق، فلما مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت. ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما الربح، فقالا وددنا. ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال. فلما قدما باعا فربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر بن الخطاب قال: أكل الجيش أسلفه مثل الذي أسلفكما؟ فقالا لا. فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه. فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص المال أو هلك لضمناه. فقال عمر أدياه. فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، وقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا. فقال عمر قد جعلته قراضا. فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال.
فصل والقراض أصل في نفسه، وهو رخصة وتوسعة بين المسلمين للضرورة التي دعت إليه، فلا يعمل به إلا على ما جرى من سنته. وسنة القراض المعروف الجائز(3/7)
أن يدفع الرجل إلى الرجل المال على أن يعمل به على جزء من الربح يتفقان عليه، ولا ضمان على العامل فيه لأنه أمانة بيده إلا أن يتعدى فيه أو يخالف إلى شيء مما نهي عنه. ولا نفقة له في المال ولا كسوة إلا أن يسافر به سفرا بعيدا والمال كثير فله فيه النفقة والكسوة. وإن كان السفر بعيدا والمال قليلا فلا نفقة له ولا كسوة. وإن كان السفر قريبا والمال كثيرا فله فيه النفقة دون الكسوة. وإن كان السفر قريبا والمال قليلا فله النفقة دون الكسوة على ما في سماع عيسى عن ابن القاسم، وظاهر ما في الواضحة أنه لا نفقة له ولا كسوة.
فصل ولا ربح للعامل في المال حتى ينض إلى رب المال رأس ماله. وحكم الزكاة على مذهب ابن القاسم أن يخرج من جملة المال عند المفاصلة إذا كان في رأس مال رب المال وربحه ما تجب فيه الزكاة وعمل بالمال حولا كاملا. وفي هذا الكتاب دليل على وجوب الزكاة في جملة المال وإن لم يعمل به حولا كاملا إذا كان في رأس مال رب المال وربحه ما تجب فيه الزكاة. وذهب سحنون إلى أن الزكاة تخرج من جملة المال إذا كان فيه ما تجب فيه الزكاة وإن لم يعمل العامل به حولا ورأى الربح مزكى على أصل المال، وهو ظاهر قول ابن القاسم في سماع أصبغ عنه في العتبية. - ولا يجوز اشتراط زكاة رأس المال على العامل، ويجوز أن يشترطها العامل على رب المال لأنها واجبة عليه. واختلف إن اشترط أحد المتقارضين زكاة ربح المال على صاحبه على أربعة أقوال:
أحدها: أن ذلك جائز لكل واحد منهما على صاحبه، وهو قول ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك، لأنه يرجع إلى جزء مسمى. فإن اشترطت الزكاة على العامل صار عمله على أربعة أعشار الربح وثلاثة أرباع عشره. وإن اشترطت الزكاة على رب المال صار عمله على نصف الربح كاملا.
والثاني: أن ذلك لا يجوز لواحد منهما على صاحبه وهو قول مالك في أصل الأسدية.(3/8)
والثالث: أنه يجوز لرب المال أن يشترط ذلك على العامل ولا يجوز للعامل أن يشترطه على رب المال، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه في الجوائح والمساقاة من العتبية في زكاة تمر الحائط المساقى، إذ لا فرق بين اشتراط زكاة تمر الحائط المساقى وبين زكاة ربح مال القراض.
والرابع: عكس ذلك أنه يجوز أن يشترط ذلك العامل على رب المال ولا يجوز أن يشترطه رب المال على العامل.
وهذا القول ليس بمنصوص عليه إلا أنه يتخرج على قياس بأن الجزء المشترط في الزكاة يدفع إن لم يكن في المال ما تجب فيه الزكاة للمشترط عليه، لأنه يقول لمشترطه عليه إنما اشترطته على الزكاة فإذا لم تكن في المال زكاة فرده علي، لأن الغرر على هذا القول إنما يكون في اشتراط رب المال الزكاة على العامل لا في اشتراط العامل إياها على رب المال، لأن العامل إذا اشترطت عليه الزكاة يصير له إن لم يكن في المال زكاة نصف الربح، لأن الجزء المشترط عليه في الزكاة من نصيبه إليه، وإن كان في المال زكاة يصير له أربعة أعشار الربح وثلاثة أرباع عشره، لأن ربع العشر قد اشترط عليه فأخرج فيه الزكاة فلا يدري ما يعمل. وإن اشترطت على رب المال يصير للعامل نصف الربح، في المال ما تجب فيه الزكاة أو لم يكن، لأن الجزء الذي اشترطه من نصيب رب المال ليؤديه في الزكاة إن لم يكن في المال زكاة يرجع إلى رب المال المشترط عليه.
والقول الثالث الذي رواه أشهب عن مالك من أنه يجوز أن يشترط رب المال زكاة الربح على العامل ولا يجوز أن يشترط ذلك العامل على رب المال يتخرج على قياس القول بأن الجزء المشترط في الزكاة يكون إن لم يكن في المال زكاة لمشترطه لا يرجع إلى المشترط عليه، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، لأن العامل إذا اشترطت عليه الزكاة على هذا القول لا يصير له من الربح إلا أربعة أعشاره وثلاثة أرباع عشره وجبت في المال الزكاة أو لم تجب، لأن الجزء الذي اشترط عليه في الزكاة إن لم تجب في المال زكاة يأخذه رب المال، ولا يعتبر(3/9)
بالغرر الذي يكون في جهة رب المال، إذ قد يحصل خمسة أعشار الربح وربع عشره إن لم تجب في المال زكاة، وخمسة أعشاره وهو النصف إن أخذ منه ربع العشر الذي اشترطه في الزكاة لأن الربح إنما يزكى على ملكه فلا يعتبر بما يؤخذ من حظه منه في الزكاة.
والقول الثاني الذي في أصل الأسدية من أنه لا يجوز لأحدهما أن يشترط زكاة الربح على صاحبه يتخرج على قياس القول بأن الجزء المشترط في الزكاة إن لم تجب في المال زكاة يكون بينهما، لأنهما يتداعيانه فيقسم بينهما، لأن العامل إن كان هو المشترط عليه الزكاة يصير له من الربح إن كان في المال زكاة أربعة أعشاره وثلاثة أرباع عشره، وإن لم يكن فيه زكاة يصير له منه أربعة أعشاره وسبعة أثمان عشره. وإن كان رب المال هو المشترط عليه الزكاة يصير له نصف الربح إن كان في المال زكاة، وخمسة أعشاره وثمن عشره إن لم يكن في المال زكاة، فلا يدري العامل إن كان يصير له نصف الربح أو خمسة أعشاره وثمن عشره.
ويتخرج هذا القول الذي في الأسدية أيضا على قياس القول بأن الجزء المشترط في الزكاة إن لم تجب في المال زكاة يلغى ويقتسمان الربح على ما بقي من الأجزاء، لأن العامل إن كان المشترط عليه الزكاة يصير له من الربح إن كان في المال زكاة أربعة أعشاره وثلاثة أرباع عشره، وإن لم يكن فيه زكاة تصير له منه ستة أجزاء من ثلاثة عشر وثلث جزء. وإن كان رب المال هو المشترط عليه الزكاة يصير له نصف الربح إن كان في المال زكاة، وستة أجزاء من ثلاثة عشر وثلثا جزء إن لم يكن في المال زكاة. فلا يدري العامل إن كان يصير له من الربح نصفه أو ستة أجزاء من ثلاثة عشر وثلثا جزئه. والقول الأول الذي في المدونة من أنه يجوز لكل واحد منهما أن يشترط زكاة الربح على صاحبه في حظه وجهه ما ذكره في المدونة من أن ذلك يرجع إلى جزء معلوم يعمل عليه العامل، وذلك نصف الربح إن كان هو مشترط الزكاة على رب العامل في حظه، وأربعة أعشاره وثلاثة أرباع عشره إن كان رب المال هو مشترط الزكاة عليه في حظه. وما في الأسدية من أنه لا يجوز لأحدهما اشتراط زكاة الربح على صاحبه أظهر، لأن المال الذي قارضه به إن كان أقل من النصاب لا يدري إن كان يبلغ بربحه النصاب فتجب فيه الزكاة، أو لا يبلغ بربحه(3/10)
فلا تجب فيه الزكاة. وإن كان مال القراض الذي دفع إليه النصاب فأكثر لا يدري إن كان ينض المال قبل الحول فلا تجب فيه الزكاة أو لا ينض حتى يحول عليه الحول فتجب فيه الزكاة، فالغرر في ذلك بين. ووجه ما في المدونة أنه حمل الأمر في ذلك على الأغلب من أن المال لا ينض قبل الحول وأنه وإن كان دفعه إليه وهو أقل من نصاب يبلغ بالربح فيه النصاب. وقد تكلمنا على حكم اشتراط أحد المساقين على صاحبه زكاة تمر حائط المساقاة في كتاب البيان والتحصيل من كتاب الجوائح والمساقاة في سماع أشهب منه وبالله التوفيق.
فصل وما يشترط أحد المتقارضين على صاحبه من الشروط ينقسم على قسمين: أحدهما: لا يفسد القراض ولا يخرجه عن سنته.
والثاني: يفسده ويخرجه عن سنته.
فأما ما لا يفسده ولا يخرجه عن سنته فإنه ينقسم على قسمين:
أحدهما: يجوز ابتداء ولا كراهية فيه، مثل أن يشترط عليه ألا يشتري به حيوانا ولا يحمله في بحر ولا يخرج به عن بلده وما أشبه ذلك.
والثاني: يكره اشتراطه ابتداء فإذا وقعت مضت، مثل أن تنزل الرفقة بالمكان معها التجارة فيعطي الرجل الرجل المال قراضا على أن يشتري منهم ثم يبيع وما أشبه ذلك. وليس لشيء من هذه الشروط حد ولا تنحصر إلى عدد. ومسائل الكتاب تأتي على أكثرها كل في موضعه إن شاء الله تعالى.
فصل وأما ما يفسده ويخرجه عن سنته فإنه يجب فسخه ورد المال إلى صاحبه ما لم يفت بالعمل. واختلف إذا فات بالعمل ما يكون للعامل فيه بحق عمله على أربعة أقوال:(3/11)
أحدها: أنه يرد إلى قراض مثله جملة من غير تفصيل، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك وقول أشهب أيضا.
والثاني: أنه يرد إلى إجارة مثله أيضا جملة من غير تفصيل، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة.
والثالث: أنه يرد إلى قراض المثل ما لم يكن أكثر من الجزء الذي سمي له من الربح فلا يزاد عليه، وإنما يكون له الأقل من قراض مثله أو من الجزء الذي سمي له إن كان رب المال هو مشترط الشرط على المقارضة أو أقل من الجزء الذي سمي له من الربح فلا ينقص منه، وإنما يكون له الأكثر من قراض مثله أو من الجزء الذي سمي له إن كان المقارض هو مشترط الشرط على رب المال. وهذا القول يأتي على ما حكاه ابن المواز عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القراض بالضمان أن له الأقل من قراض مثله أو ما سمي له من الربح.
والرابع: أنه يرد إلى قراض مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على صاحبه داخلة في المال ليست بخارجة منه ولا منفصلة عنه ولا خالصة لمشترطها، وإلى إجارة مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على صاحبه خارجة عن المال وخالصة لمشترطها، وفي كل غرر وحرام تعاملا عليه خرجا به عن سنة القراض الجائز. وهذا هو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك وقول مطرف وابن نافع وابن عبد الحكم وأصبغ، وإياه اختار ابن حبيب وكان يمضي لنا عند الشيخ أبي جعفر بن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الذي يأتي على مذهب ابن القاسم في المدونة أن العامل يرد في القراض الفاسد كله إلى إجارة مثله حاشى سبع مسائل: وهي القراض بالعروض، والقراض بالضمان، والقراض إلى أجل. والقراض المبهم. وإذا قال له اعمل على أن لك في المال شركا. وإذا اختلف المتقارضان وأتيا بما لا يشبه فحلفا على دعواهما، وإذا دفع إليه المال على أن لا يشتري به إلا بالدين فاشترى بالنقد أو على ألا يشتري إلا سلعة كذا وكذا والسلعة غير موجودة فاشترى غير ما أمره به. فهذا قول خامس في المسألة على هذا التأويل. والصحيح(3/12)
أن يحمل ما في المدونة على التفصيل الذي حكى ابن حبيب عن ابن القاسم من قوله وروايته عن مالك واختاره واستحسنه.
فصل
وهذا التفصيل ليس بقياس وإنما هو استحسان. والذي يوجبه النظر والقياس أن يرد القراض الفاسد كله إلى قراض المثل وإلى أجرة المثل جملة من غير تفضيل. وأما تأويل ما في المدونة على ما حكيناه عن الشيخ أبي جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا حظ له في النظر والقياس ولا وجه له في الاستحسان، إذ الاستحسان في الأحكام إنما يكون على مذهب من أجازه وأخذ به لمعان تختص بالفروع فيعدل من أجلها عن إلحاقها بالأصول، وذلك معدوم في مسألتنا.
فصل فوجه قول من قال إن القراض الفاسد يرد العامل فيه كله إلى إجارة المثل جملة من غير تفصيل أن القراض إجارة بغرر، لأن العامل يعمل في المال على جزء مما يربح فيه إن كان فيه ربح، إلا أنه استثني من الأصول للضرورة، فإنما يجوز إذا وقع على وجهه وسنته. فإذا وقع على خلاف ذلك فليس بقراض وإن سمياه قراضا، وإنما هو إجارة فاسدة فيرد فيها إلى إجارة مثله، وإنما يكون قراضا إذا عملا على سنة القراض. ألا ترى أنه لو قارضه على أن يعمل له بالمال إلى أجل كذا وكذا في كذا وكذا وله كذا وكذا لكانت إجارة ولم يكن قراضا، فلا معنى للاعتبار بذكر القراض إلا إذا عمل به على سنته. وأيضا فإن القراض عقد صحيح يوجب عوضا مسمى للعامل بالعمل، فإذا كان فاسدا وجب له أجر المثل في عمله لفواته. أصله إذا استأجره إجارة فاسدة ففاتت بالعمل أو باعه بيعا فاسدا ففاتت السلعة المبيعة.
فصل ووجه قول من قال إنه يرد إلى قراض مثله جملة من غير تفصيل أن القراض(3/13)
أصل في نفسه وعقد منفرد على حياله، والأصول موضوعة على أن كل عمد فاسد أو على شبهة مردود إلى صحيحه لا إلى صحيح غيره من العقود كالنكاح والبيوع والإجارة. فكما يرد فاسد البيع وغيره من العقود إلى صحيحها لا إلى صحيح غيرها فكذلك يجب أن يرد فاسد القراض إلى صحيحه.
فصل وكذلك الجعل الفاسد والمساقاة الفاسدة يجريان على هذا الاختلاف فيردان إلى حكم أنفسهما في قول، وإلى حكم غيرهما في قول دون تفصيل. وقد قيل فيهما على تفصيل على ما قد ذكرناه في مواضعه وذلك على ما تقدم من الاستحسان في الأحكام.
فصل وإذا رد المقارض إلى أجرة مثله فالمشهور في المذهب أن الإجارة متعلقة بذمة رب المال لا بربح المال. وذهب ابن حبيب إلى أنها متعلقة بربح المال، فإذا لم يكن في المال ربح لم تكن له إجارة وهو بعيد.
فصل فإذا قلنا إنها متعلقة بذمة رب المال فهل يكون أحق بربح المال من الغرماء ففي ذلك اختلاف. قال في كتاب ابن المواز: لا يكون أولى من الغرماء، وهو ظاهر ما في المدونة، وقد تأول ما في المدونة على أنه دفع المال وأخرج من يده، ولذلك جعله إسوة الغرماء. هذا على اختلافهم في الرهن هل تفتقر صحته إلى التصريح به أم لا، فتفتقر إليه على مذهب ابن القاسم في المدونة، وذلك بين من قوله في كتاب الرهون منها إن المرتهن لا يكون أحق بالرهن من الغرماء بما أنفق عليه وإن قال له الراهن أنفق على أن نفقتك في الرهن حتى يقول(3/14)
له أنفق على أن نفقتك في الرهن نصا أيضا خلاف مذهب أشهب.
وأما قراض المثل فإنه يتعلق بربح المال، هذا هو المحفوظ المعلوم. وقد حكى عبد الوهاب في شرح الرسالة عن القاضي أبي الحسن أنه قال: يحتمل عندي على قول مالك أن يكون له ما يساوي قراض مثله وإن كان في المال وضيعة أيضا. قال عبد الوهاب فالفرق على هذا بين قراض المثل وإجارة المثل أن إجارة المثل متعلقة بالإطلاق، وقراض المثل متعلق بالشرط الذي شرطاه. وتفسير ذلك أن يقال في الإجارة لو استأجر رب المال من عمل له هذا العمل كم تكون إجارته؟ فيكون ذلك للعامل. ويقال في القراض إذا كان العامل قد رضي بجزء كذا على هذا الشرط الفاسد فكم ينبغي أن يكون له؟ فما قيل من شيء فهو قراض المثل على تأويل القاضي أبي الحسن راجع إلى إجارة المثل. وإنما يختلف ذلك على تأويله في صفة التقويم وهو بعيد جدا.
فصل والقراض الفاسد يفسخ قبل العمل وبعده، كان مما يرد فيه العامل إلى أجرة مثله أو إلى قراض مثله، خلاف المساقاة، لأن المساقاة التي يرد فيها مساقاة مثله لا تفسخ بعد العمل. هذا قول ابن حبيب في الواضحة، ومثله في كتاب ابن المواز. فأما الفسخ فيما يرد فيه إلى إجارة مثله إذا عثر عليه بعد العمل فبين ترد إلى رب المال السلع التي توجد بيد المقارض ويكون له أجر مثله في شرائها. وأما الفسخ فيما يرد فيه إلى قراض مثله فلا يكون برد العروض إلى صاحب المال وإنما معناه أنه لا يتمادى على العمل إذا نض المال بيده على ذلك القراض الفاسد. وحكى عبد الحق عن بعض شيوخ صقلية أن القراض الذي يرد فيه إلى قراض مثله لا يفسخ بعد العمل كالمساقاة، يريد أنه إذا عثر عليه وقد شغل المال في السلع لا يردها سلعا ولا يجبر على بيعها إلا على ما يرجو من أسواقها التي ابتاعها عليها،(3/15)
ولم يرد أنه يتمادى على العمل بعد نضوض المال، هذا ما لا يصح أن يتأول عليه. فليس قوله على هذا التأويل بخلاف لما في الواضحة وكتاب ابن المواز. وأما المساقاة التي يرد فيها إلى مساقاة مثله إذا لم يعثر عليها إلا بعد العمل فلا تفسخ إلى انقضاء أجلها وتمام مدتها، كان ذلك عاما أو أعواما، فإنما فارق القول في هذا من المساقاة لأن المساقاة لها أجل والقراض لا أجل له، بيد أنه إذا شرع في العمل لزمهما القراض إلى أن ينض المال. فنضوض المال أجل القراض إذا شرع فيه، فيستوي قراض المثل ومساقاة المثل في ألا يفسخ واحد منهما إذا لم يعثر عليه حتى يقضي أمده. فمن ساوى بينهما فهذا تأويله، ومن فرق بينهما فلافتراقهما في المدة والأجل. فهذا شرح هذه المسألة وبالله التوفيق.
فصل والقراض جائز بالدنانير والدراهم لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك، لأنهما أصول الأثمان والمثمونات، وبهما يقوم ما عداهما من العروض وسائر المتلفات، وكذلك النقار والأتبار، أعني تبر الذهب والفضة في البلد الذي يجري فيه ذلك ولا يتعامل عندهم بالمسكوك.
فصل ولا يجوز القراض بشيء من العروض المعينات ولا بشيء من المكيلات والموزونات عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، ولا عند أحد من فقهاء الأمصار، لأن القراض في الأصل غرر لأنه إجارة مجهولة إذ لا يدري العامل كم يربح في المال ولا إن كان يربح أم لا. إلا أن الشرع جوزه للاضطرار إليه
وحاجة
الناس إلى التعامل عليه، فيجب ألا يجوز منه إلا مقدار ما جوزه الشرع، وأن يكون ما عداه ممنوعا بالأصل. وأيضا فإن القراض بالعروض لا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يجعلا رأس مال القراض العرض بعينه، أو ثمنه الذي يبيعه به، أو قيمته يوم العقد، أو قيمته يوم التفاضل. لأن معرفة رأس المال ومقداره لا بد منه في القراض ليعرف العامل على ما يعمل. فإن كان نفس العرض هو رأس المال فذلك غرر لأنه(3/16)
قد يأخذ السلعة وقيمتها ألف دينار ويردها وقيمتها مائة دينار فيذهب العامل ببعض رأس المال، أو يأخذها وقيمتها مائة دينار فيردها وهي تساوي ألف دينار فيذهب رب المال بأجرة العامل. وإن كان الثمن الذي يبيعه به هو رأس المال فقد اشترط رب المال منفعة لنفسه على العامل فيما تحمل عنه من مؤونة بيعها وما يكفيه من ذلك. وإن كان قيمتها يوم يدفعها إليه هو رأس المال كان رب المال قد باع منه العرض بما قوماه به على أنه إن باعه بأقل من ذلك جبره من ربحه، وإن كان باعه بأكثر من ذلك كان له نصف الفضل، فذلك المز من الغرر البين والمزابنة، كمن دفع إلى رجل ثوبا ليبيعه بعشرة دنانير على أن عليه ما نقص وله بعض ما زاد. وإن كان رأس المال قيمتها يوم التفاضل فذلك أيضا غرر بين، لأن قيمته يوم التفاضل مجهولة فيكون العامل يعمل على رأس مال مجهول، قد يكثر فيغترق ربحه أو يقل فيذهب ببعض رأس مال رب المال، فصارت جميع وجوه هذه المسألة إلى غرر وفساد. غير أن الحكم فيها يختلف إذا نزلت على مذهب ابن القاسم. فأما إذا جعلا رأس المال الثمن الذي يبيعه به فإنه تكون له إجارة مثله في بيعه العرض، ثم يرد إلى قراض مثله في الثمن إذا لم يعثر عليه إلا بعد العمل، وهو في سائر الوجوه أجير له إجارة مثله. وذكر ابن وهب في موطئه قول عبد العزيز بن أبي سلمة الواقع في المدونة إذا قارضه بعرض وقوماه بقيمته إنه أجير، فقال ابن وهب: أباه مالك. فعلى ما تأول ابن وهب على مالك أن القراض كيفما وقع له إجارة مثله في بيعه العرض ثم يرد إلى قرض مثله بعد ذلك، وهذا إذا باع العرض بعين. وأما إذا باعه بعرض فلا يصح أن يدخل فيه اختلاف ويرد إلى إجارة مثله قولا واحدا. والأول أبين أن يرد إلى إجارة مثله باع بعين أو بعرض. فإن لم يبينا في القراض بالعروض ما جعلا رأس المال ولم يزد معطى العروض قراضا على أن قال خذ هذا العرض فاعمل به قراضا فذلك بمنزلة أن لو قال له: بعه واعمل به قراضا، قاله ابن المواز. فأجير وكره. روى أشهب عن مالك إجازته، وروى ابن القاسم عنه كراهيته. فإن وقع لم يفسخ، عمل أو لم يعمل، قاله ابن القاسم، إلا أن يكون قال صرفها أو استضربها واعمل بها(3/17)
فيكون له أجر مثله في تصريفها أو استضرابها ويرد إلى قراض مثله فيما خرج منها كالقراض بالعروض سواء.
فصل ووجه إجازة القراض بتبر الذهب والفضة ألا تباع، ولذلك نزع مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية أشهب عنه فقال قد قارض الناس قبل أن تضرب الدنانير والدراهم، ولأن السكة لا تأثير لها في الجواز، ولا في المنع، بدليل أن كل حكم تعلق على الذهب والفضة إذا كانا مسكوكين يتعلق بهما إذا كانا تبرين من منع التفاضل في الصنف الواحد والنسيئة في الصنفين. ووجه المنع من القراض بهما تشبيههما بالعروض في أن الناس لا يتبايعون بهما أو يتصرفون فيهما إلا بعد علاج وصنعة، فذلك بمنزلة بيع العروض. وقال ابن شعبان في الزاهي إنما لا يجوز ذلك لأنهما لا تضبط كيفية ذهبهما، وهذا أظهر في القياس. وعلى هذا التعليل يكون القراض بتبر الذهب والفضة مكروها أيضا بالبلد الذي يدار فيه التبر، أو لا يدار.
فصل وكذلك اختلف في القراض بالفلوس فأجيز وكره. فمن أجاز ذلك شبهها بالعين لإمكان التصريف بها، ومن منع منه شبهها بالعروض. وينبغي أن يفرق في جواز القراض بها بين القليل والكثير على ما وقع لابن القاسم في السلم الثاني من المدونة في الذي يأمر الرجل أن يبيع سلعته فيبيعها بالفلوس. فيأتي على هذا في القراض بالفلوس ثلاثة أقوال.. الإجازة، والكراهة جملة من غير تفصيل، والتفصيل بين القليل والكثير وهو ظاهر في المعنى.
فصل ولا ينبغي للرجل أن يقارض إلا من يعرف الحلال من الحرام، ولا يجوز له(3/18)
أن يقارض من يستحل الحرام ويعمل بالربى من المسلمين. وكذلك الكافر لا يجوز للرجل أن يعطيه مالا قراضا، وكذلك عبده الكافر لا يجوز له أن يعطيه مالا قراضا ولا أن يأتمنه على البيع والشراء لقول الله عز وجل: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] وقد وقع في سماع عبد الملك بن الحسن عن ابن وهب أنه لا بأس بمقارضة المسلم للنصراني وهو بعيد. وأما أخذ المسلم من النصراني مالا قراضا فمكروه لأنه من باب إجارة المسلم نفسه من النصراني.
فصل والقراض من العقود الجائزة لا يلزم بالعقد واحدا منهما، وإنما يلزم بالشروع في العمل أو شغل المال، فإذا شرع في العمل وشغل المال لم يكن لرب المال أخذه حتى ينض، ولا للعامل صرفه دون ذلك، وبالله التوفيق.
[تحصيل القول في باب شراء العامل من يعتق عليه أو على رب المال]
هذا الباب والذي بعده يشتمل على أربع مسائل:
إحداها: شراء العامل من يعتق عليه.
والثانية: شراء من يعتق على رب المال.
والثالثة: عتق العامل عبدا أو جارية من مال القراض.
والرابعة: إذا وطئ المقارض جارية من مال القراض فحملت.
فصل فأما إذا اشترى العامل من يعتق عليه فإن ذلك لا يخلو من وجهين:
أحدهما: أن يكون عالما.(3/19)
والثاني: أن يكون غير عالم.
فأما الوجه الأول وهو أن يكون عالما فلا يخلو من وجهين.
أحدهما: أن يكون موسرا.
والثاني: أن يكون معسرا.
فإن كان موسرا فلا يخلوا من وجهين:
أحدهما: أن يكون فيه ربح.
والثاني: ألا يكون فيه ربح. وكذلك إن كان معسرا لا يخلو أيضا من وجهين:
أحدهما: أن يكون فيه ربح.
والثاني: ألا يكون فيه ربح.
وأما الوجه الثاني وهو أن يكون غير عالم فلا يخلو أيضا من أن يكون موسرا أو معسرا، فإن كان موسرا فلا يخلو من أن يكون فيه ربح أو لا يكون فيه ربح، فتنتهي المسألة على هذا إلى ثمانية أوجه: أربعة في العالم، وأربعة في غير العالم لا زيادة فيها.
فصل فأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو عالم موسر وفيه ربح فإنه يعتق عليه ويؤدي إلى رب المال رأس ماله وحصته من الربح يوم الحكم إلا أن يكون ثمنه الذي اشتراه به أكثر من قيمته يوم الحكم فيؤدي إلى رب المال رأس ماله وحصته من الربح من الثمن الذي اشتراه به، لأنه لما اشتراه به وهو عالم أنه يعتق عليه فقد رضي أن يؤدي إلى رب المال ما يجب له من الثمن الذي اشتراه به في رأس ماله وحصته من الربح فيكون لرب المال أخذه بالأكثر. وقال المغيرة: يعتق عليه قدر حظه منه ويقوم عليه حظ رب المال يوم الحكم خلاف قول ابن القاسم أنه يكون عليه الأكثر.(3/20)
فصل وأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو عالم موسر ولا ربح فيه فإنه يعتق عليه ويؤدي إلى رب المال الأكثر من قيمته يوم الحكم أو من الثمن الذي اشتراه به، لأنه لما اشتراه وهو عالم بأنه يعتق عليه فقد رضي أن يؤدي إليه الثمن- الذي اشتراه به. وقال المغيرة: لا يعتق عليه منه شيء إذا لم يكن فيه فضل ويباع فيدفع ثمنه إلى رب المال. وهو على قياس قول غير ابن القاسم الواقع في الباب الثاني إنه إذا اشترى عبدا بالمال القراض وأعتقه ولا فضل فيه إنه لا يعتق عليه، إذ لا فرق بين أن يشتري بالمال القراض من يعتق عليه وهو عالم أو يشتري به عبدا فيعتقه في أنه متعد على رب المال في ماله في الوجهين جميعا، ووجه قوله أن عداءه في مال غيره لا يلزمه في ماله ما لم يلتزمه.
فصل وأما إذا اشترى أبا نفسه أو من يعتق عليه وهو عالم معسر وفيه ربح فقال في الكتاب إنه يباع منه بقدر رأس المال وربح رب المال، يريد يوم الحكم، فيدفع إلى رب المال ويعتق ما بقي إذا كان الثمن الذي اشتراه به مثل قيمته يوم الحكم أو أقل. وأما إن كان الثمن الذي اشتراه به أكثر من قيمته يوم الحكم فيتبعه بما يجب له من الزائد في ذمته. مثال ذلك أن يشتريه بمائتين، ورأس المال من ذلك مائة، وقيمته يوم الحكم مائة وخمسون، فيباع منه لرب المال برأس ماله وحصته من الربح يوم الحكم وذلك مائة وخمسة وعشرون، ويعتق الباقي، ويتبعه في ذمته بخمسة وعشرين، لأن الواجب له من المائتين التي اشتراه بها مائة وخمسون، بيع له منها بمائة وخمسة وعشرين وبقيت له خمسة وعشرون يتبعه بها. وإن أراد رب المال أن يأخذ من العبد قدر رأس المال وحصته من الربح يوم الحكم على ما يساوي جملته كان ذلك له لأنه أوفر لنصيب العامل الذي يعتق منه، لأنه إذا بيع منه لرب المال برأس ماله وربحه كان ذلك أوكس لثمنه لضرر الشركة. وإن أراد(3/21)
رب المال أن يأخذ من العبد برأس ماله وحصته من الربح ما كان يباع له منه لو بيع لم يكن ذلك له على ما في سماع أصبغ عن ابن القاسم من كتاب الوصايا. وإن أراد أن يتبعه برأس ماله وحصته من الربح دينا في ذمته ويعتق عليه كان ذلك له على قياس قوله.
فصل وأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو عالم معسر ولا ربح فيه فلا يعتق عليه ويتبع بقيمته دينا في ذمته، إلا أن يشاء ذلك رب المال ويرضى به، ولكن يباع ويسلم الثمن إلى رب المال، إلا أن يكون ثمنه الذي اشتراه به أكثر فيكون لرب المال أن يتبع العامل في ذمته بالزائد لأنه قد رضي بذلك حين اشتراه وهو يعلم.
فصل وأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو غير عالم موسر وفيه ربح فإنه يعتق عليه نصيبه ويقوم عليه سائره يوم الحكم، كحكم العبد بين الشريكين يعتق أحدهما نصيبه منه وهو موسر. وهذا معنى قوله في الكتاب إنه يعتق عليه ويرد إلى رب المال رأس ماله وربحه. ولا اختلاف في هذا بين ابن القاسم والمغيرة، وإنما اختلفا إذا علم، فابن القاسم يراعي علمه ويوجب عليه الأكثر، والمغيرة لا يراعيه فلا يوجب عليه لرب المال إلا رأس ماله وحصته من الربح يوم الحكم على ما تقدم.
فصل وأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو غير عالم موسر ولا ربح فيه فإنه يباع ويدفع إلى رب المال ماله.
فصل وكذلك إن كان معسرا، إذ لا فرق في هذا الوجه بين الموسر والمعسر.(3/22)
فصل وأما إن كان غير عالم معسرا وفيه فضل فإنه يباع منه بقدر رأس المال وربح رب المال يوم الحكم ويعتق الباقي. وإن أراد رب المال أن يأخذ منه قدر رأس ماله وحصته من الربح على ما يساوي جملة كان ذلك له لأنه أوفر للعتق، وليس له أن يأخذ منه ما كان يباع له منه برأس ماله وحصته من الربح على قياس ما في سماع أصبغ عن ابن القاسم من كتاب الوصايا حسبما تقدم إذا كان عالما. وبالله التوفيق.
فصل وتلخيص هذه المسائل الثمان أنه إن كان غير عالم ولا فضل فيه عن رأس المال فسواء كان موسرا أو معسرا يباع ويسلم ثمنه إلى رب المال. وإن كان غير عالم وفيه فضل عن رأس المال كان كالعبد بين الشريكين يعتق أحدهما حظه منه وهو موسره أو معسره. إن كان موسرا أعتق عليه حظه وقوم عليه حظ رب المال، وإن كان معسرا أعتق عليه حظه منه وبقي حظ صاحب المال منه رقيقا له إلا أن لا يريد ذلك ويطلب ماله فيباع له منه برأس ماله وربحه ما بيع ويعتق الباقي. وإن كان عالما موسرا أعتق عليه وأدى إلى رب المال الأكثر من رأس ماله، وحصته من الربح يوم الحكم أو يوم الشراء إن كان فيه فضل وإن كان عالما معسرا بيع منه لرب المال برأس ماله وربحه وأعتق الباقي إن كان فيه فضل. وإن لم يكن فيه فضل أسلم لرب المال أو بيع وأسلم إليه ثمنه. والمغيرة لا يراعي علم العامل فيقول: إذا علم ما يقول ابن القاسم إذا لم يعلم في جميع الوجوه حسبما ذكرناه على مذهبه، وبالله التوفيق.
فصل وأما المسألة الثانية وهي شراء العامل من يعتق على رب المال فإنها تنقسم أيضا على الوجوه التي قسمنا عليها شراء من يعتق عليه.(3/23)
فصل فأما إذا اشترى من يعتق على رب المال وهو عالم موسر وفيه ربح يوم الشراء فإنه يعتق ويؤخذ منه لرب المال رأس ماله وحصته من الربح إن كان فيه ربح يوم الشراء. وإن لم يكن فيه ربح يوم الشراء لم يؤخذ منه إلا الثمن الذي اشتراه به وإن كانت قيمته أكثر مما اشتراه به لأنه لا يصح له فيه ربح لأنه يعتق عليه.
فصل وإن كان معسرا وفيه ربح يوم الشراء بيع منه لرب المال برأس ماله وحصته من الربح، وعتق الفضل إن فضل منه شيء وإن لم يساو إلا أقل من رأس المال وحصة رب المال من الربح بيع جميعه لرب المال واتبع العامل بما نقض من رأس ماله وحصته من الربح.
فصل وأما إذا ابتاعه وهو لا يعلم فإنه يعتق على رب المال، فإن كان للعامل فيه ربح يوم الشراء قوم على رب المال نصيب العامل منه إن كان له مال كهبته العبد بين الشريكين. فإن لم يكن مال بقي حظ العامل فيه رقيقا. وسواء في هذا الوجه كان العامل مليا أو معدما.
فصل في بيان وجوه ألفاظ الكتاب في هذا الوجه
قوله فيه إذا اشترى العامل أبا رب المال أو ابنه وهو لا يعلم عتقوا على رب المال، يريد يوم الشراء. وقوله وإن كان فيهم ربح دفع إلى العامل من مال صاحب المال بقدر نصيبه من الربح على ما قارضه، يريد أنه كان في المال ربح يوم الشراء، مثل أن يكون رأس مال القراض مائة فيربح فيها مائة أخرى ثم يشتريهم(3/24)
بالمائتين فيصيب العامل منهم على هذا التنزيل الربع فيغرم رب المال للعامل قيمة ربع العبد يوم الحكم إن كان له مال ويعتق كله عليه، وإن لم يكن له مال بقي ربعه رقيقا للعامل بمنزلة العبد بين الشريكين يعتق أحدهما نصيبه. هذا معنى قوله في الكتاب وإرادته.
فصل وأما إذا اشتراهم وهو عالم فقال في الكتاب إنهم يعتقون على العامل إن كان له مال ويؤخذ منه ثمنهم، يريد الثمن الذي اشتراهم به وإن كانت قيمتهم أكثر مما اشتراهم به، لأنه لا يجوز لرب المال أن يربح فيمن يعتق عليه، بخلاف إذا اشترى العامل من يعتق عليه وهو عالم وقيمته أكثر مما ابتاعه به فإنه يغرم هاهنا رأس المال وحصته من الربح، لأن الربح فيمن لا يعتق عليه. وهذا في الذي يشتري أبا رب المال وهو عالم إن لم يكن في المال ربح. وأما إن كان في المال ربح قبل الشراء، مثل أن يكون رأس المال مائة فيربح فيه مائة أخرى ثم يشتريهم بمائتين فلا يؤخذ منه جميع الثمن وإنما يؤخذ منه رأس مال رب المال وحصته من الربح وذلك مائة وخمسون. وقال في الكتاب: وإن لم يكن له مال بيعوا فأعطي رب المال رأس ماله وربحه، يريد أن الربح كان فيه يوم الشراء، وذلك مثل أن يكون رأس المال مائة فيصير بالربح فيها مائتين ثم يبتاعهم بجميع المائتين وهو عالم، فإنه يباع منهم بمائة وخمسين رأس مال رب المال وحصته من الربح، ويعتق ما فضل كان أقل من ربع العبد أو أكثر، لأنه إن ساوى العبد أكثر من مائتين لم يصح أن يباع لرب المال منه بأكثر من مائة وخمسين، لأن ذلك هو الذي تعدى له عليها العامل، ولم يصح له أن يأخذ مما زادت قيمته بعد الشراء شيئا، لأنه لا يصح له ملكه فلم يصح له الربح فيه. وإن ساوى العبد أقل من مائتين فمن حق رب المال أن يباع له من العبد بمائة وخمسين وإن اغترق ذلك جميع العبد، لأنه تعدى له على ذلك القدر. ولم يساو العبد إلا أقل من مائة وخمسين لوجب أن يباع كله ويتبع العامل بما نقص من مائة وخمسين. وهذا كله معنى قوله في الكتاب وإرادته فيه، وهي مسألة قد اختلف فيها كما ذكر، والاختلاف بعضه في المدونة وبعضه خارج عنها.(3/25)
فصل والذي يتحصل فيها من الاختلاف إذا اشتراهم، وهو يعلم، ستة أقوال:
أحدها: قوله في الكتاب إنهم يعتقون عليه إن كان له مال ويباعون إن لم يكن له مال.
والثاني: أنهم يعتقون على رب المال. وهذا القول يأتي على ما في كتاب الرهون في بعض الروايات.
والثالث: أن البيع لا يجوز. وهذا القول يأتي على ما في كتاب العتق الثاني في الأب يشتري من يعتق على ابنه الصغير.
والرابع: أنه لا يعتق على واحد منهما. وهو قول ابن القاسم في أصل سماعه.
والخامس: أنه يضمن الثمن ويكون له العبد. وهو قول مالك في رواية ابن أبي أويس عنه.
والسادس: أن رب المال بالخيار إن أحب أن يأخذه فيعتق عليه ويكون للعامل فضله إن كان فيه فضل، وإن أحب أن يضمن العامل لتعديه كان ذلك له.
وإذا اشتراهم وهو لا يعلم ففي ذلك قولان:
أحدهما: قوله في الكتاب إنهم يعتقون على رب المال.
والثاني: قول ابن القاسم في أصل سماعه إنهم لا يعتقون على واحد منهما.
فصل وأما المسألة الثالثة وهو أن يعتق المقارض عبدا أو جارية من مال القراض.
فإن كان موسرا واشتراه للعتق أعتق عليه وغرم لرب المال رأس ماله أو رأس ماله وربحه إن كان فيه فضل. وإن كان موسرا فاشتراه للقراض ثم أعتقه عتق عليه وغرم لرب المال قيمته يوم العتق إلا قدر حظه منه إن كان فيه فضل. وعلى قول غير ابن(3/26)
القاسم في المدونة وهو مذهب المغيرة أنه إن كان فيه فضل عتق عليه نصيبه وقوم عليه نصيب صاحب المال، وإن لم يكن فيه فضل لم يعتق منه شيء. وهذا إن كان اشتراه بجميع مال القراض. وأما إن اشتراه ببعض مال القراض فعند ابن القاسم أنه يعتق عليه ويجبر القراض من ماله بقيمته يوم العتق إن كان اشتراه للقراض، أو بالثمن الذي اشتراه به إن كان اشتراه للعتق، خلافا للمغيرة ولغير ابن القاسم المتقدم. وأما إن كان معسرا فلا يعتق منه شيء إلا أن يكون فيه فضل فيباع منه لرب المال بقدر رأس ماله وربحه ويعتق الباقي على العامل.
فصل وأما المسألة الرابعة وهي أن يطأ المقارض جارية من القراض فتحمل، فإن كان اشتراها للقراض ثم تعدى عليها فوطئها فحملت وله مال أخذ منه قيمتها يوم وطئها فيجبر به القراض، وكانت أم ولد له. وإن لم يكن له مال ولا كان فيها فضل بيعت واتبع بقيمة الولد دينا. واختلف إن كان فيها فضل فقيل إنه يباع منها لرب المال بقدر رأس ماله وربحه ويكون ما بقي بحساب أم ولد. وقيل يكون حكمها حكم الأمة بين الشريكين يطؤها أحدهما فتحمل ولا مال له على الاختلاف المعلوم في ذلك.
وأما إن كان اشتراها للوطء فوطئها فحملت، فقال ابن القاسم مرة يؤخذ منه الثمن، ومرة تؤخذ منه القيمة فيجبر بذلك القراض إن كان له مال، وإن لم يكن له مال اتبع به دينا وكانت له أم ولد على كل حال. وقال مالك تؤخذ منه القيمة فيجبر به القراض إن كان له مال، فإن لم يكن له مال بيعت. وهذا إن لم يكن فيها فضل، فإن كان فيها فضل فعلى ما تقدم من الاختلاف. هذا تحصيل القول في هذه المسألة على ما حملها عليه بعض أهل النظر باتباع ظواهر الروايات.
والذي أقول به في هذه المسألة أن الاختلاف في بيعها إذا حملت وهو عديم إنما هو إذا اشترى ووطئ ولم يعلم إن كان اشتراها للقراض أو لنفسه بمال استسلفه من القراض، فحمله مالك على أنه اشتراها للقراض ولم يصدقه أنه(3/27)
اشتراها لنفسه بمال استسلفه من القراض، ولذالك قال إنها تباع في القيمة إذا لم يكن له مال، وحمله ابن القاسم على أنه اشتراها لنفسه بمال تسلفه من القراض ولم يصدقه أنه اشتراها للقراض على ما في سماع أبي زيد، ولذلك قال إنها لا تباع، إلا أنه قال في سماعه وفي تفسير ابن مزين يتبع بقيمتها. ومعناه عندي إن كانت القيمة أكثر من الثمن، فإرادته أنه يتبع بالأكثر من القيمة أو الثمن. وأما إن علم أنه اشتراها للقراض ببينة تقوم على ذلك فتباع فيما لزمه من قيمتها قولا واحدا. وكذلك إن علم أنه اشتراها لنفسه من مال القراض فلا تباع ويتبع بالثمن الذي اشتراها به في ذمته قولا واحدا والله أعلم.
[فصل في اختلاف دافع المال والمدفوع إليه]
فصل
في اختلاف دافع المال والمدفوع إليه
إذا اختلف دافع المال والمدفوع إليه فقال الدافع دفعته قراضا وقال المدفوع إليه وديعة لا يخلو الأمر في هذه المسألة من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون المال حاضرا.
والثاني: أن يكون غائبا.
والثالث: أن يكون قد تلف دون أن يحركه المدفوع إليه أو بعد أن حركه ثم صرفه.
فأما إن كان حاضرا فليست بمسألة، يأخذ صاحب المال ماله.
وأما إن كان المال غائبا ففي ذلك قولان:
أحدهما: قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن القول قول الدافع.
والثاني: قول أشهب ورواية ابن عبد الحكم عن مالك وربيعة أن القول قول المدفوع إليه لأنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما أقر به على نفسه وهو لم يقر في ذمته بشيء.
وأما إن تلف قبل أن يحركه أو بعد أن حركه وصرفه في موضعه ببينة على(3/28)
القول بأن المودع إذا اتجر في الوديعة لا يصدق في صرفها إلى موضعها ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن القول قول رب المال، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك. والثاني: أن القول قول المدفوع إليه المال، وهو قول ربيعة ومن تابعه. والثالث: الفرق بين أن يتلف قبل أن يحركه أو بعد أن حركه. فإن تلف قبل أن يحركه كان القول قول المدفوع إليه، وإن تلف بعد أن حركه كان القول قول الدافع وهو قول أشهب.
وأما على القول بأن المودع إذا حرك الوديعة لا يبرأ من ضمانها إلا بصرفها إلى صاحبها فهو ضامن لها دون يمين تلزم الدافع.
فصل وأما إن قال المدفوع إليه أخذته قراضا وقال الدافع بل أبضعته معك لتعمل لي به، فقال في الكتاب إن القول قول رب المال بعد أن يحلف ويكون عليه للعامل إجارة مثله إلا أن تكون إجارة مثله أكثر من نصف الربح فلا يزاد عليه. ومعنى ذلك بعد أن يحلف العامل، لأن وجه ما ذهب إليه أن كل واحد منهما مدع على صاحبه: رب المال يدعي على العامل أنه عمل له في المال باطلا، والعامل يدعي أنه عمل فيه على نصف الربح. فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا عن اليمين كان له أجر مثله إلا أن يكون ذلك أكثر من نصف الربح. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما. على هذا ينبغي أن تحمل الرواية وتصرف إليه بالتأويل. ولا يلتفت إلى ما في ألفاظها مما يدل على أنه جعل القول قول رب المال فإن نكل كان القول قول العامل على حكم المدعي والمدعى عليه. وعلى ذلك حمل أبو إسحاق التونسي وغيره المسألة. واعترض قوله إذا كان ممن يستعمل مثله في القراض فقال ينبغي إذا نكل رب المال أن يكون القول قول العامل وإن كان ممن لا يستعمل مثله في القراض، لأن رب المال قد مكنه من دعواه وإن كانت لا تشبه بنكوله عن اليمين.(3/29)
والمسألة عندي صحيحة لا اعتراض فيها لأن قوله إذا كان ممن يستعمل مثله في القراض ليس من تمام قوله فإن نكل عن اليمين كان القول قول العامل مع يمينه إذا كان ممن يستعمل مثله في القراض، وإنما المعنى في المسألة أن الكلام قد تم بقوله فإن نكل عن اليمين كان القول قول العامل مع يمينه، ثم ابتدأ فقال: وهذا الذي وصفته من الأيمان إنما يكون إذا كان ممن يستعمل مثله في القراض، لأنه إذا كان ممن يستعمل في القراض يكون كل واحد منهما قد ادعى على صاحبه ما يشبه فوجبت له اليمين عليه على ما قلناه، فإن نكلا أو حلفا كان للعامل أجر مثله إلا أن يكون أكثر من نصف الربح كما قال. وإن نكل العامل وحلف رب المال أخذ المال وربحه ولم تكن عليه أجرة. وإن نكل رب المال وحلف العامل استوجب نصف ربح المال على ما حلف عليه. وأما إن كان العامل ممن لا يستعمل مثله في القراض فلا يمكن من اليمين لإتيانه بما لا يشبه، ويكون القول قول رب المال، فإن حلف استحق ما ادعاه من أنه كان أبضع معه المال ولم تكن عليه إجارة، وإن نكل عن اليمين كان القول قول العامل وإن كان مثله لا يستعمل في القراض، لأن رب المال قد أمكنه من دعواه وإن كان لا تشبه بنكوله عن اليمين. فهذا هو معنى المسألة لا ما سواه.
ولو كان المدفوع إليه المال ممن يعلم أنه يعمل للناس بالقراض لوجب أن يكون القول قوله على مذهب ابن القاسم أنه أخذه على ما يدعي من القراض إن كان الجزء الذي ادعاه يشبه أن يكون قراض مثله. وإن كان لا يشبه أن يكون قراض مثله حلفا جميعا وكان له قراض مثله قياسا على قوله في مسألة كتاب الجعل والإجارة في الصانع ورب الثوب يختلفان فيقول رب الثوب عملته لي باطلا ويقول الصانع بل عملته لك بكذا وكذا، وعلى قياس قول غيره في مسألة الصانع من الكتاب المذكور يكون القول قوله أنه أخذه على ما يدعي من القراض إن كان الجزء الذي ادعاه أكثر من قراض مثله حلفا جميعا وكان له قراض مثله. نقف على افتراق هذه الوجود الثلاث(3/30)
وهي أن يكون المدفوع إليه المال لا يشبه أن يستعمل مثله في القراض،، وأن يكون ممن يعمل للناس بالقراض. وكذلك مسألة الصانع تفترق فيها الوجوه الثلاثة، وهي أن يكون ممن لا يشبه أن يعمل بأجرة، وأن يكون ممن يشبه أن يعمل بأجرة، وأن يكون من الصناع الذين يعملون للناس بالأجرة. لأن المسألتين تحمل كل واحدة منهما على صاحبتها، إذ لا فرق بينهما في المعنى. فإذا كان ممن لا يشبه أن يعمل بأجرة كان القول قول رب الثوب أنه عمله له باطلا. وإذا كان يشبه أن يعمل بأجرة ولم يكن من الصناع حلفا جميعا وكان له أجر مثله. وإذا كان من الصناع كان الجواب في ذلك لابن القاسم ما قاله في كتاب الجعل والإجارة، ولغيره ما قاله فيه حسب ما ذكرناه بتمامه، وبالله التوفيق.
فصل وأما إن قال المدفوع إليه أخذته قراضا وقال رب المال بل دفعته إليك قرضا فإن الأمر لا يخلو من ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يكون المال قد تلف كله أو بعضه قبل أن يحركه.
والثاني: أن يكون تلف أو نقص بعد أن حركه.
والثالث: أن يكون زاد بربح فيه.
فأما إذا تلف كله أو بعضه قبل أن يحركه ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن القول قول رب المال، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك.
والثاني: أن القول قول المدفوع إليه، وهو قول ربيعة ورواية ابن عبد الحكم عن مالك.
والثالث: الفرق بين أن يتلف قبل أن يحركه أو بعد أن حركه، وهو قول أشهب. فاتفق أشهب وابن القاسم على أن القول قول رب المال إذا تلف بعد أن(3/31)
حركه لأن المدفوع إليه يدعي في مال قد حركه أنه لا ضمان عليه فيه. وكان القياس على أصل أشهب أن يكون القول قول المدفوع إليه وإن كان قد حركه لأنه لم يحرك إلا ما أذن له رب المال في تحريكه.
وأما إذا كان في المال ربح فقيل إنه يوقف، فمن كذب منهما نفسه ورجع إلى قول صاحبه أخذه، وإن رجع الثاني إلى قول الأول بعد أن كان رجع الأول إلى قول الثاني لم يوجب رجوعه على الذي رجع أولا يمينا. وقيل إنه لرب المال يأخذه، وهو الذي يأتي على ما في كتاب الرهون لابن القاسم، وعلى ما في كتاب إرخاء الستور لأشهب وإن كان مقيما على إنكاره. وقيل إنه ليس له أن يأخذه وإن رجع إلى قول الذي أقر له به وبالله التوفيق لا شريك له.(3/32)
[كتاب الشركة] [القول في الشركة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وعلى آله كتاب الشركة القول في الشركة الشركة قد تحصل بين الاثنين والجماعة في الدور والأرضين والحيوان والعروض والدنانير والدراهم وجميع الأشياء بالمواريث والهبات والصدقات والأشرية وغير ذلك.
فصل ولا يكون الرجل شريكا للرجل إلا إذا شاركه في رقاب الأموال على الإشاعة. وأما إن لم يشاركه في رقاب الأموال فليس شريكا وإنما هو خليط، فكل شريك خليط، وليس كل خليط شريكا. والخلطة أعم من الشركة، قال الله عز وجل في الخليط: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [ص: 24] فسماهم الله تعالى لما لم يشتركوا في أعيان النعاج. وقال تعالى في الشركة في عين المال، على الإشاعة: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا} [الزمر: 29](3/33)
يقول الله تعالى: هل يستوي العبد الذي يكون بين الجماعة المشتركين فيه السبتة أخلاقهم، والعبد الذي يكون خالصا لرجل واحد فيرضيه بخدمته ويعرف له حق طاعته فيثيبه عليها أو لا يستوي ذلك. وهذا مثل ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة شتى، والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله. ثم قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] . فدل على اشتراكهم في المال المقسوم قبل القسمة، كائنا ذلك المال ما كان من الأموال وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية، وائما دار أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام.» قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعتق شركا له في عبد قوم عليه قيمة العدل.. الحديث» «وقضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة بين الشركاء ما لم تقع الحدود فإذا وقعت الحدود فلا شفعة» .
فصل وهذا كله أبين من أن يحتاج إلى بسطه والتكلم عليه والاحتجاج له، إذ لا إشكال فيه ولا اختلاف بين أحد من أهل العلم. وكفى من هذا ما تقتضيه آية المواريث، وإنما ذكرناه لما تعلن به من معنى الشركة. وإنما القصد إلى التكلم على الاشتراك للربح والكسب ابتغاء الارتفاق في ذلك وما يجوز منه مما لا يجوز على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذ على ذلك بنيت مسائل الكتاب.
[فصل في أقسام الشركة]
فصل فالشركة للربح والكسب ابتغاء الارتفاق تنقسم على ثلاثة أقسام:(3/34)
شركة الأموال.
وشركة الأبدان.
وشركة الوجوه وهي شركة الذمم.
فأما شركة الأموال فإنها جائزة على الجملة عند جميع الأمة، ويقوم جواز ذلك من الكتاب والسنة، فأما. الكتاب فقول الله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19] . وأما السنة فمنها ما روي «عن سليمان بن أبي مسلم أنه قال سألت أبا المنهال عن الصرف يدا بيد فقال: اشتريت أنا وشريك لي شيئا يدا بيد ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه فقال: فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم ذلك، وسألنا النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: " ما كان يدا بيد فخذوه وما كان نسيئة فردوه.» ومنها أيضا ما روي «أن عبد الله بن هشام أتت به أمه زينب بنت حميد إلى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله بايعه، فقال هو صغير، فمسح برأسه ودعا له، فكان عبد الله بن هشام يخرج إلى السوق فيشتري الطعام فيلقاه ابن عمر وابن الزبير فيقولان له أشركنا معك فإن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد دعا لك بالبركة، فيشركهم، فربما أصاب أحدهم الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل» .
[فصل في أقسام شركة الأموال]
فصل وهي في التفصيل، أعني شركة الأموال، تنقسم على ثلاثة أقسام:
شركة مفاوضة.
وشركة مضاربة.
وشركة عنان.
فأما شركة المفاوضة فهي أن يجوز فعل كل واحد منهما على صاحبه، وأن يستويا في جميع ما يستفيدان فلا يصيب أحدهما شيئا إلا كان صاحبه شريكا له(3/35)
فيه. وسميت مفاوضة لاستوائهما في الربح والضمان وشروعهما في الأخذ والإعطاء من قولهم تفاوض الرجلان في الحديث إذا شرعا فيه. وهي عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم جائزة خلافا للشافعي في قوله إن شركة المفاوضة غرر لا تجوز لتضمنها مشاركة كل واحد منهما صاحبه فيما يضمن أو يربح أو يخسر بإذنه وبغير إذنه. والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تفاوضوا فإنها أعظم بركة» . وهذا نص في موضع الخلاف مع أنه لا غرر فيها، لأنهما إنما أخرجا المالين ثم وكل كل واحد منهما صاحبه على التصرف فيه على الإطلاق، وذلك جائز إذا صرحا به، فلا فصل بين أن يصرحا به أو يقصداه، فإن الخبر المعروف «نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيع الغرر» والشركة لا تسمى بيعا.
فصل والمفاوضة جائزة على ما يتفاوضان عليه من الأجزاء، ولا تفسد المفاوضة بينهما وإن كان لأحدهما مال غيره لم يدخله في المفاوضة، خلافا لأبي حنيفة في الوجهين.
فصل وأما شركة المضاربة فهي أن يدفع الرجل إلى الرجل مالا يتجر فيه ويكون الربح فيه بينهما على ما يتفقان عليه من الأجزاء، والوضعية على رأس المال وهي المقارضة. وإنما سميت مضاربة من الضرب في الأرض، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يدفع المال إلى الرجل على أن يخرج به إلى الشام وغيره فيبتاعه به المتاع على هذا الشرط. وقد مضى هذا في موضع من كتاب القراض مستوفى، وإنما ذكرناه ها هنا لما اقتضاه من التقسيم.(3/36)
وأما شركة العنان فهي الشركة في شيء خاص كأنه عن لهما أمر أي عرض فاشتركا فيه، فهي مأخوذة من قولهم عن الشيء يعن ويعن إذا عرض. وهذه الشركة جائزة بإجماع من أهل العلم لا أعلم بينهم فيها اختلافا، فهي جائزة بين جميع الناس إذا اتفقوا عليها ورضوا بها، ولازمة لأهل الأسواق فيما اشتروه للتجارة على غير المزايدة لما كان من الطعام في سوق الطعام لأهل التجارة في ذلك النوع تلك السلعة أو في غير السوق، وإن كان من الطعام أو لغير التجارة في ذلك النوع على] اختلاف. وقولي في غير السوق أعني في بعض الأزقة. وأما ما ابتاع الرجل في داره أو حانوته فلا شركة لأحد معه ممن حضر الشراء باتفاق.
فصل وأما شركة الأبدان فأجازها مالك وأصحابه في الصناع وغيرهم إذا كان العمل واحدا وتعاونوا فيه ولم يفترقوا في المواضع. وأجاز أشهب في سماع أصبغ عنه افتراق الصانعين الشريكين في حانوتين إذا كان العمل واحدا. وأجاز ابن حبيب افتراق الأكرياء في المواضع والبلدان إذا كانت الدواب مشتركة بينهم. وليس قوله عندي بخلاف لمذهب ابن القاسم. وقال الشافعي لا تجوز شركة الأبدان بحال، وأجازها أبو حنيفة بين الصناع ولم يجزها في الاصطياد والاحتطاب، إذ لا يقتضي ذلك ضمانا من كل واحد منهما على صاحبه، بخلاف الصناع الذين يضمن كل(3/37)
واحد منهما ما تقبل صاحبه من العمل، فكان كل واحد منهم وكيلا لصاحبه على ذلك. والدليل على صحة قول مالك في إجازة شركة الأبدان بين الصناع وغيرهم ممن لا ضمان عليهم قول الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فجعل الغانمين شركاء فيما غنموا بقتالهم وأفاءت عليهم سيوفهم، وليس هناك مال ولا تجارة، وإنما هي شركة أبدان بغير ضمان. فالآية حجة على الشافعي في المنع من شركة الأبدان بكل حال، وعلى أبي حنيفة في المنع من شركة الأبدان فيما لا ضمان فيه كالاحتطاب، والاصطياد. ومن الحجة لمالك ما روي أن «ابن مسعود شارك سعدا يوم بدر فأصاب سعد فرسين ولم يصب ابن مسعود شيئا ولم ينكر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليهما.» وذهب سحنون إلى أن الصانعين إذا اشتركا لا يضمن أحدهما ما تقبل صاحبه من المتاع إلا أن يجتمعا على أخذه، ولا يلزم أحدهما ضمان العمل عن صاحبه إلا أن يلتزما ذلك، خلاف مذهب ابن القاسم في الوجهين. فقول ابن القاسم في الشريكين الصانعين إذا مرض أحدهما أو غاب الغيبة الطويلة فعمل صاحبه في مرضه أو غيبته إنه لا يكون متطوعا له بعمله صحيح على أصله، لأنه عمل عنه بما لزمه من الضمان، فوجب له الرجوع عليه بقيمة عمله. وهذا معنى قوله إن ما عمل يكون له دون المريض أو الغائب إلا أن يحب أن يعمل له نصف عمله، وليس ذلك بمعارض لقوله في كتاب الجعل والتجارة إن الرجل إذا استأجر أجيرين لحفر بئر فمرض أحدهما وعمل الآخر إنه متطوع له بعمله، إذ ليس أحدهما بضامن عن صاحبه، وإنما تستوي المسألتان على قول سحنون الذي لا يجعل أحد الشريكين الصانعين ضامنا عن صاحبه، وقد قال إن إحداهما ترد إلى الأخرى، وذلك صحيح على أصله غير لازم لابن القاسم على أصله. وقوله في مسألة الجعل والإجارة إن الحافر متطوع لصاحب البير ليس بخلاف لقول ابن القاسم لأنه حمل الإجارة على أنها معينه تنفسخ بالموت(3/38)
والمرض، وحملها ابن القاسم على أنها مضمونة عليهما لا تنفسخ بموتهما وتلزمهما في أموالهما ولا يمكن أن يختلفا لمن يكون العامل متطوعا إذا وقعت الإجارة على بيان في المضمون أو المعين. وإن أشبه أن يختلفا فيما تحمل عليه إن لم تقع على بيان. وإنما يكون العامل متطوعا لصاحبه في المضمون أو لصاحب البير في المعين إذا لم يحتج إلى الاستئجار على ذلك، على قولهم فيمن حصد زرعا لغيره بغير إذنه. وبالله التوفيق.
فصل وأما شركة الذمم فلم يجزها مالك لأنها شركة بغير مال ولا صناعة، فكأن كل واحد منهما قال لصاحبه تحصل عني بنصف ما اشتريت على أن أتحصل عنك بنصف ما اشتريت. وذلك غرر ومخاطرة. وقال أبو حنيفة: شركة الوجوه جائزة، وهي تنعقد على الوكالة لأن ما يشتريه كل واحد منهما فبعض له وبعض لصاحبه على وجه الوكالة. وهذه الوكالة تصحح حال وهذا لا يصح، لأنه لو قال وكلتك لتشتري لي سلعة على أن يكون لك ربح سلعتي التي اشتريتها لم يصلح لأن ذلك مجهول منهما جميعا. وإنما جاز ذلك في شركة العنان لأن هناك أصلا تنعقد الشركة عليه وهو المال.
فإن قالوا أليس يجوز أن يشتري الرجلان سلعة بينهما بالدين على أن كل واحد منهما حميل بها على صاحبه فتصح الشركة فيها ويكون كل واحد منهما ضامنا لما على صاحبه. فإذا جازت الشركة بشرط الضمان في هذه المسألة جازت شركة الذمم لأنها شركة تقتضي الضمان، لأن ما جاز اشتراطه جاز القصد إليه.
قلنا: لا يلزم ذلك. والفرق بين المسألتين أن اللذين اشتريا السلعة بالدين على أن كل واحد منهما ضامن لما على صاحبه يعلم كل واحد منهما ما تحمل به عن صاحبه، لأنهما شريكان فيما تحملا بثمنه، كمسألة كتاب السلم الثاني في(3/39)
الرجل يسلم إلى الرجلين على أن كل واحد منهما حميل بما على صاحبه فجاز ذلك إذ لا غرر فيه. وأما شركة الذمم فإنما قصد فيها إلى أن يتحمل كل واحد منهما عن صاحبه بنصف ما يبتاعه بغير إذنه ولا معرفته، وذلك من أعظم الغرر وقد منع في كتاب البيوع الفاسدة ما هو أقل غررا من هذا، وهو أن يبيع الرجلان سلعتيهما من رجل على أن كل واحد منهما حميل بالآخر، فلم يجز ذلك إذ لا يدري كل واحد منهما ما يتحمل به عن صاحبه، إذ قد تستحق سلعة أحدهما ولا تستحق سلعة الأخر. وإن استحقت إحداهما فلا يدري بما يرجع عليه إلا بعد التقويم، وليس هما شريكين فيما باعاه. وشركة الذمم لا يدري كل واحد منهما ما تحمل به عن صاحبه بحال، لأنه إنما تحمل عنه بما يبتاع بغير إذنه ولا علمه. وقد حمل بعض الناس مسألة كتاب البيوع الفاسدة هذه على الخلاف لما في كتاب الشركة من إجازة شراء الرجلين السلعة بالدين على أن كل واحد منهما حميل بما على صاحبه، لتعليله مسألة كتاب البيوع الفاسدة بأن المشتري إنما اشترى من أحدهما على أن يتحمل ما على الآخر، فابتاع من الملي على أن يتحمل له بما على الآخر. ومسألة كتاب السلم الثاني إنما أسلم إلى أحدهما على أن يتحمل له بما على الآخر فأسلم إلى الملي على أن يتحمل له بما على المعدم. والصواب أن ذلك ليس باختلاف من القول. والفرق بينهما أن مسألة كتاب البيوع الفاسدة لم يكن البائعان المتحمل كل واحد منهما بصاحبه شريكين فيما باعاه ولا عرف كل واحد منهما مقدار ما تحمل به عن صاحبه. ومسألة كتاب الشركة المتبايعان المتحمل كل واحد منهما بصاحبه شريكان فيما ابتاعاه، يعرف كل واحد منهما ما تحمل به عن صاحبه. وكذلك مسألة كتاب السلم الثاني المسلم إليهما المتحمل كل واحد منهما بصاحبه شريكان في الدنانير التي هي رأس مال السلم وعرف كل واحد منهما ما تحمل به عن صاحبه. فالأصل في هذا أن الحميلين المتحمل كل واحد منهما بما على صاحبه إذا كانا شريكين فيما باعاه أو ابتاعاه جائز، وإن لم يكونا شريكين لم يجز. فعلى هذا إذا باع رجلان سلعة من رجل على أن كل واحد منهما حميل عن صاحبه جاز ذلك لكونهما شريكين فيها ومعرفة كل واحد منهما بما تحمل به عن صاحبه. وسواء كانت شركتهما فيها على السواء أولم تكن على(3/40)
السواء. ولو اشترى رجلان سلعتين من رجل على أن يأخذ أحدهما إحدى السلعتين بكذا أو بما ينوبها من الثمن على الاختلاف في ذلك، ويأخذ الثاني السلعة الثانية بكذا أو بما ينوبها من الثمن أيضا على أن كل واحد منهما حميل بما على صاحبه لم يجز لكونهما غير شريكين فيها، لأنهما إذا لم يكونا شريكين فيها فهي بمنزلة الصفقتين ولا إشكال في الصفقتين لو باع رجل سلعة من رجل أو بعض سلعة ثم باع في صفقة ثانية من رجل آخر سلعة أخرى أو بقية السلعة على أن يتحمل له بما على المبتاع الأول لم يجز لأنه بيع على حمالة، وهي الحمالة بالجعل. وقد ذهب ابن لبابة إلى أن حمالة الرجلين كل واحد منهما بما على صاحبه في الصفقة الواحدة يجوز في المبتاعين ولا يجوز في البائعين. والفرق بينهما عنده أن السلعة التي باعها البائع من الرجلين على أن كل واحد منهما حميل عن صاحبه لو دفعها لأحدهما في جميع ما عليهما وعلى صاحبه لجاز، وإن الثمن الذي دفعه المشتري إلى البائعين على أن كل واحد منهما حميل بما على صاحبه لو دفعه إلى أحدهما فيما يجب عليه بالضمان الذي اشترط عليه لم يجز. فبهذا افترقت المسألتان عنده. وما قدمنا ذكره هو الصحيح إن شاء الله أن الشركة رخصة، فيجوز في الاشتراك ما لا يجوز مع الانفراد.
[فصل فيما تنعقد به الشركة]
فصل واختلف فيما تنعقد به الشركة بين المتشاركين على قولين:
أحدهما أن تنعقد باللفظ وإن بقي ما أخرجه كل واحد منهما بيده فإن ضمانه منه، فيكون ما اشترى أحدهما بالمال الذي أخرجه بينهما وإن تلف مال صاحبه بيده قبل أن يخرجه فكان ضمانه منه، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة خلاف قول غيره فيها، وذلك إذا اشترى بما أخرج قبل تلف ما أخرجه صاحبه. وأما إن اشترى به بعد تلف ما أخرجه صاحبه وهو لا يعلم فهو بالخيار بين(3/41)
أن يلزمه ما اشتراه أو ينفرد به دونه، لأنه يقول له لو علمت أن المال الذي أخرجته قد تلف لم أشتر إلا لنفسي. وأما ما اشترى بعد أن علم بتلف ما أخرجه صاحبه فهو له خاصة.
والثاني أنها لا تنعقد بينهما حتى يكون ضمان ما تلف بينهما، قيل بخلط ما أخرجاه وهو مذهب سحنون، وقيل بأن يجمعا المال عند أحدهما وإن لم يخلطاه وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة.
فصل وهي من العقود الجائزة، لكل واحد من المتشاركين أن ينفصل عن شريكه متى ما أراد، ولا يلزمه البقاء معه على الشركة إلا على التكافي والاعتدال، لأنه إن فضل أحدهما صاحبه في قيمة ما يخرجه فإنما يسمح في ذلك رجاء بقائه معه على الشركة، وذلك لا يلزمه فيصير غررا. ألا ترى أن المزارعة تجوز وإن كان قيمة كراء ما يخرجه أحدهما أكثر مما يخرجه صاحبه على مذهب من يرى أن المزارعة تلزم بالعقد، وهو مذهب سحنون وابن الماجشون وقول ابن كنانة وابن القاسم في كتاب ابن سحنون. ولا يجوز ذلك على مذهب من يرى أن المزارعة لا تلزم بالعقد، ولكل واحد منهما أن ينفصل عن صاحبه- ما لم يبذرا، وهو قول ابن القاسم في المدونة ونص رواية أصبغ عنه في العتبية، ولا على مذهب من يرى أنها لا تلزم إلا بالشروع في العمل، وهو قول ابن كنانة في المبسوطة وبه جرت الفتوى عندنا بقرطبة. وهو على قياس رواية علي بن زياد عن مالك في أن الجاعل يلزمه الجعل بشروع المجعول له في العمل.
فصل وإنما وقع هذا الاختلاف في المزارعة لأنها شركة وإجارة من كل واحد منهما مقتضية لصاحبتها بكليتها لا فضل فيها عنها. فاختلف أيهما يغلب. فمن غلب الشركة لم يرها بالعقد لازمة ولا أجازها إلا على التكافي، غير أنه جوز أن يتطول أحدهما على صاحبه بما لا قدر لكرائه. وفي التكافي قولان: أحدهما أنه لا يكون(3/42)
إلا بالتشارك في الرقاب حتى يستويا في مصيبة التلف. والثاني أنه يكون وإن لم يشتركا في الرقاب بأن تكون قيمة كراء ما يخرجه أحدهما مكافئا لقيمة كراء ما يخرجه صاحبه. ومن غلب الإجارة ألزمها بالعهد وأجاز التفاضل بينهما ولم يراع التكافي. قال ابن حبيب: ما لم يتفاحش الأمر مثل أن يكون قيمة كراء ما أخرجه أحدهما أكثر من قيمة ما أخرجه صاحبه بالأمر البائن الذي لا يتغابن في مثله في البيوع. وقال ابن سحنون ذلك جائز وإن تفاحش وتباين التفاضل إذا كان في العوض، وأما إن أخرج أحدهما شيئا له بال لم يخرج صاحبه عنه عوضا فلا يجوز. والقول الأول أقيس وهو إجازة التفاضل بكل حال على القول بتغليب الإجارة وإلزام العقد.
فصل واختلف في المزارعة الفاسدة إذا وقعت وفاتت بالعمل على ستة أقوال:
أحدهما: أن الزرع لصاحب البذر ويرد لأصحابه كراء ما أخرجوه.
والثاني: أن الزرع لصاحب العمل، وهو تأويل ابن أبي زيد عن ابن القاسم فيما حكى عنه ابن المواز.
والثالث: أنه لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أصول، وهي البذر، والأرض، والعمل. فإن كانوا ثلاثة واجتمع لكل واحد منهم شيئان منها أو انفرد كل واحد منهم بشيء واحد منها كان الزرع بينهم أثلاثا. وإن اجتمع لأحد منهم شيئان منها دون أصحابه كان له الزرع دونهم، وهو مذهب ابن القاسم واختيار ابن المواز على ما تأول أبو إسحاق التونسي.
والرابع: أنه يكون لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أشياء على هذا الترتيب وهي الأرض، والعمل، والبقر.(3/43)
والخامس: أن يكون لمن اجتمع له شيئان من أربعة أشياء على هذا الترتيب وهي: البذر، والأرض، والعمل، والبقر.
والسادس: قول ابن حبيب إن الفساد أن سلم من كراء الأرض بما يخرج منها كان الزرع بينهم على ما اشترطوه وتعادلوا فيما أخرجوه، وإن دخله كراء الأرض بما يخرج منها كان الزرع لصاحب البذر.
فصل ولا يجوز أن ينضاف إلى الشركة بيع ولا إجارة إذا كانا خارجين عنها. واختلف إذا كانا داخلين فيها، فأجاز ذلك سحنون، واختلف فيها قول مالك، واضطرب فيه قول ابن القاسم في المدونة: فأجاز أن يشترك الرجلان بالعرضين من صنفين إذا استوت قيمتهما، وبالعروض من أحدهما والدنانير والدراهم من الآخر. ولم يجز أن يأتي الرجل بالدابة والآخر بالبيت أو الرحى فيشتركان على أن يعملا عليهما وإن استوت قيمة كرائهما، وأجاز أن يستأجر أحدهما من صاحبه نصف الدابة على أن يعملا عليها، وهذا تناقض لأنه بيع وأجرة داخلان في الشركة. وأجاز ذلك كله سحنون على أصله في أن كل بيع أو أجرة أو صرف كان داخلا في الشركة فهو جائز.
فصل وعقد الشركة في المال بيع من البيوع، لأن الرجلين إذا تشاركا بالعروض أو الدنانير والدراهم فقد باع كل واحد منهما صاحبه نصف ما أخرج هو، وهو بيع لا تقع فيه مناجزة لبقاء يد كل واحد منهما على ما باع بسبب الشركة. ألا ترى أنهم لم يجيزوا أن يصرف الرجل نصف ديناره من رجل إذا لم يبن مشتري نصف الدينار به لبقاء يد بائعه عليه بسبب الشركة، لأن أهل العلم أجمعوا على إجازة الشركة بالدنانير من كلا الشريكين أو الدراهم من كليهما جميعا أيضا، ولم يعتبروا عدم المناجزة منهما في ذلك، وهو إجماع على غير قياس. وقد اختلف أهل العلم في الإجماع على غير قياس هل يصح عليه القياس أم لا على قولين، فذهب ابن القاسم في هذه المسألة إلى جواز القياس عليه، فأجاز الشركة بالطعام إذا اتفق في(3/44)
الكيل والصفة قياسا على الدنانير والدراهم ومنع من ذلك في الدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر، وفي الطعامين المختلفين كانا من صنف واحد كالقمح والشعير والبيضاء والمحمولة أو من صنفين كالقمح والزبيب، لاجتماع علتين في ذلك وهما الصرف والشركة في الدنانير والدراهم، والبيع والشركة في الطعامين المختلفين وعدم التناجز. وأجاز الشركة بالعرضين المختلفين أو العروض من أحدهما والدنانير أو الدراهم من عند الآخر إذا استوت القيمة في ذلك، فهو جائز، بخلاف البيع والصرف إذا كان خارجا عن الشركة فيجوز على مذهبه. وقوله الشركة بالدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر وبالطعامين المختلفين إذا اتفقت قيمتهما، أو المتفقين إذا اتفقا في القيمة والكيل لم يختلف قوله في شيء من ذلك..(3/45)
فصل واختلف في الشركة بالدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر إذا وقعت على مذهب من لا يجيزها فلم يعثر عليها حتى فاتت بالعمل، فقيل إنهما يقتسمان ما بأيديهما على ما كان فيه من ربح أو خسارة على قيمة الدنانير والدراهم يوم اشتركا. وقيل إنهما يقتسمان ذلك على قيمة الدنانير والدراهم يوم الفسخ، وإلى هذا يرجع قول ابن القاسم في المدونة إذا اعتبرته بما يخرج الحساب، وهذا أقرب مأخذا في العمل.
فصل فما يشترك به من الأشياء ينقسم على قسمين: أحدهما أن يشترك الرجلان بصنف واحد، والثاني أن يشتركا بصنفين. فأما الصنف الواحد فلا يخلو من وجهين: أحدهما أن يكون مما لا يؤكل ولا يشرب، والثاني أن يكون مما يؤكل ويشرب. فأما إن كان مما لا يؤكل ولا يشرب فسواء كان مما لا يجوز فيه](3/46)
التفاضل كالذهب والفضة أو مما يجوز فيه التفاضل كالعروض. والشركة فيها جائزة باتفاق إذا استويا في الكيل والقيمة فيما لا يجوز فيه التفاضل، أو في القيمة فيما يجوز فيه التفاضل. وأما إن كان مما يؤكل ويشرب فأجاز الشركة فيه ابن القاسم وسحنون إذا اعتدلا في الكيل والقيمة قياسا على الدنانير والدراهم، والانفراد علة واحدة في ذلك أيضا فاستخفها واختلف في ذلك قول مالك.
يجوز فيه التفاضل. وأما إن كان مما يؤكل ويشرب فأجاز الشركة فيه ابن القاسم وسحنون إذا اعتدلا في الكيل والقيمة قياسا على الدنانير والدراهم، والانفراد علة واحدة في ذلك أيضا فاستخفها واختلف في ذلك قول مالك.
فصل وأما الوجه الثاني وهو أن يشتركا بصنفين فلا يخلو أيضا من وجهين: أحدهما أن يكون مما لا تجوز فيه النسيئة، والثاني أن يكون مما تجوز فيه النسيئة. فأما إن كان مما تجوز فيه النسيئة كالصنفين من العروض أو العروض والدنانير أو الدراهم، فأجاز ذلك ابن القاسم لانفراد العلة الواحدة وهي البيع والشركة، وسحنون أيضا، وهو مذهب مالك أيضا. وروي عنه أنه قال في ذلك: ليست الشركة بالعروض من عمل الناس، فغمز ذلك هذا القول والله أعلم لعلة البيع والشركة. وأما سحنون فلم يراع البيع مع الشركة إذا كان داخلا فيها وغير خارج عنها. فهذا ما حضرني من القول في الشركة، وبالله التوفيق.(3/47)
[كتاب الوكالات]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد. وبالله أستعين وعليه أتوكل.
قال الله عز وجل: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] وَقَالَ {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} [النساء: 109] وَقَالَ {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [النساء: 81] . وقال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66] وهذا كله أصله الحفظ والرعاية، لأن الوكيل حافظ لما وكل عليه ينوب في الحفظ والرعاية مناب من وكله. ومن ذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إن الله وكل بالرحم ملكا يقول أي رب نطفة، أي رب علقة أي رب مضغة، فينفخ فيه الروح فيقول أي رب ما الرزق؟ وما الأجل؟ وشقي أو سعيد؟ فيكتب في بطن أمه» .
فصل فالوكالة نيابة عن الموكل، فهي لا تكون إلا فيما تصح فيه النيابة مما يلزم الرجل القيام به لغيره أو يحتاج إليه لمنفعة نفسه.(3/49)
فأما الوكالة فمما يلزم الرجل القيام به لغيره فكتوكيل الأوصياء والوكلاء المفوض إليهم من ينوب عنهم فيما يلزمهم لمن وكلهم أو لمن إلى نظرهم. وكاستخلاف الإمام على ما يلزمه القيام به من أمر المسلمين. كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستخلف على المدينة إذا خرج لغزو أو حج أو عمرة، ويبعث عماله إلى البلاد، وأمراءه على الأجناد. ومن ذلك «بعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن معلمين، فلما قدما اليمن تفرقا في المنزل ثم التقيا، فقال معاذ لأبي موسى كيف هذا تقرأ القرآن. قال مالك وأحسبهما كانا قد أتيا لتعليم الناس الإسلام والقرآن، فقال أبو موسى أما أنا فأتفوقه تفوقا ماشيا وراكبا وقاعدا وقائما وعلى كل حال. وقال معاذ أما أنا فأنام أول الليل وأقوم آخره وأحتسب نومتي كما احتسب قومتي» «واستعماله على مكة عتاب بن أسيد؟» «وبعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى موتة جيشا وأمر عليهم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب أميرهم، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة أميرهم. فانطلقوا حتى لقوا ابن أبي سيرة الغساني بمؤتة وبها جموع من نصارى العرب والروم. فأغلق ابن أبي سيرة الحصن دون المسلمين ثلاثة أيام ثم خرجوا فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا. فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقتل، ثم أخذه جعفر بن أبي طالب فقتل، ثم أخذه عبد الله بن رواحة فقتل، ثم اصطلحوا على خالد بن الوليد فهزم الله العدو وأظهر المسلمين. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يأتي نعيهم المدينة: " مر علي بجعفر بن أبي طالب في الملائكة يطير كما يطيرون له جناحان ". وقدم يعلى بن منيع على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخبرهم، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " إن شئت فأخبرني وإن شئت فأخبرك. فقال بل أخبرني يا رسول الله. فأخبره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خبرهم كله ووصفه له. فقال والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره وإن أمرهم لكما ذكرت(3/50)
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معركتهم ". وقد كان عبد الله بن رواحة بكى حين أراد الخروج إلى مؤتة فبكى أهله لبكائه حين رأوه يبكي، فقال والله ما بكيت جزعا من الموت ولا صيانة لكم ولكني بكيت من قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] فأيقنت أني واردها ولا أدري هل أنجو منها أم لا» .
فصل وأما الوكالة فيما يحتاج إليه الرجل لمنفعة نفسه فذلك كتوكيله على البيع والشراء والنكاح والحدود والخصام وما أشبه ذلك من كل أمر مباح أو مندوب إليه أو واجب تعبد به الإنسان في غير عينه، لأن ما تعبد به في عينه كالوضوء والصلاة والصيام لا يصح أن ينوب عنه في ذلك غيره. قال الله عز وجل: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19] . فهذه وكالة على الشراء.
«واستعمل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رجلا على خيبر فجاءه بتمر فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أكل تمر خيبر هكذا. فقال لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تفعل بع الجميع بالدراهم وابتع بالدراهم جنيبا» . فهذه أيضا وكالة على البيع والشراء. «وبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة قبل أن يخرج» . فهذه وكالة على النكاح ". وقال: «واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» . فهذه وكالة على الحدود. «واستخلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر على الصلاة، ووكل بلالا أن يرقب الفجر ويوقظهم للصلاة وقال(3/51)
اكلأ لنا الصبح» . «وأمر علي بن أبي طالب المقداد بن الأسود أن يسأل له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل إذا دنا من امرأته فخرج منه المذي ماذا عليه.» والآثار في هذا وشبهه أكثر من أن تحصى.
فصل فإذا وكل الرجل الرجل وكالة مطلقة لم يخصه بشيء دون شيء فهو وكيل له على جميع الأشياء، وإن سمى بيعا أو ابتياعا أو خصاما أو شيئا من الأشياء فلا يكون وكيلا له إلا فيما سمى. وإن قال في آخر الكلام وكالة مفوضة تامة أو لم يقل فذلك سواء، لأنه إنما يرجع على ما سمى خاصة. وهذا قولهم في الوكالة إذا طالت قصرت وإذا قصرت طالت.
فصل والوكالة لا تورث على الوكيل، ولا له أن يوكل على ما وكل عليه غيره ولا أن يوصي بذلك إلى أحد بعد مماته بخلاف الوصي إلا أن يجعل ذلك إليه الموكل. فإن فعل فتلف المال كان ضامنا له على مذهب ابن القاسم، وإن علم أنه لا يلي مثل ذلك بنفسه إذا لم يعلم بذلك الموكل الأول. هذا نص رواية يحيى عن ابن القاسم، وفي ذلك نظر. وقال أشهب إذا كان مثله في الكفاية فلا ضمان عليه.
فصل ويد الوكيل كيد موكله فيما وكله عليه. فمن حلف ألا يفعل فعلا فوكل على فعله فهو حانث إلا أن يكون نوى أن يفعله هو بنفسه. وكذلك من حلف أن يفعل فعلا فوكل غيره على فعله فقد بر إلا أن يكون نوى أن يلي هو الفعل بنفسه. ففعل الوكيل كفعل الموكل فيما يوجبه الحكم سوى معنى قولنا يد الوكيل كيد الموكل. وقد أتى ابن شعبان في هذا بعبارة فاسدة غير مرضية واحتجاج غير صحيح(3/52)
فقال: وفعل الوكيل فعل موكله لأن من حلف ألا يفعل فعلا فوكل غيره على فعله حنث، واحتج لذلك بقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] . وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] قال فكان فعل ملك الموت هو فعل الله عز وجل. وهذا كلام بغير تحصيل في غاية من الفساد. أما فعل ملك الموت فهو فعل الله تعالى لأنه خالقه وفاعله حقيقة، وكذلك أفعال سائر العباد، الله هو خالقها وفاعلها. قال الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] وقال عز من قائل: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13] {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] . وأما فعل الوكيل فلا يجوز أن يكون فعل الموكل وإنما هو كفعله في وجوب الحكم فيه، ولا يقال ضرب السلطان أو قتل أو كتب لما لم يفعله بيده وإنما أمر به غيره إلا مجازا لا حقيقة، فكيف يصح قياس فعل الموكل والوكيل من المخلوقين بأفعال الخالق تعالى. وما يستقيم هذا الاحتجاج إلا على مذهب أهل القدر القائلين إن أفعال العباد مخلوقة لهم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ولو تدبر ابن شعبان هذا الكلام لما تكلم به، ولكنها غفلة وغلط، وليس أحد بمعصوم من الخطأ والغلط، وبالله التوفيق لا شريك له ولا ند.
فصل واختلف إذا مات الموكل هل تنفسخ وكالة الوكيل بموته أم لا. فحكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون أن وكالته لا تنفسخ وأنه باق عليها(3/53)
يبيع ويبتاع ويتقاضى حتى يعزله الورثة. وقال أصبغ تفسخ الوكالة بموت الموكل ولا تجوز خصومته ولا القيام بشيء مما كان إليه حتى يوكله الوارث. ووقع لأصبغ في سماعه من كتاب البضائع والوكالات أن الوكالة تنفسخ بموته إن كان هو البائع ولا يجوز له أن يتقاضى الثمن إلا بتوكيل الورثة، وإن لم يكن هو البائع وكان الوكيل هو الذي ولي البيع فهو على وكالته يقبض ثمن ما باع حتى يعزله الورثة. ولم أعلمهم اختلفوا أن القاضي لا ينفسخ تقديمه بموت الإمام الذي قدمه للقضاء، وأنه على خطته حتى يعزله عنها الإمام الذي يلي الأمر بعده. فانظر ما الفرق بين ذلك.
فصل وإذا مات الموكل على القول الذي يرى فيه أن الوكالة تنفسخ بموته ولم يعلم الوكيل بموته، أو عزل ولم يعلم بعزله فاختلف هل يكون معزولا بنفس الموت أو العزل أم لا على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يكون معزولا بنفس الموت أو العزل. وهذا قول ابن القاسم في كتاب الشركة من المدونة في الذي يحجر على وكيله فيقتضي من غرمائه بعد عزله وهم لا يعلمون بذلك إنهم لا يبرءون بالدفع إليه وإن لم يعلم هو بعزله. هذا هو ظاهر قوله وعلى هذا كان الشيوخ يحملونه. وعلى ذلك حمله أبو إسحاق التونسي. فإذا لم يبرأ الغرماء بالدفع إليه فكذلك لا يبرأ هو ويكون للغرماء أن يرجعوا عليه إن تلف المال بيده لأنه أخطأ على مال غيره. فهذا يبين أن الوكالة تنفسخ في حقه هو ومن عامله أو دفع إليه بنفس الموت أو العزل.
والثاني: أنه لا يكون معزولا في حق أحد إلا بوصول العلم إليه فيكون معزولا في حقه بوصول العلم إليه وفي حق من دفع إليه أو بايعه بوصول العلم إليه. وهذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أول كتاب الوكالات من المدونة إن الورثة يلزمهم ما باع الوكيل أو اشترى بعد موته قبل أن يعلم به كما يلزمهم ما اشترى قبل موته أو باع. وكذلك يبرأ- من دفع إليه إذا لم يعلم بموت الموكل على قياس قولهم.(3/54)
وعلى قول مالك هذا لو علم الوكيل بموت موكله فباع ولم يعلم المشتري بذلك فتلفت السلعة المبيعة عنده لكان الوكيل ضامنا لقيمتها لانفساخ الوكالة في حقه لعلمه بموته وتعديه فيما لا تصرف له فيه، ولم يكن على المشتري أن يرد الغلة إذا أخذت منه السلعة. ولو لم يعلم الوكيل بموته وعلم المشتري لكان عليه أن يرد الغلة إذا أخذت منه السلعة. ولو لم يعلم الوكيل بموته وعلم المشترى لكان عليه أن يرد الغلة إذا أخذت منه السلعة لتعديه بابتياع ما قد انفسخت الوكالة فيه في حقه. وقول مالك هذا في كتاب الوكالة مثل قول ابن القاسم في كتاب الشركة في الشريكين يفترقان فيقضي الغريم أحدهما إنه إن علم فهو ضامن لنصيب الذي لم يدفع إليه ويرجع على الذي دفع إليه بما غرم للشريك الذي رجع عليه لانفساخ الوكالة بعلمهما جميعا. وإن لم يعلم فلا ضمان عليه إذ لم تنفسخ الوكالة في حقه على ما قدمناه، ويكون الشريك الذي قبض ضامنا لحصة شريكه مما قبض لانفساخ الوكالة في حقه بعلمه.
والثالث: أنه لا يكون الوكيل معزولا إلا بوصول العلم إليه، فإذا وصل العلم إليه كان معزولا في حقه وحق من اقتضى منه وبايعه. وهذا قول أشهب لأنه قال إذا علم الوكيل بعزله ولم يعلم الغريم إنه ضامن بخلاف إذا لم يعلما.
فإن قيل إنه قد قال إنه ضامن أيضا إذا علم وإن لم يعلم الوكيل فقيل إنه يكون معزولا في حقهما جميعا بعلم أحدهما.
قلنا: لا نقول ذلك ولا يصح، لأنه إنما ضمنه إذا دفع وهو عالم والوكيل لا يعلم لتعديه بالدفع، لا من أجل أن الوكالة قد انفسخت في حق الوكيل. ألا ترى أنه لا يجب له الرجوع على الوكيل إن تلف المال بيده لبقاء الوكالة لم تنفسخ في حقه فهو أمانة عنده، ولو كانت الوكالة منفسخة أيضا لوجب له الرجوع عليه بما غرم لصاحب الدين، وهذا بين، وبالله التوفيق لا شريك له ولا ند.(3/55)
فصل فهذا تحصيل هذه المسألة عندي وتخريجها، وقد تؤول فيها تأويلات كثيرة، فمن الناس من يجعل قول ابن القاسم في كتاب الشركة من المدونة في التحجير على الوكيل مثل قول أشهب، إذ لم ينص فيها أن الوكيل لم يعلم بفسخ وكالته، فكان يتأول قوله على أنه علم ويجعل مثله أيضا مسألة موت الموكل فيقول إنه إذا لم يعلم الوكيل بموت موكله فلا ضمان على من دفع إليه إلا أن يعلم فيكون متعديا في الدفع. ومن الناس من يفرق بين مسألة الحجر على الوكيل ومسألة موت الموكل فيقول إنما لم يضمن من دفع إلى الوكيل في مسألة الموت إذا لم يعلم مراعاة لقول من يقول إن الوكالة لا تنفسخ بموت الموكل وإن علم الوكيل وأن له التصرف ما لم يعزله الورثة. فيضمن الغريم على هذا التأويل في الحجر وإن لم يعلم واحد منهما ولا يضمن في الموت إلا من علم. ومنهم من يقول هو اختلاف من القول ولا فرق بين المسألتين، فيدخل الاختلاف من كل واحدة منهما في صاحبتها فيأتي في موت الوكيل ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يبرأ من دفع إلى الوكيل بعد موت الموكل وإن لم يعلم، علم الوكيل بموت الموكل أو لم يعلم.
والثاني: أنه يبرأ بدفعه إليه إذا لم يعلم، علم الوكيل أو لم يعلم.
والثالث: أنه يبرأ إذا دفع إليه ولم يعلم إذا لم يعلم الوكيل بموت الموكل، ولا يبرأ إذا علم.
وفي عزل الوكيل أيضا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يبرأ من دفع إليه وإن لم يعلم، علم الوكيل بعزله أو لم يعلم.
والثاني: أنه يبرأ إذا دفع إليه ولم يعلم، علم الوكيل بعزله أو لم يعلم.
والثالث: أنه يبرأ إذا دفع إليه ولم يعلم إذا لم يعلم الوكيل بعزله، ولا يبرأ إذا(3/56)
علم. وهذا هو الأظهر من التأويلات، وهو الذي بدأنا بذكره. ويتحصل منها خمس تأويلات:
أحدها: أنه لا فرق بين موت الموكل وعزله لوكيله، وأن في كل واحد منهما ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الوكالة تنفسخ بنفس الموت والعزل في حق الوكيل وحق من عامله وإن لم يعلم واحد منهما بذلك على ظاهر ما في كتاب الشركة في عزل الوكيل.
والثاني: أنها تنفسخ في حقهما جميعا بعلم الوكيل، وهو قول أشهب.
والثالث: أنها لا تنفسخ في حق واحد منهما إلا بوصول العلم إليه، وهو قول ابن القاسم في الشريكين وظاهر ما في أول كتاب الوكالات لمالك.
والتأويل الثاني: أنه لا فرق أيضا بين موت الموكل وعزله لوكيله وأن في كل واحد منهما قولين لا أكثر:
أحدهما: أن الوكالة تنفسخ في حقهما جميعا بمعرفة الوكيل.
والثاني: أنها لا تنفسخ في حق كل واحد منهما إلا بوصول العلم إليه.
والتأويل الثالث: الفرق بين الموت والعزل فلا تنفسخ الوكالة في الموت في حق واحد منهما إلا بوصول العلم إليه، وفي العزل قولان:
أحدهما: أن الوكالة تنفسخ بنفس العزل في حقهما جميعا.
والثاني: أنها تنفسخ في حقهما جميعا بمعرفة الوكيل خاصة.
والتأويل الرابع: الفرق أيضا بين الموت والعزل، فلا تنفسخ الوكالة في الموت في حق واحد منهما إلا بوصول العلم إليه، وتنفسخ في العزل بوصول العلم إلى الوكيل قولا واحدا.
والتأويل الخامس: أيضا: الفرق بين الموت والعزل، فتنفسخ الوكالة في(3/57)
الموت بمعرفة الوكيل في حقه وحق من عامله، وفي العزل بنفس العزل وإن لم يصل العلم بذلك إلى واحد منهما. وبالله التوفيق.
فصل وهذا كله لا يسلم من الاعتراض. والصحيح أن المسألة تتخرج فيها ثلاثة أقوال كما قدمت. والأصل في هذا الاختلاف اختلاف الأصوليين فيمن علم بالحكم ثم نسخ ولم يبلغه النسخ هل يكون الحكم منسوخا عنه بورود النسخ فيه وإن لم يبلغه، أو لا يكون منسوخا عنه إلا ببلوغه إليه فقالوا: إن الذي يدل عليه مذهب مالك أن الحكم منسوخ عنه بورود النسخ فيه وإن لم يبلغه. واستدلوا على مذهبه في ذلك بقوله في المرأة يموت عنها زوجها أو يطلقها: إن عدتها من يوم وقع الفراق أو الموت لا من يوم يأتيها الخبر وبقوله في الوكيل يموت موكله أو يعمل أنه معزول وإن لم يعلم. وقال أصحاب أبي حنيفة لا يكون الحكم منسوخا عنه حتى يعلم به. واختلف أصحاب الشافعي في ذلك فقال بعضهم بقول مالك وقال بعضهم بقول العراقيين واستدل أصحابنا على صحة ما دلهم عليه مذهب مالك بأن حكم الله تعالى قد استقر، وخفاؤه على من خفي عليه لا يخرجه من أن يكون متعبدا به، وأكثر ما في بابه أن يكون معذورا بجهله به.
فصل فعلى هذا التأويل لا يكون الاختلاف الحاصل في أفعال الوكيل ومبايعته واقتضائه بعد عزله أو موت موكله، وما أنفقت المرأة بعد موت زوجها أو طلاقه قبل أن تعلم بذلك إلا من جهة الاختلاف في العذر بالجهل ومراعاة التفريط بالإعلام.
فصل والوكالة جائزة بعوض وعلى غير عوض. فإن كانت بعوض فهي إجارة تلزمهما جميعا، ولا تجوز إلا بأجرة مسماة وأجل مضروب وعمل معروف. وإن(3/58)
كانت بغير عوض فهي معروف من الوكيل يلزمه إذا قبل الوكالة ما التزمه، وللموكل أن يعزله من الوكالة متى شاء، إلا أن تكون الوكالة في الخصام فليس له أن يعزله عن الوكالة ويوكل غيره ولا يخاصم عن نفسه إذا كان قد قاعد خصمه المرتين والثلاث إلا من عذر. هذا هو المشهور في المذهب. ووقع لأصبغ في الواضحة ما يدل على أن له أن يعزله عن الخصام ما لم يشرف على تمام الحكم. وفي المكان الذي لا يكون للموكل أن يعزله عن الخصام لا يكون له هو أن يتخلى عنه إذا قبل الوكالة.
فصل واختلف في الجعل على الخصومة على أنه إن يفلح فله كذا وكذا وإن لم يفلح فلا شيء له هل يجوز أم لا على قولين، وهما في المدونة في كتاب الجعل والإجارة منها. وكذلك اختلف أيضا في الرجل يقول: دلني على امرأة أتزوجها ولك كذا وكذا، أو دلني على من يشتري مني جاريتي ولك كذا وكذا فدل عليه، فقيل إن ذلك يلزمه في النكاح والبيع، وهو قول سحنون وأصبغ. وقيل إنه يلزمه في البيع ولا يلزمه في النكاح، وهو قول مالك في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة. وكذلك فرق ابن القاسم بين قوله ولني بيع دارك ولك كذا وكذا، أو ولني إنكاح ابنتك ولك كذا وكذا، فأجاز ذلك في البيع في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، ولم يجز ذلك في النكاح في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب النكاح. ولا فرق في شيء من ذلك بين البيع والنكاح، وقول سحنون وأصبغ أظهر. وفي سماع عيسى من الكتاب المذكور أنه قال اسع لي في نكاح بنت فلان أو أشخص لي في ذلك جائز إذا كان ذلك في البلد ولم يشخص فيه إلى بلد آخر، وبالله التوفيق.(3/59)
[كتاب الشفعة] [القول في الشفعة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتاب الشفعة القول في الشفعة الأصل في تسمية أخذ الشريك الشقص الذي باع شريكه من المشتري بالثمن الذي اشتراه به شفعة هو أن الرجل في الجاهلية كان إذا اشترى حائطا أو منزلا أو شقصا من حائط أو منزل أتاه المجاور أو الشريك فيشفع إليه في أن يوليه إياه ليتصل له الملك أو يندفع عنه الضرر حتى يشفعه فيه فسمي ذلك شفعة، وسمي الآخر شفيعا، والمأخوذ منه مشفوعا عليه.
فصل وثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة» وأنه قال: «الشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء فإذا صنعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» . وهذا الحديث يقتضي ثلاثة أوجه من الفقه.
أحدها: أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء. وأن لا شفعة للجار وإن كان جديدا له في المال إذا لم يشاركه فيه على الإشاعة.(3/61)
والثاني: أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء فيما ينقسم من الأصول دون ما لا ينقسم.
والثالث: أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء في الرباع والأصول دون سائر العروض وبالله التوفيق.
فأما الوجه الأول، وهو أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء وأن لا شفعة للجار وإن كان جديدا له في المال إذا لم يشاركه فيه على الإشاعة فيستدل عليه بثلاثة أوجه من الحديث:
أحدها: نص الكلام.
والثاني: دليل الخطاب.
والثالث: الظاهر والعموم.
فأما النص فهو قوله «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» .
وأما دليل الخطاب فهو أنه لما علق الشفعة بعدم القسمة فقال الشفعة فيما لم ينقسم بين الشركاء دل على انتفائها مع وجودها وهذا بين.
وأما الظاهر والعموم فإنه لما قال الشفعة فيما لم يقسم، والشفعة من ألفاظ العموم المستغرقة للشفعة كان قد جعل جنس الشفعة فيما لم يقسم فلم يبق فيما قد قسم شفعة. وهذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي وأصحابهما أنه لا شفعة للجار. وأثبت أبو حنيفة للجار المصاقب الشفعة ما لم يكن بينها طريق نافذة، ولغير المصاقب إذا اشتركا في طريق غير نافذة. فأولى الناس بالشفعة عندهم الشريك الذي لم يقاسم، ثم الشريك المقاسم إذا بقيت له في الطريق شركة، ثم الجار الذي ليس بمصاقب إذا كان شريكا في طريق غير نافذة. وحجتهم ما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الجار(3/62)
أحق بصقبه» ، وأنه قال: «الجار أحق بشفعة جاره» ، وأنه قال: «الخليط أحق من الشريك» . قالوا ومن طريق القياس أن ملك الجار متصل بالملك المبيع، لأن موضع الحائط الحاجز بين الدارين مبيع. وقد اتصل ذلك بملك الشفيع فأشبه الشريكين لما كان ملك كل واحد منهما متصلا بملك الآخر كانت الشفعة واجبة لكل واحد منهما. وهذا كله ليس بصحيح، لأن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الجار أحق بصقبة» و «الجار أحق بشفعة جاره» ، ليس فيه بيان ما هو أحق به، فيحتمل أن يريد معاونته على ما يعرف له، والعرض عليه إذا أراد البيع. ويحتمل أن يريد بالجار الشريك للمقاربة التي بينهما، لأن العرب تسمي الجار شريكا، وتسمي الزوجة شريكة وجارة لاشتراكهما في البيت. وإذا احتمل الحديث هذين الاحتمالين لم يصح أن يحمل على أنه أحق بالشفعة، إذ قد نص على أنه لا شفعة له بقوله «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» . ولا يصح أن تحمل الأحاديث على التعارض ما أمكن الجمع بينهما بتأويل محتمل وقد قال بعض من احتج عليهم: ولا يصح أن يحمل قوله «الجار أحق بصقبه» و «الجار أحق بشفعة جاره» على الوجوب في الأخذ بالشفعة إن حملت الجار على حقيقة اللفظ ولم تحمله على الشريك، إذ لا يخلو أن يريد أنه أحق بذلك من الشريك أو أحق بذلك من الأجنبي الذي ليس بجار ولا شريك، ولا يصح أن يريد أنه أحق بذلك من الشريك، إذ لا يقول أحد إن الشفعة للجار دون الشريك؛ ولا أنه أحق بذلك من غير الجار، إذ لا يقول أحد إن الشفعة واجبة للأجنبي الذي ليس بجار ولا شريك. وليست بحجة صحيحة لاحتمال أن يريد أنه أحق بذلك من المشتري، فالحجة عليهم إنما هي ما ذكرناه من أن الأحاديث لا يصح أن تحمل على التعارض ما أمكن الجمع(3/63)
بينها بتأويل محتمل. وما رووه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الخليط أحق من الشريك» ، ظاهره يوجب أن الشريك ليس بشفيع، وهذا ما لا يقوله أحد، وهو عندنا محمول على أنه أحق بالعرض عليه، لأنه إن لم يعرض عليه وباع فوت عليه المبيع، والشريك إن لم يعرض عليه وباع لم يفوت عليه البيع لأنه يأخذ من المشتري بالشفعة. فالحديث حجة لنا في أن الخليط وهو الجار الجديد في المال لا شفعة له. وقياسهم ينتقض بالجار المقابل، وقد قال ابن شعبان لو كانت الشفعة واجبة للجار لوجبت لجميع من بالبلد الذي بيعت به الدار لقول الله عز وجل: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} [الأحزاب: 60] الآية. فجعل كل من بالمدينة له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جارا. وبالله التوفيق.
فصل وأما الوجه الثاني وهو أن الشفعة إنما تكون في الرباع والأصول دون سائر العروض، فالدليل عليه من الحديث قوله فيه: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» إذ القسمة بإيقاع الحدود وصرف الطرق إنما تكون في الرباع والأصول دون ما سواها من العروض التي إنما تقسم بالكيل والوزن. وهذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، وهو قول جمهور أهل العلم. ومنهم من أوجبها في كل شيء مشاع من الأصول والعروض والحيوان وغير ذلك وهو قول شاذ. قاله بعض أهل مكة، وروي في ذلك حديث منقطع عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث سعيد بن المسيب وغيره. وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وعلى ذلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، يعني بالمدينة. ومن طريق القياس أن الحيوان والعروض مال يصح الانتقال به فلم تجب فيه شفعة. أصله الدنانير والدراهم والمكيل والموزون وبالله تعالى التوفيق.
فصل وأما الوجه الثالث وهو أن الشفعة إنما تكون فيما ينقسم من أموال دون ما لا ينقسم فيستدل عليه من الحديث بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم،» لأن قوله فيما(3/64)
لم يقسم يدل على أنه إنما أوجب الشفعة فيما ينقسم، لأن ما لا ينقسم لا يقال فيه يثبت فيه حكم كذا وكذا ما لم يقسم. ألا ترى أنه لا يصح أن يقال يثبت في الإنسان حكم كذا وكذا ما لم يقسم. وهذا أمر اختلف فيه أصحاب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فمنهم من قال إن الشفعة لا تجب فيما لا ينقسم من الأصول كالشجرة والنخلة تكون بين الرجلين بأصلها على ما يدل عليه الحديث، وهو قول مطرف. ومنهم من قال إن الشفعة في ذلك واجبة لأنها من الأصول فحمل الباب فيها محملا واحدا وإن كانت لا تنقسم، لأنها من جنس ما ينقسم. وهو قول أشهب وابن الماجشون وأصبغ وأحد قولي ابن القاسم، لأن له في المدونة أن الرحى إذا بيعت بأصلها فإن في الأرض والبيت الذي وضعت فيه الرحى الشفعة بما ينوبها من الثمن، وروى عنه سحنون في العتبية أنه لا شفعة في مناصب الرحى لأنها لا تنقسم.
فصل وعلى هذا يأتي اختلاف المتأخرين من أصحابنا في الضرر الذي من أجله جعلت الشفعة. فمن رأى أن الشفعة لا تكون إلا فيما ينقسم من الأصول لم يعلل بضرر الشركة لإمكان انفصالهما عنه بالقسمة، وقال إن العلة في ذلك ضرر القسمة، وهي تكون بوجوه منها أنه قد تنقص قيمتها إذا قسمت وإذ قد يحتاج كل واحد من المتقاسمين إلى استحداث مرافق في نصيبه فيلزمه في ذلك مؤونة. ومنها ما يلزم فيها من المؤن والأجر التي تختص بقسمة الأصول، إذ ليس كل واحد يحسن قسمتها، فلا بد في الأغلب من الحال أن يستأجر على قسمتها من يختص بمعرفة ذلك، وهي علة صحيحة يشهد لصحتها اطرادها وانعكاسها. ألا ترى أن العروض التي تنقسم بالكيل والوزن لا شفعة فيها إذ لا مؤنة في قسمتها. ومن رأى أن الشفعة تكون فيما ينقسم وفيما لا ينقسم قال إن العلة فيما لا ينقسم ضرر الشركة، إذ لا يقدر أحد من الشركاء أن يتصرف في المال المشترك بشيء من وجوه التصرف دون إذن شريكه. ولا يلزم على هذا إيجاب الشفعة فيما لا ينقسم من(3/65)
العروض لأن الضرر يرتفع فيها ببيعها وقسم الثمن، إذ لا يتشاح الناس فيها ولا يرغبون في إمساكها كرغبتهم في الأصول وتشاحهم في إمساكها.
فصل واتفق أهل العلم على إيجاب الشفعة في الأصول اتفاقا مجملا، ولم يختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن في الشقص المبيع الشفعة إذا بيع بعين أو بقرض. فأما إن باع الرجل شقصه من شريكه أو من أجنبي بأصل أو بشقص من أصل له فيه شرك أو لا شرك به فيه فمذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أن في ذلك كله الشفعة. ووقع في أول سماع ابن القاسم ما ظاهره أن قول مالك اختلف في ذلك كله، وأنه كان يقول إذا علم أنه أراد المناقلة والسكنى ولم يرد وجه البيع إنه لا شفعة في ذلك، وأن بعض المدنيين كان يذكر ذلك، وهو قول ربيعة. فعلى هذا تكون المناقلة المختلف في وجوب الشفعة فيها في هذه الوجوه كلها. وحكى العتبي وابن الماجشون أنهما قالا إن المناقلة التي قال مالك لا شفعة فيها إنما هي أن يبيع الرجل شقصه من شريكه بشقص من أصل له فيه شرك فيكون كل واحد منهما إنما أراد التوسع في حظه بما صار إليه من حظ شريكه عوضا عما عاوضه به. فعلى هذه المناقلة إنما تكون في هذا الوجه الواحد من سائر الوجوه. وروى أبو زيد عن مطرف في الدار تكون بين الرجلين فيبيع أحدهما شقصه من شريكه بشقص من أصله مع شريك آخر أنه لا شفعة لهذا الشريك الآخر في هذا الشقص لأنه لم يقصد به البيع وإنما أراد التوسع في حظه. وكذلك على قول مطرف هذا لو كانت دار بين ثلاثة نفر فباع أحدهم حظه من أحد شريكيه بأصل فلا شفعة للشريك الثالث الذي لم يبع فيه لأنه لم يرد البيع وإنما أراد التوسع في حظه. فعلى قول مطرف هذا تكون المناقلة المختلف في إيجاب الشفعة فيها. وأصله أنك متى وجدت أحد المتعاملين في الأصول قد أخذ من صاحبه شقصا فيما له فيه شقص فهي المناقلة التي لا شفعة فيها. وعلى تأويل(3/66)
مطرف وابن الماجشون على علة أن المعاملة في الأصول لا تكون مناقلة تسقط فيها الشفعة حتى يكون كل واحد منهما قد أخذ من صاحبه شقصا فيما له فيه شقص. وعلى ظاهر ما وقع في سماع ابن القاسم على مالك أن المعاملة في الأصول كيف ما وقعت فهي مناقلة لا تجب فيها الشفعة على أحد القولين، ففي تعين المناقلة المختلف في إيجاب الشفعة فيها ثلاثة أقوال على ما بيناه.
فصل وهي واجبة فيما تجب فيه على قدر الأنصباء على ما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافا لأبي حنيفة في قوله إنها على عدد الرؤوس. والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه أنها على قدر الأنصباء، لأنها لما كانت تجب بالملك وجب أن تكون على قدر الأملاك كالغلل، ولما كانت لدفع المضرة عن الأشراك وكانت المضرة عليهم على قدر حصصهم وجب أن تكون الشفعة التي ترفع الضرر عنهم على قدر حصصهم وبالله التوفيق.
فصل وعهدة الشفيع على المشتري لا على البائع، سواء أخذها من يد البائع قبل القبض أو من يد المشتري بعد القبض. هذا مذهب مالك وأصحابه ومذهب الشافعي. وقد وقع في المدونة ما يدل على أن الشفيع مخير في كتب عهدته على من شاء منهما، وليس ذلك بصحيح، والأولى أن يتأول ذلك على الموجود المنصوص عليه في المذهب. وقال أبو حنيفة إن أخذ الشفيع الشقص من يد المشتري فعهدته عليه، وإن أخذه من يد البائع قبل أن يقبضه المشتري فالعهدة عليه. وقال ابن أبي ليلى إن العهدة على البائع بكل حال. والصحيح ما ذهب إليه مالك، لأن البيع لم يفسخ بين البائع والمشتري بعد وجوب البيع له وتقرر ملكه على الشقص فوجب أن تكون العهدة عليه.
فصل وإنما تكون العهدة في مذهبنا للشفيع على البائع في المقارض يبتاع بمال(3/67)
القراض شقصا وهو شفيعه أو رب المال شفيعه، لأن رب المال إن كانت له الشفعة فالمال له فلا يصح له أن يكتب العهدة على نفسه، وإن كانت الشفعة للمقارض فلا يجوز له أن يجعل العهدة على رب المال فيما ابتاع بماله.
فصل وإذا باع المبتاع الشقص أخذه الشفيع ممن شاء منهما وكتب عهدته عليه. وكذلك قال أشهب إذا غاب الشفعاء إلا واحدا فأخذ جميع الشفعة ثم جاء أحد الغيب كان مخيرا في كتاب عهدته إن شاء على المشتري وإن شاء على الشفيع، لأنه كان مخيرا في الأخذ فهو كمشتر من المشتري. وإن جاء ثالث كان مخيرا إن شاء كتب عهدته على المشتري وإن شاء على الشفيع الأول وإن شاء عليه وعلى الثاني. فقيل إن قول أشهب هو خلاف لمذهب ابن القاسم وإنه لا يكتب عهدته على مذهب ابن القاسم إلا على المشتري، وليس ذلك عندي بصحيح. والصواب أن قول أشهب مفسر لمذهب ابن القاسم إن شاء الله وبه التوفيق.
فصل واختلف في الأخذ بالشفعة فقيل إنها تنزل منزلة البيع، وقيل منزلة الاستحقاق فيما يختص بذلك من الأحكام.
فصل وتورث الشفعة فينزل الوارث منزلة الموروث في الحق الذي كان له من الأخذ أو الترك، سواء مات الموروث والشقص الذي يستشفع به في يده فورثه عنه، أو مات بعد بيع الشقص على القول بأن البيع لا يسقط شفعته. ولا تباع ولا توهب. وقد وقع لأصبغ في الواضحة أن الشقص إذا بيع وله شفعاء فيسلم جميعهم الشفعة إلا واحدا فأراد الذي لم يسلم أن يأخذ الجميع أن تسليمهم إن كان على(3/68)
الهبة للمشتري والعطية فليس له إلا سهمه منها وللمشتري سهام المسلمين. وإن لم يكن على هذا الوجه إلا على ترك الشفعة وكراهية الأخذ بها فللمتمسك جميعها.
فصل فإذا صح على قول أصبغ هذا للمشتري بالهبة حظ المسلم ولم يكن لمن سواه من الشفعاء أخذه، فكذلك البيع على هذا القياس ينزل المشتري به منزلة الشفيع البائع للشفعة، فلا يكون لمن سواه من الشفعاء عليه شفعة، إلا أن يكونوا بمنزلته فيكون لهم منها بقدر حظوظهم. وعلى هذا تأول ابن لبابة رواية ابن القاسم عن مالك في أنه لا يجوز أن يبيع الرجل شفعة قد وجبت له ولا يهبها، فقال معناه من غير المبتاع، واستدل على صحة تأويله برواية جلبها من كتاب الدعوى والصلح قال: يجوز أن يبيع شفعته من المبتاع بعد وجوب الصفقة قبل أن يستشفع ولا يجوز له بيع ذلك من غيره. ومثل هذا حكي أيضا عن مالك من رواية أشهب عنه أنه قال: ولا يجوز له أن يبيعها من غير المبتاع قبل أن يأخذ بشفعته، واختار هو من رأيه ألا يبيع الشفعة ولا يهبها لا من المبتاع ولا من غيره، وهو الصواب. والروايات التي جلب ليست بجلية لاحتمال أن يتأول على أنه إنما أراد بها أن أخذ العرض من المبتاع على تسليم الشفعة له يجوز بعد وجوب الصفقة، وسمي ذلك بيعا لما فيه من معنى البيع. وقول أصبغ شاذ بعيد عن النظر.
وحكى ابن لبابة أيضا أنه رأى ابن الحباب يعقد لنفسه وثيقة شراء نصيب رجل من مال وما وجب له من الاستشفاع في نصيب كان بيع من ذلك المال قبل ذلك. قال فلما تمت الوثيقة قال لي هذه من غرائب المنتجات التي لا يعرفها والله غيرنا، يريدني ونفسه. فالذي يتحصل في هذا أنه لا يجوز للشفيع أن يهب ما وجب له من الاستشفاع لغير المبتاع ولا يبيعه منه. واختلف هل له أن يهب ذلك للمبتاع ويبيعه منه أم لا على قولين:
أحدهما: أن ذلك جائز ويخلص المشتري بما اشترى، ولا يكون لغير البائع(3/69)
والواهب من الشفعاء عليه شفعة إلا أن يكونوا بمنزلته فيكون لهم منها بقدر حقوقهم.
والثاني: أن ذلك لا يجوز، وينفسخ البيع فيكون الشفيع على شفعته، ويفسخ حكم الهبة فيمضي على حكم التسليم. وأما بيع الشفيع نصيبه للذي يستشفع قبل أن يأخذ بالشفعة أو هبته فلا يجوز باتفاق. وأما تسليم الشفعة بمال بعد وجوبها له فجائز باتفاق، وبالله التوفيق.
فصل وليس للشفيع أن يأخذ بالشفعة لغيره، ولا له أن يأخذ للبيع. . وقد استحسن أشهب ألا يكون ذلك له. وأما المريض فإنه يأخذ بالشفعة ولا اعتراض في ذلك، وإن كان أخذه في هذه الحال لورثته لأنه إن لم يأخذ في مرضه كان لهم أن يأخذوا لأنفسهم بعد وفاته.
فصل وقد اختلف في الحد الذي تنقطع فيه شفعة الحاضر العالم إذا سكت ولم يقم بطلب شفعته، فقال أشهب ورواه عن مالك إن حد ذلك السنة، وقال ابن القاسم في المدونة ورواه عن مالك إن السنة قليل ولا تنقطع إلا فيما فوق السنة. وحكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون أنه على شفعته ما لم يوقفه السلطان على الأخذ أو الترك فيترك أو يتركها طوعا منه ويشهد بذلك على نفسه أو يمضي من طول المدة ما يدل على أنه كان تاركا لها. والخمس سنين قليل إلا أن يحدث المشتري فيها بيتا أو غرسا فتنقطع شفعته في أقل من ذلك، فكأنه يرى على هذه الرواية أن حد ما تنقطع فيه الشفعة هو ما يكون فيه الحيازة. وهو نص قول ابن الماجشون في المبسوطة أنه لا تنقطع شفعة الحاضر إلا بعد مضي(3/70)
عشرة أعوام للحديث الذي جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» .
قال ابن المعدل وكان ابن الماجشون يقول بإيجاب الشفعة للحاضر إلى أربعين سنة، ثم رجع إلى عشر سنين. وقد روي عن مالك أنه على شفعته وإن طال ما لم يصرح بتركها، وهو مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة بضد ذلك إن الشفعة إنما هي على الدروب فإن لم يقم بشفعته ساعة علم بالبيع فلا شفعة له. وأما الغائب فهو على شفعته وإن طالت غيبته وكذلك إن كان الشفيع حاضرا والمشتري غائبا فاشتراها له وكيل.
فصل فإن سكت الشفيع ولم يقم حتى أحدث المشتري فيما اشتراه غرسا أو بناء أو حتى طالت المدة وخرجت عن الحد الموقت في الشفعة بطل حقه وسقط قيامه ولم يعذر في ذلك بجهل. وهذه إحدى المسائل التي لا يعذر فيها الجاهل بجهله، وهي سبع مسائل على ما روي عن أبي عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. حكى ابن عتاب عن ابن بشر القاضي أنه قال كان أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: سبع مسائل لا يعذر فيها الجاهل بجهله ولا يشرحها، وإذا سألناه عن تفسيرها لنا. قال فتتبعتها إلى يومي هذا فلم أجد منها إلا بعضها. فذكر خمس مسائل مختلفة المعاني يقتضي بعضها الجهل بما يوجبه الحكم من أن السكوت يبطل حق الساكت، وبعضها الجهل بمقدار الشيء المتعدى فيه. قال: وأخرج إلينا كتابه فكتبناها وهي هذه المسألة، ومسألة الأمة تعتق تحت العبد فيطأها وهي عالمة بالعتق ثم تريد الخيار وتدعي الجهل؛ ومسألة المملكة تقضي بالثلث بالمجلس فلا يناكرها الزوج ثم يريد أن يناكرها بعد ذلك(3/71)
ويدعي الجهل؛ ومسألة السارق يسرق الثوب الذي يسترفع فيه الدراهم وهو لا يساوي ثلاثة دراهم وفيه دراهم مربوطة لم يعلم بها ومسألة المرتهن يطأ الجارية المرهونة عنده ويدعي الجهل، قال ابن عتاب توجد منها مسائل كثيرة فذكر أيضا مسائل مختلفة المعاني وقعت في المدونة والمستخرجة غيرها من الدواوين نص فيها على أن الجاهل لا يعذر بجهله بعضها متفق عليها وبعضها مختلف فيها. منها حديث مرعوس في المقرة جهلا بالزنا؛ ومسألة سماع ابن القاسم في الذي يخير امرأته فتقضي بواحدة فيقال لها ليس ذلك لك فتريد أن تقضي مرة أخرى بالثلث وتدعي الجهل فيما قضت به؛ ومنها رواية أصبغ عن ابن القاسم في من استحلف أباه في حق له أن شهادته ساقطة وإن جهل أنه عقوق. وكذلك قاطع الدنانير جاهلا بكراهيته. ومن الدمياطية في الرجل يرد الرهن إلى الراهن أن ذلك خروج من الرهن ولا يعذر بالجهل. ومن الواضحة فيمن باع جارية وقال كان لها زوج فطلقها أو مات عنها وقالت ذلك الجارية لم يجز للمشتري أن يطأها ولا يزوج حتى تشهد البينة على الصدق أو الوفاة، وإن أراد ردها وادعى أنه ظن أن قول البائع والجارية في ذلك مقبول لم يكن له ذلك، وإن كان ممن يجهل معرفة ذلك. ومنها قول أشهب في ديوانه فيمن أعتق أم ولده ثم وطئها في العدة وادعى الجهالة إنه يحد ولا يعذر كما لو زنى رجل وادعى أنه لم يعلم بتحريم الزنى. وفرق أشهب بين المعتق والمطلق ثلاثا فيطأ في العدة أو واحدة قبل الدخول فيطأ، فقال في هاتين إن الولد يلحقه ولا يحد لأنها شبهة لأهل الجهل. وما حكى ابن حبيب عن أصبغ في المتظاهر يطأ قبل الكفارة أنه يؤدب ولا يعذر بالجهل، وفي الوصي يشتري النصرانية فيعتقها أنه يضمن وإن أخطأ ولا يعذر بالجهل والخطأ، وذكر حديث ابن أبي حبيبة الجرو والفناء من الموطأ. ومن قذف عبدا فظهر أنه حر قد كان أعتق قبل ذلك ولم يعلم القاذف بعتقه، وكذلك إن شرب هو أو قذف أو زنى ولم يعلم بعتقه أن الحد يجب على قاذفه في قذفه إياه، وعليه فيما واقع من الحدود. ومن اشترى من يعتق عليه ولم يعلم أنه يعتق عليه. وذكر أيضا(3/72)
مسائل عنده كثيرة غير هذه، قال: والبيوع الفاسدة حكم الجاهل فيها والعامد سواء إلا في الإثم. قال: وكذلك الوضوء والصلاة يستوي فيهما الجاهل والعامد، وكذلك الحج يستوي الجاهل والعامد في كثير من أحكامه. فأحسن الفقيه ابن عتاب - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما جمع من هذه المسائل إلا أنه إنما ذهب إلى ذكر كل مسألة وجد فيها النص من قول قائل إن الجاهل لا يعذر بجهله وإن خالفه في ذلك غيره ولم يستوعبها وإن كان جمع كثيرا منها وترك مسائل كثيرة لا يعذر فيها الجاهل بجهله باتفاق وعلى اختلاف لم يذكرها إذ لم يجد النص فيها بأن الجاهل غير معذور فيها بجهله، منها مسألة من رأى حمل امرأته فلم ينكره ثم أراد أن ينفيه بعد ذلك، ومنها الشاهد يرى الفرج يستحل أو العبد يستخدم فلا يقوم بشهادته ولا ينكر ذلك، وغيرها من المسائل، كأكل مال اليتيم والغاصب والمحارب والمتصدر لفتوى بغير علم، والطبيب يقتل بمعاناته وهو جاهل بالطب، والشاهد يخطئ في شهادته في الأموال والحدود، ولم يذكر من هذا كله شيئا. فهذه المسائل على افتراق معانيها أكثر من أن تحصى أو تحصر بعدد. فأما القاضي ابن بشر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلم يأت في هذه المسألة بشيء، وأما الفقيه ابن عتاب - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فجمع المسائل التي ذكر ليبين بذلك أن الفقيه أبا عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخطأ في حصرها إلى سبع مسائل فقصر في النظر وأخطأ في التأويل. ولم يكن الفقيه أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على كثرة حفظه وجلالة قدره ممن يجهل هذه المسائل ولا تخفى عليه مواضعها ولا ممن يغلط هذا الغلط البين. فلما علمت هذا أعملت نظري في معرفة الوجه الذي ذهب إليه فرأيت أنه يحتمل أن يكون أراد نوعا ما تنحصر مسائله إلى سبع مسائل، واحتمل عندي أن يكون ذلك النوع هو ما يكون مجرد السكوت فيه على فعل الغير يسقط حق الساكت ويبطل قيامه باتفاق، لأني وجدت في هذا النوع سبع مسائل لا ثامنة لها:
إحداها: مسألة الشفعة هذه وما كان في معناها كالغريم يعتق بحضرة غرمائه فيسكتون ولا ينكرون ثم يريدون القيام عليه، وكالرجل يبيع العبد على أنه بالخيار فيتركه بيد المبتاع حتى يطول الأمر بعد انقضاء أيام الخيار ثم يريد استرجاعه بما(3/73)
اشترط من الخيار ويدعي الجهل في سكوته على بقائه بيد المبتاع بعد انقضاء أيام الخيار وما أشبه ذلك.
والثانية: مسألة الحيازة، من حال مال رجل في وجهه مدة تكون الحيازة فيه عامله فادعى أنه ابتاعه منه صدق مع يمينه ولم يعذر صاحب المال إن ادعى الجهل فإن سكوته يبطل قيامه.
الثالثة: مسألة المملكة تقضي بالثلاث فيسكت الزوج ولا ينكر ثم يريد المناكرة بعد ذلك ويدعي الجهل في سكوته، أو لا تقضي بشيء وتسكت حتى توطأ أو ينقضي المجلس على اختلاف في ذلك ثم تريد أن تقضي وتدعي الجهل، وما أشبه ذلك كالأمة تعتق تحت العبد فلا تختار حتى يطأها الزوج ثم تريد أن تختار نفسها وتدعي الجهل في سكوتها حتى وطئها.
والرابعة: مسألة الشاهد يرى الفرج يستحل أو الحر يستخدم أو ما أشبه ذلك من الحقوق الواجبة لله فيسكت ولا يقوم بشهادته ثم يقوم بها بعد حين ويدعي الجهل في سكوته.
والخامسة: مسألة المرأة المطلقة يراجعها زوجها فتسكت حتى يطأها ثم تدعي أن عدتها قد كانت انقضت وتدعي الجهل في سكوتها.
والسادسة: مسألة المرأة تزوج وهي حاضرة فتسكت ولا تنكر حتى يدخل بها الزوج ثم تنكر النكاح وتقول لم أرض به وتدعي الجهل في سكوتها حتى دخل بها.
والسابعة: مسألة الرجل يباع عليه ماله ويقبضه المشتري وهو حاضر لا يغير فيه ويدعي أنه لم يرض البيع ويدعي الجهل.
ويحتمل أن يكون أراد سبع مسائل في نوع واحد من معنى الطلاق:
إحداها: مسألة رجل يوصي لمكاتبه - من سماع عيسى من كتاب التخيير والتمليك - في الذي يملك امرأته أمرها فتقول قد قبلت ثم تصالحه بعد ذلك قبل أن يسأل ما قبلت ثم تقول كنت أردت ثلاثا لترجع فيما صالحت به أنها لا ترجع على(3/74)
الزوج بشيء لأنها حين صالحت علمنا أنها لم تطلق ثلاثا ولا تعذر في ذلك إن ادعت الجهالة.
والثانية: الذي يسمع امرأته تقضي بالثلاث فيسكت ثم يريد أن يناكرها بعد ذلك ويدعي الجهل.
والثالثة: المرأة تختار في التخيير واحدة ثم تريد أن تختار بعد ذلك ثلاثا وتقول جهلت وظننت أن لي أن أختار واحدة.
والرابعة: المملكة أو المخيرة يملكها زوجها أو يخيرها فلا تقضي حتى ينقضي المجلس على قول مالك الأول، ثم تريد أن تقضي بعد ذلك وتقول جهلت وظننت أن ذلك بيدي متى شئت.
والخامسة: التي يقول لها زوجها إن غبت عنك أكثر من سنة فأمرك بيدك فيغيب عنها ويقيم بعد السنة المدة الطويلة من غير أن تشهد أنها على حقها ثم تريد أن تقضي وتقول: جهلت وظننت أن الأمر بيدي متى شئت.
والسادسة: الأمة تعتق تحت العبد فتتركه يطؤها ثم تريد أن تختار وتزعم أنها جهلت أن الخيار كان لها.
والسابعة: الرجل يجعل أمر امرأته بيد غيرها فلا يقضي المملك حتى يطأها زوجها ثم يريد أن يقضي ويقول جهلت وظننت أن ذلك لا يقطع ما كان لي من القضاء فيما ملكت، وبالله تعالى التوفيق.
فصل واختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما كان متشبثا بالأصول ومتصلا به كالثمرة والزرع والكراء ورقيق الحائط إذا بيعوا مع الحائط، والرحى إذا بيعت مع الأصل، والماء والنقض إذا بيعا دون الأصل، فمرة قال في ذلك كله الشفعة لتعلقه بأصل ما فيه الشفعة، ومرة قال إن ذلك كالعروض المنفصلة من الأرض فلا شفعة فيها. وبالله تعالى التوفيق لا شريك له ولا ند.(3/75)
فصل فأما التمرة فلا فرق في وجوب الشفعة فيها عند من أوجبها، وهو قول مالك في المدونة استحسانا، قال وما علمت أنه قال أحد من أهل العلم قبلي إن فيها الشفعة، بين أن تباع دون الأصل بعد زهوها أو مع الأصل بعد الزهو أو قبله بعد الإبار على مذهب ابن القاسم. وأما إن بيعت قبل الإبار فلا شفعة فيها إذ لم يقع عليها حصة من الثمن، وإنما يأخذها على مذهب ابن القاسم ما لم تجذ أو تيبس إذا كان البيع وقع فيها قبل الإبار من جهة الاستحقاق لا من جهة الاستشفاع. وقد فرعتها في تفسير هذه المسألة وما يتعلق بها من كتاب العيوب فلا وجه لإعادة ذكرها، وبالله التوفيق لا شريك له.
فصل وكذلك الزرع أيضا لا فرق عند من رأى الشفعة فيه بين أن يباع دون الأصل إذا حل بيعه أو مع الأصل بعد أن ينبت أو قبل أن ينبت وقد قيل إنه ما لم ينبت فلا شفعة فيه أصلا إذ لم يقع عليه حصة من الثمن كالثمرة التي لم تؤبر. والصواب أنه قد وقع عليه حصة من الثمن وأن الشفعة فيه واجبة بخلاف الثمرة التي لم تؤبر، وبالله التوفيق.
فصل والخلاف في وجوب الشفعة فيه قائم من المدونة لأنه على إسقاط الشفعة فيه بأن بيعه لا يجوز حتى ييبس، فيلزم على هذا التعليل أن تجب الشفعة فيه إذا بيع قبل أن ييبس على مذهب من يجيز ذلك من أهل العلم، أو يرى العقد فيه فوتا إذا وقع من أصحابنا وإذا بيع مع الأصل خلاف ما نص عليه في المدونة، ومثل ظاهر ما في سماع أشهب من قول مالك إن الشفعة في الأرض وفي كل ما أنبتت الأرض. وبالله تعالى التوفيق.(3/76)
فصل وعلى هذا الاختلاف يتركب طرو الشفيع على الرجل في أرضه المبذورة قبل طلوع البذر فيها أو بعد طلوعه، وبالله التوفيق.
فصل فإذا طرأ الشفيع على الرجل في أرضه المبذورة قبل أن يطلع البذر فيها مثل أن تكون الأرض بين الشريكين فيبيع أحدهما نصيبه منها فيريد الشريك الأخذ بالشفعة وهي مبذورة قبل طلوع البذر فيها فلا يخلو الأمر في ذلك من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون المبتاع هو الباذر لها.
والثاني: أن يكون البائع هو الذي بذرها أو باعها مبذورة.
والثالث: أن يكون البذر لغيرهما مثل مكتر أو ممنوح أو ما أشبه ذلك. فأما إن كان المبتاع هو الذي بذرها فيأخذها الشفيع ويبقى البذر للمبتاع الذي بذره على مذهب من يحمل محمل البيع فلا يصح له الأخذ بالشفعة إلا بعد طلوع البذر. . وقيل إنه يأخذه مع الأصل بقيمة البذر والعمل، وقيل بقيمته على الرجاء والخوف بمنزلة السقي والعلاج في الثمرة. وأما إن كان البائع هو الباذر لها فيأخذها الشفيع مبذورة بجميع الثمن على القول الذي يرى في الزرع الشفعة. وعلى القول الذي لا يرى في الزرع الشفعة يأخذها بما ينوبها من الثمن على القول الذي يحمل الأخذ بالشفعة محمل الاستحقاق، وأما على القول الذي يحمل الأخذ بالشفعة محمل البيع فلا يأخذها حتى يبرز الزرع. وأما إن كان غيرهما هو الباذر لها فيأخذ الأرض بالشفعة دون البذر بجميع الثمن، ولا كلام في هذا الوجه.(3/77)
فصل وكذلك إن طرأ على الأرض والبذر قد نبت فلا يخلو من الثلاثة الأحوال المذكورة، غير أن الوجهين يستوفي الحكم فيهما. وهو أن يكون البذر للمبتاع أو يكون لأجنبي فيأخذ الشفيع فيهما الأرض دون الزرع بجميع الثمن. وأما إن كان البذر قد بذره البائع فيأخذ الشفيع الأرض والزرع بجميع الثمن على القول الذي يرى الشفعة في الزرع، ويأخذ الأرض دون الزرع بما ينوبها من الثمن على القول الذي لا يرى في الزرع شفعة وأما إن طرأ الشفيع بعد يبس الزرع فلا شفعة فيه ويأخذ الأرض بجميع الثمن إن كان البذر للمبتاع أو لأجنبي، وإن كان البذر للبائع أخذ الأرض بما ينوبها من الثمن.
فصل وأما طرو المستحق على الأرض فلا يخلو من وجهين:
أحدهما: أن يستحق الأرض والزرع.
والثاني: أن يستحق الأرض دون الزرع.
فأما إذا استحق الأرض والزرع مثل أن يزرع الرجل أرضه فيتعدى عليه فيها رجل فيبيعها فهو بالخيار بين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن وبين أن يأخذ أرضه بزرعها ولا كلام في هذا الوجه.
وأما إذا استحق الأرض دون الزرع فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال أيضا:
أحدها: أن يكون الزرع بذره المستحق منه.
والثاني: أن يكون بذره البائع.
والثالث: أن يكون لأجنبي.
فأما إن كان بذره المستحق منه وهو غاصب فحكمه حكم الغاصب وهو معلوم، وإن لم يكن غاصبا فلا شيء للمستحق في الزرع ولا له قلعه وإنما له الكراء إن لم يكن الإبان قد فات.(3/78)
وأما إن كان البذر لأجنبي بوجه صحيح فهو له ويأخذ المستحق أرضه وله على الزارع الكراء إن كان أكرى منه هو، وإن كأن الغاصب هو الذي أكراها منه فله الكراء أيضا إن كان الإبان لم يفت، وإن كان الإبان قد فات جرى ذلك على الاختلاف في غلة الأرض المغصوبة، وقد تقدم القول فيها.
وأما إن كان بذر الزرع البائع فباع الأرض مبذورة من المستحق منه فيأخذ المستحق أرضه وينفسخ البيع في الزرع ويرجع المبتاع بجميع الثمن على البائع. وفي كتاب ابن المواز أن الزرع يبقى للمبتاع، وهو بعيد. فهذا وجه القول في طرو كل واحد منهما على انفراد، وهو يغني على القول في طروهما معا وبالله التوفيق.
فصل وأما الكراء فإنما الاختلاف في وجوب الشفعة فيه إذا انفرد عن بيع الأصل، ولا يتصور فيه غير ذلك وبالله التوفيق.
فصل وأما رقيق الحائط والرحى فإنما الاختلاف في وجوب الشفعة فيهما إذا بيعا مع الأصل، فإن انفرد البيع فيهما على الأصل لم يكن فيهما شفعة باتفاق.
فصل وأما الماء فلا اختلاف في وجوب الشفعة فيه إذا بيع شقص منه مع الأصل أو دونه ولم تقسم الأرض. واختلف في وجوب الشفعة فيه إذا قسمت الأرض، فقال في المدونة إنه لا شفعة فيه. وروى يحيى عن ابن القاسم في العتبية أن فيه الشفعة. فذهب سحنون وابن لبابة إلى أن ذلك ليس باختلاف من القول، إلا أنهما اختلفا في تأويل الجمع بينهما، فقال سحنون معنى مسألة المدونة أنها بئر واحدة فلا شفعة فيها إذ لا تنقسم. .(3/79)
والشفعة تكون فيما ينقسم دون ما لا ينقسم. وقال ابن لبابة معنى مسألة المدونة أنها بئر لا فناء لها ولا أرض ومعنى رواية يحيى أن لها فناء وأرضا مشتركة تكون فيها القلد. وذهب القاضي أبو الوليد إلى أن ذلك اختلاف من القول، وأن الاختلاف في ذلك جار على الاختلاف فيما لا ينقسم كالنخلة والشجرة تكون بين النفر، إذ لا تنقسم العين والبئر كما لا تنقسم النخلة والشجرة. وكان من أدركت من الشيوخ يقول إن ذلك اختلاف من القول وإن الاختلاف في ذلك جار على اختلاف قول مالك فيما هو متعلق بالأرض ومتشبث به كالنقض والنخل دون الأرض والكراء وما أشبه ذلك. وبالله التوفيق.
فصل وأما النقض فلا خلاف في وجوب الشفعة فيه إذا بيع مع الأصل لأنه تبع له. واختلف في وجوب الشفعة فيه إذا بيع ثم طرأ عليه من الاستحقاق ما يوجب للمستحق فيه الشركة أو باع أحد الشريكين حظه من النقض دون الأصل وهو من التساوي على صفة يجوز فيه البيع لوجوب قسمه مع الأصل على قولين قائمين من المدونة. وكذلك إن كان النقض القائم بين الشريكين والعرصة لغيرهما فباع أحدهما حظه من النقض لشريكه فيه الشفعة على الاختلاف المذكور إن أبلى صاحب العرصة أن يأخذه لأنه مبدأ عليه ليس من أجل أنه شفيع، ولكن من أجل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا ضرر ولا ضرار» . وقد اختلف هاهنا ممن يأخذ رب العرصة النقض وبما يأخذه. فقيل إنه يأخذه من المبتاع بالقيمة مقلوعا، وقيل بالثمن الذي ابتاعه به، وقيل بالأقل من القيمة أو الثمن. وقيل إنه إنما يأخذه من البائع بقيمته مقلوعا أو بالأقل من القيمة أو الثمن وينفسخ البيع فيه بينه وبين المبتاع، فيرجع على البائع بالثمن الذي دفع إليه. وكل ذلك قد تؤول على ما في المدونة. والأظهر منها أنه إنما يأخذه من البائع بالأقل من القيمة أو الثمن، والأظهر(3/80)
في القياس أن يأخذ من المبتاع بالقيمة مقلوعا. وهذا كله على القول بجواز بيع الأنقاض قائمة على القلع، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة خلاف قول أشهب وسحنون، وبالله التوفيق.
فصل وفي شراء النقض على الهدم أو النخل على القلع والشفعة في ذلك مسائل لم تستوعبها المدونة، وأنا أذكر منها ست مسائل مشروحة بعللها هي أصلها وعليها مدارها، فمن فهمها ووقف على معانيها استدل بها على سائرها إن شاء الله..
إحداها: أن يشتري النخل على القلع ثم تستحق الأرض أو بعضها.
والثانية: أن يشتري النخل على القلع ثم يشتري الأرض بعد ذلك فتستحق الأرض أو بعضها.
والثالثة: أن يشتري الأرض أولا ثم يشتري النخل فيستحق الأرض أو بعضها.
والرابعة: أن يشتري النخل على القلع ثم يشتري الأرض فيستحق رجل نصف الأرض ونصف النخل.
الخامسة: أن يشتري الأرض أولا ثم يشتري النخل بعد ذلك، فيستحق رجل نصف الأرض ونصف النخل.
والسادسة: أن يشتري النخل على القلع فيستحق رجل نصف الأرض ونصف النخل.
فصل فأما المسألة الأولى وهي أن يشتري النخل على القلع ثم يستحق رجل(3/81)
الأرض فقال فيها في المدونة إن لمستحق الأرض أن يأخذ من المبتاع النخل بقيمتها مقلوعة وليس من وجه أنه شفيع، إذ لا شركة له معه فيها، ولكن من وجه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ضرر ولا ضرار» وإن شاء خلى بينه وبين قلعها، وهذا صحيح على مذهب ابن القاسم في أن شراء الأنقاض على القلع جائز وإن كان من حق صاحب العرصة أن يأخذها بقيمتها مقلوعة. وأما على القول بأن ذلك لا يجوز فيفسخ البيع فيها وترجع إلى بائعها ولا يكون لمستحق الأرض عليها سبيل. وقال سحنون ينظر في ذلك فإنه لا يخلو أن يكون البائع للنقض غاصبا للأرض أو مشتريا لها. فإن كان غاصبا فإن المستحق يدفع إليه أعني البائع وهو الغاصب قيمة النخل مقلوعة ويأخذها إن شاء وينتقض شراء المشتري لها، وإن شاء أسلمها إليها فقلعها. وإن لم يكن غاصبا فالمستحق، وإنما له أن يأخذ منه الثمن الذي دفع إليه في النخل على القلع لأنها قد استحقت منه، كمن باع سلعة بمائة ثم باعها من آخر بتسعين فأخذها المبتاع الأول فليس الثاني أن يأخذ من البائع الثمن الذي أخذه من المبتاع الأول، وإنما له أن يرجع عليه بالثمن الذي دفع إليه لأن السلعة استحقت من يده. فإن قال مستحق الأرض لا أعطيه قيمة البناء، قيل للبائع أعطه قيمة الأرض براحا ويتم البيع للمبتاع في النخل ويقلعها على ما اشتراها عليه، فإن أبى من ذلك أيضا كانا شريكين في الأرض والنخل هذا بقيمة النخل قائمة والمستحق بقيمة الأرض بيضاء، وينتقض شراء المشتري فيما صار لمستحق الأرض من الأنقاض ويمضي شراؤه فيما صار منها للبائع إن كان الذي صار له منها جلها ويرجع عليه من الثمن بقدر ما صار منها للمستحق. وإن كان الذي صار منها للبائع غير الجل مما يكون للمشتري أن يرد فليس له أن يمسك وإن كان الجزء معلوما لأن ما يصير له بالقسمة منه مجهول، إذ لا يقسم إلا مع الأرض على اختلاف في هذا الأصل في غير ما كتاب من المدونة.
فصل فإن استحق نصف الأرض فإن المستحق يأخذ نصف الأنقاض وهو ما قابل النصف المستحق بقيمتها مقلوعة على مذهب ابن القاسم. وأما النصف الثاني(3/82)
فحكى عبد الحق عن بعض شيوخه أنه يأخذه بالشفعة بالثمن، وليس ذلك بصحيح، إذ لم تجب الشركة بينهما فيه إلا بعد البيع فلا وجه للشفعة فيه. وإنما الصحيح أن يأخذ بقيمته مقلوعا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا ضرر ولا ضرار» وينظر في النصف المستحق على مذهب سحنون المتقدم إن كان البائع غاصبا أو مشتريا بمثل ما تقدم، وبالله التوفيق.
فصل وأما المسألة الثانية وهي أن يشتري النخل على أن يقلعها ثم يشتري الأرض فيستحقها رجل فإن المبتاع يرجع على البائع بثمن الأرض التي استحقت من يده ثم يكون الحكم بين مبتاع النخل وبين المستحق في الأنقاض على ما تقدم في المسألة الأولى من قول ابن القاسم وسحنون، وبالله تعالى التوفيق.
فصل وأما المسألة الثالثة وهي أن يشتري الأرض أولا ثم يشتري الأنقاض فيستحق الأرض رجل فإن المستحق للأرض هاهنا لا يأخذ الأنقاض على مذهب ابن القاسم إلا بقيمتها قائمة، لأنه زاد في ثمن الأنقاض ليبقيها في أرضه، فليس هو بمنزلة من اشتراها للقلع. كذا حكى عبد الحق في كتابه وهو صحيح. وينبغي على هذا إن أبى أن يدفع إليه قيمتها قائمة أن يقال للمشتري أعطه قيمة أرضه براحا، فإن أبى من ذلك أيضا حملا على الشركة على ما تقدم. وينبغي على مذهب سحنون أن ينظر، فإن كان البائع غاصبا كان للمستحق أن يدفع إليه قيمة النقض منقوضا وينقض البيع فيه بينه وبين المشتري فيرجع عليه بالثمن الذي دفع إليه، فإن أبى من ذلك مضى النقض للمشتري بشرائه وبقي فيه على حقه والمستحق على حقه فيها. فإن لم يتفقا في ذلك على شيء يجوز بينهما بيعت الدار وقسم الثمن بينهما على قدر قيمة الأنقاض قائمة وقيمة العرصة براحا. وإن(3/83)
كان البائع للأنقاض مشتريا قيل للمستحق ادفع إليه قيمة الأنقاض قائمة، فإن فعل انتقض البيع فيها، وإن أبى من ذلك قيل للبائع ادفع إليه قيمة البقعة براحا. فإن فعل كانت له البقعة وللمبتاع النقض، فإن اتفقا فيهما على شيء يجوز بينهما وإلا بيع الجميع فاقتسما الثمن على القيم، فإن أبى من ذلك أيضا حملا من الشركة على ما تقدم، وانتقض البيع فيما صار من النقض للمستحق ومضى فيما صار منه للبائع على ما تقدم من التفسير أيضا.
فصل وأما المسألة الرابعة وهي أن يشتري النخل على القلع أولا ثم يشتري الأرض فيستحق رجل نصف الأرض والنخل؛ والخامسة وهي أن يشتري الأرض أولا ثم يشتري النقض في صفقة أخرى فيستحق رجل نصف الأرض والنخل، ففيهما ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا شفعة في النخل، وهو قول أشهب وأحد قولي ابن القاسم في المدونة.
والثاني: أن الشفعة فيها، وهو أحد قولي ابن القاسم في المدونة.
والثالث: أن الشفعة فيها إن كان اشتراها قبل الأرض، ولا شفعة فيها إن كان اشترى الأرض قبلها، وهو اختيار محمد بن المواز.
فأما على القول بوجوب الشفعة في النخل فيأخذ المستحق نصف الأرض ونصف النخل بالشفعة بنصف الثمنين، وإن شاء أخذ نصف الأرض بالشفعة وترك نصف النخل فقلعها المبتاع في المسألة الرابعة، وبقي على حقه فيها في المسألة الخامسة، إذ لم يشترها على القلع. وإن شاء أخذ النخل بالشفعة وترك الأرض.
وأما على القول بألا شفعة في النخل، فاختلف هل يكون له أن يأخذها بالقيمة من أجل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» على قولين:
أحدهما: أن ذلك ليس له.(3/84)
والثاني: أن ذلك له.
فإذا قلنا إن ذلك له فيأخذ بالقيمة قائما في المسألتين على ما في بعض روايات المدونة. وعلى قياس ما حكى عبد الحق لا يأخذه بالقيمة قائما إلا في المسألة الخامسة وهي إذا تقدم شراء الأرض قبل النخل، وبالله تعالى التوفيق لا شريك له ولا ند.
فصل وأما المسألة السادسة وهي أن يشتري النخل خاصة على أن يقلعها فيستحق رجل نصف الأرض ونصف النخل، فإن البيع ينتقض فيما بقي في يد المشتري من النخل مما لم يستحق على البائع، ويرجع بجميع الثمن على البائع، إذ لا يقدر على الوصول إلى نصف ما اشترى إلا أن يقاسم البائع للمستحق الأرض مع النخل، وهو إذا قاسمه قد يقل ما يصير له في نصيبه لجودة الأرض أو يكثر لرداءتها، فلا يجوز له أن يتمسك بما بقي في يد البائع منها لأن ذلك مجهول فينتقض البيع، كما قال ابن القاسم فيمن اشترى نصيب رجل في نخل وشريكه غائب على القلع إن ذلك لا يجوز، لأنه لا يستطاع قسمة النخل وحدها دون الأرض فيؤول ذلك إلى الجهل إذا قسم مع غيره. على أن ابن القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد قال في المدونة إذا اشترى نقض دار على أن يقلعه ثم أتى رجل فاستحق نصف الدار إنه يكون له أن يرد ما بقي في يديه من النقض مما لم يستحق على البائع. وظاهر قوله له أن يرد التخيير وأن له أن يمسك، وهو كلام فيه نظر، إلا أن يكون معنى ما تكلم عليه ابن القاسم أن الأرض والنقض متساو لا يختلف في القسمة وإنما يصير له فيه النصف حقيقة، وهو معنى قول سحنون في هذه المسألة إنها تجوز في حال ولا تجوز في حال. وجواب ابن القاسم فيها في المدونة على القول بأنه لا شفعة في النقض، ولذلك قال يخير المبتاع. ولو تكلم فيها على القول بوجوب الشفعة في النقض لبدأ بتخيير الشفيع قبل تخيير المبتاع على المعلوم من مذهبه في ذلك، خلاف قول أشهب وسحنون، وبالله التوفيق لا شريك له.(3/85)
فصل وقد اختلف عي الشركة التي يوجبها الحكم هل تجب الشفعة بها قبل تقررها أم لا على قولين.
أحدهما. أن لا شفعة في ذلك، وهي رواية أشهب عن مالك في أصل سماعه.
والثاني. أن الشفعة في ذلك واجبة، وهو قول أشهب من رأيه، ونصب الرواية قال: وسئل مالك فقيل له: إني أعطيته في خيف في وادي خمسين ومائة قفيز بين كل قفيزين عشرة أذرع، ثم إن بعض أهل ذلك الخيف من أهل الأرض باعوا ذلك الخيف، فهل لي شفعة فيما باعوا؟ فقال له لا أظن أن لك شفعة. فقال إنهم لم يحدوه ولم يقسموه ولم يسموا لي في أعلى الحائط ولا في أسفله. فقال ما أرى لك شفعة، أراهم قد سموا لك أذرعا مسماة، فقال لمالك إنهم لم يسموها في موضع من الخيف بعينه، فأين أجد ذلك في أعلى الخيف أم في أسفله؟ فقال له لا أدري اذهب إلى القاضي. قال أشهب: أوهم مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما أفتى به الرجل. أرى له في ذلك الشفعة، لأنه أعطاه خمسين ومائة قفيز بأذرع مسماة لم يعطها له في موضع بعينه حتى تكون معروفة بأعيانها فلا تكون له شفعة، ولكنه إنما أعطاه أذرعا ليس ذلك له في موضع محدود بعينه حتى يكون بعرف الذي له من الخيف، وإنما إعطاء من الخيف عدد أذرع يكون له شريكا في الخيف أعلاه وأسفله بقدرها من عدد الأذرع كلها، بمنزلة الذي يكون له في حائط مائة نخلة فيهب منها لرجل محشر بخلاف لا يسميها بأعيانها فيكون شريكا له في الحوائط بالعشر. فإن باع الواهب أو الموهوب له قبل القسم كان في ذلك الشفعة. وفي المجموعة لأشهب وابن نافع مثل قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنه لا شفعة في ذلك، إلا أن أشهب تأول أنه إنما وهب القفز دون الأرض، فلذلك لم ير له شفعة.
وقد نزلت هذه المسألة بصاحبنا الفقيه أبي القاسم أصبغ بن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قرية نسان، وذلك أن صاحبها توفي فابتاع من بعض ورثته حظوظهم، وكان صاحبها قد باع قبل موته فيها من غيره مبذر زوجين على الإشاعة، فطلبه(3/86)
بالشفعة، فأفتينا فيها من غير ذكر رواية على ما يوجبه القياس والنظر ألا شفعة له في ذلك عليه، وكان المبتاع للزوجين قد أعلم القاضي يومئذ بمسألته، فقال له لك الشفعة ووعده أن يقضي له بذلك. فلما اتصل به ما قلنا أنكر الفتوى وظن أنها خطأ، فأخذ معي فيها فحاججته على رد قوله وتصحيح ما ذهبنا إليه. فلما لزمته الحجة ولم يقدر على القضاء مع مخالفة الفتوى رجع عن قوله بوجوب الشفعة وقال إن الذي يبطلها فساد البيع في الزوجين على الوجه المذكور، فطالبه الفقيه ابن القاسم بالحكم له بإبطال الشفعة عنه للقائم بها عليه على مذهبه الذي رآه، فقضى له بذلك وأشهدنا على قضائه به وحكمه، وزعم أن العلة عنده في فساد البيع الجهل بمبلغ أرض القرية لأنه اشترى على الشركة إذ لم يشترط الخيار فكأنه اشترى جزءا مجهولا يعرف مبلغه إن كان ثلثا أو ربعا إلا بعد تكسير أرض القرية. وهذا غير صحيح، لأن ما اشترى لا يزيد بزيادة أرض القرية ولا ينقص بنقصانها، لأنه إنما اشترى زوجين على الشركة في أرض القرية، فإن وجد تكسيرها عشرة أزواج كان له منها الخمس وإن وجد ثمانية كان له منها الربع، وربع الثمانية وخمس العشرة سواء، فلا غرر في ذلك ولا جهل، والبيع صحيح إذا كان قد وقف على أرض القرية وعرف كريمها من لئيمها.
ومن أهل العلم من زماننا من ذهب إلى أن البيع لا يجوز في ذلك على مذهب ابن القاسم في المدونة إذا كانت الأرض مختلفة في الطيب، ولا على قول غيره فيها وإن كانت مستوية قياسا على قولهما في كتاب كراء الأرضين في اكتراء الأرض مزارعة، وقال إن العلة في المنع من ذلك عند ابن القاسم إذا كانت الأرض مختلفة، وعند غيره إن كانت مستوية أن الحكم يوجب القسمة، فكأنه اشترى ما يخرج له فيها بالقسمة. وهذا ظاهر البطلان، إذ لو صحت هذه العلة لما أجاز ابن القاسم الكراء إذا استوت الأرض ولا أجاز اشتراء جزء على الإشاعة من دار ولا أرض لأن الحكم يوجب القسمة فيأخذ فيها ما يخرج له السهمة. وقد أجمع أهل العلم على جواز ذلك. وإنما معنى مسألة المدونة أن الكراء إنما وقع على أن يختار المكتري فيأخذ من أي موضع شاء من الأرض، فأجازه ابن القاسم إذا استوت الأرض وإن أمكن أن تختلف الأغراض في نواحيها قياسا على قولهم في إجازة(3/87)
شراء ثوب يختاره المشتري من ثياب صنفها واحد وإن اختلفت صفاتها، ولم يجزها إذا اختلفت الأرض كما لم يجز شراء ثوب على أن يختاره من أصناف. ولم يجز ذلك عند غير ابن القاسم وإن استوت الأرض لاختلاف الأغراض في نواحيها على مذهب من لا يجيز البيع في الثياب على الاختيار حتى تكون صنفا واحدا وصفة واحدة. والدليل على صحة تأويلنا هذا في هذه المسألة أنها تنقسم في الاحتمال إلى أربعة أقسام:
أحدها: أن يكون الكراء وقع على أن يعطيه المكري من أي موضع شاء.
والثاني: أن يكون وقع على أن يضربا على الأرض بالسهام فيأخذ من الموضع الذي وقع السهم عليه.
والثالث: أن يكون وقع الأمر مسكوتا عليه.
والرابع: أن يكون وقع على أن يختار المكتري فيأخذ من أي موضع شاء فأما على أن يعطيه المكري من أي موضع شاء أو على أن يأخذ من الموضع الذي وقع عليه السهم بالقرعة فلا يصح أن يكونا تكلما على ذلك لأن ذلك لا يجوز عند أحد من العلماء. وكذلك لا يصح أن يكونا تكلما على أن البيع وقع مسكونا عليه على حكم الشركة لأن البيع لو كان وقع على ذلك لوجب أن يكون صحيحا عندهما جميعا، اختلفت الأرض في الطيب والكرم أو استوت في ذلك على ما بيناه فلم يبق إلا ما تأولناه وهو أن البيع إنما انعقد بينهما على أن يأخذ المكتري الأذرع التي اكترى حيث شاء من الأرض على ما بيناه. وإنما يفسد البيع في هذه المسألة إن كان مبذر الزوجين غير معلوم القدر، وقد نص على ذلك ابن القاسم في رواية عيسى عنه في المدونة.
[فصل فتوى ابن رشد بإبطال حكم قاضي قرطبة في قضية شفعة]
فصل وقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أنه لا شفعة في ذلك أصح من مذهب أشهب(3/88)
على ما أفتينا به، وقد أتيت في جوابي حينئذ من الحجة بعد جواب الفقيه ابن عتاب - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما يقتضي توجيه الرواية وتصحيحها، ونصه: تصفحت- رحمنا الله وإياك- سؤالك ووقفت عليه وما جاوب به الفقيه أبو محمد - أكرمه الله- من أنه لا شفعة لمبتاع مبذر الزوجين من القرية على إشاعة فيما بيع منها بعد ذلك صحيح وبه أقول، لأن مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه ألا شفعة في الأصول إلا فيما بين الشركاء على ما ثبت من «قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة فيما بين الشركاء ما لم تقع الحدود» . والشريك بإجماع أهل العلم إنما هو الذي يشارك الرجل في رقبة المال بجزء معلوم على الإشاعة، ولا يختص أحدهما دون صاحبه بضمان ما يطرأ عليه من هلاك أو غصب أو استحقاق. هو مبتاع مبذر الزوجين من القرية على الوجه الذي ذكرت في سؤالك ليس بشريك في القرية للبائع منه ولا لمن انتقلت إليه بالابتياع منه أو من ورثته، لأنه إنما ابتاع منه مساحة معلومة من أرضها. فهي بمنزلة من اشترى ثوبا من ثياب ولم يعينه ولا اشترط الخيار، وإن كان الحكم يوجب في ابتياع مبذر الزوجين عند التشاح أن تكسر جميع أرض القرية فيعرف ما يقع مبذر الزوجين منها فيأخذه حيثما وقع له بالقرعة على حكم الشركة إذا لم يعينا في تبايعهما الموضع الذي يأخذ منه مبذر الزوجين، قالا في تبايعهما على الإشاعة أو سكتا عنه، الحكم في ذلك سواء، لأنه إن طرأ على شيء من أرض القرية استحقاق أو غصب أو هلاك لم يلزم مبتاع الزوجين من ذلك شيء ما لم تكسر أرض القرية فيشهدا على أنفسهما بالرضى بالتشارك فيها على ما يقع تكسير الزوجين من تكسير جميع القرية، وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه بين أحد من أهل العلم. فإذا صح هذا على ما بيناه وجب ألا شفعة له على المبتاع لمبذر الزوجين. ومعنى قول أهل العلم في مثل هذا البيع إنه جائز وهما شريكان إنما هو أن الحكم يوجب القسمة بينهما عند التشاح على حكم الشركة لا أنهما شريكان من الآن بعقد البيع، هذا ما لا يصح أن يتأول عليهم بوجه. ولو وقع البيع بينهما في مبذر الزوجين على هذا بشرط أن يكون المبتاع لمبذر الزوجين شريكا للبائع في القرية بما يبلغ تكسيرها من تكسير جميع أرض القرية إذا كسراهما حتى تكون المصيبة منهما جميعا على حسب ذلك فيما يطرأ على القرية بعد البيع من غصب أو(3/89)
استحقاق كان بيعا فاسدا لمآل الأمر بالشرط إلى ابتياع جزء مجهول لا يعلم إلا بعد التكسير، وبالله التوفيق.
فصل ولو باع منه مبذر الزوجين من القرية على أن فيها عشرة أزواج قبل أن يتحقق تكسيرها لما وجب أن يكونا شريكين فيها بعقد البيع إلا على مذهب من لا يرى على البائع في مثل هذا البيع حق توفية، ويجعل اشتراط المبتاع على البائع عشرة أزواج كصفقة اشترى عليها، فإن وجد تكسير القرية عشرة أزواج فأكثر لزمهما البيع ولم يكن لواحد منهما خيار، وإن وجد تكسير القرية أقل من عشرة أزواج فإن المبتاع مخير بين أن يتمسك ببيعه بجميع الثمن أو يرد ويرى الضمان من المبتاع إن غرقت الأرض أو غصبت لا على من يرى على البائع فيه حق توفية ويجعل الضمان منه إن غصبت أو غرقت قبل التكسير، ويرى أن ما وجد فيها من زيادة على العشرة الأزواج التي اشترط عليه فلا حق للمبتاع فيها وأنه يكون شريكا بالزوجين اللذين ابتاع، فلا يكون له من القرية إلا سدسها إن وجد تكسيرها اثني عشر زوجا. وإن وجد تكسيرها أقل من عشرة أزواج سقط عنه من الثمن بحساب ذلك. فانظر هذا الأصل والاختلاف فيه في سماع أشهب وعيسى وأبي زيد من كتاب جامع البيوع، وفي نوازل سحنون من الكتاب المذكور ومن كتاب العيوب، وفي سماع عيسى أيضا من كتاب النكاح. وإنما يكون المبتاع شريكا للبائع بالزوجين إذا اشتراهما على الإشاعة من القرية بعد تكسير القرية والوقوف على حقيقة ذلك، فهذا تحقيق القول في هذه المسألة وبالله تعالى التوفيق لا شريك له.
فصل ويجب إذا اشترى زوجين من القرية على الإشاعة ولم يسميا عدد أزواج القرية فاستحق من القرية شيء أو غصب قبل التكسير فقلنا إن المبتاع يكون له الزوجان مما بقي ويشارك البائع بقدر ذلك ألا يجبرا على ذلك إن أبى أحدهما وأراد رد البيع، لأن من حجة المبتاع أن يقول الذي استحق أو ذهب أفضل وأطيب فلا أرضى أن أخذ من الباقي، ومن حجة البائع أن يقول الذي بقي أفضل وأطيب فلا أرضى أن تأخذ منه،. وبالله تعالى التوفيق.(3/90)
[كتاب القسمة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد ... وبالله أستعين وعليه أتوكل كتاب القسمة قال الله عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] . وقال تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية، وأيما دار أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة حنين لما سأله الناس أن يقسم بينهم مغانمهم وألحوا عليه في ذلك: «أتخافون ألا أقسم بينكم ما أفاء الله عليكم، والذي نفسي بيده لو أفاء الله عليكم مثل سمر تهامة نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدونني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا» .
فصل فالحكم بقسمة ما ينقسم إذا دعا إلى ذلك بعض الأشراك واجب، ويبيع ما لا ينقسم وقسمة ثمنه بينهم إذا دعا إلى الانفصال في ذلك بعضهم لازم، لا(3/91)
اختلاف بين أهل العلم في هذه الجملة. وإنما اختلفوا عند تفصيلها في تعيين ما ينقسم وفي صفة القسم فيما ينقسم على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
[فصل فيما تكون فيه القسمة]
فصل فالقسمة تكون في شيئين:
أحدهما: رقاب الأموال.
والثاني: منافعها.
فأما قسمة الرقاب فإنها تكون على ثلاثة أوجه:
قسمة قرعة بعد تقويم وتعديل.
وقسمة مراضاة بعد تعديل وتقويم.
وقسمة مراضاة بغير تقويم ولا تعديل. ولكل وجه من هذه الوجوه الثلاثة أحكام اختصت بها دون ما سواها.
فأما قسمة القرعة بعد التعديل والتقويم فهي القسمة التي يوجبها الحكم ويجبر عليها من أباها فيما ينقسم، ولا يصح إلا فيما تماثل أو تجانس من الأصول والحيوان والعروض، لا فيما اختلف وتباين من ذلك، ولا في شيء من المكيل والموزون، ولا يجمع فيها حظ اثنين في القسم. ويجب القيام فيها بالغبن إذا ثبت لأن كل واحد منهما دخل على قيمة مقدرة وذرع معلوم، فإذا وجد نقصا من ذلك وجب له الرجوع به.
وأما قسمة المراضاة بعد التقويم والتعديل فتصح في الجنس الواحد وفي الأجناس المختلفة المتباينة وفي المكيل والموزون إلا فيما كان منه صنفا واحدا مدخرا لا يجوز فيه التفاضل. وهذه القسمة أيضا متى ظهر فيها غبن في ذرع أو قيمة كان للمغبون الرجوع بذلك للعلة التي قدمناها. وكذلك قسمة المراضاة والمهايأة(3/92)
بغير تعديل ولا تقويم تجوز في الجنس الواحد وفي المختلف من الأجناس أيضا، وفي المكيل والموزون إلا فيما لا يجوز فيه التفاضل من الطعام إلا أنه لا قيام فيها لواحد منهم على صاحبه بالغبن، لأنه لم يأخذها أحد على قيمة مقدرة ولا على ذرع معلوم ولا على أنه مماثل لما خرج عنه، وإنما أخذه بعينه على أن يخرج فيما سواه من جميع حقه سواء كان أقل منه أو أكثر كبيع المكايسة سواء.
فصل وهذه القسمة لا يختلف فيها أنها بيع من البيوع، وإنما يحكم فيها بحكم البيع فيما يطرأ من الاستحقاق والرد بالعيوب وسائر الأحكام المتعلقة بالبيوع. وأما القسمة على الوجهين الأولين فاختلف هل هي تمييز حق أو بيع من البيوع، فنص مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة على أنها بيع من البيوع. وذهب سحنون إلى أنها تمييز حق. ويوجد من قوله ما يدل على خلاف مذهبه. واضطرب قول ابن القاسم في ذلك على ما تقتضيه مسائله في المدونة وغيرها. ووجه قول من قال إنها بيع من البيوع هو أن كل واحد من المتقاسمين عاوض صاحبه في حصته بحصته فملك حصة صاحبه من الجزء الذي صار إليه بحصته من الجزء الذي خرج عنه، وهذه معاوضة محضة، والمعاوضة مبايعة. ووجه قول من قال إنها تمييز حق أنها غير موقوفة على اختيار المتقاسمين بل قد تجوز فيها المخاطرة بالقرعة، وذلك ينافي البيع، فثبت أنها لتمييز الحق. والأظهر في قسمة القرعة أنها تمييز حق، وفي قسمة المراضاة بعد التعديل والتقويم أنها بيع من البيوع.
وأما قسمة المراضاة بعد تعديل ولا تقويم فلا اختلاف أنها بيع من البيوع في جميع الأحكام كما ذكرنا.
فصل والقرعة إنما جعلت في القسمة تطييبا لأنفس المتقاسمين، وأصلها قائم من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأما الكتاب فقوله تعالى في قصة يونس عليه(3/93)
السلام: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] . وفي قصة مريم: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] . وأما السنة فهي ما روي «أن رجلا أعتق أعبدا له ستة عند موته فأسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم فأعتق ثلث ذلك الرقيق» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» . وإنما أسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين العبيد في العتق ليقاسم الميت للورثة فيأخذ له الثلث ويعطي الورثة الثلثين، فهذا أصل صحيح في القضاء بالسهمة في القسمة فيما كان مماثلا من العروض والأصول أو متجانسا، وما يوجبه الحكم فجائز أن يتراضى عليه من غير حكم، وبالله التوفيق.
فصل ورقاب الأموال تنقسم في القسمة على ثلاثة أقسام: مكيل وموزون، وحيوان وعروض، ورباع وأصول.
فصل فأما المكيل والموزون فلا يخلو من أن يكون صنفا واحدا أو صنفين فزائدا.
فإن كان صنفا واحدا فلا يخلو أيضا من أن يكون صبرة واحدة أو صبرتين فزائدا. فأما إن كان صبرة واحدة فلا خلاف في وجوب قسمه على الاعتدال في الكيل والوزن إذا دعا إلى ذلك أحد الشركاء، ولا في جواز قسمته على الاعتدال في الكيل والوزن وعلى التفضيل البين، كان ذلك مما يجوز فيه التفاضل أو من الطعام المدخر الذي لا يجوز فيه التفاضل. ويجوز ذلك كله بالمكيال المعلوم والمجهول، وبالصنجة المعلومة والمجهولة. ولا خلاف أيضا في أن قسمته جزافا(3/94)
بغير كيل ولا وزن ولا تحر لا تجوز، لأن ذلك غرر ومخاطرة وإن كان من الطعام المدخر دخله أيضا عدم المماثلة.
وأما قسمته تحريا فلا تجوز في المكيل، وتجوز في الموزون. ويدخل في جواز ذلك من الاختلاف ما يدخل في جواز بيعه تحريا.
فصل وأما إن لم يكن من صبرة واحدة فلا يخلو من أن يكون مما يجوز فيه التفاضل مثل: محمولة وسمراء وقمح وشعير ونقي ومغلوت فلا تجوز قسمته إلا على الاعتدال في الوزن بالصنجة المعروفة فيما يوزن، لأنهما إذا اقتسما القمح والشعير بالمكيال المجهول فأخذ أحدهما القمح والثاني الشعير وإن اعتدلا في الكيل واقتسما الزائد من القمح على الشعير أو الشعير على القمح بينهما بنصفين إن وجدا في أحدهما زيادة على الآخر، لأن ما كان من القمح مساويا للشعير وبالشعير في الكيل فقد بادل كل واحد منهما صاحبه في نصفه بالمكيال المجهول، ولا تجوز مبادلة القمح بالشعير بالمكيال المجهول، كما لا يجوز بيع أحدهما بالمكيال المجهول، لأن ذلك غرر، إذ لا يدري ما يقع المكيال المجهول من المعلوم، لأن الذي يأخذ الشعير يقول لو علمت أنه يبلغ هذا العدد لم أرض أن آخذ الشعير فأعطيه القمح. ولو اقتسما القمح على حدة والشعير على حدة لجاز بالمكيال المجهول على ما تقدم في الصبرة الواحدة. وأما إن كان مما يجوز فيه التفاضل مثل ما لا يدخر من الأطعمة ومثل الحناء والعصفر وشبه ذلك فيجوز قسمه على الاعتدال والتفاضل البين بالمكيال المعلوم والصنجة المعروفة. ولا يجوز بالمكيال المجهول(3/95)
ولا بالصنجة المجهولة لأن ذلك غرر على ما بيناه في الصبرتين من جنس واحد لا يجوز فيه التفاضل مثل قمح وشعير.
وأما في واجب الحكم فلا تقسم كل صبرة إلا على حدة.
وإذا قسمت كل صبرة على حدة جازت قسمتها بالمكيال المجهول كما تجوز بالمكيال المعلوم، لأن قسمة الصبرة الواحدة على الكيل تمييز حق وليس ببيع. وكذلك إن كان صنفين تجوز قسمته على الاعتدال في الكيل والوزن، وعلى غير الاعتدال. ولا يجوز ذلك إلا بالمكيال المعلوم والصنجة المعلومة. وأما في واجب الحكم فلا يقسم كل صنف إلا على حدة. وإذا قسم كل صنف على حدة جاز ذلك بالمكيال المعلوم والمجهول حسب ما مضى بيانه وبالله تعالى التوفيق.
فصل ولا تجوز القرعة في قسم شيء مما يكال أو يوزن.
فصل أما الحيوان والعروض فقسمتهما على التراضي من غير سهمة جائزة باتفاق، ولا اختلاف بين أهل العلم في ذلك.
وأما قسمتهما بالتعديل والسهمة فمنع من ذلك عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون في سماع يحيى من كتاب القسمة، وقال إنها تباع ويقسم الثمن، وأجازه مالك وأصحابه في الصنف الواحد ومنعوا منه في الصنفين.
فصل وفي تمييز الصنف الواحد من الصنفين في ذلك اختلاف بين أصحاب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أما أشهب فأجرى القسمة في ذلك مجرى البيع وحملها عليه فقال: إن ما جاز سلم بعضه في بعض فلا يجوز جمعه في القسمة بالسهمة وأما ابن القاسم فلم(3/96)
يجر قوله على قياس، لأنه جعل القسمة في بعض المواضع أخف من البيع فأجاز القسمة بالسهمة فيما يجوز سلم بعضه في بعض،، وجعلها في بعض المواضع أشد من البيع فمنع من القسمة بالسهمة فيما هو عنده في البيع صنف واحد لا يجوز أن يسلم بعضه في بعض، وذلك قوله في المدونة إنه تقسم الخيل على حدة والبراذين على حدة والبغال على حدة والحمير على حدة، إلا أن يتأول عليه أنه أراد أن يقسم الخيل على حدة والبراذين على حدة والبغال على حدة والحمير على حدة إذا كان في كل صنف منها ما يحمل القسمة، فيكون ذلك مثل ظاهر قوله في البز في أحد الموضعين من المدونة، ومثل قول عيسى بن دينار من رأيه في سماعه من كتاب القسمة في قسمة الأرض الدنية والكريمة. وهذا أولى ما حمل عليه قوله والله أعلم. فيتحصل من مذهبه على هذا التأويل ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يجمع الخيل والبراذين والبغال والحمير في القسمة إن كان كل صنف منها يحتمل أن يقسم على حدة.
والثاني: أنه لا يجمع في القسمة إلا أن يكون كل صنف منها لا يحتمل أن يقسم على حدة.
والثالث: أنه لا يجمع في القسم بحال وإن لم يحتمل أن يقسم كل صنف على حدة. وكذلك البز والثياب على هذا القياس يكون فيه ثلاثة أقوال: وذهب ابن حبيب إلى أنه يجمع في القسمة ما تقارب من الصنفين، فجعل الخز والبز والحرير صنفا واحدا، والقطن والكتان صنفا، والصوف والمرعزى صنفا، والفراء وإن اختلفت أجناسها صنفا.
فصل وأجاز أشهب جمع صنفين في القسمة بالسهمة إذا رضي الشريكان بذلك، ومثله موجود لابن القاسم في المدونة في مسألة الشجرة والزيتونة، وذلك معترض لأنه إن كان غررا فلا يصح الرضا به، وإن لم يكن غررا فيلزم الحكم به.(3/97)
فصل وأما الثوب الواحد والبعير الواحد وما أشبه ذلك فلا يقسم بين الشريكين إلا أن يتراضيا بذلك لأن في قسمه فسادا له. وكذلك الحكم في كل ما هو زوج لصاحبه لا يستغني أحدهما عن صاحبه مثل النعلين والخفين والبابين وما أشبه ذلك.
فصل وأما الرباع والأصول فيجوز أن تقسم بالتراضي وبالسهمة إذا عدلت بالقيمة، اتفق أهل العلم على ذلك اتفاقا مجملا، ولم يقل ابن أبي سلمة في ذلك ما قال في الحيوان والعروض إنها لا تقسم بالسهمة.
فصل ولا يجمع في القسمة الدور مع الحوائط ولا مع الأرضين، ولا الحوائط مع الأرضين، وإنما يقسم كل شيء من ذلك على حدته. واختلف إذا اختلفت الدور في النفاق أو تباعدت مواضعها هل تجمع في القسمة أم لا على ثلاثة أقوال. وكذلك اختلف إذا اختلفت الأرضون في الكرم والنفاق أو في السقي على ما سيأتي كل في موضعه إن شاء الله تعالى.
فصل واختلف في قسمة الدار الواحدة أو الأرض بين النفر فقال مالك: إنها تقسم بينهم إذا دعا إلى ذلك أحدهم وإن لم يصر في نصيب كل واحد منهم إلا قدر قدم وما لا منفعة له فيه، ولم يتابعه على ذلك من أصحابه إلا ابن كنانة. وقال ابن الماجشون لا تقسم إلا أن يصير في حظ كل واحد منهم ما ينتفع به في وجه من وجوه المنافع، وإن قل نصيب أحدهم حتى كان لا يصير له بالقسمة إلا ما لا منفعة(3/98)
فيه في وجه من الوجوه فلا تقسم. وقال ابن القاسم لا تقسم إلا أن تنقسم من غير ضرر ويصير لكل واحد منهم في حظه موضع ينفرد به وينتفع بسكناه، ولا يراعي في ذلك نقصان الثمن على مذهبه، وإنما يراعي ذلك في العروض. وقال مطرف إن لم يصر في حظ واحد منهم ما ينتفع به لم يقسم، وإن صار في حظ واحد منهم ما ينتفع به قسم دعا إلى ذلك صاحب النصيب القليل الذي لا يصير له في نصيبه ما ينتفع به أو صاحب النصيب الكبير الذي يصير له في حظه ما ينتفع به. هذا ظاهر قوله. وقد قيل إنها لا تقسم إلا أن يدعو إلى ذلك صاحب النصيب القليل، وقيل إنما تقسم إذا دعا إلى ذلك صاحب النصيب الكبير.
فصل وإذا احتملت ساحة الدار وبيوتها القسمة قسمت كلها قسما واحدا، فجعل لكل نصيب من البيوت ما يقابله من الساحة وعدل ذلك بالقسمة ثم استهم عليها. وإن لم تحتمل الساحة القسمة واحتملتها البيوت قسمت البيوت وأقرت الساحة بينهم يشتركون في الارتفاق فيها كالفناء إلا أن يتفقوا على قسمتها. وأما إن لم تحمل البيوت القسمة واحتملتها الساحة فالذي يأتي على مذهب ابن القاسم أنها لا تقسم إلا بالتراضي، لأنها إن جمعت في القسمة السهام خرج سهام بعضهم في البيوت وبعضهم في الساحة فلم يجز الاستهام على ذلك كالصنفين اللذين لا يجمعان في القسمة. وذهب ابن حبيب إلى أنه يضم البنيان في القسمة إلى الساحة حتى كأنه منها ثم يقسم كله قسما واحدا وإن لم تقع السهام كلها في البنيان، وذلك بعيد، لأن فيه إجازة جمع صنفين في القسمة بالسهام، وذلك ما لا يجوز، إلا أن يريد مع تراضيهم على ذلك، فيخرج قوله على مذهب أشهب وعلى قول ابن القاسم في مسألة الشجرة والزيتونة.
فصل والذي جرى به العمل عندنا أن الدار لا تقسم حتى يصير لكل واحد من الشركاء من الساحة والبيوت ما ينتفع به ويستتر فيه عن صاحبه.(3/99)
فصل وقد قيل إن الساحة لا تقسم بين الورثة وإن صار في نصيب كل واحد منهم ما ينتفع به. وإنما تقسم البيوت خاصة. وهو قول مطرف وتأويله عن مالك في قوله: لا تقسم الساحة بين الورثة وإن حملت القسم. والأول أصح. ويتأول قول مالك على ساحة الفناء أو على ساحة الدار إذا أبقوها وقسموها البيوت، وهي تحتمل أن تقسم معها قسما واحدا أو على أنهم ورثوا الساحة وقد قسمت البيوت. وذهب سحنون إلى أنه إن كان على البيوت حجر لم تقسم الساحة، وإن لم يكن لها حجر قسمت. جعل الساحة إذا كان للبيوت حجر كالفناء لا تقسم إلا بالتراضي. وبالله تعالى التوفيق.
فصل والأفنية تنقسم على قسمين:
فناء يكون أمام محور القوم إلى جانب الطريق، فهذا لا يقسم وإن اجتمعوا على قسمه، لأن لعامة الناس فيه حقا ومرفقا عند تضايق الناس في الزحام. فإن اقتسموا ردت القسمة وصرف الفناء على حاله. وذهب أصبغ إلى أن ذلك لا يجوز ابتداء، وإذا وقعت القسمة لم تنقض لما للناس في ذلك من المرفق في بعض الأحيان. والأول أصح وأولى.
وفناء يكون بين دور القوم ليس إلى جانب الطريق ولا لأحد من المارة فيه مرفق. فهذا الفناء إن اجتمع أهله على اقتسامه اقتسموه. قال ابن القاسم على ما تراضوا عليه. وروى ابن وهب وابن نافع عن مالك أنهم يقتسمونه على حال منازلهم، فإن أبى بعضهم القسمة لم يحكم بها بينهم.
فصل وقد اختلف في الأنادر والمسارح هل تقسم أم لا على قولين. ولا فرق(3/100)
بين هذا وبين الفناء الذي يكون وسط دور القوم على غير الطريق، فهذا الاختلاف داخل فيه بالمعنى، وبالله التوفيق.
فصل وإذا اقتسم الشريكان الدار ولم يشترطا أن يقيما بينهما حاجزا فلا يحكم بذلك عليهم، ويقال لمن دعا إلى ذلك استر على نفسك في حظك إن شئت. وإن اشترطوا ذلك ولم يحدوه أخذ من نصيب كل واحد منهما نصف فناء الجدار وإن كان أحدهما أقل نصيبا من صاحبه. وكذلك تكون النفقة بينهما بالسواء إلى أن يبلغ مبلغ الستر إذا لم يحدوا في ذلك حدا. ولا اختلاف في هذا أعلمه، وإنما اختلفوا في أجرة القسام فقيل إنها على عدد الرؤوس. وقيل إنها على قدر الأنصباء. والقولان موجودان لابن القاسم.
فصل ولا يقضي القاضي بقسمة الأصل بين الورثة حتى يثبتوا عنده الموت وعدة الورثة وأنه كان ملكه وماله لم يفوته إلى أن توفي في علم الشهود بذلك. وكذلك لا يقضي بالقسمة بين الشركاء حتى يثبتوا عنده ملكهم، وبالله التوفيق.
فصل وأما قسمة المنافع فإنها لا تجوز بالسهمة على مذهب ابن القاسم، ولا يجبر عليها من أباها ولا تكون إلا على المراضاة والمهايأة. وهي على وجهين:
أحدهما: أن يتهايأ بالأزمان.
والثاني: أن يتهايأ بالأعيان.
فصل فأما التهايؤ بالأزمان، وهو أن يتفقا على أن يستغل أحدهما العبد أو الدابة أو يستخدم العبد أو يركب الدابة أو يسكن الدار أو يحرث الأرض مدة من الزمان،(3/101)
والآخر مثلهما أو أقل أو أكثر. فهذا يفترق فيه الاستغلال والاستخدام في العبد والركوب في الدابة والسكنى في الدار والازدراع في الأرض.
فصل فأما التهايؤ على الاغتلال فلا يجوز في المدة الكثيرة باتفاق. واختلف في المدة اليسيرة كاليوم ونحوه، ففي كتاب محمد لا يجوز ذلك في الدابة والعبد وإن كان ذلك يوما واحدا. قال محمد: وقد سهل مالك في اليوم الواحد.
فصل وأما التهايؤ في الاستخدام فاتفقوا على أن ذلك لا يجوز في المدة الكثيرة، واتفقوا على تجويزها في الأيام اليسيرة إلا أنهم اختلفوا في حدها قال ابن المواز: يجوز في مثل خمسة أيام فأقل ولا يجوز في أكثر. وفي المجموعة من رواية ابن القاسم عن مالك يجوز في الشهر. قال ابن القاسم: وأكثر من الشهر قليلا.
فصل وأما التهايؤ في الدور والأرضين فتجوز فيها السنين المعلومة والأجل البعيد ككرائها، قاله ابن القاسم في المجموعة. ووجه ذلك أنها مأمونة إلا أن التهايؤ إذا كان في أرض المزارعة فلا يجوز إلا أن تكون مأمونة مما يجوز فيها النقد، وبالله التوفيق.
فصل وأما التهايؤ في الأعيان بأن يستخدم هذا عبدا وهذا عبدا، أو يغتل هذا عبدا وهذا عبدا، أو يسكن هذا دارا وهذا دارا، أو يزرع هذا أرضا وهذا أرضا، ففي المجموعة عن ابن القاسم أن هذا يجوز في سكنى الدار وزراعة الأرض، ولا يجوز في الغلة والكراء، وذلك على قياس التهايؤ بالأزمان، فيسهل في اليوم الواحد على أحد قولي مالك فيه، ولا يجوز في أكثر من ذلك باتفاق لأنه غرر ومخاطرة. وكذلك استخدام العبيد والدواب يجري على الاختلاف المتقدم في التهايؤ بالأزمان والله(3/102)
أعلم. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجبر على قسمة المنافع في سكنى الدار ولباس الثوب واستخدام العبد من أباه من الشركاء إذا دعا إلى ذلك أحدهم، كان مما ينقسم أو مما لا ينقسم. فإن كان مما لا ينقسم قسم بينهم على التهايؤ بالأزمان، وإن كان مما ينقسم قسم بينهم على قدر حظوظهم فانتفع كل واحد بما صار له في حظه لتلك المدة. واحتج له الطحاوي بما روي في حديث «المرأة التي وهبت نفسها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له رجل زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة من قوله فيه لا أجد إلا إزاري هذا فلها نصفه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء» ، فدل ذلك من قوله على أن الأمر لو تم بينهما على ذلك لكان لكل واحد منهما لبسه بكماله في حال ما يحق ملكه لنصفه، والله أعلم.
فصل ومن هذا الباب قسمة الحبس للاغتلال، فقيل إنه يقسم ويجبر على القسم من أباه وينفذ بينهم إلى أن يحدث عن الموت أو الولادة ما يغيره بزيادة أو نقصان. واحتج من ذهب إلى ذلك بقولهم فيمن حبس في مرضه على ولده وولد ولده إن الحبس يقسم على عدد الولد وولد الولد، وبغير ذلك من الظواهر الموجودة في مسائلهم. وقيل إنه لا يقسم بحال. واحتج من ذهب إلى ذلك بقول مالك في المدونة: إن الحبس مما لا يقسم ولا يجزأ. وقيل إنه لا يقسم إلا أن يتراضى المحبس عليهم على قسمته قسمة اغتلال فيجوز ذلك لهم.
فصل والقسمة من العقود اللازمة، فإذا وقعت بين الشركاء فيما تجوز فيه القسمة على التراضي أو على القرعة بوجه صحيح جائز لزمت ولم يكن لأحدهم نقضها ولا الرجوع عنها، ولا تنتقض إلا بما يطرأ عليها مما لم يعلم به كطروء الغريم(3/103)
والموصى له أو الوارث على التركة بعد اقتسامها، ففيه إحدى عشرة مسألة:
إحداها: طروء الغريم على الغرماء.
والثانية: طروء الوارث على الورثة.
والثالثة: طروء الموصى له على الموصى لهم.
والرابعة: طروء الغريم على الورثة.
والخامسة: طروء الغريم على الموصى له بالثلث وعلى الورثة.
والسادسة: طروء الموصى له بعدد على الورثة.
والسابعة: طروء الغريم على الغرماء والورثة.
والثامنة: طروء الموصى له بعدد على الموصى لهم وعلى الورثة.
والتاسعة: طروء الموصى له بجزء على الورثة. .
والحادية عشر: طروء الغريم على الموصى لهم بأقل من الثلث وعلى الورثة.
فصل فأما المسألة الأولى والثانية والثالثة وهي طروء الغريم على الغرماء، وطروء الوارث على الورثة، وطروء الموصى له على الموصى لهم، فحكمها سواء، وهو أن يتبع الطارئ كل واحد منهم بما ينوبه ولا يأخذ الملي منهم بالمعدم. وإن وجد بأيديهم ما قبضوا قائما لم يفت أخذ من كل واحد منهم ما يجب له ولم تنتقض(3/104)
القسمة إن كان ذلك مكيلا أو موزنا. وإن كان حيوانا أو عروضا انتقضت القسمة لما يدخل عليه من الضرر في تبعيض حقه. واختلف هل يضمن كل واحد منهم للطارئ ما ينوبه مما قبض إن قامت له بينة على تلفه من غير سببه أم لا على قولين:
أحدهما: أنه ضامن لذلك.
والثاني: أنه لا ضمان عليه فيه.
فإذا قلنا إنه ضامن مع قيام البينة فتلزمه القيمة يوم القبض بالتفويت بالبيع والهبة والصدقة والعتق وما أشبه ذلك. وإذا قلنا إنه لا ضمان عليه مع قيام البينة فلا يضمن بالتفويت بالعتق والصدقة والهبة والبيع، ولا يلزمه في البيع إلا الثمن الذي قبض، ويصدق في دعوى التلف إن لم تكن له بينة فيما لا يغاب عليه دون ما يغاب عليه. ويأتي على ما لأصبغ في سماعه من كتاب النكاح أنه في العين ضامن دون ما سواه وإن قامت على تلفه بينه. فيتحصل في هذا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ضامن في العين وغيره وإن قامت البينة على تلفه من غير سبب.
والثاني: أنه لا ضمان عليه في العين ولا في غيره إذا قامت البينة على تلفه من غير سبب.
والثالث: تفرقة أصبغ بين العين وغيره. وعلى القول بأنه لا ضمان عليه إذا قامت البينة على تلفه يصدق فيما لا يخاف عليه في دعوى التلف مع يمينه.
فصل وأما المسألة الرابعة والخامسة والسادسة، وهي طروء الغريم على الورثة، وطروءه على الموصى لهم بالثلث وعلى الورثة، وطروء الموصى لهم بعدد على الورثة فحكمها أيضا سواء. والاختلاف فيها واحد في انتقاض القسمة وفيما يضمن به كل واحد منهم حظه الذي صار إليه بها. فأما القسمة فتنتقض على رواية أشهب عن مالك لحق الله تعالى، ولا تنتقض عند أشهب وسحنون. واضطرب قول ابن(3/105)
القاسم في انتقاضها فمرة قال إنها تنتقض من جميعهم، فيخرج الدين الطارئ من جملة المال ثم يقسم ما بقي، فتكون المصيبة فيما مات أو جني عليه أو نقض بحوالة سوق أو غيره من جميعهم، إلا أن يشاؤوا أن يخرجوا الدين من عندهم ويقروا قسمتهم بحالها، أو يتطوع أحدهم بإخراج جملة الدين الطارئ من عنده لاغتباطه بحظه فيكون ذلك له ولا تنتقض القسمة، بمنزلة أن لو وهبه صاحبه. وليس لأحدهم أن يخرج ما ينوبه من الدين ويتمسك بحظه الذي صار إليه بالقسمة إلا أن يكون الدين ثبت بشهادة أحدهم مع يمين الطالب فيريد سائر الورثة أن يخرجوا الدين من عندهم ويقرروا القسمة بينهم ويأبى الشاهد من ذلك فلا يكون ذلك له، لأنه يتهم على أنه إنما أراد نقض القسمة ليزداد حظه إما لغبن جرى عليه فيها أو لتلف حظه أو بعض حظه بأمر من السماء أو ما أشبه ذلك. وفي ذلك نظر، لأنه إذا اتهم وجب ألا تجوز شهادته، وهو قول أشهب. ومرة قال إن القسمة إنما تنتقض بين من بقي حظه بيده أو شيء منه أو استهلكه أو شيئا منه. وأما من تلف جميع حظه بأمر من السماء فلا يرجع عليه بشيء من الدين، ولا يرجع هو مع سائر الورثة فيما بقي من التركة بعد تأدية الدين. وقع هذا له في بعض روايات المدونة. وذهب ابن حبيب إلى أن القسمة تنتقض بين جميعهم مثل قول ابن القاسم الأول، إلا أن لمن شاء منهم عنده أن يفك نصيبه بما ينوبه من الدين إلا أن يكون ما بأيدي سائر الورثة قد تلف شيء منه بموت أو جائحة فليس ذلك له إلا أن يشركهم في ضمان ما مات من ذلك أو أجيح بأن يحمل نوبه منه. وأما أشهب وسحنون فاتفقا على أن القسمة لا تنتقض واختلفا في فض الدين على ما بأيديهم، فقال سحنون إنه يفض على قيمة ما بيد كل واحد منهم يوم الحكم، وقال أشهب في أحد قوليه يفض على الأجزاء التي اقتسموا عليها زادت قيمتها أو نقصت ما كانت قائمة لم تفت. فعلى قول سحنون وأشهب سواء ثبت الدين بشاهدين أو بشهادة أحد الورثة مع يمين الطالب، إذ لا للشاهد بشهادته على مذهبهما.
فصل ولا اختلاف بين جميعهم في أن الورثة لا يضمنون بالقسمة التلف بأمر من(3/106)
السماء إذا لحق الدين فيلزمهم أن يؤدوا ذلك. واختلفوا هل يضمنون بالإحداث كالبيع والهبة والصدقة والعتق، فذهب ابن حبيب إلى أنهم يضمنون بذلك، فيلزمهم أن يؤدوا ولا يرجعوا على الموهوب له بشيء. وذهب أشهب وسحنون إلى أنهم لا يضمنون بذلك يريد فيرجع صاحب الدين على الموهوب له ولا يكون له في البيع على المشتري شيء، إلا أن تكون فيه محاباة فيكون حكمها حكم الهبة. وفي المدونة دليل على القولين جميعا. وما ادعوا تلفه من الحيوان الذي لا يغاب عليه صدقوا في ذلك مع أيمانهم، بخلاف العروض التي يغاب عليها. وأما العين والمكيل والموزون من الطعام وغيره فاختلف فيه إن قامت البينة على تلفه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم يبرؤون من ضمانها، وهو القياس على القول بوجوب الفسخ.
والثاني: أنهم لا يبرؤون من ضمانها، وهو ظاهر قول ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب القسمة.
والثالث: الفرق بين العين وما سواه من المكيل والموزون.
فصل والاختلاف في انتقاض القسمة مبني على اختلافهم في الدين الطارئ على الميت هل هو متعين في عين التركة أو واجب في ذمة الميت؟ فمن علل بأنه متعين في عين التركة نقض القسمة. ومن علل أنه إنما يجب في ذمة الميت ولا يتعين في عين التركة لم ينقض القسمة. وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلاف قول مالك فيمن يبدأ باليمين مع الشاهد في دين المتوفى إن كان الورثة أو الغرماء في مسائل شتى، منها مسألة النكاح الثاني في الوصي ينفق مال اليتيم على يتاماه ثم يطرأ عليه دين.
فصل وأما المسألة السابعة وهي طروء الغريم على الغرماء والورثة فالحكم فيها أن(3/107)
ينظر، فإن كان فيما أخذه الورثة كفاف دين الغريم الطارئ رجع عليهم على ما تقدم من وجه العمل في طروء الغريم على الورثة ولم يكن له رجوع على الغرماء، وإن لم يكن فيه كفاف دينه رجع على الغرماء ببقية حقه على ما تقدم من وصف العمل أيضا في رجوع الغريم على الغرماء.
فصل وكذلك الحكم في المسألة الثامنة وهي طروء الموصى له بعدد على الموصى لهم وعلى الورثة، أن ينظر فإن كان ما أخذه الورثة زيادة على الثلثين هو كفاف وصية الموصى له الطارئ فلا رجوع له على الموصى لهم، وإن لم يكن في ذلك كفاف وصيته رجع بتمام وصيته على الموصى لهم على ما تقدم في رجوع الوارث على الورثة والغريم على الغرماء والموصى له على الموصى لهم.
فصل وأما المسألة التاسعة وهي طروء الموصى له بجزء على الورثة فذهب ابن حبيب إلى أن ذلك بمنزلة طروء الغريم على الورثة. وذهب ابن القاسم إلى أن ذلك بمنزلة طروء الوارث على الورثة.
فصل وأما المسألة العاشرة وهي طروء الموصى له بجزء على الموصى لهم بجزء وعلى الورثة، فالحكم في ذلك أن ينظر فيما أخذه الورثة من الثلث زائدا على الثلثين، فإن كان فيه كفاف الجزء الطارئ لم يكن له الرجوع إلا على الورثة، ويرجع عليهم على الاختلاف المتقدم بين ابن القاسم وابن حبيب في صفة رجوع طروء الموصى له بجزء على الورثة، وإن لم يكن في ذلك كفاف الجزء الطارئ رجع بالباقي على الموصى لهم على ما تقدم في طروء الموصى له على الموصى لهم.(3/108)
فصل وأما المسألة الحادية عشر وهي طروء الغريم على الموصى له بأقل من الثلث وعلى الورثة، فالحكم في ذلك أن ينظر، فإن كان ما قبض الموصى له يخرج من ثلث ما بقي بعد دين الغريم الطارئ فلا رجوع للغريم عليه إلا في عدم الورثة، وإن كان لا يخرج من ثلث ذلك فيرجع بالزيادة على الثلث على من وجد منهم مليا. وأما قدر الثلث فلا يرجع به على الموصى له إلا في عدم الورثة على ما تقدم. مثال ذلك أن يترك المتوفى ثلاثين دينارا فيقبض منها الموصى له خمسة ويقبض الورثة خمسة وعشرين ثم يطرأ غريم له على المتوفى ثمانية عشر دينارا، إذ الثلث على هذا بعد الدين الطارئ أربعة دنانير وقد قبض الموصى له خمسة دنانير، فإن وجدهم جميعا أملياء رجع على الموصى له بالدينار الزائد، وعلى الورثة بسبعة عشر دينارا تمام حقه. وإن وجد الورثة أملياء والموصى له عديم رجع على الورثة بجميع دينه ثمانية عشر دينارا، واتبع الورثة الموصى له الدينار الزائد على قدر حقوقهم. وإن وجد الموصى له مليا والورثة عدماء رجع بجميع الخمسة الموصى له واتبع الورثة بثلاثة عشر تتمة دينه، ورجع الموصى له على الورثة بالأربعة دنانير التي غرمها عنهم لعدمهم، وبالله التوفيق لا شريك له.
فصل وأما طروء الاستحقاق على أحد الأنصباء بعد القسمة أو وجود العيب به، فإن كانت القسمة بالقرعة ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن القسمة تنتقض كان الاستحقاق قليلا أو كثيرا والأنصباء قائمة أو فائتة، وتكون وصية ما تلف من جميعهم كلحوق الدين، وهو قول ابن الماجشون وابنه عبد العزيز على اختلاف الرواية في ذلك في سماع يحيى من كتاب القسمة.
والثاني: أنها لا تنتقض إلا أن يستحق الجل من النصيب أو ما فيه الضرر على الاختلاف المعلوم في حد ذلك، ويرجع المستحق منه على أشراكه على حكم البيع في القيام والفوات، كان الفوات باستهلاك أو استنفاق أو إحداث أو أمر(3/109)
من السماء، الحكم في ذلك سواء، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة.
والثالث: وهو مذهب أشهب وسحنون أن القسمة لا يضمن بها في الاستحقاق لهلاك بأمر من السماء على رواية أشهب عن مالك في الإخوة الثلاثة الذين اقتسموا الثلاثة الأعبد فأخذ كل واحد منهم عبدا فمات عبد أحدهم واستحق عبد الثاني، أن المستحق منه يرجع على الذي بقي عبده بيده بثلثه فيشاركه فيه، ولا رجوع له على الذي مات عبده بيده لأن القسمة إنما تنتقض فيما بينهما خاصة، وتصح فيما بينهما وبين الذي مات عبده. ثم إن أشهب وسحنون بعد اجتماعهما على أن الذي مات عبده لا يضمن في الموت ولا يجب للمستحق منه الرجوع عليه بشيء، اختلفا هل يضمن بالإحداث كالهبة والصدقة والعتق والبيع وما أشبه ذلك. فذهب سحنون إلى أنه لا يضمن بشيء من ذلك فيكون للمستحق منه الرجوع عليه في البيع بما ينوب المستحق من الثمن الذي قبض، ويرجع في عين العبد الموهوب فيشارك الموهوب له فيه بما ينوبه، وفي عين العبد المعتق، فيقوم ذلك الحظ على المعتق إن كان موسرا. وذهب أشهب إلى أنه يضمن بجميع ذلك فيكون للمستحق منه أن يرجع على الذي باع أو وهب أو تصدق أو أعتق بما ينوب المستحق من قيمة ما فوت بشيء من ذلك يوم صار إليه بالقسمة، وبالله تعالى التوفيق لا شريك له ولا ند.(3/110)
[كتاب الوصايا]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد، وبالله أستعين وعليه أتوكل كتاب الوصايا أذن الله تبارك وتعالى لعباده في الوصية وذكرها في غير ما آية من كتابه فقال:
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] . وقال عز من قائل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] وَقَالَ {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50] . وحض عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة» ، مخافة أن يفجأه الموت وتخترمه المنية فتفوته الوصية. وكذلك قال بعض الرواة في هذا الحديث: «لا ينبغي لأحد عنده مال يوصى فيه تأتي عليه ليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة» . قال بعض شيوخ صقلية: معناه وهو موعوك. وأما الصحيح فليس بمفرط في ترك كتاب وصيته. والصواب حمل الحديث على ظاهره من العموم في الموعوك والصحيح. لأن الصحيح لا يأمن أن تفجأه المنية فلا يمكنه ما يريد من الوصية،(3/111)
فليس من الحزم ولا صواب الرأي ترك كتاب الوصية في الصحة ولا في المرض، وإن كان الأمر في المرض آكد عليه منه في الصحيحة، لأن المرض سبب من أسباب الموت، وإلى هذا ذهب أبو عمران الفاسي.
فصل ومعنى قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ووصيته عنده مكتوبة» " يريد مكتوبة قد أشهد عليها، وأما إن كتبها ولم يشهد عليها ووجدت عنده بعد موته فلا ينفذ ما فيها وإن كانت بخط يده لاحتمال أن يكون إنما كتبها ليؤامر نفسه ولم يعزم بعد على تنفيذها، والروايات بذلك منصوصة عن مالك وغيره.
فصل وإن كتب وصيته وأشهد عليها فلا يخلو من أن تكون مطلقة غير مقيدة أو مقيدة بمرض بعينه أو سفر بعينه أو بلد يعين، أو وقت يعين، أو ما أشبه ذلك. فإن كانت مطلقة لم يقيدها بشيء وإنما قال إن مت أو إذا مت أو متى ما مت أو ما أشبه ذلك من الألفاظ المطلقة العامة فإنه ينفد ما فيها باتفاق، سواء أقرها على يده أو وضعها عند غيره. وكذلك إن أشهد على وصيته ولم يكتب بذلك كتابا، فإن كان وضعها عند غيره ثم أخذها منه فوجدت عنده بطلت باتفاق، سواء أخذها منه في صحته أو في مرضه. وأما إن كانت مقيدة بسفر بعينه، أو بمرض بعينه أو ما أشبه ذلك، فمات من غير ذلك المرض أو في غير ذلك السفر فلا يخلو من أن يكون كتب بذلك كتابا أو لم يكتبه فأما إن لم يكتب بذلك كتابا وإنما أشهد به خاصة فلم يختلف قول مالك أن الوصية لا تنفذ. وأما إن كتب بذلك كتابا فلا يخلو أيضا من أن يكون أقره عنده أو وضعه عند غيره.
فأما إن كان أقره عنده ولم يجعله على يدي غيره فاختلف قول مالك في ذلك، فمرة أجازها ومرة أبطلها، والقولان قائمان في المدونة. وأما إن كان وضعها(3/112)
على يدي غيره، فلم يختلف قول مالك أنها تنفد. ولأشهب في هذه المسألة تفصيل هو مذكور في موضعه.
فصل وتجوز وصية السفيه والمولى عليه لأنه إنما حجر عليه في ماله مخافة الفقر، والوصية إنما تنفد بعد الموت في حال يؤمن عليه فيه الفقر. وتجوز وصية المجنون في حال إفاقته، ووصية الصغير الذي يعرف وجوه القرب عند مالك وأصحابه، خلافا لأبي حنيفة، والشافعي في أحد قوليه.
فصل وقد تعلق من أوجب الوصية بظاهر هذا الحديث وقال إن لفظة الحق تقتضي الوجوب، وهذا غير صحيح، لأن لفظ الحق إذا قيل فيه عليه فهو محتمل للوجوب والندب. وأما إذا أضيف إليه وجعل له فقيل فيه من حقه أن يفعل كذلك أو كذا وكذا، فالأظهر فيه الندب لا الوجوب.
فصل ومما يدل أيضا على أن المراد بالحديث الحض والندب لا الوجوب أن بعض رواته يقول فيه: له مال يريد أن يوصي فيه، وتعليق الوصية بإرادة الموصي نص في سقوط وجوبها.
فصل ولو حمل الحديث على الوجوب لكان معناه في الأمور الواجبة عليه من قضاء الدين ورد الأمانات وأداء ما فرط فيه من الزكوات وما أشبه ذلك من الأمور المعينات، فإن ما يلزم الرجل في حياته يجب عليه أن يوصي به عند وفاته، بخلاف الوصية بشيء من ماله في وجه من وجوه البر.(3/113)
فصل فالوصية بما يتقرب به إلى الله تعالى مما لا يجب عليه في حياته على مذهب مالك وجمهور أهل العلم، مرغب فيها ومندوب إليها وليست بواجبة، وهي تجوز للقرابة والأجنبيين إلا أن الوصية للقرابة أفضل منها للأجنبيين، فينبغي للموصي أن يبدأ به لأن الله بدأ بهم في غير ما آية من كتابه، فقال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] وَقَالَ {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة: 177] وَقَالَ {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] أي الأرحام أن تصلوها ولا تقطعوها. «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لميمونة زوجته وقد أعتقت وليدة لها: " لو وصلت بها بعض أخوالك كان أعظم لأجرك» . «وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي طلحة في الحائط الذي تصدق به: " إني أرى أن تجعله في الأقربين» فقسمه أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
فصل وأما الوصية للوارث فلا تجوز إلا أن يجيزها الورثة. وقد حمل جماعة من أهل العلم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وصية لوارث» على عمومه فلم يجيزوا له الوصية وإن أجازها له الورثة، معناه إلا على سبيل الهبة منهم له التي تفتقر إلى الحيازة. والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المنع إنما تعلق بحق الورثة كالزائد على ثلث المال، فإذا أجازوه جاز، كالرضى بالعيب، وتسليم الشفعة وما أشبه ذلك. وقد روي أيضا في بعض الآثار «لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة» .(3/114)
[فصل فيما تنقسم إليه الوصايا]
فصل والوصايا تنقسم على خمسة أقسام: فمنها ما يجب تنفيذه، ومنها ما لا يلزم تنفيذه، ومنها ما يختلف في وجوب تنفذه، ومنها ما لا ينبغي تنفيده. فأما ما يجب تنفيذه فثلاثة أنواع:
أحدها: أن يوصي بما في فعله قربة وفي تركه حرج من الأمور الواجبة كالزكاة وعتق الظهار وما أشبه ذلك.
والثائي: أن يوصي بما في فعله قربة ولا حرج في تركه كالوصية للمساكين وما أشبه ذلك.
والثالث: أن يوصي بما يختلف فيه هل فيه قربة أو لا قربة فيه على مذهب من يرى فيه قربة.
وأما ما لا يجب تنفيذه فنوع واحد وهو ما في فعله حرج من الأمور المحظورات، كالوصية بإقامة مناحة ميت وما أشبه ذلك.
وأما ما يختلف في وجوب تنفيذه فنوعان:
أحدهما: أن يوصي بما يختلف هل فيه قربة أو لا قربة فيه على مذهب من يرى أنه لا قربة فيه، كالوصية بالحج على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أوجب مالك وأكثر أصحابه تنفيذ الوصية بذلك، ولم يوجب ذلك ابن كنانة. والاختلاف في هذا جار على الاختلاف في تصويب المجتهدين.
والثاني: أن يوصي بما لا قربة في فعله ولا في تركه من الأمور الجائزة، كالوصية ببيع ملك من أملاكه أو ببيع عبد من عبيده وهو لا يرغب في ذلك، أو شراء عبد آخر من الثلث للورثة وما أشبه ذلك. وانظر هل يأتي على هذا المعنى اختلافهم فيمن أوصى بسرف في أكفانه وحنوطه، إذ قد قيل إن الزائد على قدر ما يجب أن يكفن فيه يكون من الثلث وهو قول سحنون. وقيل إنه يبطل، حكاه ابن شعبان عن مالك وابن القاسم.(3/115)
وأما ما لا يلزم تنفيذه فنوعان:
أحدهما: الوصية للوارث.
والثاني: الوصية بما زاد على الثلث.
وأما ما لا ينبغي تنفيذه فنوع واحد وهو المكروه الذي القربة في تركه دون فعله، كالوصية بإقامة لهو عرس مما استخف وجوز وما أشبه ذلك، فهذا يندب الورثة إلى ألا ينفذوه، فإن أبوا إلا تنفيذه لم يمنعوا من ذلك.
فصل والوصية بثلث المال فما دونه تجوز في القليل والكثير من المال إلا أن الموصي يؤمر بحسن النظر للورثة إذا كان المال يسيرا. فقد روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا كان المال يسيرا فليدعه لوارثه فهو أفضل. وهذا والله أعلم أخذه من قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» .
فصل وقد اختلف أهل العلم في مقدار المال الذي تستحب فيه الوصية أو تجب عند من أوجبها. فروي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ستمائة درهم أو سبعمائة درهم ليس بمال فيه وصية. وقال في ألف درهم فما دونه، إنه مال فيه وصية. وروي عن ابن عباس أنه قال: لا وصية في ثمانمائة درهم. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال ألف درهم فما دونها نفقة. وعن عائشة أنها قالت في امرأة لها ثلاثة آلاف درهم وأربعة من الأولاد لا وصية في مالها.
فصل ولا يجوز لأحد وصية بأكثر من ثلث ماله وإن لم يكن له وارث خلافا لأبي(3/116)
حنيفة في قوله إنه يجوز له أن يوصي بجميع ماله إن لم يكن له وارث. فإذا أوصى الرجل بأكثر من ثلث ماله لم يجز إلا أن يجيز ذلك الورثة، وإجازتهم لا يخلو من أن تكون في صحته أو في مرضه الذي مات منه. أو بعد موته.
فأما إذا كان إذنهم له في صحته فلا يلزمهم ذلك باتفاق.
وأما إن أذنوا له في مرضه الذي مات منه فيلزمهم عند مالك إن كانوا مالكين لأمرهم بائنين عنه بأنفسهم، خلافا لأبي حنيفة والشافعي ولما يدل عليه بعض أقاويل مالك. قيل إذا استأذنهم بدليل ما في المدونة.
وأما إذا لم يستأذنهم فيلزمهم وإن لم يكونوا بائنين عنه إذا كانوا مالكين لأمر أنفسهم. وقيل سواء استأذنهم أو لم يستأذنهم لأنهم يقولون بادرنا إلى الإجازة لتطيب نفسه، لأنا خشينا إن لم نبادر بها أن يحقد بذلك علينا فيمنعنا رفده.
وأما إن أجازوا بعد موته فذلك لازم لهم باتفاق. واختلف هل يكون ذلك كالهبة التي تفتقر إلى حيازة أم لا على قولين في المذهب.
وإنما قلنا إن الوصية بأكثر من الثلث لا تجوز لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسعد بن أبي وقاص: «الثلث، والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» . وقد استحب جماعة من العلماء أن لا يوصي الرجل إلا بأقل من الثلث لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والثلث كثير» . وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لو غض الناس من الثلث إلى الربع لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والثلث كثير» وأوصى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بربع ماله، وأبو بكر الصديق بخمس ماله وقال: رضيت لنفسي في وصيتي بما رضي الله لنفسه من الغنيمة، وتلا:(3/117)
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . وقال إبراهيم النخعي: كان الخمس أحب إليهم من الربع، والربع أحب إليهم من الثلث. وقد استحب جماعة من العلماء الثلث في الوصية لقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في أعمالكم» . وهذا إنما ينبغي أن يفعل فيه بالاجتهاد في قلة المال وكثرته. فإذا كان قليلا فإبقاؤه على الورثة أفضل والله أعلم، لأن الله تعالى أعطاه ثلث ماله عند وفاته يجعله حيث يراه من وجوه البر، فإذا أبقاه على الوارث نظرا له لقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» ، فهو أفضل له من صدقته على الأجنبيين والله أعلم.
فصل إنما أوجب الوصية من أوجبها لقول الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] الآية (21) وقد اختلف أهل العلم في تأويلها اختلافا كثيرا، فالمشهور أنها منسوخة، واختلف الذين رأوا أنها منسوخة في الناسخ لها ما هو. فقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه نسخها ما نزل من قسمة الفرائض. وهذا قول من لم ير نسخ القران بالسنة، وهو أولى ما قيل فيها، لأنه لا اختلاف أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية. وقد روي أن الناس في أول الإسلام كانوا يتوارثون الله تعالى لما ذكر فرض الوالدين قال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فكان يحتمل أن يكون لهما ولا يمكن أن يعلم ذلك إلا بتوقيف من النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، أو دليل من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذلك. وقد دل على ذلك من قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله فرض لكل ذي حق حقه في آية المواريث» فبين بذلك أنها ناسخة لآية الوصية. وأما نسخها بقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وصية(3/118)
لوارث» ، على مذهب من يجيز نسخ القرآن بالسنة، فلا إشكال فيه، وهي رواية أبي الفرج عن مالك حكى عنه في كتابه أنه قال: نسخت الوصية للوالدين ما تواتر عن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وصية لوارث» ، ونسخت الوصية للأقربين آية المواريث. وقيل نسخت الوصية للوالدين بقوله: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] ، والوصية للأقربين بقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] فحض على إعطائهم ورغب فيه من غير إيجاب. وقالت طائفة من أهل العلم: نسخ من الآية فرض الوصية للوالدين وبقي فرض الوصية للأقربين الذي لا يرثون محكما غير منسوخ. فواجب على الرجل أن يوصي لقرابته الذين لا يرثون، فإن لم يفعل فقد أثم وأجرم. وإن أوصى بالثلث لغير ذوي قرابته وله قرابة محتاجون صرف ثلث الميت إليهم في قول بعضهم، وفي قول بعضهم يصرف إليهم ثلث الثلث. وقالت طائفة: الآية كلها محكمة لم ينسخ منها شيء، وظاهرها العموم فيمن يرث ومن لا يرث من الوالدين والأقربين، والمراد بها من لا يرث منهم دون من يرث بدليل آية المواريث وقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وصية لوارث» . فآية المواريث والسنة الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مذهب ليست بناسخة لآية الوصية وإنما هي مخصصة لها ومبينة لمعناها. وقالت طائفة: الآية محكمة فيمن لا يرث دون من يرث من الوالدين والأقربين، إلا أن المراد بها الحض والندب لا الوجوب بدليل قوله: {مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] لأن الواجب لا يقال فيه إنه معروف ويستوي فيه المتقي وغير المتقي.
فصل والوصية بالعتق وغيره عدة، للموصي أن يرجع عنها إن شاء في صحته أو(3/119)
مرضه، سواء كانت وصيته في الصحة أو في المرض، بخلاف التدبير ليس للمدبر أن يرجع عما دبر في صحته ولا في مرضه. وقد اختلف إذا قال: إذا مت فعبدي حر هل هو محمول على التدبير حتى يعلم أنه أراد الوصية بسبب يدل عليها، أو على الوصية حتى يعلم أن أراد التدبير بسبب يدل عليه. فحمله ابن القاسم على الوصية حتى يعلم أنه أراد التدبير، وحمله أشهب على التدبير حتى يعلم أنه أراد الوصية.
فصل واختلف بماذا تجب الوصية للموصى له على قولين:
أحدهما: أنها تجب له بموت الموصي مع قبول الموصى له بعد الموت. واختلف على هذا القول إن مات الموصى له بعد موت الموصي قبل أن يقبل، فقيل إن ورثته ينزلون في القبول أو الرد منزلته، وهو قول مالك في المدونة، وقيل إن الورثة لا ينزلون منزلته في ذلك وتبطل الوصية وترجع ميراثا لورثة الموصي، وإلى هذا ذهب أبو بكر الأبهري حكاه عنه عبد الوهاب في المدونة.
والقول الثاني: أنها تجب له بنفس موت الموصي دون القبول، وهو أحد قولي الشافعي. فعلى قوله إن مات الموصى له بعد موت الموصي وجبت الوصية لورثته، ولم يكن لهم أن يردوها إلا على وجه الهبة لورثة الموصي إن قبلوا، والله أعلم.
فصل والوصايا خارجة من الثلث فيما علم الموصي من المال، ولا تدخل في ما لم يعلم به، بخلاف المدبر في الصحة فإنه يدخل فيما علم وفيما لم يعلم. واختلف في التدبير في المرض والعتق البتل في المرض، فقيل إنهما لا يدخلان فيما لم يعلم به من المال، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل إنهما يدخلان فيما علم به وفيما لم يعلم، وهو الذي يأتي على ما في سماع عيسى من كتاب الديات من العتبية، لأنه نص فيه أن التدبير في المرض يدخل فيما لم يعلم. وإذا دخل فيه المدبر في المرض فأحرى أن يدخل فيه المبتل في المرض. وقد قيل إنه يدخل المدبر في(3/120)
المرض ولا يدخل المبتل في المرض، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في بعض روايات العتبية، ومثله لابن القاسم في المدونة، وهو بعيد، لأن المبتل في المرض آكد من المدبر فيه. ألا ترى أن ابن الماجشون يبدئه عليه عند ضيق الثلث. وإنما يقول ابن القاسم إنهما يتحاصان لقرب ما بينهما عنده في التأكيد. فلو قيل إن المبتل في المرض يدخل فيما لم يعلم ولا يدخل فيه المدبر في المرض بعكس رواية أصبغ وما لابن القاسم في المدنية لكان الأظهر، والله أعلم.
فصل وإن ضاق الثلث عن الوصايا بدئ الآكد فالآكد لا الأقدم فالأقدم، وما كان بمنزلة واحدة في التأكيد تحاصوا في الثلث وإن كان بعضها أقدم من بعض، إلا أن ينص الموصي على تبدئة بعضها على بعض فيبدأ بالذي نص على تبدئته اتباعا لوصيته وإن كان غيرها من الوصايا آكد، ما لم يكن مما لا يجوز له الرجوع عنه كالمبتل في المرض، والمدبر فيه أو في الصحة.
فصل وما يجب إخراجه من رأس المال يبدأ على ما يجب إخراجه من الثلث.
فصل فالذي يجب إخراجه من التركة قبل وقوع المواريث فيها ينقسم على قسمين:
أحدهما: ما يجب إخراجه من رأس المال.
والثاني: ما يجب إخراجه من الثلث.
فأما ما يجب إخراجه من رأس المال فإنه ينقسم أيضا على وجهين:
أحدهما: الحقوق المعينات.
والثاني: الحقوق التي ليست بمعينات.
فأما الحقوق المعينات فتخرج كلها وإن أتت على جميع التركة، وذلك مثل(3/121)
أم الولد، وزكاة تمر الحائط الذي يموت عنه صاحبه وقد أزهت، وزكاة الماشية إذا مات عند حلولها عليه وفيها السن التي تجب فيها الزكاة، وما أقر به المتوفى من الأصول والعروض بأعيانها لرجل أو قامت على ذلك بينة.
فصل وأما الحقوق التي ليست بمعينات فإن كان في التركة وفاء بها أخرجت كلها، وإن لم يكن فيها وفاء بها بدئ الآكد فالآكد منها، وما كان بمنزلة واحدة تحاصوا في ذلك، وبالله التوفيق.
فصل فآكد الحقوق وأولاها بالتبدئة من رأس المال عند ضيقه عنها الكفن وتجهيز الميت إلى قبره. وقد روي عن سعيد بن المسيب في أحد قوليه إن الكفن من الثلث. والصحيح ما عليه الجماعة أنه من رأس المال. والدليل على ذلك ما ثبت أن «مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يترك إلا شملة كانوا إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطوا بها رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " غطوا رأسه واجعلوا على رجليه من الإدخر» . وما ثبت أيضا «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أمر بدفن قتلى أحد بدمائهم وثيابهم» من غير أن يعتبر ما يبقي لورثتهم أو لدين إن كان عليهم، وهذا بين. ثم حقوق الآدميين من الديون الثابتة على المتوفى بالبينة العدلة أو بإقراره بها في صحته أو في مرضه لمن لا يتهم عليه، ثم حقوق الله تعالى المفترضات من الزكوات على مراتبها والكفارات والنذور إذا اشهد على نفسه في صحته بوجوب ذلك عليه في ذمته، فيبدأ من ذلك كله في رأس ماله الآكد فالآكد، كما يبدأ من ذلك الآكد فالآكد في ثلثه إذا فرط فيه في حياته فأوصى به أن يؤدي عنه بعد وفاته. وزكاة الماشية إذا مات عند حلولها عليه وليس فيها السن التي تجب(3/122)
فيها الزكاة، تجري في التبدئة مجرى ما لم يخرجه عند حلوله وأشهد به على نفسه في صحته.
فصل وأما ما يجب إخراجه من الثلث فيخرج كله على وجهه إن كان فيه وفاء به، فإن لم يكن فيه وفاء به فيبدأ الآكد فالآكد. وما استوى من ذلك أو تقارب لم يبدأ بعضه على بعض ووقع في ذلك التحاص. وبالله التوفيق.
فصل فأول ما يخرج من الثلث المدبر في الصحة. وصداق المريض إذا دخل في مرضه. وقد اختلف فيهما فقيل إنهما سواء يتحاصان. وقيل يبدأ المدبر في الصحة. وقيل يبدأ صداق المريض، والثلاثة الأقوال لابن القاسم. ثم بعد ذلك ما فرط فيه من زكاة الحرث والعين والماشية، ثم ما فرط فيه من زكاة الفطر عند ابن القاسم خلاف ما ذهب إليه ابن الماجشون وغيره. ثم العتق في الظهار وقتل النفس في الخطأ. وقد اختلف فيهما فقيل إنهما سواء يتحاصان، وقيل يقرع بينهما، وقيل ذلك إلى الورثة يعتقون على أي الكفارتين شاءوا، يريد إن اتفقوا، فإن اختلفوا رجع ذلك إلى القرعة وقيل تبدأ كفارة قتل النفس، وذلك إذا لم يكن في الثلث إلا رقبة واحدة. وأما إن كان في الثلث رقبة وإطعام ستين مسكينا فتعتق الرقبة في القتل ويطعم على الظهار باتفاق. وقد قيل إنه إذا لم يكن في الثلث إلا رقبة واحدة وفضل لا يبلغ الإطعام إنه يبدأ بالظهار ويشترك فيما بقي من كفارة قتل النفس. ثم كفارة اليمين، ثم كفارة الفطر في رمضان متعمدا، ثم كفارة التفريط في قضاء رمضان. وهذا دليل ما في كتاب الصيام من المدونة. وقد قيل إن الطعام لقضاء رمضان يبدأ على كفارة اليمين عند ابن القاسم، والأول أظهر. ثم النذر قاله ابن أبي زيد يريد إذا أوصى به. ثم العتق المبتل في المرض. والمدبر في المرض. وقد اختلف فيهما فقيل إنهما سواء يتحاصان وقيل يبدأ المبتل في المرض، وقيل يبدأ المدبر في المرض، وهذا إذا كانا في فور واحد.(3/123)
وأما إن كان أحدهما قبل صاحبه فيبدأ الأول منهما. والنذر الذي يوجبه على نفسه في المرض ينبغي أن يكون بمنزلتهما. ثم بعد هذا الموصى بعتقه بعينه، والموصى أن يشترى فيعتق، والموصى بعتقه على مال إذا عجل المال، والموصى بكتابته إذا عجل الكتابة، والموصى بعتقه إلى شهر وما أشبهه لا يبدأ أحد منهم على صاحبه ويتحاصون. وقد قيل إن الذي أوصى بعتقه أو بشرائه للعتق يبدأ على المعتق إلى أجل قريب، وعلى الموصى بعتقه على مال وإن عجل المال. وعلى الموصى بكتابته وإن عجل الكتابة. وقد قيل إن الموصى بعتقه بعينه يبدأ على الموصى بشرائه للعتق. ثم بعد هذه الخمسة الموصى بعتقه إلى سنة. ثم الموصى بعتقه سنتين. والموصى بكتابته لا يبدأ أحدهما على صاحبه. وقيل إن الموصى بعتقه إلى سنة كالموصى بعتقه إلى سنين. قال غير ابن أبي زيد: ثم النذر، وهو بعيد، لتبدية الموصى بعتقه عليه، لأن الوصية بالعتق يصح الرجوع فيها والنذر لازم لا رجوع فيه، فهو إذا أوصى به أوكد منه وقول ابن أبي زيد أصح. ثم الوصية بالعتق بغير عينه وبالمال وبالحج. وقد اختلف في ذلك فقيل إنها كلها سواء في التحاص، وهو أحد قولي مالك في المدونة. وقيل يبدأ الحج على العتق، وقيل يبدأ العتق على الحج ويتحاص مع المال، وهو قوله الثاني فيها. ووجه هذا القول أن العتق عنده آكدها، ثم يليه المال، ثم يليه الحج، فيتحاص العتق مع المال ولا يبدأ أحدهما على صاحبه لقرب ما بينهما في التأكيد. ويتحاص أيضا المال مع الحج ولا يبدأ أحدهما على صاحبه لقرب ما بينهما في التأكيد، ويبدأ العتق على الحج لبعد ما بينهما على ما رتبناه.
ووجه العمل فيه أن يتحاص العتق والمال والحج، فما ناب العتق والحج بدئ فيه العتق على الحج، ولم يكن للحج من ذاك إلا ما فضل عن العتق. وقد قيل يبدأ الحج ثم يتحاص في المال والعتق. وقيل يبدأ العتق ويتحاص في المال والحج. وسواء كانت الوصية بالمال جزءا أو عددا فإن اجتمعا جميعا الوصية بالعدد والجزء فقيل إنهما سواء يتحاصان، وقيل يبدأ الجزء. وقيل يبدأ العدد. وهذا الاختلاف موجود لمالك وابن القاسم، ومعناه في الصرورة. وأما في حجة التطوع فلم يختلف قولهما في أن العتق مبدأ عليهما، ولا في أن الحج لا يبدأ على المال.(3/124)
واختلف قول ابن القاسم هل يبدأ المال على الحج أو يتحاصان. فله في سماع عيسى أنهما يتحاصان. وفي المدنية لأن الوصية بالمال تبدأ. وقال ابن وهب: يبدأ الحج على العتق ولم يفرق بين الصرورة وغيره، والقياس على مذهب مالك أن الوصية بالعتق بغير عينه وبالمال يبدآن على الوصية بحجة الإسلام، لأنه لا يرى أن يحج أحد عن أحد. فلا قربة في ذلك عنده على أصل قوله.
فصل وذهب ابن الماجشون إلى خلاف هذا الأصل فقال إن التدبير في الصحة يبدأ على العتق المبتل في المرض، والعتق المبتل في المرض يبدأ على العطية المبتلة في المرض، والعطية المبتلة في المرض تبدأ على التدبير في المرض، والتدبير في المرض يبدأ على الزكاة التي فرط فيها. والزكاة التي فرط فيها تبدأ على كفارة قتل الخطأ، وعتق كفارة قتل الخطأ يبدأ على عتق كفارة الظهار. قال: وكل ما نوعت لك من هذا فسواء كان في فور واحد أو فور بعد فور، إنما يبدأ الأوجب فالأوجب والأثبت فالأثبت على ما فسرت لك. والذي ذهب إليه ابن الماجشون أقوى في الحجة مما ذهب إليه ابن القاسم. وذلك أن للموصي أن يرجع فيما أوصى به من الزكاة ولا يجوز له أن يرجع عما بتله أو دبره في المرض. وما لا يجوز له الرجوع فيه. وأيضا فإنه يتهم على أنه أراد أن يرجع فيما بتله أو دبره فأوصى بزكاة ليست عليه. وحكى عبد الوهاب في المعونة أن الوصية بالعتق المعين تبدأ على الزكاة، وهو بعيد في القياس، ووجهه اتباع ظاهر الحديث. روي أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر أن تبدأ العتاقة على الوصايا، فعم ولم يخص» . وحكى ابن زرب أن الشيوخ أجمعوا على أن الوصية بالحج تبدأ على كل شيء المدبر وغيره. وكان أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرى تبدئة ما أوصى به في فك أسير على جميع الوصايا المدبر في الصحة وغيره. ويحتج لذلك برواية أشهب عن مالك في كتاب الجهاد، حكى ذلك عنه ابن عتاب وقال إن الشيوخ أجمعوا على ذلك، وهو صحيح.(3/125)
فصل وهبات المريض وصدقاته وأعطياته موقوفة، فإن مات في مرضه ذلك كانت من الثلث، وإن صح فمن رأس المال. وكذلك العتق إلا أن تكون له أموال مأمونة فينفذ عتقه معجلا، ويكون للموهوب له أو المتصدق عليه قبض ما وهب له أو تصدق به عليه في مرض الواهب أو المتصدق قبل موته على أحد قولي مالك في مراعاة المال المأمون في ذلك. وهذا مذهب فقهاء الأمصار أن هبات المريض وصدقاته من الثلث. وقال داود: هي من رأس المال، وتصرفه كله كتصرف الصحيح. والدليل على صحة قول مالك ومن تابعه ما ثبت أن «رجلا أعتق ستة أعبد له عند موته فأسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعتق ثلثهم» . ولا فرق بين العتق وغيره من الهبة والصدقة في هذا. وما روي أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند موتكم زيادة في أعمالكم» فأخبر أن الرجل ليس له عند الموت إلا الثلث فدل على منع ما زاد عليه، ولأن الأصول دالة على أن حضور سبب الموت بمنزلة حضور الموت بعينه، بدليل أنه لو أعتق لكان من الثلث، ولو وهب لوارثه شيئا لم يجز ذلك، إذ لا يجوز أن يوصي له. وإذا كان كذلك ثم لم يجز أن يوصي بعد الموت بأكثر من الثلث، كذلك لا يجوز له أن يهب في المرض أكثر من الثلث. .(3/126)
[كتاب الولاء والمواريث] [فصل في ترتيب الولايات وتقسيمها ووجه الحكم فيها]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم كتاب الولاء والمواريث فصل في ترتيب الولايات وتقسيمها ووجه الحكم فيها
الولاية تنقسم على خمسة أقسام:
أحدها: ولاية الإسلام والإيمان.
والثاني: ولاية الحلف والأيمان.
والثالث: ولاية الهجرة.
والرابع: ولاية النسب.
والخامس: ولاية العتق.
فأما ولاية الإسلام والإيمان فإن الله قد نص عليها في محكم القرآن فقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] إلا أن هذه الولاية ولاية عامة فلا يتوارث بها إلا عند عدم النسب والولاء، لكنها شرط في صحة الميراث بهما، أعني بالنسب والولاء، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يرث المسلم الكافر ولا(3/127)
الكافر المسلم ولا يتوارث أهل ملتين شيئا» ويوجب في الموضع الذي لا يوجب الموارثة بها المناصحة والتناصر في دين الله والتعاون في ذاته. قال الله تبارك وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وَقَالَ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] وقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حق المسلم على أخيه المسلم أن يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض ويشهد جنازته إذا مات» . وقال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» .
وأما ولاية الحلف والأيمان فقيل إن الناس كانوا يتوارثون بها في أول الإسلام بدليل قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] ثم نسخ الله ذلك بقوله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] وقيل إن ذلك كان في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمروا أن يؤتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة والمعونة والمشورة ولا ميراث. واحتج من ذهب إلى هذا بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حلف في الإسلام وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة» . وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به ولا حلف في(3/128)
الإسلام» . فالآية على هذا التأويل محكمة فيما عدا الميراث من النصر والمعونة. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الآية محكمة على ظاهرها في الميراث وغيره، وأن الرجلين إذا لم يكن بينهما نسب معروف فوالى أحدهما الآخر على أن يتوارثا ويتعاقلا فإن ذلك يصح ويتوارثان ويتعاقلان. قالوا ولكل واحد منهما أن يرجع على الموالاة ويفسخها ويوالي غيره ما لم يعقل أحدهما عن صاحبه، فإن عقل عنه لزمته الموالاة. وهذا يرده قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حلف في الإسلام» معناه لا حكم له في الموارثة على ما كان يفعل في الجاهلية. وأيضا فإن الآية التي احتجوا بها يخالفونها ولا يقولون بها، وذلك أن الله تعالى علق فيها استحقاق النصيب بعقد اليمين فقال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33] وهم لا يرون أن اليمين تؤثر في استحقاق الميراث شيئا. وقد رويت عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في هذا المعنى آثار تدل على ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن للمولى بالموالاة أن يرجع بولايته إلى من شاء بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تولى مولى بغير إذنه فعليه لعنة الله» . وقوله: «لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم» . وذهب الطحاوي إلى استعمال هذه الآثار على ظواهرها وما تدل عليه من معانيها فقال: إن للمولى(3/129)
بالموالاة أن ينتقل بولايته إلى من شاء بإذن من ينتقل إليه. فالانتقال الولاء عنده أربع شرائط، وهي أن يكون ذلك بإذن المولى، وبإذن من ينتقل عنه، وبإذن من ينتقل إليه، والرابع أن يكون الولاء المنتقل عنه بالموالاة لا بالعتق، لأن الولاء بالعتق لا يصح الانتقال عنه «لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الولاء وعن هبته» . قال وليس في قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الولاء لمن أعتق» ما ينبغي أن يكون ثم ولاء سوى ولاية العتاقة، لأن الحديث إنما قصد به إلى الولاء بالعتاقة لا إلى الولاء بما سواه، فإنما ينفي أن يكون ولاء المعتق بالعتاقة لغير الذي أعتقه. وقد تكلمنا على لفظه إنما وما يوجب في كتاب كراء الأرضين. وبالله التوفيق.
وأما ولاية الهجرة فإن الناس كانوا يتوارثون بها في أول الإسلام، لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك. قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72] . فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة وبالمؤاخاة التي آخى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها بينهم دون ذوي الأرحام حتى أنزل الله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] يريد بقوله في كتاب الله على ما قال أهل التأويل أي في آية المواريث. فالمراد بأولي الأرحام في هذه الآية من سمى الله في آية المواريث أو دخل فيها بالمعنى وإن لم يسم.(3/130)
فصل وورث أهل العراق بهذه الآية العمة والخالة وسائر ذوي الأرحام وجعلوهم أحق بالميراث من الموالي. وهذا ليس بصحيح لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بين مراد الله في كتابه في هذه الآية. فقال: «فما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر» .
وأما ولاية النسب فموجودة أيضا في القرآن. قال الله عز وجل: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] وقال تعالى حاكيا عن زكرياء - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم: 5]- يقول وإني خفت بني عمي وعصبتي من بعدي أن يرثوني- {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] أي ولدا وارثا معينا يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة. وذلك أن زكرياء كان من ولد يعقوب فوهب الله له يحيى. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قرأ هذه الآية قال: يرحم الله أخي زكرياء وما كان عليه من ورث ماله، ويرحم الله أخي لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد» .
وأما ولاية العتق فإنها توجب الميراث عند انقطاع النسب بحق الإفعام بالعتق والمن به عند جماعة العلماء. قال الله عز وجل: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] والمن العتاقة. وقال تبارك وتعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] يريد أنعم الله عليه بالإسلام(3/131)
وأنعمت عليه بالعتق. فولاية العتاقة كالنسب سواء في وجوب الميراث بها عند عدم الأقربين والعصبة. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء نسب» . وقال: «الولاء لحمة كلحمة النسب» .
فصل «ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الولاء وعن هبته» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الولاء لمن أعتق» . فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» فعل الإعتاق وإن لم يكن ذلك حقيقة اللفظ، لأن الثواب حاصل عن العتق والولاء حاصل عنه فوجب ألا يفترقا. وقد أجمعوا أن من وكل رجلا على عتق عبده فالولاء للموكل لا للوكيل الذي تولى فعل الإعتاق. ولهذا قلنا: إن من أعتق عبده عن غيره بإذنه أو بغير إذنه إن الولاء للمعتق عنه؛ لأن ثواب العتق له، وكأنه إذا أعتقه عنه فقد ملكه إياه بشرط إعتاقه عنه. وليس ذلك من هبة الولاء المنهي عنه في الحديث، لأن النهي إنما يقتضي نقل الولاء بعد ثبوته وتقرره لمن حصل له ثواب العتق على ما بيناه.
فصل ومن هذا المعنى اختلفوا في عتق السايبة فكرهه ابن القاسم ابتداء من ناحية هبة الولاء المنهي عنه، فإذا وقع كان الولاء للمسلمين، وأجاز ذلك أصبغ ابتداء ومنع منه ابن الماجشون ورأى أن ذلك هبة الولاء حقيقة، فقال: إن وقع كان(3/132)
الولاء لملأ المسلمين. ففهم أصبغ ومن أجاز عتق السايبة من قول الرجل لعبده: أنت سايبة؛ أن مراده بذلك إعتاقه عن المسلمين وجعل ثواب العتق لهم لا لنفسه. وفهم ابن الماجشون ومن لم يجز أن مراده بذلك أن يجعل ثواب العتق لنفسه وولاءه للمسلمين. ولم يتحقق عند ابن القاسم مراده بذلك فلذلك كرهه ابتداء. فهذا توجيه الاختلاف في عتق السايبة عندي. ألا ترى أن الرجل لو قال لعبده: أنت حر عني وولاؤك للمسلمين لم يختلف أن ذلك جائز وأن الولاء يكون للمسلمين أعني في المذهب. وأما في غير المذهب فالشافعي وأبو حنيفة يقولان إن الرجل إذا قال لعبده أنت حر عن المسلمين إن الولاء له لا للمسلمين على أصلهما فيمن أعتق عبده عن غيره بغير إذنه أن الولاء له دون المعتق عنه. واستدلوا على ذلك بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الولاء لمن أعتق» . وإذا استدلوا على ذلك بهذا الظاهر فيلزمهم عليه عتق الوكيل، والعتق عن الغير بإذنه، وهذا بين لا خروج لهما عنه.
فصل وإذا قلنا إن المفهوم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» أي لمن حصل له ثواب العتق، فمن أسلم على يديه رجل فلا ولاء له عليه. هذا قولنا وقول فقهاء الأمصار. وقال إسحاق بن راهويه: له ولاؤه، واحتج بما روي «عن تميم الداري أنه قال للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: يا رسول الله، ما السنة فيمن أسلم على يديه رجل فقال: هو أحق به في محياه ومماته» . وهذا محمول عندنا على أنه أحق به في نصرته والقيام بأموره وتولي دفنه إذا مات. بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما الولاء لمن أعتق» . ولأن الولاء إنما يكون بالإنعام، ولا إنعام لمن أسلم على يديه، وبالله التوفيق.(3/133)
فصل وكذلك من التقط لقيطا فهو حر ولا ولاء له عليه وقد قال قوم: إن ولاءه لمن التقطه. واحتجوا بقول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته. وهذا محمول أيضا عندنا على أن عمر إنما أراد أن له ولايته والقيام بأموره والثواب على تربيته، وعلى بيت المال نفقته بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الولاء لمن أعتق» .
فصل ومن الناس من قال إن اللقيط عبد لمن التقطه، وهذا لا وجه له، لأنه لا يخلو من أن يكون ابن أمة مملوكة فهو لسيدها لا يحل لملتقطه أن يتملك، أو يكون ابن حرة فهو حر.
فصل وما روي عن عائشة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما قالا في أولاد الزنى: أعتقوهم وأحسنوا إليهم. فإن مخرج ذلك في أمر الحرية على الإعلام لهم بأنهم أحرار، وهذا جائز في الكلام، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده عبدا مملوكا فيشتريه فيعتقه» وليس يجوز بقاء] ملك الولد على والده ولا ملك الوالد على ولده لأنه يتنافى أن يكون ابنا عبدا أو أبا عبدا، بدليل قول الله عز وجل: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] . وقال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93](3/134)
فنفى الله تعالى أن يكون الولد عبدا. فإذا كان هذا في الولد فهو في الأب أولى لحرمة الأب وما أوجب الله له من الحق. ألا ترى أنه قرن شكره بشكره فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] . وقول عمر هو حر؛ مفهومه الإخبار بحريته لا إعتاقه، ولو كان حرا بإعتاقه لكان الولاء له؛ لأن هبة الولاء لا تجوز.
فصل والموالي أربعة:
موالي لا يتوارثون وهم المسلمون الذين لا يتناسبون.
وموالي يتوارثون وهم المسلمون المتناسبون.
وموالي يرثون ولا يورثون وهم الموالي المسلمون المعتقون.
وموالي يورثون ولا يرثون وهم الموالي المعتقون.
فصل الموالي الذين يرثون ولا يورثون ثلاثة: مولى الرجل الذي أعتقه، ومولى أبيه، ومولى أمه.
فإن كان الرجل حرا معتقا فولاؤه لمولاه الذي أعتقه، فإن لم يكن مولى وكان حرا لم يعتق كان ولاؤه لمولى أبيه الذي أعتقه، فإن كان الأب حرا لم يعتق كان ولاؤه لمولى جده الذي أعتقه. هكذا أبدا ما ارتفع وعلا.
فإن لم يكن في آبائه حر معتق وكانوا كلهم أحرارا غير معتقين ورثه المسلمون، ولم يكن لموالي الأم من ولائه شيء. وكذلك إن كان في آبائه حر(3/135)
معتق فانقرض المعتق وعصبته ورثه المسلمون دون موالي الأم. فإن كان الميت منقطع النسب ولد زنى أو منفيا بلعان أو كان آباؤه كفارا أو عبيدا كان ولاؤه لموالي الأم إن كانت معتقة، فإن كانت الأم حرة لم تعتق كان الولاء لموالي الجدات للأم. وإن كانت منقطعة النسب ابنة زنى أو منفية بلعان أو كان أبوها عبدا أو كافرا كان الولاء لموالي الجدة أم الأم، وهكذا على هذا الترتيب ينزل الأمر.
فصل والولاء في جميع ما ذكرنا من موالي الرجل وموالي ابنه وموالي أمه يورث به ولا يرث. ومعنى ذلك أن الميراث يكون لأقرب الناس بالمعتق يوم مات المولى الموروث، لا لمن ورث المولى المعتق.
فصل وهو ينتقل إلى الأقرب فالأقرب من العصبة لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء للكبر» . يريد الأقرب إلى المولى المعتق فالأقرب من العصبة، وبالله التوفيق.
فصل فأولى الناس بميراث الرجل المعتق إذا لم يكن له ورثة ولا عصبة مولاه الذي أعتقه، فإن لم يكن حيا فولده ثم ولد ولده وإن سفلوا الأقرب فالأقرب. فإن لم يكن له ولد ولا ولد ولد أو كانوا فانقرضوا فأبوه ثم ولد الأب وهم الإخوة. فإن كانوا لأب وأم أو لأب فالميراث بينهم، وإن كان بعضهم لأب وأم وبعضهم لأب، فالذي لأب وأم أقعد من الذي لأب وأحق بالميراث. فإن لم يكن له إخوة فولد الإخوة، فإن كان بعضهم ابن أخيه لأب وأم وبعضهم ابن أخيه لأب فابن الأخ للأب والأم أقعد(3/136)
وأحق بالميراث. فإن لم يكن له ولد الإخوة فأولادهم، فإن لم يكن أولادهم فأولاد أولادهم أبدا ما سفلوا على هذا الترتيب الذي وصفنا ومتى استووا في القعدد وكان أحدهم أقرب إلى المعتق بأم كان أحق بالميراث، وإن استووا كانوا في الميراث شرعا سواء. فإن لم يكن للأب ولد ولا ولد ولد أو كانوا فانقرضوا كان أبوه وهو الجد أحق الناس بالولاء، فإن لم يكن الجد فولده وهم الأعمام، فإن كان بعضهم أقرب إلى المعتق بأم كان أقعد بالميراث. فإن استووا كانوا في الميراث شرعا سواء. فإن لم يكن الأعمام فولد الأعمام، فإن لم يكن ولد الأعمام فولد ولدهم وإن سفلوا أبدا على الترتيب الذي وصفناه في بني الإخوة، متى استووا في القعدد وكان أحدهم أقرب إلى المعتق كان أحق بالميراث، وإن استووا في ذلك كانوا في الميراث شرعا سواء. فإن لم يكن للجد ولد ولا ولد ولد، أو كانوا فانقرضوا فأبو الجد أحق بالميراث، فإن لم يكن أبو الجد فولده، فإن لم يكن ولده فولد ولده على الترتيب الذي وصفناه في الإخوة وبنيهم، والأعمام وبنيهم، فإن لم يكن له ولد فولد ولده على الترتيب الذي وصفاه. فإن لم يكن لجد الجد ولد ولا ولد ولد فوالد الجد هكذا أبدا ما تباعد نسبهم وامتد فرعهم. فإن انقطعوا ولم يبق منهم أحد كان الميراث لجماعة المسلمين بولاية الإسلام، إلا أن يكون مولاه الذي أعتقه معتقا فيكون الولاء لمولى مولاه ثم لمن يجب ذلك له بسببه على ما بيناه في انتقال الولاء عن المولى المعتق ثم لمولى مولى مولاه ثم لمن يجب ذلك له بسببه على ما بيناه. فإن لم يكن مولاه الذي أعتقه معتقا وكان حرا لم يعتق بولادته فمولى أبيه ثم لمن يجب له ذلك بسببه على ما بيناه. وإن كان مولاه الذي أعتقه منقطع النسب ولد زنى أو منفيا بلعان أو كان أبوه عبدا أو كان عبدا أو كافرا فولاؤه لمولى أمه ثم لمن يجب ذلك له بسببه على ما بيناه. فإن كانت أمه حرة لم تعتق فولاؤه لمولى أبيها، فإن كان أبوها عبدا أو كافرا أو كانت منقطعة النسب ابنة زنى أو منفية بلعان فولاؤه(3/137)
لموالي أم أم مولاه، فإن لم يكن له موالي من قبل أم مولاه فميراثه لجماعة المسلمين بولاية الإسلام.
فصل فإن كان الرجل المتوفى حرا لم يعتق كان الولاء للمولى الثاني وهو مولى أبيه الذي أعتقه، ثم لمن يجب ذلك له بسببه على ما أحكمته السنة في ميراث الولاء على ما وصفناه. فإن كان أبوه حرا أيضا لم يعتق كان الولاء لمولى أبي أبيه. فإن كان أبو أبيه حرا لم يعتق كان ولاؤه لموالي أبي أبي الأب فإن كان أبو أبي الأب عبدا أو كافرا أو كان قد نفى ابنه أبا الأب بلعان أو كان ابنه من زنى كان الولاء لموالي أم أبي الأب. وإن كان أبو الأب عبدا أو كافرا أو كان قد نفى ابنه وهو الأب بلعان أو كان ولده من زنى كان الولاء لموالي أم الأب. فإن كانت أم الأب حرة لم تعتق كان الولاء لموالي أبي أم الأب، فإن كان أبو أم الأب عبدا أو كافرا أو كان قد نفى ابنته وهي أم الأب بلعان أو كانت ابنته من زنى كان الولاء لموالي أم أم الأب، وهكذا ترتيب الولاء أبدا في موالي الأب فمن فوقه من الآباء والأمهات.
فصل وإن كان الرجل المتوفى حرا غير معتق منقطع النسب إما ولد زنى أو منفيا بلعان أو لم يكن في آبائه حر مسلم كان ولاؤه للمولى الثالث، وهو مولى أمه، ثم لمن يجب له ذلك بسببه على ما أحكمته السنة في ميراث الولاء. وقد بينا ذلك. فإن كانت أمه حرة لم تعتق كان الولاء لموالي أبي أمه ثم لمن يجب ذلك له بسببهم. فإن كان أبو الأم عبدا أو كافرا أو قد كان نفى ابنته بلعان أو كانت ابنته من زنى كان الولاء لموالي أم الأم ثم لمن يجب ذلك له بسببهم. فإن كانت الأم حرة لم تعتق كان الولاء لموالي أبي أم الأم ثم لمن يجب ذلك له بسببهم. فإن كان أبو(3/138)
أم الأم عبدا أو كافرا أو كان قد نفى ابنته أم الأم بلعان أو كانت ابنته من زنى كان الولاء لموالي أم أم الأم ثم لمن يجب ذلك له بسببهم. وهكذا يترتب الولاء أبدا في موالي الأم فمن فوقه من الآباء والأمهات.
فصل ومتى ما أعتق الأب أو أسلم إن كان كافرا رجع الولاء إليه وجره إلى مواليه إن كان مولى، أو إلى عصبته وجماعة المسلمين إن كان لا ولاء عليه لأحد. وكذلك إن استلحق الملاعن ابنه رجع الولاء إليه وجره عن موالي الأم إلى مواليه إن كان مولى أو إلى عصبته وجماعة المسلمين إن لم يكن عليه ولاء لأحد. وبالله التوفيق.
فصل والأصل في هذا أن كل ولد يولد للحر من حرة فولاؤه لموالي أبيه إن كان مولى أو لجماعة المسلمين إن كان حرا لم يعتق بعتق، ولا يرجع ولاؤه إلى موالي أمه أبدا إلا أن تعتق وهي حامل به فيكون ولاء ولدها لمعتقها ولمن يجب ذلك له بسببه، لأن الرق قد مسه في بطن أمه. وكذلك إذا كوتبت وهو في بطنها أو دبرت أو أعتقت إلى أجل فولاء ما في بطنها لسيد أمهم، ولدته في الكتابة أو بعد أدائها أو ولدته المدبرة في حياة سيدها أو بعد وفاته، أو ولدته المعتقة إلى أجل قبل الأجل أو بعده. وبالله التوفيق.
فصل والولاء ينتقل عن الرجل والمرأة إلى بنيهما وعصبتهما من الرجال دون النساء، فلا ترث المرأة من الولاء إلا ما أعتقت أو أعتق من أعتقت أو أعتق من أعتق من أعتقت، أو ولد من أعتقت من الذكور إن كان حرا لم يعتق، أو ولد من(3/139)
أعتقت من الإناث إن كان ولد زنى أو منفيا بلعان أو كان أبوه عبدا أو كافرا على ما بيناه قبل من أن الموالي ثلاثة: مولى الرجل الذي أعتقه، ومولى أبيه، ومولى أمه.
فصل وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» يهوديا أو نصرانيا لأن عتق الكافر جائز وفيه أجر. قال الله عز وجل: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] والمن العتاقة ففي هذا إجازة عتق الكافر قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الرقاب أنفسها ثمنا وأغلاها عند أهلها» . فلم يخص كافرا من مسلم إلا أنه لا يرثه إلا أن يسلم لاختلاف الدينين. وكذلك إن أعتق الذمي عبده الذمي فإن الولاء يثبت له بعتقه إياه ويرثه إن أسلما جميعا. فإن قال قائل: كيف يصح له الولاء، وقد قلت فيما تقدم: إن الولاء لمن حصل له ثواب العتق، والنصراني لا يثاب على عتقه؟
فالجواب على ذلك أن هذا إجماع، والإجماع أصل في نفسه، فلا يعترض عليه بالقياس. وأيضا فإن النصراني له ثواب العتق إن أسلم على ما روي «أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: يا رسول الله، أرأيت أشياء كنا نتخلق بها في الجاهلية؟ فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أسلمت على ما سلف لك من خير.
»
فصل وأما إن أعتق النصراني مسلما فلا يثبت له ولاؤه؛ لأنه أعتق من لا يصح له(3/140)
حبسه ولا يستقر عليه ملكه، لقول الله عز وجل: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] . هذا مذهب مالك وأصحابه، ورواية ابن القاسم عنه في كتاب ابن المواز أن الولاء يثبت لهم، وهو أظهر، لأن إسلامه لا يسقط ملك سيده عنه وهو عبده وعلى ملكه حتى يباع عليه، وبالله التوفيق.
فصل وقد مضى القول في الولاء موعبا، ويحسن أن يوصل بذلك القول في فرائض المواريث إذ لم يقع منها في المدونة إلا فريضة واحدة ناقصة، فأنا أذكر هاهنا منها جملة مختصرة ملخصة كافية على مذهب مالك وما روي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فصل فيما يجب الميراث به
الميراث يكون بين الأحرار المسلمين بأحد ثلاثة أشياء:
إما نسب ثابت.
أو نكاح منعقد.
وإما ولاء عتاقة.
فإن لم يكن للمتوفى وارث بوجه من هذه الوجوه ورثه جميع المسلمين بولاية الإسلام. لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض. قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقد يجتمع الثلاثة الأشياء فيكون الرجل زوج المرأة ومولاها وابن عمها. وقد يجتمع منها شيئان لا أكثر مثل أن يكون زوجها ومولاها، أو زوجها وابن عمها، فيرث بوجهين ويكون له جميع المال إذا انفرد، نصفه بالزوجية ونصفه بالنسب أو الولاء. ومثل أن تكون المرأة ابنة الرجل(3/141)
ومولاته فيكون لها أيضا جميع المال إذا انفردت، نصفه بالنسب ونصفه بالولاء وكذلك ما أشبهه، وبالله التوفيق لا شريك له.
فصل ولا ميراث إلا بعد الدين والوصية. فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات، ثم ما يلزمه في تكفينه وإقباره، ثم الديون على مراتبها، ثم يخرج من الثلث الوصايا وما كان في معناها على مراتبها، ويكون الباقي ميراثا بين الورثة، وبالله التوفيق.
[فصل في تسمية من يرث من الرجال]
وهم خمسة عشر: الأب، والجد للأب وإن علا، والابن، وابن الابن وإن سفل، والأخ الشقيق، والأخ للأب، والأخ للأم، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ للأب، والعم الشقيق، والعم للأب، وابن العم الشقيق، وابن العم للأب، والزوج، والمولى بولاء العتاقة.
[فصل في تسمية من يرث من النساء]
وهن: عشرة: الأم، والجدة للأب، والجدة للأم، والبنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت للأب، والأخت للأم، والزوجة، والمولاة المعتقة.
فصل ولا يرث من ذوي الأرحام سوى من له فرض مسمى بأرحامهم شيئا، وهم الأجداد من قبل الأم، والأعمام للأم، وبنوهم، وبنو الأخ للأم، والأخوال، والخالات، وبنوهم، وبنو البنات، وبنو الأخوات؛ ولا جميع العصبة من النساء بأنسابهن شيئا، وهن العمات، وبنات الإخوة، وبنات الأعمام، فهؤلاء وأولادهم(3/142)
ومن علا من أشباههم، مثل عمة الأب، وخالة الجد، لا يرثن ولا يحجبن وارثا؛ لأن كل من لا يرث بحال فلا يحجب.
[فصل في الحجب]
فصل
في الحجب
الأب يحجب من فوقه من الآباء. ومن كان بسببه من الجدات، ويحجب الإخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم.، والابن يحجب من تحته من بني البنين، ويحجب الإخوة كلهم ذكورهم وإناثهم، ويحجب الأعمام وبنيهم، ويحجب الأم عن الثلث إلى السدس، والزوجة عن الربع إلى الثمن، والزوج عن النصف إلى الربع. والأخ الشقيق يحجب الأخ للأب، والأخ للأب يحجب ابن الأخ الشقيق. وابن الأخ الشقيق يحجب ابن الأخ للأب، الأقرب يحجب الأبعد أبدا. فإذا استويا في القعدد فالشقيق أحق. وابن الأخ وإن سفل يحجب العم الشقيق. والعم الشقيق يحجب العم للأب، والعم للأب يحجب ابن العم الشقيق. وابن العم الشقيق يحجب ابن العم للأب، الأقرب يحجب الأبعد أيضا على ما تقدم في الإخوة. والأم تحجب جميع الجدات اللواتي من قبلها واللواتي من قبل الأب. وكل واحدة من الجدتين تحجب من فوقها من الجدات. والبنت وبنت الابن وإن سفلت تحجب الإخوة للأم، والزوجة من الربع إلى الثمن.
[باب ميراث البنين]
الابن إذا انفرد كان له جميع المال، فإن كانوا أكثر من واحد كان المال بينهم بالسواء. والبنت الواحدة إذا انفردت كان لها النصف، وللاثنين فصاعدا الثلثان. فإن اجتمع البنون والبنات فلا فريضة للبنات واحدة كانت أو أكثر معهم، والمال بين جميعهم للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن كان مع البنين من له فرض مسمى بدئ به وكان ما فضل بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين إن كانوا ذكورا وإناثا، أو بينهم بالسواء(3/143)
إن كانوا ذكورا، وان كن إناثا فلهن مع أهل الفرائض فرائضهم كاملة إلا أن ينقصها العول. وبنو الأبناء كالأبناء في عدم الأبناء ذكرهم كذكرهم وأنثاهم كأنثاهم، يرثون كما يرثون ويحجبون كما يحجبون، ولا شيء لبني الابن ذكورا كانوا أو إناثا مع الابن الذكر، ولهم مع البنت أو البنات ما فضل عن فرائضهم على السواء إن كانوا ذكورا، وللذكر مثل حظ الأنثيين إن كانوا ذكورا وإناثا، فإن كانوا إناثا فلا شيء لهن مع البنتين فصاعدا إلا أن يكون معهن ابن ابن أو بإزائهن فيرد عليهن ويكون الفاضل بينهن وبينه للذكر مثل حظ الأنثيين. ولهن مع البنت الواحدة السدس تكملة الثلثين، ولا شيء لمن تحتها من بنات الأبناء إلا أن يكون معهن ابن ابن بإزائهن أو أبعد منهن فيرد عليهن ويكون الفاضل بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
[باب ميراث الأبوين]
الأب إذا انفرد كان له المال كله، وله مع البنين السدس فريضة، وله مع أهل الفرائض ما فضل عن فرائضهم إن فضل السدس أو أكثر منه، فإن فضل أقل منه لم ينقص منه إلا ما نقصه العول. وللأم إذا لم يكن ولد أو اثنان من الإخوة أو الأخوات فصاعدا كانوا أشقاء أو لأب أو لأم الثلث فريضة لا يزاد عليه ولا ينقص منه إلا أن ينقصها العول. فإن كان للمتوفى ولد أو ولد ابن ذكرا كان أو أنثى أو اثنان من الإخوة أو الأخوات فصاعدا ورثا أو حجبا، فلها السدس فريضة لا تزاد عليه ولا تنقص منه إلا أن ينقصها العول. فهذه حال الأم إلا في الغراوين، وهما زوجة وأبوان، أو زوج وأبوان، فلها فيهما ثلث ما بقي بعد فريضة الزوج أو الزوجة.
[باب ميراث الجدات]
وللجدة الواحدة من قبل أب كانت أو من قبل أم السدس إذا انفردت، فإن اجتمعتا فالسدس بينهما بنصفين. فإن كانت التي من قبل الأم أقرب فالسدس لها(3/144)
دون التي للأب، وإن كانت التي من قبل الأب أقرب فالسدس بينهما بنصفين. ولا يرث من الجدات إلا جدتان: أم الأم وأمهاتها، وأم الأب وأمهاتها. وأما أم أبي الأب، وأم أبي الأم فإنهما لا ترثان.
[باب ميراث الزوجين]
وللزوج من امرأته النصف إن لم يكن لها ولد، فإن كان لها ولد ذكرا أو أنثى منه أو من غيره أو ولد ولد ذكر له الربع. وللزوجة من زوجها الربع إن لم يكن له ولد ولا ولد ولد، فإن كان له ولد ذكرا كان أو أنثى منها أو من غيرها أو ولد ولد ذكر فلها منه الثمن. فإن كان للرجل زوجات فالثمن أو الربع بينهن بالسواء لا يزدن على ذلك شيئا. والمدخول بهن وغير المدخول بهن في الميراث سواء.
[باب ميراث الجد]
ميراث الجد للأب وإن علا كميراث الأب إذا لم يكن دونه أب ولا ترك المتوفى إخوة أشقاء أو لأب إلا في الغراوين فإن للأم معه ومع الزوجة أو الزوج الثلث بخلاف ما لها مع الأب. فيرث الجد المال كله إذا انفرد، فإن كان معه أهل فرائض فرض له السدس ولم ينقص منه إلا أن ينقصه العول.
[باب ميراث الإخوة الشقائق ولأب]
باب ميراث الإخوة الشقائق وللأب الأخ الشقيق إذا انفرد كان له المال كله، فإن كانوا أكثر من واحد فالمال بينهم على عددهم. وهو مع أهل الفرائض عاصب فيما بقي لهم، فإن استكملوا المال لم يكن له أولهم إن كانوا عددا شيء إلا أن يكون في الذين استكملوا المال إخوة لأم ورثوا الثلث فيشاركنهم فيه على أنهم إخوة لأم. وتسمى هذه الفريضة المشتركة، وتعرف بالحمارية. ولو فضل للإخوة الشقائق شيء لم يكن لهم إلا ما فضل وإن كان أقل مما صار للإخوة للأم.(3/145)
وللأخت الواحدة الشقيقة النصف، وللأختين فصاعدا الثلثان لا ينقص من ذلك إلا أن ينقصهن العول. فإن كان معهن أخ أو إخوة أشقاء فلا فريضة لهن معه ولا معهم، والمال بينهم إذا انفردوا، أو ما فضل عمن له فرض مسمى إن كان معهم من له فرض مسمى، للذكر مثل حظ الأنثيين.
والإخوة للأب كالإخوة الشقاق عند عدم الشقائق ذكرانهم كذكرانهم، وإناثهم كإناثهم إلا في المشتركة فإنهم لا يشتركون مع الإخوة للأم لخروجهم عن ولادتها. فلا شيء للإخوة للأب مع الأخ الشقيق، ولهم مع الأخت الشقيقة أو مع الأختين ما فضل من المال على السواء إن كانوا ذكورا، وللذكر مثل حظ الأنثيين إن كانوا ذكورا وإناثا. فإن كانوا إناثا فلا شيء لهن مع الأختين فصاعدا، ولهن مع الواحدة السدس تكملة الثلثين فريضة. والأخوات الشقائق أو اللواتي لأب مع الابنة أو البنات، فلا شيء للواتي لأب مع الشقائق وإن كانت شقيقة واحدة.
[باب ميراث الإخوة لأم]
باب ميراث الإخوة للأم وأما الإخوة للأم فإن كان واحدا فله السدس، وإن كانوا أكثر فهم شركاء في الثلث على السواء ذكورا كانوا أو إناثا. وليس في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والأنثى فيه سواء إلا في ميراث الإخوة للأم. ولا يرثون إلا في الكلالة، وهي ألا يورث المتوفى بابن وإن سفل ولا بأب وإن علا.
[باب ميراث الإخوة مع الجد]
وينزل الجد مع الإخوة الشقائق أو الذين لأب منزلة أخ فيقاسمهم المال للذكر مثل حظ الأنثيين، إلا أن يكون الثلث أفضل له.. فلا ينقص منه شيء. فإن كان مع الإخوة الشقائق إخوة لأب عادّوا الجد بهم فمنعوه كثرة الميراث ورد ما صار لهم في المقاسمة على الإخوة الشقائق، ولم يكن للإخوة للأب معهم شيء، إلا أن يكون الشقائق أختا واحدة ويفضل من المال بعد ما صار للجد أكثر من النصف فيكون الفاضل عن الأخت للإخوة للأب للذكر مثل حظ الأنثيين. وإن كان مع(3/146)
الجد والإخوة من له فرض مسمى بدئ به، ثم قاسم الإخوة فيما بقي إلا أن يكون ثلث ما بقي أو السدس من رأس المال أفضل له من المقاسمة فيكون له الأفضل من الثلاثة الأشياء، فما صار للإخوة الشقائق أو الذين لأب مع الجدود وفي الفرائض كان بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن اجتمعوا رجع الشقائق عن الذين لأب فيما صار لهم في المقاسمة، ولم يكن للإخوة للأب معهم شيء، إلا أن يكون الشقائق أختا واحدة ويفضل من المال بعد ما صار للجد ولأهل الفرائض أكثر من النصف فيكون الزائد على النصف للإخوة للأب. فإن استكمل أهل الفرائض المال بسدس الجد لم يكن للإخوة شيء ذكورا كانوا أو إناثا إلا في الأكذوبة، وهي امرأة توفيت عن زوج وأم وجد وأخت شقيقة أو لأب، فللزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس، ويرتى للأخت بالنصف، ثم يجمع سدس الجد ونصف الأخت بما دخل ذلك من العول فيقسم بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، فيقسم من سبعة وعشرين، للزوج تسعة، وللأم ستة، وللجد ثمانية، وللأخت أربعة.
فصل وإنما لم ينقص الجد مع الإخوة الشقائق والذين لأب من الثلث شيئا إذا لم يكن معهم من له فرض مسمى، أو من ثلث ما بقي إن كان معهم من له فرض مسمى، لأن الإخوة للأم يفرض لهم مع عدم الإخوة الشقائق أو الذين لأب الثلث فريضة لا ينقصون منه إلا أن ينقصهم العول. فلما كان الجد يحجبهم عن الثلث وجب ألا ينقص منه شيئا، إذ لو كان إخوة لأم لكان لهم ذلك الثلث. وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في زوج وأم وجد وإخوة لأب وإخوة لأم أن للزوج النصف، وللأم السدس، وللجد الثلث الذي حجب عنه الإخوة للأم، ولا شيء للإخوة للأب معه، إذ لو لم يكن الجد لم يكن لهم مع الإخوة للأم شيء، فكان أحق منهم بجميع الثلث الذي حجب عنه الإخوة للأم. وهذه الفريضة تنسب إلى مالك فتسمى المالكية لقوله بها وصحة اعتباره فيها، وبالله التوفيق.
فصل ولا ميراث بين المسلم والكافر، فميراث الكافر لأهل دينه إلا أن يكون عبدا(3/147)
فيرثه سيده بالملك الذي له فيه. وميراث المسلم لورثته من المسلمين إلا أن يسلم عبد الكافر فيموت قبل أن يباع عليه فيرثه بالملك الذي لنفسه؟ ولا بين الحر والعبد ومن فيه بقية رق من مكاتب أو مدبر أو معتق إلى أجل أو أم ولد. وميراث هؤلاء لساداتهم دون قرابتهم إلا أن يعتقوا أو يموت سيد أم الولد، فإن مات سيد أم الولد عتق لها وولد أم الولد من سيدها وولد ابنتها من غير سيدها أيضا يعتقون بموت السيد، فلا ميراث بينهم وبين قراباتهم إلا أن يموت السيد أو يعجل عتقهم. وولد من فيه بقية رق من أمته بمنزلته. ولا يرث المولود حتى يستهل صارخا ولا يورث. ولا يرث قاتل العمد من المال ولا من الدية شيئا. ويرث قاتل الخطأ من المال ولا يرث من الدية، ومما يرثان الولاء جميعا. ولا يرث ولد الزنى ولا المنفي بلعان من أبيه شيئا ولا يرثانه، فإن استلحق الملاعن ابنه جلد الحد ولحق به وورثه. وإن استلحق الزاني ولده من الزنى لم يلحق به إذا كان الزنى في الإسلام. ولا يتوارث من جهل موته مثل أهل البيت يموتون جميعا بغرق أو هدم أو غير ذلك فلا يعلم أيهم مات قبل صاحبه، فيرث كل واحد منهم ورثته من الأحياء ولا يورث بعضهم من بعض. ولا يتوارث من ولد في أرض الشرك مثل المسبيين والمستأمنين إلا أن يثبت نسبهم ببينة أو يكونوا جماعة كثيرة تحملوا فيشهد بعضهم لبعض. ويتوارث توءما المسبية أو المستأمنة بالأب والأم، ولا يتوارث توءما الزانية إلا بالأم. واختلف في توءمي المغتصبة والملاعنة، فالمشهور في توءمي الملاعنة أنهما يتوارثان بالأب والأم، والمشهور في توءمي المغتصبة أنهما لا يتوارثان إلا بالأم. وبالله تعالى التوفيق.
[فصل في ميراث الخنثى]
فصل
في ميراث الخنثى
والخنثى المشكل يورث نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى على ما ذهب إليه أهل الفرائض، وفي ذلك اختلاف. ولا يكون الخنثى المشكل زوجا ولا زوجة(3/148)
ولا أبا ولا أما. وقد قيل إنه وجد من ولد له من بطنه ومن ظهره، فإن صح ذلك ورث من ابنه لصلبه ميراث الأب كاملا، ومن ابنه لبطنه ميراث الأم كاملا، وهو بعيد. والله أعلم.
[فصل في فرائض المواريث]
فصل
في فرائض المواريث والفرائض التي فرضها الله عز وجل في المواريث ست: ثلثان، ونصف، وثلث، وربع، وسدس، وثمن. فإن كان في الفريضة نصف فأصلها من اثنين. وإن كان فيها ثلث وثلثان فأصلها من ثلاثة. وإن كان فيها ربع أو ربع وثلث ما بقي فأصلها من أربعة.، وإن كان فيها ثمن أو ثمن ونصف فأصلها من ثمانية. وإن كان فيها ربع وثلث أو سدس وربع فأصلها من اثني عشر. وإن كان فيها ثمن وسدس أو ثمن وثلث فأصلها من أربعة وعشرين وإن كان فيها سدس وثلث ما بقي فأصلها من ثمانية وعشرين. وإن كان فيها سدس وربع وثلث ما بقي. فأصلها من ستة وثلاثين.
فأصول الفرائض تسعة على ما ذكرناه منها، ستة لا تعول، وثلاثة قد تعول.
إحداها: فريضة ستة فإنها تعول بالسدس إلى سبعة، وبالثلث إلى ثمانية وبالنصف إلى تسعة وبالثلثين إلى عشرة، وهو أكثر ما تعول به الفرائض.
والثانية: فريضة اثني عشر فإنها تعول بنصف السدس إلى ثلاثة عشر، وبالربع إلى خمسة عشر، وبالسدس ونصف السدس إلى سبعة عشر.
والثالثة: فريضة أربعة وعشرين فإنها تعول بالثمن إلى سبعة وعشرين.
وما كان من الفرائض ليس فيه من له فرض مسمى فأصلها من حيث تنقسم، وذلك ما يجتمع من عدد البنات وضعف عدد البنين إن كان الورثة بنين وبنات،(3/149)
وكذلك الإخوة مع الأخوات، أو ما يجتمع من عدد العصبة الوارثين أو الإخوة الذكور أو البنين.
فصل والورثة ينقسمون على أربعة أقسام: فمنهم من له فرض مسمى وليس بعاصب، فلا يزاد على فريضته ولا ينقص منها إلا أن يدخل الفريضة عول، وهم الأزواج والزوجات، والأم والجدات، والبنت والبنات، والإخوة والأخوات للأم. ومنهم من له فرض مسمى وهو عاصب، فيرث المال كله إن انفرد، ولا ينقص من فريضته إذا لم ينفرد إلا أن يدخل الفريضة عول، وهو الأب والجد للأب وإن علا.
ومنهم من هو عاصب في حال، وهن الأخوات الشقائق واللواتي للأب لأنهن عصبة مع البنات.
ومنهم من هو عاصب في كل حال، فيرث المال كله إذا انفرد وما فضل عمن له فرض مسمى إن فضل عن شيء وهم الأبناء وبنوهم، والإخوة وبنوهم، والأعمام وبنوهم، والموالي والمواليات بولاء العتاقة.
[باب ميراث الولاء]
الولاء كالنسب يجب الميراث به عند عدم النسب كما يجب بالنسب، فللمولى المعتق المال كله إذا انفرد، وهو مع من له فرض مسمى عاصب فيما بقي. والموالي ثلاثة:
مولى الرجل الذي أعتقه.
ومولى أبيه.
ومولى أمه.(3/150)
فإن كان الرجل حرا معتقا فولاؤه لمولاه الذي أعتقه ثم لمن يجب له ذلك بسببه وهم الأقرب فالأقرب من العصبة الرجال. فأحق الناس بولاء ما أعتق الرجل والمرأة من رجل أو امرأة ابنه ثم ابن ابنه وإن سفل الأقرب فالأقرب، ثم أبوه، ثم بنو أبيه وهم الإخوة، ثم بنوهم وإن سفلوا الأقرب فالأقرب، فإن كانوا في درجة واحدة في القرب فالمال بينهم بالسواء إلا أن يكون فيهم شقيق فيكون أحق من الذين لأب. ثم الجد، ثم بنوه وهم الأعمام، ثم بنوهم وإن سفلوا الأقرب فالأقرب أيضا، فإن كانوا في درجة واحدة وبعضهم شقيق فالشقيق أحق من الذين لأب. ثم أبو الجد ثم بنوه على الترتيب الذي ذكرنا. ثم جد الجد ثم بنوه على الترتيب الذي ذكرنا. ثم أبو جد الجد ثم بنوه وهكذا أبدا إلى ما يمكن أن يعلم ويحصى.
وإن كان الرجل حرا لم يعتق وكان أبوه حرا معتقا فولاؤه لمولى أبيه ثم لمن يجب ذلك له بسببه على الترتيب الذي وصفناه في مولاه. وإن كان أبوه حرا أيضا لم يعتق فولاؤه لمولى جده إن كان حرا معتقا ثم لمن يجب له ذلك بسببه أيضا على ما بيناه. فإن كان ولد زنى أو منفيا بلعان أو كان أبوه عبدا أو كافرا فولاؤه لمولى أمه إن كانت حرة معتقة ثم لمن يجب ذلك له بسببه على ما بيناه. فإن كانت حرة لم تعتق فولاؤه لموالي أبيها. وإن كانت ابنة زنى أو منفية بلعان أو أمة أو كافرة فولاؤه لموالي أمها. ومتى استلحق الملاعن ابنه أو أسلم الكافر أو أعتق العبد جر الولاء عن موالي الأم إلى مواليه أو موالي أبيه لأن كل ولد يولد للحر المسلم من الحرة فليس لموالي أمه من ولائه شيء، وولاؤه لمولاه إن كان حرا معتقا أو لمولى من كان من آبائه حرا معتقا، فإن لم يكن فيهم معتق فميراثه لجماعة المسلمين. فإن لم يكن لأحد الموالي الثلاثة عصبة أو كان فانقرضوا رجع الولاء إلى مولى مولاه إن كان مولاه حرا معتقا ثم لمن يجب ذلك له بسببه على الترتيب الذي وصفناه. ولا يرث النساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو ولد من أعتقن من الرجال إن كان حرا لم يعتق، أو من النساء إن كان منقطع النسب أو مات أبوه عبدا أو كافرا.(3/151)
[كتاب العتق] [ما جاء في العتق]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وبالله أستعين وعليه أتوكل
كتاب العتق ما جاء في العتق
قال الله عز وجل: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] والمن العتاقة. وقال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد: 12] {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14] {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15] {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] . معنى الكلام فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة لا بفك رقبة ولا بإطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة، لأن "لا" لا تأتي أبدا إلا مكررة، "مثل قوله عز وجل: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة: 31] ومثل قوله: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] فجاءت في هذه الآية مفردة لأن المعنى فيها هو ما ذكرناه من تكريرها في الجواب. فتفسير الآية: فلم يقتحم هذا الإنسان الذي ظن أن لن يقدر عليه أحد والله يقدر عليه، وظن أن لم يره أحد والله يراه، وقال إنه أهلك مالا لبدا أي كثيرا، يريد في عداوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد هداه الله النجدين، أي أراه طريق الخير والشر وأنعم عليه أن جعل له عينين يبصر بهما حجج الله، ولسانا وشفتين يعبر بهما عن نفسه العقبة ولا ركبها ولا اقتحمها ولا جازها لا بفك رقبة ولا بإطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة.(3/153)
والعقبة قيل فيها إنها الصراط، وقيل إنها عقبة فيما بين الجنة والنار، وقيل: إنها عقبة في جهنم، وقيل: إنها عقبة على جسر جهنم. وأظهر الأقوال أنها الصراط والله أعلم.
والإنسان قيل فيه إنه رجل من بني جمح ذو جلد وقوة يكنى أبا الأشدين.
وأعتق أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سبعة كلهم يعذب في الله، فقال له أبوه أبو قحافة: يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رقابا جلدا يمنعونك ويقومون دونك، فقال أبو بكر: يا أبت إنما أريد ما أريد، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20] {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21] . يقول الله تبارك وتعالى: لم يكن لأحد ممن أعتق عنده يد يكافئه عليها ولا نعمة يجازيه بها، لكن فعل ذلك ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى في الآخرة بجزيل ثواب الله عز وجل على ذلك ومجازاته عليه. وفي الصحيح من الحديث أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار» ". وروي عنه أنه قال: «أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما جعل الله وجاء كل عظم من عظامه عظما من عظامه محرما من النار. وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة جعل الله وقاء كل عظم من عظامها عظما من عظام محررها من النار» . وأنه قال: «من أعتق أمتين كانتا له حجابا من النار» . ومن أعتق ذكرا فكذلك. فالرجل يفك رقبته من النار على ما جاءت به الآثار بعتق عبد مسلم أو أمتين مسلمتين. والمرأة تفك رقبتها من النار بعتق أمة مسلمة. «وسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الرقاب أفضل؟ فقال: أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها» .
فصل وقد اختلف في هذا التفضيل هل هو على عمومه في جميع الرقاب مسلمين(3/154)
كانوا أو كفارا، أو هل إنما ذلك عند استوائهما في الكفر والإسلام؟ فروى زياد عن مالك أنه قال: أفضل الرقاب أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ولا أبالي أيهوديا كان أو نصرانيا أو ولد زنى وفي كلٍّ أجر، والأجر في ذلك على قدر ما يجترح من ثمنه ومنفعته لله. وقال أصبغ: عتق المسلم أفضل من عتق الكافر وإن كان أقل ثمنا منه، وإنما يكون الأعلى ثمنا أفضل عند استوائهما في الكفر والإسلام. وإذا كانت الرقبتان مسلمتين فالأعلى ثمنا أفضل وإن كانت الأخرى أفضل حالا، وهذا التطوع. أما في الرقبة الواجبة فلا يجوز فيها على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا مؤمنة وفي سماع أصبغ من كتاب الوصايا فيمن قال بعتق خيار رقيقي أنه يعتق أعلاهم ثمنا حتى يستوعب الثلث، ورواه أبو زيد عن ابن القاسم وقال أصبغ: إلا أن يستدل أنه أراد الخيار في الدين فيعتق الأفضل دينا.
[فصل في أقسام العتق]
فصل والعتق ينقسم على وجهين: تطوع وواجب.
فالتطوع ما يوقعه المعتق ابتداء بلفظ يوجب العتق دون سبب يقدمه.
وأما الواجب فهو ما يوقعه أو يقع لسبب أوجبه. وهو ينقسم على وجهين: مضمون ومعين.
فأما المضمون فإنه يجب عند مالك وأصحابه بثلاثة أشياء:
أحدها: النذر، وهو أن يقول: لله علي أن أعتق عبدا أو كذا وكذا عبدا أو كل عبد أملكه في بلد كذا أو إلى أجل كذا أو من صنف كذا شكرا على ما أولاه أو على شيء يتمناه.
والثاني: اليمين وهو أن يقول: إن فعلت كذا أو كذا أو إن لم أفعله فعلي عتق رقبة أو كذا وكذا رقبة أو كل لما أملكه في بلد كذا أو إلى أجل كذا أو من صنف كذا.
والثالث: الفعل الذي أوجب الله تعالى به العتق وهو قتل الخطأ ووطء(3/155)
المظاهر منها بعد الظهار. وليس العتق في كفارة اليمين بواجب لأنه مخير بينه وبين الإطعام والكسوة، ثم الصيام لمن لم يجد.
وأما المعين فإنه ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يكون في ملكه.
والثاني: ألا يكون في ملكه.
فأما ما كان في ملكه من العبيد فإن العتق يجب فيه بخمسة أشياء، وهي النذر، واليمين، والإيلاء، وعتق البعض منه، والتمثيل.
فأما النذر وهو أن يقول: لله علي عتق رقبة عبدي هذا إن فعل الله كذا وكذا وما أشبه ذلك، فيؤمر فيه بالعتق ولا يجبر عليه عند ابن القاسم. وقال أشهب: إن لج وأبى أن يعتقه أعتق عليه. فوجه قول ابن القاسم أن عتقه بغير نية لا وفاء فيه لنذره في إجباره على عتقه تفويت عليه للوفاء بنذره.
وأما اليمين فيجبر على العتق متى ما عثر عليه لوجوبه عليه بالحنث، إن كان في الصحة فمن رأس المال، وإن كان في الفرض أو كانت يمينه على حنث فلم يفعل حتى مات فمن الثلث.
وأما الإيلاء فيوجب للأمة العتق من رأس المال بعد الموت سواء كان في الصحة أو المرض.
وأما عتق البعض من العبد فيوجب على سيده عتق سائره بالحكم ما لم يفلس أو يموت، فإن أفلس أو مات قبل أن يحكم عليه بالعتق لم يعتق. واختلف إن مرض فعثر على ذلك في المرض، فقيل: يعتق عليه في الثلث في مرضه، وقيل: لا يعتق عليه فيه إلا بعد الموت. وقيل: إن كان له مال مأمون أعتق عليه في مرضه، وإن لم يكن له مال مأمون لم يعتق عليه حتى يموت. وقيل: لا يعتق عليه حتى يصح، فهي أربعة أقوال قائمة كلها من المدونة.(3/156)
فصل واختلف إن أعتق بعض عبده في مرضه فقيل: يعتق عليه جميعه في مرضه من الثلث. وقيل: يوقف ولا يعتق إلا بعد الموت من الثلث، كانت له أموال مأمونة أو لم تكن. وقيل: إنما هذا إذا لم تكن له أموال مأمونة، فإن كانت له أموال مأمونة عجل عتقه من رأس ماله، وهذا الاختلاف كله في المدونة.
فصل وهكذا حكم من مثل بعبده في الصحة أو المرض فلم يعثر عليه حتى مرض أو مات أو أفلس، لأن العبد لا يكون حرا بنفس المثلة حتى يحكم عليه بالعتق.
فصل وأما ما لم يكن في ملكه من العبيد فإن العتق يجب عليه فيه إذا ملكه بخمسة أشياء، وهي: النذر، واليمين، وأن يكون ممن لا يحل له ملكه من أقاربه، وأن يمثل بعبد يملك بعضه فيوجب ذلك عليه عتق جميعه حظه وحظ شريكه بالحكم لا بنفس المثلة، وأن يعتق حظه من عبد بينه وبين شريكه فيوجب ذلك عليه عتق حظ شريكه إذا اشتراه أو تقويمه عليه إن لم يشتره على ما ثبت في الحديث المأثور في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
فصل واختلف إن لم يعثر عليه حتى مرض أو مات، فقيل إنه لا يقوم عليه بعد الموت ولا في المرض، قاله بعض رواة مالك في المدونة. وقيل: إنه يقوم في المرض ويعتق عليه فيه. وقيل إنه إنما يقوم عليه بعد الموت في الثلث. وقيل: إنه إن كان له مال مأمون قوم عليه في مرضه، وإن لم يكن له مال مأمون لم يقوم عليه إلا بعد موته. وقيل: إنه يقوم عليه في مرضه ولا يعتق عليه فيه حتى يموت، فإذا مات عتق في ثلثه إن حمله الثلث، وإن لم يحمله كان ما بقي لورثته. وقيل: إنه لا يقوم عليه في مرضه وتعرف قيمته، فإن مات من مرضه ذلك ولم يصح منه كانت تلك(3/157)
القيمة بعد الموت في الثلث. وقيل إنه إن مات بحدثان ذلك ولم يَطُل قُوِّم عليه وأعتق من رأس ماله، وهي رواية أشهب عن مالك في العتبية، ورواية مطرف وابن الماجشون عنه في الواضحة.
فصل وأما إن أعتق حظه من عبد بينه وبين شريكه في المرض ففي ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أنه يعجل عليه التقويم في المرض من الثلث.
والثاني: أنه لا يعجل ذلك عليه حتى يموت.
والثالث: الفرق بين أن يكون له مال مأمون أو لا يكون له مال مأمون؛ فإن كان له مال مأمون قوم عليه في المرض، وإن لم يكن له مال مأمون لم يقوم عليه حتى يموت، وهذا الاختلاف كله في المدونة.
والرابع: أنه لا يقوم عليه نصيب شريكه إلا من رأس ماله إن صح، وإن لم يصح لم يقوم في الثلث على حال وعتق عليه فيه حظه وحده، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة.
فصل وتحصيل هذه المسألة بتلخيص أن تقول فيها: اختلف في الرجل يعتق شقصا من عبده أو شقصه من عبد بينه وبين شريكه في صحته ثم يمرض قبل أن يعتق عليه بقية عبده أو قبل أن يقوم عليه حظ شريكه فيعثر على ذلك في مرضه على ثلاثة أقوال:
أحدها: قول ابن القاسم في المدونة: إنه يعتق عليه بقية عبده، ويقوم عليه حظ شريكه في الثلث. قيل: في المرض، وقيل: بعد الموت لا في المرض، وقيل: إن كانت له أموال مأمونة أعتق عليه بقية عبده في المرض وقوم عليه حظ شريكه في الثلث. وإن لم تكن له أموال مأمونة لم يعتق عليه بقية عبده، ولا يقوم حظ شريكه(3/158)
إلا بعد موته. وقيل: إنه إذا أعتق شقصه من عبد بينه وبين شريكه يحكم عليه بالتقويم في المرض ولا يعتق حتى يموت، فإن مات أعتق في ثلثه حظ شريكه الذي قوم عليه أو ما حمل الثلث منه ويبقى شريكه عليه في المرض إلا برضاه، إذ لا يدري هل يخرج من الثلث أم لا. فمن حجته ألا يقوم نصيبه سائره رقيقا لورثته، وهو قول أصبغ. والنظر يوجب ألا يعجل تقويم نصيب إلا إلى عتق متيقن. وقد قيل: إنه تعرف قيمته في المرض ولا يقوم عليه حتى يموت، فإن مات جعلت تلك القيمة في ثلثه، فإن لم يحملها الثلث نفذ من ذلك ما حمل الثلث وما لم يحمل الثلث بقي رقيقا للشريك الذي لم يعتق.
والثاني: قول بعض الرواة في المدونة: إنه لا يعتق عليه في الثلث بقية عبده ولا يقوم عليه فيه حظ شريكه.
والثالث: قول ابن الماجشون في الواضحة إنه يقوم عليه في الثلث حظ شريكه على ما ذكرناه من الاختلاف في تعجيل التقويم أو تأخيره ولا يعتق عليه فيه بقية عبده. واتفقوا فيما علمت أنه إن لم يعثر على ذلك حتى مات أنه لا يعتق عليه بعد الموت بقية عبده ولا يقوم عليه حظ شريكه لا من رأس المال ولا من الثلث، وهذا إذا طال، واختلف إذا لم يطل على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يعتق عليه بعد الموت بقيته ولا يقوم عليه حظ شريكه لا من رأس المال ولا من الثلث، وهو ظاهر ما في المدونة.
والثاني: أنه يقوم عليه بعد الموت حظ شريكه إن كان موته بحدثان عتق نصيبه؛ لأن ذلك حق قد وجب لشريكه، ولا يعتق عليه بقية عبده إن كان العبد كله له، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه في العتبية، وفي رواية مطرف وابن الماجشون عنه في الواضحة.
والثالث: أنه يعتق عليه بعد الموت بقية عبده إن كان العبد كله له ويقوم عليه نصيب شريكه إن غافلة الموت. حكى هذا القول ابن حبيب عن مالك وأصحابه(3/159)
ولم يذكر فيه اختلافا. وظاهر ما في المدونة يخالفه وأما التفليس فلا اختلاف في أنه يسقط التقويم والتتميم.
وأما إن أعتق الرجل شقصا من عبده أو شقصه من عبد بينه وبين شريكه في المرض فلا خلاف بينهم في أن ذلك كله يكون من الثلث ما أعتق منه وما بقي إن مات من ذلك المرض ولم يصح منه. واختلف هل ينظر في ذلك في حال المرض أو يؤخر النظر فيه حتى يموت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ينظر في ذلك في حال المرض فيعتق جميع العبد في الثلث إن كان له، ويقوم عليه كحظ شريكه فيه إن كان له فيه شريك.
والثاني: أنه لا ينظر في ذلك إلا بعد الموت.
والثالث: الفرق بين أن يكون له مال مأمون أو لا يكون له مال مأمون، فإن كان له مال مأمون عتق عليه في المرض جميعه إن كان له، وقوم عليه فيه حظ شريكه إن كان له فيه شريك. وإن لم يكن له مال مأمون لم ينظر في ذلك إلا بعد الموت وهو أحد قولي مالك في المدونة. وذهب ابن الماجشون إلى أنه إذا أعتق شقصا له من عبد في مرضه لم يقوم عليه حظ شريكه في المرض ولا بعد الموت إن مات من مرضه ذلك ولم يصح، بخلاف إذا كان العبد كله له فأعتق بعضه، وبالله التوفيق. وهو المستعان.
فصل وحال إيقاع العتق ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: العتق في الصحة.
والثاني: العتق في المرض.
والثالث: العتق بعد الموت.(3/160)
فصل فأما العتق في الصحة فإنه يكون على وجوه، مُبَتَّلا، أو مؤجلا بغير يمين، وبيمين. فأما المبتل بغير يمين فهو أن يقول: عبدي حر. ولا يزيد على ذلك، أو يقول: هو حر لله، أو: هو حر لوجه الله؛ أو يقول: هو لله، أو: لوجه الله. ولا يقول: حر. وكذلك إن قال ذلك في عضو من أعضائه فإن الحرية تلزمه بذلك في جميعه كالطلاق سواء. فإن قال: كلامه حر أو شعره حر أو ما أشبه ذلك مما يبين منه وينفصل عنه جرى ذلك على الاختلاف في الطلاق، فيلزمه العتق على مذهب أصبغ، ولا يلزمه ذلك على مذهب سحنون.
فصل وإن قال: أنت سائبة فمذهب ابن القاسم أنه حر إن أراد بذلك الحرية وولاؤه لجميع المسلمين، وذلك مكروه عنده لنهي رسول الله عه عن بيع الولاء وهبته. وقال أصبغ: ذلك جائز ولا كراهية فيه كالذي يعتق عبده عن غيره فيكون الولاء للمعتق عنه ولا يكره ذلك له، وهو حر أراد الحرية أو لم يردها. وقال ابن الماجشون: لا يجوز عتق السائبة، فإن فعل فالولاء له إن عرف، وإن جهل فولاؤه لجميع المسلمين. وبالله التوفيق.
فصل وأما المؤجل بغير يمين فإنه على وجهين:
أحدهما: أن يكون الأجل مجهولا.
والثماني: أن يكون معلوما.
فأما المجهول فإنه ينقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يجهل إتيانه فلا يُدرَى إن كان يأتي أو لا يأتي لجواز الوجهين جميعا من غير أن يغلب أحدهما على صاحبه، أو يكون الأغلب منهما أنه لا يأتي. والثاني: أن يجهل إتيانه فلا يدرى إن كان يأتي أو لا يأتي والأغلب أنه يأتي.(3/161)
والثالث: أن يجهل وقت إتيانه ويعلم أنه يأتي.
فأما القسم وهو أن يجهل إتيانه لاحتمال أن يأتي وألا يأتي من غير أن يغلب أحد الأمرين على صاحبه، أو يكون الأغلب منها أنه لا يأتي، مثل أن يقول: إذا قدم فلان فأنت حر وما أشبه ذلك فإن العتق في ذلك ليس بواجب للعبد إلا أن يأتي الأجل وسيده حي لم يمت ولا خرج عن ملكه. وقد اختلف إذا أراد السيد أن يبيعه هل له ذلك أم لا على قولين:
أحدهما: أن ذلك ليس له، وهو قول مالك في المدونة.
والثاني: أن ذلك له، وهو قول ابن القاسم فيها.
وأما القسم الثاني وهو أن يجهل إتيانه فلا يدرى إن كان يأتي أو لا يأتي وإلا غلب أنه يأتي، مثل أن يقول: عبدي حر إذا وضعت فلانة وهي حامل. وإذا حاضت الغير يائسة من المحيض. أو إذا خسفت الشمس أو القمر وما أشبه ذلك، فحكمه عند أشهب حكم القسم الأول على أصله في مساواته بينهما في الطلاق. فإذا حاضت فلانة أو وضعت أو خسفت الشمس والقمر على مذهبه في صحته كان حرا من رأس المال، وإن حاضت في مرضه كان حرا من الثلث، وإن لم تحض إلا بعد موته فلا حرية له، وذلك له منصوص عليه في سماع أبي زيد من كتاب الولاء. وروى مثله ابن وهب عن مالك. وأما على مذهب ابن القاسم فالعبد معتق إلى وضع فلانة وما أشبه ذلك من رأس المال وضعت في حياة المعتق أو بعد وفاته، على أصله فيمن طلق زوجته إلى مثل ذلك الأجل أن الطلاق يعجل عليه كالأجل الآتي لا محالة.
وأما القسم الثالث وهو أن يجهل وقت إتيانه ويعلم أنه يأتي مثل قوله إذا مات فلان أو إذا أمطرت السماء أو ما أشبه ذلك فأنت حر؛ فإن هذا يكون العبد حرا إلى ذلك الأجل من رأس المال، أتى الأجل قبل موت السيد أو بعده، وليس له أن يبيع(3/162)
ولا يطأ إن كانت أمته، وما ولد له من أمته من ولد أو لها إن كانت أمة دخل في اليمين، ولا خلاف في هذا القسم بينهم. وبالله التوفيق.
فصل وأما الأجل المعلوم وهو مثل أن يقول: أنت حر إلى شهر أو إلى سنة أو إلى سنتين أو ما أشبه ذلك فإنه لا يخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن لا يبلغه عمر واحد منهما أو لا يبلغه عمر العبد.
والثاني: أن يبلغه عمرهما جميعا.
والثالث: أن يبلغه عمر العبد ولا يبلغه عمر السيد.
فأما إذا لم يبلغه عمر واحد منهما أو لم يبلغه عمر العبد فلا حرية له، لأنه بمنزلة من قال لعبده: أنت حر بعد موتك. وأما إذا بلغه عمرهما جميعا فهو معتق إلى ذلك الأجل من رأس المال، وليس له بيعه، ولا وطؤها إن كانت أمة.
وأما إن بلغه عمر العبد ولم يبلغه عمر السيد فإنه بمنزلة المدبر يعتق إلى ذلك الأجل من الثلث ولا يرده الدين المستحدث إلا بعد الموت.
فصل فإن كان العتق المبتل أو المؤجل بيمين فإن الحالف يلزمه إذا حنث من بتل أو عتق إلى أجل بغير يمين إلا في وجه واحد فإن قول مالك اختلف فيه، وذلك إذا حلف الرجل على عبده بحريته ألا يفعل فعلا فحنثه وفعل ذلك الفعل. واختلف في ذلك قول عمر بن عبد العزيز، رويت عنه في ذلك قضيتان، قضى أولا بعتق العبد، ثم قضى بإرقاقه وقال: أخاف أن يكون ذلك ذريعة للعبيد إلى عصيان سادتهم، وقال به بعض الناس في الطلاق، ووقع مثله في المبسوطة لأشهب، وفي مواضع أخر منها، منها قول مالك وأصحابه إن الطلاق يلزم.(3/163)
فصل وإنما لزم العتق باليمين لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] واليمين بالعتق من العقود، فوجب الوفاء به. وهذا صحيح على أصل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن أصل مذهبه أن كل من حلف بما لله فيه طاعة يلزمه في اليمين كما يلزمه في النذر، ومن حلف بما ليس لله فيه طاعة أو له فيه معصية فلا يلزمه في اليمين كما لا يلزمه في النذر، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» .
فصل ولا يخرج على هذا الأصل إلا الطلاق، فإن الطلاق يلزم باليمين ولا يلزم بالنذر. وإنما كان ذلك لأن القائل لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار قد أوجب الطلاق على نفسه بشرط دخول الدار، فهو بمنزلة أن يوجبه على نفسه ابتداء بغير شرط. والطلاق ليس مما ينذر لله ولا يتقرب به إليه فلذلك لم يلزم بالنذر.
فصل ولزوم الطلاق باليمين مما أجمع عليه أهل العلم واتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه. وأما العتق وسائر أفعال البر بيمين فإن أهل العلم اختلفوا في لزوم ذلك اختلافا كثيرا. فمنهم من لم يلزم شيئا من ذلك باليمين وأوجب على الحالف به كفارة يمين. ومنهم من لم يلزمه شيئا من ذلك باليمين ولا أوجب عليه كفارة يمين. وعلة من لم يلزم شيئا من ذلك باليمين أن الحالف بها لم يرد النذر بذلك ولا القربة به، وإنما قصد إلى منع نفسه مما حلف عليه. فلا يلزمه أن يخرج لله مما لم يرد به القربة إليه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأعمال بالنيات» . وقوله: «من كانت هجرته إلى الله(3/164)
ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» .
فصل ولو خرجت يمينه بشيء من هذه الأشياء مخرج النذر لله والشكر له لَلَزِمته باتفاق وإجماع. وذلك مثل أن يحب الولد أو قدوم أبيه أو دخول مكة وما أشبه ذلك فيقول: إن رزقني الله ولدا، أو قدم أبي، أو وصلت إلى مكة فعلي كذا وكذا لشيء يذكره من صيام أو صدقة أو مشي أو عتق أو ما أشبه ذلك. ومنهم من ألزم العتق باليمين قياسا على الطلاق ولم يلزم سائر الطاعات به. وليس بقياس صحيح، لأن الطلاق ليس مما ينذر لله ويوفى له به ويتقرب إليه. ومنهم من ألزم العتق وسائر الطاعات التي يتقرب بها إلى الله باليمين قياسا على النذر، وهو قول مالك وأصل مذهبه. وقد شذت له مسائل عن هذا الأصل يجب ردها بالقياس عليه: من ذلك قوله: إن من حلف بصدقة شيء من ماله على رجل بعينه إنه يؤمر بذلك ولا يجبر عليه بالحكم، ولا فرق في القياس بين ذلك وبين أن يحلف بعتق عبد بعينه، وإنما فرق بينهما مراعاة لقول من لا يوجب عليه الصدقة باليمين وقوة الاختلاف في ذلك.
[فصل في اليمين بالعتق]
فصل واليمين بالعتق على وجهين:
أحدهما: أن يحلف على فعل نفسه.
والثاني: أن يحلف على فعل غيره.
فأما الوجه الأول وهو أن يحلف على فعل نفسه فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يحلف ألا يفعل فعلا.
والثاني: أن يحلف أن يفعله.(3/165)
فأما الوجه الأول وهو أن يحلف بعتق عبده ألا يفعل فعلا فإنه على بر، وله أن يبيع العبد ويطأ الأمة إن كانت أمة. فإن لم يخرج العبد أو الأمة من ملكه حتى فعل الفعل الذي حلف عليه ألا يفعله لزمه الحنث وعتق عليه العبد أو الأمة. واختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما ولد للعبد من أمته أو للأمة من ولد بعد اليمين هل يدخل في العتق أم لا على قولين واختار ابن القاسم وأصبغ ألا يدخل الولد في اليمين لأنه على بر.
وأما الوجه الثاني وهو أن يحلف أن يفعل فعلا فإنه لا يخلو من وجهين:
أحدهما: أن يضرب أجلا.
والثاني: ألا يضرب أجلا.
فأما إن ضرب أجلا فليس له أن يبيع حتى يحل الأجل لأنه مرتهن باليمين. واختلف قول ابن القاسم هل له أن يطأ إن كانت أمة على قولين:
فله في المدونة أن له أن يطأ لأنه على بر. وروى عنه عيسى أنه ليس له أن يطأ وهو قول بعض الرواة في المدونة لأنه لا يجوز له أن يطأ إلا ما له أن يبيع.
وأما إذا لم يضرب أجلا فليس له أن يطأ ولا يبيع لأنه على حنث، وما ولد لها من ولد، أو له من أمته إن كان عبدا فإنهم يدخلون في اليمين. هذا هو المشهور في المذهب من قول مالك وأصحابه. وقال المغيرة: إنهم لا يدخلون في اليمين. وقد وقع في المبسوطة أن قول مالك اختلف في ذلك، وهو وهم في الرواية والله أعلم. وإنما اختلف قول مالك في الذي يكون الحالف به على بر على ما قدمناه، وبالله التوفيق.
فصل فإذا باع العبد أو الأمة قبل أن يبر فيهما بما حلف عليه رد البيع ووقفت حتى يبر أو يموت فيعتق في ثلثه، إلا أن يفوت عند المشتري بعتق أو اتخاذ أم ولد. ففي سماع عيسى أنها لا ترده وفي سماع أصبغ أنها ترد إلى البائع ويرد الثمن على المشتري.(3/166)
فصل وأما الحالف على فعل غيره فلا يخلو أيضا من وجهين:
أحدهما: أن يحلف عليه بعتق عبده ألا يفعل فعلا.
والثاني: أن يحلف عليه بعتق عبده أن يفعل فعلا.
فأما إذا حلف عليه ألا يفعل فعلا مثل أن يقول: عبدي حر إن دخل فلان الدار أو إن قدم أبي وما أشبه ذلك، فهو كالحالف على نفسه ألا يفعل فعلا بعتق عبده. وأما إذا حلف عليه بعتق عبده أن يفعل فعلا، مثل أن يقول عبدي حر إن لم يحج أبي أو إن لم يقدم فلان أو إن لم يهب لي دينارا وما أشبه ذلك. فإن سمى أجلا كان ذلك كالحالف على فعل نفسه في جميع الوجوه، وإن لم يسم أجلا فإن قول ابن القاسم اختلف في ذلك، فمرة قال: إنه كالحالف على نفسه في الوجوه كلها، ومرة جعله بخلاف الحالف على نفسه فقال: إنه يُتلوم له على قدر ما يرى أنه أراد بيمينه. واختلف هل له أن يطأ إن كانت أمة في أيام التلوم، فقال ابن القاسم: لا يطأ، وإن مات عتقت في ثلثه؛ لأنه مات على حنث وقال أشهب في كتاب ابن المواز: إنه يطأ في أيام التلوم، وهو على قياس قوله في المدونة: إنه لا يعتق إذا مات في التلوم. ومرة فرق بين قوله: عبدي حر إن لم يحج فلان، وعبدي حر إن لم يهب لي فلان دينارا، فيتلوم له في قوله: عبدي حر إن لم يهب لي فلان دينارا، ولا يتلوم له في قوله: عبدي حر إن لم يحج فلان، ولكن يمنع من بيعه ومن الوطء إن كانت أمة، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الأيمان بالطلاق من العتبية.
فصل وإذا أنذر الرجل العتق فقال: لله علي أن أعتق عبدي هذا، أو: لله علي نذر عتق عبدي هذا، أو قال: لله علي عتق رقبة أو نذر عتق رقبة، فإن ذلك لازم لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» . إلا أنه لا يحكم عليه بعتقه على مذهب مالك. وإنما لم يحكم عليه(3/167)
بعتقه على مذهبه لأن العتق لم يقع عليه بعد. وإنما نذر أن يعتقه فوجب عليه الوفاء لله بنذره، والوفاء لا يحصل إلا بنية التقرب بعتقه والوفاء لله بنذره. فلو أعتق عليه بغير اختياره لم يكن ذلك وفاء لنذره لعدم نيته التقرب بعتقه، وكان قد حيل بينه وبين الوفاء بالنذر، إذ لا يستطيع أن يعتقه مرة أخرى إن كانت الرقبة بعينها، فهذه علة مالك في منعه من الحكم عليه بالمعتق. والله أعلم. وقال أشهب: يؤمر أن يعتقه، فإن وعد بذلك ترك وتلوم له، وإن أبى من عتقه وقال: لا أعتقه ولا أفي لله بنذري فيه؛ عتق عليه. وقول مالك هو القياس، ومذهب أشهب استحسان. وكذلك لو نذر أن يعتق رقبة معينة لم يحكم عليه بعتق رقبة لأنه لو حكم عليه بها لم تجزه عن الرقبة الواجبة عليه وكان عليه أن يعتق رقبة ثانية بنية التقرب لله والوفاء بالنذر.
فصل وأما العتق في المرض فيكون في الثلث بإجماع من أهل العلم، ويوقف حتى يموت ولا ينفد عتقه في حال المرض إلا أن تكون له أموال مأمونة على الاختلاف في مراعاة المال المأمون. والأصل في ذلك ما ثبت «أن رجلا أعتق ستة أعبد له عند موته فأسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم فأعتق ثلث تلك الرقيق» . وإنما اختلف الناس في هبات المريض وصدقاته، فالذي ذهب إليه مالك وفقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم أن ذلك من الثلث. وذهب أهل الظاهر إلى أن هباته وأعطياته جائزة، وأن تصرفه صحيح في ماله. ودليلنا العتق أنه من الثلث، وهبة المريض لوارثه أنها لا تجوز. وإنما لم تجز له الهبة في المرض لأن الوصية لا تجوز له، فكذلك الأجنبي لا يكون له أكثر من الثلث، لأن الزائد على الثلث لا يجوز له بعد الوصية. فإن عارض معارض في هبة المريض لوارثه دليلنا عليه بإجماع الصحابة في قول أبي بكر لعائشة: لو حددته أو حزته لكان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث.
فصل وأما العتق بعد الموت فإنه من الثلث بإجماع، وهو يكون على أربعة أوجه:(3/168)
وجهان لا يصح الرجوع فيهما، وهو المدبر في الصحة والمدبر في المرض.
ووجهان يصح الرجوع فيهما، وهما الوصية بالعتق، واليمين التي يكون فيها على حنث بالعتق، لأن الرجوع عنه بأن يبر بفعل ما حلف عليه ليفعلنه. وبالله تعالى التوفيق.(3/169)
[كتاب المكاتب] [فصل في اشتقاق المكاتب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وعلى آله وبالله أستعين وعليه أتوكل
كتاب المكاتب فصل
في اشتقاق المكاتب
الكتابة عتق الرجل عبده أو أمته على مال يؤديه إليه. وأخذت تسمية ذلك كتابةً من كتب السيد لعبده بذلك كتابا. وكانت الكتابة متعارفة بين الناس في الجاهلية قبل الإسلام، فأقرها الله تعالى في شرع نبيه محمد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فالأصل في جواز الكتابة كتاب الله وسنة نبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماع الأمة. فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] . وأما السنة فمنها ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم» . وما روي عنه أنه قال: «من كان مكاتبا على مائة درهم فقضاها كلها إلا عشرة دراهم فهو عبد أو قال: على مائة أوقية فقضاها كلها إلا أوقية واحدة فهو عبد» . وهذا كالنص منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في(3/171)
جواز المكاتبة لأن تعليق الأحكام بها يفيد جوازها. وأما الإجماع فلا خلاف بين الأمة أن الكتابة جائزة بين العبد وسيده إذا كانت على شروطها الجائزة. وإنما اختلفوا في شروطها وفي أحكامها، وفي وجوبها على السيد إذا دعا إليها العبد، وفي لزومها للعبد إذا أباها ورد ذلك السيد على ما سنورده إن شاء الله تعالى.
فصل وأول مكاتب كان في الإسلام «سلمان الفارسي، كاتبه أهله على مائتي وَدِيَّة يحييها لهم، فقال له رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا غرستها فأذنني، فلما غرسها أذنه فدعا له فيها فلم تمت منها ودية واحدة» . وقيل: إن أول مكاتب كان في الإسلام مكاتب يكنى أبا مؤمل قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعينوا أبا مؤمل فأعتق فقضى كتابته وفضلت عنده فضلة فاستفتى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: أنفقها في سبيل الله» . وقد كان يقال: المكاتب مهيأ له الخير. وقيل: إن أول مكاتب كان في الإسلام مكاتب لعمر بن الخطاب يكنى أبا أمية، فلما أتاه بأول نجم من نجومه قال له عمر بن الخطاب: خذه فاستعن به في سائر نجومك، فقال له: أخر ذلك إلى آخر نجم، فقال له: أخشى ألا أدرك ذلك.
فصل فأما قول الله عز وجل: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فإنه أمر والمراد به الندب والإرشاد لا الوجوب والإلزام على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور أهل العلم. ومن مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الأوامر محمولة على الوجوب لأنه الأظهر(3/172)
من محتملاتها إلا أن يدل الدليل على أن المراد غير الوجوب من ندب أو إباحة أو نهي أو تعجب أو دعاء، لأن هذه المعاني كلها قد ترد بلفظ الأمر. قال الله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] . وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] فهذا أمر والمراد به الإباحة. وقال: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] فهذا أمر والمراد به الندب والإرشاد وقال: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] هذا أمر والمراد به النهي. وقَوْله تَعَالَى لإبليس: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ} [الإسراء: 64] . وقال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] فهذا أمر والمراد به التعجب. وقال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فهذا أمر والمراد به الرغبة والطلبة، لأن أمر أحد لا يتوجه إلا لمن دونه.
فصل والدليل على أن مراد الله تعالى بقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] الندب لا الوجوب إجماعٌ للأمة على أنه غير واجب على أحد أن يعتق عبده ولا أن يبيعه. والكتابة لا تخلو من أن تكون عتقا أو بيعا منه لعبده، وهي إلى العتق أقرب، لا ينتزع ماله ويعتقه، وقد كان له أن ينتزعه ولا يعتقه، مع الإجماع أيضا على أنه ليس على من ملك العبد أن يأذن له في التجارة، والكتابة إذن له منه فيها. ومما دل(3/173)
على ذلك رده عز وجل أمر العبيد إلى السادة بقوله عز وجل: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ، فلم يجعل للحكام في ذلك مدخلا، وما ليس للحكام فيه مدخل فيما تنازع الناس فيه ليس بواجب، وإذا لم يجب ارتفع التنازع.
فصل فإذا سقط الوجوب ثبت أنه على الندب لأنه يفضي إلى العتق، والعتق فيه أجر وثواب. ولم يصح أن يقال إنه على الإباحة لأن الإباحة إنما تكون فيما لا أجر فيه ولا ثواب. وإن كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد احتج بقوله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] وإنما احتج بذلك لإسقاط الوجوب وهو الذي أراد، وبالله التوفيق.
فصل وقد اختلف في الخير الذي عنى الله في هذه الآية ما هو؟ فقالت طائفة: المال، وقالت طائفة: القوة على الأداء، وقالت طائفة: الأمانة والدين، وقالت طائفة: الصدق والوفاء. وهذان القولان متقاربان في المعنى لأن الأمانة والصدق والوفاء من الدين. فيتحصل في الخير الذي عناه الله عز وجل بقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الخير في الدين من الصلاح والعفاف وإن لم يكن له مال ولا قدرة على الاحتراف والكسب وكان إنما يؤدي كتابته مما يسأل ويتصدق به عليه، وهذا هو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب.
والثاني: أنه القوة على الأداء بالتحرف والكسب وإن لم يكن له مال. وأما إن(3/174)
لم تكن له قدرة على التحرف والكسب وكان إنما يؤدي كتابته إن كوتب مما يتصدق به عليه فيكره لسيده أن يكاتبه إذا سأله ذلك. وهذا مذهب عبد الله بن عمر قال: يعطني أوساخ الناس.
والثالث: أنه يكون له مال، روي ذلك عن ابن عباس، وهذا أضعف الأقوال لأن الله عز وجل قال: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ولم يقل: إن علمتم لهم خيرا.
فصل وكذلك قوله عز وجل: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] هو على الندب لا على الوجوب. ومعناه عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يضع عنه من أجر كتابته شيئا يتعجل به عتقه. والذي يدل عليه أنه غير واجب أن الله لم يحد فيه حدا في كتابه ولا على لسان نبيه- عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولو كان فرضا لكان محدودا؛ لأن الفرض لا يكون غير محدود بكتاب أو سنة. فلما لم يوجد ذلك في الكتاب ولا ثبت فيه خبر مرفوع عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دل على أن الناس يؤمرون به ولا يجبرون عليه بالحكم، كالمتعة التي أمر الله بها فقال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] وَقَالَ {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] وَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] فاستدل بهذه الآيات على أنها غير واجبة لكونها مطلقة غير محدودة في الكتاب ولا في السنة.(3/175)
وقد قال بعض الناس: يوضع عنه الربع من كتابته، وقائل هذا القول لم ير ذلك واجبا. واختار بعض الناس أن يوضع عنه آخر نجم من نجومه. ومنهم رأى أن يعطيه من عنده من غير مال الكتابة. وقد قيل: إن الخطاب في ذلك إنما هو للولاة أن يعطوهم من الزكاة لا للسادة لقول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] . وقد روي أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعان مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» .
فصل فليس على السيد أن يكاتب عبده إذا ابتغى ذلك منه بقليل ولا بكثير وإن علم فيه خيرا، ولا أن يضع عنه إن كاتبه شيئا إلا أن يشاء. هذا قول مالك وجميع أصحابه وجمهور أهل العلم. ومن أهل العلم من حمل أمر الله تعالى بالكتابة على الوجوب، وهم أهل الظاهر فقالوا: يلزم الرجل أن يكاتب عبده إذا ابتغى منه الكتابة بقيمته فأكثر، وروي ذلك عن ابن عباس.
والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور أهل العلم على ما بيناه. وذهب الشافعي إلى أنه لا يجب على السيد أن يكاتب عبده إذا سأله ذلك، وأنه إذا كاتبه وجب أن يجبر على أن يضع عنه مما عقد عليه الكتابة شيئا ما كان. قال: وهذا والله أعلم عندي مثل قوله عز وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] لأن من مذهبه إيجاب المتعة. قال: فإن مات السيد قبل أن يضع جبر ورثته على ذلك، وإن كانوا صغارا وضع عنهم الحاكم أقل ما يقع عليه اسم الشيء في كتابته فجعل الشافعي الفرع أوجب من الأصل وليس اسم الشيء من كتابته، فجعل الشافعي(3/176)
الفرع أوجب من الأصل. وليس يكاد شيء من كلام العرب يعطف بعضه على بعض يكون أوله غير واجب وآخره واجبا، هذا لا يكاد يعرف. وإنما المعروف من كلامهم أن يكون أوله واجبا وآخره غير واجب. قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] فبدأ بالعدل وهو واجب، ثم ذكر الإحسان بعده وهو غير واجب. وقال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] فيبدأ بالواجب ثم ذكر التفضل بعده.
فصل ومما يدل على فساد قول الشافعي أن الشيء المعلوم إذا أسقط منه شيء مجهول عاد مجهولا غير معلوم، فكيف يصح أن يُكتَب على العبد أربعة آلاف درهم في التمثيل ويُشهد بها عليه وهي أقل من أربعة آلاف قد حلموا على ذلك وحكم الكتاب أن يكون عدلا بين المتعاملين وإن كان الذي كتب السيد على عبده وأشهد به عليه حقا فليس يجب أن يسقط عن العبد شيء منه، وإن كان باطلاً فالكتابة منفسخة، وما أشهدا به على أنفسهما كذب. وأيضا فإن الشافعي يزعم أن المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم فإن كان يعني من جميع ما كاتبه عليه فقد ترك قوله، وإن كان يعني مما تبقى عليه من الكتابة بعد وضع ما يجب وضعه، فالواجب أن يكون ما يوضع عنه معلوما في أصل الكتابة حتى يعلم الحال التي يعتق فيها من الحال التي لا يعتق فيها، لأنها حال معلومة تتعلق بها أحكام كثيرة، فلا بد أن تكون معلومة كما كانت الكتابة معلومة، والشافعي يجعلها مجهولة.(3/177)
فصل وإذا قال: إن الذي يجب أن يسقط عنه من آخر كتابته أقل ما يقع عليه اسم شيء فقد يجوز أن يجعله دانق فضة من عشرة آلاف درهم أو حبة. وتأويل أمر الله على هذا بعيد لا يجوز في عقل عاقل، ولو أنعم النظر قائل هذا القول لما قاله، والله أعلم.
فصل ومن مذهب الشافعي أن المكاتب لا يعتق بأداء جميع الكتابة إلا أن يشترط جميع ذلك لنفسه في عقد الكتابة. وعند مالك وأبي حنيفة وأصحابهما وجمهور أهل العلم أن المكاتبة يعتق إذا أدى جميع الكتابة وإن لم يشترط ذلك، ولا يضره عندهم ألا يقول له مولاه في حين كتابته إذا أديت إلي جميع كتابتك فأنت حر لأن ذلك مفهوم من فعلهما وقصدهما وإن لم يذكراه.
فصل وفقهاء الأمصار متفقون على أن المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء على ما ورد في السنة الثابتة عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأما السلف قبلهم فقد روي عنهم في ذلك اختلاف كثير. منه أن المكاتب إذا عقدت له الكتابة فهو غريم من الغرماء لا يرجع إلى الرق أبدا لأنه قد ابتاع نفسه من سيده بثمن معلوم إلى أجل معلوم، وهذا قول شاذ ترده السنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في قصة بريرة من حديث عائشة وغيرها، رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه «عن عائشة أنها قالت: جاءتني بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواقٍ في كل عام أوقية، فأعينيني فقالت عائشة: إن أحب أهلك [أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت. وفي حديث يحيى ابن سعيد(3/178)
عن عمرة عن عائشة إن أحب أهلك] أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة وأعتقك فعلت» . فهذا يدل أن المكاتب عبد ما لم يؤد كتابته، وأنه لو كان بعقد كتابته حرا غريما من الغرماء لم يجز بيعه عند أحد من العلماء. وقول ثان أنه إذا عجز يعتق منه بقدر ما أدى ويورث ويرث، ويؤدي إن قتل بقدر ما أدى. وفي هذا حديث يرويه ابن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤدي المكاتب بقدر ما أدى دية حر وبقدر ما رق منه دية عبد» . وهو قول علي بن أبي طالب. وقول ثالث: أنه إذا شطر كتابته فهو غريم من الغرماء لا يرجع إلى الرق أبدا. وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقول رابع: أنه إذا أدى الثلث فهو غريم من الغرماء، روي ذلك عن ابن مسعود وشريح، وقول خامس: أنه إذا أدى الثلاثة الأرباع فهو غريم، روي ذلك عن عطاء. وقول سادس: أن المكاتب إذا أدى قيمته فهو غريم، روي هذا أيضا عن ابن مسعود وشريح.
فصل واختلف هل للسيد أن يجبر عبده على الكتابة أم لا على قولين، فروي عن مالك أن له أن يكاتبه كرها، حكاه عنه إسماعيل القاضي في كتاب الأحكام له، وهو الذي يأتي على مذهبه في المدونة، لأنه إذا كان له أن يعتقه بتلا على مال يجعله- عليه بعد العتق دينا ويلزمه ذلك فأحرى أن تلزمه الكتابة، وهو ظاهر رواية أشهب عن مالك في سماعه من العتبية. واختلف قول ابن القاسم في ذلك، فله في المكاتب من المدونة في الذي يكاتب عبده على نفسه وعلى عبد للسيد غائب إن الكتابة تلزمه ويتبع بها شاء أو أبى. وقال في العتق الثاني منها في الذي يقول لعبده(3/179)
أنت حر على أن تدفع إلي كذا وكذا إلى أجل كذا وكذا أو لم يسم الأجل: إنه لا يكون حرا إذا لم يقبل ذلك العبد. وذلك خلاف لقوله في إجازة الكتابة على الغائب. وحكى ابن حبيب الاختلاف في ذلك أيضا وبالله التوفيق.
فصل والذي اختار ابن بكير وإسماعيل القاضي أن للسيد أن يجبر عبده على الكتابة، لأنه إذا كان للسيد أن يؤاجر عبده السنة أو السنتين ويأخذ الأجرة وهو باق على رقه، فمكاتبته مدة معلومة على مقدار ما يعلم أنه يطيق أداءه في تلك المدة من عمله واكتسابه لازم له ليس له أن يمتنع منه، لأن ذلك يفضي به إلى الحرية من غير ضرر يلحقه فيه.
وتعلق من منع من ذلك بظاهر قول الله عز وجل: {فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فقال: في هذا دليل على أنه لا يكاتب إذا لم يبتغ الكتابة، وهذا بعيد، لأن السيد إذا كان مرغبا في كتابة عبده إذا سأله ذلك مأجورا عليه فهو في مكاتبته إياه من غير أن يسأله الكتابة أعظم أجرا وأكثر ثوابا، وليس للعبد أن يمتنع من ذلك للعلة التي قدمناها. واعتل أيضا من منع ذلك بأن السيد يتهم على إسقاط نفقته التي كانت تلزمه عن نفسه، وهي علة ضعيفة، لأنه وإن سقطت عنه نفقته فقد منع نفسه من استخدامه وأخذِ خراجه، لأنا لا نقول: إن له أن يجبر على الكتابة إلا من يقوى عليها ولا يضعف عنها.(3/180)
فصل فإن قال الرجل لعبده: أنت حر بتلا وعليك كذا وكذا؛ لزمه المال في قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَبِل العبد أو لم يَقْبل، ويسقط عنه في قول ابن القاسم. ولابن القاسم في آخر العتق الثاني مثل قول مالك هذا. وقال ابن نافع: لا يكون حرا ويكون المال دينا عليه إلا أن يقبل ذلك ويرضى به. وأما إن قال: أنت حر على أن عليك كذا وكذا؛ ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: قول مالك في كتاب المكاتب من المدونة أنه العبد حر والمال عليه بمنزلة قوله: أنت حر بتلا وعليك كذا وكذا.
والثاني: رواية يحيى عن ابن القاسم في كتاب المكاتب أن العبد بالخيار إن شاء أن يعجل له الحرية ويكون غريما بما سمي من المال فذلك له، وإن كره أن يكون غريما بها فلا عتاقة له.
والثالث: قول ابن القاسم في العتق الثاني من المدونة: إن قبل كان حرا إذا أدى المال كالكتابة، وإن لم يقبل فلا حرية له، إلا أن يفرق على مذهبه بين قوله: أنت حر على أن عليك كذا وكذا، وأنت حر على أن تدفع إلي كذا وكذا، وفُرِّق بين ذلك. ولا تفرقة بينهما وجهٌ وهو أنه إذا قال: على أن تدفع فقد جعل الدفع إليه وإذا قال: على أن عليكم فقد ألزمه ذلك ولم يجعله إليه. وقد قيل: إن هذين اللفظين سواء بخلاف قوله: على أن تؤدي إلي كذا وكذا. والصواب ألا فرق بين أن يقول على أن تدفع أو على أن تؤدي. ويتخرج في المسألة قول رابع وهو أن يكون حرا إذا أدى المال شاء أو أبى على مذهب من يؤاجر العبد على الكتابة، وقد بينا ذلك.
فصل والكتابة جائزة على ما تراضى عليه العبد وسيده من قليل أو كثير، وتجوز(3/181)
على مذهب مالك حالة ومؤجله. فإن وقعت مسكوتا عليها نجمت، لأن العرف في الكتابة أن تكون مؤجلة منجمة. هذا قول متأخري أصحابنا. وقال ابن أبي زيد في رسالته: والكتابة جائزة على ما رضيه العبد وسيده من المال منجما. فظاهر قوله أن الكتابة لا تكون إلا منجمة، وليس ذلك بصحيح على مذهب مالك. وإنما صنع من الكتابة الحالة ولم يجزها أبو حنيفة وأصحابه، وأجازها بعضهم على نجم واحد، ومنهم من قال: لا تجوز على أقل من نجمين. والذي يدل على صحة مذهب مالك في ذلك قول الله عز وجل: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فأطلق ولم يقيد مكاتبة من مكاتبة، فظاهره يفيد إباحة الكتابة الحالة والمؤجلة.
[فصل في الكتابة بالغرر والمجهول]
فصل ولا تجوز الكتابة بالغرر والمجهول، إلا أنه يستخف فيها ما لا يستخف في البيوع، فتجوز الكتابة على وصفين غير موصوفين، وعلى عبد فلان وما أشبه ذلك وإن كان لا يجوز في البيوع.
فصل وهذا فيه تفصيل: أما الكتابة إلى أجل مجهول أو بغرر أو مجهول إلا ما يستخف من الغرر اليسير الذي ذكرناه فإن كان الغرر في حقهما أو في حق السيد منها، مثل أن يقول: أكاتبك إلى موت فلان بكذا وكذا لشيء معلوم أو إلى أجل معلوم بعبد آبق أو بعير شارد أو جنين في بطن أمه لفلان إن قدرت على شيء من ذلك كله في الأجل بهبة أو ميراث، أو بلؤلؤ غير موصوف وما أشبه ذلك فلا يجوز قولا واحدا. وأما إن كان الغرر في حق المكاتب منها مثل أن يكاتبه إلى أجل معلوم على عبد فلان أو على أن يأتيه بعبده الآبق أو يقول له كاتبتك على أن تقوم لي على هذه البقرات فإن بلغت كذا وكذا إلى أجل كذا فأنت حر، فيتخرج ذلك كله على(3/182)
قولين لدخول الخلاف من بعضهم في بعض؛ لم يجز ابن القاسم في سماع يحيى الكتابة في مسألة البقرات حسبما يأتي القول عليه في موضعه من شرح كتاب المكاتب من العتبية. وأجاز في سماع أبي زيد منه الكتابة على طلب العبد الآبق وأجاز في المدونة الكتابة على عبد فلان، ولم يجز ذلك أشهب. وأما إن كان للعبد عبد أَبَق فكاتبه سيده عليه فإن برئ منه إليه الآن فهو حر والعبد الآبق للسيد وجده أو لم يجده، لأن مقتضى الأمر إنما هو أعتق عبده وانتزع منه عبده الآبق. وأما إن لم يبرأ إليه منه وإنما كاتبه على أن يطلبه فيجيئه به، فإن وجده وجاء به في الأجل خرج حرا، وإن حل الأجل ولم يجده رجع رقيقا على حكم الكتابة إذا عجز المكاتب، فهو بمنزلة إذا كاتبه على أن يجيئه بعبده الآبق يجري ذلك على الاختلاف الذي ذكرناه، وبالله التوفيق.
فصل وإذا كاتب الرجل عبده فقد أحرز ماله عن سيده، فليس له أن ينتزعه منه، وهو كالمأذون له في التجارة فيجوز بيعه وشراؤه ومقاسمته شركاءه وإقراره بالدين لمن لا يتهم عليه، وليس له أن يهب ولا أن يتصدق ولا أن يعتق إلا بإذن سيده. وقد قيل: إنه لا يجوز لسيده أن يأذن له في ذلك لأنه داعية إلى أن يرق نفسه. وليس له أن ينكح ولا أن يسافر إلا بإذن سيده. وهذا قول مالك في موطئه. قال في المدونة: إلا أن يكون سفرا قريبا.
فصل والكتابة من العقود اللازمة، فإذا عقد السيد لعبده الكتابة لزمهما العقد ولم يكن لأحدهما خيار في حله، ليس للسيد أن يفسخ كتابة عبده باختياره إذا أبى العبد(3/183)
ولا للعبد أن يُعجِّز نفسه باختياره إذا أبى السيد وله مال ظاهر. فإن رضي العبد وسيده بفسخ الكتابة وله مال ظاهر فلا يخلو من أن يكون للمكاتب ولد في الكتابة أو لا يكون له ولد. فأما إن كان له ولد فليس لهما ذلك لتعلق حق الولد في العقد، وأما إن لم يكن له ولد فذلك على قولين:
أحدهما: أن ذلك ليس لهم أو، وهو قول مالك في المدونة. ووجه ذلك أن الكتابة تتعلق بها ثلاثة حقوق: حق لكل واحد من المتعاقدين، وحق لله تعالى وهو حرمة العتق. فإن رضي المتعاقدان بإسقاط حقهما لم يسقط لذلك حق الله تعالى، كالعبد بين الرجلين يعتق أحدهما نصيبه وهو موسر فيرضى شريكه والعبد بترك التقويم؛ فلا يجوز ذلك لأن فيه إسقاط حق الله تعالى في إكمال الحرية.
الثاني: أن ذلك لهما، وهو قول ابن كنانة وابن نافع. ووجهه أن الحق في عقد الكتابة للمتعاقدين لا يتعداهما، فإذا رضيا بإسقاطه جاز، كتقابل المتابعين. وذهب الشافعي إلى أنه للعبد أن يعجز نفسه أي وقت شاء، شاء سيده أو أبى وإن كان له مال ظاهر. وحجته أن حق المكاتب لما كان في الكتابة أغلب من حق سيده لم تكن الكتابة لازمة في حقه، كالنكاح لما كان حق الزوج مغلبا فيه لم يكن العقد لازما في حقه. وهذا كله غير صحيح، لأن في الكتابة حق لله وحق للسيد، فلا نسلم أن حق المكاتب أغلب. ولو سلمنا ذلك لم يجب إذا غاب أحد الحقين أن يسقط من غير عذر. ألا ترى أن الزوج وإن ملك الطلاق فإنه لا يملك به إسقاط حق الزوجة من المهر إن سمي، وإنما أسقط به حق نفسه. وفي تعجيز العبد نفسه إسقاط حق السيد من العوض الذي تراضيا عليه.
فصل وأما التعجيز إذا لم يكن له مال ظاهر فلا يخلو من ثلاثة أحوال:(3/184)
أحدها: أن يتراضيا على ذلك العبد وسيده.
والثاني: أن يدعو إلى ذلك العبد ويأبى السيد.
والثالث: أن يدعو إلى ذلك السيد ويأبى العبد.
أما إذا تراضيا على ذلك العبدُ وسيدُه فذلك جائز لأن حق الله قد ارتفع بالعذر وهو ظهور العجز، ولا يحتاج في ذلك إلى الرفع إلى السلطان على ما في المدونة.
وقد قيل إنه لا يعجز إلا بالسلطان، لأن حق الله تعالى لا يُصدَّقان على إسقاطه ولا يسقط إلا بعد نظر السلطان واجتهاده.
وأما إن دعا إلى ذلك العبد وأبى السيد فله أن يعجز نفسه دون السلطان لأنه موضع لا مدخل فيه للاجتهاد ولا يفتقر فيه إلى حكم.
وأما إن دعا إلى ذلك السيد وأبى العبد فليس له أن يعجزه إلا بالسلطان بعد التلوم والاجتهاد، وبالله التوفيق.(3/185)
[كتاب التدبير] [القول في التدبير]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه أستعين وعليه أتوكل كتاب التدبير
القول في التدبير
التدبير عقد من عقود الحرية يلزم من التزمه ويجب على من أوجبه على نفسه لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . ولما روي من قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المدبر لا يباع ولا يوهب» . وهذا إذا كان التدبير مطلقا غير مقيد. فأما إن كان مقيدا بسفر بعينه أو بمرض بعينه أو ما أشبه ذلك فاختلف فيه على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
فصل وصفة التدبير المطلق اللازم أن يقول الرجل في عبده: هو مدبر أو حر عن دبر مني، أو حر بعد موتي بالتدبير، أو حر بعد موتي لا يغير عن حاله وما أشبه ذلك.
فصل واختلف إذا قال الرجل لعبده: أنت حر بعد موتي أو إذا مت ولم يزد على هذا القول، هل هو محمول على الوصية حتى يتبين أنه أراد التدبير، أو محمول على(3/187)
التدبير حتى يتبين أنه أراد الوصية؟ فحمله ابن القاسم على الوصية حتى يعلم أنه أراد التدبير، وحمله أشهب على التدبير حتى يعلم أنه أراد الوصية. ولكلا القولين وجه من النظر. ولو قال: إن فعلت كذا وكذا فعبدي حر بعد موتي ففعله لكان مدبرا لا رجوع فيه على قولهما جميعا لوجوب العتق عليه بعد الموت بالحنث، وذلك منصوص عليه لابن القاسم في المدونة وغيرها. فإذا دبر الرجل عبده تدبيرا مطلقا فقد لزمه ووجب عليه وليس له أن يرجع عنه بقول ولا فعل على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: هي وصية وله أن يرجع فيها. واحتجوا بحديث جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باع مدبرا» وبأن عائشة دبرت جارية لها ثم باعتها. إلا أنهم اختلفوا بماذا يكون له الرجوع فيه، فقال الشافعي: إنما يكون له أن يرجع فيه بأن يخرجه عن ملكه ببيع أو هبة أو صدقة. وأما إن قال: قد رجعت في تدبيره ولم يخرجه عن ملكه حتى مات فليس برجوع منه ويعتق في ثلثه. وقال أبو ثور: إذا قال: قد رجعت فيه فقد بطل تدبيره وإن مات وهو في ملكه لم يعتق. والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن التدبير لازم له وواجب عليه ليس له أن يرجع عنه بقول ولا يفعل لما قدمناه من ظاهر القرآن. وما روي في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بخلاف الوصية وبالله التوفيق.
فصل والفرق بين التدبير والوصية أن التدبير عتق قد أوجبه لعبده على نفسه في حياته إلى أجل آت لا محالة، أن لا يكون له الرجوع فيه بقول ولا فعل كالمعتق إلى أجل، لأن العتق يقع عليه عند الموت واحتمال الثلث له بعقد السيد المعتق له، كما يقع على المعتق إلى أجل عند حلول الأجل بعقد السيد المعتق له. والموصى بعتقه لم يعقد السيد له عقد عتق في حياته، وإنما أمر أن يعتق عنه بعد وفاته، فالعتق إنما يقع عليه بعد الموت من الموصي إليه، فهو كمن وكل رجلا أن يبيع(3/188)
عبده من فلان أو يهبن له أنَّ له أنْ يرجع عن ذلك بما شاء من قول أو فعل ما لم ينفذ الوكيل أمره.
فصل ولا حجة للشافعي ومن ذهب مذهبه في إبطال التدبير وإجازة بيع المدبر فيما رواه جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه باع مدبرا» لأنه إنما هو حكاية فعل، فيحتمل أن يكون تدبيره مقيدا، ويحتمل أن يكون كان عليه دين قبل التدبير فباعه عليه في الدين. وإذا احتمل الحديث هذه الاحتمالات لم يكن لهم أن يحملوه على موضع الخلاف وإلا ولنا حمله على موضع الوفاق.
فصل فإن قالوا: الأحاديث إنما تنقل للفائدة فلو حمل الحديث على الوفاق لم تكن فيه فائدة لأن موضع الوفاق مستفاد بالإجماع ففي حمله على موضع الخلاف فائدة مجردة قيل لهم: هذا تحكم، لأنه قد ينقل ما يفيد كما ينقل ما يؤكد ما قد استفيد، ولعل هذا الحديث هو الشرع الذي صدر عنه الإجماع الذي قد استفدنا معرفته. وإذا كان الأمر على ذلك فلا يصح أن يحمل على ما يستفاد منه فائدة مجردة دون ما استفدناه بالإجماع مع احتماله للموضعين بغير دلالة.
وإنما كان يصح لهم التعلق بالحديث لو كان لفظا عاما مثل أن يقول: بيع المدبر جائز لحق حمله على عمومه في جميع المواضع حتى يأتي ما يخصه. وأما وليس بلفظ عام وإنما هو حكاية فعل فلا.
فصل ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه من حمل هذا الحديث الذي ورد مجملا على موضع يجوز فيه بيع المدبر عندنا وعندهم أنه قد روي هذا الحديث مفسرا، فرواه الأعمش عن سلمة بن كهيل «عن جابر قال: أعتق رجل من الأنصار عبدا له عن دبر يسمى مذكورا قبطيا وكان محتاجا وعليه دين فباعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمائة(3/189)
درهم وقال: اقض دينك» . ونحن نجيز بيع المدبر إذا صادف عقد تدبيره دينا على سيده. وقد روي أيضا من طريق جابر بن عبد الله «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باع مدبرا في دين» . واختلفت تأويلات أصحابنا، فمنهم من قال إن الحديث الأول يفسره لأنه هو بعينه، ومنهم من قال: هو حديث آخر، ومعناه أنه باعه بعد الموت في دين، إذ لم يذكر في الحديث أنه باعه عليه في حياته. وولاية النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بيعه من أدل دليل على أنه إنما باعه عليه في حق لازم، لأن الإمام لا يلي بيع مال أحد إلا في موضع الحكم. فإن كان بيعه عليه في حياته فلدين سبق التدبير والله أعلم. وقد روي أيضا من رواية جابر بن عبد الله عن «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه باع خدمة المدبر» فيحتمل أن يكون هذا معنى الحديث وإنما تجوز الراوي في اللفظ إذ الإجارة بيع من البيوع. وكذلك حديث عائشة الذي احتجوا به في إجازة بيع المدبر لا حجة لهم فيه لأن السحر الذي فعلته يوجب القتل فكيف بالبيع. ويحتمل أن يكون العتق يبطل بقصدها إلى استعجاله قبل وقته بما لا يجوز لها كالنكاح في العدة يمنع من النكاح بعدها، وكالقاتل عمدا يمنع الميراث، لأنه أراد استعجاله قبل أن يجب له. وأيضا فقد روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رد بيع هذه المدبرة وطلبها فلما لم يجدها جعل ثمنها في مدبرة. وحكمه- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بذلك في ملأ خير القرون وهم حضور متوافرون دليل على إجماعهم على أن بيع المدبرة لا يجوز، والإجماع أصل يجب المصير إليه والعمل به.
فصل ومما احتج به أصحابنا في وجوب التدبير والمنع من بيعه أن المدبر لما انتقل اسمه بعقد الحرية الذي عقد له سيده وجب أن ينتقل حكمه وألا يجوز بيعه كالمكاتب لما انتقل اسمه انتقل حكمه ولم يجز بيعه.(3/190)
فصل وقد استدل بعض أهل العلم على الفرق بين الوصية والتدبير بالإجماع على أن المدبر لا يرجع فيه بالقول وأن الوصية يرجع فيها بالقول، وليس ذلك بصحيح، لأن أبا ثور يجيز الرجوع في التدبير بالقول على ما حكيناه.
فصل ومما يدل على صحة ما ذهب إليه مالك من أن المدبر لا يجوز بيعه أن عقود العتق على ضربين: ضرب منها علق العتق فيه بصفة آتية لا محالة كمجيء الشهر وموت زيد وما أشبه ذلك، فهذا الضرب لا يجوز فيه بيع العبد. وضرب علق فيه بصفة يجوز أن يقع ويجوز أن لا يقع، كقدوم زيد وما أشبه ذلك. فهذا يجوز البيع فيه على الأشهر من الأقاويل ما لم يحصل الصفة والمدبر من الضرب الأول لأن العتق معلق فيه بصفة آتية لا محالة وهي موت السيد، فوجب ألا يجوز بيعه، وأشبه أم الولد أيضا التي لا يجوز بيعها لتعلق عتقها بموت سيدها. فإن قال قائل: إذا جاز بيع المدبر فكان بخلاف المعتق إلى أجل، لأن التدبير يعتق من الثلث والمعتق إلى أجل من رأس المال. ولما كان المدبر يعتق من الثلث وجب أن يجوز بيعه كالموصى بعتقه. قيل له: ليس هذا بصحيح لأن كون الموصى بعتقه من الثلث ليس هو العلة في جواز بيعه. والدليل على ذلك أن من أعتق عبده إلى أجل يعلم أنه لا يبلغه عمر السيد وقد يبلغه عمر العبد يعتق من الثلث ولا يجوز بيعه، ووجود العلة مع عدم الحكم مفسر لها لا محالة، وهذا بين.
فصل وإنما كان المدبر من الثلث لأن السيد يتهم على أن يستخدم عبده طول حياته ثم يعتقه من رأس ماله بعد وفاته فيبطل الميراث الذي أوجبه الله للورثة. ومن أهل العلم من لا يراعي هذه التهمة فيراه من رأس المال وهو قول داود. ويرده ما روى أبو قلابة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المدبر من الثلث» . وقد احتج ابن القصار للزوم عقد(3/191)
التدبير للمدبرة بسراية التدبير إلى ولدها وكونه مدبرا معها، وحكم أن ذلك إجماع بخلاف الوصية. واحتجاجه بذلك لا يلزم، إذ ليس بإجماع، فقد حكى أبو بكر بن المنذر في كتاب الأشراف له عن عمر بن عبد العزيز وعطاء وجابر بن زيد أنهم مملوكون، واحتج جابر بن زيد بأن ذلك بمنزلة الحائط يتصدق به الرجل إذا مات، فله ثمرته ما عاش، فحكم لولد المدبرة بحكم الغلة. وكان الشافعي يقول: فيها قولان.
أحدهما: أنهم بمنزلة أمهم.
والقول الثاني: كما قال جابر بن زيد. ومالَ المُزَنِي إلى قول جابر بن زيد.
قال: هو أشبههما بقول الشافعي.
قلت: وكذلك اختلف أيضا في ولد المدبر من أمته، فقال مالك على أصله: إنهم بمنزلته مدبرون معه. وروي عن عبد الله بن عمر أنهم بمنزلة أمهم، وبه قال عطاء والزهري والأوزاعي والليث بن سعد. وإذا حكموا لهم بحكم أمهم فهم مملوكون بمنزلة مال المدبر، لسيده انتزاعهم منه ما لم يمرض أو يموت. وفي المدونة ليحيى بن سعيد قول ثالث: أن المدبر لا يباع وسيده أولى بماله ما كان حيا، فإذا توفي سيده فمال المدبر له وولده من أمته لورثة سيده، لأن ولده ليس من ماله. هذا نص قوله، فلم يحكم لولده من أمته بحكمه فيكون مدبرا معه كقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا حكم له بحكم أمه، إذ لو حكم له بحكم أمه كما قال ابن عمر وعطاء والزهري والأوزاعي لوجب إذا لم ينتزعه السيد حتى مرض أو مات أن يكون تبعا للمدبر كماله، إن حمله الثلث أعتقوا عليه، وإن لم يحمله الثلث أعتق منه ما حمل الثلث وأُقدَّ ولده بيده. ويحتمل أن يريد يحيى بن سعيد أن ولده من أمته ولد له قبل التدبير فلا يكون قوله على هذا التأويل مخالفا لقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فصل قد مضى الكلام في التدبير المطلق. وأما التدبير المقيد وهو أن يقيد تدبيره(3/192)
بمرض أو سفر أو ما أشبهه ذلك مما قد يكون ولا يكون، مثل أن يقول: أنت مدبر إن مت من مرضي هذا أو في سفري هذا أو في هذا البلد، أو أنت مدبر إذا قدم فلان وما أشبه ذلك، فاختلف فيه. روى أصبغ عن ابن القاسم في كتاب المدبر من العتبية أنها وصية وليس بتدبير إلا أن يرى أنه أراد بذلك التدبير وقصده، فله على هذه الرواية أن يرجع عنه في مرضه ذلك ويبيعه إن شاء. وفي كتاب محمد بن المواز لابن القاسم، وكتاب محمد بن سحنون لابن القاسم وابن كنانة أنه تدبير لازم لا رجوع فيه، معناه عندي إن مات من مرضه ذلك.
وهذا الاختلاف يقوم من المدونة من اختلاف ابن القاسم ومالك في الرجل يقول لعبده: أنت حر إذا قدم فلان، فقال مالك: ليس له أن يبيعه حتى ينظر هل يقدم فلان أم لا. وقال ابن القاسم: لا أرى ببيعه بأسا. فكذلك لو قال لعبده: أنت مدبر إذا قدم فلان يلزمه التدبير على قول مالك من ساعته بشرط قدوم فلان، ولا يكون له أن يبيعه ولا أن يرجع فيه بقول حتى ييأس من قدوم فلان. وعلى قول ابن القاسم لا يكون تدبيرا وإنما هي وصية، فكأنه قال إذا قال: إذا قدم فلان أو إن قدم فلان فيعتق عني عبدي فلان بعد موتي، فيكون له أن يبيعه وأن يرجع فيه بالقول إن شاء، فيقول قبل قدوم فلان وبعد قدومه: قد رجعت عن عتق فلان، بخلاف قوله: أنت حر إذا قدم فلان، هذا لا يكون له- على مذهب ابن القاسم - أن يرجع فيه بالقول، وإنما له أن يبيعه لأنه يشبه اليمين، فإذا بقي في ملكه حتى قدم فلان لزمه العتق.
فصل ومما يبين ما ذهبنا إليه من إقامة الاختلاف من المدونة في مسألة التدبير المقيد بشيء قد يكون ولا يكون، أنه لو قيد تدبير عبده بصفة آتية لا محالة مثل أن يقول له: إذا مات فلان فأنت مدبر عني أو إذا انقضى العام فأنت مدبر عني للزمه التدبير ولم يكن له فيه رجوع باتفاق، كما يلزمه العتق إلى أجل آت لا محالة باتفاق. وبالله تعالى التوفيق.(3/193)
فصل والمدبر على وجهين:
مدبر في الصحة.
ومدبر في المرض. وهما جميعا- على مذهب مالك - من الثلث، إلا أنه يُبَدِّئ مدبر الصحة على مدبر المرض إذا ضاق الثلث عنهما، ويدخل المدبر في الصحة فيما علم وفيما لم يعلم من المال. واختلف في مدبر المرض فقيل: إنه يدخل فيما علم وفيما لم يعلم، وقيل: إنه لا يدخل إلا فيما علم. وإذا مات سيد المدبر ولم يحمل ثلثه المدبر عتق منه ما حمل الثلث وكان باقيه للورثة ولم يجب عليه السعي في افتكاك رقبته كما يقوله أبو حنيفة في ذلك. وإن لم يكن له مال غيره عتق ثلثه، وإن كان عليه دين بيع فيه إن أحاط الدين به، وإن لم يحط به بيع منه قدر الدين وأعتق منه ثلث باقيه. وقال أبو حنيفة: إنه لا يباع في الدين ويسعى فيه للغرماء فإذا أدى ما لهم خرج حرا، ذكر ذلك عبد الوهاب في المعونة.
فصل وللرجل أن يطأ مدبرته لأن ذلك لا ينقص تدبيرها بل يؤكده، لأنها قد تحمل فتكون أم ولد وهو أقوى من التدبير، بخلاف المكاتبة لأنها تستعجل العتق بالأداء فليس له أن ينقض ذلك عليها. وله أن يستخدم مدبرته ويؤاجرها بخلاف أم الولد إذ ليس له فيها إلا الاستمتاع بالوطء طول حياته، وقد ثبتت لها حرية بالإيلاد لا يبطلها دين ولا غيره.
وبالله التوفيق ولا شريك له.(3/194)
[كتاب أمهات الأولاد] [فصل في وجوب العتق لأم الولد بعد موت سيدها بالولادة]
فصل
في وجوب العتق لأم الولد بعد موت سيدها بالولادة قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] ، فأباح تعالى وطء ما ملكت اليمين. والوطء يكون عند الحمل. قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف: 189] . واشترى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مارية القبطية فولدت له ابنه إبراهيم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روي عنه عند ولادتها: «أعتقها ولدها» ، يريد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ثبت لها حرمة بسبب ولدها فلا تعود إلى الرق أبدا، ولا يجوز بيعها ولا هبتها لأنها ثبتت حريتها فلا يبقى له فيها إلا الاستمتاع طول حياته بدليل ما روي عنه من حديث ابن عباس أنه قال: «أيما امرأة ولدت من سيدها فهي حرة بعده» . وإذ قد انعقد الإجماع على أن أم الولد لا تعتق قبل موت سيدها وأن أحكامها أحكام أمة في جميع أحوالها(3/195)
من الموارثة والشهادة ودلتها وأرش جراحاتها. «وروي عن مسلم بن يسار أنه قال: قلت لسعيد بن المسيب: إن عمر بن الخطاب أعتق أمهات الأولاد، فقال: أو عمر أعتقهن؟ أعتقهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة بني المصطلق - فأصبنا سبيا من سبي العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا الفداء فأردنا أن نعزل، فقلت: نعزل ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك فقال: ما عليكم ألا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة» دليل على أن حمل الإيماء من ساداتهن مبطل لأثمانهن ومحرم لبيعهن، إذ لو لم يكن حمل الأمة مبطل لثمنها لما أقرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا الخطأ واستعمال الحيلة فيما لا حاجة بهم إليهم ولقال لهم: وأي حاجة بكم إلى العزل، وما الذي تخافون من الحمل، وهذا ظاهر. ومن أهل العلم من ضعف هذا الدليل فقال: يحتمل أن يكونوا إنما أرادوا العزل مخافة أن يحملن من وطئهم فلا يقدرون على الفداء بهن حتى يضعن، وتحرجوا من العزل فلم يقدموا عليه لما كانوا يسمعون من اليهود الذين كانوا بين أظهرهم وهم أهل كتاب أن العزل هو الموءودة الصغرى حتى سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فأباحه لهم وأخبرهم أن كل نسمة تسبق في علم الله أن تكون لا بد أن تكون. والأول أظهر أنهم إنما أرادوا العزل مخافة أن يفوتهم الفداء جملة لا مخافة أن يفوتهم تعجيل الفداء ولا يمكنهم إلا تأخيره إلى حين الوضع، لأن في الحديث: وأحببنا الفداء. فلو كان إنما خافوا أن يفوتهم تعجيل الفداء لقالوا: وأحببنا تعجيل الفداء، والله أعلم.
فصل وإذا ولدت الأمة من سيدها الحر فقد حرم عليه بيعها وهبتها ورهنها(3/196)
والمعاوضة على رقبتها أو على خدمتها أو إسلامها في الجناية وعتقها في الواجب، وليس له منها إلا الاستمتاع بالوطء فما دونه طول حياته، وهي حرة من رأس ماله بعد وفاته. هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكافة فقهاء الأمصار. وقد كان بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في ذلك اختلاف، فذهبت طائفة إلى إجازة بيعهن أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن قيس، وأبو موسى الأشعري، وإليه ذهب أيضا «جابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري، روي عنهما أنهما قالا: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نرى بذلك بأسا» . وقال عبد الله بن مسعود: تعتق من نصيب ولدها. وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير إلى أن أبا حفص عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أمرهن وكشفه. فاجتمع هو بعد أن كان يقول فيما روي عنه بجواز بيعهن ومن حضره من بقية العشرة ومن المهاجرين والأنصار على أنهن متعة لساداتهن ما عاشوا، ثم هن بعد موتهم أحرار من رءوس أموالهم، فانعقد الإجماع على هذا من حينئذ واستقر الأمر عليه إلى أيام عبد الملك بن مروان، إلا ما يذكر من رجوع علي بن أبي طالب أيام خلافته إلى إجازة بيعهن في الدين، ثم اضطرب في أمرهم ففحص عبد الملك عن ذلك فأخبره الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب أمضى ما وصفت عنه. وروي أنه أخبره أن المسور قال: إن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لا يبعن في دين ولا يعتقن من ثلث فأقر ذلك وكتب به إلى البلدان» . ومن الفقهاء من يدعي الإجماع في هذه المسألة. ولا يصح ما روي من رجوع علي بن أبي طالب، وهذا على ما ذهب إليه ابن القصار وغيره ممن تابعه على أن الإجماع لا ينعقد إلا بانقراض أهل العصر، فلا ينخرم الإجماع المنعقد أيام خلافة عمر بن الخطاب برجوع علي أيام خلافته. وفيما روي من رجوعه ما يدل على أنه رجع إلى ما كان انعقد عليه الإجماع، فتجدد بذلك الإجماع في زمانه، وذلك قول عبيدة السلماني في حديثه: فقبل مني وصدقني. روى الشعبي عن(3/197)
عبيدة السلماني أنه قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: رأى أبو بكر رأيا ورأى عمر رأيا عتق أمهات الأولاد حتى مضيا لسبيلهما، ثم رأى عثمان ذلك، ثم رأيت أنا بعدُ بيعَهن في الدين. قال عبيدة: فقلت لعلي: رأيك ورأي عمر وعثمان في الجماعة أحب إلينا من رأيك بانفرادك في الفرقة، فقبل مني وصدقني. وهذا من علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إجماع منه مع سائر الصحابة على المنع من بيعهن في غير الدين، ثم رجع عما انفرد به من جواز بيعهن في الدين إلى ما أجمع عليه الصحابة بقبوله لقول عبيدة وتصديقه له. وإلى جواز بيعهن في الدين وغيره ذهب أبو داود القياسي والرافصة وأهل الظاهر، واحتج من نصر مذهبهم بقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وبما روي «عن جابر بن عبد الله أنه قال: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر بن الخطاب، ثم نهانا عمر عن بيعهن» . وهذا كله لا حجة لهم فيه. أما الآية التي احتجوا بظاهرها من القرآن وهي قوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فإنه عموم تخصص بما ذكرناه من الأدلة. وأما حديث جابر فإنه ضعيف عند أهل النقل. وقد روي عنه من طريقه ما عارضه وهو أنه قال: «كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم زجرنا عن بيعهن» . ذكره أبو الفرج في الحاوي وزجره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيعهن فسخ لما كانوا عليه من استجازة ذلك وفعله. وقد يكون أيضا في عهد الإمام من الأفعال ما لا يعلمها فلا حجة فيه على حال.
فصل فهذا هو المانع من بيع أمهات الأولاد من جهة الأثر. وأما المانع من طريق النظر فهو أنه لما حملت بولده وحصلت له الحرية من قبل أبيه اتصل بها وخالطها حتى صار كعضو منها فسرت الحرية في جميعها وصارت في معنى المعتقة منه، وهذا من أصح الاعتلال وأقواه، لأنه مروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين قال: خالطت دماؤنا دماءهن ولحومنا لحومهن. ويتحرى من هذا قياس بأن(3/198)
يقال: إن هذه أمة حملت في ملك واطئها بولد حر على أبيه فحرم بيعها اعتبارا بحال حملها. وإنما قلنا في ملك واطئها تحرزا من حمل الأمة الزوجة، وقلنا بولد حر على أبيه تحرزا من إعتاق سيد الأمة إياه لأنه يكون حرا لا من جهة أبيه. وهذا القياس مبني على صحة الاستدلال باستصحاب حال الإجماع، وهو استدلال صحيح، وبه احتج أبو سعيد البراذعي على داود القياسي حين ناظره في هذه المسألة، فانقطع ولم يحر جوابا. وذلك أن داود القياسي استدل عليه باستصحاب الحال فقال: قد اتفقنا على جواز بيعها قبل العلوق فمن زعم أن بيعها بعد الولادة لا يجوز فعليه إقامة الدليل. فقال أبو سعيد: ما أنكرت أن هذا مقابل بما هو أولى منه وهو أنا قد اتفقنا على منع بيعها حاملا، فمن زعم أنها إذا وضعت جاز بيعها فعليه إقامة الدليل قال: فسكت ولم يقل شيئا. فلأهل العلم في بيع أمهات الأولاد ثلاثة أقوال:
أحدها: قول مالك وكافة العلماء: إنها لا تباع أصلا في الدين ولا غيره وتعتق من رأس المال.
والثاني: قول أهل الظاهر: إنها تباع في الدين وغيره ولا تعتق من رأس المال ولا من الثلث. وللشافعي مثله في مواضع من كتبه، ثم قطع في أربعة عشر موضعا من كتبه أنهن لا يبعن في دين وغيره مثل قول مالك وجمهور العلماء.
والثالث: أنها لا تباع إلا في الدين، وهو القول الذي روي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجع إليه ثم رجع عنه على ما بيناه. وما روي عن ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير أنها تعتق من نصيب الذي في بطنها قول رابع في المسألة.
فصل وأجاز الشافعي استئجار أم الولد في الخدمة واستخدامها خلاف ما ذهب إليه مالك من أنه لا يجوز أن تؤاجر ولا تستخدم إلا فيما خف ولا تعب فيه وإن كانت دنية. وتبتذل الدنية في الحوائج الخفيفة فيما لا تبتذل فيه الرفيعة. والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن كل حرمة منعت من بيع الرقبة منعت من(3/199)
بيع المنافع، لأن هذه الحرمة لم تحصل للرقبة دون المنافع وقد كانت مقصية لتبتيل العتق في الحال لكن منع من ذلك أن الحرمة لما حصلت لها بسبب الوطء لم يجز أن تكون مانعة منه وهو أصلها الذي عنه حصلت. فإن كان الأمر على هذا صح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يجز استخدامها إلا في الشيء اليسير الخفيف.
فصل وإنما وجب أن تعتق أم الولد من رأس المال بعد وفاة سيدها لأن الحرمة أوجبت لها الحرية إلا أنا أخرناها لئلا تفيته حقه من الوطء وكذلك روي في الحديث. فإذا مات فهي حرة، وذلك يقتضي رأس المال دون الثلث، فلا تباع أم الولد في الدين في حياة سيدها ولا بعد وفاته. وإن أولدها وعليه دين يحيط بماله فلا سبيل للغرماء عليها بخلاف العتق. والفرق بين العتق والإيلاد أن العتق فعل المعتق وكسبه، ونفس العتق الذي هو كسب المعتق يخرج العبد عن ملكه، وليس لمن عليه دين يستغرق ماله أن يخرج ماله عن ملكه على غير عوض لأن ذلك إتلاف لأموال غرمائه. وأما الإيلاد فليس فعل الواطئ ولا كسبه ولا يقع بمشيئته وإرادته. وقد أباح الله تبارك وتعالى لعباده وطء ما ملكت أيمانهم كما أباح لهم وطء نسائهم فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] فالغرماء إذا عاملوا الرجل فقد علموا أنه يستبيح ما أباح الله تعالى له من الوطء بملك يمينه وعلى ذلك عاملوه، فإن حمل نساؤه من وطئه فهي مصيبة دخلت عليهم من الله ليست من فعل الواطئ ولا كسبه كالموت الذي هو فعل الله لا كسب لمخلوق فيه.
فصل وهو مصدق في حمل أمته أنه منه وإن كان مستغرق الذمة بالديون. وأما إن قال: إنها ولدت منه ولا أولاد معها أو أنها أسقطت منه فلا يصدق، وتباع للغرماء إلا(3/200)
أن يكون قد سمع ذلك من قوله قبل أن يداين، أو كان ذلك أمرا قد سمع وفشا عند النساء والجيران فيصدق.
فصل ولا اختلاف في ولد الأمة من سيدها الحر أنه حر. وأما ولد أم الولد من غير سيدها فهم على مذهب مالك وجميع أصحابه وكافة فقهاء الأمصار بمنزلة أمهم في العتق بعد وفاة السيد من رأس ماله، وبخلافها في الاستخدام والاستئجار والوطء، فله أن يستخدمهم ويؤاجرهم، وليس له أن يطأ إن كانت أمة لأنها محرمة له كالربيبة المحرمة بنص القرآن. فإذا وطئ الرجل المرأة بالملك فبناتها عليه حرام كما لو وطئها بنكاح، وهذا ما لا خلاف فيه. وإنما جاز له أن يؤاجرهم ويستخدمهم لأن حرمتهم أضعف من حرمة أمهم فجاز له فيهم ما لم يجز في الأم. وأيضا فإن الأم له وطؤها والابنة ليس له وطؤها، فلو منعناه من استخدامها وإجارتها لم يبق له عليها حق من حقوق الملك ووجب أن تعتق عليه. وإلى هذا ذهب ربيعة فقال: يعجل عليه عتق ولد أم الولد من غيره. وفي المسألة قول ثالث أنهم مملوكون، وممن روي ذلك عنه الزهري. وقيل إنه هو المشهور من قوله وبالله التوفيق.
فصل وكل ما أسقطته الأمة مما يعلم أنه ولد فإنها تكون به أم ولد، كان مضغة أو علقة أو دما في مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وقال أشهب: لا تكون أم ولد بالدم المجتمع. وقال حماد بن أبي سليمان والأوزاعي إذا كانت مضغة عتقت به. وذهب الشافعي إلى أنها لا تكون أم ولد حتى يتم شيء من خلقه عين أو ظفر وما أشبه ذلك، وهو قول أبي حنيفة إنها لا تعتق إلا بما لا يشك فيه وهو أن تسقط سقطا مخلقا أو فيه خلق من يد وما أشبه ذلك. فوجه هذا القول أنه رأى أنه لا يوقن أنه ولد إلا أن يتم شيء من خلقه. ووجه قول حماد بن أبي سليمان والأوزاعي أنه قد يتقن أنه ولد وإن لم يتم شيء من خلقه إذا كان مضغة. ووجه قول أشهب أنه قد(3/201)
يتيقن أنه ولد وإن لم يكن مضغة إذا كان علقة. ووجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك أنه قد يتيقن أنه ولد بكونه دما وإن لم يكن بعد علقة ولا مضغة.
فصل واختلف قول مالك إذا توفي سيدها وهي حامل، فمرة قال: إنها تكون حرة إذا تبين الحمل بتحرك الولد، يقتل من قتلها وترث وتورث، وهذا قول ابن القاسم وروايته عن مالك. ومرة قال: إنها لا تكون حرة حتى تضع حملها لاحتمال أن ينفشَّ الحمل فلا يتحقق أنه كان حملا، وهو مذهب ابن الماجشون وسحنون. وعلى هذا اختلفوا في اللعان على الحمل، وفي وجوب النفقة للمطلقة البائن، وفي مسائل كثيرة من هذا المعنى.
فصل فعلى هذا القول بأنها لا تكون حرة حتى تضع تكون لها النفقة، ويختلف على القول بأنها تكون حرة بتبين الحمل هل لها نفقة على الاختلاف في أم الولد الحامل هل لها نفقة في مال سيدها أم لا، اختلف في ذلك قول مالك، ولم يختلف في أن الحرة الحامل لا نفقة لها من مال زوجها وإن حبسها ميراثها.
فصل واختلف قول مالك فيمن تزوج أمة ثم اشتراها وهي حامل هل تكون بذلك الحمل أم ولد أم لا على قولين:
فمرة قال: إنها تكون أم ولد لأنه عتق عليه وهو في بطنها، وهو مذهب ابن القاسم وأكثر أصحاب مالك.
ومرة قال: إنها لا تكون به أم ولد لأن الرق قد مسه في بطن أمه، وهو مذهب أشهب ورواية ابن عبد الحكم عن مالك، إلا أن تكون الأمة لأبيه أو لمن يعتق عليه(3/202)
في بطنها فإنها لا تكون له أم ولد عند جميعهم لأنه قد عتق ما في بطنها على من اشتراها. وإنما تكون له أم ولد عند ابن القاسم وروايته عن مالك إذا اشتراها فأعتق عليه الولد وفي شرائها من أبيه اختلاف أجازه ابن القاسم ولم يره بمنزلة من اشترى أمة واستثنى عليه جنينها،. وأما ما ولدت منه بعقد النكاح قبل أن يشتريها فإنها لا تكون له أم ولد عند مالك وجميع أصحابه خلافا لأبي حنيفة في قوله إنها تكون بذلك أم ولد.
فصل ولا تكون أمة العبد أم ولد له بما ولدت له في حال العبودية، ولا وإن أعتق وأمته حامل منه على مذهب ابن القاسم، سواء حملت منه وهي له أو كانت له زوجة فحملت منه ثم اشتراها حاملا، إلا أن يملك ذلك الحمل بهبة أو صدقة وما أشبه ذلك. ويتخرج إجازة شرائه إياها على قولين في المذهب:
أحدهما: أن ذلك لا يجوز لأن شراء الجنين في بطن أمه غرر لا يجوز.
والثاني: أن ذلك جائز لأنه إنما اشتراه ليرتفع عنه التحجير في الأمة ويملك بذلك التصرف فيها قياسا على ما قالوه في الذي يهب لرجل سكنى داره أو غلة جنانه إنه يجوز له أن يشتري منه السكنى والغلة ليرتفع عنه بذلك التحجير في الأصل ويملك التصرف فيه بما شاء من بيع أو غيره. واختلف إن وقع البيع في الحمل على القول بأن ذلك لا يجوز، فقيل: يفسخ البيع فيه ما لم يفت بالوضع، وقيل: العقد فيه فوت لأنه يكون به حرا وتكون عليه فيه القيمة على الرجاء والخوف. وعلى مذهب أشهب ورواية ابن عبد الحكم فلا تكون به أم ولد وإن ملك ذلك الحمل.(3/203)
فصل واختلف في المكاتب والمدبر والمعتق إلى أجل يولدون إماءهم هل يكن لهم أمهات أولاد إذا أفضوا إلى الحرية أم لا على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يكن لهم لذلك أمهات أولاد.
والثاني: أنه يكن لهم بذلك أمهات أولاد.
والثالث: الفرق في ذلك بين المكاتب والمدبر والمعتق إلى أجل. وتحصيل الخلاف في هذا أنه اختلف في الأمة هل لها حرمة بإيلاد سيدها المكاتب أو المدبر أو المعتق إلى أجل أم لا على قولين:
أحدهما: أن لها بذلك حرمة.
والثاني: أنه لا حرمة لها بذلك.
فإذا قلنا إن لها بذلك حرمة فإنها تكون له أم ولد بما حملت به بعد عقد الكتابة أو التدبير أو العتق إلى أجل إذا أفضى إلى الحرية وإن وضعت قبل إفضائه إليها فلا خلاف. وأما ما حملت به قبل ذلك فوضعته بعده مثل أن تكون له زوجة فتحمل منه قبل الكتابة أو التدبير أو عقد العتق المؤجل فيشتريها من سيدها وهي حامل بعد عقد الكتابة أو عقد التدبير أو عقد العتق المؤجل فلا تكون به أم ولد إلا على قول من يرى في الحر إذا اشترى زوجته وهي حامل منه تكون له أم ولد بذلك الحمل، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك.
وأما إذا قلنا إنه لا حرمة لها بذلك فحالها فيما حملت به من سيدها أو وضعته في هذه الحال حال أمة العبد تلد من سيدها أو تحمل منه لا تكون بذلك أم ولد إلا أن يقضي إلى الحرية بأداء الكتابة أو انقضاء أجل الحرية أو موت سيده في التدبير وخروجه من ثلثه وأمته حامل منه فيملك ذلك الحمل على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، خلاف قول أشهب ورواية ابن عبد الحكم عن مالك، وبالله التوفيق.(3/204)
فصل فإذا أقر الرجل بوطء أمته فجاءت بولد فإنه يلحقه إلى ما تلحق فيه الأنساب، سواء قال: كنت أنزل فيها أو أعتزل عنها إلا أن يدعي الاستبراء. قال في المدونة: بحيضة، وقيل: بثلاثة حيض. وهو قول ابن الماجشون، فيصدق في ذلك قيل: بيمين وهو قول ابن الماجشون، وقيل: بغير يمين وهو قول سحنون، وينفي الولد عن نفسه بغير لعان. وقيل: إنه لا يصدق في دعوى الاستبراء ويلحق به الولد على كل حال إلى ما يلحق به الأنساب، وهو قول المغيرة من أصحابنا. ومعناه إذا كان ينزل فيها ولا يعزل عنها والله أعلم. ومن أهل العلم خارج مذهب من يرى أن الولد لا يلحقه إذا قال: كنت أعزل عنها، وإن لم يدع الاستبراء. وإذا لم يدع الاستبراء لم ينتفع بإنكار الولد وإن كان يعزل عنها على مذهب مالك وجميع أصحابه وكانت الأمة مصدقة في إلحاق الولد به سواء أنكر أن تكون ولدت أصلا أو قال: إنها ولدت وليس هو هذا الولد الذي تريد أن تلحقه به.
فصل وأما إن لم تأت بولد فادعت أنها ولدت منه فلا تصدق في ذلك ولا تكون له أما حتى تقيم امرأتين على الولادة، فإن أقامت امرأة واحدة على الولادة حلف السيد أنها ما ولدت منه. وإن لم يشهد لها بالولادة أحد لم يجب على السيد يمين وإن كان مقرا بالوطء.
فصل وأما إن أنكر الوطء فأقامت به عليه شاهدين وأتت بولد فالصواب أن ذلك بمنزلة إقراره بالوطء تصدق في إلحاق الولد وتكون به أم ولد. وإن لم تقم بينة على الولادة فإن ادعى الاستبراء أجري الأمر في تصديقه فيه على الاختلاف فيمن أراد أن يناكر زوجته فيما قضت به في التمليك بعد أن أنكره، وفيمن ادعى رد الوديعة بعد الإنكار. والقولان قائمان في المدونة. ومن الناس من يفرق بين أن يقر بالوطء أو ينكر وتقوم به عليه البينة، فيقول إنه إذا أنكره وقامت به عليه البينة لم تصدق(3/205)
الأمة في الولادة وإن كان الولد قائما حتى تقيم امرأتين على الولادة على ظاهر ما وقع في كتاب الشهادات وفي هذا الكتاب من قوله، فهذا إذا أقامته كانت أم ولد وثبت نسب ولدها إن كان معها ولد، وهذا ليس بصحيح لأنه ليس في قوله إن نسب الولد يثبت إذا أقامت امرأتين على الولادة وما ينبغي أن تصدق في ذلك إذا لم يكن لها بينة على الولادة، وبالله التوفيق.
فصل وأما إن ادعت الولادة ولم تأت بولد فلا تكون أم ولد حتى تقيم شاهدين على إقرار السيد بالوطء وامرأتين على الولادة. فإن أقامت شاهدين على إقراره بالوطء وامرأة واحدة على الولادة، أو شاهدا واحدا على إقراره بالوطء وامرأتين على الولادة لزمته اليمين. وأما إن لم تقم إلا امرأة واحدة على الولادة وشاهدا واحدا على إقراره بالوطء فقيل إنه يحلف، وقيل إنه لا يمين عليه على اختلاف الروايات في المدونة وبالله تعالى التوفيق لا شريك له ولا ند.(3/206)
[كتاب السرقة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله، وبالله أستعين وعلى الله أتوكل
كتاب السرقة الأصل في وجوب السرقة كتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماع الأمة. فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] وأما السنة فكثير، منها قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار» . وقوله: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» . وقوله «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا» «وقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لم يقطع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في ربع دينار» . وقولها: ما طال علي وما نسيت القطع في ربع دينار فصاعدا. ومن ذلك ما ثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم» «وأنه قطع يد سارق رداء صفوان» . وأنه قال: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما يبلغ(3/207)
ثمن المجن» . وأما الإجماع فمعلوم من دين الأمة ضرورة أن يد السارق تقطع إذا كانت سرقته على الشروط والأوصاف التي لا يصح القطع إلا بها، فيستغنى في هذا عن إيراد نص العلماء عليه.
فصل فيما تعتبر فيه الأوصاف المشترطة في قطع يد السارق
والأوصاف المشترطة في قطع يد السارق تعتبر في السارق، وفي الشيء المسروق، وفي الموضع المسروق منه، وفي صفة السرقة. فأما ما يعتبر منها في السارق فخمسة أوصاف وهي: البلوغ، والعقل، وأن يكون غير مالك للمسروق منه، وألا يكون له عليه ولادة على الاختلاف بين أصحابنا في هذا الوصف، لأن أشهب يرى على الجد القطع إذا سرق من مال حفيده، وألا يضطر إلى السرقة من جوع يصيبه.
وأما من يعتبر منها في الشيء المسروق فأربعة أوصاف وهي: النصاب، وأن يكون مما يتمول ويحل بيعه، فإن كان مما لا يتمول ولا يحل بيعه فلا قطع فيه باتفاق، حاشى الحر الصغير على قول ابن القاسم وروايته عن مالك خلاف مذهب ابن الماجشون. وإن كان مما يجوز ملكه ولا يحل بيعه كالكلب المأذون في اتخاذه ولحوم الأضاحي ففي ذلك اختلاف بين ابن القاسم وأشهب، وأن لا يكون للسارق فيه ملك ولا شبهة ملك على اختلاف بين أصحابنا في مراعاة شبهة الملك، كالذي يسرق من المغنم وشبهه وأن يكون مما تصح سرقته لأن ما لا تصح سرقته كالعبد لا قطع فيه.
وأما ما يعتبر منها في الموضع المسروق منه فوصف واحد وهو أن يكون الموضع حرزا للمال أو للشيء المسروق.
وأما ما يعتبر منها في صفة السرقة فوصفان: أحدهما أن يخرج الشيء(3/208)
المسروق من حرزه على صفة تسمى إخراجا على الحقيقة وإن لم يباشر ذلك لنفسه على ما يأتي في مسائلهم. والثاني أن تكون قيمته يومئذ ما يجب فيه القطع.
فصل فجميع الأوصاف المشترطة في وجوب القطع اثنا عشر وصفا، منها ما يتفق عليها ومنها ما يختلف فيه.
منها الحرز والنصاب.
فأما الحرز فاعتبره مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وعامة الفقهاء خلافا لأهل الظاهر في قولهم: إن من سرق ربع دينار أو قيمته فعليه القطع سرقه من حرز أو من غير حرز إذا أخذه من ملك مالك لم يأتمنه عليه، لأن الله أمر بقطع يد السارق عموما، فبين النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - المقدار الذي يقطع فيه ولم يبين الحرز. وليس ذلك بصحيح بل قد نص النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على اعتبار الحرز فقال: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن» .
فصل والدليل قائم من كتاب الله عز وجل أيضا على اعتبار الحرز في وجوب قطع يد السارق، وذلك أن الله تعالى إنما أمر بقطع يد السارق فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] . والسرقة مأخوذة من المسارقة، فلا يكون الرجل سارقا إلا فيما أخذ مما أخفي عنه وأحرز دونه مسارقة عن العيون وعن أهله. وأما ما أهمل بغير حرز أو اؤتمن عليه فليس أخذه مسارقا له وإنما هو مختلس له أو خائن لصاحبه فيه.(3/209)
فصل فإذا اعتللنا بهذا في سقوط القطع عمن سرق من غير حرز فالعلة فيه أنه ليس بسارق، فأمر الله تعالى بقطع يد السارق. وإن قلنا: إنه سارق فإنما أسقطنا القطع عنه بالسنة الثابتة، لأن السنة مفسرة للقران ومخصصة لعمومه ومبينة لمجمله، قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . وقول الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] لفظان عامان متناولان لجمع السراق، فخصصت السنة من ذلك من سرق من غير حرز، كما خصصت من ذلك من سرق أقل من النصاب الذي يجب فيه القطع. ولا اختلاف بين الأمة أن عموم القرآن يخصص بأخبار الآحاد العدول. وإنما اختلفوا هل يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة أم لا؟ على قولين، وأما بأخبار الآحاد فلا يجوز ذلك عند أحد بعد موت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وإنما كان ذلك جائزا في حياته، مثل ما جاء في رجوع أهل قباء في صلاتهم عن قبلتهم التي كانوا على يقين منها بخبر الواحد، وإنما جاز ذلك لهم لأن الطريق المؤدي إلى العلم يقوم مقام العلم.
وذهب بعض الأصوليين إلى أن قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] من المجمل الذي يفتقر إلى البيان لا من العموم، قال: لأنه لما ورد بلفظ العموم فخصصت السنة منه صفات وشروطا من حرز ونصاب عاد مجملا. وهذا ليس بصحيح، إذ لا فرق بين تخصيص بعض الأعيان الذي يقتضيه اللفظ العام أو يقيده بصفات وشروط، لأنه إذا قيد اللفظ العام بشرط أو صفة فقد خصص ما يتناوله ما لم يحصل على ذلك الشرط ولا كان بتلك الصفة، وهذا بَيِّن.(3/210)
[فصل في صفة الحرز الذي يجب القطع على من سرق منه]
فإذا صح اعتبار الحرز فليس من شرطه الأبواب ولا الأقفال ولا الأغلاق، وإنما الحرز على ما جرت به العادة من أن الناس يحرزون متاعهم فيه ويحفظونه به، وما هو حرز مما ليس بحرز تأتي عليه مسائل الكتاب وغيره إن شاء الله تعالى. من ذلك اختلافهم في السرقة من الدار المشتركة أو المأذون فيها. وتحصيل القول في ذلك أن الدور تنقسم في السرقة منها على ستة أقسام:
دار حجرها ساكنها أو مالكها عن الناس.
ودار ينفرد الرجل بسكنها مع زوجته عن الناس.
ودار أذن فيها ساكنها أو مالكها إذنا عاما للناس.
ودار مشتركة بين ساكنيها مباحة للناس.
ودار المشتركة بين سكانها محجورة عن سائر الناس.
فأما الدار التي حجرها ساكنها أو مالكها عن الناس فالقطع على من سرق منها ما يجب فيه القطع إذا خرج به من الدار. وإن سرق من بعض بيوتها وأخذ في الدار قبل أن يخرج منها لم يقطع ولا خلاف في هذا.
وأما الدار التي أذن فيها ساكنها أو مالكها الخاص من الناس كالرجل يضيف الضيف فيدخله داره، أو يبعث الرجل إلى داره ليأتيه من بعض بيوته بمتاعه أو ما أشبه ذلك، فاختلف إذا سرق الضيف أو الرجل المبعوث من بيت معلق قد حجر عليه دخوله على قولين:
أحدهما: قوله في المدونة في كتاب ابن المواز أنه لا يقطع وإن خرج بما سرق من جميع الدار لأنه خائن وليس بسارق.
والثاني: قول سحنون إنه يقطع وإن لم يخرج به من الدار إذا خرج به إلى الموضع الذي أذن له بدخوله لأنه أشبه عنده الشركاء في ساحة الدار إذا سرق(3/211)
أحدهم من بيت صاحبه فخرج بما سرق إلى ساحة الدار وحكى عبد الحق في المسألة قولا ثالثا تأوله على ما في المدونة وحكى أنه قول مالك في كتاب ابن المواز وهو أنه لا يقطع حتى يخرج به من جميع الدار، وليس ذلك بصحيح لأنه قد نص في المدونة وكتاب ابن المواز أنه خائن وليس بسارق، ولا يقطع الخائن على حال.
وأما الدار التي ينفرد الرجل بسكناها مع زوجته عن الناس فاختلف إن سرقت الزوجة أو أمتها من مال الزوج من بيت قد حجره عليهما أو أغلقه دونهما؟ أو سرق الزوج أو عبده من مال الزوجة من بيت قد حجرته عليهما على قولين:
أحدهما: أنه يقطع من سرق منهم وخرج بما سرق من البيت الذي حجر عليه وأغلق دونه وإن لم يخرج عن جميع الدار، وهو ظاهر ما في المدونة ونص قول سحنون قياسا على المتحايزين بالسكنى في الدار الواحدة لأنه إذن محكوم به في الموضعين.
والثاني: أنه لا يقطع وإن خرج به من الدار، وهو قول مالك في كتاب ابن المواز. وحكى عبد الحق أن الذي لمالك في كتاب ابن المواز أنه يقطع إن خرج به من الدار، وليس ذلك بصحيح، لأنه قد نص في أول المسألة على ما حكيناه عنه، فيتأول ما وقع له في آخرها على أنه إنما أراد بذلك الأجنبي لئلا يتناقض قوله ويضطرب كلامه في مسألة واحدة.
وأما الدار التي أذن فيها ساكنها أو مالكها إذنا عاما للناس كالعالم والطبيب يأذن للناس في دخولهم إليه في داره، أو كالرجل يحجر على نفسه في ناحية من داره ويترك بابها مفتوحا يدخل بغير إذن، فهذه يجب القطع على من سرق من بيوتها المحجورة إذا خرج بسرقته من جميع الدار، ولا يجب القطع على من سرق من قاعة الدار وما لم يحجر من بيوتها وإن خرج من الدار. ولا اختلاف في هذا. وإنما(3/212)
لم يجب عليه القطع حتى يخرج من جميع الدار لأن بقية الدار من تمام الحرز، ففارقت المحجرة بأنها لا تدخل إلا بإباحة صاحبها وإنما لم يسقط عنه القطع إذا خرج من جميع الدار كالضيف على مذهب ابن القاسم لأن الضيف خصه بالإذن فصار مؤتمنا وكان له فيما أخذ- على مذهبه- حكم الخائن لا حكم السارق.
وأما الدار المشتركة بين ساكنيها المباحة للناس كالفنادق التي يسكن كل رجل بيته على حدة وقاعتها مباحة للبيع والشراء فيها فحكم قاعتها حكم المحجرة، فمن سرق من بيوتها شيئا كان من الساكنين فيها أو من غيرهم وأخذ في قاعة الدار فقد وجب عليه القطع، ولا خلاف في هذا أيضا.
وأما الدار االمشتركة بين سكانها المحجورة عن سائر الناس فلا اختلاف في أن السكان يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار وإن لم يخرج بها من الدار ولا أدخلها. ولا خلاف في أنه لا قطع على من سرق منهم من قاعة الدار شيئا وإن أدخله بيته أو خرج به عن الدار، إلا أن يكون الذي سرق من قاعتها دابة من مربطها المعروف لها وما أشبه ذلك من المتاع الثقيل الذي يجعل بعضه فوق بعض فيكون ذلك الموضع حرزا كمربط الدابة، فيكون حكم من سرق شيئا من ذلك منهم حكم من سرق من بيت من البيوت. وإن كان لأحد من ساكني هذه الدار زوجة فسرق أحد الزوجين أو عبده من مال صاحبه من بيت من الدار قد حجره عليهما أو أغلقه دونهما فعليهما القطع قولا واحدا أيضا. واختلف إن سرق الأجنبي من بيت من يموت الدار شيئا وأخذ في قاعتها قبل أن يخرج به من الدار، أو سرق مما وضع بعض الأشراك في قاعتها مثل الثوب ينشره فيها فأخرجه من الدار، فقيل: إنه يقطع به في الوجهين(3/213)
جميعا، وهو نص ما في كتاب ابن المواز، وظاهر ما في المدونة لابن القاسم في الوجه الأول ونص ما له فيها في الوجه الثاني. والقياس إذا قطع في الوجه الثاني ألا يقطع في الوجه الأول. وعلى هذا حمل عبد الحق ما في المدونة. وإذا قطع في الوجه الأول ألا يقطع في الوجه الثاني، وعلى هذا حمل أبو إسحاق التونسي ما في كتاب ابن المواز، وهو بعيد، لأنه قد نص على أنه يقطع في الوجهين. فإذا حمل عليه أنه لا يقطع في الوجه الثاني من أجل أنه نص على أنه يقطع في الوجه الأول، فيجب أن يحمل عليه أيضا أنه لا يقمع في الوجه الأول من أجل أنه نص على أنه يقطع في الوجه الثاني، فيكون ذلك اختلافا من قوله، ويتحصل في المسألة أربعة أقوال:
أحدها: أنه يقطع في الوجهين جميعا.
والثاني: أنه لا يقطع في الوجهين جميعا.
والثالث: أنه يقطع في الأول ولا يقطع في الثاني.
والرابع: أنه يقطع في الثاني ولا يقطع في الأول.
واختلف أيضا إذا سرق الأجنبي ما نسي بعض الأشراك في قاعة الدار مما لم يقصد إلى وضعه فيها، فروى سحنون عن ابن القاسم أنه يقطع. وذهب ابن المواز إلى أنه لا يقطع إذا كان مما لا يشبه أن يكون ذلك موضعه. وأما ما كان موضعا له كمربط الدابة وشبه ذلك فلا اختلاف أنه يقطع إذا أخرجه من الدار، وإن أخذ قبل أن يخرجه منها وقد بان به ونحاه عن موضعه جرى ذلك على الاختلاف المذكور إذا أخرجه من البيت إلى قاعة الدار.
فصل وأما النصاب فإنه معتبر عند مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وأكثر أهل العلم. وشذت طائفة منهم فأوجبت القطع في القليل والكثير تعلقا بظاهر قول(3/214)
الله عز وجل وقولُه الحق {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] فلم يخص قليلا من كثير. واحتجوا لذلك بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله السارق يسرق البيضة ويقطع يده» فهذا منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنبيه على أنه يقطع في القليل والكثير إلى أشياء ذكروها. واحتجوا بها وتعلقوا بظاهرها لا حجة لهم بها، لأن الحد إذا ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجب المصير إليه والعمل به لأن المفسر يقضي على المجمل، والخاص يقضي على العام. وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده؛» ليس على وجه التنبيه على إيجاب القطع في القليل والكثير، وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يراد بها بيضة الحديد.
والثاني: أن يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك على وجه التقليل كما قيل في العقيقة إنها تستجب ولو بعصفور، والعصفور لا يعق به ولا يجوز في العقيقة. وكما أمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأمة أن تباع إذا زنت ثلاثا أو أربعا ولو بضفير، ومثل هذا كثير. فيكون معنى قوله الزجر عن السرقة وتحقير ما تقطع فيه يد السارق في جنب قطع يده، وهذا بين وبالله التوفيق.
[فصل في معرفة حد النصاب عند من اعتبره]
اختلف الذين اعتبروا النصاب في حده اختلافا كثيرا. فمنهم من قال: لا تقطع يد السارق في أقل من درهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من درهمين. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من ثلاثة دراهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من ربع دينار، ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم. ومنهم من(3/215)
قال: لا تقطع في أقل من أربعة دراهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من خمسة دراهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من عشرة دراهم. ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من دينار، ومنهم من قال: لا تقطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم. فهذه عشرة أقوال أصحها قول مالك ومن تابعه أنه لا تقطع يد السارق ثلاثة دراهم كيلاً، وإن كان ذلك أكثر من ربع دينار. ومن سرق ما سوى الفضة والذهب لم يقطع إلا أن تكون قيمته ثلاثة دراهم. ولا تقوم السرقة بالذهب لأن الآثار تعضد قوله وتؤيده وتشهد بصحته. ثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم» وأنه قال: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراج والجرين فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن» . فدل ذلك من قوله- عَلَيْهِ السَّلَامُ - على أن المسروق إنما يقوم بالدراهم لا بالدنانير، كما فعل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الأترجة التي قومها بالدراهم فبلغت ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار فقطع سارقها. وقالت عائشة: ما طال علي وما نسيت القطع في ربع دينار فصاعدا، معناه فيمن سرق الذهب بعينه لا فيمن سرق ما قيمته ربع دينار، لأن من سرق ما يقوم من العروض فالسنة فيه أن يقوم بالدراهم على ما ثبت من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن» .
فصل وأيضا فالدراهم والدنانير كل واحد منها أصل في نفسه لا يرد إليه صاحبه لأنهما جميعا أثمان للأشياء وقيم للمتلفات، واختصت السرقة بالتقويم بالدراهم دون الدنانير من سائر المتلفات للسنة المذكورة.(3/216)
فصل فلا تقوم السرقة إلا بالدراهم كان البلد تجري فيه الدنانير والدراهم أو لا يجري فيه أحدهما، وإنما يتعامل الناس فيه بالعروض. هذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو ظاهر قوله في المدونة ونص ما في كتاب ابن المواز خلاف قول أبي بكر الأبهري، وقال عبد الوهاب: إنما تقوم بالأغلب في البلد من الصنفين. وأما ما حكى عبد الحق عن بعض شيوخ صقلية أن من سرق عرضا في بلد لا يتعامل الناس فيه إلا بالعروض فإنه يقوم في أقرب البلدان إليه التي يتعامل فيها الناس بالدراهم؛ فخطأ صراح لا يصح، إذ قد تكون السلعة بالبلد الذي سرقها فيه كاسدة مرغوبا عنها لا قيمة لها به وفي البلد الذي تجري فيه الدراهم لها قيمة كثيرة لقلتها فيه ونفاقها عندهم، فيؤول إلى قطع اليد في أقل من النصاب. والاعتبار بقيمة السرقة يوم سرقت وأخرجت من الحرز في قول مالك والشافعي خلافا لقول أبي حنيفة إنه تعتبر قيمتها يوم سرقها إلى يوم الحكم وبالله التوفيق.
[فصل فيما يقطع فيه السارق من الذهب المغشوشة أو الناقصة]
وسواء كان الذهب والفضة طيبين أو دنيئين إلا أن يكونا مغشوشين بالنحاس فلا يقطع في النصاب منهما إلا أن يكون النحاس الذي فيهما تافها يسيرا جدا لا قدر له.
فصل وأما إن نقصت الذهب والفضة في الوزن، فإن كان نقصها نقصا بينا تتفق عليه الموازين فلا يقطع، وإن كان نقصانا يسيرا لا تتفق عليه الموازين قطع.
فصل فأما إن كانت الدراهم تجوز عددا بأعيانها فنقصت في الوزن فقال في الرواية: إنها إن نقصت ثلاث حبات من كل درهم فلا يقطع، ظاهره وإن كانت تجوز بجواز(3/217)
الوازنة خلاف الزكاة. والفرق بينهما أن الزكاة الاحتياط فيها إيجابها، والسرقة الاحتياط فيها ترك القطع. وأما إن كان النقص فيها نحو الحبتين من كل درهم فقد قال أصبغ: إن ذلك يسير يقطع، معناه عندي إن كانت تجوز بجواز الوازنة. وقال أبو إسحاق التونسي قول أصبغ وإن كانت لا تجوز بجواز الوازنة. وإن كان هذا ظاهره فيقال: إن معناه خلاف ظاهره، والله تعالى أعلم.
فصل ومذهب الشافعي في هذا قريب من مذهب مالك، لأن النصاب عنده في القطع ربع دينار فلا يقطع على مذهبه إلا من سرق ربع دينار ذهبا أو قيمته من العروض أو الدراهم، وهو قول محمد بن عبد الحكم من أصحاب مالك، حكاه عنه ابن حارث.
فصل وأما أهل العراق فلا يرون أن تقطع يد السارق في أقل من مثقال أو عشرة دراهم. ومنهم من يراعي المثقال دون العشرة دراهم فلا يوجب القطع على من سرق عشرة دراهم أو أكثر إذا كانت قيمتها أقل من مثقال. ومنهم من يراعي العشرة دراهم دون المثقال فلا يوجب القطع على من سرق مثقالا أو أكثر منه إذا كانت قيمته أقل من عشرة دراهم، وهو مذهب أبي حنيفة. وأصلهم في هذا ما «رواه ابن عباس وعمرو بن العاص أن ثمن الذي قطع فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عشرة دراهم.» قالوا: فهذان صاحبان قد خالفهما ابن عمر في قيمة المجن، فالأولى ألا تستباح يد أحد إلا بيقين. وهذا لا يلزم، لأنه يحتمل أن يكون قضية أخرى في مجن آخر فلا تتعارض الآثار، لأنه إذا وجب القطع في ثلاثة دراهم فلا شك أنه يجب في عشرة دراهم، وهذا بين، وبالله تعالى التوفيق.(3/218)
[فصل في السراق يجتمعون على سرقة النصاب]
فصل
في السراق يجتمعون على
سرقة النصاب
القطع بإخراجه من الحرز، سرقه واحد من واحد، أو جماعة من جماعة، أو جماعة من واحد، أو واحد من جماعة إذا تعاونوا في إخراجه لحاجتهم على التعاون في ذلك، كما يقتل الواحد بالواحد والجماعة بالجماعة والواحد بالجماعة والجماعة بالواحد، وكما تقطع اليد باليد والأيدي بالأيدي والأيدي باليد واليد بالأيدي. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا تقطع الجماعة بالسرقة وإن تعاونوا عليها حتى يكون في حظ كل واحد منهما ما يجب فيه القطع، كل على مذهبه في النصاب، وتقتل الجماعة بالواحد، فناقضوا، والمناقضة للشافعي ألزم لأنه يقول: إن الجماعة تقتل بالواحد وإن الأيدي تقطع باليد. لأن النفس لا تتبعض واليد تتبعض فإنما قطع كل واحد منهم بعضها. وكذلك النصاب يتبعض عنده فإنما سرق كل واحد منهم بعضه. ونقض الشافعي في هذه المسألة أيضا أصله في قوله: إن عشرين رجلا إذا ملكوا عشرين مثقالا وكانوا شركاء فيها إن الزكاة واجبة عليهم لاشتراكهم في النصاب، وهذا بين في التناقض، ومن أصل أصلا فاسدا يبني عليه انهدم بنيانه. ولا اختلاف أحفظه في سرقة الواحد ما يجب فيه القطع من الجماعة المشتركين أنه يقطع، كما لم يختلفوا أن العبد يقتل بالعبد وإن يده تقطع بيده وإن كان العبد المقتول أو المقطوع يده لجماعة. واتفاقهم على هذا يقضي بصحة مذهب مالك في أن الجماعة تقطع إذا تعاونت في سرقة النصاب، لأن القطع إنما وجب لحرمة النصاب المسروق على الوجه الموصوف، كما وجب القصاص من النفس أو اليد لحرمتها، فوجب أن يتساوى ذلك كله في الواحد من الواحد والجماعة من الجماعة والواحد من الجماعة والجماعة من الواحد. فرحم الله مالك بن أنس فإنه كان أمير المؤمنين في الرأي والآثار، وأعرف الناس بالقياس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.(3/219)
[فصل في بيان من يجب عليه القطع في السرقة]
فصل
في بيان من يجب عليه القطع في السرقة والقطع يجب على الأحرار والعبيد والذميين الحربيين المعاهدين من الرجال والنساء البالغين. هذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وعامة العلماء في جميع الأمصار. وإنما وقع الخلاف قديما في العبد الآبق، ثم انعقد الإجماع لعموم قول الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] .
[فصل في معرفة ما يجب به القطع في السرقة]
فصل
في معرفة ما يجب به القطع في السرقة
ولا يجب القطع إلا ببينة عادلة أو اعتراف. فأما البينة فشاهدا عدل، ولا يقطع بشاهد ويمين ولا بشاهد وامرأتين. وأما الاعتراف فإنه ينقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يأتي مستهلا على نفسه بالسرقة من غير أن يؤخذ ويتهم بها.
والثاني: أن يقر على نفسه بها بعد أن يتهم بها فيؤخذ دون خوف ولا وعيد ولا تهديد.
والثالث: أن يقر على نفسه بها بعد الضرب والوعيد أو التهديد.
والثالث: أن يقر على نفسه بها بعد الضرب والوعيد أو التهديد.
فأما إذا استهل بذلك على نفسه من قبل أن يؤخذ فيقطع من غير تعيين قولا واحدا، وله أن يرجح عن إقراره إذا كان لرجوعه وجه. واختلف إذا جحد الإقرار أصلا أو لم يأت لرجوعه بوجه.
وأما إن كان إقراره بعد أن يؤخذ فاختلف فيه، قيل إنه يقطع بمجرد إقراره دون أن يعين السرقة التي أقر بها، وهو ظاهر ما في كتاب السرقة من المدونة. وقيل:(3/220)
إنه لا يقطع حتى يعينها وهو قول ابن القاسم في رسم العتق من سماع أشهب من الكتاب المذكور. فإذا قلنا: إنه يقطع بمجرد إقراره دون تعيين على ظاهر ما في كتاب السرقة من المدونة فله أن يرجع عن إقراره وإن لم يأت بوجه، وهو ظاهر ما في المدونة ولا خلاف عندي في هذا الوجه. وإذا قلنا: إنه لا يقطع إلا أن يعين فاختلف هل له أن يرجع عن إقراره بعد التعيين أم لا على قولين مرويين عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقعا له في سماع عيسي من كتاب السرقة. والقولان هاهنا عندي إنما هما إذا قال إنما أقررت لوجه كذا، وأما إن جحد الإقرار أصلا بعد التعيين فلا يقال قولا واحدا.
وأما إذا ضرب أو هدد فأقر فلا يقطع بمجرد إقرار، فإن عين فاختلف هل يقطع أم لا على قولين قائمين من المدونة وغيرها. فإذا قلنا إنه يقطع على أحد القولين فإنما يقطع ما لم يرجع عن إقراره، وإن رجع عن إقراره أُقيل بلا خلاف. وإذا قلنا: إنه لا يقطع على القول الثاني فإن تمادى على إقراره بعد أمن ففي المدونة أنه يقطع. وقال ابن الماجشون: إنه لا يقطع.
فصل فلرجوع السارق عن إقراره بالسَّرْق ثلاثة أحوال:
حال يقبل رجوعه فيها إن أتى وبه شبهة، ويحلف إذا جحد الإقرار أصلا وهي الحال التي يتفق على وجوب القطع فيها وعلى قبول رجوعه، وذلك إذا أتى تائبا مستهلا ثم رجع.
وحال يقبل رجوعه فيها وإن جحد الإقرار أصلا قولا واحدا وهي الحال التي لا يتفق على وجوب القطع عليه فيها، وذلك إذا أقر بعد أن يؤخذ ولم يعين ثم رجع، وإذا أقر بعد الضرب أو التهديد وعين ثم رجع.
وحال لا يقبل رجوعه إذا جحد الإقرار أصلا قولا واحدا، ويختلف إذا قال: أقررت لوجه كذا وكذا، وهي الحال التي يتفق على وجوب القطع عليه فيها، ويختلف في قبول رجوعه، وذلك إذا أقر بعد أن يؤخذ وعين ثم رجع. وبالله التوفيق.(3/221)
[فصل في بيان ما يجب فيه القطع من الأموال]
فصل
في بيان ما يجب فيه القطع من الأموال. ويجب القطع في مذهب مالك في كل ما يتمول ويجوز بيعه، سواء كان مباح الأصل أو غير مباح الأصل، سواء كان مما يبقى أو مما يسرع إليه الفساد، خلاف قول أبي حنيفة فيما يسرع إليه الفساد، وخلاف قوله وقول الشافعي فيما كان مباح الأصل كالماء والحطب والكلأ وشبهه. وتعلق أبو حنيفة في ألا قطع في الطعام الذي لا يبقى ويسرع إليه الفساد، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا قطع في ثمر ولا كثر» لأنه تأول أن القطع إنما يسقط في ذلك لأنه مما لا يبقى واعتل ذلك أيضا من طريق النظر بأن ما لم يحرز بغيره لا قطع فيه وإن كان محرزا بنفسه، فما يحرز بغيره وليس بمحرز بنفسه أولى ألا يقطع فيه، وليس هذا بشيء، والصحيح قول مالك، والدليل قول الله تبارك وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لأنه عموم فلا يخص منه شيء إلا بدليل، ولا دليل لأبي حنيفة يصح به التخصيص في سرقة بعض الأموال إلا تأويله على الحديث، وتأويله عليه يعارض بما هو أولى منه، وذلك أن الحرز لم يأوه فلذلك لم يجب فيه القطع.
[فصل في ترتيب القطع في السرقة]
فصل
في ترتيب القطع في السرقة وإذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى، ثم إن سرق قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق قطعت رجله اليمنى، ثم إن سرق ضرب وحبس. هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومذهب أهل الحجاز. ولم ير أن يقتل بعد الرابعة على ما روي «عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية جابر بن عبد الله أنه أتي بعبد قد سرق فقطع يده اليمنى، ثم أتي به بعد ذلك قد سرق فقطع رجله اليسرى، ثم أتى به بعد ذلك قد سرق فقطع يده اليسرى، ثم أتي به بعد قد سرق فقطع رجله اليمنى، ثم أتي به بعد قد سرق فقتله» لأنه حديث غير صحيح. وفي حديث(3/222)
مصعب بن ثابت: قتل السارق بالحجارة في الخامسة ولم يقل به أحد من أهل العلم إلا ما ذكره أبو المصعب في مختصره عن أهل المدينة مالك وغيره، وهذا غير صحيح لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث أن يكفر بعد إسلامه أو يزني بعد إحصانه أو يقتل نفسا بغير حق» . ولو صح الخبر لوجب أن يحمل على أنه خرج على وجه التغليظ كقوله في شارب الخمر: اقتلوه. تغليظا وزجرا، والله أعلم.
فصل وذهب أهل العراق إلى أنه تقطع يده اليمنى ثم رجله اليمنى ولا يقطع منه شيء بعد ذلك. واتفق جمهور السلف والخلف من أهل الحجاز والعراق على قطع الرجل بعد اليد وإن كان الله عز وجل لم يذكر في كتابه إلا الأيدي للسنة الثابتة في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وشذت طائفة من التابعين وبعض أهل الظاهر فلم يروا أن تقطع من السارق إلا الأيدي لا أكثر، وهو مذهب الخوارج.
[فصل في حد القطع في السرقة]
فصل
في حد القطع في السرقة وتقطع يد السارق من الكوع لا خلاف بين أهل العلم في ذلك. واختلفوا في الرجل، فالذي عليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجل أهل العلم أنه يقطع من المفصل الذي في أصل السارق. وقال في المدونة: تحت الكعبين ويبقى الكعبان في الساقين. وقال في كتاب ابن شعبان: بين الكعبين، وقيل إنه يقطع من المفصل الذي في وسط القدم ويترك له العقب حكاه ابن شعبان عن علي وابن عباس وعطاء وابن جعفر. وقال إنه موضع يحتمل الاختلاف لأن المفصل الذي في وسط القدم هو أول المفاصل الذي يأتي على جميع أصابع الرجل، كما أن الرسغ هو أول المفاصل الذي يأتي على أصابع اليد، فشبهوا هذا بهذا. هذا معنى قوله دون لفظه. والله أعلم.(3/223)
[فصل في السارق يقطع وقد استهلك في السرقة]
فصل
في السارق يقطع وقد استهلك السرقة وأجمع أهل العلم على أن السلعة المسروقة إذا وجدت قائمة بيد السارق فإنها ترد إلى صاحبها. واختلفوا إذا تلفت عنده وأقيم عليه الحد هل يتبع بها أم لا على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يتبع بها في اليسر والعدم وهو قول الشافعي.
والثاني: أنه لا يتبع بها في اليسر ولا في العدم، حكى هذا القول إسماعيل القاضي عن أهل الشرق.
والثالث: أن المسروق منه مخير إن شاء اتبع السارق بقيمة سرقته ولم تقطع يده، وإن شاء بذل له القيمة وترك اتباعه بها وقطعت يده. هذا قول أبي حنيفة، حكاه عنه عبد الوهاب في شرح الرسالة، فلا يجب للإمام على مذهبه إذا تلفت السرقة أن يقطع يد السارق إلا بعد تخيير المسروق منه. وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنه إن كان متصل اليسر من يوم سرق إلى يوم أقيم عليه الحد ضمن قيمة السرقة، وإن كان عديما أو أعدم في بعض المدة سقط عنه الغرم، وهذا هو الصحيح، لأنه إذا كان موسرا متصل اليسار فكأن سرقة قائمة العين لأنه وإن أتلفها فقد وفى بها ماله. وهذا التعليل إنما يصح إذا أتلفها بالاستيفاء وأما إذا أتلفها بالجناية عليها أو تلفت بأمر من السماء فلم يف بتلافها ماله فيلزم عليه ألا يؤخذ من ماله وإن اتصل يسره إذا تلفت بأمر من السماء أو بجنايته عليها، وهذا ما لم يقولوه. فالعلة الصحيحة في هذا على مذهب مالك أنه إنما وجب ألا يتبع بقيمة السرقة في العدم إذا قطعت يده لئلا تجتمع عليه عقوبتان: قطع يده واتباع ذمته ولم يوجب الله عليه إلا عقوبة واحدة جزاء بما كسب فقال: فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسب. وأما في الملأ فيرد على المسروق منه قيمة سرقته وإن قطعت يده، كما يرد عليه عين سرقته بالإجماع إذا ألفيت قائمة بيده وليس ذلك عقوبة ثانية. ولا يلزم على(3/224)
هذا أن يؤخذ منه إذا أيسر بعد أن أعدم لأن العدم قد أسقطها عنه، إذ لا يصح أن تتبع ذمته بها فيكون ذلك عقوبة أخرى، وإذا سقطت عن ذمته لم يصح أن تعود عليه والله أعلم.
[فصل في حكم توبة السارق]
فصل
في حكم توبة السارق
توبة السارق غير مقبولة منه في إسقاط الحد عنه بخلاف توبة المحارب، لأن الله فرق بينهما في كتابه، فأمر بإقامة الحد عليهم ثم عقب بذكر التوبة من غير استثناء فجعلها مستقلة بعد القطع، فدل ذلك على أن توبته لا تسقط عنه الحد وإن أسقطت عنه الإثم إذا صحت توبته ورد السرقة على صاحبها وتحلله من إمساكها عنه. وذكر تعالى إقامة الحد على المحاربين ثم استثنى منهم من تاب ألا يقام عليه الحد فقال تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] . وهاتان الآيتان أصل في أن تقبل توبة المرتد وكل معلن بما كان عليه، وألا تقبل توبة الزنديق ولا الساحر ولا الزاني ولا الشارب للخمر ومن أشبههم من المستترين بما كانوا عليه إذا أسرتهم البينة لأنهم يتمنون أن يكون ذلك منهم تحيلا لإسقاط الحدود منهم. قال الله عز وجل: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ - فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ} [غافر: 84 - 85] إلى قوله: الكافرون وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] . وبالله سبحانه التوفيق لا رب غيره.
تم كتاب السرقة بحمد الله وعونه
يتلوه كتاب الحرابة(3/225)
[كتاب المحاربين والمرتدين] [القول في ماهية الحرابة وما الواجب فيها]
القول في ماهية الحرابة وما الواجب فيها
قال الله عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] . فجعل الفساد في الأرض بمنزلة القتل في وجوب القتل به. فمعنى الآية من قتل نفسا بغير نفس أو بغير فساد في الأرض فأسقط غير وعطف الكلام على ما قبله ثم بين الله تبارك وتعالى الفساد في الأرض المذكور في هذه الآية ما هو فقال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] .
فصل فمحاربة الله ورسوله عصيانهما بإخافة السبيل، وإخافة السبيل هو السعي في الأرض فسادا أو السعي في الأرض فسادا هو الحرابة نفسها لا غيرها. وقَوْله تَعَالَى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] تكرير لذكر الحرابة بغير اسم الحرابة على سبيل التأكيد، وهو كثير موجود في القرآن ولسان العرب. قال الله عز وجل: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] ، والبث والحزن شيء واحد. وقال: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 22](3/227)
وهما شيء واحد. وقال: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فأعاد ذكر جبريل وميكائيل وإن كانا من الملائكة تأكيدا لهما. وقال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] والنخل والرمان من الفاكهة، وهذا كثير، وبالله التوفيق.
فصل فمن أخاف السبيل فقد استحق اسم الحرابة بإجماع، ولهذا قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن الإمام مخير في المحارب، وإن لم يقتل ولا أخذ مالا إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطعه من خلاف وإن شاء ضربه ونفاه، لأن الله خير في عقوبة المحارب بأحد هذه الأربعة الأشياء فقال: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] ، لأن كل ما قال الله فيه افعل كذا أو كذا فصاحبه بالخيار في فعل أي ذلك شاء، مثل قَوْله تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] . ومثل قوله في كفارة الأيمان: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] .
فصل وقد اختلف فيمن نزلت هذه الآية فقيل: إنها نزلت في المشركين الحربيين، فالإمام مخير بهذه الآية في أسرى المشركين إن شاء قتلهم وإن شاء صلبهم وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وقد قيل: إنها نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يصلب وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن شاء أن ينفي. وروي هذا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقيل: إنها(3/228)
نزلت في «الرهط من عرينة أو عكل الذين أتوا النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقالوا: يا رسول الله إنا كنا أهل ريف وإنا استوخضنا المدينة، فأنزلهم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود وكفروا بعد إسلامهم فأتي بهم إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستطعمون فلا يطعمون ويستسقون فلا يسقون حتى ماتوا» . روي هذا عن أنس بن مالك وجاء عنه أنه أحرقهم بالنار بعد قتلهم.
فصل ولم يعلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل بأحد غير هؤلاء قبل ولا بعد. وثبت عنه أنه نهى عن المثلة. واختلف في حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هؤلاء الرهط، فقيل: إنه منسوخ، نسخه نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المثلة، وقيل: إنه نسخ بهذه الآية وإنها إنما نزلت عتابا لما فعل بهم، وقيل: إنه حكم ثابت في نظرائهم أبدا غير منسوخ لأنهم ارتدوا وقتلوا وحاربوا وسرقوا، فحكمهم غير حكم من حارب وسعى في الأرض فسادا من أهل الإسلام وأهل الذمة الذين ثبت الحكم فيهم بالآية. وقيل: إنهم سملوا أعين الرعاء فلذلك سمل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعينهم. وقيل: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسمل أعينهم لكنه أراد أن يفعل ذلك فأنزل الله الآية فعرفه بالحكم فيهم ونهاه عن سمل أعينهم.
فصل فأما قول من قال إن الآية نزلت في المشركين الحربيين فإنه بعيد جدا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فيها: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] . ولا اختلاف أن توبة الحربي تسقط عنه بالرمة من الأحكام في حال كفره سواء أسلم قبل القدرة عليه أو(3/229)
بعد ذلك وكذلك قول من قال: إن الآية نزلت في الذين حكم فيهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما حكم من قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم بعيد أيضا لمخالفة حكمه فيهم ما تضمنته الآية من العقوبات مع تظاهر الآثار بأن الآية إنما وردت بعد الذي كان من حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هؤلاء الرهط المذكورين.
فصل وأولى ما قيل في الآية أن الله أنزلها على رسوله إعلاما منه له بالحكم فيمن حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا من أهل الإسلام وأهل الذمة، وأن سبب نزولها كان نقض ناقض من أهل الذمة من بني إسرائيل عهده وسعيه في الأرض بالفساد. وإنما قلنا إن ذلك أولى ما قيل في الآية لأن القصص التي قصها الله قبل هذه الآية وبعدها من قصص بني إسرائيل وأنبيائهم وأن تكون هذه الآية المتوسطة بين ذلك تقتضي تعريف الحكم فيهم وفي نظائرهم أولى ما قيل في ذلك مع ما روي عن ابن عباس أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فيحتمل أن يكونوا من بني إسرائيل والله أعلم وأحكم.
فصل وليس معنى قول مالك ومن قال بقوله في تخيير الإمام في عقوبة المحارب إنه يفعل فيه بالهوى، ولكن معناه أنه يتخير من العقوبات التي جعلها الله جزاءه ما يرى أنه أقرب إلى الله وأولى بالصواب بالاجتهاد فكم من محارب لم يقتل هو أضر على المسلمين ممن قتل في تدبيره وتأليبه على قطع طرق المسلمين.
فصل فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد فيه قتله أو صلبه لأن القطع لا يرفع ضرره عن المسلمين. وإن لم يكن على هذه الصفة وأخذ بحضرة خروجه أخذ فيه بأيسر ذلك وهو الضرب والنفي.(3/230)
فصل وأما إن قتل فلا بد من قتله ولا يخير الإمام في قطعه ولا في نفيه، وإنما له التخيير في قتله أو صلبه. وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير للإمام في نفيه وإنما له التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف. هذا تحصيل مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقد وقع في بعض روايات المدونة أنه من نصب نصبا شديدا أو علا أمره وطال زمانه فإن الإمام يقتله ولا خيار له فيه. معناه أنه لا ينبغي للإمام أن يأخذ في مثل هذا إلا بالقتل لأنها العقوبة المختارة في مثله بالاجتهاد، فلا تكون هذه الرواية على هذا التأويل خلافا لأصله الذي حكيناه عنه.
فصل وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجماعة من العلماء إلى أن أو في هذه الآية ليست للتخيير وإنما هي للترتيب والتعقيب. وأن العقوبات التي أنزلها الله في المحارب تختلف باختلاف إجرامه. قالوا لأن كل موضع ذكر الله فيه عقوبات مختلفة وقصد الترتيب بدأ بالأغلظ فالأغلظ، وإن قصد التخيير بدأ بالأخف فالأخف.
مثال الأول: كفارة الظهار والقتل.
ومثال الثاني: كفارة اليمين وفدية الأذى.
فلما بدأ الله في المحارب بالقتل ثم الصلب ثم القطع ثم النفي علمنا أنه قصد الترتيب لا التخيير. وهذه دعوى لا دليل عليها. بل الدليل قائم على بطلانها، من ذلك قول الله عز وجل: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] فبدأ بالقتل وهو أخف من الصلب فذلك يوجب التخيير على مذهبهم بين القتل والصلب وهم لا يقولونه. وأيضا فإن الله قال في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] ، فبدأ بالهدي وهو أغلظ من الإطعام والصيام فكان ذلك(3/231)
على التخيير ولم يكن على الترتيب وأيضا فلو كان اللسان العربي يوجب الترتيب إذا بدأ في العقوبات بالأغلظ فالأغلظ على ما قالوه دون التخيير لما احتاج تعالى أن يقول في كفارة القتل وكفارة الظهار: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] ، ولقال أو صيام شهرين متتابعين لأن أو أخف على اللسان وأوجز في الكلام، لأن البلاغة إنما هي في بيان المعاني مع اختصار اللفظ مع أنا لا نقول إن عتق رقبة أغلظ من صيام شهرين متتابعين بل صيام شهرين متتبابعين أشد وأغلظ من عتق رقبة لا سيما على من هو كثير اليسار، وفي بعض هذا كفاية.
فصل واستندوا فيما ذهبوا إليه من ذلك إلى ما روي عن ابن عباس أن المحارب إذا حارب وقتل قتل وإن حارب وقتل وأخذ المال صلب. وإن حارب وأخذ المال ولم يقتل قطع من خلاف، وإن حارب السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا نفي إلا أن يتوب في ذلك كله قبل أن يقدر عليه.
فصل فأما الشافعي فقال بقول ابن عباس هذا. وقد اختلفت الروايات عنه اختلافا كثيرا أعني ابن عباس. وأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: إن أخاف السبي ولم يقتل وظفر به قبل أن يتوب حبس لقول الله عزوجل: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] ، وتأولوا أن النفي الحبس. وإن أخذ مالا فكان ما أخذ عشرة دراهم فصاعدا قطعت يده ورجله من خلاف. فإن قتل وأخذ المال فإن أبا حنيفة قال: الإمام بالخيار إن شاء قطع يده ورجله من خلاف أو صلبه وقتله على الخشبة، وإن شاء لم يصلبه وقطع يده ورجله من خلاف ثم قتله، وإن شاء قتله بغير صلب أو قطع. قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهما: إذا وجب عليه القتل لم يقطع لأن القتل يأتي على كل شيء، ولكن أحب إليهم أن يقتل على الخشبة مصلوبا. فإن خرج(3/232)
ولم يفعل غير ذلك كان أمره إلى المخروج ولم يحكم عليه بحكم المحارب وبالله التوفيق.
فصل واختلف في معنى قول الله عز وجل: {أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] ، فقيل: إنه يقتل ثم يصلب ليرتدع أهل الفساد، وهو قول أشهب. وقيل: إنه يصلب حيا ويقتل في الخشبة وهو قول ابن القاسم وابن الماجشون وهو اختيار ابن بكير، لأن الصلب أن يقتل مصلوبا فيسيل دمه وهو مربوط في الخشبة من قولهم: تمر مصلب إذا كان ذا صفر سائل، ولأن الله إنما خير في صفة قتله ولو كان إنما خير في صلبه بعد قتله لقال أن يقتلوا، أو يقتلوا ثم يصلبوا، وهذا بين.
فصل فعلى مذهب من رأى أنه يقتل ثم يصلب يصلي عليه قبل الصلب. واختلف في الصلاة عليه على مذهب من يرى أنه يقتل في الخشبة فقال ابن الماجشون في الواضحة: ينزل من الخشبة حتى تأكله الكلاب والسباع، ولا يترك أحد من أهله ولا من غيرهم أن ينزله ليدفنه ولا ليصلي عليه. قال في الثمانية: ويصف خلف الخشبة ويصلى عليه وهو مصلوب، خلاف ظاهر قوله في الواضحة. وقال سحنون: إذا قتل في الخشبة أنزل منها وصلي عليه. واختلف قوله: هل يعاد فيها ليذعر بذلك أهل الفساد أم لا على قولين. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يبقى في الخشبة أكثر من ثلاثة أيام ثم ينزل لأن إبقاءه عليها أكثر من ثلاثة أيام مثلة. وهذا التحديد تحكم بغير دليل ولا برهان.
فصل وأما قوله: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] فمعناه أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى. واختلف إذا(3/233)
كان أشل اليد اليمنى أو مقطوعها في قصاص أو جناية وشبهه. فقال ابن القاسم: تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى حتى يكون القطع من خلاف كما قال الله عز وجل. وقال أشهب: تقطع يده اليسرى ورجله اليسرى، وقول ابن القاسم أظهر.
فصل وأما قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] فاختلف في تأويله روى مطرف عن مالك أن النفي السجن، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال ابن القاسم ورواه عن مالك إن النفي أن ينفى من بلده إلى بلد آخر أقله ما تقصر فيه الصلاة فيسجن فيه إلى أن تظهر توبته. وقال ابن الماجشون معنى ذلك أن يطلبهم الإمام لإقامة الحد عليهم فيكون هروبهم إقامة الحد عليهم هو النفي، فأما أن ينفى بعد أن يقدر عليه فلا. وقال السدي وغيره: هو أن يطلبهم الإمام بالخيل حتى يأخذهم فيقيم فيهم الحكم أو ينفوا من أرض الإسلام إلى أرض الحرب، وهو نحو قول ابن الماجشون. فعلى قول هؤلاء تكون العقوبات التي ذكر الله في المحارب بعضها لمن قدر عليه، وبعضها لمن لم يقدر عليه - والأشبه أن تكون كلها فيمن قدر عليه. وقيل: إن الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلده إلى بلد آخر، وهو قول سعيد بن جبير وغيره، وهو بعيد، لأن نفي المحارب عن بلده إلى بلد آخر ليس بعقوبة له، إذ هو في حرابته وخروجه غائب عن بلده، فإنما نفيه إلى بلد آخر دون أن يسجن إحمال له وتسليط وبعث على التزيد في العبث والفساد.
فصل وأما قوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] فإن أهل العلم اختلفوا في هذا المعنى في أربعة مواضع:
أحدها: قبول توبة المحارب من أهل الإسلام وأهل الذمة.
والثاني: في صفة المحارب التي تقبل منه التوبة.
والثالث: في صفة التوبة التي تقبل منه.(3/234)
والرابع: فيما تسقط عنه التوبة من الأحكام. فأما الموضع الأول وهو قبول التوبة منه فإن الأصل في ذلك قولين:
أحدها: أن توبته لا تقبل منه ولا تسقط حقا من الحقوق ولا حكما من الأحكام. قال ذلك من ذهب إلى أن الآية نزلت في المشركين من أهل الحرب، وهو قول الحسن، وقد بينا ضعف هذا القول.
والثاني: أن توبته تقبل منه، وهو قول جل أهل العلم. ثم اختلف هؤلاء في صفة المحارب الذي تقبل منه التوبة على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا تقبل منه إلا أن يخرج في حرابته من دار الإسلام ويلحق بدار الحرب.
والثاني: أنها لا تقبل منه إلا أن يكون قد لحق بدار الحرب أو كانت له فئة في بلد الإسلام وإن لم يلحق بدار الحرب.
والثالث: أنها تقبل منه في جميع الأحوال كان وحده لا فئة له أو كانت له فئة ولم يلحق بدار الحرب أو كان قد لحق في حرابته بدار الحرب. واختلفوا أيضا في صفة توبته التي تقبل منه على أقوال:
أحدها: أن توبته تكون بوجهين: أحدهما: أن يترك ما هو عليه وإن لم يأت الإمام.
والثاني: أن يلقي سلاحه ثم يأتي الإمام طائعا وهو مذهب ابن القاسم.
والقول الثاني: أن توبته إنما تكون بأن يترك ما هو عليه ويجلس في موضعه ويظهر لجيرانه. وأما إن ألقى سلاحه وأتى الإمام طائعا فإنه يقيم عليه حد الحرابة إلا أن يكون قد ترك قبل أن يأتيه ما هو عليه وجلس في موضعه حتى لو علم الإمام حاله لم يقم عليه حد الحرابة، وهذا قول ابن الماجشون.
والقول الثالث: أن توبته إنما تكون بالمجيء إلى الإمام، وإن ترك ما هو عليه لم يسقط ذلك عنه حكما من الأحكام إن أخذ قبل أن يأتي الإمام. واختلفوا أيضا فيما تسقط عنه التوبة من الأحكام على أربعة أقوال:(3/235)
أحدها: أن التوبة لا تسقط عنه إلا حد الحرابة ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الناس.
والثاني: أن التوبة تسقط عنه حد الحرابه وجميع حقوق الله من الزنى والقطع في السرقة وشرب الخمر وما أشبه ذلك. ويتبع بحقوق الناس من الأموال في ذمته، وإن كان قتل فإن أولياء القتيل فيه بالخيار بين أن يقتلوا أو يعفوا. والثالث: أن التوبة تسقط عنه حق الحرابة وجميع حقوق الله وما أخذ من الأموال، إلا أن يوجد من ذلك شيء قائم بعينه لم يتلفه أو يكون قد قتل فيكون للأولياء أن يستقيدوا منه إن شاءوا، وهذه رواية الوليد بن مسلم عن مالك.
والرابع: أن التوبة تسقط جميع ما فعله من حق الله أو لأحد من الناس في دم أو مال إلا أن يوجد من ذلك شيء قائم بيده بعينه.
فصل وقد اختلف في المحارب إذا امتنع فأمنه الإمام على أن ينزل، فقيل: إن له الأمان ويسقط عنه به حد الحرابة. وقيل: لا أمان له ويقام عليه حد الحرابة، لأنه إنما يؤمن المشرك على أن يؤدي الجزية ويكون على الذمة، وتأمين المحارب إنما هو على أن يعطل إقامة الحدود فيهم وذلك ما لا يصح، وهو قول ابن الماجشون.
فصل فيمن حارب على تأويل كأهل الأهواء فهذا كله في المحارب، الذي يخرج فسقا وخلوعا على غير تأويل. وأما من حارب على تأويل فقتل وأخذ المال مثل الحرورية والإباضية والقدرية وأهل الأهواء كلهم ثم أخذ ولم يتب فإنه لا يقام عليه حد الحرابة ولا يؤخذ منه ما أخذ من المال وإن كان موسرا إلا أن يوجد بيده شيء بعينه فيرد إلى ربه. واختلفوا هل يقتل بمن قتل قصاصا. إذا تاب أو أخذ قبل أن يتوب. فقال عطاء وأصبغ: يقتل به قودا. وقال مطرف وابن الماجشون عن مالك: لا يقتل به ولا يقاد منه. ومثله في الأثر من(3/236)
كتاب الجهاد من المدونة من قول ابن شهاب: هاجت الفتنة الأولى فأدركت رجالا ذوي عدد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يرون أن يهدم أمر الفتنة فلا يقام على أحد قصاص فيمن قتل ولا حد في سبي امرأة مست، ولا يرى بينهما وبين زوجها ملاعنة، يريد إن نفى ولدها، ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد. ومن أسر منهم في الحرب وهي قائمة لم يظهر بعد على أهل رأيه فللإمام أن يقتله إن رأى ذلك لما يخاف من أن يعين مع أصحابه على المسلمين. وإن كان ذلك بعد انقطاع الحرب والظهور على أهل رأيه فإنه لا يقتل، وحكمه حكم البدعي في جماعة المسلمين الذي لا يدعو إلى بدعته يستتاب في قول ذلك فإن تاب وإلا قتل. وهو قول مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ. وفي قول ابن الماجشون وسحنون ينهى عن بدعته ويؤدب ويستتاب ويقبل منه ما أظهر من قليل التوبة أو كثيرها وهو قول عطاء وبالله التوفيق.
فصل وأما المحارب إذا ارتد فحارب في ردته فقتل وأخذ المال ثم ظهر عليه فإنه يقتل بالحرابة ولا يستتاب كما يستتاب المرتد إذا لم يحارب، ولا يجوز لأولياء المقتول العفو عنه كانت حرابته في بلد الإسلام أو بعد أن لحق بدار الحرب. وأما إن أسلم المرتد المحارب في ارتداده بعد أن أخذ أو قبل أن يؤخذ فإن كانت حرابته في بلد الحرب فهو كالحربي يسلم لاتباعة عليه في شيء مما فعل في بلد الحرب في حال ارتداده. وأما إن كانت حرابته في بلد الإسلام فإنما يسقط إسلامه عنه حكم الحرابة خاصة ويغرم ما أخذ من المال إن كان له مال ويتبع به في ذمته إن لم يكن له مال بمنزلة ما استهلك من الأموال بغير حرابة. وكذلك ما أصاب من الدماء والجراح يحكم عليه في ذلك بما يحكم على المرتد إذا قتل أو جرح في حال ارتداده ثم أسلم. وهذا أصل اختلف فيه قول ابن القاسم، فمرة نظر إلى حال المرتد في القود والدية يوم الفعل، ومرة نظر إلى حاله يوم الحكم، ومرة فرق بين الدية والقود فنظر إلى القول يوم الفعل وإلى الدية يوم الحكم.(3/237)
فصل فعلى قوله الذي نظر إلى حالة المرتد يوم الفعل في الجناية والدية إن كان قتل مسلما أو نصرانيا عمدا أقيد منه بهما لأنه كان كافرا يوم العقل، والكافر يقتل بالكافر والمسلم. وإن كان قتلهما خطأ كانت الدية على المسلمين لأنهم ورثته يوم الجناية ولا عاقلة له حينئذ. وعلى قوله الذي نظر إلى حاله يوم الحكم في الجناية والدية إن كان قتل مسلما أقيد منه به، وإن كان قتل نصرانيا لم يقد منه لأن المسلم لا يقتل بالنصراني وكانت ديته في ماله، وإن كان قتلهما خطأ كانت الدية على العاقلة لأنه يوم الحكم مسلم له عاقلة فعقل عنه جناياته. وعلى هذا القياس يجري حكم جناياته على القول الثالث الذي فرق فيه بين الجناية والدية، وبالله التوفيق لا شريك له.(3/238)
[كتاب الرجم] [فصل في التشديد في الزنا]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد
كتاب الرجم فصل في
التشديد في الزنى حرم الله تبارك وتعالى الزنى على عباده وحظره في غير ما آية من كتابه. فقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} [الممتحنة: 12] وَقَالَ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وقال عز(3/239)
وجل: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة: ما بين لحييه وما بين رجليه» .
فصل فالزنى من أعظم الذنوب وأجل الخطايا، ليس بعد الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله ذنب أعظم منه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من أعظم الذنوب أن تجعل لله ندا وهو خلقك ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ثم أن تزني بحليلة جارك» .
فصل وفرض الله تبارك وتعالى الحدود في الزنى على المحصنين من عباده على قدر مراتبهم في الإحصان. والإحصان هو التعفف عن الفواحش والامتناع منها. وهو مأخوذ من قولهم حصن منيع ودرع حصينة. وله ثلاثة أسباب: وهي الإسلام، والحرية، والتزويج. فهو على مراتب ثلاث، أولها الإسلام.
فالإسلام إحصان لأنه يردع عن الفواحش ويكف عن القاذورات.
ثم الحرية لأنها تكف أيضا عن الفواحش والدنايات. فمن حصلت له الحرية ينبغي له أن ينزه نفسه عن أن يلم بفاحشة أو يقرب دناءة.
ثم التزويج لأن من حقه أيضا أن يردع عن الفواحش ويكف عن القاذورات.(3/240)
فصل فإذا زنى الكافر بكافرة مثلة فلا حد على واحد منهما عندنا، حرين كانا أو عبدين، بكرين كانا أو ثيبين، ويؤدبان عليه إن أعلناه لأنه ليس بمحصن بسبب من أسباب الإحصان. وإنما حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على اليهوديين بالرجم على حكم التوراة لا على حكم الإسلام، لأنهم لم تكن لهم ذمة يومئذ، وإنما أنزلت آية الجزية سنة تسع من الهجرة منصرف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من حنين. ولو كانت لهم حينئذ ذمة لما رجمهم لأن الرجم لا يجب في شريعتنا إلا بعد الإحصان بالإسلام والحرية والتزويج. وهذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه لا خلاف بينهم في هذا، خلافا للشافعي وأبي حنيفة في قولهما إن اليهوديين والنصرانيين إذا زنيا حكم عليهما بالرجم إن كانا محصنين أو بالجلد إن كانا بكرين. قال الشافعي في أحد قوليه إذا رضيا بحكم المسلمين وبالله التوفيق.
فصل فإذا أسلم الكافر ثم زنى وهو عبد كان حده خمسين جلدة لإلمامه بالفاحشة المحرمة عليه بعد التحصن بالإسلام. فإن أعتق ثم زنى كان حده مائة جلدة لإلمامه بالفاحشة المحرمة عليه بعد التحصن بالإسلام والحرية. والتزويج، وهي أرفع مراتب الإسلام في التحصين.
فصل ولا يكون الوطء بالتزويج إحصانا حتى يقع بعد الإسلام والحرية، فإن وقع قبلهما أو قبل أحدهما لم يوجب حكما ولا اعتبر به في انتقال الحد. وأما الحرية والإسلام فمتى اجتمعا جميعا اعتبر بهما تقدم الإسلام الحرية أو الحرية الإسلام.(3/241)
وإن انفرد الإسلام دون الحرية كان إحصانا يعتبر به. وإن انفردت الحرية دون الإسلام لم يكن إحصانا يعتبر به.
فصل فعلى هذا الترتيب الذي وصفناه تُتَأَوَّل آيُ القرآن الواردة في ذلك. فأما قول الله عز وجل: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] وقوله عز وجل من قائل: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16] فإنهما آيتان منسوختان لم يختلف أهل العلم أنهما منسوختان، وإنما اختلفوا في ترتيب نسخهما وفي الناسخ لهما ما هو. وإن كانتا في الزانيين المحصنين أو في الزانيين البكرين أو عامة في الصنفين فقيل إن الآيتين جميعا في المحصنين. وقيل إنهما في البكرين. وقيل إنهما عامتان فيهما جميعا. وقيل إن الآية الأولى في المحصنين والآية الثانية في البكرين، فلا يصح أن تكون إحداهما ناسخة للأخرى لاختلاف الحكمين والمحكوم فيهم، وتكون الأولى منسوخة بالرجم المتواتر فعلُه الباقي حكمه المنسوخ خطه على قول من ذهب إلى أن ما روي عن عمر بن الخطاب بقول الله عز وجل: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] لأن العذاب المذكور في هذه الآية هو الرجم في الثيب على ما بينه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والثانية بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] . وأما من قال إن الآيتين في الزانيين البكرين أو في(3/242)
الزانيين المحصنين أو عامة في الصنفين فلا بد أن تكون إحداهما ناسخة لصاحبتها، إما الأولى بالثانية، وإما الثانية بالأولى. ثم الناسخة منهما لصاحبتها منسوخة إما بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] على مذهب من رأى أنهما في الزانيين المحصنين، أو بآية الجلد وما أنزل الله من الحكم بالرجم على مذهب من رأى أن الآيتين عامتان في الصنفين، فقيل: إن الثانية هي الناسخة للأولى. وقال إسماعيل القاضي: إن الأولى في التلاوة هي الناسخة للثانية، وذلك أن الزانيين في صدر الإسلام كانا يحنصان ويحبسان ويشهدان فنسخت بقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] وهذا بعيد لأن من حق الناسخ أن يكون واردا بعد المنسوخ، والتلاوة تدل أن الثانية وردت بعد الأولى، لأن الهاء من قوله فيها: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16] عائدة على الفاحشة المذكورة في الآية الأولى. ولا يصح أن تكون هاء الكناية عائدة على ما لم يذكر بعد إلا أنه يؤيده ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لما نزلت آية الجلد قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» .
فصل فكان الرجم من عند الله عز وجل بأحد وجهين:
إما بنص أوحي به إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو قوله: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فكان يتلى على أنه وحي ولم يكن قرآنا، إذ لو كان قرآنا لم يخل أن يكون محكما أو منسوخا، ولا يصح أن يكون محكما إذ لو كان محكما لثبت بين اللوحين ولما صح سقوطه، لأن الله تعالى قد حفظ القرآن فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .(3/243)
ولا يصح أن يكون منسوخا إذ لو كان منسوخا لما جاز أن يريد عمر بن الخطاب أن يكتبه في القرآن وهو ليس منه إذ قد نسخ. فلما بطل أن يكون محكما وبطل أن يكون منسوخا بطل أن يكون قرآنا. وإنما أراد عمر والله أعلم أن يكتب ذلك على أنه وحي لا على أنه قرآن. فلما خشي أن يظنه قرآنا إذا رآه في المصحف مكتوبا توقف عن كتابته فيه. وقد قيل إنه كان يقرأ وحيا فظنه عمر قرآنا، قاله إسماعيل القاضي، وهو بعيد، لأن عمر لا يصح عليه أن يظن قرآنا ما ليس بقرآن، لأن من علامات القرآن أنه محفوظ معلوم لا يصح الشك فيه ولا الارتياب في شيء منه. وكيف يصح أن يظن عمر قرآنا: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] أو بدليل قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] لأن في الكلام دليلا على أنهم لو أتوا بأربعة شهداء لتعلق عليهم بذلك حكم، وذلك الحكم هو ما بينه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الرجم في الثيب.
فصل سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع الرجم الجلد كما سن مع الجلد التغريب على ما روى عنه عبادة بن الصامت أنه قال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . ثم نسخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما سن من الجلد مع الرجم في الثيب بما رواه أبو هريرة وغيره «أنه رجم ماعزا ولم يجلده» وبما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني وسئل ابن معبد من رواية ابن(3/244)
عيينة في «قصة العسيف: اغْدُ على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها» فصار هذان الحدان مانعين للجلد مع الرجم، ونفي الرجم دون جلده ونفي التغريب على البكر مع الجلد على ما أحكمته السنة.
فصل ولا اختلاف في هذا بين فقهاء الأمصار، وإنما تعلق بحديث عبادة فأوجب على الزاني المحصن الجلد مع الرجم من شذ من أهل الظاهر. ومما يؤيد أن حديث عبادة منسوخ بحديث أبي هريرة وصاحبيه أن إسلام أبي هريرة متأخر في سنة سبع من الهجرة بعد افتتاح خيبر، وكذلك صاحباه. وعبادة بن الصامت من النقباء الاثني عشر ليلة العقبة، فروايته وقت نزول آية النور، وأمر العسيف بعد ذلك بسنين.
فصل وأما قول الله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] قرئ أحصن وأحصن. فمن قرأ أحصن وهي رواية أهل المدينة فمعناه تزوجن، وإلى هذا ذهب إسماعيل القاضي وابن بكير أن المراد بالإحصان في هذه الآية التزويج، واستدلا على ذلك بأن نعتهن بالإيمان قد تقدم في قوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] .
فصل والمراد بالآية على هذا التأويل الإعلام بأن التزويج في حال العبودية لا يقع به الإحصان ولا يوجب الرجم ولا جلد مائة ولا دليل فيها على أنها إن لم تتزوج(3/245)
فلا حد عليها «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: "إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير» . قال ابن شهاب لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة فبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجوب الحد عليها قبل التزويج، لأن المراد بالجلد في هذا الحديث الحد لا التعزير، لأن الأمر يقتضي الوجوب حتما، والتعزير ليس بواجب، قد يكون وقد لا يكون. وفي بعض الروايات في هذا الحديث فليجلدها، وذلك مبين رواية مالك فيه. وقد ذكر بعض أصحاب الخلاف عن ابن عباس أنه لا حد على من زنى من العبيد قبل أن يتزوج، وهذا شديد أن يكون في الشرع زنى لا يوجب حدا، وما أظن الحكاية عنه في ذلك إلا وهما والله أعلم.
فصل فمن ذهب إلى هذا قال: حد الأمة إذا زنت قبل التزويج بالسنة، وإذا زنت بعد التزويج بالكتاب. وقوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] يريد بالمحصنات هاهنا الحرائر المسلمات لا الحرائر المتزوجات لأن حد الحرائر المتزوجات الرجم وهو لا يتبعض.
فصل العبد يجلد في الزنى خمسين تزوج أو لم يتزوج قياسا على الأمة، فالأمة مخصوصة من عموم قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] بالآية، والعبد مخصوص من عمومها بالقياس على الأمة. ونفاة القياس يقولون بجلد العبد في الزنى مائة جلدة.(3/246)
فصل وقد قيل إن المراد بقوله فإذا أُحصِن أسلمن على قراءة من قرأ أحصن، لأن العبودية أوجبها الكفر فملكناهن كفارا فقال فإذا أسلمن فعليهن نصف ما على المحصنات، أي الحرائر، من العذاب. وهذا محتمل أيضا، إذ قد يصح في اللغة أن يقول الله عز وجل: من فتياتكم المؤمنات فإذا أحصن بالإسلام كما قال: يا أيها الذين آمنوا. فعلى هذا يكون حد الأمة إذا زنت قبل التزويج وبعد التزويج بالقرآن والحديث، فجلدها قبل التزويج مؤيد للآية ومبين لمعناها. والأول أظهر لوجهين: أحدهما: تقدم نعتهن بالإيمان، فالظاهر أن الإحصان شيء آخر حتى يقوم الدليل على أنه هو.
والثاني: سؤال الصحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، لأن في تخصيصهم بالسؤال عما يجب عليها في زناها قبل التزويج دليلا على أنهم علموا الواجب عليها فيه بعد التزويج بقول الله عز وجل فإذا أحصن، وفهم ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تخصيصهم بالسؤال. ولو كان معنى قوله فإذا أحصن فإذا أسلمن لقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا معنى لتخصيصكم بالسؤال، حدها سواء قبل التزويج وبعده، لأنه لو أقرهم على التخصيص وأجابهم عليه دون أن يعلموا حدها بعد التزويج لدل ذلك أن حدها بعد التزويج جلد مائه أو الرجم وذلك ما لا يقوله أحد.
فصل وقول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ظاهره العموم في كل زان وزانية، إلا أنا علمنا أن المراد بها المسلمون دون المشركين بدليل أنها نزلت ناسخة للآية الواردة في المسلمين وهي قَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ورودها: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا» . وعلمنا أن المراد بها(3/247)
الأحرار دون العبيد وقول الله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . وعلمنا أن المراد بها الأبكار دون المحصنين بالنكاح بما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولا وعملا من أن حد الزاني المحصن الرجم دون الجلد، فبقيت الآية محكمة في الزانين الحرين البكرين. والشافعي يحمل الآية على عمومها في الكفار والمسلمين ولا يخص منها العبيد والمحصنين. وأهل الظاهر نفاة القياس لا يخصصون منها الإناث دون ذكرانهم فيوجبون في الزنى على العبد جلد مائة وعلى الأمة جلد خمسين. وهذا ترده الأصول، وتدفعه العقول. وذلك أن جميع الحدود في السرقة والقتل والحرابة والقذف والزنى في الأحرار يستوي فيها الذكر والأنثى، فكذلك العبد والأمة في حد الزنى لمساواة العبد لها في المعنى الذي من أجله خص حدها وهو الرق، بدليل أنها لو عتقت لكمل حدها. وهذا بين لا إشكال فيه.
فصل الرجم يجب على الزاني بخمسة أوصاف، وهي: أن يكون بالغا، عاقلا، حرا، مسلما، واطئا وطئا مباحا بنكاح صحيح منبرم لا خيار فيه لأحد بعد حصول الأربعة الأوصاف.
وأما البلوغ والعقل فلا خلاف في صحة اشتراطهما في وجوب الرجم والجلد، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث: المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ» . وكذلك الحرية أيضا لا أعلم في صحة اشتراطها في وجوب الرجم خاصة اختلافا بين أحد من فقهاء الأمصار. وكذلك الوطء بالنكاح الصحيح. وأما تقيدنا إياه بالمباح دون المحظور فالاختلاف فيه من قول مالك وأصحابه معلوم. ذهب ابن الماجشون إلى أن الوطء المحظور بالنكاح الصحيح يحل ويحصن. وروي عن مالك أنه يحصن ولا يحل، فلا يصح(3/248)
على قولهما تقييد الوطء بالمباح دون المحظور، وإنما يصح تقييده على قول ابن القاسم وروايته عن مالك في أن الوطء المحظور لا يقع به تحليل ولا يكون به إحصان. وأما الإسلام فالمخالف في صحة اشتراطه في وجوب الرجم الشافعي وأبو حنيفة. وحجتهما ظاهر قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان فيما أنزل الثيب والثيبة فارجموهما البتة، ورجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهوديين. وهذا ما لا حجة فيه. أما قول عمر بن الخطاب ففيه إضمار الإحصان. وإن اختلفا فيه فهما يقولان إنه الحرية ونحن نقول إنه الإسلام والحرية جميعا. وأما رجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهوديين فإنما رجمهما بحكم التوراة لا بشرع الإسلام. وكذلك قال ابن عمر رضي الله عنه: «رجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهوديين وحد المسلمين يومئذ الجلد ولم يكن لهم حينئذ ذمة» على ما بيناه فيما تقدم، فلا تعلق لهما بالحديث.
والدليل على صحة قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أشرك بالله فليس بمحصن» . وهذا نص في موضع الخلاف إن كان ثابتا. ومن طريق القياس أن نقص الكفر أكثر من نقص الرق، لأن الكفر هو سبب الرق. فإذا كان نقص الرق يمنع الإحصان فنقص الكفر أولى بأن يمنعه. ومعنى آخر وهو أنه قد قيل إن الكفار غير مخاطبين بشيء من شرائع الإسلام، لقول الله عز وجل: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] فإذا كان الزنى بدليل هذه الآية غير محرم على الكافرين فكيف يصح أن يرجموا على ما لم يحرم عليهم ولا خوطبوا باجتنابه.
فصل ولا اختلاف بين أحد من أهل العلم في وجوب الرجم على الزاني باجتماع هذه الأوصاف، وإنما يخالف في ذلك الخوارج المارقة، وهم غير معتد بخلافهم.(3/249)
فصل فإذا رجم لم يجلد مع الرجم في قول كافة الفقهاء خلافا لأهل الظاهر في قولهم إنه يجلد ثم يرجم بظاهر قول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] قالوا فعم كل زان محصن أو غير محصن، ثم قامت دلالة الرجم فأضفناها إلى الجلد مع ما روى عبادة بن الصامت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . واحتجوا بما روي أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد الهمدانية ثم رجمها وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا كله لا حجة فيه لأن حديث عبادة بن الصامت منسوخ بما ثبت من حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرجم دون الجلد، وبهذا الحديث يخصص الظاهر الذي احتجوا به من القرآن، وحديث علي يحتمل أن تكون كتمته الإحصان فلم يعلم به حتى جلدها.
فصل فإذا تزوج الرجل المرأة وخلا بها فأقرا بالوطء قبل الزنى أو بعد الزنى فقد لزمهما الإحصان. وأما إن أنكراه بعد الزنى ولم يعلم منهما إقرار به قبله فاختلف هل يصدقان في إنكاره أم لا على ثلاثة أقوال:
أحدها قول ابن وهب إنهما لا يصدقان في إنكارهما وإن كان ذلك بقرب البناء.
والثاني ما ذهب إليه جمهور أصحاب مالك أنهما يصدقان في إنكار الوطء إلا أن يطول الزمان جدا، وهو ظاهر ما في كتاب النكاح الثالث من المدونة. والثالث أنهما يصدقان وإن طالت إقامتهما بعد الدخول، وهو ظاهر ما في كتاب الرجم من المدونة.
وإن كان إنكارهما قبل الزنى فلا اختلاف في أنهما يصدقان ولا يرجمان.
وقد ذهب بعض الناس إلى أن مسألة كتاب الرجم ليست بخلاف لمسألة كتاب(3/250)
النكاح وفرق بينهما بتفاريق لا تصح، ذكرها عبد الحق وغيره من المتكلمين على مسائل المدونة. وأما إن ادعاه أحدهما على صاحبه وأنكره الآخر قبل الزنى فلا يلزم المنكر الإحصان باتفاق ولا المقر به على سبيل الدعوى باتفاق أيضا، وله أن يرجع عن إقراره قبل أن يؤخذ في الزنى أو بعد أن يؤخذ فيه، كان الرجل أو المرأة.
وأما إن أقر أحدهما بالوطء على سبيل الدعوى والآخر منكر، فأما المنكر فلا يكون محصنا باتفاق، وأما المقر فقال ابن القاسم يكون محصنا، وقال ابن عبد الحكم لا يكون محصنا. حكى هذين القولين عبد الوهاب في شرح الرسالة ولم يلخصه هذا التلخيص. ووجه قول ابن عبد الحكم بأن الحدود تدرأ بالشبهات، وإنكار أحدهما شبهة للآخر، لأنه يمكن أن يقر بذلك لغرض يكون له فيه. ووجه قول ابن القاسم بأنه مقر على نفسه، والله يقول: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] فيجب إعمال قوله عليه وإن أنكر صاحبه. أصله إذا أقر بالزنى أحدهما وأنكره الآخر. وأما إن كان اختلافهما في الوطء بعد الزنى، فأما المقر فيلزمه الإحصان بإقراره بالوطء ويجب عليه الرجم باتفاق. وأما المنكر فاختلف فيه هل يصدق أم لا على الثلاثة الأقوال التي تقدمت في إنكارهما جميعا الوطء بعد الزنى. وذهب بعض الناس إلى أن هذا الاختلاف غير داخل في هذه المسألة وأنه يحد ولا يصدق في إنكاره الوطء بعد الزنى لإقرار صاحبه به عليه. وليس هذا بشيء لأن إقرار أحدهما على صاحبه شهادة منه عليه بالإحصان، ولا تجوز شهادة شاهد واحد بالإحصان.
فصل فأما من لم يحصن بالتزويج من الأحرار فحده جلد مائة وتغريب عام لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» . وقوله في حديث مالك وجلد(3/251)
ابنه مائة وغربه عاما. ولا تغريب على النساء ولا على العبيد. هذا قول مالك وجميع أصحابه خلافا لأبي حنيفة في قوله لا تغريب على الزاني إلا أن يرى ذلك الإمام فيفعله على سبيل التعزير لا على سبيل الحد. قالوا لأن الله قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ولم يذكر التغريب، فكان إثباته زيادة في النص، والزيادة في النص نسخ، ولا يصح نسخ القران بأخبار الآحاد. ولا يسلم أن الزيادة في النص نسخ على الإطلاق، بل هو حكم آخر إذا لم تغير الزيادة فيه الحكم الأول، والتغريب ثابت بالسنة، والجلد ثابت بالقران. وقال الشافعي تغرب المرأة الحرة لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» . وله في الأمة والعبد قولان: أحدهما أنهما لا يغربان. والثاني أنهما يغربان لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب! فعم، ولأنه حد يتبعض فكان للعبد فيه مدخل. ودليلنا على سقوط التغريب عن النساء قوله: «لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها» ، وفي سقوطه عن العبد قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَقَالَ {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فلم يذكر تغريبا فلا نثبته إلا حيث يقوم الدليل، مع ظاهر «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأمة إذا زنت فاجلدوها ثم إذا زنت فاجلدوها» فكرر الجلد ولم يكرر التغريب. ومعلوم أن الجلد من حدود الزنى فكان التغريب أولى بالذكر لو كان واجبا. وأيضا فإن خدمة العبد مستحقة لسيده فلا تسبقه إلا بدليل. والتغريب هو أن يحبس في غير بلده عاما على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وعلى قول مطرف وروايته عن مالك أيضا المحبس دون النفي.
فصل وسواء زنى حر بحرة أو عبد بأمة أو حر بأمة أو عبد بحرة يكون على من كان رقيقا منهما حد العبيد وعلى من كان حرا منهما حد الأحرار، إلا ما يحكى عن الأوزاعي أن العبد إذا زنى بحرة رجم وإذا زنى بأمة جلد. وهذا فاسد لأن الزاني لا(3/252)
يختلف حده إلا باختلاف أحواله في نفسه لا باختلاف أحوال المزني بها.
فصل والزنى الذي يوجب الحد على الزاني البالغ العاقل المسلم بإجماع هو أن يزني بآدمية يوطأ مثلها لا شبهة له في ملكها حية غير حربية في بلد الحرب طائعا غير مكره عالما بحرام ذلك. وإنما قلنا بآدمية لأنه إن زنى ببهيمة من البهائم لم يجب عليه حد إلا ما وقع في كتاب ابن شعبان من أن الحد في ذلك واجب عليه وهو بعيد. وإنما قلنا غير حربية في بلد الحرب لأن أشهب يقول من زنى بحربية في بلاد الحرب فلا حد عليه. وإنما قلنا لا شبهة له في ملكها لأن من زنى بأمة ولده أو بأمة له فيها شرك فلا حد عليه. وإنما قلنا حية لأن ابن شعبان يقول من زنى بميتة فلا حد عليه، وهو قول محمد بن عبد الحكم حكاه ابن حارث. وإنما قلنا يوطأ مثلها لأنه قد روي عن مالك أنه من زنى بصغيرة لا يوطأ مثلها فلا حد عليه. وإنما قلنا طائعا غير مكره لأنه قد اختلف فيمن أكره على الزنى هل عليه حد أم لا، فقيل إنه لا حد عليه لأن الإكراه يرفع الحرج عمن أكره فيما بينه وبين الله تعالى. فإن كانت المرأة هي المكرهة له على أن يزني بها ارتفع عنه الحرج في الزنى جملة. وإن كان غيرها هو المكره له على الزنى لم يكن عليه إثم إلا من قبلها ووجب عليه الأدب من أجل ذلك كما وجب على المكره له على ذلك. وقيل إنه يحد لأنه لا ينعظ ويطأ إلا باختياره وإرادته، وليس ذلك بصحيح، لأنه لم يختره راضيا بفعله وإنما اختاره على القتل مضطرا إليه كارها له غير راض به. وإنما قلنا عالما بحرام ذلك لأن أصبغ من أصحابنا يرى الجهل بتحريم الزنى شبهة تسقط الحد. وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب وجماعة من السلف، وهو الصواب إذا صحت الجهالة وبالله التوفيق.
[فصل في شروط الحد في الزنا]
فصل ولا يحد الزاني إلا باعتراف أو حمل ظاهر أو بأربعة شهود عدول يشهدون على معاينة الفعل كالمرود في المكحلة.(3/253)
فصل فأما وجوب الحد بالاعتراف فلا خلاف فيه إذا كان المعترف على نفسه بالغا عاقلا يصح منه الاعتراف ليس بصبي ولا مجنون. والأصل في ذلك كتاب الله تعالى وسنة نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] فوجب أن يلزمه ويؤخذ به. وقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] الآية. وأما السنة «فرجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعزا بإقراره على نفسه» «ورجمه المرأة التي أقرت بالزنى على نفسها إذ جاءت وهي حامل فقال لها: اذهبي حتى تضعي فلما وضعت قال: اذهبي حتى ترضعيه» الحديث. وقوله «يا أنيس اغدُ على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» في حديث العسيف. وإنما اختلفوا هل يقام الحد بإقراره على نفسه مرة واحدة أو لا يقام عليه حتى يقر على نفسه أربع مرات. فقال مالك والشافعي إنه يقام عليه بإقراره مرة واحدة إذا ثبت عليه ولم يرجع عنه. وقال أبو حنيفة لا يقام عليه الحد حتى يقر على نفسه أربع مرات في أربع مجالس، وهو مذهب ابن شهاب على ما روي «أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشهد على نفسه أربع مرات فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرجم» . وهذا لا حجة لهم فيه لأنه إنما أقر على نفسه أربع مرات لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعرض عنه استثباتا في أمره، لأنه خشي أن يكون به جنة فلما سأل عنه وأخبر أنه صحيح أمر به فرجم. وقد قال في حديث العسيف «واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» ولم يقل أربع مرات، ولو كان ذلك واجبا لقاله.(3/254)
واختلفوا أيضا في رجوعه عن الإقرار، فالذي عليه فقهاء الأمصار أنه يقال ويقبل رجوعه. وقال ابن أبي ليلى وعثمان التيمي لا يقبل رجوعه. وقال ابن الماجشون من أصحابنا يقال إذا قال إنما أقررت لوجه كذا وكذا بما يشبه. وهو دليل أحد قولي مالك في المدونة. وقال الأوزاعي إذا رجع عن إقراره على نفسه أربع مرات قبل إقامة الحد عليه حد حد القذف لأنه قد قذف نفسه، وهذا بعيد. والصحيح أنه يقال وإن جحد الإقرار أصلا. والأصل في ذلك «أن ماعز بن مالك لما رجم ومسته الحجارة هرب فاتبعوه فقال: ردوني إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يردوه وقتلوه رجما، فلما علم بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فهلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه» .
واختلفوا في هذا المعنى في إقرار الأخرس على نفسه بالإشارة، فقال الشافعي ومالك إنه يقام عليه الحد بإقراره إذا فهم عنه. وقال أبو حنيفة لا يقام عليه الحد بإقراره بالإشارة لأنه لا يمكنه أن يفرق بها بين الوطء الحلال ووطء الزنى، وهذا غير صحيح، لأن ذلك يمكن أن يعبر عنه بالإشارة تعبيرا يفهم عنه ويقطع عليه منه.
فصل وأما ظهور الحمل ممن لم يعلم لها في الظاهر زوج. فاختلف فيه مذهب مالك وأصحابه إلى أن ذلك يوجب عليها الحد إلا أن تكون لها بينة على أنها تزوجت أو استكرهت. وقال الشافعي وأبو حنيفة لا يقام عليها الحد لأنها يشبه ألا تكون زنت. والغالب من حال الناس عدم الزنى فلا يجب أن يحمل عليها الزنى إلا بيقين، وأشد ما في هذا أن تكون شبهة تذهب عنها الحد. وهذا ليس بصحيح، لأن هذا لو كانت شبهة لوجب أن يكون قوله إذا شهد عليها بالزنا إنها امرأتي شبهة تسقط عنه الحد. ولو كان ذلك لم يكن سبيل إلى إقامة الحد في الزنى أبدا. وأيضا فإن إقامة الحد عليها إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لأن عمر بن الخطاب خطب الناس فقال: الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن(3/255)
إذا قامت البينة أو كان الحمل والاعتراف، فلم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة فدل على إجماعهم على ذلك وقولهم به.
فصل وأما وجوب حد الزنى بالبينة فلا اختلاف بين أحد من أهل العلم أن الحد لا يقام بأقل من أربعة شهداء رجال عدول على معاينة الفعل كالمرود في المكحلة. والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] . وقد حكي عن قوم أنهم أجازوا في الزنى شهادة ثلاثة رجال وامرأتين وذلك خلاف للقرآن. وقد قيل في اختصاص الشهادة في الزنى بأربعة شهداء من بين سائر الأشياء غير ما وجه، منه أن القاذف لا ضرورة به إلى القذف فغلظ عليه في ذلك بزيادة عدد الشهود ليتعذر عليه غالبا فيحد فيكون ذلك ردعا له عن معاودة القذف ودفعا للمضرة عن المقذوف. ومنه أن الإنسان مأمور بالستر على نفسه وعلى غيره، فلما لم يكن على الشهود بالزنى القيام بشهادتهم فقاموا بذلك من غير أن تجب عليهم وتركوا ما أمروا به من الستر غلظ عليهم في ذلك سترا من الله على عباده. وهذا أحسن ما قيل في هذا. وقد قيل إنما احتج في الزنى إلى أربعة شهداء لأنه بمنزلة فعلين لأن الزنى منه ومنها، منه الفعل ومنها التمكين، فاحتاج كل فعل إلى شاهدين وهذا فيه نظر، وبالله التوفيق.
فصل فإن شهد على معاينة الزنى أقل من أربعة شهود حدوا ولم يعذروا بأنهم جاءوا على وجه الشهادة لا على وجه القذف، ولا اختلاف في هذا. واختلف إذا شهد أقل من أربعة على شهادة أربعة بمعاينة الزنى، فقيل إنهم قذفة يحدون، وهو(3/256)
ظاهر ما في المدونة. وقيل إنه لا حد عليهم إلا أن يقولوا هو زان أشهدنا فلان وفلان وفلان بذلك، بخلاف إذا قالوا أشهدنا فلان وفلان وفلان أنه زان، وهو قول ابن المواز، فلم يرهم قذفة إلا أن يبدؤوا في شهادتهم بذكر الزنا.
فصل وإذا قلنا إنهم قذفة على ما في المدونة فلا يسقط الحد عنهم إلا ما يوجب على المشهود عليه بالزنا، وذلك أن يأتوا بأربعة شهداء سواهم يشهدون على شهادة أربعة أو على معاينة الزنى على مذهب ابن القاسم في المدونة ورواية عيسى عنه في الشهادات من العتبية، أو يأتوا إن كانوا ثلاثة بشاهد واحد يشهد معهم على شهادة الأربعة أو على شهادة نفسه على رواية يحيى عن ابن القاسم التي لا يشترط فيها في صحة الشهادة على الزنى أن يأتي الشهود معا.
فصل وإذا قلنا أيضا إنهم قذفة فهل يحد الشهود على شهادتهم إن أنكروا الشهادة أو أنكرها واحد منهم أو كانوا أقل من أربعة؟ يجري ذلك على الاختلاف في سقوط شهادة القاذف إن كانت تسقط بنفس القذف أو بإقامة الحد عليه وهو مذهب ابن القاسم خلاف قول أصبغ وأحد قولي ابن الماجشون وقول الشافعي.
فصل وإذا قلنا إن الشاهدين على شهادة غيرهم إذا كانوا أقل من أربعة ليسوا بقذفة إلا أن يقولوا هو زان على ما ذهب إليه محمد ابن المواز، فيجب بشهادتهم على المشهود على شهادتهم الحد إن كانوا أقل من أربعة أو أنكروا الشهادة أو أنكرها(3/257)
واحد منهم، إلا أن يكون الشاهد على شهادتهم واحدا فلا تجوز شهادته ويحد هو لانفراده. وقد قيل إنه لا يحد.
فيتحصل في النقلة عن غيرهم إذا كانوا أقل من أربعة أو نقلوا عن أقل من أربعة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا حد عليهم كانوا أكثر من واحد أو واحدا.
والثاني: أن عليهم الحد كانوا أكثر من واحد أو واحدا.
والثالث: أنه يحد إن كان واحدا ولا يحدون إن كانوا جماعة أكثر من واحد.
فصل وأما إن قال الشاهد سمعت فلانا يقول إن فلانا زان ولم يشهد على شهادته فليس بقاذف إلا أن يعجز عن أن يثبت ذلك بشاهدين، ولا اختلاف في هذا. وكذلك إذا قال الرجل عند الإمام أو عند غير الإمام إن فلانا يقول إنك زان وإن لم يشهد على شهادته، فتدبر ذلك تجده صحيحا إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.(3/258)
[كتاب القذف] [فصل في بيان تحريم القذف]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد
كتاب القذف فصل في بيان تحريم القذف حرم الله تبارك وتعالى أعراض المسلمين كما حرم دماءهم وأموالهم في كتابه وعلى لسان رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر في حجة الوداع: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت ألا هل بلغت ألا هل بلغت» .
فصل فإذاية المسلمين في أعراضهم تنقسم على قسمين:
أحدهما: أن يذكر الرجل أخاه المسلم بما فيه مما يكره سماعه.(3/259)
والثاني: أن ينسب إليه ما ليس فيه.
فأما إذا ذكره بما فيه مما يكره سماعه فإن قال ذلك في مغيبه فهي الغيبة التي حرمها الله عز وجل على عباده حيث يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] وليس فيها إلا الندم والاستغفار والتحلل من المغتاب. وأما إن قال ذلك في حضوره مواجهة له على سبيل التنقص والغض منه فهو البهتان، وفيه الأدب على حال القائل والمقول له بالاجتهاد.
فصل وأما الوجه الثاني: وهو أن ينسب إليه ما ليس فيه فإنه ينقسم على قسمين:
أحدهما: أن ينسب إليه الفاحشة الموجبة على فاعلها الحد حد الزنى، أو أنه كان عن فاحشة توجب حد الزنى وذلك بنفيه عن أبيه.
والثاني: أن ينسب إليه ما لا يجب على فاعله حد الزنى أوجب ذلك حدا أو أزيد.
فأما إذا نسب إليه ما لا يوجب على فاعله حد الزنى فإن حكم ذلك حكم السب، فعلى فاعل ذلك الأدب بالاجتهاد على حال القائل والمقول له فيه، سواء كان ذلك في مغيبه أو في حضوره مواجهة له.
وأما إن نسب إليه ما يجب على فاعله حد الزنى فهو القذف الذي حرمه الله على عباده ولعن فاعله في الدنيا والآخرة وتوعد عليه بالعذاب العظيم حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23] ، يريد بالمحصنات(3/260)
العفائف وبالغافلات الغافلات عن الفواحش والفجور لم يفطن لها ولا عرفن بها، {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] .
فصل إلا أن أهل العلم بالتأويل قد اختلفوا في المحصنات اللائي حكمهن هذا. فقالت طائفة: إن الآية نزلت في شأن عائشة وما كان من قول أهل الإفك فيها، فهذا الحكم لها خاصة دون سائر النساء المؤمنات المحصنات. وقالت جماعة: بل ذلك لأزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون سائر نساء المؤمنين. وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في شأن عائشة وسائر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليهن، فهي مبهمة لم يجعل الله لهم توبة. والآية الأخرى قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ، قال في آخرها: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] فجعل لهم توبة. فلا توبة لمن قذف أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قال: فهم بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه استحسانا لتفسيره. وقد روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في شأن عائشة وعني بها كل من كان في الصفة التي وصف الله فيها فهي عامة في كل محصنة لم تقارف سوءا. وقال بذلك جماعة: إن الآية نزلت في أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أول النور فأوجب الجلد وقبل التوبة. وهذا الأظهر إن شاء الله لأن الآية عامة فتحمل على عمومها في وجوب العذاب العظيم واللعنة في الدنيا والآخرة لكل من قذف محصنة عفيفة لم يعلم أنها قارفت سوءا ولا ألمت بفاحشة، إلا أن يتوب فإن الله تعالى إن شاء قبل توبته على ما ورد في الآية الأولى. وكما لم تقتصر الآية الأولى في وجوب الجلد على أصحاب الإفك وكان الحكم فيمن قذف كل محصنة ومحصن إلى يوم القيامة أن يجلد الحد كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحاب الإفك عبد الله بن أبي سلول وحسان(3/261)
بن ثابت وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاءة كذلك لا تقتصر الآية الثانية فيما تضمنت من الوعيد على من قذف عائشة أو سائر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولو وجب أن يقصر على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - من أجل أن سبب نزولها كان من شأنها وقول أهل الإفك فيها لوجب أن تقصر آية اللعان على هلال بن أمية، وآية السارق على سارق رداء صفوان بن أمية، وآية الظهار على أوس بن الصامت، لأن ما جرى من شأنهم كان سببا لنزول هذه الآيات، فإذا لم يجب هذا لم يجب هذا.
فصل وأما ما روي عن ابن عباس من إنفاذ الوعيد على من قذف أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس بصحيح، لأن الله قد قبل توبة من تاب من أصحاب الإفك. والدليل على ذلك أن الله عاتب أبا بكر الصديق قطعه الإنفاق على مسطح ابن خالته وغيره من ذوي قرابته فقال: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] . فقال أبو بكر: بلى يا رب إني أحب أن يغفر الله لي، فأعاد إليهم النفقة. وقد كان حسان ابن ثابت يدخل على عائشة فتكرمه. وروي عن مسروق أنه قال: كنت عند عائشة فدخل عليها حسان بن ثابت مرة فأمرت فألقي له وسادة فشبب بأبيات له حيث يقول:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت عائشة: أما إنك لست كذلك. قال مسروق: فقلت لها تدعين هذا الرجل يدخل عليك وقد قال ما قال وقد أنزل الله فيه: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] فقالت: وأي عذاب أشد من العمى، قالت إنه كان يدفع عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. والصحيح أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول وكان من المنافقين. وأما حسان بن ثابت فقد أنكر قوم أن يكون ممن خاض في الإفك أو جلد فيه،(3/262)
ورووا أن عائشة برأته من ذلك. وروي أنها كانت تطوف فسمعت امرأتين تذكران حسان بن ثابت فابتدرتاه بالسب فأنكرت عائشة ذلك عليهما وقالت: ابن الفريعة تسبان، والله إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلسانه، أليس القائل:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
فقالتا لها: أليس ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ فقالت: لم يقل شيئا ولكنه الذي يقول:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فإن كان ما قد قيل عني قلته ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
والله أعلم.
فصل وكيف ما كان فلا يختلف أهل العلم أن قذف المحصنات من الكبائر الموبقات. روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «قذف المحصنات يحبط عمل مائة سنة» وهذا عند غير واحد من المدنيين ما لم يتب أو يحد فإذا أخذ منه الحد أو تاب كفر ذلك عنه اللعنة وهي الإبعاد وعاد إليه ثواب العمل.
فصل وأصل الحد قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] .(3/263)