[مقدمة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم قال الفقيه محمد بن أحمد بن رشد، أما بعد، حمد الله تعالى الذي هدانا للإيمان والإسلام، والصلاة على نبيه الذي استنقذنا به من عبادة الأوثان والأصنام، وعلى جميع أهل بيته وصحابته النجباء البررة الكرام، فإن بعض أصحابنا المجتمعين إلى المذاكرة والمناظرة في مسائل كتب المدونة سألني أن أجمع له ما أمكن مما كنت أورده عليهم عند استفتاح كتبها وفي أثناء بعضها مما يحسن المدخل به إلى الكتاب وإلى ما استفتحت عليه من فصول الكلام وتعظم الفائدة ببسطه وتقديمه وتمهيده من معنى اسمه واشتقاق لفظه وتبيين أصله من الكتاب والسنة وما اتفق عليه أهل العلم من ذلك واختلفوا فيه بوجه بناء مسائله عليه وردها إليه وربطها بالتقسيم لها والتحصيل لمعانيها، جريا على سنن شيخنا الفقيه(1/9)
أبي جعفر ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وطريقته في ذلك واقتفاء لأثره فيه، وإن كنت أكثر احتفالا منه في ذلك لا سيما في أول كتاب الوضوء، فإني كنت أشبع القول فيه ببنائي إياه على مقدمات من الاعتقادات في أصول الديانات، وأصول الفقه في الأحكام الشرعيات، لا يسع جهلها، ولا يستقيم التفقه في فن من فنون الشرع قبلها، فله الفضل بالتقدم والسبق؛ لأنه نهج الطريق وأوضح السبيل ودل عليه بما كان يعتمده من ذلك مما لم يسبقه من تقدم من شيوخه إليه. فلقد سألته- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عما كان يستفتح به شيخه الفقيه أبو عمر بن القطان مناظرته في ابتداء كتب المدونة، فقال لي: كان لا يزيد على ما ذكره ابن أبي زيد في أوائل الكتب من مختصره، وكان لا ينتهي إلى ما وفق إليه فلقد كان- أكمل الله كرامته لديه- أفقه من شيوخه وأنفع للطالب منهم، وليس ذلك بغريب، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ومبلغ حديث إلى من هو أوعى له منه، والتوفيق بيد الله يؤتيه من يشاء. فأجبت السائل لما سألني من ذلك رجاء ثواب الله تعالى ورغبة في حسن المثوبة عليه، ووصلت ذلك ببعض ما أستطرد القول فيه من أعيان مسائل وقعت في المدونة ناقصة مفرقة، فذكرتها مجموعة ملخصة مشروحة بعللها مبينة، فاجتمع من ذلك تأليف مفيد لم يسبقني أحد ممن تقدم إلى مثله، سميته بكتاب المقدمات الممهدات، لبناء ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات. والله أسأله التوفيق في القول والعمل. من الزيغ والزلل بعزته ورحمته.(1/10)
[فصل في معرفة الطريق إلى وجوب التفقه في الوضوء وغيره من الشرائع]
فصل في معرفة الطريق إلى وجوب
التفقه في الوضوء وغيره من الشرائع قال الله عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] والدين الذي أمرنا بإقامته هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله سواه. قال الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19] ، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] ، وإقامته تفتقر إلى التفقه في شرائعه التي شرعها الله لعباده، وأوجبها عليهم في محكم كتابه، من الوضوء والصلاة والزكاة وسائر شرائع الدين، والتفقه فيها لا يستقيم إلا بعد المعرفة بوجوبها، ولا طريق إلى المعرفة بوجوبها إلا بعد المعرفة بالله تعالى على ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله، أو ما يقوم مقام المعرفة من الإيمان والتصديق، على القول بأن أول الواجبات الإيمان بالله تعالى؛ لأن المعرفة بوجوب الواجبات وحظر المحظورات مع الجهل بموجبها والجحد له من المستحيل في العقل، فلا يعلم الله تعالى إلا بالنظر في الأدلة التي نصبها لمعرفته والاستدلال بها عليه. ولا يصح النظر والاستدلال إلا ممن له عقل ينظر به ويستدل. وقد جعل الله تبارك وتعالى لمن أراد تكليفه من عباده عقولا يعرفونه بها بما نصب لهم من الأدلة على معرفته، ويعقلون بها ما خاطبهم به وشرعه لهم في كتابه وعلى ألسنة(1/11)
رسله، إذ لا يصح تكليف من لا يعقل التكليف. وأنعم على المؤمنين بأن وفقهم لذلك وهداهم له وشرح صدورهم لمعرفته. قال الله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] ، وقال الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] .
فصل في معرفة شرائط التكليف
وشرائط التكليف ثلاثة: أحدها العقل، ومحله عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - القلب. وحده معرفة بعض العلوم الضرورية كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسمين لا يجتمعان في مكان واحد، وأن السماء فوقنا وأن الأرض تحتنا، وأن الجمل لا يلج في سم الخياط، وما أشبه ذلك مما تعلم معرفته العقلاء. وألخص من هذا الحد أن يقال فيه إنه مادة يتأتى بها درك العلوم؛ والأول أصح وأبين، وهذا أخصر.
والدليل على أن العمل شرط في صحة التكليف من الكتاب قول الله عز وجل: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] . وقوله: {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] . ومن السنة قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث» ،(1/12)
فذكر فيهم المجنون حتى يفيق. والثاني البلوغ، وهو الاحتلام في الرجال أو بلوغ حده من الأعوام. واختلف في ذلك فقيل خمسة عشر، وقيل سبعة عشر، وقيل ثمانية عشر، والاحتلام أو الحيض أو الحمل في النساء، أو بلوغ ذلك أيضا من الأعوام. والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث» ، فذكر الصبي حتى يحتلم.
فصل وللصبي فيما دون الاحتلام حالان: حال لا يعقل فيها معنى القربة، وحال يعقل فيها معناها. فأما الحال التي لا يعقل فيها معناها فهو فيها كالبهيمة والمجنون ليس بمخاطب بعبادة ولا مندوب إلى فعل طاعة. وأما الحال التي يعقل فيها معنى القربة فاختلف هل هو فيها مندوب إلى فعل الطاعة كالصلاة والصيام والوصية عند الممات وما أشبه ذلك، فقيل إنه مندوب إليه، وقيل ليس بمندوب إلى شيء من ذلك وإن وليه هو المخاطب بتعليمه وتدريبه والمأجور على ذلك. والصواب عندي أنهما جميعا مندوبان إلى ذلك مأجوران عليه. «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة التي أخذت بضبعي الصبي ورفعته من المحفة إليه وقالت ألهذا حج يا رسول الله قال نعم ولك أجر» وهذا واضح. والثالث بلوغ دعوة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] ، وما أشبه ذلك من الآيات.
فصل في وجوب الاستدلال وقد نبه الله تبارك وتعالى عباده المكلفين على الاستدلال بمخلوقاته على(1/13)
ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله في غير ما آية من كتابه، وضرب لهم في ذلك الأمثال، وتلا عليهم فيه القصص والأخبار، ليتدبروها ويهتدوا بها، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185] ، وقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7] {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8] ، وقال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية: 18] {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية: 19] {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 20] ، وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] ، وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] ، وقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ - أَأَنْتُمْ} [الواقعة: 58 - 59] الآية إلى أخرها. وقال: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] ، وقال: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] ، وقال تعالى:(1/14)
{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ - وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ - فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 48 - 50] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] ، وقال: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ} [الروم: 28] ، وقال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] .
فصل وليس رجوع إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عما استدل به أولا من أن الله يحيي ويميت إلى أنه يأتي بالشمس من المشرق انتقالا من دليل إلى دليل لأن الانتقال من دليل إلى دليل عجز عن قطع الخصم بالدليل الذي استفتح الكلام به، ولا يصح ذلك، بل إنما قطع الكافر بالدليل الذي استدل به أولا ولم يخرج عنه إلى غيره لأنه إنما حكم بالربوبية لمن يقدر على خلق الأفعال واختراعها فقال إن الله يحيي ويميت أي(1/15)
يفعل الموت والحياة، فلما ادعى الكافر القدرة على ما يصح أن يراد بالإحياء والإماتة من فعل ما أجرى الله العادة بخلق الموت والحياة عنده في الجسد المفعول به ذلك كما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] ، وكان القتل أيضا قد يعبر عنه بالإماتة عند العرب، بين له إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن علته ليست الأفعال التي حمل عليها كلامه جهلا منه بمراده أو تمويها؛ لأن الإحياء والإماتة إذا أطلقت أظهر في اختراع الموت والحياة منها فيما حمله عليه الكافر، فكيف إذا اقترنت بها قرينة تدل على أنه لم يرد بها إلا ذلك، وهي ما استفتحا الكلام فيه. من الربوبية التي تقتضي ذلك، وأتاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بألفاظ لا يمكنه فيها تمويه ولا يسعه فيها عمل، ولم يخرج عما ابتدأ به الكلام معه من الحكم بالربوبية لمن يقدر على اختراع الأفعال وخلقها؛ لأن الصفة في ذلك واحدة لا تتزايد ولا تختلف، فقال له: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] أي إن كان ما ادعيت حقا من أن الإحياء والإماتة أنت فاعلها وتقع بحسب إرادتك؛ لأن من يقدر على فعل شيء يقدر على فعل مثله. فلما رأى الكافر ما ألزمه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - به ولم يقدر على دفعه ولا أمكنه فيه تمويه ولا عمل بهت كما قال تعالى. فلم يخرج إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من دليل إلى دليل، بل إنما قطعه وأبهته بالدليل الذي استفتح به كلامه والحمد لله. وقال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76] إلى قوله {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] ، فاستدل إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بما عاين من حركة الكواكب والشمس والقمر على أنها محدثة؛ لأن الحركة والسكون من علامات المحدثات. ثم علم أن كل محدث فلا بد له من محدث وهو الله رب العالمين. وهذا وجه الاستدلال وحقيقته قصه الله تبارك وتعالى علينا تنبيها لنا وإرشادا إلى ما يجب علينا. وهذا- في القرآن كثير(1/16)
لا يحصى كثرة. ولم يستدل إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما عاينه في الكواكب والشمس والقمر لنفسه، إذ لم يكن جاهلا بربه ولا شاكا في قدمه، وإنما أراد أن يري قومه وجه الاستدلال بذلك ويعيرهم بالذهول على هذا الدليل الواضح ويوقفهم على باطل ما هم عليه، وكان من أحج الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وذلك بين من كتاب الله تعالى. ألا ترى إلى ما حكى الله عز وجل من قوله بعد أن أراهم أنهم على غير شيء {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي} [الأنعام: 80] فِي اللَّهِ إلى قوله {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] وقوله في أول الآية: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] وقد قيل إن ذلك كان في صباه وفي أول ما عقل، والأول أصح وأبين والله سبحانه وتعالى أعلم.
[فصل في وحدانية الله عز وجل وأسمائه وما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله]
فصل
في وحدانية الله عز وجل وأسمائه
وما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله فالله تبارك وتعالى إله واحد قديم بصفاته العلى وأسمائه الحسنى لا أول لوجوده، وباق أبدا إلى غير غاية ولا انتهاء، تعالى عن مشابهة المخلوقات، وارتفع عن مماثلة المحدثات، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وردت بذلك كله النصوص عن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ودلت عليه دلائل العقول.
فمن أدلة العقول على أنه واحد أنهما لو كانا اثنين فأكثر لجاز أن يختلفا، وإذا اختلفا لم يخل ذلك من ثلاثة أقسام لا رابع لها. أحدها أن يتم مرادهما جميعا، والثاني أن لا يتم مرادهما جميعا، والثالث أن يتم مراد أحدهما ولا يتم مراد الآخر. فيستحيل منها وجهان وهو أن يتم مرادهما جميعا، وأن لا يتم مراد(1/17)
واحد منهما؛ لأنه لو أراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إماتته فتمت إرادتهما جميعا لكان الجسم حيا ميتا في حال واحد، ولو لم تتم إرادة واحد منهما لكان الجسم لا حيا ولا ميتا في حال واحد، وهذا من المستحيل في العقل، فلم يبق إلا أن يتم مراد أحدهما ولا يتم مراد الآخر. فالذي تتم إرادته هو الله القادر، والذي لم تتم إرادته ليس بإله لأنه عاجز مغلوب. وهذا الدليل يسمونه دليل التمانع، وقد نبه الله تعالى عليه في كتابه بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، وبقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] .
ومن أدلة العقول على أنه قديم أنه لو كان محدثا لوجب أن يكون له محدث، إذ لو جاز وجود محدث دون محدث لجاز وجود كتابة دون كاتب وبناء دون بان، وهذا من المستحيل في العقل. وكذلك القول في محدثه ومحدث محدثه حتى يستند ذلك إلى محدث أول لا محدث له وهو الله رب العالمين.
فصل ومن أسمائه التي دلت دلائل العقول على استحقاقه لها كونه حيا عالما قادرا مريدا.
فمن أدلة العقول: على أنه عالم قادر مريد كونه خالقا لجميع المخلوقات مخرجا لها من العدم إلى الوجود. فلو لم يكن قادرا لما تأتى له الفعل؛ لأن الفعل لا يتأتى إلا لقادر. وقد نبه الله تعالى عليه بقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81] ، ولو لم يكن عالما لما ميز ما يوجده ويخلقه مما لا يوجده ولا يخلقه، ولاشتبهت عليه صفات المخلوقات على اختلاف أجناسها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقد نبه الله تعالى(1/18)
على هذا الدليل بقوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ، ولو لم يكن مريدا لما صح تقدم المتقدم من الحوادث والمخلوقات على المتأخر منها ولا تأخر المتأخر منها على المتقدم، إذ ليس المتقدم بأولى بالتقدم من المتأخر ولا المتأخر بأولى بالتأخر من المتقدم، ولما صح اختصاص كل جنس منها بصفته دون صفة صاحبه لاحتماله صفة صاحبه. فعلمنا بهذا أن المتقدم إنما تقدم على المتأخر وأن المتأخر إنما تأخر عن المتقدم وأن كل جنس من الأجناس إنما اختص بصفته دون صفة صاحبه بقصد الفاعل إلى ذلك وإرادته له. وقد نبه الله تبارك وتعالى أيضا على هذا الدليل بقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] .
فصل
وإذا علمنا أنه عالم قادر مريد علمنا أنه حي لاستحالة وجود العلم والقدرة والإرادة من الموات. وقد نبه الله تبارك وتعالى على هذا وأعلم به بقوله: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65] ، وقَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] ، وقوله: {الم} [آل عمران: 1] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ - نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 2 - 3] يريد عز وجل من الكتب المنزلة على من قبله من الأنبياء، ومثل هذا في القرآن كثير. وإذا علمنا أنه حي عالم قادر مريد علمنا أنه سميع بصير متكلم مدرك لجميع المدركات من المشمومات والمذوقات والملموسات، لاستحالة خلوه منها، إذ لو خلا منها لكان موصوفا بضدها، وأضدادها نقائص يستحيل وجودها به(1/19)
تعالى. إذ لو جازت عليه صفات النقص وصفات الكمال لما اختص بإحداهما دون صاحبتها إلا بمخصص يخصصه بها وذلك باطل. وإذا علمنا أنه حي مريد عالم قادر سميع بصير متكلم مدرك لجميع المدركات علمنا أن له علما وحياة وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا وكلاما وإدراكا يدرك به جميع الملموسات، وإدراكا يدرك به جميع المذوقات، وإدراكا يدرك به جميع المشمومات، لاستحالة وجود حي بلا حياة، وعالم بلا علم، وقادر بلا قدرة، ومريد بلا إرادة، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، ومتكلم بلا كلام، ومدرك بلا إدراك.
فصل فهذه عشر من صفات ذاته تعالى لا تفارقه ولا تغايره، تدرك من جهة العقل ومن جهة السمع، ولا اختلاف فيها بين أحد من أهل السنة. وأما ما وصف به نفسه تعالى في كتابه من أن له وجها ويدين وعينين فلا مجال للعقل في ذلك، وإنما يعلم من جهة السمع، فيجب اعتقاد ذلك والإيمان به من غير تكييف ولا تحديد، إذ ليس بذي جسم ولا جارحة ولا صورة. هذا قول المحققين من المتكلمين. وقد توقف كثير من الشيوخ عن إثبات هذه الصفات الخمس وقالوا لا يجوز أن يثبت في صفات الله تعالى ما لا يعلم بضرورة العقل ولا بدليله، وتأولوها على غير ظاهرها فقالوا المراد بالوجه الذات كما يقال وجه الطريق ووجه الأمر أي ذاته ونفسه. والمراد بالعينين [إدراك المرئيات، والمراد باليدين] النعمتان. وقَوْله تَعَالَى: {بِيَدَيَّ} [ص: 75] ، أي ليدي لأن حروف الخفض يبدل بعضها من بعض والصواب قول المحققين الذين أثبتوها صفات لذاته تعالى، فعلى هذا تأتي صفات ذاته تعالى خمس عشرة صفة.(1/20)
واختلفوا فيما وصف به نفسه من الاستواء على العرش، فمنهم من قال إنها صفة فعل بمعنى أنه فعل في العرش فعلا سمى به نفسه مستويا على العرش. ومنهم من قال إنها صفة ذات من العلو، وإن قوله استوى بمعنى علا، كما يقال استوى على الفرس بمعنى علا عليه. وأما من قال إن الاستواء بمعنى الاستيلاء فقد أخطأ؛ لأن الاستيلاء لا يكون إلا بعد المغالبة والمقاهرة، والله يتعالى عن أن يغالبه أحد. وحمل الاستواء على العلو والارتفاع أولى ما قيل، كما يقال استوت الشمس في كبد السماء أي علت، ولا يمتنع أن يكون صفة ذات وإن لم يصح وصفه تعالى بها إلا بعد وجود العرش كما لا يوصف بأنه غير لما غايره إلا بعد وجود سواه. واختلفوا أيضا في القدم والبقاء، فمنهم من أثبتهما صفتين، ومنهم من نفى أن يكونا صفتين وقال إنه قديم لنفسه وباق لنفسه لا لمعنى موجود به. والذي عليه الأكثر والمحققون إثبات البقاء ونفي القدم.
فصل وأما صفات أفعاله تعالى فكثيرة. منها التفضل والإنعام والإحسان والخلق والإماتة والإحياء وما أشبه ذلك.
فصل وكذلك أسماؤه تعالى كثيرة. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة» وهي تنقسم على أربعة أقسام: (قسم)(1/21)
منها راجع إلى نفسه وذاته كشيء وموجود وغير لما غايره وخلاف لما خالفه وقديم وباق على مذهب من قال من أهل السنة إنه قديم لنفسه وباق لنفسه وما أشبه ذلك. (وقسم) منها راجع إلى صفة ذاته كحي وعالم وقدير وسميع وبصير وما أشبه ذلك. (وقسم) منها راجع إلى نفي النقائص عنه تعالى كغني وقدوس وسلام وكبير وعظيم ووكيل وجليل؛ لأن معنى غني لا يحتاج إلى أحد، والقدوس الطاهر من العيوب، والسلام السالم من العيوب، والكبير والعظيم الذي لا يقع عليه مقدار لعظمته وكبره، والجليل الذي جل عن أن تجري عليه النقائص، والوكيل إنما تسمى الرب به لما كانت المنافع في أفعاله لغيره، إذ لا تلحقه المنافع والمضار، فهو على هذا التأويل راجع إلى نفي نقيصة. ويحتمل أن يكون الوكيل بمعنى الرقيب والشهيد، فيرجع ذلك إلى معنى العالم. (وقسم) منها راجع إلى صفة فعله كخالق ورازق ومحيي ومميت وما أشبه ذلك.
فصل ولا يجوز أن يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأجمعت الأمة عليه، هذا قول أبي الحسن الأشعري. وذهب القاضي أبو بكر بن الباقلاني إلى أنه يجوز أن يسمى الله تعالى بكل ما يرجع إلى ما يجوز في صفته مثل سيد وجليل وجميل وحنان وما أشبه ذلك، ما لم يكن ذلك الجائز في صفته مما أجمعت الأمة على أن تسميته به لا تجوز مثل عاقل وفقيه وسخي وما أشبه ذلك. وإلى القول الأول ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فقد سئل في رواية أشهب عنه من العتبية عن الرجل يدعو بيا سيدي فكرهه وقال أحب إلي أن يدعو بما في القرآن وبما دعت به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وكره الدعاء بيا حنان.
فصل فأما ما لا يجوز في صفته تعالى فلا يجوز باتفاق أن يسمى الله تعالى به وإن كان الله عز وجل قد وصف نفسه بالفعل المشتق منه ذلك الاسم، نحو قوله:(1/22)
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] ، وقوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79] ؛ فلا يقال يا مستهزئ ولا يا ساخر؛ لأن ما يستحيل في صفته تعالى فلا يجوز أن يجري عليه منه إلا قدر ما أطلقه السمع عليه مع الاعتقاد بأنه على ما يجب كونه تعالى عليه من صفاته الجائزة عليه. واختلف في وقور وصبور، فذهب القاضي أبو بكر إلى أنه لا يجوز أن يسمى الله تعالى بهما لأن الوقور الذي يترك العجلة بدفع ما يضره، والصبور الذي يصبر على ما يصيبه من الأذى، وذلك ما لا يجوز في صفته تعالى. ومن أجاز ذلك على أحد المذهبين فإنما يرجع معناهما إلى الحلم.
فصل ولا يجوز عليه تعالى ما يجوز على الجواهر والأجسام من الحركة والسكون والزوال والانتقال والتغير والمنافع والمضار، ولا تحويه الأمكنة ولا تحيط به الأزمنة.
فصل فإذا علمنا الله تبارك وتعالى على ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله وما يجوز عليه مما لا يجوز، عرفنا صحة نبوة الأنبياء - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بما أظهره الله تعالى على أيديهم من المعجزات؛ لأن المعجزة لا تكون إلا من الله تعالى. فإذا أظهرها على يدي من يدعي الرسالة عليه فهي بمنزلة قَوْله تَعَالَى صدق رسولي. ولا يصح عليه تعالى أن يصدق إلا صادقا؛ لأنه لو صدق كاذبا لكان كاذبا، والكذب مستحيل عليه تعالى؛ لأنها صفة نقص، وصفات النقص لا تجوز عليه تعالى، ولا تليق به سبحانه وتعالى على ما قلناه وبيناه.
فصل وإذا علمنا صحة نبوة الأنبياء - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - علمنا صدقهم فيما(1/23)
جاءوا به عن الله تبارك وتعالى من الشرائع وغيرها، وأنه أوجب على عباده أن يؤمنوا به ويوحدوه ويعبدوه ولا يشركوا به شيئا؛ لأنه قال في كتابه الذي أنزل على رسوله: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح: 13] ، وقال تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق: 22] {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق: 23] {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق: 24] {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق: 25] ، وقال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] . والأمر على الوجوب. ومن قال من أصحابنا إن الأمر ليس على الوجوب فقد وافقنا على أن الأمر بالإيمان على الوجوب لما اقترن به من الإجماع. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] ، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] ، وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] ، وهذا في القرآن كثير. وأما قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، فإنها آية عامة وليست على عمومها. والمراد بها السعداء من الجن والإنس لأنهم هم الذين خلقهم الله تعالى لعبادته، وأما الأشقياء منهم فإنما خلقهم لما يسرهم له واستعملهم به من الكفر والضلال. قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] ،(1/24)
وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31] ، وقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل ميسر لما خلق له» . وجاء في الحديث «أن رجلا من مزينة أتى النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فقال يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون أشيء قضي عليهم ومضى أو فيما يستقبلون، فقال: بل شيء قضي عليهم ومضى، قال فلم نعمل إذا قال من خلقه الله لواحدة من المنزلتين فهو يستعمل لها» . وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] . وقد قيل إن معنى الآية وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي. وقيل معناها ليذعنوا لي بالعبودية ويعترفوا لي بالربوبية؛ لأن معنى العبادة التذلل للمعبود. فكل الخلق على هذا التأويل متذلل لأمر الله مذعن لقضائه لأنه جار عليه لا قدرة له على الامتناع منه إذا نزل به. وإن خالف الكافر أمر الله تعالى فيما أمره به من الإيمان والطاعة فالتذلل لقضاء الله الجاري عليه موجود منه.
فصل وحكم الله تعالى أن لا يعذب الخلق على ترك ما أمرهم به وإتيان ما نهاهم عنه إلا بعد إقامة الحجة عليهم ببعثة الرسل إليهم. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] ، وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - قَالُوا بَلَى} [الملك: 8 - 9] ، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل: 36] ؛ فبعث الله عز وجل في كل أمة رسولا بما أوجب عليهم من الإيمان به والانقياد لعبادته والتزام طاعته واجتناب معصيته، فكان من آخر المرسلين(1/25)
بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد المرسلين وأمين رب العالمين وأكرم البشر وأفضل الأنبياء والرسل، بعثه الله إلى الخلق كافة كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] بالمعجزات التي دلت على نبوته، وأوجبت العلم بصحة رسالته، فدعا إلى الإسلام والإيمان، ونهى عن عبادة غير الرحمن، وبين مجمل التنزيل، ودل على طرق العلم ووجوه التأويل؛ لأن الله تعالى فصل كتابه فجعل منه نصا جليا ومتشابها خفيا ابتلاء واختبارا ليرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات بتدبرهم آياته واعتبارهم بها واستنباطهم منها الأحكام التي فرض الله عليهم امتثالها وتعبدهم بها؛ لأنه تعالى رد إليهم الأمر في ذلك بعد الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، فجعل المستنبط من الكتاب علما والمصير إليه عند عدم النص والإجماع فرضا.
[فصل في الطريق إلى معرفة أحكام الشرائع]
فأحكام شرائع الدين تدرك من أربعة أوجه، أحدها كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والثاني سنة نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الذي قرن الله تعالى طاعته بطاعته وأمرنا باتباع سنته فقال عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92] ، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34](1/26)
والحكمة السنة. وقال. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . والثالث الإجماع الذي دل تعالى على صحته بقوله. {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ؛ لأنه عز وجل توعد باتباع غير سبيل المؤمنين فكان ذلك أمرا واجبا باتباع سبيلهم. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «لا تجتمع أمتي على ضلالة» ، والرابع الاستنباط وهو القياس على هذه الأصول الثلاثة التي هي الكتاب والسنة والإجماع؛ لأن الله تعالى جعل المستنبط من ذلك علما وأوجب الحكم به فرضا فقال عز وجل: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، وقال عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] أي بما أراك فيه من الاستنباط والقياس؛ لأن الذي أراه فيه من الاستنباط والقياس هو مما أنزل عليه وأمره بالحكم به حيث يقول: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] .
فصل فإذا ثبت هذا فالكتاب ينقسم إلى قسمين مجاز وحقيقة.
فالمجاز: ما تجوز به في اللفظ عن موضوعه، وهو في القرآن كثير، ينقسم على أربعة أضرب: زيادة كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 13] . ونقصان كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ،(1/27)
وقوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان: 29] . وتقديم وتأخير كقوله: {أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 4] {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 5] ، وإنما تقدير الكلام وحقيقته أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء. واستعارة كقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} [البقرة: 93] والإيمان لا يأمر في الحقيقة، وكقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] ، والصلاة لا تنهى في الحقيقة، وكقوله: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] والموات لا تصح منه الإرادة، وكقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] والذل لا جناح له في الحقيقة، وهو في القرآن كثير أكثر من أن يحصى عددا. وقد ذكر ابن خويز منداد من أصحابنا أن القرآن لا مجاز فيه. وحجته أن القرآن حق، ومحال أن يكون حقا ما ليس بحقيقة. وهو خطأ واضح؛ لأن الحق ليس من الحقيقة بسبيل؛ لأن الحق ضد الباطل، والحقيقة ضد المجاز. وقد يؤتى بحقيقة اللفظ ويكون الكلام باطلا ويؤتى بالمجاز فيه ويكون الكلام حقا نحو لو رأيت رجلا قد قاتل فأبلى بلاء عظيما فقلت رأيت اليوم أسدا قاتل فأبلى بلاء عظيما كنت قد قلت الحق ولم تأت بالحقيقة في اللفظ إذ عبرت عن الرجل بالأسد وليس بأسد على الحقيقة. ولو قلت قاتل فلان اليوم قتالا شديدا وهو لم يفعل لكنت قد قلت الباطل وأتيت بحقيقة اللفظ دون تجوز فيه.
فصل والحقيقة تنقسم على قسمين: مفصل ومجمل.(1/28)
فأما المجمل فهو ما لا يفهم المراد به من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، فلا يفهم من لفظ الحق جنسه ولا مقداره إلا بعد البيان ومثل قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ، و {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] قد قيل في هذه الآيات إنها عامة وليست بمجملة، والصحيح أنها مجملة، وهو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقد قال الحج كله في كتاب الله، والصلاة والزكاة ليس لهما في كتاب الله بيان، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك.
وأما المفصل فإنه ينقسم على وجهين محكم ومنسوخ.
فالمنسوخ: ما نسخ حكمه وبقي خطه، وهو في القرآن كثير، مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 13] ، ومثل قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] . ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها.
وأما المحكم: فإنه ما لم ينسخ، وهو ينقسم على قسمين محتمل وغير محتمل. فأما غير المحتمل فهو النص، وحده ما رقي في بيانه إلى أبعد غاية، مأخوذ من النص في السير وهو أبعده، وقيل إنه مأخوذ من منصة العروس التي ترفع عليها لتجلى للناس، وذلك مثل قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ،(1/29)
فهو نص في الثلاثة لا يحتمل غير ذلك، مثل قَوْله تَعَالَى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، و {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] .
فصل
ويجري مجرى النص عندنا ما عرف المراد به من جهة عرف التخاطب وإن لم يكن نصا، نحو قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، إذ ليس بنص في تحريم وطء الأمهات ولا بنص في تحريم أكل الميتة وإنما هو مجاز لأنه علق التحريم في الأمهات وسائر المحرمات على الأعيان، والمراد به تحريم الأفعال في الأعيان؛ لأن اللفظ إذا كثر استعماله فيما هو مجاز خرج عن حد المجاز ولحق بالمفصل لفهم المراد به من جهة عرف التخاطب، نحو قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] ، ونحو ذلك. فقد علم وفهم من لغة العرب أن التحريم والتحليل إذا علق على عين من الأعيان فالمراد به تحريم الفعل المقصود [منه] فالمقصود من الميتة أكلها، والمقصود من النساء الاستمتاع بهن بالوطء فما دونه، وهو الذي وقع عليه التحريم دون ما سواه؛ لأنه الفعل المقصود منه. وإن قال له حرمت عليك الفرس فهم منه تحريم ركوبه لأنه المقصود منه، وإن قال حرمت عليك الجارية فهم منه تحريم الوطء.
فصل وقد ادعى بعض أصحاب أبي حنيفة الإجمال في ذلك وليس بصحيح(1/30)
لما قدمناه ومثله قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة إلا بطهور» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» ، فإنه قد ادعى بعض أصحاب أبي حنيفة في ذلك الإجمال وذهب إلى ذلك القاضي أبو بكر، والصحيح ما قدمناه لأنه يعرف بعرف التخاطب أن المراد بذلك نفي الانتفاع بالعمل دون نية لا نفي العمل بعد وقوعه وحصوله.
فصل وأما لحن الخطاب فهو الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به نحو قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، معناه فأفطر فعدة من أيام أخر. وقَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] ، معناه فحنثتم، فيجري مجرى النص سواء عند الجميع. وكذلك فحوى الخطاب مثل قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] يفهم منه المنع من الضرب والشتم ويجري مجرى النص سواء في وجوب العمل به عند الجميع ولا خلاف في ذلك.
فصل وأما المحتمل فإنه ينقسم على قسمين، أحدهما أن لا يكون أحد محتملاته(1/31)
أظهر من الآخر. والثاني أن يكون أحد محتملاته أظهر من الآخر. فأما القسم الأول وهو أن لا يكون أحد محتملاته أظهر من الآخر فإنه يجري مجرى المجمل في أنه لا يصح امتثال الأمر به إلا بعد البيان. وأما القسم. الآخر وهو أن يكون بعض محتملاته أظهر من الآخر، نحو الأوامر التي ترد والمراد بها الوجوب والندب والإباحة والتعجب إلا أنها أظهر في الوجوب عند أكثر أصحابنا فتحمل عليه، ونحو ألفاظ العموم فإنها قد ترد والمراد بها الخصوص، وترد والمراد بها العموم، إلا أنها في العموم أظهر فتحمل عليه عند أكثر أصحابنا حتى يدل الدليل على تخصيصها. ويندرج تحت هذا النحو من الخطاب الحكم بالقياس لأنا قد استدللنا عليه بعموم قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وما أشبه ذلك أيضا من الألفاظ. ومن ذلك أيضا ألفاظ الحصر مثل إنما وما أشبه ذلك، الظاهر منها أنها ترد لتحقيق الحكم في المنصوص عليه ونفيه عما سواه فيحمل على ذلك، وإن كانت قد ترد لإيجاب الحكم في المنصوص عليه لا لنفيه عما سواه.
فصل والسنة تنقسم على أربعة أقسام:
سنة لا يردها إلا كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهي ما نقل بالتواتر فحصل العلم به ضرورة، كتحريم الخمر، وأن الصلوات خمس، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالأذان، وأن القبلة هي الكعبة وما أشبه ذلك.
وسنة لا يردها إلا أهل الزيغ والتعطيل، إذ قد أجمع أهل السنة على تصحيحها وتأويلها، كأحاديث الشفاعة والرؤية وعذاب القبر وما أشبه ذلك.
وسنة توجب العلم والعمل وإن خالف فيها مخالفون من أهل السنة، وذلك نحو الأحاديث في المسح على الخفين وأن ما دون المسكر من الأنبذة حرام.(1/32)
وسنة توجب العمل ولا توجب العلم، وهو ما ينقله الثقة عن الثقة، وهو كثير في كل نوع من أنواع الشرائع، وهو نحو ما أمر الله به من الحكم بشهادة الشاهدين العدلين وإن كان الكذب والوهم جائزا عليهما فيما شهدا به.
فصل
والإجماع لا يصدر إلا عن دليل، إما توقيف عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وإما استدلال من الكتاب والسنة، وإما اجتهاد، كنحو إجماعهم على جلد شارب الخمر وما أشبه ذلك. وهو ينقسم على قسمين: فمنه ما يجتمع فيه العلماء والعامة كالوضوء والصلاة والزكاة والصيام. ومنه ما يجتمع عليه العلماء دون العامة غير أن العامة مجمعة على أن ما اجتمعت عليه العلماء من ذلك فهو الحق وهو فروع العبادات وأحكام الطلاق والحدود وما أشبه ذلك.
[فصل في وجوب الحكم بالقياس]
وأما الاستنباط وهو القياس فالتعبد به جائز في العقل واجب في الشرع. والذي يدل على أنه أصل من أصول الشرع الكتاب والسنة وإجماع الأمة. فأما الكتاب فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] ، والاعتبار تمثيل الشيء بالشيء وإجراء حكمه عليه. روي عن ثعلب أنه فسر قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] بأن المراد به القياس وقال الاعتبار هو القياس وهو ممن يعول على قوله في اللغة والنقل عن العرب. ودليل آخر من الكتاب وهو أن الله تعالى كلفنا تنفيذ الأحكام وأعلمنا أن جميع ذلك في القرآن بقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، وقَوْله تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فلما لم توجد(1/33)
جميع الأحكام في القرآن نصا علمنا أنه أراد أنه نص على بعضها وأحال على الاستنباط و [هو] القياس في سائرها. فمن منع من الاستنباط وهو القياس فقد كذب بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] إذ لا يجوز له أن يدعي أنه نص على جميع الأحكام في القرآن نصا. ودليل آخر من الكتاب وهو قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62] فوبخهم على إنكارهم النشأة الثانية مع أن لهم طريقا إلى معرفتها وهو القياس على النشأة الأولى التي يقرون بها وهي في معناها. ومثل ذلك: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81] ومثله في القرآن كثير.
وأما السنن الواردة في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فكثيرة أيضا ترفع العذر وتوجب القطع عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بالحكم بالرأي والاجتهاد وإقرار أصحابه على ذلك في زمنه ومع وجوده ونزول الوحي، فكيف به اليوم بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانقطاع الوحي. ومن ذلك «الخبر المشهور لمعاذ بن جبل حين أنفذه إلى اليمن حاكما فقال له بم تحكم قال بكتاب الله، قال فإن لم تجد قال فبسنة رسوله، قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي. قال الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي رسوله.» ومن ذلك «قوله للخثعمية: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضى» فقاس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/34)
وجوب قضاء دين الخالق على وجوب قضاء دين المخلوق. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في لحوم الأضاحي: «إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم» فأعلمهم بالعلة ليعتبروها. وهذا نص منه على وجوب الحكم بالقياس. «وسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا يبس فقالوا نعم، فقال فلا إذا» . ففي سؤاله إياهم هل ينقص الرطب إذا يبس دليل واضح على أنه إنما أراد بذلك تنبيههم على العلة في بيع الرطب بالتمر وتوقيفهم عليها ليعتبروها حيثما وجدوها، إذ لا جائز أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجهل أن الرطب إذا يبس ينقص، وإنما أراد أن يعلمهم أن معنى نهيه عن بيع التمر بالتمر متفاضلا موجود في بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل، وهذا بين. وروت أم سلمة أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «إني أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل به وحي» . ومصداق هذا الخبر في كتاب الله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] ، وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] .
فصل وأما الإجماع في ذلك فمعلوم حصوله وتقرره قبل خلق أهل الظاهر القائلين بنفيه. والدليل على ذلك أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - اختلفوا في أشياء كثيرة كتوريث الجد والعول في الفرائض وديات الأسنان وما أشبه ذلك، واحتج كل(1/35)
واحد منهم على صاحبه لمذهبه بالقياس وشاع ذلك بينهم وذاع من غير نكير، ولو كان باطلا ومنكرا لتسارعوا إلى إنكاره على ما وصفهم الله تعالى به في كتابه حيث يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] ولو لم يوجد في ذلك إلا حديث عمر في أمر الوباء لصح به الإجماع، ووجب له الانقياد والاتباع، حين خرج إلى الشام بأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما كان بسرغ بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا عليه، فمنهم من قال له: أرى أن لا تفر من قدر الله، ومنهم من قال له: لا تقدم ببقية أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا الوباء. ثم دعا الأنصار فاختلفوا كاختلاف المهاجرين قبلهم. ثم دعا من حضر من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فلم يختلفوا عليه وأمروه بالرجوع، ولم يكن منهم أحد ذكر في ذلك آية من كتاب الله ولا حديثا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل أشار كل واحد منهم عليه برأيه وما أداه اجتهاده إليه، ولم ينكر عليه أحد فعله، فقال عمر: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر، أرأيت لو كان لك إبل في واد له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله؟ فاعترض عليه أبو عبيدة بالرأي وجاوبه عمر بالرأي والقياس، ولم يحتج أحدهما في ذلك بكتاب ولا سنة ولا إجماع. ثم شاعت هذه القضية وذاعت ولم يكن في المسلمين من أنكر على واحد منهم القول فيها بالرأي، وما أعلم مسألة يدعى الإجماع فيها أثبت في حكم الإجماع من هذه المسألة، والتوفيق من عند الله.
فصل فطريق التعبد به السمع من الكتاب والسنة وإجماع الأمة دون دلالة العقول(1/36)
على ما قدمناه. وقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه واجب بالعقل، وأن الشرع ورد بتأكيد ما في العقل منه، ولو لم يرد فيه شرع لاكتفي بإيجاب العقل له. والصحيح أن العقل لا حظر فيه ولا إباحة.
فصل وإنما منع من الحكم بالقياس أهل التعطيل والزيغ، فقال منهم قائلون إنه محال لا يصح ورود الشرع به، وقال داود وابنه ليس من المستحيل، ولو ورد في الشرع لكان جائزا ولكنه لم يرد به شرع. فمنهم من يدعي أنه لا نازلة إلا وفي الكتاب عليها نص، ومن بلغ هذا الحد فقد سقط تكليمه لأنه عاند الحق وجحد الضرورة، وإن كلمناه مسامحة أوردنا عليه نوازل مثل العول في الفرائض وتقدير أروش الجنايات، وتقويم المتلفات، ومقاسمة الجد الإخوة والأخوات، ومثل ثوب أطارته الريح في قدر صباغ، ودينار وقع في مجمرة رجل وما أشبه ذلك، وطالبناه بالنص على ذلك من الكتاب فلا شك في عجزه عن ذلك. والحذاق منهم يقرون أن النص لم يحط بجميع أحكام النوازل، وأن منها عفوا مسكوتا عنه لا حكم لله فيه، وأنه قد بين في الكتاب والسنة أنه لا حكم لله فيما سكت عنه. وقائل هذه المقالة لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يحكم في هذه النوازل عند نزولها بهواه فيقع في أشد مما أنكر علينا؛ لأنا لا نحكم فيها بالهوى وإنما نحكم فيها بأدلة الشرع؛ لأن الله تعالى قد نهى عن الحكم به فقال: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] ، وقال: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] . وإما أن يترك الحكم فيها فيؤول ذلك إلى إبطال الأحكام ووقوع الحرب والقتال، وهو باطل بإجماع. ومنهم من يقول إن ما لا نص فيه فهو باق على حكم العقل من حظر وإباحة كل على مذهبه، وهذا باطل، إذ لا يمكن من جهته(1/37)
تنفيذ الأحكام، ولو أمكن ذلك لما صح اعتقاده لأنه يبطل فائدة قول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .
فصل فالقياس هو حمل الفرع على الأصل في إثبات الحكم أو إسقاطه لعلة يدل الدليل على أن الحكم إنما ثبت في الأصل أو سقط منه لتلك العلة، وتكون تلك العلة موجودة في الفرع فيقتضي ذلك إلحاقه بالأصل في إثبات ذلك الحكم فيه أو إسقاطه منه.
فصل فإذا علم الحكم في الفرع صار أصلا وجاز القياس عليه بعلة أخرى مستنبطة منه، وإنما سمي فرعا ما دام مترددا بين الأصلين لم يثبت له الحكم بعد. وكذلك إذا قيس على ذلك الفرع بعد أن ثبت أصلا بثبوت الحكم فيه فرع آخر بعلة مستنبطة منه أيضا فثبت الحكم فيه صار أصلا وجاز القياس عليه إلى ما لا نهاية له. وليس كما يقول بعض من يجهل أن المسائل فروع فلا يصح قياس بعضها على بعض، وإنما يصح القياس على الكتاب والسنة والإجماع. وهذا خطأ بين، إذ الكتاب والسنة والإجماع هي أصول أدلة الشرع، فالقياس عليها أولى، ولا يصبح القياس على ما استنبط منها إلا بعد تعذر القياس عليها. فإذا نزلت النازلة ولم توجد لا في الكتاب ولا في السنة ولا فيما أجمعت عليه الأمة نصا ولا وجد في شيء من ذلك كله علة تجمع بينه وبين النازلة ووجد ذلك فيما استنبط منها أو فيما استنبط مما استنبط منها وجب القياس على ذلك.
فصل واعلم أن هذا المعنى مما اتفق عليه مالك وأصحابه ولم يختلفوا فيه على(1/38)
ما يوجد في كتبهم من قياس المسائل بعضها على بعض، وهو صحيح في المعنى وإن خالف فيه مخالفون؛ لأن الكتاب والسنة والإجماع أصل في الأحكام الشرعيات كما أن علم الضرورة أصل في العلوم العقليات. فكما بني العلم العقلي على علم الضرورة أو على ما بني على علم الضرورة هكذا أبدا من غير حصر بعدد على ترتيب ونظام الأقرب على الأقرب. ولا يصح أن يبنى الأقرب على الأبعد، فكذلك العلوم السمعيات تبنى على الكتاب والسنة وإجماع الأمة أو على ما بني عليها أو ما بني على ما بني عليها بصحته هكذا أبدا إلى غير نهاية على ترتيب ونظام الأقرب على الأقرب ولا يصح بناء الأقرب على الأبعد. مثال هذا الذي ذكرناه أني أعلم نفسي ضرورة، فإذا علمتها ضرورة نظرت هل أنا محدث أو قديم، فعلمت بالنظر أني محدث. ولا يصح أن أنظر هذا النظر قبل علمي بوجود نفسي، فعلمي بأني محدث علم نظري مبني على علم الضرورة، فإذا علمت أني محدث نظرت هل لي محدث أم لا، فعلمت بالنظر أن لي محدثا، فالعلم بأن لي محدثا علم نظري مبني على علم نظري مبني على علم الضرورة. فإذا علمت بأن لي محدثا نظرت هل محدثي قديم أو محدث فعلمت بالنظر أنه قديم وهو الله رب العالمين. فعلمي بأنه قديم علم نظري مبني على علم نظري وهو أن لي محدثا، والعلم بأن لي محدثا مبني على علم نظري وهو العلم بحدوثي، والعلم بحدوثي مبني على علم الضرورة وهو العلم بوجود نفسي.
فصل والعلة الشرعية لا توجب الحكم في الأصل بنفسها وإنما توجبه بجعل صاحب الشرع لها علة. مثال ذلك أن السكر قد كان موجودا في الخمر ولم يدل(1/39)
ذلك على تحريمها حتى جعله صاحب الشرع علة في تحريمها، فليست علة على الحقيقة، وإنما هي أمارة على الحكم وعلامة عليه.
فصل والذي يدل على صحة العلة في الأصل الكتاب والسنة وإجماع الأمة والتأثير وشهادة الأصول. والتأثير هو أن يعدم الحكم بعدم العلة في موضع ما. وشهادة الأصول هو مثل أن يستدل المالكي على الحنفي بأن القهقهة لا تنقض الوضوء في الصلاة كما لا تنقضه قبل الصلاة كالكلام فيطالب عن صحة العلة فيقول الأصول متفقة على التسوية بين الأمرين.
فصل وهذا كله يرجع إلى وجهين:
أحدهما: أن تكون العلة معلومة قد ثبتت بدليل قاطع لا يحتمل التأويل من نص، كقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم» . أو تنبيه كقوله: «أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم قال فلا إذا» أو دليل أولى كنهيه عن التضحية بالعوراء فإنه يدل على أن العمياء بذلك أولى. أو مفهوم من اللفظ من غير جهة الأولى كنهيه عن البول في الماء الدائم والأمر بإراقة السمن الذائب إذا ماتت فيه فأرة؛ لأن هذا يعرف من لفظه أن الدم مثل البول وأن الزيت مثل السمن الذائب. أو إجماع كإجماعهم على أن حد العبد إنما نقص لرقه وما أشبه ذلك. وهذا كله هو القياس الجلي، وإن كان بعضه أجلى من بعض.
والثاني: أن تكون العلة مظنونة غير معلومة إذا لم تثبت بدليل قاطع لا(1/40)
يحتمل التأويل كنحو ما عرف بالاستنباط وحمل عليه التأثير كالشدة المطربة في الخمر، فإنه لما وجد التحريم بوجودها وزال بزوالها دل على أنها هي العلة، ولا يقطع على ذلك؛ لأن أبا حنيفة يقول إنما حرمت لاسمها. وهو محتمل؛ لأن الاسم يوجد بوجود الشدة ويزول بزوالها. وكنحو علة الربا التي اختلف فيها الفقهاء وفي أوصافها وشروطها، فذهب كثير من المالكيين إلى أنها كون الجنس الواحد مطعوما مدخرا مقتاتا أو مصلحا للقوت. وزاد بعضهم في صفات العلة أصلا للمعاش غالبا. وذهب كثير من الشافعيين إلى أن الطعم بانفراده هو العلة حتى حرم التفاضل في السقمونيا والطين الأرميني. وذهب الحنفيون إلى أن العلة فيه الكيل والوزن. فكل واحد من هؤلاء الفقهاء يغلب على ظنه ترجيح علته على علة صاحبه، وما منهم أحد يعلم أنها العلة ولا يدعي أن له عليها نصا من الكتاب أو السنة أو ما يقوم مقام النص من التنبيه. وإنما الدليل عليها عنده غلبة ظنه على صحتها فهي مظنونة والحكم بها إذا غلب على الظن صحتها معلوم مقطوع على وجوبه. وهذا النوع من القياس هو القياس الخفي. وكذلك العلة المنصوص عليها مظنونة أيضا إذا جاء النص عليها في السنة من طريق الآحاد والحكم بها معلوم. مثال هذا الذي ذكرناه وبيناه شهادة الشاهدين لا يقطع على عدالتهما وإنما يقال إنهما عدلان لغالب الظن. فإذا غلب على ظن الحاكم عدالة الشاهدين كان الحكم عند غلبة ظنه بذلك معلوما مقطوعا عليه.
فصل فكل قايس حامل لأحد المعلومين على الآخر بالمعنى الجامع بينهما. وقالوا إنه على ثلاثة أضرب: قياس العلة، وقياس الدلالة، وقياس الشبهة. فقياس العلة نحو قياس الأرز على البر، وقياس النبيذ على الخمر، وقياس الأكل في رمضان(1/41)
على الجماع، بالعلة الجامعة بين كل واحد من ذلك وبين صاحبه وما أشبه ذلك. وقالوا في قياس الدلالة إن ذلك مثل أن يستدل على منع وجوب سجود التلاوة بجواز فعلها على الراحلة، فإن جوازه على الراحلة من أحكام النوافل. ومثل أن يستدل بنظير الحكم على الحكم، فيقول الصبي لا تجب الزكاة في ماله فلا يجب العشر في زرعه، ولا يلزمه الظهار فلا يلزمه الطلاق. فيستدل بربع العشر على العشر، وبالظهار على الطلاق. وقالوا في قياس الشبه إنه يحمل الفرع على الأصل بضرب من الشبه، وذلك مثل أن يتردد الفرع بين أصلين ويشبه أحدهما في ثلاثة أوصاف ويشبه الآخر في وصفين فيرد إلى أشبه الأصلين به. وذلك كالعبد يشبه الحر في أنه آدمي مخاطب مثاب معاقب ويشبه البهيمة في أنه مملوك مقوم فيلحق بما هو أشبه به. وهذان القياسان يستندان إلى العلة وإن لم يكونا قياس علة على التحقيق، وبالله تعالى التوفيق.
فصل والقياس لا يكون إلا ما رد إلى أصل، وهو أحد أقسام الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد يقع على ما رد إلى أصل وعلى ما لم يرد إلى أصل، نحو أروش الجنايات ونفقات الزوجات وما يحمل الرجل من العاقلة من الديات وما أشبه ذلك. فكل قايس مجتهد وليس كل مجتهد قايسا، فالاجتهاد أعم من القياس. فأما الرأي فهو اعتقاد إدراك صواب الحكم الذي لم يرد فيه نص فلا يكون إلا بعد كمال الاجتهاد.
فصل وكل ما ذكرنا من أصول الدين وأصول الفقه وأقسام الكتاب ومعاني الخطاب ووجوب العمل بالقياس وتبيين وجوهه وشرح معانيه مما يحتاج إليه ولا يستغني عنه من انتدب إلى ما ندب الله إليه في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التفقه في دينه والعلم بشرائعه وأحكامه.(1/42)
[فصل في وجوب طلب العلم]
فصل
في وجوب طلب العلم
وطلب العلم والتفقه في الدين من فروض الكفاية كالجهاد، أوجبه الله تعالى على الجملة فقال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] ، ومن للتبعيض. فإذا قام به بعض الناس سقط الفرض عن سائرهم، إلا ما لا يسع الإنسان جهله من صفة وضوئه وصلاته وصومه وزكاته إن كان ممن تجب عليه الزكاة، فإن ذلك واجب عليه لا يسقط عنه الفرض فيه معرفة غيره به. وكذلك من كان فيه موضع للإمامة والاجتهاد فطلب العلم عليه واجب قاله مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وقد سئل عن طلب العلم أواجب هو أم لا فقال أما على كل الناس فلا. وروي عنه أن ابن وهب كان جالسا معه فحضرت الصلاة فقام إليها فقال له: ما الذي قمت إليه بأوجب عليك من الذي قمت عنه. وهذا كلام فيه نظر، كيف يكون طلب العلم على أحد أوجب عليه من صلاة الفريضة، فالمعنى في ذلك عندي إن صحت الرواية أنه أراد ما الذي قمت إليه بأوجب عليك في هذا الوقت من الذي قمت عنه؛ لأن الصلاة لا تجب بأول الوقت إلا وجوبا موسعا، فأراد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أن اشتغاله بتقييد ما يخشى فواته من العلم آكد عليه من البدار إلى الصلاة في أول الوقت.
فصل وكما يجب على المتعلم التعلم فكذلك يجب على العالم التعليم. قال الله عز وجل: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] ، ويقرأ تعلمون وتعلمون بمعنى تتعلمون فتجمع القراءات الثلاث العلم والتعلم والتعليم. وقال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ،(1/43)
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بلغوا عني ولو آية» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا ليبلغ الشاهد الغائب» . وروي عن أبي ذر أنه قال لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها.
فصل ولا يحصل العلم إلا بالعناية والملازمة والبحث والنصب والصبر على الطلب، كما حكى الله تعالى عن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال للخضر: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] وأنه قال لفتاه: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] وقال سعيد بن المسيب إني كنت لأرحل في طلب العلم والحديث الواحد مسيرة الأيام والليالي وبذلك ساد أهل عصره، وكان يسمى سيد التابعين. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أقمت خمس عشرة سنة أغدو من منزلي إلى منزل ابن هرمز وأقيم عنده إلى صلاة الظهر مع ملازمته لغيره وكثرة عنايته، وبذلك فاق أهل عصره وسمي إمام دار الهجرة. وأقام ابن القاسم متغربا عن بلده في رحلته إلى مالك عشرين سنة حتى مات مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ورحل سحنون أيضا إلى ابن القاسم فكان مما قرأ عليه مسائل المدونة والمختلطة ودونها فحصلت أصل علم المالكيين، وهي مقدمة على غيرها من الدواوين بعد موطأ مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ويروى أنه ما بعد كتاب الله كتاب أصح من موطأ مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا بعد الموطأ ديوان في الفقه أفيد من المدونة. والمدونة هي عند أهل الفقه ككتاب سيبويه عند أهل(1/44)
النحو، وككتاب إقليدس عند أهل الحساب، وموضعها من الفقه موضع أم القرآن من الصلاة، تجزئ من غيرها ولا يجزئ غيرها منها. وكانت مؤلفة على مذهب أهل العراق، فسلخ أسد بن الفرات منها الأسئلة وقدم بها المدينة ليسأل عنها مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويردها على مذهبه، فألفاه قد توفي، فأتى أشهب ليسأله عنها فسمعه يقول أخطأ مالك في مسألة كذا وأخطأ في مسألة كذا، فتنقصه بذلك وعابه ولم يرض قوله فيه وقال ما أشبه هذا إلا كرجل بال إلى جانب البحر فقال هذا بحر آخر، فدل على ابن القاسم فأتاه فرغب إليه في ذلك فأبى عليه، فلم يزل به حتى شرح الله صدره لما سأله فجعل يسأله مسألة مسألة، فما كان عنده فيها سماع عن مالك قال سمعت مالكا يقول فيها كذا وكذا، وما لم يكن عنده من مالك فيه إلا بلاغ قال لم أسمع من مالك في ذلك شيئا وبلغني عنه أنه قال فيها كذا وكذا، وما لم يكن عنده سماع ولا بلاغ قال لم أسمع من مالك في ذلك شيئا ولا بلغني والذي أراه فيه كذا وكذا حتى أكملها. فرجع إلى بلده بها فطلبها منه سحنون فأبى عليه فتحيل سحنون حتى صارت الكتب عنده فانتسخها ثم رحل بها إلى ابن القاسم فقرأها عليه فرجع منها من مسائل وكتب إلى أسد بن فرات أن يصلح كتابه على ما في كتاب سحنون. فأنف أسد من ذلك وأباه، فبلغ ذلك ابن القاسم فدعا عليه أن لا يبارك له فيها، وكان مجاب الدعوة، فأجيبت دعوته ولم يشتغل بكتابه ومال الناس إلى قراءة المدونة ونفع الله بها. وكان سحنون إذا حث على طلب العلم والصبر عليه تمثل بهذا البيت:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
فصل ومن أفضل ما يستعان به على الطلب تقوى الله العظيم فإنه عز وجل يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] .(1/45)
فصل
ويجب على طالب العلم أن يخلص النية لله تعالى في طلبه، فإنه لا ينفع عمل لا نية لفاعله. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» . وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نية المؤمن خير من عمله» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» ، ويجب عليه أيضا أن لا يريد بتعلمه الرياء والسمعة ولا عرضا من أعراض الدنيا فإن الله تبارك وتعالى يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود: 15] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16] ، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] ، وقال تعالى: مَنْ {كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] . وروي أن رهطا من أهل العراق مروا على أبي ذر فسألوه فحدثهم ثم قال لهم هل تعلمون أن هذه الأحاديث التي يبتغى بها وجه الله لن يتعلمها أحد يريد بها عرض الدنيا يجد عرف الجنة. وعرفها ريحها. وروي عن شفي الأصبحي أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد(1/46)
اجتمع الناس عليه فقال من هذا؟ فقالوا أبو هريرة. قال فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس، فكلما سكت وخلا قلت له أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في هذا البيت عقلته وعلمته، ثم نشع أبو هريرة نشعة فسكت قليلا ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشع أبو هريرة نشعة أخرى ثم نكس حتى أفاق فمسح وجهه ثم قال أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره ثم نشع أبو هريرة نشعة شديدة ثم مال خارا على وجهه فاشتد به طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهم فكل أمة جاثية فأول ما يدعي به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال والصدقة. فيقول الله تعالى للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ فيقول بلى يا رب، فيقول ماذا عملت فيما علمت، فيقول كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له كذبت وتقول الملائكة له كذبت، ثم يقول الله له أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ فيقول بلى يا رب. فيقول فماذا عملت فيما آتيتك؟ فيقول كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له كذبت وتقول الملائكة له كذبت، ويقول الله له بل أردت بذلك أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك. ويؤتى بالرجل الذي قتل في سبيل الله. فيقال له في ماذا قتلت؟ فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت وبقول الله له بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ركبتيه فقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم(1/47)
النار يوم القيامة.» وحدث شفي بهذا الحديث معاوية فقال: قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس فبكى حتى ظننا أنه هالك، ثم أفاق فمسح على وجهه وقال صدق الله ورسوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ - أُولَئِكَ الَّذِينَ} [هود: 15 - 16] الآية وروي عن مجاهد أنه قال في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10] إنه الرياء.
فصل وهذا الوعيد والله أعلم إنما هو لمن كان أصل عمله الرياء والسمعة فأما من كان أصل عمله لله تعالى وعلى ذلك عقد نيته فلا تضره إن شاء الله الخطرات التي تقع بالقلب ولا تملكه. وقد سئل مالك وربيعة عن الرجل يحب أن يلقى في طريق المسجد ويكره أن يلقى في طريق السوء فأما ربيعة فكره ذلك وأما مالك فقال إذا كان أول ذلك وأصله لله تعالى فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى قال الله عز وجل: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39] ، وقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] ؛ وقال عمر بن الخطاب لابنه: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا إذ أخبره بما كان وقع في نفسه من أن الشجرة التي مثلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرجل المسلم وسأل أصحابه عنها فوقعوا في شجر البوادي هي النخلة. قال: فأي شيء هذا إلا هذا فإنما هذا أمر يكون في القلب لا يملك، فهذا إنما يكون من الشيطان ليمنعه من العمل، فمن وجد ذلك فلا يكسل عن التمادي في فعل الخير ولا يؤيسه من الأجر، وليدفع الشيطان عن نفسه ما استطاع ويجدد النية لذلك ولقد روي عن بعض المتقدمين أنه قال طلبنا العلم لغير الله فردنا لله. وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ما يؤيد ما ذهب إليه مالك. وقع في جامع المستخرجة(1/48)
في سماع ابن القاسم من «رواية معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله إنه ليس من بني سلمة إلا مقاتل فمنهم من القتال طبيعته ومنهم من يقاتل رياء ومنهم من يقاتل احتسابا فأي هؤلاء الشهيد من أهل الجنة فقال يا معاذ بن جبل من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة» . وروي «أن رجلا قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يا رسول الله الرجل يعمل العمل فيخفيه فيطلع عليه الناس فيسره فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له أجر السر وأجر العلانية.
»
فصل ويجب على من تعلم العلم أن يعمل به، فإن لم يعمل به كان حجة عليه يوم القيامة وحسرة وندامة. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما منكم من أحد إلا وسيخلو به ربه كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر أو قال ليلته، ثم يقول يا ابن آدم ما غرك بي، ابن آدم ما غرك بي، ابن آدم ما عملت فيما علمت، ابن آدم ماذا أجبت المرسلين» وروي عن أبي الدرداء أنه قال: من شر الناس منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه. وقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، والمؤمن الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به كالثمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها»
فصل وكان العلم في الصدر الأول والثاني في صدور الرجال، ثم انتقل إلى جلود(1/49)
الضأن وصارت مفاتحه في صدور الرجال، فلا بد لطالب العلم من معلم يفتح عليه ويطرق له. وقد قال بعض الحكماء: العلم يفتقر إلى خمسة أشياء متى نقص منها شيء نقص من علمه بقدر ذلك، وهي ذهن ثاقب، وشهوة باعثة، وعمر طويل، وجدة، وأستاذ. وله خمس مراتب، أولها أن تنصب وتسمع، ثم أن تسأل فتفهم ما تسمع، ثم أن تحفظ ما تفهم، ثم أن تعمل بما تعلم؟ ثم أن تعلم ما تعلم.
فصل وطلب العلم إذا أريد به وجه الله تعالى وأخلصت النية فيه لله من أفضل أعمال البر وأجل نوافل الخير. قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، وقال تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ؛ جاء في التفسير أنه الفقه في دين الله. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» . وقال: «من سلك طريقا يطلب فيها علما سهل الله له طريقا إلى الجنة» . وروي «أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع» . وقال أبو هريرة: من غدا أو(1/50)
راح إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خيرا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانما. وروي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «ما أعمال البر كلها في الجهاد إلا كبصقة في بحر، وما أعمال البر كلها والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر» . فنص في هذا الحديث على أن طلب العلم أفضل من الجهاد، ومعناه في الموضع الذي يكون الجهاد فيه فرضا على الكفاية إذا كان قد قيم به؛ لأنه يكون له نافلة. وأما القيام بفرض الجهاد أو الجهاد في الموضع الذي يتعين فيه الجهاد على الأعيان فلا شك أنه أفضل من طلب العلم والله أعلم. وظاهر الحديث يدل على أن طلب العلم أفضل من الصلاة. وما روي عن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه سئل عن أفضل الأعمال فقال: الصلاة لأول ميقاتها» معناه في الفرائض، وأما في النوافل فطلب العلم أفضل منها على ظاهر الحديث المذكور والله أعلم.
وقد سئل مالك عن القوم يتذاكرون الفقه القعود معهم أحب إليك في ذلك أم الصلاة؟ فقال بل الصلاة. وروي عنه أن العناية بالعلم أفضل، وليس ذلك عندي اختلافا من قوله. ومعناه أن طلب العلم أفضل من الصلاة لمن ترجى إمامته، والصلاة أفضل من طلب العلم لمن لا ترجى إمامته إذا كان عنده منه ما يلزمه في خاصة نفسه من صفة وضوئه وصلاته وصيامه. وقال سحنون يلزم أثقلهما عليه.
فصل والأجر في العناية بالعلم على قدر النية فيه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى قد أوقع أجره على قدر نيته» . والله تبارك وتعالى قد قسم بين عباده الأعمال وتفضل عليهم بالثواب. روي أن بعض العباد كتب إلى مالك يحضه(1/51)
على الانفراد وترك مجالسة الناس، فكتب إليه مالك يقول: إن الله قد قسم بين عباده الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصيام، ورب رجل فتح له في الصيام ولم يفتح له في الصلاة، ورب رجل فتح له في كذا ولم يفتح له في كذا فعدد أشياء ثم قال وما أظن ما أنت فيه بأفضل مما أنا فيه، وكلانا على خير إن شاء الله والسلام.
[فصل في تحرير القول في الإيمان والإسلام]
فصل
في تحرير القول في الإيمان والإسلام
ولا يصح شيء من العبادات إلا بعد الإقرار بالمعبود والتصديق به. فأول الواجبات الإيمان بالله تعالى وبوحدانيته وبما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وكل ما جاءوا به من عنده. والإيمان هو التصديق الحاصل في القلب قال الله عز وجل: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أي بمصدق لنا {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] . وأما الإسلام فهو إظهار الإيمان والإعلان به، مأخوذ من الاستسلام وهو الانقياد؛ لأن من أظهر الإيمان فقد انقاد واستسلم لجريان حكمه عليه. فكل مؤمن مسلم؛ لأن من اعتقد الإيمان في الباطن فهو معلن به في الظاهر. وليس كل مسلم مؤمنا؛ لأن المنافق والزنديق يظهران الإسلام ويعتقدان الكفر، فهما مسلمان في الظاهر كافران في الباطن. فالإسلام أعم من الإيمان. وهذا في بلد الإسلام وحيث يجب على المؤمن إظهار إيمانه ولا يحل له كتمه. وأما في بلد الحرب إذا أكره على الكفر فواجب عليه إذا خاف على نفسه فأظهر الكفر أن يعتقد الإيمان بقلبه، فيكون إذا فعل ذلك مؤمنا غير مسلم؛ لأن الله تبارك وتعالى قد سماه مؤمنا في كتابه فقال: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28] ، وقال: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] وليس بمسلم(1/52)
إذ لم يستسلم بإظهار الإيمان. وقد قيل إن الإسلام والإيمان اسمان واقعان على معنى واحد، واحتج من ذهب إلى هذا بقول الله عز وجل وقوله الحق: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 35] {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36] ، وهذا لا حجة فيه؛ لأن المؤمنين إذا أظهروا الإيمان مسلمون بإظهار الإيمان كما بيناه والدليل على أن الإيمان غير الإسلام قول الله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] أي انقدنا {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] فنفى عنهم الإيمان الحاصل في القلب وأوجب لهم الإسلام الذي هو الانقياد بإظهار الإيمان دون اعتقاده. وما روي أيضا «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صورة أعرابي وقال: يا محمد ما الإيمان فقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره حلوه ومره. قال فما الإسلام قال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت. قال صدقت.» ففرق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الإيمان والإسلام بأن جعل الإيمان من أفعال القلوب الباطنة والإسلام من أفعال الجوارح الظاهرة. فالإيمان خصلة من خصال الإسلام التي ينقاد بها المكلف لأمر الله تعالى كما ينقاد للصوم والصلاة والحج وسائر العبادات.
فصل فهذا هو الإيمان في الشرع. وأما في اللغة فكل من ظهر منه التصديق يسمى مؤمنا. فالمسلم في اللغة مؤمن، ويصح أن يسمى في الشرع مؤمنا مجازا؛ لأن إظهار الشهادة يدل على الإيمان، فيحكم لمن أظهرها بحكمه في الدنيا لا أنه إيمان ينتفع به في الآخرة. والعرب قد تسمي الشيء باسم ما قرب منه، ويصح على هذا أن يسمى ما يظهر من أعمال الطاعات كلها إيمانا لأنها دالة على الإيمان ومن أفعال المؤمنين وسجاياهم. ووجه آخر أيضا صحيح جيد، وهو أن أعمال(1/53)
الطاعات كلها لا تكون طاعة وقربة إلا مع مقارنة الإيمان لها، ومتى لم يقارنها لم تكن طاعة ولا قربة، فسميت الطاعات باسم الأصل الذي لا يثبت لها الحكم بأنها طاعة وقربة إلا به. وهذا بين في المعنى وعليه يحمل قول من قال من أهل السنة إن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح. وما روي أن معنى قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] ، أي صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت مقارنة للإيمان ولذلك حصل الانتفاع بها والجزاء عليها، فبان بما قلناه وأوردناه أن أنفس الطاعات من الأقوال والأفعال إذا لم يصح أن تسمى طاعات إلا بمقارنة الإيمان لها فلا يصح أن يقال إنها غير الإيمان، إذ لا يصح مفارقتها له، ولا أنها الإيمان كالصفة القديمة لا يصح أن يقال إنها هي الموصوف ولا أنها غيره.
فصل وأما قول من قال من أهل السنة إن الإيمان يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقص الأعمال ففيه تأويلان: أحدهما أن المعنى في ذلك أن ثواب الإيمان يزيد مع الطاعة وينقص مع تركها، بمعنى أنه يتجرد ثواب الإيمان عن ثواب الطاعة إذا تركها إلى مباح أو معصية، فلا يكون ثواب الإيمان في حال الصلاة كثوابه في حال الجلوس ولا كثوابه في حال المعصية. يؤيد هذا التأويل ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» ، أي ليس هو في تلك الحال مؤمنا يثاب على إيمانه فيها مثل ما كان يثاب عليه لو كان في عمل مباح أو مندوب إليه أو واجب على هذا يحمل الحديث إذ لا يصح أن يقال إن المؤمن في حال المعصية منسلخ عن الإيمان. وقد قيل في معنى هذا الحديث إن الإيمان إيمانان، فإيمان يؤمن به من الخلود في(1/54)
النار، وإيمان يؤمن به من دخول النار. فالإيمان الذي يؤمن به من دخول النار هو الإيمان الذي لا معصية معه، والإيمان الذي يؤمن به من الخلود في النار هو الإيمان الذي معه المعاصي. فالزاني والسارق في حال السرقة والزنا ليس بمؤمن الإيمان الذي يؤمن به من دخول النار؛ لأنه في تلك الحال مصر على المعصية غير تائب منها، فإنما نفي عنه على هذا التأويل الإيمان الممدوح. وقد كان بعض الشيوخ يرويه لا يشرب بكسر الباء على معنى الأمر يقول إذا كان مؤمنا فلا يشرب الخمر ولا يسرق ولا يزن. وقد قيل في معنى الحديث إن الإيمان لما كان مضمناته التصديق بالوعيد بالعقاب على هذه الكبائر صار كالمناقض للشهوة الباعثة عليها فأيهما غلب صاحبه نفاه. فلما كان مرتكب الكبائر في حال ارتكابه إياها قد غلبت شهوته تصديقه وخوفه جاز أن يوصف بانتفاء الإيمان عنه على ضرب من التوسع والمجاز. وقد قيل إن معنى الحديث إنما هو فيمن زنى أو سرق وهو مستحل لذلك.
والتأويل الثاني في معنى زيادة الإيمان بزيادة الأعمال ونقصانه بنقصان الأعمال أنه يزيد بتكراره بفعل الطاعة لأن الطاعة لا تكون طاعة إلا مع مقارنة الإيمان لها، فإذا كثر عمله زادت أجزاء إيمانه بتكررها، وإذا نقص عمله نقصت أجزاء إيمانه على قدر ما كانت تكون لو كثر عمله. وهذا كما يقال نقص ماء العين وزاد. على هذا التأويل لا يخرج الكلام عن الحقيقة إلى المجاز بخلاف التأويل الأول؛ لأن حقيقة المراد بالزيادة في الشيء هو أن يضاف إليه غيره، وحقيقة المراد بالنقصان منه هو أن ينقص منه بعض أجزائه. وأما الشيء الواحد فلا ينقص في نفسه ولا يزيد في نفسه لأن ذلك من المحال.(1/55)
فصل وقد نص الله تبارك وتعالى على زيادة الإيمان فقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] . ومعنى ذلك زيادة اليقين في الإيمان والبعد من دخول الشك فيه عليه؛ لأن آيات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأقواله وما ينزل عليه يصدق بعضه بعضا، وذلك يوجب زيادة اليقين في الإيمان والاستبصار في التمسك به والبعد من دخول الشك عليه فيه.
فصل فالإيمان يتفاضل في زيادة اليقين والقوة فيه والعلم به والبعد من دخول الشك عليه فيه، فكلما قوي اليقين بالله والعلم به لمن عرفه كان أبعد من طرو الشكوك عليه، فليس من آمن بالله ولم يعرفه بالاستدلال عليه كمن عرفه به، ولا من عرفه بوجه واحد من وجوه الأدلة كمن عرفه من وجوه كثيرة، ولا من عرفه بالأدلة دون معاينة الآيات كمن شاهدها وعاينها بحضرة النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في قوة اليقين في القلب وبعده عن أن يفتن فيه أو يزيغه الشيطان عنه. روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن من أصحابي من الإيمان في قلبه أثبت من الجبال الرواسي» . وقال في بعض أصحابه أراه أبا بكر: «لو رفع له الغطاء ما زاد يقينا» . ويروى أن عمر بن الخطاب أتاه منكر ونكير فقالا له: من ربك وما دينك، فقال لهما أما أنا فالله ربي والإسلام ديني ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيي، وأنتما فمن ربكما وما دينكما ومن نبيكما؟ فنظر بعضهما إلى بعض فقالا إنه عمر وانصرفا عنه. فهل(1/56)
يساويه أحد من أهل هذا الزمان في قوة اليقين هذا ما لا يكون والله سبحانه وتعالى أعلم.
[فصل في زيادة الإيمان ونقصانه]
فصل
فزيادة الإيمان ونقصانه يكون على هذه الوجوه الثلاثة زيادة في اليقين وزيادة في العدد وزيادة في الثواب، وهو أبعد التأويلات؛ لأن الكلام يحمل في هذا التأويل على المجاز، وحمله على الحقيقة أولى. وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كان يطلق القول بزيادة الإيمان ويكف عن إطلاق نقصانه، إذ لم ينص الله تعالى إلا على زيادته. فروي عنه أنه قال عند موته لابن نافع وقد سأله عن ذلك: قد أبرمتموني، إني تدبرت هذا الأمر فما من شيء يزيد إلا وهو ينقص الإيمان يزيد وينقص. وهو الصحيح. والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل
فهذا هو حقيقة القول في الإيمان والإسلام على مذاهب أهل السنة. وذهبت المعتزلة إلى أن الإيمان هو فعل الواجبات من العبادات وترك المحظورات، وأنه قد نقل هذا الاسم في الشرع على مقتضى اللغة وجعل اسما لجميع الواجبات وترك المحظورات، فكفروا المسلمين بالذنوب، وقال منهم قائلون إنه اسم في الدين لجميع الطاعات فرائضها ونوافلها، وقالت طائفة من المرجئة إن الإيمان هو الإقرار باللسان وإن وجد مع عدم المعرفة، وهذا كله باطل يرده القرآن.
فصل وهذا الذي قلناه من أن أول الواجبات الإيمان بالله تعالى هو على مذهب من(1/57)
يرى أن الإيمان بالله هو التصديق الحاصل في القلب وليس من شروط صحته المعرفة هو الذي اختاره القاضي أبو الوليد الباجي واحتج له. وأما على مذهب من رأى أن الإيمان بالله تعالى لا يصح إلا بعد المعرفة فيقول إن أول الواجبات النظر والاستدلال؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يعلم ضرورة وإنما يعلم بالنظر والاستدلال بالأدلة التي نصبها لمعرفته. وإلى هذا ذهب البخاري في كتابه فبوب باب العلم قبل القول والعمل لقول الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] فبدأ بالعلم، وهو الذي ركن إليه القاضي أبو بكر الباقلاني؛ لأنه قال: إن الإيمان هو العلم، وكل مؤمن بالله فهو عالم به. والذي ذهب إليه أن من لم يكن عالما بالله تعالى فهو جاهل به، والجاهل بالله تعالى كافر به. وليس ذلك ببين؛ لأن الإيمان يصح باليقين الذي قد يحصل لمن هداه الله بالتقليد وبأول وهلة من الاعتبار بما أرشد الله تعالى إلى الاعتبار به في غير ما آية من كتابه. ومن قال إن الإيمان بالله هو العلم به، والعلم به لا يصح إلا بالنظر والاستدلال فأول الواجبات عنده النظر والاستدلال. وقد قال القاضي أبو بكر المذكور في بعض كتبه إن الإيمان ليس هو العلم، وإنما سبيله أن يتضمن العلم، لأن الإيمان في اللغة هو التصديق، والتصديق هو من قبيل الأقوال التي تكون في النفس ويعبر عنها تارة بالقول، وذلك القول الموجود بالقلب لا يصح وجوده مع الجهل ولا بد أن يكون متضمنا للعلم. قال بعض من تكلم على قوله من الفقهاء: وهذا هو التحقيق الذي يمر مع النظر.
وقد حكى القاضي أبو الوليد الباجي عن شيخه القاضي أبي جعفر السمناني أنه كان يقول: القول بأن النظر أول الواجبات مسألة من مسائل الاعتزال بقيت في المذهب عند من التزمها؛ لأن من جعله أول الواجبات أوجبه(1/58)
بالعقل، إذ لا يصح أن يعلم أحد أن الله أوجب عليه النظر وهو لا يعلم الله إلا بعد النظر. ومن أصول أهل السنة أن العمل لا حظر فيه ولا إباحة. وليس قوله عندي بصحيح؛ لأن الشيء الواجب في ذاته لا يخرجه عن الوجوب في حق أحد جهله بمعرفة وجوبه عليه. ألا ترى أن الإيمان واجب بالشرع على من لا يعلم الشرع عند من جعله أول الواجبات، [فكما يكون الإيمان واجبا بالشرع على من لا يعلم الشرع عند من جعله أول الواجبات] ، فكذلك يكون النظر واجبا بالشرع على من لا يعلم الشرع عند من جعله أول الواجبات. وقد استدل الباجي على من قال إن النظر والاستدلال أول الواجبات بإجماع المسلمين في جميع الأعصار على تسمية العامة والمقلدين مؤمنين. قال فلو كان ما ذهبوا إليه صحيحا لما صح أن يسمى مؤمنا إلا من عنده علم بالنظر والاستدلال. قال وأيضا لو كان الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال لجاز للكفار إذا غلب عليهم المسلمون أن يقولوا لهم لا يحل لكم قتلنا لأن من دينكم أن الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال فأخرونا حتى ننظر ونستدل، وهذا يؤدي إلى تركهم على كفرهم وأن لا يقاتلوا حتى ينظروا ويستدلوا. قال ولا خلاف في بطلان هذا. وهذا لا يلزم لأن من جعل النظر والاستدلال أول الواجبات لا يقفهما على الحد الذي رتبه أهل الكلام من الاستدلال بالأعراض المتوالية على الأجسام على حدوث العالم وإثبات محدثه على ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله، بل يقول إنه يعرف ذلك بأول بديهة العقل؛ لأن العاقل إذا نظر إلى السماء والأرض واختلاف الليل والنهار وإلى نفسه واختلاف أحواله وخروجه من العدم إلى الوجود علم أن لذلك كله خالقا ومدبرا ليس كمثله شيء.
والذي أقول به إن النظر والاستدلال على هذا الوجه هو أول الواجبات عند من جعل النظر أول الواجبات، ويصح به الإيمان لأن اليقين يحصل به وإن لم يقع به العلم، إذ لا يقع العلم إلا بعد إمعان النظر، وقد يصح تيقن المعتقد من غير علم. فمن آمن بالله بتقليد أو نظر يحصل به اليقين أو يقع به العلم فهو مؤمن(1/59)
حقيقة، وإن كانت مرتبة من آمن بالله وعلمه بالنظر والاستدلال أرفع من مرتبة من آمن به بيقين حصل عنده من غير علم.
فصل فإذا قلنا إن أول الواجبات الإيمان بالله وهو التصديق به وبما أخبر به عن نفسه من صفات ذاته وأفعاله، فإن النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله تعالى واجب أيضا أوجبه الله على عباده وافترضه عليهم وتعبدهم به كسائر العبادات الواجبات. والدليل على وجوبه قول الله عز وجل: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] ، وقال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] الآية، وقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] ، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق: 6] الآية، ومثل هذا في القرآن كثير.
ومن الدليل أيضا على وجوب النظر والاستدلال أن الله تعالى قد أوجب المعرفة به وبما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله في غير ما آية من كتابه فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] ، وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98] ، وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 17] ، والعلم بشيء من ذلك لا يصح إلا من جهة(1/60)
النظر والاستدلال، وما لا يصح الواجب إلا به فهو واجب مثله. فمن عرف الله تعالى بالأدلة التي نصبها لمعرفته فهو مؤمن، ومرتبته في الإيمان أرفع من مرتبة من آمن به من غير علم. قال الله عز وجل: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] .
فصل فكل عالم بالله مؤمن وليس كل مؤمن بالله عالما به.
فصل وقولنا إن الإيمان شرط في جميع العبادات ليس على الإطلاق؛ لأن ما يصح فعله بغير نية من العبادات يصح مع عدم الإيمان إذا قلنا إن الكافر متعبد بشرائع الإسلام، وفي ذلك بين أهل العلم اختلاف. وكذلك النظر الموجب إلى معرفة الله تعالى عند من جعله أول الواجبات ليس من شرطه الإيمان ولا النية، وقد دللنا على فساد هذا القول.
فصل والعبادات لا تفتقر إلى النية إلا بخمسة شروط: أحدها أن تكون فعلا أو تركا تختص بزمن معلوم مؤقت كالصيام، فإن كانت العبادة تركا لا تختص بزمن معلوم كترك الزنا وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير وما أشبه ذلك لم تفتقر إلى نية. والثاني أن تكون العبادة مما يصح أن تفعل لله ويصح أن تفعل لغيره. فإن كانت العبادة مما لا يصح أن تفعل إلا لله كإرادة التقرب إليه بالعبادة، أو كانت مما لا يصح أن يفعل إلا لغير الله كالنظر المؤدي إلى معرفة الله عند من جعله أول الواجبات لم يفتقر ذلك(1/61)
إلى نية. والثالث أن تكون العبادة واجبة لحق الله كالصلاة والزكاة والصيام، فإن كانت واجبة لحق مخلوق لم تفتقر إلى نية، كقضاء الديون وأداء الودائع والأمانات، وبر الآباء والأمهات، وما أشبه ذلك من العبادات. والرابع أن لا تكون العبادة واجبة لعلة ترتفع بامتثال العبادة دون نية، فإن كانت واجبة لعلة ترتفع بامتثالها دون نية لم تفتقر إلى نية، كالاستنجاء وغسل النجاسات من الثياب والأبدان وما أشبه ذلك.
والخامس أن تكون العبادة يفعلها المتعبد بها في نفسه، فإن كانت مما يفعلها في غيره لم تفتقر إلى نية، كغسل الميت، وغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب فيه، ومن وضأ غيره؛ لأن النية إنما تجب على الموضأ لا على الموضئ، وهذا بين وبالله التوفيق.(1/62)
[فصل في أحكام الشريعة المتعلقة بالوضوء وغيره من العبادات]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فصل
في أحكام الشريعة المتعلقة بالوضوء وغيره من العبادات وأحكام الشريعة تنقسم على خمسة أقسام: واجب، ومستحب، ومباح، وحرام، ومكروه.
فالواجب حده ما حرم تركه، وقيل ما توعد الله على تركه وترك بدله إن كان له بدل بالعقاب، والأول أخصر وهذا أبين. وفائدة هذا التقييد أن من العبادات ما لا بدل له كغسل الوجه فيستحق العقاب بتركه، ومنها ما له بدل كغسل الرجلين فلا يستحق العقاب إلا بترك الغسل والمسح على الخفين الذي هو بدل الغسل. وله خمسة أسماء: واجب، وفرض، وحتم، ولازم، ومكتوب؛ وكلها قائمة من القرآن. وهو ينقسم على ثلاثة أقسام واجب بالقرآن، وواجب بالسنة، وواجب بالإجماع، وهي كلها سواء في لحوق الإثم بترك الامتثال. وإنما يفترق في قدر ما يتوعد به على الترك، فرب ذنب أعظم من ذنب وإن كان الأصغر إذا انفرد عظيما. والواجب والفرض عندنا سواء خلاف ما ذهب إليه أهل العراق من أن الفرض آكد من الواجب، وأن الفرض ما وجب بالقرآن والواجب ما وجب بالسنة والإجماع.(1/63)
والمستحب ما كان في فعله ثواب ولم يكن في تركه عقاب فبالوصف الأول بان من المكروه والمباح والمحظور، إذ ليس في شيء من ذلك كله ثواب، ووافق الواجب. وبالوصف الثاني بان من الواجب ووافق المكروه والمباح والمحظور. وهو ينقسم على ثلاثة أقسام: سنن، ورغائب، ونوافل. فالسنن ما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفعله واقترن بأمره ما يدل على أن مراده به الندب أو لم تقترن به قرينة على مذهب من يحمل الأوامر على الندب ما لم يقترن بها ما يدل أن المراد بها الوجوب. أو ما داوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فعله، بخلاف صفة النوافل. والرغائب ما داوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فعله بصفة النوافل أو رغب فيه بقوله من فعل كذا فله كذا. والنوافل ما قرر الشرع أن في فعله ثوابا من غير أن يأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به أو يرغب فيه أو يداوم على فعله.
والمباح ما لم يكن في فعله ثواب ولا في تركه عقاب، نحو القيام والجلوس والحركة والسكون والاستمتاع بالمباحات من المطعم والملبس والمركب وما أشبه ذلك.
والحرام ضد الواجب، وهو ما توعد الله على فعله بالعقاب.
والمكروه ضد المستحب وهو ما كان في تركه ثواب ولم يكن في فعله عقاب، وهو المتشابه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات» الحديث.
فصل والعبادات التي لها هذه الأحكام تنقسم على ثلاثة أقسام: قسم منها يتوجه إلى القلوب. وقسم منها يتوجه إلى الأبدان. وقسم منها تشترك فيه القلوب والأبدان. فالذي يتوجه منها إلى القلوب خمسة أجناس: نظر، واعتقاد، وعلم، وظن، وإرادة. والذي يتوجه منها إلى الأبدان: ما لم يفتقر في امتثاله إلى نية. والذي تشترك فيه القلوب والأبدان ما افتقر في أدائه إلى نية، وقد تقدم بيان ذلك.(1/64)
فصل فمن العبادات المتوجهة إلى الأبدان أو إلى القلوب والأبدان على ما بيناه طهارة الثياب والأجسام. وأصل الطهارة في اللغة النظافة والنزاهة؛ ولذلك كانت العرب تستعملها في الطاهر دون النجس فيفترق بين الأمرين. ومنه قول الله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] أي قلبك فنق من الآثام والأدناس. ومنه قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] أي ينزهكم عن الدناءة ويبعدكم عنها ويعلي درجاتكم. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ} [آل عمران: 42] معناه نزهك وأبعدك مما قذفت به ورفع درجتك.
فصل والطهارة في الشرع من هذا المعنى مأخوذة، وهي تنقسم على وجهين: طهارة لإزالة نجاسة، وطهارة لرفع حدث.
فأما الطهارة لإزالة النجاسة فحدها إزالة النجاسة، وهي من العبادات المتوجهة إلى الأبدان دون القلب، إذ لا تفتقر في أدائها إلى نية. واختلف فيها فقيل إنها فرض، وقيل إنها سنة، وقيل إنها استحباب، وليس ذلك بصحيح على ما أصلناه. وقيل إنها فرض مع القدرة والذكر تسقط مع النسيان، كالكلام في الصلاة، وستر العورة فيها. وهذا غير صحيح على ما سنورده في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأما الطهارة لرفع الحدث فإنها من العبادات المتوجهة إلى الأبدان والقلوب لافتقارها إلى النية على مذهب مالك والشافعي. وهي تنقسم على ثلاثة أقسام: غسل، ووضوء، وبدل منهما عند عدم القدرة عليهما وهو التيمم. ومن الناس من يذهب إلى أنه لا يصح أن يقال في التيمم على مذهب مالك إنه بدل من الوضوء(1/65)
لأنه لا يرفع الحدث عنده على الإطلاق كما يرفعه الغسل والوضوء، وإن كان يستباح به عنده جميع ما يستباح بالوضوء من الفرائض والنوافل. والأظهر أنه بدل منه على مذهبه لأنه يستباح به عنده جميع ما يستباح بالغسل والوضوء، وإنما لم يرفع الحدث عنده لأن الأصل كان إيجاب الوضوء. والتيمم عند عدم الماء لكل صلاة بظاهر قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] فخرج من هذا الظاهر الوضوء بما ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلوات بوضوء واحد، وبقي التيمم على الأصل فلم يقس على الوضوء لأن البدل لا يقوى قوة المبدل منه. والله أعلم. ولا اختلاف في أنه بدل من الوضوء عند من رأى أنه يرفع الحدث على الإطلاق أو إلى أن يجد الماء، ولا في أنه استباحة للصلاة عند من رأى أنه لا يصلى به سوى الفريضة خوف فوات وقتها.
فصل فأما الغسل فإنه يتنوع: فمنه واجب، ومنه مسنون، ومنه مستحب. فالواجب منه الغسل من الجنابة والحيضة والنفاس، والمسنون منه غسل الجمعة، والمستحب منه غسل العيدين، وغسل المستحاضة إذا ارتفع عنها دم الاستحاضة، والغسل للإحرام ولدخول مكة وللوقوف بعرفة.
فصل
وكذلك الوضوء أيضا منه واجب ومنه مسنون ومنه مستحب. فالواجب منه ما يفعل لما لا يصح فعله إلا بطهارة من الفرائض والسنن والنوافل، لا يتنوع تنوعها لأنه لا يراد لنفسه وإنما يجب لغيره، فلا يقال فيه إنه واجب على الإطلاق، وإنما يقال إنه واجب لكذا بمعنى أنه شرط في صحة ذلك الفعل، وغير واجب لكذا بمعنى أنه غير شرط في صحته. والمسنون منه وضوء الجنب إذا أراد أن ينام.(1/66)
والمستحب منه الوضوء للنوم، ووضوء المستحاضة والذي يسلس منه البول لكل صلاة. وتجديد الوضوء أيضا لكل صلاة مستحب مرغب فيه.
[فصل في معرفة اشتقاق الوضوء]
فصل
في معرفة اشتقاق الوضوء الوضوء مشتق من الوضاءة وهي النظافة أيضا والحسن. ومنه قيل فلان وضيء الوجه أي نظيفه. فكأن الغاسل لوجهه أو لشيء من أعضائه وضأه أي نظفه بالماء وحسنه. والوضوء في اللغة يقع على غسل العضو الواحد فما فوقه، والدليل على ذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفصلا من أن الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم ويصح البصر. وسمى غسل اليد وضوءا. وأما في الشرع إذا أطلق فلا ينطلق إلا على غسل جملة أعضاء على وجه مخصوص، وهو يشتمل على فروض وسنن ومستحبات على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
[فصل فيما يجب منه الوضوء]
ويجب الوضوء من تسعة أشياء على اتفاق في المذهب، وهي المذي، والودي، والبول، والغائط، والريح إذا خرج ذلك كله على العادة، سواء خرج الريح بصوت أو بغير صوت. والقبلة مع وجود اللذة أو القصد إليها، والمباشرة، واللمس مع وجود اللذة، وزوال العقل بنوم مستثقل أو إغماء أو سكر أو تخبط جنون. وإنما شرطنا الاستثقال في النوم لأنه ليس بحدث في نفسه وإنما هو سبب للحدث. والقدر الذي يحكم على النائم بانتقاض وضوئه من أجله يختلف باختلاف هيئته في نومه، وهي على أربع مراتب: أقربها إلى انتقاض وضوئه فيها(1/67)
بالنوم الاضطجاع ثم السجود، ثم الجلوس والركوع، ثم القيام والاحتباء. واختلف في الركوع فقيل إنه كالقيام وقيل إنه كالسجود. واختلف في الاستناد فقيل إنه كالجلوس وقيل إنه كالاضطجاع. فإذا نام الرجل مضطجعا وجب عليه الوضوء بالاستثقال وإن لم يطل. وإذا نام ساجدا لم يجب عليه الوضوء إلا أن يطول، وقيل إنه يجب عليه بالاستثقال وإن لم يطل. وإذا نام جالسا أو راكبا فلا وضوء عليه إلا أن يطول. وإذا نام قائما أو محتبيا فلا وضوء عليه وإن طال لأنه يثبت. ومن أهل العلم من زاد على هذه التسعة الأشياء الحقنة وليس بصحيح؛ لأن الحقنة ليست بحدث ينقض الطهارة، إذ لو ارتفعت بعد وجودها لما لزم الوضوء منها.
ويجب من تسعة أشياء أيضا على اختلاف في المذهب، وهي مس الرجل ذكره أو مس المرأة فرجها، والتذكر مع الاشتهاء، وخروج شيء من المعتادات من أحد المخرجين على غير العادة، والقبلة مع عدم اللذة وعدم القصد إليها ممن يشتهى؛ لأن من لا يشتهي لصغره أو لكونه من ذوات المحارم فلا وضوء في قبلته على الصفة المذكورة، والمباشرة والملامسة مع عدم اللذة ووجود القصد إليها، والارتداد، ورفض الوضوء، والشك في الحدث. والأخصر من هذا أن تقول إن الوضوء يجب من وجهين: أحدهما ما يخرج من المخرجين من المعتادات على العادة باتفاق أو على غير العادة باختلاف. والثاني ما هو سبب لما يخرج منهما قوي باتفاق أو ضعيف على اختلاف. فيندرج تحت هذا الوجه زوال العقل بالنوم المستثقل وبالإغماء والسكر والجنون، ويندرج تحته أيضا القبلة والمباشرة واللمس(1/68)
مع وجود اللذة أو القصد إليها على الاختلاف في ذلك، ويندرج تحته أيضا مس الرجل ذكره ومس المرأة فرجها والتذكر مع الاشتهاء على مذهب من يوجب الوضوء لذلك؛ لأن الأصل في وجوب الوضوء من ذلك كله هو ما يخشى أن تكون اللذة قد حركت المذي عن موضعه وأخرجته إلى قناة الذكر من غير أن يشعر بذلك. فهذه الأقوال في الأحداث الموجبة للوضوء مجملة، وستأتي مفسرة في مواضعها إن شاء الله تعالى.
فصل ولوجوب الوضوء من هذه التسعة الأشياء خمس شرائط: وهي الإسلام، والبلوغ، والعقل، وارتفاع "الحيض والنفاس، ودخول وقت الصلاة.
فصل
والأصل في وجوبه من هذه التسعة الأشياء بهذه الخمس الشرائط قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] . والأمر على الوجوب. ومن قال من أصحابنا إنه ليس على الوجوب فقد وافقنا في أمر الله تعالى بالوضوء أنه على الوجوب للآثار الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما أبان ذلك ورفع الاحتمال منه. من ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول» ، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا هو أحدث حتى يتوضأ» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء(1/69)
مواضعه» ، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تتم صلاة أحدكم حتى يتوضأ كما أمره الله تبارك وتعالى فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين» ، «وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - للأعرابي لما علمه الوضوء: "توضأ كما أمرك الله» . ووجوب ذلك معلوم من دين الأمة ضرورة فلا معنى للإطالة في جلب النصوص في ذلك.
فصل وآية الوضوء قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية نزلت بالمدينة، وكان سبب نزولها التيمم، وقد كان الوضوء قبل ذلك واجبا بالسنة. وفي قوله في حديث التيمم فأصبحوا على غير ماء فأنزل الله آية التيمم ولم يقل آية الوضوء دليل واضح على أنه إنما طرأ عليهم في ذلك الوقت العلم بالتيمم وأن الوضوء قد كان معلوما عندهم مشروعا لهم. لا خلاف بين أحد من الأمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل قط وهو جنب ولا هو على غير وضوء. روى زيد بن حارثة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول ما أوحي إليه، يريد في الصلاة، أتاه جبريل فعلمه الوضوء.» «وجاء في الخبر أن جبريل أتاه حين افترضت الصلاة فهمز بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت عين ماء عذب فتوضأ جبريل ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر، فوضأ وجهه ومضمض واستنشق ومسح برأسه وغسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه ثم قام فركع ركعتين وأربع سجدات.
»(1/70)
فصل والوضوء مما خص الله به أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبه يعرف النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمته يوم القيامة من بين سائر الأمم على ما جاء في الحديث: «قيل يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك، قال: أرأيت لو كانت لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله، قالوا بلى قال فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض» وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ مرة مرة فقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين مرتين فقال هذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين؛ ثم توضأ ثلاثا ثلاثا فقال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي» رواه المسيب بن واضح عن عمرو بن دينار عن ابن عمر، فقال أبو محمد أراه الأصيلي ليس هذا بثابت. والمسيب بن واضح ضعيف وليس يصح عن ابن عمر حديث في الضوء. وهذه الأمة مخصوصة بالوضوء والله سبحانه وتعالى أعلم.
قلت وإن صح الحديث فالمعنى فيما روى أن أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما خصت بالغرة والتحجيل.
فصل واختلف في تأويل الآية جملة وتفصيلا. فأما الاختلاف في تأويلها جملة فهو ما قيل إن فيها تقديما وتأخيرا وإن تقديرها يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق(1/71)
وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. وإنما قدر هذا التقدير من ذهب إلى هذا التأويل، وهو محمد بن مسلمة من أصحابنا؛ لأن ظاهرها أن السفر والمرض حدث يوجب الوضوء كالمجيء من الغائط سواء، وذلك لا يصح بإجماع. وقيل إنها على تلاوتها لا تقديم فيها ولا تأخير. واستدل من ذهب إلى ذلك بأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتوضأ إلا على نسق الآية، فمسح رأسه قبل غسل رجليه على ما عليه العمل. ولو كانت الآية مقدرة على غير تلاوتها من التقديم والتأخير لوجب أن تغسل الرجلان قبل مسح الرأس لأن التقدير بمنزلة التفسير، ولا يصح أن يكون العمل بخلاف التفسير، فيكون معنى قَوْله تَعَالَى وإن كنتم مرضى إذا حملت الآية على تلاوتها دون أن يقدر فيها تقديم وتأخير أي مرضى لا تقدرون على مس الماء أو على من يناولكم إياه لأن المرض يتعذر معه مس الماء أو الوصول إليه في أغلب الأحوال. واكتفى الله تبارك وتعالى بذكر المرضى وفهم منه المراد كما فهم من قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أن معناه فأفطر. وكذلك قوله عز وجل: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] يريد غير واجدين للماء، فاكتفى بذكر السفر وفهم منه المراد به؛ لأن السفر يعدم فيه الماء في أغلب الأحوال. ولما كان الغالب في الحضر وجود الماء صرح بشرط عدمه فقال أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا. وهذا أولى وأظهر عندي من حمل الآية على التقديم والتأخير لأن التقديم والتأخير مجاز وحمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز لا سيما ومن أهل العلم من نفى أن يكون في القرآن مجاز.
فصل وعلى أن الآية على تلاوتها لا تقديم فيها ولا تأخير فيها ذهب مالك في(1/72)
المدونة؛ لأنه قال فيها إن المريض الذي لا يقدر على مس الماء يتيمم وإن كان واجدا له، وإن الصحيح الحاضر غير المسافر يتيمم إذا عدم الماء على التأويل الذي ذكرناه. وهو قول مجاهد في المدونة: للمجدور وأشباهه رخصة أن لا يتوضأ، ويتلو: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] ، قال ذلك مما يخفى من تأويل القرآن. ومن حمل الآية على التقديم والتأخير لا يجيز التيمم للمريض مع وجود الماء وإن لم يقدر على مسه، ولا للصحيح الحاضر وإن عدم الماء لأنه يعيد قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] على السفر والمرض.
فصل والذي أقول به في تأويل الآية أن أو في قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] بمعنى الواو؛ لأن الآية على هذا تبقى على ظاهرها لا يحتاج فيها إلى تقديم وتأخير، ولا يفتقر فيها إلى إضمار، فتأتي بينة لا إشكال فيها لتبين معناها مع كونها على تلاوتها دون تقديم ولا تأخير ولا إضمار؛ لأنه إذا قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إلى قوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] فقد بين أن من جاء من المرضى والمسافرين من الغائط أو لامس النساء يتيمم إن لم يجد الماء. وعلى هذا التأويل لا يكون أيضا المريض الواجد للماء إذا لم يقدر على مسه ولا الحاضر العادم للماء من أهل التيمم.
فصل وأما الاختلاف في تأويل بعض وجوهها تفصيلا. فمن ذلك قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] فقيل معناه إذا قمتم محدثين، وقيل معناه إذا قمتم من المضاجع، وهو قول زيد بن أسلم، وهو أولى من التأويل الأول؛ لأن الأحداث(1/73)
مذكورة في الآية، والنوم ليس بحدث وإنما هو مسبب للحدث، فحمل الكلام على زيادة فائدة أولى من حمله على التكرار لغير فائدة. وقيل إن الكلام على غير عمومه في الأمر بالوضوء لكل قائم إلى الصلاة وإن الوضوء كان واجبا لكل صلاة فنسخ الله ذلك بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة تخفيفا عن عباده. وهذا على مذهب من ذهب إلى جواز نسخ القرآن بالسنة، وقد اختلف في ذلك. وحمل الحديث على البيان للقرآن على ما ذهب إليه زيد بن أسلم أولى من حمله على النسخ؛ لأن النسخ إنما يكون في النصوص التي تتعارض والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه كان يتوضأ لكل صلاة ثم يتلو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] وكل قائم الصلاة يتوضأ على مذهبه على ظاهر الآية ولم يبلغه الحديث والله أعلم. ويحتمل أن يكون إنما كان يتوضأ لكل صلاة لما اختص به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل بيته من إسباغ الوضوء. روي عن «ابن عباس أنه قال ما اختصنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بثلاث: إسباغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي الحمر على الخيل» . وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه كان إذا أحدث لم يكلم أحدا حتى يتوضأ وضوءه للصلاة فنسخ الله هذا وأمر بالطهارة عند القيام للصلاة، ثم نسخ هذا بفعله يوم فتح مكة. ومن العلماء من قال ينبغي لكل من قام إلى الصلاة أن يتوضأ طلبا للفضل فحمل الآية على الندب.
فصل ومعنى قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وفي الكلام دليل على هذا ومثله قول الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] أي إذا أردت أن تقرأ القرآن. وليس المراد بذلك القيام الذي هو ضد الجلوس، وإنما المعنى بذلك إذا نهضتم إليها(1/74)
وعمدتم لها وأردتم إصلاح أمرها من قولهم هو يقوم بأمر القوم، وفلان قائم بأمر فلان وبدولة السلطان، وقائم بشأنه وقائم على ماله، أي بالإصلاح والتعاهد. وفي تعليق الله الأمر بالوضوء بإرادة الصلاة بيان ظاهر أن الوضوء يراد للصلاة ويفعل من أجلها وأنه فرض من فرائضها وشرط في قبولها وصحتها، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة امرئ أحدث حتى يتوضأ» . ودليل واضح على افتقاره إلى النية لأن الله تعالى قد شرط في صفة فعله إرادة الصلاة. وفعله من أجلها وإذا فعله تبردا أو تنظفا فلم يفعله على الشرط الذي شرطه الله في فعله وذلك يوجب أن لا يجزئه. وهذا أمر متفق عليه في المذهب، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه في قولهم إن الغسل والوضوء يجزئ بغير نية بخلاف التيمم، وخلافا للأوزاعي في قوله إن الغسل والوضوء والتيمم تجزئ بغير نية. والدليل على صحة قول مالك قول الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] . وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65] والوضوء من الدين فوجب أن لا يجزئ بغير نية وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات» ، والوضوء عمل من الأعمال فوجب أن لا يجزئ بغير نية. ومن طريق القياس على من فرق في ذلك بين الوضوء والتيمم أن الوضوء طهارة تتعدى محل موجبها فافتقرت إلى النية كالتيمم. وإنما الكلام في المذهب هل من شرط صحة النية في الوضوء والغسل من الجنابة أن تكون مقارنة لأول الفعل أم لا ويجزئ إذا تقدمتها بيسير. وقد أشبعنا الكلام في هذا في كتاب ردنا على المرادي فمن أراد الوقوف على ذلك فليتأمله هناك.(1/75)
فصل وقَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] والوجه مأخوذ من المواجهة. وحد الوجه الذي يجب غسله في الوضوء من منابت شعر الرأس إلى اللحى الأسفل إلى الصدغ. واختلف في البياض الذي بين الصدغ إلى الأذن على ثلاثة أقوال: أحدها أنه من الوجه يجب غسله. والثاني أنه ليس من الوجه فلا يجب غسله. والثالث أن الأمرد يغسله ولا يغسله الملتحي. وقيل إن غسله سنة، ذكر ذلك عبد الوهاب. واختلف فيما طال من شعر اللحية فقيل ليس عليه أن يغسله، وهو ظاهر ما في سماع موسى عن ابن القاسم. وحكى سحنون في سماعه عن مالك أن اللحية من الوجه وعليه أن يمر الماء عليها ويغسلها، فإن لم يفعل أعاد، وقال به سحنون. واختلف في تخليل اللحية في الوضوء فروى ابن وهب وابن نافع عن مالك إيجاب تخليلها في الوضوء، وروى أشهب عن مالك وابن القاسم عن مالك في العتبية أنها لا تخلل. وقد قيل إن ذلك مستحب وليس بواجب. والصواب أن تخليلها ليس بواجب في الوضوء لأن الفرض إنما هو في غسل ظواهر الأعضاء دون البواطن. فإذا كان شعر اللحية الذي على الوجه كثيفا انتقل الفرض إلى الشعر ولم يجب عليه تخليل الشعر وإيصال الماء إلى البشرة لأن ذلك من البواطن. وقد نص على ذلك عبد الوهاب في بعض تواليفه.
فصل وأما غسل الأيدي والأرجل في الوضوء فقد حدهما الله تبارك وتعالى في كتابه فقال في اليدين {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وفي الأرجل {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] إلا أن أهل العلم اختلفوا في إيجاب غسل المرافق من اليدين والكعبين من الرجلين. فظاهر ما في المدونة إيجاب غسل ذلك. وروى ابن نافع عن مالك أنه ليس عليه أن يجاوز(1/76)
بالغسل المرفقين والكعبين، وإنما عليه أن يبلغ إليهما لأن إلى غاية، وهو الأظهر، إلا أن إدخالهما في الغسل أحوط لزوال تكلف التحديد. ومن قال بإيجاب غسلهما قال إلى بمعنى مع، وذلك موجود في اللسان، قال الله عز وجل: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] أي مع الله. وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] ، أي مع أموالكم. وقد قال المبرد: إن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه، فتقول بعت الثوب من الطرف إلى الطرف، فالطرفان داخلان في البيع. ويلزم من قال في آية الوضوء إن إلى بمعنى مع أن يوجب غسل اليدين إلى المنكبين؛ لأن العرب تسمي ذلك يدا.
وأما قول الله عز وجل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] فاختلف في هذه الباء فقيل إنها للتبعيض، وقيل إنها للإلزاق وليست للتبعيض. فأما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فذهب إلى أن الواجب مسح الرأس كله، وأن من قصر عن ذلك وجبت عليه الإعادة، كمن قصر عن غسل بعض وجهه خلافا لأبي حنيفة والشافعي، وقال محمد بن مسلمة إن مسح ثلثيه أجزأه، وقال أبو الفرج إن مسح ثلثه أجزأه. وقال أشهب في بعض روايات العتبية إنه لا إعادة على من مسح مقدم رأسه. والدليل على صحة قول مالك قول الله تبارك وتعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] كما قال في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6] فلما لم يجز الاقتصار في التيمم على بعض الوجه دون بعض [كان الرأس كذلك. وكذلك الطواف بالبيت لا يجوز أن يقتصر في الطواف على بعضه دون بعض] ، وإن كان الله يقول في كتابه: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] لأن الباء إنما دخلت للإلزاق لا للتبعيض. ومن الدليل على صحته أيضا أن الاستثناء يصلح فيها لو قلت امسح برأسك إلا ثلثه جاز، كأنك قلت(1/77)
امسح رأسك إلا ثلثه. ولو صح أن الباء تصلح للمعنيين وأشكل الأمر لكان فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دافعا للإشكال لأنه مسح جميع رأسه وقال هذا وضوء لا يقبل الله صلاة إلا به. وما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح بعض رأسه شاذ لا يعمل به. ويحتمل أن يكون فعل ذلك لعذر أو مجددا من غير حدث. ولا يجوز عند مالك أن يمسح رأسه على حائل إلا لعلة. وقد رويت إجازة ذلك عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الثوري وأحمد بن حنبل والأوزاعي وأبي ثور وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد القاسم بن سلام، وبه قال داود بن علي للآثار الواردة في ذلك وقياسا على الخفين. والصحيح ما ذهب إليه مالك؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] فمن مسح على حائل لم يمسح على رأسه. والآثار الواردة في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مضطربة، فقد روي أنه مسح على عمامته فأدخل يده من تحتها، وإن صح أنه مسح عليها فلعله فعل ذلك لعذر أو لتجديد من غير حدث والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل
وأما قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] فإن الناس اختلفوا في قراءتها فقرأها قوم وأرجلكم بالنصب عطفا على اليدين، وقرأها قوم وأرجلكم بالخفض. فأما من قرأها وأرجلكم بالنصب عطفا على اليدين فهو الغسل لا كلام فيه؛ لأن الشيء يصح عطفه على ما يليه وعلى ما قبله، وهذا كثير موجود في القرآن ولسان العرب، من ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وأما من قرأ وأرجلكم بالخفض ففي قراءتها لأهل العلم أربعة أوجه. الأول أنها معطوفة على اليدين وإنما خفضت للجوار والإتباع كما قالوا جحر ضب خرب. وقد قرئ {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن: 35] بالخفض. والثاني أنها(1/78)
معطوفة على مسح الرأس وأن الغسل إنما وجب بالسنة لقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ويل للأعقاب من النار» فتكون السنة على هذا ناسخة للقرآن. والثالث أن المراد بذلك المسح على الخفين. والرابع أن الغسل يسمى مسحا عند العرب لأنها تقول تمسحنا للصلاة أي اغتسلنا، فبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن مراد الله تعالى بقوله فامسحوا برؤوسكم إمرار اليد على الرأس دون نقل الماء إليه وأن مراده بأمره بمسح الرجلين إمرار اليد عليهما مع نقل الماء إليهما. وذهبت طائفة من الشيعة إلى إجازة مسح الرجلين في الوضوء، وروي ذلك عن بعض الصحابة وبعض التابعين، وتعلق به بعض المتأخرين، وهو شذوذ لا يعد به الخلاف، لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغسل رجليه في وضوئه مرتين أو ثلاثا، وأنه قال «ويل للأعقاب من النار ويل للعراقيب من النار» والوعيد لا يكون إلا في ترك الواجب.
فصل وقوله في الآية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] اختلف في الملامسة التي عناها الله تعالى ما هي، فمذهب مالك ما قدمناه أنها ما دون الجماع وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنها كناية عن الجماع. ومن ذهب إلى ذلك لم يوجب الوضوء في القبلة ولا في المباشرة ولا في اللمس إذا سلم في ذلك من المذي.
فصل وفي قوله عز وجل: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] دليل على أن الوضوء لا يجوز إلا بالماء وقد اختلف أهل العلم في حد الماء الذي يجوز به الوضوء فحده عند مالك الماء المطلق الذي لم يتغير أحد أوصافه بشيء طاهر أو نجس حل فيه. وحده عند أبي حنيفة ومن أجاز الوضوء بالنبيذ الماء الذي لم تحله نجاسة؛ لأن ما حلته(1/79)
نجاسة فهو عنده نجس وإن لم يتغير بها شيء من أوصافه إلا أن يكون الماء الكثير المستبحر الذي لا يقدر آدمي أن يحرك طرفيه. وحده عند الشافعي فيما دون القلتين ما لم تحله نجاسة، وفيما فوقهما ما لم يتغير أحد أوصافه من شيء طاهر أو نجس حل فيه.
[فصل في تبيين فرائض الوضوء من سننه ومستحباته]
فصل
في تبيين فرائض الوضوء من سننه ومستحباته
وقد ذكرنا فيما تقدم أن الوضوء الشرعي يشتمل على فرائض وسنن واستحبابات. ففرائض الوضوء ثمانية، منها أربعة متفق عليها عند أهل العلم وهي التي نص الله تبارك وتعالى عليها: غسل الوجه، واليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين. واثنان متفق عليهما في المذهب وهما: النية، والماء المطلق الذي لم يتغير أحد أوصافه بشيء طاهر حل فيه أو نجس. واثنان مختلف فيهما في المذهب، وهما الفور، والترتيب. فأما الفور ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه فرض على الإطلاق، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة. والثاني أنه سنة على الإطلاق وهو المشهور في المذهب. والثالث أنه فرض فيما يغسل وسنة فيما يمسح وهو قول مطرف وابن الماجشون عن مالك وهو أضعف الأقوال. فعلى القول بأنه فرض تجب إعادة الوضوء والصلاة على من فرقه ناسيا أو متعمدا، وعلى القول بأنه سنة إن فرقه ناسيا فلا شيء عليه، وإن فرقه عامدا ففي ذلك قولان: أحدهما أنه لا شيء عليه وهو قول محمد بن عبد الحكم. والثاني أنه يعيد الوضوء والصلاة لترك سنة من سننها عامدا لأنه كالمتلاعب المتهاون، وهذا مذهب ابن القاسم. ومن أصحابنا من يعبر على مذهبه هذا في الفور أنه فرض بالذكر يسقط بالنسيان كالكلام في الصلاة. فعلى التأويل الأول من أهريق ماؤه في أثناء الوضوء وابتدأ وضوءه بماء(1/80)
يغلب على ظنه أنه يكفيه فعجزه أنه لا يضره القيام لأخذ الماء وإن بعد، وعلى التأويل الثاني إن بعد عنه الماء في الوجهين ابتدأ الوضوء لأنه ذاكر.
فصل وأما الترتيب فالمشهور في المذهب أنه سنة، وهو المعلوم من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وروى علي بن زياد عن مالك أن من نكس وضوءه أعاد الوضوء والصلاة فجعله فرضا. وإلى هذا ذهب أبو المصعب وحكاه عن أهل المدينة، ومعلوم أن مالكا منهم وإمام فيهم.
فصل فإذا قلنا إنه سنة فإن كان بحضرة الوضوء أخر ما قدم ثم غسل ما بعده ناسيا كان أو عامدا، وإن كان قد تباعد وجف وضوؤه وكان متعمدا ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه يعيد الوضوء والصلاة. والثاني أنه يعيد الوضوء ولا يعيد الصلاة قاله ابن حبيب. والثالث أنه لا إعادة عليه لا للصلاة ولا للوضوء وهو قوله في المدونة لا أدري ما وجوبه. وإن كان ناسيا فقال ابن حبيب يؤخر ما قدم ويغسل ما بعده. وفي قوله نظر لأنه إذا فعل ذلك ولم يعد الوضوء من أوله فقد حصل وضوؤه مفرقا، ومن قوله إن من فرق وضوءه ناسيا أو متعمدا أعاد الوضوء والصلاة في الوقت وبعده. وقال ابن القاسم: يؤخر ما قدم ولا يغسل ما بعده، وهو بعيد؛ لأنه لا يخلص بذلك من التنكيس. والذي يأتي على أصله في تفرقة الوضوء ناسيا أن لا شيء عليه في تنكيسه إذا فرق وضوءه. ووجه قوله إن ما قدم فوضعه في غير موضعه بمنزلة ما نسيه فذكره وقد تباعد أنه يفعله وحده ولا يعيد ما بعده. وإذا جعل ما قدم كان تركه فيلزمه على هذا إذا نكس وضوءه إعادة الوضوء والصلاة خلاف ما في المدونة. وهذا في ترتيب المفروض مع المفروض. وأما في ترتيب المفروض مع المسنون فظاهر ما في الموطأ أن الترتيب بين المفروض والمسنون مستحب لأنه قال فيمن(1/81)
غسل وجهه قبل أن يمضمض إنه يمضمض ولا يعيد غسل وجهه، وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب هو سنة إلا أنه جعله أخف من ترتيب المفروض مع المفروض، فقال مرة يعيد الوضوء إذا نكس متعمدا كالمفروض مع المفروض، وله في موضع آخر ما يدل على أنه لا شيء عليه [إذا فارق وضوءه، وقال إن نكسه ساهيا إنه لا شيء عليه] ، قال فضل: معناه إذا فارق وضوءه، وأما إذا لم يفارق وضوءه فإنه يؤخر ما قدم ويغسل ما بعده على أصله. فمن نسي شيئا من مسنون الوضوء فذكره بحضرة وضوئه فإنه يفعل ما نسي وما بعده. ويحتمل أن يكون ذلك اختلافا من قوله فيكون أحد قوليه مثل ما في الموطأ.
فصل وأما سنن الوضوء فاثنتا عشرة، منها أربع متفق عليها في المذهب، وهي المضمضة، والاستنشاق، والاستنثار، ومسح الأذنين مع تجديد الماء لهما. والمنصوص لمالك أنهما من الرأس وإنما السنة في تجديد الماء لهما. وقد قيل في غير المذهب إنهما من الرأس يمسحان معه ولا يجدد لهما ماء. وقيل إنهما من الوجه يغسلان معه. وقيل إن باطنهما من الوجه وظاهرهما من الرأس. والصواب ما ذهب إليه مالك يشهد بصحته الحديث: «إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه إلى قوله فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه» .
وثمان قيل فيها إنها سنة، وقيل إنها استحباب وهي غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء إذا أيقن بطهارتهما، وما زاد على الواحدة بعد العموم، والابتداء(1/82)
باليمين قبل الشمال، والابتداء بمقدم الرأس، ورد اليدين في مسحه، وغسل البياض الذي بين العارض والأذن على ما قال عبد الوهاب، واستيعاب مسح الأذنين، وترتيب المفروض مع المسنون.
وأما استحباباته فثمان، وهي التسمية، وجعل الإناء على اليمين، وأن لا يتوضأ في الخلاء، وتخليل أصابع اليدين، وتخليل أصابع الرجلين، وتخليل اللحية، وقد قيل إن ذلك واجب في الوضوء عن مالك وليس بصحيح، والسواك عند الوضوء، ويجزئ الأصبع منه إذا لم يجد سواكا قاله مالك، وذكر الله على الوضوء مستحب، وبالله التوفيق.(1/83)
[القول في توقيت الوضوء]
هذا الباب يشتمل على سبع مسائل: إحداها أن الأعداد في الوضوء غير واجبة وأن الواجب الإسباغ، أسبغ في مرة واحدة أو مرات. والثانية أن تكرار الغسل ثلاثا مستحب فيه إن أسبغ فيما دونها. والثالثة أن ما فوق الثلاث مكروه إن أسبغ بها أو بما دونها. والرابعة أن الثلاث أفضل من الاثنتين وأنه مخير بين الاثنتين والثلاث. والخامسة أن الاقتصار على الواحدة مكروه، واختلف في وجه الكراهية في ذلك فقيل إنما كره لتركه الفضيلة جملة، وقيل إنما كره ذلك مخافة أن لا يعم فيها، وهو دليل ما روي عن مالك أنه قال لا أحب الواحدة إلا للعالم بالوضوء. والسادسة أن استحباب التكرار مقصور على المغسول دون الممسوح. والسابعة أن التكرار إنما يكون باستئناف أخذ الماء؛ ولذلك لا يقال في رد اليدين على الرأس في مسحه إنه تكرار لمسحه. وقوله اختلفت الآثار في التوقيت يريد في الأعداد. وروي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا، ومرتين في بعض الأعضاء وثلاثا في بعضها. وليس الاختلاف في هذا اختلاف تعارض، وإنما هو اختلاف تخيير وإعلام بالتوسعة، وبالله التوفيق.(1/84)
[القول في المياه]
الأصل في هذا الباب قول الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] ، وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ} [الأنفال: 11] ، وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] ، «وقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من الأقذار والنجاسات: خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شي إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته» يريد إلا ما غير أحد أوصافه على ما بين في الحديث المتقدم.
فصل فالأصل في المياه كلها الطهارة والتطهير، ماء السماء وماء البحر وماء الأنهار(1/85)
وماء العيون وماء الآبار، عذبة كانت أو مالحة، كانت على أصل مياعتها أو ذابت بعد جمودها، إلا أن تكون مالحة فتذوب في غير موضعها بعد أن صارت ملحا فانتقلت عنه فإن لأصحابنا المتأخرين في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنها على الأصل لا يؤثر فيها جمودها. والثاني أن حكمها حكم الطعام فلا يتطهر بها وينضاف بها ما غيرت من سائر المياه. والثالث أن جمودها إن كان بعناية وعمل وصنعة كان له تأثير فلا يتطهر بها وإن لم يكن بعناية وعمل لم يكن له تأثير.
فصل وهي تنقسم على ثلاثة أقسام: ماء طاهر مطهر، وماء لا طاهر ولا مطهر، وماء طاهر لا مطهر. فأما الماء الطاهر المطهر فهو الماء المطلق، وصفته أنه لم يتغير أحد أوصافه بما ينفك عنه. وإنما سمي مطلقا لأنه إذا أطلق عليه مجرد الاسم وهو ماء كان كافيا في الإخبار عنه على ما هو عليه. والماء الطاهر غير المطهر هو الماء الذي تغيرت أحد أوصافه بما ينفك عنه من الطاهرات. ومعنى قولنا فيه إنه طاهر أنه غير نجس فلا يجب غسله من ثوب ولا بدن. ومعنى قولنا فيه غير مطهر أنه لا يرفع الحدث ولا حكم النجاسة وإن أزال عينها. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يرفع الحدث على أصله في إجازة الوضوء بالنبيذ، ويرفع حكم النجاسة إذا أزال عينها على أصل مذهبه أن كل ما أزال العين رفع الحكم. وأما الماء الذي ليس بطاهر ولا مطهر فهو الماء الذي تغيرت أحد أوصافه بنجاسة حلت فيه، وإن لم يتغير أحد أوصافه بما حل فيه من النجاسة فلا يؤثر ذلك في حكمه كان الماء قليلا أو كثيرا على أصل مذهب مالك، وهي رواية المدنيين عنه. وروى المصريون عنه أن ذلك يؤثر فيه إذا كان قليلا، وقاله كثير من أصحابه. فأما ابن القاسم فأطلق القول فيه، بأنه نجس على طريق التوسع في العبارة والتحرز من المتشابه لا على طريق الحقيقة. يدل على ذلك من مذهبه أنه لم يأمر من توضأ به بإعادة الصلاة أبدا كما يأمر من توضأ بالمتغير. ومن أصحابنا من عبر عنه بأنه مشكوك فيه، وهي عبارة(1/86)
غير مرضية؛ لأن الشك في الحكم ليس بمذهب فيه، وإنما يكون الماء مشكوكا فيه إذا شك في تغيير أحد أوصافه بنجاسة حلت فيه أو في حلول النجاسة فيه على مذهب من يرى أن حلول النجاسة في الماء تنجسه وإن لم تغير له وصفا. وأما إذا أوقن أن أوصافه لم يتغير منها شيء بما حل فيه من النجاسة فهو طاهر في قول ونجس في قول.
فصل وقد اختلف أصحاب مالك الذين التقوه ولم يحققوا القول فيه بأنه نجس في الحكم فيه؛ فقال ابن القاسم يتيمم ويتركه، فإن لم يفعل وتوضأ به أعاد في الوقت ولم يفرق بين أن يكون جاهلا أو متعمدا أو ناسيا. وقال ابن حبيب في الواضحة: إن كان جاهلا أو متعمدا أعاد في الوقت وبعده. وقال ابن الماجشون: يتوضأ ويتيمم ويصلي. وقال سحنون: يتيمم ويصلي ويتوضأ ويصلي.
فصل وحد هذا الماء الذي يتقى لحلول النجاسة فيه هو أن يكون قدر ما يتوضأ به فتقع فيه القطرة من البول أو الخمر، أو يكون قدر القصرية فيتطهر فيها الجنب ولا يغسل ما به من الأذى، فقس على هذا. وكذلك إذا كان الماء قدر ما يتوضأ به فرأى الهر أو الكلب أو شيئا من السباع يلغ فيه وفي فيه نجاسة، أو شيئا من الطير التي تأكل الجيف والنجاسات وفي مناقرها نجاسة. فإن لم تر في أفواهها ولا في مناقرها نجاسة في وقت شربها ففي ذلك تفصيل: أما الهر فهو عند مالك وأصحابه محمول على الطهارة للحديث الوارد فيه من الطوافين والطوافات عليكم. وأما السباع والدجاج المخلاة فهي في مذهب ابن القاسم في روايته عن مالك محمولة(1/87)
على النجاسة وتفسد ما ولغت فيه فلا يتوضأ بالماء ولا يؤكل الطعام إلا أن يكون الماء كثيرا لقول عمر بن الخطاب لا تخبرنا يا صاحب الحوض فإنا نرد على السباع وترد علينا. غير أن ابن القاسم قال في الطعام إنه لا يطرح إلا بيقين لحرمتها وهو استحسان على غير قياس؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما أعلم بطهارة سؤر الهرة وبين أن العلة في ذلك طوافها علينا ومخالطتها لنا وجب باعتبار هذه العلة أن يكون ما عداها من السباع التي لا تخالطنا في بيوتنا محمولة على النجاسة، فلا يتوضأ بسؤرها ولا يؤكل بقيتها من الطعام وإن لم يوقن بنجاسة أفواهها في حين ولوغها. وقال علي بن زياد: الطعام والماء سواء إن رئي في مناقرها أذى طرح وإلا لم يطرح. وهو قول ابن وهب وأشهب إنها محمولة على الطهارة في الماء والطعام، فلا يطرح شيء من ذلك إذا ولغت فيه إلا أن يوقن بنجاسة أفواهها تعلقا بظاهر ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شرابا وطهورا» . وتعلقا أيضا بظاهر قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لصاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا لما سأله عمرو بن العاص هل ترد حوضك السباع؟ وهذا لا حجة فيه؛ لأن الحياض ماؤها كثير فهي تحمل هذا القدر من النجاسة.
وأما الكلب فاختلف فيه اختلافا كثيرا من أجل الحديث الوارد بغسل الإناء من ولوغه فيه سبع مرات، فروى ابن وهب عن مالك أنه يغسل الإناء من ولوغه فيه سبع مرات كان طعاما أو ماء. فظاهر الرواية أن الطعام يطرح فحمله على النجاسة وجعله أشد من السباع. وجعله ابن القاسم أخف من السباع لأنه حمله فيها على الطهارة في الماء واللبن جميعا فقال إنه يؤكل الطعام ولا يتوضأ بالماء إلا من ضرورة، ويغسل الإناء سبع مرات في الماء خاصة تعبدا. وقال ابن الماجشون عن(1/88)
مالك إنه يغسل سبعا من الماء واللبن جميعا، ويؤكل اللبن ويطرح الماء إلا أن يحتاج إليه، فإذا احتاج إليه توضأ به ولم يتيمم على مذهبه ومذهب ابن القاسم في المدونة، ثم لا إعادة عليه وإن وجد ماء غيره في الوقت. وقد روى أبو زيد عن ابن الماجشون أنه مشكوك فيه يتوضأ به ويتيمم ويصلي، على مذهبه في الماء المشكوك فيه. فإن توضأ به ولم يتيمم أعاد في الوقت كما لو رأى في فيه نجاسة حين ولوغه فحمله على النجاسة كسائر السباع. قال وإن عجن بذلك الماء خبزا أو طبخ طعاما لم يأكله كان بدويا أو حضريا. وأما إن شرب من إناء فيه لبن فإنه يأكل اللبن ويشربه إن كان بدويا كان له زرع أو ماشية أو لم يكن، ثم يغسل الإناء سبع مرات للحديث، ويطرحه إن لم يكن بدويا. وقال أصبغ: أهل البادية وأهل الحاضرة في ذلك سواء، والماء واللبن سواء، يؤكل اللبن وينتفع بالماء إن احتيج إليه، ولا بأس بما صرف فيه من خبز وطبخ. وقال مطرف إن كان اللبن كثيرا أكله وإن كان يسيرا طرحه والبدوي والحضري في ذلك سواء. واختلف قول مالك في الحديث الوارد في الكلب، فمرة حمله على عمومه في جميع الكلاب، ومرة رآه في الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه. وتفرقة ابن الماجشون بين البدوي والحضري قول ثالث.
فيتحصل في سؤر الكلب أربعة أقوال: أحدها أنه طاهر، وهو الذي يأتي على قول ابن وهب وأشهب وعلي بن زياد أن السباع محمولة على الطهارة؛ لأن الكلب سبع من السباع، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك فيها على ما حكى عنه من أن الكلب ليس كغيره من السباع. والثاني أنه نجس كغيره من السباع، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه لما جاء عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من الأمر بغسل الإناء سبعا من ولوغه فيه. والثالث الفرق بين الكلب المأذون في اتخاذه وغير المأذون في اتخاذه وهو أظهر الأقوال؛ لأن علة الطهارة التي نص النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عليها في الهرة موجودة في الكلب المأذون في اتخاذه بخلاف الذي لم يؤذن في اتخاذه. والرابع الفرق بين البدوي والحضري،(1/89)
وهو قول ابن الماجشون في رواية أبي زيد عنه. فمن رأى سؤر الكلب طاهرا قال أمر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بغسل الإناء سبعا من ولوغه فيه تعبد لا لعلة، ومن رآه نجسا قال ما يقع به الإنقاء من الغسلات واجب للنجاسة وبقية السبع غسلات عبادة لا لعلة، [ومن رآه نجسا قال ما يقع به الإنقاء من الغسلات واجب للنجاسة، وبقية السبع غسلات تعبد لا لعلة] ، كالأمر في الاستنجاء بثلاثة أحجار الواجب منها ما يقع به الإنقاء وبقية الثلاث تعبد. واختلف متى يغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلاب، فقيل بفور ولوغه، وقيل عند إرادة استعماله. وإذا كان غسله تعبدا فلا معنى لتأخير العبادة، وإنما يجب غسله عند إرادة استعماله على القول بأنه يغسل لنجاسة لا لعبادة. قلت: والذي أقول به في معنى أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب فيه، والله أعلم وأحكم، إنه أمر ندب وإرشاد مخافة أن يكون الكلب كلبا يدخل على آكل سؤره أو مستعمل الإناء قبل غسله منه ضرر في جسمه، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عما يضر بالناس في دينهم ودنياهم، فقد قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة» حتى ذكرت أن الروم وفارسا يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم شيئا. لا لنجاسة إذ هو محمول على الطهارة بالأدلة المذكورة. وإذ لا توقيت في عدد الغسل من النجاسة فإذا ولغ الكلب المأذون في اتخاذه في إناء فيه ماء أو طعام لم ينجس الماء ولا الطعام على هذا التأويل، ووجب أن يتوقى من شربه أو أكله أو استعمال الإناء قبل غسله مخافة أن يكون الكلب كلبا فيكون قد داخل ذلك من لعابه ما يشبه السم المضر بالأبدان على ما أرشد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه بما أمر به من غسل الإناء الذي ولغ فيه سبعا إشفاقا منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/90)
على أمته، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما. ويدل على هذا التأويل تحديده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغسل الإناء سبعا لأن السبع من العدد مستحب فيما كان طريقه التداوي لا سيما فيما يتقي منه السم. فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه: «هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر» .
فصل فعلى هذا التأويل لا ينبغي شرب الماء الذي ولغ فيه الكلب لما أرشد النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إليه مما يتقي منه ولا ينفع غسل الإناء به ويجوز الوضوء به وجد غيره أو لم يجد. وعلى القول بأنه يغسل سبعا للنجاسة لا يجوز شربه ولا غسل الإناء به لأنه نجس. ويختلف في الوضوء به إذا لم يجد سواه على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يتوضأ به ولا يتيمم وهو مذهب ابن القاسم. والثاني أنه يتوضأ به ويتيمم ويصلي وهو مذهب ابن الماجشون. والثالث أنه يتيمم ويصلي ثم يتوضأ به ويصلي وهو قول سحنون. وعلى القول بأنه يغسل سبعا تعبدا لا لنجاسة يجوز شربه ولا ينبغي الوضوء به إذا وجد غيره مراعاة للخلاف في النجاسة. وكذلك لا ينبغي أن يغسل الإناء به إذا وجد غيره مراعاة للخلاف. وأما إن لم يجده غيره فقيل إنه يغسل الإناء به كما يتوضأ به. والأظهر أنه لا يغسل الإناء به وإن كان يتوضأ به؛ لأن المفهوم من أمر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بغسل الإناء من ولوغ الكلب فيه أن يغسل بغير ذلك الماء ويجوز على قياس هذا أن يغسل بماء غيره قد ولغ فيه كلب.
فصل
وقد اختلف في معنى ما وقع في المدونة من قول ابن القاسم: وكان(1/91)
يضعفه، فقيل إنه أراد بذلك أنه كان يضعف الحديث لأنه حديث آحاد وظاهر القرآن يعارضه وما ثبت أيضا في السنة من تعليل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طهارة الهرة بالطواف علينا والمخالطة لنا. وقيل بل أراد بذلك أنه كان يضعف [وجوب الغسل، وقيل بل أراد بذلك أنه كان يضعف] العدد. فالتأويل الأول ظاهر في اللفظ بعيد في المعنى، إذ ليس في الأمر بغسل الإناء سبعا ما يقتضي نجاسته فيعارضه ظاهر القرآن وما علل به النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طهارة الهر. والتأويل الثاني بعيد في اللفظ ظاهر في المعنى؛ لأن الأمر محتمل للوجوب والندب، فإذا صح الحديث وحمل على الندب والتعبد لغير علة لم يكن معارضا لظاهر القرآن ولا لما علل به النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طهارة الهرة. وأما التأويل الثالث فهو بعيد في اللفظ والمعنى، إذ لا يصح تضعيف العدد مع ثبوت الحديث لأنه نص فيه على السبع، ولا يجوز أن يصح الحديث ويضعف ما نص فيه عليه، وبالله التوفيق.
فصل
واختلف قول مالك في غسل الإناء من ولوغ الخنزير فيه، فعنه فيه روايتان: إحداهما أنه لا يغسل، والثانية أنه يغسل سبعا قياسا على الكلب، وهي رواية مطرف عنه، حكى الروايتين عنه ابن القصار.
فصل
وإذا قاس الخنزير على الكلب فيلزمه ذلك في سائر السباع لوجود العلة فيها وهي أنها أكثر أكلا للأنجاس من الكلب. وأيضا فإن الكلب اسم للجنس يدخل تحته جميع السباع لأنها كلاب. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في عتبة بن أبي لهب اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فعدا عليه الأسد فقتله» .(1/92)
فصل وموت الدابة في الماء الدائم على مذهب ابن القاسم ورواية المصريين عن مالك بخلاف حلول النجاسة فيه؛ لأن النجاسة تنماع في الماء ويخشى أن يخرج من الدابة عند موتها شيء لا ينماع في الماء ويبقى على وجهه، فإن كان الماء غير معين مثل القصرية أو الجب طرح ولم يتوضأ منه مخافة أن يكون ذلك الشيء النجس قد حصل فيما يتوضأ به، وإن كان بئرا نزف منها قدر ما تطيب النفس به إلا أن يتغير الماء فلا بد أن ينزف منها حتى يزول التغير.
فصل
وهذا في الدواب التي لها دم سائل. وأما الخشاش مثل التي ليس لها دم سائل ودواب الماء مثل السرطان والضفدع فلا يفسد الماء موته فيه. فإن تقطعت أجزاء الخشاش في الماء جرى ذلك على الاختلاف في جواز أكلها بغير ذكاة.(1/93)
[القول في استقبال القبلة لبول أو غائط]
ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة أنه «نهى أن تستقبل القبلة ببول أو غائط» . وروي «عن ابن عمر أنه قال لقد ارتقيت على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على لبنتين مستقبل بيت المقدس لحاجته.» وفي غير رواية مالك «مستقبل بيت المقدس مستدبر القبلة» ، وهو مفسر لما وقع في رواية مالك. وروي «عن عائشة أنها قالت: ذكر عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قوما يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة فقال أوقد فعلوا استقبلوا بمقعدي القبلة» . وروي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من رواية جابر بن عبد الله «أنه نهى عن استقبال القبلة واستدبارها لبول أو غائط، ثم قال رأيته بعد ذلك مستقبل القبلة ببوله قبل موته بعام» . واختلف أهل العلم في تخريج هذه الأحاديث واستعمالها، فمنهم من أخذ بالحديث الأول وحمله على عمومه في القرى والمدائن والفيافي والقفار. ومنهم من جعل حديث جابر ناسخا له فأجاز استقبال القبلة للبول والغائط وهم أهل الظاهر. وأما مالك فاستعمل الحديثين الحديث الأول وحديث ابن عمر، وجعل حديث ابن عمر مخصصا للحديث الأول وقال إنما عنى بذلك الصحارى والفيافي ولم يعن بذلك القرى والمدائن. هذا قوله في المدونة. فعلى قوله فيها يجوز(1/94)
استقبال القبلة واستدبارها في القرى والمدائن من غير ضرورة إلى ذلك. والدليل على ذلك أنه أجاز مجامعة الرجل امرأته إلى القبلة ولا مشقة عليه في التحول عنها في ذلك. ويؤيد هذا المذهب حديث عائشة «استقبلوا بمقعدي القبلة» . فالمعنى على هذا في النهي من أجل أن لله عبادا يصلون له، فإذا استتر في القرى والمدائن بالأبنية ارتفعت العلة. وكذلك على هذا لو استتر في الصحراء بشيء لجاز أن يستقبل القبلة لحاجته، وقد فعل هذا عبد الله بن عمر. روى مروان الأصفر عنه أنه أناخ راحلته مستقبل بيت المقدس ثم جلس يبول إليها، فقلت يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ فقال إنما نهي عن هذا في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس به.
ولمالك في المجموعة أنه لا يستقبل القبلة لبول أو غائط في القرى والمدائن إلا في الكنف المتخذة لذلك للمشقة الداخلة عليه في التحول عنها. فالمعنى عنده على هذه الرواية في النهي إعظام القبلة، فلا يجوز له أن يجامع امرأته مستقبل القبلة على هذه الرواية إذ لا ضرورة إلى ذلك. ويحمل حديث ابن عمر أن اللبنتين كانتا مبنيتين ولم يصح عنده حديث عائشة أو لم يبلغه والله أعلم. وذكر أبو إسحاق التونسي أنه قد تؤول على ما في المدونة أنه أجاز مجامعة الرجل امرأته في الصحراء إلى القبلة، وهو بعيد والله أعلم.
[فصل في القول في الملامسة]
المعنى في الملامسة الطلب. قال الله عز وجل: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8] أي طلبنا السماء وأردناها فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا أي حفظة يحفظونها. «وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرجل سأله أن يزوجه المرأة التي وهبت نفسها للنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "هل معك شيء تصدقها قال ما عندي إلا إزاري هذا. قال فإن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك(1/95)
فالتمس شيئا أي اطلب قال ما أجد شيئا قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا» ".
فصل فلا يقال لمن مس شيئا قد لمسه إلا أن يكون مسه ابتغاء معنى يطلبه من حرارة أو برودة أو صلابة أو رخاوة أو علم حقيقة. قال الله عز وجل: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام: 7] ألا ترى أنه يقال تماس الحجران ولا يقال تلامس الحجران لما كانت الإرادة والطلب مستحيلة عليهما.
فصل فلما كان المعنى المقصود من مس النساء الالتذاذ بهن علم أن معنى قول الله عز وجل: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] هو اللمس الذي يبتغى به اللذة دون ما سواه من المعاني.
فصل وقد اختلف في قول الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] فقيل المراد بذلك الجماع، روي ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وهو قول عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -. روي أن عبيد بن عمير وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح اختلفوا في الملامسة، فقال سعيد وعطاء هو اللمس والغمز، وقال عبيد بن عمير هو النكاح، فخرج عليهم ابن عباس وهم كذلك فسألوه وأخبروه بما قالوا فقال أخطأ الموليان وأصاب العربي، هو الجماع ولكن الله يعف ويكفي وهو(1/96)
محفوظ عن ابن عباس من وجوه كثيرة. روي عنه أنه قال ما أبالي قبلت امرأتي أو شممت ريحانة. وإلى هذا ذهب أهل العراق وحجتهم ما روي «عن عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبلها ثم يخرج إلى الصلاة فلا يتوضأ» . وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] قالوا فالملامسة مفاعلة من اثنين فلا يكون إلا الجماع. وقيل إن المراد به ما دون الجماع من القبلة والمباشرة واللمس، وهو قول عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود. وتأول إسماعيل القاضي مثله على عمر بن الخطاب في قوله إن الجنب لا يتيمم، وقال به جماعة من التابعين، وإليه ذهب مالك وأصحابه. والدليل على ذلك أن الله عز وجل قد ذكر في أول الآية {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فلو كان معنى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] الجماع لكان مكررا لغير فائدة ولا معنى. ودليل آخر وهو أن لفظ الملامسة حقيقة في اللمس باليد ومجاز في الوطء، وحمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز. ودليل ثالث وهو أن الملامسة واقعة على التقاء البشرتين، فإذا كانت كذلك لم يخل اللمس باليد من أن يكون أولى بإطلاق هذا الاسم عليه من الجماع فيقتصر عليه، أو أن يكون هو وغيره من أنواعها سواء فيجب حمل الظاهر على عمومه في كل ما يقع عليه الاسم، ولأن الآية قد قرئت أو لمستم النساء، ولا خلاف أن ذلك لغير اللمس باليد فصح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فصل فإذا ثبت أن الملامسة ما دون الجماع من القبلة والمباشرة واللمس باليد فلا يخلو ذلك من أربعة أوجه: أحدها أن يقصد بهذه الأشياء إلى الالتذاذ فيلتذ، والثاني أن لا يقصد بها إلى الالتذاذ ولا يلتذ، والثالث أن يقصد بها إلى الالتذاذ فلا يلتذ، والرابع أن لا يقصد بها إلى الالتذاذ فيلتذ.
فصل فأما الوجه الأول وهو أن يقصد بها إلى الالتذاذ فيلتذ فلا خلاف عندنا في إيجاب الوضوء لوجود الملامسة التي سماها الله ووجود معناها وهو الالتذاذ.(1/97)
وأما الوجه الثاني: وهو أن لا يقصد بها إلى الالتذاذ ولا يلتذ فتفترق فيه القبلة من المباشرة واللمس. فأما المباشرة واللمس فلا يجب عليه فيهما وضوء إذا لم يلامس اللمس الذي عناه الله تعالى بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] ولا وجد معناه. وأما القبلة فاختلف فيها على قولين: أحدهما إيجاب الوضوء منها وهي رواية أشهب عن مالك وقول أصبغ ودليل المدونة. وعلة ذلك أن القبلة لا تنفك من اللذة إلا أن تكون صبية صغيرة فيقبلها على سبيل الرحمة أو ذات محرم فيقبلها على سبيل الوداع أو ما أشبه ذلك. والثاني أن لا وضوء منها كالملامسة والمباشرة وهو قول مطرف وابن الماجشون وغيرهما.
وأما الوجه الثالث وهو أن يقصد بها إلى اللذة فلا يلتذ ففي ذلك اختلاف. روى عيسى عن ابن القاسم أن عليه الوضوء، وهو ظاهر ما في المدونة. والعلة في ذلك وقوع الملامسة التي عناها الله تعالى بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] وهي الملامسة ابتغاء اللذة على ما بيناه. فإذا ابتغاها بلمسه وجب عليه الوضوء وجدها أو لم يجدها على ظاهر القرآن إذ لم يشترط في الملامسة وجود لذة. واعتل في الرواية بأنه قد وجدها بقلبه حيت وضع يده على امرأته وليس ذلك بعلة صحيحة؛ لأن اللذة إذا لم تكن كائنة عن اللمس وموجودة به فلا معنى للاعتبار بها. وروى أشهب عن مالك أنه لا وضوء عليه. ووجه ذلك أن المعنى في إيجاب الملامسة الوضوء اقتران اللذة بها فإن عدمت لم يجب الوضوء، وهذا الاختلاف فيما عدا القبلة. وأما القبلة فإنها توجب الوضوء إذا قصد بها اللذة وإن لم يلتذ لا أعرف في المذهب نصا خلاف ذلك، ولا يبعد دخول الاختلاف فيه بالمعني.
وأما الوجه الرابع وهو أن لا يقصد بها إلى اللذة فيلتذ فهذا لا اختلاف فيه في المذهب إنه يوجب الوضوء لأنه وجد معنى الملامسة، والأحكام إنما هي للمعاني.
فصل وسواء على مذهب مالك كانت الملامسة على ثوب أو على غير ثوب إلا أن(1/98)
يكون الثوب كثيفا، روى ذلك علي بن زياد عن مالك، وهو مفسر لجميع الروايات عندي..
فصل وهذا التفصيل كله في اللامس. وأما الملموس فإن التذ وجب عليه الوضوء، وإن لم يلتذ فلا وضوء عليه. هذا تحصيل مذهب مالك. والشافعي يوجب الوضوء على اللامس إذا لمس على غير حائل قصد بلمسه اللذة أو لم يقصدها وجدها أو لم يجدها، وله في الملموس قولان أحدهما كقول مالك، والثاني أنه لا وضوء عليه. وحجته في ذلك «حديث عائشة فقدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالتمسته فوقعت يدي على باطن قدميه وهو يصلي» .(1/99)
[القول في الوضوء من مس الذكر]
ومما يتعلق بالملامسة وهو من معناها مس الذكر. اختلفت الآثار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إيجاب الوضوء من مس الذكر، فروى عنه الأمر بالوضوء من مس الذكر جماعة منهم أبو هريرة وسعد بن أبي وقاص وزيد بن خالد الجهني وأبو أيوب الأنصاري وابن عمر وجابر وبسرة وأم حبيبة، وروي بألفاظ مختلفة ومعان متفقة في بعضها: «من مس ذكره فليتوضأ» «ومن مس فرجه فليتوضأ» «ومن مس فرجه فلا يصلين حتى يتوضأ وضوءه للصلاة» «ومن أفضى بيده إلى فرجه ليس بينها وبينه حجاب فقد وجب عليه الوضوء» «والوضوء من مس الذكر» «وويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤون» . «وروى قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي أنه قال: قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاءه رجل كأنه بدوي فقال يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ فقال: "وهل هو إلا بضعة منك»
فصل واختلف أهل العلم في تأويل هذه الأحاديث وتخريجها وفي المعمول به منها فذهبت طائفة منهم إلى الأخذ بوجوب الوضوء من مس الذكر جملة من(1/100)
غير تفصيل وصححوا الآثار الواردة بالأمر بالوضوء من مسه وضعفوا حديث طلق بن علي. ومنهم من جعله منسوخا بحديث بسرة، واستدل على نسخه بأن إيجاب الوضوء وارد من جهة الشرع، وقوله هل هو إلا بضعة منك حجة عقلية، فجاز أن ينسخ ما في العقل بالشرع، ولا يصح أن ينسخ الشرع بما في العقل. ومنهم من تأوله فقال ليس فيه نص بإسقاط الوضوء، فيحتمل أن يكون المراد به إجازة مسه وإسقاط غسل اليدين من مسه كسائر الأعضاء. ومنهم من ذهب إلى أن لا وضوء من مس الذكر جملة من غير تفصيل، وهم أهل العراق، وصححوا حديث طلق وضعفوا الأحاديث الواردة بالأمر بالوضوء منه بأن قالوا إن هذا أمر تعم به البلوى، فلو كان الوضوء منه واجبا لألقاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أمته إلقاء ذائعا ولو فعل ذلك لم يخف على أكابر الصحابة مثل عثمان وعلي وابن عباس وعمران بن الحصين وغيرهم [ممن أنكر الوضوء من مس الذكر. وهذا يعكس عليهم فيقال لهم لو كان الوضوء غير واجب منه لم يخف ذلك على أكابر الصحابة الذين أوجبوا الوضوء منه مثل عمر بن الخطاب وسعيد وابن عمر وغيرهم] .. ومنهم من فرق بين العمد والنسيان، فاستعمل حديث طلق في مسه ناسيا، والآثار الواردة بالأمر بالوضوء من مسه في مسه عامدا.
فصل وأما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فاختلفت الروايات عنه في ذلك، فروى عنه أشهب أنه سئل عن مس الذكر فقال: لا أوجبه وأبى فروجع في ذلك فقال يعيد ما كان في الوقت وإلا فلا. وروي عنه في موضع آخر من مس ذكره انتقض وضوؤه وقال في المدونة إن مسه بباطن كفه أو أصابعه انتقض وضوؤه، وإن مسه بظاهر الكف أو الذراع لم ينتقض وضوؤه. واختلف قوله في مسه ناسيا على قولين رواهما عنه ابن وهب في العتبية. فتحصيل هذا أن له في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها ألا وضوء من(1/101)
مس الذكر ناسيا كان أو متعمدا كمذهب أهل العراق، وهي رواية أشهب الأولى عن مالك؛ لأن الإعادة في الوقت استحباب، وهو قول سحنون وروايته عن ابن القاسم في العتبية. والثاني إيجاب الوضوء من مسه ناسيا كان أو متعمدا. قيل إذا مسه بباطن الكف أو الأصابع التذ أو لم يلتذ لأنه الموضع المقصود بمسه له فخرج الحديث عليه، وإن مسه بظاهر الكف أو الذراع لم يجب عليه الوضوء وإن التذ. وقيل بل إذا التذ وجب عليه الوضوء مسه بباطن الكف أو بظاهره أو بأي عضو كان. أما التأويل الأول فهو لبعض أهل النظر على قول مالك في المدونة، وأما التأويل الثاني فمنهم من يتأوله على ما في المدونة ويقول إن تخصيصه فيها لباطن الكف من ظاهره تنبيه منه على مراعاة اللذة، ومنهم من يتأوله على مذهب مالك قياسا على ملامسة النساء. والقول الثالث إنه إن كان ناسيا فلا وضوء عليه بحال، وإن كان متعمدا فعليه الوضوء على التأويلين المذكورين. وقد قيل إن معنى رواية أشهب عن مالك الأولى إذا مسه على غير الصفة المراعاة في نقض الوضوء إما ناسيا وإما متعمدا بظاهر الكف أو الذراع التذ أو لم يلتذ على الاختلاف المتقدم. هذا تحصيل مذهب مالك في هذه المسألة، وهذا إذا مسه على غير حائل. وأما إن كان مسه على حائل رقيق فاختلف قول مالك: روى عنه ابن وهب أنه لا وضوء عليه وهو الأشهر، وروى علي بن زياد عن مالك أن عليه الوضوء. وأما إن مسه على حائل كثيف فلا وضوء عليه، فعلى ما حكيناه من الاختلاف لا اختلاف في المذهب أنه إن مس ذكره ناسيا أو متعمدا بظاهر الكف أو الذراع ولم يلتذ فلا وضوء عليه.
فصل
وأما مس المرأة فرجها فعن مالك في ذلك أربع روايات: إحداها سقوط الوضوء، والثانية استحبابه، والثالثة إيجابه، والرابعة التفرقة بين أن تلطف أو لا تلطف، وهي رواية ابن أبي أويس عنه. فأما الرواية الأولى والثانية فهما واحدة في سقوط الوجوب. وذهب أبو بكر الأبهري إلى أن ذلك كله ليس باختلاف رواية، وإنما هو اختلاف أحوال، فرواية ابن القاسم وأشهب في سقوط الوضوء معناها إذا لم تلطف ولا قبضت عليه فالتذت، ورواية علي بن زياد عن مالك في وجوب(1/102)
الوضوء معناها إذا ألطفت على ما بين في رواية ابن أبي أويس عن مالك. ومن أصحابنا من يحمل الروايات كلها على روايتين: إحداهما وجوب الوضوء، والثانية سقوطه، والوجوب متعلق بالإلطاف والالتذاذ.
فصل
فإذا مست المرأة فرجها فلم تلطف ولم تلتذ فلا وضوء عليها عند مالك، ولم يختلف عنه في ذلك، فإذا ألطفت والتذت وجب عليها الوضوء عند مالك بلا خلاف، وقيل إن عنه في ذلك روايتين على ما بيناه.
فصل ولم يختلف قول مالك في أنه لا وضوء على الرجل في مس دبره التذ أو لم يلتذ، وأوجب عليه الشافعي الوضوء لظاهر قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «من مس فرجه فقد وجب عليه الوضوء» .
[فصل في القول في الرعاف]
الرعاف ليس بحدث ينقض الطهارة عند مالك وجميع أصحابه قل أو كثر، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه في قولهم إنه ينقض الوضوء إذا كان كثيرا، ولمجاهد في قوله إنه ينقضه وإن كان يسيرا. وهو -أعني الرعاف- ينقسم في حكم الصلاة على قسمين: أحدهما أن يكون دائما لا ينقطع. والثاني أن يكون غير دائم ينقطع. فأما القسم الأول وهو أن يكون دائما لا ينقطع فالحكم فيه أن يصلي صاحبه الصلاة به في وقتها على الحالة التي هو عليها. والأصل في ذلك أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صلى حين طعن وجرحه يثعب دما. فإن لم يقدر على السجود والركوع إما لأنه يضر به ويزيد في رعافه وإما لأنه يخشى أن يتلطخ بالدم إن ركع أو سجد أومأ في صلاته كلها إيماء كما قال سعيد بن المسيب فكلا التأويلين(1/103)
قد تؤولا عليه. فإن انقطع عنه الرعاف في بقية من الوقت وقدر على الصلاة راكعا أو ساجدا لم تجب عليه إعادة لأن إيماءه إن كان لإضرار الركوع أو السجود فهو كالمريض الذي لا يقدر على السجود فيصلي إيماء ثم يصح في بقية من الوقت أنه لا إعادة عليه، وإن كان مخافة أن تمتلئ ثيابه بالدم فهو عذر يصح له به الإيماء إجماعا فوجب أن لا تكون عليه إعادة كالمسافر الذي لا علم عنده بالماء يتيمم ثم يجد الماء في الوقت أنه لا إعادة عليه من أجل أنه من أهل التيمم إجماعا، بخلاف المريض والخائف إذ قيل إنهما ليسا من أهل التيمم، وبخلاف المصلي في الطين إيماء إذ قيل إنه ليس من أهل الإيماء ويلزمه أن يركع ويسجد في الطين وإن فسدت ثيابه فما ذلك على الله بعزيز، وقد «سجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الماء والطين فانصرف من الصلاة وعلى جبينه وأنفه أثر الماء والطين» .
وأما القسم الثاني وهو أن يكون غير دائم ينقطع، فإن أصابه قبل أن يدخل أخر الصلاة حتى ينقطع عنه ما لم يفت وقت الصلاة المفروضة: القامة للظهر، والقامتان للعصر. وقيل بل يؤخرهما ما لم يخف فوات الوقت جملة بأن يتمكن اصفرار الشمس للظهر والعصر فيخشى أن لا يدرك تمامهما قبل غروب الشمس، فإن خشي ذلك صلاهما قبل خروج الوقت كيفما أمكنه ولو إيماء. وإن أصابه ذلك بعد أن دخل في الصلاة فلا يخلو من وجهين: أحدهما أن يكون يسيرا يذهبه الفتل. والثاني أن يكون كثيرا قاطرا أو سائلا لا يذهبه الفتل. فأما إن كان يسيرا يذهبه الفتل فإنه يفتله ويتمادى على صلاته فذا كان أو إماما أو مأموما، ولا اختلاف في ذلك على ما روي عن جماعة من السلف، منهم سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، أنهم كانوا يرعفون في الصلاة حتى تختضب أصابعهم أي الأنامل الأولى منها من الدم الذي يخرج من أنوفهم فيفتلونه ويمضون على صلاتهم. وأما إن تجاوز الدم الأنامل الأولى وحصل منه في الأنامل الوسطى قدر الدرهم على مذهب ابن حبيب أو أكثر من الدرهم على رواية علي بن زياد عن مالك، فيقطع ويبتدئ،(1/104)
لأنه قد حصل بذلك حامل نجاسة، فلا يصح له التمادي على صلاته ولا البناء عليها بعد غسل الدم. وأما إن كان كثيرا قاطرا أو سائلا لا يذهبه الفتل فالذي يوجبه القياس والنظر أن يقطع وينصرف فيغسل الدم ثم يبتدئ بصلاته؛ لأن الشأن في الصلاة أن يتصل عملها ولا يتخللها شغل كثير ولا انصراف عن القبلة، إلا أنه قد جاء عن جمهور الصحابة والتابعين إجازة البناء في الصلاة بعد غسل الدم، ومعناه ما لم يتفاحش بعد الموضع الذي يغسله فيه، وقال بذلك مالك وجميع أصحابه في الإمام والمأموم، واختلفوا في الفذ، فذهب ابن حبيب إلى أنه لا يبني الفذ، قال لأن البناء إنما هو ليحوط فضل الجماعة. وقال محمد بن مسلمة يبني. ومثله في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة في بعض روايات العتبية، وهو قول أصبغ أيضا وظاهر ما في المدونة على ما قاله ابن لبابة. واختلفوا أيضا فيمن رعف قبل أن يركع بعد أن أحرم هل يصح له البناء على إحرامه أم لا على أربعة أقوال: أحدها أنه يبني على إحرامه جملة من غير تفصيل وهو قول سحنون. والثاني أنه لا يبني ويستأنف الإقامة والإحرام جملة أيضا من غير تفصيل وهو قول ابن عبد الحكم، ومثله في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم. والثالث أنها إن كانت جمعة ابتدأ الإحرام، وإن كانت غير جمعة بنى على إحرامه، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه وظاهر ما في المدونة عندي، واستحب أشهب في الجمعة أن يقطع. والرابع أنه إن كان وحده أو إماما ابتدأ الإحرام، وإن كان مأموما بنى على إحرامه.
واختلفوا أيضا فيمن رعف في أثناء الركعة قبل أن تتم بركوعها وسجودها على أربعة أقوال:
أحدها أنه يصح له ما مضى منها ويبني عليها كانت الأولى أو الثانية بعد أن عقد الأولى، فإن رعف وهو راكع فرفع رأسه للرعاف رفع من الركعة، وإذا رجع رجع إلى القيام فيخر منه إلى السجود. وإن رعف وهو ساجد فرفع رأسه للرعاف(1/105)
رفع من السجدة، فإذا رجع سجد السجدة الثانية أو جلس فتشهد إن كان رعافه في السجدة الثانية. وإن كان رعف وهو جالس في التشهد الأول فقيامه للرعاف قيام من الجلسة، فإذا رجع ابتدأ قراءة الركعة الثالثة، إلا أن يكون ذلك في مبتدأ الجلوس فليرجع إلى الجلوس حتى يتم تشهده، وهو قول ابن حبيب، وحكاه عن ابن الماجشون.
والثاني أنه يلغي ما مضى عن تلك الركعة ولا يبني على شيء منه، ويبتدئها بالقراءة من أولها إذا رجع، كانت الركعة الأولى أو الثانية بعد أن عقد الأولى. وهو ظاهر ما في المدونة عندي، وقد روي ذلك عن ابن القاسم.
والثالث أنه إن كان في الركعة الأولى لم يبن واستأنف الإحرام، وإن كان في الثانية بعد أن عقد الأولى ألغى ما مضى منها واستأنف الركعة من أولها بالقراءة إذا رجع. وقد تؤول ما في المدونة على هذا، وهو قول ابن القاسم وروايته أيضا عن مالك في رسم سلعة سماها، فمرة ساوى ابن القاسم بين الركعة الأولى والثانية، ومرة فرق بينهما على ما قد ذكرته عنه.
والرابع أنه إن كان في الركعة الأولى لم يبن واستأنف الإحرام، وإن كان في الثانية بعد أن عقد الأولى صح له ما مضى منها وبنى عليه إذا رجع. روي هذا القول عن ابن الماجشون. فيتحصل إذا رعف في أثناء الركعة الأولى خمسة أقوال، وإذا رعف في أثناء الركعة الثانية بعد أن عقد الأولى قولان.
فصل ولصحة البناء في الرعاف أربعة شروط متفق عليها: أحدها أن لا يجد الماء في موضع فيجاوزه إلى غيره؛ لأنه إن وجد الماء في موضع. فتجاوزه إلى غيره بطلت صلاته باتفاق. والثاني أن لا يطأ على نجاسة رطبة؛ لأنه إن وطئ على نجاسة رطبة انتقضت صلاته باتفاق أيضا. والثالث أن لا يسقط من الدم على ثوبه أو جسد ما لا يغتفر لكثرته، وقد تقدم الخلاف في حده؛ لأنه إن سقط من الدم(1/106)
على ثوبه أو جسده كثير بطلت صلاته باتفاق. والرابع أن لا يتكلم جاهلا أو متعمدا؛ لأنه إن تكلم جاهلا أو متعمدا بطلت صلاته باتفاق. وشرطان مختلف فيهما: أحدهما أن لا يتكلم ناسيا لأنه قد اختلف إن تكلم ناسيا فقال ابن حبيب لا يبني لأن السنة إنما جاءت في بناء الراعف ما لم يتكلم ولم يخص في ذلك ناسيا من متعمد وحكى ابن سحنون عن أبيه أنه يبني على صلاته ويسجد لسهوه إلا أن يكون الإمام لم يفرغ بعد من صلاته فإنه يحمله عنه. والثاني أن لا يطأ على قشب يابس لأنه قد اختلف إن وطئ على قشب يابس، فقال ابن سحنون تنتقض صلاته، وقال ابن عبدوس لا تنتقض صلاته. وأما مشيه في الطريق لغسل الدم وبها أرواث الدواب وأبوالها فلا تنتقض بذلك صلاته لأنه مضطر إلى المشي في الطريق لغسل الدم كما يضطر إلى الصلاة فيها، وليس بمضطر إلى المشي على القشب اليابس قاله ابن حارث.
فصل وليس البناء في الرعاف بواجب وإنما هو من قبيل الجائز. وقد اختلف في المختار المستحب من ذلك، فاختار ابن القاسم القطع بسلام أو كلام على القياس. قال فإن ابتدأ ولم يتكلم أعاد الصلاة، واختار مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - البناء على الأتباع للسلف وإن خالف ذلك القياس والنظر، وهذا على أصله [أن العمل أقوى من القياس؛ لأن العمل المتصل لا يكون أصله] إلا عن توقيف. وقد ذكر ابن حبيب ما دل على وجوب البناء وهو قوله إن الإمام إذا رعف فاستخلف بالكلام جاهلا أو متعمدا بطلت صلاته وصلاتهم، فجعل قطعه صلاته بالكلام بعد الرعاف يبطل صلاتهم كما لو تكلم جاهلا أو متعمدا بغير رعاف. والصواب ما في المدونة أن صلاتهم لا تبطل؛ لأنه إذا رعف فالقطع له جائز في قول ومستحب في قول، فكيف تبطل صلاة القوم بفعله ما يجوز له أو ما يستحب له؟.(1/107)
فصل ولا يخرج الراعف من حكم الصلاة وحرمتها على مذهب من يجيز له البناء إلا بأن يقطع بسلام أو كلام أو فعل ما لا يصح فعله في الصلاة. وهذا وجه قول ابن حبيب إن من رعف وهو جالس في وسط صلاته أو راكع أو ساجد فإن قيامه من الجلوس أو رفعه من الركوع أو السجود لرعافه يعتد به من صلاته.
فصل واختلف إذا كان مأموما فانصرف لغسل الدم وهو يريد البناء هل يخرج من حكم الإمام أم لا على أربعة أقوال: أحدها أنه يخرج من حكمه حتى يرجع إليه جملة من غير تفصيل. والثاني أنه لا يخرج من حكمه جملة من غير تفصيل. والثالث أنه إن رعف قبل أن يعقد معه ركعة خرج عن حكمه حتى يرجع إليه، وإن رعف بعد أن قيد معه ركعة لم يخرج عن حكمه. والرابع أنه إن أدرك ركعة من صلاة الإمام بعد رجوعه كان في حكمه حال خروجه عنه، وإن لم يدرك من صلاته ركعة بعد رجوعه لم يكن في حكمه حال خروجه، فتكون على هذا القول أحكامه حال خروجه في ارتباط صلاته بصلاة إمامه معتبرة بما يكشفه الغيب من إدراك ركعة فأكثر من صلاته. فمن رأى أنه يخرج من حكمه حتى يرجع يقول إن أفسد الإمام صلاته متعمدا قبل أن يرجع لم تفسد عليه هو، وإن تكلم سهوا سجد بعد السلام ولم يحمل ذلك عنه الإمام، خلاف أصل ابن حبيب الذي يرى أن ذلك يبطل عليه البناء. وإن ظن أن الإمام قد أتم صلاته فأتم صلاته في موضعه ثم تبين له أنه لو مضى لأدركه في الصلاة أجزأته صلاته، وإن سها الإمام لم يلزمه من سهوه شيء. ومن رأى أنه لا يخرج عن حكمه يقول إن أفسد الإمام صلاته متعمدا فسدت عليه هو صلاته، وإن أتم صلاته في موضعه ثم تبين له أنه لو مضى لأدرك الإمام في الصلاة لم تجزه صلاته، وإن سها الإمام لزمه سهوه، وإن تكلم هو ساهيا حمل ذلك عنه الإمام، خلاف أصل ابن حبيب المذكور. وإن قرأ الإمام بعده سجدة(1/108)
فسجدها فرجع هو بعد سلام الإمام كان عليه أن يقرأها ويسجدها، قاله ابن المواز على قياس هذا القول.
فصل وحكم الإمام في الرعاف حكم المأموم في جميع الأشياء لأنه يستخلف عند رجوعه من يتم بالقوم صلاتهم، فيصير المستخلف له إماما يصلي معه ما أدرك من صلاته بعد غسل الدم ويقضي ما فاته ويكون في حكمه حتى يرجع إليه على الاختلاف المذكور فوق هذا. فإن ظن الإمام أنه قد رعف فانصرف ثم تبين أنه لم يرعف بطلت صلاته، واختلف في صلاة القوم فقال ابن عبدوس لا تبطل وحكى ذلك عن سحنون في المجموعة، وقال ابن سحنون تبطل.
فصل فإذا رعف الرجل خلف الإمام فخرج فغسل الدم عنه فإن علم أنه يدرك الإمام في صلاته رجع إليه فأتم معه، وإن علم أنه لا يدركه أتم صلاته في موضعه. فإن كان قد فاته بعض صلاة الإمام وصلى معه بعضها ثم رعف في بقيتها بدأ بالبناء قبل القضاء عند ابن المواز وابن حبيب وهو مذهب ابن القاسم. وقال محمد بن سحنون يبدأ بالقضاء قبل البناء. مثال ذلك أن يفوت الرجل ركعة من صلاة الإمام فيدخل معه في الثانية فيصليها معه ثم يرعف في الثالثة فلا ينصرف حتى يتم الإمام صلاته، فإنه على القول بتقديم البناء على القضاء يأتي بالركعة الثالثة يقرأ فيها بالحمد لله وحدها كما قرأ فيها الإمام لأنها ثالثة صلاته ويجلس فيها لأنها ثانية بنائه، إذ ليس بيده إلا الركعة الثانية التي صلى مع الإمام. ثم يأتي بالركعة الرابعة فيقرأ فيها بالحمد لله وحدها ويقوم عند ابن حبيب لأنها ثالثة بنائه، ويجلس عند ابن المواز لأنها رابعة صلاته وآخر صلاة الإمام، فلا يقوم للقضاء إلا من جلوس، ثم يأتي بالركعة الأولى التي فاتته بالحمد وسورة كما فاتته، فتصير صلاته جلوسا كلها على مذهبه. وعلى الفول بتقديم القضاء على البناء يأتي أولا بالركعة الأولى فيقرأ فيها بالحمد وسورة كما قرأ الإمام ويجلس فيها لأنها ثانية للركعة التي صلى مع(1/109)
الإمام، ثم يأتي بالركعة الثالثة فيقرأ فيها بالحمد لله وحدها ويقوم ولا يجلس فيها لأنها ثالثة لما قد صلى، ثم يأتي بالركعة الرابعة بالحمد لله وحدها أيضا ويجلس ويتشهد ويسلم.
ولو فاتته مع الإمام الأولى وصلى معه الثانية ورعف في الثالثة وأدرك معه الرابعة لكان عليه قضاء الأولى والثالثة يبدأ بقضاء الأولى فيأتي بركعة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة ويقوم لأنها ثالثة له ثم يأتي بالثالثة فيقرأ فيها بالحمد لله وحدها ويجلس ويتشهد ويسلم، قاله ابن حبيب. ولم يقل إنه يبدأ ببناء الثالثة التي رعف فيها على الثانية التي صلاها مع الإمام على أصله في تبدئة البناء على القضاء، إذ قد حالت بينه وبين بنائه عليها الركعة الرابعة التي أدرك مع الإمام. وأما على مذهب من يرى أن القضاء يبدأ على البناء فلا إشكال في صحة هذا الجواب في هذه المسألة لأن البناء لما بعد فيها ووجب قضاء الركعتين وجب أن يبدأ بقضاء الأولى قبل الثالثة. وقد وقع لسحنون في المجموعة أنه يقضي الثالثة بالحمد لله وحدها قبل الأولى، وذلك مخالف لأصله بعيد من قوله.
فصل وحكم الراعف خلف الإمام في الجمعة وغيرها سواء إلا في موضعين: أحدهما أنه إذا رعف في الجمعة بعد أن صلى مع الإمام ركعة فلم يفرغ من غسل الدم حتى أتم الإمام صلاته أنه لا يصلي الركعة الثانية إلا في المسجد الذي ابتدأ الصلاة فيه لأن الجمعة لا تكون إلا في المسجد، فإن حال بينه وبين الرجوع إلى المسجد واد أو أمر غالب أضاف إليها ركعة وصلى ظهرا أربعا، قاله المغيرة. والثاني أنه إذا رعف قبل أن يتم مع الإمام ركعة بسجدتيها ثم لم يفرغ من غسل الدم حتى أتم الإمام صلاته لا يبني على صلاة الإمام تمام ركعتين ويصلي أربع ركعات في موضعه على قول من رأى أنه يبنى على الإحرام في الجمعة. وقد تقدم ذكر الاختلاف في ذلك وبالله التوفيق.(1/110)
فصل وإذا رعف الإمام في صلاة الجنازة أو صلاة العيد استخلف من يتم بالقوم بقية الصلاة كصلاة الفريضة سواء. وأما إذا رعف المأموم فيهما فإنه ينصرف ويغسل الدم ثم يرجع فيتم مع الإمام ما بقي من تكبير الجنازة وصلاة العيد، فإن علم أنه لا يدرك شيئا من ذلك مع الإمام أتم في موضعه حيث يغسل الدم عنه إلا أن يعلم أنه يدرك الجنازة قبل أن ترفع، فإنه يرجع حتى يتم ما بقي من التكبير عليها. قال أشهب: فإن كان رعف قبل أن يعقد من صلاة العيد ركعة أو قبل أن يكبر من تكبير الجنازة شيئا وخشي إن انصرف لغسل الدم أن تفوته الصلاة لم ينصرف وصلى على الجنازة وتمادى على صلاته في العيد. وكذلك لو رأى في ثوبه نجاسة وخاف إن انصرف لغسلها أن تفوته صلاة الجنازة أو صلاة العيد لتمادى على صلاته ولم ينصرف؛ لأن صلاة الجنازة والعيد مع الرعاف وبالثوب النجس أولى من فواتهما وتركهما بخلاف صلاتهما بالتيمم لمن لم يجد الماء، إذ ليس الصحيح الحاضر من أهل التيمم. هذا كله -أعني ما ذكرته في هذا الفصل- هو معنى ما في كتاب ابن المواز الذي ينبغي أن يحمل عليه وإن كان ظاهر لفظه مخالفا لبعضه. وبالله تعالى التوفيق.
[فصل في القول في التيمم]
فصل
في القول في التيمم أمر الله سبحانه وتعالى المسافر والمريض بالتيمم للصلاة عند عدم الماء، وأجمع أهل العلم على وجوب التيمم عليهما لأن الأمر لهما بالتيمم مع عدم الماء نص في الآية لا يحتمل التأويل. واختلفوا في الصحيح الحاضر العادم للماء والمريض الواجد للماء العادم للقدرة على مسه هل هما من أهل التيمم أم لا، لما(1/111)
احتملته الآية من التأويل. فمن حمل الآية على ظاهرها ولم يقدر فيها تقديما ولا تأخيرا رآهما من أهل التيمم؛ لأن شرط عدم الماء في الآية يعود على الحاضر، ويتأول إضماره في المريض والمسافر، وإضمار عدم القدرة على مسه في المريض أيضا. ومن قدر في الآية تقديما وتأخيرا لم يرهما من أهل التيمم؛ لأن شرط عدم الماء على التقديم والتأخير لا يعود إلا على المريض والمسافر. وكذلك إذا حملت الآية على التأويل الذي ذكرناه فيما تقدم فيها من أن "أو" في قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] بمعنى الواو لا يكونان من أهل التيمم، وهو أظهر من التأويلين المتقدمين؛ لأن التلاوة تبقى على ظاهرها دون تقديم وتأخير، ولا يحتاج فيها إلى إضمار، فتأتي بينة لا إشكال فيها ولا احتمال. لأن تقديرها على هذا التأويل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] الآية إلى {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] .
والتيمم القصد، قال الله عز وجل: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] أي قاصديه. والصعيد: ما صعد من الأرض، وقيل التراب. والطيب الطاهر. يقول الله تعالى: وإن كنتم على هذه الأحوال فاقصدوا ترابا طاهرا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه أن الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره؛ لأنهم يجيزون التيمم بالرمل والحصا والجبل.
والدليل على صحة قول مالك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» فوجب بظاهر هذا الحديث أن يجوز التيمم بكل ما هو مشاكل للأرض لم تدخله صنعة كما تجوز الصلاة عليه، ويجوز على هذا التيمم بالحشيش النابت على وجه الأرض إذا عم الأرض وحال بينك وبينها. وقال يحيى بن سعيد ما حال(1/112)
بينك وبين الأرض فهو منها. واختلف قول مالك في التيمم على الثلج إذا عم الأرض فأجازه في رواية علي بن زياد ومنع منه في رواية أشهب وغيره. وذهب الشافعي إلى أن التيمم لا يجوز إلا على التراب، واحتج بما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جعلت لي الأرض مسجدا وجعلت تربتها لي طهورا» ، فحصل الإجماع على إجازة التيمم على التراب، والاختلاف فيما سواه مما هو مشاكل للأرض. فالاختيار أن لا يتيمم على الحصباء وما أشبهها إلا عند عدم التراب. فإن تيمم عليه وهو واجد للتراب فظاهر المدونة أنه لا إعادة عليه، وقال ابن حبيب يعيد في الوقت. وأما الثلج فإن تيمم عليه وهو يصل إلى الأرض فيعيد أبدا، قاله ابن حبيب وهو معنى ما في المدونة، وإن تيمم عليه وهو لا يصل إلى الأرض فظاهر المدونة أنه لا إعادة عليه، وقال ابن حبيب يعيد في الوقت. وهذا كله على رواية علي بن زياد عن مالك، وأما على رواية أشهب عنه فيعيد أبدا إن تيمم عليه كان يصل إلى الأرض أو لا يصل إليها.
فصل وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن التيمم بالتراب على غير وجه الأرض جائز مثل أن يرفع إلى المريض في طبق أو إلى الراكب في محمل أو يكون مريضا فيتيمم جدارا إلى جانبه إن كان من طوب نيء. وذهب ابن بكير إلى أن العبادة إنما هي القصد إلى وجه الأرض فلم يجز شيئا من ذلك.
فصل وأطلق الله تبارك وتعالى الأيدي في التيمم ولم يقيدها بالحد إلى المرفقين كما فعل في الوضوء. واختلفت الآثار في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فروي عنه الأمر بالتيمم إلى المرفقين، وإلى الكوعين، بضربة واحدة، وبضربتين. «وروي عن عمار(1/113)
بن ياسر أنه قال: لما نزلت آية التيمم عمد المسلمون مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتيمموا إلى المناكب والآباط.» فيحتمل أن يكونوا فعلوا ذلك اتباعا لظاهر القرآن بكل ما يقع عليه اسم يد عند العرب قبل أن يأمرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك بشيء، إذ لا يوجد ذلك للنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في غير هذا الحديث. وعلى هذا اختلف أهل العلم في حد التيمم، فمنهم من ذهب إلى إيجاب التيمم إلى المنكبين، وهو قول ابن شهاب ومحمد بن مسلمة من أصحابنا. ومنهم من ذهب إلى أن التيمم لا يجب إلا إلى المرفقين على ما روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقياسا على الوضوء، وهو مذهب الشافعي وأكثر أهل العلم، وإليه ذهب من أصحابنا ابن نافع ومحمد بن عبد الحكم. ومنهم من ذهب إلى أن التيمم لا يجب إلا إلى الكوعين قياسا على القطع في السرقة. قيل في ذلك كله بضربة واحدة، أو بضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين، فهذه ستة أقوال. وقال الحسن وابن أبي ليلى يضرب ضربتين فيمسح بكل واحدة منهما وجهه ويديه. وحكى ابن لبابة في المنتخب قولا ثامنا في المسألة، وهو أن الجنب يتيمم إلى الكوعين بالسنة لا بالقرآن، وغير الجنب إلى المنكبين على ظاهر ما في القرآن، واحتج لذلك بما يقف عليه من تأمله في موضعه من كتابه.
فصل ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الجنب يتيمم بظاهر القرآن؛ لأن الله تبارك وتعالى أمر بالوضوء من الحدث والغسل من الجنابة للصلاة، ثم أمر بالتيمم عند عدم الماء بالنص على ذلك، وعند عدم القدرة على استعماله بالتأويل الظاهر، فوجب أن يحمل ذلك على الوضوء والغسل من الجنابة جميعا، وأن لا يخصص في أحدهما دون الآخر إلا بدليل، ولا دليل على ذلك. بل قد دلت السنن الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تيمم الجنب على خلافه؛ وأن التيمم عنده، أعني عند مالك، من الجنابة والحدث الذي ينقض الوضوء سواء، وأن فرض التيمم فيهما ضربة واحدة للوجه واليدين إلى الكوعين، إلا أنه يستحب ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين(1/114)
إلى المرفقين، فإن تيمم إلى الكوعين أعاد في الوقت، وإن تيمم بضربة واحدة لوجهه ويديه إلى المرفقين لم يعد.
فصل ومن أهل العلم من ذهب إلى أن الجنب لا رخصة له في التيمم، وهو مذهب عمر بن الخطاب، وكان عبد الله بن مسعود يقوله ثم رجع عنه. وقد روي «أن رجلا سأل عمر بن الخطاب فقال إني أجنبت فلم أجد الماء، فأمره أن لا يصلي، فقال له عمار أما تذكر أنا كنا في سرية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجنبت أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت بالتراب فصليت، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له فقال إنما كان يكفيك هكذا، فضرب بكفيه الأرض فنفخ فيهما فمسح وجهه وكفيه» فلم يقنع عمر بقول عمار وخشي أن يكون قد دخل عليه فيما حدثه به وهم أو نسيان إذ لم يذكر هو شيئا من ذلك.
فصل وقد ذهب بعض الناس ممن ينتحل الحديث إلى أن الجنب يتيمم إذا عدم الماء ويتوضأ إذا وجده ولم يقدر على مسه على ما روي «عن عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره على جيش ذات السلاسل، وفي الجيش نفر من المهاجرين والأنصار، منهم عمر بن الخطاب، فاحتلم عمرو بن العاص في ليلة شديدة البرد، فأشفق أن يموت إن اغتسل فتوضأ ثم أم أصحابه، فلما قدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقدم عمر بن الخطاب فشكا عمرو بن العاص حتى قال وأمنا جميعا، فأعرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عمر بن الخطاب. فلما قدم عمرو دخل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل يخبره بما صنع في غزاته، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصليت جنبا يا عمرو؟ فقال نعم يا رسول الله أصابني احتلام في ليلة باردة لم يمر على وجهي مثلها قط، فخيرت نفسي بين أن أغتسل فأموت أو أقبل رخصة الله عز وجل فقبلت رخصة الله تعالى وعلمت أن الله(1/115)
أرحم بي فتوضأت ثم صليت. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أحسنت ما أحب أنك تركت شيئا صنعته ولو كنت في القوم لصنعت كما صنعت.» وممن كان يذهب إلى هذا أحمد بن صالح وقال إن الوضوء فوق التيمم، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الله تبارك وتعالى جعل التيمم بدل الغسل من الجنابة ولم يجعل الوضوء بدلا منه، فليس بأرفع منه في ذلك، وإنما هو أرفع منه في الحدث الأصغر حيث جعل بدلا منه. وأما الحديث فيحتمل أن يكون ما كان من عمرو بن العاص قبل نزول آية التيمم، والحكم حينئذ في الجنب إذا عدم الماء أن يصلي بلا غسل، فلما سقط عنه فرض الاغتسال بالخوف على نفسه صار في حكم من لا جنابة عليه، فتوضأ وصلى كما يفعل من استيقظ من نومه ولا جنابة عليه، وكما يصلي عريانا من لم يجد سترة. وقد صلى أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل فرض التيمم وهم محدثون على غير وضوء، فلم ينكر ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم على ما روي. فصح ما تأولناه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل والتيمم لا يرفع الحدث الأكبر ولا الأصغر عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه وجمهور أهل العلم، خلافا لسعيد بن المسيب وابن شهاب في قولهما إنه يرفع الحدث الأصغر دون الأكبر، وخلافا لقول أبي سلمة بن عبد الرحمن في أنه يرفع الحدثين جميعا حدث الجنابة والحدث الذي ينقض الوضوء. ومعنى هذا أنه إذا تيمم للوضوء أو من الجنابة كان على طهارة أبدا ولم يجب عليه الغسل ولا الوضوء وإن وجد ماء ما لم يحدث أو يجنب. وقد وقع في المدونة عن ابن مسعود ما ظاهره أنه كان يقول مثله. ولا يصح أن يحمل الكلام على ظاهره، فإن المحفوظ عن ابن مسعود ما حكيناه عنه قبل من أن الجنب لا يتيمم بحال ثم رجع إلى [أنه يتيمم، فإذا وجد الماء اغتسل. فما وقع في المدونة(1/116)
من قول سحنون: وقد كان يقول غير ذلك ثم رجع إلى] هذا أي أنه يغتسل. معناه: وقد كان يقول إنه لا يتيمم بحال ثم رجع إلى هذا الذي ذكره عنه وعن مالك وسعيد بن المسيب من أنه إذا تيمم وصلى ثم وجد الماء أنه يغتسل.
فصل وإن كان التيمم عند مالك وأصحابه لا يرفع الحدث جملة فإنه يستباح به عندهم ما يستباح بالوضوء والغسل من صلاة الفرائض والنوافل وقراءة القرآن نظرا وظاهرا وسجود التلاوة وما أشبه ذلك مما تمنعه الجنابة أو الحدث الذي ينقض الوضوء. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا يستباح به نافلة، منهم عبد العزيز بن أبي سلمة. فمن ذهب إلى أن التيمم يرفع الحدثين جميعا فهو عنده بدل من الوضوء والغسل حقيقة. ومن رأى أنه يرفع الحدث الأصغر ولا يرفع الحدث الأكبر فهو عنده بدل من الوضوء حقيقة. ومن رأى أنه لا يرفع الحدثين ولا أحدهما ولا يستباح به إلا الفرائض فليس هو عنده بدلا منهما ولا من أحدهما وإنما هو استباحة للصلاة خاصة خوف فوات الوقت. وأما على مذهب من يرى أنه يستباح به جميع ما يمنع منه الحدث دون أن يرفعه، فقيل إنه استباحة لفعل ما يمنع منه الحدث وليس ببدل من الطهارة بالماء إذ لا يرفع الحدث كما ترفعه الطهارة، وقيل إنه بدل منهما وإن كان لا يرفع الحدث، وهو الأظهر. ودليله أن تقول إن الأصل كان في الطهارة بالماء والتيمم عند عدمه وجوبهما لكل صلاة بظاهر قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية فخصصت السنة من ذلك الطهارة بالماء، وهي صلاة النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يوم فتح مكة الصلوات بوضوء واحد، وبقي التيمم على أصله إذ لا يقوى البدل قوة المبدل منه.
فصل فإذا قلنا إنه يستباح به ما لا يجوز فعله إلا بطهارة الماء فإن الذي يستباح به(1/117)
على ضربين: أحدهما عبادة مؤقتة بوقت، والثاني عبادة غير مؤقتة بوقت. فأما العبادة المؤقتة بوقت فإن التيمم لها لا يصح إلا بعد دخول وقتها، ولصحته بعد دخول وقتها شرائط متفق عليها ومختلف فيها. فأما المتفق عليها فهي عدم الماء أو عدم القدرة على الوصول إليه في السفر والمرض مع طلبه عند عدمه أو طلب القدرة على الوصول إليه عند عدمها. وأما المختلف فيها فهي عدم الماء في الحضر أو عدم القدرة على استعماله لمرض مع طلبه أيضا عند عدمه أو طلب القدرة على استعماله. وطلب الماء عند عدمه إنما يجب مع اتساع الوقت لطلبه، والذي يلزم منه ما جرت العادة به من طلبه في رحله أو سؤال من يليه ممن يرجو وجوده عنده ولا يخشى أن يمنعه إياه، أو العدول إليه عن طريقه إن كان مسافرا على قدر ما يمكنه من غير مشقة تلحقه مع الأمن على نفسه. ولا حد في ذلك يقتصر عليه لاختلاف أحوال الناس، وقالوا في الميلين إنه كثير، وفي الميل ونصف الميل مع الأمن إنه يسير، وذلك للراكب والراجل القوي القادر. وعدم القدرة على استعماله هو مثل أن يخشى من استعماله الموت أو المرض أو زيادة فيه إن كان مريضا. قال أبو الحسن القابسى مثل أن يخشى أن تصيبه نزلة أو حمى، وقال الشافعي لا يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف تلف نفسه باستعماله.
فصل فإذا قلنا إن ذلك شرط في صحة التيمم فهل ذلك شرط في صحة التيمم لكل صلاة عند القيام إليها؟ أو في صحته لما اتصل به من الصلوات عند القيام لها؟ أو في صحة التيمم على الإطلاق؟ في ذلك بين أهل العلم اختلاف. أما من ذهب إلى ما حكيناه من أن الأصل كان إيجاب الوضوء لكل صلاة أو التيمم عند عدم الماء أو عدم القدرة على استعماله بظاهر قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية وأن السنة خصصت من ذلك الوضوء وبقي التيمم على الأصل، فلا يصح عنده صلاتان بتيمم واحد وإن اتصلتا ونواه لهما، ولا صلاة بتيمم نواه لغيرها، ولا صلاة بتيمم نواه لها إذا صلى به غيرها أو تراخى عن الصلاة به اشتغالا بما سواها. ويجيء على مذهبه أن طلب الماء أو طلب القدرة على استعماله شرط في صحة(1/118)
التيمم لكل صلاة عند القيام إليها، فإن صلى صلاتين بتيمم واحد أو صلاة بتيمم نواه لغيرها أو لها فصلى به غيرها أو تراخى عن الصلاة به وجبت عليه الإعادة في الوقت وغيره، وهو ظاهر ما في المدونة ونص رواية مطرف وابن الماجشون عن مالك. ومن لم يوجب عليه الإعادة إلا في الوقت أو فرق بين المشتركتين من غير المشتركتين أو بين أن يتيمم لنافلة فيصلي [به فريضة وبين أن يتيمم لفريضة فيصلي قبلها نافلة] فلم يجر في ذلك على أصل، وإنما ذهب في ذلك إلى مراعاة الخلاف. وكان يلزم على قياس هذا القول أن لا يصلي نافلة بتيمم مكتوبة لا قبلها ولا بعدها وإن اتصلت بها، ولا نافلتين بتيمم واحد، إلا أنه أباح ذلك مراعاة لقول من يرى أن التيمم إذا صح على شروطه يرفع الحدث كالوضوء بالماء، ولقول من يرى أن الطلب لا يتعين على عادم الماء إلا مرة ثم لا يتكرر عليه وجوبه، وأن التيمم إذا صح على شروطه كان على طهارة ما لم يحدث أو يجد الماء من غير أن يطلبه، إذ لا يتكرر عليه وجوب طلبه إلى مذهبه، أو يعلم أنه يقدر على مس الماء إن كان تيممه لعدم القدرة على استعماله. فعلى قول هؤلاء جميعا يكون طلب الماء أو طلب القدرة على استعماله شرطا في صحة التيمم على الإطلاق، وإن كان ينتقض في قول بعضهم بوجود الماء، ولا ينتقض في قول بعضهم إلا بالحدث على ما بيناه.
ويجري على رواية أبي الفرج في ذاكر الصلوات أنه يصليها بتيمم واحد أن طلب الماء أو طلب القدرة على استعماله شرط في صحة التيمم لما اتصل من الصلوات التي نواها عند القيام لها. وإذا قلنا إن رواية أبي الفرج هذه مبنية على هذا الأصل فيلزم عليها إجازة الصلوات المكتوبات والنوافل بتيمم واحد إذا اتصلت وكان تيممه لها كلها، تقدمت النوافل أو تأخرت. ولا يجوز له أن يصلي بتيمم واحد من النوافل إلا ما نواه أيضا بتيممه أو اتصل عمله. ولا يجوز له أن يصلي بتيممه لمكتوبة نافلة لم ينوها وإن اتصلت بالمكتوبة.(1/119)
فإن قائل قائل: لا اختلاف في المذهب في جواز صلاة النافلة بتيمم المكتوبة إذا اتصلت بها.
قيل له: إن أجاز ذلك على هذه الرواية فليس على أصله فيها، وإنما هو مراعاة للاختلاف في الأصل وقد ذكرناه.
فصل فيتحصل من هذا أن في وجوب تكرار الطلب قولين: أحدهما أنه لا يتكرر، والثاني أنه يتكرر. وإذا قلنا إنه لا يتكرر فهل يجب الوضوء بوجود الماء أم لا؟ في ذلك قولان: أحدهما أنه يجب، والثاني أنه لا يجب. وإذا قلنا إنه يتكرر، فهل يتكرر لكل صلاة عند القيام إليها؟ أو لا يتكرر إلا عند التراخي عنها بالاشتغال بما سواها؟ في ذلك قولان أيضا.
فصل وأما دخول الوقت فإنه مراعى في المشهور من المذهب. وقال ابن شعبان من أصحابنا ليس بشرط في صحة التيمم. والدليل على صحة مذهب مالك أن الله تعالى أوجبه عند القيام للصلاة، ولا يكون القيام لها إلا عند دخول وقتها.
فصل والدليل على صحة اشتراط الطلب قول الله عز وجل: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] ولا يصح أن يكون غير واجد للماء إلا بعد أن يطلبه.
فصل وأما العبادات التي هي غير مؤقتة فيستباح في كل وقت ما اتصل منها بالتيمم على الشرائط التي ذكرناها فيما له وقت بعد دخول الوقت.(1/120)
فصل والعادمون للماء على ثلاثة أضرب: أحدها أن يعلم أنه لا يقدر على الماء في الوقت أو يغلب ذلك على ظنه. والثاني أن يشك في الأمر. والثالث أن يعلم أنه يقدر على الماء في آخر الوقت أو يغلب ذلك على ظنه.
فأما الضرب الأول فإنه يستحب له التيمم والصلاة في أول الوقت ليحوز فضيلة أول الوقت إذ قد فاتته فضيلة الماء، وهذا حكم الذي لا يقدر على مس الماء.
وأما الوجه الثاني فيتيمم في وسط الوقت. ومعنى ذلك أن يتيمم من الوقت في آخر ما يقع عليه اسم أول الوقت؛ لأنه يؤخر الصلاة رجاء إدراك فضيلة الماء ما لم يخف فوات فضيلة أول الوقت، فإذا خاف فواتها تيمم وصلى لئلا تفوته فضيلة أول الوقت ثم لا يدرك الماء فتفوته الفضيلتان.
وأما الوجه الثالث، فإنه يؤخر الصلاة إلى أن يدرك الماء في آخره لأن فضيلة الماء أعظم من فضيلة أول الوقت؛ لأن فضيلة أول الوقت مختلف فيها، وفضيلة الماء متفق عليها. ففضيلة أول الوقت يجوز تركها دون ضرورة، ولا يجوز ترك فضيلة الماء إلا لضرورة، والله سبحانه وتعالى أعلم. ويريد في المدونة بقوله آخر الوقت ووسطه آخر الوقت المختار [ووسط الوقت المختار] خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب والله الموفق.(1/121)
[القول في الحيض والاستحاضة وأحكامهما]
قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وفي سبب سؤالهم الني - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن محيض النساء وكيفية اعتزالهن فيه بين أهل العلم اختلاف.
فصل
في ذكر الاختلاف في السبب الباعث لهم على ذلك
فأما سبب سؤالهم النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن المحيض فقيل إنما كان ذلك لأنهم كانوا قبل بيان الله لهم لا يساكنون حائضا ولا يؤاكلونها ولا يشاربونها، كما كانت اليهود تفعل، فعرفهم الله تعالى بهذه الآية أن الذي بهن في الدم لا يبلغ أن تحرم به مجامعتهن في البيوت ولامؤاكلتهن ومشاربتهن بقوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] لأن الأذى لا يعبر به إلا عن المكروه الذي ليس بشديد. قال الله عز وجل: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى} [آل عمران: 111] ، وقال: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} [النساء: 102] وأعلمهم أن الذي عليهم في أيام حيض نسائهم تجنب جماعهن لا غير. والدليل على ذلك من الآية قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] أي فجامعوهن(1/122)
في موضع جماعهن. فدل ذلك على أنه إنما نهى في حال الحيض عما نص على إباحته بعد الطهر وهو الجماع في موضع الجماع لا غير. وقيل إنما سألوه عن ذلك لأنهم كانوا يجتنبون النساء في المحيض ويأتونهن في أدبارهن، فلما سألوه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك أنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] إلى قوله {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] أي في الفرج لا تعدوه، وهو أظهر من القول الأول وأبين في المعنى.
[فصل في ذكر الاعتزال المأمور به في الآية]
فصل
في ذكر الاختلاف في كيفية الاعتزال المأمور به في الآية
وأما كيفية اعتزال النساء في الحيض المأمور به في الآية ففيه لأهل العلم ثلاثة أقوال:
أحدها اعتزال جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه على ظاهر قول الله عز وجل؛ لأنه أمر باعتزالهن عموما ولم يخص منهن شيئا دون شيء. وهذا إنما ذهب إليه من اتبع ظاهر القرآن وجهل ما ورد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من الآثار.
والثاني إباحة مباشرة ما فوق الإزار على ما وردت به الآثار، وعلى هذا جمهور فقهاء الأمصار. وهو مذهب مالك وجمهور أصحابه المتقدمين والمتأخرين من البغداديين.
والثالث إباحة كل شيء منها ما عدا الفرج على ظاهر ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنها قالت لمن سألها عن ذلك: كل شيء لك منها حلال، ما عدا الفرج. وإلى هذا ذهب أصبغ فقال: إنما أمرت أن تشد عليها إزارها لئلا يصيبه شيء من دمها في مضاجعته إياها، وجعل النهي الوارد عن مباشرتها فيما دون الإزار من باب حماية الذرائع لئلا يجامعها في الفرج.(1/123)
[فصل في تقسيم ما تراه المرأة من الدم]
فصل
في تقسيم ما تراه المرأة من الدم
والدم الذي تراه المرأة ينقسم على ثلاثة أقسام: دم حيض، ودم استحاضة، ويسمونه دم علة وفساد، ودم نفاس.
فأما دم الحيض فهو الدم الخارج من الفرج على عادة الحيض من غير علة ولا نفاس، وهو شيء كتبه الله على بنات آدم وجعله حفظا للأنساب وعلما لبراءة الأرحام. وقد قيل إن أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل. والأول من جهة المعنى أظهر، والثاني من جهة النقل أصح.
وأما دم النفاس فهو الدم الخارج من الفرج على العادة عند النفاس، ويوجب ما يوجبه الحيض ويمنع ما يمنع منه الحيض.
وأما دم الاستحاضة فهو ما زاد على دم الحيض والنفاس، وهو دم علة وفساد، فلا حكم له على طريق الوجوب. والذي يستحب للمستحاضة على مذهب مالك وأصحابه أن تتوضأ لكل صلاة. وقد استحب بعض العلماء لزوجها أن لا يطأها، واستحب لها بعضهم أن تغتسل من ظهر إلى ظهر وفي البخاري عن أم حبيبة أنها كانت تغتسل لكل صلاة، وليس في الحديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها بذلك، فلعلها تبرعت بذلك احتياطا. وقال الخطابي ليس كل مستحاضة يجب عليها الغسل لكل صلاة، وإنما يجب ذلك على التي تسمى المتحيرة وهي التي لا تميز الدم ولا كانت لها أيام معلومة أو كان فنسيتها ولا تعرف عددها، فهذه يجب عليها الغسل لكل صلاة لإمكان أن يكون ذلك الوقت قد صادف وقت انقطاع دم الحيض. ومن هذه حالها من النساء فلا يطؤها زوجها وتصوم رمضان مع الناس وتقضيه بعد ذلك لتحيط علما أن قد استوفت عدد الثلاثين يوما في وقت كان لها أن تصوم فيه، وإن كانت حاجة طافت طوافين بينهما خمسة عشر يوما لتكون على يقين(1/124)
من حصول أحد الطوافين في وقت يصح لها فيه، وهذا ليس على المذهب، وفيه نظر.
فصل فلا يتبين دم الاستحاضة من دم الحيض والنفاس إلا بمعرفة أكثر دم الحيض والنفاس، وهو يزيد وينقص، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد: 8] فأخبر بنقصان ذلك وزيادته.
فصل ودم الحيض إنما هو دم يتحادر من أعماق الجسم إلى الرحم فيجمعه الرحم طول مدة الطهر، ومن ذلك سمي الطهر قرءا من قولهم قريت الماء في الحوض إذا جمعته فيه. قال الله عز وجل: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] وقال الشاعر:
ذراعي حرة أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا
أي لم تجمع في بطنها جنينا، ثم تدفعه في أيام الحيض، فقد تدفعه دفعا متواليا متصلا، وقد تدفعه متقطعا شيئا بعد شيء. فإذا كان بين الدمين من الأيام أيام يسيرة لا تكون طهرا فاصلا بين حيضتين علم أن الدم الثاني [من الدم الأول وأنها حيضة واحدة تقطعت، وإن كان بينهما أيام كثيرة تكون طهرا فاصلا علم أن الدم الثاني] ليس من الدم الأول وأنه حيضة ثانية مما تحادر إلى الرحم وجمعته في هذا الطهر الذي قبله.
[فصل في مقادير أقل الطهر وأكثر الحيض والنفاس وأقلهما]
فصل
في مقادير أقل الطهر وأكثر الحيض والنفاس وأقلهما والذي يحتاج إلى تفصيله في هذا الباب معرفة أقل الطهر ليعلم بذلك الفصل بين الحيضتين وأقل الحيض الذي [يكون حيضة] تعتد به المرأة في(1/125)
الطلاق، وأكثر الحيض والنفاس ليعلم بذلك الفصل بينه وبين دم الاستحاضة. وأما أكثر الطهر فلا حد له لأن المرأة ما دامت طاهرة تصلي وتصوم ويأتيها زوجها طال زمان ذلك أو قصر. فأما أقل الطهر فاختلف فيه على أربعة أقوال:
أحدها قول ابن الماجشون وروايته عن مالك أن أقله خمسة أيام، فكلما قل الطهر كثر الحيض، وكلما قل الحيض كثر الطهر. وهو قول ضعيف لأنه يقتضي أن المرأة قد تحيض أكثر من نصف دهرها وذلك يرده الأثر.
والثاني قول سحنون وهو دليل المدونة على ما تأوله ابن أبي زيد إن أقله ثمانية أيام.
والثالث رواية التونسي عن مالك ورواية أصبغ عن ابن القاسم أن أقله عشرة أيام.
والرابع قول محمد بن مسلمة أن أقله خمسة عشر يوما. وهذا القول الرابع له حظ من القياس، وهو أن الله تبارك وتعالى جعل عدة الحرائر ذوات الأقراء في الطلاق ثلاثة قروء فقال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وجعل عدة اليائسة من المحيض ثلاثة أشهر فقال: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فجعل بإزاء كل شهر طهرا وحيضا، فلا يخلو ذلك من أربعة أقسام: أحدها أن يكون أكثر الحيض وأكثر الطهر. والثاني أن يكون أقل الطهر وأقل الحيض. والثالث أن يكون أكثر الطهر وأقل الحيض. والرابع أن يكون أقل الطهر وأكثر الحيض. فأكثر الطهر وأكثر الحيض أو أقل الطهر وأقل الحيض لا يصح؛ لأن الطهر لا حد لأكثره، وأقل الطهر وأقل الحيض لا يصح؛ لأن أقل الطهر أكثر ما قيل فيه خمسة عشر يوما، وأقل الحيض أكثر ما قيل فيه خمسة أيام، فيبقى من الشهر عشرة أيام. فإذا بطلت هذه الثلاثة الأقسام لم يبق إلا القسم الرابع وهو أن يكون بإزاء الشهر أقل الطهر وأكثر(1/126)
الحيض باتفاق خمسة عشر يوما، فإذا نقصتها من الشهر بقي منه أقل الطهر وذلك خمسة عشر يوما. وأما سائر الأقاويل فلا حظ لها في القياس وإنما أخذت من عادة النساء؛ لأن كل ما وجب تحديده في الشرع ولم يرد به نص لزم الرجوع فيه إلى العادة، كنفقة الزوجات وشبه ذلك. وقد حكى أحمد بن المعدل عن ابن الماجشون أنه وجد من النساء مت يكون طهرها خمسة أيام وعرف ذلك بالتجربة من جماعة النساء.
وأما أكثر الحيض فخمسة عشر يوما. والأصل في ذلك ما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه خطب النساء فقال: إنكن ناقصات عقل ودين فقالت امرأة منهن ما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله فقال إن إحداكن تمكث نصف عمرها أو شطر عمرها لا تصلي فذلك نقصان دينكن» . فساوى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ما تصلي فيه وبين ما لا تصلي فيه فجعلا شطرين، وذلك يقتضي أن لا يكون الحيض أكثر من خمسة عشر يوما كل شهر؛ لأن الحديث خرج مخرج الذم لهن، فدل على أنه إنما قصد إلى ذكر أقصى ما يتركن الصلاة فيه بسبب الحيض.
هذا قول مالك وأصل مذهبه. وقد قال إن المرأة إذا تمادى بها الدم استظهرت بثلاثة أيام على أكثر أيامها ثم اغتسلت وصلت وصامت، ولم يبين إن كان يطؤها زوجها فيما بينها وبين الخمسة عشر يوما ويكون حكمها حكم المستحاضة أم لا. واختلفت تأويلات أصحابنا عليه في ذلك. فمنهم من قال إن اغتسالها بعد الاستظهار استحسان واحتياط للصلاة، ولا يطؤها زوجها حتى تتم خمسة عشر يوما فتطهر طهرا آخر واجبا، وهو دليل رواية ابن وهب عن مالك قوله فرأيت أن أحتاط لها فتصلي وليس ذلك عليها أحب إلي من أن تترك الصلاة وهي عليها. فإذا بنى قوله على الاحتياط فمن الاحتياط ترك وطئها قبل الخمسة عشر يوما وإيجاب الغسل عليها إذا أكملت الخمسة عشر يوما وقضاء الصيام. ومنهم من ذهب إلى أنها إذا اغتسلت وصلت وصامت أجزأها صومها ووطئها زوجها وكان حكمها حكم المستحاضة، فلا يجب عليها غسل عند تمام الخمسة عشر يوما إلا(1/127)
استحسانا، وهو دليل ما في كتاب الحج الثالث من قوله في الحائض في الحج إن الكري يحبس عليها أقصى ما يمسكها الدم والاستظهار، فدل أنها تطوف بعد الاستظهار كالمستحاضة، وإن كان ابن أبي زيد قد تأول أن الكراء يفشى بينها وبين الكري إن تمادى بها الدم بعد الاستظهار وهو بعيد. فعلى هذا التأويل في أكثر الحيض لمالك قولان: أحدهما أكثره خمسة عشر يوما. والثاني أن أكثر حيض كل امرأة أيامها المعتادة مع الاستظهار ما بينها وبين خمسة عشر يوما. وأبو حنيفة يرى أن أكثر الحيض عشرة أيام، وهو قول لا يعضده أثر ولا يوجبه نظر.
وأما أقل الحيض فاختلف فيه على ستة أقوال:
أحدها ألا حد له من الأيام، وأن الدفعة واللمعة حيض. فإن كان قبله طهر فاصل وبعده طهر فاصل كان حيضة تعتد به المطلقة في أقرائها، وإن لم يكن قبله طهر فاصل لم يكن حيضة وكان حيضا مضافا إلى الدم الذي قبله. وإن كان قبله طهر فاصل ولم يكن بعده طهر فاصل لم يكن حيضة أيضا وكان مضافا إلى ما بعده من الدم. هذا مذهب مالك.
والثاني أن أقل الحيض ثلاثة أيام في العدة والاستبراء، وما دونه يكون حيضا يمنع الوطء ويمنع الصيام من غير أن يسقط وجوبه، ويمنع الصلاة ويسقط وجوبها، وهو قول ابن مسلمة.
والثالث أن أقل الحيض خمسة أيام، يريد في العدة والاستبراء، فلا اختلاف في المذهب أن ما تراه المرأة من الدم في وقت يصح فيه الحيض منها يكون حيضا يمنع الوطء والصيام والصلاة ويسقط وجوب الصلاة. وإنما الاختلاف فيه إذا كان أقل من ثلاثة أيام وخمسة أيام هل يكون حيضة يعتد بها في الطلاق على ما بيناه. والرابع مذهب أهل العراق أن أقل الحيض ثلاثة أيام وما دون الثلاثة الأيام لا يحكم لها بحكم الحيض فتقضي المرأة صلاة تلك الأيام.
والخامس مذهب الشافعي أن أقل الحيض يوم وليلة. وروي عن علي بن(1/128)
أبي طالب أن أقل الحيض يومان، وهذا كله بعيد؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فلو كان لا يعلم كون الدم حيضا قبل تقضي وقته ثلاثة أيام أو يوم وليلة لكان الأمر باعتزالهن مشروطا بما لا طريق إلى العلم بحصوله إلا بعد تقضيه، وذلك باطل.
فصل وأما النفاس فلا حد لأقله عندنا وعند أكثر الفقهاء، وذهب أبو يوسف إلى أن أقل النفاس خمسة عشر يوما فرقا بينه وبين أكثر الحيض، وأما أكثره فاختلف قول مالك فيه، فقال مرة ستون يوما، وقال مرة يسأل النساء عن ذلك [ولم يحد له حدا، وقال ابن الماجشون: لا يسأل النساء عن ذلك اليوم] ؛ لتقاصر أعمالهن وقلة معرفتهن، وقد سئل النساء عن ذلك قديما فقلن أقصاه من الستين إلى السبعين، والاقتصار على الستين أحسن، وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: أكثره أربعون يوما، وقد قيل إنه إجماع من الصحابة، وذكر عن الحسن أن أكثره خمسون يوما.
فصل وأما الاستحاضة فلا حد لأكثرها ولا لأقلها عند الجميع، وبالله التوفيق.
فصل فيما تراه المرأة من الدم على اختلاف أحوالها وما تراه المرأة من الدم محمول على أنه دم حيض ومحكوم له بحكمه حتى يعلم أنه ليس دم حيض؛ بأن تراه المرأة في مدة الاستحاضة أو في حال لا يشبه أن يكون حيضا من صغر أو كبر. وبيان هذه الجملة أن النساء الواجدات للدم خمس: طفلة صغيرة لا يشبه أن تحيض، ويفعة مراهقة يشبه أن تحيض، [وبالغة في سن من تحيض، ومسنة يشبه ألا تحيض، وعجوز لا يشبه أن تحيض] .(1/129)
فأما الطفلة الصغيرة فما رأت من الدم حكم له بأنه دم علة وفساد؛ لانتفاء الحيض مع الصغر، وليس لها حد من السن إلا ما يقطع النساء أن مثلها لا تحيض.
وأما اليفعة التي تشبه أن تحيض فما رأت من الدم حكم له بأنه حيض وكان ذلك دلالة على البلوغ.
وأما البالغة فما رأت من الدم حكم له بأنه حيض إلا أن تراه في مدة الاستحاضة، وذلك أن ترى الدم خمسة عشر يوما ثم ينقطع ثم يعود بعد يومين أو ثلاثة قبل مضي أقل مدة الطهر فهذا دم استحاضة، إذ لا يمكن أن يضاف إلى الحيضة المتقدمة ولا أن يجعل حيضة مستأنفة، إذ لا فاصل بينهما من الأيام.
وأما المسنة التي يشبه أن لا تحيض فما رأت من الدم حكم له بحكم الحيض؛ لأن الله تعالى قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] فأخبر أن المحيض هو الأذى الخارج من الفرج، فإذا احتمل سن من وجد بها ذلك الأذى أن تحيض حكم له بأنه دم حيض.
وأما العجوز التي لا يشبه أن تحيض فما رأت من الدم حكم له بأنه دم علة وفساد؛ لانتفاء الحيض مع الكبر كما ينتفي مع الصغر، وليس لذلك أيضا حد من السنين إلا ما يقطع النساء على أن مثلها لا تحيض. ألا ترى أن بنت سبعين وبنت ثمانين لا تحيض.
فصل فإن تمادى بالمرأة الدم المحكوم له بأنه دم حيض ففي ذلك ستة أقوال: أحدها أنها تبقى أيامها المعتادة وتستظهر بثلاثة أيام ثم تكون مستحاضة تغتسل وتصلي وتصوم وتطوف إن كانت حاجة مباحة ويأتيها زوجها، ما لم تر دما تنكره بعد مضي أقل مدة الطهر من يوم حكم باستحاضتها، وهو ظاهر رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة؛ لأنه قال في الحج: إن الكري لا يحبس عليها إلا أيامها المعتادة(1/130)
والاستظهار. فظاهر قوله أنها تطوف بعد الاستظهار وقبل تمام الخمسة عشر يوما كالمستحاضة، وعلى هذه الرواية تغتسل عند تمام الخمسة عشر يوما استحبابا لا إيجابا.
والقول الثاني: أنها تقعد أيامها المعتادة والاستظهار، ثم تغتسل استحبابا، وتصلي احتياطا، وتصوم وتقضي الصيام، ولا يطؤها زوجها، ولا تطوف طواف الإفاضة إن كانت حاجة، إلى تمام الخمسة عشر يوما. فإذا بلغت الخمسة عشر يوما اغتسلت إيجابا، وكانت مستحاضة، وهذا دليل رواية ابن وهب عن مالك في كتاب الوضوء من المدونة.
والقول الثالث: أنها تقعد إلى تمام الخمسة عشر يوما، ثم تغتسل وتصلي وتكون مستحاضة.
والقول الرابع: أنها تقعد أيامها المعتادة، ثم تغتسل وتصلي وتكون مستحاضة من غير استظهار، وهو قول محمد بن مسلمة.
والقول الخامس: أنها تقعد أيامها المعتادة، ثم تغتسل وتصلي وتصوم ولا يأتيها زوجها، فإن انقطع عنها الدم ما بينها وبين خمسة عشر يوما علم أنها حيضة انتقلت ولم يضرها ما صامت ولا ما صلت، يريد وتغتسل عند انقطاعه، وإن تمادى بها الدم على خمسة عشر يوما علم أنها كانت مستحاضة، وأن ما مضى من الصيام والصلاة في موضعه، ولم يضره امتناعه من الوطء هذا في المعتادة.
وأما المبتدأة أيضا ففيها خمسة أقوال كالمعتادة؛ لأن عادة لداتها في الحيض تجعل كعادة لها، إلا أن ابن القاسم يقول في المبتدأة كقول محمد بن مسلمة في المعتادة، فلا يرى أن تستظهر بثلاثة أيام، وروي عن نافع أنها تستظهر بثلاثة أيام وإن زاد على خمسة عشر يوما، وهو شذوذ من القول، وهو القول السادس.(1/131)
واختلف إن اختلفت أيامها المعتادة فالمشهور أنها تستظهر على أثر أيامها، وقال ابن حبيب: إنها تستظهر على أقل أيامها، وذهب ابن لبابة إلى أنها تغتسل عند أقل أيامها من غير استظهار وتكون مستحاضة، وهو خطأ صراح يرده القرآن ويبطله الاعتبار.
فصل والحيض قد تتصل أيامه وقد تتقطع على ما بيناه من أن الرحم يثج الدم المجتمع فيه في مدة القرء ثجا متصلا، وقد يثجه شيئا بعد شيء، وقد مضى القول في اتصاله، وأما انقطاعه فحكمه أن تلفق فيه أيام الدم وتلغي أيام الطهر، فإذا اجتمع في أيام الدم أيامها المعتادة والاستظهار أو خمسة عشر يوما على الاختلاف الذي قدمنا ذكره كانت مستحاضة، ولم تلتفت إلى الدم الذي تراه بعد ذلك ما بينها وبين مضي أقل مدة الطهر من اليوم الذي حكم فيه باستحاضتها، وتغتسل متى ما انقطع عنها وتصلي وتصوم، وتعد اليوم الذي ترى الدم في بعضه من أيام الدم لا من أيام الطهر، وإن لم تر الدم فيه إلا ساعة أو لمعة، ولا تلفق أيام الطهر في مذهب مالك وأصحابه، حاشى محمد بن مسلمة فإنه ذهب إلى أنها تلفق أيام الدم وأيام الطهر، فتكون في أيام الدم حائضا وفي أيام الطهر طاهرا أبدا إن ساوت أيام الدم أيام الطهر أو كانت أقل منها، مثل أن تحيض يوما وتطهر يوما، أو تحيض يومين وتطهر يومين، وأما إن كانت تحيض يومين وتطهر يوما، فتلفق أيام الدم وتلغي أيام الطهر وتكون مستحاضة إذا اجتمع من أيام الدم أيامها المعتادة؛ لأنه لا يقول بالاستظهار على ما قدمناه عنه، وكذلك الحكم في النفاس إذا تقطع دمه ولم يتصل، أعني أنها تلفق أيام الدم وتلغي أيام الطهر حتى تبلغ أقصى مدة النفاس على الاختلاف في حد ذلك، ثم تكون مستحاضة إن زاد الدم على ذلك الأكثر، إذ لا استظهار فيه كالحيض الذي هو جار على عادة وله أيام معتادة ولا يساويه في المدة. وانظر هل يصح أن تلفق فيه أيام الطهر على مذهب ابن مسلمة، ولا يبعد ذلك عندي.(1/132)
فصل ودم الحيض دم أسود غليظ، ودم الاستحاضة دم أحمر رقيق، يدل على ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك وصلي» .
فصل والصفرة والكدرة محكوم لهما بحكم الدم، فإن وجدتا في أيام الحيض كانتا حيضا، وإن وجدتا في أيام النفاس كانتا نفاسا، وإن وجدتا في أيام الاستحاضة كانتا استحاضة. هذا قولنا وقول الشافعي وأبي حنيفة، وحكى الطحاوي عن أبي يوسف أنه لا يكون حيضا إلا أن يتقدمه الدم يوما وليلة، وهو دليل قول ابن شهاب في المدونة، ولا تصلي المرأة ما دامت ترى من الترية شيئا إذا كانت الترية عند الحيضة أو الحمل، وحكي عن بعض الفقهاء أنه لا يكون حيضا إلا أن يوجد في الأيام المعتادة، فإن وجدته المبتدأة أو المعتادة بعد انقضاء أيام عدتها أو في غير أيام العادة بعد مضي أقل أيام الطهر لم يكن حيضا، بخلاف الدم لو وجد في هذه المواضع، والدليل على صحة قولنا وفساد هذا القول: ما روي أن النساء كن يبعثن إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيض فتقول لهن لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء.
فصل وللطهر علامتان: الجفوف والقصة البيضاء. وقد اختلف أيهما أبرأ. فعند(1/133)
ابن القاسم أن القصة البيضاء أبرأ، فإن كانت ممن تراها فلا تغتسل بالجفوف حتى تراها إلا أن يطول ذلك بها، وقال ابن عبد الحكم: إن الجفوف أبرأ فلا تغتسل إذا رأت القصة البيضاء حتى ترى الجفوف إلا أن يطول ذلك بها، وحكي ابن حبيب عن ابن القاسم ومطرف في المبتدأة أن لا تغتسل حتى ترى الجفوف، ثم تعمل بعد على ما يظهر من أمرها، ونقل عبد الوهاب في الشرح عنهما أنها إن رأت الجفوف تطهرت به، ثم تراعى بعد ما يظهر من أمرها من جفوف أو قصة، وقال: إن هذا هو القياس؛ لأنهما جميعا علامتان، فأيهما وجدت قامت مقام الأخرى، ولا فرق بين المبتدأة وغيرها في ذلك، ونقله أصح في المعنى وأبين في النظر مما حكى ابن حبيب عنهما؛ لأنه كلام متناقض في ظاهره.
فصل والحامل تحيض عندنا خلافا لأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه، ولنا على ذلك أدلة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها. فإن تمادى بها الدم ففي ذلك ثمانية أقوال:
أحدها: أنها تبقى أيامها المعتادة من غير استظهار ثم تغتسل وتصلي.
والثاني: أنها تستظهر على أيامها المعتادة.
والثالث: أنها تبقى إلى خمسة عشر يوما.
والرابع: التفرقة بين أول الحمل وآخره، فتمسك عن الصلاة في أول الحمل الخمسة عشر يوما ونحو ذلك، وفي آخره العشرين يوما ونحو ذلك. وقيل: [إنها تمسك عن الصلاة في أول الحمل ما بين الخمسة عشر يوما إلى العشرين] ، وفي آخره ما بين العشرين إلى الثلاثين، هو القول الخامس.(1/134)
والسادس: أن تمسك عن الصلاة ضعف أيامها المعتادة.
والسابع: أنها إن أصابها ذلك في أول شهر من شهور الحمل أمسكت عن الصلاة قدر أيامها المعتادة، وإن أصابها ذلك في الشهر الثاني تركت الصلاة ضعف أيامها المعتادة، وإن أصابها ذلك في الشهر الثالث تركت الصلاة ثلاثة أمثال أيامها المعتادة، وإن أصابها ذلك في الشهر الرابع تركت الصلاة أربعة أمثال أيامها المعتادة، هكذا أبدا ما لم تجاوز أكثر مدة دم النفاس.
والثامن: تفرقة أشهب في الاستظهار بين أن تستريب من أول ما حملت أو لا تستريب. وفي المسألة قول تاسع حكاه ابن لبابة، وهو أن تترك الصلاة عدد الأيام التي كانت تحيضهن من أول الحمل ما بلغت، من رواية أصبغ عن مالك من الثمانية.
فصل ودم الحيض والنفاس يمنع من خمسة عشر شيئا، العشرة الأشياء منها متفق عليها، والخمسة مختلف فيها.
فأما العشرة المتفق عليها، فأحدها: رفع حكم الحدث من جهتهما، لا خلاف أن التطهر منهما لا يرفع حكم الحدث ماداما متصلين وإنما يرفعه بعد انقطاعهما. والثاني: وجوب الصلاة، لا خلاف أن الصلاة ساقطة عن الحائض والنفساء. والثالث: صحة فعلهما، لا خلاف أن الحيض والنفاس لا يصح معهما فعل الصلاة. والرابع: صحة فعل الصيام من غير إسقاط وجوبه، لا خلاف أن الحيض والنفاس لا يصح معهما الصيام. والخامس: مس المصحف، وفي ذلك اختلاف شاذ في غير المذهب. والسادس: الوطء في الفرج، لا خلاف بين الأمة أن ذلك محظور في حال الحيض والنفاس. والسابع: دخول المسجد، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» . والثامن: الطواف(1/135)
بالبيت. والتاسع: الاعتكاف. والعاشر: منع صلاة ما عدا الصلوات الخمس من السنن والفضائل والنوافل.
والخمسة المختلف فيها: أحدها: الوطء فيما دون الفرج أباحه أصبغ من أصحابنا وجعل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «لتشد عليها إزارها ثم شأنه بأعلاها» من باب حماية الذرائع. والثاني: قراءة القرآن ظاهرا اختلف فيه قول مالك. والثالث: رفع الحدث من غيرهما، قيل إنهما يمنعانه فلا يكون للمرأة إذا أجنبت ثم حاضت أن ترفع حكم الجنابة عنها بالاغتسال لتقرأ القرآن ظاهرا. وقيل إن حكم الجنابة مرتفع مع الحيض، فيكون لها أن تقرأ القرآن ظاهرا وإن لم تغتسل للجنابة وهو الصواب. وقيل إنهما لا يمنعانه فيكون لها إذا أجنبت ثم حاضت أن ترفع حدث الجنابة بالغسل فتقرأ القرآن ظاهرا لبقاء حدث الحيضة عليها خاصة. فيأتي في المرأة تجنب ثم تحيض ثلاثة أقوال: أحدها: أن لها أن تقرأ القرآن ظاهرا وإن لم تغتسل للجنابة. والثاني: أنه ليس لها أن تقرأ القرآن ظاهرا وإن اغتسلت للجنابة. والثالث: أنه ليس لها أن تقرأ القرآن ظاهرا إلا أن تغتسل للجنابة. والرابع: منع وطئها إذا رأت النقاء قبل أن تغتسل بالماء. والخامس: منع استعمال فضل مائها، اختلف في ذلك قول عبد الله بن عمر، فقال في أحد قوليه: لا بأس بفضل المرأة ما لم تكن حائضا أو جنبا وبالله تعالى التوفيق.(1/136)
[كتاب الصلاة] [فصل في معرفة اشتقاق اسم الصلاة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا ومولانا محمد نبيه الكريم
وعلى آله وصحبه كتاب الصلاة فصل
في معرفة اشتقاق اسم الصلاة أصل الصلاة في اللغة: الدعاء. قال الله عز وجل: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة: 99] أي: دعاءه، وقال الله تبارك وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] أي: ادع لهم {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] أي: إن دعواتك سكن لهم، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاء الناس بصدقاتهم يدعو لهم. «قال عبد الله ابن أبي أوفى: فجئت مع أبي بصدقته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى» . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] فسميت الصلاة بذلك لما فيها من الدعاء، إذ هي طاعة لله ووسيلة إليه، وموضع للرغبة في مغفرته ورحمته ودخول جنته. ألا ترى أن(1/137)
الصلاة على الميت لما كانت دعاء له سميت صلاة وإن لم يكن فيها ركوع ولا سجود. قال الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] . وقد قيل: إن الصلاة مأخوذة من الصلوين وهما عرقان في الردف ينحنيان في الركوع والسجود، ولذلك كتبت الصلاة في المصحف بالواو. وقيل: إنها مأخوذة من قولهم صليت العود إذا قومته؛ لأن الصلاة تحمل الإنسان على الاستقامة وتنهى عن المعصية. قال الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] . وقيل: إنها مأخوذة من الصلة؛ لأنها تصل بين العبد وبين خالقه، بمعنى أنها تدنيه من رحمته وتوصله إلى كرامته وجنته، والأول هو المشهور المعروف أن الصلاة مأخوذة من الدعاء.
فصل فالصلاة في اللغة عبارة عن الدعاء، وهي في الشرع واقعة على دعاء مخصوص في أوقات محدودة تقترن به أفعال مشروعة.
فصل وقد اختلف في قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] وما أشبه ذلك من ألفاظ الصلاة الواردة في القرآن. فقيل: إنها مجملة لا يفهم المراد بها من لفظها وتفتقر في البيان إلى غيرها، فلا يصح الاستدلال بها على صفة ما أوجبته، وهو ظاهر قول مالك في سماع ابن القاسم من كتاب الحج، قوله: الحج كله في كتاب الله، والصلاة والزكاة ليس لها في كتاب الله بيان، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك وسن ذلك في أخرى. وقد قيل: إنها عامة يصح الاستدلال بها على ذلك، ويجب حملها على عمومها في كل ما تناوله الاسم من أنواع(1/138)
الدعاء إلا أن الشرع قد خصها في نوع من الدعاء على وجه مخصوص تقترن به أفعال مشروعة من قيام وجلوس وركوع وسجود وقراءة وما أشبه ذلك.
فصل فالصلاة من معالم الإسلام، وهي تنقسم على خمسة أقسام: منها فرض واجب من فروض الأعيان، ومنها فرض على الكفاية، ومنها سنة، ومنها فضيلة، ومنها نافلة. فأما الفرض المتعين على الأعيان فهي الصلوات الخمس أوجبها الله تعالى على عباده وذكر فرضها في آيات متعددة من كتابه، وتوعد على إضاعتها، وأمر بالمحافظة عليها، فقال الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] ، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] ، وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 10] ، وقال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44] ، وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ، وقال عز وجل: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] ، وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] .(1/139)
فصل وقد اختلف في الصلاة الوسطى: فقيل: إنها الصبح، وهذا مذهب مالك. ودليله على ذلك أن قبلها صلاتين من الليل وبعدها صلاتين من النهار وهي وسطهن منفردة بوقت لا يشاركها فيه غيرها من الصلوات. وأيضا فإنها صلاة يضيعها الناس كثيرا لنومهم عنها وعجزهم عن القيام لها فخصت بالتأكيد لهذه العلة. وقيل: إنها صلاة العصر، وهو قول أكثر الرواة، منهم الشافعي وأبو حنيفة. وروي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال يوم الخندق: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا» أو كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهي الصلاة التي فتن عنها نبي الله سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حتى توارت الشمس بالحجاب. قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31] الآية إلى قوله {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص: 33] وقال من ذهب إلى هذا في قراءة عائشة وحفصة وصلاة العصر بالواو: إن المعنى في ذلك وهي صلاة العصر؛ لقول الله عز وجل: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] ، وقد روى عنهما صلاة العصر بغير واو على البدل. وقد قيل: إنها الظهر، وهو قول لا دليل لقائله، إلا أن يوجد في ذلك أثر عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فيرجع إليه. وما قيل من أنه إنما قيل لها وسطى؛ لأنها تصلى في وسط النهار بعيد؛ لأن لفظ وسطى إنما يحتمل أحد معنيين: إما متوسطة بين أخواتها من الصلوات، وإما فاضلة من قولهم فلان أوسط القوم يعني أفضلهم. قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي: خيارا عدولا. وقال: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أي: أعدلهم وأفضلهم {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28](1/140)
وقيل: إنها المغرب. ودليل من ذهب إلى ذلك أنها ثلاث ركعات فلا نظير لها من الصلوات، وأن أول الصلوات الظهر؛ لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين فرضت الصلاة، وبذلك سميت الأولى. وقيل: إنها الجمعة. وهذا الاختلاف كله يدل والله أعلم على أن الله خصها بالذكر وأبهمها ليكون ذلك سببا للمحافظة عليها كلها كليلة القدر. وأحسب أني قد رأيت لبعض العلماء أنها العشاء الآخرة ولا أحقق ذلك في وقتي هذا.
فصل والصلوات الخمس أحد دعائم الإسلام الخمس، قال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» .
فصل
فمن جحد فرض الصلاة فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكان ماله للمسلمين كالمرتد إذا قتل على ردته بإجماع من أهل العلم لا اختلاف بينهم فيه. وأما من أقر بفرضها وتركها عمدا من غير عذر، فاختلف أهل العلم فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كافر ينتظر به آخر وقت الصلاة، فإن صلى وإلا قتل، وكان ماله لجميع المسلمين كالمرتد، روي هذا عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وأبي الدرداء، وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب: " ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة "، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أن من ترك صلاة واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها فهو كافر حلال الدم إن لم يتب، ويستتاب فإن تاب وإلا قتل، وكان ماله لجميع المسلمين كالمرتد إذا قتل على ردته.(1/141)
فصل واستتابته إذا أبى من الصلاة أن ينتظر به حتى يخرج وقتها. والوقت في ذلك للظهر والعصر إلى غروب الشمس، وللصبح إلى طلوع الشمس، وللمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر. وقال إسحاق بن راهويه: وقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع، وهو أن من عرف بالكفر ثم رئي يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة في أوقاتها ولم يعلم أنه أقر بالتوحيد بلسانه فإنه يحكم له بالإيمان، بخلاف الصوم والزكاة والحج يريد، والله أعلم، أنه كما يحكم له بفعل الصلاة بحكم الإيمان والإسلام، فكذلك يحكم له إذا تركها بحكم الكفر والارتداد. وهو قول أحمد بن حنبل: إنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة إلا بترك الصلاة عمدا. وحجة من ذهب إلى هذا: ظواهر الآثار الواردة عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بتكفير تارك الصلاة. من ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك الصلاة فقد حبط عمله» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس بين العبد وبين الكفر أو قال الشرك إلا ترك الصلاة» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك الصلاة حشر مع هامان وفرعون» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله. ومن أبى فهو كافر وعليه الجزية» . وقال ابن حبيب: من ترك الصلاة مفرطا فيها أو مكذبا بها أو مضيعا لها فهو كافر في تركه إياها، وكذلك أخوات الصلاة من الصيام والزكاة والحج. وحجته في ذلك: ظواهر الآثار المذكورة في الصلاة، وقول أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ -: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. وانفرد ابن حبيب بهذا من بين سائر أهل العلم.
والقول الثاني: هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأكثر أهل العلم، أن من ترك الصلاة وأبى من فعلها وهو مقر بفرضها، فليس بكافر، ولكنه يقتل على ذنب من(1/142)
الذنوب لا على كفر، ويرثه ورثته من المسلمين. والحجة لهم: قول أبي بكر الصديق في جماعة من الصحابة في الذين منعوا زكاة أموالهم: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فقاتلهم ولم يسبهم؛ لأنهم لم يكفروا بعد الإيمان ولا أشركوا بالله، وقالوا لأبي بكر: ما كفرنا بعد إيماننا ولكننا شححنا على أموالنا. وقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نهيت عن قتل المصلين» ، فدل ذلك على أنه قد أمر بقتل من لم يصل. وما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سيكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع " قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم قال: " لا ما صلوا الخمس» ، فدل ذلك على أن من لم يصل الخمس قوتل. وقوله «في مالك بن الدخشن: " أليس يصلي " قالوا: بلى ولا صلاة له، قال: " أولئك الذين نهانا الله عنهم» فدل على أنه لو لم يصل لم يكن من الذين نهاه الله عن قتلهم، بل كان يكون ممن أمر الله بقتلهم. فدلت هذه الآثار كلها على القتل ولم تدل على الكفر. وتأولوا الآثار الواردة بتكفير من ترك الصلاة في ظاهرها على ما تأولوا عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن» ، وعلى ما تأولوا عليه «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وعلى ما تأولوا عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» . وقد روي عن عبد الله بن عباس أنه قال: ليس [سباب المسلم] بالكفر الذي(1/143)
يذهبون إليه أنه كفر ينقل عن الملة ولكنه كفر ليس ينقل عن الملة ثم تلا قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .
والقول الثالث: أن من ترك الصلاة فسقا وتهاونا من غير أن يبتدع دينا غير الإسلام، فإنه يضرب ضربا مبرحا، ويسجن حتى يتوب ويرجع ولا يقتل، قاله ابن شهاب وجماعة من سلف الأمة، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وبه قال داود ومن اتبعه. وحجة هؤلاء ومن قال بقولهم: قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة فمن جاء بهن لم يضيع» الحديث، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . قالوا: وقد بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقها ما هو فقال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس» .
فصل وفرض الله تعالى على نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الصلوات الخمس في السماء حين الإسراء بخلاف سائر الشرائع، وذلك يدل على حرمتها وتأكد وجوبها. واختلف كيف فرضت فروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. وقيل: إنها فرضت أربع ركعات ثم قصر منها ركعتان في السفر، ويؤيد هذا ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة» . ووضع لا يكون إلا من تمام.(1/144)
وكان بدء الصلاة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ركعتين غدوا وركعتين عشيا. وروي عن الحسن في قول الله سبحانه وتعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر: 55] ، أنها صلاته بمكة حين كانت الصلاة ركعتين غدوا وركعتين عشيا، فلم يزل فرض الصلاة على ذلك ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون بمكة تسع سنين، فلما كان قبل الهجرة بسنة أسرى الله بعبده ورسوله - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به جبريل من بيت المقدس إلى سماء الدنيا، ثم مضى به من سماء إلى سماء حتى انتهى به إلى السماء السابعة ثم إلى سدرة المنتهى، فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه عند ذلك وعلى أمته أن يصلوا كل يوم وليلة خمسين صلاة قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فلما انصرفت بهن لقيت موسى بن عمران في السماء السادسة، فقال: بماذا أمرت فقلت: أمرت بخمسين صلاة في كل يوم وليلة، فقال لي: إن أمتك لا تطيق ذلك وقد بلوت الناس قبلك وقاسيت بني إسرائيل أشد المقاساة لقد فرضت عليهم صلاتان في كل يوم وليلة فما أطاقوهما، فارجع إلى ربك وسله التخفيف عن أمتك، ففعلت، فجعلها ربي أربعين صلاة، فمررت بموسى، فقال لي: ما فعلت، فقلت: جعلها ربي أربعين صلاة، فقال: سله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فما زلت أنطلق بين ربي وموسى وينقصها حتى جعلها خمس صلوات، ثم قال لي: قد أمضيت فريضتي وخففت عن أمتك وجعلت لهم الحسنة بعشر أمثالها فخمس بخمسين، فعلمت أنها عزمة من ربي» . فمعنى قوله خمس بخمسين أنها خمس في العدد وخمسون في تضعيف الحسنات، جعل الصلاة بعشرة وجعل سائر الحسنات، بسبب ما كان من فرض الصلوات كل حسنة بعشرة أمثالها، تفضلا منه لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمته ولم يعط ذلك نبي قبله.
فصل
وذكر الله تبارك وتعالى الصلاة بركوعها وسجودها وقيامها وقراءتها وأوقاتها(1/145)
وأسمائها فقال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] ، ففي الطرف الأول صلاة الصبح، وفي الطرف الثاني صلاة الظهر والعصر، وزلفا من الليل المغرب والعشاء، وقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] ، فدلوك الشمس ميلها وذلك وقت صلاة الظهر والعصر، وغسق الليل اجتماعه وظلمته، وذلك وقت صلاة المغرب والعشاء، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] يعني أن صلاة الصبح يشهدها مع الناس ملائكة الليل وملائكة النهار. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» وقال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] ، فقوله حين تمسون يريد المغرب والعشاء، وحين تصبحون صلاة الصبح، وعشيا العصر، وحين تظهرون صلاة الظهر، وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] فقبل طلوعها صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة الظهر والعصر، وقال تعالى في الركوع والسجود: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ، وقال تعالى في القيام: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، وقال تعالى في القراءة: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ؛ لأن معناه في الصلاة، وقال تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] يعني لا تجهر بقراءتك في الصلاة حتى يسمعك المشركون لئلا(1/146)
يسبوا قراءتك، ولا تخافت بها حتى لا يسمعك أصحابك، وقيل: معناه في الدعاء والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل إلا أن هذا كله مجمل أجمله الله في كتابه فلم يحد فيها الأوقات، ولا بين فيه عدد السجدات والركعات، ولا شيئا من رتبة عملها في القيام والجلوس. فلو تركنا وظاهر ما في القرآن لم يصح لنا منه امتثال ما أمرنا به من إقامة الصلاة، لكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بين ما أجمل الله تعالى في كتابه من ذلك قولا وعملا كما أمره الله سبحانه وتعالى حيث يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، فبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مواقيت الصلاة، وعدد الركعات والسجدات، وصفة جميع الصلوات، وما لا تصح إلا به من الفرائض، وما يستحب فيها من السنن والفضائل، ونقلت ذلك عنه الكافة عن الكافة، ولم يمت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بين جميع ما بالناس الحاجة إلى بيانه، فكمل الدين. قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] نزلت هذه الآية على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع يوم الجمعة في يوم عرفة.
فصل فالصلاة تجب بأربع شرائط متفق عليها، وشرط خامس مختلف فيه هل هو مشروط في وجوب الصلاة أو في صحة فعلها.
فأما الأربعة المتفق عليها فهي: البلوغ، والعقل، ودخول الوقت، وارتفاع الحيض والنفاس. فأما البلوغ والعقل: فالدليل على صحة اشتراطهما في وجوب الصلاة قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون(1/147)
حتى يفيق» ، فلا اختلاف بين أحد من أهل العلم أن الصبي والمجنون الذي لا يعقل غير متعبدين بالصلاة ولا بشيء من الشرائع، وأما دخول الوقت: فالدليل على صحة اشتراطه في وجوب الصلاة إجماع أهل العلم أن من صلى صلاة قبل دخول وقتها فإنها لا تجزئه، فلا خلاف بين أحد من المسلمين أن الصلاة لا تجب على أحد قبل دخول وقتها، إلا أنه يجب عليه قبل دخول وقتها اعتقاد وجوبها عليه إذا دخل وقتها.
[فصل في تحقيق حدود الأوقات]
فصل
في تحقيق حدود الأوقات فأول وقت الظهر زوال الشمس عن كبد السماء، وآخر وقتها المستحب أن يصير ظل كل شيء مثله بعد الظل الذي زالت عليه الشمس. وأول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال، وآخر وقتها المستحب أن يصير ظل كل شيء مثليه. وآخر وقت الظهر والعصر للضرورة إلى غروب الشمس، وتشارك العصر الظهر في وقتها المستحب من أول زوال الشمس للعذر. وقد قيل: إن الظهر يختص من أول الزوال بمقدار أربع ركعات لا يشاركها فيه العصر، وتشارك الظهر العصر في وقتها المستحب إلى تمام القامتين للعذر أيضا. واختلف هل تشارك العصر الظهر عند اعتدال القامة في الوقت المستحب أم لا على قولين، فذهب ابن حبيب إلى أنها لا تشاركها فيه وأن آخر وقت الظهر عند تمام القامة وأول وقت العصر عند ابتداء القامة الثانية بقدر ما يسلم من الظهر ويبدأ بالعصر دون فاصلة بين الوقتين، وهذا مذهب الشافعي، وقد قيل: إن مذهبه أن بين الوقتين فاصلة وإن قلت لا تصلح للظهر ولا للعصر في الاختيار، وليس ذلك بصحيح عنه.(1/148)
والمشهور في المذهب أن العصر مشاركة للظهر في وقت الاختيار، وذلك بين في حديث إمامة جبريل للنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه صلى به الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول. واختلف الذين ذهبوا إلى هذا المذهب هل العصر هي المشاركة للظهر في آخر القامة الأولى أو الظهر هي المشاركة للعصر في أول ابتداء القامة الثانية، والأظهر أن العصر هي المشاركة للظهر في آخر القامة الأولى.
وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس وقت واحد لا يجوز أن تؤخر عنه إلا بقدر مثل الجمع بين الصلاتين للمسافر والمريض وفي المطر. وقيل إنه لا يجوز تأخير المغرب عن غروب الشمس لشيء من هذه الأعذار ويجمع بين الصلاتين عند الغروب. وقيل: إن لها وقتين في الاختيار وإن آخر وقتها المختار مغيب الشفق فجائز أن تؤخر صلاة المغرب إلى مغيب الشفق من غير عذر، وهو ظاهر قول مالك في موطئه، إلا أن أول الوقت أفضل، فحصل الإجماع في المغرب على أن المبادرة لها عند الغروب أفضل.
وأول وقت العشاء المستحب مغيب الشفق، وهو الحمرة عند مالك، وآخر وقتها المستحب ثلث الليل الأول، وقيل: نصفه. وآخر وقت المغرب والعشاء للضرورة إلى طلوع الفجر. وتشارك العشاء المغرب في وقتها المستحب لها من أول الغروب للعذر. وقد قيل: إن المغرب تختص من أول الغروب بمقدار ثلاث ركعات لا تشاركها فيه العشاء.
وأول وقت الصبح انصداع الفجر، وهو الفجر الثاني المعترض في الأفق الشرقي. وأما الفجر الأول الذي يسمونه الكاذب وهو المشبه بذنب السرحان فإنه لا يحل الصلاة ولا يحرم على الصائم الأكل بإجماع. وآخر وقتها طلوع الشمس،(1/149)
وقيل: الإسفار البين الذي يكون قرب طلوع الشمس، ذهب إلى هذا من رأى أن للصبح وقت ضرورة.
فصل فالأوقات تنقسم على خمسة أقسام: وقت اختيار وفضيلة وهو أن يصلي قبل انقضاء الوقت المستحب. ووقت رخصة [وتوسعة، وهو أن يصلي في آخر الوقت المستحب. ووقت رخصة] للعذر وهو أن يؤخر الظهر إلى آخر وقت العصر المستحب أو يعجل العصر في أول وقت الظهر المستحب أو بعده مقدار ما يصلي فيه صلاة الظهر على ما ذكرناه في ذلك من الاختلاف. ووقت تضييق من ضرورة وهو أن يؤخر الظهر والعصر إلى غروب الشمس، والصبح إلى طلوع الشمس، والمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر. ووقت سنة أخذ بحظ من الفضيلة للضرورة وهو الجمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة.
فصل وأول الوقت في الصلوات كلها أفضل، قال الله تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11] {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 12] ، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ، ومعلوم أن من بادر إلى طاعة ربه أفضل ممن تأخر عنها وتأنى عنها، وقد سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل، فقال: «الصلاة لأول وقتها» . وروي أن الصلاة في أول الوقت رضوان الله وفي وسطه رحمة الله وفي آخره عفو الله، فكان أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يقول رضوان الله أحب إلي من(1/150)
عفوه. هذا هو المنصوص عن مالك المعلوم من مذهبه في كتاب ابن المواز وغيره. وقد تأول بعض الشيوخ على مذهبه في المدونة أن أول الوقت وأوسطه وآخره في الفضل سواء من إنكاره لحديث يحيى بن سعيد «إن المصلي ليصلي الصلاة وما فاته وقتها ولما فاته من وقتها أعظم وأفضل من ماله وأهله» . وهذا بعيد؛ لأنه إنما أنكره لأن ظاهره يوجب أن من فاته بعض الوقت كمن فاته جميعه على ما جاء في حديث عبد الله بن عمر «الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله» .
فصل وهذا التأويل إنما يصح فيما عدا صلاة الصبح وصلاة المغرب. أما صلاة المغرب فلما وضحنا فيها من الإجماع على أن أول الوقت أفضل. وقد روي أن عمر بن عبد العزيز أخر المغرب حتى طلع نجم أو نجمان، فأعتق رقبة أو رقبتين؛ خوفا من أن يكون منه بعد أن غربت الشمس غفلة أو فترة. وأما صلاة الصبح فإنه نص في سماع أشهب على أن التغليس بها أفضل من الإسفار؛ لأنه الذي كان يداوم عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس» . فيبعد أن يتأول قوله على خلاف المنصوص عنه. وقد روى زياد عن مالك أن الصلاة في أول وقت الصبح منفردا أفضل من الصلاة في آخره جماعة.
فصل واتفق أصحاب مالك على أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن الوقت المختار المستحب إلى ما بعده من وقت الضرورة إلا من ضرورة، وهو القامة في الظهر، والقامتان في العصر [أو ما لم تصفر الشمس] . ومغيب الشفق في المغرب على(1/151)
مذهب من رأى أن لها وقتين. وانقضاء نصف الليل في العشاء الآخرة. والإسفار في الصبح على مذهب من رأى أن له وقت ضرورة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني الشيطان أو على قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» . ولأنه لم يعلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخر صلاة من الصلوات حتى خرج وقتها المختار المستحب.
فصل فمن فعل ذلك فهو مضيع لصلاته مفرط فيما أمره الله به من حفظها ورعايتها آثم لتضييعه وتفريطه وإن كان مؤديا لها غير قاض. وأما تركها حتى يخرج وقتها فهو من الكبائر، قال الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] ، وإضاعتها على ما قال أكثر أهل التأويل تأخيرها عن مواقيتها. والغي بئر في قعر جهنم يسيل فيه صديد أهل النار، وقيل: الغي الخسران وقيل: الشمر، والمعنى في ذلك متقارب.
فصل فوقت الصلاة يتسع لتكرار فعلها مرارا، وجميعه وقت لجواز فعلها. واختلف في وقت الوجوب منه على أربعة أقوال:
أحدها: قول أصحاب مالك: إن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا موسعا وأن جميع الوقت وقت للوجوب.
والثاني: قول أصحاب الشافعي: إن الصلاة تجب بأول الوقت وإنما ضرب آخره تمييزا للأداء عن القضاء. وهذا فيه نظر؛ لأنك إذا أطلقت القول بوجوب الصلاة في أول الوقت لزمك أن لا تجيز له تأخيرها عن وقت الوجوب وهو أول الوقت، وهذا ما لا يقوله أحد.(1/152)
والقول الثالث: قول أصحاب أبي حنيفة: إن الصلاة لا تجب إلا بآخر الوقت، وهو الحين الذي لم يأثم المكلف بتأخير الصلاة عنه. وهذا فيه نظر أيضا؛ لأن الصلاة إذا لم تجب عنده في أول الوقت فينبغي أن لا تجزئه إن صلاها فيه كما لا تجزئ من صلى قبل دخول الوقت، وهذا ما لا يقوله أحد. ولهذا قال الكرخي: إن الصلاة المفعولة في أول الوقت تطوع وهي تسد مسد الفرض.
والرابع: أن وقت الوجوب منه غير معين، وللمكلف تعيينه بفعل الصلاة فيه.
وهذا أظهر الأقاويل وأسدها وأجراها على أصول المالكيين؛ لأن معظمهم قالوا: إن الأفعال المخير فيها كالإطعام والعتق والكسوة في الكفارة الواجب منها واحد غير معين، وللمكلف تعيين وجوبه بفعله، ولم يخالف في ذلك إلا ابن خويز منداد فإنه قال: إن جميعها واجب فإذا فعل المكلف أحدها سقط وجوب سائرها. وما قدمناه هو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأن الأفعال الواجب جميعها لا يسقط بعضها بفعل بعضها.
فصل وأما ارتفاع دم الحيض والنفاس فالدليل على صحة اشتراط ذلك في وجوب الصلاة أن الصلاة لا تصح إلا بطهر؛ لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» ، والطهور لا يصح للحائض والنفساء إلا بعد ارتفاع الدم لقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] إلى قوله {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] الآية، فوجب أن لا تجب عليها الصلاة إلا بعد(1/153)
كمال الطهارة، وهذا مما لا اختلاف فيه؛ لأن الحائض والنفساء غير مخاطبتين بالصلاة فثبت صحة اشتراط ذلك في وجوب الصلاة.
فصل فأما الشرط المختلف فيه فهو الإسلام؛ لأنه إنما يشترط في وجوب الصلاة على مذهب من يرى أن الكفار غير مخاطبين بشرائع الإسلام؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ، [فدل ذلك على أنها ليست على غير المؤمنين كتابا موقوتا] ، وقَوْله تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17] ، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] وما أشبه ذلك من الآيات التي خص بالخطاب بها المؤمنون. وأما على مذهب من يرى أن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام، وهو الظاهر من مذهب مالك؛ لقول الله عز وجل: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44] {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45] ، فالإسلام ليس بشرط في وجوب الصلاة، وإنما هو شرط في صحتها كالنية وسائر فرائضها.
[فصل في ذكر فرائض الصلاة]
فصل
في ذكر فرائض الصلاة والصلوات الخمس تشتمل على فرائض وسنن ومستحبات وفضائل، فلا تصح إلا بجميع فرائضها، ولا تكمل إلا بسننها وفضائلها. وفرائضها ثمان عشرة فريضة، منها عشر فرائض متفق عليها عند الجميع، وهي النية، والطهارة، ومعرفة(1/154)
دخول الوقت، والتوجه إلى القبلة، والركوع، والسجود، ورفع الرأس من السجود، والقيام، والجلوس الأخير، وترتيب أفعال الصلاة.
فصل فأما النية فالدليل على وجوبها واشتراطها في صحة الصلاة قول الله تبارك وتعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] ، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] ، وقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات» . والصلاة عبادة من العبادات وعمل من الأعمال فوجب أن لا تجزئ إلا بالنية.
فصل ومن صفة النية على الكمال أن يستشعر الناوي الإيمان بقلبه فيقرن بذلك اعتقاد القربة إلى الله تعالى بأداء ما افترض عليه من تلك الصلاة بعينها، وذلك يحتوي على أربع نيات: وهي اعتقاد القربة، واعتقاد الوجوب، واعتقاد القصد إلى الأداء، وتعيين الصلاة. واستشعار الإيمان شرط في صحة ذلك كله. فإذا أحرم ونيته على هذه الصفة فقد أتى بإحرامه على أكمل أحواله، فإن سها في وقت إحرامه عن استشعار الإيمان لم يفسد عليه إحرامه لتقدم علمه به واعتقاده له؛ لأنه موصوف به في حال الذكر له والغفلة عنه. وكذلك إذا سها عن أن ينوي مع الإحرام بها وجوب الصلاة عليه والقصد إلى أدائها والتقرب بها إلى الله تعالى لم يفسد عليه إحرامه إذا عين الصلاة؛ لأن التعيين لها يقتضي الوجوب والقربة والأداء لتقدم علمه بوجوب تلك الصلاة التي عينها عليه. وأما إن لم يعين الصلاة فليس بمحرم لها، ولهذا قلنا: إن من ذكر صلاة من يوم لا يدري أيتهن هي إنه يصلي خمس صلوات، بخلاف ما حكي عن بعض أصحاب الشافعي أنه يصلي أربع ركعات يجهر في الأوليين ويجلس في الثانية والثالثة ويتشهد ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجزئه. وإنما(1/155)
اختلف أصحاب مالك فيمن ذكر صلاة لا يدري من السبت أو من الأحد، فقيل: إنه يصليها مرة واحدة ينويها عن اليوم الذي تركها فيه، وقيل: إنه يصليها مرة للسبت ومرة للأحد.
وقد اختلف أهل العلم هل من شرط صحتها أن تكون مقارنة للإحرام أم ليس ذلك من شرط صحتها ويجزئ تقدمها قبل الإحرام بيسير، فقال ابن أبي زيد في رسالته: والدخول في الصلاة بنية الفرض فريضة، وإلى هذا ذهب عبد الوهاب في شرح الرسالة. والأصح أن تقدم النية قبل الإحرام بيسير جائز، كالوضوء والغسل في مذهبنا، والصيام عند الجميع؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» . ولا معنى لتفرقة من فرق في هذا بين الوضوء والغسل وبين الصلاة للاختلاف الحاصل في وجوب اشتراط النية في صحة الغسل والوضوء.
فصل وتجزئ النية بالقلب دون النطق باللسان في مذهب مالك وجميع أصحابه.
فصل وأما الطهارة فالدليل على وجوبها واشتراطها في صحة الصلاة قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ، الآية، وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول» . وهذا معلوم من دين الأمة وإجماع المسلمين فلا معنى لإيراد النصوص فيه.
فصل وأما معرفة الوقت فالدليل على وجوب اشتراطه في صحة الصلاة الإجماع(1/156)
على أن الصلاة لا تجب عليه ولا تجزئ عنه قبل دخول الوقت؛ لقول الله عز وجل: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] ؛ ولأن جبرائيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أقام للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوقات الصلوات، ثم قال له: بهذا أمرت. فإذا صلى وهو غير عالم بدخول الوقت وجب أن لا تجزئه صلاته وإن انكشف له [أنه صلاها بعد دخول الوقت؛ لأنه صلاها وهو غير عالم بوجوبها عليه. وقيل: إنها تجزئه إن انكشف له] أنها وقعت بعد دخول الوقت. واستدل من ذهب إلى ذلك بما جاء من أن «علي بن أبي طالب وأبا موسى الأشعري قدما على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع وهما محرمان، فسألهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بما أهللتما، فقال: كل واحد منهما قلت لبيك بإهلال كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصوب النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فعلهما وأمرهما بما يفعلان في بقية إحرامهما» ولا دليل في ذلك؛ لأنهما إنما أحرما في وقت يجوز لهما الإحرام بالحج فيه وإن لم يعلما هل كان أحرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أم لا، ولا بما أحرم إن كان أحرم. وقاس ذلك أيضا بالذي يصوم أول يوم من رمضان متحريا دون أن يرى الهلال. وليس ذلك بقياس صحيح؛ لأن هذا احتياط مخافة أن يأكل يوما من رمضان، وهذا ترك الاحتياط إذ لم يؤخر صلاته حتى يوقن بدخول الوقت. وأما إذا لم ينكشف له أنه صلاها بعد دخول الوقت فبين أنها لا تجزئه؛ لأنها ثابتة عليه ولازمة لذمته فلا تسقط عنه إلا بيقين. ولو صلاها وهو غير عالم بدخول الوقت مخافة أن يفوته الوقت إذ لا يدري لعله قد دخل ومضى حتى لم يبق منه إلا قدر ما يصلي فيه لجرى ذلك على الاختلاف في الذي يصوم أول يوم من رمضان مخافة أن يكون من رمضان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل وأما التوجه إلى القبلة فالدليل على وجوبه واشتراطه في صحة الصلاة قول(1/157)
الله عز وجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ، فعلى المعاين للقبلة استقبالها، وعلى من غابت عنه الاجتهاد في طلبها بالأدلة المنصوبة عليها، فإن صلى بغير اجتهاد لم تجزئه صلاته، وإن وقعت إلى القبلة. وإن اجتهد فتبين له أنه أخطأ فصلى مستدبر القبلة أو مشرقا أو مغربا أعاد في الوقت على طريق الاستحباب. وقال الشافعي: إن استدبر القبلة فالإعادة عليه واجبة في الوقت وبعده، وهو قول المغيرة من أصحابنا. والدليل لنا ما روي عن «عامر بن ربيعة أنه قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة ظلماء في سفر، فخفيت علينا القبلة، فصلى كل واحد منا إلى وجهه، وعلمنا علما، فلما أصبحنا فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فسألنا عن ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مضت صلاتكم، ونزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » ، ولما كان المجتهد في طلب القبلة إذا أخطأ لا ينصرف إلى يقين وإنما يرجع إلى اجتهاد مثله لم تجب عليه الإعادة إلا في الوقت؛ بخلاف من صلى إلى غير القبلة وهو بموضع يعاينها ويرجع إذا أخطأ إلى يقين لا إلى اجتهاد.
فصل وأما الركوع والسجود فالدليل على وجوبهما قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ، وقَوْله تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] ، وقوله عز وجل: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] ، وقَوْله تَعَالَى: {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} [التوبة: 112] .(1/158)
فصل وأما الرفع من السجود فالدليل على وجوبه أن السجود لا يتم إلا به وهو يفصل بين السجدتين، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب مثله.
فصل وأما القيام فالدليل على وجوبه قول الله عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] ، وأقل ما يتعين منه في كل ركعة على الإمام والفذ قدر ما يقرأ فيه أم القرآن، وعلى المأموم قدر ما يوقع فيه تكبيرة الإحرام.
فصل وأما الجلوس الآخر فهو من فرائض الصلاة بإجماع. وأقل ما يجزئ فيه عند مالك قدر ما يوقع فيه السلام.
فصل وأما ترتيب أفعالها والبداية فيها بالقيام قبل الركوع وبالركوع قبل السجود وبالسجود قبل الجلوس، فهو واجب بإجماع؛ لأن الله تعالى قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] ، وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفة فعلها قولا وعملا، فلو عكس أحد صلاته فبدأ بالجلوس قبل القيام أو بالسجود قبل الركوع وما أشبه ذلك لم تجزه صلاته بإجماع.
فصل ومنها ثلاث متفق عليها في المذهب، وهي تكبيرة الإحرام، والسلام، وقراءة أم القرآن على الإمام والفذ. فأما تكبيرة الإحرام فإنها فرض عند مالك وجميع(1/159)
أصحابه وأكثر أهل العلم. وقد روى ابن وهب وأشهب عن مالك أنه استحب للمأموم إذا لم يكبر للإحرام ولا للركوع إعادة الصلاة، ولم يوجب ذلك، وقال: أرجو أن يجزئ عنه إحرام الإمام، وهو شذوذ في المذهب. ولا يجزئ فيها إلا الله أكبر؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريم الصلاة التكبير» . وذهب ابن شهاب وسعيد بن المسيب إلى أنها سنة، وروي ذلك عن ابن مسعود، ولذلك قال مالك فيمن ترك تكبيرة الإحرام مع الإمام وكبر للركوع: إنه يتمادى مع الإمام استحبابا مراعاة للاختلاف، ثم يعيد استحبابا على مذهبه. كذا حفظنا عن بعض شيوخنا في تأويل ما وقع في المدونة من مراعاة قول مالك لسعيد بن المسيب في التمادي مع الإمام. والصواب أن تكبيرة الإحرام عند سعيد بن المسيب فرض، وسنذكر ذلك فيما يأتي، إن شاء الله تعالى.
فصل وكذلك السلام من الصلاة هو واجب عند مالك وأصحابه وأكثر أهل العلم؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم» وذهب أبو حنيفة إلى أن السلام في الصلاة غير واجب، وأنه إذا قعد في آخر صلاته مقدار التشهد فقد خرج من الصلاة وإن لم يسلم؛ ولهذا قال ابن القاسم: إن الإمام إذا أحدث بعد التشهد وتمادى حتى سلم بالقوم عامدا إن صلاتهم تجزئهم.
فصل وكذلك قراءة أم القرآن في الصلاة هي واجبة على الإمام والفذ على مذهب مالك وجميع أصحابه وجل أهل العلم، قيل: في جملة الصلاة، وقيل: في كل ركعة منها. واختلف قول مالك وأقوال أصحابه فيمن ترك أم القرآن من ركعة أو أكثر من صلاة ثلاثية أو رباعية، أو من ركعة واحدة من صلاة هي ركعتان اختلافا كثيرا، سنذكره فيما يأتي إن شاء الله تعالى. ومن أهل العلم من لم يوجب قراءة أم القرآن ولا(1/160)
غيرها في الصلاة على ظاهر قول عمر بن الخطاب حين ترك القراءة في الصلاة، فقيل له: إنك لم تقرأ، فقال: كيف كان الركوع والسجود، قالوا: حسن، قال: فلا بأس إذا.
فصل ومنها خمس مختلف فيها في المذهب، وهي: الرفع من الركوع، وطهارة الثوب والبقعة، وستر العورة، وترك الكلام، والاعتدال في الفصل بين أركان الصلاة.
فصل فأما الرفع من الركوع فالاختلاف فيه في المذهب، روى عيسى عن ابن القاسم أنه لا يعتد بتلك الركعة التي لم يرفع منها رأسه، واستحب أن يتمادى ثم يعيد، وروى علي بن زياد عن مالك أنه لا إعادة عليه. وعلى هذا يأتي اختلاف مالك في عقد الركعة هل هو الركوع أو الرفع منه، فمن لم يوجب رفع الرأس منه جعل عقد الركعة الركوع، ومن أوجب الرفع منه جعل عقد الركعة بالرفع من الركوع.
فصل وكذلك طهارة الثوب والبقعة الاختلاف فيه في المذهب: ذهب ابن وهب إلى أنه فرض، وقال ابن القاسم وأكثر أصحاب مالك: إنه سنة، ومن أهل العلم من يعبر عنه أنه فرض بالذكر يسقط بالنسيان.
فصل وكذلك ستر العورة الاختلاف فيه أيضا في المذهب. قيل: إنه فرض من(1/161)
فرائض الصلاة مع القدرة عليه، وقيل: إنه فرض قائم بنفسه في الجملة وسنة في الصلاة. فمن ذهب إلى أنه فرض من فرائض الصلاة أوجب الإعادة أبدا على من صلى مكشوف العورة وهو قادر على سترها ناسيا كان أو جاهلا أو متعمدا. ومن ذهب إلى أنه ليس من فرائض الصلاة وإنما هو فرض قائم بنفسه في الجملة وسنة من سنن الصلاة لم يوجب عليه الإعادة إلا في الوقت إن كان ناسيا أو جاهلا، وأما إن كان متعمدا فيعيد أبدا، ولا يدخل في ذلك الاختلاف فيمن ترك سنة من سنن الصلاة عامدا إذ قد قيل: إن ذلك فرض وهو الأظهر لقول الله عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] .
فصل وكذلك ترك الكلام الاختلاف فيه في المذهب. ذكر أبو بكر الأبهري في الشرح أنه سنة، وبناه على أصلين في المذهب، وإنما قال فيه: إنه سنة؛ لقولهم: إن من تكلم في صلاته ساهيا كمن سها عن سنة من سننها تجزئه صلاته ويسجد لسهوه، بخلاف من سها عن فريضة من فرائضها، فرأى على قياس هذا أنه إنما يعيد إذا تكلم عامدا لترك السنة عامدا. والأظهر أنه فرض، والدليل على وجوبه قول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] أي: صامتين. وقد كان الناس في أول الإسلام يتكلمون في الصلاة حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فنهوا عن الكلام. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة» ، والفرق بين الكلام ساهيا وترك الفريضة ساهيا أن الكلام شيء قد فرط لا يمكنه استدراكه؛ لاستحالة ترك فعل الشيء بعينه بعد فعله، وقد تجاوز الله عنه بنص قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان»(1/162)
والفريضة يقدر أن يعود إلى فعلها بعد تركها، فإن لم يفعل بعمد أو نسيان حتى فاته ذلك، وجب عليه إعادة الصلاة. وبهذا المعنى يفترق الحكم فيمن سها فزاد في صلاته ركعة أو سجدة، أو أسقط ذلك منها، فيجزئه سجود السهو في الزيادة، ولا يجزئه ذلك في النقصان.
فصل وكذلك الاعتدال في الفصل بين أركان الصلاة الاختلاف فيه في المذهب. ففي مختصر ابن الجلاب أنه فرض، والأكثر أنه غير فرض. فمن لم يعتدل في رفعه من الركوع والسجود استغفر الله ولم يعد، روى ذلك عيسى عن ابن القاسم. وقيل: إن الإعادة عليه واجبة على ظاهر الحديث في قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي صلى ولم يعتدل في صلاته: «ارجع فصل فإنك لم تصل» .
[فصل في ذكر سنن الصلاة]
فصل
في ذكر سنن الصلاة وأما سنن الصلاة فثمان عشرة سنة، وهي: إقامة الصلاة في المساجد، والإقامة، وقيل: الأذان والإقامة، والصواب أن الأذان ليس بسنة على الأعيان، وإنما هو سنة في مساجد الجماعات، وفرض في جملة المصر. وقد قال أهل الظاهر: إنه سنة، وهو قول ضعيف لا وجه له. ورفع اليدين عند الإحرام، وقد قيل في رفع اليدين: إنه استحباب. وأما رفعهما عند الركوع وعند الرفع منه فاختلف قول مالك فيه، فمرة قال: لا يرفع، واستحسن مرة الرفع، ومرة خير فيه. وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم أنه أنكر رفع اليدين عند الإحرام، وهي رواية شاذة ضعيفة خاملة، ونحوها في بعض روايات المدونة. والسورة التي مع أم القرآن، والجهر بالقراءة في موضع الجهر والإسرار بها في موضع الإسرار، والإنصات مع الإمام فيما يجهر فيه، والتكبير سوى تكبيرة الإحرام، وقد قيل: إن كل تكبيرة منها سنة، وسمع الله لمن حمده للإمام والفذ، والتشهد الأول، والجلوس له، والتشهد الآخر والصلاة(1/163)
على النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الصلاة سنة، وفريضة مطلقة في غيرها، ورد السلام على الإمام، وتأمين المأموم إذا قال الإمام ولا الضالين، وقوله ربنا ولك الحمد إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، والقناع للمرأة، والتسبيح في الركوع والسجود.
فصل فمن هذه السنن ثمان مؤكدات يجب سجود السهو للسهو عنها وإعادة الصلاة على اختلاف لتركها عمدا، وهي السورة التي مع أم القرآن، والجهر في موضع الجهر، والإسرار في موضع الإسرار، والتكبير سوى تكبيرة الإحرام، وسمع الله لمن حمده، والتشهد الأول، والجلوس له، والتشهد الآخر. وسائرها لا حكم لتركها، فلا فرق بينها وبين الاستحبابات إلا في تأكيد فضائلها، حاشا المرأة تصلي بغير قناع، فإن الإعادة في الوقت مستحبة لها.
[فصل في ذكر مستحبات الصلاة]
فصل
في ذكر مستحبات الصلاة وأما استحباباتها فثمان عشرة أيضا وهي أخذ الرداء، والتيامن في السلام، وقراءة المأموم مع الإمام فيما يسر فيه، وإطالة القراءة في الصبح والظهر، وتقصير الجلسة الأولى، والتأمين بعد قراءة أم القرآن للفذ وللإمام فيما يسر فيه، [وقول الفذ ربنا ولك الحمد، وصفة الجلوس، والإشارة بالإصبع فيه] ، والقنوت في الصبح، وقيام الإمام من موضعه ساعة يسلم، والسترة، واعتدال الصفوف، والاعتماد، وترك قراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في الفريضة، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة، وقد كرهه مالك في المدونة، ومعنى كراهيته أن يعد من واجبات الصلاة، والصلاة على الأرض أو على ما أنبتت الأرض، والصلاة(1/164)
في الجماعة مستحبة للرجل في خاصة نفسه. وأما إقامة الجماعة في الصلوات فإنها فرض في الجمعة وسنة في كل مسجد.
فصل وأما الصلاة التي هي فرض على الكفاية فصلاة الجنائز، وقد قيل: إنها سنة، وهو قول أصبغ. والدليل على أنها فرض على الكفاية «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالمدينة على النجاشي إذ لم يكن له من يصلي عليه بموضعه الذي توفي فيه» وأجمع على العمل بذلك جميع المسلمين في جميع بلاد الإسلام، فصار ذلك سبيل المؤمنين الذي توعد الله على ترك اتباعه بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ، فلو أن قوما تركوا الصلاة على جنائزهم للحقهم الوعيد المذكور في الآية، وهذا دليل بين على الوجوب، وقد استدل على ذلك ابن عبد الحكم بقول الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ؛ لأنه سئل عن الصلاة على الجنازة فقال: هي فرض وتلا الآية، وليس ذلك بدليل بين؛ لأن النهي عن الصلاة على المنافقين ليس بأمر بالصلاة على المؤمنين، إذ ليست بضد لها، وإنما يفهم الأمر من ذلك بدليل الخطاب، وقد اختلف في القول به وفي حمل الأمر على الوجوب فضعف الاستدلال بذلك.
فصل وأما السنة فهي خمس صلوات سنها النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وهي: الوتر، وصلاة الخسوف، والاستسقاء، والعيدين، وقد قيل في صلاة العيدين: إنهما واجبتان بالسنة على الكفاية، وإلى هذا كان يذهب شيخنا الفقيه ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، والأول هو المشهور المعروف أنهما سنة على الأعيان.
فصل واختلف في ركعتي الفجر وركعتي الإحرام وركعتي الطواف، فقيل: إنهما سنة(1/165)
وقيل: إنهما استحباب. فأما الاختلاف في ركعتي الفجر فمنصوص عليه، روى أبو زيد عن ابن القاسم أنهما سنة، وهو مذهبه في المدونة بدليل اشتراطه لهما النية فيهما. ومثله في سماع ابن القاسم من العتبية. وروى أشهب عن مالك أنه يستحب العمل بهما وليستا بسنة. ومثله في سماع عيسى من كتاب المحاربين والمرتدين لأصبغ. وأما ركعتا الإحرام فالصواب فيهما أنهما نافلة على مذهب مالك؛ لأنه لا يمنع من الزيادة عليهما وإنما يستحب أن لا يحرم إلا بأثر صلاة نافلة أقلها ركعتان. وما لم يكن من النوافل مقدرا حتى لا يزاد عليه ولا ينقص منه فلا يسمى سنة عند جماعة أصحابنا؛ لأن السنة إنما هي ما رسم ليحتذى فلا يزاد عليه ولا ينقص منه. وقد اختلف أصحابنا في الصفة التي لأجلها تسمى النوافل سنة، فمنهم من ذهب إلى أنه لا يسمى سنة إلا ما أظهره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجمع عليه أمته وشرع له الجماعة كصلاة العيدين والخسوف والاستسقاء، فمن ذهب إلى هذا لم ير ركعتي الفجر من السنن. ومنهم من ذهب إلى أنه يسمى منها سنة ما كان مقدرا لا يزاد عليه ولا ينقص منه، فمن ذهب إلى هذا قال في ركعتي الفجر: إنهما سنة. ألا ترى أنه لا يقال في صلاة الليل ولا في صلاة الضحى إنهما من السنن لما كانت غير مقدرة. وأما ركعتا الطواف فهما من الطواف، فإن كان واجبا فهما واجبتان، وإن كان نفلا فهما نافلتان.
فصل وأما الفضيلة فهي خمس صلوات أيضا: تحية المسجد، وصلاة خسوف القمر، وقيام رمضان، وقيام الليل، وسجود القرآن. وسائر الصلوات نوافل كالركوع قبل الظهر وبعده وقبل العصر وبعد المغرب وقبل العشاء وبعدها وصلاة الضحى وما أشبه ذلك.
فصل فالصلوات كلها ما عدا الخمس غير واجبة إلا أن منها سنة ومنها فضيلة ومنها(1/166)
نافلة على ما بيناه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة» . «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لضمام بن ثعلبه إذ جاء يسأله عن الإسلام قال: " خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرهن قال: لا إلا أن تطوع» . وذهب أبو حنيفة إلى أن الوتر واجب، ودليله قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم ألا وهي الوتر» . ومعنى ذلك عندنا، زادكم ثوابا إلى ثواب صلاتكم، إذ لو كان المعنى ما ذهب إليه أبو حنيفة لقال زاد عليكم صلاة إلى صلاتكم، وقد استدل أصحابنا على أنه غير واجب بخلاف الصلوات الخمس؛ [بأنه لا يقضى بعد خروج وقته كما تقضى الصلوات الخمس] بعد خروج وقتها، وذلك لا يلزم المخالف؛ لأنه يوجب قضاءه بعد خروج وقته. وكذلك استدل أيضا بعض الناس على أنه غير واجب بإجازة صلاته على الراحلة، وذلك لا يلزم المخالف إذ لا يقول بذلك. فمن تركه عامدا أو من غير عذر فإنما يأثم لرغبته عن السنة وقصده إلى تضييعها.
فصل والفضل في الصلوات على قدر مراتبها، فأعظم الصلوات أجرا صلاة الفريضة، ثم صلاة الجنائز؛ لأنه قد قيل فيها: إنها سنة وقد قيل: إنها فرض على الكفاية، ثم صلاة الوتر؛ لأنه لم يختلف فيها أنها سنة وقد قيل: إنها واجبة، ثم صلاة العيدين وصلاة الخسوف وصلاة الاستسقاء؛ لأنه لم يختلف فيها أنها سنة، ثم ركعتا الفجر؛ لأنه قد قيل فيهما: إنهما سنة، ثم ما أطلق عليه من النوافل اسم فضيلة، ثم ما(1/167)
لم يطلق عليه اسم الفضيلة. والأجر في ذلك كله على قدر النية فيه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نية المؤمن خير من عمله» .
فصل فالصلاة من أفضل أعمال البر، فرائضها أفضل من سائر الفرائض، ونوافلها أفضل من سائر النوافل. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استقيموا ولن تحصوا واعملوا وخير أعمالكم الصلاة» ، يريد بعد الإيمان بالله تعالى، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون ذلك يبقي من درنه» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من امرئ يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه» . «وسئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أفضل قال: " إيمان بالله "، قيل: ثم أي؟ قال: " الصلاة على مواقيتها " قيل: ثم أي قال: " جهاد في سبيل الله» . وفي حديث آخر: قال: «إيمان بالله "، قيل: ثم أي قال: " جهاد في سبيل الله» . وفي حديث آخر قال: «إيمان بالله " قيل: ثم أي، قال: " جهاد في سبيل الله» فإن لم يكن سقط عن الراوي من هذا الحديث ما زاد في الحديث الأول فليس ذلك بتعارض، ومعناه أن الصلاة أفضل من الجهاد إذا كان الجهاد فرضا على الكفاية فقيم بالفرض؛ لأن الفرض على الكفاية إذا قيم به كان لسائر الناس نفلا، وأن الجهاد أفضل من الصلاة لجميع الناس في الموضع الذي يتعين فيه الجهاد على(1/168)
الأعيان، ولمن قام بالفرض في الموضع الذي هو فيه فرض على الكفاية، فالمجاهد يحوز الأجرين جميعا، أجر الجهاد وأجر الصلاة؛ لأن الجهاد لا يكون إلا بصلاة، فإذا جاهد في الموضع الذي يتعين فيه الجهاد على الأعيان، أو كان ممن قام بفرض الجهاد في الموضع الذي يكون فيه الجهاد فرضا على الكفاية، كان أجره في جهاده أعظم من أجر الصلاة في الجهاد، وفي غير الجهاد بما الله أعلم بقدره. وإذا جاهد وقد قيم بفرض الجهاد كان أجره في الصلاة أعظم من أجره في الجهاد بما الله أعلم بقدره. وهنا يكون أجر من قعد ولم يجاهد في صلاته أعظم من أجر المجاهد في جهاده إذا تجرد عن أجره في صلاته، فلا يبلغ القاعد درجة المجاهد في حال من الأحوال ولو صام لا يفطر وقام لا يفتر، وقد قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لو صمت النهار وقمت الليل ما بلغت نوم المجاهد» .
[فصل في القول في الإحرام في الصلاة]
فصل
في القول في الإحرام في الصلاة الدخول في الصلاة والتحريم بها يفتقر إلى نية ولفظ. فالنية اعتقاد أداء ما افترض عليه من الصلاة التي قام إليها وعمد لها، واللفظ التكبير، وصفته الله أكبر لا يجزئ عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه في ذلك ما سواه من تسبيح أو تهليل أو تحميد خلافا لأبي حنيفة، ولا التكبير بخلاف هذه الصفة خلافا للشافعي في قوله إنه يجوز فيه الله الأكبر. ودليلنا عليهما جميعا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم» . وما روي عنه من رواية أبي هريرة وغيره أنه(1/169)
قال للرجل الذي علمه الصلاة: «إذا أردت الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ثم اركع حتى تطمئن راكعا» الحديث. ولفظ التكبير بإطلاقه لا يقع إلا على الله أكبر. ودليلنا على أبي حنيفة من جهة القياس أن هذا ذكر عري من لفظ التكبير فلم يجز في الإحرام أصله إذا قال: اللهم اغفر لي. ودليلنا من جهة القياس على الشافعي أن هذه زيادة في لفظ التكبير ... عن بنية الله أكبر فلم يجز في الإحرام أصله إذا قال: الله الكبير.
فصل واختلف أهل العلم هل من شرط صحة الإحرام أن تكون النية مقارنة للفظ الذي هو التكبير عندنا أو ليس ذلك من شرطه ويجزئ أن تتقدمه بيسير بعد إجماعهم أنه لا يجوز أن تتقدمه بكثير ولا أن يتقدمها اللفظ بيسير ولا كثير، إلى أنه يجوز أن تتقدمه بيسير، وذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز أن تتقدمه بيسير ولا كثير، وإلى هذا ذهب عبد الوهاب من أصحابنا، وهو ظاهر قول ابن أبي زيد في رسالته. والدخول في الصلاة بنيه الفرض فريضة، وليس عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في ذلك نص ولا عن أحد من أصحابه المتقدمين، ولو كان ذلك عندهم من فروض الصلاة لتكلموا عليه ولما أغفلوا ذكره ولا وسع أحدا عندهم جهله ولا أجازوا إمامة من يجهله، كما لا تجوز عندهم إمامه من يجهل أن القبلة والمباشرة تنقضان الوضوء وما أشبه ذلك مما أجمعوا عليه ولم يختلفوا فيه وإن كان الخلاف فيه موجودا. والصحيح عندي على مذهبه ومذهبهم أنه ليس من شرط صحة الإحرام مقارنة النية للتكبير، وأنه يجزئ أن تتقدمه بيسير. فإذا قام الرجل إلى الصلاة ولم يجدد النية لها مع الإحرام معا نسيانا فصلاته تامة جائزة لتقدم نيته قبل تشبثه بالصلاة، إذ لا يتصور من القائم للصلاة عدم النية لها، قياسا على قولهم في الغسل والوضوء، وعلى ما أجمع عليه أهل العلم في الصيام للنص الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وقد فرق بين الموضعين من خالف في ذلك(1/170)
بتفاريق لا تسلم من الاعتراض ليس هذا موضع ذكرها والانفصال عنها. وأغرق بعضهم في القياس فقالوا: إن جدد النية للإحرام بعد أن أخذ في التكبير قبل تمامه لم يجزئه حتى ينويه من أوله. ومنهم من قال: إن تجديد النية عند الإحرام لا يجزئه حتى يسمي الصلاة التي يريد بلفظه فيقول صلاة كذا، وهذا لا يوجبه نفر، ولا يعضده أثر.
فصل فتكبيرة الإحرام هي التكبيرة التي تقترن بها نية أداء فرض الصلاة أو تتقدمها بيسير على ما قدمناه، وهي فرض عند مالك وجميع أهل العلم إلا من شذ منهم على الفذ والإمام والمأموم. وقد روي عن ابن شهاب أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكبيرة الإحرام على الفذ والإمام والمأموم» . وقول سعيد بن المسيب وابن شهاب فيمن نسي تكبيرة الإحرام مع الإمام وكبر للركوع: إنها تجزئه من تكبيرة الإحرام وإن لم ينو بها تكبيرة الإحرام، لا يدل أن تكبيرة الإحرام عندهما ليست بفرض، خلاف ما ذهب إليه بعض المتأولين من المتأخرين، وإنما معنى ما ذهبا إليه والله أعلم وأحكم أنها تجزئه من تكبيرة الإحرام؛ لأن النية قد تقدمت منه عند القيام إلى الصلاة، إذ لا يتصور عدم النية من القائم للصلاة فانتظمت النية المتقدمة بالتكبير للركوع لقرب ما بينهما فصح الإحرام وأجزأت الركعة؛ لأن الإمام يحمل عنه القراءة، ولم ير ذلك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: وذلك إذا نوى بها تكبيرة الإحرام، وإن كان من مذهبه جواز تقدم النية على الإحرام على ما ذكرناه؛ لأنه لما نوى بها تكبيرة الركوع وهي سنة كان قد نقض بذلك نيته المتقدمة. وإنما كانت تجزئه من تكبيرة الإحرام وتنتظم عنده بالنية المتقدمة لو لم تكن له فيها نية. فأصل الاختلاف بينه وبينهما إنما هو هل ترتفض بذلك نيته المتقدمة بتحويلها إلى نية تكبيرة الركوع الذي هو سنة أم لا. فرأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنها ترتفض بذلك، ورأى سعيد بن المسيب وابن شهاب أنها لا ترتفض به، وذلك نحو قول(1/171)
مالك فيمن طاف تطوعا إنه يجزئه من طواف الإفاضة إذا تباعد، ومثل قول أشهب فيمن قرأ سجدة في صلاته فركع بها ساهيا: إن الركعة تجزئه، ومثل قولهم فيمن حالت نيته وهو في الصلاة إلى نافلة: إن صلاته تامة. والفرق عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بين من حالت نيته في الصلاة إلى نافلة وبين القائم إلى الصلاة تحول نيته فيكبر بنية الركوع الذي هو سنة مراعاة الاختلاف، وذلك أن كثيرا من العلماء يوجبون عليه تجديد النية عند الإحرام. ولا خلاف عند أحد من العلماء في أنه لا يلزمه تجديد النية عند كل ركن من أركان الصلاة، ومن مذهبه مراعاة الاختلاف. وأما سعيد بن المسيب وابن شهاب فطردا قولهما على أصل مذهبهما ولم يراعيا خلاف غيرهما. ولو كبر للركوع وهو ذاكر للإحرام متعمدا لما أجزأته صلاته بإجماع، كما لو رجع في صلاته إلى نية النافلة متعمدا لبطلت صلاته. ومن تأول على ابن المسيب وابن شهاب أن تكبيرة الإحرام عندهما سنة وأن سجود السهو يجزئ فيها عن الفذ وأن الإمام يحملها عن المأموم فقد أخطأ عليهما خطأ ظاهرا، إذ لو كانت عندهما سنة لحملها الإمام عن المأموم كبر للركوع أو لم يكبر، كما يحمل عنه القراءة وجميع سنن الصلاة وإن كثرت، ولأجزأ الفذ والإمام من تركها سجود السهو وأن لم يكبر للركوع وإن كان القوم سهوا عنها بسهوه أجزأهم سجود سجدتي السهو بهم. وإن كانوا كبروا هم دونه قبل ابتدائه بالقراءة بطلت صلاتهم لدخولهم فيها قبله إن كان مذهبه أن صلاة القوم مرتبطة بصلاة إمامهم، وهذا لا يصح؛ لأنه خلاف ما نصا عليه في قولهما أجزأته تكبيرة الركوع من تكبيرة الإحرام؛ لأنهما لما قيدا الإجزاء بتكبيرة الركوع دل ذلك من مذهبهما على أن تكبيرة الإحرام عندهما فرض إلا أنه يجزئ منها عندهما للفذ والإمام والمأموم تكبيرة الركوع، فلا يكون واحد منهم داخلا في الصلاة على مذهبهما إذا لم يكبروا للإحرام إلا تكبيرة الركوع النائبة منابها عندهما على التأويل الذي وصفناه من أن النية المتقدمة انتظمت بها فصح الإحرام، فإن تركها المأموم وكبر للركوع صحت صلاته على مذهبهما وكان داخلا فيها بتكبيرة الركوع التي أجزأته من تكبيرة الإحرام؛ لانتظامها بالنية المتقدمة وحمل الإمام عنه القراءة. وهذا إن كبر للركوع في حالة القيام. وإن تركها الفذ وكبر للركوع أجزأته تكبيرة الركوع عن تكبيرة الإحرام فصح إحرامه(1/172)
وسجد قبل السلام لتركه القراءة في تلك الركعة على الاختلاف في ذلك إن كان أوقع تكبيرة الركوع في حال القيام. وأما إن كان كبر للركوع وهو راكع بطلت الركعة لإسقاطه منها القيام وأتى بها بعد سلام الإمام. وكذلك إن تركها الإمام ومن معه وكبروا للركوع. وأما إن أحرموا هم ونسي الإمام تكبيرة الإحرام وكبر للركوع فلا تجزئهم صلاتهم؛ لأنهم أحرموا قبله ويصلح هو صلاته بالسجود أو إلغاء الركعة على ما تقدم. وقد قيل: إن من أحرم قبل إمامه فهو بمنزلة من لم يحرم في جميع الأحوال. فيتخرج على هذا القول إن كبروا للركوع بعده أن يكونوا بمنزلته في إصلاح الصلاة بالسجود أو إلغاء الركعة.
فصل فإذا نسي المأموم تكبيرة الإحرام وكبر للركوع ولم ينو بها تكبيرة الإحرام تمادى مع الإمام وأعاد، وإن نوى بها تكبيرة الإحرام أجزأته صلاته وحمل عنه الإمام القراءة. وأما إن ترك الإمام والفذ تكبيرة الإحرام فلا بد لهما على مذهب مالك من استئناف الصلاة وإن نويا بتكبيرة الركوع تكبيرة الإحرام؛ لأنهما إن لم ينويا بها تكبيرة الإحرام فليسا في صلاة، وإن نويا بها تكبيرة الإحرام فقد بدآ من صلاتهما بالركوع قبل القراءة متعمدين لذلك فأفسدا.
فصل وكذلك إن فاتته الأولى ودخل مع الإمام في الثانية فنسي الإحرام وكبر للركوع، الحكم في ذلك سواء، إن لم ينو بها تكبيرة الإحرام تمادى مع الإمام وأعاد بعد قضاء الركعة التي فاتته، وإن نوى بها تكبيرة الإحرام أجزأته الصلاة وقضى الركعة بعد سلام الإمام. كذا روى علي بن زياد عن مالك. وذهب ابن حبيب إلى أنه إذا فاتته الأولى ونسي الإحرام وكبر للركوع ولم ينو بها تكبيرة الإحرام أنه يقطع على كل حال ولا وجه لقوله. وأما من دخل مع الإمام في الأولى ونسي الإحرام والتكبير للركوع وكبر في الركعة الثانية ولم ينو بها الإحرام فقال مالك في الموطأ: إنه يقطع، والفرق عنده بين هذه وبين الأولى تباعد ما بين النية والتكبير والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/173)
فصل واختلف إذا ذكر المأموم تكبيرة الإحرام وهو راكع قد كبر للركوع وهو يطمع أن يرفع ويحرم ويدرك الركعة، فقيل: إنه يتمادى ويعيد، وقيل: إنه يرفع ويحرم ويدرك الركعة، وقيل: يقطع بسلام ويدرك الركعة. فإن لم يكبر للركوع وكبر للسجود قطع ما لم يركع الركعة الثانية كبر لها أو لم يكبر، قاله في كتاب ابن المواز. فإن ركع تمادى وأعاد بعد قضاء ركعة، وإن نوى بتكبير السجود الإحرام أجزأه وقضى ركعة بعد سلام الإمام. فهذا حكم المأموم ينسى تكبيرة الإحرام. وأما إن شك فيها فذكر قبل أن يركع أو بعد أن ركع ولم يكبر للركوع، فقيل: إنه يقطع ويحرم، يريد بسلام. وفي الواضحة دليل على أنه يقطع بغير سلام، والله أعلم. وقيل: إنه يتمادى ويعيد. وأما إن لم يذكر حتى كبر للركوع، فإنه يتمادى ويعيد. وأما من كبر قبل إمامه فقيل: إنه بمنزلة من لم يكبر في جميع شأنه، وقيل: إنه إن ذكر قبل أن يركع أو بعد أن ركع ولم يكبر إنه يقطع بسلام ويدخل مع الإمام، وقيل: إنه إن ذكر قبل أن يركع قطع بغير سلام، وإن ذكر بعد أن ركع ولم يكبر قطع بسلام، وهو قول ابن القاسم. وأما إن لم يذكر حتى كبر للركوع، فإنه يتمادى ويعيد قولا واحدا.
فصل وأما من نسي تكبيرة الإحرام وهو وحده أو إمام فإنه يقطع متى ما ذكر ويحرم، فإن كان قبل ركعة قطع بغير سلام، وإن كان بعد ركعة فقيل: إنه يقطع بسلام، وقيل: بغير سلام ويعيد الإقامة.
فصل فإن شك فيها وهو وحده أو إمام فقيل: إنه يتمادى حتى يتم ويعيد، فإن كان إماما سأل القوم فإن أيقنوا بإحرامه صحت صلاتهم، وإن لم يوقنوا أعادوا الصلاة. وفي هذا القول دليل على ما ذهبنا إليه من إجازة تقدم النية الإحرام على مذهب مالك. وقيل: إنه بمنزلة من أيقن يقطع متى علم، وقيل: إنه إن كان قبل أن يركع قطع وإن كان قد ركع تمادى وأعاد إلا أن يكون إماما فيوقن القوم أنه قد أحرم. وفي(1/174)
رجوعه إلى يقين القوم بإحرامه واجتزائه بذلك دليل على إجازة تقدم النية الإحرام وقد ذكرنا ذلك.
[فصل في السلام من الصلاة]
فصل
في السلام من الصلاة والسلام من الصلاة بمنزلة الإحرام لها في جميع حالاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بينهما فقال: «تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم» . فكما لا يدخل في الصلاة إلا بتكبيرة ينوي بها الدخول في الصلاة والتحرم بها، فكذلك لا يخرج منها إلا بتسليمة ينوي بها الخروج من الصلاة والتحلل منها، فإن سلم في آخر صلاته ولا نية له أجزأ ذلك عنه لما تقدم من نيته، إذ ليس عليه أن يجدد الإحرام لكل ركن من أركان الصلاة. وإن نسي السلام الأول وسلم السلام الثاني لم يجزئه ذلك على مذهب مالك، وأجزأه على ما تأولناه على مذهب ابن المسيب وابن شهاب. وإن سلم ساهيا قبل تمام صلاته لم يخرج بذلك عن صلاته بإجماع، فليتم صلاته ويسجد لسهوه إن كان وحده أو إماما، فإن سلم شاكا في تمام صلاته لم يصح له الرجوع إلى تمامها. واختلف إن أيقن بعد سلامه أنه قد كان أتم صلاته، فقال ابن حبيب: صلاته جائزة كمن تزوج امرأة وهو لا يدري إن كان زوجها حيا أو ميتا ثم انكشف أنه قد مات وانقضت العدة أن نكاحه جائز، وقد قيل: إن صلاته فاسدة وهو أظهر. وإن سلم قاصدا إلى التحلل من الصلاة وهو يرى أنه قد أتمها ثم شك في شيء منها أو أيقن به لم يمنعه ذلك من الرجوع إلى إصلاحها. واختلف هل يرجع إليها بإحرام أم لا على قولين: أحدهما أن السلام على طريق السهو لا يخرجه عن الصلاة فيرجع إليها بغير إحرام، وهو قول أشهب وابن الماجشون واختيار ابن المواز في كتابه، والثاني أنه يخرجه عن الصلاة فلا يرجع إليها إلا بإحرام، وهو قول ابن القاسم في المجموعة وروايته عن مالك. وإلى هذا ذهب أحمد بن خالد وقال: إنه(1/175)
قد روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قال أحمد بن خالد: فإن لم يرجع بإحرام أعاد الصلاة. ومثله في مختصر ابن عبيد الطليطلي، إلا أنه قال: يكبر ثم يجلس ويبني، وحكاه عن ابن القاسم. وإنما الصواب أن يجلس ثم يكبر فيبني؛ لأنه إذا كبر قائما فقد زاد في الصلاة الانحطاط من حال القيام إلى حال الجلوس.
فصل فمن رأى السلام يخرجه من الصلاة وقال: إنه يرجع بإحرام، فلا بد له من الرجوع إلى الموضع الذي فارق فيه الصلاة، فإن كان سلم من ركعتين رجع إلى الجلوس، وإن كان سلم من ركعة أو ثلاث ركعات فذكر وهو قائم رجع إلى حال رفع رأسه من السجود ولم يجلس إذ لم يكن ذلك موضعا لجلوسه، وإنما كان الواجب عليه أن يقوم من السجدة الأخيرة دون أن يرجع إلى الجلوس، وهذا بين. ومن رأى أن السلام لا يخرجه من الصلاة فيأتي على مذهبه أنه إن ذكر وهو قائم كبر وابتدأ القراءة ولم يرجع إلى الجلوس؛ لأن قيامه للانصراف محسوب له من صلاته إذا لم يخرجه عنها السلام، وإن ذكر وهو جالس في موضعه قام وكبر وابتدأ القراءة. وهذا على مذهب ابن القاسم إن كان سلم من ركعتين. وأما إن كان سلم من ركعة أو ثلاث فيرجع إلى صلاته ويبتدئ القراءة دون تكبير قائما كان أو قاعدا. وليس في المدونة في هذا بيان إن كان يرجع إلى الجلوس أم لا إلا ما يظهر من مذهب سحنون في قوله إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع يوم ذي اليدين بتكبير. ويحتمل أن تكون تلك التكبيرة - إن ثبتت - تكبيرة إحرام، وأن تكون تكبيرة القيام من اثنتين.
ولقد نازعني بعض أصحابنا في مسألة المدونة وهي قوله فيمن فاته بعض صلاة الإمام فظن أن الإمام قد سلم فقام لقضاء ما فاته فسلم الإمام وهو قائم أنه(1/176)
يلغي ما قرأ ويستأنف قراءته من أولها ولا يرجع إلى الجلوس ويسجد قبل السلام يريد لنقصان النهضة، فقال فيها: إن هذا من قوله في المدونة مثل قول ابن نافع فيمن سلم من ركعتين ساهيا ثم ذكر بالقرب وهو قائم إنه [يلغي ما قرأ ويستأنف قراءته من أولها ولا يرجع إلى الجلوس ويسجد قبل السلام، يريد لنقصان النهضة، فقال فيها: إن هذا من قوله في المدونة مثل قول ابن نافع فيمن سلم من ركعتين ساهيا ثم ذكر بالقرب وهو قائم إنه لا يرجع إلى الجلوس خلاف قول ابن القاسم إنه يحرم] ، ويرجع إلى الجلوس.
فقلت له: مسألة المدونة هذه صحيحة لا يصح دخول ذلك الاختلاف فيها؛ لأنها مسألة أخرى، والفرق بينهما: أن الذي سلم من ركعتين ساهيا اختلف هل يخرج من الصلاة بالسلام على طريق السهو أم لا، على قولين. فمن ذهب إلى أنه يخرج به عن الصلاة يقول: يرجع بإحرام ويعود إلى الجلوس؛ لأن نهضته لم يفعلها للصلاة، وهو مذهب ابن القاسم. ومن يقول إن السلام على طريق السهو لا يخرج به المصلي عن الصلاة يقول إنه لا يحتاج في رجوعه إلى إحرام ولا يرجع إلى الجلوس؛ لأن قيامه يعتد به من صلاته وهو مذهب ابن الماجشون وابن نافع وأشهب واختيار محمد بن المواز. والذي قام قبل سلام الإمام فعلم بسلامه وهو قائم لم يخرج بفعله ذلك عن صلاته وصارت النهضة التي فعل في حكم الإمام وقبل سلامه ملغاة لا يعتد بها فكأنه أسقطها فوجب أن لا يرجع إليها ويسجد قبل السلام قياسا على من أسقط الجلسة الوسطى ساهيا فلم يذكر حتى اعتدل قائما إنه لا يرجع إليها ويسجد قبل السلام.
فقال لي: لا فرق بين القراءة والنهضة التي فعل قبل سلام الإمام في أنه لا يعتد بشيء من ذلك، فكما يستأنف قراءته من أولها فكذلك يلزم أن يرجع إلى الجلوس ليأتي بالنهضة التي فعل في حكم الإمام، فلم يعتد بها على مذهب ابن القاسم فيمن سلم من ركعتين.
فقلت له: لا يلزم ذلك. والفرق بين القراءة والنهضة أن النهضة قد فات(1/177)
موضعها ولا يقدر أن يرجع إليها إلا بزيادة الانحطاط من حال القيام إلى الجلوس، وليس ذلك من الصلاة. والقراءة لم يفت موضعها فهو يستأنفها من غير أن يزيد في صلاته شيئا.
فقال لي: قول ابن القاسم في الذي سلم من ركعتين ساهيا إنه يحرم ثم يجلس، فقد قال ابن القاسم: إنه يرجع إلى الجلوس فلا يصح لك الفرق بين القراءة والنهضة بذلك.
قلت له: لا يصح عن ابن القاسم ولا عن غيره في مسألتك أن يحرم ثم يرجع إلى الجلوس، وقد أخطأ على ابن القاسم من حمل قوله على ذلك، وإنما معنى قوله أن يرجع إلى الجلوس قبل ثم يحرم، بدليل إجماعهم على أن مسقط الجلسة الوسطى لا يرجع إليها بعد اعتداله قائما من أجل زيادة الانحطاط، وبذلك تعلل السنة الثابتة في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسكت وسلم.
فإن قال قائل: فإن الذي يسقط سجدة فيذكرها وهو قائم في الثانية يؤمر أن يرجع إليها وهو في رجوعه إليها يزيد في صلاته ما ليس منها، وهو الانحطاط من حال القيام إلى الجلوس. فما الفرق بين ذلك وبين رجوعه إلى النهضة التي يجب إلغاؤها؟.
قيل له: السجدة ركن من أركان الصلاة لا يجزئ عنها سجود السهو، فوجب الرجوع إليها ما لم تفت بعقد ركعة، والنهضة تجزئ عنها سجدتا السهو كالجلسة الوسطى، فلم يرجع إليها بزيادة ما ليس من الصلاة، وبالله التوفيق.(1/178)
[كتاب الصلاة الثاني] [فصل في القراءة في الصلاة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كتاب الصلاة الثاني فصل
في القراءة في الصلاة القراءة في الصلاة واجبة عند جمهور العلماء بدليل قول الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] ؛ لأن المعنى في ذلك: إذا قرئ القرآن في الصلاة فاستمعوا له وأنصتوا، إذ لا يجب الإنصات للقارئ واستماع قراءته إلا على المأموم للإمام، بدليل قول الله عز وجل: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [الإسراء: 110] ؛ لأن المعنى في ذلك عند بعض أهل التفسير: ولا تجهر بقراءة صلاتك حتى يسمعها المشركون لئلا يسبوا قراءتك، ولا تخافت بها حتى لا يسمعها أصحابك الذين معك في صلاتك، وبدليل قول الله عز وجل أيضا: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] ؛ لأن معناه في الصلاة. بدليل قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، اقرؤوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين» الحديث. لأنه لما سمى القراءة في الصلاة صلاة دل على أن الصلاة(1/179)
لا تجزئ إلا بها. ألا ترى أنه سمى الصلاة إيمانا لما كانت الصلاة لا تصح إلا بالإيمان، فقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، على ما قاله أهل التأويل.
فصل والذي يتعين من القراءة في الصلاة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم، قراءة أم القرآن على الإمام والفذ. قيل: في جملة الصلاة، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج غير تمام» ، وبدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لم يقرا بأم القرآن» . وقيل: في كل ركعة، بدليل ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تتم ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن» ، وبدليل قول جابر بن عبد الله: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن لم يصل إلا وراء إمام. فعلى القول بأنها واجبة في جملة الصلاة إن ترك قراءتها جملة أعاد الصلاة، وإن تركها في ركعة واحدة من أي الصلوات كانت أجزأه سجود السهو. وعلى القول بأنها واجبة في كل ركعة، إن ترك قراءتها في ركعة أو ركعتين أو ثلاث ألغاها، وبنى صلاته على الركعة التي قرأها فيها، على حكم من ترك سجدة أو ركعة من ركعتين أو من ثلاث أنه يصلح صلاته بإلغاء ما بطل عليه من الركعات، والسجود للسهو بعد السلام أو قبله إن كان قد اجتمع له في سهوه زيادة ونقصان على ما يأتي لهم في مسائلهم. وفرق مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بين أن يترك أم القرآن من ركعة واحدة وبين أن يتركها من ركعتين أو أكثر، فقال: إنه إن تركها من ركعتين أو أكثر أعاد الصلاة ولم يختلف في ذلك قوله. واختلف قوله إن تركها من ركعة واحدة على ثلاثة أقوال: أحدها أن يسجد قبل السلام وتصح صلاته. والثاني أنه يلغي الركعة. والثالث أنه يسجد قبل السلام ويعيد الصلاة. قيل: كانت(1/180)
الصلاة من أي الصلوات كانت، وهو ظاهر ما في المدونة على معنى ما قاله ابن الماجشون، من أنه إنما ينظر إلى قلة السهو من كثرته لا إلى مقدار ما يقع في الصلاة. وقيل: إنما ذلك إذا كانت الصلاة ثلاثية أو رباعية، وهو قوله في رواية مطرف عنه، وحكاه ابن حبيب أيضا عنه من رواية ابن القاسم. واختلف اختيار ابن القاسم في ذلك، فمرة أخذ بالإلغاء، وهو قوله في الصلاة من المدونة، ومرة أخذ بالإعادة، وهو قوله في الوضوء منها وفي كتاب ابن المواز. وهذا كله استحسان على غير قياس مراعاة لقول من لا يرى القراءة واجبة في الصلاة جملة، وهو [مذهب ربيعة بن أبي] ، عبد الرحمن وعبد العزيز بن أبي سلمة على ما جاء عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - من أنه لا إعادة على من ترك القراءة في صلاته إذا كان الركوع والسجود حسنا، وعن عمر بن الخطاب من أنه صلى بالناس المغرب فلم يقرأ فيها، فلما انصرف قيل له: ما قرأت، قال فكيف كان الركوع والسجود، قالوا: حسن، قال: فلا بأس إذا. وقد أنكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذلك عن عمر بن الخطاب، فقال: أنا أنكر أن يكون عمر فعله، وإنما هو حديث سمعناه لا أدري ما حقيقته. وقد روي أن عبد الرحمن بن عوف دخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين صليت بنا ولم تقرأ، فقال: أجل، إني جهزت عيرا إلى الشام فأنزلتها منازلها فخرج عمر إلى الناس فأعاد بهم الصلاة.
فصل فعلى القول بالإعادة إن ذكر قبل أن يركع أنه لم يقرأ استأنف القراءة وسجد بعد السلام على الاختلاف في السجود بزيادة القرآن سهوا، وإن ذكر ذلك بعد أن ركع وقبل أن يرفع، فقيل: إنه يقطع، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وقيل: إنه ينصرف إلى القيام فيقرأ ويركع ويسجد بعد السلام، وهو قوله في سماع سحنون. وهذا على الاختلاف في عقد الركعة هل هو بالركوع أو بالرفع منه. وقال:(1/181)
أصبغ يمضي على صلاته ويسجد لسهوه ويجتزئ بها إلا أن يشاء أن يعيدها. وإن ذكر بعد أن رفع رأسه من الركوع قبل أن يسجد أو بعد أن سجد إحدى السجدتين قطع، وإن ذكر بعد أن سجد السجدتين ما لم يركع في الثانية، فمرة قال: يقطع، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، ومرة قال: يتم ركعتين، وهو قوله في كتاب ابن المواز. وكذلك إن ذكر بعد أن ركع في الثانية على القول بأن عقد الركعة [لا يكون إلا برفع الرأس من الركوع. وأما على القول بأن عقد الركعة] يكون بالركوع فيتم ركعتين كما لو ذكر بعد أن رفع رأسه من الركوع. وإن ذكر وهو واقف في الثالثة رجع إلى الجلوس وسلم، وإن ذكر بعد أن صلى الثالثة أتم الرابعة وسجد قبل السلام وأعاد الصلاة في الوقت وبعده. قال ابن القاسم في موضع: احتياطا، وقال في موضع: يعيد أحب إلي، وقال في موضع: يتم الرابعة وتكون نافلة ويعيد.
فصل وأما على القول بالإلغاء، فإن ذكر أنه لم يقرأ قبل أن يتم الركعة بسجدتيها ألغى ما مضى منها واستأنف القراءة من أولها وسجد بعد السلام، وإن ذكر ذلك وهو واقف في الركعة الثانية جعلها أولى وألغى الأولى التي لم يقرأ فيها، وسجد بعد السلام. وكذلك إن ذكر وهو قائم في الثالثة جعلها ثانية وقرأ فيها بالحمد لله وسورة وجلس وتشهد وسجد بعد السلام. وإن ذكر ذلك بعد أن ركع في الثالثة وإن لم يرفع رأسه من الركوع تمادى وجعلها ثانية وجلس وتشهد وسجد قبل السلام، وكذلك إن ذكر ذلك بعد أن قام من الثالثة وهو واقف في الرابعة جعلها ثالثة وسجد قبل السلام. وأخذ أشهب وابن عبد الحكم وأصبغ بالإعادة في الركعة الواحدة، وبالإلغاء في الركعتين والثلاث. قال ابن عبد الحكم: ما لم يسلم فإن سلم أعاد، وقال أصبغ: وإن سلم جاهلا فإنه يرجع إلى صلاته ويلغي ما كان بالقرب، إذ لم يختلف قول مالك في أن من ترك القراءة في ركعتين فما زاد إنه يعيد، فراعى هؤلاء اختلاف قول مالك كما راعى مالك اختلاف قول غيره ممن تقدمه. فتحصيل الاختلاف في هذه المسألة أن في تارك القراءة في ركعة واحدة من صلاة ثلاثية أو(1/182)
في رباعية ثلاثة أقوال لمالك، وفي تارك القراءة من ركعتين أو ثلاث من صلاة رباعية أو من ركعتين من صلاة ثلاثية قولان: أحدهما: الإعادة، وهو قول مالك، والثاني: الإلغاء، وهو قول أشهب وابن عبد الحكم وأصبغ. واختلف في تارك القراءة من ركعة من صلاة هي ركعتان كالصبح والجمعة وصلاة السفر، فقيل: إن ذلك كتارك القراءة في ركعة من صلاة ثلاثية أو رباعية يدخل في ذلك الثلاثة الأقوال لمالك، وقيل: إن ذلك كتارك القراءة في ركعتين من صلاة رباعية لا يكون في ذلك إلا قولان: الإعادة، والإلغاء، وبالله التوفيق.
[فصل فيما يجب على المرأة من الستر في الصلاة]
فصل
فيما يجب على المرأة من الستر في الصلاة
قال الله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الآية، وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59] . فلما أمرت المرأة الحرة بالستر من الأجنبيين، وأن لا تبدي عند غير ذي المحرم منها من زينتها إلا ما ظهر منها، وهو الوجه والكفان على ما قاله أهل العلم بالتأويل، وجب عليها مثل ذلك في الصلاة سنة واجبة لا ينبغي لها تركها. فأقل ما يجزئها من اللباس في الصلاة الخمار والدرع السابغ الذي يستر ظهور قدميها على ما قالته أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - للتي سألتها عما تصلي فيه المرأة من الثياب. ولا يجوز لها أن تصلي في ثوب خفيف يصف جسدها، ولا في ثوب صفيق رقيق يلتطئ بها فيصف خلقها؛ لأنها إذا(1/183)
فعلت ذلك كانت كاسية في حكم العارية. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام» ، فإن فعلت ذلك أو صلت بادية الشعر أو الصدر أو الذراعين أو القدمين، أعادت في الوقت. وأما الأمة فحكمها فيما يجوز لها أن تصلي فيه من الثياب حكم الرجل، إلا في وجوب ستر فخذها، إذ لا اختلاف في أن الفخذ من المرأة عورة. وإنما اختلف في الفخذ من الرجل، فروى ابن عباس وجرهم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الفخذ عورة» . وقال «أنس بن مالك: أجرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحسر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وقال البخاري: حديث أنس أسند وحديث جرهم أحوط حتى يخرج من اختلافهم. «وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان في حائط بعض الأنصار مدليا رجليه في بئرها وبعض فخذه مكشوف، فدخل عليه أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو على حاله لم ينتقل عنها حتى دخل عثمان فغطى فخذه وقال: " ألا أستحي ممن استحيت منه ملائكة الرحمن» . فإن صلت الأمة مكشوفة الفخذ - أو السرة - لأنها منها أيضا عورة أعادت في الوقت. واختلف إن صلت مكشوفة البطن، فقال أصبغ: لا إعادة عليها، وقال أشهب: تعيد في الوقت، وكذلك الرجل عنده، وهو بعيد. وإن صلى الرجل مكشوف البطن والظهر فلا إعادة عليه في المشهور في المذهب، وإن صلى مكشوف الفخذ تخرج وجوب الإعادة عليه في الوقت على الاختلاف فيه هل هو عورة أم لا. والذي أقول به أن ما روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الفخذ ليس باختلاف تعارض، ومعناه أنه ليس عورة يجب سترها فرضا كالقبل والدبر، وأنه عورة يجب سترها في مكارم الأخلاق ومحاسنها، فلا ينبغي التهاون بذلك في المحافل والجماعات، ولا عند ذوي الأقدار والهيئات. فعلى هذا تستعمل الآثار كلها، واستعمالها كلها أولى من بعضها.(1/184)
فصل وقد اختلف في ستر العورة، فقيل: إنها من فرائض الصلاة، وقيل: إنها ليست من فروض الصلاة وإنما هي فرض في الجملة وسنة في الصلاة. فمن رآها من فروض الصلاة أوجب الإعادة أبدا على من صلى مكشوف العورة وهو قادر على سترها، ومن لم يرها من فروض الصلاة لم يوجب عليه الإعادة إلا في الوقت.
وحكم المرأة في النظر إلى فخذ المرأة وإلى سرتها كحكم الرجل في نظره إلى ذلك من الرجل. وحكم المرأة فيما يصح لها أن تراه من الرجل الأجنبي كحكم الرجل فيما يصح له أن يراه من ذوات محارمه على القول بأن الرجل لا يغسل ذوات محارمه كما لا يغسل النساء الرجل الأجنبي، وهو الصحيح من الأقوال. وحكم المرأة فيما يصح لها أن تراه من ذوي محارمها كحكم الرجل فيما يصح له أن يراه من الرجل. وقد قيل: إن حكم المرأة فيما يصح لها أن تراه من الرجل كحكم الرجل فيما يصح له أن يراه من المرأة، وبالله تعالى التوفيق.
[فصل في الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت]
فصل
في الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت الجمع بين الصلاتين المشتركتي الوقت وهما الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في السفر والمرض والمطر رخصة وتوسعة. والأصل في جواز ذلك ما ثبت من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في سفره إلى تبوك» «وأنه أخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل وخرج وصلى المغرب والعشاء جميعا» «وأنه كان إذا أراد أن يسير يومه جمع بين الظهر والعصر، وإذا أراد أن يسير ليله جمع بين المغرب والعشاء» . وما روي(1/185)
عن ابن عمر أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جد به السير يجمع بين الظهر والعصر» . وما روي عن ابن عباس من أنه قال: «صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر.» قال مالك: أرى ذلك كان في مطر. وروي في غير خوف ولا مطر. قال ابن عباس: فعل ذلك لئلا يحرج أمته، وما أشبه ذلك من الآثار.
فصل فاتفق مالك وجميع أصحابه على إباحة الجمع بين الصلاتين المشتركتي الوقت لعذر السفر والمرض والمطر في الجملة، على الاختلاف بينهم في ذلك على التفصيل. واختلفوا في إباحة الجمع بينهما لغير عذر، فالمشهور أن ذلك لا يجوز، وقال أشهب: ذلك جائز على ظاهر حديث ابن عباس وغيره. واختلفوا أيضا في صفة الجمع وكثير من أحكامه بحسب اختلاف الأعذار المبيحة له. وتحصيل القول في ذلك يفتقر إلى معرفة حقيقة وقتهما وكيفية اشتراكهما فيه. فأول وقت الظهر زوال الشمس عن كبد السماء، وآخر وقتها المختار المستحب أن يكون ظل كل شيء مثله بعد الظل الذي زالت عنه الشمس أيضا على اختلافه في الصيف والشتاء، وهو بعينه أول وقت العصر المختار المستحب، وآخر وقته المختار المستحب أن يكون ظل كل شيء مثليه بعد الظل الذي زالت عنه الشمس أيضا على اختلافه في الصيف والشتاء؛ لأن الظل الذي تزول الشمس عليه لا يعتبر في حال من الأحوال ولا في بلد من البلدان. وتدخل العصر على الظهر في وقتها المختار المستحب فتشاركها فيه للعذر، قيل: من أول الزوال، وقيل: بعد مقدار ما تصلى فيه صلاة الظهر. وتدخل أيضا الظهر على العصر في وقتها المختار المستحب فتشاركها فيه للعذر إلى آخره وهو تمام القامتين. واختلفوا هل تشارك الظهر العصر في وقت الاختيار عند اعتدال القامة، فقيل: إنهما لا يشتركان في ذلك(1/186)
وإن تمام وقت الظهر المستحب بتمام القامة، وابتداء وقت العصر المستحب بابتداء القامة الثانية. وقيل: إنهما يشتركان. واختلفوا على القول بأنهما يشتركان في وقت اشتراكهما، فقيل: في آخر القامة الأولى، وقيل: في أول القامة الثانية، وقد قيل: إن بين الظهر والعصر فاصلة لا تصلح في الاختيار للظهر ولا للعصر.
فصل وكذلك القول في المغرب والعشاء. فأول وقت المغرب غروب الشمس، وآخر وقته المختار المستحب مغيب الشفق على مذهب من رأى أن له وقتين، وهو بعينه أول وقت العشاء المختار المستحب، وآخر وقته ثلث الليل أو نصفه. وتدخل العشاء على المغرب في وقته المختار المستحب فتشاركه فيه للعذر، قيل: من أول المغرب، وقيل: بل من بعد مقدار ما تصلى فيه صلاة المغرب. ويدخل أيضا المغرب على العشاء في وقته المختار المستحب فيشاركه فيه للعذر إلى آخره وهو ثلث الليل أو نصفه. واختلف هل يشارك المغرب العشاء في وقت الاختيار عند مغيب الشفق، فقيل: إنهما لا يشتركان في ذلك، وإن أول وقت المغرب المختار ينقضي بانقضاء مغيب الشفق ثم يدخل وقت العشاء دون فاصلة بين الوقتين، وقيل: إنهما يشتركان فيه. واختلف على القول بأنهما يشتركان فيه في وقت اشتراكهما، فقيل: في آخر مغيب الشفق، وقيل: عند انقضاء مغيبه. وقد قيل: إن بين المغرب والعشاء فاصلة لا تصلح في الاختيار للمغرب ولا للعشاء، وذلك مبني على القول بأنه ليس للمغرب إلا وقت واحد.
فصل ويشترك الظهر والعصر إلى الغروب، والمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر لأهل الضرورات، وهم خمسة: الصبي يحتلم، والكافر يسلم، والمغمى عليه يفيق، والحائض تطهر أو الطاهر تحيض، والحاضر يسافر أو المسافر يقدم.
فصل فيجمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر المسافر يرتحل من المنهل(1/187)
بالسنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقياسا على الجمع بعرفة، هذا هو المشهور في المذهب، وقد قيل: إنه لا يجمع إلا أن يجد به السير. وقد قيل: إنه لا يجمع وإن جد به السير. وهذان القولان في رسم المحرم من سماع ابن القاسم من كتاب الجامع. والمريض الذي يخشى أن يغلب على عقله على اختلاف في ذلك. ويجمع في آخر وقت العصر المختار وهو القامتان، المريض الذي يدخل عليه وقت الظهر وهو مريض لا يقدر على الصلاة إلا بمشقة قائما أو قاعدا وهو يرجو أن ينكشف عنه ذلك المرض ما بينه وبين آخر الوقت فتخف عليه الصلاة على اختلاف في ذلك، إذ قد قيل: إنه لا يؤخر صلاة الظهر إلى آخر وقت العصر، ويصلي كل صلاة لوقتها كيفما استطاع، أو يجمع بينهما في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، إن كان ذلك أرفق به. والذي يرتحل قبل زوال الشمس ويريد النزول آخر وقت العصر بالسنة الثابتة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك وقياسا على الجمع بالمزدلفة. ويجمع في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر المريض الذي يكون الجمع أرفق به والمسافر الذي يرتحل من قبل الزوال إلى بعد انقضاء القامتين. قيل: إذا جد به السير، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك على ظاهر حديث عبد الله بن عمر أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عجل به السير يجمع بين الظهر والعصر» . وقيل: وإن لم يجد به السير، وهو مذهب ابن حبيب على ظاهر قوله في الحديث «فخرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل فخرج فصلى المغرب والعشاء جميعا» .
وفي تحقيق وقت جمع هذين ثلاثة أقوال: أحدها: أن يجمع بينهما في آخر القامة الأولى. والثاني: أن يجمع بينهما في أول القامة الثانية. والثالث: أن يجمع بينهما بأن يصلي الظهر في آخر القامة الأولى، والعصر في أول القامة الثانية. فالقول الأول والثاني على اختلافهم في الوقت الذي يشتركان فيه في الاختيار. والقول الثالث على القول بأنهما لا يشتركان في وقت الاختيار.
فصل والقول في المغرب والعشاء كالقول في الظهر والعصر، يجمع في أول(1/188)
الغروب الذي يرتحل من المنهل باتفاق، والذي يخشى أن يغلب على عقله باختلاف. وعند انقضاء نصف الليل الذي يرتحل من قبل الغروب إلى قبل انقضاء نصف الليل باتفاق، والمريض الذي يدخل عليه وقت المغرب وهو مريض يرجو أن ينكشف عنه المرض في آخر وقت العشاء وهو ثلث الليل أو نصفه على اختلاف. وعند مغيب الشفق المريض الذي يكون الجمع أرفق به والمسافر الذي يرتحل من قبل الغروب إلى بعد انقضاء وقت العشاء وهو ثلث الليل أو نصفه. قيل: إذا عجل به السير. وقيل: وإن لم يعجل به السير. ولا يجوز لشيء من هذه الأعذار تأخير الظهر والعصر إلى الغروب ولا إلى ما بعد القامتين لنهي النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن ذلك بقوله: «تلك صلاة المنافقين» الحديث، وكذلك لا يجوز لشيء منها تأخير المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر ولا إلى ما بعد نصف الليل؛ إلا أن يكون المريض لا يقدر على الصلاة إيماء لشدة مرضه إلا بمشقة لا يلزمه تكلفها فيكون ذلك له. ولو كان لا يقدر على تكلف ذلك بحال لأشبه المغمى عليه، إلا في سقوط الصلاة عنه بخروج الوقت على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك من أجل أن معه عقله.
فصل واختلف في الجمع بين المغرب والعشاء بسبب المطر والطين والظلمة. فقيل: إنه يكون قبل مغيب الشفق، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك والمشهور في المذهب. وقيل: إنه يجمع بينهما عند الغروب وهو قول ابن عبد الحكم وابن وهب وروايته عن مالك. فالقول الأول مبني على أن وقت المغرب المختار(1/189)
المستحب يمتد إلى مغيب الشفق. [والقول الثاني مبني على أنه لا يمتد إلى مغيب الشفق] وإنما فارق الجمع في المطر جمع المسافر والمريض في تعجيل الجمع قبل مغيب الشفق أو عند غروب الشمس من أجل أنه لا رفق للمسافر والمريض في تعجيل الجمع قبل مغيب الشفق، وللناس رفق في تعجيل الجمع في المطر قبل مغيب الشفق لينصرفوا في بقية من الضياء.
فصل ولما كان على القول بأن المغرب ليس لها في الاختيار إلا وقت واحد، لا يجوز أن تؤخر المغرب عن وقت الغروب إلا لعذر، وكانت العشاء لا يجوز أن تعجل عن وقت مغيب الشفق إلا لعذر أيضا، واستوى الطرفان جميعا، وجب أن يفعل من ذلك الذي هو أرفق بالناس، وهو الجمع عند أول الغروب لرجوعهم والضياء متمكن. فهذا وجه تعجيل الجمع عند الغروب بناء على هذا القول، وبالله التوفيق.
[فصل في سجود القرآن]
فصل
في سجود القرآن
الأصل في هذا الباب قول الله عز وجل: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] ، وقوله عز وجل: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] ، وقوله عز وجل: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] الآية. ومداره على أربع مسائل: معرفة عزائم السجود [من غير العزائم، ومعرفة وجوب السجود فيها، ومعرفة من يجب عليه السجود فيها ممن لا يجب، والرابع معرفة أحكام السجود وشرائطه.(1/190)
فصل فأما عزائم السجود] فإنها عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء، ولا في الحج إلا سجدة واحدة، وهي التي في أول السورة. قال في الموطأ: الأمر عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء. وقال في رواية ابن بكير وغيره: الأمر المجتمع عليه عندنا. ورواية يحيى أولى؛ لأن الاختلاف في عزائم السجود معلوم بين السلف في المدينة. وقد يتأول قوله: الأمر المجتمع عليه عندنا، على أنه إنما أراد أنه اجتمع على أن الأحد عشر من العزائم ولم يجتمع على أن ما سواها من العزائم. وهو تأويل جيد محتمل تصح به الرواية. فالتي ليست من العزائم عند مالك سجدة آخر الحج، وسجدة والنجم، {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] . وإنما لم يرها مالك من العزائم لما جاء فيها من الخلاف. فقد روي أنه ليس في الحج إلا سجدة واحدة، وروي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة» . وذهب ابن وهب من أصحاب مالك إلى أنها كلها عزائم يسجد فيها، وهو اختيار ابن حبيب وجماعة من العلماء، وقد روى ذلك ابن وهب عن مالك. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: عزائم السجود أربع عشرة سجدة، إلا أن الشافعي أسقط سجدة ص وأسقط أبو حنيفة سجدة آخر الحج، وأسقط الثوري سجدة والنجم. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: عزائم السجود أربعة: ألم تنزيل، وحم السجدة، والنجم، واقرأ باسم ربك. وقال بعض العلماء: إن الذي يوجبه النظر أن يسجد من ذلك فيما جاء على سبيل الخبر، ولا يسجد من ذلك فيما جاء على سبيل الأمر؛ لأن ما جاء منها على سبيل الأمر يحمل على السجود الواجب في الصلاة المفروضة. وعلى هذا يأتي مذهب مالك إذا اعتبرته؛ لأن(1/191)
جميع ما لم ير فيه السجود جاء على سبيل الأمر، وجميع ما رأى فيه السجود جاء على سبيل الخبر.
فإن قال قائل: سجدة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] جاءت على سبيل الخبر ولا يسجد فيها عنده.
قيل له: الوعيد المذكور فيها يقوم مقام الأمر.
وإن قال قائل: سجدة حم السجدة جاءت على سبيل الأمر ويسجد فيها عنده.
قيل له: المعنى فيها الإخبار عن فعل الكفار الذين لا يسجدون لله ويسجدون للشمس والقمر، والنهي عن التشبه بهم في ذلك، لا الأمر بمجرد السجود لله فيحمل على سجود الصلاة، ويدل على ذلك قوله في آخر الآية: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] ؛ لأن المعنى في ذلك: فإن استكبر الكفار عن السجود لله فالذين عنده لا يستكبرون عن ذلك. وقد اختار بعض العلماء السجود عند قولهم وهم لا يسأمون ليكون عند ذكر الإخبار على الأصل الذي ذكرناه.
فصل وأما وجوب السجود فيها فإنه واجب، قيل: وجوب السنن التي من فعلها أجر ومن تركها لم يأثم، وقيل: وجوب الفرائض التي من تركها أثم. ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه واجب وجوب السنن لا وجوب الفرائض. ودليله على ذلك أن الله تبارك وتعالى أثنى على الساجدين عند التلاوة ولم يأمر به، وفعله النبي عليه الصلاة(1/192)
والسلام فوجب الاقتداء به في ذلك دون وجوب؛ لقول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ، وقد بين ذلك عمر بن الخطاب بقوله إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. فمن سجد على مذهب مالك أجر، ومن ترك السجود لم يأثم إلا من جهة الرغبة عن إتيان السنن. وذهب أبو حنيفة إلى أن السجود واجب من تركه أثم. وقول مالك هو الصحيح إذ ليس في وجوب ذلك نص في القرآن ولا في السنة ولا اجتمعت عليه الأمة، والفرائض الواجبات لا تؤخذ إلا من أحد هذه الوجوه الثلاثة.
فصل وأما معرفة من يجب عليه السجود فيها ممن لا يجب ففي ذلك تفصيل: أما التالي للقرآن في صلاة أو في غير صلاة فيجب عليه السجود في مواضع السجود بإجماع، إلا أنه يكره للإمام أن يقرأ بسورة فيها سجدة لئلا يخلط على من خلفه. وقد قيل: إنه يجوز له أن يقرأها إذا كان من خلفه قليلا وأمن أن يخلط على أحد منهم. وأما فيما يسر فيه فلا يقرأ بسورة فيها سجدة بحال. وقد استحب ابن القاسم للمنفرد ترك القراءة بسورة فيها سجدة في الفريضة لئلا يدخل على نفسه سهوا بذلك في صلاته، وقال: إنه هو الذي رأى مالكا يذهب إليه. وأما المستمع للتلاوة فإن جلس لاستماع تلاوة التالي على سبيل التعليم والحفظ سجد بسجوده إن سجد، واختلف هل يجب عليه السجود إن لم يسجد. وإن جلس لاستماع تلاوته ابتغاء الثواب في ذلك لم يجب عليه السجود إن لم يسجد، واختلف إن سجد هل يجب عليه السجود بسجوده أم لا على قولين. وهذا كله إذا كان التالي ممن تصح إمامته. وأما إن جلس إليه ليقرأ السجدة فيسجد لسجوده فلا يسجد لسجوده؛ لأن ذلك مكروه من الفعل. واختلف في المعلم والمقرئ يجلس لقراءة القرآن عليه، فقيل: إنه يسجد في أول ما تمر به سجدة بسجود القارىء عليه إذا كان بالغا، وليس عليه سجود بعد ذلك كلما جاءت سجدة. وقيل: ليس ذلك عليه ولا في أول مرة.(1/193)
وأما من سمع قراءة رجل دون أن يجلس لاستماع قراءته على وجه من الوجوه فليس عليه أن يسجد بسجوده، وقيل: إن ذلك عليه وهو شذوذ.
فصل وأما معرفة أحكام السجود فإن أحكامه أحكام صلاة النافلة في أنه لا يكون بغير طهارة، ولا في موضع غير طاهر، ولا في وقت لا تحل فيه الصلاة، ولا لغير القبلة إلا للمسافر على دابته حيثما توجهت به. وقد اختلف في سجود سجدة التلاوة بعد الصبح ما لم يسفر، وبعد العصر ما لم تصفر الشمس على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يسجد في شيء من هذه الأوقات، وهو قوله في الموطأ قياسا على النوافل. والثاني: أنه يسجد فيها وهو قوله في المدونة قياسا على صلاة الجنائز. والثالث: إنما يسجد بعد الصبح ولا يسجد بعد العصر وهو قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة.(1/194)
[القول في سهو الصلاة]
فرض الله تبارك وتعالى الصلاة في كتابه على المكلفين من عباده فرضا مجملا، وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفة فعلها، والحكم عن السهو فيها أو عن شيء منها قولا وعملا؛ لأن الله تبارك وتعالى كان ينسيه في صلاته ليسن لأمته على ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إني لأنسى أو أنسي لأسن» ، فحفظ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سها في الصلاة في أربعة مواضع: «قام من اثنتين، وأسقط الجلسة فلم يرجع إليها وسجد سجدتي السهو قبل السلام» «وسلم من ركعتين فكلمه في ذلك ذو اليدين فرجع إلى بقية صلاته وسجد سجدتي السهو بعد السلام» وصلى خامسة فسجد بعد السلام لسهوه، وأسقط آية من سورة الفرقان فلم يسجد لسهوه. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يذكر كم صلى ثلاثا أو أربعا فليصل ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل السلام، فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شفعها بهاتين السجدتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان» فتبين بما سن لأمته بقوله وفعله، أن السهو في الصلاة على ثلاثة أقسام: منه ما لا يجزئ فيه(1/195)
سجود السهو. ومنه ما لا يجب فيه سجود السهو. ومنه ما يصلحه سجود السهو. وأن ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «في كل سهو سجدتان» ليس على عمومه، وأن المراد بذلك السنن دون الفرائض والفضائل؛ لأن الفرائض هي التي لا يجزئ فيها سجود السهو، والفضائل هي التي لا يجب فيها سجود السهو.
فصل والصلاة أقوال وأفعال، فجميع أفعال الصلاة فرض حاشا ثلاثة: رفع اليدين في الإحرام، والتيامن في السلام، والجلسة الوسطى، وحاشا الرفع من الركوع فقيل: إنه فرض؛ لأن الركوع لا يتم إلا به، وقيل: إنه سنة. وجميع أقوال الصلاة سنة وفضيلة حاشا ثلاثة: تكبيرة الإحرام، وقراءة أم القرآن، والسلام. وقد اختلف في ذلك حسبما ذكرنا كلا في موضعه. وبالله التوفيق.
[فصل في أقسام السهو في الصلاة]
فصل
في أقسام السهو في الصلاة
والسهو في الصلاة ينقسم على قسمين: سهو يوقن به، وسهو يشك فيه. فالسهو الذي يوقن به ينقسم على قسمين: زيادة ونقصان. وكذلك السهو الذي يشك فيه [ينقسم أيضا على قسمين: زيادة ونقصان] ، فهذه أربعة أقسام. وقد يجتمع في السهو اليقين بالزيادة والنقصان في الصلاة الواحدة، والشك فيهما جميعا، والشك في الزيادة واليقين بالنقصان، واليقين بالزيادة والشك في النقصان، فهذه تتمة ثمانية أقسام.
فصل فأما السهو في الزيادة فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون في الأفعال،(1/196)
والثاني: أن يكون في الأقوال. فإن كان في الأفعال فلا يخلو أيضا من وجهين: أحدهما: أن يكون من جنس أفعال الصلاة [أو من غير جنسها. فأما إن كان من جنس أفعال الصلاة] . فيجزئ فيه سجود السهو بعد السلام فيما قل باتفاق، وفيما كثر على اختلاف. والكثير ما كان مثل نصف الصلاة أو أكثر. وأما إن كان من غير جنس أفعال الصلاة فإن ذلك ينقسم على قسمين: أحدهما: أن يكون ذلك كثيرا، والثاني: أن يكون ذلك يسيرا. فأما إن كان ذلك كثيرا، مثل أن يأكل أو يخيط ثوبه أو يصقل سيفه، فيطول ذلك فإن صلاته تبطل بذلك ولا يجزئه سجود السهو فيه. وأما إن كان ذلك يسيرا فهو على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون مما يجوز له أن يفعله في صلاته. والثاني: أن يكون مما يكره له أن يفعله في صلاته. والثالث: أن يكون مما لا يجوز له أن يفعله في صلاته. فالأول لا سجود عليه فيه، وذلك مثل أن تمر به الحية أو العقرب فينسى أنه في صلاة فيقتلها. والثاني يتخرج على قولين: أحدهما أن عليه السجود. والثاني أنه لا سجود عليه، وذلك مثل أن تمر به الحية أو العقرب فينسى أنه في صلاة فيقتلهما دون أن يريداه. والثالث قيل فيه: إنه يسجد وتجزئه صلاته، وقيل: إنه تبطل صلاته ولا يجزئه في ذلك سجود السهو، وذلك مثل أن ينسى أنه في صلاة فيأكل أو يشرب ولا يطول ذلك.
فصل وإن كان في الأقوال فلا يخلو أيضا من وجهين: أحدهما أن يكون من جنس أقوال الصلاة أو من غير جنسها. فأما إن كان من جنس أقوال الصلاة فاختلف فيه هل فيه سجود السهو أم لا على قولين، وذلك مثل أن يقرأ سورة مع أم القرآن في الركعتين الأخيرتين أو يذكر الله فيما بين السجدتين وما أشبه ذلك. وأما إن كان من غير جنس أقوال الصلاة فيسجد سجدتي السهو بعد السلام.(1/197)
فصل فهذا حكم الزيادة في الصلاة على سبيل السهو. أما الزيادة فيها على طريق العمد فإن كانت في الأفعال التي هي من جنس أفعال الصلاة أو في الأقوال التي ليست من جنس أقوال الصلاة أبطلها باتفاق فيما قل أو كثر. وإن كان في الأفعال التي ليست من جنس أفعال الصلاة أبطلها في الكثير دون القليل. وأما إن كان في الأقوال التي من جنس أقوال الصلاة فقيل: إنه يبطل الصلاة، وقيل: إنه يستغفر الله ولا سجود عليه؛ لأنه لم يسه.
فصل وأما السهو في النقصان فلا يخلو أيضا أن يكون في الأفعال أو في الأقوال.
فإن كان في الأفعال فلا يخلو أن يكون فيما هو منها فرض أو فيما هو منها سنة أو فيما هو منها فضيلة. فإن كان فيما هو منها فرض مثل الركوع والسجود والقيام أو الجلسة الآخرة، لم يجزئ فيه سجود السهو دون أن يأتي بما سها عنه من ذلك. فإن أتى بما سها عنه من ذلك فأوجب عليه إتيانه به زيادة في صلاته سجد بعد السلام، وإن أوجب عليه إتيانه به زيادة ونقصانا سجد قبل السلام على اختلاف قول مالك في ذلك، إلا أن يكون مع الإمام وتكون الزيادة أو النقصان والزيادة في داخل صلاة الإمام فلا يجب عليه سجود؛ لأن الإمام يحمل عمن خلفه جميع السهو الذي يجزئ عنه سجود السهو في الزيادة أو في النقصان أو فيهما جميعا. والأصل في ذلك أنه يحمل عنه جميع سنن الصلاة دون فرائضها، فلا يحمل عنه القيام ولا الركوع ولا السجود ولا الجلسة الآخرة ولا السلام ولا النية ولا الطهارة من الحدث ولا طهارة الثوب والبقعة ولا استقبال القبلة ولا تكبيرة الإحرام على اختلاف في ذلك، وقد ذكرناه فيما تقدم.
فصل وكل ما يحمله الإمام عمن خلفه فسهوه عنه سهو لهم وإن فعلوه، وكل ما لا يحمله الإمام عمن خلفه فلا يكون سهوه عنه سهوا لهم إذا هم فعلوه إلا في النية(1/198)
وتكبيرة الإحرام؛ لأنهم إذا فارقوه في النية أو في الإحرام لم يدخلوا معه في الصلاة.
فصل وإن كان فيما هو منها سنة كالجلسة الوسطى وجب عليه سجود السهو. وإن كان فيما هو منها فضيلة كرفع اليدين في الإحرام [والتيامن في السلام لم يجب عليه في ذلك سجود السهو] . فإن قيل في رفع اليدين: إنه سنة، فليس من السنن المؤكدات وهو في الفضائل أدخل.
فصل وإن كان النقصان من الأقوال فلا يخلو أيضا أن يكون فيما هو فرض فيها أو سنة أو فضيلة. فإن كان فيما هو منها فرض كتكبيرة الإحرام والسلام لم يجزئ فيه سجود السهو وبطلت الصلاة. وإن كان فيما هو منها سنة كقراءة السور التي مع أم القرآن أجزأه منها سجود السهو قبل السلام. وإن كان فيما هو منها فضيلة كالقنوت والتسبيح في الركوع والسجود لم يجب في ذلك سجود.
فصل واختلافهم فيمن نسي تكبيرة واحدة من صلاته ليس بخارج عن هذا الأصل، وإنما هو جار على اختلافهم هل كل تكبيرة منها سنة على حدة أو هل جملة التكبير كله ما عدا تكبيرة الإحرام سنة واحدة في الصلاة. فمن جعل كل تكبيرة سنة أوجب السجود في التكبيرة الواحدة والتكبيرتين، وأوجب الإعادة فيما زاد على ذلك إذا ترك السجود حتى طال الأمر. ومن لم ير كل تكبيرة سنة وإنما جعل جملة التكبير سنة واحدة في الصلاة لم يوجب السجود في التكبيرة الواحدة، وهو أحد قولي ابن القاسم في المدونة، ولا أوجب الإعادة فيما زاد على التكبيرة الواحدة إذا ترك السجود حتى طال، وذلك منصوص لابن القاسم في رواية أبي زيد عنه.(1/199)
فصل وكذلك اختلافهم في ترك قراءة أم القرآن في الصلاة ليس بخارج على ما أصلناه، وإنما هو جار على اختلافهم في قراءتها هل هو فرض في جملة الصلاة أو في كل ركعة منها أو ليس بفرض جملة. فمن لم ير ذلك فرضا أجزأ عنده فيه سجود السهو، ومن رآه فرضا في كل ركعة قال بالإلغاء، ومن رآه فرضا في الجملة أوجب عليه الإعادة إن لم يقرأها رأسا، وإن قرأها في ركعة واحدة من أي الصلوات كانت سجد ولم يعد الصلاة. وما يوجد من أقوالهم خارجا عن هذا فليس بجار على قياس. وإنما هو استحسان مراعاة للخلاف.
فصل فهذا حكم النقصان على طريق السهو. وأما النقصان على طريق العمد، فإن كان فريضة أبطل الصلاة كان من الأقوال أو من الأفعال، وإن كان سنة واحدة فقيل: يبطل الصلاة وقيل: يستغفر الله ولا شيء عليه. وإن كثرت السنن التي ترك متعمدا أبطلت الصلاة، وإن كانت فضيلة فلا شيء عليه.
فصل فإن اجتمع عليه في صلاته زيادة ونقصان فيما يجب فيه سجود السهو فقيل: إنه يسجد قبل السلام، وقيل: إنه يسجد بعد السلام. والقولان قائمان من المدونة ومنصوص عليهما في رواية عيسى من العتبية. والأشهر أنه يسجد قبل السلام، وهو قائم من حديث النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قوله: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا فليصل ركعة ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم» الحديث؛ لأن الركعة التي شك في إسقاطها إن كانت الركعة الأولى أو الثانية فقد صارت الثالثة ثانية وكان عليه أن يقرأ فيها بالحمد وسورة ويجلس، فقرأ(1/200)
فيها بالحمد وحدها وقام فحصل معه الشك في نقصان السورة والجلسة الوسطى، واليقين في الزيادة. ولا فرق بين أن يشك في النقصان أو يوقن به. هذا توجيه الحديث على هذا المذهب، وقد نحا إلى ذلك ابن المواز في كتابه.
فصل ولا يفترق اليقين بالسهو من الشك فيه إلا في موضعين: أحدهما: أن يشك في الزيادة الكثيرة في أفعال الصلاة فإنه يجزئه في ذلك سجود السهو باتفاق، بخلاف الذي يوقن بالزيادة. والثاني: هو أن الذي يكثر عليه السهو في الصلاة بخلاف الذي يكثر عليه الشك في السهو فيها. فالذي يكثر عليه السهو لا بد من إصلاحه. وإنما اختلف في وجوب سجود السهو عليه بعد إصلاح ما سها فيه. والذي يكثر عليه الشك في السهو يلهى عنه ولا يبنى على اليقين. واختلف قول مالك هل يسجد لسهوه أم لا على قولين، وذهب محمد بن المواز إلى أن ذلك ليس باختلاف من القول وأنه إنما أوجب سجود السهو على الذي يكثر عليه [الشك في السهو فيلهى عنه ولا يبنى على اليقين وإنما أسقطه عن الذي يكثر عليه] السهو فيصلحه لتيقنه به. قال فضل: وقول ابن المواز بعيد، والأظهر أنه اختلاف من القول. يريد في الذي يكثر عليه الشك في السهو. وأما الذي يكثر عليه السهو ويوقن به فإنه يصلحه ويسجد لسهوه عنده خلاف ما ذهب إليه ابن المواز من أنه لا سجود عليه تأويلا على مالك. فهذه جملة في السهو تأتي عليها المسائل إن شاء الله، وبالله التوفيق.
فصل فأما السهو عنها جملة. فروي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نام في الوادي عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس فصلى بعد خروج الوقت وقال: " إذا رقد أحدكم عن(1/201)
الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها كما كان يصليها في وقتها فإن الله تبارك وتعالى يقول أقم الصلاة لذكري» . فأجمع أهل العلم على أن من نسي الصلاة أو نام عنها حتى خرج وقتها فإنه يجب عليه أن يصليها بعد خروج وقتها.
فصل وفي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فليصلها إذا ذكرها» دليل على أنه لا يجوز تأخيرها عن وقت ذكرها. وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فقال: إنه إذا ذكر صلوات يسيرة في وقت صلاته إنه يبدأ بها وإن فاته وقت التي هو في وقتها، قياسا على من نسي الظهر والعصر إلى قرب الغروب أنه يبدأ بالظهر وإن فاته وقت العصر، وخالفه الشافعي فقال: إنه يبدأ بالتي هو في وقتها قبل الفائتة. وحجته ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يومئذ ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح، وهي حجة ظاهرة إلا أن ذلك لم يصح عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فقد سئل في سماع أشهب هل صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الوادي ركعتي الفجر، فقال: ما سمعت. وأما تأخير الصلاة إلى أن خرج من الوادي فلا حجة للمخالف فيه؛ لأنه قد بين علة ذلك في الحديث فقال: إن هذا واد به شيطان.
فصل فترتيب الصلوات اليسيرة مع ما هو في وقته واجب ابتداء عند مالك كوجوب ترتيب ما هو في وقته، يبدأ بالصلوات المنسيات وإن خرج وقت التي هو في وقتها، كما يبدأ إذا نسي الظهر والعصر إلى عند الغروب بالظهر وإن فاته وقت العصر. وكذلك أيضا يجب على مذهبه ترتيب الفوائت في القضاء الأولى فالأولى. فإن ترك الترتيب في شيء من ذلك كله ناسيا فلا إعادة عليه للتي قدم إلا الرتبة في الوقت على طريق الاستحباب. مثال ذلك مما هو في وقته من الصلوات أن ينسى الظهر والعصر إلى قرب الغروب بقدر ما يصلي فيه صلاة واحدة فيذكر العصر وحدها(1/202)
فيصليها ثم يذكر بعد السلام منها الظهر فإنه يصلي الظهر التي ذكرها ولا إعادة عليه للعصر. ولو بقي من الوقت ما يصلي فيه العصر أو ركعة منها لأعاد العصر استحبابا. وقد قيل: إنه إذا ترك إعادتها في الوقت فلم يفعل حتى خرج الوقت إنه يعيدها بعد الوقت، وكان أيضا تأكيدا في الاستحباب.
فإن قيل: قد روي عن مالك في الحائض تطهر لمقدار خمس ركعات فتظن أنها لم يبق عليها من الوقت إلا قدر أربع ركعات. فتصلي العصر ويبقى عليها من النهار قدر ركعة إنها تصلي الظهر ثم تعيد العصر بعد الغروب، وهي كالناسية إذا لم تعلم أن صلاة الظهر واجبة عليها.
فعن ذلك جوابان: أحدهما: ما قال ابن المواز: إن معنى ذلك أنها علمت باتساع الوقت للصلاتين قبل سلامها من صلاة العصر ففسدت عليها العصر، كمن ذكر صلاة في صلاة. والجواب الثاني: أن الإعادة إنما وجبت عليها للعصر بعد الوقت على مذهب من يرى أن الظهر تختص بأربع ركعات من أول الزوال لا يشاركها فيها العصر، فصارت في صلاتها العصر في الوقت المختص بالظهر كمن صلى الظهر قبل الزوال؛ لأن طهر الحائض آخر الوقت أول الوقت لها كزوال الشمس لغير الحائض، بخلاف التارك للصلاة إلى آخر الوقت. ومثال ذلك في الصلوات المنسيات مع ما هو في وقته أن لا يذكرها حتى يصلي ما هو في وقته فلا يتم بالمنسيات حتى ينقضي الوقت فلا إعادة عليه لها. ومثال ذلك في الفوائت أن ينسى الظهر والعصر [أو الصبح والعصر] فيذكر العصر فيصليها، ثم يذكر بعد تمامها الصبح أو الظهر فيصليها أنه لا إعادة عليه للعصر ولا خلاف في ذلك.
فصل وأما إن ترك الترتيب في ذلك متعمدا أو جاهلا بالصواب فيما هو في وقته من الصلوات فإنه يعيد الثانية وإن خرج الوقت، مثل أن يصلي العصر قبل الظهر وهو ذاكر للظهر فإنه يعيد العصر ولا خلاف في ذلك أعلمه. وأما إن ترك الترتيب في(1/203)
الصلوات المنسيات مع ما هو في وقته متعمدا أو جاهلا بالصواب في ذلك، مثل أن يصلي العصر وهو ذاكر لصبح يومه أو لصبح أمسه ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعيد العصر أبدا، وهو الذي يأتي على ما في رسم أوصى ورسم بع من كتاب الصلاة إذا تدبرته. والثاني: أنه لا إعادة عليه للعصر إلا في الوقت، وهو الذي يأتي على ما في سماع سحنون. والثالث: الفرق بين أن يصلي العصر وهو ذاكر للصبح أو يذكرها وهو فيها بعد الإحرام بها، وهو ظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة. وكذلك إن ترك الترتيب في الفوائت متعمدا أو جاهلا بالصواب في ذلك، مثل أن يكون قد نسي الصبح والظهر أو الظهر والعصر فيذكر ذلك بعد أيام فيصلي الظهر وهو ذاكر للصبح أو العصر وهو ذاكر للظهر، في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ليس عليه إعادة الصلاة التي صلى؛ لأنه إذا صلاها فقد خرج وقتها وكأنه قد وضعها في موضعها فلا إعادة عليه لها بعد خروج وقتها، وهذا يأتي على ما في سماع سحنون عن ابن القاسم. والثاني: أن عليه إعادتها. والثالث: الفرق بين أن يتعمد الصلاة الثانية قبل الأولى، أو يدخل في الثانية ثم يذكر الأولى فيتمادى عليها. وهذا يأتي على قول ابن القاسم في المدونة، فقد قال فيمن نسي الصبح والظهر فذكر الظهر ولم يذكر الصبح، فلما دخل فيها ذكر الصبح: إنه يصلي الصبح ثم يعيد الظهر وإن كان وقتها قد خرج بتمامها. وقال فيمن ذكر صلوات يسيرة فصلى قبلها ما هو في وقته جاهلا أو متعمدا: إنه لا إعادة عليه إلا في الوقت، وهذا بين إذ لا فرق بين المسألتين.
فصل ويلزم على هذا القول الآخر وعلى القول الأول فيمن ذكر صلاتين لا يدري أيتهما قبل صاحبتها، مثل أن يذكر الظهر والعصر أو الصبح والظهر من يومين لا يدري أيتهما قبل صاحبتها أنه ليس عليه أن يصلي إلا صلاتين الصبح والظهر أو العصر والظهر، خلاف نص ما في سماع عيسى في رسم أوصى ورسم بع من كتاب الصلاة، وخلاف ما في الواضحة وكتاب ابن المواز، وخلاف قول سحنون وابن عبد الحكم. وعلى القول الثاني أن عليه إعادة الصلاة التي صلى وإن خرج(1/204)
وقتها بتمامها يأتي على قولهم فيمن نسي صلاتين من يومين مختلفين لا يدري أيهما قبل صاحبه، مثل ظهر وعصر، إنه يصلي ثلاث صلوات ظهرا بين عصرين أو عصرا بين ظهرين حتى يوقن أنه قد خلص من التنكيس وأتى بما نسي على الترتيب. ولو ذكر على هذا القول ثلاث صلوات صبحا وظهرا وعصرا لا يدري أيتهن قبل صاحبتها لوجب عليه أن يصلي سبع صلوات يبدأ بالصبح ويختم بها. ولو ذكر أربع صلوات صبحا وظهرا وعصرا ومغربا لا يدري أيتهن قبل صاحبتها لوجب عليه أن يصلي ثلاث عشرة صلاة يبدأ بالصبح أيضا ويختم بها. ولو ذكر خمس صلوات صبحا وظهرا وعصرا ومغربا وعشاء، لا يدري أيتهن قبل صاحبتها، لوجب عليه أن يصلي إحدى وعشرين صلاة يبدأ بالصبح أيضا ويختم بها، إذ لا يصح له اليقين والترتيب بما دون ذلك. وأصل ما تقيس عليه هذا أن تسقط أبدا من عدد الصلوات المنسيات واحدا ثم تضرب ما بقي في عددها فما اجتمع من ذلك حملت عليه الواحد الذي أسقطت [من عددها] ، وإن شئت أسقطت من عددها واحدا ثم ضربت ما بقي في مثله وحملت على ما اجتمع عدد الصلوات، وذلك سواء.
فصل ولو نسي الظهر والعصر أحدهما للسبت والآخر للأحد، لا يدري أيتهما للسبت ولا أيتهما للأحد، لتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن لا يعتبر في ذلك بالتعيين ولا بالترتيب فيصلي ظهرا وعصرا لا أكثر. والثاني: أنهما يعتبران جميعا باعتبار التعيين؛ لأن اعتبار الترتيب داخل تحته إذ لا يشك أن السبت قبل الأحد فيصلي ظهرا وعصرا للسبت ثم ظهرا وعصرا للأحد على ما قال ابن حبيب، أو ظهرا للسبت ثم عصرا للأحد، ثم عصرا للسبت ثم ظهرا للأحد، على ما روى عيسى عن ابن القاسم، وذلك كله صحيح لإتيانه بذلك على شكه وحصول الترتيب به(1/205)
يقينا إذ لا يشك أن السبت قبل الأحد. والثالث: أنه يعتبر في ذلك الترتيب دون تعيين الأيام، فيصلي ظهرا وعصرا ثم ظهرا، أو يبدأ بالعصر فيصلي عصرا وظهرا ثم عصرا لا أكثر.
ولو نسي ظهرا وعصرا إحداهما للسبت والأخرى للأحد، لا يدري أيتهما للسبت ولا أيتهما للأحد ولا إن كان السبت قبل الأحد أو الأحد قبل السبت من جمعة أخرى، لتخرج ذلك على أربعة أقوال: أحدها: أن لا يعتبر التعيين ولا الترتيب، فيصلي ظهرا وعصرا لا أكثر. والثاني: أن يعتبر التعيين والترتيب جميعا، فيصلي ظهرا وعصرا للسبت ثم ظهرا وعصرا للأحد، ثم ظهرا وعصرا للسبت، وإن بدأ بالأحد ختم به. والثالث: أن يعتبر التعيين دون الترتيب فيصلي ظهرا وعصرا للسبت وظهرا وعصرا للأحد. والرابع: أن يعتبر الترتيب دون التعيين فيصلي ظهرا ثم عصرا ثم ظهرا، أو عصرا ثم ظهرا ثم عصرا، يختم بالذي بدأ به وهذا كله بين.
فصل فأما ترك اعتبار تعيين الأيام فهو قول سحنون، وذهب إليه ابن لبابة وقال: يلزم من قال باعتبار تعيين الأيام أن يقول إذا ذكر صلاة لا يدري من أي يوم أن يصلي سبع صلوات صلاة لكل يوم من أيام الجمعة، وهذا يلزم، وكذلك يجب أن يقول في أيام الجمعة وما قل من الصلوات مما لا كبير مشقة فيه، إلا أن قول ابن لبابة عندي أظهر؛ لأنه إذا نوى بصلاته قضاء صلاة ذلك اليوم الذي تركها فيه وإن لم يعرفه بعينه وجب أن يجزئه قياسا على من نذر صوم يوم بعينه فأفطره ناسيا ثم نسي أي يوم كان من أيام الجمعة، أنه ليس عليه إلا صوم يوم واحد ينوي به ذلك اليوم. وانظر لو ظن أنه يوم بعينه فنواه لقضائه ثم انكشف له أنه غير ذلك اليوم هل يجزئه أم لا، والظاهر عندي أنه لا يجزئه، وكذلك الصلاة. وأما ترك اعتبار الترتيب في ذلك فقد ذكرنا أنه الذي يأتي على ما في المدونة في ذاكر صلوات يسيرة يصلي صلاة أنه لا يعيدها إلا في الوقت.(1/206)
فصل وأما من صلى قبل أن يذكر الصلوات المنسية فلا يعيدها إلا في الوقت للرتبة استحسانا، فإن لم يتسع له الوقت لإعادة ذلك فلا إعادة عليه بعد الوقت إلا أن يتسع له الوقت للإعادة فلم يفعل، فقد قيل: إنه يعيد بعد الوقت، وذلك تأكيد في الاستحباب.
فصل فيتحصل في ترتيب الفوائت اليسيرة مع ما حضر وقته من الصلوات قولان: أحدهما: أنه فرض بالذكر يسقط بالنسيان كالكلام في الصلاة. والثاني: أنه إنما يجب بالسنة وجوب السنن. وأما ترتيب ما حضر وقته من الصلوات فلا خلاف أعرفه في وجوبه مع الذكر على ما بيناه إن شاء الله تعالى
فصل وأما ذكر صلوات كثيرة فلم يختلف قول مالك أنه يبدأ بما حضر وقته قبلها، قيل: إن خشي أن يفوته فيما حضر وقت الاختيار، وهو ظاهر قول ابن حبيب في الواضحة، وقيل: ما لم تصفر الشمس في الظهر والعصر، وهو قول ابن القاسم في مختصر يحيى بن عمر، وقيل: ما لم تغب الشمس، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون من العتبية.
فصل ووجه تفرقة مالك بين الصلوات الكثيرة والقليلة، هو أن ظاهر الحديث بحمله على ما يقتضيه من العموم يوجب أن يبدأ بالفوائت قلت أو كثرت قبل ما هو في وقته وإن فات الوقت؛ لقوله: فليصلها إذا ذكرها في الصلاة التي هي من ألفاظ العموم، فخصص الإجماع من ذلك الصلوات الكثيرة وبقي الحديث مستعملا في اليسيرة. وقد اختلف في حدها ما هو، فقيل: الأربع، وقيل: الخمس، وقيل: الست وهو الصواب، إذ لا يصح أن يخصص عموم الحديث إلا بما يتفق أنه كثير وهو الست صلوات، وبالله التوفيق.(1/207)
[فصل في القول في قصر الصلاة]
فصل
في القول في قصر الصلاة اختلف أهل العلم في قصر المسافر الصلاة في السفر مع الأمن على أربعة أقوال: أحدها: أن القصر لا يجوز. والثاني: أنه واجب فرض. والثالث: أنه سنة مسنونة. والرابع: أنه رخصة وتوسعة. واختلف الذين رأوه رخصة وتوسعة في الأفضل من ذلك، فمنهم من رأى القصر أفضل، ومنهم من رأى الإتمام أفضل، ومنهم من خير بين الأمرين من غير أن يفضل أحدهما على صاحبه.
فصل والأصل في هذا الاختلاف اختلافهم في كيفية فرض الصلاة، وفي تأويل قول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، فبنى كل واحد مذهبه في ذلك على ما ثبت عنده من الروايات في كيفية فرض الصلاة، وصح عنده من التأويلات في معنى تفسيرها. وذلك أنه اختلف في كيفية فرض الصلاة على ثلاثة أقوال: قيل: إنها فرضت ركعتين في السفر وأربعا في الحضر. وقيل: إنها فرضت ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. وقيل: إنها فرضت أربعا أربعا في السفر والحضر، فأقرت صلاة الحضر وقصرت صلاة السفر. واختلف في القصر الذي رفع الله الجناح فيه بقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] على ستة أقوال:
أحدها: أنه أراد به القصر من طول القراءة والركوع والسجود، دون أن ينقص من عدد الركعات عند الخوف، قبل أن تنزل صلاة الخوف.
والثاني: أنه القصر من حدود الصلاة بصلاتهم إيماء إلى القبلة وإلى غير القبلة، عند شدة الخوف والتحام الحرب، كقوله تعالى في آية البقرة: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] .(1/208)
والثالث: أنه القصر من أربع ركعات إلى ركعتين عند الخوف.
والرابع: أنه القصر من ركعتين إلى ركعة عند الخوف. وعلى هذا يأتي ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا.
والخامس: أنه القصر من أربع ركعات إلى ركعتين في السفر من غير خوف، على ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه قال: «سأل قوم من التجار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] ، ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها. فأنزل الله تعالى بين الصلاتين: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101] {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] إلى آخرها، فنزلت صلاة الخوف» قال الطبري: وهذا تأويل حسن في الآية لو لم يكن في الكلام إذا؛ لأن إذا تؤذن بانقطاع ما بعدها على معنى ما قبلها. ولو لم يكن في الكلام إذا لكان معنى الكلام إن خفتم أيها المؤمنون أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم وكنت فيهم يا محمد فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك الآية.
والقول السادس: أن المراد به ما بينه في الآية التي بعدها من صلاة الخوف بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] على الاختلاف المروي في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من صلاته بكل طائفة ركعتين ركعتين فتصير له أربعا ولكل طائفة ركعتين. وبكل طائفة ركعة ركعة دون أن يقضوا شيئا فتصير له ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة. وبكل طائفة ركعة ركعة ثم يقضون جميعا ركعة ركعة بعد سلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبكل طائفة ركعة ركعة فتتم الطائفة الأولى قبل مجيء الثانية، ثم تقضي الثانية قبل سلام الإمام أو بعد سلامه. أو على(1/209)
ما روي من «أن العدو كان في جهة القبلة، فلما رأوهم يصلون الظهر تآمروا على الهجوم عليهم في صلاة العصر، فأنزل الله على النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الآية، فجعل النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لصلاة العصر أصحابه صفين خلفه، فكبر بهم جميعا، ثم ركع بهم جميعا، ثم سجد بالنصف الذي يليه سجدتين ووقف الصف الثاني يحرسونهم من العدو. فلما فرغ النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من سجوده وقام سجد الصف الثاني ثم تقدموا مكان الصف الأول وتأخر الصف الأول مكان الصف الثاني، فركع بهم النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جميعا ثم سجد بالصف الذي يليه سجدتين والصف الثاني يحرسونهم من العدو. فلما فرغ من سجوده سجد الصف المؤخر ثم قعدوا فتشهدوا مع النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثم سلم بهم جميعا. فلما نظر إليهم المشركون قالوا: لقد أخبروا بالذي أردنا» .
فصل فمن ذهب إلى ما روي من أن الصلاة فرضت أربعا أربعا في الحضر والسفر، وإلى ما روي من أن القصر الذي رفع الله فيه الجناح على عباده في الآية المذكورة هو القصر في الخوف من أربع إلى ركعتين، أو من طول الصلاة أو من حدودها على ما ذكرناه ولم يصح عنده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة في غير خوف، لم يجز للمسافر قصر الصلاة مع الأمن. وذهب إلى هذا جماعة من العلماء. وقد قيل: إنه مذهب عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - في إتمامها في السفر. روي عنها أنها قالت في سفرها: أتموا صلاتكم، فقالوا: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في السفر ركعتين، فقالت: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في حرب، وكان يخاف فهل تخافون أنتم شيئا؟، ومن ذهب إلى [ما روي من] أن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر، أو إلى أن الصلاة فرضت أربع ركعات في الحضر وركعتين في السفر، وصح عنده قصر(1/210)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة في السفر من غير خوف، وتأول أن مراد الله عز وجل بالقصر الذي رفع فيه الحرج هو القصر مع الخوف من ركعتين إلى ركعة أو من طول الصلاة أو من حدودها، رأى القصر في السفر فرضا، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وجماعة من العلماء، وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحق وأبو بكر بن الجهم. وذكر ابن الجهم أن أشهب روى ذلك [عن مالك] ، ويلزم من قال بهذا القول أن يوجب الإعادة أبدا على من أتم صلاته في السفر متعمدا صلى وحده أو في جماعة كما يقول أبو حنيفة وأصحابه، ولا يوجد ذلك في المذهب لمالك ولا لأحد من أصحابه. والذي رأيت لمالك من رواية أشهب عنه أن فرض المسافر ركعتان، وذلك خلاف ما حكى عنه ابن الجهم إذا تدبرته. ومن ذهب إلى ما روي من أن الصلاة فرضت أربعا أربعا في السفر والحضر فأقرت صلاة الحضر وقصرت صلاة السفر وتأول القصر الذي رفع الله فيه الجناح عن عباده على أنه القصر من أربع ركعات إلى ركعتين مع الأمن على ما ذكرناه فيما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وصح عنده أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة في سفره وهو آمن» قال: إن القصر في السفر سنة من السنن، التي الأخذ بها فضيلة وتركها غير خطيئة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن ليختار مما خيره الله فيه إلا الذي علم أنه الأفضل عنده. وقد نبه على ذلك بقوله: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» . فحض على قبول الصدقة والاقتداء به في ذلك من غير وجوب، إذ لا يجب على المتصدق عليه قبول ما تصدق به عليه، وإنما المختار له ذلك، ما لم يقترن بصدقته معنى يوجب كراهيتها، وذلك المعنى معدوم في صدقة الله تعالى. وهي رواية أبي المصعب عن(1/211)
مالك والمعلوم من مذهبه ومذهب أصحابه في مسائله ومسائلهم؛ لأنهم لم يخيروا المسافر بين القصر والإتمام، ولا أوجبوا عليه الإعادة أبدا إذا أتم، وإنما رأوها عليه في الوقت استحبابا ليدرك فضيلة السنة، إلا أن يكون صلاها في جماعة فلا يعيد لإحرازه فضل الجماعة، وإن كانت فضيلة السنة عنده آكد من فضيلة الجماعة؛ لأنه لم ير له أن يصلي في جماعة ويترك القصر إلى أن تغشاه الصلاة في موضعه الذي هو فيه من مسجد أو غيره؛ لما في ذلك من الجفاء وتعريض نفسه إلى سوء الظن. وقد ذهب ابن حبيب إلى أنه يعيد في الوقت وإن صلى في جماعة ما لم تكن صلاته في الجماعة في المسجد الجامع، وذلك على حسب تأكيد فضيلة السنة عنده. ومن ذهب إلى هذا ولم يصح عنده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة في سفره مع الأمن رأى المسافر مخيرا بين القصر والإتمام بالقرآن. ويحتمل أن يكون هذا، أعني التخيير بين القصر والإتمام، مذهب من صح عنده قصر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الصلاة في السفر مع الأمن إذا تأول القصر الذي رفع الله فيه الجناح عن عباده أنه هو القصر من أربع ركعات إلى ركعتين مع الخوف، ويرى أن قصر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مع الأمن إنما هو زيادة بيان لما في القرآن لا سنة مسنونة. ومن ذهب إلى هذا ورأى أن القصر أفضل، استدل على ذلك بما روي أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى شدائده، ولقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» . ومن ذهب إلى هذا ورأى الإتمام أفضل رآه زيادة عمل وقاسه على الصيام في السفر. ومن استوت عنده في ذلك الأدلة لم يفضل أحد الأمرين على صاحبه.
فصل وقد اختلف في حد ما تقصر فيه الصلاة من السفر اختلافا كثيرا من مسافة ثلاثة أميال، وهو مذهب أهل الظاهر، إلى مسيرة ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الصلاة لا تقصر في أقل من مسيرة اليوم التام. واختلف في حده فقيل: ثمانية وأربعون ميلا، وقيل: خمسة وأربعون(1/212)
ميلا، وقيل: أربعون ميلا. فإن قصر فيما دون الثمانية والأربعين ميلا فلا إعادة عليه فيما بينه وبين الأربعين ميلا. فإن قصر فيما دون الأربعين فقيل: يعيد في الوقت، وقيل: لا إعادة عليه فيما بينه وبين ستة وثلاثين ميلا. فإن قصر فيما دون ستة وثلاثين ميلا أعاد في الوقت وبعده.
فصل ويتم المسافر إلى أن يبرز عن بيوت القرية، ويقصر إلى أن يدخل إلى مثل ذلك الحد. قال ابن حبيب: إلا في الموضع الذي تجمع فيه الجمعة فإنه يقصر ويتم إلى الحد الذي يلزمه منه الإتيان إلى الجمعة.
فصل ولا يزال المسافر يقصر ما لم يمر بموطن يكون له محل إقامة بإجماع، أو ينوي إقامة أربعة أيام على اختلاف. والاختلاف في هذا كثير خارج المذهب، من تسعة عشر يوما على ما روي عن ابن عباس إلى يوم وليلة، وهو مذهب ربيعة قياسا على حد ما تقصر فيه الصلاة، فيتحصل فيه اثنا عشر قولا.
فصل والإتمام يجب بمجرد نية الإقامة أو بحلول موضعها، ولا يجب القصر إلا بالنية مع العمل. وحد العمل الذي يحسب به القصر لمن خرج من موطن البروز عن بيوت البلدة وبساتينها، ولمن نوى إقامة أربعة أيام في غير موطن ثم نوى السفر التحرك من موضعه.
فصل ولو نوى المسافر أن يقيم بموضع قبل أن يصل إليه ثم رجعت نيته عن الإقامة قبل أن يصل إليه بطلت نيته الأولى، وقصر بذلك الموضع إن وصل إليه وإن لم يتحرك منه. وذلك بخلاف المسافر يكون بطريقه قرية يكون له بها أهل، فينوي دخولها ثم ترجع نيته عن ذلك. ولا تخلو هذه المسألة من أحد أربعة أوجه: أحدها:(1/213)
أن يكون فيما بينه وبينها وفيما بينها وبين منتهى سفره أربعة برد فصاعدا. والثاني: أن لا يكون فيما بينه وبينها ولا فيما بينها وبين منتهى سفره إلا أقل من أربعة برد. والثالث: أن يكون فيما بينه وبينها أربعة برد فصاعدا، ولا يكون فيما بينها وبين منتهى سفره إلا أقل من أربعة برد. والرابع: بعكس ذلك، وهو أن لا يكون فيما بينه وبينها إلا أقل من أربعة برد، ويكون فيما بينها وبين منتهى سفره أربعة برد فصاعدا.
فأما الوجه الأول: فلا تأثير لنية دخوله فيها على حال، لكون المسافتين مما يجب في كل واحدة منهما القصر، فهو يقصر من حين خروجه، نوى دخول القرية أو لم ينو، فإن دخلها أتم فيها حتى يخرج منها ويجاوز بيوتها.
وأما الوجه الثاني: فإن نوى دخولها أتم فيما بينه وبينها وفيما بينها وبين منتهى سفره، إذ ليس في واحدة من المسافتين ما يجب فيه قصر الصلاة. وإن نوى أن لا يدخلها قصر من حين خروجه لكون المسافتين باجتماعهما ما يجب فيه قصر الصلاة. وإن نوى دخولها فلما سار بعض الطريق انصرفت نيته عن ذلك فنوى أن لا يدخلها، نظر إلى ما بقي من سفره فإن كان ما تقصر فيه الصلاة قصر، وإلا لم يقصر. وإن نوى أن لا يدخلها فقصر فلما سار بعض الطريق انصرفت نيته عن ذلك فنوى دخولها ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يتمادى على تقصيره حتى يدخلها، وهو مذهب سحنون. ووجهه أن التقصير قد وجب عليه فلا ينتقل عنه إلى الإتمام إلا بنية المقام أو بحلول موضعه. والثاني: أنه يرجع إلى الإتمام بمنزلة أن لو نوى دخولها من أول سفره، إذ ليس فيما بينه وبينها أربعة برد. وعلى هذا يختلف فيمن نوى الرجوع عن سفره إلى البلد الذي خرج منه قبل أن يبلغ أربعة برد، فقيل: إنه يتمادى على تقصيره حتى يرجع إلى بلده، وهو قول سحنون. وقيل: إنه يتم في رجوعه إذ ليس فيما بينه وبين بلده ما يجب فيه قصر الصلاة، وهو الذي في الواضحة وكتاب ابن المواز. وكذلك لو سار في سفره بريدين ثم نوى أن يرجع بعد أن يتمادى بريدا ثالثا.
والوجه الثالث من المسألة: محمول على الوجه الأول منها، فهو يقصر فيما(1/214)
بينه وبين القرية نوى دخولها أو لم ينو، ولا يقصر فيما بين القرية وبين منتهى سفره إلا أن لا يدخل القرية ولا ينوي دخولها.
والوجه الرابع: محمول على الوجه الثاني فيما بينه وبين القرية، ويقصر فيما بين القرية وبين منتهى سفره على كل حال دخل القرية أو لم يدخلها نوى دخولها أو لم ينوه؛ لأنها مسافة يجب فيها قصر الصلاة. وبالله التوفيق.
فصل والأسفار تنقسم على خمسة أقسام: سفر واجب، وسفر مندوب إليه، وسفر مباح، وسفر مكروه، وسفر محظور. فأما السفر الواجب والمندوب إليه فلا خلاف في قصر الصلاة فيهما. وأما ما سواهما فاختلف في قصر الصلاة فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الصلاة لا تقصر في شيء منها، وهو مذهب بعض أهل الظاهر، وروي مثله عن ابن مسعود. والثاني: أنها تقصر فيها كلها، وهو قول أكثر أهل الظاهر؛ لعموم قوله عز وجل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء: 101] ولم يخص سفرا، وهي رواية ابن زياد عن مالك. والثالث: أنه يقصر في السفر المباح دون المكروه والمحظور، وهو قول جل أهل العلم والمشهور من مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
فصل وقصر الصلاة في السفر على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه سنة من السنن، التي الأخذ بها فضيلة وتركها غير خطيئة، فإن أتم المسافر الصلاة على مذهبه أعاد في الوقت إن افتتح الصلاة بنية الإتمام متعمدا أو جاهلا أو ناسيا لسفره. وأما إن أحرم بنية القصر ثم أتم عامدا فقيل: إنه يعيد في الوقت [وقيل: في الوقت وبعده. وكذلك يختلف أيضا إذا أحرم على الإتمام ثم قصر متعمدا، فقيل: يعيد في الوقت] وبعده، وقيل: في الوقت. فالقول الأول مبني على أن المسافر مخير بين القصر والإتمام ما لم يتشبث بفعل الصلاة، فإن تشبث بها لزمه ما أحرم عليه من قصر أو إتمام. والثاني مبني على أنه مخير وإن تشبث بها ولا يلزمه الإتمام(1/215)
على ما أحرم عليه من قصر أو إتمام. وأما إن أحرم بنية القصر ثم أتم ساهيا، فقيل: إنه يسجد بعد السلام لسهوه، وتجزئه صلاته، وقيل: إنه يعيد في الوقت وبعده لكثرة السهو، وقيل: إنه يعيد في الوقت. وهذا على القول بأن للمسافر أن يتم وإن أحرم بنية القصر، وعلى القول بأن ما صلى على السهو يجزئ عن الفرض، مثل أن يصلي الرجل في الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة ركعة خامسة على سبيل السهو فيذكر سجدة من الأولى، وهذا الاختلاف كله لابن القاسم.
فصل واختلف إذا دخل المسافر خلف المقيم، وهو يظنه مسافرا فألفاه مقيما، أو دخل خلف المسافر وهو يظنه مقيما فألفاه مسافرا، فقيل: إن صلاته جائزة في الوجهين جميعا، وقيل: إنها فاسدة في الوجهين جميعا وعليه الإعادة، وقيل: إنه إن ظنه مسافرا فألفاه مقيما جازت صلاته، وإن ظنه مقيما فألفاه مسافرا فسدت صلاته ووجبت عليه الإعادة، وقيل بعكس ذلك في الوجهين جميعا. فهي أربعة أقوال، والإعادة في الوقت وبعده، وقيل: في الوقت خاصة.
فصل واختلف إذا صلى المسافر بالمسافرين ركعتين، ثم قام لإتمام الصلاة فيما يصنع القوم خلفه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يسلمون لأنفسهم وينصرفون، وقيل: إنهم يقدمون من يسلم بهم. والثاني: أنهم ينتظرونه حتى يتم الصلاة فيسلمون بسلامه. والثالث: أنهم يتبعونه ويعيدون الصلاة.
فصل فإن سلموا على قول من يرى ذلك تمت صلاتهم على كل حال كان الإمام ناسيا لسفره أو قاصدا للإتمام من أول صلاته عامدا أو جاهلا أو متأولا، أو كان قد أحرم على ركعتين فأتم عامدا أو ساهيا، إلا أن يكون الإمام إنما أتم لأنه نوى الإقامة فعليهم الإعادة ويعيد الإمام صلاته في الوقت إن كان أحرم بنية الإتمام. وإن كان أحرم بنية ركعتين ثم أتم عامدا أعاد في الوقت وبعده، وقيل: في الوقت، وقيل: يجتزئ بسجدتي السهو ولا إعادة عليه.(1/216)
فصل وأما إن قعدوا فسلموا بسلامه على قول من يرى ذلك وكان الإمام ناسيا لسفره أو قاصدا للإتمام من أول صلاته، فقيل: إنهم يعيدون في الوقت، وهذا قول سحنون، وقيل: إنه لا إعادة عليهم، وهو قوله في المدونة. وأما إن أحرم بنية ركعتين فأتم عامدا فإنهم يعيدون في الوقت وبعده؛ لأنه قد أفسد عليهم الصلاة بإفساده إياها على نفسه في المشهور من الأقوال. وأما إن كان أحرم بنية ركعتين فأتم ساهيا، فإنه يسجد لسهوه ويسجدون بسجوده على القول الذي يرى فيه أنه يصلح صلاته بسجود السهو، ولا شيء عليهم على قول من يوجب عليه إعادة الصلاة لكثرة سهوه؛ لأنهم لم يتبعوه على سهوه، وهذا على مذهب ابن القاسم في المدونة. وعلى قياس قول سحنون فيها يعيدون في الوقت وبعده كما يعيد الإمام. وأما على قول من يوجب عليه الإعادة في الوقت فيعيدون هم في الوقت على قياس قول سحنون المتقدم، وعلى قياس قول ابن القاسم لا إعادة عليهم وأما إن كان إنما أتم لأنه نوى الإقامة قبل الإحرام فعليهم الإعادة في الوقت وبعده.
فصل وأما إن اتبعوه على قول من يرى ذلك فإنهم يعيدون صلاتهم في الوقت وبعده إن كانوا اتبعوه بنية الإعادة. وإن كانوا إنما اتبعوه بنية الإتمام في السفر وتأولوا اتباع إمامهم وقد كان الإمام أحرم بنية الإتمام في السفر أعادوا أيضا في الوقت وبعده، وقيل: إنهم يعيدون في الوقت، ولا يجب على الإمام أن يعيد إلا في الوقت. وإن كان الإمام إنما أحرم بنية ركعتين ثم تمادى عامدا كان بمنزلتهم وأعاد هو وهم في الوقت وبعده، وقيل: في الوقت على ما تقدم من الاختلاف. وإن كان الإمام نوى الإقامة فيتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الصلاة تامة ولا إعادة عليهم، والثاني: أنهم يعيدون في الوقت. [والثالث: أنهم يعيدون في الوقت] وبعده؛ لأن ذلك مبني على ما تقدم من الاختلاف في المسافر يدخل مع القوم وهو يظنهم مسافرين فيجدهم مقيمين.(1/217)
فصل وأما إن صلى المسافر بالمقيمين ركعتين، ثم قام لإتمام صلاته فإن اتبعوه وكان الإمام قد أحرم على الإتمام متأولا أعادوا في الوقت وبعده، وقيل: لا إعادة عليهم. وهذا على اختلافهم فيمن وجب عليه أن يصلي فذا فصلى بإمام. وقيل: يعيدون في الوقت كالإمام. وإن قعدوا ولم يتبعوه بطلت صلاتهم بجلوسهم عن اتباعه على القول بأنهم إن اتبعوه أعادوا في الوقت وأجزأتهم صلاتهم، وصحت على القول بأنهم إن اتبعوه أعادوا في الوقت وبعده، ويتخرج على قول سحنون أنهم يعيدون في الوقت كما يعيد الإمام. ولا أذكر في ذلك نص رواية. وأما إن كان الإمام إنما أحرم بنية ركعتين، ثم أتم عامدا فاتبعوه فإنهم يعيدون في الوقت وبعده على قول من يوجب على الإمام الإعاده في الوقت وبعده، وعلى قول من لا يوجب عليه الإعادة إلا في الوقت، يجري الأمر في إيجاب الإعادة عليهم على الاختلاف المذكور إذا أحرم بنية الإتمام عامدا فاتبعوه. وأما إن قعدوا ولم يتبعوه فالحكم في ذلك على ما تقدم في المسألة التي قبلها. وأما إن كان الإمام إنما أحرم على نية ركعتين ثم أتم ساهيا فاتبعوه فقيل: إن ذلك لا يجزئهم، وقيل: إن صلاتهم تامة على الاختلاف في الإمام إذا صلى خامسة ساهيا فاتبعه فيها من فاتته ركعة من الصلاة. وهذا على القول بأن الإمام يجتزئ بسجود السهو. وأما على القول بأنه يعيد في الوقت أو في الوقت وبعده فعلى ما تقدم في المسألة التي قبلها. وإن قعدوا ولم يتبعوه فيتموا صلاتهم إذا سلم الإمام وتجزئهم، ويسجدون للسهو كما يسجد الإمام، على القول بأن الإمام يسجد لسهوه وتجزئه صلاته. وأما على القول بأن الإمام يعيد في الوقت وبعده لكثرة السهو، فلا سجود عليهم للسهو ولا إعادة؛ لأنهم لم يسهوا.
فصل وأما إن كان الإمام السفري إنما أتم بهم الصلاة؛ لأنه نوى الإقامة قبل دخوله فيها فإن اتبعوه صحت صلاتهم، وإن قعدوا ولم يتبعوه بطلت صلاتهم، وبالله تعالى التوفيق.(1/218)
[القول في صلاة الجمعة]
قصد الجمعة وشهودها فرض على الأعيان. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك صلاة الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه بطابع النفاق» . فلا يجوز التخلف عنها إلا لعذر أو علة كما ذكر في الحديث. والأعذار في ذلك منقسمة على ثلاثة أقسام: منها ما يباح التخلف عنها بسببه باتفاق، كالمرض والشغل بجنازة ميت لينظر في أمره على ما في سماع ابن القاسم. ومعنى ذلك إذا لم يجد من يكفنه وخشي عليه التغير إن أخر ذلك إلى أن يصلي الجمعة، أو يكون في الموت يجود بنفسه، قاله في السماع المذكور وحكاه ابن حبيب عن مالك. وقال في الأعمى الذي لا قائد له: إن الجمعة ساقطة عنه. ومنها ما يباح على اختلاف كالجذمى لما على الناس من الضرر في مخالطتهم في المسجد الجامع، والمطر، وعندي أن قولهم في المطر ليس باختلاف قول، وإنما ذلك على قدر حال المطر، والله تعالى أعلم. وفي تخلف العروس عنها اختلاف ضعيف. ومنها ما لا يباح باتفاق مثل المدين يخشى أن يقوم عليه غرماؤه فيسجنوه، وما أشبه ذلك.(1/219)
فصل وصلاة الجمعة على من تجب عليه الجمعة بدل من صلاة الظهر، وتجزئ من لا تجب عليه من صلاة الظهر. فوقتها وقت صلاة الظهر، قيل: إلى الاصفرار وقيل: إلى أن يبقى بعد إقامتها قدر أربع ركعات للعصر قبل الغروب، وقيل: إلى أن يبقى من الوقت ركعة لصلاة العصر. وقيل: وقتها إلى الغروب وإن لم تصل العصر إلا بعد غروب الشمس.
فصل وقد اختلف متى يتعين الإقبال إليها، فقيل: إذا زالت الشمس، وقيل: إذا أذن المؤذن. والاختلاف في هذا إنما هو على اختلافهم في وجوب شهود الخطبة، فمن أوجب شهود الخطبة على الأعيان أوجب على الرجل الإتيان من أول الزوال ليدركها، ومن لم يوجب شهود الخطبة على الأعيان لم يوجب على الرجل الإتيان إلا بالأذان؛ لأنه معلوم أنه إذا لم يأت حتى أذن المؤذن أنه ستفوته الخطبة أو بعضها.
فصل وهذا لمن قرب موضعه من الجمعة وأما من بعد موضعه ولا يدرك الخطبة أو الصلاة إلا بالإتيان إليها قبل الزوال فيلزمه الإتيان في الوقت الذي يغلب على ظنه أنه يدرك الخطبة والصلاة على الاختلاف في ذلك.
فصل وحد البعد الذي يلزمه منه الإتيان إلى الجمعة فرسخ، وهو ثلاثة أميال. قال في المدونة: وإن كانت زيادة يسيرة فأرى ذلك عليه. وقال في رواية أشهب: ثلاثة أميال فدون. وقال في رواية علي بن زياد عن مالك: [ثلاثة أميال] ؛ لأن ذلك(1/220)
منتهى صوت المؤذن. وقال في رواية أشهب عنه: لأن ذلك منتهى أبعد العوالي إلى المدينة، ولم يعلم أن من كان أبعد من العوالي أتوا إلى الجمعة ولا لزمهم الإتيان.
فصل وهذا الحد لمن كان خارج المصر وأما من كان في المصر فيتعين عليه الإتيان إلى الجمعة وإن كان بينه وبين المسجد الجامع ثلاثة أميال أو أكثر، كذا روى ابن أبي أويس عن مالك وابن وهب أيضا، وهو عندي تفسير للمذهب.
فصل وللجمعة شرائط لا تجب إلا بها وتصح دونها، وشرائط لا تجب إلا بها ولا تصح دونها، وفرائض لا تصح إلا بها، وسنن وفضائل لا تكمل إلا بها.
فأما الشرائط التي لا تجب إلا بها وتصح دونها فهي ثلاث: الذكورية، والحرية، والإقامة. لأن العبد والمسافر والمرأة لا تجب عليهم الجمعة ولهم أن يصلوها.
وأما الشرائط التي لا تجب الجمعة إلا بها ولا تصح دونها فهي ثلاثة أيضا: الإمام، والجماعة، وموضع الاستيطان، قرية كانت أو مصرا على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وقد قيل في الإمام والجماعة: إنهما من شرائط الصحة كالوضوء والنية والتوجه إلى القبلة وما أشبه ذلك، وقيل: إنهما من شرائط الوجوب. ولا يصح أن يقال فيهما: إنهما من شرائط الوجوب دون الصحة ولا من شرائط الصحة دون الوجوب، وإنما الصحيح أن يقال فيهما: إنهما من شرائط الوجوب والصحة جميعا، إذ قد يعدمان ولا يمكن وجودهما، فهما من شرائط الوجوب إذا عدما، ومن شرائط الصحة إذا وجدا. وبيان هذا أن القوم متى لم تكن لهم جماعة تصح بهم الجمعة أو لم يكن معهم إمام يحسن إقامة الجمعة بهم سقط عنهم فرض الجمعة، ومتى كانت لهم جماعة تصح بهم الجمعة وإمام يحسن إقامة الجمعة بهم وجبت عليهم إقامة الجمعة بالجماعة والإمام، فإن أخلوا بهما أو بأحدهما لم تجزئهم الجمعة(1/221)
ووجبت عليهم إعادتها في الوقت وظهرا بعد الوقت. وكذلك موضع الاستيطان على تأويل ما، والأظهر فيه أنه شرط في الوجوب خاصة.
فصل وأما المسجد فقيل فيه: إنه من شرائط الوجوب والصحة جميعا كالإمام والجماعة، وهذا على قول من يرى أنه لا يكون مسجدا إلا ما كان بيتا وله سقف، بدليل قول الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بنى مسجدا ولو مفحص قطاة» الحديث، إذ قد يعدم مسجد يكون على هذه الصفة وقد يوجد، فإذا عدم كان من شرائط الوجوب، وإذا وجد كان من شرائط الصحة. وعلى قياس هذا القول أفتى القاضي أبو الوليد الباجي في أهل قرية انهدم مسجدهم وبقي لا سقف له فحضرت الجمعة قبل أن يبنوه أنه لا يصح لهم أن يجمعوا الجمعة فيه، ويصلون ظهرا أربعا. وهو بعيد؛ لأن المسجد إذا حصل مسجدا لا يعود غير مسجد إذا انهدم، بل يبقى على ما كان عليه من التسمية والحكم، وإن كان لا يصح أن يسمى الموضع الذي يتخذ لبناء المسجد مسجدا قبل أن يبنى وهو فضاء. وقيل فيه، أعني المسجد،: إنه من شرائط الصحة دون الوجوب، وهذا على قول من يقول إن المكان من الفضاء يكون مسجدا ويسمى مسجدا بتعيينه وتحبيسه للصلاة فيه، واعتقاد اتخاذه للصلاة موضعا لها، إذ لا يعدم موضع يصح أن يتخذ مسجدا. فلما كان لا يعدم ويقدر عليه في كل حال صار من شرائط الصحة كالخطبة وكسائر فرائض الصلاة فهذا وجه هذا القول. ولا يصح أن يقول أحد في المسجد إنه ليس من شرائط الصحة، إذ لا اختلاف في أنه لا يصح أن تقام الجمعة في غير مسجد. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا يصح أن تقام إلا في الجامع، وإلى هذا ذهب الباجي فقال: إنه لو منع عذر من إقامتها في(1/222)
المسجد الجامع لم تصح إقامتها فيما سواه من المساجد، إلا أن تنقل الجمعة إليه على التأبيد. وهو بعيد؛ لأنه مسجد، وصلاة الجمعة فيه جائزة إذا تعذرت إقامتها بالمسجد الجامع وإن لم تنقل الجمعة إليه على التأبيد. وقد أقيمت الجمعة بقرطبة في مسجد أبي عثمان بالربض الغربي، ولا أرى ذلك كان إلا لعذر منع من إقامتها في المسجد الجامع دون أن تنقل الجمعة إليه على التأبيد، والعلماء متوافرون ولو نقل الإمام الجمعة في جمعة من الجمع من المسجد الجامع إلى مسجد من المساجد من غير عذر لكانت الصلاة مجزئة.
فإن قال قائل: لو جاز أن تصلى الجمعة في غير المسجد الجامع من غير أن تنقل إليه الجمعة على التأبيد لجاز لمن رعف مع الإمام في صلاة الجمعة أن يتم صلاته في أقرب المساجد إليه حيث يغسل الدم عنه وقد قالوا: إنه لا يتم صلاته إلا في المسجد الجامع.
فالجواب عن ذلك أن من أصحابنا من قال: يتم صلاته في أقرب المساجد إليه إلا أن يعلم أنه يدرك من صلاة الإمام شيئا فيرجع إلى المسجد الجامع ليتم صلاته مع الإمام، فعلى هذا القول لا يلزمنا هذا السؤال. ومن أوجب عليه الرجوع إلى المسجد الجامع وإن لم يدرك من الصلاة مع الإمام شيئا فالمعنى عنده إنما هو الرجوع إلى المسجد الذي ابتدأ فيه الصلاة مع الإمام لابتدائه معه الصلاة فيه لا لأنه المسجد الجامع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل وأما الخطبة فإنما هي شرط في صحة الجمعة، وذهب ابن الماجشون إلى أنها سنة. والدليل على وجوبها قول الله عز وجل: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] ، ومن شرطها أن تكون قبل الصلاة. واختلف هل من شرطها الجماعة أم لا، وظاهر المدونة من شرطها الجماعة. واختلف أيضا هل من شرط صحة الصلاة استدامة الجماعة من أول الصلاة إلى آخرها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك من شروط(1/223)
صحتها وأن الناس لو انفضوا عنه قبل السلام من الصلاة حتى لم يبق معه إلا النساء والعبيد ومن لا عدد له من الرجال لبطلت الصلاة. والثاني: أن الصلاة جائزة إن لم ينفضوا عنه حتى صلى ركعة، قياسا على من أدرك ركعة من صلاة الإمام أنه يقضي ركعة واحدة وتكون له جمعة. والثالث: أنه إذا أحرم بالجماعة فصلاته الجمعة جائزة وإن انفضوا عنه قبل ركعة. والقول الأول أظهر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وظاهر ما في المدونة أنه أجاز إتمام الصلاة إذا انفض الناس عنه بعد الإحرام بعدد لا تجوز إقامة الجمعة بهم، وأراه ذهب في ذلك إلى ما روي في تفسير قول الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] من أنه لم يبق مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ إلا اثنا عشر رجلا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل وكل ما يشترط في وجوب الصلوات الخمس من البلوغ والعقل وارتفاع دم الحيض والنفاس ودخول الوقت والإسلام على القول بأن الكفار ليسوا مخاطبين بشرائع الإسلام، فهو مشترط أيضا في وجوب صلاة الجمعة. وقد بينا ما يختص به وجوب صلاة الجمعة من الشرائط. وكل ما يشترط في صحة ما عدا الجمعة من الصلوات من النية والإحرام والتوجه إلى القبلة وما أشبه ذلك، فهو يشترط في صحة صلاة الجمعة أيضا، وهو فرائضها التي لا تصح إلا بها. وكل ما هو سنة وفضيلة فيما عدا الجمعة من الصلوات فهو سنة في صلاة الجمعة وفضيلة فيها.
وتختص الجمعة بسنن وفضائل تنفرد بها دون سائر الصلوات، منها الغسل، والطيب، والإنصات، وتعجيل الرواح، وترك التخطي، وما أشبه ذلك مما هو مذكور في أمهات الكتب، وبالله التوفيق لا شريك له.(1/224)
[كتاب الجنائز] [فصل في الإماتة والإحياء]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم
عونك اللهم لا شريك لك كتاب الجنائز فصل في الإماتة والإحياء قال الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] ، وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] ، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] ، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الحج: 66] ، وقال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] يريد تعالى أنه أحياهم في الدنيا بعد أن كانوا نطفا في أصلاب آبائهم وأجنة في بطون أمهاتهم، ثم أماتهم فيها ثم يحييهم الحياة الدائمة. وأما قول الله تبارك وتعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] فإنها آية اختلف أهل العلم في تأويلها، فقيل: إن معناها كمعنى الآيتين المتقدمتين، وإن قوله فيها أمتنا بمعنى: جعلتنا أمواتا فهما موتتان وحياتان، الموتة الأولى لم تتقدمها حياة، والحياة الآخرة لا يكن بعدها موت، وقيل: إن قوله في هذه الآية أمتنا اثنتين يدل(1/225)
على أنهما موتتان تقدمت كل موتة منها حياة. واختلف الذين ذهبوا إلى هذا في هاتين الإماتتين، فمنهم من ذهب إلى أن الإماتة الأولى إذ أحياهم من ظهر آدم فأخذ عليهم الميثاق، والثانية إماتتهم في الدنيا بعد أن أحياهم فيها. ومنهم من ذهب، وهم الأكثر، إلى أن الإماتة الأولى إماتتهم في الدنيا بعد أن أحياهم فيها، والثانية إماتتهم في القبور بعد أن أحياهم فيها لمسألة منكر ونكير، وهذا أظهر الأقاويل وأولاها بالصواب، والله أعلم.
فصل وهذان التأويلان يقتضيان أن الإحياء أربع مرات: أولها الإحياء من صلب آدم، ثم الإحياء في الدنيا، ثم الإحياء في القبور، ثم الإحياء في الآخرة الحياة الدائمة، وهذا لا يرده قول الله تعالى وأحييتنا اثنتين؛ لأن من أحيا أربع مرات فقد أحيا مرتين [والإخبار بالإحياء مرتين] ليس بناف للزيادة عليهما. وكذلك قوله في هذه الآية أمتنا اثنتين ليس بناف لقوله وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إنما هو زيادة بيان.
فصل وقال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] فقال: رسلنا بلفظ الجماعة، وقد علم أن ملك الموت واحد لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] فالمعنى في ذلك على ما روي عن جماعة من السلف أن الله تبارك وتعالى أعان ملك الموت بأعوان من عنده فيسلون الروح من الجسد حتى إذا كان عند خروجه قبضه ملك الموت.(1/226)
وجعل الله تعالى له الأرض كالطست بين يديه يتناول منها حيث يشاء. وقد قيل: إن ملك الموت له أعوان يتولون قبض الأرواح بأمره ثم يلي هو قبضها منهم، فيرفع روح المؤمن إلى ملائكة الرحمة وروح الكافر إلا ملائكة العذاب، فيكون فعل أعوان ملك الموت مضافا إلى ملك الموت، كما يقال قتل السلطان وجلد وكتب وإن لم يفعل ذلك بيده وإنما فعله أعوان بأمره، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله.
فصل فملك الموت يقبض أرواح كل حي في البر والبحر وذهب أهل الاعتزال إلى أن ملك الموت يقبض أرواح بني آدم، وأن أعوانه يقبضون أرواح البهائم، وهذا تحكم بغير دليل ولا برهان، إذ لا يصح أن يقال هذا إلا بتوقيف ممن يصح له التسليم، فإذا عدمنا ذلك صح ما ذهب إليه أهل السنة؛ لأن الله تبارك وتعالى قد نص على أن ملك الموت يقبض أرواح بني آدم، وقام الدليل من قَوْله تَعَالَى ملك الموت على أنه يقبض روح كل حي من الجن والإنس وغيرهم؛ لأن الموت اسم عام مستغرق للجنس، فلا يصح أن يخصص في بعض أنواع الحيوان دون بعض إلا بدليل.
فصل وليس ينافي شيء من هذا قول الله تبارك وتعالى. {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60] ، وقول الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] ؛ لأن ملك الموت وإن كان قابض الأرواح ومتوفي الأنفس بإذن ربه، فالقابض على الحقيقة والمتوفي هو الله رب العالمين المحيي المميت خالق الموت والحياة، وإنما لملك الموت في ذلك الكسب بفعل ما قدره الله عليه مما أجرى الله العادة أن يخلق الموت عنده لا غير.(1/227)
فصل وكل ميت فبأجله يموت، مات حتف أنفه أو مات مقتولا. قال الله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] ، هذا قول أهل السنة. وذهبت القدرية مجوس هذه الأمة إلى أنه من قتل فلم يستوف أجله الذي كتب الله له وأنه مات قبل بلوغه، وهو كفر صريح بنوه على أصلهم الفاسد أن العباد خالقون لأفعالهم، فجعلوا موت المقتول من فعل القاتل. وقد أعلم الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن قائل هذا ومعتقده كافر بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] .
[فصل في تمييز الروح من النفس]
واختلف في الروح والنفس، فذهب ابن حبيب في الواضحة إلى أن النفس غير الروح، وأن الروح هو النفس المتردد في الإنسان، وأن النفس جسد مجسدة لها يدان ورجلان ورأس وعينان، وإنها هي التي تلذ وتفرح وتتألم وتحزن [وأنها هي التي تتوفى في المنام فتخرج وتسرح فترى الرؤيا فتسر بما تراه وتفرح به أو تتألم وتحزن] ، ويبقى الجسم دونها بالروح لا يلذ ولا يفرح ولا يتألم ولا يحزن ولا يعقل حتى تعود إليه النفس، فإن أمسكها الله تعالى ولم يرجعها إلى جسدها، تبعها الروح فصار معها شيئا واحدا، ومات الجسم، وإن أرسلها إلى أجل مسمى وهو أجل الوفاة حيي الجسم. واحتج لذلك كله بقوله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42](1/228)
، وحكى ذلك كله عن عبد الرحيم بن خالد. والذي وقع في العتبية عن عبد الرحيم بن خالد أن الروح هي الجسد المجسدة خلاف حكايته عنه.
فصل وقول ابن حبيب فيه نظر. والذي ذهب إليه أهل النظر وأكثر أهل العلم، أن الروح والنفس اسمان لشيء واحد، وكل واحد منهما قد يقع بانفراده على مسميات، فيقع الروح على الملك. قال الله عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] ، ويقع أيضا على القرآن. قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] ، ويقع أيضا على الحياة الموجودة في الإنسان وغيره من الحيوان. يقال: ما في فلان روح إذا مات وذهبت حياته، وفيه روح إذا كانت فيه حياة باقية. ويقع أيضا على النفس المتردد في الإنسان على ما ذهب إليه ابن حبيب. والنفس قد تقع على ذات الشيء وحقيقته. يقال: هذا نفس الأمر ونفس الطريق أي: حقيقته، ورأيت فلانا نفسه أي: ذاته حقيقة. ويقع أيضا على الدم يقال: سالت نفسه، وحيوان له نفس سائلة وليس له نفس سائلة. ويقع أيضا على الحياة الموجودة في الإنسان وغيره من الحيوان. يقال: ذهبت نفسه إذا مات ولم يبق فيه حياة.
فصل وما يسمى من هذه الأشياء روحا فلا يسمى نفسا، وما يسمى نفسا فلا يسمى روحا. فإذا عبر بالنفس والروح عن شيء واحد، فالمراد به ما يحيا به الجسم، وهو الذي يتوفاه ملك الموت ويقبضه فيدفعه إلى ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، وهي النسمة التي قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها: «إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر(1/229)
الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» . فالنفس والروح والنسمة شيء واحد. وقد يسمى الإنسان نسمة مجازا واتساعا.
فصل والدليل على أن الروح والنفس شيء واحد أن الله تبارك وتعالى قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذ نام عن الصلاة [في الوادي حتى طلعت الشمس] «إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا» ، فسمى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - روحا ما سماه الله تعالى في كتابه نفسا وما سماه هو أيضا في الحديث نفسا؛ لأنه قال فيه: «أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك» ، وهذا بين.
فصل وإنما قلنا إنه ما يحيا به الجسم ولم نقل إنه الحياة الموجودة بالجسم؛ لأن الحياة الموجودة به معنى من المعاني، والمعاني لا تقوم بأنفسها ولا يصح عليها ما وصف الله تبارك وتعالى به الأنفس والأرواح في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من القبض والإخراج والرجوع والطمأنينة والصعود والتنعيم والتعذيب. فمعنى قولنا ما يحيا به الجسم أي: ما أجرى الله تعالى العادة بأن يحيي الجسم بكونه ويميته بإخراجه منه؛ لأن ما يحيا به الجسم وجوبا لا عادة هي الحياة، ولا يصح أن تكون إلا معنى؛ لأن الجواهر لا توجب الأحكام في الأجسام.
فصل فإذا قلنا إن النفس والروح شيء واحد، وإنه هو الذي أخبر الله عز وجل في كتابه أنه يتوفاه عند الموت وعند النوم، فقد قال بعض المتقدمين: إن قبضه في حال(1/230)
النوم هو أن يقبض وله حبل ممدود إلى الجسم كشعاع الشمس، فإذا حرك الجسم رجع إليه الروح أسرع من طرف العين. وقد قال بعض العلماء: إن النوم آفة تعرض للروح وليس هذا بشيء. والأظهر في ذلك عندي أن قبضه في حال الوفاة هو بإخراجه من الجسم، وقبضه في النوم ليس بإخراج له من الجسم، وإنما معناه منعه من الميز والحس والإدراك وقبضه عن ذلك، كما يقال: قبض فلان عبده وقبض السلطان وزيره إذا منعه عما كان مطلقا عليه قبل وإن لم يزله عن مكانه في الحقيقة. والقبض على هذا والتوفي في الوفاة حقيقة، وفي حال النوم مجاز. والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله، قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] .
[فصل فيما يستحب عند الاحتضار]
ويستحب أن يلقن الميت عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله، فقد جاء أن «من كان آخر قوله شهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة» وأن يوجه إلى القبلة على شقه الأيمن كما يجعل في لحده وكما يصلي المريض الذي لا يقدر على الجلوس، فإن لم يمكن ذلك فعلى ظهره ورجلاه إلى القبلة. وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنه قال في التوجيه ما هو من الأمر القديم. وذلك نحو ما روي عن سعيد بن المسيب أنه أنكر ذلك على من فعله به عند مرضه. وتأول ابن حبيب أنه إنما كره ذلك لاستعجالهم به قبل أن تنزل به أسباب الموت. والأظهر أنه كرهه بكل حال. والذي يدل على أنه غير مشروع أن ذلك لم يرو أنه فعل بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا بأحد من الصحابة المتقدمين الكرام، ولو كان ذلك لنقل وذكر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويستحب أن يكون ما تحته وما حوله طاهرا إن أمكن ذلك، وأن يحضره أفضل أهله وأحسنهم هديا وكلاما، فإن الملائكة تحضره. فإذا قضى غمض عينيه ونظر في غسله وتجهيزه إلى قبره. فقد قال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عن النبي عليه الصلاة والسلام: «أسرعوا بجنائزكم فإنما هو خير تقدمونهم إليه أو شر تضعونه(1/231)
عن رقابكم» ، إلا الغريق فإنه يستحب أن يؤخر دفنه مخافة أن يكون الماء قد غمره فلم تتبين حياته.
[فصل فيما يتوجه على الأحياء في الميت من العبادات]
إذا مات الميت ارتفعت العبادات عنه ولذلك قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إن الميت إذا مات يحنط وإن كان محرما، وتوجهت على الأحياء فيه أمور. فالذي يتوجه فيه على الأحياء أربعة أشياء، وهو غسله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه. فأما غسله فإنه سنة مسنونة لجميع المسلمين حاشا الشهداء من المجاهدين، وشرعه الله في الأولين والآخرين. روي أن آدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما توفي أتي بحنوط وكفن من الجنة، ونزلت الملائكة فغسلوه وكفنوه في وتر من الثياب وحنطوه، وتقدم ملك منهم فصلى عليه، وصفت الملائكة خلفه، ثم أقبروه وألحدوه ونصبوا اللبن عليه، وابنه شيث معهم. فلما فرغوا قالوا له: هكذا فاصنع بولدك وأخوتك فإنها سنتكم.
فصل
إلا أنها سنة تخص وتعم، فتخص مال الميت وتتعين فيه إن كان له مال، فإن لم يكن له مال اختص غسله بمن يلزمه تكفينه، وتعين عليه أن يلي ذلك بنفسه أو يستأجر عليه من ماله، فإن لم يكن له من يلزمه ذلك من قرابته عم لزوم ذلك سائر الناس ولزمهم القيام به على الكفاية، وسيأتي الكلام على صفة فعله في موضعه من الكتاب إن شاء الله تعالى.
فصل وقد قيل: إن غسله واجب، قاله عبد الوهاب، واحتج من نص على ذلك بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «اغسلنها ثلاثا» ، وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم: " اغسلوه "؛ لأن الأمر على الوجوب. وليس ذلك بحجة ظاهرة؛ لأن أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/232)
بغسل ابنته خرج مخرج التعليم بصفة الغسل الذي قد كان قبل معلوما معمولا به، وكذلك أمره بغسل المحرم خرج مخرج التعليم بما يجوز أن يعمل بالمحرم من غسله وترك تحنيطه وتخمير رأسه، فالقول بأن الغسل سنة أظهر، وهو قول ابن أبي زيد.
فصل ومما يستحب فيه الوتر كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته: «اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور» . ويستحب أن تكون الغسلة الأولى بالماء القراح، والثانية [بالماء والسدر، والثالثة] بالماء والكافور. وقال ابن شعبان: ولو غسل بماء الورد لم يكره إلا من ناحية السرف، فقيل: إنه ليس بخلاف للمذهب بدليل قوله في الحديث بماء وسدر، وليس ذلك بظاهر؛ لاحتمال أن يريد أن يغسل بالماء والسدر دون أن يضاف السدر إلى الماء. والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل ويجزئ بغير نية، والأصل في ذلك أن كل ما يفعله الإنسان في غيره فلا يحتاج فيه إلى نية كغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب فيه، ولو قيل: إن ذلك يفتقر إلى نية لما بعد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل فإن ترك غسله استدرك ما لم يدفن، وقيل: ما لم يخش عليه التغير وإن دفن، وتعاد الصلاة عليه.
[فصل في وجوب تكفين الميت]
وكذلك تكفينه أيضا واجب، ويتعين في ماله من رأس المال إن كان له مال، ثم على من يلزمه ذلك من سيد إن كان عبدا باتفاق أو زوج أو أب أو ابن على اختلاف مذكور مسطور في الأمهات، ثم على جميع المسلمين على الكفاية.(1/233)
والذي يتعين منه تعين الفرض ستر العورة، وما زاد على ذلك فهو سنة. فإن تشاح الأولياء فيما يكفنونه به قضي عليهم أن يكفنوه في نحو ما كان يلبسه في الجمع والأعياد، إلا أن يوصي بأقل من ذلك فتتبع وصيته. وإن أوصى أن يكفن بسرف فقيل: إنه يبطل الزائد، وقيل: إنه يكون في الثلث. وما يستحب في صفة الكفن ويتقى منه مذكور في الأمهات فلا معنى لذكره.
[فصل في وجوب الصلاة على الميت]
وأما الصلاة عليه فقيل: إنها فرض على الكفاية كالجهاد يحمله من قام به، وهو قول ابن عبد الحكم. ودليله قول الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ؛ لأن في النهي عن الصلاة على المنافقين دليلا على الأمر بالصلاة على المسلمين، وهو دليل ضعيف، إذ قد اختلف في صريح الأمر هل هو محمول على الندب أو على الوجوب، فكيف إذا لم يثبت إلا بدليل الخطاب الذي قد اختلف في وجوب القول به. وقد قيل: إنها سنة على الكفاية، وهو قول أصبغ.
فصل ومن سنة الصلاة عليه أن تكون قبل أن يدفن، فإن دفن قبل أن يصلى عليه أخرج وصلي عليه ما لم يفت، فإن فات صلي عليه في قبره. وهو مذهب ابن القاسم وابن وهب، وقيل: إنه إن فات لم يصل عليه لئلا يكون ذريعة للصلاة على القبور، وهو مذهب أشهب وسحنون. واختلف بم يكون الفوت، فقيل: يفوت بأن يهال عليه التراب بعد نصب اللبن وإن لم يفرغ من دفنه، وما لم يهل عليه التراب وإن نصبت اللبن فإنه يخرج ويصلى عليه، وهو قول أشهب. وقيل: إنه لا يفوت إلا بالفراغ من الدفن، وهذا قول ابن وهب في سماع عيسى. وقيل: إنه لا يفوت وإن فرغ من دفنه، ويخرج ويصلى عليه ما لم يخش عليه التغير، وهو قول سحنون وعيسى بن دينار وروايته عن ابن القاسم في سماعه. وإنما يصلى عليه في القبر ما لم [يطل حتى] يغلب على الظن أنه قد فني ببلى أو غيره. وقال أبو حنيفة: لا(1/234)
يصلى على قبر بعد ثلاث، قالوا: لأنه بعد ثلاث يخرج من حد من يصلى عليه. والمعلوم خلاف ذلك مع ما قد روي «عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه صلى على قبر بعد ثلاث» .
[فصل في ترتيب الجنائز للصلاة عليها]
ومن سنة الصلاة على الجنائز إذا اجتمعت جنائز الرجال والنساء والأحرار والعبيد والصغار والكبار، أن يقدم الأحرار على العبيد صغارا كانوا أو كبارا، والذكور على الإناث صغارا كانوا أو كبارا، ولا يقدم الكبار على الصغار إلا إذا استوت مرتبتهم في الحرية والرق، وفي الذكورة والأنوثة.
فصل فصفة ترتيبهم على مراتبهم وهي اثنتا عشرة مرتبة إذا اجتمعوا أن يقدم إلى الأمام أعلى المراتب وهم الرجال الأحرار البالغون، فإن تفاضلوا في العلم والفضل والسن قدم إلى الأمام أعلمهم ثم أفضلهم ثم أسنهم، وقيل: إنه يقدم الأفضل على الأعلم، وهو بعيد؛ لأن فضيلة العلم مزية يقطع عليها وزيادة الفضل مزية لا يقطع عليها، ثم الصبيان الأحرار. فإن تفاضلوا أيضا في حفظ القرآن ومعرفة شيء من أمور الدين والمحافظة على الصلوات وفعل الطاعات وفي السن، قدم ذو المعرفة منهم على الذي عرف بالمحافظة على الصلوات وفعل الطاعات ثم الأسن. فإن لم يكن لأحدهم على صاحبه مزية إلا السن قدم الأسن على المسن. ثم العبيد الكبار، فإن تفاضلوا أيضا في العلم والفضل والسن فعلى ما تقدم في الأحرار. ثم العبيد الصغار فإن تفاضلوا أيضا فيما بينهم فعلى ما تقدم في الأحرار الصغار. وهذا على ما أصلناه فوق هذا من تقديم الأحرار على العبيد صغارا كانوا أو كبارا، وهو قول ابن القاسم وابن أبي حازم، وإليه ذهب ابن حبيب وحكاه عمن لقي من أصحاب مالك. وقد روي عن ابن القاسم أنه قدم العبيد الكبار على الأحرار الصغار؛ لأن العبد الكبير يؤم ولا يؤم الحر الصغير. ووجه القول الأول أن نقيصة العبودية أثبت من نقيصة الصغر؛ لأن الصغير يبلغ على كل حال مع حياته والعبد قد لا يعتق. ثم الخنائي المشكلون الأحرار الكبار ثم الخنائي المشكلون الأحرار(1/235)
الصغار ثم الخنائي العبيد [الكبار ثم الخنائي العبيد] الصغار، ثم النساء الأحرار الكبار، ثم النساء الأحرار الصغار، ثم الإماء الكبار، ثم الإماء الصغار.
[فصل في صفة الصلاة على الجنائز]
وصلاة الجنائز أربع تكبيرات عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه. تنزل التكبيرة فيها منزلة الركعة في الصلاة، والدعاء فيها بمنزلة القراءة في الصلاة. من شرط صحتها الإمامة كصلاة الجمعة، فإن صلي عليها بغير إمام أعيدت الصلاة ما لم يفت ذلك.
[فصل في وجوب دفن الميت]
وأما دفنه فإنه واجب، قال الله عز وجل في ابني آدم: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ - فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 30 - 31] {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} [المائدة: 32] ، وروي أنه حمله على عنقه سنة يدور به لا يدري ما يصنع إلى أن بعث الله الغراب منبها له على دفنه ففعل ذلك، وكانت سنة له ولمن بعده إلى يوم القيامة أنعم الله بها على عباده، وعدد النعمة بها عليهم في غير ما آية من كتابه، فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] ، وقال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22] ، وقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] ، وهو أيضا من فروض الكفاية يحمله من قام به من الناس، ويجري مجرى الكفن في كون الاستئجار عليه من رأس المال، والحكم به إن لم يكن له مال على من يحكم عليه بالتكفين، وبالله التوفيق.(1/236)
[كتاب الصيام] [فصل في معرفة اشتقاق الصيام]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كتاب الصيام فصل في معرفة اشتقاق الصيام الصيام في اللغة هو الإمساك والكف والترك، فمن أمسك عن شيء وتركه وكف عنه فهو صائم عنه. قال الله عز وجل: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] وهو الإمساك عن الكلام والكف عنه. قال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
ومنه قول امرئ القيس:
فدع ذا وسل الهم عنك بحسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا
معناه إذا انتصف النهار وقام قائم الظهيرة؛ لأن الشمس إذا كانت في وسط السماء نصف النهار فكأنها واقفة غير متحركة لإبطاء مشيها. والعرب قد تسمي الشيء باسم ما قرب منه.
فصل والصيام في الشرع هو أيضا إمساك على ما هو عليه في اللغة غير منقول عنها إلى اسم غير لغوي، إلا أنه في الشرع إمساك عن أشياء مخصوصة في أزمان معلومة على وجوه مخصوصة، فهو إمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، مع اقتران النيات به على اقتران وجوهها من فرض واجب(1/237)
أو تطوع غير لازم أو كفارة يمين أو غيره، فمتى انخرم وجه من هذه الوجوه لم يكن صائما شرعا، وإن صح أن يسمى صائما في اللغة على ما قدمناه.
[فصل الصيام الشرعي ينقسم على وجهين]
فصل والصيام الشرعي ينقسم على وجهين واجب وتطوع. فالواجب ينقسم أيضا على قسمين: واجب بالنص، وواجب بالشرع.
فالواجب بالنص: هو الذي نص الله تعالى على وجوبه، وهو ينقسم على قسمين أيضا: واجب تعبد الله به عباده لغير علة، وواجب تعبدهم به لعلة. فالواجب الذي تعبدهم به لغير علة هو صيام شهر رمضان. والواجب الذي تعبدهم به لعلة هو صيام كفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة اليمين وقضاء رمضان.
فصل والواجب بالشرع هو ما أوجبه العبد على نفسه بالنذر أو باليمين فوجب عليه لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، ويقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» . وهو أيضا على قسمين: معين بوقت مثل قول: لله علي أن أصوم يوم كذا أو شهر كذا أو سنة كذا وما أشبه ذلك، [وثابت في الذمة غير معين بوقت، مثل قوله لله علي أن أصوم شهرا أو يوما أو سنة وما أشبه ذلك] ، فالمعين يوافق رمضان في وجوب صيامه ووجوب قضائه على من أفطره متعمدا في حضر أو سفر، ويفارقه في وجوب الكفارة على من أفطره متعمدا، وفي وجوب قضائه على من أفطره من عذر من مرض أو حيض إلا على رواية ابن وهب عن مالك الواقعة في بعض روايات المدونة بإيجاب القضاء، والإغلاظ في ذلك، وعلى من أفطره ناسيا على قول سحنون خلافا لابن القاسم. والثابت في الذمة الذي هو غير معين بوقت إن نواه متتابعا أشبه صيام كفارة القتل(1/238)
وكفارة الظهار في جميع وجوهه، وإن نواه متفرقا أشبه قضاء رمضان في جميع وجوهه.
فصل أما التطوع فهو ما عدا الواجب فيما عدا شهر رمضان وأيام التشريق ويوم النحر ويوم الفطر من سائر أيام السنة، وبعضها أفضل من بعض، على ما نذكره إن شاء الله.
فصل وصيام شهر رمضان واجب على الأعيان، أوجبه الله تعالى في كتابه وافترضه على عباده، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وقال عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، وقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» .
فصل وهو يتحتم بستة أوصاف، وهي: البلوغ، والإسلام، والعقل، والصحة، والإقامة، والطهارة من دم الحيض والنفاس. وهذه الستة الأوصاف تنقسم على أربعة أقسام:
منها ما يشترط في وجوب الصيام وفي صحة فعله وفي وجوب قضائه، وهو(1/239)
الإسلام؛ لأن الكافر لا يجب عليه الصيام ولا يصح منه إن فعله، ولا يجب عليه قضاؤه إذا أسلم؛ لقول الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وإنما استحب له مالك قضاء اليوم الذي أسلم في بعضه والإمساك في بقيته عن الأكل مراعاة لقول من يرى أنه مخاطب بالصيام في حال كفره. ومنها ما هو شرط في وجوب الصيام لا في جواز فعله ولا في وجوب قضائه، وهما الإقامة، والصحة. لأن المسافر والمريض مخاطبان بالصوم مخيران بينه وبين غيره. وقد قيل: إنهما غير مخاطبين بالصوم، وهو بعيد، إذ لو لم يكونا مخاطبين بالصوم لما أثيبا على صومهما ولما أجزأهما فعله.
ومنها ما هو شرط في وجوب الصيام وفي صحة فعله لا في وجوب قضائه، وهما العقل والطهارة من دم الحيض والنفاس؛ لأن الصيام لا يجب عليهما ولا يصح منهما، والقضاء واجب عليهما. وقد قيل في المجنون: إنه لا يجب عليه القضاء فيما كثر من السنين واختلف في حدها. وهما في حال الجنون والحيض غير مخاطبين بالصوم، وقد قيل في الحائض: إنها مخاطبة بالصوم ومن أجل ذلك وجب عليها القضاء، وهو بعيد، إذ لو كانت مخاطبة به لأثيبت عليه ولأجزأ عنها. وإنما وجب عليها القضاء بأمر آخر وهو قوله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] .
ومنها ما هو شرط في وجوبه ووجوب قضائه لا في صحة فعله، وهو البلوغ؛ لأن الصغير لا يجب عليه الصيام ولا يجب عليه القضاء، ويصح منه الصيام. وقد اختلف هل هو مأمور به قبل البلوغ على طريق الندب أم لا على قولين، وبالله التوفيق.
فصل وما عدا شهر رمضان من الأيام فصيامه تطوع حاشا يوم النحر ويوم الفطر وأيام منى. فأما يوم الفطر ويوم النحر فلا يحل صيامهما لأحد، وأما اليومان الأولان من أيام منى فلا يصومهما إلا المتمتع الذي لا يجد هديا أو من كان في معناه في(1/240)
المشهور من المذهب. وأما اليوم الرابع فيصومه من نذره، أو من كان في صيام متتابع.
فصل فأيام السنة تنقسم في الصيام على ستة أقسام:
منها ما يجب صومه ولا يحل فطره إلا بعدم وصف من الأوصاف الستة، وهو شهر رمضان.
ومنها ما يجب فطره ولا يحل صومه، وهو يوم النحر ويوم الفطر.
ومنها ما يجوز صومه على وجه ما، وهما اليومان اللذان بعد يوم النحر.
ومنها ما يكره صومه، وهو اليوم الرابع من أيام التشريق.
ومنها ما يجوز صومه وفطره، وهو ما لم يرد في صومه ترغيب مما عدا شهر رمضان ويوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق.
ومنها ما يستحب صومه، وهو ما ورد فيه ترغيب. من ذلك ما روي أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينما هو جالس مع أصحابه إذ أقبل رجل من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، وهو حمام بن ثعلبة السعدي، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فأخبره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشرائع الإسلام، فقال: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرهن، قال: لا إلا أن تطوع. قال: وصيام شهر رمضان، قال: هل علي غيره، قال: لا إلا أن تطوع. قال: وذكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة، فقال: هل علي غيرها، فقال: لا إلا أن تطوع، فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أفلح إن صدق» . وفي قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلا أن تطوع ندب منه إلى التطوع بالصيام في غير رمضان وحض عليه.
فصل فالتطوع بالصيام من نوافل الخير المرغب فيها المندوب إليها. روي عن(1/241)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك، إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلى، الصيام لي وأنا أجزي به، كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به» .
فصل وفضائل الصيام كثيرة، وأفضل الأيام للصيام بعد رمضان يوم عاشوراء. وقد كان هو الفرض قبل أن يكتب رمضان، وقد خص لفضله بما لم يخص به غيره من أن يصومه من لم يبيت صيامه ومن لم يعلم به حتى أكل أو شرب. وقد قيل: إن ذلك إنما كان حين كان صومه فرضا. وروي أن صيامه يكفر سنة، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتحر بصيامه يوما بعينه إلا يوم عاشوراء. وقد اختلف فيه فقيل: هو العاشر، وقيل: هو التاسع. فمن أراد أن يتحراه صام التاسع والعاشر. وقد كان ابن شهاب يصومه في السفر ويأمر بفطر رمضان، فقيل له في ذلك فقال: رمضان فيه عدة من أيام أخر، وهذا يفوت.
وصيام عشر ذي الحجة ومنى وعرفة مرغب فيه، قيل في قول الله عز وجل: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] : إنها عشر ذي الحجة، وفي الشفع والوتر: إن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة. وقيل في شاهد ومشهود: إن شاهدا يوم الجمعة ومشهودا يوم عرفة. وروي أن صوم يوم عرفة كصيام سنتين، وأن صيام يوم منى كصوم سنة، وأن صوم يوم من سائر أيام العشر كصيام شهر، وهذا في غير الحج. وأما في الحج ففطر يوم عرفة أفضل من صومه. وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه مفطرا. وصيام الأشهر الحرم أفضل من غيرها، وهي أربعة: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. وفي الأشهر الحرم أيام هي أفضل من سائرها. وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم حتى نقول لا(1/242)
يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيته استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته أكثر صوما منه في شعبان» . ففي هذا دليل على فضل صيام شعبان، وأنه أفضل من صيام سواه. «وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم الاثنين والخميس، وقال: " إن الأعمال تعرض على الله فيهما، فأنا أحب أن يعرض عملي على الله وأنا صائم» فصيامهما مستحب. وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله» ، فكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذلك مخافة أن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء. وأما للرجل في خاصة نفسه فلا يكره له صيامها. وكذلك كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن يتعمد صيام الأيام الغر، وهي يوم ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر على ما روي فيها، مخافة أن يجعل صيامها واجبا. وروي أن صيام الأيام البيض هو أول يوم ويوم عشر ويوم عشرين صيام الدهر، وأن ذلك كان صوم مالك بن أنس - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. ولم ير مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - النهي الذي جاء في صيام يوم الجمعة منفردا لا يصوم قبله ولا بعده، وقال: لا بأس بصيامه منفردا وأن يتحرى ذلك. وذكر أن بعض أهل الفضل كان يتحرى صيامه، ولا بأس بصيام الدهر إذا أفطر الأيام التي نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامها. وقد كره بعض أهل العلم صيام الدهر؛ لحديث أبي قتادة عن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه سئل عن صيام الدهر، فقال: من فعل ذلك فلا صام ولا أفطر، أحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما» وهذا والله أعلم لما خشي عليه من السآمة والملل. وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لا يمل حتى تملوا اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة» إذ قيل له في الحولاء بنت تويت: إنها لا تنام(1/243)
ليلا وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه» .
[فصل في شروط صحة الصيام]
فصل ومن شروط صحة الصيام وفرائضه النية، فلا يجزئ صوم بغير نية؛ للنص الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بقوله: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» ، ولعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإنما لكل امرئ ما نوى» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ، والصيام عمل من الأعمال؛ لأنه من أعمال القلوب فوجب أن لا يجزئ بغير نية؛ لقول الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] ، والصيام من الدين فوجب أن تخلص العبادة لله تعالى به. والذي يلزم من النية في صيام رمضان اعتقاد القربة إلى الله تعالى بأداء ما افترض الله عليه من استغراق طرفي النهار بالإمساك عن الطعام والشراب والجماع.
فصل وإنما افتقر الصيام إلى النية، وإن لم يكن فعلا مأمورا به من أفعال الأبدان، وإنما هو إمساك عن فعل وهو ترك، والتروك في الشرع لا تفتقر إلى نية؛ لأنه ترك مختص بزمن معلوم فإنه يفتقر إلى النية، بخلاف ما كان منها لا يختص بزمن معلوم كترك الزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك. وقد أطلق القول جماعة من أهل اللغة أن الصيام ليس بعمل، وإلى هذا ذهب الطحاوي وقال فيما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال حكاية عن ربه: «كل عمل ابن آدم فهو له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به» ، إنه استثناء منفصل بمعنى لكن، والصواب ما ذكرناه.(1/244)
فصل وإنما افتقر الترك المختص بزمن معلوم إلى النية، بخلاف الترك الذي لا يختص بزمن معلوم؛ لأن الترك على كل حال عمل من أعمال القلوب، بدليل تناول الأمر له. ألا ترى أنك تقول اترك كذا كما تقول اعمل كذا. فإذا اختص بزمن معلوم تعين أوله وآخره وجبت النية عند أوله كسائر العبادات؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» . لأن معنى النية إخلاص العمل لله، إذ قد يصح أن يفعل لغير الله. ألا ترى أنه قد يصح أن ينوي الصيام لمنفعة نفسه تطببا فلا يثاب عليه، إذ لم يصم لله وإنما صام لنفسه، فكان صائما لعلة لا شرعا. وإذا لم يختص الترك بزمن معلوم لم يتعين أوله من آخره فسقطت النية فيه، إذ لم يتعين لها وقت يختص به، وسقط الجزاء عليه أيضا فكان معاقبا على الفعل غير مأجور على الترك.
فصل ويصح إيقاع نية الصيام قبل ابتدائه والتشبث به بإجماع؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» ، من غير أن يخص أوله من آخره، قيل: بخلاف الصلاة، من جهة أن إيقاع نية الصوم مع طلوع الفجر معا في حالة واحدة عسير، فلو كلف ذلك الناس لكان من الحرج في الدين، والله تعالى قد رفعه عن عباده بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وليس ذلك بفرق بين الموضعين، إذ لو كانت النية في الصيام قبل الفجر كالعدم، لوجب إيقاعها مع الفجر معا، وإن في ذلك مشقة إذ لا ينفع عمل بغير نية، فلا يمتنع عندي قياس الصلاة على الصيام في جواز تقدم النية قبل ابتداء الصلاة على وجه القياس؛ لأن جواز ذلك في الصيام إجماع من أهل العلم، وفيه سنة قائمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فهذا أصل يجب أن ترد إليه الصلاة المختلف فيها كما رد إليه الغسل والوضوء، فيجوز فيها من تقدم النية قبل ابتدائها ما جوز في الغسل والوضوء قياسا على الصيام.(1/245)
فصل ورمضان كله كيوم واحد إذ لا يتخلله وقت فطر يصح صومه، فتجزئ فيه نية واحدة في أوله، ويكون حكم النية باقيا مستصحبا لا يحتاج إلى تجديد النية عند كل يوم، كالصلاة التي يلزمه إحضار النية لها عند أولها، ولا يلزمه تجديدها عند كل ركن من أركانها. وكذلك من شأنه سرد الصيام ومن نذر صوما متتابعا لا يحتاج إلى تبييته كل ليلة. وكذلك من نذر صوم يوم معين من الجمعة يجزئه ما تقدم من نيته ولا يحتاج إلى تجديد النية ليلة ذلك اليوم. وقد قال ابن الماجشون في الواضحة: إن أهل البلد إذا عمهم علم رؤية الهلال بالرؤية أو بالشهادة عند حكم الموضع فذلك يجزئ من لم يعلم وإن لم يبيت الصيام. وكذلك الغافل والمجنون فكأنه رأى لما تعين صوم اليوم أجزأه ما تقدم من نيته لصيام رمضان كناذر يوم من أيام الجمعة معين. وعلى هذا لا يحتاج إلى أن يفرق بين أن يعمهم علم الرؤية أو لا يعمهم. وقال سحنون: لا يجزئه إلا أن يعلم ويبيت. وقد اختلف من هذا المعنى في المرأة تحيض في رمضان ثم تطهر، هل عليها تجديد نية الصيام أم لا على قولين: أحدهما: أن النية الأولى تجزئها؛ لأن أيام الحيض لا يصلح لها صومها فأشبهت الليل، والثاني: أن تجديد النية يلزمها لتخلل صومها الفطر.
فصل وقَوْله تَعَالَى في شهر رمضان: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] منسوخ، نسخه قول الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] .
فصل وكان في أول الإسلام من شاء أن يصوم صام ومن شاء أن يفطر أفطر وأطعم(1/246)
عن كل يوم مسكينا على ما ورد في هذه الآية، فنسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، وهذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه. وقد قيل: إن الآية محكمة وردت في الشيخ الكبير والعجوز والمرضع والحامل. وروي ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - في رواية، وروي عنه وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنهما قرءا وعلى الذين يطوقونه. ومعنى هذه القراءة يكلفونه فلا يطيقونه إلا بجهد ومشقة. وقد وردت الآية عامة في هؤلاء وفي الصحيح المقيم، فنسخ من ذلك الصحيح المقيم بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وبقيت الآية محكمة في المذكورين.
فصل والمريض الذي يصح له الفطر هو الذي لا يقدر على الصيام أو يقدر عليه بجهد ومشقة من أجل مرضه، فاختلف إذا قدر على الصيام بغير جهد ولا مشقة تلحقه من أجل مرضه إلا أنه يخشى أن يزيده الصيام في مرضه، فقيل: إن الفطر له جائز، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في العتبية. وقيل: إن ذلك لا يجوز له؛ لأن الصوم عليه واجب لقدرته عليه وما يخشى من زيادة مرضه أمر لا يستيقنه، فلا يترك فريضة بشك. والأول أصح، وقد قيل: إن المريض له أن يفطر بكل حال إذا كان يسمى مريضا بظاهر قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] ، روي عن طريف بن تمام العطاردي أنه دخل على محمد بن سيرين وهو يأكل في رمضان فلم يسأله، فلما فرغ قال له: إنه وجعت إصبعي هذه. والأولى في هذا أن المرض الذي أذن الله بالإفطار معه، هو المرض الذي يجهد الصائم الصيام معه جهدا غير محتمل، أو يخشى زيادة المرض به.
فصل وقد كان في أول الإسلام من نام من الليل قبل أن يطعم لم يأكل ولا جامع بقية ليلته ويومه حتى يمسي، على ما كان عليه أهل الكتاب لقول الله عز وجل:(1/247)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ} [البقرة: 183] ، وهم أهل الكتاب، وقيل: الناس كلهم، وقيل: إن النصارى كتب عليهم صيام شهر رمضان على أن لا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا النساء بعد النوم، فاشتد عليهم ذلك حين كان يغلب عليهم ذلك في الشتاء والصيف، [فلما رأوا ذلك اجتمعوا، فجعلوه في الفصل بين الشتاء والصيف] ، وقالوا: نزيد عشرين يوما نكفر بها ما صنعنا، فجعلوا صيامهم خمسين يوما، فلم يزل المسلمون على ذلك حتى نسخه الله بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الآية، واختلف في سبب نزول هذه الآية الناسخة لما تقدم مما كان الأمر عليه، فقيل: كان سبب ذلك أن «قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، فلما حضر الفطر أتى إلى امرأته، فقال لها: أعندك طعام، فقالت: لا، ولكن انطلق فاطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عينه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت له: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فنزلت هذه الآية ففرحوا بها فرحا شديدا» . وقيل: كان سبب ذلك «أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أراد امرأته، فقالت له: قد نمت، فظن أنها تعتل فلم يصدقها، وواقعها، ثم ندم فبات يتقلب بطنا وظهرا، فأنزل الله تعالى الآية فنسخت ما كانوا عليه» .
فصل ومعنى قول الله عز وجل: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، هو بياض النهار المعترض في الأفق الشرقي من سواد الليل. وروي «عن عدي بن حاتم أنه قال: لما نزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] عمدت إلى عقالين أبيض(1/248)
وأسود فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر إليهما فلا يستبين لي، فغدوت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت ذلك له، فقال: " إن وسادك إذا لعريض، إنما ذلك سواد الليل من بياض النهار» . وقد كان، على ما روي، رجال إذا أرادوا الصيام ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار.
فصل والفجر فجران: فالأول: هو الذي يسمى الكاذب، وهو البياض المرتفع في الأفق ويشبه بذنب السرحان؛ لارتفاع ضوئه، لا يحل الصلاة ولا يحرم الطعام. والفجر الثاني: الصادق، هو المعترض في الأفق آخذا من القبلة إلى دبر القبلة من شعاع الشمس وضوئها، وهو الذي يعتبر به في تحريم الطعام وتحليل الصلاة. وقد اختلف إذا شك في الفجر هل يأكل أم لا، فقال مالك: إذا شك في الفجر فلا يأكل، فإن أكل فعليه القضاء. وقال ابن حبيب: استحبابا، وقال جماعة من أهل العلم وهو مذهب ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنه يأكل ما شك في الفجر حتى يتبين له، على ظاهر قول الله تبارك وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، وأما من شك في غروب الشمس فلا يأكل باتفاق، وإن أكل فعليه القضاء والكفارة؛ لقول الله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ، ومن جهة المعنى أن الأكل بالليل مباح فلا يمتنع منه إلا بيقين وهو تبين الفجر، والأكل بالنهار في رمضان محظور، فلا يستباح إلا بيقين وهو تبين غروب الشمس. وهذه المسألة انفرد باتفاقها أبو عبيد الطليطلي في مختصره. وقوله في الظهار من المدونة فيمن ظن أن الشمس قد غابت فأفطر ثم طلعت الشمس: إن عليه القضاء ولا كفارة عليه، معناه أيقن(1/249)
بغروبها، والظن قد يكون بمعنى اليقين. قال الله عز وجل: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53] يريد أيقنوا، {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ} [التوبة: 118] معناه أيقنوا، ومن الناس من حمل الظن في مسألة المدونة على بابه من الشك، فتأول أن مذهب مالك في المدونة المساواة بين الفجر والغروب [في أنه لا كفارة في الأكل مع الشك فيهما، وهو بعيد، وإلى المساواة بين الفجر والغروب] في إسقاط الكفارة عمن أكل شاكا فيهما ذهب ابن القصار وعبد الوهاب، وهو بعيد في الغروب مع ألا يغلب على ظنه أحد الطرفين. فلعلهما أرادا بالمساواة بينهما إذا أكل شاكا فيهما والأغلب على ظنه أن الفجر لم يطلع وأن الشمس قد غابت، فيكون لقولهما وجه؛ لأن الحكم بغلبة الظن أصل في الشرع.
[فصل فيما يثبت به صوم رمضان]
فصل ولا يجب صيام شهر رمضان إلا برؤية الهلال أو إكمال شعبان ثلاثين يوما، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له» ، وقال في حديث ابن عباس: «فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم أفطروا» ، أدخله مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موطئه بعد حديث ابن عمر على طريق التفسير له؛ لأن أهل العلم اختلفوا في معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاقدروا له، فروي عن ابن عمر أنه كان إذا كانت السماء صاحية أصبح مفطرا، وإن كان مغيمة أصبح صائما، فكان يتأول قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك. وقد قيل: إن معنى قوله فاقدروا له من التقدير، أن يقدر لمنازل القمر وطريق الحساب. فروي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير أنه كان يقول يعتبر الهلال إذا غم بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب. وروي مثل ذلك عن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في رواية. والمعروف له المشهور عنه أنه لا يصام إلا برؤية فاشية أو شهادة عادلة كالذي عليه الجمهور. والصواب ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - من تفسير حديث ابن عمر بحديث ابن عباس؛ لأن التقدير يكون بمعنى التمام. قال الله عز(1/250)
وجل: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] أي: تماما. وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب الجامع.
فصل ورؤية الهلال تكون على وجهين: رؤية عامة، ورؤية خاصة. فالرؤية العامة أن يراه العدد الكثير والجم الغفير الذين لا يجوز عليهم التواطؤ ولا التشاعر من غير أن يشترط في صفتهم ما يشترط في صفة الشاهد من الحرية والبلوغ والعدالة. والرؤية الخاصة هو أن يراه النفر اليسير.
فصل فإذا رآه النفر اليسير فلا يخلو أن يكون ذلك في الصحو أو في الغيم. فإن كان ذلك في الغيم فلا خلاف في إجازة شهادة شاهدين في ذلك، وأما إن كان ذلك في الصحو، فقيل: إن شهادة شاهدين جائزة في ذلك، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل: إنها لا تجوز وهو قول أبي حنيفة ومعنى ما في سماع عيسى من كتاب الحبس وقول سحنون؛ لأنه روي عنه أنه قال: وأي رؤية أكثر من هذه؟!.
فصل وهذه الرؤية الخاصة تختص بالحكام. فإذا ثبت عند الإمام رؤية الهلال بشهادة شاهدين عدلين أمر الناس بالصيام أو الفطر وحمل الناس عليه.
فصل فإن شهد عنده شاهد على هلال شعبان وشاهد على هلال رمضان، فقد قال يحيى بن عمر: لا تجوز الشهادة، وقال غيره من أهل العلم: تجوز، ومعنى ذلك إذا شهد الشاهد على هلال رمضان أنه رآه بعد ثلاثين يوما من رؤية الشاهد على هلال شعبان إذ ليس في شهادة الشاهد الثاني تصديق الشاهد الأول. وأما لو رآه الشاهد(1/251)
الثاني بعد تسعة وعشرين يوما من رؤية الأول لوجب أن تجوز شهادتهما؛ لأن الشاهد الثاني يصدق الشاهد الأول، إذ لا يصح أن يصدق الشاهد الثاني إلا والأول صادق في شهادته، يريد فيصام للتمام من رؤيته. قال: وهو معنى خفي.
قلت: وليس هو عندي بينا في المعنى؛ لأنه كما يصدق ها هنا الشاهد الثاني للشاهد الأول من أجل أنه لا يمكن أن يرى الهلال ليلة تسع وعشرين، فكذلك يصدق في المسألة الأولى الشاهد الأول للشاهد الثاني من أجل أنه لا بد أن يرى ليلة أحد وثلاثين. فالصحيح عندي أن لا فرق بين المسألتين، وأنهما جميعا يتخرجان على قولين؛ لأنهما جميعا متفقان على إيجاب الصيام للتمام من رؤية الأول وإن اختلفا فيما قد شهدا به، إذ قد اختلف الشاهدان في شهادتهما واتفقا فيما يوجبه الحكم فالمشهور أن لا تجوز.
فصل فإذا رأى الهلال الجم الغفير أو ثبت عند الإمام بشهادة شاهدين فأمر بصيامه وجب الصيام على كل من بلغه ذلك بنقل الواحد العدل من باب قبول خبر الواحد لا من باب الشهادة، وذلك مروي عن أحمد بن ميسر قال: إذا أخبرك عدل أن الهلال ثبت عند الإمام وأمر بالصيام أو نقل ذلك إليك عن بلد آخر لزمك الصوم بإخباره من باب قبول خبر الواحد لا من طريق الشهادة. قال ابن أبي زيد: كما ينقل الرجل إلى أهله وولده فيلزمهم الصوم بقوله. وحكي عن أبي عمران أنه طعن في هذا وقال: لا يلزم الرجل الصيام في هذا بقول واحد؛ لأنه شاهد وليس ذلك كنقل الرجل إلى أهله وولده؛ لأنه القائم عليهم فيلزمهم الصيام بقوله. قال: وإنما الرواية عن ابن ميسر في الأصل قال: وإذا وجه القوم رجلا إلى بلد فأخبرهم أنهم رأوا الهلال لزمهم الصيام بقوله. قال: وهذا لا حجة فيه؛ لأنهم لما بعثوه لذلك صار كالمستكشف لهم ولزمهم الصيام بإخباره. وقول أبي عمران لا معنى له، ولا فرق أن يخبرهم دون أن يبعثوه أو بعد أن بعثوه أو يخبر بذلك أهله وولده.
فصل وإنما يفترق ذلك عندي فيما يحكم به الإمام، فإن الإمام إذا بعث رجلا إلى(1/252)
أهل بلد ليخبره إن كانوا رأوا الهلال، فأخبره أنهم صاموا برؤية مستفيضة أو بثبوت الهلال عند قاضيهم، وجب عليه أن يأمر الناس بالصيام لذلك اليوم بقوله، من باب قبول خبر الواحد، وإن أخبره بذلك من غير أن يرسله وجب عليه هو الصيام في خاصته، ولم يصح له أن يأمر الناس بالصيام حتى يشهد عنده بذلك شاهد آخر؛ لأنه حكم فلا يكون إلا بشهادة شاهدين.
فصل فصيام رمضان يجب بأحد خمسة أشياء: إما أن يرى هلاله. وإما أن يخبره الإمام أن قد ثبتت عنده رؤيته. وإما أن يخبره العدل عنه بذلك أو عن الناس أنهم رأوه رؤية عامة، وكذلك إن أخبره أن أهل بلد كذا صاموا يوم كذا برؤية عامة أو بثبوت رؤيته عند قاضيهم وجب عليه بذلك قضاء ذلك اليوم. وإما أن يخبره شاهدان عدلان أنهما قد رأياه. وإما أن يخبره بذلك شاهد واحد عدل في موضع ليس فيه إمام يتفقد أمر الهلال بالاهتمام به. ووجه ذلك أن الشهادة فيه لما تعذرت بعدم الحكم أو بتضييعه رجع إلى إثباته من جهة الخبر كما رجع إلى إثباته بالشهادة عند الحكم عند تعذر الرؤية العامة. وكما جاز قبول المؤذن العدل العارف بالفجر في طلوعه لتعذر الشهادة في ذلك عند الحكم إذ لا يلزمه طلب الشهادة في ذلك. والفرق بين وجوب ذلك عليه في الهلال دون الفجر أن الصيام يصح إيقاع النية فيه قبل الفجر، ولا يصح اعتقاد الصوم في أول يوم من رمضان قبل العلم باستهلال الهلال. ولا يلزم على هذا زوال الشمس لصلاة الظهر ولا غروب الشمس للفطر؛ لأنه يمكنه التأخير حتى يوقن بزوال الشمس أو بغروبها.
فصل فإن كان هذا الذي وصفاه في هلال شعبان، وأغمي هلال رمضان أتم شعبان ثلاثين يوما. وكذلك إن كان ذلك في هلال رجب وأغمي هلال شعبان ورمضان أكمل رجب وشعبان ثلاثين يوما ثلاثين يوما.(1/253)
[فصل فيما ينبغي للصائم]
فصل وينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الرفث والخنا والغيبة وقول الزور. روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم» .(1/254)
[كتاب الاعتكاف]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الاعتكاف الاعتكاف في كلام العرب هو الإقامة واللزوم. يقال منه اعتكف فلان بمكان كذا إذا أقام فيه ولازمه ولم يخرج عنه. وعكف فلان على فلان إذا أقام عليه ولزمه، ومنه قول الله عز وجل: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97] ، أي: مقيما وملازما، وقال عز وجل: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] ، أي: ملازمون، وقال: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] ، أي: يلازمونها ويقيمون على عبادتها. وهو في الشريعة الإقامة على ما هو عليه في اللغة إلا أنه في الشريعة الإقامة على عمل مخصوص دون ما سواه، في موضع مخصوص لا يتعداه، على شرائط قد أحكمتها السنة في ذلك.
فصل واختلف في العمل فقيل: إنه الصلاة وقراءة القرآن وذكر الله تعالى دون ما سوى ذلك من أعمال البر، وهو مذهب ابن القاسم؛ لأنه لا يجيز للمعتكف عيادة المرضى ولا مدارسة العلم ولا الصلاة على الجنائز وإن كان ذلك كله من أعمال البر، وقيل: إنه جميع أعمال البر المختصة بالآخرة، وهو مذهب ابن وهب؛ لأنه لا يرى بأسا للمعتكف بمدارسة العلم وعيادة المرضى، يريد في موضع معتكفه،(1/255)
وكذلك الصلاة على الجنائز على مذهبه إذا انتهى إليه زحام الناس الذين يصلون عليها. وإنما قلنا المختصة بالآخرة تحرزا من الحكم بين الناس والإصلاح بينهم.
فصل وأما الموضع فإنه المسجد. وقد اختلف هل يكون في كل مسجد أم في بعض المساجد دون بعض، فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في المشهور عنه أن الاعتكاف يصح في كل مسجد، وأنه لا بأس بالاعتكاف في مسجد لا تجمع فيه الجمعة، إذا كان ممن لا تلزمه الجمعة، أو بموضع لا يلزمه منه الإتيان إلى الجمعة، أو كان لا تدركه الجمعة باعتكافه؛ لظاهر قول الله عز وجل: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، إذ عمها ولم يخص منها شيئا دون شيء. وروى ابن عبد الحكم عنه أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد الجامع، وهو قول جماعة من السلف. وروي عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد بني كمسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومسجد إيلياء والبيت الحرام. والمرأة والرجل في ذلك سواء عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، خلاف قول أبي حنيفة وأصحابه أن المرأة لا تعتكف إلا في مسجد بيتها - واحتج من نصر قولهم بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها» ، وبحديث عائشة: «لو أدرك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعه نساء بني إسرائيل» قالوا: لا حجة لمن أجاز ذلك في إذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن أذن لهن من أزواجه أن يعتكفن معه؛ لأنه يحتمل أن يكون اتسع ذلك لهن بخلاف غيرهن، لكونه معهن بحق الزوجية أو لحرمتهن على جميع المسلمين سواه. وقد تسافر المرأة مع زوجها ومع ذوي محارمها الأسفار البعيدة وليس لهن أن يفعلن ذلك مع سواهم. والله الموفق للصواب. وذهب ابن لبابة إلى أن الاعتكاف يصح في غير مسجد، وأن ترك مباشرة(1/256)
النساء لا يلزم المعتكف إلا إذا اعتكف في مسجد على ظاهر ما في القرآن، وهو شذوذ من القول فتدبر ذلك.
فصل ومن شرائطه ترك مباشرة النساء. فمن جامع امرأته أو باشرها أو قبلها أو تلذذ بشيء من أمرها ناسيا أو متعمدا في ليل أو نهار بطل اعتكافه واستأنفه من أوله، لقول الله عز وجل: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، وكذلك إن كانت امرأة فجومعت في اعتكافها نائمة أو مكرهة بطل اعتكافها. وكذلك إذا أفطر متعمدا بطل اعتكافه واستأنفه نذرا كان أو تطوعا على مذهب مالك في المدونة، وإن كان ناسيا قضى ما أفطر ووصله باعتكافه في الوجهين. وقال ابن حبيب: لا يلزمه قضاء في التطوع.
فصل ومن شرائطه على مذهب مالك وأصحابه الصوم، فلا يكون اعتكاف إلا بصوم، لأن الله جل ذكره إنما ذكره مع الصيام فقال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، وأجاز الشافعي والمزني - رحمهما الله تعالى - الاعتكاف بغير صوم. واحتج من نصر مذهبهما بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية علي وابن عباس أنه قال: «ليس على المعتكف صوم إلا أن يوجبه على نفسه» وإلى هذا ذهب ابن لبابة فقال: لو لزم المعتكف الصيام وإن لم يرده لما جاز أن يعتكف في رمضان، كما لا يجوز لمن نذر اعتكافا بصوم أن يجعله في رمضان. وهذا لا يلزم، لأنا لا نقول إن من شرط صحة الاعتكاف أن يكون الصيام له، وإنما نقول إن من شرط صحته الصيام وإن فعله لغيره كالطهارة التي هي من شرط صحة الصلاة وإن فعلها لغيرها. ودليلنا على ذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عائشة أنه قال: «لا اعتكاف إلا بصوم» . وهو قول علي وابن(1/257)
عباس وابن عمر، ولا مخالف لهم من الصحابة. وأما الاحتجاج على ذلك بالآية فإنه ضعيف، إذ لو وجب بها الصيام على كل معتكف لذكر الاعتكاف فيها مع الصيام لوجب فيها أيضا الاعتكاف على كل صائم لذكر الصيام فيها مع الاعتكاف. وقد استدل بعض من ذهب إلى الاحتجاج للشافعي على جواز الاعتكاف بغير صوم بأن الليل يدخل على المعتكف فيكون فيه معتكفا وهو غير صائم. وهذا لا يلزم، لأن دخول الليل الذي لا يصح فيه الصوم على المعتكف لا يخرجه من حرمة اعتكافه وإن كان غير صائم فيه، كما أن خروج المعتكف إلى ما لا بد له منه كحاجة الإنسان لا يخرجه من حرمة اعتكافه وإن كان الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد فلو جاز أن يعتكف من غير صوم من أجل أن الليل هو فيه معتكف غير صائم لجاز أن يعتكف في الطرقات والكنف لأنه فيها عند خروجه معتكف في غير المسجد. فإذا لم يلزم هذا في الخروج الذي هو من فعله فأحرى أن لا يلزم في الليل الذي ليس من فعله. والحجة الصحيحة لنا من طريق النظر، إذ لم يوجد شيء يعول عليه في ذلك من جهة الأثر. ولا حجة في مجرد أقوال العلماء مع اختلافهم في أن الاعتكاف لبث في موضع يتقرب به إلى الله تعالى، فوجب أن يكون بتحرم وهو الصيام، كما أن اللبث بمنى وعرفة والمزدلفة لا يكون قربة إلا بالتحرم بحرمة الحج.
فصل والاعتكاف في جميع أيام السنة جائز إلا في الأيام التي نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامها، وهن يوم الفطر وأيام التشريق.
فصل وهو من نوافل الخير، اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأزواجه والمسلمون، ولم يكن السلف الصالح على شيء من أعمال البر أقل تعاهدا منهم على الاعتكاف، وذلك لشدته، ولأن ليله ونهاره سواء، ولأن من دخل فيه لزمه الإتيان به على شرائطه وقد لا يفي بها. ولذلك كرهه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال في المجموعة: وما زلت أفكر في ترك الصحابة الاعتكاف وقد اعتكف النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حتى قبضه الله وهم(1/258)
أتبع الناس لأموره وآثاره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى أخذ بنفسي أنه كالوصال الذي نهى عنه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، «فقيل له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنك تواصل، فقال إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» . فلا ينبغي أن يعتكف إلا من يقدر أنه يفي بشروط الاعتكاف.
فصل وأفضل الشهور للاعتكاف شهر رمضان، وأفضل أيامه العشر الأواخر منه. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف العشر الأول من رمضان فأتاه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال له إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الوسط، فأتاه فقال له إن الذي تطلب أمامك فاعتكف العشر الأواخر» .
فصل وأدنى الاعتكاف يوم وليلة، وأعلاه في الاستحبابات عشرة أيام، قاله ابن حبيب. وقد اختلف قول مالك في أدناه فمرة قال أقله يوم وليلة، ومرة قال أقله عشرة أيام. فمن أوجب على نفسه اعتكافا ولم يسم عددا من الأيام أو دخل في الاعتكاف ولم ينو عددا من الأيام لزمه عشرة أيام على القول الواحد، وعلى القول الثاني لا يلزمه إلا يوم وليلة، يبدأ بالليلة قبل اليوم، فيدخل اعتكافه عند الغروب. فإن دخل اعتكافه بعد الغروب وقبل الفجر لم يجزئه اعتكاف ذلك اليوم، وهو مذهب سحنون. وقيل إنه يجزئه وبئس ما صنع لأن الليل كله وقت لتبيت الصيام، فأي وقت نوى فيه أجزأه قاله عبد الوهاب. وقد قيل إن ذلك ليس باختلاف قول، ويحمل قول سحنون على أنه نذر الاعتكاف وقول عبد الوهاب على أنه نواه. والأول أظهر أنه اختلاف يدخل في الوجهين جميعا.
فصل والاعتكاف يجب بأحد وجهين: إما بالنذر، وإما بالنية مع الدخول فيه(1/259)
لاتصال عمله. وكذلك الجوار إذا جعل على نفسه فيه الصيام، وإن لم يجعل على نفسه فيه الصيام وإنما أراد أن يجاور كجوار مكة بغير صيام فلا يلزمه بالنية مع الدخول فيه بما نوى من الأيام. واختلف هل يلزمه مجاورة اليوم الذي دخل فيه أم لا على قولين: أحدهما أنه يلزمه. والثاني أنه لا يلزمه وله أن يخرج متى شاء من يومه ذلك وهو الأظهر، إذ لم يتشبث بعمل يبطل عليه بقطعه.
فصل والنذر في الاعتكاف على وجهين: أحدهما أن ينذر اعتكاف أيام بأعيانها، والثاني أن ينذر اعتكاف أيام بغير أعيانها.
فأما إذا نذر أياما بأعيانها، فلا يخلو أن تكون من رمضان أو من غير رمضان، فإن كانت من رمضان فعليه قضاؤها إن مرضها كلها لوجوب قضاء الصيام عليه، وإن مرض بعضها قضى ما مرض منها ووصل، فإن لما يصل استأنف سواء كان مرضه من أولها قبل دخوله في الاعتكاف أو من آخرها بعد دخوله فيه، وكذلك إن أفطر فيها ساهيا. وأما إن أفطر فيها متعمدا من غير عذر فعليه استئناف الاعتكاف مع الكفارة لفطره في رمضان.
فصل وأما إن كانت من غير رمضان فمرضها كلها أو مرض بعضها ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أن عليه القضاء جملة من غير تفصيل، وهذا على رواية ابن وهب عن مالك في بعض روايات الصيام من المدونة. والثاني أنه لا قضاء عليه جملة من غير تفصيل، وهو مذهب سحنون. والثالث التفرقة بين أن يمرض قبل دخوله في الاعتكاف أو بعد أن دخل فيه، وهو أيضا مذهب ابن القاسم في المدونة على ما(1/260)
تأول عليه ابن عبدوس، واختلف إذا أفطر فيه ساهيا على قولين: أحدهما أنه لا قضاء عليه وهو مذهب سحنون. والثاني أن عليه القضاء بشرط الاتصال وهو مذهب ابن القاسم.
فصل وأما الوجه الثاني وهو أن ينذر أياما بغير أعيانها. فإذا نذر اعتكاف أيام بغير أعيانها فليس له أن يعتكفها في رمضان ولا في صوم واجب عليه، لأن النذر يوجب عليه الصيام فليس له إسقاطه عن نفسه باعتكافه فيما قد وجب عليه صومه، خلاف قول محمد بن عبد الحكم إن له أن يجعل اعتكافه الذي نذره في أيام صومه التي نذرها، حكاه ابن حارث، فإذا دخل في اعتكافها لزمه إتمامها وتعين عليه قضاء ما مرض فيه أو أفطره ساهيا يصل ذلك باعتكافه، ولا خلاف في هذا. وإن أفطره متعمدا أفسده ووجب عليه قضاؤه لوجوبه عليه بالدخول فيه، وأن يعتكف اعتكافا آخر لنذره، وجرى ذلك على الاختلاف فيمن أفطر متعمدا في قضاء يوم من رمضان.
فصل وأما إن نوى الاعتكاف ودخل فيه ولم ينذره فقد تعين عليه بالدخول فيه كتعين النذر لأيام بأعيانها، ووجب أن يكون حكمه كحكمه في المرض فيه أو الفطر ساهيا أو متعمدا على ما بيناه إلا في دخول القول الثالث في المرض إذ لا يتصور فيه. وبالله التوفيق.(1/261)
[ما جاء في ليلة القدر]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على مولانا محمد وآله وسلم ما جاء في ليلة القدر قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ، يريد الكتاب المبين لأن الهاء من أنزلناه عائدة عليه وإن كان لم يتقدم له ذكر في هذه السورة فإنه قد تقدم في سورة الدخان في قوله: {حم} [الدخان: 1] {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ - إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 2 - 3] .
فصل وليلة القدر هي الليلة المباركة التي أنزل الله فيها القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم أنزل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من السماء الدنيا نجما بعد نجم على قدر الحاجة إليه، فكان بين أوله وآخره عشرون سنة، روي ذلك عن ابن عباس في تفسير الآية.
فصل فسماها الله تبارك وتعالى مباركة لنزول القرآن فيها ولثبات الخير فيها ودوامه، لأن البركة في اللغة الثبات والدوام. وسماها الله تعالى ليلة القدر لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلى ليلة القدر من السنة الأخرى. قال مجاهد إلا الشقاء والسعادة، يشهد لذلك قَوْله تَعَالَى:(1/263)
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] ، وقد قيل إن الآجال تنسخ ليلة النصف من شعبان والأول أصح، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2] ، معناه التعجب بها والتعظيم لها. وما كان في القرآن من قوله وما أدراك فقد أدراه، وما كان فيه من قوله وما يدريك فلم يدره، قاله الفراء وسفيان بن عيينة وغيرهما والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل وأما قوله عز وجل: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ، ففي تأويله اختلاف، قيل معنى ذلك أن العمل بما يرضي الله في تلك الليلة من صلاة وغيرها خير من العمل في غيرها ألف شهر. [وقيل إنما معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر] ، ليس فيها ليلة القدر. وهو نحو الأول لأن فضيلة الليلة على ما سواها ليس لمعنى يختص بها حاشا تضعيف الحسنات فيها. وقيل إن معنى ذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل ويجاهد النهار، ففعل ذلك ألف شهر وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فتمنى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكون ذلك في أمته وقال يا رب جعلت لأمتي أقصر الأعمار وأقل الأعمال فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير من ألف شهر، يريد خيرا من تلك الألف شهر التي قام الإسرائيلي ليلها وجاهد نهارها، فضيلة له ولأمته. وهو معنى حديث مالك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه(1/264)
تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل ما بلغه غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر» . وقيل إن معنى ذلك هو ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى في منامه بني أمية يعلون منبره خليفة خليفة فشق ذلك عليه فأنزل الله عليه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ، و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] » يعني ملك بني أمية. قال فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر.
فصل وهذا التأويل يدل على أن ليلة القدر خص بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان على عهده، وإليه ذهب والله أعلم من قال إن ليلة القدر رفعت، وليس ذلك بصحيح، والصحيح الذي عليه عامة أهل العلم والدين أنها لم ترفع جملة وإنما رفع علم تعيينها في ليلة بعينها وذلك بين من الحديث، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أريت هذه الليلة في رمضان حتى تلاحى رجلان فوقعت فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» ، فلو رفعت جملة لما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتماسها.
فصل فالصحيح أن ليلة القدر باقية لأمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يوم القيامة. وإنما اختلف أهل العلم فيها على ثلاثة أقوال: أحدها أنها في ليلة بعينها لا تنتقل عنها إلا أنها غير معروفة أعلم بفضلها وأخفى عينها ليجتهد في طلبها فيكون ذلك سببا للاستكثار من فعل الخير. وافترق الذين ذهبوا إلى هذا على أربعة أقوال: أحدها أنها في العام كله. والثاني أنها في شهر رمضان. والثالث أنها في العشر الوسط منه. والرابع أنها في العشر الأواخر منه.
فصل والقول الثاني أنها في ليلة بعينها لا تنتقل عنها معروفة. واختلف الذين ذهبوا(1/265)
إلى هذا في تعيينها على أربعة أقوال: أحدها أنها ليلة إحدى وعشرين على حديث أبي سعيد الخدري. والثاني أنها ليلة ثلاث وعشرين على حديث عبد الله ابن أنيس الجهني. والثالث أنها ليلة سبع وعشرين على حديث أبي بن كعب وحديث معاوية، وهي كلها أحاديث صحاح. والرابع أنها ليلة ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين. ذهب إلى هذا عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. روي أن عمر بن الخطاب دعا جماعة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألهم عن ليلة القدر فقالوا: كنا نرى أنها في العشر الوسط ثم بلغنا أنها في العشر الأواخر، وأكثروا عليه في ذلك فقال ابن عباس إني لأعلم أي ليلة هي، فقال عمر: وأي ليلة هي؟ فقال سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر، فقال عمر من أين علمت ذلك؟ قال رأيت الله عز وجل خلق سبع سموات وسبع أرضين وسبعة أيام يدور الدهر عليهن، وخلق الإنسان من سبع، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، والطواف سبع، ورمي الجمار وذكر مثل هذا. فقال له عمر: ما قولك خلق الله الإنسان من سبع ويأكل من سبع؟ فتلا قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] ، قال ابن عباس وأما يأكل من سبع فقول الله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس: 27] {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: 28] {وَزَيْتُونًا وَنَخْلا} [عبس: 29] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: 30] {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] ، فالأب للأنعام، والسبعة للإنسان. وفي هذا الخبر أن عمر سأل يومئذ من حضره من الصحابة وكانوا جماعة عن معنى نزول سورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، فوقفوا ولم يزيدوا على أن قالوا أمر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا فتح الله عليه أن يسبحه ويستغفره، فقال عمر: ما تقول يا ابن عباس؟ فقال ومع ذلك يا أمير المؤمنين فإنه نعى إليه نفسه وأعلمه أنه قابضه إذا دخلت العرب في الدين أفواجا، فسر عمر بذلك وقال أتلومونني على تقريب هذا الغلام؟ فقال ابن مسعود لو أدرك أسناننا ما عاشره أحد منا ونعم ترجمان القرآن ابن(1/266)
عباس. وروي عن ابن عباس أيضا أنها ليلة سبع وعشرين، وأنه عد السورة كلمة كلمة فكانت السابعة والعشرون هي وباقي السورة حتى مطلع الفجر.
فصل والقول الثالث أنها ليست في ليلة بعينها وأنها تنتقل في الأعوام، وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - والشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم، وهو أصح الأقاويل وأولاها بالصواب والله أعلم، لأن الأحاديث كلها تستعمل على هذا، واستعمالها كلها أولى من استعمال بعضها واطراح سائرها، لا سيما وهي كلها أحاديث صحيحة ثابتة لا مطعن فيها لأحد فيحمل حديث أبي سعيد الخدري على ذلك العام بعينه، وحديث عبد الله بن أنيس على ذلك العام بعينه، وأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتماسها في العشر الأواخر من رمضان على ذلك العام بعينه بدليل ما روي أنها قد تكون في العشر الوسط وأمره بالتماسها في السبع الأواخر في ذلك العام بعينه دون ما سواه من الأعوام، إذ قد تكون في بقية العشر الأواخر على ما صح عنه في الأمر بالتماسها في العشر الأواخر وفي العشر الوسط على ما جاء في ذلك أيضا.
فصل فنقول على استعمال جميع الآثار في هذا أن ليلة القدر تختص في انتقالها في الأغلب من حالها بالعشر الوسط وبالعشر الأواخر، والأغلب أنها تكون من العشر الوسط ليلة سبع عشرة، وليلة تسع عشرة، ومن العشر الأواخر في الأوتار منها. فمن أراد أن يتحرى ليلة القدر فليتحرها في العشر الوسط، وفي العشر الأواخر، ومن ضعف عن ذلك فليتحرها في الأوتار من العشر الأواخر.
فصل واختلف في قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» فقيل إنها معدودة من أول العشر وأن المراد بذلك في الخامسة والسابعة والتاسعة، لأن الواو لا توجب رتبة. فالتاسعة ليلة تسع وعشرين، والسابعة ليلة سبع(1/267)
وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين. وقيل إنها معدودة من آخر العشر، وأن التاسعة ليلة إحدى وعشرين والسابعة، ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين، وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ودليله على ذلك أن الأظهر في الواو الترتيب وإن كانت قد ترد للمساواة دون الترتيب ولا يختلف ذلك في نقصان الشهر وكماله، لأن من حسب ذلك على نقصان الشهر عد التاسعة والسابعة والخامسة، ومن حسب ذلك على كماله لم يعد التاسعة والسابعة والخامسة، وقال معنى ذلك لتاسعة تبقى، ولسابعة تبقى، ولخامسة تبقى. وحسابه على نقصان الشهر أظهر، لأن الشهر تسعة وعشرون يوما، واليوم الثلاثون ليس من الشهر بيقين قد يكون وقد لا يكون. ولا يحتمل أن يكون أراد النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أن يحسب ذلك على كمال الشهر ولا على ما ينكشف من نقصانه أو كماله، لأنه لو أراد أن يحسب على كماله لكان ذلك حضا منه على التماسها في غير الأوتار، وهو إنما حض على تحريها في كل وتر على ما جاء في غير هذا الحديث. ولو أراد أن يحسب على ما ينكشف عليه الشهر من نقصانه أو إتمامه لكان قد أمر بما لا يصح امتثاله إلا بعد فواته، فلم يبق إلا أنه أراد أن يحسب ذلك على نقصانه، إلا أن نقول إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبهم مراده من ذلك لتلتمس الليلة في جميع ليالي العشر، وهو بعيد من التأويل، إذ لا بد أن يكون لقوله التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة زيادة فائدة على قوله: «التمسوها في العشر الأواخر،» والله سبحانه وتعالى أعلم. وذهب ابن حبيب إلى أن تتحرى الليلة في جميع ليالي العشر على نقصان الشهر وكماله، وذلك بعيد على ما أوردناه والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم. وروي ذلك عن ابن عباس أنه كان يحيي ليلة ثلاث وعشرين، وأربع وعشرين على هذا، وقال إنها لسبع بقين تماما يريد لسبع بقين على تمام الشهر بليلة أربع وعشرين التي كان يحييها أيضا.
فصل وقوله عز وجل: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4] ، معناه [تنزل الملائكة وجبريل معهم، لأن جبريل هو الروح الأمين. وقوله من كل أمر(1/268)
معناه، بكل أمر مما يقضي الله عز وجل في ليلة القدر من السنة إلى أن تأتي ليلة القدر من السنة المقبلة، وعلى هذا يتم الكلام في قوله من كل أمر، ويحسن الوقف عليه والابتداء من قوله: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] ، أي هي سلام من أن يحدث فيها ما لم يحدث في غيرها أو أن يستطيع شيطان أن يعمل فيها شيئا معناه في الأغلب والله أعلم. وقيل خير هي إلى مطلع الفجر، وقيل رحمة إلى مطلع الفجر. وقد قيل إن التمام في قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر: 4] ، فيكون المعنى في الابتداء من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر من كل داء ومن كل شيطان ليلة القدر مسلمة إلى طلوع الفجر. وقيل إن التمام في قوله من كل أمر سلام، ثم ابتدأ جزءا آخر فقال هي حتى مطلع الفجر، أي ليلة القدر هي حتى مطلع الفجر، ويكون معنى قوله من كل أمر سلام هي أي هي مسلمة من كل داء وشيطان. وقد قيل إن معنى قوله من كل أمر سلام أن الملائكة يسلمون على عباد الله المؤمنين الليلة إلى طلوع الفجر. واحتج من ذهب إلى هذا بما روي من قراءة ابن عباس {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4] {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] وبالله التوفيق.(1/269)
[كتاب الزكاة الأول] [فصل في معرفة اشتقاق اسم الزكاة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله. عونك اللهم كتاب الزكاة الأول
فصل في معرفة اشتقاق اسم الزكاة الزكاة مأخوذة من الزكاء وهو النماء، من ذلك قولهم زكا الزرع إذا نما وطاب وحسن وزكت النفقة إذا نمت وبورك فيها. ومن ذلك قول الله تعالى: (أقتلت نفسا زاكية بغير نفس) ، ومنه تزكية القاضي الشهود لأنه ينمي حالهم ويرفعهم من حال السخطة إلى حال العدالة. ومنه يقال زكا فلان، وفلان أزكى من فلان.
فصل فسميت الصدقة الواجب أخذها من المال زكاة لأن المال إذا زكي. نما وبورك فيه، وقيل إنما سميت بذلك لأنها تزكو عند الله أي تنمو لصاحبها عنده سبحانه وتعالى كما روي «من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا كان كأنما يضعها في كف الرحمن يربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل» . وقيل إنما سميت بذلك لأنها لا تؤخذ إلا من الأموال التي يبتغى فيها النماء لا من العروض المقتناة. والذي أقول به إنما سميت بذلك لأن فاعلها يزكو بفعلها عند الله تعالى أي يرتفع حاله بذلك عنده يشهد لهذا قول الله تعالى:(1/271)
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، وذلك بين ظاهر ولم أره لمن تقدم، ممن على هذا المعنى تكلم، وبالله التوفيق.
[فصل في وجوب الزكاة]
والزكاة واجبة كوجوب الصلاة، أوجبها الله عز وجل على عباده وقرنها بها في غير ما آية من كتابه فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] ، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] ، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] ، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] ، ومثل هذا في القرآن كثير.
فصل وهي إحدى دعائم الإسلام الخمس. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بنى الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه قام في الناس فقال: "يا أيها الناس إنه أتاني آت من ربي في المنام فقال لي يا محمد إنه لا صلاة لمن لا(1/272)
زكاة له، ولا زكاة لمن لا صلاة له» . مانع الزكاة في النار والمتعدي فيها كمانعها. وقد توعد الله في غير ما آية من كتابه مانعها فقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] ، والماعون الزكاة في قول أكثر أهل العلم. والويل واد في جهنم يسيل من عصارة أهل النار في النار على ما روي. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35] ، والكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن لم يكن مدفونا، وما أدي زكاته من المال فليس بكنز وإن كان مدفونا. ذكر مالك في موطئه عن عبد الله بن دينار أنه قال سمعت عبد الله بن عمر يسأل عن الكنز ما هو فقال هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة. فقوله تعالى ولا ينفقونها ليس على ظاهره من العموم، والمعنى فيه ولا ينفقون ما وجب عليهم إنفاقه منها. وقد قيل إن الضمير في قَوْله تَعَالَى ولا ينفقونها عائد على الزكاة وإن كان لم يتقدم لها ذكر، لأنها المراد بالإنفاق. وقيل إنه يعود على الفضة والذهب داخل فيها بالمعنى. وقيل إنه لما كان المعنى في الذهب والفضة سواء جاز أن يرجع الضمير إليهما جميعا بلفظ واحد مثل قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، فقال يرضوه ولم يقل يرضوهما لما كان رضا الله فيه رضاء رسوله. وقيل إنه يعود على الكنوز وإذا قلنا إنه عائد على الفضة والذهب، أو على الفضة والذهب داخل فيها بالمعنى، أو على الكنوز، فالمراد بإنفاقها إنفاق الزكاة الواجبة فيها. وبيان هذا أنه قد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في تفسير الآية: ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل يوم القيامة صفائح من نار تكوى بها جبهته وجنباه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس ثم يرى سبيله فإن كانت إبلا بطح لها بقاع(1/273)
قرقر فجاءت أوفر ما كانت تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مرت أخراها ردت أولاها حتى يقضي الله بين العباد ثم يرى سبيله، وإن كانت غنما فمثل ذلك إلا أنه قال تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها.» وروي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية هي خاصة فيمن لم يؤد زكاة ماله من المسلمين، وعامة في أهل الكتاب لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم وإن أنفقوا - وقال تبارك وتعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] ، معناه بخلوا بالزكاة الواجبة عليهم فيما آتاهم الله من فضله. وروي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في تفسير هذه الآية مال البخيل الذي منع حق الله منه يصير ثعبانا في رقبته» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني بشدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك» . وقيل إنه يجعل في عنقه طوق من نار.
فصل فمن جحد فرض الزكاة فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كالمرتد. وقال ابن حبيب إن تركها كفر وإن كان مقرا بفرضها كالصلاة على مذهبه، وليس بصحيح. وأما من أقر بفرضيتها ومنعها فإنه يضرب وتؤخذ منه كرها إلا أن يمنع في جماعة ويدفع بقوة فإنهم يقاتلون عليها حتى تؤخذ منهم كما فعل أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بأهل الردة حين شحوا بأداء الزكاة فقال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجاهدتهم عليه فقاتلهم وأمر بقتالهم. وقال والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
فصل واختلف فيمن أخذت منه الزكاة كرها هل تجزئه أم لا على قولين: أحدهما أنها لا تجزئه لأنه لا نية له. والثاني أنها تجزئه وهو الأظهر، لأن الزكاة متعينة في(1/274)
المال، فإذا أخذها من إليه أخذها أجزأت عنه كما تجزئ الصبي والمجنون إذا أخذت من أموالهما وإن لم تصح النية منهما في تلك الحال.
فصل وإنما ورد في القرآن الأمر بالزكاة بألفاظ مجملة وعامة. فالمجمل منه ما لا يفهم المراد منه من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره مثل قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، فلا يفهم من هذا اللفظ جنس الحق ولا مقداره، ولا يمكن امتثال الأمر به إلا بعد بيان. ومثل هذا اللفظ إذا ورد وجب اعتقاد وجوب المراد به إلى أن يرد البيان. والعام ما ظاهره استغراق الجنس فيجب امتثال الأمر به بحمله على عمومه حتى يأتي ما يخصصه، مثل قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، وما أشبه ذلك. فالظاهر في قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] ، أن الزكاة تؤخذ من جميع أصناف الأموال ومن القليل والكثير منها، إذ لم يخص شيئا من ذلك دون شيء، وقَوْله تَعَالَى: {صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، من المجمل الذي يفتقر إلى بيان، إذ لا يفهم من نفس هذا اللفظ قدر الصدقة التي يقع بها التطهير والتزكية بها فالآية مشتملة على نص لا يحتمل التأويل، وعلى عموم يحتمل التأويل، وعلى مجمل يفتقر إلى البيان والتفسير، لأنها نص في الأخذ وفي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مأمور به، وعموم في الأموال، ومجمل في المقدار.
فصل واختلف في قول الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] ، وما أشبه هذه الألفاظ هل هي مجملة تفتقر إلى بيان أو عامة يجب حملها على عمومها حتى يرد ما يخصصها. والأصح أنها مجملة مفتقرة إلى البيان.(1/275)
فصل واختلف في قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] ، فقيل العفو في هذه الآية الزكاة. وقيل إنه ما سمح به المعطي. وقيل إنه ما فضل عن العيال. فأما من ذهب إلى أن العفو فيها الزكاة أو إلى أنه ما سمح به المعطي فالآية عنده محكمة غير منسوخة. وأما من ذهب إلى أن العفو ما فضل عن العيال فمنهم من قال إن ذلك كان واجبا في أول الإسلام وإن أحدهم كان إذا حصد زرعه أخذ منه قوته وقوت عياله وما يزرعه في العام المقبل وتصدق بالباقي ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة. ومنهم من قال إن الآية محكمة غير منسوخة وهي على الندب لا على الوجوب مثل قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] . ومنهم من قال إن الآية محكمة على الوجوب، ذهب إلى هذا جماعة من أهل الزهد والورع فحرموا ما فوق الكفاف، وإلى نحو هذا ذهب أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، لأنه قد رويت عنه آثار كثيرة في بعضها شدة تدل أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز، وكان يقول الأكثرون هم الأخسرون يوم القيامة، ويل لأصحاب المئين. وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في هذا آثار كثيرة إلا أن جمهور أهل العلم تأولها في الزكاة على خلاف ما حملها عليه أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وبالله التوفيق.
فصل وقد بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مجمل القرآن في الزكاة وغيرها وخصص عمومه المراد به الخصوص قولا وعملا كما أمره الله تعالى به حيث يقول في كتابه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، فبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مم تؤخذ الزكاة من الأموال وممن تؤخذ من الناس وكم يؤخذ منها ومتى تؤخذ فقال: «ليس على المسلم(1/276)
في عبده ولا في فرسه صدقة» فدل أن الزكاة لا تجب في العروض المقتناة لغير التجارة، وأنها خارجة عن عموم قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، والحلي المتخذ للباس مخصص من العموم المذكور بالقياس على ذلك عند مالك وجميع أصحابه. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» فتبين أن ما دون هذه المقادير لا زكاة فيها وأنها مخصصة من العموم خارجة عنه. ولذلك بين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقدار الزكاة فقال: «هاتوا إلي ربع العشر من كل أربعين درهما درهما» ، وقال: «في كل عشرين مثقالا ذهبا نصف مثقال» . وقال: «فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر، وفيما يسقى بالنضح نصف العشر» . وقال في زكاة الماشية: «في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم..» الحديث. وقال «في كل ثلاثين من البقر تبيع وفي كل أربعين بقرة مسنة» [ «وفي كل أربعين من الغنم شاة» ] .
فصل وفي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» دليل على أن الزكاة لا تجب في الفواكه ولا في الخضر وإنما تجب فيما يوسق ويدخر قوتا من الأقوات الحبوب والطعام. وهو مذهب مالك وجميع أصحابه إلا ابن حبيب فإنه أوجب الزكاة في الفواكه، فخرجت الفواكه والخضر بذلك عند مالك من عموم قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ومن عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر وفيما سقي بالنضح نصف(1/277)
العشر» . وذكر الثمر في حديث أبي سعيد الخدري في بعض الروايات عنه محمول عند أهل العلم على أنه خرج على سؤال سائل فلا تعلق لأحد بظاهره في إسقاط الزكاة مما يوسق مما عدا التمر.
فصل وكذلك بين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متى يجب أخذ الزكاة من المال الذي تجب فيه الزكاة فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول» فعم بظاهر قوله هذا جميع الأموال المستفادة، فخرج من عموم قوله الحبوب والثمار بدليل قول الله عز وجل: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وخرج منه أيضا ما يخرج من المعدن من الذهب والورق بالقياس على الحبوب والثمار عند مالك لأنه يعتمل كما يعتمل الزرع وينبت في الأرض كما ينبت الزرع. ويخرج من ذلك أيضا نماء الماشية فتزكى على أصولها ولا يستقبل بها الحول بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها» ، ولعلة افتراق الحول فيها مع خروج المصدق مرة في العام.
واختلف قول مالك في أرباح الأموال فمرة رآها مزكاة على أصول الأموال قياسا على غذاء الماشية وللمشقة الداخلة عليه في حفظ أحواله، ومرة قال إنه يستقبل بها حولا كسائر الفوائد، وهو الأظهر، لأن الربح ليس بمتولد عن المال بنفسه كغذاء الماشية، وإنما يحصل لصاحب المال ممن بايعه بمبايعته إياه ولو شاء لم يبايعه، فأشبه ما يحصل له من عنده بهبة أو صدقة، إذ لو شاء لم يهبه ولا تصدق عليه وبالله عز وجل التوفيق.
[فصل في معرفة ما تجب فيه الزكاة من الأموال]
فالزكاة لا تجب إلا في ثلاثة أشياء: في الحرث، والعين، والماشية. فالعين(1/278)
هو الذهب والورق. والماشية: الإبل والبقر والغنم. والحرث ما يخرج من الأرض من الحبوب والثمار والكروم، لأن السنة قد خصصت ما عدا هذه الثلاثة الأشياء من عموم قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، وخصصت من هذه الثلاثة الأشياء أيضا بعضها على ما تقدم من ذلك في تبيين النصاب وما لا يوسق ويدخر من جميع الثمار.
[فصل في معرفة ما تجب به الزكاة]
والزكاة تجب بخمسة أوصاف، وهي الإسلام، والحرية، والنصاب، والحول فيما عدا ما يخرج من الأرض وعدا الدين في العين.
فصل فالدليل على صحة اشتراط الإسلام في وجوب الزكاة قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، والطهرة والتزكية لا تصح في الكفار. وهو أيضا دليل قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] والدليل على صحة اشتراط الحرية في ذلك قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] فلما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ، دل على أنه لم يرد العبد إذ لا يصح أن يقال في مال العبد إنه ماله على الإطلاق، إذ لا يجوز له فيه ما يجوز لذي المال في ماله من الهبة والصدقة وما أشبه ذلك بإجماع، وإنما هو ماله على صفة. والدليل على صحة ملكه قول الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] ، إذ لا يصح أن يوصف بالفقر والغنى من لا يملك، ولذلك يطأ بملك يمينه على مذهب مالك لأنه يملك عنده. والدليل على صحة اشتراط النصاب في ذلك الحديث الصحيح: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة» .(1/279)
والدليل على صحة اشتراط الحول فيما عدا ما يخرج من الأرض قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول» لأنه لفظ عام يخصص منه ما يخرج من الأرض بقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، ويخصص منه أيضا نماء الماشية باتفاق لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها» ، وأرباح الأموال بالقياس على ذلك على اختلاف، ويبقى الحديث عاما فيما سوى ذلك. والدليل على صحة اشتراط عدم الدين في وجوب الزكاة في العين إجماع الصحابة على ذلك بدليل ما روي أن عثمان بن عفان كان يصيح في الناس: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة، والصحابة متوافرون مسلمون بذلك، فدل ذلك على إجماعهم على القول بذلك. وبالله التوفيق.
[فصل في تقسيم الديون التي تسقط الزكاة]
والديون التي تسقط زكاة العين تنقسم عند ابن القاسم على ثلاثة أقسام:
قسم منها يسقط الزكاة وهو دين الزكاة، كانت له عروض تفي به أو لم تكن، مرت به سنة من يوم استدانه مثل أن يكون له عشرون دينارا فيحول عليها الحول فلا يخرج زكاتها ويمسكها حتى يحول عليها حول آخر فإنه لا يجب عليه فيها زكاة من أجل الدين الذي عليه من زكاة العام الأول، أو لم تمر به سنة من يوم استدانه مثل أن يفيد عشرين دينارا فتقيم عنده عشرة أشهر ثم يفيد عشرين أخرى فيحل حول العشرين الأولى فلا يزكيها وينفقها أو تتلف ثم يحول الحول على العشرين الأخرى فإنه لا يجب عليه فيها زكاة من أجل الدين الذي عليه من زكاة الفائدة الأولى. وقسم منها يسقط الزكاة مرت به سنة من يوم استدانه أو لم تمر، إلا أن تكون له عروض تفي بالدين يجعل الدين فيها هو ما استدانه في غير ما بيده من مال الزكاة.(1/280)
وقسم لا يسقط الزكاة إن لم تمر به سنة من يوم استدانه، كانت له عروض أو لم تكن. ويسقطها إن مرت به سنة من يوم استدانه إلا أن تكون له عروض يجعله فيها، وهو ما استدانه فيما بيده من مال الزكاة، كان الدين من سلف أو مبايعة فكونه من سلف هو مثل أن تكون له عشرة دنانير فيتسلف عشرة أخرى ويتجر بالعشرين حولا، فهذا يزكي العشرين إن كانت له عروض تفي بالعشرة التي عليه دينا من السلف، فإن بقيت العشرة التي بيده عشرة أشهر فتسلف عشرة أخرى فتجر في العشرين إلى تمام الحول لم تجب عليه زكاتها وإن كان له من العروض ما يفي بالعشرة التي عليه من السلف حتى يحول الحول عليه من يوم تسلفها. وكونه من مبايعة هو مثل أن تكون له عشرة دنانير فيأخذ عشرة دنانير سلما في سلعة فيتجر في العشرين حولا فإنه يزكي العشرين إن كانت له عروض تفي بالعشرة التي عليه من السلم. ولو بقيت العشرة التي له بيده عشرة أشهر فأخذ عشرة دنانير سلما في سلعة فيتجر في العشرين إلى تمام الحول لم تجب عليه زكاتها وإن كان له من العروض ما يفي بالدين الذي عليه من السلم حتى يحول الحول من يوم أخذ العشرة دنانير في السلم. وأشهب يساوي بين دين الزكاة وغير الزكاة. فالدين ينقسم في هذا عنده على قسمين. وقد قيل إن الدين يسقط الزكاة زكاة العين على كل حال وفي كل دين، وإن كانت له عروض لم يجعله فيها على ظاهر حديث عثمان بن عفان المذكور، إذ لم يفرق فيه بين دين الزكاة من غيره ولا شرط عدمه للعروض وبالله التوفيق.
فصل ولا يشترط في ذلك البلوغ والعقل بخلاف الصلاة. والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] والطهرة والتزكية تصح دونهما، فكانت الآية عامة في الصغير والكبير والعاقل والمجنون. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله أمره أن يأخذ الزكاة من الأغنياء ويردها على الفقراء» عام في كل غني من صغير وكبير وعاقل ومجنون، فوجب أن يحمل على عمومه، إذ لم يأت ما(1/281)
يخص من ذلك الصغير والمجنون. ولا حجة للمخالف في ذلك في قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] لأن الله إنما جمع بينهما في الوجوب جملة لا في أن الزكاة لا تجب إلا على من تجب عليه الصلاة. فكما تجب الصلاة على العبد ولا تجب عليه الزكاة عندهم، وتجب الزكاة على الحائض عند الجميع ولا تجب عليها الصلاة، فكذلك تجب الزكاة على الصبي والمجنون عندنا وإن لم تجب عليهما الصلاة، وهذا بين.
[فصل في معرفة قدر النصاب في الأموال التي تجب فيها الزكاة]
فصل في معرفة قدر النصاب من الأموال التي تجب فيها الزكاة
والنصاب من الذهب عشرون مثقالا، فإن نقصت عن ذلك نقصانا بينا تتفق عليه الموازين لم تجب فيها الزكاة إلا أن تجوز بجواز الوازنة إذا كانت جارية عددا. والنصاب من الورق خمس أواق كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والأوقية أربعون درهما بالوزن القديم، وهو المعروف بالكيل. فالخمس الأواقي مائتا درهم كيلا، وذلك بوزن زماننا مائتا درهم وثمانون درهما، لأن ورقنا دخل أربعين ومائة في مائة كيلا وذلك خمسة وثلاثون دينارا دراهم. فإن نقصت عن ذلك نقصانا بينا تتفق عليه الموازين لم تجب فيها الزكاة إلا أن تجري عددا وتجوز بجواز الوازنة فتجب فيها الزكاة. وقيل إن الزكاة لا تجب إذا كان النقصان كثيرا. وأما إن لم تجز بجواز الوازنة فلا تجب فيها الزكاة قل النقصان أو كثر. وقيل إن الزكاة تجب فيها إذا كان النقصان يسيرا وإن لم تجز بجواز الوازنة. وذهب ابن لبابة إلى أن الزكاة لا تجب فيها إذا كان النقصان يسيرا وإن جازت بجواز الوازنة. ووجه قوله أنه إذا كان كل درهم منها ينقص نقصانا يسيرا لا تتفق عليه الموازين فهو في جملتها كثير تتفق عليه الموازين.
فيتحصل في الدراهم الناقصة الجارية عددا إذا كانت تجوز بجواز الوازنة ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا تجب فيها الزكاة. والثاني أنه تجب فيها الزكاة. والثالث الفرق بين أن يكون النقصان يسيرا لا تتفق عليه الموازين، أو كثيرا تتفق عليه(1/282)
الموازين. وذهب ابن حبيب إلى أن الزكاة تجب في مائتي درهم عندنا بوزن زماننا وقال إنما يزكي أهل كل بلد بوزنهم الجاري عندهم وإن كان أقل من الكيل، وهو بعيد.
فصل واختلف إذا كانت الدراهم أو الذهب مشوبين بنحاس فقيل إن الزكاة لا تجب إلا في النصاب من الذهب أو الورق الخالص. وقيل إذا كان الذهب أو الفضة الأكثر فالحكم لهما والنحاس ملغى والزكاة واجبة فيهما، والأول أصح إن شاء الله تعالى.
والنصاب من الإبل خمس ذود، ومن الغنم أربعون شاة، ومن البقر ثلاثون بقرة.
ومن الطعام المدخر الذي تجب فيه الزكاة خمسة أوسق كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والوسق ستون صاعا بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والصاع أربعة أمداد بمده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمد زنة رطل وثلث، قيل بالماء، وقيل بالوسط من القمح، وهو هذا المد الجاري عندنا. فمدنا مد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكيلنا صاعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقفيزنا اثنا عشر صاعا. فالوسق بكيلنا خمسة أقفزة، والنصاب خمسة وعشرون قفيزا. [وقال ابن حبيب إن النصاب بالكيل القرطبي ثلاثون قفيزا] على أن في كل قفيز عشرة آصع، وهي أربعون مدا بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فيأتي على هذا في كيلنا ثلاثة أمداد وثلث مد بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويكون الصاع بمدنا خمسة أمداد إلا خمس مد. والوسق ستة أقفزة. هذا قوله في كتاب الزكاة. وقال في كتاب النكاح في باب نفقة الزوجات إن القفيز القرطبي أربعة وأربعون مدا، فيأتي النصاب على هذا سبعة وعشرين قفيزا وثلاثة أجزاء من أحد عشر من القفيز. ويأتي في الكيل بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أمداد وثلثا مد، وفي القفيز أحد عشر صاعا، ويكون الصاع بمدنا أربعة أمداد وأربعة أجزاء من أحد عشر جزءا من المد، والوسق بكيلنا خمسة أقفزة وخمسة أجزاء من أحد عشر من القفيز.(1/283)
وقد قيل إن في القفيز القرطبي اثنين وأربعين مدا بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فالنصاب على هذا الحساب ثمانية وعشرون قفيزا وأربعة أسباع قفيز. وذلك أن يكون في كيلنا بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أمداد ونصف، وفي قفيزنا من صاعه عشرة آصع ونصف، ويكون الصاع على هذا بمدنا أربعة أمداد وأربعة أسباع مد، والوسق خمسة أقفزة وخمسة أسباع قفيز، ووزن الخمسة الأوسق ثلاثة وخمسون ربعا وثلث ربع، كل ربع منها من ثلاثين رطلا. وما قدمته أولى من أن النصاب خمسة وعشرون قفيزا بالكيل القرطبي، وهو أولى الأقاويل عندي وأحوط في الزكاة.
[فصل في افتراق حكم الأموال في الزكاة]
والأموال في الزكاة تنقسم على ثلاثة أقسام:
قسم الأغلب فيه إنما يراد لطلب الفضل والنماء فيه لا للاقتناء، وهو العين من الذهب والورق وأتبارهما، والمواشي، وآنية الذهب والفضة وكل ما لا يجوز اتخاذه منها. فهذا تجب فيه الزكاة، اشتراه أو ورثه أو تصدق به عليه، نوى به التجارة أو القنية أو ما نوى.
وقسم ثان الأغلب منه إنما يراد للاقتناء، لا لطلب الفضل والنماء، وهي العروض كلها: الدور والأرضون والثياب والطعام والحيوان الذي لا تجب في رقابه الزكاة، فهذا يفرق فيه بين الشراء والفائدة، فما أفاده من ذلك بهبة أو ميراث أو بما أشبه ذلك من وجوه الفوائد فلا زكاة عليه فيه نوى به التجارة أو القنية حتى يبيعه ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه وما اشترى من ذلك فهو على ما نوى فيه، إن أراد به القنية فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه، وإن أراد به التجارة أكان للتجارة وزكاه على سنة التجارة،. واختلف ابن القاسم وأشهب إذا اشتراه للتجارة ثم نوى به القنية هل يرجع إلى حكمها بالنية أم لا، فقال ابن القاسم يرجع إلى القنية ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه وقبض ثمنه إن باعه ورواه عن مالك. وقال أشهب لا يرجع إلى القنية بالنية، وهو على ما اشتراه عليه(1/284)
من نية التجارة. فإن باعه زكاه ساعة باعه وقبض ثمنه إن كان الحول قد حال على أصل الثمن ورواه عن مالك. ولم يختلفا أنه إذا اشتراه للقنية أو أفاده بميراث أو غيره ثم نوى به التجارة أنه لا ينتقل إليها بالنية. واختلفا أيضا إذا اشتراه للوجهين جميعا، فغلب ابن القاسم القنية على أصله فيما اشتراه للتجارة أنه يرجع إلى القنية بالنية لأنها الأصل، وغلب أشهب التجارة على أصله أن القنية والتجارة أصلان لا يرجع أحدهما إلى صاحبه بالنية، فلما اجتمعا كان الحكم للذي أوجب الزكاة احتياطا، كالبينتين إذا أثبتت إحداهما الحكم ونفته الأخرى، وكقول مالك فيمن له أهل بمكة وأهل ببعض الآفاق إنه متمتع.
وقسم ثالث يراد للوجهين جميعا للاقتناء وطلب النماء، وهو حلي الذهب والفضة، فهذا لا يفرق فيه بين الفائدة والشراء، وهو في الوجهين معا على ما نوى، إن أراد به التجارة زكاه، وإن أراد به الاقتناء ليلبسه أهله وجواريه أو هي إن كانت امرأة فلا زكاة عليها فيه. واختلف فيما يتخذ منه للكراء هل يخرج بذلك عن حكم الاقتناء وتجب فيه الزكاة أم لا على قولين.
[فصل في افتراق حكم التجارة في الزكاة]
والتاجر ينقسم على قسمين: مدير، وغير مدير. فالمدير هو الذي يكثر بيعه وشراؤه ولا يقدر أن يضبط أحواله، فهذا يجعل لنفسه شهرا من السنة يقوم فيه ما عنده من العروض ويحصي ما له من الديون التي يرتجى قبضها فيزكي ذلك مع ما عنده من الناض. وأما غير المدير وهو المحتكر الذي يشتري السلع ويتربص بها النفاق فهذا لا زكاة عليه فيما اشترى من السلع حتى يبيعها وإن أقامت عنده أحوالا.
[فصل في بيان ما يضم بعضه إلى بعض في الزكاة]
ولا يضم في الزكاة صنف إلى صنف، ويضم الصنف كله بعضه إلى بعض وإن اختلفت أجناسه وأسماؤه وصفاته. فالإبل كلها صنف واحد وإن اختلفت أسماؤها وصفاتها تجمع في الزكاة، وكذلك الضأن والمعز صنف واحد يجمعان في(1/285)
الزكاة وإن اختلفت أسماؤهما وصفاتهما. وكذلك البقر والجواميس صنف واحد يجمعان في الزكاة وإن اختلفت أسماؤهما وصفاتهما. وكذلك القمح والشعير والسلت صنف واحد تجمع في الزكاة وإن اختلفت أسماؤها وصفاتها وأجناسها، واختلف في العلس، فقيل هو صنف على حدة، وقيل يجمع مع القمح والشعير والسلت. والقطاني كلها صنف واحد تجمع في الزكاة وإن اختلفت أسماؤها وصفاتها، كان رفعه لها وإصابته إياها في بلد واحد أو بلدان شتى متباينة، وحصاده لها في وقت واحد أو في أوقات شتى متباعدة إذا كان زريعته لآخر ما زرع منها قبل حصاده لأول ما زرع منها. وأما ما زرع من أنواع القطنية بعد حصاد غيرها ووجوب الزكاة فيها فلا يجمعها معها، كان زرعه لها في تلك الأرض التي حصد منها الأولى أو في غيرها، لأن ما زرع بعد حصاد الأولى في تلك الأرض أو في غيرها كأنه إنما زرعه في سنة أخرى، ولا يضم زرع عام إلى عام آخر.
وبيان هذا الذي وصفناه أنه لو زرع ثلاثة أنواع من القطنية في ثلاثة أشهر في كل شهر صنفا، فزرع، في المحرم الصنف الواحد، ثم في ربيع الأول الصنف الثاني، ثم في جمادى الأولى الصنف الثالث، ثم حصدها كلها بعد جمادى الأولى فإنه يضم بعضها إلى بعض، فإن كمل له من جميعها النصاب وجبت فيها الصدقة وأخرج من كل صنف بحسابه. ولو زرع الثاني قبل حصاد الأول ثم زرع الثالث بعد حصاد الأول وقبل حصاد الثاني لجمع الثاني مع الأول ومع الثالث ولم يجمع الأول مع الثالث. فإن رفع من الأول ثلاثة أوسق ثم رفع من الثاني وسقين فأكثر زكى الجميع إن كانت الثلاثة الأوسق باقية عنده على مذهب ابن القاسم. وأما على مذهب أشهب في الفائدتين يحول حول الأولى منهما وهي عشرة دنانير فينفقها بعد الحول ثم يحول حول الفائدة الثانية وهي عشرة أنه يزكي العشرتين جميعا، فيزكي الوسقين عند حصادهما وإن كان قد أنفق الثلاثة الأوسق. ثم إن رفع من الثالث ثلاثة أوسق وقد كان رفع من الثاني وسقين فأخرج زكاتهما مع الأول فلا زكاة عليه في الثلاثة الأوسق على مذهب ابن القاسم، إذ لا يبلغ مع ما بقي من الوسقين بعد(1/286)
إخراج الزكاة منهما ما تجب فيه الزكاة، ويزكي الثلاثة الأوسق على مذهب أشهب في الفائدتين. ولو زرع الصنف الثاني قبل حصاد الأول ثم زرع الصنف الثالث بعد حصاد الثاني وقبل حصاد الأول، إذ من القطاني ما يتعجل ومنها ما يتأخر، لجمع الأول مع الثاني ومع الثالث، ولم يجمع الثاني مع الثالث على هذا القياس. فإن رفع من الثاني ثلاثة أوسق انتظر حتى يحصد الأول، فإن حصد الأول فكان فيه وسقان فأكثر والثلاثة الأوسق باقية بيده لم ينفقها على مذهب ابن القاسم زكى الثلاثة الأوسق مع هذين الوسقين. ثم إن حصد الثالث فبلغ مع ما بقي بيده من الوسقين اللذين حصدهما من الأول بعد إخراج الزكاة منهما ما تجب فيه الزكاة زكى ما حصد من الثالث خاصة، ولم يزك ما كان بقي بيده من الوسقين لأنه قد زكاهما مع ما حصد من الثاني. وأما على مذهب أشهب فيزكي ما حصد من الثالث إن بلغ ثلاثة أوسق فأكثر، كان الوسقان بيده أو قد أنفقهما على ما تقدم.
فصل وعلى قياس هذا يجري الأمر في زكاة المعادن، لا يضيف ما خرج من المعدن بعد انقطاع نيله إلى ما كان خرج منه قبل ذلك، كما لا يضيف ما أخرجت الأرض من الحب إلى ما كان خرج منها قبل ذلك. وكذلك لا يضيف ما خرج له من معدن إلى ما خرج له من معدن غيره إذا كان خروجه بعد انقطاع الأول، وإنما يضيفه إليه إذا خرج قبل انقطاع الأول، كما لا يضيف زرع أرض إلى زرع أرض أخرى إذا زرع إحداهما بعد حصاد زرع الأخرى، وإنما يضيفه إليه إذا زرعه قبل حصاد زرع الأرض الأخرى.
فصل فإذا كانت للرجل معادن فعمل في أحدها فأنال له، ثم عمل في الثاني فأنال له قبل انقطاع الأول، ثم عمل في الثالث فأنال له قبل انقطاع الأول والثاني، أضاف بعضها إلى بعض وإن كثرت على هذا المثال والترتيب. ولو عمل في الأول فأنال له ثم عمل في الثاني فأنال له قبل انقطاع الأول فتمادى النيل فيهما جميعا،(1/287)
ثم انقطع نيل الأول وبقي الثاني على حاله فعمل في المعدن الثالث فأنال له قبل انقطاع الثاني لأضاف ما خرج له من الثاني إلى ما خرج له من الأول وإلى ما خرج له من الثالث، ولم يضف ما خرج له من الأول إلى ما خرج له من الثالث. ولو عمل في الأول فأنال له فاتصل نيله ثم عمل في معدن ثان فأنال له مدة ثم انقطع نيله ثم عاد، أو لما انقطع نيله عمل في معدن ثالث فأنال له والأول على حاله متصل النيل، لأضاف ما خرج له من المعدن الأول الذي اتصل نيله إلى ما خرج له من المعدن الثاني قبل انقطاعه وبعدا انقطاعه، أو إلى ما خرج له من المعدن الثالث، ولا يضيف ما خرج له من المعدن الثاني قبل انقطاعه إلى ما خرج له منه بعد انقطاعه، ولا ما خرج له من الثاني إلى ما خرج له من المعدن الثالث بعد انقطاع الثاني. وهذا كله قول محمد بن مسلمة، وهو عندي تفسير لما في المدونة، لأن المعادن بمنزلة الأرض، فكما يضيف زرع أرض إلى أرض له أخرى إذا زرعها قبل حصاد الأخرى فكذلك يضيف نيل معدن إلى نيل معدن آخر إذا أنال له قبل انقطاع الأول، خلاف ما ذهب إليه سحنون من أن المعادن لا يضاف بعضها إلى بعض وإن اتصل نيلها ولم ينقطع وبالله التوفيق.
فصل والذهب والفضة كلها صنف واحد تبرها ومسكوكها ومصوغها تجمع في الزكاة على ما كانت عليه الدراهم في الزمن الأول، كل دينار بعشرة دراهم، لا بالقيمة يوم إخراج الزكاة، إلا ما كان من الذهب والفضة حليا مصوغا يحبس للبس أو حلي به سيف أو مصحف أو خاتم فإنه لا زكاة فيه.
فصل فالأموال التي تجمع في الزكاة إذا تقاربت منافعها فتجعل صنفا واحدا وإن اختلفت أسماؤها وأجناسها وأنواعها وجودتها ورداءتها تنقسم على ثلاثة أقسام: مكيل، وموزون، ومعدود.
فأما المكيل فهو مثل القمح والشعير والسلت الذي هو صنف واحد، أو(1/288)
القمح والشعير والسلت والعلس على القول بأن العلس مضاف إلى ذلك، ومثل القطاني التي هي في الزكاة صنف واحد على اختلافها، ومثل الحائط من النخل يكون فيه أنواع من التمر مختلف، فالحكم فيه أن يؤخذ من كل شيء منه قل أو كثر ما يجب فيه عشره أو نصف عشره، إلا أن تكثر أنواع الحائط من النخل فيؤخذ من وسطها ما يجب فيها كلها، إذ لا يلزمه أن يعطي من أرفعها ولا يجزئه أن يعطي من أوضعها، لقول الله عز وجل: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . وقد قيل إنه يؤخذ من وسطها وإن كان الحائط جيدا كله أو رديئا كله قياسا على المواشي، ! وهو ظاهر قول مالك في الموطأ، إلا أنه بعيد وشاذ.
فصل فإن أراد أن يخرج من صنف عن صنف آخر ما وجب عليه منه بالكيل جاز من الأرفع ولم يجز من الأدنى. وإن أراد أن يخرجه بالقيمة لم يجز فيما لا يجوز فيه التفاضل وجاز فيما يجوز فيه التفاضل، وهو القطاني على القول بأنها في البيع أصناف مختلفة، وعلى القول أيضا بأن من وجب عليه حب فأخرج عينا أو عرضا فإنه يجزئه.
وأما الموزون فهو العين من الذهب والورق الجيد والرديء، فالحكم فيه أيضا أن يخرج من الذهب ربع عشره ومن الورق ربع عشره، ومن الجيد ربع عشره ومن الرديء ربع عشره. ويجوز أن يخرج عن الذهب ورقا قيل بالقيمة بالغة ما بلغت، وهو مذهبه في المدونة، وقيل ما لم ينقص عن صرف عشرة دراهم، وهو قول ابن حبيب. وقيل إنه يخرج من صرف عشرة دراهم بدينار. وكذلك يجوز له أن يخرج عن الورق ذهبا، وقيل إنه لا يجوز إلا أن يكون في ذلك وجه نظر، مثل المديان يكون عليه دينار وما أشبه ذلك.
وأما المعدود وهو الغنم الضأن والمعز، والإبل البخت والعراب، والبقر والجواميس وغير الجواميس، فلا يصح إذا جمع شيء من ذلك في الزكاة أن يأخذ(1/289)
من كل جنس ما يجب فيه، إذ لا تتبعض الأسنان الواجبة فيها، فقد يؤخذ من ذلك ما يجب في الجنسين جميعا من الصنف الواحد، وقد يؤخذ منهما جميعا باتفاق وعلى اختلاف. وبيان ما يتفق فيه من ذلك مما يختلف فيه يفتقر إلى بسط وتفسير وتقسيم. أما إذا وجب في الصنفين من الضأن والمعز شاة واحدة فإنها تؤخذ من أكثرهما، فإن استويا في العدد كان الساعي مخيرا يأخذ من أي الصنفين لثمار، ولا اختلاف في هذا الوجه. وأما إذا وجب في الصنفين شاتان أو شياه فإن ذلك ينقسم على وجهين كل وجه منهما ينقسم على وجهين فالوجه الأول أن تكون الشاتان أو الشياه إنما تجب في أحد الصنفين، والصنف الثاني وقص لا يبلغ ما تجب فيه الزكاة، أو يبلغ ما تجب فيه الزكاة. والوجه الثاني أن تكون الشاتان أو الشياه إنما تجب في الصنفين جميعا بأن لا يكون أحدهما وقصا للآخر ويبلغ كل صنف منهما ما تجب فيه الزكاة أو يبلغ ذلك أحدهما ولا يبلغه الآخر.
فأما الوجه الأول وهو إذا كانت الشاتان أو الشياه تجب في أحد الصنفين والصنف الثاني وقص لا تجب فيه الزكاة، فمثاله أن تكون الضأن مائة وإحدى وعشرين والمعز ثلاثين فهذا لا يؤخذ فيه من المعز شيء باتفاق، وإنما يؤخذ الجميع من الضأن شاتان، وكذلك لو كانت الضأن مائتي شاة وشاة والمعز ثلاثين لأخذ الجميع من الضأن ثلاث شياه. فإن كان الصنف الثاني وقصا يجب في عدده الزكاة مثل أن يكون الضأن مائة وإحدى وعشرين والمعز أربعين فاختلف في ذلك، فقيل تؤخذ الشاتان من الضأن ولا يؤخذ من المعز شيء لأنها وقص، وهذا على قياس قول ابن القاسم في المدونة إن في ثلثمائة ضائنة وتسعين معزة ثلاث شياه من الضأن ولا شيء في المعز. وعلى هذا التعليل لا يعتبر ما بقي من الضأن بعد ما تجب فيه الشاة الواحدة هل هو أقل من المعز أو أكثر. وقيل يعتبر ذلك فتؤخذ الشاة الواحدة من الضأن والأخرى من المعز، لأن في مائة وعشرين من الضأن شاة فيبقى منها شاة، والمعز أربعون فتؤخذ الثانية من المعز لأنها أكثر. وفي المدونة ما ظاهره هذا القول، وهو قوله فيها فانظر فإذا كان للرجل ضأن ومعز فإن كان في كل واحدة إذا فرقت ما تجب فيه الزكاة أخذ من كل واحدة، لأنه عم ولم يذكر وقصا من غيره. ويحتمل أن يكون معناه إذا لم يكن الأقل وقصا للأكثر فلا يكون ذلك اضطرابا من(1/290)
قوله. وهذا على مذهب من يعلل بأن الأوقاص مزكاة. وأما على مذهب من يقول إن الأوقاص غير مزكاة فيقول في هذه المسألة إن الشاتين تؤخذان من الضأن وإن لم تكن عليه في ذلك أن المعز وقص، لأن الشاة من الضأن إنما أخذت عن أربعين منها، والأحد والثمانون الباقية منها لم يؤخذ عنها شيء، وهي أكثر من المعز، فتؤخذ الثانية منها أيضا على هذا التعليل.
وكذلك لو كانت الضأن مائتي شاة وشاة أو ثلثمائة شاة والمعز أربعين الاختلاف في ذلك واحد فاعلمه. وهذا أصل فقس عليه ما شاكل هذين الوجهين من المسائل.
فصل وأما الوجه الثاني وهو أن تكون الشاتان أو الشياه إنما تجب في الصنفين جميعا بأن لا يكون أحدهما وقصا مع صاحبه ويبلغ كل صنف منهما ما تجب فيه الزكاة، فمثاله أن تكون الضأن مائة وعشرين والمعز أربعين، فاضطرب قول ابن القاسم فيه في المدونة، فقال في هذه المسألة إن في الضأن شاة وفي المعز أخرى، وقال فيمن له ثلثمائة وستون من الضأن وأربعون من المعز إن الأربع شياه تؤخذ من الضأن هو خلاف جوابه في المسألة الأولى. واختلاف قوله في ذلك جار على الاختلاف في الأوقاص هل هي مزكاة أم لا، فجعل الأوقاص على جوابه في المسألة الأولى مزكاة فقال إن الشاة من الضأن أخذت عن جملة المائة والعشرين فوجب أن تؤخذ الثانية من المعز. وجعلها في المسألة الثانية غير مزكاة فقال: إن الثلاث شياه إنما أخذت عن الثلاثمائة من الضأن فيبقى منها ستون وهي أكثر من المعز فأخذت الرابعة منها. وكان يلزمه على هذا الجواب أن يقول في المسألة الأولى إن الشاة إنما أخذت عن أربعين من الضأن وبقي منها ثمانون لم يؤخذ عنها شيء وهي أكثر من المعز فتؤخذ الثانية منها إذ هي أكثر، وهو مذهب سحنون في هذه المسألة أن الشاتين تؤخذان من الضأن على هذا التعليل. وهذا أصل فقس عليه ما يرد عليك من هذا الباب. ويحتمل أن يكون ذهب إلى أن ما زاد على الأربعين إلى العشرين ومائة ليس بوقص غير مزكى بل هو مزكى بالشاة بدليل قول(1/291)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن في سائمة الغنم إذا بلغت أربعين إلى عشرين ومائة شاة» ، وإلى أن الوقص الذي ليس بمزكى إنما هو ما زاد على الثلثمائة إلى أن يبلغ مائة بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فما زاد ففي كل مائة شاة» .، لأنه نص على الشاة في المائة وسكت عما نقص عنها، فلا يكون على هذا قوله في هاتين المسألتين اضطرابا من قوله، ويكون أصله الذي بنى عليه مسائله ولم يضطرب فيه قوله أنه إذا كان أحد الصنفين أقل من نصاب أو وقصا فيما زاد على المئين في الثلثمائة فما فوقها فلا يؤخذ منه شيء، وإذا لم يكن أحدهما أقل من نصاب ولا وقصا مع صاحبه أخذ منهما جميعا في المائتين فما دونهما من كل أربعين من الضأن شاة ومن كل أربعين من المعز معزة، وفيما فوق المائتين من كل مائة من الضأن شاة ومن كل مائة من المعز معزة، وما فضل من الصنفين جميعا فلم تجب فيه إلا شاة واحدة أخذت من أكثرهما. وأما إن كان أحد الصنفين في هذا الوجه لا يبلغ ما تجب فيه الزكاة مثل أن تكون الضأن مائة وعشرين والمعز ثلاثين، فاختلف فيه أيضا. قال ابن القاسم في المدونة: يأخذ الشاتين من الضأن، وهو الذي يأتي على قول سحنون في مائة وعشرين من الضأن وأربعين من المعز إن الشاتين تؤخذان من الضأن، وجعل سحنون تفرقة ابن القاسم بين أن تكون المعز ثلاثين أو أربعين اضطرابا من قوله، فقال مسألة الجواميس تدل على أحسن من هذا، يريد أن الواجب على أصل ابن القاسم في مسألة الجواميس أن يأخذ المعزة من الثلاثين من المعز وإن كانت الزكاة لا تجب فيها بانفرادها، كما يأخذ التبيع في مسألة الجواميس من العشرين من البقر وإن كانت الزكاة لا تجب فيها بانفرادها. وليس قوله بصحيح، لأن المعنى في هذه المسألة الذي من أجله وقع الخلاف فيها أن الشاة تؤخذ عن الأربعين وتؤخذ أيضا عن جميع المائة والعشرين، فوقع الخلاف فيها لذلك. وأما مسألة الجواميس فصحيحة لا يدخل الاختلاف فيها، لأن التبيع من الجواميس إنما أخذ عن ثلاثين منها وبقيت عشرة منها غير مزكاة باتفاق، فوجب أن يؤخذ التبيع الثاني من البقر الأخرى التي هي أكثر. وقد روي عن سحنون في(1/292)
مسألة الجواميس المذكورة، وهي أربعون من الجواميس وعشرون من البقر، أنه يأخذ التبيعين من الجواميس، وهو بعيد وما له وجه حاشا أنه قسم الجواميس والبقر قسمين، فكان كل قسم عشرين جاموسا وعشرة من البقر فأخذ التبيع من الأكثر. ويلزم على هذا في اثنين وستين ضائنة وستين معزة أن تؤخذ الشاتان من الضأن. فما أبعد هذا في الاعتبار وعلى هذه الوجوه التي شرحت لك في الضأن والمعز فقس الجواميس مع البقر والبخت مع الإبل العراب فإنها منهاج لها ودليل عليها، وبالله التوفيق.
فصل وإذا زادت الغنم على ثلثمائة فالوقص عند ابن القاسم ما زاد على الثلاثمائة إلى أن تبلغ أربعمائة، فإذا بلغت أربعمائة فالوقص فيها ما زاد عليها إلى أن تبلغ خمسمائة، فإذا بلغت خمسمائة فالوقص فيها ما زاد عليها إلى أن تبلغ ستمائة، وكذلك ما زاد على هذا الحساب، لما جاء في الحديث من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فما زاد ففي كل مائة شاة» . ألا ترى إنه يقول في ثلاثمائة ضائنة وخمسين ضائنة، وخمسين معزة إنه يأخذ منها ثلاث ضائنات ويكون مخيرا في الرابعة إن شاء أخذها من الضأن وإن شاء أخذها من المعز، فبنى جوابه على أن الوقص غير مزكى وجعله من الضأن ما زاد على الثلثمائة فاعتدلت الضأن والمعز فخير الساعي. ولو جعل الوقص في الغنم ما زاد على مائتي شاة وشاة على الأصل لأخذ الأربعة من الضأن. ولو بنى جوابه على أن الأوقاص مزكاة لقال إنه يأخذ الرابعة من المعز دون أن يخير في ذلك الساعي. وقد كان القياس في هذه المسائل كلها أن يعرف ما يجب في مجموع الصنفين من عدد الرؤوس وما يقع من ذلك لكل صنف على عددها قل أو كثر فيؤخذ الرأس المنكسر من الصنف الذي وقع له أكثره، فإن استويا فيه أخذه من أيهما شاء. مثال ذلك أن تكون الضأن مائة وعشرين والمعز أربعين فالواجب في ذلك شاتان يقع من ذلك للضأن شاة ونصف وللمعز نصف شاة فيأخذ الواحدة من الضأن ويكون مخيرا في الأخرى يأخذها من أي الصنفين شاء. ولو كانت المعز أكثر فوقع(1/293)
لها من الشاتين أكثر من نصف شاة أخذت الشاة الواحدة منها. ولو كانت المعز أقل فوقع لها من الشاتين أقل من نصف شاة أخذت الشاتان من الضأن ولم يؤخذ من المعز شيء، والله سبحانه وتعالى أعلم وبالله التوفيق.
[فصل في زكاة الحلي]
أجمع أهل العلم على أن العين من الذهب والورق في عينه الزكاة تبرا كان أو مسكوكا أو مصوغا صياغة لا يجوز اتخاذها، نوى به مالكه التجارة أو القنية. واختلف إذا صيغ صياغة يجوز اتخاذها. فالذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنه في الاشتراء والفائدة على ما نوى به مالكه، فإن نوى به التجارة زكاه، وإن نوى به الاقتناء للانتفاع بعينه فيما ينتفع فيه بمثله سقطت عنه الزكاة. وتخصص من أصله بالقياس على العروض المقتناة التي نص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سقوط الزكاة فيها بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة» واعتبر في صحة العلة الجامعة بينهما بقول الله عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] فإن نوى به القنية عدة للزمان أولم تكن له نية في اقتنائه رجع على الأصل ووجبت فيه الزكاة. وإن اتخذه للكراء وهو ممن يصلح له الانتفاع به في وجه مباح ففي ذلك روايتان: إحداهما وجوب الزكاة. والثانية سقوطها، وقد روي عنه استحباب الزكاة، وذلك راجع إلى إسقاط الوجوب.
فصل فإن كان الحلي مربوطا بالحجارة كاللؤلؤ والزبرجد ربط صياغة فاختلفت الرواية عن مالك في ذلك أيضا، فروى عنه أشهب أن حكمه حكم العروض في جميع أحواله، كان الذهب تبعا لما معه من الحجارة أو غير تبع، يقومه التاجر المدير إذا حال حوله، ولا يزكيه التاجر غير المدير حتى يبيعه وإن مرت عليه(1/294)
أحوال. وإن أفاده لم تجب عليه فيه زكاة حتى يبيعه ويحول على الثمن الحول من يوم باعه وقبض ثمنه إن كان ما تجب فيه الزكاة، أو كان له مال سواه إذا أضافه إليه وجبت فيه الزكاة. وروى ابن القاسم عنه أن ربطه بالحجارة لا تأثير له في حكم الزكاة إلا في وجه واحد اختلف فيه قوله، وهو إذا كان الذهب تبعا لما معه من الحجارة، فإن ورثه وحال عليه الحول زكى ما فيه من الذهب والورق تحريا ولم يكن عليه زكاة فيما فيه من الحجارة حتى يبيعه ويحول الحول على ثمنه من يوم قبضه. ووجه العمل في ذلك إذا باعه جملة أن يفض الثمن على قيمة ما فيه من الذهب أو الورق مصوغا وعلى قيمة الحجارة فيزكى ما ناب الحجارة من ذلك إذا حال عليه الحول. وإن اشتراه للتجارة وهو مدير قوم ما فيه من الحجارة وزكى وزن ما فيه من الذهب والورق تحريا ولم يجب عليه تقويم الصياغة. هذا ظاهر المدونة. وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه يجب عليه تقويم الصياغة. وإن اشتراه للتجارة وهو غير مدير زكى إذا حال عليه الحول وزن ما فيه من الذهب أو الورق تحريا، ولم يجب عليه زكاة ما فيه من الحجارة حتى يبيع، فإذا باع زكى ثمن ذلك زكاة واحدة وإن كان بعد أعوام. ووجه العمل في ذلك إذا باع جملة على ظاهر ما في المدونة أن يفض الثمن على قيمة الذهب أو الورق مصوغا وعلى قيمة الحجارة فيزكي ما ناب الحجارة من ذلك. وعلى ما ذهب إليه أبو إسحاق التونسي لا يحتاج إلى الفض وإنما يسقط من الثمن عدد ما زكاه تحريا ويزكي الباقي. والذي ذكرناه هو المشهور المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك.
ووقع في المدونة بين رواية ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع وأشهب لفظ فيه إشكال والتباس واختلاف في الرواية، اختلف الشيوخ في تأويله وتخريجه اختلافا كثيرا. ونص الرواية: وقد روى ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع أيضا إذا اشترى الرجل حليا أو ورثه فحبسه للبيع كلما احتاج إليه باع أو للتجارة، وروى أشهب فيمن اشترى حليا للتجارة معهم وهو مربوط بالحجارة لا يستطيع نزعه فلا زكاة عليه فيه حتى يبينه. وإن كان ليس بمربوط فهو بمنزلة العين يخرج زكاته في كل عام. زاد في بعض الروايات زكاه بعد قوله كلما احتاج إليه باع أو لتجارة وأسقط معهم. فأما على هذه الرواية بثبوت لفظة زكاه وإسقاط لفظة معهم فتستقيم(1/295)
المسألة ويرتفع الالتباس، لأن رواية أشهب تكون حينئذ منفردة منقطعة عما قبلها جارية على مذهبه المعلوم وروايته عنه، ويكون معنى رواية ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع أنه حلي ذهب وفضة لا حجارة معها. وأما على الرواية الأخرى إذا سقطت لفظة زكاه وثبتت لفظة معهم فمن الشيوخ من قال إنها رواية خطأ لا يستقيم الكلام بها، لأن اللفظ يدل إذا اعتبرته على خلاف الأصول من وجوب الزكاة في العروض المقتناة ساعة المبيع لقوله فلا زكاة عليه حتى يبيع، وهو قد جمع الشراء والميراث في حلى مربوط بالحجارة، والحجارة عروض، لا اختلاف أن الزكاة لا تجب فيها إذا كانت موروثة إلا بعد أن يحول الحول على ثمنها بعد قبضه. ومنهم من قال معنى ذلك أنه إذا باع وكان ذلك الحلي المربوط بالحجارة من ميراث إنه يزكي ما ينوب الذهب ويستقبل بما ينوب الحجارة سنة من يوم قبضه. وإن كان من شراء زكى الجميع إذا باع مديرا كان أو غير مدير. وهذا تأويل ابن لبابة، فيكون على هذا التأويل في الكتاب في الحلي المربوط بالحجارة ثلاثة أقوال. ومنهم من قال معنى الرواية أن المدير يقوم مثل رواية أشهب، فيكون على هذا لمالك في الكتاب قولان. ومنهم من قال معنى ذلك أن المدير يقوم وأن ما تكلم عليه ابن القاسم قبل في المدير وغير المدير معناه في الحلي الذي ليس بمربوط، وأن الذي تدل عليه رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة في الحلي المربوط مثل ما ذهب إليه مالك في رواية أشهب عنه، فلم يجعل في الحلي المربوط اختلافا. وفي جميع التأويلات بعد، وهذا أبعدها. والصحيح في تأويل الرواية المذكورة إذا سقط منها زكاه وثبت فيها معهم أن جواب مالك في رواية ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع عنه في قوله: وإن كان ليس بمربوط فهو بمنزلة العين يخرج زكاته في كل عام، وأن جوابه في رواية أشهب عنه في قوله فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه، وأنه انفرد دونهم في الرواية عنه في الحلي المربوط، وانفردوا دونه في الرواية عنه في الحلي الذي ليس بمربوط. وإنما وقع الإشكال في الرواية إذ جمعهم الراوي في(1/296)
الرواية أولا ثم فصل ما انفرد به كل واحد منهم دون صاحبه، وقصر في العبارة بتقديم بعض الكلام على بعض.
والصواب في سوق الكلام دون تقصير في العبارة إن شاء الله أن يقول: وقد روى ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع وأشهب إذا اشترى الرجل حليا أو ورثه فحبسه للبيع كلما احتاج إليه باعه أو لتجارة، قال في رواية أشهب عنه فيما اشتراه للتجارة وهو مربوط بالحجارة لا يستطيع نزعه فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه. قال في رواية ابن القاسم وعلي وابن نافع: وإن كان ليس بمربوط فهو بمنزلة العين زكاته في كل عام اشتراه أو ورثه. فعلى هذا التأويل إنما تكلم مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في رواية ابن القاسم وعلي وابن نافع في الحلي الذي ليس بمربوط، وهي زيادة بيان فيما رواه عنه منفردا في الحلي المربوط، ولم يجتمع ابن القاسم وأشهب في الرواية عن مالك في الحلي المربوط في لفظ ولا معنى. وهذا التأويل هو الذي اخترناه وعولنا عليه لصحته وجريانه على المعلوم المتقرر من روايتهما جميعا المختلفة عن مالك في الحلي المربوط، وإليه ذهب سحنون فيما جلبه من الروايتين والله أعلم.
ويحتمل أن يكون تأويل الرواية المذكورة بسقوط زكاه وثبوت معهم أن جواب مالك في رواية أشهب معهم في قوله وإن كان ليس بمربوط فهو بمنزلة العين يخرج زكاته في كل عام، وإن جوابه في رواية أشهب دونهم في الشراء خاصة في قوله فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه، وأن مجامعهم في الرواية في الحلي الذي ليس بمربوط، وانفرد دونهم في الرواية في الحلي المربوط في الشراء خاصة. ويكون الصواب في سوق الكلام على هذا التأويل دون تقصير في العبارة أن يقول: وقد روى ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع وأشهب إذا اشترى الرجل حليا أو ورثه فحبسه للبيع كلما احتاج إليه باع أو لتجارة، قال في رواية أشهب عنه دونهم إذا اشتراه للتجارة وهو مربوط بالحجارة لا يستطيع نزعه فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه. وقال في روايتهم كلهم وأشهب معهم: وإن كان ليس بمربوط بالحجارة فهو(1/297)
بمنزلة العين يخرج زكاته في كل عام اشتراه أو ورثه فحبسه للبيع كلما احتاج إليه باع أو للتجارة. وهذا التأويل أيضا صحيح بين، وفيه زيادة بيان على التأويل الذي اخترناه، وهو أن الحلي الذي ليس بمربوط لا اختلاف فيه بين الرواة عن مالك، وبالله التوفيق.(1/298)
[القول في المعادن]
القول في المعادن يرجع إلى ثلاثة فصول: أحدها معرفة حكم أصولها وهل هي تبع للأرض التي هي فيها أم لا، والثاني معرفة وجه حكم المعاملة في العمل فيها، والثالث معرفة ما يجب فيما يخرج منها من الذهب والفضة.
فصل فأما أصولها فاختلف فيها على قولين:
أحدهما: أنها ليست بتبع للأرض التي هي فيها، مملوكة كانت أو غير مملوكة، وأن الأمر فيها إلى الإمام يليها ويقطعها لمن يعمل فيها بوجه الاجتهاد حياة المقطع أو مدة ما من الزمان من غير أن يملكه أصلها، ويأخذ منها الزكاة على كل حال على «ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من أنه أقطع لبلال بن الحارث المزني معادن من معادن القبلية» فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة، إلا أن تكون في أرض قوم صالحوا عليها فيكونون أحق بها يعاملون فيها كيف شاءوا المسلمين على ما يجوز لهم إن شاءوا. فإن أسلموا رجع أمرها إلى الإمام. هذا مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة ورواية يحيى عن ابن القاسم في العتبية.
والثاني أنها تبع للأرض التي هي فيها، فإن كانت في أرض حرة أو في أرض العنوة أو في الفيافي التي هي غير ممتلكة كان أمرها إلى الإمام يقطعها لمن يعمل(1/299)
فيها أو يعامل الناس على العمل فيها لجماعة المسلمين على ما يجوز له، ويأخذ منها الزكاة على كل حال. وإن كانت في أرض متملكة فهي ملك لصاحب الأرض يعمل فيها ما يعمل ذو الملك في ملكه. وإن كانت في أرض الصلح كان أهل الصلح أحق بها إلا أن يسلموا فتكون لهم. هذا مذهب سحنون ومثله لمالك في كتاب ابن المواز.
وجه القول الأول أن الذهب والفضة اللذين في المعادن التي هي في جوف الأرض أقدم من ملك المالكين لها، فلم يجعل ذلك ملكا لهم بملك الأرض، إذ هو ظاهر قول الله تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128] إذ لم يقل الأرض لله يورثها وما فيها من يشاء من عباده فوجب بنحو هذا الظاهر أن يكون ما في جوف الأرض من ذهب أو ورق في المعادن فيئا لجميع المسلمين بمنزلة ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب.
ووجه القول الثاني أنه لما كان الذهب والفضة نابتين في الأرض كانا لصاحب الأرض بمنزلة ما نبت فيها من الحشيش والشجر. والقول الأول أظهر، لأن الحشيش والشجر نابتان في الأرض بعد الملك بخلاف الذهب والورق في المعادن.
وأما وجه حكم المعاملة في العمل فيها فهو أن يكون على سبيل الإجارة الصحيحة. وقد اختلف هل تجوز المعاملة فيها على الجزء منها أم لا على قولين: أحدهما أن ذلك لا يجوز لأنه غرر، وهو قول أصبغ في العتبية واختيار محمد بن المواز وقول أكثر أصحاب مالك. والثاني أن ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم في أصل الأسدية، واختيار الفضل بن سلمة، قال لأن المعادن لما لم يجز بيعها جازت المعاملة فيها على الجزء منها قياسا على المساقاة والقراض.
فصل وأما ما يجب فيما يخرج منها فاختلف فيه اختلافا كثيرا. والذي ذهب إليه(1/300)
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه أن فيها الزكاة قياسا على الزرع الذي يخرج من الأرض، لأن الذهب والفضة يخرجان منها كما يخرج الزرع منها، ويعتمل كما يعتمل الزرع، فيعتبر فيه النصاب، ولا يعتبر فيه الحول كما لا يعتبر في الزرع، لقول الله عز وجل: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] إلا أن توجد فيه ندرة خالصة فيكون فيها الخمس على مذهبه في المدونة، وفي ذلك اختلاف.
فصل فإذا نض لصاحب المعدن من نيل المعدن وزن عشرين دينارا أو مائتي درهم كيلا وجبت عليه في ذلك الزكاة، ثم ما زاد بحسابه ما اتصل النيل ولم ينقطع العرق، وسواء بقي ما نض في يده إلى أن كمل النصاب أو أنفقه قبل ذلك على حكم الرجل يكون له الدين قد حل عليه الحول فقبضه شيئا بعد شيء. وإن تلف ذلك من يده بغير سببه فعلى الاختلاف فيما تلف مما قبض من الدين: قال ابن المواز لا يضمنه، وقال ابن القاسم يضمنه. وهذا الاختلاف إنما يصح عندي إذا تلف في الحد الذي لو تلف فيه المال بعد الحول لم يضمن وأما إن انقطع النيل بتمام العرق ثم وجد عرقا آخر في المعدن نفسه فإنه يستأنف فيه مراعاة النصاب. وفي هذا الوجه تفصيل، إذ لا يخلو ما نض إليه من النيل الأول أن يتلف من يده قبل أن يبدأ النيل الثاني أو أن يتلف من يده بعد أن بدأ النيل الثاني، أو أن يبقى بيده إلى أن كمل عليه من النيل الثاني في تمام النصاب.
فصل وأما إن تلف من يده قبل أن يبدأ النيل الثاني فلا اختلاف في أنه لا زكاة عليه فيما يحصل إليه من الثاني حتى يكمل عنده النصاب منه كاملا، لأنه في التمثيل(1/301)
كمن أفاد عشرة دنانير فحال عليها الحول ثم تلفت بعد الحول ثم أفاد بعد تلفها فائدة أخرى، فلا اختلاف في أنه لا يضيفها إلى الفائدة التي تلفت قبل أن يفيد هذه. وأما إن تلفت من يده بعد أن بدأ النيل الثاني وقبل أن يكمل عنده بما كان تلف من الأول النصاب فيتخرج ذلك على قولين: أحدهما أن عليه الزكاة إذا كمل له النصاب بما نض له من الثاني إلى ما كان تلف من الأول. والثاني أنه لا زكاة عليه لأنه في التمثيل كمن أفاد عشرة دنانير ثم أفاد بعد ستة أشهر عشرة دنانير أخرى فحال الحول على العشرة الثانية وقد تلفت العشرة الأولى بعد حلول الحول عليها، فتجب عليه الزكاة عند أشهب، ولا تجب عليه عند ابن القاسم.
فصل ومن كانت له معادن فانقطع نيل أحدها ثم بدأ النيل في الآخر فالحكم في ذلك حكم المعدن الواحد ينقطع نيله ثم يعود بعد ذلك في أنه لا يضاف إليه. واختلف إذا بدأ الثاني قبل أن ينقطع الأول فقيل إنه لا يضيفه إليه بمنزلة المعدن الواحد ينقطع نيله ثم يعود، وهو قول سحنون. وقيل إنه يضيفه إليه، وهو قول محمد بن سلمة والذي يأتي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، لأن المعادن بمنزلة الأرضين، فكما يضيف زرع الأرض إلى زرع الأرض الأخرى إذا زرع الثاني قبل حصاد الأول، فكذلك يضيف نيل المعدن إلى نيل المعدن الآخر إذا بدأ الثاني قبل انقطاع الأول. وبيان هذا بالمثال أن يكون للرجل معادن يعمل فيها فينيل أحدها ويتمادى النيل فيه إلى أن ينيل الثاني فيتمادى النيل فيهما إلى أن ينيل الثالث فيتمادى النيل فيها كلها إلى أن ينيل الرابع هكذا وإن كثرت فإنه يضيفها كلها لاتصال النيل فيها. ولو أنال الأول فتمادى النيل فيه إلى أن أنال الثاني، ثم انقطع نيل الأول وتمادى نيل الثاني إلى أن أنال الثالث، فإنه ههنا يضيف الأول إلى الثاني والثاني إلى الثالث، ولا يضيف الأول إلى الثالث. ولو أنال الأول فتمادى النيل فيه إلى أن أنال الثاني فتمادى نيل الثاني مع الأول مدة ثم انقطع نيل الثاني وتمادى نيل الأول إلى أن أنال الثالث فإنه ههنا يضيف الأول إلى الثاني(1/302)
والثالث لاتصال نيله بهما جميعا، ولا يضيف الثاني إلى الثالث لانقطاع الثاني قبل أن ينيل الثالث. وعودة نيل أحدهما بعينه بعد انقطاعه كابتداء نيل أحدهما بعد انقطاع نيل صاحبه في القياس سواء. فقس على هذا تصب إن شاء الله تعالى.
[فصل في زكاة الديون]
فصل
في زكاة الديون الديون في الزكاة تنقسم على أربعة أقسام: دين من فائدة، ودين من غصب، ودين من قرض، ودين من تجارة.
فأما الدين من الفائدة فإنه ينقسم على أربعة أقسام:
أحدها: أن يكون من ميراث أو عطية أو أرش جناية أو مهر امرأة أو ثمن خلع وما أشبه ذلك، فهذا لا زكاة فيه حالا كان أو مؤجلا حتى يقبض ويحول الحول عليه من بعد القبض ولا دين على صاحبه يسقط عنه الزكاة فيه. وإن ترك قبضه فرارا من الزكاة لم يوجب ذلك عليه فيه الزكاة.
والثاني أن يكون من ثمن عرض أفاده بوجه من وجوه الفوائد، فهذا لا زكاة فيه حتى يقبض ويحول الحول عليه بعد القبض، وسواء كان باعه بالنقد أو بالتأخير. وقال ابن الماجشون والمغيرة إن كان باعه بثمن إلى أجل فقبضه بعد حول زكاه ساعة يقبضه، فإن ترك قبضه فرارا من الزكاة تخرج ذلك على قولين: أحدهما أنه يزكيه لما مضى من الأعوام، والثاني أنه يبقى على حكمه فلا يزكيه حتى يحول عليه الحول من بعد قبضه أو حتى يقبضه إن كان باعه بثمن إلى أجل على الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك.
والثالث أن يكون من ثمن عرض اشتراه بناض عنده للقنية، فهذا إن كان باعه بالنقد لم تجب عليه فيه زكاة حتى يقبضه ويحول عليه الحول بعد القبض. وإن كان باعه بتأخير فقبضه بعد حول زكاه ساعة يقبضه. وإن ترك قبضه فرارا من الزكاة زكاه لما مضى من الأعوام، ولا خلاف في وجه من وجوه هذا القسم.(1/303)
والرابع أن يكون الدين من كراء أو إجارة، فهذا إن كان قبضه بعد استيفاء السكنى والخدمة كان الحكم فيه على ما تقدم في القسم الثاني، وإن كان قبضه قبل استيفاء العمل مثل أن يؤاجر نفسه ثلاثة أعوام بستين دينارا فيقبضها معجلة ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه يزكي إذا حال الحول ما يجب له من الإجارة وذلك عشرون دينارا، لأنه قد بقيت في يده منذ قبضها حولا كاملا، ثم يزكي كلما مضى به من المدة شيء له بال ما يجب له من الكراء إلى أن يزكي جميع الستين لانقطاع الثلاثة الأعوام. وهذا يأتي على ما في سماع سحنون عن ابن القاسم وعلى قياس قول غير ابن القاسم في المدونة في مسألة هبة الدين هو عليه بعد حلول الحول عليه. والثاني أنه يزكي إذا حال الحول تسعة وثلاثين دينارا ونصف دينار، وهو نص ما قاله ابن المواز على قياس القول الأول. والثالث أنه لا زكاة عليه في شيء من الستين حتى يمضي العام الثاني، فإذا مر زكى عشرين، لأن ما ينوبها من العمل دين عليه فلا يسقط إلا بمرور العام شيئا بعد شيء، فوجب استئناف حول آخر بها منذ تم سقوط الدين عنها.
وأما الدين من الغصب ففيه من المذهب قولان: أحدهما وهو المشهور أنه يزكيه زكاة واحدة ساعة يقبضه كدين القرض. والثاني أنه يستقبل به حولا مستأنفا من يوم يقبضه كدين الفائدة. وقد قيل إنه يزكيه للأعوام الماضية، وبذلك كتب عمر ابن عبد العزيز إلى بعض عماله في مال قبضه بعض الولاة ظلما، ثم عقب بعد ذلك بكتاب آخر أن لا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة لا أنه كان ضمارا.
وأما دين القرض فيزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من السنين. واختلف هل يقومه المدير أم لا، فقيل إنه يقومه، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل إنه لا يقومه، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف فيمن له مالان يدير أحدهما ولا يدير الآخر، لأن المدير إذا أقرض من المال الذي يدير قرضا فقد أخرجه بذلك عن الإدارة.(1/304)
وأما دين التجارة فلا اختلاف في أن حكمه حكم عروض التجارة يقومه المدير ويزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من الأعوام، كما يقوم المدير عروض التجارة. ولا يزكيها غير المدير حتى يبيع فيزكيها زكاة واحدة لما مضى من الأعوام. وإذا قبض من الدين أقل من نصاب أو باع من العروض بعد أن حال عليه الحول بأقل من نصاب فلا زكاة عليه حتى يقبض تمام النصاب أو يبيع بتمامه. فإذا كمل عنده تمام النصاب زكى جميعه، كان ما قبض أولا قائما بيده أو كان قد أنفقه. واختلف إن كان تلف من غير سببه، فقال محمد بن المواز لا ضمان عليه فيه لأنه بمنزلة مال تلف بعد حلول الحول عليه من غير تفريط. فعلى قياس قول مالك في هذه المسألة التي نظرها بها تسقط عنه زكاة باقي الدين إن لم يكن فيه نصاب. وعلى قول محمد بن الجهم فيها يزكي الباقي إذا قبضه وإن كان أقل من نصاب، وهو الأظهر، لأن المساكين تنزلوا معه بمنزلة الشركاء، فكانت المصيبة فيما تلف منه ومنهم، وكان ما بقي بينه وبينهم قل أو كثر. وقال ابن القاسم وأشهب يزكي الجميع. وهذا الاختلاف إنما يكون إذا تلف بعد أن مضى من المدة ما لو كان ما تجب فيه الزكاة لضمنه. وأما إن تلف بفور قبضه فلا اختلاف في أنه لا يضمن ما دون النصاب، كما لا يضمن النصاب. وقول ابن المواز أظهر، لأن مادون النصاب لا زكاة عليه فيه فوجب أن لا يضمنه في البعد كما لا يضمنه في القرب. ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم وأشهب من أنه يضمن ما تلف بغير سببه في البعد مراعاة لقول من يوجب الزكاة في الدين وإن لم يقبض، فهو استحسان.
فصل وإذا تخلل الاقتضاء فوائد وكان كلما اقتضى من الدين شيئا أنفقه، وكلما حال الحول على فائدة أفادها أنفقها، فمذهب أشهب في ذلك أن يضيف كل ما اقتضى من الدين وكل ما حال عليه الحول من الفوائد إلى ما كان اقتضى قبله من الدين وأنفقه وإلى ما كان حال عليه الحول من الفوائد قبله فأنفقه. وأما ابن القاسم فمذهبه أن يضيف الدين إلى ما أنفقه من الدين وإلى ما أنفقه من الفوائد بعد حلول الحول عليها، ولا يضيف الفائدة التي حال الحول عليها إلى ما أنفقه من الدين بعد(1/305)
اقتضائه ولا إلى ما أنفقه من الفوائد بعد حلول الحول عليها. مثال ذلك أن يقتضي من دين له خمسة دنانير فينفقها وله فائدة لم يحل عليها الحول وهي عشرة دنانير، فينفقها بعد حلول الحول عليها، ثم يقبض من دينه عشرة فإنه يزكيها مع العشرة الفائدة التي أنفقها، ولا يزكي الخمسة الأولى التي اقتضى من الدين حتى يقتضي منه خمسة وبالله التوفيق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[فصل في زكاة الأحباس الموقوفة والصدقات والهبات المبتولة]
فصل
في زكاة الأحباس الموقوفة والصدقات والهبات المبتولة الأحباس الموقوفة تنقسم في الزكاة على قسمين: أحدهما ما تجب فيه الزكاة في غلته ولا تجب في عينه، والثاني ما تجب الزكاة في عينه ولا تجب في غلته [لأنها فائدة إلا بما تجب به الزكاة في الفوائد فأما ما تجب الزكاة في غلته] ولا تجب في عينه، وذلك حوائط النخيل والأعناب، فإن كانت محبسة موقوفة على غير معينين مثل المساكين وبني زهرة وبني تميم فلا خلاف أن ثمرتها مزكاة على ملك المحبس، وأن الزكاة تجب في ثمرتها إذا بلغت جملتها ما تجب فيه الزكاة، وكذلك إن أثمرت في حياة المحبس وله حوائط لم يحبسها فاجتمع في جميع ذلك ما تجب فيه الزكاة. واختلف إن كانت محبسه على معينين، فقال ابن القاسم في المدونة إنها أيضا مزكاة على ملك المحبس. وفي كتاب ابن المواز أنها مزكاة على ملك المحبس عليهم. فمن بلغت حصته منهم ما تجب فيه الزكاة زكى عليه، ومن لم تبلغ حصته منهم ما تجب فيه الزكاة لم تجب عليه زكاة. وقول ابن القاسم هذا على أصل قوله في كتاب الحبس إن من مات من المحبس عليه قبل طيب الثمرة لم يورث عنه نصيبه منها ورجع على أصحابه. وما في كتاب ابن المواز على أصل قول أشهب في كتاب الحبس المذكور أن من مات من المحبس عليهم بعد أن بلغت الثمرة حد إبارها فحقه واجب لورثته.(1/306)
فصل واختلف إن كان الحبس على ولد فلان هل يحمل ذلك محمل التعيين أم لا على قولين قائمين من المدونة في الوصايا وفي غيرها.
فصل وأما ما تجب الزكاة في عينه ولا تجب في غلته إلا بما تجب به الزكاة في الفوائد، وذلك المواشي من الإبل والبقر والغنم والعين من الدنانير والدراهم وأتبارهما.
فإذا كان ذلك محبسا موقوفا للانتفاع بغلته في وجه من وجوه البر فلا اختلاف أن الزكاة تجب في جميع ذلك كل سنة على ملك المحبس كانت موقوفة لمعينين أو في المساكين وابن السبيل.
فصل والحكم في زكاة أولاد هذه الماشية المحبسة الموقوفة إن كانت وقفت للانتفاع بنسلها وغلتها كالحكم في زكاة ثمار الحوائط المحبسة الموقوفة تزكى مع الأمهات على حولها وملك المحبس لها إن كانت محبسة على قوم غير معينين قولا واحدا، وكذلك إن كانت محبسة على قوم معينين على ما في المدونة، وأما على ما في كتاب ابن المواز فتزكى على ملك المحبس عليهم إذا حال الحول على ما بيد كل واحد منهم من يوم الولادة وفيه ما تجب فيه الزكاة.
فصل واختلف إن كانت الماشية من الإبل والبقر والعين من الدنانير والدراهم ووقفت لتفرق في المساكين وابن السبيل لا ينتفع بغلتها، فحال عليها الحول قبل أن تفرق، في المدونة إنه لا زكاة في شيء من ذلك لأنه يفرق ولا يمسك، ولم يعط فيها جوابا إن كانت تفرق على معينين. والذي يأتي على مذهب ابن القاسم فيها أن الدنانير لا زكاة فيها كانت تفرق على المساكين أو على معينين. ومثله في كتاب ابن(1/307)
المواز. وأما الماشية فينبغي على مذهبه في المدونة إذا كانت تفرق على معينين أن يزكي كل من صار في حظه منهم ما تجب فيه الزكاة، وهو قول أشهب في كتاب ابن المواز نصا أنه إن كانت تفرق على المساكين فلا زكاة فيها، وإن كانت تفرق على معينين فيزكي كل من صار في حظه منهم ما تجب فيه الزكاة. ويلزم مثله في الدنانير على مذهب من يرى على من ورث دنانير غائبة زكاتها إذا حال الحول عليها وإن لم يقبضها، لأن الفرق بين الماشية والعين في المعينين أن من أوصي له بنصاب من العين أو أفاده بوجه من الوجوه فلا زكاة عليه فيه حتى يحول عليه الحول من يوم قبضه، ومن أوصي له بنصاب من الماشية تجب عليه فيه الزكاة بحلول الحول قبضه أو لم يقبضه. وفي كتاب محمد أن الزكاة تجب في جملة الماشية إن كانت تفرق على غير معينين، وفي حظ من وجب في حظه منهم الزكاة إن كانت تفرق على معينين. فرآها على هذا القول مزكاة على ملك واهبها أو الموصي بها إن كانت تفرق على غير معينين، وعلى أملاك الذين تفرق عليهم إن كانوا معينين. ويلزم بالقياس مثله في الدنانير. ووقع في كتاب محمد أيضا ما ظاهره أن الماشية لا زكاة فيها وإن كانت تفرق على معينين يصير في حظ كل واحد منهم ما تجب فيه الزكاة، وهذا لا وجه له في النظر، إذ لم يختلف في أن من أفاد ماشية تجب عليه الزكاة بحلول الحول وإن لم يقبضها.
فصل فعلى هذا يأتي في الماشية الموقفة للتفرقة ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا زكاة فيها إن كانت تفرق على غير معينين، وأن الزكاة في حظ كل واحد منهم إن كانوا معينين، وهو نص قول أشهب في كتاب ابن المواز ومعنى ما في المدونة. والثاني أن الزكاة تجب في جملتها إن كانت تفرق على غير معينين، وفي حظ كل واحد منهم إن كانوا معينين، وهو قول ابن القاسم في كتاب المواز. والثالث ألا زكاة فيها كانت تفرق على معينين أو على غير معينين، وهذا أبعد الأقاويل على ما ذكرناه. فهذه ثلاثة أقوال في الجملة، وهي على التفصيل قولان في كل طرف إن كانت تقسم على غير معينين فقيل إنه لا زكاة فيها وقيل إن فيها الزكاة على ملك المحبس(1/308)
لها، وإن كانت تقسم على معينين فقيل إنه لا زكاة فيها وقيل إنها تزكى على أملاك الذين تقسم عليهم.
فصل وأولاد هذه الماشية إذا سكت عنها تبع لها في الزكاة تزكى معها في الموضع الذي تزكى فيه على ما تقدم من الاختلاف. وأما إن كانت تفرق على غير من تفرق عليه الأمهات فالحكم في زكاتها على ما تقدم في أولاد الماشية المحبسة الموقوفة قبل هذا.
فصل وفي العين ثلاثة أقوال أيضا: أحدها أن الزكاة لا تجب فيه كان يفرق على معينين أو على غير معينين، وهو نص ما في كتاب ابن المواز ومعنى ما في المدونة. والثاني أن الزكاة لا تجب فيه إن كان يفرق على غير معينين وأنها تجب في حظ كل واحد منهم إن كانوا معينين. وهذا القول خرجناه على مذهب من يرى في فائدة العين الزكاة بحلول الحول عليه قبل القبض. والثالث أن الزكاة تجب في جملتها إن كانت تفرق على غير معينين وفي حظ كل واحد منهم إن كانوا معينين. وهذا القول خرجناه بالقياس على ما في كتاب محمد بن المواز على ما ذكرناه. فهذه ثلاثة أقوال في الجملة، ويأتي على التفصيل قولان في كل طرف إن كانت تقسم على غير معينين فقيل إنه لا زكاة فيها، وقيل إنها تزكى جملتها على ملك المحبس لها. وإن كانت تقسم على معينين فقيل إنه لا زكاة فيها، وقيل إنها تزكى على أملاك الذين تقسم عليهم إن بلغت حصة كل واحد منهم ما تجب فيه الزكاة.
فصل وأما زكاة الثمرة المتصدق بها والموهوبة المبتولة لعام واحد أو لأعوام معلومة مسماة، فإن كانت على المساكين فلا اختلاف أنها مزكاة على ملك واهبها أو المتصدق بها إن كان في جملتها ما تجب فيه الزكاة، أو لم يكن فيها ما تجب فيه الزكاة إلا أنه إذا أضافه إلى ما بقي في ملكه وجبت فيه الزكاة. وأما إن كانت على(1/309)
معينين فاختلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها أنها مزكاة على ملك الواهب لها أيضا، وهو مذهب سحنون، ولا تخرج الزكاة منها على قوله إلا بعد يمين الواهب أنه لم يرد تحمل الزكاة في ماله. والثاني أنها مزكاة على ملك الموهوب لهم والمتصدق عليهم أو المعرين، فمن كان منهم في حظه ما تجب فيه الزكاة وجبت عليه الزكاة، ومن لم يكن في حظه من ذلك ما تجب فيه الزكاة لم تجب عليه الزكاة. والثالث الفرق بين الهبة والصدقة والعرية في أن الهبة والصدقة تزكى على ملك الموهوب لهم أو المتصدق عليهم، وإن زكاة العرية على المعري في ماله لا من العرية. وقد قيل إن العرية تؤخذ الزكاة منها على ملك المعري لا على ملك المعرى. فإن كان أعرى جماعة خمسة أوسق أو أقل من خمسة أوسق وفيما أبقى لنفسه تمام خمسة أوسق أخذت منها الصدقة.
فصل ففي زكاة العرية على هذا قولان: أحدهما أنها على المعري في ماله. والثاني أنها لا تجب إلا في ثمرة العرية. فإذا قلنا إنها لا تجب إلا في ثمرة العرية فهل تؤخذ منها على ملك المعري أو على ملك المعرين، في ذلك قولان، وبالله التوفيق.
[فصل في جواز إخراج الزكاة من المال قبل حلول الحول عليه وما يتعلق بذلك]
فصل
في جواز إخراج الزكاة من المال قبل حلول الحلول عليه وما يتعلق بذلك من ضمان زكاة ما تلف منه قبل الحول أو بعده بقرب ذلك أو أبعد منه اختلف فيمن أخرج زكاة ماله قبل حلول الحول عليه على قولين: أحدهما أن ذلك لا يجزئه، وهي رواية أشهب عن مالك. والثاني أنها تجزئة إذا كان بقرب ذلك. واختلف في حد القرب على أربعة أقوال: أحدها أنه اليوم واليومان ونحو ذلك، وهو قول ابن المواز. والثاني أنه العشرة الأيام ونحوها، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. والثالث أنه الشهر ونحوه وهي رواية عيسى عن ابن القاسم. والرابع أنه الشهران فما دونهما وهي رواية ابن زياد عن مالك.(1/310)
فصل فما أنفق الرجل من ماله قبل الحول بيسير أو كثير أو تلف منه فلا زكاة عليه فيه، ويزكي الباقي إذا حال عليه الحول وفيه ما تجب فيه الزكاة. وكذلك إن أخرج زكاة ماله قبل الحول بيسير أو كثير فتلفت أو أخرجها فنفذها في الوقت الذي لا يجوز له تنفيذها فيه يزكي الباقي إن كان بقي منه ما تجب فيه الزكاة إذا حال عليه الحول. وأما إن أخرجها فنفذها في الوقت الذي يجوز له إخراجها فيه من القرب على الاختلاف الذي ذكرناه على مذهب من يجيز له إخراج الزكاة قبل الحول بيسير فإنها تجزئه.
فصل وأما ما أنفق من ماله الذي تجب فيه الزكاة بعد الحول بيسير أو كثير أو تلف منه بعد الحول بكثير فالزكاة عليه فيه واجبة مع ما بقي له من ماله. واختلف فيما تلف منه بعد الحول بيسير، قال في كتاب ابن المواز: مثل اليوم وشبهه، فذهب مالك إلى أنه بمنزلة ما ذهب قبل الحول لا يحسبه لأنه لم يفرط، ويزكي الباقي إن كان ما تجب فيه الزكاة. وقال ابن الجهم: يزكي الباقي وإن لم يكن ما تجب فيه الزكاة، لأن المساكين نزلوا معه بعد الحول بمنزلة الشركاء، فما ضاع منه أو تلف بقرب الحول فمصيبته منه ومنهم. وأما إن أخرج زكاته بعد الحول ليفرقها فتلفت، فإن كان بعد محلها بالأيام اليسيرة فإنه يضمنها، قاله مالك في كتاب ابن المواز، وهو مفسر لما في المدونة، ولو كان بقرب الحول قبل أن يفرط. قال محمد بمثل اليوم وشبهه، فسرقت أو بعث بها إلى من يفرقها فسقطت فلا ضمان عليه، قاله مالك في رواية ابن نافع عنه في المجموعة. ولو بعث بصدقة حرثه أو ماشيته مع رسول لضمن، إذ الشأن فيها مجيء المصدق. ولو عزل صدقة العين من صندوقه فوضعها في ناحية بيته فذهبت لضمن، إذ لم يخرجها ما كانت في بيته، بخلاف الماشية إذا أخرجها فانتظر الساعي بها.
وقد وقع في مسائل هذا الباب في المدونة التباس. والذي يتحصل عندي(1/311)
منها أن الطعام إن ضاع جميعه في الأندر في عمله فلا ضمان عليه إذ لم يفرط. واختلف قول مالك إذا أدخله في منزله ثم تلف ولم يفرط، إما بأنه تلف بقرب إدخاله منزله ولم يمكنه دفعه للمساكين قبل أن يدخله منزله، أو بأنه ليس إليه تفريقه فانتظر مجيء الساعي، وإن طال انتظاره، فمرة فرق بينه وبين الدنانير ورآه ضامنا، ومرة لم يوجب عليه الضمان بمنزلة الدنانير. وكذلك إذا عزل العشر ليفرقه إن كان إليه تفريقه أو لينتظر به الساعي إن لم يكن إليه تفريقه فضاع بعد أن أدخله منزله ولم يفرط، إما بأنه تلف بقرب إدخاله منزله إن كان إليه تفريقه، وإما بأنه لم يكن إليه دفعه فانتظر مجيء الساعي فضاع بالقرب أو بالبعد، اختلف قول مالك في ذلك أيضا كاختلافه في المسألة الأولى، فمرة حمله محمل العين، ومرة رآه بخلاف ذلك. وقال ابن القاسم إن كان أشهد ولم يكن إليه تفريقه فلا ضمان عليه وإن تأخر عنه الساعي. وسواء على مذهب ابن القاسم ضاع العشر الذي عزله وأدخله منزله أو ضاع جميع الطعام وقد أدخله منزله ولم يعزل منه شيئا لا ضمان عليه في الوجهين جميعا ما أقام منتظرا الساعي إذا أشهد. وقول ابن القاسم خلاف قول مالك جميعا في هذا الطرف. وانظر على مذهب ابن القاسم إذا كان ممن لا يسعى عليه الساعي وكانت تفرقة زكاته إليه إن أدخل جميع الطعام أو عشره معزولا منزله فضاع بالقرب من غير تفريط هل هو عنده بمنزلة العين ويسقط عند الضمان أو هو عنده بخلاف العين ويكون ضامنا إلا أن يشهد. والأظهر عندي من مذهبه أنه لا ضمان عليه دان لم يشهد. وقول المخزومي في الباب مثل أحد قولي مالك إنه لا ضمان عليه وإن لم يشهد لأنه غير مفرط في انتظار الساعي وليس عليه أكثر مما صنع. وكذلك على مذهبه إن كان ممن إليه تفرقة زكاته فضاع بعد أن أدخله منزله بالقرب من غير تفريط. وأما إذا ضيع أو فرط حتى تلف فهو ضامن باتفاق، سواء أدخله منزله أو لم يدخله، ضاع جميعه أو عشره، معزولا كان أو لا، كان إليه تفريقه أو كان ممن يسعى عليه الساعي. وأشهب يفرق إذا عزل عشره فضاع من غير تفريط بين أن يكون إليه تفرقة زكاته أو إلى الساعي، فرأى أنه إذا كان إليه تفريق زكاته فلا ضمان عليه بمنزلة المال العين، وإذا كان إلى الساعي فهو بينهما جميعا وله أخذ(1/312)
عشر الباقي، كأنه يرى أنه لا يجوز مقاسمته على الساعي. قال أبو إسحاق التونسي من رأيه: أما إذا أدخله بيته على أنه ضامن للزكاة وأراد التصرف في ماله فهذا بين أنه ضامن إذا ضاع وعليه الزكاة، وأما لو خشي عليه في الأندر فأدخله في بيته على باب الحرز له فضاع لم يضمن شيئا. وهذا الذي قال أبو إسحاق كلام صحيح لا يصح أن يختلف فيه، وإنما الاختلاف إذا لم يعلم على أي الوجهين أدخله منزله، فمرة حمله مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على الضمان فضمنه ولم يصدقه أنه فعل ذلك على النظر وأنه أراد حرزه بإدخاله منزله، ومرة صدقه بأن فعله إنما كان منه على النظر وأنه أراد الحرز فصار الطعام عنده على وجه الأمانة فأسقط عنه الضمان. هذا الذي أعتقده في هذه المسألة، وهي في الكتاب مشكلة، حضرت المناظرة فيها عند شيخنا الفقيه أبي جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فتنازعنا فيها عنده تنازعا شديدا واختلفنا في تأويل وجوهها اختلافا بعيدا، فطال الكلام وكثر المراء والجدال ولم أقف على اعتقاد الشيخ رحمة الله عليه ورضوانه في جميع فروع المسألة وهذا الذي كتبته هو اعتقادي في هذا الباب والله أسأله العون والتوفيق بعزته لا شريك له.(1/313)
[كتاب الزكاة الثاني] [فصل في القول في زكاة القراض]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كتاب الزكاة الثاني فصل
في القول في زكاة القراض أجمع أهل العلم فيما علمت أن رأس مال القراض وحصة رب المال من الربح مزكى على ملك رب المال. وأما حصة العامل من الربح فتتخرج على ثلاثة أقوال في المذهب: أحدها أنها تزكى على ملك رب المال دون الاعتبار بملك العامل. والثاني أنها تزكى على ملك العامل دون الاعتبار بملك رب المال. والثالث أنها تزكى على ملكهما جميعا.
فصل فالقول في زكاة مال القراض يرجع إلى أربعة فصول: أحدها معرفة ما تجب به الزكاة على رب المال في رأس المال وحصته من الربح، أو في رأس المال وجميع الربح على مذهب من يرى حظ العامل من الربح مزكى على ملك رب المال، وهو مذهب سحنون وقول أشهب وروايته عن مالك واختيار محمد بن المواز. والثاني معرفة ما تجب به الزكاة على العامل في حظه من الربح على القول بأن حظه مزكى على ملكه. والثالث معرفة ما تجب به الزكاة على العامل في حظه من الربح على القول بأنه مزكى على ملكهما جميعا. والرابع معرفة وقت وجوب إخراجها.(1/315)
فصل فأما ما تجب به الزكاة على رب المال في رأس المال وحصته من الربح أو في رأس المال وجميع الربح على مذهب من يرى حظ العامل من الربح مزكى على ملك رب المال وهو قول أشهب وروايته عن مالك ومذهب سحنون حسبما ذكرناه فخمس شرائط في حقه، وهي الإسلام، والحرية، وعدم الدين، والنصاب في رأس المال وحصة رب المال من الربح أو في رأس المال وجميع الربح على المذهب المذكور أو ذلك مع مال إن كان له مال سواه قد أفاده قبله أو معه معا مما لم يدفعه إلى العامل، وحلول الحول على رأس المال من يوم أفاده.
فصل وتجب الزكاة على العامل في حظه من الربح على القول بأنه مزكى على ملكه بخمس شرائط أيضا في حقه، وهي الإسلام، والحرية، وعدم الدين، والنصاب في حظه من الربح أو في حظه منه مع مال سواه وإن كان له مال قد أفاده قبل أخذه المال، وحلول الحول عليه من يوم أخذه وإن لم يعمل فيه إلا قبل الحول بيسير.
فصل وتجب الزكاة عليه في حظه من الربح على القول بأنه مزكى على ملكهما جميعا بعشرة أوصاف، وهي: أن يكونا مسلمين، وأن يكونا حرين، وأن لا يكون على واحد منهما دين، والسابع أن يكون في رأس المال وحصة رب المال من الربح أو في رأس المال وحصته من الربح مع مال لرب المال سواه إن. كان له مال سواه قد أفاده قبله أو معه معا مما تجب فيه الزكاة. والثامن أن يكون في حظ العامل(1/316)
من الربح أو في حظه منه مع مال سواه إن كان له مال قد أفاده قبله ما تجب فيه الزكاة. والتاسع أن يحيل الحول على رب المال من يوم ملك النصاب الموصوف. والعاشر أن يحول الحول على العامل من يوم أخذ المال وإن لم يعمل فيه إلا قبل الحول بيسير.
فصل فهذه الثلاثة الأقوال مطردة راجعة إلى أصل وجارية على قياس. وأما ابن القاسم فلا يرجع مذهبه في زكاة حظ العامل من ربح القراض إلى أصل ولا يجري على قياس، لأنه اعتبر في بعض الشرائط المشترطة في وجوب الزكاة في ذلك ملكهما جميعا، واضطرب في بعضها قوله فلا هو راعى فيه ملكهما جميعا ولا ملك أحدهما بانفراده على صحة ما سنذكره ونبينه إن شاء الله تعالى.
فصل فالذي اعتبر فيه ملكهما جميعا الإسلام، والحرية، وعدم الدين، لم يختلف قوله فيما علمت أن العامل لا يلزمه زكاة الربح إلا أن يكونا حرين مسلمين وأن لا يكون على واحد منهما دين. والذي اضطرب فيه قوله النصاب، والحول. فأما النصاب فله فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يعتبر في رأس مال رب المال وحصته من الربح دون ما بيده مما لم يدفعه إلى العامل المقارض، فإن كان في ذلك ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حظه من الربح الزكاة قليلا كان أو كثيرا. هذا قول ابن القاسم في المدونة ومذهبه المشهور المعلوم، فلا هو اعتبر في هذا القول ملك العامل إذا وجبت عليه في حظه الزكاة وإن كان أقل من نصاب، ولا ملك رب المال إذا لم يضف رأس المال وحظه من الربح إلى ما بيده من غير مال القراض، فهو استحسان على غير قياس.
فصل واختلف على هذا القول إذا أخذ من العامل قبل تمام الحول بعض رأس المال وأبقى بيده بعضه ففاصله فيه بعد الحول، فقيل إن رب المال إن صار له في(1/317)
بقية رأس ماله وجميع حصته من الربح ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حظه الزكاة وإن لم يبلغ النصاب، وإن لم يصر لرب المال في بقية رأس ماله وجميع حصته من الربح ما تجب فيه الزكاة لم يجب على العامل في حظه الزكاة، ويضيف رب المال ما قبض من العامل بعد الحول إلى ما قبض منه قبل الحول إن كان باقيا بيده فيزكيه إن كان فيه باجتماعه ما تجب فيه الزكاة. هذه رواية أبي زيد عن ابن القاسم، وله في المجموعة مثله.
فصل وكذلك لو قبض منه قبل الحول جميع رأس ماله وبقي الربح بيده إلى أن حال عليه الحول فصار لرب المال منه ما تجب فيه الزكاة يزكي العامل ما صار له منه وإن قل، وإن لم يصر لرب المال منه ما تجب فيه الزكاة سقطت الزكاة عن العامل في حظه من الربح، وأضاف رب المال ما صار له منه إلى رأس المال الذي قبضه قبل حلول الحول فزكاه إن كان بيده وكان فيه ما تجب فيه الزكاة. وذهب محمد بن المواز فيما تأول عن ابن القاسم أنه إن قبض جميع رأس المال قبل الحول فلا زكاة على العامل في حظه من الربح وإن صار لرب المال في حظه الذي قبض منه بعد الحول ما تجب فيه الزكاة، وأنه إن قبض منه بعض رأس المال قبل الحول وأبقى بيده بعضه حتى حال عليه الحول فصار له في بقية رأس ماله وحصته ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حظه الزكاة. وإن لم يصر له في ذلك ما تجب فيه الزكاة ولا بقي له من المال الذي قبض قبل الحول ما يتم به النصاب لم تجب على العامل في حظه الزكاة لسقوط الزكاة عن رب المال. وإن كان قد بقي بيده مما قبض قبل الحول تتمة النصاب زكى ذلك وزكى العامل من ربحه ما ينوب منه ما بقي بيده من رأس المال إلى أن حال عليه الحول، وهذا تناقض.
فصل والثاني أنه يعتبر، أعني النصاب، في رأس المال وجميع الربح، وهي رواية أصبغ عنه، فلا هو اعتبر أيضا في هذا القول ملك العامل إذ أوجب عليه في حظه(1/318)
الزكاة إن لم يبلغ النصاب، ولا ملك رب المال إذ لم يضف رأس المال والربح إذا لم يكن فيه نصاب إلى ما بيده مما لم يدفعه إلى العامل في إيجاب الزكاة على العامل في حظه من الربح، وإنما أضافه إليه في إيجاب الزكاة عليه في رأس ماله وحصته من الربح، فهو أيضا استحسان جار على غير أصل ولا قياس.
فصل والقول الثالث أن الزكاة لا تجب على العامل في حظه من الربح إلا بأن يكون فيه ما تجب فيه الزكاة، وبأن يكون أيضا في رأس مال رب المال وربحه ما تجب فيه الزكاة. وهذا القول تأوله محمد بن المواز عن ابن القاسم ولا يوجد له نصا ولو وجد لكان أيضا استحسانا على غير قياس ولا أصل، إذ لم يعتبر في ذلك ملك أحدهما دون صاحبه على انفراده ولا ملكهما جميعا كما فعل في الحرية والإسلام وعدم الدين، إذ اقتصر في اعتبار النصاب على رأس المال وحصة رب المال من الربح دون أن يضيف إلى ذلك [ما لرب المال من غير مال القراض وعلى حصة العامل من الربح دون أن يضيف إلى ذلك] ، ما له من مال قد حال عليه الحول فيتم به النصاب.
فصل -
وأما الحول فله فيه قولان: أحدهما أن العامل لا تجب عليه في حظه من الربح الزكاة حتى يقيم المال بيده حولا من يوم أخذه وإن لم يعمل به إلا قبل أن يحول عليه الحول بيسير. هذا نص قوله في الزكاة من المدونة، وله في القراض منها دليل على أن الزكاة تجب عليه في حظه من الربح وإن لم يقم المال بيده حولا إذا كان في رأس مال رب المال وحصته من الربح ما تجب فيه الزكاة وحال عليه الحول. وإلى هذا ذهب ابن المواز، وعليه حمل قول مالك. والقول الأول هو أجرى على أصله وأظهر من مذهبه.(1/319)
فصل فتحصيل مذهب ابن القاسم على ما حكيناه من أقواله ووصفناه من مذاهبه وآرائه أن الزكاة تجب على العامل في حظه من الربح بخمسة أوصاف، الثلاثة منها لم يختلف قوله في وجوب اشتراطها ولا في وجه اعتبارها، وهي أن يكونا جميعا حرين، وأن يكونا جميعا مسلمين، وأن لا يكون على واحد منهما دين. والاثنان وهما النصاب، والحول لم يختلف قوله في وجوب اشتراطهما، واختلف قوله في وجه اعتبارهما.
فصل فأما النصاب فله في وجه اعتباره ثلاثة أقوال: أحدها أنه يعتبر في رأس المال وحصة رب المال من الربح خاصة، فإن كان في ذلك ما تجب فيه الزكاة وجبت الزكاة على العامل في حظه من الربح وإلا فلا، وهو قول ابن القاسم في المدونة والمشهور المعروف من مذهبه. والثاني أنه يعتبر في رأس مال رب المال وجميع الربح، فإن كان في ذلك ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حظه الزكاة وإلا فلا، وهي رواية أصبغ عنه في العتبية. والثالث أنه يعتبر في رأس مال رب المال وحصته من الربح وفي حظ العامل من الربح، فإن كان في كل واحد منهما ما تجب فيه الزكاة وجبت الزكاة على العامل في حظه من الربح وإلا فلا.
وأما الحول فله في وجه اعتباره قولان: أحدهما أنه يعتبر في رأس مال رب المال وحصته من الربح دون عمل العامل. والثاني أنه يعتبر في رأس مال رب المال وحصته من الربح وفي عمل العامل، فلا تجب الزكاة على العامل في حظه من الربح حتى يحول الحول على المال الذي بيد العامل من يوم أخذه لأنه إذا حال الحول على المال بيد العامل فقد حال على رب المال.
فصل ويلزم ابن القاسم كما اشترط في وجوب الزكاة على العامل في حظه من الربح إسلامهما جميعا، وحريتهما جميعا، وأن لا يكون على واحد منهما دين، أن(1/320)
يشترط في ذلك مرور الحول على رب المال وعلى العامل، وذلك قوله في كتاب الزكاة من المدونة، لأن الحول إذا حال على العامل من يوم أخذ المال فقد حال على رب المال. وأن يعتبر النصاب. في رأس مال رب المال وحصته من الربح مع مال إن كان له مال قد أفاده قبله أو معه معا، وهذا ما لا يوجد لابن القاسم ولا يعرف من مذهبه. [وأن يعتبر أيضا النصاب في حصة العامل من الربح مع مال سواه إن كان له مال قد حال عليه الحول وهذا أيضا ما لا يوجد له ولا يعرف من مذهبه] ، فلو قال بهذين الوصفين في اعتبار النصاب في وجوب الزكاة على العامل في حظه من الربح لاستقام مذهبه على أن زكاة ربح العامل في القراض مزكى على ملكهما جميعا.
فصل وأما الفصل الرابع وهو معرفة وقت وجوب إخراجها فيفتقر بيان ذلك إلى تقسيم، وذلك أن العامل لا يخلو أن يكون غائبا عن صاحب المال لا يعلم حال ما في يديه، أو حاضرا معه يعلم حال ما في يديه من مال القراض. فأما إن كان غائبا عنه فلا اختلاف في أنه لا زكاة عليه في ماله الذي بيده حتى يرجع إليه ويعلم أمره، فإن رجع إليه بعد أعوام زكاه للسنين الماضية على ما سنبينه إن شاء الله من حكم المدير وغير المدير. وأما إن كان حاضرا معه يعلم حال ماله بيده فلا يخلو من أربعة أحوال: أحدها أن يكونا جميعا مديرين. والثاني أن يكون رب المال مديرا والعامل غير مدير. والثالث أن يكون رب المال غير مدير والعامل مديرا. والرابع أن يكونا جميعا غير مديرين. فأما إن كانا جميعا مديرين أو كان رب المال غير مدير والعامل مديرا، والذي بيده الأكثر أو الأقل على قول من يقول إن المالين إذا كان يدار أحدهما فإنه يزكى المدار على سنة الإدارة كان الأقل أو الأكثر، أو كان رب المال مديرا والعامل غير مدير والذي بيده من مال الإدارة أو من غير مال الإدارة وهو(1/321)
الأقل فلا زكاة عليه حتى ينض المال ويتفاصلا وإن أقام المال بيده أحوالا. كذا روى أبو زيد عن ابن القاسم في كتاب القراض، ومثله في كتاب القراض من المدونة وفي الواضحة، وهو ظاهر ما في سماع عيسى من كتاب القراض. فإذا رجع إليه ماله بعد أعوام زكى لكل سنة قيمة ما كان بيده من المتاع. فإن كان قيمة ما كان بيده في أول سنة مائة وفي السنة الثانية مائتين وفي الثالثة ثلاثمائة زكى لأول سنة مائة، وللسنة الثانية مائتين، وللسنة الثالثة ثلاثمائة، إلا ما تنقصه الزكاة. واختلف إن كانت قيمة ما بيده في أول سنة ثلاثمائة وفي السنة الثانية مائتين وفي السنة الثالثة مائة فقيل يزكي لكل سنة ما كان بيده، وهو ظاهر ما في كتاب القراض من المدونة، إذ قال يزكي لكل سنة ما كان بيده ولم يفرق. وقيل يزكي مائة لكل سنة، وهذا يأتي على ما في الواضحة لعبد الملك في المال الغائب عن صاحبه إذا تلف بعد أعوام أنه لا زكاة عليه فيه، وقيل إنه هو الذي تدل عليه الروايات كلها إذ لا معنى لتأخير الزكاة إلى حين المفاصلة مع حضور المال إلا مخافة النقصان.
فصل وأما إن كانا غير مديرين أو كان العامل غير مدير والذي في يده الأكثر مديرا فلا زكاة على رب المال فيما بيد العامل من مال القراض حتى يرجع إليه، فإن رجع إليه بعد أعوام زكاه لعام واحد إن كان في سلع. وهذا على قياس قول ابن دينار في العتبية في المالين يدار أحدهما أنه إن كان الذي يدار هو الأكثر زكيا جميعا على الإدارة، وإن كان الذي يدار هو الأقل زكي كل مال منهما على سنته. وأما إن كان رب المال مديرا والعامل غير مدير والذي بيده الأقل فإن رب المال يقوم كل سنة ما بيد العامل فيزكيه من ماله لا من مال القراض، قيل جميع المال بربحه كله، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وقيل رأس المال وحصته من الربح خاصة لا حصة العامل، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم. وكذلك إذا كان الذي بيد العامل الأكثر على ما ذهب إليه ابن لبابة تأويلا على ما في المدونة من أن المالين إن كان يدار أحدهما فإنهما يزكيان جميعا على الإدارة، والله سبحانه وتعالى أعلم وبالله التوفيق.(1/322)
[فصل في زكاة الماشية]
فصل
في زكاة الماشية قال الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فأجمع أهل العلم على أن المواشي من الإبل والبقر والغنم من الأموال التي تجب في أعيانها الزكاة، إلا أنهم اختلفوا هل ذلك في جميعها أو في السائمة منها خاصة، فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أن الزكاة في جميعها سائمة كانت أو غير سائمة، خلافا للشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى في قولهما إن الزكاة لا تجب في غير السائمة.
فصل ولا تجب الزكاة عند مالك وجميع أصحابه في شيء من الحيوان سوى الإبل والبقر والغنم، خلافا لأهل العراق في قولهم إن الزكاة تجب في الخيل السائمة إذا كانت ذكورا وإناثا متخذة للنسل. والدليل لما ذهب إليه مالك عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة» ، وما روي عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق» . ومن جهة المعنى والقياس أنه لما أجمع أهل العلم في البغال والحمير على أنه لا زكاة فيهما وإن كانت سائمة وأجمعوا في الإبل والبقر والغنم على الزكاة فيها إذا كانت سائمة، واختلفوا في الخيل السائمة وجب ردها إلى البغال والحمير لا إلى الإبل والبقر والغنم لأنها بها أشبه، لأنها ذات حافر كما أنها ذوات حوافر، وذو الحافر بذي الحافر أشبه منه بذي الخف والظلف، ولأن الله تبارك وتعالى قد جمع بينهما فجعل الخيل والبغال والحمير صنفا واحدا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(1/323)
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وجمع بين الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم فجعلها صنفا واحدا بقوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] ، وكقوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: 79] .
فصل والعمل في زكاة الإبل والغنم على كتاب عمر الذي ذكره مالك في موطئه أنه قرأه فوجد فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا كتاب الصدقات. في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم في كل خمس شاة، وفيما فوق ذلك إلى خمس وثلاثين بنت مخاض، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر، وفيما فوق ذلك إلى خمس وأربعين بنت لبون. وفيما فوق ذلك إلى ستين حقة طروقة الفحل، وفيما فوق ذلك إلى خمس وسبعين جذعة، وفيما فوق ذلك إلى عشرين ومائة حقتان طروقتا الفحل. فما زاد على ذلك ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. وفي سائمة الغنم إذا بلغت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، وفيما فوق ذلك إلى مائتين شاتان، وفيما فوق ذلك إلى ثلاثمائة ثلاث شياه، فما زاد على ذلك ففي كل مائة شاة ولا يخرج في الصدقة تيس ولا هرمة ولا ذات عوار إلا ما شاء المصدق، ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة. وما كان من خليطين فإنهما يترادان بينهما بالسوية. وفي الرقة إذا بلغت خمس أواق ربع العشر.
والعمل في زكاة البقر على ما ثبت من «أن معاذ بن جبل الأنصاري أخذ من ثلاثين بقرة تبيعا، ومن أربعين بقرة مسنة، وأنه أتي بما دون ذلك فأبى أن يأخذ منه شيئا وقال: لم أسمع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك شيئا حتى ألقاه فأسأله، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يقدم معاذ بن جبل» وهو حديث يدخل في المسند لأنه(1/324)
توقيف. وفي قوله إنه لم يسمع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما دون الثلاثين دليل على أنه قد سمع منه في الثلاثين والأربعين.
شرح ابن المخاض ما أوفى سنة ودخل في الثانية. وابن اللبون ما أوفى سنتين ودخل في الثالثة لأن الناقة ترضع فصيلها في العام الأول ثم تحمل في العام الثاني أو تلحق بالحوامل وإن لم تحمل، لأن الناقة لا تحمل في كل عام وإنما تحمل في عام وترضع في آخر، ففصيلها في العام الثاني ابن مخاض لأن أمه أرضعته في العام الأول ثم حملت في العام الثاني فصار ابن مخاض، وفي العام الثالث ابن لبون، لأنها أرضعته في العام الأول وحملت في العام الثاني ووضعت في العام الثالث فصارت ذات لبن فكان ابنها من البطن الأول ابن لبون. والحقة: ما أوفت ثلاث سنين ودخلت في الرابعة فاستحقت أن يحمل عليها وأن يطرقها الفحل. والجذعة: ما أوفت أربع سنين ودخلت في الخامسة، وهو أعلى الأسنان المأخوذة في الزكاة.
وقوله في سائمة الغنم لا دليل فيه على أن الزكاة لا تجب في غير السائمة لأنها سائمة في طبعها وإن حبست على الرعي فلا يخرجها ذلك عن أن يقع عليها اسم سائمة. وقد قيل في معنى ذلك: إن الحديث خرج على سؤال سائل والأول أولى.
وقوله لا يخرج في الصدقة تيس ولا هرمة ولا ذات عوار إلا ما شاء المصدق، الرواية فيه المصدق بالكسر. قال أبو عبيد وأنا أراه المصدق بالفتح وهو كما قال، لأنه إن كان دون حقه فلا يجوز له أن يأخذه على حال، وإن كان فوق حقه فلا يجوز له أخذه إلا برضا رب الماشية. فالصواب فيه المصدق بالفتح. وأما التيس المنهي عن إخراجه في الصدقة فقيل هو الذكر من المعز غير المسن الفحيل فلا يجوز للساعي أن يرضى به لأنه أقل من حقه، إذ لا يؤخذ من المعز إلا أنثى على ما قاله ابن حبيب، وهو قوله في المدونة. والتيس هو دون الفحل إنما يعد مع ذوات العوار والهرمة والسخال. وقيل هو الفحل الذي يطرق الغنم كان من الضأن أو المعز،(1/325)
فنهى عن أخذه في الصدقة لأنه فوق السن الواجبة له فلا يأخذه إلا برضا رب الماشية.
وقوله ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ذهب الشافعي إلى أن النهي في ذلك إنما هو للسعاة، وذهب مالك إلى أن النهي في ذلك إنما هو لأرباب المواشي. والصواب أن النهي على عمومه لهما جميعا، لا يجوز للساعي أن يجمع غنم رجلين إذا لم يكونا خليطين فيزكيهما على الخلطة ليأخذ أكثر من الواجب له، ولا أن يفرق غنم الخليطين فيزكيهما على الانفراد ليأخذ أكثر من الواجب له. وكذلك أرباب الماشية لا يجوز لهم إذا لم يكونوا خلطاء أن يقولوا نحن خلطاء ليؤدوا على الخلطة أقل مما يجب عليهم في الانفراد، ولا يجوز لهم أيضا إذا كانوا خلطاء أن ينكروا الخلطة ليؤدوا على الانفراد أقل مما يجب عليهم على الخلطة، وأما أبو حنيفة الذي لا يقول بالخلطة فيقول المعنى في ذلك أنه لا يجوز للساعي أن يجمع ملك الرجلين فيزكيهما على ملك واحد، مثل أن يكون للرجلين أربعون شاة فيما بينهما، ولا أن يفرق ملك الرجل الواحد فيزكيه على أملاك متفرقة، مثل أن يكون له مائة وعشرون فلا يجوز له أن يجعلها ثلاثة أجزاء أربعين أربعين فيأخذ منها ثلاث شياه. والتراد عنده هو في مثل أن يكون للرجلين مائة شاة وعشرون شاة على الثلث والثلثين فيأخذ منهما الساعي شاتين قبل القسمة، فيكون قد أخذ من غنم صاحب الثلثين شاة وثلثا وإنما عليه شاة، ومن غنم صاحب الثلث ثلثي شاة وعليه شاة، فيرجع صاحبه عليه بثلث شاة.
فصل وكتاب عمر هذا أصله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه ثابتة صحاح. من ذلك ما روي عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب كتاب الصدقات فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، وعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمر حتى قبض، وساق الحديث بمعناه. وأجمع أهل العلم على ما نص فيه واختلفوا منه في مواضع محتملة للخلاف، منها في المذهب موضع واحد، وهو إذا زادت الإبل على مائة وعشرين ولم تبلغ مائة وثلاثين، فقال مالك في المشهور عنه: الساعي مخير بين أن يأخذ(1/326)
حقتين وبين أن يأخذ ثلاث بنات لبون، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، وعبد العزيز بن أبي حازم، وابن دينار، وإن لم يكن في الإبل إلا السن الواحدة. وقيل إنه إنما يكون مخيرا إذا كانت السنان جميعا في الإبل أو لم يكن فيها واحد منها. وقال ابن شهاب: يأخذ ثلاث بنات لبون، واختاره ابن القاسم. وقال المغيرة وابن الماجشون: يأخذ حقتين، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه. وهذا الاختلاف جار على ما قاله أهل الأصول في المجتهد إذا تعارضت عنده الأدلة ولم يترجح عنده أحدها هل يأخذ بالحظر أو بالإباحة أو يكون مخيرا. وذهب أهل العراق إلى أنه يرجع فيما زاد من الإبل على مائة وعشرين إلى زكاة الغنم، فيكون في مائة وخمسة وعشرين حقتان وشاة، وفي مائة وثلاثين حقتان وشاتان، وفي مائة وخمسة وثلاثين حقتان وثلاث شياه، وفي مائة وأربعين حقتان وأربع شياه، وفي مائة وخمس وأربعين حقتان وبنت مخاض، وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق، وفي مائة وخمس وخمسين ثلاث حقاق وشاة، وفي مائة وستين ثلاث حقاق وشاتان، وكذلك ما زاد إلى مائتين فيكون فيها أربع حقاق.
فصل وأما زكاة الغنم فلا اختلاف فيها في المذهب، إذ ليس في كتاب عمر منها موضع محتمل للخلاف. وقد اختلف في غير المذهب فيما زاد على المائتين، فقل فيها شاتان حتى تبلغ مائتين وثلاثين فيكون فيها ثلاث شياه، حكى الداروردي هذا القول ولا وجه له وأراه غلطا. وقيل شاتان حتى تبلغ مائتين وأربعين فيكون فيها ثلاث شياه، ثم كذلك فيما زاد على كل مائة. وقيل إنه كما يجب في مائتي شاة وشاة ثلاث شياه فكذلك يجب في ثلاثمائة شاة وشاة أربع شياه، وفي أربعمائة شاة وشاة خمس شياه، وفي خمسمائة شاة وشاة ست شياه، ثم كذلك فيما زاد على كل مائة. وهذان القولان جاريان على أصل، وأما ما حكاه الداروردي فلا وجه له على ما ذكرناه.
فصل وكذلك زكاة البقر لا اختلاف فيها في المذهب، إذ ليس في حديث معاذ ابن(1/327)
جبل فيها موضع محتمل للخلاف. وقد قيل في غير المذهب إن فيما دون الثلاثين منها في كل خمس شاة قياسا على الإبل، وأن في كل خمس وثلاثين تبيعا وشاة، وأن فيما زاد على الأربعين بحساب المسنة في كل خمس وأربعين مسنة وثمن مسنة، وفي خمسين مسنة وربع مسنة، وكذلك ما زاد إلى ستين فيكون فيها تبيعان.
فصل والإبل كلها بجميع أجناسها صنف واحد تجمع في الزكاة. وكذلك البقر كلها بجميع أجناسها الجواميس وغير الجواميس تجمع في الزكاة. وكذلك الغنم كلها بجميع أجناسها ضأنها ومعزها تجمع في الزكاة، ولا اختلاف في هذا أحفظه إلا ما ذهب إليه ابن لبابة من أن الضأن والمعز صنفان لا يجمعان في الزكاة، وأن الذهب والفضة صنفان لا يجمعان في الزكاة. واستدل على ذلك بقول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141] إلى قوله {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143] إلى قوله {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 144] قال فلو كان المعز من الضأن لكان البقر من الإبل، إذ لا فرق في ذلك بين التلاوة، وهذا معنى قوله دون نصه.
فصل وجاء في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصدقات في بعض الروايات: «فمن سئلها على وجهها فليعطها ومن سئل فوقها فلا يعطها» . وروي «عن جرير بن عبد الله البجلي قال جاء ناس إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا إن ناسا من المصدقين يأتون فيظلموننا، قال: أرضوا مصدقيكم، قالوا وإن ظلموا قال أرضوا مصدقيكم وإن ظلموا. قال جرير ما صدر عني مصدق بعدها إلا راضيا» . فقيل إن ما في كتاب الصدقات ناسخ لما جاء في حديث جرير بدليل أنه المتأخر إذ لم يخرجه إلى عماله حتى قبض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيل المعنى في ذلك أن يمنعوا إذا لم يخش في منعهم فتنة، ولا(1/328)
يمنعوا إذا خشي في منعهم فتنة. كقوله للأنصار: «ستصيبكم بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» ، وكقوله لأبي ذر: «وإن ولي عليك حبشي فاسمع له وأطع» . وعلى هذا يتأول «حديث عباده بايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السمع والطاعة» الحديث. وقيل في تخريج الحديثين غير هذا وليس بصحيح. وبالله التوفيق.
[فصل في تحويل الماشية بعضها في بعض]
فصل
في تحويل الماشية بعضها في بعض الأموال التي تجب الزكاة في أعيانها بمرور الحول عليها صنفان: عين، وماشية. فأما العين وهو الذهب والورق فالحكم فيه إذا حول بعضه في بعض أن يزكى الثاني على حول الأول باع ذهبا بذهب أو ورقا بورق أو ذهبا بورق أو ورقا بذهب، لأنه كله صنف واحد. وأما الماشية فإنها ثلاثة أصناف: إبل، وبقر، وغنم. فإن باع إبلا بإبل أو بقرا ببقر أو غنما بغنم زكى الثاني على حول الأول ولا خلاف في ذلك أعلمه. واختلف إن باع صنفا بصنف غيره: إبلا ببقر أو بغنم أو بقرا بإبل أو بغنم أو غنما بإبل أو ببقر على قولين: أحدهما أنه يستأنف بالثاني حولا من يوم اشتراه، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك قياسا على الماشية تشترى بالدنانير والدراهم أنه يستأنف بها حولا لأنهما صنفان كما أنهما صنفان. والثاني أنه يزكى الثاني على حول الأول، وهو قول مالك في سماع أشهب من كتاب الزكاة وقول أصحاب مالك كلهم حاشا ابن القاسم على ما حكاه ابن حبيب قياسا على الماشية تباع بالعين، لأنه إذا كان العين يزكى على حول الماشية وهو صنف آخر، فأحرى أن تزكى الماشية على حول الماشية وإن كانت صنفا آخر، لأن الماشية بالماشية ما كانت أشبه من العين بالماشية. وقول ابن القاسم أظهر، لأن قياس المثمون على المثمون أولى من قياسه على الثمن. والفرق بين بيع الماشية بالعين(1/329)
وبين شرائها بالعين أنه يتهم في بيع الماشية بالعين بالهروب بالزكاة عن الساعي، ولا تهمة عليه في اشتراء الماشية بالعين إذا كانت زكاة العين موكولة إلى أمانته ولم يكن مأخوذا بها.
فصل فإذا كان للرجل دنانير فأشترى بها ماشيه إبلا أو بقرا أو غنما فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما أن يكون ما تجب فيه الزكاة. والثاني أن لا يبلغ ما تجب فيه الزكاة. فأما إن كان ما تجب فيه الزكاة فلا زكاة عليه فيها حتى يحول عليها الحول من يوم اشتراها فيزكيها زكاة السائمة كان اشتراها لقنية أو لتجارة.
فصل فإن باعها افترق الأمر فيها بين أن يكون اشتراها للقنية أو للتجارة. فإن كان اشتراها للقنية وباعها قبل أن يخرج من رقابها الزكاة فاختلف في ذلك قول مالك، مرة قال يستقبل بالثمن حولا من يوم باعها، ومرة قال يزكيها إذا حال عليها الحول من يوم ابتاعها. وكان القياس إذا لم يستقبل بالثمن حولا أن يزكيه على حول المال الذي ابتاعها به. وأما إن باعها بعد أن أخرج من رقابها الزكاة، فقيل إنه يزكيها إذا حال عليها الحول من يوم زكى رقابها ولا يدخل في ذلك اختلاف قول مالك. قال ذلك محمد بن المواز في موضع؛ وقال في موضع آخر: إن اختلاف قول مالك يدخل في ذلك فيستقبل بالثمن حولا على أحد قوليه، ويزكيها إذا حال عليها الحول من يوم أخرج زكاة رقابها على قوله الثاني. وكذلك ذكر ابن حبيب أن اختلاف قول مالك داخل فيها.
فصل وإن كان اشتراها للتجارة فباعها قبل أن يخرج من رقابها الزكاة زكاها على حول المال الذي اشتراها به، وإن كان باعها بعد أن أخرج من رقابها الزكاة زكاها إذا حال عليها الحول من يوم زكى رقابها، ولا اختلاف في هذا. وقال أبو إسحاق(1/330)
التونسي: ينبغي أن يدخل فيها اختلاف قول مالك إذا باعها بعد أن أخرج من رقابها الزكاة فيستقبل بثمنها حولا من يوم باعها على أحد قولي مالك.
فصل وأما إن كانت الماشية التي باع بالدنانير لا تبلغ ما تجب فيه الزكاة فحكمها حكم العروض، إن كان إشتراها للتجارة وهو مدير قومها، وإن لم يكن مديرا فلا زكاة عليه فيها حتى يبيعها [ويحول الحول عليه من يوم زكى المال الذي اشتراها به وإن كان اشتراها للقنية فلا زكاة عليه فيها حتى يبيعها] ويستقبل بالثمن حولا من يوم باعها.
فصل وإذا كانت للرجل ماشية ورثها أو وهبت له ولم يشترها فباعها بدنانير ثم أخذ بها ماشية قبل أن يقبضها أو اشترى بها بعد أن قبضها ماشية أخرى منه أو من غيره من صنفها على مذهب ابن القاسم الذي يفرق في تحويل الماشية بين أن يحولها في صنفها أو غير صنفها. أو من غير صنفها على القول بالمساواة بين الوجهين ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه يستقبل بالغنم الثانية حولا في الوجوه كلها، وهو مذهب ابن القاسم. قال في كتاب ابن المواز: وكذلك لو استقاله فيها بعد أن باعها، لأن الإقالة بيع حادث. والثاني أنه يزكيها على حول الأولى، وهو قول ابن الماجشون في كتاب ابن المواز. والثالث أنه يستقبل بها حولا إن اشترى بالثمن من غيره ويزكيها على حول الأولى إن أخذها منه في الثمن أو اشتراها منه به. وهذا القول حكاه ابن حبيب في الواضحة عن مالك وأصحابه حاشا ابن القاسم.
فصل واختلف قول ابن القاسم إذا استهلك الرجل للرجل غنما فأخذ منه فيها غنما تجب فيها الزكاة، فمرة قال يزكيها على حول المستهلكة ومرة قال يستقبل بها(1/331)
حولا. واختلاف قوله هذا إنما يصح عندي إذا كانت قد فاتت بالاستهلاك فوتا يوجب له تضمينه القيمة فيها وأما إذا فاتت أعيانها فلا اختلاف في أنه يستقبل بالغنم التي يأخذها منه في قيمتها الحول. ولو كانت قائمة بيد الغاصب لم تفت بوجه من وجوه الفوت لزكاها على حول الأولى بلا اختلاف، لأن ذلك كالمبادلة سواء، وبالله التوفيق.
فصل الدين لا يسقط زكاة ما عدا العين من الأموال التي تجب فيها الزكاة. والدليل على ذلك أن الله تبارك وتعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وقال: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فعم ولم يخص من عليه دين ممن لا دين عليه في مال من الأموال. والعموم محتمل للخصوص، فخصص أهل العلم من ذلك من عليه دين في المال العين بإجماع الصحابة على ذلك، بدليل ما روي أن عثمان بن عفان كان يصيح في الناس: يا أيها الناس هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة. وبقي ما سوى ذلك على العموم. فلا يسقط الدين زكاة الحرث ولا الماشية، وكذلك زكاة الفطر عن العبيد على الصحيح من الأقوال، وهو قول ابن وهب عن مالك خلاف ظاهر ما في المدونة ونص ما في كتاب ابن المواز. وقد فرق أيضا بين العين وغيره في وجوب إسقاط الدين بتفاريق من جهة المعنى لا تخلص من الاعتراض، وقد يحتمل أن يكون صدر عنها الإجماع وبالله التوفيق.
[فصل في القول في زكاة الفطر]
فصل
في القول في زكاة الفطر اتفق جمهور أهل العلم على وجوب زكاة الفطر، واختلفوا هل هي واجبة(1/332)
بالقرآن أو بالسنة، فقيل إنها فرض واجب بالقرآن داخلة في الزكاة التي قرنها الله بالصلاة في محكم التنزيل فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وروي ذلك عن مالك. ودليله «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين وأخذها منهم» فكان ذلك من قوله وفعله بيانا لمجمل قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] ، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] أنها زكاة الفطر ثم الغدو إلى المصلى. وقيل إنها سنة واجبة فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي أوجبها. ولا يصح أن يكون معنى فرضها قدرها، لأن في الحديث الصحيح حديث ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر على الناس من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير» . وعلى تقتضي الوجوب واللزوم، ولا يجوز أن تكون على ههنا بمعنى عن لأن الموجب عليهم غير الموجب عنهم، وقد جمعهم في الحديث [فقال في الموجب عنهم على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين أي عن كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين] وهذا يقتضي أن ما أوجبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينطلق عليه اسم الفرض. وكان سبب فرضه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياها الدواف التي كانت تدف عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيام الهجرة بالمدينة، فكانوا ينزلون في المسجد ويأوون إليه، فإذا حضر الفطر رجع أهل القرار إلى ما أعد لهم أهلهم من الطعام، ويرجع أهل المسجد إلى غير شيء أعد لهم، ففرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر وأمر بجمعها في المسجد، وكان أكثر ما يؤدون التمر لأنه كان جل عيشهم، فكانوا إذا انصرفوا إلى المسجد جلسوا عليه وأكلوا منه، فما فضل عنهم قسمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الفقراء والمساكين وقال: «أغنوهم عن طواف هذا اليوم» . وروي هذا القول عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.(1/333)
ومن أصحابنا من أطلق القول بأنها سنة وقال ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرضها إنما معناه قدرها ووقتها، لأن الفرض يكون بمعنى التقدير والتوقيت. قال الله عز وجل: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] أي قدرها. وقد تقدم ما دل على ضعف هذا التأويل. وإنما يعزى إسقاط وجوب الفطر إلى ابن علية والأصم. فإن قال من ذهب إلى أنها سنة واجبة من السنن التي الأخذ بها فضيلة وتركها خطيئة فإنما يرجع ذلك إلى الاختلاف في العبارة على ما ذكرناه.
فصل وهي زكاة الرقاب زائدة إلى زكاة الأموال فتجب على الغني والفقير إذا كان له مال يؤديها منه وإن لم يكن له إلا ما يتصدق به عليه منها إذا كان فيه فضل عن قوت يومه. ويستحب له إذا لم يقدر على شيء أن يتسلف ويؤدي، وقيل إنها لا تجب على من تحل له، والأول أظهر، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن طواف هذا اليوم» .
فصل وهي تبع للنفقة عن الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين، فيخرج الرجل زكاة الفطر عن نفسه وزوجه وخادم زوجه ومن في حجره من ولده إن لم يكن لهم مال، وعن أبويه إذا لزمته نفقتهما، وعن عبده وأم ولده ومدبره وعن مكاتبه لأنه عبد بعد، ونفقته على نفسه من ماله كنفقة العبد على نفسه من خراجه، فيؤدي عنه السيد زكاة الفطر من ماله لأنه هو المنفق عليه في الحقيقة، ولا يستطيع أن يأخذها من مال المكاتب لإحرازه ماله عنه بالكتابة. واختلف في المخدم فقيل إن صدقة الفطر على المخدم لأن النفقة عليه، وقيل إن صدقة الفطر على سيده لأن نفقة المخدم عليه كالإجارة على خدمته، فهو كمن أجر عبده بنفقته فالزكاة عليه لا على المستأجر.(1/334)
فصل واختلف في نفقة المخدم فقيل إنها على المخدم وقيل إنها على المخدم، وقيل إنها إن كانت الخدمة قليلة فالنفقة على المخدم، وإن كانت الخدمة كثيرة أو حياة المخدم فالنفقة على المخدم الذي له الخدمة. وقيل إن الاختلاف إنما هو في الخدمة الكثيرة، ولا اختلاف في الخدمة اليسيرة أنها على رب العبد المخدم، ذهب إلى ذلك سحنون، والأول أصح أن في المسألة ثلاثة أقوال.
فصل ويستحب لمن وجبت عليه زكاة الفطر أن يؤديها يوم الفطر قبل الغدو إلى المصلى، فإن أخرجها قبل ذلك بيوم أو يومين أو ثلاثة أجزأ على الاختلاف فيمن أخرج زكاته قبل حلول الحول بيسير.
فصل واختلف في حد وجوبها على من كان من أهلها على قولين: أحدهما أنها تجب عليه بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، وهي رواية أشهب عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، والثاني أنه لا تجب عليه إلا بعد طلوع الفجر من يوم الفطر، وهي رواية ابن القاسم عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. والأصل في هذا الاختلاف اختلافهم في معنى ما ثبت من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه فرض زكاة الفطر من رمضان على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين» ، فتؤول في رواية أشهب عنه أن مراده بالفطر من رمضان هو الفطر بعد انقضاء شهر رمضان أول ليلة من شوال وتؤول في رواية ابن القاسم عنه أن المراد به الفطر المنافي للصوم، وذلك لا يكون إلا بعد الفجر، وهو الأظهر، لأن الفطر بعد غروب الشمس من آخر يوم من رمضان كالفطر بعد غروبها في سائر الأيام، فلا يقال أفطر من رمضان إلا لمن أفطر بعد الفجر من شوال. وأما من أفطر بعد غروب الشمس من آخر يوم(1/335)
رمضان فإنما يقال له أفطر من صوم ذلك اليوم بعينه، فلا اختلاف فيمن مات قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان أن الزكاة ساقطة عنه، ولا اختلاف فيمن مات بعد طلوع الفجر من يوم الفطر أن الزكاة واجبة عليه. واختلف فيمن مات بعد غروب الشمس من آخر يوم من رمضان وقبل طلوع الفجر من يوم الفطر هل تجب عليه الزكاة أم لا على قولين كما ذكرنا.
فصل واختلف في حد انتقالها عمن وجبت عليه مثل العبد يباع أو يعتق والمرأة تتزوج أو تطلق أو الابن يحتلم أو يوسر أو الأبوان يعسران على أربعة أقوال: أحدها أن الزكاة تنتقل في ذلك كله إلى غروب الشمس من يوم الفطر، وهذا على أحد قولي مالك في المدونة في العبد يباع يوم الفطر إن الزكاة فيه على المبتاع. والثاني أنها تنتقل في ذلك كله إلى طلوع الشمس من يوم الفطر، حكى هذا القول عبد الوهاب. والثالث أنها تنتقل في ذلك كله إلى طلوع الفجر من يوم الفطر. والرابع أنها تنتقل في ذلك كله إلى غروب الشمس من آخر يوم من رمضان. واختار محمد ابن المواز وأشهب في أحد قوليه القول الثالث أنها تنتقل إلى طلوع الفجر من يوم الفطر، وأخذ به وراعى سائر الأقوال فقال في العبد إذا بيع بعد طلوع الفجر من يوم الفطر إلى غروب الشمس من يوم الفطر إن الزكاة واجبة على البائع ومستحبة على المبتاع، وإن بيع بعد غروب الشمس من آخر يوم من رمضان إلى طلوع الفجر من يوم الفطر إن الزكاة واجبة على المبتاع ومستحبة على البائع. وكذلك سائر ما ذكرناه مما تنتقل الزكاة فيه. وأخذ أشهب بجميع الأقوال احتياطا إذ لم يترجح عنده أحدها على صاحبه فقال إن البيع إذا وقع في العبد من بعد غروب الشمس من آخر يوم من رمضان إلى غروب الشمس من يوم الفطر إن الزكاة تجب عليهما جميعا. وكذلك على مذهبه سائر ما ذكرناه فيما تنتقل فيه الزكاة. وقول أشهب هذا على ما ذهب إليه أبو الفرج المالكي ومن ذهب مذهبه في أن المجتهد إذا تعارضت عنده أدلة الحظر والإباحة ولم يترجح عنده أحدهما أنه يأخذ بالإباحة،(1/336)
وذهب أبو بكر الأبهري وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه يأخذ بالحظر. فيجب على هذا أن لا يوجب الزكاة على واحد منهما. وفي المسألة قول ثالث، وهو أن الناظر مخير بين أن يأخذ بالحظر أو بالإباحة، فيجب على هذا أن يوجب الزكاة على أيهما شاء.
فصل وأما إن باع العبد قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان فلا اختلاف أن الزكاة فيه على المبتاع. وكذلك إن باعه بعد غروب الشمس من يوم الفطر لا اختلاف في أن الزكاة فيه على البائع.
فصل وكذلك اختلف أيضا في حد وجوبها على من لم يكن من أهلها مثل النصراني يسلم والمولود يولد على هذه الأربعة الأقوال. وقد رأيت في المسألة قولا خامسا لابن الماجشون في الثمانية أن حد وجوبها إلى زوال الشمس من يوم الفطر لأنه الوقت الذي يجوز إليه تأخير صلاة العيد. وقوله في الكتاب في النصراني يسلم يوم الفطر إن الزكاة عليه مستحبة وليست بواجبة هو مثل ما حكيناه فوق هذا من قول ابن المواز في مراعاة الاختلاف. وأشهب يرى أن الزكاة لا تجب عليه إلا أن يسلم قبل طلوع الفجر من آخر يوم من رمضان، فهذه في النصراني ستة أقوال.
فصل واختلف أهل العلم فيما يجوز إخراج زكاة الفطر منه بعد إجماعهم على أنه يجوز إخراجها من الشعير والتمر على ستة أقوال.
أحدها قول ابن القاسم وروايته عن مالك أنها تخرج من غالب عيش البلد من تسعة أشياء، وهي القمح، والشعير، والسلت، والأزر، والذرة، والدخن، والتمر، والأقط، والزبيب. فإن كان عيشه وعيش عياله من هذه الأصناف من غير الصنف الذي هو غالب عيش البلد أخرج من الذي هو غالب عيش البلد، كان(1/337)
الصنف الذي خص به نفسه أدنى أو أرفع، إلا أن يعجز عن إخراج أفضل مما يتقوت به فلا يلزمه غيره. هذا على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة. وذهب محمد بن المواز - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أنه لا ينظر إلى حال عيش أهل البلد وإنما ينظر إلى ما يتقوت به فيخرج منه كان أرفع من قوت أهل البلد أو أدنى، إلا أن يكون ترك ما يتقوت به أهل البلد إلى ما هو أدنى شحا وبخلا فيلزمه أن يخرج مما يتقوت به أهل البلد. ولا يخرج مما عداها من القطاني أصلا، وقيل إلا أن يكون عيشهم يزيد في الخصب والجدب يعني الرخص والشدة اختلف في ذلك قول ابن القاسم.
والثاني رواية يحيى عن ابن القاسم في العتبية أنها تخرج من خمسة أصناف، وهي القمح، والشعير، والتمر، والزبيب، والأقط، ولا تخرج من السلت والذرة والدخن والأرز إلا أن يكون ذلك عيشهم يزيد في الخصب والجدب. وعلى هذا القول لا تخرج من القطنية والجلجلان وإن كان ذلك عيشهم.
والثالث قول ابن الماجشون حكاه الفضل عنه أنها تخرج من خمسة أشياء، وهي: القمح، والشعير، والسلت، والتمر، والأقط.
والرابع قول أشهب أنها تخرج من ستة أشياء وهي القمح والشعير والسلت والتمر والأقط والزبيب.
والخامس قول ابن حبيب إنها تخرج من عشرة أشياء، فزاد العلس، وذهب إلى أنه مخير في القمح والشعير والتمر يخرج من أيها شاء كان عيشه من الأدنى أو الأرفع. فإن لم يكن قوته من واحدة منهن أخرج من أي ذلك كان قوته وقوت أهل بلده الشامل فيهم من السبعة الأشياء الباقية، فإن كان قوته وقوت أهل بلده من بعضها وأخرج فطرته من غيرها من هذه السبعة لم يجزئه. ظاهر قوله وإن كان الذي أخرج منها هو أفضل مما كان قوته وقوت أهل بلده. وانظر على مذهبه إن كان قوته وقوت عياله من هذه السبعة غير الذي يتقوت منه أهل البلد، فالأظهر أنه يخرج من الصنف الذي يتقوت به أهل البلد كان أفضل أو أدنى، إلا أن يكون الذي يتقوت به أدنى ولا يقدر على إخراج الفطر من الصنف الذي هو قوت أهل البلد.(1/338)
فصل ووجه قول ابن حبيب في تخيير المزكي في الثلاثة الأصناف ظاهر حديث ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض الزكاة على المسلمين صاعا من تمر أو صاعا من شعير» ودخل القمح مدخل الشعير في التخيير لأنه أفضل منه ومن التمر ولم يخيره في سائر الأصناف، وجعل ما ورد في ذلك من قوله كذا أو كذا على التقسيم لا على التخيير، وهذا لا دليل عليه.
والسادس قول أهل الظاهر إن زكاة الفطر لا توفى إلا من التمر والشعير إتباعا لظاهر حديث [ابن عمر وتعلقوا في حديث] أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - برواية من روى «كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب» بإسقاط لفظة أو فيما بين القمح. والشعير، وتأولوا أن الشعير تفسير للطعام لوقوع لفظ الطعام على كل مطعوم، وهذا بعيد، لأن لفظ الطعام إذا أطلق فالظاهر منه القمح دون ما سواه مع ما جاء في بعض الروايات «صاعا من طعام أو صاعا من شعير» بزيادة أو فارتفع الإشكال والاحتمال.
فصل ومكيلة زكاة الفطر صاع من كل ما يؤدي منه حاشا القمح فإنه قد قيل فيه مدان ورويت في ذلك آثار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن عمر وغيره من الصحابة، وأنكر ذلك كله مالك، وقال عقيل وتبسم: والذي ذهب إليه هو الحق، والحجة على ما ذهب إليه في هذا قد ذكرها ابن المواز وغيره فلا معنى لذكرها، وبالله التوفيق.(1/339)
[كتاب الجهاد] [فصل في معرفة اشتقاق اسم الجهاد]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم.
عونك اللهم لا شريك لك كتاب الجهاد فصل -
في معرفة اشتقاق اسم الجهاد الجهاد مأخوذ من الجهد وهو التعب، فمعنى الجهاد في سبيل الله المبالغة في إتعاب الأنفس في ذات الله وإعلاء كلمته التي جعلها الله طريقا إلى الجنة وسبيلا إليها. قال الله عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] .
فصل والجهاد ينقسم على أربعة أقسام: جهاد القلب، وجهاد باللسان، وجهاد باليد، وجهاد بالسيف.
فجهاد القلب جهاد الشيطان ومجاهدة النفس عن الشهوات المحرمات. قال الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] .
وجهاد اللسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن ذلك ما أمر الله به نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جهاد المنافقين، لأنه عز وجل قال:(1/341)
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73] فجاهد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكفار بالسيف، وجاهد المنافقين باللسان، لأن الله تعالى نهاه أن يعمل علمه فيهم فيقيم الحدود عليهم لئلا يتحدث عنه أنه يقتل أصحابه على ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكذلك جاهد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين قبل أن يؤمر بقتالهم بالقول خاصة.
وجهاد اليد زجر ذوي الأمر أهل المناكر عن المناكر والأباطيل والمعاصي المحرمات، وعن تعطيل الفرائض الواجبات، بالأدب والضرب على ما يؤدي إليه الاجتهاد في ذلك. ومن ذلك إقامتهم الحدود على القذفة والزناة وشربة الخمر. وجهاد السيف قتال المشركين على الدين.
فصل فكل من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيله، إلا أن الجهاد في سبيل الله إذا أطلق فلا يقيم بإطلاقه إلا على مجاهدة الكفار بالسيف حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
فصل والجهاد من أفضل أعمال البر وأزكاها عند الله تعالى. روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن أفضل الأعمال فقال: "إيمان بالله وجهاد في سبيله» . وأنه قال لرجل: «لو قمت الليل وصمت النهار ما بلغت نوم المجاهد» ، وقال لرجل له ستة آلاف دينار: "لو أنفقتها في طاعة الله ما بلغت غبار شراك نعل المجاهد ". وقال: «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» .(1/342)
فصل وإنما كان الجهاد من أفضل الأعمال لأن فيه بذل النفس في طاعة الله. ومن بذل نفسه في طاعة الله فقد بلغ الغاية التي لا يقدر على أكثر منها، ولذلك جازى الله الشهداء في سبيله لما أن بذلوا حياتهم في طاعته بأن أحياهم أفضل من حياتهم التي بذلوها في طاعته فقال عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ - يَسْتَبْشِرُونَ} [آل عمران: 170 - 171] ، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي سعيد الخدري أنه قال: «الشهداء يغدون ويروحون إلى الجنة ثم يكون مأواهم إلى قناديل معلقة تحت العرش» ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] ، وروي عن ابن عباس أنه قال: لقد أغلى لهم. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 11] {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 12] {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] ،(1/343)
ومن أحبه الله أمنه من عذابه، وأكرمه بجواره في الجنة التي أعدها الله لأوليائه. وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20] {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 21] {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 22] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع» ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته أن يدخله الجنة أو يرده إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة» . يريد أجرا وغنيمة، لأن أو ها هنا بمعنى الواو، إذ لا تنفي الغنيمة الأجر. وقد تكون أو على بابها فيكون معنى الكلام مع ما نال من أجر دون غنيمة أو غنيمة مع أجر. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «والذي نفسي بيده لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل فكان أبو هريرة يقول ثلاثا أشهد لله.» ويروى أنه «ما من أحد يصير إلى خير فيود الرجوع إلى الدنيا إلا الشهيد في سبيل الله فإنه يود أن يرجع إلى الدنيا فيقاتل في سبيل الله فيقتل مرة أخرى وذلك لما يرى من كرامة الله تعالى» . وفضائل الجهاد أكثر من أن تحصى كثرة.
فصل وأول ما بعث الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدعاء إلى الإسلام من غير قتال أمره به ولا أذن له فيه ولا جزية أحلها له، فأقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك عشر سنين وهي التي أقامها بمكة، وحينئذ أنزل الله عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ،(1/344)
وقَوْله تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] ، وقَوْله تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] ، وما أشبه ذلك من الآيات. فلما هاجر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة أذن الله تعالى له وللمؤمنين بقتال من قاتلهم وأمرهم بالكف عمن لم يقاتلهم، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] ، وقال تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191] ، وقال تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} [النساء: 90] فكانت هذه سيرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين منذ هاجر إلى المدينة إلى أن نزلت سورة براءة وذلك بعد ثمان من الهجرة فأمره الله تعالى فيها بقتال جميع المشركين من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ، إلا من كان له عهد عند النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فإن الله أتمه له إلى مدته فقال تعالى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] .(1/345)
فصل وفرض الله عز وجل الجهاد حينئذ على جميع المسلمين كافة فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36] ، وقال تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 11] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} [التوبة: 38] {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة: 39] الآية. وقال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120] الآية، ثم نسخ الله تبارك وتعالى ذلك فجعل الفرض يحمله من قام به من المسلمين عن سائرهم فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] ، معنى الآية على ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ما كان المؤمنون لينفروا كافة إلى عدوهم ويتركوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحده، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة أي عصبة يعني السرايا ولا يخرجوا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقالوا لهم إن الله قد أنزل على نبيكم من بعدكم قرآنا قد تعلمناه فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم وتبعث سرايا أخر، فذلك قوله ليتفقهوا في الدين. وقال الحسن: المعنى فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، أي ليتفقه الذين خرجوا بما(1/346)
يريهم الله من الظهور على المشركين والنصر وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. وقيل إن الآية نزلت في قوم كان يبعثهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى البادية ليعلموا الناس الإسلام فلما أنزل الله: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120] انصرفوا من البادية إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه وممن عني بالآية، فأنزل الله الآية وكره انصراف جميعهم من البادية إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هو المختار من التفسير.
فصل فالجهاد الآن فرض على الكفاية يحمله من قام به بإجماع أهل العلم، فإذا جوهد العدو وحميت أطراف المسلمين وسدت ثغورهم سقط فرض الجهاد عن سائر المسلمين وكان لهم نافلة وقربة مرغبا فيها، إلا أن تكون ضرورة مثل أن ينزل العدو ببلد من بلاد المسلمين فيجب على الجميع إغاثتهم وطاعة الإمام في النفير إليهم.
فصل وقد كان الله أوجب في أول الإسلام على المسلمين أن لا يفروا عن الكفار قل عددهم أو كثر، فقال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] ثم نسخ ذلك عن عباده بقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] ، وقد قيل إن هذه الآية ليست بناسخة للأولى ولكنها مبينة لها ومخصصة لعمومها، وأن الله لم(1/347)
يوجب قط على المسلمين أن يثبتوا لأكثر من عشرة أمثالهم، ثم نسخ الله ذلك تخفيفا ورحمة فقال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] ، فأباح الله تعالى للمسلمين الفرار من عدوهم إذا زاد عددهم على الضعف وخشوا أن يغلبوهم. وقد اختلف في تأويل الضعف فقيل هو في العدد فيلزم المسلمين أن يثبتوا لمثلي عددهم من المشركين وإن كانوا أشد منهم سلاحا وأظهر جلدا وقوة، وهو قول أكثر أهل العلم. وقيل في تأويل ذلك في الجلد والقوة، ويلزمهم أن يثبتوا لأكثر من الضعف إذا كانوا أشد منهم سلاحا وأكثر جلدا وقوة ولا يلزمهم أن يثبتوا لهم وإن كانوا أقل من الضعف إذا كان المشركون أشد منهم سلاحا، وأكثر جلدا وقوة وخافوا أن يغلبوهم، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك. والفرار من الزحف إذا كان العدو أقل من ضعف المسلمين في العدة أو في الجلد والقوة على ما ذكرناه من الاختلاف من الكبائر على مذهب مالك وأصحابه. وقد قال ابن القاسم لا تجوز شهادة من فر من الزحف. ولا يجوز لهم الفرار وإن فر إمامهم لقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] الآية. وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا. وإن بلغ اثني عشر ألفا لم يحل لهم الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة» فإن أكثر أهل العلم خصصوا هذا العدد بهذا الحديث من عموم الآية. وروي عن مالك ما يدل على ذلك من مذهبه، وقوله للعمري العابد إذ سأله هل له سعة في ترك مجاهدة من غير الأحكام وبدلها: إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك فلا سعة لك في ذلك. وقد قيل إن قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] خاص في أهل بدر لأنهم لم يكن لهم أن يتركوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع عدوه(1/348)
وينهزموا عنه، وأما اليوم فلهم الانهزام. وحكى ابن حبيب في الواضحة عن يزيد بن أبي حبيب أنه قال: أوجب الله لمن فر يوم بدر النار، ثم كانت أحد بعدها فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155] ، ثم كانت حنين بعدها فأنزل الله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ - ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 25 - 26] {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 27] ، فنزل العفو فيمن تولى من بعد يوم بدر. والصحيح أن تحريم الفرار من الزحف ليس بمخصوص بيوم بدر، وأنه عام في كل زحف إلى يوم القيامة. وكان تعبد الله به نبيه موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - له، ثم لم ينسخه بعد ذلك حتى صار من شريعة نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والدليل على ذلك «ما روي أن رجلا من اليهود قال لآخر: اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له الآخر: لا تقل هذا النبي فإنه إن سمعها كانت له أربعة أعين. فانطلقا إليه فسألاه عن تسع آيات بينات، فقال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تفروا من الزحف، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطانه ليقتله، وعليكم يهود أن لا تعدوا في السبت. فقالوا نشهد أنك لرسول الله. وفي بعض الآثار فقبلوا يديه ورجليه وقالوا نشهد أنك نبي» . وهذا الحديث يخرج مخرج التفسير لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] [وما روي عن ابن عباس من رواية عكرمة في تفسير قَوْله تَعَالَى تسع آيات بينات] ، فقال اليد،(1/349)
والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، والسنون، ونقص من الثمرات، لا يصح لمعارضة هذا الحديث، وإنما يصح ذلك والله أعلم في تفسير قَوْله تَعَالَى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل: 12] ، ويدل على هذا التأويل أن هذا المعنى قد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من غير رواية عكرمة في تفسير قَوْله تَعَالَى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] ، لا في تفسير قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] وقد تكون الآيات العبادات من قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] ، وتكون المعجزات من قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ، فيحمل قَوْله تَعَالَى في سورة سبحان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] على العبادات التي تعبد بها على ما في الحديث الأول، ويحمل ما في سورة النمل من قَوْله تَعَالَى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12] على المعجزات والعلامات والإنذارات التي توعدوا بها إن لم يعملوا بما تعبدوا به على ما روي عن ابن عباس من غير رواية عكرمة، فتتفق الآثار ولا تتعارض، والله سبحانه وتعالى أعلم. ومما يدل على أن الفرار من الزحف ليس بمخصوص بيوم بدر عموم ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: إن الفرار من الزحف من الكبائر.
فصل ويجاهد العدو مع كل بر وفاجر. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» .(1/350)
فصل ولا يجاهد الابن بغير إذن أبويه، ولا العبد بغير إذن سيده. وهذا في النافلة.
وأما في الفرض الذي يتعين على الأعيان فيلزمه أن يغزو وإن لم يأذنا له، لأنه إنما يلزمه أن يطيع أبويه في ترك النافلة، وأما في ترك الفريضة فلا. وقد روي في أصحاب الأعراف الذين حبسوا دون الجنة أنهم قوم غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم فقتلوا فأعتقهم الله بقتلهم وحبسهم عن الجنة بمعصيتهم آباءهم، فهم آخر من يدخل الجنة.
فصل وكذلك من عليه دين لا يجوز له أن يغزو إلا بإذن صاحب الدين إلا أن يكون الدين لم يحل عليه ويكون له وفاء به فيوكل من يقضيه عنه عند حلوله. وأما إن كان عديما لا شيء معه فله أن يغزو بغير إذن من له عليه الدين.
فصل والشهادة تكفر كل شيء إلا الدين. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأله رجل فقال يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر أيكفر الله عني خطاياي فقال نعم. فلما أدبر الرجل دعاه أو أمر به فدعي له فقال له كيف قلت فأعاد عليه قوله فقال له نعم إلا الدين، كذلك قال لي جبريل.» وقد قيل إن ذلك كان في أول الإسلام لما روي أن الله يقضي عنه دينه يوم القيامة.
فصل وإنما يقاتل الكفار على الدين ليدخلوا من الكفر إلى الإسلام لا على الغلبة.
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» . ولهذا تجب(1/351)
الدعوة قبل القتال ليبين لهم علام يقاتلون لا من أجل أن دعوة الإسلام لم تبلغهم. والصحيح أن دعوة الإسلام قد بلغت جميع العالم، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] ، وقوله عز وجل: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8 - 9] ، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] ، فالأصل في دعاء العدو قبل القتال إلى الإسلام «حديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذ أعطاه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الراية قال له: "اذهب حتى تنزل بساحتهم فادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله على يديك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس» .
فصل وتقدم الدعوة قبل القتال من القرآن في قصة سليمان - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مع بلقيس بنت شراحيل ملكة أهل سبأ وما كان من كتابه إليها مع الهدهد {الرَّحِيمِ} [النمل: 30] {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] .
فصل وينبغي لأمير الجيش أن يكون في آخر الناس حتى يقدم المعتل بعيره ويلحق المريض الضعيف وبالله التوفيق.
فصل ولوجوب الجهاد ست شرائط لا يجب إلا بها، متى انخرم واحد منها سقط(1/352)
وجوبه، وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، والاستطاعة بصحة البدن وما يحتاج إليه من المال. فالدليل على صحة اشتراط الإسلام في وجوبه توجه الخطاب به إلى المؤمنين دون الكفار في غير ما آية من كتاب الله تعالى، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] الآية، وقال تعالى {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] الآية. والدليل على صحة اشتراط البلوغ والعقل في ذلك قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاث، وهم الصغير حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ» . والدليل على صحة اشتراط الحرية في ذلك هو أن الجهاد من الفرائض المتوجهة إلى الأبدان المتعينة في الأموال، فإذا سقط فرض الجهاد عمن لا مال له. بقوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] الآيات إلى آخرها، فهو ساقط عن العبد إذ لا مال له يقدر على إنفاقه. قال الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل: 75] ، ومنافعه أيضا مستحقة لسيده، فالجهاد على العبد ساقط من كل وجه. والدليل على صحة اشتراط الذكورة في ذلك أن الجهاد لا يتأتى للمرأة إلا بضد ما أمرت به من الستر والقرار في بيتها. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] ، وقال عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ} [الأحزاب: 33](1/353)
الآية. والدليل على صحة اشتراط الاستطاعة في ذلك بصحة البدن وما يحتاج إليه من المال قوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] الآية، وقوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]
فصل ولصحته وجوازه شرط واحد متى انخرم بطل ولم يصح، وهو النية. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نية المؤمن خير من عمله» . وقال «في عبد الله بن ثابت: "إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته» . والنية في الجهاد أن يجاهد الرجل ويقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ابتغاء ثواب الله تعالى. فينبغي للمجاهد أن يعقد نيته على ذلك، فإنه إذا عقد نيته على ذلك لم تضره إن شاء الله الخطرات التي قد تقع في القلب ولا تملك. روي «عن معاذ بن جبل أنه قال يا رسول الله إنه ليس من بني سلمة إلا مقاتل، فمنهم من القتال طبيعته، ومنهم من يقاتل رياء، ومنهم من يقاتل احتسابا فأي هؤلاء الشهيد من أهل الجنة، فقال: "يا معاذ بن جبل، من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة» . وروي «أن رجلا قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا رسول الله الرجل يعمل العمل فيخفيه فيطلع عليه الناس فيسره فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لك أجر السر وأجر العلانية» .(1/354)
فصل وله فرائض يجب الوفاء بها، قيل إنها خمس وهي: الطاعة للإمام، وترك الغلول، والوفاء بالأمان، والثبات عند الزحف، وأن لا يفر واحد من اثنين، وهي إلى الخمسين أقرب لأن تجنب الفساد كله في الغزو واجب، ومن لم يجتنب الفساد في غزوه لم يرجع منه كفافا. قال معاذ بن جبل: الغزو غزوان، فغزو تنفق فيه الكريمة ويعاشر فيه الشريك، ويطاع فيه ذو الأمر ويجتنب فيه الفساد فذلك الغزو خير كله، وغزو لا تنفق فيه الكريمة ولا يعاشر فيه الشريك ولا يجتنب فيه الفساد فذلك الغزو لا يرجع صاحبه كفافا.
[فصل في القول في الغنيمة]
فصل
في القول في الغنيمة الغنيمة ما غنمه المسلمون من أموال الكفار بقتال. قال الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية. والفيء ما صار إليهم من أموال الكفار بغير قتال. قال الله عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ، وقال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] الآية. وقد قيل بعكس ذلك إن الغنيمة ما صار إليهم من أموالهم بغير قتال، وإن الفيء ما صار إليهم بقتال. وهذا محتمل في اللسان، والأول هو الصحيح الذي يقصده القرآن. واسم الفيء يجمعهما جميعا، لأن الفيء هو الرجوع والغنيمة مما أرجعها الله إلى المسلمين من أموال الكفار. وكذلك الأنفال سمى الله بها الغنائم فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] يريد(1/355)
غنائم بدر، لأن الآية فيها نزلت لما تشاجروا في قسمتها: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] الآية وهي أيضا تستعمل على الفيء والغنيمة، لأنهما عطيتان من الله تعالى لهذه الأمة خصها بهما دون سائر الأمم. والنافلة هي العطية، قال الله عز وجل: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] ، وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] ، ولهذا يسمى ما يعطى الإمام من الغنيمة سوى قسم الجيش نفلا. والذي سأل ابن عباس عن الأنفال إنما سأله والله أعلم عن اشتقاق اللفظ ومعنى كونها لله والرسول، فلم يقنع بما أجابه به ما فيه شفاء لمن اعتبر وردد عليه السؤال حتى أخرجه.
فصل وقد اختلف فيما ينفله الإمام فقيل إنه لا ينفل إلا من الخمس، لأن الأربعة الأخماس للغانمين والخمس مصروف إلى اجتهاد الإمام، وهو مذهب مالك. وقيل إنه لا ينفل إلا بعد الخمس من الأربعة الأخماس، لأن الخمس عندهم قد صرفه الله تعالى إلى المذكورين في الآية فلا يخرج عنهم منه شيء. وقيل إن له أن ينفل من جملة الغنيمة قبل أن يخمسها. ولا يرى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - للإمام أن ينفل قبل القتال لئلا يرغب الناس في العطاء فتفسد نياتهم في الجهاد، فإن وقع ذلك مضى للاختلاف الواقع في ذلك والآثار المروية فيه. وأما سلب القتيل فقيل إنه لا يكون للقاتل إلا أن ينفله إياه الإمام إما من الخمس، وإما من رأس الغنيمة، وإما بعد تخميسه على ما ذكرناه من الاختلاف فيما سوى السلب. وقيل إنه للقاتل حكم من النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لا يحتاج فيه إلى استئناف أمر من الإمام. وقيل إن الإمام يخمسه ولا يكون له منه إلا أربعة أخماسه. وقد قيل إن الإمام لا ينفل إلا من خمس الخمس، وهذا يرده حديث ابن عمر في السرية التي بعثها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/356)
قبل نجد [فغنموا إبلا كثيرة] فكانت سهامهم اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا.
فصل والفيء والخمس سواء لأن الله تعالى ساوى بينهما في كتابه فقال عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] وقال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] . وقد اختلف في كيفية قسمتهما على ستة أقوال: أحدها أنهما لجميع المسلمين يوضعان في منافعهم ويقسمان عليهم ولا يختص بذلك الأصناف المذكورون في الآيتين، لأنهم إنما ذكروا فيها تأكيدا لأمرهم، وهذا هو مذهب مالك. والثاني أنه يقسم ذلك بالاجتهاد بين الأصناف المذكورين في الآيتين. والثالث أنه يقسم على ستة أسهم بالسواء بينهم: سهم لله يجعل في سبيل الخير، وسهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسهم لقرابته، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. والرابع أنه تؤخذ منه قبضة فتجعل في الكعبة ويقسم الباقي بالسواء على الخمسة الأصناف المذكورين. والخامس أنه يقسم على خمسة أسهم بالسواء ويجعل سهم الله مفتاح السهام لأن الدنيا وما فيها لله. والسادس أنه يقسم على أربعة أسهم بالسواء لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ويكون معنى قوله فلله وللرسول أن لهما الحكم في قسم ذلك بين من سمي في الآيتين. وقد اختلف الذين رأوا أن الخمس يقسم على خمسة أسهم في سهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسهم قرابته بعد وفاته، فقالت طائفة منهم يجعل في الكراع والسلاح، وقالت طائفة يكون سهم رسول الله للخليفة بعده، وسهم قرابته لقرابة الخليفة. وقالت طائفة منهم يقسم سهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سائر الأصناف، ويكون سهم قرابته باقيا عليهم إلى يوم القيامة. واختلف في قرابته الذين جعل الله لهم سهما من الفيء والغنيمة وحرم عليهم الصدقة اختلافا(1/357)
كثيرا قد ذكرته في غير هذا الموضع. ومن ذهب إلى أن سهم قرابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسقط بوفاته لم يحرم عليهم الصدقة، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.
فصل وثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس أرض خيبر وقسمها بين الموجفين عليها بالسواء» وأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أبقى سواد العراق ومصر وما ظهر عليه من الشام ليكون ذلك في أعطيات المقاتلة وأرزاق المسلمين ومنافعهم، فقيل إنه استطاب أنفس المفتتحين لها، ومن شح بترك حقه منها أعطاه فيه الثمن، فعلى هذا لا يخرج فعله عما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأرض خيبر. وإلى هذا ذهب بعض أهل العراق وقال إن أقر أهلها فيها لعمارتها كانت ملكا لهم أسلموا أو لم يسلموا يجري عليها الخراج إلى يوم القيامة، على ما روي أن عمر وضع على مساحة جريب البر كذا، وعلى مساحة جريب الشعير كذا وعلى مساحة جريب التمر كذا. ومن جعل على مساحة جريب التمر خراجا معلوما في كل عام استدلوا على أنها ملك لهم، إذ لو كانت ملكا للمسلمين لكان ذلك بيع التمر قبل أن يخلق. وقيل إنه أبقاها بغير شيء أعطاه الموجفين عليها وأنه تأول في ذلك قَوْله تَعَالَى في آية سورة الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقد اختلف على هذا في آية الفيء هذه وآية الغنيمة التي في سورة الأنفال، فقيل إنهما محكمتان على سبيل التخيير، فالإمام مخير بين أن يقسم أرض العنوة على ما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض خيبر مبينا لعموم آية سورة الأنفال أنها على عمومها، وبين أن يبقيها كما أبقاها عمر على ما استدل به من آية الحشر، وإلى هذا ذهب أبو عبيد. وقيل إن آية(1/358)
الحشر ناسخة لآية الأنفال، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين بفعله في أرض خيبر أنها على عمومها في جميع الغنائم من الأرض وغيرها، فنسخت آية الحشر من ذلك الأرض خاصة، وإلى هذا ذهب إسماعيل القاضي. وقيل إن آية الحشر مخصصه لآية الأنفال ومفسرة لها ومبينة أن المراد بها ما عدا الأرض من الغنائم، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قسم أرض خيبر لأن الله تعالى وعد بها أهل بيعة الرضوان فقال: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح: 20] فهي مخصصة بهذا الحكم دون سائر الأرضين المغنومة.
فصل وإذا أبقى الإمام أرض العنوة وأقر أهلها فيها لعمارتها ضربت عليهم الجزية على ما فرض عمر، وسوقوا في السواد، ووضع عليهم الخراج في البياض بقدر اجتهاد الإمام. وهذا وجه قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة: لا علم لي بجزية الأرض وأرى أن يجتهد في ذلك الإمام ومن حضره إن لم يجد علما يشفيه لأنه إنما توقف في مقدارها، وقيل إنما توقف هل عليها جزية أو لا جزية عليها وتترك لهما فيستعينون بها على أداء الجزية دون خراج، وقيل إنه إنما توقف فيما يوضع عليها من الخراج هل يسلك بها مسلك الفيء أو مسلك الصدقة، قال ذلك الداروردي. وحكي عن ابن القاسم أنه قال: والذي ينحو إليه مالك أنه يسلك به مسلك الفيء. واختلف على المذهب فيهم، فقيل إنهم عبيد للمسلمين، وقيل إنهم أحرار لأن إقرارهم لعمارة الأرض من ناحية المن الذي قال الله عز وجل فيه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] وعلى هذا الاختلاف يجري الاختلاف فيما عدا الأرض من أموالهم، فمن رآهم عبيدا جعل أموالهم(1/359)
للمسلمين إذا أسلموا إن شاؤوا انتزاع ذلك منهم ولا يكونون أحرارا بإسلامهم. وعلى هذا تأتي رواية سحنون عن ابن القاسم. ومن رآهم أحرارا قال تكون لهم أموالهم إذا أسلموا لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء فهو له» وعلى هذا يأتي ما في سماع عيسى عن ابن القاسم من كتاب التجارة إلى أرض الحرب. وتفرقة ابن المواز بين ما كان بأيديهم يوم الفتح وبين ما استفادوه بعد الفتح ليست جارية على قياس. وأما الأرض التي أقروا فيها لعمارتها فلا حق لهم فيها إلا عند بعض أهل العراق على ما قد ذكرته وبالله التوفيق.(1/360)
[القول فيما حازه المشركون من أموال المسلمين]
اختلف أهل العلم فيما حازه المشركون من أموال المسلمين هل يملكونه بحيازتهم إياه أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها أنهم لا يملكونه بحيازتهم إياه. والثاني أنهم يملكونه بحيازتهم إياه. والثالث الفرق بين ما غلبوا عليه أو أبق إليهم.
فصل فعلى القول بأنهم لا يملكونها بحيازتهم إياها لا يرتفع ملك أربابها عنها، فإن غنمها المسلمون لم تقسم في المغانم وردت على أربابها إن علموا، ووقفت لهم إن جهلوا. وإن لم يعلم أنها كانت للمسلمين حتى قسمت فجاء أربابها أخذوها بغير ثمن على حكم الاستحقاق، وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأحد قولي الأوزاعي وجماعة من أهل العلم سواهم. والحجة لهم من طريق الآثار «حديث عمران بن حصين في ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العضباء إذ أغار عليها المشركون في سرح المدينة فنجت عليها امرأة ونذرت إن الله أنجاها عليها لتنحرنها فلما قدمت بها المدينة عرفت الناقة وأتي بها النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فأخذها على ما جاء في بعض الآثار وأخبرته المرأة بنذرها فقال بئسما جزيتها لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم.» وموضع الحجة من الحديث أن المشركين لو ملكوا الناقة(1/361)
لكانت للمرأة التي نجت عليها ويلزمها النذر فيها. والحجة لهم من طريق النظر أنهم لما أجمعوا على أنهم لا يملكون رقابنا وجب أن لا يملكوا أموالنا، لأن النظر يوجب أن لا يفرق بين أموالنا ورقابنا في أنهم لا يملكونها، كما لا يفرق بين رقابهم وأموالهم في أنا نملكها.
فصل وعلى القول بأنهم يملكونها بحيازتهم إياها يرتفع ملك أربابها عنها، فإن غنمها المسلمون كانت غنيمة للجيش ولم يكن لأربابها أخذها قبل القسم ولا بعده. وقيل إن لهم أن يأخذوها إن أدركوها قبل القسم، فإن قسمت لم يكن لهم إليها سبيل. وقيل إن لهم أن يأخذوها بعد القسم بالثمن، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه على الآثار الواردة في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عباس وتميم بن طرفة، الطائي، وهو على قياس القول بأن الغانمين لا يتقرر ملكهم على الغنيمة إلا بالقسم، فيحد منهم من وطئ جارية منها، ولا يجوز عتقه فيها.
فصل ولا يخلو ما يحوزه أهلك الحرب عن المسلمين من ستة أشياء: أحدها أحرار المسلمين. والثاني أحرار أهل الذمة. والثالث أموال المسلمين وأهل الذمة لأن الحكم في ذلك سواء. والرابع أمهات أولاد المسلمين. والخامس مدبروهم ومعتقوهم إلى أجل. والسادس مكاتبوهم.
ولا يخلو ما حازوه من ذلك كله من ستة أحوال: أحدها أن يبيعوه في بلادهم. والثاني أن يقدموا به بأمان. والثالث أن يغنمه المسلمون. والرابع أن يسلموا عليه. والخامس أن يصالحوا على هدنة وهو في أيديهم. والسادس أن يصالحوا على أداء جزية وذلك في أيديهم، فهذه ست وثلاثون مسألة، لأن لكل شيء من الستة الأشياء التي حازوها ستة أحوال كما ذكرنا، وكل مسألة تختص منها بأحكام نذكر منها ما يدل على باقيها إن شاء الله تعالى.(1/362)
فصل فأما إذا حاز أهل الحرب أحرار المسلمين وباعوهم فذلك فداء يكون للمشتري الفادي أن يتبع المفدي بما فداه به إلا أن يكونا زوجين فيفدي أحدهما صاحبه وهو عالم به بغير أمره فلا يتبعه بشيء. واختلف إن كان المفدي ممن يعتق على المفدي فقيل إنه لا يتبعه بما فداه به علم أو لم يعلم، وهو قول ابن حبيب. وقيل إنه لا يتبعه إذا علم، وهو الذي يأتي على ما في المدونة. واختلف إن كان ذا محرم منه إلا أنه لا يعتق عليه فقيل إنه كالزوجة لا يتبعه إذا علم إلا إذا فداه بأمره. وقيل إنه كالأجنبي يتبعه في كل حال. وأما إن كان من ذوي رحمه لا من ذوي محارمه فلا اختلاف في أنه كالأجنبي يتبعه في كل حال.
وإن قدموا بهم بأمان لم يفادوا منهم إلا عن طيب أنفسهم، وإن أبوا إلا الرجوع بهم إلى بلادهم كان ذلك لهم عند ابن القاسم خلاف ما حكى ابن حبيب عن مالك وأصحابه سواء. وإن غنمهم المسلمون كانوا أحرارا ولم يكن عليهم شيء إلا أن يباعوا في المقاسم فلا يدعوا شيئا وهم ممن يجهل أن ذلك لا يجب عليهم فإنهم يتبعون بالأثمان على أحد قولي ابن القاسم في العتبية،. وإن أسلموا عليهم أطلقوهم ولم يكن لهم عليهم سبيل. وإن صالحوا على هدنة لم يفادوا منهم إلا عن طيب أنفسهم. وإن صالحوا على أداء جزية فروى يحيى عن ابن القاسم أنهم لا ينزعون منهم، وروى عنه سحنون أنهم يؤخذون منهم بالقيمة، وهو الصواب الذي لا يصح سواه، لأن الذمي إذا أسلم عبده يباع عليه ولا يقر بيده، فكيف بأحرار المسلمين.
فصل وأما إذا حازوا أحرارا من أهل الذمة فإن باعوهم ردوا إلى ذمتهم وتبعهم المشتري بالثمن، وإن قدموا بهم بأمان لم يكن لأحد عليهم فيهم سبيل، إن شاءوا(1/363)
باعوا وإن شاءوا رجعوا بهم إلى بلادهم، ولا خلاف في هذا أعرفه. فإن غنمهم المسلمون ردوا إلى ذمتهم ولم يكن عليهم شيء إلا أن يباعوا وهم ساكتون غير جاهلين بأن ذلك لا يجب عليهم فعلى ما تقدم من خلاف ابن القاسم في المسألة التي قبلها. وإن أسلموا عليهم فقال في المدونة إنهم يكونون رقيقا لهم، وقال ابن حبيب يردون إلى ذمتهم، وهو اختيار إسماعيل. وإن صالحوا على هدنة لم يعرض لهم، وإن صالحوا على أداء جزية تخرج ذلك على قولين في المذهب لابن القاسم وبالله التوفيق.
[فصل في الرباط]
فصل
في الرباط والرباط شعبة من شعب الجهاد، وهو ملازمة الثغور لحراسة من بها من المسلمين، وهو مأخوذ من الربط لأنه إذا لازم الثغر فكأنه قد ربط نفسه به. قال الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] والأجر فيه على قدر الخوف من ذلك الثغر وحاجة أهله إلى حراستهم من العدو. وقد روي أن عبد الله بن عمر قال: فرض الجهاد لسفك دماء المشركين، والرباط لحقن دماء المسلمين فحقن دماء المسلمين أحب إلي من سفك دماء المشركين، فقيل إن ذلك إنما قاله حين دخل الجهاد ما دخل، فقد قال عمر بن الخطاب اغز ما دام الغزو حلوا خضرا قبل أن يكون مرا عسيرا ثم يكون ثماما ثم يكون رماما ثم يكون حطاما. فإذا انتطت المغازي وكثرت العزائم واستحلت الغنائم فخير جهادكم الرباط. والثمام: الرطب من النبات،(1/364)
والرمام: اليابس. والحطام: الذي يتحطم ويتكسر. وقوله انتطت يعني تباعدت. وقوله العزائم يريد حمل السلطان شدة الأمر عليهم والعزم فيما يشق عليهم لبعد المغزى أو قلة عونه لهم وغير ذلك. فدل ذلك من قوله على أن الجهاد على السنة أفضل من الرباط. وكذلك روى ابن القاسم عن مالك في جهاد المستخرجة. والأظهر في تأويل ذلك عندي أن معناه عند شدة الخوف على أهل ذلك الثغر وتوقع هجوم العدو عليهم وغلبته إياهم على أنفسهم ونسائهم وذراريهم، إذ لا شك أن إغاثتهم في ذلك الوقت وحراستهم مما يتوقع عليهم أفضل من الجهاد إلى أرض العدو، فلا يصح أن يقال إن أحدهما أفضل من صاحبه على الإطلاق، وإنما ذلك على قدر ما يرى وينزل. وذلك قائم من قول مالك في سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور: ويستحب الرباط أربعين ليلة، لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تمام الرباط أربعون ليلة» . وفضائل الرباط المروية كثيرة. منها ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رباط ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقوم ليلها ويصوم نهارها لا يفطر» وأنه قال: «من رابط فواق ناقة حرمه الله على النار» . قال ابن حبيب: هو قدر ما تحلب فيه. وليس من سكن الثغر بأهله وولده مرابطا، وإنما المرابط من خرج من منزله معتقدا الرباط في موضع الخوف وبالله التوفيق.
[فصل في الحكم في الأسرى]
فصل
في الحكم في الأسرى قال الله عز وجل: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57] وقال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4](1/365)
وقال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67] فذهب مالك وجمهور أهل العلم إلى أن الإمام مخير في الأسرى بين خمسة أشياء: إما أن يقتل، وإما أن يأسر ويستعبد، وإما أن يمن فيعتق، وإما أن يأخذ فيه الفداء، وإما أن يعقد عليه الذمة ويضرب عليه الجزية، لأنه استعمل الآيات كلها وفسر بعضها ببعض ولم ير فيها ناسخا ولا منسوخا، لأن الآية الأولى قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] الآية توجب قتل الأسير وألا يستحيى عموم يحتمل الخصوص، فخصصتها الآية الثانية قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] وبينت أن المراد بذلك قبل الإثخان، وأن الحكم فيها بعد الإثخان شد الوثائق للمن والفداء. أو بينت الآية الثالثة قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] أن شد الوثائق بالمن والفداء،، المذكور في الآية الثانية آية سورة القتال إنما هو على التخيير لا على الإلزام وتحريم القتل، لأن تقدم الحظر على الأمر قرينة تدل على أن المراد به الإباحة لا الوجوب. وقد كان الأسر محظورا قبل الإثخان، فدل ذلك على أن قوله: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] معناه إن شئتم، مثل قوله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] بعد قوله عز وجل: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ومثل قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] بعد قوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] .(1/366)
فصل وقولنا إن تقدم الحظر على الأمر قرينة تدل على أن المراد به الإباحة ليس بإجماع. قد قيل إن ذلك لا يدل على الإباحة. فإذا قلنا بهذا فالدليل على أن المراد بذلك التخيير بين القتل وإباحة الأسر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل صبرا من أساري بدر عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث» .
فصل والتخيير في الأسرى ليس على الحكم فيهم بالهوى، وإنما هو على وجه الاجتهاد في النظر للمسلمين، كالتخيير في الحكم في حد المحارب. فإن كان الأسير من أهل النجدة والفروسية والنكاية في المسلمين قتله الإمام ولا يستحييه، وإن لم يكن على هذه الصفة وأمنت غائلته وله قيمة استرقه للمسلمين وقبل فيه الفداء إن بذل فيه أكثر من قيمته، وإن لم تبذل فيه قيمة ولا فيه محمل لأداء الجزية أعتقه كالضعفاء والزمنى الذين لا قتال عندهم ولا رأى لهم ولا تدبير. فمن الضعفاء والزمنى الذين لا يقتلون المعتوه والمجنون واليابس الشق باتفاق، والأعمى والمقعد على اختلاف. والاختلاف في هذا على اختلافهم في وجوب السهم لهم من الغنيمة، وفي جواز إعطائهم من المال الذي يجعل في السبيل، وإن لم تكن له قيمة وفيه محمل لأداء الجزية عقد له الذمة وضربت عليه الجزية. واختلف قول مالك إذا لم يعرف حاله، فمرة قال إنه لا يقتل إلا أن يكون معروفا بالنجدة والفروسية، ومرة قال إنه يقتل، وهو الذي ذهب إليه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في كتابه إلى عماله أن يقتلوا من جرت عليه المواسي ولا يسبوا من علوجهم أحدا.
فصل وإن رأى الإمام باجتهاد مخالفة ما وصفناه من وجوه الاجتهاد كان ذلك له، مثل أن يبذل الفارس المعروف بالنجدة والفروسية في نفسه المال الواسع الكثير(1/367)
فيرى الإمام أخذه أولى من قتله بما ظهر إليه في ذلك من النظر للمسلمين والاستعانة بما يأخذ منه على المشركين وما أشبه ذلك من وجوه الاجتهاد. هذا تحصيل القول في حكم الأسرى. وحكى الداروردي في كتاب الأموال أن أكثر أصحاب مالك يكرهون فداء الأسرى بالمال ويقولون إنما كان ذلك ببدر لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه سيظهر عليهم وساق القصة في ذلك. قال وإنما يتفق على جواز فدائهم بأسرى المسلمين والذي ذكرته هو الصحيح.
فصل ومن أهل العلم من جعل الآية الأولى ناسخة للآيتين الثانية والثالثة فقال: إن الأسير يقتل على كل حال ولا يجوز استحياؤه. وممن قال بذلك قتادة وجماعة من المفسرين. ومنهم من حمل قَوْله تَعَالَى في الآية الثانية {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] على الإلزام لا على التخيير، وجعلها ناسخة للآية الأولى في إيجاب القتل، وللآية الثانية فيما يقتضيه من التخيير فقال إن الأسير لا يقتل صبرا. وممن ذهب إلى هذا عبد الله بن عمر، والحسن، وعطاء. وهذا كله بعيد، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل وأسر فوقع فعله موقع البيان لما في القرآن، والله المستعان.
[فصل في الجزية]
فصل
في الجزية والجزية ما يؤخذ من أهل الكفر جزاء على تأمينهم وحقن دمائهم مع إقرارهم على كفرهم، وهي على وجهين: عنوية وصلحية. وأما الصلحية فلا حد لها إذ لا يجبرون عليها ولأنهم منعوا أنفسهم وأموالهم حتى صالحوا عليها فإنما هي على ما يراضيهم عليه الإمام من قليل أو كثير على أن يقروا في بلادهم على دينهم إذا كانوا بحيث تجري عليهم أحكام المسلمين وتؤخذ منهم الجزية عن يد وهم صاغرون. كذا نص ابن حبيب في الواضحة. وعنده أن الجزية الصلحية لا حد لها إلا ما صولحوا عليه من قليل أو كثير، وهو كلام فيه نظر. والصحيح أنه لا حد لأقلها يلزم أهل الحرب الرضا به لأنهم مالكون لأمرهم، وأن لأقلها حدا إذا بذلوه لزم الإمام(1/368)
قبوله وحرم عليه قتالهم لقول الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ولم أر لأحد من أصحابنا في ذلك حدا. والذي يأتي على المذهب عندي أن أقلها ما فرض عمر على أهل العنوة، فإذا بذل ذلك أهل الحرب في الصلح على أن يؤدوه عن يد وهم صاغرون لزم الإمام قبوله وحرم عليه قتالهم. وله أن يقبل منهم في الصلح أقل من ذلك وإن كانوا أغنياء وقال الشافعي: أقل الجزية دينار، ولا يتقدر أكثرها لأنه إذا بذل الأغنياء دينارا حرم قتالهم وهذا نص منه على أن أقل الجزية دينار، ولا يتقدر أكثرها معناه أنه ليس لكثرة ما يبذلونه في الصلح حد لا يجوز للإمام أن يتجاوزه، بخلاف أهل العنوة الذي لا يجوز للإمام أن يتجاوز فرض عمر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل وهي على ثلاثة أوجه: أحدها أن تكون الجزية مجملة عليهم، والثاني أن تكون مفرقة على رقابهم دون الأرض، والثالث أن تكون مفرقة على رقابهم وأرضهم أو على أرضهم دون رقابهم، مثل أن يقول على كل رأس كذا وكذا، وعلى كل زيتونة كذا وكذا وعلى كل بيدر قفيز من الأرض كذا وكذا. ولكل وجه من هذه الوجوه أحكام تختص به.
فصل فأما إذا كانت الجزية مجملة عليهم فذهب ابن حبيب إلى أن الأرض موقوفة للجزية لا تباع ولا تورث ولا تقسم ولا تكون لهم إن أسلموا عليها، وأن مال من مات منهم لوارثه من أهل دينه إلا أن لا يكون له ورثة من أهل دينه فيكون للمسلمين. وذهب ابن القاسم إلى أن أرضهم بمنزلة مالهم يبيعونها ويرثونها ويقتسمونها وتكون لهم إن أسلموا عليها، وإن مات منهم ميت ولا وارث له من أهل دينه فأرضه وماله لأهل مواده ولا يمنعون من الوصايا وإن أحاطت بأموالهم إذ لا ينقصون من الجزية شيئا لموت من مات.(1/369)
فصل وأما إن كانت الجزية مفرقة على رقابهم فلا اختلاف أن لهم أرضهم ومالهم يبيعون ويورثون وتكون لهم إن أسلموا عليها، ومن مات منهم ولا وارث له من أهل دينه فأرضه وماله للمسلمين، ولا تجوز وصيته إلا في ثلث ماله.
فصل وأما إن كانت الجزية مفرقة على الجماجم والأرض أو على الأرض دون الجماجم فاختلفوا في جواز بيع الأرض على ثلاثة أقوال: أحدها أن البيع لا يجوز، وهي رواية ابن نافع عن مالك في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة. والثاني أن البيع جائز ويكون الخراج على البائع وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها. والثالث أن البيع جائز ويكون الخراج على المبتاع ما لم يسلم البائع، وهو مذهب أشهب وقوله في المدونة ولا اختلاف أنها تكون لهم إن أسلموا عليها وأنهم يورثونها بمنزلة سائر أموالهم قرابتهم من أهل دينهم أو المسلمون إن لم يكن لهم قرابة من أهل دينهم.
فصل فإن صالحوا على الجزية مبهمة من غير بيان ولا تحديد وجبت لهم الذمة وحملوا في الجزية محمل أهل العنوة في جميع وجوهها على ما سنفصله إن شاء الله تعالى.
فصل وأما الجزية العنوية، وهي الجزية التي توضع على المغلوبين على بلادهم المقرين فيها لعمارتها، فإنها عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على ما فرضها عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق، مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام، إلا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى رأى أن توضع عنهم الضيافة إذ لم يوف لهم بالعهد على وجهه. ومعنى ذلك أنه لا يسوغ لأحد ممن مر بهم أن يطالبهم بالضيافة إذا علم أنه لم يوف لهم بالعهد. وكذلك من(1/370)
استؤمنوا على أن يكونوا من أهل ذمة المسلمين حكمهم حكم أهل العنوة في الجزية. هذا حد الجزية عند مالك لا يزاد فيها على الغني لغناه ولا ينقص عن الفقير لفقره إذا كانت له قوة على احتمالها. واختلف إن ضعف عن حمل جملتها فقيل إنها توضع عنه، وهو الظاهر من مذهب ابن القاسم، وقيل إنه يحمل منها بقدر احتماله، قال القاضي أبو الحسن، ولا حد لذلك. وقيل إن حد أقل الجزية دينار أو عشرة دراهم.
فصل فيتحصل في حد الجزية في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها أن حدها ما فرض عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لا يزاد عليه ولا ينقص منه. والثاني أن حد أكثرها ما فرض عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ولا حد لأقلها، وإلى هذا ذهب القاضي أبو الحسن. والثالث أن حد أكثرها ما فرض عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وحد أقلها دينار أو عشرة دراهم، وهو مذهب أبي حنيفة، إلا أن الدينار عنده باثني عشر درهما، فقال إنه يؤخذ من الغني أربعة دنانير إن كان من أهل الذهب وثمانية وأربعون درهما إن كان من أهل الورق، ومن المتوسط الحال نصف ذلك، ومن الفقير ربع ذلك دينار أو اثنا عشر درهما.
فصل ولا تؤخذ الجزية إلا من الرجال الأحرار البالغين لأنها ثمن لتأمينهم وحقن دمائهم، والصبي والمرأة لا يقاتلان، والعبد مال من الأموال. واختلف فيه إذا أعتق على ثلاثة أقوال: أحدها أن عليه الجزية لأنه حر له ذمة المسلمين فوجبت عليه الجزية لهم. الثاني أنه لا جزية عليه لأنه كان مؤمنا محقون الدم، والجزية إنما هي ثمن لحقن الدم. والثالث الفرق بين أن يعتقه مسلم أو كافر، وهذا قول ابن القاسم وروايته عن مالك. وهذا الاختلاف إنما هو إذا أعتق في بلاد الإسلام، وأما إذا أعتق في دار الحرب فتكون عليه الجزية على كل حال.
فصل وتؤخذ الجزية من أهل الذمة عند وجوبها. واختلف في حد وجوبها فقيل إنها(1/371)
تجب بأول الحول حين تعقد لهم الذمة، ثم بعد ذلك عند أول كل حول، وهو مذهب أبي حنيفة. وقيل إنها لا تجب إلا بآخر الحول، وهو مذهب الشافعي، وليس عن مالك وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى في ذلك نص. والظاهر من مذهبه وقوله في المدونة أنها تجب بآخر الحول، وهو القياس، لأنها إنما تؤخذ منهم سنة بسنة جزاء على تأمينهم وإقرارهم على دينهم يتصرفون في جوار المسلمين وذمتهم آمنين، يقاتل عنهم عدوهم ولا يلزمهم ما يلزم المسلمين، فهي عليهم بإزاء الزكاة على المسلمين، غير أنها تؤخذ منهم على وجه الذلة والصغار، وتؤخذ الزكاة من المسلمين تطهيرا لهم وتزكية. ألا ترى أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كان يأخذ من نصارى العرب في جزيتهم الزكاة مضاعفة إكراما لهم فوجب أن تجب بمرور الحول كالزكاة. وتحرير قياس ذلك أن الجزية حق في المال فيتعلق وجوبه بالحول، فوجب أن يؤخذ في آخره كالزكاة.
فصل وكذلك الحكم في الجزية الصلحية إذا وقعت مبهمة من غير تحديد كما ذكرنا. وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن هذا الاختلاف إنما هو في الجزية الصلحية، وأن الصحيح فيها من القولين أن تؤخذ معجلة عند أول الحول لأنها عوض عن تأمينهم وحقن دمائهم وترك قتالهم، وقد وجب لهم ذلك بعقد الصلح وتقرر، فوجب أن يتنجز منهم العوض قياسا على سائر عقود المعاوضات. واستدل على ذلك أيضا بقول الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] وقال إن لفظ الإعطاء إذا أطلق فالظاهر منه قبض العطية دون إيجابها. ولو كان محتملا للوجهين احتمالا واحدا لكان قَوْله تَعَالَى عن يد دليلا على أن المراد به القبض، لأن من قال أعطيت فلانا عن يد يفهم منه تعجيل العطاء ودفعه إلى المعطى، قال وهو الذي يأتي على مذهب مالك لأنه قال في تجار الحربيين أن يؤخذ منهم ما صالحوا عليه باعوا أو لم يبيعوا، فوجب أن يؤخذ منهم ما صالحوا عليه بحصول التأمين لهم وإن لم يحصلوا على ما أملوه من الانتفاع بالبيع والشراء. وإن الجزية(1/372)
العنوية تؤخذ في آخر الحول بلا خلاف لأنهم عبيد للمسلمين، وما يؤخذ منهم في الجزية كالخراج، فوجب أن يؤخذ منهم بعد استيفاء المنفعة وانقضاء المدة. وفي هذا كله نظر.
أما قوله في الجزية الصلحية إنها عوض عن تأمينهم وترك قتالهم وحقن دمائهم وقد وجب لهم ذلك وتقرر بعقد الصلح فوجب أن يتنجز منهم العوض قياسا على سائر عقود المعاوضات فليس ذلك بصحيح، لأنها إنما هي عوض عن تأمينهم وحقن دمائهم على التأبيد، فإن كان قد وجب لهم الأمان وتقرر بعقد الصلح فلم يحصل لهم بعد ولا استوفوه، وإنما يحصل الاستيفاء بمرور المدة عاما بعد عام لجواز الخفر بهم فيما يأتي من المدة. وإنما ذلك في القياس بمنزلة من أسكن رجلا داره أعواما على أن يؤدي إليه في كل عام كذا وكذا فلا يجب على المسكن أن يؤدي واجب كل عام إلا في آخره، [لأن السكن إن كان قد وجب له وتقرر بالعقد فلم يقبضه بعد ولا استوفاه] .
فصل وأما استدلاله على ذلك بظاهر قول الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] وقوله إن لفظ الإعطاء عن يد إذا أطلق الأظهر منه التعجيل وإن كان يحتمل أن يراد به التأخير فلا يصح، بل الآية حجة لنا ودلالة على صحة قولنا، لأنه قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] فعم بالجزية ولم يخص منها شيئا دون شيء، فوجب بحق الظاهر أن تكون كلها معجلة، فيكون معنى الإعطاء القبض والدفع، أو تكون كلها مؤجلة فيكون الإعطاء بمعنى الإيجاب دون الدفع والقبض، من قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] فلما بطل أن تكون كلها معجلة للإجماع على أن جزية العام الثاني وما بعده من الأعوام لا تقبض في أول العام الأول صح أنها كلها مؤجلة لا يتنجز قبض شيء منها ولا يصح في عقل عاقل أن يقول إن(1/373)
ظاهر لفظ الإعطاء قبض بعض المعطى وإيجاب بعضه. وإذا لم يصح ذلك فقول الله عز وجل لا دليل فيه على أن مراده بيعطوا الجزية تنجز القبض وإنما معناه على ما قيل عن غلبة وقهر، لأن الأيد القوة. قال الله عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] أي بقوة وقدرة. وليل يعطونها بإنعام عليهم لأن [قبولها منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم إذ] ، اليد تكون عند العرب بمعنى النعمة. وقيل معناه أن يدفعوها عند وجوبها عليهم بأيديهم لا يرسلوا بها كما يفعل الجبارون المتكبرون. ويؤيد هذا التأويل قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
فصل وأما استدلاله على أن مذهب مالك تنجز قبض الجزية عنا أول العام من قوله في تجار الحربيين إنه يؤخذ منهم ما صالحوا عليه باعوا أو لم يبيعوا فلا دليل له في ذلك على ما ذهب إليه، بل يدل ذلك من قوله - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على أن الجزية لا تؤخذ إلا في آخر الحول على ما عزينا إليه وتأولناه عليه، لأنه لم يقل أن يؤخذ منهم ما صولحوا عليه عند عقد الصلح معهم قبل أن يدخلوا للتجارة، وإنما قال إنه يؤخذ ذلك منهم إذا دخلوا وأقاموا للتجارة القدر الذي صولحوا على إقامته، فهم لو شاءوا أن يبيعوا باعوا، فليس تركهم لبيع سلعهم باختيارهم بالذي يسقط الحق الواجب عليهم في دخولهم بلاد المسلمين ومقامهم فيها في جوارهم وتحت ذمتهم.
فصل وكذلك قوله إن الخلاف غير داخل في الجزية العنوية لا يصح، لأن العلة التي اعتل بها من أن أخذ الجزية في أول الحول وهي الانتفاع بالعقد لإيجابه لهم الذمة والأمان موجودة في هؤلاء لإيجابها لهم البقاء في بلاد المسلمين أحرارا أو بمنزلة الأحرار وهم على كفرهم آمنون.(1/374)
فصل واختلف فيمن أسلم بعد وجوب الجزية عليه إما بأول الحول وإما بآخره على الاختلاف المتقدم في ذلك هل تسقط عنه الجزية أم لا على قولين: فذهب الشافعي إلى أنها لا تسقط عنه ويؤخذ بها بعد إسلامه، وذهب أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أنها تسقط عنه بإسلامه، وهو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه. والدليل على ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا جزية على مسلم» . وكتب عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم من أهل الجزية حين يسلمون، لأن الوضع لا يكون إلا فيها قد وجب. وأما سقوطها عنهم فيما يستقبل بعد إسلامهم فليس مما يشكل حتى يحتاج عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلى كتابه بذلك إلى عماله فلا يصح أن يحمل كلامه على ذلك.
فصل والكفار في أخذ الجزية منهم على أربعة أصناف: صنف تؤخذ منهم الجزية باتفاق. [وصنف لا تؤخذ الجزية منهم باتفاق] . وصنف تؤخذ الجزية منهم على اختلاف. وصنف اختلفوا فيما يؤخذ منهم في الجزية.
فصل فأما الذين تؤخذ منهم الجزية باتفاق فأهل الكتاب والمجوس من العجم.
تؤخذ من أهل الكتاب بنص القرآن قال الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ومن المجوس العجم وهم ما عدا أهل الكتاب فتؤخذ منهم بالسنة والقياس، فأما السنة فقوله في حديث عبد الرحمن بن عوف «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» يريد في الجزية،(1/375)
«وأخذه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزية من مجوس البحرين» . وأما القياس فهو أن الجزية إذا كانت تؤخذ من أهل الكتاب إذلالا وإصغارا مع أنهم أقرب إلى الحق لإقرارهم بالنبوة والشريعة المتقدمة فالمجوس أحرى بذلك منهم، إذ لا يقرون بشيء من ذلك. وقد قيل في المجوس إنهم أهل كتاب، روي ذلك عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» معناه على قوله الذين يعلم كتابهم على ظهور واستفاضة.
فصل وأما الذين لا تؤخذ منهم الجزية باتفاق فكفار قريش والمرتدون. أما المرتدون فلأنهم ليسوا هم على دين يقرون عليه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاضربوا عنقه» . وأما كفار قريش فقيل إنما لم تؤخذ منهم الجزية لأنه لا يجوز أن يجري عليهم ذلة ولا صغار لمكانهم من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإن كانوا من أهل الكتاب تخصصوا من عموم الآية بالإجماع ولم يجز في أمرهم إلا الإسلام أو السيف، وهذا الإجماع حكاه ابن الجهم. وقال القزويني إنما لم تؤخذ الجزية من كفار قريش لأن جميعهم أسلم يوم الفتح، فلا يكون قرشي كافرا إلا مرتدا والمرتد لا تؤخذ منه الجزية لأنه ليس على دين يقر عليه ولا يسترق.
فصل وأما الذين تؤخذ منهم الجزية على اختلاف فمشركو العرب ومن دان بغير الإسلام [من العرب و] ليس من أهل الكتاب ولا المجوس. أما مشركو العرب(1/376)
فذهب مالك إلى أن الجزية تؤخذ منهم، وقال الشافعي وأبو حنيفة لا تؤخذ الجزية منهم، والى هذا ذهب ابن حبيب، وهو قول ابن وهب من أصحابنا. قال ابن حبيب إكراما لهم فعلى قوله تؤخذ الجزية من غير المجوس إذا لم يكن من العرب ودان بغير الإسلام. وقيل إن ذلك ليس من جهة الإكرام لهم، وإنما ذلك على جهة التغليظ عليهم لبعدهم من الحق إذ ليسوا بأهل كتاب، وهذا يأتي على مذهب الشافعي لأن المجوس عنده أهل كتاب ولا تؤخذ الجزية عنده إلا من أهل الكتاب. فعلى قوله لا تؤخذ الجزية من غير المجوس وأهل الكتاب وإن لم يكونوا من العرب.
فصل وأما الذين يختلف فيما يؤخذ منهم في الجزية فنصارى العرب، ذهب مالك إلى أن الجزية تؤخذ منهم، وحجته قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه كان يأخذ منهم في جزيتهم الصدقة مضاعفة إكراما لهم. وقيل بل كان يأخذ ذلك باسم الجزية والله أعلم.
فصل فالذي يتحصل في الجزية ثلاثة أقوال: أحدها أن الجزية تؤخذ ممن دان بغير الإسلام بدين يقر عليه من جميع الأمم حاشا كفار قريش. والثاني أنها تؤخذ ممن دان بغير الإسلام بدين يقر عليه حاشا كفار قريش ومشركي العرب. والثالث أنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس، وهذا قول الشافعي. والقولان الأولان في المذهب، وقد تقدم ذكر ذلك وبالله التوفيق.(1/377)
[كتاب الحج] [فصل في معرفة اشتقاق اسم الحج]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم
عونك اللهم لا شريك له كتاب الحج فصل
في معرفة اشتقاق اسم الحج الحج في اللغة القصد مرة بعد أخرى أو هو مأخوذ من قولهم حججت فلانا إذا عدته مرة بعد أخرى، فقيل حج البيت لأن الناس يأتونه في كل سنة. قال الله عز وجل: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125] أي مرجعا يأتونه في كل سنة ثم يرجعون إليه فلا يقضون منه وطرا، أي لا يدعه الإنسان إذا أتى إليه قبل أن يعود إليه ثانية. وقيل للحاج حاج لأنه يأتي البيت في - أول قدومه فيطوف به قبل يوم عرفة ثم يعود إليه بعد يوم عرفة لطواف الإفاضة ثم ينصرف عنه إلى منى ثم يعود إليه ثالثة لطواف الصدر، فلتكرار العودة إليه مرة بعد أخرى قيل له حاج.
فصل والعمرة: الزيارة، يقال أتى فلان معتمرا أي زائرا، فقيل للمعتمر معتمرا لأنه إذا طاف بالبيت انصرف عنه معتمرا أولم يعد إليه بعد زيارته إياه. فمعنى اعتمر الرجل البيت أي زاره وقصده. وكل من قصد شيئا فهو له معتمرا.(1/379)
فصل فحج البيت في الشرع قصده على ما هو في اللغة، إلا أنه قصد على صفة ما في وقت ما تقترن به أفعال ما.
فصل وحج بيت الله الحرام فريضة كفريضة الصلاة والصيام والزكاة، قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]
فصل ولوجوبه أربعة شرائط، وهي البلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة. واختلف في الإسلام فقيل: إنه من شرائط الوجوب، وقيل إنه من شرائط الإجزاء، على اختلافهم في مخاطبة الكافر بشرائع الإسلام.
فصل والاستطاعة القوة على الوصول إلى مكة إما راكبا وإما راجلا مع السبيل الآمنة المسلوكة. وما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاستطاعة أنه الزاد والراحلة معناه عندنا في البعيد الدار الذي لا يقدر على الوصول إلى مكة راجلا إلا بتعب ومشقة. فإذا كان لا يقدر على الوصول راجلا لبعد بلده إلا بالمشقة التي ذكر الله تعالى حيث يقول: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7] فلا يجب عليه الحج حتى يقدر على الراحلة بشراء أو كراء. وقد قال بعض البغداديين: لم يثبت في الراحلة حديث. وظاهر القرآن يوجب الحج على مستطيعه ماشيا، يريد قول الله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] ، وقد سئل مالك رحمه(1/380)
الله عن قول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] أهو الزاد والراحلة، فقال لا والله ما ذلك إلا على طاقة الناس، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على السير، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه. ولا صفة في هذا أبين مما قال الله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] فمن قدر على الوصول إلى مكة إما راجلا بغير كبير مشقة تلحقه أو راكبا بشراء أو كراء فقد وجب عليه الحج. وليس النساء في المشي على ذلك وإن قوين لأنهن في مشيهن عورة إلا للمكان القريب مثل مكة وما قرب منها. حكى ذلك ابن المواز عن أصبغ.
فصل وإن لم يكن عند الرجل من الناض ما يشتري به أو يكتري به وله عروض فيلزمه أن يبيع من عروضه في الحج ما يباع عليه منها في الدين. أوقد سئل ابن القاسم عن الرجل تكون له القرية ليس له غيرها أيبيعها في حجة الإسلام ويترك ولده ولا شيء لهم يعيشون به. قال نعم، ذلك عليه ويترك ولده في الصدقة،. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه من ذلك فقر ظاهر أو مرض حابس أو سلطان ظالم فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا» .
فصل واختلف في الحج هل هو على الفور أو على التراخي. فحكى ابن القصار عن مالك أنه عنده على الفور، ومسائله تدل على خلاف ذلك. روى أشهب عنه أنه سئل عمن حلف على زوجته أن لا تخرج فأرادت الحج وهي صرورة أنه يقضى عليه بذلك، ولكن لا أدري ما تعجيل الحنث ها هنا حلف أمس وتقول هي أنا أحج اليوم ولعله يؤخر ذلك سنة بسنة. وفي كتاب ابن عبد الحكم أنه يؤخر سنة وكذلك يقضى عليه. وهذا يدل على أن الحج عنده على التراخي، إذ لو كان عنده على الفور لما شك في تعجيل تحنيث الزوج في أول عام. بل القياس يوجب أن يحنث(1/381)
الزوج في أول عام وإن كان الحج على التراخي لأن لها أن تعجله وإن لم يجب عليها تعجيله. ولما أخر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاما واحدا للعذر المذكور في الحديث رأى على ما في كتاب ابن عبد الحكم أنه يقضى عليهما بالتأخير عاما واحدا، لأن يمين الزوج عذر، ولعلها إنما قصدت إلى تحنيثه لا إلى القربة بتعجيل الحج، فهذا وجه الرواية والله أعلم. ولابن نافع عن مالك في المجموعة أنه يستأذن أبويه في حج الفريضة العام وعام قابل ولا يعجل عليهما، فإن أبيا فليخرج. وهذا بين في أن الحج عنده على التراخي خلاف ما في كتاب ابن المواز أنه يحج الفريضة [بغير إذنهما] وإن قدر أن يترضاهما فعل. وإلى أنه على التراخي ذهب سحنون في نوازله من كتاب الشهادات، أي لم ير أن تسقط شهادة من ترك الحج وهو قوي عليه حتى يتطاول ذلك السنين الكثيرة من العشرين إلى الستين ونحو ذلك.
فصل فإذا قلنا إنه على التراخي فله حالة يتعين فيها، وهو الوقت الذي يغلب على الظن فواته بتأخيره عنه، وهو يتعين عندي على من بلغ الستين، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «معترك أمتي من الستين إلى السبعين» . وإلى هذا الحديث نحا سحنون في نوازله والله أعلم. ومما يدل على - أن الحج على التراخي أنه فرض في سنة تسع وأقامه أبو بكر للناس في ذلك العام، ولم يحج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في سنة عشر. وإلى هذا ذهب الشافعي واحتج بهذه الحجة. وما اعتل به في ذلك من ذهب إلى أنه على الفور من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد علم بما أعلمه الله أنه يعيش حتى يحج لا يلزم، لأن أصل اختلافهم أفي هذا إنما هو على اختلافهم، في الأمر المطلق هل يقتضي الفور أو لا يقتضيه. فلو كان قول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] يقتضي الفور في اللسان ومفهوم في(1/382)
الخطاب لما صح أن يؤخر الحج إلى عام آخر وإن علم أنه يعيش إلا أن يخصه الله تعالى بذلك دون غيره، وفعله في امتثال أمر الله محمول على البيان لمجمل كتاب الله حتى يعلم أنه مخصوص بذلك. وإلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مخصوصا بتأخير الحج ذهب إسماعيل القاضي فقال إن الله لم يأمره بالحج حتى قطع ما أراد أن يقطعه من عهود المشركين ودار الحج إلى الشهر الذي جعل الله فيه الحج وحج فيه أبوه إبراهيم، وهو قول لا دليل عليه. والظاهر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داخل تحت عموم قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] .
وأما قول من قال إن حجة أبي بكر كانت تطوعا لأنه حج في ذي القعدة قبل وقت الحج على النسيء الذي كان عليه أهل الجاهلية وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أخر الحج إلى عام عشر ليوقعه في وقته الذي استدار إليه الزمان وحج فيه الأنبياء قبله إبراهيم وغيره صلوات الله وسلامه عليهم وهو ذو الحجة، فيكون هو الفرض ويثبت فيه الحج إلى يوم القيامة على ما قاله في خطبته، فليس ذلك عندي بصحيح. بل حج أبو بكر في ذي القعدة وهو وقته حينئد شرعا ودينا قبل أن ينسخ النسيء، ثم حج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذي الحجة من العام المقبل وأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] الآية فنسخ ذلك النسيء الذي كان عليه أهل الجاهلية، وأنزل أيضا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] يريد لا ينقل عنها، فاستقر الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة. ولو كان الحج قد فرض في ذي الحجة ونسخ النسيء عند فرض الحج قبل حج أبي بكر لما حج أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في ذلك العام إلا في ذي الحجة، ولأمكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحج في ذلك العام لو شاء فيه الحج. فالصحيح أنه إنما أخر الحج في ذلك العام من أجل العراة الذين كانوا يطوفون بالبيت من المشركين حتى يعهد إليهم في ذلك على ما جاء في الحديث، لا ليوقعه في ذي الحجة إذ كان قادرا على أن يوقعه في ذلك العام في ذي الحجة لو كان الحج قد فرض عليه فيه على الفور، فصح الدليل من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن الحج على التراخي والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/383)
فصل وقد ذكر الله تعالى الحج كله في كتابه بمناسكه ومشاعره وأحكامه ووقت أدائه وما يحل فيه وما يحرم فقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] [أي وقت الحج أشهر معلومات] لأن الحج عمل والأشهر وقت، فليس الأشهر هي الحج، وإنما هي وقت له. واختلف فيها فقيل إن المراد بها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، لأنه إذا رمى الجمرة يوم النحر فقد حل من إحرامه أولم يفسد حجه إن وطئ بعد ذلك لأن ترك الوطء قبل طواف الإفاضة ورمي الجمرة من سنن الحج وليس من فرائضه. وإنما جاز أن يقال لها أشهر وهي شهران وبعض الثالث لأنه وقت، والعرب تسمي الوقت تاما ببعضه، فتقول جئتك يوم الخميس وإنما أتاه في ساعة منه، وجئتك شهر كذا وإنما أتاه في يوم منه. وقيل إن المراد بها شوال وذو القعدة وذو الحجة لأن رمي الجمار في أيام مني بعد العشر وهي من عمل الحج، ولأنه لا يجوز أن يطأ النساء إلا بعد طواف الإفاضة، وله أن يؤخره إلى آخر الشهر ولا يكون عليه دم وهو من عمل الحج. فالرفث في قَوْله تَعَالَى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] هو إصابة النساء. قال الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] والفسوق الذبح للأنصاب، قال الله عز وجل: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] وقال بعضهم الفسوق المعاصي كلها، وهو أظهر، فمعناه ولا يفسق بإتيان ما نهاه الله عز وجل عنه في حال إحرامه بحجه من قتل صيد أو أخذ شعر أو تقليم ظفر أو غير ذلك مما حرم الله عليه فعله في حال الإحرام. والجدال الذي نهى الله عنه في الحج هو أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقزح وكانت العرب وغيرها تقف بعرفة، فكانوا(1/384)
يتجادلون يقول هؤلاء نحن أصوب ويقول هؤلاء نحن أصوب، فقال الله عز وجل: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 67] .
فصل وليس توقيت الحج للحج كتوقيت وقت الصلاة للصلاة في أن لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج كما لا يجوز الإحرام بالصلاة قبل دخول وقتها. والفرق بينهما من جهة المعنى أن الحج لا يتصل عمله بإحرامه، بل يتأخر إلى ميقاته، فلا يضره الإحرام به قبل وقته، إذ لا يمكن عمله، إلا في وقته، والصلاة يتصل عملها بالإحرام لها، فلو أحرم بها قبل وقتها لجاز أن يفرغ منها قبل دخول وقتها. وقد كان الأصل أن يجب على الناس الإحرام بالحج من أوطانهم وإذ كان بينهم وبين مكة مسيرة العام أو الأعوام بقول الله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] ، فخفف الله عنهم لِقَوْلِهِ تَعَالَى في كتابه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] كما خفف عنهم على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحرموا قبل ميقاتهم. فإن أحرم أحد بالحج قبل أشهر الحج أو قبل ميقاته كان قد أساء إذ شدد على نفسه ولم يقبل رخصة الله، فهذا وجه توقيت أشهر الحج للحج. ولهذا المعنى وجب على من لم يكن من أهل مكة إذا اعتمر في أشهر الحج ثم حج قبل أن يرجع إلى بلده أو قرن أن يهدي، وذلك أنه اعتمر في الأشهر التي خص الله بها الحج في حقه. ومن أهل العلم من يقول: إنه لا يجوز له أن يحرم بالحج قبل أشهر الحج، فإن فعل حل بعمرة وكان متمتعا ولم يجزئه إحرامه بالحج. وقد قيل: إنه ليس عليه أن يتحلل بعمرة، كمن أحرم بصلاة ثم ذكر أنه قد كان صلاها، إن له أن يقطع ولا يلزمه أن يتم ركعتين، وفي ذلك اختلاف.(1/385)
فصل وقال الله تعالى في الطواف: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] وقال: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] وقال: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . وجاء في بعض الآثار أن أصل الطواف بالبيت أن الله تبارك وتعالى لما قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] فغضب عليهم غضبا شديدا فتفرقوا لغضبه ولاذوا بالعرش فطافوا حوله سبعا يستغفرون الله فغفر لهم وقال لهم: ابنوا لي في الأرض بيتا يطوف حوله ذرية من أستخلفه فيها ويستغفرونني فأغفر لهم كما غفرت لكم وأرضى عنهم كما رضيت عنكم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل وقال تعالى في الصفا والمروة: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] فقوله تعالى فيهما إنهما من شعائر- الله دليل على وجوب السعي بينهما، لأن الله تعالى أخبر أن السعي بينهما من شعائر الحج التي أداها خليله إبراهيم - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - إذ سأله أن يريه مناسك الحج، وإن كان خبرا فالمراد به الأمر، لأن الله تعالى أمر نبيه باتباع ملة إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] ولا دليل على سقوط وجوب السعي بينهما لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] لأن معنى ذلك هو ما «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما اعتمر(1/386)
عمرة القضية تخوف أقوام كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيما منهم لهما فقالوا: كيف نطوف بهما وقد علمنا أن تعظيم الأصنام وما يعبد من دون الله شرك بالله، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] » أي: فإن كان أهل الشرك يطوفون بهما من أجل الصنمين اللذين بهما كفرا بالله فإنكم تطوفون بهما إيمانا بالله وتصديقا برسله وطاعة لربكم فلا جناح عليكم، أي لا إثم عليكم في الطواف بهما. وروي عن الشعبي أنه قال: كان في الجاهلية وثن على الصفا يسمى أساف وعلى المروة وثن يسمى نائلة، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوثنين، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام قال المسلمون: إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين فليس الطواف بهما من الشعائر، فأنزل الله تعالى أنهما من الشعائر. وهذا نحو ما في الموطأ عن عروة بن الزبير أنه قال: «قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن، أرأيت قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فما على الرجل أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول لقال فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار الذين كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] » .
فصل وأصل السعي بين الصفا والمروة في الحج ما جاء في الحديث الصحيح من «أن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما ترك ابنه إسماعيل مع أمه بمكة وهو رضيع فنفد ماؤهما وعطشت وعطش ولدها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قالت: يتلبط، فانطلقت كراهة أن تنظر إليه [فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف(1/387)
درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود] حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات» .
فصل وذكر الله تعالى الوقوف بعرفة والمزدلفة فقال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] يقول الله تعالى فإذا أفضتم من عرفات منصرفين [إلى منى فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين. وقوله] ، بعد ذلك: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] قيل: المعنى في ذلك ثم آمركم بالإفاضة من عرفات من حيث أفاض الناس فهو خبر. وثم في الخبر يجوز أن يكون الثاني فيها قبل الأول، كما أن الإفاضة قبل المجيء إلى المشعر الحرام، وله نظائر كثيرة من القرآن. ويجوز أن تكون ثم هاهنا بمعنى الواو، وعنى بالناس في هذه الآية إبراهيم خليل الرحمن - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، وهذا جائز في الكلام أن يقال للذي يقتدى به ويكون لسان قومه قال الناس وهم يعنونه. ومنه قوله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] وإنما قاله لهم نعيم بن مسعود الأشجعي، وكان بعث به أبو سفيان ليخوف المسلمين بجمعهم. وقيل: إن الذي عني بهذه الآية قريش ومن ولدته قريش الذين كانوا يسمون في الجاهلية الخمس، أمروا في الإسلام أن يفيضوا من عرفات، وهي البقعة التي أفاض منها سائر الناس. فالمعنى بالناس على هذا التأويل من سوى قريش ممن وقف بعرفة. والمعنى به على التأويل الأول، وهو أظهر، خليل الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] أي إذا فرغتم من حجكم وذبحتم(1/388)
نسائككم {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا فرغوا من حجهم ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثرهم، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرهم بالتعظيم له تعالى والشكر له دون غيره، وأن يلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره تعالى نظير ما كانوا ألزموه أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم. وقيل المعنى في ذلك: فاذكروا الله كذكر الأبناء والصبيان الآباء.
فصل وأنزل الله تعالى في رمي الجمار في الأيام الثلاثة بمنى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203] . والأصل في رمي الجمار، على ما جاء في بعض الآثار، «أن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما أمر ببناء البيت سارت السكينة بين يديه كأنها قبة، فكانت إذا سارت سار وإذا نزلت نزل، فلما انتهت إلى موضع البيت استقرت عليه وانطلق إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فمر بالعقبة فعرض له الشيطان فأمره فرماه، ثم مر بالثانية فعرض له فرماه، ثم مر بالثالثة فعرض له فرماه، فكان ذلك سبب رمي الجمار. ثم مشى معه يريه المناسك حتى انتهى إلى عرفة فقال له عرفت؟ فقال عرفت، فسميت عرفة. ثم رجع فبنى البيت على موضع السكينة» . وقد روي في سبب رمي الجمار ما قد ذكرته في كتب الضحايا من شأن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مع الكبش الذي فدى الله به ابنه من الذبح فالله أعلم بحقيقة ذلك.
فصل وأمر الله تبارك وتعالى من أحرم بالحج والعمرة أن يتمهما على وجههما وذكر تعالى حكم من أحصر فيهما أو تمتع فقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196](1/389)
وقال: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] والقران في الحج مقيس على التمتع. فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أن المحصر بمرض لا يحله شيء من إحرامه إلا البيت، فإن احتاج إلى حلق رأسه قبل أن يصل إلى البيت افتدى، وإن أقام على إحرامه حتى يحج به من عام قابل لم يكن عليه هدي، وإن تحلل بعمرة قبل أشهر الحج من عام قابل كان عليه هدي لفوات الحج، فينحره قبل أن يحلق رأسه في حجة القضاء، لقوله عز وجل: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ولقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فالهدي الأول هو الثاني عنده. وإن تحلل بعمرة في أشهر الحج من عام قابل كان عليه هدي آخر لاعتماره في أشهر الحج كما يكون على القارن إلا أن يكونا من حاضري المسجد الحرام. وذهب عروة بن الزبير وابن شهاب وجماعة من العلماء إلى أن الهدي الأول في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] غير الهدي الثاني في قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [الهدي الأول يحل به من بعض إحرامه قبل أن يصل إلى البيت إن شاء أن يبعث بالهدي ويجعل له ميعادا ينحره فيه. فإذا بلغ ذلك الوقت حل له حلق الشعر ولبس الثياب وما أشبه ذلك حتى يصل إلى البيت فيحل بالطواف من جميع إحرامه. والهدي الثاني يجب عليه لفوات الحج إذا لم يبن على إحرامه حتى يحج به] في العام المقبل. وإن احتاج قبل أن يصل الهدي الذي يبعث به إلى البيت إلى حلق رأسه فعل ذلك وافتدى لقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] الآية. وهذا القول أسعد بالتأويل.(1/390)
[فصل فيما يجتنب المحرم]
فصل
فيما يجتنب في الإحرام وذكر الله تعالى ما يجتنب في الإحرام فقال تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] فلا يحل قتل الصيد ولا شيء من الدواب في حال الإحرام إلا الخمس الفواسق التي أباح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتلها في الحل والحرم. وقال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وكذلك ما كان في معناه من إماطة الأذى عن نفسه بتقليم ظفر أو إلقاء تفث أو لبس شيء من الثياب المخيطة أو الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين على ما وردت به السنة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل وبين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل ما أجمل الله عز وجل في كتابه من أمر الحج فوقت المواقيت لأهل الآفاق، وبين عدد الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وما يبدأ به في ذلك كله، وكيف يصنع فيه. ووقت الوقوف بعرفة والمزدلفة، والجمع بين الصلاتين بهما، وصفة رمي الجمار والنحر، وما يجب في ذلك كله وما لا يجب قولا وعملا في حجه الذي حج بالناس.
ومن أحسن حديث روي في صفة حجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأتمه حديث جابر بن عبد الله خرجه أصحاب الصحيح مسلم وغيره وقطعه مالك في موطئه، فذكر في كل باب منه ما احتاج إليه، وكذلك فعل البخاري. وحديث جابر بن عبد الله من رواية جعفر بن محمد عن أبيه قال: «دخلنا على جابر بن عبد الله وهو [يومئذ قد ذهب بصره،(1/391)
فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت أنا محمد بن علي بن حسين، وأنا] يومئذ غلام شاب فرحب بي وسهل ودعا لي، فقالوا جئنا نسألك، فقال لي سل عما شئت يا ابن أخي، فقلت أخبرني عن حج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال بيده وعقد تسعا ثم قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقول كيف أصنع، قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي. فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري من بين يديه من راكب وماش وعن يمينه وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أظهرنا ينزل عليه القرآن وهو يعرف تأويله فما عمل به من شيء عملنا به. فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم شيئا منه، ولزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلبيته. قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين القبلة. قال جعفر: فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا. فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] فبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة ووحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك فقال مثل ذلك ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال:(1/392)
إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة. [فحل الناس كلهم إلا النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - ومن كان معه هدي] . فقام سراقة بن جعشم فقال يا رسول الله: ألعامنا هذا أم للأبد، فشبك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أصابعه ثم قال: هكذا دخلت العمرة مرتين، لا، بل لأبد أبد. وقدم علي من اليمن ببدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا فكان علي يقول بالعراق فذهبت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: صدقتْ صدقت، ثم قال: ماذا قلت حين فرضت الحج، قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معي الهدي فلا أحل. قال: فكانت جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة مائة. قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى بنا الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس فقال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن بكم فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أبدا إن(1/393)
اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون، قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، وقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ويشير إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد ثلاث مرات، ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غابت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حين غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه ودفع وقد شنق القصواء بالزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره ووحده وهلله، ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس وكان رجلا حسن الوجه أبيض وسيما فلما دفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرت الظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده على وجه الفضل فصرف وجهه من الشق الآخر حتى أتى محسرا فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند المسجد فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، كل حصاة منها مثل حصى الخذف، فرمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المسجد(1/394)
فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه. ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى البيت فأفاض وصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه.»
فصل وكانت حجة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه في سنة عشر من الهجرة، وهي حجة الوداع، لم يحج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة بعد أن أنزل عليه فرض الحج غيرها، وحج بمكة قبل أن يفرض عليه الحج حجتين على ما روي.
فصل ولما فرض الحج وانصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوة تبوك عام تسع أراد الحج ثم قال: إنه يحضر البيت غدا مشركون يطوفون بالبيت فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك، فأرسل أبا بكر فأقام الحج للناس في ذلك العام، وذلك عام تسع، ثم أردفه عليا لما نزلت صدر سورة براءة ليقرأها على الناس بالموسم، ويعهد إلى الناس أن «لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» إلى سائر ما أمره أن ينادي به في كل موطن من مواطن الحج، فخرج على ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العضباء حتى لحق أبا بكر بالطريق، فقال له أبو بكر: أمير أو مأمور؟ قال: بل مأمور. ثم نهضا فأقام أبو بكر للناس الحج في ذلك العام على منازلهم التي كانوا في الجاهلية عليها من النسيء الذي ذكره الله في كتابه حيث يقول: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 37] الآية فوقعت حجته في ذي القعدة على ما كانوا عليه من النسيء في الجاهلية. وذلك أنهم كانوا يحجون في كل شهر عامين، فوافقت حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة. ثم حج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من،(1/395)
قابل في ذي الحجة، فذلك قوله حيث يقول: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» فثبت في ذي الحجة إلى يوم القيامة.
فصل واختلفت الآثار عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في إهلاله بالحج من حيث كان، فروي عنه أنه أهل من جوف المسجد حين صلى فيه. وقال آخرون: لم يهل إلا من بعد أن استوت به راحلته في فناء المسجد. وقال آخرون: إنما أهل حين أطل على البيداء وأشرف عليها. وقد أوضح ابن عباس المعنى في اختلافهم في ذلك، روي عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: عجبت من اختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إهلال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني لأعلم الناس بذلك. «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجا فلما صلى بمسجد ذي الحليفة ركعتين أوجبه في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من الركعتين فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا ذلك عنه، ثم ركب فلما استقلت به راحلته أهل وأدرك ذلك أقوام فحفظوا ذلك عنه، فقالوا: إنما أهل حين استقلت به ناقته. وذلك أن الناس كانوا يأتون أرسالا. ثم مضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما وقف على شرف البيداء أهل وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين أشرف علي البيداء. [فنقل كل واحد ما سمع وإنما كان إهلاله من مصلاه وايم الله] .» فمن أخذ بقول ابن عباس أهل بمصلاه إذا فرغ من الركعتين.(1/396)
فصل وكذلك اختلفت الآثار عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هل أفرد الحج أو قرن أو تمتع اختلافا كثيرا. والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنه أفرد الحج على ما روي عن «عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحج. فأما من أهل بعمرة فحل وأما من أهل بالحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر..» وفي حديث عائشة هذا دليل على إباحة التمتع والقران، ولم يختلف أهل العلم في ذلك، وإنما اختلفوا في الأفضل، فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أن إفراد الحج أفضل على ما روي عن عائشة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفرد الحج» وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في قول الله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قال: من تمامهما أن تفرد كل واحدة منها عن الأخرى، وأن يعتمر في غير أشهر الحج، فإن الله عز وجل يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وروي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنه قال: إذا جاء حديثان مختلفان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به. وذهب آخرون إلى أن التمتع بالعمرة إلى الحج أفضل، وهو مذهب عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس. ومنهم من ذهب إلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان متمتعا، وهو قول سعد في الموطأ للضحاك بن قيس: بئس ما قلت يا ابن أخي، قد صنعها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصنعناها معه. «وقول حفصة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» . وقول عبد الله بن عمر في الموطأ أيضا، وقد أهل أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع بالعمرة، ثم قال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» . وذهب من صحح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرن إلى أن(1/397)
القران أفضل، وهو مذهب علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وفي قول عائشة: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» . دليل على أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قارنا، إذ لا اختلاف أن الهدي كان معه يومئذ ساقه مع نفسه.
وخرج أبو داود عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لعلي بن أبي طالب: كيف صنعت؟ قال: قلت: أهللت بإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: فإني سقت الهدي وقرنت» وذكر تمام الخبر. وكذلك روي «عن أنس بن مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرن وأنه سمعه يقول لبيك بحجة وعمرة معا» . وذهبت طائفة من العلماء إلى أنه لا يجوز أن يقال في واحدة من هذه الوجوه إنها أفضل من الأخرى، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أباحها كلها وأذن بها ورضيها ولم يقل في واحدة منها إنها أفضل من الأخرى. والأولى ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن الإفراد في الحج أفضل من التمتع والقران، لأن التمتع والقران رخصة من الله، أوجب على من أخذ بها الهدي إذا لم يكن من أهل مكة. فمن لم يأخذ بالرخصة وأتى بالحج والعمرة في سفرين فهو أفضل والله أعلم. وقد قال بعض أصحابنا: إن الإفراد أفضل، ثم التمتع بعده لأن الله تعالى أباحه في القرآن.
فصل وإذا صح حديث ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل بالحج حين فرغ من الركعتين، وحين استوت به راحلته، وحين ظهر على البيداء وصحح على ذلك وجه الاختلاف المروي في حين إحرامه، صح أن يصحح عليه أيضا وجه الاختلاف المروي فيما كان به محرما، إذ قد يحتمل أن يكون أهل حين فرغ من الركعتين بعمرة مفردة، فلما استوت به راحلته أو ظهر على البيداء أهل بحجة مفردة أضافها إلى عمرته المتقدمة فصار بذلك قارنا، فقال من سمع إحرامه حين صلى الركعتين(1/398)
بعمرة مفردة ولم يسمع إهلاله بعد ذلك بالحج الذي أضافه إلى العمرة المتقدمة: إنه كان متمتعا. وقال: من سمع إهلاله بعد ذلك بالحج المفرد الذي أضافه إلى العمرة المتقدمة ولم يسمع إهلاله بالعمرة المتقدمة إنه أفرد الحج. وقال: من سمع إهلاله حين صلى الركعتين بالعمرة ثم سمع إهلاله بعد ذلك بالحج الذي أضافه إليها إنه كان قارنا. وكان قول من قال ذلك أولى؛ لأنه علم الأمرين جميعا وخفي على من قال: إنه كان مفردا أو متمتعا أو أحدهما. ويؤيد هذا قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «فإني سقت الهدي وقرنت» لأنه أخبر عن نفسه بما كان عليه من أمره فكان أولى مما وصف عنه من يمكن أن يكون قد غاب عنه بعض أمره. وقد قيل في وجوب اختلافهم في إحرامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان أفرد الحج أولا ثم فسخه في عمرة وأمر أصحابه بذلك نقضا لما كانوا عليه في الجاهلية، لأنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وكانوا يسمون المحرم صفر ويقولون إذا عفا الوبر، وبرئ الدبر، ودخل صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فلما قدم مكة قبل أن يطوف بالبيت أضاف الحج إلى العمرة التي كان فسخ الحج فيها فصار بذلك قارنا، فكان في أول أمره مفردا للحج، ثم صار متمتعا إذ فسخ الحج في العمرة، ثم صار قارنا إذ أضاف الحج إلى العمرة. فيصح على هذا قول من قال: إنه أفرد الحج، وقول من قال: إنه كان متمتعا، وقول من قال: إنه كان قارنا. إلا أن إردافه الحج على العمرة لا يوجد في الأحاديث نصا وإنما يقال ذلك بتأويل. والمنصوص فيها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» . فظاهر هذا أنه بقي على عمرته متمتعا إلا أنه لم يحلق بسبب الهدي، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وأصحابه: إن من ساق هديا لتمتعه لا يحلق حتى ينحر الهدي، فظنه قارنا من قال: إنه كان قارنا بقوله «لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» ولم يكن قارنا وإنما كان متمتعا لفسخه الحج في العمرة. وإنما فسخ الحج في العمرة لينقض بذلك ما كان عليه أهل الجاهلية، لأن التمتع أفضل من إفراد الحج. فبان على هذا أن إفراد الحج أفضل من التمتع ومن القران، وهو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وبالله التوفيق.(1/399)
فصل والعمرة على مذهب مالك سنة وليست بفريضة. وذهب ابن الماجشون إلى أنها فريضة، وهو مذهب ابن الجهم. والذي ذهب إليه مالك هو الصحيح، لأن فرض الحج إنما وجب لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، وأما قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، فإنما هو أمر بالإتمام لمن دخل فيهما. وقد قرئ (والعمرةُ لله) على الابتداء والخبر، فلا متعلق لأحد بإيجاب العمرة في هذه الآية وإنما هي سنة. وقد احتج من ذهب إلى إيجابها بقول الله عز وجل: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] ، فدل أن ثم حجا أصغر وهو العمرة. وهذا لا يصح فإن الحج الأكبر إنما عنى الله به الاجتماع الأكبر بالمشعر الحرام حين تجتمع قريش وسائر الناس ولم يعن به شعيرة من الشعائر. وقيل: إنما عنى به حج أبي بكر لأنه وقع [في ذي القعدة وهو أكبر من الذي كان قبله،] في ذي القعدة أيضا. وقيل: إن الأكبر نعت لليوم لا للحج وأنه يوم عرفة وهو بعيد.
فصل واعتمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثا: عام الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة إذ صده المشركون عن البيت. وعام القضية من العام المقبل عام سبع في ذي القعدة آمنا هو وأصحابه. ثم اعتمر الثالثة في ذي القعدة من سنة ثمان. وقد قيل: إن عمرته الواحدة كانت في شوال، ذكر ذلك مالك في موطئه عن عروة بن الزبير. وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر في رجب» وأنكرت ذلك «عائشة وقالت ما اعتمر في رجب قط» . فكانت عمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث عمر في ثلاثة أعوام عمرة في كل سنة. فلذلك لم ير مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - العمرة في السنة إلا مرة واحدة. ومن قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في حجة الوداع متمتعا أو قارنا قال اعتمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع عمر.(1/400)
فصل والعمرة لا تختص بزمن معلوم، وهي جائزة في السنة كلها لا تكره إلا لمن أحرم بالحج من لدن إحرامه إلى أن تغيب الشمس من آخر أيام التشريق. وسيأتي حكم إرداف الحج على العمرة والعمرة على الحج في موضعه من الكتاب إن شاء الله تعالى.
فصل وقد روي في فضل الحج والعمرة آثار كثيرة: منها قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حج ولم يرفث ولم يجهل رجع كيوم ولدته أمه» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» . «وسئل: أي الأعمال أفضل قال: إيمان بالله. قيل: ثم أي قال: جهاد في سبيله، قيل: ثم أي، قال: حج مبرور» . وفي الموطأ «أن رجلا مر على أبي ذر بالربذة سأله أين تريد؟ قال أردت الحج. قال هل نزعك غيره قال لا. قال فاستأنف العمل، قال الرجل: فخرجت حتى قدمت مكة فبقيت فيها ما شاء الله، ثم إذا أنا بالناس منعطفين على رجل، فضاغطت عليه الناس، فإذا الشيخ الذي وجدت بالربذة يعني أبا ذر، فلما رآني عرفني فقال: هو الذي حدثتك.»
فصل والحج المبرور هو المتقبل الذي تخلص فيه النية لله عز وجل وينفق فيه المال الحلال. فينبغي لمن أراد الحج أن يخلص فيه النية لله عز وجل، وأن ينظر في ماله الذي يريد به الحج، فإن علم أنه من غير حله تنحى منه، فإن الله لا يقبل إلا(1/401)
طيبا. قال الله عز وجل: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] .
[فصل في معرفة فرائض الحج]
وفرائض الحج أربعة: النية، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة. وذهب ابن الماجشون إلى أن الوقوف بالمشعر الحرام فريضة لقول الله عز وجل: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] ، والدليل على أنه غير واجب تقديم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضعفة النساء والصبيان من المزدلفة إلى منى، ولم يفعل ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة مع أن الحاجة إلى ذلك بعرفة أشق. وذهب أيضا إلى أن رمي جمرة العقبة واجب.
فصل ويستحب الغسل في الحج في ثلاثة مواطن: للإهلال، ولدخول مكة، وللوقوف بعرفة. وآكدها الغسل للإهلال، ويكون بتدلك وإنقاء، وتغتسل له الحائض والنفساء. أما الغسل لدخول مكة وللوقوف بعرفة فلا يكون بتدلك وإنقاء. وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يغسل رأسه فيه، واستحب ذلك ابن حبيب. وتغتسل الحائض والنفساء للوقوف بعرفة لأنهما يقفان بها وهما غير طاهرتين. ويغتسلان لدخول مكة بذي طوى ولا يؤخران الغسل إلى حين الدخول لأنهما لا يدخلان البيت، وبالله التوفيق.(1/402)
[كتاب الأيمان والنذور] [فصل فيما يباح من النذر ويلزم الوفاء به من النذور]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله كتاب النذور والأيمان فصل
فيما يباح من النذر ويلزم الوفاء به من النذور
أباح الله تبارك وتعالى لعباده النذر في غير ما آية من كتابه فقال تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] ، وقال تعالى: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35] . وأوجب تعالى الوفاء به فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، يريد عقد النذر وعقد اليمين وسائر العقود اللازمة في الشرع. وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] ، وقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] .(1/403)
فصل فأمر الله تعالى بالوفاء بالنذر عموما وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك ليس على عمومه فقال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» . ولا خلاف بين أحد من الأمة أن السنة تبين القرآن وتخصص عمومه. وإنما اختلف أهل العلم في جواز نسخ القرآن بالسنة، أعني بالسنة المتواترة التي توجب العلم وتقطع العذر. وأما السنة الواردة من طريق الآحاد فلا خلاف في أن نسخ القرآن بها لا يجوز بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل فالنذر ينقسم على أربعة أقسام: نذر في طاعة يلزم الوفاء به. ونذر في معصية يحرم الوفاء به، ونذر في مكروه يكره الوفاء به، ونذر في مباح يباح الوفاء به وترك الوفاء به.
فصل فالنذر اللازم هو أن يوجب الرجل على نفسه فعل ما في فعله قربة لله تعالى وليس بواجب، أو ترك ما في تركه قربة لله تعالى وليس بواجب، لأن الطاعة الواجبة لا تأثير للنذر فيها، وكذلك ترك المعصية المحرمة لا تأثير للنذر فيها لوجوب ترك ذلك عليه بالشرع دون النذر. وإنما يلزم من التروك بالنذر الترك المستحب، مثل أن ينذر الرجل أن لا يكلم أحدا بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس وما أشبه ذلك.
فصل والنذر اللازم فيما فيه لله طاعة ينقسم على قسمين: نذر مستحب، وهو المطلق الذي يوجبه الرجل على نفسه شكرا لله على ما أنعم به عليه فيما مضى أو لغير سبب. ونذر مباح وهو المقيد بشرط يأتي.
فالنذر المستحب المطلق أن يقول الرجل: لله علي نذر كذا وكذا أو نذر أن(1/404)
أفعل كذا وكذا أو نذر أن لا أفعل كذا وكذا، أو لا يلفظ بذكر النذر فيقول: لله علي كذا وكذا أو ألا أفعل كذا وكذا أو أن أفعل كذا وكذا شكرا لله تعالى. الحكم في ذلك كله سواء على مذهب مالك. ومن أهل المذهب من ذهب إلى أنه إذا قال لله علي كذا وكذا ولم يقل نذرا فذلك لا يلزمه لأنه إخبار بكذب. والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هو الصحيح. وذلك أن الذي يقول لله علي كذا وكذا لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يريد بذلك النذر. والثاني: أن يريد بذلك الإخبار. والثالث: أن لا تكون له نية. فإن أراد بذلك الإخبار فلا اختلاف في أن ذلك لا يلزمه. وإن أراد بذلك النذر فلا يصح أن يحمل على الإخبار، ولو جاز ذلك لجاز أن يحمل قوله علي نذر كذا وكذا على الإخبار. وإن لم تكن له نية كان حمله على النذر الذي له فائدة وفيه طاعة أولى من حمله على الكذب الذي لا فائدة فيه بل هو معصية.
فصل والنذر المباح المقيد بشرط يأتي، مثل أن يقول الرجل لله علي كذا وكذا إن شفاني الله من مرضى أو قدم غائبي وما أشبه ذلك مما لا يكون الشرط من فعله، إلا أن يكون شيئا يوقته أبدا فإن مالكا كرهه.
فصل وأما إن قيد ما أوجب على نفسه من ذلك بشرط من فعل يقدر على فعله وتركه، مثل أن يقول: إن فعلت كذا وكذا أو إن لم أفعل كذا وكذا فعلي كذا وكذا فليس بنذر وإنما هي يمين مكروهة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» ، إلا أنها لازمة عند مالك فيما يلزم فيه النذر من الطاعات، وفي الطلاق وإن لم تكن لله فيه طاعة، لأن الحالف بالطلاق مطلق على صفة، ويقضي به عليه وبالعتق المعين، بخلاف ما سوى ذلك من المشي والصدقة لمعين أو لغير(1/405)
معين والعتق الذي ليس بمعين إلا أن يخرج ذلك من تقييده مخرج النذر، مثل أن يقول: إن فعلت كذا وكذا أو إن أفعل فلله علي كذا وكذا فلا يلزمه في الطلاق إذ ليس لله فيه طاعة، ويلزمه فيما عدا ذلك من الطاعات دون أن يقضى عليه في شيء من ذلك وإن كان عتقا بعينه.
فصل وإنما لم يقض عليه بالنذر وإن كان لمعين؛ لأنه لا وفاء فيه إلا مع النية، ومتى قضي عليه بغير اختياره لم تصح منه نية فلم يكن فيه وفاء. وهذا إذا سمى النذر. وأما إن لم يسمه وإنما قال علي نذر إن فعلت كذا وكذا فهو كالحالف بالله سواء في اللغو والاستثناء وفي جميع وجوهه، ولا كراهية فيه. وكذلك إن قال: لله علي نذر أو لله علي نذر إن فعل الله بي كذا وكذا فعليه كفارة يمين.
فصل والأيمان تنقسم على ثلاثة أقسام: مباحة، ومكروهة، ومحظورة.
فالمباحة الحلف بالله تعالى أو باسم من أسمائه الحسنى أو بصفة من صفاته العلى. قال الله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ} [فاطر: 42] . وقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109] ، «وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيرا ما يحلف لا ومقلب القلوب، لا والذي نفسي بيده» ائتساء بما أمر الله به من الحلف باسمه حيث يقول في سورة يونس:(1/406)
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] ، وفي سورة التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] ، وفي سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3] ، وهي التي أمر الله تعالى بحفظها فقال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] ، وأوجب الكفارة فيها بقوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] معناه: فحنثتم، ذلك مفهومه.
والمكروهة الحلف بغير الله تعالى، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» . وهي تنقسم إلى قسمين: قسم لا يلزم، وقسم يلزم. فاللازمة أن يوجب على نفسه طلاقا أو عتقا أو ما كان في معناهما أو شيئا يتقرب به إلى الله تعالى إن فعل شيئا أو إن لم يفعله. والتي لا تلزم أن يوجب على نفسه معصية أو ما ليس لله بطاعة ولا معصية إن فعل شيئا أو إن لم يفعله. مثل قوله علي شرب الخمر أو قتل فلان أو المشي إلى السوق وما أشبه ذلك إن فعلت كذا أو إن لم أفعله. أو أن يحلف بحق غير الله تعالى مثل قوله والمسجد والرسول ومكة والصلاة والزكاة وما أشبه ذلك.(1/407)
والمحظورة أن يحلف باللات والعزى والطواغيت أو بشيء مما يعبد من دون الله تعالى؛ لأن الحلف بالشيء تعظيم له، والتعظيم لهذه الأشياء كفر بالله تعالى.
فصل والأيمان التي تنعقد وتلزم فيها الكفارة إن حنث ما لم يستثن هو ما كان على المستقبل من الأمور، مثل قوله والله لا أفعل ووالله لأفعلن. وأما ما كان على الماضي فلا كفارة فيه حلف على حق يعلمه أو على شيء يستيقنه فانكشف على غير ما حلف عليه، أو على الكذب متعمدا، أو على الشك إلا أنه يأثم في بعض هذه الوجوه ولا يأثم في بعضها على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
فصل وللحالف نيته التي أرادها وعقد عليها يمينه وإن كانت مخالفة لظاهر لفظه، لا اختلاف في ذلك من قول مالك ولا من أحد من أصحابه. ودليلهم قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» . وإنما اختلفوا إذا لم تكن له نية وكان ليمينه بساط أو عرف من مقاصد الناس في أيمانهم خلاف ظاهر لفظه هل تحمل يمينه على البساط أو ما عرف من مقاصد الناس في أيمانهم أو على ظاهر لفظه على ثلاثة أقوال معلومة في المذهب.
أحدها: وهو الأشهر منها، مراعاة البساط ومقصد الناس بأيمانهم. فاليمين على هذا القول تحمل على نية الحالف، فإن لم تكن له نية فبساط يمينه، فإن لم تكن له نية ولا كان ليمينه بساط فما عرف من مقاصد الناس بأيمانهم. وإن لم يعلم في ذلك للناس مقصد حملت يمينه على ما يوجب ظاهر لفظه في حقيقة اللغة. فإن كان محتملا لوجهين فأكثر فعلى أظهر محتملاته، فإن لم يكن أحدهما أظهر من(1/408)
صاحبه واستويا في الاحتمال دون مزية جرى ذلك على الاختلاف [المتعارف] في المجتهد تتعارض عنده الأدلة ولا يترجح أحدها على صاحبه. فقيل: إنه يأخذ بما شاء من ذلك، وقيل: إنه يأخذ بالأثقل، وقيل: إنه يأخذ بالأخف. فكذلك هذا يأخذ بالبر على قول. ووجه ذلك في الطلاق تيقن العصمة وفى اليمين بالله براءة الذمة. ويأخذ بالحنث على قول. ووجه ذلك الاحتياط وأن لا يستباح الفرج إلا بيقين. ويأخذ بما شاء من ذلك في قول. ووجهه أن المجتهد لما كان مأمورا بالحكم ممنوعا من التقليد على الصحيح من الأقوال كان استواء الأدلة عنده دليلا على التخيير، كما يخير المكفر في الكفارة بين العتق والإطعام والكسوة، وكما يخير واطئ الأختين في تحريم أيتهما شاء وما أشبه ذلك.
والثاني: أنه لا يراعى في اليمين البساط ولا مقصد الناس في أيمانهم وتحمل اليمين على ظاهر اللفظ إن لم تكن للحالف نية. من ذلك ما وقع في سماع سحنون من قول ابن القاسم وروايته عن مالك؛ لأن البساط مقدم على العرف، فإذا لم يراع البساط فأحرى أن لا يعتبر العرف. وهذا الاختلاف جار عندي على اختلافهم في اللفظ العام الوارد على سبب، هل يحمل على عمومه أو يقصر على سببه.
والثالث: أنه يعتبر البساط في اليمين ولا يعتبر فيها العرف. وهذا القول قائم من المدونة؛ لأنه لم يعتبر في بعض مسائلها العرف. من ذلك مسألة من حلف أن لا يأكل بيضا فأكل بيض الحوت، أو حلف أن لا يأكل رؤوسا فأكل رؤوس السمك. واعتبره في بعضها. من ذلك مسألة من حلف أن لا يدخل بيتا فدخل المسجد.
فصل وهذا فيما كان العرف والمقصد فيه مظنونا. وأما ما كان العرف والمقصد فيه متيقنا معلوما فلا اختلاف في الاعتبار به. وذلك مثل أن يقول الرجل والله لأقودن فلانا كما يقاد البعير ولأعرضن على فلان النجوم في القائلة، فهذا يعلم أن المقصد، خلاف اللفظ، فيحمل على ما علم من مقصده به بلا خلاف. والدليل على(1/409)
صحة ذلك كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال الله عز وجل: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] ، وقال: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] ، وقال: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» . ومثل هذا كثير.
فصل وهذا كله في الحلف على نفسه بما لا يقضى به عليه أو بما يقضى به عليه إذا أتى مستفتيا ولم تقم عليه بينة بيمينه. وأما الحلف لغيره في حق أو وثيقة باستحلافه إياه أو متطوعا له باليمين من غير أن يستحلفه بما يقضى به عليه أو بما لا يقضى به عليه فاختلف في ذلك اختلافا كثيرا. فقيل: إن اليمين على نية الحالف. وقيل: إنها على نية المحلوف له. وقيل: إن كان مستحلفا فاليمين على نية المحلوف له، وإن كان متطوعا باليمين له فاليمين على نية الحالف [وقيل بعكس هذه التفرقة إن كان مستحلفا فاليمين على نية الحالف وإن كان متطوعا فاليمين على نية المحلوف له] ، وهذه رواية يحيى عن ابن القاسم في الأيمان بالطلاق. والأول قول ابن الماجشون وسحنون. وقيل: إنما يفترق أن يكون مستحلفا أو متطوعا باليمين فيما يقضى به عليه، وأما فيما لا يقضى به عليه فلا يفترق ذلك، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب النذور.
فصل وهذا ما لم يقتطع بيمينه حقا لغيره، وأما إذا اقتطع بها حقا لغيره فلا ينفعه في ذلك نية إن نواها. وهو آثم حانث في يمينه، عاص لله عز وجل في فعله، داخل تحت الوعيد. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله(1/410)
عليه الجنة وأوجب له النار، قيل وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال: وإن كان قضيبا من أراك قالها ثلاثا» . فلا اختلاف في هذا الوجه عند أحد من الأمة.
فصل والحنث يدخل بأقل الوجوه، والبر لا يكون إلا بأكمل الوجوه. والأصل في ذلك أن الله تعالى أباح المطلقة ثلاثا بعد زوج فقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، فلا تحل له بالعقد عليها دون الدخول على ما ثبت في السنة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه قال لامرأة رفاعة بن سموأل: لا تحل له حتى تذوق العسيلة» .
فصل وحرم ما نكح الآباء والأبناء من النساء فقال تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] ، وقال تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] . فحرمت على الأب زوجة الابن بأقل ما يقع عليه اسم نكاح وهو العقد دون الدخول، وعلى الابن زوجة الأب بمثل ذلك بإجماع الأئمة. فتبين بذلك أن ما يباح به الشيء أقوى مما يحظر به. فمن حلف أن لا يأكل هذا الرغيف يحنث بأكل بعضه إلا أن تكون له نية أو بساط يدل على أنه إنما أراد استيعاب جميعه. ومن حلف ليأكلن هذا الرغيف لم يبر إلا بأكل جميعه إلا أن تكون له نية أو بساط يدل على أنه إنما أراد أكل بعضه. وعلى هذا فقس ما شابه هذه المسائل.
فصل والنية تكون بالقلب دون تحريك اللسان. ومن شرطها أن يعقد عليها يمينه،(1/411)
فإن استدركها بعد أن فرطت منه اليمين لم ينتفع بها وان وصلها باليمين. وذلك مثل أن يقول: والله إن كنت رأيت اليوم قرشيا وهو يريد فلانا لرجل بعينه؛ لأنه قد رأى غيره من القرشيين. فإن قال: والله رأيت اليوم قرشيا ولا نية له ثم نوى في نفسه فلانا بعد تمام اليمين لم ينتفع بذلك وإن وصل النية باليمين، بخلاف الاستثناء.
فصل والاستثناء على وجهين: استثناء لا يخرج من الجملة بعضها وهو الاستثناء من غير الجنس، واستثناء يخرج من الجملة بعضها وهو الاستثناء من الجنس. فأما الاستثناء الذي لا يخرج من الجملة بعضها فاختلف في جوازه، والأصح أنه جائز. قال الله عز وجل: {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2] {إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 3] ، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] . وقال النابغة:
وما أحد بالربع إلا الذي أرى
وهذا الاستثناء يقدر بلكن.
فصل وأما الاستثناء الذي يخرج من الجملة بعضها فإنه ينقسم على وجهين: أحدهما: أن يستثنى أكثر الجملة. والثاني: أن يستثنى أقلها. فأما إذا استثنى أكثر الجملة فاختلف في جواز ذلك على قولين، أصحهما الجواز. والدليل على جوازه قَوْله تَعَالَى: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] ، فلا بد أن يكون أحد الاستثناءين أكثر من الجملة وأما إذا استثنى أقل من الجملة فإن ذلك جائز باتفاق. وهو على وجهين: بحرف الاستثناء، وبغير حرف الاستثناء.(1/412)
فأما الاستثناء بحرف الاستثناء فإنه أيضا على وجهين: أحدهما الاستثناء بإلا أو بما كان في معناها من حروف الاستثناء. والثاني الاستثناء بأن وبإلا أن. فأما الاستثناء بإلا فالمشهور في المذهب أنه لا بد فيه من تحريك اللسان. وقد روى أشهب عن مالك في كتاب النذور أن النية تجزئ في ذلك، وقاله ابن حبيب في الذي يحلف بالحلال علي حرام ويستثني في نفسه إلا امرأته. وأما الاستثناء بأن وبإلا أن فلا تجزئ فيه النية ولا بد من تحريك اللسان ولا خلاف في ذلك أعلمه.
وأما الاستثناء بغير حرف الاستثناء فهو أن يقيد العموم بصفة؛ لأن ذلك يقتضي إخراج من ليس على تلك الصفة من ذلك العموم فهو استثناء بالمعنى وله حكم الاستثناء في أن لا ينفع إلا بتحريك اللسان واتصاله بالكلام. مثل ذلك أن يقول والله ما رأيت اليوم قرشيا عاقلا؛ لأنه بمنزلة أن يصل بها إلا أحمق، وذلك منصوص في رواية ابن القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في كتاب الأيمان بالطلاق في الذي يسأل الرجل عن وديعة قد كان استودعه إياها فيحلف بالطلاق إن كانت في بيته فيلقنه رجل في علمك فيقول: في علمي إنه استثناء، ينفعه إن كان الكلام نسقا ولم يكن بينهما صمات. ومثله في سماع أشهب عن مالك في كتاب النذور في الرجل يحلف ويستثني فيقول: في علمي أن ذلك له؛ لأن قوله: امرأتي طالق إن كانت الوديعة في بيتي في علمي بمنزلة قوله: امرأتي طالق إن كانت الوديعة في بيتي، إلا أن أكون غير عالم بها، فهو استثناء بالمعنى. فإن قال الرجل امرأتي طالق إن كانت الوديعة في بيتي ولا نية له يصح الاستثناء بأن يقول في علمي أو بأن يقول إلا أن أكون غير عالم بها إذا وصل ذلك بيمينه ولم يكن بينهما صمات. ولا ينفعه أن ينوي ذلك بعقب اليمين، وإنما تنفعه النية إذا عقد عليها يمينه من أول ما حلف. فافهم هذا المعنى وقس عليه فإنه جيد خفي جدا.
فصل والاستثناء لا يكون إلا من وجهين: أحدهما العدد المسمى. والثاني اللفظ الذي يقتضي العموم وهو يحتمل الخصوص.(1/413)
فأما العدد المسمى فلا يصح استدراك الاستثناء فيه إذا لم يعقد عليه يمينه، وإنما يصح إذا عقدها عليه. مثال ذلك: أن يقول والله لأعطين فلانا ثلاثة دراهم إلا درهما، فإن كان أراد أن يحلف ليعطينه درهمين فعبر عنهما بثلاثة دراهم إلا درهما صح استثناؤه، وإن كان إنما أراد أن يحلف ليعطينه ثلاثة دراهم فلما أكمل اليمين ولفظ بالثلاثة الدراهم بدا له فاستدرك الأمر واستثنى الدرهم الواحد لم ينفعه وإن كان الاستثناء متصلا باليمين. ومثل ذلك: قول الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا واحدة ففي هذا المعنى اختلاف يقوم من المدونة.
وأما اللفظ الذي يقتضي العموم وهو يحتمل الخصوص فيصح استدراك الاستثناء فيه إذا وصله باليمين بغير صمات. وقال ابن المواز: لا بد أن ينوي الاستثناء قبل آخر حرف من تمام اليمين. مثال ذلك: أن يقول والله لأعطين فلانا ثلاثة دراهم إن شاء الله أو إن شاء زيد، فهذا الاستثناء ينفعه وإن لم يعقد عليه يمينه إذا استدركه فوصله باليمين من غير صمات. وعلى مذهب ابن المواز لا ينفعه إلا أن ينويه قبل أن يلفظ بالميم من ثلاثة دراهم. هذا معنى قوله: وإرادته عندي وإن كان قد قال: إن من حلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة واستثنى لا ينفعه الاستثناء إلا أن ينويه قبل أن يلفظ بالهاء من الشهادة فإنما هو تمثيل، ومعناه: أن ينوي الاستثناء قبل أن يلفظ بآخر حرف من تمام كلامه.
فصل وأما ما نص عليه بالتسمية فلا يصح فيه استثناء لاستحالة الكلام لو قال والله لأعطين فلانا وفلانا كذا وكذا درهما إلا فلانا منهم، لم يكن كلاما مستقيما.
فصل ويصح الاستثناء بمشيئة مخلوق في اليمين بالله وفي اليمين بالطلاق وفي الطلاق المجرد؛ لأنه طلاق على صفة. وأما الاستثناء بمشيئة الله تعالى فإنما يصح في اليمين بالله ولا يصح في الطلاق المجرد. واختلف هل يصح في اليمين(1/414)
بالطلاق صرف الاستثناء إلى الفعل، على قولين، الأصح منهما في النظر أنه يصح فيه إذا صرف الاستثناء إلى الفعل لا إلى نفس الطلاق؛ لأنه إذا صرف الاستثناء إلى الفعل فقد بر ولم يكن طلاق؛ لأنه علق الطلاق بصفة لا يصح وجودها وهي أن يفعل الفعل والله لا يشاء أن يفعله، وذلك مستحيل إلا على مذهب القدرية مجوس هذه الأمة. فعلى قول ابن القاسم في قوله: إن الاستثناء لا ينفعه وإن صرفه إلى الفعل درك عظيم. وإن لم تكن له نية في صرفه إلى الفعل ولا إلى نفس الطلاق فلا أعرف في ذلك نص رواية. والذي يوجبه النظر عندي أن يكون مصروفا إلى الفعل إذا قصد به حل اليمين ولم يقل ذلك لهجا به دون القصد إلى الاستثناء؛ لأن صرفه إلى نفس الطلاق لغو لا معنى له، كما لو حلف بالله واستثنى فرد الاستثناء إلى اسم الله تعالى المحلوف به. وصرف الاستثناء إلى الفعل المحلوف عليه له معنى صحيح بين على ما ذكرناه. وحمل الكلام إذا عري عن النية على ما له وجه ومعنى أولى من حمله على ما لا وجه له ولا معنى.
وقولنا: إن الاستثناء بمشيئة الله لا يصح في مجرد الطلاق إنما معناه أنه لا يسقط عنه الطلاق؛ لأنه إذا قال امرأتي طالق إن شاء الله فقد علمنا أن الله قد شاء ذلك، إذ لا يستطيع أن يطلق امرأته بقوله امرأتي طالق إلا بمشيئة الله، فوجب أن يلزمه الطلاق، كما لو قال امرأتي طالق إن علم الله طلاقي؛ لأنه إذا طلق امرأته بقوله امرأتي طالق فقد شاء الله طلاقها وعلم ذلك. وقول من قال: إن الطلاق إنما لزمه من أجل أن مشيئة الله لا تعلم قول منكر؛ لأن مشيئة الله تعلم بوقوع الفعل، إذ لا يصح أن يقع من مخلوق فعل مع عدم مشيئة الله تعالى والله سبحانه وتعالى أعلم، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى أقوم طريق.(1/415)
[كتاب الصيد] [فصل في إباحة الصيد]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد النبي
الأمي وعلى آله وصحبه وسلم كتاب الصيد فصل
في إباحة الصيد قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] ، فالطيبات الحلال من الرزق، وكل ما لم يأت تحريمه في كتاب ولا سنة فهو من الطيبات، وهذا على مذهب من يرى أن المسكوت عنه مباح، وفي ذلك اختلاف.
فصل وقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ، معناه وصيد ما علمتم من الجوارح، خرج مخرج قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، والكلام يدل على أنهم سألوا عن الصيد فيما سألوا عنه، وذلك مذكور في الحديث. روي «أن زيد الخيل وعدي بن حاتم الطائيين أتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالا: يا رسول الله إن لنا كلابا تصيد البقر والظباء فمنها ما ندركه ومنها ما يموت وقد حرم الله الميتة، فسكت عنهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/417)
فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] » ، الآية.
فصل والجوارح الكواسب التي يصاد بها، وهي الكلاب والفهود والبزاة والصقور وما أشبه ذلك. ومن أهل العلم من قال لا يؤكل إلا صيد الكلاب. ومنهم من رأى أنه لا يؤكل صيد الكلاب البهيم. ودليلنا عموم قول الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] ، معناه: معلمين أي أصحاب كلاب قد علمتموها. وأصل التكليب تعليم الكلاب الاصطياد، ثم كثر ذلك حتى قيل لكل من علم جميع الجوارح الصيد مكلب فتكليبها تعليمها الاصطياد.
وقوله: {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4] ، فالذي علمنا الله هو ما في طبع الصغير والكبير منا من إنشاد الجوارح وتضريتها على الصيد. فتعليم الكلاب هو أن يشليه فينشلي، ويزجره فيزدجر، ويدعوه فيجيب. وكذلك الفهود وما أشبهها. وتعليم البزاة والصقور وما أشبهها هو أن يشليها فتنشلي- ويدعوها فتجيب. وأما أن يزجرها فتزدجر إذا زجرت فليس ذلك فيها ولا يمكن ذلك منها، قال ذلك ابن حبيب. وليس قوله بخلاف ما في المدونة؛ لأنه إنما أراد في المدونة إن كان يمكن من جوارح الطير أن يفقه الازدجار، وتكلم ابن حبيب على ما يعلم من حالها بالاختبار. وأما النموس فقال ابن حبيب: إنها لا تفقه التعليم ولا يؤكل ما صادت إلا أن تدرك ذكاته قبل أن تنفذ مقاتله. وروى ابن نافع عن مالك أنه قال: إن أكلت من صيدها فلا يؤكل. وقال ابن القاسم: لا أدري ما هذا، الكلاب تأكل فيؤكل صيدها، ولكن إن كانت تفقه وإلا فلا يؤكل صيدها إلا أن تدرك ذكاته قبل أن تنفذ مقاتله.
فصل وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، ظاهره أدركت ذكاته أو لم تدرك، أكلت الجوارح منها أو لم تأكل، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه. وقال(1/418)
ناس: إنه لا يؤكل صيد الكلب إذا أكل منه؛ لأنه إنما أمسك على نفسه. والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه هو الصحيح، إذ لا فرق بين الكلب وسائر الجوارح، وقد جمع الله بينهما في كتابه. فقد أجمع أهل العلم أن قتل الكلب للصيد ذكاة له، فلا فرق في القياس بين أن يأكل من صيده بعد أن يقتله وبين أن يأكل شاة مذبوحة.
فصل واعتلال من حرم أكله بأنه إذا أكل منه فإنما أمسك على نفسه لا علينا لا يصح؛ لأن نية الكلب لا يمكننا علمها. وقد يحتمل أن يمسك على نفسه ثم يبدو له فيترك الأكل، وأن يمسك علينا ثم يبدو له فيأكل. وإذا أرسلناه لا ندري هل يمسك على نفسه أو علينا، بل المعلوم منه أنه إنما يمسك على نفسه، ولو كان شابعا ما صاد، ولذلك يجوع ثم يرسل على الصيد. فإذا أمسك على نفسه فقد أمسك علينا، إذ لا يصح أن يظن أحد أن الكلب إذا أرسله صاحبه يمضي لمرسله بنية خالصة دون نفسه؛ لأن ذلك خلاف ما في طبعه من أن يفترس لنفسه. ولو كلفنا الله تعالى في تعليم الجوارح هذا لكلفنا نقل طباعها، وذلك ما لا يصح أن يقع التكليف به. وأيضا فقد أجمع أهل العلم أن الكلب المعلم إذا قتل الصيد كان أكله جائزا من غير أن ينتظر به حتى يرى إن كان يأكل منه أو لا يأكل ليستدل بذلك إن كان أمسك على نفسه أو علينا. وفي إجماعهم على ذلك دليل على ترك الاعتبار بأكله. وقد قال بعض من ذهب إلى هذا: إنه يختبر الكلب ثلاث مرات فإن لم يأكل أكل صيده، وذلك فاسد في القياس. وما روى شعبة عن عدي بن حاتم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا أكل الكلب فلا تأكل» قد خالفه فيه همام ولم يذكر هذه الزيادة. واللفظة إذا جاءت في الحديث زائدة لم تقبل إذا كانت مخالفة للأصول. وقد روى ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تشهد الأصول بصحته، وهو أنه قال: «إذا أكل فكل» ، وقال الشافعي: البازي والصقر والعقاب والكلب واحد لا يؤكل صيد(1/419)
واحد منهم إذا أكل منه. وروي ذلك عن الحسن وعطاء وسعيد بن جبير وعكرمة، وهو بعيد؛ لأن تعليم الجوارح من الطير إجابتها إذا دعيت لا أن تزدجر إذا زجرت، إذ لا يتأتى ذلك منها ولا يمكن، فكيف أن يترك الأكل إذا صادت.
فصل وقوله عز وجل: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] ، فيه تقديم وتأخير، وتقديره فاذكروا اسم الله عليه وكلوا مما أمسكن عليكم، فالتسمية تجب عند الإرسال على الصيد كما تجب على الذبيحة. فإن ترك التسمية عند الإرسال عمدا لم يؤكل الصيد، وإن نسي أو جهل أكل الصيد بمنزلة الذبيحة سواء.
فصل وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] ، وهذه الآية نزلت في المحرمين، فمعنى ليبلونكم ليختبرنكم فيعلم المطيع بترك الصيد في الإحرام من العاصي بالصيد فيه، أي ليعلم حصول الطاعة ووقوعها من عباده بعد تقدم علمه تعالى بما يكون منهم قبل أن يخلقهم. وقيل: معناه ليعلم ذلك عندكم، يقول: لتعلموا أن الله قد علم ذلك منكم فتجنبوه. وقوله: {مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة: 94] ، من هاهنا للتبعيض، يريد صيد البر؛ لأن الله تبارك وتعالى أباح للمحرمين صيد البحر. قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] .
فصل والذي تناله الأيدي من الصيد هو البيض والفراخ وصغار الصيد وما لا يفر ولا(1/420)
يمتنع بنفسه، والذي تناله الرماح والأسل الظباء وبقر الوحش وما لا يوصل إليه باليد.
فصل وأباح الله تعالى الصيد للحلال عموما باليد والرماح والأسل وبما ينبغي به الصيد من الجوارح. فقال تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ، وخصص من ذلك على لسان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصيد في حرم مكة وحرم المدينة فقال: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة وأنا أحرم ما بين لابتيها» . إلا أنه لا جزاء على من قتل الصيد في حرم المدينة عند مالك وجمهور أهل العلم، وإنما عليه الاستغفار.
فصل فصيد البر مباح للحلال في الحل ومحرم على المحرم وعلى الحلال في الحرم. وكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وأكثر أهل العلم الصيد على وجه التلهي لما فيه من اللهو والعذاب وإتعاب البهائم في غير وجه منفعة، ولم ير أن تقصر الصلاة فيه. ولا بأس بالصيد لمن كان عيشه أو لمن قرم إلى اللحم. وأباحه محمد بن عبد الحكم لعموم قول الله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ، واستخف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الصيد لأهل البادية؛ لأنهم من أهله وأن ذلك شأنهم، ورأى خروج أهل الحضر إليه من السفه والخفة، والله سبحانه وتعالى أعلم وبالله التوفيق.(1/421)
[كتاب الذبائح]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم كتاب الذبائح قال الله عز وجل: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] ، معناه: أحل لكم المذكى منها وما كان في معناها بدليل قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] ؛ لأن مراده بقوله تعالى {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] ما تلاه بعد ذلك من التحريم في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] ، فالميتة ما مات حتف أنفه، والدم بمعني الدم المسفوح، وأما اليسير فإنه حلال. قال الله عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] ، وقوله: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] ، عرفنا الله تبارك وتعالى بهذا أن الذكاة غير عاملة فيه. وقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] هو ما ذبح على النصب مما لا يأكلونه. وقوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3] هي التي صارت بالخناق إلى حال اليأس الذي لا ترجى معه حياة. وكذلك الموقوذة وهي المضروبة بالعصا، والمتردية التي تتردى من جبل أو غيره. والنطيحة المنطوحة، هي التي صارت البهيمة في ذلك كله إلى حال اليأس، بدليل أن التي أنفذت مقاتلها بسبيل الميتة، والتي لم تنفذ مقاتلها وترجى حياتها بسبيل(1/423)
الصحيحة. والميتة مذكورة في أول الآية، والصحيحة لا معنى لذكرها إذ لا إشكال في أمرها، فهذا دليل على صحة تأويلنا، وقولنا إن المراد بالموقوذة وأخواتها ما صار إلى هذا الحد وفي ذلك اختلاف سنذكره.
فصل وقد اختلف في قول الله عز وجل في هذه الآية: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، هل هو استثناء متصل أو من فصل. والاستثناء المتصل هو ما يخرج عن الجملة بعض ما يتناوله اللفظ، مثل قول القائل رأيت بني فلان إلا عمرا منه. وقَوْله تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] ، وهو كثير. والاستثناء المنفصل هو ما لا يخرج من الجملة المتقدمة شيئا مما يتناوله اللفظ، مثل قول القائل أطعمت القوم إلا دوابهم. قال النابغة:
وما بالربع من أحد إلا الأراوي
والأراوي ليست من الآحاد. ومنه قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] ؛ لأن الخطأ لا يصح أن يقال فيه إن له أن يفعله. وقَوْله تَعَالَى: {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2] {إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 3] ، ويقدر هذا الاستثناء بلكن كأنه قال: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى لكن تذكرة لمن يخشى.
فصل فمن ذهب إلى أن الاستثناء في قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، هو من الاستثناء المتصل أجاز ذكاة المنخنقة وأخواتها وإن صارت البهيمة مما أصابها من ذلك إلى حال اليأس ما لم ينفذ ذلك مقتلا، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة والعتبية، وإحدى روايتي أشهب عنه في العتبية أيضا. ومن ذهب إلى أنه استثناء من فصل لم يجز ذكاتها إذا صارت في حال اليأس مما أصابها من ذلك وإن لم ينفذ منها مقتلا، وقال: معنى الكلام: لكن ما ذكيتم من غير هذه(1/424)
الأصناف، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في رواية أشهب عنه، وقول ابن الماجشون وابن عبد الحكم وروايته عن مالك. وأما إذا أنفذ مقاتلها ما أصابها من ذلك فلا تذكى ولا تؤكل باتفاق في المذهب؛ لأنها بسبيل الميتة، وإن تحركت بعد ذلك فإنما هي بسبيل الذبيحة التي تتحرك بعد الذبح. وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم في كتاب الديات في الذي ينفذ مقاتل رجل ثم يجهز عليه آخر أنه يقتل به ويعاقب الأول. فعلى هذه الرواية يلزم أن يجيز ذكاة هذه الأصناف بعد إنفاذ المقاتل من جعل الاستثناء متصلا، إلا أنها رواية ضعيفة. والصواب رواية يحيى وسحنون أن الأول هو الذي يقتل به ويعاقب الثاني. وقد روي عن علي بن أبي طالب أن الذكاة تصح فيها ما بقيت فيها حياة بتحريك يد أو رجل ظاهرة وإن كانت منفوذة المقاتل، وهو قول ابن عباس. روي عنه أنه سئل عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها حتى انتثر قصبها فأدركت ذكاتها فقال: كل، وما انتثر من قصبها فلا تأكل.
فصل والمقاتل المتفق عليها خمسة: انقطاع النخاع وهو المخ الذي في عظام الرقبة والصلب، وقطع الأوداج، وخرق المصير، وانتثار الحشوة، وانتثار الدماغ وهو المخ. ومعنى قولهم في خرق المصير: إنه مقتل إنما ذلك إذا خرق أعلاه في مجرى الطعام والشراب قبل أن يتغير ويصير إلى حال الرجيع. وأما إذا خرق أسفله حيث يكون الرجيع فليس بمقتل. وإنما قلنا ذلك؛ لأنا وجدنا كثيرا من الحيوان ومن بني آدم يجرح فيخرق مصيره في مجرى الرجيع فيخرج الرجيع على ذلك الجرح ويعيش مع ذلك زمانا وهو متصرف يقبل ويدبر. ولو خرق في مجرى الطعام والشراب لما عاش إلا ساعة من نهار. ألا ترى أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لما طعن فسقي اللبن فخرج من الجرح علم أنه قد أنفذت مقاتله فقال له من حضره أوص يا أمير المؤمنين. وقد كان الشيوخ يختلفون عندنا في البهيمة تذبح وهي صحيحة في ظاهرها فيوجد كرشها مثقوبا. ولقد أخبرني بعض من أثق به أنها(1/425)
نزلت برجل من الجزارين في ثور فرفع الأمر إلى صاحب الأحكام ابن مكي فشاور في ذلك الفقهاء فأفتى الفقيه ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن أكلها جائز وأن للجزار أن يبيعها إذا بين ذلك. وأفتى ابن حمدين أن أكلها لا يجوز وأمر أن تطرح في الوادي. فرأى ابن مكي أن يأخذ بقول ابن حمدين وأمر أن تطرح في الوادي، فأخذها الأعوان ليذهبوا بها إلى الوادي، فسمعت العامة والضعفاء أن الفقيه ابن رزق أجاز أكلها فتألبوا على الأعوان وأخذوها من أيديهم وتوزعوها فيما بينهم ونهبوها وذهبوا بها لمكانة الفقيه ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في نفوسهم من العلم والمعرفة. والذي أفتى به هو الصواب عندي لما قدمته من الموجود المعلوم بالاعتبار، والتوفيق بيد الله. واختلف في اندقاق العنق من غير أن ينقطع النخاع، فروى ابن القاسم عن مالك رحمهما الله تعالى أنه ليس بمقتل، وروى ابن الماجشون ومطرف عن مالك أنه مقتل. وفي انشقاق الأوداج من غير قطع فقال ابن عبد الحكم: ليس مقتلا، وقال أشهب وغيره من أصحاب مالك: هو مقتل. وأما إذا لم ينفذ ما أصابها من ذلك لها مقتلا ورجيت حياتها فلا اختلاف أنها تذكى وتؤكل إذا علم أنها كانت حية حين الذكاة بوجود علامات الحياة بها، وهي خمسة: سيلان الدم، وطرفة العين، وركض الرجل، وتحريك الذنب، واستفاضة نفسها في حلقها. وهذه العلامات الخمس راجعة إلى اثنتين، وهي سيلان الدم، وتحرك الذبيحة، أو ما يقوم مقام التحرك من استفاضة نفسها في حلقها الذي يعلم أنه لا يكون إلا مع الحياة.
فصل فإن وجدت العلامتان جميعا في المكسورة التي لم ينفذ مقاتلها الكسر وهي مرجوة الحياة عند ذكاتها فإنها تؤكل باتفاق. وإن وجد منها سيلان الدم دون التحرك أو ما يقوم مقامه لم تؤكل، وهو ظاهر قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الموطأ، ولا اختلاف في ذلك أعلمه. وإن وجد منها التحرك أو ما يقوم مقامه من استفاضة نفسها بدون سيلان الدم جرى ذلك على الاختلاف في التي يئس من حياتها إذا لم ينفذ ذلك لها مقتلا؛ لأن دمها إذا لم يسل حين الذبح فقد علم أنها(1/426)
كانت لا تعيش لو تركت؛ لأن انقطاع الدم إنما يكون بانقطاع بعضها من بعض، وذلك ما لا يصح معه حياة.
فصل فالحكم في المنخنقة وأخواتها ينقسم على هذه الأقسام الثلاثة: إذا لم تنفذ مقاتلها ورجيت حياتها عملت فيها الذكاة باتفاق. وإذا أنفذت مقاتلها لم تعمل فيها الذكاة باتفاق في المذهب إلا على قياس رواية أبي زيد، وقد تقدم ذكر شذوذها. وإن لم تنفذ مقاتلها إلا أنه قد يئس من حياتها قبل، أو شك في أمرها، عملت فيها الذكاة على قول ابن القاسم ومن قال بقوله ممن يرى الاستثناء في الآية المذكورة متصلا.
فيتحصل فيها إذا يئس من حياتها أو شك في ذلك ثلاثة أقوال. أحدها: أنها تذكى وتؤكل. والثاني: أنها لا تذكى ولا تؤكل. والثالث: أنها تذكى وتؤكل إذا شك في حياتها، ولا تذكى إذا يئس من حياتها.
فصل وذهب ابن بكير إلى أن معنى ما ذكر الله في الآية في المنخنقة وأخواتها أنها هي التي ماتت من ذلك كله، وقال: إنما ذكر الله الميتة حتف أنفها والتي تموت من هذه الأسباب، فأخبر أن الجميع بمنزلة سواء في التحريم. هذا معنى قوله دون النص، وعلى هذا التأويل فالاستثناء منفصل على كل حال لا يصح غيره، وكذلك قال هو. وما ذهب إليه في ذلك بعيد؛ لأن الميتة اسم عام يدخل تحته الميتة حتف أنفها والتي تموت من هذه الأشياء، فلو كان المعنى ذلك لم يكن لذكر المنخنقة وأخواتها في الآية معنى. وله على بعده وجه، وهو أن الله تعالى أعلم أن التي تموت من هذه الأشياء كالتي تموت حتف أنفها سواء في التحريم. وإنما الصحيح في معنى الآية ما قدمته أولا من أن المنخنقة وأخواتها التي ذكر الله في الآية هي(1/427)
التي صارت مما أصابها في حال اليأس منها دون أن ينفذ لها ذلك مقتلا، فيحتمل أن يرجع الاستثناء عليها وأن لا يرجع على ما قدمناه من الاختلاف في ذلك.
فصل وأما المريضة فلا خلاف بين أصحابنا أن الذكاة عاملة فيها وإن يئس منها إذا وجدت علامات الحياة فيها حين الذكاة، وهي الحركة أو ما يقوم مقام الحركة من استفاضة نفسها في حلقها وسيلان الدم على ما قدمناه. فإن تحركت ولم يسل دمها فإنها تؤكل، وقد نص على ذلك ابن القاسم في سماع أبي زيد، وقاله ابن كنانة. وإن سال دمها ولم تتحرك لم تؤكل؛ لأن الحركة في معرفة الحياة أقوى من سيلان الدم.
فصل وأما الصحيحة التي لا مرض بها ولا كسر فتؤكل إذا سال دمها عند الذبح وإن لم تتحرك؛ لأن الحياة فيها معلومة لصحتها، فالحركة أو ما يقوم مقامها من استفاضة نفسها في حلقها دليل على الحياة في كل موضع، وسيلان الدم دون الحركة دليل على الحياة في الصحيحة خاصة.
واختلف في وقت مراعاة هذه الحركة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها لا تراعى إلا أن توجد بعد الذبح. والثاني: أنها تراعى وإن وجدت في حال الذبح. والثالث: أنها تراعى وإن وجدت قبل الذبح.
فصل فإنما أباح الله لنا ما أباح لنا من حيوان البر بالذكاة. والذكاة تنقسم على ثلاثة أقسام: ذبح، ونحر، وقتل على صفة ما. فأما النحر والذبح ففي ما له دم سائل من المملوك المأسور. والقتل فيما كان ممتنعا بنفسه من الصيد وفيما ليس له دم سائل من الحيوان على ما أحكمته السنة في ذلك، وقد تقدم حكمه في كتاب الصيد.(1/428)
فصل وما يذكى ينقسم على أربعة أقسام: قسم ينحر ولا يذبح وهي الإبل بجميع أصنافها. وقسم يذبح وينحر وهي البقر وما جرى مجراها. وقسم يذبح ولا ينحر وهو ما سوى الإبل والبقر مما له دم سائل. وقسم تصح ذكاته بغير الذبح والنحر وهو الصيد في حال الاصطياد، وما ليس له دم سائل.
فصل وقد اختلف فيمن ذبح ما ينحر أو نحر ما يذبح من غير ضرورة. قال مالك في كتاب ابن المواز: لا يؤكل كان ساهيا أو متعمدا، وهو ظاهر ما في المدونة. وقال أشهب: يؤكل كان ساهيا أو متعمدا، وهو ظاهر قول عبد العزيز بن أبي سلمة في العتبية. وقيل: يكره أكله. وقال ابن بكير: إن ذبح البعير أكل، وإن نحرت الشاة لم تؤكل، وتذبح النعامة ولا تنحر، قاله ابن القاسم. وقيل في الفيل: إنه ينحر. ووجه ذلك أنه لا عنق له يذبح فيه. ووجه قول ابن القاسم في النعامة وإن أشبهت البعير في طول العنق أنه لا لبة لها تنحر فيها.
فصل وفرائض الذكاة بالذبح خمسة: النية وهي القصد إلى الذكاة، وقطع الودجين والحلقوم، والفور. فأما النية فهي فرض بإجماع. وأما قطع الودجين والحلقوم فإن ذلك فرض عند مالك وأصحابه. فإن قطع الحلقوم ولم يقطع الودجين أو قطع الودجين ولم يقطع الحلقوم أو قطع الودج والحلقوم ولم يقطع الودج الآخر لم تؤكل الذبيحة خلافا للشافعي وأبي حنيفة في قولهما رحمهما الله تعالى إن الذكاة في أربع: الحلقوم والمريء والودجين، فإن أنفذ منها ثلاثا وبقي واحد أكلت الذبيحة. واستيعاب قطع الحلقوم فرض على أصل مذهب مالك. وروي عن ابن القاسم وابن كنانة في المدونة، وهو قول ابن حبيب، أنه إن قطع نصفه أو أكثره أجزأه، وقال سحنون: لا يجزئه إلا أن يقطعه كله. ومن ذلك اختلافهم في الغلصمة إذا لم تكن في الرأس فالمشهور في المذهب أنها لا تؤكل، حكى ذلك يحيى بن عمر عن(1/429)
مالك، وقاله ابن القاسم وأصبغ وعيسى بن دينار. واختلف فيه قول أشهب وابن عبد الحكم وابنه محمد وسحنون، وقال ابن وهب: لا بأس بها. وإن قطع بعض الغلصمة فقد قال محمد بن عبد الحكم على قياس الرواية بالمنع إن صار منها في الرأس حلقة مستديرة كالخاتم أكلت وإلا لم تؤكل.
فصل وأما إن رفع يده قبل إكمال الذكاة ثم ردها، فقال ابن حبيب: تؤكل الذبيحة إن كان ذلك بالقرب، واختلف فيه قول سحنون، فمرة قال: لا تؤكل وإن رد يده بقرب ذلك، ومرة كرهها. وقد تأول على سحنون أنه إن رفع يده كالمختبر ثم ردها بالقرب أكلت، وإن رفع يده وهو يرى أن الذكاة قد أكملها لم تؤكل وإن رد يده بالقرب، وقد قال بعض القرويين في ذلك بالعكس قياسا على من سلم من ركعتين شاكا أو على يقين أنه قد أكمل الصلاة، واستحسن ذلك أبو الحسن القابسي.
فصل ومن سنن الذبيحة التسمية، وأن لا تنخع الذبيحة حتى تزهق نفسها، وأن توجه للقبلة وتضجع على شقها الأيسر، وأن يرفق بها في ذلك كله. وسيأتي حكم من ترك شيئا من ذلك كله في موضعه إن شاء الله. والاختيار أن تذبح بالحديد. قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] ، فإن لم يجد الحديد فما ذبح به أجزأه إذا قطع وأنهر الدم إلا السن والظفر. فقد اختلف في الذبح بهما، فقيل ذلك جائز، وقيل لا يجوز. وفرق ابن حبيب بين أن يكونا مركبين أو غير مركبين. وقيل: إنه يجوز بالظفر ولا يجوز بالسن. والقولان الأولان مرويان عن مالك، وبالله التوفيق والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/430)
[كتاب الضحايا] [فصل في سبب شرع الضحايا]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الضحايا فصل
في سبب شرع الضحايا أصل ما شرع الله الضحايا لعباده ما حكاه في محكم كتابه من قصة خليله إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وما ابتلاه به من ذبح ابنه ثم فداه بذبح عظيم. قال الله تبارك وتعالى في كتابه حاكيا عن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] أي ولدا صالحا قال الله تبارك وتعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] . روي أن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بشرته الملائكة بابنه إسحاق نذر لله تعالى أن يجعله ذبيحا إذا ولدته سارة، فلما ولدته وبلغ معه السعي أي معونته على العمل قيل له في المنام: أوف لله بنذرك فرؤيا الأنبياء وحي. فقال لابنه إسحاق: يا بني اذهب بنا نقرب إلى الله قربانا، وأخذ سكينا وحبلا ثم انطلقا، فلما سارا بين الجبال التفت إسحاق وقال يا أبت أين قربانك؟ {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] . فقال له يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه سارة فتحزن لذلك، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي، فإذا أتيت سارة أمي فاقرأ(1/431)
- عَلَيْهَا السَّلَامُ - مني. فأقبل عليه أبوه إبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي حتى استنقعت الدموع تحت خد إسحاق ثم إنه جر السكين على حلقه فلم تجر، وطوقه الله صفيحة من نحاس على حلق إسحاق، فلما رأى ذلك خشي أن يكون من الشيطان وصوب به وجهه وجر السكين في قفاه فلم تجر، فذلك قوله عز وجل: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] وناداه الله عز وجل، أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا التفت، فالتفت فإذا هو بكبش أبيض أقرن أعين، فأخذ الكبش وحل ابنه وأقبل عليه يقبله ويقول اليوم وهبت لي يا بني. وروي أنه أرسل ابنه ثم اتبع الكبش ليأخذه فأحرجه عند الجمرة الأولى فرماه بسبع حصيات فأفلت عندها، فجاء الجمرة الوسطى فأحرجه عندها فرماه بسبع حصيات، فأفلت فجاء الجمرة الكبرى جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات وأحرجه عندها وأخذه فجاء به المنحر فذبحه. روي ذلك عن ابن عباس وأنه قال: والذي نفس ابن عباس بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه عند ميزاب الكعبة، فكان ذلك سبب ما شرعه الله تعالى من رمي الجمار بمنى، والنحر في أيام النحر؛ لأن الله تبارك وتعالى أمر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أن يتبع ملة إبراهيم فقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم. وقال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] وقد استدل برواية ابن عباس هذه من ذهب إلى أن الذبيح إسماعيل وبقول الله حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] يقول بشرناه بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب يقول بابن وابن ابن فلم يكن ليأمره(1/432)
بذبحه وله من الله هذا الوعد. وقال أبو جعفر الطبري: والذي ذهب إليه أكثر أهل العلم بالتأويل أن الذبيح هو إسحاق، وهو الأظهر؛ لأن الذبيح إذا كان هو الغلام الحليم الذي بشره الله به لمسألته إياه أن يهب له من الصالحين بنص الكتاب فهو إسحاق، والله أعلم؛ لأنه لم يكن له ولد إلا من الصالحين، فيبعد أن يسأل الله أن يهبه ما قد وهبه إياه. وقد بين في كتابه أن الذي بشر به إسحاق فهو الذبيح والله أعلم. وقد روي أن إبراهيم إنما أمر بذبح ابنه إسحاق بالشام وبها أراد ذبحه. وغير مستحيل أن يكون حمل رأس الكبش من الشام إلى مكة. ولا حجة لمن ذهب إلى أن الذبيح إسماعيل في قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات: 112] عقب الفراغ من قصة الذبيح؛ لأنه إنما بشر بنبوته جزاء على صبره ورضاه بأمر ربه واستسلامه له. وكذلك لا حجة في وعد الله له أن يكون له ولد من إسحاق؛ لأنه إنما أمر بذبحه بعد أن بلغ معه السعي وتلك حال لا ينكر أن يكون له فيها أولاد فكيف بولد والله أعلم. وقال المفضل: الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل، وذلك أنه قص قصة الذبيح وقال في آخر القصة: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] ثم قال: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109] {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 110] {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 111] {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} [الصافات: 113] أي: على إسماعيل {وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 113] كنى عنه؛ لأنه قد تقدم ذكره. ثم قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا} [الصافات: 113] فدل على أنهما ذرية إسماعيل وإسحاق. وليس يختلف الرواة في أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - بثلاث عشرة سنة. وأيضا قد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أعرابيا قال له يا ابن الذبيحين يعني إسماعيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأباه عبد الله؛ لأن عبد المطلب كان نذر إن بلغ ولده عشرة أن ينحر منهم واحدا، فلما كملوا عشرة أتى بهم البيت وضرب عليهم بالقداح على أن يذبح من خرج قدحه، وقد كتب اسم كل واحد في قدح، وخرج قدح عبد الله، ففداه بعشرة من الإبل، ثم ضرب عليه وعلى الإبل فخرج قدحه، ففداه بعشرة إلى أن تمت مائة فخرج القدح على الجزر فنحرها، وسن الدية مائة. قال ابن إسحاق وأما من قال: إنه إسحاق فقال كانت في إسحاق بشارتان: الأولى قوله:(1/433)
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] ولما استسلم للذبح واستسلم إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لذبحه بشر به نبيا من الصالحين.
قلت: والذي ذهب إليه المفضل من أنه إسماعيل هو الأظهر. وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا والله أعلم. وما استدل به أبو جعفر الطبري لما ذهب إليه من أنه إسحاق - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأنه يبعد أن يسأل إبراهيم ربه هبة ما قد وهبه إياه إنما يستقيم على أن إسحاق أكبر من إسماعيل، فإن كان إسماعيل أكبر من إسحاق على ما ذكره المفضل من أنه لم يختلف في ذلك الرواة فما استدل به حجة للمفضل في أن الذبيح إسماعيل والله أعلم.
فصل وروي أن هذا الكبش الذي فدي به ابن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الذبح هو القربان الذي أخبر الله أنه تقبله من أحد ابني آدم حيث يقول: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} [المائدة: 27] فذلك أن ابني آدم لما أمرا بالقربان كان أحدهما صاحب غنم وكان نتج له حمل في غنمه فأحبه حتى كان يؤثره بالليل وكان يحمله على ظهره حتى لم يكن له مال أحب إليه منه. فلما أمر بالقربان قربه لله فقبله الله منه فما زال يرتع في الجنة حتى فدي به ابن إبراهيم - والله أعلم.
فصل فالضحية سنة من سنن الإسلام وشرع من شرائعه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت بالنحر وهو لكم سنة» وأما قول الله عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قيل: معناه فصل لربك وانحر لربك، فتكون الآية على هذا عامة في الهدايا والضحايا. وقيل: يعني به صلاة الصبح بالمشعر الحرام ثم النحر بعدها(1/434)
بمنى. وقيل: يعني به صلاة العيد ثم النحر بعدها، وأن الآية نزلت بالمدينة. وأما الحج فلا صلاة عيد فيه. وقيل: يعني به وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة عند النحر وهو الصدر. وقيل: يعني به استقبال القبلة في الصلاة لوجهك ونحرك أي صدرك، والله أعلم. وقال ابن حبيب: إنها من السنن التي الأخذ بها فضيلة وتركها خطيئة، وأنها أفضل من الصدقة وإن عظمت، وأفضل من العتق. ونحوه في المدونة فيمن اشترى أضحية ولم يضح بها حتى مضت أيام النحر أنه آثم، فعلى هذا هي واجبة.
وتحصيل مذهب مالك أنها من السنن التي يؤمر الناس بها ويندبون إليها ولا يرخص لهم في تركها، فقد قال: وإن كان الرجل فقيرا لا شيء له إلا ثمن الشاة فليضح، وإن لم يجد فليستسلف. وقد روي عنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الضحية أفضل من الصدقة، وروي عنه أن الصدقة أفضل من الضحية. فعلى هذا لم يرها واجبة ولا يأثم بتركها وإن كان موسرا ما لم يتركها رغبة عن إتيان السنن.
فصل وفي الضحايا فضل كثير. قال الله عز وجل: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] يعني ذخر الثواب. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من نفقة بعد صلة الرحم أعظم أجرا عند الله من إراقة الدماء» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما عمل آدمي يوم النحر من عمل أحب إلى الله من إراقة دم وإنه ليأتي يوم القيامة في قرنه بقرونها وأظلافها وأشعارها وإن دمها ليقع من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض فطيبوا بها نفسا» فقوله: في قرنه يريد في كتاب حسناته. وقوله: بقرونها وأظلافها وأشعارها يريد أن شيئا منها لا يضيع له وأنه يجده ويجازى عليه، فلذلك يستحب عظم الضحية وكمال شعرها وكمال خلقها. والآثار في هذا كثيرة.(1/435)
فصل وأفضل الضحايا الكبش الفحل الأبيض الأقرن الأعين الذي يمشي في سواد وينظر بسواد ويأكل بسواد، وقد روي أن هذه كانت صفة الكبش الذي فدي به ابن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الذبح. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لدم عفراء أفضل عند الله من دم سوداوين» .
فصل وفحول الضأن في الضحايا أفضل من خصيانها، وخصيانها أفضل من إناثها، وإناثها أفضل من فحول المعز، وفحول المعز أفضل من خصيانها، وخصيانها أفضل من إناثها، وإناثها أفضل من الإبل والبقر، وذكور الإبل أفضل من إناثها وإناثها أفضل من ذكور البقر، وذكورها أفضل من إناثها، قاله ابن شعبان. وقال عبد الوهاب: أفضلها الغنم، ثم البقر، ثم الإبل، وهو الصواب؛ لأن المراعاة في [سنة] الضحايا طيب اللحم ورطوبته؛ لأنه يختص بها أهل البيت دون الفقراء، بخلاف الهدايا. والدليل على ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما ضحى بالغنم، ولو كانت الإبل في الضحايا أفضل لضحى بها. ومما يدل أيضا على أنها أفضل من الإبل في الضحايا أن الله تبارك وتعالى إنما فدى ابن إبراهيم من الذبح بكبش، وقال في كتابه: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] وروى أن الله أنزله من الجنة وأنه كان رعى فيها خمسين خريفا. وأما الهدايا فالإبل أفضل ثم البقر ثم الضأن. وذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن الإبل في الضحايا أفضل من الغنم، واحتج على ذلك بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اغتسل وراح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة» الحديث. والضحايا قربان. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه إنما أراد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهدايا. وقد روي ذلك في(1/436)
غير حديث الموطأ «من راح في الساعة الأولى فكأنما أهدى بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما أهدى بقرة» .
فصل والضحية واجبة على المقيم والمسافر والذكر والأنثى والصغير والكبير. وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضحي الوصي عن اليتيم من ماله، ويلزم الأب أن يضحي عن بنيه الذكور والإناث ما كانت نفقتهم له لازمة، الذكور حتى يحتلموا، والإناث حتى يتزوجن ويدخل بهن أزواجهن. ولا يلزمه أن يضحي عن امرأته ولا عن أم ولده، ولا يلزم أم الولد أن تضحي عن نفسها، وكذلك من فيه بقية رق لا تلزمه الضحية. والاختيار عند مالك أن يضحى عن كل نفس بشاة، فإن ضحى بشاة واحدة عن جميع أهل البيت أجزأهم.
فصل وأيام النحر ثلاثة: يوم النحر ويومان بعده، وهي الأيام المعلومات التي ذكر الله في كتابه فقال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] يضحي فيها من طلوع الفجر إلى غروب الشمس إلا في اليوم الأول فلا يضحي فيه إلا بعد صلاة العيد ونحر الإمام. ويستحب في اليوم الثاني والثالث ألا يضحي إلا ضحوة بعد طلوع الشمس، فإن ضحى قبل ذلك بعد طلوع الفجر أجزأه. ويستحب أيضا لمن لم يضح في اليوم الثاني من أيام الذبح حتى زالت الشمس أن يؤخر الذبح إلى ضحى اليوم الثالث فإنه أفضل. وأما من لم يضح في يوم النحر حتى زالت الشمس فقيل: إن الأفضل أن يضحي في بقية ذلك النهار، وقيل: الأفضل أن يؤخر إلى ضحى اليوم الثاني. وأما اليوم الثالث فيضحي بعد الزوال من فاته أن يضحي قبله؛ لأنه ليس ثم وقت ينتظره.
فصل والضحية لا تجب إلا بالذبح خلاف الهدي الذي يجب بالتقليد والإشعار.(1/437)
فقد روى ابن القاسم عن مالك رحمهما الله تعالى في سماعه من كتاب الضحايا من العتبية ما يدل على أنها تجب بالتسمية قبل الذبح، فقال: لا تجز الضحية بعد أن تسمى، فإن فعل انتفع بصوفها ولم يبعه، وقال سحنون وأشهب: لا بأس ببيعه إذا جزه قبل الذبح، وخفف ذلك أصبغ، وهو الذي يأتي على أنها إنما تجب بالذبح وهو المشهور في المذهب، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(1/438)
[كتاب الأشربة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتاب الأشربة قال الله تعالى عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] أي تريحون وقال: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] واختلف في السكر فقيل: إنه اسم من أسماء الخمر وإنه يقع على كل مسكر من التمر والعنب وغيرهما، قال ذلك من ذهب إلى أن الخمر اسم لكل مسكر. وقيل: إن السكر ما أسكر من التمر، والخمر ما أسكر من العنب. وقيل: إن السكر هو الطعم يقال قد جعلت هذا لك سكرا أي طعما، وهذا له سكر أي طعم. وقيل: إن السكر ما سد الجوع. فمن ذهب إلى أن السكر الطعم أو ما سد الجوع فالآية على مذهبه بينة في المعنى مفتقرة إلى تأويل وتفسير. وأما الذين ذهبوا إلى أن السكر ما أسكر من كل شيء أو مما عدا العنب فإنهم اختلفوا في معناها، فمنهم من ذهب إلى أنها إخبار عما يصنعون ويتخذون من ذلك تقتضي الإباحة وأن الله قد نسخ ذلك بما أنزل من تحريم الخمر في المائدة وغيرها. ومنهم من ذهب إلى أن الآية لا تقتضي الإباحة؛ لأن الله لم يأمر فيها باتخاذ السكر ولا أباحه، وإنما أخبر فيها بما يتخذون من الخمر المحرمة عليهم في سورة المائدة وغيرها. والأول أظهر؛ لأن الله إنما ذكر ذلك تعديدا لنعمه على عباده وتنبيها على(1/439)
الاعتبار بآياته، فيبعد أن يمتن الله على عباده بما حرم عليهم وأمرهم باجتنابه في غير ما آية من كتابه. وأيضا فإن سورة النحل مكية وتحريم الخمر إنما أنزل بالمدينة في سورة المائدة.
فصل وأجمعت الأمة على أن الخمر محرمة في كتاب الله تعالى، إلا أنهم اختلفوا إن كانت محرمة في الكتاب بنص أو بدليل. والصحيح أنها محرمة فيه بالنص؛ لأن المحرم هو المنهي عنه الذي توعد الله عباده على استباحته. وقد نهى الله عن الخمر في كتابه وأمر باجتنابها وتوعد على استباحتها فقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وهذا بلاغ في الوعيد. وهاتان الآيتان ناسختان لآية البقرة قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] ولآية النساء قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ؛ لأن آية البقرة إنما تقتضي الذم دون التحريم، فكانوا يشربونها لما فيها من المنافع. وأما آية النساء فقيل: إنها تقتضي الإباحة؛ لأنهم أمروا فيها بتأخير الصلاة حتى يذهب السكر قبل أن تحرم الخمر، فكان منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أقيمت الصلاة ينادي لا يقربن الصلاة سكران، ثم نسخ ذلك فحرمت الخمرة وأمروا بالصلاة على كل حال. وقيل: إنها تقتضي تحريم السكر في وقت الصلاة؛ لأن ذلك مفهوم النهي عن أن يقرب الصلاة في حال السكر؛ لأنهم كانوا يشربون الخمر بالليل حين نزلت هذه الآية حتى نزل تحريم الخمر في سورة المائدة.(1/440)
فصل وإن طالب متعسف جاهل بوجود لفظ التحريم لها في القرآن فإنه موجود في غير ما موضع، وذلك أن الله سماها رجسا فقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] ثم نص على تحريم الرجس فقال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] وسماها أيضا في موضع آخر فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] ثم نص على تحريم الإثم فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ} [الأعراف: 33] ولو لم يرد في القرآن في الخمر إلا مجرد النهي لكانت السنن الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتحريم الخمر مبينة لمعنى نهي الله عنها وأن مراده به التحريم لا الكراهة؛ لأنه إنما بعثه ليبين للناس ما نزل إليهم. وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن الله حرمها، وأجمعت الأمة على تحريمها، وتحريمها معلوم من دين النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ضرورة. فمن قال: إن الخمر ليست بحرام فهو كافر بإجماع يستتاب كما يستتاب المرتد فإن تاب وإلا قتل. «روي أن ناسا من أهل اليمن قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلمهم الصلاة والسنن والفرائض ثم قالوا: يا رسول الله إن لنا شرابا نصنعه من القمح والشعير، فقال: أيتغير؟ فقالوا: نعم، فقال: لا تطعموه، ثم سألوه عنه بعد يومين فقال: لا تطعموه، ثم لما أرادوا أن ينطلقوا سألوه عنه فقال: لا تطعموه، قالوا: فإنهم لا يدعونه، قال: من لم يدعه فاضربوا عنقه» يريد مكذبا بتحريمه، والله أعلم. ومن شربها وهو مقر بتحريمها جلد الحد ثمانين.
فصل وشرب الخمر من أكبر الكبائر، والآثار الواردة بالتشدد في شرب الخمر كثيرة قد أكثر الناس من ذكرها فلا معنى لجلبها.(1/441)
فصل والخمر ما أسكر وخامر العقل. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام فما أسكر من جميع الأشربة فقليله وكثيرة حرام» ، هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجمهور أهل العلم، وخالف في ذلك أهل العراق. فمنهم من ذهب إلى أن الخمر المحرمة العين هي الخمر التي من عصير العنب إذا نش وألقى الزبد أو نش وإن لم يلق الزبد على اختلاف بين هؤلاء في ذلك، وما سوى ذلك عندهم من الأشربة والأنبذة المسكرة النيئة أو المطبوخة فالسكر منها حرام، وما دونه حلال على ما روي عن عبد الله بن عباس أنه قال: حرمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب، وهذا لا حجة فيه؛ لأن بعض الرواة يقول فيه والمسكر من كل شراب. ومنهم من ذهب إلى أن الخمر المحرمة العين خمر العنب والتمر خاصة على ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الخمر من الكرمة والنخلة» . ومنهم من ذهب إلى أن الخمر المحرمة العين هي الخمر التي من عصير العنب، وأن نقيع التمر والزبيب المخمر عن غير طبخ بمنزلة الخمر في تحريم العين بخلاف سائر الأشربة والأنبذة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من الكرمة والنخلة» ، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.
فصل فكل مسكر مطرب من أي نوع كان من الأنبذة والأشربة محرم العين نجس الذات؛ لأن الله تعالى سمى الخمر رجسا كما سمى النجاسات من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير رجسا فقال تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] وليس معنى قولنا إن الخمر نجسة الذات أن ذاتها نجسة، إذ لو كانت ذاتها التي هي جسمها نجسة لما انتقلت بتبدل صفاتها إلى الطهارة، وإنما معنى قولنا إنها نجسة(1/442)
الذات أن ذاتها نجست بحلول صفات الخمر فيها كما حرمت بذلك. ألا ترى أنها قد كانت طاهرة حلالا حين كونها عصيرا قبل حلول صفات الخمر فيها، فلما حلت فيها صفات الخمر نجست بذلك وحرمت به. فلما كان حلول صفات الخمر في العصير علة في تحريمه وتنجيسه وجب إذا ارتفعت منها تلك الصفات التي هي العلة في التحريم والتنجيس أن يزول الحكم بزوال العلة، وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من القايسين أن الحكم الواجب لعلة شرعية يزول بزوال العلة ما لم تخلفه علة أخرى موجبة لمثل حكمها. فلا خلاف بين أحد من المسلمين أعلمه في أن الخمرة نجسة ولا في أنها إذا تخللت من ذاتها تطهر فتحل إلا ما ذهب إليه ابن لبابة في أن نجاستها مختلف فيه وأن قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها أن أكلها حلال إذا تخللت أو عالجها رجل حتى تخللت يدل أنها عنده ليست بنجسة وإن حرم شربها، إذ ليس كل حرام نجسا. من ذلك الحرير والذهب للرجل وما لا يؤكل لحمه وغير ذلك، وأن كراهيته للخمر التي تعالج بالحيتان حتى تصير مريا خلاف ذلك، وأنه على القول بأنها نجسة تنجس ما حلت فيه من الماء والطعام كسائر النجاسات.
وقوله خطأ صراح، بل لا اختلاف في أنها نجسة تنجس الثياب والماء والطعام، ولا اختلاف في أنها إذا تخللت من ذاتها تحل وتطهر. وإنما اختلفوا إذا خللت هل تؤكل أم لا على اختلافهم في وجه المنع من تخليلها، إذ قد قيل: إن المنع من تخليلها عبادة لا لعلة، وقيل بل منع من ذلك لعلة وهي التعدي والعصيان في اقتنائها. وقيل: بل العلة في ذلك التهمة لمقتنيها في أن لا يخللها إذا غاب عليها فيحكم عليه بإراقتها لذلك ولا يمكن من تخليلها. فعلى القول بأن المنع من تخليلها عبادة لا علة لا يجوز تخليلها في موضع من المواضع. ويتخرج جواز أكلها إذا خللت على قولين جاريين على اختلافهم في النهي، هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا يقتضيه. وعلى القول بأن المنع من تخليلها لعلة يجوز تخليلها إذا ارتفعت العلة. فمن رأى أن العلة في ذلك التعدي والعصيان في اقتنائها أجاز لمن تخمر له عصير لم يرد به الخمر أن يخلله، وقال: إنه إن خلل ما عصى في اقتنائه لم يأكله عقوبة. ومن رأى العلة في ذلك التهمة لمقتنيها في أن لا يخللها إذا غاب(1/443)
عليها أجاز للرجل في خاصة نفسه أن يخلل ما عنده من الخمر على أي وجه كان ويأكله، وإن كان الاختيار له أن لا يفعل وأن يبادر إلى إراقتها كما فعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في حديث أنس. فيتحصل في جواز تخليل الخمر ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز دون تفصيل. والثاني: أن ذلك جائز دون تفصيل على كراهية. والثالث: الفرق بين أن يقتني الخمر أو يتخمر عنده عصير لم يرد به الخمر.
وفي جواز أكلها إن خللها على مذهب من لا يجيز له تخليلها في حال ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والفرق بين أن يخلل من الخمر ما اقتنى أو ما تخمر عنده مما لم يرد به الخمر. وهذا قول سحنون، والقولان الأولان لمالك. وقد علل بعض البغداديين وهو عبد الوهاب المنع من أكلها إذا خللت على مذهب الشافعي ببقائها على النجاسة، وهو تعليل فاسد، إذ لو بقيت على النجاسة إذا خللت لكان أحرى أن تبقى عليها إذا تخللت، إلا أن يريد ببقائها على النجاسة بقاءها على حكم النجاسة في المنع من الأكل مع زوال النجاسة فيكون لذلك وجه، وهو أنه جعل ارتفاع صفات الخمر من الخمر بالتخليل كارتفاع النجاسة عن الثوب بالغسل بما سوى الماء من المائعات، فتكون الخمر إذا خللت طاهرة إن وقع شيء منها بعد التخليل في ماء أو ثوب لم تنجسه، كما يكون الثوب النجس إذا غسل بما سوى الماء من المائعات حتى زالت النجاسة عنه طاهرا إن حل في ماء طاهر لم ينجسه، ويكون حكم نجاسة الخمر إذا خللت باقيا على الخل في المنع من الأكل كما يكون حكم نجاسة الثوب إذا غسل بما سوى الماء من المائعات باقيا على الثوب في المنع من الصلاة فيه. وهذا كله بين والحمد لله. فإن قال قائل: إن كانت الخمر نجسة فكيف تطهر إذا تخللت عند مالك ومن قوله أن المنجوسات لا يطهرها من النجاسات إلا الماء الطاهر؟ قيل له: الفرق بينهما أن النجاسات أعيان قائمة بأنفسها لا يستحيل بقاؤها، فإذا خالطت الأجسام الطاهرة لم تنفصل عنها عند مالك إلا بالماء لقول الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وطهور(1/444)
من أبنية التكثير، فوجب أن يختص بالماء التطهير دون ما سواه من المائعات. وأما صفات الخمر فليست بأعيان قائمة بأنفسها؛ لأن الله خلقها خلقا لا تبقى فلا تتصف بطهارة ولا نجاسة، ومحلها يتصف بالنجاسة بها من جهة الشرع، فإذا زالت عنه لم يتصف بالنجاسة ولا حكم له بحكمها، وحكم له بحكم ما انتقل إليه من المائعات الطاهرة، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(1/445)
[كتاب العقيقة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب العقيقة العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سابعه. وقد اختلف في وجه تسميتها عقيقة، فحكى أبو عبيد عن الأصمعي وغيره أن العقيقة الشعر الذي يكون على رأس المولود، وإنما سميت الشاة التي تذبح عنه عقيقة؛ لأنه يحلق رأسه عند ذبحها، وهو الأذى الذي جاء الحديث بإماطته عنه. ويشهد لقوله بيت امرئ القيس:
أيا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا
فالعقيقة والعقة الشعر الذي يولد به الطفل. وقيل في معنى البيت أي أنه لم يعق عنه في صغره حتى كبر، عابه بذلك. وقال أحمد بن حنبل: إنما العقيقة الذبح نفسه، وهو قطع الأوداج والحلقوم، ومنه قيل للقاطع رحمه في أبيه وأمه عاق، وهو كلام غير محصل. والتحقيق فيه على ما ذهب إليه أن العقيقة الذبيحة نفسها؛ لأنها هي التي تقطع أوداجها وحلقومها فهي فعيلة من العق الذي هو القطع بمعنى مفعولة، مثل قتيلة ورهينة وما أشبه ذلك.
فصل والعقيقة من الأشياء التي كانت في الجاهلية فأقرت في الإسلام. روي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أنه قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لنا غلام ذبحنا عنه شاة ولطخنا رأسه بدمها، ثم كنا في الإسلام إذا ولد لنا غلام ذبحنا عنه شاة ولطخنا رأسه بالزعفران. فهي سنة من سنن الإسلام وشرع من شرائعه، إلا أنها ليست(1/447)
بواجبة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه، وهي عندهم من السنن التي الأخذ بها فضيلة وتركها غير خطيئة. والدليل على ذلك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن العقيقة فقال: لا أحب العقوق» وكأنه إنما كره الاسم، وقال: «من ولد له ولد فأحب أن ينسك على ولده فليفعل» . وما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه ويسمى» يدل على وجوبها. وتأويل ذلك عندنا على أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ ذلك بعد بقوله: «من أحب أن ينسك على ولده فليفعل» فسقط الوجوب. ومن أهل العلم من تعلق بما يدل عليه الحديث المذكور وغيره من الوجوب فأوجب العقيقة وقال: إن من لم يعق عنه وهو صغير يلزمه أن يعق عن نفسه وهو كبير على ما روي «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عق عن نفسه بعد ما جاءته النبوة» ولم يصح ذلك عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فأنكره وقال: أرأيت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين لم يعق عنهم في الجاهلية أعقوا عن أنفسهم في الإسلام؟ هذه الأباطيل. وأما ما تضمنه الحديث من تسمية المولود يوم سابعه فإليه ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، والأمر في ذلك واسع. «روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين ولد له ابنه إبراهيم: "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبى إبراهيم» «وأنه أتي بعبد الله بن أبي طلحة صبيحة الليلة التي ولد فيها فحنكه بتمر عجوة ودعا له وسماه عبد الله» في حديث طويل.
فصل فالمشهور عند مالك أنه لا يعق عن المولود إلا يوم سابعه. وقد روى أشهب عنه في الذي لا يتهيأ له ما يعق به عنه يوم سابعه أنه لا يعق عنه بعده إلا أن يكون قريبا. وروى ابن وهب عنه أنه إن لم يعق عنه يوم سابعه عق عنه يوم السابع الثاني، فإن لم يفعل عق عنه في الثالث، فإن جاوز ذلك فقد فات موضع العقيقة،(1/448)
فقيل: يحسب السابع من غروب الشمس وقيل من طلوع الفجر وقيل من زوال الشمس. وقيل يحسب ذلك النهار إن بقيت منه بقية قبل الغروب على ما سنذكره بعد هذا إن شاء الله.
فصل وحكم العقيقة حكم الضحايا؛ لأنها نسك فلا يباع جلدها ولا لحمها ولا يعطى الجزار على جزارتها شيئا من لحمها، ويتقى فيها من العيوب ما يتقى في الضحايا، ويؤكل منها ويتصدق وتكسر عظامها ولا يمس الصبي بشيء من دمها؛ لأن ترك كسر عظامها وأن يلطخ الصبي بشيء من دمها من أفعال الجاهلية. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «في الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى» ، فقيل: إن إماطة الأذى عنه المأمور به في الحديث بترك ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من لطخ رأسه بدمها. وقيل بل ذلك حلق شعر رأسه، وهو الأظهر. قال الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] فأوجب الفدية على المحرم لإماطة الأذى عن نفسه بحلق شعر رأسه، فكان العقيقة فيها أيضا مع [النسك معنى] الفدية عن المولود لإماطة الأذى عنه بحلق شعر رأسه. ولهذا المعنى والله أعلم قال عطاء: يبدأ بالحلق قبل الذبح.
فصل وسننها أن تذبح ضحوة إلى زوال الشمس، ويكره أن تذبح بالعشي بعد زوال الشمس أو بالسحر قبل طلوع الشمس. وأما إن ذبحها بالليل فلا يجتزأ بها.
فصل وأفضل ما يعق به الضأن ثم المعز ثم البقر ثم الإبل. وقد روي عن مالك أنه لا يعق إلا بالغنم.(1/449)
فصل والعقيقة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عن الجارية والغلام سواء، شاة عن كل واحد منهما. وقد «روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال من أحب أن ينسك عن ولده فلينسك، عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة» . والمكافئتان المتماثلتان المشتبهتان. وذهب إلى هذا جماعة من أهل العلم، منهم ابن عمر وعائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن أخذ به فما أخطأ ولقد أصاب.
فصل وقد اختلف في أي وقت يحسب سابع المولود إذا ولد على أربعة أقوال: أحدها: أن يحسب له سبعة أيام بلياليها من غروب الشمس، ويلغى ما قبل ذلك إن ولد في النهار أو في الليل بعد الغروب، ويعق عنه في ضحى اليوم السابع، وهو قول ابن الماجشون في ديوانه.
والثاني: أنه إن ولد في النهار بعد الفجر ألغي ذلك اليوم وحسب له سبعة أيام من اليوم الذي بعده. وإن ولد قبل الفجر وإن كان ذلك في الليل حسب له ذلك اليوم، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك.
والثالث: أنه إن ولد في شباب النهار قبل الزوال حسب له ذلك اليوم، وإن لم يولد إلا بعد الزوال ألغي ذلك اليوم. وهذا القول حكى ابن الماجشون أنه كان قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا ثم رجع عنه.
والرابع: أنه يحسب ذلك اليوم وإن ولد في بقية منه قبل الغروب، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة. واختار أصبغ أن يلغى ذلك اليوم. فإن حسب سبعة أيام من تلك الساعة التي ولد فيها اجتزى بذلك وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(1/450)
[كتاب النكاح] [فصل في بيان حكم النكاح في الشرع هل هو واجب أو مندوب إليه أو مباح]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم عونك اللهم لا شريك لك
كتاب النكاح فصل
في بيان حكم النكاح في الشرع هل هو
واجب أو مندوب إليه أو مباح قال الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] الآية وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف: 189] الآية.
فصل
فالنكاح الذي هو الغشيان جبل الله الخلق عليه بما ركب فيهم من الشهوات(1/451)
ليكون بهم النسل حتى يكمل ما قدره من الخلق. وأباحه في الشرع على وجهين: [أحدهما: عقد النكاح، والثاني: ملك اليمين، فلا يحل استباحة الفرج بما عدا هذين الوجهين] . قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] فأما النكاح فإنه في الجملة مرغب فيه ومندوب إليه، خلافا لأهل الظاهر في قولهم إنه واجب. والدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل؛ لأنه خير فيه بين النكاح وملك اليمين فقال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] . وملك اليمين ليس بواجب بإجماع، ولا يصح التخيير بين واجب وما ليس بواجب؛ لأن ذلك مخرج للواجب عن الوجوب وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] ، فدل ذلك من قوله على أن النكاح غير واجب؛ لأن من حفظ فرجه عن الزنا بملك يمينه أو باستغنائه عن النكاح توجهت المدحة إليه من الله عز وجل.
فصل فإذا ثبت بهذه الأدلة أن النكاح غير واجب علم أن الأوامر الواردة في القرآن بالنكاح في قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ، وقوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] وليست على الوجوب. [وإذا لم تكن على الوجوب] فهي على الندب لا على الإباحة. والدليل على ذلك حض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على النكاح ونهيه عن التبتل وهو ترك النكاح. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(1/452)
«تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحب فطرتي فليستن بسنتي» وقال: «من تزوج فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الثاني» ومعنى ذلك والله أعلم أن النكاح يعف المرء عن الزنا، والعفاف إحدى الخطتين اللتين ضمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهما الجنة فقال: «من وقاه الله شر اثنتين له الجنة ما بين لحييه وما بين رجليه» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أحل الله شيئا أحب إلي من نكاح» . وقال: «عليكم بالباءة فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يكن له طول فعليه بالصوم فإنه له وجاء» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مسكين مسكين رجل لا زوجة له، ومسكينة مسكينة امرأة لا زوج لها قيل وإن كان ذا مال يا رسول الله، قال وإن كان ذا مال» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا رهبانية في الإسلام ولعن الله المتبتلين والمتبتلات» ومعناه التاركين للنكاح استسنانا وتشرعا.
فصل فالنكاح من القادر عليه إذا لم تكن له حاجة إليه مستحب عند أهل العلم.
روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: إني لأتزوج المرأة وما لي فيها حاجة وأطأها وما أشتهيها، قيل له: وما يحملك على ذلك، قال: حبي في أن يخرج الله مني من يكاثر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النبيين يوم القيامة، فإني سمعته يقول: «عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأحسن أخلاقا وأنتق أرحاما وإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» يعني بقوله أنتق أرحاما أقبل للولد، فإن كان حصورا أو عنينا أو عقيما يعلم من نفسه أنه لا يولد له فالنكاح له مباح وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(1/453)
فصل وأما من احتاج إلى النكاح ولم يقدر علي الصبر دون النساء ولا كان عنده مال يتسرى به وخشي على نفسه العنت إن لم يتزوج فالنكاح عليه واجب. ومن لم يحتج إليه وخشي أن لا يقوم بما أوجب الله عليه فيه فهو له مكروه. فمن الناس من يجب عليه النكاح، ومنهم من يستحب له، ومنهم من هو جائز له ومباح من غير استحباب، ومنهم من يكره له على ما بيناه. فالقول: إنه واجب على الإطلاق أو مندوب إليه على الإطلاق ليس بصحيح. وكذلك المرأة قد يكون عليها النكاح واجبا، وقد يكون لها مستحبا، وقد يكون لها مباحا جائزا، وقد يكون لها مكروها. وأما الوطء بملك اليمين فإنما هو من قبيل المباح، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[فصل في بيان ما يحرم نكاحه من النساء]
، وقوله عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ليس على عمومه، وكذلك قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وهن اللواتي لا أزواج لهن أبكارا كن أو ثيبا ليس على عمومه أيضا؛ لأن الله تعالى خص من ذلك من حرمه من النساء، وذلك سبع عشرة امرأة، وهي الأم، والابنة، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، والأم والأخت من الرضاعة، وأم الزوجة، وبنت الزوجة وهي الربيبة، وزوجة الابن، وزوجة الأب، والجمع بين الأختين، والمحصنات وهن ذوات الأزواج، والمجوسيات، والإماء الكتابيات. سبع بالنسب، واثنتان بالرضاع، وست بالصهر، واثنتان بالدين، فقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] فهؤلاء المحرمات بالنسب، وقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] فهاتان المحرمتان بالرضاعة وقال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23](1/454)
وقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وقال: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] فهؤلاء المحرمات بالصهر وقال: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] فتمت السبع عشرة امرأة، وما سواهن فنكاحهن حلال. قال الله تعالى لما نص على هؤلاء المحرمات: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] إلا ما خصص من ذلك أيضا بالسنة المبينة للقرآن على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق.
فصل ويدخل في قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] أمهات الأمهات والجدات من قبل الآباء والأمهات كن يرثن أو لا يرثن. وتلخيص ذلك أن كل من لها عليك ولادة فهي عليك حرام؛ لأنها داخلة تحت قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] .
ويدخل في قوله: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] البنات وبنات البنات وبنات البنين وإن سفلوا كل من لك عليها ولادة فهي عليك حرام؛ لأنها داخلة تحت قول الله عز وجل: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] .
ويدخل في قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] جميع الأخوات للأب والأم وللأب دون الأم وللأم دون الأب.(1/455)
ويدخل في قوله: {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} [النساء: 23] العمات والخالات للأب والأم وللأب دون الأم وللأم دون الأب وعمات الآباء وخالاتهم وعمات الأمهات وخالاتهن. وتلخيص ذلك أن كل من ولده جدك أو جدتك وإن علوا من قبل الآباء كانا أو من قبل الأم فهي عليك حرام. ولا يدخل في ذلك شيء من بناتهن أولئك حلال نكاحهن. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] .
ويدخل في قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} [النساء: 23] بنات بنات الأخ وبنات بنيه وإن سفلن، كل من لأخيك عليه ولادة فهي عليك حرام، كان الأخ للأب والأم أو للأب دون الأم أو للأم دون الأب.
ويدخل في قوله: {وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] بنات بناتها وبنات بنيها وإن سفلن، كل من لأختك عليها ولادة فهي عليك حرام، كانت الأخت للأب والأم أو للأب دون الأم أو للأم دون الأب.
ويدخل في قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] أمهاتهن وإن علون وبناتهن وبنات بناتهن وبنات بنيهن وإن سفلن، وأخواتهن وعماتهن وخالاتهن من قبل الأب والأم ومن قبل الأب دون الأم ومن قبل الأم دون الأب. ولا يدخل في ذلك شيء من بنات أخواتهن ولا من بنات عماتهن ولا من بنات خالاتهن.
ويدخل في قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] الأخوات للأب والأم وللأب دون الأم وللأم دون الأب؛ لأن اللبن يحرم من قبل المرضعة ومن قبل زوجها لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللبن للفحل.
ويدخل في قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] أمهات الأمهات ومن فوقهن من الجدات، وليس يدخل فيه بنات الأمهات ولا أخواتهن ولا عماتهن ولا خالاتهن،(1/456)
أولئك حل نكاحهن بعد موتهن أو فراقهن؛ لأنهن ذوات محارم فإنما يحرم الجمع بينهن.
ويدخل في قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] ، بنات البنات وبنات البنين وإن سفلن. ولا تحرم الربيبة ولا شيء من بناتها أو بنات بنيها إلا بالدخول بالأم أو التلذذ بشيء منها بسبب الشرط الذي فيها. وأما الأم فإنها تحرم بالعقد على الابنة؛ لأنها مبهمة لا شرط فيها.
ويدخل في قوله: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] أبناء الأبناء وأبناء البنات وإن سفلوا كانوا من نسبة أو رضاع. وإنما قيد الله تعالى تحريم حلائل الأبناء بقوله تعالى {مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] تحليلا لحلائل الأبناء الأدعياء لا تحليلا لحلائل الأبناء من الرضاعة؛ لأنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب بنص الكتاب والسنة. ولذلك تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب بنت جحش التي كانت زوجة زيد بن حارثة الذي كان تبناه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال الله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] وقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وقال: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] وذلك أن اليهود والمنافقين قالوا لما تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج حليلة ابنه وقد كان ينهى عن ذلك، فأنزل الله عز وجل في ذلك ما أنزل تكذيبا لهم وردا لقولهم وتجويزا لما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويدخل في قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] الجمع بين ذوات المحارم كلهن، من ذلك الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، التي ورد النهي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجمع بينهما بيانا لما في القرآن من ذلك، إذ لا(1/457)
جائز أن يقول قائل إن تحريم الجمع بينهما إنما هو بالسنة لا بالقرآن، فالله يقول في كتابه بعد أن ذكر المحرمات: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] .
ويدخل في قوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] آباء الآباء ومن فوقهم من الأجداد من النسب ومن الرضاع.
فصل فإذا تزوج الرجل امرأة وابنتها في عقدة واحدة، فإن عثر على ذلك قبل أن يدخل بواحدة منهما فرق بينه وبينهما بغير طلاق ولم يكن لواحدة منهما شيء من الصداق وكان له أن يتزوج من شاء منهما. وقيل: إنه لا يتزوج الأم للشبهة التي في البنت، وإن مات الزوج لم يكن لواحدة منهما ميراث ولا لزمتها عدة. وأما إن لم يعثر على ذلك حتى دخل بهما فيفرق بينهم أيضا بغير طلاق، ويجب لكل واحدة منهما ما سمى من الصداق، وتستبرئ نفسها بثلاث حيض ولا تحل له واحدة منهما أبدا. وإن مات أيضا لم يكن لواحدة منهما ميراث. وأما إن عثر على ذلك بعد أن دخل بواحدة منهما معروفة فيفرق بينه وبينها ويكون للتي دخل بها صداقها المسمى، ويجب عليها الاستبراء بثلاث حيض، وتحرم على الزوج التي لم يدخل بها منهما أبدا، وتحل له التي دخل بها منهما إن كانت الابنة بلا خلاف، وإن كانت الأم على الاختلاف. وإن مات لم يكن أيضا لواحدة منهما ميراث. وأما إن عثر على ذلك بعد أن دخل بواحدة منهما غير معروفة فادعت كل واحدة منهما أنها هي التي دخل بها، فالقول قول الزوج مع يمينه في تعيين التي يقر أنه دخل بها ويغرم لها صداقها، ويجب على كل واحدة منهما الاستبراء بثلاث حيض. وإن مات أخذ من ماله الأقل من الصداقين فكان بين الزوجتين بعد إيمانهما. وكذلك الحكم في الذي يتزوج الأختين في عقد واحد، إلا أنه يتزوج من شاء منهما بعد الاستبراء بثلاث حيض إن كان قد دخل بهما وبالله التوفيق.
فصل وأما إن تزوج الأم والابنة واحدة بعد واحدة فلا يخلو ذلك من ستة أوجه:(1/458)
أحدها: أن يعثر على ذلك قبل أن يدخل بواحدة منهما، والثاني: أن لا يعثر على ذلك إلا بعد أن يدخل بهما، والثالث: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بالأولى، والرابع: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بالثانية، والخامس: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بواحدة منهما معروفة ولا يعلم إن كانت هي الأولى أو الثانية، والسادس: أن يعثر على ذلك بعد أن دخل بواحدة منهما مجهولة.
فأما الوجه الأول وهو أن يعثر على ذلك قبل أن يدخل بواحدة منهما فالحكم فيه أن يفرق بينه وبين الثانية، ويبقى مع الأولى إن كانت البنت بلا خلاف، وإن كانت الأم فعلى اختلاف. فإن لم تعلم الأولى منهما فرق بينه وبينهما، ويتزوج البنت إن شاء وتكون عنده على طلقتين، ويكون لكل واحدة منهما نصف صداقها، وقيل: ربع صداقها. والقياس أن يكون لكل واحدة منهما ربع الأقل من الصداقين، وذلك إذا لم تدع كل واحدة منهما أنها هي الأولى ولا ادعت عليه معرفة ذلك. وإن ادعت كل واحدة منهما عليه أنه علم أنها هي الأولى قيل له احلف أنك ما تعلم أنها هي الأولى، فإن حلف على ذلك وحلفت كل واحدة منهما أنها هي الأولى كان لهما نصف الأكثر من الصداقين فاقتسمتاه بينهما على قدر صداق كل واحدة منهما، وإن نكلتا عن اليمين بعد حلفه كان لهما نصف الأقل من الصداقين واقتسمتاه أيضا على قدر صداق كل واحدة منهما. وإن نكلت إحداهما وحلفت الأخرى بعد حلفه كان للتي حلفت نصف صداقها. وإن نكل هو عن اليمين وحلفتاهما جميعا كان لكل واحدة منهما نصف صداقها. وإن حلفت إحداهما ونكلت الثانية بعد نكوله كان للحالفة نصف صداقها ولم يكن للناكلة شيء. وإن نكلتا جميعا بعد نكوله لم يكن لهما إلا نصف الأقل من الصداقين بينهما على قدر صداق كل واحدة منهما. وإن أقر لإحداهما أنها هي الأولى حلف على ذلك وأعطاها نصف صداقها ولم يكن للثانية شيء. ولو نكل هو عن اليمين وحلفتا جميعا غرم لكل واحدة منهما نصف صداقها، وإن حلفت الواحدة ونكلت الأخرى بعد نكوله كان للتي حلفت نصف صداقها ولم يكن للتي نكلت شيء؛ لأن الحالفة قد استحقت نصف الصداق بيمينها.(1/459)
فصل وأما إن مات الزوج ولم يعلم أيتهما هي الأولى فالميراث بينهما بعد أيمانهما. قال ابن القاسم: ولكل واحدة منهما نصف صداقها اتفق أو اختلف. والقياس أن يكون الأقل من الصداقين بينهما على قدر مهورهما بعد أيمانهما، وتعتد كل واحدة منهما بأربعة أشهر وعشر للشك في أيتهما هي الأولى.
وأما الوجه الثاني وهو أن لا يعثر على ذلك حتى يدخل بهما جميعا فيفرق بينه وبينهما ويكون لكل واحدة منهما صداقها بالمسيس، ويكون عليهما الاستبراء بثلاث حيض، ولا تحل له واحدة منهما أبدا، ولا يكون لواحدة منهما ميراث إن مات.
وأما الوجه الثالث وهو أن لا يعلم بذلك حتى يدخل بالأولى فالحكم فيه أن يفرق بينه وبين الثانية ولا تحل له أبدا، ويقر مع الأولى إن كانت البنت باتفاق وإن كانت الأم على اختلاف.
وأما الوجه الرابع وهو أن لا يعثر على ذلك حتى يدخل بالثانية فالحكم فيه أن يفرق بينه وبينهما جميعا ويكون للتي دخل بها صداقها، ويكون له أن يتزوجها بعد الاستبراء من الماء الفاسد بثلاث حيض إن كانت البنت، وإن كانت الأم لم تحل له واحدة منهما أبدا، ولا يكون لواحدة منهما ميراث إذا مات.
وأما الوجه الخامس وهو أن لا يعثر على ذلك حتى يدخل بواحدة منهما معروفة ولم يعلم إن كانت هي الأولى أو الثانية فالحكم فيه إن كانت الأم هي المدخول بها منهما أن يفرق بينه وبينهما ولا تحل له واحدة منهما أبدا، وإن كانت الابنة هي المدخول بها منهما فرق بينهما ثم يتزوج الابنة إن شاء بعد الاستبراء بثلاث حيض، ويكون للتي دخل بها منهما صداقها بالمسيس، وإن مات الزوج فيكون على المدخول بها منهما من العدة أقصر الأجلين ويكون لها جميع صداقها. قال ابن حبيب ونصف الميراث، وقال ابن المواز لا شيء لها من الميراث وهو الصواب. وأما التي لم يدخل بها منهما فلا عدة عليهما ولا شيء لها من صداق ولا ميراث.(1/460)
وأما الوجه السادس: ٍوهو أن لا يعثر على ذلك حتى يدخل بواحدة منهما غير معروفة فالحكم فيه أن يفرق بينهما ولا تحل له واحدة منهما أبدأ، ويكون القول قوله مع يمينه في التي يقر أنه دخل بها منهما ويعطيها صداقها ولا يكون للأخرى شيء. فإن نكل عن اليمين حلفت كل واحدة منهما أنها هي التي دخل بها واستحقت عليه جميع صداقها. وإن حلفت إحداهما ونكلت الأخرى عن اليمين استحقت الحالفة صداقها ولم يكن للناكلة شيء.
فصل [وإن مات الزوج فقال سحنون: لكل واحدة منهما نصف صداقها] ، والقياس أن يكون الأقل من الصداقين بينهما على قدر مهورهما بعد أيمانهما، وتعتد كل واحدة منهما أقصى الأجلين، ويكون نصف الميراث بينهما على مذهب ابن حبيب. وأما على ما ذهب إليه محمد بن المواز فلا شيء إنما من الميراث، وهو الصحيح؛ لأن المدخول بها إن كانت هي الآخرة لم يكن لواحدة منهما ميراث، ولا يجب ميراث إلا بيقين. وبالله التوفيق.
فصل ومما يضارع هذه المسألة مسألة الرجل يتزوج خمس نسوة، أو المجوسي يسلم وعنده عشر نسوة، أو الرجل يتزوج أربع نسوة مراضع فترضعهن امرأة واحدة بعد واحدة. فأما إن تزوج خمس نسوة واحدة بعد واحدة فمات عنهن ولا تعلم الآخرة منهن فالميراث بينهن أخماسا دخل بهن أو لم يدخل بهن. وأما الصداق فإن كان دخل بهن فلكل واحدة منهن جميع صداقها، وإن لم يدخل بواحدة منهن فلكل واحدة منهن نصف صداق إن اتفقت الأصدقة، أو نصف صداقها الذي سمي لها إن اختلفت الأصدقة، إلا أن تختلف الأصدقة، فيعلم مقاديرها ولا يعلم ما لكل واحدة منهن منها فيكون لكل واحدة منهن نصف خمس الجميع، وهذا على مذهب ابن حبيب. ووجه قوله أن كل واحدة منهن على انفرادها لا يدرى هي(1/461)
الخامسة فلا شيء لها أو غير الخامسة فلها جميع الصداق، فلما وجب لها جميع الصداق في حال وسقط في حال أعطيت نصفه. وقيل: بل يكون لكل واحدة منهن أربعة أخماس صداقها الذي سمي لها أو أربعة أخماس صداق إن اتفقت الصدقات أو أربعة أخماس خمس جميعها إن اختلفت ولم يعلم ما لكل واحدة منهن من ذلك، وهذا مذهب سحنون وابن المواز. ووجهه أنا قد تحققنا أن الواجب على الميت أربع- صدقات فيؤخذ ذلك من تركته وتقتسمه الزوجات الخمس بينهن أخماسا فيجب لكل واحدة منهن أربعة أخماس صداق. وأما إن كان دخل ببعضهن فلكل واحدة ممن دخل بها منهن جميع صداقها، وفي التي لم يدخل بها منهن ثلاثة أحوال: أحدها: أنه يكون لكل من لم يدخل بها منهن نصف صداقها، وهو قول ابن حبيب، والثاني: أن يكون لكل من لم يدخل بها منهن أربعة أخماس صداقها، والثالث: أنه إن كانت التي لم يدخل بها واحدة فلها نصف صداقها، وإن كانت اثنتين فلهما صداق ونصف ثلاثة أرباع صداق لكل واحدة منهما. وإن كن اللواتي لم يدخل بهن ثلاثا فلهن صداقان ونصف خمسة أسداس صداق لكل واحدة منهن. وإن كن اللواتي لم يدخل بهن أربعا فلهن ثلاث صدقات ونصف سبعة أثمان صداق لكل واحدة منهن، وهو قول سحنون، وإليه ذهب ابن لبابة. ووجهه أنا لم نعلم إن كانت الخامسة ممن بقي لم يدخل بها فلا يجب لها شيء أو ممن قد دخل بها فيجب للبواقي صداق أسقطنا نصف الصداق لثبوته في حال وسقوطه في حال، وقسمنا الباقي على البواقي بينهن على السواء، ويكون على من دخل بها من العدة أقصى الأجلين، وعلى من لم يدخل بها أربعة أشهر وعشر.
فصل وأما إن عثر على ذلك في حياته فيفرق بينه وبينهن، فإن كان قد دخل بهن كان لكل واحدة منهن جميع صداقها، وكان عليها أن تعتد بثلاث حيض، وإن كان لم يدخل بواحدة منهن فعلى قول ابن حبيب يكون لكل واحدة منهم ربع صداقها، وعلى قول سحنون وابن المواز يكون لكل واحدة منهن خمسا صداقها ولا عدة على واحدة منهن، وإن كان قد دخل ببعضهن جرى الاختلاف في ذلك على قياس(1/462)
ما تقدم في الموت؛ لأن حكم نصف الصداق في الطلاق كحكم جميعه في الموت، فيكون للتي دخل بها منهن جميع صداقها ويكون عليها العدة بثلاث حيض، وينظر في التي لم يدخل بها منهن، فإن كانت واحدة كان لها ربع صداقها على قول ابن حبيب وسحنون، وخمسا صداقها على قول ابن المواز، وإن كانت أكثر من واحدة فعلى قول ابن حبيب يكون لكل واحدة منهن ربع صداقها، وعلى قول ابن المواز يكون لكل واحدة منهن خمسا صداقها، وعلى قول سحنون إن كانت اللتان لم يدخل بهما اثنتين كان لهما أرباع صداق بينهما، وإن كن ثلاثا كان لهن صداق وربع صداق بينهن، وإن كن أربعا كان لهن صداق وثلاثة أرباع صداق بينهن على السواء.
فصل وأما إن كان تزوجهن في عقد واحد فيفرق بينه وبينهن ولا يكون لواحدة منهن ميراث ولا صداق ولا عليها عدة، إلا أن يدخل بواحدة منهن فيكون لمن دخل بها منهن صداقها ويكون عليها العدة بثلاث حيض.
وأما المجوسي يسلم وعنده عشر نسوة فيسلمن كلهن فله أن يختار منهن أربعا ويفارق سائرهن، قيل بطلاق وقيل بغير طلاق. فإن كان قد دخل بهن كان لكل واحدة منهن صداقها. وأما إن كان لم يدخل بواحدة منهن فعلى القول بأنه يفارق سائر الأربع بغير طلاق لا يكون لمن فارق منهن صداق. وهو معنى ما في المدونة، وعلى القول بأنه يفارقهن بطلاق يكون لكل واحدة منهن نصف صداقها؛ لأنه كان مخيرا فيها بين أن يمسكها أو يفارقها، وهو اختيار ابن حبيب. وقيل: إن لكل واحدة منهن خمس صداقها، [وهو اختيار ابن المواز، فإن فارقهن جميعا كان لكل واحدة منهن خمس صداقها] وكانت مفارقته إياهن بطلاق قولا واحدا. وكذلك إن دخل ببعضهن فلا صداق لمن فارق ممن لم يدخل بها على معنى ما في المدونة إذا حبس أربعا، ولها نصف صداقها على ما ذهب إليه ابن حبيب، وخمس صداقها على ما ذهب إليه ابن المواز.(1/463)
وأما الرجل يتزوج أربع مراضع فترضعهن امرأة واحدة بعد واحدة فله أن يختار منهن واحدة ويفارق سائرهن، قيل بطلاق وقيل بغير طلاق. فأما على القول بأنه يفارقهن بغير طلاق فلا شيء لهن من صداقهن، وأما على القول بأنه يفارقهن بطلاق، فقيل: إنه يكون عليه لكل من فارق منهن نصف صداقها، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وقيل بل يكون عليه لكل واحدة ثمن صداقها، وإلى هذا ذهب ابن المواز. ولو فارقهن جميعا كان لكل واحدة منهن ثمن صداقها قولا واحدا وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل في تفسير قوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] .
وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ} [النساء: 24] هن ذوات الأزواج، وقوله: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] من السبايا ذوات الأزواج أحلهن الله لنا بملك اليمين إذا سبين دون أزواجهن أو معهم على مذهب من يرى أن السبي يهدم النكاح. وقد اختلف في ذلك على أربعة أقوال: أحدها قول ابن القاسم وأشهب في المدونة أن السبي يهدم نكاح الزوجين سبيا معا أو متفرقين. وكذلك على مذهبهما إذا سبي أحدهما قبل صاحبه ثم أتى الآخر بأمان. وأما إذا أتى أحدهما أولا بأمان ثم سبي الثاني فلا ينهدم النكاح، وتخير إن كان هو الذي سبي بعد أن قدمت هي بأمان من أجل الرق الذي أصابه بالسباء، ويعرض عليها الإسلام إن كانت هي التي سبيت بعد أن قدم هو بأمان فأسلم إلا أن تعتق، إذ لا يجوز أن تكون زوجة لمسلم وهي امرأة كافرة. والثاني: أن السبي يبيح فسخ نكاحهما سبيا معا أو متفرقين، إلا أن يقدم أحدهما قبل صاحبه بأمان، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة،؛ لأنه قال ينفسخ النكاح بالسبي إلا أن يسلما أو يسلم أحدهما أو يقرا على نكاحهما، وعليه تأتي(1/464)
رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب التجارة إلى أرض الحرب في الإمام يبيع السبي على أن هذا زوج هذه وهذه امرأة هذا أنه ليس للمشتري أن يفرق بينهما والثالث قول ابن المواز أن السبي لا يهدم نكاحهما ولا يبيحه، سبيا معا أو متفرقين. وإن سبيت الأمة على مذهبه ثم سبي زوجها أو قدم بأمان قبل أن توطأ بالملك فهو أحق بها. والرابع الفرق بين أن تسبى هي قبله أو يسبى هو قبلها أو معها فيستحيى، وهو قول ابن بكير في الأحكام. وقد قال جماعة من المفسرين: إن المحصنات في هذه الآية جميع النساء، فهن حرام لا يحللن إلا بالتزويج أو بملك اليمين. وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب في قوله. ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنا. وقد قيل: إن قوله في الآية: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] هن الإماء ذوات الأزواج من أهل الحرب وغيرهن فيحللن بملك اليمين بالسبي وبالشراء في غير السبي، قال بذلك من ذهب إلى أن بيع الأمة طلاقها وأنها تحل لمشتريها بملك يمينه.
فصل ويحرم الوطء بملك اليمين والتلذذ به ما يحرم الوطء بالنكاح، ويحرم من وطء المملوكات بالقرابة ما يحرم نكاحه من الحرائر بالقرابة والرضاعة. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل ولا يحل وطء المجوسيات بنكاح ولا ملك يمين لقول الله عز وجل: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، ولا نكاح الأمة من أهل الكتاب لقول الله عز وجل: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] ، وإنما يحل نكاح الحرائر منهن لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ، ويحل وطء(1/465)
الإماء من أهل الكتاب بملك اليمين لقوله عز وجل: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] ، وبالله التوفيق.
[فصل في نكاح الحر الأمة المسلمة]
فصل
في نكاح الحر الأمة المسلمة
وأما الأمة المسلمة فالمشهور عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحر لا يجوز له نكاحها إلا مع عدم الطول وخوف العنت. وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن ذلك جائر مع وجود الطول والأمن من العنت، وهو المشهور عن ابن القاسم. وهذا الاختلاف جار على الاختلاف في القول بدليل الخطاب، فمن رأى القول بدليل الخطاب لم يبح نكاح الأمة للحر إلا بالشرطين، ومن لم ير القول به أباح ذلك دون الشرطين. والعلة في المنع من ذلك إلا بالشرطين عند من رأى القول بدليل الخطاب الكراهة للمرء أن ينكح نكاحا يرق فيه ولده. فعلى هذا إذا تزوج الحر أمة من يعتق عليه ولده منها أو كان ممن لا يولد له كالحصور وشبهه جاز نكاحه مع عدم الشرطين لعدم علة المنع من ذلك قولا واحدا كالعبد والله أعلم.
فصل -
فعلى القول بأن الحر يتزوج الأمة وإن كان واجدا للطول آمنا من العنت لا كلام للحرة إن تزوج الأمة عليها أو تزوجها على الأمة؛ لأن الأمة على هذا القول من نسائه كالعبد، وهذا الذي تدل عليه ألفاظ المدونة. وقد تأول أبو إسحاق التونسي أن الحق للحرة في ذلك على كلا القولين جميعا سواء، وهذا إنما يصح على قول ابن الماجشون الذي يرى الخيار للمرأة إذا تزوج العبد عليها أمة أو تزوجها على الأمة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وقد اختلف على القول بالمنع إلا مع عدم الطول في الطول ما هو، فقيل هو(1/466)
أن يجد صداق الحرة ويقدر على نفقتها، وقيل: بل هو أن يجد صداقا لها وإن عجز عن نفقتها، والأول أصح. واختلف أيضا في الحرة تكون تحته هل هي طول تمنعه من نكاح أمة أم لا على قولين وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل واختلف أيضا على هذا القول إذا عدم الطول فتزوج أمة ثم وجد طولا، فقيل: إنه يفارق الأمة ويتزوج حرة، وقيل: يبقى معها إلا أن يتزوج حرة فيفارقها، وقيل: يبقى معها وإن تزوج حرة؛ لأنه قد تقدم تزويجه إياها بوجه جائز. وأما إن ذهب عنه خوف العنت بتزوج الأمة فليس عليه مفارقتها قولا واحدا.
فصل فإذا تزوج الرجل الحر الأمة على الحرة أو الحرة على الأمة فأما على القول بإطلاق تزويج الأمة دون الشرطين فلا كلام للحرة في ذلك إلا على ما ذكرناه عن أبي إسحاق التونسي. وأما علي القول بأن ذلك لا يجوز إلا على الشرطين اللذين ذكرهما الله في كتابه ففي ذلك خمسة أقوال: أحدها: أن الحرة بالخيار في نفسها كانت هي المتزوجة على الأمة أو كانت الأمة هي المتزوجة عليها. والثاني: أنها إن كانت هي المتزوجة على الأمة كانت بالخيار في نفسها، وإن كانت الأمة هي المتزوجة عليها كانت بالخيار في الأمة. والثالث: أنه إن كانت الأمة هي الداخلة عليها فلها الخيار في نفسها، وإن كانت هي الداخلة على الأمة فلا خيار لها؛ لأنها تركت النظر لنفسها والتثبت في أمرها. والرابع: أنه إن كانت الأمة هي الداخلة عليها فسخ نكاحها ولم يجز، وإن كانت هي الداخلة على الأمة فسخ نكاح الأمة، وهو على القول! بأن الحرة طول يمنع من نكاح الأمة. والخامس: أنه إن كانت هي الداخلة على الحرة فسخ نكاح الأمة، وإن كانت الحرة هي الداخلة عليها لم يفسخ نكاح الأمة المتقدم؛ لأنه وقع بأمر جائز.(1/467)
[فصل في أن النكاح لا يكون إلا بصداق]
فصل
في أن النكاح لا يكون إلا بصداق ولا يكون النكاح إلا بصداق. قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] ، وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] ، وقال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] ، وقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهدي عدل» ، فالزوج لا يستبيح الفرج إلا بصداق. وقال الله تعالى فيه إنه نحلة والنحلة ما لم يعتض عليه، فهي نحلة من الله تعالى فرضها للزوجات على أزواجهن لا عن عوض الاستمتاع بها؛ لأنها تستمتع به كما يستمتع بها ويلحقها من ذلك مثل الذي يلحقه؛ لأن المباضعة فيما بينها وبين زوجها واحدة. ولهذا المعنى لم يفتقر عقد النكاح إلى تسمية صداق، ولو كان الصداق ثمنا للبضع حقيقة لما صح النكاح دون تسمية الصداق كالبيع الذي لا ينعقد إلا بتسمية الثمن وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[فصل في حد الصداق في النكاح]
فصل
في حد الصداق في النكاح ولما لم يبح الله تعالى النكاح إلا بصداق ولم يرد فيه حد في القرآن ولا في السنة، وقام الدليل على أنه لا بد فيه من حد يصار إليه إذ لم يجز النكاح بالشيء(1/468)
اليسير الذي لا قدر له ولا بال لقيمته، لكونه في معنى الموهوبة التي خص الله بها نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون المؤمنين فقال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] ، وجب أن يعتبر الحد فيه برده إلى بعض الأصول التي ورد التوقيت بها وإن لم تكن في معناه، فجعل حد أقل الصداق ثلاثة دراهم اعتبارا بأقل ما تقطع فيه يد السارق، وهذا اعتبار صحيح؛ لأن الله تعالى أوجب قطع يد السارق مطلقا دون تقييد بمقدار كما أوجب الصداق في النكاح مطلقا دون تقييد بمقدار، وقام الدليل على أنه لا يستباح قطع يد السارق إذا سرق الشيء اليسير الذي لا بال له ولا قدر لقيمته كالخيط وشبهه، كما قام الدليل على أنه لا يستباح الفرج بمثل ذلك من النزر الحقير. فلما وجد ما يقطع فيه يد السارق مقيدا في السنة بمقدار وجب أن يحمل النكاح المطلق عليه.
فصل وذهب أهل العراق إلى أنه لا يجوز النكاح بأقل من عشرة دراهم اعتبارا بما يجب فيه القطع في مذهبهم، والسنة ثابتة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخلاف ذلك. ثبت في الحديث «أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبه أثر صفرة، فسأله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره أنه تزوج، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كم سقت إليها، قال زنة نواة من ذهب، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أولم ولو بشاة» ، وزنة النواة خمسة دراهم ولم تكن من ذهب، وإنما كانوا يسمون الخمسة زنة نواة من ذهب، فهذا يرد مذهبهم ويبطله.
فصل وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يجوز النكاح بالدرهم والدرهمين وبالشيء اليسير، منهم ابن وهب من أصحابنا. والصحيح ما ذهب إليه مالك رحمه(1/469)
الله وجمهور أصحابه ومن قال بقولهم. وقد استدل بعض المالكيين على أن النكاح لا يجوز بأقل من ثلاثة دراهم بأن قال: إن الله تعالى لما شرط عدم الطول في نكاح الإماء وأباحه لمن لم يجد طولا علم أن الطول لا يجده كل الناس، ولو كان الفلس والدانق والقبضة من الشعير لما عدمه أحد. ومعلوم أن الطول هو المال في هذه الآية، ولا يقع اسم مال على أقل من ثلاثة دراهم، فوجب أن يمنع من استباحة الفرج بما لا يكون طولا، وليس هذا بينا، وما قدمته أولى، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وأما أكثر الصداق فلا حد له، وإنما ذلك على ما يتراضى عليه الأزواج والزوجات، وعلى الأقدار والحالات. قال الله عز وجل: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] ، والقنطار ألف دينار ومائتا دينار، إلا أن المياسرة في الصداق عند أهل العلم أحب إليهم من المغالاة فيه. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال تياسروا في الصداق» وكانت صدقات أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عظم مرتبته وعلو قدره وأقدارهن اثنتي عشرة أوقية ونشا، والأوقية أربعون درهما، والنش عشرون درهما، فذلك خمسمائة درهم. وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزوج بناته على مثل ذلك مع عظم مراتبهن وعلو أقدارهن لمياسرته في صدقاتهن. «وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سأل رجلا من الأنصار عن امرأة تزوجها فقال كم أصدقتها، قال مائتي درهم فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو كنتم تغرفون من البطحاء ما زدتم..» وروي «أن عبد الله بن أبي حدرد تزوج امرأة بأربع أواق فأخبر بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لو كنتم تنحتون من جبل ما زدتم» . وقال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء فإن ذلك لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله عز وجل كان أولاكم بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، ألا وإن أحدكم ليغلي صداق امرأته حتى يبقى لها عداوة في نفسه فيقول لها لقد كلفت لك حتى علق القربة.(1/470)
وروي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أراد أن يرد صدقات النساء إلى قدر ما لا يزدن عليه، فقالت له امرأة؛ إن الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] ، فقال: كل الناس أفقه منك يا عمر حتى امرأة. وروى الشعبي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لا تغالوا في صدقات النساء فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو سيق إليه إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال، ثم نزل فعرضت له امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين كتاب الله أحق أن يتبع أو قولك؟ قال: بلى، كتاب الله، لم ذلك؟ قالت: إنك نهيت الناس أن يتغالوا في صداق النساء والله يقول في كتابه: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] ، فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر مرتين أو ثلاثا، ثم رجع إلى المنبر، فقال للناس: إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صدقات النساء، فليفعل رجل في ماله ما شاء. فرجع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عما كان رآه فيها اجتهادا نظرا للناس إلى ما قامت به عليه الحجة، فأباحه للناس واستعمله في نفسه، فأصدق أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أربعين ألفا. ومما يدل على إباحة قليل الأصدقة وكثيرها «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصدق عنه النجاشي أم حبيبة لما زوجه إياها أربعة آلاف وجهزها من عنده وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حبيبة» فلم ينكر ذلك من فعله ولا أعطاها هو شيئا من عنده على ما روي والله أعلم. وزوج سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابنته بدرهمين، وقيل بثلاثة دراهم، وقيل بأربعة دراهم، من عبد الله بن وداعة، وقصته في إنكاحه إياها مشهورة. ولو شاء أن يزوجها من أهل اليسار والشرف بأربعة آلاف وأضعافها مرات لفعل لتنافس الناس فيها وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[فصل في أن النكاح لا يصح إلا بولي]
فصل
في أن النكاح لا يصح إلا بولي ولا ينكح المرأة إلا وليها. قال الله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ، وقال: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] ، وهذا الخطاب(1/471)
متوجه إلى الأولياء. فلما كان الخطاب متوجها في إنكاحهن إلى غيرهن ولم يكن إليهن بأن يقول: ولينكح الأيامى منكم، وأن يقول: ولا ينكحوا المشركين حتى يؤمنوا، دل على أنه ليس لأحد من المخاطب فيهن أن يزوج نفسه. وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] ، والعضل إنما يصح ممن إليه عقد النكاح. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأيم أحق بنفسها من وليها» فدل على أن له معها حقا. وقال: «لا نكاح إلا بولي وصداق وشهيدي عدل» وقال عمر بن الخطاب: لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذوي الرأي من أهلها أو السلطان. وبالله سبحانه تعالى التوفيق.
فصل فعقد النكاح يفتقر إلى ولي ورضى المزوجة إلا أن تكون بكرا ذات أب، أو أمة لسيدها إكراهها على النكاح، لا يصح عقد النكاح إلا بهذين الوجهين وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل والولاية في نكاح الحرائر تنقسم على قسمين: خاصة، وعامة. فأما العامة فهي ولاية الإسلام، قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ، وأما الخاصة فإنها تنقسم على خمسة أقسام: أحدها ولاية نسب، وهي على مراتب، أعلاها الأب وأدناها الرجل من العشيرة على مذهب ابن القاسم، فيدخل فيه المولى الأسفل، وقيل الرجل من البطن، وقيل الرجل من العصبة، فلا يدخل فيه على هذين القولين المولى الأسفل ويكون من الولاية العامة. والثاني ولاية تقديم، وهي على وجهين: تقديم من قبل أب، وتقديم من قبل سلطان. والثالث ولاية عتاقة وهي على وجهين: مولى أعلى ومولى أسفل.(1/472)
والرابع ولاية سلطان. والخامس ولاية حضانة. فإذا زوج على مذهب ابن القاسم الولي من الولاية الخاصة فيما عدا الأب في ابنته البكر والوصي في يتيمته البكر أيضا وثم أولى منه حاضر نفذ النكاح ولم يرد. وقيل: إن للأبعد أن يزوج ابتداء مع حضور الأقرب على مذهبه في المدونة وإن زوج الولي من الولاية العامة مع عدم الولاية الخاصة أو وجودها جاز في الدنية ورد في العلية إن شاء الولي إلا أن يطول بعد الدخول فيمضي على مذهب ابن القاسم مراعاة للاختلاف، إذ لم يخرج العقد من أن يكون وليه ولي على اختلاف تأويل بعض هذه الوجوه في المدونة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وللولي ثمانية شروط، ستة منها متفق على اشتراطها في صحة الولاية، وهي البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والذكورية، وأن يكون مالكا أمر نفسه، واثنان مختلف فيهما، وهما الدالة والرشد. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل ولا يجوز للولي أن يزوج وليته إلا بعد أن تأذن له في ذلك، فإذا أذنت له أن يزوجها فزوجها ولم يسم لها الزوج كان لها أن ترد أو تجيز ما لم يطل الأمر، وقيل يلزمها النكاح. وعلى هذا القول تأتي مسألة المرأة تأذن لولييها أن يزوجاها فزوجها كل واحد من رجل ولا يعلم الأول منهما إذ لم يقل إن لها أن تجيز أي النكاحين شاءت وترد الآخر على قياس القول الأول. ويحتمل أن تتأول المسألة على أن كل واحد من الوليين قد سمى لها الرجل الذي وكلته على تزويجها منه، فصح الجواب على كلا القولين. ولا تخلو المسألة حينئذ من أن يعثر على الأمر قبل الدخول أو بعده، فإن عثر عليه قبل الدخول وعلم الأول فالنكاح له ويفسخ الثاني بغير طلاق، وإن جهل الأول منهما فسخ النكاحان جميعا بطلاق. فإن تزوجها أحدهما بعد زوج كانت عنده على طلقتين، وإن تزوجها أحدهما قبل زوج كانت عنده على ثلاث تطليقات؛ لأنه إن كان هو الأول فإنما تزويجه إياها تجديد لنكاحه الأول وذلك لا يوجب عليه طلاقا، وإن كان الآخر فلم يلزمه طلاق إذ لم ينعقد له نكاح. ويقع(1/473)
على الذي لم يتزوجها بتزويج الذي تزوجها منهما طلقة، فمتى تزوجها كانت عنده على طلقتين. واختلف هل تصدق المرأة أو الوليان في أن أحدهما هو الأول على قولين: أحدهما قوله في المدونة إنه لا يصدق، والثاني قول أشهب في الواضحة إنه يصدق. وإذا كان أقر أحد الوليين أنه زوج وقد علم بتزويج الآخر قبله هل يصح له النكاح ولا يفرق بينهما أم لا؟ وكذلك إن لم يعثر على الأمر حتى دخلا جميعا يفسخ النكاحان جميعا، ويدخل الخلاف المذكور في تصديق الزوجة أو الوليين على الأول منهما، إلا أنه يكون على كل واحد منهما صداقها المسمى بالمسيس. وأما إن عثر على الأمر بعد أن دخل أحدهما، فإن لم يعلم الأول منهما ثبت نكاح الذي دخل. واختلف إن علم أن الثاني هو الذي دخل، ففي المدونة أنه يثبت نكاحه، وقال المغيرة وابن عبد الحكم: يفسخ نكاحه وترد إلى الأول بعد الاستبراء. والخلاف في هذا جار على اختلافهم في الوكالة هل تنفسخ بنفس الفسخ أو لا تنفسخ إلا بوصول العلم، فمن رأى أنها لا تنفسخ إلا بوصول العلم قال: إن النكاح لا يفسخ بشبهة العقد، وهو الذي في المدونة، ومن رأى أنها تنفسخ بنفس الفسخ وهو هاهنا تزويج الأول قال: إن النكاح يفسخ؛ لأن الغيب كشف أنه لا نكاح له؛ لأنه زوجها بعد فسخ الوكالة. ولو أقر الوكيل أنه زوجه وهو يعلم بتزويج الآخر قبله لم يصدق وثبت النكاح على مذهب ابن القاسم، إلا أن تقوم بينة أته علم بذلك قبل التزويج فيفسخ بغير طلاق. ولو أقر هو على نفسه بالعلم لفسخ نكاحه بغير طلاق وكان عليه جميع الصداق. وقال محمد: يفسخ بطلاق، وهو الصحيح؛ لأنه يتهم على فسخ نكاحه بغير طلاق.
فصل فإن عثر على ذلك بعد دخول أحدهما وعلم أنه الثاني وقد كان الأول مات أو طلق فلا يخلو من أن يكون عقد ودخل قبل موت الأول أو طلاقه. أو يكون عقد ودخل بعد موت الأول أو طلاقه، أو أن يكون عقد قبل موته أو طلاقه ودخل بعد موته أو طلاقه، فأما إن كان عقد ودخل قبل موت الأول أو طلاقه فينفذ نكاحه(1/474)
بمنزلة أن لو لم يمت ولا طفق على مذهب ابن القاسم. وأما إذا عقد ودخل بعد موت الأول أو طلاقه فهو في الموت متزوج في عدة ينفسخ نكاحه وترث زوجها الأول، وفي الطلاق نكاحه صحيح؛ لأنه في غير عدة. وقال ابن الماجشون إن كان الذي زوجها منه آخرا بعد طلاق الأول هو الأب فلا يفسخ نكاحه وإن لم يدخل، وإن كان الوكيل هو الذي زوجها فسخ نكاحه إلا أن يدخل. ووجه قوله: أن الأب مطلق على النكاح، والوكيل تنفسخ وكالته بتزويج الأب قبله. وأما إن عقد قبل الموت والطلاق ودخل بعد ذلك فحكى محمد بن المواز أن ذلك بمنزلة ما إذا عقد ودخل قبل الموت أو الطلاق يقر على نكاحه معها ولا ميراث لها من الأول ولا عدة عليها منه. والصواب أنه في الوفاة متزوج في عدة بمنزلة امرأة المفقود تتزوج بعد ضرب الأجل وانقضاء العدة، ويدخل بها زوجها فينكشف أنها تزوجت قبل وفاة المفقود ودخلت بعد وفاته في العدة أنه يكون متزوجا في عدة، ولا فرق بين المسألتين، وبالله التوفيق.
فصل والحرائر من النساء في النكاح على ضربين: أبكار وثيب. فأما البكر فلا تخلو من أن تكون ذات أب أو ذات وصي أو مهملة ذات ولي. فأما ذات الأب فللأب أن يزوجها بغير أمرها صغيرة كانت أو كبيرة ما لم تعنس بأقل من صداق مثلها، وأن يراضي زوجها على أقل من صداق مثلها إذا أنكحها إنكاح تفويض فيجوز ذلك عليها ويلزمها ويكون ذلك صداقها. فإن فرض لها الزوج صداق مثلها فأكثر وأبى الوالد أن يرضى بذلك حكم له عليه السلطان بذلك وكان هو صداقها الذي يجب لها نصفه بالطلاق وجميعه بالموت أو الدخول. واختلف إذا عنست فقيل لا يعتبر تعنيسها، وقيل: إنها تخرج بالتعنيس من ولاية أبيها. فعلى هذا القول لا يزوجها إلا برضاها، ويكون الرضا بقليل الصداق وكثيره إليها دون أبيها، ويكون إذنها صماتها في النكاح خاصة بمنزلة إذا رشدها. وأما ذات الوصي فلا يجوز للوصي أن يزوجها قبل بلوغها بحال، ولا بعد بلوغها بأقل من صداق مثلها وإن رضيت، وله أن يزوجها إذا بلغت عنست أو لم تعنس برضاها، ويكون إذنها(1/475)
صماتها بما رضي به من صداق مثلها فأكثر وإن لم ترض، إذ ليس لها مع الوصي من الرضا بالمهر شيء، وله أن يراضي الزوج في نكاح التفويض عن صداق مثلها فأكثر فيجوز ذلك عليها ويلزمها، ويكون هو صداقها الذي يجب لها نصفه بالطلاق وجميعه بالموت أو الدخول رضيت أو لم ترض. فإن لم يرض هو بذلك ورضيت هي به لم يكن ذلك صداقها إلا بحكم السلطان، وليس له أن يراضي الزوج على أقل من صداق مثلها عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خلاف مذهب ابن القاسم في أن ذلك جائز له على وجه النظر إلا أنه شرط رضاها، وفي ذلك من قوله نظر، وبالله التوفيق.
فصل فإن دخل الزوج بها قبل التراضي على صداق وجب لها صداق مثلها بالدخول، وكذلك البكر ذات الأب، ولم يكن للأب ولا للوصي على مذهب مالك وأصحابه الرضا بأقل من ذلك، وهو نص قول غير ابن القاسم، في باب نكاح التفويض. وقد وقع لمالك في الباب المذكور ما ظاهره أن للأب بعد الدخول الرضا بأقل من صداق المثل، وهو خلاف المعلوم من مذهبه.
وأما المهملة ذات الولي فليس للولي أن يزوجها إذا بلغت بأقل من صداق مثلها أيضا. واختلف في صداق مثلها فأكثر فقيل الرضى بتزويجها بذلك إليه دونها، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. وقيل: بل ذلك إليها دونه، حكى هذا القول فضل عن عيسى بن دينار ونسبه إلى المستخرجة ولم يقع ذلك له عندنا فيها. والقياس إذا اختلفا في ذلك أن لا يثبت ما رضي به أحدهما صداقا إلا بعد نظر السلطان. وما ثبوت ما اجتمعا على الرضا به صداقا دون نظر السلطان إلا استحسانا وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وأما الثيب فلا تخلو من أن تكون مالكة لأمر نفسها أو غير مالكة لأمر نفسها في ولاية أب أو وصي. فأما المالكة لأمر نفسها فلا يملك الولي عليها إلا ولاية(1/476)
العقد خاصة. وقد اختلف في المالكة لأمر نفسها مع الوصي الذي لا ولاية له عليها، فذهب ابن حبيب إلى أنه أحق من الولي بتزويجها، وقال أصبغ: الولي أحق بذلك منه، وقال سحنون: ليس بولي لها، وذلك إذا قال الموصي فلان وصي ولم يزد. وأما التي هي غير مالكة لأمر نفسها في ولاية أب أو وصي فحكمها حكم البكر ذات الوصي، حاشا أن إذنها يكون بالنطق دون الصمت، إلا أن تكون تأيمت من زوج بنكاح فاسد أو صحيح قبل البلوغ وبعد الدخول فاختلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأب يجبرها على النكاح ما لم تبلغ. والثاني: أنه يجبرها عليه وإن بلغت. والثالث: أنه لا يجبرها وإن لم تبلغ. حكى هذا القول النخعي عن أبي تمام، فإن كانت يتيمة ذات وصي فلا يزوجها الوصي قبل البلوغ، ويزوجها بعد البلوغ، ويكون إذنها صماتها على قول من رأى أن الأب يجبرها على النكاح، وهو قول سحنون.
فصل واختلف إذا زنت أو غصبت فقيل: حكمها حكم البكر في جميع أحوالها، وقيل حكمها حكم الثيب في جميع أحوالها، وقيل: حكمها حكم الثيب في أنها لا تزوج إلا برضاها، وحكم البكر في أن إذنها صماتها.
فصل ومن إليه الرضا بالمهر من الزوجة أو الولي هو الذي يحلف إذا اختلفا مع الزوجة في النكاح المنعقد على صداق أو في الصداق المسمى بعد عقد النكاح في نوعه أو قلته وكثرته. وإنما وجب أن يحلف الولي دون الزوجة التي إلى نظره بكرا كانت أو ثيبا؛ لأنه فيما ولي من أمرها مضيع بترك الإشهاد، فإن لم يحلف ونكل عن اليمين فاستحق الزوج ما حلف عليه بيمينه لزمه ضمان ما أتلف بنكوله إذا ضيع بترك الإشهاد. وأما ما لم يله لها وادعته هي على زوجها فهي التي تحلف إن كان لها شاهد على دعواها أو نكل هو عن اليمين، وإلى هذا ذهب محمد بن(1/477)
المواز. وقد روي عن ابن القاسم في هذا روايات مجملة دون تفصيل، فحملها الفضل على أن ذلك اختلاف في قوله، وأنه رأى مرة أن يحلف الأب وإن لم تكن له في ذلك ولاية، ومرة أن تحلف البكر وإن كان الأب هو الذي ولي ذلك. ففي المسألة على هذا ثلاثة أقاويل، أصحها في النظر ما ذهب إليه ابن المواز، وليس في يمين البكر فيما وليه الأب من مالها نص جلي، وهو بعيد في النظر. فأما يمين الأب عنها فيما لم يله من مالها فقد روي ذلك عن ابن كنانة وابن نافع، وأنكره ابن القاسم ونفى أن يكون مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قاله قط، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وأما تسمية الصداق فليس من شروط صحة عقد النكاح؛ لأن الله أباح نكاح التفويض، وهو النكاح بغير تسمية صداق فقال تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] ، وإنما تجب تسمية الصداق عند الدخول. فلا اختلاف بين أهل العلم فيما علمت أن نكاح التفويض جائز، وإنما اختلفوا في نكاح التحكيم على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك جائز قياسا على نكاح التفويض. والثاني: أن ذلك لا يجوز ويفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ويكون فيه صداق المثل. والثالث: أن ذلك جائز إن كان الزوج هو المحكم، [ولا يجوز إن كان المحكم غير الزوج كانت الزوجة أو غيرها، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل فإذا قلنا أن النكاح جائز فإن كان الزوج هو المحكم] ، فلا اختلاف أن الحكم في ذلك حكم نكاح التفويض، إن فرض الزوج فيه للزوجة صداق المثل لزمها النكاح، وإن أبى من ذلك فرق بينهما إلا أن يدخل بها فيجب عليه لها صداق المثل. وأما إن كانت الزوجة هي المحكمة وحدها أو مع سواها أو الزوج مع غيره(1/478)
فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحكم في ذلك حكم نكاح التفويض إن فرض الزوج لها صداق مثلها لزمها النكاح ولم يكن للمحكم من كان في ذلك كلام، وإن رضي المحكم بصداق المثل أو أقل لم يلزم ذلك الزوج إلا أن يشاء. وهذا يأتي على ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ. والثاني: أن النكاح لا يلزم إلا بتراضي الزوج والمحكم، كانت الزوجة أو غيرها، على الفريضة إن فرض الزوج صداق المثل فأكثر فلم ترض بذلك الزوجة إن كانت هي المحكمة أو المحكم إن كان غيرها لم يلزمها النكاح بذلك إلا أن تشاء. وإن فرضت هي إن كانت المحكمة أو المحكم إن كان غيرها صداق المثل فأقل برضاها لم يلزم ذلك الزوج إلا أن يشاء، وهو الذي يأتي على ما في المدونة. والثالث: أن الحكم في التحكيم عكس الحكم في التفويض ينزل المحكم في التحكيم منزلة الزوج في التفويض إن فرضت الزوجة صداق المثل فأقل إن كانت هي المحكمة أو فرض ذلك المحكم برضاها لزم ذلك الزوج ولم يكن له في ذلك كلام، فإن فرض الزوج صداق المثل فأكثر لم يلزم ذلك الزوجة إلا أن ترضى به، كانت هي المحكمة أو غيرها. وهذا القول ذهب إليه أبو الحسن القابسي، قاله تأويلا على ما في المدونة، وهو تأويل بعيد. وإنما ظاهر المدونة ما ذكرنا، وإليه ذهب أبو محمد بن أبي زيد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وكذلك الإشهاد إنما يجب عند الدخول وليس من شروط صحة العقد، فإن تزوج ولم يشهد فنكاحه صحيح، ويشهدان فيما يستقبلان إلا أن يكونا قصدا إلى الاستسرار بالعقد فلا يصح أن يثبتا عليه، «لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نكاح السر» ويؤمر أن يطلقها طلقة، ثم يستأنف العقد معها. فإن دخل في الوجهين جميعا فرق بينهما وإن طال الزمان بطلقة لإقرارهما بالنكاح، وحدا إن أقرا بالوطء إلا أن يكون الدخول فاشيا أو يكون على العقد شاهد واحد فيدرأ الحد بالشبهة. واختلف إذا(1/479)
أشهد على النكاح شاهدين وأمر بالكتمان، فقيل ذلك من نكاح السر، ويفسخ قبل الدخول وبعده إلا أن يطول بعد الدخول فلا يفسخ ويكون فيه الصداق المسمى، وهو المشهور في المذهب. وقيل: النكاح صحيح لا فساد فيه، ويثبت قبل الدخول وبعده، ويؤمر الشهود بإعلان النكاح وينهوا عن كتمانه. وإلى هذا ذهب يحيى بن يحيى وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل والنكاح من العقود اللازمة التي تلزم بالعقد، ولا خيار لأحد المتناكحين في حله بعد العقد بمنزلة البيع وما أشبهه من العقود اللازمة، إلا أن النكاح طريقه المكارمة فيجوز فيه من المجهول ما لا يجوز في البيع. من ذلك النكاح على عبد غير موصوف وعلى شوار بيت وما أشبه ذلك مما لا يجوز في البيع ويجوز في النكاح. ولهذا المعنى جاز التفويض فيه. ألا ترى أن هبة الثواب لما كانت على سبيل المكارمة وطريق المعروف ولم تكن على وجه المكايسة جازت من غير تسمية العوض. وقد تقدم لجواز التفويض في النكاح معنى صحيح غير هذا لم أره لأحد ممن تقدم قبلي. وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أشبه شيء بالبيوع النكاح، فهو يشبهه في بعض الوجوه ويفارقه في أكثر الحالات، فهو في باب الصداق أوسع من البيوع، وفي باب العقد أضيق من البيع. ألا ترى أن هزله جد في المشهور من المذهب. وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هزله هزل ولا يلزم إلا بالجد، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم، وأن من قال لرجل زوجتي وليتك بكذا وكذا فقال قد فعلت فقال الخاطب لا أرضى أن النكاح يلزمه قولا واحدا بلا خلاف، خلاف البيوع؛ وأن الخيار لا يجوز فيه كما يجوز في البيوع وما أشبه ذلك كثير.
فصل والنكاح ينعقد بلفظ النكاح ولفظ التزويج، ولا ينعقد بما سوى ذلك من العقود حاشا الهبة فإنه قد اختلف: هل ينعقد النكاح بها أم لا على قولين: أحدهما(1/480)
أنه لا ينعقد بها، وهو قول الشافعي. والثاني: أنه ينعقد بها وهو مذهب أبي حنيفة، ويلزم ويكون فيه صداق المثل كنكاح التفويض سواء. وقد روي عن ابن حبيب نحوه. وأما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فاضطرب في ذلك قوله للاختلاف الحاصل فيه بين أهل العلم قبله وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل
فيما يستحب في النكاح ويكره فيه. ويستحب إعلان النكاح وإشهاره وإطعام الطعام عليه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاة» . ويجب على من دعي إليه أن يجيب. قال أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله» وذلك إذا كان الداعي يدعو على صواب. ومن فارق الصواب في وليمته فلا دعوة له ولا معصية في ترك إجابته، وقد قال أبو هريرة: شر الطعام طعام الوليمة يدعى ... الحديث. وإنما يستحب الطعام في الوليمة لإثبات النكاح وإظهاره ومعرفته؛ لأن الشهود يهلكون، قال ذلك ربيعة وغيره. ولهذا المعنى أجيز فيه بعض اللهو مثل الدف والكبر وشبهه.
ويستحب إخفاء خطبة النكاح، وأن يبدأ الخاطب قبل الخطبة بالحمد لله تعالى والصلاة والسلام على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجيبه المخطوب إليه بمثل ذلك قبل الإجابة، وأن يهنأ الناكح عند نكاحه ويدعى له بالبركة فيه. ويكره أن يخطب الرجل المرأة على خطبة أخيه للنهي الوارد في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك إذا ركنا وتقاربا وإن لم يتفقا على صداق مسمى. وقيل: ذلك جائز ما لم يسميا الصداق. والأول أصح وأكثر؛ لأن النكاح ينعقد ويتم دون تسمية صداق، فإن فعل لم يفسخ نكاحه ووجب عليه أن يستغفر الله تعالى ويتحلل صاحبه فيما فعل، فإن لم يحله فليخل سبيلها إذ كان أفسدها عليه بعد أن كانت رضيت به فإن تزوجها الأول وإلا راجعها(1/481)
هو إن شاء وبدا له بنكاح جديد، وليس يقضى عليه بذلك وإنما هو على وجه التنزه والبر والخوف لله تعالى. وقيل: إن النكاح يفسخ قبل الدخول وبعده إذا علم ذلك وثبت، وهو قول ابن نافع وروايته عن مالك.
وأما قبل أن يركنا ويتقارب الأمر بينهما فلا بأس بالخطبة، ولا بأس أن يجتمع الاثنان والثلاثة والأكثر على خطبة المرأة. وقد روي أن جرير بن عبد الله البجلي سأل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يخطب عليه امرأة من دوس، ثم سأله مروان بن الحكم بعد ذلك أن يخطبها عليه، ثم سأله بعد ذلك ابنه عبد الله أن يخطبها عليه، فدخل على أهلها والمرأة جالسة في قبتها عليها سترها، فسلم عمر فردوا السلام وهشوا له وأجلسوه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال: إن جرير بن عبد الله البجلي يخطب فلانة، وهو سيد أهل المشرق، ومروان بن الحكم يخطبها، وهو سيد شباب قريش، وعبد الله بن عمر يخطبها، وهو من قد علمتم، وعمر بن الخطاب يخطبها، فكشفت المرأة عن سترها وقالت أجاد أمير المؤمنين؟ قال نعم. قالت: قد زوجت يا أمير المؤمنين زوجوه، فزوجوه إياها فولدت له ولدين وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل ومما يستحب في النكاح الهضيمة في الصداق ولا يكون فيه أجل، روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يستحب النكاح في رمضان رجاء البركة فيه» وفيه تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وكان جماعة من أهل العلم يستحسنون النكاح في يوم الجمعة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[فصل في حكم الشروط في النكاح]
فصل
في حكم الشروط في النكاح وتكره الشروط في النكاح، وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أشرت على قاض منذ دهر أن ينهى الناس أن يتزوجوا على الشروط وأن لا يتزوجوا إلا على دين الرجل وأمانته، وأنه كان كتب بذلك كتابا وصيح به في الأسواق وعابها عيبا شديدا.(1/482)
وهي تنقسم على وجهين: شروط تفسد النكاح ولا حد لها، وشروط لا تفسده وهي تنقسم على ثلاثة أقسام: شروط مقيدة بتمليك أو طلاق، وشروط مقيدة بوضع بعض الصداق، وشروط مطلقة غير مقيدة بشيء. فأما الشروط المقيدة بتمليك أو طلاق فإنها لازمة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم في ذلك. وأما الشروط المقيدة بوضع بعض الصداق فلا يخلو أن يكون الموضوع للشرط في العقد أو بعد العقد، فإن كان في العقد فلا يخلو من أن يكون من صداق المثل أو زائدا على صداق المثل. فأما إن كان الموضوع منه في العقد زائدا على صداق المثل فلا اختلاف في أن الوضيعة للزوجة لازمة لا رجوع لها فيها وأن الشروط عن الزوج ساقطة لا يلزمه الوفاء بها وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. والثاني: أن ذلك لازم لهما جميعا، فإن وفى الزوج بالشرط صحت له الوضيعة، وإن لم يف بها لم تصح له، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في رواية ابن نافع وأشهب وعلي بن زياد عنه. والثالث: أن ذلك لا يجوز ولا يلزم واحدا منهما؛ لأنها معاوضة فاسدة، فإذا لم يلزم الزوج الشروط لم يلزم المرأة الوضيعة، وهو قول ابن كنانة وروايته عن مالك، ومثله في مختصر ما ليس في المختصر لابن شعبان، وبالله سبحانه التوفيق.
فصل وأما إن كانت الوضيعة بعد العقد فسواء كانت من صداق المثل أو مما زاد على صداق المثل ففي ذلك قولان: أحدهما أن ذلك لازم لهما إن وفى الزوج بالشروط صحت له الوضيعة وإلا فلا. وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في المدونة. والثاني: أن ذلك لا يجوز ولا يلزم واحدا منهما، وهو قول ابن كنانة وروايته عن مالك.
فصل وأما الشروط المطلقة فمن أهل العلم من أوجبها ورأى القضاء بها، روي عن ابن شهاب أنه قال: كان من أدركت من العلماء يقضون بها لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(1/483)
«أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم بها الفروج» وهو ظاهر ما في رسم حلف من سماع ابن القاسم في كتاب النكاح من العتبية. والمعلوم المعروف في المذهب أنها لا تلزم لكنها يستحب الوفاء بها إلا أنها تنقسم على قسمين: أحدهما: أن تكون مشترطة في العقد دون تسمية الصداق، مثل أن يقول الرجل أزوجك ابنتي على أن لا تتزوج عليها أو على أن لا تخرجها من البلد وما أشبه ذلك. والثاني: أن تكون مشترطة في الصداق الذي يسمى في العقد أو في التسمية بعد العقد. فأما إذا كانت مشترطة في العقد دون تسميته فلا يلزم، وذلك مثل أن تقول أتزوجك على أن لا تتزوج علي أو على أن لا تخرجني من البلد وما أشبه ذلك. وأما إن كانت مشترطة في التسمية التي مع العقد، وذلك أن تقول أتزوجك بكذا وكذا على أن لا تفعل كذا وكذا فلا يلزمه الشرط عند مالك على هذا الوجه. والقياس على مذهبه أن يفسخ النكاح قبل الدخول ويثبت بعده، ويكون فيه الأكثر من صداق المثل أو المسمى؛ لأنها لم ترض أن تتزوجه بما سمت من الصداق إلا على الشروط، فإذا لم تلزمه الشروط لم يلزمها ما رضيت به من الصداق. وأما إن كانت مشترطة في التسمية فلا تلزم أيضا وينظر، فإن كانت التسمية أقل من صداق مثلها كان لها تمام صداق مثلها وصح النكاح ولم يفسخ لتقدم عقده دون شرطه وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[فصل في حكم الأنكحة الفاسدة]
فصل
في حكم الأنكحة الفاسدة والنكاح ينقسم على قسمين: صحيح، وفاسد. فالصحيح ما جوزته السنة والقرآن، والفاسد ينقسم على ثلاثة أقسام: نكاح فسد لعقده، ونكاح فسد لصداقه، ونكاح فسد لشروط فاسدة اقترنت به. فأما ما فسد لعقده فينقسم على قسمين: قسم متفق على فساده، وقسم مختلف فيه. فالمتفق على فساده مثل نكاح من لا يحل له نكاحها من ذوات المحارم من نسب أو رضاع، ومثل نكاح المرأة في(1/484)
عدتها أو على ابنتها أو على أمها أو على أختها وما أشبه ذلك ممن لا يجوز له الجمع بينهما، أو نكاح المجوسية أو الأمة النصرانية وما أشبه ذلك فهذا القسم يفسخ النكاح فيه قبل الدخول وبعده ويكون فيه الصداق المسمى. والمختلف في فساده مثل نكاح الشغار، ونكاح المحرم، والنكاح والإمام يخطب يوم الجمعة، ونكاح من نكح على خطبة أخيه وما أشبه ذلك. وأما ما فسد لصداقه مثل أن يتزوج الرجل المرأة بحرام مثل الخمرة والخنزير، أو بغرر مثل التمر الذي لم يبد صلاحه والعبد الآبق والبعير الشارد، أو الصداق إلى أجل مجهول أو ما أشبه ذلك، فهذا القسم يفسخ فيه النكاح قبل الدخول ويصح بعده بصداق المثل. وقد روي عن مالك أنه يفسخ قبل الدخول وبعده. ومن أهل العلم من لا يرى فسخه ويصححه بصداق المثل قبل الدخول وبعده، وهو مذهب الليث بن سعد وأبي حنيفة وأصحابه. وأما ما فسد للشروط الفاسدة المقترنة به وهي كثيرة لا تحصر بعدد، فمنها ما يفسخ النكاح به قبل الدخول وبعده، ومنها ما يفسخ به النكاح قبل الدخول ويثبت بعده، ومن ذلك ما يمضي بالصداق المسمى، ومنه ما يرد إلى صداق المثل، ومنه ما يتفق على وجه الحكم فيه، ومنه ما يختلف فيه على ما يأتي كل في موضعه إن شاء الله وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل واختلف في لزوم الطلاق وكون الميراث في الأنكحة الفاسدة على ثلاثة أقوال في المذهب، وهي ثابتة في المدونة: أحدها: أن كل نكاح كانا مغلوبين على فسخه فلا طلاق فيه ولا ميراث، مثل نكاح الشغار، ونكاح المحرم، وما كان صداقه فاسدا فأدرك قبل الدخول. والثاني: أن كل نكاح يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ففيه الطلاق والميراث قبل الدخول وبعده، [وما كان يفسخ قبل الدخول وبعده] وإن كان مختلفا فيه فلا طلاق فيه ولا ميراث. [قبل الدخول وبعده. والقول الثالث: أن كل نكاح اتفق على تحريمه فلا طلاق فيه ولا ميراث] وكل(1/485)
نكاح اختلف في تحريمه وإن غلبا على الفسخ فيه قبل الدخول وبعده ففيه الطلاق والميراث قبل الدخول وبعده وهو الذي قاله ابن القاسم لرواية بلغته.
وأما الخلع فإنه على مذهب ابن القاسم تابع للطلاق وجار على الاختلاف فيه حيثما لزم الطلاق لزم فيه الخلع، وحيث ما لم يلزم الطلاق سقط الخلع ووجب على المرأة الرجوع على الزوج بما دفعت إليه فيه: وعلى مذهب ابن الماجشون يثبت في كل نكاح صحيح لا خيار للمرأة فيه وإن كان الخيار فيه للزوج أو لغيرهما. وإن كان النكاح ما لا يقر على حال أو مما للمرأة فيه الخيار سقط الخلع ووجب للمرأة الرجوع على الزوج بما دفعت إليه فيه. وذهب محمد بن المواز إلى أن الخلع يثبت في كل نكاح يكون لأحد الزوجين فيه الخيار، يريد أو لغيرهما. فعلى قوله: لا يسقط الخلع إلا في كل نكاح لا يقر على حال ويغلب الزوجان فيه على الفرقة. فاحفظ إنها ثلاثة أقوال في المسألة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل والمشهور في المذهب أن الحرمة تقع بكل نكاح لم يتفق على تحريمه. وقد أجرى ابن حبيب الحرمة مجرى الطلاق والميراث، وروى مثل ذلك عن ابن القاسم، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[فصل في اشتقاق لفظ الشغار]
فصل
في اشتقاق لفظ الشغار والشغار مأخوذ من شغر الكلب إذا رفع إحدى رجليه ليبول؛ لأن ذلك لا يكون - زعموا - إلا عند مفارقة حال الصغر إلى حال يمكنه فيها طلب الوثوب على الأنثى للنسل، وهو عندهم علامة على إرادته لذلك " فقيل منه للمرأة: شغرت المرأة تشغر شغرا إذا رفعت رجليها للنكاح، فلذلك قيل نكاح الشغار؛ لأن كل واحد من المتناكحين يشغر إذا نكح، وكان الرجل في الجاهلية يقول للرجل شاغرني أي زوجني ابنتك على أن أزوجك أختي بلا مهر لهذا المعنى. وقيل: إنما قيل له شغار؛ لأن كل واحد منهما رفع الصداق عن صاحبه. وأصل الشغر للكلب،(1/486)
وهو أن يرفع إحدى رجليه ليبول فكني بهذا عن النكاح إذا كان على هذا الوجه وجعل له علما، كما قيل للزنا سفاح؛ لأن الزانيين يتسافحان يسفح هذا الماء أي يصبه، وتسفح هي النطفة. وأما الماء الذي يغتسلان به فكني بذلك عن الزنا وجعل له علما. وكان الرجل يلقى المرأة في الجاهلية فيقول لها سافحيني، ويرى ذلك أحسن من أن يقول زانيني. وقيل الشغار إخلاء النكاح من الصداق، أخذ ذلك من قولهم: بلد شاغر، أي: خال من الناس. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(1/487)
[كتاب الرضاع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كتاب الرضاع قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية إلى قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة» ، فكان ذلك من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيانا لما في كتاب الله عز وجل وزيادة في معناه ودليلا على أن جميع القرابات المحرمات بالنسب محرمات في كتاب الله تعالى بالرضاع، وإن كان الله عز وجل لم ينص فيه إلا على الأم والأخت خاصة، فإنه نبه بذكر الأخت على أن حرمة الرضاع لا تختص بالمرأة المباشرة للرضاع وأنها تسري إلى سائر القرابات المحرمات بالنسب، إذ لا فرق في المعنى والقياس بين الأخت وبينهن في سريان ما حرمه الرضاع إلى جميعهن؛ ودليلا أيضا على أن اللبن يحرم من قبل المرضعة ومن قبل الفحل الذي ذر اللبن بمائه؛ إذ ذلك مفهوم من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» ، وقائم أيضا من كتاب الله عز وجل. قال الله عز وجل: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 3] ومعلوم أن الأب لم يلد ولده بالحمل والوضع كما صنعت الأم، وإنما ولدهم بما كان من مائه المتولد عنه الحمل واللبن، فصار بذلك والدا كما صارت الأم بالحمل والوضع أما فإذا أرضعت بلبنه طفلا كانت أمه وكان هو أباه. وقد جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك ما رفع الإشكال وأزال الاحتمال في الحديث الصحيح «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أم(1/489)
المؤمنين أنها قالت: جاء عمي من الرضاعة يستأذن علي فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته عن ذلك فقال: إنه عمك فأذني له. قالت: فقلت يا رسول الله: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل، فقال: إنه عمك فليلج عليك، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وذلك بعدما ضرب علينا الحجاب» . قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة.
فصل ولولا هذا الحديث «وقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فيه: يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل» إذ ظنت أن اللبن إنما يحرم من قبل المرأة لا من قبل الرجل، وجواب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها بما فهمت عنه أن اللبن للفحل وأن التحريم يقع من قبله كما يقع من قبل المرأة، لاحتمل أن يقول من لا يرى أن لبن الفحل يحرم: إن التحريم لم يقع في عم عائشة أفلح من قبل الفحل؛ لأنه ممكن أنه يكون أفلح أخو أبي القعيس قد أرضعته وأبا بكر الصديق امرأة واحدة في حولي رضاعهما، فصار أفلح بذلك أخا أبيها وعمها من الرضاعة من قبل المرضعة لا من قبل الفحل، فأزال هذا الاحتمال قوله في الحديث: «إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل» وعلم أن المرأة التي أرضعتهما زوجة أبي القعيس، وصار أفلح أخو أبي القعيس من النسب عما لها من الرضاعة من قبل الفحل على ما ذكر في الحديث، والله أعلم.
[فصل في بيان سرية حرمة الرضاع]
فصل
في بيان سريان حرمة الرضاع فتسري حرمة الرضاع من قبل المرأة المرضعة إلى أمها وأبيها وإن علوا، وإلى ولدها وولد ولدها الذكران والإناث ما سفلوا، وإلى أعيان إخوتها وأخواتها وأعمامها وعماتها وأخوالها وخالاتها دون شيء من أولادهم. وإنما لم يسر التحريم(1/490)
إلى ولد إخوتها وأخواتها؛ لأن إخوتها وأخواتها أخوال وخالات للمرضع، فليس أولادهم من ذوي محارمه. وتسري حرمة الرضاع أيضا من قبل الفحل الذي كان اللبن عنه إلى أبويه وإن علوا، وإلى ولده وولد ولده من الذكران والإناث ما سفلوا، وإلى أعيان إخوته وأخواته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته دون شيء من أولادهم. وإنما لم يسر التحريم أيضا إلى ولد إخوته وأخواته؛ لأن إخوته وأخواته أعمام وعمات للمرضع من قبله، وليس أولادهم من ذوي محارمه. ولا تسري حرمة الرضاع من قبل المرضع إلا إلى الابن والبنت ما سفلا. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل فإذا أرضعت المرأة صبيا حرمت عليه وعلى ولده وولد ولده من الذكران والإناث ما سفلوا هي وجميع ذوات محارمها ومحارم الفحل الذي كان لبنها منه، حاشا بنات إخوتها وأخواتها وبنات إخوة الفحل وأخواته؛ لأن إخوتها وأخواتها أخوال وخالات، وإخوته وأخواته أعمام وعمات للمرضع، فليس أولادهم من ذوي محارمه. وإن أرضعت صبية حرمت الصبية وبناتها وبنات بنيها ما سفلوا على زوجها الذي كان اللبن منه، وعلى جميع ذوي محارمه ومحارمها، حاشا بني إخوته وأخواته وإخوتها وأخواتها لما ذكرناه، فلا ينزل أحد من ذوي رحم المرضع منزلة المرضع في الحرمة حاشا ولده وولد ولده ما سفلوا. فهذا تحصيل هذا الباب وربطه. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل فإذا قلنا إن حرمة الرضاع لا تسري من قبل المرضع إلا إلى ولده وولد ولده من الذكران والإناث خاصة، فيجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من الرضاعة وأم ابنه وإن علت من الرضاعة، وأم أخيه من الرضاعة، إذ لا حرمة بينه وبين واحدة منهن، بخلاف النسب لا يحل للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب؛ لأنها ربيبته، ولا جدة ابنه من النسب؛ لأنها أم زوجته، ولا أم أخيه من النسب؛ لأنها زوجة أبيه أو أم ولده. وكذلك للمرأة أن تتزوج أخا ابنها من الرضاعة، وأبا ابنها من الرضاعة،(1/491)
وأبا أخيها من الرضاعة، إذ لا حرمة بينها وبين واحد منهم، بخلاف النسب لا يجوز للمرأة أن تتزوج أخا ابنها من النسب؛ لأنه ربيبها ابن زوجها، ولا جد ابنها من النسب؛ لأنه والد زوجها، ولا أبا أخيها لأمها؛ لأنه زوج أمها. وأما نكاح الرجل أخت أخيه فذلك جائز في النسب والرضاع، إذ لا حرمة بينه وبينها. وكذلك نكاح الرجل أخت عمه جائز أيضا في الرضاع والنسب، إذ لا حرمة بينه وبينها.
والعم من الرضاع على ثلاثة وجوه: أحدها: أن يكون لأبيك من النسب أخ من الرضاعة بأن تكون أرضعتهما امرأة واحدة في حولي رضاعهما أو امرأتان بماء رجل واحد فيكون عمك من الرضاعة. والثاني: أن يكون لأبيك من الرضاع وهو الذي أرضعتك زوجته أو أمته بمائه أخ من النسب فيكون عمك من الرضاعة. الثالث: أن يكون لأبيك من الرضاع وهو الذي أرضعتك زوجته بمائه أخ من الرضاع بأن يكون أرضعتهما امرأة واحدة أو امرأتان بماء رجل واحد فيكون ذلك الأخ عما لك. وهذا كله بين والحمد لله.
[فصل في تحريم لبن الفحل]
فصل
في تحريم لبن الفحل وقد اختلفت العلماء في لبن الفحل فطائفة أنزلته منزلة الأم فأوجبت به التحريم، وهو قول مالك وجميع أصحابه والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم، وطائفة كرهته، منهم القاسم بن محمد وعروة بن الزبير ومجاهد والشعبي، وطائفة رخصت فيه وهم سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار والنخعي. وعلى تحريمه العمل. وإنما اختلفوا فيه، والله أعلم؛ لأنهم جعلوا مخالفة عائشة للحديث الذي روته في ذلك علة فيه. روي عنها أنها كانت لا ترى التحريم من قبل الفحل، فكان يدخل عليها من أرضعته بنات أخيها وبنات أختها، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها، وهي التي روت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التحريم بلبن الفحل وقالت به بعد أن أوقفت على ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت يا رسول الله: «إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل» . والحجة في السنة لا فيما خالفها، وإن خالفها الراوي لها. وقد قيل: إن مخالفته لها تبطل(1/492)
العمل بها، إذ لا يمكن أن يروي الراوي الحديث ثم يترك العمل به إلا وقد علم النسخ فيه، إذ لو تركه وهو لا يعلم أنه منسوخ لكان ذلك جرحا فيه، وليس ذلك عندنا بصحيح، لاحتمال أن يكون تركه لتأويل تأوله فيه فلا يلزم غيره من العلماء اتباعه على ما تأوله باجتهاده. فلعل عائشة تأولت أن ذلك رخصة لها في شأن أفلح خاصة كما تأول سائر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رضاعة سالم، فرجعت إلى ظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] ولهذا المعنى اختلف العلماء في التحريم بلبن الفحل على ما ذكرناه عنهم والله أعلم.
[فصل في رضاعة الكبير]
فصل
في رضاعة الكبير ولا تحرم رضاعة الكبير، وإنما يحرم منها ما كان في وقت الرضاعة كما قال سعيد بن المسيب: لا رضاعة إلا ما كان في المهد وإلا ما أنبت اللحم والدم، وذلك مروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وحد ذلك ما حده الله في كتابه حيث يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] . وما قرب من الحولين فله حكمهما عند أكثر أصحابنا لوجود معنى تحريم الرضاعة فيه، وهو انتفاع الصبي به وكونه له غذاء، ومن طريق اختلاف الشهور بالزيادة والنقصان، وقد قال الله عز وجل: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] . واختلف في حد القرب ما هو، فقيل اليوم واليومان، وقيل الأيام اليسيرة، وقيل الشهر ونحوه، وقيل الشهر والشهران، وهو قوله في المدونة، وقيل الشهر والشهران والثلاثة، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك. وهذا إذا لم يفصل قبل ذلك فصالا يستغني فيه عن الرضاع بالطعام والشراب، فإن فصل قبل ذلك واستغنى بالطعام والشراب عن الرضاع فما أرضع بعد ذلك فلا يكون رضاعا تقع به الحرمة على ظاهر قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا رضاع بعد فطام» وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وذهب مطرف(1/493)
وابن الماجشون إلى أن الفصل لا يعتبر إلا بعد أمد الرضاع، وحملا حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك.
فصل وذهب الليث بن سعد وطائفة من العلماء إلى أن الحرمة تقع برضاع الكبير. وحجتهم في ذلك حديث سالم مولى أبي حذيفة، ذكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الموطأ عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاعة الكبير فقال: أخبرني عروة بن الزبير ... الحديث بطوله. وهذا الحديث حمله مالك وأكثر أهل العلم على أنه خاص بسالم مولى أبي حذيفة، كما حمله أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما عدا عائشة. وممن قال " إن رضاعة الكبير ليست بشيء " عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو هريرة وابن عباس وسائر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير عائشة، وجمهور التابعين وفقهاء الأمصار. وحجتهم قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الرضاعة من المجاعة ولا رضاع إلا ما أنبت اللحم والدم» وقال ابن حبيب: إن الاختلاف الواقع بين أهل العلم في رضاع الكبير إنما هو في الستر والحجاب، وأما النكاح فلم يختلفوا فيه أنه لا يحرم به، والصحيح أن الاختلاف داخل فيه. وقد كان أبو موسى الأشعري يفتي بأن التحريم يقع به في النكاح، ثم رجع إلى قول ابن مسعود وقال: لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحبر بين أظهركم. ولا يزال الناس بخير ما رجعوا إلى الصواب عند تبينه لهم.
[فصل فيما تقع الحرمة به من الرضاع]
ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، وهو قول أكثر أهل العلم، أن قليل الرضاع وكثيره يحرم؛ لأنه ظاهر القرآن، وحديث المصة والمصتان والإملاجة والإملاجتان، خرجه النسائي وغيره من رواية أبي الفضل بألفاظ متقاربة، في بعضها «لا تحرم المصة والمصتان» وفي بعضها «لا تحرم الإملاجة والإملاجتان» وفي بعضها «المصة والمصتان والإملاجة والإملاجتان» . ورواه ابن وهب «تحرم(1/494)
المصة والمصتان» على ما وقع في المدونة، فوجب أن تسقط لهذا الاختلاف، فلذلك لم يخرجه البخاري والله أعلم. وكذلك اضطرب ابن الزبير في رواية هذا الحديث، فرواه مرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومرة عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومرة عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرد أيضا من أجل هذا الاختلاف. وكذلك حديث عائشة: «كان مما أنزل فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مما يقرأ في القرآن» لا تصح به حجة؛ لأنها أحالت على القرآن في الخمس رضعات فلم توجد فيه. ولذلك قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وليس العمل على هذا. وقال من ذهب إلى الأخذ بالخمس رضعات: إن هذا مما نسخ خطه وبقي حكمه كآية الرجم. وهذا لا يصح؛ لأن نسخ القرآن لا يكون إلا بأمر الله تعالى، ولا يصح إلا في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأما بعد موته فلا يجوز أن يذهب من صدور الناس حفظ شيء من القرآن؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنه حفظ كتابه العزيز فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وقد أخبرت هي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي والخمس رضعات تقرأ في القرآن، ولو كان ذلك لما سقط من القرآن، فلعلها أرادت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي وهو مما يقرأ في القرآن المنسوخ، أي يعلم أن ذلك كان قرآنا فنسخ خطه وبقي حكمه كآية الرجم وكسائر ما نسخ خطه وحكمه وذهب من الصدر حفظه. وهذا محتمل إذ لم تقل إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي وهو قرآن، وإنما قالت: إنه توفي وهو مما يقرأ في القرآن، فاحتمل أن يكون أرادت أنه كان يذكر في القرآن المنسوخ خطه والله أعلم.
فصل والرضاع يحرم بلبن المسلمات والمشركات الحرائر والإماء الأموات والأحياء من قبل الأم ومن قبل الفحل إن كان الوطء حلالا أو بوجه شبهة يلحق به الولد. واختلف إن كان الوطء حراما لا شبهة فيه كوطء الزنا، ومن تزوج من لا تحل له وهو عالم هل تقع الحرمة به من قبل الفحل أم لا على قولين. فكان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -(1/495)
يرى أن كل وطء لا يلحق به الولد فلا يحرم بلبنه، يريد من قبل فحله، ثم رجع إلى أنه يحرم. وإلى هذا ذهب سحنون وقال: ما علمت من قال من أصحابنا إنه لا يحرم إلا عبد الملك، وهو خطأ صراح. وقد «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سودة أن تحتجب من ولد ألحقه بأبيها لما رأى من شبهه بعتبة» . قال ابن المواز: وإذا أرضعت بلبن الزنا صبيا فهو لها ابن ولا يكون ابنا للذي زنى بها. ولو كانت صبية فتزوجها الذي كان زنى بها لم أقض بفسخ نكاحه، وأحب إلي أن يتجنبه من غير تحريم. وأما ابنته من الزنا فلا يتزوجها وإن كان ابن الماجشون قد أجازه، ومكروهه بين «لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسودة في الولد الذي ألحقه بأبيها: احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة» فكيف يتزوجها عتبة لو كانت جارية؟.
فصل وتقع الحرمة بلبن البكر والعجوز التي لم تلد وإن كان من غير وطء إذا كان لبنا ولم يكن ماء أصفر لا يشبه اللبن. وأما الرجل فلا تقع الحرمة برضاعه وإن كان له لبن، وما أظنه يكون. فقد أنكر ذلك مالك فقال: وإنما يحدث بهذا قوم نفاق.
فصل ويستحب للأم أن ترضع ولدها، فإنه روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه» . ولذلك كانت المطلقة أحق برضاع ولدها بما ترضعه غيرها. ويكره الظؤرة من اليهوديات والنصرانيات لما يخشى من أن تطعمهم الحرام وتسقيهم الخمر. وقال ابن حبيب عن مالك: فإذا أمن ذلك فلا بأس به. ويتقى رضاع الحمقاء وذوات الطباع المكروهة، لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرضاع يجر الطباع» . قال عبد الملك: ولذلك كانت العرب تسترضع أولادها في أهل بيت السخاء أو بيت الوفاء أو بيت الشجاعة أو ما أشبه ذلك من الأخلاق الكريمة. وبالله التوفيق وهو الهادي إلى أقوم طريق.(1/496)
[كتاب طلاق السنة] [فصل في اشتقاق لفظ الطلاق]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم
كتاب طلاق السنة فصل
في اشتقاق لفظ الطلاق الطلاق مأخوذ من قولك أطلقت الناقة فطلقت إذا أرسلتها من عقال وقيد، فكأن ذات الزوج موثقة عند زوجها فإذا فارقها أطلقها من وثاق. ويدلك على ذلك قول الناس هي في حبالك إذا كانت تحتك، يراد أنها مرتبطة عندك كارتباط الناقة في حبالها. ثم فرقوا بين الحركات من فعل الناقة وفعل المرأة والأصل واحد وقالوا طلقت الناقة بفتح اللام وقالوا طلقت المرأة بضم اللام، وقالوا أطلقت الناقة وطلقت المرأة.
فصل والطلاق حل العصمة المنعقدة بين الزوجين، وهو أمر جعله الله بأيدي الأزواج وملكهم إياه دون الزوجات فقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] وقال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(1/497)
فصل وهو يلزم باللفظ مع النية في الحكم الظاهر والباطن؛ لأن الطلاق يفتقر إلى لفظ ونية. وقد اختلف إذا انفرد أحدهما دون الآخر. فأما إذا انفردت النية دون اللفظ فالصحيح أن الطلاق يلزم بذلك؛ لأن اللفظ بالطلاق عبارة عما في النفس منه، فإذا أجمع الرجل في نفسه على أنه قد طلق امرأته لزمه الطلاق فيما بينه وبين الله، وهو نص قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق. وإن أظهر بلفظه ما أجمع عليه من الطلاق في نفسه حكم عليه به. وقد قيل: إن الطلاق لا يلزم بالنية حتى يلفظ به، وهو ظاهر قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في رواية أشهب عنه في كتاب التخيير والتمليك ليس يطلق الرجل بقلبه ولا ينكح بقلبه. وأما إذا انفرد اللفظ دون النية فالصحيح أن الطلاق لا يلزم بذلك إلا في الحكم الظاهر، إذ لا يصدق إذا لفظ بالطلاق أنه لم يرده ولا نواه. وقد وقع في كتاب التخيير والتمليك من المدونة ما ظاهره أن الطلاق يلزم باللفظ دون النية، وهو خلاف المنصوص فيه وفي غيره وبعيد في المعنى، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وهو على وجهين: مباح، ومحظور. فالمباح منه ما كان على الصفة التي أمر الله بها، والمحظور منه ما وقع بخلافها. والصفة التي أمر الله بها هي ما ذكر في كتابه حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وقرأ ابن عمر " فطلقوهن لقبل عدتهن " معناه: في موضع يعتددن فيه، وهو أن يطلقها في طهر لم يمس فيه كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في «حديث عبد الله بن عمر إذ طلق امرأته(1/498)
وهي حائض فأخبر عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق قبل أن يمس". فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء» والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل فطلاق السنة الذي أمر الله به وعلمه عباده هو أن يطلق الرجل امرأته طاهرا من غير جماع طلقة واحدة ثم لا يتبعها طلاقا، فيكون أحق برجعتها شاءت أو أبت ما لم تنقض عدتها، لقول الله عز وجل: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وبلوغ الأجل في هذه الآية المقاربة لا البلوغ حقيقة، بخلاف الآية التي في سورة البقرة قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] البلوغ في هذه الآية على وجهه، وأما في الآية التي قدمنا ذكرها فالمراد بذكر البلوغ فيها المقاربة، بدليل إجماعهم على أنها تبين من زوجها بانقضاء عدتها ولا يكون له إليها سبيل. وذلك كثير موجود في القرآن ولسان العرب أن يسمى الشيء باسم ما قرب منه، قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] معناه: إذا أردت قراءة القرآن. وقال: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» . وفي الحديث «صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل» فسمي المطر بالسماء لما كان نزوله منها. ومنه قوله عز وجل: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] فكني بالمجيء(1/499)
من الغائط عن الحدث، ثم كثر استعمال ذلك حتى سمي الحدث بعينه غائطا لقرب ما بينهما.
فصل وإنما نهي المطلق أن يطلق في الحيض؛ لأنه إذا طلق فيه طول عليها العدة وأضر بها؛ لأن ما بقي من تلك الحيضة لا يعتد به في أقرائها فتكون في تلك المدة كالمعلقة لا معتدة ولا ذات زوج ولا فارغة من زوج. وقد نهى الله عن إضرار المرأة بتطويل العدة عليها بقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يطلق المرأة ثم يمهلها فإذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ولا حاجة له بها ثم طلقها ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها لتطول العدة عليها، فنهى الله عن ذلك بهذه الآية.
فصل وإنما نهي المطلق أن يطلق في طهر قد مسها فيه؛ لأنه إذا فعل ذلك لبس عليها العدة فلم تدر بما تعتد إن كانت تعتد بالوضع أو بالأقراء، لاحتمال أن تكون قد حملت من ذلك الوطء، فكره له أن يدخل عليها اللبس في العدة، وأمر أن لا يطلقها إلا في موضع تعرف عدتها ما هي لتستقبلها. فقول الله عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي لقبل عدتهن. وقيل: إنما نهي عن ذلك لتكون مستبرأة فيكون على يقين من نفي الحمل إن أتت بولد وأراد أن ينفيه، كما كره له أن يبيع الأمة إذا وطئها قبل الاستبراء وإن كانت رفيعة تواضع لهذه العلة، وهذا أظهر والله أعلم.
فصل وإنما منع من طلق امرأته حائضا فارتجعها أن يطلقها في الطهر الأول من(1/500)
أجل أن ذلك يطول عليها العدة، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] فلا يجوز له أن يراجع ليطلق، وإنما يجوز له أن يراجع ليطأ أو يمسك. فإذا وطئ في ذلك الطهر لم يصح له أن يطلق فيه. فالطهر الأول مقصوده الوطء فلا يصح فيه الطلاق، والطهر الثاني هو مخير فيه بين الوطء والطلاق. وقد قيل: إنه منع من الطلاق في الطهر الأول عقوبة لا لعلة موجودة، لما أوقع الطلاق في موضع لا يجوز له، منع منه في موضع يجوز له. والأول هو الصحيح؛ لأن العلة في ذلك موجودة، على ما بيناه وبالله التوفيق.
فصل ولا يجوز عند مالك أن يطلق عند كل طهر طلقة؛ لأنه عنده طلاق بدعة على غير السنة؛ لأن الطلقة الثانية والثالثة لا عدة لهما، ولم يبح الله تعالى الطلاق إلا للعدة فقال: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . وأجاز ذلك أشهب على ما روي عن ابن مسعود ما لم يرتجعها في خلال ذلك وهو يريد أن يطلقها ثانية فلا يسعه ذلك؛ لأنه يطول عليها العدة ويضر بها. وقد نهى الله تبارك وتعالى عن ذلك فقال: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. والصواب ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وهو الصحيح عن ابن مسعود أن طلاق السنة أن يطلق طلقة في أول الطهر إلى انقضاء العدة. وقد أنكر أحمد بن خالد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على سحنون إدخال الحديث الذي أدخل عن ابن مسعود في المدونة، وقال: ما خلق الله أشنع من هذا يدخل خلاف مذهبه، وما قد أنكره مالك، وقال: إنه لم يدرك أحدا يقتدى به من أهل بلده يرى ذلك. والحسن بن عمارة رجل مطعون فيه.
فصل وكذلك لا يجوز عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن يطلقها ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه ذلك بدليل قول الله عز وجل: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وهي(1/501)
الرجعة فجعلها بائنة بإيقاع الثلاث في كلمة واحدة، إذ لو لم يقع ولم تلزمه لم تفته الزوجة ولا كان ظالما لنفسه. ولما ألزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن عمر الطلقة التي طلقها في الحيض فقال: مره فليراجعها، دل ذلك أيضا على أن الطلاق لسنته ولغير سنته، وهو مذهب جميع الفقهاء وعامة العلماء لا يشذ في ذلك عنهم إلا من لا يعتد بخلافه منهم.
فصل وقد أجاز الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا في كلمة واحدة، واحتج لذلك بتطليق الملاعن زوجته بعد اللعان ثلاثا بحضرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: فلو كان ذلك منكرا لأنكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه إنما طلق أجنبية قد حرمت عليه باللعان، ولعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنكر ذلك كما لزمه أن ينكر طلاق الأجنبية، وليس كل شيء كان نقل. واحتج أيضا بأشياء لا تقوم له بها حجة، منها طلاق عبد الرحمن بن عوف زوجته تماضر ثلاثا في مرضه، وطلاق أبي عمرو بن حفص زوجته فاطمة بنت قيس ثلاثا. ولا حجة له في شيء من ذلك؛ لأنهما لم يطلقا ثلاثا في كلمة واحدة، وإنما طلقا واحدة وكانت آخر ما بقي لهما من الثلاث. ومن حجته أيضا عموم «قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسكها وإن شاء طلقها، من غير أن يخص واحدة من ثلاث» . ولا يكون هو أعلم بمراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله هذا من المخاطبين به وهما عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر، فقد قالا جميعا: من طلق ثلاثا فقد عصى الله ورسوله. ومن حجته أن الزوج ترك إيقاع ما إليه إيقاعه في الطلاق الرجعي وأوقع طلاقا إليه إيقاعه، فيلزمه على هذا أن يجيز طلاق المرأة حائضا إذا أباحت له امرأته ذلك؛ لأنه إنما منع لئلا تطول عليها العدة، وهذا ما لا يقوله أحد. فمن طلق ثلاثا في كلمة واحدة فقد عصى ربه وتعدى حدوده وظلم نفسه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا. وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاثا جميعا فقام غضبانا، قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين(1/502)
أظهركم» . وكان علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يعاتبان الذي يطلق امرأته ثلاثا في كلمة واحدة، وهو قول مالك.
فصل وكذلك طلاق المباراة الذي يجري عندنا ويطلق الناس به نساءهم طلاق بدعة، ولا ينبغي لأحد أن يفعله، وإنما يجوز منه ما كان على وجه الخلع بشيء تعطيه من مالها أو تتركه له من حقها أو تلتزمه من مؤنة حمل أو رضاع أو ما أشبه ذلك مما تجوز المخالعة به في الموضع الذي أجازه الله تبارك وتعالى فيه، وهو إذا كان النشوز من قبل المرأة ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها. قال الله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] فلا يجوز للرجل إن نشزت عليه امرأته أو أحدثت حدثا من الزنا أو غيره أن يضارها حتى تفتدي منه، ولا تعلق له في جواز ذلك بقول الله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] ؛ لأن الاستثناء فيها منفصل غير متصل. ومعنى الآية: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن لكن إن أتين بفاحشة حل لكم أن تقبلوا منهن في الفداء ما طابت به أنفسهن. والفاحشة البينة هاهنا أن تشتم عرضه أو تبذأ عليه بلسانها أو تخالف أمره؛ لأن كل فاحشة نعتت في القرآن ببينة فهي من باب النطق، وكل فاحشة أتت فيه مطلقة لم تنعت ببينة فالمراد بها الزنا. ومن أهل العلم من رأى الاستثناء متصلا فأباح للرجل إذا نشزت عليه امرأته أن يضيق عليها حتى تفتدي منه. ومنهم من حمل الفاحشة البينة هاهنا على الزنا وجعل الاستثناء متصلا، فأباح للرجل إذا اطلع على زوجته بزنا أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه لقول الله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] .(1/503)
فصل وكذلك الحلف بالطلاق مكروه. روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تحلفوا بالطلاق ولا بالعتاق فإنهما من أيمان الفساق» ، وقال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» . وروى زياد عن مالك أنه يؤدب من حلف بالطلاق. وقال مطرف وابن الماجشون: من اعتاد الحلف بالطلاق فذلك جرحة فيه وإن لم يعلم له حنث فيه. ومكروهه لوجهين: أحدهما: نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحلف به وعن الحلف بغير الله. والثاني: أنه قد يقع حنثه في حال الحيض أو دم النفاس أو في طهر قد مس فيه، وهذه أحوال لا يجوز إيقاع الطلاق فيها. فإن كانت الزوجة ممن لا تحيض أو يائسة من المحيض كره لمخالفته السنة خاصة.
فصل ومن حلف بالطلاق فحنث في يمينه وامرأته حائض أو نفساء في دم نفاسها فإنه يجبر على رجعتها كما يجبر المطلق في الحيض على الرجعة ما لم تنقض العدة في مذهب مالك وأصحابه، حاشا أشهب فإنه يرى أن يجبر على الرجعة ما لم تطهر ثم تحيض ثم تطهر إلى الموضع الذي أبيح له فيه الطلاق. ومن أهل العلم من يرى أنه إنما يجبر على الرجعة ما لم تطهر من حيضتها التي طلقها فيها، وليس ذلك في المذهب. فإن أبى الارتجاع هدد، فإن أبى سجن، فإن أبى ضرب، ويكون ذلك كله قريبا في موضع واحد؛ لأنه على معصية. فإن تمادى ألزم الرجعة وكانت له زوجة. حكى ذلك ابن المواز عن ابن القاسم وأشهب. وقال أصبغ عن ابن القاسم في العتبية: إنه إذا أبى حكم عليه بالرجعة وألزم إياها ولم يذكر سجنا ولا ضربا. وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه يؤمر بالرجعة ولا يضرب عليها. والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لأن الأوامر محمولة على الوجوب حتى يقترن بها ما يدل على أنها على الندب، وهذا قول المحققين من أهل العلم.(1/504)
فصل واختلف إذا أجبر على الرجعة وألزم إياها ولم ينو ذلك ولا كانت له نية في مراجعتها هل له الوطء أم لا على قولين: أحدهما: أن ذلك له وهو الصحيح؛ لأنها ترجع إلى عصمته بالحكم شاء أو أبى، فيجوز له الوطء كالذي يجبر على النكاح ممن له الجبر عليه من أب أو وصي أو سيد، فيجوز له الوطء وإن كان النكاح قد غلب عليه بغير رضاه. وإلى هذا ذهب أبو عمران الفاسي واحتج لذلك بمن نكح هازلا فألزم النكاح بالحكم أن الوطء يجوز له. وقال بعض البغداديين: ليس له الاستمتاع بها إلا أن ينوي رجعتها إذا أجبر على ذلك. والصحيح ما تقدم.
فصل وهذا في التي دخل بها، وأما التي لم يدخل بها طلاقها جائز وإن كانت حائضا أو نفساء. وكره ذلك أشهب، وليس لكراهته وجه؛ لأن العلة في منع إيقاع الطلاق في الحيض تطويل العدة على المرأة؛ لأن الحيضة التي طلقها فيها لا يعتد بها من أقرائها، والله تعالى يقول: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، والتي لم يدخل بها لا عدة عليها ويطلقها متى شاء.
فصل واختلف في الحامل إذا حاضت على حملها هل يجوز للزوج أن يطلقها في ذلك الحيض أم لا. وذكر عن أبي عمران الفاسي أن طلاقها فيه جائز؛ لأن الطلاق في الحيض إنما كره من أجل أنها لا تعتد بتلك الحيضة فتطول عليها العدة، وعدة هذه وضع الحمل فارتفعت العلة. وجرى لابن القصار في كتاب عيون الأدلة لما عورض بقول المخالف: لو كانت الحامل تحيض لحرم الطلاق فيه فقال: فكذلك نقول: إن الطلاق فيه حرام. ووجه هذا القول أنه طلاق وقع في حال نهي عن إيقاعه فلم يجز وإن لم يوجد فيه علة الإضرار بالتطويل، أصله إذا أباحت له المرأة ذلك.(1/505)
فقد توجه قول أشهب في كراهته لطلاق التي لم يدخل بها في الحيض بهذا وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وإنما يجبر على الرجعة من طلق طلاقا رجعيا. وأما من طلق طلاقا بائنا بخلع أو بغير خلع فلا يجبر على الارتجاع. وكان أبو المطرف بن جريج يفتي بالإجبار على الرجعة في طلاق المباراة، وكان غيره من شيوخ وقته مخالفا له في ذلك ويخطئونه فيه. وقوله يخرج على قول مطرف ورواية ابن وهب عن مالك فيمن خالع وأعطي أنها طلقة رجعية.
فصل وطلاق المدخول بها وإن كان بائنا بخلع أو غيره فإنه لا يصح إيقاعه في الحيض ولا في دم النفاس للعلة التي قدمناها وهي التطويل في العدة وبالله التوفيق.
فصل ولا يطلق السلطان على من به جنون أو جذام أو برص أو عنة أو عجز عن النفقة أو ما أشبه ذلك مما يحكم فيه بالفراق في الحيض ولا في دم النفاس، وكذلك لا يلاعن بين الزوجين في الحيض ولا في دم النفاس، فإن فعل ذلك فقد أخطأ لا يجبر في شيء من ذلك على الرجعة؛ لأنه طلاق بائن إلا في الذي يطلق عليه بعدم الإنفاق فإنه يجبر على الرجعة إن أيسر في العدة. هذا الذي يلزم على أصولهم ولا أعرف فيها رواية.
وأما المولي فاختلف فيه قول مالك: هل يطلق عليه في الحيض أم لا على قولين، فإذا طلق عليه في الحيض على أحد قوليه فإنه يجبر على الرجعة، تطلق(1/506)
عليه بالقرآن ويجبر على الرجعة بالسنة. وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن تطليق الإمام على المجنون والمجذوم والمبروص إنما هي طلقة رجعية، وأن الموارثة بينهما قائمة ما دامت العدة لم تنقض، ولو صحوا في العدة من أدوائهم لكانت لهم الرجعة، وهو خلاف المعلوم من المذهب أن كل طلاق يحكم به الإمام فهو بائن إلا المولي والمطلق عليه لعدم الإنفاق. فعلى قوله: لو أخطأ الإمام فطلق على واحد منهم في الحيض يجبر على الرجعة إن صح فيها من دائه. وأما العنين فلا اختلاف أن تطليق الإمام عليه تطليقة بائنة؛ لأنه طلاق قبل الدخول لتقاررهما على عدم المسيس.
فصل وأما كل نكاح يفسخ بعد البناء لفساده وإن فسخ بطلاق فإنه يفسخ متى عثر عليه وإن كان ذلك في الحيض أو دم النفاس، بخلاف ما كان في فسخه وإجازته خيار لأحد. وكذلك الأمة تعتق تحت العبد لا تختار في الحيض، فإن فعلت لم يجبر على الرجعة؛ لأنها طلقة بائنة. وقد روى عيسى عن ابن القاسم في المستخرجة ما يدل على أنها طلقة رجعية، وهي رواية ابن نافع عن مالك. فعلى هذا يجبر على الرجعة إن أعتق في العدة ولا يملك أحد زوجته في الحيض، فإن فعل فلا تختار فيه، وذلك بيدها حتى تطهر من حيضتها وإن انقضى الأجل. ولا يدخل في ذلك اختلاف قول مالك في مراعاة المجلس. وإن سبقت إلى الخيار في الحيض أجبر زوجها على الرجعة فيما دون الثلاث.
[فصل في العدة التي أوجبها الله وأمر بها]
فصل والعدة أوجبها الله وأمر بها حفظا للأنساب، وهي تنقسم على قسمين: عدة وفاة، وعدة طلاق. فإن كانت المرأة حاملا فعدتها وضع الحمل في الوفاة والطلاق جميعا لا اختلاف في ذلك بين أحد من أهل العلم، لقول الله عز وجل:(1/507)
{وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، عموما إلا ما يروى عن بعض السلف أن المتوفى عنها زوجها وهي حامل تعتد أقصر الأجلين. فإن لم تكن حاملا فهاهنا تفترق عدة الوفاة من عدة الطلاق. فأما عدة الوفاة فأربعة أشهر وعشر، وهي لازمة في المدخول بها والتي لم يدخل بها لعموم قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، فقيل: إنها في التي لم يدخل بها عبادة لا لعلة، وقيل: إنها لعلة، والعلة في ذلك الاحتياط للزوج إذ قد درج وانطوى بحجته، فلعله لو كان حيا لبين أنه قد دخل بها. ونظير ذلك أن من أثبت دينا على ميت لا يحكم له إلا بعد اليمين وإن لم يدع الورثة عليه أنه قد قبض أو وهب، بل لو أقر له الورثة بالدين ولم يريدوا أن يدفعوه إلا بحكم لم يحكم له القاضي به إلا بعد اليمين مخافة أن يطرأ وارث أو يطرأ عليه دين. هذه علة صحيحة في التي يوطؤ مثلها. ولما لم يكن في قدر ذلك حد يرجع إليه في الكتاب والسنة حمل الباب محملا واحدا وأوجب عليها العدة وإن كانت ممهورة.
فصل ولم يختلف في التي قد دخل بها أنها لعلة وهي حفظ الأنساب، لكن تحديد الأربعة أشهر وعشر دون الاقتصار على ما يحصل به الاستبراء أو يعلم به براءة الرحم عبادة. والدليل على ذلك اختلاف قول مالك في الكتابية إذا مات عنها زوجها المسلم هل تعتد بأربعة أشهر وعشر أو ثلاث حيض؛ لأنه مبني على الاختلاف في الكفار هل هم مخاطبون بشرائع الإسلام أم لا. فإذا قلنا إنها غير مخاطبة بشرائع الإسلام فإنما عليها الاستبراء بثلاث حيض، هذا أيضا على مذهب من رأى أن الثلاث حيض كلها استبراء. وأما من ذهب إلى أن الحيضة الواحدة استبراء والاثنتان عبادة فلا يوجب عليها في الوفاة ولا في الطلاق إلا الاستبراء بحيضة واحدة إن كانت مدخولا بها، وإن لم تكن مدخولا بها فلا شيء عليها في الوفاة ولا في الطلاق. فأما إسقاط العدة عنها في الوفاة إذا لم يدخل بها فقد حكى(1/508)
الرواية عن مالك ابن الجلاب. وأما استبراؤها بحيضة واحدة في الطلاق من المسلم فلا أعرف في ذلك نص رواية إلا أن مالكا قد قاله في الطلاق من الذمي، ولا فرق بين الموضعين.
فصل وإن كان المتوفى عنها زوجها لم يدخل بها زوجها أو كانت في سن من لا تحيض من صغر أو كبر ويؤمن الحمل منها حلت بتمام الأربعة الأشهر والعشرة. وأما إن كانت قد دخل بها وهي من ذوات الأقراء فحاضت فيها حلت بتمامها. وأما إن لم تحض فيها فلا يخلو الأمر من وجهين: أحدهما: أن يكون مر بها فيها - أعني في العدة - وقت حيضتها فارتفعت عنها من غير عذر. والثاني: أن لا يمر بها فيها وقت حيضتها مثل أن تكون لا تحيض إلا من خمسة أشهر إلى مثلها أو من سنة إلى مثلها أو كان ارتفاعها من عذر. فأما إن لم تحض فيها ولم يكن لارتفاع حيضتها عذر فقول مالك وأكثر أصحابه ابن القاسم وغيره: إنها ريبة فلا تحل حتى تحيض أو يمر بها تسعة أشهر أمد الحمل في الأغلب. فإذا مر بها تسعة أشهر حلت إلا أن تكون بها ريبة تحس في البطن فتقيم حتى تذهب الريبة وتبلغ أقصى أمد الحمل. وقال أشهب وابن الماجشون وسحنون: إنها تحل بانقضاء العدة وإن لم تحض إذا لم يكن بها من الريبة أكثر من ارتفاع الحيض. وكذلك المستحاضة تجري في هذا المجرى. وقد روي عن مالك أن عدة المستحاضة في الوفاة أربعة أشهر وعشر للحرة، وثلاثة أشهر للأمة. وفي المسألة على هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أن المرتابة والمستحاضة في الوفاة تتربص إلى تمام تسعة أشهر، والثاني: أنهما تحلان بتمام أربعة أشهر وعشر، والثالث: التفرقة بين المرتابة والمستحاضة، فتحل المستحاضة بتمام أربعة أشهر وعشر، وتتربص المرتابة إلى تمام تسعة أشهر. وأما إن لم يمر بها فيها وقت حيضتها أو كان لارتفاعها عذر فذهب مالك وأصحابه إلى أنها تحل بانقضاء العدة إذا لم يظهر بها حمل. وروى ابن كنانة عن مالك في سماع أشهب أنها لا تحل حتى تحيض أو تمر بها تسعة أشهر. وحكى ابن المواز أن مالكا رجع عن هذا القول.(1/509)
فصل والعذر الذي لا يكون ارتفاع الحيض معه ريبة الرضاع باتفاق، والمرض باختلاف. قال أشهب: إن المرض كالرضاع لا يكون ارتفاع الحيض معه ريبة لا في الوفاة ولا في الطلاق، فتحل في الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وتعتد في الطلاق بالأقراء وإن تباعدت. وروى ابن القاسم عن مالك، وقال به ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ، أن ارتفاع الحيض مع المرض ريبة كالصحيحة خلاف المرضع فتتربص في الوفاة إلى تسعة أشهر، وفي الطلاق سنة؛ تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة. والفرق بين المرض والرضاع عندهم أن الرضاع تقدر على إزالته بدفع الولد عنها والمرض لا صنع لها فيه. وأيضا فإن الرضاع له أمد معلوم وحد محدود، والمرض لا حد له قد يطول الأعوام الكثيرة التي لا يلحق في مثلها الولد، فإذا جعلت عدتها الأقراء فإن تباعدت قد تكون عدتها أكثر مما يلحق به الولد، وذلك فاسد.
فصل وأما عدة الطلاق فلا تجب قبل الدخول. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] الآية. وأما إن كان قد دخل بها اعتدت بثلاثة قروء إن كانت ممن تحيض، أو بثلاثة أشهر إن كانت في سن من لا تحيض من صغر أو كبر. قال الله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، وقال: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] [واختلف في معنى قول الله عز وجل: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4]] ، ما هذه الريبة، فروى أشهب عن مالك أنها ريبة ماضية في الحكم ليس في معاودة الحيض لهن. وذلك أن الله(1/510)
تعالى لما بين عدة ذوات الأقراء وذوات الحمل وبقيت اليائسة عن المحيض والتي لم تحض ارتاب أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حكمها فأنزل الله: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] ، وذهب ابن بكير وإسماعيل القاضي إلى أن المعنى في قَوْله تَعَالَى: إن ارتبتم في معاودة الحيض لهن وأنها ريبة مستقبلة، واحتجا لذلك بحجج يطول جلبها. من ذلك أن اليائس في كلام العرب إنما هو فيما لم ينقطع فيه الرجاء. ألا ترى أنك تقول يئست من المريض لشدة مرضه، ومن الغائب لبعد غيبته، ولا يصح أن تقول يئست من الميت الذي قد انقطع الرجاء منه، وأنه لو كان بمعنى اليائسة التي ذكر الله في كتابه وأوجب عليها في العدة ثلاثة أشهر هي التي لا ترتاب في معاودة الحيض لوجب إذا ارتفع عن المرأة الحيض وهي في سن من يشبه أن تحيض أن تعتد بالأقراء حتى تبلغ سن من لا يشبه أن تحيض وإن بقيت عشرين عاما. وإلى هذا ذهب الشافعي، وهو خطأ لا يصح من وجهين: أحدهما: أنها إن جاءت بولد لما لا تحمل له النساء من المدة وإن كانت العدة لم تنقض لم يلحق به الولد، فمحال أن تعتد من الزوج في مدة لا يلحق فيها به الولد. والوجه الثاني: مخالفة عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل وإلا اعتدت بعد التسعة أشهر بثلاثة أشهر ثم حلت، ولا مخالف له من الصحابة. ومن ذلك أن الريبة لو كانت في الحكم لكانت ماضية ولكان حقها أن تكون " أن ارتبتم " بفتح الألف من " أن ". فإذا قلت: إن اليائسة التي أوجب الله عليها العدة ثلاثة أشهر هي التي ترتاب فلا تدري لم لم تحض، فدليل هذا أن لا تجب عدة على من يعلم أنها ممن لا تحيض من صغر أو كبر ولا ترتاب في أمرها إلا أنه لما لم يكن في ذلك حد يرجع إليه حمل الباب في ذلك محملا واحدا. وقد ذهب ابن لبابة في كتابه إلى أن الصغيرة التي يئست في سن من تحيض ويؤمن الحمل عليها أنها لا عدة عليها وإن كان يوطأ مثلها، وكذلك الكبيرة التي انقطع عنها الحيض ويؤمن الحمل منها، وقال: إنه مذهب داود وإنه القياس؛ لأن العدة إنما هي لحفظ الأنساب، فإذا أمن الحمل فلا معنى للعدة، وهو شذوذ من القول. وإذا قلنا: إن اليائسة التي أوجب الله عليها العدة ثلاثة أشهر هي التي لا(1/511)
ترتاب في الحيض إذ ليست في سن من تحيض، وهو الذي ذهب إليه مالك في رواية أشهب عنه. فالتي ترتفع حيضتها بعد أن حاضت وهي في سن من تحيض محمولة [عليها إذا قعدت سبعة أشهر فلم تر فيها حيضا ولا ظهر بها حمل ولا كان لها عذر يمنعها من الحيض من مرض أو رضاع] على ما بيناه من الاختلاف في المرض؛ لأنها بمعنى اليائسة، وللسنة الثابتة في ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فلا تحل المرأة المطلقة ولا حمل بها إذا كانت في سن من تحيض أو قد حاضت مرة أو مرتين إلا بثلاثة قروء أو سنة بيضاء لا دم فيها، تسعة أشهر لا دم فيها استبراء ينزل بلوغها إليها دون أن ترى فيها دما بمنزلة اليائسة، ثم ثلاثة أشهر عدة، كما قال الله عز وجل.
فصل فإذا ارتفع عن المرأة الحيض واعتدت بالسنة ثم تزوجت فطلقها زوجها اعتدت بثلاثة أشهر كاليائسة عن المحيض وكان هذا شأنها ما لم تعتد بالأقراء. فإن اعتدت بالأقراء ثم طلقت ثانية فارتفع عنها الحيض اعتدت بتسعة أشهر استبراء وثلاثة أشهر عدة.
فصل فإن كانت ممن لا تحيض إلا من سنة إلى سنة أو إلى أكثر من ذلك فإنها تتربص في عدتها سنة، فإن جاء فيها وقت حيضتها فلم تحض حلت بتمامها، وإن لم يأتها فيها وقت حيضتها انتظرت إلى أن يأتيها وقت حيضتها، فإن أتى وقتها ولم تحض فيها حلت مكانها، وإن حاضت على عادتها تربصت سنة أخرى، فإن جاء فيها وقت حيضتها ولم تحض حلت بتمامها. وإن لم يأتها فيها وقت حيضتها، انتظرت إلى أن يأتي وقتها، فإن أتى وقتها ولم تحض فيها حلت [مكانها. وإن(1/512)
حاضت تربصت سنة أخرى. فإن مر بها فيها ودت حيضتها ولم تحض حلت] بتمامها. وإن لم تمر فيها وقت حيضتها تربصت حتى يأتي وقت حيضتها، فإن أتاها وقت حيضتها ولم تحض حلت مكانها، وإن حاضت كانت عدتها قد انقضت بالأقراء الثلاث. هذا قول محمد بن المواز - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتابه ولا مخالف له من أصحابنا.
[فصل فيما تفترق به العدد من الأحكام]
فصل
فيما تفترق فيه العدد من الأحكام فعدة الوفاة مفارقة لعدة الطلاق، وتفترق أيضا عدة الطلاق البائن من عدة الطلاق الرجعي في كثير من الأحكام. فتحصيل القول في هذا أن العدة تنقسم على ثلاثة أقسام: عدة وفاة، وعدة طلاق رجعي، وعدة طلاق بائن. فأما عدة الوفاة فأمدها أربعة أشهر وعشر إن لم تكن حاملا، ووضع حملها إن كانت حاملا. قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، فكان ظاهر هذا العموم في الحامل وغير الحامل، فخصص من ذلك الحامل بقوله عز وجل: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، وبقيت الآية محكمة فيما سوى الحامل. ومن أهل العلم من قال: إن قوله عز وجل: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ناسخ لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، وليس ذلك بصحيح، لأن النسخ إنما يكون فيما يتعارض ولا يمكن الجمع بينه، فالصحيح أنها ليست بناسخة لها، وإنما هي مبينة لها ومخصصة لعمومها. وذهب ابن عباس إلى حمل الآية على عمومها في الحامل وغير الحامل، ولم ير في ذلك نسخا ولا تخصيصا، فأوجب على الحامل في العدة أقصى الأجلين باعتبار الآيتين. وأما قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240](1/513)
، فإنها آية منسوخة بإجماع، نسخها قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، وإن كانت قبلها في التلاوة، وهذا من الغريب؛ لأن حق الناسخ أن يكون بعد المنسوخ، فلا شك أنها نزلت بعدها، وإن كانت في التلاوة قبلها. ولا يجب للمرأة فيها نفقة ويجب لها فيها السكنى إن كانت الدار للميت أو كانت بكراء، وقد نقد الكراء فيجب عليها المكث فيها أو في غيرها إن لم تكن الدار للميت فأخرجت عنها حقا لله عز وجل لحفظ الأنساب، فليس يحل أن تبيت في غيرها ولا أن تنتقل عنها إلا من أمر لا تستطيع القرار عليه. وكذلك الإحداد ليس لها أن تفعل ما لا يجوز للحادة أن تفعله إلا من ضرورة. وقد اختلف فيما زاد على الأربعة الأشهر والعشر للاستبراء إذا أحست من نفسها باتفاق أو تأخر عنها المحيض أو لم يأتها فيها وقت حيضتها على الاختلاف؛ إذ قيل: إنها تبرأ بالأربعة الأشهر والعشر في الوجهين، وقيل: إنها تتربص إلى تسعة أشهر في الوجهين جميعا، وقيل: إنها تتربص بالأربعة الأشهر والعشر إذا لم يأتها فيها وقت حيضتها، بخلاف التي تتأخر عنها، هل يجب عليها فيها الإحداد أم لا على قولين. وهذا الاختلاف داخل في وجوب المقام عليها في بيتها. ومن أهل العلم من جعل المسكن حقا لها فأجاز لها الانتقال من غير ضرورة والمبيت في غيره.
فصل وأما العدة من الطلاق الرجعي فأمدها ثلاثة أقراء إن كانت ممن تحيض، أو ثلاثة أشهر إن كانت يائسة من المحيض، أو وضع حملها إن كانت حاملا. ولها النفقة فيها والسكنى حقا لله عز وجل لحفظ النسب، وليس لها أن تنتقل عن بيتها ولا أن تخرج عنه إلا من ضرورة. قال الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] ، واختلف في الفاحشة المبينة ما هي، فقيل هي الخروج من بيتها قبل انقضاء عدتها، وقيل: هي البذاء على زوجها(1/514)
وأحمائها، وقيل: إنما هي أن تأتي بفاحشة من زنى وتخرج لإقامة الحد عليها ولا إحداد عليها فيها.
فصل وأما العدة من الطلاق البائن فأمدها أمد العدة من الطلاق الرجعي. وقد اختلف في وجوب النفقة والسكنى لها فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن لها السكنى ولا نفقة لها، وهو قول مالك وجميع أصحابه. والثاني: أن لها النفقة والسكنى، والثالث: أنها لا نفقة لها ولا سكنى. والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه من أن لها السكنى ولا نفقة لها. ودليلهم [من كتاب الله عز وجل] على سقوط النفقة لها قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، لأن في ذلك دليلا على أن غير الحامل لا نفقة لها. وهو نص «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث فاطمة بنت قيس: " ليس لك عليه نفقة "؛ إذ طلقها ثلاثا فأرسل إليها شعيرا فسخطته فشكت ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ودليلهم على وجوب السكنى لها قول الله عز وجل: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] ، لأن المراد بذلك في اللائي قد بن من أزواجهن بدليل قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] لأن غير البائن لها النفقة حاملا كانت أو غير حامل؛ إذ لم تخرج بعد من العصمة باتفاق.
فإن قيل: كيف يصح أن يكون المراد بذلك اللواتي قد بن عن أزواجهن وهن لم يتقدم لهن في السورة ذكر وإنما تقدم ذكر اللواتي لم يبن عن أزواجهن بدليل قوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] .
قيل عن ذلك جوابان: أحدهما: أنه وإن لم يتقدم لهن في السورة ذكر فقد تقدم لهن ذكر في سورة البقرة، وهو قوله عز وجل: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ،(1/515)
فيعاد قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] إليه؛ لأن القرآن كله كسورة واحدة في رد بعضه إلى بعض وتفسير بعضه ببعض. والثاني: أن نقول: إنه قد تقدم لهن في السورة ذكر؛ لأن قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] عام فيمن لم تطلق بعد، وفيمن طلقت طلقة، وفيمن طلقت طلقتين وبقيت فيها طلقة؛ لأنها تبين بالطلقة الواحدة للسنة. فيرجع قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] إليها دون من سواها ممن عمه عموم اللفظ. واستدل من ذهب إلى أنها لا نفقة لها ولا سكنى، بما روي «عن فاطمة بنت قيس أنها قالت: لم يجعل لي رسول الله نفقة ولا سكنى» . وهذا لا حجة فيه؛ لأنها إنما قالت ذلك تأويلا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ أمرها أن تعتد عند ابن أم مكتوم. وفي أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياها أن تعتد عند ابن أم مكتوم دليل على أنه نقلها عن العدة الواجبة عليها في بيت زوجها إلى حيث أمرها أن تعتد فيه بما ذكر من استطالتها بلسانها على أحمائها، فقد أوجب لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها السكنى وجعله حقا عليها لله تعالى من حيث لم تشعر؛ إذ لو لم يوجبه عليها لما أمرها به في موضع ما ولقال لها: اعتدي حيث شئت، فلا سكنى لك. واستدل من ذهب إلى أن لها السكنى والنفقة بما روي من أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا ندع آية من كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: لها السكنى والنفقة. وتأول والله أعلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قال لها: لا نفقة لك من أجل أنها سخطت ما أرسل إليها به؛ إذ رأى أنه هو الواجب لها عليه لقول الله عز وجل: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] ، وتأول أيضا أن النفقة التي أمر الله بها للحوامل بقوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ليس من أجل الحمل إنما هو من أجل العدة؛ إذ لو كان من أجل الحمل لوجب له الرجوع بها عليه إذا ولد حيا وقد مات أخ لأمه فورثه، كما لو أنفق عليه في حياته ثم انكشف أن له مالا. واختلف الذين أوجبوا لها السكنى فيما يجب عليها فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجب عليها المقام فيه، وإنما هو حق لها إن شاءت أخذته وإن(1/516)
شاءت تركته. والثاني: أنه حق لله تعالى فيلزمها أن لا تبيت إلا فيه، ولها أن تخرج في نهارها فتتصرف في حوائجها، وهو قول مالك وأصحابه. والثالث: أنها ليس لها أن تبيت عنه ولا أن تخرج بالنهار منه، قال ذلك من ذهب إلى أن النفقة لها فرأى أنه لا حاجة بها إلى الخروج، وأن المتوفى عنها زوجها إنما كان لها الخروج بالنهار لتبتغي من فضل الله؛ إذ لا نفقة لها. وهذا كله فيه نظر. والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه. وكذلك اختلفوا أيضا في المبتوتة هل عليها إحداد في عدتها أم لا على قولين: أحدهما قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه لا حداد عليها وهو الصحيح. والثاني: أن عليها الإحداد قياسا على عدة الوفاة في استبرائها، وفي وجوب المبيت عليهما في بيتهما طول عدتها، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[فصل في بيان الأقراء ما هي]
فصل
في بيان الأقراء ما هي الأقراء هي الأطهار على مذهب أهل الحجاز، وهو مذهب مالك وأصحابه لا خلاف بينهم في ذلك. وذهب أهل العراق إلى أنها الحيض. والدليل على صحة قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي في مكان يعتددن فيه، كما قرأ ابن عمر فطلقوهن لقبل عدتهن وهي قراءة تساق على طريق التفسير. وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه. فدل ذلك على أن الطهر الذي يطلقها فيه تعتد به، وأنه من أقرائها. ولو كانت الأقراء الحيض كما قال أهل العراق لكان المطلق في الطهر مطلقا لغير العدة، ومن جهة المعنى أن القرء مأخوذ مع قريت الماء في الحوض أي جمعته فيه. والرحم يجمع الدم في مدة الطهر ثم يمجه في مدة الحيض. وموضع الخلاف إنما هو هل تحل المرأة بدخولها في الدم الثالث أو بانقضاء آخره. فمن قال: إن الأقراء هي الأطهار يقول: إنما تحل بدخولها في الدم، ومن قال: إنها الحيض يقول: إنها لا تحل حتى تتم الحيض.(1/517)
فصل أو الطلاق للرجال، والعدة للنساء، والعبيد في الحدود على النصف من الأحرار؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، والطلاق والعدة من الحدود لا من الحقوق، فوجب بذلك أن يكون العبيد فيه على النصف من الأحرار، فكان طلاق العبيد طلقتين؛ إذ لم تنقسم الطلقة الثانية، كانت زوجته حرة أو أمة. وكانت عدة الأمة حيضتين إذ لم ينقسم الطهر الثاني، حرا كان زوجها أو عبدا. وأما إن كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر فعدتها ثلاثة أشهر كالحرة سواء؛ إذ لا يتبين الحمل في أقل من ثلاثة أشهر.
وأما في الوفاة فعدتها شهران وخمس ليال، إلا أن تكون قد دخل بها وهي في سن من تحيض ويمكن أن تحمل، فتتربص حتى تمر بها ثلاثة أشهر مخافة أن يكون بها حمل، والحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر. وقال مالك مرة في المرأة المتوفى عنها زوجها، وهي ممن قد يئسن من المحيض: إنها تعتد بشهرين وخمسة أيام، وقال مرة: إنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر. ولا ينبغي أن يحمل ذلك على أنه اختلاف من قوله؛ لأنه إنما تكلم في الرواية الأولى عن من يؤمن الحمل منها، وفي الرواية الثانية على من الحمل لا يؤمن منها. ألا ترى أنه علل قوله بأن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر. فينبغي أن تعتد الأمة في الطلاق إذا كانت في سن من لا تحيض، وأمن منها الحمل بشهر ونصف، نصف عدة الحرة. ولا أعرف لأحد من أصحابنا في ذلك نصا، وإنما اختلف أصحاب مالك باختلاف من قبله في استبراء الأمة في البيع إذ كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر، فقيل: استبراؤها شهر، وقيل: شهر ونصف، وقيل: شهران، وقيل: ثلاثة أشهر، وهو أصح الأقاويل؛ لأن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، وهو مذهب مالك، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(1/518)
[فصل في التزويج في العدة]
فصل
في التزويج في العدة أوجب الله تعالى العدة حفظا للأنساب وتحصينا للفروج، ونهى عن عقد النكاح فيها نهي تحريم؛ لأن العقد لا يراد إلا للوطء، فكان ذلك ذريعة إلى اختلاط الأنساب، فقال تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] ، وهو انقضاء العدة، ونهى تبارك وتعالى عن المواعدة فيها فقال: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} [البقرة: 235] ، والقول المعروف هو التعريض بالمواعدة دون الإفصاح بها. وذلك مثل أن يقول: إنك علي لكريمة، وإني فيك لراغب، وإن يقدر أمر يكن وما أشبه ذلك. فالفرق من جهة المعنى بين المواعدة والقول المعروف أن العدة يستحب الوفاء بها، ويكره الخلف فيها، فإذا لم يصرح بالعدة، وإنما عرض بها فلم يأت بما يستحب له فعله، ولا يكره له تركه.
فصل والكلام في هذا الباب في فصول ثلاثة: أحدها: ما يجوز في العدة من معنى الخطبة. والثاني: ما يكره له فيها والحكم فيمن أتاه. والثالث: ما يحرم عليه والحكم فيمن أتاه.
فصل فأما الذي يجوز له فالتعريض بالعدة والمواعدة، وهو القول المعروف الذي ذكره الله تعالى في كتابه. وصفته أن يقول لها أو يقول كل واحد منهما لصاحبه: إن يقدر أمر يكن، وإني لأرجو أن أتزوجك، وإني فيك لمحب، وما أشبه ذلك.(1/519)
فصل وأما الذي يكره له فيها فوجهان: أحدهما: العدة، والثاني: المواعدة. فأما العدة فهي أن يعد أحدهما صاحبه بالتزويج دون أن يعده الآخر بذلك، وهي تكره ابتداء باتفاق مخافة أن يبدو للمواعد منهما فيكون قد أخلف العدة، فإن وقع وتزوجها بعد العدة مضى النكاح ولم يفسخ، ولا وقع به تحريم بإجماع.
فصل وأما المواعدة فهي التي نهى الله عنها بقوله: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} [البقرة: 235] ، فنهى أن يعد كل واحد منهما صاحبه؛ لأنها مفاعلة فلا تكون إلا من اثنين، وهي تكره ابتداء بإجماع. واختلف إذا وقعت ثم تزوجها بعد العدة هل يفسخ النكاح أم لا؟ على قولين: أحدهما رواية أشهب عن مالك في المدونة أنه يفسخ، والثاني رواية ابن وهب عنه فيها أنه لا يفسخ؛ لأنه استحب الفسخ فيها ولم يوجبه في العدة، فالعدة لا تؤثر في صحة العقد بعدها، والمواعدة تؤثر فيه؛ لأنها تشبه العقد على ما بيناه من كراهة الخلف في العدة.
فصل واختلف أيضا على القول الذي يرى أن العقد يفسخ إن لم يعثر عليه حتى وطئ هل تحرم عليه للأبد أم لا؟ على قولين: فروى أشهب عن مالك أنها لا تحرم عليه، وروى عيسى عن ابن القاسم أنها تحرم عليه إذا كان الوعد شبيها بالإيجاب. فإن واعد وليها بغير علمها وهي مالكة أمر نفسها فهو وعد وليست بمواعدة، فلا يفسخ النكاح ولا يقع تحريم بإجماع.
فصل وأما الذي يحرم عليه فيها فالعقد والوطء، فإن عقد النكاح فيها يفسخ متى عثر عليه دخل أو لم يدخل، وكان لها إن دخل الصداق المسمى، وأجزأتها عدة(1/520)
واحدة عن الزوجين جميعا، خلاف ما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنها تعتد بقية عدتها من الأول، ثم تعتد من الآخر.
فصل واختلف إذا فسخ النكاح هل تحرم عليه للأبد أم لا؟ على أربعة أقوال: أحدها: أنها لا تحرم عليه وطئ أو لم يطأ، وهو قول ابن نافع وروايته عن عبد العزيز بن أبي سلمة، خلاف ظاهر ما حكى عنه سحنون في المدونة من قوله: قال مالك وعبد العزيز: هو بمنزلة من عقد في العدة ووطئ في العدة، وقد تؤول قوله في المدونة خلاف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيها مثل رواية ابن نافع عنه، وهذا تأويل محتمل والأول أظهر. والثاني: أنها تحرم عليه إن وطئ في العدة، وهو قول المغيرة وغيره في المدونة. والثالث: أنها تحرم عليه إن وطئ كان وطؤه في العدة أو بعد العدة، وهو قول مالك في المدونة، وظاهر قول عبد العزيز فيها على ما بيناه. والرابع: أنها تحرم عليه بالعقد وإن لم يطأ، حكى هذا القول عبد الوهاب ولم يسم قائله. واختلف في القبلة والمباشرة في العدة هل تكون كالوطء فيها أم لا؟ على قولين: ففي المدونة: أنها كالوطء يقع التحريم المؤبد بها، وروى عيسى عن ابن القاسم: أنها لا تحرم بذلك، قال: لأن الوطء نفسه فيه من الاختلاف ما فيه، فكيف بالقبلة والمباشرة.
فصل والعدة من الطلاق والوفاة في ذلك سواء إن كان الطلاق بائنا بخلع أو بتات. واختلف إذا كان رجعيا، ففي المدونة لغير ابن القاسم أن المتزوج متزوج في عدة، وقيل: إن مذهب ابن القاسم أن المتزوج فيها كالمتزوج في العصمة، لكون أسباب العصمة قائمة بينهما من الموارثة والنفقة وما أشبه ذلك، وأراه في أصل الأسدية. ويحتمل أن يقال في المسألة قول ثالث: إنه إن راجعها لم يكن متزوجا في عدة، وإن لم يراجعها حتى تنقضي العدة كان متزوجا في عدة، قياسا على قول أحمد بن ميسر في النصرانية تسلم تحت النصراني فتتزوج في العدة: إن النصراني إن لم يسلم حتى(1/521)
تنقضي العدة كان متزوجا في عدة، وإن أسلم لم يكن متزوجا في عدة.
فصل ولا يكون هو إن راجعها في بقية من عدتها بعد أن فرق بينها وبين الذي تزوجها، وقيل الاستبراء ناكحا في عدة.
فصل والاستبراء بمنزلة العدة سواء في أن الوطء لا يجوز فيها بالملك ولا بالنكاح لما يلزم من حفظ الأنساب، وإنما يفترق ذلك في وجوب التحريم المؤبد. وافتراقه على ثلاثة أوجه: أحدها: يقع به التحريم باتفاق، أعني بين من رآه في حال من الأحوال. والثاني: لا يقع به التحريم باتفاق. والثالث: يختلف فيه على قولين.
فصل فأما الذي يقع به التحريم باتفاق فالوطء بنكاح أو بشبهة نكاح أو بملك أو بشبهة ملك في عدة من نكاح أو من شبهة نكاح. وأما الذي لا يقع به التحريم باتفاق فالوطء بملك اليمين أو شبهة ملك] ، في استبراء الإماء خاصة، أو في عدة من غير نكاح كعدة أم الولد يموت عنها سيدها أو يعتقها كان استبراؤهن من اغتصاب أو زنا أو بيع في الإماء أو هبة أو عتق. [وأما المختلف فيه فالوطء بنكاح أو شبهة نكاح في الاستبراء والعدة من غير النكاح أيضا، كأم الولد يموت عنها سيدها أو يعتقها، كان الاستبراء من اغتصاب أو من زنا أو من بيع في الإماء أو هبة أو موت أو عتق] . أعني وقد وطئ البائع أو الواهب أو الميت أو المعتق. وأما إن لم يطأ أحد منهم فلا اختلاف أن متزوجها قبل الاستبراء ليس متزوجا في عدة إلا أن بعض هذه المواضع أخف من بعض والاختلاف فيها(1/522)
أقل، فأخفها متزوج الأمة في استبرائها من الزنا، ثم في استبرائها من الاغتصاب، ثم في استبرائها من البيع أو الهبة أو الموت، ثم في استبرائها من العتق بخروجها منه إلى الحرية، ثم في استبراء أم الولد من العتق، ثم في استبرائها من الموت؛ لأنه عدة على مذهب مالك، ثم في استبراء الحرة من الزنا، ثم في استبرائها من الاغتصاب.
فصل وينبغي أن يكون تزويج الأمة حاملا من الزنا أخف من تزويجها في الاستبراء منه؛ لأن في تزويجها في الاستبراء منه اختلاط الأنساب، وليس ذلك في تزويجها حاملا. ألا ترى أنه قد أجاز بعض أهل العلم لمن زنت زوجته وهي حامل منه ظاهرة الحمل أن يطأها قبل الوضع لأمنه من خلط الأنساب. وقد جعل ابن القاسم في رواية أصبغ عنه تزويجها حاملا أشد من تزويجها في الاستبراء لرواية يرويها ابن وهب عن مالك مجردة في الحمل: أنه لا يتزوجها أبدا.
فصل وكذلك متزوج النصرانية في عدة وفاة أو طلاق من النصراني يختلف في إيجاب التحريم به؛ لأنه استبراء وليس بعدة. ألا ترى أنه لا عدة عليها في الوفاة قبل الدخول، وعليها فيه بعد الدخول ثلاث حيض كالطلاق سواء، وقد كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يقول قديما: تجزئها حيضة واحدة. وأما متزوج النصرانية في عدة أو وفاة أو طلاق من زوجها المسلم فهو متزوج في عدة. ألا ترى أنها تجب عليها في الوفاة قبل الدخول. وقد روي عن مالك أنه لا عدة عليها في الوفاة قبل الدخول، وعليها بعده ثلاث حيض. فعلى هذه الرواية لم يرها عدة وجعلها استبراء، فيدخل الاختلاف في التحريم على قياس هذه الرواية، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل واختلف أيضا إذا كانت العدة منه كالذي يتزوج المرأة تزويجا حراما لا يقر عليه فيفسخ نكاحه بعد الدخول فيتزوجها قبل الاستبراء، وكالذي يطلق المرأة ثلاثا(1/523)
فيتزوجها في عدتها منه قبل زوج. فمن علل التحريم بالتعجيل قبل بلوغ الأجل مع اختلاط الأنساب لم يوجب التحريم عليه، ومن علل بالتعجيل من غير أن يضم إلى ذلك اختلاط الأنساب أوجب التحريم.
فصل ولا يكون من وطئ زانيا بغير شبهة نكاح ولا ملك في عدة واستبراء واطئا في عدة يحرم به عليه نكاحها فيما يستقبل باتفاق، والله أعلم.
فصل ومن زوج أمته من رجل وهو يطؤها قبل أن يستبرئها، أو أم ولده قبل أن يستبرئها، فلا يكون متزوجا في عدة، وهو كمن تزوج زوجة رجل في عصمته.
فصل فإن أتت الزوجة في العدة بولد لأقل من ستة أشهر فهو للأول، وتحل بالوضع منهما جميعا. وكذلك إن أتت به لأكثر من ستة أشهر ما بينها وبين ما تلد لمثله النساء، وكان تزوجها قبل حيضة. وأما إن كانت أتت به لأكثر من ستة أشهر، وكان قد تزوجها بعد حيضة فالولد للآخر. واختلف هل تحل من الأول بوضع الحمل أم لا؟ إن كانت من أهل الأقراء وكانت العدة من طلاق. والصواب أنها لا تحل من الأول بوضع الحمل، ولا بد لها من استئناف ثلاث حيض بعد الوضع كما لو حبسها عن الحيض مرض أو رضاع، وهو اختيار محمد بن المواز. وفي المدونة دليل على القولين جميعا: قال في موضع إذا تزوجها في عدة الطلاق فأتت بولد: إن الوضع يجزئها من الزوجين، ولم يفرق بين أن يكون الولد من الأول أو الثاني، فإذا حملت الكلام على ظاهره من العموم استفدت منه أن الوضع يبرئها من الزوج الأول، وإن كان الولد من الثاني. وقال في موضع آخر: إذا تزوجها في عدة الوفاة بعد حيضة أو حيضتين فأتت بولد لستة أشهر فصاعدا: إن عدتها وضع الحمل، وهو آخر الأجلين. ففي قوله: وهو آخر الأجلين، دليل على أنه اعتبر انقضاء العدة من(1/524)
الزوج الأول لما كان الحمل من الزوج الثاني. فإذا اعتبر ذلك في عدة الوفاة وجب أن يعتبره في عدة الطلاق، وإذا اعتبره في عدة الطلاق لم تبرأ بوضع الحمل ووجب أن تستأنف ثلاث حيض بعد الوضع؛ إذ الوضع ليس بآخر الأجلين لكون الأقراء غير داخلة في مدة الحمل والله أعلم.
قال في كتاب ابن المواز بعد ذكر الاختلاف المذكور: ولو كان الحمل من زنى لم يبرئها ذلك بحال من عدة لزمتها، معنى ذلك إذا تقارر الزوجان بالزنا وانتفى الولد بلا لعان أو أقرت المرأة بالزنا بعد اللعان، أو كان الزوج خصيا قائم الذكر تجب العدة على زوجته ولا يلحقه الولد على الاختلاف في ذلك، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الزوج إن نفى الولد والتعن انقضت العدة بوضع الحمل، وإن لم ينفه لحق به وانقضت العدة بوضعها أيضا؛ لأن فراشه قائم.
[فصل في عدة امرأة المفقود]
فصل
في المفقود فقد الشيء تلفه بعد حضوره، وعدمه بعد وجوده، قال الله عز وجل: {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف: 71] {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، فالمفقود هو الذي يغيب وينقطع أثره ولا يعلم خبره. وهو على أربعة أوجه: مفقود في بلاد المسلمين، ومفقود في بلاد العدو، ومفقود في صف المسلمين في قتال العدو، ومفقود في حرب المسلمين في الفتن التي تكون بينهم.
فصل فأما المفقود في بلاد المسلمين فالحكم فيه إذا رفعت المرأة أمرها إلى الإمام أن يكلفها إثبات الزوجية والمغيب، فإذا أثبتت ذلك عنده كتب إلى والي البلد الذي يظن أنه فيه أو إلى البلد الجامع إن لم يظن به في بلد بعينه مستبحثا عنه، ويعرفه في كتابه إليه باسمه ونسبه وصفته ومتجره، ويكتب هو بذلك إلى نواحي بلده. فإذا(1/525)
ورد على الإمام جواب كتابه بأنه لم يعلم له خبر ولا وجد له أثر، ضرب لامرأته أجل أربعة أعوام إن كان حرا أو عامين إن كان عبدا، وينفق عليها فيها من ماله. وفي مختصر ابن عبد الحكم أن الأجل يضرب من يوم الرفع. وقال أبو بكر الأبهري: إنما ضرب لامرأة المفقود أجل أربعة أعوام؛ لأنه أقصى أمد الحمل. وهو تعليل ضعيف؛ لأن العلة لو كانت في ذلك هذا لوجب أن يستوي فيه الحر والعبد لاستوائهما في مدة لحوق النسب، ولوجب أن يسقط جملة في الصغيرة التي لا يوطأ مثلها إذا فقد زوجها وقام عنها أبوها في ذلك.
وأيضا فقد قال: إنها لو أقامت عشرين سنة ثم رفعت أمرها لضرب لها أجل أربعة أعوام، وهذا يبطل تعليله إبطالا ظاهرا. وقيل: إنما ضرب لها أجل أربعة أعوام؛ لأنها المدة التي تبلغ المكاتبة في بلد الإسلام مسيرا ورجوعا. وهذا يبطل على القول بأن الأجل إنما يضرب بعد الكشف والبحث، وإنما يشبه أن يقال على مذهب من يرى ضرب الأجل من يوم الرفع، وفيه أيضا نظر، وإنما أخذت بالأربعة الأعوام بالاجتهاد؛ لأن الغالب أن من كان حيا لا تخفى حياته مع البحث عنه أكثر من هذه المدة، ووجب الاقتصار عليها؛ لأن الزيادة فيها والنقصان منها خرق الإجماع؛ لأن الأمة في المفقود على قولين: أحدهما: أن زوجته لا تتزوج حتى يعلم موته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله. والثاني: أنه يباح لها التزويج إذا اعتدت بعد تربص أربعة أعوام، فلا يجوز إحداث قول ثالث.
والذي ذكر أبو بكر الأبهري من أن أكثر مدة الحمل أربعة أعوام هو ظاهر ما في كتاب العتق الثاني من المدونة، ومذهب الشافعي. وذهب ابن القاسم إلى أن أكثره خمسة أعوام. وروى أشهب عن مالك سبعة أعوام على ما روي أن امرأة ابن عجلان ولدت مرة لسبعة أعوام. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أن أقصاه عامان، واختاره الطحاوي استدلالا بقول الله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ؛ لأنه جمع الحمل والفصال في ثلاثين شهرا، فلا يصح أن يخرجا منها ولا واحد منهما. فلما خرجت عنها سائر الأقوال لم يبق إلا القول الذي لم يخرج قائلوه بهما عنها، فكان هو أولاها بالصواب.(1/526)
فإن قال قائل: إذا كان الحمل والفصال لا يخرجان عن ثلاثين شهرا وكان أكثر مدة الحمل عامين أفيكون الفصال ستة أشهر وأبدان الصبيان لا تقوم بها ويحتاجون في الرضاع إلى أكثر منها؟
فالجواب عن ذلك أنه قد يحتمل أن تكون الستة الأشهر أدنى مدة الفصال، وأن يكون المولود إذا ألطف له في الغذاء استغنى عن الرضاع بعد الستة الأشهر، وهو الظاهر فيما روي عن ابن عباس من قوله: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهرا، وإذا وضعت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا، فإذا وضعت لستة أشهر فحولان كاملان؛ لأن الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] . فعلى قياس قوله: إذا وضعت في عامين فرضاعه ستة أشهر. ويحتمل أن يكون الله تعالى قد جعل مدة الفصال والحمل ثلاثين شهرا لا أكثر منها على ما في الآية التي تلوناها مما قد يحتمل أن تكون مدة الفصال قد ترجع إلى ستة أشهر، ثم زاد الله تعالى في مدة الرضاع تمام الحولين لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] ، ولقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] ، وبقي مدة الحمل على ما في الآية الأولى فلم يخرجه عن الثلاثين شهرا، وأخرج منه مدة الفصال إذا كان الحمل أكثر من ستة أشهر.
والجواب الأول عندي أظهر؛ لأنه يعضد ما روي عن ابن عباس، فنقول على قياسه: إن أقل مدة الفصال ستة أشهر وأكثرها عامان، كما أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثرها عامان، وأن للمرأة أن تنقص من الحولين في رضاع ولدها ما بينها وبين ستة أشهر إذا لم تنقص من الثلاثين شهرا بين الحمل والرضاع شيئا. وقد قيل: إنه إنما ضرب له أربعة أعوام؛ لأنه جهل إلى أي جهة سار من الأربع جهات، وهذا لا معنى له، فإن لم يأت حتى انقضت اعتدت عدة الوفاة، قيل بإحداد وقيل بغير إحداد، ثم تزوجت إن شاءت على ما روي في ذلك عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا مخالف(1/527)
لهم من الصحابة إلا رواية أخرى جاءت عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها لا تتزوج حتى يعلم موته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله، تعلق بها أهل المشرق والشافعي في أحد قوليه. والصحيح عن علي بن أبي طالب مثل ما روي عن عمر بن الخطاب ومن ذكرنا معه، وهو الصواب الذي ذهب إليه مالك، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» ، ولقوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» ، فهذا هو الأصل في الحكم بقطع العصمة بين المرأة وزوجها إذا فقد، وإباحة النكاح لها مع جواز حياته من طريق الأثر. وأما من طريق النظر فإذا وجب أن يفرق بين الرجل وامرأته من أجل العنة والإيلاء، وهي لم تفقد إلا الوطء فهو في المفقود أوجب لفقدها للوطء والعشرة والتفقد، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل فإذا ضرب الإمام لامرأة المفقود الأجل بعد البحث عن خبره وانقضى فاعتدت فقد بانت منه في الحكم الظاهر، وكان لها أن تتزوج إن شاءت ما لم ينكشف خطأ ذلك الحكم بمجيئه أو علم حماته، وليس لها أن تبقى على عصمة الزوج؛ لأنها أبيحت للأزواج ووجب الفراق بينها وبين زوجها بالحكم فهو ماض لا ينتقض إلا بانكشاف خطئه.
ألا ترى أنها لو ماتت بعد العدة لم يوقف له ميراثه منها وإن كان لو أتى في هذه الحال كان أحق بها. فلو بلغ هو من الأجل ما لا يحيا إلى مثله من السنين وهي حية لم ترث منه، وإنما يكون لها الرضا بالمقام على العصمة ما لم ينقص الأجل المضروب، وأما إذا انقضى واعتدت فليس ذلك لها. وكذلك إن مضت بعد العدة. فإن رضيت بالمقام على العصمة قبل تمام(1/528)
الأجل ثم بدا لها فرفعت أمرها استؤنف لها الأجل من أوله. وحكى ابن حبيب في الواضحة أنه إذا اعتدت بعد ضرب الأجل ثم لم تتزوج حتى بلغ من السنين ما لا يحيا إلى مثلها فموت أنها ترثه، وهو بعيد.
فصل فإن انكشف أمر المفقود بإتيانه أو علم حياته أو موته قبل انقضاء الأجل والعدة انتقض ذلك الحكم باتفاق، وعملت على ما ينكشف من أمره، فاعتدت من يوم وفاته إن علم موته، وبقيت على عصمته إن علمت حياته. وكذلك إن انكشف بعد انقضاء الأجل والعدة أنه مات قبل ذلك ينتقض ذلك الحكم وتعتد من يوم وفاته. فإن كانت قد تزوجت فيها كان متزوجها متزوجا في عدة. وأما إن انكشف أنه مات بعد انقضاء الأجل والعدة أو أنه حي ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الحكم ماضٍ لا ينتقض، فلا يكون له إليها سبيل، ولا يكون لها منه ميراث. حكى هذا القول ابن عيشون في مختصره عن ابن نافع، وهو بعيد؛ لأن الحاكم إذا حكم باجتهاد ثم بان له أو لغيره أنه أخطأ في حكمه خطأ متفقا عليه نقض ذلك الحكم بإجماع. فلو قيل على قياس هذا: إن المفقود أحق بزوجته أبدا وإن تزوجت ودخل بها الزوج كالمنعي لها لكان له وجه في القياس، ولكنهم لم يقولوا ذلك، فأين هذا من قول ابن نافع؟ إلا أنه يشبه ما روي عن مالك فيمن خرص الخارص عليه من نخله أربعة أوسق فجذ منها خمسة أوسق: أنه يعمل على ما خرص عليه لا على ما وجد. والصحيح أن عليه الزكاة؛ لأنه قد انكشف خطأ الخارص فوجب الرجوع إلى الحق.
والقول الثاني: أن الحكم ينتقض ما لم تتزوج، فيكون أحق بها إن انكشف أنه حي، ويكون لها منه ميراثها إن انكشف أنه مات وتعتد من يوم وفاته.
والقول الثالث: أن الحكم ينتقض وإن تزوجت ولم يدخل بها الزوج، فترد إلى الزوج الأول إن كان حيا وينفسخ النكاح، ويكون لها ميراثها إن كان ميتا. ثم ينظر في النكاح، فإن كان قد وقع بعد موته وانقضاء عدتها منه ثبت ولم يفسخ، وإن(1/529)
كان وقع في العدة أو قبل الولاة فسخ. وهذان القولان لمالك ومرويان عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وقد روي عنه أيضا أن زوجها إن جاء وقد تزوجت خير في زوجته أو في صداقها، وذلك والله أعلم ما لم يدخل بها الزوج، كمن استحق سلعة وهي قائمة بيد المشتري، هو مخير إن شاء أن يأخذ سلعته وإن شاء أن يأخذ ثمنها، وهو في القياس بعيد؛ لأن السلعة له أن يبيعها فكان له أن يجيز بيعها ويأخذ الثمن، والزوجة ليس له أن يزوجها فلا يجوز له أن يجيزها ويأخذ الصداق. وقد ذكر مالك في موطئه أنه أدرك الناس ينكرون الذي روي عن عمر بن الخطاب في ذلك، ولم يختلفوا أنه إن أتى وقد دخل بها الزوج فلا سبيل له إليها، وأنه إن انكشف أنه مات بعد دخول الزوج بها أنها لا ميراث لها منه ولا يفرق بينها وبين الزوج الذي دخل بها، وبالله التوفيق.
فصل وإذا ردت إليه زوجته وإن كان ذلك بعد أن تزوجت على القول الذي يرى فيه أنها لا تفوته إلا بالدخول فهي ترجع إليه على العصمة الأولى وتكون عنده على جميع الطلاق أو على ما بقي منه إن كان طلقها قبل أن يفقد؛ لأن ذلك الحكم كله ينتقض بما انكشف من أمره وعلم من حياته. وأما إذا لم ترد إليه لفواتها وإمضاء الحكم الظاهر إما بالانقضاء وإما بالتزويج وإما بالدخول على الاختلاف المذكور في ذلك، فيحسب عليه ذلك الفراق طلقة الذي ألزم إياه بالحكم. فإن تزوجها بعد ذلك كانت عنده على طلقتين. واختلف متى تقع الطلقة عليه، فقيل: إنها تقع عليه بالدخول أو بالعقد على الاختلاف في ذلك، وقيل: بل إنها إنما تقع عليه يوم أبيحت للأزواج، ويكشف ذلك العقد أو الدخول. وفائدة هذا الاختلاف أنه إذا كان الزوج قد طلقها قبل أن يعقد طلقتين ثم فقد فأجل واعتدت ثم تزوجت، وقدم زوجها الأول بعد أن دخل بها هل يحلها هذا الزوج لزوجها القادم؟ فمن قال: إن الطلقة الثالثة وقعت عليه بدخول الزوج الثاني بها، لم ير أن يحلها للأول إلا زوج ثان،(1/530)
وإلى هذا ذهب ابن حبيب. ومن قال: إن الطلقة الثالثة وقعت عليها يوم أبيحت للأزواج وكشف ذلك دخول هذا الزوج بها أو عقده عليها، رأى أنه يحلها، وإلى هذا ذهب أشهب ووقع قوله في السليمانية وهو الصواب؛ لأن الطلقة الثالثة لو وقعت عليها بدخول الزوج بها أو بعقده عليها لوجب عليها أن تعتد من حينئذ، وهذا ما لا يقوله أحد. وأما من ذهب إلى أنها لا ترد إلى الزوج الأول إذا لم يقدم حتى تنقضي العدة، وإن لم تتزوج فيرى أن هذا الزوج يحلها له؛ لأنها تزوجت عنده بعد وجوب الطلقة الثالثة عليه، وهذا بين.
فصل فإن قدم الزوج بعد أن دخل بها الزوج الذي تزوجها وبنى بها على القول الذي يرى أنها تفوت بالدخول، فأقر الزوج أنه لم يطأ لم تحل لواحد منهما؛ لأنها قد حرمت على الأول بما ظهر من دخوله بها، وعلى الثاني بإقراره أن الأول أحق بها وأنها زوجته.
فصل وأما ماله فموقوف لا يورث عنه حتى يعلم موته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله. واختلف في حد ذلك فروي عن ابن القاسم سبعون سنة، وقاله مالك وإليه ذهب عبد الوهاب، واحتج له بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» ؛ إذ لا معنى لقوله إلا الإخبار بما يتعلق به الحكم، والله أعلم.
وروي عن مالك ثمانون سنة وتسعون سنة، وقال أشهب: مائة سنة. وحكى الداودي عن محمد بن عبد الحكم مائة وعشرون سنة، وهو مذهب أبي حنيفة، فإن فقد وهو ابن سبعين سنة على مذهب من يرى السبعين ضرب له عشرة أعوام، وكذلك إن فقد وهو ابن ثمانين أو تسعين على مذهب من يرى ذلك أو(1/531)
ما دونه حد المفقود. وأما إن فقد وهو ابن مائة عام على مذهب من يرى ذلك أو ما دونه حد المفقود فقيل: إنه يضرب له عشرة أعوام، وقيل: إنه يتلوم له العام والعامين. وأما إن فقد وهو ابن مائة وعشرين سنة فيتلوم له العام ونحوه، ولا اختلاف في ذلك.
واختلف إن فقد قبل أن يدخل بزوجته هل لها نفقة في الأربعة الأعوام أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا نفقة لها، وهو قول المغيرة في كتابه، قال: لأني لا أدري ما عنده وما حاله في غيبته إلا أن يكون قد فرض لها قبل ذلك نفقة فيكون سبيلها في النفقة سبيل المدخول بها. والصواب أن لها النفقة؛ لأنه كالغائب، ولم يختلف أن من غاب عن زوجته قبل دخوله بها غيبة بعيدة أن النفقة تفرض لها عليه في ماله إن سألت ذلك، وإنما اختلف في الغيبة القريبة. وظاهر ما في سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة أن لها النفقة إذ لم يفرق فيه بين قرب الغيبة وبعدها.
فصل واختلف إذا انقضى الأجل واعتدت هل يقضى لها بصداقها أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن الماجشون: أنه لا يقضى لها بشيء منه حتى يأتي وقت لو قدم لم يكن له إليها سبيل، يريد فيقضى لها حينئذ بنصف صداقها إلا أن ينكشف أنه مات قبل ذلك أو يبلغ من السنين ما لا يحيا إلى مثلها فيقضى لها بجميعه، وإن كانت قد تزوجت، قاله ابن الماجشون. وقال ابن وهب: لا يقضى لها إن كانت تزوجت إلا بنصفه. ولكلا القولين وجه من النظر. والثاني: أنه يقضى لها بنصفه، فإن بلغ من السنين ما لا يحيا إلى مثلها تزوجت أو لم تتزوج على أصل ابن الماجشون، أو ثبتت وفاته ما بينه وبين أن تبين منه بالدخول أو التزويج على الاختلاف المعلوم قضي لها ببقيته. حكى هذا القول ابن الجلاب في كتاب التفريع، وحكاه ابن سحنون أيضا في كتابه، والثالث: أنه يقضى لها بجميعه، وهو(1/532)
قول مالك في سماع عيسى. واختلف على هذا القول: إن قدم بعد أن تزوجت ودخل بها الزوج هل ترد نصفه أم لا؟ وفي سماع عيسى أنها لا ترد شيئا، وفي سماع سحنون أنها ترد نصفه. وأما إن لم يقدم ولا علمت حياته ولا موته حتى بلغ من السنين ما لا يحيا إلى مثلها، فلا ترد من الصداق شيئا، وإن كانت قد تزوجت ودخل بها الزوج، وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه. وإجماعهم على هذا يقضي بصحة قول ابن الماجشون المتقدم، وهذا إذا كان الصداق حالا. وأما إن كان مؤجلا فاختلف في ذلك كالاختلاف في قضاء ما لم يحل من ديونه.
فصل وأما المفقود في بلاد الحرب فحكمه حكم الأسير لا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله حتى يعلم موته، أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله في قول أصحابنا كلهم، حاشا أشهب فإنه حكم له بحكم المفقود في المال والزوجة جميعا. واختلف فيمن قلع في البحر إلى بلاد الحرب ثم فقد فقيل: إنه كالمفقود في بلاد المسلمين لإمكان أن تكون الريح قد ردته إلى بلاد المسلمين إلا أن يعلم أنه صار في بعض جزائر الروم ثم فقد بعد ذلك، وقيل: إنه كالمفقود في بلاد الحرب.
فصل وأما المفقود في صف المسلمين في قتال العدو ففي ذلك أربعة أقوال:
أحدها رواية ابن القاسم عن مالك في سماع عيسى: أنه يحكم له بحكم الأسير، فلا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله حتى يعلم موته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله.(1/533)
والثاني رواية أشهب عن مالك أنه يحكم له بحكم المقتول بعد أن يتلوم له سنة من يوم يرفع أمره إلى السلطان ثم تعتد امرأته وتتزوج ويقسم ماله، وإن كان لم يتكلم في الرواية على قسم ماله فهو المعنى والله أعلم. وسواء كانت المعركة في بلاد الحرب أو في بلاد المسلمين إذا أمكن أن يؤسر فيخفى أمره، فحمله ابن القاسم في رواية عيسى عنه على أنه أسير، وحمله مالك في رواية أشهب عنه على أنه قتيل. وأما إن كانوا بموضع لا يخفى أسره إن أسر فحكمه حكم المفقود في حرب المسلمين في الفتن التي تكون بينهم، فيحتمل أن يحمل قول ابن القاسم على أن المعركة كانت بموضع يخفى فيه أسره إن أسر، وقول مالك على أنها كانت بموضع لا يخفى فيه أسره إن أسر، فلا تكون على هذا التأويل رواية عيسى مخالفة لرواية أشهب.
والقول الثالث: أنه يحكم له بحكم المفقود في جميع الأحوال، فيضرب له أجل أربعة أعوام ثم تعتد امرأته وتتزوج ولا يقسم ماله حتى يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله، حكى هذا القول ابن المواز وعابه.
والقول الرابع: أنه يحكم له بحكم المقتول في الزوجة فتعتد بعد التلوم وتتزوج، وبحكم المفقود في ماله فلا يقسم حتى يعلم بموته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله. ذهب إلى هذا أحمد بن خالد وحكى أنه قول الأوزاعي، وتأول رواية أشهب عن مالك على ذلك، وهو بعيد.
فصل وأما المفقود في حرب المسلمين في الفتن التي تكون بينهم ففي ذلك قولان:
أحدهما: أنه يحكم له بحكم المقتول في زوجته وماله، فتعتد امرأته ويقسم ماله، قيل من يوم المعركة قريبة كانت أو بعيدة، وهو قول سحنون، وقيل: بعد(1/534)
التلوم له على قدر ما ينصرف من هرب أو انهزم. فإن كانت المعركة على بعد من بلاده مثل إفريقية من المدينة ضرب لامرأته أجل سنة ثم تعتد وتتزوج ويقسم ماله. وقيل: إن العدة داخلة في التلوم، اختلف في ذلك قول ابن القاسم. والصواب أن العدة داخلة في التلوم؛ لأنه إنما تلوم له مخافة أن يكون حيا، فإذا لم يوجد له خبر حمل أمره على أنه قتل في المعركة فاعتدت امرأته من ذلك اليوم وقسم ماله على ورثته يومئذ. وإن كانت بموضع لا يظن أن له بقاء لقربه واتضاح أمره اعتدت امرأته من ذلك اليوم. وقيل: إن الأندلس كلها كبلدة واحدة، فلا يتلوم له وتعتد امرأته من ذلك اليوم وتتزوج إن شاءت ويقسم ماله، وإنما يضرب له أجل سنة إذا كانت المعركة بعيدة مثل إفريقية من مصر، ومصر من المدينة، قاله عيسى بن دينار.
والثاني رواية أشهب عن مالك أنه يضرب له أجل سنة ثم تعتد امرأته وتتزوج ولا يقسم ماله حتى يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله، وهو قول الأوزاعي وتأويل أحمد بن خالد على رواية أشهب. والتأويل الصحيح فيها أنه يقسم ماله بعد السنة، وهو قول ثالث في المسألة، وهذا كله إذا شهدت البينة العدلة أنه شهد المعترك. فأما إن كانوا إنما رأوه خارجا في جملة العسكر ولم يروه في المعترك فحكمه حكم المفقود في زوجته وماله باتفاق، والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/535)
[كتاب إرخاء الستور] [فصل فيما جاء في إرخاء الستور]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
كتاب إرخاء الستور فصل
ما جاء في إرخاء الستور إرخاء الستور كناية عن تخلية الرجل مع امرأته وخلوته بها، وإن لم يكن ثم غلق باب ولا إرخاء ستر. وأصل هذا الباب قول الله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] .
فصل فإذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها وقد سمى لها صداقا فليس لها إلا نصفه، نصف العاجل ونصف الآجل إن كان فيه آجل، لا تستوجب جميعه إلا بالموت أو الدخول، أو ما يقوم مقام الدخول بها عند مالك من طول المقام معها والالتذاذ بها.
فصل فالصداق المسمى يجب للمرأة بعقد النكاح وجوبا غير مستقر، ويستقر لها نصفه بالطلاق وجميعه بالموت أو الدخول. هذا الذي يصح أن يعبر به عن وجوب(1/537)
الصداق. وأما من قال: إن الصداق يجب جميعه بالعقد ويسقط عنه نصفه بالطلاق قبل الدخول فلا يستقيم؛ لأن الحقوق إذا تقررت لأربابها لا تسقط إلا بما يصح به إسقاطها من بيع أو هبة أو صدقة أو ما أشبه ذلك. فلو وجب للمرأة الصداق بعقد النكاح لما سقط جميعه بالفسخ والارتداد ولا نصفه بالطلاق، أصله إذا وقع الطلاق أو الفسخ أو الارتداد بعد الدخول. وكذلك قول من قال: إن الصداق يجب نصفه بالعقد، ونصفه الثاني بالدخول، والاستمتاع لا يصح؛ لأنه لو وجب نصفه بالعقد لما بطل بالفسخ أو الارتداد، ولو لم يجب النصف الثاني إلا بالدخول أو الاستمتاع لما وجب إذا مات أحدهما قبل الدخول؛ لأن الموت لا يوجب في الذمة حقا لم يكن واجبا.
فصل وأما إن كان لم يسم لها صداقا وطلقها قبل البناء فليس لها إلا المتعة، وإن مات عنها لم يكن لها إلا الميراث ولا صداق لها في مذهب مالك وأصحابه إذا مات عنها قبل الدخول ولم يفرض لها.
فصل وحد المسيس الذي يوجب الصداق جميعه التقاء الختانين، وهو يوجب سبعة أحكام: يوجب الصداق، ويوجب الغسل، ويوجب الحد، ويحصن الزوجين، ويحل المطلقة ثلاثا للذي طلقها، ويفسد الحج، ويفسد الصوم.
فصل وإن طلقها قبل البناء فأقرا بالمسيس وجب للمرأة صداقها كاملا ولزمتها العدة، فإن عرفت لهما خلوة أو ظهر بها حمل كانت له الرجعة وتوارثا إن مات أحدهما في العدة، وإن لم تعرف لهما خلوة ولا ظهر بها حمل لم يكن له رجعتها؛ لأنها قد بانت منه في ظاهر الأمر فيتهمان على التزويج بغير ولي ولا صداق ولا يتوارثان. وإن أنكرا المسيس ولم يدعه أحدهما لم يكن لها إلا نصف الصداق، ولم(1/538)
يجب عليها عدة إلا أن يعلم بينهما خلوة فتجب عليها العدة ولا يكون للزوج فيها الرجعة ولا لأحدهما من صاحبه ميراث.
فصل فإن اختلفا فيه ولم يعلم بينهما خلوة فادعته المرأة على زوجها وأنكر لزمته اليمين إن أشبه ما ادعته، فإن حلف برئ من نصف الصداق، وإن نكل عن اليمين حلفت هي واستوجبت جميعه ولزمتها العدة ولم يكن للزوج رجعة. وإن ادعاه الزوج وأنكرته هي لم يصدق عليها في العدة ولا في الرجعة وكان قد أقر لها بجميع الصداق، فإن شاءت أخذت جميعه، وإن شاءت أخذت نصفه. وقال سحنون: ليس لها أن تأخذ جميعه إلا بعد أن تكذب نفسها وترجع إلى تصديق الزوج. فإن كذبت نفسها ورجعت إلى تصديق الزوج لزمتها العدة. وقول سحنون ليس بخلاف لما في المدونة لابن القاسم في كتاب الرهون مثله ولأشهب في هذا الكتاب.
فصل وإنما لها أن ترجع إلى تصديقه ما دام باقيا على قوله. ولو أنه رجع إلى تصديقها قبل أن ترجع إلى تصديقه لم يكن لها شيء، وإن رجعت إلى قوله بعد رجوعه إلى قولها لم يجب عليه يمين. وكذلك لا يمين عليها إن رجع إلى قولها بعد رجوعها إلى قوله وتأخذ جميع الصداق منه دون يمين.
وتحصيل هذا أن من سبق منهما إلى الرجوع إلى قول صاحبه صدق، إن كانت هي التي سبقت بالرجوع إلى قوله وجب لها الصداق دون يمين، أقام على قوله أو نزع عنه. وإن كان هو الذي سبق بالرجوع إلى قولها سقط عنه نصف الصداق، ولم يجب عليه يمين، أقامت على قولها أو نزعت عنه. وقد قيل: إن لها أن تأخذ ما أقر لها به، وإن كانت مقيمة على الإنكار، وهذا القول أحد قولي سحنون(1/539)
في نوازله من كتاب الاستلحاق، وقيل: إنه لا يحكم لها بأخذ ما أقر لها به إن رجعت إلى قوله: وصدقته إلا أن يشاء أن يدفع ذلك إليها، قاله ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب النكاح، وقاله أيضا في سماع عيسى من كتاب الدعوى في الورثة ولا فرق.
فصل وأما إذا اختلفا في المسيس ولم يبن بها إلا أنه قد دخل بها وأرخيت الستور عليها، فاختلف قول مالك في ذلك، فمرة قال: القول قولها في المسيس حيث ما أخذ الزوجين الغلق كان ذلك في بيتها أو بيته على ظاهر قول عمر بن الخطاب: إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق. وبذلك قال مطرف وابن الماجشون وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ. ومرة قال: إن كان دخوله عليها وخلوته بها في بيته صدقت عليه، وإن كان في بيتها صدق عليها في قول سعيد بن المسيب، وبذلك قال ابن القاسم.
وفي المسألة قول ثالث لعيسى بن دينار أن القول قول الزوج إذا أنكر المسيس حيث ما أخذ الزوجين الغلق كان ذلك في بيته أو في بيتها، لا تصدق المرأة في دعواها عليه ما لم يكن دخوله عليها وخلوه بها دخول اهتداء وهو البناء، وقول رابع لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - من رواية ابن وهب عنه، أنها إن كانت ثيبا فالقول قولها، وإن كانت بكرا نظر إليها النساء، فإن رأين بها أثر افتضاض صدقت عليه، وإن لم يرين بها شيئا من ذلك لم يكن لها إلا نصف الصداق. حكى هذه الرواية عن مالك عبد الوهاب.
فصل وأما إن دخل بها دخول اهتداء وهو البناء فلم يختلف قول مالك ولا أحد من أصحابه أن القول قول المرأة في دعوى المسيس إذا أنكر الزوج.
فصل ولا توجب الخلوة وإن كانت خلوة بناء على مذهب مالك وجميع أصحابه الصداق إلا مع دعوى المسيس، وإنما هي شبهة توجب أن يكون القول قولها،(1/540)
كالرهن واليد ومعرفة العفاص والوكاء وشبه ذلك. وعلى ذلك حمل ابن حبيب قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق. وظاهره خلاف ذلك أن إرخاء الستور يوجب الصداق وإن لم يكن ثم مسيس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه أن الخلوة الصحيحة توجب المهر كله، وطئ أو لم يطأ، ادعته المرأة أو لم تدعه، إذا لم يكن ثم مانع من الوطء من حيض أو إحرام أو صوم أو ما أشبه ذلك.
فصل وإذا وجب أن يكون القول قول المرأة في دعوى المسيس فهل تحلف أو تصدق دون يمين، اختلف في ذلك. ففي كتاب ابن المواز أن القول قولها مع يمينها، وكذلك في كتاب ابن الجهم، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الحدود في الذي يغيب على المرأة غصبا، ويثبت ذلك عليه فتدعي المسيس. وذهب بعض المتأخرين إلى أنه لا يمين عليها قياسا على رواية أشهب عن مالك في كتاب الغصب في الأمة الفارهة تتعلق برجل وهي تدمي تدعي أنه غصبها نفسها أن القول قولها دون يمين، وذلك بعيد؛ لأنه إنما جعل القول قولها دون يمين لما بلغته من فضيحة نفسها مع كونها تدمي. ووجه ذلك أنه أقام الشبهتين مقام شاهدين فأسقط عنها اليمين؛ إذ لو انفردت واحدة منهما كانت كالشاهد يوجب لها اليمين. والصحيح ما حكى ابن حبيب في الواضحة أن عليها اليمين، فالزوجة أحرى أن يجب عليها اليمين؛ إذ لا عار عليها في دعوى المسيس على زوجها، سواء كانت المرأة بكرا أو ثيبا، يتيمة أو ذات أب، حرة أو مملوكة، مسلمة أو نصرانية، كبيرة أو صغيرة، إذا كانت قد بلغت مبلغا يوطأ مثلها، لا يجب لها الصداق إلا بدعواها المسيس. فإن أقرت أنه لم يمسها جاز عليها قولها ولم يكن لها إلا نصف الصداق إلا أن يقر الزوج بالمصاب وتنكره هي وهي أمة أو مولى عليها، فإن مطرفا وسحنونا قالا: لا يقبل قولها في طرح نصدق الصداق، وللولي أو السيد أن يأخذ ذلك منه بإقراره به.(1/541)
فصل فإن كانت صغيرة لم تبلغ المحيض على الصحيح من الأقوال أنها لا تستحق الصداق دون يمين، فإن ادعت المسيس حلف الزوج وأدى نصف الصداق إلى أن تبلغ، فإذا بلغت حلفت وأخذت النصف الثاني، فإن نكلت عن اليمين لم يحلف الزوج ثانية. وإن نكل الزوج أولا عن اليمين أدى جميع الصداق ولم يكن له أن يحلفها إذا بلغت، كحكم الصغير يقوم له بحقه شاهد. وقد قيل: إنه لا يمين عليها إذا كانت صغيرة بخلاف الكبيرة، وهو بعيد؛ إذ لا فرق بين الكبيرة والصغيرة إلا فيما ذكرناه من أن الصغيرة تؤخذ باليمين حين تبلغ، وبالله التوفيق.
فصل وإيجاب اليمين عليها أظهر لما قدمناه من أن الخلوة دليل على صدقها كالشاهد واليد ومعرفة العفاص والوكاء، وليس كالبينة التامة. ومن صدقها في دعواها المسيس جعل الخلوة كالبينة التامة، وهو قول أحمد بن المعدل فيما حكى عنه عبد الحق في كتابه الكبير، وهو قول بعيد ما له عندي وجه إلا مراعاة قول من يوجب لها جميع الصداق بالخلوة وإن تقاررا على عدم المسيس.
فصل والعدة تجب على الزوجة بأحد وجهين: إما بخلوة تعرف، وإما بإقرارهما على أنفسهما بالمسيس وإن لم تعرف له خلوة بها. وتجب للزوج الرجعة بأحد وجهين: إما بتقاررهما على الوطء مع خلوة تعرف أو بادعاء الوطء إذا أنكرت في كل موضع تصدق فيه المرأة عليه في دعوى الوطء إذا أنكر. وهذا أصل حيث ما كان القول قول المرأة في دعوى الوطء كان القول قول الزوج في الرجعة وفي دعواه دفع الصداق إليها. فهذا تلخيص هذا الباب، وبالله التوفيق.(1/542)
[فصل في الرجعة]
فصل
في الرجعة الأصل في الرجعة قول الله عز وجل: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] ، أي يحدث في النفوس الندم على الفرقة وإرادة الرجعة: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ، وبلوغ الأجل هاهنا المقاربة لا البلوغ على الحقيقة، وكذلك قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] ، بخلاف قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] ، بخلاف قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] ، نهى الأولياء إذا انقضت العدة وأرادت الرجوع إلى زوجها أن يعضلوها عن الرجوع إليه؛ لأن بلوغ الأجل هو انقضاء العدة، وإذا انقضت العدة لم يكن للزوج رجعة بإجماع، فسمى المقاربة بلوغا على عادة العرب في تسمية الشيء باسم ما قرب منه. قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] ، أي: إذا أردت أن تقرأ القرآن. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» . وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت، أي قاربت الصباح. وفي الحديث: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الصبح على أثر سماء كانت من الليل؛» فسمى المطر سماء لما كان نزوله من السماء. وهذا كثير في لسان العرب.(1/543)
فصل فالرجعة يملكها الزوج في كل طلاق نقص عدده عن الثلاث ما لم يكن معه فداء أو ما لم يكن على وجه المباراة أو الفدية وإن لم يكن معه فداء على مذهب ابن القاسم إذا كانت الزوجة مدخولا بها ما دامت في عدتها. والعدة ثلاثة أقراء، والأقراء الأطهار على مذهب مالك وأهل المدينة. فإذا رأت المرأة أول قطرة من دم الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وبانت من زوجها وحلت للأزواج.
قال أشهب: إلا أنه استحب أن لا تعجل حتى تعلم أنها حيضة مستقيمة تتمادى بها فيها؛ لأنها ربما رأت المرأة الدم الساعة والساعتين واليوم ثم ينقطع، فيجب عليها الرجوع إلى بيتها ويكون لزوجها عليها الرجعة. ومثل ذلك في سماعه عن مالك من كتاب طلاق السنة. وكان يمضي لنا عند من اختلفنا إليه من الشيوخ أن قول أشهب تفسير لقول ابن القاسم، والصحيح أنه خلاف له؛ لأن أقل الحيض لا حد له عند ابن القاسم، وقد يكون يوما وساعة ولمعة إذا كان قبله طهر فاصل [وبعده طهر فاصل] . فإذا رأت المرأة أول قطرة من الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وحلت للأزواج ولم يكن للزوج عليها رجعة. ولا معنى لاستحباب تربصها على مذهبه حتى يتمادى بها الدم أياما؛ إذ لو انقطع بعد ساعة أو ساعتين لما كان للزوج عليها الرجعة ولا وجب عليها الرجوع إلى بيتها؛ إذ لا يخلو إذا انقطع ثم عاد أن يعود على قرب أو بعد، فإن عاد على قرب قبل أن يمضي من الأيام ما يكون طهرا فاصلا كان مضافا إلى الدم الأول وما بينهما من الأيام ملغى، وعلم أن الدم الأول هو أول الحيضة الثالثة وأن العدة قد انقضت به. وإن عاد على بُعد بَعد أن يمضي من الأيام ما يكون طهرا فاصلا كان هذا الدم حيضة رابعة وعلم أن ذلك الدم الأول هي الحيضة الثالثة وأن العدة قد انقضت بها، وإنما يلزم التربص عن النكاح على مذهب من يوقت لأقل الحيض وقتا ولا يرى ما دون ذلك(1/544)
حيضة تعتد به المرأة في أقرائها، كابن الماجشون الذي يقول: إن أقل الحيض خمسة أيام، ومحمد بن مسلمة الذي يقول: أقل الحيض ثلاثة أيام، فلا بد على مذهب ابن الماجشون إذا رأت قطرة من الحيض أن تتربص عن النكاح حتى تمكث في الدم خمسة أيام، وعلى مذهب محمد بن مسلمة ثلاثة أيام، لاحتمال أن ينقطع عنها الدم قبل بلوغ الحد فلا يعود إليها إلا بعد مدة يكون طهرا فاصلا فيكون هذا الدم الذي عاد هو أول الحيضة الثالثة والدم الأول دم علة وفساد. وعلى مذهبهما تقضي الصلاة التي تركت فيها.
فصل وإنما كانت له الرجعة ما لم تنقض العدة؛ لأن العصمة بين الزوجين لا تنقطع بما دون الثلاث إذا لم يكن معه فداء ما لم تنقض العدة. ألا ترى أن أسباب الزوجية كلها قائمة بينهما من النفقة والسكنى والموارثة ما عدا الوطء. وارتفاع الوطء هو التأثير الذي حصل في النكاح بإيقاع الطلاق، فإذا هو راجعها صلح ذلك الثلم برجعته وعادت إلى ما كانت عليه من عصمته.
فصل والرجعة تكون بالنية مع القول أو ما يقوم مقام القول فيما لا يصح فعله إلا بعد المراجعة، مثل الوطء والقبلة والمباشرة باللذة وما أشبه ذلك، قاله في كتاب ابن المواز وهو بيان لما في المدونة خلافا للشافعي في قوله: إن الرجعة لا تكون إلا بالقول. وأما الدخول عليها والنظر إليها والأكل معها فيجري على اختلاف قول مالك في جواز ذلك له قبل المراجعة، فيكون فعل ذلك رجعة إذا نوى بها الرجعة على القول الذي منع منه، ولا يكون رجعة على القول الذي أجازه وأجاز غسلها إن ماتت قبل المراجعة.(1/545)
فصل فإذا انفردت النية في ذلك دون القول أو ما يقوم مقامه في الوطء وما ضارعه لم تكن رجعة، قاله في كتاب ابن المواز. والصحيح أن الرجعة تصح بمجرد النية؛ لأن اللفظ إنما هو عبارة عما في النفس. فإذا نوى في نفسه أنه قد راجعها واعتقد ذلك في ضميره فقد صحت رجعته فيما بينه وبين الله تعالى، فإن أظهر لنا بلفظه ما قد أضمر من ذلك في قلبه حكمنا عليه به. ويجري على هذا الاختلاف في لزوم الطلاق بمجرد النية دون اللفظ. ولو انفرد اللفظ دون النية لما صحت له بذلك رجعة فيما بينه وبين الله تعالى، وإن حكمنا عليه بما ظهر من قوله ولم نصدقه فيما ادعاه من عدم النية إلا على مذهب من رأى أن الطلاق لا يلزم المستفتي بمجرد القول دون النية، وهو قائم من المدونة إلا أنه بعيد في المعنى.
فصل وقد اختلف هل يجوز له الوطء إذا ألزم الرجعة على القول الذي يرى أنها لا تصح له فيما بينه وبين الله. وكذلك اختلف أيضا في جواز الوطء لمن طلق في الحيض فأبى من الارتجاع فحكم عليه بالرجعة وألزم إياها. وقد ذكرت ذلك في موضعه.
فصل وأما الوطء دون النية فلا يكون رجعة في الباطن ولا في الحكم الظاهر. وقال الليث بن سعد: الوطء رجعة وإن لم ينو به الرجعة، يريد والله أعلم في الحكم الظاهر، ولا يصدق أنه لم يرد بذلك الرجعة، وهو الأظهر قياسا على مبتاع الأمة بالخيار أن وطأه في أيام الخيار اختيار، وإن زعم أنه لم يختر لم يصدق؛ لأنه مخير في ارتجاع زوجته في العدة كما هو مخير في اختيار الجارية التي ابتاعها بالخيار. وقد يفرق بينهما بأن المبتاع لو حبس الجارية حتى مضت أيام الخيار وتباعدت عد(1/546)
بذلك مختارا والزوج لو تمادى على إمساكها حتى انقضت عدتها لبانت منه بخلاف انقضاء أيام الخيار، فدل أن وطأه أضعف من وطء المختار، وهو تفريق لا يسلم من الاعتراض.
فصل فإن ادعى بعد العدة أنه راجعها في العدة بقول أو نية لم يصدق في ذلك إلا أن يعلم أنه كان يخلو في العدة أو يبيت معها فيصدق أن خلوته بها ومبيته معها إنما كان لمراجعته إياها. وكذلك إذا وطئها في العدة وقال: إنه أراد بوطئها الرجعة فيصدق في ذلك. وهذا هو معنى قولهم إن الوطء رجعة إذا أراد به الرجعة، أي أنه يصدق في إرادة الرجعة بما ظهر من الوطء.
فصل فمن وطئ ولم يرد بوطئه الرجعة فقد وطئ وطئا حراما خلافا لأبي حنيفة؛ لأنها جارية إلى البينونة. أصلها الكتابية إذا أسلمت بعد الدخول فإن أراد مراجعتها فيما بقي من العدة راجعها بالقول والإشهاد دون الوطء؛ إذ لا يصح وطؤها إلا بعد الاستبراء من الماء الفاسد. فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها بانت منه ولم يحل له ولا لغيره نكاحها حتى ينقضي استبراؤها من ذلك الماء الفاسد بثلاث حيض.
فصل واختلف إن تزوجها هو ودخل بها قبل تمام الاستبراء هل يكون ناكحا في عدة وتحرم عليه أبدا أم لا؟ على قولين: فمن علل التحريم بتعجيل النكاح قبل بلوغ أجله خاصة من غير أن يضم إلى ذلك اختلاط الأنساب أوجب التحريم لوجود العلة، ومن علل التحريم بتعجيل النكاح قبل أوانه في موضع تختلط فيه الأنساب لم يوجب التحريم؛ لأن الماء ماؤه فليس فيه اختلاط الأنساب. وعلى هذا المعنى اختلفوا فيمن طلق امرأته ثلاثا فتزوجها قبل زوج في عدتها.(1/547)
فصل واختلف في الإشهاد على الرجعة هل هو واجب أو مستحب، فذهب عبد الوهاب إلى أنه مستحب قياسا على الإشهاد في البيع. وذهب ابن بكير وغيره إلى أنه واجب لقول الله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، والأمر على الوجوب حتى يقترن به ما يدل على أنه ليس على الوجوب، ولم يقترن به ما يدل على ذلك كما اقترن في الأمر بالإشهاد على البيع، وذلك قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] .
فصل وإنما يجب الإشهاد عند من أوجبه أو يستحب عند من لم يوجبه لتحصين الفروج وما يتعلق بالرجعة من أحكام النكاح كالموارثة ولحوق النسب وغير ذلك، وليس مشترطا في صحة الرجعة عند من أوجبه، وإنما هو فرض على حياله يأثم تاركه بتركه. والصحيح إن شاء الله أنه مندوب إليه وليس بواجب؛ إذ لو وجب لافتقرت الرجعة إليه ولما صحت دونه.
[فصل في المتعة]
فصل
في المتعة المتعة إنما أمر المطلق بها تطييبا لنفس المرأة عما يرد عليها من ألم الطلاق وتسلية لها على الفراق.
فصل والمطلقات في المتعة ينقسمن على ثلاثة أقسام: مطلقة قبل الدخول وقبل(1/548)
التسمية، ومطلقة قبل الدخول وبعد التسمية، ومطلقة بعد الدخول وقبل التسمية أو بعد التسمية. فأما المطلقة قبل الدخول وقبل التسمية فإن الله تبارك وتعالى قد نص في كتابه على إمتاعها فقال: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] معناه ولم تفرضوا لهن فريضة {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] ، فقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] أمر بالمتاع، والأمر على الوجوب ما لم يقترن به قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الندب. وقد اقترن بهذا الأمر قرائن تدل على أن المراد به الندب، من ذلك تخصيصه بها المحسنين من غير المحسنين بقوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] ، ولا يعلم المحسنين من غير المحسنين غير الله تعالى؛ لأن الإحسان فيما بين العبد وخالقه. فلما علق تعالى المتعة بصفة لا يعلمها غيره دل على أن الله لم يوجب الحكم بها على الحكام؛ إذ لم يجعل لهم طريقا إلى تمييز المأمور بها من غيره، وقيل للمطلق: متع إن كنت من المحسنين فكان حقا عليه أن يمتع ولا يخرج نفسه من جملة المحسنين. وأيضا فإنها غير مقدرة ولا معلومة، والفرائض لا بد أن تكون مقدرة معلومة. وأيضا فإن الله تبارك وتعالى لما خص المطلق قبل الدخول وقبل التسمية برفع الحرج عنه دون غيره ممن طلق بعد الدخول أو قبل الدخول وبعد التسمية بقوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] ، دل ذلك على أنه إنما خصها بالذكر من أجل أنها تطلق ولا يجب لها بالطلاق شيء بسبب من تحرج عن الطلاق في هذه الحال لهذا الوجه والله أعلم. فلو وجب لها المتاع إذا طلقت في هذه الحال كما يجب للمطلقة قبل الدخول وبعد التسمية نصف الصداق وكما يجب للمطلقة بعد الدخول جميعه لما تحرج أحد عن طلاقها في هذه الحال كما لم يتحرج عن طلاقها في سائر الأحوال، ولما كان لتخصيصها برفع الحرج عن المطلق لها في هذه الحال دون غيرها من الأحوال معنى، والله أعلم.(1/549)
فإن قيل: يحتمل أن يكون تحرج من طلاقها في هذه الحال من لا يعلم وجوب المتعة لها.
قيل له: لو كان الأمر على ذلك لكانت التلاوة: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ولهن المتاع، كما قال في الآية التي بعدها: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، ومن أهل العلم من أوجب المتاع لها وقال الآية عامة في أولها وآخرها؛ لأن كل مؤمن محسن، فكأنه قال متاعا بالمعروف حقا على المحسنين المطلقين؛ لأن الإيمان إحسان. قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] وهذا بعيد؛ لأن الإحسان التفضل وفعل المعروف، فلا ينطلق اسم الإحسان على كل مؤمن؛ لأن منهم المسيء في أفعاله وإن كان محسنا في إيمانه.
فصل وأما المطلقة قبل الدخول وبعد التسمية فإن الله تبارك وتعالى ذكرها عقب المطلقة قبل الدخول وقبل التسمية فأوجب لها نصف الفريضة ولم يأمر لها بالمتاع، فدل على أنه لم يجعل لها متاعا واجبا ولا مندوبا إليه، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه. ومن أهل العلم من أوجب لها المتاع بعموم قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] ؛ إذ لم يفرق بين أن يكون سمى لها صداقا أو لم يسم، ولعموم قوله عز وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] ، وقال هي من المطلقات فلها المتاع مع نصف الصداق كما للمدخول بها المتاع مع جميع الصداق. ولو لم يكن لها المتاع من أجل أن لها نصف الصداق لوجب أن لا يكون للمدخول بها متاع من أجل أن لها(1/550)
جميع الصداق؛ لأن نصف الصداق للتي لم يدخل بها كجميعه للتي دخل بها. وهذا غير صحيح؛ لأن المدخول بها قد وجب لها الصداق بالوطء وجوبا مستقرا لا يسقطه فسخ ولا ارتداد، والتي لم يدخل بها لم يجب لها بالعقد شيء من الصداق وجوبا مستقرا، ولو وجب لها نصفه وجوبا مستقرا لما سقط بالفسخ أو الارتداد. فلما أوجبه الله تعالى لها ولم يكن واجبا قبل ولم يأمر لها بالمتاع دل على أن لا شيء لها سواه، وهذا بين والحمد لله. ومن أهل العلم من استحسن للزوج المتاع في هذه، ولم يوجبه لها للاحتمال، فهذه ثلاثة أقوال.
فصل وأما المطلقة بعد الدخول وقد سمي لها الصداق أو لم يسم لها فلأهل العلم فيها قولان: أحدهما: أن المتعة لها واجبة على الزوج يؤخذ بها ويجبر عليها لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] ، وقال كل مؤمن متق ولا تخصيص في الآية. والثاني: أنه يؤمر بها ويندب إليها ولا يجبر عليها فيقال له: متع إن كنت من المتقين على ما بيناه من قبل في قوله: إن كنت من المحسنين. وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه.
فصل وقد اختلف في متعة هذه المطلقة وفي التي طلقت قبل الدخول ولم يسم لها صداق أيهما أوجب على أربعة أقوال: أحدها: أنهما سواء في إسقاط الوجوب، وهذا مذهب مالك وجميع أصحابه. والثاني: أنهما سواء في ثبوت الوجوب لهما ووجوب الحكم بهما. والثالث: أن المتعة للمدخول بها أوجب من التي لم يدخل بها؛ لأن الله أوجب لها المتاع بغير لفظ الأمر المحتمل للوجوب والندب فقال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] ، واستدل أيضا من ذهب إلى ذلك بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] ، فنص على إمتاعهن وهن(1/551)
مدخول بهن. والرابع: أن المتعة للتي لم يدخل بها ولم يسم لها أوجب؛ لأن الله تعالى نص في كتابه على المتعة لها بالأمر، والأمر على الوجوب، ولم ينص على المتعة للمدخول بها إلا في تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أزواجه، وذلك حكم خص به النبي دون المؤمنين، بدليل إجماعهم على أنه لا يجب على أحد أن يخير زوجته، وإنما جعل الله لها المتعة بظاهر عموم اللفظ في قوله وللمطلقات، وليس ما وجب بالظاهر والعموم كما نص عليه بالأمر الذي يقتضي الوجوب. ولكل قول منها حظ من النظر، وأبينها وأصحها، ما ذهب إليه مالك وجميع أصحابه.
فصل فإذا قلنا: إن المتعة تسلية للمرأة على فراق زوجها فلا متعة في كل فراق تختاره المرأة من غير سبب يكون للزوج في ذلك، كامرأة العنين والمجذوم والمجنون تختار فراق زوجها، وكالأمة تعتق تحت العبد فتختار نفسها، ولا في كل نكاح مفسوخ، قاله ابن القاسم. وقال ابن المواز: إذا فسخ [بغير طلاق] وظاهر قول ابن القاسم أنه لا متعة فيه فسخ قبل الطلاق بطلاق أو بغير طلاق أو طلق هو قبل الفسخ. وقد اختلف في المملكة والمخيرة. فقال ابن خويز منداد: لا متعة لها؛ لأنها مختارة للطلاق. ومعلوم أن من اختارت فراق زوجها فلم تشفق لذلك ولا حزنت له فلا يحتاج الزوج إلى تسليتها وتطييب نفسها. وروى ابن وهب عن مالك أن لها المتعة. ووجه ذلك أن الطلاق فيهما إنما هو من الزوج الذي جعل ذلك إليها، ولعلها تحتشم من اختياره وهو قد عرضها للفراق فتختار نفسها وهي كارهة لذلك مريدة للبقاء مع زوجها. وأما المختلعة والمبارئة والمصالحة فلا متعة لهن باتفاق؛ لأنهن رغبن في فراق أزواجهن واشترينه بما بذلن إليه فلا يحتاج إلى تسليتهن. وكذلك الملاعنة لا متعة لها.(1/552)
فصل والمتعة سواء في الطلاق البائن والرجعي إن لم يرتجع حتى تبين منه بانقضاء العدة فلا يجب عليه المتاع حتى تنقضي العدة. وقد اختلف إن لم يمتع حتى ماتت المرأة هل يجب عليه المتاع لورثتها على قولين: أحدهما: أنه يجب ذلك عليه لورثتها؛ لأنه حق لها يورث عنها، وهو مذهب ابن القاسم. والثاني: أنه لا يجب لها إلا ما دامت باقية، فإن ماتت لم يجب لورثتها؛ لأن المراد بذلك عينها تسلية لها عن الفراق. وأما إن مات الزوج قبل أن يمتع فالمتاع ساقط عنه ولا يؤخذ ذلك لها من ماله؛ لأنه ليس بدين ثابت عليه. وللعبد أن يمتع امرأته وليس للسيد أن يمنعه من ذلك؛ لأنه من حقوق النكاح الذي أذن له فيه، ولا حد للمتعة، وإنما هي على قدر حال الزوجين. وقد قال ابن عمر: أعلاها رقبة وأدناها كسوة أو نفقة.
[فصل في الخلع]
فصل
في الخلع أباح الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين النكاح فقال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ، وقال: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ، وأمر عز وجل بحسن العشرة فيه فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ، وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] ، وملك الأزواج أمر الزوجات بما جعل إليهم من الطلاق، ونهاهم أن يعتدوا فيما جعل إليهم من ذلك فقال: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، وقال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، فإن أحب الرجل المرأة(1/553)
أمسكها وإن كرهها فارقها، ولا يحل له إذا كرهها أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه وإن أتت بفاحشة من زنا أو نشوز أو بذاء لقول الله عز وجل: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20] {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21] ، هذا مذهب مالك وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم فيه. ومن أهل العلم من أباح للرجل إذا اطلع على زوجته بزنا أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه لقول الله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] ، وتأول أن الفاحشة المبينة هو الزنا هاهنا، وجعل الاستثناء متصلا، ومنهم من تأول أن الفاحشة المبينة البغض والنشوز والبذاء باللسان، فأباح للزوج إذا أبغضته زوجته ونشزت عليه وبذأت بلسانها عليه أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه.
ومنهم من حمل الفاحشة على العموم فأباح ذلك للزوج كانت الفاحشة التي أتت بها زنا أو نشوزا أو بذاء باللسان أو ما كانت. والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه إذا ضيق عليها حتى تفتدي منه فقد أخذ مالها بغير طيب نفس منها، ولم يبح الله ذلك إلا عن طيب نفسها فقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] ، والآية التي احتجوا بها لا حجة لهم فيها؛ لأن الفاحشة المبينة من جهة النطق أن تبذأ عليه وتشتم عرضه وتخالف أمره؛ لأن كل فاحشة أتت في القرآن منعوتة بمبينة فهي من جهة النطق، وكل فاحشة أتت فيه مطلقة فهي الزنا، والاستثناء المذكور فيها منفصل. فمعنى الآية: لكن إن نشزن عليكم وخالفن أمركم حل لكم ما ذهبتم به من أموالهن، ومعناه إذا كان ذلك عن طيب أنفسهن، ولا يكون ذلك عن طيب أنفسهن إلا إذا لم يكن منهم إليهن ضرر ولا تضييق. فعلى هذا التأويل تتفق آي القرآن ولا تتعارض. وقد قيل في تأويل الآية غير هذا، وهذا أحسن.(1/554)
وذهب إسماعيل القاضي إلى أن الخلع يجوز، ويسوغ للزوج ما أخذ منها على الطلاق إذا كان النشوز والكراهة منها. وإذا خافا أن لا يقيما حدود الله فاشتركا في المخافة جميعا؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، وليس قوله بخلاف لما حكيناه عن مالك وأصحابه من أن الخلع لا يجوز للزوج وإن كرهته المرأة ونشزت عليه وأضرت به إذا فارقها على بعض ذلك؛ لأنه إنما حمل المخافة على بابها، فأباح الفدية قبل وقوع ما خافاه مخافة أن يقع. فإذا كره كل واحد منهما صاحبه فخاف هو إن أمسكها أن لا يقيم حدود الله فيها من أجل كراهته إياها، وخافت هي أن لا تقوم بما يلزمها من حقه فخالعته مخافة الإثم والحرج فقد أعطته مالها على الطلاق طيبة به نفسها إذ لم يضطرها إلى ذلك باضطرار كان منه إليها.
فصل وأما ابن بكير فإنه حمل الخوف المذكور في الآية على العلم، إلا أنه ذهب إلى أن الخطاب فيها إنما هو للولاة كآية التحكيم سواء، فقال: تقدير الكلام فإن خفتم يا ولاة، أن لا يقيم الزوجان حدود الله فيما بينهما فلا جناح عليكم فيما أخذتم من مالها وفرقتم بينهما. فالاختلاف بينه وبين ابن بكير إنما هو في تأويل الآية في الموضع الذي يجوز فيه الخلع من الذي لا يجوز فيه، لا اختلاف [في المذهب] أن الزوج لا يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على طلاقها إلا إذا كان النشوز من قبلها ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها؛ إذ ليس له أن يعارضها على نشوزها عليه بالإضرار لها والتضييق عليها حتى تفتدي منه لقول الله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] ، وإنما له أن يعظها، فإن اتعظت وإلا(1/555)
هجرها في المضجع، فإن اتعظت وإلا ضربها ضربا غير مبرح، فإن أطاعته فلا يبغي عليها سبيلا لقول الله عز وجل: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} [النساء: 34] ، فإن بذلت له شيئا على الفداء حل له أن يقبله إذا لم يتعد أمر الله فيها.
فصل وأما إذا كان النشوز من قبله ولم ترض ذلك من فعله فالواجب عليه أن يفارقها إلا أن يصطلحا [بأن يعطيها] على الرضا بالإثرة والبقاء معه عليها أو تعطيه على أن لا يطلقها وتبقى معه على الإثرة أو على ترك الإثرة، وذلك الصلح الذي قال الله عز وجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] .
فصل وأما إذا كان النشوز من قبلهما جميعا وأضر كل واحد منهما بصاحبه فلا يجوز للزوج أن يأخذ منها شيئا على الطلاق على ما بيناه.
فصل فإن تداعيا في ذلك وتفاقم الأمر بينهما وارتفعا إلى الحاكم حكم بينهما حكمين حكما من أهله وحكما من أهلها. قال الله عز وجل في كتابه حيث يقول: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] الآية معناه عند أهل العلم علمتم ذلك وخفتم تزايده. فإن تبين لهما أن الضرر من قبل الزوج فرقا بينهما بغير غرم تغرمه المرأة، ويكون لها نصف صداقها إن كان ذلك قبل الدخول وجميعه إن كان بعد الدخول؛ لأن حكم نصف الصداق قبل الدخول(1/556)
كجميعه بعد الدخول. وإن تبين لهما أن الضرر من قبل المرأة أقراها تحته وائتمناه على غيبها وأذنا له في تأديبها كما أمره الله تعالى.
وإن تبين لهما أن كل واحد منهما مضر بصاحبه فرقا بينهما بغرم بعض الصداق: نصفه إن كان إضرار كل واحد منهما بصاحبه متكافئا، وأكثر من النصف إن كان الإضرار منها أكثر، وأقل من النصف إن كان الإضرار منها أقل. هذا قول ربيعة في المدونة، ومثله في كتاب ابن المواز، وهو مذهب مالك وأصحابه. وقال ابن أبي زيد: إنه إن تبين لهما أن الضرر والنشوز من قبل المرأة جاز للزوج ما أخذا له منها على الفراق، وإن كان ذلك أكثر مما أصدقها، قاله ابن الماجشون في المبسوط، ظاهره أحبت أو كرهت إذا أحب هو الفراق. ومعنى ذلك عندي على ما في المدونة إن طاعت به. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل فإن قال قائل: إذا كان الزوج لا يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على فراقه إياها إذا أضر كل واحد منهما بصاحبه فكيف يجوز له أن يأخذ ما حكم به الحكمان من صداقها إذا تبين لهما أن كل واحد منهما مضر بصاحبه وقد نص الله تبارك وتعالى في كتابه على أن حكم الحاكم لا يحل مال أحد لأحد فقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] وسأل عن الفرق بين الموضعين.
فالجواب عن ذلك أن الزوج في الخلع قد اختار الطلاق وأجبر الزوجة على أخذ مالها بما كان من ضرره إليها، وذلك ما لا يجوز له، لقول الله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] ، وفي حكم الحكمين لم يختر الطلاق بل أجبره عليه الحكمان كما أجبرا الزوجة على إعطاء المال، وساغ له أخذه عوضا عن إخراج الزوجة عن ملكه حكما من الله عز وجل.(1/557)
فصل وحكم الحكمين بين الزوجين لا إعذار فيه إلى أحدهما؛ لأنهما لا يحكمان بالشهادة القاطعة، وإنما يحكمان بما خلص إليهما من علم أحوالهما بعد النظر والكشف.
فصل والخلع معاوضة عن البضع تملك به المرأة نفسها ويملك الزوج به العوض عليها ملكا تاما لا يفتقر إلى حيازة؛ لأنه خرج على عوض، بخلاف الهبة والصدقة وما أشبه ذلك مما خرج على غير عوض. هذا هو المشهور في المذهب. وقد وقع في كتاب محمد بن المواز ما يدل على خلافه، وذلك أنه قال: إذا كان على الزوج دين فأحال به على الزوجة فيما خالعها به، فماتت قبل أن يقبض المحال دينه أن له أن يرجع على الزوج بدينه، فلم يحكم له بحكم الديون الثابتة في الذمة؛ إذ جعل له الرجوع على الزوج ولم يجعلها حوالة ثابتة كالحوالة على الديون إلا أن العوض الذي تأخذه المرأة به ليس بمال، وإنما هو راحة نفسها وتخليصها من ملك الزوج، فلا يحكم له به إلا مع سلامة الحال. فإن كان في ذلك حق لآخرين نظر في ذلك بحسب قوته وضعفه، فمنه ما يقدم على الخلع أو منه ما يختلف في تقديمه على الخلع أو تقديم الخلع عليه.
فأما ما يقدم على الخلع، فحق السيد في مال أمته المأذون لها في التجارة، وفي مال المكاتبة، لا اختلاف في المذهب أن الأمة المأذون لها في التجارة أو المكاتبة إذا اختلعت من زوجها أن خلعها لا يجوز إلا بإذن السيد لقوة حقها. واختلف في المديانة إذا اختلعت هل يجوز خلعها دون إذن الغرماء أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك لا يجوز؛ لأنها أعطته مالها فيما لا حظ لهم فيه بخلاف النكاح. والثاني: أن ذلك جائز كالنكاح. وجه القول الأول في الفرق بين الخلع والنكاح، أن النكاح مما تمس الحاجة إليه كالطعام والشراب، فقد دخل الغرماء معه على ذلك، والخلع ليس مما تمس الحاجة إليه، وإنما يقع نادرا(1/558)
لعارض يعرض فتريد المرأة أن تخلص نفسها من الزوج بسببه فلم يدخل الغرماء معه على ذلك كما لو جنت جناية فيها قصاص فصالحت على نفسها بمال أعطته وعليها دين، فقد قال في كتاب الصلح من المدونة ليس لمن أحاط الدين بماله إذا جنى جناية فيها القصاص أن يصالح فيسقط القصاص عن نفسه بأموال غرمائه. وقد قيل: إن معنى قوله ليس له ذلك ابتداء، فإذا وقع نفذ ومضى.
فعلى هذا التأويل إذا خالعت المديانة نفذ فعلها ومضى. إلا أنه تأويل بعيد، والصواب أنه لا يجوز إلا أن يجيزه الغرماء، وإنما وقع في هذا التأويل من تأوله؛ لأن ظاهره معارض لما وقع في كتاب الرهون من أن المرتهن أحق بما ارتهن في جناية العمد والخطأ من الغرماء. ومعنى ما وقع فيه من ذلك أنه العمد الذي لا قصاص فيه والخطأ الذي لا تحمله العاقلة. فإذا حمل على هذا صحت المسائل وسلمت من التعارض ولم يحتج إلى ذلك التأويل البعيد.
فصل والفرق بين العمد الذي فيه القصاص وبين العمد الذي لا قصاص فيه هو أن العمد الذي لا قصاص فيه دين أوجبه الحق عليه لم يدخله هو على نفسه باختياره، فكان للمجروح مخاصمة الغرماء كسائر الديون. والعمد الذي فيه القصاص ليس بمال، وإنما للمجروح القصاص. فإن بذل له فيه مالا كان قد استهلك أموال غرمائه باستنقاذ نفسه من القصاص، وذلك ما لا يجوز له إلا بإذن غرمائه.
فصل وكذلك اختلف في خلع المريضة والحامل المثقل، قيل: إن خلعها جائز على ورثتها إذا خالعت بخلع مثلها، روى ذلك ابن وهب عن مالك. فعلى هذه الرواية غلب الخلع على حق الورثة. وقيل: إن خلعها لا يجوز من غير تفصيل، وهو ظاهر قول مالك في المدونة وفي كتاب ابن المواز. وقيل: إن ذلك لا يجوز إن كانت خالعت بأكثر من ميراثه منها، ويجوز إن كانت خالعت بمثل ميراثه منها فأقل، وهو قول ابن القاسم. واختلف أيضا متى ينظر فيه إن كان يوم الخلع أو يوم(1/559)
الموت، فقال ابن القاسم يوم الخلع، وقال ابن نافع وأصبغ يوم الموت، على ما يأتي في مسائلهم. فعلى هذين القولين غلب حق الورثة على الخلع.
فصل والخلع مأخوذ من الاختلاع وهو نزع الشيء عن الشيء، من ذلك الحديث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزد غرماء معاذ على أن خلع لهم ماله، يريد أخرجه عن جميعه. وله عبارات هي الخلع، والصلح، والمبارأة، والفدية، وكلها تئول إلى معنى واحد وهو بذل العوض عن الطلاق، إلا أن اختلافها يرجع إلى اختلاف صفات وقوعها. فالخلع بذل جميع المال على الطلاق. والصلح بذل بعضه، والافتداء بذل جميع الحق الذي أعطاها. والمبارأة ترك ما لها عليه من الحق على الطلاق، أو ترك كل واحد منهما ما له على صاحبه على الطلاق. وحكمها كلها سواء في أنها طلقة واحدة بائنة إذا لم يسميا شيئا من الطلاق.
فصل ويجوز الخلع على جميع أعداد الطلاق إلا أنه يكره فيما زاد على الواحدة، فإن وقع نفذ ومضى. وإن خالعته على أن يطلقها ثلاثا فطلقها واحدة لم تكن لها حجة؛ لأنها قد نالت بالواحدة ما كانت تنال بالثلاث من ملكها أمر نفسها.
فصل وإن وقع الخلع دون تسمية طلاق فهي واحدة بائنة خلافا للشافعي في قوله: إن الخلع فسخ بغير طلاق. وحجته أن الله ذكر الخلع بعد قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، فدل ذلك على أن الخلع ملغى غير محسوب. وهذا لا حجة فيه؛ لأن(1/560)
ذكر الفدية حكم على حياله، فلا فرق بين أن يذكر بين ذكر الطلقتين والطلقة الثالثة أو في غير ذلك الموضع. وقد بين ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله لثابت بن قيس بن شماس: " هي واحدة ". وهذا نص في موضع الخلاف. وذهب أبو ثور إلى أنها طلقة رجعية، وذلك بعيد؛ لأنها إنما بذلت المال على إزالة الضرر، ولا يزول الضرر عنها إلا بملكها نفسها. وقد اختلف إذا بارأها على أن يعطيها أو على أن لا تعطيه ولا يعطيها، فقيل هي طلقة رجعية، وهو قول مطرف، وقيل هي طلقة بائنة، وهو قول ابن القاسم، وقيل هي ثلاث تطليقات وهو قول ابن الماجشون.
فصل ويجوز الخلع على ما أعطاها وعلى أكثر من ذلك وأقل منه لقول الله عز وجل: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ولو كان كما يقول بعض الناس: إنه لا يجوز للزوج أن يأخذ منها في الخلع أكثر مما أعطاها لكان، فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه؛ لأن القائل لو قال لا تشتم فلانا إلا أن يشتمك فإن شتمك فلا جناح عليك فيما فعلت به، ولم يقل منه أو من ذلك لكان قد أباح له أن يشتمه وأن يفعل به ما شاء من ضرب وغيره.
فصل ويجوز الخلع بالغرر والمجهول؛ لأنه ظاهر عموم قول الله عز وجل: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، وإذ ليس طريقه طريق المبايعات التي تبتغى فيها الأثمان، وإنما المبتغى فيه تخليص الزوجة من ملك الزوج، فلا يضر الجهل بالعوض. ألا ترى أن النكاح لما لم يكن طريقه طريق المبايعات المحضة وكان المبتغى فيه المكارمة والاتصال جاز على عبد غير موصوف وعلى شوار بيت غير موصوف وما أشبه ذلك من الغرر اليسير الذي لا يذهب جملة فيبقى البضع بلا صداق؛ لأن الصداق حق لله تعالى، فلا يجوز إسقاطه. والخلع لا حق لله فيه فجاز(1/561)
بالغرر الكثير من جميع جهاته وإن ذهب جملة فبقي الخلع بلا عوض. وقد قيل: إن الخلع بالغرر والمجهول لا يجوز. والمشهور ما قدمناه، وأجازه ابن القاسم في المدونة بالعبد الآبق والبعير الشارد وما أشبه ذلك، ومنع منه بالتزام نفقة الولد أكثر من حولي الرضاع وما أشبه ذلك، فقيل: إنه قد فرق بين المسألتين، وقيل: إنه خلاف من قوله. ولم يجز الصلح من دم العمد على غرر، فقيل: إن ذلك على القول الذي منع من الخلع بالغرر، وقيل: إنه فرق بين الخلع والصلح عن دم العمد، هو ظاهر ما في المدونة. والفرق بين الخلع ودم العمد أن دم العمد قد قيل: إن لولي الدم أن يعفو على أخذ الدية، فإذا كان له أن يأخذها فكأنه قد ملكها ووجبت له فلا يصالح عنها إلا بمعلوم. ويلزم على هذا أن لا يجوز الصلح إلا بما يصح به بيع الدية. وهذا أصل مختلف فيه هل يكون من ملك أن يملك كالمالك قبل أن يملك في الأحكام الجارية عليه أم لا؟ على قولين.
[كتاب الحضانة]
[فصل في الحضانة]
كتاب الحضانة
فصل في الحضانة الأصل في الحضانة كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماع الأمة. فأما الكتاب فغير ما آية، منها قوله في الأبوين: {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] ، وفي الأمهات قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] ، فالأم أحق برضاعة ابنها وكفالته إلى أن يستغني عنها بنفسه. وقال تعالى حاكيا عن أخت موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها قالت لآسية امرأة فرعون: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12] {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [القصص: 13] ، وقال في مريم بنت عمران: (وَكَفَلَهَا(1/562)
زَكَرِيَّاءُ) ، ويقرأ (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاء) ، بتشديد الفاء. فمن قرأ وكفلها زكرياء قال معناه كفلها الله إياه، أي أوجب له كفالتها بالقرعة التي أخرجها له والآية التي أظهرها لخصومه فيها. وذلك أن زكرياء وخصومه فيها لما تنازعوا أيهم يكفلها تساهموا بقداحهم فرموا بها في نهر الأردن فقام قدح زكريا ثابتا في الماء، لم يجر كأنه في طين وجرى بقداح الآخرين، فجعل الله ذلك علما بأنه أحق المتنازعين فيها. وقيل: بل صعد قدح زكرياء في النهر وانحدرت قداح الآخرين، فكانت قداحهم التي استهموا بها أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة، فذلك قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] ، وكان زكرياء قد قال لهم: أنا أحق بها منكم؛ لأن عندي أختها أو خالتها على اختلاف في ذلك؛ لأنه قيل: إن زوجته أم يحيى كانت خالة مريم، وقيل: بل كانت أختها، فحكم الله بها لزكرياء لموضع أختها أو خالتها.
وعلى هذا أتى شرعنا؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بابنة حمزة بن عبد المطلب لجعفر بن أبي طالب؛ إذ تنازع فيها علي بن أبي طالب وجعفر وزيد بن حارثة، فقال علي: هي ابنة عمي وعندي بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنا أحق بها، وقال جعفر: هي ابنة عمي وعندي خالتها فأنا أحق بها، وقال زيد: هي ابنة أخي وتجشمت لها السفر وكان قد خرج عنها حين أصيب حمزة فأقدمها» . وعلى هذا مذهبنا أن الحاضنة إذا كان زوجها وليا من أولياء المحضون فهي أحق به من سائر الأولياء وإن كان زوجها أبعد منهم.
فصل وإنما كفلها زكرياء؛ لأنها كانت يتيمة توفيت أمها بعد موت أبيها وهي صغيرة.
فصل وأما السنة فمنها «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة المطلقة من أبي الطفيل حين قالت له: إن(1/563)
ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وأنا له الفداء، فزعم أبوه أنه ينتزعه مني، فقال: أنت أحق به ما لم تنكحي» وقضاؤه بابنة حمزة لجعفر لموضع خالتها أسماء بنت عميس.
فصل وأما الإجماع فلا خلاف بين أحد من الأمة في إيجاب كفالة الأطفال الصغار؛ لأن الإنسان خلق ضعيفا مفتقرا إلى من يكفله ويربيه حتى ينفع نفسه ويستغني بذاته، فهو من فروض الكفاية لا يحل أن يترك الصغير دون كفالة ولا تربية حتى يهلك ويضيع. وإذا قام به قائم سقط عن الناس. ولا يتعين ذلك على أحد سوى الأب وحده، ويتعين على الأم في حولي رضاعه إذا لم يكن له أب ولا مال تستأجر له منه أو كان لا يقبل ثدي سواها فتجبر على رضاعه.
فصل وإنما اختلف الناس في الأولى من الأولياء إذا اختلفوا في كفالته، وتشاحوا في ذلك. والأولياء الذين لهم الحضانة عصبته من الرجال، وقرابته من النساء من قبل الأم ومن قبل الأب، وأوصياؤه من الرجال والنساء.
فصل فقراباته من النساء يستوجبن الحضانة بوصفين: أحدهما: أن يكن ذوات رحم منه. والثاني: أن يكن محرمات عليه. فإن كن ذوات رحم منه ولم يكن محرمات عليه كبنت الخالة وبنت العمة وما أشبههما لم يكن لهن حق في الحضانة. وكذلك إن كن محرمات عليه ولم يكن ذوات رحم منه كالمحرمات عليه بالصهر والرضاع وما أشبههن لم يكن لهن في الحضانة حق.
وأما عصبته من الرجال فإنهم يستوجبون الحضانة بمجرد التعصيب كانوا من ذوي رحمه المحرم كالجد والعم والأخ وابن الأخ، أو من ذوي رحمه الذي ليس(1/564)
بمحرم كابن العم وإن سفل، أو لم يكونوا من ذوي رحمه كالمولى المعتق.
وأما أوصياؤه من الرجال والنساء فإنهم يستوجبون الحضانة بمجرد الولاية كانوا مقدمين من قبل الأب أو من قبل السلطان.
فصل وهي، أعني الحاضنة، مرتبة فيهم بحسب الحنان والرفق لا يراعى في ذلك قوة الولاية، كالنكاح وولاء الموالي، والصلاة على الجنائز، وولاء الميراث، فقد يحضن من لا يرث كالوصي والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، وقد يرث من لا يحضن مثل الزوج والزوجة، أعني زوج المحضونة وزوجته، إن كان رجلا، والمولاة المعتقة. فالمقدم منهم في الحضانة من يعلم بمستقر العادة أنه أشفق على المحضون وأرأف به وأقوم بمنافعه، وهي الأم لا اختلاف بين أحد من أهل العلم أن الأم أحق بالحضانة من الأب ومن سائر الأولياء من الرجال والنساء؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت أحق به ما لم تنكحي» ، إلا أنه قد روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أسهم بينهما. وروي عنه أنه خير الابن بين أبويه فقضى به لمن اختار منهما. وفي بعض الآثار «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهما: " استهما عليه "، فأبى الأب من ذلك، فخير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الابن بينهما» وفي بعضها أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهما: " إن شئتما خيرتماه ". وذهب أبو جعفر الطحاوي إلى أن لا يحمل شيء من هذه الآثار على التعارض وأن يستعمل جميعها، فيدعو الإمام الأبوين إلى الاستهام عليه، فإن أجابا إلى ذلك أسهم بينهما، وإن أبيا أو أحدهما قال لهما: " إن شئتما خيرتماه "، فإن أبيا ذلك أو أحدهما حكم به للأم، وهو وجه حسن يصح به استعمال الآثار كلها، واستعمال جميعها أولى من طرح بعضها.
فصل وكما تكون الأم أحق من الأب فإن قراباتها أحق من قرابات الأب لا اختلاف(1/565)
بين أهل العلم في ذلك. واختلفوا هل تكون قراباتها سوى الأم أو أم الأم أحق من الأب على قولين، فروى ابن وهب عن مالك أن الأب أحق من الخالة، والمشهور في المذهب أن قرابات الأم أحق من الأب. فعلى هذا إن لم تكن الأم أو كانت ولها زوج أجنبي فأمها وهي الجدة، فإن لم تكن فأم أمها أو أم أبيها، فإن اجتمعتا جميعا فأم الأم أحق من أم الأب. فإن لم تكن واحدة منهما فأم أم أمها، أو أم أم أبيها، أو أم أبي أمها، أو أم أبي أبيها، فإن اجتمع الأربع فأم أم الأم، ثم أم أب الأم وأم أم الأب بمنزلة سواء. ثم أم أب الأب. وعلى هذا الترتيب أمهاتهن ما علون.
فإن لم تكن واحدة منهن فأخت الأم وهي الخالة، فإن اجتمع أخت الأم لأبيها وأمها وأختها لأبيها وأختها لأمها فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب؛ لأن الأم أمس رحما. فإن لم تكن منهن واحدة فأخت الجدة وهي خالة الأم وخالة الخالة، فإن اجتمع أيضا أخت الجدة لأبيها وأمها وأختها لأمها وأختها لأبيها، فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب؛ لأن الأم أمس رحما من الأب على ما بيناه. فإن لم تكن واحدة منهن فأخت الجد للأم وهي عمة الأم وعمة الخالة. فإن اجتمع أيضا أخت الجد للأم لأبيه وأمه وأخته لأمه وأخته لأبيه، فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب. وعلى هذا الترتيب ما بعد النسب من الأم وارتفع.
فصل فإن انقطعت قرابات الأم فقيل: إن الأب أحق من جميع قراباته؛ لأنهن إنما يدلين به فهو أحق منهن، وقيل: إنهن أحق منه؛ لأنه وإن كن يدلين به فإنه لا يحضن ويستنيب في الحضانة غيره من النساء، فقراباته أحق. حكى هذين القولين عبد الوهاب، وجعل في المدونة بعض قراباته أحق منه وهو أحق من بعضهن، فجعل الجدات من قبله أحق منه، وجعله هو أحق من سائر قراباته.(1/566)
فصل وترتيب قرابات الأب من النساء في الحضانة كترتيب قرابات الأم على ما بيناه، فأحق الناس بالحضانة من قراباته أمه، فإن لم تكن أم أو كان لها زوج فأم أمه أو أم أبيه، فإن اجتمعتا فأم أمه أحق من أم أبيه. فإن لم تكن واحدة منهما فأم أم أمه أو أم أم أبيه، أو أم أم أبي أبيه أو أم أبي أمه. فإن اجتمع جميعهن فأم أم أمه أولى، ثم أم أبي أمه وأم أم أبيه بمنزلة سواء، ثم أم أم أبي أبيه. وعلى هذا الترتيب تكون أمهاتهن ما علون. فإن لم تكن واحدة منهن فبنت الأبوين أو بنت أحدهما وهي الأخت، فإن اجتمع الأخوات فالشقيقة أحق ثم التي للأم ثم التي للأب. فإن لم تكن واحدة منهن. فأخوات الأب وهن العمات للأب وللأم، وللأم دون الأب، وللأب دون الأم. فإن اجتمعن فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب؛ لأن الأم أمس رحما من الأب على ما بيناه في الخالات.
فإن لم تكن واحدة منهن فأخوات الجد وهن عمات الأب وعمات العم للأب والأم، وللأم دون الأب، وللأب دون الأم. فإن اجتمعن أيضا فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب. فإن لم تكن واحدة منهن فأخوات الجدة للأب والأم وللأم دون الأب وللأب دون الأم، وهن خالات الأب، فإن اجتمعن فالشقيقة أولى ثم التي للأم ثم التي للأب، وهن على هذا الترتيب ما بعد النسب من الأب وارتفع.
فإن لم تكن منهن واحدة فبنات الإخوة وبنات الأخوات للأب والأم وللأم دون الأب وللأب دون الأم وإن سفلوا الأقرب فالأقرب. وذهب ابن حبيب في الواضحة إلى أنه لا حضانة لبنات الأخوات، وهو بعيد خارج عما أصلناه؛ لأنهن ذوات رحم محرمات عليه، فلا فرق بينهن وبين سائر قراباته في وجوب الحضانة لهن. فإن اجتمعتا جميعا بنت الأخ وبنت الأخت قدمت بنت الأخ عليها في الحضانة مراعاة للخلاف الذي حكيناه، وهما في القياس سواء في المنزلة، ينظر الإمام في ذلك فيقضي به لأحرزهما وأكفاهما. فإن لم تكن منهن واحدة أو كانت ولها زوج أجنبي رجعت الحضانة إلى العصبة، ولا شيء فيها لبنات العمات ولا لبنات الخالات؛ لأنهن غير محرمات.(1/567)
فصل وأحق الناس بالحضانة من العصبة الأخ، ثم الجد، ثم ابن الأخ، ثم العم، هكذا في كتاب ابن المواز. فيحتمل أن يريد أن الجد وإن علا أحق من ابن الأخ ومن العم، ويحتمل أن يريد أن أحق الناس بالحضانة من العصبة الأخ ثم الجد الأدنى ثم ابن الأخ، ثم العم، ثم ابن العم وإن سفل الأقرب فالأقرب، ثم أبو الجد، ثم عم العم ثم ابن عم العم وإن سفل الأقرب فالأقرب، ثم جد الجد ثم ولده، ثم والد جد الجد ثم ولده على هذا الترتيب أبدا. فترتيب الحضانة في العصبة ليس يجري على ميراث المال ولا على ميراث الولاء والصلاة على الجنائز؛ لأن الجد وإن علا أرفع مرتبة في الميراث من الأخ إذ لا ينقص معهم من الثلث شيئا، ولأن بني الإخوة والأعمام وبنيهم لا شيء لهم مع الجد وإن علا في ميراث المال، وابن الأخ في ميراث الولاء أحق من الجد.
فصل وأحق الناس بالحضانة على مذهب ابن القاسم في المدونة بعد الأم الجدة للأم وإن علت، فإن اجتمعت الجدات فعلى الترتيب الذي وصفناه [ثم الخالة فإن اجتمعت الخالات فعلى الترتيب الذي وصفناه] ، ثم خالة الأم فإن اجتمعن فعلى الترتيب الذي وصفناه ثم عمة الأم، فإن اجتمعت عماتها فعلى الترتيب الذي وصفناه. ثم الجدة للأب وإن علت، فإن اجتمع الجدات للأب فعلى الترتيب الذي وصفناه، ثم الأخت فإن اجتمعت الأخوات فعلى الترتيب الذي وصفناه، ثم العمة، ثم عمة الأب، ثم خالة الأب، ثم بنات الإخوة، ثم بنات الأخوات. وقيل: لا حضانة لبنات الأخوات، وقيل: إنهن أحق من بنات الإخوة، وقيل: إنهن بمنزلة سواء، ينظر الإمام في أحرزهن وأكفاهن.(1/568)
فصل وقد تقدم أن الحاضنة إذا كان لها زوج أجنبي سقطت حضانتها، فإن كان زوجها ذا رحم من المحضون فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون محرما عليه، والثاني: أن لا يكون محرما عليه. فإن كان محرما عليه فسواء كان ممن له الحضانة كالعم والجد للأب أو ممن لا حضانة له كالخال والجد للأم لا تأثير له في إسقاط الحضانة. وأما إن كان غير محرم عليه فلا يخلو أن يكون ممن له حضانة كابن العم أو ممن لا حضانة له كابن الخال. فإن كان ممن له الحضانة فهي أحق به ما لم يكن للمحضون حاضنة أقرب إليه منها فارغة من زوج. وإن كان زوجها أبعد من الولي الآخر. وإن كان ممن لا حضانة له فإنه تسقط حضانتها بكل حال كالأجنبي سواء. وذهب ابن وهب إلى أن الزوج يسقط حضانة الحاضنة وإن كان ذا رحم من المحضون.
فصل واختلف بماذا يسقط الزوج الأجنبي حضانة زوجته، فقيل بالدخول وقيل بالحكم عليه بأخذ الولد منه. وعلى هذا يأتي اختلافهم فيمن طلق امرأته وله منها ولد فتزوجت ولم يعلم بتزويجها حتى طلقها الزوج أو مات عنها أو علم بذلك ولم تطل المدة، هل له أن يأخذ الولد منها بعد خلوها من الزوج أم لا؟ فأما إن علم بتزويجها ولم يعجل بأخذ الولد منها حتى طالت المدة ثم طلقها الزوج أو مات عنها؛ فليس له أن يأخذ الولد منها؛ لأنه يعد بذلك تاركا لحقه فيه على الاختلاف في السكوت هل هو بمنزلة الإقرار أم لا؟
فصل واختلف أيضا فيما يسقط من حضانتها بذلك، فقيل: إنه تسقط به حضانتها جملة، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل: إنما تسقط حضانتها في جهة من حضن المحضون في حال تزويجها، وقيل: إنه إنما تسقط حضانتها في حال تزويجها، فإن طلقها الزوج أو مات عنها رجعت في ولدها. وعلى هذه الثلاثة الأقوال تأتي(1/569)
مسائلهم فمن قال: إن حضانتها تسقط جملة. فيأتي على مذهبه أن الحضانة لا تعود إليها أبدا وإن مات الحاضن للولد وهي فارغة من الزوج بموت أو طلاق. ومن قال: إن حضانتها إنما تسقط في جهة من حضن الولد في حال تزويجها فيأتي على مذهبه أن الحضانة لا تعود إليها وإن طلقها الزوج أو مات عنها ما دام الحاضن للولد على حضانته، فإن سقطت حضانته بموت أو ما أشبه ذلك مما تسقط به حضانتها وهي فارغة من زوج؛ رجعت الحضانة إليها. ومن قال: إن حضانتها إنما تسقط في حال تزويجها يقول: إنها ترجع في ولدها فتأخذه متى ما مات الزوج أو طلقها. وجه القول الأول أن تزويجها رضا منها بإسقاط حقها فيه. ووجه القول الثاني: أن تزويجها رضا منها بإسلام الولد إلى الذي يحضنه في حال تزويجها وليس برضا منها بإسقاط حقها فيه جملة. ووجه القول الثالث: أن تزويجها ليس برضا منها بترك الولد؛ لأن النكاح مما تمس الحاجة إليه كالطعام والشراب، فأشبه ما إذا مرضت وضعفت عن الحضانة أن الولد يؤخذ منها لهذه العلة، فإذا ارتفعت العلة عادت الحضانة إليها وأخذت ولدها.
فصل وهذه الثلاثة الأقوال إنما تتصور على مذهب من يرى أن الحضانة من حق الحاضن. وأما على مذهب من يرى أنها من حق المحضون، وهو مذهب ابن الماجشون، فلها أن تأخذ الولد متى ما خلت من الزوج. وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلافهم في السكنى وأجر الحضانة، فمن رأى أن الحضانة من حق الحاضن لم ير له أجرة ولا كراء في سكناه معه؛ لأنه لا يستقيم أن يكون من حقه أن يكفله ويؤويه إلى نفسه ويجب له بذلك حق. ومن رأى أن الحضانة من حق المحضون أوجب للحاضن أجرة على حضانته إياه وكذلك سكناه معه، وهذا بين.
ولا اختلاف في أن على الأب النفقة والكسوة وأجر الرضاع إن كان رضيعا. واختلف قول مالك إذا وجد الأب من يرضعه له باطلا أو بدون ما يساوي رضاعه، قال في المدونة: إن من حق الأم أن ترضعه بأجرة مثلها، فقيل: إن ذلك من أجل حقها في حضانته، وقيل: إن ذلك من أجل رفقها به في إرضاعه وأن لبنها أنفع له على ما روي أن ما(1/570)
من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه. فمن علل ذلك بحقها في الحضانة يقول: إن الأب إن وجد من يرضعه له عند أمه باطلا لم يكن لها حجة. ومن علل بالعلة الأخرى فحجتها باقية. وروى ابن وهب عن مالك أن الأم إن لم ترد أن ترضعه باطلا أو بما وجد كان له أن يدفعه إلى من يرضعه باطلا أو بما وجد. ومعنى ذلك إذا أرضعته عند أمه ولم تخرجه من حضانتها. وهذا القول أشبه بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] ، وأما إن أبت الأم أن ترضعه فيستأجر له الأب من يرضعه وليس عليه أن يكون في ذلك عند أمه. فعلى هذا تحمل الروايات الواردة في هذا إن شاء الله تعالى.
فصل وإذا قلنا: إن الحضانة من حق الحاضن فهل يملك الحاضن إسلامه إلى من شاء من الأولياء أم لا؟ في ذلك اختلاف. قيل: إن للحاضن أن يسلم الولد إلى من شاء من الأولياء وإن كان غيره أحق به منه، وهو ظاهر ما في المدونة؛ لأنه قال: إن المرأة إذا صالحت زوجها على أن يكون الولد عنده جاز ذلك وكان أحق بالولد، فظاهره وإن كان له جدة أو خالة؛ إذ لم يشترط ذلك. وقيل: إنه لا يملك ذلك، وإنما هو حقه، فإن شاء أخذه وإن شاء تركه، فإن تركه كان لمن يجب له بعده، كشفعاء في الشفعة ليس لمن كان منهم أحق بها أن يسلمها لمن شاء، وإنما هو حقه إن شاء أخذه وإن شاء تركه، فإن تركه كان لمن يجب له بعده.
فصل واختلف في حد الحضانة فقيل إلى البلوغ، وقيل إلى الإثغار، وهي رواية ابن وهب عن مالك، وبالله التوفيق.(1/571)
[كتاب الأيمان بالطلاق] [ما جاء في الأيمان والطلاق]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كتاب الأيمان بالطلاق ما جاء في الأيمان بالطلاق الأصل في وجوب الأيمان بالطلاق قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، يريد عقد اليمين وعقد النذر وسائر العقود اللازمة في الشرع.
فصل والأيمان تنقسم على ثلاثة أقسام: مباحة، ومكروهة، ومحظورة. فالمباحة اليمين بالله تعالى وبجميع أسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ لأن الله تعالى أذن في الحلف باسمه لعباده وشرعه لهم في غير ما آية من كتابه، فقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] ، وقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] ، وقال: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [المائدة: 106] ، وقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 107] ، وما روي أن عيسى ابن مريم كان يقول لبني إسرائيل: إن موسى كان ينهاكم أن تحلفوا بالله كاذبين وأنا أنهاكم أن تحلفوا بالله كاذبين أو صادقين،(1/573)
ظاهره أن شرعه خلاف شرع موسى وخلاف شرعنا في إباحة الحلف بالله دون كراهية. ويحتمل أن يكون إنما كره لهم اليمين بالله صادقين مخافة أن يكثر ذلك منهم؛ فيكون ذريعة إلى حلفهم بالله على ما لم يعلموه يقينا أو يواقعوا الحنث كثيرا، أو يقصروا في الكفارة فيقعوا في الحرج، لا أن ترك اليمين بالله على الصدق أفضل من الحلف بها؛ لأن الله أمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باليمين باسمه في ثلاثة مواضع من كتابه فقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] ، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] ، وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] ، «وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيرا ما يحلف لا والذي نفسي بيده، لا ومقلب القلوب» . ولا وجه لكراهة اليمين بالله على الصدق؛ لأن القصد إلى الحلف بالشيء تعظيم له، فلا شك أن في ذكر الله تعالى على وجه التعظيم له أجرا عظيما.
فصل واليمين بالله هي التي أمر الله بحفظها، وجعل لغو اليمين فيها، وأوجب الكفارة على من حلف بها فحنث بقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] ، قيل معناه فحنثتم، [ويحتمل أن يكون معناه:(1/574)
فحنثتم] ، أو أردتم الحنث على القول بجواز الكفارة قبل الحنث على ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير، أو يفعل الذي هو خير ويكفر عن يمينه، ثم قال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] » ، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل ويسقط الكفارة عمن حلف بهذه اليمين فحنث فيها الاستثناء بمشية الله تعالى إذا وصل ذلك بآخر كلامه وقصد به حل يمينه بإجماع أهل العلم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف بالله فقال: إن شاء الله ثم لم يفعل الذي حلف عليه لم يحنث» .
فصل وأما اليمين المكروهة فهي اليمين بغير الله تعالى، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» . وهي على وجهين: أحدهما: أن يوجب على نفسه شيئا من الأشياء إن فعل فعلا أو إن لم يفعله، كقوله علي كذا وكذا إن فعلت كذا وكذا أو إن لم أفعله. والوجه الثاني: أن يحلف بحق شيء من الأشياء أن يفعل كذا وكذا أو أن لا يفعله، كقوله وأبي لأفعلن كذا وكذا وما أشبه ذلك. فأما ما يوجب الرجل على نفسه بشرط أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله فإن ذلك ينقسم على ثلاثة أقسام: منها ما يلزمه باتفاق، ومنها ما لا يلزمه باتفاق، ومنها ما يختلف فيه.(1/575)
فصل فأما ما يلزمه باتفاق فاليمين بالطلاق، لا اختلاف بين أحد من العلماء أن الرجل إذا حلف بطلاق امرأته على نفسه أو على غيره أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله أن اليمين لازمة له وأن الطلاق واقع عليه في زوجته إذا حنث في يمينه؛ لأن الحالف بالطلاق أن لا يفعل فعلا وأن يفعله إنما هو مطلق على صفة ما، فإذا وجدت الصفة التي علق بها طلاق امرأته لزمه ذلك، إلا ما روي عن أشهب في الحالف على امرأته بطلاقها أن لا تفعل فعلا فتفعله قاصدة لتحنيثه أنه لا شيء عليها، وهو شذوذ، وإنما الاختلاف المعلوم فيمن قال لعبده أنت حر إن فعلت كذا وكذا ففعله.
فصل ولا يكون لغو في اليمين بالطلاق؛ لأن الله تعالى لم يذكره إلا في اليمين بالله عز وجل. وأما الاستثناء فيه بمشيئة الله فإن رده إلى الطلاق لم ينفعه، وإن رده إلى الفعل نفعه عند ابن الماجشون وأشهب، ولم ينفعه عند ابن القاسم. وقول ابن الماجشون وأشهب أظهر قياسا على الاستثناء في اليمين بالله أنه إن رده إلى اسم الله تعالى لم ينفعه وإن رده إلى الفعل الذي حلف عليه نفعه.
فصل وأما إن كان استثناؤه بمشيئة مخلوق فله استثناؤه باتفاق؛ لأن ذلك من تمام الصفة التي علق بها الطلاق.
فصل وأما ما لا يلزمه باتفاق فما يوجب على نفسه بشرط أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله مما ليس لله بطاعة ولا يتقرب به إليه، كان مباحا أو معصية، كقوله في المعصية: علي ضرب فلان إن لم أفعل كذا وكذا، وفي المباح علي المشي إلى السوق إن لم أفعل كذا وكذا وما أشبه ذلك ما عدا الطلاق؛ فإن اليمين به تلزمه وإن(1/576)
كان من المباح الذي ليس لله فيه طاعة ولا معصية للمعنى الذي قدمت ذكره وهو أن الحالف به مطلق على صفة ما.
فصل وأما الوجه الثالث المختلف فيه فهو يمينه بكل ما فيه طاعة وقربة أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله من صلاة أو صيام أو مشي إلى بيت الله أو غزو أو حج أو ما أشبه ذلك، فذهب مالك وأصحابه إلى أن ذلك يلزمه باليمين إذا حنث فيها كما يلزمه بالنذر. وهذا أصل مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وقد شذت له مسائل يسيرة عنه، وخالفه في هذا الأصل جماعة من العلماء على اختلاف كثير في ذلك عنهم.
فصل فإن استثنى في ذلك بمشيئة مخلوق نفعه الاستثناء، وإن استثنى فيه بمشيئة الخالق جرى ذلك على الاختلاف المذكور، ولا لغو يمين في ذلك أيضا.
فصل وأما الوجه الثاني من وجوه اليمين بغير الله فهو أن يحلف بحق شيء من الأشياء أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله، كقوله وأبي لأفعلن كذا وكذا، أو والنبي أو ومكة أو والصلاة والزكاة والطلاق لا أفعله وما أشبه ذلك، فهذا كله ليس بيمين ولا كفارة فيه على من حلف بشيء من الأشياء وحنث فيه، إلا أنه يكره ذلك له، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اليمين بغير الله، ولأن الحالف بالشيء قاصد إلى تعظيم المحلوف به، والله أحق من قصد إلى تعظيمه. وقد اختلف في قول الله عز وجل: والطور، والسماء، والطارق، والنجم، والتين، والزيتون، وما أشبه ذلك من الأيمان الواردة في القرآن، فقيل: إن ذلك من المجاز وأن المعنى فيه ورب الطور ورب السماء والطارق ورب النجم وما أشبه ذلك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، وقيل: إن ذلك على الحقيقة لا(1/577)
مجاز فيه، وهو أصح إن شاء الله؛ لأن الله تعالى هو المقسم بهذه الأشياء، وله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ترفيعا لها على ما سواها وتنبيها على آثار الصنعة فيها، فلا حجة لمخلوق بهذا في إجازة الحلف بغير الله تعالى.
فصل وأما المحظورة فهي أن يحلف بالطواغيت وباللات والعزى أو بوثن من الأوثان التي تعبد من دون الله، أو بكنيسة من الكنائس، أو ببيعة من البيع، وما أشبه ذلك؛ لأن الحالف بالشيء قصد إلى تعظيمه، وتعظيم هذه الأشياء كفر بالله تعالى.
[فصل فيما ينقسم إليه الطلاق من الوجوه]
فصل
فيما ينقسم إليه الطلاق من الوجوه والطلاق ينقسم على قسمين: طلاق مطلق، وطلاق مقيد بصفة. فأما الطلاق المطلق فهو قول الرجل لامرأته: أنت طالق وما أشبه ذلك من صريح الطلاق وكناياته. وقد اختلف في صريحه ما هو على ثلاثة أقوال: أحدها: أن صريحه لفظ الطلاق خاصة، وأن كناياته ما عدا ذلك، مثل قوله خلية وبرية وحبلك على غاربك وما أشبه ذلك وهو مذهب عبد الوهاب. والثاني: أن هذه الألفاظ كلها صريح الطلاق، وبعضها أبين من بعض، وهو مذهب أبي الحسن بن القصار. والثالث: أن صريح الطلاق ما ذكره الله في كتابه وهو الطلاق والسراح والفراق، وهو مذهب الشافعي.
واختلف بماذا يلزم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلزم بمجرد [النية دون القول، وهي رواية أشهب عن مالك في كتاب الأيمان بالطلاق. والثاني: أنه يلزم بمجرد القول دون نية] . والثالث: أنه لا يلزم إلا باجتماع القول والنية، وهذا فيما بينه وبين الله، وأما في الحكم الظاهر فلا اختلاف بين أهل العلم أن الرجل يحكم عليه بما أظهر من صريح القول بالطلاق أو كناياته، ولا يصدق أنه لم ينوه ولا(1/578)
أراده إن ادعى ذلك على مذهب من يرى أن الطلاق لا يلزم بمجرد القول حتى تقترن به النية.
وأما الطلاق المقيد بصفة فإنه ينقسم على وجهين: أحدهما: أن يقيد ذلك بلفظ الشرط، والثاني: أن يقيده بلفظ الوجوب. فأما إذا قيده بلفظ الشرط مثل أن يقول: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا، أو إن لم أفعله، فإن الفقهاء يسمون ذلك يمينا بالطلاق على المجاز لما فيه من معنى اليمين بالله تعالى، وهو أن الطلاق يجب عليه بالشرط كما تجب الكفارة على الحالف بالله تعالى بالحنث، فاستويا جميعا في القصد إلى الامتناع مما يجب به الطلاق أو الكفارة دون القصد إلى الطلاق أو الكفارة.
ومن ذلك أيضا أنه ينعقد في المستقبل من الأزمان كما تنعقد الأيمان بالله تعالى ويكون في الماضي [إما واقع وإما ساقط كاليمين بالله التي تكون في الماضي] ، إما لغو أو حالف على صدق لا تجب فيه كفارة، وإما غموس أعظم من أن تكون فيه كفارة. ويأثم إذا حلف على الغيب أو على الكذب أو على الشك كما يأثم في اليمين بالله إذا حلف على شيء من ذلك وليس بحقيقة، وإنما حقيقة اليمين بالطلاق قول الرجل وحق الطلاق لا فعلت كذا وكذا.
[فصل فيما تنقسم إليه اليمين بالطلاق من الوجوه]
فصل
فيما تنقسم إليه اليمين بالطلاق من الوجوه وهو - أعني اليمين بالطلاق على ما ذكرته من المجاز - ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يحلف بالطلاق على نفسه، والثاني: أن يحلف به على غيره، والثالث: أن يحلف به على مغيب من الأمور. فأما الأول وهو حلفه بالطلاق على نفسه فهو ينقسم على قسمين: أحدهما: أن يحلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا فيقول: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا. والثاني: أن يحلف به على أن يفعل فعلا فيقول: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا. فأما الوجه الأول وهو أن يحلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك الفعل مما يمكنه فعله(1/579)
وتركه. والثاني: أن يكون مما لا يمكنه تركه. والثالث: أن يكون مما لا يمكنه فعله. فأما إذا كان مما يمكنه فعله وتركه فلا خلاف في أنه لا طلاق عليه إلا إن فعل ذلك الفعل. مثال ذلك أن يقول: امرأتي طالق إن ضربت عبدي أو دخلت الدار أو ركبت الدابة أو ما أشبه ذلك إلا في مسألة واحدة، وهي أن يقول: امرأتي طالق إن وطئتك فإن لها تفصيلا وفيها اختلاف مذكور في الأمهات، وسيأتي تحصيل القول عليه في كتاب الإيلاء. وأما إذا كان مما لا يمكنه تركه فقيل: إنه يعجل عليه الطلاق، وهو قول سحنون، وقيل: إنه لا طلاق عليه حتى يفعل ذلك الفعل كالوجه الأول، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة.
مثال ذلك أن يقول: امرأتي طالق إن أكلت أو شربت أو صمت أو صليت وما أشبه ذلك. وأما إذا كان مما لا يمكنه فعله فقيل: إنه لا شيء عليه، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقيل: إن الطلاق يعجل عليه؛ لأنه يعد نادما، وهو قول سحنون، وروي مثله عن ابن القاسم. مثال ذلك أن يقول: امرأتي طالق إن مسست السماء أو ولجت في سم الخياط وما أشبه ذلك. وأما الوجه الثاني: وهو أن يحلف بالطلاق أن يفعل فعلا فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك الفعل مما يمكنه فعله وتركه، والثاني: أن يكون مما لا يمكنه فعله في الحال، والثالث: أن يكون مما لا يمكنه فعله على حال.
فصل فأما إذا كان مما يمكنه فعله وتركه، مثل قوله: أنت طالق إن لم أدخل الدار أو إن لم أضرب عبدي وما أشبه ذلك فإنه يمنع من الوطء؛ لأنه على حنث ولا يبر إلا بفعل ذلك الشيء. فإن رفعت امرأته أمرها ضرب له أجل المولي وطلق عليه عند انقضائه إلا أن يبر بفعل ذلك الفعل الذي حلف عليه ليفعلنه أو تحب البقاء معه بغير وطء. فإن اجترأ ووطئ سقط أجل الإيلاء واستؤنف لها ضربه إن رفعت ذلك.
ولا يقع عليه طلاق بترك ذلك الفعل الذي حلف عليه ليفعلنه؛ لأنه طلاق لا يكشفه إلا الموت. وإن أراد أن يحنث نفسه بالطلاق دون أن يطلق عليه الإمام بالإيلاء، كان ذلك له إلا أن يضرب أجلا فيقول: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا إلى وقت كذا وكذا فلا يكون له أن يحنث نفسه بالطلاق ويطأ إلى الأجل على اختلاف من قول(1/580)
ابن القاسم، ويضرب له أجل الإيلاء على القول الذي يقول: لا يطأ إذا كان الأجل أكثر من أربعة أشهر، فهذا حكم هذا القسم إلا في مسألتين: أحدهما: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أطلقها. والثانية: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحبلها. فأما إذا قال: امرأتي طالق إن لم أطلقها ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن الطلاق يعجل عليه ساعة حلف. ووجه ذلك أنه حمله على التعجيل والفور، فكأنه قال: أنت طالق إن لم أطلقك الساعة. والثاني: أن الطلاق لا يعجل عليه إلا أن ترفعه امرأته إلى السلطان وتوقفه على الوطء. والثالث: أنه لا يطلق عليه إن رفعته امرأته ويضرب له أجل الإيلاء، فإن طلقها وإلا طلق عليه بالإيلاء عند انقضاء أجله، ولم يمكن من الوطء؛ لأنه لا يجوز له من أجل أنه على حنث. وإن اجترأ فوطئ سقط عنه الإيلاء واستؤنف ضربه له ثانية إن رفعت امرأته أمرها إلى السلطان. وفائدة ضرب أجل الإيلاء على هذا القول وإن لم يمكن من الفيء بالوطء رجاء أن ترضى في خلال الأجل بالبقاء معه على العصمة دون وطء.
وأما إذا قال: امرأتي طالق إن لم أحبلها فإنه يطأ أبدا حتى يحبلها؛ لأن بره في إحبالها. وكذلك إن قال لامرأته: أنت طالق إن لم أطأك له أن يطأها؛ لأن بره في وطئها، فإن وقف عن وطئها كان موليا عند مالك والليث فيما روي عنهما. وقال ابن القاسم: لا إيلاء عليه، وهو الصواب.
فصل وأما إذا كان ذلك الفعل مما لا يمكنه فعله في الحال، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحج، وهو في أول العام، ففي ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه يمنع من الوطء الآن وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الإيلاء من المدونة، ورواية عيسى عنه في الأيمان بالطلاق من العتبية. والثاني: أنه لا يمنع من الوطء حتى يمكنه فعل ذلك الفعل. والثالث: أنه لا يمنع من الوطء حتى يخشى فوات ذلك الفعل. والرابع: أنه لا يمنع منه حتى يفوت فعل ذلك الفعل.(1/581)
فصل فإذا قلنا: إنه يطأ حتى يمكنه فعل ذلك الفعل فأمسك عن الوطء بإمكان الفعل له ثم فات الوقت، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يرجع إلى الوطء أبدا. والثاني: أنه يطلق عليه. والثالث: أنه يرجع إلى الوطء حتى يمكنه الفعل مرة أخرى. وقد زدنا هذه الأوجه بيانا في كتاب الإيلاء. وأما إذا كان الفعل مما لا يمكنه فعله على حال لعدم القدرة عليه، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أمس السماء وإن لم ألج في سم الخياط وما أشبه ذلك، أو لمنع الشرع منه مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أقتل فلانا أو إن لم أشرب الخمر وما أشبه ذلك فإنه يعجل عليه الطلاق إلا أن يجترئ على الفعل الذي يمنعه منه الشرع فيفعله قبل أن يعجل عليه الطلاق فإنه يبر في يمينه ويأثم في فعله، ولا اختلاف في هذا الوجه.
فصل وأما القسم الثاني وهو أن يحلف بالطلاق على غيره فإنه ينقسم أيضا على وجهين: أحدهما: أن يحلف عليه أن لا يفعل فعلا. والثاني: أن يحلف عليه ليفعلنه. فأما إذا حلف عليه أن لا يفعل فعلا مثل أن يقول: امرأتي طالق إن فعل فلان كذا وكذا فهو كالحالف على فعل نفسه سواء في جميع الوجوه، وقد تقدم تفسير ذلك. وأما إذا حلف أن يفعل فعلا مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم يفعل فلان كذا وكذا، ففي ذلك لابن القاسم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كالحالف على فعل نفسه أن يفعل فعلا يمنع من الوطء ويدخل عليه الإيلاء جملة من غير تفصيل.
والثاني: أنه يتلوم له على قدر ما يرى أنه أراد بيمينه. واختلف هل يطأ في هذا التلوم أم لا؟ على قولين جاريين على الاختلاف إذا ضرب له أجلا؛ لأن التلوم كضرب الأجل، فإن بلغ التلوم على مذهب من يمنعه من الوطء أكثر من أربعة أشهر دخل عليه الإيلاء. والثالث الفرق بين أن يحلف على حاضر أو غائب، وهو الذي يأتي على ما في سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق.(1/582)
فصل وأما القسم الثالث وهو أن يحلف بالطلاق على مغيب من الأمور فإن كان مما له طريق إلى معرفته لم يعجل عليه بالطلاق حتى يعرف صدقه من كذبه، كالقائل: امرأتي طالق إن لم يجئ فلان غدا، فإن مضى الأجل ولم يعلم صدقه من كذبه حمل من ذلك ما تحمل. وإن كان مما لا طريق له إلى معرفته عجل عليه الطلاق ولم يستأن به. واختلف إن غفل عن الطلاق عليه حتى جاء على ما حلف عليه فيتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يطلق عليه. والثاني: أنه لا يطلق عليه. والثالث: أنه إن كان حلف على غالب ظنه لأمر توسمه مما يجوز له في الشرع لم تطلق عليه، وإن كان حلف على ما ظهر عليه بكهانة أو تنجيم أو على الشك أو على تعمد الكذب طلق عليه.
فصل وأما الوجه الثاني وهو أن يقيد طلاقه بالصفة بلفظ الوجوب، وهو أن يقول: امرأتي طالق إن كان كذا وكذا فإنه ينقسم على أربعة أقسام: أحدها: أن تكون الصفة آتية على كل حال. والثاني: أن تكون الصفة غير آتية على كل حال. والثالث: أن تكون مترددة بين أن تأتي وبين أن لا تأتي من غير أن يغلب أحد الوجهين على الآخر أو يكون الأغلب منهما أنها لا تأتي. والرابع: أن تكون مترددة بين أن تأتي أو لا تأتي والأغلب منهما أنها تأتي. فالأول يعجل عليه فيها الطلاق باتفاق. والثاني يتخرج على قولين. والثالث لا يعجل عليه الطلاق باتفاق. والرابع يختلف فيه عنى قولين منصوصين.(1/583)
[كتاب التخيير والتمليك] [ما جاء في التخيير والتمليك]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد نبيه الكريم
كتاب التخيير والتمليك ما جاء في التخيير والتمليك قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] ، وكان سبب نزول هذه الآية فيما روي «عن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها سألته شيئا من متاع الدنيا إما زيادة في النفقة وإما غير ذلك من عرض الدنيا، فاعتزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه شهرا، فأمره الله أن يخيرهن بهذه الآيات بين الصبر عليه والرضا بما قسم لهن والعمل بطاعة الله، وبين أن يمتعهن ويفارقهن إن لم يرضين بالذي يقسم لهن» . وقيل: إن ذلك كان من أجل «غيرة كانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - غارتها، فبدأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعائشة وكانت أحبهن إليه، فقال لها: " إني ذاكر لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك "، قالت: وقد علم أن أبويَّ لم يكونا ليأمراني بفراقه، فخيرها وقرأ عليها القرآن فقالت له: هل بدأت بأحد من نسائك قبلي؟ قال: " لا "، قالت: ففي أي هذا أستأمر أبويَّ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبرهن بذلك، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني لم أبعث معنتا، وإنما بعثت معلما ومبشرا، وإني لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها. ورئي الفرح في وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باختيار(1/585)
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الله ورسوله والدار الآخرة، ثم تتبع سائر نسائه فجعل يقرأ عليهن من القرآن ويخيرهن ويخبرهن بما فعلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فتتابعن على ذلك، فقصره الله عليهن جزاء على فعلهن، فقال: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52] » ، وهن التسع نسوة أمهات المؤمنين التي توفي عنهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عائشة، وحفصة، وزينب، وميمونة، وصفية، وأم حبيبة، وأم سلمة، وسودة، وجويرية؛ واختارت واحدة منهن نفسها وهي بنت الضحاك العامري، كذا وقع في المدونة. وقيل: إنه لم يكن عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين خير أزواجه إلا التسع نسوة التي توفي عنهن، وهو الصحيح والله أعلم. وسيأتي في الجامع بيان هذا، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وهذا التخيير الذي أمر الله به نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخير به أزواجه ليس فيه تمليكهن الطلاق ولا جعله الأمر إليهن في الفراق، وإنما خيرهن بين أن يخترنه والدار الآخرة ويمسكهن أو يخترن الحياة الدنيا فيمتعهن ويسرحهن، كمن قال لامرأته: إن كنت راضية بالمقام معي على ما أنت عليه فابقي، وإن كنت لا ترضين بذلك فأعلميني أطلقك، إلا أنه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأزواجه إخبار لا حلف فيه؛ لأن الله تبارك وتعالى أمره به، فأشبه التخيير في وجوب الطلاق للمخيرة باختيارها نفسها. وأما من غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس ذلك بتمليك ولا تخيير ولا فيه شبه منه، وإنما هو عدة بالطلاق إن اختارته.
فصل وقد اختلف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ومن بعدهم من التابعين وفقهاء المسلمين فيمن ملك امرأته أو خيرها اختلافا كثيرا؛ إذ لم يرد في ذلك نص في القرآن يرجع إليه، ولا روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك أثر يعول عليه. فمنهم من جعل(1/586)
قضاء الزوجة [في ذلك بتاتا. ومنهم من جعله واحدة رجعية. ومنهم من جعله واحدة بائنة. ومنهم من جعله على ما قضت به] ، من واحدة أو ثلاث، ومنهم من جعله على ما نواه الزوج مع يمينه، ومنهم من قال: ليس لها من الطلاق شيء وإن خيرها زوجها أو ملكها، ومنهم من فرق بين قولها: أنا منك طالق أو أنت مني طالق، ومنهم من رأى الخيار فراقا والتمليك طلاقا قبلت أو ردت، روي ذلك عن جماعة من السلف، وعن ربيعة أنه قاله في التمليك. وهذا القول أضعف الأقاويل؛ لأن السنة ترد ذلك والإجماع على أن أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخترنه إذ خيرهن فلم يكن ذلك فراقا. ومنهم من فرق بين التخيير والتمليك فلم ير التخيير شيئا ورأى التمليك واحدة بائنة، وهو مذهب أبي حنيفة. ولا حجة لأحد منهم على مذهبه من جهة الرأي إلا ويعارضها مثلها؛ إذ ليس في ذلك في الكتاب والسنة نص يجب التسليم له.
فصل وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أن التمليك يفترق من التخيير بما رواه عن عبد الله بن عمر في موطئه حدث عن نافع أن عبد الله بن عمر قال: إذا ملك الرجل امرأته فالقضاء ما قضت إلا أن ينكر عليها فيقول: لم أرد إلا واحدة فيحلف على ذلك ويكون أملك لها ما دامت في عدتها، وهذا أبين ما قيل في ذلك؛ لأن الله تبارك وتعالى جعل أمر الزوجة إلى الزوج وملكه أن يطلقها ما شاء من الطلاق. فإذا قال الرجل لامرأته: أمرك بيدك، فقد جعل بيدها ما كان بيده من طلاقها. هذا ظاهر اللفظ. ويحتمل أن يريد به واحدة واثنتين وثلاثا، فإن كانت له نية في ذلك قبلت منه مع يمينه، وإن لم تكن له نية فالقضاء ما قضت به من واحدة أو ثلاث؛ لأنه الظاهر من لفظه ذلك. وذهب في التخيير إلى أنه لا يكون إلا ثلاثا في المدخول بها، فإن اختارت ثلاثا فهي ثلاث، وإن اختارت واحدة أو اثنتين فلا يكون شيئا؛ لأنه إذا خيرها فإنما خيرها في أن تقيم معه في العصمة أو تخرج عنها، ولا تخرج(1/587)
عن العصمة إلا بالثلاث. هذا مفهومه عنده من قصد التخيير. وإن كانت غير مدخول بها كان حكمها حكم المملكة في المناكرة إن زادت على واحدة؛ لأنها تبين منه وتخرج عن عصمته بما دون الثلاث. وتابع مالكا على ذلك جميع أصحابه إلا ابن الماجشون فقال: إن المخيرة إذا قضت بواحدة أو ثلاث فهي ثلاث.
فصل وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن الرجل إذا ملك امرأته أمرها أو خيرها فليس له أن يرجع عن ذلك. واختلف قوله في الحد الذي يكون إليه أمر المملكة والمخيرة بيدها، فكان أول زمنه يقول ذلك بيدها ما لم ينقض المجلس الذي ملكها أو خيرها فيه، فإن تفرقا منه سقط ما كان بيدها من ذلك إلا أن تقيده بالقبول في المجلس، وهو قول جل أهل العلم. ووجه أن هذا التمليك أمر يقتضي الجواب فوجب أن يكون ذلك بيدها ما داما في المجلس، كالمبايعة إذا قال الرجل للرجل: إن شئت سلعتي فهي لك بكذا وكذا، فهذا لا اختلاف فيه أن ذلك إنما يكون له ما داما في المجلس لم يتفرقا عنه. ثم قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في آخر زمانه: إن أمر المملكة والمخيرة بيدها وإن تفرقا من المجلس ما لم يوقفها السلطان أو تتركه يطأها. ووجه هذا القول أمر خطير يحتاج فيه إلى الاستخارة والاستشارة فافتقر إلى المهلة. وقد «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عند تخييره إياها: ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك» وهذا يدل على أن الأمر بيدها بعد انقضاء المجلس لو أحبت الاستئمار.
فصل واختلاف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا إنما هو إذا واجهها الزوج بالتمليك أو بالخيار أو من فوض الزوج ذلك إليه لاقتضاء ذلك منها الجواب. وأما إذا كتب إليها بذلك كتابا أو أرسل إليها رسولا أو جعل أمرها بيدها إن تزوج عليها أو غاب عنها مدة أو أضر بها أو ما أشبه ذلك فلم يختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن ذلك بيدها وإن لم تقض فيه ساعة وجب لها التمليك، قيل بيمين، وقيل بغير يمين، ما(1/588)
لم يطل ذلك حتى يتبين أنها راضية بإسقاط حقها. والطول في ذلك أكثر من شهرين على ما في سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك، إلا أن يكون الزوج حاضرا حين وجب لها التمليك فتمنعه نفسها فيكون ذلك بيدها وإن طال الأمر، كالأمة تعتق تحت العبد فلا ينقطع خيارها بطول المدة ما منعته نفسها؛ لأن امتناعها منه دليل على أنها باقية على حقها. وروى يحيى عن ابن وهب أن حقها يسقط إذا لم تقض فيه ساعة وجب لها التمليك حتى انقضى المجلس الذي وجب لها فيه قياسا على التمليك الذي تواجه به المملكة، وهو قول أشهب في سماع عبد الملك بن الحسن من الكتاب المذكور، وظاهر ما في سماع عيسى من كتاب النكاح في رسم شهد.
فصل والتمليك ينقسم على ثلاثة أقسام: تمليك مطلق، وتمليك مفوض، وتمليك مقيد. فأما المطلق وهو أن يقول: أمرك بيدك فإنه ينقسم على وجهين: أحدهما: أن يواجهها الزوج بذلك أو من يملكه ذلك. والثاني: أن لا يواجهها به هو ولا من فوض ذلك إليه، وإنما كتب إليها بذلك كتابا أو أرسل به إليها رسولا. وقد تقدم الكلام على هذا. وأما التمليك المفوض فهو أن يقول لها أمرك بيدك إن شئت أو إذا شئت أو متى شئت [أو متى ما شئت، أربعة ألفاظ بها يكون التفويض. وهي تختلف باختلاف معانيها. فأما متى شئت أو متى ما شئت] ، فلا يختلف أن الأمر بيدها ما لم توقف، وإنما يختلف هل يقطع ذلك الوطء أم لا يقطعه على قولين، فيقطعه على مذهب ابن القاسم ولا يقطعه على مذهب أصبغ. وأما إن شئت أو إذا شئت فيختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها قول مالك أن ذلك كالتمليك المطلق سواء. والثاني قول ابن القاسم أن الأمر يكون بيدها ما لم توقف بخلاف مذهبه في التمليك المطلق. والثالث قول أصبغ أنه إن قال، إن شئت كان الأمر بيدها في المجلس، وإن قال: إذا شئت كان الأمر بيدها حتى توقف، ولا يقطع ذلك الوطء عنده في إذا بخلاف قوله إن. واختلف قول ابن القاسم إذا قال: أنت طالق إن(1/589)
شئت، فله في المدونة أن ذلك تفويض والأمر إليها حتى توقف، وله في الواضحة أنه لا قضاء لها إلا في المجلس بخلاف قوله: أمرك بيدك إن شئت، وهو الصحيح. وقد تأول بعض الناس على ما لابن القاسم في المدونة أن أمرك بيدك إن شئت ليس بتفويض بخلاف قوله: أنت طالق إن شئت ووجه ذلك بتوجيه بعيد لا وجه له، حكى ذلك أبو النجاء في كتابه.
فصل وأما التمليك المقيد بصفة، فإنه ينقسم على وجهين: أحدهما: أن لا يكون مشترطا عليه في أصل عقد النكاح. والثاني يكون مشترطا عليه في عقد النكاح. فأما إذا لم يكن مشترطا عليه في عقد النكاح فإنه ينقسم على الأقسام التي قسمنا عليها الطلاق المقيد بصفة فيما ذكرناه في كتاب الأيمان بالطلاق، ويجري الحكم فيه على ذلك في الأقسام كلها، فما كان منها في الطلاق يمينا بالطلاق فهو في التمليك يمين بالتمليك، أو ما لم يكن منها في الطلاق يمينا فلا يكون في التمليك يمينا، وما وجب منها تعجيل الطلاق فيه وجب تعجيل التمليك فيه وكان للمرأة القضاء بما ملكت فيه من ساعتها، وما لم يجب فيه تعجيل الطلاق لم يجب فيه تعجيل التمليك، وما دخل فيها على الحالف بالطلاق الإيلاء دخل فيه على الحالف بالتمليك الإيلاء أيضا، حاشا يمينه بالتمليك على زوجته أن تفعل فعلا أو ألا تفعله، فإن الحكم في ذلك أن توقف من ساعتها، فإما أن تفعل ذلك الفعل إن كان قال لها: أمرك بيدك إن فعلت كذا وكذا أو تقول: لا أفعله إن كان قال لها: أمرك بيدك إن لم تفعلي كذا وكذا فيجب لها التمليك، أو تخالف ذلك فيسقط ما جعل لها منه قياسا على قوله في الكتاب أمرك بيدك إن أعطيتني كذا وكذا. وللزوج أن يناكر الزوجة في جميع ما يجب لها التمليك من ذلك إن قضت بأكثر من طلقة بنية يدعيها.(1/590)
فصل وأما إذا كان ذلك مشترطا عليه في عقد النكاح فينقسم ذلك أيضا على الأقسام المذكورة ويكون الحكم فيها سواء إلا في وجهين: أحدهما: أن الزوج لا يناكرها، والثاني: أن التمليك لا يلزم إذا قيد بشرط يعلم أنه لا يكون أصلا باتفاق، وذلك مثل أن تشترط إن تزوج عليها فأمرها بيدها إن مس السماء وما أشبه ذلك. لأنها اشترطت ما لا منفعة لها فيه.
فصل والمناكرة تجب للزوج بثلاثة أوصاف: أحدها: أن لا يكون التمليك مشترطا عليه، والثاني: أن يدعي نية اعتقدها عند التمليك، والثالث: أن يناكرها في الحال، فإن لم يفعل حتى طال الأمر لم يكن له مناكرتها، ولا يدخل في ذلك اختلاف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في المملكة، قاله أبو بكر بن عبد الرحمن.
فصل وإذا خير الرجل امرأته أو ملكها فقد جعل إليها ما كان بيده من الطلاق، فإن أجابته في المجلس أو بعده ما لم توقف أو تتركه يطأها على أحد قولي مالك فلا تخلو إجابتها إياه من عشرة أوجه: أحدها: أن تفصح بالطلاق واحدة أو ثلاثا. الثاني: أن تجيب بشيء من كناياته. والثالث: أن تجيب بشيء يحتمل أن تريد به الطلاق وأن لا تريد به الطلاق. والرابع: أن تجيب بما يحتمل أن تريد به الثلاث وأن تريد به الواحدة والاثنتين. والخامس: أن تجيب بما ليس من معنى الطلاق في شيء. والسادس: أن لا تجيب بشيء وتفعل فعلا يشبه الجواب. والسابع: أن تقيد الاختيار بشرط. والثامن: أن تقيد القبول. والتاسع: أن تفوض الأمر إلى غيرها. والعاشر: أن تفصح باختيار زوجها.(1/591)
فصل فأما إذا أفصحت بالطلاق فهو على ما أفصحت به، فإن أفصحت بالثلاث مثل أن تقول: قد طلقت نفسي ثلاثا أو قبلت نفسي أو اخترت نفسي أو حرمت عليك أو برئت منك أو بنت منك؛ فهذا تكون به مطلقة ثلاثا في التخيير وفي التمليك قبل الدخول أو بعده، [إلا أن يناكرها في الخيار قبل الدخول وفي التمليك قبل الدخول وبعده] ، فيكون ذلك له إذا ادعى نية، ولا تسأل في ذلك عن شيء، ولا تصدق إن ادعت أنها لم ترد به الطلاق أو أنها لم ترد بذلك الثلاث. وكذلك إذا قالت: طلقت نفسي واحدة أو اثنتين لا تسأل عن شيء ولا تصدق إن ادعت أنها لم ترد الطلاق، ويكون كما قال في التمليك، إلا أن ينكر عليها فيما زادت على الواحدة، ولا يكون في التخيير شيئا. وأما إذا أجابت بشيء من كنايات الطلاق مثل أن تقول: قد خليت سبيلك أو تركتك أو فارقتك أو رددتك إلى أهلك وما أشبه ذلك فيحمل قولها في ذلك على ما يحمل عليه قول الزوج ابتداء فيما يكون من الطلاق وما ينوى فيه مما لا ينوى.
وأما إذا أجابت بما يحتمل أن تريد به الطلاق وأن لا تريد به الطلاق مثل أن تقول: قد قبلت أمري أو قد اخترت أو قد شئت أو قد رضيت فهذه تسأل عما أرادت بذلك، فما قالت قبل منها وجرى الحكم في التخيير والتمليك على حسب ذلك.
وأما إذا أجابت بما يحتمل أن تريد به الثلاث أو تريد به الواحدة أو الاثنتين ففي ذلك ثلاثة ألفاظ: أحدها: أن تقول قد طلقت نفسي. والثاني: أن تقول أنا طالق. والثالث: أن تقول قد اخترت الطلاق. فأما إذا قالت قد طلقت نفسي فاختلف في ذلك على خمسة أقوال: أحدها: أنها تسأل في المجلس وبعده في التخيير والتمليك كم أرادت بذلك؟ فإن لم تكن لها نية فهي ثلاث إلا أن يناكرها في التمليك. وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنها تسأل أيضا في المجلس وبعده في التخيير والتمليك أيضا، فإن لم تكن لها نية فهي واحدة تلزم(1/592)
في التمليك وتسقط في الخيار. والثالث: أنها لا تسأل لا في التخيير ولا في التمليك، وهي واحدة تلزم في التمليك وتسقط في الخيار. فإن قالت في المجلس أردت ثلاثا فهي ثلاث إلا أن يناكرها في التمليك، وهو قول ابن القاسم في الواضحة. والرابع: أنها لا تسأل في التخيير ولا في التمليك وهي ثلاث إلا أن تقول في المجلس: أردت واحدة فتسقط في الخيار، وهو قول أصبغ في الواضحة. والخامس: أنها لا تسأل في التمليك وهي واحدة إلا أن تريد أكثر من ذلك فيكون للزوج أن يناكرها، وتسأل في التخيير فإن قالت: أردت ثلاثا صدقت وكانت ثلاثا، وإن قالت أردت واحدة أو اثنتين أو لم تكن لي نية أو افترقا من المجلس قبل أن تسأل سقط خيارها. وأما إن قالت أنا طالق فلا تسأل في تمليك ولا تخيير، وتكون واحدة تلزم في التمليك وتسقط في الخيار، إلا أن تقول في المجلس نويت ثلاثا فيلزم في الخيار، ويكون في التمليك للزوج أن يناكرها، ولا أحفظ في هذا نص خلاف.
وأما إن قالت قد اخترت الطلاق فالذي أرى فيه على أصولهم أنها تسأل في التمليك والتخيير؛ لأن هذه الألف واللام قد يراد بها الجنس فتكون ثلاثا، ويراد بها العهد وهو الطلاق السني المشروع فتكون واحدة. فإذا احتمل اللفظ الوجهين وجب أن تسأل أيهما أرادت، فإن قالت لم تكن لي نية كانت ثلاثا على قول أصبغ في الواضحة. ومذهب ابن القاسم في المدونة في التي تقول قد طلقت نفسي ولا نية لها أنها واحدة. ويحتمل أن تكون الألف واللام للعهد وهو الطلاق الذي ملكت إياه فيكون ثلاثا. وقد كان ابن زرب يتوقف عن الجواب في هذه المسألة إذ لم يجد فيها في المدونة والعتبية شيئا إلى أن وجد في زعمه في العتبية ما دله على(1/593)
أنها تكون واحدة إلا أن تريد بذلك ثلاثا. وهذا الاختلاف الواقع بين ابن القاسم وابن وهب في الذي يحلف غريمه بالطلاق ليدفعن إليه حقه إلى أجل، فيقول صاحب الحق أردت ثلاثا، ويقول الغريم أردت واحدة. قال فلو كانت هذه اللفظة لا تقع إلا على ثلاث تطليقات عند ابن القاسم لما قال القول قول صاحب الحق ولقال هي ثلاث قال صاحب الحق: إنه نواها أو لم يقل. ولو كانت لا تقع أيضا عند ابن وهب إلا على ثلاث تطليقات لما قال القول قول الغريم. ولا دليل له فيما استدل به من ذلك على مذهبه؛ لأن اللفظ قد يراد بها الواحدة وقد يراد بها الثلاث على ما بيناه، فجعلها ابن القاسم ثلاثا على نية المحلوف له، وجعلها ابن وهب واحدة على نية الحالف، ولا إشكال في المسألة مع وجود النية بواحدة أو ثلاث، وإنما الإشكال عند عدمها. والصحيح على مذهب ابن القاسم في المدونة ما ذكرته. واستدل على مذهبه في ذلك بقول الله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، وبحديث زبراء قالت: فقلت هو الطلاق ثم الطلاق ثم الطلاق ففارقته ثلاثا. فأما الآية فلا متعلق له فيها، وأما الحديث فله فيه وجه من التعلق. قال اللخمي:
فإن قائل قائل: لأي شيء لا يكون التخيير ثلاثا إذا قالت قد اخترت الطلاق ولم تنو شيئا إذ لا خيار لها إلا في الثلاث؟
قيل له: يلزمك أن تقول هذا في قولها في التخيير قد طلقت نفسي ولا نية لها [أنها ثلاث؛ إذ لا خيار لها إلا في الثلاث. وهذا محال أن يجعل قولها قد طلقت نفسي ولا نية لها] ثلاثا.
قلت: ما هو بمحال، وأصبغ يرى أنها ثلاث في التمليك فكيف في الخيار، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة.(1/594)
وأما إذا أجابت بما ليس من معنى الطلاق، مثل أن تقول أنا أشرب الماء وأنا أضرب عبدي وما أشبه ذلك فهذا يسقط خيارها ولا تصدق إذا ادعت أنها أرادت بذلك الطلاق. وأما إذا لم تجب بشيء وفعلت فعلا يشبه الجواب مثل أن تنقل متاعها أو تخمر رأسها وما أشبه ذلك فإنها تسأل ما أرادت بذلك، فإن قالت لم أرد بذلك الفراق صدقت، وإن قالت أردت بذلك الطلاق صدقت فيما قالت منه، فإن قالت أردت الثلاث كان في الخيار ثلاثا، وكان له في التمليك أن يناكرها إن ادعى نية. وإن قالت أردت بذلك الفراق ولم تكن لي نية في عدد الطلاق، فعلى قول محمد بن المواز هي في التمليك واحدة رجعية. وفي التفسير ليحيى عن ابن القاسم أنها ثلاث. فإن سكت ولم ينكر عليها فعلها ولا سألها عما أرادت حتى افترقا من المجلس فقالت بعد افتراقهما منه أردت بذلك ثلاثا فذلك لها إلا أن يناكرها بنية يدعيها وقت القول ويحلف على ذلك، قال أصبغ بيمينين: يمين أنه لم يعلم أن ما فعلته يلزمه به البتة ولا رضي بذلك، ويمين أنه نوى واحدة.
وقال ابن المواز: يجمع ذلك في يمين واحدة. وفي العشرة ليحيى عن ابن القاسم أن انتقالها وسكوته على ذلك دون أن يسألها في المجلس عما تريد بانتقالها يوجب عليه طلاق البتات بكل حال، ولا يناكرها إن قالت أردت الثلاث، ولا تصدق إن قالت أردت واحدة. وأما إذا قيدت الإجابة بشرط فإن الشرط ينقسم على أربعة أقسام: أحدها: أن يكون الشرط يحتمل أن يكون وأن لا يكون. والثاني: أن يكون محتملا أيضا والأغلب منه أن يكون. والثالث: أن يكون مما يعلم أنه لا بد أن يكون في المدة التي يمكن أن يبلغا إليها. والرابع: أن يكون مما يعلم أنه لا يكون. فأما الوجه الأول وهو مثل أن تقول قد اخترت نفسي إن دخلت على ضرتي أو إن قدم فلان وما أشبه ذلك ففيه قولان: أحدهما قول ابن القاسم في المدونة أن الأمر يرجع إليها فتقضي أو ترد. والثاني قول سحنون أن ذلك رد لما جعل لها ولا قضاء لها. وأما الوجه الثاني وهو مثل أن تقول: قد اخترت نفسي إذا حاضت فلانة فتكون طالقا مكانها على مذهب ابن القاسم، وعلى مذهب أشهب يرجع الأمر إليها فتقضي أو(1/595)
ترد. وأما الوجه الثالث وهو مثل أن تقول قد اخترت نفسي إذا جاء العيد أو أهل الهلال وما أشبه ذلك فإنها تكون طالقا مكانها. وأما الوجه الرابع وهو أن تقول: قد اخترت نفسي إن مسست السماء فإنه يكون ردا لما جعل إليها ولا يكون لها أن تقضي، لا يختلف أصحابنا في جملة هذه الأقسام، ولهم في تفاصيلها اختلاف كثير على ما هو مذكور في الأمهات، فليس هذا موضع ذكره. وأما إذا قيدت القول بذلك مثل أن تقول: قد قبلت لأنظر في أمري فهذا يكون الأمر بيدها وإن انقضى المجلس حتى توقف بلا اختلاف.
وأما إذا فوضت الأمر إلى غيرها فذلك أن تقول: قد شئت إن شاء فلان أو قد فوضت أمري إلى فلان ففي ذلك قولان: أحدهما: أن ذلك جائز إن كان فلان حاضرا أو قريب الغيبة. قال في سماع عيسى مثل اليومين والثلاثة، وقال في الواضحة أصبغ عن ابن القاسم مثل اليوم وما أشبهه، وإن كان بعيد الغيبة رجع الأمر إليها. والثاني قول أصبغ: إنه ليس لها أن تحول الأمر إلى غيرها وإن كان حاضرا، ويرجع الأمر إليها فتقضي أو ترد. وقول أصبغ هذا يأتي على رواية علي بن زياد عن مالك في كتاب الخيار من المدونة، فتأمل ذلك. وأما الوجه العاشر وهو أن تفصح باختيارها زوجها فلا كلام فيه.
فصل هذا تفسير ألفاظ المرأة في الاختيار. وأما تقسيم ألفاظ الرجل في الطلاق فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: نص، وظاهر، ومحتمل. فالنص ما نص على عدد الطلاق فيه، والظاهر ما لا ينوى فيه مع قيام البينة عليه لادعائه خلاف ظاهر لفظه، وذلك ينقسم على قسمين: أحدهما: أن يأتي بلفظ ظاهره الطلاق [فيقول لم أرد به الطلاق. والثاني: أن يأتي بلفظ ظاهره الثلاث فيقول لم أرد الثلاث. فأما إذا أتي بلفظ ظاهره الطلاق، فيقول لم أرد به الطلاق] ، وقد حضرته البينة فلا يصدق قبل الدخول ولا بعده. وذلك مثل أن يقول: امرأتي طالق ثم يقول لم أرد به الطلاق، وإنما أردت أنها طالق من وثاق وما أشبه ذلك، فإنه لا يصدق إلا أن يأتي بما يدل(1/596)
على صدقه فيما ادعى من النية، وذلك مثل أن يكون الكلام خرج على سؤال إطلاقه إياها من وثاق كانت فيه. واختلف إن علم أنها كانت في وثاق هل يكون ذلك دليلا على صدقه أم لا؟ على قولين. وإن أتى مستفتيا صدق على كل حال إلا على مذهب من يرى أن مجرد اللفظ دون النية يوجب الطلاق. والقولان قائمان من المدونة. فإن أتى بلفظ ظاهره الثلاث فيقول لم أرد به الثلاث فإنه ينقسم على وجهين: أحدهما لا يصدق فيه قبل الدخول ولا بعده، وذلك مثل أن يقول أنت بائنة. والثاني يصدق قبل الدخول ولا يصدق بعده، وذلك مثل أن يقول أنت خلية أو برية أو حبلك على غاربك وما أشبه ذلك.
وأما المحتمل فهو ما ينوى فيه بكل حال، وإن لم تكن له نية حكم على أظهر محتملاته. وذلك ينقسم على خمسة أقسام: أحدها: لفظ يحتمل أن يراد به الطلاق، ويحتمل أن لا يراد به الطلاق، [والأظهر أن لا يراد به الطلاق] ، فيحمل عليه إن لم تكن له نية. والثاني: لفظ يحتمل أن يراد به الطلاق ويحتمل أن لا يراد به الطلاق، والأظهر أن يراد به الطلاق، فيحمل عليه إن لم تكن له نية. والثالث: لفظ يحتمل أن يراد به الثلاث ويحتمل أن يراد به الواحدة، والأظهر منه أن يراد به [واحدة قبل الدخول وبعده فيحمل عليه إن لم تكن له نية. والرابع: لفظ يحتمل أن يراد به الثلاث ويحتمل أن يراد به الواحدة والأظهر أنه يراد به] الثلاث قبل الدخول وبعده، فيحمل عليه إن لم تكن له نية. والخامس: لفظ يحتمل أن يراد به الثلاث ويحتمل أن يراد به الواحدة والأظهر منه قبل الدخول الواحدة وبعد الدخول الثلاث، فيحمل على ذلك إن لم تكن له نية.
فالأول مثل أن يقول لامرأته: لست لي بامرأة أو ما أنت لي بامرأة. والثاني مثل أن يقول لامرأته: لا نكاح بيني وبينك أو لا ملك لي عليك. والثالث مثل أن يقول لامرأته: قد طلقتك أو أنت طالق أو ما أشبه ذلك. والرابع مثل أن يقول لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. والخامس مثل أن يقول لامرأته: قد خليت سبيلك أو قد خليتك أو قد فارقتك. وهذا تقسيم صحيح(1/597)
ليس يشذ عنه شيء من ألفاظ الطلاق إلا رواية عيسى عن ابن القاسم فيمن قال لأهل امرأته: شأنكم بها أنها قبل الدخول واحدة إلا أن ينوي ثلاثا، وبعد الدخول ثلاثا ولا ينوى. وما يوجد من الاختلاف في المذهب في بعض ألفاظ الطلاق إنما هو لاختلافهم في ذلك اللفظ من أي قسم هو من الأقسام التي ذكرناها، فقد روي عن أشهب في سرحتك أنها واحدة في المدخول بها، فيأتي من القسم الثالث على مذهبه. فافهم هذا وتدبره تجده صحيحا إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.(1/598)
[كتاب الظهار]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
كتاب الظهار الظهار تشبيه الرجل وطء من تحل له من النساء بوطء من تحرم عليه منهن تحريما مؤبدا بنسب أو صهر أو رضاع. وكانت العرب تكني عن ذلك بالظهر فتقول: امرأتي علي كظهر أمي، ولذلك سمي ظهارا؛ لأنه مأخوذ من الظهر، وإنما اختص الظهر بالتحريم في الظهار دون البطن والفرج وسائر الأعضاء وإن كانت أولى بالتحريم منه؛ لأن الظهر موضع الركوب، والمرأة مركوبة عند الغشيان. فإذا قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فإنما أراد أن ركوبها للنكاح عليه حرام كركوب أمه للغشيان، فأقام الركوب مقام النكاح؛ لأن الناكح راكب، وأقام الظهر مقام الركوب؛ لأنه موضع الركوب. وهذا من لطيف الاستعارة للكناية. وهو على أربعة أوجه: تشبيه جملة بجملة، وبعض ببعض، وبعض بجملة، وجملة ببعض. وهي كلها سواء في الحكم، إلا أن يكون البعض الذي شبه من زوجته أو شبه به زوجته مما ينفصل عنها أو عن المشبه بها من ذوات المحارم كالكلام أو الشعر، فيجري ذلك على الاختلاف فيمن طلق ذلك من زوجته. وله صريح، وكناية. فصريحه عند ابن القاسم وأشهب وروايتهما عن مالك أن يذكر الظهر في ذات محرم. وكناياته عند ابن القاسم أن لا يذكر الظهر في ذات محرم أو يذكر الظهر في غير ذات محرم. ومن كناياته عند أشهب أن لا يذكر الظهر في غير ذات محرم. ومن صريحه عند ابن الماجشون أن لا يذكر الظهر في ذات محرم، وليس من كناياته عنده أن يذكر الظهر في غير ذات محرم، فلا كناية عنده للظهار. والفرق بين(1/599)
الصريح من الظهار وكناياته فيما يوجبه الحكم أن كنايات الظهار إن ادعى أنه أراد به الطلاق صدق أتى مستفتيا أو حضرته البينة، وأن صريح الظهار لا يصدق إن ادعى أنه أراد به الطلاق إذا حضرته البينة، ويؤخذ من الطلاق بما أقر به ومن الظهار بما لفظ به، فلا يكون له إليها سبيل وإن تزوجها بعد زوج حتى يكفر كفارة الظهار. وقد قيل: إنه يكون ظهارا على كل حال ولا يكون طلاقا وإن نواه وأراده، وهي رواية أشهب عن مالك وأحد قولي ابن القاسم.
فصل وكان الظهار في الجاهلية طلاقا وفي أول الإسلام إلى أن أنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2] . فأخبر تعالى أن لفظ الظهار الذي كانوا يطلقون به نساءهم منكر من القول وزور. والمنكر من القول هو الذي لا تعرف حقيقته، والزور الكذب، وإنما قال تعالى فيه: إنه كذب؛ لأنهم صيروا به نساءهم كأمهاتهم، وهن لا يصرن كأمهاتهم ولا كذوي محارمهم؛ لأن ذوي المحارم لا يحللن له أبدا، وليس كذلك الأجنبيات. فأخرجه الله عز وجل من باب الطلاق إلى باب الكفارة، ثم أعلمنا كيف يكون الحكم في ذلك فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4] .(1/600)
فصل ونزلت سورة قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها إلى آخر باب الظهار في امرأة من الأنصار اختلف في اسمها، فقيل: خولة، وقيل: خويلة، وفي نسبها فقيل: إنها بنت ثعلبة، وقيل: بنت الصامت، وقيل: بنت الدليح، [وقيل: بنت خويلد] .
فصل وكانت مجادلة هذه المرأة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زوجها أوس بن الصامت مراجعتها إياه في أمره وما كان من قوله لها: أنت علي كظهر أمي ومحاورتها إياه في ذلك. وذلك أنها «أتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعائشة تغسل شق رأسه فقالت: يا رسول الله، طالت صحبتي مع زوجي، وأكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حرمت عليه، فقالت: أشكو إلى الله فاقتي إليه، ثم قالت: يا رسول الله، طالت صحبتي مع زوجي ونفضت له بطني وظاهر مني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حرمت عليه، فكلما قال لها ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هتفت وصاحت وقالت: إلى الله أشكو فاقتي، فنزل الوحي وقد قامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر، فأومأت إليها عائشة أن اسكتي. فلما قضى الوحي قال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ادعي لي زوجك، فتلا عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] ... إلى قوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتستطيع أن تعتق رقبة؟ ، فقال: لا. قال: فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال: يا رسول الله، إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات خشين أن يعشو بصري، قال: فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ ، قال: لا يا رسول الله، إلا أن تعينني، فأعانه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأطعم ستين مسكينا(1/601)
وراجعها» . والأحاديث في هذه القصة كثيرة، وفي بعضها «أن أوس بن الصامت لما ظاهر من امرأته قالت له: والله ما أراك إلا قد أثمت في شأني لبست جدتي وأفنيت شبابي وأكلت مالي، حتى إذا كبرت سني ورق عظمي واحتجت إليك فارقتني. قال: فما أكرهني بذلك اذهبي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانظري هل تجدين عنده شيئا في أمرك، فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له فقال لها: " ما أراك إلا قد بنت منه "، فقالت: إلى الله أشكو فاقتي إلى زوجي، فقالت عائشة: سبحان من وسع سمعه الأصوات، فإني لأرجل رأس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسمع بعض كلامها ويخفى علي بعضه إذ نزل الوحي: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1] الآيات إلى آخره، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعتق رقبة» إلى آخر الحديث.
فصل فالظهار تحريم ترفعه الكفارة، وهو حرام. والدليل على تحريمه أن الله سماه منكرا من القول وزورا، والزور: الكذب، والكذب حرام بإجماع. ووصف نفسه في آخر الآية بالعفو والغفران، ولا يغفر ولا يعفو إلا عن المذنبين. والكفارة لا تجب بمجرد لفظ الظهار حتى تنضاف إليه العودة في قول جماعة العلماء، حاشا مجاهد؛ فإنه أوجب الكفارة عن المظاهر بمجرد الظهار، وليس ذلك بصحيح لقول الله عز وجل: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] .
فصل وقد اختلفوا في العودة الموجبة على المظاهر الكفارة على ستة أقوال:
أحدها: إرادة الوطء والإجماع عليه، وهو قول مالك في موطئه، أنه إذا أراد الوطء وأجمع عليه فقد وجبت عليه الكفارة وإن مات أو طلقها.(1/602)
والثاني: أنه إرادة الوطء والإجماع عليه مع استدامة العصمة، فمتى انفرد أحدهما دون الآخر لم تجب الكفارة. فإن أجمع على الوطء ثم قطع العصمة بطلاق فلم يستدمها أو انقطعت بموت سقطت الكفارة، وإن كان قد عمل بعضها سقط عنه سائرها. وكذلك إن استدام العصمة ولم يرد الوطء ولا أجمع عليه لم تجب عليه الكفارة، بل لا تجزئه إن فعلها وهو غير عازم على الوطء ولا مجمع عليه. هذا قول مالك في المدونة، وعليه جماعة أصحابه، وهو أصح الأقاويل وأجراها على القياس وأتبعها لظاهر القرآن؛ لأنه إذا أراد الوطء وجب عليه تقديم الكفارة قبله؛ لقول الله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ، ما لم تنقطع العصمة أو ترجع نيته عن إرادة الوطء إلا أن يطأها، فإن وطئ لزمته الكفارة وترتبت في ذمته ككفارة اليمين بالله تعالى إذا حنث فيها، إلا أن الحالف بالله مخير بين أن يقدم الكفارة قبل الحنث أو يحنث قبل الكفارة، والظهار لا يجوز أن يطأها قبل الكفارة لقول الله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] .
والثالث: أن العودة الوطء نفسه. وقد روي هذا القول عن مالك، حكى الثلاثة الأقوال عنه عبد الوهاب. فعلى هذا القول: لا تجزئه الكفارة قبل الوطء، وإن أراد الوطء وأجمع عليه واستدام العصمة، وله أن يطأ قبل الكفارة مرة، فإذا وطئ وجبت عليه الكفارة إن أراد الوطء ثانية واستدام العصمة، فإن رجعت نيته عن الوطء وانقطعت العصمة بموت أو فراق سقطت عنه الكفارة ما لم يطأها ثانية. وقد حكى هذا القول أصبغ في العتبية عن أهل المشرق ومن يرتضى من أهل المدينة.
والرابع: قول الشافعي ومن قال بقوله إن العودة استدامة العصمة وترك الفراق، وأنه متى ظاهر من زوجته ولم يطلقها طلاقا متصلا بالظهار فقد وجبت عليه الكفارة، وهو قول فاسد، يدل على فساده القرآن واللغة، على أن أصحابه يدعون له علم اللغة. لأن الله تبارك وتعالى قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] ، وثم توجب التراخي عند جميع أهل اللغة، لا اختلاف بينهم أن الرجل إذا قال: لقيت زيدا ثم عمرا، أن المفهوم من قوله لقي عمرا بعد زيد بزمان. والعصمة لم تنفصل بالظهار، فكيف يصح أن يقال ثم يكون كذا لما لم يزل كائنا، هذا محال. وقوله: هذا خطأ أيضا(1/603)
من وجه آخر؛ لأنه إنما أوجب عليه الكفارة بترك الطلاق، فيكون معنى قَوْله تَعَالَى على مذهبه: {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] ، بمعنى ثم لم يطلقوا، وقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] إيجاب، ولم يطلقوا نفي. ولو صح ذلك لكان الإيجاب نفيا والنفي إيجابا وهذا محال. وقوله خطأ أيضا من وجه ثالث، وهو أن قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] يوجب أن يحدث منهم شيء لم يكن قبل، والمظاهر لم يطلق في حال الظهار ولا قبله، فإذا ظاهر ثم لم يطلق بعد الظهار فهو كما كان قبل لم يحدث منه شيء بعد لا فعل ولا قول، فيستحيل معنى قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] لأن العائد إنما يعود لشيء كان فارقه، والمظاهر لم يفارق زوجته بالظهار، وإنما فارق به المسيس، فهو المعنى المقصود بالعودة إليه والله أعلم.
وقد احتج بعض أصحاب الشافعي له في أن العودة تركها زوجة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37] ، وقال تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22] ، فسمى تعالى بقاءهم في النار وإقرارهم فيها إعادة. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل أن يكونوا تحاملوا للخروج كاضطراب المجلود فتأخذه المقامع فترده إلى حالته الأولى. ولو صح بما احتج به أن يكون البقاء إعادة لما كان في ذلك حجة؛ لأن الله تبارك وتعالى إنما أوجب الكفارة بالعودة لما كان ممنوعا منه بالظهار وهو الوطء. وأما العصمة فلم يكن ممنوعا منها بالظهار ولا منفصلا عنها. وروي عن ابن نافع أن الكفارة تصح مع استدامة العصمة وإن لم ينو المصاب ولا أراده، وهو شاذ خارج عن أقاويل العلماء لا وجه له إلا مراعاة قول من أوجب عليه الكفارة بمجرد استدامة العصمة، وهو وجه ضعيف. كيف تصح له الكفارة وينحل بها الظهار وهو لم يرد بها التحلل؛ إذ قد فعلها وهو لا يريد المصاب.
والخامس: أن العودة أن يعود فيتكلم بالظهار مرة أخرى، وهو مذهب داود وأهل الظاهر، وروي مثله عن بكير بن الأشج، وهو قول فاسد بين الفساد لبعده من النظر وخلافه للآثار. وحديث المظاهر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد رواه بكير بن(1/604)
الأشج وغيره، وكلهم ذكر أنه ظاهر مرة واحدة فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكفارة، فليس معنى قول الله عز وجل: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] ، أن يرجعوا إلى نفس القول بالظهار؛ لأن القول الأول لا يخلو من أن يكون أوجب الظهار أو لم يوجبه. فإن كان أوجبه فالثاني تأكيد له، وإن كان لم يوجبه فالثاني لا يوجبه أيضا لأنه مثله، وإنما معنى قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أي يعودون في تحريم ما حرموه على أنفسهم من أزواجهم بتظاهرهم وهو الوطء فيتحللونه بإرادة الوطء والإجماع عليه.
والسادس: ما ذهب إليه ابن قتيبة أن المعنى في قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أنه العودة في الإسلام إلى نفس القول بالظهار الذي كانوا يظاهرون به في الجاهلية ويعدونه طلاقا.
فصل وقد قيل: إن الآية فيها تقديم وتأخير، وتقديرها والذين يظهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، ثم يعودون لما قالوا.
فصل واختلف في قَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] فحمله أكثر أهل العلم على عمومه فقالوا: لا يقبل المظاهر ولا يباشر ولا يمس حتى يكفر، وهو مذهب مالك وأكثر أصحابه. وقال الحسن وعطاء والزهري وقتادة: ليس على عمومه، والمراد به الوطء خاصة، فللمظاهر أن يقبل ويباشر ويطأ في غير الفرج، وإنما نهي عن الجماع. واختلف الذين حملوا الآية على عمومها في الوطء وما دونه إن قبل أو باشر في خلال الكفارة قبل أن يتمها، فقال أصبغ وسحنون: يستغفر الله ولا شيء عليه، وقال مطرف: يبتدئ الكفارة.(1/605)
فصل والامتناع مما عدا الوطء على مذهب مطرف واجب، وعلى مذهب أصبغ وسحنون مستحب، وعلى مذهب الحسن ومن قال بقوله مباح. وأما الوطء فلا خلاف في وجوب الامتناع منه إلا على مذهب من يرى أن العودة الوطء فإنه أباح له الوطء مرة. وقد تقدم ذكر ذلك.
فصل وأصل الظهار في ذوات المحارم، فإذا ظاهر بشيء من ذوات المحارم وهو مظاهر سمي [مظاهرا، سمى] الظهر أو لم يسمه، أراد بذلك الظهار أو لم تكن له نية. فإن أراد بذلك الطلاق ولم يرد به الظهار فقول ابن القاسم في رواية عيسى عنه من كتاب الأيمان بالطلاق أنه يكون طلاقا بتاتا ولا ينوى في واحدة ولا اثنتين. وقال سحنون: ينوى فيما أراده من الطلاق، وهو الأظهر؛ لأنه لفظ بما ليس من ألفاظ الطلاق، فوجب أن يوقف الأمر على ما نوى بذلك. هذا نص قول ابن القاسم أنه إذا ظاهر بذات محرم وأراد بذلك الطلاق أنه طلاق سمى الظهر أو لم يسمه.
ومساواته في هذا الوجه بين أن يسمي الظهار أو لا يسميه إنما يصح على مذهبه فيما بينه وبين الله تعالى إذا أتى مستفتيا. وأما إذا حضرته البينة وطولب بحكم الظهار فإن كان قد سمى الظهر حكم عليه بالظهار؛ لأن البينة قد حضرته بالإفصاح به، ولم يصدق في طرح الكفارة عن نفسه وقضي عليه بالطلاق لإقراره أنه نواه وأراده، وكان من حق المرأة إن تزوجها بعد زوج أن تمنعه نفسها حتى يكفر كفارة الظهار. وإن كان لم يسم الظهر لم يحكم عليه بالظهار وصدق أنه لم يرد الظهار إذا لم يصرح به. وهذا أصل من أصولهم أن من ادعى نية مخالفة لظاهر لفظه لا يصدق فيها. وقول ابن الماجشون: أنه يكون ظهارا، ولا يكون طلاقا وإن نواه وأراده. وحجته أن الذي ظاهر على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنزل الله فيه(1/606)
الكفارة قد أراد الطلاق على ما كانوا يعرفونه في الجاهلية فلم يكن ذلك طلاقا، فألزمه ابن الماجشون الظهار بمجرد اللفظ دون النية وإن أتى مستفتيا فيما بينه وبين الله. ويلزمه مثل ذلك في الطلاق، وهو قول مالك في المدونة فيمن قال لامرأته: أنت طالق، وقال: أردت من وثاق.
والاختلاف في هذا قائم من المدونة. ولم يلزمه ابن الماجشون الطلاق وهو قد أراده بلفظ أنت علي كظهر أمي؛ إذ ليس هو من ألفاظ الطلاق؛ لأن الله قد أخرجه عن أن يكون من ألفاظه. فمن لفظ على مذهبه بحرف ليس من حروف الطلاق وأراد به الطلاق لم يلزمه طلاق، وهو قول مطرف في الثمانية وروايته عن مالك. وقال أشهب: إلا يلزمه الطلاق إلا أن يريد أنها طالق إذا فرغت من اللفظ، لا طالق بنفس اللفظ، وهو قول لا وجه له. وروى أشهب، عن مالك أنه يكون طلاقا إن لم يسم الظهر وظهارا إن سماه. وهذا الاختلاف كله إن نوى الطلاق. وأما إن لم تكن له نية أو نوى الظهار فهو ظهار سمى الظهر أو لم يسمه. وقد فسر بعض الشيوخ ما في المدونة برواية أشهب عن مالك، وحكى أبو إسحاق التونسي أنه مذهب ابن القاسم في كتاب ابن المواز. والصواب أن تفسير ما في المدونة برواية عيسى عن ابن القاسم، وعلى رواية أشهب عول أبو بكر الأبهري فقال: إن صريح الظهار ظهار وإن نوى به الطلاق، كما أن صريح الطلاق طلاق وإن نوى به الظهار. وهذا لا يصح على مذهب ابن القاسم في رواية عيسى عنه، بل يخالف في الطرفين فيقول: إن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق، وقال: أردت بذلك الظهار يلزمه الظهار بما أقر من نيته والطلاق بما أظهر من لفظه، وقد بينا مذهبه في الظهار.
فصل وأما الظهار بالأجنبية فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن الماجشون: أنه لا يكون مظاهرا بالأجنبية سمى الظهار أو لم يسمه، أراد بذلك الظهار أو لم يرده، وتكون امرأته بتظاهره منها بالأجنبية طالقا إلا أن يريد بقوله مثل فلانة في هوانها عليه ونحو هذا. فينوى في ذلك ولا يلزمه شيء. وقد رأيت لبعض(1/607)
الشيوخ أنه قال: معنى قول ابن الماجشون إنه لا يكون مظاهرا بالأجنبية إذا لم تكن له نية وأراد الطلاق. وأما إن قال: أردت بذلك الظهار فإن الظهار يلزمه إن تزوجها بعد زوج يؤخذ بالطلاق بقوله وبالظهار بنيته. والصحيح من مذهبه أن الظهار لا يلزمه بالأجنبية وإن نواه وأراده، كما لا يلزمه الطلاق بذوات المحارم وإن نواه وأراده؛ إذ لا فرق بين الموضعين.
والثاني رواية أبي زيد عن أشهب أنه يكون مظاهرا بالأجنبية سمى الظهر أو لم يسمه. والثالث قول ابن القاسم في المدونة: أنه إن سمى الظهر فهو مظاهر إلا أن يريد بذلك الطلاق، وإن لم يسمه فهو طلاق، ولا يصدق أنه أراد الظهار بذلك إلا إن أتى مستفتيا. فإن لم يأت مستفتيا وحضرته البينة ألزم الطلاق بما شهد به عليه من لفظه، والظهار بما أقر به على نفسه من نيته، وإن تزوجها بعد زوج لم يقربها حتى يكفر كفارة الظهار، وهو الذي يأتي على مذهبه ولا أعرف في ذلك نصا.
فصل والظهار ينقسم على قسمين: ظهار مطلق غير مقيد، وظهار مقيد كالطلاق سواء. فأما الظهار المطلق فهو قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وأما الظهار المقيد فإنه ينقسم على الأقسام التي قسمنا عليها الطلاق المقيد بصفة فيما ذكرناه في كتاب الأيمان بالطلاق، ويجري الحكم فيه على ذلك في الأقسام كلها. فما كان منها في الطلاق يمينا بالطلاق فهو في الظهار يمين بالظهار، [وما لم يكن في الطلاق يمينا بالطلاق فلا يكون في الظهار يمينا بالظهار] ، وما وجب منها تعجيل الطلاق فيه [وجب تعجيل الظهار فيه] ولم يكن له الوطء إلا بعد الكفارة. وما لم يجب فيه تعجيل الطلاق لم يجب فيه تعجيل الظهار. وما دخل فيه على الحالف بالطلاق الإيلاء دخل فيه على الحالف بالظهار الإيلاء أيضا. فتدبر ذلك وقس عليه إن شاء الله.(1/608)
فصل وقد قلنا: إن الظهار تحريم ترفعه الكفارة، فإذا وجب بإطلاقه أو بحصول الصفة التي قيده بها فلا يسقطه زوال العصمة ويعود عليه بعد الطلاق ثلاثا إن تزوجها، بخلاف ما إذا طلقها قبل حصول الصفة التي علق الظهار بها، فهذا إن كان الطلاق ثلاثا ثم تزوجها بعد زوج سقط عنه الظهار، وإن كان الطلاق أقل من ثلاث - واحدة أو اثنتين - رجع عليه الظهار ووقع عليه بحصول الصفة. وما لم يتزوجها في الوجهين جميعا بعد الطلاق فلا شيء عليه إلا أن يكون قد وطئ بعد وجوب الظهار عليه فتكون الكفارة قد لزمته وترتبت في ذمته.
فصل والظهار يكون من كل من يحل وطؤها بنكاح أو بملك يمين وإن كان الوطء ممتنعا في الحال لعارض لا يؤثر في صفحة الملك أو النكاح مثل الحيض والنفاس والصغر والصوم والاعتكاف؛ لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] فعم جميع النساء التي يحللن له بالملك والنكاح؛ لأن أمة الرجل من نسائه التي أحل الله له وطأها. وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج: 29] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج: 30] ، وأجمع أهل العلم أن من وطئ أمة حرمت عليه أمها وابنتها لقول الله عز وجل: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] .
فصل فإن كان الوطء ممتنعا على كل حال كالرتقاء والشيخ الفاني الذي لا يقدر على الجماع أو العنين أو الخصي المقطوع الذكر ففي لزوم الظهار في ذلك اختلاف. فمن ذهب إلى أن الظهار يتعلق بالوطء وما دونه ألزمه الظهار، ومن ذهب(1/609)
إلى أنه إنما يتعلق بالوطء خاصة دون ما دونه من دواعيه لم يلزمه الظهار. هذا على اختلافهم في تأويل قول الله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] هل هو محمول على عمومه في الوطء وما دونه أو مخصص في الوطء خاصة دون ما دونه. وقد تقدم ذكر ذلك. وقد أجرى اللخمي قول الرجل لامرأته قبلتك أو ملامستك علي كظهر أمي على هذا الاختلاف، فانظر في ذلك. وأما إن امتنع الوطء لعارض يؤثر في صحة الملك كالكتابة أو عقد العتق إلى أجل، أو في صحة النكاح كالشروط التي تفسد النكاح ويجب فسخه بها لم يلزمه الظهار فيها بقوله هي علي كظهر أمي إلا أن يريد في المملوكة نكاحا فاسدا أو المعتقة إلى أجل إن تزوجها، أو في المكاتبة إن عجزت أو تزوجها.
فصل وقد اختلف من هذا المعنى في مسألة وهي إذا أسلم المجوسي وله زوجة مجوسية فظاهر منها ثم أسلمت بالقرب، فقال ابن القاسم: إن الظهار يلزمه؛ لأنها لما أسلمت بالقرب وبقيت معه على العصمة دل ذلك على أن ظهاره منها وقع في حال العصمة، إلا أنه كان ممنوعا منها لعارض لم يؤثر في صحة النكاح، فأشبه الحيض والاعتكاف. وقال أشهب: إن الظهار لا يلزمه، قال ابن يونس: لأنها كانت حينئذ غير زوجة. وذلك غير صحيح؛ لأنها لو كانت غير زوجة لم ترجع إليه إلا بنكاح جديد، بل هي في ذلك الوقت زوجة إلا أن لها أن تختار فراقه باختيار دينها وثبوتها عليه، فليس كون الفراق بيدها مما يمنع وقوع الظهار عليها. ألا ترى أن الرجل لو قال لامرأته: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك ثلاثا فتزوج عليها ثم ظاهر منها أن الظهار يلزمه.
فصل وانظر على مذهب ابن القاسم إن ظاهر منها بفور إسلامه في حين لو أسلمت لبقيت معه على النكاح فعرض عليها الإسلام فأبت فوقعت الفرقة بينهما ثم أسلمت فتزوجها هل يرجع عليها الظهار أم لا؟ فإن قلت إن إسلامه لا يقطع العصمة إلا أن(1/610)
يطول الأمد أو توقف فتأبى الإسلام، وهو الظاهر من قول ابن القاسم، وقع عليها الظهار ولم يقربها إن تزوجها بعد الإسلام حتى يكفر، وإن قلت إن حالها في ذلك الوقت مترقب لا يقال: إنها زوجة ولا إنها غير زوجة لم يقع عليها الظهار. وأما أن يقال: إنها بإسلام الزوج غير زوجة على ما علل به ابن يونس قول أشهب فلا يصح لما قدمناه.
فصل وقد رأيت لبعض القرويين أن الرجل إذا ظاهر من مكاتبته فعجزت أن الظهار يلزمه قياسا على هذه المسألة. وقاله أيضا فيمن ظاهر من معتقته إلى أجل أو من أمة له فيها شرك فتزوجها بعد عتقها، وهو غلط بين؛ لأن المكاتبة والمعتقة إلى أجل والتي له فيها شرك لسن من نسائه؛ إذ ليس هن من ملك يمينه ولا أزواجه، والله يقول: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] .
فصل والظهار ليس بطلاق إلا أنه يضارع الطلاق في بعض الوجوه واليمين بالله على ترك الوطء في بعض الوجوه. فيضارع الطلاق في أنه يقع بيمين وبغير يمين، وفي أن الاستثناء فيه بمشيئة الله غير عامل إلا أن يكون بيمين ويرد الاستثناء إلى الفعل على أحد القولين. ويضارع اليمين بالله على ترك الوطء في سقوطه بالكفارة قبل الوطء، وفي لزوم الكفارة بالحنث بالوطء. وإن كان. ذلك ممنوعا في الظهار على الصحيح من الأقوال، بخلاف اليمين بالله على ترك الوطء؛ إذ لا اختلاف أن الحنث في اليمين بالله تعالى مباح قبل الكفارة، وإنما اختلفوا في جواز الكفارة قبل الحنث.(1/611)
فصل فإذا وجب عليه الظهار بقول أو فعل لم يسقطه عنه زوال العصمة بانقطاع جميع الملك، ويرجع عليه إن تزوجها بعد زوج بلا خلاف. وأما إن طلقها ثلاثا بعد يمينه بالظهار وقبل الحنث ثم تزوجها بعد زوج فلا يعود عليه الظهار.
فصل واختلف إذا ظاهر من زوجته وهي أمة بيمين ثم اشتراها قبل أن يحنث باليمين هل تعود عليه اليمين أم لا؟ فذهب بعض الشيوخ إلى أن اليمين لا تعود عليه؛ لأنه ملك يمين لا ملك عصمة، فهو غير الملك الأول كملك العصمة بعد الطلاق ثلاثا. قال: إلا أن يبيعها ثم يتزوجها فإنه تعود عليه اليمين؛ لأنه بقي له فيها طلقتان، واليمين تعود عليه ما بقي من طلاق ذلك الملك شيء. وذهب بعضهم إلى أن اليمين بالظهار تعود إليه إذا اشتراها كما لو طلقها واحدة وقد كان ظاهر منها بيمين أنها تعود عليه إن تزوجها. والذي أقول به أنه إن ورث جميعها أو اشترى جميعا في صفقة واحدة فاليمين باقية عليه لا تسقط عنه؛ إذ لم تحرم عليه بخروجها من عصمة النكاح إلى ملك اليمين، ولا أقول: إنها تعود عليه؛ إذ لا يكون العود إلا بعد المفارقة. وأما إذا ورث بعضها أو اشترى بعضها فحرمت عليه بذلك ثم اشترى بقيتها فحلت له بالملك فاليمين لا تعود عليه؛ لأن ملك اليمين غير ملك العصمة، وملك اليمين من ملك العصمة أبعد من ملك العصمة الثانية من ملك العصمة الأولى.
فصل وأما من ظاهر من أمته بيمين ثم باعها ثم اشتراها فإن اليمين ترجع عليه على مذهب ابن القاسم؛ لأنه يتهم في إسقاط اليمين عن نفسه، وإن بيعت عليه في الدين أو اشتراها ممن بيعت عليه في الدين، وإنما لا تعود عليه اليمين إذا رجعت إليه بميراث بمنزلة. من حلف بجزية عبده ألا يفعل فعلا فباعه ثم اشتراه. والاختلاف الذي في تلك يدخل في هذه.(1/612)
فصل فإن وطئ المظاهر بعد وجوب الظهار عليه بقول أو فعل أدب جاهلا كان أو عالما وترتبت الكفارة في ذمته ولم يسقطها عنه موت ولا فراق على مذهب من رأى العودة الإجماع على الوطء مع استدامة العصمة. وهو المشهور في المذهب وأما على مذهب من رأى أن العودة الوطء نفسه فلا تجب عليه الكفارة بأول وطء، وله أن يطأ مرة فإذا وطئ لم يكن له أن يطأ مرة ثانية حتى يكفر. وقد روي هذا القول عن مالك. وقد ذكر أصبغ في العتبية أنه قول أهل المشرق وبعض من يرتضى من أهل المدينة.
وروي عن مجاهد أنه إذا وطئ قبل أن يشرع في الكفارة لزمته كفارة أخرى؛ إذ من مذهبه أن المظاهر تلزمه الكفارة بمجرد لفظ الظهار، وإن ماتت المرأة أو طلقها. فانظر هل يقال مثل هذا على ما روي عن مالك أن الكفارة تلزم المظاهر بمجرد الإجماع على الوطء. وقد روي عن غير مجاهد أن المظاهر إذا وطئ قبل الكفارة سقطت عنه الكفارة؛ لأنه قد فات موضعها لقول الله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ، فيأتي فيمن وطئ قبل الكفارة أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يجب عليه شيء وتسقط الكفارة، والثاني: أن الكفارة لا تجب عليه إلا مع إرادة العودة واستدامة العصمة، والثالث: أن الكفارة تجب عليه وتترتب في ذمته أراد العودة أو لم يردها وإن ماتت أو طلقها. والرابع: أنه تجب عليه كفارتان، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(1/613)
[كتاب الإيلاء] [فصل في معرفة اشتقاق اسم الإيلاء]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله
كتاب الإيلاء فصل
في معرفة اشتقاق اسم الإيلاء الإيلاء والتألي هو الامتناع من فعل الشيء أو تركه باليمين على ذلك، يقال من ذلك آلى يولي إيلاء وآلية وتألى تأليا وائتلاء وائتلى يأتلي ائتلاء. قال الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور: 22] إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وذلك أن الله تبارك وتعالى لما أنزل عذر عائشة وبراءتها مما كانت قذفت به حلف أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أن لا ينفق على مسطح بن أثاثة، وكان ابن خالته، وعلى غيره من قرابته لما كانوا خاضوا فيه وتكلموا به في ابنته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فأنزل هذه الآية، فقال أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما نزلت: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إليهم النفقة وقال لا أقطعها عنهم أبدا. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التألي: «تألى أن لا يفعل خيرا» في الذي حلف أن لا يضع عن صاحبه ولا يقيله في تمر كان باعه منه فوضع فيه. قال الشاعر في الإيلاء:
فآليت لا آتيك إن كنت مجرما ... ولا أبتغي جارا سواك مجاورا(1/615)
فهذا هو الإيلاء في اللغة. وهو في الشرع على ما هو عليه في اللغة إلا أنه قد تعرف في الشرع في الحلف على اعتزال الزوجات وترك جماعهن حيث ذكره الله في كتابه ونص على الحكم فيه. وأصل ذلك أن الرجل كان في الجاهلية إذا كره المرأة وأراد تقييدها أن لا تنكح زوجا غيره حلف عليها أن لا يقربها فيتركها لا أيما ولا ذات بعل إضرارا بها، وفعل ذلك في أول الإسلام، فحد الله للمولي من امرأته حدا لا يتجاوزه، وخيره بين أن يفيء فيرجع إلى وطء امرأته أو يعزم على طلاقها فقال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] .
فصل معنى الكلام للذين يحلفون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر. والتربص التوقف والتنظر. وترك ذكر أن يعتزلوا في التلاوة اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه. ومثل هذا في القرآن كثير، من ذلك قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] معناه فأفطر فعدة من أيام أخر. وقوله: " فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فانفلق " معناه فضرب فانفلق. ومن ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31] ؛ لأن المعنى في ذلك لكان هذا القرآن أو لما آمنوا به، فحذف الجواب لدلالة الكلام عليه. وذلك أن «الكفار قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: باعد لنا بين جبال مكة حتى نجعل بينها بساتين أو قرب لنا الشام فإن متجرنا إليها، أو أحي لنا فلانا وفلانا حتى نسألهم إن كان ما تقول حقا، فأنزل الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31] » فحذف الجواب لدلالة(1/616)
الكلام عليه. وقد قيل: إن الجواب مقدم، وهو قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا} [الرعد: 31] ، الآية. والأول أولى أن الجواب محذوف على عادة العرب في حذف ما يستغنى عنه من الكلام إيجازا واختصارا. وقال الفراء: معنى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] : على نسائهم. وكذا في قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج: 29] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج: 30] أن معنى ذلك من أزواجهم، فأقام " على " مقام " من " في الموضع الواحد، و" من " مقام " على " في الموضع الآخر. وما قدمته، أولى من أن المعنى في الآية إضمار أن يعتزلوا لدلالة الكلام عليه مع ورود الآية على سبب يقتضيه وهو ما كانوا يفعلونه من الحلف على اعتزال نسائهم إضرارا بهن.
فصل والفيء الرجوع. يقال: فاء فلان يفيء فيئا وفيئة مثل الجيئة، وفاء الظل يفيء فيأ وفيوءا. وقيل في الأول فيوءا. فمعنى قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] أي: فإن رجعوا إلى ما كانوا حلفوا عليه ألا يفعلوه من وطء نسائهم ففعلوه.
فصل. واختلف في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] هل المراد بذلك في الأربعة الأشهر أو بعدها. وعلى هذين التأويلين يأتي الاختلاف الواقع بين أهل العلم في حكم المولي بعد انقضاء الأجل، فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المشهور عنه وجميع أصحابه إلى أنه يقع عليه طلاق وإن مرت له سنة حتى يوقف، فإما فاء وإما طلق.
[ويروى هذا القول عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وعائشة، وأبي الدرداء] . قال سهيل بن أبي صالح عن أبيه: سألت اثني عشر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن الرجل يولي من امرأته فكلهم يقول: ليس(1/617)
عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف؛ فإما فاء وإما طلق. وهو مذهب أهل المدينة وقول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه؛ لأن المعنى عندهم في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] أي بعد الأربعة الأشهر، وقد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك والمشهور عنه ما قدمناه من أن الأربعة الأشهر توسعة وأن الإيقاف بعدها.
وروي عنه أن الفيء في الأربعة الأشهر توسعة فإذا انقضت طلق عليه ولم يؤمر بالفيئة بعدها، وهو قول ابن شبرمة. وروي مثله عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن ومكحول وابن شهاب، حكى الروايتين عن مالك ابن خويز منداد في كتاب أحكام القرآن له. وروى أشهب عن مالك في العتبية أنه إذا وقف بعد انقضاء الأربعة الأشهر فقال أنا أفيء أمهل حتى تنقضي عدتها، فإن لم يفعل بانت منه بانقضاء عدتها، وهي قولة بين القولين على طريق الاستحسان غير جارية على قياس.
فصل فإن وقف على المشهور عنه فلم يفئ ولا طلق؛ طلق عليه الإمام طلقة يملك فيها الرجعة. وقال غير هؤلاء يحبس حتى يفيء أو يطلق. وقال أهل العراق: يقع على المولي بانقضاء أجل الإيلاء طلقة بائنة، وهو قول ابن مسعود من الصحابة وزيد بن ثابت. وروي مثله عن عثمان وعلي، فجعل هؤلاء قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] على أن المراد بذلك قبل تمام الأربعة الأشهر.
فصل وقوله {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] معناه على قولهم غفور لهم فيما اجترموا من الحلف على ترك وطء نسائهم وتحنيث أنفسهم بالفيء إلى ذلك، رحيم بهم وبغيرهم من عباده المسلمين. وقيل: إنما معنى غفور فيما بعد الأربعة الأشهر؛ لأن الله تعالى قد أباح للمولي التربص أربعة أشهر، والغفران إنما يكون فيما هو محظور لم تتقدم فيه إباحة. وهذا التأويل يشد مشهور قول مالك ومن تابعه عليه في أن(1/618)
المولي لا يقع عليه طلاق ما لم يوقف وإن مكث سنة أو أكثر. وقيل: إن الفيء يسقط عنه الكفارة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] ، وهو مذهب الحسن والنخعي وغيرهما ممن يرى أن كل حانث في يمين هو في المقام عليها حرج فلا كفارة عليه في حنثه، وأن كفارتها الحنث فيها. والذي عليه جمهور الفقهاء وعامة العلماء إيجاب الكفارة على من حنث في يمينه برا كان الحنث فيها أو غير بر.
فصل وقوله عز وجل: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] عزيمة الطلاق على مذهب مالك ومن قال بقوله إيقاعه، كما أن عزيمة النكاح في قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] إيقاع عقده. والدليل على ذلك أيضا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] ، وسميع لا يكون إلا في النطق؛ لأن الكلام هو الذي يسمع. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] ، وأما انقضاء أجل الإيلاء فليس بمسموع إنما هو معلوم، فلو كان عزم الطلاق في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] هو وقوعه بانقضاء أجل الإيلاء كما قال أهل العراق لما كانت الآية مختومة بذكر إخبار الله عن نفسه أنه سميع عليم، كما لم يختم الآية التي ذكر فيها الفيء إلى طاعة الله في مراجعة وطء زوجته بذكر الخبر عن الله أنه شديد العقاب؛ إذ لم يكن موضع وعيد على معصية، وإنما كان موضع وعد منه بالرحمة والغفران لمنيب أناب إلى طاعته، فذلك ختم الآية التي فيها القول بصفة نفسه أنه سميع عليم؛ لأنه للكلام سميع وبالفعل عليم، فقال تعالى وإن عزم المولون على طلاق من آلوا منهن فإن الله سميع لطلاقهم إياهن عليم بما آتوا إليهن مما يحل لهم ويحرم عليهم.(1/619)
فصل والإيلاء يكون بثلاثة أشياء: أحدها اليمين على ترك الوطء، والثاني ما كان بمعنى اليمين على ترك الوطء، والثالث اليمين بالطلاق التي يكون الحالف فيها على حنث.
فصل فأما اليمين على ترك الوطء فإنه ينقسم على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يحلف على ذلك بالله أو بما كان في معنى اليمين بالله مما يوجبه على نفسه إن وطئ كالصلاة والصدقة وما أشبه ذلك مما فيه قربة، أو طلاق غير المولى منها أو عتق بعينه أو بغير عينه. والثاني: أن يحلف على ذلك بطلاق المولى منها. والثالث: أن يحلف على ذلك بما ينعقد عليه بالحنث فيه حكم ولا يلزمه بمجرده شيء. فأما إذا حلف على ذلك باليمين بالله أو بما كان في معناه مما ذكرناه فإنه على وجهين: أحدهما: أن يقول: والله لا أطأ امرأتي [أو علي صدقة أو مشي أو ما أشبه ذلك إن وطئتها أبدا أو إلى كذا وكذا مما هو أكثر من أربعة أشهر] . والثاني: أن يقول: والله لا أطأها حتى أفعل كذا وكذا. فأما الوجه الأول فإنه مول من يوم حلف ويوقف إذا حل الأجل؛ فإما فاء بالوطء وإما طلق عليه. وأما الوجه الثاني فإنه لا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك الفعل الذي حلف أن لا يطأ حتى يفعله مما يمكنه فعله. والثاني: أن يكون مما لا يمكنه فعله ليمنع الشرع منه أو عدم القدرة عليه. فأما إذا كان مما يمكنه فعله فإن كان مما لا مؤنه فيه فليس بمول إلا أنه لا يترك، ويقال له طأ امرأتك إن كنت صادقا أنك لست بمول. وإن كان إنما يتكلف فيه مؤنة فإنه مول أيضا من يوم حلف ويوقف، فإذا حل الأجل ويخير بين أن يفيء بالوطء أو يبر بفعل الشيء الذي حلف أن لا يطأ حتى يفعله، فإن أبى من ذلك طلق عليه وأما إذا كان الفعل مما لا يمكنه فعله لمنع الشرع منه أو عدم القدرة عليه فإنه(1/620)
يوقف إذا حل الأجل، فإما فاء بالوطء وإما طلق عليه، ولم يمكن من البر بما لا يبيحه له الشرع من قتل أو شرب خمر وما أشبه ذلك.
فصل وأما إذا حلف على ذلك بطلاق المولى منها فلا يخلو من أن يكون الطلاق ثلاثا أو ما دون الثلاث واحدة أو اثنتين. فإن كان ما دون الثلاث واحدة أو اثنتين وقف إذا حل الأجل وقيل له: فئ على أن تنوي في مصابك الرجعة وإن لم تكن مدخولا بها؛ لأنها تصير مدخولا بها بالتقاء الختانين فيخرج من الاختلاف هذا الوجه، فإن أبى من ذلك طلق عليه بالإيلاء فإن ارتجع في المدخول بها وصدق رجعته بوطء ينوي بباقية الرجعة صحت رجعته وبقيت عنده على طلقتين، وإن لم يرتجع حتى انقضت العدة فتزوجها رجع عليه الإيلاء من يوم تزوجها ما لم تنقض الثلاث بثلاث تطليقات. وإن كان الطلاق ثلاثا ففي ذلك اختلاف كثير، تحصيله أن في ذلك قولين: أحدهما: أنه مول والثاني: أنه ليس بمول. فإذا قلت: إنه مول فلا يطلق عليه حتى يحل أجل الإيلاء. واختلف على هذا القول في حكمه إذا حل الأجل على أربعة أقوال: أنه يطلق عليه ولا يمكن من الفيء؛ لأنها تبين منه بالتقاء الختانين فيصير النزع حراما، وهو مذهب ابن الماجشون على أصله فيمن طلع عليه الفجر في رمضان وهو يطأ امرأته أنه يقضي ذلك اليوم؛ لأن إخراج الفرج من الفرج وطء. والثاني: أنها لا تطلق عليه إلا أن يأتي الفيء، فإن لم يأباه وأراد الفيء مكن من التقاء الختانين لا أكثر، روي هذا القول عن مالك، ويكون النزع على مذهبه هذا واجبا وليس بحرام، كما لو طلق امرأته ثلاثا في تلك الحال. والثالث: أنه يمكن من جميع لذته حتى يفترأ وينزل، ولا ينزل فيها مخافة أن يكون الولد ولد زنا، وهو قول أصبغ. والرابع: أنه يمكن من الفيء بوطء كامل ولا يقع عليه الحنث إلا بتمامه، وهو قول ابن القاسم في أصل الأسدية وظاهر قوله في المدونة، وما يوجد له من خلاف ذلك فقد قيل: إنه من إصلاح سحنون. وإذا قلت: إنه غير مول ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يعجل عليه الطلاق من يوم حلف وهو(1/621)
قول مطرف. والثاني: أن الطلاق لا يعجل عليه حتى ترفعه امرأته إلى السلطان وتوقفه.
فصل وأما إذا حلف على ذلك بما ينعقد عليه بالحنث فيه حكم فاختلف هل يكون به موليا أم لا؟ على قولين قائمين في المدونة: أحدهما: أنه لا يكون موليا، والثاني: أنه يكون به موليا. وذلك مثل أن يقول: إن وطئت امرأتي فكل عبد اشتريته من الفسطاط فهو حر، ووالله لا أطأ امرأتي في هذه السنة إلا يوما واحدا أو مرة واحدة، والله لا أطأ إحدى امرأتي ولا نية له. ومن ذلك أيضا أن يقول: إن وطئت امرأتي فهي علي كظهر أمي أو إن وطئتها فوالله لا أطأها على مذهب من يقول في الحالف بالطلاق ثلاثا إن لا يطأ أنه يمكن من الوطء. وأما على مذهب من يرى أنه لا يمكن من الوطء أصلا فتطلق عليه إذا انقضى أجل الإيلاء وإذا قامت به امرأته على الاختلاف الذي ذكرناه فهو مول على كل حال. وأما على مذهب من يرى أنه يمكن من التقاء الختانين لا أكثر فيتخرج ذلك على الاختلاف فيمن حلف أن يعزل عن امرأته هل يكون موليا أم لا فهذا الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة.
فصل ولا يكون الحالف بترك الوطء موليا إلا بشرط أن يكون حلفه في حال الغضب إرادة الضرر، فإن لم يكن على وجه الضرر وكانت يمينه على وجه الإصلاح كالذي يحلف أن لا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها أو حتى يبرأ من مرضه وما أشبه ذلك لم يكن موليا عند مالك وأصحابه. وقال ذلك علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وذهب الشافعي وأبو حنيفة ومن تبعهما إلى أنه مول بكل حال، وحجتهم عموم قول الله عز وجل في الآية وأنه لم يخص فيها غاضبا من راض ولا محسنا من مسيء. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا يكون موليا إلا من حلف بالله تعالى. وهذا لا يصح إلا على مذهب من يرى أن الأيمان كلها بغير الله غير لازمة؛ لقول(1/622)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وهو بعيد. والثاني قلنا فيه: إنه ما كان بمعنى اليمين على ترك الوطء، وهو المظاهر يترك الكفارة ضررا؛ لأن الوطء يوجب عليه كفارة الظهار ولم تكن واجبة قبل، كما يوجب الوطء الكفارة، على من حلف أن لا يطأ ولم تكن واجبة قبل. والثالث قلنا فيه: إنه اليمين بالطلاق التي يكون الحالف فيها على حنث، وهو أن يقول الرجل: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا. وهو ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون ذلك الفعل مما يمكنه فعله مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أدخل الدار وما أشبه ذلك. والثاني: أن يكون ذلك الفعل مما لا يمكنه فعله في الحال ويمكنه في وقت آخر، وذلك مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحج وهو في أول السنة حيث لا يجد سبيلا إلى الحج. والثالث: أن يكون ذلك الفعل مما لا يمكنه فعله، لعدم الإمكان، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أمس السماء أو إن لم أشرب الخمر أو ألج في سم الخياط وما أشبه ذلك.
فصل فأما الوجه الأول فيمنع فيه من الوطء من وقت اليمين. فإن طالبته امرأته بذلك ضرب له أجل الإيلاء ووقف عند تمامه فإما فاء بفعل ذلك وإما طلق عليه وليس له أن يفيء بالوطء؛ لأنه ممنوع منه لكونه على حنث، فإن اجترأ ووطئ سقط ما مضى من أجل الإيلاء واستؤنف ضربه مرة أخرى إن قامت بذلك المرأة وطلبته. فإن فاء بفعل ذلك الفعل سقط عنه الإيلاء ولم يلزمه الطلاق، وإن طلق لم تلزمه طلقة أخرى بفوات ذلك الفعل المحلوف عليه إن كان مما يفوت في حياته على مذهب ابن القاسم، خلافا لابن المواز في قوله: إنه يقع عليه طلقة أخرى بفوات الفعل؛ لأن فواته كانقضاء الأجل. فإن أبى من ذلك طلق عليه الإمام بالإيلاء. وإن طلق عليه الإمام به فارتجع لم تصح رجعته إلا أن يفيء بفعل ذلك الفعل قبل(1/623)
انقضاء العدة، بخلاف ما إذا طلق هو دون أن يطلق عليه الإمام بالإيلاء [لأنه إذا طلق فقد حنث نفسه وانحلت عنه اليمين. وإذا طلق الإمام عليه بالإيلاء فاليمين باقية عليه] فإن تزوجها بعد انقضاء العدة رجع عليه الإيلاء وكان لها أن توقفه؛ لأنه ممنوع من الوطء لكونه على حنث، ويضرب له أجل الإيلاء ثانية ويوقف عند تمامه، فإما فاء بفعل ذلك الفعل وإما طلق، فإن طلق انحلت عنه اليمين، وإن لم يفعل طلق عليه الإمام ثانية بالإيلاء وبقيت عليه اليمين، فإن ارتجع لم تصح رجعته أيضا إلا أن يفيء بفعل ذلك الفعل، وإن تزوجها بعد انقضاء العدة رجع عليه الإيلاء وكان لها أن توقفه فإن وقفته ضرب له أجل الإيلاء فإذا انقضى وقف أيضا فإن أبى أن يفيء أو يطلق طلق عليه الإمام بالإيلاء ثالثة وانحلت يمينه فلم تعد عليه لانقضاء ذلك الملك. فهذا حكم هذا الوجه إلا في مسألتين: إحداهما أن يقول: امرأتي طالق إن لم أطلقها. أو الثانية: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أطأها، وقد ذكرت الحكم فيها في كتاب الأيمان بالطلاق.
فصل وأما الوجه الثاني ففيه أربعة أقوال: أحدها: أنه يمنع من الوطء من يوم حلف، وإن كان الفعل غير ممكن له في الحال، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة ورواية عيسى عنه في العتبية أنه يقال له أحرم واخرج وإن كان ذلك في المحرم قال غير ابن القاسم في المدونة إذا تبين ضرره بها، ولابن القاسم في مراعاة الضرر مثله في الظهار. والثاني: أنه لا يمنع من الوطء حتى يمكنه الفعل بمجيء إبان الخروج إلى الحج. والثالث: أنه لا يمنع منه حتى يخشى فواته. والرابع: أنه لا يمنع منه حتى يفوته جملة. فإن طالبته امرأته بالوطء إذا يمنع منه على مذهب من يرى المنع منه في ذلك الموضع ضرب له أجل الإيلاء، فإن ضرب له على القول الأول حين حلف، أو على القول الثاني حينه أمكنه الخروج فخرج فأدرك الحج قبل انقضاء أجل الإيلاء فحج بر وسقط عنه الإيلاء، وإن لم يحج طلق عليه بالإيلاء(1/624)
عند انقضاء أجله. وإن انقضى أجل الإيلاء قبل وقت الحج لم تطلق عليه حتى يأتي وقت الحج، فإن أتى وقت الحج فحج بر وسقط عنه الإيلاء. وإن ضرب له أجل الإيلاء على القول الثالث حين خشي الفوات فخرج فأدرك الحج بإسراع السير بر وسقط عنه الإيلاء، وإن لم يدرك الحج طلق عليه بالإيلاء إن كان قد انقضى أجله أو عند انقضائه إن كان لم ينقض بعد. وإن ضرب له أجل الإيلاء على القول الرابع بعد فوات الحج فخرج من العام المقبل لم يطلق عليه بانقضاء أجل الإيلاء حتى يأتي وقت الحج، فإن أتى وقت الحج [فحج بر وسقط عنه الإيلاء، وإن أتى وقت الحج فلم يحج طلق عليه بالإيلاء.
وإن لم يخرج حتى انقضى أجل الإيلاء] طلق عليه به. وإن لم تطالبه المرأة باليمين وترك هو الحج في ذلك العام ثم قامت عليه في العام الثاني استؤنف لها الحكم فيه كالعام الأول، وجرى ذلك على الاختلاف المذكور فيه، يتمادى في القول الأول على الامتناع من الوطء ويضرب له أجل المولي. وإن قامت قبل أن يمكنه الخروج ويرجع في القول الثاني إلى الوطء حتى يمكنه الخروج فيضرب له حينئذ أجل الإيلاء، وهو قول أشهب، ويرجع في القول الثالث إلى الوطء حتى يخشى فوات الحج فيضرب له حينئذ أجل الإيلاء. وقد روي عن ابن القاسم أنه إذا لم يحج ذلك العام حنث ووقع عليه الطلاق. ووجه هذا القول أنه حمل يمينه على أن يحج في ذلك العام. فعلى هذا القول: لا يدخل عليه الإيلاء؛ لأنه أجل مؤقت يحنث بمضيه فله أن يطأ؛ لأنه على بر. وقد قيل ليس له أن يطأ ويدخل عليه الإيلاء على هذا القول ويطلق عليه به إن انقضى قبل أن يفوته الحج.
فصل وأما الوجه الثالث فيعجل عليه فيه الطلاق ولا يضرب له فيه أجل الإيلاء؛ لأن الفيء لا يقدر عليه فيما لا يمكنه فعله ولا يمكن منه فيما لا يجوز له مما يمنعه الشرع منه، غير أنه إن بادر وفعل بر في يمينه وسقط عنه الطلاق وباء بالإثم.(1/625)
فصل ويختلف ما يكون المولي به فائيا باختلاف أيمانه، فما كان منها لا يقدر على إسقاطه عن نفسه قبل الحنث لم يكن له أن يفيء فيه إلا بالجماع، وما كان منها يقدر أن يسقطه عن نفسه قبل الحنث ظاهرا وباطنا قبلت منه الفيئة بإسقاط اليمين عن نفسه [وما كان منها يقدر أن يسقطه عن نفسه في الظاهر ولا يعلم حقيقة ذلك في الباطن إلا من قبله فيختلف هل يقبل منه الفيئة بإسقاط اليمين عن نفسه] في الظاهر على قولين. فإن كان للمولي عذر يمنعه من الجماع من مرض أو سفر أو حيض أو دم نفاس أو ما أشبه ذلك لم تخل يمينه من الثلاثة الأوجه المذكورة: أحدها: أن يكون مما لا يقدر على إسقاطه قبل الحنث، مثل أن تكون يمينه بعتق غير معين أو صدقة شيء بغير عينه أو ما أشبه ذلك.
والثاني: أن يكون مما يقدر على إسقاطه قبل الحنث ظاهرا فيعلم بذلك أن اليمين قد انحلت عنه بفعل ما حلف به، وذلك مثل أن يحلف بعتق عبد بعينه أن لا يطأ امرأته أو بطلاق امرأة له أخرى ثلاثا وما أشبه ذلك. والثالث: أن يقدر على إسقاط اليمين عن نفسه في الباطن من غير أن يعلم ذلك في الظاهر إلا من قبله، وذلك مثل أن تكون يمينه بالله تعالى أو ما تكون كفارته كفارة يمين بالله تعالى. فإذا كانت يمينه لا يقدر على إسقاطها عن نفسه قبل الحنث كحلفه بعتق غير معين أو ما أشبه ذلك من صدقة أو مشي أو صيام أو ما أشبه ذلك، فالفيئة له بالقول إلى أن يزول العذر فيوقف، فإما أن يفيء وإما أن يطلق؛ إذ لا تسقط عنه اليمين ولا ينحل عنه الإيلاء يما يعتق ويتصدق به قبل الوطء إذا لم يكن ذلك بعينه. هذا هو المشهور الذي يوجبه النظر والقياس. وقد روي عن مالك فيمن آلى بعتق غير معين فأعتق لذلك رقبة قبل الحنث أنه يجزئه وقع ذلك في كتاب الظهار من المدونة، ومثله في كتاب ابن المواز، وهو بعيد.
وأما إن كانت يمينه بعتق عبد بعينه أو صدقة شيء بعينه أو ما أشبه ذلك من المعينات فلا يقبل منه فيئة بالقول دون أن يعتق العبد الذي حلف بعتقه أو يتصدق(1/626)
بالشيء الذي حلف بالصدقة به؛ لأنه إذا أعتق ذلك العبد وتصدق بذلك الشيء سقطت عنه اليمين وانحل عنه الإيلاء، ولأن فيئته التي يسألنا أن ننظره إليها توجب عليه ذلك. هذا قول أصحابنا كلهم حاشا ابن الماجشون فإنه يرى الفيئة بالقول إذا كان له عذر يمنعه من الوطء وإن كانت اليمين مما يقدر على إسقاطها، وإنما نقول بقولهم: إن الفيئة لا تكون إلا بإسقاط اليمين إذا طلق عليه بالإيلاء فارتجع، ولا يرى السفر عذرا.
وأما إن كانت يمينه بالله تعالى فاختلف هل تقبل منه فيئة بالقول دون أن يكفر أو لا تقبل منه حتى يكفر. فقيل: إنها لا تقبل منه دون أن يكفر لسقوط اليمين عنه بالكفارة قبل الحنث، وقيل: إنها تقبل منه دون أن يكفر؛ لأنا لا ندري إن كفر هل نوى بكفارته تلك اليمين أم لا؟
فصل وقال جماعة من أهل العلم: الفيء الجماع إلا أن يكون له عذر يمنعه منه فيكون له الفيء باللسان إذا أشهد على ذلك. وقال آخرون: الفيئة له بالقول على كل حال. وهذان القولان إنما يتصوران عندي على مذهب من يرى أن الطلاق يقع على المولي بانقضاء أجل الإيلاء إن لم يفئ فيه.
فصل وأما إن لم تكن يمينه على ترك الوطء ففيئته فعل الشيء الذي حلف أن يفعله على مذهب مالك وأصحابه إذا كان قادرا على ذلك الفعل. واختلف إذا لم يكن قادرا عليه في الحال على ما تقدم ذكره وتحصيل الاختلاف فيه. وأما إن لم يكن قادرا عليه بحال فيعجل عليه الطلاق ولا يضرب له أجل الإيلاء حسب ما مضى القول فيه.
فصل واختلف أهل العلم في حد المدة التي يكون الحالف بترك الوطء فيها موليا(1/627)
على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يكون موليا إلا من حلف أن لا يطأ زوجته على التأبيد أو أطلق اليمين ولم يقيدها بمدة مخصوصة مؤقتة وإلا فليس بمول، حكى هذا القول أهل الخلاف عن ابن عباس: أنه لا يكون موليا إلا أن يحلف على أكثر من أربعة أشهر ولو بيوم، وهو مذهب مالك ومن تبعه. وقد تأول على هذا المذهب أنه لا يكون موليا حتى يزيد على الأربعة أشهر أكثر مما يتلوم به عليه إذا قال أنا أفيء، وهو غلط؛ لأن التلوم إنما يكون إذا وقف فقال: أنا أفيء ولم يفعل. وأما إذا وقف فأبى أن يفيء فإن الطلاق يعجل عليه ولا معنى للتلوم عليه. فمن حق المرأة أن يوقف لها زوجها المولي وإن لم يزد على الأربعة الأشهر [إلا يوما واحدا؛ إذ لعله يأبى الفيء فتطلق عليه. والثالث: أن يكون موليا من حلف على أربعة أشهر] فصاعدا، ولا يكون موليا إن حلف على أقل منها، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل العراق. والرابع: أنه يكون موليا إذا حلف على كثير من الأوقات أو قليل أن لا يجامع فتركها أربعة أشهر من غير جماع، وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة من أهل الكوفة.
فصل والإيلاء ينقسم على ثلاثة أقسام: قسم يكون فيه موليا من يوم حلف، وقسم لا يكون فيه موليا إلا من يوم ترفعه امرأته إلى السلطان وتوقفه، وقسم اختلف فيه فقيل: إنه مول من يوم حلف، وقيل: من يوم ترفعه إلى السلطان. فأما الذي يكون فيه موليا من يوم حلف فهو الذي يحلف على ترك الوطء. وأما الذي لا يكون فيه موليا إلا من يوم ترفعه فهو الذي يحلف بطلاق امرأته أن يفعل فعلا. وأما الوجه الثالث المختلف فيه فهو الإيلاء الذي يدخل على الظهار، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(1/628)
[كتاب اللعان]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
كتاب اللعان الأصل في اللعان كتاب الله تعالى، وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإجماع الأمة. فأما كتاب الله تعالى فهو قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7] {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] ، يقول الله عز وجل: والذين يقذفون من الرجال أزواجهم من النساء فيرمونهن بالزنا ولم يكن لهم شهداء يشهدون لهم بصحة ما رموهن به من الفاحشة إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله أي يحلف أحدهم أربع شهادات أيمان بالله إنه لمن الصادقين فيما رمى به زوجته من الفاحشة. ويدرأ عنها العذاب أي حد الزنا الرجم إن كانت ثيبا والجلد إن كانت بكرا؛ لأن العذاب معرف بالألف واللام معرفة، فالمراد به الحد المعلوم الذي أوجبه الله على الزناة في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل فإذا نكلت المرأة عن اللعان حدت حد الزنا، وكذلك الزوج إذا نفى حمل امرأته أو قذفها برؤية أو بغير رؤية على الاختلاف في ذلك إن نكل عن اللعان حد(1/629)
حد القذف. واختلف الفقهاء المتأخرون من القرويين إذا نكلت المرأة عن اللعان بعد لعان الزوج ثم أرادت أن ترجع إلى اللعان هل يكون ذلك لها أم لا؟ فمنهم من رأى ذلك لها وقال لا يكون نكولها عن اللعان أقوى من إقرارها بالزنا، وهي لو أقرت به ثم رجعت قبل رجوعها. ومنهم من لم ير ذلك لها لما تعلق به من حق الزوج.
والأول أصح. وانظر هل يدخل هذا الاختلاف في الزوج إذا نكل عن اللعان ثم أراد أن يرجع إليه هل يكون له ذلك أم لا، فقد قيل: إنه يدخل في ذلك، والصحيح أنه لا يدخل فيه. والفرق بين الرجل والمرأة في ذلك أن نكول المرأة عن اللعان كالإقرار منها على نفسها بالزنا، ولها أن ترجع عن الإقرار به. ونكول الرجل عن اللعان كالإقرار منه على نفسه بالقذف فليس له أن يرجع عن الإقرار به. وزعم العراقيون أن المرأة إذا نكلت عن اللعان لم تحد وحبست، وكذلك عندهم إذا نكل الزوج عن اللعان حبس ولم يحد، وتركوا قول الله عز وجل: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] ، وقد تأول لهم متأول أن العذاب هو السجن، لقول الله عز وجل: {إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] ولم يعرف ما احتج به؛ لأن العذاب الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية هو غير السجن وليس بمعين، وإنما قالت كذا وكذا، هم يحكمون بالنكول في الحقوق بغير يمين من الطالب، وجعلوه بمنزلة الإقرار والملاعن قد تقدمت أيمانه على ما ادعى، ثم لا يحكمون على المرأة بنكولها وقد أنزل الله فيها من القرآن ما أنزل فتركوا فيما ذهبوا إليه في هذا النص والقياس جملة، إلا أنهم زعموا أن الحدود لا تؤخذ قياسا.
فصل وأما السنة فما ثبت في الآثار الصحاح من ملاعنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين عويمر العجلاني وزوجه، وبين هلال بن أمية الواقعي وزوجه أيضا. وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين أن اللعان بين الزوجين من شرعنا، وأن الأحكام تتعلق به على الاختلاف الحاصل بينهم في بعض وجوه تفاصيله.(1/630)
فصل وكان سبب نزول آية اللعان فيما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن الله تبارك وتعالى لما قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، قال سعد بن عبادة: هكذا أنزلت يا رسول الله، لو رأيت لكاع قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله ما آتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا معشر الأنصار، ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم، قالوا: لا تسلمه يا رسول الله، فإنه رجل غيور ما تزوج فينا قط إلا عذراء ولا طلق امرأة فاجترأ أحد منا أن يتزوجها، فقال سعد: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي. والله لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت لو وجدت لكاع قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء وإني لآتي بهم حتى يفرغ من حاجته، فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية من حديقة له، وقد رأى بعينيه وسمع بأذنيه، فأمسك حتى أصبح، فلما أصبح غدا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو جالس مع أصحابه فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا معها رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أتاه به وثقل ذلك عليه جدا حتى عرف ذلك في وجهه، فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك بما آتيتك به والله يعلم إني لصادق وما قلت إلا حقا، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجا. قال: فاجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد يجلد هلال فتبطل شهادته في المسلمين، فهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضربه، فبينما هو كذلك يريد أن يأمر بجلده ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أصحابه إذ نزل عليه الوحي، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي ينزل عليه حتى فرغ فأنزل الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] إلى قوله: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبشر يا هلال فإن الله قد جعل لك فرجا، فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرسلوا إليها. فجاءت، فلما اجتمعا عند(1/631)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل لها فكذبته، فقال رسول الله: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب، فقال هلال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما قلت إلا حقا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاعنوا بينهما وقال لهلال: يا هلال اشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فقيل له عند الخامسة يا هلال اتق الله فإن عذاب الله أشد من عذاب الناس وإنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال هلال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل لها: اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، وقيل لها عند الخامسة اتقي الله فإن عذاب الله أشد من عذاب الناس وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة حتى ظننا أنها سترجع ثم قالت: والله لا أفضح قومي سائر اليوم، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما وقضى أن الولد لها وأن لا يدعى لأب وأن لا ترمى ولا يرمى ولدها» ويروى «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما لاعن بين العجلاني وزوجته قال لهما: حسابكما على الله واحد منكما كاذب لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله مالي قال: لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو لما استحللت من فرجها، ون كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منه. ثم قال: انظروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظم الأليتين فلا أراه إلا قد صدق عليها، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذبا. قال فجاءت به على النعت المكروه فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لها ولي شأن» .
فصل فالحكم باللعان واجب على ما ورد به القرآن وحكم به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنزله الله في كتابه وجعله شرعة لعباده رحمة بهم؛ إذ كان الأزواج لا يجرون مجرى غيرهم من سائر الناس الذين أوجب الله عليهم الجلد برمي المحصنات إلا أن يأتوا على ذلك بأربعة شهداء؛ إذ كان لا ضرر عليهم في أنفسهم فيما عاينوه، والزوج(1/632)
يلزمه إظهار ما رأى؛ لأنه يخاف أن يلحقه نسب ليس منه، فجعل له إذا أنكر حملا لم يعرف له سببا أن ينكره، وجعل له إذا عاين الزنا وشاهده من زوجته أن يخبر به، ثم جعل له المخرج من ذلك باللعان لضرورته إليه، ولم يجعل ذلك لغيره إذ لا ضرورة به إلى ذلك.
فصل واللعان على مذهب مالك وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم يكون بين كل زوجين إلا أن يكونا كافرين، كانا حرين أو عبدين أو محدودين أو ذمية تحت مسلم على ظاهر قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ، ولم يخص حرا من عبد ولا محدودا من غير محدود ولا كافرا من مسلم، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه في قولهم: إنه لا يلاعن العبد ولا المحدود في القذف، قالوا: لأن المراد من الآية من تجوز شهادته من الأزواج؛ لأن الله استثناهم من الشهداء بقوله: ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فسماهم شهداء بذلك؛ إذ المستثنى من جنس المستثنى منه، وقال: فشهادة أحدهم، فدل على أن اللعان شهادة، والعبد والمحدود لا تجوز شهادتهما. وليس ذلك بصحيح؛ لأن الاستثناء منقطع، والمعنى فيه ولو لم يكن لهم شهداء غير قولهم الذي ليس بشهادة، كما قالوا الصبر حيلة من لا حيلة له، والجوع زاد من لا زاد له. فاللعان يمين وليس من الشهادة بسبيل، وإنما أخذ من باب المشاهدة بالعين والقلب فسمي شهادة لهذه العلة، ولذلك قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في أحد أقواله: إن من قال لامرأته يا زانية ولم يقل رأيت ولا نفى حملا إنه يحد ولا يلاعن؛ لأن ذلك أحد من المشاهدة. فالرجل يقول في لعانه أشهد بالله لقد رأيتها تزني وأشهد بالله ما هذا الولد مني، فالأول مأخوذ من باب المشاهدة بالنظر، والثاني من باب المشاهدة بالقلب.
فشهادة الرجل على ما يدعي مشاهدته ومعرفته، وشهادة المرأة أيضا على ما تدعي علمه ومعرفته وهي عالمة بصدقه أو كذبه، فكل واحد منهما موكل إلى علمه، وإن كان أحدهما كاذبا لا محالة وكيف يصح أن يشبه اللعان بالشهادة ويقاس عليها والعدل لا تقبل شهادته لنفسه ولو حلف مائة يمين؛ لأنه خصم، ولا تجوز شهادته أيضا لغيره عند بعض العلماء إذا حلف(1/633)
عليها لاتهامه فيها. ومن الدليل أيضا على أن المحدود والعبد يلاعنان أن كل من حكم عليه بيمين أو حكم له بها فالبر والفاجر والعبد والمسلم والذمي فيها سواء، فكذلك يجب في اللعان. وهو الظاهر من قول الله عز وجل في القرآن أيضا، فإن المعنى الذي فرق الله به بين الزوج والأجنبي في القذف وهو ضرورته إلى نفي الولد الذي ينكره ولا يعرف له سببا يستوي فيه الحر والعبد والمحدود وغير المحدود. وقد نقض أبو حنيفة وأصحابه أصلهم في هذا بقولهم: إن الفاسق المعلم بالفسق يلاعن وشهادته لا تجوز، وكذلك الأعمى يلاعن وشهادته عندهم لا تجوز، فبطل مذهبهم وصح مذهب مالك ومن تابعه، وإنما اللعان حكم على حياله شرعه الله رحمة لعباده فلا يحمل على الشهادة ولا يقاس عليها.
فصل واللعان على ستة أوجه، ثلاثة منها متفق عليها، وثلاثة مختلف فيها. فأما الثلاثة الأوجه التي يتفق على وجوب اللعان فيها، فأحدها: أن ينفي حملا لم يكن مقرا به ويدعي الاستبراء. والثاني: أن يدعي رؤية لا مسيس بعدها في غير ظاهرة الحمل. والثالث: أن ينكر الوطء جملة فيقول: لم أطأها قط أو منذ مدة كذا وكذا لما لا يلحق في مثله الأنساب. وأما الوجوه الثلاثة التي يختلف في وجوب اللعان فيها، فأحدها: أن يقذف زوجته ولم يدع رؤية. والثاني: أن ينفي حملا ولا يدعي استبراء. والثالث: أن يدعي رؤية لا مسيس بعدها في حامل بينة الحمل؛ لأن ابن الجلاب حكى عن مالك في هذه المسألة ثلاث روايات: إحداها إيجاب الحد ولا لعان. والثانية إيجاب اللعان وثبوت النسب. والثالثة إيجاب اللعان وسقوط النسب.
واختلف في التعريض قول ابن القاسم، فمرة رآه كالتصريح بالقذف وأوجب اللعان فيه، وهو قوله في كتاب القذف من المدونة وظاهر قوله في اللعان منها. ومرة قال يحد في التعريض ولا يلاعن، وهو قول أشهب في كتاب ابن المواز أنه يحد في التعريض ولا يلاعن إلا أن يكون تعريضا يشبه التصريح. وأما مثل قوله وجدتها مع رجل عريانين في لحاف أو وجدتها تحته فلا يلاعن في هذا ويؤدب، ولو قاله لأجنبية لتحد إلا في قوله رأيتها تقبل رجلا. فإن رجع لها أقيم عليه في التعريض(1/634)
فقال رأيتها تزني لاعن، قاله عبد الملك، وهو عندي تفسير لقول من لم ير في التعريض اللعان.
فصل وأصل اللعان إنما جعل لنفي الولد، فيلاعن الرجل بمجرد نفي الحمل دون قذف في مذهبنا. والمخالف في هذا بعض أصحاب الشافعي، وهو بعيد؛ إذ قد تكون مغلوبة على نفسها. وله أن يلاعنها وهي حامل، وقد قيل: ليس له أن يلاعنها حتى تضع، روي ذلك عن مالك، وهو قول ابن الماجشون ومذهب أبي حنيفة. ويرده الأثر فإن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين العجلاني وزوجته وقال: إن جاءت به على نعت كذا فلا أراه إلا قد صدق عليها وإن جاءت به على نعت كذا فلا أراه إلا قد كذب عليها» . ويلاعن من ادعى رؤية لما يخاف أن يلحق به من الولد بإجماع إذا لم تك ظاهرة الحمل. وأما من قذف زوجته ولم يدع رؤية ولا نفى حملا فالأصح من الأقاويل أنه يحد ولا يلاعن. ومن أوجب اللعان فيه جعل العلة في ذلك دفع الحد عن نفسه مع أنه ظاهر القرآن قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] لم يذكر نفي حمل ولا رؤية زنا، وهذا ليس ببين؛ لأن الحكم إنما هو لمعاني الألفاظ لا لظواهرها.
فصل فإذا لاعن على الرؤية وادعى الاستبراء انتفى الولد بإجماع. وأما إن لم يدع الاستبراء فاختلف هل ينتفي الولد بذلك اللعان أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الولد ينفيه اللعان على كل حال وإن ولد لأقل من ستة أشهر وهو أحد قولي مالك في المدونة. والثاني: أنه لا ينفيه بحال وإن ولد لأكثر من ستة أشهر ويلحق به وهو قول عبد الملك وأشهب. والثالث التفرقة بين أن يولد لأقل من خمسة أشهر أو لأكثر منها، وهو القول الثاني لمالك في المدونة. فيأتي على هذا في جملة المسألة ثلاثة أقوال، وفي كل طرف منها قولان، إذا ولدته لأقل من ستة أشهر قولان وإذا ولدته لأكثر من ستة أشهر قولان. وهذا على مذهب من يتأول أن قوله في المدونة ألزمه(1/635)
مرة ومرة لم يلزمه ومرة ينافيه وإن كانت حاملا راجع إلى قولين ويجعل قوله ومرة لم يلزمه ومرة ينفيه وإن كانت حاملا، شيئا واحدا. ومن الناس من يحملها على ثلاثة أقوال على ظاهرها، فيقول معنى قوله ينفيه وإن كانت حاملا أنه ينفيه بلعان ثان وإن لم يدع استبراء، فيقول في لعانه أشهد بالله ما حملها هذا مني. فيأتي على هذا في الطرف الواحد ثلاثة أقوال وفي الطرف الثاني قولان. وسواء كان الزوج عالما مقرا به أو لم يكن. وهذا بين في كتاب ابن المواز، وظاهر قول المخزومي في المدونة. وقد تأول بعض الناس قوله وهو مقر بالحمل أي بالوطء. وقد تأول بعض الشيوخ أن الاختلاف الواقع في قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة إنما هو إذا لم يعلم الزوج بحملها ولا كان مقرا به، وإنما علم أنها كانت حاملا بما انكشف من وضعها قبل ستة أشهر، وهو تأويل بعيد لما حكيناه من وجوه الاختلاف في ذلك لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب ابن المواز، فاعلمه. فإن ادعى الاستبراء بعد أن ولدته وقال ليس الولد مني قد كنت استبرئت كان ذلك له في الوجوه كلها باتفاق وسقط نسب الولد، قيل بذلك اللعان وهو قول أشهب، وقيل بلعان ثان وهو قول أصبغ وعبد الملك، وفي المدونة ما يدل على القولين جميعا.
فصل وقد ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الولد المولود على فراش الرجل إذا نفاه لا ينتفي منه بلعان ولا بما سواه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» . وروي عن الشعبي أنه قال: خالفني إبراهيم وابن معقل وموسى في ولد الملاعنة فقالوا تلحقه به فقلت ألحقه به بعد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم ختم بالخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فكتبوا فيها إلى المدينة فكتبوا أن يلحق به، وهو شذوذ من القول، ولا حجة لقائله فيما احتج به من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش وللعاهر الحجر؛» لأنه إنما ورد في المدعي بالزنا(1/636)
ما ولد على فراش غيره على ما جاء في حديث عتبة. وأما نفي أولاد الزوجات فليس من ذلك في شيء؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قضى في ذلك بالملاعنة، ورد الولد الملاعن به إلى أمه دون المولود على فراشه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وقد اختلف في الاستبراء فعن مالك فيه روايتان: إحداهما أنه حيضة وهو أكثر المذهب، والثاني: أنه ثلاث حيض وهو مذهب ابن الماجشون وحكاه عبد الوهاب.
فصل ويجب بتمام لعان الزوج ثلاثة أحكام: أحدها سقوط نسب الولد، والثاني ترك الحد عن الزوج، والثالث رجوعه على المرأة إلا أن تلاعن. واختلف في الفرقة بماذا تجب، فالمشهور عن مالك وأصحابه أنها تجب بتمام لعان المرأة بعد الزوج. فعلى هذا إذا مات الزوج بعد أن التعن وقبل أن تلتعن المرأة أنها ترثه التعنت أو لم تلتعن، وهو قول ربيعة ومطرف واختيار ابن حبيب. وقد قيل: إنها تجب بتمام لعان الزوج وإن لم تلتعن المرأة، وهو مذهب الشافعي وظاهر قول مالك في موطئه وقول عبد الله بن عمرو بن العاص في المدونة وهو قول أصبغ في العتبية في الذي يتزوج المرأة في عدتها فتأتي بولد فيلاعن أحد الزوجين أنها تحرم للأبد على الذي لاعنها ولم تلاعنه. فعلى هذا إذا مات أحد الزوجين بعد تمام لعان الزوج أنهما لا يتوارثان، وهو قوله في المدونة إن ماتت المرأة ورثها الزوج وإن مات الزوج ورثته الزوجة إن لم تلاعن. فيأتي على هذا أن الفرقة تجب بتمام لعان الزوج إن التعنت المرأة. فاحفظ أنها مسألة يتحصل فيها ثلاثة أقوال.
فصل والفرقة في اللعان فسخ بغير طلاق، وهي مؤبدة لا يتراجع الزوجان بعده أبدا. هذا مذهب مالك وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم. والدليل على ذلك قول(1/637)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزوج بعد تمام اللعان: «لا سبيل لك إليها؛» لأن ظاهره التأبيد إذ لم يقيد ذلك بشرط يحلها له به "؛ لأن التحريم إذا أطلق من غير تقييد محمول على التأبيد. ألا ترى أن المطلقة ثلاثا لولا قول الله عز وجل فيها {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، لم تحل له أبدا بظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] .
فصل فإذا قلنا: إنه فسخ وليس بطلاق فيلزم على هذا إذا لاعنها قبل الدخول لا يكون لها شيء من الصداق لا نصف ولا غيره، وكذلك في كتاب ابن الجلاب، وهو خلال قول مالك في موطئه وخلاف ما في المدونة. ووجه هذا أنا لا نعلم صدق الزوج فلعل الولد منه، وإنما أراد طلاقها وتحريمها باللعان للأبد لئلا يكون عليه صداق. فلما اتهم في ذلك ألزم نصف الصداق. وقد وقع في كتاب ابن الجلاب في الذي يشتري زوجته قبل البناء أنه يجب لها عليه نصف الصداق، وهو خلاف المعروف في المذهب، وقوله في المدونة: إن الملاعنة لا متعة لها صحيح على هذا التعليل، فتعليل سقوط المتعة في اللعان بأنه فسخ وإن الله لم يوجبها إلا على المطلقين أصح من العلة التي عللها في المدونة.
فصل وبتمام اللعان تقع الفرقة بين الزوجين وإن لم يفرق الإمام بينهما. وهذا موضع اختلف فيه أهل العلم اختلافا كثيرا. فمذهب مالك ما ذكرناه، وقال الشافعي: إن الفرقة تقع بتمام لعان الزوج ولا تحل له أبدا. وقال أبو حنيفة وبعض أصحابه: إن الفرقة لا تقع بين الزوجين حتى يفرق الإمام بينهما، فإذا فرق الإمام بينهما لم تحل له حتى يكذب نفسه، فإن كذب نفسه جلد الحد وكان خاطبا من الخطاب. وقيل: إنه إن أكذب نفسه جلد الحد وردت إليه امرأته. وقيل: اللعان(1/638)
تطليقة بائنة، وهو قول عبيد الله بن الحسن. وقيل: إن اللعان لا ينقص شيئا من العصمة، وهو قول عثمان البتي، وطائفة من أهل البصرة أخذوا ذلك عنه. ولابن نافع في تفسير ابن مزين أنه استحب للملاعن أن يطلق ثلاثا عند الفراق من اللعان من غير أن يأمره الإمام بذلك كما فعل عويمر، فإن لم يفعل أغنى عن ذلك ما مضى من سنة المتلاعنين أنهما لا يتناكحان أبدا. وذهب ابن لبابة إلى أنه إن لم يطلق طلق عليه الإمام ثلاثا ولم يمنعه من مراجعتها من بعد زوج. وقيل: إنه ظاهر الحديث فلا يعدل عنه إلا بكتاب أو سنة أو إجماع. هذا معنى كلامه مختصرا. وقيل: إن فراق اللعان ثلاث تطليقات، وتحل له بعد زوج. ولم أر هذا القول إلا أنه أخبرني بعض أصحابنا أنه في كتاب ابن شعبان.
فصل واللعان يجب في كل نكاح يلحق فيه الولد وإن كان فاسدا أو حراما لا يقران عليه، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه.
فصل ولا يكون اللعان إلا عند الإمام في المسجد وبمحضر من الناس؛ لأن اللعان الذي كان في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان عنده في المسجد وبمحضر من الناس، وذلك مروي في الأحاديث الصحاح. من ذلك حديث مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موطئه في ملاعنة العجلاني زوجته. «قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
فصل ويستحب أن يكون اللعان في دبر الصلاة وبعد صلاة العصر؛ لأنه أشد الأوقات في اليمين، لما جاء أن الأيمان بعد صلاة العصر ليس له توبة، وليس ذلك بلازم أعني في دبر الصلاة.(1/639)
فصل وفي صفة اللعان اختلاف كثير بين أصحاب مالك غيرهم، إلا أنه اختلاف متقارب، فمن أراد الوقوف عليه تأمله في موضعه، وسيأتي الكلام عليه في موضعه من الكتاب.
فصل واختلف فيمن قذف أربع نسوة له في كلمة واحدة، فقال أبو بكر الأبهري: لست أعرفها منصوصة، والذي يجب على مذهبنا أن يلاعن لكل واحدة؛ لأن اللعان بمنزلة الشهادة، ولو أتى بالشهود للزم أن يقيم الشهادة على كل واحدة منهن منفردة. ويحتمل أن يكون يجزئه لعان واحد، قياسا على القذف إذا قذف جماعة في كلمة واحدة، وعلى الظهار إذا ظاهر منهن في كلمة واحدة أنه تجزئه كفارة واحدة. ثم قال وقد حكى الإصطخري عن إسماعيل القاضي أن جماعة ادعت على رجل دينا فحلف لهم يمينا واحدة. فعلى هذا يجب أن يكتفي بلعان واحد لهن كلهن.(1/640)
[كتاب الصرف] [ما جاء في تحريم الربا في الصرف]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الصرف
ما جاء في تحريم الربا في الصرف الربا في الصرف وفي جميع البيوع وفيما تقرر في الذمة من الدين، حرام محرم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130] ؛ لأن قوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 231] وعيد، والنهي إذا قرن به الوعيد علم أن المراد به التحريم. وقَوْله تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] ، يريد نهي تحريم لأنه عطف على ما نص على تحريمه، إلا أن الاحتجاج بهذه الآية على تحريم الربا إنما يصح على مذهب من يرى أن ما أخبر الله تعالى به من شرائع من قبلنا من الأنبياء لازم لنا، إلا أن يأتي في شرعنا ما ينسخه عنا، وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنه قد احتج في(2/5)
موطئه بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، يريد في التوراة، وهو الصحيح، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزغ إليها، فليصلها كما كان يصليها في وقتها، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] » والخطاب بهذا إنما هو لموسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وهذا بين، وقد اختلف في ذلك على أربعة أقوال، أحدها: أنها لازمة لنا جملة من غير تفصيل، بدليل قول الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] . (والثاني) أنها غير لازمة لنا جملة من غير تفصيل أيضا، بدليل قول الله عز وجل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] . (والثالث) أنها غير لازمة لنا إلا شريعة إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لقول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] ، وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] ، أي الزموها (والرابع) أنها غير لازمة لنا إلا شريعة عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأنها آخر الشرائع المتقدمة، وكل شريعة ناسخة للتي قبلها، وهذا القول أضعف الأقوال، لأن شريعة عيسى إذا كانت ناسخة لما قبلها من الشرائع فشريعتنا ناسخة لشريعة عيسى، وهذا بين، والله(2/6)
أعلم، وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] ، يقول الله عز وجل: الذين يربون في تجارتهم في الدنيا لا يقومون في الآخرة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، أي يصرعه من الجنون. ويروى: إن لأكلة الربا علما يعرفون به يوم القيامة أنهم أكلة الربا، يأخذهم خبل يشبه الخبل الذي يأخذهم في الآخرة بالجنون الذي يكون في الدنيا، ويروى «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدث عن ليلة الإسراء فكان في حديثه أنه أتى على سابلة فرعون حيث ينطلق بهم إلى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا، فإذا رأوها قالوا: ربنا لا تقومن الساعة؛ لما يرون من عذاب الله، قال: وإذا أنا برجال بطونهم كالبيوت، يقومون فيقعون ببطونهم وظهورهم، فيأتي عليهم آل فرعون فيثردونهم ثردا، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء أكلة الربا، ثم تلا هذه الآية: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] » ، وفي البخاري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج، رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيت في النهر آكل الربا» .
وأما السنة فمنها ما رواه ابن مسعود أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لعن آكل الربا وموكله(2/7)
وشاهده وكاتبه» ، وقال: هم سواء، ومن ذلك تحريمه التفاضل بين الذهبين والورقين. وأن لا يباع من ذلك شيء غائب بناجز، وما أشبه ذلك كثير. وأما الإجماع فمعلوم من دين الأمة ضرورة أن الربا محرم في الجملة وإن اختلفوا في تفصيل مسائله وتبيين أحكامه وتعيين شرائطه، على ما يأتي في مواضعه إن شاء الله، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق وهو الهادي إلى أقوم طريق.
[فصل في معنى الربا وحكمه]
فصل في معنى الربا، وأصل الربا الزيادة والإضافة، يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد وعظم، وأربى فلان على فلان: إذا زاد عليه، يربي إرباء، وكان ربا الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الدين، فإذا حل قال له: أتقضي أم تربي؟ فإن قضاه أخذه، وإلا زاده في الحق وزاده في الأجل، فأنزل الله في ذلك ما أنزل، فقيل للمربي: مرب، للزيادة التي يستزيدها في دينه لتأخيره به إلى أجل.
فصل فمن استحل الربا فهو كافر حلال الدم، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، قال الله عز وجل: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] ، يريد: عاد إلى الربا باستحلاله، لأن الخلود في النار من صفات الكافرين. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] ، أي إن لم تفعلوا وتقبلوا ذلك وتقروا به، فأذنوا بحرب؛ أي فاعلموا أنكم محاربون من الله ورسوله لأنكم مشركون.(2/8)
فصل وأما من باع بيعا أربى فيه غير مستحل للربا، فعليه العقوبة الموجعة إن لم يعذر بجهل، ويفسخ البيع ما كان قائما، في قول مالك وجميع أصحابه، والحجة في ذلك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر السعدين أن يبيعا آنية من المغانم من ذهب أو فضة، فباعا كل ثلاثة بأربعة عينا، أو كل أربعة بثلاثة عينا، فقال لهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أربيتما فردا» .
فصل فإن فات البيع فليس له إلا رأس ماله، قبض الربا أو لم يقبضه، فإن كان قبضه رده إلى صاحبه، وكذلك من أربى ثم تاب فليس له إلا رأس ماله، وما قبض من الربا وجب عليه أن يرده إلى من قبضه منه، فإن لم يعلمه تصدق به عليه لقول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] الآية. وأما من أسلم وله ربا فإن كان قبضه فهو له، لقول الله عز وجل: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] ، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء فهو له» ، وأما إن كان الربا لم يقبضه فلا يحل له أن يأخذه، وهو موضوع عن الذي هو عليه، ولا خلاف في هذا أعلمه لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] ، نزلت هذه الآية في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم، وكانوا قد اقتضوا بعضه منهم وبقي بعض،(2/9)
فعفا الله لهم عما كانوا اقتضوه، وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه، وقيل: نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة، كانا يسلفان في الربا، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله الآية بتحريم اقتضاء ما كان بقي لهما من الربا لم يقتضياه. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب» .
فصل وفي هذا ما يدل على إجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف، لأن مكة كانت دار حرب وكان بها العباس بن عبد المطلب مسلما، إما من قبل بدر - على ما ذكره ابن إسحاق من أنه اعتذر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أسر يوم بدر، وأمره أن يفتدي، فقال له: إني كنت مسلما ولم أخرج لقتالك إلا كرها، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك» أو من قبل فتح خيبر - إن لم يصح ما ذكره ابن إسحاق، على ما دل عليه حديت الحجاج بن علاط من إقراره للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرسالة وتصديقه ما وعده الله به، وقد كان الربا يوم فتح خيبر محرما على ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بقلادة وهو بخيبر من غنائمها فيها ذهب وخرز، فأمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وبيع وحده وقال: الذهب بالذهب وزنا بوزن» . فلما لم يرد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان من رباه بعد إسلامه: إما من قبل بدر، وإما من قبل فتح خيبر، إلى أن ذهبت الجاهلية بفتح مكة، وإنما وضع منه ما كان قائما لم يقبض، دل ذلك على إجازته، إذ حكم له بحكم ما كان من الربا قبل تحريمه، وبحكم الربا بين أهل الذمة والحربيين إذا(2/10)
أسلموا. وحديث الحجاج بن علاط الذي دل على أن العباس كان مسلما حين فتح خيبر، وما روى أنس بن مالك عنه أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين فتح خيبر: إن لي بمكة أهلا ومالا، وقد أردت أن آتيهم، فإن أذنت لي أن أقول فعلت، فأذن له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فأتى مكة وأشاع بها أن أصحاب محمد قد استبيحوا، وأني جئت لآخذ مالي فأبتاع من غنائمهم، ففرح بذلك المشركون واختفى من كان بها من المسلمين، فأرسل العباس بن عبد المطلب غلامه إلى الحجاج يقول له: ويحك ما جئت به؟ فما وعد الله به ورسوله خير مما جئت به، فقال له: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له ليخل لي معه بيتا، فإن الخبر على ما يسره، فلما أتاه الغلام بذلك، قام إليه فقبل ما بين عينيه! ثم أتاه الحجاج بن علاط فخلا به في بعض بيوته وأخبره أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فتحت عليه خيبر وجرت فيها سهام المسلمين، واصطفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها صفية لنفسه، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح له أن يقول ما شاء ليستخرج ماله، وسأله أن يكتم ذلك عليه ثلاثا حتى يخرج، ففعل، فلما أخبر بذلك بعد خروجه، فرح المسلمون ورجع ما كان بهم من كآبة على المشركين، والحمد لله رب العالمين. نقلت الحديث على المعنى واختصرت منه كثيرا لطوله، وبالله التوفيق.
واحتج الطحاوي لإجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب بحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية، الحديث» ، وإنما اختلف أهل العلم فيمن أسلم وله ثمن خمر أو خنزير لم يقبضه: فقال أشهب والمخزومي: هو له حلال سائغ بمنزلة ما لو كان قبضه، وقال ابن دينار وابن أبي حازم: يسقط الثمن عن الذي هو عليه كالربا، وأكثر مذاهب أصحابنا على قول أشهب والمخزومي.(2/11)
فصل وقد اختلف في لفظ الربا الوارد في القرآن: هل هو من الألفاظ العامة التي يفهم المراد بها وتحمل على عمومها حتى يأتي ما يخصها، أو من الألفاظ المجملة التي لا يفهم المراد بها من لفظها وتفتقر في البيان إلى غيرها؟ على قولين، والذي يدل عليه قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان من آخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يفسرها لنا، أنها من الألفاظ المجملة المفتقرة إلى البيان والتفسير، ولم يرد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقوله: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي قبل أن يفسرها، أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر آية الربا ولا بين المراد بها، وإنما أراد - والله أعلم - أنه لم يعم جميع وجوه الربا بالنص عليها، للعلم الحاصل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نص على كثير منها، من ذلك: تحريمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التفاضل بين الذهبين والورقين، وأن يباع من ذلك شيء غائب بناجز، ونهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع وسلف، وعن بيع ما ليس عندك، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع الملامسة والمنابذة، وعن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وما أشبه ذلك، لأن هذه الأحاديث تحمل على البيان والتفسير لما أجمل الله في كتابه من ذكر الربا وما لم ينص عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه الربا، فإنه أحال فيه على طرق ذلك، أدلة الشرع وبين وجوهها، وما توفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بعد أن كمل الدين وبعد أن بين كل ما بالمسلمين الحاجة إلى بيانه، قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] .(2/12)
فصل ومما يدل على ما تأولنا عليه حديثه، قوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنكم تزعمون أنا نعلم أبواب الربا، ولأن أكون أعلمها أحب إلي من أن يكون لي مثل مصر وكورها، ولكن من ذلك أبواب لا تخفى على أحد: أن تباع الثمرة وهي معصفة لم تطب، وأن يباع الذهب بالورق والورق بالذهب نسيئا، فأخبر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن من وجوه الربا ما هو بين جلي، لنص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه؛ وباطن خفي لعدم النص فيه، وتمنى أن تكون جميع وجوه الربا ظاهرة جلية يعلمها بنص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها، ولا يفتقر إلى طلب الأدلة في شيء منها، والله عز وجل لما أراد أن يمتحن عباده ويبتليهم فرق بين طرق العلم، فجعل منه ظاهرا جليا، وباطنا خفيا؛ ليعلم الباطن الخفي بالاجتهاد والنظر من الظاهر الجلي، فيرفع بذلك الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] .
[فصل في أنواع الربا]
فصل والربا على وجهين: ربا في النقد، وربا في النسيئة، فأما الربا في النقد فلا يكون إلا في الصنف الواحد من نوعين، (أحدهما) : الذهب والورق، (والثاني) ما كان من الطعام مدخرا مقتاتا أو مصلحا للقوت أصلا للمعاش غالبا، في قول بعضهم، وأما الربا في النسيئة فيكون في الصنف الواحد وفي الصنفين، فأما في الصنف الواحد فهو في كل شيء من جميع الأشياء، لا يجوز واحد باثنين من صنفه(2/13)
إلى أجل، من جميع الأشياء، طعاما كان أو غيره، وأما في الصنفين فهو في نوعين: أحدهما الذهب والفضة، (والثاني) الطعام كله، كان مما لا يدخر، أو مما يدخر
فصل وباب الصرف من أضيق أبواب الربا، فالتخلص من الربا على من كان عمله الصرف عسير، إلا لمن كان من أهل الورع والمعرفة بما يحل فيه ويحرم منه، وقليل ما هم؛ ولذلك كان الحسن يقول: إن استسقيت ماء فسقيت من بيت صراف فلا تشربه، وكان أصبغ يكره أن يستظل بظل الصيرفي، قال ابن حبيب: لأن الغالب عليهم الربا، وقيل لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أتكره أن يعمل الرجل بالصرف؟ قال: نعم، إلا أن يكون يتقي الله في ذلك.
فصل ومما بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه الربا أن الذهب بالذهب والورق بالورق لا يباع إلا مثلا بمثل يدا بيد، وأن الذهب بالورق لا يباع إلا يدا بيد، ذكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري، أنه التمس صرفا بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني وأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر بن الخطاب يسمع فقال عمر بن الخطاب: لا، والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء» .
فصل فلا يجوز في الصرف ولا في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة مواعدة ولا(2/14)
خيار ولا كفالة ولا حوالة، ولا يصح، إلا بالمناجرة الصحيحة، لا يفارق صاحبه وبينه وبينه عمل، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز» وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره، إني أخاف عليكم الرماء. والرماء هو الربا.
فصل والنظرة في الصرف تنقسم على ثلاثة أقسام، أحدها: أن ينعقد الصرف بينهما على أن ينظر أحدهما صاحبه بشيء مما اصطرفا فيه، وإن قل، فهذا إذا وقع فسخ جميع الصرف باتفاق لانعقاده على فساد. (والثاني) أن ينعقد الصرف بينهما على المناجزة، ثم يؤخر أحدهما صاحبه بشيء مما اصطرفا فيه، فهذا ينتقض الصرف فيما وقع فيه التأخير باتفاق، وإن كان درهما انتقض صرف دينار واحد ما بينه وبين أن يكون الذي وقع فيه التأخير أكثر من صرف دينار، فينتقض صرف دينارين، كذا أبدا على هذا الترتيب، واختلف هل يجوز من الصرف ما حصلت فيه المناجزة ولم يقع فيه تأخير أم لا؟ على قولين (أحدهما) : إن ذلك لا يجوز، لأنهما متهمان على القصد لذلك والعقد عليه، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، وقول محمد بن المواز. (والثاني) أن ذلك يجوز ولا يفسخ، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز. والقسم الثالث أن ينعقد الصرف بينهما على المناجزة فيتأخر شيء مما وقع الصرف عليه بنسيان أو غلط أو سرقة من(2/15)
الصراف، أو ما أشبه ذلك مما يغلبان عليه أو أحدهما؛ فهذا يمضي الصرف فيما وقع فيه التناجز ولا ينتقض باتفاق؛ واختلف هل ينتقض فيما حصل فيه التأخير إن تجاوز النقصان، مثل أن يصرف منه دينارا بدراهم، فيجد من الدراهم درهما ناقصا فيقول: أنا أتجاوزه، فلا ينتقض من الصرف شيء؟ على قولين، (أحدهما) قول ابن القاسم: إن ذلك لا يجوز وينتقض من الصرف صرف دينار واحد، إلا أن يكون العدد الذي نقص أكثر من صرف دينار، فينتقض صرف دينارين، كذا أبدا على هذا المثال والترتيب، (والثاني) قول أشهب: إن الصرف يجوز ولا ينتقض منه شيء إن تجاوز النقصان، كالدانق إذا رضي به، وقد روي عن ابن القاسم مثل قول أشهب في النقصان اليسير كالدانق والدانقين، وقاله أصبغ في الدرهم من الألف درهم، وذلك لأن الموازين قد تختلف في مثل هذا المقدار، وما تختلف عليه الموازين لا اختلاف عندي في جواز تجاوزه، وليس ما روي عن ابن القاسم في هذا اختلافا من قوله وإنما المعنى في ذلك أن الدانق والدانقين مرة رأى أن الموازين تختلف عليه، فأجاز التجاوز عنه، ومرة رأى أن الموازين لا تختلف عليه فلم يجز التجاوز عنه.
فصل وأما إن أراد أن يرجع بالنقصان فيأخذه، فلا يجوز إلا على مذهب من أجاز البدل في الصرف، ورأى أن الغلبة على التأخير فيه بالنسيان والغلط والسرقة والتدليس وما أشبه ذلك، لا يبطل الصرف ولا يفسده، فإن وجد فيما صارفه فيه بعد الافتراق زائفا أبدله، وإن وجد ناقصا أخذه، وإن استحق منه شيء، أخذ(2/16)
عوضه، وهذا كله على مذهبهم في المجلس ما لم يفترقا على معرفة ذلك.
فصل فإن قال قائل: وإذا كان التأخير على وجه الغلبة يبطل الصرف عند مالك ولا يجوز أن يتجاوز النقصان، فكيف جاز أن يتجاوز الزائف وهو كالناقص إذ لم يصارفه إلا على جياد، فقبضه الزائف كلا قبض؛ فالجواب عن ذلك أن الدنانير والدراهم في الصرف على مذهب مالك وجمهور أصحابه، إن عينت تعينت، وإن لم تعين فإنها تتعين إما بالقبض وإما بالمفارقة، فلذلك جاز الرضا بالزيوف، لوقوع الصرف عليها بتعيينها بأحد الوجهين، وعلى هذا يأتي اختلافهم إذا استحقت الدراهم ساعة صارفه، هل يلزمه أن يعطيه ما كان عنده صرفه مما بقي في يده لم يستحق، أم لا يلزمه ذلك، فمن رأى أنها تتعين بالقبض لم يلزمه ذلك، إلا أن يشاء، فيكون صرفا مستقبلا، ومن رأى أنها لا تتعين إلا بالمفارقة ألزمه ذلك، بخلاف البيوع التي لا يتعين العين فيها إلا أن يعين، فيتعين على اختلاف، ومن أجاز البدل، فمذهبه أن الدنانير والدراهم في الصرف لا تتعين إلا أن تعين وأن الغلبة فيه على التأخير لا تفسد الصرف، وقد تقدم ذكر ذلك.
فصل وقد تقدم أنه لا يجوز في الصرف خيار ولا مواعدة ولا حوالة ولا رهن ولا كفالة، فأما الخيار فلا اختلاف أن الصرف به فاسد، كانا جميعا بالخيار أو أحدهما، لعدم المناجزة بينهما بسبب الخيار، وأما المواعدة فتكره، فإن وقع ذلك وتم الصرف بينهما على المواعدة لم يفسخ عند ابن القاسم، وقال(2/17)
أصبغ: يفسخ، فلعل قول ابن القاسم إذا لم يتراوضا على السوم، وإنما قال له: اذهب معي أصرف منك، وقول أصبغ إذا راوضه على السوم فقال له: اذهب معي أصرف منك ذهبك بكذا وكذا، وأما الحوالة إذا صرف وأحال على الصراف من يقبض منه، فلا يجوز على مذهب ابن القاسم إلا أن يقبض هو صرفه ويدفعه إلى من أحاله، وأما إن قبضه المحال، فلا يجوز وإن كان بحضرته قبل أن يفارقه، بخلاف الوكالة إذا صار، ثم وكل على قبض الدراهم فقبضها الوكيل بحضرتهما قبل أن يفارقه الذي وكله، جاز، وبخلاف الحوالة برأس المال في الإقالة من الطعام، وذهب سحنون وأشهب إلى أنه إن قبض المحال قبل أن يفارقه الذي أحاله بحضرة ذلك، جاز، كالإحالة برأس المال في الإقالة من الطعام، وكالوكالة إذا قبض الوكيل قبل أن يفترقا، وأما إذا ذهب الموكل أو المحيل قبل أن يقبض الوكيل أو المحال، فالصرف منتقض لا يجوز في الحوالة باتفاق، وفي الوكالة على اختلاف؛ لأن أبا زيد روى عن ابن القاسم في الرجلين يصرفان الدراهم تكون بينهما بدينار من رجل، فيذهب أحدهما ويتخلف الآخر على قبض الدينار - أن ذلك جائز، ونحوه في سماع أصبغ، إلا أن يفرق بين المسئلتين بسبب الاشتراك في الدراهم أو الدنانير، وذلك بعيد، لأنه قد ساوى في المدونة بينهما، وأما الوكالة على قبض رأس المال في الإقالة من الطعام، فإنها تجوز وإن افترقا إذا قبض الوكيل قبل أن يفارق المسلم إليه، وأما الحمالة فإن كانت بالدنانير إن استحقت الدراهم أو بالدراهم إن استحقت الدنانير، جاز ذلك، وإلا لم يجز، وكذلك الرهن، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(2/18)
[كتاب السلم] [القول في السلم وأصل جوازه وتقسيم وجوهه وتبيين الصحيح منه من الفاسد]
القول في السلم وأصل جوازه وتقسيم وجوهه
وتبيين الصحيح منه من الفاسد السلم- وإن سمي سلما فهو بيع من البيوع، لأن البيع نقل الملك عن عوض، كما أن المصارفة والمراطلة والمعاوضة والمبادلة وما أشبه ذلك من الأسماء التي اختصت ببعض البيوع وتعرفت بها دون سائرها - بيوع كلها في الحقيقة. والأموال التي تنتقل الأملاك فيها بالمعاوضة عليها على ثلاثة أوجه: عين حاضرة مرئية، وعين غائبة غير مرئية، وسلم ثابت في الذمة.
فصل فأما العين الحاضرة المرئية فلا اختلاف بين أهل العلم في جواز بيعها، وأما العين الغائبة فبيعها عندنا على الصفة جائز لازم، خلافا للشافعي في قوله: إن بيعها على الصفة غير جائز، وخلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في قوله بأن ذلك جائز وليس بلازم، وسيأتي القول على هذا في موضعه من كتاب بيع الغرر، إن شاء الله. وأما السلم الثابت في الذمة، فيجوز عندنا في كل ما يضبط بالصفة،(2/19)
ويجوز قرضه على شروط يأتي وصفها، إن شاء الله تعالى، خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في قوله: إن السلم والقرض في الحيوان لا يجوز، ولداود وطائفة من أهل الظاهر في قولهم: إن السلم فيما عدا المكيل والموزون لا يجوز.
فصل فمن الدليل على صحة قولنا في إجازة السلم في الحيوان والعروض وجميع ما يضبط بالصفة: أن الله تبارك وتعالى أباح البيع لعباده وأذن لهم فيه إذنا مطلقا وإباحة عامة في غير ما آية من كتابه، فقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وقال: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وقال: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] ، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] ، يريد التجارة هذا معنى الآية: لأنه قد قرئ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج، فتحمل هذه القراءة على التفسير، وقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] على أنه قد اختلف في قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، و {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ، هل هي من الألفاظ العامة أو من الألفاظ المجملة؟ فمن أهل العلم من ذهب إلى أنها كلها مجملة لا يفهم المراد بها من لفظها، وتفتقر في البيان إلى غيرها، ومنهم من ذهب إلى أنها كلها عامة يجب حملها على عمومها بحق الظاهر حتى يأتي ما يخصصها، وذهب أبو محمد بن نصر، وهو عبد الوهاب صاحب الشرح من البغداديين، إلى أنها كلها مجملة إلا قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ،(2/20)
فإنها عامة، وهو أظهر الأقوال، فإنما يصح الاحتجاج بهذه الآية. أعني قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، لجواز السلم في الحيوان والعروض على مذهب من ذهب من العلماء إلى أنها عامة يجب حملها على عمومها في كل بيع إلا ما خصه الدليل.
فصل وقد خص الله تبارك وتعالى من ذلك بمحكم كتابه البيع في وقت صلاة الجمعة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] ، وخص من ذلك أيضا على لسان نبيه بيوعا كثيرة، من ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر، وعن بيع الملامسة والمنابذة، وبيع حبل حبلة، وعن بيعتين في بيعة، وبيع الحصاة، وبيع العربان، وبيع حاضر لباد وأن يبيع الرجل على بيع أخيه، وما أشبه ذلك من نواهيه، ولم ينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن السلم، فبقي على أصل الإباحة الواردة في القرآن لعموم الألفاظ، لأنه بيع من البيوع على ما قدمناه، إلا ما خص منه أيضا بالقياس والسنة والإجماع على ما سنبينه، إن شاء الله.(2/21)
فصل فالسلم في الحيوان والعروض من جملة ما بقي على أصل الإباحة إذ لم يخصه بجملته سنة ولا قياس ولا إجماع.
فصل
ومن الدليل أيضا على جواز السلم في الحيوان وما سواه مما يضبط بالصفة ويجوز فيه القرض، قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ، فلم يخص دينا من دين بل عم جميع الديون، والحيوان من ذلك لجواز تعلقه بالذمة، يشهد لذلك استسلاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البكر، وقد قال ابن عباس: أشهد أن التسليف المضمون إلى أجل معلوم قد أحله الله وأذن فيه، أما تقرؤون قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] فسواء باع طعاما واكتتب ذهبا أو أعطى ذهبا واكتتب طعاما، قلت: أو ثيابا أو حيوانا، والله أعلم. ومن طريق القياس أن هذا شيء يصح تعلقه بالذمة مهرا أو قرضا، فجاز تعلقه بها سلما، أصل ذلك الطعام، ثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقرض الطعام وأنه قدم المدينة وهم يسلمون في الثمار إلى السنتين والثلاث، فقال: أسلموا في كيل معلوم ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» .(2/22)
فصل والسلم في مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه جائز فيما ينقطع من أيدي الناس وفيما لا ينقطع من أيديهم، إذا اشترط الأخذ فيما ينقطع من أيديهم في حين وجوده، فإن اشترط الأخذ في حين عدمه لم يجز، ومن أهل العلم من لا يجيز السلم إلا فيما يكون موجودا بأيدي الناس من حين عقد السلم إلى حين حلوله، ومنهم من لا يجيز السلم إلا فيما يكون موجودا بأيدي الناس ولا ينقطع في وقت من الأوقات.
فصل فمن حجة من لا يجيز السلم إلا فيما يكون موجودا من حين عقد السلم إلى حين حلول أجله، أن المسلم إليه قد يموت فيحل عليه السلم بموته، وربما كان ذلك في حين انقطاعه فيئول ذلك إلى الغرر، ومن حجة من لا يجيز السلم إلا فيما لا ينقطع قبل حلول السلم ولا بعده، أن القضاء قد يتأخر لعذر أو لغير عذر بعد حلول الأجل حتى ينقضي الإبان فيرد إليه رأس ماله، أو يتأخر إلى العام المقبل - وذلك غرر، وهذا كله لا يلزم، لأن العقود إذا صحت وسلمت من الغرر، فلا يراعى ما يطرأ عليها بعد ذلك مما لم يقصد إليه، إذ لو روعي ذلك، لما صح عقد ولا سلم بيع بوجه من الوجوه، بل السلم فيما له إبان على أن يقتضى في إبانه، أجوز من السلم فيما لا ينقطع من أيدي الناس وإن كانا جائزين جميعا؛ لأن السلم فيما لا ينقطع من أيدي الناس يحل بموت المسلم إليه، وحياته إلى أن يحل الأجل غير مأمونة؛ وفي ماله إبان لا يحل بموت المسلم إليه، وتوقف تركته إلى أن يأتي الإبان فيقضي حقه، وحينئذ يقسم ماله بين ورثته، لقول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، فهو أقل غررا.(2/23)
فصل وإنما توقف تركته كلها - إذا خشي أن يستغرقها ما عليه من السلم، وأما إذا كان السلم يسيرا وماله كثيرا، فإنما يوقف منه ما يرى أنه يفي بما عليه من السلم، ويقسم بقية ذلك بين ورثته، إلا على رواية أشهب عن مالك الذي يرى أن القسمة لا تجوز في شيء من المال - وعلى الميت دين وإن كان يسيرا واستقام الأمر وجاء على العافية. فصل فإن كان عليه ديون ضرب لصاحب السلم مع الغرماء بما يساوي سلمه بالنقد يوم الإبان على ما عرف من قيمته بالعادة لا بما يساوي الآن، على أن يقبض في وقته، إلا على مذهب سحنون القائل: إن صاحب السلم المؤجل يحاص بقيمة سلمه إلى الأجل لا بقيمته الآن حالا، وهو بعيد.
فصل فإن جاء الإبان، وهو أغلى مما قوم به، لم يكن له على الغرماء رجوع؛ وإن كان أرخص، لم يكن لهم عليه رجوع في الزيادة ما بينه وبين جميع حقه، فإذا وجد حقه، فلا يزاد عليه ويرد الفاضل إليهم.
فصل فإذا قلنا: إن السلم فيما له إبان على أن يقبض في إبانه جائز، فإن انقضى الإبان قبل أن يقبض صاحب السلم جميع سلمه، فلمالك وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في ذلك ثلاثة أقوال، القولان منها تتفرع على أربعة أقوال، ففي جملة المسألة خمسة(2/24)
أقوال؛ (أحدها) : قول مالك الأول في المدونة، أن الذي يوجبه الحكم أن يتأخر الذي له السلم إلى عام مقبل، فإن تراضيا واتفقا على المحاسبة، فعلى قولين، أحدهما أن ذلك لا يجوز لهما، لأنه يدخله البيع والسلف، وهو قول مالك الأول في المدونة، والثاني أن ذلك جائز، وهو قول مالك الآخر الذي رجع إليه، وهو قول سحنون: من طلب التأخير منهما فذلك له، إلا أن يجتمعا على المحاسبة. (والقول الثاني) قول أشهب: إن الذي يوجبه الحكم المحاسبة وأخذ بقية رأس المال، فإن اتفقا على أن يتأخر الذي له السلم إلى سنة أخرى فعلى قولين، أحدهما أن ذلك لا يجوز - وهو قول أشهب، لأنه يدخله فسخ الدين في الدين، والآخر أن ذلك جائز - وهو قول أصبغ، وهو قول ضعيف لا يحمله القياس؛ فهذه أربعة أقوال يتفرع كل واحد من القولين المذكورين إلى قولين كما حكيناه، والقول الخامس قول ابن القاسم في المدونة وكتاب ابن المواز: إن الذي له السلم مخير، إن شاء أن يتأخر إلى سنة مقبلة، وإن شاء أن يأخذ بقية رأس ماله، وهو قول ضعيف معترض أيضا من الوجه الذي اعترض به قول أصبغ، وحكى فضل في كتابه أن الذي وقع في المدونة من قوله: من طلب التأخير منهما فذلك له، إلا أن يجتمعا على المحاسبة، هو قول ابن القاسم، والصحيح أنه من قول سحنون كما ذكرنا؛ لأن قوله: من طلب التأخير منهما فذلك له، إلا أن يجتمعا على المحاسبة، لا يتسق مع قول ابن القاسم قبل ذلك، أنه إن شاء أن يؤخر الذي له السلم إلى إبانه من السنة المقبلة، فذلك له، بل يتنافى ويتدافع مع ما لابن القاسم مكشوفا في كتاب ابن المواز: أن الذي له السلم مخير، وكذلك هو في بعض الأمهات من قول سحنون مكشوفا؛ وحكى ابن حبيب عن مالك أن الذي له السلم مخير مثل قول ابن القاسم، فخلط قولي مالك وجعلهما قولا واحدا فأفسدهما؛ وحكى فضل أيضا عن سحنون أنهما مجبوران على(2/25)
التأخير مثل قول مالك الأول خلاف ما وقع في المدونة من قوله: من طلب التأخير منهما فذلك له إلا أن يجتمعا على المحاسبة. وقوله هذا مفسر لقول مالك الذي رجع إليه، وكان من حقه أن يكون متصلا به، فلو اتصل به لم يكن في المسألة إشكال - والله أعلم وبه التوفيق.
فصل في ذكر شرائط السلم التي لا يصح دونها، وللسلم خمسة شروط لا يصح إلا بها، أحدها أن يكون مضمونا فيما يجوز ملكه وبيعه (والثاني) أن يكون موصوفا صفة تحصر المسلم فيه لا يتعذر وجودها (والثالث) أن يكون معلوم القدر بكيل فيما يكال، أو ذرع فيما يذرع، أو عدد فيما يعد، أو وزن فيما يوزن، أو ما يقوم مقام الوزن من التحري المعروف (والرابع) أن يكون مؤجلا إلى أجل معلوم، وفي حده اختلاف سأذكره إن شاء الله (والخامس) أن يعجل دفع رأس المال ولا يؤخره بشرط فوق ثلاث، فإن وقع السلم على غير هذا لم يجز وفسخ.
فصل فسلم الدنانير والدراهم على هذا جائز في كل شيء من العروض والطعام والرقيق والحيوان وجميع الأشياء، حاشا أربعة أشياء، أحدها: ما لا يصح الانتقال به من الدور والأرضين، والثاني ما لا يحاط بصفته مثل تراب المعادن والجزاف فيما يصح بيعه جزافا. والثالث: ما يتعذر وجوده من الصفة. والرابع: ما لا يجوز بيعه بحال، نحو تراب الصواغين والخمر والخنزير وجلود الميتات، وجميع النجاسات، وما أشبه ذلك من الغرر والحرام.
فصل فإن وقع السلم فاسدا، فالذي يتحصل في مسألة الكتاب فيمن أسلم في حنطة سلما فاسدا، أن فساده إن كان متفقا عليه أو مختلفا فيه ففسخ بحكم جاز(2/26)
للمسلم أن يأخذ في رأس ماله خلاف الجنس الذي أسلم فيه، مثل تمر من قمح، وأن يؤخره برأس ماله، وأن يأخذ بعضه ويضع عنه بعضه باتفاق، ولم يجز له أن يأخذ برأس ماله دنانير إن كان دراهم ولا ما أشبه ذلك مما لا يجوز له أن يسلم رأس ماله فيه باتفاق أيضا، واختلف هل يجوز له أن يأخذ منه من جنس سلمه شيئا أم لا؟ على ثلاثة أقوال، (أحدها) أنه لا يجوز له أن يأخذ منه شيئا من ذلك، لا سمراء من سمراء ولا محمولة من سمراء ولا قمحا من شعير، وهذا هو ظاهر الكتاب (والثاني) أنه يجوز له أن يأخذ منه ما شاء من ذلك، وهو قول ابن لبابة (والثالث) أنه يجوز له أن يأخذ منه محمولة من سمراء وقمحا من شعير، ولا يجوز له أن يأخذ منه محمولة من محمولة ولا سمراء من سمراء، وهو قول الفضل. وأما إن كان الفساد مختلفا فيه فلا يجوز له أن يأخذ منه قبل الحكم بالفسخ خلاف الجنس الذي أسلم إليه فيه، ولا أن يؤخره برأس ماله، ولا أن يأخذ منه بعضه ويضع عنه بعضه، باتفاق، لأن ذلك كله بيع الطعام قبل أن يستوفى، على قول من يجيزه، فإن أراد أن يأخذ منه شيئا من جنس سلمه، فعلى الثلاثة الأقوال المذكورة بعد الحكم في الفساد المتفق على تحريمه، وذهب عبد الحق إلى أن السلم إذا فسخ بالحكم جاز له أن يأخذ برأس ماله دنانير وهو دراهم، وذلك بعيد غير صحيح، فلا يعد في الخلاف، وتراضيهما بالفسخ كالحكم بالفسخ عند أشهب، وضعف ذلك ابن المواز.
فصل وإنما لم يجز السلم في الدور والأرضين، لأن السلم لا يجوز إلا بصفة، ولا بد في صفة الدور والأرضين من ذكر موضعها، وإذا ذكر موضعها تعينت، فصار السلم فيها كمن ابتاع من رجل دار فلان على أن يتخلصها له منه، وذلك من الغرر الذي لا يحل ولا يجوز، لأنه لا يدري بكم يتخلصها منه، وربما لم يقدر على أن يتخلصها منه، ومتى لم يقدر على أن يتخلصها منه رد إليه رأس ماله فصار مرة بيعا ومرة سلفا وذلك سلف جر نفعا.(2/27)
فصل وإنما لم يجز السلم فيما يتعذر وجوده من الصفة، لأنه إن وجدت السلعة على الصفة المشترطة تم البيع؛ وإن لم توجد، رجع إليه رأس ماله فصار مرة بيعا ومرة سلفا، وذلك أيضا سلف جر منفعة، وإنما لم يجز السلم فيما لا تحصره الصفة، لأنه غرر وقد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر» .
فصل وإنما كان من شروط صحة السلم: أن يكون مضمونا موصوفا معلوم القدر إلى أجل معلوم، لأنه متى أخل بشيء من ذلك كان من الغرر المنهي عنه في البيوع.
فصل وإنما كان من شروط صحته أن لا يتأخر رأس المال فوق ثلاث «لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الكالئ بالكالئ وتأخيره ثلاثة أيام فما دونها بشرط جائز» وقد وقع في المدونة ما ظاهره أنه لا يجوز أن يتأخر بشرط قليلا ولا كثيرا، والمشهور ما قدمناه أولا، وأما تأخيره فوق الثلاث بشرط، فذلك لا يجوز باتفاق - كان رأس المال عينا أو عرضا؛ فإن تأخر فوت الثلاث بغير شرط لم يفسخ إن كان عرضا، واختلف فيه إن كان عينا؛ فعلى ما في المدونة أن السلم يفسد بذلك ويفسخ، وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب أنه لا يفسخ إلا أن يتأخر فوق الثلاث بشرط.
فصل وقد اختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في حد أقل ما يجوز إليه السلم من الآجال، فكان يقول أولا: أقل ما يجوز إليه السلم ما ترتفع فيه الأسواق(2/28)
وتنخفض، وذلك نحو الخمسة عشر يوما - وهو قوله في المدونة، ثم أجازه إلى اليومين والثلاثة؛ ووقع اختلاف قوله هذا في سماع ابن القاسم من جامع البيوع، وذكر الاختلاف عنه في ذلك ابن حبيب أيضا، وكذلك اختلف في ذلك قول سعيد بن المسيب، فله في المدونة مثل قول مالك الأول، وفي الواضحة مثل قوله الآخر، وأجاز السلم الحال إذا وقع على ما كان يقيم منه من أدركناه من الشيوخ - وفيه نظر؛ وما في المدونة أصح، لأن إجازة السلم الحال أو إلى اليومين ونحوهما من باب بيع ما ليس عندك، وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحكيم بن حزام: يا حكيم لا تبيعن إلا ما عندك» وقال رجل لسعيد بن المسيب: إني أبيع بالدين؟ قال له: لا تبع إلا ما آويت إلى رحلك.
فصل
وبيع ما ليس عندك ينقسم على ثلاثة أوجه، وجه متفق على جوازه، وهو أن يبيع بنقد ما ليس عنده إلى أجل ترتفع فيه الأسواق وتنخفض، وهو السلم الذي جوزه القرآن والسنة، ووجه متفق على كراهيته: وهو أن يبيع بثمن إلى أجل ما ليس عنده نقدا أو إلى أجل، وشرح هذا الوجه وتفصيله يطول، وسأذكره في كتاب بيوع الآجال، إن شاء الله. ووجه اختلف فيه فأجيز وكره - وهو أن يبيع ما ليس عنده نقدا بنقد، ووجه كراهيته: أنه كأنه اشترى منه سلعة فلان على أن يتخلصها منه، وإن كان هذا أكره، لأن فلانا قد لا يبيع سلعته، ومن أسلم إليه في سلعة غير معينة حالة عليه، لا يتعذر عليه شراؤها في الأغلب من الحالات؛ وقال أشهب: وجه الكراهية في ذلك أيضا أنه إذا أعطي دنانير في سلعة إلى يومين ونحوهما، فكأنه قيل له: خذ هذه الدنانير فاشتر بها سلعة كذا، فما زاد فلك، وما نقص فعليك، فدخلته المخاطرة والغرر - وإن كان ذلك في السلعة المعينة أكره منه في غير المعينة، فاختلف فيه أيضا، في السلم الأول من الدونة أن ذلك لا يجوز، وفي سماع يحيى من جامع(2/29)
البيوع تخفيف ذلك إذا كان قد قاربه في بيعها ورجا تمام ذلك، ونحوه في سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال إذا كانت البيعتان بالنقد.
فصل وأما حد أبعد آجال السلم، فحد ما يجوز إليه البيع على الاختلاف في ذلك.
فصل وأما تسليم العروض بعضها في بعض، كانت مما يكال أو يوزن، أو مما لا يكال ولا يوزن، والحيوان بعضه في بعض، فذلك كله جائز في مذهب مالك وجميع أصحابه إذا اختلفت الأصناف واختلفت المنافع والأغراض في الصنف الواحد، فبان ألا اختلاف في المذهب في هذه الجملة، وإنما اختلفوا في تفصيلها على ما يأتي في مسائلهم من الاختلاف في بعض الأشياء: هل هي صنف واحد أو صنفان؟ فرآه بعضهم صنفا واحدا لتقارب المنافع بينهما عنده، ويراه بعضهم صنفين لتباعد الأمد بينهما عنده على ما يؤديه الاجتهاد إلى كل واحد منهم.
فصل وإنما لم يجز سلم الصنف في مثله لورود السنة «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتحريم ما جر من السلف نفعا» وذلك على عمومه في العين والعرض والطعام فيمن أسلم سلفا لمنفعة يبتغيها من زيادة في الكيل أو فضل في الصفة، أو اغتفار الزيادة لابتغاء الضمان، فذلك كله حرام، ذكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه، أنه بلغه أن رجلا أتى عبد الله بن عمر فقال له: يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت أفضل ما أسلفت، فقال عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذلك الربا - الحديث بطوله.
وقال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من أسلف سلفا فلا يشترط إلا قضاءه، وقال عبد الله بن مسعود(2/30)
: من أسلف سلفا فلا يشترط أفضل منه وإن كان قبضة من علف، فهو ربا.
فصل
وتفسير ذلك مقيس على الربا المحرم بالقرآن، ربا الجاهلية؛ إما أن تقضي وإما أن تربي؛ لأن تأخيره بالدين بعد حلوله على أن يربي له فيه سلف جر منفعة، وإنما يجوز في السلف أن يأخذ أفضل مما أسلفه إذا كان ذلك من غير شرط، كما «فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين استسلف من رجل بكرا فقضاه جملا خيارا رباعيا وقال: "إن خيار الناس أحسنهم قضاء» ، وكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن يأخذ أكثر عددا في القرض في مجلس القضاء، ولا بأس به بعد المجلس إذا لم يكن وأي ولا عادة، فإذا أسلم الصنف من العروض والحيوان في مثله أكثر عددا أو أفضل في الصفة، فذلك حرام وربا؛ لأنه قد قرض بزيادة يشترطها في العدد والصفة، وإن كان أسلمه في أقل من عدده أو أدنى من صفته، فإنما اغتفر كثرة العدد أو أفضل الصفة لابتغاء الضمان، وذلك كله لا يجوز لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سلف جر منفعة، حتى إذا اختلفت الصفة اختلافا بينا فتباعدت، أشبهت الصنفين وخرجت عن معنى القرض إلى البيع الجائز، فجاز أن يسلم بعضها في بعض، لجواز نفاق كل واحد من الصنفين، وكساده دون الآخر، ولا يجوز ذلك في الصنف الواحد، فإذا لم يجز ذلك فيه كان المسلم له في مثله على يقين من النفع الذي اشترطه فلم يجز، بخلاف الصنفين اللذين لا يكون في سلم أحدهما في صاحبه المسلم ولا المسلم إليه على يقين من النفع الذي يبتغيه، لجواز نفاق كل واحد من الصنفين دون صاحبه.
فصل وأما تسليم العين بعضه في بعض: الذهب في الفضة أو الفضة في الذهب(2/31)
أو الذهب في الذهب أو الفضة في الفضة، فذلك لا يجوز بإجماع أهل العلم، وكذلك الطعام كله بجميع أصنافه. كان مما يكال أو يوزن، أو مما لا يكال ولا يوزن، كان مما يدخر أو مما لا يدخر، لا يجوز سلم بعضه في بعض.
فصل وأما السلم في الصناعات فينقسم في مذهب ابن القاسم على أربعة أقسام، (أحدها) أن لا يشترط المسلم المستعمل - عمل من استعمله، ولا يعين ما يعمل منه. (والثاني) أن يشترط عمله ويعين ما يعمل منه. (والثالث) أن لا يشترط عمله ويعين ما يعمل منه. (والرابع) أن يشترط عمله ولا يعين ما يعمل منه؛ فأما الوجه الأول وهو أن لا يشترط عمله ولا يعين ما يعمل منه، فهو سلم على حكم السلم لا يجوز إلا بوصف العمل وضرب الأجل وتقديم رأس المال؛ وأما الوجه الثاني وهو أن يشترط عمله ويعين ما يعمله منه، فليس بسلم وإنما هو من باب البيع والإجارة في الشيء المبيع؛ فإن كان يعرف وجه خروج ذلك الشيء من العمل، أو تمكن بإعادته للعمل أو عمل غيره من الشيء المعين منه العمل، فيجوز على أن يشرع في العمل وعلى أن يؤخر الشروع فيه بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام أو نحو ذلك؛ فإن كان على أن يشرع في العمل، جاز ذلك بشرط تعجيل النقد وتأخيره، وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى الثلاثة أيام ونحوها، لم يجز تعجيل النقد بشرط حتى يشرع في العمل؛ وأما الوجه الثالث وهو أن لا يشرط عمله بعينه ويعين ما يعمل منه، فهو أيضا من باب البيع والإجارة في المبيع، إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام بتعجيل النقد وتأخيره؟ وأما الوجه الرابع وهو أن يشرط عمله ولا يعين ما يعمل منه، فلا يجوز على حال، لأنه يجتذبه أصلان متناقضان: لزوم النقد لكون ما يعمل منه مضمونا، وامتناعه لاشتراط عمل المستعمل بعينه.(2/32)
[فصل في القول في الربا في العين والطعام وتقسيم وجوه وتبيين علله]
فصل في القول في الربا في العين والطعام وتقسيم وجوهه وتبيين علله، الربا في بيع الطعام بعضه ببعض والعين بعضه ببعض، على وجهين: ربا في النقد، وربا في النسيئة؛ فما كان من الطعام صنفا واحدا مدخرا مقتاتا أو مصلحا للقوت أصلا للمعاش غالبا، فالربا فيه من وجهين، لا يجوز التفاضل فيه يدا بيد، ولا بيعه بالنسيئة مثلا بمثل ولا متفاضلا؛ كالذهب بالذهب، والورق بالورق، فإذا اختلف الصنفان من ذلك، جاز التفاضل فيهما يدا بيد، وحرمت فيهما النسيئة، كالذهب بالورق والورق بالذهب، وكذلك إذا بيع ما يدخر ويقتات، بما لا يدخر ولا يقتات، أو ما لا يدخر ولا يقتات، بما لا يدخر ولا يقتات، لم يكن الربا فيه إلا في النسيئة خاصة؛ لأن العلة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه في منع جواز التفاضل في الصنف الواحد، هي أن يكون مطعوما مدخرا مقتاتا أو مصلحا للقوت؛ وبعضهم يزيد في صفة العلة أصلا للمعاش غالبا على اختلاف بينهم في مراعاة ذلك؛ والعلة في ذلك عند الشافعي الطعم بانفراده، فحرم التفاضل في الصنف الواحد من كل ما يؤكل ويشرب. كان مما يدخر أو مما لا يدخر؛ كان مما يكال أو يوزن، أو مما لا يكال ولا يوزن، حتى حرم التفاضل في السقمونيا والطين الأرمني، والعلة في ذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الكيل والوزن، فلم يجز التفاضل في الصنف الواحد مما يوزن أو يكال، كان مما يؤكل أو يشرب، أو مما لا يؤكل ولا يشرب ومنع من رطل حديد برطلين حديد - يدا بيد أو إلى أجل، لأنه مما يوزن، وأجاز تمرة بتمرتين، وجوزة بجوزتين، لأن ذلك مما لا يكال، إذ لا يتأتى فيه الكيل، وذهب سعيد بن المسيب إلى أنه لا ربا إلا في ذهب أو فضة، أو مما يوزن ويكال مما يؤكل ويشرب؛ فالعلة عنده في الربا: الطعم مع الكيل والوزن، وقد روي مثل هذا القول عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول أبي ثور، فلا بأس عند سعيد بن المسيب(2/33)
ومن ذهب مذهبه في بيع ما عدا الذهب والفضة، وما يوزن أو يكال مما يؤكل أو يشرب متفاضلا يدا بيد ونسيئة، اتفق النوعان أو اختلفا.
فصل وهذه العلة أخذت من طريق النظر والاجتهاد، إذ لم ينص النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - على العلة في ذلك، ولا نبه عليها، ولذلك اختلف فيها، فهي مظنونة غير معلومة ولا مقطوع بها؛ والحكم بها عند من رآها علة بنظره واجتهاده معلوم مقطوع عليه.
فصل والأصل الذي منه استثار العلماء هذه العلل، هو ما صح الخبر به عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن التفاضل في الصنف الواحد من ستة أشياء، وهي: الذهب والفضة، والقمح والشعير، والتمر والملح» . والآثار في ذلك كثيرة موجودة، منها حديث عبادة ابن الصامت وغيره أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، والورق بالورق، والبر بالبر، والشعير بالشعير والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل، يدا بيد؛ فمن زاد أو ازداد فقد أربى، وبيعوا الذهب بالورق كيف شئتم يدا بيد» وزاد بعض رواة الحديث: «والبر بالشعير كيف شئتم يدا بيد» وبعض الرواة يقول فيه: «فإذا اختلف الصنفان، فبيعوا كيف شئتم - يدا بيد» . وهو مذهب عبادة بن الصامت راوي الحديث أن القمح والشعير صنفان، وإلى هذا ذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم، واحتج بعض من ذهب إلى ذلك أيضا بحديث مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحرثان النصري عن عمر بن الخطاب أنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء،(2/34)
والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء» . ففصل بين البر والشعير بواو فاصلة كما فصل بين البر والتمر.
فصل والذي ذهب إليه مالك وجميع أصحابه أن البر والشعير صنف واحد على ما روى في موطئه عن سعد بن أبي وقاص، ومعيقب الدوسي، لأن قوله في حديث عبادة بن الصامت: «وبيعوا البر بالشعير كيف شئتم» - زيادة لم يتفق عليها جميع رواته، فيحتمل أن يكون ذلك من قول الراوي قياسا على قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا اختلف الصنفان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد» .
فصل فقاس مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - على القمح والشعير المذكورين في الحديث ما كان في معناهما من جميع الحبوب والطعام المقتات المدخر، وقاس على التمر ما كان في معناه من الطعام المدخر الذي يتفكه به في بعض الأحوال ويتقوت به في بعض الأحوال كالزبيب والجوز واللوز وما أشبه ذلك، وقاس على الملح المذكور في الحديث ما كان في معناه من الطعام المدخر لإصلاح القوت، كالتوابل والبصل والثوم وما أشبه ذلك.
فصل وأما الذهب والفضة فلم يقس عليهما شيئا من العروض التي تكال أو توزن، لأن العلة عنده في منع التفاضل في كل واحد منهما، هي أنهما أثمان للأشياء وقيم للمتلفات، فهي علة واقفة لا تتعدى إلى ما سواهما. وكذلك الشافعي لم يقس على الذهب والورق شيئا من العروض المكيلة والموزونة، وقاس على البر والشعير والتمر والملح - جميع الطعام - كان مدخرا مقتاتا أو لم يكن، لأنه رأى العلة في(2/35)
المنع من التفاضل في ذلك، هو الطعم بانفراده؛ وأما أبو حنيفة وأصحابه، فقاسوا على البر والشعير والتمر والملح - جميع ما يكال من الطعام والعروض، لأن ذلك كله يجمعه الكيل، وهي العلة عنده في منع التفاضل في ذلك؛ وقاسوا على الذهب والفضة جميع ما يوزن من الطعام والعروض، لأن ذلك كله يجمعه الوزن، وهي العلة عنده في منع التفاضل في ذلك.
فصل والقياس على الذهب والفضة لا يصح، لأنهم قد أجمعوا أنه لا بأس أن يشترى بالذهب والفضة جميع الأشياء التي تكال أو توزن يدا بيد ونسيئة، فيلزم من قياس الحديد والرصاص وما أشبه ذلك مما يوزن على الذهب والفضة، كما قاس ما يكال من الطعام على البر والشعير والتمر والملح، أن لا يجيز شراء الحديد والرصاص بالذهب والفضة نسيئة، كما لا يجيز شراء الحمص والعدس بالقمح والشعير نسيئة، وقد أجمع الناس على إجازة ذلك، وقاس سعيد بن المسيب على القمح والشعير والتمر والملح المذكور في الحديث المكيل والموزون من الطعام خاصة، وشذ داود وأهل الظاهر فلم يروا الربا إلا في أربعة أشياء التي نص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها، واحتجوا لإجازة التفاضل فيما سوى ذلك بعموم قول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .
فصل فالطعام على مذهب مالك وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ينقسم على أربعة أقسام: طعام يدخر ويقتات به أو يصلح القوت. وهو أصل للمعاش غالبا، وطعام يدخر ويقتات به أو يصلح القوت وليس بأصل للمعاش غالبا، وطعام يدخر نادرا، وطعام لا يدخر أصلا، فأما ما يدخر ويقتات، أو يصلح القوت وهو أصل للمعاش غالبا، فإن التفاضل في الصنف الواحد منه لا يجوز باتفاق في المذهب، وأما ما يدخر ويقتات به وليس بأصل للمعاش غالبا مثل الجوز واللوز والجلوز(2/36)
وما أشبه ذلك، فاختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه في إجازة التفاضل في الصنف الواحد منه.
فصل وعلى هذا الاختلاف اختلف المعللون في تحرير العلة، فزاد في صفة علة الربا أصلا للمعاش غالبا من أجاز التفاضل في ذلك، وكان شيخنا الفقيه ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - يذهب إلى أن ذلك المذهب في المدونة، وليس ذلك عندي ببين منها، واقتصر في صفة العلة على قوله: مطعوما مدخرا مقتاتا، ولم يزد فيه: أصلا للمعاش غالبا، من منع التفاضل في ذلك، وهو نص قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه، وقول ابن حبيب في الواضحة، وهو الظاهر عندي من المدونة، وعلى هذا المعنى يأتي اختلاف قول مالك في إجازة التفاضل في البيض، والاختلاف في إجازة التفاضل في التين، لأنهما يدخران وليسا بأصل للمعاش غالبا، وأما ما كان من الأطعمة يدخر نادرا، فالتفاضل في الصنف الواحد منه جائز على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأكثر أصحابه، كالخوخ والكمثرى وما أشبه ذلك؛ وأما ما كان منهما لا يدخر أصلا، فالتفاضل في الصنف الواحد منه جائز على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه.
فصل وأما بيع الطعام بالطعام نسيئة، أو بيعه قبل استيفائه، فلا يجوز بحال، اتفقت أصنافه أو اختلفت، كان مما يدخر أو مما لا يدخر، والله ولي التوفيق برحمته.(2/37)
[كتاب بيوع الآجال]
أصل ما بني عليه هذا الكتاب الحكم بالذرائع، ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - القضاء بها والمنع منها، وهي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور، ومن ذلك البيوع التي ظاهرها الصحة ويتوصل بها إلى استباحة الربا، وذلك مثل أن يبيع الرجل سلعة من رجل بمائة دينار إلى أجل ثم يبتاعها بخمسين نقدا، فيكونان قد توصلا بما أظهراه من البيع الصحيح إلى سلف خمسين دينارا في مائة إلى أجل، وذلك حرام لا يحل ولا يجوز؛ وأباح الذرائع الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما، والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ومن قال بقوله؛ لأن ما جر إلى الحرام وتطرق به إليه حرام مثله؛ قال الله عز وجل: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] ، فنهى تبارك وتعالى عن سب آلهة الكفار؛ لئلا يكون ذلك ذريعة وتطرقا إلى سب الله تعالى، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] ، فنهى عز وجل عباده المؤمنين أن يقولوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: راعنا، وهي كلمة صحيحة معروفة في لغة العرب،(2/39)
معناها أرعني سمعك وفرغه لي لتعي قولي وتفهم عني؛ لأنها كلمة سب عند اليهود، فكانت تسب بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أنفسها، فلما سمعوها من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرحوا بها، واغتنموا أن يعلنوا بها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويظهروا سبه، فلا يلحقهم في إظهاره شيء. فأطلع الله نبيه والمؤمنين على ذلك، ونهى عن الكلمة، لئلا يكون ذلك ذريعة لليهود إلى سب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد تؤولت الآية على غير هذا، وهذا أظهر ما قيل فيها. وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] ، وقال: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] وجه الدليل من هذه الآيات على وجوب المنع من الذرائع: أن الله حرم على اليهود الاصطياد يوم السبت ابتلاء لهم، وذلك أن اليهود قالوا لموسى حين أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها: كيف تأمر بالجمعة وتفضلها على سائر الأيام والسبت أفضل الأيام كلها، لأن الله تعالى خلق السماوات والأرض والأوقات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت، فقال الله عز وجل لموسى: دعهم وما اختاروه، ولا يصيدون فيه سمكا ولا غيره ولا يعملون فيه شيئا، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شارعة ظاهرة كما قال الله تعالى، وتغيب عنهم سائر الأيام فلا يصلون إليها إلا بالاصطياد والعناء، فكانوا يسدون عليها المسالك يوم السبت ويأخذونها في سائر الأيام، ويقولون: لا نفعل الاصطياد الذي نهينا عنه في يوم السبت، وإنما نفعله في غيره، فعاقبهم الله على فعلهم ذلك، لأنه ذريعة للاصطياد الذي نهوا عنه وإن لم يكن اصطيادا على الحقيقة - بأن مسخهم قردة وخنازير - كما أخبر تعالى في كتابه، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(2/40)
«لعن الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها» . وجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شراء الصدقة بالثمن كالعودة فيها بغير ثمن، «فقال لعمر بن الخطاب في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله فأراد شراءه لما أضاعه صاحبه وأراد بيعه: لا تبتعه ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» . «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابن وليدة زمعة لعبد بن زمعة: هو لك يا عبد بن زمعة فألحقه بأبيه زمعة، وقال: الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقال لأخته سودة بنت زمعة زوجته: احتجبي منه؛» لما رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص، فأعمل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشبهة وحكم لها بحكم اليقين، فمنع بها من صلة الرحم وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما بعث بصلة الأرحام، قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] أي الأرحام أن تقطعوها.
فصل وأبواب الذرائع في الكتاب والسنة يطول ذكرها ولا يمكن حصرها، من ذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، وقوله: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه، ومن وقع في الشبهات، كان كالواقع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وقال: ألا لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» والربا أحق ما حميت مراتعه ومنع(2/41)
منها، لئلا يستباح الربا بالذرائع؛ وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان من آخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يفسرها، فدعوا الريبة والريبة. وأيضا فإن مراعاة التهمة أصل يبني الشرع عليه، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه» ، ولم يجز أهل العلم شهادة الأب لابنه، ولا شهادة الابن لأبيه، من طريق التهمة، ومنه منعوا القاتل عمدا الميراث، وورثوا المبتوتة في المرض، ومثل هذا كثير.
فصل فإذا باع الرجل من الرجل سلعة بنقد ثم اشتراها منه بدين، أو باعها منه بدين ثم اشتراها منه بنقد، أو باعها منه بدين ثم اشتراها منه بدين، أو باعها منه بنقد ثم اشتراها منه بنقد، وقد غاب على النقد، فإنك تنظر في هذا إلى الذي أخرج دراهمه أولا، فإن كان رجع إليه مثلها أو أقل، فذلك جائز، وإن رجع إليه أكثر منها، نظرت فإن كانا من أهل العينة أو أحدهما، لم يجز ذلك بحال - كانت البيعة الأولى بالنقد أو بالنسيئة - وإن لم يكونا من أهل العينة، جاز إن كانت البيعة الأولى بالنقد، ولم يجز إن كانت بالنسيئة؛ وذلك أن أهل العينة يتهمون فيما لا يتهم فيه أهل الصحة؛ لعملهم بالمكروه؛ من ذلك أن يبيع الرجل من أهل العينة طعاما أو غيره بخمسة نقدا وخمسة إلى أجل، إذا كان ذلك إنما يبتاعه لبيع، وذلك جائز لغير أهل العينة، ومن ذلك أن يبيع الرجل من أهل العينة طعاما أو غيره بثمن إلى أجل ثم يستوضعه المبتاع من الثمن فيضع عنه، فإن مالكا وغيره من أهل العلم كرهوا ذلك، لأنه إنما يبيعه(2/42)
على المراوضة، فإنما يضع عنه ويرده إلى ما كان راوضه عليه، فصار البيع الذي عقداه تحليلا للربا الذي قصداه، وتفسير هذا أن يأتي الرجل إلى الرجل من أهل العينة فيقول له: أسلفني ذهبا في أكثر منها إلى أجل، فيقول له: أسلفك درهما في اثنين إلى أجل، فيقول له: لا أعطيك في الدرهم إلا درهما وربعا، فيتراوضان ويتفقان على أن يربح معه في الدرهم نصف درهم، ثم يقول له: هذا لا يحل، ولكن عندي سلعة قيمتها مائة درهم أبيعها منك بمائة وخمسين إلى شهر، فتبيعها أنت بمائة فيتم لك مرادك، فيرضى بذلك ويأخذ السلعة منه ويبيعها بثمانين ثم يرجع إليه فيقول له: إني قد وضعت في السلعة وضيعة كثيرة فحط عني من المائة والخمسين ما يجب للعشرين التي وضعتها في السلعة، فيضع عنه ثلاثين تتميما للمراوضة التي عقدا بيعهما عليها، فيئول أمرهما إلى أن أسلم إليه ثمانين في مائة وعشرين، فهذا وجه كراهية مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - للوضيعة في هذه المسألة.
فصل وفي شراء الرجل السلعة التي باعها بثمن إلى أجل من مبتاعها منه بثمن من جنس الثمن الذي باعها منه به - سبع وعشرون مسألة، وذلك أنه قد يشتريها نقدا أو إلى أجل دون الأجل الذي باع إليه بمثل ذلك الثمن، أو بأقل منه أو بأكثر، فهذه ثلاث مسائل، وقد يشتريها إلى مثل ذلك الأجل بمثل ذلك الثمن أو بأقل منه أو بأكثر، فهذه ست مسائل؛ وقد يشتريها إلى أبعد من ذلك الأجل بمثل ذلك الثمن، فهذه تسع مسائل؛ وقد يشتريها وزيادة معها بمثل ذلك الثمن أو أقل منه أو أكثر نقدا أو إلى ذلك الأجل أو إلى أبعد منه، فهذه تسع أخر، وقد يشتري بعضها بمثل ذلك الثمن أو أقل منه أو أكثر نقدا أو إلى ذلك الأجل أو إلى أبعد منه، فهذه تسع أخر تتمة سبع وعشرين مسألة كما ذكرنا؛ فأما إلى ذلك الأجل فيجوز بكل حال، اشتراها كلها أو بعضها، أو اشتراها وزيادة معها، بمثل الثمن أو أقل أو أكثر، لأن الحكم يوجب المقاصة إذا اتفقت الآجال وإن لم يشترطاها، فترتفع التهمة بذلك في جميع(2/43)
الوجوه، وأما بالنقد أو إلى أجل دون ذلك الأجل، فإن كان اشتراها أو بعضها، فيجوز بمثل الثمن أو أكثر، ولا يجوز بأقل، وإن كان اشتراها وزيادة عليها، فلا يجوز بمثل الثمن ولا بأقل منه ولا بأكثر، وأما إلى أبعد من ذلك الأجل، فإن كان اشتراها وحدها أو اشتراها وزيادة عليها، فيجوز بمثل الثمن أو أقل منه، ولا يجوز بأكثر منه، وإن كان اشترى بعضها، فلا يجوز على حال، لا بمثل الثمن ولا بأقل ولا بأكثر.
فصل وسواء غاب على السلعة أو لم يغب عليها، لأنها تعرف بعينها بعد الغيبة عليها، وإنما يفترق ذلك في الطعام والمكيل والموزون من العروض، لأن ذلك لا يعرف بعينه إذا غيب عليه، فيتفرع ذلك فيما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه إلى أربع وخمسين مسألة، وذلك أنها تنحصر في التقسيم إلى تسعة أقسام لا زيادة فيها، إذ لا يخلو أن يبتاع منه طعاما بمثل الثمن أو بأقل أو بأكثر أو طعامه وزيادة عليه بمثل الثمن أيضا أو بأقل أو بأكثر، أو بعض طعامه بمثل الثمن أو بأقل أو بأكثر؛ فهذه تسعة أقسام، وكل قسم منها ينقسم إلى قسمين، أحدهما أن يكون قد غاب على الطعام، والثاني أن يكون لم يغب عليه؛ فهذه ثمانية عشر قسما لا زيادة فيها، كل قسم منها ينقسم على ثلاثة أقسام، أحدها أن يبتاع ذلك بنقد أو إلى أجل دون ذلك الأجل، والثاني أن يبتاعه إلى ذلك الأجل بشرط المقاصة أو بسكوتهما عن الشرط، إذ يوجب ذلك الحكم. والثالث أن يبتاعه إلى أبعد من ذلك الأجل، فهذه أربع وخمسون مسألة - كما ذكرنا، ثماني عشرة مسألة في الشراء بالنقد أو إلى أجل دون الأجل، وثماني عشرة مسألة في الشراء إلى ذلك الأجل على المقاصة، فهذه ستة وثلاثون مسألة، وثماني عشرة مسألة في الشراء، إلى أبعد من ذلك الأجل. فأما الست والثلاثون مسألة المتحصلة في الشراء بالنقد أو إلى ذلك الأجل بعينه، فمنها خمس عشرة مسألة لا تجوز باتفاق، ومسألة تجوز على اختلاف، وسائرهن يجوز باتفاق.(2/44)
فصل ويعتبر الجائز منها من الفاسد بوجهين، أحدهما أن يشتري منه أكثر مما باع من الطعام، والثاني أن يشتري منه بأقل من الثمن الذي باع به الطعام؛ فهذان الوجهان لا يجوزان نقدا، ويجوزان مقاصة - إن كان لم يغب على الطعام، ولا يجوزان نقدا ولا مقاصة إن كان غاب عليه، لا يجوز له أن يشتري طعامه وزيادة شيء من الأشياء عليه بمثل الثمن ولا بأكثر منه ولا بأقل منه نقدا - وإن كان لم يغب على الطعام، ولا نقدا ومقاصة إن كان غاب عليه، ولا يجوز له أن يشتري منه الطعام الذي باعه منه بعينه ولا بعضه، ولا أن يشتريه وزيادة عليه، وإن كان لم يغب عليه بأقل من الثمن نقدا ولا نقدا ومقاصة، إن كان غاب عليه، ويجوز سائر الوجوه نقدا ومقاصة، حاشا المسألة التي ذكرنا أنها تجوز على اختلاف - وهي أن يبتاع منه بمثل الثمن أقل من الطعام مقاصة؛ فإن قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اختلف في ذلك
فصل وأما الثماني عشرة مسألة المتحصلة من شراء ذلك إلى أبعد من الأجل، فمنها ثلاث عشرة مسألة لا تجوز باتفاق، ومسألة تجوز على اختلاف، وسائرها - وهي أربع - تجوز باتفاق، ويعتبر الجائز منها من الفاسد بوجهين أيضا، (أحدهما) أن يشتري منه أقل من الكيل، (والثاني) أن يشتري منه بأكثر من الثمن، فهذان الوجهان لا يجوزان، غاب على الطعام أو لم يغب، وسائر الوجوه تجوز - إن لم يغب على الطعام، ولا تجوز إن غاب عليه، حاشا المسألة المختلف فيها - وهي أن يشتريه منه وقد غاب عليه بمثل الثمن إلى أبعد من الأجل، فيجوز ذلك على مذهب ابن القاسم، ولا يجوز على مذهب ابن الماجشون؛ والعلة في ذلك أسلفني وأسلفك، لأن أمرهما آل إلى ذلك، فكرهه ابن الماجشون ولم يجزه، وخففه ابن القاسم ولم يتهمهما في ذلك.(2/45)
فصل في تنزيل الخمس عشرة مسألة التي لا تجوز من الستة والثلاثين مسألة المتحصلة في الشراء بالنقد وإلى ذلك الأجل وتبيين عللها، (إحداها) أن يبتاع منه مثل طعامه وقد غاب عليه بأقل من الثمن نقدا، مثال ذلك أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى شهر، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام عشرة أرادب بخمسة دراهم نقدا، فهذا لا يجوز، لأن البائع الأول وهو المبتاع الثاني يدفع إلى المبتاع الأول خمسة دراهم نقدا ويأخذ منه عشرة دراهم إذا حل الأجل - وقد دفع إليه عشرة أرادب، فغاب عليها وانتفع بها ثم رد إليه مثلها، فكأنه أسلم إليه خمسة دراهم في عشرة أرادب إلى أجل وأسلفه عشرة أرادب قرضا بسبب ذلك، فيدخله سلف دراهم في أكثر منها إلى أجل، ودراهم وطعام في دراهم أكثر منها إلى أجل وطعام، وذلك ما لا يحل ولا يجوز، فيتهمان على أنهما قصدا إلى ذلك وتحيلا إلى إجازته بما أظهرا من البيعتين الصحيحتين (والثانية) أن تكون المسألة بحالها، إلا أنه قاصه بالخمسة دراهم من العشرة ولم ينقده إياها، فلا يجوز أيضا، لأن أمرهما آل إلى أن أسلفه عشرة أرادب فانتفع بها ثم رد إليه مثلها على أن يعطيه المسلف خمسة دراهم إذا حل الأجل ثمنا لانتفاعه بالسلف، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سلف جر نفعا» وذلك أيضا مضارع لربا الجاهلية المحرم بالقرآن: إما تقضي وإما أن تربي، فيتهمان على القصد إلى ذلك والتحيل لإجازته بما أظهرا من البيعتين الصحيحتين (والثالثة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام فيستوفيه منه بعينه بخمسة دراهم نقدا، فلا يجوز أيضا لأن أمرهما آل إلى أن دفع المبتاع الثاني إلى المبتاع الأول خمسة دراهم في عشرة دراهم إلى أجل، والطعام رجع إليه بعينه، فكان لغوا، (والرابعة) أن يشتري منه أكثر من طعامه وقد غاب عليه بمثل الثمن نقدا، مثال ذلك أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل، فيغيب على الطعام، ثم يبتاع منه عشرين إردبا بعشرة دراهم نقدا، فهذا لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف(2/46)
ودراهم وطعام في دراهم وطعام إلى أجل، لأن أمرهما آل إلى أن دفع البائع الأول إلى المبتاع الأول عشرة أرادب وعشرة دراهم نقدا في عشرين إردبا وعشرة دراهم إلى أجل، فيتهمان على القصد إلى ذلك. (والخامسة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه قاصه بالعشرة دراهم من العشرة ولم ينقده إياها، فهذا لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف، لأنه دفع إليه عشرة أرادب فانتفع بها ثم رد إليه عشرين إردبا والثمن بالثمن ملغى، لأنه مقاصة فيتهمان على القصد إلى ذلك. (والسادسة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام فيشتريه منه بعينه وعشرة أرادب أخرى بعشرة دراهم نقدا، فهي لا تجوز أيضا، ويدخله الزيادة في السلف لأنه دفع إليه عشرة دراهم نقدا ويأخذ منه عشرة دراهم إذا حل الأجل، فكأنه أسلفه إياها على أن يزيده عشرة أرادب من طعام، لأن العشرة التي باع منه رجعت إليه بأعيانها فكانت ملغاة. (والسابعة) أن يشتري منه أكثر من طعامه بعد أن غاب عليه بأقل من الثمن نقدا. مثال ذلك أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام عشرين إردبا بالخمسة دراهم نقدا، فهذا لا يجوز أيضا ويدخله الزيادة في السلف، ودراهم وطعام بدراهم وطعام إلى أجل لأن البائع الأول دفع إلى المبتاع الأول ضرة أرادب فانتفع بها ورد إليه عشرين إردبا، ودفع إليه أيضا خمسة دراهم نقدا، على أن يأخذ منه - إذا حل الأجل - عشرة دراهم، فيتهمان على القصد إلى ذلك (والثامنة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه قاصه بالخمسة دراهم من العشرة الدراهم ولم ينقده إياها، فهذا لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف لأن أمرهما آل إلى أن دفع إليه عشرة أرادب فانتفع بها ثم أخذ منه عشرين إردبا، ويأخذ منه أيضا خمسة دراهم إذا حل الأجل، وتسقط خمسة بالمقاصة، فكأنه أقرضه عشرة أرادب على أن يرد إليه فيها عشرين إردبا وخمسة دراهم (والتاسعة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام فيبتاعه منه بعينه وعشرة أرادب معه بخمسة دراهم نقدا، فهذا لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف لأن أمرهما آل إلى أن دفع إليه خمسة دراهم نقدا في عشرة دراهم إلى أجل وعشرة أرادب نقدا لأن(2/47)
العشرة الأرادب التي باع منه رجعت إليها بأعيانها فكانت ملغاه. (والعاشرة) أن يشتري منه أكثر من طعامه بعد أن غاب عليه بأكثر من الثمن نقدا، مثال ذلك أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام عشرين إردبا بعشرين درهما نقدا، فيدخله البيع والسلف؛ لأنه كان أقرضه العشرة الأرادب التي غاب عليها وعشرة دراهم من العشرين درهما التي نقده إياها على أن يبتاع منه العشرة الأرادب الزائدة في الطعام بالعشرة الدراهم الزائدة في الثمن. (والحادية عشرة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه قاصه من العشرين درهما بعشرة دراهم في العشرة التي له عليه من ثمن الطعام ولم ينقده إلا عشرة دراهم، فهذا لا يجوز ويدخله البيع والسلف أيضا لأنه كأنه أقرضه العشرة الأرادب التي غاب عليها على أن يبتاع منه العشرة الأرادب الزائدة في الطعام بالعشرة الدراهم الزائدة في الثمن. (والثانية عشرة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام، فيشتريه منه بعينه وعشرة أرادب معه بعشرين درهما نقدا، فهي لا تجوز أيضا، ويدخله البيع والسلم أيضا، لأنه كأنه أقرضه عشرة دراهم من العشرين درهما يأخذها منه إذا حل الأجل، على أن باع منه العشرة الأرادب الزائدة على الطعام بالعشرة الدراهم الزائدة على الثمن والعشرة الأرادب التي رجعت إليه بأعيانها ملغاة كأن لم تكن. (والثالثة عشرة) أن يبتاع منه أقل من الطعام بعد أن غاب عليه بأقل من الثمن نقدا، ومثالها أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل وطعام، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام خمسة أرادب بخمسة دراهم نقدا، يدخلها بيع طعام بطعام وذهب بذهب إلى أجل وطعام، ويدخلها أيضا البيع والسلف لأن الخمسة الأرادب التي رجعت إلى البائع كأنه سلف أسلفه إياه، فالخمسة الدراهم التي دفع الآن نقدا كأنها سلف أيضا يقتضيه إذا حل الأجل، والخمسة أرادب التي بقيت عند المبتاع الأول للبائع، أخذ منه فيها الخمسة الدراهم الزائدة على نقده، فكأن البائع الأول أسلف المبتاع الأول خمسة أرادب وخمسة دراهم(2/48)
على أن باع منه خمسة أرادب بخمسة دراهم، وذلك ما لا يحل ولا يجوز. (والرابعة عشرة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه قاصه بخمسة دراهم في خمسة من العشرة التي له عليه ولم ينقده إياها، يدخلها البيع والسلف، لأنه كان أسلفه الخمسة الأرادب التي غاب عليها ثم ردها إليه وباعه الخمسة الأرادب الأخرى بالخمسة الدراهم التي يأخذها منه عند حلول الأجل، وسقطت خمسة بخمسة مقاصة. (والخامسة عشرة) أن تكون المسألة بحالها أيضا إلا أنه لم يغب على الطعام فيبتاع منه بعينه خمسة أرادب بخمسة دراهم، يدخلها دراهم وطعام بدراهم إلى أجل، لأنه كأنه باعه الخمسة دراهم التي دفع إليه نقدا والخمسة الأرادب بالعشرة الدراهم التي يأخذها منه عند الأجل، والخمسة الأرادب الأخرى رجعت إليه بأعيانها، فكانت ملغاة.
وأما المسألة المختلف فيها، وهي أن يشتري منه أقل من الطعام وقد غاب عليه بمثل الثمن مقاصة، ومثالها أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام خمسة أرادب بعشرة دراهم مقاصة بالعشرة دراهم التي وجبت له عليه من ثمن الطعام، فيدخلها اقتضاء الطعام من ثمن الطعام، لأنه باع منه عشرة أرادب ثم أخذ منه في ثمنها خمسة أرادب، فمرة كرهها مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ورأى أن الخمسة الأرادب ثمن العشرة الأرادب، كأنه أعطاه خمسة أرادب على أن يضمن له الخمسة الأخرى إلى أجل، ومرة استخف ذلك ورأى أن التهمة بعيدة، لأن القصد إلى مثل هذا قليل من الناس.
فصل في بيان الثلاث عشرة مسألة التي لا تجوز من الثمان عشرة مسألة المتحصلة في الشراء إلى أبعد من الأجل وتبيين عللها، (إحداها) أن يشتري منه أقل من الكيل بمثل الثمن بعد أن غاب على الطعام إلى أبعد من الأجل، ومثالها أن يبيع(2/49)
منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى شهر، فيدفع الطعام إليه ويغيب عليه، ثم يبتاع منه ثمانية أرادب من صنف طعامه بعشرة دراهم إلى شهرين، فذلك لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف، لأن الأمر آل بينهما إلى أن يدفع المبتاع الأول إلى البائع الأول عند انقضاء شهر عشرة دراهم، ويأخذها منه عند انقضاء شهرين - وقد دفع إليه البائع الأول عشرة أرادب فرد إليه منها ثمانية بعد أن غاب عليها وبقي عنده إردبان، فيعد ذلك سلفا من كل واحد منهما لصاحبه - على أن زاد البائع الأول للمبتاع الثاني إردبين، ويتهمان على القصد إلى ذلك والتحيل لإجازته بما أظهراه من البيعتين الصحيحتين في الظاهر (والثانية) أن تكون المسألة على حالها إلا أنه لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا الزيادة في السلف - كأن المبتاع الأول أسلف البائع الأول عشرة دراهم شهرا على أن يعطيه إردبين من طعام، وهي التي بقيت عنده من الطعام الذي ابتاع منه وسائره رجع إليه بعينه فكان لغوا. (والثالثة) أن يشتري منه أقل من الكيل بأقل من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها البيع والسلف، لأن ما نقص من الكيل بما نقص من الثمن، يمضي فيه البيع على أن أسلف كل واحد منهما صاحبه، لغيبة المبتاع على الطعام. (والرابعة) أن تكون المسألة على حالها إلا أن المبتاع لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا البيع والسلف، لأن ما نقص من الكيل بما نقص من الثمن، يمضي فيه البيع على أن أسلف المبتاع الأول للبائع الأول ثمانية دراهم عند شهر يأخذها منه عند انقضاء شهرين على ما نزلناه. (والخامسة) هي أن يشتري منه أقل من الكيل بأكثر من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها الزيادة في السلف، لأن(2/50)
الأمر آل بينهما، إلى أن يدفع المبتاع الأول إلى البائع الأول عشرة دراهم عند شهر، يأخذ منه اثني عشر درهما عند انقضاء شهرين على أن أسلفه البائع الأول ثمانية أرادب وأعطاه إردبين، لأن الطعام لا يعرف بعينه بعد الغيبة عليه، فيتهمان على القصد إلى ذلك. (والسادسة) أن تكون المسألة على حالها، إلا أنه لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا سلم دراهم في أكثر منها إلى أجل بزيادة إردبين يأخذهما المبتاع الأول من الطعام الذي باع منه البائع الأول والثمانية الأرادب التي رجعت إليه بعينها لغو، ويدخل ذلك أيضا بيع الطعام نقدا ودراهم إلى أجل بدراهم أكثر منها إلى أجل. (والسابعة) أن يشتري منه مثل الكيل بأكثر من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها سلم دراهم في أكثر منها إلى أجل، لأن البائع الأول يأخذ من المبتاع الأول عشرة دراهم عند انقضاء الشهر ويدفع إليه اثني عشر درهما عند انقضاء شهرين، على أن أسلف البائع الأول عشرة أرادب، إذ لا يعرف الطعام بعينه بعد الغيبة عليه. (والثامنة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا سلم دراهم في أكثر منها إلى أجل، لأن البائع الأول يأخذ من المبتاع الأول عشرة دراهم عند شهر، ويدفع إليه اثني عشر درهما عند شهرين، ورجع إليه طعامه بعينه فكان لغوا. (والتاسعة) هي أن يشتري منه أكثر من الكيل بأكثر من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها البيع والسلف. لأن المبتاع الأول باع من البائع الأول على المثال الذي وصفناه: الإردبين اللذين زادهما على الطعام بالدرهمين اللذين يأخذهما منه زيادة على الثمن، على أن أسلف هذا هذا عشرة دراهم، وهذا هذا عشرة أرادب. (والعاشرة) أن تكون المسألة على حالها إلا أنه لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا البيع والسلف، لأنهما تبايعا الزيادة على الطعام بالزيادة على الثمن، على أن أسلف المبتاع الأول للبائع الأول عشرة دراهم شهرا والعشرة الأرادب التي دفع البائع رجعت إليه(2/51)
بعينها فكانت لغوا. (والحادية عشرة) أن يشتري منه أكثر من الطعام بأقل من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها الزيادة في السلف، لأن الطعام لا يعرف بعينه بعد الغيبة عليه، فكأنه أسلفه عشرة أرادب فانتفع بها ثم رد إليه اثني عشر إردبا، ولو كان لم يغب على الطعام لكان جائزا؛ لأن طعامه بعينه رجع إليه فلم يكن فيه سلف، وآل أمرهما إلى أن دفع المبتاع إلى البائع إردبين من طعام، ويدفع إليه أيضا عشرة دراهم عند شهر ويأخذ منه ثمانية دراهم عند انقضاء شهرين، فلا يتهم في مثل هذا أحد. (والثانية عشرة) أن يشتري منه أكثر من الكيل بمثل الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها الزيادة في السلف، لأن الطعام لا يعرف بعينه إذا غيب عليه، فكأنه أسلفه عشرة أرادب فانتفع بها ثم رد إليه اثني عشر إردبا، ولو كان لم يغب على الطعام لكان جائزا؛ لأن طعامه بعينه رجع إليه فلم يكن فيه سلف، وآل أمرهما إلى أن أسلف المبتاع البائع عشرة دراهم شهرا وأعطاه إردبين، فيكون قد صنع معه معروفا من وجهين. (والثالثة عشرة) أن يشتري منه مثل الكيل بأقل من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها أيضا الزيادة في السلف لأن الطعام لا يعرف بعينه بعد الغيبة عليه، فكأن البائع أسلف المبتاع عشرة أرادب فانتفع بها ورد إليه مثلها على أن يدفع إليه المبتاع إذا حل الأجل دينارين ثمنا لما أسلفه، وثمانية دراهم تكون سلفا عنده إلى حلول الأجل الثاني، ولو كان لم يغب على الطعام لكان جائزا، لأن طعامه بعينه رجع إليه فكان لغوا، ويدفع المبتاع إلى البائع عند الأجل عشرة دراهم، ويأخذ منه ثمانية دراهم عند الأجل الثاني فلا يتهم في هذا أحد، وأما المسألة المختلف فيها وهي أن يشتري منه مثل الطعام بمثل الثمن بعد أن غاب على الطعام، فيدخلها أسلفني وأسلفك، فخفف ذلك ابن القاسم وكرهه ابن الماجشون؛ ولو لم يغب على الطعام لكان جائزا، لأن(2/52)
الطعام بعينه رجع إليه فصار لغوا، وآل أمرهما إلى أن أسلف المبتاع البائع دراهم في مثلها إلى أجل، وذلك جائز وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وهذه المسائل التي قسمناها هذا التقسيم، وقع طرف منها في كتاب بيوع الآجال من المدونة، وجملة كثيرة في رسم حبل حبلة من كتاب السلم والآجال من العتبية غير مشروحة بعللها، ولا موعبة بجميع وجوهها، وهي أصل في مسائل بيوع الآجال، من فهمها ووقف عليها، سهل عليه ما سواها، فلذلك عنيت بتحصيلها وتلخيصها وتقسيم وجوهها وتبيين عللها، وشرح معانيها، وما توفيقي إلا بالله.
فصل فإذا باع الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها منه بأقل من ذلك الثمن نقدا، فسخت البيعتان جميعا عند ابن الماجشون، وهو الصحيح في النظر، ودليله من جهة الأثر قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في الحديث: بئسما شريت وبئسما اشتريت؛ لأنها عابت البيعتين جميعا، ولم يفسخ عند ابن القاسم إلا البيعة الأخيرة - إن كانت السلعة قائمة؛ واختلف إن فاتت، قيل: بحوالة الأسواق وهو مذهب سحنون، وقيل: بالعيوب المفسدة، وإليه ذهب أبو إسحاق التونسي وغيره من المتأخرين على ثلاثة أقوال، (أحدها) أنه يفسخ البيعتان جميعا، فلا يكون للبائع على المبتاع إلا الثمن الذي دفع إليه، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي تأويلا على ابن القاسم. (والثاني) أنه لا يفسخ إلا البيعة الأولى وتصحح الثانية بالقيمة، فإن كانت القيمة أكثر من الثمن الذي باعها به أولا، قضي عليه بالقيمة، فإذا حل الأجل أخذ الثمن، إذ لا تهمة في ذلك، وإن كانت القيمة أقل من الثمن الذي باعها به أولا، قضي عليه(2/53)
بالقيمة، فإذا حل الأجل، لم يكن له على المشتري الأول- أكثر من ذلك لئلا يكون قد دفع دنانير في أكثر منها، فيتم الربا بينهما، وهذا يأتي على ما في سماع سحنون من كتاب السلم والآجال. (والثالث) أنه إن كانت القيمة أقل من الثمن فسخت البيعتان ولم يكن للبائع على المبتاع إلا الثمن الذي دفع إليه، وإن كانت أكثر من الثمن فسخت البيعة الثانية خاصة، وقضي عليه بالقيمة؛ فإذا حل الأجل أخذ الثمن؛ وإلى هذا ذهب عبد الحق تأويلا على ابن القاسم، وهو قول سحنون نصا، وفي حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في بعض الروايات: بئسما شريت أو بئسما اشتريت، على الشك من المحدث، فعلى هذه الرواية لا يكون على ابن القاسم حجة من الحديث، وإن كانت المبايعة المذكورة في الحديث وقعت بين أم ولد زيد ابن أرقم ومولاها، وهي أم ولد قبل أن يبتل عتقها، فيأتي قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فيه على تحظير الربا بين العبد وسيده مع القول بتحريم الذرائع، وفعل زيد بن أرقم على إجازة ذلك أو استجازة الذرائع، وإن كانت المبايعة وقعت بينهما وقد بتل عتقها ففعل زيد بن أرقم على استجازة الذرائع؛ وكان شيخنا الفقيه ابن رزق يضعف حديث عائشة هذا، لقولها فيه: أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن لم يتب، لأنه خلاف ما جاء في القرآن من أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن الأعمال لا تبطل إلا بالردة، لقول الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وقوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] ؛ وهذا لو جاز أن يحمل عن زيد بن أرقم أنه عمل مع أم ولده في الباطن بما أظهراه من البيعتين على أن يأخذ منها ستمائة دينار في ثمانمائة إلى أجل، وهذا ما لا يحل لمسلم أن يتأوله عليه، فالذي فعل لا إثم عليه فيه ولا حرج فيما بينه وبين خالقه عند أحد من الأئمة،(2/54)
إلا أنه يكره ذلك له لئلا يكون ذريعة لغيره يتطرق بها إلى الربا؛ وأكثر أهل العلم يمضون البيعتين على ظاهرهما من الصحة ولا يتهمون المتبايعين ولا يرون الحكم بالذرائع، وكذلك إذا باع الرجل السلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها منه بأكثر من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الأجل، تفسخ البيعتان جميعا عند ابن الماجشون؛ والثانية وحدها عند ابن القاسم في القيام، إلا أن يشترط أن يقاصه بالثمن الأول عند الأجل الأول! ويأخذ بقية الثمن الثاني عند الأجل الثاني، وأما إذا اشتراها منه إلى الأجل الذي باعها إليه منه، فذلك جائز، والحكم يوجب المقاصة عند الأجل؛ وما لم يتقاصا فالثمن لكل واحد منهما في ذمة صاحبه ثابت، ولا يكون أحدهما أحق بما عليه من غرماء صاحبه إن فلس، على مذهب ابن القاسم، وهو أحق بما عليه عند أشهب؛ فإن فلس على مذهب ابن القاسم المشتري الأول وهو البائع الثاني، تحاص غرماؤه مع المشتري الثاني وهو البائع الأول فيما عليه، فما وجب لهم في الحصاص أخذوه منه، وإن فلس المشتري الثاني وهو البائع الأول كان المشتري الأول وهو البائع الثاني أحق بالسلعة، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه الثمن، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل وقد تقدم فيما مضى أن أهل العينة يتهمون فيما لا يتهم فيه أهل الصحة لعملهم بالمكروه واستباحتهم له.
فصل والعينة على ثلاثة أوجه: جائزة ومكروهة ومحظورة، فالجائزة أن يمر الرجل بالرجل من أهل العينة فيقول له: هل عندك سلعة كذا أبتاعها منك؟ فيقول له: لا، فينقلب عنه على غير مراوضة ولا مواعدة، فيشتري تلك السلعة التي سأله عنها ثم يلقاه فيخبره أنه قد اشترى السلعة التي سأله عنها فيبيعها بما شاء من نقد أو نسيئة؛(2/55)
والمكروهة أن يقول له: اشتر سلعة كذا وكذا، فأنا أربحك فيها وأشتريها منك، من غير أن يراوضه على الربح. والمحظورة أن يراوضه على الربح فيقول له: اشتر سلعة كذا وكذا وأنا أربحك فيها كذا، وأبتاعها منك بكذا؛ وفي هذا الوجه ست مسائل مفترقة الأحكام: ثلاث في قوله: اشتر لي؛ إحداها: أن يقول له: اشتر لي سلعة كذا وكذا بعشرة نقدا، وأنا أبتاعها منك باثني عشر نقدا، والثانية: أن يقول له: اشترها لي بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل. والثالثة عكسها، وهي أن يقول له: اشترها لي باثني عشر إلى أجل وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا. وثلاث في قوله: اشتر لنفسك، أو بقوله: اشتر - ولا يقول: لي ولا لنفسك؛ إحداها: أن يقول له: اشتر سلعة كذا وكذا - بعشرة نقدا - وأنا أبتاعها منك باثني عشر نقدا.
والثانية: أو يقول له: اشترها لنفسك بعشرة نقدا وكذا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل. والثالثة أو يقول له: اشترها لنفسك - أو اشتر، ولا يزيد على ذلك - باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا.
فأما الرابعة - وهي أن يقول له: اشترها لنفسك بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا. والخامسة أن يقول له: اشترها لنفسك بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل. والسادسة عكسها، وهي أن يقول له: اشترها لنفسك، أو اشتر، ولا يزيد على ذلك، باثني عشر - إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا، فأما الأولى وهي أن يقول له: اشترها لي بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، فالمأمور أجبر على شراء السلعة للآمر بدينارين، لأنه إنما اشتراها له. وقوله: وأنا أشتريها منك، لغو لا معنى له، لأن العقدة له وبأمره، فإن كان النقد من عند الآمر أو من عند المأمور بغير شرط، فذلك جائز؛ وإن كان النقد من عند المأمور بشرط فهي إجارة فاسدة، لأنه إنما أعطاه الدينارين على أن يبتاع له السلعة وينقد من عنده الثمن عنه، فهي إجارة وسلف، ويكون للمأمور إجارة مثله؛ إلا أن تكون إجارة مثله أكثر من الدينارين فلا يزاد عليهما، على مذهب ابن القاسم في البيع والسلف إذا كان السلف(2/56)
من غير البائع وفاتت السلعة، أن للبائع الأقل من القيمة أو الثمن، وإن قبض السلف، وعلى ما ذهب إليه ابن القاسم في البيع والسلف - إذا قبض السلف - وفاتت السلعة أن فيها القيمة - بالغة ما بلغت، يلزم أن يكون للمأمور ههنا إجارة مثله بالغة ما بلغت، وإن كانت أكثر من الدينارين، والأصح أن لا يكون له أجرة، لأنا إن جعلنا له الأجرة كانت ثمنا للسلف، فكان تتميما للربا الذي عقدا عليه، وهو قول سعيد بن المسيب؛ فهي ثلاثة أقوال فيما يكون له من الأجرة إذا نقد المأمور الثمن بشرط، وهذا إذا عثر على الآمر بحدثانه ورد السلف إلى المأمور قبل أن ينتفع به الآمر، وأما إن لم يعثر على الأمر حتى انتفع الآمر بالسلف، قدر ما يرى أنهما كانا قصداه، فلا يكون في المسألة إلا قولان، (أحدهما) أن للمأمور إجارته بالغة ما بلغت. (والثاني) أنه لا شيء له، ولو عثر على الأمر قبل الابتياع وقبل أن ينقد المأمور الثمن، لكان النقد من عند الآمر، ولكان فيما يكون للأجير قولان: (أحدهما) أن له إجارة مثله بالغة ما بلغت. (والثاني) أن له الأقل من إجارة مثله أو الدينارين، وابن حبيب يرى أن المأمور إذا نقد فقد تم الحرام بينهما وإن لم يمض من المدة ما ينتفع به الآمر بالنقد، ويكون له إجارة مثله - بالعقد - بالغة ما بلغت، وإلى هذا ذهب سحنون في إصلاحه مسألة كتاب بيوع الآجل في المدونة، بأن جعل فيها مكان يرد: يترك. فتدبر ذلك. (وأما الثانية) وهو أن يقول: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فذلك حرام لا يحل ولا يجوز لأنه أجل ازداد في سلعة، فإن وقع ذلك لزمت السلعة للآمر، لأن الشراء كان له وإنما أسلفه المأمور ثمنها ليأخذ به منه أكثر منه إلى أجل: فيعطيه العشرة معجلة ويطرح عنه ما أربى، ويكون له جعل مثله بالغا ما بلغ في قول، والأقل من جعل مثله أو الدينارين اللذين أربى له بهما في قول. وفي قول سعيد بن المسيب لا أجرة له بحال لأن ذلك تتميم للربا كالمسألة المتقدمة،(2/57)
قال في سماع سحنون: وإن لم تفت السلعة فسخ البيع، وهو بعيد، فقيل: معنى ذلك إذا علم البائع الأول بعملهما. وأما الثالثة وهي أن يقول له: اشترها لي باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا؛ فذلك أيضا حرام لا يجوز، ومكروهه أنه استأجر المأمور على أن يبتاع له السلعة بسلف عشرة دنانير يدفعها إليه ينتفع بها إلى الأجل، ثم يردها إليه. فتلزم الآمر السلعة باثني عشر إلى أجل، ولا يتعجل المأمور منه العشرة النقد، وإن كان قد دفعها إليه صرفها عليه ولم تترك عنده إلى الأجل - وكان له جعل مثله بالغا ما بلغ في هذا الوجه باتفاق؛ وأما الرابعة وهي أن يقول: اشتر سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، فاختلف في ذلك قول مالك، فمرة أجازه إذا كانت البيعتان جميعا بالنقد وانتقد، ومرة كرهه للمراوضة التي وقعت بينهما في السلعة قبل أن تصير في ملك المأمور. وأما الخامسة وهي أن يقول: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فهو أيضا لا يجوز إلا أنه يختلف فيه إذا وقع، فروى سحنون عن ابن القاسم وحكاه عن مالك أن الآمر يلزمه الشراء باثني عشر إلى أجل، لأن المشتري كان ضامنا لها لو تلفت في يديه قبل أن يشتريها منه الآمر؛ ولو أراد أن لا يأخذها بعد اشتراء المأمور، كان ذلك له؛ واستحب للمأمور أن يتورع فلا يأخذ من الآمر إلا ما نقد في ثمنها. وقال ابن حبيب: يفسخ البيع الثاني إن كانت السلعة قائمة وترد إلى المأمور، فإن فاتت ردت إلى قيمتها معجلة يوم قبضها الآمر، كما يصنع بالبيع الحرام؛ لأنه كان على مواطأة بيعها قبل وجوبها للمأمور، فدخله بيع ما ليس عندك. وأما السادسة وهي أن يقول له: اشترها لنفسك باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا، فروى سحنون عن ابن القاسم أيضا أن البيع لا يرد إذا فات، ولا يكون على الآمر إلا العشرة. وأحب إليه أن لو أردف الخمسة الباقية،(2/58)
لأن العقدة الأولى كانت للمأمور، ولو شاء المشتري لم يشتر؛ وقال ابن حبيب: يفسخ البيع الثاني على كل حال، كما يصنع بالبيع الحرام، للمواطأة التي كانت للبيع قبل وجوبها للمأمور، فإن فاتت ردت إلى قيمتها يوم قبضها الثاني، وظاهر رواية سحنون أن البيع الثاني يفسخ ما لم تفت السلعة، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(2/59)
[كتاب البيوع الفاسدة] [فصل في تقسيم البيوع في الصحة والفساد]
فصل في تقسيم البيوع في الصحة والفساد، البيوع تنقسم على ثلاثة أقسام: بيوع جائزة، وبيوع محظورة، وبيوع مكروهة؛ فأما البيوع الجائزة فهي التي لم يحظرها الشرع، ولا ورد فيها نهي - وإنما قلنا ذلك، لأن الله تعالى أباح البيع لعباده وأذن لهم فيه إذنا مطلقا، وإباحة عامة - في غير ما آية من كتابه، من ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] ، ثم قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] ، يريد التجارة للبيع والشراء، ولفظ البيع لفظ عام لأن الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام صار من ألفاظ العموم، قال الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 3] ، فاستثنى من الإنسان - جماعة المؤمنين، لاقتضائه العموم، واللفظ العام إذا ورد يحمل على عمومه إلا أن يأتي ما يخصصه، فإن خص منه شيء بقي ما بعد المخصوص على عمومه أيضا، فيندرج تحت قوله(2/61)
تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] كل بيع، إلا ما خص منه بالدليل، وقد خص منه بأدلة الشرع بيوع كثيرة؛ فبقي ما عداها على أصل الإباحة، ولذلك قلنا في البيوع الجائزة: إنها جائزة ما لم يحظرها الشرع ولا ورد فيها النهي.
فصل والأشياء الموجودة بأيدي الناس تنقسم على قسمين (أحدهما) ما لا يصح ملكه. (والثاني) ما يصح ملكه؛ فأما ما لا يصح ملكه، فلا يجوز بيعه بإجماع، كالحر والخمر والخنزير والقرد والدم والميتة وما أشبه ذلك، وأما ما يصح ملكه، فإنه ينقسم على قسمين: (أحدهما) ما لا يصح بيعه - إما لأنه على صفة لا يجوز بيعه عليها كالعبد الآبق والجمل الشارد، وتراب الصواغين، وما أشبه ذلك؛ وإما لأن الشرع حرم بيعه كالأوقاف، ولحوم الضحايا - عند جماعة العلماء، والمصحف عند بعضهم، والكلب المأذون في اتخاذه عند بعض أصحابنا. (والثاني) يصح بيعه ما لم يقع على وجه يمنع الشرع منه.
فصل والوجوه التي يمنع الشرع من عقد البيع عليها كثيرة، منها ما يعود إلى الثمن والمثمون، ومنها ما يعود إلى حال المتبايعين، ومنها ما يعود إلى الحال التي وقع فيها البيع؛ فأما ما يعود منها إلى الثمن والمثمون، فعدمها شرط في صحة البيع وجودا وعدما باتفاق، كعدم الربا ومعرفة الثمن والمثمون وعدم الجهل بهما والغرر فيهما إلى ما سوى ذلك مما يشترط في صحة البيع؛ وأما ما يعود منها إلى حال المتبايعين أو إلى الحال التي وقع فيها البيع؛ ففيه تفصيل واختلاف سأبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى.(2/62)
فصل وأما البيوع المحظورة فإنها تنقسم إلى قسمين، أحدهما ما كان محظورا لحق آدمي، والثاني ما كان محظورا لحق الله تعالى؛ فأما ما كان منها محظورا لحق آدمي، فإنها موقوفة على إجازة من حظرت لحقه. وأما ما كان منها محظورا لحق الله تعالى، فإنها تنقسم إلى أربعة أقسام، (أحدها) ما كان محظورا لتعلقه بالمحظور في الشرع دون أن يطابقه نهي أو يخل فيه بشرط من الشرائط المشترطة في صحته. (والثاني) ما طابقه النهي ولم يخل فيه بشرط من الشرائط المشترطة في صحته. (والثالث) ما أخل فيه بشرط من شرائط صحته. (والرابع) بيوع الشروط وهي التي يسميها الفقهاء بيوع الثنيا.
فصل فأما القسم الأول وهو ما كان محظورا لتعلقه بالمحظور دون أن يطابقه نهي أو يخل فيه بشرط من شرائط صحته، مثل أن يبيع قبل الصلاة في آخر وقتها بقدر ما لا يدرك قبل تمامه إلا ركعة من الصلاة، ويعلم أنه يفوته جميع الوقت باشتغاله بالبيع، ومثل البيع والشراء في موضع مغصوب وما أشبه ذلك، فإن البيع على هذا الوجه حرام محظور غير جائز، إلا أنه إذا وقع لم يفسخ، فات أو لم يفت، باتفاق، إلا ما كان من هذا النوع علة الحظر فيه باقية ببقاء المبيع، مثل شراء النصراني المصحف والمسلم، أو شراء الدين على الرجل إرادة الإضرار به، فقيل: إنه يفسخ لبقاء علة الحظر فيه بعد البيع، وقيل: إنه لا يفسخ وترفع العلة ببيع المشترى على المشتري.
فصل وأما القسم الثاني وهو ما طابقه النهي ولم يخل فيه بشرط من الشرائط(2/63)
المشترطة في صحته، مثل البيع في وقت الجمعة، وبيع حاضر لباد وبيع الرجل على بيع أخيه، وبيع التلقي وبيع التفرقة، وما أشبه هذا من البيوع، فيختلف أهل العلم فيها إذا وقعت على قولين، فمن رأى أن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه، لم يفسخها وإن كانت السلعة قائمة لم تفت، ومن رأى أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، فسخها إن كانت قائمة أو فائتة. وإن كانت قائمة ردت بعينها. وإن كانت فائتة ردت قيمتها وكان رد قيمتها كرد عينها؛ وفي هذا النوع من البيوع قول ثالث، أنها تفسخ ما كانت السلعة قائمة، فإن فاتت مضت بالثمن ولم ترد إلى القيمة، وهو قول بين القولين لا يجري على قياس.
فصل وأما القسم الثالث من البيوع وهو ما أخل فيه بشرط من شرائط صحته، فإنها تنفسخ على كل حال، ولا خيار في ذلك لأحد المتبايعين، وترد السلعة إلى البائع إن كانت قائمة، أو قيمتها يوم القبض إن كانت فائتة، ويرد البائع الثمن على المشتري، وقد تقدم ذكر بعض الشروط المشترطة في صحة البيع، وأن من ذلك أن يكون مبلغ الثمن والمثمون معلوما، ولا يلزم أن يزيد في هذا الشرط حال العقد إلا على مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة الذي لا يجيز شراء الصبرة على الكيل، كل قفيز بدرهم؛ إذ لا يعلم مبلغ الثمن والمثمون حال العقد، وإنما يعلم بعد الكيل؛ فإذا باع الرجل السلعة بثمن مجهول أو إلى أجل مجهول، أو ما أشبه ذلك؛ فسخ على كل حال في القيام والفوات، شاء المتبايعان أو أبيا.
فصل وأما القسم الرابع - وهي بيوع الشروط التي يسميها أهل العلم بيوع الثنيا - فذلك مثل أن يبيع الرجل السلعة على أن لا يبيع ولا يهب، أو على أن يتخذها أم ولد، أو على أن لا يخرج بها من البلد، أو على أن لا يعزل عنها، أو على أن لا يجيزها البحر، أو على إن باعها فهو أحق بها بالثمن الذي يبيعها به، أو على أنه فيها بالخيار إلى أجل بعيد لا يجوز الخيار إليه، أو ما أشبه ذلك من الشروط التي(2/64)