[610] في القبول على وجه الاستئلاف لهم ما تراه ويؤديه إليه اجتهادك – إن شاء الله عز وجل – وأحدث يا سيدي المتقبلون للأحباس في مدة نظره أشياء لم يتقدم إليها، ولا عمل بها أحد قبله، منها أنه كان يقبل أرض الأحباس على أن للجنة عشرة، وهذا أمر لا يجوز ولا يحل عقده.
ومنها أنه كان يقدم لتنفيذ وصايا المسلمين رجلين قصرها عليها، فمن أحضر غيرهما وبخه وهدده، وربما سجنه، والله أعلم بما كان ينويه في ذلك ويعتقده فهو علام الغيوب، وأحدث غير ذلك مما يكشف مشافهة عند الاجتماع بك، ويقع نظرك في ذلك كله بالواجب، حملنا الله وإياك على الرشاد ووفقنا وإياك لما فيه الخلاص، وجنبنا الهوى، وسلك بنا طريق الاستقامة، فإن ذلك بيده لا شريك له، وتسقط يا سيدي عن متقبل الدار ما تراه على وجه الاستئلاف بسبب ما شهد له من انحطاط الكراء ما تراه على أنه واجب له إن شاء الله عز وجل، والسلام عليكم يا سيدي ووليي ورحمة الله قال بذلك عبد الله بن سعيد.
وجاوب أبو علي الحسن بن سلمون المسيلي:
سيدي ووليي ومن عصمه الله بتوفيقه، قرأت مخاطبتك، ورأيت هذه المسألة، وهي مسألة من الاجتهاد، وما حكم به القضاء من مسائل الاجتهاد والرأي لا يجوز نقضها عند أحد من العلماء، لكنه يا سيدي يجوز ذلك أن نجتهد فيها ونحطم بعد اجتهادك ما تراه صلاحًا مما يصلح الأحباس ويتنافس فيها، وإنما حبست لمرافق المسلمين وأكثر متقبليها محاويج، وسبل الدور هذه السبيل، ووفقك الله وأعظم أجرك وأصلحنا برحمته، والسلام عليك يا سيدي ورحمة الله، قال بذلك الحسن بن سلمون.
قال القاضي:
قد قدمنا أن القاضي ابن بشير رحمه الله سعى عليه الفقهاء حتى عزله المعتمد، وكان محسودًا لتبريزه عليهم وانتقاده لأجوابتهم واعتراضهم فيها حتى ينصرفوا إلى ما يختاره من معانيها، وقد كان بعضهم عنده لا يقبل شهادتهم في الباطن ولا يقضي بها إذا انفردت عن غيرهم، فكسبهم ذلك كله عداوته وأضمروا مطالبته حتى أمكنتهم الفرصة بعزلته.
وولي ابن الصفار وشاورهم في العقدين المقوم بهما عنده على حسب ما ذكره في شوراره، ونصوا في مجاوبتهم إياه، فعرضوا بابن بشر فيها بل صرحوا إلا ابن حريش [610]
***(1/456)
[611] والمسيلي، فسالماه تدينًا أو مصانعةً، وقدره من أقدارهم ظاهر والبون بينه وبينهم لائح، خبرًا وخبرًا، والله يؤتي فضله من يشاء.
حسدوا الفتى إذا لم ينالوا سعيه ... = ... فالناس أداء له وخصوم
كم بين العقد الذي شاورا فيه والعقد المقوم به عند القاضي ابن بشر المؤرخ سنة سبع وأربع مائة المقتقدم الذلكي لو قيم بهذا الذي أفتوا عليه وشورا فيه عند القاضي ابن بشر لمزقة وما سمع شهادة فيه فساده وبطلانه عن أن يوجب حكمًا وبمشاورتهم فيه بعلم من منح أدنى شعبة من ميزان المشهود عنده فيه لاحظ له من العلم ولا بصر له بالحكم.
وإطراؤهم له بأنه قدرة في العلم عالم بوجوه الصواب أدل دليل على المصانعة أو المشابهة له في الغفلة وكلاهما خطة خسف، والدين النصيحة، فإن كانوا قد نظروا بعين الحقيقة من بطلان ما شاورهم فيه فما لهم لم ينصحوه ويصرحوا له بأنه لا يسعه النظر في مثل ذلك، ولا من سماع شهادة فيه ليجتنب أمثاله ويتقي أشباهه.
وإن كان قد خفي عليهم منه ما خفي عليه فتلك التي تستك منها المسامع، والوجه الأول أولى بالتأويل عليهم فيه، فقد كانوا مشيخة وقتهم، والمشار إليهم في عصرهم، والتقصير أغلب علينا والتبريز أقل شيء فينا، وفي أجوبتهم من الاختلال والاضطراب في الألفاظ والمعاني ما لو ذهبت إلى تبيينه وكشفه وإظهار الصواب فيه لطال معه الكتاب ووقع الإسهاب، والله يلهمه من شاء من خلقه.
ولما انتهى القاضي أبي المطرف بن بشر رحمه الله تعالى جوابهم بفسخ ما كان انعقد من قبالات الأحباس أيام نظره لالتزام المتقبلين لها، راجين في الحطيطة عنهم من العدد الذي يلتزمونه، جارين على عادة من الوضع عنهم، ولدخولهم في ذلك على أن يكون رفعهم فيما يبذرونه في الأرض للحبة عشر أو دون ذلك وضع في ذلك ردًا من نحو ست ورقات ترجمة فسخ فتى من أفتى بالفسخ.
أخرجه إلينا أبو عبد الله بن عتاب بخط القاضي واضعه وقرأته عليه بحضرة أصحابنا في أسطوان داره، وقد أثبت هنا صدرًا منه وتركت أكثره إذ لم أجد نشاطًا لنقله، ولا فراغًا لكتبه على نصبه وهو: وقفت أكرمك الله على ما ذكرت، وفهمت ما عنه سألت أنك تقبلت أحباس الديوان جنانًا، وفدانًا، وأنك تكلفت أنت ومن جرى من [611]
***(1/457)
[612] المتقبلين مجراك إثبات ما عم وشمل في سنة كذا من فساد البقول وضروب الأوراق المجعولة في الأجنة وبوارها، وانحطاط أثمانها، وعدم المشترين لها حتى إنهم طرحوا أكثرها لفسادها، واعتقال الأرض بطول مكثها، وإن زرع الأرض في سنة كذا استأصله البربر حين محاضرتهم لقرطبة جبرها الله.
وحكيت أن من الفقهاء المفتين من لم ير القيام بمثل هذه وأن المتقبلين لما احتجوا بما سلف من عادة القضاء في التخفيف عنهم والرفق بهم، فيما لم يبلغ هذا المبلغ ولا انتهى من الجائحة هذا المنتهى ترغيبًا للناس في قبالات الأحباس، واستئلافًا لهم.
واحتجوا بأن القضاة قد جعلوا باجتهادهم للوسط من الرفع مقدرًا يؤتم به ويحتذى عليه عند نزول الجوائح، وقيام المتقبلين لها، فجعلوا مقدار الوسط في رفع ما قرب من قرطبة كمنية العجب وشبهها لتغالي الناس وعظم ما يتمونونه من تزييلها، والاستفراغ في عمارتها للحبة عشر حبات، ومقدار مائتي وبعد للحبة ست حبات، فقال بعض من أفتى بتلك الفتيا أن ذلك لا يجوز وان القبالة من أجل هذا التمثيل تفسد. وسالتني مجاوبتك بما عندي في هذا.
فالذي عندي فيه وبالله التوفيق: أما الأجنة فإن القضاء عندنا لم يزالوا على عادة مشهورة من استئلاف المتقبلين والرفق بهم والإحسان إليهم بالوضيعة، والتخفيف عنهم إذا نزل مثل هذا، لا سيما مثل هذه الجائحة التي احتج المتقبلون بها من الكساد وعدم المشترين فإنها جائحة لم يعهد مثلها مع ضعف المتقبلين وذهاب أموالهم، وإن قبالات الأجنة في الأغلب إنما تدور عيهم، وإنهما ليست كالأرضين التي يعاينها أكثر الناس.
فإن زعم زاعم أن الوضيعة لا تكون إلا فيما قل وخف. واحتج بما رواه ابن القاسم عن مالك في المقارض يسأله السائل فيعطيه الكسرة أو الثمرات قال: لا بأس بذلك، وبما رواه عنه أشهب أنه خفف له الحجامة والحمام، قيل له: ليس هذا من ذلك، هذا شيء ثان ومعنى آخر ليس ما كان على طريق المعروف، كما سأله النظر والاستئلاف.
وروى ابن القاسم عن مالك في الجزء الأول من نكاح المدونة في الرجل يزوج ابنته وهي بكر ثم يحط عن الزوج من الصداق، قال مالك: لا يجوز للأب ذلك إذا لم يطلقها الزوج. قال ابن القاسم: وأرى أن ينظر في ذلك؛ فإن كان ما وضع الأب على وجه انظر مثل أن يكون معسرًا بالمهر فيخفف عنه وينظره، فذلك جائز على البنت، لأنه لو طلقها [612]
***(1/458)
[613] ثم وضع الأب النصف الذي وجب لابنته كان ذلك جائزًا على البنت، فأما أن يضع من غير طلاق، ولا على وجه النظر فلا أرى أن يجوز ذلك.
وفي الثاني من كتاب النكاح المذكور أيضًا من قول مالك ولا يجوز لأحد أن يعفو عن شيء من صداق التي يزوجها أبوها بكرًا إلا الأب وحده، لا وصي ولا غيره، قال ابن القاسم: إلا أن يكون ذلك من على وجه النظر لها، ويكون ذلك خيرًا لها فيجوز ذلك إذا رضيت، مثل أن يعسر بالمهر فيسأل التخفيف ويخاف الولي الفراق ويرى أن مثله رغبة لها، فإذا كان ذلك جاز.
وقال سحنون في غير هذا الكتاب: ولا يجوز لأحد أن يضع من صداقها بعد أن وجب على حال إلا الأب. وفي كتاب المأذون له في التجارة قال ابن القاسم: لا يجوز في قول مالك للعبد أن يصنع طعامًا فيدعو إليه الناس إلا أن يكون عبدًا مأذونًا له في التجارة، فيصنع ذلك ليجتر إليه المشتري منه، فيكون ما صنع إنما يطلب به المنفعة في شرائه وبيعه، فيكون هذا من التجارة.
وفي كتاب الديات من المدونة قيل لابن القاسم: أرأيت إذا جرح اليتيم عمدًا أيكون للوصي أن يصالح الجارح على مال، ويجوز ذلك على الصغير في قول مالك: ليس للأب ذلك إلا أن يعوضه من ماله، فإذا لم يكن للأب أن يعفو بغير شيء فليس للوصي أن يعفو إلا على مال، على وجه النظر.
قيل: العملد في هذا والخطأ سواء؟ قال: نعم للأب والوصي أن يصالحا في العمد والخطأ ولا يأخذا أقل من أرش الجرح؛ لأنه لو باع لابنه سلعة ثمن ألف دينار بخمسمائة محاباة تعرف لم يجز، فكذلك إذا صالح على أقل من الدية في جراح ابنه إلا أن يكون صالحة على سبيل النظر لولده على أقل من دية الجرح؛ لأن الجارح عديم فرأى أن يأخذ منه أقل من الدية، فأرى أن يجوز هذا ولم أسمعه من مالك.
وفي كتاب الشركة من المدونة سئل ابن القاسم عن شريكين متفاوضين باع أحدهما سلعة بدينار إلى أجل، فلما حل الأجل أخره الشريك الآخر، أو أخره الشريك الذي باع هل يجوز تأخير أحدهما على صاحبه؟ قال: قال مالك في الوكيل. يريد المفوض إليه – يكون للرجل في بعض البلاد يبيع له متاعه، ويقتضي له الثمن فيباع بعض متاعه إلى أجل، فلما حل الأجل أخره الوكيل بالثمن على وجه النظر لرب المتاع، ليستألفه في الشراء منه، [613]
***(1/459)
[614] لا لمعروف صنعه الوكيل بالمشتري.
قال: ذلك جائز لأن في التأخير نظرًا لرب المال، وهو من التجارة، ولو كان لمعروف صنعه الوكيل بالمشتري لم يجز؛ لأنه لا يجوز له أن يصنع المعروف في مال رب المتاع إلا بأمره، وكذلك الشريكان لا يجوز لأحدهما صنيع معروف في مال صاحبه إلا بأمره وما صنعه للتجارة والاستئلاف من تأخير أو وضيعة من رأس المال فذلك جائزة الوكيل فيما وضعه عن المشتري.
فهذا كله يدل على تمام نظر القاضي، وجواز أمره فيما وضع على هذا السبيل، مع أن أمر القاضي أعلى ونظره أتم وأقوى، ومما يكشف لهذا المعترض ضعف ما توهم وبطلان ما اعتقده، وظن أن باب أجنة الرملة وغيرها قد جرت عادتهم أن متى ابتاع منهم مبتاع ورقة من أوراق الخضر فخسر فيها خسرانًا كثيرًا خففوا عنه وأحسنوا إليه استئلافًا له واستجلابًا لمتاجرته واستكثارًا من معاملته، والقاضي فإنما يجري فيما يقبله من الأحباس مجرى المدعي في خاصة نفسه في هذا وشبه إذا نزل به.
ولست لمفت أن يعترض برأيه فيما ليس من شأنه، وما هو مصروف إلى غيره من أهل المعرفة به، ولو سئل كل ذي جنان يعاني عملها بنفسه أو يقبلها من غيره عن وجه انظر وما يجره إلى معنى النفع وتنمية المال لقال: إن الذي رآه هذا المفتي هو من سوء النظر وإضاعة المال.
ثم ذلك هنا اعتراض معترض – إن كان – بأن العادة أن جرت كالشرط، واستدل على بطلان ذلك فاختصرته كراهة التطويل، ثم قال: وأما ما أنكره المفتي من تحديد مقدار الوسط من الرفع وقت القبالة ليحتزي عند نزول الحاجة عليه فإنكار من لم يأخذ نفسه باعتبار المعاني ولا وقف على حقائق أصول المسائل؛ لأن معلومًا عند كل ذي فهم ولب أن كلما وجد السبيل إلى حصر عوارض المسائل، واستقصاء عللها، والوقوف على ما تؤول إليه كان أرفع للجهالة وأنفى لعلل الفساد، وأدعى إلى حصر صفات الجواز.
وما أظن قائل هذا القول حصل ما قاله ولا تدبر ما يؤدي إليه؛ لأن قوله هذا يؤدي إلى أنه ازداد الشيء صحة زاد مرصًا، وهذا لا يقوله أحد، وأنا أجتب على هذه المسألة من الشواهد ما فيه كفاية بالغة إن شاء الله عز وجل.
فأول ذلك: أن من أصول أهل المدينة، ومذهب جماعتهم: أن الأشياء كلها على [614]
***(1/460)
[615] الإباحة والجواز إلا ما ورد الخبر بحظره والمنع منه. ومن أصلهم أيضًا: أن العرف كالشرط. وأيضًا فإن من أصول مذهبنا: أن كل ما أوجبه الحكم فالإفصاح باشتراطه في أصل العقد جائز، فقد بان بما أصلنا أن كل من اكترى أرضًا أو ابتاع من الثمرات شيئًا على أن يحتسب بجاحة إن كانت له، فإنما اشترط من ذلك ما لو سكت عنه لكان الحكم يوجبه فذكره له كسكوته عنه في موجب الحكم، غير أن ذكره أقطع للتنازع، وأرفع للإشكال.
فلذلك كانت مقادير الجوائح عند من يلي القبالة معلومة لم يجز له فيها عقد إلا باستواء علمه وعلم المتقبل بها، فإن لم يعلم المتقبل من ذلك مثل الذي علم ولي العقد دخل ذلك الفساد، وكان من باب الغش والتدليس، كبائع الشاة اللبون وقد علم حلابها، والصبرة جزافًا وقد علم كيلها، لا يجوز ذلك عند مالك وأصحابه، حتى يعلم المبتاع من ذلك مثل الذي علم البائع.
والأصل في ذلك ما روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر(1)" فهذا يبين لك أن المتكاريين إذا علم أحدهما من باطن أمر لاشيء المكترى ما لم يعلمه الآخر أن ذلك من التدليس الذي ورد الحديث بالنهي عنه في الشاة.
ومن ذلك بيوع المرابحة لا تجوز عند مالك إلا بأن يستوي علم المشتري مع علم البائع في جميع أحوالها، وما جرى عنده من أمرها. روي عنه ابن القاسم في مرابحة: المدونة فيمن اشترى سلعة فحالت أسواقها، وأراد بيعها مرابحة: أنه لا يبيعها مرابحة إلا أن يبين.
قال ابن القاسم: وإن حالت أسواقها بزيادة فأعجب إلى ألا يبيع حتى يبين؛ لأن الطري عند التجار ليس كالذي تقادم عهده، هم في الطري أرغب وعليه أحرص.
ومن هذا الذي أصله شيء تساهل فيه، ذكرناه وكشفنا عنه لئلا يهتدي المخالف إليه فيلزمنا الوهم به، وهو إجازة مالك إتغلال الحوائط والدور والدواب والرقي ثم يبعها [615]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه البخاري ج2، ص 755 برقم 2041، وابن حبان في صحيحه ج 11، ص 343 برقم 4970، والبيهقي في الكبرى ج 5، ص 318 برقم 10494، والإمام الشافعي في مسنده ج 1، ص 189، والإمام أحمد في مسنده ج 2، ص 410 برقم 9299.(1/461)
[616] مرابحة دون تبين، إذا لم يطل ذلك بحوالة أسواق، وإنما أجاز ذلك في هذا الوجه؛ لأن معلومًا عند الناس أن من ملك شيئًا من هذه الأصناف وأغل ذلك عنده غلة أن سبيله في الغلة أن يجوزها وينتفع بها.
وإنما تسميه مقادير الجوائح التي قد اتفق عليها، وجرى عمل القضاة به عندنا بمنزلة متعاوضين تعاوضا في سلعتين فقوما كل سلعة منهما بما تساوى يوم العقد تقويمًا تحريا فيه العدل كيما أن استحقت منهما سلعة، أوردت بعيب وقد فاتت السلعة الثانية كان الرجوع بالقيمة التي قومت بها يوم البيع دون اختلاف ولا تدافع يقع بين المتعاوضين فيها.
والحجة لهذه العلة ما وقع في كتاب الاستحقاق وكتاب العيوب والعرف وكراء الرواحل من المدونة، فيمن باع سلعة بدينار إلى أجل، فلما حل الجل أخذه من الدينار دراهم فساتحقت السلعة، قال مالك: من باع سلعة بمائة دينار فأخذ فيها دراهم ثم وجد بها عيبًا فردها رجع بالدراهم، فإن أخذ بها عرضًا رجع بالمائة الدينار. قال في سماع ابن القاسم في كتاب جامع البيوع: إلا أن يكون العرض لا يشبه أن يكون ثمنًا قائمًا يكون له قيمته: قال ابن القاسم: يريد إنما أخذه منه على وجه التحاوز، مثل أن يجده معسرًا، أو أخذه منه تخفيفًا فإذا كان لك لم أر له إلا قيمته يوم قبضه.
قال في المدونة: ورأيت مالكًا يجعله إذا أخذ العين من العين لا يشبه عنه إذا أخذ عرضًا، وذكر باقي المسألة. قال: وإنما اجتلت هذه المسألة وشبهها من أجل أن العدوى في الاستحقاق وما ضارعه إنما يكون بالذي هو أعدل، فلما رأى الدنانير والدراهم مجراهما أنهما عين مجرى واحدًا أعداه بالعين المأخوذة ولم يلتفت العين التي انعقد البيع بها، ولما كانت السلعة شيئًا آخر أعداه بالعين لأن المثل فيها أصحب وأعدل.
ومن هذه الحجة ضارعت هذه المسألة مسألة الكراء، ثم ذلك مسألة النقص يبنيه رجلان في أرض أعارهما إياهما، فباع أحدهما حصته في النقض في الموازية، وفعة المختلطة، ثم مسألة من سماع أشهب في جامع البيوع، ثم أخرى من سماع عيسى في كتاب العتق، وفي كتاب الغصب، ثم قال: والذي هو أبين من هذا وأكتشف في هذا المعنى، وإنما أخرناه لنختم الجواب به نجتلبه بعد هذا إن شاء الله.
وذلك ما وقع في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة فيمن اشترى شاة على [616]
***(1/462)
[617] أنها تحلب قسطًا: قال ابن القاسم: ذلك جائز في رأيي، وتجرب الشاة، فإن جلبت قسطًا وإلا ردها، وقد جاء الحديث: رد ما لم يشترط فيها أنها تحلب كذا إذا اشتراها وهي مصراة، وهذه أحرى أن يردها إذا اشترط، وفي هذا الباب: قلت: أرأيت إن اشتريت شاة لبن غير مصراة ولا أخبرني البائع بما تحلب إلى الخيار إذا أحلبتها، كمن اشترى مصراة؟ قال: أما الغنم التي شأنها الحلاب وإنما تشتري لذرها في إبان ذرها فأرى إذا باعها، وقد عرف حلابها ولم يبنه للمشتري فالمشتري بالخيار؛ لأن الغنم إنما تشتري لألبانها لا للحومها ولا شحومها، فإذا عرف حلابها وكتمه كان كمن باع طعامًا جزافًا وقد عرف كيله فكتمه.
قال القاضي:
وهذه المسألة تحشم المفتي المعترض بما قدمنا ذكره؛ لأنه لا فرق عند كل ذي حس بين قوله في الشاة: يجلب منها كذا، وبين قوله في الأرض يصاب فيها في الأغلب من معهود رفعها كذا، وقد كان يجب أن يقتصر عليها، ولا نشغل أنفسنا باجتلاب غيرها، ولكن في هذا ما يستدل به على غفلة المعترض وتضييعه وأنه لم يكن شيء من هذا في ذكره.
ومن ذلك مسألة حسنة وقعت في سماع عيسى من رهون العتبية، فيمن رهن رجلاً رهنًا في حق له إلى أجل، فأقاما الرهن بأربعة دنانير وساق المسألة إلى آخرها ثم ذلك اعتراض معترض إن كان ونصه، ثم قال: ومن هذا الباب ما يجري قضاء القضاء والحكام به من قول مالك ما طرد الليل والنهار فيمن استحق شيئًا من الحيوان، فأراد المستحق منه أن يذهب بالشيء المستحق إلى موضع البينة، فإن الشيء المستحق يقومه أهل المعرفة إن جهل المتحاكمان قيمته، وإن علماها هما واتفقا عليها كان ذلك أسهل على الحاكم في نظره واخلص في حكمه.
ومن ذلك أيضًا شيء لم يزل أهل العلم عندنا يعتقدونه ويفتون به فيمن اكتسب وثيقة يذكر حق على آخر، وشرط التصديق في دعوى القضاء، وقال إن ملتزم التصديق عرف باختلاف أهل العلم في وجوب اليمين وسقوطها، فأخذ بقول من رأى سقوطها أو قضى على نفسه بذلك، أليس قضاؤه على نفسه باختيار ما تخبره من أقوال العلماء في التصديق أصح في القضاء، وأبرأ لنفس الحاكم؟! هذا ما لا يشك فيه.[617]
***(1/463)
[618] وبعد هذا كله فإنا لا نأمن على هذا المفتي أن يركب ردعه ويكابر العيان عندما يظهر عجزه، فإن كان ذلك كذلك ولم يزعه وازع، ولا دفعه بالمواجهة مدافع رجعنا معه إلى ما يرجع إليه من لا حجة له ولا برهان معه ولا عاضد من أهل المذهب يعضده.
فنقول: إن ما نتفق نحن وأنت عليه ونجتمع في القول به أن قول مالك رحمه الله تعالى الذي لا نسطيع دفعه أن القاضي إذا قضى بقضاء أداه إليه اجتهاده، ولم يكن في كتاب الله عز وجلا ولا سنة رسول (صلى الله عليه وسلم) ما يخالفه فليس لأحد نقضه، ولا يسوغ لحاكم رده. هذا آخر القول، ومنتهى الجواب، والله الموفق للصواب، والهادي إلى الرشاد، بمنه وفضله وجزيل طوله، ثم قال: إنه ثابت إلى ذكره نظائر للمسائل التي اجتلبها ونقلها في نحو ورقة تركتها اختصارًا، وفيما ذكرنا كفاية إذ هو أكثر جوابه، وأبين من حجاجه.
وكان شيخنا أبو عبد الله ابن عتاب معجبًا بجواب القاضي هذا مثنيًا عليه وكان شيخه، وأكثر تفقه معه، وسمعته يقول: كنت أراه في النوم وهو مقبل من ناحية حوانيت مفرج بقرطبة، وأنا ناهض إلى جهتها فكنت أسلم عليه وأسأله عن حاله، فقال لي: نفعني الله بالمدة التي كنت فيها معزولا، ونحو هذا. كانت هذه المدة نحو ثلاثة أعوام رحمنا الله وإياهم.
مسألة في الاحتساب على المؤذن أبي الربيع في أذانه بالأسحار وابتهاله بالدعاء:
كان هذا سليمان الشقاق متصرفًا بين يدي الواعظ أبي العباس أحمد بن أبي الربيع الألبيري الواعظ بجامع قرطبة فقام على سليمان هذا القائم عند الوزير القاضي أبي علي ابن ذكوان وهو في خطة أحكام السوق بالحسية وذكر أنه يقوم في جوف الليل ويصعد على سقف المسجد الذي يقرب داره ويؤذن على السقف ويبتهل بالدعاء، ويتردد في ذلك إلى أن يصبح، وقال القائم: إن في ذلك ضررًا على الجيران، ووقفه القاضي على لك فأقر به إلا أنه قال: إن قيامه لذلك قدر ساعة، فشاور في ذلك، وقال: قد بلغكم هذا الذي خاطبتكم به فعرفوني بما ترونه موفقين.
يا سيدي ووليي ومن أبقاه الله وسلمه، يؤمر هذا المقوم عليه أن يقطع الضرر عن جيرانه، ويجري على ما كان يجري عليه الناس قبله من الأذان المعهود في الليل، وعلى ما كان من أفعال الصالحين والاقتصار عليها، فإن الخلاف شر، وفقنا الله وإياه للعمل الصالح والقول به إن شاء الله عز وجل.[618]
***(1/464)
[619] وجوب ابن جريح:
يا سيدي ووليي ومن أيده الله بطاعته أحسن ا يفعله الناس اتباع السلف الصالح رحمه الله وكل من فعل فعلاً لا يشبه السلف الصالح فممنوع، ومستحب أن يمنع منه، فقد قال مالك: بلغني أن أبا سلمة رأى رجلا قائمًا عند المنبر يدعو يرفع يديه فأنكر ذلك عليه، وقال: لا تقلصوا تقليص اليهود، فقيل له: ما أراد بالتقليص؟ قال: رفع الصوت بالدعاء ورفع اليدين. فهذا أبو سلمة ومالك قد أنكرا ذلك عند المنبر بالنهار فيكيف من يفعل وذلك بالليل، لو سمعا ما يفعله سليمان لكان له أشد إنكارًا، لو دعا سليمان ربه في بيته أو سرًا بمسجده لكان أولى به.
وقال مالك: إن تميمًا الداري قال لعمر رضي الله تعالى عنه: دعني أدعو الله وأقص واذكر الناس، فقال عمر: لا، فأعاد عليه، فقال له: أنت تريد أن تقول: أنا تميم الداري فاعرفوني. هذا عمر ينهاه بالنهار فيكيف بالليل. وقد قال مالك: القصص بدعة.
وقد سئل ابن وهب عن المؤذن هل هو في سعة أن يؤذن في أين حين شاء من نصف الليل إلى آخر؟ فقال: لا يؤذن المؤذن إلا سحرًا. قلت له: وما السحر عندك؟ قال: فازجر ممنوعًا، متبعًا بذلك السلف الصالح والأئمة المهتدي رضي الله عنهم أجمعين.
وجاوب المسيلي:
أما بعد، صانك الله بكفايته وتولاك برعايته، وجعلنا من أهل طاعته، فقرأت ما قيم به على سليمان الشقاق، وما أقر به أن يقوم ويدعو ويتردد في ذلك قدر سماعه بزعمه، وسألت عن الواجب في ذلك وهل يباح له ذلك أو يمنع منه؟ وعلمك محيط أن الله سبحانه فرض على نبيه (صلى الله عليه وسلم) قيام الليل، ثم خفضه عنه ونسخه، وقال بعض السلف من المتقدمين: إن قيام الليل فرض على الناس من أطاقه منهم. وصلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى تورمت قدماه، وقال لمن عاتبه: أفلا أكون عبدًا شكورًا.
وقال الله تعالى ومدح: {والذاكرين الله كثيرا ولاذاكيران} (الأحزاب: ألآية 35) وقال: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} (الأحزاب: 41)، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "ما رأيت أنجى من عذاب من ذلك الله (1)" وقال تعالى {فاذكروني أذكركم} (البقرة: من [619]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه الحاكم في مستدركه ج1، ص 673 برقم 1825، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه والترمذي ج 5، ص 459 برقم 3377، والإمام مالك في موطئه ج 1، ص 211 برقم 492، والإمام أحمد في مسنده ج5، ص 239 برقم 2232.(1/465)
[620] الآية 152). فأمر بذكره على كل حال. وكل ما صنعه سليمان فحسن مأمور به مرغب فيه، حسن من الدعاء وقراءة القرآن، وتذلكير الناس وتخويفهم، قديم من فعل الصالحين والمتبتلين والزهاد في أمصار المسلمين.
وقد كان بالبصرة عروة بن أذينة، يقوم بالليل فيصيح في الطريق ويخوفهم ويحظهم بقول الله سبحانه {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بيانا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون} (الأعراف: 98). ثم يقبل على صلاته فيصلي حتى يصبح، وإنما على المرء من النوافل ما قدر عليه، ولا يكلف ما لا يطيقه. فقد روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قيل له: إن الحولاء بنت تويت لا تنام الليل فكره ذلك، وقال: "إن الله لا يمل حتى تملوا أكلفوا من العمل ما لكم به طاقة (1) ".
إلا أنه لا يجوز لسليمان ولا لغيره أن يؤذي أحدًا بفعل ولا بقول، ومن فعل ما ذكرته فغير ملوم، وكان الواجب على من قام عليه في هذا ألا ينكر عليه عند السلطان، وقد دون السلطان كفاية ورفع مثل هذا ألا يصلح.
فإن كان هذا الذي وصف لا يؤذي الناس، وهذا محال، لا ينكر هذا من قيام الليل منكرًا فاكشف عنه كشفًا شافيًا، ولا يجب أن يمنع هذا. هذه طريقة المجتهدين في القديم والحديث، وإنما يمنع من أدخل على المسلمين في دينهم مضرة أو في دنياهم، والاقتصاد في الأمور حسن أيضًا، وأما الآذان في الليل للنوافل كلها وللصلاة الفائتة والاستسقاء والخسوف وما كان من غيرها من صلاة النوافل كلها فمنع بعض أهل العلم (أ – 161) من الآذان لها، هذا الذي لا يجوز أن يتعدى إلى غيره. والله يوفق الجميع من الطائفتين بمنه وفضله.
وجاوب ابن عتاب:
يا سيدي ووليي ومن أدام الله توفيقه، ما ذلك هذا القائم بالحسية عن سليمان أنه يقوم في جوف الليل ويؤذن على سقف المسجد ويبتهل في الدعاء ويتردد في ذلك، فليس [620]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه البخاري ج 11، ص 386 برقم 1100، ومسلم ج 1، ص 540 برقم 782.(1/466)
[621] في هذا شيء يمنع منه غير الصعود على السقف لما يتوقع من فساده بالصعود إليه، وعلمك محيط بما ذكره الله من الترغيب قال الله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} (النور: من الآية 36).
والاحتساب فيما ذكره عن سليمان غير سائغ إذ ذلك ذكر الله، وهو مما تنشرح له صدور أهل الإيمان وتطمئن به قلوبهم {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد: 28). ومتى عهد من أذن بالأسحار وابتهل في الدعاء والاستغفار يوقف موقف الإقرار والإنكار، أما سمع المحتسب قول الله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} (الأنعام: من الآية 52).
وقد حكي مالك رحمه الله أن الناس في الزمان الأول كانوا عند خروجهم لأسفارهم يتواعدون لقيام القراء لقيامهم بالأسحار فتسمع أصواتهم من كل منزل، وثبت عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "بلالاً ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم (1)". وقال ابن حسيب: ولا بأس أن يؤذن لها بليل طويل، يدل على ذلك هذا الحديث. قال: وأي ساعة أذن لها من الليل بعد أن يخرج وقت العشاء، وهو شطر الليل فذلك واسع والنداء لها في عسعسة الليل أفضل، وعليه مضى العمل.
وذكر هذا المحتسب أن في ذلك ضررًا عليهم، فيحتمل أن يريد بهذا الضمير جماعة المسلمين، فإن كان أراد هذا فلا يصح قوله؛ إذ لم يمنع أحد من المسلمين من ذلك ولا سمعناه عن أحد منهم أنه قاله، ويحتمل أن يريد من يجاور المسجد من المسلمين وغيرهم.
فإن أراد هذا فعلمك محيط أنه لا يجب له التكلم عنهم إلا بعد توكيلهم إياه، ولو ذهبوا إلى ذلك والله يعصمهم منه، ويوفقهم لما سمع منهم؛ لأن مالكًا قال في الضراب للحديد يكون جار الرجل ملاصقًا، ليس ينهما إلا حائط فيعمل الليل كله والنهار، يضرب الحديد فيتأذى بذلك جاره، ولا يجد راحة من كثرة ضربه. قال مالك: لا يمنع من ذلك، فمالك رحمه الله رأى ألا يمنع ضراب الحديد وهو يؤذي جاره بذلك، فكيف من يقوم للأذان والدعاء؟ والله أسأله لنا ذلك توفيقًا وتسديدًا، والسلام عليك يا سيدي ووليي ورحمة الله.[621]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه البخاري ج 1، ص 223 برقم 592، ومسلم ج 2، ص 768 برقم 1092.(1/467)
[622] في المتحلقين للمسائل يوم الجمعة في الجوامع:
من أحكام ابن زياد:
سألتنا – وفقك الله وأعانك على ما قلدك – عن قوم يحلقون في المسجد الجامع للفتيا ومذاكرة العلم والخوض فيه وذكرت أن رافعًا رفع إليك أن المتحلقين فيه ليسوا ممن يستحق ذلك وأن إقامتهم واجب، إذ المساجد إنما اتخذت للصلاة وتحلقهم فيها مما يضر بالمصلين.
فالذي نراه ونقول به في ذلك – والله الموفق – أن المساجد وإن اتخذت للصلاة، فإن الخوص فيها في العلم وضروبه جائزة من فعل الأئمة. وقد جاء عن مالك رحمه الله أنه كان يتحلق يوم الجمعة في مسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى يخرج الإمام، فإذا خرج قطع الفتى واستقبل الإمام.
والعلم – أكرمك الله – أفل شيء اجتمع لمذاكرته والتكلم فيه بعد كتاب الله عز وجل، وقد رأيت مساجد الأمصار يتحلق فيها الأئمة ومن دونهم من المتفقهين، ولا ينكر ذلك عليهم، ولا يقام أحد منهم، وترك المتحلقين في الجامع على ما هم عليه واسع إن شاء الله. قال بذلك عبيد الله بن يحيى وابن لبابة ومحمد بن وليد وسعد بن معاذ.
قال القاضي:
هذا الجواب على الإطلاق في ترك هؤلاء المتحلقين غير صحيح، إنما يباح ذلك إذا كان فيهم من يوثق بفهمه وعلمه ودينه، ويؤمن عليه التكلم فيما لا يحسنه، والفتوى بما لا يعلمه فهو يتكلم معهم فيما يعلم، ويبصر الجاهل ما لا يفهم، فإذا كان هذا أبيح له وللمستمعين التحلق والتعلم في غير أوقات الصلاة خير لا يضرون بالمصلين.
وقد ذلك أبو البختري: أن علي بن أبي طالب – (رضي الله عنه) دخل المسجد، فإذا رجل يخوف فقال: ما هذا؟.
فقالوا: رجل يذكر الناس، فقال: ليس برجل يذكر الناس، ولكنه يقول: أنا فلان ابن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا قال: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وروي عن ابن عابس ونحوه، وما حكوه في جوابهم عن مالك مصحف خطأ، وكذلك باقي جوابهم وتركنا شرحه كراهة التطويل.[622]
***(1/468)
[623] الاحتساب في إنزال الزرع وغيره في أفنية المساجد:
فهمنا – وفق الله القاضي – ما رفع إليك عن مسجد الشفا من إنزال الناس الزرع والحطب والبقول وغيرها، في دكاكين المسجد فتوسخ بذلك المسجد، وينزل أيضًا في القبلة من المسجد في فنائه الأغنام لتجلب ثم يكثر زبولها فيضر غبارها بالمسجد، فالذي يجب في ذلك أن يكشف القاضي ما رفع إليه بمن يثق، فإذا صح عنده ضرر تلك ذلك قطع الضرر عن المسجد ومنع أولئك الذين يحدثونه في أفنية المسجد. قاله ابن لبابة وأصحابه.
في ميضأة مسجد عجب ودخول الصبيان عليهم في المسجد:
قام عندي – رحمكم الله – رجل من أهل مسجد عجيب، فذكر أن ميضأة المسجد كان بابها خارجًا عن دار المسجد، وأنها كانت قد ردت من داخل الدار، ثم قام أكثر الجيران فقالوا: إنه يدخل الصبيان ومن لا يجب دخوله المسجد إلى الميضأة، فردوا باب الميضأة خارجًا عن المسجد كما كان بابها فيما مضى، واستظهر القائم بالحبسة في ذلك بقوم أتى بهم، وذكر أن بعض الجيران أراد فتح باب الميضأة في داخل المسجد فاكتبوا لي بما عندكم في ذلك مما يجب علينا فعله ولا يحل لنا تركه.
فجاوب ابن لبابة:
فهمنا – وفقك الله – ما أرادت معرفته من خير هذه الميضأة، وإني أكرمك الله كثيرًا ما أمر بالمسجد، ورأيت باب الميضأة في الشاعر في موضع حسن، وبلغني أنها هكذا كانت في ابتداء ابتنائها حتى رأى بعض من كانن في المسجد رد الباب في داخل المسجد فمضى زمانًا كذلك.
فلما ستقبحه وجوه هل المسجد لمن يدخل الميضأة على المسجد، ولا يتحفظ من الصبيان، وينال ضرر ذلك المسجد رد الباب إلى ما كان عليه، فرأيت رده نظرًا للمسجد وحفظًا له، وصوتًا عمن يدخله ولا يتحفظ، وكذلك يجب أن يتحفظ بالمساجد ويقطع عنها كما يدنس قيعانها.
وقد أخبرني العتبي عن سحنون بن سعيد أنه كتب إلى قاضي محمد بن زياد، يشير عليه ألا يلعم معلم في المسجد، فهذا المعلم يكره له التعليم في المسجد لما يخاف من قلة تحفظ الصبيان، فكيف بميضأة يختلف إليها على المسجد من لا يتحفظ من النجاسات فصرف باب الميضأة الذي صرف إلى الشارع في الفضاء من النظر، وأسأل الله التوفيق.[623]
***(1/469)
[624] وقال ابن وليد نحوه.
في ركوب القاضي والفقهاء إلى مسجد الأمير هشام للباب الذي غلق من أبوابه واختلاف الشهادة فيه:
ركبنا مع الفقهاء وجماعة من خيار المسلمين والعدول إلى مسجد الأمير هشام، إذ اشتكى قوم من قريش أنه أغلق باب من أبوابه الذي في البلاط الشرقي، وأنه أفيت في إغلاقه على الأمير – أصلحه الله – والحكام بغير أمره ولا رأيهم، وشهد قوم أنهم يعرفون هذا الباب مفتوحًا منذ أكثر من خمسين سنة، فتحه سعيد بن العباس، فعمر إلى هذه الغاية وأنه راحة للمسجد ولا ضرر فيه على أحد.
وشهد آخرون أنه ضرر عليهم، ونظر على الباب قد سد، فأشار رجل من الفقهاء علينا أن سده من حكومة سلطان افتئات على الحكام، وأنه ينبغي لنا أن نعيده كما كان ثم ننظر فيما اختلف الشهادة فيه، وفيما يجب أن يؤخذ منها ويحكم بها إن شاء الله وما كان من شهادة عبيد الله بن يحيى أن قال: إني أعرف المسجد وليس فيه هذا الباب الذي أغلق، ثم أعرفه فتح منذ أكثر من خمسين سنة في أول ولاية الأمير محمد – رحمه الله – إلى هذه الغاية. قاله ابن لبابة وعبيد الله.
وقال محمد بن غاب مثل ذلك، إلا أنه قال: فتح الباب قضية من القاضي – وفقه الله – فإذا طال زمان عرف هذا المقام، وشهد على ما فعل القاضي، فإن رأى القاضي أن يكتب بذلك كتابًا يشهد عيه أنه فتحه لنظر يستقبله بين الفريقين، وأنه فتحه استرفاعًا للعدا إذا غلق، فرأى عامة لم يتقدمهم فيه قول حكم، وقال فتنة واعتبار، وقاله يحيى بن عبد العزيز وجماعتهم.
فتح باب في مسجد مقبرة البرج:
شهد عن القاضي أحمد بن محمد بن عبد العزيز الأنصاري أن الباب الذي يريد عبد الملك بن حوثرة فتحه في مسجد مقبرة البرج، على السكة العظمى بجوفي دار عثمان ابن سعيد، يضر فتحه بالمسجد ضررًا بينًا، وشهد محمد بن عبيد بمثل ذلك، وشهد بدر بن إسماعيل أنه يعرف موضع الباب في غلق، والبئر في غلق، ويعرف في موضع الباب حانوتًا بشرقي المسجد مفتوحًا إلى القبلة، ويعرف فيه المؤذن يسكنه ويخيط فيه، وفي شهادته أن يعرف سعيد بن العباس فتح الباب في المسجد وغير الحانوت، وأن هذا الحانون كان [624]
***(1/470)
[625] للمسجد.
وشهد محمد بن حازم بمثل ذلك، وفي شهادته أن سعيدًا فتح الباب على الغلبة والظلم في علمه، وفي شهادته أن الحانوت المحبس للمسجد، ويعرف فيه بقالان ويؤخذ خرجه للمسجد، وشهد فلان بمثله، وشهد أيوب بن سليمان أن فتح الباب الذي يراد فتحه في هذا المسجد ضرر بالمسجد، وشهد سعيد بن عثمان التجيي بمثل ذلك.
قرأنا – وفق الله القاضي – هذه الشهادات، فرأيناها وقعت تامة في الضرر، وفي شهادة قوم أنهم يعرفون بالموضع حانوتًا محبسًا تجري غلته على المسجد، فإذا كان فيهم من تقبله فهذا يوجب إغلاقه ولو لم يكن ضررًا فكيف والقول منا بإجماع أن الضرر الحادث على المسجد يقطع على كل حال.
وما رأينا أبقاك الله – هذه الأبواب المفتوحة في أجواف المساجد، ومواضع مصلى الناس تتخذ إلا ليكون مطلاً لمن قعد في المسجد وتروها لا على اللزوم لها ليتخذ في جوف المسجد مسكًا، ولو كان بانيه بديًا فتح هذا الباب في داخل المسجد، ثم اتخذه مختلفًا لقلنا هي أغلقه، فكيف وهو محدث؟ والضرر في حقوق الناس يفني ويرد، فكيف في حقوق الله؟ هي أحق ما ذب عنه ونفي الضرر منه، والله نسأله التوفيق.
قأله محمد بن غالب، ومحمد ابن وليد.
وفي هذا المعنى في المسجد قال محمد بن غالب:
وفق الله القاضي لما يجب شهادتي هذه – أبقى الله القاضي – لم يكن لي يد من تجليبها على وجهها، أما الباب فيما عرفته قديمًا ولا حديثًا من أجل أني كنت لا أخطر بالموضع إلا مارًا على الطريق، لا ألوي على الجانب الذي به الباب، قلما وقعت إلى الموضع، ورأيت الباب مفتوحًا في السقف يدخل منه من أقبل للصلاة، والناس في هذا مختلفون في التحفظ، فمتحفظ يرعى ما يجب عليه من احتراس بدينه وآخر غافل، لا يبالي كيف يدخل ولا كيف وصل.
وقد يدخل المسجد من أطانت رجلاه فإن مسحها في داخل المسجد تحت المسقف استهان بالمسجد ولم يعطه بقسطة الواجب له، فظهر لي الضرر الموجب لإغلاقه، وسقط احتجاج المحتج بالقدم فيما ظهر لي من حقوق الله لا يستحق عليه قدم زمان، إذ قد يفعل الناس عن أذى ذلك ورفعه اتكالاً على غيرهم، إذ هو حق على كل أحد أن يؤديه، فيقول [625]
***(1/471)
[626] بعضهم عل هذا يرفعه غيري، ومن أجل ذلك لم يستحق مثل هذا من حقوق الله.
ولقد شهدت بالموضع حين ركبت إليه ممتحنًا له بالعيان رجلا وهو يشبه هذه الباب بأبواب الجامع في المسقف وهما ضدان؛ لأن الجامع يمنع الناس رهبتهم له من الدخول من ذلك الباب فيه دون تحفظ شديد، فكيف وتلك الأبواب عليها أقفال لا تفتح إلا في أوقات الصلوات، وعليها مع ذلك من عنايتك واهتبالك رقباء يتحفظون بها خوفًا من أن يدخل منها من لا تحفظ عنه.
وقد كان هذا الباب فيما يقع عليه الظن الغالب كاليقين ممتنعًا في أيام سعيد وولده من بعده أن يدخله أحد في قدميه دنس أو شيء يحتاج إلى مسحه أو غسله، فلما ذهب القوم وخلف من نسلهم قوم تشغلهم حوائجهم وإصلاح بواديهم صار الباب مطلقًا لمن شاء أن يدخل منه، فبان الضرر وصار وكالحادث ووجب غلقه لا محالة إن شاء الله، فهذه شهادتي وإن كنت خلطتها بالفتى من قبل أن الاختصار لا يؤدي الكل على وجهه. وقال أيوب بن سليمان مثله.
ومن هذا المعنى مسجد أم هشام:
وقد تقدمت مسألته، استخرجت الله عز وجل ورأيت الركوب معك ومع جميع إخواننا، فإذا اجتمعتم وعاينتم نفذت ذلك إن شاء الله.
قال محمد بن عمر بن لبابة: الذي رأيت حسن إن شاء الله ولقد فكرت بعدك في ترك فتح الباب إذا أبطأ نظرك فرأيت أن عليك فيه دركًا، كيف جاز لمن لا نصيب له في المسجد إلا صلاته، والكلام فيه لورثة بانيه فيغلقه بلا رفع إلى سلطان حتى يكون السلطان هو الذي ينظر فيه فيما يظهر له، إذا كان يقوم كل واحد إلى ما كره فيأخذ لنفسه، وإنما التغيير إلى الحكام فهذه جرأة ما سمع بأشنع منها.
قال القاضي: هذا كلام مختل غير مهذب وأشنع منه القتل والغصب، وتعمد إحداث الضرر بفتح الكوى والأبواب وإجراء المياه والأقذار وغير ذلك على الجار، والله الموفق للصواب.
في مرور العجل والنصارى على المقابر:
فهمنا – وفقك الله – ما ذكره القائم بالحسبة من مرور العجل على المقابر بمقبرة متعة، وسلوك العجم بجنائزهم على مقابرنا، وما سأل من النظر في ذلك، فالذي نرى أن [626]
***(1/472)
[627] يتقدم إلى العجالين ألا يسلكوا بعجلهم على المقابر، وأن يكون مسلكهم بغريبها في الفناء المتسع الذي لا قبور به، وينهى العجم عن المرور على مقابرنا لوطئهم قبول المسلمين ومشيهم عليها، وقد ينهى المسلمون عن المشي عليها، فكيف بنجاس كفار، ولهم متسع بشرقي المقبرة مع الدور أو في الأزقة الخارجة إلى الخندقة بجوفي المقبرة. قال بذلك محمد بن لبابة، وقاله أيوب بن سليمان، وليكن هذا المنع في جميع المقابر، وقاله ابن وليد.
الاحتساب على النواتية من مراكب المراسي:
رفع إليك – رضي الله عنك – أن قومًا من النواتية استعدوا المراكب لإجازة الناس على نهر قرطبة في مرسى بالشيء وغيرها من المراسي؛ وأهم أقاموا لأنفسهم في يجملة المراكب حالة لا ؤمن أن يكون سيلا لهلاك الناس، ولا يجد الناس بدًا من إجازة البقرة إلى ضياعهم ومنازلهم، وذلك أنهم جعلوها دولاً، فتوقف المراكب ويفرد مركبًا واحدًا للإجازة، فيحشى حتى يكاد ينكفي إلا أن الله يدفع، وصاروا يركبون غررًا، وكشفتنا عن الذي يجب عيك النظر به في هذا، وأنت بما جعل الله إليك حائط للعامة، وناظرهم في مصالحهم.
وقد قال مالك – رحمه الله – للسلطان أن ينظر للناس فيما يصلحهم في دينهم ودنياهم، وهذا من أوجب ما يجب فيه نظرك فامنع – رضي الله عنك – من ذلك منعًا شديدًا حتى تبع المراكب، وينقطع بذلك ما يخاف على المسلمين من ركوب الغدر.
فقد جاء فيه خير لعمر بن عبد العزيز حين وصف له ركوب الناس بالبحر، فقال دود على عود، وجاء بكلام غير هذا، كأنه نهي عن ذلك وحذر منه، فامنع عن هذا فإنك مأجور فيه، مثاب عليه إن شاء الله. قال بذلك محمد بن غالب ومحمد بن وليد وعبيد الله ابن يحيى، وقال سعد بن معاذ مثل ذلك، وقال: الحديث لعمر بن الخطاب أيضًا، وقال أحمد بن بقي بمثل قول سعد بن معاذ، وقال بذلك محمد بن عمر بن لبابة وأيوب بن سليمان.
قال القاضي:
الحديث الذي ذكروا إنما هو لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقع في جامع العتبية في موضعين في سماع ابن القاسم، أحدهما: في أول رسم منه وهو رسم مساجد القبائل، قال مالك: سأل عمر بن الخطاب عمرو بن العاص عن البحر، فقال: خلق قوي يركبه خلق ضعيف، دود على عود، إن ضاعوا هلكوا وإن بقوا فرقوا، فقال: عمر لا أحمل فيه [627]
***(1/473)
[628] أحدًا أبدًا.
فلما كان بعد عمر حلم فيه فلم يزل يركب حتى كان عمر بن عبد العزيز فاتبع فيه عمر بن الخطاب، وهذا هو الصحيح في الخبر وجعلوه لعمر بن عبد العزيز، وأنه من قوله دود على عود، وقال بعضهم لعمر بن الخطاب والكل مخطئ غير مصيب لان هذا الكلام إنما هو لعمرو بن العاص، وإنما للعمرين النهي عن ركوبه، وقالوا: كأنه نهي عن ذلك، وهما قد نهيا عنه اشد النهي ومنعاه أصلا، وبالله التوفيق.
في منع أهل الذمة إحداث الكنائس:
فهمنا – وفقك الله تعالى – الشهادات الواقعة في أن الشنوغة محدثة، فرأينا شهادات توجب هدمها بعد الإعذار إلى أهلها، وليس في شرائع الإسلام إحداث أهل الذمة من اليهود والنصارى كنائس لا شنوغات في مدائن المسلمين، وبين ظهرانيهم. قال بذلك عبيد الله بن يحيى ومحمد بن لبابة وابن غالب وابن وليد وسعد بن معاذ ويحيى بن عبد العزيز وأيوب بن سليمان وسعيد بن خمير.
قال القاضي:
ذلك ابن حبيب في ثالث جهاد الواضحة عن ابن الماجشون عن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "لا يرفعن فيكم يهودية ولا نصرانية (1)" قال ابن الماجشون: لا تبنى كنيسة في دار الإسلام ولا في حريمه، ولا في عمله، إلا إن كانوا أهل ذمة منقطعين عن دار الإسلام وحريمه، ليس بينهم مسلمون فلا يمنعون من بنيانها بينهم، ولا من إدخال الخمر إليهم ولا من كسب الخنازير.
وإن كانوا بين أظهر المسلمين منعوا من ذلك كله ومن رم كنائسهم القديمة التي صالحوا عليها إذا رثت، إلا إن شرطوا ذلك في صلحهم فيوفى لهم ويمنعون من الزيادة فيها؛ كانت الزيادة ظاهرة أو باطنة، وإن شرطوا ألا يمنعوا من إحداث الكنائس وصالحهم الإمام على ذلك عن جهل منه، فنهي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك أولى بالاتباع والانقياد.
ويمعنون من ذلك في حريم الإسلام وفي قراهم التي سكنها المسلمون معهم، ولا عهد في معصية الله إلا في رم كنائسهم إن اشترطوا ذلك لا غير، فيوفى لهم به.[628]
***
__________
(1) ... هذا الحديث لم أعثر عليه.(1/474)
[629] قال ابن الماجشون: هذا كله في أهل الصلح من أهل الجزية، وأما أهل العنوة لا يترك لهم عند ضرب الجزية عليهم كنيسة إلا هدمت، ولا يتركون أن يحدثوها وإن كانوا معتزلين عن جماعة المسلمين؛ لأنهم كعبيد المسلمين، وليس لهم عهد يوفي لهم به، وإنما صار لهم عهد حرمت به دماؤهم حين أخذت منهم الجزية.
وفي كتاب الجعل من المدونة قال ابن القاسم: عن مالك: لا تتخذ النصارى الكنائس في بلاد الإسلام إلا أن يكون هلم أمر أعطوه، قال ابن القاسم: لا يمنعوا من ذلك في قراهم التي صولحوا عليها لأنها بلادهم يبيعون إن شاءوا أرضهم ودورهم، إلا أن تكون بلاد عنوة فليس لهم أن يحدثوا فيها شيئًا؛ لأنهم ليس لهم أن يبيعوها ولا يورثوها، وهي فيء للمسلمين وإن أسلموا انتزعت منهم.
وقال غيره: لا يمنعوا من كنائسهم التي في قراهم التي أقروا فيها بعد افتتاحها عنوة، ولا من أن يتخذوا فيها كنائس؛ لأنهم أقروا فيها على ذمتهم، وعلى ما يجوز لهم فعله وليس عليهم فيها خراج إنما الخراج على الأرض.
وفي الكلاب: فهمنا – وفقك الله – ما كشفت عنه من أمر الكلاب المخذة في الحضرة، فإنها ربما أذت وعقرت وأحدثت من جراح الصبيان ما يكون ضررًا، وما شكى إليك من ذلك وكثر به الشكوى ممن ابتلى، فالذي يجب في ذلك – وفقك الله – أن تأمر بقتلها إلا ما كان من كلب صيد أو زرع أو ماشية؛ فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "من اقتنى كلبًا إلا كلب ماشية أو زرع أو صيد أحبط من أجره قيراط (1)".
وجاء عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه أمر بقتل الكلاب، فمر رسوله ببيت امرأة عمياء لها كلب فأراد قتله، فاعترضت امرأة فقالت: إني كما ترى عمياء، فهو يطرد عني السباع ويؤذنني بالإذن، فعاد إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فأعلمه أمرها فأمره بقتلها، ولم ير لها عذرًا فيما اعتذرت به. قال بذلك محمد بن عمر بن لبابة ومن حضرنا من أهل اعلم، وفي مسائل حبيب عن سحنون في كلاب أهل المواشي في البوادي يتخذونها في دورهم خوف السرق أنه يقتل، وقال في الكلب لصيد التلذذ لا يحل كسبه، ولا يقتل أيضًا.[629]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه البخاري ج 2، ص 818 برقم 2198، ومسلم ج 2، ص 1204 برقم 1576.(1/475)
[630] قال القاضي:
كذا هو في الكتاب الذي نقلته منه وأراده: ويقتل أيضًا وهو النظر، والله أعلم.
ومن هذا المعنى قال ابن لبابة:
إن كان الكلب متخذًا بموضع لا يجوز اتخاذه، فصاحبه ضامن لما نقص الرداء يقوم صحيحًا، ويقوم بالذي أصابه، فما كان من القيمتين ضمنه ويرفوه صاحب الكلب لصاحب الرداء، وإن كان الكلب متخذًا بموضع يجوز اتخاذ فيه فلا شيء عليه.
وفي كلب عض صبيًا:
قال أبو صالح: فهمت – أكرم الله القاضي – مسألة صاحب الكلب، فأما الكلب فيقتل لأنه متخذ في غير موضع اتخاذ الكلاب، وإن أصاب الصبي شيء ضمنه متخذ الكلب؛ حيث لا يجوز له اتخاذه لتعديه في ذلك بما لم يجز له.
قال القاضي: في كتاب الديات من المختلطة: قيل أرأيت الكلب العقور، وما أصاب في الدار وغيرها أيضمنه صاحبه؟ قال: بلغني أن مالكًا قال: إذا تقدم إلى صاحب الكلب العقور ضمن ما عقر، فأنا أرى أنه إذا اتخذه حيث يجوز له اتخاذه ألا ضمان عليه حتى يتقدم إليه، وإن اتخذه بموضع لا يجوز له اتخاذه فيه، مثل أن يجعله في داره وقد عرف أنه عقور. فيدخل الصبي أو الخادم أو الجار الدار فيعقرهم، وقد علم أنه عقور فأراه ضامنًا. وقول مالك في الكتاب العقور إذا تقدم إليه حيث يجوز له اتخاذه لا حيث لا يجوز له اتخاذه كالدور.
قال القاضي:
تدبر هذا؛ لم يوجب ابن القاسم عليه ضمان ما أصاب العقور إلا بوجهين، أحدهما: أن يتقدم إليه، والآخر اتخاذه بموضع لا يجوز اتخاذه فيهن وقد علم بعقره، وإن لم يتقدم إليه، وأبو صالح ليس في جوابه تقدم إلى رب الكلب، ولا صفة للكلب بأنه عقور وأن ربه علم بعقره فهو خطأ، ولا ضمان على صاحب كلب اتخذه في داره إذا لم يعلم أنه عقور وجرح العجماء جبار كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وفي سماع ابن الحسن زونان:
سألت ابن وهب عن الدابة الصئول تعدو على مملوك فتقتله بعد أن تقدم جيرانه إليه فيها، فعدت على الصبي المملوك وهي مربوطة أو فلتت من رباطها أو كان سلطان تقدم [630]
***(1/476)
[631] إليه فيها حين شكي جيرانه أمرها، وقال: إن أدت بعد هذا ضمنتك، فقال: الدابة الصئول في هذا مثل الكلب العقور لا ضمان على ربها حتى يتقدم إليه السلطان بعد المعرفة بالصئول والعقر فلم يحبسها عن الناس ولا غربها ضمن ما عقرت، وهو قول مالك في الكلب على ما وصفت لك.
فإن كان دون الثلث ففي ماله، وما كان فيه الثلث فصاعدًا حملته العقالة، وهو من الخطأ إن كان المعقور حرًا، وإن كان عبدًا ففي مال رب الدابة والكلب على كل حال. وقال أشهب: لا ضمان على صاحب الدابة على أي وجه كان تقدم إليه سلطان أو استنهى منه الجيران.
قال القاضي:
انظر قول ابن وهب: إذا تقدم إليه السلطان بعد المعرفة بالصئول والعقر، لم ير ضمانه إلا بعد التقدم والمعرفة بالعقر، وهو مما يؤيد ما نبهنا عليه من غفلة أبي صالح في جوابه.
وفي سماع عيسى عن ابن القاسم في رسم لم يدرك في الثور العقور أو الدابة الصئول أو الكلب العقور أو غيره من العجماء إذا عرف بالعداء على الناس أمر صاحبه بذبحه وتقدم إليه، فإن عقر أحدًا بعد ذلك ضمن في ماله، قال: وإن قتل الثور رجلا بعد التقدم إليه وشهد بذلك واحد حلف ورثته معه يمينًا واحدة واستحقوا الدية في ماله خاصة.
وروي عنه ابن عبدوس أن الثلث فصاعدا في ذلك على العاقلة، وهو كقول ابن وهب فوق هذا شرط في هذه أيضًا المعرفة بالعقر والتقدم، وقال عيسى في تفسير ابن مزين: إذا اتخذ الكلب العقور بموضع لا يجوز له اتخاذه فيه فهو ضامن وإن لم يتقدم إليه إذا كان عقورًا، وكذلك قال ابن القاسم، فشرط كونه عقورًا كما تقدم، وقال يحيى بن إبراهيم: لا يكون التقدم إلا عند السلطان وإلا فبإشهاد العدول إذا لم يكن سلطان.
وقال أصبغ: إذا لم يثبت ما أصاب الكلب العقور أو الثور العقور وشبهه بشاهدين عدلين، وأنكر اليمين في هذا مع الشاهد الواحد، وأما جواب ابن لبابة في مسألة الرداء، فأبين خطأ من جواب أبي صالح، وأردى، ويطول علينا بيان ذلك وبالله التوفيق. [631]
***(1/477)
[632] الاحتساب على ابن السليم فيما اقتطعه من المحجة وضمه إلى جنته بمنية المغيرة وأجوبة الفقهاء في ذلك:
فهمنا – وفقك الله – الشهادات الواقعة على سعيد بن محمد بن السليم فيما اقتطعته من محجة المسلمين وضمه إلى جنانه اللاصقة بمحجة قرطبة بمنية المغيرة، فرأينا شهادات تامة منعقدة توجب خراب ذلك، ورد المقتطع من المحجة إليها على حسب ما كانت عليه بعد مضي البينة التي شهدت في ذلك إلى الموضع، وحيازتها بما تقطع في ذلك بالهشادة أنه أخذه من المحجة، وبعد أن تعذر إليه في مدفع إن كان عنده فيمن قبلت شهادته في ذلك، قال بذلك أحمد بن يحيى بن أبي عيسى.
وقال هذا قضاء قضاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد روي ابن كنانة عن مالك ابن أنس قال: هدم عمر بن الخطاب على أبي سفيان أساسا مكان تزيده في طريق المسلمين، فسارع أبو سفيان إلى هدمه، وقال: من أين أهدم يا أمير المؤمنين؟، وحسر عن يده، فقال له عمرك من هنا إلى هاهنا يا أبا سفيان، فهدم أبو سفيان بيده، فرفع عمر يديه إلى السماء وقال: الحمد له الذي حتى الذي لم يمتني حتى رأيت أبا سفيان يطوع لنا هذا الطوع.
وحدثني: من أثق به عن عبد الملك بن الحسن، قال: سألت عبد الله بن وهب عن الرجل يتزيد في داره من طريق المسلمين الذراع والذارعين إذا بني وأقام حائطًا وبني بنيانًا، فقام جاره الذي يقابله في الطريق فرافعه إلى السلطان وأحب أن يهدم عليه ما تزيده، وقال: كان لي نفع لمربط دابتي وفنائين وفيما بقي من الطريق ثمانية أذرع أو تسعة، هل له أن يهدم عليه ما زيد؟
فقال ابن وهب: نعم له أن يهدم عليه، قام في ذلك جاره أو من سلك المحجة، وينبغي للإمام أن يتقدم في ذلك لا يترك أحدًا يتزيد من طريق المسلمين.
قال ابن وهب: وقد حدثني عثمان بن الحكم عن عبيد الله بن عمر عن أبي حازم أن حدادًا بنى كيرًا في سوق المسلين، فمر به عمر بن الخطاب ورآه، فقال: لقد استعظم سوق المسلمين فهدمه.
وقال أشهب بن عبد العزيز: أرى أن يهدم ما اقتطع من طريق المسلمين كان ذلك قليلا أو كثيرا مضرًا أو غير مضر، يهدم ويتقدم الإمام إلى الناس، ولا يترك أحدًا يتزيد من [632]
***(1/478)
[633] طريق المسلمين قليلا ولا كثيرًا، وقال بمثل ذلك يحيى بن عبيد الله.
قال القاضي:
قال محمد بن حارث يحيى بن عبيد الله بن يحيى بن يحيى يكنى أبا عبد الله، شوور مع أبيه في آخر أيامه، وتوفي سنة ثلاث وثلاثون مائة، وأحمد بن يحيى بن يحيى ابن يحيى يكنى أبا القاسم، سمع من عمه عبيد الله ومن ابن وضاح وكان ربما دخل مدخل من شاورهم الأمير عبد الله بن محمد وشاوره ومحمد بن سلمة القاضي في جملة من يشاور كانت وفاته سنة سبع وتسعين ومائتين وهو ابن سبع وأربع سنة.
وقال غيره: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر (1) " حدثني بذلك إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وأن عمر رحمه الله حكم في مثل هذا بالهدم في كير الحداد وما أحدثه في ذلك من سوق المسلمين.
وفيما حكم به رحمة الله عليه، على أبي سفيان بن حرب، وأمره بالهدم فيه وتحويل حجازته من مكان إلى مكان، ففعل عمر رحمه الله، وحكمه أولى أن يقتدي به وأن يكون الأسوة فيه إن شاء الله من غيره.
وقد حدثني محمد بن أصبغ بن الفرج أن أباه أصبغ رجع عن قوله فيمن اقتطع من أفنية المسلمين شيئًا وأدخله في داره أنه إذا كان واسعًا رحراحًا لا يهدم فرجع عن ذلك وقال بهدمه ورده إلى حالته وقال: الأفنية والطرق كالأحباس للمسلمين لا يجوز لأحد أن يحدث فيها حدثًا إلا من ضرورة واضطرار إلى ذلك.
وقال ابن وهب وأشهب: يهدم على كل حال ضيقًا كان أو غير ضيق، قليلا كان أو كثيرًا، أخبرني بذلك يحيى بن عمر عن سحنون عنهما – والذي أقول به وأذهب إليه فعل عمر (رضي الله عنه) وحكمه على أبي سفيان وعلى الحداد، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من اقتطع [633]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه الحاكم في مستدركه ج 3، ص 79 برقم 4451، والترمذي ج 5، ص 609 برقم 3662، والبيهقي في الكبرى ج 5 من 212 برقم 9836، والإمام أحمد في مسنده ج 5، ص 382 برقم 23293.(1/479)
[634] شبرًا من أرض بغير حق طوقه من أرضين (1) " رواه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل عن النبي (صلى الله عليه وسلم).
وقال يحيى بن عبد العزيز
جمعتنا – وفقك الله – وكشفتنا عن الشهادة الواقعة على سعيد بن السليم على ما اجتبته البينة من اقتطاعه من طريق المسلمين وضمه ذلك إلى جنانه فأعلمناك – وفقك الله – أن في المسألة نظرًا واختلافًا بين العلماء وسألناك جمع جميعنا، لكي نجمع من ذلك على ما يختاره الله لنا فقلت: بل يكتب كل رجل منكم إلي بما عنده في ذلك، وأنا أسأل الله توفيقك، وأنا أحكي لك (رضي الله عنه) ما ألفيناه في كتبنا ورويناه عن شيوخنا رحمهم الله.
وهو ما قد سمعته وقرأه عليك أصحابنا من رواية زونان عن ابن وهب وغيره، وما حكوا عن الفاروق – رحمه الله – من وجوب هتك موضع الحداد، وما أشاروا به من هدم الحائط ورد المحجة إلى ما كانت عليه بعد الإعذار إلى سعيد في مدفع إن كان عنده في شهادة من قبلت شهادته، وبعد حيازتهم للزيادة التي اقتطعها من محجة المسلمين وأحكي لك ما في أحد ذينك الكتابين قبل الباب الذي قرئ عليك أو بعده منه ما قرأ من سؤال أصبغ بن الفرج عن أشهب بن عبد العزيز.
قال أصبغ: سألت أشهب عن الرجل يهدم داره، وله الفناء الواسع، فيزيد فيها من الفناء يدخله فيها ثم يعلم بذلك؟ قال: لا يعرض له إن كان الفناء واسعًا رحراحًا لا يضر بالطريق. وقد كرهه مالك رضي الله عنه، وأنا أكرهه ولا آمر به ولا أقضي عليه بهدمه إذا كان الطريق واسعًا رحراحًا، لا يضر ذلك بشيء منه، ولا يحتاج إليه ولا يقاربه المشي، وقال أصبغ في الذي يبني دارًا له، فيأخذ من طريق المسلمين شيئًا يتزيده فهيا، كان ذلك مضرًا بطريق المسلمين أو غير مضر أترك ذلك جائزًا؟ وهل يجوز شهادة مثل هذا.
قال أصبغ: إذا كان اقتطاعه اقتطاعًا يضر بالطريق والمسلمين أدخله في بنيانه وكان[634]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه مسلم ج3، ص 1230 برقم 1610، والحاكم في مستدركه ج 4، ص 329 برقم 7807، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى ج 6، ص 98 برقم 11312، والشاشي في مسنده ج 1، ص 243 حديث رقم 203، والإمام أحمد في مسنده ج2، ص 432 برقم 9579.(1/480)
[635] إدخاله فيما يرى بمعرفة لا بجهالة أو وقف عليه فلم يباله، فلا أرى أن تجوز شهادته ويهدم بنيانه إذا أضر جدًا، وإن كانت الطريق واسعة جدًا كثيرًا، وكان الذي أخذ الشيء اليسير جدًا الذي لا يضر، ولا يكون فسادًا في صغر ما أخذ وسعة الطريق وكثرته فلا أرى أن يهدم بنيانه ولا يعرض له.
وقد سألت أشهب عنها بعينها، ونزلت عندنا فكان هذا رأي فيها، وسألته عنها فقال مثله، فهذا رحمك الله قولان مختلفان، كفيانا الجواب وحملاه عنا، ولك الأخذ بأحدهما واختيار أحبهما إليك وأوقعهما بقلبك، ولو ركبت إلى الموضع للمعاينة والتشفي بالروية لكان صوابًا إن شاء الله، فقد ركب القضاء قبلك لما فيه من صلاح المسلمين، فأصلح الله بك على يديك، ونفع المسلمين نظرك.
قال القاضي: يحيى بن محمد بن عبد العزيز هذا يعرف بابن الحراز، سمع من رجال الأندلس ثم رحل وحد سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وسمع هناك من جماعة مبصر وغيرها كمحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وغيره، ثم رجع وتوفي سنة سبع وسبعين ومائتين، وكان فاضلاً رحمه الله.
وقال سعد بن معاذ: يهدم كل ما اقتطع من سكك المسلمين، ولو جاز لأهل جانب السكة التوسع فيها لجاز لأصحاب الجانب الآخر أن يأخذوا مثله، فإذا بسكك المسلمين قد ضاقت بهم، وإنما السكك من جهة الأحباس التي حبسها المسلمون لمنافعهم، وفي حديث عمر (رضي الله عنه) إذا أمر بهدم كثير الحداد، وهو أقل ضررًا من اقتطاع كثير من طريق المسلمين ما تكتفي به.وقد سئل ابن القاسم عن مسرح مواشي أهل قرية نشط إليه بعضهم ليعمره، فكره ذلك ولم يره لهم، ورأى أن يترك المسرح كما هو، فكيف بمحجة المسلمين التي تخرج عليها عساكر المسلمين إلى عدوهم، وهي مجمع رفاق أمصارهم؟ فأرى أن يقدم الشهود الذين شهدوا فيما اقتطع من المحجة فيحوزونه، ثم يهدم ما اجتمعوا عليه من ذلك بعد الإعذار إلى سعيد في البينة.
وإن كان لمثل ما أدخل من المحجة له كراء غرمة المقتطع له، وقد قال الله عز وجل: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} (الزمر: من الآية 18) وينبغي للحكام أن يضربوا الأقاويل بعضها ببعض، فيأخذوا فيها بالأوثق مما قاله أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أو ممن كان [635]
***(1/481)
[636] بعدهم إن لم يجدوا في ذلك متقدمًا لأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وليس يترك قول صاحب لقول من بعدهم في هذه الأمة.
وقال أحمد بن بيطير بمثل قول سعد بن معاذ.
قال القاضي: سعد بن معاذ بن عثمان من عمل جيان، سكن قرطبة، ورحل فلقي محمد بن عبد الحكم، وتوفي في جمادي سنة ثمان وثلاث مائة، وأحمد بن بيطير مولى للخلفاء، سمع من ابن وضاح وغيره، وتوفي ضحى يوم الخميس ثاني ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثون ومائة.
وقال محمد بن عمر بن لبابة: الذي قاله يحيى بن عبد العزيز وحكاه من الرواية فهو كما حكي، وهي روايتنا، والذي رأيت علماءنا؛ العتبي وغيره، يفتون به ويأخذون به من هذه الروايات بقول أصبغ بن الفرج، وبه أقول.
قال القاضي:
ابن لبابة هذا أبو عبد الله مولى، ولم تكن له رحلة، وكان من الفقهاء، وقال: أدركت بهذا البلد يعني قرطبة ستة وأربعين مفتيًا منهم ستة عشر رجلاً أكابر جلة، كالعتبي محمد بن أحمد وعبد الله بن خالد وغيرهم، وذكر يومًا ذهاب العلم ومن صار في الشورى يتمثل بهذين البيتين:
ذهب الرجال الذين يقتدي بفعاللهم ذ ... = ... والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم ... = بعضًا ليسكت معور عن معور
وكانت وفاته سنة أربع وعشرة وثلاث مائة.
وقال خالد بن وهب:
الذي أقول به – وفقك الله -: أن من تزيد من طريق السملمين شيئًا، ببنيان أو اغتراص أو غيره، مما يريد اقتطاعه دونهم، فإن السلطان يأمر بهدمه وتغييره إذا ثبت ذلك عنده، وبعد الإعذار إلى من شهد عليه فيما شهد به عليه كان ما تزيد، مضرًا أو غير مضر، كان في الطريق سعة أو لم تكن، لا ينبغي لأحد التزيد من طريق المسلمين وينبغي أن يتقدم في ذلك إلى الناس ويستنهي إليهم: ألا يحدث أحد بنيانًا في طريق المسلمين، وقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لحداد بني كيرًا في طريق المسلمين فقال: لقد استهضمتم سوق [636]
***(1/482)
[637] المسلمين ثم أمر بهدمه، قال ابن وهب.
قال اصبغ بن الفرج: وكان ابن وهب أعلم أصحاب مالك بالسنن والأثر الماضي، وهو مذهب ابن القاسم وفتياه في النهي عن الضرر بالطريق وما يغيرها عن حالها مما يرى أنه ضرر، وجر إلى فساد طريق العامة، ولا ضرر – وفقك الله – على المسلمين أكثر من اقتطاع طريقهم وانتقاصها، وقاله سحنون بن سعيد، هذا الذي أقول به، والله أسأله توفيقك.
قال القاضي:
خالد بن وهب أبو الحسن التيمي مولى تيم يعرف بابن الصغير شوور في أيام الأمير محمد بن عبد الله وفي أول أيام عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين الناصر لدين الله وولي أمير المؤمنين أول يوم من ربيع الأول سنة ثلاث مائة وفي ليلته توفي الأمير عبد الله رحمهم الله.
وقال محمد بن غالب:
قرأت الأجوبة التي في هذا الكتاب وفهمت ما رواه أصحابنا في ذلك، والروايات صحيحة معلومة قد رويناها من غير طريق إن شاء الله ورأيت بعض أصحابنا قد ذهب إلى اختيار قول أصبغ أنه لا يهدم على المقتطع من طريق المسلمين ما اقتطع إذا كان الطريق واسعًا رحراحًا، فاختار برأيه ما رآه صوابًا. ولاذي نراه – والله نسأله التوفيق – اتباع قول المتقدمين ومن هو إلى التوفيق أقرب إن شاء الله.
والعجب من الذي اختار قول أصبغ، كيف فارق قول عمر المعروف منه المأثور عنه وما علمته أرخص في هذا لأحد قط وما أظن به إلا أنه اجتهد والله نسأله التوفيق، ولقد خرجت عن الأندلس وأصبغ بن الفرج عندي أكبر أهل زمانه لما كان شاهدناه من تعظيم شيوخنا له، فلما دخلت مصر وجدت أهل بلده محمد بن عبد الحكم ويونس بن عبد الأعلى وغيرهما لا يعطونه ما أعطاه رجال أهل بلدنا والأئمة عندهم المقتدى بهم ابن وهب وأشهب وابن القاسم، وقول ابن وهب وأشهب يوجب هدمه، وبه آخذ – والله اسأله التوفيق.
ورأيت أصحابنا وفقهم الله قالوا بهدم الحائط اتباعًا لفعل عمر، وقول الشيخين ابن وهب وأشهب وحضروا أن يكون ذلك حتى يزرع ما اقتطع، وأنا أقول باجتهادي إن [637]
***(1/483)
[638] الحائط مضروب في غير حقه بإجماع من الشهود الذين شهدوا في ذلك، فهدمه واجب إذ صار جسمه أجمع موضوعًا في غير حق ثم يكون النظر في التذريع من بعد ذلك ليضع سعيد بن السليم حائطه من خلف الحد الذي تحدد له البينة، وهذا إذا كان الإعذار إليه قد انقضى.
قال القاضي:
محمد بن غاب هذا هو ابن الصفار أبو عبد الله روي عن ابن سحنون وغيره، توفي سنة ست وتسعين ومائتين.
وقال أيوب بن سليمان:
الذي أقول به وأعتمد عليه ما لا يجوز غيره قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لا ضرر ولا ضرار. ومن ضار أضر الله به (1)" فلينظر فإن كان ما حدده الشاهدان من هذه المحجة مضرًا بها وتضيقًا عليها هدم ما ضيقها وأعيد إليها ما أخذ منها وإن كان غر ضرر ترك والذي حكم به عمر على صاحب الكير، إنما حمله عند أصحابنا أنه كان ابتنى في موضع ضرر وهكذا روى أصبغ عن أشهب، وأصبغ أكبر في أشهب ممن روي عنه غير ما روي أصبغ.
وأما ابن عبد الحكم فإن الذي كان بين أبيه وأصبغ معروف مشهور في المباعدة والبغضاء وأما يونس بن عبد الأعلى فصاحب حديث لا يدخل هذا المدخل والذي أخبرونا عن أصبغ بعلمه وفضله أكبر عندنا ممن وقع فيه بما لا يحل له وهذا فتيا أصبغ وروايته، فمن نظر إليها عرف فضله وعلمه إن شاء الله.
قال القاضي: أيوب بن سليمان بن صالح بن هشام المعافري القرطبي كان حافظًا فقيهًا مفتيًا دارت الشورى عليه وعلى صاحبه ابن لبابة في أيامهما، سمع من العتبي وغيره ابتداء بطلب العلم سنة ثمان وأربعين ومائتين وتوفي سنة إحدى وثلاث مائة.
وقال محمد بن وليد:
قرأت ما جاوب به أبو صالح في هذه المسألة، فقد قال عندي بتوفيق الله وتسديده [638]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه البيهقي في الكبرى ج 10، ص 133، وأبو داود ج 3 ÷ ص 315 برقم 3635، وابن ماجه ج 2، ص 785 حديث رقم 2342، والإمام أحمد في مسنده ج 3، ص 453.(1/484)
[639] إياه وبما قال في جميعها اقول: إنه لا يهدم الحائط إذا كان فيما بقي بعده من الطريق ما يحمل المارة عليها، وهو رأي أصبغ وأشهب وكلاهما إمام في زمانه وعصره، وما لقيت أحدًا من أهل العلم إلا شاهدًا لأصبغ بالحفظ والنظر والتحرير، وقد شاهدت عبد الأعلى بن وهب وشاوره بعض حكام بلدنا في رجل أدخل أذرعًا من المحجة الآخذة من مسجد متعة إلى مسجد مسرور.
فأجاب عبد الأعلى: إن كان فيما بقي من المحجة ما يحمل المارة عليها فلا يهدم على الباني؛ لقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "لا ضرر ولا ضرار (1)"إلا أن في شهادة الشهود ضعفًا لتركهم أداء شهاداتهم ن يوم رأوا ذلك إلى حينهم هذا وأسأل الله التوفيق، وقال ابن لبابة: الذي حكاه ابن وليد عن عبد الأعلى من قوله كما حكي وقد ذكره لنا قبل ذلك.
قال القاضي:
محمد بن وليد الأموي أبو عبد الله سمع من العتبي وغيره، ولقي بالقيروان محمد بن سحنون، وبمصر محمد بن عبد الحكم وغيرهم، وكان مداهنًا متهمًا بالكذب ووضع الأحاديث، توفي في ذي القعدة سنة تسع وثلاث مائة وصلى عليه ابن لبابة وخرج الشيوخ – رحمهم الله – في هذه المسألة عن عادتهم في أجوبتهم في غيرها من الموافقة والمسألة، ومتابعة بعضهم بعضًا في الأغلب من أجوبتهم، والأكثر من فتياهم، حتى لا تكاد تجد بينهم خلافًا إلا في يسير من المسائل.
وتكلفي في هذه المسألة كل واحد منهم نقل ما قد ذكره الآخر، ولم يتعدوا في ذلك كله ما في سماع ابن الحسن، وسماع أصبغ في كتاب السلطان من العتبية، وأكثرهم تكلفًا لذلك تعنيه لنفسه فيه حتى صار مشتغلا بما لا يعنيه؛ يحيى بن عبد العزيز، فإنه حكي لقاضي جمعهم عند نفسه وكشفه إياهم عن ذلك حتى كأن القاضي قد سها عن ذلك، فذكره إياه، ثم قال: وأنا أحكي لك ما ألفيناه في كتبنا، وهو ما قد سمعته وقرأه عليك أصحابنا من رواية زونان، وما حكوا عن الفاروق وأتى بذلك عنهم، ثم قال: وأنا أحكي لك ما في أحد ذينك الكتابين قبل الباب الذي قرئ عيك أو بعده منه ما جرى من سؤال [639]
***
__________
(1) ... الحديث تقدم تخريجه.(1/485)
[640] أصبغ عن أشهب.
قال أصبغ: سالت أشهب، وساق المسألة، وهذا كله قد كان كفاه إياه من تقدمه بفتياه، وصار لذلك جوابه من الحشو الذي لا يحتاج إليه، ومن التكرار الذي لا يعول عليه، وكان يحسبه أن يختار أحد القولين أو يحمل القاضي – كما فعل أخيرًا – على اختيار أحد المذهبين إلى ما في كلامه من المحال، وقبيح نظم المقال ك قوله: وهو ما قد سمعته وقرأه عليك أصحابنا من رواية زونان وأصحابه، لم يقرؤه على القاضي، إنما جاوبوه به كتابًا ومخاطبة، فرآه هو مسطورًا من جوابهم، فلم يقرءوه هم عليه ولا سمعه هو منهم، إنما كان وجهه أن يقول: وهو ما قد جاوبك به أصحابنا مما أفتوك به وكتبوا إليك بنصه، أو يقول: وهو ما قد رأيته وقفت عليه من أجوبة أصحابنا أو ما كان في معنى هذا.
وقوله: فأحكي لك ما في أحد ذينك الكتابين قبل الباب الذي قرئ عيك أو بعده، وهذا غير معقول ولا يقع عليه تحصيل لأنه ذلك كتابين، وإنما هو كتاب واحد، وهو كتاب السلطان، وفيه سماع أصبغ وسماع زونان، ثم قال: قبل الباب الذي قرئ عليك أو بعده، فأتى باختلاط هو أشبه بالهذيان منه بالبيان.
فإن كان أراد أنه يحكي ما في سماع أصبغ، وعني بالكتابين السماعين، فما الذي دعاه إلى الشك في كون ما يحكيه قبل ما جاوب به غيره أو بعده وهو قد نقل ما في سماع أصبغ على نصه من كتابه؟ ألم ير سماع أصبغ بعد سماع ابن الحسن بعينه؟ فما له ولا دخل الشك في لفظه، ولو تتبعت جواب كل واحد منهم بمثل هذا الانتقاد حتى أنزل الألفاظ منازلها، وأطبق المعاني مفاصلها لطال الكتاب وصرنا إلى الإسهاب، وفيما نشير إليه مقتنع لأولي الألباب.
وبالجملة فإن علم أكثر القوم قليل، ونظرهم عليل، وقد تقدم كرنا لما استشهد به ابن لبابة منهم إذ ذلك عنده من كان يشاور معه، والتوفيق من الله لا يهدي إليه سواه، وقد كر ابن حبيب رحمه الله هذه المسألة في كتابه بأحسن مساق، وأعذب الألفاظ، وأبين معان مما وقع في العتبية، ولم يذكر ذلك كل واحد منهم ولا خرجوا عما في العتبية، فدل على مغيب ما في كتاب ابن حبيب عنهم وعزوبه عن ذكرهم، ورأيت نقله إذا فيه تتميم لمسألتهم، وبرهان واضح على علو قدر أصبغ ببلده وفي غير بلده، بخلاف ما توهمه فيه من جهل منزلته من هؤلاء المفتين.[640]
***(1/486)
[641] قال ابن حبيب: سألت مطرفًا وابن الماجشون عن الرجل يبني أبرجة في الطريق ملصقة بجداره، هل يمنع من ذلك ويؤمر بهدمها إذا فعل؟ فقالا لي: نعم ليس له أن يحدث في الطريق شيئًا ينتقصه به، وإن كان أبقى من الطريق واسعًا لمن سلكه، قلت لهما: فالرفوف والعساكر تظل على الطريق، هل يمنع من ذلك عاملها؟ قالوا: لا لم تزل هذه العساكر والرفوف يتخذها الناس ويظلون بها على الطريق، فلا أرى أن يمنع أحد من ذلك ما لم يضر بأحد.
قلت لهما: فالكشف التي تتخذ في الطريق، ويحفرها الرجل في الطريق بلصق جداره ثم يواريها هل يمنع من ذلك؟ قالا: إذا واراها وغطاها، واتقن غطاءها، وساواها بالطريق حتى لا يضر مكانها بأحد فلا أرى أن يمنع، وما كان من ذلك ضررًا بأحد منع.
قال ابن حبيب: وسألت أصبغ بن الفرج عن ذلك، فقال لي مثل قولهما في الرفوف والعساكر والكتف.
وقال لي في الأبرجة التي تبنى أن ذلك له أيضًا إذا كان ما وراها من الطريق واسعًا، قال لي أصبغ: وذلك أن عمر بن الخطاب قضى بالأفنية لأرباب الدور، قال لي: فالأفنية دور الدور كلها؛ مقبلها ومدبرها، ينتفعون بها ما لم تضيق طريقًا أو تمنع مارة أو تضر بالمسلمين فإذا كان لهم الانتفاع بغير ضرورة حموه إن شاءوا، ومن اخل منهم في بنيانه ما كان له أن يحميه ببروج تشد داره أو حظير حظره وزاده في داره، لم أر أن يعرض له ولا يمنع إذا كانت الطريق وراءه واسعة منبسطة، لا تضر بوجه من الوجوه ولا تضيق.
قال: وأكره له أن ابتداء أن يحظره أو يدخله في بنيانه مخافة الإثم عليه فإن فعل لم أعرض له فيه بحكم ولا أمنعه منه وقلدته منه ما تقلد وقد بلغني أن مالكًا كره له البنيان وأنا أكرهه بديا فإذا فات على ما وصفنا لم أر أن يعرض له فيه.
قال لي أصبغ: وقد نزل مثل هذا عندنا واستشارني فيه السلطان وسألني النظر إليه يومئذ، فنظرت فرأيت أمرًا واسعًا جدًا، فجًا من الفجوج، وكان له أيضًا في وجه جداره في القنا محط محظر عن الطريق يجلس فيه، ويجتمع فيه الباعة، فكسره وأدخله في بنيانه، فرأيت ذلك كله له واسعًا، وأشرت به على السلطان فحكم به، وسألت عنه أشهب يومئذ فذهب مذهبي، وقال مثل قولي.
فأي دليل أدل على علو شأن أصبغ ببلده من هذا أن لي علو على قوله في هذه [641]
***(1/487)
[642]النازلة، ويعمل فيها برأيه، ويعتمد سلطانه في ذلك على نظره وشيخه أشهب بحضرته وموافق له وقد دعوى إلى القضاء ببلده مصر، ثم أدركته مطالبة ممن حسده وغض منه بأنه مولى فلم ينفذ ذلك، وساذكر ما حضرني من فضائله بعد إكمال هذه المسألة إن شاء الله.
قال ابن حبيب: وقول مطرف وابن الماجشون فيه أحب إلي وبه أقول، ألا يكون له أن ينقص اطريق والفناء ببنيان يشد به جداره، أو يدخله في داره، وإن كانت الطريق وراءه صحراء في سعتها، لأنه حق لجميع المسلمين، ليس لأحد أن ينتقصه كما لو كان حقًا لرجل لم يكن لهذا أن ينتقصه إلا بإذنه ورضاه، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من أخذ شبرًا من الأرض بغير حقه طوقه يوم القيامه من سبع أرضين (1)".
وإنما تفسير قضاء عمر بن الخطاب بالأفنية لأرباب الدور الانتفاع للمجالس والمرابط والمصاطب وجلوس الباعة فيها للبيوعات الخفيفة في الأفنية وليس بأن تحاز بالبنيان والتحظير، وكذلك سمعت من أرضى من أهل العلم يقول في تأويل ذلفك، ثم ذلك ابن حبيب خبر عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – في هدم كير الحداد وأثرًا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في اقتطاع الأفنية أو الطرق أو الوعيد في ذلك.
وفي المجموعة روي ابن وهب عن ابن سمعان أن من أدرك من العلماء قالوا في الطريق يريد أهلها بنيان عرصتها: أن الأقربين إليها يقتطعونها بالحصص على قدر ما شرع فيها من رباعهم، فيعطي صاحب الريعة الواسعة بقدر ما شرع فيها من ريعهم، وصاحب الصغير بقديرها ويتركون لطريق المسلمين ثمانية أذرع.
قال القاضي: وهذا أشد مما أنكره منكرهم من قول أصبغ؛ لأن أصبغ كرهه ابتداء ورأى أن تركه لمن فعله إذا كان واسعًا رحراحًا فجًا من الفجوج.
وقال ابن أبي زيد في نوادره:
قال لنا أبو بكر بن محمد: اختف أصحابنا فيمن تزيد في بنيانه من الفناء الواسع أن يضر فيه بأحد، فروي ابن وهب عن مالك أنه ليس له ذلك، وقال عنه ابن القاسم: لا يعجبني ذلك. ولابن وهب عن ربيعة في المجموعة من بني مسجدًا في طائفة من داره فلا يعجبني ذلك. ولابن وهب عن ربيعة في المجموعة من بنى مسجدًا في طائفة من داره فلا [642]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه ج 7، ص 468 برقم 3195، والبيهقي في الكبرى ج6، ص 98 برقم 11312 والطبراني في الكبير ج 1، ص 153 برقم 355.(1/488)
[643] يتزيد فيه من الطريق، وقال مالك: لا بأس بذلك إن كان لا يضر بطريق الناس.
وفي كتاب ابن سحنون:
سأله حبيب عمن أدخل في داره من زقاق المسلمين النافذ شيئًا، فلم يشهد به الجيران إلا بعد عشرين سنة. قال: إذا صحت البينة فليرد ذلك إلى الزقاق ولا تحاز الأزقة وفي موضع آخر: إن كان ضرر ذلك بينًا ولا عذر للبينة في ترك القايم بلك فهي جرحه، وهذا كله لم يقف القوم عليه ولا بلغته مطالعتهم، ولو علموه لنقلوه وآثروا ذكره وسطره على تكرار بعضهم كلام بعض بما لم يحل منه بطائل ولا جيء فيه بمعنى زائد.
وقول محمد بن غلاب: والعجب من الذي اختار قول أصبغ كيف فارق عمر وهو أعجب مما تعجب منه؛ لأنه تلم بغير تدبر وأنكر قبل أن يفكر؛ لأن قول أصبغ قد رواه عن أشهب فصار مختار ذلك مختارًا لقولهما، وقد أقر ابن غالب في جوابه ذلك بإمامة أشهب، فقد سلم لمخالفه أنه اختار قول إمام هذا الاحتجاج عليه من كلامه، ولو أنكر إمامه أشهب لم يكدح ذلك في إمامه أشهب، ولا في فقهه ورسوخه وتقدمه، كما لم يكدح قوله في تقدم أصبغ عيه، ومجاراته لشيوخه في العلم وانتقاده عليهم في كثير من المسائل.
أعرب أبي غالب بذلك الكلام عن جهل نفسه، وسجل عليها باتابع كله ناعق وبارتفاع الحقيقة عنده في العلم بأصبغ وعلمه وتقدمه، وحصل في الطائفة المذمومة المذكورة في تفسير علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – الناس حيث قال: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، الحديث. وقول أصبغ وروايته عن أشهب ينضاف إليهما ما ذكره ابن سمعان عمن أدركه من العلماء، ويوشك أن يكونوا من التابعين، مع اختلاف قول مالك في هذا الأصل.
ومن استظهر بهذا كله في جوابه لا يشنع عليه مخالفة عمر – رضي الله عنه – لأن هؤلاء كلهم لم يخالفوه إلا إلى أصل، ولا اجتمعوا على القول به إلا عن علم، مع أن حديث عمر وجواب أصبغ ومن وافقه مختلفًا المعنى في الظاهر؛ لأن المعهود في طرق الأسواق وأزقتها الضيق في مساحتها فمنع عن أن ينتقص منها، وهي مجتمع للناس فهم محتاجون إلى حيث يجولون ويتصرفون.
وكذلك في حديث عمر أنه قال، حين أمر بهدم الكير: تضيقوا على الناس السوق[643]
***(1/489)
[644] والطريق، في مسألة أصبغ كان واسعًا ظاهر الاتساع، غير مضر بالمارة فكان الاستحسان عنده لمن يريد مثل هذا الطريق أن يترك لئلا يفسد عليه ما بني ويذهب إنفاقه باطلاً، ولعله كان مضطرًا إلى ذلك لضيق ساحة داره، وتقصيرها عما يقوم به في مسكنه، فالمختار لقوله على هذا غير مخالف بل مجتهد في النظر واضع للاستحسان في موضعه، والله ولي التوفيق.
ولما لم يجد ابن غاب عند نفسه علمًا يورده ولا برهانًا على مخالفة يعضده قام مقام الحصر فهذي وخرج عن ذلك المعنى، كما اعترى مصعب بن مقاتل أخو حيان بن مقاتل، خطب خطبة نكاح فحصر فقال: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فقالت له أم الجارية: الهذا دعوناك؟! عجل الله موتك.
وحضر عبد الله بن عامر على منبر البصرة فشق ذلك عليه، فقال له زياد: لا يشق ذلك عليك أيها الأمير، إنك إن أقمت أكثر من ترى عرض لهم ما عرض لك، فقيل لرجل من الوجوه: قم فاصعد على المنبر وتكلم، فلما صعد حصر فقال: الحمد لله الذي يرزق هؤلاء ويكسوهم، وبقي ساكنًا فأنزله، وصعد آخر فلما استوى قائمًا وقابل وجوه الناس وقعت عينه على صلعة رجل، فقال: اللهم العن هذه الصلعة.ومثله كثير.
وكذلك ابن غالب سئل عن مسألة لم يكن عنده فيها إلا ما قد جاوب به غيره فعدل إلى الغض من العلماء، وظن أن ما سمعه من محمد بن عبد الحكم، ويونس بن عبد الأعلى في أصبغ بن الفرج – رحمه الله – بعض منه ويكدح يه، وهيهات هيهات من ذلك، ولم يعلم أن ابن وهب قال: لا تجوز شهادة القارئ على القارئ يعني العلماء لأنهم أشد الناس تباغيا وتحاسدا، وقاله الثوري للبغي والمنافسة ومن طريق المحاسدة، قال القطان وابن مهدي: سمعناه يقول: ما أخاف على دمي إلا الفقهاء والقراء. زاد غيرهما: ممن أصحابي.
قال القاضي:
هكذا نصه في المبسوطة وأين محمد ويونس من أصبغ، وفي أصحاب أصبغ المتفقهين عليه الحالمين عنه المقدمين له مع كبار أصحاب مالك من يساويهما أو يشف عليهما، مثل عبد الملك بن حبيب، ويحيى بن إبراهيم بن مزين، بالأندلس، وابن حبيب عالمها، كما قال ابن لبابة، بل قاله عنه سحنون لمانعي له ابن حبيب قال: مات عالم بالأندلس، بل والله عالم الدنيا. ذكره الزبيدي عنه في كتاب النحويين له وهو يقول في غير مسألة من [644]
***(1/490)
[645] الواضحة إذا كان فيها تنازع: قال هذا كبار أصحاب مالك/ المغيرة وابن دينار وأشهب وفلان وفلان وأصبغ فيجعله معهم ويسميه في جملتهم.
ومن كبار أصحابه المشهورين محمد بن إبراهيم بن المواز عليه وعنده تفقه على جلالته وتدقيقه للمسائل وتنقيحه، وأبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم الأندلسي صاحب الثمانية معولة فيها عليه وعلى مطرف وابن الماجشون، ولو لم يحمل عنه إلا بعض هؤلاء لكان منقبة لا يخفي سبقه وتقدمه معها وأني للمذكورين مثل هذه الدرجة.
اما محمد فإن ابن حبيب وابن المواز قد ساويا بين أبيه وأصبغ في حملهما عنهما وتفقهما عندهما، ومحمد أكثر علمه عن الشافعي محمد بن إدريس، حضه أبوه عبد الله بن عبد الحكم على الاختلاف إليه والأخذ عنه والتعويل عليه ومع ذلك فمحمد بن عبد الله فقيه كبير محسن، وأما يونس بن عبد الأعلى فلا ذلك له في هذا المعنى، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقال فضل بن سلمة راسخ المذهب في وقته وبعده: أخبرني يوسف بن يحيى المقامي، عن عبيد بن سعيد، قال: قدمت على أصبغ بن الفرج، فلما حان توجهي إلى المدينة كتب معي إلى عبد الملك بن الماجشون يسأله أن يجيز له كتبه، فلما قدمت عليه أعلمته بكتابه إليه وهو يومئذ قد كف بصره، فقال لي: اقرأه فلما قرأته. قال لي: اكتب إليه: أشخص للعلم إن كنت تريده فإنما العلم لمن شخص إليه. قال: فذاكرته حال أصبغ، فقال لي: ما أخرجت مصر مثل أصبغ، قال: قلت له: ولابن القاسم؟ قال: ولا ابن القاسم. قال عبيد بن سعيد: كلفًا من ابن الماجشون بأصبغ.
قال فضل: وأخبرني يوسف، عن يحيى بن إبراهيم، قال: لما قدمت على أصبغ سلمت عليه وهو محتب، فأخرج يده من تحت حبوته، وكنت أعرف مروءة أصحابنا بالأندلس، فقلت في نفسي: لقد ضاع سفري إلى هذا الرجل، ثم جلست فلما خاض في العلم، قلت في نفسي: ما يضرك لو أخرجتها على طوقك، يعني يده.
وقال يوسف: قال ابن مزين: أو غيره من أشياخنا: مرض أشهب فدخل عليه عواده، وفيهم أصبغ، فلما خرج من عنده قالوا: يا أبا عمرو من لنا بعدك؟ قال: هذا الخارج عنا، وأخبرنا يحيى قال: كان ابن وهب يقول: يا أصبغ، لولا أن يكون بدعة لسورناك كما تسور الملوك فرسانها. [645]
***(1/491)
[646] قال القاضي:
هذه هي الشهادة القاطعة لتعظيم أصبغ لا قول حاسد باغ، وكله غاب عن تحصيل ابن غالبن ولم يكن في علمه، وقال في جوابه: ورأيت أصحابنا قالوا بهدم الحائط إلا أنهم شرطوا. حتى يذرع ما اقتطع. وأنا أقول باجتهادي: أن الحائط مضروب في غير حقه بإجماع من الشهود، فهدمه واجب إذ صار جسمه أجمع موضوعًا في غير حقه، ثم يكون التذريع من بعد مصحف اللفظ والمعنى.
فأما اللفظ فقوله: حظروا الهدم حتى يذرع لأنهم لم يذكروا تذريعًا، إنما قال بعضهم: يهدم بعد سير الشهود إلى الموضع وحيازتهم إياه وهذا هو الفقه بعينه والعمل الذي لا يجوز الحكم بغيره، كما أنه لا يقضي القاضي بما شهد فيه وثبت عنده من الأصول للمشهود له إلا بعد حيازة الشهود لذلك، وبعد الشهادة والحيازة يكون الإعذار وبه جرى العمل، وقد تقدم هذا في صدر الكتاب، والحمد لله، وأصلح هذه الأجوبة جواب أبي صالح، ومن وافقه.
ذلك هدم الحائط على الحاجب ابن السليم:
إنما تركنا التسجيل في الحائط الذي هدم سعيد بن السليم خروجه به على المحجة، فإن ذلك شيء اختلف فيه أهل العلم علينا، فذهب بعضهم إلى ألا يهدم، وكثر في ذلك بالعلل، فلما اختلفوا كان عند القاضي في علمه أنه قد خرج ولا يعرف القدر، ولمي يجز أن يحكم بعلمه فلما شهد به عنده رجلان يعرفهما إلى علمه، وزادا في معرفة الحيازة رأي إمضاء الهدم.
والأخذ في ذلك بقول من رأى هدمه اجتهادًا منه، ورد ما أخذ من الطريق وترك التسجيل لقول من لم يرد الهدم فتوسط أقاويلهم، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "خير الأمور أوسطها (1)" وجائز للحكم أن يتوسط فقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه أتى بامرأة زنت فكشفها فقالت: زنيت بمرغوش بدرهمين، تستهل بالزنا مع رجل سمته بمرغوش فكشف من حضره، فقال له علي وعبد الرحمن بن عوف: نراها تستهل بالزنا فعليها الرجم، فقال [646]
***
__________
(1) ... ضعيف: الحديث أخرجه البيهقي في الكبرى ج 3، ص 273 برقم 5897، وأبو نعيم في الحلية ج 2، ص 286.(1/492)
[647] لعثمان: ما تقول؟ فقال: قد أفتاك أخواك، فقال له: لتقولن، فجلس على نفسه وكان مضطجعًا فقال: تراها تستهل بالزنا، كأنها لا تعرفه وإنما الحد على من عرفه، فقال عمر: أجل إنما الحد على من عرفه وضربها مائة قاله محمد بن غالب.
ركوب القاضي مع الفقهاء إلى معاينة حائط فيه تنازع:
وقنا مع القاضي – وفقه الله وسدده – إلى الدارين اللتين فيهما عيسى بن دينار وأمينة وحواء ابنتا إبراهيم بن عيسى في الترس الحاجز بين داريهما بغربي دار المرأتين، وبشرقي دار ابن دينار، فرأينا عضادة في جبهة الترس إلى الجوف على الشارع، وعلى العضادة على الحائط الذي من دار المرأتين على نحو الشير.
ورأينا هذه العتبة عتبة موصولة بعضها بالية إلى ناحية دار المرأتين وقد خرجت الجديدة نحو الترس الذي تنازعا فيه على قدر العضاة أو خارج قدر أربع أصابع دون العتبة البالية إلا أنها أخذت عرض الترس، وفي طرف هذا الجديدة الكلب الذي يجب عليه الرف، وسمعنا الشهادات الواقعة للمرأتين بأن الترس من داريهما إلى ما رأينا عيه من رف خارج على الترس نحو الذراع، يدل على أن الترس للمرأتين مع عقد الطابية العليا التي تحت السقف.
فيجب – والله الموفق للصواب – أن يترك عتبة ابن دينار الباية كما هي، وينزع الكلب الخارج الذي فيه الترس الذي شهد فيه، ويقطع من العتبة الجديدة بحيال الترس لا يزاد عليه، ويدخل فه مكان الخشب طوب، ولا تمنع المرأتان من الانتفاع بحائطهما في أعلاه وأسفله.
ولا يمس من عتبة ابن دينار البالية شيء إلا أن يكون عند ابن دينار في الشهود الذين قطعوا بأن الترس للمرأتين مدفع، فينظر القاضي وفقه الله في ذلك بما يريده من الحق إن شاء الله.
فإن كان في مدفعه ما يسقط الشهود ويستحق به الترس لإقامته البينة على ذلك، ولم يكن للمرأتين في ذلك مدفع حكم بالترس لابن دينار، وإن لم يكن في مدفعه ما يستحق به الترس ويسقط به الشهود فإن للمرأتين حجة في الترس بالعقد الظاهر فيجب لهما مع أيمانهما. قال بذلك عبيد الله بن بيحيى، ومحمد بن لبابة، ومحمد= بن وليد وسعد بن معاذ، ويحيى بن سليمان، وأحمد بن يحيى. [647]
***(1/493)
[648] قلتم أكرمكم الله: أن المرأتين تستحقان الترس بعد أيمانهما، مع العقد الظاهر، ولم يأت ابن دينار بأحد يشهد له على الترس ولا بمدفع إلا ما قد عرفتم في أهل المسجد وشكيته بهم، وقد انصرمت الآجال في أهل المسجد وغيرهم، فهل يجب نزع ما ذكرتم في كتاب المشورة من الكلب ووصل العتبة الجديدة وما عليها من الرف على ما لخصتم في كتاب المشورة لو لم يشهد للمرأتين شهود من غير أهل المسجد مع يمينهما والعقد الظاهر الذي ذكرتم؟ أم لا يجب ذلك إلا بالبينة التي شهدت من غير أهل المسجد؟ أوضح لنا رحمك الله ما أرادته من ذلك.
قال محمد بن لبابة:
فهمت – أكرم الله القاضي، والشورى صحيحة إن تدبرتها وإنما قلنا: إذا تمت للمرأتين شهادة الشهود الذين شهدوا تم لهما ما قلنا من نزع الكلب في الوصل، وإن سقطت شهادتهم بما شكي من عداوتهم له وتظاهرهم عيه عادت المرأتان في الفتيا إلى ما قاله أهل اعلم أن الترس الذي له العقد، وبقول ابن الماجشون وأشهب: مع أيمانهما.
ويترك ما وجد فيه كما وجد لا يقلع، وليكن – أكرمك الله – رأيت من الرف والعتبة دليلا واضحًا ما يثبت به للمرأتين الترس ولا يقلع ما وجد فيه لابن دينار إلا ببينة تقطع، إلا فحسب الفريقين أن يتركوا على أن الترس للمرأتين وفيه لابن دينار خشب، ونسأل الله توفيقك وتسديدك على ما قلدك.
من أحد درجًا في داره وبلصق جاره وأدخل فيه خشبًا ومطبخًا يؤذيه دخانه:
قام عند الوزير صاحب الأحكام بقرطبة محمد بن الليث بن يحيى بن جعد بن مضح، وهند على إشراق مولاة محمد بن حي وقالا: إنها أحدثت في دارها بلصق الحائط الجوفي من دارهما التي بداخل مدينة قرطبة بالموضع المعروف بالتحيل بحومة مسجد أبي رباح درجًا يصعد عليه إلى غرفة لها وأن ذلك يضر حائطهما، وإنها أدخلت أطراف عتبتين في غراب مجلس دارهما وأطراف فرش غرفة أحدثتها لمطبخ دارها، وقالا: إن دخان هذا المطبخ يؤذي ساكني دارهما.
وأنكرت إشراق الأحداث، وأقرت لهما بالحائط، وثبت عنده إقرارهما وأن الغراب من حقوق دارهما وأن ملكهما مع سائر الدار لم يفوتا شيئًا من ذلك في علم شهدائه وحيز ذلك، وشهد عنده ابن الندى أنه يعرف الحائط المذكور منذ نحو عشرين عامًا لا درج [648]
***(1/494)
[649] بجوفيه وأن الغراب لمي يكن يتعلق منه فرش غرفة ولا العتبتان، وشهد عنده آخر بمثل ذلك في الفرش والعتبتين وقبلهما، وحازا ما أنفقا عليه وأعذر فيه إلى إشراق فأظهرت عقد استرعاء، فيه أن شهوده يعرفون الدرج والفرش والعتبتين على الهيئة التي هي عليها منذ نحو ثلاثين سنة وشهد به شهيدان، وقبل أحدهما وتوقف الآخر وشاور في ذلك.
فجاوب ابن عتاب:
قرأت ما خاخبتنا به وأدرجت طيه، وإذ قد ثبت عندك ما ذكرت، ولم يثبت عندك ما أظهره من إيه أعذرت مما ذلك في عقد الاسترعاء الذي شهد عندك فيه شاهداه وعرف أحدهما ولم تعرف الآخر لالقضاء بتغير ما أحدث واجب، وإزالته وإعادة الحال على ما كانت عليه أولا لازم، واليمين تضعف عن يحيى وهند، فأنفذ ذلك من نظرك موفقًا للصواب إن شاء الله عز وجل.
وجاوب ابن القطان:
يا سيدي، تصفحت خطابك وما أدرجته والجواب المتقدم على ذلك صحيح إلا أن اليمين على القائمين مختلف فيها على ما اختلف فيها أهل العلم في البينة إذا لم تقبلن هل هي شبهة في وجوب اليمني أم لا؟ فالذي رواه ابن القاسم عن مالك، أنه ليس بشبهة، وروى أن ذلك شبهة.
وأرى في هذه المسألة أن ذلك شبهة، واليمين واجبة، ثم يغير المحدث والله عز وجل الموفق للصواب، والملهم إلى الرشاد بفضله.
وجاوب ابن مالك:
بسم الله الرحمن الرحيم، يا سيدي ووليي، ومن وفقه الله وسدده وأرشده فيما تقلده شهادة ابن الندي وصاحبه إذا لم تفد فائدة عندي ولا بأثير لها في رأي بلا شك والاسترعاء الذي يه دافعت إشراق لم يثبت، وقد ثبت الجداران لابني مضم، فالبينة على من أدعى واليمين على من أنكر، والمدعية إشراق تكلف البينة بقدم ذلك الضرر، وقد عجزت عنها، فاليمين على القائمين يحلفان بما ينفي ذلك عنهما ويزاح ذل عن حائطهما ولهما رد اليمني. حملنا الله وإياك على الصواب برحمته والسلام.
قال القاضي:
تكلمت مع ابن مالك بعد ذلك في وجه سقوط شهادة شاهدي القائمين، فقال: [649]
***(1/495)
[650] إنما رأيت سقوط شهادتهما لأنهما شهدا بمدة طويلة من آخر معرفتهما الجدار لا عتبتين ولا فرش فيه، ويحتمل أن يكون الإحداث من حينئذ فكان يستحق بالقدم؛ إذ ليس من الضرر المتزايد كدخان الفرن وضرر الدخان وشبهه إن أثبت القائمين علمًا بذلك في هذه المدة كلها، قلت له: فإن القائم: لا أدي متى أحدث، قال: يحلف على ذلك أنه محدث ولا أدي متى أحدث.
وسئل ابن القطان عن اليمين المذكورة في جوابه كيف تكون؟ فقال: يحل القائمان في مقطع الحق: إن ذلك محدث وإن إشراق أحداثته، ثم يهدم عنهما، وسكت عن ذلك الدخان إذ لم يثبته القائمان، وسيأتي الكلام فيه وفي غيره إن شاء الله عز وجل.
من ادعى أن هذا بنى على حائط متعديًا:
فهمنا – وفقك الله – ما قاله أحمد بن محمد بن الوليد بن غانم، من تعدى أحمد بن قاسم عليه في حائط له، وامتداد أعوانه إلى البنيان على حائط، فالذي نرى أن يأتي هذا القائم أحمد بالبينة أو بشاهد عدل أو شبهه يجب بها عقل هذا الباني حتى يتم عندك إثبات ما ذكره. قال بذلك عبيد الله بن يحيى، وقال: وإن أرسل القاضي لامتحان ذلك بمن يثق به مجس، وقال بذلك ابن لبابة، وسعد بن معاذ، وابن وليد، ويحيى بن سليمان، ويحيى بن عبيد الله، وأحمد بن بيطر، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن.
قال القاضي:
محمد بن عبد الملك بن أيمن من أهل قرطبة، فقيه مشاور، حافظ لمذهب مالك، سمع بالأندلس من ابن وضاح وغيره، ورحل فدخل الأمصار وحمل عن جماعة من علمائها، وقد استغنى به القاضي الحبيب ابن زياد في ولايته الأولى عن ابن لبابة وأبي صالح ودارت الفتى يومئذ عليه، وتوفى في شوال سنة ثلاث وثلاثين وثلاثة مائة وكان مولده مستهل ذ الحجة سنة اثنين وخمسين ومائتين.
هدم سعيد بن مجاهد لبيتي محمد بن خالد:
شهدت بينة لمحمد بن خالد أنهم حضروه، يقول لسعيد ابن مجاهد: ما دعاك لنقضي بيتي الذي بقرية فلان، وأخذ خشبهما وعتبهما وقرامدهما؟ فقال سعيد أبوك أذن لي في ذلك، ولم يدع شيئًا غير هذا الإذن الذي زعم، وثبت ذلك من قوله عند السلطان وأعلمه بثبوته، فادعى أن عنده مدفعًا لما لم يشهد به عليه، فضرب له آجالاً واسعةً وتلوم عليه [650]
***(1/496)
[651] وانصرمت الآجال، ولم يأتي بشيء فعجز.
ودعاه الخصم إذ ظهر عجزه إلى رد ما نقض من ذلك وإعادته إلى مثل حالته، وأنصف ما نقص ليقام بتلك الصفة أو يأخذ بقيمة ذلك فنكل عن الصفة وادعى الجهل بها لددًا وتركًا عن الحق، وزعم أنه باعه ولم يحضر نقضه، فدل هذا من قوله أيضًا على باطله ومحكه وهل يبيع الإنسان إلا ما تثبتت معرفته ولا يجهله؟!
فهل ترى رحمك الله للسلطان أن يجبره ويشتد عليه في الصفة بالحبس والجلد، ثم يحلفه عليه إذا كان المتعدي عليه جاهلا بالصفة، فقد رأى مالك في الخصم إذا كان ملدًا ظالمًا أنه يجلد، فيكيف وقد ظهر من هذا التعدي واستحق قبله مع لدده لادعائه الجهل لما يعرف أنه يعرفه، ولا يقع اسم الجلد إلا على الظهرز
الجواب:
في هذا المتعدي الجاهل في صفة ما تعدى فيه واستهلكه أن يقال له: يصح في معقول كل سامع منك ما حكيت من التجاهل أنك لا تنقض إلا ما أحطت به بعيان، وهربك عن الصفة لدد وللملد حكم، قال به أهل العلم من حمل السوط عليه حين تبين لدده فإن وصف صفة وازدجر بالأدب عن التجاهل غرم قيمة ما استهلك.
وإن مضى في تجاهله ولم يزعه عن باطله حمل التأديب عليه وكان المتعدي عليه يحيط بمعرفة ما استهلك له وصف ذلك وأغرم هذا قيمة الصفة مع يمينه على الصفة، وإن ادعى أيضًا جهلا في الصفة فهو في ذلك أعذر من المتعدي أقرب عهدًا بما تعدى فيه.
ولست أقول أن هذا تعذر لمعنى واحد أرى عليه أدبًا في تجاهله بما يشهد الذهن على معرفته، وأدبًا بما اجترم من التعدي الذي لا يجب أن يسوغه أحد، وإذا تجافى الحكم عن تغيير مثل هذا ذهبت الحقوق، واجترأ الملد على إصراره على اللدد، وإذا جهلت الصفة بتجاهل الفريقين أخذ له أوسط قيمة ما يستدل عليه من وجه لمعاينة الموضع ومعرفة قدر ما كان فيه وإن كانت العين غائبة؛ لأنه إذا أخذ في ذلك بأوسط القيمة فكأن العين قومت إن شاء الله.
قال بذلك كله محمد بن غالب، وأيوب بن سليمان، وقال به يحيى بن عبد العزيز إلا ما ذلك من السوط فقد يكون الأدب بالحبس وبما هو دون السوط، وقال عبيد الله بن يحيى إلا أن يتبين للقاضي عن لدده ما يجب ضربه بالسوط، وقال ابن لبابة لا أقول بشيء [651]
***(1/497)
[652] في هذه المسألة.
قال القاضي:
قد تقدم من ذلك الروايات في عقوبة الملد ما فيه كفاية إن شاء الله.
فيمن صب ماء جداره على حائط جاره:
فهمنا – وفقك الله – ما قاله سليمان وأحمد مما أراده مشتري العرصة التي تجاور جنان نسائهما من رفع حائط على حنان نسائهما وكراهة نسائهما لذلك، وما ذلك عن المشتري من أنه يقول: إن العرضة كانت مبنية، وكان ماء بنيانها ينصب لي الجنان، فالذي يجب أن يمنع المشتري من صب ماء حائطه في هذه الحنان حتى يثبت أن ذلك حق له واجب تشهد به البنية، وذك بعد أن يثبت توكيل نسائهما على المخاصة عنهما يه. قاله ابن لبابة.
مسائل في الرفوف:
كتبت إلى شيوخنا بقرطبة في شعبان سنة ستة وخمسين وأربع مائة أسألهم عن دارين متجاورتين لرجلين، وبين الدارين حائط لأحد الرجلين، وله على الحائط رف، وقد خرجت أكلبه إلى داره، فأراد صاحب الرف أن يبني على أطرافه الأكلب حائطًا بأجر أو غيره، ويرفعه لحجة أو غرفة يريد ابتناءها فمنعه صاحب الدار، وقال الهواء لي لأنه لإزاء هواء داري، وإنما لكل إخراج الرف إلى ناحيتي لا غير؛ وكيف إن أراد صاحب الرف إزالته ورفع حائطه وإعادة الرف عليه على ما كان، هل له ذلك؟
فكتب إلى ابن عتاب:
ليس لصاحب الرف ما أراد من البناء على أطراف الأكلب ويمنع منه، وإنما يملك الهواء من ملك قاعته، وله رفع الحائط وإعادة الرف عليه على نحو ما كان في الخروج.
وكتب ابن القطان:
لصاحب الرف أن يبني على أطراف أكلبه ما شاء ولا يمنع من ذك ولا من أعلى حائطه من غير ضرر إلا من الريح والضوء وشبهه فليس بضرر.
وكتب ابن مالك:
يمنع صاحب الرف مما ذهب إليه إلا أن يأذن له معترضه.
وكانت جرت بطليطلة بيني وبين موسى بن السقاط قاضي وادي الحجارة، [652]
***(1/498)
[653] وجوب ابن القطان عندي أشبه، والله أعلم بالوصواب، وفي كتاب ابن سحنون من سؤال حبيب: وعن رف لحظور خارجة الرجل إلى دار جاره، ولا قصب عليه فأراد أن يضع عليه القصب فمنعه جاره، قال سحنون: ليس له منعه وإنما وضعت الحظور لهذا، وقال فيمن له رف خارج إلى دار جاره فبنى جاره جدار الرف جاره، وأراد أن يعلي بناءه على الرف: ليس له أن يبني فوقه؛ لأن صاحب الرف قد مل سماءه.
قال القاضي:
وهذه تدل عندي على ما ذهب إليه ابن القطان، وقال سحنون في جواب حبيب، من أراد أن يطر حائطه من دار جاره فمنعه، قال: ليس له منعه أن يدخل داره فيطل حائطه، وكذلك لو قلعت الريح ثوبًا عن كتفي رجل فألقته في دار رجل لم يكن له أن يمنعه من أن يدخل فيأخذه أو يخرجه إليه.
تعليق البنيان من حيطان الجوامع والمساجد:
كتبت بذلك في شعبان سنة ست وخمسين إلى قرطبة: هل يجوز تعليق حوانيت من حيطان جامع بلدة وكون الحوانيت محبسة عليه أم يترك ما حوله رحابًا؟ وهل لمن جاور مسجدًا أو جامعًا أو يغرز خشبة في جداره قياسًا على جدار جاره؟.
فكتب إلى ابن عتابك
كان الشيوخ – رحمهم الله – لا يمنعون من العليق من المساجد إذا كان التعليق لا يضر بها واتصلت بالدور والدور بها كان ذلك لدار المسجد أو لتلك الدار ولمن جاورها أن يغرز خشبه فيها إذا لم يضر بها ولا يمنع من ذلك.
وأما الجامع فلا تعلق منته جوانب إذا كان ما حوله فناء له لأنه منع للصلاة عند ضيقه أو لإمساك دواب المصلين وفيه تقييد لحاله، وهذا شأن الجوامع، وكان من حجة الشيوخ في ذلك حديث النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره (1)" [653]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه مسلم ج 3، ص 1230 برقم 16099، والترمذي ج 3 من 635 برقم 1335، والبيهقي في الكبرى ج 6، ص 68 برقم 11155، والإمام الشافعي في مسنده ج 1، ص 224، والإمام الشافعي في مسنده ج1، ص 224، وأبو داود ج 3، ص 314، وابن ماجه ج 2، ص 7839 برقم 2335، والإمام أحمد في مسنده ج 2، ص 230، برقم 71545.(1/499)
[654] الحديث. فحملوا أمر المسجد على ذلك ولو جاور الجامع دار رجل لكان الحكم فيه كذلك، فإذا لم يجاوره أحد فلا يعلق منه شيء، ولم يتكلم الشيوخ في الجامع وإنما ذلك اجتهادي على قولهم والله أسال التوفيق.
وقال ابن القطان:
منع من غرز الخشب في جدار المسجد إن شاء الله عز وجل.
وقال ابن مالك:
لا تعلق الحوانيت في جدار المسجد بحال، ولا لمن جاور مسجدًا أن يغرز خشبة في جداره البتة، وذلك بين والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
من ابتاع دارًا أحدث عليها باب أو غيره فأراد مخاصمة محدثه فيه:
كتب من يباسة قبل سنة أربع وأربعين وأربع مائة في رجل له دار ظهرها في زقاق لقوم غير نافذ، ففتح الرجل باب داره إلى هذه الزقاق، وبقى كذلك نحو ثلاثة أعوام، ثم باع القوم دورهم فأراد مبتاعها إغلاق هذا الباب المحدثن واحتج بأن ذلك قد كان للبائعين منه القيام به وأنه تدخل محلهم.
فجاوب ابن عتاب:
ليس للمبتاعين فيه كلام ولا اعتراض وإنما الكلام فيه للبائعين، فإذا لم يفعلوا حتى باعوا فهو رضي منهم إن شاء الله عز وجل.
وقال أحمد بن رشيق: فقيه المرية مثله.
وقال ابن مالك:
روى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ أنه لا كلام للمشتري في ذلك إلا أن يكون البائعون باعوا، وقد خاصموا في ذلك وعلى أن ليس له ذلك تدل المدونة يوجد ذلك في النكاح الأول منها.
قال القاضي:
يريد مسألة العبد ينكح بغير إذن سيده، ثم يبيعه ولم يعلم بنكاحه، فيريد مبتاعه فسخ نكاحه. قال ابن القاسم: قد سمعت عن مالك فيه شيئًا ولست أحقه وأرى أنه ليس لمشتريه أن يعترض فيه إلا إنه مخبر في إمساكه كذلك، أو رده على بائعه فإن رده فلبائعه فسخ ذلك النكاح أو إجازته. [654]
***(1/500)
[655] وفي العتبة في سماع اشهب وابن نافع عن مالك في كتاب الأفضية ما يدل على خلافه، وكذلك في وثائق المعروف بالملون: أن للمبتاع القيام تعلى محدث الضرر على الدار التي ابتاع وكأنه وكيل للبائع في ذلك.
وفي مسائل حبيب بن نصر: سألت سحنون عن الزنقة غير النافذة لأقوام، وفيها أبواب دورهم، ودبر دار رجل إليها وليس له فيها إلا حائط دبر داره وكيف قديم في الزنقة يلصق هذا الحائط، وللكنيف قناة تخرج من هذه الدار التي ليس لها في الزنقة إلا هذه الكنيف، وهو مغطي والقتاة لم تجر فيها شيء منذ زمان، فأراد صاحب الدار فتح هذه القناة إلى الكنيف، ويجري فيها العذرة فمنعه أهل الزنقة، فقال: ليس لهم منعه إلا أن يدعو الكيف فيكشف عن دعواهم.
فأما إن لم يدعوه فهو لصاحب الدار بهذه الرسوم والآثار التي تدل على أنه لصاحب هذه الدار، قلت له: فإن كان قد باعها فقام المشتري يطلب كنس الكنيف وعمارته فقال له من ذلك ما كان للبائع صاحب الدار ويقوم مقامه، وهذا مثل ما في الوثائق وقال فضل على مسألة ابن حبيب: انظر هل يجوز هذا البيع على قول غير ابن القاسم على أن يكون على خصومته.
إحداث فرن بقرب دار:
أثبتت عاتكة عند الوزير القاضي بقرطبة أبي علي حسن بن محمد بن زكوان أن عبد الرحمن أحدث بقرب دارها فرنًا يؤذيها دخانه، وأعذر إليه فعالج ضرر قطع الدخان عنها، وأثبت ذلك عند القاضي، فاعترضت عاتكة بأن كون الفرن بقرب دارها ضرر عليها؛ لأنه يحط من ثمنها، وأثبت ذلك فجمع القاضي الفقهاء إلى مجلسه وشاورهم في ذلك.
فأفتى ابن عتاب:
بأنه لا كلام لعاتكة فيما ذكرته من حطيطة ثمن دارها لقرب الفرن منها إذ قد ارتفع ضرر الدخان عنها، قال لي ابن مالك: ووافقته على ذلك.
وأفتى أبو مطرف بن جرج وغيره:
أن ليس لعبد الرحمن أن يحدث على عاتكة ما يعيب دارها، وافقه على ذلك محمد بن سعيد أبي زعبل، فلما افترقوا من عند القاضي كتب إليه أبي زعبل محتجًا لقوله، وقول [655]
***(2/1)
[656]ابن جورج ومن وافقهما: سيدي ووليي وعدتي، ومن أدام الله نفعه، وأبقى بركته، جمعت الفقهاء في دارك عمرت بك، وشاورتنا فيما ثبت عندك لعاتكة من ضرر الفرن الذي أحدثه عبد الرحمن متصلا بدار عاتكة، وثبت عندك أن ذلك مضر بدار عاتكة، ثم أثبت عندك عبد الرحمن أنه قطع الضرر عنها.
ثم أثبت عندك أيضًا عاتكة عقدًا ثانياً أن الفرن المحدث بلصقها ضرر وعيب كبير لاحق بدارها يحط من ثمنها، لقرب الفرن من دارها ولما يتوقع من وقوع النار في الأفران على العادة المفروفة فيها، وأنها لا تجد إن ذهبت إلى البيع من يبتاع منها الدار إلا بحطاط كثير من ثمنها.
فجاوبه فيه الفقهاء أبو المطرف بن جورج – سلمه الله – ومن تبعه على مذهبه: أن ليس لعبد الرحمن أن يحدث على عاتكة ما يعيب دارها، ويوقعها تحت ضرر ما تتوقع في الأفران من النيران على العادة في ذلك، واحتجوا فيه بقول الله تعالى: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} (الأعراف: من الآية 85) وبقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "لقد أوصاني بالجار حتى كاد أن يورثه (1)" ومن ذهب إلى أن يحط من ثمن داره بإصلاح ما له فهو غير آخذ بما أمر الله به، وحض الرسول عليه السلام عليه.
ومما يبين ما تقاله الفقيه أبو المطرف، ومن تبعه على قوله ما روي عن الرسول عليه السلام من قوله: "لا ضرر ولا ضرار (2)" والضرر عند أهل العلم أن تضر نفسك لتضر بغيرك، فكيف بمن أصلح مال نفسه بإفساد مال جاره وقد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، في حديث طويل في حجة الوداع، إذ جعل حرمة الدماء والأموال سواء، وحرمها وضمنها في العمد والخطأ، فكيف بمن قصد فساد مال أخيه المسلم بإصلاح ماله! ومن هذا وشبهه عن الرسول كثير.
وقد روي عن مالك في رجل وضع جرة زيت حذاء باب رجلن ففتح الرجل بابه ولا علم عنده بالجرة، وقد كان مباحًا له وغير ممنوع أن يفتح بابه ويتصرف فيهز فانكسرت الجرة فضمنه مالك من قول الرسول أنه تضمن أموال الناس بالعمد والخطأ، [656]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه البخاري ج 5 من 2239 برقم 5668، ومسلم ج 4، ص 2025 برقم 2624.
(2) ... الحديث تقدم تخريجه.(2/2)
[657] فكيف بمن قصد إفساد مال غيره بإصلاح مال نفسه! وحديث الضرر، وحديث حجة الوداع غير منسوخي العمل بهما في جميع الأمصال على ما تقدم من التفسير، فيما فسره أهل العلم.
ومحال غير مسموح أن يعارض مثل هذين الحديثين وما قبلهما من القرآن من قوله: {ولا تبخسوا الناس اشياءهم} (الأعراف: من الآية 85) من رأى أحد من الفقهاء أو يتأول عيهم غير ما جرى في كتاب الله وسنة رسول (صلى الله عليه وسلم)، فهم رضي الله عنهم كانوا أعلم بما أراد الرسول بالحديثين، وفسروا معانيهما، ومن تأويل عليهم غير ذلك فهو غير مصيب.
وذكر بعض الفقهاء المخالفين لأبي المطرف ومن وافقه أن مالكًا قال فيمن بني جدارًا في داره ورفعه حتى منع جاره الشمس والريح: أن ذلك جائز، وقال: هذا يرد ما قاله من قال: أن ليس لعبد الرحمن أن يبني فرنًا بقرب دار عاتكة إذ يحط ذلك من ثمنها ويعيبها، وليس كما قال لأن غيره أثبت عندك أن العيب لاحق بدارها لقرب الفرن منها ولما يتوقع من النيران.
ومن أقام حائطًا في دار الإلب من أمرالحائط السلامة، اللهم إلا إذا كان الحائط غير حصين يحذر تهدمه وإفساد دار جاره، فيجبر على دفع الخوف عن جاره وما يفسد به داره، كما قال مالك في مثل هذا الحائط، وفيمن أراد أن يلقي نارًا في شعراء أرضه، فقال: إن كان غررًا أو خوفًا على أرض جاره منع من ذلك. فأين فرق بين دار وأرض؟ ولولا أن يطول الكتاب لاجتلبت من قول أهل العلم في هذا كثيرًا.
ولما ورد هذا الكتاب على القاضي أرسل به إلى الفقيه أبي عبد الله بن عتاب ورأيته عنده في أسطوان داره، فكتب إلى القاضي مجاوبًا عنه مستدلاً لصحة قوله بجواب نسخته: عصم الله القاضي بتقواه، ووافقه لما يحبه ويرضاه، أعلمتنا في مسألة الفرن المحدث الذي قامت به عاتكة عندك فيه، وذكرت أن دخانه يضر بدارها، أنه قد ثبت عندك أن إحداثه كان قبل الشورى بأشهر ستة أو سبعة، فأوجبنا عقله الفرن وقطع عمارته إلى أن يثبت عندك يه، وذكرت أن دخانه يضر بدارها، أنه قد ثبت عندك أن إحداثه كان قبل الشورى بأشهر ستة أو سبعة، فأوجبنا عقلة الفرن وقطع عمارته إلى أن يثبت عندك محدثه ما ذلك من قطع ضرر الدخان.
فعرفتنا بذلك أنه ثبت عندك أن ضرر الدخان الذي قيم بسببه قد ذهب عن دار [657]
***(2/3)
[658] عاتكة القائمة، وأنك أعذرت إليها في ذلك، فأثبتت عندك أن إحداث الفرن بقرب دارها عيب كبير يحط كثيرًا من ثمنها؛ إذ لا يقدم كثير من الناس على ابتياعها بسبب، ولا يجب – وفق الله القاضي – أن يراعى هذا ولا يتلفت إليه بعد ثبوت انقطاع ضرر الدخان.
والضرر فيما أجمعوا عليه من ذلك وما اختلفوا فيه منه مجمعون على أنه إذا قطع الضرر محدثه وزاله فلا يعرض له، ولا أعلمهم نصوا في انحطاط ما يحدث عليه الضرر إذا ارتفع الضرر تكلموا فيه، وفي تركهم النص عليه دليل بين أنه لو كان ذلك مما يجب أن يراعي ومنع بسببه محدثه لبينوه وذكروا، إذ قد تكلموا في معاني الضرر وأقسامه بما سطروه في كتبهم، وفي مسائلهم ما يدل على ذلك مما لا يجب أن يراعي.
والذي أقول به وأتقلده من مذهبهم قديمًا: أن جميع الضرر يحب قطعه إلا ما كان من رفع بناء بمنع هبوب الريح وضوء الشمس، أو ما في معناهما فإنه لا يجب قطع ذلك، إلا أن يثبت أن محدثه قصد به الضرر بجاره، وكذلك كل ضرر بؤول إلى انحطاط قيمة ما يجاوره لا يتعدى الضرر المحدث إلى شيء غير انحطاط القيمة الخاصة.
والدليل على صحة ما ذكرته من ذلك: ما وقع في كتاب حريم الآبار من المدونة، وهو: قلت: أرأيت الرجل يرفع بنيانه فيمنعني الريح التي كانت تهب في داري والشمس أيكون لي أن أمنعه من أن يرفع بنيانه إذا كان ذلك مضر لي في شيء من هذا الوجوه؟
قال: لا يمنع من هذين، وإنما يمنع إذا أحدث كوًا وأبوابًا يشرف منها، ولم نسمع من مالك في الشمس والريح شيئًا، ولا يمنع من ذلك.
وفي كتاب القسمة من المدونة نحو هذا، وزاد قلت أرأيت إن كانت لي عرصة إلى جانب دار قوم فأردت أن اتخذ في تلك العرصة حمامًا أو فرنًا أو موضعًا لرحى، فأبى علي الجيران فقال: إن كان ما تحدث ضرر على الجيران من الدخان وشبهه منعت من ذلك: [658]
***(2/4)
[659] قلت: وكذلك إن كان حدادً واتخذ فيها كيرًا أو فرنًا أو رحى تضر بجدران الجيران قال: يمنع من ذلك.
فإنما رعى ابن القاسم في ذلك ضرر الدخان وما يضر بالجدر، ومعروف متى رفع به البنيان وقطع به ضوء الشمس أن القيمة تنحط بذلك فيما أحدث عليه الرفع ولو كان انحطاط القيمة يراعي في ذلك لذكره ابن القاسم وبينه، ولم يترك ذكره. هذا موضع الاستدلال بهذه الروايات.
وفي المستخرجة: سئل مالك: أترى من قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا ضرر ولا ضرار" أن يستأذن الرجل جاره في خشبة يغرزها في جداره، فيأذن له ثم يغضبه فيريد نزعها؟ فقال: إذا أذن له فما أرى له نزعها على وجه الضرر؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "لا ضرر ولا ضرار" فهذا منه. فأما إن كان احتاج إلى جداره لأمر لم يرد به ضررًا، رأيت للرجل أن يبني في جداره ويرفعه ما بدا له، وإن كان في ذلك مضرة على جيرانه، لأن الرجل يعمل في حقه ما أحب.
وقال أشهب في موضع آخر: وما احتكره الرحل في ملكه مما بجاره، فليس له ذلك إن كان يجد منه بدًا، ولم يضر ليه، فأما إن كان به ضرورة إليه فله أن يحتفر في حقه، وإن أضر بجاره، لأنه يضر به منعه كما أضر بجاره حفره، فهو أولى أن يمنع جاره أن يضر به في منعه له من الحفر في حقه؛ لأنه ماله.
وكذلك قال لي مالك فلم يرد مالك بقوله: إن أضر ذلك بجيرانه، وقول أشهب عنه: وإن أضر حفره بجاره أن ذلك ضرر دخان أو اطلاع؛ لأنه قد نص على المنع من ذلك، وفي مسائله وكتب أصحابه، وإذا لم يرد هذا النوع من الضرر فلا يتوجه قوله هذا إلا إلى ضرر يؤول إلى انحطاط القيمة أو ما يدخل في معناه.
وقد كان من فتي الشيوخ عندنا فيمن أراد أن يفتح بابًا في زقاق نافذ: أنه إن كان الزقاق ضيقًا نكب عن باب جاره إن أمكنه التنكيب، وإن لم يمكنه التنكيب لم يمنع من الفتح، وإن كان فيه ضرر على جاره.
وفي الواضحة: قال مطرف وابن الماجشون واصغ في الرجل يريد أن يبني وقربه أندر، وهو يحبس بنيانه الريح عن الأندر، فلا يمنع من البنيان في حقه وجد عنده مندوحه أو لم يجد، وإن كان في بنيانه بطلان الأندر لأن الأندر نفعه يصرف إلى غيره، ولو منع [659]
***(2/5)
[660] هذا من البنيان في حقه لموضع الأندر لكان قد أضر به ومنع من حقه.
وإذا أحدث الأندر إلى جانب الجنان وأضر تبنه بها مع محدثه من هذا؛ لأن هذا بمنزلة الحمام والفرن يحدث في جوار الدار فيضر دخانهما بمن جاورهما، فإنه منع من إحداثهما، وليست من الأفياء التي ليس أحد أن يمنع منها أحد.
وفي الثمانية لأبي زيد نحو هذا، قال ابن حبيب في كتاب آخر، وهو كتاب السداد لحسين بن عاصم، نحو ما تقدم، وزاد قال عنه وعن عبد الله بن الحكم: وليس لأحد حجة في حبس ريح أو شمس أو قمر أو ما أشبه ذلك من الأفياء، وإنما الحجة في الأحداث التي أحدثها الناس بأفعالهم، فتكون من المضرة بأعيانهما، مثل مصب ماء أو فتح كوة يطل منها، أو ما أشبه هذا، فتلك الأحداث التي يمنع محدثها من إحداثها، قال عبد الملك وهو قول العامة وبه أقول.
ولسحنون في المستخرجة في بعض الروايات مثل هذا، وزاد سحنون كما لا يمنع من رفع بنيانه لمنع جاره من ضوء الشمس وهبوب الريح، واختلف قول سحنون في هذا، وقد اختلف هوله في الأندر اختلافًا كبيرًا، وإنما ذكرت هذه الروايات لقولهم: ولو منع هذا من البنيان لكان قد منع من حقه وأضر به، ولم يمنع الباقي من التصرف في أرضه وإن كان في ذلك مضرة على جاره، إذ ذلك الضرر مما لا يوجب قطعه عندهم.
وقد بينوا ذلك في آخر المسالة، وبينوا أن ضرر الحمام والفرن هو الدخان، ولم يذكروا انحطاط قيمة ولا غيرها. فتدبر ذلك وتدبر قوله أيضًا: وإنما الحجة في الأحداث التي أحدثها الناس بأفعالهم، فتكون هي المضرة بأعيانها، في ذلك المعنى الذي وصفته وفي المدينة وغيرها.
قال ابن كنانة فيمن له أرض في مجص فأراد أن يبني في هذا، وقال الذين حوله: لا تبن فيها، فإنك تضر بزرعنا. قال لا يمنع أن يبني ما شاء إذا كان له مخرج إلى الطريق في أرضه. فلم يراع أحد ممن تقدم قوله في شيء من هذه المسائل نقصان القيمة.
قال فضل: سئل يحيى بن إبراهيم عن الرجل يفتح بابًا في الزقاق النافذ أو غير النافذ فيطل منه على جاره وجدار جاره تصير نحو الحيطين وشبههما، فإن بني خيطًا ثالثًا ثم يطل عليه، فقال يجبر جاره على أن يبني خيطًا ثالثًا، وليس له أن يضر جاره، ولا يمنعه من فتح بابه إذا كان على هذا النحو. فتأمل – وفقك الله – إلى هذه المسألة وقد قال فيها فضل: إنها [660]
***(2/6)
[661] جيدة، ولم يمنعه من فتح الباب، وألزمه بنيان ما لم يكن له حاجة إليه.
وكان الشيوخ عندنا قديما يختلفون في الرجل يجعل في داره رحى أو شبهه، مما له دوي أو صوت يستضر به، فذهبت طائفة منهم إلى المنع من ذلك، وطائفة لم تمنعنه، ورأيت فيها جوابً لابن عثمان بن عبد ربه ابتدأه بأن قال: قال أبو بكر عبد الرحمن: وإذا اجتمع ضرران اسقط الأصغر للأكبر، ومنع الرجل من الانتفاع بماله وضيعته التي يقوم بها معاشه أكبر ضررًا من الذي يتأذى بدوي الطاحن، فالضرر الأكبر عنده هو منع الرجل من التصرف في ماله، والضرر الأصغر هو اعتراض جاره عليه.
وإنما ذكرت هذه الحكاية عن أبي بكر بن عبد الرحمن، وهو أحد المشيخة السبعة، وهو موافق لما رواه أشهب عن مالك، وهذه مسألة قد نزلت قديمًا عندنا ولم نسمع أحدًا من فقهائنا جعل انحطاط قيمة ما يجاور ذلك ضررًا يمنع به من الإحداث، وإنما جعلوا الضرر في ذلك الدخان ومصب المياه وما شبهه.
ولم يذكر أحد من الموثقين في وثائقهم القديمة والحديثة وثيقة في معنى انحطاط القيمة، ولو كان ذلك مما يقضي به ويحكم لذكروه كما ذكروا وثائق الضرر؛ إذ ذلك مما يكثر نزوله بين الناس في القديم والحديث.
ومما يؤيد ما ذكرته من أن انحطاط القيمة لا تراعى: اتفاق الجميع فيمن أحدث فرنًا على فرن آخر قديم، أو حمامًا على حمام، أو رحى على رحى قديمه، ولا يضر المحدث من ذلك بالقديم في شيء من وجوه الضرر إلا في نقصان الغلة أو قلة العمارة أنه لا يمنع محدث ذلك من إحداثه، وليس لصاحب القديم اعتراض في ذلك، ومعلوم إنه إذا قلت العمارة أو الاستغلال أن القيمة تنحط، بل ربما آل ذلك إلى أن يبطل القديم بسبب ما أحدث عليه.
وفيما قدمت ذكره ما يدل على صحة ما قلته فيه واعتقدته ولكل مسألة تقدمت شاهد يؤيدها من الأثر والقياس والنظر، تركت ذلك إذ لم أقصد إلى الاحتجاج إلا الاستدلال أو الرد على من خاف قولي، وإنما قصدت إلى التبيان عنه على سبيل الفتوى، وما جرت به عادة شيوخنا – رحمهم الله – وإن أحب القاضي – وفقه الله – الوقوف على مواضع الحجة ووجوه الأدلة كتبت به إليه، والله عز وجل أسأله حسن العون عليه، والتوفيق لما فيه النجاة لديه برحمته. [661]
***(2/7)
[662] قال القاضي:
في كلام ابن أبي زعبل تخاذل لمن تدبره، تركته كراهة التطويل، والصواب، فيما ذهب إليه ابن عاب، والله أعلم.
قيام ابني ابن المراثي على زوجة العمري في ضرر ذكراه من دارها على دارهما:
قاما عند الوزير صاحب الأحكام وذكر أن في دارها غرفة فيها باب يخرج منه إلى سقف بين يديه من دارها ويجلس عليه، ويطلع منه على غرفة في دارهما الملاصقة لدارها بداخل مدينة قرطبة، وبحومة الجامع وأنه قد يصعد من هذا السقف إلى سقف دارهما، لقرب رفوفهما من رف ذلك السقف، ويكشف الصاعد عليها ما في قاعة دارهما.
وأثبت في ذلك ضررًا عليهما، وأعذر في ذلك إلى زوجها وكيلها أبي القاسم. فأثبت عنها أنه لا ضرر من ذلك الباب على دارهما إذ لا يقع بصر الناظر منه على شيء من دارهما، لأنه مفتوح إلى غير ناحيتها، وقال: إنه لا يخرج أحد إلى السقف الذي بين يديه وأعذر إلى ابني أبي المراثي فلم يكن عندهما مدفع إلا ما توجبه السنة، وشاور الحكم في ذلك.
فأفتى محمد بن فرج:
يا سيدي ووليي، تصفحت خطابك وما أدرجت طيه، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لا ضرر ولا ضرار" والاطلاع من الضرر الذي يجب قطعه، إلا أن الاطلاع الذي أثبته عندك أخو بكر لا يجب تطميس الباب، ولا قلع عتبته، إذ لا يطلع منه حتى يخرج إلى السقف، وإنما يجب أن تؤمر فاطمة أن تجعل على الباب المذكور شرجبًا وثيقًا عاليًا حتى لا يوصل منه إلى السقف الذي يطلع منه على دار بكر وأخيه.
وهذا كان راي القاضي محمد بن بيقي بن زرب، إذ نزلت هذه المسألة بعينها في أيامه فاقتد بالقاضي رحمه الله، فهو أهل من يقتدي به، وأنفذ ذلكعلى قاطمة، ولا منفعة لها في العقد الذي أثبت وكيلها أنه لا ضرر في الباب. ومن أثبت الضرر أعلم ممن نفاه إلا أن يكونوا عندك أعدل وأعرف من الآخرين وأبصر، فيجب حينئذ أن ترسل من قبلك من تثق بعد التهم وبصرهم إلى الدارين جميعًا.
فإن اتفقوا على الاطلاع نفذ قطعة بما ذكرناه، وإن اتفقوا على أنه من وقف على السقف المتصل بالباب لم ير من في دار بكر، ولا من في قصبته، ولم يتبين شخصه لبعد ما [662]
***(2/8)
[663] بين الموضعين، بقي الباب على حاله وتقدمت إلى قاطمة وزوجها أشد التقدم ألا يصعد أحد على السقف إلا لإصلاحه أو لما لابد منه من سبب ما في عقد أبي بكر وأخيه أنه قد رأى السقف رجال، وكذا نساء، على حالة قبيحة وتغيير.
هذا وشبهه واجب وإنكاره لازمن والله تعالى نسأله لنا ولك خلاصًا جميلا برحمته، والسلام عليك يا سيدي ووليي ورحمة الله.
وأفتيت أنا:
يا سيدي ووليي، ومن أدام الله عصمته، وأجمل فيما قلده عاقبته: شهادة من أثبت شيئًا بشهادته أولى بالقبول من شهادة من نفاه – قاله غير واحد من أصحابنا وبه العمل، وهو دليل المدون والعتبية وغيرهما، فلا يلتفت إلى ما جاء فيه من خلاف لضعفه، وقلة قائله.
وقد ثبت لمحمد وبكر ما ذكرته من الضرر على غرفتهما وسقف دارهما، من باب غرفة فاطمة، فأحكم لهما بقطعة عنهما بما ذكره الفقيه أبو عبد الله محمد بن فرج في جوابه في وضع حاجز في الباب الشرقي، يمنع من التطرق منه إلى السقف الضار بدار بكر ومحمد، وقد خصت في ذلك معها في مجلس حكمك ورأيت اختيارك ما ذكره، أبو عبد الله من وضع شرجب في الباب المشتكي منه، فأنفذ ذلك من اختيارك؛ إذ هو اختيار القاضي أبي بكر ابن زرب، رواه عنه القاضي يونس بن عبد الله – رحمهما الله.
ونص ما حكاه عنه، قال – يريد ابن زرب -: من فتح بابًا إلى غرفة على دار جاره، لا يطلع عليه منها إلا بكلفة، مثل أن يدخل رأسه وشبهه، فإنه لا يسد ذلك عليه إلا أني أستحسن أن يوضع على الباب شرجب لئلا يدخل رأسه منه، قال يونس: فقلت له: هل رأي هذا لأحد، فقال: لا، إلا أني استحسنه وأفتيت به. هذا نص ما ذكره عنه، وهو إن شاء الله نظر حسن، والله تعالى يحملك على الصواب، وينفلنا جميعًا جزيل الثواب.
من سأل القاضي أن يبعث من ينظر إلى ما يدعي أنه أحدث عليه، وقال الآخر لا يبعث إلى مالي أحد:
من أحكام ابن زياد: قال قاسم للقاضي: ابعث من يكشف عما أحدثه علي عباس في أندر داخل جنان محدثة، وقال عباس: لا يجب أن تبعث إلى مالي حتى يثبت عندك ما يقوله، فإذا ثبت عندك نظرت بما يجب. قال عبيد الله بن يحيى: أما أنا فإني أرى ا تبعث [663]
***(2/9)
[664] معه من ينظر إلى الذي أحدث، إذ صار في داخل غلق لا يمكن أن يوقف إليه من يستشهد به، فإن شهد عندك رسلك أن الذي أحدثه مضر به أمرت بصرف الضرر عنه، وإن شهد بغير ذلك حملتهما على ما يجب.
وقال ابن لبابة: ليس للخصم مقال فيما احتج به؛ لأن الضرر الذي يدعيه قاسم في غلق ممنوع عنه، فلهذا نرى إرسال القاضي لمعاينة الضرر.وقال بذلك أيوب بن سليمان وقال: قد بعث النبي (صلى الله عليه وسلم) حذيفة بن اليمان مع القوم الذي اختصموا في خصر، فقضي به حذيفة للذين كان القمط من قبلهم ثم أخبر به النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: "أصبت (1)" وهذا الحديث أصلنا في الإرسال وفي معاقد الحيطان.
الشهادة في فرن وقناة أحدثا على دار رجل:
فهمنا – وفقك الله – الشهادات فرأيناها اجتمعت على إحداث الفرن وإضراره بدار عمرن واختلفت في معرفة القناة، فإذا عرفت من الشهود في القناة شاهدين، وكنت قد أعذرت إلى محدث الفرن في ذلك، فلم يكن عنده مدفع، فقد وجب عليه قطع ضرر الفرن، فإن لم يمكنه قطعه إلا بهدمه وجب هدمه، ولزمك الإشهاد للمقضي له بالحكم بالمقضي عليه وقطع الضرر، ويجري ما السماع في القناة على ما شهدوا به.والله نسأله التوفيق قاله ابن لبابة وأصحابه.
الحكم في قناة أنها محدثة وصاحبها يدعي قدمها:
قال ابن زمزم في القناة الجارية إلى الجنان: إنه لم يحدثها، وإنها لم تزل جارية على حالها، فالواجب – وفق الله القاضي – أن ينظر إلى هذه القناة رجلان تقبلهما، فإن شهد عليه بقدم، على ما يؤديه العيان، قبل لمن ادعى الإحداث: أقم البينة على ما ادعيت. وإن دل على أنها محدثة منع اضرر.
وإن أشكل الأمر فلم تقطع بينة بإحداث ولا بقدم وكان حالهما متوسطة أوجبت التوقف على البينة، قيل لمجريها: أقم البينة أنها جرت بحق وإلا فإن العداء ظاهر حتى يأتي بما [664]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه البيهقي في الكبرى ج 6، ص 67 برقم 11150، والدراقطني في سننه ج 4، ص 229، وابن ماجه ج 2، ص 785 برقم 2343، والبزار في مسنده ج9، ص 251 برقم 370\91، والطبراني في الكبير ج 2، ص 259 حديث رقم 2087.(2/10)
[665] يسقطه إن شاء الله، وهذا يكون إذا ثبت الجنان لمن يذب عنها ويدفع. قال بذلك عبيد الله بن يحيى، ومحمد بن الوليد، ومحمد بن لبابة.
قال القاضي:
ولو شهدت البينة بقدم القناة على ما دلهم لعيان عليه، فمن تمام شهادتهم بذلك الشهادة بتحديد أمد القدم، بدليل معرفة لاختلاف أصحابنا في هذا الأصل، وقد قال سحنون في قناة جرت على دار رجل سنة: ذلك قليل والأربع حيازة واستحقاق ذكره حبيب بن نصر في سؤالاته.
وقد فرق في ذلك أيضًا بين ما ضرره متزايد وغير متزايد، وذلك كله في الأصول مبسوط لابن حبيب وغيره، وقد ذكرناه بعد هذا في مسألة الشجرة مختصرًا فتأمله.
في قنوات مقبرة عامر وركوب القاضي والفقهاء إليها بأمر الأمير وإعلام الأمير بذلك:
ركبت – أبقى الله الأمير – إلى مقبرة عامر كما أمرني أعزه الله منع من استركبته مع يمن أهل العلم وغيرهم فنظرت ونظروا إلى قدرات الدور الشارعة إلى الشرع والشارعة إلى الغرب فرأوا قنوات مغطاة تفضي إلى المقبرة ورأوا قناة الحمام مع بنيان دور مع المقبرة متصلة بها، تفضي إلى حفرة في المقبرة، فيها يستنقع ماء القنوات المغطاة والمصخرة وإلى حفرتين غيرهم، ويصب فيها مياه القنوات.
فرأى عبيد الله حفرًا تفضي إلى الحفر الكبيرة وقال: إنه لا يعرف ماء الدور منذ ثلاث وستين سنة مقبلاً إليها لم أر مشتكيًا لأذاه، ولا متكلمًا فيه إلى أيامنا هذه، ويعرف ماء الحمام من ذلك الوقت ينساب إلى حفرة ثانية لا يشتكيه أحد ولا يدعي ضرره.
وقال محمد بن عمر بن لبابة: قولنا في ذلك ما قد قلناه وكتبنا به إلى الأمير – أكرمه الله – أن القنوات المفدونة التي رأيناها مع القاضي – وفقه الله – يجب ردمها لضررها بالمقبرة وبالطريق وأنها لا مخرج لها فيما رأينا إلا المقبرة، ثم تمضي إلى الحفرة.
ورأينا أن تباع القنوات على وجه الأرض فيخرج منها ماء السماء وقت المطر، ويجري في مجاريه التي كان يجري فيها حتى يستقر في الحفر الثلاث، فإنه لا يستحق على المقابر والطريق ضرر إذ ليس للمقابر متكلم، إلا أن يقوم محتسب يرفع ذلك إلى الحاكم فإذا غبيت المجاري كان ضرره ظاهرًا، إذ ليس يستبين إلا بظهوره، ويقطع ضرر قناة الحمام عن المقبرة. [665]
***(2/11)
[666] وقال محمد بن وليد: الذي قال ابن لبابة في هذا الحق عندي، وبقوله في ذلك أقول وأسأل الله التوفيق. وقال خالد بن وهب: نظرت إلى القنوات التي بالمقبرة المنسوبة إلى عامر، إذ استركبنا القاضي فقولي قد تقدم في ذلك على ما كتبت به إلى الأمير – أعزه الله – في الكتاب الأول وبه أقول، وأنا عليه أن المقابر مقابر – المسلمين – أحباس المسلمين ليس لأحد أن يحدث فيها شيئًا، ولا ينقصها بما يكون ضرر بها.
وأما مجاري دور الساكنين عليها فواسع لهم أن يجروها على وجه الأرض يسيل فيها ماء السماء، لا يمنعون من ذلك الافتراق الماء إذا خرج على وجه الأرض وقلة ضرره، وهو حينئذ كالمطر يسيل عليها، ولا يمنعون من ذلك وأسأل الله التوفيق.
وقال سعد بن معاذ: قد تقدم لي فيها إلى الأمير _ أصلحه الله – ما تقدم، وهو مثل ما قاله أصحابنا، وبه أقول. وماء الحمام ظاهر النجاسة، وهو ماء الكنف، وهو جار إلى حفرة المقبرة فينبغي قطع جريه فيها، ولا يترك. قال جميعهم بمثل قول ابن لبابةوابن وليد.
وأوصى الأمير إلى القاضي بالكف عن النظر في ذلك، فكتب القاضي: أتاني سعيد المغيلي ن أصحاب الرسائل فأعلمنا أن الأمير – أطال الله بقاءه – يا سيدي بأن أقرط كتابًا أتاني به عليه طابع الأمير – أكرمه الله – ويعلمني أن أكف عما كنت قد شرعت فيه مما أمرني به – أبقاه الله - من النظر في القنوات التي تخرج إلى مقبرة عامر.
وكتب الأمير في ذلك إلى عبيد الله بن يحيى ليعلمه بقدم هذه السواقي أو حدثها:
بسم الله الرحمن الرحيم، أعلمنا بما عندك في السواقي الشراعة من دور الناس إلى حفرة مقبرة عامر، إن كانت قديمة لا يجب تبديلها عن حالها، أو مستحدثة مما يجب فيها النظر، فقد اختلف أصحابك وغيرهم في أسبابها.
وسبب ساقية الحمام المنسوب إلى ابن طملس، فقد أدركت من ذلك بالسن ما لم يدركه غيرك، ومع هذا فليس بين الحمام والحفرة التي إليها يصير ماؤه واساقية الخارجة من دار موسى بن زياد إلا يسير وإخال بعض السواقي التي فيها جاور مسجد منيقلة شارعة إلى حفرة غيرها مقاربة للدور والمساكن، إذ لا يكره من هذا ولا يقل إلا ما امتد وطال وبعد، فإن ضر ذلك إذا كان بين، فقل في هذا بما تستحسنه على ما أدركت منه، ومن قدمه وأوشك ذلك لتأمر فيه إن شاء الله عز وجل والله المستعان.[666]
***(2/12)
[667] جواب عبيد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، أعز الله الأمير وأكرمه وأدام إقامة السنن به، الذي أدركت – أكرم الله سيدي – أني أعرف المقبرة من تاريخ خمس وأربعين ومائتين سنة، منذ ثلاث وستين سنة، على الحال التي هي عليه، تحضر الجنائز بها ما سمعت مخلوقًا تظلم في شيء من مجرى ماء دورها إلى أيامنا هذه.
وأعرف الدار التي صارت إلى موسى بن زياد لرجلين من التجار يسمى أحدهما عيسى والآخر منتيل، ولا اشتكى مجرى ماء دورهما إلى هذه الأيام، وأعرف ماء الحمام من هذه المدة وهو في دار خلد النار، وماؤه يجري إلى الحفرة التي فيها مجراه اليوم، هذا الذي عرفت – أكرم الله الأمير – سيدي لم أسمع متكلمًا ولا مستنكرًا لشيء منه إلى الوقت الذي تهيج فيه من تهيج والله أسأل الأمير إطالة البقاء.
الشهادة في كوة مفتوحة لمجرى ماء على دار رجل:
شهد عندنا أبو صالح أنه دخل دار عمر بن عامر، فنظر إلى كوة لمجرى ماء دار عمر على دار زكريا دل على أنها قديمة، ولم ير في الدار كوة لجري ماء دار عمر سواها، ولا مصب لداره إلا تلك الكوة، وفي شهادته أنه دخل دار زكريا فنظر إلى حفرة الفرن المحدثة قبالة الكوة التي نظر إليها في دار عمر لقرب ما بينهما. وفي شهادته: أن دخان ذلك الفرن المحدث وحره مضر بعمر في داره، وشهد سعد بن معاذ بمثل ذلك.
فهمنا – وفق الله القاضي – الشهادتين الواقعتين في هذا الكتاب فرأيناهما اجتمعتا على إحداث الفرن والإضرار بدار عمر، واختلفت في معرفة القناة، فإذا عرفت من الشهود شاهدين مع شهادة أبي صالح أنه نظر إلى كوة لمجرى ماء دار عمر على دار زكريا، ولم ير في الدار كوة مجرى ماء دار عمر سواها، ولا مصب لماء دار عمر إلا تلك الكوة، وشهادة ابن معاذ بمثله.
وكنت قد أعذرت إلى محدث الفرن في ذلك ,أجلته آجالاً، فلم يكن عنده مدفع، فقد وجب على المحدث قطع ضرر الفرن، وإن لم يمكنه إلا بهدمه وجب عليه هدمه ولزمك الإشهاد للمقضي له الحكم على المقضي عليه بقطع الضرر وغمضاء القناة يجري ماء السماء على ما شهدوا فيه. قاله ابن لبابة، وعبد الله، وابن غالب، وابن وليد.[667]
***(2/13)
[668] إباحة الدخول في دار رجل للنظر إلى قناة له:
فهمنا – أكرمك الله – ما تناظر فيه ابن مرزبان عن زوجه وأصبغ عن نفسه، فالواجب على أصبغ أن يبيح الدخول إلى القناة لينظر إليها كيف هي، وقد نزل مثل هذا لمحمد بن سلمة فأشرنا بجمعاتنا عليه بهذا الفعل. قاله أيوب بن سليمان.
الشهادة إلى هذه القناة بالنظر إليها تشق بيت أصبغ وداره إلى الخندق:
فهمنا – وفقك الله وسددك – ما قامت به أمة الرحيم بنت حريس من أن قناة دارها اليت يربض مسجد أبي الوليد، تخرج بحشوش ما يقع فيها بيت أصبغ المعروفة بابن البقية مدفونة ثم يخرج على بيته وتشق داره حتى تفضي إلى الخندق، وقول أصبغ أن الدار داره، وأنكر أن يكون عليه قناة لدار أمة الرحيم لكنيف أو غيره.
فهمنا منا ذكرته من إرسالك إلى معاينة القناة من وثقت به، وشهدوا عندك بمعاينة القناة بشق من دار أمة الرحيم على بيت اصبغ في داره حتى تقع في الخندق، وقالت أمة الرحيم: إن أصبغ سد القناة، فرجع ما كان يجري فيها إلى دارها وأضر بها وسالت عن الواجب في ذلك.
فالذي نقول به: إن لم يكن عندك أصبغ مدفع في شهادة الذين وجهتهم لمعاينة ذلك، أن يلزم مرور القناة على بيته على ما كانت تسلك فيه، وينهي عن سدها، ويقطع أذاه عن أمة الرحيم، ويمنع من ذلك. قاله ابن لبابة، وابن وليد وأيوب بن سليمان، وإن دفع أصبغ في الشهود الذين بعثهم القاضي لمعاينة ذلك بدفع يسقط شهادتهم بعث غيرهم أبدًا؛ لأنه أمر حاضر وشيء ظاهر، وقال عبيد الله، وابن غالب.
أبراج الحمام وإضرار النحل بها:
كشفنا من حضرنا من أهل العلم عما رفعه إلينا بعض أهل البوادي من عمل قرطبة، من أن لهم أبرجة حمام قديمة، أن قومًا من أهل تلك البوادي أحدثوا عليها نحلا اتخذوها يف تلك البوادي، في كشورو وى، وأن ذلك النحل يضر بحمام الأبرجة في مسارحها عند الماء وغيرها حتى بحجر الحمام وربما أضر في القوائل بالماشية عند شربها الماء.
فقالوا نرى – والله الموفق للصواب والمعين عليه – لو لم يكن في هذا غير قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) "لا ضرر ولا ضرار" لكان قولاً شافيًا كافيًا مغنيًا عن كل قول وموجبًا عن لقطع الضرر، وأن يمنع متخذ النحل من اتخاذها، فكيف وهو قول أصحابنا، وقد [668]
***(2/14)
[669] وقعت هذه المسألة بعنيها في كتاب السلطان من المستخرجة: أنه لي لأحد أن يتخذ نحلاً تضر ببرج حمام قديم، وما أعلم بينهم في ذلك اختلاف، وأسأل الله أن يحضرك التوفيق والرشد والتسديد. قاله ابن لبابة، ومحمد بن وليد، وسعد بن معاذ، ويحيى بن سليمان وغيرهم.
مسألة أخرى مثلها:
قال أبو عبد الله بن وليد: الذي نقول به أن كل ضرر يحدثه الرجل على جيرانه فهو ممنوع منه؛ لقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لا ضرر ولا ضرار" وليس يكون من الضرر شيء أبين من أن يأتي الرجل فيدخل على أهل القرية ما يهلك حمامهم ويؤذ في صبيانهم، فيجب أن يمنع هؤلاء من إدخال الأجباح في دورهم ويقصروا على ذلك إن شاء الله، ولا يستطاع الاحتراس من النحل والحمام، كما لا يستطاع الاحتراس من البهائمولا ضرر أعظم من اتخاذ ما لا يستطاع الاحتراس من أذاه. وقاله ابن معاذ، وابن لبابة، ويحيى بن سليمان.
قال القاضي:
قولهم في المسألة التي قبل هذه: وقد وقعت هذه المسألة بعينها في كتاب السلطان من المستخرجة أنه ليس لأحد أن يتخذ نحلا يضر ببرج حمام قديم، وهو خطأ وتصحيف للتي في الكتاب المذكور، وأظنهم كتبوا ذلك في جوابهم متكلين على حفظهم فخانهم الذكر وغلب عليهم النسيان الذي هو آفة علم الإنسان، إنما في كتاب السلطان في بعض الروايات، وهو أيضًا في كتاب الجدار:
وسئل عيسى بن دينار:
عن الحمام والنحل يضر بشجر القوم إذا نورت وبكرومهم، أيمنع صاحبها من اتخاذا عليهم، ويؤمر بإخراجها؟ قال: نعم، أو ما يشبه ذلك الماشية تعدوا على الكرم والشجر والزرع، وحفظ الزرع ونحوه على ربه؟ قال: لا يشبه النحل الماشية؛ لأن النحل والدجاج الطائر والحمام لا يستطاع الاحتراس منها، كما يحترس من الماشية، ألا ترى أن الماشية الضارية لفساد الزرع تغرب وتخرج، فما أستطيع الاحتراس منه فهو كالماشية لا يؤمر صاحبها بإخراجها عنهم، وقد قيل فيمن له كواء في حائطه أو عرفته تجتمع فيها البراطيل فتؤذي الناس في زروعهم: إنه يؤمر بسدها. [669]
***(2/15)
[670] قال القاضي:
هذا ما في بعض كتاب روايات السلطان من هذه المسألة، وذكرها ابن حبيب في كتاب البنيان والأشجار والمياه والأنهار. قال: سأل مطرفًا عمن اتخذ نحلاً في قرية تضر شجر القوم أو اتخذ برجًا فيه حمام وكواء للعصافير تأوي إليها، ويأخذ فراخها وهو تؤذي كما يؤذي الحمام في الزرع. قال هذا كله من الضرر، ويمنع من اتخاذ ما يضر الناس في زرعهم وشجرهم.
ولا يشبه النحل والحمام الماشية؛ لأن النحل والحمام طائر لا يستطاع الاحتراس منها كما يستطاع ذلك في الماشية، ألا ترى أن مالكًا قال في الدابة الضارية بفساد الزرع التي لا تحترس منها إنها تغرب، وتخرج وتباع على صاحبها، فانحل والحمام أشد وكذلك الدجاج الطائرة والأوز وشبهها مما لا يستطاع الاحتراس منه.
قال وسلت أصبغ عن ذلك، فقال لي: النحل والحمام والأوز والدجاج عندنا كالماشية، لا يمنع صاحبها من اتخاذها، وإن أضرت وعلى أهل القرية حفظ زروعهم وشجرهم وهذا أن ابن القاسم يقول.
قال ابن حبيب: وليس يعجبني هذا، وقول مطرف في ذك أحب إلي، وبه أقول، وهو الحق إن شاء الله، ولابن كنانة في المجموعة نحو قول أصبغ؛ لأنه لا يمنع قال: وأكره أن يؤذي أحدًا، وقال غيره لا يمنع صاحب البرج من اتخاذ منافعه في جداره وبرجه ولا من اتخاذ الدجاج والأوز وعلى أهل الزرع حفظه بالنهار.
قال القاضي:
هذا الموجود في كتابنا في هذه المسألة، وأما ألا يتخذ نحلاً على برج حمام قديم، فليس في أمهات كتبنا بمعلوم، وإنما هي النازلة التي جاوبوا عنها وأنكرنا قولهم أنها في كتاب السلطان بعينها، والله ولي التوفيق.
في شجرة قديمة مظلة على دار:
إذا ثبت به مخلد كتب به على نفسه أنه التزم قطع ما اظل من زيتونه على دار آمنة، ودفع الضرر عنها، قطع إلا أن يعذر بجهالة، وكان مثله يعذر، فإن عذر بجهالة وحلف بالله: ما التزمت ذك إلا وأنا أظن أنه يلزمني، نظر حينئذ في الزيتونة، فإن كانت قديمة [670]
***(2/16)
[671] سنين فما فوقها لم يقطع، وإن كانت غير قديمة قطع الضرر عنها. قال بذلك عبيد الله بن يحيى، وابن لبابة، أيوب، وابن وليد.
وقال يحيى بن عبد العزيز: يلزمه ما ألزم نفسه، وقال ابن لبابة: العشر السنين في الضرر قليل وهي قوله كانت تروي عن أصبغ بن الفرج، والذي روي عن أصبغ وعرف قوله، وسمعت بعض مشايخنا المفتين يقول: لا يستحق الضرر.
قال القاضي:
انظر جعلوا الضرر يستحق بحيازته عشرة أعوام فأزيد بمحضر الذي أحدث عليه، وقال ابن لبابة: هي قوله الأصبغ وجعلوه هنا كسائر ما يستحق من الأموال بطول الحيازة بمحضر القديم بعدها، وهذه القولة وقعت لأصبغ في نوازله في كتاب جامع البيوع من العتبية في مسائل ماء من دارك على دار جارك، وتركت نقل المسألة كراهة التطويل.
والقول الآخر عنه في كتاب آخر كتاب الاستحقاق فيمن أحدث كوة أو بابًا على دار غيره أو أندرًا على جنانة أو ميازب على حائط وهو حاضر ينظر ولا ينكر ولا يغير قال: لا يستحق هذا في السنين الخمس ولا العشر بعد أن يجعلوا له أنه ما كان عن رضى ولا تسليم إلا أن يطول بالدهور الكثيرة جدًا، يحمل على ذلك أنه حق يستحق بالحبازة، وقال ابن حبيب في شرح قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا ضرر ولا ضرار": هما كلمتان بمعنى واحد رددتا توكيدًا في المنع مننه، وقد يأخذه تصريف الإعراب فالضرر الاسم والضرار الفعل.
وقوله: "لا ضرار" أي لا يد=خل على أحد من أحد ضرر وإن لم يتعمده، "ولا ضرار" أي لا يضار أحد بأحد. ووجوه الضرر كثيرة تستبين عند نزول الحكم فيها، منها دخان الحمامات والأفران وغبار الأندار ورش دباغ الدباغين إذا أضر ذك بمن جاوره، قيل لمحدثه: احتل له وإلا فاقطعه، وسواء كان قديمًا أو محدثًا.
ولا يستحق الضرر بالقدم إلا أن يكون الضرر أقدمن المتأذي به، ولا تكون الحيازة في أفعال الضرر حيازة تقوى بها حجة محدثة، بل لا يزيده تقادمه إلا ظلمًا وعداء. قال في آخر المسألة: هكذا فسر لي من لقيت من أصحاب مالك عندما كشفتهم عنه، وفي المسألة طول اختصرته.[671]
***(2/17)
[672] وفي كتاب السداد:
سئل عيسى بن دينا عمن له منصب حيتان صاد فيه أعوامًا، ثم شكى جيرانه أن ذلك يضر بهم، واحتج هو باستحقاقه ذلك عليهم هذه الأعوام، قال: لهم أن يمنعوه.
قال القاضي:
وهذا نحو ما ذكره ابن حبيب، ونحو أحد قول أصبغ، وقد تقدم لسحنون في مصب ماء على دار جاره أنه يستحقه في الأربعة الأعوام.
وقال ابن أبي زمنين: رأيت في مسائل سئل عنها يحيى بن إبراهيم بن مزين، ما كان من الضرر يبقى على حال واحدة لا يزيد، كفتح الباب والكواء يطلع منها وشبه ذلك، فإن محدثه بمحضر ممن أحدثه عليه؛ يستحقه في مثل ما يستحقه به ما يحاز بطول الزمان، وما كان ضرره يتزايد كالكنف؛ فلا يستحقه محدثه بطول حيازة ويقطع عن المستضر به متى قام فيه، وكذلك الدباغ لأنه مما لا يبقى على حالة واحدة، قال: وهذا الذي علمناه ولم نزل نسمعه.
قال القاضي:
وقول الشيوخ في ملتزم قطع الشجرة: أنه إن قال: جهلت أنه لا يلزمني، وكان ممن يعذر بالجهالة؛ حلفه على ذلك ولم يكن عليه أن يقطع: وهو أصل مختلف فيه. قال ابن القاسم في رسم أمهات أولاده، فمن تصدق على ابنه بدنانير وعمل له فيها فمات وهو في يديه، فانفذها له الورثة ثم أرادوا الرجوع فيها: الناس في هذه مختلفون، أما أنا فأرى أن يحلفوا – أن كانوا معرفين بالجهالة – أنهم إنما انقذوها له، وهم يرون أن ذك عليهم يلزمهم، ويرجعون فيها فيأخذونها، وهذا جواب الشيوخ في مسألة مخلد الشجرة.
وفي كتاب الصدقة أيضًا في نوازل سحنون:
فيمن تصدق على أخيه بنصف ماله في مرضه مرضًا ليس مندفًا دام به سنين يخرج في حوائجه يقضيها، وقبض أخوه الصدقةوجازها سنين، ثم مات المريض المتصدق، فقام ورثته على المتصدق عليه وقالوا: لا تجوز لك هذه الصدقة لأنها كانت في المرض، وإنما لكل منها الثلث، وقد سالنا عنها الفقهاء، فقالوا هذا؛ فرد إليهم ما زاد على الثلث، ثم علم أن الصدقة كلها جائزة.
قال سحنون: ومن يعلم أنك جاهلاً أن جميع الصدقة لك، أنت تدفع مالك [672]
***(2/18)
[673] بعد ما حزته ثم تدعي الآن الجهالة؟ ما أرى لك فيما دفعت إليهم حقًا، فقال السائل: أنا أقيم البينة أنهم قالوا لي: لا يجوز لك من الصدقة إلا الثلث، وأن الفقهاء أخبرونا بذلك، فقال لهم: أما إن أقمت البينة على هذا فأرى أن ترجع عليهم بما أخذوا.
ونحوه في نوازله في آخر الدعوى فيمن قتل رجلاً له وليان، فصالح أحدهما على نصيبه بألف دينار، ثم صالح الآخر بألف، إذ خاف القتل، ثم أخبر أنه لا قتل عليه فقام على الثاني ليسترجع منه خمس مائة دينار، فقال سحنون: لكل واحد منهما ألفه والصلح جائز إلا أن يثبت عند الحكم أنه إنما صالح الباقي وهو يرى أن له قتله فيرجع حينئذ بخمسمائة دينار.
وفي الشهادات في نوازل أصبغ في هذا الأصل إلا رجوع له ولا قول، وكذلك في سماعه في كتاب النكاح، وفي رسم أوصى لمكاتبه في التخبير، وهو أصل مختلف فيه كما قال ابن القاسم.
قال أبو عبد الله بن عتاب:
سمعت شيخنا القاضي أبو عبد الرحمن بن بشر يقول غير مرة: كان أبو عمر أحمد بن عبد الملك الإشبيلي يقول لنا: سبعة أشياء لا يعذر فيها بالجهالة مدعيها.
قال القاضي: وكان لا يذكرها لنا وإذا سألناه عنها لم يشرحها لنا.
قال القاضي:
فتتبعت ذلك إلى وقتي هذا فلم أجد إلا بعضها، ثم أخرج إلى كتابه الذي علقها فيه فكتبتها من خطه وقرأتها عليه وهي: إذا قام الشفيع أكثر من عام وهو عالم بشفعته ثم أراد الأخذ بها وادعى الجهالة فإنه لا يعذر، وفي كتاب الأخبار إذا علمت الأمة أنها أعتقت فوطئها زوجها ثم أرادت أن تختار نفسها وادعت الجهالة فإنها لا تعذر.
وفي كتاب الرجيم: إذا وطء المرتهن الجارية الرهن وادعى الجهالة حد ولم يعذر، وفي كتاب السرقة: من سرق خرقة أو ثوبًا لا يساوي ربع دينار فأكثر أنه إن كان سرق نم ذلك ما يسترفع في مثله قطع ولم يعذر بالجهالة، وفي التخبير في رسم إن خرجت من سماع عيسى، فيمن ملك امرأته أمرها فقضت بالبتة فلم يمكر عليها، وادعى الجهل وظن أن ذك لا يلزمه وإراد أن ينكر عليها حين علم فإنه لا يعذر بالجهالة.[673]
***(2/19)
[674] قال ابن عتاب:
فتتبعت ذلك فوجدت منه مسائل كثيرة، منها: حديث مرغوس في المقرة جهلا بالزنى، قال لا يعذر أحد فيه اليوم من العجم وغيرهم، وذكر ابن حبيب عن أصبغ أن يدرأ فيه الحد عمن جهل تحريم الزنى ممن يرى أن مثله يجهله كالصبي وشبههم، وفي سماع ابن القاسم: سئل مالك عمن أسلم من العجم فأتى حدًا لا يعذر بالجهالة ويقام عليه الحد.
وفي كتاب الصلاة من سماع يحيى عن ابن القاسم فيمن خير امرأته فطلقت نفسها واحدة، فيقول: ليس ذلك لك، فتقول فإذا ليس ذلك لي فأنا طالق البتة، قال: لا أرى ذلك لها من أجل أنها تركت ما جعل بيدها فلم تقضي فيه بما يجوز لها، وإن قالت ما كنت أعلم أن لي بالتخيير إلا واحدة فلما تبين لي طلقت بالبتة، فلا يقبل منها ولا تعذر بما اعدت من الجهالة.
وفي المستخرجة في كتاب التخيير من سماع عيسى ع ابن القاسم فيمن ملك امرأته أمرها فقالت: ثم صالحها بعد ذلك قبل أن تسأل ما قبلت أنها تسأل، فإن قالت: كنت طلقت بقولي قد قبلت اثنتين أو ثلاثًا فالقول قولها إلا أن يناكرها فيحلف على ما نوى، قل له أيناكرها، وهي في غير مكله؟ قال: نعم ذلك له.
وإن قال: لم أنو شيئًا فالقضاء ما قضت. فإن قالت: كنت طلقت اثنتين فالصلح ثلاث ولا تحل له إلا بعد زوج، وفي البتة لا تحل له أيضًا إلا بعد زوج، وإن قالت: كنت طلقت ثلاثًا فلم يناكرها فليس عليه أن يرد ما أخذ منها لأنها حين صالحت علمت أنها لم تطلق ثلاثًا وإن ادعت الجهل لم تعذر.
قال القاضي أبو الأصبغ:
اختصرت بعضها وفي كتاب الشهادات في نوازل سحنون، قال أصبغ: قال ابن القاسم: من استحلف اباه في حق له عليه سقطت شهادته وإن جهل أن عقوق، وكذلك قاطع الدنانير جاهلا بكراهيته.
وفي سماع أصبغ فيمن استحلف أباه وأخذه بحد فحد له لم تجز شهادته وإن جهل أنه عقوق، وقال: إن عذر بالجهالة في هذا عذر أيضًا في أشياء كثيرة من ارتكاب الحرام وشبهه فلا أرى أن تجوز شهادته، وروي المقامي عن ابن حبيب في غير الواضحة عن أصبغ قال ابن القاسم في الذي يقطع الدنانير والدراهم جاهلا بكراهيته، ويستحلف أباه [674]
***(2/20)
[675] في العقوق جاهلاً أنه عقوق: لا تجوز شهادة هذين وإن كان جاهلين.
وفي كتاب ابن المواز وابن القاسم أنه لا تجوز شهادة قاطع الدنانير والدراهم إلا أن يعذر بالجهالة. وقال فيمن وقع له على أبيه يمين في حق أنه يحلفه، وكذلك الحد يجب له عليه أنه يحد له إن أحب فإن أحلفه أو حده لم تجز شهادته، وإن عذر بالجهالة يم ينفعه ذلك.
وفي كتاب الأكرية من سماع بن حبيب نقلته من أصله بخطه، وقال: وسألت أصبغ هل يجوز للرجل أن يكري الدابة لحمل طاعماه إلى رحى سماها، وحمله من الرحى مطحونًا إلى داره ولا يؤقت وقتًا لحبسه الدابة؟ فقال لي: إذا لم يكن ذلك في إبان حمل الأنهار أو في إبان كثرت الناس واجتماعهم والأوقات التي يكون فيها الحبس على الطحين وطول اللبث على ذلك فلا بأس به، وإن كان ذلك في أبان خوف الحبس واللبث فلا خير فيه إلا مؤقتًا.
قال: وإن كان في غر إبان الحبس ثم أتى الحبس من علة رحى أو ما أشبه ذلك فإنه إذا انقضى من الوقت مثل ما كان يعرف قبل ما حدث من العلة والحبس أخذ دابته ولم يكن عليه انتظاره الطحين إلا أن للمكتري أن يكريها راجعه من الرحى على مثل حمل طعامه إلى مثل موضع داره.
قلت: فإذا جهل ذلك ورد الدابة، وهو يرجوا أخذها إذا طحن؟ قال لا شيء له، ولا يعذر بالجهالة، فإن اشترط أنه متى طحن أتى لأخذ الدابة، وهو يرجو أخذها إذا طحن؟ قال: لا شيء له ولا يعذر بالجهالة، قلت: فإن اشترط أنه متى طحن أتى لأخذ الدابة، وهو في إبان خوف الحبس واللبث؟ لا يجوز ذلك إلا على الوقت كما فسرت لك.
وفي الدمياطية لابن القاسم في المرتهن: يرد الرهن إلى الراهن إن ذلك خروج من الرهن ولا يعذر بالجهالة.
وفي الواضحة فيمن باع جارية وقال: كان لها زوج فطلقها أو مات عنها، وقالت له الجارية ذلك؛ لم يجز للمشتري أن يطأها، ولا يزوجها حتى تشهد البينة على الطلاق أو الوفاة، فإن أراد المشتري ردها وادعى أنه ظن أن قول الجارية والبائع في ذلك مقبول: لم يكن له ذلك، وإن كان ممن يجهل معرفة ذلك وقد لزمته بعينها.[675]
***(2/21)
[676] وفي سماع ابن حبيب
سمعت أصبغ يقول في المظاهر يطأ قبل الكفارة أنه يعاقب؛ جاهلا كان أو عالمًا.
ولأشهب في ديوانه فيمن أعتق أم ولده ثم وطئها في العدة وأدعى الجهالة أنه لا يعذر لذلك والحد لازم كما لو زنى رجل وزعم أنه لم يعلم بتحريم الزنى، وفرق أشهب بين المعتق والمطلق ثلاثًا أو البتة يطأ في العدة، فقال في المطلق: لا يجد ويلحقه الولد، وهو موضع شبهة لأهل الجهل وكذلك المطلق قبل الدخول ثم يطأ يلحقه الولد ولا حد عليه ولا عليها، وذكر ابن حبيب عن أصبغ في الموصي إليه يشتريى نصرانية فيعتقها: ثم يجز ويضمن الوصي وإن أخطأ أو جهل.
وفي سماع ابن القاسم:
سئل مالك عن رجل علي صيام الظهار فصام ذا الحجة، فقال: لما صام وهو يعلم أنه مفطر؟ فقيل له: قد كان ذلك. قال أحب إلى أن يبتدئ الشهرين وإن بنى على صيامه فعسى أن يكون له في ذلك سعة، وما هو بالبين، قال ابن القاسم: أرى أن يبتدئ الشهرين، ولا تنفعه الجهالة؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: {فصيام شهرين متتابعين} (النساء: من الآية 92): فلا تنفع أحدًا جهالته فيما خالف كتاب الله.
وفي الشهادات من سماع ابن حبيب:
وسألت مطرفًا عن تارك شهود الجمعة، وهو ممن يجب عليه حضورها، هل يجرح ذلك شهادته؟ فقال لي: سمعت مالكًا يقول: من تركها من غير مرض ولا عذر؛ لم تجز شهادته. قال مطرف: وذلك إذا تركها مرارًا ولم يعرف له عذر في تركها، وشهادته مطروحة حتى يثبت عذره ويظهر ولا يعذر في ذلك بجهالة.
وروي عن مالك ابن أبي حبيب قال: قلت رجل وأنا حديث السن: ما على الرجل يقول: على مشي إلى بيت الله ولم يقل: على نذر مشي، فقال لي رجل: هل لكان أعطيك هذا الجرو – لجرو قثاء في يده – وتقول علي المشي إلى بيت الله؟ قال: فقلت: نعم، فقلت وأنا يومئذ حديث السن، ثم مكث ما شاء الله حتى عقلت فقيل لي: إن عليكم مشيًا فجئت سعيد بن المسيب فسألته فقال: عليك مشي، فمشيت.
قال مالك: وهذا الأمر عندنا. قال أبو عبد الله: وحكم الجاهل في مسائل الصلاة حكم العامد سواء لا يعذر بالجهل فيها، وكذلك الحج يستوي فيه الجهل والعمد والنسيان[676]
***(2/22)
[677] في كثير من وجوهه.
قال مالك في الموطأ:
من نتف شعرًا من أبطه، أو من أنفه، أو طلي جسده بنورة، أو حلق عن شجه في رأسه لضرورة، أو حلق قفاه لموضع المحاجم وهو محرم؛ ناسيًا أو جاهلاً، فعليه في ذلك كله الفدية إن فعل شيئًا منه، ومن قذف عبدًا فظهر أنه قد كان أعتقه قبل ذلك فالحد يلزم، ولا يعذر بجهل العتق، وكذلك إن لم يعرف العبد بعتقه، فقذف أو شرب مسكرًا أو زنى فحده حد الحر. والمرأة يغيب عنها زوجها فتنفق من ماله ثم يأتي نعيه أنها ترد ما أنفقت من حين توفي وإن كانت جهلت موته.
والبيوع الفاسدة حكم الجاهل في ذلك حكم العامد في جميع الوجوه، ومن اشترى أباه أو أحدًا ممن يعتق عليه جاهلاً بذلك لم يعذر بالجهالة وعتق عليه، فإن اشتراه عبده المأذون أو مقارضة فكذلك.
قال القاضي:
هنا انتهى ما جمعه الشيخ أبو عبد الله بن عتاب رحمه الله مما لا يعذر فيه بالجهل فاعله، وما قصر رحمة الله عليه ورضوانه.
التنازع في طريق إلى كرم داخل كروم أو أرض بين أرضين:
كان لرجل كرم بين كروم لأناس شتى متلاصقة، وكانت قد تبورت، فكان صاحب الكرم يسير إلى كرمه من حيث شاء لا يمنع ثم عمر أرباب الكروم كرومهم، فمنعوه من الدخول عليها، وكان قبل عمارتهم لها بالغرس قد سلك على الأرض إلى كرمه نحو ستة أعوام، فلما غرس الأرض ربها وأدرك الغرس منعها من السلوك عليه أو سكتت له الأربعة الأعوام أو نحوها بعد الغرس. ونزلت ببياسة فكتبت بها إلى قرطبة قبل سنة أربع وأربعين وأربع مائة قلت: وكيف إن كان في موضع الكرم أرض بيضاء ما العمل في ذلك؟
فكتب إلي ابن عتاب:
الأرض البراح مخالفة لما قد حشر عليها وصرف إلى موضع يدخل منه، فإن كان لأهل البلد سنة في الفدادين والأحقال حملوا عليها، وإلا فإن كان صاحب الأرض المجهولة المدخل يعلم أن مثله يجهل ذلك لمغيب أو صغر يكون قد ورث الأرض وهو صغير أو [677]
***(2/23)
[678] غائب يجهل أمرها، فيلزم ل من جاوره اليمين أنه لا مدخل له على أرضه، فمن حلف برئ ومن نكل كان عليه المدخل.
وإن كان صاحب الأرض ممن يعلم أنه لا يخفى عليه ذلك ولا يجهله قيل له: لا يمين لك على من يجاورك بهذه الدعوى التي لا تحققها، فإن حققت دعواك على أحد لزمته اليمين أو يصرعها عليك فيحق بذلك ما تطلبه وإلا فلا شيء لك فلما وردني جوابه هذا أعدت سؤاله عن الحكم كيف يكون إن حلفوا أجمعوا أو تكلموا أجمعون.
فكتب إلي: ليس عندي من الجواب إلا ما جاوبتك به إلا أنه أظهر إلى بعض أصحابنا مسألة كتب فيها إلى يحيى، فأجاب فيها، تشبه مسألتك في اللفظ، وتخالفها في المعنى، وهي كتب عثمان بن غازي إلى يحيى بن يحي بن يحي في رجل كانت له أرض، وقد أحاط بها أرض قوم فغرسها، فكان يختلف أحد الشركاء إليها على أرض من جاوره، فسد القوم أرضهم بالسد، ومنعوه الممر فيما سدوا عليه، فوقف لا يجد ممرًا إلى كرمه، فكتب إليه أن يؤمروا أن يجعلوا له طريقًا إلى كرمه على غير مضرة بهم ولا به ثم يتراد القوم هذا الممر بينهم حتى تكون على جميع من كان يختلف عليه.
وكتب ابن القطان إلي.
قي مسألتي إذا لم يثبت لصاحب الكرم الداخل طريق على واحد من المانعين له، فلا طريق له عليهم وإنما يقول له الحكم: إن أثبت عندي شيئًا حكمت لك له، إلا أنه إن ادعى أن له طريقًا على أحدهم وحقق دعواه حلف له المدعي عليه، فإن نكل حلف المدعي، وقضي له بما يدعي من الطريق.
وأما سلوكه المدة التي ذكرت فلا حجة له في ذلك إن لم يحتج بسكوت المسلوك عليه، وإن قال هو ملكي ومالي وطريقي إلى كرمي؛ فعلى رب الكرم أن يثبت أن الأصل له وأن مروره هذا محدث، فإن أثبته قضي له بدفع محدث الطريق إن شاء الله عز وجل وكان في جوابه إصلاح اعتذر منه كما يعتذر في الوثائق.
قال القاضي:
ورأيت بعد ذلك في هذا المعنى كتب إلى بكر بن وافد فيمن له أرض فغرسها كرمًا وحوله أرض جيرانه وقرابته غير محظور عليها، فكان يختلف إلى كرمه من حيث أمكنه[678]
***(2/24)
[679] عشرين سنة أو نحوها، ثم غرس جيرانه وقرابته أرضهم من كل ناحية، وأغلقوا عليه فمنعوه الاختلاف إلى كرمه من كل ناحية، فأجاب ليس لهم أن يغلقوا ما يقطعون بإغلاقه السلوك إلى أرضه إن شاء الله.
وفي كتاب البنيان والأشجار لابن حبيب:
وسألت أصبغ عن أرض لرجل في وسط أرضين لقوم كان ينتجعها بالحرث والحصاد على فدان من لم يحرث فدانه تلك السنة، فأراد أن يتخذ بنيانًا في أرضه تلك فمنعه أصحاب الفدادين المحيطة به، وقالوا: تطرق علينا وتضر بنا فداديننا إذا زرعنا. هل يمنع مما أراد من البنيان في أرضه؟
فقال لي: لا يمنع من ذلك وهو يمر إلى أرضه من حيث كان يمر مرة من هذه الأرض إذا لم تزرع ومرة على هذه الأخرى إذا زرعت، ويمنع من أن يضر بالقوم في زروعهم. قلت: فإن أراد كل واحد منهم أن يغلق على أرضه ببنيان أن بحظير البستان كيف يصنع صاحب الأرض المتوسطة؟ قال: يمنعون مما ذكرت حتى يجتمعوا له على ممر يتركونه له من أرض من شاءوا منهم، وذلك على كل من كان هذا المتوسط يختلف على أرضه إلى ارض نفسه.
قلت فإن اختلفوا في هذا الممر؟ فقال لهم المتوسط: اتركوا لي ممرًا واسعًا يحملني وماشيتي وجميع حوائجي، وأبى القوم من ذلك. فقال لي يحكم له عليهم بمثل الممر الذي كان له في أرضهم من قبل البنيان منهم، ومنه على حال ما كان يختلف إليها بماشيته.
وإن لم يكن يختلف قبل ماشيته لم يكن عليهم أن يتركوا له ممر ماشيته وكذلك إذا أراد هو البنيان وحده. ولم يردوا هم بنيان أرضهم، وتركوها للحرث والزرع كما كانت، فاحتاج من المنافع من دخوله إلى أرضه وخروجه منها إلى أكثر مما كان يحتاج أولاً؛ إذ كان يختلف إليها للحرث فقط فإنه يمنع من البنيان؛ لأنه استحقاق لأكثر من حقه. قال وسئل ابن القاسم عن ذلك فقال مثله.
وفي حريم البئر من المدونة:
فيمن له بئر يحول بينه وبين أرضه أرض جاره، فمنعه الجار من الممر إلى العين. قال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول فيمن له أرض حوله أرض للناس مزروعة فأراد أن يمر بماشيته إلى أرضه في زروعهم إن كان ذلك يفسد فلهم أن يمنعوه. [679]
***(2/25)
[680] وفي المجموعة:
سئل سحنون عن طريق الفدادين، فقال: إن كان لهم أمر معروف حملوا عليه وإن نظر، فإن كان أهل الفدادين من سبق منهم إلى حرث فدانه لم يقدر أحد أن يشقه، ودار أصحابه من وراء ذلك فليس لأحد على أحد طريق، وإن كان إذا حرث أحدهم شقوا أرضه وسلكوا في حرثه طريقًا قد عرف ذلك فهو على ما عرفوا ليس لأحد أن يغيره.
وفي الأقضية:
في نوازل سحنون في أهل منزل يحجز رجل على حق له، وارض يغرسها وكان أهل المنزل يسلكون فيها طريقًا هم وغيرهم فقاموا عليه فقالوا: قطعت طريقنا فأنكر أن يكون طريقًا لهم لازمة، فأتوا هم إلى الحكم ببينة أنهم يعرفونها طريقًا سلكها الناس منذ عشرين سنة، ويأتي رب الأرض ببينة أنها طريق محدثة بلا حق.
قال سحنون هذا كثير ما يكون بين المنازل، ويختصر الناس في الأراضي وربما قطعها الحرث، حتى ربما كانت القرية تؤتي من غير طريق، وربما تساهل الناس في أرضهم لاستبعادهم عن ذلك، فإذا ثبت أن هذه الطريق من تلك الأرض فليست بلازمة لرب الأرض إلا أن تكون الطريق الحاملة التي تركب من غير وجه، ويطول ذلك، وتقطع مدة كرية الزرع في اتساعها، وطول زمنها الخمسين والستين سنة فأما الطريق المختصرة فليست بحجة على صاحبها، إذا ثبت ذلك كما ذكرت لك.
وفي رسم المكاتب من سماع يحيى:
ذكر الأفنية وفي كتاب السلطان في رسم طلق وغيره من هذا الأصل وفي قسمة المدونة مسألة من له نخلة في أرض رجل، تركنا جلب هذا وغيره كراهية التطويل، ويما ذكرناه ونبهنا عليه تبصرة لمن استبصر وتذكرة لمن أراد أن يتذكر.
ادعى أن واليا بجيان غصبه منزله فأمر الأمير بالنظر هل:
فهمنا – وفق الله القاضي – بطاقة حسنة وتضرعًا لرجل من أهل جيان ملهوف بأمرك الأمير – أصلحه الله – بالنظر لصاحب هذه البطاقة بالحق والسنة وكشفتنا عن وجه النظر فيها، وكانت شكية الرجل صاحب البطاقة بعامر بن أبي عامر وأنه غصبه منزله في أيام ولايته كورة جبان، فوجه النظر أن تحمل هذا القائم إثبات موت عامر بن عامر وعدة ورثته وغصبه إياه هذا المنزل، فإذا أثبت ذلك أعذرت إلى ورثته ثم تنظر بينهم بما [680]
***(2/26)
[681]يظهر لك إن شاء الله. قال بذلك محمد بن لبابة، وعبد الله بن يحيى، وأيوب بن سليمان، ومحمد بن وليد.
مسألة ابن نيرة وابنه المقتولين من مماليك منية العجب واعتقال أموالهما لينظر فيها:
مد الله القاضي في النعمة، وللمسلمين في بقائه ودوام أيامه أنت والله نسأله حياطتك في كشفك عن الواجب عليك في جميع نظرك على أفضل ما كان عليه سلفك رحمه الله أخذًا بالحيطة لنفسك ولمن تنظر له، فحاطك الله وحاط بك الذي أحببت – وفقك الله – معرفته في أمر ابن نيرة المقتول، وابنه المقتول معه، وأنهما في ديوان القضاء على اسم مملكة.
وأن من كمان بمينة العجب موقفًا لعمارتها إنما كان في عبيد مسمين قد سميت نساؤهم وأولادهم في كتاب المدون للقضاة، وحجرت على العبيد في نكاح الحرائر، فلم قتل ابن نيرة وابنه أشكل عليه أمرهم، ولم تعلم أهما من أبناء الحرائر أم من أبناء الإماء؟ ورفع رافع أن لابن نيرة مالاً، وقد تخلف ولدًا صغيرًا، ولم يزل الله يحوط بك الصغير والكبير، والحضار والبادي.
فالذي يجب عليك اعتقال مال ابن نيرة من وجهين: أحدهما أنه إن كان من أبناء الإماء هو وابنه المقتول والصغير الباقي، فلما له حكم وإن كان في نفسه من أبناء الحرائر انتقل الحكم إلى غير ذلك إن كان ابنه مثله.
ولو لم يكن هذا المعنى قائمًا لكان عليك النظر للصغير في جميع ماله كما لم تزل تفعل في مال غيره فمره – وفقك الله – باعتقال ذلك ومعرفة مبلغ المال ثم تجمع أهل شوراك فتفصل بما يجتمع عليه قولهم – إن شاء الله – فقد كان في أيام القاضي ابن سلمة مثل هذه القضية في رجل مات منهم وأنت باستقصائك وموالاتك بالمشاورة لا تعدم التوفيق – إن شاء الله – قال محمد بن غالب وعبيد الله وابن لبابة وأبو صالح ومحمد بن وليد.
من لزمه حد ولم تعرف حقيقة بلوغه:
قال ابن لبابة إنما يعرف البلوغ بالسنين كما فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ رد ابن أربع شعرة سنة ومن جهلت سنوه؛ ففيه للصحابة حكم في المهري اختلفوا فيه بالإسكندرية إن كان بالغًا أو غير بالغ، فأمر أبو بصرة الغفاري بالنظر إليه إن كان أنبت فيحكم له بالبلوغ، [681]
***(2/27)
[682] وإن كان لم ينبت لم يحكم له به ولا يفرض له في المغانم، والعمل في الإسلام على هذا إن وجدت من يقطع عل ولادة، وإلا فقد نظرنا إليه لم ينبت وحسبك هذا حكمًا من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم).
صبي أسلم وأراد الرجوع إلى دينه: أتاني – رحمك الله – صبي لم يبلغ فأسلم وصار عند رجل فضمه إليه ابتغاء ثواب الله عز وجل فتردد عليه أبواه يريدان رده إلى دينهما، والغلام يأبى، فلما كان البارحة أتاني والده فأعلمني أن ولده يريد الرجوع إلى والديه ودينهما، فاكتبوا غلي بما يجب في ذلك.
قال ابن لبابة:
فهمت ما ذكره القاضي، فإن كان الغلام قد عقل، مثل أن يكون ابن عشر سنين أو ما زاد فليتشدد عليه ويهدد ويوعد عليه، فإن لج في الرجوع إلى دينه برئ به إلى أبويه ولم يبلغ به القتل ولا يكون هذا معجلا حتى يبلغ، ثم تكون الفتيا على ما مضى في الجواب، وأسأل الله التوفيق.
غلام أسلم ثم عاد إلى النصرانية دينه:
كتب القاضي إلى عبيد الله بن يحيى – حفظك الله وأبقاك – أتاني – رضي الله عنك – غلام من النصارى يريد الإسلام، فأسلم على يدي وكتبت إسلامه وأشهدت عليه، فلما كان بعد أيام أتاني فذكر أنه بدا له عن الإسلام فامتحنته فوجدته مصرًا على ما قال، فانظر إليه وإلى كتاب إسلامه، وتكتب إلي برأيك فيه مفسرًا إن شاء الله.
فجاوبه:
أسأل الله أن يديم إقامة السنين بك، وأن يجزل على ذلك ثوابك، الغلام – مد الله في عمرك – في قده مراهق ولا أظنه بلغ، فأرى أن يحمل عليه الوعيد، فإن رجع إلى الإسلام فبتوفيق الله وجميل نظرك/، وإن أصر حبسته أيامًا لعله يراجع أمر الله، فإن أصر تركته في سخط الله عز وجل، فليس بأول من أغواه الشيطان، والله أسال لك أجزل الثواب وأعظم الأجر، والسلام عليك ورحمة الله وقال ابن لبابة مثله.
قال القاضي:
هذه أجبوة مهلهلة يسلم وهو مشكوك في بلوغه ثم يرتد ولا يجبر على الإسلام إلا بالوعيد وسجن أيام !! هذا جهل من قائله! قال سحنون من أسلم قبل بلوغه ثم عقل [682]
***(2/28)
[683] الإسلام فارتد ومات قبل البلوغ، وهو يكره على الإسلام فميراثه لأهله.
قال ابن القاسم وأشهب وعبد الملك: ولو لم يمت لم يقتل، وإنما يكره على الإسلام بالضرب وإن بلغ والمغيرة يقتله إن تمادي بعد البلوغ.
وأما ن ارتد من أولاد المسلمين فاليؤدب، فإن تمادى حتى بلغ، فأصحابنا مجمعون على أن يقتل إذا بلغ وتمادى، ابن سحنون قال المغيرة: إن أسلم غلام مراهق يعقل الإسلام ثم مات فلا يرثه أبواه الكافران، وقد أجاز عمر وصية غلام يفاع.
وإن مات أبواه أوقف ميراثه؛ فإن رجع الغلام إلى دين أبيه قبل الحلم ورثه، وإن لم يرجع لم يرثه. من حدود النوادر.
وفي قول المغيرة هذا نظر فتدبره، وفي هذه الجملة بيان خطأ الجواب في مسألة الصبي الذي أغواه التي قبل هذاه.
غلام يزعم أنه حر وأنه يكره على اليهودية، وادعى يهودي أنه مملوكه فوقف عند أمين فقال الأمين: إنه أبق منه:
فهمنا – وفقك الله – ما ذكرت من رفع الرافع إليك أن غلامًا أقفل عليه في دار يستغيث ويقول: إنه يكره على اليهودية فأرسلت من كشفته بكشف عن ذلك فانصرف ومعه يهودي وغلام بالغ فأعلمنهما بما رفع إليك، فقال اليهودي الغلام عبدي ابتعته منذ أربعة أعوام من يهودي من أهل طليطلة، والغلام حينئذ يهودي وأنكر أن يكون ضربه وأقفل عليه.
وقال الغلام: أنا حر ابن حرين مسلم ابن مسلمين من أهل طليطلة، قدمت منها منذ ثلاث أعوام مع رجل من اليهود فنزلنا فندقًا ثم انتقلنا منه إلى هذا اليهودي بخدمته، وإني حين أظهرت الإسلام وأردت الخروج عن خدمته ضربني وأقل علي وكشف الغلام عن ظهره وبه آثار ضرب شدية لا يمكنه فعل ذلك بنفسه، وقال له البينة أنه حر، وادعى اليهودي بينة حاضة يعرفون الغلام، وقال: إن معه عهدة الغلام مكتوبة بالعبرانية.
فوقف الغلام على يدي أمين الممتحن أمره ونأخذ رأي أهل العلم فه، وسأل اليهودي أن يحبس الغلام في السجن، ثم قال الأمين: ابق الغلام مني من غير تفريط في الاحتراس به، فقال اليهودي: إنه كان سبب إبقاء الغلام أن الأمين خرج به مع نفسه إلى ضيعة، وكان الغلام في مجلس حكومة القاضي في الوقت الذي ذلك فيه اليهودي أن الغلام [683]
***(2/29)
[684] أبق إلى وقت ارتفاع القاضي من نظره، وطلب اليهودي إغرام الأمين قيمة الغلام، فسأله القاضي – وفقه الله – هل يجب على الأمين قيمة الغلام أم لا؟
فالذي نقول به في ذلك، والله الموفق للصواب: إن توقيف القاضي للغلام لاستبراء أمره حزن من النظر وصواب من الفعل، والذي يطلبه اليهودي من إغرام الأمين باطل لا يلزم؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "ليس على أمين غرم (1)".
وقال أهل العلم: إلا أن يتعدى، وقلت: إنه ثبت عندك أن الغلام كان في مجلسك إلى أن ارتفعت عن النظر في اليوم الذي ذلك اليهودي أنه ابق يه الغلامن ولو ثبت خروج الأمين بالغلام ثم ثبت رجوعه به وابق، لم يضمن أيضًا فهذا قولنا فيما سألتنا عنه. قاله ابن وليد.
وقال ابن لبابة: ليس على أمين ضمان إلا أن يثبت أنه سار به إلى باديته وأبقى من البادية، فلو ثبت ذلك بالبينة فحينئذ كان يضمن لأنه تعدى بإخراجه عن موضع أمانته، فيكيف وقد رئي في مجلس القضاء يوم إباقه، فهذا تكذيب لما ادعاه اليهودي وإسقاط لدعواه عن الأمين.
وقال عبيد بن يحيى: لا ضمان على الأمين إلا أن يكون أبق عنه من منزله، فأما إن كان رجع به فأبق من داره بعد أن ظهر في مجلس القاضي فلا ضمان عليه. وقال أحمد ابن يحيى بن أبي عيسى: لا ضمان على الأمين وساق نحو كلام عبيد الله.
وقال محمد بن غالب: خروج الأمين بالغلام محترسًا به لا يوجب ضمانًا حتى يثبت بالبينة العدلة أنه خرج به لمفنعة نفسه، فيكون متعديًا فيضمن، وإن رجع به فلا ضمان عليه أصلاً في كل حال، وقال يحيى بن عبد العزيز مثل ذلك، وقال أيوب مثله، وقال سعد ابن معاذ مثل قول عبيد الله.
من تعدى على باب رجل فكسر بابها وضرب ربها وانتهب ما فيها:
شهد عند القاضي شهود أنهم قالوا لعمر بن عبد العزيز: لقد ساءنا ما سمعناه عن ولديك من مسيرهما بجماعة من أهل الفساد والشر منهم عبيد الأقطع وابن تمامة النواجه وحارث الجنان، وسعد الذي صار في خدمتك إلى دار يسكنها عبد الله، سكارى، [684]
***
__________
(1) ... هذا الحديث لم أعثر عليه.(2/30)
[685] وكسروا الباب وهجموا على العيال، وانتهبوا ما في الدار، وضربوا عبد الله حتى أشفى على الموت.
فقال عبد الملك ومحمد ابنا عمر: نعم فعلنا ذلك وفي شهادتهم أنهم يعرفون الفعلة بأعيانهم وأسمائهم من أهل الفساد والشر وشرب الخمر والعباثة، وشاور في ذلك فقالوا فهمنا – وفقك الله – الشهادات الواقعة، فرأينا شهادات توجب الأدب البليغ والحبس الطويل على الفعلة المسمين في هذا الكتاب المشهود عليهم إن لم يكن عندهم مدفع وإن ذكروا مدفعًا حبسوا وكشوفوا عن مدفعهم وهم في الحبس، فإن مثل هذا شنيع يكون في مجمع وحاضرة فستحقون الأدب البليغ، ومن شهد عليه بشرب الخمر منهم فعليه الحد وزيادة الأدب، لعظيم ما انتهكوا وأظهروا. قاله عبيد الله وابن وليد، وابن لبابة وسعد بن معاذ.
قال القاضي:
سكتوا في جوابهم هذا عن الحكم على المشهود عليهم بغرم ما انتبهوا من الدار، على ما شهدوا به الشهود، وهو من فصول المسألة التي يجب بيانها.
قال ابن حبيب في كتاب الأحكام من أسمعته: سألت كطرفًا وابن الماجشون، عن القوم يعدون على منزل الرجل فيغيرون عليه والناس ينظرون فينتهبونه ويذهبون بما كان فيه من مال أو حلي أو ثياب أو طعام أو ماشية، غير أن الشهود لا يشهدون على معاينة ما يذهبون به إلا أنهم يشهدون على غاراتهم وانتهابهم.
فقال لي مطرف: أرى أن يحلف المغرا عليه على ما ادعى مما يشبه أن يكون له وأن مثله يملكه مما لا يستمكر ويصدق فيه، وقال لي ابن الماجشون: لا أرى أن يعطي بقوله ويمينه وإن ادعى ما يشبه، حتى يقيم بينة بدعواه، وسألت عن ذلك أصبغ فأخبرني عن ابن القاسم مثل قول ابن الماجشون، واحتج بقول مالك فيمن انتهب صرة دنانير بحضرة شهود ثم اختلف في عدة ما كان فيها ولا يعرف الشهود – قال مالك: القول قول المنتهب مع يمينه.
قال ابن حبيب: وقول مطرف في ذلك أحب إلي وبه أقول. وقال ابن كنانة والظالم، أحق من تحمل عليه قلت لمطرف: فإن أخذ واحد من هؤلاء المغيرين، أيضمن جميع ما أغاروا عليه إذا شهدت به بينة أو حلف المغار عليه مما يشبهه؟ [685]
***(2/31)
[686] فقال لي: نعم يضمن ذلك من أخذ منهم، لأن بعضهم قوى ببعض، كلاقوم يدخلون حرز الرجل فيسرقون الخشبة التي لم يكن يقوى عليها وثمنها ثلاثة دراهم، فكلهم يقطع وكل واحد منهم يضمن جميع ثمنها إن كان له مال، من قبل أنه كأنه إنما سرقها وحده، ولو لم يضمن إلا ما ينويه وهو أقل من ثلاثة دراهم لما قطع إذن، ولكنه أنز كأنه سرق وحده ذلك جبر كأن بعضهم إنما قوي ببعض، فكذلك المغيرون على الرجل.
قال لي مطرف: وكذلك اللصوص المحاربون القاطعون الطريق؛ من أخذ منهم ضمن جيمع ما أخذ هو وأصحابه، وإن أخذوا جميعًا أخذ جميع السراق والمغيرين وهم أغنياء، أخذ من كل واحد ما ينوبه. وقال ابن الماجشون وأصبغ في ضمان ذلك مثل قول مطرف.
قال لي مطرف وحد هؤلاء المغيرين في العقوبة كحد المحاربين إذا شهروا السلاك عليه، وفعلوه مكابرة على وجه الغلبة، كان بأصل نايرة أو على وجه الغياثة. قال في جميعهم في والي بلد، يعتب على بعض أهله فيغير عليهم وينسف أموالهم ظلمًا، مثل قولهم في المغيرة.
مسألة في أهل الشر:
قرأنا – وفقك الله – الشهادات الواقعة عندك، على أحمد وعمر ابني عطاف، بالأذى للناس باللسان واليد والشر والردى والفساد والبسط، والتعدي على الناس، وفهمنا منا ذكرته من قولك لبعضهم، يجب - أكرمك الله – على أحمد وعمر الأدب الموجع والحبس الطويل، فإن الإغلاظ على أهل الشر والقمع لهم والأخذ على أيديهم مما يصلح الله به العباد والبلاد. قال ابن لبابة، وابن وليد بعد الإعذار في ذلك.
وقال به يحيى بن عبد العزيز، وابن معاذ وعبيد الله، وأيوب، وخالد بن وهب، وقال: من لم يمنع الناس من الباطل ليم يحملهم على الحق.
في امرأة رمت رجلاً أنه افتضها:
أتتني – رحمنا الله وإياكم – امرأة فذكرت أن رجلاً اختدعها وافتضها، ونسبت ذلك إلى رجل شهد عندي جماعة من خيار المسلمين ممن أعرفه أنه من أهل الطهارة والحالة الحسنة، وأنهم لا يعلمونه نسب إليه من هذا الشيء، وشهد عندي أن هذه الجارية منسوب إليها الردى، فاكتبوا إلي بما عندكم في ذلك. [686]
***(2/32)
[687] الذي عندنا – أكرمك الله – في هذا أنها إذا رمت في ذلك رجلا لا شيبهه ما رمته به ولا ينسب إليه ما شهد به عليها مما نسب إليها، فالحد لعيها واجب للرجل الذي رمته حد الفرية ثمانون سوطًا. قاله أبو صالح. وقال ابن لبابة: وتضرب لإقرارها بالزنا مائة سوط فيكون عليها مائة وثمانون سوطًا، يريد إن أقامت على دعواها، وإن رجعت عن ذلك لم يلزمها إلا حد القذف.
قال القاضي:
وهذه المسألة إذا ادعت المرأة أن فلانًا استكرهها في المدونة في الخلع وكتاب الشهادة وكتاب الغصب، وكفى الشهادات، وعند آخر كتاب السرقة، وفي سماع أشهب في كتاب الغصب، وفي مساع عيسى في الحدود، وفي أول رسم من سماع يحيى في كتاب الدعوى.
وقال ابن المواز: إن جاءت به متعلقة تدمي أو لا تدمي، وهو ممن لا يتهم بذلك، حدت للقذف لا للزنا. قاله ابن القاسم وابن وهب، وقاله مالك، وقال ابن الماجشون: ولا يلزمه صداق ولا أدب، ولا تحد هي لما رمته به، وقالع أصبغ.
وإن كان متهمًا فلها عليه صداق المثل. قاله ابن الماجشون وأشهب، وقال ابن القاسم لا صداق لها أن يشهد رجلان أنه احتملها وغاب عليها، فتحلف وتأخذ صداقها إن ادعت أنه أصابها ويوجع هو ضرًا، وقاله مالك.
وقال ابن حبيب: سألت مطرفًا عمن سرق متاعه فاتهم من جيرانه رجلاً أو فريبًا لا يعرف حاله؛ أترى للإمام أن يحبسه حتى يعرف يسأل عنه ويتبين حاله؟ فقال لي: نعم، أرى ذلك على الإمام، وأرى ألا يطيل حبسه.
قلت له: فإن كان هذه المتهم مأبونًا بالسرقة متهمًا بها؟
قال فذلك أطول لحبسه، وإن وجد عنده بعض متاعه وادعى المتهم أنه اشتراه، ولا بينة له، وهو متهم بالسرقة فلا سبيل للمدعي إلا فيما في يديه وإن كان غير معروف بذلك، فعلى السلطان حبسه والكشف عنه.
وإن كان معروفًا بالسرقة مأبونًا في حاله حبس أبدًا حتى يموت في السجن. قال: وسألت عنه ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ فقالوا مثله، وكتب بذلك عمر بن عبد العزيز. [687]
***(2/33)
[688] وقال ابن المواز من ادعى سرقة واتهم بها من هو من أهل التهم، كشف واستقصى عليه بقدر تهمته وشهرته بذلك، وربما كان فيه الضرب، وهذا فول العلماء، وقاله مالك والليث.
قال ابن وهب: قال الليث من وجد معه متاع مسروق وقال: اشتريته، فإن كان متهمًا عوقب. وكتب عمر بن عبد العزيز في مثله أن يسجن حتى يموت، وقال أشهب: إذا شهد فيه أنه متهم فإنه يمتحن بقدر ما اتهم فيه، وعلى قدر حاله، ومنهم من يجلد بالسوط مجردًا.
وإن كان الولي غير عدل فلا يذهب به إليه ولا يشهد عليه عنده، إلا أن يعرف أنه لا يأخذه بغير حق. ابن المواز، وذكره ابن حبيب عن أصبغ من حال الوالي برجل، فقال: سرق متاعي، فأن كان موصفًا بذلك متهمًا هدد وامتحن وأحلف.
قال محمد: قال أشهب: لا يمين عليه. قال ابن حبيب عن ابن الماجشون: من شهدت عليه بينة أنه سارق معروف بالسرقة متهم بها قد سجن فيها غير مرة، إلا أنه لم تكن معه سرقة حين شهدوا عليه، فلا يقطع بذلك لكن يطال سجنه.
في الشهادة على ابن حمدون يعصر الخمر وبيعها:
شهد عند القاضي أحمد بن محمد قاضي الجماعة بقرطبة محمد بن كليب ومحمد بن زياد وزكريا بن خميس، أنهم يعرفون عبد الله بن حمدون بعصر الخمر وبيعها وبشربها ويدخرها ويجتمع إليه أهل الشر والفساد.
فجاوب أبو صالح وابن وليد وعبيد الله:
شهد عند القاضي أحمد بن محمد قاضي الجماعة بقرطبة محمد بن كليب ومحمد بن زياد وزكريا بن خميس، أنهم يعرفون عبد الله بن حمدون بعصر الخمر ويبيعها ويشربها ويدخرها ويجتمع إليه أهل الشر والفساد.
فجاوب أبو صالح وابن وليد وعبيد الله:
قرأت – وفقك الله – الشهادات وفهمتها – إن شاء الله – فإما شرب الخمر ففيه الحد ثمانون سوطًا، وأما عصرها وبيعها فالأدب على قدر ما يزعمه من ذلك وينهاه، وأما جمع أهل الشر والفساد فأكثر من ذلك من الأدب والحبس حتى بظهر منه توبة تعرف بعد الإعذار إليه في شهاداتهم عليه. وقاله محمد بن وليد.
اللوث في الدم: كشفتك – رحمك الله – عن اللوث في الدم ما هو عندك وما يؤخذ به في ذلك، فقلت لي مشافهة: هو الرجل العذل، ولو وجدت في الدم أكثر من هذا لأخذت به اجتهادًا وحيطة، فأردت أنه يكتب إلي بخط يده بذلك ليكتب بعدك أصحابك.[688]
***(2/34)
[689] فجاب عبيد الله بن يحيى بخط يده:
نعم – رحمك الله – كذلك قلت لك، وهو رأيي والذي كنت أعرف والذي رحمه الله يقوله ويشير إليه، وقال ابن لبابة: هذه مسألة فد اختلف فيها، فالذي وضعه مالك في الموطأ أن اللوث البينة غير القاطعة.
وروى أشهب عن مالك أن للوث: الشاهد العدل والشاهد غير العدل واللفيف، وروى ابن القاسم عن مالك وقال به أن اللوث الشاهد العدل، وقال به أصبغ.
وللقاضي – وفقه الله – التخير على الاجتهاد بما يوفقه الله له من الحق إن شاء الله. وقاله أيوب بن سليمان، وسعد بن معاذ، ومحمد بن وليد ويحيى بن سليمان.
قال القاضي:
ما أدل هذه المسألة على قلة علم عبيد الله لاقتصاره في جوابه عنها على رأيه ورأي أبيه مما قيل في ذلك – رحمه الله وإياهم – وكذلك كان العلم في أكثر الأوقات عزيزًا قليلاً، فقهنا الله في الدين.
وقال ابن حبيب: سألت مطرفًا عن تفسير قول مالك: لا تكون القسامة إلا بأحد وجهين: قول المقتول دمي عن\د فلان أو لوث من بينة غير قاطعة. فقال لي: سألت مالكًا عن اللوث، فقال لي اللطخ، أليس مثل اللفيف من السواد والنساء يحضرون ذلك، والرجلين غير العدلين أو النفر غير العدول يشهدون على ذلك، فتكون القسامة معهم.
قال مطرف وقد كان بعض أصحاب مالك يروي عنه أنه قال: لا يكون اللوث إلا الشاهد العذل. وهو وهم من رواه، فاحذر هذا القول لا تقبله، فأظنه أنه قد انتهى إليك أنما قال له ابن أبي حازم ويومًا – ونحن جميعًا معه – يا أبا عبد الله ترى الشاهد العدل لوثًا؟ فقال: نعم، فجعله بعض من سمعه معنى أن تفسير اللوث: الشاهد العدل، وإنما معناه أنه لوث أيضًا، وهو أبين اللوث وأظهره، وإنما اللوث بعينه اللطخ البين، والشاهد الواحد منه اللوث والنفر غير جائزي الشهادة، أو الصبيان أو النساء إذا حضروا ذلك من اللوث أيضًا. وقد قيل بذلك عندنا بالمدينة.
واللوث التباس الأمر واختلاطه، تقول: التاث هذا الأمر، فأعرف هذا، وإياك أن تقبل غيره. وسألت عنه ابن الماجشون فقال لي مثل قول مطرف، وأعلمت به أصبغ فاستحسنه، وقال به، ورأى أنه الحق والصواب.[689]
***(2/35)
[690] وقال ابن حبيب: وأخبرني أصبغ عن ابن وهب عن الليث عن ربيعة ويحيى بن سعيد في نسوة شهدن عرسًا أو جنازة، فتنازعت امرأتان منهن، فشهدت امرأة كانت معهما أن إحداهما ضربت الأخرى بحجر على فؤادها فقتلتها وجحدت المرأة ا القسامة تكون مع شهادتها، وهو من اللطخ والشبهة.
قالا: وكذلك كل من شهد فيه النساء أو العبيد أو الصبيان أو ايهود أو النصارى أو المجوس من قتل فجأة أو قتل أو جرح، ولا يحضره غيرهم فإن شهادتهم في مثل هذا لطخ ولوث بين تجب به القسامة. ومثل أن يرى المتهم بحذى المقتول وقربه وإن لم يرده حين أصابه.
ولمالك في سماع أشهب أن المرأة لوث، وأن العبد ليس بلوث. وقال ابن حارث:
رأيت لسحنون: إنما يقسم مع الشاهد العدل إذا رأى جسد المقتول ميتًا. وقال محمد بن عمر أخو يحيى بن عمر: لا يعجبني هذا وهو خلاف قول المصريين.
وقال ابن القاسم عنه في المختلطة: اللوث الشاهد الواحد إذا كان عدلاً، ويرى أنه حاضر الأمر في المجموعة مثل من روايته وقال عنه ابن نافع: ولا يحلف مع شهادة المسخوط ولا النساء ولا العبيد ولا الصبيان.
وقال ابن المواز قال عن مالك أصحابه: لا تجب القسامة إلا بأحد أمرين إما أن يقول الميت دمي عند فلان أو بلوث من بينة على القتل وإن لم يكن قاطعة. وأحب إلي أن يكون اللوث شاهد عدل أو امرأتان عدلتان ثم روي أشهب عنه – وهو في العتبية – أنه الشاهد وإن لم يكن عدل، وكذلك المرأة. وقال مرة في غير العدل: أرجو. وقال: ليس شهادة العدل باللوث.
قال محمد وذهب أشهب إلى أنه يقسم مع غير العدل ومع المرأة، وأما العبد واصبي والذمي فلم يختلف فيه قول مالك وأصحابه أنه ليس بلوث. قال أشهب ودعوى الميت أقوى في التهمة من شهادة المسخوط.
قال ابن عبد الحكم: لا تجوز شهادة النساء في قتل العمد، ولا تكون لطخًا. قال محمد يريد امرأة واحدة، وأما امرأتان عدلان فيقسم مع شهادتهما، ويقتل بذلك.
قاله ابن القاسم: وفي المنتخب لمحمد بن يحيى بن عمر بن لبابة: رجع مالك عن قوله يريد في الموطأ – بلوث من بينة، إلى أن قال: اللوث الشاهد العدل. قال: وقال ابن القاسم:[690]
***(2/36)
[691] وما كل الناس اجتمع على هذا، فكيف إذا كانت غير قاطعة.
قال القاضي: فأين عبيد الله من هذا كله، وفي التفسير الأول ليحيى بن يحيى عن ابن القاسم عن مالك في رجلين شهد أنه حضر بهما ثلاثة رجال يحملون خشبة ومعهم صبي هو ابن لأحدهم، فلما غابوا عنهما سمعا وقع الخشبة في الأرض وبكاء الصبي فأتبعاهم، فوجد اشخبة في الأرض، والصبي في حجر أبيه في الموت، ومات من ساعته: إنها شهادة قاطعة، تجب الدية على عواقهم، وإن لم يشهدا بالمعاينة.
قال: قتل هذا وليي ولي وشهد بذلك رجلان ليم يعرفهما القاضي:
فهمنا – وفقك الله – ما كشفت عنه عن أمر الذي أتاك برجل فزعم أنه قتل وليه، وأتاك برجلين شهدا أن هذا المرمي قتل ولي هذا، ولم تعرف الرجلين، فحبست المرمي، وأمرت أن يعود إليك الشاهدان إذ كنت على ظهر حتى تكتب شهادتهما، فلم يعودا إليك، ولم يعد الرامي، ولا تعرفه ولا قريته، ولا أتاك بسبب أكثر مما ذكرت وله في حبسك أكثر من خمسة عشر يومًا، وأردت معرفة الواجب فيه.
فالواجب إذا لم يأتي الرامي بأكثر مما ذكرت، ولا ثبت نسبه من المقتول ابن عمه، فلا معنى لحبس هذا الرامي، كان متهمًا أو غير متهم، وإنما قال أهل العلم: يحبس المتهم الشهر ونحوه إذا قام بدم المقتول وليه وثبت ذلك، فأما مثل هذا فلا كلام له، ولا يجب به حبس من رماه. قاله ابن لبابة، وأيوب وابن وليد، وعبيد الله، ويحيى بن سليمان، وابن معاذ.
زعم فلان ضربه وعفج بطنه وغير ذلك من التدمية:
سألتنا – وفقك الله – عن أمر عنيت به من أمور الرعية التي قلدك الله أمرها، وجعلك راعيها عناية منك بها، واهتباك بأسبابها، وذلك أنه يردك من التدميات ما حملك على الكشف عنه، وذلك أن الرجل يأتيك بنفسه، يزعم أن فلان تولى ضربه وعفج بطنه حتى صار ذلك في موقف الموت بزعمه، أو يأتيك وليه عنه بمثل ذلك، ويدعوا إلى السماع من بينة على ذلك، ويطلب القائم بها حبس المدعي عليه، وقد يأتيك آخر ويدعي على رجل وبه جراحات غليطة مخوفة، وآخر عليه جراح سهل قد أسال دمه، وأحببت رضي الله عنك أن تعلم ما يلزمك به النظر في هذا لتنظر به إن شاء الله.
فالذي نقول به: إن الزمان قد فسد، وإن هذه الحالة إنما يسرع إليها من لا رقبة له [691]
***(2/37)
[692] عنده ولا خشية تمنعه من ركوب الباطل لاستخراج ما بأيد الناس بمثل هذا من الاحتيال، ولكنه مع ذلك تتوسط لهم بنظرك حالة تكون خلاصًا لك إن شاء الله، وأداء لحق ذوي الحقوق القائمين عندكن إن شاء الله.
فمن جاءك وعليه جراح مخوفة فاحبس المدمي عليهم حتى يصح المجروح أو تتبين حالة يجب بها إطلاقه، ومن جاءك معافى من الجراح يدعي على رجل ضرًا مؤلمًا قد بلغ منه مبلغ الخوف على نفسه بغير سبب قائم، فادعى القائم بمثل هذه البينة على دعواه، فإن أثبت تعدي المرمي عليه ولم يكن عند المدعي عليه في البينة مدفع فغزرن وإن رأيت حبسه فذلك إليك على ما يظهر لكل من شنعه ما ثبت عليه.
ومن جاءك بجرح خفيف وهو ممن يظن به أنه يركب مثل هذا من نفسه فاسلك به سبيل المعافي من الجراح. فإذا نظرت بهذا، كان نظرًا يدفع الله به اليد، ويدرأ به البسط، وينفع به العامة، ويدفع به عن دمائهم وأموالهم إن اء الله، قال بذلك كله محمد بن عمر ابن لبابة، وابن غالبن وابن وليد، وابن معاذ، ويحيى بن سليمان، وأحمد بن يحيى، ويحيى بن عبد العزيز، وعبيد الله بن يحيى.
وقال أيوب بن سليمان: إلا في المدعي الضرب المؤلم غير الظاهر أو الجرح الخفيف، فإنه ادعى ذلك على من يشبه ما ادعى عليه من ذلك من دعواه، وإن لم يدعه على من يشبهه ذلك، فكما قال أصحابنا.
وقال يحيى بن عبيد الله: قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: مالك يقول في المرأة تتعلق بالرجل الفاضل المبرز بالخير والعدل، وتقول: أكرهني على نفسي؛ قال: الحد عليها. وأنا آخذ بمثل هذا في التدمية، إذا قصد بدمه رجلاً فاضلاً قد عرف بالخير لا يقارف الدماء، فغني أبطل التدمية ولست أقبلها منه. قال محمد: وما عندي بينهما فرق.وصدق إن شاء الله عز وجل.
قال القاضي:
ترك يحيى بن عبد الله المصير إلى قول ابن القاسم وغيره والوقوف عنده والفتوى به، لأنه تفقه على محمد بن أدريس الشافعي في حياة أبيه وغيره من أصحاب المالكين، وإن كان قد رد على الشافعي في كثير من مسائله، ولا أظن ابن عبيد الله قد غاب عنه ما قاله ابن القاسم وغيره، فإن كان علمه فكان يجب أولاً أن يذكره ويختار قول من رأى الحق. [692]
***(2/38)
[693] في قوله، وأما أن يعرض عن ذلك مشهور المذهب ولا يذكره ويعداه إلى غيره؛ فذلك تقصير.
في كتاب الديات من المختلطة قال ابن القاسم: قال مالك: من قال دمي عند فلان ففيه القاسمة. ولم يذكر لنا مالك كأن المقتول مسخوط غاو غير مسخوط، وهو سواء وليس كالشاهد؛ لأنه لا يتهم، والمرأة كالرجل في ذلك في العمد والخطأ؛ في ذلك القسامة.
قيل أرأيت إن قال المقتول: دمي عند فلان، فسمى رجلاً أروع تلك البلاد ممن لا يتهم في الدماء ولا غيرها، ليس بمأبون في شيء من الشر؟
قال: لم أسمع مالكًا يحاشي أحدًا من أحد، وأرى أنه مصدق في كل من ادعى عليه، وإن رمى بدمه صبيًا، أقسم ورثته وأخذوا الدية من عائلة الصبي، وكذلك إن رمى بدمه ذميًا أو أمة أو عبدًا، أقسم ورثته واستحقوا دمه؛ فإن كان عمدًا قتلوا، وإن كان خطأ قيل لسيد العبد: ادفع أو أفد، وقيل لأهل جزية الذمي: احملوا عقل هذا الرجل.
وفي تفسير ابن مزين قال: وسألته يريد عيسى بن دينار عن صفة الضرب الذي إذا ادعاه الرجل أنه ضرب به أو قتمت به بينة؛ وجبت القسامة؟ فقال الضرب كله. فقلت له أمن ذلك اللطخة؟ قال: نعم قال الله تعالى: {فوكزه موسى فقضى عليه} (القصص: 15).
قلت: فإن ادعى أن فلانًا ضربه، ومن ضربه يموت، وليس به أثر ضرب من جسده قليل ولا كثر؟
قال: يحمل من ذلك ما تحمل، وتكون فيه القسامة على سنتها. قلت وإن لم تعلم منازعة بين المدعي والمدعي عليه ذلك قبله؟ قال: وإن هو أعلم بما وصل إليه من ذلك.
قلت: وإن رمى بذلك صالحًا من الناس لا يتهم بشيء؟ قال: وإن رمى بذلك خير الناس حالاً، فربما حدثت البلايا، وربما كان الضرب الذي يخفي أثره وهو يكيد صاحبه؛ فالقسامة تجب بقوله، ويمضي على سنتها، ويدين من ذلك ما تدين، وأصدق ما يكون المرء إن شاء الله حين ينزل به الموت ويحضره فراق الدنيا.
قال ابن مزين: وأخبرني يحيى عن ابن يحيى عن ابن نافع مثله. وقال أصبغ من قال: سقاني فلان سمعًا ومنه أموت فمات، أقسم على قوله ووجب القود.
وفي العتبيبة: في آخر سماع عيسى عن ابن قاسم: لا قسامة في مثل هذا إلا في [693]
***(2/39)
[694] الضرب المشهود عليه أو الآثار البينة من الجرح وأثر الضرب، وفي سماع أبي زيد عن ابن القاسم فيمن ركض رجلاً برجله البطن، فمكث أيامًا فزعم أنه يجد من الركضة على فؤاده أمرًا شديدًا فمات. قال: ينبغي مثل هذا أن يخوف ويذكر الله، فإن أصرم وقال: والله مازلت منذ ركضني فلان بشر، وما قتلني إلا الركضة؛ رأيت أن يقسموا معه ويستحقوا دمه إذا كان مضجعًا من يوم ركضه حتى مات، وإن لم يضجع إذا رئي به ضرر ذلك وسببه فهو بمنزلة الاضطجاع.
وقال ابن حبيب في كتاب إلى أصبغ بن الفرج: فيمن قربت إليه امرأة طعامًا، فما أكله تقيأ أمعاءه، فأمكن بالموت مكانه، فأشهد أن امرأته وخالتها فلانة به؛ هل يقسم على قوله؟
وفي قوله من قال: سقاني فلان سمًا منه أموت، ولا يعلم إلا بقوله ولم يتقيأ منه أمعاءه. وهل هذا كقوله: فلان لطمني ومنه أموت، ولا أثر ضرب به؟ فإنه قد نزل هذا ببلدنا، فاستشرنا فيه الإمام فاختلفنا عليه.
فكتب إلي: نعم أرى القاسمة لأولياء هذا الرجل في مسألتكم إن شاء الله، ولا شك فيه عندنا للذي عاجله من الموت وإن لم يقل منه أموت، وهو كالضرب أو الجرح بسيف أو بعصى، فيقول فلان بي فيكتفي به، وإن لم يقل منه أموت، وقد يكتفي بقوله: فلان قتلني، وإن لم يكن به أثر؛ فيقسم عليه ولا يحتاج إلى كشفه كيف قتلني، ولا يمنع ذلك نم القسامة على قوله إن مات.
وكذلك قال مالك فيمن قال: فلان قتلني مجردًا هكذا، لم يصف ضرًا ولا غيره، ولا أثر به؛ أنه يقسم بقوله، وليس عليك أن يكشف عن قوله أنه قتله، ولا متى ضربه.
أخبرنا إياه ابن وهب عن مالك.
وقاله جميع أصحاب مالك، لا اختلاف بينهم فيه: إن من قال: فلان قتلني، أو فلان ضربني، أن القسامة فيه قائمة في العمد والخطأ، وساق جوابه، وفيه طول وبيان اختصرته، وعند آخره: فالقسامة ثابتة في مسألتك في الذي أطعمته زوجته الطعام فتقيأ، إذا ثبت قوله بشاهدين يقسمون عليها أو على خالتها؛ لأنه إنما يقتل بالقسامة واحد؛ سنة ماضية مجتمع عليها من أهل العلم والسلف في زمان الصحابة، وتضرب الأخرى مائة وتسجن سنة.
وفي سماع سحنون وسماع أصبغ: لا يثبت قول الميت دمي عند فلان، أو شجني [694]
***(2/40)
[695] فلان، أو ضربني فلان إلا بشاهدين، فيقسم أولياؤه حينئذ، وأما بشاهد واحد فلان، فالقسامة تجب بقوله: دمي عند فلان على ما تقدم أو بشاهد على القتل أو على الجرح، على مذهب المدونة، وفي سماع يحيى، حتى يشهد على الجرح شاهدان. وفي أول نوازل سحنون القولتان.
من أتى القاضي متعلقًا برجل برمية بدم وليه:
كشف القاضي عن رجل يأتيه قد تعلق بآخر برمية بدم وليه، ويزعم أنه أحق الناس بالقيام بدمه، وأنه عمد لقتله، ولم يوضح ما ادعاه ولا سبب سببًا ما الذي يجب في ذلك.
فتقول – رضي الله عنك -: إذا جاء مثل هذا المدعي يحتاج إلى أن يثبت أنه ولي هذا الدم، فإذا ثبت له قعدده من المدعي دمه؛ كشفت هل له بينة على دعواه؟ فإن ادعى ثبوت ذلك من يومه أو من الغد أمر القاضي بحبس المرمي، وإن أثبت القعدد ولم يحضره بينة على الدم؛ أطلت له في حبسه على ضربين: إن كان المرمي متهمًا خمسة عشر يومًا إلى الثلاثين في رواية زونان عبد الملك بن الحسن، وإن كان غير متهم؛ فاليومين ونحوهما.
فإن أتى طالب الدم في داخل المدة بسبب قوي سقط هذا الحكم، ووجبت الزيادة في حبسه على ما تراه مما يرجى به إحقاق الدعوى أو غير ذلك.
هذا الذي يجب النظر به إن شاء الله. قاله ابن لبابة ومحمد بن غالب، ويحيى بن عبد العزيز، ومحمد بن وليد، وسعد بن معاذ، وأحمد بن بقي، وأيوب بن سليمان، وعبيد الله، ويحيى بن سليمان، ويحيى بن عبيد الله.
وفي كتاب ابن حبيب:
سمعت مطرقًا يقول: من ادعى على رجل أنه شجه أو ضربه ضرًا يخاف منه على نفسه، وقد عرفت العداوة بينهما؛ فلا يحبس المدعي عليه بقول المدعي، إلا أن يأتي بلطه بين وبشبهة قوية، أو يكون المدعي بحالة يخاف عليه فيها الموت، وقد أشرنا بذلك على حكامنا فحموا به. وقال ابن الماجشون، وأصبغ. اختصرتهما.
من رمى حجرًا فأصاب امرأة مجهولة فماتت من ساعتها:
سألتنا – وفقك الله – عن رجل زعم زكوان أنه معتقه، شهد عليه لوث من بينة لم تعرف منهم أحدًا أنه رمى حجرًا، فمضى الحجر عابرًا حتى واقع امرأة فماتت من ساعتها، ولم ترم واحدًا بدمها، وصارت المرأة مجهولة الموضع لا يعلم لها ولي يقوم بدمها، [695]
***(2/41)
[696] فلما رفع إليك أمرها، فما زعم القوم أنهم عاينوه من رميه وحضر المرمي؛ كشفتهم هل عمد لذلك أو كانت رمية لم يقصدها بها؟ فقالوا: ما نقف على أنها كانت رمية عمدًا أو خطأن فأمرت بحبسه منذ شهر ونصف أو نحو ذلك ثم سألت المحبوس النظر في أمره بما يجب له وعليه، وهو منكر للرمية المنسوبة إليه، وأحببت أن تعرف ما يجب عليه في دم المرأة على ما قاله القوم الذي جهلتهم ولم تعرفهم مع فقدان ولي المرأة.
فتقول – والله نسأله توفيك – إن اللوث مختلف فيه، فقد قالوا: هو الشاهد العدل، وقالوا: هو اللفيف والجماعة غير العدول، والذي كان منه في حبسه متثبتًا في أمره وطالبًا الولي إن كان صواب.
فإذا طال هكذا ولم يأت ولي وجهل، فلم تعلم الرمية عمد لها أم لا؟ كان الصواب عندنا أن يؤخذ بقول من ألغى شهادة غير العدول وأخذ في اللوث بأنه الشاهد العدل، فإذا كان القول هكذا لم يجب على هذا شيء، إلا أن يتعدل من الشهود واحد، فإن تعدل فسبيل الأمر فيه على ما حكينا، وإن كانوا مما لا يرجيى فيهم تعديل رأينا – استحسانًا – إحلافه بالله ما رمى هذه الرمية، ولا كان ما قاله الشهود. قال بذلك محمد بن غالب.
وفي قوله: إن أخذت في اللوث باللفيف أقسم عليه، وكانت الديسة على عاقلته إن قام بذلك ثابت النسب، والذي اختار من ذلك أن اللوث الشاهد العدل، وقال ابن وليد مثل ذلك كله. وقال يحيى بن عبد العزيز مثله إلا في اللوث فإنه عنده اللفيف.
وقال ابن لبابة: إذا ثبت لها ولي، كان القول ما قاله أبو عبد الله بن غالب، وإن لم يثبت لها ولي، لم يكن فيها شيء؛ لأنه لا تكون قسامة لمن لا ولي له، وإنما يثبت بشهادة عدلين، وبذلك قال ابن القاسم.
والذي ذهب إليه من الاستظهار باليمين إن كان أراد يمينًا واحدة فإن الدماء لا تستدفع إلا بخمسين يمينًا، كما لا تثبت إلا بخمسين يمينًا، وهذه إذا لم يثبت لها ولي ولم تكن فيها قسامة، فإذا سقط ردها عمن طلب بها.
وقال أيوب بن سليمان: أصل قول مالك في اللوث أنه اللفيف والبينة غير القاطعة، وهو الذي وطأه في كتابه، ولعيه جماعة أصحابه، إلا ما روى ابن القاسم من نقوله بالشاهد العدل، فإن ثبت لهذه المرأة ولي؛ كان هو المحلف لهذا المرمي بدمها، وإن لم يثبت لها ولي، فالمسلمون أولياؤها ووارثوها كما يرثون مالها يرثون دمها؛ لابد لهذا المحبوس أن [696]
***(2/42)
[697] يحلف خمسين يمينًا ما رماها عمدًا، ثم تكون ديتها على عاقلته، فإن أبى من اليمني حبس حتى يحلف، ولا يطل دم مسلم.
وقد روى يحيى عن ابن القاسم في المسلم يقتل المسلم عمدًا الذي لا ولي له إلا المسلمون، أيجوز للإمام أن يعفو عن القتل؟ فقال: لا ينبغي له أن يهدر دم مسلم، ولكن يستقيد له من لا ولي له إلا المسلمون، فكذلك يستخلف في هذا المحبوس. وقال سعد بن معاذ بمثل قول أيوب بن سليمان.
وقال عبيد الله بن يحيى بمثل قول أيوب بن غالب من الاختلاف في اللوث أنه قال بعض أهل العلم وهو ابن القاسم: الشاهد العدل، وقال غيره وهو ابن نافع وغيره من رواة مالك: اللوث الجماعة غير العدول، فأي القولين رأيت الأخذ به، رجوت أن يوفقك الله.
فأما اليمين إذا لم يثبت لها ولي، وأخذت بقول من رأى اللوث الشاهد العدل، فما أرى عليه يمينًا.
من حبس في دم فشهد له بالطهارة والعافية:
شهد فلان بن فلان أنه يعرف ابن فحلون من أهل الطهارة ولزوم العافية واستقامة الطريقة، بعيدًا مما ينسب إليه من مقارفة الدم، ملازمًا للخير وأهله، لا يعلق به عنده مما أضيف إليه من الدم، وأن الذي كان من انتشاب من وشى به إنما كان اغتمازًا في ماله وفي شهادته أنه كلم المرسل به حزم بن أبي العكر في أن يرد عليه ما كان أخذ من ماله؛ فرد عليه تافهاً يسيرًا وحبس سائره، وشهد فلان وفلان بمثل ذلك.
فهمنا – وفقك الله – بطاقة المحبوس للدم الذي بعث به ابن أبي العكر، وما على ظهرها مما أمرك الأمير به من كشف أمره كشفًا مستقصى، وأن ترفع إليه بمبلغ نظرك، ورأينا الشهادات الواقعة عندك للمحبوس فرأينا شهادات تامة توجب الإطلاق من الحبس؛ لأن من قول أهل العلم في الرجل يرمي بالدم هل يحبس؟ فقالوا إن كان المرمي غير متهم لم يحبس إلا اليوم واليوم، فإن لم يحق عليه في شيء أطلق، وأما المتهم فيحبس الشهر ونحوه.
فهذا ما قالوا من غير بينه تشهد للمرمى بالطهارة والاستقامة، فكيف وقد شهد لهذا بنفي الريبة عنه، وبعده مما ينسب إليه إلى طول ما حبس فيه أكثر من سنتين؛ فترى أن إطلاق هذا المحبوس واجب وحق لازم، لا يحل حبسه ساعة من نهار إن شاء الله. قال [697]
***(2/43)
[698] بذلك ابن لبابة، وأيوب ابن سلمان، ومحمد بن وليد.
وقال عبيد الله إن كان لم يشهد عليه بشهادة توجب حبسه، فإطلاقه واجب لا يحل حبسه. وقال محمد بن غالب بمثل قول أصحابه المتقدم في الفتوى، ورأى أنه الحق.
رماه بقتل أخيه وتعلق به فيه فرماه الآخر بقتل خاله:
أشرت – رحمنا اله وإياكم – في حبس الرجل الذي رماه المتعلق به بقتل أخيه ورماه المتعلق به بقتل خاله، فقمتم بحبس المرمي بقتل أخيه ولا يحبس المرمي بقتل خاله، ففعلت وأجلته في جلب البينة على ما ذكره، فلم يأت بينة ولا رأيته بعد ذلك، وقد حبسته منذ أيام بغير سبب ولا معنى ولا بينة ولا شبهة، إلا بما أشرتم به على من التشدد والاحتياط، فإن كنت ترى إطلاقه فاكتب إلي بذلك.
فكتب أبو صالح: إذا لم يأت بشيء – أكرم الله القاضي – فقد أخذ له بحقه في حبسه، ثم يؤخذ له بحقه في إطلاقه، إذا لم يأت صاحبه بشيء. وقاله ابن لبابة.
سجن ابن بريهة في تدمية وعيثه بالقنباينة:
فهمنا – وفق الله القاضي – ما شهد به على ابن بريهة المرمي بالدم الحادث في قنبانية قرطبة بزعم الشهود، ولم تعرف من الشهود أحدًا في سبب الدم، ولا كانت شهادة يجب بها أخذه بدم، ورأينا شهادة محمد بن كليب وما رماه به من العياثة والفساد، فرأينا هذه الشهادة يجب بها خاصة حبس المرمي هشام حبسًا طويلاً، مع تظاهر الشهادات عليه ممن لم يعرف يكون كالتخليد حتى تظهر له توبة.
وذكرت أن له في الحبس عامين، وأن جماعة من أهل الحس ذكروا لك أنه من أهل الصلاح والصيام وتلاوة القرآن، وأن حاله حسنت عندهم، وقد كنا أشرنا عليك أن تسمع هذا من أهل المحبس؛ فإذ قد شهدوا عندك بهذا بجماعتهم، وإن لم تكن قاطعة؛ فإنه يستوجب الإطلاق؛ لأنه لم يحبس على ثبوت شيء عليه؛ لأن الشاهد الواحد لا يحكم به على أحد، وقد قامت له بينة تظاهرت بالتوبة، بخلاف التي شهدت بفساده، ولم تعرف منهم أحد يقولون إن توبته ظهرت عندهم فإطلاقه واجب عندنا، والله أعلم. قال بذلك ابن لبابة، ويحيى بن عبد العزيز.
محبوس في دم لم يثبت عليه ما رمي به وشهد باستقامته:
فهمنا – وفقك الله – ما كشفتنا عنه في أمر المحبوس الذي أمرك الأمير – أبقاه الله - [698]
***(2/44)
[699] بكشف أمره ورفعه إليه بما يصح عندك، وكتابك إلى الأمير – أعزه الله – أنه ليم يقم عندك أحد يسبب إليه شيئًا مما رمى به، وأنه شهد عندك رجل عدله عندك رجلان رضى -0 أنه يعرف هذا المحبوس من أهل الطهارة والاستقامة، وشهدت جماعة لم تعرفهم بمثل ذلك، ورد إليك النظر فيه.
فوجه الأمر فيه أنه إذا لم يقم عندك به أحد، ولا سبب فيه بسبب، وطال أمره وشهد له بالطهارة والاستقامة، فلا معنى لحبسه وإطلاقه من وجهة السنة، ولو سبب عليه القائم ما رماه به، ثم طال أمره ولم يثبت ذلك بشاهدي عدل لوجب إطلاقه ولم يستقم حبسه بعد كشفه والتأني في أمره، فإطلاقه واجب إن شاء الله قاله عبيد الله وابن لبابة، وأيوب، وابن وليد.
تدمية الجهيني على أفلح وختنه:
سمعنا – وفقك الله – الشهادات التي وقعت على أفلح وختنه في تدمية الجهيني؛ فرأينا شهادات ليست تقطع شيئًا، ولكن فيها شبهة تستأني بها في حبسها حتى تستقصي شهادات القائم بالدم، فأن أحق بغير هذه الشهادات شيئًا نظرت فيه بما يظهر لكل إن شاء الله، وإن لم يكن غير هذه الشهادات فإنها ضعيفة، ليس يجب بها عليهما شيء، فإن لم يأت الطالب بشيء يحق به ما قام به بينه وبين الشهر أطلقتهما – قال بذلك ابن لبابة، وأيوب بن سليمان – وكان حبس القاضي لهما إلى استيراء أمرهما من الواجب على ما ذكرناه وحددنا.
جبس العجم للفوفي في الدم وتشكيهم طول سجنهم:
فهمنا – وفقك الله – ما في ظهر الكتاب الذي رفعه العجم المحبوسون إلى الأمير – أبقاه الله – وما فيه من أن التأني في الأمور التي لا وجه لها تفريط، وقد جاوبناك – أكرمك الله – قبل هذا الحين: أنه لو لم يثبت للوفي ما طالبهم به؛ لوجب إطالة سجنهم بما تتابع عليهم من الشهادات، ثم نظرنا فيما كان من حبسهم وما زعموا من طوله؛ فلم نر ما كان من ذلك طولاً في الدم، ونرى أن يزداد في حبسهم ويطال حتى ذلك أدبًا لهم وتشديدًا لمن رام فعلهم، وقد قال تعالى: {فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون} (الأنفال: من الآية 57).
ونحن نسأل الله أن نبقى الأمير ويديم عز الإسلام وأهله بنور دولته وأيامه، ويحسن [699]
***(2/45)
[700] عيون القاضي ويديم نظره، فيما يزال ينفذ حين وجوب التنفيذ، ويستأني في موضع الاستثناء. قاله محمد بن وليد، وعبيد الله، وابن لبابة، وأيوب بن سليمان، وأحمد بين يحيى.
تراموا بدم سجنوا فيه فاصطلحوا في السجن وكذبوا أنفسهم: حفظكم الله وأبقاكم، بعث إلى صاحب المدينة بثلاث نفر، وقال: تنظر بينهم، فكشفتهم فقال أحدهم: إن هذين قتلا ابن عمي، وقال أحد الاثنين: إن هذا قتل ابن عمي، فأمرت بهم إلى الحبس حتى أعرف رأيكم، فلم يأت الليل حتى بعثوا إلي إنا قد اصطلحنا، وإنما كان شرًا وقع بيننا، وقد تهادرنا واصطلحنا، فكرهت إطلاقهم لما عرفتهم من تحفظي وتثبتي إلا بعد مشاورتكم، فاكتبوا إلي – رحمكم الله – برأيكم في ذلك. فكتبوا فهمنا ما ذكرت – وفقك الله – وشاورت فيه، والذي عندنا في أمر الثلاثة نفر أن يطلقوا ويخلى سبيلهم، إذ قد تصالحوا وتعافوا من دعواهم، ورجعوا إلى أن ذلك كان عن شر وقع بينهم، ولم يكن لما ادعوه وجه يظهر ولا يسبب يدل، ولا سبيل إلى حبسهم بعد هذا، والله أسأله لكل التوفيق. قاله أيوب بن سليمان.
وقال يحيى بن عبد العزيز: إنما يقضي القاضي بين المدعي والمدعي عليه، فيكلف المدعي إثبات دعواه وينظر بينهم بحق وعدل، فإذا رجع عن دعواه وترك إثبات طلبته، فليس على القضاة إجبار الناس على طلب حقوقهم، والذي أجاب به أبو صالح صحيح صواب والله الموفق، إلا أن يكون القاضي استراب أمرهم بشاهد أعلمه بشيء من شأنهم، فأما إذا لم يكن عنده إلا ما كان من دعواهم فلا سبيل عليهم. وقال ابن لبابة، وعبيد الله، ويحيى بن عبيد الله، وأحمد بن بيطر، وسعد بن معاذ، وابن وليد.
سجن بشر بن عبدوس لعقوقه أباه واتهامه بقتل امرأة:
فهمنا – وفقك الله – ما ذكرته من حبسك لرجل يقال له: بشر بن عبدوس لشكيه أبيه به إليك أنه غير بار به، وسبب عليه في ذلك ما حبسته من أجله تأديبًا له، وذكرت أنه بعد أن حبسته قيل لك: إنه كان قتل امرأة، ولم يقله أحد من أهل العدل ولا قيم عندك في دمها بسبب من الأسباب، وإنما كان ما جرى من أمرها خبرًا شاذًا ومضى لحبسه نحو عشرة أشهر، وطلب أبوه إليك في إطلاقه، وقال: إن في دون هذا الحبس ما يؤدبه إن شاء الله. ويرجعه إلى البر به، وأحببت أن تعرف ما عندنا في ذلك.
فالذي نقوله – والله الموفق للصواب – إن إطلاقه واجب، وإن في بعض ما سجنه [700]
***(2/46)
[701] أدبًا له إن شاء الله. قاله ابن وليد، وابن لبابة، وأيوب، وعبيد الله، وسعد، ويحيى بن عبد العزيز.
رجلان قتلا أختهما وشهدا بذلك عليهما، وكشف القاضي عن أمرهما، فلم يختلف أنهما قتلاها لريبة اتهماها بها:
قرأنا – وفقك الله – الشهادات وما ذكرت في أنك أتيت بالمشهود عليهما، بعد أن كنت قد أرسلت من وثقت بهم للكشف عن أمر هذه البينة وخبرها في القرى المجاورة، فأدى إليك الذين أرسلتهم لكشف ذلك أنهم لم يختلف عليهم أن أخويها محمد وأحمد قتلاها؛ إذ اتهماها بالمكروه، وأحببت – أسعدك الله – أن تعرف ما يجب عليك فعله بالمشهود عليهما.
فالذي يجب عندنا حبسهما بهذه الشهادة، واستجماع القول بما نسب إليهما من قتلها على العداء والظلم من غير مكروه، ثبت لعيها حبسًا طويلاً، لحرمة الدم وما عظم الله من أمره، فإن ثبت عندك قتلهما لها ببينة عدل على معاينة القتل، أو على سماع صوتها إذ طرحت في الغدير من عرف صوتها – أن أخويها يقتلانها واستغاثتها بهذا، وقام بالدم من يجب أن يقوم به؛ نظرت عند ذلك بما يوفقك الله إليه إن شاء الله، مما توجبه السنة في ذلك قاله محمد بن وليد، ومحمد بن غالب، وابن لبابة وأيوب بن سليمان.
قال القاضي: في هذا الجواب تفسير فتدبره.
رمى العريف بدم أخيه ستة رجال فحبسهم الأمير ثم صرف النظر فيهم إلى القاضي:
أعلمنا القاضي – وفقه الله – أن الأمير – أصلحه الله – صرف النظر إليه فيس ستة رجال من حبسه، كانوا حبسوا من سبب رمي محمد بن يوسف بن العريف الحجازي إباهم بدم أخيه عبد الرحمن، وأمره أن ينظر بينهم بالحق، وأن القاضي احضر المرميين والرامي، فكشف محمد بن يوسف عما رماهم به، فقال عن أخي عبد الرحمن كان مارًا بهم فنزل لهم بالمبيت بقريتهم بطرفس؛ فأصبح مقتولاً وذكر أن الذين قتلوه من هؤلاء الستة: خليع وإسماعيل وعمر وقريش، وقال إني لا أعرفهم بأعيانهم، وأقر ألأربعة أنهم المسمون بهذه الأسماء، إلا خليعا فقال إنما يسمى خليلاً، وانتفوا أجمعون من قتل عبد الرحمن بن يوسف أخي هذا الرامي.
وقال محمد بن يوسف إن الاثنين من هؤلاء الستة، وهما شريف وسعد الله بريئان [701]
***(2/47)
[702] من دم أخيه، وقال ذلك بمحضرهما ولم يعرفهما بأعيانهما حتى تسميا له، وأنه صح عنده أنهما بريئان من دم أخيه، وقال المرميون: حبسنا منذ عشرين شهرًا، وقال محمد: إنما حبسوا له منذ سنة أو ما قاربها، وقال المرمي: استغار محمد بن يوسف على ماشيتي بعد أن ضربت، وحضر ذلك أهل القرى، وقال عمر بن أحمد أخذ لنا عشرة أثوار.
وكشف القاضي – وفقه الله – عن وجه النظر في ذلك، فالذي يجب في ذلك إذا لم يأت القائم يدم أخيه بالبينة، أو بلوث يجب به الدم مع القسامة، حتى مضت المدة التي أقر محمد أنهم حبسوا فيها أكثر من سنة، وقال المحبسون منذ عشرين شهرًا؛ فلا معنى لحبسهم، ولا يحل حبس مرمي بدم هذه المدة، وإنما قال أهل العلم: إن كان المرمي بالدم متهمًا حبس الشهر ونحوه، فإن لم يؤت عليه بينة في داخل الشهر أطلق، وهؤلاء حبسوا أكثر من ذلك مما لا يجوز حبسهم له.
وفي دون ذلك ما كان فيه استبراء لطلبة الدم، فإذا لم يحق قبلهم حقًا إلى هذه الغاية فلا يحل حبسهم؛ لأن الطالب قد قال: لست أعرفهم بأعيانهم وإنما بلغني أنهم أربعة من هؤلاء الستة، وإبراء اثنين منهم وهو لا يعرفهما حتى تسميا له فأبراهما، فأي شيء – أكرم الله القاضي – أضعف من هذه الطلب.
وفي إطلاق هؤلاء ممن لم تقم عليهم شبهة ولا سبب يوجب حبسًا؛ من ثواب الله، ما نسأل الله أن يوفق الأمير للأخذ به، فإن السجن مقرون بالعذاب الأليم، فواجب على القاضي إنهاء ذلك إلى الأمير لاستعجال إدخال الثواب عليه إن شاء الله. قال بذلك ابن لبابة، وعبيد الله، وأيوب بن سليمان، ويحيى بن عبد العزيز، وابن وليد، ومحمد بن غالب.
مسألة الطبني الذي أصبح في داره بقرطبة مقتولاً:
أصبح الحاج أبو مروان عبد الملك بن زيادة الله بن مضر التميمي الطبني مقتولاً على فراشه، في داره بالربض الشرقي بحاضرة قرطبة بحضرة مسجد الأمير، في آخر ربيع شهر من سنة سبع وخمسين وأربع مائة، ومشى ابنه مبيضًا منذرًا لجنازته للصلاة عليه لهجًا بأنه طرق ليلاً وقتل.
فاستنكر ذلك الوزير أبو الوليد بن جمهور، وأمر صاحب المدينة محمد بن هشام المعروف بالحفيد فنهض إليها ودخلها، وألفى المقتول مذبوحًا، فيه نيف على ستين ضربة بسكين، وتتبع في الدار أثر نزول فيها أو خروج عنها فلم يقع على أثر من ذلك، وألفى[702]
***(2/48)
[703] ثيابه مخبأة في بعض أركان الدار وسكين أقلامه في غرفة فيها دم، وفي سراويل بعض نسائه نضح دم، واستنطقهن فقالت واحدة منهن عن أخرى: هذه قتلته وأعناها نحن، وقالت: كان حقيقًا بالقتل منذ عام.
وكان ابناه ساكنين معه في الدار: المنذر لجنازته وهو الأكبر، وآخر ضعيف الأعضاء قد ضربته ريح، وقال هذا الضعيف: طرقه لصوص فقتلوه، ثم رجع إلى أن قال: إنما قتلته النساء، وإن أخاه الكبير كان واقفًا خلف باب البيت، وثبت موته وورثته، وأن ابني أخيه أحق الناس بالقيام بدمه مع ابنه المضعوف، وشاور في ذلك صاحب المدينة.
فأفتى ابن عتاب:
أنه لا قتل على من كان معه في الدار من نسائه وابنيه، إلا أن على كل واحدمهم القسامة أنه ما قتلهن ولا مالاً عليه، ولا شارك فيه ثم يطال سجنهم. واحتج في ذلك بمسألة قضى فيها القاضي أبو بكر بن زرب، وقال: في هذا المعنى مسألة تشبهها وتؤيده البينة والحجة، إلا أنه لم يجز بها عمل.
قال: ولما كان قول المرأة عن الأخرى: هذه قتلته وأعناها نحن – قولاً محتملاً أن تعني أنها أعانت بقول أو فعل؛ لم يكن عاملاً في قتلها، ولأنها لم تقل هذا إلا بعد البحث عليهن بالشرط وغيره وفزعهن من ذلك في المسألة التي عنى أبو عبد الله بن عتاب بقوله.
وفي هذا المعنى مسألة تشبهها، إلا أنه لم يجز بها عمل هي التي كتبناها قبل هذا من العشر. وذكرها ابن لبابة محمد بن يحيى في منتخبه فيمن خرج من دار، فدخل فيها قوم أثر ذلك فوجدوا فيها قتيلاً يسيل دمه. ونحوه في كتاب التفريع لأبي القاسم ابن الجلاب قال: وإذا وجد مقتولاً بقرية رجل معه سيف، وفي يده شيء من آلة القتل أو شيء من دم المقتول ولعيه آثار القتل؛ فذلك لوث يوجب القسامة لولاته، إلا أن ابن عتاب لما وجد ابن زرب قد قضى فيما يشبه مسألة الطبني بخلاف هذا وصار إليه واتبع العمل فيه.
ويسوغ أن يحتج له بما في سماع ابن القاسم في رسم تأخير صلات العشاء: في امرأة نزل بها رجل فمات فجأة، فاتهمت به، وسأل وليه مالكًا عن ذلك، وقال: أتهمها به من وجه لا أستطيع بثه. قال مالك: يكشف أمرها فإن كانت غير متهمة لم أر أن تحبس يومًا واحدًا وأرى أن يخلى سبيلها. قيل له: أفتهدد؟ قال: لا أرى ذلك إذا كانت غير متهمة.
قال ابن القاسم: فإن كانت متهمة حبست ولم يعجل تسريحها لعلها تعين عليها [703]
***(2/49)
[704] شيء فإن لم يوجد شيء وطال حبسها استحلفت خمسين يميناً وخلى سبيلها.
وأفتى ابن القطان وابن مالك: في مسألة الطبني أن لابنه الضعيف القيام بالدم. وفي هذا نظر؛ لقوله أولاً: طرقه لصوص وقتلوه.
فجمع الوزير أبو الوليد بن جمهور الفقهاء والحكام والناس في مسجد ابن عتاب المعروف بمسجد غانم، وأرسل في ابن القطان وغيره من المشاورين، فأنوا من إيثار ابن عتاب عليهم بجمعهم في مسجد عند باب داره؛ فتغيبوا فقال الوزير للرسول: هم وما اختاروا، ونزل الويزر في المسجد مع الناس، وأمر بإحضار ابني المقتول وبني عمهما، وقرئت الشورى، وأمر الوزير بالأخذ بجواب ابن عتاب ونفذ القضاء به، وأقسم الابن الكبير وأم ولده وأم المقتول في داخل المقصورة بالجامع عند مقطع الحق فيه عافى الله في الدنيا والآخرة.
شروى كتبتها في قتل ابن فطيس زوجة رحيمة ابنة عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ابن شهيد: بسم الله الرحمن الرحيم، استحضر الحاجب سراج الدولة أبو عمر عباد بن المعتمد على الله المؤيد بنصر الله – أعزه الله – الوزير صاحب المدينة بقرطبة: محمد بن زياد – وفقه الله والفقهاء – سلمهم الله – وشاروهم عنده – أبقاه الله – الوزير صاحب المدينة فيما جرى بين يديه وثبت لديه، في أمر فطيس بن عيسى بن فطيس المتهم بذلك زوجته رحيمة بنت عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن شهيد، وأعلمهم أن الوزير مغيث بن محمد بن يونس بن عبد الله جدها للأم قام عنده وحضر مجلس نظره، وذكر أن حفيدته رحيمة هذه ذبحها فطيس بن عيسى وسأله النظر في ذلك.
وأثبت عنده أن سراج بن عبد الله في أيام توليه لأحكام القضاء بقرطبة – رحمه الله – قدمه للنظر على رحيمة وأخيها شقيقها عبد الرحمن بن عبد الرحمن تقديمًا، أقامه لهما به مقام الوصي، ,أثبت عنده أيضًا حمدة له على القيام عنها في طلب دم المقتولة ابنتها، وأن ينوب في ذلك منابها توكيلاً مفوضاً، أقامته به مقام نفسها.
وأتى إليه بمن قبل وأجاز من الشهداء، وشهدوا عنده على عين فطيس في شهر رمضان سنة اثنتين وستين وأربع مائة: أنهم يعرفون ساكنًا مع زوجة رحيمة بنت عبد الرحمن عبد الله بن خالد بن شهيد في داره بشرقي مدينة قرطبة – منفردين لا يسكن معهما أحد لا خادم ولا غيرهما، منذ نحو أربعة أشهر متقدمة لتاريخ شهادتهم المذكورة، [704]
***(2/50)
[705] وأنهما لم يداخلهما أحد – في علمهم – إلى أن دخلوا عليها يوم الجمعة لثلاث عشر ليلة خلت من شهر رمضان في الدار المذكورة؛ فوجدوا مكتوفة مذبوحة ولم يروا في الدار أثر لدخول أحد فيها من جهة من جهاتها ولا نزول من سقف ولا غيره فيها، ويعرفون فطيسًا ملازمًا لسكني هذه الدار وللمبيت فيها مع زوجته رحيمة هذه، ولا يعلمونه غاب من الدار إلى أن وجدوا رحيمة هذه مذبوحة فيها.
وأنهم يعرفون أن المحيطين بميراثها في علمهم: أمها حميدة بنت الوزير مغيث بن محمد ابن يونس بن عبد الله وأخوها شقيقها عبد الرحمن بن عبد الرحمن الصغير، وأختاه للأم أمة عبد الرحمن وأمة العزيز بنت محمد بن حسين بن أحمد التميمي، وزوجها فطيس بن عيسى المتهم بذبحها.
وأعذر فيما ثبت عنده من ذلك إلى فطيس، وأعلمه بثبوته عنده وبمن ثبت، فقال: إنه لا مدفع عنده فيه، وأنه لم يقتل زوجه رحيمة، وثبت عنده قوله هذا بمن قيل وأجاز من الشهداء، وثبت عنده أن أولى الناس بطلب دمهم والقيام به مع أمها حميدة وأخيها عبد الرحمن الصغير ابنا عم أبيها للأب محمد بن أحمد بن حكم بن شهيد، ومحمد بن هشام بن شهيد.
وحضر مجلس نظره وقال فيه محمد بن أحمد منهما: إنه لا يقسم في ذلك إن وجبت لهم القسامة، وذهب محمد بن هشام إلى أن يقسم إذا وجب وثبت عنده ذلك من قولها.
وسأل الوزير صاحب المدينة الفقهاء الجواب في ذلك كله، وكيف وجه الحكم فيه، وأظهر المتهم ما ثبت عنده مما تقدم وصفه، وإقرارهم إياه على نصه.
فقالوا: نرى – والله الموفق للصواب – إطالة حبس فطيس بن عيسى موثقًا في الكبل مضيقًا عليه في الحبس زمانًا طويلاً، حسما يؤديك إليه اجتهادك، رجاء أن يقوى في خلال ذلك لطخ الدم به، فإن طال حبسه ولم تقو ريبته وظنته، وبقى على حال أمره؛ قال بعضهم: فيقسم حينئذ في مقطع الحق بالجامع خمسين يمينًا: أنه ما قتلها ولا شارك في دمها، ثم يصرح ويخلى سبيله، والله تعالى حسيبه.
وقال بعضهم: بل يقسم بعد طول الحبس – وليها محمد بن هشام ورجل أو رجال من عصبتها، في مقط الحق بمحضرك ومحضر ملأ من المسلمين، إن كان أخاها غير بالغ في ذلك الوقت على عين فطيس وبمحضره: بالله الذي لا إله إلا هو، لقد قتلها عمدًا يكررون [705]
***(2/51)
[706] اليمين بذلك خمسين مرة.
وإن كان أخوها قد بلغ الحلم؛ أقسم مع محمد بن هشام على فطيس أنه قتلها، واقتص منه. وإن لم يكن مع محمد بن هشام من يقسم معه من عصبتها، بقى فطيس في السجن حتى يبلغ أخوها، وأقسم هو وأخوها شهيد، وقتل فطيس إن شاء الله عز وجل.
قال بالقول الأول عبد الله بن محمد بن عباس، وعبد الرحمن بن سوار، وعلى بن محمد. وقال بالقول الآخر محمد بن فرج، وعبيد الله بن محمد، واحتج محمد بن فرج لقوله بحيدث مالك عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري أن سهل بن أبي حثمة تدثه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قضى بالقسامة في عبد الله بن سهل الأنصاري ثم الحرثي، يوم قتل بخيبر وبدأ ولاته باليمين، ثم وداه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمائة من الإبل، كذا اختصره ابن حبيب في الواضحة.
وتمامة عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره رجال من كبار قومه أن عبد الله ومحيصه خرجا الىخيبر من جهد أصابهم فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير عين، فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه فأقبل حتى قدم على قومه، فذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأهوه حويصة، وهو أكبر منه وعبد الرحمن، فذهب محيطصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "كبر كبر" يريد السن فتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "إما أن تدوا صاحبكم (1) ". الحديث
ورواه مالك أيضًا عن يحيى بن سعد عن بشير بن يسار أنه أخبره أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر فتفرقا في حوائجهما، فقتل عبد الله بن سهل الحديث.
وإن أمر ابن فطيس بمصالحته بعدة من الذهب أداها وخلى عنه. وقال ابن حبيب: أخبرني ابن الماجشون، عن إبراهيم عن ابن سعد عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار ورجال من الأنصار من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية. [706]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه البخاري معلقًا ج 6، ص 2618 – باب الشهادة على الخط المختوم، والنسائي في الكبرى ج 3، ص 483 برقم 5988.(2/52)
[707] نصرانية زعمت أن عيسى هو الله تعالى، وقالت: كذب محمد فيما ادعاه من نبوته عليه السلام:
بسم الله الرحمن الرحيم، يشهد المسلمون في هذا الكتاب أنهم حضروا في مجلس القاضي أحمد بن محمد قاضي الجمعة في قرطبة، فدخلت عليهم امرأة تسمت بزيجة زعمت أنها نصرانية، فاستهلت بنفي الربوبية عن الله عز وجل وتكذيبها محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلان فلان.
فهمنا – وفقك الله – ما قالت المرأة الملعونة المتسمية بزيجة، وما شهد به عليها من نفيها الربوبية عن الله عز وجل وقولها: إن عيسى هو الله، وتكذيبها بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم)، فالذي نراه أن قد وجب عليها القتل وتجيلها إلى النار الحامية، عليها لعنة الله. قال بذلك عبيد الله بن يحيى، ومحمد بن لبابة، وسعد بن معاذ، ومحمد بن وليد، وأحمد بن يحيى.
قال القاضي:
في سماعه عيسى، في رسم يدير ماله، إذا قال الذمي؛ اليهودي أو النصراني: لم يرسل إلينا محمد وإنما أرسل إليكم، وإنما نبينا موسى وعيسى وما أشبه ذلك.
وأما إن قال: ليس بنبي، ولم يرسل ولم ينزل عليه قرآن، وإنما هو شيء تقوله فالقتل عليه لا شك فيه، وإن نال المسلم من النبي عليه السلام شبه ذلك قتل أيضًا.
وفي رسم شهد قال ابن القاسم: إذا قال النصراني ديننا خير من دينكم، إنما دينكم دين الحمير، عوقب عقوبة موجعة، وإن شتم النبي عليه السلام شتمًا يعرف، قال مالك: ضربت عنقه. فقال لي غير مرة إلا أن يسلم، ولم يقل لي يستتاب. ومحمل قوله عندي:إن أسلم طائعًا.
ولقد سألناه عن نصراني كان بمصر، شهد عليه أنه قال: مسكين محمد يخبركم أنه في الجنة هو الآن ما له لم ينفع نفسه؛ إذ كانت الكلاب تأكل ساقية، لو كانوا قتلوه استراح الناس منه.
فلما قرأناها عليه صمت، وقال: حتى أنظر فيها، ثم قال بعد المجلس أين كتاب الرجل، لقد كدت ألا أتكلم فيها بشيء، ثم تفكرت في ذلك فإذا أنا لا يسعني الصمت عنه، اكتبوا إليه يضرب عنقه.
قال ابن القاسم عنه: إن شتم النبي عليه السلام قتل ولم يستتب.[707]
***(2/53)
[708] وفي كتاب التفريع الله تعالى أو رسوله عليه السلام من مسلم أو كافر: قتل ولا يستتاب. وذكر عبد الوهبا في الذمي روايتين في قبول إسلامه بعد ذلك.
عشار قال: أد واشتك إلى النبي وقال: إن كنت سألت أو جهلت، فقد سأل النبي، وجهل (صلى الله عليه وسلم) ولعن العشار:
سئل ابن عاب عن رجل عيان يرصد المسلمين بباب المدينة، ويفتش عليهم أحمالهم وأمتعتهم وما يدخلون به في أسفارهم، ففتش على رجل بحضرة جماعة وضيقعليه، فقال له بضعهم: لما هذا التضييق؟ هكاذ كنت تفعل بغرناطة، ثم رأيتك بعد ذلك تسأله، وستكون كذلك إن شاء الله. فقال له العيان: إن كنت سألت فقد سأل النبي، وقال أيضًا: إن كنت جهلت فقد جهل النبي.
فشهد عليه بذلك جماعة من المسلمني، وأنكر ما شهدوا به، فعدل عند القاضي عدلان رجلاً من الشهود، وعدل أحدهما رجلاً آخر بعد أن سأله القاضي عنه، وكان تعديلهما بالعدل والرضا، وشهد عليه أيضًا رجل سمعه يقول لرجل كان قد فتش عليهك أد ما عليك واشتك إلى النبي. وأنكر العيان ذلك كله، وأعذر إليه فلم يكن عنده مدفع.
فجاوب ابن عتاب:
فرأت – رحمنا الله وإياك – خطابك، وفهمت ما سألت عنه، وقد قال الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ } (الحجرات: من الآية: 2) الآية وقال: { لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ} (الفتح: من الآية: 9)، وقال {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ} (الأعراف: من الآية: 157)، وقال: {رَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}(الشرح: 4) وقال: { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} (النور: من الآية: 63) { الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} (الأحزاب: من الآية 57)، في آي كثير أمر الله تعالى فيه عباده أن يهاب نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وأن عظم ويوقر ويعزز وينصر، وفرض ذلك عليهم إجلالاً وإكرامًا وتفضيلاً، وأوجب ذلك له في حياته وبعد مماته إلى قيام الساعة (صلى الله عليه وسلم) وشرف وكرم.
وروي عن بعض أصحابه قال: كان رجل يسب النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: "من يكفيني [708]
***(2/54)
[709] عدوى"؟ فقال خالد بن الوليد: أنا، فبثه النبي (صلى الله عليه وسلم) فقتله (1).
وثبت أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "من لكعب بن الأشرف" فقال محمد ابن مسلمة: أنا، فأتاه محمد بن مسلمة فقتله (2).
وقال ابن القاسم: من سب النبي (صلى الله عليه وسلم) أو عابه أو تنقصه، فإن كان مسلمًا قتل ولم يستتب، وميراثه للمسلمين.
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: إن زر النبي صل وسخ، وأراد به عيبه قتل.
وروى ابن وضاح فيمن عبر رجلاً بالفقر، فقال: تعيرني بالفقر والنبي عليه السلام قد رعى الغنم، فقال مالك: قد عرض بذكر النبي عليه السلام في غير موضعه، أرى أن يؤدب.
بالكتاب والسنة يوجبان أن من قصده بأذى أو تنقيص معرضًا أو مصرحًا وإن قل؛ فقلت واجب إذا ثبت ذلك ببينة عدلة، وكذلك القول فيما سألت عنه، إلا أن القاضي لا يكتفي في التزكية والتعديل برجل واحد، وإن كان القاضي والسائل عن الشاهد.
وقد قال ابن القاسم: قال مالك: ولا أحب أن يسأل القاضي في السر اقل من رجلين ولا يقبل في التعديل أقل من اثنين وقاله جماعة من أصحابه وقال مطرف وابن الماجشون وغيرهما وينبغي للحاكم أن يثتكثر من العدلين على الشاهد ولا يكتفي في ذلك باثنين إلا في التبرز في العدالة والعلم بالتعديل ووجوهه وذكرت في سؤالك أن الشاهد الواحد عدله رجلان وعدل الواحد منهما رجلاً آخر بعد أن سأله القاضي عنه فأن لم يعدله غير الواحد الذي كان فالذي يجب عليه بذلك الأدب الموجع والتنكيل والسجن الطويل حتى تظهر توبته فالشهود فالشهود والمعدلون هم الذين يعول عليهم القاضي وبهم تنقذ الأحكام وقد قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لا يوسر رجل في الإسلام بغير العدول والله أسأله التوفيق والتسديد والخلاص بمنه.[709]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ج 5، ص 237 برقم 9477، وأبو نعيم في الحلية ج8، ص 45، واعلم أن الحديث فيه أن الزبير (رضي الله عنه) هو الذي خاطب الني (صلى الله عليه وسلم).
(2) ... الحديث أخرجه البخاري ج 2، ص 887 برقم 2375، ومسلم ج 3، ص 425 برقم 1801.(2/55)
[710] مسألة ابن حاتم الطليطلي المحكوم عليه بالزندقة
كان عبد الله بن أحمد بن حاتم الزدي الطليطي هذا مقبول الشهادة عند قاضي طليطلة أبي زيد عبد الرحمن بن عسى الحشا وشاهدته مرارًا يزكى عنده الشهود ثم قيم عنده علي بن حاتم في سنة سبع وخمسين وأربع مائة وشهد عنده عليه نحو ستين شاهدًا بأنواع من التعطيل والاستخفاف بحق النبي (صلى الله عليه وسلم) وحق عائشة وعمر وعلي رضي الله عنهم فمن دونهم من ذلك أنه كان يقول عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وشرف وكرم قال اليتيم ويتيم قريش، وقال: ختن حيدرة، ولم يرد هذا ختن حيدر. وقال عنه عليه السلام: لو استطاع على رقيق الطعام لم يأكل خشينه، وأن زهده لم يكن عنده قصد، وأن عمر وعلي رضي الله عنهما أجمعين. لعنه الله. وقال: لا يجب في الجنابة غسل، وأنكر القدر وأشياء غير ذلك قبيحة.
وتولى كبره والاحتساب عليه فيه محمد بن لبيد المرابط على سبيل الحسبة، وثبت ذلك عند القاضي أبي يزيد، وهو قد تغيب وفر إلى بطليوس.
وشاور أبو زيد فقهاء طليطلة، وكانوا حينئذ أربقعة: أبو جعفر أحمد بن سعيد اللورنكي، وابو جعفر أحمد بن غيث الصدفي، وأبو عبد الله محمد بن قاسم مسعود القيسي، وأبو مطرف عبد الرحمن بن سلمة، فاجتمعوا على وجوب قتله بعد الإعذار إليه، وسجل بذلك أبو زيد، وأخذ به من قولهم، وقضى به وحكم ونص في التسجيل أجوبتهم جوابًا جوابًا، كما نص شهادة كل واحد من الشهود وجعل السجل نسخًا كثيرة.
وأخذ ابن لبيد منها نسخاً، وخرج إلى دانية ومرسية والمرية وغيرها، وأخذ أجوبة الفقهاء بكل حاضرة، بما يلزم انب حاتم بما شهد به عليه بما تضمنه التسجيل.
وراية عنده جواب أبي حفص الهوزني، وكان حينئذ بمرسية، وجواب غيره وورد قرطبة، فأخذ جواب ابن عتاب وغيره في ذلك، وكان في السؤال: إن كان يجب الإعذار إليه؟ أو يكح في شهادة من شهد عليه تركهم القيام بها مدةظ ومن يرث ماله؟ وهل يجب ضمه إلى بيت المال قبل أن يقتل لقراره؟ وهل يجوز لأحد أن يؤويه؟
فحاوب ابن عتاب على ظهر نسخة من التسجيل: تصفحت – رحمنا الله وغياك – السجل المذكور المنعقد في أمر الملحد عبد الله وأجوبة إخواننا الفقهاء. حفظهم الله، فرأيت أجوبة حسنة مجتمعة في الحكم متفقة المعاني، وجواب الفقيه أحمد بن سعيد المنتسخ أولا في [710]
***(2/56)
[711] السجل جوابًا موعب مستقصى، لم يترك لقائل مقالاً. وما قاله في الإعذار إليه، فقد نزل مثل هذا في أيام الحكم المستنصر الله – رضي الله عنه – في ملحد كان يكنى بأبي الخيرن ولم يكن به وكمناه الناس بأبي الشر، وكان كذلك، شهد عليه بشهادات تشمل معاني من التعطيل والإلحاد، فشاور الناظر في أمره – وهو صاحب الوثائق – الفقهاء بقرطبة.
فأفتى القاضي منذر بن سعيد، وصاحب الصلاة أحمد بن مطوف، وأبو إبراهيم الطليطلي، وغيرهم، بقتله، وترك الإعذار إليه، وأفتى غرهم بالإعذار إليه، وأنهى الناظر في ذلك الأمر إلى الحكم، فا/ر بالأخذ بما أفتى به القاضي ومن وافقه؛ فقد قتله ولم يعذر إليه، وبهذا أقول في هذه القصة، واحتج القاضي منذر وأبو إبراهيم في ذلك بحجج يطول استجلابها. ولا حجة في تأخر الشهود في إقامة الشهادة عليه؛ إذ لم أعذار كثيرة في ترك القيام يعذرون بها. وأما من أجاره وستره ومنع منه، بعد المعرفة بذلك والوقوف على صحة الشهادات عليه، فهو في حرج شديد، ولا يحل له ذلك؛ لقول الله عز وجل: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}(المجادلة: من الآية 22) فمن أجاره أو منع منه بعد المعرفة بذلك، فقد حاد الله وشاقه، { ومَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الحشر: من الآية 4).
وفي الحديث الثابت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "المدينة حرام فمن أحدث فهيا حدثا أو أوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل (1)"، وهذا عام في المدينة وغيرها، ويجب على من أوى هذا الملحد التبري منه لإقامة هذا الحد عليه.
وأما ما سألت عنه من أمر ما له فلا سبيل إليه في حياته، واختلف عن مالك في ميراث الزنديق؛ ففي كتاب ابن المواز: قال ابن القاسم: بلغني عن مالك أنه قال: أرى أن يورث الزنديق بوراثة الإسلام. قال ابن القاسم: وإذا شهد عليه بذلك فاتعرف وتاب لم [711]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه البخاري ج 3، ص 1160 برقم 3008، وابن حبان في صحيحه ج 9، ص 32 برقم 3717، والترمذي ج 4، ص 438 برقم 2127، والبيهقي في الكبرى ج 5 ص 196 برقم 9731، وأبو داود ج 2، ص 216 برقم 2034 والإمام أحمد في مسنده ج1، ص 119 برقم 959.(2/57)
[712] تقبل توبته وقتل؛ فلا يرثه ورثته، وأما من لم يقر ولم يظهره حتى قتل أو مات، فإنه يورث برواثة الإسلام. ولابن القاسم أيضًا: أنه إذا أعلن ما هو عليه وتمسك به، فلا يرثه ورثته وميراثه للمسلمين كمالمرتد، ولا يجوز له وصية ولا عتق. ولابن القاسم في المدونة وغيرها: أن ميراث الزنديق لورثته.
وروى ابن نافع عن مالك في المستخرجة: إن ميراث الزنديق للمسلمين، يسلك بماله مسلك دمه.
وجاب أبو عمر بن القطان: يوفق ماله من الآن، ولا يمكن ورثته من شيء منه، ويقتل دون استتابة ولا إعذار إليه يف ذلك، على ما رواه أشهب عن مالك فيما هو أخف من هذا.
قال القاضي:
يريد في سماعه في كتاب الشهادات: إذا شهد القوم عند القاضي وعدلوا، أيقول للمشهود عليه: دونك جرح؟ فقال مالك: إن فيها لتوهينًا للشهادات، ولا أرى إذا كان عدلاً، أو عدل عنده أن يفعل.
قال القاضي:
وهذه روياة ضعيفة متروكة لم يجز بها عمل من القضاة والحكام، ولا أعلم ن أصحابنا مفتيًا بها في الأحكام. وقد قال ابن نافع متصلاً بها: بل يمكن المشهود عليه منن التجريح بينة وبين المشهود عليه عداوة.
وفي المساع نفسه إذا عدل الشاهد رجلان، وجرحه للمشهود عليه رجلان؛ قال: مالك ينظر في أعدل الشهود. فقد أباح في هذا الجواب للمشهود عليه التجريح في الشهود، وبه القضاء على ما في سماع يحيى ونوازل سحنون؛ في ذلك الكتاب وفي غيره في المدونة والواضحة والموازية وغيرها، وقد تقدم هذا في صدر الكتاب.
وإسقاط ابن عتاب وابن القطان الأعذار في مسألة ابن حاتم هذه غير سالم من الغفلة لأن القاضي المسجل عليه أبا زيد قد قال في سجله: إنه أخذ بقول من شاوره من فقهاء موضعه وحكم به، ولم يختلف عليه واحد منهم أنه يعذر إليه؛ فلا يجوز تعدي هذا إلى غيره لقضاء أبي زيد به واختياره إياه وإمضائه له، وصار من باب إذا قضى القاضي بما اختلف أهل العلم فيه، فلا يجوز لمن يأتي بعده أن يعرض له، ولا ينقصه، ولا اختلاف في [712]
***(2/58)
[713] هذا في شيء من المذهب.
ولعلهما لم يقفا على هذا من السجل، وإن كان وقفا عليه واختار ما أفتيا به فاختيارهما غير موافق للمذاهب، وبهذا أفتيت عند نفوذ الحكم على ابن حاتم وإلى قولي رجع فيه، وبه نفذ القضاء، على ما نذكره بعد هذا في تمام قصته إن شاء الله.
وخاطب أبو زيد بنسخة من قضائه بذلك محمد بن بقي، الناظر في الأحكام بقرطبة، وثبت عنده خطابه بذلك، وقيد على ظهر النسخة أو في أسفلها بثبوتها عنده، وبعد أن أخذ ابن لبيد أجوبة الفقهاء بقرطبة سأل أن يخاطب له قاضي بطليموس بثبوت ذلك السجل، فخاطبه ابن بقي بذلك، وتحمل الخطاب ثقات نهض مع ابن لبيد.
وكان ابن حاتم قد استقر ببطليوس، واطمأن فيها وظهرت له حال عند رئيسها المظفر أبي بكر، وضمه إلى أن يقرأ الكتب عليه، فملا وصل ابن لبيد إليها، وثبت التسجيل عند قاضيها؛ تبرأ المظفر عن ابن حاتم، وخاف ابن حاتم ظفر ابن لبيد به وإلا يحال بينه وبينه، فاستخفى حتى خرج عنها الىشنترين بالغرب، وكان بها مدة، ثم صار إلى سرقطة، فحفره القضاء إلى موضع منيته قرطبة، ووردها لحيته في عقب ربيع الآخر سنة أربع وستين، وقاضيها أبو بكر محمد بن أحمد بن منظور، فسمعت المحتسبة بوروده فقصدوا محله وموضع نزوله، ولببوه، وسفعوه، وساقوه إلى القاضي شر سوق حافيًا مقرع الرأس، فأمر بسجنه حتى يثبت عنده ذلك التنفيذ، وثبت بذلك عنده تسجيل أبي زيد عليه، واستحضره.
وشاورنا: هل يعذر إليه أم يقتل دون إعذار؟ فقال جميع أصحابنا: لا يعذر إليه ويعجل قتله. وقلت له أنا: لا يسعك الإعذار إليه فيما ثبت عليه؛ لأن القاضي المسجل بذلك قد أخذ به، وقضى بفتوى فقهاء طليطلة، ولا يجوز لك خلافه، لأنه نقض لحكمه، فرجعوا إلى ذلك، ورأوه صوابًا وأعذر إليه بمضحرنا فقال: إن أبا زيد كان عدوه في أسباب الدنيا وعرضها. فأجله فاتفاقنا شهرين، أولهما لليلتين بقيتا من ربيع الآخر، وصرف إلى السجن، وكفل.
ثم توفى القاضي أبو بكر بن منظور قبل تمام الأجل، وولى مكانه عبد الرحمن بن سوار، واجتمعنا بعد تمام الأجل عند المعتمد على الله، وأحضر في كبله، وسئل: هل أمكنه شيء مما أخر له؟ فقال: لم يمكنني من يسعى لي في ذلك، فاستمرت العزيمة على قتله، [713]
***(2/59)
[714] وخرج المعتمد وخرجنا معه إلى رأس القنطرة، وصلب هناك بمحضره وحضرنا، نصف يوم الاثنين، لئر خلون نم رجب، وطعن بالرمح. والحمد لله الذي عافنا مما به ابتلاه، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً وصلى لله على محمد وأهله وذريته وسلم تسليماً.
قال القاضي: ورأيت من تمام هذه المسألة وصل مسألة أبي الخير بها، التي هي أصلها وشبيهتها في التعطيل والإلحاد.
مسألة الزنديق أبي الخير لعنه الله، وصفه الشهادات عليه:
شهد عندنا قاسم بن محمد، صاحب أحكام الشركة بقرطبة، وقاضي كورة استجة وقبوة محمد بن عبد الله التجبيي، إذ سمع أبا الخير يسب أصحاب البني (صلى الله عليه وسلم) أبا بكر وعمر وغيرهما، وسمعه أيضًا يقول: إن على بن أبي طالب كان أحق بالنبوة من محمد النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويرى الخروج على الأئمة رضي الله تعهم، وسمعه يقول أيضًا: إن الخمر حلال.
وأنه أتاه إلى السوق فقال له محمد بن عبدالله: إن السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم. وقال أبو الخير: ما كان أملي من الدنيا إلا خمسة آلاف فارس أدخل بهم الزهراء وأقتل من بها، وأقوم فيها بدعوةى أبي تميم، وكذلك يكون. فقال له محمد بن عبد الله: ليس أنت من الإسلام في شيء؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "من أظهر علينا السلاح فليس منا (1)" ودفعه عن نفسه.
وشهد محمد بن أيوب بن سليمان بن ربيع: ا، ه سمع أبا الخير يقول: إنما الناس كالعشب: رطب ويابس، ثم لا حساب عليهم ولا عقاب. فقال له محمد بن أيوب: أين قول الله عز وجل: { فَإذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} (يس: من الآية 51) وقوله: { فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}(الشورى: من الآية 7)، فقال له أبو الخير: بعض القرآن خرافة، وبعضه لا شيء، وإنما لسيف يضم الناس لا الإقرار بها. وسمعه يطعن على أبي بكر وعمر وعثمان ورضي الله عنهم، ويطعن في خلافة أمير المؤمنين الحكم – أعزه الله – ويقول: لو كانت بسعة أسياف لكنت العاشر. وعدد عليه شر الخمر، فقال له أبو الخير: هو أحل من الماء للشرب والطهر.
وشهد سهل بن سعيد اللخمي: أنه سمع أبا الخير يقول: أما القرآن النصف الأول [714]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه البخاري ج 6، ص 2520 برقم 6480 ومسلم ج 1، ص 98 برقم 98.(2/60)
[715] فلا بأس به، وأما الثاني فخرفات، ولو شئت لقلت قرآنا خيرًا منه، إذ قال: {والعاديات ضبحا} (العاديات: 1) هلا قال: والسابحات سبحاًن تعالى الله عما قال علوًا كبيراً.
وسمعه قبل ذلك يقول: إنه روي عن بعض الصالحين: لا تعبد الله رجاء ما عنده، فيكون كالأجير يخدم ليأخذ، ولا تعبده لخوف عقابه، كالعبد الذي لا يخدم إلا لخوف من مولاه، ولكن أعبده لما هو أهله؛ ثم عطف فقال: ما هو أهله؟ مستزئاً به، عز ذكره وتعالى.
وشهد حسان بن محمد أنه سمع أبا الخير يقول: الخمر حلال في كتاب الله، ويحتج بقوله: {تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} (النحل: من الآية 67) فمن قال غير هذا فهو كاذب، ويعرفه تاركا للصلوات الخمس في المساجد، وتاركا لحضور الجمعة، وشاربا للخمر محللا لها. وسمعه أيضًا يقول في الملائكة: إنهم بنات الله.
وشهد على بن عبد الله الحجري: أنه سأل أبا الخير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقال: دعا فعليها لعنة الله، لقد أنت من شدة احتراقها – وأفصح عن أقبح من هذا القول فيها – ترقد رسول الله حتى يصلي صلاة الصبح في الضحى.
واجتمع به في مقبرة متعة فقال له: شهدت علي؟ قال هل: نعم. فقال له أبو الخير متهينًا بشهادته وشهادة من شهد عليه: اسمع ما أشهدك به على نفسي: إني أزني وألوط وأشر بالخمر وأسمع العود، ثم قال له: وقفني على هذه الشهادة متى أحببت، فإني أخبرهم بهذا عن نفسي كما أخبرتك.
وشهد أحمد بن سعيد بن بشرى الأموي: أنه يعرف أبا الخير هذا من أهل الطعن على السنن وأهلها، كادحًا فيها، لا يرى إمامه أحد من أئمة المسلمين، هازلا بكتاب الله عز وجل، طاعناً فيه.
وشهد سليمان بن منيه بن عبد الملك: أنه يعرف أبا الخير من أهل المروق والتهزي بالدين، وسمعه يقول: الله در قريش، عفر هذه الوجوه المنتنة بالتراب، وسمعه أيضًا يمدح الخمر ويقولك لقد ظلم محمد في تحريمها، ولقد أحل أشياء كانت الخمر ير منها.
وسمعه محمد بن عمر بن محمد بن عذرة في انصرافه من تشييع خال له خرج إلى الحج، ولقيه ببلاط مغيث وسأله من أين إقباله فأعلمه، فقال أبو الخير ما أحمق الذين يتعبون أبدانهم، ويخرقون ثيابهم، ويقصدون حجارة صماء. [715]
***(2/61)
[716] وشهد مسعود بن عمر خيار الأنصاري: لقد سمع أبا الخير والناس يصلون، وهو يقول: يا لهؤلاء القوم، يرفعون أستاهم ويخفضون رؤسهم بالعجمية.
وقلت له: سبحان الله! فقال لي: يا أبا القاسم لا تكن مع الغوغاء، فلو أن غيرك سمعني لنشبت. وسمته يتأول حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) في السواك، يقول في هذا الحديث معنيان: أحدهما ظاهر، والآخر باطن، فأما الظاهر فهو سواك الفم، والثاني فيما ستر الله، يعني الفاحشة.
وشهد سليمان بن قاسم بن نعمان: أنه يعرف أبا الخير تاركاً للصلوات الخمس في المساجد، تاركاً لحضور الجمعة، شاربا للخمر محللا لها.
وشهد محمد بن يحيى الحضرمي: أنه سمع أبا الخير يقول في النبي (صلى الله عليه وسلم) أن علياً أحق بالنبوة منه، وأن محمدًا غصبه إياها، وأن محاربة بني أمية أحق من محاربة الشرك.
وشهد عبد الله بن بشر القشيري: أنه سمع أبا الخير هذا وهو يتكلم مع نصراني في لحم الخنزير، وهو يسأل النصراني أن يأتيه به، فقال: كيف تأكله؟ فقال أبو الخير: لست على دين محمد، ولا أعتقده. وسمعه يسمي بالجامع دار البقر، ويحل الخمر.
وشهد نجدة بن السطحي الأموي: أنه سمع أبا الخير يسب الله تعالى بكلام كثير، أعظم نجدة أن يتكلم به، وسمعه يتكلم في الديانة وينتقصها بكلام أعظم – أيضًا – نجده أن يتكلم به.
وشهد عمارة بن الفهري: أنه يعرف أبا الخير هذا معطلاً للكتاب والسنة، محللاً للخمر.
وشهد هارون بن محمد المتطيب: أنه سمع أبا الخير هذه يهزأ بديانة الإسلام، وسمعه يقول لمحمد بن عبد العزيز: لولا حالة تلتزمها – يريد الشراب – كان ينزل عليك الوحي.
وشهد أصبغ بن عيسى القسي: أنه سمع أبا الخير هذا يقول: لو استطعت أن أقلع الكعبة وأترك المسلمين بلا قبلة، لفعلت.
وشهد محمد بن أحمد الخزار القروي: أنه يعرف أبا الخير هذا مستهزئاً بديانة الإسلام، يزري على سلف هذه الأمة وخلفهم، ويقول في جملة الصحابة الستة: عليا وعمارًا والمقداد وأنسيت الثلاثة -: أنهم على ضلال وباطل، وأنهم ارتدوا وعادوا كفارًا، وجميع من تبعهم من جملة المسلمين معهم على ضلال وباطل.[716]
***(2/62)
[717] ورأيت له كتابًا جاوز فيه حدود الإسلام إلى معاني التعطيل، وذاكرته ما بلغني عنه من ذلك وأشباهه، فأقر بجميعه، ثم أظهر بعد ذلك التنسك في أطمار صوف يطلب الصدقة، ولم يمض به عام أو نحوه حتى اتصل به عنه شرب الخمر والبهتان العظمي، والنفقات وأفعال الفساق، فاجتمعت به في طريق فقلت له: أبا الخير، ما هذا الذي أنت فيه وبلغني عنك؟ أين التوبة، وما كنت تظهر من الزهد؟ فقال: هذا ضلال ومحال وأخبار المجانين. فقلت له: أين ما كنت تظهر من النسك والزهد والتوبة؟ فقال: إنما تبت تقية وخوفًا، ولو أمنت لناظرت على أكثر مما كنت. قلت – ولا قمت الحجة في ذلك فقلت له – ليست هذه ديانة ولا فعل من يؤمن ببعث ولا حساب، فقال لي:هذه الأخبار الباردة، وهذا المحال أخرجك من بلدك، فقلت له: أخرجني الهروب من الكفر وطلب السنن من أهل السنة، فقال لي:الذين خرجت عنهم هم كانوا أهل الحق والسنة، لا الذين أنت معهم؛ لأن أولئك أهل البيت، ولا ينجيك الفرار منهم.
وشهد محمد بن نجاح الأموي: أنه سمع أبا الخير يقول: الخمر حلال في كتاب الله، ويحتج: {تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} (النحل: من الآية 67) فمن قال بغير هذا فهو كاذب.
وشهد محمد بن حفص: أنه سمع أبا الخير يقول بتحليل الخمر.
وشهد عبد الرحمن بن سعيد الأنصاري: أنه سمع أبا الخير يسب أبا بكر وعمر، ولا يرى خلافه من ولاه الله أمرنا.
وشهد عبد الله بن محمد الأموي: أنه سمع أبا الخير يسب أبا بكر وعمر وأصحابهما، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، ويرميها بالبهتان. ولما قدم عبد الله بن محمد هذا من الشرق سأله أبو الخير: من أكثر بالمشرق: العلوية أو العثمانية أو البكرية؟ فقال له: لقد ظهر الآن العلويون، فقال له أبو الخير: هذا الحق، كأنك ترى الألوية خارجة من داري.
وشهد أحمد بن حفص الرعيني: أنه سمع أبا الخير يقول: لو كانت تسعة أسياف لكان سيفي العاشر، ثم أضع سيفي من باب القنطرة فلا نبقي أحداً.
وشهد إبراهيم بن علي الرعيني: أنه سمع أبا الخير يقول: يحل الكفر واللواط.
وشهد إسماعيل بن حفص الرعيني: أنه يعرف أبا الخير هذا معطلا للمساجد، تاركًا لصلاة الجمعة، لا يرى شهودها، محللاً للخمر، كثير الوقوع في الخلافة المباركة، أدامها [717]
***(2/63)
[718] الله وأنه خطر به رجل من أهل الحرم، فسمعه إسماعيل يقول: اللهم اقطعنا من أيام، فقال له إسماعيل: لماذا فقال: الذي أعرفه: والله لو قام تسعة أسياف لكان سيفي العاشر. وشهد علي بن حفص الرعيني بمثل ذلك.
وشهد أحمد بن عبد الله بن محمد بن بزيع: أنه سمع أبا الخير هذا يقول: اللواط وشرب الخمر حلال.
وشهد محمد بن أحمد بن حكم بن مقسم: أنه يعرف أبا الخير من أهل الاستخفاف بالديانة والتلشية لها.
وشهد يوسف بن سليمان بن داود الأموي: أنه يعرف أبا الخير هذا من أهل البدع والفساد والطعن على أئمة المسلمين وخلفائهم.
وشهد أصبغ بن عبد العزيز: أنه اجمع بأبي الخير هذا بسبته، فمسعه يقول بإنكار الشفاعة، وتخليد المذنبين في النار.
وشهد عبد الله بن حزب الله السكسكي: أنه يعرف أبا الخير هذا يتزين. وسمع رجلا استفتاه في جارية عنده رهينة: إن كان يحل له وطؤها فقال: وطؤها حلال، فكذبته.
وشهد أحمد بن محمد بن حسان أنه اجتمع بأبي الخير هذا بمقبرة قريش فسمعه يقول: أنا أعلم كيل البحار، ووزن الحبال، وعدد الذر.
وشهد يعيش بن داود بن ضابط الأنصاري: أنه عرف أبا الخير هذا يسب أهل السنة والجماعة.
وشهد سعيد بن عاصم الحق لأني: أنه يعرف أبا الخير هذا من أهل البدع، محتجًا على أهل السنة بالبدع.
وشهد أحمد بن عمر الأموي أنه سمع أبا الخير هذا يطعن في الدين، ويحرف السنن، ويعد نفسه أن يدخل القصر عروسًا، يريد بذلك أن يأتي بخليفة يدخله القصر.
وشهد مسعود بن عبد الله الأموي: أنه سمع أبا الخير هذا يحل الخمر، ويقول إذا مت فاغسلوني بها. وكان بلغه قبل ذلك أنه يشرب الخمر، فأنكر ذلك ولم يصدق به، فركب مع أصحابه له ليقف على الحقيقة من أمره، فوجده بقرية طرسيل سركان، وقال له حينئذ هذا المقالة.
وشهد معاوية بن سلمة السبئي: أنه سمع أبا الخير هذا يقول بمذهب المشارقة، عليه [718]
***(2/64)
[719] لعنة الله وغضبه، ويذهب مذهبهم، وأن الملحد الشيعي أمير المؤمنين، وفخر عنده أن جراية الشيعي عليه وعلى أصحابه جارية.
وشهد محمد بن عبد الله بن محمد بن بديع الأموي: أنه سمع أبا الخير هذا يقر بشرب الخمر واللواط، ويقع في الخلافة أعلاها الله، ويقع في الحكام.
وشهد عمر بن أحمد البهراني:أنه سمع أبا الخير هذا يقول بتخليد المذنبين من المسلمين في النار ويعتقد هذا، ويرى الخروج على الإمام. وشهد خالد بن عبد الحميد بمثل ذلك، إلا الخروج على الإمام.
وشهد نافذ بن عباس: أنه سمع أبا الخير يقول: كسر العظام ككسر الحجارة. وكان نافذ قد نبش قبرًا لقريب له، فدخل في القبر وأخرج منه العظام وأعظم كسرها، فقال أبو الخير عند ذلك ما تقدم، فقال له نافذ: وأين حديث عائشة، فقال: عائشة مثل أمك.
وشهد رشيد بن بخت: أنه سمع أبا الخير هذا في بعض المجالس، وقد دارت بينهما مناظرة، فقال له أبو الخير: أين تلزم في السوق؟ وما تجرك؟ فذكر له رشيد موضعه ومتجره، فقال له أبو الخير: للسلطان إليكم سبيل؟ فقال رشيد: بلى، فقال له أبو الخير: أنت ممن يقرأ القرآن؟ فقال له: بلى، فقال له: ألم تسمع الله تعالى يقول: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} (هود: من الآية 113) فرضيت بأن تكون من أهل النار، فرد عليه رشيد في ذلك بما استطاع من الرد، فقال له أبو الخير: ليس هؤلاء من الأئمة الذين تجب إمامتهم ولا معاملتهم، ولو استطعت محرابتهم لجاهدتهم، وكان جهادهم عندي أفضل من جهاد العدو، وكذلك فقهاء هذا الزمان بهذه الصفة عندي.
وشهد بدر مولى أحمد بن خيار: أنه سمع أبا الخير إذا خرج من الطبق يقول – قد سمع صياح صبيان -: ما كنت اشتهي إلا أن اخرج بسيفي هذا؛ لا سيف كان معهم، فأقتلهم صغارهم وكبارهم إلى باب القنطرة، وترجع بدر على ما كان من جوهر في أهل فارس، فقال أبو الخير: أما تقرأ القرآن {إذا جاء نصر الله والفتح} (النصر: 1)، فهذا نصر الله قد جاء إلى الغرب، والفتح يأتي بعده.
وشهد خيار بن عبيد الله: أنه سمع أبا الخير يقول في سوق البزازين – وقد تزاحم الناس -: ما يستحق هذا الخلق إلا السيف.
وشهد عبد الله بن عمر الأموي: أنه سمع أبا الخير يحل الخمر. [720]
***(2/65)
[720] وقال القاسم بن محمد صاحب الشرطة: إسحاق بن منذر بن السيلم تثبت في أمر أبي الخير هذا، فإنه أبو الشر، فاتق الله فيه، وأنا شريك في ثوابه، وإن شئت انتفردني في الثواب فافعل، فإذا تولى صلبه بيدي وإثمه في عنفقي، وكانت شهادة جميع الشهود المسمين في هذا الكتاب على عين أبي الخير وبمحضره، وعرفوه حين شهدوا عليه بما ذلك عنهم من شهاداتهم في هذا الكتاب.
فقبل قاسم بن محمد صاحب الشركة شهادة ثمانية عشر شاهدًا من هؤلاء الشهود، وأجازها لمعرفته بهم، وثبت بهم عنده ما شهدوا به من ذلك، واستظهر بسائرهم، وشاور من حضره من أهل العلم في بيت الوزراء، فعهد أمير المؤمنين الحكم – أعزه الله تعالى – ابن أمير المؤمنين عبد الرحمن – رحمه الله – بذلك إليهم وإليه، فيما ذلك ثبوته عنده على أبي الخير في هذا الكتاب، بعد أن أعلمهم بقبوله لمن قبل من الشهداء، واستظهراه بمن استظهر به منهم.
فقال الفقهاء: قاضي الجماعة منذر بن سعيد، وإسحاق بن إبراهيم، وصاحب صلاة الجماعة أحمد بن مطرف وغيرهم: نرى – والله الموفق للصواب – أنه ملحد كافر، قد وجب قتله بدون ما ثبت عليه من غير أن يعذر إليه فيمن قبلت، بعد أن ينهي ذلك إلى أمير المؤمنين أعزه الله.
وأشار عليه بعض من حضر من أهل العلم بأن يعذر إليه في ذلك، فأخذ الناظر في أمره قاسم بن محمد بقول من رأى أن يقتل بغير إعذار إليه؛ إذا كان ذلك رأيه وأيضًا ومذهبه فيه، وأنهى قاسم بن محمد إلى أمير المؤمنين جميع ما نظر به من ذلك.
فرأى أمير المؤمنين – أصلحه الله – أن الحق والصواب في قول من أشار بقتله بلا إعذار، لما استفاض من إلحاد هذا الملحد وانتشار ذلك عنه، فأمضى ذلك فيه، وأمر بصلبه عضبًا لله ولكتابه ولرسوله، ليكون شرادًا لمن ذهب إلى مذهب من مذاهب، أو ثبت عليه سبب من اسبابه التي تثبت على أبي الشر هذا، لعنه الله.
وكتب أمير المؤمنين – أعزه الله – إلى الوزير عيسى بن فطيس كتابًا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، يؤخذ برأي القاضي، وإسحاق، وصاحب الصلاة، فجزاهم عن الدين والذب عن السنة خيرًا، وقد صرفت الوثيقة لتكون في البيت، ورأيت هذا الأمر قد كثر، وكان ممنوعًا مطرودًا، فتقدم إلى القاضي والحكام بالأخذ على أيد الناس في هذا، فمن [720]
***(2/66)
[721] خالف مذهب مالك بن أنس رحمه الله بالفتوى أو غيره، وبلغني خبره؛ أنزلت به من النكال ما يستحقه وجعلته شردًا، وقد اختبرت فيما رأيت في الكتب أن مذهب مالك وأصحابه أفضل المذاهب، ولم أر في الصحابة ولا فيمن تقلد مذهبه غير السنة والجماعة؛ فليتمسك بهذا ففيه النجاة إن شاء الله.
ولما نفذ عهد أمير المؤمنين أعزه الله بصلب أبي اشر هذا، وظهر من سرور العامة والخاصة بذلك ما لم يظهر يهم، إلا أصبحوا إلى خلافته أعلاها الله.
كتب إليه إسحاق بن إبراهيم: بسم الله الرحمن الرحيم، سلام على أمير المؤمنين وإمام المسلمين، ورحمة الله وبركاته، والحمد لله الذي لا يزال أمير المؤمنين، سيدي وسيد المسلمين، يمده الله بتوفيقه، ويشد بصائره في الخير بتأييده، والذي من عليه بأن كان أول دم أمر بسفكه في خلافته امتعاضًا له عز وجل ولكتابه ولرسوله (صلى الله عليه وسلم)، وغضبًا على من استخف بعظمته واتخذ آياته ورسوله هزوًا، وذلك من فضل الله عز وجل على أمير المؤمنين، وعلى آبائه المهديين رضي الله عنهم، الذين قفا آثارهم وسار بسبيلهم في غضبهم لله عز ذكره، وشدة انتقامهم له من الملحدين والمارقين والمبتدعين.
فلو كان أمير المؤمنين سيدي بمرأى ومسمع من اجتماع رعيته بالأمس، عند ورود الشورى عليهم بما أمر به في الملحد أبي الشرح من استئصاله وقطع شأفته، وسروهم بذلك، واستهلاك جميعهم بالدعاء، والرغبة إلى الله في إعزازه ونصره، وطول بقائه، مع شكرهم له عز وجل على ما اختصم به وفضلهم على جميع أهل الأرض من خلافته، وأطلعهم عليه مما كانت آمالهم قائمة فيه، وراجية منه – لتضاعف سروره – أعزه الله بالحسنة التي تقرب إلى الله بنها في هذا الملحد، وليتبين أن ليس في المسلمين رعية أرغب في إحياء السنة وإتباعها، والحب لإمامها، والشفة عليه والتكلف به – من رعيته.
فلقد رأيت الناس – أبقى الله أمير المؤمنين سيدي – يتلاقون بالتهاني بما أطلعهم الله عليه من باطن أمير المؤمنين إمامهم، في الغضب ولكتابه ولرسوله وللسلف الصالح من صحابته، ولشدة بطشه وعزمته في الانتقام ممن طعن في الدين؛ ما عظم به سروري لأمير المؤمنين سيدي، وبجماعة المسلمين، لعلمي بأنها سيتزودها الركبان إلى جميع أمصار المسلمين وبلدانهم، على أفضل ما قد أطلع الله عليه رعية أمير المؤمنين من نيته واجتهاده، مما لو أنه رام أن يجمع قلوبهم بقوة سلطانه على ما اجتمعت عليه من ذاتها، لما بلغته طاقة [721]
***(2/67)
[722] إلا إلى أقل من ذلك، ولكن الله عز وجل أوصى إليها ما أوصى فتحقق عندها ما لا يتحقق إلا ما عنده، إلا فيما يظهرهم عليه من غيبة، فتبارك الله رب العالمين.
ثم شفع أمير المؤمنين سيدي – أبقاه الله – ما كان تقدم من عهده في هذا الملحد بما جاوب به الوزير عيسى بن فطيس، فيما أنها إليه مما اعترض به من اعتراض في الإعذار فيما ثبت عليه، فبدرت إلى انتساخ ذلك الجواب وأذعته يمن حضرني، فكان سرورهم به كسرورنا وسرورهم بما غدونا عليه من الفرج به غداة خلافته، بل أكثر من ذلكن ثم خرجت بالنسخة إلى من حضرني بالمسجد وقد احتفل من الداعين والمبتهلين والراغبين، فقرأته عليهم، فكلهم دعا بما لا شك أن الله لا يضيعه لهم في أمير المؤمنين إمامهم وكهفهم وحائطهم، ثم تبادر الناس إلى نسخه، فانتشر فيهم كأسرع شيء، فلم تزل طائفة بعد طائفة تنسخه إلى السماء، حتى كأن الله عز وجل إنما استخلفه عيهم تلك الساعة، فهنيئًا لأمير المؤمنين في سيدي ما من الله به عليه وجمعه له، من طاعته لربه، ورسوخ محبته في قلوب رعيته، واستنامتها إلى إمامته.
وبعد – أبقى الله أمير المؤمنين سيدي – بأني لم أشك في هذا الملحد وأصحابه: أن الله ينتقدم منهم بك وعلى يدك، مذ اللهممك إلى التذلل له مما تسميت به من استضارك به، فكفى بهذا تسليمًا وخضوعًا لعزته، ثم هو أصحابه في فضض لعنة الله وخزيته التي أوعدهم بها في كتابه وعلى لسان رسوله، فمما أودعهم به قوله تبارك اسمه وتعالى: { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا (57) والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وإثْمًا مُّبِينًا}(الأحزاب: 57 – 58)، وهو منجز لهم ذلك عاجلا وآجلا.
ومما أوعدهم به على لسان رسوله قوله (صلى الله عليه وسلم): "دعوا أصحابي لا تتخذونهم غرضًا، فمن أحبهم فبحيبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه الله (1)"؛ فمن كان – أبقى [722]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه الترمذي ج 5، ص 696 برقم 3862، وقال: حديث غريب، والإمام أحمد في مسنده ج4، ص 77 والروياني في مسنده ج 2، ص 92 برقم 882، والبيهقي في الشعب ج 2، ص 191 برقم 1511، والخلال في السنة ج 3، ص 513 – 514 برقم 830، وابن أبي عاصم في السنة ج 2، ص 479 برقم 992.(2/68)
[723] الله أمير المؤمنين سيدي – الله وكتابه ورسوله يطالبه؛ فهو في فضض لعنته، والكتاب والرسول خصماؤه، فأين يفر من سمائه وأرضه.
لم يمنعني – أبقى الله أمير المؤمنين – أن أكون مكان كتابي هذا معينًا له ومشافهًا بدعائي وابتهالي، إلا بمعرفتي برأفته ورغبته في الرفق بي والصون لي من ريح هذا اليوم وبرده، وما نزل من الماء فيه بشكر الله له، ما أعجزه عنه من قضاء حقوقه، وكفاه علي بأفضل ما يحفظه مني آمين آمين، والسلام على أمير المؤمنين سيدي ورحمة الله.
فأجابه أمير المؤمنين – أبقاه الله – في ظهر كتابه جوابًا نسخته: إلى اسحقا بن إبراهيم الفقيه، قرأنا كتابك وفهمناه، والحمد لله الموفق لنا، الذي أجرى على أيدنا وفي أيامنا هذه المكرمة، وجزاك الله عن الذب عن الدين خيرًا، فقد وقع من أفضل موقع، وإنما كان ما ألقى من الكلام نزعة من نزعات الشيطان، وألقية ألقاها على أسنتهم، ولولا البدار لدار لدارت أمور وأمور، والحمد لله الذي ألهمنا إلى البدار، وقطع على أيدينا طرفًا من الكفار، وقد بلغني أن جماعة على مذهبه، وأمرت الحكام بالتشديد عليهم وإخافتهم.
وبلغني أن قومًا يفتون بغير مذهب مالك بن أنس، وأنهم يرخصون في الطلاق وغيره بمناكير من الفتوى، وكل من زاغ عن مذهب مالك، فإنه ممن رين على قلبه، وزين له سوء عمله، فقد نظرت في أقاويل الفقهاء، ورأيت ما صنف من أخبارهم إلى يومنا هذا؛ فلم أر مذبًا ولا أنقى ولا أبعد من الزيغ من مذهبه، وجل من يعتقد مذهبًا من مذاهب الفقهاء؛ فإن فيهم الجهيمي والرافضي والخارجي، إلا مذهب مالك، فإني ما سمعت أن أحدًا تقلد مذهبه قال بشيء من هذه البدع، فالاستمساك به نجاة إن شاء الله.
وقد أحسنت في توقفك، وما أحب إلي ما أحاطك الله به وأصلح من حالك، فقد قلت لمن حضرني يوم السبتي بعد خروجك: لن يزال هذا البلد بخير ما كان فيه هذا الشيخ؛ فكثر الله مثله فهذه بصيرتي فيك. فاعلمه، والسلام عليك.
ولما ورد جواب أمير المؤمنين الحكم بن عبد الرحمن – أعزه الله – هذا على اسحقا ابن إبراهيم، اجتمع إليه طلبة العلم فرغبوا إليه في انتساخه، فأباح لهم ذلك، وسألوه أن يشرح لهم أصل هذه الفتوى المذكورة عنه وعمن قال مثل قوله، في قطع الإعذار عن أبي الشر استعدادًا بها، وتخليدًا لها على من ظهر منه أو ثبت عليه شيء مما ثبت على هذا الملحد.[723]
***(2/69)
[724]فقال إسحاق بن إبراهيم: لم يجر بيني وبين أصحابي فيما سأتلهم عنه مذاكرة أكثر من اجتماعنا على وجوب قتله بغير إعذار؛ إذ ببعض ما ثبت عليه كان يجب قتله بلا إعذار، فكيف بما اجتمع عليه في الشهادات المشهود بها فيه من ضروب الكفر، التي لم أسمع بإجماعها في أحد ممن شهد عليه بالإلحاد، وعرف به، أو نسب إليه شيء منه، قديمًا ولا حديثًا؟ ولكل ذلك قد قاد أصلا احتمل عليه.
فمن أصلي في إسقاط الإعذار إليه فيما تقدم ذكره عني: الاحتمال في ذلك على مذهب مالك (رضي الله عنه) في قطع الإعذار عمن استفاضت عليه الشهادات في الظلم، وعلى مذهبه في السلابة والمغيرين وأشباههم إذا شهد عليهم المسلبون والمنتهبون، بأن تقبل شهادتهم عليه إذا كانوا من أهل القبول، وفي قبولهم عليهم سفك دمائهم مما يحكم به على المحاربين، إذا كان الشهود جماعة، وقد وقف مالك على الجماعة كم هي؟ فقال: أربعة فما زاد.
وفي الرجل يتعلق بالرجل وجرحه يدمي، فيصدق عليه، وفي البكر تتعلق بالرجل وهي تدمي فتصدق عليه، وفي التي تتعلق بالرجل بالمكان الخالي وقد فصحت نفسها بإصابتها لها فتصدق عليه بفضيحة نفسها، وفي الذي وجده (رضي الله عنه) عند أحد الحكام وهو يضرب؛ لدعوى صبي قد تعلق به وهو يدمي، فصدقه الحاكم فيما ادعاه عليه من إصابته له، فلم يزل يضرب ومالك جالس عنده، حتى ضرب ثلاث مائة سوط، وهو ساكت لا ينكر ذلك، إلى ما قد كان تقدم له قبل نزوله عليه من الضرب، وقد بلغني أنه انتهى به الضرب إلى ستمائة سوط.
وفي أهل حصن من العدو يأتون مسلمين رجالاً ونساء، حوامل وغير حوامل، فيصدقون في أنسابهم ويتوارثون بذلك، إذا كانوا جماعة لهم عدد، إلا أن يكونوا يسيرًا: السبعة والثمانية، قال ابن القاسم: والعشرون عندي جماعة دون عذر.
فأين الإعذار من هؤلاء كلهم؟ فإذا كان مالك يرى هذا في أهل الظلم للناس والسلابين والهجامين والمتهبين، وفيمن يلحق بدار الإسلام من المشركين، فالظلم لله عز وجل ولكتابه ولرسوله أحق بان يقطع عنه الإعذار، فيما ثبت عليه من الكفر به والإلحاد والتكذيب لكتابه ولرسوله لو لم يستفض عنه كل ما استفاض، فكيف بما ثبت عليه وانتشر عنه بمن قد شهد في الكتاب الذي انعقد عليه به الشهادات، بمن لم يشهد فيه.
ولو لم يستفض ذلك عنه إلا ممن شهد عليه في ذلك الكتاب خاصة؛ لعظمت [724]
***(2/70)
[725] الاستفاضة بهم عندي، ولقبلت جميعهم؛ إذ هم أوجلهم من حملة القرآن وطلبة العلم وحجاج ومجاهدون وعمار مساجد، فكيف، وليس بالأندلس بلد إلا وهو يغلي بالشهادات عليه بما أذاع فيهم من هذا الإلحاد.
فهذه سبيلي فيه وفي أمثاله التي أقول بها وأدعو إليها على بصيرة مني فيها؛ إذ وقت على جميع ما انعقد عليه من الشهادات فوجدتها تشتمل على الكفر بالله والتكذيب لكتابه ولرسوله مع الطعن على الأئمة المهديين والسلف الصالح من المؤمنين، ومع ما كان يدعو به يظهر العزيمة فيه من الخروج على إمام المسلمين – أعزه الله -، وحمل السيف على رعية المسلمين وسيي ذراريهم وإحالة الملحدين أمثاله عليهم، وإحالة في كثير منها لكل ما حرم الله في تنزيله وعلى لسان رسوله من الفواحش،، حاشا نبذتين أو ثلاث من مذاهب المعتزلة، ومثلها من مذاهب الرافضة اللعينة والشيعة المخزية.
ومن تحرج في تعجيل روحه إلى النار فإني متقرب إلى الله عز ذكره بإسقاط التوسعة عليه في طلب المخارج له بالإعذارات، والإسراع به إلى ما أوعد الله به الذين يلحدون في آياته، ولو لم أجد لمالك أصلا فيما تقدم ذكره عنه في هذا الكتاب؛ لنزعت إلى أصله في موطئه للحديث المأثور فيه عن النبي (صلى الله عليه وسلم): "إنما أنا بشر (1)" وهو أم القضايا ولا إعذار فيه ولا إقالة من حجة ولا من كلمة، وإلى كتاب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إلى أبي عبيدة بن الجراح وأبي موسى الأشعري وهما أيضًا ملاذ الحكم والأحكام بعد حديث النبي عليه الصلاة والسلام وليس فيهما إعذار ولا إقالة من حجة ولا من كلمة غير قوله: اضرب للطالب أجلا ينتهي إليه، لم يقل: اضرب لمن ثبت عليه حق أجلا ينتهي إليه.
غير أن الإعذار فيما يتحاكم الناس فيه من غير أسباب الديانات استحسان من أئمتنا، وأنا على اتباعهم فيه والأخذ به على بصيرة مستحكمة فيما أوجبوا الإعذار فيه من الحقوق، وألزم التسليم ما استحسنوه؛ إذ هم القدوة والهداة.
فأما في الإلحاد والزندقة والتكذيب للقرآن وللرسول وفي إقامة الحدود فلم أسمع به ولم أره لأحد من وصل إلينا علمه في مقبول الشهادات نأخذ به.
وقد تدور عند حكامنا شهادات لا إعذار فيها بلا اختلاف بين من أدركنا ولا بين [725]
***
__________
(1) ... الحديث أخرجه البخاري ج 2، ص 867 برقم 2326، ومسلم ج 3، ص 1337 برقم 1713.(2/71)
[726] من مضى من مشايخنا، منها ما ينعقد في مجالس الحكام ممن المقالات والإقرارات والإنكارات بشهادات من يحضرها عندهم من المقبولين في الدماء والفروج والأنساب والنكاحات والطلاقات والأموال وغيرها من صنوف الحقوق وكلها بلا إعذار في شيء من هذه الشهادات بإجماعه من مضى وممن بقي.
ومنها شهادات من يعذر بهم الحكام إلى من تحجبه الأحوال المانعة من مشاهدة مجالسهم، فلا يجدون بدًا من الإعذار إليهم، وربما كان الإعذار بواحد وربما كان باثنين أو أكثر على ما يراه الحكم، فلا إعذار في ذلك كله بإجماع من مضى ومن بقي.
ومنها شهادات من يوجههم الحكام إلى امتحان ما لا غنى بهم عن امتحانه ممن يثقون به، وإلى حيازة ما شهد فيه عندهم ومما لابد أن يحاز، والى تنفيذ ما لا يمكنهم إنفاذه في مجالسهم، وإلى معاينة شخوص وأعيان في ضروب شتى لا يمكن نقلها إلى مجالسهم لأسباب يطول ذكرها، ولا إعذار في شيء من هذه الشهادات عندهم بإجماع ممن مضى وممن بقي.
وربما اكتفى في كثير منها بواحد فهل هذه كلها إلا شهادات؟ وهل بينها وبين غيرها فرق في شيء.
ومنها استفاضة الشهادة المشهود بها عند الحكام في الأنساب القديمة والحديثة، وفي الموت القديم والحديث، وفي النكاحات القديمة والحديثة، وتواريخ أقضيتهم ومددها وفي الولاء القديم، وفي الأحباس المتقادمة، وفي الضرورات تكون بين الأزواج في أشياء سوى هذه يطول ذكرها، وفي بعض ما ذكرنا كفاية من بعضها.
فهل هذه كلها إلا شهادات كالتي قبلها؟ هذا إلى ما ارجأت ذكره مما مضى به نظر الأئمة المهديين رضي الله عنهم من لدن عمر بن الخطاب فمن بعدهم مما تفردوا بانفراده وأمضوا أحكامهم به على الاستفاضة.
بل بدونها في استئصال الشكاك والملحدين والمتهمين بالتعطيل، وتطهير البلاد وإراحة العباد منهم، ولعلمهم بما لهم من ثواب الله في حياطة الديانة وإصلاح الخاصة والعامة ما قد حمدته هم العلماء والفقهاء والصالحون في أزمتهم، وبعدها، إلى يومنا هذا.
والذين يعلمون ما أقول ولو ألم أنزع بهذا كله ولم يثبت على هذا الملحد كل ما ثبت عليه إلا ما كان يعد به جلساؤه ومن يستنيم إليه من الخروج على إمام المسلمين - [726]
***(2/72)
[727] أعزه الله – ومن حمل السيف على رغيته وسبي ذراريهم لرجوت أن أخطئ بما أشرت به فيه عند الله عز وجل.
فقد أخبرني من وثقت به عن قوم من الصالحين سماهم أنه تقرب إليهم بالمناصحة في نسائهم أن يطلقن الجسم ويتخذون الضفائر ويستعددن بها، فغنهن عن قرب يمتحن بالسبي؛ سببي الشيعة لهن، وانه مقدمته إليهن.
فكيف بمن له نصحت وعنه عز وجل قلت ما قلت؟
وإني لعلى بينة من ربي فيما به أشرت وكل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا.
قال القاضي:
ما قضى أبو إبراهيم – رحمه الله – في التبيين والنصح للمسلمين وإن كان في فصول كلامه اعتراض على الأصول وفي بعضها خلاف، وقد تقدم بعضه في صدر الكتاب والله الموفق للصواب، والبين أن من تظاهرت عليه الشهادات في إلحاد وغيره هذا التظاهر، وكثرت البينة العدلة عليه هذه الكثرة، فالإعذار إليه معدومة الفائدة.
إذا اليقين حاصل بأنه لا يستطيع على تجريح جميعهم ولا يمكنه الإتيان بما يسقط به شهادتهم. ومن قال بالإعذار قاد أصله المتفق عليه عند العلماء والحكام في لزوم الإعذار في الأموال، ومن اجتهد أصحاب، والله أعلم بالصواب.
مسألة في تكفير أهل البدع أم هم كأهل الكبائر:
سئل الشيخ أبو عبد الله بن عتاب عن طائفتين في أهل الكبائر والبدع:
فقالت إحداهما: أهل الكبائر في المشية وأهل البدع في النار ولم يستثن واحدًا منهم.
وقالت الأخرى: أهل البدع أقمن أن يكونوا في المشيئة لأن الذي أتوه تأويلاً أرادوا فيه الصواب فأخطأوا، وأهل المعاصي والكبائر إنما أتوا ذلك تقحمًا وجرأة، قد علموا أن الله قد حرم ذلك فأمنوا مكره وعذابه وقد وصفه الله في كتابه أن عذابه غير مأمون.
وقد أجمع المسلمون أن من تمسك بعقد من الإيمان لم يحتم عليه بالنار لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا تنزلوا أحدًا من أمتي جنة ولا نار (1)" فأيهما أحق بالتبديع لا زلت مؤيدًا. [727]
***
__________
(1) ... هذا الحديث لم أعثر عليه.(2/73)
[728] فجاوب:
هذا شيء أكره الخوض والتكلم فيه فإذا قد وقع فأقول والله أعلم إن البدع كلها مذمومة من اعتقد شيئًا منها؛ وبعضها أعظم من بعض – عصمنا الله منها – ولم يقبض الله نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) حتى ترك أمته على الواضحة وأمرهم بالتمسك بالكتاب والسنة.
وروي عيسى من ابن القاسم وسئل عن أهل الأهواء هل يعطون من الزكاة؟ فقال: إن نزلت بهم حاجة أعطوا من الزكاة، وهم من المسلمين يرثون يورثون.
وقال ابن القاسم في المدونة: رأيت مالكًا إذا قيل له في إعادة الصلاة خلف أهل البدع يقف ولا يجيب.
وقال ابن القاسم: أرى عليه الإعادة في الوقت، ورويي ابن وهب عن مالك في موضع آخر من سماعه: قيل لمالك: أرأيت من صلى خلفهم فريضة؟ فقال: ما أحب أن أبلغ ذلك كله، أرأيت لو صلى خلفهم سنين؟ فلم يختلف قول مالك في منع الصلاة ابتداء، فإن صلى فروى عنه التوقف.
وروى عنه ألا يعيد وكان سحنون يقول: فإن أعاد فحسن وإن لم يعيد فلا شيء عليه، وكان يضعف الإعادة، ويرى ألا يعيد في وقت ولا غيره.
قال: وكان جميع أصحاب مالك يقولون – أشهب والمغيرة وغيرهما -: إنه لا تعاد خلفهم وإنما يعيد من صلى خلف يهودي أو نصراني. وقاله محمد بن سحنون.
وممن قال يعيد في الوقت وغيره أصبغ، على خلاف عنه، إذ قد روي عنه الإعادة وروي عن محمد بن عبد الحكم وغيره الإعادة أبدًا وذهب إليه ابن حنبل وغيره.
وأما أصحاب الذنوب والكبائر – أجارنا الله من ذلك كله وعصمنا – فإن الله تعالى قال في كتابة { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (الزمر: من الآية 53) في آي كثيرة: فالمسرف على نفسه ظالم لنفسه، والكبائر مذمومة كلها وبعضها أشد وأعظم من بعض وقد روي عن كثير من أصحاب مالك أنه قال في مسألة: وقد يكون في غير أهل الأهواء من هو أشر من أهل الأهواء.
والأمر فيما سألت عنه راجع إلى مشيئة الله تعالى: {وإيه يرجع الأمر كله} (هود: من الآية 123) {فعال لما يريد} (هود: من الآية 107)، عدل في جميع ذلك، لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ولا يقطع عيهم بنار والله عز وجل أعلم. [728]
***(2/74)
[729] قال القاضي:
قال بان حبيب في السادس من الواضحة: ومن عرف ببعض الأهواء المخالفة للجماعة مثل الإباضية والمرجئة أو القدرية وأشباههم فلا يصلي خلفهم، ولا يصلي خلف إمام ضال، ومن صلى خلفه فليعد في الوقت وبعده؛ لأن الصلاة رأس الدين، وأولى ما أحيط فيه.
وهذا في إمام يصلي بالناس بغير ولاية ولا سلطان؛ لأنه مندوحة من تركه إلى الصلاة خلف غيره؛ وأما إذا كان إماما تؤدي إليه الطاعة أو قاضيه أو صاحب شرطته أو خليفته على الصلاة فلا إعادة على من صلى خلفهم وصلاته جائزة، هكذا فسره لي من لقيته من علماء المدينة؛ مطرف وابن الماجشرون وغيرهما.
وفسر لي أيضًا ابن عبد الحكم وأصبغ بن الفرج وهو الذي عليه أهل السنة وابن سحنون من هذا في قوله: جميع أصحاب مالك يقولون: لا يعيد من صلى خلفهم؛ أشهب والمغيرة وغيرهما، وقع هذا عنه في مساع عيسى في كتاب المحاربين وزاد ابن مكنانة وغيرهم، وأما تكفير أهل البدع فقد سئل أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي عن ذلك وقيل له: هل يكفرون؟ ويقطع بتخليدهم في النار؟ وأنهم لا يقبل منهم توبة فإن قومًا يزعمون ذلك ويقولون: من لم يكفرهم فهو كافر؟
فجاوب: اعلم – أرشدك الله – أن أول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج بتحكمهم على الله بأنه لا يكون منه يمن خالفهم إلا تخليدهم في النار إذ كانوا قد كفروا من خالفهم واستحلوا دمه فسمتهم الصحابة وجماعة المسلمين خوارج أي عن سبيل الجماعة وسنة الإسلام لأنهم لم يقطعوا مواريثهم ولا أبانوا نساءهم منهم ولا أفرزوا قبورهم من قبول المسلمين ولا أحكامهم عن أحكامهم.
ثم احتمل على ذلك بدهم مالك وأهل بلده والليث بن سعد والأوزاعي وابن أبي سلمة وغيرهم من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر، فأما ن قطع كما ذلك على الله بأنه لا يقبل توبة مبتدع فقد خرق إجماع المسلمين ورد على رب العالمين. قال الله سبحانه: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب} (غافر: من الآية 3)، وأما تكفيرهم فهي طريقة إخوانهم من الخوارج التي ذكرناها والله يعصمنا وإياك من مضلات الفتن برحمته.[729]
***(2/75)
[730] وسئل أبو عمر أحمد بن هشام الأشبيلي: عن ذلك فجاوب، وفقنا الله وإياك لطاعته وعصمنا بما عصم به أولياءه وأهل محبته: البدعاء أمر عظيم عند أهل العلم يخاف عليهم الخلاف فيما يعتقدون، تبغضهم القلوب ويشتد غضب المؤمنين عليهم، ولا يخرجون من الإسلام بذلك.
وقد تكلم الناس في هذا وهو الذي وجدنا عليه الفقهاء أهل مدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومن اتبعهم، وفقنا الله لما يرضيه منا إن شاء الله والسلام عليك.
قال القاضي: الصحيح عندي في أهل البدع أنهم صنفان، وأن البدع نوعان.
فالنوع الواحد منهما كفر صراح لاخفاء به، وضلا لائح لا ستر يخفيه، كقول بعض الرافضة – لعنهم الله – إن عليا (رضي الله عنه) الله من دون الله – تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا – وكقول صنف آخر منهم يقال لهم الجمورية: إن عليا – عليه السلام – نبي مبعوث وإن جبريل عيه السلام غلط؛ بعث إليه فأتى محمد (صلى الله عليه وسلم) أفيحل لمسلم يعلم الله وسوله ويؤمن بما أنزله عليه من كتابه أن يقول إن هذا غير كفر وإن معتقده والقائل به غير كافر؟.
بل هذا هو الكفر الصراح، والقائل به كعابد وثن كافر مفتر على الله عز وجل مخلد في النار لا يربح رائحة الجنة أبدًا، من قال بغير هذا وارتاب فيه فكافر مثلهم أو شاك قد أضل دينه وأخطأ طريقه.
والنوع الثاني من البدع ضلال وزيغ عن الحق وعدول عن السنة والجماعة، لا يطلق عليه كفر ولا على معتقده كافر كقول المختارية من الرافضة: إن عليا إمام؛ من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، والأئمة من ولده يقومون مقامه في ذلك، وكقول صنف منهم يفضل عليًا على الناس كلهم، ولا نطعن على أبي بكر وعمر ونطعن على عثمان بأنه غير. وقال لهم: الزيدية.
وكقول الشيعة منهم: أبو بكر وعمر أفضل الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على التقديم، وعلى أحب إلينا.
فهذه كلها بدع خارجة عن رأي جماعة المسلمين، لا نقول إنها كفر ولا إن معتقدها كافر، ولا يمتري ذو حسن في خفتها في التي قبلها ولا في كونها من غير جنسها.
ومثل هذا في التنويع كثير في غير الرافضة من المرجئة والجهمية والقدرية وغيرهم؛ [730]
***(2/76)
[731] إلا أنا اقتصرنا على هذا التمثيل مجانبة للتطويل وإذ فيه بيان من ذلك التجميل. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقول ابن عتاب في جوابه: قد قال: كبير من أصحاب مالك: قد يكون في غير أهل الأهواء ومن هو أشد من أهل الأهواء. هو قول ابن القاسم في تفسير ابن مزين، حكماه عنه عيسى بن دينار وقال به، وقال يحيى بن إبراهيم بن مزين: في تفسير هذا – يريد ابن القاسم – أعذر ممن ركب شيئًا بعد معرفته وتفحمه وجرأته على ذلك فصاروا شرًا من أهل الأهواء.
وفي هذا التأويل عذر لأهل البدع في تحريفهم لكتاب الله عز وجل ومفارقتهم للسنة والجماعة بتأويلهم، ولا خلاف أنهم غير معذورين في مخالفة سبيل المؤمنين.
وقد قال أبو الحسن علي بن محمد بن القابسي في كلام ابن مزين: ما أدري ما تفسير ابن مزين هذا، وإنما أراد ابن القاسم أن في غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء وهم الذين يتدينون بالسنة وتكون منهم جهالات من وراء نسك فهم يغرون به من يسقطونه في جهالتهم، وأهل الأهواء الناس لهم منافرون، هذا وجه قوله عندي، والله ولي التوفيق.
وكيف يقال لمن يخطئ وجه الصواب في الاعتقادات: أنت أعذر ممن سلم له اعتقاده من الخطأ وزل بالجهالة فيما دون الاعتقادات وأتى ذلك تقحمًا؟ هذا يعيد والله أعلم.
هذا كله من كلام أبي الحسن، وهو صحيح حسن، وبالله التوفيق.
قال القاضي:
قد أتينا – بحمد الله وحسن عونه – على ما رغبناه وذهبنا إليه من جمع شمل النوازل التي كمنا قد علقناها على غير ترتيب وكتبناها في غير ما موضع من كتابنا لتقرب فائدتها، وتكمل منفعتها لمن طالعها.
وأضفنا إليها من أنواعها ما فيه تمامها ومن الروايات ما زدنا في بيانها، ولم ننقل ما نقلناه من الأمهات على نصه بل ربما اختصرنا بعض لفظه قصدًا إلى المعنى الذي أردناه فأوردنا وكشفنا لما أردنا بيانه فبيناه.
وما رأينا محتاجًا إليه بجملته كتبناه على هيئة ليكون الاستدلال من ألفاظه ومساقه، [731]
***(2/77)
[732] وتركنا من النوزال كثيرًا مما كان يضطر إلى تتميم ويحتاج إلى تنويع وتقسيم وعدلنا عما فيه من الاعتراض إلى التسليم لمانع منع أو لضعف قطع وأرجأنا إلى وقت نشاط إن كان مهل ولم يقطع أجل فتعلق عليه ما يحتاج من التنبيه إليه.
ومن أضاف كتابنا هذا إلى غيره من الكتب الموضوعة في الأحكام كمنتخب ابن أبي زمنين وغيره أو كثرت دراسته للأصول أحرز علم الأحكام على وجوهها، ومعرفة الأقضية على حقائقها، ووقف على سنن الفتيا وما نهجه الشيوخ فيها وفيه أبواب كثيرة لا توجد في كتاب بإيعابها، فيه ولا غنى بعالم فيها عنه.
والحمد لله ثم الحمد لله على ما منحنا من هداه: وفقهنا فيه وعلمنا إياه. والصلاة التامة على رسوله محمد الذي اصطفاه، وختم به الرسول واجتباه. حشرنا الله معه ولا خالف بنا عنه، وجعلنا من العالمين له المريدين وجهه الراغبين فيما عنده، وتجاوز عما كان من زلل أو خطأ في قول وعمل، إنه منعم كريم قريب مجيب، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وكان تمامه يوم الأحد لتسع بقين من المحرم سنة ثلاث وسبعين وأربع ومائة والحمد لله كثيرًا وصلى الله على سيدنا محمد ولعى الله وصحبه وسلم تسليمًا.
تم جمع كتاب الإعلام بنوازل الأحكام بحمد الله الملك العلام وعلى سيدنا ممد أفضل الصلاة والسلام وعلى صحابته الكرام، في يوم الجمعة الرابع شعر من رجب الأصب من عام 12165 ستة عشر ومائتين وألف من الهجرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام.
على يد كاتبه لنفسه ثم لمن شاء الله من بعده من أولاده وعقبه ثم لمن أصله الله من إخوانه وعصيته على بن سعيد بن علي بن أحمد بن عيسى، عرف بابن سيدي عيسى نسبة إلى الشيخ الشهير الوالي الكبير ذي الكرامات الظاهرة والمآثر الباهرة الزاهرة الشيخ سيدي عيسى بن محمد بن محمد رحمه الله وأعاد علينا من بركاته آمين آمين آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم.
فلله إلا ما دعوت بنية ... = ... لكاتبه بالعفو فهو مثقل
ذله سقطات جمعه غير أنها ... = ... تقل إذ الله الكريم المؤمل[732]
***(2/78)
[733] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد والله وسلم تسليمًا كثيرًا.
مسائل الغيب في آخر الديوان: سئل أبو إبراهيم عمن له حق مؤجل قريب الأجل أو بعيده فزعم أن الذي هو عليه يريد سفرًا، وأنكر المطلوب ذلك فقال: إن أقام الطالب بذلك شبهة بينة وإن لم تكن قاطعة أحلف المطلوب أنه ما يريد سفرًا، فإن حلف لم يكن له عليه شيء، وإن نكل كلف حميلاً غارمًا مليئًا ثقة، ثم يقال له: إن شئت فسافر أو اقعد.
وسئل عن الكماد يقطع الثوب وينكر القطع. فقال: يرسل الطالب والكماد إلى أهل البصر فإن قالوا: هو حديث عرض من هذا الكمد، غرم الكماد ما أفسد، وإن قالوا يمكن أن يكون قديمًا أو حديثًا حلف رب الثوب: ما علم بهذا القطع عند نفسه ولا عرض عنده ويضمن الكماد، وإن كان الثوب قد كمد قبل هذا الكمد حلف الكماد ما عرض عنه وبرئ، وإن كان لم يكمد قبل هذا وهو جديد ضمن الكماد لأنه يعلم أنه ما عرض عنده، ولا يمين على رب الثوب للكماد إن شاء الله عز وجل.
قال سحنون: من بني على باب جاره دكانًا في الطريق غير مضر بالطريق إلا أنه حضر بباب داره يقابله لقعود الناس معه عليه منع من ذلك ولو فتح باباً لداره قبالة باب دار آخر نكب عن باب تلك الدار بقدر ما يرتفع الضرر معه.
قال: ومن أحدث في طريق المسلمين كنيفًا أو قناة حمام ولم يرفع ذلك إلى حكم إلا بعد اثني عشر عامًا لم يكن ذلك للمحدث حيازة؛ لأن طريق المسلمين لا يجاز، بخلاف ما يملكه الناس إلا أن قدم أمر هذا الكنيف الستين سنة أو نحوها فلا يعرض له؛ لأنه لا يعلم بأي وجه وضع ذلك بخلاف العشر سنين.
قال: وحكم الدرب غير النافذ حكم الزنقة غير النفاذة إن كان في الدرب زنقة في ناحية منه لرجل في أقصاها باب وأراد أن يقدمه إلى طرف الزنقة، لم يكن له ذلك إلا بإذن أهل الدرب ورضاهم.
قال: وما ضاع عند العيد القصار ففي ذمته يبتع به ولا يباع فيه حماره ولا أداته إلا إن أقر سيده أن ذلك للعبد ولا يحكم للعبد به لكونه بيده بخلاف المأذون له في التجارة.
قال: ومن اعرف حمارًا للحكم له به ثم حكم للذي كان بيده على بائعه منه ثم حكم لذلك البائع على من باعه منه، وذلك كله في مجلس واحد لإقرارهم به، فأراد [733]
***(2/79)
[734] المحكوم عليه آخرًا أن يضع قيمة الحمار لمستحقه ويطلب به حقه من الذي باعه منه، فله ذلك، وليس لمحكوم له به أن يقول: ليس بيني وبينك عمل فلا تذهب به، وإذا لم يشهد لمعترف الشيء بها شاهد واحد فطلب الذي هو بيده حميلا من بائعه لئلا يستحق منه وهو غائب، فليس له ذلك حتى يحكم عليه ويؤخذ منه.
قال: ومن اعترف دينار الفضة فقال: ديناره زيادة، أو قال محمد أو قال عباس؛ لم يجب له بذلك حتى يصفه بعلامة فيه من تاب أو غيره.
وقال في القصار يخرج الثوب رديئًا أسود: يريده حتى يخرج جيدًا فإن ضيق رده فساد باسترخاء أو خرق لم يرد إلى العمل، ونظر فإن كان إخراجه خروجًا رديئًا أفسده به على صاحبه ضمنه وأدى قيمته؛ وإن كان فساده يسيرًا أعطي أجره مثله من ذلك العمل.
وإذا أقر الصانع بدين ولا مال لهم إلا عمل أيديهم ترك لهم من لك قدر قوته وقوت عياله ما بقي فلغرمائه، وإن لم يكن عليه دين، ولعيه فرض لأولاده من مطلقة ترك له أيضًا على قدر قوته وفرض عليه فيما بقي لولده، وإن كانت له زوجة فرض له ولها ثم ما بقي ولده وهي أولى منهم.
قال: ومن ادعى عليه غضب أو سرقة وترافعا إلى السلطان ثم صالح المدعي بدنانير وهو منكر وقال للشهود عند دفعه الدنانير: إنما أعطيتها خوف السلطان وضرب السياط وما له عندي حق، ثم أراد الرجوع فيما صالح به، فقال: ليس له ذلك وإلى أن يبتدأ على الناس إلا إلى السلطان، إلا إن كان المدعي معروف الاتصال بذلك السلطان وأنه له منه ناحية فينظر الحكم فيه على قدر ما يرى.
قال: ومن ادعى أنه أبضع مع رجل رأسين فقال الرجل: إنما أبضعت معي رأسًا والثاني ابضعته مع غيري، وأمرتين – إذا وصل به أمدًا كذا – بقبضة فمات قبل أن نصل وقبل قبضه إياه، فأتى المدعي بشاهدين أنه أبضع معه الرأسين قال: فهو ضامن للرأس الذي جحد؛ لأنه أخرج نفسه من الأمانة بجحده بذلك.
وقال: إذا جرح المشهود عليه الشهود فللمشهود له تجريح المجرحين، ولو كان تجرحهم لشهوده وهو غائب فعلى الحاكم أن يخبره بهم، وإذا قال أحد المجرحين فأحد الشهود: هو كذاب، وقال آخر فيه: هو آكل ربا، فليس بتجريح حتى يجتمعا في شيء [734]
***(2/80)
[735] موفق.
وإن قال أحدهما: هو خائن، وقال الآخر: يأكل أموال الناس فذلك تجريح؛ لأنه معنى واحد، وقد قال أيضًا: إذا جرحه أحدهما بمعنى، وجرحه الآخر بمعنى آخر، فذلك تجريح؛ لأنهما قد اتفقا على أنه رجل سوء.
قال حبيب: وقد سأتله قبل ذلك عن تجريحهما إياه بأنه رجل سوء غير مقبول الشهادة، وقالا: لا تسمى ما جرحته؟ فقال: هي جرحة ولا يكشفوا عن أكثر من هذا.
وقال: إذا زكى الشاهد في العلانية، وسأل الحاكم عنه في اسر فقيل فهي: هو رجل صالح، فليس بشيء حتى يقول فيه في السر عدلان: إنه عدل وليس صالح بشيء، وتزكية السر والعلانية سواء.
قال: وذاا أتى الشاهد من البادية ليشهد لرجل عند الحكم فنزل عند المشهود له وكان في ضيافته حتى رجع فذلك خفيف ولا تسقط شادته إذا كان عدلاً.
ومن له شاهد فعدله عند هذاالحاكم وكتب له إلى الحكم الذي يشهد له عنده يثبوت عدالته عنده، فأنكرها سحنون إنكارًا شديدًا أن يزكي الشاهد قبل أن يشهد وأن يكون القاضي يكتب بمثل هذا، وقال: لا أعرف هذا، قال: وهو إذا شهد عند الحكم فزكي عنده وحكم بشهادته ثم شهد عنده بعد شهر أو نحوه لرجل آخر كلفه تزكيته أيضًا حتى تشتهر عدالته.
قال: ومن كان حائطه سترة جاره فانهدم لم يكلف بنيانه عند عبد الرحمن، وقال ابن كنانة: يجبر على بنيانه، قال حبيب: ورأيت مذهبه على قول ابن كنانة، قالا: وإن هدمه للضرر يجاره أجبر على بنيانه عندهما.
قال: وإذا حكم على المطلوب بالدين فزعم أنه فقير معدم، وأثبت ذلك عند الحكم ببينة فقال الطالب: عند بينة بأن له دارًا، فقال المطلوب: هي لأمرأته، وهو فيها ساكن معها، فأتى الطالب ببينة بأن تلك الدار لغريمه وأتت الزوجة ببينة أنها لها، فلينظر إلى أعدل البينتين، أن استوتا سقطتا وبقيت الدار للمطلوب وبيعت في دينه لأن سكناه أغلب من سكنى امرأته.
ومن طلب غريمًا بدين وقال عند القاضي: هذا ضمنه لي فأنكره الرغيم وأقر الضامن.[735]
***(2/81)
[736] قال سحنون: فليأخذ الضامن بدينه، وإن قال: لي بينة على الغريم بذلك لم يكلف إحضارها، ولهذا وشبهه يؤخذ الحمل وللضامن بعد غرمه القيام بتلك البينة على الغيم وأخذ ما غرم منه.
قال: ومن ادعى في قاعة بين دور قوم، وأتى بشهود شهدوا أن موضع كذا إلى موضع كذا له، فعرض له بعض أهل تلك الدور وقال: ذلك له ولفلان ولقوم مجهولين، وأقام بذلك بينة فشهادتهم ساقطة؛ لأنهم لم يقطعوا بشيء معروف، والحق حق الأول يحكم له به.
وقال: ومن ادعى آبقًا مسجونًا قد كان الحكم سجنه فأقر له العبد بالملك؛ دفع إليه ولم يكلف ببينة؛ إذ لا خصم له يعترض فيه إلا إن أتي طالبه بحدثان سجنه فلا يمكنه منه، وليتلوم له قليلا؛ لئلا يأتي طالب يطلبه، وأما إن كان سجنه قد طال فلا يتلوم له وليدفعه إليه، وقد كان قال قبل ذلك: لا يرفعه إلى طالبه إلا ببينة عدل، وإن كان سجنه قد طال ثم شدد فيه بعد ذلك ورجع إلى ألا يدفع إليه إلا ببينة قال: ولو أراد طالب بيعه وهو في السجن عند قاضي عدل لم يجز له بيعه؛ لأن فيه خصومة.
مسألة في اختلاط سيئك بشيء غيرك:
في أول وديعة المختلطة: من أودع دراهم فخالطها بدراهمه ثم ضاعت كلها فلا يضمن؛ لأن الوديعة قد ضاعت وأن الدنانير في الدنانير كذلك.
وإن خلطت حنطة استودعتها بشعير ضمنت لأنك لا تقدر على تلخيص الحنطة منها ولو خلطتها بمثلها من حنطتك لم تضمن كالدراهم، وإن لم تكن مثلها ضمنت، وإذا ضاع بعض الدنانير فهو منكما، وإن كان يعرف بعضًا من بعض بمصيبة ما ضاع من دنانير كل واحد منكما فيه.
وإن خلط صبي ذلك القمح بشعير ضمن مثل القمح ومثل شعيرك؛ لأنه يلزمه ما استهلك، يريد إن قامت عليه بذلك بينة لا بإقراره إلا أن تشاء ترك الصبي وتكونان في المخلوط شريكين أنت بقيمة كيل شعيرك والمودع بقيمة كيل قمحه.
وقال عبد الحق عن بعض القرويين: إنما تجوز شريكتها على الكيل لا على قيمة طعام كل واحد منهما؛ لأنه يدخل ذلك الفاضل بين الطعامين، لكن يبيعانه ويتقاسمان ثمنه على قيمة طعام كل واحد منهما وجاز لهما بيعه، وكذل لأنهما لم يخلطاه فيكون من [736]
***(2/82)
[737] باب الغش، وإن قال أحدهما للآخر: أنا اغرم لك مثل طعامك وآخذه هذا المختلط لم يحل إلا أن يكون هو خلطه فيجوز؛ لأنه ضامن له.
وقال أشهب: وقال أيضًا لا يجوز. سحنون هو الصح أن لا يجوز، وروي أبو زيد أن يبيعاه ثم يقتسمان الثمن على قدر قيمة طعام كل واحد منهم – يريد يوم خلطه الصبي – وقال يحيى: أجاز أشهب أن يعطي لصاحبه مثل طعامه، وقال يحيى: قبل أن يعترفا وإلا لم يجز. ذلك ابن أبي زيد في مختصره، وتأمل فيه وفي النوادر رفيقتها، ومنها في كتاب الغصب وفي غصب العتبية في سماع عيسى، وفي آخر كتاب تضمين الصناع من المدونة: من وقع له رطل زيت في زرق زبيق لرجل فله عليه رطل زيت، فإن أبى أخذ رطله.
وقال سحنون: لا أقول بهذا أصله القمح والشعير بختلطان بغير عداء، يضرب صاحب القمح بقمية قمحه معيبًا، وصاحب الشعير بقيمة شعيره غير معيب وقد عاب الزيت الزبيق وسئل عنه، فإن قيل: قد عابه ضرب هذا بقيمة زبيقة معيبًا وهذا بقيمة زينته زبيقة معيبًا، وتأمل باقيها في إقرار النوادر، وقد علقته من آخر تضمين الصناع وفي ثاني عتق النوادر.
وقال ابن المواز: من اختلط له عبد بعبيد لرجل ولم يعرفه، فإن أخرج صاحبهم منهم عبدًا وقال: هذا هو؛ حلف إن أنكر صاحبه، وإن قال: لا أعرفه، لم يكن له غيره. قال أشهب: ويحلف صاحب العبيد، قال محمد: لا يمين عليه، إلا أن يكون صاحب العبد أنه عبده فيحلف هاهنا، فإن نكل حلف صاحب العبد وأخذ من يحلف عليه، فإن نكل فلس له غير الأول، وإن أعتق صاحب العبد عبده قبل أن يعرف قيم الرقيق على جزء عدتهم؛ إن كانوا تسعة فهو عاشر فله عشرهم، فإن وقع له أقل من عبد أتم عليه عتقه، وإن وقع له عبد عتق عليه، وإن صار له عبد وبعض آخر؛ عتقا عليه وغرم لصاحب الفضل.
ولو أعتقه قبل أن يختلط عتقوا كلهم إلا أن يكون على دين محيط بقيمة عبده ولا مال له فلا يعتق منهم أحد. وجوابه مثل الأول، وتأمل في رسم الدور والمزارع من كتاب الوصايا ما تنظر إلى هذا الأصل.
وفي رسم أمهات أولاد من كتاب الضحايا: من ابتاع كبشًا يضحي به فأفلت منه فدخل بعض الأزواد فلا يعرف صاحب الذود ولا مشتريه، قال ابن القاسم: يكون مشتريه [737]
***(2/83)
[738] شريكا لصاحب الذود، فإن كانت غنمه مائة أعطي جزءًا من مائة جزء وجزء.
ونظيرتها اختلاط دينار لك بمائة دينار لغيرك ثم تضيع منها دينارن في كتاب الوديعة وفي مساع يحيى وفي المدونة وي كتاب الأقضية وغيرها اختلف فيها ابن القاسم ومالك، وهي أيضًا في أحكام الواضحة وفي أول سماع عسى اختلاط.
ومن الضحايا في الأفران وفي كتاب البنيان والشجار والمياه، والأنهار، من الوضاحة عن مطرف فيمن اتخذ برجًا للحمام وفيه كوى من خارجه فتأوى الحمام في داخله وخارجه إلى حمام وضعها فيه، إن عرف شيئًا من الحمام بعينه وعرف صاحبها ردها إليه إن استطاع، وإن لم يستطع رد عليه فراخها إذا فرخت.
وإن اختلط ذلك كله عليه ولم يعرف شيئًا بعينه ولا استطاع صرفه – وإن عرفه – فلا شيء عليه، وله كل ما أوى إلى برجه وعصافر في داخله وخارجه، وله أن يمنع ذلك من غيره، والنحل كذلك إذا آوت إلى خليته ولم يستطع تمييزها وكلها له لا شركة للآخر فيها.
ومثله لابن القاسم من رواية حسين في آخر جامع العتبية في الحمام والنحل وفي آخر كتاب تضمين الصناع منها: قيل لسحنون: أرأيت من أوقعت الريح ثوبه في صبغ سواد رجل والسواد ينقص الثوب؟ قال: لا يضمن بعضها لبعض شيئًا وهي مصيبة دخلت عليهما، ولو سقط من يده في صبغ الصباغ لضمن للصباغ صبغه، زاد في ثوبه أو نقص؛ لأنها جناية منه على نفسه.
ولو أسقطته الريح في الصبغ فزاده الصبغ لكانا شريكين في الثوب ويباع؛ فيكون لرب الثوب قيمته أبيض ولرب الصبغ قدر ما زاد الصبغ في الثوب، ولو سقط من يده في الصبغ فزاد فيه فهو ضامن للصبغ؛ لأنها جناية منه. لم يقرأه ابن لبابة وأدخلها ابن أبي زيد في النوادر.
وقال ابن عبد الحكم عن أشهب في القصار يعلق الثوب على حبل في العمل فحملته الريح فألقته في قصير به صباغ، فإن زاده ذلك تحاصًا في الثوب، وإن نقصه فعلى القصار ما نقصه ولا شيء على الصباغ. قال بعض أصحابنا: إذا ثبت ذلك ببينة لم يضمن القصار إلا أن يعلقه في ريح شديد غليطة.
ومن هذا الشرح ما كتب به الباجي محمد بن أحمد بن عبد الله من أشبيلية إلى [738]
***(2/84)
[739] الشيخ أبي عمران الفاسي بالقيروان وإلى الشيخ أبى بكر بن عبد الرحمن كتب إليهما فيمن ابتاع دارًا في بيت منها خوافي كبار فأراد البائع إخراجها منه، فلم يمكنه إلا بهدم البيت وهدم باب الدار، وفي ذلك ضرر كثير على البائع هل يفسخ البيع إن أبى المبتاع من الهدم؟ وكيف يصنعان في ذلك.
فجاوب أبو عمران: إذا تصادقا أنهما لم تكن لهما نية في حين التبايع في كيفية ما يعمل في الخرافي، مثل أن ينسى كل واحد منهما أمرها في إخراجها، فلاستحسان عندي أن ينظر؛ فإن كان الهدم لإخراجها يعاد إلى حاله بعد أخراجها ببناء يصلح به، فلبائع إخراجها ولعيه بناء ما هدم بسببها.
وإن كان لا يعود الهدم إلى حاله وإن بني ولابد من دخول نقص على المشتري في بيته أو باب داره، وإن بني البائع ذلك له فللمشتري أن يؤدي قيمة الخوافي له إن شاء، وتكون الخوافي له، كمن اشترى خشبة فبني عليها ثم استحقت فعليه قيمتها ولا يهدم بناؤه.
وقد قال ابن القاسم في رطل زيت وقع في زبيق لرجل ما قد وقفتم عليه، ولسحنون فيها أن أصلها القمح يختلط بشعير لرجل آخر في غير عداء أحد، وإن كره المبتاع ذلك قيل للبائع: إن شئت أن تخرج خوافيك وتصلح ما تهدم لإخراجها وتؤده قيمة ما تدخله من نقص بعد الإصلاح.
قال اب عبدوس في باب سفلى لرجل يعلق عليه الآخر، فلا يمكن الدخول عليه وفوقه علو لغيره: عن صاحب العلو الذي فوقه يرفع بنيانه ويلزم صاحب السفل غرم ما رفع فيه باب لرب العلو، كما قيل في إحدى الروايتين، فيمن انهارت بئره ولجاره بئر فيها فضل: أنه يسقي زرعه بالثمن، فإن امتنع في مسألة الخوافي مما قنلا بقيت الخوافي في مواضعها حتى يصطلحها، وليس على المشتري أداء حصة البيت من الثمن إذا لم يقضه إياه فارغًا مما يشغله، كمن أكترى دارًا في بعض مساكنها متاع له.
وأجاب ايض في سنور انفلت من ربه فدخل في حانوت زجاج واستتر فيه، فأراد طلبه وإخراجه من الحانون فمنعه رب الحانون وقال له: إذا فعلت ذلك كسرت علي الزجاج أو تحرك السنور فكسره، وقيل لهما: ذهب أهل العلم عندنا إلى ترك السنور حتى يخرج ويؤخذ من غير ضرر على صاحب الزجاج، والزجاج يأبى أن يترك السنور خوفًا [739]
***(2/85)
[740] على زجاجه.
فقال: إن رجي خروجه بالقرب تلوم فيه وصبر الزجاج، وأما إن قطن الموضع فها هنا إن اختاره الزجاج أن يؤده قيمة السنور لئلا يبطل عليه زجاجه كان ذلك له، وإن أبى وشاء الآخر أن يؤدي قيمة الزجاج الذي ينكسر لخروجه كان له تنفير السنور وطلبه؛ لأنه في تنفيره إياه كناخس دابة فتحني على إنسان أو يزعرها فترمح فهو ضامن لما جنت، وكذلكما يكسره السور في تحريك صاحب له من الزجاج يضمنه.
وربما ضمت الضرورة في نحو هذه المسألة إلى تحرير النظر إذا نزل ما يتشاح فيه من نحو هذا؛ مثل أن تقع جوهرة نفيسة في زجاجة محكمة في مثل هذا فما أداه إليه اجتهاده بعد التأمل وسعة الحكم به والفتية، إن كان أهلا لذلك، وبالله التوفيق.
وجاوب أبو بكر بن عبد الرحمن في مسألة الخوافي: إن كان المبتاع قد علم بها ووقع شراؤه على أنها للبائع لزمه إخراجها، وإن هدم عليه بعض الهدم، وإن كان لم يعلم بها فله في ذلك متكلم وحجة، فإن كان الذي يهدم لعيه يسرًا هدم وقيل للبائع: أصلحه ورده على حسب ما كان وإلا يفسخ البيع.
وقد روى أشهب فيمن هدم لرجل حائطًا أن عليه أن يعيده على ما كان عليه، وكذلك في السنور، فلذلك قلت: إن يعيده إذا كان يسيرًا، ولأن ذلك ضرورة نزلت، إلا أن يصطلحا على شيء يجوز بينهما، وبالله التوفيق.
وقال في مسألة السنور: الذي قاله بعض أصحابنا: من ترك السنور حتى يخرج حسن، إلا أن يجب صاحبه أن يخرجه ويضمن ما أتى علي يديه من ذلك.
وقد قال بعض أصحابنا فيمن ركب فرًا فغلبه فلم يقدر عليه أن ضامن لكل ما أهلكه؛ لأن ركب بما لا يقدر على ضبطه، فكذلك هذا يضمن ما أهلكته السنور، وبالله التوفيق.
قال القاضي عيسى بن سهيل:
جواب أبي عمران فيها أكمل وأنبل وقد رأيت لابن عبد الله بن أبي زمنين في ثور دخل قرناه بين غصني شجرة ولم يستطع على إخراج الثور وإطلاقه من ذلك، أن الغصن يقطع ويؤدي رب الثور قيمته، والله أعلم بالصواب.
وفي جنائز العتبية في نوازل سحنون، في ميت دفن وسوى عليه قبره، فادعى رجل [740]
***(2/86)
[741] أن الثوب الذي كان على كفنه له، وله بينة أولا بينة له، أو ادعى على أنه سقط منه خاتمه في القبر أو دنانير لها بال وله بينة قال: لا أدي ما قول مالك، اء كان شأن يعرف أقر له بذلك أهل الميت ولم يدعوه لهم ولا للميت، جعل له سبيل استخراج ثوبه، ولم يذكروه، وكذلك الخاتم والدنانير.
ومن قول أهل العلم في ميت كفنون وسجي عليه أهله بثوب فنسوه وأنزله في لحده به، ولم يذكروه حتى سوى عليه فإن كان يسير الثمن وهو للميت ترك ولم يكشف عنه، وإن كان كثير الثمن كشفوه وأخرجه، وإن كان لغير الميت وشح به صاحبه كشفوا عنه وأخرجوه؛ كان نفسيًا أو غيره، ففي هذا دليل.
ومن سماع عيسى: قال مالك: وإن دفن في ثوب ليس له نبش ونزع عنه إلا أن يطول أو يروح فلا سبيل إليه.
بسم الله الرحمن الرحيم، يشهد من يتسمى في هذا الكتاب من يشهد أنهم يعرفون عبد الجبار بن زاهر الصقلي بعينه واسمه، وأنه قبض من عبيد الله بن عبد الله بن الرقي مائة قفيز واحدة وخمسة وستين قفيزًا من قمح بلدي بكيل أشبيلية، وانتقل جميعه من داره بحومة باب الحديد إلى مركبه للسفر به قبل نكبه عدب الله بن الرقيق لستة أشهر أو نحوها، وصار جميع القمح عنده.
شهد بذلك كله من علمه على حسب نصه وأقر بذلك عبد الجبار عنده وأوقع عليه شهادته في صفر سنة ست وسبعين وأربعمائة فلان وفلان.
ثم طلب ابن الرقيق القمح واختلفا فيه فأثبت العقد عند حكم أشبيلية، وخاطب بها قاضي طنجة إذ كان ابن زاهر قد صار فيها، واستفتى في ذلك فأجبت فيه: إن ثبت العقد على نصه فالقول قول عبيد الله، في الوجه الذي يدعيه في دفع الطعام من سلف أو بضاعة، وإن زعم أنه باع من عبد الجبار وأنكر عبد الجبار، حلف عبد الجبار، وكان الطعام عليه سلفًا إن شاء الله عز وجل.
وأفتى ابن سمحون بطنجة: أما توجه الحكم بهذا الاسترعاء وأما توجه بوجه الشأن بعد الاستقصاء، فأن تكون يد عبد الجبار ضامنة لمثل ما قبضت، فإن ادعى هو أو وراثه أن أمين فعلى الطالب اليمين، وإن زعم الطالب أنه بضاعة عرض وزعم المطلوب أن يده فيه يد مقترض، فالقول قول المطلوب خلافًا لمن قال: القول قول عبيد الله إن زعم أنه [741]
***(2/87)
[742] بضاعة.
وما قلته قال ابن القاسم رحمه الله في المدونة، وفي كتاب محمد، والأصل في هذا أن ظاهر الشهادة توجب على عبد الجبار عدد المكيلة ولاصفة، فمن يجد إلى ما يوجبه الحكم لم يلزمه خلافه إلا بنكوله له عن اليمين، ومن ادعى خلافه من طالب يزعم أن ذلك فيأمانة المطلوب وديعة أو بضاعة أو ما أشبه ذلك، وأنه شغل ذمة المطلوب بثمن ذلك ببيع صحيح، فإن............. (1) المطلوب إلى ما يوجبه الحكم الذي قدمناه، فالقول قوله، ويلزمه المثل.
وأما البيع الفاسد فقصاره في الحكم إيجاب رد المثل، ولا ينبغي أن يحمل القول في ادعاء الطالب دون أن يفصل صحيحًا أو فاسدًا، ولولا كراهة الإسهاب لزدنا في الواجب، وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله عز وجل.
تمت المسائل بحمد الله بتمام جميع الديوان، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وسلم تسليمًا كثيرًا.
تم الكتاب وربنا محمود بمحامد تبقى وليس تبيد، رب يجود على العباد برزقهم، ورب رحيم ماجد معبود، وقضى على من عاش منا بالفناء؛ لا والد يبقى ولا مولود.
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى الله وصحبه وسلم تسليمًا عدد ما ذكره الذاكرون، وغفل ن ذكره الغافلون، ورضي الله تعالى عن أصحاب رسول الله أجمعين.
يارب العفو من عندك، يارب العفو من عندك، يا رب العفو من عند، فسفينتي غريقة إن لم يكن عفوك. [742]
***
__________
(1) ... بياض بالأصل.(2/88)
[743] بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى الله وصحبه أجمعين.
تسمية الفقهاء وتاريخ وفاتهم نفعنا الله بهم
أبو عبد الله محمد بن عتاب بن محسن:
كان عالمًا عاملاً، توفي سنة اثنيتن وستين واربعمائة، وصى عليه ابنه عبد الرحمن، وشهد جنازته المعتمد على الله محمد بن عباد، ومشى فيها على قدميه، ومولده سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة.
أبو إبراهيم اسحقا بن إبراهيم التجيبي:
كان من أهل العلم والزهد والدين المتين، ووتوفي سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة.
أبو عمر أحمد بن محمد بن عبيسى بن هلال، يعرف بابن القطان:
كبير المفتين بقرطبية، قرأ على أبو محمد الشقاق وابن دحون، ثم تفوي بكورة باغة سنة ستين وأربعمائة، مولده سنة تسعين وثلاثمائة.
وأبو مروان عبيد الله بن محمد بن مالك:
كان حافظًا للمسائل والحديث ومعاني القرآن، متواضعًا كثير الورع، توفي سنة ستين وأربعمائ، ومولده سنة أربعمائة، وهو قرطبي.
أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن سلمة الأنصاري:
من طليطلة كان حافظًا للمسائل دريًا بالفتوى، وتوفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ومولده سنة إحدى وأربعمائة.
وأبو عمر أحمد بن سعيد بن إبراهيم الهمداني:
عرف بابن الهندي القرطبي، روى عن قاسم بن أصبغ، كان حافظًا للفقه وأخبار أهل الأندلس بصيرًا بعقد الوثائق، توفي في رمضان سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، ومولده سنة عشرين وثلثمائة، وصلى عليه القاضي أحمد بن ذكوان.
سليما بن محمد بن بطال البطليوس:
له تأليف سماءه المقنع في أسول الأحكام، لا يستغنى عنه الحكام، وكان طالبًا لأبي عبد الله بن أبي زمنين، وقرأ عليه أبو عمر بن عبد البر، تفوي سنة أرعبمائة أو نحوها. [743 ]
***(2/89)
[744] أبو بكر محمد بن بيقي بن زرب:
قاضي الجماعة بقرطبة أعلم الناس بالفقه، توفي في رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
أبو زكريا يحيى بن عبد العزيز:
كمان من المشاورين مع عبيد الله بن يحيى بن يحيى، وكان يميل إلى مذهب الشافعي توفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
وأبو عثمان سعيد ابن حميد بن عبد الرحمن:
كان فقيهًا عالمًا وقورًا ورعًا، روى عن يحيى بن مزين، وأخذ عنه محمد بن أحمد، توفي سنة إحدى وثلاثمائة.
سعد بن معاذ الشيباني:
كان سيخًا حافظًا للسمائل، حج وأدرك محمد ابن عبد الحكم، توفي سنة ثمان وثلاثمائة.
أبو عبد الله محمد بن عمر بن لبابة:
كان صالحاً متقدمًا في حفظ كتاب الله، لا علم له بالحديث، أدرك يحيى بن مزين، ودرس كتب الرأي ستين سنة، توفي سنة أربع عشرة وثلاثمائة وهو ابن تسع وثمانين سنة، وصلى عليه ابنه أحمد.
يحيى بن زكريا بن سليمان:
كان صالحًا فقيهًا في المسائل مساورًا مع ابن لبابة، تعظمه لاخاصة والعامة، توفي سنة خمس عشرة وثلثمائة.
محمد بن غالب بن الصفار:
كان جليل القدر عالمًا بالفقة مقدمًا في الوثائق مشاروًا مع ابن لبابة، توفي سنة خمس وتسعين ومائتين، وصلى عليه ابنه أحمد.
محمد بن وليد:
كان حافظًا للفقه وعليمًا بالوثائق، من أكبر الناس عند أحمد بن محمد بن زياد القاضي في أيام الأمير عبد الله، توفي سنة تسع وثلاثمائة، وصلى عليه ابن لبابة. [744]
***(2/90)
[745] أيوب بن سليمان:
من جيان، كان فقيهًا عالمًا توفي سنة اثنين وثلاثمائة.
ظاهر بن عبد العزيز:
قرأ على بقي بن مخلد، كان عرافًا بالحديث رواية له، توفي سنة خمس وثلاثمائة.
أحمد بن بيطير:
كان حافظًا للفقه، روي عن ابن وضاح، وكان مولى لمحمد بن يوسف بن مطروح، وكان مشاورًا في أيام الأمير عبد الله، توفي سنة ثلاث وثلاثمائة.
محمد بن عبد الملك بن أيمن:
إليه انتهت رئاسة الأندلس في الفقه، وله نصيب من علم الحديث، توفي سنة ثلاثين وثلثمائة، وصلى عليه ابنه محمد أحمد.
أحمد بن بقي بن مخلد:
قاضي القضاة بقرطبة، من أعقل أهل زمانه، توفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
أحمد بن يحيى بن يحيى بن يحيى:
روى عن عمر عبيد الله، كان حافظًا للمسائل مشاورًا فيها، توفي سنة سبع وتسعين ومائتين.
أحمد بن محمد بن زايد:
قاضي الجماعة بقرطبة قد عرف في خلافة عبد الرحمن بن محمد سنة سبع وثلاثمائة، وولي القضاء بعده أسلم بن عبد العزيز.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبيد الله بن سعيد الأموي:
عرف بابن العطار، وكان مع علمه في الفقه والوثائق بصيرًا بالأدب وعلم الحساب، قدمه للشورى أبو بكر بن زرب، توفي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة.
أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين:
شيخ جليل من كبار المحدثين والعلماء الراسخين، توفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة.
أبو عبد الله محمد بن فرج مولى الطلاع:
كان فقيهًا عالمًا بعقد الشروط، مع خير وعفاف، لا تأخذه في الله لومة لائم، توفي سنة سبع وتسعين وأربعمائة.[745]
***(2/91)
[746] أبو مروان عبيد الله بن يحيى بن يحيى:
كان شيخًا جليلا معظمًا، لم يرو بالأندلس عن غير والده، وحج، وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائتين.
أبو محمد عبد الله بن يحيى بن أحمد الأموي:
يعرف بابن دحون كان من جملة الفقهاء وكبارهم، توفي سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
أبو عبد الله محمد بن عمر الفخار:
من كبار أهل العلم المسنجدين، كان يحفظ المدونة توفي سنة تسع عشرة وأربعمائة.
أبو الحسن خالد بن وهب التميمي:
عرف بابن الصقر، كان فقيهًا في المسائل، شور في أيام الأمير عبد الله وأول أيام عبد الرحمن بن محمد، وتوفي الأمير عبد الله سنة ثلاثمائة.
أبو عبد الله محمد بن عبيد الله بن يحيى بن يحيى:
كان ستفتي مع أبيه، توفي سنة ثلاث وثلاثمائة.
يحيى بن إبراهيم بن مزين:
من طليطلة، كان من أحفظ الناس للموطأ، وتوفي سنة تسع وخمسين ومائتين.
أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم.
صاحب الثمانية، كان متفننا في الحديث، والأغلب غليه الفقه، وسمع من يحيى بن يحيى، توفي سنة ثمان وخمسين ومائتين.
أبو مروان عبد الملك بن حبيب:
من اليحرة، كان جماعة العلم، كثير الكتب، توفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
أبو محمد يحيى بن يحيى:
كان أخذ في هيئته بزي مالك بن أنس وقرأ عليه موطأ بالمدينة، وتوفي سنة أربع وثلاثين ومائتين، وصلى عليه ابنه عبيد الله.
أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن المواز:
كان من الإسكندرية، تفقه بابن الماجشون، واعتمد على أصبغ، ومات سنة إحدى [746]
***(2/92)
[747] وثمانين ومائتين، والمعول بمصر على قوله.
أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبدروس:
له كتاب كالمدونة سماها المجموعة، مات سنة إحدى وستين ومائتين.
محمد بن حارث العروي:
انتقل إلى قرطبة كان حافظًا للفقه له تآليف كثيرة فيه وفي غيره، وتوفي سنة أربع وستين وثلاثمائة.
الليث بن أحمد بن حريش العرري القرطبي:
كان عالما بالرأي وحافظا ووافرًا من علم الحديث واستفتى بالمرية، توفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، ومولده سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.
أبو محمد موسى بن هديل بن محمد بن تاجيد البكر القرطبي:
يعرف بان عبد الصمد، روي عن أبوي محمد الشقاق وابن دحون، كان مشاورًا في الأحكام، وعزم عليه محمد بن جهور أن يوليه القضاء بقرطبة، فقال له: أخرني ثمانية أيام حتى نستخير الله، فأخره فعمي في ذلك الأيام، توفي سنة اثنين وستين وأربعمائة.
أبو بكر يحيى بن محمد بن بيقي بن زرب:
ولاه أبو محمد ابن جهور أحكام القضاء بقرطبة والصلاة والخطبة، ولم يكن له كبير علم، وتوفي سنة سبع وأربعين وأربعمائة.
أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام الأشبيلي:
عرف بابن المكوي، كبير المفتيين بقرطبة الذي انتهت إليه رئاسة العلم بها، تفقه عند اسحقا بن إبراهيم الفقيه، ودعي إلى قضاء قرطبة فأبى، توفي سنة إحدى وأربعمائة، ومولده سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
أبو عمر أحمد بن رشيق التغلبي:
شور في المرية، ونوظر عليه في الفقه، وكان له حافظًا، توفي عام ستة وأربعين وأربعمائة.
أبو جعفر أحمد بن مغيث أحمد بن مغيث الصدي:
من طليطلة من جلة علمائها، عالم بالحديث، وعقد الشروط، وله يها تأليف حسن سماع المقتنع، توفي سنة تسع وخمسين وأربعمائة، ومولده سنة ستة وأربعمائة. [747]
***(2/93)
[748] أبو جعفر أحمد بن محمد بن عبد العزيز اللخعي:
من أشبيلية، توفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسائة.
أبو علي حسين بن محمدبن سلمون المسيلي:
أصله من العدوة، شور بقرطبة، كان لا يحسن سوى المسائل، توفي سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة.
أبو علي الحسن بن أيوب بن محمد بن أيوب الأنصاري:
عرف بالحداد، من قرطبة، تفقه عند أبي بكر بن زرب، وكان عالمًا بالمسائل والحديث، مقدمًا في الشورى، توفي سنة خمس وعشرين وأربعمائة، ومولده سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.
أبو القاسم سراج بن عبد الله بن سراج:
قاضي الجماعة بقرطبة، وكان مشاورًا بالأحكام من قبل؛ وكان على منهاج السلف المتقدم، توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة وهو ابن ست وثمانين سنة.
أبو بكر يحيى بن عبد الرحمن بن واقد اللخعي:
قاضي الجماعة بقرطبة، كان فقيهًا بصيرًا بالأحكام مع الورع والفضل والتوضاع والدين، توفي سنة أربع وأربعمائة.
أبو الوليد يونس بن عبد الله بن محمد بنمغيث بن عبد الله:
قاضي الجماعة بقرطبة وصاحب الصلاة والخطبة، توفي سنة تسع وثمانين وأربعمائة مولده سنة ثمان وثلاثمائة.
أبو المطرف عبد الرحمن بن سعيد بن جرح:
من البيرة وسكن قرطبة، روى ببلده عن أبي عبد الله بن أبي زمنين، ولي الشورى بقرطبة، كان حافظًا للمسائل، وله حظ في علم النحو، توفي بقرطبة سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، ومولده سنة ثمان وستين وثلاثمائة.
أبو مروان عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن أصبغ القرشي:
كان من أهل العلم له تأليف حسن في الفقيه والسنن، شديد الحفظ مع الفضل والتواضع، توفي سنة ستة وثلاثين وأربعمائة، ومولده سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. [748]
***(2/94)
[749] أبو محمد عبد الله بن سعيد بن عبد الله الأموي:
عرف بابن الشقاق، كبير المفتين بقرطبة، توفي سنة ست وعشريين وأربعمائة، ومولده سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
محمد بن يحيى بن زكريا بن برطال:
ولي القضاء بعد أبو بكر بن زرب، توفي سنة أربع وتسعين وثلاثمائة.
أبو المطرف عبد الرحمن بن بشر:
كان منالراسخين ومن كبائر المشاورين بالعقود والأحكام، لا يجاره في ذلك، وكان قاضي الجماعة وصابح الصلاة بقرطبة، توفي في النصف من شعبان سنة اثنتين وعشرين وأرعبمائة، وهو ابن نحو ثمان وسبعين سنة، وصلى ابنه عيه يونس بن عبد الله.
أبو عبد الله محمد بن سعيد الموثق، المعروف بالملوان:
ولي بشرطة الأمير عبد الله، له تأليف في الوثائق، روي عن يحيى بن يحيى، توفي في صدر أيام الأمير عبد الله.
ابن حنين:
كان عالمًا روى عن عبيد الله بن يحيى بن يحيى، توفي سنة ثمان عشرة وثلاثمائة.
محمد بن إبراهيم بن عيسى:
ورى عن ابن وضاح، وكان عظيم النعمة متشبهًا بالملوك الأكابر، توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
محمد بن إسحاق بن السليم اللخمي:
من أشرف عرب شدونة البيح تنسب المدينة المعروفة ببني السليم، وكان قاضي الجماعة بقرطبة عالمًا بالحديث والفقه، ولي القضاء بعد منذر بن سعيد، توفي سنة سبع وستين وثلاثمائة.
أبو محمد عبد الله بن موسى بن سعيد الأنصاري الشارقي:
من أهل طليطلة روى عن أبي محمد بن دحون وأبي عمر الطلمنكي، وكان حسن الإدراك حصيف العقل، مع الصلاة الطويلة والصوم الدائم، توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة.[749]
***(2/95)
[750] أبو بكر محمد بن محمد بن مغيث بن أحمد مغيث بن أحمد بنمغيث الصدي:
من طليطلة، روى عن أبي عبد الله بن أبي زمنين وأبي عمر الطلمنكي، وكان من جلة الفقهاء، توفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة.
أبو عمر أحمد بن إبراهيم بن هشام التميمي:
من طليطلة، كانمعظمًا عند الخاصة والعامة. توفي عشر الثلاثين وأربعمائة.
أبو جعفر أحمد بن قاسم بن محمد بن يوسف اللخمي:
من طليطلة، يعرف بابن رافع، ورى عن محمد بن إبراهيم الخشني، كان حافظً للفقه راهبًا فيه بصيرة بالحديث وبمثله عارفًا بعقد الشروط، شاعرًا مطلوبًا، توفي ليلة عاشوراء، سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، قال ابن مظاهر: سمعت الناس يقولون يوم جنازته: اليوم مات العلم.
أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن عيسى الأموي:
من سرقسطة، كان فقيهًا حارجًا للرأي، استقصاء المقتدر بالله بمدينة سالم، توفي سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة.
أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي:
ولي قضاء الجماعة بقرطبة أيام عبد الرحمن الناصر واستعفى عنها فما أعفى، وله تأليف في السنة والقرآن والورع والزهد وارد على أهل الأهواء، وكان مع ذلك خطيًا بالغًا شاعرًا محسنًا، ولى سنة ثلاث وعشرين ومائتين عند ولاية المنذر بن محمد، وتوفي يوم الخميس لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة خمس وثلاثمائة. [750](2/96)