تكذيبهما فإن شهادتهما بعد صدور الدعوى مسموعة للقاضي الحكم بها وإن لم يصدقهما الولي لأن دعواه القتل على المشهود عليهما وطلب الشهادة كاف في جواز الحكم كما قاله البلقيني
( أو ) صدق ( الآخرين أو ) صدق ( الجميع أو كذب الجميع بطلتا ) أي الشهادتان في المسائل الثلاثة أما الأولى فلأن في تصديق الآخرين تكذيب الأولين وعداوة الآخرين لهما وأما في الثانية فلأن في تصديق كل فريق تكذيبا للآخر وأما الثالثة فالأمر فيها ظاهر
تنبيه قد استشكل تصوير هذه المسألة بأن الشهادة على القتل لا تسمع إلا بعد تقدم الدعوى على الصحيح ولا بد في الدعوى من تعيين القاتل فكيف يشهدان ثم يراجع الولي
وأجيب بأوجه ذكرتها في شرح التنبيه أصحها أن يدعي الولي على اثنين ويشهد له بذلك شاهدان فيبادر المشهود عليهما ويشهدان على الشاهدين أو غيرهما كما مر بأنهما القاتلان وذلك يورث ريبة للحاكم فيراجع الولي ويسأله احتياطا وينظر هل يستمر على الدعوى أو يعود إلى تصديق الآخرين أو الجميع أو يكذب الجميع وهل يبطل حقه من الدعوى مقتضى عبارة المصنف عدم البطلان
قال الزركشي وينبغي أن يأتي فيه ما سبق في تكذيب بعض الورثة لكن عبارة الجمهور بطل حقه
( ولو أقر بعض الورثة ) ولو فاسقا ( بعفو بعض ) منهم عن القصاص سواء عينه أم لا ( سقط القصاص ) لأنه لا يتبعض ولو اعترف بسقوط حقه منه فيسقط حق الباقي واحترز بسقوط القصاص عن الدية فإنها لا تسقط بل إن لم يعين العافي فللورثة كلهم الدية وإن عينه فأنكر فكذلك ويصدق بيمينه أنه لم يعف وإن أقر بالعفو مجانا أو مطلقا سقط حقه من الدية وللباقين حصتهم منها
تنبيه اشترط لإثبات العفو من بعض الورثة عن القصاص لا عن حصته من الدية شاهدان لأن القصاص ليس بمال وما لا يثبت بحجة ناقصة لا يحكم بسقوطه
أما إثبات العفو عن حصته من الدية فيثبت بالحجة الناقصة أيضا من رجل وامرأتين أو رجل ويمين لأن المال يثبت بذلك فكذا إسقاطه وخرج بقوله أقر ما لو شهد فإنه إن كان فاسقا أو لم يعين العافي فكالإقرار وإن كان عدلا وعين العافي وشهد بأنه عفا عن القصاص والدية جميعا بعد دعوة الجاني قبلت شهادته في الدية ويحلف الجاني مع الشاهد أن العافي عفا عن الدية لا عنها وعن القصاص لأن القصاص سقط بالإقرار فيسقط من الدية حصة العافي وإن شهد بالعفو عن الدية فقط لم يسقط قصاص الشاهد
( ولو اختلف شاهدان في زمان ) للقتل كأن قال أحدهما قتله في الليل والآخر قال في النهار ( أو مكان ) له كأن قال أحدهما قتله في المسجد
وقال الآخر قتله في الدار ( أو آلة ) له كأن قال أحدهما قتله بسيف وقال الآخر قتله برمح ( أو هيئته ) له كأن قال أحدهما حز رقبته وقال الآخر شقه نصفين ( لغت ) شهادتهما ولا لوث بها لأن كل واحد ناقض صاحبه وذكر الهيئة مزيد ( وقيل ) هذه الشهادة ( لوث ) فيقسم الولي وتثبت الدية لاتفاقهما على أصل القتل والاختلاف في الصفة بما يكون غلطا أو نسيانا
فإن قيل لم لم يحلف على الأول مع من وافقه منهما أو يأخذ البدل كنظيره من السرقة
أجيب بأن باب القسامة أمره أعظم ولهذا غلظ فيه بتكرير الأيمان
تنبيه هذا إذا شهد على الفعل فلو شهد على الإقرار لم يضر اختلافهما في الزمان كما نص عليه في الأم ولا في مكانه كما قاله ابن المقري لأنه لا اختلاف في القتل وصفته بل في الإقرار نعم إن عينا يوما أو نحوه في مكانين متباعدين بحيث لا يصل المسافر من أحدهما إلى الآخر في الزمن الذي عيناه كأن شهد أحدهما بأنه أقر بالقتل بمكة يوم كذا والآخر بأنه أقر بقتله بمصر ذلك اليوم فتلغو الشهادة
خاتمة لو شهد أحدهما على المدعى عليه بالقتل والآخر بالإقرار به فلوث تثبت به القسامة دون القتل لأنهما لم يتفقا على شيء واحد فإن ادعى عليه الوارث قتلا عمدا أقسم وإن ادعى خطأ أو شبه عمد حلف مع أحد
____________________
(4/122)
الشاهدين فإن حلف مع شاهد القتل فالدية على العاقلة أو مع شاهد الإقرار فعلى الجاني وإن ادعى عليه عمدا فشهد أحدهما بإقراره بقتل عمد والآخر بإقراره بقتل مطلق أو شهد أحدهما بقتل عمد والآخر بقتل مطلق ثبت أصل القتل لاتفاقهما عليه حتى لا يقبل من المدعى عليه إنكاره وطولب بالبيان لصفة القتل فإن امتنع منه جعل ناكلا وحلف المدعي يمين الرد أنه قتل عمدا واقتص منه وإن بين فقال قتلته عمدا اقتص منه أو عفا على مال أو قتل خطأ فللمدعي تحليفه على نفي العمدية إن كذبه فإذا حلف لزمه دية خطأ بإقراره فإن نكل عن اليمين حلف المدعي واقتص منه ولو شهد رجل على آخر أنه قتل زيدا وآخر أنه قتل عمرا أقسم ولياهما لحصول اللوث في حقهما جميعا
كتاب البغاة جمع باغ والبغي الظلم ومجاوزة الحد سموا بذلك لظلمهم وعدولهم عن الحق كما يقال بغت المرأة إذا فجرت وافتتحه في المحرر بقوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا } الآية وليس فيها ذكر الخروج على الإمام لكنها تشمل لعمومها أو تقتضيه لأنه إذا طلب القتال لبغي طائفة على طائفة للبغي على الإمام أولى والإجماع منعقد على قتالهم
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه أخذت السيرة في قتال المشركين من النبي صلى الله عليه وسلم وفي قتال المرتدين من أبي بكر رضي الله تعالى عنه وفي قتال البغاة من علي رضي الله تعالى عنه وقد عرف المصنف رضي الله تعالى عنه البغاة بقوله ( هم ) مسلمون ( مخالفو الإمام ) ولو جائرا وهم عادلون كما قاله القفال وحكاه ابن القشيري عن معظم الأصحاب وما في الشرح والروضة من التقييد بالإمام العادل وكذا هو في الأم والمختصر مرادهم إمام أهل العدل فلا ينافي ذلك ويدل لذلك قول المصنف في شرح مسلم إن الخروج على الأئمة وقتالهم حرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين لكن نوزع في الإجماع بخروج الحسين على يزيد بن معاوية وابن الزبير على عبد الملك بن مروان ومع كل منهما خلق كثير من السلف وقد يقال إن مراده الإجماع بعد ذلك وفرق بعضهم بين من تغلب على الإمامة فيجوز الخروج عليه إذا جار وبغى وبين من عقدت له الإمامة فلا يجوز
وتحصل مخالفة الإمام بأحد أمرين إما ( بخروج عليه ) نفسه ( و ) إما بسبب ( ترك الانقياد ) له ( أو ) لا بهذين الأمرين بل بخروج عن طاعته بسبب ( منع حق ) مالي لله تعالى أو لآدمي أو غيره كقصاص أو حد ( توجه عليهم ) لأن الصديق رضي الله تعالى عنه قاتل مانعي الزكاة لمنعهم الزكاة ولم يخرجوا عليه وإنما منعوا الحق المتوجه عليهم وإنما يكون مخالفو الإمام بغاة ( بشرط شوكة لهم ) بكثرة أو قوة ولو بحصن بحيث يمكن معها مقاومة الإمام فيحتاج في ردهم إلى الطاعة لكلفة من بذل مال وتحصيل رجال ( و ) بشرط ( تأويل ) يعتقدون به جواز الخروج عليه أو منع الحق المتوجه عليهم لأن من خالف من غير تأويل كان معاندا للحق
تنبيه يشترط في التأويل أن يكون فاسدا لا يقطع بفساده بل يعتقدون به جواز الخروج كتأويل الخارجين من أهل الجمل وصفين على علي رضي الله تعالى عنه بأنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لمواطأته إياهم وتأويل بعض مانعي الزكاة من أبي بكر رضي الله تعالى عنهم بأنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن صلاته سكن لهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم
( و ) بشرط ( مطاع فيهم ) أي متبوع يحصل به قوة لشوكتهم
وإن لم يكن إماما منصوبا فيهم يصدرون عن رأيه إذ لا قوة لمن لا يجمع كلمتهم مطاع وهذا نقله الرافعي عن الإمام وظاهر كلامه أن المطاع شرط لحصول الشوكة لا أنه شرط آخر غير الشوكة كما يقتضيه تعبير الكتاب ولهذا لم يذكر في المحرر غير
____________________
(4/123)
شرطين وجعل المطاع قيدا في الشوكة ( قيل و ) يشترط ( إمام منصوب ) فيهم حتى لا تتعطل الأحكام بينهم وهذا ما نسبه الرافعي للجديد ونسبه الإمام للمعظم وجزم به جمع كثير
تنبيهان أحدهما كلام المصنف يوهم اعتبار وجود شخصين على هذا الوجه وليس مرادا بل المراد أنه لا بد من مطاع وهل يشترط أن يكون منصوبا فيه وجهان أصحهما عند الأكثرين المنع لأن عليا رضي الله تعالى عنه قاتل أهل الجمل ولا إمام لهم وأهل صفين قبل نصب إمامهم وسكت المصنف عن شرط آخر وهو انفراد البغاة ببلدة أو قرية أو موضع من الصحراء كما نقله في الروضة وأصلها عن جمع وحكى الماوردي الاتفاق عليه
الثاني ليس أهل البغي بفسقة كما أنهم ليسوا بكفرة لأنهم إنما خالفوا بتأويل جائز باعتقادهم لكنهم مخطئون فيه وليس اسم البغي ذما والأحاديث الواردة فيما يقتضي ذمهم كحديث من حمل علينا السلاح فليس منا وحديث من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وحديث من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية محمول على من خرج عن الطاعة بلا تأويل أو بتأويل فاسد قطعا فإن فقدت فيهم الشروط المذكورة بأن خرجوا بلا تأويل كما نعي حق الشرع كالزكاة عنادا أو بتأويل يقطع بفساده كتأويل المرتدين ومانعي حق الشرع كالزكاة الآن والخوارج أو لم يكن لهم شوكة بأن كانوا أفرادا يسهل الظفر بهم أو ليس فيهم مطاع فليسوا بغاة لانتفاء حرمتهم فيترتب على أفعالهم مقتضاها ولأن ابن ملجم قتل عليا متأولا بأنه وكيل امرأة قتل علي أباها فاقتص منه ولم يعط حكمهم في سقوط القصاص لانتفاء شوكته
( ولو أظهر قوم رأي الخوارج ) وهم قوم من المبتدعة يكفرون من ارتكب كبيرة ويطعنون بذلك في الأئمة ولا يحضرون معهم الجمعة والجماعات كما إشار إلى ذلك بقوله ( كترك الجماعات وتكفير ذي ) أي صاحب ( كبيرة ) ولم نكفرهم بذلك كما هو الأصح ( ولم يقاتلوا ) وهم في قبضتنا كما في المحرر والشرح والروضة ( تركوا ) فلا نتعرض لهم سواء كانوا بيننا أم امتازوا بموضع عنا لكن لم يخرجوا عن طاعة الإمام كما قاله الأذرعي ولم يفسقوا بذلك ما لم يقاتلوا لأن اعتقادهم أن من أتى كبيرة كفر وحبط عمله وخلد في النار وإن دار الإمام صارت لظهور الكبائر فيها دار كفر وإباحة فلذلك طعنوا في الأئمة ولم يصلوا خلفهم وتجنبوا الجمعة والجماعة ولو صرحوا بسب الإمام أو غيره من أهل العدل غزروا لا إن عرضوا في الأصح لأن عليا رضي الله تعالى عنه سمع رجلا من الخوارج يقول لا حكم إلى الله ورسوله وعرض بتخطئته في الحكم
فقال كلمة حق أريد بها باطل لكم علينا ثلاث لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا ولا نبدؤكم بقتال فجعل حكمهم حكم أهل العدل
تنبيه محل عدم التعرض لهم إذا لم نتضرر بهم فإن تضررنا بهم تعرضنا لهم حتى يزول الضرر كما قاله القاضي عن الأصحاب ( وإلا ) بأن قاتلونا أو لم يكونوا في قبضتنا ( فقطاع ) أي فحكمهم إن لم نكفرهم وهو الأصح كما سبق كحكم قطاع ( طريق ) فإن قتلوا أحدا ممن يكافئهم اقتص منهم كغيرهم لا أنهم قطاع طريق كما يفهمه كلام المصنف فلا يتحتم قتلهم وإن كانوا كقطاع الطريق في شهر السلاح لأنهم لم يقصدوا إخافة الطريق
ثم شرع في حكم البغاة بقوله ( وتقبل شهادة البغاة ) لأنهم ليسوا بفسقة كما مر لتأويلهم
قال الشافعي رضي الله عنه إلا أن يكونوا ممن يشهدون لموافقيهم بتصديقه كالخطابية وهم صنف من الرافضة يشهدون بالزور ويقضون به لموافقيهم بتصديقهم فلا تقبل شهادتهم ولا ينفذ حكم قاضيهم ولا يختص هذا بالبغاة كما سيأتي في الشهادات وسيأتي فيها أنهم إن بينوا السبب أن شهادتهم تقبل لانتفاء التهمة حينئذ ( و ) يقبل ( قضاء قاضيهم ) بعد اعتبار صفات القاضي فيه ( فيما يقبل ) فيه ( قضاء قاضينا ) لأن لهم تأويلا يسوغ فيه الاجتهاد ( إلا أن يستحل ) شاهد البغاة أو قاضيهم ( دماءنا ) وأموالنا فلا تقبل شهادته ولا قضاؤه لأنه ليس بعدل وشرط الشاهد والقاضي العدالة
____________________
(4/124)
تنبيه ما جزم به المصنف من عدم صحة شهادته ونفوذ قضائه إذا استحل دماءنا وأموالنا وما نقلاه في الروضة وأصلها هنا عن المعتبرين من أصحابنا محمول على ما إذا كان بلا تأويل وما ذكره في زيادة الروضة في كتاب الشهادات من أنه لا فرق في قبول شهادة أهل الأهواء وقضاء قاضيهم بين من يستحل الدم والمال أم لا محمول على ما إذا استحلوه بتأويل فلا منافاة بين الموضعين كما توهمه بعض الشارحين وينبغي كما قال الزركشي أن يكون سائر الأسباب الموجبة للفسق في معنى استحلال الدم والمال ولو شككنا في الاستحلال حيث قلنا لا تصح الشهادة ولا ينفذ القضاء فقولان حكاهما ابن كج وقال اختيار الشافعي رحمه الله تعالى عدم قبول الحكم ويأتي مثله في الشهادة وخرج بما ينفذ فيه قضاء قاضينا غيره كأن حكم بما يخالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا فلا يقبل ( وينفذ ) بضم أوله وتشديد الفاء قاضينا ( كتابه ) أي قاضي البغاة ( بالحكم ) فإذا كتب بما حكم به إلى قاضينا جاز له قبوله وتنفيذه ولكن يسن له عدم تنفيذه استخفافا بهم ( ويحكم بكتابه بسماع البينة ) أي يجوز له ذلك ( في الأصح ) كتقييد كتابه بالحكم ويستحب أنه لا يحكم به لما مر
والثاني لا يحكم به لأن فيه معونة أهل البغي وإقامة مناصبهم
تنبيه تبع المحرر في حكاية الخلاف وجهين لكنه في الروضة كأصلها جعله قولين وطردهما الإمام في الكتاب بالحكم ( ولو ) استولى البغاة على بلد و ( أقاموا ) أي ولاة أمورهم ( حدا ) على من وجب عليه ( وأخذوا زكاة ) من أهلها ( وخراجا ) من أرض خراجية ( وجزية ) من أهل ذمة ( وفرقوا سهم المرتزقة ) من الفيء ( على جندهم صح ) ما فعلوه في البلد الذي استولوا عليه تأسياب علي رضي الله تعالى عنه ولأن في إعادة المطالبة إضرارا بأهل البلد أما إذا أقام الحد غير ولاتهم فإنه لا يعتد به ومحل الاعتداد به في الزكاة كما قال البلقيني إذا كانت غير معجلة أو كانت معجلة لكن استمرت شوكتهم حتى وجبت فلو زالت شوكتهم قبل الوجوب لم يقع ما عجلوه موقعه لأن وقت الوجوب لم يكونوا أهلا للأخذ
قال ولم أر من تعرض لذلك وقد أشار الشافعي رضي الله تعالى عنه إليه بقوله بصدقة عامة
( وفي الأخير ) وهو تفرقة سهم المرتزقة على جندهم ( وجه ) أنه لا يقع الموقع لئلا يتقووا به على أهل العدل
وأجاب الأول بأنهم من جند الإسلام ورغب الكفار قائم بهم وفي الجزية أيضا وجه حكاه الرافعي وفي الزكاة أيضا وجه حكاه القاضي
قال الزركشي وصرح في الإشراف بحكاية الخلاف في الخراج ( وما أتلفه باغ ) من نفس أو مال ( على عادل وعكسه ) أي أتلفه عادل على باغ ( إن لم يكن في قتال ) لضرورته بأن كان في غير القتال أو فيه لا لضرورته ( ضمن ) قطعا كل منهما متلفه من نفس ومال جريا على الأصل في الإتلاف
تنبيه يستثنى من ذلك ما إذا قصد أهل العدل بإتلاف المال إضعافهم وهزيمتهم فإنه لا ضمان قال الماوردي قال بخلاف ما لو قصدوا التشفي والانتقام
( وإلا ) بأن كان الإتلاف في قتال لضرورته ( فلا ) ضمان اقتداء بالسلف لأن الوقائع التي جرت في عصر الصحابة كوقعة الجمل بصفين لم يطلب بعضهم بعضا بضمان نفس ولا مال وترغيبا في الطاعة لئلا ينفروا عنها ويتمادوا على ما هم فيه ولهذا سقطت التبعة عن الحربي إذا أسلم ولأنا مأمورون بالقتال فلا يضمن ما يتولد منه وهم إنما أتلفوا بتأويل ( وفي قول يضمن الباغي ) ما أتلفه على العادل لأنهما فرقتان من المسلمين محقة ومبطلة فلا يستويان في سقوط الغرم كقطاع الطريق لشبهة تأويلها
تنبيه محل الخلاف كما يؤخذ مما قدرته في كلامه فيما أتلف في القتال بسبب القتال فإن أتلف فيه ما ليس من ضرورته ضمن قطعا قاله الإمام وأقراه ثم ما ذكر بالنسبة للضمان وأما بالنسبة للتحريم فقال الشيخ عز الدين لا يتصف إتلافهم بإباحة ولا بتحريم لأنه خطأ معفو عنه بخلاف ما يتلفه الكفار حال القتال إنه حرام غير مضمون
فرع لو وطىء باغ أمة عادل بلا شبهة حد ورق الولد ولا نسب لأن الوطء حينئذ زنا ومتى كانت مكرهة على
____________________
(4/125)
الوطء لزمه المهر كغيره وبعضهم استثنى هذه المسألة من إطلاق المصنف نفي الضمان وهو ممنوع لأن إتلاف البضع بالوطء لا تعلق له بالقتال والكلام إنما هو فيه
وأما الحربي إذا وطىء أمة غيره بلا شبهة فإن الولد يكون رقيقا ولا نسب ولا حد عليه ولا مهر إن كانت مكرهة على الوطء لأنه لم يلتزم الأحكام
واعلم أن ما سبق من نفي الضمان محله عند اجتماع الشوكة والتأويل فإن فقد أحدهما فله حالان أشار إلى الأول بقوله ( و ) الباغي ( المتأول بلا شوكة ) له ( يضمن ) النفس والمال ولو حال القتال كقاطع الطريق ولأنا لو أسقطنا الضمان عنه لم تعجز كل شرذمة تريد إتلاف نفس ومال أن تبدي تأويلا وتفعل من الفساد ما تشاء وفي ذلك بطلان السياسات وأشار إلى الثاني بقوله ( وعكسه ) وهو من له شوكة بلا تأويل حكمه ( كباغ ) في الضمان وعدمه وتقدم أن الأظهر عدم الضمان في حال القتال لضرورته فكذا هنا لأن سقوط الضمان في الباغين لقطع الفتنة واجتماع الكلمة وهو موجود هنا وخالف في ذلك البلقيني وقال بالضمان
تنبيه ما ذكره المصنف من تنزيلهم منزلة البغاة هو بالنسبة للضمان كما قيدت به كلامه لأنه السابق أولا أما الحدود إذا أقاموها أو الحقوق إذا قبضوها فلا يعتد بها الانتفاء شرطهم
قال الشيخان والتحكيم فيهم على الخلاف في غيرهم
فرع لو ارتدت طائفة لهم شوكة فأتلفوا مالا أو نفسا في القتال ثم تابوا وأسلموا هل يضمنون أولا كالبغاة وجهان في أصل الروضة من غير ترجيح والصحيح كما قال الإسنوي الأول لجنايتهم على الإسلام ونقله الماوردي عن النص في أكثر كتبه
وقال الأذرعي إنه الوجه ولا ينفذ قضاء قاضي المرتدين قطعا قاله في أصل الروضة
ثم شرع المصنف في كيفية قتال البغاة فقال ( ولا يقاتل ) الإمام ( البغاة حتى يبعث إليهم أمينا فطنا ) إن كان البعث للمناظرة كما قاله بعض المتأخرين ( ناصحا ) لهم فإذا وصل إليهم ( يسألهم ما ينقمون ) أي يكرهون اقتداء ب علي رضي الله تعالى عنه فإنه بعث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أهل النهروان فرجع بعضهم وأبى بعضهم
تنبيه ظاهر عبارته أن البعث واجب وهو ظاهر عبارة الشرحين أيضا وصرح به ابن الصباغ وغيره وقال في المطلب وهو ظاهر كلام الشافعي وصرح به الأصحاب وفي تعليق القاضي أبي الطيب أنه مستحب ( فإن ذكروا مظلمة ) هي سبب امتناعهم عن الطاعة وهي إن كانت مصدرا ميميا فبفتح اللام وكسرها
وقال الزركشي الفتح هو القياس أو اسما لما يظلم به فالكسر فقط ( أو شبهة أزالها ) لأن المقصود بقتالهم ردهم إلى الطاعة ودفع شرهم كدفع الصائل دون قتلهم لقوله تعالى { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } أي ترجع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله ( فإن أصروا ) بعد الإزالة أو لم يذكروا شيئا ( نصحهم ) ووعظهم وخوفهم سوء عاقبة البغي وأمرهم بالعود للطاعة لأن ذلك أقرب إلى حصول المقصود ( ثم ) إن أصروا دعاهم إلى المناظرة فإن لم يجيبوا أو أجابوا أو غلبوا في المناظرة وأصروا ( آذنهم ) بالمد أي أعلمهم ( بالقتال ) لأن الله تعالى أمر أولا بالإصلاح ثم بالقتال فلا يجوز تقديم ما أخره الله تعالى
تنبيه إنما يعلمهم بالقتال إذا علم أن في عسكره قوة وقدرة عليهم وإلا أخره إلى أن تمكنه القوة عليهم لأنه الاحتياط في ذلك كما نقله في البحر عن النص وقتالهم حينئذ واجب لإجماع الصحابة عليه بأحد خمسة أمور كما قاله الماوردي أن يتعرضوا لحريم أهل العدل أو يتعطل جهاد الكفار بهم أو يأخذوا من حقوق بيت المال ما ليس لهم أو يمتنعوا من دفع ما وجب عليهم أو يتظاهروا على خلع الإمام الذي قد انعقدت بيعته فلو انفردوا عن الجماعة ولم يمنعوا حقا ولا تعدوا إلى ما ليس لهم جاز قتالهم لأجل تفريق الجماعة ولا يجب لنظاهرهم بالطاعة ( فإن استمهلوا ) أي طلبوا الإمهال من الإمام ( اجتهد ) فيه وفي عدمه ( وفعل ما رآه صوابا ) منهما وإن ظهر له أن استمالهم للتأمل في إزالة
____________________
(4/126)
الشبهة أمهلهم ليتضح لهم الحق وإن ظهر لهم أنهم يحتالون لاجتماع عساكرهم وانتظار مددهم لم يمهلهم وإن سألوا ترك القتال أبدا لم يجبهم
تنبيه قضية كلامه أن مدة الإمهال لا تتقيد وهو كذلك بل ترجع إلى ما يراه الإمام وفي التهذيب كيوم أو يومين وفي المهذب ثلاثة أيام وقضيته أيضا مراعاة هذا التدريج في القتال وهو كذلك وبه صرح الإمام فقال سبيله سبيل دفع الصائل من الاقتصار على الأدنى فالأدنى ( ولا يقاتل مدبرهم ) إذا وقع قتال ولا من ألقى سلاحه وأعرض عن القتال ( ولا مثخنهم ) بفتح المعجمة اسم مفعول من أثخنه الجرح إذا أضعفه ( و ) لا ( أسيرهم ) إذا كان الإمام يرى رأينا فيهم لقوله تعالى { حتى تفيء } والفيئة الرجوع عن القتال بالهزيمة
روى ابن أبي شيبة بإسناد حسن أن عليا رضي الله عنه أمر مناديه يوم الجمل فنادى لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ولا يقتل أسير ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن ولأن قتالهم شرع للدفع عن منع الطاعة وقد زال أما إذا كان لا يرى ذلك فلا اعتراض عليه ويستثنى من إطلاق المصنف المدبر المتحرف للقتال أو المتحيز إلى فئة قريبة فيقاتلان بخلاف المتحيز إلى فئة بعيدة وما إذا انهزموا مجتمعين تحت راية زعيمهم فإنهم يقاتلون حتى يرجعوا إلى الطاعة
قال الإمام أو يتبددوا
تنبيه عبر في المحرر في المدبر بالقتال وفي الآخرين بالقتل وهو أولى من تعبير المصنف لأن المثخن والأسير لا يقاتلان وقد يفهم من منع قتل هؤلاء وجوب القصاص بقتلهم والأصح أنه لا قصاص لشبهة أبي حنيفة ( ولا يطلق ) أسيرهم بل يحبس كما صرح به الماوردي وغيره إذ بحبسه تضعف البغاة ( وإن كان صبيا وامرأة ) وعبدا ( حتى تنقضي الحرب و ) تؤمن غائلتهم بأن ( يتفرق جمعهم ) لينكشف شرهم ولا يتوقع عودهم
تنبيه ظاهر عبارته استمرار حبسهم إلى أن ( يتفرق جمعهم ) ومحله في الرجل الحر المتأهل للقتال وكذا الصبي والمرأة والعبد والشيخ الفاني إن كانوا مقاتلين كما قاله الإمام وغيره في الأولين ويلحق بهما الآخران وإلا أطلقوا بمجرد انقضاء الحرب وإن خفنا عودهم ( إلا أن يطيع ) الأسير ( باختياره ) بمبايعة الإمام والرجوع عن البغي إلى الطاعة فيطلق قبل ذلك
تنبيه هذا الاستثناء خاص بالرجل الحر أما الصبيان والنساء والعبيد فلا بيعة لهم ( ويرد ) وجوبا ( سلاحهم وخيلهم ) وغيرهما ( إليهم إذا انقضت الحرب وأمنت غائلتهم ) أي شرهم بتفرقهم أو ردهم للطاعة لزوال المحذور حينئذ
تنبيه فهم من رد السلاح والخيل إليهم غيرهما من الأموال التي ليست عونا لهم في القتال من باب أولى ( ولا يستعمل ) أي يحرم استعمال شيء من سلاحهم وخيلهم أو غيرهما من أموالهم ( في قتال ) وغيره لعموم قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب نفس منه
( إلا لضرورة ) كما إذا خيف انهزام أهل العدل ولم يجدوا غير خيولهم فيجوز لهم ركوبها وكذا إن لم يجدوا ما يدفعون به عنهم غير سلاحهم
تنبيه قضية ذلك وجوب أجرة استعمالها في القتال للضرورة كالمضطر إذا أكل طعام غيره إنه يلزمه بدله والأوجه كما اقتضاه كلام الأنوار خلافا لما مر من أنه لا ضمان لما يتلف في القتال وتفارق مسألة المضطر بأن الضرورة فيها نشأت من المضطر بخلافه في مسألتنا فإنها إنما نشأت من جهة المالك ( ولا يقاتلون بعظيم كنار ومنجنيق ) وإرسال سيل وأسود وحيات ونحوها من المهلكات لأن المقصود من حالهم ردهم إلى الطاعة كما مر وقد يرجعون فلا يجدون للنجاة سبيلا وفي الحديث الصحيح لا يعذب بالنار إلا ربها
تنبيه لو عبر بما يعم لكان أولى لأن آلة الحرب قد تعظم ولكن لا تعم وليس المنع إلا مما يعم لأنه قد
____________________
(4/127)
يصيب من لا يجوز قتله كالنساء والصبيان ( وإلا لضرورة ) فيجوز قتالهم بالعظيم ( كأن قاتلوا به أو أحاطوا بنا ) واضطررنا إلى الرمي بذلك تدفعهم عنا بأن خيف استئصالنا فإن أمكن دفعهم بغيره كانتقالنا الموضع آخر لم نقاتلهم به
تنبيه لو تحصنوا ببلد أو قلعة ولم يتأت الاستيلاء عليهم إلا بذلك لم يجز قتالهم لما مر ولأن ترك بلدة أو قلعة بأيدي طائفة من المسلمين يتوقع الاحتيال في فتحها أقرب إلى الصلاح من استئصالهم ولا يجوز حصارهم بمنع طعام أو شراب إلا على رأي الإمام في أهل قلعة ولا يجوز عقر خيولهم إلا إذا قاتلوا عليها ولا قطع أشجارهم وزروعهم ويلزم الواحد كما قال المتولي من أهل العدل مصابرة اثنين من البغاة كما يجب على المسلم أن يصبر لكافرين فلا يول إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه يكره للعادل أن يتعمد قتل ذي رحمه من أهل البغي وحكم دار البغي دار الإسلام فإذا جرى فيها ما يوجب إقامة حد أقامه الإمام إذا استولى عليها ولو سبى المشركون طائفة من البغاة وقدر أهل العدل على استنقاذهم لزمهم ذلك ( ولا يستعان عليهم ) في قتال ( بكافر ) ذمي أو غيره لأنه يحرم تسليطه على المسلم ولهذا لا يجوز لمستحق القصاص من مسلم أن يوكل كافرا في استيفائه ولا للإمام أن يتخذ جلادا كافرا لإقامة الحدود على المسلمين
تنبيه ظاهر كلامهم أن ذلك لا يجوز ولو دعت الضرورة إليه لكنه في التتمة صرح بجواز الاستعانة به عند الضرورة وقال الأذرعي وغيره أنه المتجه ( ولا ) يستعان عليهم أيضا ( بمن يرى قتلهم ) حال كونهم ( مدبرين ) لعداوة أو اعتقاد ك الحنفي إبقاء عليهم وفرق بينه وبين جواز استخلاف الشافعي الحنفي ونحوه بأن الخليفة ينفرد برأيه واجتهاده والمذكورون هنا تحت رأي الإمام ففعلهم منسوب إليه فلا يجوز لهم أن يعملوا بخلاف اجتهاده ويستثنى ما إذا دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم
قال الشيخان فيجوز بشرطين أحدهما أن يكون حسن إقدام وجراءة الثاني أن يمكن دفعهم عنهم لو اتبعوهم بعد انهزامهم
زاد الماوردي شرطا ثالثا وهو أن يشرط عليهم أن لا يتبعوا مدبرا ولا يقتلوا جريحا وأن يثق بوفائهم بذلك ( ولو استعانوا علينا بأهل حرب وآمنوهم ) بهمزة ممدودة وقصرها مع تشديد الميم لحن كما قاله ابن مكي أي عقدوا لهم أمانا ليعينوهم علينا ( لم ينفذ ) بالمعجمة ( أمانهم علينا ) لأن الأمان لترك قتال المسلمين فلا ينعقد على شرط قتالهم وحينئذ قلنا غنم أموالهم واسترقاقهم وقتل أسيرهم وقتلهم مدبرين وتذفيق جريحهم نعم لو قالوا ظننا أنه يجوز لنا إعانة بعضكم على بعض أو أنهم المحقون ولنا إعانة المحق أو أنهم استعانوا بنا على كفار وأمكن صدقهم كما يؤخذ من كلام الإمام الغزالي الآتي في أهل الذمة بلغناهم المأمن وأجرينا عليهم حكم البغاة فلا نستبيحهم للأمان مع عذرهم ( ونفذ عليهم ) أمانهم ( في الأصح ) لأنهم آمنوهم وآمنوا منهم والثاني المنع لأنه أمان على قتال المسلمين
أما لو آمنوهم بدون شرط قتالنا فإنه ينفذ علينا وعليهم فإن استعانوا بهم علينا بعد ذلك وقاتلونا انتقض أمانهم حينئذ في حقنا كما نص عليه والقياس انتقاضه في حقهم أيضا
تنبيه أشعر عطفه آمنوهم على الاستعانة بأنها غيرها وهو ظاهر كلام الماوردي وصرح به المتولي
واحترز بأهل حرب عما تضمنه قوله ( ولو أعانهم أهل الذمة ) مختارين ( عالمين بتحريم قتالنا انتقض عهدهم ) بذلك كما لو انفردوا بالقتال فصار حكمهم حكم أهل الحرب فيقتلون مقبلين ومدبرين
تنبيه قضية كلامهم انتقاض عهدهم مطلقا حتى في حق أهل البغي وهو كذلك كما ذكره البغوي وغيره وإن قال في البيان ينبغي أن يكون في انتقاضه الخلاف في أمان أهل الحرب ولو أتلفوا شيئا بعد الشروع في القتال لم يضمنوه ( أو مكرهين فلا ) ينتقض عهدهم لشبهة الإكراه
____________________
(4/128)
تنبيه ظاهر كلام الشيخين أنه يكتفى بقولهم إنهم مكرهون وهو ظاهر إطلاق الجمهور وإن قال المتولي و البندنيجي أنه لا بد من ثبوت كونهم مكرهين عند الإمام هذا في أهل الذمة وأما أهل العهد فلا تقبل دعواهم الإكراه إلا ببينة عند الشيخين لأن إمام أهل الذمة أقوى بدليل أنه لو خاف الإمام من أهل العهد الخيانة نبذ إليهم عهدهم بخلاف أهل الذمة واحترز بعالمين عما تضمنه قوله ( وكذا إن قالوا ظننا جوازه ) أي أنه يجوز لنا إعانة بعض المسلمين على بعض أو ظننا أنهم يستعينون بنا على قتال كفار وأمكن صدقهم كما أشار إليه في البسيط فلا ينتقض عهدهم بالظن المذكور ( أو ) ظننا ( أنهم محقون ) فيما فعلوه وأن لنا إعانة المحق فلا ينتقض عهدهم أيضا ( على المذهب ) لموافقتهم طائفة من المسلمين مع عذرهم ولا بد في دعواهم الجهل من إمكان صدقهم كما ذكره الإمام و الغزالي وإلا فلا تقبل وزاد الرافعي في شرحيه بعد قوله وأنهم محقون وأن لهم إعانة المحق وإلا فليس لهم قتال المحقين ولا المبطلين وناقش الوجيز بترك ذلك وأسقطه من الروضة كما هنا وقد قدرته في كلامه وفي قوله أنه ينتقض ولو ادعوا ذلك كما لو استقلوا بالقتال وتعبير المصنف بكذا يقتضي أنه لا خلاف في أن المكره لا ينتقض عهده وليس مرادا بل فيه الطريقان فلو جمع بين المسألتين بعبارة واحدة لكان أولى
تنبيه محل الخلاف إذا لم يشترط عليهم الإمام ترك القتال في عقد الذمة وإلا فينتقض قطعا ولو قاتل أهل الذمة أهل البغي لم ينتقض عهدهم على الصحيح لأنهم حاربوا من يلزم الإمام محاربته
( ويقاتلون ) حيث قلنا بعدم انتقاض عهدهم في المسائل الثلاث ( كبغاة ) أي كقتالهم لأن الأمان حقن دماءهم كما أن الإسلام حقن دماء البغاة أما إذا انتقض عهدهم فحكمه مذكور في الجزية
تنبيه تشبيه المصنف لهم بالبغاة في المقاتلة يقتضي أنهم لا يلحقون بهم في نفي ضمان ما يتلفونه في حال القتال وهو كذلك لأنا أسقطنا الضمان عن البغاة لاستمالة قلوبهم وردهم إلى الطاعة لئلا ينفرهم الضمان وأهل الذمة في قبضة الإمام وهل يجب عليهم القصاص وجهان في الروضة كأصلها بلا ترجيح أرجحهما كما قال البلقيني الوجوب
وقال إنه ظاهر نص الشافعي وخرج بأهل الذمة غيرهم من المعاهدين والمؤمنين فينتقض عهدهم ولا يقبل عذرهم إلا في الإكراه ولا بد من بينة في دعواهم الإكراه كما مر عن الشيخين
فرع لو اقتتل طائفتان باغيتان منعهما الإمام فلا يعين إحداهما على الأخرى وإن عجز عن منعهما قاتل أشرهما بالأخرى التي هي أقرب إلى الحق وإن رجعت لم يفاجىء الأخرى بالقتال حتى يدعوها إلى الطاعة لأنها صارت باستعانته بها في أمانه فإن استوتا قال الماوردي ضم إليه أقلهما جمعا ثم أقربهما دارا ثم يجتهد فيهما وقاتل بالمضمومة إليه منهما الأخرى غير قاصد إعانتها بل قاصدا دفع الأخرى ولو غزا البغاة مع الإمام مشركين فكأهل العهد في حكم الغنائم فيعطى القاتل منهم السلب كغيره من أهل العدل ولو عاهد البغاة مشركا اجتنباه بأن لا نقصده بما نقصد به الحربي غير المعاهد ولو قتل عادل عادلا في القتال وقال ظننته باغيا حلف ووجبت الدية دون القصاص للعذر ولو تعمد عادل قتل باغ أمنه عادل ولو كان المؤمن له عبدا أو امرأة اقتص منه وإن كان جاهلا بأمانه لزمه الدية
ولما قدم المصنف أن البغي هو الخروج على الإمام الأعظم وهو القائم بخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا فيا لها رتبة ما أسناها ومرتبة ما أعلاها احتاج إلى تعريفه فعقد له فصلا فقال فصل في شروط الإمام الأعظم وبيان انعقاد طرق الإمامة وهي فرض كفاية كالقضاء إذ لا بد للأمة من إمام يقيم الدين وينصر السنة وينصف المظلوم من الظالم ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها وقدما في الشرح والروضة الكلام على الإمامة على أحكام البغاة وما في الكتاب أولى لأن الأول هو المقصود بالذات
وقد بدأ بالقسم الأول وهو الشروط بقوله ( شرط الإمام ) الأعظم هو مفرد مضاف فيعم كل شرط أي شروطه حال عقد الإمامة أو العهد بها أمور
____________________
(4/129)
أحدها ( كونه مسلما ) ليراعي مصلحة الإسلام والمسلمين فلا تصح تولية كافر ولو على كافر
ثانيها كونه ( مكلفا ) ليلي أمر الناس فلا تصح إمامة صبي ومجنون بإجماع لأن المولى عليه في حضانة غيره فكيف يلي أمر الأمة وفي الحديث نعوذ بالله من إمارة الصبيان رواه الإمام أحمد
ثالثها كونه ( حرا ) ليكمل ويهاب بخلاف من فيه رق ولأنه مشغول بخدمة غيره وما رواه مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي فمحمول على غير الإمامة العظمى
رابعها كونه ( ذكرا ) ليتفرغ ويتمكن من مخالطة الرجال فلا تصح ولاية امرأة لما في الصحيح لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ولا ولاية خنثى وإن بانت ذكورته كما ذكروه في تولية القاضي فالإمام أولى
خامسها كونه ( قرشيا ) لخبر النسائي الأئمة من قريش وبه أخذ الصحابة ومن بعدهم
هذا عند تيسر قرشي جامع للشروط فإن عدم فمنتسب إلى كنانة فإن عدم فرجل من ولد إسماعيل صلى الله عليه وسلم فإن عدم فرجل جرهمى كما في التتمة
وجرهم أصل العرب ومنهم تزوج سيدنا إسماعيل حين أنزله أبوه صلى الله عليه وسلم أرض مكة فإن عدم فرجل من ولد إسحق صلى الله عليه وسلم ثم إلى غيرهم ولا يشترط كونه هاشميا باتفاق فإن الصديق وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم لم يكونوا من بني هاشم
سادسها كونه عدلا ولو ذكره بدل مسلما لعلم منه كونه مسلما
قال الشيخ عز الدين وإذا تعذرت العدالة في الأئمة والحكام قدمنا أقلهم فسقا
سابعها كونه عالما ( مجتهدا ) ليعرف الأحكام ويعلم الناس ولا يحتاج إلى استفتاء غيره في الحوادث لأنه بالمراجعة والسؤال يخرج عن رتبة الاستقلال
ثامنها كونه ( شجاعا ) بتثليث المعجمة والشجاعة قوة القلب عند البأس لينفرد بنفسه ويدبر الجيوش ويقهر الأعداء ويفتح الحصون
تاسعها كونه ( ذا رأي ) يفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح الدنيوية فهو ملاك الأمور
قال المتنبي الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس حرة بلغت من العلياء كل مكان ولربما قهر الفتى أقرانه بالرأي لا بتطاول الأقران وقد كان العباس بن عبد المطلب يضرب به المثل في سداد الرأي ( و ) عاشرها كونه ذا ( سمع وبصر ونطق ) ليتأتى منه فصل الأمور ولا يضر ثقل السمع والتتمة ولا كونه أعشى العين لأن عجزه حال الاستراحة ويرجى زواله
وأما ضعف البصر فإن منع تمييز الأشخاص منع وإلا فلا
تنبيه فهو من اشتراطه البصر جواز كونه أعور وهو كذلك وإن خالف في ذلك الروياني ومن اقتصاره على ما ذكر أنه لا يؤثر فقد شم وذوق وهو كذلك كما جزم به في زوائد الروضة ويشترط فيه أيضا أن لا يكون به نقص يمنع استيفاء حركة النهوض كالنقص في اليد والرجل كما صححه في الروضة
ولا يشترط كونه معصوما لأن العصمة للأنبياء ولا يضر قطع ذكر وأنثيين واعلم أن هذه الشروط كما تعتبر في الابتداء تعتبر في الدوام إلا العدالة فإنه لا ينعزل بالفسق في الأصح ولا الجنون المتقطع إذا كان زمن الإفاقة أكثر قاله الماوردي
وإلا في قطع إحدى اليدين والرجلين فلا يؤثر في الدوام إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء فعلم من ذلك أنه ينعزل بالعمى والصمم والخرس والمرض الذي ينسيه العلوم
ثم شرع في القسم الثاني وهو بيان انعقاد طرق الإمامة بقوله ( وتنعقد الإمامة ) بثلاثة طرق
أحدها ( بالبيعة ) بفتح الموحدة كما بايع الصحابة أبا بكر رضي الله تعالى عنهم أجمعين واختلف في عدد المبايع ( والأصح ) لا يتعين عدد بل المعتبر ( بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم ) لأن الأمر ينتظم بهم ويتبعهم سائر الناس ولا يشترط اتفاق أهل الحل والعقد من سائر الأقطار البعيدة ولا يشترط عدد كما يوهمه كلامه بل لو تعلق الحل والعقد بواحد مطاع كفت بيعته ولزمه الموافقة والمتابعة
____________________
(4/130)
وقيل لا بد من اثنين لأنهما أقل الجماعة وقيل من ثلاثة لأنهم أقل الجمع وقيل من أربعة لأنهم أكثر نصاب الشهادة وقيل من خمسة غير البائع كأهل الشورى وقيل من أربعين لأنه أشد خطرا من الجمعة وهل يشترط لانعقادهم إشهاد شاهدين أو لا حكى في الروضة عن الإمام عن الأصحاب الأول لئلا يدعي عقد سابق ولأن الإمامة ليست دون النكاح وقيل إن عقدها واحد اشترط الإجهاد أو جمع فلا وجرى على هذا ابن المقري ( وشرطهم ) أي المباعين ( صفة الشهود ) من العدالة وغيرها مما يأتي
تنبيه قضية كلامه عدم اشتراط الاجتهاد وهو كذلك وما في الروضة كأصلها من أنه يشترط أن يكون المبايع مجتهدا إن اتحد وأن يكون فيه مجتهدا إن تعدد مفرع على اشتراط العدد والمراد بالمجتهد هنا المجتهد بشروط الإمامة لا أن يكون مجتهدا مطلقا كما صرح به الزنجاني في شرح الوجيز
( و ) ثانيهما ينعقد ( باستخلاف الإمام ) شخصا عينه في حياته ليكون خليفته بعده ويعبر عنه بعهدت إليه كما عهد أبو بكر إلى عمر رضي الله تعالى عنهما بقوله بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالآخرة في الحالة التي يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب فإن بر وعدل فذاك علمي به وعلمي فيه وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرىء ما اكتسب { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } وانعقد الإجماع على جوازه
تنبيه لا بد أن يكون الإمام كما قال الأذرعي وغيره جامعا لشروط الإمامة فلا عبرة باستخلاف الجاهل والفاسق وأن يقبل الخليفة في حياة الإمام وإن تراخى عن الاستخلاف كما اقتضاه كلام الروضة وإن بحث البلقيني اشتراط الفور فإن أخره عن الحياة رجع ذلك إلى الإيصاء وسيأتي حكمه وعليه أن يتحرى الأصلح للإمامة بأن يجتهد فيه فإذا ظهر له واحد ولاه وله جعل الخلافة لزيد ثم بعده لعمرو ثم بعده لبكر وتنتقل على ما رتب كما رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء جيش مؤتة فإن مات الأول في حياة الخليفة فالخلافة للثاني وإن مات الثاني أيضا فهي للثالث وإن مات الخليفة وبقي الثلاثة أحياء وانتصب الأول كان له أن يعهد بها إلى غير الأخيرين لأنها لما انتهت إليه صار أملك بها بخلاف ما إذا مات ولم يعهد إلى أحد فليس لأهل البيعة أن يبايعوا غير الثاني ويقدم عهد الأول على اختيارهم
ولا يشترط في الاستخلاف رضا أهل الحل والعقد في حياته أو بعد موته بل إذا ظهر له واحد جاز بيعته من غير حضور غيره ولا مشاورة أحد كما نقله في الروضة عن الماوردي وقطع به الإمام
( فلو جعل ) الإمام ( الأمر ) في الخلافة ( شورى ) هو مصدر بمعنى التشاور ( بين جمع فكاستخلاف ) حكمه إلا أن المستخلف غير معين ( فيرتضون أحدهم ) بعد موت الإمام فيعنونه للخلافة كما جعل عمر رضي الله تعالى عنه الأمر شورى بين ستة علي والزبير وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة فاتفقوا على عثمان رضي الله عنه
أما قبل موته فليس لهم أن يعينوه إلا بإذنه فإن خافوا تفرق الأمر وانتشاره بعده استأذنوه ولو امتنع أهل الشورى من الاختيار لم يجبروا عليه وكى نه لم يعهد وكذلك لو امتنع المعهود إليه من القبول
تنبيه لو أوصى بها جاز كما لو استخلف لكن قبول الموصى له إنما يكون بعد موت الموصي وقيل لا يجوز لأنه بالموت يخرج عن الولاية ويتعين من اختياره للخلافة بالاستخلاف أو الوصية مع القبول فليس لغيره أن يعين غيره
وإن استعفى الخليفة أو الموصى له بعد القبول لم ينعزل حتى يعفي ويوجد غيره فإن وجد غيره جاز استعفاؤه وإعفاؤه وخرج من العهد باستجماعهما وإلا امتنع وبقي العهد لازما ويجوز العهد إلى الوالد والولد كما يجوز إلى غيرهما كما جزم به صاحب الأنوار و ابن المقري وقيل يمتنع ذلك كالتزكية والحكم وقيل تجوز للوالد دون الولد لشدة الميل إليه
فرع لو صلح للإمامة واحد فقد تعين أو اثنان استحب لأهل العقد والحل تقديم أسنهما في الإسلام ثم
____________________
(4/131)
إن كثرت الحروب كأن ظهر أهل الفساد أو البغاة فالأشجع أحق لأن الحاجة دعت إلى زيادة الشجاعة أو كثرت البدع فالأعلم أحق لأن الحاجة دعت إلى زيادة العلم فإن استويا أفرع وإن لم يتنازعا كما هو قضية كلام ابن المقري لأن فيأهما للمسلمين لا لهما لعدم الترجيح وقيل يقدم أهل العقد والحل من شاءوا بلا فرعة ولو تنازعاها لم يقدح فيهما تنازعها لأن طلبها ليس مكروها ( و ) ثالثها ( باستيلاء ) شخص متغلب على الإمامة ( جامع للشروط ) المعتبرة في الإمامة على الملك بقهر وغلبة بعد موت الإمام لينتظم شمل المسلمين
أما الاستيلاء على الحي فإن كان الحي متغلبا انعقدت إمامة المتغلب عليه وإن كان إماما ببيعة أو لم تنعقد إمامة المتغلب عليه ( وكذا فاسق وجاهل ) تنعقد إمامة كل منهما مع وجود بقية الشروط بالاستيلاء ( في الأصح ) وإن كان عاصيا بذلك لما مر والثاني المنع لفقد الشروط
تنبيه كلامه يفهم أن الخلاف إنما يجري في حال اجتماع الفسق والجهل لكن عبارة الروضة وأصلها مشعرة بجريان الخلاف عند انفراد كل منهما وهو الظاهر كما قاله الدميري فإن جعلت الواو في كلام المصنف بمعنى أو كما قررت به كلامه فلا مخالفة ولا يختص هذا كما قال الزركشي بالفسق والجهل بل سائر الشروط إذا فقد واحد منها كذلك كالعبد والمرأة والصبي المميز
قال الدميري ولى الأكنان وهو في بطن أمه حين مات أبوه ولم يكن له ولد وضعوا التاج على بطن أمه وعقدوا لحملها اللواء فولدت ذكرا فملكهم إلى أن مات
نعم الكافر إذا تغلب لا تنعقد إمامته لقوله تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } وقول الشيخ عز الدين ولو استولى الكفار على إقليم فولوا القضاء رجلا مسلما فالذي يظهر انعقاده ليس بظاهر فإنه قال لو ابتلى الناس بولاية صبي مميز يرجع للعقلاء أو امرأة هل ينفذ تصرفها العام فيما يوافق الحق كتولية القضاء والولاة فيه وقفة اه
فإذا كان عنده وقفة في ذلك فالكافر أولى
فروع تجب طاعة الإمامة وإن كان جائرا فيما يجوز من أمره ونهيه لخبر اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف ولأن المقصود من نصبه اتحاد الكلمة ولا يحصل ذلك إلا بوجوب الطاعة وتجب نصيحته للرعية بحسب قدرته ولا يجوز عقدها لإمامين فأكثر ولو بأقاليم ولو تباعدت لما في ذلك من اختلاف الرأي وتفرق الشمل فإن عقدت لاثنين معا بطلتا أو مرتبا انعقدت للسابق كما في النكاح على امرأة ويعزز الثاني ومبايعوه إن علموا ببيعة السابق لارتكابهم محرما
فإن قيل ورد في مسلم إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما فكيف يقال بالتعزيز فقط أجيب بأن معنى الحديث لا تطيعوه فيكون كمن قتل وقيل معناه أنه إن أصر فهو باغ يقاتل فإن علم سبق وجهل بطل العقدان كما مر نظيره من الجمعة والنكاح وإن علم السابق ثم نسي وقف الأمر رجاء الانكشاف فإن أضر الوقف بالمسلمين عقد لأحدهما لا لغيرهما لأن عقدها لهما أوجب صرفها عن غيرهما وإن بطل عقداهما بالإضرار وخالف البلقيني الشيخين في ذلك وقال بجواز عقدها لغيرهما والحق في الإمامة للمسلمين لا لهما فلا تسمع دعوى أحدهما السبق وإن أقر به أحدهما للآخر بطل حقه ولا يثبت الحق للآخر إلا ببينة ويجوز تسمية الإمام خليفة وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين
قال البغوي وإن كان فاسقا وأول من سمي به عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولا يجوز تسميته بخليفة الله تعالى لأنه إنما يستخلف من يغيب ويموت والله تعالى منزه عن ذلك
قال المصنف في شرح مسلم ولا يسمى أحد خليفة الله بعد آدم وداود عليهما السلام
وعن ابن مليكة أن رجلا قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه يا خليفة الله فقال أنا خليفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنا راض بذلك
ولا يجوز خلع الإمام ما لم تختل الصفات فيه ولا يصير الشخص إماما بتفرده بشروط الإمامة في وقته بل لا بد من أحد الطرق كما حكاه الماوردي عن الجمهور وقيل يصير من غير عقد حكاه القمولي
قال ومن الفقهاء من ألحق القاضي بالإمام في ذلك
وقال الإمام لو شغر الزمان عن الإمام انتقلت أحكامه إلى أعلم أهل ذلك الزمان ( قلت ) كما قال الرافعي
____________________
(4/132)
في الشرح فيما لو عاد البلد من البغاة إلينا ( لو ادعى ) بعض أهله ( دفع زكاة إلى البغاة صدق ) بلا يمين إن لم يتهم و ( بيمينه ) إن اتهم لبنائها على المواساة والمسلم مؤتمن في أمر دينه
تنبيه اليمين هنا مستحبة على الأصح كما في زيادة الروضة في الزكاة وإن صحح في تصحيح التنبيه هنا أنها واجبة وجرى عليه الدميري ( أو ) ذمي ادعى دفع ( جزية فلا ) يصدق بيمينه ( على الصحيح ) لأنها عوض عن السكن فأشبه ما لو ادعى المستأجر دفع الأجرة
والثاني بصدق كالمزكى وفرق الأول بأن الذمي غير مؤتمن فيما يدعيه على المسلمين للعداوة الظاهرة ( وكذا خراج ) لأرض دفعه المسلم كما قاله الماوردي لقاضي البغاة لا يصدق في دفعه ( في الأصح ) لأنه أجرة والثاني يصدق كالزكاة أما الكافر إذا ادعى دفع الخراج فلا يصدق جزءا ( ويصدق ) الشخص ( في ) إقامة ( حد ) أنه أقيم عليه
قال الماوردي بلا يمين لأن الحدود تدرأ بالشبهات ( إلا أن يثبت ) الحد ( ببينة و ) الحال أنه ( لا أثر له ) أي الحد ( في البدن ) فلا يصدق في ذلك ( والله أعلم ) لأن الأصل عدم إقامته ولا قرينة تدفعه والفرق بين ثبوته بالبينة دون الإقرار أن المقر بالحد لو رجع قبل رجوعه وإنكاره بقاء الحد عليه في معنى الرجوع
تنبيه كان ينبغي للمصنف أن يذكر هذه الزيادة قبل الكلام على أحكام الإمامة
خاتمة لا ينعزل إمام أسره كفار أو بغاة لهم إمام إلا إن وقع اليأس ولم يعد إلى إمامته وإن لم يكن للبغاة إمام لم ينعزل الإمام المأسور وإن وقع اليأس من خلاصه ويستنيب عن نفسه إن قدر على الاستنابة وإلا استنيب عنه فلو خلع الإمام نفسه أو مات لم يصر المستناب إماما
قال الدميري كان المعتصم بالله يدعى المثمن لأنه كان ثامن خلفاء بني العباس ولد سنة ثمان ومائة لثمان عشرة خلت من شعبان وهو الشهر الثامن من السنة وفتح ثمان فتوحات ووقف ثمانية ملوك وثمانية أعداء ببابه وعاش ثمانية وأربعين سنة وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أيام وخلف ثمان بنين وثمان بنات وثمانية آلاف دينار وثمانية آلاف درهم وثمانية آلاف فرس وثمانية آلاف بعير وبغل ودابة
وثمانية آلاف خيمة وثمانية آلاف عبد وثمانية آلاف أمة وثمانية قصور وكان نقش خاتمه الحمد لله وهي ثمانية أحرف وكانت عدد غلمانه الأتراك ثمانية عشر ألفا
كتاب الردة أعاذنا الله تعالى منها ( هي ) لغة الرجوع عن الشيء إلى غيره وهي أفحش الكفر وأغلظه حكما محبطة للعمل إن اتصلت بالموت
قال الله تعالى { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر } الآية وإن عاد إلى الإسلام لم يجب عليه أن يعيد حجه الذي حجه قبل الردة خلافا لأبي حنيفة هذا ما ذكره الأصحاب وجرى عليه الشيخان
ونقل في المهمات عن نص الشافعي رحمه الله تعالى حبوط ثواب الأعمال بمجرد الردة وقال إنه من مذهب الشافعي ثم قال وهذه مسألة نفيسة مهمة غفل عنها الأصحاب اه
وليس في هذا مخالفة لكلامهم فإن كلامهم أن الردة لا تحبط نفس العمل بدليل أنهم جعلوه مأخذ الخلاف بيننا وبين الحنفية في لزوم الحج بعد الردة حبوط العمل وكلام النص في حبوط ثواب العمل وهي مسألة أخرى ولا يلزم من سقوط ثواب العمل بدليل أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة مسقطة للقضاء مع كونها لا ثواب فيها عند أكثر العلماء
وشرعا ( قطع ) استمرار ( الإسلام ) ودوامه ويحصل
____________________
(4/133)
قطعه بأمور ( بنية ) كفر وذكر النية مزيد على المحرر والشرحين والروضة ليدخل من عزم على الكفر في المستقبل فإنه يكفر حالا لكن كان ينبغي على هذا التعبير العزم فقد قال الماوردي إن النية قصد الشي مقترنا بفعله فإن قصده وتراخى عنه فهو عزم وسيأتي في كلام المصنف التعبير بالعزم ( أو ) قطع الإسلام بسبب ( قول كفر أو فعل ) مكفر فقوله قطع جنس يشمل قطع الإسلام وغيره من المعاني
وقوله الإسلام فصل يخرج به قطع غيره من العبادات كالصلاة والصوم والحج فلا يكون ذلك كفرا وقوله بنية إلخ أشار به إلى أن القطع يكون بأحد هذه الأمور الثلاثة وأورد عليه أن الردة تحصل وإن لم يوجد قطع كما لو تردد في أنه يخرج من الإسلام أو يبقى فإنه ردة على ما سيأتي وكذا من علق بين مرتدين فإنه مرتد على الأصح عند المصنف
وهذا الثاني غير وارد فإنه لم يرتد وإنما ألحق بالمرتد حكما ولا يرد الكافر المنتقل من دين إلى آخر وإن كان لا يقبل منه إلا الإسلام لأنه لا يسمى مرتدا شرعا وإنما يعطى حكم المرتد
ثم قسم القول ثلاثة أقسام بقوله ( سواء قاله استهزاء أو عنادا أو اعتقادا ) لقوله تعالى { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } وكان الأولى تأخير القول في كلامه عن الفعل لأن التقسيم فيه وخرج بذلك من سبق لسانه إلى الكفر أو أكره عليه فإنه لا يكون مرتدا وكذا الكلمات الصادرة من الأولياء في حال غيبتهم ففي أمالي الشيخ عز الدين بن عبد السلام أن الولي إذا قال أنا الله عزر التعزير الشرعي ولا ينافي الولاية لأنهم غير معصومين وينافي هذا القول القشيري من شرط الولي أن يكون محفوظا كما أن من شرط النبي أن يكون معصوما فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخادع فالولي الذي توالت أفعاله على الموافقة
وقد سئل ابن سريج عن الحسين الحلاج لما قال أنا الحق فتوقف فيه وقال هذا رجل خفي علي أمره وما أقول فيه شيئا وأفتى بكفره بذلك القاضي أبو عمرو الجنيد وفقهاء عصره وأمر المقتدر بضربه ألف سوط فإن مات وإلا ضرب ألفا أخرى فإن لم يمت قطعت يداه ورجلاه ثم يضرب عنقه ففعل به جميع ذلك لست بقين من ذي الحجة سنة تسع وثلاثمائة والناس مع ذلك مختلفون في أمره فمنهم من يبالغ في تعظيمه ومنهم من يكفره لأنه قتل بسيف الشرع وجرى ابن المقري تبعا لغيره على كفر من شك في كفر طائفة ابن عربي الذين ظاهر كلامهم عند غيرهم الاتحاد وهو بحسب ما فهموه من ظاهر كلامهم ولكن كلام هؤلاء جار على اصطلاحهم إذ اللفظ المصطلح عليه حقيقة في معناه الاصطلاحي مجاز في غيره والمعتقد منهم لمعناه معقد لمعنى صحيح وأما من اعتقد ظاهره من جهلة الصوفية فإنه يعرف فإن استمر على ذلك بعد تعريفه صار كافرا وسيأتي الكلام على هذا أيضا في كتاب السير إن شاء الله تعالى وخرج أيضا ما إذا حكى الشاهد لفظ الكفر لكن الغزالي ذكر في الإحياء أنه ليس له حكايته إلا في مجلس الحكم فليتفطن له
فإن قيل قوله أو قول كفر فيه دور فإن الردة أحد نوعي الكفر فكيف يقول أو قول كفر أجيب بأن المراد بالكفر في أحد الكفر الأصلي
تنبيه كان الأولى للمصنف أن يقول يقول بنية كفر أو قول أو فعل ليكون حذف لفظة كفر من الآخر لدلالة الأول عليه وتعبيره لا يتناول كفر المنافق فإنه لم يسبق له إسلام صحيح ( فمن نفى ) أي أنكر الصانع وهو الله سبحانه وهم الدهرية الزاعمون أن العالم لم يزل موجودا كذلك بلا صانع
فإن قيل إطلاق ( الصانع ) على الله تعالى لم يرد في الأسماء الحسنى وإنما ذلك من عبارات المتكلمين المجوزين الإطلاق بالاشتقاق والراجح أن أسماءه تعالى توقيفية
أجيب بأن البيهقي رواه في الأسماء والصفات وقال تعالى { صنع الله الذي أتقن كل شيء } وقال صلى الله عليه وسلم إن الله صنع كل صانع وصنعته رواه الحاكم في أوائل المستدرك من حديث حذيفة وقال إنه صحيح على شرط مسلم
ونفي ما هو ثابت لله تعالى بالإجماع كالعلم والقدرة أو أثبت ما هو منفي عنه بالإجماع كحدوثه أو قدم العالم كما قاله الفلاسفة قال المتولي أو أثبت له لونا أو اتصالا أو انفصالا
تنبيه اختلف في كفر المجسمة
قال في المهمات المشهور عدم كفرهم وجزم في شرح المهذب في صفة
____________________
(4/134)
الأئمة بكفرهم
قال الزركشي في خادمه وعبارة شرح المهذب من جسم تجسيما صريحا
وكأنه احترز بقوله صريحا عمن يثبت الجهة فإنه لا يكفر كما قاله الغزالي وقال الشيخ عز الدين إنه الأصح وقال في قواعده إن الأشعري رجع عند موته عن تكفير أهل القبلة لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات اه
وأول نص الشافعي بتكفير القائل بخلق القرآن بأن المراد كفران النعمة لا الإخراج عن الملة قاله البيهقي وغيره من المحققين لإجماع السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة ومناكحتهم وموارثتهم
فإن قيل قد كفر أصحابنا من اعتقد أن الكواكب فعالة فهلا كانت المعتزلة كذلك
أجيب بأن صاحب الكواكب اعتقد فيها ما يعتقد في الإله من أنها مؤثرة في جميع الكائنات كلها بخلاف المعتزلة فإنهم قالوا العبد يخلق أفعال نفسه فقط
( أو ) نفى ( الرسل ) بأن قال من يرسلهم الله أو نفى نبوة نبي أو ادعى نبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم أو صدق مدعيها أو قال النبي صلى الله عليه وسلم أسود أو أمرد أو غير قرشي أو قال النبوة مكتسبة أو تنال رتبتها بصفاء القلوب أو أوحى إلي ولم يدع نبوة ( أو كذب رسولا ) أو نبيا أو سبه أو استخف به أو باسمه أو باسم الله أو أمره أو وعده أو وعيده أو جحد آية من القرآن مجمعا على ثبوتها أو زاد فيه آية معتقدا أنها منه أو استخف بسنة كما لو قيل له كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل لعق أصابعه الثلاثة فقال ليس هذا بأدب أو قيل له قلم أظفارك فإنه سنة فقال لا أفعل وإن كان سنة وقصد الاستهزاء بذلك كما صوبه المصنف أو قال لو أمرني الله ورسوله بكذا لم أفعل أو لو جعل الله القبلة هنا لم أصل إليها أو لو اتخذ الله فلانا نبيا لم أصدقه ولو شهد عندي نبي بكذا أو ملك لم أقبله أو قال إن كان ما قاله الأنبياء صدقا نجونا أو لا أدري النبي أنسي أو جني أو قال إنه جن أو صغر عضوا من أعضائه احتقارا أو صغر اسم الله تعالى أو قال لا أدري ما الإيمان احتقارا أو قال لمن حوقل لا حول لا تغني من جوع أو لو أوجب الله الصلاة على مع مرضي هذا لظلمني أو قال المظلوم هذا بتقدير الله فقال الظالم أنا أفعل بغير تقديره أو أشار بالكفر على مسلم أو على كافر أراد الإسلام بأن أشار عليه باستمراره على الكفر أو لم يلقن الإسلام طالبا منه أو استمهل منه تلقينه كأن قال له اصبر ساعة لأنه اختار الكفر على الإسلام كما نقله المصنف عن المتولي وأقره أو كفر مسلما بلا تأويل للكفر بكفر النعمة كما نقله في الروضة عن المتولي وأقره وهذا هو الظاهر الدال عليه الخبر وإن قال في شرح مسلم إن الخبر محمول على المستحل وقال في الأذكار يحرم تحريما مغلظا أو نودي بيا يهودي أو نحوه فأجاب وإن نظر فيه في الروضة أو قيله له ألست مسلما فقال لا أو سمى الله على شرب خمر أو زنا استخفافا باسمه تعالى أو قال لا أخاف القيامة وقال ذلك استخفافا كما قاله الأذرعي أو كذب المؤذن آذانه كأن قال له تكذب أو قال قصعة من ثريد خير من العلم أو قال لمن قال أودعت الله مالي أودعته من لا يتبع السارق إذا سرق وقال ذلك استخفافا كما قاله الأذرعي أو قال توفني إن شئت مسلما أو كافرا أو لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى أو شك في كفرهم أو قال أخذت مالي وولدي فماذا تصنع أيضا أو ماذا بقي لم تفعله أو أعطى من أسلم مالا فقال مسلم ليتني كنت كافرا فأسلم فأعطى مالا أو قال معلم الصبيان مثلا اليهود خير من المسلمين لأنهم ينصفون معلمي صبيانهم ( أو حلل محرما بالإجماع كالزنا ) واللواط والظلم وشرب الخمر ومن هذا لو اعتقد حقية المكس ويحرم تسميته حقا
قال الرافعي ولم يستحسن الإمام إطلاق القول بتكفير من خالف حكم الإجماع ونحن لا نكفر من رد أصل الإجماع وإنما نبدعه ونضلله وأجاب الزنجاني عن ذلك بأن مستحل الخمر لا يكفر من حيث أنه خالف الإجماع فقط بل لأنه خالف ما ثبت ضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم والإجماع والنص عليه
وقال ابن دقيق العيد الحق أن المسائل الإجماعية إن صحبها التواتر كالصلاة كفر منكرها لمخالفة التواتر لا لمخالفة الإجماع وإن لم يصحبها التواتر لا يكفر ( وعكسه ) بأن حرم حلالا بالإجماع كالبيع والنكاح ( أو نفى وجوب مجمع عليه ) كان نفي وجوب ركعة من الصلوات الخمس ( أو عكسه ) بأن اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع كزيادة ركعة من الصلاة المفروضة أو وجوب صوم يوم من شوال
____________________
(4/135)
تنبيه لو قال أو نفى مشروعية مجمع عليه لشمل إنكار المجمع على ندبه فقد صرح البغوي في تعليقه بتكفير من أنكر مجمعا على مشروعيته من السنن كالرواتب وصلاة العيدين وهو لأجل تكذيب التواتر ويتعين فيما ذكر أن يكون الحكم المجمع عليه معلوما من الدين بالضرورة وإن لم يكن فيه نص بخلاف ما لا يعرفه إلا الخواص وإن كان فيه نص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب وتحريم نكاح المعتدة فلا يكفر منكره للعذر بل يعرف الصواب ليعتقده وظاهر هذا أنه لو كان يعرفه أنه يكفر إذا جحده وظاهر كلامهم أولا أنه لا بد أن يعرفه الخاص والعام وإلا فلا يكفر وهذا هو الظاهر وأن يكون المحلل والمحرم والنافي والمثبت ممن لا يجوز خفاؤه عليه بخلاف غيره كمن قرب عهده بالإسلام أو نشأ بعيدا عن العلماء
( أو عزم على الكفر غدا ) مثلا أو علقه على شيء ( أو تردد فيه ) حالا بطريان شك بناقض جزم النية بالإسلام وهذا وارد على الحد كما مر إذ لا قطع فيه ( كفر ) جواب لجميع ما مر من المسائل المذكورة فإن لم يناقض جزم النية به كالذي يجري في الكن فهو مما يبتلى به الموسوس ولا اعتبار به كما قاله الإمام واحترز المصنف بكذب رسولا عما لو كذب عليه فإنه لا يكفر خلافا للشيخ أبي محمد فإنه قال يكفر بذلك ويراق دمه
قال الإمام وهذه زلة ولم أر ما قاله لأحد من الأصحاب والصواب أنه يعزر ولا يقتل ولا يكفر
( والفعل المكفر ما تعمده ) صاحبه ( استهزاء صريحا بالدين أو جحودا له كإلقاء مصحف ) وهو اسم للمكتوب من كلام الله بين الدفتين ( بقاذورة ) بذال معجمة لأنه صريح في الاستخفاف بكلام الله تعالى والاستخفاف بالكلام استخفاف بالمتكلم ويلتحق بالمصحف كتب الحديث
قال الروياني أو أوراق العلوم الشرعية ( وسجود لصنم ) قال ابن المقري في هذا وفي إلقاء المصحف إن فعل ذلك استخفافا أي على وجه يدل على الاستخفاف وكأنه كما قال شيخنا احترز به في سجود الصنم عما لو سجد بدار الحرب فلا يكفر كما نقله القاضي عن النص وإن زعم الزركشي أن المشهور خلافه وفي إلقاء المصحف عما لو ألقاه في قذر خيفة أخذ الكافر له إذ الظاهر أنه لا يكفر به وإن حرم عليه ( أو ) سجود ( شمس ) أو غيرها من المخلوقات وكذا السحر الذي فيه عبادة كوكب لأنه أثبت لله شريكا
تنبيه يكفر من نسب الأمة إلى الضلال أو الصحابة إلى الكفر أو أنكر إعجاز القرآن أو غير شيئا منه أو أنكر الدلالة على الله في خلق السموات والأرض بأن قال ليس في خلقهما دلالة عليه تعالى أو أنكر بعث الموتى من قبورهم بأن يجمع أجزاءهم الأصلية ويعيد الأرواح إليها أو أنكر الجنة أو النار أو الحساب أو الثواب أو العقاب أو أقر بها لكن قال المراد بها غير معانيها أو قال إني دخلت الجنة وأكلت من ثمارها وعانقت حورها أو قال الأئمة أفضل من الأنبياء هذا إن علم معنى ما قاله لا إن جهل ذلك لقرب إسلامه أو بعده عن المسلمين فلا يكفر لعذره كما مر ولا إن قال مسلم لمسلم سلبه الله الإيمان أو لكافر لا رزقه الله الإيمان لأنه مجرد دعاه بتشديد الأمر والعقوبة عليه ولا إن دخل دار الحرب وشرب معهم الخمر وأكل لحم الخنزير ولا إن قال الطالب ليمين خصمه وقد أراد الخصم أن يحلف بالله تعالى لا أريد الحلف به بل بالطلاق أو العتاق ولا إن قال رؤيتي إياك كرؤية ملك الموت ولا إن قرأ القرآن على ضرب الدف أو القصب أو قيل له تعلم الغيب فقال نعم أو خرج لسفر فصاح العقعق فرجع ولا إن صلى بغير وضوء متعمدا بنجس أو إلى غير القبلة ولم يستحل ذلك ولا إن تمنى حل ما كان حلالا في زمن قبل تحريمه كأن تمنى أن لا يحرم الله الخمر أو المناكحة بين الأخ والأخت أو الظلم أو الزنا أو قتل النفس بغير حق ولا إن شد الزنار على وسطه أو وضع فلنسوة المجوس على رأسه أو شد على وسطه زنارا أو دخل دار الحرب للتجارة أو لتخليص الأسارى ولا إن قال النصرانية خير من المجوسية أو المجوسية شر من النصرانية ولا إن قال لو أعطاني الله الجنة ما دخلتها
صرح بذلك كله في الروضة وفيها أيضا لو قال فلان في عيني كاليهودي والنصراني في عين الله أو بين يدي الله فمنهم من قال كفر ومنهم من قال إن أراد الجارحة كفر وإلا فلا
قال الأذرعي والظاهر أنه لا يكفر مطلقا
____________________
(4/136)
لأنه ظهر منه ما يدل على التجسم والمشهور أنا لا نكفر المجسمة وفيها أيضا عن القاضي عياض أنه لو شفي مريض ثم قال لقيت في مرضي هذا ما لو قتلت أبا بكر و عمر رضي الله تعالى عنهما لم أستوجبه فقال بعض العلماء يكفر ويقتل لأنه يتضمن النسبة إلى الجور وقال آخرون لا يتحتم قتله ويستناب ويعزر اه
وقال المحب الطبري الأظهر أنه لا يكفر وقال صاحب الأنوار في مسألة لو أعطاني الله الجنة ما دخلتها أنه يكفر والأولى كما قال الأذرعي أنه إن قال ذلك استخفافا أو استغناء كفر وإن أطلق فلا
وقال الإسنوي في مسألة من صلى بنجس ما اقتضاه كلامه من كفر من استحل الصلاة بنجس ممنوع فإنه ليس مجمعا على تحريمها بل ذهب جماعة من العلماء إلى الجواز كما ذكره المصنف في مجموعه اه
وحيث كان كذلك فلا يكفر
فائدة لا بدع ولا إشكال في العبارة المعزوة إلى إمامنا الشافعي رضي الله عنه في قوله أنا مؤمن إن شاء الله فهي مروية عن عمر وصحت عن ابن مسعود وهي قول أكثر السلف والشافعية والمالكية والحنابلة و سفيان الثوري والأشعرية وحكي عن أبي حنيفة إنكارها
قال الدميري وهو عجيب لأنها صحت عن ابن مسعود وهو شيخ شيخ شيخ شيخه والقائلون بجواز قولها اختلفوا في الوجوب وذكر العلماء لها محامل كثيرة والصواب عدم الاحتياج إلى تلك المحامل لأن حقيقة أنا مؤمن هو جواب الشرط أو دليل الجواب وكل منهما لا بد أن يكون مستقبلا فمعناه أنا مؤمن في المستقبل إن شاء الله وحينئذ لا حاجة إلى تأويل بل تعليقه واضح مأمور به بقوله تعالى { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } ويعتبر فيمن يصير مرتدا بشيء مما مر أن يكون مكلفا مختارا ( و ) حينئذ ( لا تصح ردة صبي ) ولو مميزا ( و ) لا ردة ( مجنون ) تكليفهما فلا اعتداد بقولهما واعتقادهما
تنبيه المراد أنه لا يترتب عليهما حكم الردة وإلا فالردة فعل معصية كالزنا فكيف يوصف بالصحة عدمها ( و ) لا ردة ( مكره ) وقلبه مطمئن بالإيمان كما نص عليه الكتاب العزيز فإن رضي بقلبه فمرتد
تنبيه لو تجرد قلبه عند الإكراه على التلفظ عن اعتقاد إيمان وكفر ففي كونه مرتدا وجهان وينبغي أن لا يكون مرتدا لأن الإيمان كان موجودا قبل الإكراه وقول المكره ملغى ما لم يحصل منه اختيار لما أكره عليه كما لو أكره على الطلاق فإن العصمة كانت موجودة قبل الإكراه فإذا لم يحصل منه اختيار لما أكره عليه لم يقع عليه طلاق ( ولو ارتد ) ولم يستتب ( فجن لم يقتل في جنونه ) لأنه قد يعقل ويعود إلى الإسلام فإن قتل مجنونا لم يجب على قاتله شيء كما نقلاه عن التهذيب وأقراه وقضية هذا أن التأخير مستحب
قال الإسنوي وهو غير مستقيم فإن تصحيح وجوب التوبة ينفيه
قال الزركشي وظاهر نص الأم يقتضي وجوب التأخير وهو الوجه اه
وعلى هذا يعزر قاتله لتفويته الاستتابة الواجبة ويحمل قول المهذب لم يجب شيء أي من قصاص أو دية
تنبيه أشار المصنف بالتعبير بالفاء إلى تعقب الجنون الردة للاحتراز عما إذا ارتد واستتيب فلم يتب ثم جن فإنه يجوز قتله في حال جنونه ولو أقر بما يوجب حد الله تعالى ثم جن لا يقام عليه حينئذ احتياطا لأنه قد يرجع عن الإقرار فلو استوفى منه حينئذ لم يجب فيه شيء بخلاف ما لو ثبت ببينة أو أقر بقذف أو قصاص ثم جن فإنه يستوفى منه في جنونه لأنه لا يسقط برجوعه ( والمذهب صحة ردة السكران ) المتعدي بسكره كطلاقه وسائر تصرفاته وفي صحة استتابته حال سكره وجهان أحدهما نعم كما تصح ردته وعليه الجمهور ونقله الرافعي عن النص وقال العمراني إنه المذهب المنصوص و الإسنوي أنه المفتى به لكن يندب تأخيرها إلى الإفاقة خروجا من خلاف من قال بعدم صحة توبته وهو الوجه الثاني القائل بأن الشبهة لا تزول في تلك الحالة
أما غير المتعدي بسكره كأن أكره على شربها فلا يحكم عليه بالارتداد كما في طلاقه وغيره ( و ) المذهب صحة ( إسلامه ) عن ردته ولو ارتد صاحيا
____________________
(4/137)
ثم أسلم معاملة لأقواله معاملة الصاحي
تنبيه قضية الاعتداد بإسلامه في السكر أنه لا يحتاج إلى تجديد بعد الإفاقة وليس مرادا فقد حكى ابن الصباغ عن النص أنه إذا أفاق عرضنا عليه الإسلام فإن وصفه كان مسلما من حين وصف الإسلام وإن وصف الكفر كان كافرا من الآن لأن إسلامه صح فإن لم يتب قتل ( وتقبل الشهادة بالردة مطلقا ) أي على وجه الإطلاق ويقضى بها من غير تفصيل كما في الروضة وأصلها تبعا للإمام لأن الردة لخطرها لا يقدم الشاهد بها إلا عن بصيرة ( وقيل يجب التفصيل ) أي استفسار الشاهد بها لاختلاف المذاهب في التكفير والحكم بالردة عظيم فيحتاط له
قال الأذرعي هذا هو المذهب الذي يجب القطع به
وقال الإسنوي إنه المعروف عقلا ونقلا قال وما نقل عن الإمام بحث له
وقال الدميري والذي صححه الرافعي تبع فيه الإمام وهو لم ينقله عن أحد وإنما هو من تخريجه
فإن قيل يدل على التفصيل ما قالاه فيمن مات عن ابنين مسلمين فقال أحدهما ارتد فمات كافرا أن الأظهر أنه لا بد من بيان سبب كفره خلافا لما جرى عليه المصنف من عدم التفصيل كما سيأتي لأنه قد لا يتوهم ما ليس بكفر كفرا
أجيب بأنه هنا حي يمكنه أن يأتي بالشهادتين بخلافه بعد الموت ولهذا قال بعضهم ولما كانت الشهادة عند من يقبل التوبة ك الشافعي قبلت مطلقة ثم يقول له القاضي تلفظ بالشهادتين ولا حاجة إلى السؤال عن السبب فإن امتنع كان امتناعه قرينة لا يحتاج الشاهد معها إلى ذكر السبب وإن كان عند من لا يقبل التوبة كالمالكي فلا تقبل إلا مفصلة واعترض بأنه وإن كان عند من يقبل التوبة فيبقى فيه عار على الإنسان وبهذا يرد على الجواب المتقدم وحينئذ فلا بد من التفصيل وهو كما قال شيخنا أوجه
تنبيه محل الخلاف كما قال البلقيني إذا شهدا بأنه ارتد عن الإيمان فلو شهد بأنه ارتد ولم يقولا عن الإيمان أو قالا كفر ولم يقولا بالله لم تقبل هذه الشهادة قطعا ( فعلى الأول ) وهو قبولها مطلقا ( لو شهدوا ) المراد اثنان فأكثر على شخص ( بردة ) ولم يفصلوا ( فأنكر ) المشهود عليه ( حكم ) عليه ( بالشهادة ) ولا ينفعه إنكاره بل يلزمه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلما لأن الحجة قامت والتكذيب والإنكار لا يرفعه كما لو قامت البينة بالزنا فأنكره أو كذبهم لم يسقط عنه الحد فإن أتى بما يصيره مسلما قبل الحكم امتنع الحكم بالشهادة بالردة كما نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه ولكن يحكم عليه بما يترتب عليها من بينونة زوجاته إذا كان قبل الدخول بهن أو بعده وانقضت العدة وهل ينعزل عن وظائفه التي يعتبر فيها الإسلام أو لا خلاف الظاهر الأول
تنبيه شمل قوله شهدوا بردة ما إذا شهدوا على إنشائه أو إقراره بالزنا فأنكره لأنه لو أقر بهما ثم رجع قبل رجوعه وقوله فعلى الأول لا يختص بالأول بل الحكم كذلك إذا شرطنا التفصيل فكان ينبغي للمصنف أن يقول فعلى القولين أو يطلق التفريع ولو لم تقم عليه بينة فطلب المدعى عليه من القاضي الحكم بعصمة دمه خوفا من أن تقوم عليه بينة زور عند من لا يرى قبول توبته فللقاضي تجديد إسلامه والحكم بعصمة دمه كما أفتى به جمع من المتأخرين وصوبه وإن قال ابن دقيق العيد ليس للحاكم ذلك إلا بعد اعترافه أو إقامة بينه عليه
وهل يجوز للشافعي مثلا أن يشهد بالكفر أو بالتعرض بالقذف أو بما يوجب التعزير عند من يعلم أنه لا يقبل التوبة ويحد بالتعريض ويعزر بأبلغ ما يوجبه الشافعي والظاهر كما قال الزركشي المنع فإن علم الشاهد أن لسانه سبق إلى كلمة كفر ولم يقصد ذلك فلا يحل له أن يشهد عليه قطعا وقد حكى الرافعي مثله من الطلاق
( فلو ) صدق شخص من شهد عليه بردة ولكن ( قال كنت مكرها واقتضته قرينة ) مشعرة بذلك ( كأسر كفار ) له ( صدق بيمينه ) عملا بالقرينة المشعرة بذلك وإنما حلف لاحتمال أنه كان مختارا والظاهر كما قال الزركشي أن هذه اليمين مستحبة ( وإلا ) بأن لم تقتضه
____________________
(4/138)
قرينة بأن كان في دار كفر وسبيله مخلى ( فلا ) يقبل قوله فيحكم ببينونة زوجته غير المدخول بها ويطالب بالنطق بالشهادتين لانتفاء القرينة ( ولو ) لم يقل الشاهد إن ارتد ولكن ( قالا لفظ لفظ كفر ) أو فعل فعله ( فادعى إكراها ) بعد أن صدقهما على ذلك ( صدق ) بيمينه ( مطلقا ) بقرينة ودونها لأنه ليس فيه تكذيب البينة بخلاف المسألة قبلها لأن الإكراه ينافي الردة ولا ينافي التلفظ بكلمة الردة ولا الفعل المكفر ويندب أن يجدد كلمة الإسلام فإن قتل قبل اليمين فهل يضمن لأن الردة لم تثبت أو لا لأن لفظ الردة وجد الأصل الاختيار قولان أوجههما كما قال شيخنا الثاني
تنبيه استشكل الرافعي تصوير هذه المسألة بأنه إن اعتبر تفصيل الشهادة فمن الشرائط الاختيار فدعوى الإكراه تكذيب الشاهد أولا فالاكتفاء بالإطلاق إنما هو فيما إذا شهدا بالردة لتضمنه حصول الشرائط أما إذا قال إنه تكلم بكذا فيبعد أن يحكم به ويقنع بأن الأصل الاختيار
وأجيب باختيار الأول ويمنع قوله فمن الشرائط الاختيار وباختيار الثاني ولا يبعد أن يقنع بالأصل المذكور لاعتضاده بسكوت الشهود عليه مع قدرته على الدفع
فإن قيل في الروضة وأصلها في الإكراه في الطلاق أنه لو تلفظ به ثم قال كنت مكرها وأنكرت زوجته ذلك لم يقبل قوله إلا أن يكون محبوسا أو كان هناك قرينة أخرى فهلا كان هنا كذلك كما قال به البلقيني
أجيب بأن الحق هنا لله تعالى فسومح فيه بخلافه في الطلاق فإن الحق فيه لآدمي فشدد فيه ( ولو مات ) من هو ( معروف بالإسلام عن ابنين مسلمين فقال أحدهما ) أي الابنين ( ارتد ) أي الأب ( فمات كافرا ) وأنكر الآخر ( فإن بين سبب كفره ) كأن قال تكلم بما يوجب الكفر أو سجد لصنم ( لم يرثه ونصيبه فيء ) لبيت المال لأن المرتد لا يورث ( وكذا ) يكون نصيبه فيئا ( إن أطلق ) أي لم يبين سبب كفره ( في الأظهر ) لأنه أقر بكفره فعومل بمقتضى إقراره فلم يرث منه وهذا الترجيح تبع فيه المحرر والثاني هو الأظهر في الشرح الصغير والروضة أنه يستفصل فإن ذكر ما هو كفر كان كافيا وإن ذكر ما ليس كفرا كأن قال كان يشرب الخمر صرف إليه وإن لم يذكر شيئا وقف الأمر كما نص عليه الشافعي ونقله الإمام عن العراقيين وأقره
فروع لو ارتد أسير أو غيره مختارا ثم صلى في دار الحرب حكم بإسلامه لا إن صلى في دارنا لأن صلاته في دارنا قد تكون تقية خلافها في دارهم لا تكون إلا عن اعتقاد صحيح ولو صلى كافرا صلى ولو في دارهم لم يحكم بإسلامه بخلاف المرتد لأن علقة الإسلام باقية فيه والعود أهون من الابتداء فسومح فيه إلا أن يسمع تشهده في الصلاة فيحكم بإسلامه
فإن قيل إسلامه حينئذ باللفظ والكلام في خصوص الصلاة الدالة بالقرينة
أجيب بأن فائدة ذلك رفع إبهام أنه لا أثر للشهادة فيها لاحتمال الحكاية ولو أكره أسير أو غيره على الكفر ببلاد الحرب لم يحكم بكفره كما مر فإن مات هناك ورثة وارثه المسلم فإن قدم علينا عرض عليه الإسلام استحبابا لاحتمال أنه كان مختارا كما لو أكره على الكفر بدارنا فإن امتنع من الإسلام بعد عرضه عليه حكمنا بكفره من حين كفره الأول لأن امتناعه يدل على أنه كافرا من حينئذ فلو مات قبل العرض والتلفظ بالإسلام فهو مسلم كما لو مات قبل قدومه علينا
ثم شرع في بيان أحكام الردة بعد وقوعها فقال ( وتجب استتابة المرتد والمرتدة ) قبل قتلهما لأنهما كانا محترمين بالإسلام فربما عرضت لهما شبهة فيسعى في إزالتها لأن الغالب أن الردة تكون عن شبهة عرضت وثبت وجوب الاستتابة عن عمر رضي الله عنه وروى الدارقطني عن جابر أن امرأة يقال لها أم رومان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت
ولا يعارض هذا النهي عن قتل النساء الذي استدل به أبو حنيفة لأن ذلك محمول على الحربيات وهذا على المرتدات ولهذا نص المصنف على المرأة إشارة إلى الخلاف
____________________
(4/139)
لكن كان الأولى أن يعبر كما في المحرر بقتل المرتد إن لم يتب رجلا كان أو امرأة لأن خلاف أبي حنيفة في قتلها لا في استتابتها فإنه قال تحبس وتضرب إلى أن تموت أو تسلم ( وفي قول تستحب ) استتابته ( كالكافر ) الأصلي
فإن قيل يدل لذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يستتب العرنيين
أجيب بأنهم حاربوا والمرتد إذا حارب لا يستتاب ( وهي ) أي الاستتابة على القولين معا ( في الحال ) في الأظهر فإن تاب وإلا قتل لأن قتله المرتب عليها حد فلا يؤخر كسائر الحدود وقد مر أن السكران يسن تأخيره إلى الصحو ولو سأل المرتد إزالة شبهة نوظر بعد إسلامه لا قبله لأن الشبهة لا تنحصر وهذا ما صححه الغزالي كما في نسخ الرافعي المعتمدة وهو الصواب ووقع في أكثر نسخ الروضة تبعا لنسخ الرافعي السقيمة أن الأصح عند الغزالي المناظرة أولا والمحكي عن النص عدمها وإن شكا قبل المناظرة جوعا أطعم ثم نوظر ( وفي قول ) يمهل فيها على القولين ( ثلاثة أيام ) لأثر عن عمر رضي الله تعالى عنه في ذلك وأخذ به الإمام مالك
وقال الزهري يدعى إلى الإسلام ثلاث مرات فإن أبى قتل وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه يستتاب شهرين
وقال النخعي والثوري يستتاب أبدا وعلى التأخير يحبس مدة الإمهال ولا يخلى سبيله
( فإن ) لم يتب الرجل والمرأة عن الردة بل ( أصرا ) عليها ( قتلا ) لقوله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه رواه البخاري ويقتله الإمام أو نائبه إن كان حرا لأنه قتل مستحق لله تعالى فكان للإمام ولمن أذن له كرجم الزاني هذا إن لم يقاتل فإن قاتل جاز قتله لكل من قدر عليه ويجوز للسد فتل رقيقه المرتد على الأصح ويقتل بضرب العنق دون الإحراق ونحوه للأمر بإحسان القتلة فإن خالف وقتله بغيره أو قتله غير الإمام أو نائبه بغير إذنه عزر الأول لعدوله عن المأمور به
والثاني لافتياته ولا شيء عليه من قصاص أو دية
نعم قتله مرتد قتل به كما مر في الجنايات
قال الماوردي ولا يدفن المرتد في مقابر المسلمين لخروجه بالردة عنهم ولا في مقابر الكفار لما تقدم له من حرمة الإسلام اه
والذي يظهر أن حرمة الإسلام انقطعت بموته كافرا فلا مانع من دفنه في مقابر الكفار قد مر أن الردة أفحش الكفر ( وإن ) كان كل من الرجل والمرأة ارتدا إلى دين لا تأويل لأهله كعبدة الأوثان ومنكري النبوات ومن يقر بالتوحيد وينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثم ( أسلم صح ) إسلامه إذا أتى بالشهادتين قال ابن النقيب في مختصر الكفاية وهما أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وهذا يؤيد من أفتى من بعض المتأخرين بأنه لا بد أن يأتي بلفظ في أشهد الشهادتين وإلا لا يصح إسلامه
وقال الزنكلوني في شرح التنبيه وهما لا إله إلا الله محمد رسول الله وظاهره أن لفظه أشهد لا تشترط في الشهادتين وهو يؤيد من أفنى بعدم الاشتراط وهي واقعة حال اختلف المفتون في الإفتاء في عصرنا فيها والذي يظهر لي أن ما قاله ابن النقيب محمول على الكمال وما قاله الزنكلوني محمول على أقل ما يحصل به الإسلام فقد قال صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله رواه البخاري ومسلم ولا بد من ترتيب الشهادتين بأن يؤمن بالله ثم رسوله فإن عكس لم يصح ما في المجموع في الكلام على ترتيب الوضوء وقال الحليمي إن الموالاة بينهما لا تشترط فلو تأخر الإيمان بالرسالة عن الإيمان بالله تعالى مدة طويلة صح قال وهذا بخلاف القبول في البيع والنكاح لأن حق المدعو إلى دين الحق أن يدوم ولا يختص بوقت دون وقت فكأن العمر كله بمنزلة المجلس ( و ) إذا قال كل منهما ذلك ( ترك ) ولو كان زنديقا أو تكرر ذلك منه ولا يشترط مضي مدة الاستبراء لقوله تعالى { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }
نعم يعزر من تكرر ذلك منه لزيادة تهاونه بالدين فيعزر في المرة الثانية فما بعدها ولا يعزر في المرة الأولى وحكى ابن يونس الإجماع عليه
وقال أبو حنيفة إنما يعزر في الثالثة ونقل عن أبي إسحق المروزي أنه يقتل في الرابعة
قال الإمام وعد هذا من هفواته اه
ولا يصح هذا عن أبي إسحق وإنما هو منسوب لإسحق بن راهويه كما قاله القاضي حسين وغيره
تنبيه كان الأولى للمصنف أن يثني أسلم و ترك ليوافق ما قبله ولكن يحصل بما قدرته ( وقيل لا يقبل )
____________________
(4/140)
أي لا يصح ( إسلامه إن ارتد إلى كفر خفي كزنادقة ) وهم من يظهر الإسلام وبخفى الكفر كما قالاه هنا وفي الفرائض وصفة الأئمة وقالا في اللعان هم من لا ينتحل دينا وصوبه في المهمات وقال الأذرعي أنه الأقرب فإن الأول هو المنافق وقد غايروا بينهما ( و ) قيل لا يقبل إسلامه إن ارتد إلى كفر ( باطنية ) وهم القائلون بأن للقرآن باطنا وأنه المراد منه دون الظاهر وقيل هم ضرب من الزنادقة يزعمون أن الله خلق شيئا ثم خلق منه شيئا آخر يدبر العالم وسموا الأول العقل والثاني النفس وإن كان ارتد إلى دين يزعم أهله أن محمدا صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب خاصة أو إلى دين من يقول رسالته حق لكنه لم يظهر بعد أو جحد فرضا أو تحريما لم يصح إسلامه إلا أن يقر بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول إلى جميع الخلق ويرجع الثاني عما اعتقده ولا يكفي شهادة الفلسفي وهو النافي لاختيار الله تعالى أن الله علة الأشياء ومبدؤها حتى يشهد بالاختراع والإحداث من العدم ولا يكفي الطبائعي القائل بنسبة الحياة والموت إلى الطبيعة لا إله إلا المحيي المميت حتى يقول لا إله إلا الله ونحوه من أسمائه تعالى التي لا تأويل له فيها
وأما البرهمي وهو موحد ينكر الرسل فإن قال مع لا إله إلا الله محمد رسول الله فهو مؤمن وإن لم يذكر غيره من الرسل لا إن قال عيسى وموسى وكل نبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم رسل الله لأن الإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إقرار برسالة من قبله لأنه شهد لهم وصدقهم فإن قيل كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم شهد لهم وصدقهم فقد شهدوا له وبشروا به
أجيب بأن شريعته ناسخة لما قبلها باقية بخلاف شريعة غيره
والمعطل إذا قال محمد رسول الله قيل يكون مؤمنا لأنه أثبت المرسل والرسول والأصح أنه لا بد أن يأتي بالشهادتين كغيره ولو أقر يهودي برسالة عيسى لم يجبر على الإسلام كما لو أقر ببعض شرائع الإسلام كالصلوات الخمس وتقبل توبة مكذبه صلى الله عليه وسلم وكذا قاذفه على الأصح وقال أبو بكر الفارسي إنه يقتل حدا ولا يسقط بالتوبة
وقال الصيدلاني يجلد ثمانين جلدة لأن الردة ارتفعت بإسلامه وبقي جلده
فائدة يصح الإسلام بسائر اللغات كما قاله ابن الصباغ وغيره وبإشارة الأخرى
نعم لو لقن العجمي الكلمة العربية فقالها ولم يعرف معناها لم يكف ويسن امتحان الكافر بعد الإسلام بتقريره بالبعث بعد الموت
ولو قال بدل محمد رسول الله في الشهادتين أحمد أو أبوالقاسم رسول الله كفاه ولو قال النبي بدل رسول الله كفاه لا الرسول فإنه ليس كرسول الله فلو قال آمنت بمحمد النبي كفى بخلاف آمنت بمحمد الرسول لأن النبي لا يكون إلا لله تعالى والرسول قد يكون لغيره
وبخلاف آمنت بمحمد كما فهم بالأولى
تنبيه غير وسوى وما عدا أو نحوها في الاستثناء قالا في الاكتفاء بها كقوله لا إله غير الله أو سوى الله أو ما عدا الله أو ما خلا الله
ولو قال كافر أنا منكم أو مثلكم أو مسلم أو ولي محمد أو أحبه أو أسلمت أو آمنت لم يكن اعترافا بالإسلام لأنه قد يريد أنا منكم أو مثلكم في البشرية أو نحو ذلك من التأويلات فإن قال آمنت أو أسلمت أو أنا مؤمن أو مسلم مثلكم أو أنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو دينكم حق أو قال أنا برىء من كل من يخالف الإسلام أو اعترف من كفر بإنكاري وجوب شيء بوجوبه ففيه طريقتان إحداهما وهي ما عليها الجمهور وهي الراجحة لا يكون ذلك اعترافا بالإسلام
والثانية ونسبها الإمام للمحققين أنه يكون اعترافا به ولو قال أنا برىء من كل ملة تخالف الإسلام لم يكف على الطريقتين
لأنه لا ينفي التعطيل الذي يخالف الإسلام
وهو ليس بملة ولو قال لارحمن أو لابارىء إلا الله أو من آمن به المسلمون لم يكف كما قاله بعض المتأخرين خلافا للحليمي
ومن قال آمنت بالذي لا إله غيره لم يكن مؤمنا بالله
لأنه قد يريد الوثن وكذا لا إله إلا المالك أو الرزاق لأنه قد يريد السلطان الذي يملك أمر الجند ويرتب أرزاقهم فإن قال آمنت بالله ولم يكن على دين قبل ذلك صار مؤمنا بالله فيأتي بالشهادة الأخرى وإن كان مشركا لم يصر مؤمنا حتى يضم إليه وكفرت بما كنت أشركت به
ومن قال بقدم غير الله كفى للإيمان بالله أن يقول لا قديم إلا الله كمن لم يقل به ومن لم يقل به يكفيه أيضا الله ربي
( وولد
____________________
(4/141)
المرتد إن انعقد قبلها ) أي الردة ( أو ) انعقد ( بعدها ) أي فيها ( وأحد أبويه مسلم فمسلم ) ذلك الولد بالتبعة للمسلم تغليبا للإسلام ( أو ) وأبواه ( مرتدان فمسلم ) أيضا لبقاء علقة الإسلام فيهما ولم يصدر منه كفر وهذا ما رجحه المحرر تبعا لجمع وعليه لا يسترق ( وفي قول ) هو ( مرتد ) تبعا لهما وعلى هذا لا يسترق في أصح الوجهين كما لا يسترق أبواه ولا يقتل حتى يبلغ ويستتاب فإن أصر قتل ( وفي قول ) هو ( كافر أصلي ) لتولده بين كافرين ولم يباشر الردة حتى يغلظ عليه ( قلت الأظهر ) هو ( مرتد ) إذا لم يكن في أصول أبويه مسلم ( ونقل العراقيون ) القاضي الحسين و ابن الصباغ و البندنيجي وغيرهم ( الاتفاق على كفره والله أعلم ) فإن كان في أصول أبويه مسلم فهو مسلم تبعا له كما مر ذلك في باب اللقيط
تنبيه ما إدعاه من نقل الاتفاق اعتمد فيه قول القاضي أبي الطيب أنه لا خلاف فيه كما قاله في الروضة واعترض بأن الصيمري شيخ الماوردي من كبارهم وقد جزم بأنه مسلم ولم يحك ابن المنذر عن الشافعي غيره وقال البلقيني إن نصوص الشافعي قاضية به وأطال في بيانه وذكر نحوه الزركشي وفي تعبير المصنف بمرتد وكافر أصلي تسمح والأولى أن يقال فهو على حكم الكفر وسكت الأصحاب هنا عما لو أشكل علوقه هل قبل الردة أو بعدها والظاهر كما قال الدميري أنه على الأقوال لأن الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمان ويدل له كلامهم في الوصية للحمل وأولاد المبتدعة من المسلمين إذا كفرناهم الظاهر كما قاله الدميري أيضا أنهم مسلمون ما لم يعتقدوا بعد بلوغهم كفرا لأنهم ولدوا على الإسلام واعتقاد الأب لا يسري إلى الولد وقد تقدم في اللقيط حكم أطفال أولاد المشركين
( وفي زوال ملكه ) أي المرتد ( عن ماله ) الحاصل قبلها أو فيها بنحو اصطياد ( بها ) أي الردة ( أقوال أظهرها ) الوقف كبضع زوجته سواء التحق بدار الحرب أم لا فعليه ( ان هلك مرتدا بأن زواله بها ) أي الردة فما ملكه فيء وما تملكه من احتطاب ونحوه باق على الإباحة ( وإن أسلم بان أنه لم يزل ) لأن بطلان أعماله تتوقف على هلاكه على الردة فكذا زوال ملكه
والثاني يزول بنفس الردة لزوال العصمة بردته فماله أولى
والثالث لا يزول لأن الكفر لا ينافي الملك كالكافر الأصلي ( و ) يتفرع ( على ) هذه ( الأقوال ) أنه ( يقضى منه ) مال المرتد ( دين لزمه قبلها ) بإتلاف أو غيره لأنا إن قلنا ببقاء ملكه أو موقوف فواضح وإن قلنا بزواله فهي لا تزيد على الموت والدين يقدم على حق الورثة فكذا على حق الفيء وإذا مات على الردة وعليه دين وفي ثم إن بقي شيء صرف لبيت المال وهل ينتقل جميعه لبيت المال فيئا متعلقا به الدين كما تنتقل التركة للورثة كذلك أو لا ينتقل للفيء إلا الفاضل عن الدين القياس الأول وإن كان ظاهر كلام مختصر التبريزي الثاني
تنبيه هل يصير محجورا عليه بنفس الردة أم لا بد من ضرب القاضي فيه وجهان
وقيل قولان
قال ابن النقيب أصحهما الثاني وجزم به جماعة
وقال الماوردي إن الجمهور عليه ولكن مقتضى كلام الشيخين الأول وهو الظاهر وعلى الثاني هل هو كحجر الفلس أو السفه أو المرض
فيه أوجه أصحها أولها ( وينفق عليه ) أي المرتد زمن استتابته ( منه ) أي ماله وتجعل حاجته للنفقة كحاجة الميت إلى التجهيز بعد زوال الملك بالموت ( والأصح يلزمه غرم إتلافه ) مال غيره ( فيها ) أي الردة حتى لو ارتد جمع وامتنعوا عن الإمام ولم يصل إليهم إلا بقتال فما أتلفوا في القتال إذا أسلموا ضمنوه على الأظهر كما مرت الإشارة إليه في الباب الذي قبل هذا وإن صحح في البيان عدم الضمان ( و ) الأصح يلزمه ( نفقة زوجات وقف نكاحهن وقريب ) لأنها حقوق متعلقة به
____________________
(4/142)
هذا هو المنصوص عليه في الأم والمختصر والثاني لا يلزمه ذلك لأنه لا مال له
تنبيه هذا الخلاف مفرع على القول بزوال ملكه كما ذكره في الشرح والروضة فإن قلنا ببقاء ملكه أو موقوف لزمه ذلك قطعا وسكت المصنف عن نفقة الرقيق قال في المطلب وشك أنه ينفق عليه منه مطلقا والظاهر كما قال الأذرعي أن أم الولد إذا قلنا بزوال ملكه كالزوجة ( وإذا وقفنا ملكه ) وهو الأظهر كما مر وفرعنا عليه ( فتصرفه ) الواقع منه في ردته ( إن احتمل ) أي قبل ( الوقف ) بأن قبل التعليق ( كعتق وتدبير ووصية موقوف ) لزومه كما قاله الإمام ( إن أسلم نفذ ) بمعجمة أي بان نفوذه ( وإلا ) بأن مات مرتدا ( فلا ) ينفذ لأن الوقف لا يضره ( وبيعه وهبته ورهنه وكتابته ) ونحوها مما لا يقبل الوقف ( باطلة ) بناء على بطلان وقف العقود وهو الجديد ( وفي القديم ) هي ( موقوفة ) بناء على صحة وقف العقود فإن أسلم حكم بصحتها وإلا فلا
تنبيه ما ذكره في الكتابة من أنها على قولي وقف العقود حتى تبطل على الجديد هو المعتمد كما ذكره في المحرر هنا وفي الكتابة وصوبه في الروضة هنا وإن رجحا في الشرحين والروضة في باب الكتابة صحتها ورجحه البلقيني ( وعلى الأقوال ) السابقة ( يجعل ماله مع ) أي عند ( عدل ) يحفظه ( وأمته عند امرأة ثقة ) أو من يحل له الخلوة بها كالمحرم احتياطا لتعليق حق المسلمين به
تنبيه قد يفهم كلامه أنه يكفي بالجعل المذكور على قوله بقاء ملكه وليس مرادا بل عليه لا بد من ضرب الحجر عليه كما نص عليه الشافعي رحمه الله ( ويؤدي مكاتبه النجوم إلى القاضي ) حفظا لها ويعنق بذلك وإنما لم يقبضها المرتد لأن قبضه غير معتبر ولو أدى في الردة زكاة وجبت عليه قبلها ثم أسلم قال القفال ينبغي أن لا تسقط ولكن نص الشافعي على السقوط لأن المراد بالنية هنا التمييز
خاتمة لو امتنع مرتدون ينحو حصن بدأنا بقتالهم لأن كفرهم أغلظ كما مر ولأنهم أعرف بعورات المسلمين واتبعنا مدبرهم وذففنا على جريحهم واستتبنا أسيرهم وعليهم ضمان ما أتلفوه في حال القتال كما مر ويقدم القصاص على قتل الردة وتجب الدية حيث لزمته في ماله مطلقا لأنه عاقلة له معجلة في العمد ومؤجلة في غيره فإن مات حلت لأن الأجل يسقط بالموت ولا يحل الدين المؤجل بالردة ولو وطىء مرتدة بشبهة كأن وطئها مكرهة أو استخدم المرتد أو المرتدة إكراها فوجوب المهر والأجرة موقوفان ولو أتى في ردته ما يوجب حدا كأن زنى أو سرق أو قذف أو شرب خمرا حد ثم قتل
كتاب الزنا هو بالقصر لغة حجازية وبالمد لغة تميمية واتفق أهل الملل على تحريمه وهو من أفحش الكبائر ولم يحل في ملة قط ولهذا كان حده أشد الحدود لأنه جناية على الأعراض والأنساب
والأصل في الباب قوله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما وهذه نسخ لفظها وبقي حكمها وقد رجم صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية وله حكمان يختصان به اشتراط أربعة في الشهادة وإيجاب مائة جلدة وحقيقته الشرعية الموجبة للحد ( إيلاج ) حشفة أو قدرها من ( الذكر ) المتصل الأصلي من الآدمي الواضح ولو أشل وغير
____________________
(4/143)
منتشر وكان ملفوفا في خرقة كما هو قضية ما جزم به في التحقيق في باب الغسل وصرح به الدارمي خلافا للديلمي ( بفرج ) أي قبل أنثى ولو غوراء كما بحثه الزركشي فارقا بين ما هنا وما في باب التحليل من عدم الاكتفاء بالإيلاج ببناء التحليل على تكميل اللذة
( محرم ) في نفس الأمر ( لعينه ) أي الإيلاج ( خال عن الشبهة ) المسقطة للحد ( مشتهى ) طبعا بأن كان فرج آدمي حي وقوله ( يوجب الحد ) هو خبر عن قوله إيلاج والحد هو الجلد والتغريب على غير المحصن والرجم على المحصن بالنص والإجماع وخرج بمتصل من استدخلت ذكرا مقطوعا فلا حد عليها وبالأصلي الزائد وبالآدمي والواضح من استدخلت ذكر بهيمة أو مشكل فلا حد عليها وبنفس الأمر ما لو وطىء زوجته ظانا أنها أجنبية فلا حد وما بقي من محترزات قيود الحد يأتي في المتن وبما تقرر علم ما في الحد من الإجحاف
قال ابن شهبة وفيه زيادة لا حاجة إليها وهي قوله خال عن الشبهة لخروج الشبهة بقيد التحريم فإن وطء الشبهة لا يوصف بحل ولا حرمة على الأصح اه
لكن الشبهة ثلاثة أقسام شبهة فاعل كأن يكون جاهلا وشبهة محل كظن أنها زوجته وشبهة جهة كالنكاح بلا ولي والذي لا يوصف بحل ولا حرمة هو القسم الأول
تنبيه قال البلقيني لو ثنى ذكره وأدخل قدر الحشفة ففي ترتب الأحكام علية توقف والأرجح الترتيب إن أمكن اه
وظاهر كلامهم في الحشفة حيث كانت موجودة أنه لا يعتبر إدخال غيرها فإنهم يقولون قدر الحشفة من مقطوعها وهذا هو الظاهر ( ودبر ذكر و ) دبر ( أنثى ) أجنبية ( كقبل ) للأنثى فيجب بالإيلاج في كل من كل الدبرين المسمى باللواط الحد ( على المذهب ) فيرجم المحصن ويجلد غيره ويغرب لأنه زنا بدليل قوله تعالى { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة } وقال تعالى { أتأتون الفاحشة }
وروى البيهقي عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وفي قول يقتل محصنا كان أو غيره لحديث من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به رواه أبو داود الترمذي وابن ماجه وصحح الحاكم إسناده وعلى هذا يقتل بالسيف كالمرتد وقال إن واجبه التعزير فقط كإتيان البهيمة
تنبيه شمل إطلاقه دبر عبده وهو المذهب هذا حكم الفاعل
وأما المفعول به فإن كان صغيرا أو مجنونا أو مكرها فلا حد عليه ولا مهر له لأن منفعة بضع الرجل غير متقومة وإن كان مكلفا مختارا جلد وغرب محصنا كان أو غيره سواء أكان رجلا أم امرأة لأن المحل لا يتصور فيه إحصان وقيل ترجم المرأة المحصنة
أما وطء زوجته أو أمته في دبرها فالمذهب أن واجبه التعزيز إن تكرر منه الفعل فإن لم يتكرر فلا تعزير كما ذكره البغوي و الروياني والزوجة والأمة في التعزير مثله سواء واحترز ( بإيلاج ) عما تضمنه قوله ( ولا حد بمفاخذة ) بإعجام الذال ولا بإيلاج بعض الحشفة ولا بإيلاجها في غير فرج كسرة ولا بمقدمات وطء ولا بإتيان المرأة المرأة لعدم الإيلاج بل يعزران ولا باستمنائه بيده بل يعزر
أما بيد من يحل له الاستمتاع بها فمكروه لأنه في معنى العزل ( و ) احترز بمحرم لعينه عن ( وطء زوجته في حيض ) ونفاس ( وصوم وإحرام ) واستبراء فلا حد به فإن التحريم ليس لعينه بل لأمور عارضة
تنبيه قد يخرج بمحرم وطء حربية بقصد القهر والاستيلاء فإنه يملكها بذلك ولا حد عليه وإن لم يقصد ذلك بقلبه وجب عليه الحد كما حكاه الإمام عن القفال في باب السرقة في الكلام على سرقة العين وذكره الرافعي هناك من غير نسبة إلى القفال واحترز بخال عن الشبهة عن شبهة المحل التي تضمنها قوله ( وكذا أمته المزوجة ) والمشتركة ( والمعتدة ) من غيره والمجوسية والوثنية والمسلمة وهو ذمي فلا حد بوطئها جزما وقيل في الأظهر ( و ) كذا ( مملوكته المحرم ) بنسب أو رضاع كأخته منهما أو بمصاهرة كموطوءة أبيه أو ابنه فلا حد بوطئها في الأظهر كما سيأتي
____________________
(4/144)
لشبهة الملك
تنبيه محل ذلك فيمن يستقر ملكه عليها كأخته أما من لا يستقر ملكه عليها كالأم والجدة فهو زان قطعا كما قاله الماوردي وغيره واحترز عن شبهة الفاعل التي تضمنها قوله ( ومكره ) فلا حد عليه لحديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه
وقوله ( في الأظهر ) راجع للمسألتين كما تقرر لكنه عبر في الروضة كأصلها في المكره بالأصح وعبر في المحرر عن شبهة الفاعل بما إذا وجد امرأة على فراشه فوطئها على ظن أنها زوجته أو أمته والثاني يحد فيهما أما الأولى فلأنه وطء لا يستباح بحال فأشبه اللواط
وظاهر كلامهم على الأول أن وطء أمته المحرم في دبرها لا يوجب الحد وهو كذلك لشبهة الملك وإن نقل ابن الرفعة عن البحر المحيط أنه يوجبه وأما في الثانية فلأن انتشار الآلة لا يكون إلا بشهوة واختيار ومأخذ الخلاف التردد في تصوير الإكراه في الزنا والصحيح تصويره لأن الانتشار تقتضيه الطبيعة عند الملابسة
تنبيه محل الخلاف في الرجل أما المرأة فلا يجب عليها الحد قطعا
قاله في الوسيط
فائدة في سنن البيهقي أن عمر أتى بامرأة جهدها العطش فمرت على راع فاستسقته فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت فشاور الناس في رجمها
فقال علي هذه مضطرة أرى أن يخلى سبيلها ففعل وكان الأولى تأخير المكره إلى قوله وشرطه التكليف فيقول والاختيار وتعبير المصنف يوهم عدم الخلاف في أمته المزوجة والمعتدة وليس مرادا بل الخلاف الذي في المحرم جار فيها
فرع لو وطىء امرأة على ظن أنها أمته المشتركة فبانت أجنبية حد كما رجحه في الروضة من احتمالين نقلها تبعا لبعض نسخ الرافعي عن الإمام لأنه علم التحريم فكان من حقه الامتناع وقيل لا حد عليه
وقال ابن عبد السلام إنه أظهر الاحتمالين لأنه ظن ما لو تحقق رفع عنه الحد
واحترز عن شبهة الطريق التي تضمنها قوله ( وكذا كل جهة أباحها ) أي قال بالوطء بها ( عالم كنكاح بلا شهود ) فقط كما قال به مالك أو بلا ولي فقط كما قال به أبو حنيفة أو بولي وشهود ولكنه مؤقت وهو نكاح المتعة كما قال به ابن عباس رضي الله تعالى عنهم لا حد بالوطء فيه ( على الصحيح ) وإن اعتقد تحريمه لشبهة الخلاف وقيل يجب على معتقد التحريم دون غيره وقيل يجب على معتقد الإباحة أيضا كما يحد الحنفي على شرب النبيذ وفي قول يجب في نكاح المتعة لأنه ثبت نسخه و ابن عباس رجع عنه كما رواه البيهقي
تنبيه محل الخلاف في النكاح المذكور كما قاله الماوردي أن لا يقارنه حكم فإن حكم شافعي ببطلانه حد قطعا أو حنفي أو مالكي بصحته لم يحد قطعا والضابط في الشبهة قوة المدرك كما صرح به الروياني وغيره لا عين الخلاف كما ذكره الشيخان فلو وطىء أمة غيره بإذنه حد على المذهب وإن حكى عن عطاء حل ذلك
ويجب في الوطء في نكاح بلا ولي ولا شهود
قال القاضي إلا في الدنيئة فلا حد فيها لخلاف مالك فيه ويستثنى من الشبهة من زنى بجارية بيت المال فيجب الحد بوطئها كما في سير الروضة لأنه يستحق في بيت المال النفقة لا الإعفاف
واحترز بمشتهى عما تضمنه قوله ( ولا ) حد ( بوطء ميتة في الأصح ) وإن كانت محرمة في الحياة خلافا لما في نكت الوسيط لأن هذا مما ينفر الطبع عنه فلا يحتاج إلى الزجر عنه بحد كشرب البول بل يعزر والثاني يحد به كوطء الحية ولا يجب فيه مهر بحال لأن الميت لا يستأنف ملكا ( ولا ) بوطء ( بهيمة في الأظهر ) لأن الطبع السليم يأباه فلم يحتج إلى زاجر بحد بل يعزر وفي النسائي عن ابن عباس ليس على الذي يأتي البهيمة حد ومثل هذا لا يقوله إلا عن توقيف والثاني يقتل محصنا كان أو غيره لقوله صلى الله عليه وسلم من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه رواه الحاكم وصحح إسناده والثالث يحد حد الزنا فيفرق فيه بين المحصن وغيره
وأما البهيمة المفعول بها ففيها أوجه
____________________
(4/145)
أصحها لا تذبح وقيل تذبح إن كانت مأكولة وقيل تذبح مطلقا لظاهر الحديث واختلفوا في علة ذلك فقيل لاحتمال أن تأتي بولد مشوه الخلق فعلى هذا لا تذبح إلا إذا كانت أنثى وقد أتاها في الفرج وقيل إن في بقائها تذكارا للفاحشة فيعير بها وهذا هو الأصح فعلى هذا لا فرق بين الذكر والأنثى وإن كانت مأكولة وذبحت حل أكلها على الأصح وحيث وجب الذبح والبهيمة لغير الفاعل لزمه لمالكها إن كانت مأكولة ما بين قيمتها حية ومذبوحة وإلا لزمه جميع القيمة وقيل لا شيء لصاحبها لأن الشرع أوجب قتلها للمصلحة وقد مر أن شرط الشبهة أن تكون قوية المدرك مسقطة للحد ليخرج أيضا شبهة من استؤجرت للزنا فلذلك قال ( ويحد في ) وطء ( مستأجرة ) للزنا بها لانتفاء الملك والعقد وعقد الإجارة باطل ولا يورث شبهة مؤثرة كما لو اشترى خمرا فشربها وعن أبي حنيفة أنه لا حد لأن الإجارة شبهة وعورض بأنها لو كانت شبهة لثبت النسب ولا يثبت اتفاقا
فإن قيل لم لم يراع خلافه هنا كما مر في نكاح بلا ولي أجيب بضعف مدركه هنا ( و ) يحد أيضا في وطء ( مبيحة ) فرجها للوطء لأن البضع لا يباح بالإباحة
وتحد هي أيضا في المسألتين ( و ) في وطء ( محرم ) بنسب أو إرضاع أو مصاهرة ( وإن كان تزوجها ) لأنه وطء صادف محلا ليس فيه شبهة وهو مقطوع بتحريمه اه
فيتعلق به الحد
تنبيه أشار بقوله وإن كان تزوجها إلى خلاف أبي حنيفة فإنه قال لا حد عليه لأن صورة العقد شبهة وقال أحمد و إسحق يقتل ويؤخذ ماله لحديث فيه صححه يحيى بن معين
فروع لو ادعى الجهل بتحريم الموطوءة بنسب لم يصدق لبعد الجهل بذلك
قال الأذرعي إلا إن جهل مع ذلك النسب ولم يظهر لنا كذبه فالظاهر تصديقه أو بتحريمها برضاع فقولان أظهرهما كما قال الأذرعي تصديقه إن كان ممن يخفى عليه ذلك أو بتحريمها بكونها مزوجة أو معتدة وأمكن جهله بذلك صدق بيمينه وحدت هي دونه إن علمت تحريم ذلك ويحد في وطء نكاح أخت نكحها على أختها وفي وطء من ارتهنها وفي وطء مسلمة نكحها وهو كافر ووطىء عالما بالحال وفي وطء وثنية أو مجوسية نكحهما مسلم ويحد في وطء مطلقته ثلاثا وذات زوج وملاعنة ومعتدة لغيره ومرتدة ولو زنى مكلف بمجنونة أو نائمة أو مراهقة حد ولو مكنت مكلفة مجنونا أو مراهقا أو استدخلت ذكر نائم حدت ولا تحد خلية حبلى لم تقر بالزنا أو ولدت ولم تقر به لأن الحد إنما يجب ببينة أو إقرار كما سيأتي إن شاء الله تعالى
وشرطه أي إيجاب حد الزنا رجما كان أو جلدا في الفاعل أو المفعول به ( التكليف ) فلا حد على صبي ومجنون لارتفاع القلم عنهما ولكن يؤدبهما وليهما بما يزجرهما
ولو زنى وعنده أنه غير بالغ فبان بالغا هل يحد أو لا حكى الروياني فيه وجهين ويظهر أنه لا حد عليه
وزاد المصنف على المحرر والشرحين والروضة قوله ( إلا السكران ) فإنه يحد وهو غير مكلف وتقدم الكلام عليه في كتاب الطلاق ( وعلم تحريمه ) فلا حد على من جهل تحريم الزنا لقرب عهده بالإسلام أو بعده عن المسلمين لكن إنما يقبل منه بيمينه كما هو وكلام الشيخين في الدعاوى فإن نشأ بينهم وادعى الجهل لم يقبل منه
تنبيه أفهم كلامه أنه لو علم التحريم وجهل الحد أنه يحد وهو الصحيح في زيادة الروضة وبقي من الشروط التزام الأحكام ليخرج الحربي والمستأمن
وأما الاختيار فعلم مما مر ( وحد ) الزاني ( المحصن ) من رجل أو امرأة ( الرجم ) حتى يموت بالإجماع وتظافر الأخبار فيه كرجم ماعز والغامدية ولا يجلد مع الرجم عند جماهير العلماء
وقد مر أنه لا رجم على الموطوء في دبره إذ لا يتصور الإيلاج في دبره على وجه مباح حتى يصير به محصنا فحده كحد البكر
والإحصان لغة المنع وشرعا جاء بمعنى الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والعفة والتزويج ووطء المكلف الحر في نكاح صحيح وهو المراد هنا كما يؤخذ من قوله ( وهو ) أي المحصن ( مكلف ) لا معنى لاشتراط التكليف في الإحصان بعد اشتراطه في مطلق وجوب الحد وكان ينبغي أن يقول أو سكران على طريقته ( حر ) فالرقيق ليس بمحصن ولو مكاتبا
____________________
(4/146)
ومبعضا ومستولدة لأنه على النصف من الحر والرجم لا نصف له ( ولو ) هو ( ذمي ) أو مرتد لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين كما ثبت في الصحيحين زاد أبو داود وكانا قد أحصنا
تنبيه عقد الذمة شرط لإقامة الحد على الذمي لا لكونه محصنا فلو غيب حربي حشفته في حال حرابته في نكاح وصححنا أنكحة الكفار وهو الأصح فهو محصن حتى لو عقدت له ذمة فزنى رجم ومثل الذمي المرتد وخرج به المستأمن فإنا لا نقيم عليه حد الزنا على المشهور ( غيب ) المكلف وهو بهذه الصفات قبل أن يزني ( حشفته ) من ذكره الأصلي العامل ولو مع لف خرقة خلافا لما في المطلب أو غيبها غيره وهو نائم أو غيب قدرها إن فقدها ( بقبل ) أو وطئت الأنثى فيه ( في نكاح صحيح ) لأن الشهوة مركبة في النفوس فإذا وطىء في نكاح صحيح ولو كانت الموطوءة في عدة وطء شبهة أو وطئها في نهار رمضان أو في حيض أو إحرام فقد استوفاها فحقه أن يمتنع من الحرام ولأنه يكمل طريق الحل بدفع البينونة بطلقة أو ردة واحترز بقوله حشفته عما لو غيب بعضها وأما مفقودها فلا بد أن يغيب قدرها وبالقبل وهو من زيادة على المحرر عن الدبر فلا يحصل الإحصان بالوطء فيه وبالنكاح عن ملك اليمين ووطء شبهة وبالصحيح عن الفاسد كما قال ( لا ) في نكاح ( فاسد ) فإنه فيه غير محصن ( في الأظهر ) لأنه حرام فلا يحصل به صفة كمال وبالثاني وعزى للقديم هو محصن لأن الفاسد كالصحيح في العدة والنسب فكذا في الإحصان والجمهور قطعوا بالمنع كما في الروضة
تنبيه هذه الشروط كما تعتبر في الواطىء تعتبر أيضا في الموطوءة ( والأصح ) المنصوص ( اشتراط التغيب ) لحشفة الرجل أو قدرها عند قطعها ( حال حريته ) الكاملة ( وتكليفه ) فلا يجب الرجم على من وطىء في نكاح صحيح وهو صبي أو مجنون أو رقيق وإنما اعتبر وقوعه في حال الكمال لأنه مختص بأكمل الجهات وهو النكاح الصحيح فاعتبر حصوله من كامل حتى لا يرجم من وطء وهو ناقص كما مر ثم زنى وهو كامل فيرجم من كان كاملا في الحالين وإن تخللهما نقص كجنون ورق فالعبرة بالكمال في الحالين
فإن قيل يراد إدخال المرأة حشفة الرجل وهو نائم وإدخاله فيها وهي نائمة فإنه يحصل الإحصان للنائم أيضا كما مر مع أنه غير مكلف عند الفعل
أجيب بأنه مكلف استصحابا لحاله قبل النوم والثاني لا يشترط ذلك فإنه وطء يحصل به التحليل فكذا الإحصان
تنبيه سكتوا عن شرط الاختيار هنا وقضية كلامهم عدم اشتراطه حتى لو وجدت الإصابة والزوج مكره عليها
وقلنا بتصور الإكراه حصل التحصين وهو كذلك وإن قال ابن الرفعة فيه نظر ( و ) الأصح كما هو قضية كلام المصنف ولكنه قال في الروضة والأظهر ( أن الكامل ) من رجل أو امرأة ( الزاني بناقص ) كصغيرة ( محصن ) لأنه حر مكلف وطىء في نكاح صحيح فأشبه ما إذا كانا كاملين والثاني لا يكون بذلك محصنا لأنه وطء لا يصير أحد الواطئين محصنا فكذلك الآخر كما لو وطىء بالشبهة
تنبيه عبارة المصنف لا يفهم المراد منها لأن قوله بناقص لا يخلو إما أن يتعلق بالزاني أو بالكامل فإن علقته بالأول فسد المعنى إذ يقتضي حينئذ أن الكامل إذا زاني بناقص محصن على الأصح وليس مرادا وإن علقته بالثاني يصير قوله الزاني سائبا فلو قال وأن الكامل بناقص محصن لكان أخصر وأقرب إلى المراد ومن الشراح من أجاب بأن قوله بناقص متعلق بمحذوف تقديره وإن الكامل الزاني إذا كان كماله بناقص محصن وغير بعض الشراح لفظة الزاني بالباني أي الناكح وادعى صحة العبارة بذلك ورد عليه بأنه إنما يقال بنى على أهله لا بنى بهم كما قاله الجوهري وغيره ( والبكر ) وهو غير المحصن المكلف ( الحر ) من رجل أو امرأة حده ( مائة جلدة ) لآية { الزانية والزاني } ولاء فلو فرقها نظر فإن لم يزل الألم لم يضر وإلا فإن كان خمسين لم يضر وإن كان دون ذلك ضر وعلل بأن الخمسين حد الرقيق وسمي جلدا لوصوله إلى الجلد ( وتغريب عام ) لرواية مسلم بذلك
____________________
(4/147)
تنبيه أفهم عطفه التغريب بالواو أنه لا يشترط الترتيب بينهما فلو قدم التغريب على الجلد جاز كما صرح به في الروضة وأصلها وإن نازع فيه الأذرعي وقال إنه خلاف ما درج عليه السلف وأفهم لفظ التغريب أنه لا بد من تغريب الإمام أو نائبه حتى لو أراد الإمام تغريبه فخرج بنفسه وغاب سنة ثم عاد لم يكف وهو الصحيح لأن المقصود التنكيل ولم يحصل وابتداء للعام من حصوله في بلد التغريب في أحد وجهين أجاب به القاضي أبو الطيب والوجه الثاني من خروجه من بلد الزنا ولو ادعى المحدود انقضاء العام ولا بينة صدق لأنه من حقوق الله تعالى ويحلف استحبابا
قال الماوردي وينبغي للإمام أن يثبت في ديوانه أول زمان التغريب
ويغرب ( إلى مسافة قصر ) لأن ما دونها في حكم الحضر لتوصل الأخبار فيها إليه
والمقصود إيحاشه بالبعد عن الأهل والوطن ( فما فوقها ) إن رآه الإمام لأن عمر غرب إلى الشام وعثمان إلى مصر وعليا إلى البصرة وليكن تغريبه إلى بلد معين فلا يرسله الإمام إرسالا ( وإذ عين الإمام جهة فليس له ) أي المغرب ( طلب غيرها في الأصح ) لأن ذلك أليق بالزجر ومعاملة له بنقيض قصده والثاني له ذلك لأن المقصود إيحاشه بالبعد عن الوطن
تنبيه لو غرب على الأول إلى بلد معين فهل يمنع من الانتقال إلى بلد آخر
وجهان أصحهما كما في أصل الروضة لا يمنع لأنه امتثل والمنع من الانتقال لم يدل عليه دليل وما صححه الروياني من أنه يلزمه أن يقيم ببلد الغربة ليكون كالحبس له فلا يمكن من الضرب في الأرض لأنه كالنزهة يحمل كما قال شيخنا على أن المراد ببلد الغربة غير بلده لأن ما عداه بلاد غربة وبقوله فلا يمكن من الضرب في الأرض أنه لا يمكن من ذلك في جميع جوانبها بل في غير جانب بلده فقط على ما عرف ويجوز له أن يحمل معه جارية يتسرى بها مع نفقة يحتاجها وكذا مال يتجر فيه كما قاله الماوردي وليس له أن يحمل معه أهله وعشيرته فإن خرجوا معه لم يمنعوا ولا يعتقل في الموضع الذي غرب إليه كما قالاه لكن يحفظ بالمراقبة والتوكيل به لئلا يرجع إلى بلدته أو إلى ما دون المسافة منها لا لئلا ينتقل إلى بلد آخر لما مر من أنه لو انتقل إلى بلد آخر لم يمنع فإن احتيج إلى الاعتقال خوفا من رجوعه إلى ما ذكر اعتقل وكذا إن خيف من تعرضه للنساء وإفسادهن فإنه يحبس كما قاله الماوردي كفا له عن الفساد ولو عاد إلى البلد الذي غرب منه أو إلى دون مسافة القصر منه رد واستؤنفت المدة على الأصح إذ لا يجوز تفريق سنة التغريب في الحر ولا نصفها في غيره لأن الإيحاش لا يحصل معه وقضية هذا أنه لا يتعين للتغريب البلد الذي غرب إليه وأشار إلى تفرده به ولم يقف ابن الرفعة على نقل في ذلك فقال الأشبه أن يقال إن قلنا بالاستئناف لم يتعين ذلك البلد
( ويغرب ) زان ( غريب ) له بلد ( من بلد الزنا ) تنكيلا وإبعادا عن موضع الفاحشة ( إلى غير بلده ) لأن القصد إيحاشه وعقوبته وعوده إلى وطنه يأباه ويشترط أن يكون بينه وبين بلده مسافة القصر فما فوقها ليحصل ما ذكر ( فإن عاد إلى بلده ) الأصلي ( منع منه في الأصح ) معارضة له بنقيض قصده ومقابل الأصح أنه لا يتعرض له وهو احتمال للغزالي لا وجه كما يوهمه كلام المتن ولو زنى الغريب في البلد الذي غرب إليه غرب إلى بلد آخر ودخلت مدة بقية الأول مدة الثاني لتجانس الحديث ولو زنى المسافر في طريقه غرب إلى غير مقصده لما مر به ونازع في ذلك البلقيني وقال لا يحجر على الإمام في ذلك بل إذا رأى تغريبه في جهة مقصده لم يمنع ومن لا وطن له كالمهاجر إلينا من دار الحرب ولم يتوطن بلدا يمهل حتى يتوطن ثم يغرب وهذا لا ينافيه قول القاضي أنه يغرب من المكان الذي قصده ويغرب البدوي عن حلته وقومه ( ولا تغرب امرأة ) زانية ( وحدها في الأصح بل مع زوج أو محرم ) لخبر لا تسافر المرأة إلا ومعها زوج أو محرم
وفي الصحيحين لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة
____________________
(4/148)
يوم إلا مع ذي محرم ولأن القصد تأديبها والزانية إذا خرجت وحدها هتكت جلباب الحياء والثاني تغرب وحدها لأنه سفر واجب عليها فأشبه سفر الهجرة
قال البلقيني ونص عليه في موضعين من الأم وقال إن النهي عن سفرها إنما هو فيما لا يلزمها ( ولو ) لم يخرج الزوج أو المحرم إلا ( بأجرة ) لزمها ذلك وهو في مالها على الأصح إذا كان لها مال لأنها مما يتم بها الواجب كأجرة الجلاد ولأنها من مؤن سفرها فإن لم يكن لها مال فعلى بيت المال
تنبيه محل الخلاف إذا كان الطريق أمنا وإلا فلا تغرب وحدها جزما وقضية كلام المصنف أنه لا يكتفي بالنسوة الثقاة وهو كذلك مع عدم أمن الطريق وأما مع أمنها ففيه وجهان أظهرهما أنه يكفي قياسا على الزوج والمحرم
قال الرافعي وربما اكتفى بعضهم بواحدة ثقة اه
والاكتفاء بها هو ما في الشامل وغيره
وقال ابن الرفعة إنه الأصح و البلقيني إنه المعتمد وصححه المصنف في مجموعه في نظيره من الحج مع أنه على التراخي فهذا أولى وقضية كلامهم أن الرجل يغرب وحده ولو أمرد والظاهر ما قال الأذرعي وغيره أن الأمرد الحسن الذي يخاف عليه الفتنة يحتاج إلى محرم ونحوه ( فإن امتنع ) من ذكر من الخروج ولو ( بأجرة لم يجبر في الأصح ) كما في الحج ولأن فيه تغريب من لم يذنب ولا يأثم بامتناعه كما بحثه في المطلب والثاني يجبر للحاجة إليه في إقامة الواجب وعلى الأول يؤخر تغريبهما إلى أن يتيسر كما جزم به ابن الصباغ ( و ) حد غير الحر من ( العبد ) أو غيره إذا كان مكلفا ( خمسون ) جلدة لقوله تعالى { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } والمراد الجلد لأن الرجم قتل والقتل لا يتنصف
وروى مالك و أحمد عن علي رضي الله تعالى عنه أنه أتى بعبد وأمة زنيا فجلدهما خمسين خمسين إذ لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى بجامع الرق ولو عبر المصنف بمن فيه رق لعم الذكر والأنثى والمكاتب وأم الولد المبعض واستغنى عما قدرته وقيل إن الحد يقسط على المبعض بقدر ما فيه من الحرية والرق فيكون على حر النصف ثلاثة أرباع الجلد ( ويغرب ) من فيعرق ( نصف سنة ) لعموم الآية ولأنه يتبعض فأشبه الجلد وعلى التقسيط في المبعض يغرب تسعة أشهر ( وفي قول ) يغرب من فيه رق ( سنة ) لأن ما يتعلق بالطبع لا يفرق فيه بين الحر وغيره كمدة العنة والإيلاء ( وفي قول لا يغرب ) لأن فيه تفويت حق السيد لأن الرقيق لا أهل له فلا يستوحش بالتغريب وأجاب الأول بأنه إذا ألف موضعا شق عليه فراقه ولا يبالي بحق السيد في العقوبات كما يقطع بالسرقة ويقتل بالردة والأشبه كما قال الزركشي أنه يعتبر في تغريب الأمة خروج محرم معها كالحرة ومؤنة المغرب في مدة تغريبه على نفسه إن كان حرا وعلى سيده إن كان رقيقا وإن زادت على مؤنة الحضر
تنبيه لو زنى العبد المؤجر حد وهل يغرب في الحال ويثبت للمستأجر الخيار أو يؤخر إلى مضي المدة وجهان حكاهما الدارمي
قال الأذرعي ويقرب أن يفرق بين مدة الإجارة وقصرها قال ويشبه أن يجيء ذلك في الأجير الحر أيضا اه
والأوجه كما قال شيخنا إنه لا يغرب إن تعذر عمله في الغربة كما لا يحبس لغريمه إن تعذر عمله في الحبس بل أولى لأن ذلك حق آدمي وهذا حق الله تعالى بخلاف المرأة إذا توجه عليها حبس فإنها تحبس ولو فات التمتع على الزوج لأنه لا نهاية له وقضية كلامهم إنه لا فرق فيما ذكر بين العبد والمسلم والكافر وهو كذلك وقول البلقيني لا حد على الرقيق الكافر لأنه يلتزم الأحكام بالذمة إذ لا جزية عليه فهو كالمعاهد والمعاهد لا يحد مردود لقول الأصحاب للكافر أن يحد عبده الكافر ولأن الرقيق تابع لسيده فحكمه حكمه بخلاف المعاهد ولأنه لا يلزم من عدم لزوم الجزية عدم الحد كما في المرأة الذمية ( ويثبت ) الزنا بأحد أمرين ( ببينة ) عليه وهي أربعة شهود لآية { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم }
تنبيه أطلق البينة ويشترط فيها التفصيل فتذكر بمن زنى لجواز أن لا حد عليه بوطئها والكيفية لاحتمال إرادة المباشر فيما دون الفرج وتتعرض للحشفة أو قدرها وقت الزنا فيقولون رأيناه أدخل ذكره أو قدر حشفته منه في فرج
____________________
(4/149)
فلانة على وجه الزنا
وينبغي كما قال الزركشي أن يقوم مقامه زنى بها زنا يوجب الحد إذا كانوا عارفين بأحكامه ويشترط تقديم لفظ أشهد على أنه زنى ويذكر الموضع فإنهم لو اختلفوا فيه بطلت الشهادة ( أو إقرار ) حقيقي ولو ( مرة ) لأنه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية بإقرارهما رواه مسلم
تنبيه أشار بقوله مرة إلى خلاف مذهب أبي حنيفة و أحمد حيث اعتبر الإقرار أربعا لحديث ماعز رضي الله عنه
وأجاب أئمتنا بأنه صلى الله عليه وسلم إنما كرره على ماعز في خبره لأنه شك في عقله ولهذا قال أبك جنون ولم يكرره في خبر الغامدية ويعتبر كون الإقرار مفصلا كالشهادة فلا يستوفي القاضي الحد بعلمه كما قاله المصنف في القضاء بخلاف سيد العبد فإنه يستوفيه من العبد بعلمه أما الإقرار التقديري وهو اليمين المردودة بعد نكول الخصم فلا يثبت به الزنا ولكن يسقط به الحد عن القاذف وأورد عن طريق آخر مختص بالمرأة وهو ما إذا قذفها الزوج ولاعن ولم تلاعن هي فإنه يجب عليها الحد كما ذكراه في بابه
فروع يكفي في ثبوت الحد إشارة الأخرى بالإقرار بالزنا وإن رئي رجل وامرأة أجنبيان تحت لحاف عزرا ولم يحدا ويقام الحد في دار الحرب إن لم يخف فتنة في نحو ردة المحدود والتحاقه بدار الحرب ويسن للزاني ولكل من ارتكب معصية الستر على نفسه لخبر من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد رواه الحاكم والبيهقي بإسناد جيد فإظهارها ليحد أو يعزر خلاف المستحب وأما التحدث بها تفكها لحرام قطعا للأخبار الصحيحة فيه
وأيضا فقد يسن له ذلك بترك الشهادة إن رآه مصلحة فإن تعلق بتركها إيجاب حد على الغير كأن شهد ثلاثة بالزنا أثم الرابع بالتوقف ويلزمه الأداء
أما ما يتعلق بحق آدمي كقتل أو قذف فإنه يستحب له بل يجب عليه أن يقر به ليستوفى منه لما في حقوق الآدميين من التضييق ويحرم العقو عن حد الله تعالى والشفاعة فيه لقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة لما كلمه في شأن المخزومية التي سرقت أتشفع في حد من حدود الله تعالى ثم قام فخطب فقال إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها رواه الشيخان
( ولو أقر ) بالزنا ( ثم رجع ) عنه ( سقط ) الحد عنه لأنه صلى الله عليه وسلم عرض لماعز بالرجوع بقوله لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت فلو لم يسقط به الحد لما كان له معنى ولأنهم لما رجموه قال ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعوا وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
فقال هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه
قال ابن عبد البر هذا أوضح دليل على أنه يقبل رجوعه لكن لو قتل بعد الرجوع لم يقتص من قاتله لاختلاف العلماء في سقوط الحد بالرجوع ويضمن بالدية كما قال ابن المقري لأن الضمان بها بجامع الشبهة ويحصل الرجوع بقوله كذبت أو رجعت عما أقررت به أو ما زنيت أو كنت فأخذت أو نحو ذلك وسواء رجع بعد الشروع في الحد أو قبله فإن رجع في أثنائه فكمل الإمام متعديا بأن كان يعتقد سقوطه بالرجوع فمات بذلك هل يجب عليه نصف الدية لأنه مات بمضمون وغيره أو توزع الدية على السياط قولان أقربهما كما قال شيخنا الثاني كما لو ضربه زائدا على حد القذف ويسن لمن أقر بزنا أو شرب مسكرا الرجوع كما يستتر ابتداء كما رجحه في الروضة
فروع لو قال زنيت بفلانة فأنكرت وقالت كان تزوجني فمقر بالزنا وقاذف لها فيلزمه حد الزنا وحد القذف فإن رجع سقط حد الزنا وحده وإن زنيت بها مكرهة لزمه حد الزنا لا القذف ولزمه لها مهر فإن رجع عن إقراره سقط الحد لا المهر لأنه حق آدمي ولو شهد بإقراره بالزنا فكذبهم لم يقبل تكذيبه لأنه تكذيب للشهود والقاضي ولو أقر بالزنا ثم شهد عليه أربعة بالزنا ثم رجع عن الإقرار هل يحد وجهان أحدهما يحد لبقاء حجة البينة كما لو شهد عليه ثمانية فرد أربعة وثانيهما لا إذ لا أثر للبينة مع الإقرار
وقد بطل ونقلهما الماوردي في ذلك وفي عكسه وقال الأصح عندي اعتبار أسبقهما وينبغي كما قال شيخي أن المعول على البينة حيث وجدت لأن البينة في هذا الباب أقوى كما أن الإقرار في المال أقوى إلا إذا أسند الحكم للإقرار فإنه يعمل به قدمت البينة عليه أو تأخرت
____________________
(4/150)
تنبيه قد يفهم كلام المصنف عدم سقوط الحد بعد ثبوته بالبينة وهو كذلك فلا يسقط بالرجوع كما لا يسقط هو ولا الثابت بالإقرار بالتوبة لكن استثنى منه صورتان الأولى ما إذا أقيمت عليه البينة ثم ادعى الزوجية كما نص عليه الشافعي قال الزركشي وما نقله عن الإمام في السرقة مما يخالفه مردود الثانية الإسلام فإذا ثبت زنا الذمي ببينة ثم أسلم سقط عنه الحد كما ذكره في زيادة الروضة آخر السير ( ولو قال ) المقر بالزنا ( لا تحدوني أو هرب ) من إقامة الحد ( فلا ) يسقط عنه ( في الأصح ) لأنه قد صرح بالإقرار ولم يصرح بالرجوع ولكن يكف عنه في الحال ولا ينبع فإن رجع فذاك وإلا حد وإن لم يكف عنه فمات فلا ضمان لأنه صلى الله عليه وسلم لم يوجب عليهم في قصة ماعز شيئا والثاني يسقط لإشعاره الرجوع
تنبيه لا يشترط حياة الشهود ولا حضورهم حالة الحكم ولا قرب عهد الزنا فتقبل الشهادة به وإن تطاول الزمان
ولما فرغ من مسقط الإقرار بالزنا شرع في مسقط البينة فقال ( ولو شهد أربعة ) من الرجال ( بزناها وأربع نسوة ) أو رجلان كما قال البلقيني أو رجل وامرأتان كما قاله غيره
( أنها عذراء ) بمعجمة أي بكر سميت بذلك لتعذر جماعها وصعوبته ( ولم تحد هي ) لشبهة بقاء العذرة والحد يدرأ بالشبهات لأن الظاهر من حالها أنها لم توطأ ( ولا قاذفها ) لقيام البينة بزناها واحتمال عود بكارتها لترك المبالغة في الافتضاض
قال البلقيني هذا إذا لم تكن غوراء يمكن تغييب الحشفة مع بقاء البكارة فإن كان كذلك حدت لثبوت الزنا وعدم التنافي اه
وتقدم الفرق بينه وبين التحليل أن التحليل مبني على تكميل اللذة ولا الشهود أيضا
لقوله تعالى { ولا يضار كاتب ولا شهيد } قال القاضي وتسقط حضانتها بلا خلاف
تنبيه ما أطلقه المصنف وغيره من عدم حذ قاذفها قيده القاضي الحسين بما إذا كان بين الشهادتين زمن بعيد يمكن عود العذرة فيه فإن شهدوا أنها زنت الساعة وشهدن بأنها عذراء وجب الحد ولو شهد عليها أربعة بالزنا وأربع بأنها رتقاء فلبس عليها حد الزنا ولا عليهم حد القذف لأنهم رموا من لا يمكن جماعه ( ولو عين شاهد ) من الأربعة ( زاوية ) من زوايا البيت ( لزناه و ) عين ( الباقون ) منهم زاوية ( غيرها لم يثبت ) أي الحد لأنهم لم يتفقوا على زنية واحدة فأشبه ما لو قال بعضهم زنى بالغداة وبعضهم بالعشي
تنبيه سكت المصنف عن سقوط الحد عن القاذف والظاهر كما قال الزركشي عدم سقوطه ويجب الحد على الشهود في الأظهر لأن عددهم لم يتم في زنية قال الزركشي ولا يبعد عدم الحد على الشهود إذا تقاربت الزوايا لإمكان الزحف مع دوام الإيلاج ( و ) بعد ثبوت حد الزنا ( يستوفيه الإمام ) الأعظم ( أو نائبه ) فيه ( من ) زان ( حر ) للاتباع ( و ) من ( مبعض ) لأنه لا ولاية للسيد على الحر منه والحد متعلق بجملته
تنبيه في معنى المبعض العبد الموقوف كله أو بعضه بناء على الأظهر أن الملك فيه لله تعالى وعبد بيت المال وعبد محجوره ومستولدة الكافر والعبد الموصى بإعتاقه إذا زنى بعد موت الموصى وقبل إعتاقه وهو يخرج من الثلث كما قاله البلقيني بناء على أن إكسابه له وهو المذهب ومعتبر الحرية حال الوجوب ولو زنى ذمي حر ثم نفض العهد واسترق أقام الإمام عليه الحد دون سيده كما في الروضة وأصلها وخرج بالإمام أو نائبه غيره فلو استوفى الجلد واحد من الناس لم يقع حدا ولزمه الضمان لأن الحد يخلف وقتا ومحلا فلا يقع حد إلا بإذن الإمام بخلاف القطع
قال ابن عبد السلام وإنما لم يفوض لأولياء المزني بها لأنهم قد لا يستوفونه خوفا من العار
قال القاضي ولا بد في إقامة الحدود من النية حتى لو ضرب لمصادرة أو غيرها وعليه حدود لم يحسب منها
وقال القفال لا يحتاج فيها إلى نية حتى
____________________
(4/151)
لو حد بنية الشرب فظهر أنه حده للزنا جاز لأنه لو أخطأ من يده اليمنى إلى اليسرى في السرقة أجزأ وعلى هذا لو أن الإمام جلد رجلا مائة ظلما فبان أن عليه حد الزنا سقط عنه كما لو قتل رجلا فبان أنه قاتل أبيه اه
والأشبه كما قال الأذرعي ما قاله القاضي في صور جلده ظلما
وأما ما قبلها فالإجزاء فيه ظاهر لأنه قصد الحد فلا عبرة بظنه أنه عن الشرب
فرع لو زنى الإمام الأعظم لم ينعزل ويقيم عليه الحد من ولى الحكم عنه كما قاله القفال ( ويستحب ) عند استيفاء الحد سواء أثبت بالبينة أم بالإقرار ( حضور الإمام و ) حضور ( شهوده ) أي الزنا إن ثبت بهم للخروج من خلاف أبي حنيفة فإنه قال بوجوب حضورهم لنا أنه صلى الله عليه وسلم رجم الغامدية وماعزا ولم يحضرهما وقال لأنيس فإن اعترفت فارجمها ولم يقل فأعلمني حتى أحضر ولا قال له أحضر معك جمعا وقياسا على الجلد ويسن حضور جمع من الرجال المسلمين الأحرار لقوله تعالى { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين }
قال الشافعي رضي الله عنه وأقلهما أربعة عدد شهود الزنا والسنة أن يبدأ الإمام بالرجم ثم الناس إن ثبت بالإقرار وإن ثبت بالبينة بدأ به الشهود ثم الإمام ثم الناس
قال الماوردي وتعرض عليه التوبة قبل رجمه لتكون خاتمة أمره فإن حضر وقت صلاة أمر بها وإن تطوع مكن من ركعتين وإن استسقى ماء سقي وإن استطعم لم يطعم لأن الشرب لعطش سابق والأكل لشبع مستقبل ( ويحد الرقيق سيده ) بنفسه أو نائبه إذا كان عالما بقدر الحد وكيفيته وإن لم يأذن له الإمام لخبر أبي داود أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم وفي خبر الصحيحين إذا زنت أمة أحدكم فليحدها ولا يثرب عليها بالمثلثة أي لا يوبخها ولا يعيرها وقيل لا يبالغ في جلدها حتى يدميها ويسن للسيد أن يبيع الأمة إذا زنت ثالثة لخبر ورد بذلك ويجب عليه أن يبين ذلك لمشتريها
تنبيه لو كان السيد امرأة هل تقيمه هي أو وليها أو السلطان فيه أوجه
أصحها أولها كما شمله إطلاق المصنف ويستثنى من إطلاقه السفيه فلا يقيم الحد على رقيقه كما قاله الزركشي لخروجه عن أهلية الاستصلاح والولاية وشمل إطلاقه الحد حد الزنا وباقي الحدود حتى القطع وقتل الردة والمحاربة وهو الأصح لإطلاق الخبر السابق ولو كان الرقيق مشتركا حده ملاكه بتوزيع السياط على الملك ويفوض المنكسر إلى أحدهم أو غيرهم وفي جواز إقامة الولي من أب وجد وحاكم ووصي وقيم في رقيق المولى عليه من طفل وسفيه ومجنون وجهان قال في أصل الروضة ويشبه أن يقال إن قلنا الحد إصلاح فله إقامته أو ولاية ففيه الخلاف وقضيته ترجيح الجواز
قال ابن عبد السلام في قواعده وإنما يقيم السيد الحد على عبده إذا لم يكن بينهما عداوة ظاهرة
قال الزركشي ويشكل بما إذا كان المقذوف السيد فإنهم أجازوا له استيفاءه ( أو ) يحده ( الإمام ) لعموم ولايته فأيهما فعل وقع الموقع ولكن السيد أولى كما صححه في زيادة الروضة لثبوت الحديث فيه ولأنه أستر
تنبيه العبرة بكونه سيدا حال إقامة الحد فإذا زنى الرقيق فباعه سيده كان إقامة الحد لمشتريه ( فإن تنازعا ) أي الإمام والسيد في حد الرقيق ( فالأصح ) من احتمالات للإمام يحده ( الإمام ) الأعظم أو نائبه لعموم ولايته
والثاني السيد لغرض إصلاح ملكه
والثالث إن كان جلدا فالسيد أو قطعا أو قتلا فالإمام
تنبيه يستثنى من إطلاقه ما لو زنى ذمي ثم نقض العهد ثم استرق فإن الحد إنما يقيمه عليه الإمام لأنه لم يكن مملوكا يومئذ
فإن قيل قد مر أن الرقيق لو زنى ثم باعه سيده كان للمشتري إقامة الحد عليه ولم يكن مملوكا له حال الزنا فالعبرة بحالة الاستيفاء
أجيب بأن استيفاء الحد هنا يثبت للإمام أولا واسترقاقه بعد ثبوته لا يمنع استيفاءه لأنه لم يثبت لسيده ابتداء وأما فيما مر فثبت للسيد وهو للاستصلاح ولا وجه لإقامة البائع الحد عليه لخروجه عن ملكه فصار الاستيفاء مترددا بين الإمام والمشتري ( و ) الأصح ( أن السيد يغربه ) كما يجلده لاندراجه في خبر
____________________
(4/152)
أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم والثاني لا لعدم ذكره في الحديث المار فإنه ذكر فيه الجلد فقط وأجاب الأول بأن سكوته في الحديث لا ينافيه وقد ثبت ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه
تنبيه مؤنة تغريب الرقيق في بيت المال فإن فقد فعلى السيد وعليه مؤنته في زمن التغريب وقيل في بيت المال ( و ) الأصح ( أن ) الزاني ( المكاتب ) بفتح المثناة ( كحر ) فلا يستوفيه إلا الإمام لخروجه عن قبضة السيد بالكتابة الصحيحة
والثاني أنه كالقن لأنه عبد ما بقي عليه درهم وعلى الأول لو عجز فرق قبل استيفاء الحد هل للسيد الاستيفاء أو لا فيه نظر يعرف مما مر فيما إذا زنى الذمي ثم نقض العهد واسترق
أما المكاتب كتابة فاسدة فكالقن ( و ) الأصح ( أن ) السيد ( الفاسق والكافر والمكاتب ) بفتح المثناة ( يحدون عبيدهم ) لعموم أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم وهذا مبني على أن السيد يقيم الحد على عبده بطريق الملك لغرض الاستصلاح كالقصد والحجامة وهو الأصح
والثاني لا بناء على أنه يقيمه بالولاية وليسوا من أهلها
تنبيه سكت المصنف عن السيد المبعض ويؤخذ من توجيه الأول أنه كالمكاتب بل أولى وإن خالف في ذلك البلقيني وقال قضية النص المنع ومحل الخلاف في الكافر إذا كان عبده كافرا
أما إذا كان مسلما فليس له إقامة الحد عليه بحال كما صرح به ابن كج
وقال الأذرعي إنه الأصح المختار ( و ) الأصح ( أن السيد يعزر ) رقيقه والثاني لا لأنه غير مضبوط فاختص بالإمام لأنه يحتاج إلى نظر واجتهاد
تنبيه محل الخلاف في حقوق الله تعالى أما حقوق نفسه وكذا حقوق غيره فيستوفيها قطعا ( و ) الأصح أن السيد ( يسمع البينة ) على رقيقه ( بالعقوبة ) لأنه يملك إقامة الحد فملك سماع البينة به كالإمام
والثاني لا لأن سماعها مختص بالحكام وعلى الأول له النظر في تزكية البينة ولا بد كما في الروضة وأصلها من علمه بصفات الشهود وأحكام الحدود وإن كان جاهلا بغيرها فلو سمع البينة بزناه عالما بأحكامها أو قضى بما شاهده من زناه جاز وخرج بكونه عالما بأحكام البينة ما لو لم يكن عالما بها فلا يسمعها لعدم أهليته لسماعها وقضيته أنه ليس للمكاتب والكافر والفاسق والمرأة سماعها لعدم أهليتهم لسماعها فلا يحدون ببينة بل بإقرار أو بمشاهدة منهم
وقال الأذرعي ويشبه أن يختص سماع البينة وجرحها وتعديلها بالرجل العدل لا مطلقا
وقال الزركشي إطلاق المصنف السيد هنا بعد ذكره الكافر والمكاتب يوهم طرد ذلك فيهم وهو ممنوع وقد صرح الرافعي وغيره باعتبار الأهلية في سماع البينة وعلى هذا فيخرج الفاسق والمكاتب اه
وقال شيخي المراد يكون فيه أهلية سماع البينة أن يعرف أحكام الحدود وصفات الشهود وعلى هذا فيسمعها الفاسق وغيره وهو ظاهر كلام الشيخين
تنبيه هل للسيد أن يتولى لعان عبده فيما إذا قذف زوجته المملوكة لسيده بأن يلاعن بينهما وجهان أظهرهما الجواز كما هو قضية كلام أصل الروضة
ثم أخذ في كيفية استيفاء الحد والآلة التي يرجم بها فقال ( والرجم ) للمحصن إلى موته ( بمدر ) أي طين متحجر ( وحجارة معتدلة ) أي ملء الكف كما اختاره الماوردي لا بحصيات خفيفة لئلا يطول تعذيبه ولا بصخرات تذففه فيفوت التنكيل المقصود كذا قالاه تبعا للإمام و الغزالي
ونازع في ذلك البلقيني وقال يرمي بالخفيف والثقيل على حسب ما يجده الرامي وأطال في ذلك
والاختيار في حجر الرمي كما قال الماوردي أن يكون ملء الكف
تنبيه جميع بدن المحصن محل للرجم المقاتل وغيرها
لكن يختار كما قاله بعض المتأخرين أن يتوقى الوجه
ويكون موقف الرامي بحيث لا يبعد عنه فيخطئه ولا يدنو منه فيؤلمه
قال والأولى لمن حضره أن يرجمه إن رجم بالبينة وأن يمسك عنه إن رجم بالإقرار
قال وينبغي أي يجب أن يستر عورة الرجل وجميع بدن الحرة عند الرجم ولا يربط ولا يقيد ( ولا يحفر للرجل ) عند رجمه سواء أثبت زناه ببينة أم بإقرار كما في الروضة وأصلها
وفصل الماوردي والشيخ
____________________
(4/153)
أبو إسحق بين أن يثبت زناء ببينة فيسن أن يحفر له حفرة ينزل فيها إلى وسطه لتمنعه من الهرب أو بإقرار فلا يسن ( والأصح استحبابه ) أي الحفر ( للمرأة ) إلى صدرها ( إن ثبت ) زناها ( ببينة ) لئلا تنكشف والظاهر من الشهود عدم الرجوع بخلاف ما إذا ثبت بالإقرار ليمكنها الهرب إن رجعت والثاني يحفر لها مطلقا فقد ثبت الحفر في قصة الغامدية مع أنها كانت مقرة
وأجاب الأول بأن ذلك فعل بيانا للجواز ( ولا يؤخر ) الرجم ( لمرض وحر وبرد مفرطين ) سواء أثبت زناه ببينة أم بإقرار لأن النفس مستوفاة ولا فرق بينه وبين الصحيح ( وقيل يؤخر إن ثبت بإقرار ) كما نص عليه في الأم وصححه جمع منهم صاحب التنبيه و القاضي الحسين لأن الظاهر رجوعه للندب إليه
تنبيه كلام المصنف يقتضي وجوب التأخير على هذا الوجه
وقال البلقيني إنما هو مستحب قال ولم أر من تعرض له هنا وتعرضوا له في الجلد اه
ويجب التأخير في صورتين إحداهما الحامل فتؤخر إلى الوضع وانقضاء مدة الرضاع كما ذكره المصنف في باب استيفاء القصاص سواء أكان الحمل من زنا أم من غيره
الثانية إذا أقر بالزنا ثم جن لا يحد في جنونه بل يؤخر حتى يفيق لأنه قد يرجع بخلاف ما لو ثبت بالبينة ثم جن قاله الرافعي في باب الردة ( ويؤخر الجلد ) وإن لم يهلك غالبا ( لمرض ) يرجى برؤه كالحمى والصداع لأن المقصود الردع لا القتل وقد يفضى الجلد حينئذ إلى القتل
تنبيه في معنى المرض النفاس ومن به جرح أو ضرب وكذا الحامل كما نص عليه في المختصر ( فإن لم يرج برؤه ) منه لزمانة أو كان نضوا ( جلد ) ولا يؤخر إذ لا غاية تنتظر لكن ( لا بسوط ) لئلا يهلك ( بل بعثكال ) وهو الذي يكون فيه البلح بمنزلة العنقود من الكرم ( عليه مائة غصن ) وهي الشماريخ بضرب به مرة إذا كان حرا لما رواه أبو داود عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض الصحابة أن رجلا منهم اشتكى حتى أضنى فعاد جلده على عظمه فوقع على جارية لبعضهم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له شمراخا فيضربوه بها ضربة واحدة ( فإن كان ) عليه ( خمسون ) غصنا ( ضرب به مرتين ) لتكمل المائة وإن كان رقيقا ضرب مرة واحدة وعلى هذا القياس
تنبيه العثكال بكسر العين وفتحها ويقال عثكول بضم العين وإثكال بإبدالها همزة مع ضم الهمزة وكسرها ولا يطلق إلا على شمراخ النخل ما دام رطبا أما إذا يبس فهو عرجون ولا يتعين العثكال بل يضرب به أو بالنعال أو بأطراف الثياب كما صرح به في أصل الروضة وإن نازع البلقيني في الضرب بالنعال ( وتمسه ) أي المجلود ( الأغصان ) جميعها ( أو ينكبس بعضها على بعض ليناله بعض الألم ) لئلا تبطل حكمة الحد فإذا انتفى ذلك أو شك فيه لم يسقط الحد فإن قيل قد اكتفوا في الأيمان بالضرب غير المؤلم فهلا كان كذلك أجيب بأن الأيمان مبنية على العرف والضرب غير المؤلم يسمى ضربا والحدود مبنية على الزجر وهو لا يحصل إلا بالإيلام ( فإن برأ ) بفتح الراء المجلود بعد أن ضرب بما ذكر ( أجزأه ) الضرب ولا يعاد به
فإن قيل المغصوب إذا حج عنه ثم شفي وجب عليه إعادته فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن الحدود مبنية على الدرء فإن برىء قبل ذلك حد حد الأصحاء أو في الأثناء كمل حد الأصحاء واعتد بما مضى كما بحثه الزركشي وهو نظير ما لو قدر في أثناء الصلاة على القيام فلو ضرب بما ذكر من يرجى برؤه فبرأ لم يجزه ويخير من له حد قذف على مريض بين الضرب بعثكال ونحوه وبين الصبر إلى برئه كما جرى عليه ابن المقري تبعا للإسنوي وقيل يجلد بالسياط سواء أرجى برؤه أم لا لأن حقوق الآدميين مبنية على المضايقة ورجحه في أصل الروضة في استيفاء القصاص وأسقطه ابن المقري هناك
____________________
(4/154)
وقال الزركشي أنه خلاف المنصوص عليه في الأم ( ولا جلد في ) مرض أو ( حر وبرد مفرطين ) أي شديدين بل يؤخر إلى البرء واعتدال الوقت خشية الهلاك وكذا القطع في السرقة بخلاف القصاص وحد القذف
تنبيه لو كان في بلاد لا ينفك حرها أو بردها لم يؤخر ولم ينقل إلى البلاد المعتدلة كما قاله الماوردي و الروياني لما فيه من تأخير الحد ولحوق المشقة وقوبل إفراط الحر والبرد بتخفيف الضرب ليسلم من القتل كما في المرض الملازم ( وإذا جلد الإمام في مرض أو حر وبرد ) مفرطين فمات المجلود سراية ( فلا ضمان على النص ) في الأم لأن التلف حصل من واجب أقيم عليه
لفإن قيل لو ختنه في حر أو برد مفرط ضمن كما نص عليه في المختصر فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن الجلد ثبت بالنص والختان بالاجتهاد فأشبه التعزير واقتصار المصنف على عدم الضمان في الحر والبرد والمرض قد يشعر بوجوبه إذا كان الزاني نضو الخلق لا يحتمل السياط فجلده بها فمات وهو الظاهر كما قاله الزركشي لأن جلد مثله بالعثكال لا بالسياط وحكي في الكفاية عن القاضي أبي الطيب عدم الضمان وخرج بالإمام السيد فلا يضمن رقيقه جزما ( فيقتضي ) نص الأم ( أن التأخير مستحب ) وهو ما قاله الإمام لكن صحح في زيادة الروضة وجوب التأخير سواء أقلنا بالضمان أم لا
قال الأذرعي وهو المجزوم به في الحاوي والمهذب وغيرهما
خاتمة للمقتول حدا بالرجم أو غيره حكم موتى المسلمين من غسل وتكفين وصلاة وغيرها كتارك الصلاة إذا قتل ولأنه صلى الله عليه وسلم صلى على الجهنية وأمر بالصلاة على الغامدية ودفنها وفي رواية صلى هو عليها أيضا
كتاب حد القذف وهو بمعجمة لغة الرمي والمراد به هنا الرمي بالزنا في معرض التعيير ليخرج الشهادة بالزنا فلا حد فيها إلا أن يشهد به دون أربعة كما سيأتي وهو من الكبائر الموبقات ففي الحديث من السبع الموبقات قذف المحصنات سواء في ذلك الرجل والمرأة
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قذف المحصنة يحبط عمل مائة سنة واستغنى المصنف ببيان القذف في اللعان عن إعادته هنا
والحد شرعا عقوبة مقدرة وجبت حقا لله تعالى كما في الزنا أو لآدمي كما في القذف
وسميت الحدود حدودا لأن الله تعالى حدها وقدرها فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها
قال الله تعالى { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } وقيل سميت بذلك لأن الحد في اللغة المنع وهي تمنع من الإقدام على الفواحش
والأصل في الباب قوله تعالى { والذين يرمون المحصنات } الآية وصح أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت براءة عائشة رضي الله تعالى عنها جلد من قذفها والحكمة في وجوب الحد بالقذف دون التساب بالكفر أن المسبوب بالكفر قادر على أن ينفي عنه ذلك بكلمة الشهادتين بخلاف الزاني فإنه لا يقدر على نفي الزنا عنه وللقاذف شروط ذكرها المصنف بقوله ( شرط حد القاذف ) أي المحدود بسبب القذف ( التكليف ) فلا حد على صبي ومجنون لرفع القلم عنهما وعدم حصول الإيذاء بقذفهما وزاد على المحرر قوله ( إلا السكران ) فإنه مستثنى عنده من التكليف ومع ذلك يحد ولم يذكره في الروضة هذا وقد مر الكلام على ذلك في كتاب الطلاق ( والاختيار ) فلا حد على مكره بفتح الراء لرفع القلم عنه ولأنه لم يقصد الأذى بذلك لإجباره عليه ولا على مكره بكسرها والفرق بينه وبين القتل أنه يمكنه جعل يد المكره كالآلة له بأن يأخذ يده فيقتل بها ولا يمكنه أن يأخذ لسان غيره فيقذف به
____________________
(4/155)
تنبيه سكت عن شروط أخر وهي التزام الأحكام والعلم بالتحريم وعدم إذن المقذوف وأن يكون غير أصل فلا حد على حربي لعدم التزامه الأحكام ولا جاهل بالتحريم لقرب عهده بالإسلام أو بعده عن العلماء ولا على من قذف غيره بإذنه كما نقله الرافعي عن الأكثرين وإن ادعى الإمام أن الجماهير أجمعوا على حده كما لو قال اقطع يدي فقطعها لا يجب ضمانها ولا على أصل كما سيأتي
ويسقط أيضا حد القاذف بإقامة البينة بزنا المقذوف وبإقراره وبعفوه وباللعان في حق الزوجة ( ويعزر ) القاذف ( المميز ) من صبي أو مجنون له نوع تمييز كما جزم به في الروضة للزجر والتأديب فإن لم يعزر الصبي حتى بلغ سقط لأنه كان للزجر والتأديب وقد حدث سبب أقوى منه وهو التكليف كما قالاه في اللعان وقياسه كما قال الزركشي أن يكون المجنون إذا أفاق كذلك ( ولا يحد ) الأصل ولو أنثى ( بقذف الولد وإن سفل ) كما لا يقتل به
تنبيه اقتصاره على نفي الحد يقتضي أنه يعزر وهو المنصوص للإيذاء
فإن قيل قد قالوا في كتاب الشهادات أن الأصل لا يحبس في وفاء دين فرعه مع أن الحبس تعزير
أجيب بأن حبسه للدين قد يطول زمنه فيشق عليه بخلاف التعزير هنا فإنه قد يحصل بقيام من مجلس ونحوه وحيث ثبت فهو لحق الله تعالى لا لحق الولد وكما لا يحد بقذف ولده لا يحد بقذف من ورثه الولد ولم يشاركه فيه غيره كما لو قذف امرأة له منها ولد ثم ماتت لأنه إذا لم يثبت له ابتداء لم يثبت له انتهاء كالقصاص فإن شاركه فيه غيره كأن كان لها ولد آخر من غيره كان له الاستيفاء لأن بعض الورثة يستوفيه جميعها
قاذفا لأمه
قال الدميري وهذه مسألة حسنة ذكرها ابن الصلاح في فتاويه بحثا من قبل نفسه وكأنه لم يطلع فيها على نقل
وزاد أنه يعزر للمشتوم
قال الشيخ عز الدين لو قذف شخص آخر في خلوة بحيث لا يسمعه إلا الله والحفظة لم يكن كبيرة موجبة للحد لخلوه عن مفسدة الإيذاء ولا يعاقب في الآخرة إلا عقاب من كذب كذبا لا ضرورة فيه
فائدة اختار المصنف و الغزالي أن الغيبة بالقلب إذا أدركها الملكان الحافظان كما لو تلفظ بها ويدركان ذلك بالشم ولعل هذا فيما إذا صمم على ذلك وإلا فما يخطر على القلب مغفور وإذا عرف شرط حد القذف ( فالحر ) القاذف حده ( ثمانون ) جلدة لآية { فاجلدوهم ثمانين جلدة } إذ المراد فيها الأحرار لقوله تعالى فيها { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } لأن العبد لا تقبل شهادته وإن لم يقذف ( والرقيق ) القاذف والمكاتب والمدبر وأم الولد والمبعض حد كل منهم ( أربعون ) جلدة على النصف من الحر بالإجماع وهذا من أمثلة تخصيص القرآن بالإجماع
تنبيه محل كون حده أربعين إذا قذف في حال رقه فلو قذف وهو حر ملتزم ثم التحقيق بدار الحرب واسترق فحده ثمانون اعتبارا بحال القذف ( و ) شرط ( المقذوف ) أي الذي يحد قاذفه ( الإحصان ) أي كونه محصنا لقوله تعالى { والذين يرمون المحصنات } فقيد إيجاب الثمانين بذلك ( وسبق في ) كتاب ( اللعان ) بيان ما يحصل به الإحصان وبيان شرط المقذوف فلا حاجة لذكره هنا ( ولو شهد ) في مجلس الحكم ( دون أربعة ) من الرجال ( بزنا حدوا في الأظهر ) لأن عمر رضي الله تعالى عنه حد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا كما ذكره البخاري في صحيحه ولم يخالفه أحد ولئلا يتخذ صورة الشهادة ذريعة إلى الوقيعة في أعراض الناس
والثاني المنع لأنهم جاءوا شاهدين لا هاتكين
تنبيه محل الخلاف إذا شهدوا في مجلس أما لو شهدوا والقاضي في غيره فقاذفون جزما وإن كان بلفظ الشهادة كما صرح به في الوجيز وغيره
فرع لو شهد الزوج بزنا زوجته كان قاذفا لها فيحد حد القذف لأن شهادته بزنا غير مقبولة للتهمة
____________________
(4/156)
وعلى هذا لو شهد عليها دون أربعة حدوا لأنهم قذفة ( وكذا أربع نسوة وعبيد وكفرة ) أهل ذمة فإنهم في كل من المسائل الثلاث يحدون ( على المذهب ) لأنهم ليسوا من أهل الشهادة فلم يقصدوا إلا القذف
والطريق الثاني في حدهم القولان تنزيلا لنقص الصفة منزلة نقص العدد
تنبيه محل الخلاف كما قال الإمام إذا كانوا في ظاهر الحال بصفة الشهود ثم بانوا كفارا أو عبيدا لأن القاضي إذا علم حالهم لا يصغي إليهم فيكون قولهم قذفا محصنا قطعا لأنه ليس في معرضه شهادة
فروع لو شهد أربعة بالزنا وردت شهادتهم بفسق ولو مقطوعا به كالزنا وشرب الخمر لم يحدوا وفارق ما مر في نقص العدد بأن نقص العدد متيقن وفسقهم إنما يعرف بالظن والاجتهاد والحد يدرأ بالشبهة ولو شهد دون أربعة بالزنا فحدوا وعادوا مع رابع لم تقبل شهادتهم كالفاسق ترد شهادته ثم يتوب ويعيدها لم تقبل ولو شهد بالزنا عبيد وحدوا فعادوا بعد العتق قبلت لعدم اتهامهم ولو شهد به خمسة فرجع واحد منهم عن شهادته لم يحد لبقاء النصاب أو اثنان منهم حدا لأنهما ألحقا به العار دون الباقين لتمام النصاب عند الشهادة مع عدم تقصيرهم ولو رجع واحد من أربعة حد وحده دون الباقين لما ذكر ( ولو شهد واحد على إقراره ) بزنا ( فلا ) حد عليه جزما لأن من قال لغيره قد أقررت بأنك زنيت وهو في معرض القذف والتعبير لا حد عليه فكذا هنا
تنبيه شاهد الجرح بالزنا ليس بقاذف للحاجة وإن لم يوافقه غيره كما صوبه المصنف خلافا للرافعي حيث جعل عدم موافقة غيره كنقص العدد ( ولو تقاذفا ) أي قذف كل من شخصين صاحبه ( فليس ) ذلك ( تقاصا ) فلا يسقط حد هذا الحد هذا بل لكل منهما أن يحد الآخر لأن التقاص إنما يكون عند اتفاق الجنس والصفة والحدان لا يتفقان في الصفة إذ لا يعلم التساوي لاختلاف القاذف والمقذوف في الضعف والقوة والخلقة غالبا ( ولو استقل المقذوف بالاستيفاء ) للحد من قاذفه ولو بإذنه ( لم يقع الموقع ) على الصحيح لأن إقامة الحد من منصب الإمام فيترك حتى يبرأ ثم يحد واستثنى من ذلك صورتان الأولى لو قذف العبد سيده فله أن يحده كما صرحا به آخر باب الزنا
والثانية إذا بعد عن السلطان في بادية وقدر على الاستيفاء بنفسه من غير تجاوز جاز كما قاله الماوردي خاتمة إذا سب إنسان إنسانا جاز للمسبوب أن يسب الساب بقدر ما سبه لقوله تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها }
ولا يجوز أن يسب أباه ولا أمه
وروي أن زينب لما سبت عائشة قال لها النبي صلى الله عليه وسلم سبيها كذا رواه أبو داود
وفي سنن ابن ماجة دونك فانتصري فأقبلت عليها حتى يبس ريقها في فيها فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم
وإنما يجوز السب بما ليس كذبا ولا قذفا كقوله يا ظالم يا أحمق لأن أحدا لا يكاد ينفك عن ذلك وإذا انتصر بسبه فقد استوفى ظلامته وبرىء الأول من حقه وبقي عليه أثم الابتداء أو الإثم لحق الله تعالى ويجوز للمظلوم أن يدعو على ظالمه كما قاله الجلال السيوطي في تفسير قوله تعالى { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } قال بأن يخبر عن ظلم ظالمه ويدعو عليه اه
ويخفف عن الظالم بدعاء المظلوم لما رواه أحمد في كتاب الزهد عن عمر بن عبد العزيز أنه قال بلغني أن الرجل ليظلم مظلمة فلا يزال المظلوم يشتم الظالم وينقصه حتى يستوفي حقه
وفي الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من دعا على من ظلمه فقد استنصر وفي كتاب اللطائف للقاضي أبي يوسف أن امرأة من بني إسرائيل كانت صوامة قوامة سرقت لها امرأة دجاجة فنبت ريش الدجاجة في وجه السارقة وعجزوا عن إزالته عن وجهها فسألوا عن ذلك بعض علمائهم فقالوا لا يزول هذا الريش إلا بدعائها عليها قال فأتتها عجوز وذكرتها بدجاجتها فلم تزل بها إلى أن دعت على سارقها دعوة فسقط من وجهها ريشة فلم تزل تكرر ذلك حتى سقط جميع الريش واختلف العلماء في التحليل من الظلامة على ثلاثة أقوال أي هل الأفضل التحليل أو لا فكان ابن المسيب لا يحلل أحدا من عرض ولا مال وكان سليمان بن يسار وابن سيرين يحللان منهما ورأى مالك التحليل
____________________
(4/157)
من العرض دون المال ولو سمع الإمام رجلا يقول زنيت برجل لم يقم عليه الحد لأن المستحق مجهول ولا يطالبه بتعييته لأن الحد يدرأ بالشبهة وإن سمعه يقول زنى فلان لزمه أن يعلم المقذوف في أصح الوجهين لأنه ثبت له حق لم يعلم فعلى الإمام إعلامه كما لو ثبت له عنده مال لم يعلم به
كتاب قطع السرقة لو قال كتاب السرقة كما فعل في الزنا لكان أخصر وأعم لتناوله أحكام نفس السرقة وهي بفتح السين وكسر الراء ويجوز إسكانها مع فتح السين وكسرها ويقال أيضا السرق بكسر الراء لغة أخذ المال خفية وشرعا أخذه خفية ظلما من حرز مثله بشروط تأتي والأصل في القطع بها قبل الإجماع قوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } والأخبار الشهيرة ولما نظم أبو العلاء المعري البيت الذي شكك على الشريعة في الفرق بين الدية والقطع في السرقة وهو يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار أجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله وقاية النفس أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري وهو جواب بديع مع اختصار ومعناه أن اليد لو كانت تودى بما قطع فيه لكثرت الجنايات على الأطراف لسهولة الغرم في مقابلتها فغلظ الغرم حفظاها
وقال ابن الجوزي لما سئل عن هذا لما كانت أمينة كانت ثمينة فلما خانت هانت
وأركان القطع ثلاثة مسروق وسرقة وسارق وبدأ بشروط الأول فقال ( يشترط لوجوبه ) أي القطع ( في المسروق أمور ) الأول ( كونه ربع دينار ) فأكثر ولو كان الربع لجماعة لخبر مسلم لا تقطع يد سارق إلا في ربع دينار فصاعدا
ثم وصف ربع الدينار بكونه ( خالصا ) لأن الربع المغشوش ليس بربع دينار حقيقة فإن كان في المغشوش ربع خالص وجب القطع
ونبه بقوله ( أو قيمته ) على أن الأصل في التقويم هو الذهب الخالص حتى لو سرق دراهم أو غيرها قومت به ويعتبر النصاب وقت إخراجه من الحرز فلو نقصت قيمته بعد ذلك لم يسقط القطع
وقال ابن بنت الشافعي يقطع بسرقة القليل ولا يشترط النصاب لعموم الآية وفي الصحيح لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده
وأجيب عن الآية بأنها مخصوصة بالحديث المار وعما في الصحيح بأجوبة أحدها ما قاله الأعمش كانوا يرون أنها بيضة الحديد والحبل يساوي دراهم كحبل السفينة ورواه البخاري عنه
الثاني حمله على جنس البيض والحبال
الثالث أن المراد أن ذلك يكون سببا وتدريجا من هذا إلى ما تقطع فيه يده
تنبيه يعتبر في التقويم القطع مع أن الشهادة لا تقبل وإن كان مستندها الظن ( و ) على أن التقويم يعتبر بالمضروب ( لو سرق ربعا ) من دينار ( سبيكة ) هو صفة ربعا على تأويل بمسبوكا وبذلك اندفع ما قيل إنه لا يصح أن يكون صفة لربعا لاختلافهما بالتذكير والتأنيث أو حليا أو نحوه كقراضة ( لا يساوي ربعا مضروبا فلا قطع ) به ( في الأصح ) وإن ساواه غير مضروب لأن المذكور في الخبر لفظ الدينار وهو اسم لمضروب والثاني ينظر إلى الوزن فيقطع ولا حاجة لتقويمه لبلوغ عين الذهب قدر النصاب كما في الزكاة
قال الأذرعي وهذا قول الجمهور
وقال البلقيني إنه ظاهر نصوص الشافعي
وقال الشيخ أبو حامد لا يختلف فيه المذهب ومع هذا فالمعتمد ما جرى عليه
____________________
(4/158)
المصنف هنا وجرى عليه في الروضة وإن لم يصرح الرافعي في الشرحين بترجيح
ويتفرع على الخلاف ما لو سرق خاتما وزنه دون ربع وقيمته بالصنعة تبلغ ربعا وقضية ترجيح الكتاب وجوب القطع في هذه الصورة لكن قال في أصل الروضة الصحيح أنه لا يقطع مع تصحيحه في مسألة الكتاب عدم القطع
قال الإسنوي وهذا غلط فاحش لأنه سوى بين هذه والتي قبلها في تصحيح عدم القطع ثم عقبه بقوله والخلاف في المسألتين راجع إلى أن الاعتبار بالوزن أو بالقيمة وهو لا يستقيم
وقال البلقيني ليس بغلط بل فقه مستقيم وإن لم يعطه كلام الرافعي
فإن الوزن في الذهب لا بد منه وهل يعتبر معه إذا لم يكن مضروبا أن تبلغ قيمته ربع دينار مضروب فيه الخلاف الذي في السبيكة فأما إذا نقص الوزن ولكن قيمته تساوي ربع دينار مضروب فهذا يضعف فيه الاكتفاء بالقيمة فاستقام ما في الروضة وما ذكره الرافعي فيه إلباس وكان اللائق أن ينبه عليه صاحب الروضة اه
وبذلك علم كما قال شيخنا أنه لا بد في المسألتين من اعتبار الوزن والقيمة
تنبيه لو لم تعرف قيمة المسروق بالدنانير قوم بالدراهم ثم قومت الدراهم بالدنانير قاله الدارمي فلو لم يكن في مكان السرقة دنانير قال الزركشي فالمتجه اعتبار القيمة في أقرب البلاد إليه وقضية كلامهم أن سبيكة الذهب تقوم بالدنانير وإن كان فيه تقويم ذهب بذهب خلافا للدارمي في قوله يقوم بالدراهم ثم الدراهم بالدنانير ويراعى في القيمة المكان والزمان لاختلافها بهما ولو كان في البلد نقدان خالصان من الذهب وتفاوتا قيمة اعتبرت القيمة بالأغلب منهما في زمان السرقة فإن استويا استعمالا فبأيهما يقوم وجهان أحدهما بالأدنى اعتبارا بعموم الظاهر والثاني بالأعلى في المال دون القطع للشبهة
نقل ذلك الزركشي عن الماوردي واستحسنه وأطلق الدارمي أن الاعتبار بالأدنى ولا يشترط علم السارق بلوغ ما يسرقه نصابا
( و ) حينئذ ( لو سرق دنانير ظنها فلوسا لا تساوي ) أي لا تبلغ قيمتها ( ربعا ) من دينار ( قطع ) لأنه قصد سرقة عينها وهي تساوي ربعا ولوجود الاسم ولا عبرة بالظن البين خطؤه
فإن قيل لو سرق من دار وهو ظنها له والمال ملكه فبان خلافه فإنه لا قطع كما قاله الغزالي ورجحه فهلا ألحقت هذه الصورة بما في المتن كما قال به في التهذيب
أجيب بأن ظن الملك شبهة والحد يدرأ بها بخلاف الفلوس فإنه قصد السرقة بخلاف ما لو سرق فلوسا ظنها دنانير ولو لم تبلغ قيمة الفلوس نصابا فإنه لا قطع جريا مع الاسم وجودا وعدما ( وكذا ثوب رث ) بمثلثة فيهما قيمته دون ربع ( في جيبه تمام ربع جهله ) السارق يقطع به ( في الأصح ) لأنه أخرج نصابا من حرز على قصد السرقة
والجهل بحبس المسروق لا يؤثر كالجهل بصفته والثاني لا يقطع نظرا إلى الجهل
( ولو أخرج نصابا من حرز ) في ( مرتين ) مثلا كل منهما دون نصاب بأن أخرج مرة بعضه ومرة باقيه ( فإن تخلل ) بينهما ( علم المالك وإعادة الحرز ) بأن أعاده المالك بنفسه أو مأذونه كما يؤخذ من عبارة الروضة بإغلاق بابه أو سد نقبه أو نحوه ( فالإخراج الثاني سرقة أخرى ) فلا قطع لأن كل واحدة منفصلة عن الأخرى ولم تبلغ نصابا ( وإلا ) بأن لم يتخلل علم المالك ولم يعد الحرز بأن انتفيا ( قطع في الأصح ) وإن اشتهر هتك الحرز خلافا للبلقيني إبقاء للحرز بالنسبة للآخذ لأنه أخرج نصابا كاملا من حرز مثله فأشبه ما إذا أخرجه دفعة واحدة لأن فعل الشخص ينبني على فعله ولهذا لو جرح شخصا ثم قتله دخل الأرش في دية النفس ولو جرح واحد وقتل آخر لم يدخل
والثاني لا قطع لأنه أخذ النصاب من حرز مهتوك والثالث إن اشتهر هتك الحرز بين المرتين لم يقطع وإلا قطع فلو لم يعلم المالك وأعاد الحرز غيره أو علم ولم يعده قطع كما هو مقتضى المتن
إذ المسألتان داخلتان أيضا في قوله وإلا فإن قيل فهلا أدخلتهما قلت إنما أخرتهما تبعا للزركشي لاختصاص الخلاف المتقدم بالصورة المتقدمة
واعتمد البلقيني فيهما عدم القطع ورأي الإمام الغزالي القطع في الثانية وفي الثالثة عدم القطع أيضا
____________________
(4/159)
تنبيه ناقش الرافعي الوجيز في إيراد هذه المسألة هنا وقال لا تعلق لها بالنصاب فإن النظر فيها إلى كيفية الإخراج فإيرادها في غير هذا الموضع أليق
ثم خالف في المحرر فذكرها والأليق ذكرها عند قوله ولو نقب وعاد في ليلة أخرى فسرق قطع
ولا يشترط في السرقة أخذ السارق النصاب بيده من الحر ( و ) حينئذ ( لو نقب وعاء ) أي طرف ( حنطة ونحوها ) كوعاء زيت ( فانصب نصاب ) أي شيء مقوم بربع دينار ( قطع ) به ( في الأصح ) لأنه سرق نصابا من حرز لا شبهة له فيه والثاني لا قطع لأنه خرج بسببه والسبب ضعيف لا يقطع به
تنبيه محل الخلاف إذا انصب النصاب على التدريج شيئا فشيئا كما قاله الجمهور فإن انصب دفعة قطع قطعا ومن صور مسألة المتن طرف الجيب والكم ويلغز بذلك ويقال لنا شخص قطع بسرقة ولم يدخل حرزا ولم يأخذ منه مالا ولا يشترط في السارق الاتحاد ( و ) حينئذ ( لو اشتركا ) أي سارقان مكلفان ( في إخراج نصابين ) فأكثر من حرز ( قطعا ) لأن كلا منهما سرق نصابا وقيده القمولي بما إذا كان كل منهما يطيق حمل ما يساوي نصابا أما إذا كان أحدهما لا يطيق ذلك والآخر يطيق حمل ما فوقه فلا يقطع الأول والظاهر هو القطع كما أطلقه الأصحاب لمشاركته في إخراج نصابين فلا نظر إلى ضعفه ( وإلا ) بأن كان المخرج أقل من نصابين ( فلا ) قطع على واحد منهما لأن كل واحد منهما لم يسرق نصابا وخرج باشتراكهما في الإخراج ما لو تميزا فيه فيقطع من مسروقه نصاب دون من مسروقه أقل
تنبيه محل ما ذكره المصنف إذا كانا مستقلين فلو كان أحدهما صبيا أو مجنونا قال الزركشي تبعا للأذرعي فالظاهر قطع المكلف وإن لم يكن المخرج نصابا لأنه حينئذ كالآلة له اه
ويؤخذ من التعليل أن محله إذا أذن له المكلف
ويشترط في المسروق كونه محترما ( و ) حينئذ ( لو سرق ) أي أخرج ولو عبر به كان أولى مسلم أو ذمي ( خمرا ) ولو محترمة ( وخنزيرا وكلبا ) ولو مقتني ( وجلد ميتة بلا دبغ فلا قطع ) لأن ما ذكر ليس بمال وخرج بقوله بلا دبغ المدبوغ فيقطع به حتى لو دبغه السارق في الحرز ثم أخرجه وهو يساوي نصاب سرقة فإنه يقطع به إذا قلنا بأنه للمغصوب منه إذا دبغه الغاصب وهو الأصح ومثله كما قال البلقيني إذا صار الخمر خلا بعد وضع السارق يده عليه وقيل إخراجه من الحرز ( فإن بلغ إناء الخمر نصابا قطع ) به ( على الصحيح ) لأنه سرق نصابا من حرز لا شبهة له فيه كما إذا سرق إناء فيه بول فإنه يقطع باتفاق كما قاله الماوردي وغيره والثاني المنع لأن ما فيه مستحق الإراقة فيصير شبهة في دفعه وقضية هذه العلة أن الخمر لو كانت محترمة أنه يقطع قطعا لأنها غير مستحقة الإراقة وأنه لو أراق الخمر في الحرز ثم خرج بالإناء أنه يقطع قطعا وأنها لو كانت لذمي ولم يظهر شربها ولا بيعها أنه يقطع قطعا فإن أظهر ذلك جاء الخلاف لوجود العلة
تنبيه محل الخلاف أيضا إذا قصد بإخراج ذلك السرقة أما لو قصد تغييرها بدخوله أو بإخراجها فلا قطع قطعا كما صرح به في الثاني في أصل الروضة واقتضاه كلامه في الأولى وسواء أخرجها في الأولى أو دخل في الثانية يقصد السرقة أم لا كما هو قضية كلام الروض فيهما وكلام أصله في الثانية ( ولا قطع ) في أخذ ما سلط الشرع على كسره كما ( في طنبور ) بضم الطاء ويقال فيه أيضا طنبار فارسي معرب ( ونحوه ) كمزمار وصنم وصليب لأن التوصل إلى إزالة المعصية مندوب إليه فصار شبهة كإراقة الخمر ( وقيل إن بلغ مكسره نصابا قطع ) لأنه سرق نصابا من حرزه ( قلت ) هذا ( الثاني أصح ) عند الأكثرين كما في الروضة وأصلها ونص عليه في الأم ( والله أعلم ) ويشهد له جزم الرافعي وغيره فيما إذا سرق ما لا يحل الانتفاع به من الكتب أنه يقطع إذا كان الجلد والقرطاس يبلغ نصابا
____________________
(4/160)
تنبيه محل الخلاف إذا لم يقصد التغيير كما في الروضة فإن قصد بإخراجه تيسير فلا قطع قطعا وما إذا كان لمسلم فإن كان لذمي قطع قطعا ويقطع بسرقة إناء النقد لأن استعماله يباح عند الضرورة إلا إن أخرجه من الحرز ليشهره بالكسر ولو كسر إناء الخمر أو الطنبور ونحوه أو إناء النقد في الحرز ثم أخرجه قطع إن بلغ نصابا كحكم الصحيح
( الثاني ) من شروط المسروق ( كونه ملكا لغيره ) أي السارق فلا يقطع لسرقة ماله الذي بيد غيره وإن كان مرهونا أو مؤجرا ولو سرق ما اشتراه من يد غيره ولو قبل تسليم الثمن أو في زمن الخيار أو سرق ما اتهب له قبل قبضه لم يقطع فيهما والصورة الثانية واردة على قوله ملكا لغيره وعدم القطع لشبهة الملك ولو سرق مع ما اشتراه مالا آخر بعد تسليم الثمن لم يقطع كما في الروضة ولو سرق الموصى له به قبل موت الموصي أو بعده وقبل القبول قطع في الصورتين أما الأولى فلأن القبول لم يقترن بالوصية وأما في الثانية فبناء على أن الملك فيها لا يحصل بالموت
فإن قيل قد مر أنه لا يقطع بالهبة بعد القبول وقبل القبض فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن الموصى له مقصر بعدم القبول مع تمكنه منه بخلافه في الهبة فإنه قد لا يتمكن من القبض وأيضا القبول وجد ثم ولم يوجد هنا ولو سرق الموصى به فقير بعد موت الموصي والوصية للفقراء لم يقطع كسرقة المال المشترك بخلاف ما لو سرقه الغني
تنبيه أراد المصنف كون المسروق ملك غيره حالة إخراجه بدليل قوله ( فلو ملكه ) أي المسروق أو بعضه ( بإرث وغيره ) كشراء ( قبل إخراجه من الحرز أو ) لم يملكه ولكن ( نقص فيه ) أي الحرز ( عن نصاب بأكل ) لبعضه ( وغيره ) كإحراق ( لم يقطع ) أما في الأولى فلأنه ما أخرج إلا ملكه وأما في الثانية فلأنه لم يخرج من الحرز نصابا
واحترز بقوله قبل إخراجه عما لو طرأ ذلك بعده فإن القطع لا يسقط فإن الاعتبار في العقوبة بحال الجناية نعم لو طرأ الملك بعده وقبل الرفع إلى الحاكم لم يقطع بناء على أن استيفاء القطع يتوقف على الدعوى بالمسروق والمطالبة به وهو صحيح كما سيأتي
تنبيه كان الأولى ذكر المسألة الثانية في الشرط الأول وكان المقتضى لذكرها هنا مشاركتها لما قبلها في النظر بحالة الإخراج ( وكذا ) لا يقطع السارق ( إن ادعى ملكه ) أي المسروق أو ملك بعضه ( على النص ) ولم يسند الملك إلا بعد السرقة وبعد الرفع إلى الحاكم وثبتت السرقة بالبينة لاحتمال صدقه فصار شبهة دارئه للقطع ويروى عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه سماه السارق الظريف
أي الفقيه وفي وجه أو قول مخرج يقطع لئلا يتخذ الناس ذلك ذريعة لدفع الحد وحمل النص على ما إذا أقام بينة بما ادعاه ويجري الخلاف في دعوى ملك الحرز أو مالك السرقة إذا كان مجهول النسب أو أنه أخذ بإذن المالك أو أنه أخذه وهو دون نصاب أو أنه ملك أبيه أو ملك سيده أو كان الحرز مفتوحا أو كان صاحبه معرضا عن الملاحظة أو كان نائما وخرج بدعوى الملك ما لو ادعى عدم السرقة وقامت عليه بينة فلا يسقط القطع كما قاله ابن كج وإنما قبلت دعوى الملك في مقابلة البينة لأنه ليس فيها تكذيب البينة بخلاف نفي السرقة
تنبيه هذا كله بالنسبة إلى القطع
أما المال فلا يقبل قوله فيه بل لا بد من بينة أو يمين مردودة فإن نكل عن اليمين لم يجب القطع ولو أقر المسروق منه أن المال المسروق ملك للسارق لم يقطع وإن كذبه السارق ولو أقر بسرقة مال رجل فأنكر المقر له ولم يدعه يقطع لأن ما أقر به يترك في يده كما مر في الإقرار ( و ) على اللص ( لو سرقا ) أي اثنان مالا نصابين فأكثر ( وادعاه ) أي المسروق ( أحدهما له أو لهما فكذبه الآخر لم يقطع المدعي ) لما مر ( وقطع الآخر في الأصح ) لأنه أقر بسرقة نصاب لا شبهة له فيه والثاني لا يقطع المكذب لدعوى رفيقه الملك له
____________________
(4/161)
تنبيه قضية كلام المصنف أنه لو صدقه لم يقطع كالمدعي وبه صرح البغوي وغيره وقضية كلامه أيضا أنه لو سكت ولم يصدقه ولم يكذبه أو قال لا أدري أنه لا يقطع وهو كذلك لقيام الشبهة ( وإن سرق من حرز شريكه ) مالا ( مشتركا ) بينهما ( فلا قطع ) به ( في الأظهر وإن قل نصيبه ) لأن له في جزء حقا شائعا وذلك شبهة فأشبه وطء الجارية المشتركة
والثاني يقطع إذ لا حق له في نصيب شريكه
تنبيه محل الخلاف إذا خلص له من مال شريكه نصاب السرقة وإلا لم يقطع قطعا
وقضية قوله مشتركا أنه لو سرق من مال شريكه الذي ليس بمشترك أنه يقطع وهو محمول على ما إذا اختلف حرزهما وإلا فلا
قال الماوردي وعلى هذا أيضا يحمل إطلاق القفال القطع ( الثالث ) من شروط المسروق ( عدم شبهة فيه ) لحديث ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم صحح الحاكم إسناده
سواء في ذلك شبهة الملك كمن سرق مشتركا بينه وبين غيره كما مر أو شبهة الفاعل كمن أخذ مالا على صورة السرقة يظن أنه ملكه أو ملك أصله أو فرعه أو شبهة المحل كسرقة الابن مال أصوله أو أحد الأصول مال فرعه كما قال ( فلا قطع بسرقة مال أصل ) للسارق وإن علا ( وفرع ) له وإن سفل لما بينهما من الاتحاد وإن اختلفت ديتهما كما بحثه بعض المتأخرين ولأن مال كل منهما مرصد لحاجة الآخر ومنها أن لا تقطع يده بسرقة ذلك المال بخلاف سائر الأقارب وسواء أكان السارق منهما حرا أو عبدا كما صرح به الزركشي تفقها مؤيدا له بما ذكروه من أنه لو وطىء الرقيق أمة فرعه لم يحد للشبهة ( و ) لا قطع بسرقة رقيق مال ( سيد ) له بالإجماع كما حكاه ابن المنذر ولشبهة استحقاق المنفعة ويده كيد سيده والمبعض كالقن وكذا المكاتب لأنه قد يعجز فيصير كما كان
قاعدة من لا يقطع بمال لا يقطع به رقيقه فكما لا يقطع الأصل بسرقة مال الفرع وبالعكس لا يقطع رقيق أحدهما بسرقة مال الآخر ولا يقطع السيد بسرقة مال مكاتبه ولا بمال ما ملكه المبعض ببعضه الحر كما جزم به الماوردي والشيخ أبو حامد وغيرهما ولأن ما ملكه بالحرية في الحقيقة بجميع بدنه فصار شبهة
وقيل يقطع به كمال الشريك بعد القسمة ويحد زان بأمة سيده إذ لا شبهة له في بضعها
فروع لو سرق طعاما زمن القحط ولم يقدر عليه لم يقطع وكذا من أذن له في الدخول إلى دار أو حانوت لشراء أو غيره فسرق كما رجحه ابن المقري ويقطع بسرقة حطب وحشيش ونحوهما كيد لعموم الأدلة ولا أثر لكونها مباحة الأصل ويقطع بسرقة معرض للتلف كهريسة وفواكه وبقول كذلك وبماء وتراب ومصحف وكتب علم شرعي وما يتعلق به وكتب شعر نافع مباح لما مر فإن لم يكن نافعا مباحا قوم الورق والجلد فإن بلغ نصابا قطع وإلا فلا ولو قطع بسرقة عين ثم سرقها ثانيا من مالكها الأول أو من غيره قطع أيضا لأن القطع عقوبة تتعلق بفعل في عين فتكرر بتكرر ذلك الفعل كما لو زنى بامرأة فحد ثم زنى بها ثانيا ولو سرق مال غريمه الجاحد لدينه الحال أو المماطل وأخذ بقصده الاستيفاء لم يقطع لأنه حينئذ مأذون له في أخذه وإلا قطع وغير جنس حقه كجنس حقه في ذلك
ولا يقطع بذلك على قدر حقه أخذه معه وإن بلغ الزائد نصابا وهو مستقل لأنه إذا تمكن من الدخول والأخذ ولم يبق المال محرزا عنه
( والأظهر قطع أحد زوجين بالآخر ) أي بسرقة ماله المحرز عنه لعموم الآية الأخبار
ولأن النكاح عقد على منفعة فلا يؤثر في درء الحد كالإجارة لا يسقط بها الحد عن الأجير أو المستأجر إذا سرق أحدهما من الآخر
ويفارق العبد الزوجة بأن مؤنتها على الزوج عوض كثمن المبيع ونحوه بخلاف مؤنة العبد والثاني لا قطع على واحد منهما للشبهة فإنها تستحق عليه النفقة وهو يستحق الحجر عليها والثالث يقطع الزوج دونها لأن لها حقوقا في ماله بخلاف وماله إليه الأذرعي
تنبيه محل الخلاف في الزوجة إذا لم تستحق على الزوج شيئا حين السرقة أما إذا كانت تستحق النفقة
____________________
(4/162)
والكسوة في تلك الحالة
قال في المطلب فالمتجه أنه لا قطع إذا أخذت بقصد الاستيفاء كما في حق رب الدين الحال إذا سرق نصابا من المديون اه
ومحله أخذا مما مر أن يكون جاحدا أو مماطلا وقد يقال لا حاجة إلى هذا إذ الكلام في السرقة والأخذ بقصد الاستيفاء ليس بسرقة أما لو كان المال في مسكنهما بلا إحراز فلا قطع قطعا ( ومن سرق ) وهو مسلم ( مال بيت المال إن فرز ) بفاء مضمومة وراء مهملة خفيفة مكسورة وزاي معجمة ( لطائفة ) كذوي القربى والمساكين وكان منهم أو أصله أو فرعه فلا قطع أو فرز لطائفة ( ليس هو منهم قطع ) إذ لا شبهة له في ذلك ( وإلا ) بأن لم يفرز لطائف فلا ( فالأصح أنه إن كان له حق في المسروق كمال مصالح ) بالنسبة لمسلم فقير جزما أو غني على الأصح ( وكصدقة وهو فقير ) أو غارم لذات البين أو غاز ( فلا ) يقطع في المسألتين
أما في الأولى فلأن له حقا وإن كان غنيا كما مر لأن ذلك قد يصرف في عمارة المساجد والرباطات والقناطر فينتفع بها الغني والفقير من المسلمين لأن ذلك مخصوص بهم بخلاف الذمي يقطع بذلك ولا نظر إلى إنفاق الإمام عليه عند الحاجة لأنه إنما ينفق عليه للضرورة وبشرط الضمان كما ينفق على المضطر بشرط الضمان وانتفاعه بالقناطر والرباطات بالتبعية من حيث أنه قاطن بدار الإسلام لا لاختصاصه بحق فيها
وأما في الثانية فلاستحقاقه بخلاف الغني فإنه يقطع لعدم استحقاقه إلا إذا كان غازيا أو غارما لذات البين فلا يقطع لما مر
( وإلا ) بأن لم يكن له فيه حق ( قطع ) لانتفاء الشبهة
والثاني لا يقطع مطلقا غنيا كان أو فقيرا سرق مال الصدقة أو المصالح لأنه مرصد للحاجة والفقير ينفق عليه منه والغني يعطى منه ما يلزمه بسبب حمالة يتحملها
والثالث يقطع مطلقا كما في سائر الأموال
تنبيه من لا يقطع بسرقة مال بيت المال لا يقطع أصله أو فرعه أو رقيقه بسرقته منه وخرج ببيت المال ما لو سرق مستحق الزكاة من مال من وجبت عليه فإنه إن كان المسروق من غير جنس ما وجبت فيه قطع وإن كان منه وكان متعينا للصرف وقلنا بالأصح أنها تتعلق تعلق الشركة فلا قطع كالمال المشترك قاله البغوي وصاحب الكافي
( والمذهب ) الذي قطع به الجمهور ( قطعه ) أي المسلم ( ب ) سرقة ( باب مسجد وجذعه ) بإعجام الذال وتأزيره وسواريه وسقوفه وقناديل زينة فيه لأن الباب للتحصين والجذع ونحوه للعمارة ولعدم الشبهة في القناديل ويلحق بهذا ستر الكعبة فيقطع سارقه على المذهب إن خيط عليها لأنه حينئذ محرز ( لا ) بسرقة ( حصره ) المعدة للاستعمال ولا سائر ما يفرش فيه ( و ) لا ( قناديل تسرج ) لأن ذلك لمصلحة المسلمين فله فيه حق كمال بيت المال وخرج بالمعدة حصر الزينة فيقطع بها كما قاله ابن الملقن
وينبغي أن يكون ستر المنبر كذلك إن خيط عليه وأن يكون بلاط المسجد لحصره المعدة للاستعمال
أما الذمي فيقطع بذلك قطعا لعدم الشبهة
تنبيه محل ذلك في المسجد العام أما الخاص بطائفة فيختص القطع بغيرها بناء على أنه إذا خص المسجد بطائفة اختص بها وهو الراجح ولو سرق شخص المصحف الموقوف على القراءة لم يقطع إذا كان قارئا لأن له فيه حقا وكذا إن كان غير قارىء لأنه ربما تعلم منه
قال الزركشي أو يدفعه إلى من يقرأ فيه لاستماع الحاضرين ولو سرق الخطيب المنبر أو المؤذن الدكة ينبغي عدم القطع ولم أر من ذكره بل ينبغي عدم القطع لغيرهما أيضا لأن النفع لا يختص بهما ولو سرق مسلم بكرة بئر مسبلة لم يقطع كما جزم به صاحب البحر وجرى عليه ابن المقري وإن كان مقتضى كلام الروضة القطع لأنها لمنفعة الناس
قال صاحب البحر وعندي أن الذمي لا يقطع بسرقتها أيضا لأن له فيه حقا اه
وهذا هو الظاهر لما سيأتي أن الذمي لا يقطع بالأخذ من الموقوف على الأمور العامة
( والأصح قطعه بموقوف ) على غيره لأنه مال محرز سواء أقلنا الملك فيه لله تعالى أم للموقوف عليه أم للواقف والثاني المنع لأنه إن كان لله تعالى فهو كالمباحات وإن كان للموقوف عليه أو الواقف فلضعف الملك أما إذا كان له فيه استحقاق
____________________
(4/163)
أو شبهة استحقاق كمن سرق من وقف على جماعة هو منهم أو سرق منه أبو الموقوف عليه أو ابنه أو وقف على الفقراء فسرق فقير فلا قطع قطعا
قال الروياني واحترز المصنف بالموقوف عما لو سرق من غلة الموقوف فيقطع قطعا ولو سرق مالا موقوفا على الجهات العامة أو على وجوه الخير لا يقطع وإن كان السارق ذميا لأنه تبع للمسلمين ( و ) الأصح قطعه بسرقة ( أم ولد سرقها ) حال كونها ( نائمة أو مجنونة ) أو عمياء كما قاله الزركشي أو مكرهة كما قاله في البيان أو أعجمية لا تميز بين سيدها وغيره في وجوب طاعته لأنها مضمونة بالقيمة كالقن والثاني لا لنقصان الملك وخرج بما ذكر ما إذا كانت عاقلة بصيرة مستيقظة فإنه لا قطع لقدرتها على الامتناع ومثل أم الولد فيما ذكر ولدها الصغير من زوج أو زنا وكذا العبد المنذور إعتاقه والموصى بعتقه ولو سرق عبدا صغيرا أو مجنونا أو بالغا أعجميا لا يميز قطع قطعا إذا كان محرزا وإنما خص المصنف أم الولد بذلك لأنها محل الوجهين وخرج بأم الولد المكاتب والمبعض فلا قطع بسرقتهما قطعا لأن مظنة الحرية شبهة مانعة من القطع
( الرابع ) من شروط المسروق ( كونه محرزا ) بالإجماع كما حكاهابن المنذر فلا قطع بسرقة ما ليس محرزا لخبر أبي داود لا قطع في شيء من الماشية إلا فيما أواه المراح ولأن الجناية تعظم بمخاطرة أخذه من الحرز فحكم بالقطع زجرا بخلاف ما إذا جرأه المالك ومكنه من تضييعه والإحاز يكون إما ( بملاحظة ) للمسروق ( أو حصانة موضعه ) بفتح الحاء المهملة من التحصين وهو المنع والمحكم في الحرز العرف فإنه لم يحد في الشرع ولا في اللغة فرجع فيه إلى العرف كالقبض والإحياء ولا شك أنه يختلف باختلاف الأموال والأحوال والأوقات فقد يكون الشيء حرزا في وقت دون وقت بحسب صلاح أحوال الناس وفسادها وقوة السلطان وضعفه وضبطه الغزالي بما لا يعد صاحبه مضيعا
وقال الماوردي الأحراز تختلف من خمسة أوجه باختلاف نفاسة المال وخسته وباختلاف سعة البلد وكثرة دعاره وعكسه وباختلاف الوقت أمنا وعكسه وباختلاف السلطان عدلا وغلظة على المفسدين وعكسه وباختلاف الليل والنهار وإحراز الليل أغلظ
فإن قيل يرد على المصنف حصر الحرز فيما ذكر النائم على ثوبه فإنه لا ملاحظة منه وليس الثوب بموضع حصين مع أن سارقه يقطع وقاطع الطريق فإنه يقطع إذا أخذ المال وهو من غير حرز
أجيب عن الأول بأن النوم على الثوب بمنزلة الملاحظة وعن الثاني بأنه لا يسمى سارقا
تنبيه تعبيره بأو يقتضي الاكتفاء بالحصانة من غير ملاحظة وليس مرادا فإنه سيصرح بخلافه في قوله فإن كان بحصن كفى لحاظ معتاد فدل على أن اعتبارا للحظ لا بد منه إلا أنه يحتاج في غير الحصن إلى دوامه ويكتفي في الحصن بالمعتاد ولهذا قال الرافعي لا تكفي حصانة الموضع عن أصل الملاحظة حتى إن الدار البعيدة عن البلد لا تكون حرزا وإن تناهت في الحصانة
( فإن كان ) المسروق ( بصحراء أو مسجد ) أو شارع أو غيره مما لا حصانة له ( اشترط دوام لحاظ ) بكسر اللام وهو المراعاة مصدر لاحظه لأنه بذلك محرز عرفا وأما بفتح اللام فهو ما في الصحاح مؤخر العين من جانب الأذن بخلاف الذي من جانب الأنف فيسمى المرق يقال لحظه إذا نظر إليه بمؤخر عينه
تنبيه قضية كلامه أن الفترات العارضة في العادة تقدح في هذا اللحاظ فلو تغفله وأخذ في تلك الفترة لم يقطع والمشهور أن ذلك لا يقدح وأن السارق منه يقطع فينبغي التعبير باللحاظ المعتاد في مثله كما ذكره في قوله ( وإن كان بحصن ) كخان وبيت وحانوت ( كفى لحاظ معتاد ) في مثله ولا يشترط دوامه عملا بالعرف وقد علم مما مر أن حرز كل شيء بحسبه ( و ) حينئذ ( إصطبل ) وهو بكسر الهمزة وهي همزة قطع أصلي وكذا بقية حروفه بيت الخيل ونحوها ( حرز دواب ) وإن كانت نفيسة كثيرة الثمن لأنه صلى الله عليه وسلم جعل حرز الماشية المراح فكذا الإصطبل
____________________
(4/164)
تنبيه قيد في الوسيط الإصطبل بكونه متصلا بالدور فإن كان منفصلا عنها فلا بد من اللحاظ الدائم وإن لم يفهمه كلام المصنف
( لا آنية وثياب ) ولو خسيسة فليس الإصطبل حرزا لها لأن إخراج الدواب مما يظهر ويبعد الاجتراء عليه بخلاف ما يخف ويسهل حمله
ويستثنى منها كما قال البلقيني وغيره آنية الإصطبل كالسطل وثياب الغلام وآلات الدواب من سروج وبراذع ولجم ورحال جمال وقربة السقاء والراوية ونحو ذلك مما جرت العادة بوضعه في إصطبلات الدواب
تنبيه المتبن حرز للتبن إذا كان متصلا بالدور كما مر في الإصطبل
( وعرصة ) أي صحن ( دار وصفتها حرز آنية ) خسيسة كما قاله الأذرعي ( وثياب بذلة ) أي مهنة ونحوها كالبسط والأواني لقضاء العرف بذلك
أما النفيسة فحرزها البيوت والخانات ونحوها كالأسواق المعينة فإذا سرق المتاع من الدكاكين وهناك حارس بالليل قطع ( لا ) حرز ( حلي و ) لا ( نقد ) وثياب وأوان نفيسة فليست العرصة والصفة حرزا لها لأن العادة فيها الإحراز في البيوت المغلفة في الدور ونحوها كالمخازن
( فروع ) لو ضم العطار أو البقال ونحوه الأمتعة وربطها بحبل على باب الحانوت أو أرخى عليها شبكة أو خالف لوحين على باب حانوته وكانت محرزة بذلك في النهار لأن الجيران والمارة ينظرونها وفيما فعل ما ينبههم ما قصدها السارق فإن لم يفعل شيئا من ذلك فليست محرزة
وأما في الليل فمحرزة بذلك لكن مع حارس والبقل ونحوه كالفجل إن ضم بعضه إلى بعض وترك على باب الحانوت وطرح عليه حصير ونحوها فهو محرز بحارس وإن رقد ساعة ودار على ما يحرسه أخرى والأمتعة النفيسة التي تترك على الحوانيت في ليالي الأعياد ونحوها لتزيين الحوانيت وتستر بنطع ونحوه محرزة بحارس لأن أهل السوق يعتادون ذلك فيقوى بعضهم ببعض بخلاف سائر الليالي والثياب الموضوعة على باب حانوت القصار ونحوه كأمتعة العطار الموضوعة على باب حانوته فيما مر والقدور التي يطبخ فيها في الحوانيت محرزة بسدد تنصب على باب الحانوت للمشقة في نقلها إلى بناء وإغلاق باب عليها والحانوت المغلق بلا حارس حرز لمتاع البقال في زمن الأمن ولو ليلا لانتفاع البزاز ليلا بخلاف الحانوت المفتوح والمغلق زمن الخوف وحانوت متاع البزاز ليلا والأرض حرز للبذر والزرع للعادة وقيل ليست حرزا إلا بحارس
قال الأذرعي وقد يختلف ذلك باختلاف عرف النواحي فيكون محرزا في ناحية بحارس وفي غيرها مطلقا اه
وهذا أوجه والتحويط بلا حارس لا يحرز الثمار وإن كانت على الأشجار إلا إن اتصلت بجيران يراقبونها عادة وأشجار أفنية الدور محرزة بلا حارس بخلافها في البرية والثلج في المثلجة والجمد في المجمدة والتبن في المتبن والحنطة في المطامير كل منها في الصحراء غير محرز إلا بحارس وأبواب الدور والبيوت التي فيها والحوانيت بما عليها من مغاليق وحلق ومسامير محرزة بتركيبها ولو مفتوحة أو لم يكن في الدور والحوانيت أحد ومثلها كما قال الزركشي وغيره سقوف الدور والحوانيت ورخامها والآخر محرز بالبناء والحطب وطعام البياعين محرز بشد بعض كل منها إلى بعض بحيث لا يمكن أخذ شيء منه إلا بحل الرباط أو بفتق بعض الغرائر حيث اعتيد ذلك بخلاف ما إذا لم يعتد فإنه يشترط أن يكون عليه باب مغلق
( ولو نام بصحراء أو مسجد ) ونحو ذلك من موضع مباح كشارع ( على ثوب ) أو لابسا لعمامته أو غيرها كمداسه وخاتمه ( أو توسد ) أي وضع ( متاعا ) تحت رأسه أو اتكأ عليه ( فمحرز ) فيقطع السارق بدليل الأمر بقطع سارق رداء صفوان
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه ورداؤه كان محرزا باضطجاعه عليه ولفضاء العرف بذلك
وإنما يقطع بتغييبه عنه ولو بدفنه إذ إحراز مثله بالمعاينة فإذا غيبه عن عين الحارس بحيث لو نبه له لم يره كأن دفنه في تراب أو واراه تحت ثوبه أو حال بينهما جدار فقد أخرجه من حرزه
تنبيه استثنى الماوردي و الروياني فيما لو توسد شيئا لا يعد التوسد حرزا له كما لو توسد كيسا فيه نقد أو جوهر
____________________
(4/165)
ونام فليس بمحرز حتى يشده بوسطه
قال الأذرعي أي تحت الثياب وقيد المروزي القطع بأخذ الخاتم بما إذا لم يكن مخلخلا في يد ضأو كان في الأنملة العليا وإلا فلا قطع
( فلو انقلب ) في نومه ( فزال عنه ) أي الثوب ( فلا ) يكون حينئذ محرزا فلا يقطع سارقه
ولو قلبه السارق عن الثوب ثم أخذه لم يقطع أيضا كما صرح به في أصل الروضة عن البغوي وأقره لما مر
قال البلقيني وهذا عندنا شاذ مردود لا وجه له والذي نعتقده القطع بخلافه لأنه أزال الحرز ثم أخذ النصاب فصار كما لو نقب الحائط أو كسر الباب أو فتحه وأخذ النصاب فإنه يقطع باتفاق اه
وفرق بأن المال ثم لما أخذه كان محرزا في الجملة بخلافه هنا فإنه منسوب لتقصير
ويؤيد هذا ما قاله البغوي أيضا من أنه لو وجد جملا وصاحبه نائم عليه فألقاه عنه وهو نائم وأخذ الجمل فإنه لا يقطع وإن خالف في ذلك الجويني و ابن القطان ( وثوب ومتاع ) لشخص ( وضعه ) أي كل منهما ( بقربه بصحراء ) أو نحو شارع كمسجد ( إن لاحظه ) بنظره كما مر ( محرز ) لقضاء العرف بذلك ( وإلا ) بأن لم يلاحظه بل نام أو ولاه ظهره أو ذهل عنه ( فلا ) يكون محرزا
تنبيه هذه المسألة علمت من قوله سابقا فإن كان بصحراء إلخ لكن زاد هنا قيد القرب ليخرج ما لو وضعه بعيدا بحيث لا ينسب إليه فإن هذا تضييع لا إحراز
ويشترط مع الملاحظة أمران أحدهما أن لا يكون في الموضع ازدحام للطارقين نعم إن كثر الملاحظون عادل كثرة الطارقين كما نقلاه عن الإمام وأقراه
الثاني أن يكون الملاحظ في موضع بحيث يراه السارق حتى يمتنع من السرقة إلا بتغفلة فإن كان في موضع لا يراه فلا قطع إذ لا حرز يظهر للسارق حتى يمتنع من السرقة قاله البلقيني
قال في أصل الروضة وينبغي أن لا يفرق فيما ذكرنا بين كون الصحراء مواتا أو غيره قيده الشافعي في الأم بالموضع المباح وجرى عليه القاضي
أجيب بأن المراد بالمباح مقابل الحرام لا ما لبس مملوكا فلا منافاة
( وشرط الملاحظ ) لمتاع كثوب ونحوه ( قدرته على منع سارق ) من الأخذ لو اطلع عليه ( بقوة أو استغاثة ) فإن كان الملاحظ ضعيفا لا يبال السارق به لقوته والموضع بعيد عن الغوث فليس بحرز وإن كان السارق ضعيفا أيضا وأخذه ولم يشعر به الملاحظ ولو شعر به لطرده فإنه يقطع على الظاهر عند الإمام وإن كان لو أخذه قوى في هذه الحالة لا يقطع ( ودار منفصلة عن العمارة ) ككونها بأطراف الخراب والبساتين ( إن كان بها ) ملاحظ ( قوي يقظان حرز ) لما فيها ( مع فتح الباب وإغلاقه ) لاقتضاء العرف ذلك ( وإلا ) صادق بأربع صور بأن لا يكون بها أحد والباب مغلق أو فيها أحد وهو ضعيف لا يبال به كما قيده في المحرر وهي بعيدة عن الغوث أو فيها قوي نائم والباب مفتوح أو قوي نائم وهو مغلق ( فلا ) تكون حرزا والصورة الأخيرة فيها وجهان أحدهما أنها ليست حرز كما هو ظاهر كلام المصنف تبعا للمحرر
والثاني أنها حرز وهو الأقرب في الشرج الصغير والأقوى في زيادة الروضة
وقال الأذرعي إنه المنقول في الذخائر وغيره عن العراقيين ولم يذكروا سواه وهو الموافق لكلام الأصحاب في الخيمة كما سيأتي والدار المغلقة أولى بالإحراز من الخيمة ( و ) دار ( متصلة ) بالعمارة بدور آهلة ( حرز ) لما فيها ليلا ونهارا ( مع إغلاقه ) أي الباب ( و ) مع ( حافظ ) قوي أو ضعيف ( ولو ) هو ( نائم ) ولو في زمن خوف لأن السارق على خطر من اطلاعه وتنبهه بحركاته واستغاثته بالجيران
قال الأذرعي ويشبه أن يكون الضعيف كالعدم قال الزركشي لو عجز الضعيف عن الاستغاثة فيتجه أن يكون كالعدم اه
ويمكن حمل كلام الأذرعي على هذا فيكون ظاهرا
( و ) الدار المتصلة ( مع فتحه ) أي الباب ( ونومه ) أي الحافظ ( غير حرز ليلا ) جزما لأنه مضيع ( وكذا نهارا في الأصح ) كما لو لم يكن فيها أحد والباب مفتوح والثاني يكون حرزا اعتمادا على
____________________
(4/166)
نظر الجيران ومراقبهم
تنبيه محل الخلاف في زمن الأمن النهب وغيره وإلا فالأيام كالليالي كما جزم به أصل الروضة وكلام المصنف محمول على المنقول في الدار حتى لا يرد عليه الباب المفتوح نفسه والأبواب المنصوبة الداخلة فإنها بتركيبها في حرز وإن لم تغلق وكذا حلقها المسمرة وسقفها ورخامها كما مر
( وكذا يقظان ) في دار ( تغفله سارق ) وسرق فليست بحرز ( في الأصح ) فلا قطع لتقصيره بإهمال المراقبة مع فتح الباب والثاني أنها حرز لعسر المراقبة دائما
تنبيه محل الخلاف ما إذا لم يبالغ في الملاحظة فإن بالغ فيها فانتهز السارق فرصة قطع بلا خلاف كما في الروضة وأصلها وألحق بالباب المغلق ما كان مردودا ونام خلفه بحيث لو فتحه لأصابه وانتبه كما قاله البلقيني وما لو نام أمامه بحيث لو فتح لانتبه بصريره كما قاله الدارمي وغيره
وقال الزركشي وينبغي أن يكون حكم ما بعد الفجر إلى الإسفار حكم الليل وما بعد الغروب وقبل انقطاع الطارق حكم النهار ( فإن خلت ) أي الدار المتصلة من حافظ فيها ( فالمذهب أنها حرز نهارا زمن أمن وإغلاقه ) أي الباب ( فإن فقد شرط ) من هذه الشروط الثلاثة بأن كان الباب مفتوحا أو الزمن زمن خوف أو الوقت ليلا ( فلا ) تكون هذه الدار حينئذ حرزا
تنبيه عبر في الروضة أيضا بالمذهب وفي الشرح والمحرر بالظاهر ولم يذكر له مقابل ويستثنى من إطلاق المصنف أن الدار المغلقة نهارا حرز ما لو أغلق الباب نهارا ووضع المفتاح في شق قريب من الباب فبحث عنه السارق وأخذه وفتح الباب فإنه لا قطع عليه كما أفتى به البلقيني لأن وضع المفتاح هناك تفريط فيكون شبهة دارئة للحد ( وخيمة بصحراء ) وسبق معنى الخيمة في باب صلاة المسافر
( إن لم تشد أطنابها وترخى أذيالها ) بالمعجمة ( فهي وما فيها كمتاع بصحراء ) فيأتي فيها ما تقدم فلو كانت مضروبة العمائر فهي كمتاع بين يديه في السوق ( وإلا ) بأن شدت أطنابها وأرخيت أذيالها ( فحرز ) لما فيها ( بشرط حافظ قوي ) وضعف يبالي به ( فيها ) أو بقربها ( ولو ) هو ( نائم ) فيها أو بقربها كما في الروضة وأصلها لحصول الإحراز عادة فلو لم يكن فيها ولا بقربها أحد أو كان وهو ضعيف وبعيد عن الغوث فليست حرزا نعم إن كان مستيقظا لم يعتبر القرب بل يكفي أن يكون بموضع تحصل منه الملاحظة ويراه السارق بحيث ينزجر به قاله البلقيني
وصحح في الروضة أنه لا يشترط إسبال بابها إذا كان من فيها نائما
فإن قيل قد مر أن باب الدار إذا كان مفتوحا والحافظ فيها نائم لم تكن حرزا فهلا هنا كذلك
أجيب بأن الخيمة تهاب غالبا فاكتفي فيها بذلك بخلاف الدار فلو شدت أطنابها ولم ترخ أذيالها فهي محرزة دون ما فيها فيعتبر في نفس الخيمة أمران حافظ وشد أطنابها وفيما فيها ثلاثة هذان وإرخاء أذيالها وإن كان ظاهر كلام المصنف مساواة حكم الخيمة وما فيها
وأورد على إطلاق المصنف ما لو كان فيها نائم فنحاه السارق ثم سرق فلا قطع كما مر في الثوب المفروش تحته
تنبيه قوله وترخى بإثبات الألف بخطه على أنه مرفوع من عطف جملة على جملة في حيز النفي أي انتفى الشد والإرخاء وعلى هذا لو صرح بالنافي في المعطوف كالمحرر وغيره كان أوضح ويجوز أن يكون مجزوما عطفا على تشد وعليه فيجب حذف الألف للجازم اللهم إلا أن يقال إنها حذفت وإن الموجدة تولدت من إشباع فتحة الخاء كما قيل بإشباع الكسر في قول الشاعر إذا العجوز غضبت فطلقي ولا ترضاها ولا تملقي بإثبات الياء ( وماشية ) من إبل وخيل وبغال وحمير وغيرها ( بأبنية مغلقة ) أبوابها ( متصلة بالعمارة محرزة ) بها
____________________
(4/167)
ولو ( بلا حافظ ) للعرف كذا أطلقوه وينبغي كما قال الزركشي تقييده بما إذا أحاطت به المنازل الأهلية فأما إذا اتصلت بالعمارة ولها جانب آخر من جهة البرية فإنها تلحق بالبرية وسيأتي
وخرج بقوله مغلقة ما لو كان الباب مفتوحا فإنه لا بد من الحافظ ولو كان نائما كما صرح به في المعتمد
فإن قيل قيد المصنف سابقا الدار المتصلة بالعمارة بكونها محرزة نهارا زمن أمن ولا يظهر بينهما فرق كما قاله بعض المتأخرين
أجيب بأنه يتسامح في أمر الماشية دون غيرها ( و ) الماشية بأبنية مغلقة ( ببرية يشترط ) في إحرازها لما فيها ( حافظ ) قوي أو ضعيف يبالي به ( ولو ) هو ( نائم ) فإن كان الباب مفتوحا اشترط حافظ مستيقظ وهذا يفهم من قوله أولا مغلقة
قال الأذرعي والظاهر أن نومه بالباب مفتوح كاف ويكفي كون المراح من حطب أو حشيش أو نحوه وشرط الماوردي في المراح بالبرية اجتماعها فيه بحيث يحس بعضها بحركة بعض وأن يكون معها حافظ فإن كان مستيقظا كفى فإن نام احتاج إلى شرط ثالث وهو ما يوقظه إن أريد سرقتها ككلاب تنبح أو أجراس تتحرك فإن أخل بهذا عند نومه لم تكن محرزة واستحسنه الأذرعي فإن كان الحافظ ضعيفا لم يبال به السارق ولا يلحقه غوث فكالعدم كما مر
تنبيه قوله بأبنية يقتضي اعتبار إحراز الماشية به وليس مرادا فقد جزما بأن الإبل المناخة المعقولة محرزة بحافظ عندها ولو نائما لأن في حل عقالها ما يوقظه ولأن الرعاة إذا أرادوا أن يناموا عقلوا إبلهم ( وإبل ) وما ذكر معها من خيل ونحوها ( بصحراء ) ترعى في مرعى خال عن المارين ( محرزة بحافظ ) أي معها ( يراها ) ويبلغها صوته فإن نام أو غفل عنها أو استتر عنه بعضها فمضيع لها في الأولين ولبعضها المستتر في الأخيرة فإن لم تخل المرعى عن المارين حصل الإحراز بنظرهم نبه عليه الرافعي أخذا من كلام الغزالي وإن بعد عن بعضها ولم يبلغ ذلك البعض صوته فوجهان أحدهما أنه غير محرز لعدم بلوغ الصوت له والثاني وهو الظاهر ورجحه في الشرح الصغير وعزاه القمولي و ابن الرفعة إلى الأكثرين محرزا اكتفاء بالنظر لإمكان العدو إلى ما لم يبلغه
( و ) إبل أو بغال ( مقطورة ) يقودها قائد ( يشترط ) في إحرازها ( التفات قائدها ) أو راكب أولها ( إليها كل ساعة بحيث يراها ) جميعها لأنها تعد محرزة بذلك وإن كان يسوقها سائق فمحرزة إن انتهى نظره إليها وفي معناه الراكب لآخرها فإن كان لا يرى البعض لحائل جبل أو بناء فذلك البعض غير محرز فإن ركب غير الأول والآخر فهو لما بين يديه كسائق ولما في خلفه كقائد
قالا وقد يستغنى بنظر المارة عن نظره إن كان يسيرها في سوق ونحوه وفي اشتراط بلوغ الصوت لها ما سبق قريبا ( و ) يشترط ( أن لا يزيد قطار ) وهو بكسر القاف ما كان بعضها أثر بعض ( على تسعة ) بالتاء المثناة أو له للعادة الغالبة في ذلك فإن زاد فكغير المقطورة
قال ابن الصلاح كذا وقع في بعض نسخ الوسيط وهو تصحيف والصحيح سبعة بالموحدة بعد السين وعليه العرف واعترضه الأذرعي بأن المنقول تسعة بالمثناة في أوله وهو ما ذكره الفوراني ونقله عنه العمراني وكذا قاله البغوي و الغزالي في الوجيز والوسيط ونسبه في الوسيط إلى الأصحاب قال الرافعي والأحسن التوسط ذكره أبو الفرج السرخسي فقال في الصحراء لا يتقيد القطار بعدد وفي العمران يعتبر ما جرت العادة بأن يجعل قطارا هو ما بين سبعة إلى عشرة وصححه في الروضة وجرى عليه ابن المقري في روضه وهو الظاهر
وقال البلقيني التقييد بالتسع أو السبع ليس بمعتمد فإن الشافعي لم يعتبر ذلك ولا كثير من الأصحاب منهم الشيخ أبو حامد وأتباعه
وذكر الأذرعي و الزركشي نحوه قالا والأشبه الرجوع في كل مكان إلى عرفه وبه صرح صاحب الوافي
قال الرافعي ومنهم من أطلق التقطير ولم يقيده بعدد
قال الأذرعي وهم الجمهور وكذا أطلقه الشافعي رحمه الله في الأم والمختصر وسبب اضطراب الأصحاب في عدد القطار اضطراب العرف
( و ) إبل ( غير مقطورة ) كأن كانت تساق ( ليست محرزة في الأصح ) وفي المحرر الأشبه
____________________
(4/168)
أن الإبل لا تسير كذلك غالبا والثاني محرزة بسائقها المنتهي نظره إليها كالمقطورة المسوقة ورجحه في الشرح الصغير
وقال الأذرعي إنه المذهب ونقله عن الأكثرين
وقال في المهمات إن الفتوى على ما في المنهاج والمحرر فقد نص عليه الشافعي رحمه الله في الأم
قال في أصل الروضة والخيل والبغال والحمير والغنم السائرة كالإبل لالسائرة إذا لم تكن مقطورة ولم يشترطوا القطر فيها لكنه معتاد في البغال ويختلف عدد الغنم المحرزة بحارس واحد بالبلد والصحراء اه
والذي عليه ابن المقري أن البغال كالإبل تقطيرا وعدمه
وعلى أن غيرهما من الماشية مع التقطير وعدمه مثلهما مع التقطير وهو الأوجه
فروع المتاع الذي على الدابة المحرزة محرز يقطع سارقه سواء سرقه وحده أو مع الدابة ولو سرق بقرة مثلا فتبعها عجلها لم يكن العجل محرزا إلا إذا كان قريبا منه بحيث يراه إذا التفت وكان يلتفت كل ساعة كما تقدم في قائد القطار ولو دخل المراح وحلب من لبن الغنم أو جز من نحو صوفها كوبرها ما يبلغ نصابا وأخرجه قطع ولا يشترط كون اللبن من واحدة منها على الأصح من وجهين لأن المراح حرز واحد لجميعها
قال الروياني وهو اختيار جماعة من أصحابنا والوجه الثاني لا يقطع لأنها سرقات من أحراز لأن كل ضرع حرز للبنه
قال الأذرعي ويأتي مثل ذلك في جز الصوف ونحوه ومحل الخلاف كما قال الأذرعي أيضا إذا كانت الدواب لواحد أو مشتركة فإن لم تكن كذلك قطع بالثاني كما قاله شيخنا
( وكفن ) مشروع كائن ( في قبر ببيت محرز ) بالجر صفة بيت ( محرز ) بالرفع خبر كفن فيقطع سارقه منه لما روى البيهقي عن البراء برفعه من نبش قطعنا
وروى البخاري في تاريخه أن الزبير قطع نباشا ( وكذا ) كفن بقبر ( بمقبرة ) كائنة ( بطرف العمارة ) فإنه محرز يقطع سارقه حيث لا حارس هناك ( في الأصح ) لأن القبر في المقابر حرز في العادة كما أن البيت المغلق في العمران حرز وإن لم يكن فيه أحد والثاني إن لم يكن هناك أحد فهو غير محرز
وسواء على الأول أكان الكفن من مال الميت أم من غيره ولو من بيت المال كما يقتضيه إطلاق كلام المصنف وإنما قطع به وإن كان من بيت المال لانقطاع الشركة عنه بصرفه إلى الميت كما لو أصرفه إلى الحي وسواء أقلنا الملك في الكفن لله تعالى أم للوارث على الأصح لأجل اختصاص الميت به
نعم لو سرقه بعض الورثة أو ولد بعضهم لم يقطع ومقتضى كلام الروضة أن حارس المقبرة إذا سرق منها لم يقطع أما المقبرة المحفورة بالعمارة التي يندر تخلف الطارقين عنها في زمن يتأتى فيه النبش أو كان عليها حراس مرتبون فهو بمثابة البيت المحرز كما نقلاه عن الإمام وأقراه وإنما يقطع بإخراجه من جميع القبر إلى خارجه لا من اللحد إلى فضاء القبر وتركه ثم لخوف أو غيره لأنه لم يخرجه من تمام حرزه
أما غير الشرعي كأن زاد على خمسة أثواب فليس الزائد محرزا بالقبر كما لو وضع مع الكفن غيره إلا أن يكون القبر ببيت محرز فإنه محرز به ولو تغالى في الكفن بحيث جرت العادة أن لا يخلى مثله بلا حارس لم يقطع سارقه كما قاله أبو الفرج الزاز ( لا ) كفن في قبر ( بمضيعة ) أي بقعة ضائعة وهي بضاد معجمة مكسورة بوزن معيشة أو ساكنة بوزن مسبعة فإنه غير محرز ( في الأصح ) كالدار البعيدة عن العمران لأن السارق يأخذ من غير خطر والثاني أن القبر حرز للكفن حيث كان لأن النفوس تهاب الموتى
فروع لو كفن الميت من التركة فنبش قبره وأخذ منه طالب به الورثة من أخذه لأنه ملكهم وإن قدم به الميت وكذا لو سرقه بعض الورثة أو ولده لم يقطع كما مر ولو أكل الميت سبع أو ذهب به سيل وبقي الكفن اقتسموه كذلك ولو كفنه أجنبي أو سيد من ماله أو كفن من بيت المال كان كالعارية للميت
قال الرافعي لأن نقل الملك إليه غير ممكن لأنه لا يملك ابتداء فكان المكفن مميرا عارية لا رجوع له فيها كإعارة الأرض للدفن فيقطع به غير المكفنين والخصم فيه الملك في الأولين والإمام في الثالثة
ولو سرق الكفن وضاع ولم تقسم التركة وجب إبداله من التركة وإن كان الكفن من غير ماله فإن لم يكن تركة فكمن مات ولا تركة له وإن قسمت ثم سرق استحب لهم إبداله
هذا إذا كفن أولا في الثلاثة التي هي حق له فإنه لا يتوقف التكفين بها على رضا الورثة أما لو كفن منها
____________________
(4/169)
بواحد فينبغي كما قال الأذرعي أن يلزمهم تكفينه من تركته بثان وثالث والفساقي المعروفة كبيت معقود حتى إذا لم تكن في حرز ولا لها حافظ لم يقطع بسرقة الكفن منها كما بحثه الأذرعي فإن اللص لا يلقى عناء في النبش بخلاف القبر المحكم في العادة وجمع الحجارة على الميت وهو على وجه الأرض عند تعذر الحفر كالدفن للضرورة بخلاف ما إذا لم يتعذر الحفر والبحر ليس حرزا لكفن الميت المطروح فيه فلا يقطع آخذه لأنه ظاهر فهو كما لو وضع الميت على شفير القبر فأخذ كفنه فإن غاص في الماء فلا قطع على آخذه أيضا لأن طرحه في الماء لا يعد إحرازا كما لو تركه على وجه الأرض وغيبه الريح بالتراب ولو أخرج الميت مع الكفن ففي القطع وجهان
قال الزركشي وقضية ما سيأتي من عدم القطع بسرقة الحر العاقل وعليه ثيابه أن يكون هنا كذلك وإذا أخذ الكفن حينئذ لا قطع لأنه لم يأخذه من حرز
قال الزركشي ولا بد من كون الميت محترما ليخرج الحربي ولم يذكره اه
وهو ظاهر ولا بد أيضا كما بحثه بعضهم أن يكون القبر محترما ليخرج قبر في أرض منصوبة
فصل فيما لا يمنع القطع وما يمنعه وما يكون حرزا لشخص دون آخر
ولو أخر هذا الفصل إلى قوله ولا يقطع مختلس كان أولى لأنه أول الركن الثاني للقطع ( يقطع ) جزما ( مؤجر الحرز ) إجارة صحيحة بسرقته منه مال المستأجر الذي وضعه فيه إذ لا شبهة له فيه لأن المنافع بعقد الإجارة مستحقة للمستأجر والإحراز من المنافع وهذا بخلاف ما لو وطىء المالك أمته المزوجة فإنه لا يحد لأن الشبهة قائمة في المحل وبخلاف ما ليس للمستأجر وضعه فيه كأن استأجر أرضا للزراعة فآوى إليه ماشية مثلا ويؤخذ من هذا أنه لو سرق منها بعد فراغ مدة الإجارة لم يقطع وهو كذلك وإن كان قضية كلام ابن الرفعة أنه يقطع وبخلاف ما لو كانت الإجارة فاسدة فلا قطع
تنبيه يرد على جزم المصنف قطع المؤجر لو ثبت له خيار الفسخ بطريق معتبر بأن ثبت على وجه لا يبطل بالتأجير كما لو بلغه ليلا إفلاس المستأجر فسرق تلك الليلة من الحرز ففيه خلاف المعير لتمكنه من فسخ الإجارة كما أن المعير يتمكن من الرجوع في العارية قاله البلقيني بحثا
قال ولم أر من تعرض له
( وكذا ) يقطع ( معيره ) أي الحرز إعارة صحيحة بسرقة مال المستعير الذي له وضعه فيه ( في الأصح ) لأنه سرق النصاب من حرز محترم وإنما يجوز له الدخول إذا رجع والثاني لا يقطع لأن الإعارة لا تلزم وله الرجوع متى شاء
ويؤخذ من هذا أن محل الخلاف في العارية الجائزة أما الإعارة اللازمة فيقطع فيها قطعا كالمؤجر ومحله أيضا إذا لم يتقدمه رجوع فإن رجع أولا في العارية بالقول وامتنع المستعير من الرد بعد التمكن فلا قطع قطعا لأن المستعير حينئذ يتصرف فيه بغير حق فكان كالغاصب وإن سرقه بعد الرجوع قبل إمكان التفريغ فلا قطع كما لو سرق المشتري مال البائع من الدار المبيعة بعد توفية الثمن وقبل القبض وقبل إمكان التفريغ أما قبل توفية الثمن فيقطع لأن للبائع قبل تسليمه حق الحبس فأشبه المستأجر بخلاف ما بعده وقضيته أنه لو كان الثمن مؤجلا لم يقطع وهو كما قال شيخنا ظاهر
وخرج بالصحيحة الفاسدة فلا قطع فيها لما مر في الإجارة وبماله الذي وضعه فيه ما لو استعار للزراعة فغرس ودخل المستعير فسرق من الغراس لم يقطع على قياس ما مر في صورة الإجارة السابقة
تنبيه مثل إعارة الحرز إعارة رقيق لحفظ مال أو رعي غنم ثم سرق مما يحفظه رقيقه وقد خرج بقول المصنف الحرز ما لو أعاره قميصا فطر المعير جيبه وأخذ المال فإنه يقطع قطعا كما قاله الإمام
قال الأذرعي ونقب الجدار أي المعار كطر الجيب فيما يظهر
( ولو غصب حرزا لم يقطع مالكه ) بسرقة ما أحرزه الغاصب فيه جزما لأن له الدخول والهجوم عليه فلا يكون محرزا عنه وصاحب المتاع ظالم وقد قال صلى الله عليه وسلم ليس لعرق ظالم رق
( وكذا أجنبي ) لا يقطع بسرقته منه ( في الأصح ) لأن الإحراز من المنافع والغاصب لا يستحقها والثاني يقطع إذ لا حق للأجنبي فيه وليس له الدخول
____________________
(4/170)
تنبيه لو وضع متاعه بدار غيره من غير علمه ورضاه فسرق هل يقطع سارقه
قال الحناطي في فتاويه قيل لا يقطع لأن الموضع لا يكون حرزا في حقه وإن كان في نفسه حرزا وقيل يقطع لأن الحرز يرجع إلى صون المتاع وهو موجود هنا
قال وهذا أشبه بالحق عندي اه
والأوجه الأول بل هو داخل في قول المصنف غصب حرزا
( ولو غصب مالا ) أو سرقه ( وأحرزه بحرزه فسرق المالك منه مال الغاصب أو ) سرق ( أجنبي ) منه المال ( المغصوب ) أو المسروق ( فلا قطع ) على واحد منهما ( في الأصح ) أما في المالك فلأن له دخول الحرز وهتكه لأخذ ماله فالذي يأخذه من مال الغاصب أو السارق يأخذه وهو محرز عنه والثاني يقطع لأنه أخذ غيره ماله
قال الرافعي وخصص المحققون الوجهين في المالك بما إذا كان مال الغاصب متميز عن ماله فأخذه وحده أو مع مال نفسه فأما إذا كان مخلوطا بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر فلا قطع فيه جزما
وأما في الأجنبي فلأن الحرز ليس برضا المالك فكأنه غير محرز والثاني نظر إلى أنه حرز في نفسه
واحترز بقوله مال الغاصب عما لو سرق مال نفسه وحده فلا قطع قطعا وبقوله أو أجنبي المغصوب عما لو سرق الأجنبي غير المغصوب فإنه يقطع قطعا
تنبيه في قول المصنف أو سرق أجنبي إشارة لتخصيص الخلاف بدخول الأجنبي بقصد سرقة مغصوب أما إذا أخذه بقصد الرد على المالك فلا يقطع جزما كما صرح به البغوي
وأعلم أن السرقة أخذ المال خفية كما مر
( و ) حينئذ ( لا يقطع مختلس ) وهو من يعتمد الهرب من غير غلبة مع معاينة المالك ( و ) لا ( منتهب ) وهو من يأخذ عيانا ويعتمد على القوة والغلبة ( و ) لا ( جاحد ) أي منكر ( وديعة ) وعارية لحديث ليس على المختلس والخائن قطع
صححه الترمذي وفرق من حيث المعنى بينهم وبين السارق بأن السارق يأخذ المال خفية ولا يتأتى منعه فمشرع القطع زجرا له وهؤلاء لا يقصدونه عيانا فيمكن منعهم بالسلطان وغيره كذا قاله الرافعي وغيره ولعل هذا حكم على الأغلب وإلا فالجاحد لا يقصد الأخذ عند جحوده عيانا فلا يمكن منعه بالسلطان ولا غيره
تنبيه دخل في تفسيرهم المنتهب قاطع الطريق فلا بد من لفظ يخرجه
( ولو نقب ) في ليلة ولم يسرق ( وعاد في ليلة أخرى ) قبل إعادة الحرز ( فسرق قطع في الأصح ) كما لو نقب في أول الليل وسرق في آخره والثاني لا لأنه إنما أخذ بعد انتهاك الحرز والأول أبقى الحرز بالنسبة إليه فإن أعيد الحرز فسرق قطع جزما كما سبق أول الباب في مسألة إخراج نصاب من حرز مرتين
واحترز بقوله وعاد في ليلة أخرى عما لو نقب وأخرج النصاب عقب النقب فإنه يقطع جزما
( قلت ) كما قال الرافعي في الشرح ( هذا ) أي القطع في مسألة المتن ( إذا لم يعلم المالك النقب ولم يظهر ) بأن لم يشتهر ( للطارقين ) لخفائه عليهم ( وإلا ) بأن علم المالك النقب أو ظهر للطارقين ( فلا يقع قطعا والله أعلم ) لانتهاك الحرز فصار كما لو سرقه غيره
فإن قيل ما جزم به من عدم القطع عند الاشتهار يخالف ما رجحه فيما إذا أخرج نصابا من حرز مرتين أنه يجب القطع على الأصح وإن عاد بعد الاشتهار
أجيب بأنه ثم تمم السرقة فلم يضر فيها الاشتهار وهنا ابتدأها
تنبيه يقع في بعض النسخ وإلا فيقطع قطعا وهو غلط والصواب إثبات حرف النفي وهو موجود في خط المصنف قاله الأذرعي
( ولو نقب ) شخص ( وأخرج غيره ) المال من النقب ولو في الحال ( فلا قطع ) على واحد منهما لأن الناقب لم يسرق والآخذ أخذ من غير حرز ويجب على الأول ضمان الجدار وعلى الثاني ضمان المأخوذ
تنبيه أطلق المصنف المسألة وصورتها أن لا يكون في الدار أحد فإن كان فيها حافظ قريب من النقب
____________________
(4/171)
وهو يلاحظ المتاع فالمال محرز به فيجب القطع على الآخذ وإن كان الحافظ نائما فلا قطع على الأصح كمن نام والباب مفتوح ومحل منع القطع على الناقب إذا كان ما أخرجه من البناء لا يبلغ نصابا كما قاله الزركشي وإلا فيقطع وإن لم يدخل فقد صرحوا بأن الجدار حرز لآلة البناء وفي أدب القضاء للدنيلي إذا نقب حائطا فأخرج منه آجرا
قال الشافعي رحمه الله إن بلغ قيمة الأجر مقدارا يجب به القطع قطع انتهى
فيكون المراد حينئذ بقولهم لأن الأول لم يسرق أنه لم يسرق ما في الحرز هذا كله إذا كان المخرج مميزا أما لو نقب ثم أمر صبيا غير مميز أو نحوه بالإخراج فأخرج قطع الأمر وإن أمر مميزا أو قردا فلا لأنه ليس آلة له ولأن للحيوان اختيارا
فإن قيل هلا كان غير المميز كالقرد أجيب بأن اختيار القرد ثم أرسله على إنسان فقتله فإنه يضمنه فهلا وجب عليه الحد هنا
أجيب بأن الحد إنما يجب بالمباشرة دون السبب بخلاف القتل أقوى فإن قيل له لو علمه القتل وهل القرد مثال فيقاس عليه كل حيوان معلم أو لا الذي يظهر الأول ولو عزم على عفريت فأخرج نصابا هل يقطع أو لا الذي يظهر الثاني كما لو أكره بالغا مميزا على الإخراج فإنه لا قطع على واحد منهما
( ولو تعاونا ) أي اثنان ( في النقب وانفرد أحدهما بالإخراج ) لنصاب فأكثر ( أو وضعه ناقب ) أي أحد الناقبين ( بقرب النقب فأخرجه آخر ) مع مشاركته له في النقب وساوى ما أخرجه نصابا فأكثر ( قطع المخرج ) في الصورتين لأنه السارق
تنبيه جملة وضعه عطف على جملة انفرد فهي من تتمة مسألة التعاون والفرق بينها وبين ما قبلها أن المخرج في تلك المسألة لا مدخل له في النقب بخلاف هذه ولو قال المصنف الآخر بالألف واللام كما في المحرر لكان أولى وتحصل الشركة وإن أخذ هذا لبنات وهذا لبنات على الأصح وقيل لا بد في حصول الشركة أن يتحاملا على آلة واحدة به
( ولو وضعه بوسط نقبه ) بفتح السين لأنه اسم أريد به موضع النقب ( فأخذه ) شخص ( خارج ) أو ناوله لغيره من النقب كما في الروضة وأصلها ( وهو يساوي نصابين ) فأكثر ( لم يقطعا في الأظهر ) لأن كلا منهما لم يخرج من تمام الحرز وهو الجدار ويسمى هذا السارق الظريف أي الفقيه ومنهم من قطع بهذا القول والثاني يقطعان لاشتراكهما في النقب والإخراج ولئلا يصير ذلك طريقا إلى إسقاط الحد ويؤخذ من العلة الأولى أن صورة المسألة أنهما تعاونا في النقب ثم دخل أحدهما ووضع المتاع في بعض النقب فمد الآخر يده وأخذه وإن أوهم تعبير المصنف جريان الخلاف ولو كان الخارج غير ناقب فلو قال فأخذه شريكه في النقب لكان أصرح في المقصود وخرج بقوله وهو يساوي نصابين ما إذا كان يساوي دون النصابين فإنه لا قطع عليهما جزما ولو ربط المال لشريكه الخارج فجره مقطع الخارج دون الداخل وعليهما الضمان ويقطع الأعمى بسرقة ما دله عليه الزمن وإن حمله ودخل به الحرز ليدله على المال وخرج به لأنه السارق ويقطع الزمن بما أخرجه والأعمى حامل للزمن لذلك وإنما لم يقطع الأعمى لأنه ليس حاملا للمال ولهذا لو حلف لا يحمل طبقا فحمل رجلا حاملا طبقا لم يحنث وكالزمن غيره وفتح الباب والقفل بكسر أو غيره وتسور الحائط كالنقب فيما مر ( ولو رماه ) أي المال المحرز لشخص ( إلى خارج حرز ) أو أخذه في يده وأخرجها به من الحرز ثم أعادها له ( أو وضعه بماء جار ) في الحرز فخرج الماء به منه أو راكدا فحركه فخرج به كما فهم بالأولى ( أو ) وضعه على ( ظهر دابة سائرة ) أو واقفة سيرها هو كما فهم بالأولى وصرح به في المحرر فخرجت به من الحرز ( أو عرضه ) بتشديد الراء ( لريح هابة فأخرجته ) منه ( قطع ) في هذه الصور كلها لأن الإخراج في الجميع منسوب إليه وسواء رماه من النقب أم الباب أم من فوق الجدار وسواء أخذه بعد الرمي أم لا أخذه غيره أم لا تلف كأن رماه في نار أم لا
____________________
(4/172)
تنبيه لو عرف المصنف الحرز كالمحرر كان أولى لأن تنكيره يوهم أنه لو فتح الصندوق وأخذ منه النقد ورماه في أرض البيت فتلف أو أخذه غيره أنه يقطع وفيه تفصيل يأتي واحترز بالماء الجاري أو الراكد إذا حركه عما لو طرح المتاع في ماء راكد فزاد بانفجار أو سيل أو نحوه فأخرجه فلا قطع على الأصح لخروجه بسبب حادث ولو وضعه في ماء راكد فحركه غيره حتى خرج فالقطع على المحرك وقد يرد على إطلاقه ما لو كان خارج الحرز واحتال برمي أحجار وغير ذلك حتى سقط الأترج أو غيره من الثمار في الماء وخرجت من الجانب الآخر فالأصح لا قطع وبقوله هابة عما إذا كانت ساكنة ووضعه على الطرف فهبت وأخرجته فلا قطع على الأصح كالماء الراكد فيما مر
وقوله على ظهر دابة سائرة أي ليخرج من الحرز
أما لو كانت سائرة من جانب من الدار إلى جانب آخر منها فوضعه عليها ثم عرض لها الخروج بعد ذلك لخرجت فالظاهر كما قاله الأذرعي أنه كما لو وضعه عليها وهي واقفة ثم سارت وحكمه ما ذكره بقوله ( أو ) وضعه على ظهر دابة ( واقفة فمشت بوضعه ) حتى خرجت به من الحرز ( فلا ) قطع ( في الأصح ) لأن لها اختيارا في السير فإذا لم يسبقها فقد سارت باختيارها والثاني يقطع لأن الخروج حصل بفعله فإن الدابة إذا حملت سارت والثالث إن سارت عقب الوضع قطع وإلا فلا وهو نظير المصحح في فتح قفص الطائر
فروع لو ابتلع جوهرة مثلا في الحرز وخرج منه قطع إن خرجت منه بعد لبقائها بحالها فأشبه ما لو أخرجها فيه في وعاء فإن لم تخرج منه فلا قطع لاستهلاكها في الحرز كما لو أكل المسروق في الحرز وكذا لو خرجت منه لكن نقصت قيمتها حال الخروج عن ربع دينار كما نبه عليه البارزي ولو تضمخ بطيب في الحرز وخرج منه لم يقطع ولو جمع من جسمه نصاب منه لأن استعماله بعد إتلافا له كالطعام ولو ربط لؤلؤة مثلا بجناح طائر ثم طيره قطع كما لو وضعه على ظهر دابة ثم سيرها ( ولا يضمن حر بيد ولا يقطع سارقه ) وإن كان صغيرا لأنه ليس بمال وألحق به البغوي المكاتب و الرافعي المبعض
فإن قيل روى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم أتى برجل يسرق الصبيان ثم يخرج بهم فيبيعهم في أرض أخرى فأمر به فقطعت يده فما الجواب عن ذلك أجيب بأن الحديث ضعيف وعلى تقدير صحته فمحمول على الأرقاء وحكمهم أنه إن سرق من حرز رقيقا غير مميز لصغر أو عجمة أو جنون قطع كسائر الأموال وحرزه فناء الدار ونحوه ما إذا لم يكن الفناء مطروقا كما قاله الإمام وسواء أحمله السارق أو دعاه فأجابه لأنه كالبيهمة تساق أو تقاد ولو أكره المميز فخرج من الحرز قطع كما لو ساق البهيمة بالضرب ولأن القوة التي هي الحرز قد زالت وإن أخرجه بخديعة لم يقطع لأنها خيانة لا سرقة ولو حمل عبدا مميزا قويا على الامتناع نائما أو سكران قطع كما صرح به القاضيان أبو الطيب و حسين وغيرهما وهو نظير ما مر في أم الولد بخلاف ما إذا حمله مستيقظا فإنه لا يقطع لأنه محرز بقوته وهي معه ( ولو سرق ) حرا ( صغيرا ) لا يميز أو مجنونا أو أعجميا أو أعمى من موضع لا ينسب لتضييع ( بقلادة ) أو مال غيرها مما يليق به من حيلة وملابسة وذلك نصاب ( فكذا ) لا يقطع سارقه ( في الأصح ) لأن للحر يدا على ما معه
ولهذا لو وجد منفردا ومعه حلي حكم له به فصار كمن سرق جملا وصاحبه راكبه والثاني يقطع لأنه أخذه لأجل ما معه أما إذا سرقه من موضع ينسب لتضييع فلا يقطع بلا خلاف أو كان ما معه فوق ما يليق به وأخذه من حرز مثله قطع بلا خلاف أو من حرز يصلح للصبي دونه لم يقطع بلا خلاف ذكره في الكفاية
تنبيه هذا إذا كانت القلادة للصبي فلو كانت لغيره فإن أخذه من حرز مثلها قطع وإلا فلا جزما قاله الماوردي
ولو أخرج الصبي من الحرز ثم نزع القلادة منه لم يقطع كما قاله ابن المقري لأنه لم يأخذها من حرز ولو سرق قلادة مثلا معلقة على صغير ولو حرا أو كلب محرزين أو سرقها مع الكلب قطع وحرز الحر الصغير حرز العبد الصغير وحرز الكلب حرز الدواب
( ولو نام عبد على بعير ) فجاء سارق ( فقاده وأخرجه عن القافلة ) إلى مضيعة
____________________
(4/173)
كما في الروضة ( قطع ) لأنه كان محرزا بالقافلة والعبد في نفسه مسروق وثبتت اليد وتعلق به القطع ( أو ) نام ( حر ) على بعير إلخ ( فلا ) يقطع ( في الأصح ) لأن البعير بيده سواء أنزله بعد ذلك عنه أم لا كما صرح به في التهذيب ومثله المكاتب والمبعض كأعلم مما مر والخلاف راجع للمسألتين كما في الروضة وإن أوهم كلام المصنف الجزم في العبد ومقابل الأصح في الأولى لا يقطع لأن يده على البعير وفي الثانية يقطع لأن البعير كان محرزا بالقافلة وخرج بنام ما لو كان مستيقظا وهو قادر على الامتناع ولو أخرجه إلى قافلة أخرى أو بلدة أو قرية لم يقطع في الثانية بلا خلاف ومقتضى ما في الروضة أنه لا قطع في الأولى أيضا وليس مرادا ولهذا أسقط ابن المقري ذكر المضيعة من روضه
( ولو نقل ) المال من بعض زوايا البيت لبعض آخر منه لم يقطع أو نقل المال ( من بيت مغلق ) بفتح اللام ( إلى صحن دار بابها مفتوح ) ولم يخرجه منها ( قطع ) جزما لأنه أخرجه من حرزه وجعله في محل الضياع ( وإلا ) صادق بثلاث صور الأولى أن يكون البلد مفتوحا وباب الدار مغلقا الثانية أن يكونا مغلقين والعرصة حرز للمخرج الثالثة أن يكونا مفتوحتين ولا حافظ ثم ( فلا ) يقطع في الأصح لأنه في الأوليين لم يخرجه من تمام الحرز والمال في الثالثة غير محرز
( تنبيه ) محله في الثالثة إذا فتح الباب غير السارق كأن تسور السارق الجدار وفتح الباب غيره أما إذا فتحه هو فهو في حقه كالمغلق حتى لا يقطع لأنه لم يخرجه من تمام الحرز وإلا لزم أن لا يقطع بعد إخراجه المال لأنه أخرجه من غير حرز
( وقيل إن كانا ) أي باب البيت والدار ( مغلقين قطع ) لأنه أخرجه من حرز والأصح المنع لأنه لم يخرجه من تمام الحرز فأشبه ما إذا أخرج من الصندوق المغلق إلى البيت المغلق ولم يخرجه من البيت ( وبيت خان ) أو رباط أو نحوه ( وصحنه كبيت و ) صحن ( دار في الأصح ) فيفترق الحال بين أن يكون باب الخان مفتوحا ومغلقا كما إذا أخرج من البيت إلى صحن الدار والثاني يجب القطع بكل حال لأن صحن الخان ليس حرزا لصاحب البيت بل هو مشترك بين السكان فهو كالسكة المشتركة بين أهلها
( تنبيه ) محل الخلاف إذا كان السارق من غير سكانه فإن كان منهم وسرق من البيت والحجرة المغلقين قطع وإن سرق من العرصة لم يقطع
فروع لو سرق الضيف من مكان مضيفه أو الجار من حانوت جاره أو المغتسل من الحمام وإن دخل ليسرق أو المشتري من الدكان المطروق للناس ما ليس محرزا عنه لم يقطع على القاعدة في سرقة ذلك وإن دخل الحمام ليسرق
قال ابن الرفعة أو ليغتسل ولم يغتسل فتغفل حماميا أو غيره استحفظ متاعا فحفظه وأخرج المتاع من الحمام قطع بخلاف ما لو لم يستحفظ أو استحفظ فلم يحفظ لنوم أو إعراض أو غيره أو لم يكن حافظ ولو نزع شخص ثيابه في الحمام والحمامي أو الحارس جالس ولم يسلمها إليه ولا استحفظه بل دخل على العادة فسرقت فلا قطع ولا ضمان على الحمامي ولا على الحارس ولو سرق السفن من الشط وهو جانب النهر والوادي وجمعه شطوط وهي مشدودة قطع لأنها محرزة بذلك فإن لم تكن مشدودة فلا قطع لأنها غير محرزة في العادة
فصل في شروط السارق وفيما تثبت به السرقة وما يقطع بها وشروط السارق تكليف واختيار والتزام وعلم تحريم السرقة كما أشار إليه الفارقي رحمه الله وحينئذ ( لا يقطع صبي ومجنون ومكره ) بفتح الراء لرفع القلم عنهم وحربي لعدم التزامه وأعجمي أمر بسرقة وهو يعتقد إباحتها أو جهل التحريم لقرب عهده بالإسلام أو بعده عن العلماء لعذره وقطع السكران ممن قبيل ربط الحكم بسببه وقد مر الكلام عليه في الطلاق وغيره
تنبيه اقتصار المصنف على المكره بالفتح قد يوهم أن المكره بالكسر يقطع وليس مرادا نعم لو كان
____________________
(4/174)
المكره بالفتح غير مميز لعجمة أو غيرها فقد سبق عن الجمهور فيما لو نقب ثم أمر غير مميز فأخرج أنه يجب القطع على الآمر فليكن هنا مثله
( ويقطع مسلم وذمي بمال مسلم و ) مال ( ذمي ) أما قطع المسلم بمال المسلم فبإجماع وأما قطعه بمال الذمي فعلى المشهور لأنه معصوم بذمته وقيل لا يقطع كما لا يقتل به
وأما قطع الذمي بمال المسلم والذمي فلالتزامه الأحكام سواء أرضي بحكمنا أم لا
تنبيه قد يفهم كلام المصنف أن المسلم أو الذمي لا يقطع بمال المعاهد والمؤمن وهو كذلك كما قاله القاضي الحسين والإمام و الغزالي ومن تبعهم بناء على أن المعاهد لا يقطع بمال المسلم أو الذمي وقد ذكر الخلاف في ذلك بقوله ( وفي ) سرقة ( معاهد ) بفتح الهاء بخطه ويجوز كسرها ومستأمن إذا سرق ولو لمعاهد ( أقوال أحسنها ) كما في المحرر والشرح الكبير وفي الصغير أنه الأقرب ( إن شرط ) عليه في عهده ( قطعه بسرقة قطع ) لالتزامه ( وإلا فلا ) يقطع لعدم التزامه ( قلت الأظهر عند الجمهور لا قطع ) مطلقا ( والله أعلم ) وقالا في الشرح والروضة أنه الأظهر عند الأصحاب وهو نصه في أكثر كتبه لأنه لم يلتزم الأحكام فأشبه الحربي والثالث يقطع مطلقا كالذمي واختاره في المرشد وصححه مجلى وخص الماوردي الخلاف بمال المسلم أو الذمي فإن سرق مال معاهد فلا يقطع قطعا وأما المال المسروق فيجب استرداده منه جزما إن بقي وبدله إن تلف ( وتثبت السرقة بيمين المدعي المردودة ) كأن يدعي على شخص سرقة نصاب فينكل عن اليمين فترد على المدعي ويحلف فيجب القطع ( في الأصح ) ونقله في الروضة عن تصحيح المحرر وسكت عليه لأن اليمين بين المردودة كالإقرار أو البينة والقطع يجب بكل منهما فأشبه القصاص والثاني لا يقطع بها لأن القطع في السرقة حق الله تعالى فأشبه ما لو قال أكره أمتي على الزنا وحلف المدعي بعد نكول المدعي عليه يثبت المهر دون حد الزنا وهذا هو المعتمد كما جزما به في الروضة وأصلها في الباب الثالثت في اليمين من الدعاوى ومشى عليه في الحاوي الصغير هنا
وقال الأذرعي إنه المذهب والصواب الذي قطع به جمهور الأصحاب
وقال البلقيني إنه المعتمد لنص الأم والمختصر أنه لا يثبت القطع إلا بشاهدين وإقرار السارق
تنبيه هذا الخلاف بالنسبة إلى القطع
أما المال فيثبت قطعا ( أو بإقرار السارق ) مؤاخذة له بقوله ولا يشترط تكرار الإقرار كما في سائر الحقوق
تنبيه أطلق المصنف الإقرار وله شرطان أحدهما أن يكون بعد الدعوى عليه فإن أقر قبلها لم يثبت القطع في المال بل يوقف على حضور المالك وطلبه كما سيأتي
ثانيهما أن يفصل الإقرار كالشهادة فيبين السرقة والمسروق منه وقدر المسروق والحرز بتعيين أو وصف بخلاف ما إذا لم يبين ذلك لأنه قد يظن غير السرقة الموجبة للقطع سرقة موجبة له وقضية كلامه أنه لا يثبت القطع بعلم القاضي وهو كذلك بخلاف السيد فإنه يقتضي بعلمه في رقيقة كما مر في حد الزنا
( والمذهب قبول رجوعه ) عن الإقرار بالسرقة بالنسبة إلى القطع ولو في أثنائه لأن حق الله تعالى فيسقط حد الزنا ولو بقي من القطع بعد الرجوع ما يضر إبقاؤه قطعه هو لنفسه ولا يجب على الإمام قطعه أما الغرم فلا لأنه حق آدمي والطريق الثاني لا يقبل في المال ويقبل في القطع على الأصح والثالث يقبل في القطع لا في المال على الأصح
فرعان أحدهما لو أقر بسرقة ثم رجع ثم كذب رجوعه لم يقطع كما قاله الدارمي
ثانيهما لو أقر بها ثم أقيمت عليه البينة ثم رجع قال القاضي سقط عنه القطع على الصحيح لأن الثبوت كان بالإقرار اه
وتقدم نظيره في الزنا عن الماوردي والترجيح فيه وهو إن أسند الحكم إلى البينة لا يسقط أو إلى الإقرار قبل رجوعه
تنبيه لو رجع المقرين بالسرقة عن إقراره دون الآخر قطع الآخر فقط
( ومن أقر ) ابتداء أو بعد دعوى ( بعقوبة الله تعالى ) أي بمقتضيها كالسرقة والزنا ( فالصحيح أن للقاضي أن يعرض له ) أي للمقر ( بالرجوع ) عما أقر
____________________
(4/175)
به مما يقبل فيه رجوعه كأن يقول له في السرقة لعلك أخذت من غير حرز وفي الزنا لعلك أخذت أو لمست وفي الشرب لعلك لم تعلم أن ما شربته مسكر لأنه صلى الله عليه وسلم قال لمن أقر عنده بالسرقة ما إخالك سرقت قال بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع
وقال لماعز لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت رواه البخاري ( ولا ) يصرح بذلك فلا ( يقول ) له ( ارجع ) عنه أو نحو ذلك كاجحده لا يكون أمرا بالكذب والثاني لا يعرض له بالرجوع كما لا يصرح له به والثالث يعرض له إن لم يعلم أن له الرجوع وإن علم فلا
تنبيهات قضية كلام المصنف أن الخلاف في الجواز وأنه لا يستحب وهو الأصح في الشرح والروضة لكن في البحر عن الأصحاب أن يستحب وأشار المصنف في شرح مسلم إلى نقل الإجماع فيه واحترز بالإقرار عما إذا ثبت زناه بالبينة فإنه يعرض له بالرجوع وبقوله ومن أقر عما قبل الإقرار فإن للقاضي أن يعرض له بالإنكار ويحمله عليه أي يلقنه إياه قطعا وبقوله لله تعالى من حقوق الآدميين فإنه لا يعرض بالرجوع عنها وهل للحاكم أن يعرض للشهود بالتوقف في حدود الله تعالى وجهان أصحهما في زيادة الروضة نعم إن رأى المصلحة في الستر وإلا فلا
قال الأذرعي ولم يصرحوا بأن التصريح بذلك لا يجوز أو مكروه والظاهر أن مرادهم الأول اه
وكلام المصنف يقتضي أن قوله ولا يقول ارجع من تتمة ما قال إنه الصحيح وليس مرادا بل هو مجزوم به في الرافعي وغيره
وأما الشفاعة في الحد فقال المصنف في شرح مسلم أجمع العلماء على تحريمها بعد بلوغ الإمام وأنه يحرم تشفيعه فيه أما قبل بلوغ الإمام فأجازها أكثر العلماء إن لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وأذى للناس فإن كان لم يشفع وستأتي الشفاعة في التعزيز في بابه
( ولو أقر ) شخص ( بلا ) سبق ( دعوى ) عليه ( إنه سرق مال زيد الغائب لم يقطع في الحال بل ينتظر حضوره ) ومطالبته ( في الأصح ) المنصوص لأنه ربما حضر أقر أنه كان أباح له المال أو يقر له بالملك فيسقط الحد وإن كذبه السارق للشبهة والثاني يقطع في الحال عملا بإقراره كما لو أقر أنه زنى بفلانة فإنه لا ينتظر حضورها وفرق الأول بأن حد الزنا لا يسقط بإباحة الوطء وحد السرقة يسقط بإباحة المال وعلى الأول هل يحبس إلى أن يقدم الغائب أو لا فيه خلاف قال وأشار الإمام إلى أن الظاهر عند الأصحاب أنه يحبس لما يتعلق به من حق الله تعالى وصححه في الكفاية وقال الأذرعي إنه ظاهر نص الشافعي في الأم وجزم به صاحب الأنوار
تنبيه لو سرق مال صبي أو مجنون قال شيخنا أو سفيه فيما يظهر انتظرنا بلوغه أو إفاقته أو رشده لاحتمال أن يقر له بأنه مالك لما سرقه كالغائب
فرعان لو أقر شخص لغائب بمال لم يطالبه الحاكم به إذ ليس له المطالبة بمال الغائب إلا إن مات الغائب عن المال وخلفه لطفل ونحوه فله أن يطالب المقر به ويحبسه ولو أقر عبد بسرقة دون النصاب لم يقبل إلا إن صدقه سيده أو نصاب قطع كإقراره بجناية توجب قصاصا ولا يثبت المال وإن كان بيده كما علم ذلك من باب الإقرار
( أو ) أقر ( أنه أكره أمة غائب على زنا حد في الحال ) ولم ينتظر حضور الغائب ( في الأصح ) لأن حد الزنا لا يتوقف على الطلب ولو حضر وقال كنت أبحتها له لم يسقط الحد لأن إباحة البضع ملغاة والثاني ينتظر حضوره لاحتمال أن يقر إنه كان وقفها عليها والمذكور في كتاب للوقف إن الحد مبني على أقوال الملك إن جعلناه له فلا حد وإلا حد
تنبيه ذكر الإكراه ليس بقيد فإنه لو قال زنيت بأمة فلان ولم يذكر إكراها كان الحكم كذلك والمصنف إنما ذكره لأن فيه حقا للسيد وهو المهر لكن هذا لا تعلق به بالحد
( وتثبت ) السرقة الموجبة للقطع ( بشهادة رجلين ) كسائر العقوبات غير الزنا فإنه خص بمزيد العدد ( فلو شهد رجل وامرأتان ) بسرقة أو أقام المدعي شاهدا بها وحلف معه ( ثبت المال ولا قطع ) على السارق كما لو علق الطلاق أو العتق على غصب أو سرقة فشهد
____________________
(4/176)
رجل وامرأتان على الغصب أو السرقة ثبت المال دون الطلاق والعتق
تنبيه محل ثبوت المال ما إذا شهدوا بعد دعوى المالك أو وكيله فلو شهدوا حسبة لم يثبت بشهادتهم المال أيضا لأن شهادتهم منصبة إلى المال وشهادة الحسبة بالنسبة إلى المال غير مقبولة
( ويشترط ذكر الشاهد ) بسرقة مال ( شروط السرقة ) الموجبة للقطع ببيان السارق بالإشارة إلى عينه إن كان حاضرا ويذكر اسمه ونسبه بحيث يحصل التمييز إن كان غائبا
واستشكل بأن البينة لا تسمع على غائب في حدود الله تعالى وقد يجاب بأنها إنما سمعت تغليبا لجانب المال ولهذا لا قطع على السارق حتى يحضر المالك ويدعي بما له كما مر وببيان المسروق منه والمسروق وكون السرقة من حرز بتعينه أو وصفته وغير ذلك فلا يكفي الإطلاق إذ قد يظن ما ليس بسرقة سرقة لاختلاف العلماء فيما يوجب القطع
واستثنى البلقيني من إطلاقه مواضع إحداها أن من شروط القطع كون المسروق نصابا وهذا لا يشترطان يذكره الشاهد بل يكفي تعيين المسروق ثم الحاكم ينظر فيه فإذا ظهر له أنه نصاب عمل بمقتضاه ثانيها ومن شروطه كون المسروق ملكا لغير السارق وهذا لا يشترط في شهادة الشاهد بل يكفي أن يقول سرق هذا ثم المالك يقول هذا ملكي والسارق يوافقه ثالثها ومن شروطه عدم الشبهة مقتضاه اعتبار أن يقول في شهادته ولا أعلم له فيه شبهة وقد حكاه في الروضة عن القاضي أبي الطيب وغيره
ثم قال قال صاحب الشامل وليكن هذا تأكيدا لأن الأصل عدم الشبهة فيكون مستثنى على هذا ولكن المعتمد الأول وقياسه اشتراط ذلك في الإقرار بالسرقة ويشترط بإنفاقهما في شهادتهما
( و ) حينئذ ( لو اختلف شاهدان ) في وقت الشهادة ( كقوله ) أي أحدهما ( سرق بكرة و ) قول ( الآخر ) سرق ( عشية فباطلة ) هذه الشهادة لأنهما شهدا على فعل لم ينفقا عليه
تنبيه قوله فباطلة أي بالنسبة إلى القطع أما المال فإن حلف المسروق منه مع الشاهد أخذ الغرم منه وإلا فلا كذا قالاه والمراد حلف مع من وافقت شهادته دعواه أي الحق في زعمه كما بينه في الكفاية
تنبيه أطلق المصنف الاختلاف والمراد به القادح فإنه لو قال أحدهما سرق كيسا وقال الآخر كيسين ثبت الواحد وتعلق به القطع إن كان نصابا ولو شهد اثنان بسرقة واثنان بسرقة فإن لم يتواردا على عين واحدة ثبت القطع والمالان وإن تواردا على عين واحدة كأن شهد اثنان أنه سرق كذا غدوة وشهد آخران أنه سرقه عشية تعارضتا فلا يحكم بواحدة منهما وإن شهد له واحد بسرقة ثوب أبيض وآخر بأسود فله أن يحلف مع أحدهما وله مع ذلك أن يدعي الثوب الآخر ويحلف مع شاهده واستحقهما لأن ذلك مما يثبت بالشاهد واليمين ولا يقال تعارضت شهادتهما لأن الحجة لم تتم ولا قطع لاختلاف شهادتهما
( وعلى السارق رد ما سرق ) إن بقي لخبر أبي داود على اليد ما أخذت حتى تؤديه
وقال أبو حنيفة إن قطع لم يغرم وإن غرم له لم يقطع
وقال مالك إن كان غنيا ضمن وإلا فلا
لأن القطع لله تعالى والضمان لآدمي فلا يمنع أحدهما الآخر ولا يمنع الفقر إسقاط مال الغير ولو كان للمسروق منفعة استوفاها السارق أو عطلها وجبت أجرتها كالمغصوب ولو أعاد المال المسروق إلى الحرز لم يسقط القطع ولا الضمان عنه
وقال أبو حنيفة يسقطان
وعن مالك لا ضمان ويقطع
قال بعض أصحابنا ولو قيل بالعكس لكان مذهبا لدرء الحدود بالشبهات ( فإن تلف ضمنه ) ببدله جبرا لما فات ( وتقطع يمينه ) أي يده اليمنى أولا وإن كان أعسر بالإجماع وفي معجم الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقطع يمينه وكذا فعل الخلفاء الراشدون
وقال تعالى { فاقطعوا أيديهما } وقرىء شاذا فاقطعوا أيمانهما والقراءة الشاذة كخبر الواحد في الاحتجاج كما نص عليه في البويطي
وقال إمام الحرمين الظاهر من مذهب الشافعي أنه لا يحتج بها فقلده المصنف في ذلك فجزم به في شرح مسلم في قوله شغلونا عن الصلاة الوسطى
قال في المهمات فاحذر ذلك
فإن قيل لم قطعت يد السارق ولم يقطع
____________________
(4/177)
ذكر الزاني أجيب عن ذلك بجوابين الأول أن اليد للسارق مثلها غالبا فلم تفت عليه المنفعة بالكلية الثاني أن في قطع الذكر إبطال النسل غالبا والحكمة في قطع اليمنى أولا أن البطش بها أقوى غالبا فكانت البداءة بها أردع
تنبيه محل قطعها إذا لم تكن شلاء والأرجح أهل الخبرة فإن قالوا ينقطع الدم وتسد أفواه العروق قطعت واكتفي بها وإلا لم تقطع لأنه يؤدي إلى فوات الروح
( فإن سرق ثانيا بعد قطعها ) أي يده اليمنى ( فرجله اليسرى ) تقطع إن برئت يده اليمنى وإلا أخرت للبرء ( و ) إن سرق ( ثالثا ) بعد قطع رجله اليسرى تقطع ( يده اليسرى و ) إن سرق ( رابعا ) بعد قطع يده اليسرى تقطع ( رجله اليمنى ) لما رواه الشافعي بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في السارق إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله
والحكمة في قطع اليد والرجل أن اعتماد السارق في السرقة على البطش والمشي فإنه يأخذ بيده وينقل برجله فتعلق القطع بهما وإنما قطع من خلاف لئلا يفوت جنس المنفعة عليه فتضعف حركته كما في قطع الطريق لأن السرقة مرتين تعدل الحرابة شرعا والمحارب تقطع أولا يده اليمنى ورجله اليسرى وفي الثانية يده اليسرى ورجله اليمنى وإنما لم تقطع الرجل إلا بعد اندمال اليد لئلا تفضي الموالاة إلى الهلاك وخالف موالاتهما في الحرابة لأن قطعهما فيها حد واحد
( وبعد ذلك ) أي بعد قطع اليدين والرجلين إذا سرق خامسا فأكثر فإنه ( يعزر ) لأن القطع ثبت بالكتاب والسنة ولم يثبت بعد ذلك شيء آخر والسرقة معصية فتعين التعزير كما لو سقطت أطرافه أولا ولا يقتل كما نقل عن القديم
وما استدل به من أنه صلى الله عليه وسلم قتله أجيب عنه بأنه منسوخ أو محمول على أنه بزنا أو استحلال كما قاله الأئمة بل ضعفه الدارقطني وغيره وقال ابن عبد البر إنه منكر ولأن كل معصية أوجبت حدا لم يوجب تكرارها القتل كالزنا والقذف ( ويغمس محل القطع بزيت أو دهن مغلى ) بضم الميم وفتح اللام اسم مفعول من أغلى
أما فتح الميم مع كسر اللام وتشديد الياء على زنة مفعول فلحن كما قاله ابن قاسم وفعل ذلك مندوب للأمر به كما رواه الحاكم وصححه والمعنى فيه سد أفواه العروق لينقطع الدم
تنبيه قضية كلامه امتناعه بغير الزيت والدهن واقتصر الشافعي في الأم على الجسم بالنار وفصل الماوردي في الحاوي فجعل الزيت للحضري والنار للبدوي لأنها عادتهم وهو تفصيل حسن
( قيل هو ) أي الغمس المسمى بالحسم ( تتمة للحد ) فيجب على الإمام فعله ولا يجوز له إهماله لأن فيه مزيد إيلام ( والأصح ) المنصوص ( أنه ) أي الغمس المذكور ( حق للمقطوع ) لأن الغرض المعالجة ودفع الهلاك بنزف الدم ( فمؤنته عليه ) كأجرة الجلاد إلى أن يقيم الإمام من ينصب الحدود ويرزقه مال المصالح كما مر
تنبيه سكت المصنف عن المؤنة على الوجه الأول وقضيته أنها لا تكون على المقطوع وليس مرادا ففي الروضة وأصلها أنه على الخلاف في مؤنة الجلاد
( و ) على الأصح ( للإمام إهماله ) ولا يجبر المقطوع عليه بل يستحب له ويندب للإمام الإمام به عقب القطع ولا يفعله إلا بإذن المقطوع لأنه نوع مداواة
نعم لو كان إهماله يؤدي إلى تلف لتعذر فعل ذلك من المقطوع بإغماء أو جنون أو نحو ذلك لم يجز للإمام إهماله كما قاله البلقيني وغيره ( وتقطع اليد ) بحديدة ماضية دفعة واحدة ( من الكوع ) أي مفصله للأمر به في خبر سارق رداء صفوان والمعنى فيه أن البطش بالكف وما زاد من الذراع تابع ولهذا يجب في قطع الكف الدية وفيما زاد عليه حكومة ( و ) تقطع ( الرجل من مفصل القدم ) بفتح الميم وكسر الصاد اتباعا ل عمر رضي الله عنه كما رواه ابن المنذر
وروى البيهقي عن علي رضي الله عنه أنه يبقى له الكعب ليعتمد عليه وبه قال أبو ثور
____________________
(4/178)
تنبيه يندب خلع العضو المقطوع قبل قطعه تسهيلا لقطعه ويندب أن يكون المقطوع جالسا وأن يضبط لئلا يتحرك وأن يعلق العضو المقطوع في عنقه ساعة للزجر والتنكيل
( ومن سرق مرارا ) مرتين فأكثر ( بلا قطع كفت يمينه ) أي قطعها فقط عن جميع المرار لاتحاد السبب كما لو زنى أو شرب مرارا فإنه يكفيه حد واحد وهذا بخلاف ما إذا لبس المحرم أو تطيب في مجالس فإن الفدية تتعدد وإن كان السبب واحدا لأن في ذلك حقا لآدمي لأن مصرف الكفارة إليه فلم تتداخل بخلاف الحد
تنبيه غير اليد اليمنى في ذلك مثلها ويكفي قطعها
( وإن نقصت ) يمينه ( أربع أصابع ) ولا يعدل إلى الرجل لحصول الإيلاء والتنكيل ( قلت ) كما قاله الرافعي في الشرح ( وكذا لو ذهبت ) الأصابع ( الخمس ) كلها كفت أيضا ( في الأصح ) المنصوص ( والله أعلم ) لأن اسم اليد يطلق مع نقص أصابعها ما يطلق عليها مع زيادتها فاندرجت في الآية والثاني لا تكفي بل بعدل إلى الرجل لانتفاء البطش
تنبيه يجري الخلاف فيما لو سقط بعض الكف وبقي محل القطع فلو قال وكذا لو سقط بعض الكف مع الخمس لأفاد حكم المسألتين ( وتقطع يد زائدة أصبعا ) أو أكثر ( في الأصح ) لإطلاق الآية فإن اسم اليد يتناول ما عليه خمس أو أكثر والثاني لا بل يعدل إلى الرجل
تنبيه لو كان له كفان على معصمه قطعت الأصلية منهما إن تميزت وأمكن استيفاؤها بدون الزائدة وإلا فيقطعان وإن لم تتميز قطعت إحداهما فقط
هذا ما اختاره الإمام بعد أن نقل عن الأصحاب قطعها مطلقا لأن الزائدة كالأصبع الزائدة والذي في التهذيب أنه إن تميزت الأصلية قطعت وإلا فإحداهما فقط ولا يقطعان بسرقة واحدة بخلاف الأصبع الزائدة فإنه لا يقع عليها اسم يد
قال الرافعي وهذا أحسن
وقال المصنف إنه الصحيح المنصوص وجزم به في التحقيق وصوبه في شرح المهذب وصححه ابن الصلاح
قال الدميري لكن يشكل على المصنف أنه صحح في الخنثى المشكل كما سبق في موضعه أنه لا يختن في أحد فرجيه معللا بأن الجرح مع الإشكال ممتنع ولو قيل بإجراء وجه ثالث أنه لا يقطع واحدة منهما لم يبعد لأن الزائدة لا يجوز قطعها وقد التبست بالأصلية اه
ويجاب عن الإشكال المذكور بأن السارق إنما قطعت يده مع الإشكال تغليظا عليه وعلى ما جرى عليه المصنف لو لم يمكن قطع الأصلية إلا بالزائدة أو لم يمكن قطع إحداهما عند الاشتباه فإنه يعدل إلى الرجل فإن أمكن قطع الأصلية وقطعناها ثم سرق ثانيا وقد صارت الزائدة أصلية بأن صارت باطشة أو كانت الكفان أصليتين وقطعت إحداهما في سرقة قطعت الثانية ولا يعدل إلى الرجل
وأورد بعضهم هذه المسألة على قول المصنف فإن سرق ثانيا فرجله اليسرى
وأجيب عنه بأنه إنما تكلم على الخلطة المعتادة الغالبة
( ولو سرق ) شخص ( فسقطت يمينه ) مثلا ( بآفة ) سماوية أو غيرها كأن قطعت في قصاص ( سقط القطع ) في اليد الساقطة ولا يعدل إلى الرجل لأن القطع تعلق بعينها فسقط بفواتها كموت المرتد وكذا لو شلت بعد السرقة وخيف من قطعها تلف النفس كما قاله القاضي الحسين بخلاف من لا يمين له فإن رجله تقطع ( أو ) سقطت ( يساره ) بشيء مما ذكر مع بقاء اليمين ( فلا ) يسقط قطع اليمين ( على المذهب ) لبقاء محل القطع وقيل يسقط في قول وحكم الرجل حكم اليد فيما ذكر
خاتمة لو أخرج السارق للجلاد يساره فقطعها سئل الجلاد فإن قال ظننتها اليمين أو أنها تجزىء عنها غرم الدية بعد حلفه على ما ادعاه إن كذبه السارق لأن قوله محتمل فكان شبهة في درء القصاص وإنما غرم الدية لقطعه عضوا معصوما وأجزأته عن قطع اليمين لئلا تقطع يداه بسرقة واحدة
أو قال علمتها اليسار وأنها لا تجزىء لزمه القصاص لأنه قطعها عمدا بلا شبهة هذا إن لم يقصد المخرج بدلها عن اليمين أو إباحتها وإلا فلا كما مر في الجنايات ولم
____________________
(4/179)
تجزه اليسار عن اليمين بل تقطع يمينه حدا لأنها الذي وجب قطعها وهي باقية فلم يجزه غيرها كالقصاص
وما ذكر من أن الجلاد يسئل هو ما جرى عليه الشيخ في التنبيه وابن المقري في روضه وهي طريقة حكاها في أصل الروضة وحكى معها طريقة أخرى وهي إن قال المخرج ظننتها اليمين أو أنها تجزىء أجزأته وإلا فلا وكلام أصل الروضة يومىء إلى الأولى وهي الصحيحة وإن صحح الإسنويي الثانية
باب قاطع الطريق سمي بذلك لامتناع الناس من سلوك الطريق خوفا منه
والأصل في قوله تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } الآية
قال أكثر العلماء نزلت في قاطع لا في الكفار واحتجوا له بقوله تعالى { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } الآية إذ المراد التوبة عن قطع الطريق ولو كان المراد الكفار لكانت توبتهم بالإسلام وهو دافع للعقوبة قبل القدرة وبعدها قال الماوردي ولأن الله تعالى قد بين حكم أهل الكتاب والمرتدين وأهل الحرب في غير هذه الآية فاقتضى أن تكون هذه الآية في غيرهم وفي أبي داود أنها نزلت في العرنيين
وفي النسائي أنها نزلت في المحاربين من الكفار لأن المؤمن لا يحارب الله ورسوله وقطع الطريق هو البروز لأخذ مال أو لقتل أو إرعاب مكابرة اعتمادا على الشوكة مع البعد عن الغوث كما يعلم من قوله ( هو ) أي قاطع الطريق ملتزم للأحكام ( مسلم ) أو مرتدا أو ذمي كما في السارق ولو عبر بذلك المصنف لكان أولى فقد قال الأذرعي لم أر في الكتب المشهورة بعد الكشف التام التنصيص على أن من شرط قاطع الطريق الإسلام إلا في كلام الرافعي ومن أخذ منه
وقال الزركشي قد رأيت نص الشافعي في آخر الأم مصرحا بأن أهل الذمة حكمهم حكم المسلمين وحكاه ابن المنذر في الأشراف عن الشافعي وأبي ثور وقال ولا أثر للتعلق بسببه النزول فإنه لا يقتضي التخصيص على الأصح ( مكلف ) ولو عبدا أو امرأة ومثله السكران فإنه ملحق بالمكلف كما مر في كتاب الطلاق مختار ( له شوكة ) أي قوة وقدرة يغلب بها غيره
تنبيه باب إفراد المصنف الصفات يقتضي أنه لا يشترط في قاطع الطريق عدد ولا ذكورة ولا سلاح وهو كذلك فالواحد ولو أنثى إذا كان له فضل قوة يغلب بها الجماعة وتعرض للنفس وللمال مجاهرة مع البعد عن الغوث كما يعلم من قوله بعد وفقد الغوث إلخ قاطع وكذا الخارج بغير سلاح إن كان له قوة يغلب بها الجماعة ولو باللكز والضرب بجمع الكف وقيل لا بد من آلة وخرج بملتزم الحربي والمعاهد والمكلف غيره إلا السكران كما مر وإن ضمن غير المكلف النفس والمال كما لو أتلفوا في غير هذه الحالة وبالاختيار المكره وبالشوكة ما تضمنه قوله ( لا مختلسون ) قليلون ( يتعرضون لآخر قافلة ) عظيمة ( يعتمدون الهرب ) بركض الخيل أو نحوها أو العدو على الأقدام أو نحو ذلك فليسوا قطاعا لانتقاء الشوكة وحكمهم في القصاص والضمان كغيرهم والمعنى فيه أن المعتمد على الشوكة ليس له دافع من الرفقة فغلظت عقوبته ردعا له بخلاف المختلس أو المنتهب فإنه لا يرجع إلى قوة
تنبيه قوله لآخر قافلة جرى على الغالب وليس بقيد بل حكم التعرض لأولها وجوانبها كذلك فلو قهروهم ولو مع كونهم قليلين فقطاع لاعتمادهم على الشوكة فلا يعد أهل العاقلة مقصرين لأن العاقلة لا تجتمع كلمتهم ولا يضبطهم مطاع ولا عزم لهم على القتال
وبين المصنف هنا أن مراده بشوكة قطاع الطريق بالنظر لمن يخرجون عليه حيث قال ( والذين يغلبون شرذمة ) وهي بذال معجمة طائفة من الناس ( بقوتهم ) لو قاوموهم ( قطاع في حقهم ) لاعتمادهم على الشوكة بالنسبة إلى الجماعة اليسيرة وإن هربوا منهم وتركوا الأموال لعلمهم بعجز أنفسهم
____________________
(4/180)
عن مقاومتهم
تنبيه لو ساقهم اللصوص مع الأموال إلى ديارهم كانوا قطاعا في حقهم أيضا كما قال إبراهيم المروزي
( لا ) قطاع ( لقافلة عظيمة ) أخذوا شيئا منهم إذ لا قوة لهم مع القافلة الكبيرة بل هم في حقهم مختلسون
تنبيه لو استسلم لهم القادرون على دفعهم حتى قتلوا أو أخذت أموالهم فمنتهبون لا قطاع وإن كانوا ضامنين لما أخذوه لأن ما فعلوه لم يصدر عن شوكتهم بل عن تفريط القافلة
( وحيث يلحق غوث ) بغين معجمة وبعدها مثلثة عند الاستغاثة وهي كقول الشخص يا غوثاء ( ليس ) حينئذ ذو الشوكة بمن معه ( بقطاع ) بل منتهبون لإمكان الاستغاثة ( وفقد الغوث يكون للبعد ) عن العمران وعساكر السلطان ( أو ) للقرب لكن ( لضعف ) في السلطان كذا في المحرر والشرح والروضة واستحسن إطلاق المنهاج الضعف لشموله ما لو دخل جماعة دارا ليلا وشهروا السلاح ومنعوا أهل الدار من الاستغاثة فهم قطاع على الصحيح مع قوة السلطان وحضوره ( و ) ذوو الشوكة ( قد يغلبون والحالة هذه ) أي ضعف السلطان أو بعده أو بعد أعوانه وإن كانوا ( في بلد ) لم يخرجوا منها إلى طرفها ولا إلى صحراء ( فهم قطاع ) لوجود الشروط فيهم ولأنهم إذا وجب عليهم هذا الحد في الصحراء وهي موضع الخوف فلا يجب في البلد وهي موضع الأمن أولى لعظم جراءتهم
تنبيه أشعر كلامه بأنه لو تساوت الفرقتان لم يكن لهم حكم قطاع الطريق لكن الأصح في الروضة وأصلها خلافه
( ولو علم الإمام قوما يخيفون الطريق ) أي المارين فيها ( ولم يأخذوا مالا ) أي نصابا ( ولا ) قتلوا ( نفسا عزرهم بحبس وغيره ) لارتكابهم معصية وهي الحرابة لا حد فيها ولا كفارة وهذا تفسير النفي في الآية الكريمة والأمر في جنس هذا التعزير راجع إلى الإمام وظاهر كلام المصنف الجمع بين الحبس وغيره وهو كذلك وله تركه إن رآه مصلحة ولا يقدر الحبس بمدة بل يستدام حتى تظهر توبته وقيل يقدر بستة أشهر ينقص منها شيئا لئلا يزيد على تغريب العبد في الزنا وقيل يقدر بسنة ينقص منها شيئا لئلا يزيد على تغريب الحر في الزنا والحبس في غير موضعه أولى لأنه أحوط وأبلغ في الزجر
وقوله علم الإمام صريح في أنه يكتفي بعلمه في ذلك وإن قلنا بالأصح أن القاضي لا يقضي بعلمه في حدود الله تعالى لما مر في ذلك من حق الآدمي ومقتضى عبارته كالروضة الوجوب وهو كذلك بخلاف مقتضى عبارة المحرر كالشرح ينبغي ( وإذا أخذ القاطع ) واحد أو أكثر ( نصاب السرقة ) فأكثر ( قطع ) الإمام ( يده اليمنى ورجله اليسرى ) دفعة أو على الولاء لأنه حد واحد ( فإن عاد ) بعد قطعهما مرة أخرى ( فيسراه ويمناه ) تقطعان لقوله تعالى { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } وإنما قطع من خلاف لما مر في السرقة وقطعت اليمنى للمال كالسرقة ولهذا اعتبر في القطع النصاب وقيل للمحاربة والرجل قيل للمال والمجاهرة تنزيلا لذلك منزلة سرقة ثانية وقيل للمحاربة
قال العمراني وهو أشبه
تنبيه لو قطع الإمام يده اليمنى ورجله اليمنى فقد تعدى ولزمه القود في رجله إن تعمد وديتها إن لم يتعمد ولا يسقط قطع رجله اليسرى
ولو قطع يده اليسرى ورجله اليمنى فقد أساء ولا يضمن وأجزأه والفرق أن قطعهما من خلال نص يوجب خلاف نص خلافه الضمان وتقديم اليمنى على اليسرى اجتهاد يسقط بمخالفته الضمان ذكره الماوردي و الروياني
قال الأذرعي ولا شك في الإساءة وتوقف في القود وعدم الإجزاء في الحالة الأولى
فإن قيل قال الزركشي وقضية الفرق أنه لو قطع في السرقة يده اليسرى في المرة الأولى عامدا أجزأه لأن تقديم اليمنى عليها بالاجتهاد وليس كذا كما مر في بابه
أجيب بأنا لا تسلم أن تقديم اليمنى ثبت ثم بالاجتهاد بل بالنص لما مر أنه قرىء شاذا فاقطعوا أيمانهما وأن القراءة الشاذة كخبر الواحد
قال الأذرعي وسكتوا هنا عن توقف القطع على المطالبة بالمال وعلى
____________________
(4/181)
عدم دعوى الملك ونحوه من المسقطات وينبغي أن يأتي فيه ما مر في السرقة اه
وكلام المصنف قد يفهم أنه لا يعتبر الحرز وهو وجه والمشهور وجزم به الأكثرون أنه يعتبر فلو كان المال تسير به الدواب بلا حافظ أو كانت الجمال مقطورة ولم تتعهد كما شرط في السرقة لم يجب القطع والحرز هنا أن يكون المال مع مالكه أو بحيث يراه وتعذر أن يدفع عنه من يأخذه ومحل قطعهما إذا وجدنا فإن فقدت إحداهما اكتفى بقطع الأخرى وفي معنى الفقد أن تكون شلاء لا تنحسم عروقها لو قطعت
قال في أصل الروضة ويحسم موضع القطع كما في السارق ويجوز أن يحسم اليد ثم تقطع الرجل وأن تقطعا جميعا ثم يحسما ويعتبر قيمة المأخوذ في موضع الأخذ إن كان موضع بيع وشراء حال السلامة لا عند استسلام الناس لأخذ أموالهم بالقهر والغلبة وإن لم يكن موضع بيع وشراء فأقرب موضع إليه يوجد فيه مع ذلك وشراؤه قاله الماوردي
( وإن قتل ) معصوما مكافئا له عمدا كما يعلم مما يأتي ولم يأخذ مالا ( قتل حتما ) للآية السابقة وإنما تحتم لأنه ضم إلى جنايته إخافة السبيل المقتضية زيادة العقوبة ولا زيادة هنا إلا بالتحتم
قال البندنيجي ومحل تحتم القتل إذا قتل لأخذ المال وإلا فلا يتحتم
قال البلقيني وهو مقتضى نص الأم ومعنى تحتمه أنه لا يسقط بعفو الولي ولا يعفو السلطان عمن لا وارث له ويسوى فيه الإمام لأنه حد من حدود الله تعالى ولا فرق بين القتل صبرا وبين الجرح والموت منه بعد أيام قبل الظفر به والتوبة ولم يرجع عن إقراره أما إذا قتل غير معصوم أو غير مكافىء له أو قتل خطأ أو شبه عمد فلا يقتل ( وإن قتل وأخذ مالا ) نصابا فأكثر وقياس ما سبق اعتبار الحرز وعدم الشبهة ( قتل ثم صلب ) حتما زيادة في التنكيل ويكون صلبه غسله وتكفينه والصلاة عليه كما مر في الجنائز والغرض من صلبه بعد قتله التنكيل به وزجر غيره وبما تقرر فسر ابن عباس الآية فقال المعنى أن يقتلوا إن قتلوا أو يصلبوا مع ذلك إن قتلوا وأخذوا المال أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال أو ينفوا من الأرض إن أرعبوا ولم يأخذوا شيئا فحمل كلمة أو على التنويع لا التخيير كما في قوله تعالى { وقالوا كونوا هودا أو نصارى } إذ لم يخير أحد منهم بين اليهودية والنصرانية وإنما صلب بعد القتل لأن في صلبه قبله زيادة تعذيب وقد نهي عن تعذيب الحيوان قال صلى الله عليه وسلم إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ويصلب على خشبة ونحوها ( ثلاثا ) من الأيام ليشتهر الحال ويتم النكال ولأن لها اعتبارا في الشرع وليس لما زاد عليها غاية ( ثم ينزل ) هذا إذا لم يخف التغير فإن خيف قبل الثلاث أنزل على الأصح وحمل النص في الثلاث على زمن البرد والاعتدال
تنبيه أشعر كلامه بالإكتفاء بالصلب أي موضع كان
وقال الماوردي يكون قتلهم وصلبهم في الموضع الذي حاربوا فيه لا أن يكون بمفازة لا يمر بها أحد فيقتلون في أقرب المواضع منها
فإن قيل كان الأولى للمصنف أن يقول ثلاثة لأن الأيام مذكرة فتثبت فيه التاء
أجيب بأن المعدود إذ حذف يجوز فيه الوجهان كما في قوله صلى الله عليه وسلم من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال
( وقيل يبقى ) مصلوبا أكثر من ثلاثة أيام ( حتى يسيل صديده ) وهو ماء رقيق يخرج مختلطا بدم تغليظا عليه وتنفيرا عن فعله ( وفي قول يصلب ) حيا صلبا ( قليلا ثم ينزل فيقتل ) لأن الصلب شرع عقوبة له فيقام عليه وهو حي
فإن قيل كلامه لا يوافق أصله ولا الشرح والروضة فإن عبارة المحرر يصلب صلبا لا يموت منه وعبارة الشرح والروضة يصلب حيا ثم يقتل
أجيب بأن عبارته لا تنافي ذلك بل هي بيان للعبارات المذكورة لكن الغالب أن القليل يحمل على ثلاثة أيام ولهذا قال الأذرعي وكأن المصنف أراد أن يكتب ثلاثا فسبق القلم فكتب قليلا اه
ولعله إنما كتبها قصدا فلا يتقيد ذلك بثلاث قال الغزالي وكلامهم يدل على أن الخلاف في الوجوب ( ومن أعانهم ) أي قطاع الطريق ( وكثر جمعهم ) ولم يزد على ذلك بأن لم يأخذ نصابا ولا قتل نفسا ( عزر بحبس وتغريب وغيرهما ) كسائر المعاصي وفي الخبر من كثر سواد قوم فهو منهم
____________________
(4/182)
تنبيه الواو في كلامه بمعنى أو كما صرح به في المحرر أي يعزره بواحد مما ذكر وتعيينه لرأي الإمام كما مر في المخيفين
( وقيل يتعين التغريب إلى حيث ) أي مكان ( يراه ) الإمام لأن عقوبته في الآية النفي وعلى هذا هل يعزره في البلد المنفي إليه بضرب أو حبس أو نحو ذلك وجهان أصحهما أن ذلك إلى رأي الإمام وما تقتضيه المصلحة
ثم شرع في بيان الخلاف في المعنى المغلب في قتل القاطع بقوله ( وقتل القاطع يغلب فيه معنى القصاص ) لأنه حق آدمي
والأصل فيما اجتمع فيه حق آدمي وحق لله تعالى يغلب فيه حق الآدمي لبنائه على الضيق ولأنه لو قتل بلا محاربة ثبت لوليه القصاص فكيف يحبط حقه بقتله فيها ( وفي قول ) معنى ( الحد ) هو حق الله تعالى لأنه لا يصح العفو عنه ويستوفيه الإمام بدون طلب الولي وفرع على القولين مسائل خمسة ذكرها في قوله ( فعلى الأول لا يقتل ) والد ( بولده ) الذي قتل في قطع الطريق ( و ) لا ( ذمي ) إذا كان هو مسلما ولا نحو ذلك ممن لا يكافئه كعبد والقاطع حر لعدم المكافأة وتجب الدية أو القيمة وعلى الثاني يقتل إلا أن يكون المقتول غير معصوم كمرتد وزان محصن فإنه لم يقتل ( ولو مات ) القاطع من غير قتله قصاصا ( فدية ) على الأول تؤخذ من تركته في قتل حر وقيمة في قتل عبد وعلى الثاني لا شيء كما قالاه وإن صحح البلقيني وجوب الدية ( ولو قتل ) جمعا ( قتل بواحد ) منهم بالقرعة ( وللباقين ديات ) على الأول كالقصاص وعلى الثاني يقتل بهم
أما إذا قتلهم مرتبا فإنه يقتل حتما بأولهم إن أوهم كلام المتن خلافه حتى لو عفا وليه لم يسقط لتحتمه ( ولو عفا ) عن القصاص ( وليه ) أي المقتول ( بمال ) أي عليه صح العفو على الأول ( وجب ) المال ( وسقط القصاص ) عنه ( ويقتل ) بعد ذلك ( حدا ) كما لو وجب القصاص على مرتد فعفا عنه الولي وعلى الثاني فالعفو لغو كما قالاه وإن البلقيني إنه لغو على القولين لأن القاطع لم يستفد بالعفو شيئا لتحتم قتله بالمحاربة ( ولو قتل ) القاطع شخصا ( بمثقل أو بقطع عضو ) أو بغير ذلك ( فعل به مثله ) على الأول تغليبا للقصاص وعلى الثاني يقتل بالسيف كالمرتد كما قالاه وإن قال البلقيني إنه يقتل بالسيف على القولين ولا نظر إلى المماثلة
تنبيه من ثمرة الخلاف أيضا ما لو تاب قبل أن يقدر عليه لم يسقط القصاص على الأول ويسقط على الثاني
( ولو جرح ) قاطع الطريق شخصا جرحا يوجب قصاص كقطع يد ( فاندمل ) الجرح ( لم يتحتم ) على القاطع ( قصاص ) في ذلك الطرف المجروح ( في الأظهر ) بل يتخير المجروح بين القصاص والعفو لأن التحتم تغليظ لحق الله تعالى فاختص بالنفس كالكفارة ولأن الله تعالى لم يذكر الجرح في الآية فكان باقيا على أصله في غير الحرابة والثاني يتحتم كالنفس والثاني يتحتم في اليدين والرجلين لأنهما مما يستحقان في المحاربة دون الأنف والأذن ونحوهما
تنبيه قوله فاندمل من زيادته على المحرر واحترز عما إذا سرى إلى النفس فهو كالقتل لكنه يوهم إن الاندمال قيد لمحل الخلاف وليس مرادا فلو قطع يده ثم قتله قبل الاندمال جرى القولان أيضا في التحتم في قصاص اليد كما نقلاه عن ابن الصباغ وأشعر قوله لم يتحتم بتصوير المسألة فيما فيه قود من الأعضاء
أما غيره كجائفة فواجبه المال
( وتسقط عقوبات تخص القاطع ) من تحتم القتل والصلب وقطع الرجل وكذا اليد في الأصح
فإن قيل كلام المصنف يوهم خلافه فإن الرجل هي المختصة بقطع الطريق فلو قال تسقط حد الله تعالى لاستقام
أجيب بأن قطع اليد ليس عقوبة كاملة وإنما هو جزء عقوبة فإن المجموع من قطع اليد والرجل عقوبة واحدة مختصة بقاطع الطريق فإذا سقط بعضها سقط كلها ( بتوبته قبل القدرة عليه ) لقوله تعالى { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم }
____________________
(4/183)
الآية
( لا بعدها ) أي القدرة فلا تسقط تلك العقوبات عنه بالتوبة منها لمفهوم الآية وإلا لما كان للتخصيص بقوله { من قبل } فائدة والفرق من جهة المعنى إنه بعد القدرة منهم لدفع قصد الحد بخلاف ما قبلها فإنها بعيدة عن التهمة قريبة من الحقيقة وقوله ( على المذهب ) راجع للمسألتين وقيل في كل منهما قولان كالقولين في سقوط حد الزاني والسارق بالتوبة
أما غير هذه العقوبات مما ذكر هنا من قصاص وضمان وغيرهما فلا يسقط بالتوبة مطلقا كما في غير هذا الباب
تنبيه المراد بالتوبة قبل القدرة الثابتة فلو ظفرنا به فادعى سبق توبته ففي الكفاية عن الأحكام السلطانية للماوردي إنه إن لم تظهر أمارتها لم يصدق وإلا فوجهان محتملان وقضية كلامه استواء التوبة التي قبل القدرة والتي بعدها وليس مرادا فإن الأولى يكتفي بمجردها والثانية يشترط فيها إصلاح العمل كما قاله جماعة من العراقيين وصححه الرافعي في الشرح والصغير ولو ثبت قطع الطريق والقتل بإقراره ثم رجع قبل رجوعه كما ذكره في التنبيه في أوائل الإقرار
( ولا تسقط سائر ) أي باقي ( الحدود ) المختصة بالله تعالى كالزنا والسرقة وشرب الخمر ( بها ) أي التوبة في قاطع الطريق وغيره ( في الأظهر ) لأنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه ماعز وأقر بالزنا حده ولا شك أنه لم يأته إلا وهو تائب فلما أقام عليه الحد دل على أن الاستثناء في المحارب وحده والثاني تسقط بها قياسا على حد قاطع الطريق وصححه البلقيني
تنبيه يرد على المصنف تارك الصلاة كسلا فإنه يقتل حدا على الصحيح ومنع ذلك لو تاب سقط القتل قطعا والكافر إذا زنى ثم أسلم فإنه يسقط عنه الحد كما نقله في الروضة عن النص ومرت الإشارة إليه في باب الزنا
ولا يرد عليه المرتد إذا تاب حيث تقبل توبته ويسقط القتل لأنه إذا أضر يقتل كفرا لا حدا ومحل الخلاف على السقوط وعدمه في ظاهر الحكم أما فيما بينه وبين الله تعالى فيسقط قطعا لأن التوبة تسقط سائر المعصية كما نبه عليه في زيادة الروضة في باب السرقة وقد قال صلى الله عليه وسلم التوبة تجب ما قبلها وورد التائب من الذنب كمن لا ذنب له وإذا أقيم الحد في الدنيا لم يقم في الآخرة كما قاله الجيلي لحديث الله أعدل أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة وقد مرت الإشارة إلى ذلك مع زيادة في أول باب الجراح
فصل في إجماع عقوبات في غير قاطع الطريق وهي إما لآدمي أو لله تعالى أولهما وقد بدأ بالقسم الأول قال ( من لزمه ) لجماعة ( قصاص ) في نفس ( وقطع ) لطرف آدمي ( وحد قذف ) لآخر ( وطالبوه ) بذلك ( جلد ) أولا للقذف ( ثم قطع ) لقصاص الطرف ثم قتل لقصاص النفس لأن ذلك أقرب إلى استيفاء الجميع فإن اجتمع مع ذلك تعزير لآدمي بدىء به ( ويبادر بقتله بعد قطعه ) فلا تجب المهلة بينهما لأن النفس مستوفاة ( لا قطعه بعد جلده إن غاب مستحق قتله ) جزما لأنه قد يهلك بالموالاة فيفوت قصاص النفس ( وكذا إن حضر وقال عجلوا القطع ) وأنا أبادر بالقتل بعده فإنا لا نعجله ( في الأصح ) لما مر والثاني نبادر لأن التأخير كان لحقة وقد رضي بالتقديم
( وإذا أخر مستحق النفس حقه ) وطلب الآخران حقهما ( جلد ) للقذف أولا ( فإذا برأ ) بفتح الراء ويجوز كسرها من الجلد ( قطع ) للطرف ولا يوالي بينهما خوف الهلاك فيفوت قصاص النفس فإن قيل كان المصنف في غنى عن هذا بما ذكر فيما إذا غاب مستحق القتل
أجيب بأنه إنما أعاده لضرورة التقسيم ( ولو أخر مستحق طرف ) وطلب ( حتى يستوفي الطرف ) سواء أتقدم استحقاق النفس أم تأخر حذرا من فواته وإن قال البلقيني الذي نقوله إن لمستحق النفس أن يقول لمستحق الطرف إما أن تستوفى أو تعفو أو تأذن لي في التقديم ويجبره الحاكم على أحد هذه المذكورات فإن أبى ذلك مكن الحاكم مستحق النفس من القتل لأنه ظهر الضرر من مستحق الطرف وليس له عذر يمنعه من ذلك ومستحق القتل طالب حق أثبته الله له بقوله { فقد جعلنا لوليه سلطانا } فإن المقذوف حقه من قاذفه ( جلد و وجب ( على مستحق
____________________
(4/184)
النفس الصبر ) بحقه بادر ) مستحق النفس ( فقتل فلمستحق الطرف دية ) في تركة المقتول لفوات محل الاستيفاء واستوفى حقه مستحق النفس ( ولو أخر مستحق الجلد حقه فالقياس ) مما سبق في هذه المسألة كما قاله الرافعي في الشرح الكبير وسكت عن حكمها في الصغير وعبر بها في المحرر ينبغي ( صبر الآخرين ) حتى يستوفى حقه وإن تقدم استحقاقهما لئلا يفوتا عليه حقه وإن نازع في ذلك البلقيني بقوله تبع في القياس الرافعي وليس القياس بالنسبة إلى القطع لأنه يمكن أن يقطع ثم لا يفوت الجلد لأنه يمكن استيفاؤه بعد البرء من القطع لا سيما إذا كان الطرف أذنا أو أنملة أو نحوها
ثم شرع في القسم الثاني فقال ( ولو اجتمع ) على شخص ( حدود لله تعالى ) كأن شرب وزنى وهو بكر وسرق وارتد ( قدم ) وجوبا ( الأخف ) منها ( فالأخف ) سعيا في إقامة الجميع فأخفها حد الشرب فيحد له ثم يمهل حتى يبرأ منه ثم يجلد الزنا ثم يمهل حتى يبرأ ثم يقطع للسرقة ثم يقتل بغير مهلة لأن النفس مستوفاة وهل يقدم قطع السرقة على التغريب قال ابن الرفعة لم أر لأصحابنا تعرضا له اه
والأوجه عدم تقدمه لأن النفس قد تفوت
تنبيه قد علم من قوله يقدم الأخف أنه لو اجتمع مع الحدود تعزير فهو المقدم وبه صرح الماوردي ومن قوله فالأخف أن صورة المسألة إذا تفاوتت الحدود فلو اجتمع قتل ردة ورجم زنا قال القاضي يقدم قتل الردة إذ فسادها أشد
وقال الماوردي و الروياني يرجم ويدخل فيه قتل الردة لأن الرجم أكثر نكالا هذا أوجه ولو اجتمعا وقتل قطع الطريق
قال القاضي قدم وإن جعل حدا لأنه حق آدمي ولو اجتمع قطع سرقة وقطع محاربة قطعت يده اليمنى لهما وهل تقطع الرجل معها وجهان أصحهما نعم
وقيل تؤخر حتى تبرأ اليد
ثم شرع في القسم الثالث فقال ( أو ) اجتمع ( عقوبات لله تعالى والآدميين ) كأن انضم إلى هذه العقوبات حد قذف ( قدم حد قذف على ) حد ( زنا ) كما نص عليه واختلف في علته
قيل لأنه أخف والأصح كونه حق آدمي وفائدة الخلاف تظهر في المسألة عقبها وهي قوله ( والأصح تقديمه ) أي حد القذف ( على حد شرب ) بناء على العلة الثانية في المسألة السابقة ومقابله على العلة الأولى ( وأن القصاص قتلا وقطعا يقدم على الزنا ) مبني على العلة الثانية ومقابلة على العلة الأولى ولا يوالي بين حد الشرب وحد القذف بل يمهل لئلا يهلك بالتوالي
تنبيه محل الخلاف في تقديم حد الزنا إذا كان الواجب الرجم فإن كان جلدا قدم على القتل قطعا ومحله أيضا في تقديم قطع القصاص على حد الزنا إذا كان جلدا فإن كان رجما قدم القطع قطعا
خاتمة لو اجتمع قتل قصاص في غير محاربة وقتل محاربة قدم السارق منهما ورجع الآخر إلى الدية وفي اندراج قطع السرقة في قتل المحاربة فيما لو سرق وقتل في المحاربة وجهان أوجههما كما قال شيخنا نعم
ومن زنى مرات أو سرق أو شرب كذلك أجزأه عن كل جنس حد واحد لأن سببها واحد فتداخلت
قال القاضي الحسين وهو مقابل الزنيات كلها لئلا يخلو بعضها عنه كالمهر في النكاح الفاسد فإنه يقابل كل الوطئات وهل وجب حدود على
____________________
(4/185)
عدد الزنيات ثم تداخلت أو حد واحد فقط وتجعل الزنيات إذا لم يتخللها حد كحركات زنية واحدة فيه تردد والثاني أقرب كما قاله ابن النقيب وما في فروع ابن الحداد من أن المرأة إذا ثبت زناها بلعان زوجين أنه يلزمها حدان أنكره الأصحاب وقالوا إنهما حدان لله تعالى من جنس واحد فتداخلا وإن جلد للزنا ثم زنى ثانيا قبل التغريب أو جلد له خمسين ثم زنى ثانيا كفاه فيهما جلد مائة وتغريب واحد ودخل في المائة الخمسون الباقية وفي التغريب للثاني التغريب الأول ولو زنى بكرا ثم محصنا قبل أن يجلد دخل التغريب تحت الرجم لئلا تطول المدة مع أن النفس مستوفاة ولأن التغريب صفة فيغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها ولا يدخل الجلد في الرجم كما رجحه ابن المقري لاختلاف العقوبتين وقيل يدخل لأنهما عقوبة جريمة واحدة ولو زنى ذمي محصن ثم نقض العهد واسترق ثم زنى ثانيا ففي دخول الجلد في الرجم وجهان أصحهما كما قاله البغوي المنع وإن قال البلقيني الأصح الدخول كالحدين ويثبت قطع الطريق بإقرار القاطع به لا باليمين المردودة كما مر في كتاب السرقة خلافا لما في الكتاب وبشهادة رجلين لا رجل وامرأتين أو ويمين وأما المال فيثبت بذلك ويشترط في الشهادة التفصيل وتعيين قاطع الطريق ومن قتله أو أخذ ماله كما سبق في الشهادة على السرقة ولو شهد اثنان من الرفقة على المحارب لغيرهما ولم يتعرضها لأنفسهما في الشهادة قبلت شهادتهما وليس على القاضي البحث عن كونهما من الرفقة أو لا وإن بحث لم يلزمها أن يجيبا
فإن قالا نهبونا وأخذوا مالنا أو مال رفقتنا لم يقبلا في حقهما ولا في حق غيرهما للعداوة
كتاب الأشربة والتعازير والأشربة جمع شراب بمعنى مشروب والشريب المولع بالشراب والشرب بفتح الشين وسكون الراء الجماعة يشربون الخمر وشربه من كبائر المحرمات بل هي أم الكبائر كما قاله عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما والأصل في تحريمها قوله تعالى { إنما الخمر والميسر } الآية وقال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم } وهو الخمر عند الأكثرين واستشهد له بقول الشاعر شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول وتظافرت الأحاديث على تحريمها روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخمرة وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وقال صلى الله عليه وسلم من شربها في الدنيا ولم يتب حرمها الله عليه في الآخرة
وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن وانعقد الإجماع على تحريمها ولا التفات إلى قول من حكى عنه إباحتها وكان المسلمون يشربونها في أول الإسلام فاختلف أصحابنا في أن ذلك كان استصحابا منهم بحكم الجاهلية أو بشرع في إباحتها على وجهين رجح الماوردي الأول والمصنف الثاني
وكان تحريمها في السنة الثانية من الهجرة بعد أحد وقيل بل كان المباح الشرب ولا ما ينتهي إلى السكر المزيل للعقل فإنه حرام في كل ملة حكاه ابن الشقيري في تفسيره عن القفال الشاشي قال المصنف في شرح مسلم وهو باطل لا أصل له والخمر المسكر من عصير العنب وإن لم يقذف بالزبد واشترط أبو حنيفة أن يقذف فحينئذ يكون مجمعا عليه
تنبيه اختلف أصحابنا في وقوع اسم الخمر على الأنبذة حقيقة فقال المزني وجماعة بذلك لأن الاشتراك في الصفة يقتضي الاشتراك في الاسم وهو قياس في اللغة وهو جائز عند الأكثرين وهو ظاهر الأحاديث ونسب الرافعي إلى الأكثرين أنه لا يقع عليها إلا مجازا أما في التحريم والحد فهو كالخمر لكن لا يكفر مستحلها بخلاف الخمر للإجماع على تحريمها دون تلك فقد اختلف العلماء في تحريمها ولم يستحسن الإمام إطلاق القول بتكفير
____________________
(4/186)
مستحل الخمر قال وكيف نكفر من خالف الإجماع ونحن لا نكفر من يرد أصله وإنمانبدعه
وأول كلام الأصحاب على ماذا صدق المجمعين على أن تحريم الخمر ثبت شرعا ثم حاله فإنه رد للشرع حكاه عنه الرافعي
ثم قال وهذا إن صح فليجر في سائر ما حصل الإجماع على افتراضه فنفاه أو تحريمه فأثبته وأجاب عنه الزنجاني بأن مستحل الخمر لا نكفره لأنه خالف الإجماع فقط بل لأنه خالف ما ثبت ضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم والإجماع والنص عليه
وشمل قول المصنف ( كل شراب أسكر كثيره حرم ) هو و ( قليله ) جمع الأشربة من نقيع التمر والزبيب وغيرهما لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال كل شراب أسكر فهو حرام
وروى مسلم خبر كل مسكر خمر وكل خمر حرام
وروى النسائي بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه صلى الله عليه وسلم قال أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره وصحح الترمذي ما أسكر كثيره قليله حرام
وخالف أبو حنيفة في القدر الذي لا يسكر من نقيع التمر والزبيب وغيره واستند لأحاديث معلومة بين الحفاظ وأيضا أحاديث التحريم متأخرة فوجب العمل بها وإنما حرم القليل ( وحد شاربه ) وإن كان لا يسكر حسما لمادة الفساد كما حرم تقبيل الأجنبية والخلوة بها لإفضائه إلى الوطء المحرم ولحديث رواه الحاكم من شرب الخمر فاجلدوه وقيس به شرب النبيد ولو فرض شخص لا يسكره شرب الخمر حرم شربه للنجاسة لا للإسكار ويحد أيضا كما قاله الدميري وغيره حسما للباب كمن شرب قدرا يؤثر فيه لا يسكر ومن حد ثم شرب المسكر حال سكره في الشرب الأول حد ثانيا
تنبيه المراد بالشارب المتعاطي شربا كان أو غيره سواء فيه المتفق على تحريمه والمختلف فيه وسواء جامده ومائعه مطبوخه ونيئه وسواء أتناوله معتقدا تحريمه أو إباحته على المذهب لضعف أدلة الإباحة كما مر
وخرج بالشراب النبات قال الدميري كالحشيشة التي تأكلها الحرافيش ونقل الشيخان في باب الأطعمة عن الروياني إن أكلها حرام ولا حد فيها
وقال الغزالي في القواعد يجب على آكلها التعزير والزجر دون الحد ولا تبطل بحملها الصلاة
وقال ابن تيمية إن الحشيشة أول ما ظهرت في آخر المائة السادسة من الهجرة حين ظهرت دولة التتار وهي من أعظم المنكر وشر من الخمر في بعض الوجوه لأنها تورث نشوة ولذة وطربا كالخمر ويصعب الفطام عنها أكثر من الخمر وقد أخطأ القائل فيها حرموها من غير عقل ونقل وحرام تحريم غير الحرام وكل ما يزيل العقل من غير الأشربة من نحو بنج لا حد فيه كالحشيشة فإنه لا يلذ ولا يطرب ولا يدعو قليله إلى كثيره بل فيه التعزير ولا ترد الخمرة المعقودة والحشيش المذاب نظرا لأصلها وبالمسكر غيره ولكن يكره من غير المسكر المنصف وهو ما يعمل من تمر ورطب والخليط وهو ما يعمل من بسر ورطب لأن الإسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط قبل أن يتغير فيظن الشارب أنه ليس بمسكر ويكون مسكرا ويشترط كون شاربه مكلفا ملتزما للأحكام مختارا عالما بأن ما شربه مسكر من غير ضرورة
ومحترز هذه القيود يؤخذ من قوله ( إلا صبيا ومجنونا ) لرفع القلم عنهما ( وحربيا ) لعدم التزامه ( وذميا ) لأنه لا يلتزم بالذمة ما لا يعتقده إلا الأحكام المتعلقة بالعباد ( وموجرا ) أي مصبوبا في حلقه قهرا ( وكذا مكره على شربه ) أي المسكر ( على المذهب ) لحديث وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ويقابل المذهب طريقة حاكيه لوجهين
تنبيه ظاهر قوله إلا صبيا وما بعده أنه مستثنى من التحريم ووجوب الحد لكن الأصحاب إنما ذكروه في الحد وعدمه
نعم تعرضوا للحل بالنسبة إلى الإكراه والصحيح الحل وبه جزم الرافعي في الجراح ونص الشافعي في البويطي على أن عليه أن يتقايأه وقيل يجب وقيل يسن والأول أوجه
( ومن جهل كونها ) أي الخمر ( خمرا )
____________________
(4/187)
فشربها ظانا كونها شرابا لا يسكر ( لم يحد ) للعذر ولا يلزمه قضاء الصلوات الفائتة مدة السكر كالمغمى عليه ولو قال السكران بعد الإصحاء كنت مكرها أو لم أعلم أن الذي شربته مسكرا صدق بيمينه قاله في البحر في كتاب الطلاق
( ولو قرب إسلامه فقال جهلت تحريمها لم يحد ) لأنه قد يخفي عليه ذلك والحدود تدرأ بالشبهات
قال الأذرعي وهذا ظاهر في غير من نشأ في بلاد الإسلام أما من نشأ فيها فلا يخفى عليه تحريم الخمر عند المسلمين فلا يقبل قوله اه
وظاهر كلام الأصحاب الإطلاق وهو الظاهر ( أو ) قال علمت تحريمها ولكن ( جهلت الحد ) بشربها ( حد ) لأن من حقه إذا علم التحريم أن يمتنع ( ويحد بدردي خمر ) وهو بمهملات وتشديد آخره ما في أسفل وعاء الخمر من عكر لأنه منه
تنبيه كلامه قد يوهم أن دردي غيره من المسكرات ليس كذلك وليس مرادا بل الظاهر كما قاله الأذرعي أنه لا فرق بين الجميع ويحد بالثخين منها إذا أكله
و ( لا ) يحد بشربها فيما استهلكت فيه كما في الروضة وأصلها عن الإمام وجزم به في الرضاع ولا ( بخبز عجن دقيقه بها ) على الصحيح لأن عين الخمر أكلتها النار وبقي الخبز نجسا ( ومعجون هي فيه ) لاستهلاكها ولا بأكل لحم طبخ بها بخلاف مرقه إذا شربه أو غمس فيه أو ثرد بها فإنه يحد لبقاء عينها ( وكذا حقنة ) بها بأن أدخلها دبره ( وسعوط ) بفتح السين بأن أدخلها أنفه فلا يحد بذلك ( في الأصح ) لأن الحد للزجر ولا حاجة إليه هنا فإن النفس لا تدعو إليه والثاني يحد فيهما كما يحصل الإفطار بهما للصائم والثالث وجرى عليه البلقيني أنه يحد في السعوط دون الحقنة لأنه قد يطرب به بخلاف الحقنة ( ومن غص ) بغين معجمة مفتوحة بخطه وحكي ضمها والفتح أجود قاله ابن الصلاح والمصنف في تهذيبه أي شرق ( بلقمة ) ملا ( أساغها ) أي أزالها ( بخمر ) وجوبا كما قاله الإمام ( إن لم يجد غيرها ) ولا حد عليه إنقاذا للنفس من الهلاك والسلامة بذلك قطعية بخلاف التداوي وهذه رخصة واجبة ( والأصح تحريمها ) أي تناولها على مكلف ( لدواء وعطش ) أما تحريم الدواء بها فلأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن التداوي بها قال إنه ليس بدواء ولكنه داء والمعنى أن الله تعالى سلب الخمر منافعها عندما حرمها ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها وهو محمول على الخمر
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله لما حرم الخمرة سلبها المنافع
وما دل عليه القرآن من أن فيها منافع للناس إنما هو قبل تحريمها وإن سلم بقاء المنفعة فتحريمها مقطوع به وحصول الشفاء بها مظنون فلا يقوى على إزالة المقطوع به وأما تحريمها للعطش فلأنها لا تزيله بل تزيده لأن طبعها حار يابس كما قاله أهل الطب ولهذا يحرض شاربها على الماء البارد
وقال القاضي أبو الطيب سألت أهل المعرفة بها فقال تروي في الحال ثم تثير عطشا شديدا
فإن قيل هذه رواية فاسق لا تقبل
أجيب بأنه أخبر بعد نوبته
والثاني يجوز التداوي بها أي بالقدر الذي لا يسكر كبقية النجاسات ويجوز شربها لإساغة اللقمة بها وقيل يجوز التداوي بها دون شربها للعطش وقيل عكسه وشربها لدفع الجوع كشربها لدفع العطش
تنبيه محل الخلاف في التداوي بها بصرفها أما الترياق المعجون بها ونحوه مما تستهلك فيه فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم مقامه مما يحصل به التداوي من الطاهرات كالتداوي بنجس كلحم حية وبول ولو كان التداوي بذلك لتعجيل شفاء بشرط إخبار طبيب مسلم عدل بذلك أو معرفته للتداوي به والند بالفتح المعجون بخمر لا يجوز بيعه لنجاسته
قال الرافعي وكان ينبغي أن يجوز كالثوب المتنجس لإمكان تطهيره بنقعه في الماء ودخانه كدخان من التبخر به ويجوز تناول ما يزيل العقل من غير الأشربة لقطع عضو أما الأشربة فلا يجوز تعاطيها
____________________
(4/188)
لذلك وينبغي إن لم يجد غيرها أو لم يزل عقله إلا بها جوازه ويقدم النبيذ على الخمر لأنه مختلف في حرمته ومحله في شربها للعطش إذا لم ينته الأمر به إلى الهلاك فإن انتهى به إلى ذلك وجب عليه تناولها كتناول الميتة للمضطر كما نقله الإمام عن إجماع الأصحاب وعلى القول بجواز التداوي بها وشربها لا حد وكذا على التحريم كما نقله الشيخان في التداوي عن القاضي و الغزالي واختاره المصنف في تصحيحه وصححه الأذرعي وغيره لشبهة قصد التداوي ومثله شربها للعطش وما نقله الإمام عن الأئمة المعتبرين من وجوب الحد بذلك ضعفه الرافعي في الشرح الصغير وجزم صاحب الاستقصاء في كتاب البيع بجواز إسقائها للبهائم وإطفاء الحريق بها
( وحد الحر أربعون ) جلدة لما في مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين ( و ) حد ( رقيق ) ولو مبعضا كما قاله الأذرعي ( عشرون ) لأنه حد يتبعض فتنصف على الرقيق كحد الزنا
تنبيه لو تعدد الشرب كفى ما ذكره المصنف وحديث الأمر بقتل الشارب في الرابعة منسوخ بالإجماع ويروى أن أبا محجن الثقفي القائل إذا مت فادفني إلى أصل كرمة لتروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها جلده عمر رضي الله عنه مرارا والظاهر أنها أكثر من أربع ثم تاب وحسنت توبته وذكر أنه قد نبت عليه ثلاث أصول كرم وقد طالت وانتشرت وهي معرشة على قبره بنواحي جرجان
والأصل في الجلد أن يكون ( بسوط أو أيد أو نعال أو أطراف ثياب ) لما روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم كان يضرب بالجريد والنعال
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فأمر بضربه فمنا من ضربه بيده ومنا من ضربه بنعله ومنا من ضربه بثوبه
تنبيه ليس المراد بطرف الثوب الضرب به على هيئته وإنما المراد أنه يفتل حتى يشتد ثم يضرب به كما صرح به المحاملي وغيره
( وقيل يتعين ) للجلد ( سوط ) للسليم القوي كحد الزنا والقذف وهو كما قال ابن الصلاح المتخذ من جلود سيور تلوى وتلف سمي بذلك لأنه يسوط اللحم بالدم أي يخلطه أما نضو الخلق فلا يجوز جلده بسوط جزما كما قاله الزركشي ( ولو رأى الإمام بلوغه ) أي الحد للحر ( ثمانين جاز في الأصح ) المنصوص لما روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي لأنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد الافتراء ثمانون وروى البيهقي أن عمر رضي الله تعالى عنه أتى شيخ قد شرب الخمر في رمضان فضربه ثمانين ونفاه إلى الشام وقال في شهر رمضان وشيخا تتصابى
قال وأتي علي رضي الله تعالى عنه بشيخ سكر في شهر رمضان فضربه ثمانين ثم أخرجه من الغد وضربه عشرين ثم قال إنما ضربتك هذه العشرين لجراءتك على الله وإفطارك في شهر رمضان والثاني لا تجوز الزيادة لرجوع علي رضي الله تعالى عنه عن ذلك وكان يجلد في خلافته أربعين
تنبيه يجري الخلاف في بلوغه في الرقيق أربعين
( والزيادة ) عليها في الحر وعلى العشرين في غيره ( تعزيرات ) لأنها لو كانت حدا لما جاز تركها ( وقيل حد ) لأن التعزير لا يكون إلا عن جناية محققة
واعترض الأول بأن وضع التعزير النقص عن الحد فكيف يساويه
وأجيب بأنه الجناية تولدت من الشارب ولهذا استحسن تعبير المصنف بتعزيرات على تعبير المحرر بتعزير
قال الرافعي وليس هذا الجواب شافيا فإن الجناية لم تتحقق حتى يعزر والجنايات التي تتولد من الخمر لا تنحصر فلتجز الزيادة على الثمانين وقد منعوها
قال وفي قصة تبليغ الصحابة الضرب ثمانين ألفاظ مشعرة بأن الكل حد وعليه فحد الشرب مخصوص من بين سائر الحدود بأن يتحتم بعضه
____________________
(4/189)
ويتعلق بعضه باجتهاد الإمام اه
والمعتمد أنها تعزيرات وإنما لم تجز الزيادة اقتصارا على ما ورد
ثم شرع في بيان ما يثبت به شرب المسكر فقال ( ويحد بإقراره ) كقوله شربت خمرا أو شربت مما شرب منه غيري فسكر منه ( أو شهادة رجلين ) يشهدان بمثل ذلك ( لا ) بشهادة رجل وامرأتين لأن البينة ناقصة والأصل براءة الذمة ولا باليمين المردودة لما مر في قطع السرقة ( لا بريح خمر وسكر وقيء ) لاحتمال أن يكون شرب غالطا أو مكرها والحد يدرأ بالشبهة ولا يستوفيه القاضي بعلمه على الصحيح بناء على أنه لا يقضي بعلمه في حدود الله تعالى نعم سيد العبد يستوفيه بعلمه لإصلاح ملكه ( و ) لا يشترط في الإقرار والشهادة تفصيل بل ( يكفي ) الإطلاق ( في إقرار ) من شخص بأنه شرب خمرا ( و ) في ( شهادة ) بشرب مسكر ( شرب ) فلان ( خمرا ) ولا يحتاج أن يقول وهو مختار عالم لأن الأصل عدم الإكراه والغالب من حال الشارب علمه بما يشربه فنزل الإقرار والشهادة عليه ( وقيل يشترط ) التفصيل بأن يزاد على ما ذكر في كل منهما كقول المقر وأنا عالم مختار وكقول الشاهد ( وهو عالم به مختار ) لأنه إنما يعاقب باليقين كالشهادة بالزنا واختاره الأذرعي وفرق الأول بأن الزنا قد يطلق على ما لاح فيه كما في الحديث العينان يزنيان بخلاف سكر المسكر
تنبيه سكت المصنف هنا عن حكم رجوع المقر بشرب خمر وهو على مما سبق في حد الزنا فإن كل ما ليس من حق آدمي يقبل الرجوع فيه
( ولا يحد حال سكره ) لأن المقصود منه الردع والزجر والتنكيل وذلك لا يحصل مع السكر بل يؤخر وجوبا كما صرح به ابن الوردي في بهجته ليرتدع فإن حد قبلها ففي الاعتداد به وجهان أصحهما كما قاله البلقيني و الأذرعي الاعتداد به ( وسوط الحدود ) أو التعازير ( بين قضيب ) وهو الغصن ( وعصا ) غير معتدلة ( و ) بين ( رطب ويابس ) بأن يكون معتدل الجرم والرطوبة للاتباع ولم يصرحوا بوجوب هذا ولا بندبه وقضية كلامهم الوجوب كما قاله الزركشي
ولما فرغ من صفة السوط بين كيفية عدد الضرب بقوله ( ويفرقه ) أي السوط أي الضرب به ( على الأعضاء ) فلا يجمعه في موضع واحد لما روى البيهقي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال للجلاد أعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير والتفريق واجب كما بحثه الأذرعي لأن الضرب على موضع واحد يعظم ألمه بالموالاة وقد يؤدي إلى الهلاك
قال ولم أر فيه نصا للأصحاب ثم استثنى المصنف من الأعضاء قوله ( إلا المقاتل ) وهي مواضع يسرع القتل إليها بالضرب كقلب وثغرة نحر وفرج فلا يضربه عليها لما مر من قول علي واتق الوجه والمذاكير وظاهر كلامهم كما قال الأذرعي أن ذلك واجب لأن القصد ردعه لا قتله فلو ضربه على مقتل فمات ففي ضمانه وجهان وقضية كلام الدارمي ترجيح نفي الضمان ( و ) إلا ( الوجه ) فلا يضربه عليه وجوبا لخبر مسلم إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه ولأنه مجمع المحاسن فيعظم أثر شينه ( قيل و ) إلا ( الرأس ) فلا يضربه لشرفه كالوجه والأصح وعزاه الرافعي للأكثرين لا والفرق أنه معظم غالبا فلا يخاف تشويهه بالضرب بخلاف الوجه
وروى ابن أبي شيبة عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال للجلاد اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس
وكان ينبغي أن يقول في قول والرأس فإن القاضي أبا الطيب حكاه عن نص البويطي ورجحه وجزم به الماوردي و ابن الصباغ وصاحب التنبيه وغيرهم وقال الروياني في التجربة غلط من قال بخلافه
تنبيه لا يجوز للجلاد رفع يده بحيث يبدو بياض إبطه ولا يخفضها خفضا شديدا بل يتوسط بين خفض ورفع فيرفع ذراعه لا عضده ولا يبالي بكون المجلود رقيق الجلد يدميه الضرب الخفيف
( ولا تشد يده ) أي المجلود بل تترك مطلقة يتقي بها وإذا وضعها على موضع ضرب غيره ولا يلقى على وجهه ولا يربط ولا يمد كما قاله البغوي بل يجلد الرجل قائما والمرأة جالسة ( ولا تجرد ثيابه ) الخفيفة التي لا تمنع أثر الضرب أما ما يمنع كالجبة المحشوة والفروة
____________________
(4/190)
فتنزع عنه مراعاة لمقصود الحد ويترك على المرأة ما يسترها وتشد عليها ثيابها ويتولى ذلك منها امرأة أو محرم ويكون بقربها إن تكشفت سترها
وأما الجلد فيتولاه الرجال لأن الجلد ليس من شأن النساء والخنثى كالمرأة فيما ذكر ولكن لا يختص بشد ثيابه المرأة ونحوها ويحتمل كما قاله شيخنا تعين المحرم ونحوه وإن كان المحدود من ذوي الهيئات ضرب كما قاله الماوردي في الخلوات وإلا ففي الملأ ولا يحد ولا يعزر في المسجد لخبر أبي داود وغيره لا تقام الحدود في المساجد ولاحتمال أن يتلوث من جراحة تحدث فإن فعل أجزأه كالصلاة في أرض مغصوبة كذا قالاه هنا وقضيته تحريم ذلك وبه جزم البندنيجي لكن الذي كراه في باب القضاء أنه لا يجرم بل يكره ونص عليه في الأم نبه عليه الإسنوي وهو الظاهر ( ويوالى الضرب عليه بحيث يحصل زجر وتنكيل ) فلا يجوز أن يفرق على الأيام والساعات لعدم الإيلام المقصود في الحد بخلاف ما لو حلف ليضربنه مائة سوط فإنه يبرأ إذا فرقها على الأيام والساعات لأن مستند الإيمان إلى الاسم وهنا التنكيل والزجر ولم يحصل ولو جلد للزنا خمسين ولاء وفي غده كذلك أجزأ
تنبيه لم يضبط التفريق الجائز وغيره
قال الإمام إن لم يحصل في كل دفعة ألم له وقع كسوط أو سوطين في كل يوم فهذا ليس بحد وإن آلم وأثر بما له وقع فإن لم يتخلل زمن يزول فيه الألم الأولى كفى وإن تخلل لم يكف على الأصح ثم عقب المصنف رحمه الله تعالى الجنايات السبع الموجبة للحد بالتعزير وترجم له بفصل فقال فصل في التعزير وهو لغة التأديب
وأصله من العزر وهو المنع ومنه قوله تعالى { وتعزروه } أي تدفعوا العدو عنه وتمنعوه ويخالف الحد من ثلاثة أوجه
أحدها أنه يختلف باختلاف الناس فتعزير ذوي الهيئات أخف ويستوون في الحد
والثاني تجوز الشفاعة فيه والعفو بل يستحبان
والثالث التألق به مضمون في الأصح خلافا لأبي حنيفة ومالك
وشرعا لتأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة كما نبه على ذلك بقوله ( يعزر في كل معصية لا حد لها ولا كفارة ) سواء أكانت حقا لله تعالى أم لآدمي وسواء أكانت من مقدمات ما فيه حد كمباشرة أجنبية في غير الفرج وسرقة ما لا قطع فيه والسب بما ليس بقذف أم لا كالتزوير وشهادة الزور والضرب بغير حق ونشوز المرأة ومنع الزوج حقها مع القدرة
والأصل فيه قبل الإجماع قوله تعالى { واللاتي تخافون نشوزهن } الآية
فأباح الضرب عند المخالفة فكان فيه تنبيه على التعزير وقوله صلى الله عليه وسلم في سرقة التمر إذا كان دون نصاب غرم مثله وجلدات نكال رواه أبو داود والنسائي بمعناه
وروى البيهقي أن عليا رضي الله تعالى عنه سئل عمن قال لرجل يا فاسق يا خبيث فقال يعزر
تنبيه اقتضى كلام المصنف ثلاثة أمور
الأمر الأول تعزير ذي المعصية التي لا حد فيها ولا كفارة ويستثنى منه مسائل
الأولى إذا صدر من ولي لله تعالى صغيرة فإنه لا يعزر كما قاله ابن عبد السلام
قال وقد جهل أكثر الناس فزعموا أن الولاية تسقط بالصغيرة ويشهد لذلك حديث أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود رواه أبو داود قال الإمام الشافعي رحمه الله والمراد بذوي الهيئات الذين لا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة ولم يعلقه بالأولياء لأن ذلك لا يطلع عليه
فإن قيل قد عزر عمر رضي الله تعالى عنه غير واحد من مشاهير الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم رؤوس الأولياء وسادة الأمة ولم ينكره أحد أجيب بأن ذلك تكرر منه والكلام هنا في أول زلة زلها مطيع
الثانية إذا قطع شخص أطراف نفسه
الثالثة إذا وطىء زوجته أو أمته في دبرها فلا يعزر بأول مرة بل ينهى عن العود فإن عاد عزر نص عليه في المختصر وصرح به البغوي وغيره
الرابعة الأصل لا يعزر لحق الفرع كما لا يجد بقذفه
الخامسة إذا رأى من يزني بزوجته وهو محصن فقتله في تلك الحالة فلا تعزير عليه
وإن اقتات على الإمام لأجل الحمية حكاه ابن الرفعة عن أبي داود
السادسة إذا دخل واحد من أهل القرى إلى الحمى الذي حماه الإمام
____________________
(4/191)
للضعفة ونحوهم فرعي منهم لا تعزير عليه ولا غرم وإن كان عاصيا وآثما لكن يمنع من الرعي كذا نقله في زيادة الروضة هناك عن القاضي أبي حامد وأقره
السابعة إذا ارتد ثم أسلم فإنه لا يعزر أول مرة نقل ابن المنذر الاتفاق عليه
الثامنة إذا كلف السيد عبده ما لا يطيق فإنه يحرم عليه ولا يعزر أول مرة وإنما يقال له لا تعد فإن عاد عزر ذكره الرافعي في آخر الباب الأول من اللعان
التاسعة إذا طلبت المرأة نفقتها بطلوع الفجر قال في النهاية الذي أراه أن الزوج إن قدر على إجابتها فهو حتم ولا يجوز تأخيره وإن كان لا يحبس ولا يركل به ولكن يعصى بمنعه
العاشرة إذا عرض أهل البغي بسبب الإمام لم يعزروا على الأصح في زيادة الروضة
الأمر الثاني أنه متى كان في المعصية حد كالزنا أو كفارة كالتمتع يطيب في الإحرام ينتفي التعزير لإيجاب الأول للحد والثاني للكفارة
ويستثنى منه مسائل
الأولى إفساد الصائم يوما من رمضان بجماع زوجته أو أمته فإنه يجب فيه التعزير مع الكفارة
الثانية المظاهر يجب عليه التعزير مع الكفارة
الثالثة إذا قتل من لا يقاد به كولده وعبده قال الإسنوي نعم يجاب عنه بأن إيجاب الكفارة ليس للمعصية بل لإعدام النفس بدليل إيجابها بقتل الخطأ فلما بقي التعمد خاليا عن الزجر أوجبنا فيه التعزير
الرابعة اليمين الغموس يجب فيها الكفارة والتعزير كما ذكره في المهذب
الخامسة الزيادة على الأربعين في شرب المسكر إلى الثمانين تعزيرات على الصحيح كما سبق في كلام المصنف
السادسة ما ذكره الشيخ عز الدين في القواعد الصغرى أنه لو زنى بأمه في جوف الكعبة في رمضان وهو صائم معتكف محرم لزمه العتق والبدنة ويحد للزنا ويعزر لقطع رحمه وانتهاك حرمة الكعبة
السابعة ما ذكره الفوراني أن السارق إذا قطعت يده يعزر قال في الذخائر إن أراد به تعليق يده في عنقه فحسن أو غيره فمنفرد به وتعليق يده في عنقه ضرب من النكال نص عليه وليس من الحد قطعا إذا لم يقل بوجوبه أحد
الأمر الثالث أنه لا يعزر في غير معصية ويستثنى منه مسائل
الأولى الصبي والمجنون يعزران إذا فعلا ما يعزر عليه البالغ وإن لم يكن فعلهما معصية نص عليه في الصبي وذكره القاضي حسين في المجنون
الثانية قال الماوردي في الأحكام السلطان يمنع المحتسب من يكتسب باللهو ويؤدب عليه الآخذ والمعطى وظاهره تناول اللهو المباح
ثالثها نفي المخنث نص عليه الشافعي رحمه الله مع أنه ليس بمعصية وإنما فعل للمصلحة
وعلق المصنف بقوله سابقا يعزر قوله هنا ( بحبس أو ضرب أو صفع ) وهو الضرب بجمع الكف ( أو توبيخ ) باللسان لأن ذلك يفيد الردع والزجر عن الجريمة والمراد بالضرب غير المبرح فإن علم أن التأديب لا يحصل عليه إلا بالضرب المبرح فعن المحققين أنه ليس له فعل المبرح ولا غيره
قال الرافعي ويشبه أن يقال بضربه غير مبرح إقامة لصورة الواجب
قال في المهمات وهو ظاهر
تنبيه قضية كلامه أنه ليس له الجمع بين هذه الأمور ولا بين نوعين منها وليس مرادا ففي أصل الروضة أن له الجمع بين الحبس والضرب وقضيته أيضا أنه لا يتعين للحبس مدة وليس مرادا أيضا بل شرطه النقص عن سنة كما نص عليه في الأم وصرح به معظم الأصحاب وقضيته أيضا الحصر فيما ذكره وليس مرادا أيضا فإن من أنواع التعزير النفي كما ذكره في باب حد الزنا ونص عليه في الأم وقد ثبت في الحديث نفي المخنثين ومنه كشف الرأس والقيام من المجلس والإعراض كما ذكره الماوردي ويجتهد الإمام في جنسه وقدره لأنه غير مقدر شرعا موكل إلى رأيه يجتهد في سلوك الأصلح لاختلاف ذلك باختلاف مراتب الناس وباختلاف المعاصي فله أن يشهر في الناس من أدى اجتهاده إليه ويجوز له حلق رأسه دون لحيته ويجوز أن يصلب حيا ولا يمنع من الطعام والشراب ولا من الوضوء للصلاة ويصلي موميا ويعيد إذا أرسل ولا يجاوز ثلاثة أيام قاله الماوردي اه
واعترض منعه من الصلاة متمكنا والظاهر أنه لا يمنع وفي جواز تسويد وجهه وجهان قال الماوردي إن الأكثرين على الجواز وله إركابه الدابة منكوسا وعلى الإمام مراعاة الترتيب والتدريج اللائق بالحال في القدر والنوع كما يراعيه في دفع الصائل فلا يرقى إلى مرتبة وهو يرى ما دونها كافيا مؤثرا كما حكاه الإمام عن الأصحاب وإن أوهم عطف
____________________
(4/192)
المصنف بأو المقتضية للتخيير خلافه وقضية كلامه أنه لا يستوفيه إلا الإمام
واستثنى منه مسائل
الأولى للأب والأم ضرب الصغير والمجنون زجرا لهما عن سيء الأخلاق وإصلاحا لهما قال شيخنا ومثلهما السفيه
وعبارة الدميري وليس للأب تعزير البالغ وإن كان سفيها على الأصح وتبعه ابن شهبة
الثانية للمعلم أن يؤدب من يتعلم منه لكن بإذن الولي كما في الروضة وإن قال الأذرعي الإجماع الفعلي مطرد بذلك من غير إذن
الثالثة للزوج ضرب زوجته لنشوزها ولما يتعلق به من حقوق عليها للآية السابقة أول الباب وليس له ذلك لحق الله تعالى لأنه لا يتعلق به وقضيته أنه ليس له ضربها على ترك الصلاة وهو كذلك وإن أفتى ابن البرزي بأنه يجب على الزوج أمر زوجته بالصلاة في أوقاتها ويجب عليه ضربها على ذلك وأما أمره لها بالصلاة فمسلم
الرابعة للسيد ضرب رقيقه لحق نفسه كما في الزوج بل أولى لأن سلطته أقوى وكذا لحق الله تعالى كما مر في الزنا وتسمى هذه المسائل المستثناة تعزيرا وقيل إنما يسمى ما عدا ضرب الإمام ونائبه تأديبا لا تعزيرا وعلى هذا لا استثناء
( وقيل إن تعلق ) التعزير ( بآدمي لم يكف ) فيه ( توبيخ ) لتأكد حق الآدمي والأصح الاكتفاء كما في حق الله تعالى
ثم شرع في بيان قدر التعزير بقول ( فإن جلد ) الإمام ( وجب أن ينقص في عبد عن عشرين جلدة و ) في ( حر عن أربعين ) جلدة أدنى حدودهما لخبر من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين رواه البيهقي وقال المحفوظ إرساله وكما يجب نقص الحكومة عن الدية والرضخ عن السهم ( وقيل ) يجب أن ينقص في تعزير الحر عن ( عشرين ) جلدة لأنها حد العبد فهو داخل في المنع في الحديث المتقدم وقيل لا يزاد في تعزيرهما على عشرة أسواط لحديث لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى واختاره الأذرعي و البلقيني وقال إنه على أصل الشافعي في اتباع الخبر وقال صاحب التقريب لو بلغ الشافعي لقال به وأجاب الأول عنه بأنه منسوخ بعمل الصحابة على خلافه من غير إنكار قال القونوي وحمله على الأولوية بعد ثبوت العمل بخلافه أهون من النسخ ما لم يتحقق
فائدة أهل بدر إذا عمل أحد منهم ذنبا يقتضي حدا أو غيره أقيم عليه بالإجماع وأما ما ورد في الحديث من أنه مغفور لهم فقيل معناه مغفور لهم في الدار الآخرة
وقال الخطابي وغيره المراد الماضي لا المستقبل لأنه لو كان للمستقبل لكان إطلاقا في الذنوب ولا وجه له وقد حد النبي صلى الله عليه وسلم نعيمان في الخمر و عمر رضي الله تعالى عنه قدامة بن مظعون فيه أيضا وكانا بدريين وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مسطحا الحد وكان بدريا
( ويستوي في هذا ) المذكور ( جميع المعاصي ) السابقة أي معصية الشرب وغيره ( في الأصح ) فيلحق ما هو من مقدمات الحدود بما ليس منها إذ لا دليل على التفرقة والثاني لا بل يقاس كل معصية بما يناسبها مما يوجب الحد ( ولو عفا مستحق حد ) عنه كحد قذف ( فلا تعزير للإمام في الأصح ) لأنه لازم مقدر لا نظر للإمام فيه ولأنه مضبوط فجاز إسقاطه والإبراء عنه
والثاني له التعزير لأنه لا يخلو عن حق الله تعالى ( أو ) عفا مستحق ( تعزير فله ) أي الإمام التعزير ( في الأصح ) لحق الله تعالى وإن كان لا يعزر بدون عفو قبل مطالبة المستحق له لأن التعزير أصله يتعلق بنظر الإمام فلم يؤثر فيه إسقاط غيره ولأن التعزير غير مضبوط لأنه يحصل بأنواع شتى من ضرب وصفع وتوبيخ وحبس ونحو ذلك ويحصل بقليل هذه الأمور وكثيرها ومستحقه لم يستحق نوعا معينا من أنواع التعازير ولا مقدارا معينا بل استحق مجهولا والإبراء من المجهول باطل
والثاني المنع لأن المستحق قد أسقطه
خاتمة للإمام ترك تعزير لحق الله تعالى لإعراضه صلى الله عليه وسلم عن جماعة استحقوه كالغال في الغنيمة ولارى
____________________
(4/193)
شدقه في حكمه للزبير ولا يجوز تركه إن كان لآدمي عند طلبه كالقصاص كما جرى عليه الحاوي الصغير ومختصره خلافا لما رجحه ابن المقري من أن له ذلك ويعزر من وافق الكفار في أعيادهم ومن يمسك الحية ويدخل النار ومن قال لذمي يا حاج ومن هنأه بعيده ومن سمى زائر قبور الصالحين حاجا والساعي بالنميمة لكثرة إفسادها بين الناس
قال يحيى بن أبي كثير يفسد النمام في ساعة ما لا يفسده الساحر في السنة ولا يجوز للإمام العفو عن الحد ولا تجوز الشفاعة فيه لقوله صلى الله عليه وسلم لعن الله الشافع والمشفع وفي البيهقي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله في حكمه وتسن الشفاعة الحسنة إلى ولاة الأمور من أصحاب الحقوق ما لم يكن في حد أو أمر لا يجوز تركه كالشفاعة إلى ناظر يتيم أو وقف في ترك بعض الحقوق التي في ولايته فهذه شفاعة سوء محرمة واستدل للشفاعة الحسنة بقوله تعالى { من يشفع شفاعة حسنة } الآية وبما في الصحيحين عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه وقال اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء
كتاب الصيال هو والمصاولة الاستطالة والوثوب والصائل الظالم ( وضمان الولاة ) وأدرج المصنف في الباب حكم الختان وإتلاف البهائم وعقد في الروضة لإتلاف البهائم بابا وذكر حكم الختان في باب ضمان إتلاف الإمام
والأصل في الباب قوله تعالى { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }
وافتتحه في المحرر بخبر البخاري انصر أخاك ظالما أو مظلوما والصائل ظالم فيمنع من ظلمه لأن ذلك نصره
( له ) أي المصول عليه ( دفع كل صائل ) مسلما كان أو كافرا عاقلا أو مجنونا بالغا أو صغيرا قريبا أو أجنبيا آدميا أو غيره ( على ) معصوم من ( نفس أو طرف ) أو منفعة ( أو بضع أو مال ) لخبر من قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد رواه أبو داود والترمذي وصححه
ووجه الدلالة أنه لما جعله شهيدا دل على أن له القتل والقتال كما أن من قتله أهل الحرب لما كان شهيدا كان له القتل والقتال
تنبيه في معنى البضع من قصد الاستمتاع بأهله فيما دون الفرج كالقبلة وألحق الروياني الأخت والبنت بالزوجة
وشمل قوله أو مالالكثير والقليل كدرهم
فإن قيل كيف يكون المقدر في السرقة أكثر وما فيه سوى قطع الطرف وقد يؤدي الدفع إلى هلاك النفس وهو أعظم والمال فيه قليل أجيب بأن قطع الطرف محقق فاعتبر فيه ذلك بخلاف هلاك النفس ومال نفسه ومال غيره ويستثنى من جواز الدفع عن المال ما لو صال مكرها على إتلاف مال غيره لم يجز دفعه بل يلزم المالك أن بقي روحه بمال كما يناوله المضطر طعامه كما ذكره الرافعي قبيل الديات ولكل منهما دفع المكره وتعبيره بالمال قد يخرج ما ليس بمال كالكلب المقتنى والسرجين وقضية كلام الماوردي وغيره إلحاقه به وهو الظاهر وله دفع مسلم عن ذمي ووالد عن ولده وسيد عن عبده لأنهم معصومون ولو صال قوم على النفس والبضع والمال قدم الدفع عن النفس على الدفع عن البضع والمال والدفع عن البضع على الدفع عن المال والمال الكثير على الحقير
ولو صال اثنان على متساويين في نفسين أو بضعين أو مالين ولم يتيسر دفعهما معا دفع أيهما شاء ولو صال أحدهما على صبي باللواط والآخر على امرأة بالزنا ففيه احتمالان لبعض المتأخرين أحدهما يبدأ بصاحب الزنا للإجماع على وجوب الحد فيه والثاني بصاحب اللواط إذ ليس إلى حله سبيل
وقال بعضهم يبدأ بأيهما شاء وهو أوجه لعدم الأولوية
( فإن قتله ) أي المصول عليه الصائل دفعا ( فلا ضمان ) بقصاص ولا دية
____________________
(4/194)
ولا كفارة ولا قيمة ولا إثم لأنه مأمور بدفعه وفي الأمر بالقتال والضمان منافاة حتى لو صال العبد المغصوب أو المستعار على مالكه فقتله دفعا لم يبرأ الغاصب ولا المستعير
ويستثنى من عدم الضمان المضطر إذا قتله صاحب الطعام دفعا فإن عليه القود قاله الذبيلي في أدب القضاء
تنبيه دخل في كلامهم ما لو صالت حامل على إنسان فدفعها فألقت جنينها ميتا فالأصح لا يضمنه وقاسه القاضي على ما إذا تترس الكفار حال القتال بمسلم واضطر المسلمون إلى قتله
( ولا يجب الدفع عن مال ) لا روح فيه لأنه يجوز إباحته للغير قال الأذرعي والظاهر أن هذا في الآحاد فأما الإمام ونوابه فيجب عليهم الدفع عن أموال رعاياهم وكذا إن كان ماله وتعلق به حق الغير كرهن وإجارة
قال الغزالي وإن كان مال محجور عليه أو وقف أو مالا مودعا وجب على من هو بيده الدفع عنه اه
أما ما فيه روح فيجب الدفع عنه إذا قصد إتلافه ما لم يخش على نفسه أو بضع لحرمة الروح حتى لو رأى أجنبي شخصا يتلف حيوان نفسه إتلافا محرما وجب عليه دفعه على الأصح في أصل الروضة ( ويجب ) الدفع ( عن بضع ) لأنه لا سبيل إلى إباحته وسواء بضع أهله أو غيره ومثل البضع مقدماته ومحل ذلك إذا لم يخف على نفسه كما قاله البغوي و المتولي ( وكذا نفس ) للشخص يجب الدفع عنها إذا ( قصدها كافر ) ولو معصوما إذ غير المعصوم لا حرمة له والمعصوم بطلت حرمته بصياله ولأن الاستسلام للكافر ذل في الدين ومقتضى هذه العلة جواز استسلام الكافر للكافر وبحثه الزركشي
تنبيه محل ممنع جواز استسلام المسلم للكافر إذا لم يجوز الأسر فإن جوزه لم يحرم كما سيأتي إن شاء الله تعالى في السير
( أو ) قصدها ( بهيمة ) لأنها تذبح لاستيفاء الآدمي فلا وجه للاستسلام لها وظاهر أن عضوه ومنفعته كنفسه ( لا ) إن قصدها ( مسلم ) ولو مجنونا ومراهقا أو أمكن دفعه بغير قتله فلا يجب دفعه ( في الأظهر ) بل يجوز الاستسلام له بل يسن كما أفهمه كلام الروضة لخبر أبي داود كن خير ابني آدم يعني قابيل وهابيل ولمنع عثمان رضي الله تعالى عنه عبيده وكانوا أربعمائة يوم الدار وقال من ألقى سلاحه فهو حر واشتهر ذلك في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكر عليه أحد
والثاني يجب لقوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وكما يجب عليه إصانة نفسه بأكل ما يجده وأجاب الأول بأن في القتل شهادة بخلاف ترك الأكل
تنبيه محل ذلك في المحقون الدم كما قيده القاضي الحسين و الإمام و الغزالي والبلقيني ليخرج المهدر كالزاني المحصن وتارك الصلاة ومن تحتم قتله في قطع الطريق فإن حكمهم حكم الكافر كما صرح به في الترغيب
قال الأذرعي ويظهر الدفع عن العضو عند ظن السلامة لأنه ليس هنا شهادة وكذلك يجب عن النفس إذا أمكن عند غلبة الظن بأنه يحصل بقتله مفاسد في الحريم والأطفال اه
وهو بحث حسن
( والدفع عن ) نفس ( غيره ) إذا كان آدميا محترما ولو رقيقا ( كهو عن نفسه ) فيجب حيث يجب وينتفي حيث ينتفي إذ لا يزيد حق غيره على حق نفسه
وقد أكثر المصنف في المتن من جر ضمير الغائب بالكاف وهو قليل
تنبيه محل الوجوب إذا أمن الهلاك كما صرح به في أصل الروضة إذ لا يلزمه أن يجعل روحه بدلا عن روح غيره وقول البلقيني نعم إن كان في قتال الحربيين أو المرتدين فلا يسقط الوجوب بالخوف ظاهر إذا كان في الصف وكانوا مثليه فأقل وإلا فلا ولا يلزم العبد الدفع عن سيده عند الخوف على نفسه بل السيد في ذلك كالأجنبي حكاه الرافعي عن الإمام ويؤخذ منه كما قال الزركشي أنه لا يلزم الابن الدفع عن أبيه أيضا
قال ولم يتعرضوا له أي لوضوحه
أما لو صال شخص على غير محترم حربي فلا يجب على المسلم دفعه عنه وإن وجب الدفع عن نفسه لعدم احترامه
( وقيل يجب ) الدفع عن غيره ( قطعا ) لأن له الإيثار بحق نفسه دون غيره وبه جزم البغوي وغيره وفي مسند أحمد من أذل عنده مسلم فلم ينصره وهو قادر أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة
____________________
(4/195)
تنبيه محل الخلاف بالنسبة إلى الآحاد أما الإمام وغيره من الولاة فيجب ذلك عليهم قطعا وقضية الوجوب أو الجواز عدم الضمان وهو ظاهر وإن قال الشيخ أبو حامد من قتل غيره دفعا عن مال غيره كان عليه الضمان
ومحله أيضا إذا كان المصول عليه غير نبي أما هو فيجب الدفع عنه قطعا كما قاله الفوراني
قال الإمام ولا يختص الخلاف بالصائل بل من أقدم على محرم من شرب خمر أو غيره فلبعض الآحاد منعه ولو أتى على النفس كما قال الرافعي إنه الموجود في كتب المذهب حتى قالوا لو ظهر في بيت خمر يشرب أو طنبور يضرب أو نحوهما فله الهجوم على متعاطيه لإزالته نهيا عن المنكر وإن لم ينتهوا فله قتالهم وإن أتى على النفس وهو مثاب على ذلك و الغزالي ومن تبعه عبروا هنا بالوجوب ولا ينافيه تعبير الأصحاب بالجواز إذ ليس مرادهم أنه مخير فيه بل إنه جائز بعد امتناعه قبل ارتكاب ذلك وهو صادق الوجوب وقضية كلام المصنف أنه لا يجب الدفع عن مال الغير لكن قال الغزالي مهما قدر على حفظ مال غيره من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه أو خسران في ماله أو نقصان في جاهه وجب عليه وهو أقل درجات حقوق المسلم وهو أولى بالإيجاب من رد السلام ولا خلاف أن مال الإنسان إذا كان يضيع بظلم ظالم وكان عنده شهادة وجب عليه أداؤها ويعصى بتركها
( ولو سقطت جرة ) مثلا وهي بفتح الجيم إناء من فخار على إنسان ( ولم تندفع عنه إلا بكسرها ) جاز له بل صرح البغوي بوجوبه صيانة لروحه ولا ينافي ذلك الجواز كما مر وإذا كسرها ( ضمنها في الأصح ) إذ لا قصد لها ولا اختيار حتى يحال عليها فصار كالمضطر إلى طعام غيره يأكله ويضمنه
والثاني لا لأنه دافع للضرر عن نفسه وصححه البلقيني تنزيلا لها منزلة البهيمة الصائلة وفرق الأول بأن البهيمة لها نوع اختيار
تنبيه محل الخلافة أن تكون موضوعة بمحل غير عدوان فإن كان موضوعة بمحل عدوان كأن وضعت بروشن أو على معتدل لكنها مائلة أو على حالة يغلب فيها سقوطها لم يضمنها قطعا قاله الزركشي لكن لو أبدل قوله عدوان بيضمن به كان أولى ويضمن بهيمة لم يمكن جائعا وصوله إلى طعامه إلا بقتلها وقتلها لأنها لم تقصده وقتله لها لدفع الهلاك عن نفسه بالجوع فكان كأكل المضطر طعام غيره فإنه موجب للضمان
فإن قيل يمكن أن يجعل الأصح هنا نفي الضمان كما لو عم الجراد المسالك فوطئها المحرم وقتل بعضها فإنه لا ضمان عليه
أجيب بأن الحق ثم لله تعالى وهنا للآدمي
ثم بين كيفية دفع الصائل بقوله ( ويدفع الصائل بالأخف ) فالأخف إن أمكن والمعتبر غلبة الظن ( فإن أمكن ) دفعه ( بكلام واستغاثة ) بغين معجمة ومثلثة بالناس ( حرم الضرب ) أي الدفع به ( أو ) أمكن دفعه ( بضرب بيد حرم سوط أو ) أمكن دفعه ( بسوط حرم عصا أو ) أمكن دفعه ( بقطع عضو حرم قتل ) لأن ذلك جوز للضرورة ولا ضرورة في الأثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل ولو اندفع شره كأن وقع في ماء أو نار أو انكسرت رجله أو حال بينهما جدار أو خندق لم يضربه كما صرح به في الروضة
وفائدة الترتيب المذكور أنه متى خالف وعدل إلى رتبة مع إمكان الاكتفاء بما دونها ضمن
ويستثنى من مراعاة الترتيب مسائل الأولى لو التحم القتال بينهما واشتد الأمر عن الضبط سقط مراعاة الترتيب كما ذكره الإمام في قتال البغاة
الثانية ما سيأتي في النظر إلى الحرم أنه يرمي بالحصاة قبل الإنذار على خلاف فيه يأتي
الثالثة لو كان الصائل يندفع بالسوط والعصا والمصول عليه لا يجد إلا السيف فالصحيح أن له الضرب به لأنه لا يمكنه الدفع إلا به وليس بمقصر في ترك استصحاب السوط ونحوه
الرابعة إذا رآه يولج في أجنبية فله أن يبدأ بالقتل وإن اندفع بدونه فإنه في كل لحظة مواقع لا يستدرك بالأناة كذا قاله الماوردي و الروياني وهو مردود لقول الشيخين في الروضة وأصلها إذا وجد رجلا يزني بامرأته أو غيرها لزمه
____________________
(4/196)
منعه ودفعه فإن هلك في الدفع فلا شيء عليه وإن اندفع بضرب ونحوه ثم قتله لزمه القصاص إن لم يكن الزاني محصنا
فإن كان فلا قصاص على الصحيح وقد سبق في الجنايات اه
فهذا دليل على اشتراط الترتيب ( فإن أمكن ) المصول عليه ( هرب ) أو التجأ لحصن أو جماعة ( فالمذهب وجوبه وتحريم قتال ) لأنه مأمور بتخليص نفسه بالأهون فالأهون وما ذكر أسهل من غيره فلا يعدل إلى الأشد والثاني لا يجب لأن إقامته في ذلك الموضع جائزة فلا يكلف الانصراف والطريق الثاني إن تيقن النجاة بهرب وجب وإلا فلا حملا للنصين المختلفين على هذين الحالين
تنبيه قضية المتن أنه لو قاتل مع إمكان الهرب لزمه القصاص وقية كلام البغوي المنع فإنه قال تلزمه الدية اه
والأول أوجه لما مر وقضية إطلاق المتن وجوب الهرب أنه لا فرق بين أن يكون المقصود نفسه أو ماله أو بضعه وتعليل الرافعي يقتضي تخصيصه بالدفع عن نفسه وهو الظاهر كما قاله الزركشي فلا يلزمه الهرب ويدع ماله إذا كان الصيال عليه لأجل ما له ولم يمكنه لهرب وأما إذا كان المقصود البضع فقضية البناء على وجوب الدفع أنه لا يلزمه الهرب بل يثبت إن أمن على نفسه
( ولو عضت يده ) أو غيرها ( خلصها بالأسهل من فك لحييه ) أي رفع إحداهما عن الأخرى بلا جرح ( وضرب ) أي أو ضرب ( شدقيه ) بكسر المعجمة وهما جانبا الفم ( فإن عجز ) عن الأسهل ( فسلها فندرت ) بنون أي سقطت ( أسنانه فهدر ) لما في الصحيحين أن رجلا عضن يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثناياه فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك ولأن النفس لا تضمن بالدفع فالإجزاء أولى وسواء أكان العاض ظالما أو مظلوما لأن العض لا يباح بحال
قال ابن أبي عصرون إلا إذا لم يمكن التخلص إلا به فهو حق له نقله عنه الأذرعي وقال إنه صحيح وهو ظاهر
تنبيه اقتضى كلام المصنف أمرين الأول التخيير بين فك اللحي والضرب وليس مرادا بل الفك مقدم على الضرب كما علم مما مر لأنه أسهل
والثاني الحصر فيما ذكر وليس مرادا أيضا فالصحيح في أصل الروضة أنه إذا لم يمكنه التخلص إلا ببعج بطنه أو فقء عينه أو عصر خصييه جاز وقضية كلام الشيخين مراعاة الترتيب فلو عدل عن الأخف مع إمكانه ضمن وهو قضية كلام الجمهور
قال الأذرعي وإطلاق كثيرين يفهم أنه لو سل يده ابتداء فندرت أسنانه كانت مهدرة وهو ظاهر الحديث اه
ولا يجب قبل ذلك الإنذار بالقول كما جزم به الماوردي وغيره فإن اختلفا في إمكان التخلص بدون ما دفع به صدق الدافع بيمينه جزم به في البحر
قال الزركشي تبعا للأذرعي وليكن الحكم كذلك في الصائل
فائدة العض بضاد معجمة إذا كان بجارحة وبظاء معجمة إذا كان بغيرها نحو عظت الحرب وعظ الزمان
قالت عتبة أم حاتم الطائي لعمري لقدما عظني الدهر عظة فيا ليت أن لا أمنع الدهر جائعا وقولا لهذا اللائم اليوم اعفني فإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا ( ومن نظر ) بضم أوله ( إلى حرمه ) بضم أوله وفتح ثانيه المهملين وبهاء الضمير الراجع لمن والمراد بهن الزوجات والإماء والمحارم ( في داره ) المختصة به بملك أو غيره ( من كوة ) أي طاقة ومر في الصلح أنها بفتح الكاف وحكي ضمها ( أو ثقب ) بفتح المثلثة أوله أي خرق في الدار وقوله ( عمدا ) قيد في النظر ( فرماه ) أي رمى صاحب الدار من نظر إلى حرمه حال نظره ( بخفيف ) نقصد العين بمثله ( كحصاة فأعماه أو ) لم يعمه بل ( أصاب قرب عينه فجرحه ) فسرى الجرح ( فمات فهدر ) لخبر الصحيحين لو اطلع أحد في بيتك ولم تأذن له فحذفته
____________________
(4/197)
بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح وفي رواية صححها ابن حبان والبيهقي فلا قود ولا دية والمعنى فيه المنع من النظر وسواء أكانت حرمه مستورة أو في منعطف أم لا لعموم الأخبار ولأنه يريد سترها عن الأعين وإن كانت مستورة
تنبيه شمل قوله ومن نظر الرجل والمرأة عند نظرها ما لا يجوز والخنثى والمراهق وهو كذلك
فإن قيل المراهق غير مكلف ولا يستوفى منه الحدود فكيف يجوز رميه أجيب بأن الرمي ليس للتكليف بل لدفع مفسدة النظر فإذن لا فرق بين المكلف وغيره ممن يحصل به المفسدة وخرج بقوله نظر الأعمى ومن استرق السمع فلا يجوز رميهما إذ ليس السمع كالبصر في الاطلاع على العورات وبقوله حرمه ما إذا كان فيها المالك وحده فإن فيه تفصيلا وهو إن كان مكشوف العورة فله الرمي وإلا فلا في الأصح وإن اختار الأذرعي الرمي مطلقا لعموم الحديث المار وما إذا كان فيها خنثى مستور العورة فإنه لا يرميه كما قال البلقيني إنه الأقرب
وقال الزركشي ينبغي تخريجه على جواز النظر إليه وهذا أوجه والضمير في قوله في داره راجع لمن له الحرم أما الناظر فلا فرق بين أن يكون الموضع الذي يطلع منه ملكه أو شارعا أو غيره لأنه لا يحل له الاطلاع وبقوله من كوة أو ثقب ما إذا نظر من الباب المفتوح فلا يرميه لتفريط صاحب الدار بفتحه ولا بد من تقييد الكوة بالصغيرة أما الكبيرة فكالباب المفتوح وفي معناها الشباك الواسع العين لتقصير صاحب الدار إلا أن ينذر فيرميه كما صرح به الحاوي الصغير وغيره
ويؤخذ من التعليل أنه لو كان الفاتح للباب هو الناظر ولم يتمكن رب الدار من إغلاقه جاز الرمي وهو ظاهر وحكم النظر من سطح نفسه والمؤذن من المارة كالكوة على الأصح إذ لا تفريط من صاحب الدار
وبقوله عمدا ما إذا لم يقصد الاطلاع كأن كان مجنونا أو كان مخطئا أو وقع نظره اتفاقا فإنه لا يرميه إذا علم بذلك صاحب الدار فإن رماه وادعى المرمي عدم القصد فلا شيء على الرامي لأن الاطلاع حصل والقصد باطن
قال الرافعي وهذا ذهاب إلى جواز الرمي من غير تحقق القصد
وفي كلام الإمام ما يدل على المنع وهو حسن اه
وظاهر كما قال شيخنا أن ما ذكر ليس ذهابا لذلك إذ لا يمنع ذلك إن تحقق الأمر بقرائن يعرف بها الرامي قصد الناظر ولا يجوز رمي من انصرف عن النظر كالصائل إذا رجع عن صياله
وبقوله بخفيف الثقيل كالحجر الكبير والنشاب ويضمن إن رمي بذلك بالقصاص أو الدية
نعم لو لم يجد غير ذلك جاز كنظيره في الصيال فيما إذا أمكنه الدفع بالعصا ولم يجد إلا السيف كما نبه عليه الزركشي ولو لم يمكن رمي عينه أو لم يندفع برميه بالخفيف استغاث عليه فإن لم يكن في محل غوث استحب أن ينشده بالله تعالى ثم له ضربه بالسلاح وما يردعه
ويستثنى من إطلاقهم الناظر صورتان الأولى ما لو كان أحد أصوله الذين لا قصاص عليهم ولا حد قذف فلا يجوز رميه كما قاله الماوردي و الروياني لأنه نوع حد فإن رماه وفقأه ضمن
الثانية ما إذا كان النظر مباحا له لخطبة ونحوها بشرطه كما قاله البلقيني وغيره ولمستأجر الدار رمي المالك وهل يجوز للمستعير رمي المعير وجهان في أصل الروضة بلا ترجيح
وقال الأذرعي وغيره الأقوى الجواز ولو كان في دار مغصوبة أو مسجد أو شارع مكشوف العورة أو هو وأهله فلا يجوز رميه لأن الموضع لا يختص به
والخيمة في الصحراء كالبيت في البنيان وإنما يجوز رمي الناظر ( بشرط عدم محرم وزوجة للناظر ) فإن كان له شيء من ذلك حرم رميه لأن له في النظر شبهة كما لا يقطع بسرقة المال المشترك
تنبيه الواو في عبارته بمعنى أو فإن أحدهما كاف ومثل الزوجة الأمة ويرد على طرده ما لو كان له هناك متاع فإنه لا يجوز رميه كما جزما به في الشرح والروضة وعلى عكسه ما لو كان له هناك محرم ولكن متجردة فإنه يجوز رميه إذ ليس له النظر إلى ما بين سرتها وركبتها
ثم أشار لاعتبار شرطين آخرين على مرجوح أحدهما ما تضمنه قوله ( قيل و ) بشرط عدم ( استتار الحرم ) فإن كن مستترات بالثياب أو في منعطف لا يراهن الناظر لم يجز رميه لعدم اطلاعه عليهن والأصح عدم اشتراط ذلك لعموم الأخبار وحسما لمادة النظر فقد يريد ستر حرمه عن الناس
____________________
(4/198)
وإن كن مستترات
والشرط الثاني ما تضمنه قوله ( قيل و ) بشرط ( إنذار ) بمعجمة ( قبل رميه ) على قياس الدفع بالأهون فالأهون والأصح عدم اشتراطه للحديث المار إذ لم يذكر فيه الإنذار
قال الإمام ومجال التردد في الكلام الذي هو موعظة وتخجيل قد يفيد وقد لا يفيد
فأما ما يوثق بكونه دافعا من تخويف وزعقة مزعجة فلا يجوز أن يكون في وجوب البداءة خلاف
قال الرافعي وهذا حسن اه
وهو ظاهر
فإن قيل تصحيح عدم وجوب الإنذار مخالف لما ذكروه من أنه لو دخل شخص داره أو خيمته بغير إذنه فإن له دفعه وإن أتى الدفع على نفسه لم يضمنه لكن لا يجوز قبل إنذاره على الأصح
قال الرافعي كسائر أنواع الدفع
أجيب بأن رمي المتطلع منصوص عليه كقطع اليد في السرقة ودفع الداخل مجتهد فيه فلزم سلوك ما يمكن وبهذا يفرق بين ما ذكروه وما مر في تخليص اليد من عاضها من حيث أنه صلى الله عليه وسلم لما أهدر ثنية العاض بنزع المعضوض يده من فيه لم يفصل بين وجود الإنذار وعدمه
ولو قتل شخص آخر في داره وقال إنما قتلته دفعا عن نفسي أو مالي وأنكر الولي فعليه البينة بأنه قتله دفعا ويكفي قولها دخل داره شاهر السلاح ولا يكفي قولها دخل بسلاح من غير شهر إلا إن كان معروفا بالفساد أو بينه وبين القتيل عداوة فيكفي ذلك للقرينة كما قاله الزركشي ولا يتعين ضرب رجليه وإن كان الدخول بهما لأنه دخل بجميع بدنه فلا يتعين قصد عضو بعينه
ولو أخذ المتاع وخرج فله أن يتبعه ويقاتله إلى أن يطرحه ولا يجوز دخول بيت شخص إلا بإذنه مالكا كان أو مستأجرا أو مستعيرا فإن كان أجنبيا أو قريبا غير محرم فلا بد من إذن صريح سواء أكان الباب مغلقا أم لا وإن كان محرما فإن كان ساكنا مع صاحبه فيه لم يلزم الاستئذان ولكن عليه أن يشعره بدخوله بتنحنح أو شدة وطء أو نحو ذلك ليستتر العريان فإن لم يكن ساكنا فإن كان الباب مغلقا لم يدخل إلا بإذن وإن كان مفتوحا فوجهان والأوجه الاستئذان
فروع لو صال عبد مغصوب أو مستعار على المالك فقتله دفعا لم يبرأ كل من الغاصب والمستعير من الضمان إذ لا أثر بقتله دفعا ولو قطع يد صائل دفعا وولي فتبعه فقتله قتل به لأنه حين ولي عنه لم يكن له أن يقتله ولا شيء له في اليد لأن النفس لا تنقص بنقص اليد ولهذا لو قتل من له يدان من ليس له إلا يد قتل به ولا شيء عليه ولو أمكنه الهرب من فحل صائل عليه ولم يهرب فقتله دفعا ضمن بناء على وجوب الهرب عليه إذا صال عليه إنسان
وفي حل أكل لحم الفحل الصائل الذي تلف بالدفع إن أصيب مذبحه وجهان وجه منع الحل أنه لم يقصد الذبح والأكل والراجح كما قال الزركشي الحل كما دل عليه كلام الرافعي في الصيد والذبائح
( ولو عزر ولي ) محجوره ( ووال ) من رفع زوجته إليه ( وزوج ) فيما يتعلق به من نشوز وغيره ( ومعلم ) صغيرا يتعلم منه ولو بإذن وليه ( فمضمون ) تعزيرهم
فإذا حصل به هلاك فإن كان بضرب يقتل غالبا فالقصاص على غير الأصل وإلا فدية شبه العمد على العاقلة لأنه مشروط بسلامة العاقبة إذ المقصود التأديب لا الهلاك فإذا حصل به هلاك تبين أنه جاوز الحد المشروع
فإن قيل لو ضرب الدابة المستأجرة أو الرائض لتعلم الرياضة الضرب المعتاد فهلكت فإنه لا ضمان فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن الدابة لا يستغنى عن ضربها وقد يستغنى عن ضرب الآدمي بالقول والزجر فضمنه
تنبيه دخل في تعبيره ما لا مدخل له في الهلاك كتوبيخ غير الحامل والحبس والنفي والصفعة الخفيفة لذكره قبل ذلك أن التعزير يكون بالحبس والصفع والتوبيخ ثم أطلق التعزير هنا مع أن هذا ليس بمضمون قطعا
واقتصار المصنف على هذه الأربعة يخرج السيد في تعزير عبده فإنه غير مضمون إذ لا يجب له شيء على نفسه وكذا لو أذن السيد لغيره في ضرب مملوكه فضربه فمات فإنه لا ضمان كما نقلاه عن البغوي وأقراه
واستثنى البلقيني من الضمان ما إذا اعترف بما يقتضي التعزير وطلب بنفسه من الوالي تعزيره فعزره فإنه لا يضمنه لأنه ينبغي كما قال ابن شهبة أن يقيد بما إذا عين له نوع التعزير وقدره
والزركشي الحاكم إذا عزر الممتنع من الحق المتعين عليه مع القدرة على أدائه وتسمية ضرب الولي والزوج والمعلم تعزيرا هو أشهر الاصطلاحين كما ذكره الرافعي
قال ومنهم من يخص لفظ التعزير
____________________
(4/199)
بالإمام أو نائبه وضرب الباقي بتسميته تأديبا لا تعزيرا
( ولو حد ) الإمام حيث كان الاستيفاء ( مقدرا ) بنص فيه كحد قذف فمات المحدود ( فلا ضمان ) بالإجماع كما حكاه ابن المنذر لأن الحق قتله سواء في ذلك الجلد والقطع وسواه جلده في حر وبرد مفرطين أم لا كما مر في آخر حد الزنا وسواء كان في مرض يرجى برؤه أم لا فإن قيل لا معنى لوصف الحد بالتقدير فإنه لا يكون إلا مقدرا
أجيب بأنه احترز به عن حد الشرب إذا بلغ به ثمانين كما سيأتي ( ولو ضرب شارب بنعال وثياب ) فمات ( فلا ضمان ) فيه ( على الصحيح ) المنصوص كما في سائر الحدود والثاني يضمن بناء على أنه لا يجوز أن يضرب هكذا بأن يتعين السوط ( وكذا أربعون سوطا ) ضربها الشارب الحر فمات فلا ضمان فيه ( على المشهور ) لأن الصحابة أجمعت على أن يضرب بأربعين جلدة ولأنه جلد يسقط به الحد فلا يتعلق به ضمان كحد الزنا والقذف والثاني فيه الضمان وصححه البلقيني لأن تقديره الأربعين كان باجتهاده وكذا علله الرافعي واعترض بأن في صحيح مسلم عن علي رضي الله تعالى عنه جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين فهو ثابت بالنص
تنبيه محل الخلاف إذا منعنا السياط فإن جوزناه به وبغيره كما هو الأصح فلا ضمان قطعا كما صرح به المصنف في تصحيحه وإذا أوجبنا الضمان ضمن الجميع وقيل النصف
( أو ) جلد الإمام في حد الشرب ( أكثر ) من أربعين جلدة فمات ( وجب قسطه ) أي الأكثر ( بالعدد ) أي عدد الجلدات نظرا للزائد قط ويسقط الباقي لأن الضرب يقع على ظاهر البدن فهو قريب التماثل فيسقط الضمان على عده ففي إحدى وأربعين جلدة جزء من إحدى وأربعين جزءا من الدية وفي عشرة خمس الدية وهكذا ( وفي قول نصف دية ) لأنه مات من مضمون وغيره وجرى على هذا البلقيني وقال لم أقف على ترجيح الأول في كلام أحد من الأصحاب ولكن من حفظ حجة على من لم يحفظ
واستشكل بعضهم الأول بأن حصة السوط الحادي والأربعين مثلا لا تساوي حصة السوط الأول لأن الأول صادف بدنا صحيحا قبل أن يؤثر فيه الضرب بخلاف الأخير فإنه صادف بدنا قد ضعف بأربعين ولكن الأصحاب قطعوا النظر عن ذلك ( ويجريان في قاذف جلد أحدا وثمانين ) فمات ففي قول يجب نصف الدية والأظهر جزء من أحد وثمانين جزءا من الدية
تنبيه قوله أحد كذا هو في نسخة المصنف وذكره لإرادة السوط وفي المحرر إحدى لإرادة الجلدة وهو أولى لموافقة القرآن مائة جلدة ثمانين جلدة ومحل الخلاف إذا ضربه الزائد مع بقاء ألم الضرب الأول فإن ضربه الحد كاملا وزال ألم الضرب ثم ضربه الزائد فمات ضمن ديته كلها بلا خلاف
( ولمستقل ) بأمر نفسه وهو الحر البالغ العاقل كما قال البغوي و الماوردي وغيرهما ولو سفيها ( قطع سلعة ) منه وهو بكسر السين وحكي فتحها مع سكون اللام وفتحها خراج كهيئة الغدة يخرج بين الجلد واللحم يكون من الحمصة إلى البطيخة وله فعل ذلك بنفسه وبنائبه لأن له غرضا في إزالة الشين ( إلا ) سلعة ( مخوفة ) قطعها بقول اثنين من أهل الخبرة أو واحد كما بحثه الأذرعي ( لا خطر في تركها ) أصلا ( أو الخطر في قطعها أكثر ) منه في تركها فيمتنع عليه القطع في هاتين الصورتين لأنه يؤدي إلى هلاك نفسه قال تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } أما التي خطر تركها أكثر أو القطع والترك فيها سيان فيجوز له قطعها على الصحيح في الأولى والأصح في الثانية كما في الروضة وأصلها كما يجوز قطعه لغير المخوفة لزيادة رجاء السلامة مع إزالة الشين وإن نازع البلقيني في الجواز عند استوائهما قال لو قال الأطباء إن لم تقطع حصل أمر يفضي إلى الهلاك وجب القطع كما يجب دفع المهلكات ويحتمل الاستحباب اه
وهذا الثاني
____________________
(4/200)
أوجه ومثل السلعة فيما ذكر وفيما يأتي العضو المتأكل
قال المصنف ويجوز الكي وقطع العروق للحاجة ويسن تركه ويحرم على المتألم تعجيل الموت وإن عظم ألمه ولم يطقه لأن برأه مرجو فلو ألقى نفسه في محرق علم أنه لا ينجو منه إلا إلى مائع مغرق ورآه أهون عليه من الصبر على لفحات المحرق جاز لأنه أهون وقضية التعليل أن له قتل نفسه بغير إغراق وبه صرح الإمام في النهاية عن والده وتبعه ابن عبد السلام ( ولأب وجد ) وإن علا ( قطعها ) أي السلعة ( من صبي ومجنون مع الخطر ) فيه ( إن زاد خطر الترك ) على خطر القطع لأنهما يليان صون مالهما عن الضياع فبدنهما أولى
تنبيه أفهم كلامه المنع فيما إذازاد خطر القطع ولا خلاف فيه وفيما إذا استوى الأمران وهو ما نقلا تصحيحه عن الإمام وأقراه
فإن قيل قد مر في المستقل أنه يجوز له القطع حينئذ فهلا كان هنا كذلك كما قال به في الكفاية
أجيب بأن القطع ثم من نفسه وهنا من غيره فاحتيط فيه
( لا لسلطان ) ولا لغيره ما عدا الأب والجد كالوصي وذلك لأنه يحتاج إلى نظر دقيق وفراغ وشفقة تامين وكما أن للأب والجد تزويج البكر الصغيرة دون غيرهما
تنبيه قضية التعليل أنه لو كانت الأم وصية جاز لها ذلك وهو كما قال شيخنا ظاهر
( وله ) أي من ذكر من أب وجد ( ولسلطان ) ولغيره من الأولياء لا الأجنبي ( قطعها بلا خطر ) فيه لعدم الضرر ونازع الأذرعي في تجويز ذلك للسلطان وقال إنه من تصرف الإمام وجريا عليه أم الأجنبي فليس له ذلك بحال فإن فعل وسرى إلى النفس وجب عليه القصاص ( و ) يجوز له أيضا ولبقية الأولياء ( فصد وحجامة ) ونحوهما بلا خطر عند إشارة الأباء بذلك للمصلحة مع عدم الضرر بخلاف الأجنبي لأنه لا ولاية له ويؤخذ من ذلك أن الأب الرقيق والسفيه كالأجنبي كما بحثه الأذرعي ( فلو مات ) الصبي المجنون ( بجائز من هذا ) المذكور ( فلا ضمان في الأصح ) لئلا يمتنع من ذلك فيتضرر الصبي والمجنون والثاني يضمن كما في التعزير إذا أفضى إلى التلف ( ولو فعل سلطان بصبي ) أو مجنون ( ما منع ) منه في حقه فمات ( فدية مغلظة في ماله ) لتعديه
تنبيه لا معنى للتقييد بالسلطان بل الأب والجد كذلك ولا قصاص على واحد منهم لشبهة الإصلاح وللبعضية في الأب والجد ودخل في عبارة المصنف ما لو كان الخوف في القطع أكثر من الترك وهو كذلك وإن قال الماوردي في هذه بوجوب القصاص على السلطان
( وما وجب بخطأ إمام في حد أو حكم فعلى عاقلته ) كغيره من الناس ( وفي قول في بيت المال ) لأن خطأه قد يكثر لكثرة الوقائع فيضر ذلك بالعاقلة
تنبيه محل الخلاف إذا لم يظهر منه تقصير فإن ظهر كما لو أقام الحد على الحامل وهو عالم به فألقت جنينا فالغرة على عاقلته قطعا واحترز بخطئه عما يتعدى فيه فهو فيه كآحاد الناس وبقوله في حد أو حكم من خطئه فيما لا يتعلق بذلك فإنه فيه كآحاد الناس أيضا كما إذا رمى صيدا فأصاب آدميا فتجب الدية على عاقلته بالإجماع ويرد على الصنف الكفارة فإنها في ماله على الأول قطعا وعلى الثاني على الأصح وقوله في حكم قد يشمل التعزير فإنه كالحد وهذا كله إذا كان الخطأ في النفس
فإن كان في المال فقولان أحدهما وهو الأوجه يتعلق بماله
والثاني بيت المال
( ولو حده ) أي الإمام شخصا ) ( بشاهدين فبانا عبدين ) أو عدوين للمشهود عليه أو أصليه أو فرعيه أو فاسقين ( أو ذميين أو مراهقين ) ومات المحدود نظرت ( فإن قصر ) الإمام ( في اختيارهما ) بأن تركه جملة كما قاله الإمام
____________________
(4/201)
( فالضمان عليه ) أي فيقتص منه إن تعمد لأن الهجوم على القتل ممنوع منه بالإجماع وإن وجب المال فهو عليه أيضا لا على عاقلته ولا في بيت المال وإن لم يتعمد فالضمان على عاقلته لا في بيت المال
تنبيه لو قال غير مقبولي الشهادة لشمل ما ذكر من الصور ولو قال فبانا كافرين لشمل الحربيين والمستأمنين وإن لم يتعلق بهما ضمان
( وإلا ) بأن لم يقصر في اختبارهما بل بحث وبذل وسعه ( فالقولان ) في أن الضمان على عاقلته أو في بيت المال وقد مر توجيههما وإن أظهرهما الأول
ثم فرع على القولين قوله ( فإن ضمنا عاقلة ) على الأظهر ( أو بيت مال ) على مقابله ( فلا رجوع على الذميين والعبدين ) والفاسقين والمراهقين من ذكر بعدهم ( في الأصح ) المنصوص لأنهم يزعمون أنهم صادقون ولم يوجد منهم تعد فيما أتوا به والثاني له الرجوع عليهم لأنهم غروا القاضي والثالث يثبت الرجوع للعاقلة دون بيت المال وعلى الأول له الرجوع على المتجاهر بالفسق بما غرمه لأن حقه أن لا يشهد ولأن الحكم بشهادته يشعر بتدليس منه وتغرير بخلاف غير المتجاهر بذلك ولا يقال إن الذمي كالمتجاهر لأن عقيدته لا تخالف ذلك
تنبيه أفهم كلامه أنه لا ضمان على المزكين وهو ما في أصل الروضة عن العراقيين قبيل الدعاوى لكن في أصلها في القصاص أن المزكى الراجع يتعلق به القصاص والضمان في الأصح وهذا هو المعتمد كما قاله بعض المتأخرين
( ومن حجم ) غيره ( أو فصد ) ه ( بإذن ) معتبر كقول حر مكلف لحاجم احجمني أو افصدني ففعل وأفضى للتلف ( لم يضمن ) ما تولد منه وإلا لم يفعله أحد هذا إن لم يخطىء فإن أخطأ ضمن وتحمله العاقلة كما نص عليه الشافعي في الخاتن قال ابن المنذر
وأجمعوا على أن الطبيب إذا لم يتعد لم يضمن ( وقتل جلاد وضربه بأمر الإمام كمباشرة الإمام ) القتل والضرب ( إن جهل ) الجلاد ( ظلمه ) أي الإمام ( وخطأه ) فيتعلق الضمان بالإمام قودا ومالا لا بالجلاد لأنه آلته ولا بد منه في السياسة فلو ضمناه لم يتول الجلد أحد لكن استحب الشافعي رضي الله عنه له أن يكفر لمباشرته القتل
قال الإمام وهذا من النوادر لأنه قاتل مباشر مختار ولا يتعلق به حكم في القتل بغير حق ( وإلا ) بأن علم ظلمه أو خطأه ( فالقصاص والضمان على الجلاد ) وحده هذا ( إن لم يكن ) هناك ( إكراه ) من جهة الإمام لتعديه إذا كان من حقه لما علم الحال أن يمتنع إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق نعم إن اعتقد وجوب الطاعة في المعصية فالضمان على الإمام لا عليه لأنه مما يخفى نقله الأذرعي و الزركشي عن صاحب الوافي وأقراه فإن كان هناك إكراه فالضمان عليهما بالمال قطعا وبالقصاص على الأظهر
تنبيه محل ما ذكر في خطأ في نفس الأمر فإن كان في محل الاجتهاد كقتل مسلم بكافر وحر بعبد فإن اعتقد أنه غير جائز أو اعتقد الإمام جوازه دون الجلاد فإن كان هناك إكراه فالضمان عليهما وإلا فعلى الجلاد في الأصح وإن اعتقد الجواز فلا ضمان على أحد وإن اعتقد الإمام المنع والجلاد الجواز فقيل ببنائه على الوجهين في عكسه وضعفه الإمام لأن الجلاد مختار عالم بالحال والإمام لم يفوض إليه النظر والاجتهاد بل القتل فقط فالجلاد كالمستقل كما في الروضة وأصلها وما ضعفه جزم به جمه
ولو أسرف المعزر مثلا أو ظهر منه قصد القتل تعلق به القصاص أو الدية المغلظة في ماله
( ويجب ختان المرأة بجزء ) أي قطعة ( من اللحمة ) الكائنة ( بأعلى الفرج ) وهي فوق ثقبة البول تشبه عرف الديل فإذا قطعت بقي أصلها كالنواة ويكفي قطع ما يقع عليه الاسم
قال في التحقيق وتقليله أفضل لما روى أبو داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال للختانة أشمي ولا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة أي أكثر
____________________
(4/202)
لماء وجهها ودمه وأحب للبعل أي أحسن في جماعها ( و ) ختان ( الرجل بقطع ما ) أي جلدة ( تغطي حشفته ) حتى تظهر كلها فلا يكفي قطع بعضها ويقال لتلك الجلدة القلفة وقوله ( بعد البلوغ ) ظرف ليجب ويكون بعد العقل أيضا واحتمال الختان
أما وجوبه فلقوله تعالى { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } وكان من ملته الختان ففي الصحيحين أنه اختتن وعمره ثمانون سنة وفي صحيح ابن حبان والحاكم مائة وعشرون سنة وقيل سبعون سنة
ولأنه قطع جزء من البدن لا يخلف تعبدا فلا يكون إلا واجبا كقطع يد السارق واحترز بالقيد الأول عن الظفر والشعر وبالثاني عن القطع للأكلة ولأنه يجوز كشف العورة له من غير ضرورة ولا مداراة
فلو لم يجب لما جاز ولأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالختان رجلا أسلم فقال له ألق عنك شعر الكفر واختتن والأمر للوجوب خرج إلقاء الشعر بدليل فبقي في الختان تقليلا لمخالفة الأمر وقيل هو سنة لقول الحسن قد أسلم الناس ولم يختتنوا وقيل واجب للذكور سنة للإناث
قال المحب الطبري وهو قول أكثر أهل العلم وأما كيفيته فكما ذكره المصنف ولو ولد مختونا أجزأه
فائدة أول من اختتن من الرجال إبراهيم صلى الله عليه وسلم ومن الإناث هاجر رضي الله تعالى عنها
تنبيه خلق آدم مختونا وولد من الأنبياء مختونا ثلاثة عشر شيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لكن روى ابن عساكر عن أبي بكرة موقوفا أن جبريل ختن النبي صلى الله عليه وسلم حين طهر قلبه وروى أبو عمر في الاستيعاب عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد المطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه وجعل له مأدبة وسماه محمدا
وخرج بالبالغ الصغير وبالعاقل المجنون وبمن يحتمله من لا يحتمله لأن الأولين ليسا من أهل الوجوب والثالث يتضرر به ولا يجوز ختان ضعيف خلقة يخاف عليه منه فيترك حتى يغلب على الظن سلامته فإن لم يخف عليه منه استحب تأخيره حتى يحتمله
قال البلقيني وهذا شرط لأداء الواجب لا أنه شرط للوجوب وبالمرأة الرجل الخنثى المشكل فلا يجوز ختانه مطلقا لأن الجرح لا يجوز بالشك هذا ما صححه في زيادة الروضة
وقيل يجب ختان فرجيه بعد بلوغه ليتوصل إلى المستحق
وقال ابن الرفعة إنه المشهور
وعلى هذا قال المصنف رحمه الله إن أحسن الختن ختن نفسه وإلا اتباع أمه تختنه فإن عجز عنها تولاه الرجال والنساء للضرورة كالطبيب ومن له ذكران عاملان يجب عليه ختنهما وإن كان أحدهما عاملا فقط وجب عليه ختنه فقط وإن شك فالقياس أنه كالخنثى وهل يعرف العمل بالجماع أو البول وجهان جزم في الروضة في باب الغسل بالثاني ورجحه في التحقيق
( ويندب تعجيله ) أي الختان ( في سابعه ) أي يوم الولادة لما رواه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم ختن الحسن والحسين يوم السابع من ولادتهما وقال صحيح الإسناد ولا يحسب يوم الولادة من السبعة كما صححه في الروضة وإن صحح في شرح مسلم أنه يحسب وإنما حسب يوم الولادة منها في العقيقة وحلق الرأس وتسمية الولد لما في الختن من الألم الحاصل به المناسب له التأخير المفيد للقوة على تحمله وقيل لا يجوز في السابع لأن الصغير لا يطيقه ولأن اليهود يفعلونه فالأولى مخالفتهم وجرى على ذلك في الإحياء وعلى الأول يكره قبل السابع كما جزم به في التحقيق وقال الماوردي ولو أخره عن السابع استحب أن يختن في الأربعين فإن أخره عنها ففي السنة السابعة لأنه الوقت الذي يؤمر فيه بالطهارة والصلاة ( فإن ضعف ) الطفل ( عن احتماله ) في السابع ( أخر ) حتما إلى أن يحتمله لزوال الضرر ( ومن ختنه ) من ولي أو غيره ( في سن لا يحتمله ) فمات ( لزمه قصاص ) إن علم أنه لا يحتمله لتعديه بالجرح المهلك لأنه غير جائز في هذه الحالة قطعا فإن ظن احتماله كأن قال له أهل الخبرة يحتمله فمات فلا قصاص ويجب دية شبه العمد كما بحثه الزركشي ( إلا والدا ) وإن علا ختنه في سن لا يحتمله فلا قصاص عليه للبضعية ويجب عليه دية مغلظة في ماله لأنه عمد محض
____________________
(4/203)
تنبيه السيد في ختان رقيقه لا ضمان عليه والمسلم في ختان كافر لا قصاص عليه
( فإن احتمله وختنه ولي ) فمات ( فلا ضمان ) عليه ( في الأصح ) لأنه لا بد منه والتقديم أسهل من التأخير لما فيه من المصلحة والثاني يضمن لأنه غير واجب في الحال فلم يبح إلا بشرط سلامة العاقبة
تنبيه يشمل قوله ولي الأب والجد والحاكم والقيم والوصي وهو كذلك واقتضى كلامه أن من ليس بولي يضمن قطعا
قال الأذرعي وبه صرح الماوردي وغيره ونص عليه في الأم لتعديه بالمهلك فيقتص منه
قال الزركشي إلا إذا قصد بذلك إقامة الشعار فلا يتجه القصاص لأن ذلك يتضمن شبهة في التعدي ويؤيده ما ذكره البغوي في قطعه يد السارق بغير إذن الإمام اه
والبالغ المحجور عليه بسفه ملحق بالصغير كما صرح به صاحب الوافي والمستقل إذا ختنه بإذنه أجنبي فمات فلا ضمان
( وأجرته ) أي الختن وباقي مؤنه ( في مال المختون ) الحر ذكرا كان أو أنثى صغيرا أو كبيرا لأنه لمصلحته فأشبه تعليم الفاتحة فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته وفي وجه أنها على الوالد أما الرقيق فأجرته على سيده إن لم يمكنه من الكسب لها
تتمة يجبر الإمام البالغ العاقل على الختان إذا احتمله وامتنع منه ولا يضمنه حينئذ إن مات بالختان لأنه مات من واجب فلو أجبره الإمام فختن أو ختنه أب أوجد في حر أو برد شديد فمات وجب على الإمام دون الأب والجد نصف الضمان لأن أصل الختان واجب والهلاك حصل من مستحق وغيره ويفارق الحد بأن استيفاءه إلى الإمام فلا يؤاخذ بما يفضي إلى الهلاك والختان يتولاه المختون أو ولده غالبا فإذا تولاه هو شرط فيه عليه غلبة سلامة العاقبة وبذلك عرف الفرق بينه وبين الوالد في الختان ومن مات بغير ختان لم يختن في الأصح وقيل يختن الكبير دون الصغير وقطع السرة من المولود واجب على الولي ليمتنع الطعام من الخروج قاله ابن الرفعة حكما وتعليلا ولم ينقله عن أحد وهو ظاهر وفي كتاب المدخل لابن الحاج المالكي أن السنة في ختان الذكور إظهاره وفي ختان الإناث إخفاؤه
فصل في ضمان ما تتلفه البهائم ( من كان مع دابة أو دواب ) سواء أكان مالكا أم مستأجرا أم مودعا أم مستعيرا أم غاصبا ( ضمن إتلافها ) بيدها أو رجلها أو غير ذلك ( نفسا ومالا ليلا ونهارا ) لأنها في يده وعليه تعهدها وحفظها ولأنه إذا كان معها كان فعلها منسوبا إليه والأنسب إليها كالكلب إذا أرسله صاحبه وقتل الصيد حل وإن استرسل بنفسه فلا فجنايتها كجنايته سواء أكان سائقها أم قائدها أم راكبها ولو كان معها سائق وقائد فالضمان عليهما نصفين ولو كان معها سائق وقائد مع راكب فهل يختص الضمان بالراكب أو يجب أثلاثا وجهان أرجحهما الأول كما صرح به الروياني وغيره واقتضاه كلام الرافعي وجزم به ابن المقري ولو كان عليها راكبان فهل يجب الضمان عليهما أو يختص بالأول دون الرديف وجهان أوجههما الأول لأن اليد لهما
تنبيه حيث أطلقوا للنفس في هذا الباب فهو على العاقلة كحفر البئر ونصب الحجر كما نقلاه في آخر الباب عن البغوي وأقراه وأفهم قول المصنف مع دابة أنها إذا تلفت وأتلفت شيئا لا ضمان وهو كذلك لخروجها عن يده وأورد على قوله من كان مع دابة ما إذا كانت معه في مسكنه فدخل فيه إنسان فرمحته أو عضته فلا ضمان فلو قال في الطريق لم يرد وأورد على قوله نفسا ومالا صيد الحرم والإحرام وشجر الحرم فإنه يضمنه وليس نفسا ولا مالا ورد بأنه لا يخرج عنهما وهو لم يقل لآدمي فلا يرد ذلك ويستثنى من إطلاقه صور إحداها لو أركبها أجنبي بغير إذن الولي صبيا أو مجنونا فأتلف شيئا فالضمان على الأجنبي
ثانيها لو ركب الدابة فنخسها إنسان بغير إذنه كما قيد البغوي فرمحت وأتلفت شيئا فالضمان على الناخس وقيل عليهما
فإن أذن الراكب في النخس فالضمان عليهما
ثالثها لو غلبته دابته فاستقبلها إنسان فردها فأتلفت في انصرافها شيئا ضمنه الراد
رابعها لو سقطت الدابة ميتة فتلف بها شيء
____________________
(4/204)
لم يضمنه وكذا لو سقط هو ميتا على شيء وأتلفه لا ضمان عليه
قال الزركشي وينبغي أن يلحق بسقوطها ميتة سقوطها بمرض أو عارض ريح شديد ونحوه
خامسها لو كان الراكب لا يقدر على ضبطها فعضت اللجام وركبت رأسها فهل يضمن ما أتلفته قولان
وقضية كلام أصل الروضة في مسألة اصطدام الراكبين ترجيح الضمان نبه عليه البلقيني وغيره
سادسها لو كان مع الدواب راع فهاجت ريح وأظلم النهار فتفرقت الدواب ووقعت في زرع فأفسدته فلا ضمان على الراعي في الأظهر للغلبة كما لو ند بعيره أو انفلتت دابته من يده فأفسدت شيئا بخلاف ما لو تفرقت الغنم لنومه فيضمن ولو ركب صبي أو بالغ دابة إنسان بلا إذنه فغلبته فأتلفت شيئا ضمنه
قال الإمام ومن ركب الدابة الصعبة في الأسواق أو ساق الإبل غير مقطورة فيها ضمن ما أتلفته لتقصيره بذلك
فروع لو انتفخ ميت فتكسر بسببه شيء لم يضمنه بخلاف طفل سقط على شيء لأن له فعلا بخلاف الميت
( ولو بالت أو راثت ) بمثلثة ( بطريق ) ولو واقفة ( فتلف به نفس أو مال فلا ضمان ) لأن الطريق لا يخلو عن ذلك والمنع من الطريق لا سبيل إليه
تنبيه ما جزم به من عدم الضمان كذا هو في الشرح والروضة هنا وخالفاه في كتاب الحج فجزما فيه بالضمان ونص عليه في الأم لأن الارتفاق بالطريق مشروط بسلامة العاقبة كإخراج الجناح والروشن إلى الطريق وهذا ما عليه الأصحاب والأول احتمال للإمام فإنه نقل في باب وضع الحجر أن من كان مع دابة ضمن ما تتلفه ببولها في الطريق لأنه سبب من جهته ثم أبدى احتمالا لنفسه بعدم الضمان ثم إنه جرى على احتماله هنا وجزم به فتبعه الغزالي و الرافعي وغيرهما
قال الأذرعي وما جزم به هنا تبعا للإمام لا ينكر اتجاهه ولكن المذهب نقل اه
ومن هنا قال البلقيني عدم الضمان فيما تلف بركض معتاد بحث للإمام بناه على احتماله المذكور والذي يقتضيه قياس المذهب الضمان وإطلاق نصوص الشافعي والأصحاب قاضية به اه
ثم محل الضمان في الطريق إذا لم يقصد المار فلو مشى قصدا على موضع الرش أو البول فتلف به فلا ضمان ما ذكره الرافعي أيضا هناك واحترز بقوله بطريق عما لو وقع ذلك في ملكه فلا ضمان كما نص عليه في المختصر وذكره الرافعي في باب موجبات الدية
( ويحترز ) راكب الدية ( عما لا يعتاد ) فعله له ( كركض شديد في وحل ) بفتح الحاء ( فإن خالف ضمن ما تولد منه ) لتعديه وفي معنى الركض في الوحل الركض في مجتمع الناس كما أشار إليه في البسيط واحترز بالركض الشديد عن المشي المعتاد فيه فلا يضمن ما يحدث منه فلو ركضها كالعادة ركضا ومحلا وطارت حصاة لعين إنسان لم يضمن
قال الأذرعي والظاهر أن هذا التفصيل إنما يأتي على طريقة الإمام أما على طريقة الجمهور فيضمن في الحالين وقد مر مثل ذلك عن البلقيني
تنبيه قول المصنف عما لا يعتاد يقتضي أن سوق الأغنام لا يضمن بتلفها شيئا لأنه معتاد وهو وجه حكاه ابن كج في الغنم دون الإبل والبقر والمشهور كما قاله الرافعي إطلاق الحكم في البهائم من غير فرق بين حيوان وحيوان
( ومن حمل حطبا على ظهره أو ) على ( بهيمة ) ليلا ونهارا ( فحك بناء ) ليلا أو نهارا ( فسقط ضمنه ) لوجود التلف أو فعل دابته المسنوب إليه
تنبيه يستثنى من ذلك ما إذا كان مستحق الهدم ولم يتلف من الآلة شيء كما قاله الأذرعي
قال الزركشي وقضية كلامهم تصوير المسألة بما إذا سقط في الحال فلو وقف ساعة ثم سقط فكمن أسند خشبة إلى جدار الغير فلا يضمن اه
وهو ظاهر إذا لم ينسب السقوط إلى ذلك الفعل
( وإن دخل سوقا ) مثلا بذلك الحطب ( فتلف به نفس أو مال ضمن ) ما تلف به ( إن كان ) هناك ( زحام ) بكسر الزاي سواء أكان صاحب الثوب مستقبلا أو مستدبرا لإتيانه بما لا يعتاد ( فإن لم يكن ) زحام ( وتمزق ) به ( ثوب ) مثلا ( فلا ) يضمنه لأن التقصير من
____________________
(4/205)
صاحب الثوب إذ عليه الاحتراز ( إلا ثوب أعمى ) ولو مقبلا ( و ) إلا ثوب ( مستدبر البهيمة فيجب تنبيهه ) أي كل منهما فإن لم ينبهه ضمنه لتقصيره وإن نبهه وأمكنه الاحتراز ولم يحترز فلا ضمان
وألحق البغوي وغيره بما إذا لم ينبهه ما لو كان أصم ويلحق بالأعمى معصوب العين لرمد ونحوه كما ذكر المصنف
تنبيه محل ضمان جميع الثوب إذا لم يكن من صاحب الثوب جذب فإن علق الثوب في الحطب فجذبه صاحبه وجذبته البهيمة فعلى صاحب الدابة نصف الضمان كلاحق وطىء مداس سابق فانقطع فإنه يلزمه نصف الضمان لأنه انقطع بفعله وفعل السابق
قال الرافعي وينبغي أن يقال إن انقطع مؤخر السابق فالضمان على اللاحق أو مقدم مداس اللاحق فلا ضمان على السابق ولو دخل في غير وقت الزحام وتوسط السوق فحدث الزحام فالمتجه كما قال الزركشي إلحاقه بما لم يكن زحام لعدم تقصيره كما لو حدثت الريح وأخرجت المال من الثقب لا قطع فيه بخلاف تعريضه للريح الهابة وقيد الإمام و الغزالي وغيرهما البصير المقبل بما إذا وجد منحرفا وقضيته أنه إذا لم يجده لضيق وعدم عطفة يضمن لأنه في معنى الزحام نبه عليه الزركشي
( و ) صاحب البهيمة ( إنما بضمنه ) أي ما أتلفته بهيمته ( إذا لم يقصر صاحب المال ) فيه ( فإن قصر بأن وضعه ) أي المال ( بطريق أو عرضه للدابة فلا ) يضمنه فإنه المضيع لماله وألحق به القفال في فتاويه ما إذا كان يمشي من جهة وحمار الحطب من أخرى فمر على جانب الحمار وأراد أن يتقدم الحمار فتعلق ثوبه بالحطب وتمزق فلا ضمان على السائق لأنه جنى بمروره على الحطب
تنبيه قسيم قول المصنف سابقا من كان معه دابة قوله هنا ( وإن كانت الدابة وحدها فأتلفت زرعا أو غيره نهارا لم يضمن صاحبها أو ليلا ضمن ) لتقصيره بإرسالها ليلا بخلافه نهارا للخبر الصحيح في ذلك رواه أبو داود وغيره وهو على وفق العادة في حفظ الزرع ونحوه نهارا والدابة ليلا ولو تعود أهل البلد إرسال البهائم أو حفظ الزرع ليلا دون النهار انعكس الحكم فيضمن مرسلها ما أتلفته نهارا دون الليل اتباعا لمعنى الخبر والعادة ومن ذلك يؤخذ ما بحثه البلقيني أنه لو جرت عادة بحفظها ليلا ونهارا ضمن من مرسلها ما أتلفت مطلقا
تنبيه يستثنى من عدم الضمان نهارا صور إحداها ما إذا ربط الدابة في الطريق على بابه أو غيره فأتلفت شيئا فيلزمه الضمان مطلقا وإن كان الطريق واسعا على الصحيح المنصوص لأن الارتفاق به مشروط بسلامة العاقبة كإشراع الجناح
نعم إن ربطها في المتسع بأمر الإمام لم يضمن كما لو حفر بئرا فيه لمصلحة نفسه قاله القاضي و البغوي
ثانيها ما إذا كانت المراعي متوسطة المزارع وكانت البهائم ترعى في حريم السواقي فيجب ضمان ما تفسده إذا أرسلها بلا راع على المذهب لاعتياد الراعي في مثل ذلك
ثالثها ما إذا أخرجها عن زرعه إلى زرع غيره فأتلفته ضمنه إذ ليس له أن يقي ماله بمال غيره فإن لم يمكن إلا ذلك بأن كانت محفوفة بمزارع الناس ولا يمكن إخراجها إلا بإدخالها مزرعة غيره تركها في زرعه وغرم صاحبها ما أتلفته
رابعها ما إذا أرسلها في البلد وأتلفت شيئا فإنه يضمنه مطلقا لمخالفة العادة
خامسها ما لو تكاثرت المواشي بالنهار حتى عجز أصحاب الزرع عن حفظها فحكى فيه الماوردي وجهين رجح البلقيني منهما وجوب الضمان على أصحاب المواشي لخروج هذا عن مقتضى العادة وهي المعتبرة على الأصح
سادسها ما لو أرسل الدابة في موضع مغصوب فانتشرت منه إلى غيره فأفسدته كان مضمونا على من أرسلها ولو كان نهارا قاله البلقيني واستشهد له بقول القاضي الحسين أنه إذا خلاها في ملك الغير سواء كان ليلا أم نهارا فهو مضمون لأنه متعد في إرسالها
سابعها لو أرسل الدابة المودوعة فأتلفت ولو نهارا لزم المرسل الضمان إن لم يكن معها أجير يحفظها
ثامنها لو استأجر رجلا يحفظ دوابه فأتلفت زرعا ليلا أو نهارا فعلى الأجير الضمان كما حكاه الرافعي عن فتاوى البغوي وعلله بأن عليه حفظها في الوقتين
ثم قال وفي هذا توقف ويشبه أن يقال عليه حفظها بحسب ما يحفظه الملاك
____________________
(4/206)
قال المصنف في زيادة الروضة ينبغي أن لا يضمن الأجير والمودع إذا أتلفت نهارا لأن على صاحب الزرع حفظه نهارا وتفريط الأجير إنما يؤثر في أن مالك الدابة يضمنه اه
وحيث وجب الضمان فهو على مالك الدابة قال الإمام ولم يعلفوا الضمان برقبة البهائم كما علفوه برقبة العبد لأن الضمان فيها تتلفه البهيمة يحال على تقصير صاحبها والعبد ذو ذمة يلزم
ويستثنى من الدواب الحمام وغيره من الطيور فلا ضمان بإتلافها مطلقا كما حكاه في أصل الروضة عن ابن الصباغ وعلله بأن العادة إرسالها ويدخل في ذلك النحل وقد أفتى البلقيني في نخل لإنسان قتل جملا لآخر بعدم الضمان وعلله بأن صاحب النحل لا يمكنه ضبطه والتقصير من صاحب الجمل
ثم استثنى المصنف من تضمين المالك ليلا ما تضمنه قوله ( إلا أن لا يفرط ) صاحب الدابة ( في ربطها ) ليلا بأن أحكمه فانحل أو أغلق الباب عليها ففتحه لص أو انهدم الجدار فخرجت ليلا فأتلفت زرع الغير فلا ضمان لعدم التقصير منه وكذا لو خلاها في موضع بعيد لم تجر العادة بردها منه إلى المنزل ليلا كما حكاه البلقيني عن الدارمي و القاضي الحسين ( أو ) فرط في ربطها لكن ( حضر صاحب الزرع وتهاون في دفعها ) عنه حتى أتلفته فلا يضمن على الصحيح وإن أشعر كلامه بالجزم به لتفريطه فإن كان زرعه محفوفا بمزارع الناس ولم يمكن إخراجها إلا بإدخالها مزرعة غيره لم يجز له أن يقي مال نفسه بمال غيره بل يصبر ويغرم صاحبها كما مرت الإشارة إليه ( وكذا إن كان الزرع في ) مكان ( محوط له باب تركه ) صاحبه ( مفتوحا ) فلا يضمن مالكها ولو ليلا ( في الأصح ) لأنه مقصر بعدم غلقه
والثاني يضمن لمخالفته للعادة في ربطها ليلا
فروع لو ألقت الريح في حجرة ثوبا مثلا فألقاه ضمنه لتركه الواجب عليه فليسلمه إلى المالك ولو إلى نائبه فإن لم يجده فالحاكم ولو دخلت دابة الغير ملكه وجب عليه ردها لمالكها إلا إن كان المالك هو الذي سيبها فيحمل قولهم فيما مر أخرجها من زرعه إن لم يكن زرعه محفوفا بزرع غيره على ما إذا سيبها المالك أما إذا لم يسيبها فيضمنها مخرجها إذ حقه أن يسلمها لمالكها فإ لم يجده فإلى الحاكم ولو سقط شيء من سطح غيره يريد أن يقع في ملكه فدفعه في الهواء حتى وقع خارج ملكه لم يضمن كما قاله البغوي في فتاويه ويدفع صاحب الزرع الدابة عن زرعه دفع الصائل فإن تنحت عنه لم يجز إخراجها عن ملكه لأن شغلها مكانه وإن كان فيه ضرر عليه لا يبيح إضاعة مال غيره ولو دخلت دابة ملكه فرمحته فمات فكإتلافها زرعه في الضمان وعدمه فيفرق بين الليل والنهار ولو حمل متاعه في مفازة على دابة رجلا بلا إذن منه وغاب فألقاه الرجل عنها أو أدخل دابته زرع غيره بلا إذن منه فأخرجها من زرعه فوق قدر الحاجة فضاعت ففي الضمان عليه لهما وجهان أحدهما وهو الأوجه لا لنعدي المالك وإن قال بعض المتأخرين الأوجه الثاني وهو الضمان لتعدي الفاعل بالتضييع
( وهرة تتلف طيرا أو طعاما ) أو غيره ( إن عهد ذلك منها ضمن مالكها ) أي صاحبها الذي يؤويها ما أتلفته ( في الأصح ليلا ) كان ( أو نهارا ) كما يضمن مرسل الكلب العقور ما يتلفه لأن مثل هذه ينبغي أن تربط ويكف شرها وكذا كل حيوان مولع بالتعدي كالجمل والحمار الذين عرفا بعقر الدواب وإتلافها
والثاني لا يضمن ليلا ولا نهارا لأن العادة لم تجز بربطها
وقضية هذه العلة أنه لو كان الحيوان المفسد مما بربط عادة فتركه ضمن ما يتلفه قطعا وبه صرح الإصطخري والمراد تعهد المالك ونحوه ذلك منها لأنه حينئذ مقصر بإرسالها ( وإلا ) بأن لم يعهد منها إتلاف ما ذكر ( فلا ) يضمن ( في الأصح ) لأن العادة حفظ الطعام عنها لا ربطها
والثاني يضمن في الليل دون النهار كالدابة ولو هلكت في الدفع عن حمام ونحوه فهدر لصيالها ولو أخذت حمامة وهي حية جاز فتل أذنها وضرب فمها ليرسلها فتدفع دفع الصائل بالأخف فالأخف ولو صارت ضاربة مفسدة فهل يجوز قتلها في حال سكونها وجهان أصحهما وبه قال القفال لا يجوز لأن ضراوتها عارضة
____________________
(4/207)
والتحرز عنها سهل وجوز القاضي قتلها في حال سكونها إلحاقا لها بالفواسق الخمس فيجوز قتلها ولا يختص بحال ظهور الشر ولا يجري الملك عليها ولا أثر لليد والاختصاص فيها
تنبيه سكتوا عن ضبط العادة
قال الدميري والظاهر أنه يأتي فيه الخلاف مرتين أو ثلاثة كما في الكلب المعلم
خاتمة لو دخلت بقرة مثلا مسيبة ملك شخص فأخرجها من موضع يعسر عليها الخروج منه فتلفت ضمنها ولو ضرب شجرة في ملكه ليقطعها وعلم أنها إذا سقطت تسقط على غافل عن ذلك ولم يعلمه القاطع به فسقطت عليه فأتلفته ضمنه وإن دخل ملكه بغير إذنه فإن لم يعلم القاطع بذلك أو علم به وعلم به ذلك الإنسان أيضا أو لم يعلم به لكن أعلمه القاطع به أو لم يعلما به لم يضمنه إذ لا تقصير منه ولو حل قيد دابة غيره لم يضمن ما تتلفه كما لو نقب الحرز وأخذ المال غيره
وسئل القفال عن حبس الطيور في أقفاص لسماع أصواتها وغير ذلك فأجاب بالجواز إذا تعهدها مالكها بما تحتاج إليه لأنها كالبهيمة تربط ولو كان بداره كلب عقور أو دابة جموح ودخلها شخص بإذنه ولم يعلمه بالحال فعضه الكلب أو رمحته الدابة ضمن وإن كان الداخل بصيرا أو دخلها بلا إذن أو أعلمه بالحال فلا ضمان لأنه المتسبب في هلاك نفسه ولو أتلفت الدابة المستعارة أو المبيعة قبل قبضها زرعا مثلا لمالكها ضمنه المستعير والبائع لأنها في يدهما أو أتلفت ملك غيرهما فإن كان الزرع للبائع لم يضمنه وإن كان ثمنا للدابة لأنها ما أتلفت ملكه ويصير قابضا للثمن بذلك كما مر في محله
4 كتاب السير بكسر السين وفتح المثناة التحتية جمع سيرة بسكونها وهي السنة والطريقة وغرضه من الترجمة ذكر الجهاد وأحكامه وعدل عن الترجمة به أو بقتال المشركين كما ترجم به بعضهم إلى السير لأن الجهاد متعلق من سيره قوله صلى الله عليه وسلم في غزواته
والأصل فيه قبل الإجماع آيات كقوله تعالى { كتب عليكم القتال } و { وقاتلوا المشركين كافة } { واقتلوهم حيث وجدتموهم } وأخبار كخبر الصحيحين أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وخبر مسلم لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وقد جرت عادة الأصحاب تبعا للإمام الشافعي رضي الله عنه أن يذكروا مقدمة في صدر هذا الكتاب فلنذكر نبذة منها على سبيل التبرك فنقول بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في رمضان وهو ابن أربعين سنة وقيل ثلاث وأربعين وآمنت به خديجة رضي الله عنها ثم بعدها قيل علي رضي الله عنه وهو ابن تسع وقيل ابن عشر وقيل أبو بكر وقيل زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم ثم أمر بتبليغ قومه بعد ثلاث سنين من مبعثه
وأول ما فرض الله عليه بعد الإنذار والدعاء إلى التوحيد من قيام الليل ما ذكر في أول سورة المزمل ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بالصلوات الخمس إلى بيت المقدس ليلة الإسراء بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ليلة سبع وعشرين من رجب
وقيل بعد النبوة بخمس أو ست وقيل غير ذلك
ثم أمر باستقبال الكعبة ثم فرض الصوم بعد الهجرة بسنتين تقريبا وفرضت الزكاة بعد الصوم وقيل قبله وفي السنة الثانية قيل في نصف شعبان وقيل في رجب من الهجرة حولت القبلة وفيها فرضت صدقة الفطر وفيها ابتدأ صلى الله عليه وسلم صلاة عيد الفطر ثم عيد الأضحى ثم فرض الحج سنة ست وقيل سنة خمس ولم يحج صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلا حجة الوداع سنة عشر واعتمر أربعا
( كان الجهاد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) بعد الهجرة ( فرض كفاية ) أما كونه فرضا فبالإجماع وأما كونه على الكفاية فلقوله تعالى { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } إلى قوله تعالى { وكلا وعد الله الحسنى }
____________________
(4/208)
ففاضل سبحانه وتعالى بين المهاجرين والقاعدين ووعد كلا الحسنى والعاصي لا يوعد بها ولا يفاضل بين مأجور ومأزور وأما قبل الهجرة فكان ممنوعا أول الإسلام من قتال الكفار مأمورا بالصبر على الأذى وكذلك من تبعه بقوله تعالى { لتبلون في أموالكم } الآية
ثم هاجر إلى المدينة بعد ثلاث عشرة سنة من مبعثه وقيل بعد عشرة في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول فأقام بها عشرا بالإجماع ثم أمر به إذا ابتدىء به بقوله تعالى { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } ثم أبيح له ابتداؤه في غير الأشهر الحرم بقوله تعالى { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } الآية
ثم أمر به من من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله تعالى { واقتلوهم حيث ثقفتموهم }
وقد غزا صلى الله عليه وسلم سبعا وعشرين غزوة قاتل فيها في تسع سنين كما حكاه الماوردي ففي مسلم عن زيد بن أرقم أنه صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة وبعث صلى الله عليه وسلم سرايا ولم يتفق في كلها قتال فلنذكر من غزواته صلى الله عليه وسلم أشهرها ففي السنة الأولى من هجرته لم يغز وكانت غزوة بدر الكبرى في الثانية وأحد ثم بدر الصغرى ثم بني النضير في الثالثة والخندق في الرابعة وذات الرقاع ثم دومة الجندل وبني قريظة في الخامسة والحديبية وبني المصطلق في السادسة وخيبر في السابعة ومؤتة وذات السلاسل وفتح مكة وحنين والطائف في الثامنة وتبوك في التاسعة على خلاف في بعض ذلك والأنبياء معصومون قبل النبوة من الكفر لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال ما كفر بالله نبي قط وفي عصمتهم قبلها من المعاصي خلاف وهم معصومون بعدها من الكبائر ومن كل ما يزرى بالمروءة وكذا من الصغائر ولو سهوا عند المحققين لكرامتهم على الله تعالى أن يصدر عنهم شيء منها وتأولوا الظواهر الواردة فيها وجوز الأكثرون صدورها عنهم سهوا إلا الدالة على الخسة كسرقة لقمة
قال في الروضة واختلفوا هل كان صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يتعبد على دين إبراهيم أو نوح أو موسى أو عيسى أو لم يلتزم دين أحد منهم والمختار أنه لا يجزم في ذلك بشيء لعدم الدليل انتهى
وصحح الواحدي الأول وعزى إلى الشافعي واقتصر الرافعي على نقله عن صاحب البيان
وتوفي صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين لاثني عشر خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة
( وقيل ) كان الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم فرض ( عين ) لقوله تعالى { انفروا خفافا وثقالا } { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما } وقائله قال كان القاعدون حراسا للمدينة وهو نوع من الجهاد وأجاب الأول بأن الوعيد في الآية لمن عينه النبي صلى الله عليه وسلم لتعيين الإجابة
وقال السهيلي كان فرض عين على الأنصار دون غيرهم لأنهم بايعوا عليه
قال شاعرهم نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا وقد يكون الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم فرض عين بأن أحاط عدو بالمسلمين كالأحزاب من الكفار الذين تحزبوا حول المدينة فإنه مقتض لتعين جهاد المسلمين لهم فصار لهم حالان خلاف ما يوهمه قوله ( وأما بعده ) صلى الله عليه وسلم ( فللكفار حالان أحدهما يكونون ببلادهم ) مستقرين بها غير قاصدين شيئا من بلاد المسلمين ( ففرض كفاية ) كما دل عليه سير الخلفاء الراشدين وحكى القاضي عبد الوهاب فيه الإجماع ولو فرض على الأعيان لتعطل المعاش ( إذ فعله من فيهم كفاية سقط الحرج عن الباقين ) لأن هذا شأن فروض الكفايات وتعبيره بالسقوط ظاهر في أن فرض الكفاية يتعلق بالجميع وهو الصحيح عند الأصوليين وقوله من فيهم كفاية يشمل من لم يكن من أهل فرض الجهاد وهو كذلك فلو قام به مراهقون سقط الحرج عن أهل الفروض
قال في الروضة وسقط فرض الكفاية مع الصغر والجنون والأنوثة فإن تركه الجميع أثم كل من لا عذر له من الأعذار الآتي بيانها
تنبيه أقل الجهاد مرة في السنة كإحياء الكعبة ولقوله تعالى ( { أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } قال مجاهد نزلت في الجهاد ولفعله صلى الله عليه وسلم منذ أمر به ولأن الجزية تجب بدلا عنه وهي واجبة في كل سنة فكذا بدلها ولأنه فرض يتكرر وأقل ما وجب المتكرر في كل سنة كالزكاة والصوم فإن زاد على مرة
____________________
(4/209)
فهو أفضل ويحصل فرض الكفاية بأن يشحن الإمام الثغور بمكافئين للكفار مع إحكام الحصون والخنادق وتقليد الأمراء أو بأن يدخل الإمام أو نائبه دار الكفر بالجيوش لقتالهم ووجوب الجهاد وجوب الوسائل لا المقاصد إذ المقصود بالقتال إنما هو الهداية وما سواها من الشهادة وأما قتل الكفار فليس بمقصود حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد وما ذكره المصنف محله في الغزو وأما حراسة حصون المسلمين فمتعينة فورا
واعلم أن فروض الكفاية كثيرة جدا ذكر منها المصنف في الجنائز غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه وفي اللقيط التقاط المنبوذ وذكر هنا الجهاد ثم استطرد إلى ذكر غيره فقال ( ومن فروض الكفاية القيام بإقامة الحجج ) العلمية وهي البراهين القاطعة على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وما يجب له من الصفات وما يستحيل عليه منها وعلى إثبات النبوات وصدق الرسل وما ورد به الشرع من الحساب والمعاد والميزان وغير ذلك وكما أنه لا بد من إقامة الحجج القهرية بالسيف لا بد ممن يقيم البراهين ويظهر الحجج ويدفع الشبهات ويحل المشكلات كما نبه عليه بقوله القيام بإقامة ( وحل المشكلات في الدين ) ودفع الشبهة ويتعين على المكلف دفع شبهة أدخلها بقلبه وذلك بأن يعرف أدلة المعقول ويعلم دواء أمراض القلب وحدودها وأسبابها كالحسد والرياء والكبر وأن يعرف من ظواهر العلوم لا دقائقها ما يحتاج إليه لإقامة فرائض الدين كأركان الصلاة والصيام وشروطهما
وإنما يجب تعلمه بعد الوجوب وكذا قبله إن لم يتمكن من تعلمه بعد دخول الوقت مع الفعل وكأركان الحج وشروطه وتعلمها على التراخي كالحج وكالزكاة إن ملك مالا ولو كان هناك ساع يكفيه الأمر وأحكام البيع والقراض إن أراد أن يبيع ويتجر فيتعين على من يريد بيع الخبز أن يعلم أنه لا يجوز بيع خبر البر بالبر ولا بدقيقه وعلى من يريد الصرف أن يعلم أنه لا يجوز بيع درهم بدرهمين ونحو ذلك
وأما أصول العقائد فالاعتقاد المستقيم مع التصميم على ما ورد به الكتاب والسنة ففرض عين وأما العلم المترجم بعلم الكلام فليس بفرض عين وما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يشتغلون به
قال الإمام ولو كان الناس على ما كانوا عليه في صفوة الإسلام لما أوجبنا التشاغل به وربما نهينا عنه وأما الآن وقد ثارت البدعة ولا سبيل إلى تركها تلتطم فلا بد من إعداد ما يدعى به إلى المسلك الحق وتحل به الشبهة فصار الاشتغال بأدلة المعقول وحل الشبهة من فروض الكفايات وما نص عليه الشافعي من تحريم الاشتغال به وقال لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام محمول على التوغل فيه
وأما تعلم علم الفلسفة والشعبذة والتنجيم والرمل وعلوم الطبائعيين والسحر فحرام والشعر مباح إن لم يكن فيه سخف أو حث على شر وإن حث على التغزل والبطالة كره
( و ) من فروض الكفايات القيام ( بعلوم الشرع كتفسير وحديث ) وسبق معناهما في كتاب الوصايا ( والفروع ) الفقهية الزائدة على ما لا بد منه ( بحيث يصلح للقضاء ) والفتيا كما في المحرر لشدة الحاجة إلى ذلك
فإن احتيج في التعليم إلى جماعة لزمهم ويجب لكل مسافة قصر مفت لئلا يحتاج إلى قطعها
وفرق بينه وبين قولهم لا يجوز إخلاء مسافة العدوى عن قاض بكثرة الخصومات وتكررها في اليوم الواحد من كثيرين بخلاف الاستفتاء في الوقائع ولو لم يفت المفتي وهناك من يفتي وهو عدل لم يأثم فلا يلزمه الإفتاء
قال في الروضة وينبغي أن يكون المعلم كذلك اه
وفرق بين هذا وبين نظيره من أولياء النكاح والشهود بأن اللزوم هنا فيه حرج ومشقة بكثرة الوقائع بخلافه ثم قال في الروضة ويستحب الرفق بالمتعلم والمستفتي أما تعلم ما لا بد منه من الفروع ففرض عين كما مرت الإشارة إليه
تنبيه من فروض الكفاية علم الطب المحتاج إليه لمعالجة الأبدان والحساب المحتاج إليه لقسمة المواريث والوصايا والمعاملات وأصول الفقه والنحو واللغة والتصريف وأسماء الرواة والجرح والتعديل واختلاف العلماء واتفاقهم وأما المنطق
فقال الغزالي إن من جهله لا وثوق بعلمه وقال غيره يحرم الاشتغال به ومر الكلام على ذلك في
____________________
(4/210)
باب الحدث في الكلام على الاستنجاء
قال الشارح وعرف أي المصنف الفروع أي بالألف واللام دون ما قبله لما ذكره بعده أي وهو قوله بحيث يصلح للقضاء لئلا يتوهم عوده لما قبله أيضا وهنا مؤاخذة على المصنف وهي إما أن يكون قوله والفروع مجرورا بالعطف على تفسير أو بالعطف على المجرور بالباء وهو قوله بإقامة
فإن كان الأول اقتضى أن يكون بقي شيء من علوم الشرع لم يذكره ولم يبق شيء وإن كان الثاني اقتضى أن الفروع ليست من علوم الشرع وليس مرادا وقد يختار الأول ويجاب عنه بأن الكاف استقصائية
فائدة قال الماوردي إنما يتوجه فرض الكفاية في العلم على من جمع أربعة شروط التكليف وأن يكون ممن يلي القضاء أي حرا ذكرا لا عبدا وامرأة وأن لا يكون بليدا وأن يقدر على الانقطاع بأن يكون له كفاية ويدخل الفاسق في الفرض ولا يسقط به لأنه لا تقبل فتواه وفي دخول المرأة والعبد وجهان أوجههما الدخول لأنهما أهل للفتوى دون القضاء
( و ) من فروض الكفايات ( الأمر بالمعروف ) من واجبات الشرع ( والنهي عن المنكر ) من محرماته بالإجماع إذا لم يخف على نفسه أو ماله أو على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع أو غلب على ظنه أن المرتكب يزيد فيما هو فيه عنادا كما أشار إليه الغزالي في الإحياء كإمامه ولا يختص بالولاة بل يجب على كل مكلف قادر من رجل وامرأة حر أو عبد وللصبي ذلك ويثاب عليه إلا أنه لا يجب عليه ولا يشترط في الأمر بالمعروف العدالة بل قال الإمام وعلى متعاطي الكأس أن ينكر على الجلاس وقال الغزالي يجب على من غصب امرأة على الزنا أمرها بستر وجهها عنه اه
والإنكار يكون باليد فإن عجز فباللسان ويرفق بمن يخاف شره ويستعين عليه فإن لم يخف فتنة فإن عجز رفع ذلك إلى الوالي فإن عجز أنكر بقلبه ولا يشترط فيه أيضا أن يكون مسموع القول بل على المكلف أن يأمر وينهى وإن علم بالعادة أنه لا يفيد { فإن الذكرى تنفع المؤمنين } ولا أن يكون ممتثلا ما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه بل عليه أن يأمر وينهى نفسه فإن اختل أحدهما لم يسقط الآخر ولا يأمر ولا ينهى في دقائق الأمور إلا عالم فليس للعوام ذلك ولا ينكر العالم إلا مجمعا على إنكاره لا ما اختلف فيه إلا أن يرى الفاعل تحريمه فإن قيل قد صرحوا بأن الحنفي يحد بشرب النبيذ مع أن الإنكار بالفعل أبلغ منه بالقول
أجيب بأن أدلة عدم تحريم النبيذ واهية وبهذا فرق بين حدنا الشارب به وعدم حدنا الواطىء في نكاح بلا ولي وإن ندب على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف برفق فحسن إن لم يقع في خلاف آخر أو في ترك سنة ثابتة لاتفاق العلماء على استحباب الخروج من الخلاف حينئذ
وليس لكل من الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر التجسس والبحث واقتحام الدور بالظنون بل إن رأى شيئا غيره نعم إن أخبره ثقة بمن اختفى بمنكر فيه انتهاك حرمة يفوت تداركها كالزنا والقتل اقتحم له الدار وتجسس وجوبا
تنبيه يجب على الإمام أن ينصب محتسبا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن كانا لا يختصان بالمحتسب فيتعين عليه الأمر بصلاة الجمعة إذا اجتمعت شروطها وكذا بصلاة العيد وإن قلنا إنها سنة
فإن قيل قال الإمام معظم الفقهاء على أن الأمر بالمعروف في المستحب مستحب وهذا مستحب
أجيب بأن محله في غير المحتسب ولا يقاس بالوالي غيره ولهذا لو أمر الإمام بصلاة الاستسقاء أو بصومه صار واجبا ولا يأمر المخالفين له في المذهب بما لا يجوزونه ولا يناهم عما يرونه فرضا عليهم أو سنة لهم ويأمر بما يعم نفعه كعمارة سور البلد وشربه ومعونة المحتاجين ويجب ذلك من بيت المال إن كان فيه مال وإلا فعلى من له قدرة على ذلك وينهى الموسر عن مطل الغني إن استعداه الغريم عليه وينهى الرجل عن الوقوف مع المرأة في طريق خال لأنه موضع ريبة بخلاف ما لو وجده معها في طريق يطرقه الناس ويأمر النساء بإيفاء العدد والأولياء بنكاح الأكفاء والسادة بالرفق بالمماليك وأصحاب البهائم بتعهدها وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق وينكر على من تصدى للتدريس والفتوى والوعظ وليس هو من أهله ويشهر أمره لئلا يغتر به وينكر على من أسر في صلاة جهرية أو زاد في الأذان وعكسهما ولا ينكر في حقوق
____________________
(4/211)
الآدميين قبل الاستعداء من ذي الحق عليه ولا يحبس ولا يضرب للدين وينكر على القضاة إن احتجبوا عن الخصوم أو قصروا في النظر في الخصومات وعلى أئمة المساجد المطروقة إن طولوا الصلاة كما أنكر صلى الله عليه وسلم على معاذ ذلك ويمنع الخونة من معاملة النساء لما يخشى فيها من الفساد وليس له حمل الناس على مذهبه
( و ) من فروض الكفايات ( إحياء الكعبة ) والمواقف التي هناك ( كل سنة بالزيارة ) مرة لأن ذلك من شعائر الإسلام
تنبيه المراد بالزيارة كل سنة أن يأتي بحج وعمرة فلا يكفي إحياؤها بالاعتكاف والصلاة وإن أوهمت عبارته الاكتفاء بذلك ولا بالعمرة كما قاله المصنف إذ لا يحصل مقصود الحج بذلك لأن المقصود الأعظم من بناء الكعبة الحج فكان به إحياؤها فيجب الإتيان كل سنة بحج وعمرة ولا يشترط في القائمين بهذا الفرض قدر مخصوص بل الفرض أن يحجها كل سنة بعض المكلفين قاله في المجموع
قال الإسنوي ويتجه اعتباره من عدد يظهر بهم الشعار اه
ونوزع في ذلك
فإن قيل كيف الجمع بين هذا وبين التطوع بالحج لأن إحياء الكعبة بالحج من فروض الكفايات فكل وفد يجيئون كل سنة للحج فهم يحيون الكعبة فمن كان عليه فرض الإسلام حصل بما أتى به سقوط فرضه ومن لم يكن عليه فرض الإسلام كان قائما بفرض كفاية فلا يتصور حج التطوع أجيب بأن هنا جهتين من حيثيتين جهة التطوع من حيث أنه ليس عليه فرض الإسلام وجهة فرض الكفاية من حيث الأمر بإحياء الكعبة فصح أن يقال هو تطوع من حيث أنه ليس عليه فرض عين وأن يقال فرض كفاية من حيث الإحياء وبأن وجوب الإحياء لا يستلزم كون العبادة فرضا لأن الواجب المعين قد يسقط بالمندوب كاللمعة المغفلة في الوضوء تغسل في الثانية أو الثالثة والجلوس بين السجدتي بجلسة الاستراحة وإذا سقط الواجب المعين بفعل المندوب ففرض الكفاية أولى ولهذا تسقط صلاة الجنازة عن المكلفين بفعل الصبي ولو قيل يتصور ذلك في العبيد والصبيان والمجانين لأن فرض الكفاية لا يتوجه إليهم لكان جوابا
( و ) من فروض الكفايات ( دفع ضرر ) المعصومين ولو عبر به كان أولى ( المسلمين ) وغيرهم على الموسرين ( ككسوة عار ) منهم ( وإطعام جائع ) منهم ( إذا لم يندفع ) ضررهم ( بزكاة و ) لا ( بيت مال ) واقتصر عليهما لأنهما أغلب من غيرهما وإلا ففي معناهما سهم المصالح ونحوه كوقف عام ونذر وكفارة ووصية صيانة للنفوس
تنبيه ظاهر كلام المصنف أن المراد بالكسوة ستر ما يحتاج إليه البدن
قال في المهمات وهو كذلك بلا شك فيختلف الحال بين الشتاء والصيف وتعبير الروضة يستر العورة معترض وظاهر كلامه أيضا وجوب دفع الضرر وإن لم يبق لنفسه شيئا لكن الأصح ما في زيادة الروضة عن الإمام أنه يجب على الموسر المواساة بما زاد على كفاية سنة ومقتضاه أنه لا بوجه فرض الكفاية بمواساة المحتاج على من ليس معه زيادة على كفاية سنة وهو كذلك وإن قال البلقيني هذا لا يقوله أحد ولا ينافيه ما في الأطعمة من وجوب إطعام المضطر وإن كان يحتاجه في ثاني الحال فإن هذا في المحتاج غير المضطر وذاك في المضطر وهل يكفي سد الضرورة أم يجب تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه النفقة فيه وجهان مقتضى كلام الرافعي في الأطعمة أن ذلك على القولين فيما إذا وجد المضطر الميتة ترجيح الأول والأوجه ترجيح الثاني ولا يلزم من البناء الاتحاد في الترجيح ويجب أيضا على الموسرين فك أسرى المسلمين من مالهم ولا يجب على الإمام ابتياعهم من بيت المال كذا في بعض شروح الكتاب
قال بعضهم ولعله محمول على أسير تعذبه الكفار كما في الروضة في باب الجزية لكن في باب الهدنة أن الفداء مستحب وبهذا الحمل يجمع بين كلامي الروضة أيضا
أما أسارى الذميين ففيهم احتمالان والأوجه فيهم التفصيل
( و ) من فروض الكفايات إعانة القضاة على استيفاء الحقوق للحاجة إليها و ( تحمل الشهادة ) إن حضر المتحمل المشهود عليه فإن ادعى الشاهد للتحمل لم يجب عليه إلا أن
____________________
(4/212)
دعاه قاض أو معذور بمرض ونحوه ( وأداؤها ) إذا تحمل أكثر من نصاب فإن تحمل اثنان في الأموال فالأداء فرض عين وسيأتي بيان التجمل والأداء في الشهادات مع مزيد إيضاح
تنبيه التحمل يفارق الأداء من جهة أن التحمل فرض كفاية على الناس والأداء على من تحمل دون غيره
قال الماوردي في باب الشهادات وفرض الأداء أغلظ من فرض التحمل لقوله تعالى { ولا تكتموا الشهادة } الآية
( والحرف والصنائع ) كالتجارة والخياطة والحجامة لأن قيام الدنيا بهذه الأسباب وقيام الدين يتوقف على أمر الدنيا حتى لو امتنع الخلق منه أثموا وكانوا ساعين في إهلاك أنفسهم لكن النفوس مجبولة على القيام بها فلا يحتاج إلى حث عليها وترغيب فيها وفي الحديث اختلاف أمتي رحمة وفسره الحليمي باختلاف الهمم والحرف
تنبيه عطف الصنائع على الحرف يقتضي تغايرهما مع أن صاحب الصحاح فسر الصناعة بالحرفة فعلى هذا عطفها عليها كعطف رحمة على صلوات في قوله تعالى { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } وقال الزركشي الصناعات هي المعالجات كالخياطة والتجارة والحرف وإن كانت تطلق على ذلك فتطلق عرفا على من يتخذ صناعا ويدولبهم ولا يعمل فهي أعم
( وما تتم به المعايش ) التي بها قوام الدين والدنيا كالبيع والشراء والحراثة لأن كل فرد من الأفراد عاجز عن القيام بكل ما يحتاج إليه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه يقول اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك فقال لا تقل هكذا ليس من أحد إلا وهو محتاج إلى الناس قال فكيف أقول قال قل اللهم لا تحوجني إلى شرار خلقك قلت يا رسول الله ومن شر خلقه قال الذين إذا أعطوا منوا وإذا منعوا عابوا وسمع صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه يقول اللهم إني أسألك الصبر فقال سألت الله البلاء فسله العافية
وسمع الإمام أحمد بن حنبل رجلا يقول اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك فقال هذا رجل تمنى الموت ( و ) من فروض الكفايات ( جواب سلام ) لمسلم عاقل ولو صبيا مميزا ( على جماعة ) من المسلمين المكلفين
أما كونه فرضا فلقوله تعالى { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } وأما كونه كفاية فلخبر أبي داود يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزىء عن الجلوس أن يرد أحدهم والراد منهم هو المختص بالثواب وسقط الحرج عن الباقين وإن أجابوا كلهم كانوا مؤدين للفرض سواء كانوا مجتمعين أم مترتبين كصلاة الجنازة ولا يسقط الفرد برد الصبي المميز على الصحيح فإن قيل سقط به فرض الصلاة على الجنازة فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن المقصود من الصلاة الدعاء والصبي أقرب إلى الإجابة والمقصود من السلام الأمان والصبي ليس من أهله ولا يسقط أيضا برد من لم يسمع السلام على المشهور ولو سلم على جماعة فيهم امرأة فردت هل يكفي
ينبغي كما قال الزركشي بناؤه على أنه هل يشرع لها الابتداء بالسلام أم لا فحيث شرع لها كفى جوابها وسيأتي الكلام على ذلك وإلا فلا ومثلها كما بحثه شيخنا الخنثى واحترز بالجماعة عن الواحد فإن الرد عليه فرض عين إلا إن كان المسلم أو المسلم عليه أنثى مشتهاة والآخر رجلا ولا محرمية بينهما فلا يجب الرد ثم إن سلم هو حرم عليها
أما إذا كان هناك نحو محرمية كزوجته وعبد المرأة بالنسبة إليها ومثله كل من يباح نظره إليها فيجب الرد ولا يكره على جمع نسوة أو عجوز لانتفاء خوف الفتنة بل يندب الابتداء به منهن على غيرهن وعكسه ويجب الرد كذلك والخنثى مع المرأة كالرجل معها ومع الرجل كالمرأة معه ومع الخنثى كالرجل مع المرأة ويشترط في الرد اتصاله بالابتداء لاتصال الإيجاب بالقبول في العقد فلو سلم جماعة متفرقون على واحد فقال وعليكم السلام وقصد الرد على جميعهم أجزأه ويسقط عنه فرض الجميع كما لو صلى على جنائز صلاة واحدة كما نقله في المجموع عن المتولي و الرافعي وأقراه بخلاف ما إذا لم يقصد الرد عليهم جميعا وقضية هذا أنه لو طلق لم يكفه والأوجه كما قال شيخنا خلافه وظاهر كلام المجموع أنه لا فرق بين أن يسلموا دفعة واحدة متفرقين وهو كما قاله بعض المتأخرين ظاهر فيما سلموا دفعة واحدة
أما لو سلموا واحدا بعد واحد وكانوا كثيرين فلا يحصل الرد لكلهم إذ قد مر أن شرط حصول الواجب أن يقع متصلا بالابتداء ولا يجب الرد على مجنون وسكران
____________________
(4/213)
وإن شلمتها عبارة المصنف وكذا فاسق ونحوه كمبتدع إن كان في تركه زجر لهما أو لغيرهما ولو كتب كتابا وسلم عليه فيه أو أرسل رسولا فقال سلم علي فلان فإذا بلغه خبر الكتاب والرسالة لزمه الرد وهل صيغة إرسال السلام مع الغير السلام على فلان أو يكفي سلم لي على فلان كما هو ظاهر ما مر يؤخذ من كلام التتمة الثاني وعبارته أنه لو ناداه من وراء ستر أو حائط وقال السلام عليك يا فلان أو كتب كتابا وسلم عليه فيه أو أرسل رسولا
فقال سلم على فلان فبلغه الكتاب أو الرسالة وجب عليه الجواب لأن تحية الغائب إنما تكون بالمناداة أو الكتاب أو الرسالة اه
ولو سلم الأصم جمع بين اللفظ والإشارة أما اللفظ فلقدرته عليه وأما الإشارة فليحصل بها الإفهام ويستحق الجواب ويجب الجمع بينهما على من رد عليه ليحصل به الإفهام ويسقط عنه فرض الجواب وقضية التعليل أنه إن علم أنه فهم ذلك بقرينة الحال والنظر إلى فمه لم تجب الإشارة وهو ما بحثه الأذرعي وسلام الأخرس بالإشارة معتد به وكذا رده لأن إشارته قائمة مقام العبارة
تنبيه لو سلم ذمي على مسلم قال له وجوبا كما قاله الماوردي و الروياني وعليك فقط لخبر الصحيحين إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم
وروى البخاري خبر إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك فقولوا وعليك وقال الخطابي كان سفيان يروي عليكم بحذف الواو وهو الصواب لأنه إذا حذفها صار قولهم مردودا عليهم وإذا ذكرها وقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه
قال الزركشي وفيه نظر إذ المعنى ونحن ندعوا عليكم بما دعوتم به علينا على أنا إذا فسرنا السام بالموت فلا إشكال لاشتراك الخلق فيه
فرع لو سلم على إنسان ورضي أن لا يرد عليه لم يسقط عنه فرض الرد كما قاله المتولي لأنه حق الله تعالى ويأثم بتعطيل فرض الكفاية كل من علم بتعطيله وقدر على القيام به وإن بعد عن المحل وكذا يأثم قريب منه لم يعلم به لتقصيره في البحث عنه ويختلف هذا بكبر البلد وصغره كما قاله الإمام وإن قام به الجميع فكلهم مؤد فرض كفاية وإن ترتبوا في أدائه
قال الإمام وغيره والقيام به أفضل من فرض العين لأن القيام بفرض العين أسقط الحرج عن نفسه والقيام بفرض الكفاية أسقط الحرج عنه وعن الأمة
والمعتمد أن فرض العين أفضل كما جرى عليه الشارح في شرحه على جمع الجوامع
( ويسن ابتداؤه ) أي السلام على كل مسلم حتى على الصبي وهو سنة عين إن كان المسلم واحدا وسنة كفاية إن كان جماعة
أما كونه سنة فلقوله تعالى { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم } أي ليسلم بعضكم على بعض وللأمر بإفشاء السلام في الصحيحين وأما كونه كفاية فلخبر أبي داود السابق
أما الذمي فلا يجوز ابتداؤه به وقد يتصور وجوب الابتداء بالسلام وهو ما لو أرسل سلامه إلى غائب ففي زوائد الروضة يلزم المرسل أن يبلغه فإنه أمانة ويجب أداؤها ويجب الرد كما مر ويسن الرد على المبلغ وابتداء السلام أفضل من رده كما ناله القاضي في فتاويه وهذه سنة أفضل من فرض ونظيره إبراء المعسر سنة وإنظاره فرض وإبراؤه أفضل
تنبيه قول القاضي ليس لنا سنة كفاية غير ابتداء السلام من الجماعة أو رد عليه مسائل منها التسمية على الأكل ومنها الأضحية في حق أهل البيت ومنها تشميت العاطس ومنها الأذان والإقامة
و ( لا ) يسن ابتداؤه ( على قاضي حاجة ) للنهي عنه في سنن ابن ماجه ولأن مكالمته بعيدة عن الأدب والمراد بالحاجة البول والغائط ولا على المجامع بطريق الأولى ( و ) لا على ( آكل ) بالمد لشغله به ( و ) لا على من ( في حمام ) لاشتغاله بالاغتسال وهو مأوى الشياطين وليس موضع تحية
واستثنى مع ذلك مسائل كثيرة منها المصلي ومنها المؤذن ومنها الخطيب ومنها الملبي في النسك ومنها مستغرق القلب بالدعاء وبالقراءة كما بحثه الأذرعي ومنها النائم أو الناعس ومنها الفاسق والمبتدع لأن حالتهم لا تناسبه والضابط كما قاله الإمام أن يكون الشخص على حالة لا يجوز أو لا يليق بالمروءة القرب منه ( ولا جواب ) واجب ( عليهم ) لو أتى به لوضعه السلام في غير محله لعدم سنه
واستثنى الإمام من الأكل ما إذا سلم عليه بعد الابتلاع وقبل وضعه لقمة أخرى فيسن السلام عليه ويجب عليه الرد وكذا من
____________________
(4/214)
كان في محل نزع الثياب في الحمام كما جرى عليه الزركشي وغيره
تنبيه مقتضى كلامه استواء حكم الجميع وليس مرادا بل يكره الرد لقاضي الحاجة والمجامع ويندب لمن يأكل أو في حمام وكذا المصلي ونحوه بالإشارة ولو سلم على المؤذن لم يجب حتى يفرغ وهل الإجابة بعد الفراغ واجبة أو مندوبة لم يصرحوا به والأوجه كما قاله البلقيني أنه لا يجب وقيل يجب على المصلي الرد بعد الفراغ والصحيح أنه لا يجب عليه الرد مطلقا وإذا سلم على حاضر الخطبة وقلنا بالجديد أنه لا يحرم عليهم الكلام ففي الرد ثلاثة أوجه أصحها عند البغوي وجوب الرد وصححه البلقيني والثاني استحبابه والثالث جوازه والخلاف في غير الخطيب
أما هو لا يجب عليه الرد قطعا لاشتغاله والقارىء كغيره في استحباب السلام وجوب الرد باللفظ على من سلم عليه كما جرى عليه ابن المقري إلا مستغرق القلب كما مر عن الأذرعي
تنبيه صيغة السلام ابتداء السلام عليكم فإن قال عليكم السلام جاز لأنه تسليم لكن مع الكراهة للنهي عنه في خبر الترمذي وغيره ويجب فيه الرد على الصحيح كما نقله في الروضة عن الإمام وأقره وإن بحث الأذرعي عدم الوجوب وكعليكم السلام عليكم سلام
أما لو قال وعليكم السلام فليس سلاما فلا يستحق جوابا لأنه لا يصلح للابتداء كما نقله في الأذكار عن المتولي وأقره وتندب صيغة الجمع لأجل الملائكة سواء أكان المسلم عليه واحدا أم جماعة ويكفي الإفراد للواحد ويكون آتيا بأصل السنة دون الجماعة فلا يكفي والإشارة به بيد أو نحوها بلا لفظ لا يجب لها رد للنهي عنه في خبر الترمذي والجمع بينها وبين اللفظ أفضل من الاقتصار على اللفظ وصيغته ردا وعليكم السلام أو وعليك السلام للواحد ولو ترك الواو فقال عليكم السلام أجزأه ولو قال والسلام عليكم أو السلام عليكم كفى فإن قال وعليكم وسكت عن السلام لم يكف إذ ليس فيه تعرض للسلام وقيل يجزىء
فإن قيل يؤيد هذا أنه لو سلم ذمي على مسلم لم يزد في الرد على قوله وعليك
أجيب بأنه ليس الغرض ثم السلام على الذمي بل الغرض أن يرد عليه بما ثبت في الحديث ويكفي سلام عليكم ابتداء وعليكم سلام جوابا ولكن التعريف فيهما أفضل وزيادة ورحمة الله وبركاته على السلام ابتداء وردا أكمل من تركها وظاهر كلامهم أنه يكفي وعليكم السلام وإن أتى المسلم بلفظ الرحمة والبركة
قال ابن شهبة وفيه نظر لقوله تعالى { وإذا حييتم بتحية } الآية ولو سلم كل من اثنين تلاقيا على الآخر معا لزم كل منهما الرد على الآخر ولا يحصل الجواب بالسلام أو مرتبا كفى الثاني سلامه ردا إلا إذا قصد به الابتداء فلا يكفي كما قاله الزركشي لصرفه عن الجواب
فروع يندب أن يسلم الراكب على الماشي والماشي على الواقف والصغير على الكبير والجمع القليل على الجمع الكثير في حال التلاقي في طريق فإن عكس لم يكره
أما إذا ورد من ذكر على قاعد أو واقف أو مضطجع فإن الوارد يبدأ سواء أكان صغيرا أم لا قليلا أم لا ويكره تخصيص البعض من الجمع بالسلام ابتداء وردا ولو سلم بالعجمية جاز إن أفهم المخاطب وإن قدر على العربية ويجب الرد لأنه يسمى سلاما ويحرم أن يبدأ به الشخص ذميا للنهي عنه فإن بان من سلم عليه ذميا فليقل له ندبا استرجعت سلامي كما في الروضة أو رد على سلامي كما في الأذكار تحقيرا له ويستثنيه بقلبه إن كان بين مسلمين ولا يبدأ بتحية غير السلام أيضا كأنعم الله صباحك أو صبحت بالخير إلا لعذر وإن كتب إلى كافر كتب ندبا السلام على من اتبع الهدى ولو قام عن مجلس فسلم وجب الرد عليه ومن دخل دارا ندب أن يسلم على أهله وإن دخل موضعا خاليا من الناس ندب أن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ويندب أن يسمي قبل دخوله ويدعو بما أحب ثم يسلم بعد دخوله وأن يبدأ بالسلام قبل الكلام وإن كان مارا في سوق وجمع لا ينتشر فيهم السلام الواحد سلم على من يليه أول ملاقاته فإن جلس إلى من سمعه سقط عنه سنة السلام أو إلى من لم يسمعه سلم ثانيا ولا يترك السلام لخوف عدم الرد عليه لكبر أو غيره والتحية من المار على من خرج من حمام أو على غيره بنحو صبحك الله بالخير أو السعادة أو طاب حمامك أو قواك الله لا أصل لها إذ لم يثبت فيها شيء ولا جواب لقائلها فإن أجاب بالدعاء فحسن إلا أن يريد تأديبه لتركه السلام فترك الدعاء له أحسن
وأما التحية بالطليقة وهي أطال الله بقاءك فقيل بكراهتها والأوجه أن يقال كما قال الأذرعي إنه إن
____________________
(4/215)
كان من أهل الدين أو العلم أو من ولاة العدل فالدعاء له بذلك قربة وإلا فمكروه وحتى الظهر مكروه ولا يغتر بكثرة من يفعله
وتقبيل اليد لزهد أو صلاح أو نحوه من الأمور الدينية ككبر سن وشرف وصيانة مستحب وتقبيلها لدنيا أو ثروة أو نحوها كشوكة ووجاهة مكروه شديد الكراهة وتقبيل خد طفل لا يشتهى ولو لغيره وتقبيل من أطرافه شفقة ورحمة سنة ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح للتبرك ويندب القيام للداخل إن كان فيه فضيلة ظاهرة من علم أو صلاح أو شرف أو ولادة أو رحم أو ولاية مصحوبة بصيانة أو نحوها ويكون هذا القيام للبر والإكرام والاحترام لا للرياء والإعظام ويحرم على الداخل محبة القيام له بأن يقعد ويستمروا قيامه ماله كعادة الجابرة أما من أحب ذلك إكراما لا على الوجه المذكور فلا يتجه كما قال شيخنا تحريمه وتندب المصافحة مع بشاشة الوجه والدعاء بالمغفرة وغيرها للتلاقي ولا أصل للمصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر ولكن لا بأس بها فإنها من جملة المصافحة وقد حث الشارع عليها وإن قصد بابا لغيره مغلقا ندب أن يسلم على أهله ثم يستأذن فإن لم يجب إعادة ثلاث مرات فإن أجيب فذاك وإلا رجع فإن قيل له بعد استئذانه من أنت ندب أن يقول فلان بن فلان أو نحوه مما يحصل به التعريف ولا بأس أن يكني نفسه أو يقول القاضي فلان أو الشيخ فلان إذا لم يعرفه المخاطب إلا بذلك ويكره اقتصاره على قوله أنا أو الخادم وتندب زيارة الصالحين والجيران غير الأشرار والإخوان والأقارب وإكرامهم بحيث لا يشق عليه ولا عليهم ويندب أن يطلب منهم أن يزوروه وأن يكثروا زيارته بحيث لا يشق وتندب عيادة المرضى وأن يضع من جاءه العطاس يده أو ثوبه أو نحوه على وجهه ويخفف صوته ما أمكن وأن يحمد الله عقب عطاسه ثم إن كان في صلاة أسر به أو في حالة بول أو جماع أو نحوه حمد الله تعالى في نفسه فإن حمد الله تعالى شمت إلى ثلاث مرات فإن زاد عليها دعي له بالشفاء ويذكر بالحمد إن تركه والتشميت للمسلم برحمك الله أو ربك ويرد بيهديكم الله ويغفر الله لكم وابتداؤه وردة سنة عين إن تعين وإلا فكفاية
وتشميت الكافر بيهديك الله ونحوه لا بيرحمك الله تعالى ويندب رد التثاؤب ما استطاع فإن غلبه ستر فمه بيده أو غيرها ويندب أن يرحب بالقادم المسلم وأن يلبي دعاءه
أما الكافر فلا وأن يخبر أخاه بحبه له في الله وأن يدعو لمن أحسن إليه ولا بأس بقول الرجل الجليل في علمه أو صلاحه أو نحوه جعلني الله فداك أو فداك أبي وأمي
ودلائل ما ذكر من الأحاديث الصحيحة كثيرة مشهورة
ثم شرع في موانع الجهاد فقال ( ولا جهاد ) واجب إلا على مسلم أو مرتد كما قاله الزركشي بالغ عاقل ذكر مستطيع له حر ولو سكران واجدا هبة القتال فلا يجب على كافر ولو ذميا لأنه يبذل الجزية ليذب عنه لا ليدب عنا ولا ( على صبي ومجنون ) لعدم تكليفهما ولقوله تعالى { ليس على الضعفاء } الآية قيل هم الصبيان لضعف أبدانهم وقيل المجانين لضعف عقولهم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رد جماعة استصغرهم
وروى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم رد ابن عمر يوم أحد وأجازه في الخندق وكذا اتفق ل سعد بن حبتة بحاء مهملة ثم باء موحدة ثم مثناة فوقية الأنصاري ولما رآه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق يقاتل قتالا شديدا وهو حديث السن قال أسعد الله جدك اقترب مني فاقترب منه فمسح رأسه ودعا له بالبركة في ولده ونسله فكان عما لأربعين وخالا لأربعين وجدا لعشرين كذا ذكره ابن دحية وغيره ( و ) لا على خنثى ولا ( امرأة ) لضعفها ولقوله تعالى { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال } وإطلاق لفظ المؤمنين ينصرف للرجال دون النساء والخنثى مثلها وأحسن الحسن بن هانىء في قوله وإذا المطي بنا بلغن محمدا فظهورهن على الرجال حرام ( و ) لا على ( مريض ) يتعذر قتاله أو تعظم مشقته ولا على أعمى ( و ) لا ( ذي عرج بين ) ولو في رجل واحدة لقوله تعالى { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } فلا عبرة بصداع ووجع ضرس وضعف بصر إن كان يدرك شخص ويمكنه اتقاء السلاح ولا عرج يسير لا يمنع المشي والعدو والهرب ( و ) لا على ( أقطع ) أصابع الرجلين إن أمكنه المشي بغير عرج بين ( و ) لا على ( أشل ) يد أو معظم أصابعها لأن مقصود الجهاد البطش والنكاية وهو مفقود فيهما لأن كلا منهما لا يتمكن من الضرب ( و ) لا على ( عبد ) ولو مبعضا أو مكاتبا لقوله تعالى { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } ولا
____________________
(4/216)
يد بكمالها أو معظم أصابعها بخلاف فاقد الأقل أو فاقد الأنامل أو مال للعبد ولا نفس يملكها فلم يشمله الخطاب حتى لو أمره سيده لم يلزمه كما قاله الإمام لأنه ليس من أهل هذا الشأن وليس القتال من الاستخدام المستحق للسيد لأن الملك لا يقتضي التعرض للهلاك ( و ) لا على ( عادم أهبة قتال ) من نفقة وسلاح وكذا مركوب إن كان سفر قصر فإن كان دونه لزمه إن كان قادرا على المشي فاضل ذلك عن مؤنة من تلزمه مؤنته كما في الحج ولو مرض بعدما خرج أو فني زاده أو هلكت دابته فهو بالخيار بين أن يتصرف أو يمضي فإن حضر الوقعة جاز له الرجوع على الصحيح إذا لم يمكنه القتال فإن أمكنه الرمي بالحجارة فالأصح في زوائد الروضة الرمي بها على تناقض وقع له فيه ولو كان القتال على باب داره أو حوله سقط اعتبار المؤن كما ذكره القاضي أبو الطيب وغيره
تنبيه أشعر كلامه باشتراط ملكه الأهبة إلا أن يريد بالعدم عدم الملك والقدرة ولو بذل لعادم الأهبة ما يحتاج إليه فإن كان الباذل من بيت المال لزمه وإلا فلا
ثم أشار لضابط يعم ما سبق وغيره بقوله ( وكل عذر منع وجوب الحج ) كفقد زاد وراحلة ( منع الجهاد ) أي وجوبه ( إلا خوف طريق من كفار ) فلا يمنع وجوبه جزما لبناء الجهاد على مصادمة المخاوف ( وكذا ) خوف ( من لصوص المسلمين ) لا يمنع وجوبه ( على الصحيح ) لأن الخوف يحتمل في هذا السفر وقتال اللصوص أهم وأولى والثاني يمنع كالحج فإنه قد يأنف من قتال المسلمين
تنبيه محل الوجوب في الصورتين إذا كان له قوة تقاومهم وإلا فهو معذور
ولما فرغ من موانع الجهاد الحسية شرع في موانعه الشرعية فقال ( والدين الحال ) على موسر لمسلم أو ذمي ( يحرم ) بكسر الراء المشددة ( سفر جهاد و ) سفر ( غيره ) لأنه متعين عليه أداؤه والجهاد على الكفاية وفرض العين مقدم على فرض الكفاية وفي صحيح مسلم القتل ( في سبيل الله ) يكفر كل شيء إلا الدين
( إلا بإذن غريمه ) وهو رب الدين الجائز الإذن فله منعه من السفر لتوجه المطالبة به والحبس إن امتنع فإن أذن له لم يحرم
أما غير جائز الإذن كولي المحجور فلا يأذن لمدين المحجور في السفر وكالمديون وليه كما بحثه بعض المتأخرين لأنه المطالب ولو استناب الموسر من يقضي دينه من مال حاضر جاز له السفر بغير إذن غريمه بخلاف ما له الغائب فإنه قد لا يصل وأما المعسر فليس لغريمه منعه على الصحيح في أصل الروضة إذ لا مطالبة في الحال
تنبيه حيث جاهد بالإذن قال الماوردي و الروياني لا يتعرض للشهادة ولا يتقدم أمام الصفوف بل يقف في وسطها وحواشيها ليحفظ الدين بحفظ نفسه
( و ) الدين ( المؤجل لا ) يحرم السفر مطلقا فلا يمنعه رب الدين وإن قرب الأجل لأنه لا يتوجه عليه الطلب به إلا بعد حلوله وهو الآن مخاطب بفرض الكفاية وللمستحق الخروج معه إن شاء ليطالبه عند الحلول ( وقيل يمنع سفرا مخوفا ) كالجهاد وركوب البحر صيانة لحق الغريم ( ويحرم ) على رجل ( جهاد ) بسفر وغيره ( إلا بإذن أبويه إن كانا مسلمين ) لأن الجهاد فرض كفاية وبرهما فرض عين وفي الصحيحين أن رجلا استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد
فقال ألك والدان قال نعم قال ففيهما فجاهد وفي رواية ألك والدة قال نعم قال فانطلق إليها فأكرمها فإن الجنة تحت رجليها رواه الحاكم وقال صحيح
ولو كان الحي أحدهما لم يجز إلا بإذنه وجميع أصوله كذلك ولو وجد الأقرب منهم وأذن سواء كانوا أحرارا أم أرقاء ذكورا أم إناثا لأن
____________________
(4/217)
برهم متعين بخلاف الكافر منهم لا يجب استئذانه
وكذا المنافق كما نص عليه في الأم ولو كان الولد رقيقا اعتبر إذن سيده لا والديه كما قال الماوردي ويلزم المبعض استئذان الأبوين لما فيه من الحرية والسيد لما فيه من الرق ( لا سفر تعلم فرض عين ) حيث لم يجد من يعلمه أو توقع زيادة فراغ أو إرشاد فإنه جائز بغير إذنهم كحج تضيق عليه وكذا إن لم يتضيق على الصحيح ( وكذا ) سفر تعلم فرض ( كفاية ) فيجوز أيضا بغير إذنهم ( في الأصح ) كأن خرج طالبا لدرجة الإفتاء وفي الناحية من يستقل بذلك لأن الحجر على المكلف وحبسه بعيد والثاني لهما المنع كالجهاد وفرق الأول بأن الجهاد فيه خطر فإن لم يكن في الناحية مستقل بالإفتاء ولكن خرج جماعة فليس للأبوين المنع على المذهب لأنه لم يوجد في الحال من يقوم بالمقصود والخارجون قد لا يظفرون بالمقصود وإن لم يخرج معه أحد لم يحتج إلى إذن ولا منع لهما قطعا لأنه بالخروج يدفع الإثم عن نفسه كالفرض المتعين عليه وقيد الرافعي الخارج وحده بالرشيد وينبغي كما قال الأذرعي أن لا يكون أمرد جميلا يخشى عليه
قال الماوردي ولو وجب عليه نفقة أبويه وجب استئذانهما ولو كافرين إلا أن يستنيب من ينفق عليهما من ماله الحاضر وقضيته كما قال الزركشي أن يكون الفرع إذا وجبت نفقته كذلك إن كان الفرع أهلا للإذن وهذا يلغز به فيقال والد لا يسافر إلا بإذن ولده
قال البلقيني والقياس أنه لو أداه أي من ينفق عليه نفقة ذلك اليوم وسافر في بقيته كان كالمديون بدين مؤجل
تنبيه سكت المصنف عن حكم السفر المباح كالتجارة وحكمه إن كان قصيرا فلا منع منه بحال وإن كان طويلا فإن غلب الخوف فكالجهاد وإلا جاز على الصحيح بلا استئذان والوالد الكافر في هذه الأسفار كالمسلم ما عدا الجهاد كما مر
( فإن أذن ) لرجل ( أبواه والغريم ) في جهاد ( ثم رجعوا ) بعد خروجه وعلم بذلك ( وجب ) عليه ( الرجوع إن لم يحضر الصف ) لأن عدم الإذن عذر يمنع وجوب الجهاد فكذا طربانه كالعمى والمرض ولو أسلم أصله الكافر بعد خروجه ولم يأذن وعلم الفرع الحال فكالرجوع عن الإذن
ويستثنى من كلامه ما لو خاف على نفسه أو ماله أو خالف انكسار قلوب المسلمين برجوعه أو خرج مع الإمام بجعل كما قاله الماوردي تبعا للنص فلا يلزمه الرجوع بل لا يجوز في معظم ذلك وإن أمكنه الإقامة عند الخوف بموضع في طريقه إلى أن يرجع الجيش فيرجع معهم الرجوع لزمه ذلك وإن لم يمكنه الإقامة ولا الرجوع فله المضي مع الجيش لكن يتوقى مظان القتل كما نص عليه في الأم ( فإن ) حضر الصف و ( شرع في قتال ) بأن التقى الصفان ثم رجع من ذكر وعلم برجوعه ( حرم الانصراف في الأظهر ) وعبر في الروضة بالأصح لوجوب المصابرة لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا } ولأن الانصراف يشوش أمر القتال ويكسر القلوب والثاني لا يحرم بل يجب الانصراف رعاية لحق الآدمي الذي بناؤه على الضيق
وعلى الأول لا يقف موقف طلب الشهادة بل في آخر الصفوف يحرس كما قاله القاضي أبو الطيب وحكي عن نص الشافعي رضي الله تعالى عنه
تنبيه لو قال فإن حضر الصف كما قدرته كان أولى لأن حرمة الانصراف لا تتوقف على القتال حقيقة بل التقاء الصفين كاف في ذلك كما مر
فروع لو خرج بلا إذن وشرع في القتال حرم الانصراف أيضا لما مر
ورجوع العبد إن خرج بلا إذن قبل الشروع في القتال واجب وبعده مندوب وإنما لم يجب عليه الثبات بعد لأنه ليس من أهل الجهاد ولو مرض من خرج للجهاد أو عرج عرجا بينا أو تلف زاده أو دابته فله الانصراف ولو من الوقعة إن لم يورث فشلا في المسلمين وإلا حرم عليه انصرافه منها ولا ينوي المنصرف من الوقعة لمرض ونحوه فرارا فإن انصرف ثم زال العذر قبل مفارقته دار الحرب لا بعده لزمه الرجوع للجهاد
ومن شرع في صلاة جنازة لزمه الإتمام لأنها في حكم الخصلة الواحدة بخلاف
____________________
(4/218)
من شرع في تعلم علم لا يلزمه إتمامه وإن أنس من نفسه الرشد فيه لأن الشروع لا يغير حكم المشروع فيه غالبا
قال الأذرعي والمختار لزوم اتمامه لأنه تلبس بفرض ولو شرع لكل شارع في علم الشريعة الإعراض عنه لأدى ذلك إلى إضاعة العلم وأجاب السبكي عن القياس على الجهاد بأن المشتغل بالعلم له باعث نفسي عمن يحثه على دوام الاشتغال به لمحبة ثمرته والمقاتل ميلة إلى الحياة يباعده عن ذلك لكراهة الموت وشدة سكراته فوكل المشتغل بالعلم إلى محبته لأنه منهوم لا يشبع وكلف المقاتل بالثبات عند الممات الذي منه يفزع ولذلك قال صلى الله عليه وسلم مداد العلماء أفضل من دم الشهداء
ثم شرع المصنف في الحال ( الثاني ) من حالي الكفار وهو ما تضمنه قوله ( يدخلون بلدة لنا ) أو ينزلون على جزائر أو جبل في دار الإسلام ولو بعيدا عن البلد ( فيلزم أهلها الدفع بالممكن ) منهم ويكون الجهاد حينئذ فرض عين وقيل كفاية
واعتمده البلقيني وقال إن نص الشافعي يشهد له ( فإن أمكن ) أهلها ( تأهب ) استعدادا ( لقتال وجب ) على كل منهم ( الممكن ) أي الدفع للكفار بحسب القدرة ( حتى على فقير ) بما يقدر عليه ( وولد ومدين ) وهو من عليه دين ( وعبد بلا إذن ) من أبوين ورب دين ومن سيد وينحل الحجز عنهم في هذه الحالة لأن دخولهم دار الإسلام خطب عظيم لا سبيل إلى إهماله فلا بد من الجد في دفعه بما يمكن وفي معنى دخولهم البلدة ما لو أطلوا عليها
والنساء كالعبيد إن كان فيهن دفاع وإلا فلا يحضرن
قال الرافعي ويجوز أن لا تحتاج المرأة إلى إذن الزوج ( وقيل إن حصلت مقاومة بأحرار اشترط ) في عبد ( أذن سيده ) لأن في الأحرار غنية عنهم واعتمده البلقيني وقال هو مقتضى نص الشافعي
والأصح في الشرح والروضة الأول لتقوى القلوب وتعظم الشوكة وتشتد النكاية في الكفار انتقاما من هجومهم ( وإلا ) بأن لم يمكن أهل البلدة التأهب لقتال بأن هجم الكفار عليهم بغتة ( فمن قصد ) من المكلفين ولو عبدا أو امرأة أو مريضا أو نحوه دفع عن نفسه الكفار ( بالممكن ) له ( إن علم أنه إن أخذ قتل ) بضم أولهما ( وإن جوز ) المكلف المذكور ( الأسر ) والقتل ( فله ) أن يدفع عن نفسه و ( أن يستسلم ) لقتل الكفار إن كان رجلا لأن المكافحة حينئذ استعجال للقتل والأسر يحتمل الخلاص هذا إن علم أنه إن امتنع من الاستسلام قتل وإلا امتنع عليه الاستسلام
أم المرأة فإن علمت امتداد الأيدي إليها بالفاحشة فعليها الدفع وإن قتلت لأن الفاحشة لا تباح عند خوف القتل وإن لم تمتد الأيدي إليها بالفاحشة الآن ولكن توقعتها بعد السبي احتمل جواز استسلامها ثم تدفع إذا أريد منها
ذكر ذلك في الروضة كأصلها ثم ما مر حكم أهل بلدة دخلها الكفار وأشار لغيرهم بقوله ( ومن هو دون مسافة قصر من البلدة ) التي دخلها الكفار حكمه ( كأهلها ) فيجب عليهم المضي إليهم إن وجدوا زادا ولا يعتبر المركوب لقادر على المشي على الأصح هذا إن لم يكن في أهل البلد التي دخلوها كفاية وكذا إن كان في الأصح لأنهم كالحاضرين معهم وليس لأهل البلدة ثم الأقربين فالأقربين إذا قدروا على القتال أن يلبثوا إلى لحوق الآخرين ( ومن ) أي والذين هم ( على المسافة ) للقصر فأكثر ( يلزمهم ) في الأصح إن وجدوا زادا ومركوبا ( الموافقة بقدر الكفاية إن لم يكف أهلها ومن يليهم ) دفعا عنهم وإنقاذا لهم
تنبيه أشار بقوله بقدر الكفاية إلى أنه لا يجب على الجميع الخروج بل إذا صار إليهم قوم فيهم كفاية سقط الحرج عن الباقين
( قيل وإن كفوا ) أي أهل البلد ومن يليهم يلزم من كان على مسافة القصر موافقتهم مساعدة
____________________
(4/219)
لهم ودفع بأن هذا يؤدي إلى الإيجاب على جميع الأمة وفي ذلك حرج من غير حاجة
تنبيه قائل هذا الوجه إنما يوجب على الأقربين فالأقربين بلا ضبط حتى يصل الخبر بأنهم قد كفوا فكان ينبغي للمصنف أن يقول ومن على مسافة
قيل يلزمهم الأقرب فالأقرب والأصح إن كفى أهلها لم يلزمهم ( ولو أسروا ) أي الكفار ( مسلما فالأصح وجوب النهوض إليهم ) وإن لم يدخلوا دارنا ( لخلاصه إن توقعناه ) بأن يكونوا قريبين كما ننهض إليهم عند دخولهم دارنا بل أولى لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار
والثاني المنع لأن إزعاج الجنود لخلاص أسير بعيد أما إذا لم يمكن تخليصه بأن لم يرجوه فلا يتعين جهادهم بل ينتظر للضرورة وذكر في التنبيه وغيره فك من أسر من الذميين
تتمة لا تتسارع الطوائف والآحاد منا إلى دفع ملك منهم عظيم شوكته دخل أطراف بلادنا لما فيه من عظم الخطر
فصل فيما يكره من الغزو ومن يحرم أو يكره قتله من الكفار وما يجوز قتالهم به ( يكره غزو بغير إذن الإمام أو نائبه ) تأدبا معه ولأنه أعرف من غيره بمصالح الجهاد وإنما لم يحرم لأنه ليس فيه أكثر من التغرير بالنفوس وهو جائز في الجهاد وينبغي كما قال الأذرعي تخصيص ذلك بالمتطوعة أما المرتزقة فلا يجوز لهم ذلك لأنهم مرصدون لمهمات تعرض للإسلام يصرفهم فيها الإمام فهم بمنزلة الأجراء
تنبيه استثنى البلقيني من الكراهة صورا أحدها أن يفوته المقصود بذهابه للاستئذان
ثانيها إذا عطل الإمام الغزو وأقبل هو وجنوده على أمور الدنيا كما يشاهد
ثالثها إذا غلب على ظنه أنه لو استأذنه ( لم يأذن له ) ويسن للإمام أو نائبه ( إذا بعث سرية ) لبلاد الكفار وهي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة سميت بذلك لأنها تسري في الليل وقيل لأنها خلاصة العسكر وخياره
روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيش أربعة الاف ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة رواه الترمذي وأبو داود وزاد أبو يعلى الموصلي إذا صبروا وصدقوا ( أن يؤمر عليهم ) أميرا مطاعا يرجعون إليه في أمورهم ( ويأخذ ) عليهم ( البيعة ) وهي بفتح الموحدة الحلف بالله تعالى ( بالثبات ) على الجهاد وعدم الفرار اقتداء به صلى الله عليه وسلم كما هو مشهور في الصحيح وأن يبعث الطلائع ويتجسس أخبار الكفار
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأم ولا ينبغي أن يولي الإمام الغزو إلا ثقة في دينه شجاعا في بدنه حسن الإنابة عارفا بالحرب يثبت عند الهرب ويتقدم عند الطلب وأن يكون ذا رأي في السياسة والتدبير ليسوس الجيش على اتفاق الكلمة في الطاعة وتدبير الحرب في انتهاز الفرصة وأن يكون من أهل الاجتهاد في أحكام الجهاد
وأما في الأحكام الدينية ففيه وجهان والظاهر عدم اشتراطه ويستحب أن يخرج بهم يوم الخميس أول النهار لأنه صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يخرج يوم الخميس وأن يبعث الطلائع ويتجسس أخبار الكفار ويعقد الرايات ويجعل لكل فريق راية وشعارا
روى الحاكم عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنكم ستلقون عدوكم فليكن شعاركم حم لا ينصرون قال ابن عباس حم اسم من أسماء الله تعالى فكأنه حلف بالله لا ينصرون وأن يحرصهم على القتال
وأن يدخل دار الحرب بنفسه
لأنه أحوط وأرهب وأن يدعو عند التقاء الصفين قال صلى الله عليه وسلم ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء عند حضور الصلاة وعند التقاء الصف في سبيل الله تعالى ويستنصر بالضعفاء قال صلى الله عليه وسلم هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم
ويكبر بلا إسراف في رفع
____________________
(4/220)
الصوت ويجب عرض الإسلام أولا إن علم أن الدعوى لم تبلغهم وإلا استحب وجاز بياتهم
قال الحليمي وينبغي أن تعرف الغزاة الآداب التي يحتاجون إليها وما يحل منها وما يحرم والفرق بين الراجل والفارس ومن يسهم ومن لا يسهم له
( وله الاستعانة ) على الكفار ( بكفار ) من أهل الذمة وغيرهم وإنما تجوز الاستعانة بهم بشرطين أحدهما ما ذكره بقوله ( تؤمن خيانتهم )
قال في الروضة وأن يعرف حسن رأيهم في المسلمين
و الرافعي جعل معرفة حسن رأيهم مع أمن الخيانة شرطا واحدا
وثانيهما ما ذكره بقوله ( ويكونون بحيث لو انضمت فرقتا الكفر قاومناهم ) أي أنهم إذا انضموا إلى الفرقة الأخرى أمكن دفعهم فإن زادوا بالاجتماع على الضعف لم تجز الاستعانة بهم وشرط العراقيون قلة المسلمين
قال الرافعي وهذا الشرط وما قبله أي وهو مقاومة الفريقين كالمتنافيين لأنهم إذا قلوا حتى احتاجوا لمقاومة فرقة إلى الاستعانة بالأخرى كيف يقدرون على مقاومتهما معا
قال المصنف ولا منافاة لأن المراد أن يكون المستعان بهم فرقة يسيرة لا يكثر العدد بهم كثرة ظاهرة
قال البلقيني وفيه لين ثم أجاب بأن الكفار إذا كانوا مائتين مثلا وكان المسلمون مائة وخمسين ففيهم قلة بالنسبة لاستواء العددين فإذا استعانوا بخمسين كافرا فقد استوى العددان ولو انحاز هؤلاء الخمسون إلى العدو فصاروا مائتين وخمسين أمكن المسلمين مقاومتهم لعدم زيادتهم على الضعف
قال وأيضا ففي كتب جمع من العراقيين اعتبار الحاجة من غير ذكر القلة والحاجة قد يكون للخدمة فلا يتنافى الشرطان انتهى
وشرط الماوردي شرطا آخر وهو أن يخالفوا معتقد العدو كاليهود مع النصارى وأقره في زيادة الروضة
تنبيه يفعل الإمام بالمستعان بهم ما يراه مصلحة من أفرادهم بجانب الجيش أو اختلاطهم به بأن يفرقهم بين المسلمين والأولى أن يستأجرهم
لأن ذلك أحقر لهم ويرد المخذل وهو من يخوف الناس كأن يقول عدونا كثير وجنودنا ضعيفة ولا طاقة لنا بهم ويرد المرجف وهو من يكثر الأراجيف كأن يقول قتلت سرية كذا ولحق مدد للعدو من جهة كذا أو لهم كمين في موضع كذا ويرد أيضا الخائن وهو من يتجسس لهم ويطلعهم على العورات بالمكاتبة والمراسلة وإنما كان صلى الله عليه وسلم يخرج عبد الله بن أبي سلول في الغزوات وهو رأس المنافقين مع ظهور التخذيل وغيره منه لأن الصحابة كانوا أقوياء في الدين لا يبالون بالتخذيل ونحوه أو أنه صلى الله عليه وسلم كان يطلع بالوحي على أفعاله فلا يتضرر بكيده ويمنع هذه الثلاثة من أخذ شيء من الغنيمة حتى سلب قتيلهم
( و ) الاستعانة ( بعبيد بإذن السادة ) لأنه ينتفع بهم في القتال واستثنى البلقيني العبد الموصى بمنفعته لبيت المال والمكاتب كتابة صحيحة فلا يعتبر إذن سيدهما
قال شيخنا وفيما قاله في المكاتب وقفة اه
والظاهر أنه لا بد من الإذن ( و ) له أيضا الاستعانة بأشخاص ( مراهقين أقوياء ) في قتال أو غيره كسقي ماء ومداواة الجرحى لما مر
ويصحب أيضا النساء لمثل ذلك روى مسلم عن أم عطية رضي الله عنها قالت غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم وأصنع لهم الطعام وأداوي لهم الجرحى وأقوم على المرضى
تنبيه الخناثى والنساء إن كانوا أحرارا كالمراهقين في استئذان الأولياء أو أرقاء فكالعبيد في استئذان السادات هذا كله إذا كانوا مسلمين
أما إحضار نساء أهل الذمة وصبيانهم ففيه قولان في الشرح والروضة بلا ترجيح ورجح البلقيني الجواز وقال إنه مجزوم به في الأم وظاهر كلامه اعتبار الإذن في العبيد دون المراهقين ويشبه كما قال ابن شهبة اعتبار إذن الأولياء وهو ظاهر لا سيما إذا كان أصلا لأنا إذا اعتبرنا إذنه في البالغ ففي المراهق أولى
فإن قيل في الاستعانة بالمراهقين تعزير بأنفسهم ولا أثر لرضاهم ورضا الأولياء بذلك لغرض الشهادة كما لا أثر لذلك في إتلاف أموالهم
أجيب بأن في الاستعانة بهم أثرا ظاهرا وهو تمرنهم على الجهاد
( وله ) أي الإمام ( بذل الأهبة والسلاح من بيت المال ومن ماله ) إعانة للغازي وللإمام ثواب إعانته لخبر الصحيحين من جهر غازيا فقد غزا
____________________
(4/221)
وأما ثواب الجهاد فلمباشره وللآحاد بذل ذلك من أموالهم لهم ثواب إعانتهم وثواب الجهاد لمباشره كما مر ومحله في المسلم
أما الكافر فلا بل يرجع فيه إلى رأي الإمام لاحتياجه إلى اجتهاد لأن الكافر قد يخون
تنبيه ما ذكر محله إذا بذل ذلك لا على أن يكون الغزو للباذل وإلا لم يجز كما صرح به الروياني وغيره ( ولا يصح استئجار مسلم لجهاد ) لأنه يقع عنه وما يأخذه المرتزقة من الفيء والمتطوعة من الصدقات ليس بأجرة لهم بل هو مرتبهم وجهادهم وقع منهم ولو أكره الإمام جماعة على الغزو لم يستحقوا أجرة لوقوع غزوهم لهم
قال البغوي هذا إن تعين عليهم وإلا فلهم الأجرة من الخروج إلى حضور الوقعة
قال الرافعي وهو حسن فليحمل إطلاقهم عليه
تنبيه قد ذكر المصنف هذه المسألة في باب الإجارة وذكر ههنا توطئا لقوله ( ويصح استئجار ذمي ) ومعاهد ومستأمن ( للإمام ) حيث تجوز الاستعانة بهم ولو بأكثر من سهم لراجل أو فارس لأنه لا يقع عنه
فأشبه استئجار الدواب واغتفرت الجهالة للضرورة فإن المقصود القتال ولأن معاقدة الكفار يحتمل فيها ما لا يحتمل في معاقدة المسلمين ( قيل ولغيره ) من الآحاد كالأذان والأصح المنع لأنه من المصالح العامة لا تتولاها الآحاد والأذان الأجير فيه مسلم وهذا كافر لا يؤتمن
تنبيه قضية كلامه صحة استئجار الذمي ونحوه بأي مال كان من نفسه أو من أموال بيت المال وليس مرادا بل إنما يعطى من سهم المصالح سواء كان مسمى أو أجرة مثل ولو من غير غنيمة قتاله لا من أصل الغنيمة ولا من أربعة أخماسها لأنه يحضر للمصلحة لا أنه من أهل الجهاد فإن أسلم انفسخت الإجارة وإن أكرهه الإمام عليه أو استأجره بمجهول كأن قال أرضيك أو أعطيك ما تستعين به وقاتل وجب له أجرة المثل بخلاف ما إذا لم يقاتل كنظائره وإن قهر الكفار على الخروج إلى الجهاد فهربوا قبل وقوعهم في الصف أو خلي سبيلهم قبله فلهم أجرة الذهاب فقط وإن تعطلت منافعهم في الرجوع لأنهم ينصرفون حينئذ كيف شاؤوا ولا حبس ولا استئجار وإن رضوا بالخروج ولم يعدهم بشيء رضخ لهم من أربعة أخماس الغنيمة كما مر في بابها وتفارق الأجرة بأنه إذا حضر طامعا بلا مسمى فقد شبه بالمجاهدين فجعل في القسمة معهم بخلاف ما إذا حضر بأجرة فإنها عوض محض ونظر مقصور عليها فجعلت فيما يختص بيد الإمام وتصرفه ولا يزاحمه فيه الغانمون أما إذا خرجوا بلا إذن من الإمام فلا شيء لهم لأنهم ليسوا من أهل الذب عن الدين بل متهمون بالخيانة والميل إلى أهل دينهم سواء نهاهم عن الخروج أم لا بل له تعزيرهم فيما نهاهم عنه إن رآه
( ويكره لغاز قتل قريب ) له كافر لأن الشفقة قد تحمل على الندامة فيكون ذلك سببا لضعفه عن الجهاد ولأن فيه قطع الرحم المأمور بصلتها وهي كراهة تنزيه وإن اقتضت العلة الثانية أنها كراهة تحريم ( و ) قتل قريب ( محرم ) له ( أشد ) كراهة لأنه صلى الله عليه وسلم منع أبا بكر يوم أحد من قتل ولده عبد الرحمن ومنع أبا حذيفة من قتل أبيه يوم بدر
( قلت إلا أن يسمعه ) أو يعلم بطريق يجوز له اعتماده أنه ( يسب الله ) تعالى ( أو رسوله صلى الله عليه وسلم ) بأن يذكره بسوء فلا كراهة حينئذ ( والله أعلم ) بل ينبغي الاستحباب تقديما لحق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } وفي الصحيحين والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده زاد مسلم والناس أجمعين
وكذا لا كراهة إذا قصد هو قتله فقتله دفعا عن نفسه ( ويحرم ) عليه ( قتل صبي ومجنون ) ومن به رق ( وامرأة وخنثى مشكل ) للنهي عن قتل الصبيان والنساء في الصحيحين وألحق المجنون بالصبي والخنثى بالمرأة لاحتمال أنوثته
تنبيه يستثنى من ذلك مسائل الأول إذا لم يجد المضطر سواهم فله قتلهم وأكلهم على الأصح في زيادة الروضة
____________________
(4/222)
من كتاب الأطعمة
الثانية إذا قاتلوا يجوز قتلهم وقد استثناها في المحرر
الثالثة حال الضرورة عند تترس الكفار بهم كما سيأتي
الرابعة إذا كانت النساء من قوم ليس لهم كتاب كالدهرية وعبدة الأوثان وامتنعن من الإسلام
قال الماوردي فيقتلن عند الشافعي رضي الله تعالى عنه
الخامسة إذا سب الخنثى أو المرأة الإسلام أو المسلمين لظهور الفساد ويقتل مراهق نبت الشعر الخشن على عانته لأن إنباته دليل بلوغه كما مر في الحجر لا إن ادعى استعجاله بدواء وحلف أنه استعجله بذلك فلا يقتل بناء على أن الإنبات ليس بلوغا بل دليل وحلفه على ذلك واجب وإن تضمن حلف من يدعي الصبا لظهور أمارة البلوغ فلا يترك بمجرد دعواه
( ويحل قتل راهب وأجير ) ومحترف ( وشيخ ) ولو ضعيفا ( وأعمى وزمن ) ومقطوع اليد والرجل وإن لم يحضروا الصف و ( لا قتال فيهم ولا رأي في الأظهر ) لعموم قوله تعالى { فاقتلوا المشركين } ولأنهم أحرار مكلفون فجاز قتلهم كغيرهم والثاني المنع لأنهم لا يقاتلون فأشبهوا النساء والصبيان
تنبيه محل الخلاف إذا لم يقاتلوا فإن قاتلوا قتلوا قطعا والمراد بالراهب عابد النصارى فيشمل الشيخ والشاب والذكر والأنثى واحترز بقوله لا رأي فيهم عما إذا كان فيهم رأي فإنهم يقتلون قطعا وقوله لا قتال فيهم الظاهر أنه قيد في الشيخ ومن بعده فإن الراهب والأجير قد يكون فيهم القتال ويجوز قتل السوقة لا الرسل فلا يجوز قتلهم لجريان السنة بذلك وإذا جاز قتل المذكورين ( فيسترقون وتسبى نساؤهم ) وصبيانهم ومجانينهم ( و ) تغنم ( أموالهم ) وإذا منعنا قتلهم رقوا بنفس الأسر
تنبيه اقتصاره على سبي النساء يوهم أن صبيانهم ومجانينهم لا تسبى وهو وجه والأصح خلافه كما تقرر
( ويجوز حصار الكفار في البلاد ) والحصون ( والقلاع وإرسال الماء عليهم ورميهم بنار ومنجنيق ) وما في معنى ذلك من هدم بيوتهم وقطع الماء عنهم وإلقاء حيات أو عقارب عليهم ولو كان فيهم نساء وصبيان لقوله تعالى { وخذوهم واحصروهم } وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف وروى البيهقي أنه نصب عليهم المنجنيق وقيس به ما في معناه مما يعم الإهلاك به
تنبيه مقتضى كلامه جواز ذلك وإن كان فيهم النساء والصبيان واحتمل أن يصيبهم ذلك وهو كذلك لأن النهي عن قتلهم محمول على ما بعد السبي لأنهم غنيمة ومحل جواز ذلك في غير مكة وحرمها
فلو تحصن بها أو بموضع من حرمها والعياذ بالله تعالى طائفة من الحربيين لم يجز قتالهم بما يعلم كما نقله في كتاب الحج من المجموع عن نصه في الأم في سير الواقدي وظاهر كلامهم أنه يجوز إتلافهم بما ذكر وإن قدرنا عليهم بدونه
قال الزركشي وبه صرح البندنيجي نعم يكره حينئذ إذ لا نأمن من أن نصيب مسلما من الجيش نظنه كافرا قاله البلقيني وقال إنه أشار إليه في الأم
( و ) يجوز ( تبييتهم في غفلة ) وهو الإغارة عليهم ليلا وهم غافلون لما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وسئل عن المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم فقال هم منهم
تنبيه استثنى بعضهم من إطلاق المصنف من لم تبلغه الدعوة
قال فلا يجوز قتالهم بذلك حتى يدعوا إلى الإسلام فإن قتل منهم أحد ضمن بالدية والكفارة نص عليه الشافعي رحمه الله والأصحاب ولا حاجة إلى استثنائه لأن هذا شرط لأصل القتال
( فإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر ) أو نحوه ( جاز ذلك ) أي الرمي بما ذكر وغيره ( على المذهب ) لئلا يتعطل الجهاد لحبس مسلم عندهم وقد لا يصيب المسلم وإن أصيب رزق الشهادة
تنبيه تعبيره بالجواز لا يقتضي الكراهة سواء اضطروا إلى ذلك أم لا وملخص ما في الروضة ثلاثة طرق المذهب إن لم يكن ضرورة كره تحرزا من إهلاك المسلم ولا يحرم على الأظهر وإن كان ضرورة كخوف ضررهم
____________________
(4/223)
أو لم يحصل فتح القلعة إلا به جاز قطعا وكالمسلم الطائفة من المسلمين كما قاله الرافعي وقضيته عدم الجواز إذا كان في المسلمين كثرة وهو كذلك
( ولو التحم حرب فتترسوا بنساء ) وخناثى ( وصبيان ) ومجانين منهم ( جاز ) حينئذ ( رميهم ) إذا دعت الضرورة إليه ونتوقى من ذكر لئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى منع الجهاد وطريقا إلى الظفر بالمسلمين لأنا إن كففنا عنهم لأجل التترس بمن ذكر لا يكفون عناقا لاحتياط لنا أولى من الاحتياط لمن ذكر ( وإن دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع ضرورة إلى رميهم فالأظهر تركهم ) وجوبا لئلا يؤدي إلى قتلهم من غير ضرورة وقد نهينا عن قتلهم وهذا ما رجحه في المحرر
والثاني هو المعتمد كما صححه في زوائد الروضة جواز رميهم كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة وإن كان يصيبهم ولئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى تعطيل الجهاد أو حيلة إلى استبقاء القلاع لهم وفي ذلك فساد عظيم
واحترز المصنف بقوله دفعوا بهم عن أنفسهم عما إذا فعلوا ذلك مكرا وخديعة لعلمهم بأن شرعنا يمنع من قتل نسائهم وذراريهم فلا يوجب ذلك ترك حصارهم ولا الامتناع من رميهم وإن أفضى إلى قتل من ذكر قطعا قاله الماوردي
قال في البحر وشرط جواز الرمي أن يقصد بذلك التوصل إلى رجالهم
( وإن تترسوا بمسلمين ) ولو واحدا أو ذميين كذلك ( فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم ) وجوبا صيانة للمسلمين وأهل الذمة وفارق النساء والصبيان على المعتمد بأن المسلم والذمي محقونا الدم لحرمة الدين والعهد فلم يجز رميهم بلا ضرورة والنساء والصبيان حقنوا لحق الغانمين فجاز رميهم بلا ضرورة ( وإلا ) بأن دعت ضرورة إلى رميهم بأن تترسوا بهم حال التحام القتال بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا وكثرت نكايتهم ( جاز رميهم ) حينئذ ( في الأصح ) المنصوص ويقصد بذلك قتال المشركين ونتوقى في المسلمين وأهل الذمة بحسب الإمكان لأن مفسدة الإعراض أعظم من مفسدة الإقدام ويحتمل هلاك طائفة للدفع عن بيضة الإسلام ومراعاة الأمور الكلية
والثاني المنع إذا لم ينأت رمي الكفار إلا برمي مسلم أو ذمي وكالذمي المستأمن
تنبيه إذا رمى شخص إليهم فأصاب مسلما لزمته الكفارة لأنه قتل معصوما وكذا الدية إن علمه القاتل مسلما أو كان يمكنه توقيه والرمي إلى غيره ولا قصاص عليهم لأنه مع تجويز الرمي لا يجتمعان وحيث تجب في الحر دية تجب في الرقيق قيمته ولو تترس كافر بمال مسلم أو ركب مركوبه فرماه مسلم فأتلفه ضمنه إلا إن اضطر بأن لم يمكنه في الالتحام الدفع إلا بإصابته في أحد وجهين يظهر ترجيحه وإن قطع المتولي بأنه يضمنه كما لو أتلف مال غيره عند الضرورة ولو تترسوا بمسلمين في نحو قلعة عند محاصرتها فلا نرمي الترس لأنا في غنية عن رميه
( ويحرم ) على من لزمه الجهاد عند التقاء صف المسلمين والكفار ( الانصراف عن الصف ) ولو غلب على ظنه أنه ثبت قتل لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } وفي الصحيحين اجتنبوا السبع الموبقات وعد منها الفرار يوم الزحف وخرج بمن لزمه الجهاد من لم يلزمه كمريض وامرأة وبالصف ما لو لقي مسلم مشركين فله الانصراف وإن طلباه وكذا إن طلبهما فقط فله الانصراف بعد ذلك كما في الروضة وأصلها وإن قال البلقيني إنه الأظهر ومقتضى نص المختصر أنه ليس له الانصراف هذا ( إذا لم يزد عدد الكفار على مثلينا ) بأن كانوا مثلينا أو أقل قال تعالى { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } وهو خبر بمعنى الأمر أي لصبر مائة لمائتين وعليه حمل لقوله تعالى { إذا لقيتم فئة فاثبتوا } إذ لو كان خبرا على ظاهره لم يقع بخلاف المخبر عنه لأن الخلف في أخبار الله تعالى محال والمعنى في وجوب المصابرة على الضعف أن المسلم على إحدى الحسنيين إما أن يقتل فيدخل الجنة أو يسلم فيفوز بالأجر والغنيمة والكافر يقاتل على الفوز بالدنيا لا منصرفا عنه { متحرفا لقتال } وأصل التحريف الزوال عن
____________________
(4/224)
جهة الإستواء والمراد به هنا الانتقال من مضيق إلى متسع يمكن فيه القتال أو يتحول عن مقابلة الشمس أو الريح الذي يسف التراب على وجهه إلى موضع واسع قال الماوردي وكذا لو كان في موضع معطش فانتقل إلى موضع فيه ماء ( أو متحيزا إلى فئة ) أي طائفة قريبة تليه من المسلمين ( يستنجد بها ) للقتال ينضم إليها ويرجع معها محاربا فيجوز انصرافه لقوله تعالى { إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة } والتحيز أصله الحصول في حيز وهو الناحية والمكان الذي يحوزه والمراد به هنا الذهاب بنية الانضمام إلى طائفة من المسلمين ليرجع معهم محاربا ولا يلزمه العود ليقاتل مع الفئة المتحيز إليها على الأصح لأن عزمه العود لذلك رخص له الانصراف فلا حجر عليه بعد ذلك
والجهاد لا يجب قضاؤه لأنه لا يجب بالنذر الصريح كما لا تجب به الصلاة على الميت ففي العزم أولى ( ويجوز ) التحيز ( إلى فئة بعيدة في الأصح ) المنصوص لإطلاق الآية ولقول عمر رضي الله عنه أنا فئة لكل مسلم وكان في المدينة وجنوده بالشام والعراق ولأن عزمه على العود إلى القتال لا يختلف بالقرب والبعد
والثاني يشترط قربها ليتصور الاستنجاد بهم في هذا القتال
تنبيه من عجز بمرض أو نحوه كغلبة عقل بلا إثم أو لم يبق معه سلاح جاز له الانصراف بكل حال وكذا إذا حضر بغير إذن سيده بل يسن له ذلك ولو ذهب سلاحه وأمكن الرمي بالحجارة لم ينصرف عن الصف كما في زائد الروضة هنا وإن كان في أصل الروضة في الباب الأول صحح الانصراف وإن ذهب فرسه وهو لا يقدر على القتال راجلا جاز له الانصراف ويندب لمن فر لعجز أو غيره مما ذكر قصد التحيز أو التحرف ليخرج عن صورة الفرار المحرم وإذا عصى بالفرار هل يشترط في توبته أن يعود إلى القتال أو يكفيه أنه متى عاد لا ينهزم إلا كما أمر الله تعالى فيه وجهان في الحاوي والظاهر الثاني
( ولا يشارك متحيز إلى ) فئة ( بعيدة الجيش فيما غنم بعد مفارقته ) لأن النصرة تفوت ببعده
أما ما غنموه قبل مفارقته فيشارك فيه كما نص عليه ( ويشارك متحيز إلى ) فئة ( قريبة ) الجيش فيما غنم بعد مفارقته ( في الأصح ) لبقاء نصرته فهو كالسراية القريبة تشارك الجيش فيما غنمه
والثاني لا يشاركه لمفارقته ويشارك فيما غنم قبل مفارقته قطعا
تنبيه سكت المصنف عن بيان القريبة والمراد بها أن تكون بحيث يدرك غوثها المتحيز عنها عند الاستغاثة والمتحرف يشارك الجيش فيما غنم قبل مفارقته ولا يشاركه فيما غنم بعدها نص عليه أي إذا بعد ومن أطلق أنه يشاركه محمول على من يبعد كما فصل في الفئة
فرع لو ادعى الهارب التحرف صدق بيمينه إن عاد قبل انقضاء القتال ويستحق من الجميع إن حلف وإلا ففي المحوز بعد عوده فقط قاله البغوي ورجحه في الروضة في باب قسم الغنيمة والجاسوس إذا بعثه الإمام لينظر عدد المشركين وينقل أخبارهم إلينا يشارك الجيش فيما غنم في غيبته لأنه كان في مصلحتنا وخاطر بنفسه أكثر من الثبات في الصف
( فإن زاد ) عدد الكفار ( على مثلين ) منا ( جاز الانصراف ) عن الصف لقوله تعالى { الآن خفف الله عنكم } الآية ( إلا أنه يحرم انصراف مائة بطل ) من المسلمين ( عن مائتين وواحد ضعفاء ) من الكفار ( في الأصح ) اعتبارا بالمعنى لأنهم يقاومونهم لو ثبتوا وإنما يراعى العدد عند تقارب الأوصاف والثاني لا تحرم اعتبارا بالعدد
تنبيه الخلاف لا يختص بهذه الصورة والضابط أن يكون من المسلمين مع القوة ما يغلب الظن أنهم يقاومون الزيادة على مثليهم ويرجون الظفر بهم كما قاله البلقيني ومأخذ الخلاف أنه هل يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه أو لا والأصح الجواز كما خصص عموم { أو لامستم النساء } بغير المحارم والمعنى الذي شرع القتال لأجله
____________________
(4/225)
وهو الغلبة دائر مع القوة والضعف لا مع العدد فيتعلق الحكم به والخلاف جار في عكسه وهو فرار مائة من ضعفائنا عن مائة وتسعين من أبطالهم
ووقع في الروضة من ضعفائهم ونسب لسبق القلم
قال الماوردي و الروياني تجوز الهزيمة من أكثر من المثلين وإن كان المسلمون فرسانا والكفار رجالة ويحرم من المثلين وإن كانوا بالعكس
قال في زيادة الروضة وفيه نظر ويمكن تخريجه على الوجهين السابقين أي الضعفاء مع الأبطال في أن الاعتبار بالمعنى أو بالعدد وهذا هو الظاهر وإن قال البلقيني ما صححه من إدارة الحال على المعنى مخالف لظواهر نصوص الشافعي التي احتج عليها بظاهر القرآن
فرع إذا زادت الكفار على الضعف ورجى الظفر بأن ظنناه إن ثبتنا استحب لنا الثبات وإن غلب على ظننا الهلاك بلا نكاية وجب علينا الفرار لقوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } أو بنكاية فيهم استحب لنا الفرار
( وتجوز ) بلا ندب وكره ( المبارزة ) وهي ظهور اثنين من الصفين للقتال من البروز وهو الظهور فهي مباحة لنا لأن عبد الله بن رواحة و ابن عفراء رضي الله تعالى عنهم بارزوا يوم بدر ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فإن طلبها كافر استحب الخروج إليه ) أي لمبارزته لما في الترك من الضعف للمسلمين والتقوية للكافرين ( وإنما تحسن )
أي تندب المبارزة بشرطين أحدهما كونها ( ممن ) أي شخص ( جرب نفسه ) بأن عرف منها القوة والجراءة وإلا فتكره له ابتداء وإجابة ( و ) للشرط الثاني كونها ( بإذن الإمام ) أو أمير الجيش لأن للإمام نظرا في تعيين الأبطال فإن بارز بغير إذنه جاز مع الكراهة
قال الماوردي ويعتبر في الاستحباب أن لا يدخل بقتله ضرر علينا بهزيمة تحصل لنا لكونه كبيرنا
قال البلقيني وغيره وأن لا يكون عبدا ولا فرعا ولا مديونا مأذونا لهم في الجهاد من غير تصريح بالإذن في البراز وإلا فيكره لهم
تنبيه لو تبارز مسلم وكافر بشرط أن لا يعين المسلمون المسلم ولا الكافرون الكافر إلى انقضاء القتال أو كان عدم الإعانة عادة فقتل الكافر المسلم أو ولى أحدهما منهزما أو أثخن الكافر جاز لنا قتله لأن الأمان كان إلى انقضاء الحرب وقد انقضى وإن شرط أن لا نتعرض للثخن وجب الوفاء بالشرط وإن شرط الأمان إلى دخوله الصف وجب الوفاء به وإن فر المسلم عنه فتبعه ليقتله أو أثخنه الكافر منعناه من قتله وقتلنا الكافر وإن خالفنا شرط تمكينه من إثخانه لنقضه الأمان في الأولى وانقضاء القتال في الثانية فإن شرط له التمكين من قتله فهو شرط باطل لما فيه من الضرر وهل يفسد أصل الأمان أو لا وجهان أوجههما الأول
فإن أعانه أصحابه قتلناهم وقتلناه أيضا إن لم يمنعهم
أما إذا لم يشرط عدم الإعانة ولم تجربه عادة فيجوز قتله مطلقا ويكره نقل رؤوس الكفار ونحوها من بلادهم إلى بلادنا لما روى البيهقي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أنكر على فاعله وقال لم يفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وما روي من حمل رأس أبي جهل فقد تكلموا في ثبوته وبتقدير ثبوته إنما حمل من موضع إلى موضع لا من بلد إلى بلد وكأنهم فعلوه لينظر الناس إليه فيتحققوا موته
نعم إن كان في ذلك نكاية للكفار لم يكره كما قاله الماوردي و الغزالي وإن قال الرافعي لم يتعرض له الجمهور
( ويجوز ) لنا ( إتلاف بنائهم ) بالتخريب ( وشجرهم ) بالقطع وغيره وكذا كل ما ليس بحيوان ( لحاجة القتال والظفر بهم ) لقوله تعالى { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } وسبب نزولها أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقطع نخل بنى النضير فقال واحد من الحصن إن هذا لفساد يا محمد وإنك تنهى عن الفساد فنزلت رواه الشيخان من حديث ابن عمر فإن توقف الظفر على إتلاف ذلك وجب كما قطع به الماوردي وغيره ( وكذا ) أيجوز إتلافها ( إن لم يرج ) أي يظن ( حصولها ) أي الأبنية والأشجار ( لنا ) مغايظة لهم وتشديدا عليهم
قال تعالى { ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار } الآية وقال تعالى { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين }
____________________
(4/226)
فإن رجي بضم أوله حصولها لنا ( ندب الترك ) وكره الإتلاف حفظا لحق الغانمين ولا يحرم لأنه قد يظن شيئا فيظهر خلافه
أما إذا غنمناها بأن فتحنا دارهم قهرا أو صلحا على أن تكون لنا أو لهم أو غنمنا أموالهم وانصرفنا فيحرم إتلافها لأنها صارت غنيمة لنا ( ويحرم إتلاف الحيوان ) المحترم للنهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله وخالف الأشجار لأن للحيوان حرمتين حق مالكه وحق الله تعالى فإذا سقطت حرمة المالك لكفره بقيت حرمة الخالق في بقائه ولذلك يمنع مالك الحيوان من إجاعته وعطشه بخلاف الأشجار ( إلا ) حيوانا مأكولا فيذبح للأكل خاصة لمفهوم الخبر المار أو ( ما يقاتلونا عليه ) أو خفنا أن يركبوه للغد كالخيل فيجوز إتلافه ( لدفعهم أو ظفر بهم ) لأنها كالآلة للقتال وإذا جاز قتل النساء والصبيان عند التترس بهم فالخيل أولى وقد ورد ذلك في السير من فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم من غير نكير ( أو ) إلا إذا ( غنمناه وخفنا رجوعه إليهم وضرره ) لنا فيجوز إتلافه دفعا لهذه المفسدة ومغايظة لهم
أما إذا خفنا الاسترداد فقط فلا يجوز عقرها وإتلافها بل نذبح للأكل كما مر وإن خفنا استرداد نسائهم وصبيانهم ونحوهما منا لم يقتلوا لتأكيد احترامهم
تتمة ما أمكن الانتفاع به من كتبهم الكفرية والمبدلة والهجرية والفحشية لا التواريخ ونحوها مما يحل الانتفاع به ككتب الشعر والطب واللغة يمحى بالغسل إن أمكن مع بقاء المكتوب فيه وإلا مزق وإنما نقره بأيدي أهل الذمة لاعتقادهم كما في الخمر وندخل المغسول والممزق في الغنيمة وخرج بتمزيقه تحريقه فهو حرام لما فيه من تضييع المال لأن للمزق قيمة وإن قلت
فإن قيل قد جمع عثمان رضي الله عنه ما بأيدي الناس وأحرقه أو أمر بإحراقه لما جمع القرآن ولم يخالفه غيره
أجيب بأن الفتنة التي تحصل بالانتشار هناك أشد منها هنا
أما غير المحترم كالخنزير والخمور فيجوز إتلافها لا أواني الخمور الثمينة فلا يجوز إتلافها بل تحمل فإن لم تكن ثمينة بأن لم تزد قيمتها على مؤنة حملها أتلفت هذا إذا لم يرغب أحد من الغانمين فيها وإلا فينبغي أن تدفع إليه ولا تتلف وإن كان الخنزير يعدو على الناس وجب إتلافه وإلا فوجهان
قال في المجموع ظاهر نص الشافعي أنه يتخير
قال الزركشي بل ظاهره الوجوب وبه صرح الماوردي و الروياني وهو الظاهر لأن الخمر تراق وإن لم يكن فيها عدو
فصل في حكم ما يؤخذ من أهل الحرب ( نساء الكفار ) أي النساء الكافرات والخناثى ( وصبيانهم ) ومجانينهم ( إذا أسروا رقوا ) بفتح الراء أي صاروا أرقاء بنفس الأسر فالخمس منهم لأهل الخمس والباقي للغانمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم السبي كما يقسم المال والمراد بالسبي النساء والولدان
تنبيه من تقطع جنونه العبرة فيه بحال الأسر كما بحثه الإمام وصححه الغزالي
( وكذا العبيد ) للكفار ولو كانوا مرتدين أو مسلمين صاروا أرقاء لنا
تنبيه عطف العبيد هنا مشكل لأن الرقيق لا يرق فالمراد استمراره لا تجديده ومثلهم فيما ذكر المبعضون تغليبا لحقن الدم
تنبيه لا يقتل من ذكر للنهي عن قتل النساء والصبيان والباقي في معناهما فإن قتلهم الإمام ولو لشرهم وقوتهم ضمن قيمتهم للغانمين كسائر الأموال
( ويجتهد الإمام ) أو أمير الجيش ( في ) أسر الكفار الأصليين ( الأحرار الكاملين ) وهم الذكور البالغون العاقلون ( ويفعل ) فيهم وجوبا بعد مذكورة في قوله ( من قتل ) بضرب رقبة لا بتحريق وتغريق ( ومن ) عليهم بتخلية سبيلهم ( وفداء ) بكسر الفاء مع المد وبفتحها مع القصر ( بأسرى ) مسلمين كما نص عليه رجال أو غيرهم أو أهل ذمة كما بحثه شيخنا ( أو مال ) يؤخذ منهم سواء أكان من مالهم أو من مالنا في أيديهم ( واسترقاق ) للاتباع في الأربعة وقال تعالى { فاقتلوا المشركين } وقال تعالى ? < فإما أسرهم > ? ( الأحظ ) للإسلام كالمن
____________________
(4/227)
عليهم والأحظ ( للمسلمين ) من أربع خصال { منا بعد وإما فداء } وقال تعالى { حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق } أي بالاسترقاق
تنبيه شمل إطلاقه الاسترقاق استرقاق كل شخص وكذا بعضه وهو الأصح
قال الرافعي بناء على تبعيض الحرية في ولد الشريك المعسر بقدر حصته وإذا منعنا استرقاق بعضه فخالف رق كله وعلى هذا يقال لنا صورة يسري فيها الرق كما يسري فيها العتق
( فإن خفي ) على الإمام الأحظ السابق ( حبسهم حتى يظهر ) له لأنه راجع إلى الاجتهاد لا إلى التشهي فيؤخر لظهور الصواب ولو بذل الأسير الجزية ففي قبولها وجهان
قال صاحب البيان الذي يقتضيه المذهب أنه لا خلاف في جواز قبول ذلك منه وإنما الوجهان في الوجوب لأنه إذا جاز أن يمن عليه من غير مال أو بمال يؤخذ منه مرة واحدة فلأن يجوز بمال يؤخذ منه في كل سنة أولى
قال في الشامل وإذا بذل الجزية حرم قتله وتخير الإمام فيما عدا القتل كما لو أسلم وصححه الرافعي في باب الجزية
ثم ما جزم به المصنف من التخيير هو فيمن له كتاب أما غيره فأشار إلى خلاف في استرقاقه بقوله ( وقيل لا يسترق وثني ) كما لا يجوز تقريره بالجزية ورد بأن من جاز أن يمن عليه ويفادى جاز أن يسترق كالكتابي ( وكذا عربي ) لا يجوز أيضا استرقاقه ( في قول ) قديم لحديث فيه ورد بأن الحديث واه وقد سبى صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وهوازن وقبائل من العرب وأجرى عليهم الرق كما رواه البخاري
تنبيه لا ترد أسلحتهم التي بأيدينا عليهم بمال يبذلونه لنا كما لا يجوز أن نبيعهم السلاح ونردها لهم بأسارى منا في أحد وجهين استظهره شيخنا وهو ظاهر كما تجوز المفاداة بهم ولأن ما نأخذه خير مما نبذله والوجه الآخر يمنع كما يمنع الرد بمال وخرج بقولنا الكفار الأصليين المرتدون فيطالبهم الإمام بالإسلام فإن امتنعوا فالسيق
فرع من استبد بقتل أسير إن كان بعد حكم الإمام بقتله فلا شيء عليه سوى التعزير لافتياته على الإمام وإن أرقه الإمام ضمنه القاتل بقيمته ويكون غنيمة وإن من عليه فإن قتله قبل حصوله في مأمنه ضمن ديته لورثته أو بعده هدر دمه وإن فداه فإن قتله قبل قبض الإمام فداءه ضمن ديته للغنيمة أو بعد قبضه وإطلاقه إلى مأمنه فلا ضمان عليه لعوده إلى ما كان عليه قبل أسره وقضية هذا التعليل أن محل ذلك إذا وصل إلى مأمنه وإلا فيضمن ديته لورثته وهو ظاهر
( ولو أسلم أسير ) مكلف لم يختر الإمام فيه قبل إسلامه منا ولا فداء ( عصم ) الإسلام ( دمه ) فيحرم قتله لخبر الصحيحين أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله إلى أن قال فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم وقوله وأموالهم محمول على ما قبل الأسر بدليل قوله إلا بحقها ومن حقها أن ماله المقدور عليه بعد الأسر غنيمة ( وبقي ) فيه ( الخيار في الباقي ) في خصال التخيير السابقة وهو المن والإرقاق والفداء لأن المخير بين أشياء إذا سقط بعضها لتعذره لا يسقط الخيار في الباقي كالعجز عن العتق في الكفارة
تنبيه إنما تجوز المفاداة إذا كان عزيزا في قومه أو له فيهم عشيرة ولا يخشى الفتنة في دينه ولا نفسه أما إذا اختار الإمام قبل إسلامه المن أو الفداء انتهى التخيير وتعين ما اختاره الإمام
( وفي قول يتعين الرق ) بنفس الإسلام لأنه أسير يحرم قتله فيمتنع عليه المن والفداء كالصبيان والنساء
ورد بأن الصبيان والنساء لم يكن مخيرا فيهم في الأصل بخلاف الأسير ( وإسلام كافر ) مكلف رجلا كان أو امرأة في دار حرب أو إسلام ( قبل ظفر به ) وهو أسره كما صرح به الشافعي رضي الله
____________________
(4/228)
تعالى عنه في المختصر
ولا يخالفه قول الروضة قبل أسره والظفر به لأنه عطف تفسير ( يعصم دمه وماله ) للخبر المار ( و ) يعصم ( صغار ولده ) الأحرار عن السبي لأنهم يتبعونه في الإسلام
والجد كذلك في الأصح ولو كان الأب حيا لما مر
وولده أو ولده المجنون كالصغير ولو طرأ الجنون بعد البلوغ ما مر أيضا ويعصم الحمل تبعا له لا إن استرقت أمه قبل إسلام الأب فلا يبطل إسلامه رقه كالمنفصل وإن حكم بإسلامه
أما البالغ العاقل فلا يعصمه إسلام الأب لاستقلاله بالإسلام
و ( لا ) يعصم إسلام الزوج ( زوجته ) عن الاسترقاق ( على المذهب ) المنصوص لاستقلالها ولو كانت حاملا منه في الأصح
وفي قول مخرج لا تسترق لئلا يبطل حقه من النكاح كما لو أعتق المسلم عبدا كافرا ثم التحق بدار الحرب لا يجوز استرقاقه على المنصوص
وأجاب الأول بأن الولاء بعد ثبوته لا يمكن رفعه بحال بخلاف النكاح
فإن قيل لو بذل الجزية منع إرقاق زوجته وابنته البالغة فكان الإسلام أولى
أجيب بأن ما يمكن استقلال الشخص به لا يحصل فيه تابعا لغيره
والبالغة تستقل بالإسلام ولا تستقل ببذل الجزية
( فإن استرقت ) أي إن قلنا بأن زوجة من أسلم قبل الظفر أنها ترق ( انقطع نكاحه في الحال ) أي حال السبي سواء أكان قبل الدخول أم بعده لامتناع إمساك الأمة الكافرة للنكاح كما يمتنع ابتداء نكاحها
ولقوله صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس وبني المصطلق ألا لا توطأ حامل حتى تضع ولا حامل حتى تحيض ولم يسأل عن ذاك زوج ولا غيرها ومعلوم أنه كان فيهم من لها زوج ( وقيل إن كان ) استرقاقها ( بعد الدخول بها انتظرت العدة فلعلها تعتق فيها ) فيدوم النكاح كالردة والأصح عدم الفرق ما مر لأن حدوث الرق يقطع النكاح فأشبه الرضاع
( ويجوز إرقاق زوجة ذمي ) إذا كانت حربية أي ترق بنفس الأسر وينقطع به نكاحه
فإن قيل هذا يخالف قولهم أن الحربي إذا بذل الجزية عصم نفسه وزوجته من الاسترقاق
أجيب بأن المراد هنا الزوجة الموجودة حين العقد فيتناولها العقد على جهة التبعية والمراد هنا الزوجة المتجددة بعد العقد لأن العقد لم يتناولها أو يحمل ما هناك على ما إذا كانت زوجته داخلة تحت القدرة حين العقد وما هنا على ما إذا لم تكن كذلك ( وكذا عتيقه ) الحربي يجوز إرقاقه ( في الأصح ) المنصوص لأن الذمي لو التحق بدار الحرب استرق فعتيقه أولى
والثاني المنع لئلا يبطل حقه من الولاء ( لا عتيق مسلم ) التحق بدار الحرب فلا تسترق لأن الولاء بعد ثبوته لا يرتفع وسواء أكان المعتق مسلما حال العتق أم كافرا ثم أسلم قبل أسر العتيق قال البلقيني وقل من تعرض لهذا الفرع أي وهو ما إذا أعتق الكافر عبدا ثم أسلم قبل الأسر وقد يفهم كلام المصنف استرقاقه إذ يصدق أنه ليس عتيق مسلم ( و ) لا ( زوجته ) أي المسلم ( الحربية ) فلا تسترق إذا سبيت ( على المذهب ) وهذا ما صححه في المحرز وهو المعتمد وإن كان مقتضى كلام الروضة والشرحين الجواز فإنهما سويا في جريان الخلاف بينها وبين زوجة الحربي إذا أسلم لأن الإسلام الأصلي أقوى من الإسلام الطارىء
قال ابن كج ولو تزوج بذمية في دار الإسلام ثم التحقت بدار الحرب فلا تسترق قولا واحدا ( وإذا سبي زوجان ) معا ( أو أحدهما ) فقط ( انفسخ النكاح ) بينهما سواء أكان ذلك في الدخول أم بعده ( إن كانا حرين ) لما رواه مسلم أنهم لما امتنعوا يوم أوطاس من وطء السبايا لأن لهن أزواجا أنزل الله تعالى { والمحصنات من النساء } أي المتزوجات { إلا ما ملكت أيمانكم } فحرم المتزوجات إلى المملوكات بالسبي فدل على ارتفاع النكاح وإلا لما حللن ولعموم خبر لا توطأ حامل حتى تضع إذ لم يفرق فيه بين المنكوحة وغيرها كما مر ولأن الرق إذا حدث زال ملكها عن نفسها فلأن تزول العصمة بينها وبين الزوج أولى
تنبيهان أحدهما محل الانفساخ في سبي الزوج إن كان صغيرا أو مجنونا أو كاملا واختيار الإمام رقه فإن كان اختار فداءه أو المن عليه استمرت الزوجية ومحله في سبي الزوجة إذا كان الزوج كافرا فإن كان مسلما بنى على
____________________
(4/229)
الخلاف المتقدم هل تسبى أو لا
ثانيهما التقييد بكونهما حرين يقتضي عدم الانفساخ فيما إذا كان أحدهما حرا والآخر رقيقا وليس مرادا فلو كانت حرة وهو رقيق وسبيت وحدها أو معه انفسخ أيضا والحكم في عكسه كذلك إن كان الزوج غير مكلف أو مكلفا وأرقه الإمام لأن العلة في انفساخ النكاح زوال ملكه عن نفسه فزوجته كذلك
( قيل أو رقيقين ) فينفسخ النكاح بينهما لحدوث السبي والأصح المنع إذا لم يحدث رق وإنما انتقل الملك من مالك إلى آخر فأشبه البيع والخلاف جار سواء أسلما أم لا
تنبيه لو استأجر مسلم حربيا فاسترق أو داره فغنمت كان له استيفاء مدته لأن منافع الأموال مملوكة ملكا تاما مضمونة باليد كأعيان الأموال وكما لا تغنم العين المملوكة للمسلم لا تغنم المنافع المملوكة له بخلاف منفعة البضع فإنها تستباح ولا تملك ملكا تاما ولهذا لا تضمن باليد
( وإذا أرق ) حربي ( وعليه دين ) لغير حربي ( لم يسقط ) لأن شغل الذمة قد حصل ولم يوجد ما يقتضي إسقاطه أما إذا كان الحربي فيسقط لعدم احترامه وإذا لم يسقط دين غير الحربي ( فيقضي من ماله ) حيث كان له مال ( إن غنم بعد إرقاقه ) ولو حكم بزوال ملكه عنه بالرق كما أن دين المرتد يقضى من ماله وإن حكم بزوال ملكه ولأن الدين يقدم على الغنيمة كما يقدم على الوصية أما إذا لم يكن له مال فإن دينه يبقى في ذمته إلى أن يعتق ويوسر وخرج بقوله بعد إرقاقه ما إذا غنم قبله فلا يقضى منه لأن الغانمين ملكوه وكذا ما غنم مع استراقه في الأصح فإن حق الغانمين تعلق بعين المال وحق صاحب الدين كان في الذمة وما يتعلق بالعين يقدم على المتعلق بالذمة وهل يحل الدين المؤجل بالرق فيه وجهان أصحهما أنه يحل لأنه يشبه الموت من حيث أنه يزيل الملك ويقطع النكاح
تنبيهان أحدهما لو كان الدين الذي على الحربي للسابي قال الشيخان ففي سقوطه الوجهان فيمن كان له دين على عبد غيره فملكه أي فيسقط وهذا كما قال الإسنوي إنما هو ظاهر في قدر حصته وهي الأربعة أخماس وأما الخمس فينبغي أن لا يسقط ما يقابله قطعا ولهذا عدل ابن المقري عن هذه العبارة وقال فلو ملكه الغريم سقط اه
فعلم أنه لا يسقط إلا بقدر ما يملكه
الثاني لو كان الدين لحربي على غير حربي فرق من له الدين لم يسقط بل يوقف فإن عتق فله وإن مات رقيقا ففيء
( ولو اقترض حربي من حربي ) مالا ( أو اشترى منه ) شيئا بمال ( ثم أسلما ) معا أو مرتبا ( أو ) لم يسلما بل ( قبلا جزية ) أو حصل لهما أمان أو حصل أحدهما لأحدهما وغيره للآخر كما بحثه بعض المتأخرين ( دام الحق ) في ذلك لالتزامه بعقد وخرج بالمال نحو الخمر والخنزير مما لا يصح طلبه
تنبيه قد يفهم كلامه أنه لو أسلم أحدهما أو قبل جزية دون الآخر لا يدوم الحق وليس مرادا في إسلام صاحب الدين قطعا وفي إسلام المديون في الأظهر
( و ) الحربي ( لو أتلف عليه حربي ) آخر شيئا أو غصبه منه ( فأسلما ) أو أسلم المتلف أو الغاصب أو قبلا الجزية ( فلا ضمان ) عليه ( في الأصح ) لأنه لم يلتزم شيئا والإتلاف ليس عقدا يستدام ولأن الحربي إذا قهر حربيا على ماله ملكه والإتلاف نوع من القهر ولأن إتلاف مال الحربي لا يزيد على مال المسلم وهو يوجب الضمان على الحربي والثاني يضمن لأنه لازم عنده
ثم شرع في حكم أموال الحربيين فقال ( والمال المأخوذ من أهل الحرب قهرا ) عليهم حتى سلموه أو تركوه وانهزموا ( غنيمة ) لما مر في كتاب قسمها وكان ينبغي أن يقول المال الذي أخذناه ليخرج ما أخذه أهل الذمة منه فليس بغنيمة وإنما أعاد ذلك لضرورة التقسيم الدال عليه قوله ( وكذا ما أخذه واحد أو جمع من دار الحرب بسرقة ) أو نحوها ولم
____________________
(4/230)
يدخلها بأمان ( أو ) لم يؤخذ سرقة بل هناك مال ضائع ( وجد كهيئة اللقطة ) فأخذه شخص بعد علمه أنه للكفار فإنه في القسمين غنيمة ( على الأصح ) المنصوص لأن دخوله دار الحرب وتغريره بنفسه يقوم مقام القتال
والثاني هو لمن أخذه خاصة وادعى الإمام الاتفاق عليه
تنبيه يستثنى من ذلك ما إذا كان سبب الوصول إلى اللقطة في دار الحرب هروبهم خوفا منا من غير قتال فإنها فيء قطعا وأما إذا كان بقتالنا لهم فهو غنيمة قطعا ثم ما سبق إذا لم يمكن كونه لمسلم ( فإن أمكن كونه ) أي الملتقط ( لمسلم ) بأن كان ثم مسلم ( وجب تعريفه ) فإذا عرفه ولم يعرفه أحد يكون غنيمة
تنبيه لم يصحح الشيخان شيئا في مدة التعريف بل نقلا عن الشيخ أبي حامد أنه يعرفه يوما أو يومين
قال ويقرب منه قول الإمام يكفي بلوغ التعريف إلى الأجناد إذا لم يكن هناك مسلم سواهم ولا ينظر إلى احتمال مرور التجار وعن المهذب والتهذيب يعرفه سنة اه
واختلف المتأخرون في الترجيح فاعتمد البلقيني ما قاله الإمام ونقله عن نص الأم في سير الواقدي وقال إنه خارج عن قاعدة اللقطة فتستثنى هذه الصور من إطلاق تعريف اللقطة سنة في غير الحقير
وقال الزركشي شبه حمل الأول أي كلام الشيخ أبي حامد على الخسيس وقال الأذرعي الظاهر أنه لا فرق بين هذه وبين لقطة دار الإسلام في التعريف اه
وهذا هو الظاهر
ثم شرع في أحكام الغنيمة فقال ( وللغانمين ) ممن يسهم لهم أو يرضخ ولو بغير إذن الإمام ( التبسط في الغنيمة ) قبل اختيار التملك ( بأخذ القوت ) منها على سبيل الإباحة لا التمليك ينتفع به الآخذ ولا يتصرف فيه ووقع في الحاوي الصغير أنه يملكه ولا يصرف لغيره
تنبيه نبه في القوت على أنه لا يجوز أخذ شيء من الأموال كسلاح ودابة ولا الانتفاع بها فإن احتاج إلى الملبوس لبرد أو حر ألبسه الإمام له إما بالأجرة مدة الحاجة ثم يرده إلى المغنم أو يحبسه عليه من سهمه
( و ) للغانمين التبسط أيضا بأخذ ( ما يصلح به ) القوت كزيت وسمن وعسل وملح ( ولحم ) لا لكلاب وبازات ( وشحم ) لا لدهن الدواب وإنما يجوز ذلك للأكل فلو قال كلحم ليكون ذلك مثالا لما يصلح به لكان أولى ( و ) لهم التبسط أيضا بأخذ ( كل طعام يعتاد أكله ) للآدمي ( عموما ) أي على العموم لما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه والمعنى فيه عزته في دار الحرب غالبا لإحراز أهله له عنا فجعله الشارع مباحا ولأنه قد يفسد وقد يتعذر نقله وقد تزيد مؤنة نقله عليه
قال الإمام ولو وجد في دارهم سوقا وتمكن من الشراء منه جاز التبسط أيضا إلحاقا لدارهم فيه بالسفر في الرخص وقضيته أنا لو جاهدناهم في دارنا امتنع التبسط ويجب حمله كما قال شيخنا على محل لا يعز فيه الطعام واحترز بقوله عموما عما يحتاج إليه نادرا كالسكر والفانيد والأدوية فلا يلحق بالأطعمة على الصحيح فإن احتاج مريض منهم إلى شيء من ذلك أعطاه له الإمام بقيمته أو يحسبه عليه من سهمه فإن احتاج شخص منهم إلى القتال بالسلاح جاز للضرورة ولا أجرة عليه ويرده إلى المغنم بعد زوالها فإن لم يكن ضرورة لم يجز له استعماله ولو اضطر إلى المركوب في القتال فله ركوبه بلا أجر كما بحثه شيخنا كالقتال بالسلاح ( و ) لهم ( علف الدواب ) التي لا يستغنى عنها في الحرب كفرسه ودابة تحمل سلاحه ولو كانت عدد الواحد ( تبنا وشعيرا ونحوهما ) كقوله لأن الحاجة تمس إليه كمؤنة نفسه
أما ما يستصحبه من الدواب الزينة أو الفرجة كفهود ونمور فليس له علفها من مال الغنيمة قطعا
____________________
(4/231)
تنبيه العلف هنا بفتح اللام لأن المراد ما تأكله ويجوز أن تكون ساكنة ويكون المراد أن له فعل ذلك من الغنيمة
( و ) لهم ( ذبح ) حيوان ( مأكول للحمه ) على الصحيح لأنه مما يؤكل عادة فهو كاللحم وقيل لا يجوز الذبح لندرة الحاجة إليه ورجحه البلقيني وعلى الأول يجب رد جلده إلى المغنم إلا ما يؤكل مع اللحم ولا يجوز أن يتخذ من الجلد سقاء ولا خفا ولا غيرهما فإن فعل وجب رد المصنوع كذلك ولا شيء له إن زادت قيمته بالصنعة وعليه الأرش إن نقصت وإن استعمله لزمه أجرته ( والصحيح ) الذي قطع به الجمهور ( جواز ) أكل ( الفاكهة ) رطبها ويابسها للخبر المار في العنب والثاني المنع لندرة الحاجة إليها
قال الإمام والحلواء كالفاكهة ( و ) الصحيح ( أنه لا تجب قيمة المذبوح ) لأجل أكل لحمه كما لا يجب قيمة الطعام المأخوذ والثاني يجب لأن الترخص ورد في الطعام والحيوان ليس بطعام والصحيح كما يشعر به كلامه هنا وفيما بعده وعبر في الروضة بالأصح فيهما ( وأنه لا يختص الجواز بمحتاج إلى طعام وعلف ) بلام مفتوحة بل يجوز وإن لم يحتج في الأصح فإن الرخصة وردت من غير تفصيل والثاني يختص بالمحتاج لاستغناء غيره عن أخذ حق الغير وعلى الأول لو قل الطعام وازدحموا عليه نقل الإمام عن المحققين أن الإمام يضع يده عليه ويقسمه على ذوي الحاجات
قال البغوي ولهم التزود لقطع مسافة بين أيديهم
تنبيه إنما يجوز التبسط والتزود بقدر الحاجة فمن أكل فوق حاجته لزمه بدله
قال الزركشي وينبغي أن يقال به في علف الدواب وهو ظاهر ( و ) الأصح المنصوص ( أنه لا يجوز ذلك ) أي التبسط المذكور ( لمن لحق الجيش بعد ) انقضاء ( الحرب و ) بعد ( الحيازة ) لأنه أجنبي عنهم كغير الضيف مع الضيف والثاني يجوز لمظنة الحاجة وعزة الطعام هناك
تنبيه عبارة الكتاب والمحرر والروضة تفهم جواز التبسط فيما إذا لحق بعد انقضاء الحرب وقبل الحيازة وعبارة الرافعي في الشرح تقتضي المنع لغير شاهد الوقعة وهذا هو الظاهر كما أنه لا يستحق من الغنيمة شيئا وجرى على ذلك في الحاوي الصغير
فرع لو أضيف بما فوق حاجته الغانمين جاز وليس فيه إلا تحمل التعب عنهم فإن ضيف به غيرهم فكغاصب ضيف غيره بما غصبه فيأثم به ويلزم الآكل ضمانه ويكون المضيف له طريقان في الضمان
( و ) الصحيح وجعل الروضة وأصلها هذا الخلاف أقوالا ( أن من رجع إلى دار الإسلام ) أو دار يسكنها أهل الذمة أو العهد وهي في قبضتنا كما قاله الأذرعي ( ومعه بقية ) مما تبسط به ( لزمه ردها إلى المغنم ) أي الغنيمة لزوال الحاجة والثاني لا يلزمه لأن المأخوذ مباح والأول قال بقدر الكفاية
تنبيه محل الرد إلى المغنم ما لم تقسم الغنيمة فإن قسمت رد الإمام ثم إن كثر قسم وإلا جعل في سهم المصالح
قال الإمام ولا ريب أن إخراج الخمس منه ممكن وإنما هذا في الأربعة الأخماس
( وموضع التبسط دارهم ) أي أهل الحرب جزما لأنه موضع العزة ( وكذا ) محل الرجوع ( ما لم يصل ) إلى ( عمران الإسلام في الأصح ) لبقاء الحاجة إليه فإن وصله انتهى التبسط لزوالها
والثاني المنع لأن المظنة دار الحرب وقد خرجوا عنها
تنبيه المراد بعمران الإسلام ما يجدون فيه حاجتهم من الطعام والعلف كما هو الغالب فلو لم يجدوا فيها ذلك
____________________
(4/232)
فلا أثر له في منع التبسط في الأصح لبقاء المعنى وكدار الإسلام بلد أهل ذمة أو عهد لا يمتنعون من معاملتنا لأنها وإن لم تكن مضافة إلى دار الإسلام فهي في قبضتنا بمثابتها فيما نحن فيه للتمكن من الشراء منهم نقله في أصل الروضة عن الإمام وأقره
فروع لو كان القتال في دارنا في موضع يعز الطعام ولا يجدونه بشراء جاز لهم التبسط أيضا بحسب الحاجة كما قاله القاضي ولا يجوز لهم التصرف بالبيع ونحوه فيما تزودوه من المغنم لما مر أنهم لا يملكونه فلو أقرض منه غانم غانما آخر كان له مطالبته بعينه أو بمثله ما لم يدخلوا دار الإسلام فإن رده من المغنم صار الأول أحق به لحصوله في يده وليس له مطالبته به من خالص ماله إذ ليس ذلك قرضا محققا لأن الآخذ لا يملك المأخوذ حتى يملكه لغيره فلو رد عليه من ماله لم يأخذه لأن غير المملوك لا يقابل بالمملوك وإن فرغ الطعام سقطت المطالبة أو دخلوا دار الإسلام ولم يعز الطعام رده المفترض إلى الإمام لانقطاع حقوق الغانمين عن أطعمة المغنم فإن بقي غير المقترض رده إلى المغنم ولو تبايع غانمان ما أخذاه صاعا بصاع أو بصاعين فكتناول الضيفان لقمة بلقمة أو بلقمتين فلا يكون ربا لأنه ليس بمعاوضة محققه بل يأكل كل منهما ما صار إليه ولا يتصرف فيه ببيع ونحوه
( ولغانم ) حر ( رشيد ولو ) هو مريض أو سكران متعد بسكره أو ( محجورا عليه بفلس الإعراض عن الغنيمة ) أي عن حقه منها سهما كان أو رضخا ( قبل القسمة ) وقبل اختيار التملك لأن الغرض الأعظم من الجهاد إعلاء كلمة الله تعالى والذب عن الملة والغنائم تابعة فمن أعرض عنها فقد جرد قصده للغرض الأعظم
تنبيه صورة الإعراض أن يقول أسقطت حقي من الغنيمة فإن قال وهبت نصيبي فيها للغانمين وقصد الإسقاط فكذلك أو تمليكهم فلا لأنه مجهول وإنما كان المفلس كغيره لأن الإعراض بمحض جهاده للآخرة فلا يمنع منه ولأن اختيار التملك كابتداء الاكتساب والمفلس لا يلزمه ذلك
وخرج بالحر الذي قدرته في كلامه العبد فالإعراض إنما هو لسيده لأنه المستحق
نعم إن كان العبد مكاتبا أو مأذونا له في التجارة وقد أحاطت به الديون قال الأذرعي فلا يظهر صحة إعراضه في حقهما
قال شيخنا وفي الثاني نظر
وبالرشيد الصبي والمجنون فلا إعراضهما عن الرضخ لأن عبارتهما ملغاة ولا إعراض وليهما لعدم الحظ في إعراضه للمولى عليه فإن بلغ الصبي أو أفاق المجنون قبل اختيار التملك صح إعراضه
تنبيه التقييد بالرشد من زيادته على المحرر وقضيته أنه لا يصح إعراض السفيه المحجور عليه
وقال الإمام إنه الظاهر
واقتصر في الشرح والروضة على نقله عنه وأقراه وقالا لو فك حجره قبل القسمة صح إعراضه
قال البلقيني وهذا إنما فرعه الإمام على أنه يملك بمجرد الاغتنام وبه صرح في البسيط فقال والسفيه يلزم حقه على قولنا يملك ولا يسقط بالإعراض إلا على قولنا إنه لا يملك وتقدم أنه لا يملك إلا باختيار فيكون الأصح صحة إعراضه وكذا قالوا لا يجب مال فيما إذا عفا السفيه عن القصاص وأطلق
وفرعنا على أن الواجب القود عينا مع أنه يمكنه جلب المال بالعفو عنه وقد سووا بينه وبين المحجور عليه بالفلس هناك فينبغي التسوية بينهما هنا
وقال في المهمات الراجح صحة إعراضه
وقال الأذرعي أنه مقتضى إطلاق الجمهور
قال ابن شهبة ويمكن أن يقال إنه لا يصح إعراضه
وإن قلنا لا يملك إلا باختيار التملك لأنه ثبت له اختيار تملك حق مالي ولا يجوز للسفيه الإعراض عن الحقوق المالية كجلد الميتة والسرجين وأما القصاص فهو محض عقوبة شرع للتشفي فلهذا ملك العفو عنه اه
وهذا يقوي كلام الشيخين وفي قياسه على ما ذكره نظر لأن ما ذكره حاصل يريد الإعراض عنه بخلاف المقيس
واحترز المصنف بقوله قبل القسمة عما بعدها لاستقرار الملك ولو قال قبل التملك كان أولى لأنه لو قال قبل القسمة اخترت الغنيمة منع ذلك من صحة الإعراض في الأصح ولهذا قدرت في كلامه وقبل اختيار التملك
( والأصح ) المنصوص ( جوازه ) أي إعراض الحر الرشيد ( بعد فرز الخمس ) وقبل قسمة الأخماس الأربعة لأن إفراز الخمس
____________________
(4/233)
لا يتعين به حق كل واحد على ما كان عليه والثاني منعه لتميز حق الغانمين ( و ) الأصح ( جوازه ) أي الإعراض ( لجميعهم ) أي الغانمين ويصرف حقهم مصرف الخمس لأن المعنى المصحح للإعراض يشمل الواحد والجميع والثاني المنع لأن مصارف الخمس غير الأربعة الأخماس ( و ) الأصح ( بطلانه ) أي الإعراض ( من ذي القربى ) المذكورين في باب قسم الفيء والغنيمة والمراد الجس فيتناول إعراض بعضهم لأنهم يستحقون سهمهم من غير عمل بل هو منحة من الله تعالى فأشبه الإرث ( و ) من ( سالب ) وهو مستحق سلب من قتله أو أسره كما مر في بابه لأن السلب متعين له كالمتعين بالقسمة والثاني صحته منهما كالغانمين
تنبيه إنما خص ذوي القربى بالذكر دون بقية أهل الخمس كاليتامى لأنها جهات عامة لا يتصور فيها إعراض كالفقراء
( والمعرض ) من الغانمين عن حقه حكمه ( كمن لم يحضر ) فيضم نصيبه إلى المغنم ويقسم بين المرتزقة وأهل الخمس وقيل يضم إلى الخمس خاصة ( ومن ) لم يعرض عن الغنيمة و ( مات فحقه لوارثه ) كسائر الحقوق فيطلبه أو يعرض عنه ( ولا تملك ) الغنيمة ( إلا بقسمة ) لأنهم لو ملكوها بالاستيلاء كالاصطياد والتحطب لم يصح إعراضهم لأن للإمام أن يخص كل طائفة بنوع من المال ولو ملكوا لم يصح إبطال حقهم من نوع بغير رضاهم
تنبيه أفهم كلامه حصر ملكها في القسمة وليس مرادا بل تملك بأحد أمرين إما اختيار التملك كما في الروضة كأصلها وإما بالقسمة بشرط الرضا بها ولذا قال في الروضة وإنما اعتبرت القسمة لتضمنها اختيار التملك اه
وأما قبل ذلك فإنما ملكوا أن يتملكوا كحق الشفعة كما قال
( ولهم ) أي الغانمين بين الحيازة والقسمة ( التملك ) قبل القسمة لأن حق التملك ثبت لهم ( وقيل يملكون ) الغنيمة بعد الحيازة قبل القسمة ملكا ضعيفا يسقط بالإعراض ( وقيل ) الملك في الغنيمة موقوف ( إن سلمت إلى القسمة بأن ملكهم ) أي الغانمين لها بالاستيلاء ( وإلا ) بأن تلفت أو أعرضوا عنها ( فلا ) يملكونها ( ويملك العقار بالاستيلاء ) عليه لعموم الأدلة كقوله تعالى { واعلموا أنما غنمتم من شيء } الآية وزاد على المحرر قوله ( كالمنقول ) لينبه بذلك على أن ملك العقار بالاستيلاء رأي مرجوح كما أنه في المنقول كذلك ولو قال ويملك العقار بما يملك به المنقول كان أوضح وخرج بالعقار مواتهم فلا يملك بالاستيلاء لأنهم لم يملكوه إذ لا يملك إلا بالإحياء كما مر في بابه ( ولو كان فيها ) أي الغنيمة ( كلب أو كلاب تنفع ) لصيد أو ماشية أو زرع أو غير ذلك ( وأراده بعضهم ) أي الغانمين من أهل خمس أو جهادا ( ولم ينازع ) فيه بفتح الزاي بخطه ( أعطيه ) إذ لا ضرر في ذلك على غيره ( وإلا ) بأن نازعه غيره ( قسمت ) تلك الكلاب عددا ( إن أمكن ) قسمتها ( وإلا ) بأن لم يمكن ذلك ( أقرع ) بينهم فيها دفعا للنزاع أما ما لا تنفع فلا يجوز اقتناؤها ( والصحيح ) المنصوص ( أن سواد العراق ) من البلاد وهو من إضافة الجنس إلى بعضه لأن السواد أزيد من العراق بخمسة وثلاثين فرسخا كما قاله الماوردي وسمي سوادا لأنهم خرجوا من البادية فرأوا خضرة الزرع والأشجار الملتفة والخضرة ترى من البعد سوادا فقالوا ما هذا السواد ولأن بين اللونين تقاربا فيطلق اسم أحدهما على الآخر ( فتح ) في زمن عمر رضي الله تعالى عنه ( عنوة ) بفتح العين أي قهرا وغلبة ( وقسم ) بين الغانمين ( ثم ) بعد قسمته واختيار تملكه ( بذلوه ) بمعجمة أي أعطوه ل عمر بعوض أو بغير ( ووقف ) بعد استرداده دون أبنيته الآتي في المتن حكمها ( على المسلمين ) لأنه خاف تعطل الجهاد باشتغالهم بعمارته لو تركه بأيديهم ولأنه لم
____________________
(4/234)
يستحسن قطع من بعدهم عن رقبته ومنفعته وأجره من أهله إجارة مؤبدة بالخراج المضروب عليه على خلاف سائر الإجارات وجوزت كذلك للمصلحة الكلية
قال العلماء لأنه بالاسترداد رجع إلى حكم أموال الكفار وللإمام أن يفعل بالمصلحة الكلية في أموالهم ما لا يجوز في أموالنا كما يأتي مثله في مسألة البراءة والرجعة وغيرهما
تنبيه معلوم أن البدل إنما يكون ممن يكن بذله كالغانمين وذوي القربى أن انحصروا بخلاف بقية أهل الخمس فلا يحتاج الإمام في وقف حقهم إلى بذل لأن له أن يعمل في مثل ذلك ما فيه مصلحة لأهله
( وخراجه ) المضروب عليه ( أجرة ) منجمة ( تؤدى كل سنة لمصالح المسلمين ) الأهم فالأهم وليس لأهل السواد بيعه ورهنه وهبته لكونه صار وقفا ولهم إجارته مدة معلومة لا مؤبدة كسائر الإجارات وإنما خولف في إجارة عمر رضي الله تعالى عنه للمصلحة الكلية كما مر ولا يجوز لغير ساكنه إزعاجهم عنه ويقول أنه أستغله وأعطي الخراج لأنهم ملكوا بالإرث المنفعة بعقد بعض آبائهم مع عمر رضي الله تعالى عنه والإجارة لازمة لا تنفسخ بالموت
تنبيه كان قدر الخراج في كل سنة ما فرضه عثمان بن حنيف لما بعثه عمر ماسحا وهو على كل جريب شعير درهمان وجريب حنطة أربعة وجريب شجر وقصب سكر ستة وجريب نخل ثمانية وجريب كرم عشرة وجريب زيتون اثنا عشر درهما والجريب عشر قصبات كل قصبة ستة أذرع بالهاشمي كل ذراع ست قبضات كل قبضة أربع أصابع فالجريب مساحة مربعة بين كل جانبين منها ستون ذراعا هاشميا
قال في الأنوار الجريب ثلاثة آلاف وستمائة ذراع
قال الرافعي وكان مبلغ ارتفاع خراج السواد في زمن عمر رضي الله تعالى عنه مائة ألف ألف وستة وثلاثين ألف ألف درهم ثم تناقص إلى أن بلغ في أيام الحجاج ثمانية عشر ألف ألف درهم لظلمه وغشمه فلما ولي عمر بن عبد العزيز ارتفع بعدله وعمارته في السنة الأولى إلى ثلاثين ألف ألف درهم وفي السنة الثانية إلى ستين ألف ألف درهم وقال إن عشت لأزيدنه إلى ما كان في أيام عمر رضي الله تعالى عنه فمات في تلك السنة
( وهو ) أي سواد العراق باتفاق مصنفي الفتوح والتاريخ زمن عرف أسماء البلدان ( من ) أول ( عبادان ) بموحدة مشددة مكان قرب البصرة ( إلى حديثة الموصل ) بحاء مهملة وميم مفتوحتين ( طولا ) وقيدت الحديثة بالموصل لإخراج حديثة أخرى عند بغداد سميت الموصل لأن نوحا ومن كان معه في السفينة لما نزلوا على الجودي أرادوا أن يعرفوا قدر الماء المتبقي على الأرض فأخذوا حبلا وجعلوا فيه حجر ثم دلوه في الماء فلم يزالوا كذلك حتى بلغوا مدينة الموصل فلما وصل الحجر سميت الموصل
ثم أخذ المصنف في بيان عرض السواد بقوله ( ومن ) أول ( القادسية ) اسم مكان بينه وبين الكوفة نحو مرحلتين وبين بغداد نحو خمس مراحل سميت بذلك لأن قوما من قادس نزلوها ( إلى ) آخر ( حلوان ) بضم المهملة بلد معروف ( عرضا ) هذا ما في المحرر
وقال في الشرح فيه تساهل لأن البصرة كانت سبخة أحياها عثمان بن أبي العاص بعد فتح العرق وهي داخلة في هذا الحد المذكور فلذلك استدرك المصنف على إطلاق المحرر بقوله ( قلت ) كما قال الرافعي في الشرح ( الصحيح أن البصرة ) بتثليث الموحدة والفتح أفصح مدينة بناها عتبة بن غزوان زمن عمر رضي الله تعالى عنه سنة سبع عشرة ولم يعبد بعدها صنم قط ويقال لها قبة الإسلام وهي أقوم البلاد قبلة وهي ( وإن كانت داخلة في حد السواد ) المضاف إلى العراق ( فليس لها حكمه إلا في موضع غربي دجلتها ) بكسر الدال نهر مشهور بالعراق ( و ) إلا ( في موضع شرقيها ) يسمى الفرات وما سواهما منها فموات أحياه المسلمون بعد ذلك
تنبيه ما في أرض سواد العراق من الأشجار ثمارها للمسلمين يبيعها الإمام ويصرف أثمانها أو يصرفها نفسها مصارف الخراج وهو مصالح المسلمين كما مر
( و ) الصحيح ( أن ما في السواد من الدور والمساكن يجوز
____________________
(4/235)
بيعه والله أعلم ) إذ لم ينكره أحد ولهذا لا يؤخذ عليها خراج
ولأن وقفها يفضي إلى حرابها
نعم إن كانت آلتها من أجزاء الأرض الموقوفة لم يجز بيعها كما قاله الأذرعي تفقها وعليه يحمل ما قاله البلقيني عن النص وقطع به من أن الموجود من الدور حال الفتح وقف لا يجوز بيعه والثاني المنع كالزارع
تنبيه لو رأى الإمام اليوم أن يقف أرض الغنيمة كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه أو عقاراتها أو منقولاتها جاز إن رضي الغانمون بذلك كنظيره فيما مر عن عمر رضي الله تعالى عنه لا قهرا عليهم وإن خشى أنها تشغلهم عن الجهاد لأنها ملكهم لكن يقهرهم على الخروج إلى الجهاد بحسب الحاجة ولا يرد شيء من الغنيمة إلى الكفار إلا برضا الغانمين لأنهم ملكوا أن يتملكوها
( وفتحت مكة صلحا ) لا عنوة
لقوله تعالى { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار } الآية يعني أهل مكة وقوله تعالى { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة } وقوله تعالى { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه } إلى قوله { وأخرى لم تقدروا عليها } أي بالقهر قيل التي عجلها لهم غنائم حنين والتي لم يقدروا عليها غنائم مكة ومن قال فتحت عنوة معناه أنه دخل مستعدا للقتال لو قوتل
قال الغزالي ( فدورها وأرضها المحياة ملك يباع ) إذ لم يزل الناس يتبايعونها ولقوله صلى الله عليه وسلم لما قال له أسامة بن زيد يا رسول الله أتنزل غدا بدارك بمكة فقال وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور وكان عقيل ورث أبا طالب وطلب دور علي و جعفر لأنهما كانا مسلمين ولا يورث إلا ما كان الميت مالكا له ومنع أبو حنيفة من بيعها
قال الروياني ويكره بيعها وإجارتها للخروج من الخلاف ونازعه المصنف في مجموعه وقال إنه خلاف الأولى لأنه لم يرد فيه نهي مقصود والأول كما قال الزركشي هو المنصوص بل اعترض على المصنف فإنه صرح بكراهة بيع المصحف والشطرنج ولم يرد فيهما نهي مقصود
تنبيه محل الخلاف بين العلماء في بيع نفس الأرض أما البناء فهو مملوك يجوز بيعه بلا خلاف أي إذا لم يكن من أجزاء أرضها كما يؤخذ مما مر في بناء السواد وتعبير المصنف بالفاء يقتضي ترتب كونها ملكا على الصلح وليس مرادا بل مقتضى الصلح أنها وقف لأنها فيء وهو وقف إما بنفس حصوله وإما بإيقافه ومقتضى تعبيره أنها على العنوة لا تباع وليس مرادا أيضا لأن المفتوح عنوة غنيمة مخمسة بل الأولى أن يقال كما قاله بعض المتأخرين أنه صلى الله عليه وسلم أقر الدور بيد أهلها على الملك الذي كانوا عليه ولا نظر في ذلك إلى أنها فتحت صلحا أو عنوة
تتمة الصحيح أن مصر فتحت عنوة وممن نص عليه مالك في المدونة وأبو عبيد والطحاوي وغيرهم وأن عمر رضي الله تعالى عنه وضع على أراضيهم الخراج وفي وصية الشافعي في الأم ما يقتضى أنها فتحت صلحا وكان الليث يحدث عن زيد بن حبيب أنها فتحت صلحا
وقيل فتحت صلحا ثم نكثوا ففتحها عمر رضي الله تعالى عنه ثانيا عنوة ويمكن حمل الخلاف على هذا فمن قال فتحت صلحا نظر لأول الأمر ومن قال عنوة نظر لآخر الأمر وأما الشام فنقل الرافعي عن الروياني أن مدتها فتحت صلحا وأرضها عنوة ولكن رجع السبكي أن دمشق فتحت عنوة
فصل في الأمان وهو ضد الخوف وأريد به هنا ترك القتل والقتال مع الكفار وهو من مكايد الحرب ومصالحه والعقود التي تفيدهم إلا من ثلاثة أمان وجزية وهدنة لأنه إن تعلق بمحصور فالأمان أو بغير محصور فإن كان إلى غاية فالهدنة وإلا فالجزية وهما مختصان بالإمام بخلاف الأمان
والأصل في الأمان آية { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } وخبر الصحيحين ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما أي نقض عهده فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين والذمة العهد والأمان والحرمة والحق وأما الذمة في قولهم
____________________
(4/236)
ثبت المال في ذمته وبرئت ذمته فلها معنى آخر مر بيانه في البيع
( يصح ) ولا يجب ( من كل مسلم مكلف مختار ) ولو عبدا لمسلم أو كافر أو فاسقا أو محجورا عليه لسفه أو امرأة ( أمان حربي ) واحد غير أسير سواء كان بدار الحرب أم لا في حال القتال أم لا عين الإمام قتله كما بحثه الزركشي أم لا ( وعدد محصور ) منهم كأهل قرية صغيرة ( فقط ) فخرج بالمسلم الكافر لأنه متهم وليس أهلا للنظر لنا وبالمكلف غيره لإلغاء عبارته ويلحق بالمكلف السكران المتعدي بسكره على طريقة المصنف وبالمختار المكره وبالمحصور غيرهم كأهل بلد أو ناحية فلا يؤمنهم الآحاد لئلا يتعطل الجهاد فيها بأمانهم
قال الإمام ولو أمن مائة ألف منا مائة ألف منهم فكل واحد منا لم يؤمن إلا واحدا لكن إن ظهر انسدد وانتقاض فأمان الجميع مردود
قال الرافعي وهو ظاهر إن أمنوهم دفعة فإن وقع مرتبا فينبغي صحة الأول فالأول إلى ظهور الخلل واختار المصنف وقال إنه مراد الإمام ( ولا يصح أمان أسير لمن هو معهم ) أو غيرهم ( في الأصح ) والثاني يصح لدخوله في الضابط
تنبيه محل الخلاف في الأسير المقيد والمحبوس وإن لم يكن مكرها لأنه مقهور بأيديهم لا يعرف وجه المصلحة لأن وضع الأمان أن يأمن المؤمن وليس الأسير آمنا أما أسير الدار وهو المطلق بدار الكفر الممنوع من الخروج منها فيصح أمانه كما في التنبيه وغيره وعليه قال الماوردي إنما يكون مؤمنه آمنا بدار الحرب لا غير إلا أن يصرح بالأمان في غيرها وبغير الأسير الكافر الأسير لأنه بالأسر ثبت فيه حق للمسلمين وقيده الماوردي بغير الذي أسره أما الذي أسره فإنه يؤمنه إذا كان باقيا في يده لم يقبضه الإمام كما يجوز قتله وفي عقد الأمان للمرأة استقلالا وجهان أرجحهما كما جزم به الماوردي الجواز
( ويصح ) إيجاب الأمان ( بكل لفظ يفيد مقصوده ) صريحا كأجرتك وأمنتك أو لا تفزع كأنت على ما تحب أو كن كما شئت ( و ) يصح ( بكتابة ) بالفوقية لأثر فيه عن عمر رضي الله تعالى عنه ولا بد من النية لأنها كناية أو لا تخف أو لا بأس عليك أو أنت آمن أو في أماني أو أنت مجار ولا فرق في اللفظ المذكور بين العربي كما مر وبين العجمي كمترس أي لا تخف أو كناية مع النية ( ورسالة ) لأنها أقوى من الكتابة سواء كان الرسول مسلما أم كافرا لأن بناء الباب على التوسعة في حقن الدم ومقتضى هذا جواز الرسول صبيا لكن لا بد من تكليفه كالمؤمن
تنبيه يصح إيجاب الأمان بالتعليق بالغرر كقوله إن جاء زيد فقد أمنتك لما مر أن بناء الباب على التوسعة وبإشارة مفهمة ولو من ناطق كما سيأتي في القبول فلو أشار مسلم لكافر فظن أنه أمنه فجاءنا فأنكر المسلم أنه أمنه بها بلغناه مأمنه ولا نغتاله لعذره
فإن مات المشير قبل أن يبين الحال فلا أمان ولا اغتيال فيبلغ المأمن وإلا اغتيل وللإمام لا للآحاد جعلها أمانا إن رأى في الدخول لها مصلحة ولا تجب إجابة من طلب الأمان إلا إذا طلبه لسماع كلام الله تعالى فتجب قطعا ولا يمهل أربعة أشهر بل قدر ما يتم به البيان
( ويشترط ) لصحة الأمان ( علم الكافر بالأمان ) كسائر العقود فإن يعلم فلا أمان له كما قالاه وإن نازع في ذلك البلقيني فتجوز المبادرة إلى قتله ولو من المؤمن ( فإن ) علم الكافر بأمانه و ( رده بطل ) جزما لأنه عقد كالهبة ( وكذا ) يبطل ( إن لم يقبل في الأصح ) كغيره من العقود والثاني يكفي السكوت لبناء الباب على التوسعة كما مر
تنبيه تعبيره بالأصح يقتضي أن المسألة ذات وجهين وليس مرادا وإنما هو تردد للإمام والترجيح بحث له والمنقول في التهذيب وغيره الاكتفاء بالسكوت
قال البلقيني وغيره وهو قضية نص الشافعي فإنه لم يعتبر القبول وهو ما عليه السلف والخلف ولما مر من بناء الباب على التوسعة لكن يشترط مع السكوت ما يشعر بالقبول وهو
____________________
(4/237)
الكف عن القتال كما صرح به الماوردي
( وتكفي ) ولو من ناطق ( إشارة مفهمة للقبول ) لكن يعتبر في كونها كناية من الأخرس أن يختص بفهمها فظنون فإن فهمها كل أحد فصريحة كما علم من الطلاق
تنبيهان أحدهما قد يوهم كلامه أن الإشارة لا تكفي في إيجاب الأمان والمذهب الاكتفاء كما مر وهذا بخلاف الإشارة في الطلاق والرجعة وسائر العقود حيث يعتبر العجز عن النطق لأن المقصود هنا حقن الدماء فكانت الإشارة شبهة واحترز بالمفهمة عن غير المفهمة فلا يصح بها أمان
الثاني أن محل الخلاف في اعتبار القبول إن لم يسبق منه استيجاب فإن سبق منه لم يحتج للقبول جزما
( ويجب أن لا تزيد مدته على أربعة أشهر ) في الأظهر لما سيأتي في الهدنة فإن زاد عليها بطل في الزائد ولا يبطل في الباقي على الأصح تخريجا على تفريق الصفقة فلو أطلق الأمان حمل على أربعة أشهر ويبلغ بعدها المأمن
فإن قيل قد رجحا في الهدنة أنها لا تصح عند الإطلاق وقد قالا حكم الإمان حكم الهدنة حيث لا ضعف أجيب بأن هذا مستثنى لأن بابه أوسع بدليل صحته من الآحاد بخلافها ( وفي قول يجوز ) أكثر منها ( ما لم تبلغ ) مدته ( سنة ) كالهدنة أما السنة فممتنعة قطعا
تنبيهان أحدهما محل الخلاف في أمان الرجال أما النساء فلا يحتاج فيهن إلى تقييده مدة وقد نص في الأم على أن المرأة المستأمنة إذا كانت ببلاد الإسلام لم تمنع ولا تتقيد بمدة لأن الأربعة أشهر إنما هي للمشركين الرجال ومنعوا من السنة لئلا تترك الجزية والمرأة ليست من أهلها والخنثى كالمرأة كما بحثه بعض المتأخرين
الثاني سكت المصنف عن بيان المكان الذي يكون المؤمن فيه إشعارا بأنه لا حاجة لتقييده وهو كذلك
( ولا يجوز ) ولا يصح ( أمان يضر المسلمين كجاسوس ) وطليعة لخبر لا ضرر ولا ضرار وينبغي كما قال الإمام أن لا يستحق تبليغ المأمن فيغتال لأن دخول مثله خيانة
تنبيه كلام المصنف يقتضي أن شرط الأمان انتفاء الضرر دون ظهور المصلحة وهو كذلك كما صرح به في أصل الروضة تبعا للإمام وإن رجح البلقيني تبعا للقاضي حسين أنه إنما يجوز بالمصلحة
ثم قال لا يخفى أن ذلك في أمان الآحاد أما أمان الإمام فلا يجوز إلا بالنظر للمسلمين نص عليه اه
وهذا ظاهر ولا لغيره ولو أمن أحادا على مدارج الغزاة وعسر بسببه سير العسكر واحتاجوا إلى نقل الزاد رد للضرورة وفي معنى الجاسوس من يحمل سلاحا إلى دار الحرب ونحوه مما يعينهم
( وليس للإمام ) ولا لغيره ( نبذ الأمان إن لم يخف خيانة ) لأن الأمان لازم من جهة المسلمين فإن خافها نبذه كالهدنة وأولى جائز من جهة الكافر لينبذه متى شاء ( ولا يدخل في الأمان ) لحربي بدارنا ( ماله وأهله من زوجته وولده الصغير أو المجنون بدار الحرب ) جزما لأن فائدة الأمان تحريم قتله واسترقاقه ومفاداته لا أهله وماله فيجوز اغتنام أمواله وسبي ذراريه المخلفين هناك ( وكذا ما معه منهما ) في دار الإسلام وإن لم يكن في حيازته ( في الأصح إلا بشرط ) لقصور اللفظ عن العموم والثاني لا يحتاج إلى شرط
تنبيه المراد بما معه من ماله غير المحتاج إليه مدة أمانه أما المحتاج إليه فيدخل ولو بلا شرط ومن ذلك ما يستعمله في حرفته من الآلات ومركوبه إن لم يستغن عنه هذا إذا أمنه غير الإمام
فإن أمنه الإمام دخل ما معه بلا شرط ولا يدخل ما خلفه بدار الحرب إلا بشرط من الإمام أما إذا كان الأمان للحربي بدراهم فقياس ما ذكر أن يقال إن كان أهله وماله بدراهم دخلا ولو بلا شرط إن أمنه الإمام وإن أمنه غيره لم يدخل أهله ولا ما لا يحتاجه من ماله إلا بشرط بخلاف ما يحتاجه فيدخل من غير شرط وإن كان بدارنا دخلا إن شرطه الإمام لا غيره وكلام المصنف يقتضي أن الذي معه لغيره لا يدخل قطعا وليس مرادا فقد نص في الأم على التسوية بين ما معه من ماله ومال غيره
____________________
(4/238)
فائدة لهذه المسألة أحوال وهي إما أن يكون المؤمن الإمام أو غيره والمؤمن إما أن يكون بدار الحرب أو بدارنا جملة ذلك أربعة أحوال ثم ماله إما أن يكون بالدار التي هو فيها أو لا اضرب اثنين في أربعة بثمانية ثم الذي معه إما أن يكون محتاجا إليه أو لا اضرب اثنين في ثمانية بستة عشر ثم كل من الإمام وغيره إما أن يقع منه بشرط أو لا فهذه أربعة تضرب في ستة عشر بأربعة وستين ثم الذي معه إما أن يكون له أو لغيره اضرب اثنين في أربعة وستين بمائة وثمانية وعشرين وكل ذلك يعلم مما ذكرته فاستفده فإني استخرجته من فكري الفاتر
ثم أخذ في بيان حكم هجرة المسلم فقال ( والمسلم ) المقيم ( بدار الحرب إن أمكنه إظهار دينه ) لكونه مطاعا في قومه أو لأن له عشيرة يحمونه ولم يخف فتنة في دينه ( استحب له الهجرة ) إلى دار الإسلام لئلا يكثر سوادهم أو يكيدوه أو يميل إليهم وإنما لم يجب لقدرته على إظهار دينه
تنبيه محل استحبابها ما لم يرج ظهور الإسلام هناك بمقامه فإن رجاه فالأفضل أن يقيم ولو قدر على الامتناع بدار الحرب الاعتزال وجب عليه المقام بها لأن موضعه دار إسلام فلو هاجر لصار دار حرب فيحرم ذلك نعم إن رجى نصرة المسلمين بهجرته فالأفضل أن يهاجر قاله الماوردي
ثم في إقامته يقاتلهم على الإسلام ويدعوهم إليه إن قدر وإلا فلا
( وإلا ) أي وإن لم يمكنه إظهار دينه أو خاف فتنة فيه ( وجبت ) عليه الهجرة رجلا كان أو امرأة وإن لم تجد محرما ( إن أطاقها ) لقوله تعالى { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية ولخبر أبي داود وغيره أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين وسميت هجرة لأنهم هجروا ديارهم ولم يقيدوا ذلك بأمن الطريق ولا بوجود الزاد والراحلة وينبغي أنه إن خاف تلف نفسه من خوف الطريق أو من ترك الزاد أو من عدم الراحلة عدم الوجوب
ويستثنى من الوجوب من في إقامته مصلحة للمسلمين فقد حكى ابن عبد البر وغيره أن إسلام العباس رضي الله تعالى عنه كان قبل بدر وكان يكتمه ويكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين وكان المسلمون يثقون به وكان يحب القدوم على النبي صلى الله عليه وسلم
فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم إن مقامك بمكة خير ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة
ويلتحق بوجوب الهجرة من دار الكفر من أظهر حقا ببلدة من بلاد الإسلام ولم يقبل ولم يقدر على إظهاره فتلزمه الهجرة من تلك نقله الأذرعي وغيره عن صاحب المعتمد فيها وذكر البغوي مثله في سورة العنكبوت فقال يجب على كل من كان ببلد تعمل فيها المعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك الهجرة إلى حيث تتهيأ له العبادة ويدل لذلك قوله تعالى { فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } فإن استوت جميع البلاد في عدم إظهار ذلك كما في زماننا فلا وجوب بلا خلاف فإن لم يطق الهجرة فلا وجوب حتى يطيقها فإن فتح البلد قبل أن يهاجر سقطت عنه الهجرة
( ولو قدر أسير ) في أيدي الكفار ( على هرب لزمه ) لخلوصه به من قهر الأسر سواء أمكنه إظهار دينه أم لا كما نقله الزركشي عن تصحيح الإمام وإن جزم القمولي وغيره بتقييده بعدم الإمكان ( ولو أطلقوه ) من الأسر ( بلا شرط فله اغتيالهم ) قتلا وسبيا وأخذ مال لأنهم لم يستأمنوه وقتل الغيلة أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله ( أو ) أطلقوه ( على أنهم في أمانه ) وإن لم يؤمنوه كما نص عليه في الأم ( حرم ) عليه اغتيالهم وفاء بما التزمه وكذا لو أطلقوه على أنه في أمانهم لأنهم إذا أمنوه وجب أن يكونوا في أمان منه فلو قالوا أمناك ولا أمان لنا عليك جاز له اغتيالهم كما في نص الأم ( فإن تبعه قوم ) منهم بعد خروجه ( فليدفعهم ) وجوبا ( ولو بقتلهم ) كالصائل فيراعى الترتيب في الصائل وظاهر كلام الشيخين أنه لا ينقض العهد بذلك ( أو ) أطلقوه و ( شرطوا ) عليه ( أن لا يخرج من دارهم ) نظرت فإن لم يمكنه إظهار دينه ( لم يجز الوفاء ) بالشرط بل يجب عليه الخروج إن أمكنه لأن في ذلك ترك إقامة الدين والتزام ما لا يجوز لا يلزم
____________________
(4/239)
وإن أمكنه لم يحرم الوفاء لأن الهجرة حينئذ مستحبة
تنبيه لو حلفوه ولو بالطلاق مكرها على ذلك لم يحنث بتركه لعدم انعقاد يمينه فإن قالوا لا نطلقك حتى تحلف أنك لا تخرج فحلف فأطلقوه فخرج لم يحنث أيضا كما لو أخذ اللصوص رجلا وقالوا لا نتركك حتى تحلف أنك لا تخبر بمكاننا فحلف ثم أخبر بمكانهم لم يحنث لأنه يمين إكراه وإن حلف لهم ترغيبا ولو قبل الإطلاق حنيث بخروجه وله عند خروجه أخذ مال مسلم وجده عندهم ليرده عليه ولو أمنهم عليه ولا يضمنه كما رجحه ابن المقري لأنه لم يكن مضمونا على الحربي الذي كان بيده بخلاف المغصوب إذا أخذه شخص من الغاصب ليرده إلى مالكه فإنه يضمنه لأنه كان مضمونا على الغاصب فأديم حكمه
فروع لو التزم لهم قبل خروجه ما لا فداء وهو مختار أو أن يعود إليهم بعد خروجه إلى دار الإسلام حرم عليه العود إليه وسن له الوفاء بالمال الذي التزمه ليعتمدوا الشرط في إطلاق الأسراء وإنما لم يجب لأنه التزام بغير حق والمال المبعوث إليهم فداء لا يملكونه كما قاله الروياني وغيره لأنه مأخوذ بغير حق ولو اشترى منهم شيئا ليبعث إليهم ثمنه أو اقترض فإن كان مختارا لزمه الوفاء أو مكرها فالمذهب أن العقد باطل ويجب رد العين فإن لم يجر لفظ بيع بل قالوا خذ هذا وابعث إلينا كذا من المال فقال نعم فهو كالشراء مكرها ولو وكلوه ببيع شيء لهم بدارنا باعه ورد ثمنه إليهم
( ولو عاقد الإمام ) أو نائبه ( علجا ) هو الكافر الغليظ الشديد سمي به لدفعه عن نفسه بقوته ومنه سمي العلاج علاجا لدفعه الداء
وفي الحديث الدعاء والبلاء يتعالجان إلى يوم القيامة أي يتصارعان رواه البزار والحاكم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ( يدل على قلعة ) تفتح عنوة وهي بفتح القاف وإسكان اللام وحكي فتحها الحصن إما لأنه قد خفي علينا طريقها أو ليدلنا على طريق خال من الكفار أو سهل أو كثر الماء أو الكلأ أو نحو ذلك ( وله منها جارية جاز ) ذلك سواء أكان ابتداء الشرط من العلج أم من الإمام وهي جعالة بجعل مجهول غير مملوك احتملت للحاجة وسواء كانت الجارية معينة أو مبهمة حرة أم أمة لأن الحرة ترق بالأسر والمبهة يعينها الإمام ويجبر العلج على القول وسواء حصل بالدلالة كلفة أم لا حتى لو كان الإمام نازلا تحت قلعة لا يعرفها فقال من دلني على قلعة كذا فله منها جارية فقال العلج هي هذه
استحق الجارية كما في الروضة وأصلها فإن قيل مقتضى ما ذكروه في باب الجعالة عدم الاستحقاق فإنهم شرطوا التعب ولا تعب هنا
أجيب بأنهم لم يعتبروا التعب هنا ولهذا لو قال العلج القلعة بمكان كذا ولم يمش ولم يتعب استحق الجارية فكذلك أيضا هنا وقد استثنوا من عدم صحة الاستئجار على كلمة لا تتعب مسألة العلج للحاجة
تنبيه ظاهر كلام المصنف أنه لا فرق بين القلعة المعينة والمبهمة وهو ما في تعليق الشيخ أبي حامد ولعله كما قال شيخنا محمول على ما إذا أبهم في قلاع محصورة وإلا فلا يصح بل الجمهور إنما صوروه بالمعينة لأن غير المعينة يكثر فيها الغرر لكن مع الحمل المذكور يخف فينبغي اعتماده
وخرج بالعلج ما لو عاقد مسلما بما ذكر فإن الأصح عند الإمام عدم الصحة وتبعه في الحاوي الصغير لأن فيه أنواع غرر فلا يحتمل معه واحتملت مع الكافر لأنه أعرف بأحواله قلعهم وطرقهم غالبا ولأن المسلم يتعين عليه فرض الجهاد والدلالة نوع منه فلا يجوز أخذ العوض عليه لكن الذي أورده العراقيون الجواز وقال في البحر إنه المشهور
وقال الأذرعي إنه الأصح المختار كشرط النفل في البراءة والرجعة وهو قضية كلام الرافعي في باب الغنيمة وصححه البلقيني وغيره وهو الظاهر لأن الحاجة قد تدعو إلى ذلك واحترز بقوله وله منها جارية عما إذا قال الإمام وله جارية مما عندي مثلا فإنه لا يصح للجهل بالجعل كسائر الجعالات وتعبيره بالجارية مثال ولو قال جعل كما في التنبيه لكان أشمل
( فإن فتحت ) أي القلعة عنوة بمن عاقده ( بدلالته ) بكسر الدال وفتحها وفيها الجارية المعينة أو المبهمة حية ولم تسلم قبل إسلامه ( أعطيها ) وإن لم يوجد سواها على الأصح لأنه استحقها بالشرط قبل الظفر
____________________
(4/240)
تنبيه قضية إطلاقه أنه يعطاها متى فتحت بدلالته ولو في وقت آخر كأن تركناها ثم عدنا إليها وهو كذلك
( أو ) فتحت من غير من عاقده ولو بدلالته أو ممن عاقده لكن ( بغيرها ) أي دلالته ( فلا ) شيء له ( في الأصح ) أما في الأولى فلانتفاء معاقدته مع من فتحها وأما في الثانية فلأن القصد الدلالة الموصلة إلى الفتح ولم توجد والثاني يستحقها لدلالته ولا ينظر إلى ذلك ( فإن لم تفتح ) تلك القلعة ( فلا شيء له ) لأن الاستحقاق مقيد بشيئين الدلالة والفتح ( وقيل إن لم يعلق الجعل بالفتح فله أجرة مثل ) لوجود الدلالة ورد بأن تسليمها لا يمكن إلا بالفتح فالشرط مقيد به حقيقة وإن لم يجر لفظا أما إذا علق الجعل بالفتح فلا يستحق شيئا قطعا
تنبيه هذا إذا كان الجعل من القلعة فإن كان من غيرها قال الماوردي لا يشترط في استحقاقه فتحها بلا خلاف
( فإن لم يكن فيها جارية ) أصلا ( أو ) كانت ولكن ( ماتت قبل العقد فلا شيء ) له لفقد المشروط ( أو ) ماتت ( بعد ) العقد و ( الظفر قبل التسليم ) بها ( وجب بدل ) عنها جزما لأنها حصلت في قبضة الإمام فالتلف من ضمانه ( أو ) ماتت ( قبل ظفر ) بها ( فلا ) بدل عنها ( في الأظهر ) لأن الميتة غير مقدور عليها فصارت كأن لم تكن فيها
والثاني تجب ورجحه البلقيني لأن العقد قد علق بها وهي حاصلة ثم تعذر تسليمها وهروبها قبل الظفر بها كموتها ( وإن أسلمت ) دون العلج بعد العقد وقبل ظفر بها أو بعده ( فالمذهب وجوب بدل ) لتعذر تسليمها له بالإسلام بناء على عدم جواز شراء الكافر مسلما
قال البلقيني وهذا البناء مردود بل يستحقها قطعا لأنه استحقها بالظفر وقد كانت إذا ذاك كافرة فلا يرتفع ذلك بإسلامها كما لو ملكها ثم أسلمت لكن لا تسلم إليه بل يؤمر بإزالة ملكه عنها كما لو أسلم العبد الذي باعه المسلم للكافر قبل القبض لكن هناك يقبضه له الحاكم وهنا لا يحتاج إلى قبض
وقد يقرق بين ما هنا وبين البيع لأن البيع عقد لازم وهنا جعالة جائزة مع المسامحة فيها ما لا يتسامح في غيرها فلا يلحق بغيرها
أما لو أسلمت قبل العقد فلا شيء له إن علم بذلك وبأنها قد فاتته كما قاله البلقيني وكلام غيره يقتضيه وإن كان ظاهر عبارة المصنف بغير التقدير الذي ذكرته استحقاقه لأنه عمل متبرعا ( وهو ) أي البدل في الجارية المعينة حيث وجب ( أجرة مثل ) في الأصح عند الإمام ( وقيل قيمتها ) وهو الأصح كما عليه الجمهور ونص عليه أيضا الشافعي في الأم ومحله من الأخماس الأربعة لا من أصل الغنيمة ولا من سهم المصالح
وأما المبهمة فإن وجب البدل فيها فيجوز أن يقال يرجع بأجرة المثل قطعا لتعذر تقويم المجهول ويجوز أن يقال تسلم إليه قيمة من تسلم إليه قبل الموت قاله الشيخان
والثاني أوجه على ما عليه الجمهور
أما إذا فتحت القلعة صلحا بدلالته فينظر إن دخلت الجارية المشروطة في الأمان ولم يرض أصحاب القلعة بتسليمها إليه ولا رضى العلج بعوضها وأصروا على ذلك نقضنا الصلح وبلغوا المأمن بأن يردوا إلى القلعة ليستأنف القتال وإن رضي أصحاب القلعة بتسليمها بقيمتها دفعنا لهم القيمة وهل هي من سهم المصالح أو من حيث يكون الرضخ وجهان أوجههما كما قال الزركشي الثاني وإن كانت خارجة عن الأمان بأن كان الصلح على أمان صاحب القلعة وأهله ولم تكن الجارية منهم سلمت إلى العلج
خاتمة فيها مسائل منشورة لو صال زعيم قلعة وهو سيد أهلها على أمان مائة منهم صح وإن جهلت أعيانهم وصفاتهم للحاجة إليه فإن عد مائة غير نفسه جاز للإمام قتله لخروجه عن المائة واستدل له الرافعي وغيره بأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه حاصر مدينة فصالحه دهقانها على أن يفتح له المدينة ويؤمن مائة رجل من أهلها فقال أبو موسى اللهم أنسه نفسه فلما عدهم قال له أبو موسى أفرغت فقال نعم فأمنهم وأمر بقتل الدهقان فقال أتعذرني وقد أمنتني قال أمنت العدة التي سميت ولم تسم نفسك فنادى بالويل وبذل مالا فلم يقبله منه وقتله ويسقط بإسلام الكافر حد الزنا عنه كما مر في بابه لآية { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }
____________________
(4/241)
مع كون الحق له تعالى ولا تسقط به كفار يمين وظهار وقتل كالدين وعليه بعد إسلامه رد مال مسلم استولى عليه ولو بدار الحرب فإن غنمناه ولو مع أموالهم رد مالكه وإن خرج لواحد بعد القسمة رده أيضا لمالكه وغرم له الإمام بدله من بيت المال فإن لم يكن فيه شيء نقضت القسمة ولو استولد بالكافر جارية مسلم ثم وقعت في الغنم أخذها وولدها مالكها لأن ملكه لم يزل عنها ويندب له عدم أخذها ولو نكح حربي مسلمة أو أصابها بشبهة وولدت منه لحقه الولد للشبهة ثم إن ظفرنا بهم لم يرق الولد كأمه للحكم بإسلامه تبعا لها ولو وجد أسير بدارنا فادعى الإسلام أو الذمة صدق بيمينه بخلاف أسير وجد بدار الحرب ولو غنمنا رقيقا مسلما اشتراه كافر من مسلم رد لبائعه ورد بائعه الثمن للكافر لعدم صحة البيع وفداء الأسير مندوب للآحاد فلو قال شخص للكافر بغير إذن الأسير أطلقه ولك علي كذا لزمه ولا لللجوع له على الأسير فإن أذن له رجع عليه به إذا غرمه ولو لم يشترط الرجوع كقول المدين لغيره أقض ديني
ولو قال الأسير للكافر أطلقني بكذا أو قال له الكافر أفد نفسك بكذا فقبل لزمه ما التزم فإن قيل هذا مخالف لقولهم أنه لو التزم لهم مالا ليطلقوه لم يلزمه الوفاء به ومن أنهم لو قالوا له خذ هذا وابعث لنا كذا من المال فقال نعم فهو كالشراء مكرها فلا يلزمه المال وقياسه أن يكون ما هنا كذلك
أجيب بأن ما مر في الأولى صورته أن يعاقده على أن يطلقه ليعود إليه أو يرد إليه مالا كما أفصح عنه الدارمي وهنا عاقده على رد المال عينا
وأما الثانية فلا عقد فيها في الحقيقة ولو غنم المسلمون ما افتدى به الأسير لزمهم رده للمفادى لأنه لم يخرج عن ملكه ولو انقضت مدة حربي مستأمن وأمانه مختص ببلد بلغ مأمنه فإن كان أمانه عاما لم يجب تبليغه مأمنه لأن ما يتصل ببلادنا ببلادهم من محل أمانه فلا يحتاج إلى مدة الانتقال من موضع الأمان كتاب عقد الجزية للكفار لما فرغ المصنف رحمه الله تعالى من قتال المشركين عقبه بالجزية لأن الله تعالى غيا القتال بها بقوله { حتى يعطوا الجزية } الآية وتطلق على العقد وعلى المال الملتزم به وهي مأخوذة من المجازاة لكفنا عنهم وقيل من الجزاء بمعنى القضاء
قال تعالى { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا } أي لا تقضي ويقال جزيت ديني أي قضيته وجمعها جزى كقرية وقرى وليست هي مأخوذة في مقابلة الكفر ولا التقرير عليه بل هو نوع إذلال لهم ومعونة لنا وربما يحملهم ذلك على الإسلام مع مخالطة المسلمين الداعية إلى معرفة محاسن الإسلام ولعل الله تعالى أن يخرج منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر
والأصل فيها قبل الإجماع قوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } إلى قوله { حتى يعطوا الجزية } الآية وقد أخذها صلى الله عليه وسلم من مجوس هجر كما رواه البخاري ومن أهل نجران كما رواه أبو داود ومن أهل أيلة كما رواه البيهقي وقال إنه منقطع
وأركانها خمسة صيغة وعاقد ومعقود له ومكان ومال
وقد شرع المصنف في أولها فقال ( صورة عقدها ) من الموجب وسيأتي أنه الإمام أو نائبه نحو ( أقركم ) كأقررتكم كما في المحرر وغيره وحينئذ لا فرق بين أن يأتي بصيغة الماضي أو المضارع وقول البلقيني لا بد أن يقصد المضارع الحال أو الاستقبال لينسلخ عن معنى الوعد ممنوع لأن المضارع عند التجرد من القرائن يكون للحال
قال ابن شهبة وقد ذكر القرافي أن صيغ المضارع تأتي للإنشاء كأشهد ونحوه وقول المصنف ( بدار الإسلام ) ليس بقيد فقد يقرهم بالجزية في دار الحرب ( أو أذنت في إقامتكم بها ) غير الحجاز كما سيأتي ( على أن تبذلوا ) بالمعجمة أن تعطوا بمعنى تلتزموا ( جزية ) هي كذا في كل حول
قال الجرجاني ويقول أول الحول أو آخره ( وتنقادوا لحكم الإسلام ) في غير العبادات من حقوق الآدميين في المعاملات وغرامة المتلفات وكذا ما يعتقدون تحريمه كالزنا والسرقة
____________________
(4/242)
دون ما لا يعتقدونه كشرب الخمر ونكاح المجوس وقد فسر إعطاء الجزية في الآية بالتزامها والصغار بالتزام أحكامنا
قالوا وأشد الصغار على المرء أن يحكم عليه بما لا يعتقده ويضطر إلى احتماله وإنما وجب التعرض لذلك في الإيجاب لأن الجزية مع الانقياد والاستسلام كالعوض عن التقرير فيجب التعرض له كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة وهذا في حق الرجل
أما المرأة فيكفي فيها الانقياد لحكم الإسلام فقط إذ لا جزية عليها
تنبيه لا تنحصر صيغة إيجابها فيما ذكره المصنف فلو قال الكافر ابتداء أقررني بكذا فقال الإمام أقررتك كفى لأن الاستيجاب كالقبول
( والأصح اشتراط ذكر قدرها ) أي الجزية لما مر أنها كالثمن والأجرة
والثاني وهو ضعيف جدا خلاف ما يفهمه كلامه لا يشترط ويحمل على الأقل عند الإطلاق
تنبيه أفهم تخصيصه الخلاف بذكر قدرها أنه لا خلاف في اشتراط الانقياد لحكم الإسلام وليس مرادا بل ذكر القاضي حسين والإمام فيه خلافا لأن الأحكام من مقتضيات العقد والتصريح بمقتضى العقد لا يشترط في صحته ( لا كف اللسان ) منهم ( عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه ) فلا يشترط ذكره لدخوله في شرط الانقياد وقيل يشترط إذ به تحصل المسالمة وترك التعرض من الجانبين ( ولا يصح العقد ) للجزية ( مؤقتا على المذهب ) لأنه عقد يحقن به الدم فلا يجوز مؤقتا كعقد الإسلام وفي قول أو وجه يصح
تنبيه محل الخلاف في التأقيت بمعلوم كسنة أما المجهول كأقركم ما شئنا أو ما شاء الله أو زيد أو ما أقركم الله فالمذهب القطع بالمنع
وأما قوله صلى الله عليه وسلم أقركم ما أقركم الله فإنما جرى في المهادنة حين وادع يهود خيبر لا في عقد الذمة ولو قال ذلك غيره من الأئمة لم يصح لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما عند الله بالوحي بخلاف غيره
وقضية كلامهم أنه لا يشترط ذكر التأبيد بل يجوز الإطلاق وهو يقتضي التأبيد ولو قال أقركم ما شئتم صح لأن لهم نبذ العقد متى شاؤوا فليس فيه إلا التصريح بمقتضى العقد بخلاف الهدنة لا تصح بهذا اللفظ لأنه يخرج عقدها عن موضوعه من كونه مؤقتا إلى ما يحتمل تأبيده المناني لمقتضاه
( ويشترط ) في صحة العقد من الناطق ( لفظ قبول ) كقبلت أو رضيت بذلك كغيره من العقود
أما الأخرى فيكفي فيه الإشارة المفهمة لأنها بمنزلة نطقه وتكفي الكتابة مع النية كما بحثه الزركشي كالبيع بل أولى وكما صرحوا به في الأمان
تنبيه سكتوا عن شرط اتصال القبول بالإيجاب وظاهر كما قال شيخنا أنه يشترط وإن قال الأذرعي يقرب عدم اعتباره
( ولو وجد كافر بدارنا فقال دخلت لسماع كلام الله تعالى أو ) قال دخلت ( رسولا ) ولو عبدا سواء كان معه كتاب أم لا ( أو ) قال دخلت ( بأمان مسلم ) يصح أمانه ( صدق ) فلا يتعرض له لاحتمال ما يدعيه وقصد ذلك يؤمنه من غير احتياج إلى تأمين وكذا لو قال دخلت لأسلم أو لأبذل جزية
تنبيه محل تذلك إذا ادعاه قبل أن يصير عندنا أسيرا وإلا فلا يقبل إلا ببينة كما قاله البلقيني
( وفي دعوى الأمان وجه ) أنه لا يصدق فيه بل يطالب ببينة لإمكانها غالبا
وأجاب الأول بأن الظاهر من حال الحربي أنه لا يدخل دارنا بغير أمان فإن اتهم حلف كما نقله الرافعي عن ابن كج في مدعي الرسالة وجزم به ابن المقري في غيره
ثم شرع في الركن الثاني وهو العاقد فقال ( ويشترط لعقدها الإمام أو نائبه ) فيها خصوصا أو عموما لأنها من المصالح العظام فتحتاج إلى نظر واجتهاد فلا يصح عقدها من غيرهما لكن لا يغتال المعقود له بل يبلغ مأمنه ولا شيء عليه ولو أقام سنة فأكثر لأن العقد لغو ( وعليه ) أي عاقدها ( الإجابة إذا طلبوا ) عقدها لخبر مسلم عن بريدة
____________________
(4/243)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه إلى أن قال فإذا هم أبوا الإسلام فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم
تنبيه محل الوجوب قبل الأسر فأما الأسير إذا طلب عقد الجزية لا تجب إجابته على الأصح كما اقتضاه كلام الروضة ( إلا ) إذا طلب عقدها شخص يخاف كيده كان يكون الطالب ( جاسوسا نخافه ) فلا نجيبه للضرر الذي يخشى منه بل لا نقبل الجزية منه والجاسوس صاحب سر الشر كما أن الناموس صاحب سر الخير
ثم شرع في الركن الثالث وهو المعقود له
فقال ( ولا تعقد ) الجزية ( إلا لليهود والنصارى ) من العرب والعجم الذين لم يعلم دخولهم في ذلك الدين بعد نسخه لأهل الكتاب وقد قال تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون } إلى أن قال { من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية } والمجوس لأنه صلى الله عليه وسلم أخذها منهم وقال سنوا بهم سنة أهل الكتاب ولأن لهم شبهة كتاب والأظهر أنه كان لهم كتاب فرفع ( وأولاد من تهود أو تنصر قبل النسخ ) لدينه ولو بعد التبديل وإن لم يجتنبوا المبدل منه تغليبا لحقن الدم ولا تحل مناكحتهم ولا ذبيحتهم كما مر لأن الأصل في الأبضاع والميتات التحريم
تنبيه المراد بالنسخ نسخ التوراة بالإنجيل في اليهود ونسخ الإنجيل في النصارى ببعثته صلى الله عليه وسلم ولا تعقد لأولاد من تهود أو تنصر بعد النسخ بشريعة نبينا أو تهود بعد بعثة عيسى كآبائهم لأنهم تمسكوا بدين باطل وسقطت فضيلته
( أو ) أي وتعقد أيضا لمن لم يعلم حاله كان ( شككنا في وقته ) أي التهود أو التنصر فلم نعرف أدخلوا قبل النسخ أو بعده تغليبا لحقن الدم كالمجوس
وبذلك حكمت الصحابة في نصارى العرب وهم نهرا وتنوخ وبنو تغلب
تنبيه فهم من إطلاق المصنف أن يهود خيبر كغيرهم
وانفرد ابن أبي هريرة بإسقاط الجزية عنهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقاهم وجعلهم بذلك خولا أي عبيدا
وسئل ابن سريج عما يدعونه من أن علي بن أبي طالب كتب لهم كتابا بإسقاطها فقال لم ينقل أحد من المسلمين ذلك
وأما الصابئة والسامرة فتعقد لهم الجزية إن لم تكفرهم اليهود والنصارى ولم يخالفوهم في أصول دينهم وإلا فلا تعقد لهم وكذا تعقد لهم لو أشكل أمرهم
وأما من ليس لهم كتاب ولا شبهة كتاب كعبدة الأوثان والشمس والملائكة ومن في معناهم كمن يقول إن الفلك حي ناطق وإن الكواكب السبعة آلهة فلا يقرون بالجزية سواء فيهم العربي والعجمي
وعند أبي حنيفة تؤخذ الجزية من العجم منهم
وعند مالك تؤخذ من جميع المشركين إلا مشركي قريش
( وكذا ) يقر بالجزية على المذهب ( زاعم التمسك بصحف إبراهيم وزبور داود صلى الله عليهما وسلم ) وكذا صحف شيث وهو ابن آدم لصلبه لأن الله تعالى أنزل عليهم صحفا فقال { صحف إبراهيم وموسى } وقال { وإنه لفي زبر الأولين } وسمى كتابا كما نص عليه الشافعي فاندرجت في قوله تعالى { من الذين أوتوا الكتاب } وقيل لا تعقد لهم لأنها مواعظ لا أحكام لها فليس لها حرمة الأحكام ولا تحل مناكحتهم وذبيحتهم على المذهب عملا بالاحتياط في المواضع الثلاثة ( ومن أحد أبويه كتابي والآخر وثني ) تعقد له ( على المذهب ) وإن كان الكتابي أمه تغليبا لحقن الدم وتحرم مناكحته وذبيحته احتياطا
والطريق الثاني لا تعقد له كما لا يصح نكاحه
تنبيه قوله على المذهب راجع إلى هذه المسألة وإلى التي قبلها ولو ظفرنا بقوم وادعوا أو بعضهم التمسك تبعا لتمسك آبائهم بكتاب قبل النسخ ولو بعد التبديل صدقنا المدعين دون غيرهم وعقد لهم الجزية لأن دينهم لا يعرف إلا من جهتهم فإن شهد عدلان بكذبهم فإن كان قد شرط عليهم في العقد قتالهم إن بان كذبهم اغتلناهم وكذا إن
____________________
(4/244)
لم يشرط في أحد وجهين نقله الأذرعي وغيره عن النص لتلبيسهم علينا ولو توثن نصراني بلغ المأمن
ثم أطفال المنوثين من أمهم النصرانية نصارى وكذا أطفال النصارى من أمهم الوثنية فتقعد الجزية لمن بلغ منهم لأنه قد ثبت له علقة التنصر فلا تزول بما يحدث بعد
( ولا جزية على امرأة ) لقوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون } إلى قوله { وهم صاغرون } وهو خطاب الذكور وحكى ابن المنذر فيه الإجماع وروى البيهقي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن تؤخذ الجزية من النساء والصبيان
تنبيه لو طلب النساء عقد الذمة بالجزية أعلمهن الإمام بأنه لا جزية عليهن فإن رغبن في بذلها فهي هبة لا تلزم إلا بالقبض
( و ) لا على ( خنثى ) لاحتماله كونه أنثى فإن بانت ذكورته وقد عقد له الجزية طالبناه بجزية المدة الماضية عملا بما في نفس الأمر بخلاف ما لو دخل حربي دارنا وبقي مدة ثم أطلعنا عليه لا نأخذ منه شيئا لما مضى لعدم عقد الجزية له والخنثى كذلك إذا بانت ذكورته ولم تعقد له الجزية وعلى هذا التفصيل يحمل إطلاق من صحح الأخذ منه ومن صحح عدمه كما أشار البلقيني ( و ) لا على ( من فيه رق ) فمن كله رقيق أولى ولو مكاتبا لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم والعبد مال والمال لا جزية فيه كما لا تجب على العبد لا تجب على سيده بسببه
فإن قيل هلا وجبت على المبعض بقدر ما فيه من الحرية كمن تقطع جنونه فإن إفاقته تلفق كما سيأتي ويجب عليه بقدرها
أجيب بأن الجنون والإفاقة لم يجتمعا في وقت واحد بخلاف الرق والحرية ( و ) لا على ( صبي ) لقوله صلى الله عليه وسلم ل معاذ لما بعثه إلى اليمن خذ من كل حالم أي محتلم دينارا رواه الترمذي وأبو داود
ولو عقد على الرجال أن يؤدوا عن نسائهم وصبيانهم شيئا غير ما يؤدونه عن أنفسهم فإن كان من أموال الرجال جاز ولزمهم وإن كان من أموال النساء والصبيان لم يجز كما قاله الإمام ( و ) لا على ( مجنون ) أطبق جنونه لعدم تكليفه ( فإن تقطع جنونه ) وكان ( قليلا كساعة من شهر لزمته ) ولا عبرة بهذا الزمن اليسير وكذا لا أثر ليسير زمن الإفاقة كما بحثه شيخنا ( أو كثيرا كيوم ويوم
فالأصح تلفق الإفاقة ) أي زمنها ( فإذا بلغت ) أزمنة الإفاقة المتفرقة ( سنة ) فأكثر ( وجبت ) جزية اعتبارا للأزمنة المتفرقة بالأزمنة المجتمعة والثاني لا شيء عليه لنقصانه كالمبعض
تنبيه محل الخلاف إذا أمكن التلفيق فإن لم يمكن أجرى عليه أحكام الجنون كما استظهره شيخنا
هذا إذا تعاقب الجنون والإفاقة فلو كان عاقلا فجن في أثناء الحول فكموت الذمي في أثنائه وإن كان مجنونا فأفاق في أثنائه استقبل الحول حينئذ
( ولو بلغ ابن ذمي ) ولو بنبات عانته أو أفاق المجنون أو عتق العبد ( ولم يبذل ) بالمعجمة أي يعط ( جزية ) بعد طلبنا لها منه ( ألحق بمأمنه ) سواء أعتق العبد ذمي أم مسلم وعن مالك أن عتيق المسلم لا تضرب عليه الجزية لحرمة ولائه ( وإن بذلها ) من ذكر ( عقد له ) ولا يكفي عقد أب وسيد ولو كان كل منهما قد أدخله في عقده إذا بلغ أو عتق كأن قال قد التزمت هذا عني وعن ابني إذا بلغ أو عبدي إذا عتق ( وقيل عليه ) أي الصبي ( كجزية أبيه ) ولا يحتاج إلى عقد اكتفاء بعقد أبيه وإذا لم يكف ذلك فيعقد له عقدا مستأنف ويساوم كغيره لانقطاع التبعية بالكمال ولوجوب جزية أخرى ومر أن إعطاءها في الآية بمعنى التزامها وللإمام أن يجعل حول التابع والمتبوع واحدا ليسهل عليه أخذ الجزية ويستوفى ما لزم التابع في بقية العام الذي اتفق الكمال في أثنائه إن رضي التابع بذلك أو يؤخره إلى الحول الثاني فيأخذه مع جزية المتبوع في آخره لئلا يختلف أواخر الأحوال وإن شاء إفرادهما بحول فيأخذ ما لزم كلا منهما عند تمام حوله
تنبيه لو بلغ الصبي سفيها فعقد لنفسه أو عقد له وليه بدينار صح لأن فيه مصلحة حقن الدم أو بأكثر من دينار لم يصح لأن الحقن ممكن بدينار
فإن قيل لو صالح السفيه مستحق القصاص الواجب عليه بأكثر من الدية
____________________
(4/245)
صح صيانة لروحه فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن صون الدم في الجزية يحصل بالدينار وصون الروح لا يحصل في القصاص إلا بالزيادة إذ يجب على الإمام قبول الدينار ولا يجب على المستحق قبول الدية
ولو اختار السفيه أن يلتحق بالمأمن لم يمنعه وليه ولأن حجره على ماله لا على نفسه
( والمذهب وجوبها على زمن وشيخ هرم وأعمى وراهب وأجير ) لأنها كأجرة الدار فيستوي فيها أرباب الأعذار وغيرهم والطريق الثاني لا جزية عليهم إن قلنا لا يقتلون كالنساء والصبيان ( و ) على ( فقير عجز عن كسب ) ولو من أهل خيبر لعموم الآية ولأنه كالغني في حقن الدم والسكنى ( فإذا تمت سنة وهو معسر ففي ذمته حتى يوسر ) وكذا حكم السنة الثانية وما بعدها كما تعامل المعسر ويطالب إذا أيسر وفي قول غير مشهور أنه لا جزية عليه وإن كان ظاهر عطف المصنف له على الزمن يقتضي أن الخلاف فيه طريقان
تنبيه سكتا عن تفسير الفقير هنا وفيه وجهان حكاهما الدارمي و الرازي في تعليقه أحدهما مستحق الزكاة لو كان مسلما والثاني وهو الأشبه كما قاله الزركشي من لا يملك فاضلا عن قوت يومه آخر الحول ما يقدر به على أداء الجزية كما في زكاة الفطر وقال بعض المتأخرين يرجع فيه إلى العرق
ثم شرع في الركن الرابع وهو المكان القابل للتقرير فقال ( ويمنع كل كافر من استيطان الحجاز ) سواء أكان ذلك بجزية أم لا لشرفة ولما روى البيهقي عن أبي عبيدة بن الجراح آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أخرجوا اليهود من الحجاز ولخبر الصحيحين أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وخبر مسلم لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب
والمراد منها الحجاز المشتملة هي عليه ولم يرد جميع الجزيرة لأن عمر رضي الله تعالى عنه أجلاهم من الحجاز وأقرهم في اليمن مع أنه من جزيرة العرب
تنبيه لو عبر بالإقامة الاستيطان كما في الروضة لكان أولى فإنه يلزم من منعها منع الاستيطان ولا عكس فلو أراد الكافر أن يتخذ دارا بالحجاز ولم يسكنها ولم يستوطنها لم يجز لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه كالأواني وآلات الملاهي وإليه يشير قول الشافعي في الأم ولا يتخذ الذمي شيئا من الحجاز دارا
( وهو ) أي الحجاز ( مكة والمدينة واليمامة ) وهي مدينة بقرب اليمن على أربع مراحل من مكة ومرحلتين من الطائف قيل سميت باسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام وكانت تسكنها ( وقراها ) أي الثلاثة كالطائف ووج لمكة وخيبر للمدينة ( وقيل له ) أي الكافر ( الإقامة في طرقه ) أي الحجاز ( الممتدة ) بين هذه البلاد التي لم تجر الإقامة فيها عادة لأنها ليست من مجتمع الناس ولا موضع الإقامة والمشهور أنهم يمنعون لأن الحرمة للبقعة
تنبيه محل الخلاف في غير حرم مكة فأما البقاع التي من الحرم فإنهم يمنعون منها قطعا ولا يمنعون من ركوب بحر الحجاز لأنه ليس موضع إقامة ويمنعون من الإقامة في جزائره وسواحله المسكونة بخلاف غير المسكونة وإن خالف في ذلك الأذرعي وغيره وقالوا بالمنع مطلقا وسمي ذلك حجازا قال الأصمعي لأنه حجز بين نجد وتهامة وجزيرة العرب من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول وفي العرض من جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام وسميت جزيرة العرب لإحاطة بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات بها
( ولو دخله ) كافر ب ( غير إذن الإمام أخرجه ) منه لعدم إذنه له ( وعزره إن علم أنه ممنوع منه ) لجراءته ودخول ما ليس له دخوله فإن جهل ذلك أخرج ولم يعزر ( فإن استأذن ) كافر الإمام في دخول الحجاز ( أذن ) له ( إن كان ) في دخوله
____________________
(4/246)
( مصلحة للمسلمين كرسالة ) يؤديها وعقد ذمة وهدنة ( وحمل ما نحتاج ) نحن ( إليه ) من طعام ومتاع فإن لم يكن مصلحة لم يأذن له ( فإن كان ) دخوله ( لتجارة ليس فيها كبير حاجة ) كالعطر ( لم يأذن ) له الإمام في دخول الحجاز ( إلا بشرط أخذ شيء منها ) أي من متاعها وقدر المشروط منوط برأي الإمام اقتداء ب عمر رضي الله عنه فإنه كان يأخذ من القبط إذا اتجروا إلى المدينة عشر بعض الأمتعة كالقطيفة ويأخذ نصف العشر من الحنطة والشعير ترغيبا لهم في حملها للحاجة إليهما ولا يؤخذ من حربي دخل دارنا رسولا أو بتجارة نضطر نحن إليها فإن لم نضطر واشترط عليهم الإمام أخذ شيء ولو أكثر من عشرها جاز ويجوز دونه وفي نوع أكبر من نوع ولو أعفاهم جاز
فإن شرط عشر الثمن أمهلوا إلى البيع بخلاف ما إذا شرط أن يأخذ من تجارتهم وما يؤخذ في الحول لا يؤخذ إلا مرة ولو تردد وولاة المكاسة تفعل بالمسلمين كذلك ولا يؤخذ شيء من تجارة ذمي ولا ذمية إلا إن شرط مع الجزية ولا من غير متجر دخل بأمان وإن دخل الحجاز ويكتب لمن أخذ منه براءة حتى لا يطالب مرة أخرى قبل الحول
تنبيه ظاهر كلامهم في الدخول للتجارة أنه لا فرق بين الذمي وغيره وهو كذلك وإن خصه البلقيني بالذمي وقال إن الحربي لا يمكن من دخول الحجاز للتجارة
( و ) إذا أذن له الإمام في الدخول ( لا يقيم إلا ثلاثة أيام ) فأقل اقتداء ب عمر رضي الله تعالى عنه
ولا يحسب منها يومي الدخول والخروج كما مر في صلاة المسافر لأن أكثر من ذلك مدة الإقامة وهو ممنوع منها ويشترط الإمام ذلك عليه عند الدخول ولا يؤخر لقضاء دين بل يوكل من يقضي عنه
تنبيه محل منع الزائد على الثلاث إذا كان في موضع واحد أما لو أقام في موضع ثلاثة أيام ثم انتقل إلى آخر وهكذا لم يمنع من ذلك
قال الزركشي تبعا لصاحب الوافي وينبغي أن يكون بين كل موضعين مسافة القصر وإلا فيمنع من ذلك وهو بحث حسن لأن ما دونها في حكم الإقامة
( ويمنع ) الكافر ولو لمصلحة ( دخول حرم مكة ) لقوله تعالى { فلا يقربوا المسجد الحرام } والمراد به الحرم بإجماع المفسرين بدليل قوله تعالى { وإن خفتم عيلة } 1 أي فقرا بانقطاع التجارة عنكم لمنعهم من الحرم { فسوف يغنيكم الله من فضله } 1 ومعلوم أن الجلب إنما يجلب للبلد لا إلى المسجد نفسه والمعنى في ذلك أنهم أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم منه فعوقبوا بالمنع من دخوله بكل حال ( فإن كان رسولا ) والإمام في الحرم ( خرج إليه الإمام أو نائب يسمعه ) إذا امتنع من أدائها إلا إليه وإلا بعث إليه من يسمع وينهى إليه وإن طلب منا المناظرة ليسلم خرج إليه من يناظره وإن كان لتجارة خرج إليه من يشتري منه وقضية إطلاقه أنه لا فرق في منع دخوله إليه بين حال الضرورة وغيرها وبه صرح الشافعي في الأم
تنبيه لو بذل الكافر على دخوله الحرم مالا لم يجب إليه فإن أجيب فالعقد فاسد ثم إن وصل المقصد أخرج وثبت المسمى أو دون المقصد فبالقسط من المسمى
قاعدة كل عقد فسد يسقط فيه المسمى إلا هذه المسألة لأنه قد استوفى العوض وليس لمثله أجرة فرجع إلى المسمى
( وإن مرض فيه ) أي حرم مكة ( نقل ) منه ( وإن خيف موته ) من النقل لأنه ظالم بدخوله ( فإن مات ) فيه ( لم يدفن فيه ) تطهيرا للحرم منه ( فإن دفن ) فيه ( نبش وأخرج ) منه إلى الحل لأن بقاء جيفته فيه أشد من دخوله حيا
____________________
(4/247)
تنبيه محل نبشه إذا لم يتهر فإن تهرى ترك ولا يجري هذا الحكم في حرم المدينة لاختصاص حرم مكة بالنسك وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أدخل الكفار مسجده وكان ذلك بعد نزول براءة فإنها نزلت سنة تسع وقدم الوفد عليه سنة عشر وفيهم وفد نصارى نجران وهم أول من ضرب عليهم الجزية فأنزلهم مسجده وناظرهم في أمر المسيح وغيره
( وإن مرض في غيره ) أي غير حرم مكة ( من الحجاز وعظمت المشقة في نقله ) سواء خيف مع ذلك موته أم لا ( ترك ) مراعاة لأعظم الضررين لأنه يجوز دخوله في الجملة ( وإلا ) بأن لم تعظم المشقة فيه ( نقل ) مراعاة لحرمة الدار ( فإن مات ) فيه ( وتعذر نقله ) إلى الحل لتقطعه مثلا ( دفن هناك ) للضرورة فإن لم يتعذر لم يدفن هناك فإن دفن ترك
تنبيه ما ذكر في الذمي أما الحربي أو المرتد فلا يدفن فيه بل تغرى الكلاب على جيفته فإن تأدى الناس بريحه ووري كالجيفة
ثم شرع في الركن الخامس وهو المال مترجما له بفصل فقال فصل ( أقل الجزية دينار لكل سنة ) عن كل واحد لما رواه الترمذي وغيره عن معاذ أنه صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينار أو عدله من المعافر وهي ثياب تكون باليمن
تنبيه ظاهر الخبر أن أقلها دينارا أو ما قيمته دينار وبه أخذ البلقيني والمنصوص الذي عليه الأصحاب كما هو ظاهر عبارة المصنف أن أقلها دينار وعليه إذا عقد به جاز أن يعتاض عنه ما قيمته دينار وإنما امتنع عقدها بما قيمته دينار لأن قيمته قد تنقص عنه آخر المدة ومحل كون أقلها دينارا عند قوتنا وإلا فقد نقل الدارمي عن المذهب أنه يجوز عقدها بأقل من دينار نقله الأذرعي وقال إنه ظاهر متجه وقضية كلام المصنف تعلق الوجوب بانقضاء السنة
وقال القفال اختلف قوم الشافعي في أن الجزية تجب بالعقد وتستقر بانقضاء الحول أو تجب بانقضاء وبنى عليهما إذا مات في أثناء الحول هل تسقط فإن قلنا بالعقد لم تسقط وإلا سقطت حكاه القاضي الحسين في الأسرار ولا حد لأكثر الجزية
( ويستحب للإمام مماكسة ) أي مشاححة الكافر العاقد لنفسه أو لموكله في قدر الجزية حتى يزيد على دينار بل إذا أمكنه أن يعقد بأكثر منه لم يجز أن يعقد بدونه إلا لمصلحة ويسن أن يفاوت بينهم ( حتى يأخذ من متوسط دينارين و ) من ( غني أربعة ) ومن فقير دينارا اقتداء ب عمر رضي الله تعالى عنه كما رواه البيهقي عنه ولأن الإمام متصرف للمسلمين فينبغي أن يحتاط لهم وللخروج من الخلاف فإن أبا حنيفة لا يجيزها إلا كذلك
تنبيه هذا بالنسبة إلى ابتداء العقد فأما إذا انعقد العقد على شيء فلا يجوز أخذ شيء زائد عليه كما نص عليه في سير الواقدي ونقله الزركشي عن نص الأم وأطلق الشيخان استحباب المماكسة فأخذ شيخنا من الإطلاق أن المماكسة كما تكون في العقد تكون في الأخذ واستدل بقول الأصحاب يستحب للإمام المماكسة حتى يأخذ من الغنى إلخ وهذا لا يصلح دليلا لذلك لأن قولهم حتى يأخذ أي إذا ماكسهم في العقد فيأخذ إلخ فإن أبى الكافر عقدها إلا بدينار أجيب لأنه الواجب ومعلوم مما مر أن السفيه لا يماكس هو ولا وليه لأنه لا يصح عقده بأكثر من دينار
( ولو عقدت ) للكفار ذمة ( بأكثر ) من دينار ( ثم علموا ) بعد العقد ( جواز دينار لزمهم ما التزموه ) كمن اشترى شيئا بأكثر من ثمن مثله ثم علم الغبن ( فإن أبوا ) بذل الزيادة بعد العقد ( فالأصح أنهم ناقضون ) للعهد كما لو امتنعوا من أداء أصل الجزية فيبلغون المؤمن كما سيأتي
والثاني لا ويقنع منهم بالدينار كما يجوز ابتداء العقد به وعلى الأول لو بلغوا المأمن ثم عادوا وطلبوا العقد بدينار أجيبوا إليه كما لو طلبوه أولا
____________________
(4/248)
تنبيه لو شرط على الغني كذا وعلى المتوسط كذا وأطلق الشرط صح واعتبر الغني وغيره عند الأخذ فإن قيدت هذه الأحوال بوقت اتبع والقول قول مدعي التوسط أو الفقر بيمينه إلا أن تقوم بينة بخلافه أو عهد له مال وكذا من غاب وأسلم ثم حضر وقال أسلمت من وقت كذا كما نص عليه الشافعي في الأم
( ولو أسلم ذمي ) أو نبذ العهد ( أو مات بعد سنين ) وله وارث مستغرق ( أخذت جزيتهن ) منه في الأوليين وفي الثالثة ( من تركته مقدمة على ) حق الورثة و ( الوصايا ) كالخراج وسائر الديون
تنبيه لم يذكر المصنف حكم إسلامه كما ذكرته لوضوحه
أما إذا لم يخلف وارثا فتركته فيء فلا معنى لأخذ الجزية من التركة ثم ردها إلى بيت المال أو كان له وارث لا يستغرق والباقي لبيت المال أخذ من نصيب الوارث ما تتعلق به الجزية وسقطت حصة بيت المال
( ويسوى بينها وبين دين آدمي على المذهب ) لأن الجزية ليست بقربة حتى تكون كالزكاة فيوفى الجميع أن وقت التركة وإلا ضارب الإمام مع الغرماء بالجزية والطريق الثاني أنها على الأقوال الثلاثة في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمي فتقدم هي في قول ودين الآدمي في قول ويسوى بينهما في قول والفرق على المذهب أو الجزية غلب فيها حق الآدمي جهة أنها أجرة ( أو ) أسلم أو نبذ العهد أو مات ( في خلال سنة فقسط ) لما مضى كالأجرة لأنها وجبت بالسكنى فإذا سكن بعد المدة وجب القسط ( وفي قول لا شيء ) لأنه يراعى فيه الحول فيسقط بالموت في خلال الحول كالزكاة
تنبيه قضية كلامهم أنه لو حجر عليه بفلس في أثناء العام لا يؤخذ منه القسط حينئذ
قال البلقيني وهو الجاري على القواعد لكن نص في الأم على أخذه اه
وحمل شيخي النص على ما إذا قسم ماله في أثناء الحول وكلام البلقيني على خلافه وهو حمل حسن واقتصر ابن شهبة و الأشموني على عبارة النص وقالا كما حكاه البلقيني
قال يعني البلقيني وهو فرع حسن لم أر من تعرض له ولم يذكرا عنه أنه قال وهو الجاري على القواعد ولو جن في أثناء الحول وثم وهو مجنون أخذت جزيته بالقسط كما مرت الإشارة إليه
ثم شرع في كيفية أخذ الجزية بقوله ( وتؤخذ ) الجزية ( بإهانة فيجلس الآخذ ) بالمد أي المسلم ( ويقوم الذمي ويطأطىء رأسه ويحني ظهره ويضعها ) أي الجزية ( في ) كفة ( الميزان ويقبض الآخذ ) منه الجزية ( لحيته ويضرب لهزمتيه ) بكسر اللام والزاي وهما مجمع اللحم بين الماضغ والأذن من الجانبين لأن بعضهم فسر الصغار في الآية بهذا
تنبيه قضية كلامه أنه يضرب كل لهزمة ضربة وهو كذلك
وقال الرافعي يشبه أن يكفي الضرب في أحد الجانبين والظاهر كما قال البلقيني أنه يضربه بالكف مفتوحا
وقال الأذرعي وغيره ويقول يا عدو الله أد حق الله
( وكله ) أي ما ذكر من هذه الهيئة ( مستحب ) لسقوطه بتضعيف الصدقة كما سيأتي ( وقيل واجب ) ليحصل الصغار المذكور ( فعلى الأول ) وهو الاستحباب ( له ) أي الذمي ( توكيل مسلم بالأداء ) للجزية ( و ) له ( حوالة ) بها ( عليه وأن يضمنها ) لأن الصغار حاصل بالتزامه المال وانقياده لأحكام الإسلام على كره منه بخلافه على الثاني وهو الوجوب فلا يجوز شيء من ذلك
تنبيه قوله مسلم قد يفهم صحة توكيل الذمي به قطعا ونقلا عن الإمام طرد الخلاف فيه لأن كلا منهما مقصود بالصغار وأقراه فلو حذفه المصنف لشمل ذلك واحترز بالأداء عن توكيله في عقد الجزية فإنه يجوز قطعا لأن الصغار يراعى عند الأداء لا عند العقد
قال الرافعي وهذا فيما يؤدى باسم الجزية فإن كان باسم الصدقة
____________________
(4/249)
سقطت الإهانة قطعا
( قلت هذه الهيئة ) المذكورة في المحرر ( باطلة ) لأنها لا أصل لها من السنة ولا تقل عن فعل أحد من السلف ( و ) حينئذ ( دعوى استحبابها أشد خطأ ) من دعوى جوازها ودعوى وجوبها أشد خطأ من دعوى استحبابها ( والله أعلم ) وكان القياس أن يقول أشد بطلانا ليطابق قوله باطلة
قال ابن قاسم وكأنه أراد بالباطلة الخطأ
قال في زيادة الروضة وإنما ذكرها طائفة من الخراسانيين
وقال جمهور الأصحاب تؤخذ الجزية برفق كأخذ الديون اه
قال الشارح وفيه تحمل على الذاكرين لها وللخلاف فيها المستند إلى تفسير الصغار في الآية المبني عليها المسائل المذكورة
قال ابن النقيب ولم أر من تعرض لذلك هل هو حرام أو مكروه وقضية كونها كسائر الديون التحريم اه
وتصريح المصنف بالبطلان يقتضي التحريم ويجوز للذمي أن يحيي الجزية وعشر التجارة من أهل الذمة ( ويستحب ) وإن كان قضية كلام الجمهور الجواز ( للإمام إذا أمكنه أن يشرط ) بنفسه أو نائبه ( عليهم ) أي الكفار ( إذا صولحوا في بلدهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين ) وإن لم يكن المار من أهل الفيء أو كان غنيا لما رواه البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم صالح أهل أيلة على ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة رجل
وعلى ضيافة من يمر بهم من المسلمين ولأن فيه مصلحة ظاهرة لفقراء المسلمين ولأغنيائهم فإنهم قد لا يبيعون منهم إذا مروا بهم فيتضررون فإذا علموا أن ضيافتهم عليهم واجبة بادروا إلى البيع خوفا من نزولهم عندهم
تنبيه قوله في بلدهم يقتضي المنع فيما إذا صولحوا في بلدنا
قال الزركشي وبه صرح سليم في المجرد وصاحب الاستقصاء
قال الأذرعي والظاهر أنهم لو صولحوا في بلادنا وانفردوا في قرية كان الحكم كذلك وكلام كثير يقتضيه وقول المصنف أن يشرط المفعول النائب عن فاعل يستحب أي يستحب عند الإمكان اشتراط الضيافة لا أنه فاعل أمكنه ويكون ما ذكر ( زائدا على أقل جزية ) لأن الجزية مبنية على التملك والضيافة على الإباحة فلم يجز الاكتفاء بها كما لا يجوز التغدية والتعشية عن الكفارة ( وقيل يجوز ) أن تحسب الضيافة ( منها ) لأنه ليس عليهم إلا الجزية وعلى هذا يشترط أن يكون الضيف من أهل الفيء ( وتجعل ) الضيافة ( على غني ومتوسط لا ) على ( فقير في الأصح ) المنصوص لأنها تتكرر فيعجز عنها
والثاني عليه أيضا كالجزية ( ويذكر ) العاقد عند اشتراط الضيافة ( عدد الضيفان ) بكسر الضاد جمع ضيف من ضاف إذا مال ( رجالا وفرسانا ) لأنه أقطع للمنازعة وأنفى للغرر
تنبيه كلامه صادق بأمرين إما أن يشترط ذلك على كل واحد منهم كأن يقول أقررتكم على أن على الغني منكم أربعة دنانير وضيافة عشرة أنفس في كل يوم رجالة كذا وفرسانا كذا أو على المجموع كأن تضيفوا في كل سنة ألف مسلم ثم يوزعون فيما بينهم أو يتحمل بعضهم عن بعض
وإذا تفاوتوا في الجزية استحب أن يفاوت بينهم في الضيافة فيجعل على الغني عشرين مثلا وعلى المتوسط عشرة ولا يفاوت بينهم في جنس الطعام لأنه لو شرط على الغني أطعمة فاخرة أجحف به الضيفان وإن ازدحم الضيفان على المضيف لهم أو عكسه خير المزدحم عليه وإن كثرت الضيفان عليهم بدءوا بالسابق لسبقه وإن تساووا أقرع بينهم وليكن للضيفان عريف يرتب أمرهم كما صرح به في أصل الروضة ويذكر ( جنس الطعام والأدوم وقدرهما ولكل واحد ) من الضيفان ( كذا ) من الخبز وكذا من السمن أو الزيت بحسب العرف لأنه أنفى للغرر والمعتبر فيه طعامهم وأدمهم نفيا للمشقة عنهم
قال الماوردي فإن كانوا يقتاتون الحنطة ويتأدمون باللحم كان عليهم أن يضيفوهم كذلك وإن كانوا يقتاتون الشعير
____________________
(4/250)
ويتأدمون بالألبان أضافوهم بذلك
تنبيه اقتصار المصنف على ذكر الطعام والأدم يقتضي أن ما سواهما من الثمار والفواكه لا يلزمهم وفي ذلك تفصيل وهو إن كانوا يأكلونها غالبا في كل يوم شرط عليهم في زمانها بخلاف الفواكه النادرة والحلواء التي لا تؤكل في كل يوم ولا يلزمهم أجرة الطبيب والحمام وثمن الدواء وليس للأضياف أن تكلفهم ما ليس بغالب من أقواتهم ولا ذبح دجاجهم وقوله ولكل واحد كذا هو بخطه ولا معنى لإثبات الواو وعبارة المحرر ويقدم الطعام والآدم فيقول لكل واحد كذا من الخبز وكذا من السمن
( و ) يذكر ( علف الدواب ) ولا يشترط بيان جنسه وقدره بل يكفي الإطلاق ويحمل على تبن وقت وحشيش ويرجع فيه للعادة ولا يجب الشعير ونحوه إلا مع التصريح به فإن ذكره بين قدره
تنبيه قد يوهم كلامه أنه يعلف لكل واحد دوابه لكن إن لم يعين عددا منها لم يعلف إلا واحدة على النص
( و ) يذكر ( منزل الضيفان من كنيسة وفاضل مسكن ) عن أهله ولا يخرجون أهل المساكن منها وإن ضاقت
قال الماوردي ويجب أن تعلق الأبواب ليدخلها المسلمون ركبانا كما شرطه عمر رضي الله تعالى عنه على أهل الشام ( و ) يذكر ( مقامهم ) بضم الميم أي قدر إقامة الضيفان في الحول بعشرين يوما أما يفتحها فمعناه القيام ( ولا يجاوز ) المضيف في المد ( ثلاثة أيام ) لخبر الصحيحين الضيافة ثلاثة أيام ولأن في الزيادة عليها مشقة فإن وقع توافق على زيادة جاز كما صرح به الإمام
ونقل في الذخائر عن الأصحاب أنه يشترط عليهم تزويد الضيف كفاية يوم وليلة
تنبيه لو اعتاض الإمام عن الضيافة دراهم أو دنانير برضاهم جاز واختصت بأهل الفيء ولضيفهم حمل الطعام من غير أكل بخلاف طعام الوليمة لأنها مكرمة وما هنا معاوضة وليس له المطالبة بالعوض ولا طعام الغد ولا طعام أمس الذي لم يأتوا بطعامه بناء على أن الضيافة زائدة على الجزية ولو امتنع من الضيافة جماعة أجبروا عليها فإن امتنع الكل قوتلوا فإن قاتلوا انتقض عهدهم قاله مجلى
( ولو قال قوم ) من الكفار ممن تعقد لهم الجزية ( نؤدي الجزية باسم الصدقة لا ) باسم ( جزية ) وقد عرفوها حكما وشرطا ( فللإمام إجابتهم إذا رأى ) ذلك وتسقط عنهم الإهانة واسم الجزية لما روى البيهقي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه فعل ذلك بمن تنصر من العرب قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تنوخ ونهرا وبنو تغلب لما طلبها منهم أبوا دفعها وقالوا نحن عرب لا تؤدي ما تؤدي العجم فخذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض يريدون الزكاة فقال إنها طهرة للمسلمين ولستم من أهلها فقالوا تأخذ ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية فأبى فارتحلوا وأرادوا أن يلتحقوا بالروم فصالحهم عمر رضي الله تعالى عنه على أن يضعف عليهم الصدقة ويأخذها جزية باسم الصدقة ولم يخالفه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعا وعقد لهم الذمة مؤبدا فليس لأحد نقض ما فعله والأصح أنه لا فرق في ذلك بين العرب والعجم هذا إذا تيقنا وفاءها بدينار وإلا فلا يجابوا ولو اقتضى إجابتهم تسليم بعض منهم عن بعض ما التزموا فإنهم يجابون ولبعضهم أن يلتزم عن نفسه وعن غيره وغرضنا تحصيل دينار عن كل رأس فيقول الإمام في صورة العقد جعلت عليكم ضعف الصدقة أو صالحتكم عليه أو نحوه
تنبيه قوله فللإمام الخ يفهم أنه لا تلزمه الإجابة وهو كذلك بخلاف بذلهم الدينار
نعم تلزمه الإجابة عند ظهور المصلحة فيه لقوتهم وضعفنا أو لغير ذلك إذا أبوا الدفع إلا باسم الصدقة لأنها جزية حقيقية كما سيأتي
ثم شرع المصنف رحمه الله في بيان التضعيف فقال ( ويضعف عليهم الزكاة فمن خمسة أبعرة شاتان ) ومن عشرة أربعة ومن خمسة عشر ست شياه ومن عشرين ثمان شياه ( و ) من ( خمسة وعشرين ) بعيرا ( بنتا مخاض ) ومن أربعين
____________________
(4/251)
من الغنم شاتان ومن ثلاثين من البقر تبيعان ومن مائتين من الإبل ثمان حقاق أو عشر بنات لبون ولا يفرق فلا يأخذ أربع حقاق وخمس بنات لبون كما لا يفرق في الزكاة كذا قالاه
قال ابن المقري قلت وفيه نظر إذ لا تشقيص هنا بخلاف ما هناك وهذا هو الظاهر ( وعشرين دينارا دينار و ) من ( مائتي درهم عشرة ) من الدراهم ومن الركاز خمسان ( وخمس المعشرات ) فيما سقى بلا مؤنة والعشر فيما سقى بها ( ولو وجب ) على كافر ( بنتا مخاض ) مثلا ( مع جبران ) كأن كان عنده ست وثلاثون وفقد بنتي لبون ( لم يضعف الجبران ) عليه ( في الأصح ) المنصوص عليه في الأم لئلا يكثر التضعيف ولأنه على خلاف القياس فيقتصر فيه على مورد النص ولأن الجبران تارة يؤخذ وتارة يدفع ولو ضعفناه عند الأخذ لزم أن يضعف عند الدفع وهو ممنوع قطعا
والثاني يضعف فيأخذ مع كل بنت مخاض أربع شياه أو أربعين درهما ولو دفع حقتين بدل بنتي لبون لم يضعف الجبران كما مر
تنبيه قال الأذرعي وفي تعبير المصنف بالأصح مناقشة فإن مقابله ساقط بل قال الإمام أنه غلط لا شك فيه ولا ينبغي عده من المذهب اه
ويعطى الإمام الجبران من الفيء كما يصرفه إذا أخذه إلى الفيء
( ولو كان ) ما عند الكافر ( بعض نصاب ) من مال زكوي كمائة درهم ( لم يجب قسطه ) من تمام النصاب ( في الأظهر ) كشاة من عشرين ونصف شاة من عشرة لأن أثر عمر رضي الله تعالى عنه إنما ورد في تضعيف ما يلزم المسلم لا في إيجاب ما لم يجب فيه شيء على المسلم
والثاني يجب قسطه رعاية للتضعيف
تنبيه هذا إن لم يخالط غيره فإن خلط عشرين شاة بعشرين شاة لغيره أخذ منه شاة أن ضعفنا ولو عبر بالمشهور كان أولى لأن مقاله ضعيف جدا ويجري الخلاف في الأوقاص التي بين النصب وهل يعتبر النصاب كل الحول أو آخره وجهان في الكفاية قياس باب الزكاة ترجيح الأول
وقياس اعتبار الغنى والفقر والتوسط آخر الحول في هذا الباب ترجيح الثاني وهو الظاهر كما بحثه بعض المتأخرين
( ثم المأخوذ ) باسم الزكاة مضعفا أو غير مضعف ( جزية ) وإن بدل اسمها تصرف مصرف الفيء
فعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال هؤلاء حمقاء أبوا الاسم ورضوا بالمعنى
تنبيه قوله جزية هو بالرفع على الخبرية يوجد في بعض نسخ المتن بعد جزية حقيقة وهو نصب على إسقاط الخافض بدليل قول المحرر على الحقيقة أو نصب على المصدر المؤكد لغيره
وعلى كون المأخوذ جزية ( فلا ) ينقص عن دينار حتى لو وفى قدر الزكاة بلا تضعيف أو نصفها بالدينار يقينا لا ظنا كفى أخذه فلو كثروا وعسر عددهم لمعرفة الوفاء بالدينار لم يجز الأخذ بغلبة الظن بل يشترط تحقق أخذ دينار عن كل رأس ولا يتعين تضعيفها ولا تنصيفها فيجوز تربيعها وتخميسها ونحوهما على ما يرونه بالشرط المذكور ولا ( يؤخذ من مال لا جزية عليه ) كصبي ومجنون وامرأة وخنثى بخلاف الفقير
قال في أصل الروضة وإذا شرط ضعف الصدقة وزاد على دينار ثم سألوا إسقاط الزيادة وإعادة اسم الجزية أجيبوا على الصحيح اه
ولا ينافي هذا ما مر من أنها لو عقدت بأكثر من دينار ثم علموا جواز دينار لزمهم ما التزموا لأن الزيادة هنا في مقابلة الاسم وقد أسقطوه
تتمة لو صالحناهم وأبقينا أرضهم على ما ملكهم وضربنا عليها خراجا يؤدونه كل سنة عن كل جريب كذا يفي ذلك الخراج بالجزية عن كل واحد منهم جاز فالمأخوذ جزية يصرف مصرف الفيء فلا تؤخذ من أرض صبي ومجنون وامرأة وخنثى ويؤخذ الخراج منهم وإن لم تزرع الأرض أو باعوها أو وهبوها ما لم يسلموا لأنه جزية كما مر فإن اشتراها مسلم فعليه الثمن أو استأجرها فعليه الأجرة والخراج باق على البائع والمؤجر ويؤخذ منهم الخراج في
____________________
(4/252)
موات يذبون عنه لا فيما لا يذبون عنه وإن أحيوه إلا إن شرط عليهم أن يؤخذ ذلك مما يحيونه وإن ضربناه على أن الأرض لنا ويسكنونها ويؤدون كل سنة عن كل جريب كذا فالمأخوذ منهم أجرة لأن ذلك عقد إجارة فلا يسقط بإسلامهم ولا يشترط فيه أن يبلغ دينارا والجزية باقية فتجب مع الأجرة ولا يجوز لهم بيع الأرض ولا هبتها ولهم إجارتها لأن المستأجر يؤجر ويؤخذ ذلك من أرض النساء والصبيان وغيرهم ممن لا جزية عليه لأنه أجرة
فصل في أحكام عقد الجزية الزائدة على ما مر ( يلزمنا ) بعد عقد الذمة الصحيح للكفار ( الكف عنهم ) نفسا ومالا وخلاص من أسر منهم واسترجاع ما أخذ من أموالهم كما صرح به في الروضة وأصلها والكف عن خمورهم وخنازيرهم وسائر ما يقرون عليه ما لم يظهروه بيننا لأن الله تعالى غيا قتالهم بالإسلام أو ببذل الجزية والإسلام يعصم النفس والمال وما ألحق به فكذا الجزية
وروى أبو داود خبر من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة ( و ) يلزمنا ( ضمان ما نتلفه عليهم نفسا ومالا ) أي يضمنه المتلف منا كما يضمن مال المسلم ونفسه لأن ذلك فائدة عقد الذمة واحترز بالمال عن الخمر والخنزير فمن أتلف شيئا من ذلك لا ضمان عليه سواء أظهره أم لا لكن من غصبه يجب عليه رده عليهم ومؤنة الرد على الغاصب ويعصى بإتلافها إلا إن أظهروها وتراق خمر مسلم اشتراها منهم وقبضها ولا ثمن عليه لأنهم تعدوا بإخراجها إليه ولو قضى الذمي دين مسلم كان له عليه بثمن خمر أو نحوه حرم على المسلم قبوله إن علم أنه ثمن ذلك لأنه حرام في عقيدته وإلا لزمه القبول وما اقتضاه كلام الروضة في نكاح المشرك من أنه لا يحرم قبوله مع العلم مردود
تنبيه قوله نفسا ومالا منصوبان على التمييز من الكف وحذفا من قوله وضمان ما نتلفه لدلالة ما سبق والتمييز إذا علم جاز حذفه ولا يجوز أن يكون الكف وضمان من تنازع العاملين لأنك إن أعملت الأول منهما أضمرت في الثاني فيلزم وقوع التمييز معرفة وإن أعملت الثاني لزم الحذف من الأول لدلالة الثاني وهو ضعيف ويلزمنا استنقاذ من أسر منهم واسترجاع ما أخذ من أموالهم
( و ) يلزمنا ( دفع أهل الحرب ) وغيرهم ( عنهم ) إذا كانوا في بلاد المسلمين لأنه لا بد من الذب عن الدار ومنع الكفار من طروقها ( وقيل إن انفردوا ببلد ) بجوار دار الإسلام كما قيده في الروضة ( لم يلزمنا الدفع ) عنهم كما لا يلزمهم الذب عنا عند طروق العدو لنا والأصح اللزوم إن أمكن إلحاقا بأهل الإسلام في العصمة والصيانة
أما المستوطنون بدار الحرب إذا بذلوا الجزية وليس معهم مسلم فلا يلزمنا الدفع عنهم جزما إلا إن شرط الذب عنهم هناك فلزمنا وفاء بالشرط فإن لم ندفع عنهم حيث لزمنا ذلك فلا جزية لمدة عدم الدفع
فإن ظفر الإمام ممن أغار عليهم وأخذ أموالهم رد عليهم ما وجد من أموالهم ولا يضمنون ما أتلفوه إن كانوا حربيين كما لو أتلفوا مالنا ( ونمنعهم ) وجوبا ( إحداث كنيسة ) وبيعة وصومعة للرهبان وبيت نار للمجوس ( في بلد أحدثناه ) كبغداد والكوفة والبصرة والقاهرة لما رواه أحمد بن عدي عن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها وروى البيهقي أن عمر رضي الله تعالى عنه لما صالح نصارى الشام كتب إليهم كتابا إنهم لا يبنون في بلادهم ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا صومعة راهب ورواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس أيضا ولا مخالف لهما من الصحابة ولأن إحداث ذلك معصية فلا يجوز في دار الإسلام
فإن بنوا ذلك هدم سواء أشرط ذلك عليهم أم لا ولو عاقدهم الإمام على التمكن من إحداثها فالعقد باطل ( أو ) بلد ( أسلم أهله عليه ) كالمدينة الشريفة واليمن فإنهم يمنعون أيضا مما ذكر لما مر
تنبيه لو وجدت كنائس أو نحوها فيما ذكر وجهل أصلها بقيت لاحتمال أنها كانت في قرية أو برية فاتصل بها عمران ما أحدث منا بخلاف ما لو علم إحداث شيء منها بعد بنائها فإنه يلزمنا هدمه
هذا إذا بني ذلك للتعبد فإن بني لنزول المارة نظر إن كان لعموم الناس جاز وإن كان لأهل الذمة فقط فوجهان جزم صاحب الشامل منهما
____________________
(4/253)
بالجواز
( وما ) أي والبلد الذي ( فتح عنوة ) كمصر وأصبهان وبلاد المغرب ( لا يحدثونها فيه ) لأن المسلمين ملكوها بالاستيلاء فيمتنع جعلها كنيسة وكما لا يجوز إحداثها لا يجوز إعادتها إذا انهدمت ( ولا يقرون على كنيسة كانت فيه في الأصح ) لما مر وعلى هذا فلا يجوز تقرير الكنائس بمصر كما قاله الزركشي لأنها فتحت عنوة ولا بالعراق والثاني يقرون لأن المصلحة قد تنقضي ذلك ومحل الخلاف في القائمة عند الفتح أما المتهدمة أو التي هدمها المسلمون فلا يقرون عليها قطعا
تنبيه لو استولى أهل حرب على بلدة أهل ذمة وفيها كنائسهم ثم استعدناها منهم عنوة أجرى عليها حكم ما كانت عليه قبل استيلاء أهل الحرب قاله صاحب الوافي واستظهره الزركشي
( أو ) فتح البلد ( صلحا ) كبيت المقدس ( بشرط ) كون ( الأرض لنا وشرط إسكانهم ) فيها بخراج ( وإبقاء الكنائس ) مثلا لهم ( جاز ) لأنه إذا جاز الصلح على أن كل البلد لهم فعلى بعضهم أولى
تنبيه قوله وإبقاء الكنائس يقتضي منعهم من إحداثها وبه صرح الماوردي والذي في الشرح والروضة عن الروياني وغيره إنهم إذا صولحوا على إحداثها جاز أيضا ولم يذكر إخلافه
قال الزركشي وهو محمول على ما إذا دعت إليه ضرورة وإلا فلا وجه له اه
ومقتضى التعليل الجواز مطلقا وهو الظاهر والتعبير بالجواز المراد به عدم المنع إذ الجواز حكم شرعي ولم يرد الشرع بجواز ذلك نبه عليه السبكي
( وإن ) فتح البلد صلحا بشرط الأرض لنا ( وأطلق ) الصلح فلم يذكر فيه إبقاء الكنائس ولا عدمه ( فالأصح المنع ) من إبقائها فيهدم ما فيها من الكنائس لأن إطلاق اللفظ يقتضي ضرورة جميع البلد لنا والثاني لا وهي مستثناة بقرينة الحال لحاجتهم إليها في عبادتهم
فائدة قال الشيخ عز الدين لا يجوز للمسلم دخول كنائس أهل الذمة إلا بإذنهم لأنهم يكرهون دخولهم إليها ومقتضى ذلك الجواز بالإذن وهو محمول على ما إذا لم تكن فيها صورة فإن كان وهي لا تنفك عن ذلك حرم هذا إذا كانت مما يقرون عليها وإلا جاز دخولها بغير إذنهم لأنها واجبة الإزالة وغالب كنائسهم الآن بهذه الصفة
( أو ) فتح صلحا بشرط الأرض ( لهم ) ويؤدون خراجها ( قررت ) كنائسهم لأنها ملكهم ( ولهم الإحداث في الأصح ) لأن الملك والدار لهم فيتصرفون فيها كيف شاءوا والثاني المنع لأن البلد تحت حكم الإسلام وعلى الأول لا يمنعون من إظهار شعارهم كخمر وخنزير وأعيادهم كضرب ناقوسهم ويمنعون من إيواء الجاسوس وتبليغ الأخبار وسائر ما نتضرر به في ديارهم
تنبيه حيث جوزنا أيضا الكنائس فلا منع من ترميمها إذا استهدمت لأنها مبقاة وهل يجب إخفاء العمارة وجهان أصحهما لا ولا يمنعون من تطيينها من داخل وخارج وتجوز إعادة الجدران الساقطة وإذا انهدمت الكنيسة المبقاة فلا يمنعون من إعادتها على الأصح في الشرح والروضة لأن ذلك ليس بإحداث وقال السبكي في كتاب الوقف ولا أرى الفتوى بذلك فإن في سنة ثلاث عشرة أو نحوها رأيت في منامي رجلا من أكابر العلماء في ذلك الوقت عليه عمامة زرقاء فعندما طلع الفجر من تلك الليلة طلبني ذلك العالم فوجدته في ذلك المكان الذي رأيته فيه وبيده كراسة في ترميم الكنائس يريد أن ينتصر لجواز الترميم ويستعين بي فذكرت واعتبرت
قال ومعنى قولنا لا نمنعهم الترميم وليس المراد جائز بل هو من جملة المعاصي التي يقرون عليها كشرب الخمر ولا نقول أن ذلك جائز لهم ولا ينبغي أن يأذن لهم ولي الأمر فيه كما يأذن في الأشياء الجائزة في الشرع وإنما معنى تمكينهم التخلية وعدم الإنكار كما إنا نقرهم على التوراة والإنجيل ولو اشتروهما أو استأجروا من يكتبهما لهم لم يحكم بصحته ولا يحل للسلطان ولا للقاضي أن يقوم لهم افعلوا ذلك وأن يعينهم عليه ولا لأحد من المسلمين
____________________
(4/254)
لأن يعمل لهم فيه ولو استأجروا له وترافعوا إلينا حكمنا ببطلان الإجارة
قال والمراد بالترميم الإعادة لما تهدم منها لا بآلات جديدة
قال وهذا مدلول لفظ الإعادة والترميم ومن ادعى خلاف ذلك فهو مطالب بنقل عن أحد من علماء الشريعة قال وبالجملة مشهور مذهبنا التمكين والحق عندي خلافه اه
والذي قاله ابن يونس في شرح الوجيز واقتضى كلامه الاتفاق عليه أنها ترمم بآلات جديدة وليس لهم توسيعها لأن الزيادة في حكم كنيسة محدثة متصلة بالأولى
( ويمنعون ) أي الذميون ( وجوبا وقيل ندبا من رفع بناء ) لهم ( على بناء جار ) لهم ( مسلم ) وإن لم يشرط عليهم في العقد لخبر البخاري عن ابن عباس الإسلام يعلو ولا يعلى عليه وليتميز البناءان ولئلا يطلع على عوراتنا ولا فرق في ذلك بين أن يرضى الجار بذلك أم لا لأن المنع من ذلك لحق الدين لا لمحض حق الجار وسواء أكان بناء المسلم معتدلا أم في غاية الانخفاض
تنبيه محل المنع كما قال البلقيني إذا كان بناء المسلم مما يعتاد في السكنى فلو كان قصيرا لا يعتاد فيها لأنه لم يتم بناؤه أو أنه هدمه إلى أن صار كذلك لم يمنع الذمي من بناء جداره على أقل ما يعتاد في السكنى لئلا يتعطل عليه حقها الذي عطله المسلم باختياره أو تعطل عليه بإعساره والمراد بالجار كما قال الجرجاني أهل محلته دون جميع البلد
( والأصح المنع من المساواة ) أيضا بين بناء المسلم والذمي لقوله تعالى { ضربت عليهم الذلة } فينبغي استحقارهم في جميع الأشياء لأن القصد تمييزهم عن المسلمين في المساكن والملابس والمراكب والحديث يدل على علو الإسلام ولا علو مع المساواة
تنبيه فهم من قوله رفع تصوير المنع بالإحداث فلو تلك الذمي دار مساوية أو عالية لم يكف هدمها وكذا ما بنوه قبل أن تملك بلادهم لأنه وضع بحق لكن يمنع من طلوع سطحه إلا بعد تحجيره بخلاف المسلم فإنه مأمون ويمنع صبيانهم من الإشراف على المسلم بخلاف صبياننا حكاه في الكفاية عن الماوردي
فإن انهدم البناء المذكور امتنع العلو والمساواة ولو رفع بناءه على المسلم فأراد المسلم أن يرفع بناءه عليه لم يؤخر هدم بنائه بذلك فلو تأخر نقضه حتى رفع المسلم بناءه عليه قال ابن الصلاح الظاهر أنه لا يسقط حق النقض بذلك ولو رفعه فحكم الحاكم بنقضه فباعه من مسلم فهل يسقط حق النقض قال ابن الرفعة فيما كتبه على حواشي كفايته يظهر تخريجه على الوجهين فيما إذا باع المستعير ما بناه على الأرض المستعار بعد رجوع المعير وكذا بيع البناء بعد انقضاء الإجارة فإن لم يجوزوه انبنى على من اشترى فصيلا بشرط القطع ثم اشترى الأرض هل يلزمه القطع وجهان اه
ويؤخذ من ذلك أنه لا يسقط النقض بعد حكم الحاكم بنقضه إذا باعه لمسلم بخلاف ما إذا باعه قبل الحكم بذلك
قال الأذرعي وحكمت أيام قضائي على يهودي بهدم ما بناه وبالتنقيص عن المساواة لجاره فأسلم فأقررته على بنائه وفي نفسي منه شيء وظني إن كنت قلت له إن أسلمت لم أهدمه اه
بل الوجه عدم الهدم لقوله تعالى { قل للذين كفروا } الآية قال الزركشي ولو استأجر الذمي دارا عالية لم يمنع من سكناها بلا خلاف قاله المرشد وهل يجري مثله فيما لو ملك دار لها روشن حيث قلنا لا يشرع له روشن أي وهو الأصح أو لا يجري
لأن التعلية من حقوق الملك والروشن لحق الإسلام وقد زال فيه نظر اه
والوجه الأول وخرج بقول المصنف المسلم رفع أهل الذمة بعضهم على بعض فإن اختلفت ملتهم ففي منع علو بعضهم على بعض وجهان في الحاوي والبحر والذي ينبغي القطع به الجواز
( و ) الأصح وعبر في الروضة بالصحيح ( أنهم لو كانوا بمحلة منفصلة ) عن المسلمين بطرف من البلد منقطع عن العمارة ( لم يمنعوا ) من رفع البناء لأن الممنوع المطاولة وإنما تحقق عند وجود بناء مسلم ولامتناع خوف الإطلاع على عورة المسلمين والثاني المنع لأنه استعلاء في دار الإسلام
أما إذا التصقت دور البلد من أحد جوانبها فإنا نعتبر في ذلك الجانب أن لا يرتفع فيه بناء أهل الذمة على بناء من يجاورهم من المسلمين بلاد المسلمين ( ركوب خيل ) لقوله تعالى { ومن رباط الخيل ترهبون به } دون بقية
____________________
(4/255)
الجوانب إذ لا جار لهم ( ويمنع الذمي ) الذكر المكلف في عدو الله وعدوكم فأمر أولياءه بإعدادها لأعدائه ولما في الصحيحين من حديث عروة البارقي الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة وعني به الغنيمة وهم مغنومون
وروي الخيل ظهورها عز
أما إذا انفردا ببلدة أو قرية في غير دارنا لم يمنعوا في أقرب الوجهين إلى النص كما قاله الأذرعي قال ولو استعنا بهم في حرب حيث يجوز فالظاهر تمكينهم من ركوبها زمن القتال
تنبيه ظاهر كلامه أنه لا فرق في منع ركوب الخيل بين النفيس منها والخسيس وهو ما عليه الجمهور لكن استثنى الجويني وغيره منها البراذين الخسيسة وجرى عليه ابن المقري
( لا ) ركوب ( حمير ) قطعا ولو رفيعة القيمة ( و ) لا ( بغال نفيسة ) في الأصح لأنها في نفيسة خسيسة وألحق الإمام و الغزالي البغال النفيسة بالخيل واختاره الأذرعي وغيره فإن التجمل والتعاظم بركوبها أكثر من كثير من الخيل
وقال البلقيني لا توقف عندنا في الفتوى بذلك لأنه لا يركبها في هذا الزمان في الغالب إلا أعيان الناس أو من يتشبه بهم اه
ويمنع تشبههم بأعيان الناس أو من يتشبه بهم وقول المصنف ( ويركب بإكاف ) بكسر الهمزة أي برذعة ونحوها وقد مر الكلام على ذلك في باب الإجارة ( وركاب خشب لا حديد ) ونحوه ( ولا سرج ) اتباعا لكتاب عمر رضي الله تعالى عنه والمعنى فيه أن يتميزوا عن المسلمين وله الركوب على سرج من خشب كما نقله الزركشي عن الماوردي ويركب عرضا بأن يجعل رجليه من جانب واحد وظهره من جانب آخر
قال الرافعي ويحسن أن يتوسط فيفرق بين أن يركب إلى مسافة قريبة من البلد أو إلى بعيدة وهو ظاهر ويمنع من حمل السلاح ومن اللجم المزينة بالنقدين
قال الزركشي ولعل منعه من حمل السلاح محمول على الحضر ونحوه دون الأسفار المخوفة والطويلة
أما النساء والصبيان ونحوهما فلا يمنعون من ذلك كما لا جوية عليهم حكاه في أصل الروضة عن ابن كج وأقره
فإن قيل قد صححوا أن النساء يؤمرن بالغيار والزنار والتمييز في الحمام فكان ينبغي أن يكون هنا كذلك أجيب بأن ما هناك كالضرورة لحصول التمييز به بخلاف ما هنا
قال ابن الصلاح وينبغي منعهم من خدمة الملوك والأمراء كما يمنعون من ركوب الخيل ( ويلجأ ) الذمي عند زحمه المسلمين ( إلى أضيق الطرق ) بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه جدار لقوله صلى الله عليه وسلم لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه
أما إذا خلت الطريق عن الزحمة فلا حرج
قال في الحاوي ولا يمشون إلا أفرادا متفرقين ( ولا يوقرون ولا يصدرون في مجلس ) فيه مسلم لأن الله تعالى أذلهم والظاهر كما قال الأذرعي تحريم ذلك
فائدة دخل محمد بن الوليد الطرطوشي على الملك الأفضل ابن أمير الجيوش وكان إلى جانبه رجل نصراني فوعظ الطرطوشي الأمير حتى بكى ثم أنشد ياذا الذي طاعته قربة وحبه مفترض واجب إن الذي شرفت من أجله أي محمد صلى الله عليه وسلم
يزعم هذا أي النصراني أنه كاذب
فأقامه الأفضل من موضعه هكذا كانت العلماء إذا دخلت على الملوك وتحرم مودة الكافر لقوله تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله }
فإن قيل قد مر في باب الوليمة إن مخالطته مكروهة
أجيب بأن المخالطة إلى الظاهر
والمودة إلى الميل القلبي فإن قيل الميل القلبي لا اختيار للشخص فيه
أجيب بإمكان رفعه بقطع أسباب المودة التي ينشأ عنها ميل القلب كما قيل الإساءة تقطع عروق المحبة
( ويؤمر ) الذمي والذمية المكلفان في الإسلام وجوبا ( بالغيار ) بكسر المعجمة وإن لم يشرط عليهم وهو أن يخيط كل منهما بموضع لا يعتاد الخياطة عليه كالكتف على ثوبه الظاهر ما يخالف لونه لون ثوبه ويلبسه وذلك للتمييز ولأن عمر رضي الله تعالى عنه
____________________
(4/256)
صالحهم على تغيير زيهم بمحضر من الصحابة كما رواه البيهقي
فإن قيل لم لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا بيهود المدينة ونصارى نجران
أجيب بأنهم قليلين معروفين فلما كثروا في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وخافوا من التباسهم بالمسلمين احتاجوا إلى تمييزهم وإلقاء منديل ونحوه كالخياطة كما في أصل الروضة وإن استبعده ابن الرفعة والأولى بالهيود الأصفر وبالنصارى الأزرق والأكهب ويقال له الرمادي وبالمجوس الأحمر أو الأسود
قال البلقيني وما ذكر من الأولى لا دليل عليه اه
ويكفي عن الخياطة العمامة كما عليه العمل الآن أما إذا انفردوا بمحلة فلهم ترك الغيار كما قاله في البحر وهو قياس ما تقدم في تعلية البناء
( و ) يؤمر الذمي أيضا بشد ( الزنار ) وهو بضم المعجمة خيط غليظ يشد في الوسط ( فوق الثياب ) لأن عمر رضي الله تعالى عنه صالحهم عليه كما رواه البيهقي هذا في الرجل
أما المرأة فتشده تحت الإزار كما صرح به في التنبيه وحكاه الرافعي عن التهذيب وغيره لكن مع ظهور بعضه حتى يحصل به فائدة
قال الماوردي ويستوي فيه سائر الألوان
قال في أصل الروضة وليس لهم إبداله بمنطقة ومنديل ونحوهما والجمع بين الغيار والزنار أولى وليس بواجب كما يقتضيه كلام المصنف ومن لبس منهم قلنسوة يميزها عن قلانسنا بعلامة فيها ( وإذا دخل ) الذمي متجردا ( حماما ) وهو مذكر بدليل عود الضمير عليه مذكرا في قوله ( فيه مسلمون أو تجرد عن ثيابه ) بين مسلمين في غير حمام ( جعل ) وجوبا ( في عنقه خاتم حديد ) بفتح التاء وكسرها ( أو رصاص ) بفتح الراء وقوله ( ونحوه ) مرفوع بخطه ويجوز نصبه عطفا على خاتم لا رصاص وأراد بنحو الخاتم الجلجل ونحوه ويجوز عطفه على الرصاص ويراد حينئذ بنحوه النحاس ونحوه بخلاف الذهب والفضة قال الزركشي والخاتم طوق يكون في العنق
تنبيه شمل إطلاق المصنف النساء وهو الأصح بناء على جواز دخولهن الحمام مع المسلمات والأصح في زيادة الروضة المنع منه لأنهن أجنبيات في الدين وتقدم في النكاح ما له بهذا تعلق وقد تقدم الكلام في دخول المسلمات الحمام في باب الغسل
فروع لو لبس الذمي الحرير وتعمم أو تطيلس لم يمنع كما لم يمنع من رفيع القطن والكتان
قال الأذرعي ويجب القطع بمنعهم من التشبه بلباس أهل العلم والقضاة ونحوهم لما في ذلك من التعاظم والتيه
قال الماوردي ويمنعون من التختم بالذهب والفضة ولما فيه من التطاول والمباهاة وتجعل المرأة خفها لونين ولا يشترط التمييز بكل هذه الوجوه بل يكفي بعضها
قال الحليمي ولا ينبغي لفعلة المسلمين وصياغهم أن يعملوا للمشركين كنيسة أو صليبا أما نسج الزنانير فلا بأس به لأن فيه صغارا لهم
( ويمنع ) الكافر ( من إسماعه المسلمين ) قولا ( شركا ) كقولهم الله ثالث ثلاثة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ( وقولهم ) بالنصب بخطه عطفا على شركا ( في عزير والمسيح ) صلى الله على نبينا وعليهما وعلى بقية أنبياء الله تعالى ( ومن إظهار خمر وخنزير وناقوس ) وهو ما تضرب به النصارى لأوقات الصلاة ( وعيد ) ومن إظهار قراءتهم التوراة والإنجيل ولو في كنائسهم لما في ذلك من المفاسد وإظهار شعار الكفر
تنبيه قضية كلامه منعهم من ذلك سواء شرط عليهم في العقد أم لا وبه صرح القاضي أبو الطيب و ابن الصباغ وغيرهما ومتى أظهروا خمورهم أريقت وقياسه إتلاف الناقوس إذا أظهروه وإذا فعلوا ما يعتقدون تحريمه أجرى عليهم حكم الله فيه ولا يعتبر رضاهم وذلك كالزنا والسرقة فإنهما محرمان عندهم كشرعنا بخلاف ما يعتقدون حله كشرب الخمر فلا يقام عليهم الحد بشربه في الأصح وفهم من التقييد بالإظهار أنه لا يمنع بينهم وكذا إذا انفردوا بقرية نص عليه في الأم
____________________
(4/257)
فروع يمنعون أيضا من إظهار دفن موتاهم ومن النوح واللطم ومن إسقاء مسلم خمرا ومن إطعامه خنزيرا ومن رفع أصواتهم على المسلمين ومن استبذالهم إياهم في الخدمة بأجرة وغيرها فإن أظهروا شيئا من ذلك عزروا وإن لم يشرط في العقد
( ولو شرطت هذه الأمور ) من إحداث الكنيسة فما بعده في العقد أي شرط نفيها ( فخالفوا ) ذلك بإظهارها ( لم ينتقض العهد ) بذلك لأنهم يتدينون بها من غير ضرر على المسلمين فيها بخلاف القتال ونحوه كما سيأتي وحملوا الشرط المذكور على تخويفهم ( ولو قاتلونا ) ولا شبهة لهم ( أو امتنعوا من ) أداء ( الجزية ) ( أو من إجراء حكم الإسلام ) عليهم ( انتقض ) عهدهم بذلك وإن لم يشرط عليهم الانتقاض به لمخالفته مقتضى العقد
أما إذا كانت شبهة كأن أعانوا طائفة من أهل البغي وادعوا الجهل أو صال عليهم طائفة من متلصصي المسلمين وقطاعهم فقاتلوهم دفعا فلا يكون ذلك نقضا وسواء كان امتناعهم من أصل الجزية أو من الزائد على الدينار
تنبيه هذه النسبة للقادر أما العاجز إذا استمهل لا ينتقض عهده
قال الإمام ولا يبعد أخذها من الموسر قهرا ولا ينتقض ويخص بالمتغلب المقاتل وأقره الرافعي قال الإمام وإنما يؤثر عدم الانقياد لأحكام الإسلام إذا كان يتعلق بقوة وعدة ونصب للقتال
وأما الممتنع هاربا فلا ينتقض وجزم به في الحاوي الصغير
( ولو زنى ذمي بمسلمة ) مع علمه بإسلامها حال الزنا وسيأتي جواب هذه المسألة وما عطف عليها في قوله فالأصح إلخ فإن لم يعلم الزاني بإسلامها كما لو عقد على كافرة فأسلمت بعد الدخول بها فأصابها في العدة فلا ينتقض عهده بذلك ( أو أصابها بنكاح ) أي باسمه أو لاط بغلام مسلم أو قتل مسلما قتلا يوجب قصاصا وإن لم نوجبه عليه كذمي حر قتل عبدا مسلما أو قطع طريقا على مسلم ( أو دل أهل الحرب على عورة ) أي خلل ( للمسلمين ) الموجدين فيهم بسبب ضعف أو غيره أو آوى جاسوسا لهم ( أو فتن مسلما عن دينه ) أو قذف مسلما ادعاه إلى دينهم ( أو طعن الإسلام أو القرآن أو ) سب الله أو ( ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أو غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه ( بسوء ) مما لا يتدينون به وفعلوا ذلك جهرا ( فالأصح ) في المسائل المذكورة ( أنه إن شرط ) عليهم ( انتقاض العهد بها انتقض وإلا فلا ) ينتقض لمخالفته الشرط الأول دون الثاني
وهذا ما في المحرر وصححه في الشرح الصغير ونقله الزركشي وغيره عن نص الشافعي والثاني ينتقض مطلقا لما فيه من الضرر والثالث لا ينتقض مطلقا ودفع في أصل الروضة تصحيحه وعلى الأول لو نكح كافرة ثم أسلمت بعد الدخول فوطئها في العدة لم ينتقض عهده مطلقا فقد يسلم فيستمر نكاحه
أما ما يتدينون به كقولهم القرآن ليس من عند الله أو محمد ليس بنبي فلا انتقاض به مطلقا ويعزرون على ذلك ولو شرط عليه الانتقاض بذلك ثم قتل بمسلم أو بزناه حالة كونه محصنا بمسلمة صار ماله فيئا كما قاله ابن المقري لأنه حربي مقتول تحت أيدينا لا يمكن صرفه لأقاربه الذميين لعدم التوارث ولا للحربيين لأنا إذا قدرنا على مالهم أخذناه فيئا أو غنيمة وشرط الغنيمة هنا ليس موجودا
تنبيه قول المصنف وإلا فلا يدخل فيه ما لو أشكل الحال في شرط ما ذكر وعدمه لكن قال في الانتصار يجب تنزيله على أنه مشروط لأن مطلق العقد يحمل على المتعارف وهذا العقد في مطلق الشرع كان مشتملا على هذه الشراط وهذا ظاهر وإن نظر فيه ابن الرفعة
( ومن انتقض عهده بقتال جاز دفعه ) بغيره ( و ) جاز أيضا ( قتله ) لقوله تعالى { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } ولا يبلغ مأمنه إذ لا وجه لتبليغه مأمنه مع نصبه القتال وحينئذ فيتخير
____________________
(4/258)
الإمام فيمن ظفر به منهم من الأحرار الكاملين كما يتخير في الأسير
تنبيه تعبيره بالجواز يقتضي أنه لا يجب وليس مرادا بل هو واجب فقد مر أن الجهاد عند دخوله طائفة من أهل الحرب دار الإسلام فرض عين ولا فرق بينها وبين التي كانت لها ذمة ثم انتقضت وعبارة الروضة فلا بد من دفعهم والسعي في استئصالهم
( أو ) انتقض عهده ( بغيره ) أي القتال ولم يسأل تجديد العهد ( لم يجب إبلاغه مأمنه ) بفتح الميمين أي مكانا يأمن فيه على نفسه ( في الأظهر ) والمراد به كما قاله البندنيجي أقرب بلاد الحرب من بلاد الإسلام ولا يلزمنا إلحاقه ببلده الذي يسكنه فوق ذلك إلا أن يكون بين بلاد الكفر ومسكنه بلد للمسلمين يحتاج للمرور عليه ( بل يختار الإمام فيه قتلا ) وأسرا ( ورقا ومنا وفداء ) لأنه كافر لا أمان له كالحربي
والثاني يجب لأنهم دخلوا دار الإسلام بأمان فلم يجز قتلهم قبل الرد إلى المأمن كما لو دخل بأمان صبي وأجاب الأول بأن من دخل بأمان صبي يعتقد لنفسه أمانا وهذا فعل باختياره ما أوجب الانتقاض وعلى القولين لو فعل ما يوجب حدا أو تعزيرا أقمناه قبل ذلك صرح به الروياني وغيره في الحد ومثله التعزير
وروى البيهقي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه صلب يهوديا زنى بمسلمة أما إذا سأل تجديد العهد فتجب إجابته ( فإن أسلم ) من انتقض عهده ( قبل الاختيار ) من الإمام لشيء مما سبق ( امتنع ) القتل و ( الرق ) والفداء لأنه لم يحصل في يد الإمام بالقهر وله أمان متقدم فخف أمره
تنبيه لو قال المصنف تعين من كان أولى مما ذكره
( وإذا بطل أمان رجال لم يبطل أمان نسائهم و ) أمان ( الصبيان في الأصح ) لأنه قد ثبت لهم الأمان ولم يوجد منهم ناقض فلا يجوز سبيهم ويجوز تقريرهم في دارنا
والثاني يبطل لأنهم دخلوا تبعا فيزول بزوال الأصل وعلى الأول لو طلبوا الرجوع إلى دار الحرب أجيب النساء دون الصبيان لأنه لا حكم لاختيارهم قبل البلوغ فإن طلبهم مستحق الحضانة أجيب
فإن بلغوا وبذلوا الجزية فذاك وإلا ألحقوا بدار الحرب
تنبيه الخناثى كالنساء والمجانين كالصبيان والإفاقة كالبلوغ
( وإذا اختار ذمي نبذ العهد واللحوق بدار الحرب بلغ ) على المذهب ( المأمن ) السابق تفسيره لأنه لم يوجد منه خيانة ولا ما يوجب نقض عهده فيبلغ مكانا يأمن فيه على نفسه
ولو رجع المستأمن إلى بلاده بإذن الإمام لتجارة أو رسالة فهو باق على أمانه في نفسه وماله وإن رجع للاستيطان انتقض عهده ولو رجع ومات في بلاده واختلف الوارث والإمام هل انتقل للإقامة فهو حربي أو للتجارة فلا ينتقض عهده أجاب بعض المتأخرين بأن القول قول الإمام لأن الأصل في رجوعه إلى بلاده الإقامة
فائدة روي عن جعفر بن محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو عاش إبراهيم لعتقت أخواله ولوضعت الجزية عن كل قبطي
وروي أن الحسن بن علي كلم معاوية في أهل قرية أم إبراهيم فسامحهم بالجزية إكراما لسيدنا إبراهيم
قال المصنف وما روي عن بعض المتقدمين
لو عاش إبراهيم لكان نبيا باطل
خاتمة الأولى للإمام أن يكتب بعد عقد الذمة اسم من عقد له ودينه وحليته ويتعرض لسنه أهو شيخ أم شاب ويصف أعضاءه الظاهرة من وجهه ولحيته وحاجبيه وعينيه وشفتيه وأنفه وأسنانه وآثار وجهه إن كان فيه آثار ولونه من سمرة وشقرة وغيرهما ويجعل لكل من طوائفهم عريفا مسلما يضبطهم ليعرفه بمن مات أو أسلم أو بلغ منهم أو دخل فيهم وأما من يحضرهم ليؤدي كل منهم الجزية أو يشتكي إلى الإمام من يتعدى عليهم منا أو منهم فيجوز جعله عريفا كذلك ولو كان كافرا وإنما اشترط إسلامه في الفرض الأول لأن الكافر لا يعتمد خبره
____________________
(4/259)
باب الهدنة وتسمى الموادعة والمعاهدة والمسالمة والمهادنة وهي لغة المصالحة
و شرعا مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره سواء فيهم من يقر على دينه ومن لم يقر وهي مشتقة من الهدون وهو السكون والأصل فيها قبل الإجماع قوله تعالى { براءة من الله ورسوله } الآية
وقوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } ومهادنته صلى الله عليه وسلم قريشا عام الحديبية كما رواه الشيخان
وهي جائزة لا واجبة بأربعة شروط الأول ما أشار إليه بقوله ( عقدها لكفار أقليم ) كالروم والهند ( يختص بالإمام أو نائبه فيها ) أي عقد الهدنة لما فيها من الخطر
والإمام أو نائبه هو الذي يتولى الأمور العظام وهو أعرف بالمصالح من الآحاد وأقدر على التدبير منهم كما قال الماوردي
ولا يقوم إمام البغاة مقام إمام الهدنة في ذلك
تنبيه قد علم من منع عقدها من الآحاد لأهل إقليم منع عقدها للكفار مطلقا من باب أولى
وقد صرح في المحرر بالأمرين جميعا فإن تعاطاها الآحاد لم يصح لكن لا يغتالون بل يبلغون المأمن لأنهم دخلوا على اعتقاد صحة أمانه
( و ) عقدها ( لبلدة ) أي كفارها ( يجوز لوالي الأقليم ) لتلك البلدة كما في الروضة وأصلها لتفويض مصلحة الإقليم إليه ولاطلاعه على مصالحه ولأن الحاجة قد تدعو إلى ذلك والمفسدة فيه قليلة لو أخطأ
وأفهم قوله ( أيضا ) أنه يجوز عقد الهدنة لكفار بلدة من الإمام ونائبه أيضا
قال الرافعي والقصور على بلدة واحدة في ذلك الإقليم لا معنى له فإن الحاجة قد تدعو إلى مهادنة أهل بلاد في ذلك الإقليم وتكون المصلحة في ذلك
تنبيه قد يفهم من تعبير المصنف بعقدها اعتبار الإيجاب والقبول لكن على كيفية ما سبق في عقد الأمان وقضية كلامه كغيره أن والي الإقليم لا يهادن جميع أهل الإقليم وبه صرح الفوراني وهو أظهر من قول العمراني أن له ذلك وقضية كلامه أيضا أنه لا يشترط إذن الإمام للوالي في ذلك وهو قضية كلام الرافعي لكن نص الشافعي على اعتبار إذنه وهو الظاهر والإقليم بكسر الهمزة أحد الأقاليم السبعة التي في الربع المسكون من الأرض وأقاليمها أقسامها وذلك أن الدنيا مقسومة على سبعة أسهم على تقدير أصحاب الهيئة
ثم شرع في الشرط الثاني بقوله ( وإنما تعقد لمصلحة ) ولا يكفي انتفاء المفسدة لما فيه من موادعتهم بلا مصلحة وقد قال تعالى { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون }
ثم بين المصلحة بقوله ( كضعفنا بقلة عدد ) لنا ( وأهبة أو ) لا لضعفنا بل لأجل ( رجاء إسلامهم أو بذل جزية ) أو نحو ذلك كحاجة الإمام إلى إعانتهم له على غيرهم ولأنه صلى الله عليه وسلم هادن صفوان بن أمية أربعة أشهر عام الفتح وقد كان صلى الله عليه وسلم مستظهرا عليه ولكنه فعل ذلك لرجاء إسلامه فأسلم قبل مضيها
تنبيه قوله أو رجاء معطوف على قوله كضعفنا لا على الذي يليه كما يفهم مما قدرته فكان ينبغي إعادة الجار فيه أي أن المصلحة تارة تكون لضعفنا لقلة العدد والأهبة وتارة مع قوتنا ولكن لرجاء إسلامهم أو غيره
ثم شرع في الشرط الثالث بقوله ( فإن لم يكن ) بنا ضعف ورأى الإمام المصلحة فيها ( جازت ) ولو بلا عوض ( أربعة أشهر ) للآية المارة ولمهادنته صلى الله عليه وسلم صفوان كما مر ( لا سنة ) فلا يجوز جزما لأنها مدة تجب فيها الجزية فلا يجوز تقريرهم فيها بلا جزية ( وكذا دونها ) وقد قال تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وهو عام إلا ما فوق أربعة أشهر لا يجوز أيضا ( في الأظهر ) لزيادتها
____________________
(4/260)
على مدة السياحة خص لدليل وهو أربعة أشهر
والثاني يجوز لنقصها عن مدة الجزية والأول نظر إلى مفهوم الآية
تنبيه محل ذلك كما قال الماوردي في النفوس أما أموالهم فيجوز العقد عليها مؤبدا وهل يجوز ذلك في الدية فيه وجهان أوجههما الجواز
واستثنى البلقيني المهادنة مع النساء فإنها تجوز من غير تقييد بمدة
( ولضعف تجوز عشر سنين ) فما دونها بحسب الحاجة ( فقط ) فيمتنع أكثر منها لأن هذا غاية مدة الهدنة ولا يجوز الوصول إليها إلا عند الاحتياج لها لأنه صلى الله عليه وسلم هادن قريشا في الحديبية هذه المدة رواه أبو داود
وكان ذلك قبل أن يقوى الإسلام
تنبيه محل المنع إذا جرى ذلك في عقد واحد فإن جرى في عقود متفرقة جاز بشرط أن لا يزيد كل عقد على عشر كما جزم به الفوراني وغيره قال ابن الرفعة
قال الأذرعي وعبارة الروضة ولا تجوز الزيادة على العشر لكن إن انقضت المدة والحاجة باقية استؤنف العقد وهذا صحيح
وأما استئناف عقد إثر عقد كما قاله الفوراني فغريب لا أحسب الأصحاب يوافقون عليه أصلا
انتهى
وهذا ظاهر وإذا عقد لهم هذه المدة ثم استقوينا قبل فراغها تمت لهم عملا بالعقد
( ومتى زاد ) الإمام أو نائبه في عقدها ( على ) القدر ( الجائز ) فيها بحسب الحاجة بأن زاد في حال قوتنا على أربعة أشهر أو حال ضعفنا على عشر سنين ( فقولا تفريق الصفقة ) في عقدها لأنه جمع في العقد الواحد بين ما يجوز العقد عليه وما لا يجوز أظهرهما يبطل في الزائف فقط ( وإطلاق العهد ) عن ذكر لمدة فيه ( يفسده ) أي عقد الهدنة لاقتضائه التأبيد وهو ممتنع لمنافاة مقصوده المصلحة
ثم شرع في الشرط الرابع بقوله ( وكذا شرط ) أي يشترط خلو عقد الهدنة من كل شرط فاسد ( على الصحيح ) المنصوص ( بأن شرط منع فك أسرانا ) منهم ( أو ترك مالنا ) الذي استولوا عليه
قال الزركشي بحثا أو مال ذمي ( لهم أو لتعقد لهم ) أي لكل واحد منهم ( ذمة بدون دينار أو ) لتعقد لهم ذمة ( بدفع مال إليهم ) ولم تدع ضرورة إليه فهو معطوف على بدون وأشعر كلامه انحصار الشرط الفاسد فيما ذكره وليس مرادا فمنه ما إذا شرط أن يقيموا بالحجاز أو يدخلوا الحرم أو يظهروا الخمور في دارنا أو نحو ذلك من الشروط الفاسدة فلو أتى المصنف بكاف التشبيه كما في المحرر كان أولى
والأصل في منع ما ذكر قوله تعالى { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون } وفي اشتراط ذلك إهانة ينبو الإسلام عنها
أما إذا دعت الضرورة إلى دفعه بأن كانوا يعذبون الأسرى ففديناهم أو أحاطوا بنا وخفنا الاصطلام فيجوز الدفع بل يجب عن الأصح في زوائد الروضة
قال الإسنوي وتصحيحه وجوب البذل هنا مخالف لقوله آخر السير أن فك الأسرى مستحب
انتهى
وحمل البلقيني استحباب فك الأسرى على ما إذا لم يعاقبوا فإن عوقبوا وجب وحمل الغزي الاستحباب على الآحاد والوجوب على الإمام وهذا أولى
تنبيه إذا عقدنا لهم على دفع مال إليهم عند الضرورة هل العقد صحيح أو لا وقال الأذرعي عبارة كثير تفهم صحته وهو بعيد والظاهر بطلانه وهو قضية كلام الجمهور انتهى
ولا يملكون ما أعطى لهم لأخذهم له بغير حق ( وتصح الهدنة على أن ينقضها الإمام متى شاء ) لخبر البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع يهود خيبر وقال أقركم ما أقركم الله وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه ولو قال الإمام الآن هذه اللفظة لم يجز لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما عند الله بالوحي بخلاف غيره
تنبيه لا يختص ذلك بمشيئة الإمام بل لو قال متى شاء فلان وهو مسلم عدل ذو رأي صح أيضا بخلاف ما لو قال ما شاء فلان منكم فإنه لا يجوز
ثم شرع في أحكام الهدنة فقال ( ومتى صحت وجب ) على عاقدها وعلى من
قال الله تعالى { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا } أما أهل الحرب بعده من الأئمة
____________________
(4/261)
( الكف ) ودفع الأذى من مسلم أو ذمي ( عنهم ) وفاء بالعهد فلا يلزمنا الكف عنهم ولا منع بعضهم عن بعض لأن مقصود الهدنة الكف لا الحفظ بخلاف الذمة نعم إن أخذ الحربيون ما لهم بغير حق وظفرنا به رددناه إليهم وإن لم يلزمنا استنقاذه ويستمر ذلك ( حتى تنقضي ) مدتها ( أو ينقضوها ) أو ينقضها الإمام إذا علفت بمشيئته وكذا غيره إذا علقت بمشيئته
قال تعالى { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } وقال تعالى { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم }
ونقضهم لها يكون مع ما مر آنفا ( بتصريح ) منهم ( أو قتالنا ) حيث لا شبهة لهم فإن كان لهم شبهة كأن أعابوا البغاة مكرهين فلا ينتقض كما بحثه الزركشي ( أو مكاتبة أهل الحرب بعورة ) أي خلل ( لنا ) وقوله ( أو قتل مسلم ) يفهم أنه لو قتل ذميا في دارنا أن الحكم يختلف وليس مرادا ولا ينحصر الانتقاض فيما ذكره بل تنتقض بأشياء أخر منها لو سبوا الله تعالى أو القرآن أو رسوله صلى الله عليه وسلم وكل ما اختلف في انتقاض الذمة به تنتقض الهدنة جزما لأن الهدنة ضعيفة غير متأكدة ببذل الجزية
تنبيه أفهم قوله صحت أنها لو كانت فاسدة لا يجب الكف عنهم وليس مرادا بل يجب إنذارهم وإعلامهم ولا يجوز اغتيالهم ولو رأى الإمام العقد الثاني فاسدا فإن كان فساده بطريق الاجتهاد لم يفسخه وإن كان بنص أو إجماع فسخه
( وإذا انتقضت ) أي الهدنة وهو ببلادهم ( جازت الإغارة عليهم وبياتهم ) بفتح الموحدة أوله وهو الإغارة عليهم ليلا
قال الله تعالى { بياتا وهم نائمون } فهو من عطف الخاص على العام سواء أعلموا أنه ناقض أم لا
لقوله تعالى { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم } الآية ولأنهم صاروا حينئذ كما كانوا قبل الهدنة أما إذا كانوا ببلادنا فلا نقاتلهم بل نبلغهم المأمن كما في الروضة وأصلها ( ولو نقض بعضهم ) الهدنة بشيء مما مر ( ولم ينكر الباقون ) عليهم ( بقول ولا فعل ) بأن سكتوا ولم يعتزلوهم ( انتقض فيهم ) أي الباقين ( أيضا ) لأن سكوتهم يشعر بالرضا فجعل نقضا منهم كما أن هدنة البعض وسكوت الباقين هدنة في حق الكل وهذا بخلاف عقد الجزية فليس نقضه من بعضهم نقضا من الكل لقوته وضعف الهدنة ( وإن أنكروا باعتزالهم ) عنهم ( أو إعلام الإمام ) أي إعلام البعض المنكرين الإمام ( ببقائهم على العهد فلا ) ينقض العهد في حقهم وإن كان الناقص رئيسهم لقوله تعالى { أنجينا الذين ينهون عن السوء } فإن اقتصروا على الإنكار من غير اعتزال أو إعلان الإمام بذلك فناقضون بخلاف عقد الذمة وإنما أتى بمثالين لأن الأول إنكار فعلي والثاني قولي والقول قول منكر النقض بيمينه ( ولو خاف ) الإمام ( خيانتهم ) بظهور أمارة تدل على الخوف لا بمجرد الوهم ( فله نبذ عهدهم إليهم ) لقوله تعالى { وإما تخافن من قوم خيانة } الآية
تنبيه أفهم كلام المصنف أنه إذا لم يخف الخيانة لا يجوز نبذ عهدهم ومنه يعلم أن عقدها لازم
( و ) ينذرهم بعد نبذ عهدهم و ( يبلغهم ) وجوبا ( المأمن ) بعد استيفاء ما وجب عليهم من الحقوق وفاء بالعهد
وسبق تفسير المأمن في الباب قبله ( ولا ينبذ عقد الذمة بتهمة ) بتحريك الهاء أي بمجردها عند استشعار الإمام خيانتهم بخلاف الهدنة وفرق بينهما بثلاثة أوجه الأول أن في عقد الذمة يغلب جانبهم ولهذا تجب الإجابة إليه إذا طلبوا وفي الهدنة يغلب جانبنا ولهذا لا تجب الإجابة
الثاني أن أهل الذمة في قبضة الإمام وإذا تحققت خيانتهم أمكنه تداركها بخلاف أهل الهدنة
الثالث أن عقد الذمة آكد لأنه مؤبد ولأنه عقد معاوضة ( ولا يجوز ) تعالى { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } ولأنه لا يؤمن في عقد الهدنة
____________________
(4/262)
( شرط رد مسلمة تأتينا منهم ) وإن أسلمت عندنا لقوله أن يصيبها زوجها الكافر أو تزوج بكافر ولأنها عاجزة عن الهرب منهم وقريبه من الافتتان لنقصان عقلها وقلة معرفتها
تنبيه لا فرق في ذلك بين الحرة والأمة وبحث بعض المتأخرين أن الخنثى كالمرأة ولو أسقط المصنف تأتينا لكان أولى لأن حكم من جاءت إلينا كافرة ثم أسلمت كذلك كما قدرته في كلامه
( فإن شرط ) في عقد الهدنة رد المرأة المذكورة ( فسد الشرط ) قطعا سواء أكان لها عشيرة أم لا لأنه أحل حراما ( وكذا العقد في الأصح ) المنصوص في الأم لفساد الشرط والثاني لا لأنها ليست بآكد من النكاح وهو لا يفسد بالشروط الفاسدة
تنبيه قال ابن شهبة هذا هو الخلاف المار في قوله وكذا شرط فاسد على الصحيح إلا أنه ضعفه هناك فكرر وناقض
وسلمت الروضة من هذا فإنه عبر أولا بالصحيح ثم أحال ثانيا عليه اه
وأجاب عن ذلك الشارح فقال وأشار به أي بالتعبير بالأصح إلى قوة الخلاف في هذه الصورة وعبر في صور تقدمت بالصحيح إشارة إلى ضعف الخلاف فيها فلا تكرار ولا تحالف اه
وخرج بالمسلمة الكافرة فيجور شرط ردها
( وإن شرط ) الإمام أو نائبه في عقد الهدنة لهم ( رد من جاء ) منهم ( مسلما ) إلينا ( أو ) عقد وأطلق بأن ( لم يذكر ردا ) ولا عدمه ( فجاءت امرأة ) مسلمة ( لم يجب دفع مهر ) بارتفاع نكاحها بإسلامها قبل الدخول أو بعده ( إلى زوجها في الأظهر ) لأن البضع ليس بمال حتى يشمله الأمان والثاني يجب على الإمام لقوله تعالى { وآتوهم ما أنفقوا } أي من المهور والأمر فيه محتمل للوجوب وللندب الصادق بعدم الوجوب الموافق للأصل ورجحوه على الوجوب لما قام عندهم في ذلك وأما غرمه صلى الله عليه وسلم المهر فلأنه كان قد شرط لهم رد من جاءتنا مسلمة
ثم نسخ ذلك بقوله تعالى { فلا ترجعوهن إلى الكفار } 1 فغرم حينئذ لامتناع ردها بعد شرطه
تنبيه إنما يستحق المهر إذا أوجبناه بتسع شروط جمعها الماوردي وهي مفرقة في كلام الرافعي أحدها أن يكون الطالب زوجها وقد أشار إليه المصنف بقوله إلى زوجها
الثاني أن يكون ساق إليها مهرها
الثالث أن تكون جاءت مسلمة أو جاءت ذمية ثم أسلمت
الرابع أن تكون بالغة عاقلة
الخامس أن تكون باقية الحياة فلو ماتت قبل طلبه فلا
السادس أن تكون باقية في العدة فلو كان بعد انقضائها لم يدفع إليه شيء قطعا ذكره الرافعي بحثا ونقله البلقيني عن نص الأم
السابع أن تكون مقيمة على الإسلام وأن يكون الزوج مقيما على دينه ليكون المانع منها
الثامن أن يكون مقيما على النكاح فلو خالعنا بعد الطلب لم يسقط حقه على ذلك القول
التاسع أن تكون جاءت إلى بلد فيه الإمام أو نائبه وإلا فعلى أهل البلد منعها حسبة ولا يغرمون المهر ولا الإمام نص عليه في الأم واحترز المصنف بقوله ولم يذكر ردا عما إذا شرط ترك الرد فإنه لا غرم قطعا
( ولا يرد ) من جاء منهم إلينا وهو ( صبي ) وصف الإسلام ذكرا كان أو أنثى طلبه أبواه الكافران أم لا ( و ) لا يرد من جاء منهم إلينا وهو ( مجنون ) بالغ ذكرا كان أو أنثى طرأ جنونه بعد بلوغه مشركا أم لا لضعفهما كالنساء ولا يجوز الصلح بشرط ردهما
فإن قيل قد رجحا في باب اللقيط أن الحيلولة بين الصبي إذا أسلم وبين أهله مستحبة لا واجبة
أجيب بأن الكلام هناك محمول على ما إذا كانوا في دارنا والكلام هنا في جواز رده إلى الكفر فإنهم يتمكنون من استمالته ورده إلى الكفر بخلاف ما إذا كانوا مقيمين عندنا فإنهم لا يتمكنون من ذلك فإن بلغ الصبي وأفاق المجنون ثم وصفا الكفر ردا وكذا إن لم يصفا شيئا كما بحثه بعض المتأخرين وإن وصفا الإسلام لم يردا كما لو كان الجنون بعد الإسلام أو وقع الإسلام بعد الإفاقة من الجنون ولو شككنا في أنه أسلم قبل جنونه أو بعده لم يرد أيضا
____________________
(4/263)
( وكذا ) لا يرد ( عبد ) مسلم بالغ عاقل ( و ) كذا لا يرد ( حر لا عشيرة له على المذهب ) لأنه لا يستدل عندهم كالعبد وقيل يردان لقوتهما بالنسبة إلى غيرهما وقطع بعضهم بالرد في الحر والجمهور بعدمه في العبد
أما الأمة المسلمة ولو مكاتبة ومستولدة فلا ترد قطعا
تنبيه لو هاجر قبل الهدنة أو بعدها عبد أو أمة ولو مستولدة ومكاتبة ثم أسلم كل منهما عتق لأنه إذا جاء قاهرا لسيده ملك نفسه بالقهر فيعتق ولأن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض فبالاستيلاء على نفسه ملكها ويعتق أيضا إذا أسلم ثم هاجر قبل الهدنة لوقوع قهره حال الإباحة بخلاف ما لو أسلم بعدها فلا يعتق لأن أموالهم مخطورة حينئذ فلا يملكها المسلم بالاستيلاء ولكن لا يرد إلى سيده لأنه جاء مسلما مراغما له والظاهر أنه يسترقه ويهيئه ولا عشيرة له تحميه بل يعتقه السيد فإن لم يفعل باعه الإمام عليه لمسلم أو دفع قيمته من بيت المال وأعتقه عن المسلمين ولهم ولاؤه وكالمهاجرة الهرب إلى المأمن وإنما ذكروا هجرته لأن بها يعلم عتقه غالبا
وأما المكاتبة فتبقى مكاتبة إن لم تعتق فإن أدت نجوم الكتابة عتقت بها وولاؤها لسيدها وإن عجزت ورقت وقد أدت شيئا من النجوم بعد الإسلام لا قبله حسب ما أدته من قيمتها فإن وفى بها أو زاد عليها عتقت لأنه استوفى حقه وولاؤها للمسلمين ولا يسترجع من سيدها الزائد وإن نقص عنها وفى من بيت المال
( ويرد من ) أي حر ( له عشيرة طلبته ) أن يرد ( إليها ) لأنه صلى الله عليه وسلم رد أبا جندل على أبيه سهيل بن عمرو كما رواه الشيخان والمعنى فيه أنهم يذبون عنه ويحمونه
تنبيه هل الاعتبار في الطلب بحضور العشيرة أو واحد منهم أو يكفي بعث رسولهم إذا غلب على الظن صدقه
قال الزركشي لم يتعرضوا له والظاهر الثاني
قال وإذا شرط رد من له عشيرة تحميه كان الشرط جائزا صرح به العراقيون وغيرهم
قال البندنيجي والضابط أن كل من لو أسلم في دار الحرب لم تجب عليه الهجرة يجوز شرط رده في عقد الهدنة
قال ابن شهبة وهو ضابط حسن
و ( لا ) يجوز رده ( إلى غيرها ) أي عشيرته إذا طلبه ذلك الغير لأنهم يؤذونه ( إلا أن يقدر المطلوب على قهر الطالب ) له ( والهرب منه ) فيرد إليه حينئذ وعليه حمل رد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بصير لما جاء في طلبه رجلان فقتل أحدهما في الطريق وأفلت الآخر رواه البخاري
أما إذا لم يطلب أحد فلا يرد أو لم يشترط فلا يجب الرد مطلقا ( ومعنى الرد أن يخلى بينه ) أي المطلوب ( وبين طالبه ) عملا بقضية الشرط ولا تبعد تسمية التخلية ردا كما في الوديعة ( ولا يجبر ) المطلوب ( على الرجوع ) إلى طالبه لأن إجبار المسلم على الإقامة بدار الحرب لا يجوز وعلى هذا حمل رد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بصير و أبا جندل ( ولا يلزمه ) أي المطلوب ( الرجوع ) إليه لأن العهد لم يجر معه ولهذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم امتناعه ولا قتله طالبه بل سره ما فعل ولو كان واجبا لأمره بالرجوع إلى مكة ( وله قتل الطالب ) دفعا عن نفسه ودينه لقصة أبي بصير ( ولنا ) هو صادق بالإمام وبآحاد المسلمين ( التعريض له به ) أي المطلوب بقتل طالبه لأن عمر رضي الله عنه قال لأبي جندل حين رد إلى أبيه اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم كدم كلب يعرض له بقتل أبيه كما رواه البيهقي في سننه والإمام أحمد في مسنده ( لا التصريح ) له به فلا يجوز لأنهم في أمان
نعم لو أسلم واحد منهم بعد عقد الهدنة له أن يصرح بذلك كما يقتضيه كلامهم لأنه لم يشترط على نفسه أمانا لهم ولا تناوله شرط الإمام قاله الزركشي ( ولو شرط ) عليهم في الهدنة ( أن يردوا من جاءهم مرتدا منا ) رجلا كان أو امرأة حرا أو رقيقا
____________________
(4/264)
( لزمهم الوفاء ) بالشرط عملا بالتزامهم
فإن امتنعوا من رده فناقضون للعهد لمخالفتهم الشرط ( والأظهر جواز شرط أن لا يردوا ) ولو كان المرتد امرأة فلا يلزمهم رده
لأنه صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في مهادنة قريش حيث قال لسهيل بن عمرو وقد جاء رسولا منهم من جاءنا منكم مسلما رددناه ومن جاءكم منا فسحقا سحقا ولكن يغرمون مهر المرتدة
فإن قيل لم غرموا ولم نغرم نحن مهر المسلمة
أجيب بأنهم فوتوا علينا الاستتابة الواجبة علينا وأيضا المانع جاء من جهتها والزوج غير متمكن منها بخلاف المسلمة الزوج متمكن منها بالإسلام
خاتمة يغرمون أيضا قيمة رقيق ارتد دون الحر فإن عاد الرقيق المرتد إلينا بعد أخذنا قيمته رددناها عليهم بخلاف نظيره في المهر
قال في أصل الروضة لأن الرقيق بدفع القيمة يصير ملكا لهم والنساء لا يصرن زوجات فإن قيل هذا إنما يأتي على قولنا بصحة بيع المرتد للكافر والأصح خلافه
أجيب بأن هذا ليس ببيع حقيقة واغتفر ذلك لأجل المصلحة فليس مفرعا على القول بصحة بيعه
قال في أصل الروضة ويغرم الإمام لزوج المرتدة ما اتفق من صداقها لأنا بعقد الهدنة خلينا بينه وبينها ولولاه لقتلناهم حتى يردوها اه
ويشبه كما قال شيخنا أن يكون الغرم لزوجها مفرعا على الغرم لزوج المسلمة المهاجرة
قال الماوردي ويجوز شراء أولاد المهادنين منهم لا سبيهم
كتاب الصيد هو مصدر صاد يصيد صيدا ثم أطلق الصيد على المصيد
قال تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم }
( والذبائح ) جمع ذبيحة بمعنى مذبوحة
ولما كان الصيد مصدرا أفرده المصنف وجمع الذبائح لأنها تكون بالسكين أو السهم أو الجوارح
والأصل في الباب قوله تعالى { وإذا حللتم فاصطادوا } وقوله تعالى { إلا ما ذكيتم } وقوله تعالى { أحل لكم الطيبات } والمذكى من الطيبات ومن السنة ما سنذكره وأجمعت الأمة على جلها
تنبيه قدم الذبائح في الحكم على الصيد عكس ما في الترجمة لكن الواو لا تقتضي ترتيبا
وذكر المصنف كما في المحرر وأكثر الأصحاب هذا الكتاب وما بعده هنا وفاقا للمزني وخالف في الروضة فذكره آخر ربع العبادات تبعا لطائفة من الأصحاب
قال وهو أنسب
قال ابن قاسم ولعل وجه الأنسبية أن طلب الحلال فرض عين اه
وأركان الذبح بالمعنى الحاصل بالمصدر أربعة ذبح وذابح وذبيح وآلة
وبدأ بالأول فقال ( ذكاة الحيوان المأكول ) البري المفيدة لحل أكله إنسيا كان الحيوان أو وحشيا تأنس تحصل شرعا بطريقتين ذكر المصنف إحداهما في قوله ( بذبحه ) بذال معجمة ( في حلق ) وهو أعلى العتق ( أو ) في ( لبة ) وهي بلام وموحدة مشددة مفتوحتين أسفل العنق ( إن قدر عليه ) بالإجماع وسيأتي أن ذكاته بقطع كل الحلقوم والمريء
فهو معنى الذبح وذالهما معجمة فكان الأولى ذكرهما في موضع واحد فلا يحل شيء من الحيوان المأكول بغير ذكاة شرعية لقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } إلى قوله { إلا ما ذكيتم } فإن قيل قضية كلامه تسمية الكل ذبحا ويخالفه بعد ذلك قوله ويسن نحر إبل وذبح بقر وغنم فإنه يقتضي أن المسنون في الإبل لا يسمى ذبحا
أجيب بأن تسميته بالنحر لا تنافي تسميته ذبحا بل تسمى نحرا وذبحا
ثم ذكر الطريق الثاني في قوله ( وإلا ) بأن لم يقدر عليه ( فبعقر ) بفتح العين ( مزهق ) للروح ( حيث ) أي في أي موضع ( كان ) العقر ذكاته
فإن قيل يرد على الحصر في الطريقين الجنين فإن ذكاته بذكاة أمه
باب الأطعمة إن شاء الله تعالى
ثم شرع في شرع الركن الثاني وهو الذابح فقال ( وشرط ذابح ) أي وعاقر ( وصائد ) لغير سمك وجراد ليحل مذبوحه ومعقوره ومصيده ( حل مناكحته ) للمسلمين بكونه مسلما أو كتابيا بشرطه السابق في محرمات النكاح
قال تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } أجيب بأن كلامه في الذكاة استقلالا وسيأتي الكلام
____________________
(4/265)
على الجنين في
قال ابن عباس وإنما أحلت ذبائح اليهود والنصارى من أجل أنهم آمنوا بالتوراة والإنجيل رواه الحاكم وصححه
وسواء اعتقدوا إباحته كالبقر والغنم أم تحريمه كالإبل وأما سائر الكفار كالمجوسي والوثني والمرتد فلا تحل ذبيحتهم ولا مصيدهم ولا معقورهم لعدم حل مناكحتهم
تنبيه إن قلنا تحل مناكحة الجن حلت ذبيحتهم وإلا فلا وتقدم الكلام على ذلك في محرمات النكاح وبقية الحيوانات لا تحل ذبيحتها لو علمت الذبح في المقدور عليه وسيأتي الكلام في غيره وإنما لم يشترط المصنف في الصائد كونه بصيرا لأنه سيذكر بعد ذلك أن الأعمى لا يحل صيده ولم يشترط في الذابح كونه ليس محرما في الوحشي أو المتولد منه وفي المذبوح كونه غير صيد حرمي على حلال أو محرم لأنه قدم ذلك في محرمات الإحرام ولأن المحرم مباح الذبيحة في الجملة ولكن الإحرام مانع بالنسبة إلى الصيد البري أما صائد السمك والجراد فلا يشترط فيه الشرط المذكور لأن ميتتهما حلال فلا عبرة بالفعل ولا أثر للرق في الذابح
( و ) حينئذ ( تحل ذكاة أمة كتابية ) وإن حرم مناكحتها لعموم الآية المذكورة وهذه مستثناة من قوله وشرط ذابح حل مناكحته
واستثنى الإسنوي أيضا زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن لا تحل مناكحتهن وتحل ذبيحتهن
قال فينبغي أن يقول في الضابط من لا تحل مناكحته لنقصه واعترضه البلقيني بأنه كان يحل مناكحتهن للمسلمين قبل أن ينكحهن النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أن نكحهن فالتحريم على غيره لا عليه وهو رأس المؤمنين صلى الله عليه وسلم
قال فلا يورد ذلك إلا قليل البصيرة
قال ابن شهبة ويمكن أن يصحح الاستثناء بأن يقال زوجاته صلى الله عليه وسلم بعد موته يحرم نكاحهن وتحل ذبيحتهن اه
والأولى عدم استثناء ذلك لأن حرمتهن على غيره صلى الله عليه وسلم لا لشيء فيهن وإنما هو تعظيما له صلى الله عليه وسلم بخلاف الأمة الكتابية فإنه لأمر فيها وهو رقها مع كفرها
تنبيه علم من كلامه حل ذكاة المرأة المسلمة بطريق الأولى وإن كانت حائضا وقيل تكره ذكاة المرأة الأضحية والخنثى كالأنثى
( ولو شارك مجوسي ) أو غيره ممن لا تحل مناكحته ولو عبر به كان أولى ( مسلما في ذبح أو اصطياد ) يحتاج لتزكية كأن أمرا سكينا على حلق شاة أو قتلا صيدا بسهم أو كلب ( حرم ) المذبوح والمصاد تغيبا للتحريم ( ولو أرسلا ) أي مسلم ومجوسي ( كلبين أو سهمين ) أو أحدهما كلبا والآخر سهما على صيد ( فإن سبق آلة المسلم ) آلة المجوسي في صورة السهمين أو كلب المسلم كلب المجوسي في صورة الكلبين ( فقتل ) الصيد ( أو ) لم يقتله بل ( أنهاه إلى حركة مذبوح ) ثم أصابه كلب المجوسي أو سهمه ( حل ) ولا يقدح ما وجد من المجوسي كما لو ذبح المسلم شاة فقدها مجوسي فلو أدركه كلب المجوسي أو سهمه وفيه حياة مستقرة فقتله حرم وضمنه المجوسي للمسلم ( ولو انعكس ) ما ذكر بأن سبق آلة المجوسي فقتل أو أنهاه إلى حركة مذبوح ( أو ) لم يسبق واحد منهما ( جرحاه معا ) وحصل الهلاك بهما ( أو جهل ) ذلك وهذه مزيدة على المحرر والشرح ( أو ) جرحاه ( مرتبا ) بأن سبق آلة أحدهما الآخر ( و ) لكن ( لم يذفف أحدهما ) بإعجام الذال وإهمالها أي لم يقتل سريعا فهلك بهما ( حرم ) الصيد في مسألة العكس وما عطف عليها تغليبا للتحريم
تنبيه قضية كلامه أنه لو سبق كلب المجوسي فأمسك ولم يقتل ولم يجرح أنه إذا قتله كلب المسلم يحل وليس مرادا بل هو حرام لأنه لما أمسكه ولم يجرحه صار مقدورا عليه فلا يحل بقتل كلب المسلم ولو أثخن مسلم بجراحته
____________________
(4/266)
صيدا فقد زال امتناعه وملكه فإذا جرحه مجوسي ومات الجرحين حرم وعلى المجوسي قيمته مثخنا لأنه أفسده بجعله ميتة ولو أكره مجوسي مسلما على ذبح ولو أمسك له صيدا فذبحه أو شاركه في قتله بسهم أو كلب وهو في حركة مذبوح أو شاركه في رد الصيد على كلب المسلم بأن رده إليه لم يحرم إذ المقصود الفعل وقد حصل ممن يحل ذبحه فلا يؤثر فيه الإكراه ولا غيره بما ذكر ويحل ما اصطاد المسلم بكلب المجوسي قطعا ولو أرسل مجوسي ونحوه سهمه على صيد ثم أسلم ووقع بالصيد لم يحل نظرا إلى أغلظ الحالين ولو كان مسلما في حالتي الرمي والإصابة وتخللت الردة بينهما لم يحل أيضا
فائدة قال المصنف في شرح مسلم قال بعض العلماء والحكمة في اشتراط الذبح وإنهار الدم تمييز حلال اللحم والشحم من حرامهما وتنبيه على حرام الميتة لبقاء دمها
( ويحل ذبح ) وصيد ( صبي ) مسلم أو كتابي ( مميز ) لأن قصده صحيح بدليل صحة العبادة منه إن كان مسلما فاندرج تحت الأدلة كالبالغ ( وكذا ) صبي ( غير مميز ومجنون وسكران ) يحل ذبحهم ( في الأظهر ) لأن لهم قصدا وإرادة في الجملة لكن مع الكراهة كما نص عليه في الأم وصرح به في التنبيه خوفا عن عدولهم عن محل الذبح وإن أشعر كلام المصنف بخلافه فلو قال ويكره كأعمى كان أولى وأخصر والثاني لا تحل لفساد قصدهم
تنبيه محل الخلاف في المجنون والسكران إذا لم يكن لهما تمييز أصلا فإن كان لهما أدنى تمييز حل قطعا قاله البغوي ومحل حل ذبح غير المميز إذا أطاق الذبح فإن لم يطق لم يحل نص عليه في الأم والمختصر قاله البلقيني بل المميز إذا لم يطق الحكم فيه كذلك ونقل عن نص الأم
( وتكره زكاة أعمى ) لما مر ( ويحرم صيده برمي أو كلب ) وغيره من جوارح السباع ( في الأصح ) المنصوص لعدم صحة قصده لأنه لا يرى الصيد فصار كاسترسال الكلب وما ذكره معه بنفسه والثاني يحل كذبحه
تنبيه اقتصاره على تحريم صيد الأعمى يقتضي أن صيد من قبله حلال وهو كما قاله في المجموع إنه المذهب وقيل لا يصح لعدم القصد وليس بشيء اه
وقول الروضة وأصلها أن الوجهين في الأعمى يجريان في اصطياد الصبي والمجنون لا يلزم منه الاتحاد في الترجيح وإن جرى ابن المقري على الاتحاد وحكى الدارمي في ذبح النائم وجهين والذي ينبغي القطع به عدم حله وأما ذبيحة الأخرس فتحل وإن لم تفهم إشارته كالمجنون
فرع قال في المجموع قال أصحابنا أولى الناس بالزكاة الرجل العاقل المسلم ثم المرأة المسلمة ثم الصبي المسلم ثم الكتابي ثم المجنون والسكران انتهى
قال شيخنا والصبي غير المميز في معنى الأخيرين
( وتحل ميتة السمك والجراد ) بالإجماع وإن كان نظير الأول في البر محرما ككلب لقوله تعالى { أحل لكم صيد البحر وطعامه } ولخبر أحلت لنا ميتتان ولخبر هو أي البحر الطهور ماؤه الحل ميتته ولأن ذبحهما لا يمكن عادة فسقط اعتباره سواء ماتا بسبب أم لا وسواء كان طافيا أم راسبا خلافا لأبي حنيفة في الطافي لأنه صلى الله عليه وسلم أكل من العنبر وهو الحوت الذي طفا وكان أكله منه بالمدينة رواه مسلم
( لو صادهما ) أي السمك والجراد ( مجوسي ) لأن أكثر ما فيه أن يجعل ميتة وميتتهما حلال كما مر ولا اعتبار بفعله
قال في زيادة الروضة ولو ذبح مجوسي سمكة حلت أيضا فلو قال المصنف ولو قتلهما مجوسي لكان أولى
وأما قتل المحرم الجراد فيحرم عليه وأما على غيره ففيه قولان أصحهما أنه لا يحرم وجزم به في المجموع ويسن ذبح كبار السمك الذي يطول بقاؤه إراحة له ويكره ذبح صغاره لأنه عبث وتعب بلا فائدة
تنبيه شمل حل ميتة السمك ما لو وجدت سمكة ميتة في جوف أخرى فتحل كما لو ماتت حتف أنفها إلا
____________________
(4/267)
أن تكون متغيرة وإن لم تتقطع كما قاله الأذرعي لأنها صارت كالروث والقيء
( وكذا الدود المتولد من طعام كخل ) وجبن ( وفاكهة إذا أكل معه ) ميتا يحل ( ف الأصح ) لعسر تمييزة وألحق بعض المتأخرين اللحم المدود بالفاكهة وقضية هذا التعليل أنه إذا سهل تمييزه كالتفاح أنه يحرم أكله معه
قال ابن شهبة وهو ظاهر أي إذا كان لا مشقة فيه وخرج بقوله معه أكله منفردا فيحرم لنجاسته واستقذاره وكذا لو نحاه من موضع إلى آخر كما قاله البلقيني أو تنحى بنفسه ثم عاد بعد إمكان صوته عنه كما بحثه بعض المتأخرين
والثاني يحل مطلقا لأنه كجزء منه
والثالث يحرم مطلقا لأنه ميتة
تنبيه حق هذه المسألة أن تذكر في باب الأطعمة وقضية إطلاقهم أنه لا فرق بين ما كثر من الدود أو لا وقضية ما ذكروه فيما لا نفس له سائلة أنه إذا كثر وغير يمنع لأن الأصح أنه ينجس في هذه الحالة ويفرق بأن وقوع ما لا نفس له سائلة يمكن صون المائع عن كثرته بخلافه هنا
قال ابن شهبة ويقاس بالدود المتولد من الطعام التمر والباقلاء المسوسان إذا طبخا ومات السوس فيهما وهذا أولى من قول الزركشي ولو فرق بين التمر والفول بأن التمر يشق عادة ويزال ما فيه بخلاف الفول لكان متجها
ولو وقع في العسل نمل وطبخ جاز أكله بخلاف اللحم لأنه لا مشقة في تنقيته عنه ولو وقعت نملة واحدة أو ذبابة في قدر طبيخ وتهرت أجزاؤها فيه لم يحرم أكل ذلك الطبيخ لأنه لا يستقذر ومثل الواحدة الشيء القليل من ذلك فيما يظهر ولو وقع في القدر جزء من لحم آدمي وإن قل
قال في الإحياء حرم أكل ما فيها لا لنجاسته بل لحرمته وخالفه في الروضة فقال المختار أنه لا يحرم لاستهلاكه
( ولا يقطع ) شخص على جهة الكراهة كما في الروضة ( بعض سمكة حية ) أو جرادة حية وإنما لم يحرم كما قيل لأن عيشه عيش مذبوح كما يكره قلبه حيا في الزيت المغلي لما ذكر ( فإن فعل ) أي قطع بعض ما ذكر وبلع ذلك المقطوع ( أو بلع ) بكسر اللام في الأشهر ( سمكة ) أو جرادة ( حية حل ) ما ذكر ( في الأصح ) أما في الأولى فلأن المبان كالميتة وميتة هذا الحيوان حلال وأما في الثانية فلأنه ليس فيه أكثر من قتلها وهو جائز
والثاني لا يحل المقطوع كما في غير السمك والجراد ولا المبلوع لما في جوفه وعلى الأول يكره ذلك على الخلاف المذكور
تنبيهات أحدها محل الخلاف في الأولى إنما هو في القدر الذي أبين مع بقاء حياة السمكة أو الجرادة أما لو قطع ولم يبق في الباقي حياة حل قطعا
ومحله في الثانية إذا لم يكن حاجة فإن مست الحاجة إليه للتداوي جاز قطعا كما دل عليه كلام الرافعي ثانيها لو أكل مشوي صغار السمك بروثه حل وعفى عن روثه لعسر تتبعه وأما كباره فلا يجوز أكل الروث معه لفقد العلة المذكورة
ثالثها قول المصنف حية قد يفهم أنه يجوز في الميتة بلا خلاف وليس مرادا بل إن كانت كبيرة امتنع لعدم العفو عن نجاسة روثها بخلاف ما إذا كانت صغيرة كما يؤخذ من المسألة المارة
وصرح به ابن شهبة في الكبيرة و الزركشي في الصغيرة
( وإذا ) رمى بسهم ( صيدا متوحشا أو ) رمى ( بعيرا ) إنسيا توحش كأن ( ند ) بفتح النون أوله أي ذهب على وجهه شاردا ( أو ) رمى ( شاة ) إنسية توحشت كأن ( شردت بسهم ) فيه نصل أوله حد أو بسيف أو رمح أو نحوه ( أو أرسل عليه ) أي الصيد ( جارحة ) من سباع أو طيور ( فأصاب شيئا من بدنه ) حلقا أو لبة أو غير ذلك ( ومات في الحال حل ) في الجميع
أما في المتوحش فبالإجماع كما حكاه ابن الصلاح وغيره وأما في البعير الناد فلما في الصحيحين عن رافع بن خديج أن بعيرا ند فرماه رجل بسهم فحبسه أي قتله فقال صلى الله عليه وسلم إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا وقيس بما فيه غيره
وخرج بقوله ومات في الحال ما لو أدركه وفيه حياة مستقرة وأمكنه ذبحه ولم يذبحه فإنه لا يحل كما سيأتي
____________________
(4/268)
تنبيه الاعتبار بعدم القدرة عليه حالة الإصابة فلو رمى غير مقدور عليه فصار قبل الإصابة مقدورا عليه ثم أصاب غير المذبح حرم أو بالعكس حل كما قاله الرافعي واحترز بقوله متوحشا عن الصيد المستأنس فهو كالمقدور عليه في اعتبار ذبحه
( ولو تردى ) أي سقط ( بعير ونحوه في بئر ) أو نحوها ( ولم يمكن قطع حلقومه ) ومريئه ( فكناد ) بتشديد الدال أي شارد في حله الرمي وكذا بإرسال الكلب في وجه اختاره البصريون فتصير أجزاؤه كلها مذبحا أما إذا أمكنه ذلك بأن كان موضع الذبح ظاهرا فلا تصح ذكاته إلا في حلق أو لية
ولما كان مقتضى تشبيه المحرر المتردي بالناد أنه يحل إرسال الكلب عليه وفي معناه السهم استدركه المصنف بقوله ( قلت الأصح لا يحل ) المتردي ( بإرسال الكلب ) عليه ( وصححه الروياني ) وهو بغير همزة نسبة لرويان من بلاد طبرستان عبد الواحد أبو المحاسن شافعي زمانه صاحب البحر وغيره القائل لو احترقت كتب الشافعي أمليتها من حفظي ( والشاشي ) فخر الإسلام محمد أبو بكر بن أحمد بن الحسين صاحب الحلية وغيرها فإنه نقل عدم حل المتردي بما ذكر عن الروياني ( والله أعلم ) والفرق أن الحديد يستباح به الذبح مع القدرة بخلاف فعل الجارحة ولو تردى بعير فوق بعير فغرز رمحا في الأول حتى نفذ منه إلى الثاني حلا وإن لم يعلم بالثاني قاله القاضي فإن مات الأسفل بثقل الأعلى لم يحل ولو دخلت الطعنة إليه وشك هل مات بها أو بالثقل لم يحل كما هو قضية ما في فتاوى البغوي ( ومتى تيسر لحوقه ) أي الناد ( بعدو أو استعانة ) بمهملة ونون بخطه من العون وتجوز قراءته بمعجمة ومثلثة من الغوث ( بمن يستقبله ) مثلا ( فمقدور ) أي حكمه كحيوان مقدور ( عليه ) لا يحل إلا بالتزكية في حلق أو لبة
تنبيه قوله كلامهم يفهم أنه متى أمكن وتيسر ذلك كان غير مقدور عليه وليس مرادا بل لا بد من تحقق العجز عنه في الحال
( ويكفي في ) الحيوان ( الناد والمتردي ) السابقين وفي الوحشي أيضا كما صرح به الإمام و الغزالي ( جرح يفضي ) غالبا ( إلى الزهوق ) أي الموت سواء أذفف الجرح أم لا وهذا ما نسبه الرافعي للمعظم والمصنف للأكثرين ( وقيل يشترط ) في الرمي بسهم جرح ( مذفف ) وهو المسرع للقتل وحكى هذا الإمام عن القفال والمحققين
أما إرسال الكلب فلا يشترط فيه تذفيف جزما ( وإذا أرسل ) الصائد آلة صيد ( سهما أو كلبا ) معلما ( أو طائرا ) معلما ( على صيد فأصابه ومات ) نظرت ( فإن لم يدرك فيه ) أي الصائد في الصيد ( حياة مستقرة أو أدركها ) أي الحياة المستقرة فيه ( وتعذر ذبحه بلا تقصير ) من الصائد ( بأن ) أي كأن ( سل السكين ) على الصيد أو ضاق الزمان أو مشى له على هينته ولم يأته عدوا أو اشتغل بتوجيهه للقبلة أو بتحريفه وهو منكب أو بطلب المذبح أو بتناول السكين أو منع منه سبع ( فمات قبل إمكان ) منه لذبحه ( أو امتنع ) منه ( بقوته ومات قبل القدرة ) عليه ( حل ) في الجميع كما لو مات ولم يدرك حياته
نعم يسن ذبحه إذا وجد فيه حياة غير مستقرة
تنبيه قوله فأصابه ومات لا يستقيم جعله موردا للتقسيم فإن منها إدراكه بالحياة المستقرة والميت لا حياة فيه وعبارة المحرر والشرح والروضة فأصاب ثم أدرك الصيد حيا وللحياة المستقرة قرائن وأمارات تغلب على الظن بقاء الحياة فيدرك ذلك بالمشاهدة ومن أماراتها الحركة الشديدة وانفجار الدم بعد قطع الحلقوم والمريء والأصح أن الحركة الشديدة تكفي وحدها فإن شككنا في حصولها ولم يترجح ظن فالأصح التحريم
( وإن مات لتقصيره )
____________________
(4/269)
أي الصائد ( بأن ) أي كأن ( لا يكون معه سكين ) أو لم تكن محدودة أو ذبح بظهرها خطأ ( أو غصبت ) بضم المعجمة أوله أي أخذها منه غاصب ( أو نشبت ) بفتح النون أوله وكسر الشين المعجمة أي عسر إخراجها بأن تعلقت ( في الغمد ) بغين معجمة مكسورة وهو الغلاف كما سبق تفسيره في الإقرار ( حرم ) الصيد في هذه الصور للتقصير لأن من حق من يعافي الصيد أن يستصحب الآلة في غمد يوافق وسقوطها منه وسرقتها تقصير
نعم لو اتخذ للسكين غمدا معتادا فنشبت لعارض حل كما يفهمه التعبير بالتقصير نبه على ذلك الزركشي
تنبيه لو شك بعد موت الصيد هل قصر في ذبحه أم لا حل في الأظهر لأن الأصل عدم التقصير
فائدة في السكين لغتان التذكير والتأنيث وقد استعملهما المصنف هنا حيث قال معه سكين ثم قال غصبت
واستعمل التذكير فقط في قوله بعد ولو كان بيده سكين فسقط
( ولو رماه ) أي الصيد ( فقده ) أي قطعه ( نصفين ) مثلا ( حلا ) أي النصفان تساويا أو تفاوتا لحصول الجرح المذفف لكن إن كانت التي مع الرأس في صورة التفاوت أقل حلا بلا خلاف فإن ذلك يجري مجرى الذكاة وإن كان العكس حلا أيضا خلافا لأبي حنيفة وهو إحدى الروايتين عن أحمد
واحتج الأصحاب عليه بالقياس على ما سلمه ( ولو أبان منه ) أي الصيد ( عضوا ) كيده ( بجرح مذفف ) أي مسرع للقتل فمات في الحل ( حل العضو والبدن ) أي باقيه لأن محل ذكاة الصيد كل البدن ( أو ) أبان منه عضوا ( بغير ) أي بجرح غير ( مذفف ثم ذبحه أو ) لم يذبحه بل ( جرحه جرحا آخر مذففا ) ولم يثبته بالجرح الأول فمات ( حرم العضو ) فقط لأنه أبين من حي ( وحل الباقي ) لوجود الذكاة في الصورة الأولى
وقيام المذفف مقامها في الصورة الثانية فإن كان الجرح الأول مثبتا بغير ذبحه فلا يجزىء الجرح الثاني لأنه مقدور عليه ( فإن لم يتمكن من ذبحه ومات بالجرح ) الأول ( حل الجميع ) العضو والبدن لأن الجرح السابق كالذبح للجملة فيتبعها العضو
هذا ما جرى عليه المصنف هنا تبعا للمحرر ( وقيل ) وهو المصحح في الشرحين والروضة والمجموع ( يحرم العضو ) لأنه أبين من حي فأشبه ما لو قطع إلية شاة ثم ذبحها لا تحل الألية وأما باقي البدن فيحل جزما
ثم شرع في الركن الثالث وهو الذبيح بمعنى المذبوح فقال ( وذكاة كل حيوان ) إنسي أو وحشي ( قدر عليه ) وفيه حياة مستقرة وقت ابتداء ذبحه تحصل في الأصح ( بقطع كل الحلقوم ) بضم المهملة ( وهو مخرج ) أي مجرى ( النفس ) خروجا ودخولا ( و ) بقطع كل ( المريء ) بفتح ميمه وهمز أخره ويجوز تسهيله ( وهو مجرى الطعام ) والشراب من الحلق إلى المعدة وتحت الحلقوم لأن الحياة تفقد بفقدهما
تنبيه احترز بالقطع عما لو اختطف رأس عصفور أو غيره بيده أو ببندقة أو نحوها فإنه ميتة لا يسمى ذكاة بل هو في معنى الخنق لا في معنى القطع
وبقوله قدر عليه عما لا يقدر عليه وقد مر
وبقوله كل الحلقوم والمريء عما لو بقي شيء من أحدهما ولو يسيرا فلا يحل ويشترط أن يكون فيه حياة مستقرة في ابتداء الذبح خاصة كما قاله الإمام
وفي زيادة الروضة في باب الأضحية ما يقتضي ترجيحه وقد يدخل في قوله قدر عليه ما إذا خرج بعض الجنين وفيه حياة مستقرة لكن صحح في زيادة الروضة حله
وسيأتي الكلام عليه مستوفى في باب الأطعمة
( ويستحب قطع الودجين ) بواو ودال مفتوحتين تثنية ودج بفتح الدال وكسرها ( وهما عرقان في صفحتي العنق ) محيطان بالحلقوم وقيل بالمريء وهما الوريدان من الآدمي لأنه أوحى وأسهل لخروج الروح فهو من الإحسان
____________________
(4/270)
في الذبح
تنبيه إنما لم يجب قطع الودجين لأنهما قد يسلان من الحيوان فيبقى وما هذا شأنه لا يشترط قطعه كسائر العروق ولا يسن قطع ما وراء ذلك
( ولو ذبحه ) أي الحيوان المقدور عليه ( من قفاه ) أو من صحفة عنقه ( عصى ) بذلك لما فيه من التعذيب ( فإن أسرع ) في ذلك ( فقطع الحلقوم والمريء وبه حياة مستقرة ) أول قطعهما ( حل ) لأن الذكاة صادفته وهو حي كما لو قطع يد الحيوان تم ذكاه ( وإلا ) بأن لم يسرع قطعهما ولم يكن فيه حياة مستقرة بل انتهى إلى حركة مذبوح ( فلا ) يحل لأنه صار ميتة فلا يفيده الذبح بعد ذلك
تنبيه لو ذبح شخص حيوانا وأخرج آخر أمعاءه أو نخس خاصرته معا لم يحل لأن التذفيف لم يتمحض بقطع الحلقوم والمريء
وقال في أصل الروضة سواء أكان ما قطع به الحلقوم مما يذفف لو انفرد أو كان يعين على التذفيف ولو اقترن قطع الحلقوم بقطع رقبة الشاة من قفاها بأن أجرى سكينا من القفا وسكينا من الحلقوم حتى التقيا فهي ميتة كما صرح به في أصل الروضة لأن التذفيف إنما حصل بذبحين خلاف ما يوهمه كلام المتن من الحل فقضية كلامه أنه لا بد من قطع جميع الحلقوم والمريء وفيه حياة مستقرة وليس بشرط بل يكفي وجودها عند ابتداء قطع المريء لأن أقصى ما وقع التعبد به أن يكون فيه حياة مستقرة عند الابتداء بقطع المذبح ولا يشترط العلم بوجود الحياة المستقرة عند الذبح بل يكفي الظن بوجودها بقرينة ولو عرفت بشدة الحركة أو انفجار الدم ومحل ذلك ما لم يتقدمه ما يحال عليه الهلاك فلو وصل بجرح إلى حركة المذبوح وفيه شدة الحركة ثم ذبح لم يحل
وحاصله أن الحياة المستقرة عند الذبح بل يكفي الظن بوجودها بقرينة ولو عرفت بشدة الحركة أو انفجار الدم ومحل ذلك ما لم يتقدمه ما يحال عليه الهلاك فلو وصل بجرح إلى حركة المذبوح وفيه شدة الحركة ثم ذبح لم يحل
وحاصله أن الحياة المستقرة عند الذبح تارة تتيقن وتارة تظن بعلامات وقرائن فإن شككنا في استقرارها حرم للشك في المبيح وتغليبا للتحريم فإن مرض أو جاع فذبحه وقد صار آخر رمق حل لأنه لو يوجد سبب يحال الهلاك عليه ولو مرض بأكل نبات مضر حتى صار آخر رمق كان سببا يحال الهلاك عليه فلم يحل كما جزم به القاضي مرة وهو أحد احتماليه في مرة أخرى وإن جرى بعض المتأخرين على خلاف ذلك ولا يشترط في الذكاة قطع الجلد الذي فوق الحلقوم والمريء كما يؤخذ من قوله ( وكذا إدخال سكين بأذن ثعلب ) ليقطع الحلقوم والمريء داخل الجلد لأجل جلده فإنه حرام للتعذيب
ثم إن أسرع بقطع الحلقوم والمريء داخل الجلد وبه حياة مستقرة حل وإلا فلا
تنبيه الثعلب مثال لا قيد فلو فعل ذلك بغيره كان الحكم كذلك
( ويسن نحر إبل ) في اللبة وهي أسفل العنق كما مر لقوله تعالى { فصل لربك وانحر } وللأمر به في الصحيحين والمعنى فيه أنه أسرع لخروج الروح لطول عنقها وقياس هذا كما قال ابن الرفعة أن يأتي في كل ما طال عنقه كالنعام والأوز والبط ويسن ( ذبح بقر وغنم ) ونحوهما كخيل بقطع الحلقوم والمريء الكائنين أعلى العنق للاتباع رواه الشيخان وغيرهما ( ويجوز ) بلا كراهة كما في أصل الروضة ( عكسه ) وهو ذبح إبل ونحوها ونحر بقر وغنم ونحوهما لعدم ورود نهى فيه ( و ) يسن ( أن يكون ) نحر ( البعير قائما ) على ثلاث ( معقول ) بالتنوين بخطه ( الركبة ) وهي اليسرى كما في المجموع لقوله تعالى { فاذكروا اسم الله عليها صواف } قال ابن عباس أي قياما على ثلاث رواه الحاكم وصححه
قال الشاعر ألف الصفوف فلا يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيرا فإن لم يكن قائما فباركا والنحر الطعن بما له حد في المنحر وهو الوهدة التي في أعلى الصدر وأصل العنق
تنبيه كلام المصنف يفهم أن إيجاب قطع الحلقوم والمريء واستحباب قطع الودجين مخصوص بالذبح وليس
____________________
(4/271)
مرادا فقد جزم به في المجموع في النحر أيضا وحكاه في الكفاية عن الحاوي والنهاية وغيرهما
( و ) أن تكون ( البقرة والشاة ) حال ذبح كل منهما ( مضجعة لجنبها الأيسر ) أما الشاة ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أضجعها وقيس عليها البقر وغيره لأنه أسهل على الذابح في أخذه السكين باليمين وإمساك الرأس باليسار
تنبيه لو كان الذابح أعسر استحب أن يستنيب غيره ولا يضجعها على يمينها كما أن مقطوع اليمين لا يشير بسبابته اليسرى
( ويترك رجلها اليمنى ) بلا شد لتستريح بتحريكها ( وتشد باقي القوائم ) لئلا تضطرب حال الذبح فيزل الذابح ( و ) يسن للذابح ( أن يحد ) بضم أوله ( شفرته ) وهي بفتح المعجمة سكين عظيمة لخبر مسلم وغيره إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته
تنبيه لو ذبح بسكين كال حل بشرطين أن لا يحتاج القطع إلى قوة الذابح وإن يقطع الحلقوم والمريء قبل انتهائها إلى حركة المذبوح
ويسن إمرار السكين بقوة وتحامل يسير ذهابا وإيابا
ويكره أن يحد شفرته والبيهمة تنظر إليه وأن يذبح حيوانا وآخر ينظر إليه ففي سنن البيهقي أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى رجلا يفعل ذلك فضربه بالدرة والأولى أن يساق الحيوان إلى المذبح برفق وأن يعرض عليه الماء قبل الذبح لأن ذلك أعون على سهولة سلخه ويكره أن يبين الرأس وأن يكسر العنق وأن يقطع عضوا منه وأن يحركه وأن ينقله إلى مكان حتى تخرج روحه منه
( و ) يسن أن ( يوجه ) الذابح ( للقبلة ذبيحته ) للاتباع ولأنها أفضل الجهات والأصح أنه يوجه مذبحها لا وجهها ليمكنه أيضا هو الاستقبال فإنه يندب الاستقبال للذابح أيضا
فإن قيل هلا كره كالبول إلى القبلة
أجيب بأن هذا عبادة ولهذا شرع فيها التسمية كما قال ( وأن يقول ) عند ذبحها ( بسم الله ) لقوله تعالى { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } ولا تجب فلو تركها عمدا أو سهوا حل
وقال أبو حنيفة إن تعمد لم تحل وأجاب أئمتنا بقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم } إلى قوله { إلا ما ذكيتم } فأباح المذكى ولم يذكر التسمية وبأن الله تعالى أباح ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } وهم لا يسمون غالبا فدل على أنها غير واجبة وبقول عائشة رضي الله تعالى عنها إن قوما قالوا يا رسول الله إن قومنا حديثو عهد بالجاهلية يأتونا بلحام لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا أنأكل منها فقال اذكروا اسم الله وكلوا رواه البخاري
ولو كان واجبا لما أجاز الأكل مع الشك وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله تعالى فقال اسم الله في قلب كل مسلم وأما قوله تعالى { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } فالذي تقتضيه البلاغة أن قوله { وإنه لفسق } ليس معطوفا للتباين التام بين الجملتين إذ الأولى فعلية إنشائية والثانية اسمية خبرية ولا يجوز أن تكون جوابا لمكان الواو فتعين أن تكون حالية فتقيد النهي بحل كون الذبح فسقا والفسق في الذبيحة مفسر في كتاب الله بما أهل لغير الله به وعن ابن مسعود و ابن عباس وغيرهما أن المراد بما لم يذكر اسم الله عليه الميتة وذلك أن مجوس الفرس قالوا لقريش تأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله فأنزل الله تعالى { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } وأما نحو خبر أبي ثعلبة فما صدت بقوسك فاذكر اسم الله ثم كل وما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل فأجابوا عنه بحمله على الندب
تنبيه لا يختص سن التسمية بالذبح بل تسن عند إرسال السهم والجارحة إلى صيد ولو عند الإصابة بالسهم والعض من الجارحة كما في الحديث المار
بل حكى الروياني عن النص استحبابها عند صيد السمك والجراد ويكره تعمد تركها
قال الزركشي في الخادم ويستحب أن لا يقول في التسمية الرحمن الرحيم لأنه لا يناسب المقام
____________________
(4/272)
لكنه قال في شرح هذا الكتاب ليس المراد بالتسمية خصوص هذا اللفظ بل لو قال الرحمن الرحيم كان حسنا وفي البحر عن البيهقي أن الشافعي قال فإن زاد شيئا من ذكر الله فالزيادة خير فالأكمل أن يقول ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ويسن في الأضحية أن يكبر قبل التسمية وبعدها ثلاثا وأن يقول اللهم منك وإليك
( و ) أن ( يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ) عند ذلك لأنه محل شرع فيه ذكر الله فشرع فيه ذكر نبيه عليه السلام كالأذان والصلاة وكرهها في هذه الحالة ابن المنذر و أبو حنيفة وغيرهما وقالوا لا يذكر إلا الله وحده وما أحسن قول الحليمي وحاشا لله أن تكره الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند طاعة أو قربة بل يكره تركها عمدا كما قاله بعض المتأخرين ( ولا يقل ) أي الذابح والصائد باسم محمد ولا ( بسم الله واسم محمد ) ولا باسم الله ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجر أي لا يجوز له ذلك لإيهامه التشريك
قال الرافعي فإن أراد أذبح باسم الله وأتبرك باسم محمد فينبغي أن لا يحرم ذلك ويحمل إطلاق من نفي الجواز عنه على أنه مكروه لأن المكروه يصح نفي الجواز المطلق عنه
قال وقد تنازع جماعة من فقهاء قزوين فيه هل تحل ذبيحته وهل يكفر أو لا والصواب ما بيناه وقد نص الشافعي على أنه لو قال أذبح للنبي صلى الله عليه وسلم أو تقربا له لا يحل أكلها
أما لو قال باسم الله ومحمد رسول الله برفع محمد فإنه لا يحرم بل ولا يكره كما بحثه شيخنا لعدم إيهامه التشريك
قال الزركشي وهذا ظاهر في النحوي أما غيره فلا يتجه فيه ذلك
تنبيه لا تحل ذبيحة مسلم ولا غيره لغير الله لأنه مماأهل به لغير الله بل إن ذبح المسلم لذلك تعظيما وعبادة كفر كما لو سجد له لذلك
قال الروياني من ذبح للجن وقصد التقرب إلى الله تعالى ليصرف شرهم عنه فهو حلال وإن قصد الذبح لهم فحرام وإن ذبح للكعبة أو للرسل تعظيما لكونها بيت الله أو لكونهم رسل الله جاز
قال في الروضة وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل أهديت للحرم أو للكعبة وتحرم الذبيحة إذا ذبحت تقربا إلى السلطان أو غيره لما مر فإن قصد الاستبشار بقدومه فلا بأس كذبح العقيقة لولادة المولود وعد الصيمري من الآداب أن لا يذبح على قارعة الطريق أي فيكره وإن قال الغزالي في الإحياء بالتحريم
ثم شرع في الركن الرابع وهو الآلة مترجما لذلك بفصل فقال فصل ( يحل ذبح ) حيوان ( مقدور عليه ) بقطع حلقومه ومريئه ( و ) يحل ( جرح ) حيوان ( غيره ) أي المقدور عليه في أي موضع كان منه ( بكل محدد ) بفتح الدال الشديدة أي له حد ( يجرح ) أي يقطع ( كحديد ) أي محدد حديد ( و ) محدد ( نحاس ) وكذا بقية المعطوفات ( وذهب ) وفضة ورصاص ( وخشب وقصب وحجر وزجاج ) لأن ذلك أوحى لإزهاق الروح
فإن قيل قول المصنف يحل ذبح مقدور عليه تبع فيه المحرر وهو تعبير معكوس والصواب عبارة الروضة وهي المقدور عليه لا يحل إلا بالذبح إلخ
أجيب بأن المراد هنا بيان ما يحل به وأما كون المقدور عليه لا يحل لا بالذبح فذكره أول الباب بقوله ذكاة الحيوان المأكول بذبحه في حلق أو لبة إن قدر عليه ( إلا ظفرا وسنا وسائر ) أي باقي ( العظام ) متصلا كان أو منفصلا من آدمي أو غيره لخبر الصحيحين ما أنهر وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة وألحق بذلك باقي العظام والنهي عن الذبح بالعظام قبل تعبد وبه قال ابن الصلاح ومال إليه ابن عبد السلام وقال المصنف في شرح مسلم معناه لا تذبحوا بها فإنها تنجس بالدم وقد نهيتم عن تنجسها في الاستنجاء لكونها زاد إخوانكم من الجن فلو جعل نصل سهم عظما فقتل به صيدا حرم ومعنى قوله وأما الظفر فمدى الحبشة أنهم كفار وقد نهيتم عن التشبه بهم
____________________
(4/273)
تنبيه قد يؤخذ من علة النهي عن الذبح بالعظم أنه بمطعوم الآدمي أولى كأن يذبح بحرف رغيف محدد ومعلوم مما يأتي أن ما قتلته الجارحة بظفرها أو نابها حلال فلا حاجة إلى استثنائه
وخرج بمحدد ما تضمنه قوله ( فلو قتله بمثقل ) بقاف مفتوحة شديدة أي شيء ثقيل ( أو ثقل محدد ) فالأول ( كبندقة وسوط وسهم بلا نصل ولا حد ) وأما الثاني فلم يمثل له وذلك كسهم بنصل أو حد قتل بثقله ومنه السكين الكال إذا ذبحت بالتحامل عليها
ثم أشار لصور يقع الموت فيها بسببين بقوله ( أو ) قتل بنحو ( سهم وبندقة ) أي قتله بهما ( أو جرحه ) أي الصيد ( نصل وأثر فيه عرض السهم ) بضم العين أي جانبه ( في مروره ومات بهما ) أي الجرح والتأثير ( أو انخنق ) ومات ( بأحبولة ) منصوبة لذلك وهي ما تعمل من الحبال للاصطياد ( أو أصابه سهم ) فجرحه جرحا مؤثرا ( فوقع بأرض ) عالية ( أو ) طرف ( جبل ثم سقط منه ) في المسألتين وفيه حياة مستقرة ومات ( حرم ) الصيد في جميع هذه المسائل أما القتل بالمثقل فلأنها موقوذة فإنها مما قتل بحجر أو نحوه مما لا حد له وأما موته بالسهم والبندقة وما بعدهما فلأنه مات بسببين مبيح ومحرم فغلب المحرم لأنه الأصل في الميتات وأما المنخنقة بالأحبولة فلقوله تعالى { والمنخنقة } وأما إذا أصابه سهم فوقع بأرض فقد اختلف كلام الشراح في تصويره فمنهم من صوره بما إذا أصابه السهم في الهواء ولم يؤثر فيه جرحا بل كسر جناحه فوقع فمات فإنه لا يحل لعدم مبيح يحال الموت عليه أما إذا جرحه السهم جرحا مؤثرا ثم سقط على الأرض ومات فإنه يحل كما سيأتي في كلامه
ومنهم من صوره بما إذا جرحه جرحا مؤثرا ووقع بأرض عالية ثم سقط منها وجعله من صور الموت بسببين وعلله بأنه لا يدري بأيهما مات وهذا هو الظاهر كما حملت كلامه عليه
ولو عبر كالمحرر والروضة بوقوع على طرف سطح كان أولى
ولا بد في تصوير الأرض والجبل بأن يكون فيه حياة مستقرة كما قدرته في كلامه أما إذا أنهاه السهم إلى حركة مذبوح فإنه يحل ولا أثر لصدمة الأرض والجبل
واحترز بقوله سقط عما إذا لم يسقط منه ولكن تدحرج من جنب إلى جنب فإنه يحل بلا خلاف
فائدة أفتى المصنف بأن الرمي بالبندق جائز ولكن محله إذا كان الصيد لا يموت منه غالبا كالكركي فإن كان يموت منه غالبا كالعصافير وصغار الوحش حرم كما قاله في شرح مسلم فإن احتمل واحتمل ينبغي أن يحرم
( ولو أصابه سهم بالهواء ) أو جرحه جرحا مؤثرا ( فسقط بأرض ومات ) قبل وصوله الأرض أو بعده ( حل ) لأن الوقوع على الأرض لا بد منه فعفي عنه كما لو كان الصيد قائما فوقع على جنبيه لما أصابه السهم وانصدم بالأرض وكذلك لو كان الطائر على شجرة فأصابه السهم فسقط بالأرض فإن سقط على غصن ثم على الأرض لم يحل كما لو سقط على سطح ثم على الأرض ومات لم يحل وخرج بالأرض ما لو وقع في بئر فيها ماء فإنه يحرم فإن لم يكن فيها ماء حل إن لم يصدم جدرانها
تنبيه لو رمى طير الماء وهو فيه فأصابه ومات حل والماء له كالأرض لغيره وإن كان الطير في هواء الماء فإن كان الرامي في الماء ولو في نحو سفينة حل أو في البر حرم إن لم ينهه بالجرح إلى حركة مذبوح ولو كان الطير خارج الماء فرماه فوقع في الماء سواء كان الرامي في الماء أم خارجه حرم كما فهم مما ذكر بالأولى وكما هو أحد وجهين حكاهما في الروضة كأصلها بلا ترجيح وقضية كلامهما أن طير البر ليس كطير الماء فيما ذكر لكن البغوي في تعليقه جعله مثله فإن حمل أن الإضافة في طير الماء في كلامهما على معنى في فلا مخالفة وهذا أولى ومحل ما مر كما قال الأذرعي إذا لم يغمسه السهم في الماء سواء كان على وجه الماء أم في هواته أما لو غمسه فيه قبل إنهائه إلى حركة المذبوح أو انغمس فيه بالوقوع لثقل جثته فمات فهو غريق لا يحل قطعا
قال الماوردي
____________________
(4/274)
وأما الساقط في النار فحرام
( ويحل الاصطياد ) أي أكل المصاد بالشرط الآتي في غير المقدور عليه ( بجوارح السباع والطير ) في أي موضع كان جرحها حيث لم تكن فيه حياة مستقرة بأن أدركه ميتا أو في حركة المذبوح أما الاصياد بمعنى إثبات الملك فلا يجتص بالجوارح بل يحصل بكل طريق تيسر كما يأتي في الفصل بعده وذبحه كذبح الحيوان الإنسي والجوارح جمع جارح وهو كل ما يجرح سمي بذلك لجرحه الطير بظفره أو نابه
ثم مثل الجوارح بقوله ( ككلب وفهد ) ونمر في السباع ( وباز وشاهين ) وصقر في الطير لقوله تعالى { أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح } أي صيد ما علمتم
قال في المجموع وقوله في الوسيط فريسة الفهد والنمر حرام غلط مردود وليس وجها في المذهب بل هما كالكلب نص عليه الشافعي وكل الأصحاب اه
فإن قيل قد صرحا في الروضة وأصلها هنا بعد النمر في السباع التي يحل الاصطياد بها وقالا في كتاب البيع لا يصح بيع النمر لأنه لا يصلح للاصطياد
أجيب بأن ما ذكر في البيع في نمر لا يمكن تعليمه وما هنا بخلافه فإذا كان معلما أو أمكن تعليمه صح بيعه ( بشرط كونها معلمة ) للآية وللحديث المار ( بأن تنزجر ) أي تقف ( جارحة السباع بزجر صاحبها ) في ابتداء الأمر وبعده ( و ) أن ( تسترسل بإرساله ) أي تهيج بإغرائه لقوله تعالى { مكلبين } 2 قال الشافعي رضي الله تعالى عنه إذا أمرت الكلب فائتمر وإذا نهيته فانتهى فهو كلب مكلب حكاه العبادي في طبقاته عن رواية يونس ( و ) أن ( يمسك ) أي يحبس ( الصيد ) على صاحبه ولا يخليه يذهب فإذا جاء صاحبه خلى بينه وبينه ولا يدفعه عنه ( ولا يأكل منه ) أي من لحمه أو نحوه كجلده وحشوته وأذنه وعظمه قبل قتله له أو عقبه لحديث الصحيحين عن عدي بن حاتم إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فأمسك وقتل فكل وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه ومنعه الصائد من الصيد كالأكل منه أما إذا أكل منه ولم يقتله أو قتله ثم انصرف وعاد إليه فأكل منه فإنه لا يضر
قال الزركشي وينبغي القطع في تناوله الشعر بالحل إذ ليس عادته الأكل منه ومثله الصوف والريش وفيما ذكر تذكير الجارحة وسيأتي تأنيثها نظرا إلى المعنى تارة وإلى اللفظ أخرى ( ويشترط ترك الأكل في جارحة الطير في الأظهر ) قياسا على جارحة السباع
والثاني لا يشترط لأنها لا تحتمل الضرب لتتعلم ترك الأكل بخلاف الكلب ونحوه
تنبيه أفهم كلامه أنه لا يشترط فيها انزجارها بالزجر ولا إمساكها الصيد لصاحبها وهو ما اقتضاه كلام الروضة في الثانية وصرح به في الأولى ونقل عن الإمام أنه لا مطمع في انزجارها بعد طيرانها لكن نص في الأم على اشتراط ذلك فيها أيضا كما نقله البلقيني كغيره ثم قال ولم يخالفه أحد من الأصحاب وقد اعتبره في البسيط ثم ذكر مقالة الإمام بلفظ قيل وذكر نحوه الأذرعي وغيره ونقله عن الدارمي و سليم الرازي و نصر المقدسي ونقله ابن الرفعة عن الروياني وغيره وهذا هو الظاهر كما جرى عليه شيخنا في منهجه
( ويشترط تكرر هذه الأمور ) المعتبرة في التعليم ( بحيث يظن تأدب الجارحة ) ولا ينضبط ذلك بعدد بل الرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة بالجوارح وقيل يشترط تكرره ثلاث مرات وقيل مرتين ( ولو ظهر ) بما ذكر من الشروط ( كونه معلما ثم أكل ) مرة كما في المحرر ( من لحم صيد لم يحل ذلك الصيد في الأظهر ) لحديث الصحيحين المار ولأن عدم الأكل شرط في التعلم ابتداء فكذا دواما والثاني يحل أكله لخبر أبي داود بإسناد حسن إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه وأجاب الأول بأن في رجاله من تكلم فيه وإن صح حمل على ما إذا أطعمه صاحبه منه أو أكل منه بعد
____________________
(4/275)
ما قتله وانصرف عنه
تنبيه محل الخلاف في الأكل مرة كما قدرته في كلامه فلو تكرر الأكل منه حرم الآخر جزما وما أكل منه قبله في الأصح ونبه المصنف بقوله ذلك الصيد على أنه لا ينعطف التحريم على ما اصطاده قبله وهو كذلك خلافا لأبي حنيفة وإنما يخرج بالأكل عن التعليم إذا أكل مما أرسل عليه فإن استرسل المعلم بنفسه فقتل وأكل لم يقدح في كونه معلما قطعا وقوله من لحم صيد قد يخرج غيره وليس مرادا بل يلحق به نحوه مما مر من جلده وعظمه وحشوته
ثم فرع على الأظهر وهو عدم الحل قوله ( فيشترط ) في هذه الجارحة ( تعليم جديد ) قال في المجموع لفساد التعليم الأول
قال الزركشي وفيه نظر لتصريحهم بعد انعطاف التحريم على ما صاده قبل ذلك اه
ورد عليه بأن الفساد من حين الأكل ولم يقل لتبين فساد التعليم ( ولا أثر للعق الدم ) لأنه لا يقصد للصائد فصار كتناوله الفرث ولأن المنع منوط في الحديث بالأكل ولم يوجد ( ومعض الكلب من الصيد نجس ) كغيره مما ينجسه الكلب ( والأصح أنه لا يعفى عنه ) كولوغه والثاني يعفى عنه للحاجة وقواه في المطلب ( و ) الأصح على الأول ( أنه يكفي غسله ) أي المعض سبعا ( بماء وتراب ) في إحداهن كغيره ( و ) أنه ( لا يجب أن يقور ) المعض ( ويطرح ) لأنه لم يرد والثاني يجب ذلك ولا يكفي الغسل لأن الموضع تشرب لعابه فلا يتخلله الماء ( ولو تحاملت الجارحة على صيد فقتلته بثقلها ) ولم تجرحه ( حل في الأظهر ) لعموم قوله تعالى { فكلوا مما أمسكن عليكم } ولأنه يعسر تعليمه أن لا يقتل إلا بجرح والثاني يحرم كالقتل بثقل السيف أو الرمح
تنبيه محل الخلاف إذا لم تجرحه كما قدرته في كلامه أما إذا جرحته ثم تحاملت عليه فقتلته فإنه يحل قطعا وخرج بقوله بثقله ما لو مات فزعا من الجارحة أو من عدوها فإنه يحرم قطعا لكن الثقل ليس بقيد بل لو مات بصدمتها أو بعضها أو بقوة إمساكها من غير عقر كان فيه القولان كما قاله الماوردي وغيره فلو قال المصنف فمات بإمساكه من غير جرح لكان أشمل والقتل ليس بقيد أيضا بل لو صار بالثقل إلى حركة المذبوح كان الحكم كذلك كما قاله الإمام
( و ) يشترط في الذبح قصد العين بالفعل وإن أخطأ في الظن أو قصد الجنس وإن أخطأ في الإصابة كما سيأتي في تصويرهما فعلى هذا ( لو كان بيده ) أي شخص ( سكين ) مثلا ( فسقط ) من يده ( وانجرح به صيد ) مثلا ومات ( أو احتكت به شاة ) مثلا ( وهو في يده ) سواء أحركها أم لا ( فانقطع حلقومها ومريئها ) أو تعقر به صيد ( أو استرسل كلب ) معلم ( بنفسه فقتل ) صيدا ( لم يحل ) واحدهما ذكر قطعا لانتفاء الذبح وقصده والإرسال ( وكذا لو استرسل كلب فأغراه صاحبه ) أو غيره ( فزاد عدوه لم يحل ) الصيد ( في الأصح ) المنصوص لاجتماع الاسترسال المانع والإغراء المبيح فغلب جانب المنع والثاني يحل لظهور أثر الإغراء بزيادة العدو واحترز بقوله فزاد عدوه عما إذا لم يزد فإنه يحرم جزما
تنبيه محل الوجهين إذا لم يتقدم الإغراء وزجر فإن تقدم بأن الزجر ثم أغراه فاسترسل واصطاد حل قطعا وإن لم ينزجر فأغراه فزاد عدوه فعلى الوجهين وأولى بالتحريم ولو أرسله مالكه فزجره ثم أغراه فاسترسل وأخذ صيدا فهو للفضولي لأنه المرسل فإن زجره الفضولي فلم ينزجر أو لم يزجره بل أغراه فزاد عدوه وأخذ صيدا فهو لصاحب
____________________
(4/276)
الجارح وللأجنبي أخذ الصيد من جارح معلم استرسل بنفسه ويملكه بالأخذ كما لو أخذ فرخ طائر من شجرة غيره لا من غير معلم أرسله صاحبه لأن ما صاده ملك صاحبه تنزيلا لإرساله منزلة نصب شبكة تعلق بها الصيد ولو أرسله مسلم فازداد عدوه بإغراء مجوسي حل لأن حكم الاسترسال لا ينقطع بالإغراء وإن أرسله مجوسي فأغراه مسلم حرم لذلك
( ولو أصابه ) أي الصيد ( سهم بإعانة ريح ) مثلا ( حل ) سواه اقترن الريح بابتداء رمي السهم أو هجم الريح قبل خروجه كما يقتضيه إطلاقهم
إذ لا يمكن الاحتراز عن هبوبها بخلاف حملها الكلام حيث لا يقع به الحنث لأن اليمين مبنية على العرف
تنبيه أشار المصنف كغيره بإعانتها إلى أنه لو صارت الإصابة منسوبة إلى الريح خاصة لم يحل وبه صرح صاحب الوافي كما نقله عنه الزركشي وأقره ولو أصاب السهم الأرض أو جدارا أو حجرا فازدلف ونفذ فيه أو تقطع الوتر عند نزع القوس فصدم الفوق فارتمى السهم وأصاب الصيد في الجميع حل لأن ما يتولد من فعل الرامي منسوب إليه إذ لا اختيار للسهم
( ولو أرسل سهما ) مثلا ( لاختبار قوته أو إلى غرض ) يرمي إليه ( فاعترضه صيد فقتله ) ذلك السهم ( حرم في الأصح ) المنصوص لأنه لم يقصد صيدا معينا ولا منهما والثاني لا يحرم نظرا إلى قصد الفعل دون مورده كما لو قطع ما ظنه ثوبا بان حلق شاة وفرق الأول بأنه هناك قصد عينا بخلافه هنا
تنبيه قضية قوله فاعترضه صيد أنه لو كان هناك صيد حل وليس مرادا بل الاعتبار بنية الاصطياد كما نص عليه في الأم والمختصر
فلو قال لا يقصد لكان أشمل وفي معنى ما ذكره ما لو أرسله على ما لا يؤكل كخنزير فأصاب صيدا فإنه لا يؤكل على الأصح وكذا لو أرسل الكلب حيث لا صيد فاعترضه صيد فقتله لم يحل
( ولو رمى صيدا ظنه حجرا ) أو حيوانا لا يؤكل فأصاب صيدا حل ( أو ) رمى ( سرب ) بكسر السين أي قطيع ( ظباء ) ونحوها من الوحوش ( فأصاب واحدة ) من ذلك السرب ( حلت ) أما في الأولى فلأنه قتله بفعله ولا اعتبار بظنه وأما في الثانية فلأنه قصد السرب وهذه منه ( وإن قصد واحدة ) من السرب ( فأصاب غيرها ) منه ( حلت في الأصح ) المنصوص سواء أكان العير على سمت الأولى أم لا لوجود قصد الصيد والثاني المنع نظرا إلى أنها غير المقصودة ولو أرسل كلبا على صيد فعدل إلى غيره ولو إلى غير جهة الإرسال فأصابه ومات حل كما في السهم لأنه يعسر تكليفه ترك العدول ولأن الصيد لو عدل فتبعه حل قطعا وظاهر كلامهم حله وإن ظهر للكلب بعد إرساله كما لو أرسله على صيد فأمسكه ثم عن له آخر فأمسكه فإنه يحل سواء أكان عند الإرسال موجودا أم لا لأن المعتبر أن يرسله على صيد وقد وجد ولو قصد وأخطأ في الظن والإصابة معا كمن رمى صيدا ظنه حجرا أو خنزيرا فأصاب صيدا غيره حرم لأنه قصد محرما فلا يستفيد الحل بخلاف عكسه بأن رمى حجرا أو خنزيرا ظنه صيدا فأصاب صيدا فمات حل لأنه قصد مباحا
فروع لو رمى في ظلمة لعله يصادف صيدا فصادفه ومات لم يحل لأنه لم يقصد قصدا صحيحا وقد يعد مثله سفها وعبثا ولو رمى شاة فأصابه مذبحها ولو اتفاقا بأن لم يقصده فقطعه حلت لأنه قصد الرمي إليها ولو أحس بصيد في ظلمة أو من وراء شجرة أو غيرها فرماه فأصابه ومات حل لأن له به نوع علم ولا يقدح هذا في عدم الحل برمي الأعمى إذ البصير يصح رميه في الجملة بخلاف الأعمى
( ولو غاب عنه الكلب ) الذي أرسله ( والصيد ) قبل أن يجرحه الكلب ( ثم وجده ) أي الصيد ( ميتا حرم ) لاحتمال موته بسبب آخر ولا أثر لتلطخ الكلب بالدم لاحتمال أن الكلب جرحه وأصابته جراحة أخرى ( وإن جرحه ) الكلب أو أصابه بسهم فجرحه جرحا يمكن إحالة الموت عليه ( وغاب ثم
____________________
(4/277)
وجده ميتا حرم في الأظهر ) لما مر والثاني يحل حملا على أن موته بالجرح وصححه البغوي
وقال في الروضة إنه أصح دليلا وفي المجموع أنه الصحيح أو الصواب وثبت فيه أحاديث صحيحة دون التحريم والأول هو ما عليه الجمهور
قال البلقيني وهو المذهب المعتمد ففي سنن أبي داود وغيره بطرق حسنة وفي حديث عدى بن حاتم قال قلت يا رسول الله إنا أهل صيد وإن أحدنا يرمي الصيد فيغيب عنه الليلتين والثلاث فيجده ميتا فقال إذا وجدت فيه أثر سهمك ولم يكن أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكل فهذا مقيد لبقية الروايات ودال على التحريم في محل النزاع اه
أي وهو ما إذا لم يعلم أي لم يظن أن سهمه قتله فتحرر من ذلك أن المعتمد في المتن وجرى عليه في مختصره
تنبيه محل الخلاف إذا لم يكن أنهاه بالجرح إلى حركة مذبوح وإلا فيحل جزما وما لم يجد فيه غير جرحه فإن وجد به أثر صدمة أو جراحة أخرى حرم جزما
تتمة لمسألة المتن نظائره منها ما إذا مشط المحرم رأسه فسقط منه شعر وشك هل انتتف بالمشط أو كان منتتفا والأصح أنه لا فدية كما مر في بابه ومنها إذا قد ملفوفا ومر ما فيه ومنها إذا بالت ظبية في ماء ثم ظهر تغيره والمذهب المنصوص نجاسته إحالة على السبب الظاهر كما مر في محله وهذا يقوي الوجه الثاني ومنها إذا جرح المحرم صيدا ثم غاب عنه ثم وجده ميتا ولم يدر هل مات بسبب جراحته أو بسبب آخر والأصح فيها وجوب الأرش لا كمال الجزاء إذ الشك فيه أوجب عدم وجوبه وهذا يقوي الوجه الأول وهو نظير المسألة
فصل فيما يملك به الصيد وما يذكر معه ( يملك ) الصائد ( الصيد ) غير الحرمي ممتنعا كان أم لا إن لم يكن به أثر ملك كخضب وقص جناح وقرط وصائده غير محرم وغير مرتد ( بضبطه بيده ) وإن لم يقصد تملكه حتى لو أخذ صيدا لينظر إليه ملكه لأنه مباح فيملك بوضع اليد عليه كسائر المباحات
نعم إن قصد أخذه لغيره نيابة عنه بإذنه ملكه ذلك الغير على الأصح وإن كان به أثر ملك من ذلك لم يملكه بل هو ضالة أو لقطة
وأما الصيد الحرمي والصائد المحرم فقد سبق حكمهما في محرمات الإحرام
وأما المرتد فسبق في الردة أن ملكه موقوف إن عاد إلى الإسلام تبين أنه ملكه من وقت الأخذ وإلا فهو باق على إباحته ( و ) يملك الصيد أيضا ( بجرح مذفف ) أي مسرع للهلاك ( وبإزمان وكسر جناح ) بحيث يعجز عن الطيران والعدو جميعا إن كان مما يمتنع بهما وإلا فبإبطال واحد منهما وإن لم يضع يده عليه وقص الجناح ككسره ويكفي للتملك إبطال شدة العدو وجعله بحيث يسهل إلحاقه وأخذه ولو طرده فوقف إعياء أو جرحه فوقف عطشا لعدم الماء لم يملكه حتى يأخذه لأن وقوفه في الأول استراحة وهي معينة له على امتناعه من غيره
وفي الثاني لعدم الماء بخلاف ما لو جرحه فوقف عطشا لعجزه عن وصول الماء فإنه يملكه لأن سببه الجراحة ( و ) يملك أيضا ( بوقوعه في شبكة ) من الشبك وهو الخيط ( نصبها ) للصيد فيملكه وإن لم يضع يده عليه سواء أكان حاضرا أم غائبا طرده إليها طارد أم لا وسواء أكانت الشبكة مباحة أم مغصوبة لأنه يعد بذلك مستوليا عليه فإن قيل لو غصب عبدا وأمره بالصيد كان الصيد لمالك العبد بخلافه هنا
أجيب بأن للعبد يدا فإذا استولى عليه دخل في ملك سيده قهرا
واحترز بقوله نصبها عما لو وقعت الشبكة من يده بلا قصد وتعلق بها صيد فإنه لا يملكه على الأصح
تنبيه كان ينبغي أن يقول نصبها له كالمحرر أو للصيد كما قدرته في كلامه فإن مجرد نصبها لا يكفي حتى يقصد نصبها للصيد وإنما يملكه إذا لم يقدر على الخلاص منها فإن قطعها الصيد فانفلت منها صار مباحا يملكه من صاده لأن الأول لم نثبته شبكته
وإن قطعها غيره فانفلت فهو باق على ملك صاحبها فلا يملكه غيره كما صححه في المجموع
____________________
(4/278)
ولو ذهب الصيد بالشبكة نظرت فإن كان على امتناعه بأن يعدو ويمتنع معها فهو لمن أخذه وإن كان ثقلها يبطل امتناعه بحيث لا يتيسر أخذه فهو لصاحبه
( و ) يملك أيضا ( بإلجائه إلى مضيق ) ولو مغصوبا ( لا يفلت منه ) أي لا يقدر الصيد على التفلت منه كبيت لأنه صار مقدورا عليه فإن قدر الصيد على التفلت لم يملكه الملجىء ولو أخذه غيره ملكه
تنبيه يفلت بضم أوله وكسر ثالثه بخطه على البناء للفاعل وضبطه بعض الشراح بالبناء للمفعول
قال ابن قاسم وهو مخالف لضبط المصنف وقد يشعر كلامه بحصر ملك الصيد فيما ذكر من الصور وليس مرادا بل من ذلك ما لو عشش طائر في بنائه وقصد ببنائه تعشيشه فإنه يملكه لقصده ذلك والضابط الذي ترد إليه صور ملك الصيد هو كما قال الرافعي إبطال امتناعه وحصول الاستيلاء عليه فلو عبر به المصنف كان أولى ليسلم من البسط والحذف ولو دخل السمك حوضا له فسد المنفذ بحيث لا يمكنه الخروج منه فإن كان الحوض صغيرا يمكنه تناول ما فيه باليد ملكه وإن كان كبير لا يمكنه أن يتناول ما فيه إلا بجهد وتعب أو إلقاء شبكة في الماء لم يملكه به ولكنه يصير أولى به من غيره فلا يصيده أحد إلا بإذنه
تنبيه الدرة التي توجد في السمكة غير مثقوبة ملك للصائد إن لم يبع السمكة وللمشتري إن باعها تبعا لها
قال في الروضة كذا في التهذيب ويشبه أن يقال إنه في الثانية للصائد أيضا كالكنز الموجود في الأرض يكون لمحييها وما بحثه هو ما جزم به الإمام و الماوردي وغيرهما وإن كانت مثقوبة فللبائع وصورته إن ادعاها فإن لم يكن بيع أو كان ولم يدعها البائع فلقطة وقيد الماوردي ما ذكر بما إذا صاد من بحر الجوهر وإلا فلا يملكها بل تكون لقطة
( ولو وقع صيد ) اتفاقا ( في ملكه ) أو مستأجر له أو معار أو مغصوب تحت يد الغاصب ( وصار مقدورا عليه بتوحل وغيره لم يملكه ) ولا ما حصل منه كبيضة ( في الأصح ) لأن مثل هذا لا يقصد به الاصطياد والقصد مرعي في التملك لكن يصير أحق به من غيره والثاني يملكه كوقوعه في شبكته
تنبيه محل الخلاف فيما إذا لم يكن سقي الأرض مما يقصد به توحل الصيد فإن قصد به فهو كنصب الشبكة فيملكه كما نقله في أصل الروضة هنا عن الإمام وغيره لكنه نقل في إحياء الموات عن الإمام خلافه وضعفه الأذرعي وجمع البلقيني بينهما بحمل ما هنا على سقي اعتيد الاصطياد به وما هناك على خلافه وهو حسن ولو حفر حفرة وقع فيها صيد ملكه إن كان الحفر للصيد وإلا فلا ولو استأجر سفينة فدخلها سمك هل يملكه المستأجر لأن ملك منافعها له أو المالك لأن هذه ليست من المنافع التي تقع الإجارة عليها وجهان في فروق ابن جماعة المقدسي أوجههما الأول كما استظهره بعض المتأخرين
( ومتى ملكه ) أي الصيد ( لم يزل ملكه ) عنه ( بانفلاته ) فمن أخذه لزمه رده سواء أكان يدور في البلد أم التحق بالوحوش في البرية كما لو أبق العبد أو شردت البهيمة ويستثنى من ذلك ما لو أتلفت بقطعه ما نصب له فإنه يعود مباحا ويملكه من يصطاده كما مرت الإشارة إليه ( وكذا ) لا يزول ملكه ( بإرسال المالك له في الأصح ) لأن رفع اليد عنه لا يقتضي زوال الملك عنه كما لو سيب بهيمته فليس لغيره أن يصيده إذا عرفه والثاني يزول ويجوز اصطياده كما بحثه ابن الرفعة في المطلب والثالث إن قصد بإرساله التقرب إلى الله زال ملكه وإلا فلا
تنبيه محل الخلاف في مالك مطلق التصرف أما الصبي والمجنون والمحجور عليه بسفه أو فلس والمكاتب الذي لم يأذن له سيده فلايزول ملكه عنه قطعا وعلى الأول لا يجوز إرساله لأنه قد يختلط بالمباح فيصاد ولما فيه من التشبه بفعال الجاهلية وقد قال تعالى { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } والبحيرة هي التي يمنع درها للطواغيث فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء والوصيلة الناقة
____________________
(4/279)
تبكر في أول نتاج الإبل
ثم تثنى بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إذا وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي وإنما ذكرت ذلك تتميما للفائدة
ويستثنى من عدم الجواز ما إذا خيف على ولد الصيد بحبس ما صاده منهما فينبغي وجوب الإرسال صيانة لروحه ويشهد له حديث الغزالة التي أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أولادها لما استجارت به وحديث الحمرة بضم الحاء وتشديد الميم التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برد فرخيها إليها لما أخذا والحديثان صحيحان نبه على ذلك الزركشي
ومحل الوجوب كما قال شيخنا في صيد الولد أن لا يكون مأكولا وإلا فيجوز ذبحه
ولو قال مطلق التصرف عند إرساله أبحته لمن يأخذه أو أبحته فقط كما بحثه شيخنا حل لمن أخذه أكله بلا ضمان وله إطعام غيره منه كما بحثه شيخنا أيضا ولا ينفذ تصرفه فيه ببيع ونحوه وهل يحل إرساله في هذه الحالة أو لا لم أر من ذكره
لكن أفتى شيخي بالأول وأما كسر الخبز والسنابل ونحوها التي يطرحها مالكها فالأرجح فيها أن آخذها يملكها وينفذ تصرفه فيها بالبيع ونحوه كما هو ظاهر أحوال السلف ورجحه المصنف ولا فرق في السنابل بين أن يتعلق بها الذكاة أم لا نظرا لأحوال السلف وإن أعرض عن جلد ميتة فمن دبغه ملكه ويزول اختصاص المعرض عنه لأن مجرد الاختصاص يضعف بالإعراض
( ولو تحول حمامه ) من برجه ( إلى برج غيره ) وفيه حمام له ( لزمه ) أي ذلك الغير ( رده ) إن تميز عن حمامه لبقاء ملكه كالضالة
تنبيه المراد برده إعلام مالكه به وتمكينه من أخذه كسائر الأمانات الشرعية لا رده حقيقة فإن لم يرده ضمنه قال الزركشي وهذا إذا أخذه
قال فإن تركه ولم يأخذه نظر إن طلبه صاحبه فلم يرده ضمنه وإن لم يطلبه لم يضمن ونسبه لنص المختصر
فرع لو وجد من الحمامين فرخ أو بيض فهو لمالك الأنثى فقط
( فإن اختلط ) حمام برجيهما ( وعسر التمييز لم يصح بيع أحدهما وهبته شيئا منه لثالث ) لعدم تحقق الملك فيه فإنه كما يحتمل كون ذلك المبيع ملكه يحتمل أن يكون ملكا للآخر
تنبيه علم من كلامه امتناع بيع الجميع من باب أولى وصرح به في البسيط فقال ليس له الهجوم على بيع الكل
قال في المطلب لكن لو فرض ذلك فهل يبطل البيع في الجميع أو يصح في الذي يملكه لم أر فيه نقلا والظاهر الأول
( ويجوز ) ببيع أحدهما وهبته لما له منه ( لصاحبه ) مع الجهل ( في الأصح ) للحاجة وقد تدعو الحاجة إلى التسامح باختلاف بعض الشروط ولهذا صححوا القراض والجعالة مع ما فيهما من الجهالة
والثاني ما يغتفر ذلك
تنبيه كالبيع والهبة غيرهما من سائر التصرفات
( فإن باعاهما ) أي الحمامين لثالث ( والعدد معلوم ) لهما ( والقيمة سواء صح ) ووزع الثمن على أعدادهما
فإذا كان لأحدهما مائتين وللآخر مائة كان الثمن أثلاثا ولو باعا لثالث بعض العين صح أيضا بالجزئية ( وإلا ) بأن جهل العدد والقيمة متساوية أو علم ولم تستو القيمة ( فلا ) يصح البيع لأن كل واحد لا يعرف مستحقه من الثمن
تنبيه إذا منعنا البيع في صورة المتن فالحيلة في صحة بيعها لثالث أن يبيع كل منهما نصيبه بكذا فيكون الثمن معلوما أو أن يوكل أحدهما الآخر في بيع نصيبه فيبيع الجميع بثمن فيقتسمانه أو أن يصطلحا في المختلط على شيء بأن يتراضيا على أن يأخذ كل منهما منه شيئا ثم يبيعانه لثالث فصح البيع
فروع لو شك في كون المخلوط بحمامه مملوكا لغيره أو مباحا فله التصرف فيه لأن الظاهر أنه مباح ولو اختلط حمام مملوك بحمام مباح غير محصور أو نصب ماء ملك في نهر لم يحرم على أحد الاصطياد والاستقاء من ذلك استصحابا لما كان وإن لم يزل ملك المالك بذلك لأن حكم ما لا ينحصر لا يتغير باختلاطه بما ينحصر أو بغيره كما لو اختلطت
____________________
(4/280)
محرمة بنساء غير محصورات يجوز له التزوج منهن ولو كان المباح محصورا حرم ذلك كما يحرم التزوج في نظيره وقد مر الكلام على المحصور وغيره في باب ما يحرم من النكاح
ولو اختلطت دراهم أو دهن حرام بدراهمه أو دهنه أو نحو ذلك ولم يتميز فميز قدر الحرام وصرفه إلى ما يجب صرفه فيه وتصرف في الباقي بما أراد جاز للضرورة كحمامة لغيره اختلطت بحمامه فإنه يأكله بالاجتهاد فيه إلا واحدة كما لو اختلطت تمرة غيره بتمره ولا يخفى الورع وقد قال بعضهم ينبغي للمتقي أن يجتنب طير البروج وبناءها
ثم شرع في بيان حكم الازدحام بالجرح على الصيد بقوله ( ولو جرح الصيد اثنان ) وللحكم المذكور أربعة أحوال الحال الأول أن يقع الجرحان ( متعاقبان فإن ذفف ) أي قتل ( الثاني ) منهما الصيد ( أو أزمن ) بأن أزال امتناعه ( دون الأول ) منهما بأن لم يوجد منه تذفيف ولا إزمان ( فهو للثاني ) لأن جرحه هو المؤثر في امتناعه ولا شيء له على الأول بجرحه
لأنه كان مباحا حينئذ ( وإن ذفف الأول فله ) الصيد لما مر وله على الثاني أرش ما نقص من لحمه وجلده إن كان لأنه جنى على ملك الغير ( وإن أزمن ) الأول ( فله ) الصيد لإزمانه إياه ( ثم ) ينظر ( إن ذفف الثاني بقطع حلقوم ومريء فهو حلال ) أكله لحصول الموت بفعل ذابح ( وعليه للأول ) أرش وهو ( ما نقص بالذبح ) وهو ما بين قيمته زمنا ومذبوحا كما لو ذبح شاة غيره بغير إذنه ( وإن ذفف ) الثاني ( لا بقطعهما ) أي الحلقوم والمريء ( أو لم يذفف ) أصلا ( ومات بالجرحين فحرام ) أما الأول فلأن المقدور عليه لا يحل إلا بذبحه
وأما الثاني فلاجتماع المبيح والمحرم كما لو اشترك في الذبح مسلم ومجوسي ( ويضمنه الثاني للأول ) لأنه أفسد ملكه
تنبيه ظاهر كلامه أنه يضمن جميع قيمته زمنا وهو كذلك إذا كان جرحه مذففا فإن جرح بلا تذفيف ومات بالجرحين فكذلك إن لم يتمكن الأول من ذبحه كما اقتضاه كلامهم لكن استدرك صاحب التقرير فقال إن كانت قيمته سليما عشرة وزمنا تسعة ومذبوحا ثمانية لزمه ثمانية ونصف لحصول الزهوق بفعلهما فيوزع الدرهم الفائت بها عليهما فيهدر نصفه ويلزمه نصفه وصححه الشيخان وإن تمكن الأول من ذبحه وذبحه بعد جرح الثاني لزم الثاني الأرش إن حصل بجرحه نقص وإن لم يذبح بل تركه حتى مات فالأصح أن الثاني يضمن زيادة على الأرش لأن غايته أن الأول امتنع من تدارك ما تعرض للفساد بجناية الجاني مع إمكان التدارك وهو لا يسقط الضمان وعلى هذا لا يضمن جمع قيمته مزمنا لأن تفريط الأول صير فعله إفسادا ولهذا لو لم يوجد الجرح الثاني وترك الذبح كان الصيد ميتة وحينئذ فنقول مثلا قيمة الصيد عشرة فنقص بالجرح الأول واحد وبالثاني واحد ثم مات بالجرحين فتجمع قيمته قبل الجرح الأول وقيمته قبل الجرح الثاني فيصير المجموع تسعة عشر فيقسم عليه ما فوتاه وهو عشرة فحصة الأول لو كان ضامنا عشرة أجزاء من تسعة عشر جزءا من عشرة ويلزم الثاني تسعة أجزاء من تسعة عشر جزءا من عشرة
ثم شرع في الحال الثاني بقوله ( وإن جرحا معا وذففا ) بجرحهما ( أو أزمنا ) به ( فلهما ) الصيد لاشتراكهما في سبب الملك بجرحهما سواء تفاوت الجرحان صفرا وكبرا أم لا كان في المذبح أم لا
ثم شرع في الحال الثالث بقوله ( وإن ) جرحا معا و ( ذفف ) في مذبح أو غيره ( أحدهما أو أزمنا دون الآخر فله ) أي المذفف أو المزمن الصيد لانفراده بسبب الملك ولا ضمان على الآخر لوقوع جراحته حين كان مباحا
تنبيه لو جهل كون التذفيف أو الإزمان منهما أو من أحدهما كان لهما لعدم الترجيح ويسن أن يستحل كل منهما من صاحبه تورعا من مظنة الشبهة فلو علم تأثير أحدهما وشك في تأثير الآخر وقف النصف بينهما فإن
____________________
(4/281)
تبين الحال أو اصطلحا على شيء فواضح وإلا قسم بينهما نصفين وسلم النصف الآخر لمن أثر جرحه فيخلص له ثلاثة أرباع الصيد وللآخر ربعه كما نقله في أصل الروضة عن الإمام واقتضى كلام الغزالي ترجيحه وجرى عليه ابن المقري خلافا لما في أصل الروضة عن القفال من أنه لا وقف
ثم شرع في الحال الرابع بقوله ( وإن ذفف واحد ) في غير مذبح ( وأزمن آخر ) مرتبا ( وجهل السابق ) منهما ( حرم ) الصيد على المذهب لاجتماع الحظر والإباحة فإنه يحتمل سبق التذفيف فيحل أو تأخره فلا يحل بعده إلا بقطع الحلقوم والمريء وفي قول من طريق ثان لا يحرم لاحتمال تأخر الإزمان
أما لو ذفف أحدهما في المذبح فإنه يحل قطعا ويكون بينهما كما استظهره في المطلب لأن كلا من الجرحين مهلك لو انفرد فإذا جهل السابق لم يكن أحدهما أولى به من الآخر فإن ادعى كل منهما أنه المزمن له أولا فلكل تحليف صاحبه فإن حلفا اقتسماه ولا شيء لأحدهما على الآخر أو حلف أحدهما فقط فهو له وله على الناكل أرش ما نقص بالذبح
تنبيه الاعتبار في الترتيب والمعية بالإصابة لا بابتداء الرمي كما أن الاعتبار في كونه مقدورا عليه أو غير مقدور عليه بحالة الإصابة فلو رمى غير مقدور عليه فأصابه وهو مقدور عليه لم يحل إلا بإصابته في المذبح وإن رماه وهو مقدور عليه وأصابه وهو غير مقدور عليه حل مطلقا
خاتمة لو أرسل كلبا وسهما فأزمنه الكلب ثم ذبحه السهم حل وإن أزمنه السهم ثم قتله الكلب حرم ولو أخبر فاسق أو كتابي أنه ذبح هذه الشاة مثلا حل أكلها لأنه من أهل الذبح فإن كان في البلد مجوس ومسلمون وجهل ذابح الشاة هل هو مسلم أو مجوسي لم يحل أكلها للشك في الذبح المبيح والأصل عدمه
نعم إن كان المسلمون أغلب كما في بلاد الإسلام فينبغي كما قال شيخنا أن تحل كنظيره فيما مر في باب الاجتهاد عن الشيخ أبي حامد وغيره فيما لو وجد قطعة لحم أما إذا لم يكن فيه مجوس فتحل وفي معنى المجوس كل من لا تحل ذبيحته
كتاب الأضحية مشتقة من الضحوة وسميت بأول زمان فعلها وهو الضحى وفيها لغات ضم همزها وكسره وتشديد يائها وتخفيفها وجمعها أضاح ويقال ضحية بفتح ضادها وكسره ضحايا ويقال أيضا إضاحة بكسر همزها وضمها وجمعها أضحى بالتنوين كأرطاة وأرطا فهذه ثمان لغات فيها
وهي ما يذبح من النعم تقربا إلى الله تعالى من يوم العيد إلى آخر أيام التشريق
والأصل فيها قبل الإجماع قوله تعالى { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } الآية فهي من أعلام دين الله وقوله تعالى { فصل لربك وانحر } على أشهر الأقوال أن المراد بالصلاة صلاة العيد وبالنحر الضحايا وخبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما والأملح قيل الأبيض الخالص وقيل الذي بياضه أكثر من سواده وقيل الذي تعلوه حمرة وقيل غير ذلك وخبر الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما عمل ابن آدم يوم النحر من عمل أحب إلى الله تعالى من إراقة الدم إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفسا وذكر الرافعي و ابن الرفعة حديث عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم لكن قال ابن الصلاح إنه غير ثابت
( هي ) أي التضحية كما في الروضة والمحرر وغيرهما لا الأضحية كما يوهمه كلامه لأن الأضحية اسم لما يضحى به ( سنة ) مؤكدة في حقنا أما في حقه صلى الله عليه وسلم فواجبة لحديث أمرت
____________________
(4/282)
بالنحر وهو سنة لكم رواه الترمذي وفي رواية الدارقطني كتب علي النحر وليس بواجب عليكم
قال في العدة وهي سنة على الكفاية إن تعدد أهل البيت فإذا فعلها واحد من أهل البيت كفى عن الجميع وإلا فسنة عين ولا تجب بأصل الشرع لما مر ولما روى البيهقي وغيره بإسناد حسن أن أبا بكر و عمر كانا لا يضحيان مخافة أن ترى الناس ذلك واجبا ولأن الأصل عدم الوجوب والمخاطب بها المسلم الحر البالغ العاقل المستطيع وكذا المبعض إذا ملك مالا ببعضه الحر قاله في الكفاية
قال الزركشي ولا بد أن تكون فاضلة عن حاجته وحاجة من يمونه على ما سبق في صدقة التطوع لأنها نوع صدقة اه
وظاهر هذا أنه يكفي أن تكون فاضلة عما يحتاجه في يومه وليلته وكسوة فصله كما مر في صدقة التطوع وينبغي أن تكون فاضلة عن يوم العيد وأيام التشريق فإنه وقتها كما أن يوم العيد وليلة العيد وقت زكاة الفطر
واشترطوا فيها أن تكون فاضلة عن ذلك
وأما المكاتب فهي منه تبرع فيجري فيها ما يجري في سائر تبرعاته
قال الإمام ولا يضحي عما في البطن
قال البلقيني ويظهر من ذلك أن سنيتها تتعلق بمن يولد عند دخول وقت الأضحية فمن كان حملا ذلك الوقت ثم انفصل بعد يوم النحر أو ما بعده لم يتعلق به سنة الأضحية
قال ولم أر من تعرض لذلك وخرجته من زكاة الفطر
تنبيه شمل كلام المصنف أهل البوادي والحضر والسفر والحاج وغيره لأنه صلى الله عليه وسلم ضحى في منى عن نسائه بالبقر رواه الشيخان
وبهذا رد على العبدري قوله إنها لا تسن للحاج بمنى وأن الذي ينحره بها هدي لا أضحية فيكره للقادر تركها
و ( لا تجب ) لما مر ( إلا بالتزام ) كسائر القرب
فإن قيل ما فائدة ذكر هذا بعد قوله هي سنة
أجيب بأنه ذكره لدفع توهم أن يراد بالسنة الطريقة التي هي أعم من الواجب والمندوب وللتلويح بمخالفة أبي حنيفة حيث أوجبها على مقيم بالبلد مالك لنصاب زكوي وللتنبيه على أن نية الشراء للأضحية لا تصير به أضحية لأن إزالة الملك على سبيل القربة لا تحصل بذلك كما لو اشترى عبدا بنية العتق أو الوقف
تنبيه قوله التزام اعترض عليه بأنه إن أراد به مطلق الالتزام ورد عليه ما لو التزمت الأضحية ولا تجب وما لو قال إن اشتريت هذه الشاة فلله على أن أجعلها أضحية كما هو أقيس الوجهين في المجموع تغليبا لحكم التعيين وقد أوجبها قبل الملك فيلغو كما لو علق به طلاقا أو عتقا بخلاف ما لو قال إن اشتريت شاة فلله على أن أجعلها أضحية ثم اشترى شاة لزمه أن يجعلها أضحية وفاء بما التزمه في ذمته هذا إن قصد الشكر على حصول الملك فإن قصد الامتناع فنذر لجاج وسيأتي وإن أراد خصوص الالتزام بالنذر كما هو ظاهر عبارة الروضة ورد عليه ما لو قال جعلت هذه الشاة أضحية أو هذه أضحية فإنه يجب إن علق بشفاء مريض قطعا وكذا إن أطلق في الأصح مع أنه ليس بنذر بل ألحقه الأصحاب بالتحرير ولواقف
( ويسن لمريدها ) إن لم يكن محرما ( أن لا يزيل شعره ولا ظفره في عشر ذي الحجة حتى يضحي ) بل يكره له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره رواه مسلم عن أم سلمة
وسواء في ذلك شعر الرأس واللحية والشارب والإبط والعانة وغيرها بل سائر أجزاء البدن كالشعر كما حكاه في زيادة الروضة عن إبراهيم المروزي
واستثنى من ذلك ما كانت إزالته واجبة كختان البالغ وقطع يد السارق والجاني بعد الطلب وما كانت إزالته مستحبة كختان الصبي فإن قيل التضحية من مال الصبي ممتنعة إذ لا يجوز لولي المحجور أن يضحي عنه من ماله لأنه مأمور بالاحتياط لماله ممنوع من التبرع به والأضحية تبرع فكيف يصح الاستثناء أجيب بأن التضحية سنة كفاية في حق أهل البيت فإنه لو ضحى شخص وأشرك غيره في الثواب جاز
قال الإسنوي ولقائل أن يمنعه وهو الأوجه وبقول الأحاديث الواردة بالأمر وعبارات الأئمة إنما دلت عليه في حق من أراد التضحية وهذا لم يردها
تنبيه قول الزركشي لو أراد الإحرام في عشر ذي الحجة لم تكره له الإزالة قياسا على ما لو دخل يوم الجمعة فإنه يستحب له أخذ شعره وظفره ممنوع في المقيس والمقيس عليه إذ لا يخلو الشهر من يوم جمعة
أما المحرم فيحرم
____________________
(4/283)
عليه إزالة الشعر والظفر وقول المصنف في عشر ذي الحجة يفهم أنه لو لم يصح يوم النحر لا بأس بالحلق في أيام التشريق وإن كان على عزم التضحية في بقيتها وليس مرادا ولهذا لم يقيد في الروضة وأصلها بعشر ذي الحجة
قال الزركشي وفي معنى مريد الأضحية من أراد أن يهدي شيئا من النعم إلى البيت بل أولى وبه صرح ابن سراقة
قال وقضية قولهم حتى يضحي أنه لو أراد التضحية بأعداد زالت الكراهة بذبح الأول ويحتمل بقاء النهي إلى آخرها اه
والأوجه زوالها بالأول والأفضل أن لا يفعل شيئا من ذلك إلى آخرها ولو أخر الناذر التضحية بمعين إلى انقضاء أيام التشريق قال البلقيني فالأرجح بقاء الكراهة لأن عليه أن يذبحها قضاء
( و ) يسن ( أن يذبحها ) أي الأضحية الرجل ( بنفسه ) إن أحسن الذبح للإتباع رواه الشيخان وأن يكون ذلك في بيته بمشهد من أهله ليفرحوا بالذبح ويتمتعوا باللحم وفي يوم النحر وإن تعددت الأضحية مسارعة للخيرات
أما المرأة فالسنة لها أن توكل كما في المجموع والخنثى مثلها قال الأذرعي والظاهر استحباب التوكيل لكل من ضعف عن الذبح من الرجال لمرض أو غيره وإن أمكنه الإتيان ويتأكد استحبابه للأعمى وكل من تكره ذكاته ( وإلا ) أي وإن لم يذبح الأضحية بنفسه لعذر أو غيره ( فليشهدها ) لما روى الحاكم وقال صحيح الإسناد أنه صلى الله عليه وسلم قال ل فاطمة رضي الله تعالى عنها قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك
قال عمران بن حصين هذا لك ولأهل بيتك فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة قال بل للمسلمين عامة
تنبيه أفهم كلامه جواز الاستنابة وبه صرح غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساق مائة بدنة فنحر منها بيده ثلاثا وستين ثم أعطى عليا رضي الله عنه المدية فنحر ما غير أي بقي
والأفضل أن يستنيب مسلما فقيها بباب الأضحية ويكره استنابة كتابي وصبي وأعمى
قال الروياني واستنابة الحائض خلاف الأولى ومثلها النفساء ويسن للإمام أن يضحي من بيت المال عن المسلمين بدنة في المصلى وأن ينحرها بنفسه رواه البخاري وإن لم يتيسر بدنة فشاة للإتباع رواه الماوردي وغيره وإن ضحى عنهم من ماله ضحى حيث شاء
( ولا تصح ) أي الأضحية
قال الشارح من حيث التضحية بها أي لا من حيث حل ذبحها وأكل لحمها ونحو ذلك ( إلا من ) نعم ( إبل وبقر وغنم ) بسائر أنواعها بالإجماع وقال تعالى { ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه التضحية بغيرها ولأن التضحية عبادة تتعلق بالحيوان فتختص بالنعم كالزكاة فلا يجزىء غير النعم من بقر الوحش وغيره والظباء وغيرها
تنبيه المتولد بين جنسين من النعم يجزىء هنا وفي العقيقة والهدي وجزاء الصيد لأنه ينبغي اعتبار أعلى الأبوين سنا في الأضحية ونحوها حتى يعتبر في المتولد بين الضأن والمعز بلوغه سنتين ويطعن في الثالثة وهو مراد شيخنا في شرح الروض بقوله بلوغه ثلاث سنين إلحاقا له بأعلى السنين به
ثم شرع في قدر سن ذلك فقال ( وشرط إبل أن يطعن في السنة السادسة وبقر ومعز في ) السنة ( الثالثة وضأن في ) السنة ( الثانية ) بالإجماع كما نقله في المجموع
تنبيه ما ذكر في الضأن يفهم أنه لو أجذع قبل تمام السنة أي سقطت أسنانه لا يجزىء وليس مرادا والمنقول في الرافعي عن العبادي و البغوي الإجزاء ولعموم خبر أحمد وغيره ضحوا بالجذع من الضأن فإنه جائز أي ويكون ذلك كالبلوغ بالسن أو الاحتلام فإنه يكفي أسبقهما كما صرح به في أصل الروضة ( ويجوز ذكر وأنثى ) أي التضحية بكل منهما بالإجماع وإن كثر نزوان الذكر وولادة الأنثى
نعم التضحية بالذكر أفضل على الأصح المنصوص لأن لحمه أطيب كذا قال الرافعي
ونقل في المجموع في باب الهدي عن الشافعي أن الأنثى أحسن من الذكر لأنها أرطب لحما ولم يحك غير ويمكن حمل الأول على ما إذا لم يكثر نزوانه والثاني ما على إذا كثر
____________________
(4/284)
تنبيه لم يتعرض كثير من الفقهاء لإجزاء الخنثى في الأضحية وقال المصنف إنه يجزىء لأنه ذكر أو أنثى وكلاهما يجزىء وليس فيه ما ينقص اللحم والقياس على ما قاله الرافعي تفضيل الذكر عليه لاحتمال الأنوثة وتفضيله على الأنثى لاحتمال الذكورة
( و ) يجوز ( خصي ) لأنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين مأجوين أي خصيين رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما والخصي ما قطع خصيتاه أي جلدتا البيضتين مثنى خصية وهو من النوادر والخصيتان البيضتان وجبر ما قطع منه زيادة لحمه طيبا وكثرة
نعم الفحل أفضل منه إن لم يحصل منه ضراب ( والبعير والبقرة ) يجزىء كل منهما عن سبعة لما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فأمرنا أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة وفي رواية له نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وظاهره أنهم لم يكونوا من أهل بيت واحد
وسواء اتفقوا في نوع القربة أم اختلفوا كما إذا قصد بعضهم التضحية وبعضهم الهدى وكذا لو أراد بعضهم اللحم وبعضهم الأضحية ولهم قسمة اللحم لأن قسمته قسمة إفراز على الأصح كما في المجموع
تنبيه لا يختص إجزاء البعير والبقرة عن سبعة بالتضحية بل لو لزمت شخصا سبع شياه بأسباب مختلفة كالتمتع والقران والفوات ومباشرة محظورات الإحرام جاز عن ذلك بعير أو بقرة
وإنما استثنوا من ذلك جزاء الصيد فلا تجزىء البقرة أو البعير عن سبعة ظباء لأنه إتلاف فروعي فيه الصورة
( والشاة ) المعينة تجزىء ( عن واحد ) فإن ذبحها عنه وعن أهله أو عنه وأشرك غيره في ثوابها جاز
وعليهما حمل خبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين وقال اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد وهي في الأولى سنة كفاية كما مرت الإشارة إليه تتأتى بواحد من أهل البيت كالابتداء بالسلام وتشميت العاطس
قال في المجموع ومما يستدل به لذلك الخبر الصحيح في الموطأ أن أبا أيوب الأنصاري قال كنا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته ثم تباهى الناس بعد فصارت مباهاة
ولكن الثواب فيما ذكر للمضحي خاصة لأنه الفاعل كما في القائم بفرض الكفاية
تنبيه قد يوهم كلام المصنف لولا ما قدرته الاشتراك في شاتين مشاعتين بينهما والأصح المنع ولذا يقال لو اشترك أكثر من سبعة في بقرتين مشاعتين أو بعيرين كذلك لم يجز عنهم ذلك لأن كل واحد لم يخصه سبع بقرة أو بعير من كل واحد من ذلك والمتولد بين إبل وغنم أو بقر وغنم يجزىء عن واحد فقط كما هو ظاهر وإن لم أر من ذكره
( وأفضلها ) أي أنواع الأضحية بالنظر لإقامة شعارها ( بعير ) أي بدنة لأنه أكثر لحما والقصد التوسعة على الفقراء ( ثم بقرة ) لأن لحم البدنة أكثر من لحم البقرة غالبا وفي الخبر من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة
قال في الدقائق هذه مزيدة على المحرر
قال ابن النقيب وقد رأيتها في المحرر فلعل نسخه مختلفة
( ثم ضأن ثم معز ) لطيب الضأن على المعز وبعد المعز المشاركة كما سيأتي فالاعتراض بأنه لا شيء بعد المعز ساقط أما بالنظر للحم فلحم الضأن خيرها ( وسبع شياه ) من ضأن أو معز ( أفضل من بعير ) أو بقرة لأن لحم الغنم أطيب ولكثرة الدم المراق وقيل البدنة أو البقرة أفضل منهما لكثرة اللحم
قال الرافعي وقد يؤدي التعارض في مثل هذا إلى التساوي ولم يذكروه ( وشاة أفضل من مشاركة في بعير ) للانفراد بإراقة الدم وطيب اللحم
تنبيه قضية إطلاقه أن الشاة أفضل من المشاركة في بعير وإن كانت أكثر من سبع كما لو شارك واحد خمسة في بعير وبه صرح صاحب الوافي تفقها لكن الشارح قيد ذلك بقوله بقدرها فأفهم أنه إذا زاد على قدرها يكون أفضل وهو الظاهر ولو ضحى ببدنة أو بقرة بدل شاة واجبة فالزائد على السبع تطوع فله صرفه مصرف أضحية التطوع من إهداء وتصدق
____________________
(4/285)
تنبيه استكثار القيمة في الأضحية بنوع أفضل من استكثار العدد منه بخلاف العتق فلو كان معه دينار ووجد به شاة سمينة وشاتين دونها فالشاة أفضل ولو كان معه مائة دينار وأراد عتق ما يشتري بها فعبدان خسيسان أفضل من عبد نفيس لأن المقصود هنا اللحم ولحم السمين أكثر وأطيب والمقصود في العتق التخليص من الرق
وتخليص عدد أولى من تخليص واحد وكثرة اللحم خير من كثرة الشحم إلا أن يكون لحما رديئا وأجمعوا على استحباب السمين في الأضحية واستحبوا تسمينها فالسمينة أفضل من غيرها
ثم ما تقدم من الأفضلية في الذوات
وأما في الألوان فالأبيض أفضل ثم الصفراء ثم العفراء وهي التي لا يصفو بياضها ثم الحمراء ثم البلقاء ثم السوداء قيل للتعبد وقيل لحسن المنظر وقيل لطيب اللحم
وروى أحمد والحاكم خبر لدم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين
( وشرطها ) أي الأضحية المجزئة ( سلامة من ) كل ( عيب ) بها ( ينقص ) بفتح أوله وضم ثالثه بخطه ( لحما ) أو غيره مما يؤكل فإن مقطوع الأذن أو الألية لا يجزىء كما سيأتي مع أن ذلك ليس بلحم فلو قال ما ينقص مأكولا لكان أولى ولا فرق في النقص بين أن يكون في الحال كقطع بعض أذن أو في المآل كعرج بين كما سيأتي لأن المقصود من الأضحية اللحم أو نحوه فاعتبر ما ينقصه كما اعتبر في عيب المبيع ما ينقص المالية لأنه المقصود فيه
وهذا الشرط معتبر في وقوعها على وجه الأضحية المشروعة فلو نذر التضحية بمعيبة أو صغيرة أو قال جعلتها أضحية وجب ذبحها فدية ويفرق لحمها صدقة ولا تجزىء عن الأضحية وتختص بوقت النحر وتجري مجرى الأضحية في الصرف
تنبيه أفهم كلامه عدم إجزاء التضحية بالحامل لأن الحمل يهزلها وهو الأصح كما نقله المصنف في مجموعه عن الأصحاب
قال الأذرعي وبه جزم الشيخ أبو حامد وأتباعه وغيرهم
وفي بيوع الروضة وصداقها ما يوافقه
وقول ابن الرفعة المشهور أنها تجزىء لأن ما حصل بها من نقص اللحم ينجبر بالجنين فهو كالخصي مردود بأن الجنين قد لا يبلغ حد الأكل كالمضغة ولأن زيادة اللحم لا تجبر عيبا بدليل العرجاء السمينة ويلحق بها قريبة العهد بالولادة لنقص لحمها والمرضع نبه عليه الزركشي
ثم فرع على شرط سلامتها من العيب قوله ( فلا تجزىء عجفاء ) أي ذاهبة المخ من شدة هزالها والمخ دهن العظام لما روى الترمذي وصححه أربع لا تجزىء في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين عرجها والعجفاء التي لا تنقي مأخوذة من النقي بكسر النون وإسكان القاف وهو المخ أي لا مخ لها ( و ) لا ( مجنونة ) وهي التي تدور في المرعى ولا ترعى إلا قليلا فتهزل وتسمى أيضا التولاء بل هو أولى بها ( و ) لا ( مقطوعة بعض أذن ) وإن كان يسيرا لذهاب جزء مأكول
وقال أبو حنيفة إن كان المقطوع دون الثلث أجزأ
وأفهم كلام المصنف منع كل الأذن بطريق الأولى ومنع المخلوقة بلا أذن وهو ما اقتصر عليه الرافعي بخلاف فاقدة الضرع أو الألية أو الذنب خلقة فإنه لا يضر
والفرق أن الأذن عضو لازم غالبا بخلاف ما ذكر أما في الأولين فكما يجزىء ذكر المعز وأما في الثالث فقياسا على ذلك وإن قيل هي أولى بعدم الإجزاء من المخلوقة بلا أذن
أما إذا فقد ذلك بقطع ولو لبعض منه أو بقطع بعض لسان فإنه يضر لحدوث ما يؤثر في نقص اللحم
وبحث بعض المتأخرين أن شلل الأذن كفقدها وهو ظاهر إن خرج عن كونه مأكولا ولا يضر قطع فلقة يسيرة من عضو كبير كفخذ لأن ذلك لا يظهر بخلاف الكبيرة بالإضافة إلى العضو فلا تجزىء لنقصان اللحم ( و ) لا ( ذات عرج ) بين لو حدث تحت السكين ( و ) لا ذات ( عور ) بين وإن بقيت الحدقة ( و ) لا ذات ( مرض ) بين ( و ) لا ذات ( جرب ) وقوله ( بين ) راجع للأربع كما تقرر للحديث المار
فإن قيل لا حاجة لتقييد العور بالبين لأن المدار في عدم إجزاء العوراء على فاقدة البصر من إحدى العينين
أجيب بأنق الشافعي قال أصل العور بياض يغطي الناظر وإذا كان كذلك فتارة يكون
____________________
(4/286)
يسيرا فلا يضر فلا بد من تقييده بالبين كما في الحديث
ولذا قال المصنف ( لا يضر يسيرها ) أي يسير الأربع لعدم تأثيره في اللحم
تنبيه قد علم من كلامه عدم إجزاء العمياء بطريق الأولى وتجزىء العمشاء وهي ضعيفة البصر مع سيلان الدمع غالبا والمكوية لأن ذلك لا يؤثر في اللحم والعشواء وهي التي لا تبصر ليلا لأنها تبصر وقت الرعي غالبا
( ولا ) يضر ( فقد قرن ) خلقه وتسمى الجلحاء ولا كسره ما لم يعب اللحم وإن دمى بالكسر لأن القرن لا يتعلق به كبير غرض فإن عيب اللحم ضر كالجرب وغيره وذات القرن أولى لخبر خير الضحية الكبش الأقرن رواه الحاكم وصحح إسناده ولأنها أحسن منظرا بل يكره غيرها كما نقله في المجموع عن الأصحاب ولا يضر ذهاب بعض الأسنان لأنه لا يؤثر في الاعتلاف ونقص اللحم فلو ذهب الكل ضر لأنه يؤثر في ذلك
وقضية هذا التعليل أن ذهاب البعض إذا أثر يكون كذلك وهذا هو الظاهر ويدل لذلك قول البغوي ويجزىء مكسور سن أو سنين ذكره الأذرعي وصوبه الزركشي ( وكذا ) لا يضر ( شق أذن و ) لا ( خرقها و ) لا ( ثقبها في الأصح ) بشرط أن لا يسقط من الأذن شيء بذلك كما علم مما مر لأنه لا ينقص بذلك من لحمها شيء والنهي الوارد عن التضحية بالشرقاء وهي مشقوقة الأذن محمول على كراهة التنزيه أو على ما أبين منه شيء بالشرق والثاني يضر لظاهر النهي المذكور
تنبيه الجمع بين الخرق الثقب تبع فيه المحرر
قال ابن شهبة ولا وجه له
قال الرافعي فسر الخرق بالثقب
( قلت الصحيح المنصوص ) وقال الرافعي أنه قضية ما أورده المعظم صريحا ودلالة
ونقلوه عن نصه في الجديد ( يضر يسير الجرب والله أعلم ) لأنه يفسد اللحم والودك
والثاني لا يضر كالمرض
وفي معنى الجرب البثور والقروح ( ويدخل وقتها ) أي التضحية ( إذا ارتفعت الشمس كرمح يوم النحر ) وهو العاشر من ذي الحجة ( ثم مضى قدر ركعتين ) خفيفتين ( وخطبتين خفيفتين ) فإن ذبح قبل ذلك لم تقع أضحية لخبر الصحيحين أول ما تبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فتنحر من فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لاءهله ليس من النسك في شيء
ويستثنى من ذلك ما لو وقفوا بعرفة في الثامن غلطا وذبحوا في التاسع ثم بان ذلك أجزأهم تبعا للحج ذكره في المجموع عن الدارمي
وهذا إنما يأتي على رأي مرجوح وهو أن الحج يجزىء والأصح أنه لا يجزىء
فكذا الأضحية
تنبيه قوله خفيفتين يقتضي اعتبار الخفة في الخطبتين خاصة وهو وجه ضعيف والأصح اعتبارها في الركعتين أيضا كما قدرته في كلامه فلو قال خفيفات لسلم من هذا ووقع في مناسك المصنف معتدلين بدل خفيفتين واستغرب
( ويبقى ) وقت التضحية ( حتى تغرب ) الشمس ( آخر ) أيام ( التشريق ) وهي ثلاثة عند الشافعي رحمه الله بعد العاشر لقوله صلى الله عليه وسلم عرفة كلها موقف وأيام التشريق كلها منحر رواه البيهقي وصححه ابن حبان وفي رواية لابن حبان في كل أيام التشريق ذبح وقال الأئمة الثلاثة يومان بعده
تنبيه لو وقفوا العاشر غلطا حسب أيام التشريق على الحقيقة لا على حساب وقوفهم ويكره الذبح والتضحية ليلا للنهي عنه قيل المعنى فيه خوف الخطأ في المذبح وقيل إن الفقراء لا يحضرون للأضحية بالليل حضورهم بالنهار
( قلت ارتفاع الشمس فضيلة ) في وقت التضحية ( والشرط طلوعها ثم مضي قدر الركعتين والخطبتين والله أعلم ) هذا مبني على صلاة العيد كما قاله الرافعي لمن قال يدخل بالطلوع
قال هنا يعتبر قدر الركعتين والخطبتين عقبه ومن
____________________
(4/287)
قال بالارتفاع يعتبرهما بعد ذلك والمحرر جزم هناك بالطلوع وهنا بالارتفاع فلهذا استدرك المصنف عليه ونازع البلقيني في قول المصنف إن ارتفاع الشمس فضيلة وقال تعجيل النحر مطلوب فلا يؤخر ( ومن نذر ) أضحية ( معينة فقال لله على أن أضحي بهذه ) البقرة مثلا أو جعلتها أضحية أو هذه أضحية أو على أن أضحي بها ولو لم يقل لله تعالى زال ملكه عنها و ( لزمه ذبحها في هذا الوقت ) السابق بيانه وهو أول وقت يلقاه بعد النذر لأنه جعلها بهذا اللفظ أضحية فتعين ذبحها وقت الأضحية ولا يجوز تأخيرها للعام القابل كما هو مقتضى كلامهم فإن قيل قد قالوا لو قال لله علي أن أعتق هذا العبد لم يزل ملكه عنه فهل كان هنا كذلك أجيب بأن الملك فيه لا ينتقل بل ينفك عن الملك بالكلية بخلافها فإن الملك ينتقل فيها إلى المساكين ولهذا لو أتلفها ضمنها كما سيأتي ولو أتلف العبد لم يضمنه وإن كان لا يجوز بيعه لأن العبد هو المستحق لذلك فلا يضمن لغيره بخلاف الأضحية فإن مستحقيها باقون
تنبيه أشار بقوله فقال إلى أنه لو نوى جعل هذه الشاة أو البدنة أضحية ولم يتلفظ بذلك لم تصر أضحية وهو الصحيح ومعلوم أن إشارة الأخرس المفهمة كنطق الناطق كما قاله الأذرعي وغيره وقضية التقييد بالمعينة أنه لو قال لله علي أن أضحي بشاة يكون بخلافه لكن الأصح التأقيت أيضا فيلزمه ذبحها في الوقت المذكور كما سيأتي
وقوله في هذا الوقت أي لتقع أداء وإلا فلو أخرها عن هذا الوقت لزمه ذبحها بعده ويكون قضاء كما حكاه الروياني عن الأصحاب
ثم شرع في بعض أحكام الأضحية وأحكامها خمسة أنواع الأول حكم التلف والإتلاف وقد شرع في القسم الأول منهما بقوله ( فإن تلفت ) أي الأضحية المنذورة المعينة ( قبله ) أي الوقت أو فيه قبل التمكن من ذبحها ولم يقصر ( فلا شيء عليه ) لعدم تقصيره وهي في يده أمانة فلا يجوز له بيعها فإن تعدى وباعها استردها إن كانت باقية ورد ثمنها وإن تلفت في يد المشتري استرد أكثر قيمتها من وقت القبض إلى وقت التلف كالغاصب والبائع طريق في الضمان والقرار على المشتري ويشتري البائع بتلك القيمة مثل التالفة جنسا ونوعا وسنا فإن نقصت القيمة عن تحصيل مثلها وفي القيمة من ماله فإن اشترى المثل بالقيمة أو في ذمته مع نيته عند الشراء أنه أضحية صار المثل أضحية بنفس الشراء وإن اشترى في الذمة ولم ينو أنه أضحية فيجعله أضحية ولا تجوز إجارتها أيضا لأنها بيع للمنافع فإن أجرها وسلمها للمستأجر وتلفت عنده بركوب أو غيرها ضمنها المؤجر بقيمتها وعلى المستأجر أجرة المثل
نعم إن علم الحال فالقياس أن يضمن كل منهما الأجرة والقيمة والقرار على المستأجر ذكره الإسنوي
وتصرف الأجرة مصرف الأضحية كالقيمة فيفعل بها ما يفعل بها وتقدم بيانه
وأما إعارتها فجائزة لأنها الارتفاق كما يجوز له الارتفاق بها للحاجة برفق فإن تلفت في يد المستعير لم يضمن ولو فيما تلف بغير الاستعمال لأن يد معيره يد أمانة فكذا هو كما ذكره الرافعي وغيره في المستعير من المستأجر ومن الموصى له بالمنفعة
قال ابن العماد وصورة المسألة أن تتلف قبل وقت الذبح فإن دخل وقته وتمكن من ذبحها وتلفت ضمن لتقصيره أي كما يضمن معيره لذلك
ثم شرع في القسم الثاني بقوله ( وإن أتلفها ) أجنبي ضمنها بالقيمة كسائر المتقومات فيأخذها منه الناذر ويشتري بها مثلها فإن لم يجد بها مثلها اشترى دونها بخلاف العبد المنذور عتقه إذا أتلفه أجنبي فإن الناذر يأخذ قيمته لنفسه ولا يلزمه أن يشتري بها عبدا يعتقه لما مر أن ملكه لم يزل عنه ومستحق العتق هو العبد وقد هلك ومستحقو الأضحية باقون فإذا كانت المتلفة ثنية من الضأن مثلا تنقصت القيمة من ثمنها أخذ عنها جذعة من الضأن ثم ثنية معز ثم دون من الأضحية ثم سهم من الأضحية ثم لحم فظاهر كلامهم أنه لا يتعين لحم جنس المنذورة ثم يتصدق بالدراهم للضرورة وإن أتلفها الناذر أو قصر ( لزمه أن يشتري بقيمتها مثلها ) جنسا ونوعا وسنا ( ويذبحها ) أي وقت التضحية المذكور لتعديه
تنبيه قضية كلامه أنه يلزمه قيمتها فقط حتى أنه لو لم يجد مثلها إلا بأكثر من قيمتها لم يلزمه شراؤه كالأجنبي وهو وجه
والأصح يلزمه الأكثر من قيمتها يوم الإتلاف ومن قيمة مثلها يوم النحر كما لو باعها وتلفت عند المشتري
____________________
(4/288)
ولأنه التزم الذبح وتفرقة اللحم وقد فوتهما وبهذا فارق إتلاف الأجنبي فإن زادت القيمة على ثمن مثل المتلفة لرخص حدث اشترى كريمة أو مثل المتلفة وأخذ بالزائد أخرى إن وفى بها وإن لم يوف بها ترتب الحكم كما سبق فيهما إذا أتلفها أجنبي ولم تف القيمة بما يصلح للأضحية
واستحب الشافعي والأصحاب أن يتصدق بالزائد الذي لا يفي بأخرى وأن لا يشتري به شيئا ويأكله وفي معناه بدل الزائد الذي يذبحه وإنما لم يجب التصدق بذلك كالأصل لأنه مع أنه ملكه قد أتى ببدل الواجب كاملا وإن ذبحها الناذر قبل الوقت لزمه التصدق بجميع الحم ولزمه أيضا أن يذبح في وقتها مثلها بدلا عنها وإن باعها فذبحها المشتري قبل الوقت أخذ البائع منه اللحم وتصدق به وأخذ منه الأرش وضم إليه البائع ما يشتري به البدل ولو ذبحها أجنبي قبل الوقت لزمه الأرش وهل يعود اللحم ملكا أو يصرف مصارف الضحايا
وجهان فإن قلنا بالأول اشترى الناذر به وبالأرش الذي يعود ملكا أضحية وذبحها في الوقت وإن قلنا بالثاني وهو كما قال شيخنا الظاهر فرقه واشترى بالأرش أضحية إن أمكن وإلا فكما مر
ثم شرع فيما إذا كانت الأضحية المنذورة في الذمة بقوله ( وإن نذر في ذمته ) ما يضحي به كأن قال لله علي أضحية ( ثم عين ) المنذور كعينت هذا البعير لنذري ( لزمه ذبحه ) أي ما عينه ( فيه ) أي الوقت المذكور لأنه التزم أضحية في الذمة وهي مؤقتة وقيل لا تتأقت لثبوتها في الذمة كدم الجبرانات ( فإن تلفت ) أي المعينة عن النذر ( قبله ) أي الوقت أو فيه ( بقي الأصل عليه في الأصح ) لأن ما التزمه ثبت في الذمة والمعين وإن زال ملكه عنه فهو مضمون عليه
والثاني لا يجب الإبدال لأنها تعينت بالتعيين
النوع الثاني حكم التعييب فإذا حدث في المنذورة المعينة ابتداء عيب يمنع ابتداء التضحية ولم يكن بتقصير من الناذر فإن كان قبل التمكن من ذبحها أجزأه ذبحها في وقتها ولا يلزمه شيء بسبب التعييب فإن ذبحها قبل الوقت تصدق باللحم ولا يأكل منه شيئا لأنه فوت ما التزمه بتقصيره وتصدق بقيمتها دراهم أيضا ولا يلزمه أن يشتري بها أضحية أخرى إذ مثل المعيبة لا يجزىء أضحية وإن كان العيب بعد التمكن من ذبحها لم تجزه لتقصيره بتأخير ذبحها ويجب عليه أن يذبحها ويتصدق بلحمها لأنه التزم ذلك إلى هذه الجهة وأن يذبح بدلها سليمة ولو ذبح المنذورة في وقتها ولم يفرق لحمها حتى فسد لزمه شراء بدل اللحم بناء على أنه مثلى وهو الأصح ولا يلزمه شراء أخرى لحصول إراقة الدم ولكن له ذلك
وقيل يلزمه قيمته
وجرى عليه ابن المقرى تبعا لأصله هذا بناء على أنه متقوم
وأما المعينة عما في الذمة لو حدث بها عيب ولو حالة الذبح بطل تعيينها وله التصرف فيها ويبقي عليه الأصل في ذمته
النوع الثالث حكم ضلال المنذورة فلا يضمنها إن ضلت بغير تقصير منه فإن وجدها بعد فوات الوقت ذبحها في الحال قضاء وصرفها مصرف الأضحية ولا يجوز له تأخيرها وعليه طلبها إلا إن كان بمؤنة وإن قصر حتى ضلت لزمه طلبها ولو بمؤنة
قالا ومن التقصير تأخير الذبح إلى آخر أيام التشريق بلا عذر وخروج بعضها ليس بتقصير كمن مات في أثناء وقت الصلاة الموسع لا يأثم
قال الإسنوي وهذا ذهول عما ذكره الرافعي فيها قبل من أنه إن تمكن من الذبح ولم يذبح حتى تلفت أو تعيبت فإنه يضمنها وذكر البلقيني نحوه وقال ما رجحه النووي ليس بمعتمد
قال شيخنا ويفرق بينه وبين عدم إثم من مات وقت الصلاة بأن الصلاة محض حق الله تعالى بخلاف الأضحية اه
وما فرق به بين الضلال والإتلاف فإنها في الضلال باقية بحالها بخلافها فيما مضى لا تجزىء والأوجه التسوية بين الضلال وبين ما تقدم
ولو عين شاة عما في ذمته ثم ذبح غيرها مع وجودها ففي إجزائها خلاف ويؤخذ مما مر من أنه يزول ملكه عنها عدم الإجزاء ولو ضلت هذه المعينة عما في الذمة فذبح غيرها أجزأته
فإن وجدها لم يلزمه ذبحها بل يتملكها كما صرح به الرافعي في الشرح الصغير
( وتشترط النية ) للتضحية ( عند الذبح ) للأضحية ( إن لم يسبق تعيين ) أما اشتراط النية فلأنها عبادة والأعمال بالنيات
وأما اشتراطها عند الذبح فلأن الأصل اقتران النية بأول الفعل وهذا وجه
والأصح في الشرح والروضة والمجموع جواز تقديم النية في غير
____________________
(4/289)
المعينة كما في تقديم النية على تفرقة الزكاة لكن يشترط صدور النية بعد تعيين المذبوح فإن كان قبله لم يجز كما في نظيره من الزكاة حيث تعتبر النية بعد إفراز المال وقبل الدفع
قال في المهمات وهل يشترط لذلك دخول وقت الأضحية أو لا فرق فيه نظر اه
والأوجه الأول ( وكذا إن ) عين كأن ( قال جعلتها ) أي الشاة مثلا ( أضحية ) يشترط النية عند ذبحها ( في الأصح ) ولا يكفي تعيينها لأنها قربة في نفسها فوجبت النية فيها والثاني قال يكفي تعيينها
تنبيه ما رجحه من اشتراط النية عند الذبح في هذه الصورة مبني على ما جزم به من اشتراط النية عند الذبح إن لم يسبق تعيين وقد تقدم أنه وجه والأصح خلافه
قال الأذرعي ولا شك في جواز تقديم النية في المعينة إذا جوزنا التقديم في غيرها وهو الأصح
تنبيه لا يشكل على عدم الاكتفاء بما سبق من التعيين ما قالوه من أنه لو ذبح الأضحية المعينة أو الهدي المعين فضولي في الوقت وأخذ منه المالك اللحم وفرقه على مستحقيه وقع الموقع لأنه مستحق الصرف إليه فلا يشترط فعله كرد الوديعة ولأن ذبحها لا يفترق إلى النية فإذا فعله غيره أجزأ كإزالة الخبث لأن الكلام هناك في التعيين بالنذر وهنا في التعيين بالجعل وهي صيغة منحطة عن صيغة النذر
( وإن وكل بالذبح نوى عند إعطاء الوكيل ) ما يضحى به ( أو ) عند ( ذبحه ) لأنه قائم مقامه فصار كالوكيل في تفرقة الزكاة
قال الزركشي ويستثنى ما لو وكل كافرا في الذبح فلا تكفيه النية عند الذبح في الظاهر اه
والظاهر الاكتفاء بذلك
تنبيه ما ذكره المصنف صريح في جواز تقديم النية على الذبح وقد صحح خلافه فيما مضى وقد مر ما فيه وقد يوهم أيضا عدم جواز النية من الوكيل وهو ظاهر إذا كان الوكيل كتابيا أو غير مميز
أما إذاوكل مسلما مميزا وفوض إليه النية فإنه يكفي لصحتها منه
النوع الرابع حكم الأكل من الأضحية وقد شرع فيه بقوله ( وله ) أي للمضحى ( الأكل من أضحية تطوع ) ضحى بها عن نفسه بل يستحب قياسا على هدي التطوع الثابت بقوله تعالى { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } أي الشديد الفقر وفي البيهي أنه صلى الله عليه وسلم كان يأكل من كبد أضحيته وإنما لم يجب الأكل منها كما قيل به لظاهر الآية لقوله تعالى { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } فجعلها لنا وما جعل للإنسان فهو مخير بين تركه وأكله قاله في المهذب وخرج بذلك من ضحى عن غيره كميت بشرطه الآتي فليس له ولا لغيره من الأغنياء الأكل منها وبه صرح القفال وعلله بأن الأضحية وقعت عنه فلا يحل الأكل منها إلا بإذنه وقد تعذر فيجب التصدق بها عنه والأضحية الواجبة لا يجوز له الأكل منها فإن أكل منها شيئا غرم بدله ( و ) به ( إطعام الأغنياء ) المسلمين كما في البويطي لقوله تعالى { وأطعموا القانع والمعتر }
قال مالك أحسن ما سمعت أن القانع الفقير والمعتر الزائر والمشهور أن القانع السائل والمعتر الذي يتعرض للسؤال ويحوم حوله وقيل القانع الجالس في بيته والمعتر الذي يسأل يقال قنع يقنع قنوعا بفتح عين الماضي والمضارع إذا سأل وقنع يقنع قناعة بكسر عين الماضي وفتح عين المضارع إذا رضي بما رزقه الله
قال الشاعر العبد حر إن قنع والحر عبد إن طمع فاقنع ولا تطمع فما شيء يشين سوى الطمع ( لا تمليكهم ) منها شيئا فلا يجوز بل يرسل إليهم على سبيل الهدية ولا يتصرفوا فيه بالبيع وغيره واستثنى البلقيني أضحية الإمام من بيت المال فيملك الأغنياء ما يعطيهم منها أما الفقراء فيجوز تمليكهم منها ويتصرفون فيما ملكوه بالبيع وغيره ( ويأكل ثلثا ) على الجديد لقوله تعالى { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } وأما الثلثان فقيل يتصدق بهما
وقيل وصححه في تصحيح التنبيه
ونص عليه البويطي يهدي للأغنياء ثلثا ويتصدق على الفقراء بثلث ولم يرجح في الروضة كأصلها شيئا ( وفي قول ) قديم يأكل ( نصفا ) ويتصدق بالنصف الآخر لقوله تعالى { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } فجعلها على قسمين
____________________
(4/290)
تنبيه مقصود المصنف على ما دل عليه كلام الروضة أنه يسن أن لا يزيد في الأكل ونحوه على الثلث على الجديد ولا على النصف على القديم وليس المراد أنه يسن له أكل هذا القليل كما عبر به في البيان و الروياني في الحلية واستثنى البلقيني من أكل الثلث أو النصف تضحية الإمام من بيت المال
( والأصح وجوب التصدق ببعضها ) ولو جزءا يسيرا من لحمها بحيث ينطلق عليه الاسم على الفقراء ولو واحدا بخلاف سهم الصنف الواحد من الزكاة لا يجوز صرفه لأقل من ثلاثة لأنه يجوز هنا الاقتصار على جزء يسير لا يمكن صرفه لأكثر من واحد ويشترط في اللحم أن يكون نيئا ليتصرف فيه من يأخذه بما شاء من بيع وغيره كما في الكفارات فلا يكفي جعله طعاما ودعاء الفقراء إليه لأن حقهم في تملكه لا في أكله ولا تمليكهم له مطبوخا ولا تمليكهم غير اللحم من جلد وكرش وكبد وطحال ونحوها ولا الهدية عن التصدق ولا القدر التافه من اللحم كما اقتضاه كلام الماوردي ولا كونه قديدا كما قاله البلقيني ولو تصدق بقدر الواجب وأكل ولدها كله جاز ولو أعطى المكاتب جاز كالحر قياسا على الزكاة وخصه ابن العماد بغير سيده وإلا فهو كما لو صرفه إليه من زكاته والثاني لا يجب التصدق ويكفي في الثواب إراقة الدم بنية القربة وعلى الأول لو أكلها غرم ما ينطلق عليه الاسم وهل يلزمه صرفه إلى شقص أضحية أم يكفي صرفه إلى اللحم وتفرقته وجهان في الروضة أصحهما كما في المجموع الثاني وجرى ابن المقري على الأول وله على الوجهين تأخير الذبح وتفرقة اللحم عن الوقت ولا يجوز له الأكل من ذلك لأنه بدل الواجب ( والأفضل ) التصدق ( بكلها ) لأنه أقر إلى التقوى وأبعد عن حظ النفس ( إلا ) لقمة أو لقمتين أو ( لقما يتبرك بأكلها ) عملا بظاهر القرآن وللإتباع كما مر وللخروج من خلاف من أوجب الأكل وإذا أكل البعض وتصدق بالبعض حصل له ثواب التضحية بالكل والتصدق بالبعض كما صوبه في الروضة والمجموع
تنبيه لا يكره الادخار من لحم الأضحية والهدي ويندب إذا أراد الادخار أن يكون من ثلث الأكل وقد كان الادخار محرما فوق ثلاثة أيام
ثم أبيح بقوله صلى الله عليه وسلم لما راجعوه فيه كنت نهيتكم عنه من أجل الدافة وقد جاء الله بالسعة فادخروا ما بدا لكم رواه مسلم
قال الرافعي والدافة جماعة كانوا قد دخلوا المدينة قد أفحمتهم أي أهلكتهم السنة في البادية وقيل الدافة النازلة ولا يجوز نقل الأضحية من بلدها كما في نقل الزكاة وقول الإسنوي قد صححوا في قسم الصدقات جواز نقل المنذورة والأضحية فرد من أفرادها مردود بأن الأضحية تمتد إليها أطماع الفقراء لأنها مؤقتة بوقت كالزكاة بخلاف النذور والكفارات لا شعور للفقراء بها حتى تمتد أطماعهم إليها
النوع الخامس الانتفاع بشيء منها وقد شرع فيه بقوله ( ويتصدق ) المضحي في أضحية تطوع ( بجلدها أو ينتفع به ) كما يجوز له الانتفاع بها كما مر كأن يجعله دلوا أو نعلا أو خفا لفعل الصحابة والتصدق به أفضل أما الواجبة فيجب التصدق بجلدها كما في المجموع
تنبيه قصر المصنف الانتفاع على المضحي نفسه فيه إشارة إلى أنه يمتنع عليه إجارته لأنها بيع المنافع كما مر وبيعه لخبر الحاكم وصححه من باع جلد أضحيته فلا أضحية له وإعطاؤه أجرة للجزار وهو كذلك لكن يجوز له إعارته كما لو إعارتهاكما مر والقرن مثل الجلد فيما ذكر وله جز صوف عليها إن ترك إلى الذبح ضربها للضرورة وإلا فيجزىء إن كانت واجبة لانتفاع الحيوان به في دفع الأذى وانتفاع المساكين به عند الذبح وله الانتفاع به والتصدق به أفضل من الانتفاع به كما مر في الجلد وكالصوف فيما ذكر الشعر والوبر
( وولد ) لأضحية ( الواجبة ) المعينة ابتداء من غير نذر أو به أو عن نذر في ذمته ( يذبح ) حتما كأمه ويفرق سواء ماتت أم لا وسواء أكانت حاملة عن التعيين أم حملت بعده وليس هذا من التضحية بالحامل كما توهمه بعضهم لأن الحمل قبل انفصاله لا يسمى
____________________
(4/291)
ولدا كما ذكره الشيخان في كتاب الوقت ( وله ) أي المضحى ( أكل كله ) قياسا على اللبن وهذا تبع فيه المحرر ونقله الرافعي عن ترجيح الغزالي وقال في زيادة الروضة إنه الأصح
قال ابن شهبة وإنما يصح إذا قلنا يجوز الأكل من الواجبة وقد مر أن المذهب منع الأكل منها وقال الغزالي ممن يجوز الأكل من المعينة فلهذا جوز أكل جميع الولد فإذا المجزوم به في الكتاب مفرع على مرجوح اه
والأوجه ما في الكتاب إذ لا يلزم من تحريم الأكل من الأضحية الواجبة منع أكل ولدها لأن التصدق إنما يجب بما يقع عليه اسم الأضحية والولد لا يسمى أضحية لنقص سنه وإنما لزم ذبحه تبعا ولا يلزم أن يعطى التابع حكم المتبوع من كل وجه وكما يجوز للموقوف عليه أكل الولد ولا يكون وقفا كذلك هذا يجوز أكله ولا تجري عليه أحكام الأضحية وقيل يكفي التصدق من إحداهما وقيل يجب التصدق ببعضه وصححه الروياني
أما ولد الأضحية المتطوع بها فيجوز أكله كما علم من ذلك بطريق الأولى فإن كان الولد ولد هدي وعجز عن المشي فيحمله على الأم أو غيرها ليبلغ الحرم وقد فعله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما رواه مالك بإسناد صحيح ( و ) له ( شرب فاضل لبنها ) عن ولدها مع الكراهة كما قاله الماوردي
ويدل للجواز قوله تعالى ( لكم فيها منافع ) قال النخعي إن احتاج إلى ظهرها ركب وإن حلب لبنها شرب وله سقي غيره بلا عوض ولو تصدق به كان أفضل كما قاله الشافعي والأصحاب ولا يجوز بيعه قطعا
تنبيه قضية كلامه فرض المسألة في الواجبة ولذا صورها في المجموع بالمنذورة ثم استشكله في نكت التنبيه بأن ملكه قد زال عنها فكيف يشربه بغير إذن مالكه والمنقول في الكفاية أنه لا فرق بين الواجبة وغيرها وفرق من منع أكل ولد الواجبة بينه وبين شرب اللبن بأن بقاء اللبن معها يضرها وبأن اللبن يستخلف مع الأوقات فما يتلفه يعود فيسامح به وبأنه لو جمعه لفسد
( ولا تضحية لرقيق ) كله قنا أو مدبرا أو أم ولد لأنه لا يملك شيئا ( فإن أذن ) له ( سيده ) فيها وضحى وكان غير مكاتب ( وقعت له ) أي لسيده لأنه نائب عنه فصار كما لو أذن له في الصدقة
فإن قيل كيف تقع عن السيد من غير نية منه ولا من العبد نيابة عنه أجيب بأن خصوص كونها من العبد بطل وبقي عموم الإذن له في التضحية فوقعت عن السيد أو أن السيد نوى عن نفسه أو فوض النية للعبد فنوى عن السيد ( ولا يضحي مكاتب بلا إذن ) من سيده لأنه تبرع فإن أذن له وقعت التضحية عن المكاتب كسائر تبرعاته
أما المبعض فيضحي بما ملكه ببعضه الحر ولا يحتاج إلى إذن السيد لأنه فيما يملكه كالحر الكامل ( ولا تضحية ) أي لا تقع ( عن الغير ) الحي ( بغير إذنه ) لأنها عبادة والأصل أن لا تفعل عن الغير إلا ما خرج بدليل لا سيما مع عدم الإذن
تنبيه استثنى من هذا صور إحداها تضحية واحد من أهل البيت تحصل بها سنة الكفاية لهم كما مر وإن لم يصدر من بقيتهم إذن وفي زيادة الروضة عن العدة لو أشرك غيره في ثواب أضحيته وذبح عن نفسه جاز
ثانيها المعينة بالنذر إذا ذبحها أجنبي وقت التضحية فإنها تقع الموقع على المشهور في أصل الروضة فيفرق صاحبها لحمها لأنه مستحق الصرف إلى هذه الجهة فلا يشترط فعله كرد الوديعة ولأن ذبحها لا يفتقر إلى نية كما مر فإذا فعله غيره أجزأه
ثالثها تضحية الإمام عن المسلمين من بيت المال أي عند سعته فإنه يجوز كما قاله الماوردي وقد تقدم الكلام على ذلك
رابعها تضحية الولي من ماله عن محاجيره كما ذكره البلقيني و الأذرعي وهو ما أشعر به قول الماوردي والأصحاب ولا تصح التضحية عن الحمل كما لا يخرج عنه الفطرة ولا يجوز لولي الطفل والمجنون والمحجور أن يضحي عنه من ماله فأفهم جوازها عنهم من مال الولي وحيث امتنعت فإن كانت الشاة معينة وقعت عن المضحي وإلا فلا
( ولا ) تضحية ( عن ميت إن لم يوص بها ) لقوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } فإن أوصى بها جاز ففي سنن أبي داود والبيهقي والحاكم أن علي بن أبي طالب كان يضحي بكبشين عن نفسه وكبشين عن النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(4/292)
وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن أضحي عنه فأما أضحي عنه أبدا لكنه من رواية شريك القاضي وهو ضعيف
وقدمنا أنه إذا ضحى عن غيره يجب عليه التصدق بجميعها وقيل تصح التضحية عن الميت وإن لم يوص بها لأنها ضرب من الصدقة وهي تصح عن الميت وتنفعه وتقدم في الوصايا أن محمد بن إسحق السراج النيسابوري أحد أشياخ البخاري ختم عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة آلاف ختمة وضحى عنه بمثل ذلك
فصل في العقيقة من عق يعق بكسر العين وضمها وهي في اللغة اسم للشعر الذي على المولود حين ولادته و شرعا ما يذبح عند حلق شعره تسمية للشيء باسم سببه ولأن مذبحه يعق أي يشق ويقطع ومقتضى كلامهم والأخبار أنه لا يكره تسميتها عقيقة لكن روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال للسائل عنها لا يحب الله العقوق فقال الراوي كأنه كره الاسم ويوافقه قول ابن أبي الدم قال أصحابنا يستحب تسميتها نسيكة أو ذبيحة ويكره تسميتها عقيقة كما يكره تسمية العشاء عتمة
ويدخل وقتها بانفصال جميع الولد ولا تحسب قبله بل تكون شاة لحم وهي سنة مؤكدة للأخبار الآتية قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه أفرط في العقيقة رجلان الحسن قال إنها بدعة والليث قال إنها واجبة ثم لما نشأ داود بعد الشافعي وافق الليث والحجة عليهما حديث أبي داود من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل ولأنها إراقة دم بغير جناية ولا نذر فلم تجب كالأضحية والمعنى فيه إظهار البشر بالنعمة ونشر النسب والأصل في استحبابها أخبار كخبر الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه ويسمى وكخبر أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق رواهما الترمذي
وقال في الأول حسن صحيح وفي الثاني حسن ومعنى مرتهن بعقيقته قيل لا ينمو نمو مثله حتى يعق عنه
قال الخطابي وأجود ما قيل فيه ما ذهب إليه أحمد بن حنبل أنه إذا لم يعق عنه لم يشفع في والديه يوم القيامة ونقله الحليمي عن جماعة متقدمة على أحمد
( يسن ) لمن تلزمه نفقة فرعه بتقدير فقره ( أن يعق عن ) مولود ( غلام بشاتين ) متساويتين ( و ) عن ( جارية بشاة ) لخبر عائشة رضي الله تعالى عنها أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة رواه الترمذي وقال حسن صحيح وإنما كانت الأنثى على النصف تشبيها بالدية لأن الغرض منها استبقاء النفس
ويتأدى أصل السنة عن الغلام بشاة واحدة لما روى أبو داود بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا وكالشاة سبع بدنة أو بقرة فلو ذبح بدنة أو بقرة عن سبعة أولاد أو اشترك جماعة فيها جاز سواء أرادوا كلهم العقيقة أو بعضهم العقيقة وبعضهم اللحم قاله في المجموع وكالأنثى والخنثى كما قاله الإسنوي وتتعدد العقيقة بتعدد الأولاد كما هو قضية كلام المجموع
فإن قيل قد عق النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين وقد قلتم إنها إنما تسن لمن تلزمه نفقة المولود
أجيب بأن المراد بعقه صلى الله عليه وسلم أنه أمر أباهما بذلك أو أعطاه ما عق به أو أنهما كانا في نفقة جدهما صلى الله عليه وسلم لعسر أبويهما
أما من مال المولود فلا يجوز للولي أن يعق عنه من ذلك لأن العقيقة تبرع وهو ممنوع منه من مال المولود فإن فعل ضمن كما نقله في المجموع عن الأصحاب
قال الأذرعي وإطلاقهم استحباب العقيقة لمن تلزمه نفقة الولد يفهم أنه يستحب للأم أن تعق عن ولدها من زنا وفيه بعد لما فيه من زيادة العار وأنه لو ولدت أمته من زنا أو زوج معسر أو مات قبل عقه استحب للسيد أن يعق عنه وليس مرادا
تنبيه لو كان الولي عاجزا عن العقيقة حين الولادة ثم أيسر بها قبل تمام السابع استحبت في حقه وإن أيسر بها بعد السابع مع بقية مدة النفاس أن أكثره كما قاله بعض المتأخرين لم يؤمر بها وفيما إذا أيسر بها بعد السابع في مدة النفاس تردد للأصحاب ومقتضى كلام الأنوار ترجيح مخاطبته بها
ولا يفوت على الولي الموسر بها حتى يبلغ الولد فإن بلغ سن أن يعق عن نفسه تداركا لما فات وما قيل أنه صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه
____________________
(4/293)
بعد النبوة قال في المجموع باطل ويسن أن يعق عمن مات قبل السابع أو بعده بعد أن تمكن من الذبح
( و ) جنسها و ( سنها وسلامتها ) من العيب والأفضل منها ( والأكل ) وقدر المأخوذ منها والادخار ( والتصدق ) والإهداء منها وتعيينها إذا عينت وامتناع بيعها ( كالأضحية ) المسنونة في ذلك لأنها ذبيحة مندوب إليها فأشبهت الأضحية
تنبيه لو ذكر المصنف ما زدته لكان أولى لئلا يتوهم الحصر فيما ذكره ويستثنى من التشبيه بالأضحية ما ذكره بقوله ( ويسن طبخها ) كسائر الولائم لما روى البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه السنة وتطبخ بحلوى تفاؤلا بحلاوة أخلاق المولود
وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء والعسل
تنبيه ظاهر كلامهم أنه يسن طبخها ولو كانت منذورة وهو كذلك كما قاله شيخنا وإن بحث الزركشي أنه يجب التصدق بلحمها نيئا لأن الأضحية ضيافة عامة من الله للمؤمنين بخلاف العقيقة ولهذا إذا أهدي للغني منها شيئا ملكه بخلافه في الأضحية كما مر ولا يكره طبخها بحامض إذ لم يثبت فيه نهي
وحملها مطبوخة مع مرقتها للفقراء أفضل من دعائهم إليها ولا بأس بنداء قوم إليها ويستثنى من طبخها رجل الشاة فإنها تعطى للقابلة لأن فاطمة رضي الله تعالى عنها فعلت ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد
( ولا يكسر ) منها ( عظم ) أي يسن ذلك ما أمكن بل يقطع كل عظم من مفصله تفاؤلا بسلامة أعضاء المولود فإن كسره لم يكره إذ لم يثبت فيه نهي مقصود بل هو خلاف الأولى
تنبيه قول الزركشي ولو عق عنه بسبع بدنة هل يتعلق استحباب ترك الكسر بعظم السبع أو بعظام جميع البدنة الأقرب الأول لأن الواقع عقيقة هو السبع ممنوع بل الأقرب كما قال شيخنا أنه إن تأتى قسمتها بغير كسر فاستحباب ترك الكسر يتعلق بالجميع إذ ما من جزء إلا وللعقيقة فيه حصة
( و ) يسن ( أن تذبح ) العقيقة ( يوم سابع ولادته ) أي المولود ويحسب يوم الولادة من السبعة كما في المجموع فإن ولدت ليلا حسب اليوم الذي يليه وأن يقول الذابح بعد التسمية اللهم منك وإليك عقيقة فلان لخبر ورد فيه رواه البيهقي بإسناد حسن
ويكره لطخ رأس المولود بدمها لأنه من فعل الجاهلية وإنما لم يحرم للخبر الصحيح كما في المجموع أنه صلى الله عليه وسلم قال مع الغلام عقيقة فأهرقوا عليه دما وأميطوا عنه الأذى بل قال الحسن و قتادة أنه يستحب ذلك ثم يغسل لهذا الخبر
ويسن لطخ رأسه بالزعفران والخلوف كما صححه في المجموع ( و ) يسن أن ( يسمى فيه ) أي السابع كما في الحديث المار أول الفصل ولا بأس بتسميته قبله
وذكر المصنف في أذكاره أن السنة تسميته يوم السابع أو يوم الولادة واستدل لكل منهما بأخبار صحيحة وحمل البخاري أخبار يوم الولادة على من لم يرد العق وأخبار يوم السابع على من أراده
قال ابن حجر شارحه وهو جمع لطيف لم أره لغيره ولو مات قبل التسمية استحب تسميته بل يسن تسمية السقط فإن لم يعلم أذكر هو أم أنثى سمي اسم يصلح لهما كخارجة وطلحة وهند
ويسن أن يحسن اسمه لخبر إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم وأفضل الأسماء عبد الله وعبد الرحمن لخبر مسلم أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن زاد أبو داود وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة وتكره الأسماء القبيحة كشيطان وظالم وشهاب وحمار وكليب وما يتطير بنفيه عادة كنجيح وبركة لخبر لا تسمين غلامك أفلح ولا نجيحا ولا يسارا ولا رباحا فإنك إذا قلت أثم هو قال لا ويسن أن تغير الأسماء القبيحة وما يتطير بنفيه لخبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية وقال أنت جميلة
وفي الصحيحين أن زينب بنت جحش كان اسمها برة فقيل تزكي نفسها فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب ويكره كراهة شديد كما في المجموع التسمية بست الناس أو العلماء أو القضاة أو العرب لأنه كذب ولا تعرف الست إلا في العدد ومراد العوام بذلك سيدة ولا تجوز التسمية بملك الأملاك وشاهان شاه ومعناه ملك الأملاك ولا ملك الأملاك إلا الله ونقل الأذرعي عن القاضي أبي الطيب التحريم في قاضي القضاة وأبلغ منه
____________________
(4/294)
حاكم الحكام وفي منهاج الحليمي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقولوا الطبيب وقولوا الرفيق فإنما الطبيب الله وإنما سمي الرفيق لأنه يرفق بالعليل وأما الطبيب فهو العالم بحقيقة الداء والدواء والقادر على الصحة والشفاء وليس بهذه الصفة إلا الله تعالى
ولا تكره التسمية بأسماء الملائكة والأنبياء ويس وطه خلافا لمالك رحمه الله تعالى ففي تفسير القرطبي عند قوله تعالى { السلام المؤمن المهيمن } عن ابن عباس أنه قال إذا كان يوم القيامة أخرج الله تعالى أهل التوحيد من النار وأول من يخرج من وافق اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبق فيها من وافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى أنتم المسلمون وأنا السلام وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين وفي كتاب الخصائص لابن سبع عن ابن عباس أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد ألا ليقم من اسمه محمد فليدخل الجنة كرامة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
وفي مسند الحارث بن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان له ثلاثة من الولد ولم يسم أحدهم بمحمد فقد جهل وقال مالك سمعت أهل المدينة يقولون ما من أهل بيت فيهم اسم محمد إلا رزقوا رزق خير قال ابن رشيد يحتمل أن يكونوا عرفوا ذلك بالتجربة أو عندهم في ذلك أثر والتسمية بعبد النبي قد تجوز إذا قصد به التسمية لا النبي صلى الله عليه وسلم ومال الأكثرون إلى المنع منه خشية التشريك لحقيقة العبودية واعتقاد حقيقة العبودية كما أنه لا يجوز التسمي بعبد الكعبة وعبد العزى قيل شهد رجل عند الحارث
فقال له الحارث ما اسمك قال جبريل
فقال له الحارث قد ضاقت عليك أسماء بني آدم حتى تسميت باسم الملائكة
فقال له الرجل قد ضاقت عليك الأسماء حتى تسميت باسم الشيطان فإن اسمه الحارث ويحرم تلقيب الشخص بما يكره وإن كان فيه كالأعور والأعمش ويجوز ذكره بنية التعريف لمن لم يعرف إلا به فالألقاب الحسنة لا ينهى عنها فقد لقب الصديق بعتيق وعمر بالفاروق وحمزة بأسد الله وخالد بسيف الله وما زالت الألقاب الحسنة في الجاهلية والإسلام
قال الزمخشري إلا ما أحدثه الناس في زماننا هذا من التوسع حتى لقبوا السفلة بالألقاب العلية وهب العذر مبسوط فما أقول في تلقيب من ليس من الدين في قبيل ولا دبير بفلان الدين هي لعمر الله الغصة التي لا تساغ ومعنى اللقب اسم ما يدعى الاسم به يشعر بضعة المسمى أو رفعته والمقصود به الشهرة فما كان مكروها نهى عنه ويسن أن يكون أهل الفضل الرجال والنساء وإن لم يكن لهم ولد وأما التكني بأبي القاسم فهو حرام وقد قدمت الكلام عليه في خطبة هذا الكتاب
ولا يكنى كافر قال في الروضة ولا فاسق ولا مبتدع لأن الكنية للتكرمة وليسوا من أهلها
بل أمرنا بالإغلاظ عليهم إلا لخوف فتنة من ذكره باسمه أو تعريف كما قيل به في قوله تعالى { تبت يدا أبي لهب } واسمه عبد العزى ولا بأس بكنية الصغير
ويسن أن يكنى من له أولاد بأكبر أولاده ويسن لولد الشخص وتلميذه وغلامه أن لا يسميه باسمه
والأدب أن لا يكني الشخص نفسه في كتاب أو غيره إلا أن لا يعرف بغيرها أو كانت أشهر من الاسم
( و ) يسن في سابع ولادة المولود أن ( يحلق رأسه ) كلها لما مر ويكون ذلك ( بعد ذبحها ) أي العقيقة كما في الحاج
ولا فرق في ذلك بين كون المولود ذكرا أم أنثى خلافا لبعضهم في كراهته فيها
تنبيه لم يصرح المصنف بكون الحلق يوم السابع
وجزم في أصل الروضة بكونه فيه ولذا قدرته في كلامه كان ينبغي له أن يقول فيه كما فعل في التسمية ولا يكفي حلق بعض الرأس ولا تقصير الشعر ولو لم يكن برأسه شعر ففي استحباب إمرار الموسى عليه احتمالان
( و ) أن ( يتصدق بزنته ) أي الشعر ( ذهبا أو فضة ) وفي المجموع فإن لم يفعل ففضة وفي الروضة فإن لم يتيسر ففضة فهي بيان لدرجة الأفضلية والأصل في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة فقال زني شعر الحسين وتصدق بوزنه فضة وأعطى القابلة رجل العقيقة
رواه الحاكم وصححه وقيس بالفضة الذهب وبالذكر الأنثى ولا ريب أن الذهب أفضل من الفضة وإن ثبت بالقياس عليها والخبر محمول على أنها كانت هي المتيسرة إذ ذاك فتعبيرهم بما ذكر بيان لدرجة الأفضلية
____________________
(4/295)
تنبيه من لم يفعل بشعره ما ذكر ينبغي كما قال الزركشي أن يفعله وبعد بلوغه إن كان شعر الولادة باقيا وإلا تصدق بزنته يوم الحلق فإن لم يعلم احتاط وأخرج الأكثر
فائدة قال في الإحياء لا أدري رخصة في تثقيب أذن الصبية لأجل تعليق حلي الذهب أي أو نحوه فيها فإن ذلك جرح مؤلم ومثله موجب للقصاص فلا يجوز إلا لحاجة مهمة كالفصد والحجامة والختان والتزين بالحلي غير مهم فهذا وإن كان معتادا فهو حرام والمنع منه واجب والاستئجار عليه غير صحيح والأجرة المأخوذة عليه حرام اه
فإن قيل في البخاري فجعلن يلقين من أقراطهن وخواتمهن في حجر بلال أجيب بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر على التعليق لا على التثقيب
وعند الحنابلة إن تثقيب آذان البنات للزينة جائز ويكره للصبيان وعند الحنفية لا بأس بتثقيب آذان الصبية لأنهم كانوا يفعلونه في الجاهلية ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم
قال الحسن بن إسحق بن راهويه ولد أبي إسحق مثقوب الأذنين فمضى جدي إلى الفضل بن موسى فسأله عن ذلك
فقال يكون ابنك رأسا إما في الخير وإما في الشر
( و ) يسن أن ( يؤذن في أذنه ) اليمنى ويقام في اليسرى ( حين يولد ) لخبر ابن السني من ولد له مولود فأذن له في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى لم تضره أم الصبيان أي التابعة من الجن وليكون إعلامه بالتوحيد أول ما يقرع سمعه عند قدومه إلى الدنيا كما يلقن عند خروجه منها ولما فيه من طرد الشيطان عنه فإنه يدبر عند سماع الأذان كما ورد في الخبر
وأن يقول في أذنه أي اليمنى إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم
وظاهر كلامهم أنه يقول ذلك وإن كان الولد ذكر على سبيل التلاوة والتبرك بلفظ الآية بتأويل إرادة النسمة
وفي مسند ابن رزين أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في أذن مولود أي أذنه اليمنى سورة اخلاص
( و ) أن ( يحنك ) المولود ( بتمر ) سواء أكان ذكرا أم أنثى وإن خصه البلقيني بالذكر فيمضغ ويدلك به حنكه ويفتح فاه حتى ينزل إلى جوفه منه شيء فإن لم يكن تمر فيحنكه بحلو لأنه صلى الله عليه وسلم أتى بابن أبي طلحة حين ولد وتمرات فلاكهن ثم فغرفاه ثم مجه في فيه فجعل يتلمظ فقال صلى الله عليه وسلم حب الأنصار التمر وسماه عبد الله
رواه مسلم وفي معنى التمر الرطب
قال في المجموع وينبغي أن يكون المحنك له من أهل الخير فإن لم يكن رجل فامرأة صالحة وأن يهنأ الوالد بأن يقال له بارك الله لك في الموهوب لك وشكرت الواهب وبلغ أشده ورزقت بره وأن يرد هو على المهنىء فيقول بارك الله لك وبارك عليك أو أجزل الله ثوابك أو نحو ذلك
تتمة قال ابن سراقة آكد الدماء المسنونة الهدايا ثم الضحايا ثم العقيقة ثم العتيرة ثم الفرع والعتيرة بالعين المهملة ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب ويسمونها الرجيبة أيضا
والفرع بفتح الفاء والراء والعين المهملة أول نتاج البيهمة كانوا يذبحونه ولا يملكونه رجاء البركة في الأم وكثرة نسلها ويكرها لخبر البخاري لا فرع ولا عتيرة
خاتمة يسن لكل أحد من الناس أن يدهن غبا بكسر الغين المعجمة أي وقتا بعد وقت بحيث يجف الأول وأن يكتحل وترا لكل عين ثلاثة وأن يحلق العانة ويقلم الظفر وينتف الإبط ويجوز حلق الإبط ونتف العانة ويكون آتيا بأصل السنة
قال المصنف في تهذيبه والسنة في الرجل حلق العانة وفي المرأة نتفها والخنثى مثلها كما بحثه شيخنا
والعانة الشعر النابت حول الفرج والدبر
وكيفية التقليم أن يبدأ بالمسبحة من يده اليمنى لأنها أشرف إذ يشار بها إلى التوحيد في التشهد ثم الوسطى لكونها عن يمين المسبحة إذا نزلت الأرض على سمتها مبسوطة الكف على الأرض ثم البنصر ثم الإبهام ثم بخنصر اليسرى ثم بنصرها ثم الوسطى ثم السبابة ثم الإبهام ثم يبدأ بخنصر الرجل اليمنى ثم بما بعدها إلى أن يختم بخنصر رجله اليسرى وأن يقص الشارب حتى يبين حد الشفة بيانا ظاهرا ولا يحفيه من أصله
قال في المجموع وما جاء في الحديث من الأمر بحف الشوارب محمول على حفها
____________________
(4/296)
من طرف الشفة ويكره تأخير هذه المذكورات عند الحاجة وتأخيرها إلى بعد الأربعين أشد كراهة وأن يغسل البراجم ولو في غير الوضوء وهي عقد الأصابع ومفاصلها وذلك للاتباع وأن يغسل معاطف الأذن وصماخها فيزيل ما فيه من الوسخ بالمسح قاله في المجموع وأن يغسل داخل الأنف تيامنا في كل المذكورات وأن يخضب الشعر الشائب بالحمرة والصفرة وهو بالسواد حرام لقوله صلى الله عليه وسلم اجتنبوا السواد إلا لمجاهد في الكفار فلا بأس به وخضاب اليدين والرجلين بالحناء ونحوه للرجل حرام إلا لعذر
أما المرأة فيسن لها مطلقا والخنثى في ذلك كالرجل احتياطا ويسن فرق شعر الرأس وتمشيطه بماء أو دهن أو غيره وتسريح اللحية لخبر أبي داود بإسناد حسن من كان له شعر فليكرمه ويكره القزع وهو حلق بعض الرأس مطلقا وقيل حلق مواضع متفرقة منه وأما حلق جميع الرأس فلا بأس به لمن أراد التنظف ولا يتركه لمن أراد أن يدهنه ويرجله
وأما المرأة فيكره لها حلق رأسها إلا لضرورة ويكره نتف اللحية أول طلوعها إيثارا للمرودة ونتف الشيب واستعجال الشيب بالكبريت أو غيره طلبا للشيخوخة ونتف جانبي العنفقة وتشعيثها إظهارا للزهد وتصفيفها طاقة فوق طاقة للتزين والتصنع والنظر في سوادها وبياضها إعجابا وافتخارا والزيادة في العذارين من الصدغ والنقص منهما ولا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب
قال الزركشي هذا يرده ما رواه الإمام أحمد في مسنده قصوا سبالاتكم ولا تتشبهوا باليهود
كتاب الأطعمة جمع طعام أي بيان ما يحل أكله وشربه منها وما يحرم إذ معرفة أحكامها من المهمات لأن في تناول الحرام الوعيد الشديد فقد ورد في الخبر أي لحم نبت من حرام فالنار أولى به
والأصل فيها قوله تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما } الآية وقوله تعالى { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } أي ما تستطيبه النفس وتشتهيه ولا يجوز أن يراد الحلال لأنهم سألوه عما يحل لهم فكيف يقول أحل لكم الحلال
فائدة اسم الطيب يقع على أربعة أشياء الحلال ومنه { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } والطاهر ومنه { فتيمموا صعيدا طيبا } وما لا أذى فيهم كقولهم هذا يوم طيب وما تستطيبه النفس كقولهم هذا طعام طيب
( حيوان البحر ) وهو ما لا يعيش إلا في الماء وعيشه خارجه كعيش المذبوح منه ما ليس له رئة كأنواع السمك ومنه ما له رئة كالضفدع فإنها تجمع بين الماء والهواء
فائدة روى القزويني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق في الأرض ألف أمة ستمائة في البحر وأربعمائة في البر
وقال مقاتل بن حيان لله تعالى ثمانون ألف عالم أربعون ألفا في البحر وأربعون ألفا في البر
( السمك منه ) أي ما هو بصورته المشهورة ( حلال كيف مات ) حنف أنفه أو بسبب ظاهر كصدمة حجر أو ضربة صياد أو انحسار ماء راسبا كان أو طافيا لقوله تعالى { أحل لكم صيد البحر وطعامه } أي مصيده ومطعومه وقال جمهور الصحابة طعامه ما طفا على وجه الماء وإلى هذا يشير قوله صلى الله عليه وسلم هو الطهور ماؤه الحل ميتته والصحيح في حديث العنبر أنهم وجدوه بشاطىء البحر ميتا فأكلوا منه وقدموا منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منه نعم إن انتفخ الطافي بحيث يخشى منه السقم يحرم للضرورة قاله الجويني و الشاشي
تنبيه كلام المصنف قد يوهم توقف الحل على موته وليس مرادا وقد مر في الصيد والذبائح أنه يحل بلع سمكة حية وأنه يحل قلي صغار السمك من غير أن يشق جوفه ويعفى عما فيه وأنه لو وجد سمكة في جوف سمكة
____________________
(4/297)
حل أكلها إلا أن تكون قد تغيرت فيحرم لأنها صارت كالقيء
( وكذا غيره ) أي السمك مما ليس على صورته المشهورة كخنزير الماء وكلبه حلال ( في الأصح ) المنصوص لإطلاق الآية والحديث المارين وعن أبي بكر رضي الله عنه كل دابة تموت في البحر فقد ذكاها الله لكم ( وقيل لا ) يحل لأنه لا يسمى سمكا والأول يقول يسماه وعلى الأول لا يشترط فيه الذكاة لأنه حيوان ولا يعيش إلا في الماء
تنبيه كلام المصنف صريح في انقسام حيوان البحر إلى سمك وغيره وهو مخالف لتصحيح الروضة وأصلها أن السمك يقع على جميعها ولهذا أولت قول المصنف منه ما هو بصورته المشهورة وقوله وكذا غيره مما ليس على صورته المشهورة ويشهد له قول الروضة ما ليس على صورة السمك المشهورة
( وقيل إن أكل مثله في البر ) كالبقر والغنم ( حل ) أكله ميتا ( وإلا ) بأن لم يؤكل مثله في البر ( فلا ) يحل ( ككلب وحمار ) اعتبارا لما في البحر بما في البر ولأن الاسم يتناوله فأجرى عليه حكمه فعلى هذا الوجه ما لا نظير له في البر يحل لحديث العنبر المشهور في الصحيح أما إذا ذبح ما أكل شبهه في البر فإنه يحل جزما ولو كان يعيش في البر والبحر لأنه حينئذ كحيوان البر وحيوان البر يحل مذبوحا فمحل الخلاف إذا أكل ميتا كما قدرته ( وما يعيش في بر وبحر كضفدع ) بكسر الضاد مع فتح الدال وكسرها بخطه ويجوز فتح الضاد مع كسر الدال وضمها مع فتح الدال وكنيته أبو المسيح وهو من الحيوان الذي لا عظم له ( وسرطان ) ويسمى أيضا عقرب الماء وكنيته أبو بحر ( وحية ) ويطلق على الذكر والأنثى ودخلت الهاء للوحدة لأنه واحد من جنسه كدجاجة وعقرب وترسة وهي اللجأة وسلحفاة بضم السين وفتح اللام وبمهملة ساكنة وتمساح ( حرام ) للسمية في الحية والعقرب وللاستخباث في غيرهما ولأن التمساح يتقوى بنابه وقضيته تحريم القرش بكسر القاف ويقال له اللخم بفتح اللام والخاء المعجمة لكن أجاب المحب الطبري تبعا لابن الأثير في النهاية بحله وهو الظاهر وفي تحريم النسناس بكسر النون وجهان أوجههما كما جرى عليه ابن المقري التحريم وهو على خلقة الناس قاله القاضي أبو الطيب وغيره وقال الجوهري وهو جنس من الخلق يثب على رجل واحدة
وقال المسعودي له عين واحدة يخرج من الماء ويتكلم ومتى ظفر بالإنسان قتله يوجد في جزائر الصين ينقر كما ينقر الطير وفي المحكم أنه سبع من أخبث السباع
تنبيه قد يفهم كلامه أن الحية التي لا تعيش إلا في الماء حلال لكن صرح الماوردي بتحريمها هي وغيرها من ذوات السموم البحرية
قال المصنف في مجموعه قلت الصحيح المعتمد أن جميع ما في البحر تحل ميتته إلا الضفدع ويحمل ما ذكره الأصحاب أو بعضهم من السلحفاة والحية والنسناس على غير ما في البحر اه
ويوافقه قول الشامل بعد نقله نصوص الحل
قال أصحابنا أو بعضهم يحل جميع ما فيه إلا الضفدع للنهي عن قتله اه
والنهي هو ما صح عن ابن عمر أنه قال لا تقتلوا الضفادع فإن نعيقها تسبيح وقال بعض الفقهاء إنما حرم لأنه كان جار الله في الماء الذي كان عليه العرش قبل خلق السموات والأرض وظاهر كما قال شيخنا أنه على هذا تستثنى ذوات السموم أيضا
قال ابن قاسم ومما عمت به البلوى أكل الدنيلس في مصر والسرطان في الشام اه
أما السرطان فقد تقدم الكلام فيه وأما الدنيلس فعن ابن عبد السلام وعلماء عصره أنه يحل أكله وهذا هو الظاهر لأنه من طعام البحر ولا يعيش إلا فيه وعن ابن عبد السلام أنه أفتى بتحريمه
قال الزركشي وهو الظاهر لأنه أصل السرطان لتولده منه وقال الدميري لم يأت على تحريمه دليل وما نقل عن ابن عبد السلام لم يصح فقد نص الشافعي على أن حيوان البحر الذي لا يعيش إلا فيه يؤكل لعموم الآية والاخبار
( وحيوان البر يحل منه الأنعام ) وهي الإبل والبقر والغنم وإن اختلفت أنواعها لقوله تعالى { أحلت لكم بهيمة الأنعام } والخيل ولا واحد له من لفظه كقوم وقيل مفرده خائل لا فرق في ذلك بين العربية وغيرها عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل وفيهما عن أسماء رضى الله عنها قالت نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلناه ونحن بالمدينة
وأما خبر خالد في النهي عن أكل لحوم الخيل فقال الإمام أحمد وغيره منكر وقال أبو داود منسوخ والاستدلال على التحريم بقوله تعالى { لتركبوها } لخبر الصحيحين عن جابر نهى رسول الله
____________________
(4/298)
صلى الله عليه وسلم يوم خيبر { وزينة } ولم يذكر الأكل مع أنه في سياق الامتنان مردود كما ذكره البيهقي وغيره فإن الآية مكية بالاتفاق ولحوم الحمر إنما حرمت يوم خيبر سنة سبع بالاتفاق فدل على أنه لم يفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة في الآية تحريما لا للحمر ولا لغيرها فإنها لو دلت على تحريم الخيل دلت على تحريم الحمر وهم لم يمنعوا منها بل امتدت الحال إلى يوم خيبر فحرمت وأيضا الاقتصار على ركوبها والتزين بها لا يدل على نفي الزائد عليهما وإنما خصهما بالذكر لأنهما معظم المقصود من الخيل كقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } لأنه معظم مقصوده وقد أجمعوا على تحريم شحمه ودمه وسائر أجزائه
( وبقر وحش ) وهو أشبه شيء بالمعز الأهلية وقرونها صلاب جدا تمنع بها عن نفسها ( وحماره ) أي الوحش لأنهما من الطيبات ولما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال في الثاني كلوا من لحمه وأكل منه
وقيس به الأول ولا فرق في حمار الوحش بين أن يستأنس أو يبقى على توحشه كما أنه لا فرق في تحريم الأهلي بين الحالين ( وظبي ) وظبية بالإجماع ( وضبع ) بضم الموحدة بخطه ويجوز سكونها اسم للأنثى لأنه صلى الله عليه وسلم قال يحل أكله رواه الترمذي وقال حسن صحيح
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه وما زال الناس يأكلونها بين الصفا والمروة من غير نكير ولأن نابها ضعيف لا تتقوى ولا تعيش به وهو من أحمق الحيوان لأنه يتناوم حتى يصاد
قال الدميري ومن عجيب أمرها أنها تحيض وتكون سنة ذكرا وسنة أنثى ويقال للذكر ضبعان ( وضب ) لأنه أكل على مائدته صلى الله عليه وسلم بحضرته ولم يأكل منه فقيل له أحرام هو قال لا ولكنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه رواه الشيخان وخبر النهي عنه إن صح محمول على التنزيه وهو حيوان للذكر منه ذكران وللأنثى فرجان لا تسقط أسنانه إلى أن يموت ( وأرنب ) بالتنوين بخطه وفي بعض الشروح بلا تنوين لمنع صرفه وهو واحد الأرانب وحيوان شبه العناق قصير اليدين طويل الرجلين عكس الزرافة يطأ الأرض على مؤخر قدميه لأنه بعث بوركها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبله وأكل منه رواه البخاري ولم يبلغ أبا حنيفة ذلك فحرمها محتجا بأنها تحيض كالضبع وهي محرمة عنده أيضا ( وثعلب ) بمثلثة أوله لأنه لا يتقوى بنابه ولأنه من الطيبات وكنيته أبو الحصين والأنثى ثعلبة وكنيتها أم هويل ( ويربوع ) لأن العرب تستطيبه ونابه ضعيف وأوجب فيه عمر رضي الله عنه على المحرم إذا قتله جفرة وهو حيوان يشبه الفأر قصير اليد طويل الرجلين أبيض البطن أغبر الظهر بطرف ذنبه شعرات ووقع للدميري في شرحه قصير اليدين والرجلين ( وفنك ) بفتح الفاء والنون لأن العرب تستطيبه وهو حيوان يؤخذ من جلده الفرو للينه وخفته ( وسمور ) بفتح المهملة وضم الميم المشددة وهو حيوان يشبه السنور لأن العرب تستطيب ذلك وهما نوعان من ثعالب الترك
تتمة يحل أيضا القنفذ بالذال المعجمة والوبر بإسكان الموحدة دويبة أصغر من الهر كحلاء العين لا ذنب لها والدلدل وهو بإسكان اللام بين الدالين المهملتين المضمومتين دابة قدر السخلة ذات شوك طوال يشبه السهام وفي الصحاح أنه عظيم القنافذ وابن عرس وهو دويبة رقيقة تعادي الفأر تدخل جحره وتخرجه وجمعه بنات عرس والحواصل جمع حوصلة ويقال له حوصل وهو طائر أبيض أكبر من الكركي ذو حوصلة عظيمة يتخذ منها فرو ويكثر بمصر ويعرف بها بالبجع
والفاقم بضم القاف الثانية دويبة يتخذ جلدها فروا وذلك لأن ما ذكر من الطيبات
( ويحرم بغل ) للنهي عن أكله في خبر أبي داود بإسناد على شرط مسلم ولتولده بين حلال وحرام فإنه متولد بين فرس وحمار أهلي فإن كان الذكر فرسا كان شديد الشبه بالحمار أو حمارا كان الذكر شديد الشبه بالفرس فإن تولد بين فرس وحمار وحشي أو بين فرس وبقر حل بلا خلاف ( وحمار أهلي ) وإن توحش للنهي عنه في خبر الصحيحين
____________________
(4/299)
وكنيته أبو زياد وكنية الأنثى أم محمود ( وكل ذي ) أي صاحب ( ناب من السباع ) وهو كما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه ما يعدو على الحيوان ويتقوى بنابه ( و ) ذي ( مخلب ) بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة أي ظفر ( من الطير ) للنهي عن الأول في خبر الصحيحين وعن الثاني في خبر مسلم فذو الناب ( كأسد ) وذكر له ابن خالويه خمسمائة اسم وزاد علي بن جعفر عليه مائة اسم وثلاثين اسما ( ونمر ) بفتح النون وكسر الميم وبإسكان الميم مع ضم النون وكسرها حيوان معروف أخبث من الأسد سمي بذلك لتنمره واختلاف لون جسده يقال تنمر فلان أي تنكر وتغير لأنه لا يوجد غالبا إلا غضبان معجب بنفسه ذو قهر وسطوات عتيدة ووثبات شديدة إذا شبع نام ثلاثة أيام ورائحة فيه طيبة ( وذئب ) بالهمز وعدمه حيوان معروف يلتحم عند السفاد كالكلب وهو موصوف بالانفراد والوحدة وكنيته أبو جعدة والأنثى ذيبة ومن طبعه أنه لا يعود إلى فريسة شبع منها وينام بإحدى عينيه والأخرى يقظى حتى تكتفي العين النائمة من النوم ثم يفتحها وينام بالأخرى ليحترس باليقظى ويستريح بالنائمة وفيه حاسة للشم يشم الشيء من فرسخ وإذا جاء الشتاء دخل وكره ولا يخرج منه حتى يطيب الهواء فإذا جاع مص أصابع يديه ورجليه فيندفع عنه بذلك الجوع ويخرج أسمن ما كان ويسفد الذكر الأنثى مضطجعة على الأرض وتضع جروها قطعة لحم غير مميز الجوارح فلا تزال تلحسه حتى تتميز أعضاؤه
( ودب ) بضم الدال المهملة وكنيته أبو حيد والأنثى دبة ( وفيل ) وجمعه فيلة وأفيال وكنيته أبو العباس والفيل المذكور في القرآن كنيته أبو العباس واسمه محمود والذكر ينزو إذا تم له خمس سنين وتحمل الأنثى لسنتين وهو صاحب حقد ولسانه مقلوب ولولا ذلك لتكلم ويخاف من الهرة خوفا شديدا وفيه من الفهم ما يقبل به التأديب والتعليم ويمر كثيرا والهند تعظمه لما اشتمل عليه من الخصال المحمودة ( وقرد ) وجمه قردة وقرود وهو حيوان قبيح مليح ذكي سريع الفهم تلد الأنثى في البطن الواحد العشرة والاثني عشر وهو يشبه الإنسان في غالب حالاته فإنه يضحك ويضرب ويتناول الشيء بيده ويأنس بالناس والذكر شديد الغيرة على الإناث ومن ذي الناب الكلب والخنزير والفهد بفتح الفاء وكسرها مع كسر الهاء وإسكانها والببر بباءين موحدتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة وهو ضرب من السباع يعادي الأسد من العدو لا من المعاداة ويقال له الفرانق بضم الفاء وكسر النون شبيه بابن آوى ( و ) ذي المخلب نحو ( باز ) من أشد الحيوان وأضيقه خلقا وهو مذكر ويقال في التثنية بازان وفي الجمع بزاة ( وشاهين ) هو فارسي معرب ( وصقر ونسر ) بفتح النون ويقال بتثليثها ( وعقاب ) وكنيته أبو الحجاج
تنبيه دخل في ذلك جميع جوارح الطير لاستخبائها خلافا ل مالك حيث قال يكره وجعل المصنف الصقر قسما للبازي والشاهين وأنكره في تحرير التنبيه لأنه لا يقال للبزاة والشواهين وغيرها صقور
وأجاب بأنه من ذكر الخاص بعد العام ويجاب عنه هنا بما أجاب
ويستثنى من المخلب الضبع والثعلب واليربوع
( وكذا ابن آوى ) بالمد بعد الهمز وهو فوق الثعلب ودون الكلب طويل المخالب فيه شبه من الذئب وشبه من النعث وسمي بذلك لأنه يأوي إلى عواء أبناء جنسه ولا يعوي إلا ليلا إذا استوحش وبقي وحده وصياحه يشبه صياح الصبيان ( وهرة وحش ) يحرمان ( في الأصح )
أما ابن آوى فلأنه مستخبث وله ناب يعدو به ويأكل الميتة ووجه حله أن نابه ضعيف وأما الهرة فلأنها تعدو بنابها فتشبه الأسد ووجه حلها أنها حيوان ينقسم إلى أهلي ووحشي فيحل الوحش منه ويحرم الأهلي كالحمار
واحترز بالوحشية عن الأهلية فإنها حرام أيضا على الصحيح ففي الحديث أنها سبع وقيل تحل لضعف نابها
تنبيه قال الدميري لو قال المصنف وهرة وحذف لفظ وحش لكان أشمل وأخصر انتهى
وقد يتعذر عنه باختلاف التصحيح كما علم من التقرير وإن أوهم كلامه الجزم بحرمتها
وأما ابن مقرض وهو بضم الميم وكسر الراء
____________________
(4/300)
وبكسر الميم وفتح الراء الدلق بفتح اللام فلا يحرم لأن العرب تستطيبه ونابه ضعيف وهذا ما جرى عليه ابن المقري وهو مقتضى كلام الرافعي والذي نقله في أصل الروضة عن تصحيح الأكثرين وما صححه المصنف في مجموعه من تحريمه لأنه ذو ناب غلطه فيه الإسنوي وغيره وهو دويبة أكهل اللون طويل الظهر أصغر من الفأر يقتل الحمام ويقرض الثياب
وأما النمس الذي يأوي الخراب من الدور ونحوها فهو نوع من القردة فيحرم لأنه يفترس الدجاج فهو كابن آوى
( ويحرم ) أكل ( ما ندب قتله ) لإيذائه ( كحية ) ويقال للذكر والأنثى ( وعقرب ) اسم للأنثى ويقال للذكر عقربان بضم العين والراء ( وغراب أبقع ) وهو الذي فيه سواد وبياض وتقييد المصنف به يوهم حل غيره وسيأتي الكلام عليه ( وحدأة ) بوزن عنبة ( وفأرة ) بالهمز وكنيتها أم خراب وجمعها فأر بالهمز ( وكل سبع ) بضم الباء ( ضار ) بالتخفيف أي عاد والبرغوث بضم الباء والزنبور بضم الزاي والبق والقمل لخبر الصحيحين خمس تقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور وفي رواية لمسلم والغراب الأبقع والحية بدل العقرب وفي رواية لأبي داود والترمذي ذكر السبع العادي مع الخمس وقيس بهن الباقي لإيذائها ولأن الأمر بقتل ما ذكر إسقاط لحرمته ومنع من اقتنائه ولو أكل لجاز اقتناؤه واستثنى من عموم تحريم ما أمر بقتله البهيمة المأكولة اللحم إذا وطئها الآدمي فإنه يحل أكلها على الأصح كما ذكر في باب الزنا مع الأمر بقتلها
تنبيه احترز بالضاري عن نحو الضبع والثعلب مما نابه ضعيف فهذه المذكورات إنما ندب قتلها لإيذائها كما مر إذ لا نفع فيها وما فيه نفع ومضرة لا يستحب قتله لنفعه ولا يكره لضرره ويكره قتل من لا ينفع ولا يضر كالخنافس جمع خنفساء بضم الفاء أفصح من فتحها والجعلان بكسر الجيم ويقال له أبو جعران وهو دويبة معروفة تسمى الزعقوق تعض البهائم في فرجها فتهرب وهي أكبر من الخنفساء شديدة السواد في بطنها لون حمرة للذكر قرنان والرخم والكلب غير العقور الذي لا منفعة فيه مباحة
( وكذا رخمة ) وهي طائر يشبه النسر في الخلفة وكنيتها أمم قيس لخبث غذائها ( وبغاثة ) بتثليث الموحدة وبالمعجمة والمثلثة لأنها كالحدأة وهو طائر أبيض بطيء الطيران أصغر من الحدأة له مخلب ضعيف
تنبيه يحرم أيضا النهاس بسين مهملة طائر صغير ينهس اللحم بطرف منقاره وأصل النهس أكل اللحم بطرف الأسنان وأما النهش بالمعجمة فهو الأكل بجميعها فتحرم الطيور التي تنهس كالسباع التي تنهش لاستخبائها
( والأصح حل غراب زرع ) وهو أسود صغير يقال له الزاغ وقد يكون محمر المنقار والرجلين لأنه مستطاب يأكل الزرع فأشبه الفواخت والثاني نظر إلى أنه غراب
وأما ما عدا الأبقع وغراب الزرع فأنواع أحدها العقعق ويقال له القعقع وهو ذو لونين أبيض وأسود طويل الذنب قصير الجناح عيناه يشبهان الزئبق صوته العقعقة كانت العرب تتشاءم بصوته
ثانيها الغداف الكبير ويسمى الغراب الجبلي لأنه لا يسكن إلا الجبال فهذان حرامان لخبثهما ثالثها الغداف الصغير وهو أسود رمادي اللون وهذا قد اختلف فيه فقيل يحرم كما صححه في أصل الروضة وجرى عليه ابن المقري للأمر بقتل الغراب في خبر مسلم وقيل بحله كما هو قضية كلام الرافعي وهو الظاهر وقد صرح بحله البغوي و الجرجاني و الروياني وعلله بأنه يأكل الزرع واعتمده الإسنوي و البلقيني
( و ) الأصح ( تحريم ببغا ) بفتح الموحدتين وتشديد الثانية ومنهم من يسكنها وبغين معجمة وبالقصر طائر أخضر
وهو المعروف بالدرة بضم الدال المهملة وتشديد الراء المفتوحة له قوة على حكاية الأصوات وقبول التلقين
قال ابن مطرف ولا يعرف لها اسم ذكر من لفظها ( و ) يحرم ( طاووس ) وهو طائر في طبعه العفة وحب الزهو بنفسه والخيلاء والإعجاب بريشه وهو مع حسنه يتشاءم به ووجه تحريمه وما قبله خبثهما
والثاني يمنع ذلك
____________________
(4/301)
تتمة يحرم أيضا ملاعب ظله هو طائر يسبح في الجو مرارا كأنه ينصب على طائر والضبوع وهو بضاد معجمة مضمومة يقع على الذكر والأنثى يقول في صياحه صدا أو قياد فيختص بالذكر وكنية الأنثى أم الحراب وأم الصبيان ويقال لها غراب الليل وتحريم هذه الثلاثة لاستخباثها
( وتحل نعامة ) بالإجماع ولأن الصحابة رضي الله عنهم قضوا فيها إذا قتلها المحرم ببدنة وكنيتها أم البيض وليست بطائر عند المتكلمين في طبائع الحيوان ولو كانت تبيض ولها جناح وريش ( و ) يحل ( كركي ) قطعا وما أوهمه كلام العبادي من جريان الخلاف فيه شاذ وهو طائر كبير معروف كنيته أبو نعيم وفي طبعه التحارس بالنوبة في الليل وإذا كبر أبواه عالهما ولا يمشي على الأرض إلا بإحدى رجليه ويعلق الأخرى وإذا وضعهما وضعهما وضعا خفيفا مخافة أن تخسف الأرض به ( و ) يحل طير الماء وهو أنواع منها ( بط ) بفتح أوله ( وأوز ) بكسر أوله وفتح ثانيه لأنهما من الطيبات
تنبيه عطفه على البط يقتضي تغايرهما وفسر الجوهري وغيره الإوز بالبط
وقال الدميري في شرحه البط هو الإوز الذي لا يطير
تنبيه جميع طيور الماء حلال لأنها من الطيبات إلا اللقلق وهو طير طويل العنق يأكل الخبائث ويصف فلا يحل لاستخباثه
وروي كل ما رف ودع ما صف
( و ) يحل ( دجاج ) بالإجماع وهو بتثليث أوله والفتح أفصح يقع على الذكر والأنثى والواحدة دجاجة وليست الهاء للتأنيث وحله بالإجماع سواء إنسيه ووحشيه ولأنه صلى الله عليه وسلم أكله رواه الشيخان
( و ) يحل ( حمام ) بسائر أنواعه لأنه من الطيبات ويقع على الذكر والأنثى الواحدة حمامة وليست الهاء فيها للتأنيث ( وهو ) عند الجوهري نقلا عن العرب ذوات الأطواق كالفواخت والمقاري وعند المصنف ك الشافعي نقلا عن الأزهري ( وكل ما عب ) أي شرب الماء من غير تنفس بأن شرب جرعة بعد جرعة من غير مص ( وهدر ) أي رجع الصوت
تنبيه جمع بينهما تبعا للمحرر
وقال في الروضة في جراء الصيد أنه لا حاجة إلى وصفه بالهدير مع العب فإنهما متلازمان ولهذا اقتصر الشافعي رضي الله عنه على العب ويحل الورشان وهو بفتح الواو والراء ذكر القمري وقيل طائر متولد بين الفاختة والحمامة ويحل القطا جمع قطاة وهو طائر معروف والحجل بالفتح جمع حجلة وهو طائر على قدر الحمام كالقطا أحمر المنقار والرجلين ويسمى دجاج البر وهذه الثلاثة قال في الروضة أنها أدرجت في الحمام
( و ) يحل كل ( ما على شكل عصفور ) بضم أوله بخطه وحكي فتحها سمي بذلك لأنه عصى وفر وكنيته أبو يعقوب والأنثى عصفورة لأنه من الطيبات ( وإن اختلف لونه ونوعه كعندليب ) بفتح العين والدال المهملتين وبينهما نون وآخره موحدة بعد تحتانية وهو الهزار ( وصعوة ) بفتح الصاد وسكون العين المهملتين صغار العصافير المحمرة الرأس ( وزرزور ) وهو بضم الزاي طائر من نوع العصفور سمي بذلك لزرزرته أي تصويته ونغر بضم النون وفتح المعجمة عصفور صغير أحمر الأنف
وبلبل بضم الباءين
وكذا الحمرة بضم الحاء المهملة وتشديد الميم المفتوحة
قال الرافعي ويقال إن أهل المدينة يسمون البلبل النغرة والحمرة
( ولا ) يحل ما نهي عن قتله وهو أمور منها ( خطاف ) بضم الخاء وتشديد الطاء وجمعه خطاطيف ويسمى زوار الهند ويعرف عند الناس بعصفور الجنة لأنه زهد فيما في أيديهم من الأقوات
قال الدميري ومن عجيب أمره أن عينه تقلع فتعود ولا يفرخ في عش عتيق حتى يطينه بطين جديد
وأما الخفاش ويقال له الوطواط فقطع الشيخان بتحريمه مع جزمهما في محرمات الإحرام بوجوب قيمته إذا قتله المحرم أو في الحرم مع تصريحهما بأن ما لا يؤكل لا يجب ضمانه والمعتمد ما هنا
وظاهر كلامهما أن الخطاف والخفاش متغايران واعترضا بأن الخفاش والخطاف واحد وهو الوطواط كما قاله أهل اللغة وأجيب بأن كلاهما ليس باعتبار اللغة بل باعتبار العرف ففي تهذيب الأسماء واللغات أن الخطاف عرفا
____________________
(4/302)
وهو طائر أسود الظهر أبيض البطن يأوي البيوت في الربيع وأما الوطواط وهو الخفاش فهو طائر صغير لا ريش له يشبه الفأرة يطير بين المغرب والعشاء ولهذا أفردهما الفقهاء بالذكر وإن أطلق اللغويون اسم أحدهما على الآخر
ومنها هدهد وصرد وهو بالحروف المهملة طائر فوق العصفور يصيد العصافير ( ونمل ) وكنيته أبو مشغول والواحدة نملة وكنيتها أم مارن سميت نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قوائمها
قال الخطابي إن النهي الوارد في قتل النمل المراد به النمل السليماني وهو الكبير
أما الصغير ففي الاستقصاء نقلا عن إيضاح الصيمري أنه لا يحرم قتله لأنه مؤذ وذكره البغوي أيضا ووافق عليه في المجموع ( ونحل ) وهو ذباب العسل والواحدة نملة ( وذباب ) بضم أوله المعجم وكنيته أبو جعفر وهو أجهل الخلق لأنه يلقي نفسه في الهلكة وضرب الله به المثل في القرآن وهو أصناف كثيرة ( و ) لا تحل ( حشرات ) بفتح الشين المعجمة صغار دواب الأرض وصغار هوامها الواحدة حشرة بالتحريك ( كخنفساء ) بضم الخاء وفتح ثالثه أشهر من ضمه وبالمد وكنيتها أم الفسو وهي أنواع منها بنات وردان وحمار قبان والصرصار وتحرم ذوات السموم والإبر والوزغ بأنواعها لاستخباثها ولأنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها ووقع في الرافعي أنه نهى عن قتلها ونسب لسبق القلم
ويحرم سام أبرص وهو كبار الوزغ والعضاه
وهي بالعين المهملة والضاد المعجمة دويبة أكثر من الوزغ واللحكا بضم اللام وفتح الحاء المهملة دويبة كأنها سمكة ملساء مشربة بحمرة توجد في الرمل فإذا أحست بالإنسان دارت بالرمل وغاصت فيه ( ودود ) جمع دودة وجمع الجمع ديدان وهو أنواع كثيرة تدخل فيها الأرضة ودود القز والدود الأخضر يوجد على شجر الصنوبر ودود الفاكهة وتقدم حل أكل دود الخل والفاكهة معه
تنبيه استثنى من الحشرات القنفذ وأم حبين بمهملة مضمومة وموحدة مفتوحة ونون في آخره والوبر والضب واليربوع ومرت الإشارة إلى بعض ذلك
( وكذا ) لا يحل ( ما تولد من مأكول وغيره ) كمتولد بين كلب وشاة إذا تحققنا ذلك بأن رأينا كلبا نزا على شاة فولدت سخلة تشبه الكلب فلو لم نر ذلك وولدت سخلة تشبه الكلب
قال البغوي لا تحرم لأنه قد يحصل الخلق على خلاف صورة الأصل وعن القاضي حسين نحوه ومن المتولد بين مأكول وغيره السبع بكسر السين المهملة فإنه متولد بين الذئب والضبع فيه شدة الضبع وجراءة الذئب أسرع من الريح عدوا كثير الوثبات والبغل لتولده بين فرس وحمار أهلي كما مر والزرافة وهي بفتح الزاي وضمها كما حكاهما الجوهري وقال بعضهم الضم من لحن العوام وبتحريمها جزم صاحب التنبيه
وقال المصنف في المجموع أنه لا خلاف فيه ومنع ابن الرفعة التحريم وحكي أن البغوي أفتى بحلها واختاره السبكي وحكاه عن فتاوى القاضي وتتمة التتمة
وقال الأذرعي وهو الصواب نقلا ودليلا ومنقول اللغة أنها متولدة بين مأكولين من الوحش واقتضى كلام ابن كج نسبته للنص
وقال الزركشي ما في المجموع سهو وصوابه العكس اه
وهذا الخلاف يرجع فيه إلى الوجود إن ثبت أنها متولدة بين مأكولين فما يقوله هؤلاء ظاهر
لكن ظاهر كلام الشيخ في التنبيه أنها مما يتقوى بنابه واعترض بأنها لا تتقوى بنابها وإن الشيخ لم يرها وظن أنها تتقوى به كسائر السباع
وقيل إن الذي في التنبيه الزراقة بالقاف وهو حيوان يتقوى بنابه غير الذي يسمى الزرافة
قال السبكي وهذا ليس بشيء
( وما ) أي والحيوان الذي ( لا نص فيه ) من كتاب أو سنة أو إجماع لا خاص ولا عام بتحريم ولا تحليل ولا ورد فيه أمر بقتله ولا بعدمه ( إن استطابه أهل يسار ) أي ثروة وخصب ( و ) أهل ( طباع سليمة من ) أكثر ( العرب ) سكان بلاد أو قرى ( في حال رفاهية حل وإن استخبثوه فلا ) يحل لأن الله تعالى أناط الحل بالطيب والتحريم بالخبيث وعلم بالعقل أنه لم يرد ما يستطيبه ويستخبثه كل العالم لاستحالة اجتماعهم على ذلك عادة لاختلاف طبائعهم فتعين أن يكون المراد بعضهم والعرب بذلك أولى لأنهم أولى الأمم إذ هم المخاطبون أولا ولأن الدين عربي
وخرج
____________________
(4/303)
بأهل اليسار المحتاجون وبسليمة أجلاف البوادي الذين يأكلون ما دب ودرج ممن غير تمييز فلا عبرة بهم وبحال الرفاهية حال الضرورة فلا عبرة بها
تنبيه قضية كلام المصنف أنه لا بد من أخبار جمع منهم والظاهر كما قال الزركشي الاكتفاء بخبر عدلين ويرجع في كل زمان إلى العرب الموجودين فيه فإن استطابته فحلال أو استخبثته فحرام والمراد به ما لم يسبق فيه كلام العرب الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم فمن بعدهم فإن ذلك قد عرف حاله واستقر أمره فإن اختلفوا في استطابته اتبع الأكثر فإن استووا فقريش لأنهم قطب العرب فإن اختلفت ولا ترجيح أو شكوا أو لم نجدهم ولا غيرهم من العرب اعتبرنا أقرب الحيوان شبها به صورة أو طبعا أو طعما فإن استوى الشبهان أو لم يوجد ما يشبهه فحلال لآية { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما } ولا يعتمد فيه شرع من قبلنا لأنه ليس شرعا لنا فاعتماد ظاهر الآية المقتضية للحل أولى من استصحاب الشرائع السالفة واندفع بما قرت به كلام المصنف اعتراض البلقيني فإنه قال إن أراد نص كتاب أو سنة لم يستقم فقد حكم بحل الثعلب وتحريم الببغا والطاووس وليس فيها نص كتاب ولا سنة أو قول عالم فقول العالم ليس دليلا يعتمد وإن أريد نص كتاب أو سنة أو نص الشافعي أو أحد من أصحابه فهو بعيد لأن هذا لا يطلق عليه نص في اصطلاح الأصوليين
( وإن جهل اسم حيوان سئلوا ) أي العرب عن ذلك الحيوان ( وعمل بتسميتهم ) له مما هو حلال أو حرام لأن المرجع في ذلك إلى الاسم وهم أهل اللسان ( وإن لم يكن له اسم عندهم اعتبر بالأشبه ) به من الحيوان في الصورة أو الطبع أو الطعم في اللحم فإن تساوى الشبهان أو فقد ما يشبهه حل على الأصح في الروضة والمجموع
ولما فرغ المصنف من حكم الحيوان الحرام أخذ من حكم المكروه منه فقال ( وإذا ظهر تغير لحم جلالة ) من نعم أو غيره كدجاج ولو يسيرا ( حرم أكله ) أي اللحم كما في المحرر وبه قال الإمام أحمد لأنها صارت من الخبائث وقد صح النهي عن أكلها وشرب لبنها وركوبها كما قاله أبو داود وغيره وهي بفتح الجيم وتشديد اللام ويقال الجالة التي تأكل الجلة بفتح الجيم وهي العذرة والبعر وغيرهما من النجاسات والحكم منوط كما قال المصنف بالتغير على الأصح وقيل إن كان أكثر علفها النجاسة ثبت وإلا فلا وهو ظاهر كلام المصنف في التحرير وجزم به في تصحيح التنبيه وإطلاقه هنا التعبير يشمل الأوصاف الثلاثة وقيداه في الشرح والروضة بالرائحة
قال الزركشي تبعا للأذرعي والظاهر أنه ليس بقيد فإن تغير الطعم أشد ( وقيل يكره ) لنتن لحمها ( قلت الأصح يكره ) كما نقله الرافعي في الشرح عن إيراد أكثرهم ( والله أعلم ) لأن النهي إنما هو لتغير اللحم وهو لا يوجب التحريم كما لو نتن اللحم المذكى وتروح فإنه يكره أكله على الصحيح
تنبيه قد يفهم تقييد المصنف باللحم أن غيره ليس كذلك وليس مرادا بل لا فرق بين لحمها ولبنها وبيضها في النجاسة والطهارة والتحريم والتحليل وفاقا وخلافا بل قال البلقيني ينبغي تعدي الحكم إلى شعرها وصوفها المنفصل في حياتها
وقال الزركشي الظاهر إلحاق ولدها بها إذا ذكيت ووجد في بطنها ميتا اه
ويكره ركوبها بلا حائل
( فإن علفت ) علفا ( طاهرا ) أو متنجسا كشعير أصابه ماء نجس أو نجس العين كما هو ظاهر كلام التنبيه ( فطاب ) لحمها بزوال رائحته ( حل ) ما ذكر وإن علفت دون أربعين يوما اعتبارا بالمعنى
وأما خبر حتى تعلف أربعين يوما والتقييد بالعلف الطاهر فجرى على الغالب وخرج بعلفت ما لو غسلت هي أو لحمها بعد ذبحها أو طبخ لحمها فزال التغير فإن الكراهة لا تزول وكذا بمرور الزمان كما قاله البغوي وقال غيره تزول قال الأذرعي وهذا ما جزم به المروزي تبعا للقاضي
وقال شيخنا وهو نظير طهارة الماء المتغير بالنجاسة إذا زال التغير بذلك قال البلقيني وهذا في مرور الزمان على اللحم فلو مر على الجلالة أيام من غير أن تأكل طاهرا أي أو غيره كما مر حلت وإنما ذكر العلف بطاهر لأن الغالب أن الحيوان لا بد له من علف ووافقه الزركشي على ذلك
____________________
(4/304)
تنبيه قول المصنف حل المراد زوال التحريم على الأول والكراهة على الثاني فلو قال لم يكره لكان أولى إذ الحل يجامع الكراهة إلا أن يريد حلا مستوي الطرفين
فروع لو ربى سخلة بلبن كلبة أو خنزيرة كانت كالجلالة ولو غذى شاة نحو عشر سنين بمال حرام قال ابن عبد السلام لم يحرم عليه أكلها ولا على غيره لأن الأعيان لا توصف بحل ولا حرمة
وقال الغزالي ترك الأكل من شاة علفت بعلف مغصوب من الورع ولا يحرم ترك الورع ولا تكره الثمار التي سقيت بالمياه النجسة ولا حب زرع نبت في نجاسة كزبل كما في المجموع عن الأصحاب إذ لا يظهر في ذلك أثرها وقضية ما قال الزركشي أنه متى ظهر التغير فيها كرهت ولا يكره بيض سلق بماء نجس ولو نتن اللحم أو البيض لم ينجس
قال في المجموع قطعا ويحل أكل النقانق والشوى والهرائس كما قاله ابن عبد السلام وإن كان لا يخلو من الدم غالبا
فائدة قيل إن الكلب إذا عض حيوانا وذبح من أكل منه كلب ولهذا قال بعضهم لا يحل أكله
( ولو تنجس ) مائع ( طاهر كخل ) ودهن ( ودبس ذائب ) بمعجمة ( حرم ) تناوله لحديث الفأرة المار في باب النجاسة وكذا جامد تعذر تطهيره كالذي لاقى الفأرة من السمن الجامد أو أمكن ولم يطهر كما يؤخذ من إطلاق المتنجس ويجوز أن يعلف المتنجس دابته ولو وقع في قدر طبيخ جزء من لحم آدمي ميت
قال الغزالي لم يحل منه شيء لحرمة الآدمي وخالفه في المجموع
وقال المختار الحل لأنه صار مستهلكا فيه ولو تحقق إصابة روث الفئران القمح عند درسه فمعفو عنه ويسن غسل الفم من أكله كما في المجموع ومرت الإشارة إلى ذلك في كتاب الطهارة ( وما كسب ) أي المكسوب ( بمخامرة نجس كحجامة وكنس ) لنجس كزبل ( مكروه ) للحر تناوله ولو اكتسبه رقيق ( ويسن أن لا يأكله ) أو ( يطعمه رقيقه ) ولا يكره للرقيق وإن كسبه حر ( و ) يعلفه ( ناضحه ) وهو البعير وغيره يسقى عليه الماء وحكم سائر الدواب كذلك وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن كسب الحجام فنهى عنه وقال أطعمه رقيقك وأعلفه ناضحك رواه ابن حبان وصححه الترمذي وحسنه والفرق من جهة المعنى شرف الحر ودناءة غيره وصرف النهي عن الحرمة خبر الشيخين عن ابن عباس احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجرته ولو كان حراما لم يعطه لأنه حيث حرم الأخذ حرم الإعطاء لأنه إعانة على معصية كأجرة الندب والنياحة إلا عند الضرورة كأن أعطى الشاعر لئلا يهجوه أو الظالم لئلا يمنعه حقه أو لئلا يأخذ منه أكثر مما أعطاه فإن الإثم على الأخذ دون المعطى
فإن قيل يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم إنما أعطاه ذلك ليطعمه رقيقه وناضحه
أجيب بأنه لو كان ذلك لبينه له صلى الله عليه وسلم وقيس بالحجامة غيرها من كل ما تحصل به مخامرة النجاسة
تنبيه قوله أن لا يأكله يفهم جواز أن يشتري به ملبوسا أو نحوه ولا كراهة في ذلك والظاهر كما قاله الأذرعي التعميم بوجوه الإنفاق حتى التصدق به
وقال في الذخائر إذا كان في يده حلال وحرام أو شبهة والكل لا يفضل عن حاجته
قال بعض العلماء يخص نفسه بالحلال فإن التبعة عليه في نفسه آكد لأنه يعلمه والعيال لا تعلمه ثم قال إن الذي يجيء على المذهب أنه وأهله سواء في القوت والملبس دون سائر المؤن من أجرة حمام وقصارة ثوب وعمارة منزل وفحم تنور وشراء حطب ودهن سراج وغيرها من المؤن
ولو غلب الحرام في يد السلطان قال الغزالي حرمت عطيته وأنكر عليه في المجموع وقال مشهور المذهب الكراهة لا التحريم مع أنه في شرح مسلم جرى على ما قاله الغزالي ولو كانت الصنعة دنيئة بلا مخامرة نجاسة كفصد وحياكة لم تكره إذ ليس فيها مخامرة نجاسة وهي العلة الصحيحة لكراهة ما مر عند الجمهور وقيل العلة دناءة الحرفة ورجحه البلقيني قال في الروضة وكره جماعة كسب الصواغ
قال الرافعي لأنهم كثيرا ما يخلفون الوعد ويقعون في الربا لبيعهم المصوغ بأكثر من
____________________
(4/305)
وزنه وقيل لا يكره ورجحه الإسنوي وقد علم مما قررت به كلام المصنف أن ما في كلامه مصدرية لا موصولة إذ لو كانت موصولة لكان المعنى أن المكسوب بذلك مكروه ونفس المكسوب لا يوصف بكراهة ولا غيرها إنما تتعلق الكراهة بالكسب
فروع أفضل ما أكلت منه كسبك من زراعة لأنها أقرب إلى التوكل ولخبر لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة ثم من صناعة لأن الكسب فيها يحصل بكد اليمين ثم من تجارة لأن الصحابة كانوا يكتسبون بها ويحرم تناول ما يضر البدن أو العقل كالحجر والتراب والزجاج والسم بتثليث السين والفتح أفصح كالأفيون وهو لبن الخشخاش لأن ذلك مضر وربما يقتل وقد قال تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } لكن قليله يحل تناوله للتداوي به إن غلبت السلامة واحتيج إليه كما في أصل الروضة ويحل أكل كل طاهر لا ضرر فيه لآية { قل من حرم زينة الله } إلا جلد ميتة دبغ فلا يحل أكله لعموم قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } أما جلد المذكاة فيحل أكله وإن دبغ وإلا ما استقذر كالمخاط والمني لاستقذاره وإلا الحيوان الحي غير السمك والجراد كما علم مما مر في باب الصيد وفي حل أكل بيض ما لا يؤكل خلاف
قال في المجموع وإذا قلنا بطهارته أي وهو الراجح حل أكله بلا خلاف لأنه طاهر غير مستقذر بخلاف المني ومال البلقيني إلى المنع ويحرم النبات المسكر وإن لم يطرب لإضراره بالعقل ولا حد فيه إن لم يطرب بخلاف ما إذا أطرب كما صرح به الماوردي ويجوز التداوي به عند فقد غيره مما يقوم مقامه وإن أسكر للضرورة وما لا يسكر إلا مع غيره يحل أكله وحده
( ويحل جنين وجد ميتا ) أو عيشه عيش مذبوح سواء أشعر أم لا ( في بطن مذكاة ) بالمعجمة سواء كانت ذكاتها بذبحها أو إرسال سهم أو كلب عليها لحديث ذكاة الجنين ذكاة أمه رواه الترمذي وحسنه وابن حبان وصححه أي ذكاتها التي أحلتها أحلته تبعا لها ولأنه جزء من أجزائها وذكاتها ذكاة لجميع أجزائها ولأنه لو لم يحل بذكاة أمه لحرم ذكاتها مع ظهور الحمل كما لا تقتل الحامل قودا
أما إذا خرج وبه حياة مستقرة فلا يحل بذكاة أمه ولا بد أن يسكن عقب ذبح أمه ولو اضطرب في البطن بعد ذبح أمه زمانا طويلا ثم سكن لم يحل كما قاله الشيخ أبو محمد في الفروق وأقراه وإن خالف في ذلك البغوي و المروزي وقالا بالحل مطلقا
قال الأذرعي والظاهر أن مراد الأصحاب إذا مات بذكاة أمه فلو مات قبل ذكاتها كان ميتة لا محالة لأن ذكاة الأم لم تؤثر فيه والحديث يشير إليه اه
وعلى هذا لو خرج رأسه ميتا ثم ذبحت أمه قبل انفصاله لم يحل وإن خالف في ذلك البغوي
وقال البلقيني محل الحل ما إذا لم يوجد سبب يحال عليه موته فلو ضرب حاملا على بطنها وكان الجنين متحركا فسكن حتى ذبحت أمه فوجد ميتا لم يحل ولو خرج رأسه وفيه حياة مسستقرة لم يجب ذبحه حتى يخرج لأن خروج بعضه كعدم خروجه في العدة وغيرها فيحل إذا مات عقب خروجه بذكاة أمه وإن صار بخروج رأسه مقدورا عليه وشرط حله أن يخرج مضغة مخلقة فإن كان علقة لم يؤكل لأنه دم ولو لم تتخطط المضغة لم تحل بناء على عدم وجوب الغرة فيها وعدم ثبوت الاستيلاد يعني لو كانت من آدمي ولو كان للمذكاة عضو أشل حل كسائر أجزائها ( ومن خاف ) من عدم الأكل ( على نفسه موتا أو مرضا مخوفا ) أو زيادته أو طول مدته أو انقطاعه عن رفقته أو خوف ضعف عن مشي أو ركوب ولم يجد حلالا يأكله ويسمى هذا الخائف مضطرا ( ووجد محرما ) كميتة ولحم خنزير وطعام الغير ( لزمه أكله ) لأن تاركه ساع في هلاك نفسه وكما يجب دفع الهلاك بأكل الحلال
وقد قال تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } قال الزركشي وينبغي أن يكون خوف حصول الشين الفاحش في عضو ظاهر كخوف طول المرض كما في التيمم ولا يشترط مما يخاف منه تحقق وقوعه لو لم يأكل بل يكفي في ذلك الظن كما في الإكراه على أكل ذلك فلا يشترط فيه التيقن ولا الإشراف على الموت بل لو انتهى إلى هذه الحالة لم يحل له أكله فإنه غير مفيد كما صرح به في أصل الروضة
____________________
(4/306)
تنبيه لو اضطرت امرأة إلى طعام وامتنع المالك من بذله إلا بوطئها زنا قال المحب الطبري لم أر فيه نقلا والذي ظهر أنه لا يجوز لها تمكينه بخلاف إباحة الميتة فإن المضطر فيها إلى نفس المحرم وتندفع به الضرورة وهذا الاضطرار ليس إلى المحرم وإنما جعل المحرم وسيلة إليه وقد لا تنتفع به الضرورة إذ قد يصر على المنع بعد وطئها
( وقيل ) لا يلزم المضطر أكل المحرم بل ( يجوز ) تركه وأكله كما يجوز له الاستسلام للصائل وأجاب الأول بأن الاستسلام للصائل يؤثر مهجة غيره على مهجته طلبا للشهادة وهنا بخلافه ويستثنى من ذلك علم العاصي بسفره فلا يباح له الأكل حتى يتوب
قال الأذرعي ويشبه أن يكون العاصي بإقامته كالمسافر إذا كان الأكل عونا له على الإقامة
وقولهم تباح الميتة للمقيم العاصي بإقامته محمول على غير هذه الصورة
قال البلقيني وكالعاصي بسفره مراق الدم كالمرتد والحربي فلا يأكلان من ذلك حتى يسلما
قال وكذا مراق الدم من المسلمين وهو متمكن من إسقاط القتل بالتوبة كتارك الصلاة ومن قتل في قطع الطريق قال ولم أر من تعرض له وهو متعين
تنبيه أفهم إطلاق المصنف المحرم أنه يتخير بين أنواعه كميتة شاة وحمار لكن لو كانت الميتة من حيوان نجس في حياته كخنزير وميتة حيوان طاهر في حياته كحمار وجب تقديم ميتة الطاهر كما صححه في المجموع
قال في المهمات وهذا التفصيل الذي صححه ليس وجها ثابتا فضلا عن تصحيحه اه
واعترض بأنه وجه ثابت وجزم به في الحاوي
( فإن توقع ) مضطر ( حلالا قريبا ) أي على قرب ( لم يجز ) قطعا ( غير سد الرمق ) لاندفاع الضرورة به وقد يجد بعده الحلال ولقوله تعالى { غير متجانف لإثم } قيل أراد به الشبع
قال الإسنوي ومن تبعه والرمق بقية الروح كما قاله جماعة وقال بعضهم إنه القوة وبذلك ظهر لك أن الشد المذكور بالشين المعجمة لا بالمهملة
قال الأذرعي وغيره الذي نحفظه أنه بالمهملة وهو كذلك في الكتب أي والمعنى عليه صحيح لأن المراد سد الخلل الحاصل في ذلك سبب الجوع ( وإلا ) بأن لم يتوقع حلالا قريبا ( ففي قول يشبع ) أي يجوز له ذلك لإطلاق الآية ولأن له تناول قليله فجاز له الشبع لمذكى وليس المراد بالشبع أن يملأ جوفه حتى لا يجد للطعام مساغا فإن هذا حرام قطعا صرح به القاضي أبو الطيب و البندنيجي وغيرهما بل المراد كما قاله الإمام أن يأكل حتى يكسر سورة الجوع بحيث لا يطلق عليه اسم جائع ( والأظهر ) لا يشبع بل يجب ( سد الرمق ) فقط في الأصح لأنه بعده غير مضطر فلا يباح لانتفاء الشرط ( إلا أن يخاف تلفا ) أو حدوث مرض أو زيادته ( إن اقتصر ) على سد الرمق فتباح له الزيادة بل تلزمه لئلا يهلك نفسه
تنبيه يجوز له التزود من المحرمات ولو رجا الوصول إلى الحلال ويبدأ وجوبا بلقمة حلال ظفر بها فلا يجوز له أن يأكل مما ذكر حتى يأكلها لتتحقق الضرورة وإذا وجد الحلال بعد تناوله الميتة ونحوها لزمه القيء أي إذا لم يضره كما هو قضية نص الأم فإنه قال وإن أكره رجل حتى شرب خمرا أو أكل محرما فعليه أن يتقايأ إذا قدر عليه ولو عم الحرام جاز استعمال ما يحتاج إليه ولا يقتصر على الضرورة
قال الإمام بل على الحاجة
قال ابن عبد السلام هذا إن توقع معرفة المستحق إذ المال عند اليأس منها للمصالح العامة
( وله ) أي للمضطر ( أكل آدمي ميت ) إذا لم يجد ميتة غيره كما قيداه في الشرح والروضة لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت ويستثنى من ذلك ما إذا كان الميت نبيا فإنه لا يجوز الأكل منه جزما كما قاله إبراهيم المروزي وأقره وما إذا كان الميت مسلما والمضطر كافرا فإنه لا يجوز له الأكل منه لشرف الإسلام بل لنا وجه أنه لا يجوز أكل الميت المسلم ولو كان المضطر مسلما
تنبيه حيث جوزنا أكل ميتة الآدمي المحترم لا يجوز طبخها ولا شيها لما فيه من هتك حرمته ويتخير في غيره بين أكله نيئا ومطبوخا ومشويا
( و ) له ( قتل مرتد ) وأكله ( و ) قتل ( حربي ) بالغ وأكله لأنهما غير
____________________
(4/307)
معصومين وله قتل الزاني المحصن والمحارب وتارك الصلاة ومن له عليه قصاص وإن لم يأذن الإمام في القتل لأن قتلهم مستحق وإنما اعتبر إذنه في غير حال الضرورة تأدبا معه وحال الضرورة ليس فيها رعاية أدب ( لا ) قتل ( ذمي ومستأمن ) معاهد ( وصبي حربي ) وحربية لحرمة قتلهم ( قلت الأصح حل قتل الصبي والمرأة الحربيين للأكل والله أعلم ) لأنهما ليسا بمعصومين ومنع قتلهما في غير الضرورة لا لحرمتهما بل لحق الغانمين ولهذا لا يتعلق بقتلهما الكفارة
تنبيه حكم مجانين أهل الحرب وأرقائهم وخناثاهم كصبيانهم
قال ابن عبد السلام ولو وجد المضطر صبيا مع بالغ حربيين أكل البالغ وكف عن الصبي لما في أكله من إضاعة المال ولأن الكفر الحقيقي أبلغ من الكفر الحكمي وقضيته إيجاب ذلك فلتستثن هذه الصورة من إطلاقهم جواز قتل الصبي الحربي للأكل وكذا يقال فيما شبه بالصبي
قال البلقيني ومحل الإباحة إذا لم نستول على الصبي والمرأة أي ونحوهما وإلا صاروا أرقاء معصومين لا يجوز قتلهم قطعا لحق الغانمين
( ولو وجد ) مضطر ( طعام غائب ) ولو غير محرز ولم يجد غيره ( أكل ) منه إبقاء لمهجته ( وغرم ) بدل ما أكله من قيمة في المتقوم ومثل في المثلى لحق الغائب سواء قدر على البدل أم كان عاجزا عنه لأن الذمم تقوم مقام الأعيان
نعم تعتبر قيمة المثلى بالمفازة كما ذكروه في الماء نبه عليه الزركشي بالنسبة للممتنع ومال الصبي والمجنون إذا كان وليهما غائبا حكمه حكم مال الغائب وإن كان حاضرا فهو في مالهما كالكامل
تنبيه في وجوب الأكل والقدر المأكول الخلاف الساق واستثنى البلقيني ما إذا كان الغائب مضطرا يحضر عن قرب فليس له أكله
( أو ) طعام ( حاضر مضطر ) إليه ( لم يلزمه بذله ) بمعجمة لغيره ( إن لم يفضل عنه ) بل هو أحق به لحديث ابدأ بنفسك وإبقاء لمهجته
نعم إن كان غير المالك نبيا وجب على المالك بذله له وإن لم يطلبه ويتصور هذا في زمن عيسى عليه السلام أو الخضر على القول بحياته ونبوته ولو كان في يد مضطر ميتة كان أحق بها من مضطر آخر كسائر المباحات خلافا لما في فتاوى القاضي من أن اليد لا تثبت عليها فلا يكون أحق بها
تنبيه هل المراد بما يفضل عنه عن سد الرمق أو الشبع الظاهر كما قال الزركشي الأول حفظا للمهجتين ولو وجد مضطرين ومعه ما يكفي أحدهما وتساويا في الضرورة والقرابة والصلاح
قال الشيخ عز الدين احتمل أن يتخير بينهما واحتمل أن يقسمه عليهما اه
والثاني أوجه فإن كان أحدهما أولى كوالد وقريب أو وليا لله تعالى أو إماما مقسطا قدم الفاضل على المفضول ولو تساويا ومعه رغيف مثلا لو أطعمه لأحدهما عاش يوما وإن قسمه بينهما عاشا نصف يوم
قال الشيخ عز الدين المختار قسمته بينهما ولا يجوز التخصيص
( فإن آثر ) بالمد على نفسه في هذه الحالة مضطرا ( مسلما ) معصوما ( جاز ) بل يسن وإن كان أولى به كما في الروضة لقوله تعالى ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) وهو من شيم الصالحين
وخرج بالمسلم الكافر والبهيمة وبالمعصوم مراق الدم فيجب عليه أن يقدم نفسه على هؤلاء ( أو ) وجد طعام حاضر ( غير مضطر ) له ( لزمه ) أي غير المضطر ( إطعام مضطر ) معصوم ( مسلم أو ذمي ) أو نحوه كمعاهد ولو كان يحتاج إليه في ثاني الحال على الأصح للضرورة الناجزة بخلاف غير المعصوم كالحربي
تنبيه يجب إطعام البهيمة المحترمة وإن كانت ملكا لغير صاحب الطعام بخلاف غير المحترمة كالكلب العقور ولو كان للإنسان كلب مباح المنفعة جائع وشاة لزمه ذبح الشاة لإطعام الكلب ويحل أكلها للآدمي لأنها ذبحت للأكل ويجب على المضطر أن يستأذن مالك الطعام أو وليه في أخذه
( فإن امتنع ) وهو أو وليه غير مضطر في الحال من بذله بعوض لمضطر محترم ( فله ) أي المضطر ( قهره ) على أخذه وإن احتاج إليه المانع في المستقبل ( وإن
____________________
(4/308)
قتله ) ولا يجب قتاله كالصائل بل أولى أي إذا كان صاحب الطعام مسلما كما هو في المقيس عليه قاله الأذرعي ولأن عقل المالك أو وليه ودينه يبعثانه على الإطعام
وهو واجب عليه فجاز أن يجعل الأمر موكولا إليه وإنما يجوز قتاله على ما يدفع ضرره به وهو ما يسد الرمق إلا أن يخشى الهلاك لأن الضرورة تتقدر بقدرها ولا يقتص منه للممتنع إن قتله ولا تؤخذ له دية ويقتص له إن قتله الممتنع لأنه لم يتعد بخلاف الممتنع فإن عجز عن أخذه منه ومات جوعا فلا ضمان على الممتنع إذا لم يحدث منه فعل مهلك لكنه يأثم
تنبيه قضية كلام المصنف جواز قهر الذمي للمسلم وإن قتله وليس مرادا ولذا قال الشارح إلا إن كان مسلما والمضطر غير مسلم أي فلا يجوز له قهره ولا قتله فإن قتله فعليه ضمانه لأن الكافر لا يسلط على ميتة المسلم فالحي أولى وقد قال تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } ولا يختص ما ذكره المصنف بإطعام بل لو خاف على نفسه من حر أو برد لزمه أخذ الثوب من مالكه إن لم يكن مضطرا مثله كما في التهذيب
( وإنما يلزمه ) أي المالك أو وليه إطعام المضطر ( بعوض ناجز إن حضر ) ذلك العوض ( وإلا ) بأن لم يحضر العوض ( فبنسيئة ) ولا يلزمه البدل مجانا ولا بدون ثمن المثل على الصحيح لأن الضرر لا يزال بالضرر
تنبيه ظاهر كلامه أنه يجب عليه أن يبيعه له نسيئة عند عدم حضور ماله وليس مرادا بل يجوز له أن يبيعه بثمن حال غير أنه لا يطالبه به في حال إعساره وفائدة الحلول جواز المطالبة عند القدرة ولا يلزمه أن يشتريه بأكثر من ثمن مثله بل ينبغي أن يحتال في أخذه منه ببيع فاسد لئلا يلزمه أكثر من قيمته كأن يقول له ابذله بعوض فإن اشتراه منه بأكثر من ثمن مثله ولو بأكثر مما يتغابن به لزمه ذلك وإن غبن في شرائه أو كان عاجزا عن أخذه منه وقهره لأنه مختار في الالتزام فكان كما لو اشتراه بثمن مثل فإن بذله له هبة لزمه قبوله أو بثمن المثل في مكانه وزمانه أو بزيادة يتغابن بمثلها ومعه ثمنه أو رضي بذمته لزمه شراؤه حتى بإزاره وصلى عاريا إلا إن خشي التلف بالبرد
( فلو أطعمه ) أي المضطر ( ولم يذكر عوضا ) بل سكت عنه ( فالأصح لا عوض ) حملا على المسامحة المعتادة في الطعام خصوصا في حق المضطر
والثاني عليه العوض لأنه خلصه من الهلاك
تنبيه محل الخلاف إذا لم يصرح المالك بالإباحة
قال البلقيني وكذا لو ظهرت قرينة إباحة أو تصدق فلا عوض قطعا وعلى الأول لو اختلفا في التزام عوض الطعام فقال أطعمتك بعوض فقال بل مجانا صدق المالك بيمينه لأنه أعرف بكيفية بذله
ولا أجرة لمن خلص مشرفا على الهلاك بوقوعه في ماء أو نار أو نحوه بل يلزمه تخليصه بلا أجرة لضيق الوقت عن تقدير الأجرة فإن اتسع الوقت لتقديرها لم يجب تخليصه إلا بأجرة
فإن قيل قد مر أنه لا يجب بذل الطعام للمضطر مجانا فهل يفرق فيه بين ضيق فلا يجب كما هنا أو لا يجب عليه إلا بعوض مطلقا خلاف نقل صاحب الشامل عن الأصحاب الأول
وقال الأذرعي إنه الوجه
والذي قاله القاضي أبو الطيب وغيره واختصر عليه الأصفوني و الحجازي كلام الروضة الثاني وهو الظاهر والفرق أن في إطعام المضطر بذل مال فلا يكلف بذله بلا مقابل بخلاف تخليص المشرف على الهلاك ولو أوجر المالك المضطر قهرا أو أوجره وهو مغمى عليه لزمه البذل لأنه غير متبرع بل يلزمه إطعامه إبقاء لمهجته ولما فيه من التحريض على مثل ذلك
فإن قيل قد مر في المتن أنه لو أطعمه ولم يذكر عوضا أنه لا عوض فيكون هنا كذلك كما قاله القاضي وغيره
أجيب بأن هذه حالة ضرورة فرغب فيها
( ولو وجد مضطر ميتة وطعام غيره ) الغائب ( أو ) وجد مضطر ( محرم ميتة وصيدا ) مأكولا غير مذبوح ولم يجد حلالا يذبحه ( فالمذهب ) يجب ( أكلها ) أما في الأولى فلأن إباحة الميتة للمضطر بالنص وإباحة مال الغير بالاجتهاد والنص أقوى ولأن حق الله تعالى أوسع
وأما في الثانية فلأن فيها تحريم ذبح الصيد وتحريم أكله وفي الميتة تحريم واحد وما خف تحريمه أولى
والثاني يأكل الطعام والصيد
والثالث التخيير بين الاثنين في المسألتين
____________________
(4/309)
لأن الأول نجس لا ضمان فيه
والثاني ظاهر فيه الضمان والخلاف في الأولى أوجه
ويقال أقوال
وفي الثانية قولان
والثالث قول أو وجه
وفيها طريق قاطع بالأول بناء على أن ما يذبحه المحرم من الصيد ميتة أما إذا كان مالك الطعام حاضرا وامتنع من البيع أصلا أو إلا بأكثر مما يتغابن به فإنه يجب عليه أكل الميتة في الأولى
ويجوز له في الثانية وسن له الشراء بالزيادة إن قدر عليه
تنبيه مثل الميتة في ذلك صيد الحرم كما في الكفاية فإن ذبح المحرم الصيد أو الحلال صيد الحرم وصار ميتة فيتخير المضطر بينه وبين الميتة لأن كلا منهما ميتة ولا مرجح ولا قيمة للحمه كسائر الميتات
وفي الصيد وطعام الغير وجوه أحدها وهو الظاهر يتعين الصيد لبناء حق الله تعالى على المسامحة
ثانيها يتعين الطعام
ثالثها يتخير بينهما وإن وجد المريض طعاما له أو لغيره يضره ولو بزيادة في مرضه فله أكل الميتة دونه ويجوز للمضطر شرب البول عند فقد الماء النجس لا عند وجوده لأن الماء النجس أخف منه لأن نجاسته طارئة
( والأصح ) حيث لم يجد المضطر شيئا يأكله ( تحريم قطع بعضه ) جزء من فخذه ( لأكله ) بفتح الهمزة وسكون الكاف لأنه قد يتولد منه الهلاك ( قلت ) أخذا من الرافعي في الشرح ( الأصح جوازه ) لأنه إتلاف بعضه لاستبقاء كله فأشبه قطع اليد بسبب الأكلة ( وشرطه ) أي الجواز أمران أحدهما ( فقد الميتة ونحوها ) مما مر ( و ) الأمر الثاني ( أن يكون الخوف في قطعه أقل ) من الخوف في ترك الأكل فإن كان مثله أو أكثر حرم جزما
فإن قيل قد تقدم في قطع السلعة الجواز عند تساوي الخطرين فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن السلعة لحم زائد على البدن وفي قطعها إزالة الشين وتوقع الشفاء ودوام البقاء فهو من باب المداواة بخلاف هذا فإن فيه إفسادا وتغييرا لبنيته
وليس من باب المداواة
ولهذا قيد البلقيني محل القطع هنا بما إذا لم يكن ذلك المقطوع يجوز قطعه في غير الإضرار فإن كان كالسلعة واليد المتأكلة حيث جاز قطعها فيجوز ذلك في حال الإضرار قطعا ويحرم جزما على شخص ( قطعه ) أي بعض نفسه ( لغيره ) من المضطرين لأن قطعه لغيره ليس فيه قطع البعض لاستيفاء الكل
تنبيه هذا إذا لم يكن ذلك الغير نبيا وإلا لم يحرم بل يجب
( و ) يحرم على مضطر أيضا أن يقطع لنفسه قطعة ( من ) حيوان ( معصوم
والله أعلم ) لما مر
خاتمة ترك التبسط في الطعام المباح مستحب فإنه ليس من أخلاق السلف هذا إذا لم تدع إليه حاجة كقري الضيف وأوقات التوسعة على العيال كيوم عاشوراء ويومي العيد ولم يقصد بذلك التفاخر والتكاثر بل تطييب خاطر الضيف والعيال وقضاء وطرهم مما يشتهونه
وفي إعطاء النفس شهواتها المباحة مذاهب حكاها الماوردي منعها وقهرها لئلا تطغى إعطاؤها نحيلا على نشاطها وبعثها لروحانيتها
قال والأشبه التوسط بين الأمرين لأن في إعطاء الكل سلاطة عليه وفي منعه بلادة
ويسن الحلو من الأطعمة وكثرة الأيدي على الطعام وإكرام الضيف والحديث الحسن على الأكل ويسن تقليله ويكره ذم الطعام إذا كان الطعام لغيره لما فيه من الإيذاء فإن كان له فلا
وتكره الزيادة على الشبع من الطعام الحلال إذا كان الطعام له أما في طعام مضيفه فإن علم رضاه بذلك فكذلك وإلا فحرام كما مر في الوليمة ويسن أن يأكل من أسفل الصحفة ويكره من أعلاها أو وسطها
وأن يحمد الله عقب الأكل فيقول الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه
وفي البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا كفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا برفعه بالابتداء أو الخبرية وبنصبه للاختصاص أو النداء وبجره بالبدل من الله
وروى أبو داود بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل وشرب قال الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا
____________________
(4/310)
كتاب المسابقة على الخيل ونحوها من السبق بسكون مصدر سبق أي تقدم وبالتحريك المال الموضوع بين أهل السباق ( والمناضلة ) على السهام ونحوها وهو بالضاد المعجمة المراماة وهو بمعنى المغالبة يقال ناضلته فنضلته كغالبته فغلبته وزنا ومعنى وقال الأزهري النضال الرمي والرهان في الخيل والسباق يكون في الخيل والرمي كما في قوله تعالى { إنا ذهبنا نستبق }
قيل معناه ننتضل بالسهام فعلى هذا الترجمة بالمسابقة كاف لشمول الأمرين وعليه اقتصر في التنبيه وهذا الباب لم يسبق الشافعي رضي الله تعالى عنه أحد إلى تصنيفه كما قاله المزني
( هما ) أي كل منهما للرجال المسلمين غير ذوي الأعذار كما صرح به صاحب الاستقصاء في الأعرج يقصد التأهب للجهاد ( سنة ) أي مسنون بالإجماع ولقوله تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } الآية وفسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي رواه مسلم
ولخبر البخاري خرج النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم ينتضلون فقال ارموا بني إسمعيل فإن أباكم كان راميا
ولخبر أنس كانت العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه
ولخبر الترمذي وحسنه وابن حبان وصححه لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل
قال الزركشي وينبغي أن يكونا فرض كفاية لأنهما من وسائل الجهاد وما لا يتوصل إلى الواجب الآية فهو واجب والأمر بالمسابقة يقتضيه قال وقضية كلام المصنف تساويهما في مطلق السنة وينبغي أن تكون المناضلة آكد ففي السنن مرفوعا ارموا أو اركبوا وأن تراموا خير لكم من أن تراكبوا والمعنى فيه أن السهم ينفع في السعة والضيق كمواضع الحصار بخلاف الفرس فإنه لا ينفع في الضيق بل قد يضر
قال في الروضة ويكره لمن علم الرمي تركه كراهة شديدة ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى فإن قصد بذلك غير الجهاد فهو مباح لأن الأعمال بالنيات كما قاله الماوردي
قال الأذرعي فإن قصد بهما محرما كقطع الطريق حرما
أما النساء فصرح الصيمري بمنع ذلك لهن وأقراه
قال الزركشي وغيره ومراده أنه لا يجوز بعوض لا مطلقا فقد روى أبو داود بإسناد صحيح أن عائشة رضي الله تعالى عنها سابقت النبي صلى الله عليه وسلم
( ويحل أخذ عوض عليهما ) بالوجه الآتي لأن فيه ترغيبا للاستعداد للجهاد
وقال الخطابي الرواية الصحيحة في خبر الترمذي المار وهو الأسبق الخ بفتح الباء وهو المال الذي يأخذه السابق ( وتصح المناضلة على سهام ) عربية وهي النبل وعجمية وهي النشاب لعموم الحديث السابق في قوله أو نصل ( وكذا مزاريق ) جمع مزراق وهو الرمح صغير ( ورماح ) هو من عطف العام على الخاص ( ورمي ) بالجر بخطه ( بأحجار ) بمقلاع أو يد ( ومنجنيق ) أي الرمي به
وهو من عطف الخاص على العام عكس المتقدم ( وكل نافع في الحرب ) غير ما ذكر مما يشبهه كالرمي بالمسلات والإبر والتردد بالسيوف والرماح ( على المذهب ) قال البلقيني والذي يظهر امتناع ذلك في الإبرة وجوازه في المسلة إذا كان يحصل برميها النكاية الحاصلة من السهم اه
ومقابل المذهب عدم الصحة فيما ذكر لأنه ليس من آلة الحرب وورد وقطع بالأول وخرج بقوله ورمي بأحجار المداحاة بأن يرمي كل واحد منهما الحجر إلى صاحبه فباطلة قطعا وإشالة الحجر باليد ويسمى العلاج والأكثرون على عدم جواز العقد عليه وأما الثقاف فلا نقل فيه
قال الأذرعي والأشبه جوازه لأنه ينفع في حال المسابقة وقد يمنع خشية الضرر إذ كل يحرص على إصابة صاحبه كاللكام و ( لا ) تصح المسابقة بعوض ( على كرة صولجان )
____________________
(4/311)
والكرة بضم الكاف وتخفيف الراء وتجمع على كرين وهاؤها عوض عن واو جسم محيط به سطح في داخله نقطة والصولجان بصاد مهملة ولام مفتوحتين عصا محنية الرأس وهو فارسي معرب لأن الصاد والجيم لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب وتجمع على صوالجة ( و ) لا على ( بندق ) يرمي به إلى حفرة ونحوها ( و ) لا على ( سباحة ) في الماء ( و ) لا على ( شطرنج ) بكسر وفتح أوله المعجم والمهمل ( و ) لا على ( خاتم ) بكسر التاء وفتحها ويقال أيقا ختام وختام ( و ) لا على ( وقوف على رجل و ) لا على ( معرفة ما في يده ) من شفع ووتر وكذا سائر أنواع اللعب كالمسابقة على الأقدام وبالسفن والزوارق لأن هذه الأمور لا تنفع في الحرب هذا إذا عقد عليها بعوض وإلا فمباح
وأما الرمي بالبندق على قوم فظاهر كلام الروضة كأصلها أنه كذلك لكن المنقول في الحاوي الجواز
قال الزركشي وقضية كلامهم أنه لا خلاف فيه قال وهو أقرب ( وتصح المسابقة ) بعوض وغيره ( على خيل ) للحديث المار لا سبق إلا في خف أو حافر
تنبيه سكت كالمحرر عن الإبل وهي كالخيل لهذا الحديث والعرب تقاتل عليها أشد القتال
قال ابن شهبة وعجب سكوتهما عنها مع قولهما بعد ذلك وسبق إبل بكتف
وفي زيادة الروضة عن الدارمي وجهان في اختصاص الخيل بما يسهم له وهو الجذع أو الثي أو يطرد في الصغير
قال البلقيني الأرجح عندنا جوازها على ما يعتاد المسابقة عليها قال أما غيرها فالمسابقة عليها لا تظهر فروسية ولا يجوز أخذ السبق عليها
( وكذا فيل وبغل وحمار ) تصح المسابقة عليها بعوض وغيره ( في الأظهر ) لعموم الحديث المار قال الإمام ويؤيده العدول عن ذكر الفرس والبعير إلى الخف والحافر ولا فائدة فيه غير قصد التعميم
والثاني قصر الحديث على الإبل والخيل لأنها المقاتل عليها غالبا أما بغيره فيجوز ولا يجوز على الكلاب ومهارشة الديكة ومناطحة الكباش بلا خلاف لا بعوض ولا غيره لأن فعل ذلك سفه ومن فعل قوم لوط الذين أهلكهم الله بذنوبهم و ( لا ) على ( طير ) جمع طائر كراكب وركب ( وصراع ) قال ابن قاسم بكسر الصاد ووهم من ضمها فلا تجوز المسابقة في المسألتين عليها بعوض ( في الأصح ) لأنهما ليسا من آلات القتال
والثاني تجوز أما الطير فللحاجة إليها في الحرب لإنهاء الأخبار
وأما الصراع فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صارع ركانة على شياه رواه أبو داود في مراسيله
وأجاب الأول بأن الحاجة إلى الطير تافهة فلا تقابل بعوض أو بأن الغرض من مصارعة ركانة أن يريه شدته ليسلم بدليل أنه لما صرعه فأسلم رد عليه غنمه فإن كان ذلك بلا عوض جاز جزما وكذا كل ما لا ينفع في الحرب كالشباك والمسابقة على البقر فتجوز بلا عوض وأما الغطس في الماء فإن جرت العادة بالاستعانة به في الحرب فكالسباحة فيجوز بلا عوض وإلا فلا يجوز مطلقا ( والأظهر أن عقدهما ) أي المسابقة والمناضلة ( لازم ) أي لمن التزم العوض أما من لم يلتزم شيئا فجائز في حقه وقد يكون العقد لازما من جانب وجائز من جانب كالرهن والكتابة وإنما قال ( لا جائز ) ليصرح بمقابل الأظهر القائل بأنه كعقد الجعالة لأن العوض مبذول في مقابلة ما لا يوثق به كرد الآبق
تنبيه محل الخلاف إذا كان العقد بعوض منهما بمحل أو من أحدهما أو من غيرهما كما سيأتي وإلا فجائز قطعا وقيل على القولين
قال الأذرعي وزيف اه
ويؤخذ من التعبير بالعقد اعتبار الإيجار والقبول لفظا وعلى لزمه
( فليس لأحدهما ) إذا التزما المال وبينهما محلل ( فسخه ) لأن هذا شأن العقود اللازمة
نعم إن بان بالعوض المعين عيب ثبت حق الفسخ كما في الأجرة ( ولا ترك العمل قبل الشروع ) فيه ( و ) لا ( بعده ) فاضلا كان أو مفضولا كما يشعر به إطلاقه لكن محله في الفاضل إذا أمكن أن يدركه الآخر ويسبقه لأن ذلك ثمرة اللزوم فإن لم يمكن أن يدركه ويسبقه فله تركه لأنه ترك حق نفسه ( ولا زيادة و ) لا ( مقص فيه ) أي العمل ( ولا في مال )
____________________
(4/312)
ملتزم بالعقد إلا أن يفسخا العقد الأول ويستأنفا عقدا جديدا إن وافقهما المحلل وعلى الجواز يجوز جميع ذلك أما إذا كان المال من أحدهما أو من أجنبي فلغيره الفسخ بلا عيب كالمحلل ( وشرط المسابقة ) أي شروطها بين اثنين مثلا عشرة أولها أن يكون المعقود عليه عدة للقتال كما مر ثانيها ( علم الموقف ) الذي يبتدئان الجري منه ( و ) علم ( الغاية ) التي يجريان إليها
تنبيه دخل في إطلاقه الغاية صورتان الأولى أن يكون إما بتعيين الابتداء والانتهاء وإما مسافة يتفقان عليها مروة أو مشهورة
الثانية أن يعينا الابتداء والانتهاء ويقولا إن اتفق السبق عندها فذاك وإلا فغايتنا موضع كذا فيجوز فإن لم يعينا غاية وشرطا المال لمن سبق منهما لم يجز كما جزم به في المحرر
( و ) ثانيهما ( تساويهما فيهما ) أي الموقف والغاية فلو شرط تقدم موقف أحدهما أو تقدم غايته لم يجز لأن المقصود معرفة فروسية الفارسين وجودة جرى الدابة وهو لا يعرف مع تفاوت المسافة لاحتمال أن يكون السبق لقرب المسافة لا لحذق الفارس ولا لفراهة الدابة ( و ) ثالثها ( تعيين الفرسين ) مثلا لأن الغرض معرفة سيرهما وهي تقتضي التعيين ويكفي وصفهما في الذمة كما في أصل الروضة لأن الوصف يقوم مقام التعيين كما في السلم وإن كان ظاهر كلام المصنف أن الوصف لا يكفي وصححه الغزالي
وقال الأذرعي إنه الصحيح ( ويتعينان ) بالتعين فلا يجوز إبدالهما ولا أحدهما لاختلاف الغرض فإن وقع هلاك انفسخ العقد فإن وقع العقد على موصوف في الذمة لم يتعين كما بحثه الرافعي فلا ينفسخ العقد بموت الفرس الموصوف كالأجير غير المعين
تنبيه مراده بالإمكان الغالب فإن أمكن نادرا لم يصح في الأصح وقد علم من هذا الشرط أنه لا تجوز المسابقة بين الخيل والإبل ولا بين الخيل والحمير وهو الأصح
وأما بين البغل والحمار فيجوز على الأصح لتقاربهما ولا يضر اختلافهما في النوع كعتيق وهجين من الخيل ونجيب وبختي من الإبل
وخامسها أن يركبا المركوبين ولا يرسلاهما فلو شرطا إرسالهما ليجريا بأنفسهما لم يصح لأنهما ينفران به ولا يقصدان الغاية بخلاف الطيور إذا جوزنا المسابقة عليها لأن لها هداية إلى قصد الغاية
وسادسها أن يقطع المركوبان المسافة فيعتبر كونهما بحيث يمكنهما قطعها بلا انقطاع وتعب وإلا فالعقد باطل
وسابعها تعين الراكبين فلو شرط كل منهما أن يركب دابته من شاء لم يجز حتى يتعين الراكبان قاله الصيمري
ولا يكفي الوصف في الراكب كما بحثه الزركشي
وثامنها المال كما يؤخذ من قوله ( والعلم بالمال المشروط ) جنسا وقدرا وصفة كسائر الأعواض عينا كان أو دينا حالا أو مؤجلا أو بعضه كذا وبعضه كذا فإن كان معينا كفت رؤيته على الأصح عند المصنف فلا يصح عقد بغير مال ككلب ولا مال مجهول كثوب غير موصوف فإن كان لأحدهما على الآخر مال في ذمته وجعلاه عوضا جاز بناء على جواز الاعتياض عنه وهو الراجح ( ويجوز شرط المال ) أي إخراجه في المسابقة ( من غيرهما ) أي المستابقين ( بأن يقول الإمام أو أحد الرعية ) وأخصر وأشمل من ذلك أو أجنبي ( من سبق منكما فله في بيت المال ) كذا هذا مقول الإمام ويكون ما يخرجه من بيت المال من سهل المصالح كما قاله البلقيني ( أو ) من سبق منكما ( فله علي كذا ) هذا مقول أحد الرعية فهو من باب اللف والنشر المرتب وإنما صح هذا الشرط لما فيه من التحريض على تعلم الفروسية وأعداد أسباب القتال ولأنه بذل مال في طاعة ( أو ) يجوز أيضا شرط المال ( من أحدهما ) فقط ( فيقول إن سبقتني فلك علي
____________________
(4/313)
كذا أو سبقتك فلا شيء عليك ) لانتفاء صورة القمار المحرمة
وتاسعها المحلل إذا كان المال منهما كما يؤخذ من قوله ( فإن شرط ) أي شرط في عقد المسابقة ( أن من سبق منهما فله على الآخر كذا لم يصح ) هذا الشرط ( إلا بمحلل ) بكسر اللام بخطه من أحل جعل الممتنع حلا لأنه يحل العقد ويخرجه عن صورة القمار المحرم ( فرسه كفء لفرسيهما ) يغنم إن سبق ولا يغرم أن سبق فيجوز لخروجه بذلك عن صورة القمار واحترز بقوله كفرسيهما عما لو كان ضعيفا عنهما أو أفره منهما فإنه لا يصح والكفء مثلث الكاف المساوي والنظير
تنبيه لا يشترط أن يكون بين كل اثنين محلل كما يفهمه كلام المصنف بل يكفي المحلل لجماعة وإن كثروا وقوله فرسه مثال فإن كل ما تصح المسابقة عليه كذلك واقتصر على شرط واحد للمحلل ونقل في البحر عن الأصحاب له أربعة هذا وأن يكون فرسه معينا عند العقد كفرسيهما وأن لا يخرج شيئا وأن يأخذ إن سبق فإن شرط أن لا يأخذ لم يخرج وهذا الرابع يؤخذ من كلام المصنف ( فإن سبقهما أخذ المالين ) سواء أجاءا معا أم مرتبا لسبقه لهما ( وإن سبقاه وجاءا معا فلا شيء لأحد ) لعدم سبقه لهما وعدم سبق أحدهما للآخر ( وإن جاء ) المحلل ( مع أحدهما ) أي المتسابقين وتأخر الآخر ( فمال هذا لنفسه ) لأنه لم يسبقه أحد ( ومال المتأخر للمحلل وللذي معه ) على الصحيح المنصوص لأنهما سبقاه ( وقيل ) هو ( للمحلل فقط ) اقتصارا لتحليله على نفسه ( وإن جاء أحدهما ثم المحلل ثم الآخر فمال الآخر للأول في الأصح ) لسبقه الاثنين والثاني له وللمحلل لسبقهما الآخر ولا خلاف أن الأول يجوز ما أخرجه
تنبيه الصور الممكنة في المحلل ثمانية
أن يسبقهما ويجيئان معا أو مرتبا أو يسبقاه ويجيئان معا أو مرتبا أو يتوسط بينهما أو يكون مع أولهما أو ثانيهما أو يجيء الثلاثة معا
ولا يخفى الحكم في الجميع
( وإن تسابق ثلاثة فصاعدا ) وباذل المال غيرهم ( وشرط للثاني ) منهم ( مثل الأول فسد ) العقد لأن كل واحد منهما لا يجتهد في السبق لوثوقه بالمال سبق أو لم يسبق
هذا ما جزم به في المحرر وتبعه المصنف واعتمده البلقيني ولكن الأصح كما في الشرحين والروضة الصحة لأن كلا منهما يجتهد ويسعى أن يكون أولا أو ثانيا فإن شرط للثاني أكثر من الأول أو الكل فسد العقد وأما الفسكل وهو الأخير فلا يجوز أن يساوي من قبله ويجوز أن يشرط له دون ما شرط لمن قبله في الأصح ( و ) إن شرط للثاني منهم ( دونه ) أي أقل من الأول ( يجوز ) بل يستحب ( في الأصح ) لأنه يسعى ويجتهد ليفوز بالأكثر والثاني المنع لأنه يكسل إذا علم أنه يفوز بشيء فيفوت مقصود العقد ويقاس بما ذكر ما لو كانوا أكثر من ثلاثة فلو كانوا عشرة مثلا وشرط لكل واحد سوى الفسكل مثل المشروط لمن تقدمه جاز في الأصح على ما في الروضة وامتع على ما في المتن
وعاشرها اجتناب شرط مفسد فإن قال إن سبقتني فلك هذا الدينار بشرط أن تطعمه أصحابك فسد العقد لأنه تمليك بشرط يمنع كمال التصرف فصار كما لو باعه شيئا بشرط أن لا يبيعه
تنبيه لم يتعرض المصنف هنا ولا في الروضة لأسماء خيل السباق وعدها الرافعي في الشرح عشرة
نظمها بعضهم بقوله وهي مجل ومصل تالي البارع والمرتاج بالتوالي ثم خطي عاطف مؤمل ثم السكيت والأخير الفسكل
____________________
(4/314)
وقال بعض آخر وجملة خيل السبق تسمى بحلية وترتيبها من بعد ذا أنا واصف مجل مصل ثم نال فبارع فمرتاجها ثم الخطي فعاطف مؤملها ثم اللطيم سكيتها والآتي أخيرا فسكل وهو تائف والفسكل بكسر الفاء والكاف ويقال بضمهما ويقال فيهما غير ذلك ومنهم من زاد حادي عشر سماه المفردح والفقهاء قد يطلقونها على ركاب الخيل
ثم شرع فيما يحصل به السبق فقال ( وسبق إبل ) أي ونحوها كفيلة عند إطلاق العقد كما في الروضة ( بكتف ) وعبر فيها كأصلها تبعا للنص والجمهور بكتد بمثناة فوقية وفتحها أشهر من كسرها وهو مجمع الكتفين بين أصل العنق والظهر ويسمى الكاهل قاله الشيخ أبو حامد ونقل البغوي عن الربيع أنه الكتف ولكونه أشهر من الكتد عبر به المصنف وقال الجوهري الكتد هو ما بين الكاهل والظهر وعليه لا يصح التعبير بواحد منهما ( و ) سبق ( خيل ) أي ونحوها كبغال ( بعنق ) فمتى سبق أحدهما الآخر بكتفه أو عنقه أو بعضه عند الغاية هو السابق وإنما اعتبر ذلك لأن الإبل ترفع أعناقها في العدو فلا يمكن اعتبارها والخيل تمدها فاعتبر بها
تنبيه هذا إذا استوى الفرسان في خلقة العنق طولا وقصرا فإن اختلفا وسبق الأقصر عنقا أو الأطول بأكثر من قدر الزيادة فهو السابق وإلا فلا ولو رفعت الخيل أعناقها فقضية التعليل السابق أن الحكم فيها كالإبل وبه صرح الجرجاني و الفوراني وجزم البلقيني وعلى هذا تستثنى هذه الصورة من كلام المصنف
( وقيل ) يعتبر السبق ( بالقوائم فيهما ) أي الإبل والخيل أي ونحوهما لأن العدو بالقوائم وهو الأقيس عند عدم الإمام أما إذا لم يطلقا العقد بل شرطا في السبق إقداما معلومة فإن السبق لم يحصل بما دونها ولو سبق واحد في وسط الميدان والآخر في آخره فهو السابق ولو عثر أحد المركوبين أو وقف لمرض ونحوه فتقدم الآخر لم يكن سابقا أو بلا علة فمسبوق لا إن وقف قبل أن يجري ويسن جعل قصبة في الغاية يأخذها السابق ليظهر سبقه ( ويشترط للمناضلة ) أي لصحتها ( بيان أن الرمي ) فيها ( مبادرة وهي أن يبدر ) أي يسبق ( أحدهما ) أي المتناضلين ( بإصابة العدد المشروط ) مع استوائهما في العدد والرمي كخمسة من عشرين فمن أصابه ناضل لمن أصاب أربعة من عشرين فيستحق المال المشروط في العقد وإن أصاب كل منها خمسة فلا ناضل منهما ( أو ) بيان أن الرمي في المناضلة ( محاطة ) بتشديد الطاء ( وهي أن تقابل إصابتهما ) من عدد معلوم كأن يقول كل منهما نرمي عشرين مثلا ( ويطرح المشترك ) أي ما اشتركا فيه الإصابات ( فمن زاد ) فيها ( بعدد كذا ) كخمس ( فناضل ) للآخر فيستحق المال المشروط في العقد ولو أصاب أحدهما من العشرين خمسة ولم يصب الآخر شيئا
فهل يقال الأول ناضل أو لا إن قيل نعم انتقض حد المحاطة لكونها لا تقابل ولا طرح وإن قيل لا احتيج إلى نقل
وقضية كلامه أنهما لو شرطا النضل بواحدة وطرح المشترك أنه لا يكون من صور المحاطة لأن الواحد ليس بعدد وليس مرادا
تنبيه ما جزم به المصنف من اشتراط التعرض لكون الرمي مبادرة أو محاطة تبع فيه المحرر وهو وجه والأصح كما في أصل الروضة والشرح الصغير أنه لا يشترط التعرض لهما في العقد والإطلاق محمول على المبادرة لأنها الغالب من المناضلة ويشترط ذكر عدد الرمي في عقد محاطة أو مبادرة إلا إذا توافقا على رمية واحدة وشرطا المال لمضيها فيصح في الأصح
( و ) يشترط في الرمي مبادرة أو محاطة ( بيان عدد نوب الرمي ) بين الراميين لينضبط العمل وهي أن المناضلة كالميدان في المسابقة فيجوز أن يشرطا رمي سهم سهم أو أكثر من ذلك ويجوز أن يشرطا تقدم واحد
____________________
(4/315)
بجميع سهامه ولو أطلقا صح وحمل على رمي سهم سهم كذا قالاه
وظاهره أن بيان عد نوب الرمي مستحب وبه صرح الماوردي خلافا لما يوهمه كلام المصنف ولو اتفقا على أن يرميا سهما سهما صح خلافا لما يوهمه كلامه أيضا لما مر من أن الواحد ليس بعدد ( و ) بيان عدد ( الإصابة ) كخمسة من عشرين لأن الاستحقاق بالإصابة وبها يتبين حذق الرامي وجودة رميه
تنبيه يشترط إمكان الإصابة والخطأ فيفسد العقد إن امتنعت الإصابة عادة لصغر الغرض أو كثرة الإصابة المشروطة كعشرة متوالية أو ندرت كإصابة تسعة من عشرة أو تيقنت كإصابة حاذق واحد من مائة
واشتراط بيان عدد الإصابة يقتضي أنه لو قالا نرمي عشرة فمن أصاب أكثر من صاحبه فناضل لا يكفي وجزم الأذرعي بأنه يكفي وهو الظاهر
( و ) بيان ( مسافة ارمي ) وهي ما بين موقف الرامي والغرض لاختلاف الغرض بها وبيانها إما بالذرعان أو المشاهدة
تنبيه محل اشتراط ذلك ما إذا لم يكن هناك عادة غالبة وإلا فينزل المطلق عليها كما هو المرجح في الروضة كأصلها ولو تناضلا على أن يكون السبق لأبعدهما رميا ولم يقصدا غرضا صح العقد على الأصح فيراعى للبعد استواؤهما في شدة القوس ورزانة السهم ويشترط أن يكون الوصول إلى الغرض ممكنا فإن لم يمكن لم يصح العقد وكذا لو كانت الإصابة فيها نادرة على الأرجح قالا وقدر الأصحاب المسافة التي يقرب توقع الإصابة فيها بمائتين وخمسين ذراعا وما يتعذر فيها بما فوق ثلاثمائة وخمسين وما يندر فيها بما بينهما قال الدميري والظاهر أن المراد بالذراع ذراع اليد المعتبر في مسافة الإمام والمأموم
( و ) بيان ( قدر الغرض طولا وعرضا ) وسمكا وارتفاعا من الأرض ( إلا أن يعقد ) بمثناة تحتية بخطه ( بموضع فيه غرض معلوم فيحمل المطلق عليه ) ولا يحتاج لبيان قدر الغرض كما مر في المسافة
تنبيه قوله عليه ينبغي عوده على المسألتين أعني مسافة الرمي وقدر الغرض ليوافق ترجيح الروضة المتقدم والغرض بفتح الغين المعجمة والراء المهملة ما يرمى إليه من خشب أو جلد أو قرطاس والهدف ما يرفع ويوضع عليه الغرض والرقعة عظم ونحوه يجعل وسط الغرض والدارة نقش مستدير كالقمر قبل استكماله قد يجعل بدل الرفعة في وسط الغرض أو الخاتم وهو نقش في وسط الدارة وقد يقال له الحلقة والرقعة
قال الماوردي ويشترط أن يكون محل الإصابة معلوما هل هو الهدف أو الغرض أو الدارة فإن أغفل ذلك كان جميع الغرض محلا للإصابة وإن شرطت الإصابة في الهدف وهو تراب يجمع أو حائط يبني سقط اعتبار الغرض ولزم وصف الهدف في طوله وعرضه الغرض لزمه وصفه أو في الدارة سقط اعتبار الغرض ولزم وصف الدارة اه
ولو شرط إصابة الخاتم ألحق بالنادر
( وليبينا صفة الرمي ) أي كيفيته وإصابة الغرض ( من قرع ) بقاف مفتوحة وراء ساكنة سمي بذلك لقرعه الغرض ( وهو إصابة الشن ) بشين معجمة بعدها نون وهو الغرض الذي تقصد إصابته وأصله الجلد البالي وقيل هو جلدة تلصق على وجه الهدف ( بلا خدش ) له ( أو ) من ( خزق ) بخاء وزاي معجمتين ( وهو أن يثقبه ) أي السهم الشن ( ولا يثبت فيه ) بأن يعود ( أو ) من ( خسق ) بخاء معجمة ثم سين مهملة ( وهو أن يثبت فيه ) ولو مع خروج بعض النصل أو مع وقوعه في ثقب قديم وله قوة بحيث يخرق لو أصاب موضعا صحيحا ( أو ) من ( مرق ) بسكون الراء ( وهو أن ينفذ ) ويخرج من الجانب الآخر
قال ابن شهبة وإنما يتصور ذلك في الشن المعلق اه
وإنما اعتبرت هذه الصفات لأن الأغراض تختلف بها وأهمل المصنف الخرم بالراء المهملة وهو أن يصيب طرف الغرض فيخرمه وكان الأولى أن يقول وليبينا صفة الإصابة كما في المحرر والروضة وأصلها
____________________
(4/316)
فإن ما ذكر صفة لها للرمي فعجب من المصنف فإن الشيخ عبر في التنبيه كما في الكتاب فاعترضه المصنف في التحرير بما ذكرناه
تنبيه ظاهر كلامه تعين هذه الصفات بالشرط وليس مرادا مطلقا بل كل صفة يغنى عنها ما بعدها فالقرع يغني عنه الخزق وما بعده والخزق يغني عنه الخسق وما بعده وهكذا إلى آخرها وما ذكره من المغايرة بين الخزق والخسق خلاف مايقتضيه كلام الجوهري و الأزهري حيث جعلا الخازق بالزاي لغة في الخسق بالسين فهما شيء واحد فلعل ما ذكره الفقهاء هو عرف الرماة
( فإن أطلقا ) العقد كفى و ( اقتضى القرع ) لأنه التعارف ( ويجوز عوض المناضلة من حيث ) أي من الجهة التي ( يجوز ) منها ( عوض المسابقة ) فيخرج عوض المناضلة الإمام من بيت المال أو أحد الرعية أو أحد المتناضلين أو كلاهما فيقول الإمام أو أحد الرعية ارميا كذا فمن أصاب من كذا فله في بيت المال أو علي كذا أو يقول أحدهما نرمي من كذا فإن أصبت أنت منها كذا فلك علي كذا وإن أصبتها أنا فلا شيء لي عليك وأشار بقوله ( وبشرطه ) إلى أن العوض إذا شرطه كل منهما على صاحبه لا يصح إلا بمحلل يكون رميه كرميهما في القوة والعدد المشروط يأخذ ما لهما إن غلبهما ولا يغرم إن غلب ( ولا يشترط ) في المناضلة ( تعيين قوس وسهم ) لأن الاعتماد على الرامي بخلاف المركوب في المسابقة ( فإن عين ) شيء منهما ( لغا ) ذلك المعين ( وجاز إبداله بمثله ) من ذلك النوع سواء أحدث فيه خلل يمنع من استعماله أم لا بخلاف المركوب كما مر واحترز بقوله بمثله عن الانتقال من نوع إلى نوع كالقسي الفارسية والعربية فإنه لا يجوز إلا بالرضا لأنه ربما كان به أرمى ( فإن شرط منع إبداله فسد العقد ) لأنه شرط فاسد يخالف مقتضى العقد فأفسده لما فيه من التضييق على الرامي فإنه قد يعرض له أحوال خفية تحوجه إلى الإبدال
تنبيه لا يشترط تعيين نوع في العقد لأن الاعتماد في المناضلة على الرامي كما مر فإذا أطلقا صح العقد ثم إن تراضيا على نوع فذاك أو نوع من جانب وآخر من جانب جاز في الأصح وإن تنازعا فسخ العقد في الأصح وقيل ينفسخ ولا يتناول عبارة المصنف هذه الصورة لأن التفريع المذكور من أنه لو عين لغا وما بعده لا يستقيم في تعيين النوع وعدم اشتراطه النوع أما اتحاد الجنس فيشترط وإن اختلف كسهام مع رماح لم يصح على الأصح
( والأظهر اشتراط بيان البادىء ) من المتناضلين ( بالرمي ) لاشتراط الترتيب بينهما فيه حذرا من اشتباه المصيب بالمخطىء كما لو رميا معا فإن لم يبيناه فسد العقد
والثاني لا يشترط بيانه ورجحه البلقيني وعليه يقرع بينهما وعلى الأول لو بدأ أحدهما في نوبة له تأخر عن الآخر في الأخرى ولو شرط تقديمه أبدا لم يجز لأن المناضلة مبنية على التساوي والرمي في غير النوبة لاغ ولو جرى باتفاقهما فلا تحسب الزيادة له إن أصاب ولا عليه إن أخطأ ويشترط أيضا كما سبق تساويهما في المواقف فلو شرط كون أحدهما أقرب للغرض فسد العقد ( ولو حضر جمع للمناضلة فانتصب زعيمان ) تثنية زعيم وهو سيد القوم ( يختاران ) قبل عقدهما من ذلك الجمع ( أصحابا ) أي حزبا وكان انتصابهما برضا ذلك الجمع ( جاز ) ويكون كل حزب في الإصابة والخطأ كشخص واحد
قال القاضي الحسين ويشترط كونها أحد الجماعة وللجواز أربعة شروط أحدها أن يكون لكل حزب زعيم فلا يكفي زعيم واحد كما لا يجوز أن يتولى واحد طرفي البيع
الثاني تعيين الأصحاب قبل العقد ويختاران واحدا بواحد وهكذا حتى يتم العدد ولا يجوز أن يختار واحد جميع حزبه أولا لئلا يؤخذ الحذاق
الثالث استواء عدد الحزبين عند العراقيين وبه أجاب البغوي وهو أظهر من قول الإمام لا يشترط التساوي في العدد
بل لو رمى واحد سهمين في مقابلة اثنين جاز الرابع إمكان قسمة السهام عليهم بلا كسر
فإن تحزبوا ثلاثة اشترط أن يكون للسهام ثلث صحيح كالثلاثين وإن تحزبوا أربعة فربع صحيح كالأربعين ويجوز شرط المال من غيرهما ومن أحدهما ومنهما لكن بمحلل وهو حزب ثالث يكافىء
____________________
(4/317)
كل حزب في العدد والرمي كما قاله الماوردي ( ولا يجوز شرط تعيينهما ) أي الأصحاب ( بقرعة ) ولا أن يختار واحد جميع الحزب أولا لأن القرعة أو الذي اختاره قد يجمع الحذاق في جانب وضدهم في الآخر فيفوت مقصود المناضلة ولو تنازع الزعيمان فيمن يختار أولا أقرع بينهما
قال الإمام ولو ضم حاذق إلى غيره في كل جانب وأقرع فلا بأس
قال الرافعي ولو رضيا بمن أخرجته وعقدا عليه فينبغي جوازه اه
وبعد تمييز الأصحاب وتراضي الحزبين يتوكل كل زعيم عن أصحابه في العقد ويعقدان
قال في أصل الروضة ونص في الأم على أنه يشترط أن يعرف كل واحد من يرمي معه بأن يكون حاضرا أو غائبا يعرفه قاله القاضي أبو الطيب وظاهره أنه يكفي معرفة الزعيمين ولا يعتبر أن يعرف الأصحاب بعضهم بعضا وابتداء أحد الحزبين كابتداء أحد الرجلين ولا يجوز أن يشترط أن يتقدم من هذا الحزب فلان ويقابله من الحزب الآخر فلان لأن تدبير كل حزب إلى زعيمه وليس للآخر مشاركته فيه
تنبيه أفهم كلامه أنه لا يشترط في الزعيم معرفة كون الحزب راميا بل تكفي المشاهدة ولهذا قال ( فإن اختار ) زعيم ( غريبا ظنه راميا فبان خلافه ) أي لم يحسن رميا أصلا ( بطل العقد فيه وسقط من الحزب الآخر واحد ) بإزائه ليحصل التساوي كما إذا بطل البيع في بعض المبيع سقط قسطه من الثمن ( وفي بطلان الباقي ) من الحزبين ( قولا ) تفريق ( الصفقة ) أظهرهما تفرق ويصح العقد فيه ( فإن صححنا ) العقد في الباقي وهو الأصح ( فلهم جميعا الخيار ) بين الفسخ والإجازة للتبعيض ( فإن أجازوا ) العقد ( وتنازعوا فيمن ) أي في تعيين من ( يسقط بدله فسد العقد ) لتعذر إمضائه هذا إذا قلنا سقط واحد على الإبهام كما هو ظاهر كلام المصنف ولكن ذكر ابن الصباغ في الشامل والشاشي في الحلية وصاحب الترغيب كما حكاه الأذرعي أنه يسقط الذي عينه الزعيم في مقابلته لأن أحد الزعيمين يختار واحدا ويختار الآخر واحدا في مقابلته
وقال البلقيني إنه متعين لأن الإبطال مع الإبهام مع الاختلاف فيه عذر عظيم اه
وعلى هذا لا فسخ ولا منازعة ويحمل كلام المصنف على ما إذا لم يعلم مقابله أما إذا بان ضعيف الرمي أو قليل الإصابة فلا فسخ ولو بان فوق ما ظنوه فلا فسخ للحزب الآخر ولو اختار مجهولا ظنه غير رام فبان راميا قال الزركشي فالقياس البطلان أيضا
تنبيه لو تناضل غريبا لا يعرف كل منهما الآخر جاز فإن بان غير متكافئين فهل يبطل العقد أو لا وجهان أظهرهما كما جزم به ابن المقري البطلان لتبين فساد الشرط
( وإذا نضل ) أي غلب في المناضلة ( حزب ) من الحزبين الآخر ( قسم المال ) المشروط ( بحسب الإصابة ) لأنهم استحقوا بها فمن لا إصابة له لا شيء له ومن أصاب أخذ بحسب إصابته ( وقيل ) يقسم المال ( بالسوية ) بينهم على عدد رؤوسهم لأنهم كالشخص الواحد كما أن المنضولين يغرمون بالسوية
وهذا هو الصحيح في أصل الروضة
والأشبه في الشرحين وفي المحرر أن الأشبه الأول وتبعه المصنف
قال في المهمات والذي يظهر أن ما وقع في المحرر سبق قلم
تنبيه محل الخلاف في حالة الإطلاق فإن شرطوا أن يقسموا على الإصابة فالشرط متبع ولولا أن الخلاف محقق لأمكن حمل كلام المتن على هذا
( ويشترط في الإصابة المشروطة أن تحصل بالنضل ) لأنه المتعارف لا بالفوق مثلا وهو موضع الوتر من السهم فإن أصاب به حسب عليه لا له
تنبيه النضل بضاد معجمة بخطه وفي الروضة بالمهملة أي بطرف النضل وصوبه بعضهم
ثم شرع في النكبات التي تطرأ عند الرمي وتشوشه والأصل أن السهم متى وقع متباعدا عن الغرض تباعدا مفرطا إما مقصرا عنه
____________________
(4/318)
أو مجاوزا له فإن كان ذلك بسوء الرمي حسب على الرامي ولا يرد إليه السهم ليرمي به وإن كان لنكبة عرضت أو خلل في آلة الرمي بلا تقصير منه لم يحسب عليه ( فلو تلف وتر ) بانقطاعه حال رميه ( أو قوس ) بانكساره حال رميه لا بتقصيره وسوء رميه كما في الروضة ( أو عرض شيء ) كحيوان ( انصدم به السهم وأصاب ) في المسائل الثلاث الغرض ( حسب له ) لأن الإصابة مع ذلك تدل على جودة الرمي وقوته ( وإلا ) بأن لم يصب الغرض في الصور الثلاث ( لم يحسب عليه ) لعذره فيعيد رميه فإن قصر أو أساء رميه حسب عليه
قال في الروضة ولو انكسر السهم نصفين بلا تقصير فأصاب إصابة شديدة بالنصف الذي فيه النصل حسب له لأن اشتداده مع الانكسار يدل على جودة الرمي وغاية الحذق بخلاف إصابته بالنصف الآخر لا يحسب له كما لو لم يكن انكسار وظاهر التقييد بالشديدة أن الضعيفة لا تحسب والأوجه كما قال شيخنا أنها تحسب وإن أصاب بالنصفين حسب ذلك إصابة واحدة كالرمي دفعة بسهمين إذا أصاب بهما ولو أصاب السهم الأرض فاندلق وأصاب الغرض حسب له وإن أخطأ فعليه ولو سقط السهم بالإغراق من الرامي بأن بالغ بالمد حتى دخل النصل مقبض القوس ووقع السهم عنده فانقطاع الوتر وانكسار القوس لأن سوء الرمي أن يصيب غير ما قصده ولم يوجد هنا
( ولو نقلت الريح الغرض ) فيما إذا كان الشرط القرع ( فأصاب ) السهم ( موضعه حسب له ) عن إصابته المشروطة لأن لو كان موضعه لأصابه فإن كان الشرط الخزق فثبت السهم والوضع في صلابة العرض حسب له ( وإلا ) بأن لم يصب موضعه ( فلا يحسب عليه ) إحالة على السبب العارض
قال الشارح وما بعد لا مزيد على المحرر وفي الروضة كأصلها أو أصاب الغرض في الموضع المنتقل إليه حسب عليه لا له ولا يرد على المنهاج اه
دفع بذلك الاعتراض على المنهاج ووجه الاعتراض أنه إذا كان عند إصابة الغرض في الموضع المنتقل إليه يحسب عليه حسب عليه بالأولى إذا لم يصبه ووجه الدفع إما أن يقال إن ما في المنهاج محمول على ما إذا طرأت الريح بعذر منه فنقلت الغرض فلم يحصل منه تقصير والروضة على ما إذا نقلته قبل رميه فنسب إلى تقصير فهما مسألتان أو أنه محمول على ما إذا نقلت الريح الغرض والحال ما ذكر من تلف وتر أو قوس أو عرض شيء انصدم به السهم بخلاف ما في الروضة وهذا أقرب إلى عبارة المصنف ( ولو شرط خسق ) فرمى أحد المتناضلين السهم ( فثقب وثبت ثم سقط أو لقي صلابة فسقط ) ولو بلا ثقب ( حسب له ) لعدم تقصيره فلو خدشه ولم يثقبه فليس بخاسق وكذا إن ثقبه ولم يثبت في الأظهر
خاتمة فيها مسائل منثورة تتعلق بالباب يندب أن يكون عند الغرض شاهدان يشهدان على ما وقع من إصابة وخطأ وليس لهما أن يمدحا المصيب ولا أن يذما المخطىء لأن ذلك يخل بالنشاط وتنفسخ المناضلة بموت الرامي كالأجير المعين وينفسخ عقد المسابقة بموت الفرس لا بموت الفارس لأن التعويل فيها على الفرس ويتولى المسابقة الوارث عنه الخاص وإلا فالعام ويؤخر الرمي في المناضلة للمرض ونحوه ولا تنفسخ بذلك ولو امتنع المنضول من إتمام العمل حبس على ذلك وعزر وكذا الناضل إن توقع صاحبه إدراكه ويمنع أحدهما بعد رمي صاحبه من التباطؤ بالرمي ولا يدهش استعجالا وليس للولي المسابقة أو المناضلة بالصبي بما له وإن استفاد بهما التعلم
نعم إن كان من أولاد المرتزقة وقد راهق فينبغي كما قال الأذرعي الجواز لا سيما إذا كان قد أثبت اسمه في الديوان وكذا في السفيه البالغ لما فيه من المصلحة
ولو عقدا في الصحة ودفعا العوض في مرض الموت فالعوض من رأس المال كالأجرة أو عقدا في المرض بعوض المثل عادة فعوض المثل من رأس المال لأنه ليس تبرعا ولا محاباة فيه وإن زاد على عوض المثل عادة فالزيادة من الثلث لأنها تبرع ولا يجوز بذل مال على حظ الفضل لأنه لا يقابل بمال ولا عقد الشركة في المال المشروط لأجنبين فيما غرم المناضل أو غنم لأن الغرم والغنم في ذلك مسببان عن العمل وهذا
____________________
(4/319)
الأجنبي لا يعمل ولا أن تحسب لأحدهما الإصابة بإصابتين ولا أن يحط من إصابته شيء لأن هذه المعاملة مبنية على التساوي ولو سأل أحدهما وضع المال الملتزم عند عدل والآخر تركه عندهما وهو عين أجيب وإلا فلا وإن اختار كل منهما عدلا اختار الحاكم عدلا قطعا للنزاع
وهل يتعين أحد العدلين أو لا
وجهان أوجههما كما قال شيخنا الثاني ولا أجرة للعدل وإن جرت بها عادة كما في الخياط والغسال
وإن اختلفا في مكان المحلل لزم توسطه فإن تنازع المتسابقان في اليمين واليسار أقرع بينهما ويمنع أحدهما من أذية صاحبه بالتبجح والفخر عليه ولا يجوز شرط حمل أحدهما في يده من النبل أكثر مما في يد الآخر ولكل منهما حث الفرس في السباق بالسوط وتحريك اللجام ولا يجلب عليه بالصياح ليزيد عدوه لخبر لا جلب ولا جنب
قال الرافعي وذكر في معنى الجنب أنهم كانوا يجنبون الفرس حتى إذا قاربوا الأمد تحولوا عن المركوب الذي كره بالركوب إلى الجنيبة فنهوا عنه
كتاب الأيمان بفتح الهمزة جمع يمين
وأصلها في اللغة اليد اليمين وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا يأخذ كل واحد منهم بيمين صاحبه وسمي العضو باليمين لوفور قوته
قال تعالى { لأخذنا منه باليمين } أي بالقوة
ولما كان الحلف يقوي الحنث على الوجود أو العدم سمي يمينا وقيل لأنها تحفظ الشيء على الحالف كما تحفظه اليد
وفي الاصطلاح تحقيق أمر غير ثابت ماضيا كان أو مستقبلا نفيا أو إثباتا ممكنا كحلفه ليدخلن الدار أو ممتنعا كحلفه ليقتلن الميت صادقة كانت أو كاذبة مع العلم بالحال أو الجهل به وخرج بالتحقيق لغو اليمين فليست يمينا كما سيأتي وبغير ثابت الثابت كقوله والله لأموتن أو لا أصعد السماء لتحققه في نفسه فلا معنى لتحقيقه ولأنه لا يتصور فيه الحنث وفارق انعقادها بما لا يتصور فيه البر كحلفه ليقتلن الميت بأن امتناع الحنث لا يخل بتعظيم اسم الله تعالى وامتناع البر يخل به فيحوج إلى التفكير ويكون أيضا للتأكيد والأصل في الباب قبل الإجماع آيات كقوله تعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } الآية وقوله { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } وأخبار منها أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف لا ومقلب القلوب رواه البخاري وقوله والله لأغزون قريشا ثلاث مرات ثم قال في الثالثة إن شاء الله رواه أبو داود واليمين والقسم والإيلاء والحلف ألفاظ مترادفة
تنبيه أهمل المصنف ضابط الحالف استغناء بما سبق منه في الطلاق والإيلاء وهو غير كاف والأضبط أن يقال مكلف مختار قاصد فلا تنعقد يمين الصبي والمجنون ولا المكره ولا يمين اللغو
ثم شرع فيما تنعقد اليمين به فقال ( لا تنعقد إلا بذات الله تعالى أو صفة له ) بأن يحلف بما مفهومه الذات أو الصفة فالذات ( كقوله والله ) يجر أو نصب أو رفع سواء تعمد ذلك أم لا والصفة كقوله ( ورب العالمين ) أي مالك المخلوقات لأن كل مخلوق علامة على وجود خالقه ( والحي الذي لا يموت ومن نفسي بيده ) أي بقدرته يصرفها كيف يشاء ( وكل اسم مختص به سبحانه وتعالى ) غير ما ذكر كالإله ومالك يوم الدين والذي أعبده أو أسجد له لأن الأيمان معقودة بمن عظمت حرمته ولزمت طاعته وإطلاق هذا مختص بالله تعالى فلا تتعد بالمخلوقات كوحق النبي وجبريل والملائكة والكعبة وفي الصحيحين إن الله نهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت والحلف بذلك مكروه وما روى الحاكم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حلف بغير الله فقد كفر وروي فقد أشرك حمل على من اعتقد فيما حلف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى ( ولا يقبل قوله ) في هذا القسم
____________________
(4/320)
( لم أرد به اليمين ) لأنها لا تحمل غيره وما جزم به هنا من صراحة هذه الألفاظ وأنه إن نوى غير اليمين لم يقبل هو المعروف لكن ذكرا عند حروف القسم فيما لو قال والله لأفعلن كذا ونوى غير اليمين أنه يقبل ظاهرا على المذهب وهذا هو المعتمد ويحمل كلامه هنا أنه لا يقبل منه إرادة غير الله تعالى ظاهرا ولا باطنا لأن اليمين بذلك لا تحتمل غيره وإنما قبل منه هنا إرادة غير اليمين بخلاف الطلاق والإيلاء والعتاق لتعلق حق غيره به ولأن العادة جرت بإجراء لفظ اليمين بلا قصد بخلاف هذه الثلاثة فدعواه فيها تخالف الظاهر فلا يقصد فإن كان ثمة قرينة تدل على قصد اليمين لم يصدق ظاهرا
فائدة التورية في الأيمان نافعة والعبرة فيها بنية الحالف إلا إذا استحلفه القاضي بغير الطلاق والعتاق كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الدعاوى وهي وإن كان لا يحنث بها لا يجوز فعلها حيث يبطل بها حق المستحق بالإجماع فمن التورية أن ينوي باللباس الليل وبالفراش والبساط الأرض وبالأوتاد الجبال وبالسقف والبناء السماء وبالآخرة آخرة الإسلام وما ذكرت فلانا أي ما قطعت ذكره وما عرفته ما جعلته عريفا وما سألته حاجة أي شجرة صغيرة وما أكلت له دجاجة أي كبة من غزل ولا فروجة أي دراعة ولا في بيتي فرس أي صغار الإبل ولا حصير أي الملك وما له عندي جارية أي سفينة وما عندي كلب أي مسمار في قائم السيف وكل هذا يجمعه قوله صلى الله عليه وسلم إن في المعاريض لمندوحة من الكذب
وقال عمر رضي الله تعالى عنه في المعاريض ما يغني المسلم عن الكذب
قال ابن عباس رضي الله عنهما ما أحب بمعاريض الكلام حمر الوحش
وقد حكى عبد الرحمن ابن أبي ليلى أنه كان له جارية يطؤها سرا من أهله فوطئها ليلة وأراد أن يغتسل وكره أن يعلم أهله فقال إن مريم بنت عمران عليها السلام كانت تغتسل في مثل هذه الليلة فلم يبق في منزله أحد إلا اغتسل واغتسل هو معهم وكانت مريم تغتسل كل ليلة وكان إبراهيم النخعي قد خط في بيته مسجدا فإذا جاء من لا يريد دخوله عليه قال للجارية قولي هو في المسجد وحضر سفيان الثوري مجلس النهدي فحلف له أنه يعود إليه ثم نهض وترك نعله كالناسي له ثم رجع من ساعته فأخذه وخرج فلم يره بعدها
( وما انصرف إليه سبحانه ) وتعالى ( عند الإطلاق ) ويصرف إلى غيره مقيدا ( كالرحيم والخالق والرازق ) والجبار والمتكبر والقاهر والقادر والحق ( والرب تنعقد به اليمين ) سواء أقصده سبحانه وتعالى أم أطلق لأن الإطلاق ينصرف إليه تعالى
فائدة الألف واللام في هذه الصفات ونحوها ليست للعموم ولا للعهد بل للكمال
قال سيبويه تكون لام التعريف للكمال تقول زيد الرجل تريد الكامل في الرجولية وكذا هي في أسماء الله تعالى فإذا قلت الرحمن أي الكامل في معنى الرحمة والعليم أي الكامل في معنى العلم وكذا تتمة الأسماء
( إلا أن يريد ) الحالف ( غيره ) تعالى فيقبل ولا يكون يمينا لأنه قد يستعمل في حق غيره مقيدا كرحيم القلب وخالق الكذب ورازق الجيش
قال تعالى { وتخلقون إفكا } وقال { فارزقوهم منه } ورب الإبل ( وما استعمل فيه ) تعالى ( وفي غيره ) استعماله ( سواء كالشيء والموجود ) وكالسميع والبصير ( والعالم ) بكسر اللام ( والحي ) والغني والكريم ( ليس بيمين إلا بنية ) لأنها لما استعملت فيه وفي غيره سواء أشبهت كنايات الطلاق فإن نواه تعالى فهو يمين بخلاف ما إذا أراد بها غيره أو أطلق ( والصفة ) الذاتية ( كوعظمة الله ) تعالى ( وعزته وكبريائه وكلامه وعلمه وقدرته ومشيئته يمين ) بشرط أن يأتي بالظاهر بدل المضمر في الستة لأنها صفات لم يزل سبحانه وتعالى موصوفا بها فأشبهت الأسماء المختصة به وهذه الأربعة الأخيرة من الصفات التي جملتها عند الأشاعرة ثمانية مجموعة في قول الناظم حياة وعلم قدرة وإرادة كلام وإبصار وسمع مع البقا
____________________
(4/321)
تنبيه قد علم بما فسر به الصفة أن المراد بالاسم جميع أسماء الله تعالى الحسنى التسعة والتسعين سواء المشتق من صفات ذاته كالسميع والبصير والعالم والقادر والمشتق من صفات الفعل كالخالق والرازق والفرق بين صفتي الذات والفعل أن الأولى ما استحقه في الأزل والثانية ما استحقه فيما لا يزال دون الأزل يقال عالم في الأزل ولا يقال رزق في الأزل إلا توسعا باعتبار ما يؤول إليه الأمر
( إلا أن ينوي ) أي يريد ( بالعلم المعلوم ) كما يقال اغفر لنا علمك فينا أي معلومك به ( وبالقدرة المقدور ) كما يقال انظر لقدرة الله أي مقدورة فلا يكون يمينا في المسألتين ويكون كأنه قال ومعلوم الله ومقدور الله لأن اللفظ محتمل وما جزم به من أن عظمة الله صفة هو المعروف وبني عليه بعضهم منع قولهم سبحان من تواضع كل شيء لعظمته قال لأن التواضع للصفة عبادة لها ولا يعبد إلا الذات ومنع القرافي ذلك وقال الصحيح أن عظمة الله لمجموع من الذات والصفات فالمعبود مجموعهما
تنبيه ظاهر كلامه تخصيص الاستثناء بهاتين الصفتين العلم والقدرة دون ما قبلهما من الصفات إذ يتخيل فيها مثل هذا الاحتمال وهو وجه جزم به كثيرون والأصح كما في الشرحين والروضة عدم الفرق لأنه قد يقال عاينت عظمة الله وكبرياءه ويشير إلى أفعاله سبحانه وتعالى وقد يراد بالجلال والعزة والكبرياء ظهور أثرها على المخلوقات وبالكلام الحروف والأصوات الدالة عليه وقد قال تعالى { فأجره حتى يسمع كلام الله } وإنما يسمع الأصوات
( ولو قال ) الحالف في يمينه ( وحق الله ) بالجر ( فيمين ) إن نوى اليمين قطعا وكذا إن أطلق في الأصح لغلبة استعماله في اليمين فنزل الإطلاق عليه قال المروزي ومعناه وحقية الإلهية لأن الحق ما لا يمكن جحوده فهو في الحقيقة اسم من أسماء الله تعالى
وقال غيره حق الله هو القرآن
قال تعالى { وإنه لحق اليقين } والحلف بالقرآن يمين في صورة الإطلاق فكذا ما نحن فيه ( إلا أن يريد ) بالحق ( العبادات ) التي أمر الله بها فلا يكون يمينا قطعا لأن العبادات حق لله تعالى علينا وليست صفة له تعالى فإن رفع الحق أو نصبه فكناية لتردده بين استحقاق الطاعة والإلهية فليس بيمين إلا بنية ولو حلف المسلم بآية منسوخة من القرآن أو بالتوراة أو الإنجيل انعقدت يمينه وتنعقد اليمين بقوله وكتاب الله أو قرآن الله كما نقلاه عن البغوي وأقراه
قالا وقال إبراهيم المروزي وكذا لو قال والقرآن أو المثبت في المصحف إلا أن يريد بالقرآن الخطبة أو الصلاة وبقوله المصحف إلا أن يريد الورق أو الجلد
فائدة قال ابن الرفعة يقتضي كلام المحاملي و الماوردي و ابن الصباغ و الروياني أن الحلف بالطالب الغالب يمين صريحة لأن فيها تنبيها على استجلاب منافعه واستدفاع مضاره قال وسماعي من أقضى القضاة الجمال يحيى بن الحسين خليفة الحكم العزيز بمصر أن الحلف بذلك لا يشرع وكان يذكر أنه نقله عن أئمة المذهب ويوجهه بأن الله تعالى وإن كان طالبا غالبا فأسماؤه تعالى توقيفية ولم ترد تسميته بذلك اه
قال الدميري وكان الجمال يحيى من صدور الشافعية نائبا عن قاضي القضاة ابن رزين قال له يوما قاضي القضاة لو أردت عزلتك قال لا تطيق ذلك قال ولم قال كنا يوما عند الفقيه أبي طاهر فحصلت له حالة فقال من له حاجة يذكرها فقلت أنا أريد أن أكون نائب حكم ولا يعزلني أحد فقال لك ذلك
قال الخطابي وما جرت به عادة الحكام من تغليظ الأيمان وتوكيدها إذا حلفوا الرجل أن يقولوا بالله الطالب الغالب المدرك المهلك لا يجوز أن يطلق في حقه تعالى ذلك ولو جاز أن يعد ذلك في أسمائه وصفاته لجاز في أسمائه المخزي والمضل لأنه قال { وأن الله مخزي الكافرين } وقال { كذلك يضل الله من يشاء } حروف القسم ثلاثة ( باء ) موحدة ( وواو وتاء ) فوقانية لاشتهارها فيه شرعا وعرفا ( كبالله ووالله وتالله ) لأفعلن كذا وزاد المحاملي والشيخ أبو حامد على الثلاثة الألف نحو الله بدل الهمزة وسيأتي كناية والأصل الباء الموحدة ثم الواو ثم التاء الفوقية كما ذكرها المصنف كذلك لإبدال التاء الفوقية من الواو والواو من الباء الموحدة كما ذكره الزمخشري ولدخولها على المضمر كالمظهر تقول حلفت بك وبه لأفعلن كذا والواو تختص بالمظهر ( وتختص والواو بدل منها والباء بدل من الواو ضاق تصرفها عن البدل والمبدل منه فلم تدخل على شيء مما يدخلان عليه سوى اسم الله تعالى
قال تعالى { تالله تفتأ تذكر يوسف } قال ابن الخشاب إن التاء وإن التاء ) الفوقية
____________________
(4/322)
( بالله تعالى ) لأن الباء لما كانت في الأصل في القسم ضاق تصرفها فلم تدخل إلا على اسم واحد فقد بورك لها في اختصاصها بأشرف الأسماء وأجلها فلا تدخل على غير لفظ الله أي لغة فلا يقال تربك
وقال ابن مالك حكى الأخفش ترب الكعبة وهو شاذ
وأما من جهة الشرع فإنه لو قال تالرحمن أو الرحيم انعقدت يمينه كما قاله البلقيني وغايته أنه استعمل شاذا فإن أراد غير اليمين قبل منه وكذا لو قال بالله بالموحدة أو والله لأفعلن كذا ونوى غير اليمين كاستعنت بالله واعتصمت أو والله المستعان لم يكن يمينا
تنبيه كان الأولى للمصنف أن يقول ويختص الله بالتاء لأن الشائع أن فعل الاختصاص إنما يدخل على المقصور في المشهور وذلك في التاء لا في الله وإن جاز دخوله عليه لأنه يدخل عليه الباء والواو وعبارته تقتضي أن الله لا يدخل عليه غير التاء وهو مدافع لكلامه السابق
( ولو ) حذف الحالف حرف القسم و ( قال الله ) بهمزة الاستفهام أو بدونها ( ورفع أو نصب أو جر ) أو سكن لأفعلن كذا ( فليس بيمين إلا بنية ) لها واللحن لا يمنع انعقاد اليمين على أن غير الرفع لا لحن فيه فالنصب بنزع الخافض والجر بحذقه وإبقاء عمله
قال سيبويه ولا يجوز حذف حرف الجر وإبقاء عمله إلا في القسم والتسكين بإجراء الوصل مجرى الوقف وأما الرفع فيصح أيضا أن يكون ابتداء كلام
تنبيه أفهم كلامه أن التصريح بحرف القسم تنعقد به اليمين بلا نية سواء أرفع أم نصب أم جر وهو كذلك والخطأ في الأعراب لا يمنع صراحة اليمين بذلك ولو قال فالله بالفاء أو يالله بالياء المثناة من تحت لأفعلن كذا كان كناية وجه كونه يمينا في الثانية بحذف المنادى وكأنه قال يا قوم أو يا رجل ثم استأنف اليمين ولو قال له القاضي قل والله فقال تالله بالمثناة أو والرحمن لم يحسب يمينا لمخالفته التحليف وقضية التعليل أنه لا يحسب يمينا فيما لو قال له قل تالله بالمثناة فقال بالله بالموحدة أو قل بالله فقال والله وهو الظاهر ولو قال بالله بحذف الألف بعد اللام المشددة قال المصنف ينبغي أن لا تكون يمينا وإن نواها قال لأنها لا تكون إلا باسم الله تعالى أو صفته والقول بأن هذا لحن ممنوع لأن اللحن مخالفة صواب الإعراب بل هذه كلمة أخرى وقال ابن الصلاح ليس هو لحنا بل لغة حكاها الزجاجي وهي شائعة فينبغي أن تكون يمينا عند الإطلاق
قال الأذرعي ولو استحضر النووي ما قاله ابن الصلاح لما قال ما قال وجزم في الأنوار بما نقله الرافعي عن الجويني والإمام والغزالي من أنها يمين إن نواها ويحمل حذف الألف على اللحن لأن الكلمة تجري كذلك على ألسنة العوام والخواص
وهذا أوجه من كلام ابن الصلاح خلافا لبعض المتأخرين لأن البلة تكون بمعنى الرطوبة فلا يكون يمينا إلا بنية
( ولو قال أقسمت أو أقسم ) أو آليت أو أولي ( أو حلفت أو أحلف بالله ) الراجع لكل الصور ( لأفعلن ) كذا ( فيمين ) قطعا ( إن نواها ) لاطراد العرف باستعمال ذلك في اليمين لا سيما ذلك وقد نواه ( أو أطلق ) في الأصح لكثرة الاستعمال وقد قال تعالى { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } { فيقسمان بالله } وقيل لا يكون ذلك يمينا لأن صلاحية أقسمت للماضي وأقسم للمستقبل وخرج بقوله بالله ما لو سكت عن ذكره فليس بيمين وإن نواه ( وإن قال قصدت ) بصيغة الماضي السابقة ( خبرا ماضيا ) أي الإخبار عن يمين ماضية ( أو ) أردت بصيغة المضارع السابقة ( مستقبلا ) أي يمينا في المستقبل ( صدق باطنا ) أي دين فيه قطعا حتى لا تلزمه الكفارة فيما بينه وبين الله تعالى لاحتمال ما يدعيه ( وكذا ظاهرا على المذهب ) لاحتمال ما نواه وفي قول لا وبه قطع بعضهم لظهور اللفظ في الإنشاء
____________________
(4/323)
تنبيه محل الخلاف ما إذا لم يعلم له يمين ماضية وإلا قبل قوله في إرادتها قطعا
( ولو قال ) شخص ( لغيره أقسم عليك بالله أو أسألك بالله لتفعلن ) كذا ( وأراد يمين نفسه فيمين ) لاشتهاره في ألسنة حملة الشرع ويسن للمخاطب إبراره فيهما إن لم يتضمن الإبرار ارتكاب محرم أو مكروه فإن لم يبره فالكفارة على الحالف ( وإلا ) بأن أراد يمين المخاطب أو لم يرد يمينا بل التشفع إليه أو أطلق ( فلا ) يكون يمينا في الصور الثلاث لأنه لم يحلف هو ولا المخاطب ويحمل على الشفاعة في فعله ويكره السؤال بوجه الله ورد السائل به لحديث لا يسئل بوجه الله إلا الجنة وخبر من سأل بالله تعالى فأعطوه
فروع لو حلف شخص بالله فقال آخر يمين في يمينك أو يلزمني ما يلزمك لم يلزمه شيء وإن نوى به اليمين لخلو ذلك عن اسم الله تعالى وصفة من صفاته وإن قال اليمين لازمة لي لم يلزمه شيء وإن نوى لما مر وإن قال أيمان البيعة لازمة لي وهي بيعة الحجاج فإن البيعة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمصافحة فلما ولى الحجاج رتبها أيمانا تشتمل على اسم الله تعالى وعلى الطلاق والعتاق والحج والصدقة لم يلزمه شيء وإن نوى لأن الصريح لم يوجد والكناية تتعلق بما يتضمن إيقاعا وأما في الالتزام فلا إلا أن ينوي الطلاق والعتاق فيلزمه لأن للكناية مدخلا فيهما ولو قال إن فعلت كذا فأيمان البيعة لازمة لي بطلاقها وعتاقها وحجها وصدقتها
ففي التتمة أن الطلاق لا حكم له لأنه لا يصح التزامه والباقي يتعلق به الحكم إلا أنه في الحج والصدقة كنذر اللجاج والغضب
وقول الحالف لاها الله بالمد والقصر كناية إن نوى به اليمين فيمن وإلا فلا وإن كان مستعملا في اللغة لعدم اشتهاره
وقوله وايم الله بضم الميم أشهر من كسرها ووصل الهمزة ويجوز قطعها وأيمن الله كذلك وإنما لم يكن كل منهما يمينا إذا أطلق لأنه وإن اشتهر في اللغة وورد في الخبر لا يعرفه إلا الخواص
وقوله لعمر الله والمراد منه البقاء والحياة كذلك وإنما لم يكن صريحا لأنه يطلق مع ذلك على العبادات
وقوله على عهد الله وميثاقه وأمانته وذمته وكفالته كل منها كذلك
سواء أضاف المعطوفات إلى الضمير كما مثل أم إلى الاسم الظاهر
والمراد بعهد الله إذا نوى به اليمين استحقاقه لإيجاب ما أوجبه علينا وتعبدنا به وإذا نوى به غير العبادات التي أمرنا بها وقد فسر بها الأمانة في قوله تعالى { إنا عرضنا الأمانة } فإن نوى اليمين بالكل انعقدت يمين واحدة والجمع بين الألفاظ أكيد فلا يتعلق بالحنث فيها إلا كفارة واحدة ولو نوى بكل لفظ يمينا كان يمينا ولم يلزمه إلا كفارة واحدة كما لو حلف على الفعل الواحد مرارا
( ولو قال إن فعلت كذا فأنا يهودي ) أو نصراني أو مستحل الخمر ( أو بريء من الإسلام ) ونحو ذلك كقوله بريء من الله أو من رسوله أو من الكعبة ( فليس بيمين ) لخلوه عن ذكر اسم الله تعالى وصفته ولا كفارة عليه في الحنث به والحلف بذلك معصية والتلفظ به حرام كما قاله المصنف في الأذكار هذا إذا قصد بذلك تبعيد نفسه عن ذلك المحلوف عليه أما لو قال ذلك على قصد الرضا بالتهود وما في معناه إذا فعل ذلك الفعل كفر في الحال فإن لم يعرف قصده لموت أو غيبة وتعذرت مراجعته ففي المهمات القياس تكفيره إذا عري عن القرائن الحاملة على غيره لأن اللفظ بوضعه يقتضيه وكلام الأذكار يقتضي خلافه اه
والأوجه ما في الأذكار
قال في زيادة الروضة قال الأصحاب وإذا لم نكفره استحب له أن يستغفر الله تعالى ويقول لا إله إلا الله محمد رسول الله اه
ولا يحالف ذلك ما في الصحيحين من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله فإنه محمول على الندب وإن قال صاحب الاستقصاء بوجوب ذلك وتجب التوبة من كل معصية ويسن الاستغفار من كل تكلم بكلام قبيح
ويشترط في انعقاد اليمين كون الحالف قاصدا معناه ( و ) حينئذ ( من سبق لسانه إلى لفظها ) أي اليمين ( بلا قصد ) لمعناها ( لم تنعقد ) يمينه لقوله تعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان }
أي قصدتم بدليل الآية الأخرى { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } ولغو اليمين كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها قول الرجل لا والله وبلى
____________________
(4/324)
والله رواه البخاري وصحح ابن حبان رفعه كأن قال ذلك في حال غضب أو لجاج أو صلة كلام
قال ابن الصلاح والمراد بتفسير لغو اليمين بلا والله وبلى والله على البدل لا على الجمع
أما لو قال لا والله وبلى والله في وقت واحد
قال الماوردي كانت الأولى لغوا والثانية منعقدة لأنها استدراك فصارت مقصودة ولو حلف على شيء فسبق لسانه إلى غيره كان من لغو اليمين وجعل صاحب الكافي من لغو اليمين ما إذا دخل على صاحبه فأراد أن يقوم له فقال والله لا تقوم وهو مما تعم به البلوى
ولو ادعى سبق لسانه في إيذاء أو الحلف بطلاق أو عتق لم يقبل ظاهرا لتعلق حق الغير به
تنبيه لا حاجة لقوله بلا قصد بعد قوله ومن سبق لسانه
( وتصح ) اليمين ( على ماض ) كوالله ما فعلت كذا أو فعلته بالإجماع لقوله تعالى { يحلفون بالله ما قالوا } ثم إن كان عامدا فهي اليمين الغموس سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار وهي من الكبائر وتتعلق بها الكفارة خلافا للأئمة الثلاثة لقوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } وهو يعم الماضي والمستقبل
وتعلق الإثم لا يمنع الكفارة كما أن الظهار منكر من القول وزور وتتعلق به الكفارة بل وفيه التعزير أيضا كما مر في فصل التعزير أنها مستثنى من قولهم يعزر كل معصية لا حد فيها ولا كفارة
فإن جهل ففي الكفارة خلاف حنث الناسي وحيث صدق فلا شيء عليه
والمراد بصدقه موافقة ما قصده إن احتمله اللفظ
ولو خالف الظاهر إلا أن يحلفه حاكم فتعتبر موافقة ظاهر لفظ الحاكم كما سيأتي إن شاء الله تعالى في محله ( و ) على ( مستقبل ) لقوله صلى الله عليه وسلم والله لأغزون قريشا ويستثنى ممتنع الحنث لذاته
فإن اليمين فيه لا تنعقد كما مر أول الباب كقوله والله لأموتن أو لا أصعد السماء بخلاف ممتنع البر وتقدم الفرق بينهما فلو قيد ممتنع البر بزمن كلا أصعد السماء غدا هل يحنث في الحال حكمه حكم ما لو حلف ليأكلن هذا الرغيف غدا وسيأتي ( وهي ) أي اليمين ( مكروهة ) للنهي عنها
بقوله تعالى { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } أي لا تكثروا الحلف بالله لأنه ربما يعجز عن الوفاء به
قال حرملة سمعت الشافعي يقول ما حلفت بالله صادقا ولا كاذبا
تنبيه كان الأولى للمصنف أن يقول في الجملة كما في المحرر إذ منها ما هو معصية كما سيأتي في كلامه ومنها ما هو مباح ومنها ما هو مستحب وقد تجب ( إلا في طاعة ) من فعل واجب أو مندوب وترك حرام أو مكروه فطاعة واستثنى الرافعي اليمين الواقعة في دعوى إن كانت صدقا فإنها لا تكره
قال المصنف رحمه الله وكذا لو احتاج إليها لتوكيد كلام وتعظيم أمر فالأول كقوله صلى الله عليه وسلم فوالله لا يمل الله حتى تملوا والثاني كقوله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وضابطه الحاجة إلى اليمين
قال الإمام ولا تجب اليمين أصلا لا على المدعي ولا على المدعى عليه وأنكره الشيخ عز الدين
وقال إذا كان المدعي كاذبا في دعواه وكان المدعى به مما لا يباح بالإباحة كالدماء والأبضاع فإن علم المدعى عليه أن خصمه لا يحلف إذا نكل فيتخير إن شاء حلف وإن شاء نكل وإن علم أو غلب على ظنه أنه يحلف وجب عليه الحلف فإن كان يباح بالإباحة وعلم أو ظن أنه لا يحلف فيتخير أيضا وإلا فالذي أراه وجوب الحلف دفعا لمفسدة كذب الخصم اه
وينبغي أن لا يجب عليه في هذه الحالة ( فإن حلف على ترك واجب ) كترك الصبح ( أو فعل حرام ) كالسرقة ( عصى ) بحلفه في الصورتين واستثنى البلقيني من الصورة الأولى مسألتين الأولى الواجب الذي يمكن سقوطه كالقصاص بعد الحكم به فإنه يمكن سقوطه بالعفو الثانية الواجب على الكفاية كما لو حلف لا يصلي على فلان الميت حيث لم تتعين عليه فإنه لا يعصي بهذا الحلف ( ولزمه ) عند عصيانه ( الحنث وكفارة ) لأن الإقامة على هذه الحالة معصية لخبر الصحيحين من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه
تنبيه إنما يلزمه الحنث كما قال الزركشي إذا لم يكن له طريق سواه وإلا فلا كما لو حلف لا ينفق على زوجته فإن له طريقا سواه كأن يعطيها من صداقها أو يقرضها ثم يبرئها لأن الغرض حاصل مع بقاء التعظيم وعصى بالحنث وعليه به الكفارة
( أو ) حلف على ( ترك مندوب ) كسنة الضحى ( أو ) على ( فعل مكروه ) كالتفاته بوجهه في الصلاة ( سن حنثه وعليه الكفارة ) لأن اليمين والإقامة عليها مكروهان لقوله تعالى { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة } الآية وعكس مسألة
____________________
(4/325)
الكتاب لو حلف على فعل واجب أو ترك حرام أطاع باليمين نزلت في الصديق رضي الله عنه وقد حلف أن لا يبر مسطحا فقال أبو بكر بلى رب وبره وأجيب عن حديث الأعرابي حيث لم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم في قوله والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه بأن يمينه تضمنت طاعة وهو امتثال الأمر ويحتمل أنه سبق لسانه إلى قوله لا أزيد فكان من لغو اليمين
تنبيه اختلف فيما لو حلف لا يأكل طيبا ولا يلبس ناعما فقيل مكروه لقوله تعالى { قل من حرم زينة الله } الآية وقيل طاعة لما عرف من اختيار السلف خشونة العيش وقيل يختلف ذلك باختلاف أحوال الناس وقصودهم وفراغهم للعبادة واشتغالهم بالضيق والسعة وهذا كما قال الرافعي الصواب
( أو ) على ( ترك مباح ) معين ( أو فعله ) كدخول دار وأكل طعام ولبس ثوب ( فالأفضل ) له ( ترك الحنث ) بل يسن لما فيه من تعظيم الله تعالى وقد قال تعالى { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } وقيل الأفضل له ( الحنث ) لينتفع الفقراء بالكفارة قال الأذرعي ويشبه أن محل الخلاف ما إذا لم يكن في ذلك أذى للغير فإن كان بأن حلف لا يدخل دار أحد أبويه أو أقاربه أو صديق يكره ذلك فالأفضل الحنث قطعا وعقد اليمين على ذلك مكروه بلا شك وكذا حكم الأكل واللبس
تنبيه من حلف على فعل مندوب أو ترك مكروه وكره حنثه وعليه بالحنث كفارة وقد علم بما تقرر أن اليمين لا تغير حال المحلوف عليه عما كان وجوبا وتحريما وندبا وكراهة إباحة لكن قول المتن في المباح الأفضل ترك الحنيث فيه تغير للمحلوف عليه ولذلك رجح بعضهم أن فيه التخيير بين الحنث وعدمه فيكون جاريا على القاعدة
( وله ) أي الحالف ( تقديم كفارة بغير صوم ) من عتق أو إطعام أو كسوة ( على حنث جائز ) واجب أو مندوب أو مباح لقوله صلى الله عليه وسلم فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح
ولأنه حق مالي وجب بسببين فجاز تعجيله بعد وجود أحدهما كالزكاة قبل الحول لكن الأولى أن لا يكفر حتى يحنث خروجا من خلاف أبي حنيفة واحترز بقوله على حنث عن تقديمها على اليمين فإنه يمتنع بلا خلاف وكذا مقارنتها لليمين كما لو وكل من يعتق عنها مع شروعه في اليمين
أما الصوم فيمتنع تقديمه على الحنث على الصحيح لأنه عبادة بدنية فلم يجز تقديمها على وقت وجوبها بغير حاجة كصوم رمضان واحترز بغير حاجة عن الجمع بين الصلاتين ( قيل و ) له تقديمها على حنث ( حرام ) كالحنث بترك واجب أو فعل حرام ( قلت هذا ) الوجه ( أصح والله أعلم ) من مقابله وهو المنع الذي جرى عليه في المحرر وعلله بأنه يتطرق به لارتكاب محظور والتعجيل رخصة فلا تليق بالعاصي لأن الحظر في الفعل ليس من حنث اليمين لأن المحلوف عليه حرام قبل اليمين وبعدها فالتكفير لا يتعلق به استباحة
تنبيه إذا قدم الكفارة على الحنث ولم يحنث استرجع كالزكاة قاله الدارمي
ولو قدم العتق اشترط في إجزائه بقاء العتيق حيا مسلما إلى الحنث فلو مات أو ارتد قبله لم يجزه ولو أعتق عبدا عن كفارته ومات قبل حنثه كأن عتقه تطوعا كما صرح به البغوي في فتاويه
فروع لو قال أعتقت عبدي عن كفارتي إن حنثت فحنث أجزأه وإن قال إن حلفت لم يجزه ولو قال إن حنثت غدا فعبدي حر عن كفارتي فإن حنث غدا عتق وأجزأه عنها وإلا فلا
ولو قال أعتقته عن كفارتي إن حنثت فبان حانثا عتق وأجزأه عنها وإلا فلا
نعم إن حنث بعد ذلك أجزأه عنها ولو قال إن حلفت وحنثت فبان
____________________
(4/326)
حاله لم يجزه قاله البغوي للشك في الحلف
( و ) له تقديم ( كفارة ظهار ) بغير صوم كما مر من عتق أو إطعام ( على العود ) في الظهار لأنه أحد السببين والكفارة منسوبة إليه كما أنها منسوبة إلى اليمين وصوروا التقديم على العود بما إذا ظاهر من رجعية ثم كفر ثم راجعها وبما إذا طلق بعد الظهار رجعيا ثم كفر ثم راجع
أما إذا أعتق عقب الظهار عنه فهو تكفير مع العود لا قبله لأن اشتغاله بالعتق عود واحترز بقوله على العود عن تقديمها على الظهار فلا يجوز جزما ( و ) له تقديم كفارة ( قتل على الموت ) منه بعد حصول الجرح وتقديم جزاء الصيد قبل الموت وبعد الجرح لأنه بعد وجود السبب ولا يجوز تقديمها على الجرح ( و ) له أيضا تقديم كفارة على ( منذور مالي ) على المعلق عليه كأن قال إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق رقبة أو أتصدق بكذا فيجوز تقديمه على الشفاء كالزكاة يجوز تقديمها على الحول وما صححاه في أصل الروضة والمجموع في تعجيل الزكاة من أنه لو قال إن شفى الله مريضي فلله علي عتق رقبة فأعتق قبل الشفاء أنه لا يجوز
قال البلقيني هو غير معتمد والجاري على قاعدة الشافعي في تعجيل الزكاة وكفارة اليمين المالية وزكاة الفطر الجواز اه
وخرج بالمالي البدني كالصوم فلا يجوز تقديمه على المشروط
تتمة لا يجوز تقديم كفارة الجماع في رمضان أو الحج أو العمرة عليه وكذا تقديم فدية الحلق واللبس والطيب عليها
نعم إن جوزت هذه الثلاثة لعذر كمرض جاز تقديمها لوجود السبب
فصل في صفة كفارة اليمين واختصت من بين الكفارات بكونها مخيرة في الابتداء مرتبة في الانتهاء والصحيح في سبب وجوبها عند الجمهور الحنث واليمين معا ( يتخير ) المكفر ( في كفارة اليمين بين عتق ) فيها ( كالظهار ) أي كعتق رقبة كفارته بالصفة السابقة في بابه من كونها رقبة مؤمنة بلا عيب يخل بعمل أو كسب ( و ) بين ( إطعام عشرة مساكين لكل مسكين مد حب ) أو غيره ( من غالب قوت بلده ) كالفطرة كما مر في كتاب الكفارات وصرح به جماعة هنا ( و ) بين ( كسوتهم بما يسمى كسوة ) مما يعتاد لبسه ( كقميص أو عمامة أو إزار ) أو رداء أو طيلسان
أو منديل بكسر الميم قال في الروضة والمراد به المعروف الذي يحمل في اليد أو مقنعة أو جبة أو قباء أو درع من صوف ونحوه وهو قميص لا كم له ووقع لبعض الشراح أن الدرع يكفي وهو سهو ( لا خف وقفازين ) ومكعب وهو المداس ونعل ( ومنطقة ) بكسر الميم وقلنسوة وهي بفتح القاف واللام ما يغطى به الرأس ونحو ذلك مما لا يسمى كسوة كدرع من حديد ويجزىء فرو ولبدا عتيد في البلد لبسهما ولا يجزىء التبان وهو سروال قصير لا يبلغ الركبة ولا الخاتم والتكة
والعرقية
ووقع في شرح المنهج لشيخنا أنها تكفي ورد بأن القلنسوة لا تكفي كما مر وهي شاملة لها وحمله شيخي على التي تجعل تحت البرذعة وهو وإن كان بعيدا أولى من مخالفته للأصحاب ( ولا يشترط صلاحيته ) أي ما ذكر من الكسوة ( للمدفوع إليه فيجوز سراويل صغير لكبير لا يصلح له و ) يجوز ( قطن وكتان وحرير ) وشعر وصوف منسوج كل منها ( لامرأة ورجل ) لوقوع اسم الكسوة على ذلك ( ولبيس ) بفتح اللام بعدها موحدة مكسورة بمعنى ملبوس ( لم تذهب قوته ) فإن ذهبت بحيث صار مسحقا لم يجز ولا بد مع بقاء قوته من كونه غير منخرق
ولا يجزىء جديد مهلهل النسج إذا كان لبسه لا يدوم إلا بقدر ما يدوم لبس الثوب البالي لضعف النفع به ولا يجوز نجس العين من الثياب ويجزىء المتنجس وعليه أن يعلمهم
____________________
(4/327)
بنجاسته ويجوز ما غسل ما لم يخرج عن الصلاحية كالطعام العتيق لانطلاق الكسوة عليه وكونه يرد في البيع لا يؤثر في مقصودها كالعيب الذي لا يضر بالعمل في الرقيق ويندب أن يكون الثوب جديدا خاما كان أو مقصور الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ولو أعطى عشرة ثوبا طويلا لم يجزه بخلاف ما لو قطعه قطعا قطعا ثم دفعه إليهم قاله الماوردي وهو محمول على قطعة تسمى كسوة وخرج بقول المصنف عشرة مساكين ما إذا أطعم خمسة وكسا خمسة فإنه لا يجزىء كما لا يجزىء إعتاق نصف رقبة وإطعام خمسة
ويستثنى من إطلاقه التخيير للعبد وسيأتي كلامه والمحجور عليه بسفه أو فلس فلا يكفر بالمال بل بالصوم كالمعسر فإن لم يصم حتى فك عنه الحجر لم يجزه مع اليسار ومن مات وعليه كفارة فالواجب أن يخرج من تركته أقل الخصال قيمة ومع ذلك فلا تخيير إلا إن استوت قيمتها ( فإن عجز عن ) كل واحد من ( الثلاثة ) المذكورة ( لزمه صوم ثلاثة أيام ) لقوله تعالى { فكفارته إطعام عشرة مساكين } الآية
تنبيه المراد بالعجز أن لا يقدر على المال الذي يصرفه في الكفارة كمن يجد كفايته وكفاية من تلزمه مؤنته فقط ولا يجد ما يفضل عن ذلك
قالا ومن له أن يأخذ من سهم الفقراء والمساكين من الزكاة والكفارات له أن يكفر بالصوم لأنه فقير في الأخذ فكذا في الإعطاء وقد يملك نصابا ولا يفي دخله بخرجه فتلزمه الزكاة وله أخذها والفرق بين البابين أنا لو أسقطنا الزكاة خلا النصاب عنها بلا بدل والتكفير بالمال له بدل وهو الصوم
( ولا يجب تتابعها في الأظهر ) لإطلاق الآية
والثاني يجب لأن ابن مسعود قرأ ثلاثة أيام متتابعات والقراءة الشاذة كخبر الواحد في وجوب العمل كما أوجبنا قطع يد السارق بالقراءة الشاذة في قوله { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ولأن من قاعدة الشافعي رضي الله تعالى عنه حمل المطلق على المقيد من جنسه وهو الظهار والقتل وأجاب الأول بأن آية اليمين نسخت متتابعات تلاوة وحكما فلا يستدل بها بخلاف آية السرقة فإنها نسخت تلاوة لا حكما وبأن المطلق ههنا متردد بين أصلين يجب التتابع في أحدهما وهو كفارة الظهار والقتل ولا يجب في الآخر وهو قضاء رمضان فلم يكن أحد الأصلين في التتابع بأولى من الآخر لكن قال الإمام حمل الكفارة على الكفارة أولى من حملها على قضاء رمضان ( وإن غاب ماله ) إلى مسافة قصر أو دونها كما يشعر به إطلاقهم وإن نازع فيه البلقيني ( انتظره ولم يصم ) لأنه واجد وإنما أبيح له الصوم إذا لم يجد
فإن قيل المتمتع إذا أعسر بالدم بمكة يجزئه الصوم وإن كان له ببلده ماله فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن القدرة هناك اعتبرت بمكة فلا ينظر إلى غيرها والقدرة هنا اعتبرت مطلقا ولو كان له عبد غائب تيقن حياته جاز له إعتاقه بخلاف منقطع الخبر في الأصح ( ولا يكفر عبد بمال ) لعدم ملكه ( إلا إذا ملكه سيده طعاما أو كسوة ) ليكفر بهما أو ملكه مطلقا وأذن له في التكفير ( وقلنا يملك ) بالتمليك على رأي مرجوح تقدم في باب العبد فإنه يكفر بذلك
تنبيه قوله سيده يقتضي أن تمليك غير السيد لا أثر له وليس مرادا بل الخلاف فيهما سواء
وخرج بقوله طعاما أو كسوة ما إذا ملكه رقيقا ليعتقه عن كفارته ففعل فإنه لم يقع عنها لامتناع الولاء للعبد وحكم المدبر والمعتق عتقه بصفة وأم الولد حكم العبد
فإن قيل يرد على المصنف المكاتب فإنه يكفر بالإطعام والكسوة بإذن السيد كما صححه في تصحيح التنبيه
أجيب بأن العبد إذا أطلق إنما يراد به القن لا سيما وقد قال وقلنا يملك والمكاتب يملك قطعا ولو أذن السيد للمكاتب في التكفير بالإعتاق فأعتق لم يجزه على المذهب كما قالاه في باب الكتابة وإن نقلا هنا عن الصيدلاني أن ذمته تبرأ بذلك
( بل يكفر بصوم ) لعجزه عن غيره ولا فرق بين كفارة اليمين والظهار في ذلك كما صرح به المرعشي وغيره ( وإن ضره ) الصوم لشدة حر أو طول نهار أو نحو ذلك وكان يضعف عن العمل
____________________
(4/328)
بسببه ( وكان حلف وحنث بإذن سيده ) في كل منهما ( صام بلا إذن ) وليس له منعه وإن كانت الكفارة على التراخي لصدور السبب الموجب عن إذن السيد ( أو وجدا ) أي الحلف والحنث ( بلا إذن ) منه ( لم يصم إلا بإذن ) منه قطعا سواء أكان الحلف واجبا أم جائزا أم ممنوعا لأنه لم يأذن في السبب وحقه على الفور والكفارة على التراخي فإن صام بلا إذن أجزأه كما لو صلى الجمعة بلا إذن فإنها تجزئه أو حج فإنه ينعقد وعدم الاعتداد به عن حجة الإسلام ولو أذن له سيده فيه إنما هو للحديث المتقدم في الحج ( وإن أذن ) له ( في أحدهما ) فقط ( فالأصح اعتبار ) إذن السيد له في ( الحلف ) فإذا حلف بإذنه وحنث بغير إذنه صام بغير إذنه لأن إذنه في الحلف إذن فيما يترتب عليه
والثاني الاعتبار بالحنث لأن اليمين مانعة منه فليس إذنه فيها إذنا في التزام الكفارة وهذا هو الأصح كما في الشرحين والروضة في كتاب الكفارة ونقلاه عن الأكثرين وأحالا المسألة هنا على ما هناك بل قيل إن ما في المحرر سبق قلم من الحنث إلى الحلف لكن المحرر يتبع البغوي كثيرا كما استقرىء من كلامه و البغوي صحح أن الاعتبار بالحلف وخرج بيضره الصوم ما إذا لم يضره فله الصوم بغير إذن سيده وبالعبد الأمة فللسيد منعها من الصوم وإن لم تتضرر به لأن حق السيد في الاستمتاع بها ناجز ( ومن بعضه حر وله مال يكفر بطعام أو كسوة ) ولا يكفر بالصوم ليساره كما أنه إذا وجد ثمن الماء أو الثوب لا يجوز له أن يصلي متيمما أو عاريا ( لا عتق ) لأنه يستعقب الولاء المتضمن للولاية والإرث وليس هو من أهلهما
واستثنى البلقيني من ذلك ما لو قال له مالك بعضه إذا أعتقت عن كفارتك فنصيبي منك حر قبيل إعتاقك عن الكفارة أو معه فيصح إعتاقه عن كفارة نفسه في الأولى قطعا وفي الثانية على الأصح ولو مات العبد وعليه كفارة فللسيد التكفير عنه بالمال وإن قلنا لا يملك إذ لا رق بعد الموت فهو والحر سواء في ذلك بخلاف ما قبله ولا يكفر عنه بالعتق لنقصه عن أهلية الولاء
فصل في الحلف على السكنى والمساكنة والدخول وغيرها مما يأتي وبدأ بالأول فقال إذا ( حلف لا يسكنها ) أي دارا معينة ( أو لا يقيم فيها ) وهو فيها عند الحلف ( فليخرج في الحال ) ببدنه بنية التحول كما في التنبيه وغيره ليتخلص من الحنث وإن بقي أهله ومتاعه فإنه المخلوف عليه ولا يكلف في خروجه عدوا ولا هرولة ولا أن يخرج من بابها القريب نعم لو كان له باب من السطح فخرج منه مع القدرة على الخروج من غيره حنث لأنه بالصعود في حكم المقيم كما قاله الماوردي وإنما اشترط نية التحول ليقع الفرق بينه وبين الساكن الذي من شأنه أن يخرج ويعود ويومىء إلى ذلك قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في الأم والمختصر ويخرج ببدنه متحولا
وهذا كما قاله الأذرعي في المتوطن فيها قبل حلفه فلو دخلها لينظر إليها هل يسكنها أو لا
فحلف لا يسكنها وخرج في الحال لم يفتقر إلى نية التحول قطعا والمراد بالسكون الحلول لا ضد الحركة ( فإن مكث بلا عذر حنث ) وإن قل كما لو وقف ليشرب مثلا وقول الروضة مكث ساعة لم يرد به الساعة الزمانية بل متى مكث حنث ( وإن بعث متاعه ) لأن المحلوف عليه سكناه وهو موجود إذ السكنى تطلق على الدوام كالابتداء يقال سكن شهرا وتستعمل مع المتاع ودونه
واحترز بقوله بلا عذر ما لو مكث لعذر كأن أغلق عليه الباب أو منع من الخروج أو خاف على نفسه أو ماله لو خرج أو كان به مرض لا يقدر معه على الخروج ولم يجد من يخرجه قال الماوردي أو ضاق وقت الفريضة بحيث لو خرج قبل أن يصليها فاتت لم يحنث
قال البلقيني وما ذكره الماوردي جار على المعتمد فيمن حلف ليطأن زوجته في هذه الليلة فوجدها حائضا اه
ولو حدث عجزه على الخروج بعد حلفه فكالمكره ( وإن اشتغل ) بعد الحلف ( بأسباب الخروج
____________________
(4/329)
كجمع متاع وإخراج أهل ولبس ثوب لم يحنث ) بمكثه لذلك سواء أقدر في ذلك على الاستنابة أم لا كما هو قضية إطلاق المصنف لأنه لا يعد ساكنا وإن طال مقامه بسبب ذلك وإن كان قضية قوله في المجموع وإن وقف فيها لغلق أبوابه وإحراز ماله ولم يقدر على من يستنيبه لم يحنث على الصحيح وأنه إن قدر على الاستنابة أنه يحنث
قال الماوردي ويراعى في لبثه لثقل المتاع والأهل ما جرى به العرف من غير إرهاق ولا استعجال ولو احتاج إلى مبيت ليلة لحفظ متاع لم يحنث على أصح احتمالي ابن كج
تنبيه أطلق المصنف لبس الثوب وقيده في الشرح والروضة بثوب الخروج وقضيته أنه لو اشتغل بلبس ثياب تزيد على حاجة التجمل التي تلبس للخروج أنه يحنث وهو كما قال ابن شهبة ظاهر ولو عاد إليها بعد الخروج منها حالا لنقل متاع لم يحنث
قال الشاشي إذا لم يقدر على الاستنابة وهذا يوافق قضية كلام المجموع ولو عاد لزيارة أو عيادة مريض أو نحو ذلك ولم يمكث كما قاله الأذرعي وغيره نقلا عن تعليق البغوي لم يحنث كما قالوا فيما لو عاد المريض قبل خروجه منها فإنه إن قعد عنده حنث بخلاف ما إذا عاده مارا في خروجه
قال شيخنا وقد يفرق بأنه في مسألتنا خرج ثم عاد فلا يعد ساكنا لأن اسم السكنى زال عنه وثم لم يخرج أي فاسم السكنى باق عليه وله وجه ولكن الأوجه الأول
قال في الروضة ولو حلف خارجها ثم دخل لم يحنث ما لم يمكث فإن مكث حنث إلا أن يشتغل بجمع متاع كما في الابتداء ولو خرج بعد حلفه فورا ثم اجتازها كأن دخل من باب وخرج من آخر لم يحنث وإن تردد فيها بلا غرض حنث
وينبغي أن لا يحنث كما قال الرافعي إن أراد بلا أسكنها لا اتخذها مسكنا لأنه لا تصير به مسكنا
( ولو حلف لا يساكنه ) أي زيدا مثلا ( في هذه الدار ) أو لا يسكن معي فيها أو لا سكنت معه ( فخرج أحدهما ) منها ( في الحال لم يحنث ) لعدم المساكنة فإن مكث ساعة إلا أن يشتغل بنقل متاع أو بأسباب الخروج كما قال الإمام قال الأذرعي ويجيء ما سبق من الفروق بين الخروج بنية التحول وعدمها ويبعد كل البعد أنه لو خرج المحلوف على عدم مساكنته لصلاة أو حمام أو حانوت ونحوها ومكث الحالف في الدار أنه لا يحنث لبعده عن العرف اه
وهو ظاهر ( وكذا لو بنى بينهما جدار ) من طين أو غيره ( ولكل جانب ) من الدار ( مدخل ) لا يحنث ( في الأصح ) لاشتغاله برفع المساكنة
والثاني يحنث لحصول المساكنة إلى تمام البناء من غير ضرورة وهذا هو الأصح كما في الشرحين والروضة ونسباه إلى الجمهور وترجيح الأول تبع فيه المحرر ونقلاه في الشرح والروضة عن البغوي
تنبيه محل الخلاف إذا كان البناء بفعل الحالف أو بأمره أو بفعلهما أو بأمرهما فلو كان بأمر غير الحالف أما المحلوف عليه أو غيره فإن الحالف يحنث قطعا كما اقتضاه التعليل السابق واحترز بقوله في هذه الدار عما لو أطلق المساكنة ونوى أن لا يساكنه ولو في البلد حنث بمساكنته ولو فيه عملا بنيته فإن لم ينو موضعا حنث بالمساكنة في أي موضع كان فإن سكنا في بيتين يجمعهما صحن ومدخلهما واحد حنث لحصول المساكنة لا إن كان البيتان من خان ولو صغيرا فلا حنث وإن اتحدت فيه المرافق وتلاصق البيتان لأنه مبني لسكنى قوم وبيوته تنفرد بأبواب ومغاليق فهو كالدرب ولا إن كانا من دار كبيرة وإن تلاصقا فلا حنث لذلك بخلافهما في صغيرة ويشترط في الكبيرة لا في الخان أن يكون لكل بيت فيها غلق ومرقى فإن لم يكونا أو سكنا في صفتين في الدار أو بيت وصفة حنث ولو انفرد في دار كبيرة بحجرة منفردة المرافق كالمرقى والمطبخ والمستحم وباب الحجرة في الدار لم يحنث وكذا لو انفرد منهما بحجرة كذلك في دار وبقوله جدار عما لو أرخى بينهما ستر وأقام كل واحد في جانب فإنه يحنث قطعا
قال المتولي إلا أن يكونا من أهل الخيام فإنه إذا أحدث حاجزا فقد اختلف المسكن
( ولو حلف
____________________
(4/330)
لا يدخلها ) أي الدار ( وهو فيها أو لا يخرج ) منها ( وهو خارج فلا حنث ) في الصورتين ( بهذا ) المذكور من دخول أو خروج لأن الدخول الانفصال من خارج إلى داخل والخروج عكسه ولم يوجد ذلك في الاستدامة فلهذا لا يسمى دخولا ولا خروجا
نعم إن نوى بعدم الدخول الاجتناب فأقام حنث كما قاله ابن الرفعة تبعا للإمام أو نوى بعدم الخروج عدم نقل المتاع والأهل حنث بنقلهما ولو حلف لا يملك هذه العين وهو مالكها فكما وحلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها قاله الزركشي نقلا عن فتاوى ابن الصلاح ( أو ) حلف ( لا يتزوج ) وهو متزوج ( أو لا يتطهر ) وهو متطهر ( أو لا يلبس ) وهو لابس ( أو لا يركب ) وهو راكب ( أو لا يقوم ) وهو قائم ( أو لا يقعد ) وهو قاعد ( فاستدام هذه الأحوال ) المتصف بها من التزوج إلى آخرها ( حنث ) في جميع هذه المذكورات ( قلت تحنيثه ) أي المحرر بمسائل استدامة اللبس والركوب والقيام والقعود صحيح لأنه يقال لبست يوما وركبت يوما وهكذا الباقي و ( باستدامة التزوج والتطهر غلط ) لمخالفته للمجزوم به في الشرحين وغيرهما من عدم الحنث ( لذهول ) بذال معجمة وهو نسيان الشيء والغفلة عنه إذ لا يقال تزوجت شهرا بل من شهر لأن التزوج قبول العقد
وأما وصف الشخص بأنه لم يزل ناكحا فلانة منذ كذا فإنه يراد به استمرارها على عصمة نكاحه ولا يقال تطهرت شهرا بل من شهر
تنبيه محل عدم الحنث إذا لم ينو الاستدامة فإن نواها حنث لوجود الصفة المقصودة بيمينه قاله صاحب الاستقصاء
ولو نوى باللبس شيئا مبتدأ فهو على ما نواه
قاله ابن الصلاح
( واستدامة طيب ليست تطيبا في الأصح ) فلا يحنث باستدامته من حلف لا يتطيب
إذ لا يقال تطيبت شهرا
ولهذا لو تطيب ثم أحرم واستدام لا تلزمه الفدية ( وكذا وطء وصوم وصلاة ) بأن يحلف في الصلاة ناسيا أنه فيها أو كان أخرس وحلف بالإشارة فلا يحنث باستدامتها على الأصح ( والله أعلم ) لما مر
قال بعضهم ولا يخلو ذلك عن بعض إشكال إذ يقال صمت شهرا وصليت ليلة وقد يجاب بأن الصلاة انعقاد النية والصوم كذلك كما قالوا في التزوج أنه قبول النكاح وقد صرحوا بأنه لو حلف أنه لا يصلي فأحرم بالصلاة إحراما صحيحا حنث لأنه يصدق عليه أنه مصل بالتحرم
قال الماوردي وكل عقد أو فعل يحتاج إلى نية لا تكون استدامته كابتدائه ولو حلف لا يشارك زيدا فاستدام أفتى ابن الصلاح بالحنث إلا أن يريد شركة مبتدأة ولو حلف لا يستقبل القبلة وهو مستقبل فاستدام حنث قطعا ولو حلف لا يغصب شيئا لم يحنث باستدامة المغصوب في يده كما جزم به في الروضة
فإن قيل يقال غصبته شهرا أو سنة ونحو ذلك كما قاله في المهمات
أجيب بأن يغصب يقتضي فعلا مستقبلا فهو في معنى قوله لا أنشىء غصبا
وأما قولهم غصبه شهرا فمعناه غصبه وأقام عنده شهرا كما أول قوله تعالى { فأماته الله مائة عام } أي أماته وألبثه مائة عام أو جرت عليه أحكام الغصب شهرا وأما تسميته غاصبا باعتبار الماضي فمجاز لا حقيقة
ولو حلف لا يسافر وهو في السفر قاصدا بحلفه الامتناع من ذلك السفر فرجع فورا أو وقف بنية الإقامة لم يحنث فإن لم يقصد ذلك حنث لأنه في العرف مسافر أيضا قاله في الروضة
قال في المهمات وهو ذهول عن المنقول فقد جزم الماوردي في الحاوي بأنه لا يحنث وعلله بقوله لأنه أخذ في ترك السفر وهذا بحسب ما فهمه من كلام الماوردي وكلامه فيما إذا قصد الامتناع عن ذلك السفر كما مر فلا مخالفة بين الكلامين
( ومن حلف لا يدخل دارا ) معينة ( حنث بدخول دهليز ) لها وهو فارسي معرب ( داخل الباب ) الذي لا ثاني بعده فهو بين الباب والدار ( أو ) كان ( بين بابين ) لأنه
____________________
(4/331)
من الدار ومن جاوز الباب عد داخلا و ( لا ) يخنث ( بدخول طاق ) للدار ( قدام الباب ) لأنه وإن كان منها ويدخل في بيعها لا يقال لمن دخله أنه دخلها وفسر الرافعي الطاق بالمقعود خارج الباب وهو ما يعمل لبعض أبواب الأكابر
تنبيه محل ذلك إذا لم يكن للطاق باب يغلق كالدار فإن كان قال المتولي هو من الدار مسقفا كان أو غير مسقف كما نقله عنه الرافعي وأقره وقول الزركشي وهو مشكل لخروجه عن العرف ليس هو في هذه الحالة خارجا عن العرف
( ولا ) يحنث جزما ( بصعود سطح ) من خارجها ( غير محوط ) لأنه لا يسمى داخل الدار لغة ولا عرفا لأنه حاجز يقي الدار الحر والبرد فهو كحيطانها ( وكذا ) سطح ( محوط ) من جوانبه الأربع بخشب أو قصب أو نحو ذلك لا يحنث بصعوده ( في الأصح ) لما مر والثاني يحنث لإحاطة حيطان الدار به
تنبيه محل الخلاف إذا لم يكن السطح مسقفا كله أو بعضه وإلا حنث قطعا إذا كان يصعد إليه من الدار لأنه من أبنيتها كما ذكره في الروضة ونازع البلقيني فيما إذا كان المسقف بعضه ودخل في المكشوف
وقال إن مقتضى كلام الماوردي عدم الحنث ويرد ذلك التعليل المذكور
( ولو أدخل يده أو رأسه ) أو رجله فيها ( لم يحنث ) لأنه لا يسمى داخلا وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه إلى عائشة رضي الله عنها وهو معتكف ولم يعد خروجا مبطلا للاعتكاف ( فإن وضع رجليه فيها معتمدا عليهما ) وباقي بدنه خارج ( حنث ) لأنه يسمى داخلا
واحترز بقوله معتمدا عليها عما لو أدخل رجلا فقط واعتمد عليها وعلى الخارجة فإنه لا يحنث لأنه لم يدخل فإن اعتمد على الداخلة فقط بحيث لو رفع الخارجة لم يسقط فهو كما لو اعتمد عليها كما نقل عن فتاوى البغوي وما لو مد رجليه فيها وهو قاعد خارجها فإنه لا يحنث لأنه لا يعد داخلا ولو تعلق بحبل أو جذع في هوائها وأحاط به بنيانها حنث وإن لم يعتمد على رجليه ولا إحداهما لأنه يعد داخلا فإن ارتفع بعض بدنه عن بنيانها لم يحنث ( ولو انهدمت فدخل وقد بقي أساس الحيطان حنث ) لأنها منها كذا قاله البغوي في التهذيب وتبعه في المحرر وجرى عليه المصنف وعبارة الشرح والروضة إن بقيت أصول الحيطان والرسوم حنث والمتبادر إلى الفهم من هذه العبارة بقاء شاخص بخلاف عبارة الكتاب فإن الأساس هو البناء المدفون في الأرض تحت الجدار البارز
قال الدميري وكأن الرافعي والمصنف لم يمعنا النظر في المسألة اه
والحاصل أن الحكم دائر مع بقاء اسم الدار وعدمه وبذلك صرح المصنف في تعليقه على المهذب
فقال نقلا عن الأصحاب إذا انهدمت فصارت ساحة لم يحنث أما إذا بقي منها ما تسمى معه دارا فإنه يحنث بدخولها
تنبيه كل هذا إذا قال لا أدخل هذه الدار فإن قال لا أدخل هذه حنث بالعرصة وإن قال دارا لم يحنث بفضاء ما كان دارا وهذه ترد على المصنف فإنه صور المسألة في أصلها بقوله دارا لكن مراده هذه الدار ولهذا قدرت في كلامه معينة
( وإن صارت ) تلك الدار المحلوف على دخولها ( فضاء ) بالمد وأريد به هنا الساحة الخالية من بناء ( أو جعلت مسجدا أو حماما أو بستانا فلا ) يحنث بدخولها لزوال مسمى الدار وحدوث اسم آخر لها
تنبيه مقتضى كلامه انحلال اليمين بذلك حتى لو أعيدت لم يحنث بدخولها وهو كذلك إن أعيدت بآلة أخرى فإن أعيدت بآلتها الأولى فالأصح في زوائد الروضة الحنث ولو حلف لا يدخل دارا مختارا ولا مكرها ولا ناسيا حنث بذلك كله عملا بتعليقه فلو انقلب الحالف من نومه بجنب الدار فحصل فيها أو حمل إليها ولو لم يمتنع لم يحنث إذ لا اختيار له في الأولى ولا فعل منه في الثانية وإن حمل إليها بأمره حنث كما لو ركب دابة ودخلها
( ولو حلف لا يدخل
____________________
(4/332)
دار زيد حنث بدخول ما ) أي دار ( يسكنها بملك ) سواء أكان مالكا لها عند الحلف أم بعده حتى لو قال لا أدخل دار العبد فلا يتعلق بمسكنه الآن بل ما يملكه بعد عتقه لوجود الصفة أو دارا تعرف به كدار العدل وإن لم يسكنها و ( لا ) يحنث بدخول ما يسكنها ( بإعارة وإجارة وغصب ) ووصية بمنفعتها ووقف عليه لأن مطلق الإضافة إلى من يملك تقتضي ثبوت الملك حقيقة بدليل أنه لو قال هذه الدار لزيد كان إقرارا له بالملك حتى لو قال أردت به ما يسكنها لم يقبل ولا فرق بين أن يحلف بالفارسية أو بغيرها خلافا للقاضي في قوله أنه إذا حلف بالفارسية أنه يحمل على المسكن ( إلا أن يريد ) بداره ( مسكنه ) فيحنث بالمعار وغيره وإن لم يملكه ولم يعرف به لأنه مجاز اقترنت به النية
قال الله تعالى { لا تخرجوهن من بيوتهن } المراد بيوت الأزواج اللاتي يسكنها ( ويحنث بما يملكه ) زيد ( ولا يسكنه ) لأنه دخل في دار زيد حقيقة هذا إذا كان يملك الجميع
فإن كان يملك بعض الدار فظاهر نص الأم أنه لا يحنث وإن كثر نصيبه وأطبق عليه الأصحاب كما قاله الأذرعي ( إلا أن يريد ) بداره ( مسكنه ) فلا يحنث بما لا يسكنه عملا بقصده
تنبيه كان ينبغي أن يقول بما يملكه أو لا يملكه ولكن لا يعرف إلا به ليشمل ما لو كان بالبلد دار أو سوق أو حمام مضاف إلى رجل كسوق أمير الجيوش وخان الخليلي بمصر وسوق يحيى ببغداد وخان يعلى بقزوين وسوق السخي بدمشق ودار الأرقم بمكة
قال في الروضة وكذا دار العقيقي بدمشق اه
ودار العقيقي هي المدرسة الظاهرية قاله ابن شهبة فيحنث بدخول هذه الأمكنة وإن كان من تضاف إليه ميتا لتعذر حمل الإضافة على الملك فتعين أن تكون للتعريف
( ولو حلف لا يدخل دار زيد ) مثلا ( أو لا يكلم عبده أو زوجته فباعهما ) أي الدار والعبد أو بعضهما بيعا يزول به الملك أو زال ملكه عنهما أو عن بعضهما بغير البيع ( أو طلقها ) أي زوجته طلاقا بائنا أو رجعيا وانقضت عدتها ( فدخل ) الدار ( وكلم ) العبد أو الزوجة ( لم يحنث ) تغليبا للحقيقة لأنه لم يدخل داره ولم يكلم عبده ولا زوجته لزوال الملك بالبيع ونحوه والزوجية بالطلاق فإن كان الطلاق رجعيا ولم تنقض العدة وكلم الزوجة حنث لأن الرجعية في حكم الزوجات ولو لم يزل الملك بالبيع لأجل خيار مجلس أو شرط لهما أو للبائع حنث إن قلنا الملك للبائع أو موقوف وفسخ البائع البيع فإنه يتبين أن الملك للبائع فيتبين حنث الحالف فلو قال المصنف فأزال ملكه عن بعضهما بدل فباعهما لكان أولى وأعم لتدخل الهبة وغيرها ( إلا أن يقول ) الحالف ( دار هذه أو زوجته هذه أو عبده هذا فيحنث ) تغليبا للإشارة اللهم ( إلا أن يريد ) الحلف بما ذكر ( ما دام ملكه ) عليه فلا يحنث مع الإشارة إذا دخل الدار أو كلم العبد بعد زوال الملك أو الزوجية بعد الطلاق البائن عملا بإرادته ومثل زوال ملكه عن العبد ما لو أعتق بعضه كما لو حلف لا يكلم عبدا فكلم مبعضا فإنه لا يحنث وكذا لو حلف لا يكلم حرا أو لا يكلم حرا ولا عبدا كما لو حلف لا يأكل بسرة ولا رطبة فأكل منصفة
فإنه لا يحنث ولو اشترى زيد بعد الدار دارا أخرى لم يحنث الحالف بدخولها إن أراد الدار الأولى وإن أراد أي دار تكون في ملكه حنث بالثانية وكذا إن أطلق كما ذكره البغوي وغيره وإن أراد أي دار جرى عليها ملكه حنث بهما ونقل الرافعي آخر الباب عن الحليمي أن الإضافة إن تعلقت بما يملك فالاعتبار بالمالك أو بما لا يملك فالاعتبار بالمحلوف عليه كما لو قال لا أكلم عبد فلان حنث لموجود في ملكه وبالمتجدد اعتبارا بالمالك وإن قال لا أكلم ولده فلان حنث بالموجود دون المتجدد والفرق أن اليمين تنزل على ما للمحلوف عليه قدرة على تحصيله
ولا يشكل على ذلك ما قاله صاحب الكافي من أنه لو حلف
____________________
(4/333)
لا يمس شعر فلان فحلقه فنبت شعر آخر فمسه حنث لأن هذا أصل الشعر المحلوف عليه فليس هو غيره
تنبيه يصح في قول المصنف ملكه الرفع على أنه اسم دام والنصب على أنه خبرها والخبر أو الاسم محذوف
( ولو حلف لا يدخلها ) أي الدار ( من ذا الباب فنزع ) من محله ( ونصب في موضع آخر منها ) أي الدار ( لم يحنث بالثاني ) أي بالدخول من المنفذ الثاني ( ويحنث بالأول في الأصح ) المنصوص فيهما حملا لليمين على المنفذ لأنه المحتاج إليه في الدخول دون المنصوب الخشب ونحوه
والثاني عكسه حملا على المنصوب
والثالث لا يحنث بدخول واحد منهما حملا على المنفذ والمنصوب معا
تنبيه ظاهر كلام المصنف أنه لا فرق في جريان الخلاف بين أن يسد الأول أو لا وهو كذلك وإن قيده في المهذب والتهذيب وتبعهما المصنف في نكت التنبيه بما إذا سد الأول ومحل الخلاف عند الإطلاق فإن نوى شيئا ممن ذلك حمل عليه قطعا واحترز المصنف بقوله من ذا الباب باسم الإشارة عما لو قال لا أدخلها من بابها فإنه يحنث بالباب الثاني في الأصح لأنه يطلق عليه اسم بابها
فرع لو حلف لا يركب على سرج هذه الدابة فركب عليه ولو على دابة أخرى حنث ( أو ) حلف ( لا يدخل ) أو لا يسكن ( بيتا ) ولا نية له ( حنث ) بالدخول أو السكنى ( بكل بيت من طين أو حجر أو آجر أو خشب ) أو قصب محكم كما قاله الماوردي ( أو خيمة ) ونحوها سواء أكان الحالف حضريا أم بدويا لأن اسم البيت يقع على ذلك كله حقيقة في اللغة كما لو حلف لا يأكل الخبز فإنه يحنث بجميع أنواعه
تنبيه أطلق المصنف الخيمة ومقتضى كلامهم كما قال الزركشي التصوير بما إذا اتخذت مسكنا وأشار إلى ذلك الصيمري في الإيضاح قال فأما ما يتخذها المسافر والمجتاز لدفع الأذى فلا تسمى بيتا ومحل ذلك عند الإطلاق فإن نوى نوعا منها انصرف إليه ومحله أيضا إذا تلفظ بالبيت بالعربية فلو حلف بالفارسية كأن قال والله لا أدخل درخانه لم يحنث بغير البيت المبني لأن العجم لا يطلقونه على غير المبني نقله الرافعي عن القفال وغيره وصححه في الشرح الصغير
( ولا يحنث ) على المذهب ( بمسجد ) وكعبة ( و ) بيت ( حمام ) ورحى ( وكنيسة وغار جبل ) لأنها لا تسمى بيتا عرفا فلا يشكل ذلك بتسمية المسجد بيتا في قوله تعالى { في بيوت أذن الله أن ترفع } ولا بتسمية الكعبة بيتا في قوله تعالى { وطهر بيتي للطائفين } كما لو حلف لا يجلس على بساط فجلس على الأرض فإنه لا يحنث مع أن الله تعالى سماها بساطا وكما لو حلف لا يجلس عند سراج فجلس عند الشمس مع أن الله تعالى سماها سراجا
تنبيه أطلق المصنف الغار ومحله كما قال البلقيني في غار لم يتخذ للسكنى فأما ما اتخذ من ذلك مسكنا فإنه يحنث به
وقال الأذرعي المراد بالكنيسة موضع تعبدهم أما لو دخل بيتا في الكنيسة فإنه يحنث قطعا ولا شك أنه لا يحنث بدخول ساحة المدرسة والرباط ونحوهما
وكذا الإيوان فيما يظهر ويحنث بدخول بيت من بيوتهما
( أو ) حلف ( لا يدخل على زيد فدخل بيتا فيه زيد وغيره ) عالما بذلك ذاكرا للحلف مختارا ( حنث ) مطلقا في الأظهر لوجود صورة الدخول عليه ( وفي قول إن نوى الدخول على غيره دونه لم يحنث ) كما في مسألة السلام الآتية وفرق الأول بأن الاستثناء يمتنع في الأفعال دون الأقوال بدليل أنه لا يصح أن يقال دخلت عليكم إلا زيدا ويصح سلمت عليكم إلا زيدا ولو دخل عليه دارا فإن كانت كبيرة يفترق المتبايعان فيها لم يحنث وإلا حنث ( فلو
____________________
(4/334)
جهل حضوره ) أي زيد في البيت ( فخلاف حنث الناسي والجاهل المذكورين في الطلاق والأصح عدم الحنث
تنبيه محل الخلاف إذا أطلق فإن قال لا أدخل عليه عامدا ولا ناسيا حنث بالدخول عليه ناسيا قطعا كما نقله القاضي الحسين
( قلت ولو حلف لا يسلم عليه فسلم على قوم هو فيهم ) وعلم به ( واستثناه ) لفظا أو نية ( لم يحنث ) في الأولى جزما ولا في الثانية عن المذهب لأنه أخرجه بالاستثناء عن أن يكون مسلما عليه ( وإن أطلق حنث في الأظهر والله أعلم ) لأن العام يجري على عمومه ما لم يخصص والثاني لا يحنث لأن اللفظ صالح للجميع وللبعض فلا يحنث بالشك فإن قصده حنث قطعا أو جهله فيهم لم يحنث أخذا مما مر
تنبيه يأتي الخلاف فيما لو سلم من صلاته وزيد من المؤتمين به كذا
قال الرافعي وقال ابن الصلاح إنه قياس المذهب وجزم به المتولي وقال البلقيني إنه لا يحنث بالسلام من الصلاة لأن المحلوف عليه إنما هو السلام الخاص الذي يحصل به الأنس وزوال الهجران وهذا إنما يكون في السلام في غير الصلاة قال وما ذكره الرافعي أخذه الشامل وهو بحث له فإن قال إنه الذي يقتضيه المذهب اه
ويمكن حمل كلام الرافعي على ما إذا قصده بالسلام وكلام البلقيني على ما إذا قصد التحلل أو أطلق وقال الزركشي ما قاله الرافعي خارج عن العرف ثم قال ويحتمل التفصيل بين أن يقصده أم لا كما في قراءة الآية المفهمة اه
وهذا قريب من الحمل المذكور وهو ظاهر أن محل ذلك إذا سمع سلامه فقد صرح الرافعي في باب الطلاق بعدم الحنث فيما إذا كان المسلم عليه في الصلاة وبعد بحيث لا يسمع سلام المسلم عليه
فصل في الحلف على أكل أو شرب مع بيان ما يتناوله بعض المأكولات إذا ( حلف ) شخص ( لا يأكل الرؤوس ) أو الرأس أو لا يشتريها ( ولا نية له حنث برؤوس تباع وحدها ) وهي رؤوس الغنم قطعا وكذا الإبل والبقر على الصحيح لأن ذلك هو المتعارف وإن اختص بعضها ببلد الحالف ( لا ) برؤوس ( طير وحوت وصيد ) وخيل ( إلا ببلد تباع فيه مفردة ) لكثرتها واعتياد أهلها فيحنث بأكلها فيه لأنه كرؤوس الأنعام في حق غيرهم وسواء أكان الحالف من تلك البلدة أم لا وإن كان في بلد لا تباع فيه مفردة بل تباع في غيره مفردة حنث على الأقوى في الروضة لشمول الاسم ولأن ما ثبت فيه العرف في موضع ثبت في سائر المواضع كخبز الأرز
قال وهو الأقرب إلى ظاهر النص اه
وهذا هو الظاهر وقيل يحنث وصححه المصنف في تصحيح التنبيه ورجحه الشيخ أبو حامد وغيره وقطع به المحاملي وهو مفهوم كلام المتن وأصله ومال إليه البلقيني قال والأول مقيد بما إذا انتشر العرف بحيث بلغ الحالف وغيره وإلا فلا حنث اه
أما إذا نوى شيئا منها فإنه يعمل به وإن نوى مسمى الرأس حنث بكل رأس وإن لم تبع وحدها وإن قال لا آكل رؤوس الشوى حنث برؤوس الغنم فقط دون رؤوس غيرها كما قاله الأذرعي وتبعه ابن المقري
تنبيه قول المصنف حنث برؤوس يقتضي أنه لا بد من أكل جمع من الرؤوس وصرح بهن القطان في فروعه وقال لا بد من أكل ثلاثة منها لكن قال الأذرعي إن ظاهر كلامهم أو صريحه أن إطلاق اليمين محمول على الجنس حتى لو أكل رأسا أو بعضه حنث اه
وهذا هو الظاهر
قال الشيخ أبو زيد لا أدري ما إذا بنى الشافعي عليه مسائل الأيمان وإن اتبع اللفظ فمن حلف لا يأكل الرؤوس ينبغي أن يحنث بكل رأس وإن اتبع العرف
____________________
(4/335)
فأصحاب القرى لا يعدون الخيام بيوتا ولم يفرق بين القروي والبدوي وأجاب عنه الرافعي في آخر الباب بأنه يتبع مقتضى اللغة تارة وذلك عند ظهورها وشمولها وهو الأصل وتارة يتبع العرف إذا اشتهر واطرد وذكر الشيخ عز الدين نحوه فقال قاعدة الإيمان البناء على العرف إذا لم يضطرب فإذا اضطرب فالرجوع إلى اللغة اه
ولو اقتصر المصنف على صيد لشمل رأس سمك وطير فإن كل منهما صيد ويجوز في طير وما بعده الرفع أيضا ويقال لبياع الرؤوس رآس والعامة يقولون رواس
( والبيض ) جمع بيضة ( يحمل ) فيمن حلف لا يأكل بيضا ( على ) بيض ( مزايل ) أي مفارق ( بائضه في الحياة كدجاج ) بتثليث الدال أي بيضة وبيض إوز وبط ( ونعامة وحمام ) وعصافير ونحوها لأنه المفهوم عند الإطلاق
تنبيه قضية تمثيله التخصيص ببيض المأكول وبه صرح صاحب الكافي فقال ولا يحنث ببيض ما لا يؤكل والأصح كما في المجموع حل أكله بلا خلاف إذا قلنا بطهارته لأنه طاهر غير مستقذر وإن نازع في ذلك البلقيني وقول المصنف على مزايل بائضه أي ما شأنه ذلك لا المزايلة الحقيقية فإنه لو خرج من الدجاجة بعد موتها بيض متصلب حنث به على الأصح في زيادة الروضة ثم لا فرق في الحنث بين أكله وحده أو مع غيره إذا ظهر فيه بخلاف ما إذا أكله في شيء لا تظهر صورته فيه كالناطف فإنه لا يخلو عن بياض البيض فلا يحنث به
قاله في التتمة وبه أجاب المسعودي لما توقف القتال فيمن حلف لا يأكل البيض
ثم لقي رجلا فحلف ليأكلن مما في كمه فإذا هو بيض فقال يتخذ منه الناطف ويؤكل ويكون قد أكل مما في كمه ولم يأكل البيض فاستحسن ذلك
( لا ) بيض ( سمك ) وهو المسمى بالبطارخ ( و ) لا بيض ( جراد ) فلا يحنث الحالف على أكل البيض بهما لأنه إنما يخرج بعد الموت بشق البطن ولو بيع بيض السمك منفردا لم يحنث بأكله لأنه استجد اسما آخر وهو البطارخ ولا يحنث بخصية شاة لأنها لا تفهم عند الإطلاق هذا كله إذا لم ينو شيئا وإن نوى شيئا فكما سبق في الرؤوس كما صرح به الماوردي و المتولي
ولا يجوز أكل مصارين السمك المملوح مع بيضه لأنها محتوية على النجاسة ( و ) يحمل ( اللحم ) فيمن حلف لا يأكله ( على ) لحم ( نعم ) من إبل وبقر وغنم ( و ) لحم ( خيل ) وهذا مزيد على المحرر والروضة كأصلها وصرح به ابن الصباغ وغيره ( و ) لحم ( وحش وطير ) مأكولين لوقوع اسم اللحم عليه حقيقة فيحنث بالأكل من مذكاها سواء أكله نيئا أم لا
ولا يحنث بلحم ما لا يؤكل كالميتة والحمار لأن قصده الامتناع عما لا يعتاد أكله ولأن اسم اللحم إنما يقع على المأكول شرعا
وإن قال الأذرعي يظهر أن يفصل بين كون الحالف ممن يعتقد حل ذلك فيحنث وإلا فلا
( ولا ) على لحم ( سمك ) وجراد لأنه لا يسمى لحما في العرف وإن سماه الله تعالى لحما
ولهذا يصح أن يقال ما أكلت لحما بل سمكا كما لا يحنث بالجلوس على الأرض إذا حلف لا يجلس على بساط كما مر وإن سماها الله تعالى بساطا
تنبيه أفهم إطلاقه لحم السمك أنه لا فرق بين أن تجري عادة ناحيته ببيع لحمه مفردا أم لا وبه صرح ابن القاص
هذا كله عند الإطلاق
فإن نوى شيئا حمل عليه
( و ) لا ( شحم بطن ) وشحم عين لمخالفتهما اللحم في الاسم والصفة ( وكذا كرش ) بكسر الراء ويجوز إسكانها مع فتح الكاف وكسرها
وهو للحيوان كالمعدة للإنسان ( وكبد ) بفتح الكاف وكسر الباء الموحدة ويجوز إسكانها مع فتح الكاف وكسرها ( وطحال ) بكسر الطاء ( وقلب ) ورئة ومعي ( في الأصح ) لأنه يصح أن يقال أنها ليست لحما
قال الأذرعي وكذا الثدي والخصية في الأقرب
والثاني يحنث بها لأنها في حكم اللحم
قال ابن أبي عصرون ولا يحنث بقانصة الدجاجة أي ونحوها قطعا لأنها لا تدخل في مطلق الاسم
فائدة روى البيهقي في الشعب عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال العقل في القلب والرحمة في الكبد
____________________
(4/336)
والرأفة في الطحال
( والأصح تناوله ) أي اللحم ( لحم رأس ولسان ) لصدق الاسم عليهما والثاني لا لأنه لا يطلق عليهما إلا مضافا فيقال لحم رأس ولحم لسان ويجري الخلاف في لحم الخد والأكارع وينبغي أن يكون الآذان كذلك وأما الجلد فلا يحنث به الحالف لا يأكل لحما لأنه لا يؤكل غالبا لأنه جنس غير اللحم كما ذكره الرافعي في الربا ( و ) يتناول اللحم أيضا ( شحم ظهر وجنب ) وهو الأبيض الذي لا يخالطه لحم أحمر لأنه لحم سمين ولهذا يحمر عند الهزال والثاني المنع نظرا إلى اسم الشحم قال تعالى { حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما } أي ما علق بها منه فسماه شحما وبهذا قال أبو حنيفة و مالك ( و ) الأصح ( أن شحم الظهر ) فيمن حلف لا يأكل شحما ( لا يتناوله الشحم ) لما مر أنه لحم والثاني يتناوله لما مر أيضا أنه شحم
أما شحم البطن فيحنث به جزما ( و ) الأصح وعبر في الروضة بالصحيح ( أن الألية ) بفتح الهمزة ( والسنام ) بفتح السين ( ليسا ) أي كل منهما ( شحما ولا لحما ) لأنهما يخالفان كلا منهما في الاسم والصفة فإذا حلف لا يأكل اللحم أو الشحم لا يحنث بهما ( والألية لا تتناول سناما و ) السنام ( لا يتناولها ) لاختلاف الاسم والصفة وهذا لا خلاف فيه كما اقتضاه كلام الرافعي وغيره وعلى هذا فنقرأ الألية بالرفع على أنها مبتدأ ولا يصح أن تكون معطوفة على ما قبلها من مسائل الخلاف ( والدسم ) وهو الودك ( يتناولهما ) أي الألية والسنام ( و ) يتناول ( شحم ظهر وبطن وكل دهن ) لصدق الاسم على جميع ذلك
تنبيه قيد بعضهم الدهن بكونه يؤكل عادة ليخرج ما لا يؤكل عادة كدهن خروع أو شرعا كدهن ميتة وهو حسن
فإن قيل كيف أدخل المصنف شحم الظهر في الدسم مع أنه عنده لحم وهو لا يدخل في الدسم أجيب بأنه لما صار سمينا صار يطلق عليه اسم الدسم وإن لم يطلق الدسم على كل لحم وخرج بالدهن أصوله كالسمسم والجوز واللوز
فإن قيل لم لم يذكر المصنف اللبن في الدسم مع أنه ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم شرب لبنا ثم تمضمض وقال إن له دسما
أجيب بأنه لم يقل إنه دسم
فإن قيل قد أكل منه الدسم
أجيب بأنه مستهلك ولا يحنث بدهن السمسم من حلف لا يأكل دهنا كما قاله البغوي وفي معناه دهن جوز ولوز ونحوهما
( ولحم البقر يتناول جاموسا ) فيحنث بأكله من حلف لا يأكل لحم بقر لدخوله تحت اسم البقر ولهذا جعلوهما في باب الربا جنسا واحدا ويدخل فيه بقر الوحش في الأصح لصدق الاسم عليه بخلاف ما لو حلف لا يركب حمارا فركب حمارا وحشيا لا يحنث لأن المعهود للركوب الحمار الأهلي بخلاف الأكل قاله الرافعي
وقياس ما قالوه هنا تناول الغنم للمعز لما مر
فروع لو حلف لا يأكل ميتة لم يحنث بمذكاة ولا بسمك وجراد كما لو حلف لا يأكل دما فأكل كبدا أو طحالا ولو حلف لا يأكل لبنا فأكل شيرازا وهو بكسر الشين المعجمة لبن يغلى فيسخن جدا ويصير فيه حموضة أو دوغا وهو بضم الدال وإسكان الواو وبالغين المعجمة لبن ثخين نزع زبده وذهبت مائيته أو ماشتا وهو بشين معجمة وتاء مثناة فوقية لبن ضأن مخلوط بلبن حنث لصدق اسم اللبن على ذلك وسواء أكان من نعم أو من صيد
قال الروياني أو آدمي أو خيل بخلاف ما لو أكل لوزا وهو بضم اللام وإسكان الواو وبالزاي شيء بين الجبن واللبن الجامد نحو الذي يسمونه في بلاد مصر قريشة أو مصلا وهو بفتح الميم شيء يتخذ من ماء اللبن لأنهم إذا أرادوا أقطا أو غيره جعلوا اللبن في وعاء من صوف أو خوص أو كرباس ونحوه فينز ماؤه فهو المصل أو جبنا وتقدم ضبطه في باب السلم أو كشكا وهو بفتح الكاف معروف أو أقطا أو سمنا إذ لا يصدق على ذلك اسم اللبن وأما الزبد فإن ظهر فيه لبن فله حكمه وإلا فلا وكذا القشطة كما بحثه شيخنا والسمن والزبد والدهن متغايرة فالحالف على شيء منها لا يحنث بالباقي للاختلاف في الاسم والصفة ولو حلف على الزبد والسمن لا يحنث باللبن ولو حلف لا يأكل اللبأ وهو أول اللبن
____________________
(4/337)
ويحدث بالولادة لم يحنث بما يحلب قبلها
( ولو قال ) في حلفه ( مشيرا إلى حنطة ) مثلا ( لا آكل هذه حنث بأكلها على هيئتها وبطحنها وخبزها ) تغليبا للإشارة هذا عند الإطلاق فإن نوى شيئا حمل عليه
تنبيه قال الأذرعي واعلم أن كلامه مصرح في هذه الصورة وأشباهها بأنه إنما يحنث بأكل الجميع وقالوا لو قال لا آكل هذا الرغيف لم يحنث ببعضه فلو بقي منه ما يمكن التقاطه وأكله لم يحنث وهو يفهم الحنث فيما إذا بقي ما لا يمكن التقاطه وأكله ولا شك أن الحنطة إذا طحنت يبقى في ثقوب الرحى منها بقية دقيق ويطير منه شيء وإذا عجن يبقى في المعجن غالبا منها بقية وإذا أكل الخبز يبقى منه فتات صغير وهذا كله مما يوجب التوقف في الحنث بأكل خبزها عند من ينظر إلى حقيقة اللفظ ويطرح العرف
وقد حكى أبو بكر بن العربي في فوائد رحلته قال وكنت أجلس كثيرا في مجلس الشاشي يعني صاحب الحلية فيأتي إليه الرجل يقول حلفت بالطلاق أن لا ألبس هذا الثوب وقد احتجت إلى لبسه فيقول سل منه خيطا فيسل منه خيطا مقدار الشبر أو الأصبع ثم يقول البس لا شيء عليك اه
وعلى هذا إذا تحقق ذهاب ما ذكر لا يحنث
( ولو ) صرح في حلفه بالإشارة مع الاسم كأن ( قال لا آكل هذه الحنطة حنث بها مطبوخة ) مع بقاء حباتها ( ونيئة ومقلية ) بفتح الميم لأن الاسم لم يزل
إن هرست في طبخها لم يحنث لزوال اسم الحنطة كما يؤخذ من قوله ( لا بطحينها وسويقها وعجينها وخبزها ) بضم الخاء لزوال الاسم والصورة
تنبيه لو أخر اسم الإشارة كأن قال لا آكل الحنطة هذه فهو كما لو اقتصر على الإشارة
( ولا يتناول رطب ) بضم الراء حلف على أكله ( تمرا ولا بسرا ) بضم الباء الموحدة ولا بلحا ( ولا ) يتناول ( عنب زبيبا وكذا العكوس ) لهذه المذكورات فلا يحنث بأكل التمر من حلف لا يأكل رطبا وكذا الباقي لاختلافها اسما وصفة
تنبيه لو حلف لا يأكل رطبا أو بسرا فأكل منصفا وهو بضم الميم وفتح النون وكسر الصاد المهملة المشددة حنث لاشتماله على كل منهما فإن حلف لا يأكل رطبا فأكل غير الرطب منه فقط أو لا يأكل بسرا فأكل الرطب منه فقط لم يحنث
قال أهل اللغة تمر النخل أوله طلع وكافور ثم خلاف بفتح الخاء المعجمة واللام المخففة ثم بلح ثم بسر ثم رطب ثم تمر فإذا بلغ الأرطاب منصف البصرة قيل منصفه فإن بدا من ذنبها ولم يبلغ النصف قيل مذنبة بكسر النون ويقال في الواحدة بسرة بإسكان السين وضمها والجمع بسر بضم السين وبسرات وأبسر النخل ار ثمره بسرا وهل يتناول البسر المشدخ وهو ما لم يترطب بنفسه بل عولج حتى ترطب وهو المسمى في مصر بالمعمول قال الزركشي فيه نظر وقد ذكروا في السلم أنه لو أسلم إليه في رطب فأحضر إليه مشدخا لا يلزمه قبوله لأنه لا يتناوله اسم الرطب
( ولو قال ) الحالف ( لا آكل هذا الرطب فتتمر ) أي صار تمرا ( فأكله أو لا أكلم ذا الصبي ) وأطلق ( فكلمه شيخا فلا حنث في الأصح ) لزوال الاسم كما في الحنطة والثاني يحنث لبقاء الصورة وإن تغيرت الصفة كما لو قال لا آكل هذا اللحم فجعله شواء وأكله أما إذا قصد الامتناع من أكل هذه الثمرة وكلام هذا الشخص فإنه يحنث وإن تبدلت الصفة ويجري الخلاف في نظائر هذا كما لو قال لا آكل من هذا البسر فصار رطبا أو العنب فصار زبيبا أو العصير فصار خمرا أو هذه الخمر فصار خلا أو لا آكل من لحم هذه السخلة أو الخروف فصار كبشا فذبحه وأكله أو لا أكلم هذا العبد فعتق
تنبيه قوله شيخا يوهم أنه لو كلمه بالغا يحنث وليس مرادا فلو عبر بالبالغ لدل على الشيخ من باب أولى
____________________
(4/338)
ولو قال مشيرا إلى سخلة لا آكل من لحم هذه البقرة حنث بأكلها تغليبا للإشارة
( والخبز ) في حلقه على أكله ( يتناول كل خبز كحنطة وشعير ) بفتح الشين أفصح من كسرها ( وأرز ) بفتح الهمزة وضم الراء وتشديد الزاي ( وباقلا ) بتشديد اللام مع القصر اسم للفول ( وذرة ) بإعجام الذال بخطه وهي الدهن وتكون سوداء وبيضاء ( وحمص ) بكسر الحاء بخطه ويجوز فتح الميم وكسرها وسائر المتخذ من الحبوب كالعدس وإن لم يكن بعضها معهودا ببلده لأن الجميع خبز واللفظ باق على مدلوله من العموم وعدم الاستعمال لا يوجب تخصيصا لوجود الاسم كما لو حلف لا يلبس ثوبا فإنه يحنث بكل ثوب وإن لم يعهده ببلده وخبز الملة وهي بفتح الميم وتشديد اللام الرماد الحار كغيره ( فلو ثرده ) بالمثلثة مخففا ( فأكله حنث ) وكذا لو ابتلعه بلا مضغ كما في الروضة كأصلها هنا وفي الطلاق فيها أنه لا يحنث بالبلع إذا حلف لا يأكل فعد ذلك تناقضا
وأجاب شيخي عن ذلك بأن ما في الطلاق مبني على اللغة والبلع فيها لا يسمى أكلا والأيمان مبناها على العرف والبلع فيها يسمى أكلا والجمع أولى من تضعيف أحد الموضعين ولو جعله في مرقة حسوا أي مائعا يشرب شيئا بعد شيء أو فتيتا وهو الخبز يفت في الماء بحيث يبقى فيه كالحسو فشرب الحسو أو الفتيت
ويقال فيه الفتوت بفتح الفاء فيهما لم يحنث به لأنه حينئذ لا يسمى خبزا قال ابن الرفعة ويظهر أنه لو دق الخبز اليابس ثم أكله لم يحنث لأنه استجد اسما آخر كالدقيق
قال في الروضة ولا يحنث بأكل الجوزنيق في الأصح وهو القطائف المحشوة بالجوز ومثله اللوزنيق وهو القطائف المحشوة باللوز قال ابن خلكان وعلل ذلك بأنه مقلي وأخذ بعض المتأخرين من ذلك أن الضابط في الخبز كل ما خبز لا ما قلي
قال في زيادة الروضة وأما البقسماط والبسيس والرقاق وبيض لذلك
قال في المهمات
أما البقسماط فسماه الجوهري خبزا والرقاق في معناه نعم أهل العرف لا يسمون ذلك خبزا وأما البسيس فهو أن يلت السويق أو الدقيق أو الأقط المطحون بالسمن أو بالزيت ثم يؤكل من غير طبخ كذا ذكره الجوهري وأنشد عليه لا تخبز خبزا وبساسا وإذا علمت ما ذكره تفسيرا واستدلالا قطعت بأنه لا يحنث بالبسيس اه
وقال الأذرعي يظهر الحنث بالرقاق والبقسماط وكذا ببسيس أو خبز لا إن قلي بشيرج
قال والمراد به أي بما يخبز ما يتعاطاه أهل الشام من أنهم يعجنون دقيقا ويخبزونه قبل أن يختم ثم يبسونه بغربال ونحوه ويضيفون إليه سمنا وقد يزاد عسلا أو سكرا اه
وقوله إلا إن قلي فيه إشارة إلى الضابط المذكور وعليه يحنث بالكنافة ولا يحنث بالزلابية
وفيه نظر بل رجح الأشموني في بسط الأنوار أن البقسماط ونحوه لا يسمى خبزا والظاهر أن الضابط في ذلك العرف لا ما يخبز ويقلى
وقال بعض المتأخرين ينبغي الحنث في الجميع إن اعتمدنا اللغة وعدمه إن اعتمدنا العرف ( و ) الأفعال المختلفة الأجناس كالأعيان لا يتناول بعضها بعضا والشرب ليس أكلا ولا عكسه فعلى هذا لو حلف لا يأكل سويقا فسفه أو تناوله ( بأصبع ) مبلولة أو نحوها ( حنث ) لأنه يعد أكلا
تنبيه قضية كلامه أنه لا يشترط في حصول اسم الأكل المضغ بل يكفي البلع وهو كذلك وتقدم الفرق بينه وبين الطلاق عند قول المصنف فلو ثرده
( وإن جعله ) أي السويق ( في ماء ) أو مائع وغيره حتى انماع ( فشربه فلا ) لعدم الأكل فإن كان خائرا بحيث يؤخذ منه باليد حنث ( أو ) حلف ( لا يشربه ) أي السويق ( فبالعكس ) فيحنث في الثانية لوجود المحلوف عليه دون الأولى لأنه لم يشربه
فروع لو حلف لا يأكل سويقا ولا يشربه فذاقه لم يحنث لأنه لم يأكل ولم يشرب وإن حلف لا يذوق شيئا فمضغه ولفظه حنث لأن الذوق معرفة الطعم وقد حصل ولو حلف لا يأكل ولا يشرب ولا يذوق فأوجر في حلقه وبلغ جوفه لم يحنث لأنه لم يأكل ولم يشرب ولم يذق أو لا يطعم حنث بالإيجار من نفسه أو من غيره باختباره لأن معناه لأجعلنه لي طعاما وقد جعله له طعاما ولو حلف لا يأكل العنب أو الرمان فامتصه ولم يزدرد شيئا من تفله لم يحنث
____________________
(4/339)
وينبغي أن يكون القصب كذلك ولم أر من ذكره
( أو ) حلف لا يأكل لبنا أو ( مائعا آخر ) كالزيت ( وأكله بخبز حنث ) لأنه كذلك يؤكل ( أو شربه فلا ) يحنث لأنه لم يأكله ( أو ) حلف ( لا يشربه فبالعكس ) فيحنث بالثانية لوجود المحلوف عليه دون الأولى لعدمه
تنبيه لو حلف لا يأكل السكر فوضعه بفيه وذاب وابتلعه لم يحنث ولا يحنث بما اتخذ منه إلا إن نوى وكذا الحكم في التمر والعسل ونحوهما
( أو ) حلف ( لا يأكل سمنا فأكله بخبز جامدا أو ذائبا ) بمعجمة بخطه ( حنث ) لأنه فعل المحلوف عليه وذاب فأشبه ما لو حلف لا يدخل على زيد فدخل على زيد وعمرو
فإن قيل بل يشبه ما لو حلف لا يأكل ما اشتراه زيد فأكل مما اشتراه زيد وعمرو فلا يحنث كما قاله الإصطخري
أجيب بأنه ههنا آكل له بخلافه ثم فإنه ليس بآكل ما اشتراه المحلوف عليه ( وإن شرب ) ه ذائبا ( فلا ) يحنث لأنه لم يأكله ( وإن أكله في عصيدة ) وهي كما قاله ابن مالك دقيق يلت بسمن وبطبخ
قال ابن قتيبة سميت بذلك لأنها تعصد بآلة أي تلوى ( حنث إن كانت عينه ظاهرة ) بحيث يرى جرمه بأن بقي لونه وطعمه لما مر
فإن كانت عينه مستهلكة فلا وإن حلف لا يشربه فشربه صرفا حنث وإن مزجه بغيره حنث إن غلب على غيره بلونه وطعمه ولم يحنث إن غلب عليه غيره بلونه وطعمه قاله الماوردي
فإن لم يغلب أحدهما فينبغي كما بحثه بعض المتأخرين أنه يحنث ولو جعل الخل المحلوف عليه في سكباج فظهر لونه وطعمه حنث وإن استهلكه فلا
فروع لو حلف لا يشرب من هذا الكوز فجعل ماؤه في غيره وشربه لم يحنث لأن اليمين تعلقت بالشرب من الكوز ولم يوجد وإن حلف لا يشرب من ماء هذا النهر مثلا أو لأشربن منه فشرب من مائه في كوز حنث في الأول وبر في الثاني وإن قل ما شربه أو حلف لا أشرب أو لأشربن ماء هذا الكوز أو الإداوة أو نحو ذلك مما يمكن استيفاؤه شربا في زمان وإن طال لم يحنث في الأول ولم يبر في الحال وفي الثاني يشرب بعضه بل يشرب الجميع لأن الماء معرف بالإضافة فيتناول الجميع
قال الدميري ولو قال لا أشرب ماء النيل أو ماء هذا النهر أو الغدير لم يحنث بشرب بعضه هذا هو الصواب
والذي وقع في الروضة بخط المصنف عكس ذلك سبق قلم اه
ولو حلف ليصعدن السماء غدا حنث في الغد لأن اليمين معقودة على الصعود فيه فإن لم يقل غدا حنث في الحال
ولأشربن ما في هذا الكوز وكان فارغا وهو عالم بفراغه
أو لأقتلن زيدا وهو عالم بموته حنث في الحال لأن العجز متحقق فيه
وإن كان فيه ماء فانصب منه قبل إمكان شربه فكالمكره أو لأشربن منه فصبه في ماء وشرب منه بر إن علم وصوله إليه ولو حلف ليشربنه من الكوز فصبه في ماء وشربه أو شرب منه لم يبر وإن علم وصوله إليه لأنه لم يشربه من الكوز فيها ولم يشربه جميعه في الثانية ولو حلف أنه لا يشرب هذا النهر أو نحوه أو لا يأكل خبز الكوفة ونحوها أو لا يصعد السماء لم تنعقد يمينه لأن الحنث في ذلك غير متصور وفارق ما لو حلف أنه فعل كذا أمس وهو صادق حيث ينعقد يمينه وإن لم يتصور فيه الحنث بأن الحلف ثم محتمل للكذب ولو حلف لا يشرب ماء فراتا أو من ماء فرات حنث بالماء العذب من أي موضع كان لا بالملح أو من ماء الفرات حمل على النهر المعروف
ولو حلف لا يشرب الماء حنث بكل ماء حتى ماء البحر وشرب ماء الثلج والجمد لا أكلهما فشربهما غير أكلهما وأكلهما غير شربهما والثلج غير الجمد
( ويدخل في فاكهة ) حلف لا يأكلها ( رطب وعنب ورمان ) وتفاح وسفرجل وكمثري ومشمش وخوخ ( وأترج ) بضم الهمزة والراء وتشديد الجيم ويقال فيه أترنج بالنون وترج ( ورطب ويابس ) كتمر وزبيب وتين يابس ومفلق وخوخ ومشمش لوقوع الاسم على ذلك لأن الفاكهة ما يتفكه بها أي يتنعم بأكلها أو لا يكون قوتا كما قاله البندنيجي وغيره
وفي شمول الفاكهة للزيتون وجهان أوجههما عدم الشمول
وشرط الزبيدي في
____________________
(4/340)
الفاكهة النضج
قال فلو تناوله قبل إدراكه ونضجه وطيبه لم يكن عندي حانثا ولا أحفظ عن أحد فيه شيئا وإنما هو شيء رأيته لأنه ليس في معنى الغذاء ولا الطعام بل هو كورق الشجر لا يدخل في التفكه اه
وجزم بهذا شيخنا في شرح الروض ولم يعزه لأحد وهو ظاهر
تنبيه قضية كلام المصنف عدم دخول البلح والحصرم في ذلك وبه صرح المتولي ومحله كما قال البلقيني في البلح في غير الذي احمر واصفر وحلا وصار بسرا أو ترطب بعضه ولم يصر رطبا فأما ما وصل إلى هذه الحالة فلا توقف أنه من الفاكهة وإنما ذكر المصنف الرطب والعنب والرمان لأجل خلاف أبي حنيفة فيه فإنه قال لا يحنث بها لقوله تعالى { فيهما فاكهة ونخل ورمان } وميز العنب عن الفاكهة في صورة عبس والعطف يقتضي المغايرة
قال الواحدي و الأزهري وهو خلاف إجماع أهل اللغة فإن من عادة العرب عطف الخاص على العام كقوله { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } فمن قال ليسا من الملائكة فهو كافر
وقال المصنف في تهذيبه لا تعلق فيها لمن أخرج النخل والرمان من الفاكهة لأنها نكرة في سياق الإثبات تصلح للقليل والكثير فلما عطف عليها أشعر بأنه ربما لم يدخلا في قوله فاكهة ولا يلزم من هذا خروجهما من جنس الفاكهة كلها وجرى عليه ابن الرفعة في المطلب واعترض بأنها وإن كانت نكرة في سياق الإثبات فإنها في سياق الامتنان
وهي تعم كما قاله القاضي أبو الطيب وغيره في الأصول فالصواب أنه من عطف الخاص على العام
( قلت ) أخذا من الرافعي في الشرح ( وليمون ) بفتح اللام وإثبات النون في آخره الواحدة ليمونة نقله الزركشي عن بعضهم وغلط من نفى النون منكرا على المصنف إثباتها
وقال المعروف ليمو بحذف النون ومثله النارنج ومحله في الطريين كما قيده الفارقي فالمملح منهما ليس بفاكهة واليابس منهما أولى بذلك بل قال بعضهم إن الطري منهما ليس بفاكهة عرفا وإنما يصلح به بعض الأطعمة كالخل ( و ) يدخل أيضا في فاكهة ( نبق ) طريه ويابسه وهو بفتح النون وسكون الموحدة وبكسرها وعليه اقتصر المصنف في خطه ثمر حمل السدر ( وكذا بطيخ ) بكسر الباء الموحدة وفتحها ( ولب فستق ) وهو بفتح التاء وضمها بخطه اسم جنس والواحدة فستقة ( و ) لب ( بندق ) بموحدة ودال مضمومتين كما عبر به المصنف وغيره وبالفاء كما عبر به الأزهري وغيره ( وغيرهما ) من اللبوب كلب لوز وجوز ( في الأصح ) أما البطيخ فلأن له نضخا وإدراكا كالفواكه
وأما اللبوب فإنها تعد من يابس الفواكه
والثاني المنع لأن ذلك لا يعد في العرف فاكهة واختاره الأذرعي ( لا قثاء ) بكسر القاف وضمها وبمثلثة مع المد ( و ) لا ( خيار و ) لا ( باذنجان ) بكسر المعجمة ( و ) لا ( جزر ) بفتح الجيم وكسرها بخطه لأنها من الخضراوات لا الفواكه فأشبهت البقل
تنبيه ظاهر كلامهم أن القثاء غير الخيار وهو الشائع عرفا ويؤيده ما في زيادة الروضة في باب الربا أن القثاء مع الخيار جنسان لكنه نقل في تهذيبه عن الجوهري أن القثاء الخيار ولم ينكره
قال الفزاري ومن العجب أن الخيار لا يكون من الفاكهة مع أن لب الفستق من الفاكهة والعادة جارية بجعل الخيار في أطباق الفاكهة دون الفستق والبندق
( ولا يدخل في ) حلفه على عدم أكل ( الثمار ) بمثلثة ( يابس ) منها ( والله أعلم ) فلا يحنث بأكله بخلاف الفاكهة ويدخل فيها يابسها وفرق بأن الثمر اسم للرطب من الفاكهة وصوب البلقيني إطلاقه على اليابس أيضا وقال أهل العرف يطلقون عليها ثمرا بعد اليبس ( ولو أطلق بطيخ وتمر وجوز ) فيمن حلف لا يأكل واحدا منها ( لم يدخل ) في حلفه ( هندي ) منها فلا يحنث بأكله للمخالفة في الصورة والطعم وكذا لا يتناول الخيار الشنبر والبطيخ الهندي هو الأخضر واستشكل عدم الحنث به في الديار المصرية والشامية فإن إطلاق البطيخ عندهم على الأخضر أكثر وأشهر فينبغي الحنث به كما جرى عليه البلقيني و الأذرعي وغيرهما ( والطعام ) يقع على الجميع بدليل قوله تعالى { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل } إذا
____________________
(4/341)
حلف لا يأكله ( يتناول قوتا وفاكهة وأدما وحلوى ) لأن اسم الطعام { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه }
تنبيه قضية كلامه أن الطعام لا يتناول الدواء وبه جزم الماوردي و الروياني واختاره الأذرعي وغيره وفيه وجهان في الروضة بلا ترجيح وجعله المصنف داخلا في اسم الطعام في باب الربا وتقدم الفرق بين البابين هناك والحلوى كل ما اتخذ من نحو عسل وسكر من كل حلو وليس جنسه حامضا كدبس وقند وفانيد لا عنب وإجاص ورمان أما السكر والعسل ونحوهما فليس بحلوى بدليل خبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل فيشترط في الحلوى أن تكون معقودة فلا يحنث إذا حلف لا يأكل الحلوى بغير المعمول بخلاف الحلو
قال في الروضة وفي اللوزينج والجوزنيج وجهان والأشبه كما قال الأذرعي الحنث لأن الناس يعدونها حلوى
قال الأذرعي ومثله ما يقال له المكفن والخشكنان والقطائف وإذا قصرت الحلوى كتبت بالياء وإلا فبالألف
فائدة روى البيهقي في الشعب عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قلب المؤمن حلو يحب الحلوى ونازع البلقيني المصنف في كون الطعام يتناول ما ذكر
ولو عرف الديار المصرية أن الطعام هو المطبوخ فلا يحنث إلا به ومن أمر غيره بشراء طعام فاشترى له شيئا من الحبوب أو الفواكه عد من الحمقى
والأيمان إنما ينظر فيها إلى اللغة إن لم يعارضها عرف شرعي أو عادي
قال ونقل عن عرف أهل الحجاز إطلاق الطعام على البر فإن كان عرفهم هذا حملت أيمانهم عليه اه
وهل يدخل التمر والزبيب واللحم في القوت لمن يعتاد كلا منهما أو لا وجهان أوجههما كما قال شيخنا عدم دخولها إذا لم يعتد إقياتها ببلد الحالف بخلاف ما لو اعتيد ذلك أو كان الحالف يقتاتها ومن الأدم الفجل والثمار والبصل والملح والخل والشيرج والتمر
( ولو ) تعارض المجاز والحقيقة المشتهرة قدمت عليه وحينئذ لو ( قال ) الحالف ( لا آكل من هذه البقرة تناول لحمها ) فيحنث به لأنه المفهوم عرفا وكذا شحمها وكبدها وغيرهما مما يؤكل منها كما صرح به القاضي حسين وغيره وإن أوهمت عبارة المصنف الاقتصار على اللحم ( دون ولد ) لها ( ولبن ) منها فلا يحنث بهما حملا على الحقيقة المتعارفة وأما الجلد فإن جرت العادة بأكله مسموطا حنث به وإلا فلا فإن كان المجاز مشتهرا قدم على الحقيقة المرجوحة كما أشار إليه بقوله ( أو ) لا آكل ( من هذه الشجرة فثمر ) منها يحنث الحالف به ( دون ورق وطرف غصن ) منها حملا على المجاز المتعارف لتعذر الحمل على الحقيقة لأن الأغصان والأوراق لا تراد في العرف والجمار كما قال البلقيني كالثمر قال وإن أكل الورق في بلدة أكلا متعارفا كورق بعض شجر الهند فقد أخبرني الثقة بأنهم يأكلونه وأنه مثل الحلوى وأحسن فيحنث به أيضا اه
فإن ثبت ذلك يكون كالجمار
قال ابن شهبة وإنما قالوا في التعليل المذكور لتعذر الحمل على الحقيقة للاحتراز عما إذا كان المجاز راجحا والحقيقة تتعاهد في بعض الأوقات كما لو قال لأشربن من هذا النهر فهو حقيقة في الكرع بفيه وإذا غرف بإناء وشربه فهو مجاز لأنه شرب من الكوز لا من النهر
لكنه المجاز الراجح المتبادر والحقيقة قد تراد لأن كثيرا من الرعاء وغيرهم يكرع بفيه
قال الزركشي والمختار عند الإمام فخر الدين والبيضاوي أنهما سواء لأن في كل منهما قوة ليست في الآخر وهو مقتضى المذهب
قال الرافعي قال فيما إذا حلف لا يشرب من ماء الفرات يحنث سواء أخذ الماء بيده أم في إناء فشرب أو كرع خلافا لأبي حنيفة فإنه قال لا يحنث إلا بالكرع
فصل في مسائل منثورة لو حلف لا يشم بفتح الشين المعجمة وحكى ضمها الريحان بفتح الراء حنث بشم الضميران وهو بفتح الضاد المعجمة وإسكان الياء التحتية وضم الميم الريحان الفارسي لانطلاق الاسم عليه حقيقة وإن شم الورد والياسمين لم يحنث لأنه مشموم لا ريحان ومثله البنفسج والنرجس والزعفران ولو حلف على ترك
____________________
(4/342)
المشموم حنث بذلك دون المسك والكافور والعنبر لأنها طيب لا مشموم ولو حلف على الورد والبنفسج لم يحنث بدهنهما و ( لو حلف لا يأكل هذه الثمرة ) المعينة ( فاختلطت بتمر فأكله إلا تمرة )
قال الصيمري أو أكل الغراب مثلا منه واحدة ( لم يحنث ) لاحتمال أن تكون المتروكة هي المحلوف عليها والأصل براءة ذمته من الكفارة والورع أن يكفر لاحتمال أنها غير المحلوف عليها فإن علم أنه أكلها أو أكل الكل حنث
قال القفال ويحنث بآخر تمرة يأكلها حتى لو كان الحلف بالطلاق فالعدة من حينئذ لا من وقت اشتغاله بالأكل
تنبيه كلامه يوهم أنه لو أكله إلا بعض تمرة أنه يحنث وليس مرادا فلو ذرها لعلم منها حكم ترك جميع التمرة من باب أولى
( أو ) حلف ( ليأكلنها ) أي التمرة المعينة ( فاختلطت ) بتمر كله ( لم يبر إلا بالجميع ) لاحتمال أن تكون المتروكة هي المحلوف عليها
أما إذا لم تخلط به كله كأن وقعت في جانب من الصبرة فأكل ذلك الجانب بر كما قاله الإمام ويقاس على ذلك ما إذا كانت التمرة متميزة عن أكثر التمر وهناك قليل يشبهها بر بأكل جميع ما يشبهها والضابط حصول اليقين بأكلها ( أو ) حلف ( ليأكلن هذه الرمانة فإنما يبر بجميع حبها ) لتعلق يمينه بالجميع ولهذا لو قال لا آكلها فترك منها حبة لم يحنث ( أو ) حلف ( لا يلبس هذين الثوبين ) وأطلق ( لم يحنث بأحدهما ) لأن الحلف عليهما فإن نوى أن لا يلبس منهما شيئا حنث بأحدهما كما نص عليه في الأم
ولو أتى بواو العطف بدلا عن التثنية كما لو قال لا ألبس هذا الثوب وهذا الثوب كان الحكم كذلك ( فإن لبسهما معا ) أي في مدة واحدة ( أو مرتبا ) بأن لبس أحدهما ثم قلعه ثم لبس الآخر ( حنث ) لوجود المحلوف عليه
تنبيه قد استعمل المصنف معا للاتحاد في الزمان وفاقا لثعلب وغيره لكن الراجح عند ابن مالك خلافه وقد مرت الإشارة إلى ذلك في كتاب الجراح
( أو ) قال في حلفه أنه ( لا ألبس هذا ولا هذا حنث بأحدهما ) لأنهما يمينان حتى لو حنث في أحدهما بقيت اليمين منعقدة على فعل الآخر حتى إذا وجد كفر أخرى لأن إدخال حرف العطف وتكرير لا بينهما يقتضي ذلك
ويخالف ما لو حذف لا فإنه لا يحنث إلا بالجميع كما مر لتردده بين جعلهما كالشيء الواحد والشيئين والأصل براءة الذمة وعدم الحنث فإذا أدخل لا فلا بد من فائدة وليس إلا إفراد كل منهما باليمين فحملت عليه ولذا قال النحاة إن النفي بلا لنفي كل واحد
ودونها لنفي المجموع
فروع لو حلف لا يلبس شيئا فلبس درعا وهي من الحديد مؤنثة عند الجمهور وحكى أبو عبيدة و الجوهري فيها التذكير والتأنيث هذا في درع الرجل وأما درع المرأة فمذكر باتفاق أو جوشنا بفتح الجيم والشين المعجمة أو خفا أو نعلا وهي مؤنثة أو خاتما أو قلنسوة أو نحوها من سائر ما يلبس حنث لصدق الاسم بذلك
وفرق بعضهم بين الدرع والجوشن بأن الأول سابغ كله والثاني إلى نصف الفخذ وإلى نصف العضد وإن حلف لا يلبس ثوبا حنث بقميص ورداء وسراويل وجبة وقباء ونحوها مخيطا كان أو غيره من قطن وكتان وصوف وإبريسم سواء لبسه بالهيئة المعتادة أم لا بأن ارتدى أو اتزر بالقميص أو تعمم بالسراويل لتحقق اسم اللبس والثوب لا بالجلود والقلنسوة والحلي لعدم اسم الثوب
نعم إن كان من ناحية يعتادون لبس الجلود ثيابا فيشبه كما قال الأذرعي أنه يحنث بها ولا يحنث بوضع الثوب على رأسه ولا بافتراشه تحته ولا بتدثره لأن ذلك لا يسمى لبسا وإنما حرم افتراش الحرير لأنه نوع استعمال فكان كسائر أنواع الاستعمال
وإن حلف على رداء أنه لا يلبسه ولم يذكر الرداء في يمينه بل قال لا ألبس هذا الثوب فقطعه قميصا ولبسه حنث لأن اليمين على لبسه ثوبا فحمل على العموم كما لو حلف لا يلبس قميصا منكرا أو معرفا كهذا القميص فارتدى أو اتزر به حنث لتحقق اسم اللبس والقميص
وقد مر نظيره في الحلف على لبس الثوب لا إن ارتدى أو اتزر به بعد فتقه لزوال اسم القميص فلو أعاده على هيئته الأولى فكالدار
____________________
(4/343)
المعادة بنقضها وقد مر حكمها ولو قال لا ألبس هذا الثوب وكان قميصا أو رداء فجعله نوعا آخر كسراويل حنث بلبسه لتعلق اليمين بعين ذلك الثوب إلا أن ينوي ما دام بتلك الهيئة أو لا ألبس هذا القميص أو الثوب قميصا فارتدى به أو اتزر أو تعمم لم يحنث لعدم صدق الاسم بخلاف ما لو قال لا ألبسه وهو قميص وإن حلف لا يلبس حلية فلبس خاتما أو مخنقة لؤلؤ وهي بكسر الميم وتخفيف النون مأخوذة من الخناق بضم الخاء وتخفيف النون والمخنق بفتح الخاء والنون المشددة موضع المخنقة من العنق أو تحلى بالحلي المتخذ من الذهب والفضة والجواهر ولو منطقة محلاة وسوارا وخلخالا ودملجا سواء أكان الحالف رجلا أو امرأة حنث لأن ذلك يسمى حليا ولا يحنث بسيف محلى لأنه ليس حليا ويحنث بالخرز والسبج بفتح المهملة والموحدة والجيم وهو الخرز الأسود وبالحديد والنحاس إن كان من قوم يعتادون التحلي بها كأهل السودان وأهل البوادي وإلا فلا كما يؤخذ من كلام الروياني
ولو حلف لا يلبس خاتما فجعله في غير خنصره من أصابعه حنثت المرأة دون الرجل كما جزم به ابن الرفعة وتبعه ابن المقري في روضه وقيل يحنث مطلقا
قال الأذرعي وهو الراجح لوجود حقيقة اللبس وصدق الاسم
قال والظاهر أنه لا فرق بين لبسه في الأنملة العليا أو الوسطى أو السفلى
( أو ) حلف ( ليأكلن ذا الطعام غدا فمات قبله ) أي الغد ( فلا شيء عليه ) لأنه لم يبلغ زمن البر والحنث ( وإن مات أو تلف الطعام ) أو بعضه ( في الغد ) في المسألتين ( بعد تمكنه من أكله حنث ) لأنه فوت البر على نفسه باختياره ( و ) إن تلف ( قبله ) أي التمكن ففي حنثه ( قولان كمكره ) أظهرهما عدم الحنث لأن فوت البر ليس باختياره
تنبيه حيث قالوا قولي المكره أرادوا به ما إذا حلف باختياره ثم أكره على الحنث
أما إذا أكره على الحلف لا يحنث قطعا وشمل قول المصنف قبله صورتين الأولى ما إذا تلف قبل الغد والثانية ما إذا تلف بعده وقبل التمكن والأولى لا يحنث فيها قطعا والثانية فيها الخلاف المذكور فيحمل كلامه عليها ومحل ما ذكره في صورة الموت إذا لم يكن بقتله نفسه فإن قتل نفسه حنث كما قاله البلقيني
وفي صورة التلف إذا لم ينسب إلى تقصير في تلفه فلو أتلفته هرة أو صغير مثلا مع إمكان دفعه فلم يدفعه حنف كما يؤخذ من قوله ( وإن أتلفه ) أو بعضه ( بأكل أو غيره قبل الغد ) عالما عامدا مختارا ( حنث ) لأنه فوت البر باختياره
تنبيه قضية كلامه أنه يحنث في الحال لتحقق اليأس وهو وجه والأصح أنه لا يحنث حتى يأتي الغداء كما قطع به ابن كج وعلى هذا هل حنثه بمضي زمن إمكان الأكل من الغد أو قبيل غروب الشمس وجهان أصحهما الأول كما قاله البغوي والإمام وتظهر فائدة الخلاف فيما لو كان معسرا يكفر بالصوم فيجوز له أن ينوي صوم الغد عن كفارته على قضية كلام المصنف دون الأصح
( وإن تلف ) الطعام بنفسه ( أو أتلفه أجنبي ) قبل الغد ( فكمكره ) لما مر والأظهر فيه عدم الحنث ( أو ) قال مخاطبا لشخص له عليه حق والله ( لأقضين حقك عند رأس الهلال ) أو معه أو مع الاستهلال أو عنده أو عند رأس الشهر أو مع رأسه أو أول الشهر ( فليقض ) الحق المحلوف عليه ( عند غروب الشمس آخر الشهر ) الذي قبله لوقوع هذا اللفظ على أول جزء من الليلة الأولى من الشهر ويعرف إما برؤية الهلال أو العدد لكن لفضة عند أو مع تقتضي المقارنة
قال الرافعي وذكر الإمام و الغزالي أن هذا لا يكاد يقدر عليه فإما أن يتسامح فيه ويقنع بالممكن أو يقال التزم محالا فيحنث بكل حال وهذا لا ذاهب إليه اه
وظاهر كلامهم الأول كما يؤخذ من كلام المصنف الآتي ( فإن قدم ) قضاء الحق على غروب الشمس ( أو مضى بعد الغروب
____________________
(4/344)
قدر إمكانه ) أي قضاء الحق ( حنث ) لتفويته البر باختياره وكذا لو مضى زمن الشروع ولم يشرع مع الإمكان ولا يتوقف على مضي زمن القضاء كما صرح به الماوردي فينبغي أن يعد المال ويترصد ذلك الوقت فيقضيه فيه
تنبيه قد ذكر الشيخان فيما لو قال لأقضين غدا ونوى أنه لا يؤخره عن الغد أنه لا يحنث بقضائه قبله فيجيء مثله هنا فيستثنى هذا من قول المصنف فإن قدم
ولو قال الحالف أردت بقولي عند إلى ففي قبوله وجهان مختار الإمام و الغزالي منهما القبول فيجوز له حينئذ تقديم القضاء عليه
( وإن شرع في الكيل ) أو الوزن أو العد ( حينئذ ) أي عند غروب الشمس أو في مقدمة القضاء كحمل الكيل أو الميزان ولو عبر بها كان أولى لفهم الشروع في غيرها بطريق أولى ( ولم يفرغ ) من توفية الحق الموزون أو المكيل مع تواصل الكيل أو الوزن أو نحوه كما يشير إليه كلام الماوردي و ابن الصباغ ( لكثرته إلا بعد مدة لم يحنث ) لأنه أخذ في القضاء عند ميقاته فإن حصلت فترات لا يعد الكيل أو نحوه فيها متواصلا حنث حيث لا عذر
تنبيه لو حمل الحق إليه حين الغروب ومنزله بعيد لا يصل إليه حتى تمضي الليلة لم يحنث كما قال الماوردي ولو شك في الهلال فأخر القضاء عن الليلة الأولى وبان كونها من الشهر لم يحنث كالمكره وانحلت اليمين كما قاله ابن المقري ولو رأى الهلال بالنهار بعد الزوال فهو لليلة المستقبلة كما مر في كتاب الصوم فلو أخر القضاء إلى الغروب لم يحنث كما قاله الصيدلاني
( أو ) حلف ( لا يتكلم فسبح ) الله تعالى أو حمده أو هلله أو كبره وكذا لو دعا
قال القاضي أبو الطيب بما لا يتعلق بخطاب الآدمي ( أو قرأ قرآنا ) في الصلاة أو خارجها ولو كان عليه حدث أكبر ( فلا حنث ) بذلك لانصراف الكلام إلى كلام الآدميين في محاوراتهم ولو حلف لا يسمع كلاما يحنث بسماعه ذلك من نفسه ولو قرأ من التوراة الموجودة اليوم أو الإنجيل لم يحنث للشك في أن الذي قرأه مبدل أو لا ويؤخذ منه أنه يحنث بما يعلمه مبدلا كأن قرأ جميع التوراة والإنجيل ولا يحنث بكلام النفس ولو تكلم مع نفسه من غير أن يخاطب أحدا أو صلى وسلم في صلاته قال في الكافي يحتمل وجهين أصحهما الحنث لأنه كلام حقيقة ويحنث بكل ما يعدونه مخاطبة للناس فلو حلف لا يسلم على زيد مثلا ( أو لا يكلمه فسلم عليه ) وسمع كلامه كما قاله البغوي
قالا ولو كان سلام الصلاة ( حنث ) أما عدم السلام عليه فقد مر وأما عدم كلامه فلأن السلام عليه نوع من الكلام ويؤخذ من ذلك أنه لا بد من قصده بالسلام فلو قصد التحلل فقط أو أطلق لم يحنث كما بحثه بعض المتأخرين وهو الظاهر بل قال الأذرعي الراجح المختار الذي دلت عليه قواعد الباب والعرف الظاهر أنه لا يحنث به لأنه لا يقال كلمه أصلا بخلاف السلام مواجهة خارج الصلاة ولو سبق لسانه بذلك لم يحنث كما قاله ابن الصلاح وبحث ابن الأستاذ عدم قبول ذلك منه في الحكم وهو ظاهر حيث لا قرينة هناك تصدقه
واعتبر الماوردي و القفال المواجهة أيضا فلو تكلم بكلام فيه تعريض له ولم يواجهه كيا حائط ألم أقل لك كذا لم يحنث والمراد بالكلام الذي يحنث به اللفظ المركب ولو بالقوة كما بحثه الزركشي
تنبيه لو كلمه وهو مجنون أو مغمى عليه وكان لا يعلم بالكلام لم يحنث وإلا حنث وإن لم يفهمه كما نقله الأذرعي عن الماوردي ونقل عنه أيضا أنه لو كلمه وهو نائم بكلام يوقظ مثله حنث وإلا فلا لو كلمه وهو بعيد منه فإن كان بحيث يسمع كلامه حنث وإلا فلا سمع كلامه أم لا
( وإن كاتبه أو راسله أو أشار إليه بيد أو غيرها ) بعين أو رأس ( فلا ) حنث عليه بذلك ( في الجديد ) حملا للكلام على الحقيقة بدليل صحة النفي عن ذلك فيقال ما كلمه ولكن كاتبه أو راسله وفي التنزيل { فلن أكلم اليوم إنسيا } { فأشارت إليه } وفي القديم نعم حملا للكلام على الحقيقة والمجاز ويدل له قوله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا }
____________________
(4/345)
فاستثنى الوحي والرسالة من التكلم فدل على أنها منه وقوله تعالى { ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } فاستثنى الرمز من الكلام فدل على أنه منه ومنهم من قطع بالجديد وحمل ما نقل عن القديم على ما إذا نوى في يمينه المكاتبة والمراسلة قاله الرافعي وهو صريح في أنه عند النية يحنث قطعا وهو واضح ووجهه أن المجاز تجوز إرادته بالنية
تنبيه قضية إطلاق المصنف الإشارة يقتضي أنه لا فرق فيها بين إشارة الناطق والأخرس وهو كذلك وإنما أقيمت إشارة الأخرس في المعاملات مقام النطق للضرورة كذا ذكره الرافعي وتعقب بما في فتاوى القاضي من أن الأخرس لو حلف لا يقرأ القرآن فقرأه بالإشارة حنث وبما مر في الطلاق من أنه لو علقه بمشيئة ناطق فخرس وأشار بالمشيئة طلقت وأجيب عن الأول بأن الخرس موجود فيه قبل الحلف بخلافه في مسألتنا وعن الثاني بأن الكلام مدلوله اللفظ فاعتبر بخلافه المشيئة وإن كانت تؤدى باللفظ
تنبيه قد مر في كتاب القسم والنشوز أن هجران المسلم فوق ثلاثة أيام حرام إلا لمصلحة فإذا كاتبه أو راسله ارتفع الهجران إذا كان ذلك في حال الغيبة أو كانت المواصلة بينهما قبل الهجران بهما وتضمنت في الحالين الألفة بينهما لا إن كان فيهما إيذاء وإيحاش فلا يرتفع بهما الإثم ولا إن كان ذلك في حال الحضور ولم تكن المواصلة بينهما قبل الهجران بذلك
( ولو قرأه ) الحالف ( آية أفهمه ) أي المحلوف على عدم كلامه ( بها مقصوده ) نحو { ادخلوها بسلام آمنين } عند طرق المحلوف عليه الباب ( وقصد قراءة ) فقط أو مع إفهامه ( لم يحنث ) لأنه لم يكلمه ( وإلا ) بأن قصد إفهامه فقط أو أطلق ( حنث ) لأنه كلمه ونازع البلقيني في حال الإطلاق
واعتمد عدم الحنث ومثل هذا ما لو فتح على إمامه أو سبح لسهوه فيأتي فيه التفصيل المذكور
وإن فرق بعضهم بأن ذلك من مصالح الصلاة بخلاف قراءة الآية
فروع لو حلف لا يقرأ حنث بما قرأ ولو بعض آية أو ليتركن الصوم أو الحج أو الاعتكاف أو الصلاة حنث بالشروع الصحيح في كل منها وإن فسد بعده لأنه يسمى صائما وحاجا ومعتكفا ومصليا بالشروع لا بالشروع الفاسد لأنه لم يأت بالمحلوف عليه لعدم انعقاده إلا في الحج فيحنث به وصورة انعقاد الحج فاسدا أن يفسد عمرته ثم يدخل الحج عليها فإنه ينعقد فاسدا وتصويره بأن يحرم به مجامعا إنما يأتي على وجه مرجوح إذ الأصح عدم انعقاده كما مر في بابه أو لا أصلي صلاة حنث بالفراغ منها ولو من صلاة فاقد الطهورين ونحوها مما يجب قضاؤها عملا بنيته ولا يحنث بسجود تلاوة وشكر وطواف لأنها لا تسمى صلاة قال الماوردي و القفال ولا يحنث بصلاة جنازة لأنها غير متبادرة عرفا
وقضية كلام ابن المقري أنه يحنث بصلاة ركعة واحدة وكلام الروياني يقتضي أنه إنما يحنث بصلاة ركعتين فأكثر وهذا أوجه كما لو نذر أن يصلي صلاة أو لا يصلي خلف زيد فحضر الجمعة فوجده إماما ولم يتمكن من صلاة جمعة غير هذه موجب عليه أن يصلي خلفه لأنه ملجأ إلى الصلاة بالإكراه الشرعي وهل يحنث أو لا الظاهر الأول كما بحثه بعض المتأخرين كما حلف لا يصوم فأدرك رمضان فإنه يجب عليه الصوم ويحنث أو لا يؤم زيدا فصلى زيد خلفه ولم يشعر به لم يحنث فإن شعر به وهو في فريضة وجب عليه إكمالها وهل يحنث أو لا فيه ما مر
( أو لا مال له ) وأطلق ( حنث بكل نوع وإن قل ) وزاد على المحرر قوله ( حتى ثوب بدنه ) لصدق اسم المال عليه
تنبيه قضية قوله بكل نوع أنه لا فرق بين المنافع والأعيان وهو قضية تقسيم المال إلى أعيان ومنافع لكن قال الرافعي لو كان يملك منفعة بوصية أو إجارة لم يحنث على الصحيح لأن المفهوم من لفظ المال عند الإطلاق الأعيان اه
وقضية قوله وإن قل أنه لا فرق بين المتمول وغيره
لكن قيده البلقيني بالمتمول واستظهره الأذرعي وهو الظاهر وقوله وثوب مجرور بحتى عطفا على المجرور قبله وشرط جمع من النحويين في عطفها على
____________________
(4/346)
المجرور إعادة عامل الجر وعليه فينبغي أن يقول حتى يثوب
( و ) حتى ( مدبر ) له ( و ) رقيق له ( معلق عتقه بصفة ) أما مدبر مورثه الذي تأخر عتقه بصفة كدخول دار أو الذي أوصى مورثه بإعتاقه فلا يحنث به لعدم ملكه ( و ) حتى ( ما وصى به ) الحالف من رقيق وغيره ( ودين حال ) ولو على معسر أو لم يستقر كالأجرة قبل انقضاء مدة الإجارة وكذا على جاحد ولا بينة على الأصح في الروضة ( وكذا ) دين ( مؤجل ) يحنث به ( في الأصح ) لأنه ثابت في الذمة يصح الإبراء منه والاعتياض عنه وتجب الزكاة فيه
واستثنى البلقيني من الحنث بالدين الحال والمؤجل أخذا من التعليل بوجوب الزكاة دينه على مدين مات ولم يخلف تركة ودينه على مكاتبه أفلا يحنث بهما ولو كان له مال غائب أو ضال أو مغصوب أو مسروق وانقطع خبره هل يحنث به أو لا وجهان
أحدهما يحنث لأن الأصل بقاء الملك فيها والثاني لا يحنث لأن بقاءها غير معلوم ولا يحنث بالشك
قال شيخنا وهذا أوجه ويحنث بمستولدته لأنه يملك منافعها وأرش جناية عليها ( لا مكاتب ) كتابة صحيحة فلا يحنث به ( في الأصح ) لأنه لا يملك ما ذكر فهو كالخارج عن ملكه والثاني يحنث لأنه عبد ما بقي عليه درهم
أما المكاتب كتابة فاسدة فيحنث به ولا يحنث بموقف عليه ولا باستحقاق قصاص فلو كان قد عفا عن القصاص بمال حنث فإن نوى نوعا من المال اختص به ولو حلف لا ملك له حنث بمغصوب منه وآبق ومرهون لا بزوجة إن لم يكن له نية وإلا فيعمل بنيته ولا بزيت نجس أو نحوه لأن الملك زال عنه بالتنجس كموت الشاة أو حلف أن لا عبد له لم يحنث بمكاتبه كتابة صحيحة تنزيلا للكتابة منزلة البيع ( أو ) حلف ( ليضربنه فالبر ) بكسر الموحدة بخطه في يمينه يتعلق ( بما يسمى ضربا ) فلا يكفي وضع اليد عليه ورفعها ( ولا يشترط ) فيه ( إيلام ) لصدق الاسم بدونه إذ يقال ضربه فلم يؤلمه بخلاف الحد والتعزير لأن المقصود منهما الزجر ( إلا أن يقول ) أو ينوي ( ضربا شديدا أو نحوه كمبرح فيشترط فيه ) الإيلام للتنصيص عليه ولا يكفي الإيلام وحده كوضع حجر ثقيل عليه
قال الإمام ولا حد يقف عنده في تحصيل البر ولكن الرجوع إلى ما يسمى شديدا وهذا يختلف لا محالة باختلاف حال المضروب
قال ابن شهبة وليست هذه المسألة في الشرحين والروضة ( وليس وضع سوط عليه ) أي المحلوف على ضربه ( و ) لا ( عض و ) لا ( خنق ) بكسر النون بخطه مصدر خنقه عصر عنقه ( و ) لا ( نتف شعر ) بفتح عينه ( ضربا ) فلا يبر الحالف على ضرب زيد مثلا بهذه المذكورات لأن ذلك لا يسمى ضربا عرفا ويصح نفيه عنه ( قيل ولا لطم ) وهو ضرب الوجه بباطن الراحة ( و ) لا ( وكز ) وهو الضرب باليد مطبقة
قال تعالى { فوكزه موسى فقضى عليه } أي لا يسمى كل منهما ضربا والأصح يسمى ومثل ذلك الرفس واللكم والصفع لأنه يقال ضربه بيده وبرجله وإن تنوعت أسماء الضرب
تنبيه يبر الحالف بضرب السكران والمغمى عليه والمجنون لأنهم محل للضرب لا بضرب الميت لأنه ليس محلا له
( أو ليضربنه مائة سوط أو ) مائة ( خشبة فشد مائة ) مما حلف عليه من السياط أو الخشب ( وضربه بها ضربة ) واحدة بر لوجود المحلوف عليه ولا تكفي السياط عن الخشب وعكسه ( أو ) ضربه ( بعثكال ) بكسر العين وبالمثلثة أي عرجون ( عليه ) أي العثكال ( مائة شمراخ ) بكسر أوله بخطه ( بر ) الحالف ( إن علم إصابة الكل ) من الشماريخ بأن عاين إصابة كل واحد منها بالضرب بأن بسطها واحدا بعد واحد كالحصير ( أو تراكم بعض ) منها ( على بعض فوصله ) أي المضروب بها ( ألم الكل ) أي ثقله فإنه يبر تعالى { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } فإن الضغط هو الشماريخ أيضا وإن حال الثوب أو غيره مما لا يمنع
____________________
(4/347)
تأثر البشرة بالضرب لقوله القائمة على الساق ويسمى العثكال وهذا وإن كان شرع من قبلنا فقد ورد في شرعنا تقريره في قصة الزاني الضعيف كما قدمناها في باب الزنا وفي ذلك خلاف هل هو شرع لنا أو لا وقدمت الكلام على ذلك في باب الجعالة وغيره
تنبيه اقتضى كلامه أنه يبر في قولهمائة سوط بالعثكال وصوبه الإسنوي ولكن الأصح كما في الروضة كأصلها أنه لا يبر بذلك لأنه لا يسمى سياطا وإنما يبر بسياط مجموعة بشرط علمه إصابتها بدنه على ما مر واقتضى كلامه أيضا أن تراكم بعضها على بعض مع الشد كيف كان يحصل به ألم الثقل ولكن صوره الشيخ أبو حامد و الماوردي وغيرهما بأن تكون مشدودة الأسفل محلولة الأعلى واستحسن
( قلت ولو شك في إصابة الجميع بر على النص والله أعلم ) عملا بالظاهر وهو الإصابة لإطلاق الآية ولكن الورع أن يكفر عن يمينه لاحتمال تخلف بعضها وفرقوا بينه وبين ما لو حلف ليدخلن الدار اليوم إلا أن يشاء زيد فلم يدخل ومات زيد ولم تعلم مشيئته حيث يحنث على النص بأن الضرب سبب ظاهر في الانكباس
والمشيئة لا أمارة عليها والأصل عدمها وخرج قول كل منهما في الآخر
تنبيه الشك هنا مستعمل في حقيقته وهو استواء الطرفين فإن ترجح عدم إصابة الكل فمقتضى كلام الأصحاب كما في المهمات عدم البر
( أو ) حلف ( ليضربنه مائة مرة لم يبر بهذا ) المذكور من المائة المشدودة ومن العثكال لأنه جعل العدد للضربات وكذا لو قال مائة ضربة على الأصح لأن الجميع يسمى ضربة واحدة وهل يشترط التوالي في ذلك أو لا وظاهر كلام الإمام الأول وابن الصلاح الثاني وهو أوجه ( أو ) قال لغريمه والله ( لا أفارقك حتى استوفي ) حقي منك ( فهرب ) منه غريمه ( ولم يمكنه اتباعه ) لمرض أو غيره ( لم يحنث ) لعذره بخلاف ما إذا أمكنه ولم يتبعه ( قلت الصحيح ) أخذا من الرافعي في الشرح ( لا يحنث إذا أمكنه اتباعه ) ولم يتبعه وإن أذن له ( والله أعلم ) لأنه حلف على فعل نفسه فلا يحنث بفعل غيره والمراد بالمفارقة ما يقطع خيار المجلس ووجه مقابله أنه بالمقام مفارق ( وإن فارقه ) الحالف مختارا ذاكرا لليمين ( أو ) لم يفارقه بل ( وقف حتى ذهب ) غريمه ( وكانا ماشيين ) وهذه مزيدة على المحرر ( أو أبرأه ) الحالف من الحق ( أو احتال ) به ( على غريم ) للغريم أو أحال هو به على غريمه ( ثم فارقه أو أفلس ) أي ظهر أن غريمه مفلس ( ففارقه ليوسر ) وفي المحرر إلى أن يوسر ( حنث ) في المسائل الخمس لوجود المفارقة في الأوليين ولتفويته في الثالثة البر باختياره وفي الرابعة والخامسة الحوالة
وإن قلنا هي استيفاء فليست استيفاء حقيقة وإنما هي كالاستيفاء في الحكم اللهم إلا أن ينوي أن لا يفارقه وذمته مشغولة بحقه فحينئذ ينبغي الأمر على ما قصده ولا يحنث قاله المتولي وأما في الأخيرة فلوجود المفارقة وإن كان تركه واجبا كما لو حلف لا يصلي الفرض فصلى
فإنه يحنث وإن كانت الصلاة واجبة فإن ألزمه الحاكم بمفارقتها فعلى قولي المكره والأصح لا حنث
واحترز بقوله وكانا ماشيين عما إذا كانا ساكنين وابتدأ الغريم بالمشي فلا يحنث
لأن الحادث المشي وهو فعل الغريم
تنبيه لو استوفى من وكيل غريمه أو من متبرع به وفارقه حنث إن كان قال منك وإلا فلا حنث
فإن قال لا تفارقني حتى أستوفي منك حقي أو حتى توفيني حقي ففارقه الغريم عالما مختارا حنث الحالف وإن لم يختر فراقه لأن اليمين على فعل الغريم وهو مختار في المفارقة فإن نسي الغريم الحلف أو أكره على المفارقة ففارق فلا حنث إن كان
____________________
(4/348)
ممن يبالي بتعليقه كنظيره في الطلاق نبه على ذلك الإسنوي
ولو فر الحالف منه لم يحنث وإن أمكنه متابعته لأن اليمين على فعله فإن قال لا نفترق حتى أستوفي منك حقي حنث بمفارقة أحدهما الآخر عالما مختارا وكذا إن قال لافترقنا حتى أستوفي منك لصدق الافتراق بذلك فإن فارقه ناسيا أو مكرها لم يحنث
( وإن استوفى ) الحالف حقه من غريمه ( وفارقه فوجده ) أي ما استوفاه ( ناقصا ) نظرت ( إن كان من جنس حقه لكنه أردأ ) منه ( لم يحنث ) بذلك لأن الرداءة لا تمنع من الاستيفاء
تنبيه ظاهر كلامه أنه لا فرق بين أن يكون الأرش قليلا فلا يتسامح بمثله أو كثيرا وهو كذلك وإن قيده في الكفاية بالأول
( وإلا ) بأن لم يكن من جنس حقه بأن كان دراهم خالصة فخرج ما أخذه مغشوشا أو نحاسا ( حنث عالم ) بحال المال المأخوذ قبل المفارقة للمفارقة قبل الاستيفاء ( وفي غيره ) أي العالم وهو الجاهل بالحال ( القولان ) في حنث الجاهل والناسي أظهرهما لا حنث والتعريف في القولين للعهد المذكور في باب الطلاق فقول ابن شهبة ولا عهد مقدم يحيل عليه ممنوع وإن حلف الغريم فقال والله لا أوفيك حقك فعلمه له مكرها أو ناسيا لم يحنث أو لا استوفيت حقك مني فأخذها مكرها أو ناسيا لم يحنث بخلاف ما إذا أخذه عالما مختارا وإن كان المعطي مكرها أو ناسيا ( أو ) حلف ( لا رأى منكرا إلا رفعه إلى القاضي ) أو لا رأى لقطة أو ضالة إلا رفعها إليه ( فرأى ) الحالف ذلك ( وتمكن ) من الرفع إليه ( فلم يرفع ) ذلك ( حتى مات ) الحالف ( حنث ) لتفويته البر باختباره ولا يلزمه المبادرة إلى الرفع بل له المهلة مدة عمره وعمر القاضي فمتى رفعه إليه بر ولا يشترط في الرفع أن يذهب إليه بل يكفي أن يكتب إليه بذلك أو يرسل رسولا بذلك فيخبره لأن القصد بذلك إخباره والإخبار يحصل بذلك
ولو رأى المنكر بين يديه هل يكفي ذلك أو لا بد من إخباره وجهان أرجحهما الثاني كما رجحه ابن المقري
وهل يقال مثل ذلك إذا رأى القاضي يتعاطى المنكر أو يقال مثل هذا اللفظ لا يتناول القاضي لم أر من تعرض لذلك
ويظهر الثاني ( ويحمل على قاضي البلد ) عند الإطلاق لا على غيره لأن ذلك مقتضى التعريف بأل ( فإن ) عزل قاضي البلد وتولى غيره ( فالبر ) يحصل ( بالرفع إلى ) القاضي ( الثاني ) ولا عبرة بالموجود حالة الحلف لأن التعريف في الألف واللام للجنس ويشترط في رفع المنكر إلى القاضي أن يكون في محل ولايته فإن كان في غيره لم يبر إذ لا يمكنه إقامة موجبة كما قاله البغوي
وإن كان في بلده قاضيان كفى الرفع إلى أحدهما وإن اختص كل منهما بناحية خلافا لابن الرفعة في قوله فإن اختص بذلك فينبغي أن يتعين قاضي الناحية التي فيها فاعل المنكر وهو الذي يجب عليه إجابته إذا دعاه إذ رفع المنكر إلى القاضي منوط بإخباره به كما مر لا بوجوب إجابة فاعله ( أو ) حلف لا رأى منكرا ( إلا رفعه إلى قاض بر بكل قاض ) في ذلك البلد وغيره لصدق الاسم وسواء أكان قاضيا حال اليمين أم ولي بعده لعموم اللفظ ( أو ) إلا رفعه ( إلى القاضي فلان ) وكناية عن اسم علم لمن يعقل ومعناه واحد من الناس ( فرآه ) أي المفكر ( ثم ) لم يرفعه إليه حتى ( عزل ) القاضي ( فإن نوى ما دام قاضيا حنث إن ) رأى المنكر و ( أمكنه رفعه ) إليه ( فتركه ) لتفويته البر باختياره فإن قيل هذا مخالف لقول الروضة وأصلها أنه إذا عزل لم يبر بالرفع إليه وهو معزول ولا يحنث وإن كان تمكن لأنه ربما ولي ثانيا واليمين على التراخي فإن مات أحدهما قبل أن يولي بأن الحنث
أجيب بأن المصنف عبر هنا بدوام كونه قاضيا والديمومة تنقطع بالعزل وغفل بعض الشراح عن ذلك فأجاب بأن كلام المصنف هذا محمول على عزل اتصل بالموت ( وإلا ) بأن لم يمكنه رفعه إليه ( فكمكره ) والأظهر عدم الحنث
____________________
(4/349)
تنبيه جعلا من صور عدم الإمكان المرض والحبس وما إذا جاء إلى باب القاضي فحجب
وينبغي كما قال الزركشي أن يحنث إذا ما تمكن من المكاتبة والمراسلة فلم يفعل فإنهم اكتفوا بذلك كما مر
( وإن لم ينو ) ما دام قاضيا ( بر بالرفع إليه بعد عزله ) قطعا إن نوى عينه وذكر القضاء للتعريف وعلى الأصح إن أطلق نظر إلى التعيين ووجه مقابله النظر إلى الصفة
فصل في الحلف على أن لا يفعل كذا إذا ( حلف ) شخص أنه ( لا يبيع أو لا يشتري ) مثلا وأطلق ( فعقد لنفسه ) حنث قطعا لصدور الفعل منه ( أو غيره ) بولاية أو وكالة ( حنث ) على الصحيح لأن إطلاق اللفظ يشمله
تنبيه مطلق الحلف على العقود ينزل على الصحيح منها فلا يحنث بالفاسد
قال ابن الرفعة ولم يخالف الشافعي رحمه الله هذه القاعدة إلا في مسألة واحدة وهي ما إذا أذن لعبده في النكاح فنكح فاسدا فإنه أوجب فيها المهر كما يجب في النكاح الصحيح وكذا العبادات لا يستثنى منها إلا الحج الفاسد فإنه يحنث به كما مر ولو أضاف العقد إلى ما لا يقبله كأن حلف لا يبيع الخمر ولا المستولدة ثم أتى بصورة البيع فإن قصد التلفظ بلفظ العقد مضافا إلى ما ذكره حنث وإن أطلق فلا
( ولا يحنث ) الحالف على عدم البيع مثلا إذا أطلق ( بعقد وكيله له ) البيع سواء أكان ممن يتولاه الحالف بنفسه عادة أم لا لأنه لم يعقد ( أو ) حلف ( لا يزوج أو لا يطلق أو لا يعتق أو لا يضرب فوكل من فعله لا يحنث ) وإن فعله الوكيل بحضرته وأمره بأنه حلف على فعله ولم يفعل فإن قيل قد مر في الخلع أنه لو قال لزوجته متى أعطيتني ألفا فأنت طالق أنها لو قالت لوكيلها سلم إليه فسلم طلقت وكان تمكينها من المال إعطاء وقياسه هنا أنه يحنث بذلك
أجيب بأن اليمين يتعلق باللفظ فاقتصر على فعله أما في الخلع فقولها لوكيلها سلم إليه بمثابة خذه فلاحظوا المعنى ولو حلف أن لا يطلق ثم علق الطلاق على مشيئة الزوجة أو فعلها فوجد ذلك حنث لأن الموجود منها مجرد صفة وهو الموقع بخلاف ما لو فوض الطلاق إليها فطلقت نفسها على الأصح ولو حلف لا يعتق عبدا فكاتبه وعتق بالأداء لم يحنث كما نقلاه عن ابن القطان وأقروه وإن صوب في المهمات الحنث معللا بأن التعليق مع وجود الصفة إعتاق كما أن تعليق الطلاق مع وجود الصفة تطليق لأن الظاهر أن اليمين عند الإطلاق منزلة على الإعتاق مجانا ( إلا أن يريد ) الحالف استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه وهو ( أن لا يفعل هو ولا غيره ) فيحنث بفعله وكيله فيما ذكر في مسائل الفصل كلها عملا بإرادته ولو حلف لا يبيع ولا يوكل وكان وكل قبل ذلك يبيع ماله فباع الوكيل بعد يمينه بالوكالة السابقة ففي فتاوى القاضي الحسين أنه لا يحنث لأنه بعد اليمين لم يباشر ولم يوكل وقياسه أنه لو حلف على زوجته أن لا تخرج إلا بإذنه وكان أذن لها قبل ذلك في الخروج إلى موضع معين فخرجت إليه بعد اليمين لم يحنث
قال البلقيني وهو ظاهر ( أو ) حلف ( لا ينكح حنث بعقد وكيله له لا بقبوله هو ) أي الحالف النكاح ( لغيره ) لأن الوكيل في النكاح سفير محض ولهذا يجب تسمية الموكل ونازع البلقيني في ذلك واعتمد عدم الحنث
تنبيه هذا كله إذا أطلق فإن أراد أن لا ينكح لنفسه ولا لغيره حنث عملا بنيته وإن نوى منع نفسه أو وكيله اتبع
فروع لو حلفت المرأة أن لا تتزوج فعقد عليها وليها نظرت إن كانت مجبرة فعلى قولي المكره وإن كانت غير مجبرة وأذنت في التزويج فزوجها الولي فهو كما لو أذن الزوج لمن يزوجه ولو حلف لا يراجع مطلقته فوكل في
____________________
(4/350)
رجعتها لم يحنث كما قاله البلقيني والمعتمد أنه يحنث سواء أقلنا الرجعة ابتداء نكاح أم استدامة ولو حلف لا يتزوج ثم جن فعقد له وليه لم يحنث لعدم إذنه فيه ذكرته بحثا وهو ظاهر
ولو حلف الأمير لا يضرب زيدا فأمر الجلاد بضربه فضربه لم يحنث أو حلف لا يبني بيته فأمر البناء ببنائه فبناه فكذلك أو لا يحلق رأسه فأمر حلاقا فحلقه لم يحنث كما جزم عليه ابن المقري لعدم فعله وقيل يحنث للعرف وجزم به الرافعي في باب محرمات الإحرام من شرحيه وصححه الإسنوي
( أو ) حلف ( لا يبيع مال زيد ) مثلا ( فباعه ) بيعا صحيحا بأن باعه ( بإذنه ) أو لظفر أو إذن حاكم لحجر أو امتناع أو إذن الولي لحجر أو صغر أو جنون ( حنث ) لصدق اسم البيع بما ذكر فلو عبر المصنف ببيع صحيح كما قدرته في كلامه لشمل ما ذكرته ( وإلا ) بأن باعه بيعا غير صحيح ( فلا ) حنث لفساد البيع وهو في الحلف منزل على الصحيح وذكر البيع مثالا وإلا فسائر العقود لا تتناول إلا الصحيح وكذا العبادات إلا الحج الفاسد فإنه يحنث به كما مر
قال الزركشي ويقع النظر في إلحاق الخلع والكتابة الفاسدين وما أشبههما بالحج لأنهما كالصحيحين في حصول الطلاق والعتق اه
والظاهر عدم إلحاقهما به ولو باعه بإذن وكيل زيد ولم يعلم أنه مال زيد لم يحنث أيضا لجهله
فروع لو حلف لا يبيع إلى زيد مالا فوكل الحالف رجلا في البيع وأذن له في التوكيل فوكل الوكيل زيدا في بيع ذلك فباعه حنث الحالف سواء أعلم زيد أنه مال الحالف أم لا لأن اليمين منعقدة على نفي فعل زيد وقد فعل باختياره والجهل أو النسيان إنما يعتبر في المباشر للفعل لا في غيره
قال الأذرعي والظاهر حمل ذلك على ما إذا قصد التعليق أما إذا قصد المنع فيأتي فيه ما مر في تعليق الطلاق
ولو حلف لا يطلق زوجته ثم فوض إليها طلاقها فطلقت نفسها لم يحنث كما لو وكل فيه أجنبيا ولو قال إن فعلت كذا أو إن شئت كذا فأنت طالق ففعلت أو شاءت حنث لأن الوجود منها مجرد صفة وهو المطلق ولو حلف لا يبيع بيعا فاسدا فباع بيعا فاسدا ففي حنثه وجهان أحدهما أنه يحنث
وقال الإمام إنه الوجه عندنا وقال الأذرعي الطلب إليه أميل اه
وهذا هو الظاهر لأنه فعل المحلوف عليه
والثاني لا حنث وجرى عليه صاحب الأنوار وقال الأذرعي إنه ظاهر كلام الشيخين
( أو ) حلف ( لا يهب له ) أي لزيد مثلا ( فأوجب له ) الهبة ( فلم يقبل لم يحنث ) لأن الهبة لم تتم ويجري ذلك كما قال الإمام في البيع وغيره من العقود المشتملة على الإيجاب والقبول ( وكذا إن قبل ) الهبة ( ولم يقبض ) لم يحنث أيضا ( في الأصح ) لأن مقتضى الهبة نقل الملك ولم يوجد ولأن المقصود بالحلف على الامتناع من الهبة عدم التبرع على الغير وذلك حاصل عند عدم القبض
قال إبراهيم المروزي ولا يحنث بالهبة لعبد زيد لأنه إنما عقد مع العبد
قال الماوردي ولا بمحاباة في بيع ونحوه
تنبيه أفهم كلام المصنف أنه يحنث إذا قبضها بلا خلاف لكن متى يحنث فيه وجهان في الحاوي أحدهما حالة القبض تخريجا من قول الشافعي أن الهبة تملك بالقبض والثاني من وقت العقد تخريجا من قول الشافعي أن القبض دال على الملك حالة الهبة والأول أوجه
( ويحنث ) من حلف لا يهب ( بعمري ورقبي ) وسبق تفسيرهما في الهبة ( وصدقة ) تطوعا وهدية مقبوضة لأنها أنواع خاصة من الهبة
أما الصدقة الواجبة فلا يحنث بها على الأصح لأنها كقضاء الدين و ( لا ) يحنث بغيرها ما ذكر من ( إعارة ) وضيافة إذ لا ملك فيهما ( ووصية ) لأنها تملك بعد الموت والميت لا يحنث ( ووقف ) عليه لأن الملك فيه لله تعالى ( أو ) حلف ( لا يتصدق ) حنث بالصدقة فرضا وتطوعا على فقير وغني ولو ذميا لشمول الاسم ويحنث بالإعتاق لأنه تصدق عليه برقبته و ( لم يحنث بهبة في الأصح ) لأنها أعم من الصدقة والثاني يحنث كعكسه وفرق الأول بأن الصدقة أخص فكل صدقة هبة وليس كل
____________________
(4/351)
هبة صدقة نعم إن نواها به حنث كما صرح به الإمام ولا يحنث بالإعارة والضيافة ويحنث بالوقف عليه لأن الوقف صدقة
فإن قيل ينبغي أن يحنث به فيما مر أيضا لأنه تبين بهذا أن الوقف صدقة وكل صدقة هبة
أجيب بأن هذا الشكل غير منتج لعدم اتحاد الوسط إذ محمول الصغرى صدقة لا تقتضي الملك وموضع الكبرى صدقة تقتضيه كما مر في بابها
فروع لو حلف لا يبره حنث بجميع التبرعات كإبرائه من الدين وإعتاقه وهبته وإعارته لأن كلا منها يعد برا عرفا بإعطائه الزكاة كما لو قضى دينا أو لا يشارك فقارض
قال الخوارزمي حنث لأنه نوع من الشركة وهو كما قال الزركشي ظاهر بعد حصول الربح دون ما قبله أو لا يتوضأ فتيمم لم يحنث أو لا يضمن لفلان مالا فكفل بدن مديونه لم يحنث لأنه لم يأت بالمحلوف عليه أو لا يذبح الجنين فذبح شاة في بطنها جنين حنث لأن ذكاتها ذكاته أو لا يذبح شاتين لم يحنث بذلك لأن الأيمان يراعى فيها العادة وفي العادة لا يقال إن ذلك ذبح لشاتين ويحتمل أن لا يحنث في الأولى أيضا وهذا الاحتمال كما قال الأذرعي أقرب أو لا يقرأ في مصحف ففتحه وقرأ فيه حنث أو لا يدخل هذا المسجد فدخل زيادة حادثة فيه بعد اليمين أو لا يكتب بهذا القلم وهو مبري فكسر ثم بري فكتب به لم يحنث وإن كانت الأنبوبة واحدة لأن اليمين في الأولى لم تتناول الزيادة حال الحلف والقلم في الثانية اسم للمبري دون القصبة وإنما يسمى قبل البري قلما مجازا لأنه سيصير قلما أو لا آكل اليوم إلا أكلة واحدة فاستدام من أول النهار إلى آخره لم يحنث وإن قطع الأكل قطعا بينا ثم عاد حنث وإن قطع لشرب أو انتقال من لون إلى آخر أو انتظار ما يحمل إليه من الطعام ولم يطل الفصل لم يحنث
( أو لا يأكل طعاما اشتراه زيد لم يحنث بما اشتراه ) زيد ( مع غيره ) شركة معا أو مرتبا لأن كل جزء من الطعام لم يختص زيد بشرائه بدليل أنه لا يقال اشتراه فلان بل بعضه ولا يحنث بما اشتراه لزيد وكيله أو ملكه بقسمة وإن جعلناها بيعا أو بصلح أو إرث أو هبة أو وصية أو رجع إليه برد بعيب أو إقالة وإن جعلناها بيعا ( وكذا لو قال ) لا آكل ( من طعام اشتراه زيد ) لم يحنث بما ذكره في المتن ( في الأصح ) لما مر والثاني يحنث به لأن غرض الحالف الامتناع عما ثبت لزيد منه شراء وهو موجود ( ويحنث بما اشتراه ) زيد ( سلما ) أو إشراكا أو تولية أو مرابحة لأنها أنواع من الشراء
فإن قيل ما ذكره المصنف في السلم مناقض لما صححه في بابه من عدم انعقاده بلفظ البيع
أجيب بأنه لا يلزم من كون السلم بيعا في الحقيقة أن يصح بلفظ البيع بل بلفظ السلم
وهذا كما أن التولية والإشراك بيع حقيقي ولا يصحان بلفظ البيع وسببه أن هذه بيوع خاصة والخاص فيه قدر زائد على العام فلا يصح إيراده بالعام لفوات المعنى الزائد على العام
تنبيه لو اشتراه زيد لغيره أو اشتراه ثم باعه أو باع بعضه فأكل منه حنث ولا يحنث بما ملكه زيد بإرث أو هبة أو وصية أو رجع إليه برد بعيب أو إقالة أو خلص له بالقسمة وإن جعلناها بيعا وكذا الصلح لأن لفظ الصلح موضوع للرضا بترك بعض الحق ولا بما اشتراه له وكيله
( ولو اختلط ما اشتراه ) زيد ( بمشترى غيره لم يحنث ) بأكله من المختلط ( حتى يتيقن أكله من ماله ) بأن يأكل قدرا صالحا كالكف والكفين لأنه يتحقق أن فيه مما اشتراه زيد بخلاف عشر حبات وعشرين حبة
تنبيه قوله بمشترى غيره ليس بقيد فإن اختلاطه بملك الغير كذلك وسواء أملكه ذلك الغير بالشراء أم بغيره
وقوله حتى يتيقن مثله الظن وقضية كلامه أنه لا فرق فيما ذكره بين أن يقول طعاما اشتراه أو من طعام اشتراه وهو ظاهر في الثانية
وأما الأولى ففي تحنيثه بالبعض توقف لإعطاء اللفظ الجميع لا سيما إذا قصده وهذا كله عند الإطلاق فلو قال أردت طعاما يشتريه سائغا أو خالصا حنث به لأنه غلظ على نفسه
( أو ) حلف
____________________
(4/352)
( لا يدخل دارا اشتراها زيد لم يحنث ) أي الحالف ( بدار أخذها زيد كلها أو بعضها ( بشفعة ) لفقد الاسم المعلق عليه في الوضع والعرف إذ الأخذ بالشفعة شراء حكمي لا حقيقي ويتصور أخذ الكل بالشفعة في صورتين الأولى في شعفة الجوار وهي أن يأخذ بها دار جاره ويحكم له بها حاكم حنفي وقلنا يحل له باطنا كما هو الأصح
الثانية أن يملك شخص نصف دار ويبيع شريكه النصف الآخر فيأخذه بالشفعة فتصير الدار جميعها له ثم يبيع الآخر النصف الذي لم يملكه بالشفعة شائعا ثم يبيعه ذلك الغير من غير فله أخذه منه بالشفعة وقد صدق عليه أنه ملك جميع الدار بالشفعة لكن في عقدين
خاتمة فيها مسائل منثورة مهمة تتعلق بالباب لو حلف لا يخرج فلان إلا بإذنه أو بغير إذنه أو حتى يأذن له فخرج بلا إذن منه حنث أو بإذن فلا ولو لم يعلم إذنه لحصول الإذن وانحلت اليمين في حالتي الحنث وعدمه حتى لو خرج بعد ذلك لم يحنث ولو كان الحلف بالطلاق فخرجت وادعى الإذن لها وأنكرت فالقول قولها بيمينها وتنحل اليمين بخرجة واحدة لأن لهذا اليمين جهة بر وهي الخروج بإذن وجهة حنث وهي الخروج بلا إذن لأن الاستثناء يقتضي النفي والإثبات جميعا وإذا كان لها جهتان ووجدت إحداهما انحلت اليمين بدليل ما لو حلف لا يدخل اليوم الدار وليأكلن هذا الرغيف فإنه إن لم يدخل الدار في اليوم بر وإن ترك أكل الرغيف وإن أكله بر وإن دخل الدار وليس كما لو قال إن خرجت لابسة حريرا فأنت طالق فخرجت غير لابسة له لا تنحل حتى يحنث بالخروج ثانيا لابسة له لأن اليمين لم تشتمل على جهتين وإنما علق الطلاق بخروج مقيد فإذا وجد وقع الطلاق فإن كان التعليق بلفظ كلما أوكل وقت لم تنحل بخرجة واحدة وطريقه أن يقول أذنت لك في الخروج كلما أردت ولو قال لا أخرج حتى أستأذنك فاستأذنه فلم يأذن فخرج حنث لأن الاستئذان لا يعني لعينه بل للإذن ولم يحصل
نعم إن قصد الإعلام لم يحنث أو حلف لا يلبس ثوبا أنعم به عليه فلان فباعه ثوبا وأبرأه من ثمنه أو حاباه فيه لم يحنث بلبسه وإن وهبه له أو وصى له به حنث بلبسه إلا أن يبدله قبل لبسه بغيره ثم بلبس الغير فلا يحنث وإن عدد عليه النعم غيره فحلف لا يشرب له ماء من عطش فشرب له ماء بلا عطش أو أكل له طعاما أو لبس له ثوبا لم يحنث لأن اللفظ لا يحتمله
أو حلف لا يلبس ثوبا من غزل فلانة فلبس ثوبا سداه من غزلها ولحمته من غيره لم يحنث وإن قال لا ألبس من غزلها حنث به لا بثوب خيط بخيط من غزلها لأن الخيط لا يوصف بأنه ملبوس وإن قال لا ألبس مما غزلته لم يحنث بما غزلته بعد اليمين أو لا ألبس مما تغزله لم يحنث بما غزلته قبل اليمين
أو قال لا ألبس من غزلها حنث بما غزلته وبما تغزله لصلاحية اللفظ لهما
أو حلف ليصلين على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة فليقل اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إلخ
هذا ما قال في الروضة أنه الصواب
ونقل الرافعي عن المروزي إن أفضلها أن يقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كلما ذكره الذاكرون وكلما سها عن ذكره الغافلون
قال المصنف وقد يستأنس له بأن الشافعي رضي الله عنه كان يستعمل هذه العبارة ولعله أول من استعملها
وقال البارزي عندي أن البر أن يقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد أفضل صلواتك عدد معلوماتك اه
والأوجه الأول
ومع ذلك فالأحوط للحالف أن يأتي بجميع ما ذكر كما قاله الأذرعي
ولا بد في كل ما قيل أنه أفضل أن تقرن الصلاة بالسلام وإلا فيكون مكروها ولا يقال في المكروه أنه أفضل من غيره وهذا ظاهر وإن لم أر من تعرض له في هذا المحل أو حلف لا يزور فلانا حيا ولا ميتا لم يحنث بتشييع جنازته
أو لا يدخل بيته صوفا فأدخل شاة عليها صوف ومثله الجلد الذي عليه الصوف كما بحثه شيخنا
أو لا يدخل بيته بيضا فأدخل دجاجة فباضت ولو في الحال لم يحنث
أو حلف لا يظله سقف حنث باستظلاله بالأزج
أو حلف لا يفطر حنث بأكل وجماع ونحوهما مما يفطر لا بردة وحيض ودخول ليل ونحوهما مما لا يفطر عادة كجنون فلا يحنث بها
أو حلف لا يتزوج امرأة كان لها زوج فطلق امرأته ثم تزوجها لم يحنث لأن اليمين تنعقد على غير زوجته التي هي في نكاحه فإن كانت بائنا فتزوجها حنث أو حلف
____________________
(4/353)
لا يتزوج سرا فتزوج بولي وشاهدين حنث لأن التزويح لا يصح بدون ذلك وإن شهد فيه ثلاثة لم يحنث أو حلف لا يركب فركب إنسان واجتاز به النهر ونحوه لم يحنث أو حلف لا يسكن هذا البيت أو لا يصطاد ما دام زيد واليا أو فلان قاضيا أو نحو ذلك فعزل فلان ثم ولي لم يحنث بالمحلوف عليه لإيقاع الديمومة صرح به الخوارزمي وغيره أو حلف على من له عليه دين بأن قال إن لم أقضه منك اليوم فامرأتي طالق وقال صاحبه إن أعطيته اليوم فامرأتي طالق فطريقه أن يأخذه منه صاحبه جبرا فلا يحنثان ووقت الغذاء من طلوع الفجر إلى الزوال ووقت العشاء من الزوال إلى نصف الليل وقدرهما أن يأكل فوق نصف الشبع ووقت السحور بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر والغدوة من طلوع الفجر إلى الاستواء والضحوة بعد طلوع الشمس من حين زوال كراهة الصلاة إلى الاستواء والصباح ما بعد طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى أو حلف ليثنين على الله أحسن الثناء أو أعظمه أو أجله فليقل لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك زاد إبراهيم المروزي فلك الحمد حتى ترضى
وزاد المتولي أول الذكر سبحانك أو حلف ليحمدن الله تعالى بمجامع الحمد أو بأجل التحاميد فليقل الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافىء مزيده يقال إن جبريل علمه لآدم عليهما السلام وقال قد علمك الله مجامع الحمد
وفسر في الروضة يوافي نعمه بقوله أي يلاقيها حتى يكون معها ويكافىء مزيده بقوله أي يساوي مزيد نعمه أي يقوم بشكر ما زاد منها
قال ابن المقري وعندي أن معناه يفي بها ويقوم بحقها ويمكن حمل الأول كما قال شيخنا على هذا
كتاب النذر وهو بذال معجمة ساكنة وحكي فتحها
لغة الوعد بخير أو شر و شرعا الوعد بخير خاصة قاله الروياني و الماوردي
وقال غيرهما التزام قربة لم تتعين كما يعلم مما يأتي وذكره المصنف عقب الأيمان لأن كلا منهما عقد يعقد المرء على نفسه تأكيدا لما التزمه ولأنه يتعلق بالنذر كفارة ككفارة اليمين في الجملة
والأصل فيه آيات كقوله تعالى { وليوفوا نذورهم } وقوله تعالى { يوفون بالنذر } وأخبار كخبر البخاري من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه وخبر مسلم لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه ابن آدم
تنبيه اختلفوا هل النذر مكروه أو قربة نقل الأول عن النص وجزم به المصنف في مجموعه لخبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من البخيل ونقل الثاني عن القاضي و المتولي و الغزالي وهو قضية قول الرافعي النذر تقرب فلا يصح من الكافر وقول المصنف في مجموعه في كتاب الصلاة النذر عمدا في الصلاة لا يبطلها في الأصح لأنه مناجاة لله تعالى
فهو يشبه قوله سجد وجهي للذي خلقه وصوره
قال في المهمات ويعضده النص وهو قوله تعالى { وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه } أي يجازى عليه والقياس وهو أنه وسيلة إلى القربة وللوسائل حكم المقاصد وأيضا فإنه يثاب عليه ثواب الواجب كما قاله القاضي الحسين وهو يزيد على النفل سبعين درجة كما في زوائد الروضة في النكاح عن حكاية الإمام والنهي محمول على من ظن أنه لا يقوم بما التزمه أو أن للنذر تأثيرا كما يلوح به الخبر أو على المعلق بشيء
وقال الكرماني المكروه التزام القربة إذ ربما لا يقدر على الوفاء
وقال ابن الرفعة الظاهر أنه قربة في نذر التبرر دون غيره اه
هذا أوجه
وأركان النذر ثلاثة ناذر وصيغة ومنذور
وسكت المصنف عن الأولين أما الناذر فيشترط فيه التكليف والإسلام والاختيار ونفوذ التصرف فيما بنذره فلا يصح من غير مكلف كصبي ومجنون لعدم أهليتهما للالتزام إلا السكران فإنه يصح منه وإن كان غير مكلف عند المصنف كما مر بيانه في كتاب الطلاق لصحة تصرفه ولا يصح من كافر لعدم أهليته للقربة أو التزامها وإنما صح وقفه وعتقه ووصيته وصدقته من حيث إنها عقود مالية
____________________
(4/354)
لا قربة ولا مكره لخبر رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولا ممن لا ينفذ تصرفه فيما ينذره كنذر السفيه القرب المالية لعينيه كعتق هذا العبد ويصح من المحجور عليه بسفه أو فلس في القرب البدنية ولا حجر عليهما في الذمة فيصح نذرهما المالي فيهما لأنهما إنما يؤديان بعد فك الحجر عنهما ويصح نذر الرقيق المال في ذمته ولو بغير إذن سيده كما اقتضاه كلامهم
فإن قيل ينبغي أن لا يصح كما قاله ابن الرفعة كما لا يصح ضمانه في ذمته بغير إذن سيده
أجيب بأن المغلب في النذر حق الله تعالى إذ لا يصح إلا في قربة بخلاف الضمان والأصح انعقاد نذره الحج
قال ابن الرفعة ويشبه أن غير الحج كذلك وأما الصيغة فيشترط فيها لفظ يشعر بالتزام فلا ينعقد بالنية كسائر العقود وتنعقد بإشارة الأخرس المفهمة وينبغي كما قال شيخنا انعقاده بكناية الناطق مع النية
قال الأذرعي وهو أولى بالانعقاد بها مع البيع
( وهو ) أي النذر ( ضربان ) أحدهما ( نذر لجاج ) بفتح أوله بخطه وهو التمادي في الخصومة وسمي بذلك لوقوعه حال الغضب ويقال له يمين اللجاج والغضب ويمين الغلق ونذر الغلق بفتح الغين واللام والمراد به ما خرج مخرج اليمين بأن يقصد الناذر منع نفسه أو غيرها من شيء أو يحث عليه أو يحقق خيرا أو غضبا بالتزام قربة ( كان كلمته ) أي زيدا مثلا أو إن لم أكلمه أو إن لم يكن الأمر كما قلته ( فلله علي ) أو فعلي ( عتق أو صوم ) أو نحوه كصدقة وحج وصلاة ( وفيه ) عند وجود المعلق عليه ( كفارة يمين ) لقوله صلى الله عليه وسلم كفارة النذر كفارة يمين رواه مسلم
ولا كفارة في نذر التبرر قطعا فتعين أن يكون المراد به اللجاج وروى ذلك عن عمر و عائشة و ابن عباس و ابن عمر و حفصة و أم سلمة رضي الله عنهم ( وفي قول ) يجب على الناذر في ( ما التزم ) لقوله صلى الله عليه وسلم من نذر وسمى فعليه ما سمى ولأنه التزم عبادة عند مقابلة شرط فتلزمه عند وجوده ( وفي قول أيهما ) أي الأمرين ( شاء ) أي الناذر فيختار واحدا منهما من غير توقف على قوله اخترت حتى لو اختار معينا منهما لم يتعين وله العدول إلى غيره ( قلت ) هذا ( الثالث ) كما قال الرافعي في الشرح ( أظهر ورجحه العراقيون ) بل لم يورد أبو الطيب منهم غيره ( والله أعلم ) لأنه يشبه النذر من حيث أنه التزام قربة واليمين من حيث المنع ولا سبيل إلى الجمع بين موجبيهما ولا إلى تعطيلهما فوجب التخيير
تنبيه قضية قول المصنف فلله علي عتق أو صوم أن نذر اللجاج لا بد فيه من التزام قربة وبه صرح في المحرر لكن الصحيح في أصل الروضة فيما لو قال إن دخلت الدار فلله علي أن آكل الخبز في صور اللجاج وأنه يلزمه كفارة يمين لكن هنا إنما يلزمه كفارة يمين فقط لأنه إنما يشبه اليمين لا النذر لأن المعلق غير قربة ومثل بالعتق والصوم ليفهم أنه لا فرق في الملتزم بين المالي والبدني والعتق لا يحلف به إلا على وجه التعليق والالتزام كقوله إن فعلت كذا فعلي عتق فتجب الكفارة ويتخير بينها وبين ما التزمه فلو قال العتق يلزمني لا أفعل كذا ولم ينو التعليق لم يكن يمينا فلو قال إن فعلت كذا فعبدي حر ففعله عتق العبد قطعا أو قال والعتق أو والطلاق بالجر لا أفعل كذا لم تنعقد يمينه ولا حنث عليه إن فعله وتعبيره بأو ليس بقيد بل لو عطف بالواو فقال إن كلمته فلله علي صوم وعتق وحج وأوجبنا الكفارة فواحدة على المذهب أو الوفاء بما التزمه لزمه الكل
( ولو قال إن دخلت ) الدار ( فعلي كفارة يمين أو ) كفارة ( نذر لزمته كفارة بالدخول ) في الصورتين وهي كفارة يمين
أما الأولى فبالاتفاق تغليبا لحكم اليمين وأما الثانية فلخبر مسلم السابق
واحترز بقوله فعلي كفارة يمين عما إذا قال فعلي يمين فإنه يكون لغوا على الأصح لأنه لم يأت بصيغة النذر ولا الحلف وليست اليمين مما يلتزمه في الذمة
تنبيه قوله أو نذر معطوف على يمين كما قدرت كفارة في كلامه ولا يصح أن يكون معطوفا على كفارة كما توهمه بعضهم نبه عليه شيخنا في شرح منهجه فإنه لو قال فعلي نذر صح ويتخير بين قربة وكفارة يمين ونص
____________________
(4/355)
البويطي يقتضي أنه لا يصح ولا يلزمه شيء فلو كان ذلك في نذر التبرر كأن قال إن شفي الله مريضي فعلي نذر أو قال ابتداء فلله علي نذر لزمه قربة من القرب والتعيين إليه كما ذكره البلقيني
( و ) الضرب الثاني ( نذر تبرر ) وهو تفعل من البر سمي بذلك لأن الناذر طلب به البر والتقرب إلى الله تعالى وهو نوعان كما في المتن
أحدهما نذر المجازاة وهو المعلق بشيء ( بأن يلتزم ) الناذر ( قربة إن حدثت ) له ( نعمة أو ذهبت ) عنه ( نقمة كإن شفي مريضي ) أو ذهب عني كذا ( فلله علي أو فعلي كذا ) من عتق أو صوم أو نحوه ( فيلزمه ذلك إذا حصل المعلق عليه ) لقوله تعالى { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } وقد ذم الله أقواما عاهدوا ولم يوفوا فقال { ومنهم من عاهد الله } الآية وللحديث المار من نذر أن يطيع الله فليطعه
تنبيه أطلق المصنف النعمة وخصصها الشيخ أبو محمد بما يحصل على نذور فلا يصح في النعم المعتادة كما لا يستحب سجود الشكر لها
قال الإمام ووافقه طائفة من الأصحاب لكن القاضي الحسين طرده في كل مباح وهو أفقه اه
وخرج بالحدوث استمرار النعمة وهو قياس سجود الشكر كما قاله الزركشي وهذا يؤيد ما قاله الشيخ أبو محمد
ويجوز تقديم المنذور على حصول المعلق عليه إن كان ماليا كما قالاه في الباب الثاني من أبواب الأيمان وإن كانا صححا عدم الجواز في باب تعجيل الزكاة
فرع لو نذر شيئا إن شفى الله مريضه فشفي ثم شك هل نذر صدقة أو عتقا أو صلاة أو صوما قال البغوي في فتاويه يحتمل أن يقال عليه الإتيان بجميعها كمن نسي صلاة من الخمس ويحتمل أن يقال يجتهد بخلاف الصلاة لأنا تيقنا هناك وجوب الكل عليه فلا يسقط إلا باليقين وهنا تيقنا أن الجميع لم يجب عليه إنما وجب شيء واحد واشتبه فيجتهد كالأواني والقبلة اه
وهذا أوجه
ثم شرع في النوع الثاني من الضرب الثاني بقوله ( وإن لم يعلقه ) الناذر ( بشيء كلله ) أي كقوله ابتداء الله ( على صوم أو حج أو غير ذلك لزمه ) ما التزمه ( في الأظهر ) لعموم الأدلة المتقدمة والثاني لا لعدم العوض
تنبيه لو علق النذر بمشيئة الله تعالى أو مشيئة زيد لم يصح وإن شاء زيد لعدم الجزم اللائق بالقرب
نعم إن قصد بمشيئة الله التبرك أو وقع حدوث مشيئة زيد نعمة مقصودة كقدوم زيد في قوله إن قدم زيد فعلي كذا فالوجه الصحة كما صرح به الأذرعي في الأولى وشيخنا في الثانية
فائدة الصيغة إن احتملت نذر اللجاج ونذر التبرع رجع فيها إلى قصد الناذر فالمرغوب فيه تبرر والمرغوب عنه لجاج وضبطوا ذلك بأن الفعل إما طاعة أو معصية أو مباح والالتزام في كل منها تارة يتعلق بالإثبات وتارة بالنفي فالإثبات في الطاعة كقوله إن صليت فعلي كذا يحتمل التبرر بأن يريد إن وفقني الله للصلاة فعلي كذا واللجاج بأن يقال له صل فيقول لا أصلي وإن صليت فعلي كذا والنفي في الطاعة كقوله وقد منع من الصلاة إن لم أصل فعلي كذا لا يتصور إلا لجاجا فإنه لا يبر في ترك الطاعة والإثبات في المعصية كقوله وقد أمر بشرب الخمر إن شربت الخمر فعلي كذا يتصور لجاجا فقط والنفي في المعصية كقوله إن لم أشرب الخمر فعلي كذا يحتمل التبرر بأن يريد إن عصمني الله من الشرب فعلي كذا واللجاج بأن يمنع من الشرب فيقول إن لم أشرب فعلي كذا يريد إن أعانني الله على كسر شهوتي فعلي كذا وفي الإثبات كقوله إن أكلت كذا فعلي كذا يريد إن يسر الله لي فعلي كذا
واللجاج في النفي كقوله وقد منع من أكل الخبز إن لم آكله فعلي كذا وفي الإثبات كقوله وقد أمر بأكله وإن أكلته فعلي كذا
ثم شرع في الركن الثالث وهو المنذور وبين حكمه بقوله ( ولا يصح نذر معصية ) كالقتل والزنا وشرب الخمر لحديث لا نذر في معصية الله تعالى رواه مسلم ولخبر البخاري المار من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن
____________________
(4/356)
نذر أن يعصي الله فلا يعصه فلا تجب كفارة إن حنث
وأجاب المصنف عن خبر لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين بأنه ضعيف وغيره يحمله على نذر اللجاج
ومحل عدم لزومها بذلك كما قال الزركشي إذا لم ينو به اليمين كما اقتضاه كلام الرافعي آخرا فإن نوى به اليمين لزمه الكفارة بالحنث
تنبيه أورد في التوشيح إعتاق العبد المرهون
فإن الرافعي حكى عن التتمة أن نذره منعقد إن نفذنا عتقه في الحال أو عند أداء المال وذكر في الرهن أن الإقدام على عتق المرهون لا يجوز فإن تم الكلامان كان نذرا في معصية منعقدا
واستثنى غيره ما لو نذر أن يصلي في أرض مغصوبة صح النذر ويصلي في موضع آخر
كذا ذكره البغوي في تهذيبه وصرح باستثنائه الجرجاني في إيضاحه ولكن جزم المحاملي بعدم الصحة ورجحه الماوردي وكذا البغوي في فتاويه
وهذا هو الظاهر الجاري على القواعد
وقال الزركشي إنه الأقرب ويتأيد بالنذر في الأوقات المكروهة فإنه لا ينعقد على الصحيح
( ولا ) يصح نذر ( واجب ) على العين بطريق الخصوص كما قاله البلقيني كالصبح أو صوم أول رمضان لأنه واجب بإيجاب الشرع ابتداء فلا معنى لإيجابه أما واجب العين بطريق العموم فيصح كما إذا نذر الوضوء لكل صلاة فإذا توضأ لصلاة عن حدث خرج به عن واجب الشرع والنذر كما جزم به في أصل الروضة أما واجب الكفاية فالأصح لزومه بالنذر كما في أصل الروضة سواء احتيج فيه إلى بذل مال ومقاساة مشقة كالجهاد وتجهيز الموتى أم لا كصلاة الجنازة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
تنبيه شمل كلامهم الواجب المخبر الذي هو الأحد المبهم وهو ظاهر لأنه في الحقيقة من هذه الجهة واجب عينا ولو نذر خصلة معينة من خصاله هل ينعقد كفرض الكفاية أو لا ينعقد إلا أعلاها بخلاف العكس أو لا ينعقد بالكلية رجح شيخنا الأول و الزركشي الثاني وقال إنه القياس والقاضي الثالث وهو أوجه لأن الشارع نص على التخيير فلا يغير
( ولو نذر فعل مباح ) كأكل ونوم ( أو تركه ) كأن لا يأكل الحلوى ( لم يلزمه ) الفعل ولا الترك لخبر أبي داود لا نذر إلا فيما ابتغى به وجه الله تعالى ولخبر البخاري عن ابن عباس بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ رأى رجلا قائما في الشمس فسأل عنه فقالوا هذا أبو إسرائيل نذر أن يصوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم قال مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه
وأجابوا عن حديث المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف فقال لها أوف بنذرك بأنه لما حصل السرور للمسلمين بقدومه صلى الله عليه وسلم وأغلظ الكفار وأرغم المنافقين كان من القرب ولذلك استحب ضربه في النكاح ليخرج عن معنى السفاح
وفسر في الروضة وأصلها المباح بما لا يرد فيه ترغيب ولا ترهيب وزاد في المجموع على ذلك واستوى فعله وتركه شرعا كنوم وأكل وسواء أقصد بالنوم النشاط على التهجد وبالأكل التقوى على العبادة أم لا
وإنما لم يصح في القسم الأول كما اختاره الأذرعي وصوبه الزركشي لأن الفعل غير مقصود والثواب على القصد لا الفعل وأما النكاح فقد مر في بابه أنه لا يلزم بالنذر وجرى عليه ابن المقري هنا وإن خالف فيه بعض المتأخرين إذا كان مندوبا
وفي فتاوى الغزالي إن قول البائع للمشتري إن خرج المبيع مستحقا فلله علي أن أهبك ألفا لغو لأن المباح لا يلزم بالنذر لأن الهبة وإن كانت قربة في نفسها إلا أنها على هذا الوجه ليست قربة ولا محرمة فكانت مباحة كذا قاله ابن المقري والأوجه كما قال شيخنا انعقاد النذر وأي فرق بينه وبين قوله إن فعلت كذا فلله علي أن أصلي ركعتين
ثم استدرك على عدم لزوم نذر المباح بقوله ( لكن إن خالف لزمه كفارة يمين على المرجح ) في المذهب كما في المحرر لأنه نذر في غير معصية الله تعالى
لكن الأصح كما في الروضة والشرحين وصوبه في المجموع أنه لا كفارة فيه لعدم انعقاده
فإن قيل يوافق الأول ما في الروضة وأصلها من أنه لو قال إن فعلت كذا فلله علي أن أطلقك أو أن آكل الخبز أو لله علي أن أدخل الدار فإن عليه كفارة في ذلك عند المخالفة
أجيب بأن الأولين في نذر اللجاج وكلام المتن في نذر التبرر وأما الأخيرة فلزوم الكفارة فيها من حيث اليمين لا من حيث النذر
____________________
(4/357)
تنبيه سكت المصنف عن نذر المكروه كصوم الدهر غير العيد والتشريق لمن خاف به ضررا أو فوت حق هل ينعقد أو لا
قال في المجموع ينعقد ويلزم الوفاء به بلا خلاف
قال الزركشي وليس كما قال بل كلام المتولي يفهم عدم الانعقاد وأشار إليه الرافعي تفقها لأن النذر تقرب والمكروه لا يتقرب به وهذا هو المختار اه
وهذا ظاهر لأن المباح لا ينعقد فالمكروه بطريق الأولى أما إذا لم يخف به فوت حق ولا ضرر عليه فينعقد فإذا نذر صوما بعده لم ينعقد لأن الزمن مستحق لغيره ويستثنى من صحة نذر صوم الدهر رمضان أداء وقضاء والعيدان وأيام التشريق والحيض والنفاس وكفارة تقدمت نذره فإن تأخرت عنه صام عنها وفدى عن النذر ويقضي فائت رمضان ثم إن كان فواته بلا عذر فدى عن صوم النذر قضاء ما يفطره من الدهر فإن أفطر فيه فإن كان لعذر كسفر ومرض فلا فدية عليه وإن كان سفر نزهة وإلا وجبت الفدية عليه لتقصيره ولو أراد وليه الصوم عنه حيا لم يصح سواء أكان برا أم لا عجز أم لا على المعتمد ولو منع المرأة زوجها من صوم الدهر المنذور بحق سقط الصوم عنها ولا فدية أو بغير حق فلا يسقط الصوم عنها وعليها الفدية إن لم تصم وإن أذن لها فيه فلم تصم تعديا فدت
فروع لا ينعقد نذر صوم يوم الشك ولا الصلاة في الأوقات المكروهة في غير حرم مكة وإن صح فعل المنذور فيهما ولا نذر التيمم لأنه إنما يؤتى به عند الضرورة ويؤخذ من ذلك أنه إذا كان لغير ضرورة كالتيمم عن الغسل المندوب أنه يصح ولا يصح نذر الغسل لكل صلاة بناء على الأصح من أنه لا يسن تجديده وإن نذر الوضوء صح وحمل على التجديد المشروع وهو أن يكون صلى بالأول صلاة ما وإن نذر لكل صلاة لزمه ويكفيه في خروجه عن عهد نذره وضوء الحدث كما مرت الإشارة إليه ولو نذر صوم رمضان في السفر انعقد إن لم يتضرر به وإلا فلا أو نذر القيام في الفرض في المرض إن تضرر بذلك لم ينعقد وإلا انعقد أو نذر القيام في النفل عند عدم الضرر انعقد
ولو نذر الصوم وشرط أن لا يفطر في المرض لم يلزمه الوفاء به في المرض لأن الواجب بالنذر لا يزيد على الواجب بالشرع وإن نذر أن لا يفر من جماعة من الكفار وقدر على مقاومتهم انعقد نذره وإلا فلا ويشترط في انعقاد نذر القربة المالية كالصدقة والأضحية الالتزام لها في الذمة أو الإضافة إلى معين يملكه كلله علي أن أتصدق بدينار أو بهذا الدينار بخلاف ما لو أضاف إلى معين يملكه غيره كلله علي أن أعتق عبد فلان لخبر مسلم السابق أول الباب وإن قال إن ملكت عبدا أو إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبدا أو إن ملكته أو لله علي أن أشتري عبدا وأعتقه أو فعبدي حر إن دخل الدار انعقد نذره لأنه في غير الأخيرة التزم قربه في مقابلة نعمة وفي الأخيرة مالك للعبد
وقد علقه بصفتين الشفاء والدخول وهي مستثناة مما يعتبر فيه علي
ولو قال إن ملكت عبدا أو إن شفى الله مريضي وملكت عبدا فهو حر لم ينعقد نذره
لأنه لم يلتزم التقرب بقربة بل علق الحرية بشرط وليس هو مالكا
قال البلقيني فلغا
ولو قال إن ملكت أو شفى الله مريضي وملكت هذا العبد فلله علي أن أعتقه أو فهو حر انعقد نذره في الأولى دون الثانية بشقيها ولو نذر الإمام أن يستسقي للناس لزمه الخروج بهم في زمن الجدب وأن يؤمهم في صلاة الاستسقاء ويخطب بهم لأن ذلك هو المفهوم منه وإن نذر أن يستسقي غير الإمام لزمه صلاة الاستسقاء ولو منفردا فإن نذر الاستسقاء بالناس لم ينعقد نذره لأنهم لا يطيعونه كذا في الروضة عن البغوي وعبارة الجرجاني عن النص لو نذر غير الإمام أن يستسقي مع الناس كان عليه أن يخرج بنفسه ولم يكن عليه أن يخرج بالناس لأنه لا يملكهم وهذا لا يخالف ما مر فقولهم لم ينعقد نذره أي بالنسبة لاستسقائه بالناس وإن نذر أن يخطب وهو من أهل الخطبة انعقد نذره ولزمه القيام فيها كما في الصلاة المنذورة كما نقله في الروضة عن البغوي وأقره وإن نازع في ذلك الأذرعي
( ولو نذر ) كسوة يتيم لم يجز كسوة يتيم ذمي لأن مطلق اليتيم في الشرع للمسلم أو نذر ( صوم أيام ) معدودة معينة ( ندب تعجيلها ) مسارعة إلى براءة الذمة
تنبيه محل ندب ذلك ما إذا لم يكن عليه صوم كفارة سبقت النذر وهي على التراخي فإنه كما قال
____________________
(4/358)
البلقيني يندب تعجيل الكفارة وتقدم على النذر فإن كانت الكفارة على الفور وجب تعجيلها ومحله أيضا كما قال الأذرعي عند انتفاء المانع فلو عارضه ما هو أقوى منه كالمجاهد والمسافر تلحقه المشقة بالصوم فالأولى التأخير لزوال المانع لا سيما إن وجد ذلك قبل النذر ولو خشي الناذر أنه لو أخر الصوم عجز عنه مطلقا إما لزيادة مرض لا يرجى برؤه أو لهرم لزمه التعجيل كما قاله الأذرعي فإن نذر أياما معينة تعينت على الأصح ولو لم تكن معدودة كلله علي صوم أيام لزمه ثلاثة ولو قيدها بكثيرة لأنه أقل الجمع
( فإن قيد ) نذر صوم الأيام ( بتفريق أو موالاة وجب ) ذلك عملا بالتزامه أما الموالاة فقطعا وأما التفريق فعلى الأصح لأنه يراعى في صيام التمتع ( وإلا ) بأن لم يقيد بتفريق ولا موالاة ( جاز ) أي التفريق والموالاة عملا بمقتضى الإطلاق لكن الموالاة أفضل خروجا من خلاف أبي حنيفة ( أو ) نذر صوم ( سنة معينة ) كسنة كذا أو سنة من الغد أو من أول شهر كذا ( صامها ) عن نذره إلا ما ذكره في قوله ( وأفطر ) منها ( العيد ) أي يوميه الفطر والأضحى ( والتشريق ) وهو ثلاثة أيام بعد يوم النحر وجوبا لأنه غير قابل للصوم ( وصام ) شهر ( رمضان ) منها ( عنه ) أي رمضان لأنه لا يقبل غيره ( ولا قضاء ) عليه للنذر لأن هذه الأيام لو نذر صومها لم ينعقد نذره فإذا أطلق فأولى أن لا تدخل في نذره ( وإن أفطرت ) أي امرأة في سنة نذرت صيامها ( بحيض ونفاس وجب القضاء ) لأيامها ( في الأظهر ) لأن الزمان قابل للصوم وإنما فطرت لمعنى فيها فتقضي كصوم رمضان وهذا ما رجحه البغوي وصاحب التنبيه والمرشد فتبعهم المحرر ( قلت ) أخذا من الرافعي في الشرح ( الأظهر لا يجب ) قضاء زمن أيامها ( وبه قطع الجمهور والله أعلم ) لأن أيامهما لا تقبل الصوم فلا تدخل بالنذر كالعيد واعتمد البلقيني الأول ونازع في نقل الثاني عن الجمهور
تنبيه الإغماء في ذلك كالحيض
( وإن أفطر ) الناذر من السنة ( يوما بلا عذر ) أثم و ( وجب قضاؤه ) لتفويته البر باختياره ( ولا يجب استئناف سنة ) لأن التتابع إنما كان للوقت كما في رمضان لا لأنه مقصود في نفسه بل لو أفطر جميع السنة لم يجب ولاء قضائها
تنبيه أفهم كلامه أنه إذا أفطر لعذر لم يجب قضاؤه واستثنى منه ما لو أفطر بعذر السفر فإنه يجب القضاء على الأصح لأنه يتعلق بمحض اختياره وأما أيام المرض التي أفطر فيها فقضية كلام أصل الروضة أنه لا يجب عليه قضاؤها وجرى عليه ابن المقري في روضه لأنها غير داخلة في النذر لاستثنائها شرعا وصحح البلقيني وغيره وجوب القضاء وقالوا كما ذكروه في صوم الأثانين اه
وهذا أوجه وفرق ابن كج بينه وبين الحيض بأنه يصح نذر صوم يومه أي فهو كعذر السفر بخلاف نذر صوم يوم الحيض وهذا كله إذا لم يشترط في السنة
( فإن شرط ) فيها ( التتابع ) كلله علي صومها متتابعا ( وجب ) استئنافها ( في الأصح ) لأن ذكر التتابع يدل على أنه مقصود والثاني لا يجب لأن ذكر التتابع مع التعيين لغو ( أو ) نذر صوم سنة هلالية ( غير معينة وشرط ) فيها ( التتابع وجب ) وفاء بما التزمه ( ولا يقطعه ) أي التتابع فيها ( صوم رمضان عن فرضه وأفطر العيد والتشريق ) لاستثناء ذلك شرعا واحترز بقوله عن فرضه عما لو صام رضمان عن نذر أو قضاء أو تطوع فإنه لا يصح صومه لما مر أنه لا يقبل غيره وينقطع به التتابع قطعا ( ويقضيها ) أي المذكورات من رمضان والعيدين والتشريق لأنه التزم صوم سنة ولم يصمها ( تباعا ) بكسر أوله أي ولا ( متصله بآخر السنة ) عملا بشرط التتابع
وقيل لا يقضي كالسنة المعينة
____________________
(4/359)
وأجاب الأول بأن المعين في العقد لا يبدل بغيره والمطلق إذا عين قد يبدل
تنبيه محل الخلاف إذا أطلق اللفظ فإن نوى الأيام التي تقبل الصوم من سنة متتابعة لم يلزمه القضاء قطعا وإن نوى عددا يبلغ سنة كأن قال ثلاثمائة وستين يوما لزمه القضاء قطعا قاله المتولي وإذا أطلق الناذر السنة حملت على الهلالية لأنها السنة شرعا
( ولا يقطعه ) أي التتابع في السنة لو كان الناذر لها امرأة ( حيض ) ونفاس أي زمنهما لأنه لا يمكن الاحتراز منه ( و ) لكنه ( في قضائه ) ومثله النفاس ( القولان ) السابقان في قضاء زمن الحيض في السنة المعينة أظهرهما لا يجب كما مر
قال ابن الرفعة والأشبه لزومه كما في رمضان بل أولى وفرضه في الحيض
قال الزركشي ومثله النفاس وإن أفطر لسفر أو مرض أو لغير عذر استأنف كفطره في صوم الشهرين المتتابعين ( وإن لم يشرطه ) أي التتابع في صوم السنة غير المعينة ( لم يجب ) أي التتابع فيها لعدم التزامه فيصوم ثلاثمائة وستين يوما ( أو ) نذر صوم ( يوم الاثنين أبدا لم يقض أثاني رمضان ) الواقعة فيه غالبا وهي أربعة جزما لأن النذر لا يشملها لسبق وجوبها
وأما لو وقع فيه خمسة أثانين ففي قضاء الخامس القولان في العيد كما قال ( وكذا العيد والتشريق ) إن اتفق شيء منها يوم الاثنين لا يقضي أبدا ( في الأظهر ) قياسا على أثاني رمضان
والثاني يقضيها لأن مجيء الاثنين فيما ذكر غير لازم
تنبيه أثاني بياء ساكنة جمع اثنين كما صوبه في المجموع وهو المحكي عن سيبويه أيضا لكن في الصحاح أن يوم الاثنين لا يثنى ولا يجمع فإن أحببت أن تجمعه لأنه صفة للواحد قلت أثانين واعترضه ابن بري بأنه لم يسمع أثانين بل هو من قول الفراء وعن النحاس أن أثاني بحذف النون أكثر من أثانين بإثباتها
قال الشارح وكان وجه حذف النون التبعية لحذفها من المفرد ووجه إثباتها أنها محل الإعراب بخلافها في المفرد وظاهر على الحذف بقاء سكون الياء كما نقل عن ضبط المصنف في الموضعين
( فلو لزمه صوم شهرين تباعا ) بكسر أوله أي ولاء ( لكفارة ) أو لنذر لم يعين فيه وقتا ( صامهما ويقضي أثانيهما ) لأنه أدخل على نفسه صوم الشهرين ( وفي قول لا يقضي إن سبقت الكفارة النذر ) أي نذر صوم الاثنين ( قلت ذا القول أظهر والله أعلم ) نظرا إلى وقت الوجوب والأول نظرا إلى وقت الأداء وصوبه الإسنوي
تنبيه قول المصنف الكفارة لو تركه كان أولى ليشمل ما قدرته
( وتقضي ) المرأة في نذرها صوم الأثاني ( زمن حيض ونفاس ) واقع في الأثاني ( في الأظهر ) لأنها لم تتحقق وقوعه فيه لم تخرج من نذرها
والثاني المنع كما في العيد ويؤخذ من الروضة كأصلها ترجيحه وهو المعتمد ولعل المصنف سكت عن استدراكه هنا عن المحرر اكتفاء باستدراكه عليه فيما سبق حيث قال قلت الأظهر لا يجب ولو كان لها عادة غالبة فعدم القضاء فيما يقع في عادتها أظهر لأنها لا تقصد صوم اليوم الذي لا يقع في عادتها في مفتتح الأمر وتقضي ما فات بالمرض ( أو ) نذر ( يوما بعينه لم يصم ) عنه ( قبله ) فإن فعل لم يصح كالواجب بأصل الشرع ولا يجوز تأخير عنه بغير عذر فإن أخره وفعله صح وكان قضاء ( أو ) نذر ( يوما ) عينه ( من أسبوع ) أي جمعة ( ثم نسيه صام آخره ) أي الأسبوع ( وهو الجمعة فإن لم يكن هو ) أي اليوم الذي عينه الجمعة ( وقع ) صوم يوم الجمعة ( قضاء ) عنه وإن كان هو فقد وفى بما التزمه
قال المصنف في مجموعه ومما يدل على أن يوم الجمعة آخر الأسبوع ويوم السبت أوله خبر مسلم
____________________
(4/360)
عن أبي هريرة قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال خلق الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل وخالف ذلك في تهذيبه وفي مجموعه في صوم التطوع فقال سمى يوم الاثنين لأنه ثاني الأيام والخميس لأنه خامس الأسبوع وهو صريح في أن أوله الأحد فيكون آخره السبت وبه جزم القفال
قال في المهمات والصواب الأول للخبر المذكور
قال الزركشي لكنه حديث تكلم فيه علي بن المديني والبخاري وغيرهما من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه منه ولكنه اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعا ونقل البيهقي أنه مخالف لما عليه أهل السنة والتواريخ من أن بدء الخلق إنما هو في يوم الأحد لا في السبت ويدل عليه حديث ابن عباس خلق الأرض يوم الأحد والمعتمد كما قال شيخنا الأول وقال الزركشي بعد نقله الخلاف وينبغي على هذا أن لا تبرأ ذمته بيقين حتى يصوم الجمعة والسبت خروجا من الخلاف وقال في المطلب يجوز أن يقال يلزمه جميع الأسبوع لقول الماوردي لو نذر الصلاة ليلة القدر لزمه أن يصلي تلك الصلاة في جميع الليالي العشر لأجل الإبهام ولو صح ما قاله المصنف لكان يصليها في آخر ليلة من رمضان
تنبيه يؤخذ مما ذكره المصنف أن نذر صوم يوم الجمعة منفردا ينعقد وبه قال بعض المتأخرين وهو إنما يأتي على قول صحة نذر المكروه كما مر عن المجموع وأما على المشهور في المذهب من أن نذر المكروه لا يصح كما مر فلا يأتي إلا أن يؤول بأنه كان نذر صوم يومين متواليين وصام أحدهما ونسي الآخر فإنه حينئذ لا كراهة ويصدق عليه أنه نذر صوم يوم من أسبوع ونسيه وهذا تأويل ربما يتعين ولا يتوقف فيه إلا قليل الفهم أو معاند
( ومن شرع في صوم نفل ) أو في صلاته أو طوافه أو اعتكافه كما صرح به الدارمي وغيره ( فنذر إتمامه لزمه على الصحيح ) لأن النفل عبادة فصح التزامه بالنذر ويلزمه الإتمام
والثاني لا يلزمه لأن الشرع مكنه من إبطاله بعد انعقاده وهذا يقتضي أن الخلاف كما قال المتولي في الانعقاد وكلام المصنف يقتضي أنه في اللزوم
تنبيه محل اللزوم في الصوم إذا نوى من الليل فإن نوى من النهار قبل الزوال ففي انعقاد نذره ولزومه الوفاء به قولان
قال الإمام والذي أراه اللزوم وأقره الرافعي وهو ظاهر إطلاق المصنف وعلى هذا ليس لنا صوم واجب يصح بنية النهار إلا هذا
وقال في البيان المشهور عدم الانعقاد
وقال البلقيني إنه الصحيح
قال وعبارة المحرر تفهمه لقوله من أصبح صائما عن تطوع
( وإن نذر بعض يوم لم ينعقد ) نذره لأنه ليس بقربة ( وقيل ) ينعقد و ( يلزمه يوم ) لأن صوم بعض اليوم ليس معهودا شرعا فلزمه يوم كامل
تنبيه يجري هذا الخلاف فيمن نذر بعض ركعة وإن نذر بعض نسك فينبغي أن ينبني على ما لو أحرم ببعض نسك وقد مر في بابه أنه ينعقد نسكا كالطلاق وإن نذر بعض طواف فينبغي بناؤه هل يصح التطوع بشيء منه وقد نص في الأم على أنه يثاب عليه كما لو صلى ركعة ولم يضف إليها أخرى وإن نذر سجدة لم يصح نذره لأنها ليست قربة بلا سبب بخلاف سجدتي التلاوة والشكر ولو نذر الحج في عامه وهو متعذر لضيق الوقت كأن كان على مائة فرسخ ولم يبق إلا يوم واحد لم ينعقد نذره لأنه لا يمكنه الإتيان بما التزمه
( أو ) نذر أن يصوم ( يوم قدوم زيد فالأظهر انعقاده ) لإمكان الوفاء به
والثاني لا لتعذر الوفاء به وأجاب الأول بأنه يعلم قدومه غدا فينوي صومه ليلا ( فإن قدم ) زيد ( ليلا أو يوم عيد ) أو تشريق ( أو في رمضان فلا شيء عليه ) لأنه قيد باليوم ولم يوجد القدوم في محل يقبل الصوم
تنبيه لو أراد باليوم الوقت أو لم يرده فقدم زيد ليلا استحب للناذر أن يصوم صبيحة ذلك اليوم لأجل
____________________
(4/361)
خلاف من أوجبه كما قاله الماوردي أو يوما آخر شكرا لله تعالى كما قاله الرافعي
( أو ) قدم زيد ( نهارا وهو ) أي الناذر ( مفطر أو صائم قضاء أو نذرا وجب ) في الأحوال المذكورة ( يوم آخر ) قضاء ( عن هذا ) المنذور وهو صوم يوم قدوم زيد كما لو نذر صوم يوم ففاته ويسن قضاء الصوم الواجب الذي هو فيه أيضا لأنه بان أنه صام يوما مستحق الصوم لكونه يوم قدوم زيد وللخروج من الخلاف
قال الرافعي في التهذيب وفي هذا دليل على أنه إذا نذر صوم يوم بعينه ثم صامه عن نذر آخر أو قضاء ينعقد أي مع الإثم ويقتضي نذر هذا اليوم
تنبيه دخل في قوله مفطر إفطاره بتناوله مفطرا أو بعدم النية من الليل
نعم إن أفطر لجنون طرأ عليه فلا قضاء كما قاله الماوردي وغيره وإذا أوجبنا عليه القضاء هل يتبين وجوب الصوم من أول يوم القدوم وأنه إنما وجب من وقت القدوم ولا يمكن قضاؤه إلا بيوم كامل
الأصح الأول
وفائدة الخلاف تظهر في صور منها ما لو نذر اعتكاف يوم قدوم زيد فقدم نهارا لكن الأصح هنا يلزمه اعتكاف بقية النهار وإن اقتضى ما ذكر لزوم يوم وتبين وقوع العتق والطلاق المعلق كل منهما بقدومه من أول اليوم فإن سبق فيه بيع العبد في الأولى وموت أحد الزوجين في الثانية قبل قدوم زيد فالبيع باطل في الأولى لتبين حرية العبد ولا إرث إن كان الطلاق المعلق بائنا فإن قدم ليلا أو بعد اليوم صح ما ذكر خرج بقوله قضاء أو نذرا ما لو صامه عن القدوم بأن تبين له أنه يقدم غدا بخبر ثقة مثلا فبيت الصوم والأصح الإجزاء لبنائه على أصل مظنون
( أو ) قدم زيد ( وهو ) أي الناذر ( صائم نفلا ) وقدوم زيد قبل الزوال ( فكذلك ) يجب صوم يوم آخر عن نذره في الأصح لأنه لم يأت بالواجب عليه بالنذر والنفل لا يقوم مقام الفرض وهذا بناء على الأصح في لزوم الصوم من أول النهار ( وقيل ) لا بل ( يجب تتميمه ) بقصد كونه عن النذر ( ويكفيه ) عن نذره بناء على أن لزوم الصوم من وقت قدونه ويكون أوله تطوعا وآخره فرضا كمن دخل في صوم تطوع ثم نذر إتمامه ( ولو قال إن قدم زيد فلله علي صوم اليوم التالي ليوم قدومه وإن قدم عمرو فلله علي صوم أول خميس بعده ) أي بعد قدومه ( فقدما ) أي زيد وعمرو ( في الأربعاء وجب صوم الخميس عن أول النذرين ) لسبقه ( ويقضي الآخر ) لتعذر الإتيان به في وقته فلو صام الخميس عن النذر الثاني أثم وصح في الأصح لما مر أنه يصح صوم يوم النذر عن غيره ويقضي يوما آخر من النذر الآخر وكلام المصنف يقتضي خلافه
تنبيه لو قال إن قدم زيد فلله علي أن أصوم أمس قدومه صح نذره على المذهب المجموع هكذا نقله ابن شهبة ونقل شيخنا أنه قال لم يصح على المذهب ثم قال ما نقل عنه من أنه قال يصح نذره على المذهب سهو اه
ولعل نسخه مختلفة وبالجملة فالمعتمد الصحة لأنه قد يعلم بأخبار ثقة مثلاف كما مر
قال الأذرعي كلام الأئمة ناطق بأن هذا النذر المعلق بالقدوم نذر شكر على نعمة القدوم فلو كان قدومه لغرض فاسد للناذر كامرأة أجنبيه يهواها أو أمرد يعشقه أو نحوهما فالظاهر أنه لا ينعقد كنذر المعصية وهذا كما قال شيخنا سهو منشؤه اشتباه الملتزم به بالمعلق والذي يشط كونه قربة الملتزم لا المعلق به والملتزم هنا الصوم وهو قربة فيصح نذره سواء أكان المعلق به قربة أم لا
فصل في نذر حج أو عمرة أو هدي أو غيرها مما يأتي
إذا ( نذر المشي إلى بيت الله ) تعالى وقصد البيت الحرام وهو الكعبة أو صرح بلفظ الحرام في هذه المسألة والتي بعدها كما في الروضة ( أو ) لم ينذر المشي لبيت الله بل نذر ( إتيانه ) فقط ( فالمذهب وجوب إتيانه بحج أو عمرة ) لأن الله تعالى أوجب قصده بنسك فلزم بالنذر كسائر
____________________
(4/362)
القرب وفي قول من طريق لا يجب ذلك حملا للنذر على جائز الشرع والأول يحمله على واجبه أما إذا لم يقل البيت الحرام في المسألتين ولا نواه أو نذر أن يأتي عرفات ولم ينو الحج لم ينعقد نذره لأن بيت الله تعالى يصدق ببيته الحرام وبسائر المساجد ولم يقيد بلفظ ولا نية وعرفات من الحل فهي كبلد آخر ولو نذر إتيان مكان من الحرم كالصفا أو المروة أو مسجد الخيف أو منى أو مزدلفة أو دار أبي جهل أو الخيزران لزمه إتيان الحرم بحج أو عمرة لأن القربة إنما تتم في إتيانه بنسكه والنذر محمول عن الواجب كما مر وحرمة الحرم شاملة لجميع ما ذكر من الأمكنة ونحوها في تنفير الصيد وغيره ولو قال في نذره بلا حج ولا عمرة لزمه أيضا ويلغو النفي وإن صحح البلقيني عدم الصحة معللا لها بأنه صرح بما ينافيه ولو نذر المشي أو الإتيان لبيت المقدس أو المدينة الشريفة لم يلزمه ذلك ويلغو نذره لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك فلم يجب إتيانه بالنذر كسائر المساجد ويفارق لزوم الاعتكاف فيها بالنذر بأن الاعتكاف عبادة في نفسه وهو مخصوص بالمسجد فإذا كان للمسجد فضيلة في العبادة الملتزمة فالإتيان بخلافه
تنبيه إنما جمع المصنف بين المشي والإتيان للتنبيه على خلاف أبي حنيفة فإنه وافق في المشي وخالف في الإتيان وقال إنه غير مراد للقربة بخلاف المشي وهو محجوج بقوله تعالى { يأتوك رجالا وعلى كل ضامر } فجعل الركوب صفة له كالمشي
( فإن نذر الإتيان ) إلى بيت الله الحرام أو الذهاب أو نحو ذلك ( لم يلزمه مشي ) لأن ذلك لا يقتضي المشي بل له الركوب قطعا ( وإن نذر المشي ) إلى بيت الله الحرام ( أو أن يحج أو يعتمر ماشيا ) وهو قادر على المشي ( فالأظهر وجوب المشي ) لأنه الملتزم جعله وصفا للعبادة فهو كما لو نذر أن يصوم متتابعا
أما العاجز فلا يلزمه مشي ولو قدر عليه بمشقة شديدة لم يلزمه أيضا كما ذكره الزركشي
والثاني لا يلزم القادر أيضا لأنه لم يجب في جنسه مشى بالشرع فلا يجب بالنذر
تنبيه أصل الخلاف مبني على أن الركوب في الحج أفضل أو المشي
وفيه أقوال أظهرها عند المصنف أفضلية الركوب لأنه صلى الله عليه وسلم حج راكبا ولأن فيه زيادة مؤنة وإنفاق في سبيل الله تعالى
والثاني أفضلية المشي وصححه الرافعي لزيادة المشقة والأجر على قدر التعب وأجيب عن حجه صلى الله عليه وسلم راكبا بأنه لو مشى في حجه لمشى جميع من معه ولا شك أن فيهم من يشق عليه المشي معه إلا بجهد فأراد أن لا يشق على أمته
والثالث هما سواء لتعارض المعنيين إذا عرفت هذا فما صححه المصنف من وجوب المشي واضح على تفضيله على الركوب
أما على ما رجحه هو من أفضلية الركوب فلا يجب المشي وهو ما اقتضى كلام الروضة في النوع الثاني من أنواع النذر ترجيحه فإنه قال كما يلزم أصل العبادة بالنذر يلزم الوفاء بالصفة المستحبة فيها إذا شرطت كمن شرط المشي في الحج الملتزم إذا قلنا المشي في الحج أفضل من الركوب اه
ونقله في المجموع في أوائل النذر بهذا اللفظ وهو ناص على أنه لا يلزمه المشي المشروط إلا إذا جعلنا المشي أفضل من الركوب لكنه قال في الكلام على المسألة هنا من الروضة بعد موافقته للرافعي على لزوم المشي الصواب أن الركوب فضل وإن كان الأظهر لزوم المشي بالنذر لأنه مقصود والله أعلم اه
واعترض بأنه كيف يكون مقصودا مع كونه مفضولا ولئن سلم كونه مقصودا فلا يمنع العدول إلى الأعلى كما في زكاة الفطر وكما لو نذر الصلاة قاعدا فصلى قائما قال ابن شهبة قيل ويمكن أن يقال الركوب والمشي نوعان للعبادة فلم يقم أحدهما مقام الآخر وإن كان أحدهما أفضل كما لو نذر أن يتصدق بالفضة لا تبرأ ذمته بالتصدق بالذهب وإن كان أفضل كما نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام اه
وهذا أحسن ما يجاب به عن المصنف
( فإن كان قال ) في نذره ( أحج ماشيا ) أو أمشي حاجا وأطلق كما بحثه في المجموع ( فمن ) أي يلزمه المشي من ( حيث يحرم ) من الميقات أو قبله أو بعده لأنه التزم المشي في الحج وابتداء الحج من وقت الإحرام فإن صرح بالمشي من دويرة أهله لزمه ( وإن قال ) في نذره ( أمشي إلى بيت الله تعالى ) الحرام أو إلى الحرم ماشيا ( فمن دويرة أهله ) يمشي ( في الأصح ) لأن
____________________
(4/363)
قضية ذلك أن يخرج من بيته ماشيا لأنه مدلول لفظه
والثاني يمشي من حيث يحرم كما مر
تنبيه كان الأولى أن يقول الحرام كما قدرته في كلامه وإلا فمطلق بيت الله لا يوجب شيئا كما مر
( وإذا أوجبنا المشي ) على الناذر ( فركب لعذر ) وهو أن يناله به مشقة ظاهرة كما قالوه في العجز عن القيام في الصلاة قاله في المجموع ( أجزأه ) نسكه راكبا عن نذره ماشيا قطعا لما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يهادي بين ابنيه فسأل عنه فقالوا نذر أن يحج ماشيا فقال إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه وأمره أن يركب ( وعليه دم في الأظهر ) لتركه الواجب
والثاني لا دم عليه كما لو نذر الصلاة قائما فصلى قاعدا للعجز وفرق الأول بأن الصلاة لا تجبر بالمال بخلاف الحج واحترز بقوله إذا أوجبنا المشي عما إذا لم نوجبه فإنه لا يجبر تركه بدم ( أو ) ركب ( بلا عذر أجزأه ) الحج راكبا ( على المشهور ) مع عصيانه لأنه لم يترك إلا هيئة التزمها وتركها لا يمنع من الاحتساب فصار كترك الإحرام من الميقات
والثاني لا يجزئه لأنه لم يأت بما التزم
وقوله ( وعليه دم ) يقتضي أنه لا خلاف فيه وليس مرادا بل إنما يلزمه على المشهور فلو قدمه عليه عاد إليهما لأنه إذا أوجبناه مع العذر فبدونه أولى
والثاني لا دم عليه لما مر والدم في المسألتين شاة تجزىء في الأضحية
تنبيه حيث أوجبنا المشي فحتى يفرغ من نسكه أو يفسده وفراغه من حجه بفراغه من التحللين ولا يجب عليه أن يستمر حتى يرمي أو يبيت لأنهما خارجان من الحج خروج السلام الثاني من الصلاة
وما في التنبيه من توقفه على الرمي ضعيف بل قال في المجموع إنه خطأ
قالا والقياس أنه إذا كان يتردد في خلال أعمال النسك لغرض تجارة أو غيرها فله الركوب ولم يذكروه ولو فاته الحج أو إن أفسده لزمه القضاء ماشيا ولا يلزمه المشي في أعمال تحلل الفوات ولا في النسك الفاسد لأنه خرج بالفساد والفوات عن ما يجزئه عن نذره
تنبيه لو قال لله على رجلي الحج ماشيا لزمه إلا إن أراد إلزام رجليه خاصة وإن ألزم رقبته أو نفسه ذلك لزمه مطلقا لأنهما كنايتان عن الذات وإن قصد التزامهما ولو نذر الحج حافيا لزمه الحج ولا يلزمه الحفاء بل له أن يلبس النعلين في الإحرام ولا فدية عليه قطعا لأنه ليس بقربة
قال في المهمات وينبغي أن يلزمه الحفاء في الموضع الذي يستحب فيه وهو عند دخول مكة أي إذا أمن من تلويث نجاسة ولم يحصل مشقة ويندب الحفاء أيضا في الطواف
( ومن نذر حجا أو عمرة لزمه فعله بنفسه ) إن كان قادرا ( فإن كان معضوبا ) وهو العاجز عن الحج بنفسه ( استناب ) غيره في ذلك ولو بأجرة أو جعل كما في حجة الإسلام
تنبيه قال المتولي في كتاب الحج إذا كان المعضوب بمكة أو دون مرحلتين منها لم تجز الاستنابة لأن المشقة لا تكثر عليه وأقره المصنف هناك فليكن هنا كذلك
وفي فتاوى البغوي لو نذر المعضوب الحج بنفسه لم ينعقد
قال بخلاف ما لو نذر الصحيح الحج بماله فإنه ينعقد لأن المعضوب أيس من الحج بنفسه والصحيح لم ييأس من الحج بماله
قال فإن برىء المعضوب لزمه الحج لأنه بان أنه غيره
مأيوس
( ويندب ) للناذر ( تعجيله في أول ) سني ( الإمكان ) مبادرة إلى براءة الذمة فإن خشي العضب لو أخر لزمته المبادرة كما في حجة الإسلام ( فإن تمكن ) من التعجيل ( فأخر فمات حج من ماله ) لتقصيره أما إذا مات قبل أن يتمكن فلا شيء عليه كحجة الإسلام والعمرة في ذلك كالحج ( وإن نذر الحج عامه وأمكنه ) فعله فيه بأن كان على مسافة يمكنه منها الحج في ذلك العام ( لزمه ) فيه تفريعا على الصحيح في تعيين الزمان في العبادات فلا يجوز تقديمها عليه كالصوم ولا تأخيرها عنه فإن أخره وجب عليه القضاء في العام الثاني كما قاله الماوردي
واحترز بقوله عامة عما إذا لم يقيده بعامه فيلزمه في أي عام شاة وبقوله وأمكنه عما إذا نذر حج السنة ولا زمان يسع الإتيان به فإنه لا ينعقد نذره على الأصح لتعذر اللزوم
____________________
(4/364)
تنبيه ما ذكره المصنف فيمن حج حجة الإسلام فإن لم يحج حجة الإسلام فإنه يلزمه للنذر حج آخر كما لو نذر أن يصلي عليه وعليه صلاة الظهر فتلزمه صلاة أخرى ويقدم حجة الإسلام على حجة النذر ومحل انعقاد نذره ذلك أن ينوي غير كما قاله الماوردي الفرض فإن نوى الفرض لم ينعقد كما لو نذر الصلاة المكتوبة أو صوم رمضان وإن أطلق فكذلك إذ لا ينعقد نسك محتمل ( فإن منعه مرض وجب القضاء ) كما لو نذر صوم سنة معينة فأفطر فيها بعذر المرض فإنه يقضي والنسيان وخطأ الطريق والضلال فيه كالمرض
تنبيه محل القضاء إذا منعه المرض بعد الإحرام فإن كان مريضا وقت خروج الناس ولم يتمكن من الخروج معهم أو لم يجد رفقة وكان الطريق مخوفا لا يتأتى للآحاد سلوكه فلا قضاء عليه لأن المنذور حج في تلك السنة ولم يقدر عليه كما لا تستقر حجة الإسلام والحالة هذه
هذا ما في الروضة كأصلها في هذه المسألة ونازع البلقيني في اشتراط كون ذلك بعد الإحرام وقال إنه مخالف لنص الأم اه
ومحل وجوب القضاء على الأول إذا لم يحصل بالمرض غلبة على العقل فإن غلب على عقله عند خروج القافلة ولم يرجع إليه عقله في وقت لو خرج فيه أدرك الحج لم يلزمه قضاء الحجة المنذورة كما قاله البلقيني كما لا تستقر حجة الإسلام والحالة هذه في ذمته كما نص عليه في الأم بالنسبة لحجة الإسلام
( أو ) منعه بعد الإحرام ( عدو ) أو سلطان وحده أو رب دين لا يقدر على وفائه حتى مضى إمكان الحج تلك السنة ( فلا ) قضاء عليه ( في الأظهر ) لمكان العذر ويفارق المرض لاختصاصه بجواز التحلل به من غير شرط بخلاف المرض
والثاني وهو من تخريج ابن سريج أنه يجب لأن باب النذر أوسع من واجب الشرع ولهذا لو نذر حجات كثيرة لزمته ولا يجب بالشرع إلا حجة واحدة أما إذا صده عدو أو سلطان صدا عاما بعد ما أحرم
قال الإمام أو امتنع عليه الإحرام للصد فلا قضاء على المنصوص وقد علم من هذا التقرير أن الفرق بين الصد العام والخاص إنما هو من حيث الخلاف لا من حيث الحكم فإن هذا المحل تتوقف فيه الطلبة في كلام الشارح فإنه ساق الكلامين ولم يقيد بعام ولا خاص فتنبه له
تنبيه لو نذر أن يحج عشر حجات مثلا ومات بعد سنة
وقد تمكن من حجة فيها قضيت من ماله وحدها
والمعضوب يستنيب في العشر فقد يتمكن من الاستنابة فيها في سنة فيقضي العشر من ماله فإن لم يف ماله بها لم يستقر إلا ما قدر عليه
( أو ) نذر ( صلاة أو صوما في وقت ) معين لم ينه عن فعل ذلك فيه ( فمنعه ) من ذلك ( مرض أو عدو وجب القضاء ) لتعين الفعل في الوقت فإن قيل هلا كان ذلك كالحج فلا يجب فيه القضاء كما مر فيه
أجيب بأن الواجب بالنذر كالواجب بالشرع وقد تجب الصلاة والصوم مع العجز فلزما بالنذر والحج لا يجب إلا عند الاستطاعة فكذا حكم النذر
فإن قيل كيف يتصور المنع من الصوم والصلاة فإن الصوم لا سبيل فيه إلى المنع من النية فإنها بالقلب
وإن أكره على الفطر لم يفطر على الأصح والصلاة يمكن فعلها مع الإكراه بإمرار أفعالها على قلبه في الوقت المعين ويقضي لأن ذلك عذر نادر كما في الواجب بالشرع
أجيب عن الأول بأن ذلك يتصور بالأسير كما قاله في المجموع يأكل خوفا من القتل
وعن الثاني بأن يأتي بالصلاة على التلبس بها على غير طهارة أو نحوها
فإن قيل قولهم إن الواجب بالنذر كالواجب بالشرع يشكل عليه أنه لو نذر صلاة في يوم بعينه فأغمي عليه لزمه القضاء وإن لم يلزمه قضاء صلوات ذلك اليوم
أجيب بأن هذا مستثنى كبقية المستثنيات أما إذا نذر الصلاة في أوقات النهي في غير حرم مكة أو الصوم في يوم الشك فقد مر أن نذره لم ينعقد وإن صح فعل المنذور فيهما
( أو ) نذر ( هديا ) أي أن يهدي شيئا سماه من نعم أو غيرها كأن قال لله علي أن أهدي شاة أو ثوبا إلى مكة أو الحرم ( لزمه حمله إلى مكة ) أو الحرم لأنه محل الهدي ( و ) لزمه ( التصدق به على من بها ) من الفقراء والمساكين من المسلمين غريبا كان أو مستوطنا فيمتنع بيعه وتفرقة ثمنه وينزل بعينه منزلة الأضحية والشاة في الزكاة وإن كان
____________________
(4/365)
الحيوان لا يجزىء في الأضحية كالظبا لزمه التصدق به حيا فإن ذبحه لم يجز إذ لا قربة في ذبحه لعدم إجزائه أضحية وغرم الأرش إن نقصت قيمته بالذبح وتصدق باللحم وإن كان مما يجزىء في الأضحية لزمه ذبحه في أيام النحر وتفرقة لحمه على من ذكر
وتعبيره بالهدي قد يوهم اختصاص ذلك بالإبل والبقر والغنم وليس مرادا فلو قال شيئا كما قدرته في كلامه كان أولى
وكان ينبغي التعبير بالحرم بدلا عن مكة ليستغني عما زدته في كلامه فإن حمله لا يتقيد بمكة بل يعم سائر الحرم
وقوله حمله يفهم أنه فيما سهل نقله وهو كذلك أما ما تعذر نقله مما أهداه كالدار أو تعسر كحجر الرحى فإنه يبيعه بنفسه وينقل ثمنه إلى الحرم من غير مراجعة حاكم ويتصدق به على مساكينه
وهل له إمساكه بقيمته أو لا فقد يرغب فيه بأكثر منها وجهان في الكفاية ينبغي الأول إلا أن يظهر راغب بالزيادة
وقوله والتصدق به يقتضي الاكتفاء بكون ذلك الشيء مما يتصدق به وإن لم تصح هبته ولا هديته فيدخل فيه ما لو نذر إهداء دهن نجس بناء على ما قاله المصنف من أنه ينبغي أن يقطع بصحة التصدق به بعد حكايته عن القاضي أبي الطيب المنع من ذلك
ويدخل فيه أيضا جلد الميتة قبل الدباغ لكن قال البلقيني الأرجح أنه يشترط فيه أن يكون مما يهدى لآدمى اه
وهذا أظهر
ويستثنى من وجوب التصدق به ما لو عسر التصدق به حيث وجب التعميم به كاللؤلؤة والثوب فإنه يباع ويفرق ثمنه عليهم كما قاله الماوردي وإن كانت قيمته في الحرم ومحل النذر سواء تخير بين حمله وبيعه بالحرم وبين حمل ثمنه أو في أحدهما أكثر تعين وما لو نوى الناذر اختصاص الكعبة بالمنذور فإن كان شمعا أشعله فيها أو دهنا أو قده في مصابيحها أو طيبا طيبها به أو متاعاف لا يستعمل فيها باعه وصرف ثمنه في مصالحها
أما إذا قال لله علي أن أهدي ولم يسم شيئا أو إن أضحي فإنه يلزمه ما يجزىء في الأضحية حملا على معهود الشرع فإن عين عن نذره بدنة أو بقرة شاة تعينت بشروط الأضحية
فلا يجزىء فصيل ولا عجل ولا سخلة
وإن تعيب الهدى المنذور أو المعين عن نذره تحت السكين عند الذبح لم يجز كالأضحية لأنه من ضمانه ما لم يذبح
وقيل يجزىء وجرى عليه ابن المقري لأن الهدي ما يهدى إلى الحرم
وبالوصول إليه حصل الإهداء وعليه مؤنة نقل الهدي إلى الحرم لأنه محل الهدي قال تعالى { حتى يبلغ الهدي محله } فإن لم يكن له مال بيع بعضه لنقل الباقي كما في أصل الروضة ولزمه تفرقة لحمه فيه على مساكينه
وفي الإبانة أنه إن قال أهدي هذا فالمؤنة عليه وإن قال جعلته هديا فلا يباع منه شيء لأجل مؤنة النقل
ونسبه في البحر للقفال واستحسنه
قال الرافعي لكن مقتضى جعله هديا أن يوصله كله الحرم فليلتزم مؤنته كما لو قال أهدي اه
وهذا هو الظاهر وعليه أيضا علف الحيوان كما صرح به الماوردي و القاضي الحسين ولو نذر أن يهدي شاة مثلا ونوى ذات عيب أو سخلة أجزأه هذا المنوي لأنه الملتزم ويؤخذ مما مر أنه يتصدق به حيا فإن أخرج بدله تاما فهو أفضل
تنبيه قد علم مما مر أنه يمتنع إهداء ما ذكر إلى أغنياء الحرم
نعم لو نذر نحره لهم خاصة واقترن به نوع من القربة كأن تتأسى به الأغنياء لزمه كما قاله في البحر ويسن لمن أهدى شيئا من البدن أو البقر أن يشعرها أي يجرحها بشيء له حد حتى يسيل الدم والأولى أن يكون في صفحة سنامها اليمنى وأن يقلدها بعري القرب ونحوها من الخيوط المفتولة والجلود ويقلد الغنم ولا يشعرها والحكمة في ذلك الإعلام بأنه هدي فلا يتعرض له فإن عطب منها شيء قبل المحل نحره وجوبا في المنذور وندبا في غيره وغمس المقلد به في دمه وضرب به صفحته وخلى بينه وبين المساكين ولا بد من الإذن في التطوع بخلاف المنذور ولا يجوز له ولا لرفقته الأكل من المنذور والمراد برفقته جميع القافلة كما قاله المصنف فإن لم ينحره حتى مات مع تمكنه ضمنه بالأكثر من قيمته حينئذ ومن مثله فإن لم يتمكن من الذبح حتى مات لم يضمنه ولو نذر أن يضحي ببينة وقيدها بالإبل أو نواها أو أطلق تعينت البدنة من الإبل لأنها وإن أطلقت على البقر والغنم أيضا كما صححه في المجموع فهي في الإبل أكثر استعمالا فإن عدمت وقد أطلق نذره فبقرة فإن عدمت فسبع شياه كما نص عليه الشافعي وإن كان ظاهر كلام الروضة أنه يتخير بين البقرة والسبع شياه وإن عدمت وقد قيد نذره بها لفظا أو نية وجب عليه أن يشتري بقيمتها بقرة ويفارق ذلك عدم اعتبار قيمتها حالة الإطلاق بل اللفظ عند الإطلاق ينصرف إلى معهود الشرع ومعهوده لا تقوم فيه فإن فضل من قيمتها
____________________
(4/366)
شيء اشترى به بقرة أخرى إن أمكن وإلا فشاة أو شقصا من بدنة أو بقرة فإن لم يجد واحدا منهما تصدق بالفاضل دراهم فإن عدمت البقرة اشترى سبع شياه بقيمة البدنة ولو وجد بقيمة البدنة ثلاث شياه أتم السبعة من ماله ولو نذر شاة فذبح بدلها بدنة أجزأه لأنها أفضل ومحله كما قال صاحب البيان إذا نذرها في ذمته وإلا فالذي يقتضيه المذهب عدم الإجزاء وفي كون كلها فرضا وجهان أصحهما نعم على اضطراب فيه
( أو ) نذر ( التصدق ) بشيء ( على أهل بلد معين ) مكة أو غيرها ( لزمه ) ذلك وفاء بالتزامه وصرفه لمساكينه من المسلمين ولا يجوز نقله كما في زيادة الروضة كالزكاة
تنبيه قد يفهم كلامه أنه لا فرق في أهل البلد بين الغني والفقير والمسلم والذمي وليس مرادا فقد نص في الأم على التخصيص بالمساكين وصرح القاضي حسين وغيره بعدم جواز وضع المنذور في أهل الذمة وقد يفهم أيضا أن غير الحرم لا ينذر فيه إلا التصدق وليس مرادا بل لو نذر الأضحية به تعين ذبحها مع التفرقة فيه لتضمنها التفرقة فيه وإن نذر الذبح والتفرقة أو نواها ببلد غير الحرم تعينا فيه لأن الذبح وسيلة إلى التفرقة المقصودة فلما جعل مكانه مكانها اقتضى تعينه تبعا وإن نذر الذبح في الحرم والتفرقة في غيره تعين المكانان لأن المعلق بكل منهما قربة وإن نذر الذبح في غير الحرم أو بسكين ولو مغصوبا ونذر التفرقة فيها في الحرم تعين مكان التفرقة فقط إذ لا قربة في الذبح خارج الحرم ولا في الذبح بسكين معين ولو في الحرم وإن نذر الذبح بالحرم فقط لزمه النحر به لأن ذكر الذبح في النذر مضافا إلى الحرم يشعر بالقربة ولأن الذبح فيه عبادة معهودة ولزمه التفرقة فيه حملا على واجب الشرع وإن نذر الذبح بأفضل بلد تعينت مكة للذبح لأنها أفضل البلاد ولو نذر لمعين بدراهم مثلا كان له مطالبة الناذر بها إن لم يعطه كالمحصورين من الفقراء لهم المطالبة بالزكاة التي وجبت فإن أعطاه ذلك فلم يقبل برىء الناذر لأنه أتى بما عليه ولا قدرة له على قبول غيره ولا يجبر على قبوله بخلاف مستحقي الزكاة لأنهم ملكوها بخلاف مستحق النذر وأيضا الزكاة أحد أركان الإسلام فأجبروا على قبولها خوف تعطيله بخلاف النذر
( أو ) نذر ( صوما في بلد ) مثلا لزمه الصوم لأنه قربة و ( لم يتعين ) أي الصوم فيه فله الصوم في غيره سواء الحرم وغيره كما أن الصوم الذي هو بدل جبران واجب الإحرام لا يتعين فيه وقيل إن عين الحرم تعين لأن بعض المتأخرين رجح أن جميع القرب تتضاعف فيه فالحسنة فيه بمائة ألف حسنة والتضعيف قربة ( وكذا صلاة ) نذرها في بلد لم يتعين لها ويصلي في غيره لأنها لا تختلف باختلاف الأمكنة
تنبيه شمل إطلاقه صلاة الفرائض إذا نذر أن يصليها في مسجد فإنه لا يتعين لها مسجد وإن عينه لكن يتعين أن يصليها في مسجد بناء على أن صفاتها تفرد بالالتزام بخلاف النفل والفرق أن أداء الفريضة في المسجد أفضل
( إلا المسجد الحرام ) إذا نذر الصلاة فيه فيتعين لعظم فضله وتعلق النسك وصح أن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة كما رواه الإمام أحمد وغيره
تنبيه المراد بالمسجد الحرام جميع الحرم لأنه موضع الطواف فقط فقد جزم الماوردي بأن حرم مكة كمسجدها في المضاعفة وتبعه المصنف في مناسكه وجزم به الحاوي الصغير ونقل الإمام عن شيخه أنه لو نذر الصلاة في الكعبة فصلى في أطراف المسجد خرج عن نذره لأن الجميع من المسجد الحرام وإن كانت في الكعبة زيادة فضيلة
( وفي قول و ) إلا ( مسجد المدينة والأقصى ) فيتعينان للصلاة المنذورة فيهما ( قلت الأظهر ) أخذا من الرافعي في الشرح ( تعيينهما كالمسجد الحرام
والله أعلم ) لاشتراك الثلاثة في عظم الفضيلة وإن تفاوتت فيه لقوله صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وقال البلقيني ما ادعاه المصنف أنه الأظهر ممنوع نقلا ودليلا وأطال الكلام في ذلك
لكن كلام المصنف يشعر بعدم إجزاء الصلاة في غيرهما وليس مرادا بل لو صلى ما نذره
____________________
(4/367)
بالمسجدين بالمسجد الحرام خرج عن نذره في الأصح ويقوم مسجد المدينة مقام الأقصى ولا عكس على النص وسكت عن نذره الاعتكاف لتقدمه في بابه
تنبيه لا تجزىء صلاة واحدة في هذه المساجد عن أكثر منها فلو نذر ألف صلاة في المسجد الحرام لم تجزه صلاة واحدة في مسجد المدينة كما لو نذر أن يصلي في مسجد المدينة صلاة لا تجزيه ألف صلاة في غيره وإن عدلت بها كما أنه لو نذر قراءة ثلث القرآن فقرأ { قل هو الله أحد } لا تجزيه وإن عدلت ثلث القرآن ولا يلحق بالمساجد الثلاثة مسجد قباء خلافا لما بحثه الزركشي لما مر وإن أخرج الترمذي صلاة فيه كعمرة
ثم شرع المصنف في فروع يظهر بها أن النذر هل يسلك به واجب الشرع أو جائزه والأصح عند المصنف الأول إلا فيما استثنى ورجح العراقيون الثاني واختار المصنف في باب الرجعة أنه لا يطلق ترجيح واحد من القولين بل يختلف الراجح منهما بحسب المسائل وبدأ من تلك الفروع بنذر الصوم فقال ( أو ) نذر ( صوما مطلقا ) من غير تعرض لعدد بلفظ ولا نية ( فيوم ) يحمل عليه لأن الصوم اسم جنس يقع على الكثير والقليل والصوم لا يكون أقل منه والمتيقن يوم فلا يلزمه أكثر منه
فإن قيل ينبغي أن لا يكتفي به إذا حملنا النذر على واجب الشرع فإن أقل ما وجب بالشرع ابتداء صيام ثلاثة أيام
أجيب بمنع ذلك بدليل وجوب يوم في جزاء الصيد وعند إفاقة المجنون وبلوغ الصبي قبل طلوع فجر آخر يوم من رمضان
تنبيه لو نذر صوما كثيرا أو طويلا لم يلزمه أكثر من يوم كما قاله الخوارزمي في الكافي ومثله ما لو قال حينا أو دهرا
( أو ) نذر ( أياما ) أي صومها ( فثلاثة ) لأنها أقل الجمع أو شهورا فقياسه ثلاثة وقيل أحد عشر شهرا لكونه جمع كثرة ولو عرف الأشهر احتمل ذلك واحتمل إرادة السنة وهو الظاهر ويجب التبييت في صوم النذر بناء على الأصح من أنه يسلك به مسلك واجب الشرع ولو نذر الصوم في السفر صح إن كان صومه أفضل من فطره وإلا فلا ( أو ) نذر ( صدقة فيما ) أي تصدق بأي شيء ( كان ) مما يتمول كدانق ودونه لإطلاق الاسم
فإن قيل هلا يتقدر بخمسة دراهم أو بنصف دينار كما أنه أقل واجب في زكاة المال أجيب بأن الخلطاء قد يشتركون في نصاب فيجب على أحدهم شيء قليل
تنبيه لو نذر التصدق بمال عظيم
قال القاضي أبو الطيب في باب الإقرار في تعليقه لا يتقدر بشيء وأي قدر تصدق أجزأه
قال ورأيت بعضهم يوجب فيه مائتي درهم
وفي فتاوى القفال لو قال لله علي أن أعطي الفقراء عشرة دراهم ولم يرد به الصدقة لم يلزمه شيء كما لو قال لله علي أن أحب الفقراء
قال الأذرعي وفيه نظر إذ لا يفهم من ذلك إلا الصدقة اه
وهذا هو الظاهر ولو نذر أن يشتري بدرهم خبزا للتصدق لزمه التصدق بخبز قيمته درهم ولا يلزمه شراؤه نظرا للمعنى لأن القربة إنما هي التصدق لا الشراء
فروع لو قال ابتداء مالي صدقة أو في سبيل الله فلغو لأنه لم يأت بصيغة التزام فإن علق قوله المذكور بدخول مثلا كقوله إن دخلت الدار فمالي صدقة فنذر لجاج فإما أن يتصدق بكل ماله وإما له أن يكفر كفارة يمين إلا أن يكون المعلق به مرغوبا فيه كقوله إن رزقني الله دخول الدار أو إن دخلت الدار وأراد ذلك فمالي صدقة فيجب التصدق عينا لأنه نذر تبرر ولو قال بدل صدقة في سبيل الله تصدق بكل ماله على الغزاة ولو قال إن شفى الله مريضي فعلي ألف ولم يعين شيئا باللفظ ولا بالنية لم يلزمه شيء لأنه لم يعين مساكين ولا دراهم ولا تصدقا ولا غيرها ولو نوى التصدق بألف ولم ينو شيئا فكذلك كما جزم به ابن المقري تبعا لأصله لكن قال الأذرعي يحتمل أن ينعقد نذره ويعين ألفا مما يريد كما لو قال لله علي نذر
قال شيخنا وما قاله ظاهر وأي فرق بينه وبين نذر التصدق بشيء ولو قال إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بألف درهم مثلا فشفي والمريض فقير فإن كان لا يلزمه نفقته جاز إعطاؤه ما لزمه وإلا فلا كالزكاة ولو نذر التصدق على ولده أو غيره الغني جاز لأن الصدقة على الغني
____________________
(4/368)
جائزة وقربة ولو نذر أن يضحي بشاة مثلا على أن يتصدق بها لم ينعقد نذره لتصريحه بما ينافيه
( أو ) نذر ( صلاة فركعتان ) تكفي عن نذره في الأظهر حملا على أقل واجب الشرع ( وفي قول ) تكفيه ( ركعة ) واحدة حملا على جائزه ولا تكفيه على القولين سجدة تلاوة أو شكر لأن ذلك لا يسمى صلاة ولا صلاة جنازة لأنها ليست واجبة عينا وإن حصل تعيين فعارض فلا يحمل عليها النذر ( فعلى الأول ) المبني على السلوك بالنذر مسلك واجب الشرع ( يجب القيام فيهما ) أي الركعتين مع القدرة عليه ( وعلى الثاني ) المبني على السلوك على جائز الشرع ( لا ) يجب القيام فيهما
تنبيه محل الخلاف إذا أطلق فإن قال أصلي قاعدا فله القعود قطعا كما لو صرح بركعة فتجزئه قطعا لكن القيام أفضل منه
فروع لو نذر أن يصلي ركعتين فصلى أربعا بتسليمة بتشهد أو بتشهدين ففي الإجزاء طريقان
قال في المجموع أصحهما وبه قطع البغوي جوازه اه وهذا على خلاف الأصل السابق ولهذا جزم في الأنوار بعدم الجواز بناء على أنه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع والقائل بالجواز قاسه على ما لو نذر أن يتصدق بعشرة فتصدق بعشرين
قال في أصل الروضة بعد ذكره الخلاف ويمكن بناؤه على ما ذكر إن زلناه على واجب الشرع لم يجزه كما لو صلى الصبح أربعا وإلا أجزأه ولو نذر أن يصلي أربع ركعات جاز أن يصليهما بتسليمتين لزيادة فضلهما وإن خالف ذلك البناء المذكور لذلك ولأنه يسمى مصليا أربع ركعات كيف صلاها فإن صلاها بتسليمة فيأتي بتشهدين فإن ترك الأول منهما سجد للسهو هذا إن نذر أربعا بتسليمة واحدة أو أطلق فإن نذرها بتسليمتين لزمتاه لأنها أفضل كما صرح بذلك صاحب الاستقصاء في صلاة التطوع ولو نذر صلاتين لم يجزه أربع ركعات بتسليمة كما جزم به في الروضة وأصلها ولا يجزيه فعل الصلاة على الراحلة إذا لم ينذره عليها بأن نذره على الأرض أو أطلق فإن نذره عليها أجزأه فعله عليها لكن فعلها على الأرض أولى
( أو ) نذر ( عتقا ) وأطلق ( فعلى الأول ) المبني على ما سبق يلزمه ( رقبة كفارة ) وهي ما سبق بأنها مؤمنة سليمة من عيب يخل بعمل أو كسب ( وعلى الثاني ) المبني على ما سبق يكفيه ( رقبة ) ولو معيبة وكافرة لصدق الاسم ( قلت الثاني هنا أظهر ) وفي زيادة الروضة أنه الأصح عن الأكثرين وهو الراجح في الدليل ( والله أعلم ) لتشوف الشارع إلى العتق ولأن الأصل براءة الذمة فاكتفى بما يقع عليه الاسم والفرق بينه وبين الصلاة أن العتق من باب الغرامات التي يشق إخراجها فكان عند الإطلاق لا يلزمه إلا هو الأقل ضررا بخلاف الصلاة
تنبيه قال المصنف في تحريره قوله التنبيه أو عتقا كلام صحيح ولا التفات إلى من أنكره لجهله ولكن لو قال إعتاقا لكان أحسن اه
قال ابن شهبة والعجيب أن عبارة المحرر إعتاقا فغيرها إلى خلاف الأحسن
( أو ) نذر ( عتق ) رقبة مؤمنة أو سليمة لم تجزه الكافرة والمعيبة أو عتق رقبة ( كافرة معيبة أجزأه ) أي كفاه عنها رقبة ( كاملة ) لإتيانه بما هو أفضل وذكر الكفر والعيب ليس للتقرب بل الجواز الاقتصار على الناقص فصار كمن نذر التصدق بحنطة رديئة يجوز له التصدق بالجيدة ( فإن عين ) رقبة ( ناقصة ) بأن قال لله علي أن أعتق هذه الرقبة الكافرة أو المعيبة ( تعينت ) فلا يجزئه غيرها وإن كان خيرا منها لتعلق النذر بعينها
تنبيه ما قررت به كلام المصنف من أنه يصح نذر عتق الرقبة الكافرة هو المتعمد وإن كان في فتاوى القاضي حسين أنه لا يلزمه إعتاقه لأنه جعل الكفر صفة له ولا يزول ملكه عن المعينة بنفس النذر وليس له بيعها ولا هبتها ولا يجوز ذلك ولا يلزمه إبدالها إن تلفت أو أتلفها وإن أتلفها أجنبي لزمه قيمتها لمالكها ولا يلزمه صرفه إلى أخرى
____________________
(4/369)
بخلاف الهدي فإن الحق فيه للفقراء وهم موجودون قاله في البيان
( أو ) نذر ( صلاة ) حالة كونه ( قائما لم يجز ) فعلها حالة كونه ( قاعدا ) مع القدرة بلا مشقة على القيام لأنه دون ما التزمه أما مع المشقة لنحو كبر أو مرض فلا يلزمه القيام على الأصح ( بخلاف عكسه ) وهو نذر الصلاة قاعدا فيجوز قائما لإتيانه بما هو الأفضل
تنبيه كلامه يفهم أن له القعود أيضا وهو كذلك ففي الشرحين والروضة هنا أنه لا خلاف فيه وإن ذكرا بعد ذلك بنحو ثلاثة أوراق عن الإمام عن الأصحاب أنه يلزمه القيام عند القدرة ولو نذر إتمام الصلاة أو قصرها صح إن كان كل منهما أفضل وإلا فلا كما جزم به في الأنوار ولو نذر القيام في النوافل أو استيعاب الرأس بالمسح أو التثليث أو غسل الرجلين صح ولزم كما جزم في الأنوار أيضا
( أو ) نذر ( طول قراءة الصلاة ) فرضا كانت أو نفلا ومثله طول ركوعها وسجودها لزمه ذلك أي إن لم يكن إماما في مكان لم يحضر جمعه أو حصروا ولم يرضوا بالتطويل كما نبه عليه البلقيني لأن التطويل حينئذ مكروه ( أو ) نذر ( سورة معينة أو ) نذر ( الجماعة ) ولو في نفل تسن فيه الجماعة وقوله ( لزمه ) راجع للمسائل المذكورة كما تقرر لأن ذلك طاعة فلزم بالنذر وما قررت به كلام المصنف من أن ما ذكره شامل للفرض والنفل هو المعتمد كما جرى عليه شيخنا
وقال فالقول بأن صحته هنا مقيدة بكونها في الفرائض أخذا من تقييد الروضة وأصلها بذلك وهم لأنهما إنما قيدا بذلك للخلاف فيه ولو نذر القراءة في الصلاة فقرأ في محل التشهد أو في ركعة زائدة قام لها ناسيا لم تحسب
تنبيه لو خالف في الوصف الملتزم كأن صلى في الأخيرة منفردا سقط عنه خطاب الشرع في الأصل وبقي الوصف ولا يمكنه الإتيان به وحده فعليه الإتيان به ثانيا مع وصفه ذكره في الأنوار تبعا للقاضي و المتولي
وقال القاضي أبو الطيب يسقط عنه نذره أيضا لأنه ترك الوصف ولا يمكنه قضاؤه
قال ابن الرفعة والأول ظاهر إذا لم نقل أن الفرض الأول وإلا فالمتجه الثاني
قال شيخنا وقد يحمل الأول على ما إذا ذكر في نذره الظهر مثلا
والثاني على ما إذا ذكر فيه الفرض اه
والأوجه ما ذكره صاحب الأنوار
( والصحيح انعقاد النذر بكل قربة لا تجب ابتداء كعيادة ) لمريض ( وتشييع جنازة والسلام ) على الغير أو على نفسه إذا دخل بيتا خاليا وتشميت العاطس وزيارة القادم لأن الشارع رغب فيها والعبد يتقرب بها فهي كالعبادات والثاني المنع لأنها ليست على أوضاع العبادات وإنما هي أعمال وأخلاق مستحسنة رغب الشارع فيها لعموم فائدتها ويصح نذر فعل المكتوبة أول الوقت وصلاة الضحى وقيام التراويح وتحية المسجد وركعتي الإحرام والطواف وستر الكعبة ولو بالحرير وتطييبها وصرف ماله في شراء سترها وتطييبها فإن نوى المباشرة لذلك بنفسه لزمه وإلا فله بعثه إلى القيم لصرفه في ذلك ويصح نذر تطييب مسجد المدينة والأقصى وغيرهما من المساجد كما اختاره في المجموع لأن تطييبها سنة مقصودة فلزم بالنذر كسائر القرب بخلاف البيوت ونحوها كمشاهد العلماء والصالحين
واحترز المصنف بقوله لا تجب ابتداء عن القرب التي يجب جنسها بالشرع كالصلاة والصوم والحج والعتق فإنها تلزم بالنذر قطعا كما في التتمة وكان ينبغي أن يزيد في الضابط أن لا يكون فيه إبطال رخصة للشرع أو القصر أفضل كما مرت الإشارة إليه وأورد على الضابط ما لو قال إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعجل زكاة مالي فإن الأصح في زيادة الروضة عدم انعقاده لأنه ليس بقربة
نعم حيث قلنا إنه يندب تعجيل الزكاة كأن اشتدت حاجة المستحقين لها أو التمسوها من المذكى أو قدم الساعي قبل تمام حوله فينبغي كما قال الإسنوي وغيره صحة نذره
خاتمة في مسائل منثورة مهمة تتعلق بالباب لو قال إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بعشرة دراهم مثلا ثم قال في اليوم الثاني مثله فإن قصد التكرار لم يلزمه غير عشرة وإن قصد الاستئناف أو أطلق لزمه عشرون
____________________
(4/370)
كما في فتاوى القفال ويجيء مثله كما قال الزركشي في نذر اللجاج
ولو نذر التصدق على أهل الذمة بدينار جاز صرفه إلى المسلمين أو على المبتدعة
أو الرافضة جاز صرفه إلى أهل السنة
أو على الأغنياء جاز صرفه إلى الفقراء كما في فتاوى القفال
ولو قال لله علي ذبح ولدي فإن لم يجز فشاة مكانه لم يصح نذره لأن ذلك ليس بقربة ولا يلزم الكافر وفاء ما نذره في كفره بعد إسلامه وقوله صلى الله عليه وسلم ل عمر رضي الله عنه في نذر كان نذره في الجاهلية أوف بنذرك محمول على الندب
ولو قال أحد هذين للفقراء فهو نذر إن أراده أو أطلق فإن تلف أحدهما أعطاهم الآخر فإن أراد الإقرار بأن لهم أحدهما والآخر ملكه فتلف أحدهما فعينه لهم قبل قوله أو نذر التصدق بأحد شيئين فتلف أحدهما لزمه التصدق بالآخر
ولو نذر أن لا يكلم أحدا لم يصح نذره لما فيه من التضييق والتشديد
ولو قال إن شفى الله مريضي فعبدي هذا حر ثم نذر عتقه إن رد الله غائبه انعقد النذران فإن حصلا معا أقرع بينهما كذا نقله في الروضة عن فتاوى القاضي عن العبادي والذي فيها عنه أن النذر الثاني موقوف فإن شفى الله المريض قبل القدوم أو بعده أو معه بان أنه لم ينعقد والعبد مستحق العتق عن الأول وإن مات انعقد وأعتق العبد عنه كذا ذكره البغوي في فتاويه وهذا أوجه
ولو نذر من يموت أولاده عتق رقيق إن عاش له ولد فعاش له ولد أكثر من أولاده الموتى ولو قليلا لزمه العتق
ومن نذر زيتا أو شمعا لإسراج مسجدا أو غيره أو وقف ما يشتريان به من غلته صح كل من النذر والوقف إن كان يدخل المسجد أو غيره من ينتفع به من نحو مصل أو نائم وإلا لم يصح لأنه إضاعة مال وقد ذكر الأذرعي ما يفيد ذلك
وفي إيقاد الشموع ليلا على الدوام والمصابيح الكثيرة نظر لما فيه من الإسراف
وأما المنذور للمشاهد الذي يبيت على قبر ولي أو نحوه فإن قصد الناذر بذلك التنوير على من يسكن البقعة أو يتردد إليها فهو نوع قربة وحكمه ما ذكر أي الصحة
وإن قصد به الإيقاد على القبر ولو مع قصد التنوير فلا وإن قصد به وهو الغالب من العامة تعظيم البقعة أو القبر أو التقرب إلى من دفن فيها أو نسبت إليه فهذا نذر باطل غير منعقد فإنهم يعتقدون أن لهذه الأماكن خصوصيات لأنفسهم ويرون أن النذر لها مما يندفع به البلاء قال وحكم الوقف كالنذر فيما ذكرنا انتهى
فإن حصل شيء من ذلك رد إلى مالكه وإلى وارثه بعده فإن جهل صرف في مصالح المسلمين
وقال الشيخ عز الدين المهدي إلى المساجد من زيت أو شمع إن صرح بأنه نذر وجب صرفه إلى جهة النذر ولا يجوز بيعه وإن أفرط في الكثرة وإن صرح بأنه تبرع لم يجز التصرف فيه إلا على وفق إذنه وهو باق على ملكه فإن طالت المدة وجوز أن باذله مات فقد بطل إذنه ووجب رده إلى وارثه فإن لم يعرف له وارث صرف في مصالح المسلمين وإن لم يعرف قصد المهدي أجري عليه أحكام المنذور التي تقدمت أو يصرف في مصالح المسلمين
ولو نذر أن يصلي في أفضل الأوقات فقياس ما قالوه في الطلاق ليلة القدر أو في أحب الأوقات إلى الله تعالى قال الزركشي ينبغي أن لا يصح نذره والذي ينبغي الصحة ويكون كنذره في أفضل الأوقات
ولو نذر أن يعبد الله تعالى بعبادة لا يشركه فيها أحد فقيل يطوف بالبيت وحده وقيل يصلي داخل البيت وحده وقيل يتولى الإمامة العظمى فإن الإمام لا يكون إلا واحدا فإن انفرد بها واحد فقد قام بعبادة هي أعظم العبادات وعليه حمل قول سليمان عليه الصلاة والسلام رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فإنه انفرد بهذه العبادة وهي القيام بمصالح الإنس والجن والطير وغيرها
وينبغي أن يكفي أي واحد من ذلك وما ورد من أن البيت لا يخلو عن طائف ملك أو غيره مردود لأن العبرة بما في ظاهر الحال
كتاب القضاء بالمد أي الحكم بين الناس وجمعه أقضية كقباء وأقبية
وهو لغة إحكام الشيء وإمضاؤه ومنه { وقضينا إلى بني إسرائيل }
وفراغه ومنه { فوكزه موسى فقضى عليه } أي قتله وفرغ منه
وإتمامه ومنه { ليقضى أجل مسمى }
____________________
(4/371)
أي ليتم الأجل
و شرعا الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى
قال ابن عبد السلام الحكم الذي يستفيده القاضي بالولاية هو إظهار حكم الشرع في الواقعة فيمن يجب عليه إمضاؤه فيه بخلاف المفتي فإنه لا يجب عليه إمضاؤه وسمي القضاة حكما لما فيه من الحكمة التي توجب وضع الشيء في محله لكونه يكف الظالم عن ظلمه أو من إحكام الشيء ومنه حكمة اللجام لمنعه الدابة من ركوبها رأسها وقد قيل إن الحكمة مأخوذة من هذا أيضا لمنعها النفس من هواها
والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع فمن الكتاب آيات كقوله تعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } وقوله تعالى { فاحكم بينهم بالقسط } وقوله تعالى { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس }
ومن السنة أخبار كخبر الصحيحين إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران وفي رواية صحح الحاكم إسنادها فله عشرة أجور
وروى البيهقي خبر إذا جلس الحاكم للحكم بعث الله له ملكين يسددانه ويوفقانه فإن عدل أقاما وإن جار عرجا وتركاه
قال المصنف في شرح مسلم أجمع المسلمون على أن الحديث يعني الذي في الصحيحين في حاكم عالم أهل للحكم إن أصاب فله أجران باجتهاده وإن أخطأ فله أجر باجتهاده في طلب الحق أما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له أن يحكم وإن حكم فلا أجر له بل هو آثم ولا ينفذ حكمه سواء وافق الحق أم لا لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا وهي مردودة كلها ولا يعذر في شيء من ذلك
وقد روى الأربعة والحاكم والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به واللذان في النار رجل عرف الحق فجار في الحكم ورجل قضى للناس على جهل فالقاضي الذي ينفذ حكمه هو الأول والثاني والثالث لا اعتبار بحكمهما
والإجماع منعقد على فعله سلفا وخلفا
وقد استقضى النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون بعده فمن بعدهم ووليه سادات وتورع عنه مثلهم وورد من الترغيب والتحذير أحاديث كثيرة
ولا شك أنه منصب عظيم إذا قام العبد بحقه ولكنه خطر والسلامة فيه بعيدة إلا من عصمه الله تعالى وقد كتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء رضي الله تعالى عنهما لما كان قاضيا ببيت المقدس إن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس المرء عمله وقد بلغني أنك جعلت طبيبا تداوى فإن كنت تبرىء فنعما لك وإن كنت مطببا فاحذر أن تقتل أحدا فتدخل النار فما بالك بمن ليس بطبيب ولا مطبب
وقال بعض الأكابر ممن دخل في القضاء أنا نذير لمن يكون عنده أهلية العلم أن لا يتولى القضاء
فإن كلام العلماء يؤخذ بالقبول وكلام القضاة تسري إليه الظنون وإن ترتب على القضاء أجر في وقائع جزئية فالعلم يترتب عليه أمور كلية تبقى إلى يوم القيامة وما ورد في التحذير عنه من جعل قاضيا ذبح بغير سكين فهو محمول على من يكره له القضاء أو يحرم على ما سيأتي
( هو ) أي قبول تولية القضاء من الإمام ( فرض كفاية ) في حق الصالحين له في الناحية أما كونه فرضا فلقوله تعالى { كونوا قوامين بالقسط } ولأن طباع البشر مجبولة على التظالم ومنع الحقوق وقل من ينصف من نفسه ولا يقدر الإمام على فصل الخصومات بنفسه فدعت الحاجة إلى تولية القضاء
وأما كونه على الكفاية فلأنه أمر بمعروف أو نهي عن منكر وهما على الكفاية وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا إلى اليمن قاضيا فقال يا رسول الله بعثتني أقضي بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء فضرب النبي صلى الله عليه وسلم صدره وقال اللهم اهده وثبت لسانه قال فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما شككت في قضاء بين اثنين رواه أبو داود والحاكم وقال صحيح الإسناد
واستخلف النبي صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة واليا وقاضيا وقلد معاذا قضاء اليمن
وبعث أبو بكر أنسا إلى البحرين وبعث عمر أبا موسى الأشعري إلى البصرة
فلو كان فرض عين لم يكف واحد
وعن القاضي أبي الطيب استحباب نصب القضاة في البلدان قال ابن الرفعة ولم أره لغيره
فعلى المشهور إذا قام بالفرض من يصلح سقط الفرض عن الباقين
وإن امتنعوا أثموا وأجبر الإمام أحد الصالحين على الصحيح
وخرج بقبوله التولية إيقاعها للقاضي من الإمام فإنها فرض عين عليه لدخوله في عموم ولايته ولا يصح إلا من جهته ولا يجوز أن يتوقف حتى
____________________
(4/372)
يسأل لأنها من الحقوق المسترعاة
وقد مر في كتاب السير أنه يجب على الإمام أن يولي في كل مسافة عدوى قاضيا كما يجب عليه أن يجعل في كل مسافة قصر مفتيا وتقدم هناك الفرق بينهما
قال البلقيني وأما إيقاع القضاء بين المتنازعين ففرض عين على الإمام بنفسه أو نائبه وإن ترافعا إلى النائب فإيقاع القضاء بينهما فرض عين عليه ولا يجوز له الدفع إذا كان فيه تعطيل وتطويل نزاع ( فإن تعين ) للقضاء واحد في تلك الناحية بأن لم يصلح غيره ( لزمه طلبه ) إن لم يعرض عليه للحاجة إليه ولا يعذر لخوف ميل منه بل يلزمه أن يطلب ويقبل ويحترز من المال كسائر فروض الأعيان
تنبيه محل وجوب الطلب إذا ظن الإجابة كما بحثه الأذرعي فإن تحقق أو غلب على ظنه عدمها لما علم من فساد الزمان وأئمته لم يلزمه فإن عرض عليه لزمه القبول فإن امتنع عصى وللإمام إجباره على الأصح لأن الناس مضطرون إلى علمه ونظره فأشبه صاحب الطعام إذا منعه المضطر
فإن قيل إنه بامتناعه حينئذ يصير فاسقا ويحمل قولهم على أنه يجبر أنه يؤمر بالتوبة أو لا فإذا تاب أجبر
أجيب بأنه لا يفسق بذلك لأنه يمتنع غالبا إلا متأولا للتحذيرات الواردة في الباب واستشعاره من نفسه العجز وعدم اعتماده على نفسه الأمارة بالسوء وكيف يفسق من امتنع متأولا تأويلا سائغا أداه اجتهاده إليه وأن المنجى له من عذاب الله وسخطه عدم التلبس بهذا الأمر وقد يرى هو أنه لا يعرف إلا باعترافه فالوجه عدم فسقه بمجرد امتناعه خوفا على دينه أو غير ذلك من الأعذار الباطنة الخفية علينا ولا يعصي بذلك أيضا لما ذكر
ولو خلا الزمان عن إمام رجع الناس إلى العلماء فإن كثر علماء الناحية فالمتبع أعلمهم فإن استووا وتنازعوا أقرع كما قاله الإمام
( وإلا ) بأن لم يتعين للقضاء واحد في تلك الناحية لوجود غيره معه نظرت ( فإن كان غيره أصلح ) لتولية القضاء منه ( وكان ) الأصلح ( يتولاه ) أي يرضى بتوليته ( فللمفضول ) المتصف بصفة القضاء وهو غير الأصلح ( القبول ) للتولية إذا بذل له من غير طلب في الأصح
( وقيل لا ) يجوز له قبولها
( و ) على الأول ( يكره طلبه ) لوجود من هو أولى منه ( وقيل يحرم ) واستشكله الإمام بأنه إذا كان النصب جائزا فكيف يحرم طلب الجائز ونظير هذا سؤال الصدقة في المسجد فإنه لا يجوز
ويجوز إعطاؤه على الأصح إذ الإعطاء باختيار المعطي فالسؤال كالعدم
وعلى الثاني يحرم طلبه
تنبيه أشعر قوله يتولاه تخصيص الخلاف برضاه بالتولية فإن لم يرض بها فكالعدم وهو كذلك كما في الروضة وأصلها
ومحله أيضا حيث لا عذر فإن كان لكون المفضول أطوع في الناس أو أقرب للقلوب أو كان الأفضل غائبا أو مريضا انعقد للمفضول جزما كما قاله الماوردي
( وإن كان ) غيره ( مثله ) وسئل بلا طلب ( فله القبول ) لأنه من أهله ولا يلزمه على الأصح لأنه قد يقوم به غيره
وقد امتنع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما سأله عثمان رضي الله عنه القضاء رواه الترمذي
وعرض على الحسين بن منصور النيسابوري قضاء نيسابور فاختفى ثلاثة أيام ودعا الله تعالى فمات في اليوم الثالث
وورد كتاب السلطان بتولية نصر بن علي الجهضمي عشية قضاء البصرة فقال أشاور نفسي الليلة وأخبركم غدا وأتوا عليه من الغد فوجدوه ميتا
وقال مكحول لو خيرت بين القضاء والقتل اخترت القتل
وامتنع منه الإمام الشافعي رضي الله عنه لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب
وامتنع منه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه لما استدعاه المنصور فحبسه وضربه
وحكى القاضي الطبري وغيره أن الوزير بن الفرات طلب أبا علي بن خيران لتولية القضاء فهرب منه فختم على دوره نحوا من عشرين يوما كما قيل فيه وطينوا الباب على أبي علي عشرين يوما ليلي فما ولي وقال بعض القضاة وليت القضاء وليت القضا ء لم يكن شيئا توليته
____________________
(4/373)
فأوقفني في القضاء القضاء وما كنت قدما تمنيته وقال آخر فيا ليتني لم أكن قاضيا ويا ليتها كانت القاضيه تنبيه قول المصنف وله القبول يقتضي جوازه وإن خاف على نفسه اتباع الهوى وقال الإمام و الرافعي ينبغي أن يحترز فإن أهم الغنائم حفظ السلامة اه
وقضيته منع الإقدام حينئذ وهو الظاهر بل قطع في الذخائر بوجوب الامتناع
( ويندب ) له ( الطلب ) للقضاء ( إن كان خاملا ) أي غير مشهور بين الناس ( يرجو به ) أي القضاء ( نشر العلم ) لتحصل المنفعة بنشره إذا عرفه الناس ( أو ) لم يكن خاملا لكن كان ( محتاجا إلى الرزق ) فإذا ولي حصل له كفايته من بيت المال بسبب هو طاعة لما في العدل من جزيل الثواب وفي هذا إشعار على أنه يجوز أخذ الرزق على القضاء وسيأتي إيضاح ذلك
تنبيه يندب الطلب أيضا إذا كانت الحقوق مضاعة لجور أو عجز أو فسدت الأحكام بتولية جاهل فيقصد بالطلب تدارك ذلك
وقد أخبر الله تعالى عن نبيه يوسف صلوات الله وسلامه عليه أنه طلب فقال { اجعلني على خزائن الأرض } وإنما طلب ذلك شفقة على خلق الله لا منفعة نفسه
( وإلا ) بأن لم يكن خاملا بل مشهورا ولا محتاجا للرزق بل مكفيا به ( فالأولى ) له ( تركه ) أي طلب القضاء لما فيه من الخطر من غير حاجة وينشر العلم والفتيا
( قلت ) كما قال الرافعي في الشرح ( ويكره ) له حينئذ الطلب ( على الصحيح ) وكذا قبول التولية أيضا ( والله أعلم ) لأنه ورد فيه نهي مخصوص وعليه حملت الأخبار الواردة في التحذير وامتناع السلف منه
والثاني لا كراهة في طلب ولا قبول بل هما خلاف الأولى
تنبيه أهمل المصنف من أقسام الطلب التحريم قال الماوردي كما إذا قصد انتقاما من الأعداء أو اكتسابا بالارتشاء
وجعل من المكروه طلبه للمباهاة والاستعلاء ونوزع في ذلك
وجرى بعضهم على الحرمة للأحاديث الدالة عليه وهو ظاهر
وهذا التفصيل إذا لم يكن هناك قاض مولى فإن كان نظر فإن كان غير مستحق القضاء فكالمعدوم
وإن كان مستحقا له فطلب عزله حرام ولو كان دون الطالب وتبطل بذلك عدالة الطالب فإن عزل وولي الطالب نفذ حكمه عند الضرورة أما عند تمهد الأصول الشرعية فلا ينفذ
وهذا في الطلب بلا بذل مال فإن كان نظر إن تعين على الباذل القضاء أو كان ممن يسن له جاز له بذل المال ولكن الآخذ ظالم بالأخذ
وهذا كما إذا تعذر الأمر بالمعروف إلا ببذل مال فإن لم يتعين ولم يسن طلبه لم يجز بذل المال ليولى ويجوز له البذل بعد التولية لئلا يعزل والآخذ ظالم بالأخذ ووقع في الروضة أنه يجوز له بذله ليولى ونسب إلى الغلط
وأما بذل المال لعزل قاض لم يكن متصفا بصفة القضاء فمستحب لما فيه من تخليص الناس منه ولكن آخذه ظالم بالأخذ وإن كان بصفة القضاء فهو حرام
فإن عزله وولى الباذل نفذ عند الضرورة كما مر أما عند تمهد الأصول الشرعية فتوليته باطلة والمعزول على قضائه لأن العزل بالرشوة حرام وتولية المرتشى للراشي حرام
( والاعتبار في التعيين ) للقضاء ( وعدمه ) ببلدة ( بالناحية ) وكذا في وجوب الطلب والقبول وعدمه فلا يجب على من تعين عليه القضاء طلب ولا قبول له في غير ناحيته لما في فيه من الهجرة وترك الوطن
وفارق سائر فروض الكفايات بأنه يمكنه القيام بها والعود إلى الوطن والقضاء لا غاية له مع قيام حاجة بلد المعين إليه
وظاهر كلام أصل الروضة أنه لو كان بناحية صالحان وولي أحدهما لم يجب على الآخر ذلك في ناحية ليس بها صالح وهو كذلك لما ذكر خلافا للبلقيني ومن تبعه في الوجوب عليه
تنبيه حكم المقلد الآن حكم المجتهدين في الأصلح وعدمه كما قاله بعض المتأخرين ويؤيده قول الغزالي في الوسيط المقلد إذا بلغ رتبة الاجتهاد في المذهب وجب تقديمه على من لم يبلغها فقد اعتبر أعني
ثم شرع فيما يشترط لتولية القاضي فقال ( وشرط القاضي ) أي من يولى قاضيا ( مسلم ) أي إسلام وكذا الباقي
وهذا الشرط داخل في اشتراط العدالة ولهذا لم يذكره في الروضة فلا يولي كافر على مسلمين لقوله تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا }
____________________
(4/374)
ولا سبيل أعظم من القضاء ولا على كفار لأن القصد به فصل الأحكام والكافر جاهل بها
وأما جريان العادة بنصب حاكم من أهل الذمة عليهم فقال الماوردي و الروياني إنما هي رياسة وزعامة لا تقليد حكم وقضاء ولا يلزمهم حكمه بإلزامه بل بالتزامهم ولا يلزمون بالتحاكم عنده
( مكلف ) أي بالغ عاقل فلا يولى صبي ولا مجنون وإن تقطع جنونه لنقصهما
تنبيه قال الماوردي ولا يكفي العقل الذي يتعلق به التكليف حتى يكون صحيح الفكر جيد الفطنة بعيدا عن السهو والغفلة يتوصل بذكائه إلى وضوح المشكل وحل المعضل
( حر ) فلا يولى رقيق كله أو بعضه لنقصه كالشهادة أو ( ذكر ) فلا تولى امرأة لقوله صلى الله عليه وسلم لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة رواه البخاري ولأن النساء ناقصات عقل ودين
تنبيه شمل إطلاق المصنف منعها ولو فيما تقبل شهادتها فيه وهو كذلك وفيه إشارة إلى الرد على أبي حنيفة حيث جوزه حينئذ وعلى ابن جرير الطبري حيث جوزه مطلقا
والخنثى المشكل في ذلك كالمرأة كما قاله الماوردي وغيره فلو ولي ثم بان رجلا لم يصح توليته كما قاله الماوردي وصرح به في البحر وقال إنه المذهب لا يحتاج إلى تولية جديدة
أما إذا بانت ذكورته قبل التولية فإنها تصح
( عدل ) وسيأتي في الشهادات بيانه فلا يولى فاسق لعدم الوثوق بقوله ولأنه ممنوع من النظر في مال ولده مع وفور شفقته فنظره في أمر العامة أولى بالمنع
تنبيه يؤخذ مما سيأتي في الشهادات إن شاء الله تعالى عن الصيمري أنه يشترط في الشاهد أن لا يكون محجورا عليه بسفه وأن يكون القاضي كذلك وبه صرح البلقيني لأن مقتضى القضاء التصرف على المحجور عليهم
قال وأما الإكراه فإنه مانع من صحة القبول إلا فيمن تعين عليه
ولا يولى مبتدع أيضا ردت شهادته ولا من ينكر الإجماع أو أخبار الآحاد أو الاجتهاد المتضمن إنكاره إنكار القياس
( سميع ) ولو بصياح في أذنه فلا يولى أصم لا يسمع أيضا فإنه لا يفرق بين إقرار وإنكار
( بصير ) فلا يولى أعمى ولا من يرى الأشباح ولا يعرف الصور لأنه لا يعرف الطالب من المطلوب فإن كان يعرف الصور إذا قربت منه صح
وخرج بالأعمى الأعور فإنه يصح توليته وكذا من يبصر نهارا فقط دون من يبصر ليلا فقط ما قال الأذرعي
فإن قيل قد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم على المدينة وهو أعمى ولذلك قال مالك بصحة ولاية الأعمى
أجيب بأنه إنما استخلفه في إمامة الصلاة دون الحكم
تنبيه لو سمع القاضي البينة ثم عمي قضى في تلك الواقعة على الأصح
واستثني أيضا لو نزل أهل قلعة على حكم أعمى فإنه يجوز كما هو مذكور في محله
( ناطق ) فلا يولى أخرس وإن فهمت إشارته لعجزه عن تنفيذ الأحكام
( كاف ) للقيام بأمور القضاء فلا يولى مغفل ومختل نظر بكبر أو مرض ونحو ذلك
وفسر بعضهم الكفاية اللائقة بالقضاء بأن يكون فيه قوة على تنفيذ الحق بنفسه فلا يكون ضعيف النفس جبانا فإن كثيرا من الناس يكون عالما دينا ونفسه ضعيفة عن التنفيذ والإلزام والسطوة فيطمع في جانبه بسبب ذلك ولذلك قال ابن عبد السلام وللولاية شرطان العلم بأحكامها والقدرة على تحصيل مصالحها وترك مفاسدها فإذا فقد الشرطان حرمت الولاية قال صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر إني أراك ضعيفا لا تتأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم
وجعل بعضهم هذا الشرط خارجا بقوله ( مجتهد ) فلا يولى الجاهل بالأحكام الشرعية ولا المقلد وهو من حفظ مذهب صاحبه لكنه غير عارف بغوامضه وقاصر عن تقرير أدلته لأنه لا يصلح للفتوى فللقضاء أولى
تنبيه كان ينبغي للمصنف أن يقول إسلام وتكليف وكذا ما بعدهما فيأتي بالمصدر كما قدرته في كلامه لأن
____________________
(4/375)
الشرط هو الإسلام وغيره من المذكورات وكذا ما بعدهما لا الشخص نفسه
أو أن يقول مسلما مكلفا الخ بنصب الجميع على خبر كان المحذوفة كقوله فيما سبق يشترط في الإمام كونه مسلما
( وهو ) أي المجتهد ( أن يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام ) أي طريق الاجتهاد ولا يشترط حفظ آياتها ولا أحاديثها المتعلقات بها عن ظهر قلب وآي الأحكام كما ذكره البندنيجي و الماوردي وغيرهما خمسمائة آية وعن الماوردي أن عدد أحاديث الأحكام خمسمائة كعدد الآي
واعترض الأول بأن الأحكام كما تستنبط من الأوامر والنواهي تستنبط من القصص والمواعظ ونحوهما
والثاني بأن غالب الأحاديث لا تكاد تخلو عن حكم شرعي وأدب شرعي وسياسة دينية وكل ذلك أحكام شرعية
وأجيب عن ذلك بأن المراد التي هي محال النظر والاجتهاد والخفاء ونحو ذلك
واحترز المصنف بقوله ما يتعلق بالأحكام عن المواعظ والقصص
( و ) يعرف ( خاصه وعامه ) بتذكير الضمير نظرا ل ما والخاص خلاف العام الذي هو لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر
ويعرف العام الذي أريد به الخصوص والخاص الذي أريد به العموم ومطلقه ومقيده ( ومجمله ) وهو ما لم تتضح دلالته ( ومبينه ) وهو المتضح دلالته ويعرف نصه وظاهره ( وناسخه ومنسوخه ) فيعرف ما نسخ لفظه وبقيت تلاوته وعكسه
ويعرف المتشابه والمحكم ( ومتواتر السنة وغيره ) أي الآحاد لأن له أن يتمكن من الترجيح عند تعارض الأدلة فيقدم الخاص على العام والمقيد على المطلق والمبين على المجمل والناسخ على المنسوخ والمتواتر على الآحاد
تنبيه أفرد المصنف الضمير حملا على لفظ ما قال ابن برهان ويشترط أن يعرف أسباب النزول ( و ) يعرف ( المتصل ) من السنة ( والمرسل ) منها وأريد به هنا غير المتصل ( وحال الرواة قوة وضعفا ) بنصبهما على التمييز لأنه بذلك يتوصل إلى تقرير الأحكام
تنبيه إنما يشترط معرفة الرواة في حديث لم يجمع على قبوله أما ما أجمع السلف على قبوله أو تواترت عدالة رواته فلا حاجة للبحث عن عدالتهم وما عدا ذلك يكتفي في عدالة رواته بتعديل إمام مشهور عرف صحة مذهبه
قال في زيادة الروضة هذا ما أطبق عليه جمهور الأصحاب وشذ من شرط في التعديل اثنين اه
ولا بد مع العدالة من الضبط
( و ) يعرف ( لسان العرب لغة ونحوا ) بنصبهما أيضا على التمييز
وأراد بالنحو ما يشمل البناء والإعراب والتصريف لورود الشريعة به ولأن به يعرف عموم اللفظ وخصوصه وإطلاقه وتقييده وإجماله وبيانه وصيغ الأمر والنهى والخبر والاستفهام والوعد والوعيد والأسماء والأفعال والحروف وما لا بد منه في فهم الكتاب والسنة
( و ) يعرف ( أقوال العلماء من الصحابة ) رضي الله تعالى عنهم ( فمن بعدهم إجماعا واختلافا ) لئلا يقع في حكم أجمعوا على خلافه
تنبيه قضية كلامه أنه يشترط معرفة جميع ذلك وليس مرادا بل يكفي أن يعرف في المسألة التي يفتي أو يحكم فيها أن قوله لا يخالف الإجماع فيها إما بعلمه بموافقة بعض المتقدمين أو يغلب على ظنه أن تلك المسألة لم يتكلم فيها الأولون بل تولدت في عصره وعلى هذا قياس معرفة الناسخ والمنسوخ كما نقلاه عن الغزالي وأقراه
( و ) يعرف ( القياس ) صحيحه وفاسده ( بأنواعه ) الأولى والمساوي والأدون ليعمل بها فالأول كقياس ضرب الوالدين على التأفيف والثاني كقياس إحراق مال اليتيم على أكله في التحريم فيهما والثالث كقياس التفاح على البر في باب الربا بجامع الطعم
ولا يشترط أن يكون متبحرا في كل نوع من هذه العلوم حتى يكون في النحو كسيبويه وفي اللغة كالخليل بل يكفي معرفة جمل منها قال ابن الصباغ إن هذا سهل في هذا الزمان فإن العلوم قد دونت وجمعت اه
ويشترط أن يكون له من كتب الحديث أصل مصحح يجمع أحاديث غالب الأحكام كصحيح البخاري وسنن أبي داود
ولا يشترط حفظه جميع القرآن ولا بعضه عن ظهر قلب بل يكفي أن يعرف مظان أحكامه في أبوابها فيراجعها وقت الحاجة
____________________
(4/376)
تنبيه أشعر اقتصار المصنف على الأدلة الأربعة أنه لا يشترط معرفة الأدلة المختلف فيها كالأخذ بأقل ما قبل وكالاستصحاب وليس مرادا بل لا بد أيضا من معرفتها
وبأنه لا يشترط معرفة أصول الاعتقاد وليس مرادا أيضا فقد حكى في الروضة كأصلها عن الأصحاب اشتراطه
وبأنه لا يشترط فيه الكتابة وهو الأصح لأنه صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب
وقيل يشترط وصححه الجرجاني وقال الزركشي إنه المختار في هذا الزمان لأنه يحتاج أن يكتب لغيره ويكتب إليه وإذا قرىء عليه شيء ربما حرف القارىء بخلاف الذين كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم ولأن عدم الكتابة في حقه معجزة وفي حق غيره منقصة
وبأنه لا يشترط فيه معرفة الحساب لتصحيح المسائل الحسابية الفقهية وهو كذلك كما صوبه في المطلب لأن الجهل به لا يوجب الخلل في غير تلك المسائل والإحاطة بجميع الأحكام لا تشترط
ثم اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في المجتهد المطلق وهو الذي يفتي في جميع أبواب الشرع وأما المقيد بمذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه
وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع فإنه مع المجتهد كالمجتهد مع نصوص الشرع ولهذا ليس له أن يعدل عن نص إمامه كما لا يسوغ الاجتهاد مع النص
قال ابن دقيق العيد ولا يخلو العصر عن مجتهد إلا إذا تداعى الزمان وقربت الساعة وأما قول الغزالي و القفال إن العصر خلا عن المجتهد المستقل فالظاهر أن المراد مجتهد قائم بالقضاء فإن العلماء يرغبون عنه وهذا ظاهر لا شك فيه أو كيف يمكن القضاء على الأعصار بخلوها عن المجتهد والقفال نفسه كان يقول للسائل في مسألة الصبر أتسألني عن مذهب الشافعي أم ما عندي وقال هو والشيخ أبو علي والقاضي الحسين والأستاذ أبو إسحاق وغيرهم أسناد مقلدين للشافعي بل وافق رأينا رأيه
فما هذا كلام من يدعي زوال رتبة الاجتهاد
وقال ابن الصلاح وإمام الحرمين والغزالي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الأئمة المجتهدين في المذهب
فروع يجوز أن يتبعض الاجتهاد بأن يكون العالم مجتهدا في باب دون باب فيكفيه علم ما يتعلق بالباب الذي يجتهد فيه
ويندب أن يكون من يتولى القضاء من قريش
ومراعاة العلم والتقى أولى من مراعاة النسب
وأن يكون ذا حلم وتثبت ولين وفطنة ويقظة وكتابة وصحة حواس وأعضاء
وأن يكون عارفا بلغة البلد الذي يقضي لأهله قنوعا سليما من الشحناء صدوقا وافر العقل ذا وقار وسكينة
وإذا عرف الإمام أهلية أحد ولاه وإلا بحث عن حاله كما اختبر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا
ولو ولى من لا يصلح للقضاء مع وجود الصالح له والعلم بالحال أثم المولي بكسر اللام والمولى بفتحها ولا ينفذ قضاؤه وإن أصاب فيه
هذا هو الأصل في الباب ( فإن تعذر ) في رجل ( جمع هذه الشروط ) السابقة ( فولى سلطان له شوكة فاسقا ) مسلما ( أو مقلدا نفذ ) بالمعجمة ( قضاؤه للضرورة ) لئلا تتعطل مصالح الناس
تنبيه أفهم تقييده بالفاسق أي المسلم كما قدرته في كلامه أنه لا ينفذ من المرأة والكافر إذا وليا بالشوكة واستظهره الأذرعي لكن صرح ابن عبد السلام بنفوذه من الصبي والمرأة دون الكافر وهذا هو الظاهر
ومعلوم أنه يشترط في غير الأهل طرف من الأحكام
وللعادل أن يتولى القضاء من الأمير الباغي فقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن ذلك لمن استقضاه زياد فقالت إن لم يقض لهم خيارهم قضى لهم شرارهم
( ويندب للإمام إذا ولى قاضيا أن يأذن له في الاستخلاف ) ليكون أسهل له وأسرع إلى فصل الخصومات ويتأكد عند اتساع العمل وكثرة الرعية
( فإن نهاه ) عن الاستخلاف ( لم يستخلف ) ويقتصر على ما يمكنه إن كانت توليته أكثر لأنه منه لم يرض بنظر غيره فإن استخلف لم ينفذ حكم خليفته فإن تراضى الخصمان بحكمه التحق بالمحكم كما في الروضة وأصلها وإن عين له من يستخلفه وليس بأهل لم يكن له استخلافه لفساده ولا غيره لعدم الإذن
تنبيه لو قال وليتك القضاء على أن تستخلف فيه ولا تنظر فيه بنفسك قال الماوردي هذا تقليد اختيار
____________________
(4/377)
ومراعاة وليس بتقليد حكم ولا نظر
قال الزركشي ويحتمل في هذا إبطال التولية كما لو قالت للولي أذنت لك في تزويجي ولا تزوج بنفسك انتهى
والظاهر الأول ويفرق بأن ولي النكاح ثابت له الولاية وهي تريد أن تنفيها عنه بخلاف من أذن له في أن يولى القضاء
( فإن أطلق ) أي الإمام الولاية لشخص ولم ينهه عن الاستخلاف ولم يأذن له فيه وهو لا يقدر إلا على بعضه ( استخلف فيما لا يقدر عليه ) لحاجته إليه ( لا ) في ( غيره ) وهو ما يقدر عليه ( في الأصح ) لأن قرينة الحال تقتضي ذلك
وليس من العجز ما لا يراه المستخلف في مذهبه فليس له أن يستخلف مخالفا ليعقد ما لا يراه مع قدرته على ما ولي فيه كما قاله بعد المتأخرين والقادر على ما وليه لا يستخلف فيه أيضا على الأصح
والثاني يستخلف في المسألتين كالإمام بجامع النظر في المصالح العامة
تنبيه محل الخلاف في العجز المقارن أما الطارىء كما لو مرض القاضي أو أراد أن يسافر لشغل فيجوز له الاستخلاف قطعا قاله في التهذيب
ولو أذن له الإمام في الاستخلاف وعمم أو أطلق بأن لم يعمم له في الإذن جاز له الاستخلاف في العام والخاص والمقدور عليه وإن خصصه بشيء لم يتعده
( وشرط ) الشخص ( المستخلف ) بفتح اللام بخطه ( كالقاضي ) في شروطه السابقة لأنه قاض
تنبيه ظاهر إطلاق كلامه جواز استخلاف أبيه وابنه وبه صرح الماوردي و البغوي وغيرهما لكن محله إن ثبتت عدالتهما عند غيره أما إذا فوض الإمام لشخص اختيار قاض فلا يختار ولده ولا والده كما لا يختار نفسه
ثم استثنى من التشبيه المذكور قوله ( إلا أن يستخلف ) شخص ( في أمر خاص كسماع بينة فيكفي علمه بما يتعلق به ) أي الأمر الخاص من شرائط البينة ولا يشترط فيه رتبة الاجتهاد كما نقلاه عن أبي محمد وأقراه وإن أشعر كلام المتن باشتراطه أيضا بأن خلاف الاستخلاف يجري أيضا في الأمر الخاص وهو مقتضى إطلاق الأكثرين لكن قطع القفال بالجواز وفي كلام الروضة ما يوافقه
وحيث جاز الاستخلاف فاستخلف شافعي مخالفا أو بالعكس جاز على المشهور كما يشير إليه قوله ( ويحكم ) الخليفة ( باجتهاده ) إن كان مجتهدا ( أو باجتهاد مقلده ) بفتح اللام بخطه ( إن كان مقلدا ) بكسرها حيث ينفذ قضاء المقلد لقوله تعالى { فاحكم بين الناس بالحق } والحق ما دل عليه الدليل عند المجتهد فلا يجوز أن يحكم بغيره والمقلد ملحق بمن يقلده لأنه إنما يحكم بمعتقده فلذلك أجرى عليه حكمه
( ولا يجوز أن يشرط عليه ) أي على من استخلفه ( خلافه ) أي الحكم باجتهاده أو باجتهاد مقلده لأنه لا يعتقده
وقضية ذلك أنه لو شرطه لم يصح الاستخلاف وهو كذلك لأن الحاكم إنما يعمل باجتهاده أو اجتهاد مقلده وكذا لو شرطه الإمام في تولية القاضي لم تصح توليته لما مر وإن قال لا تحكم في كذا فيما يخالفه فيه جاز وحكم في غيره من بقية الحوادث كقوله لا تحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد ( ولو حكم ) بكاف مشددة ( خصمان رجلا ) غير قاض ( في غير حد الله تعالى ) من مال أو غيره ( جاز مطلقا ) على التفاصيل الآتية ( بشرط أهلية القضاء ) ولا يشترط عدم القاضي لأنه وقع لجمع من كبار الصحابة ولم ينكره أحد قال الماوردي فكان إجماعا
تنبيه قوله خصمان يوهم اعتبار الخصومة وليس مرادا فإن التحكيم يجري في النكاح فلو قال اثنان كان أولى وقوله في غير حدود الله مزيد على المحرر ولا بد منه لأنه لا يصح التحكيم فيها ولو قال في غير عقوبة لله ليتناول التعزير كان أولى لأنه كالحد في ذلك
واحترز بقوله بشرط أهلية القضاء عما إذا كان غير أهل فلا ينفذ حكمه قطعا والمراد بالأهلية الأهلية المطلقة لا بالنسبة إلى تلك الواقعة ولهذا قال في المحرر ويشترط فيه صفة القاضي
____________________
(4/378)
نعم يستثنى التحكيم في عقد النكاح فإنه يجوز فيه تحكيم من لم يكن مجتهدا كما مر ذلك في بابه
واستثنى البلقيني من جواز التحكيم الوكيلين فلا يكفي تحكيمهما بل المعتبر تحكيم الموكلين والوليين فلا يكفي تحكيمهما إذا كان مذهب المحكم يضر بأحدهما
والمحجور عليه بالفلس لا يكفي رضاه إذا كان مذهب المحكم يضر بغرمائه
والمأذون له في التجارة وعامل القراض لا يكفي تحكيمهما بل لا بد من رضا المالك
والمحجور عليه بالسفه لا أثر لتحكيمه قال ولم أر من تعرض لذلك
( وفي قول ) من طريق ( لا يجوز ) التحكيم مطلقا لما فيه من الافتيات على الإمام
( وقيل ) أي وفي وجه من طريق يجوز التحكيم ( بشرط عدم قاض بالبلد ) لوجود الضرورة حينئذ
( وقيل ) أي وفي وجه من طريق ( يختص ) جواز التحكيم ( بمال ) لأنه أخف ( دون قصاص ونكاح ونحوهما ) كلعان وحد قذف لخطر أمرها فتناط بنظر القاضي ومنصبه
والصحيح عدم الاختصاص لأن من صح حكمه في مال صح في غيره كالمولى من جهة الإمام
تنبيه لا يأتي التحكم في حدود الله تعالى إذ ليس لها طالب معين
ويؤخذ من هذا التعليل أن حق الله تعالى المالي الذي لا طالب له معين لا يجوز فيه التحكيم
( و ) المحكم ( لا ينفذ حكمه إلا على راض به ) قبل حكمه لأن رضا الخصمين هو المثبت للولاية فلا بد من تقدمه
تنبيه محل اشتراط الرضا حيث لم يكن أحد الخصمين القاضي فلو تحاكم القاضي مع شخص عند محكم لم يشترط رضا الآخر على المذهب بناء على أن ذلك تولية
ورده ابن الرفعة بأن ابن الصباغ وغيره قالوا ليس التحكيم تولية فلا يحسن البناء
وأجيب بأن محل هذا إذا صدر التحكيم من غير قاض فيحسن البناء
( فلا يكفي رضا قاتل ) بحكمه ( في ضرب دية على عاقلته ) بل لا بد من رضا العاقلة لأنهم لا يؤاخذون بإقرار الجاني فكيف يؤاخذون برضاه
ويشترط استدامة الرضا إلا تمام الحكم ( و ) حينئذ ( إن رجع أحدهما قبل ) تمام ( الحكم ) ولو بعد إقامة البينة والشروع فيه ( امتنع الحكم ) لعدم استمرار الرضا
( ولا يشترط الرضا بعد الحكم في الأظهر ) كحكم المولى من جهة الإمام
والثاني يشترط لأن رضاهما معتبر في أصل الحكم فكذا في لزومه
تنبيه ليس للمحكم أن يحبس بل غايته الإثبات والحكم وقضيته أنه ليس له الترسيم قال الرافعي نقلا عن الغزالي وإذا حكم بشيء من العقوبات كالقصاص وحد القذف لم يستوفه لأن ذلك يحرم أبهة الولاية وإذا ثبت الحق عنده وحكم به أو لم يحكم فله أن يشهد على نفسه في المجلس خاصة إذ لا يقبل قوله بعد الافتراق كالقاضي بعد العزل قاله الماوردي
ولا يحكم لنحو ولده ممن يتهم في حقه ولا على عدوه كما في القاضي لأنه لا يزيد عليه ويمضي حكم المحكم كالقاضي ولا ينقض حكمه إلا بما ينقض به قضاء غيره
فرع يجوز أن يتحاكما إلى اثنين فلا ينفذ حكم أحدهما حتى يجتمعا
ويفارق تولية قاضيين على اجتماعهما على الحكم لظهور الفرق قاله في المطلب
( ولو نصب ) الإمام ببلد ( قاضيين في بلد وخص كلا بمكان ) منه يحكم فيه ( أو زمان ) كيوم كذا ( أو نوع ) من الحكم كأن جعل أحدهما يحكم في الأموال والآخر في الدماء والفروج ( جاز ) لعدم المنازعة بينهما
تنبيه شمل كلامه ما لو ولى الإمام قاضيا يحكم بين الرجال وآخر يحكم بين النساء وهو ما جزم به الإمام
وعلى هذا لو اختصم رجل وامرأة لم يفصل واحد منهما الخصومة فلا بد من ثالث يتولى القضاء بين الرجال والنساء
____________________
(4/379)
قال الأذرعي وقس بهذا ما يشبهه
( وكذا إن لم يخص ) كلا من القاضيين بما ذكر بل عمم ولايتهما فيجوز ( في الأصح ) كنصب الوصيين والوكيلين وحكاه في البحر عن النص ونسبه الماوردي إلى الأكثرين
والثاني لا يجوز وصححه الإمام و الغزالي و ابن أبي عصرون
( إلا أن يشرط اجتماعهما على الحكم ) فلا يجوز لما يقع بينهما من الخلاف في محل الاجتهاد فلا تنفصل الخصومات
وقضية هذا التعليل أنه لو ولى الإمام مقلدين لإمام واحد وقلنا تجوز ولاية المقلد أنه يجوز وإن شرط اجتماعهما على الحكم لأنه لا يؤدي إلى اختلاف لأن إمامهما واحد
فإن قيل قد يكون للإمام الواحد قولان فيرى أحدهما العمل بقول والآخر بخلافه فيؤدي إلى النزاع والاختلاف
أجاب الشيخ برهان الدين الفزاري بأن كلا منهما إنما يحكم بما هو الأصح من القولين وهو كما قال ابن شهبة ظاهر في المقلد الصرف وعند تصريح ذلك الإمام بتصحيح أحد القولين أما إذا كانا من أهل النظر والترجيح وإلحاق ما لم يقفا فيه على نص من أئمة المذهب بما هو منصوص وترجيح أحد القولين فههنا يقع النزاع في ذلك والاختلاف ويختلف النظر فيتجه المنع أيضا أما إذا أطلق بأن لم يشرط استقلالهما ولا اجتماعهما فإنه يحمل على إثبات الاستقلال تنزيلا للمطلق على ما يجوز
ويفارق نظيره في الوصيين بأن تعيينهما بشرط اجتماعهما على التصرف جائز
فحمل المطلق عليه بخلاف القاضيين
وإن طلب القاضيان خصما بطلب خصميه له منهما أجاب السابق منهما بالطلب فإن طلباه معا أقرع بينهما وإن تنازع الخصمان في اختيار القاضيين أجيب الطالب للحق دون المطلوب كما جزم به الروياني فإن تساويا بأن كان كل منهما طالبا ومطلوبا كتحاكمهما في قسمة ملك أو اختلفا في قدر ثمن مبيع أو صداق اختلافا يوجب تخلفهما تحاكما عند أقرب القاضيين إليهما فإن استويا في القرب إليهما عمل بالقرعة ولا يعرض عنهما حتى يصطلحا لئلا يؤدي إلى طول النزاع
تنبيه ما ذكره المصنف من نصب القاضيين يجري أيضا في أكثر من قاضيين قال الماوردي و الروياني بشرط أن يقل عددهم فإن كثر لم يصح قطعا ولم يحدوا القلة والكثرة بشيء
قال في المطلب ويجوز أن يناط ذلك بقدر الحاجة اه
وهذا ظاهر
تتمة قال الماوردي ولو قلده أي الإمام بلدا وسكت عن نواحيها فإن جرى العرف بإفرادها عنها لم تدخل في ولايته وإن جرت بإضافتها دخلت وإن اختلف العرف روعي أكثرها عرفا فإن استويا روعي أقربهما عهدا
فصل فيما يعرض للقاضي مما يقتضي عزله أو انعزاله ( جن قاض ) أطبق جنونه أو تقطع كما يقتضيه إطلاقهم
وفي الروضة كأصلها في باب البغاة عن الماوردي أن الإمام لو تقطع جنونه وزمن الإفاقة أكثر بحيث يمكنه فيه القيام بالأمور أنه لا ينعزل
قيل وقياسه في القاضي كذلك وسيأتي الفرق بين الإمام والقاضي
( أو أغمي عليه أو عمي ) وفي معنى العمى الخرس والصمم
( أو ذهبت أهلية اجتهاده وضبطه بغفلة أو نسيان ) مخل بالضبط ( لم ينفذ حكمه ) في حال مما ذكر لانعزاله بذلك ولأن هذه الأمور تمنع من ولاية الأب فالحاكم أولى
تنبيهات أحدها يستثنى من عدم نفوذ قضاء الأعمى ما لو سمع البينة وتعليلها ثم عمي فإن قضاءه ينفذ في تلك الواقعة إن لم يحتج إلى إشارة فكأنه إنما انعزل بالنسبة إلى غير هذه الواقعة بل لو عاد بصره تبين أنه لم ينعزل لأنه لو ذهب لما عاد كما مر ذلك في الجنايات
والثاني قوله ذهبت أهلية اجتهاده ظاهر في أن الكلام في المجتهد المطلق أما المقلد لمذهب معين إذا كان مجتهدا فيه فإذا خرج عن أهلية الاجتهاد فيه قال الأذرعي فحكمه كذلك وأولى قال ومن لم يبلغ هذه الرتبة وهو الموجود اليوم غالبا فلم أر فيه شيئا
ويشبه أنه إذا حصل له أدنى تغفل ونحوه لم ينفذ حكمه لانحطاط رتبته فيقدح في ولايته ما عساه يغتفر في حق غيره
الثالث المرض المعجز له عن النهضة والحكم ينعزل به إذا كان لا يرجى زواله فإن رجي
____________________
(4/380)
أو عجز عن النهضة دون الحكم لم ينعزل قاله الماوردي
الرابع لو أنكر كونه قاضيا ففي البحر ينعزل ومحله كما قال الزركشي إذا تعمد ولا غرض له في الإخفاء
الخامس لو أنكر الإمام كونه قاضيا لم ينعزل كما بحثه بعض المتأخرين
( وكذا لو فسق ) لم ينفذ حكمه وينعزل ( في الأصح ) لوجود المنافي للولاية
والثاني ينفذ كالإمام الأعظم
وفرق الأول بحدوث الفتن وإضطراب الأمور
تنبيه هذه المسألة مكررة لتقدمها في فصل الإيصاء إلا أن يقال ذكرت هناك للانعزال وهنا لعدم نفوذ الحكم ولهذا لم يتعرض للانعزال وإن كنت قدرته في كلامه
تنبيه محل ذلك في غير قاضي الضرورة أما هو إذا ولاه ذو شوكة والقاضي فاسق فزاد فسقه فلا ينعزل كما بحثه بعض المتأخرين
فإن قيل فاقد الطهورين إذا أحدث بعد إحرامه تبطل صلاته على الراجح فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن صلاته إنما بطلت لشمول النص لها وهو حتى يجد ريحا أو يسمع صونا
ثم أشار المصنف رحمه الله تعالى لفرع من قاعدة أن الزائل العائد كالذي لم يعد بقوله ( فإن زالت هذه الأحوال ) السابقة من جنون وما بعده ثم عادت الأهلية ( لم تعد ولايته ) بلا تولية ( في الأصح ) كالوكالة ولأن الشيء إذا بطل لم ينقلب إلى الصحة بنفسه وإن زال المانع كالبيع ونحوه
والثاني تعود من غير استئناف تولية كالأب إذا جن ثم أفاق أو فسق ثم تاب
تنبيه لو زالت أهلية الناظر على الوقف ثم عادت فإن كان نظره مشروطا في أصل الوقف عادة ولايته جزما كما أفتى به المصنف لقوته إذ ليس لأحد عزله وإلا فلا يعود إلا بتوليه جديدة
( و ) يجوز ( للإمام عزل قاض ظهر منه خلل ) لا يقتضي انعزاله ويكفي فيه غلبة الظن كما في أصل الروضة عن الوسط وجزم به في الشرح الصغير
ومن الظن كثرة الشكاوى منه بل قال ابن عبد السلام إذا كثرت الشكاوى منه وجب عزله اه
وهذا ظاهر
وقد روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم عزل إماما يصلي بقوم بصق في القبله وقال لا يصلي بهم بعدها أبدا
وإذا جاز هذا في إمام الصلاة جاز في القاضي بل أولى
نعم إن كان متعينا للقضاء لم يجز عزله ولو عزله لم ينعزل
أما ظهور خلل يقتضي انعزاله فلا يحتاج فيه إلى عزل لانعزاله به
( أولم يظهر ) منه خلل ( و ) لكن ( هناك ) من هو ( أفضل منه ) تحصيلا لتلك المزية للمسلمين
ولا يجب ذلك وإن قلنا إن ولاية المفضول لا تنعقد مع وجود الفاضل لأن الولاية قد تمت فلا يقدح فيها ما يحدث
( أو ) كان هناك ( مثله ) أي أو دونه ( و ) لكن ( في عزله به ) للمسلمين ( مصلحة كتسكين فتنة ) لما فيه من المصلحة للمسلمين ( وإلا ) بأن لم يكن في عزله مصلحة ( فلا ) يجوز عزله لأنه عبث وتصرف الإمام يصان عنه
وهذا قيد في المثل لا في الأفضل وقيده في المحرر أيضا بعدم الفتنة في عزله فقال أو مثله
وفي عزله به للمسلمين مصلحة وليس في عزله فتنة
ولا يستغنى عنه بقوله وفي عزله به مصلحة فقد يكون الشيء مصلحة من وجه آخر و ( لكن ينفذ العزل في الأصح ) مراعاة لطاعة الإمام
والثاني لا لأنه لا خلل في الأول ولا مصلحة في عزله
أما إذا لم يوجد هناك من يصلح للقضاء غيره فإنه لا ينعزل ومتى كان العزل في محل النظر واحتمل أن يكون فيه مصلحة فلا اعتراض على الإمام فيه وبحكم نفوذه
ولو ولى الإمام قاضيا ظانا موت القاضي الأول أو فسقه فبان حيا أو عدلا لم يقدح في ولاية الثاني كذا قالاه وقضيته كما قال الأذرعي انعزاله الأول بالثاني لأنه أقامه مقامه لا أنه ضمه إليه وبه صرح البغوي في تعليقه
وقضية كلام القفال عدم انعزاله والأول أوجه
وفي بعض الشروح أن تولية قاض بعد قاضي هل هي عزل للأول وجهان وليكونا مبنيين على أنه هل يجوز أن يكون في بلد قاضيان اه
قال الزركشي والراجح أنها ليست بعزل
وقد ذكر في الروضة في الوكالة أنه لو وكل شخصا ثم وكل آخر فليس بعزل للأول قطعا
____________________
(4/381)
مع أن تصرف الوكيل أضعف من تصرف القاضي
واحترز المصنف بالإمام عن القاضي مع خليفته فله عزله بلا موجب بناء على انعزاله بموته كما قاله الماوردي و السبكي وإن خالف فيه البلقيني
وأفهم قوله وللإمام أنه ليس للقاضي عزل نفسه وليس مرادا بل له عزل نفسه كالوكيل كما جزم به في الروضة وأصلها قال الشيخ أبو علي إلا إن تعين عليه فلا يعزل نفسه قال ابن عبد السلام ولا ينعزل
تنبيه ما ذكره المصنف من جواز العزل محله في الأمر العام أما الخاص فقال الزركشي نقلا عن إفتاء جمع متأخرين ولا ينعزل أرباب الوظائف الخاصة كالإمامة والأذان والتصرف والتدريس والطلب والنظر بالعزل من غير سبب إلا أن يكون في شرط الواقف ما يقتضيه وقاسه على الجند المثبتين في الديوان
وفيه كلام للسبكي ذكرته في باب الوقف
( والمذهب أنه ) أي القاضي ( لا ينعزل قبل بلوغه خبر عزله ) وفي قوله من الطريق الثاني أنه ينعزل كأرجح القولين في الوكيل
والفرق بينهما على الأول عظم الضرر في نقض أقضيته بعد العزل وقبل بلوغ الخبر بخلاف الوكيل
ولو علم الخصم أنه معزول لم ينفذ حكمه له لعلمه أنه غير حاكم باطنا ذكره الماوردي في النكاح
نعم لو رضي بحكمه كان كالتحكيم
تنبيه لم يتعرضوا لما يحصل به بلوغ خبر العزل قال الزركشي ينبغي إلحاق ذلك بخبر التولية أي تولية القضاء بل أولى حتى يعتبر شاهدان وتكفي الاستفاضة ولا يكفي الكتاب المجرد في الأصح فيهما
وقال الأذرعي الظاهر أنه يكفي خبر عدل واحد ولو عبدا وامرأة اه
وهذا هو الظاهر
ويفرق بين التولية والعزل بأن التولية فيها إقدام على الأحكام فيحتاط لها والعزل فيه توقف عنها وهو أحوط
قال البلقيني ولو بلغه الخبر ولم يبلغ نوابه لا ينعزلون حتى يبلغهم الخبر وتبقى ولاية أصلهم مستمرة حكما وإن لم ينفذ حكمه ويستمر ما رتب له على سد الوظيفة لسدها بنوابه
قال والقياس في عكسه أي فيما لو بلغ النائب قبل أصله أن النائب لا ينعزل حتى يبلغ أصله خبر العزل وينفذ حكمه كما ينفذ حكم أصله
قال ولم أر من تعرض له اه
وما قاله ظاهر في الأول ممنوع في العكس لأن النائب دخل في عموم كلام الأصحاب حتى يبلغه الخبر والنائب قاض فينعزل ببلوغ الخبر كما جرى عليه شيخنا في بعض كتبه
ولو ولى السلطان قاضيا ببلد فحكم ذلك القاضي ولم يعلم أن السلطان ولاه قال الزركشي فيحتمل أن ينفذ حكمه كما لو وكل وكيلا ببيع شيء فتصرف الوكيل وباعه ثم علم بالوكالة فإن الشيخ أبا حامد وغيره قالوا هو على الخلاف فيما لو باع مال أبيه ظانا حياته فبان ميتا اه
والظاهر عدم نفوذ حكمه لاشتراط قبول من القاضي وأخذا مما بحثه في قاض أقدم على تزويج امرأة يعتقد أنها في غير محل ولايته ثم ظهر أنها بمحل ولايته من أنه لا يصح قال لأنه بالإقدام يفسق ويخرج عن الولاية
( وإذا ) علق الإمام عزل القاضي بقراءة كتاب كأن ( كتب الإمام إليه إذا قرأت كتابي فأنت معزول فقرأه انعزل ) لوجود الصفة وكذا لو طالعه وفهم ما فيه ولم يتلفظ ( وكذا إن قرىء عليه في الأصح ) لأن القصد إعلامه بالعزل لا قراءته بنفسه
والثاني لا ينعزل نظرا إلى صورة اللفظ
ولو كتب إليه عزلتك أو أنت معزول من غير تعليق على القراءة لم ينعزل ما لم يأته الكتاب كما قاله البغوي وغيره
تنبيه لو جاءه بعض الكتاب فقياس ما قالوه في الطلاق أنه إن انمحى موضع العزل لا ينعزل وإلا انعزل
ثم شرع في بيان انعزال نواب القاضي فقال ( وينعزل بموته ) أي القاضي ( وانعزاله ) نائبه المقيد وهو كل ( من أذن له في شغل معين كبيع مال ميت ) أو غائب وسماع شهادة في حادثة وغير ذلك من القضايا الجزئية كالوكيل
والمراد إذا علم بذلك كما يعلم مما مر وصرح به ابن سراقة وفي الروضة وأصلها عن السرخسي أن الإمام لو نصب نائبا عن القاضي لا ينعزل بموت القاضي وانعزاله
قال الرافعي ويجوز أن يقال إذا كان الاذن مقيدا بالنيابة ولم يبق الأصل لم
____________________
(4/382)
يبق النائب اه
وهذا ظاهر
وبحث بعضهم أن الموت ليس بعزل بل ينتهي به القضاء
( والأصح انعزال نائبه المطلق ) بما ذكر وهذا ( إن لم يأذن له في الاستخلاف ) لأن الاستخلاف في هذه للمعاونة وقد زالت ولايته فبطلت المعاونة
( أو ) إن ( قيل له ) أي قال له الإمام ( استخلف عن نفسك أو أطلق ) له الاستخلاف لظهور غرض المعاونة وبطلانها ببطلان ولايته
تنبيه محل انعزاله عند الإطلاق إذا لم يعين من يستخلفه فإن قال استخلف فلانا فهو كقوله استخلف عني فلا ينعزل لأنه قطع نظره بالتعيين وجعله سفيرا أشار إليه الماوردي و الروياني كما ذكره الأذرعي وغيره
( فإن قيل ) أي قال الإمام له ( استخلف عني فلا ) ينعزل الخليفة بما ذكر لأنه نائب عن الإمام والأول سفير في التولية والثاني ينعزل مطلقا كالوكيل بموت الموكل والثالث لا مطلقا رعاية لمصلحة الناس
تنبيه مقتضى كلام الأصحاب انعزال نواب قاضي الإقليم الكبير بموته حيث لم يقل له الإمام استخلف عني وهو كذلك فقد قال الصيمري نواب القاضي الكبير كقاضي خراسان ينعزلون بموته وعزله على الصحيح بخلاف قضاة الإمام
قال وجعل القاضي حسين قضاة والي الإقليم كقضاة الإمام محله فيما إذا صرح الإمام له بذلك أو اقتضاه العرف وحينئذ فيكون كالمنصوبين من جهة الإمام
( ولا ينعزل قاض ) وغيره ممن ولي أمرا عاما كوكيل بيت المال ( بموت الإمام ) وانعزاله لشدة الضرر في تعطيل الحوادث
وفرق في الحاوي بينه وبين خليفة القاضي بأن الإمام يستنيب القضاة في حقوق المسلمين فلم ينعزلوا بموته والقاضي يستنيب خليفته في حق نفسه فانعزل بموته
قال وعلى هذا الفرق يجوز للقاضي أن ينعزل خليفته بغير موجب ولا يجوز للإمام عزل القاضي بغير موجب اه
وتقدم الكلام على ذلك
قال الأذرعي وأفتى بعض العصريين بانعزال وكيل بيت المال بموت السلطان متمسكا بقولهم إن الوكيل ينعزل بموت الموكل وهذا جمود على الأسماء وذهول عن المعنى وليس بصواب بل غلط
( ولا ) ينعزل ( ناظر يتيم و ) ناظر ( وقف بموت قاض ) وانعزاله لئلا تتعطل أبواب المصالح
تنبيه لو شرط لواقف النظر لحاكم المسلمين ببلد كذا ففوض النظر فيه لواحد ثم تولى قاض جديد قال الأذرعي الظاهر انعزاله قطعا لأنه آل إلى القاضي الجديد بشرط الواقف كما لو شرط النظر لزيد ثم لعمرو فنصب زيد لنفسه نائبا فيه ثم مات زيد فإنه ينعزل نائبه لا محالة ويصير النظر لعمرو فليحمل إذ كلام المصنف على ما إذا آل النظر إلى القاضي لكون الواقف لم يشرط ناظرا أو انقرض من شرط له أو خرج عن الأهلية
قال ابن شهبة ويقع في كتب الأوقاف كثيرا
فإذا انفرضت الذرية يكون النظر فيه لحاكم المسلمين ببلد كذا يوليه من شاء من نقبائه ونوابه فإذا آل النظر إلى قاض فولى النظر لشخص فهل ينعزل بموت ذلك القاضي أو انعزاله
والأقرب عدم انعزاله
( ولا يقبل قوله ) أي القاضي ( بعد انعزاله ) كنت ( حكمت بكذا ) لفلان إلا ببينة لأنه لا يملك إنشاء الحكم حينئذ فلا يملك الإقرار
نعم لو انعزل بالعمى قبل منه ذلك لأنه إنما انعزل بالعمى فيما يحتاج إلى الإبصار وقوله حكمت عليك بكذا لا يحتاج إلى ذلك قاله البلقيني
ولو قال صرفت مال الوقف لجهته أو عمارته التي يقتضيها الحال صدق بلا يمين
( فإن شهد مع آخر بحكمه لم يقبل على الصحيح ) لأنه يشهد بفعل نفسه
والثاني يقبل كما لو شهدت المرضعة أنها أرضعت ولم تطالب بأجرة
وفرق الأول بأن فعلها غير مقصود بالإثبات ولأن شهادتها على فعلها تتضمن تزكيتها بخلاف القاضي فيهما
واحترز بحكمه عما لو شهد أن فلانا أقر في مجلس حكمه بكذا فإنه يقبل قطعا لأنه لم يشهد على فعل نفسه وإنما يشهد على إقرار سمعه قاله الماوردي
تنبيه قول المصنف مع آخر يوهم أنه لو شهد بذلك وحده لم يقبل قطعا ومقضتى كلامهم جريان الخلاف في
____________________
(4/383)
الحالين
وقد يكون الحق مما يثبت بالشاهد واليمين فلو حذفه لكان أولى قاله الزركشي
( أو ) شهد ( بحكم حاكم جائز الحكم ) ولم يضفه إلى نفسه ( قبلت ) شهادته ( في الأصح ) كالمرضعة إذا شهدت كذلك
والثاني المنع لأنه قد يريد فعل نفسه
تنبيه قول المصنف جائز الحكم تأكيد كما قاله بعضهم
ومحل الخلاف إذا لم يعلم القاضي أنه حكمه وإلا فلا يقبل جزما نظرا لبقاء التهمة ومحله أيضا إذا قلنا لا يعتبر تعيين الحاكم في الشهادة على الحكم بل يكفي أن تقوم البينة على حكومة حاكم من الحكام كما هو المذهب المشهور
أما إذا قلنا باشتراط التعيين فلا يقبل قطعا
( ويقبل قوله قبل عزله حكمت بكذا ) حتى لو قال على سبيل الحكم نساء القرية طوالق من أزواجهن قبل قوله بلا حجة لقدرته على الإنشاء حينئذ بخلاف ما لو قاله على سبيل الإخبار فلا يقبل كما صرح به البغوي وهو مقتضى كلام أصل الروضة
وينبغي أن يكون محله كما قال شيخنا ما لو أسنده إلى ما قبل ولايته
قال الأذرعي وما قالوه من قبول قوله ظاهر في القاضي المجتهد مطلقا أو في مذهب إمامه أما غيرهما ففي قبوله وقفة وقد استخرت الله وأفنيت فيمن سئل من قضاة العصر عن مستند قضائه أنه يلزمه بيانه لأنه قد يظن ما ليس بمستند مستندا كما هو كثير أو غالب
قال ويشبه أن يكون محل ما ذكر في قرية أهلها محصورون أما في بلد كبير كبغداد فلا لأنا نقطع ببطلان قوله
وإلى ما قاله يشير تعبير الشيخين بالقرية
ولو قال الحاكم شهد عندي فلان وفلان بكذا وأنكرا لم يلتفت لإنكارهما كما قاله ابن الصباغ
( فإن كان ) أي القاضي ( في غير محل ولايته فكمعزول ) في أنه لا ينفذ حكمه لعدم قدرته على الإنشاء ثم
تنبيه المراد بمحل ولايته بلد قضائه وظن بعضهم أنه لا ينفذ حكمه في غير مجلسه المعد للحكم وهو خطأ صريح نبه عليه ابن الصلاح والمصنف في الطبقات
قال الزركشي وظاهر كلامهم أن المراد المحيط بها السور والبناء المتصل دون البساتين والمزارع فعلى هذا لو زوج القاضي امرأة في البلد وهو بالمزارع أو البساتين أو عكسه لم يصح لأنه ليس في محل ولايته
قال وكثير من الحكام يتساهل في ذلك والأحوط تركه لأن الولاية لم تتناول غير البلد اه
وهذا إذا لم يكن عرف كما قدمناه
ولو قال المعزول للأمين أعطيتك المال أيام قضائي لتحفظه لفلان فقال الأمين بل لفلان صدق المعزول وهل يغرم الأمين لمن عينه هو قدر ذلك فيه وجهان في تعليق القاضي أوجههما كما قال شيخنا المنع
فإن قال له الأمين لم تعطني شيئا بل هو لفلان فالقول قول الأمين لأن الأصل عدم الإعطاء
ويستثنى من إطلاق المصنف ما لو أذن الإمام للقاضي أن يحكم بين أهل ولايته حيثما كان فإنه يجوز له الحكم بينهم ولو كان في غير محل ولايته قال صاحب البيان هذا الذي يقتضيه المذهب وقاله في الذخائر أيضا
وحينئذ فيقبل قوله على من هو من أهل بلده أنه حكم عليه بكذا
( ولو ادعى شخص على معزول أنه أخذ ماله برشوة ) أي على سبيل الرشوة كما في المحرر وهي بتثليث الراء دفع لمن لم يحكم بالحق أو يمتنع عن الحكم به
( أو شهادة عبدين مثلا ) أي أو غيرهما ممن لا تقبل شهادته وأعطاه لفلان ومعتقده أنه لا تجوز شهادتهما ( أحضر وفصلت خصومتهما ) كما لو ادعى عليه غصبا لتعذر إثبات ذلك بغير حضوره وله أن يوكل ولا يحضر كما قاله في المطلب
وإذا حضر فإن أقيمت عليه بينة أو أقر حكم عليه وإلا صدق بيمينه كسائر الأمناء إذا ادعى عليهما جناية ولعموم خبر البينة على المدعي واليمين على من أنكر وقيل بلا يمين لأنه أمير الشرع فيصان منصبه على التحليف
قال الزركشي وهذا فيمن عزل مع بقاء أهليته أما من ظهر فسقه وشاع جوره وخيانته فالظاهر أنه يحلف قطعا
____________________
(4/384)
تنبيه لو حضر إنسان إلى القاضي الجديد وتظلم من المعزول وطلب إحضاره إلى مجلس الحكم لم يبادر بإحضاره بل يقول ما تريد منه فإن ذكر أنه يدعي عليه دينا أو عينا أحضره
ولا يجوز إحضاره قبل تحقق الدعوى إذ قد لا يكون له حق وإنما قصد ابتذاله بالحضور
( وإن قال ) الشخص ( حكم ) علي القاضي ( بعبدين ) أو نحوهما مما لا تقبل شهادته كفاسقين قال ابن الرفعة أي وهو يعلم ذلك فإنه لا يجوز وأنا أطالبه بالغرم
( ولم يذكر ) رشوة ولا ( مالا أحضر ) المعزول ليجيب عن دعواه
( وقيل لا حتى يقيم بينة بدعواه ) لأنه كان أمين الشرع
والظاهر من أحكام القضاة جريانها على الصحة فلا يعدل عن الظاهر إلا ببينة
( فإن أحضر ) على الوجهين وادعى عليه ( وأنكر ) بأن قال لم أحكم عليه أصلا أو لم أحكم إلا بشهادة حرين ( صدق بلا يمين في الأصح ) لأنه أمين الشرع فيصان منصبه عن الحلف والابتذال بالمنازعات
( قلت الأصح يمين والله أعلم ) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم واليمين على من أنكر ولأن أقصى درجات المعزل أن يكون مؤتمنا والمؤتمن كالمودع يحلف
قال الزركشي وقد اختلف تصحيح المصنف فقد صحح الأول في الروضة والصواب ما صححه هنا فإنه المنصوص
قال الفارقي محل الخلاف إذا علم الشاهدان وإلا فينظر فيهما ليعرف حالهما
قال الغزى وهو متجه في العبد دون الفسقة لأن الفسق قد يطرأ على العبد اه
وهو ظاهر
( ولو ادعي ) بالبناء للمفعول ( على قاض ) حال ولايته ( جور في حكم ) أو ادعى على شاهد زور وأريد تحليفه كما سيأتي في الدعاوى ( لم يسمع ذلك ويشترط بينة ) به فلا يحلف فيه واحد منهما لأنهما أمينان شرعا ولو فتح باب التحليف لاشتد الأمر ورغب الناس عن القضاء والشهادة قال الزركشي وهذا إذا كان موثوقا به وإلا حلف
وقال الأذرعي قولهم في توجيه منع التحليف أنه لو حلف الخ أن ذلك مبني على كمال القاضي ووجود أهليته التامة ونحن نقطع بأن غالب من يلي القضاء في عصرنا لو حلف الواحد كل يوم سبعين مرة على عدم جوره في الحكم وارتشائه لم يرده ذلك عن الحرص على القضاء ودوام ولايته مع ذلك بل يشتد حرصه وتهافته عليه وطلبه هو وغيره فإنا لله وإنا إليه راجعون اه
هذا في زمانه فلو أدرك زماننا فإن قيل كيف تشترط البينة مع عدم سماع الدعوى أجيب بأن المراد لم تسمع الدعوى لقصد تحليفه وإن سمعت لأجل البينة فإن كانت له بينة سمعت لا محالة
( وإن لم تتعلق ) تلك الدعوى على قاض ( بحكمه ) بل يخاصمه نفسه ( حكم بينهما ) فيها ( خليفته أو ) قاض آخر ( غيره ) كاحاد الرعايا
قال السبكي هذا إن كانت الدعوى بما لا يقدح فيه ولا يخل بمنصبه ولا يوجب عزله وإلا فاقطع بأن الدعوى لا تسمع ولا يحلف ولا طريق للمدعي حينئذ إلا البينة
ثم قال بل أقول لكل من ثبتت عدالته وادعي عليه بدعوى ينبغي للقاضي أن ينظر فيها وفي إنكار ذلك العدل بها فإن كان يمكن أن يكون عن سهو وغفلة أو اجتهاد وتأويل ونحوه بحيث لا يخل بعدالته فيسمعها ويقبلها بيمين كغيرها إلا أن يظهر له من المدعى تعنت فيدفعه وإن كان إنكاره لا يمكن أن يكون إلا قادحا فيه فينبغي أن لا يسمع دعوى المدعي في ذلك وطلب تحليفه إلا أن يأتي ببينة وذلك لأن ما يدعيه والحالة هذه مخالف لما ثبت من عدالته وله طريق وهو البينة
تتمة ليس لأحد أن يدعي على متول في محل ولايته عند قاض أنه حكم بكذا فإن كان في غير محلها أو معزولا سمعت ولا يحلف ذكره في الروضة وأصلها فما تقرر في المعزول مخالف لما صححه هنا كما مر
فصل في آداب القضاء وغيرها ( ليكتب الإمام ) ندبا ( لمن يوليه ) القضاء ببلد ما فوضه إليه في كتاب
____________________
(4/385)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم لما بعثه إلى اليمن وهو ابن سبع عشرة سنة رواه أصحاب السنن ولأن أبا بكر كتب لأنس لما بعثه إلى البحرين وختم بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري
ولم يجب ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكتب لمعاذ بل اقتصر على وصيته
وإذا كتب إليه كتاب العهد بالولاية ذكر في الكتاب ما يحتاج القاضي إلى القيام به ويعظه فيه ويعظمه ويوصيه بتقوى الله تعالى ومشاورة أهل العلم وتفقد الشهود وغير ذلك
وفي معنى الإمام القاضي الكبير إذا استخلف في أعماله البعيدة
قال الصيمري وينبغي للإمام أن يسلم كتاب عهده إليه بحضرته خوفا من الزيادة فيه والنقصان ويقول له هذا عهدي وحجتي عند الله
( ويشهد ) ندبا ( بالكتاب ) أي المكتوب بما تضمنه من التولية ( شاهدين يخرجان معه إلى البلد ) الذي تولاه قرب أو بعد ( يخبران ) أهل البلد ( بالحال ) من التولية وغيرها وعبارة التنبيه وأشهد على التولية شاهدين وهي أولى من عبارة الكتاب إذ الاعتماد على التولية دون الكتاب
وعند إشهادهما يقرآن الكتاب أو يقرأه الإمام عليهما فإذا قرأه الإمام قال في البحر لا يحتاج الشاهدان إلى أن ينظرا في الكتاب وإن قرأه غير الإمام فالأحوط أن ينظر الشاهدان فيه ليعلما أن الأمر على ما قرأه القارىء من غير زيادة ولا نقصان
ولو أشهد ولم يكتب كفى فإن الاعتماد على الشهود فإذا أخبروا أهل البلد لزمهم طاعته
تنبيه أشار بقوله يخبران إلى أنه لا يشترط لفظ الشهادة عند أهل ذلك البلد وهو كذلك كما نقله في الروضة عن الأصحاب من أن هذه الشهادة ليست على قواعد الشهادات إذ ليس هناك قاض تؤدى عنده الشهادة
قال الزركشي وقضية ذلك أنه لو كان هناك قاض آخر كما جرت به العادة في بعض البلاد من نصب أتباع المذاهب الأربعة اعتبار حقيقة الشهادة ولا شك فيه
وقال البلقيني عندي أنه إذا كان المدار على الأخبار فإنه ليس على قواعد الشهادات فينبغي أن يكتفي بواحد لأن هذا من باب الخبر قال ولم أر من تعرض لذلك اه
والظاهر هو إطلاق كلام الأصحاب
( وتكفي ) بمثناة فوقية عن أخبارهما بالتولية ( الاستفاضة ) بها ( في الأصح ) لحصول المقصود ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء الراشدين الإشهاد
والثاني المنع لأن العقود لا تثبت بالاستفاضة كالبيع والإجارة
تنبيه ظاهر كلامه تبعا للمحرر جريان الخلاف ولو كان البلد بعيدا وهو كذلك
ومنهم من ذكره في البلد القريب وليس للتقييد كما دل عليه كلام الروضة وأصلها
( لا مجرد كتاب ) بها بلا إشهاد أو استفاضة فلا يكفي ( على المذهب ) لإمكان التزوير
وفي وجه من الطريق الثاني يكفي لبعد الجراءة في مثل ذلك على الإمام
تنبيه أفهم كلامه أنه لا يكفي مجرد إخبار القاضي لهم ولا خلاف في ذلك إن لم يصدقوه فإن صدقوه ففي وجوب طاعته وجهان
وقياس ما قالوه في الوكالة عدم وجوبها لأن الإمام لو أنكر توليته كان القول قوله
قال الأذرعي لعل وجوبها أشبه وفي الآثار والأخبار ما يعضده أي ولأنهم اعترفوا بحق عليهم
( ويبحث ) برفع المثلثة ( القاضي ) قبل دخوله بلد التولية الذي لا يعرف من فيه ( عن حال علماء البلد وعدوله ) والمزكين سرا وعلانية ليدخل على بصيرة بحال من فيه لأنه لا بد له منهم فيسأل عن ذلك قبل الخروج فإن لم يتيسر ففي الطريق فإن لم يتيسر فحين يدخل
تنبيه يندب إذا ولي أن يدعوا أصدقاءه الأمناء ليعلموه عيوبه فيسعى في زوالها كما ذكره الرافعي آخر الباب الثاني في جامع أدب القضاء
( ويدخل يوم الاثنين ) صبيحته لأنه صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فيه حين اشتد الضحى
فإن تعسر فالخميس وإلا فالسبت
وأن يدخل في عمامة سوداء ففي مسلم أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح بها ولأنه أهيب له
قال المصنف ويستحب لمن كان له وظيفة من وظائف الخير كقراءة قرآن أو حديث أو ذكر أو صنعة من الصنائع أو عمل من الأعمال أن يفعل ذلك أول النهار إن أمكنه وكذلك من
____________________
(4/386)
أراد سفرا أو إنشاء أمر كعقد نكاح أو غير ذلك من الأمور
( وينزل وسط البلد ) بفتح السين في الأشهر ليساوي أهله في القرب منه
هذا إذا اتسعت خطته كما قاله الزركشي وإلا نزل حيث تيسر قال وهذا إذا لم يكن فيه موضع يعتاد النزول فيه
قال القاضي أبو محمد وإذا دخل نهارا قصد الجامع فيصلي فيه ركعتين ثم أمر بعهده فقرىء ثم أمر بالنداء من كانت له حاجة فلينظر ما رفع إليه من أمورهم ليكون قد أخذ في العمل واستحق رزقه اه
وهذا يفهم أنه لا يستحق الرزق من يوم الولاية وإنما يستحقه من يوم الشروع في العمل
قال ابن شهبة وقد صرح الماوردي بذلك فقال لا يستحق قبل الوصول إلى عمله فإذا وصل ونظر استحق وإن وصل ولم ينظر فإن تصدى للنظر استحق وإن لم ينظر كالأجير إذا سلم نفسه وإن لم يتصد لم يستحق اه
ثم إن شاء قرأ العهد فورا وإن شاءوا عد الناس ليوم يحضرون فيه ليقرأه عليهم وإن كان معه شهود شهدوا ثم انصرف إلى منزله
( وينظر أولا في أهل الحبس ) لأن الحبس عذاب فينظر هل يستحقونه أو لا
تنبيه ما صرح به في البداءة بأهل الحبس قاله الإمام و الغزالي و ابن الصباغ لكنه خلاف ما نقلاه عن الأصحاب أنه بعد قراءة العهد يتسلم ديوان الحكم وهو ما كان عند القاضي قبله من المحاضر وهي التي فيها ذكر ما جرى من غير حكم والسجلات وهي ما يشتمل على الحكم وحجج الأيتام وأموالهم ونحو ذلك من الحجج المودعة في الديوان كحجج الأوقاف لأنها كانت في يد الأول بحكم الولاية وقد انتقلت الولاية إليه فيتسلمها ليحفظها على أربابها
وهذا التقديم على سبيل الاستحباب كما صرح به الرافعي في أواخر الآداب لكن نقل ابن الرفعة عن الإمام أنه واجب وأقره والأولى أن يقال ما دعت إليه مصلحة وجب تقديمه كما يؤخذ مما يأتي
وإنما قدم على أهل الحبس ما مر مع أنه عذاب لأنه أهم ويؤخذ منه ما جزم به البلقيني أنه يقدم على البحث عنهم أيضا كل ما كان أهم منه كالنظر في المحاجير والجائعين الذين تحت نظره وما أشرف على الهلاك من الحيوان في التركات وغيرها وما أشرف من الأوقاف وأملاك محاجيره على السقوط بحيث يتعين الفور في تداركه وكيفية النظر في أمر المحبوسين أن يأمر مناديا ينادي يوما أو أكثر على حسب الحاجة ألا إن القاضي فلانا ينظر في أمر المحبوسين يوم كذا فمن كان له محبوس فليحضر
ويبعث إلى الحبس أمينا من أمنائه يكتب في رقاع أسماءهم وما حبس به كل منهم ومن حبس له في رقعة فإذا جلس اليوم الموعود وحضر الناس نصب تلك الرقاع بين يديه فيأخذ واحدة واحدة وينظر في اسم المثبت فيها ويسأل عن خصمه فمن قال أنا خصمه بعث معه ثقة إلى الحبس ليأخذ بيده ويخرجه
وهكذا يحضر من المحبوسين بقدر ما يعرف أن المجلس يحتمل النظر في أمرهم ويسألهم بعد اجتماعهم عن سبب حبسهم
( فمن قال حبست بحق ) فعل به مقتضاه فإن كان الحق حدا أقامه عليه وأطلقه أو تعزيرا ورأى إطلاقه فعل أو مالا أمره بأدائه فإن لم يوفه ولم يثبت إعساره ( أدامه ) في الحبس وإلا نودي عليه لاحتمال خصم آخر فإن لم يحضر أحد أطلق
( أو ) قال حبست ( ظلما فعلى خصمه حجة ) إن كان حاضرا أنه حبسه بحق فإن لم يقمها صدق المحبوس بيمينه وأطلق
ولا يطالب بكفيل على الأصح ونازع البلقيني في ذلك وقال القول قول خصمه بيمينه ولا يكلف حجة لأن معه حجة سابقة وهي أن الحاكم حبسه
( فإن كان ) خصمه ( غائبا ) عن البلد طالبه بكفيله أورده إلى الحبس و ( كتب إليه ) قال الزركشي إلى قاضي بلد خصمه وقال ابن المقري إلى خصمه وهو أقرب إلى قول المصنف
( ليحضر ) لفصل الخصومة بينهما فإن لم يحضر أطلق
ونازع البلقيني في ذلك وقال إن إحضاره من العجائب إذ يصير المحبوس المطلوب طالبا لمن له الحق وليس في الشريعة ما يشهد لهذا
ورد بأنه ليس المراد إلزامه بالحضور بل إعلامه بذلك ليلحق بحجته في إدامة حبس المحبوس إن كان له بذلك حجة ويكفي المدعى إقامة بينة بإثبات الحق الذي حبس به أو بأن القاضي المعزول حكم عليه بذلك
( ثم ) بعد النظر في أهل الحبس ينظر ( في ) حال ( الأوصياء ) على
____________________
(4/387)
الأطفال والمجانين والسفهاء لأنهم ينصرفون في حق من لا يملك المطالبة بماله فكان تقديمهم أولى مما بعدهم
قال الماوردي ويبدأ في الأوصياء ونحوهم بمن شاء من غير قرعة والفرق بينهم وبين المحبوسين أن المحابيس ينظر لهم والأوصياء ونحوهم ينظر عليهم
تنبيه سبيل تصرفه في مال عنده ليتيم في غير عمله كتصرفه في مال الغائب إذ العبرة بمكان الطفل لا المال كما مر في باب الحجر وإنما ينظر في الأوصياء بعد ثبوت الوصاية عنده بطريقه
( فمن ادعى ) منهم ( وصاية ) بكسر الواو بخطه ويجوز فتحها اسم من أوصيت له جعلته وصيا ( سأل عنها ) من جهة ثبوتها بالبينة هل ثبتت وصاية بها أو لا
( و ) سأل ( عن حاله ) بالنسبة إلى الأمانة والكفاية وهذا مزيد على المحرر
( و ) عن ( تصرفه ) فيها فإن قال صرفت ما أوصى به فإن كان لمعين لم يتعرض له وهو كما قال الأذرعي ظاهر إن كانوا أهلا للمطالبة فإن كانوا محجورين فلا أو لجهة عامة وهو عدل أمضاه أو فاسق ضمنه لتعديه
ولو فرقها أجنبي لمعينين نفذ أو لعامة ضمن
وإذا كان الموصى به باقيا تحت يد الوصي ( فمن وجده ) عدلا قويا أقره أو ( فاسقا أخذ المال منه ) وجوبا ووضعه عند غيره من الأمناء
تنبيه كلامه يفهم أنه لا يأخذه ممن شك في عدالته وهو ما جرى عليه ابن المقري وهو الأقرب إلى كلام الجمهور لأن الظاهر الأمانة
وقيل ينزع منه حتى يثبت عدالته وقال الأذرعي وغيره إنه المختار لفساد الزمان
ومحل الوجهين كما قاله البلقيني إذا لم تثبت عدالته عند الأول وإلا فلا يتعرض له مع الشك جزما
فإن قيل إذا عدل الشاهد ثم شهد في واقعة أخرى بحيث طال الزمان احتاج إلى الاستزكاء لأن طول الزمان يغير الأحوال
أجيب بأن الوصاية قضية واحدة وقد ثبت الحال فيها فلا يتكرر ولو كلفنا الوصي ذلك لأضررنا بالمحجور عليه باشتغال الوصي عنه بإثبات عدالته ولا كذلك الشاهد
( أو ) وجده عدلا ( ضعيفا ) عن القيام بها لكثرة المال أو غيره ( عضده ) أي قواه ( بمعين ) ولا يرفع يده ثم بعد الأوصياء يبحث عن أمناء القاضي المنصوبين على الأطفال وتفرقة الوصايا فيعزل من فسق منهم ويعين الضعيف بآخر
وله أن يعزل من يشاء من الأمناء وإن لم يتغير حاله ويولي غيره بخلاف الأوصياء لأن الأمناء يتولون من جهة القاضي بخلاف الأوصياء
وأخروا عن الأوصياء لأن التهمة فيهم أبعد لأن ناصبهم القاضي وهو لا ينصب إلا بعد ثبوت الأهلية عنده بخلاف الأوصياء
ثم يبحث عن الأوقاف العامة ومتوليها وعن الخاصة أيضا كما قاله الماوردي و الروياني لأنها تؤول لمن لا يتعين من الفقراء والمساكين فينظر هل آلت إليهم وهل له ولاية على من تعين منهم لصغر أو نحوه ويبحث أيضا عن اللقطة التي لا يجوز تملكها للملتقط أو يجوز ولم يختر تملكها بعد التعريف
وعن الضوال فيحفظ هذه الأموال في بيت المال مفردة عن أمثالها وله خلطها بمثلها إن ظهر في ذلك مصلحة أودعت إليه حاجة كما قاله الأذرعي فإذا ظهر مالكها غرم له من بيت المال وله بيعها وحفظ ثمنها لمصلحة مالكها ويقدم من كل نوع مما ذكر الأهم فالأهم
ويستخلف فيما إذا عرضت حادثه حال شغله بهذه المهمات من ينظر في تلك الحادثة أو فيما هو فيه
( و ) ) بعد ذلك ( يتخذ ) بذال معجمة ( مزكيا ) بزاي لشدة الحاجة إليه ليعرفه حال من يجهل حاله من الشهود لأنه لا يمكنه البحث عنهم وسيأتي شرطه آخر الباب
تنبيه أراد المصنف بالمزكي الجنس ولو قال مزكين كان أولى لأن الواحد لا يكفي إلا أن ينصب حاكما في الجرح
( و ) يتخذ ( كاتبا ) لتوقع الحاجة إليه لأنه مشغول بالحكم والاجتهاد والكتابة تشغله وكان للنبي صلى الله عليه وسلم كتاب فوق الأربعين
وإنما يسن اتخاذه إذا لم يطلب أجرة أو طلب وكان يرزق من بيت المال وإلا لم يتعين لئلا يتغالى في الأجرة
( ويشترط كونه ) أي الكاتب ( مسلما عدلا ) في الشهادة كما يؤخذ من كلام الجيلي لتؤمن خيانته إذ قد يغفل القاضي عن قراءة ما يكتبه أو يقرأه
ولا بد من الحرية والذكورة وكونه ( عارفا بكتابة
____________________
(4/388)
محاضر وسجلات ) وكتب حكمية لئلا يفسدها حافظا لئلا يغلط فلا يكفي من اتصف بشيء من ضد ذلك
وهذا فيما يتعلق بالحكم أما ما يتعلق بخاصة أمره فيستكتب فيه من شاء
تنبيه أفرد المصنف الكاتب لأنه لا يشترط فيه عدد كما أفهمه كلام أصل الروضة لأنه لا يثبت شيئا بل يتخذ القاضي ما يحصل به الكفاية
وقوله محاضر مجرور بالفتحة جمع محضر وهو بفتح الميم ما يكتب فيه ما جرى للمتحاكمين في المجلس فإن زاد عليه الحكم أو تنفيذه سمي سجلا وقد يطلق المحضر على السجل
( ويستحب ) في الكاتب ( فقه ) زائد على ما لا بد منه من أحكام الكتابة لئلا يؤتى من قبل الجهل
أما الذي يتعلق بها فشرط
وهذا ما جمع به بين إطلاق الرافعي الاستحباب وإطلاق الماوردي الاشتراط
( ووفور عقل ) زائد على العقل التكليفي لئلا يخدع ويدلس عليه
أما العقل التكليفي فشرط كما علم مما مر وعفة عن الطمع لئلا يستمال به
( وجودة خط ) أي يكون خطه حسنا واضحا مع ضبطه الحروف وترتيبها فلا يترك فسحة يمكن إلحاق شيء فيها وتفصيلها فلا يكتب سبعة مثل تسعة ولا ثلاثا مثل ثلاثين لئلا يقع الغلط والاشتباه
قال علي رضي الله تعالى عنه الخط الحسن يزيد الحق وضوحا
ويسن أن يكون حاسبا للحاجة إليه في كتب المقاسم والمواريث فصيحا عالما بلغات الخصوم وأن يجلس كاتبه بين يديه ليمليه ما يريد وليرى ما يكتبه
( و ) يتخذ ( مترجما ) يفسر للقاضي لغة المتخاصمين لأن القاضي قد لا يعرف لغتهما فلا بد ممن يطلعه على ذلك
قال ابن النقيب كذا أطلقوه ولم يظهر لي اتخاذه على أي لغة فإن اللغات لا تكاد تنحصر ويبعد أن الشخص الواحد يحيط بجميعها وأبعد منه أن يتخذ من كل لغة اثنين لعظم المشقة فالأقرب أن يتخذ من اللغات التي يغلب وجودها في علمه وفيه عسر أيضا
( وشرط عدالة وحرية وعدد ) ولفظ شهادة كالشاهد بأن يقول كل منهما أشهد أنه يقول كذا
فإن كان الحق يثبت برجل وامرأتين كفى في ترجمته مثل ذلك كما في أصل الروضة عن الأصحاب وإن كان قضية كلام المصنف أنه لا يكفي في الزنا رجلان كالشهادة على الإقرار به
( والأصح جواز ) ترجمة ( أعمى ) لأن الترجمة تفسيرا للفظ الذي سمعه فلا يحتاج فيه إلى معاينة وإشارة بخلاف الشهادة التي قاس عليها الوجه الثاني
تنبيه محل الجواز إذا لم يتكلم في المجلس إلا الخصمان وإلا لم يجز قطعا كما نقله الزركشي عن الإمام وأقره
( و ) الأصح ( اشتراط عدد في إسماع قاض به صمم ) كالمترجم فإنه ينقل عين اللفظ كما أن ذاك ينقل معناه
والثاني المنع لأن المسمع لو غير أنكر عليه الخصم والحاضرون بخلاف المترجم
وقضية هذا التعليل أنه لو كان الخصمام أصمين أيضا اشترط العدد قطعا وبه صرح القاضي الحسين
تنبيه لا بد في المسمع من لفظ الشهادة فيقول أشهد أنه يقول كذا
ويجوز أن يكون أعمى قياسا عليه ويكتفي بإسماع رجل وامرأتين في المال قياسا عليه أيضا
وقد أشار المصنف بقوله في إسماع قاض إلى التصوير بالنقل من الخصم إلى القاضي فأما إسماع الخصم الأصم ما يقوله القاضي والخصم فلا يشترط فيه عدد لأنه إخبار محض لكن يشترط فيه الحرية وكالأصم في ذلك من لا يعرف لغة خصمه أو القاضي
وأشار أيضا بقوله في إسماع قاض إلى أن المراد صمم يسمع معه برفع الصوت أما إن لم يسمع أصلا لم تصح ولايته كما مر في شرط القاضي
فروع للقاضي وإن وجد كفايته أخذ كفايته وكفاية عياله مما يليق بحالهم من بيت المال ليتفرغ للقضاء إلا أن يتعين للقضاء ووجد ما يكفيه وعياله فلا يجوز له أخذ شيء لأنه يؤدي فرضا تعين عليه وهو واجد الكفاية
ويسن لمن لم يتعين إذا كان مكتفيا ترك الأخذ ومحل جواز الأخذ للمكتفي ولغيره إذا لم يوجد متطوع بالقضاء صالح له وإلا فلا يجوز كما صرح به الماوردي وغيره
ولا يجوز أن يرزق القاضي من خاص مال الإمام أو غيره من الآحاد ولا يجوز له قبوله
وفارق نظيره في المؤذن بأن ذاك لا يورث فيه تهمة ولا ميلا لأن عمله لا يختلف وفي المفتي
____________________
(4/389)
بأن القاضي أجدر بالاحتياط منه
فإن قيل الرافعي رجح في الكلام على الرشوة جوازه وهنا عدمه
أجيب بأن ما هناك في المحتاج وما هنا في غيره
ولا يجوز عقد الإجارة على القضاء كما مر في بابها وأجرة الكاتب ولو كان القاضي وثمن الورق الذي يكتب فيه المحاضر والسجلات وغيرهما من بيت المال فإن لم يكن فيه مال أو احتيج إليه إلى ما هو أهم فعلى من له العمل من مدع ومدعى عليه إن شاء كتابة ما جرى في خصومته وإلا فلا يجبر على ذلك لكن يعلمه القاضي له أنه إذا لم يكتب ما جرى فقد ينسى شهادة الشهود وحكم نفسه
وللإمام أن يأخذ من بيت المال لنفسه ما يليق به من خيل وغلمان ودار وأمتعة ولا يلزمه الاقتصار على ما اقتصر عليه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون والصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين لبعد العهد عن زمن النبوة التي كانت سببا للنصر بالرعب في القلوب فلو اقتصر اليوم على ذلك لم يطع وتعطلت الأمور
ويرزق الإمام أيضا من بيت المال كل من كان عمله مصلحة عامة للمسلمين كالأمير والمفتي والمحتسب والمؤذن وإمام الصلاة ومعلم القرآن وغيره من العلوم الشرعية والقاسم والمقوم والمترجم وكاتب الصكوك فإن لم يكن في بيت المال شيء لم يندب أن يعين قاسما ولا كاتبا ولا مقوما ولا مترجما ولا مسمعا ولا مزكيا وذلك لئلا يغالوا بالأجرة
( ويتخذ درة ) بكسر الدال المهملة وتشديد الراء ( للتأديب ) اقتداء ب عمر رضي الله تعالى عنه
تنبيه قد يفهم كلام المصنف أن القاضي لا يؤدب بالسوط وليس مرادا بل له ذلك إن أدى إليه اجتهاده
فائدة قال الشعبي كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج
قال الدميري وفي حفظي من شيخنا أنها كانت من نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ما ضرب بها أحدا على ذنب وعاد إليه
( و ) يتخذ ( سجنا لأداء حق ) الله تعالى أو الآدمي ( ولتعزير ) لأن عمر رضي الله تعالى عنه اشترى دارا بمكة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجنا رواه البيهقي وعبد الرازق في مصنفه
وفي البخاري بأربعمائة
تنبيه لو امتنع مديون من أداء ما عليه تخير القاضي من بيع ماله بعير إذنه وبين سجنه ليبيع مال نفسه كما في الروضة في باب التفليس نقلا عن الأصحاب
ولا يسجن والد بدين ولده في الأصح ولا من استؤجرت عينه لعمل وتعذر عمله في السجن كما في فتاوى الغزالي ونفقة المسجون في ماله وكذا أجرة السجن والسجان
ولو استشعر القاضي من المحبوس الفرار من حبسه فله نقله إلى حبس الجرائم كما في الروضة وأصلها عن ابن القاص
ولو سجن لحق رجل فجاء آخر وادعى عليه أخرجه الحاكم بغير إذن غريمه ثم رده والحبس لمعسر عذر في ترك الجمعة له
ويتخذ أعوانا ثقات
قال شريح الروياني وأجرة العين على الطالب إن لم يمتنع خصمه من الحضور فإن امتنع فالأجرة عليه لتعديه بالامتناع
( ويستحب كون مجلسه ) أي القاضي ( فسيحا ) لأن الضيق يتأذى منه الخصوم ( بارزا ) أي ظاهرا ليعرفه من أراده من مستوطن وغريب ( مصونا من أذى حر وبرد ) بأن يكون في الصيف في مهب الريح وفي الشتاء في كن
ويكون مصونا أيضا من كل ما يؤذى من نحو الروائح والدخان والغبار
( لائقا بالوقت ) فيجلس في كل فصل من الصيف والشتاء وغيرهما بما يناسبه فيجلس في الصيف في مهب الريح وفي الشتاء في كن وهذا معلوم من قوله قبل مصونا
ولو عبر بما قاله في المحرر فإنه قال لائقا بالوقت لا يتأذى فيه بالحر والبرد فجعل ذلك مثل اللائق لا صفة أخرى كان أولى
وزاد على المحرر قوله ( والقضاء ) كأن يكون دارا ( لا مسجد ) فيكره اتخاذه مجلسا للحكم لأن مجلس القاضي لا يخلو عن اللغط وارتفاع الأصوات
وقد يحتاج لإحضار المجانين والصغار والحيض والكفار والدواب والمسجد يصان عن ذلك
وفي مسلم أنه صلى الله عليه وسلم حين سمع من ينشد ضالته في المسجد قال ( إن المساجد لم تبن لهذا إنما بنيت له ) فإن اتفقت قضية أو قضايا وقت حضوره في المسجد لصلاة أو غيرها فلا بأس بفصلها وعلى ذلك يحمل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وعن خلفائه في القضاء في
____________________
(4/390)
المسجد
وكذا إذا احتاج للجلوس فيه لعذر من مطر ونحوه فإن جلس فيه مع الكراهة أو دونها منع الخصوم من الخوض فيه بالمخاصمة والمشاتمة ونحوهما بل يقعدون خارجه وينصب من يدخل عليه خصمين خصمين
وإقامة الحدود فيه أشد كراهة كما نص عليه وقيل يحرم إقامتها فيه كما جزم به ابن الصباغ وهو محمول على ما إذا خيف تلويث المسجد من دم ونحوه
تنبيه من الآداب أن يجلس على مرتفع كدكة ليسهل عليه النظر إلى الناس وعليهم المطالبة
وأن يتميز عن غيره بفراش ووسادة وإن كان مشهورا بالزهد والتواضع ليعرفه الناس وليكون أهيب للخصوم وأرفق به فلا يمل
وأن يستقبل القبلة لأنها أشرف المجالس كما رواه الحاكم وصححه
وأن لا يتكىء بغير عذر
وأن يدعو عقب جلوسه بالتوفيق والتسديد والأولى ما روته أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال بسم الله توكلت على الله اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي قال في الأذكار حديث صحيح رواه أبو داود وقال الترمذي حديث حسن صحيح قال ابن وقاص وسمعت أن الشعبي كان يقوله إذا خرج إلى مجلس القضاء ويزيد فيه أو أعتدي أو يعتدى علي اللهم أعني بالعلم وزيني بالحلم وألزمني التقوى حتى لا أنطق إلا بالحق ولا أقضي إلا بالعدل
وأن يأتي مجلس القضاء راكبا ويستعمل ما جرت به العادة من العمامة والطيلسان
ويندب أن يسلم على الناس يمينا وشمالا
( ويكره ) له ( أن يقضي في حال غضب وجوع وشبع مفرطين و ) في ( كل حال يسوء خلقه فيه ) كالمرض ومدافعة الأخبثين وشدة الحزن والسرور وغلبة النعاس لخبر الصحيحين لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان رواه ابن ماجه بلفظ لا يقضي وفي صحيح أبي عوانة لا يقضي القاضي وهو غضبان مهموم ولا مصاب ولا يقضي وهو جائع
وظاهر هذا أنه لا فرق بين المجتهد وغيره وهو كذلك وإن قال في المطلب لو فرق بين ما للاجتهاد فيه مجال وغيره لم يبعد
ولا فرق بين أن يكون الغضب لله أو لغيره وهو كذلك كما قال الأذرعي إنه هو الموافق لإطلاق الأحاديث وكلام الشافعي والجمهور وإن استثنى الإمام و البغوي الغضب لله تعالى لأن المقصود تشويش الفكر وهو لا يختلف بذلك نعم تنتفي الكراهة إذا دعت الحاجة إلى الحكم في الحال
وقد يتعين الحكم على الفور في صور كثيرة فإن قضى مع تغير خلقه نفذ قضاؤه لقصة الزبير المشهورة
ويكره أن يتخذ حاجبا حيث لا زحمة وقت الحكم لخبر من ولي من أمور الناس شيئا فاحتجب حجبه الله يوم القيامة رواه أبو داود والحاكم وصحح إسناده
فإن لم يجلس للحاكم بأن كان في وقت خلواته أو كان ثم زحمة لم يكره نصبه والبواب وهو من يقعد بالباب للإحراز ويدخل على القاضي للاستئذان كالحاجب فيما ذكر
قال الماوردي أما من وظيفته ترتيب الخصوم والإعلام بمنازل الناس أي المسمى الآن بالنقيب فلا بأس باتخاذه وصرح القاضي أبو الطيب وغيره باستحبابه
( ويندب ) عند الاختلاف وجوه النظر وتعارض الأدلة في حكم ( أن يشاور الفقهاء ) لقوله تعالى { وشاورهم في الأمر }
قال الحسن البصري كان النبي صلى الله عليه وسلم مستغنيا عنها ولكن أراد أن تصير سنة للحكام
أما الحكم المعلوم بنص أو إجماع أو قياس جلي فلا
تنبيه المراد بالفقهاء كما قاله جمع من الأصحاب الذين يقبل قولهم في الإفتاء فيدخل الأعمى والعبد والمرأة ويخرج الفاسق والجاهل
وقال القاضي حسين لا يشاور من دونه في العلم على الأصح قال وإذا أشكل الحكم تكون المشاورة واجبة وإلا فمستحبة اه
وقوله لا يشاور من دونه فيه كما قال ابن شهبة نظر فقد يكون عند المفضول في بعض المسائل ما ليس عند الفاضل ويرده أيضا مشاورته صلى الله عليه وسلم
( و ) يندب ( أن لا يشتري و ) لا ( يبيع بنفسه ) لئلا يشتغل قلبه عما هو بصدده ولأنه قد يحابى فيميل قلبه إلى من يحابيه إذا وقع بينه وبين غيره حكومة والمحاباة فيها رشوة أو هدية وهي محرمة
____________________
(4/391)
تنبيه عطف هذين على قبلهما يفهم كونهما خلاف الأولى لكن في الروضة وأصلها أنهما مكروهان ومع ذلك فغيرهما من بقية المعاملات من إجارة وغيرها كالبيع والشراء بل نص في الأم على أنه لا ينظر في نفقة عياله ولا أمر صنعته بل يكله إلى غيره تفريغا لقلبه
واستثنى الزركشي معاملة أبعاضه لانتفاء المعنى ولا ينفذ حكمه لهم وما قاله لا يأتي مع التعليل الأول
( و ) يندب أن ( لا يكون له وكيل معروف ) كيلا يحابي أيضا فإن فعل ذلك كره
والمعاملة في مجلس حكمه أشد كراهة فإن عرف وكيله استبدل غيره فإن لم يجد وكيلا عقد لنفسه للضرورة فإن وقعت لمن عامله خصومة أناب ندبا غيره في فصلها خوف الميل إليه
( فإن أهدى إليه من له خصومة ) في الحال عنده سواء أكان ممن يهدى إليه قبل الولاية أم لا سواء أكان في محل ولايته أم لا ( أو لم ) يكن له خصومة لكنه لم ( يهد ) له ( قبل ولايته ) القضاء ثم أهدى إليه بعض القضاء هدية ( حرم ) عليه ( قبولها ) أما في الأولى فلخبر هدايا العمال غلول رواه البيهقي بإسناد حسن وروي هدايا العمال سحت وروي هدايا السلطان سحت ولأنها تدعو إلى الميل إليه وينكسر بها قلب خصمه
وما وقع في الروضة من أنها لا تحرم في غير محل ولايته سببه خلل وقع في نسخ الرافعي السقيمة وأما في الثانية فلأن سببها العمل ظاهرا ولا يملكها في الصورتين لو قبلها ويردها على مالكها فإن تعذر وضعها في بيت المال
وقضية كلامهم أنه لو أرسلها إليه في محل ولايته ولم يدخل بها حرمت وهو كذلك وإن ذكر فيها الماوردي وجهين
تنبيه يستثنى من ذلك هدية أبعاضه كما قال الأذرعي إذ لا ينفذ حكمه لهم
( وإن كان يهدي ) إليه بضم أوله قبل ولايته ( و ) الحال أنه ( لا خصومة ) له ( جاز ) قبولها إن كانت الهدية ( بقدر العادة ) السابقة ولاية القضاء في صفة الهدية وقدرها
ولو قال كالعادة دخلت الصفة وذلك لخروجها حينئذ عن سبب الولاية فانتفت التهمة
( والأولى ) إن قبلها ( أن ) يردها أو ( يثيب عليها ) أو يضعها في بيت المال لأن ذلك أبعد عن التهمة ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يقبلها ويثيب عليها
أما إذا زادت على المعتاد فكما لو لم يعهد منه كذا في أصل الروضة
وقضيته تحريم الجميع لكن قال الروياني نقلا عن المذهب إن كانت الزيادة من جنس الهدية جاز قبولها لدخولها في المألوف وإلا فلا
وفي الذخائر ينبغي أن يقال إن لم تتميز الزيادة أي بجنس أو قدر حرم قبول الجميع وإلا فالزيادة فقط لأنها حدثت بالولاية وصوبه الزركشي وجعله الإسنوي القياس وهو الظاهر
فإن زاد في المعنى كأن أهدى من عادته قطن حريرا فقد قالوا يحرم أيضا
لكن هل يبطل في الجمع أو يصح منها بقدر قيمة المعتاد فيه نظر واستظهر الإسنوي الأول وهو ظاهر إن كان للزيادة وقع وإلا فلا عبرة بها
والضيافة والهبة كالهدية وكذا الصدقة كما قاله شيخنا
والزكاة كذلك كما قاله بعض المتأخرين إن لم يتعين الدافع إليه
والعارية إن كانت مما يقابل بأجرة حكمها كالهدية وإلا فلا كما بحثه بعض المتأخرين
تنبيه قبول الرشوة حرام وهي ما يبذل له ليحكم بغير الحق أو ليمتنع من الحكم بالحق وذلك لخبر لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم رواه ابن حبان وغيره وصححوه ولأن الحكم الذي يأخذ عليه المال إن كان بغير حق فأخذ المال في مقابلته حرام أو بحق فلا يجوز توفيقه على المال إن كان له رزق في بيت المال
وروي إن القاضي إذا أخذ فقد أكل السحت وإذا أخذ الرشوة بلغت به الكفر
واختلف في تأويله فقيل إذا أخذها مستحلا وقيل أراد إن ذلك طريق وسبب موصل إليه كما قال بعض السلف المعاصي بريد الكفر
فروع ليس للقاضي حضور وليمة أحد الخصمين حالة الخصومة ولا حضور وليمتيهما ولو في غير محل الولاية لخوف الميل
وله تخصيص إجابة من اعتاد تخصيصه قبل الولاية ويندب إجابة غير الخصمين إن عمم المولم النداء لها ولم يقطعه كثرة الولائم عن الحكم وإلا فيترك الجميع
ويكره له حضوره وليمة اتخذت له خاصة أو للأغنياء وادعي فيهم
____________________
(4/392)
بخلاف ما لو اتخذت للجيران أو للعلماء وهو فيهم
ولا يضيف أحد الخصمين دون الآخر
ولا يلحق فيما ذكر المفتي والواعظ ومعلم القرآن والعلم إذ ليس لهم أهلية الإلزام
وللقاضي أن يشفع لأحد الخصمين ويزن عنه ما عليه لأنه ينفعهما
وأن يعود المرضى ويشهد الجنائز ويزور القادمين ولو كانوا متخاصمين لأن ذلك قربة
قال في أصل الروضة فإن لم يمكنه التعميم أتى بممكن كل نوع وخص من عرفه وقرب منه
وفرقوا بينها وبين الولائم إذا كثرت بأن أظهر الأغراض فيها الثواب لا الإكرام وفي الولائم العكس
وشهادة الزور من أكبر الكبائر وإنما تثبت بإقرار الشاهد أو بتيقن القاضي منه بأن شهد على رجل أنه زنى يوم كذا في بلد كذا وقد رآه القاضي ذلك اليوم في غيره فيعزره بما يراه ويشهره
ولا تكفي إقامة البينة بأنه شهد زورا لاحتمال زورها وإنما يتصور إقامتها بالإقرار به
ثم شرع في موانع حكم القاضي بقوله ( ولا ينفذ حكمه لنفسه ) لأنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم
نعم يجوز له تعزير من أساء الأدب عليه فيما يتعلق بأحكامه كقوله حكمت بالجور ونحو ذلك واستثنى البلقيني صورا تتضمن حكمه فيها لنفسه وينفذ الأولى أن يحكم لمحجوره بالوصية على الأصح في أصل الروضة وأن يضمن استيلاءه على المال المحكوم به وتصرفه فيه وفي معناه حكمه على من في جهته مال لوقف تحت نظره بطريق الحكم
الثانية الأوقاف التي شرط النظر فيها للحاكم أو صار فيها النظر إليه بطريق العموم لانقراض ناظرها الخاص له الحكم بصحتها وموجبها وإن تضمن الحكم لنفسه في الاستيلاء أو التصرف
الثالثة للإمام الحكم بانتقال ملك إلى بيت المال وإن كان فيه استيلاؤه عليه بجهة الإمامة وللقاضي الحكم به أيضا وإن كان يصرف إليه من جامكيته ونحوها
( و ) لا ( رقيقه ) بالجر أي لا يحكم له في تعزير أو قصاص أو مال للتهمة
واستثنى البلقيني منه أيضا صورا أولاها حكمه لرقيقه بجناية عليه قبل رقه بأن جنى ملتزم على ذمي ثم نقض المجني عليه العهد والتحق بدار الحرب واسترق قال ولم أر من تعرض لذلك قال ويوقف المال إلى عتقه فإن مات رقيقا فالأظهر أنه فيء ثانيها العبد الموصى بإعتاقه الخارج من الثلث إذا قلنا إن كسبه له دون الوارث وكان الوارث حاكما فله الحكم بطريقه
ثالثها العبد المنذور إعتاقه
( و ) لا ( شريكه ) يحكم له ( في ) المال ( المشترط ) بينهما للتهمة
قال البلقيني ويستثنى من ذلك ما إذا حكم بشاهد ويمين الشريك فإنه يجوز لأن المنصوص أنه لا يشاركه في هذه الصورة قال ولم أر من تعرض لذلك
( وكذا أصله وفرعه ) لا ينفذ حكمه لكل منهم ( على الصحيح ) لأنهم أبعاضه فيشبه قضاؤه لهم قضاءه لنفسه ورقيق أصله وفرعه كأصله وفرعه ورقيق أحدهما في المشترك كذلك
والثاني ينفذ حكمه لهم بالبينة لأن القاضي أسير البينة فلا تظهر منه تهمة
ويؤخذ من ذلك أن محل الخلاف عند إقامة البينة أما قضاؤه بالعلم فلا ينفذ قطعا
واحترز بالحكم لمن ذكر عن الحكم عليهم فإنه ينفذ عليهم
قال الماوردي ولو حكم على نفسه وآخذناه به هل هو إقرار أو حكم وجهان أوجههما كما قال شيخنا الثاني
ولو حكم لولده على ولده أو لأصله على فرعه أو عكسه لم يصح كما يؤخذ مما مر
وهل يجوز للابن أن ينفذ حكم أبيه وجهان حكاهما شريح الروياني قال وقيل يجوز قولا واحدا لأن لا تهمة فيه اه
ويظهر الجواز لما ذكر
وفي جواز حكمه بشهادة ابن له لم يعدله شاهدان وجهان أحدهما نعم لأن المقصود الخصم لا الشاهد
والثاني لا قال ابن الرفعة وهو الأرجح في البحر وغيره لأنه لا يتضمن تعديله فإن عدله شاهدان حكم بشهادته
وكابنه في ذلك سائر أبعاضه
( ويحكم له ) أي القاضي ( ولهؤلاء ) المذكورين معه حيث لكل منهم خصومة ( الإمام أو قاض آخر ) مستقل سواء أكان معه في بلده أم في بلدة أخرى لانتفاء التهمة
( وكذا نائبه ) يحكم له ( على الصحيح ) كبقية الحكم
والثاني لا للتهمة
تنبيه قد يوهم اقتصار المصنف على منع الحكم لمن ذكر جوازه على العدو وهو وجه اختار الماوردي والمشهور في المذهب أنه لا يجوز حكمه عليه ويجوز أن يحكم له
( وإذا أقر المدعى عليه ) عند القاضي بالمدعى به
____________________
(4/393)
( أو نكل ) عن اليمين بعد عرضها عليها ( فحلف المدعي ) اليمين المردودة أو أقام بينة ( وسأل القاضي أن يشهد على إقراره عنده ) في صورة الإقرار ( أو ) على ( يمينه ) في صورة النكول أو على ما قامت به البينة ( أو ) سأل ( الحكم بما ثبت ) عنده ( و ) سأل أيضا ( الإشهاد به لزمه ) إجابته لأنه قد ينكر بعد ذلك فلا يتمكن القاضي من الحكم عليه إن قلنا لا يقضى بعلمه وإن قلنا يقضي به فربما نسي أو انعزل فلا يقبل قوله فيضيع الحق
ولو أقام المدعى عليه بينة بما ادعاه وسأله الإشهاد عليه لزمه أيضا لأن الإشهاد أيضا يتضمن تعديل البينة وإثبات حقه
ولو حلف المدعى عليه وسأل القاضي الإشهاد بإحلافه ليكون حجة له فلا يطالبه مرة أخرى لزمه إجابته
تنبيه كلامه يقتضي أنه لا يجب الحكم قبل أن يسأله المدعي وهو كذلك قال في الروضة في باب القضاء على الغائب لا يجوز الحكم على المدعى عليه إلا بسؤال المدعي على الأصح
نعم إن كان الحكم لمن لا يعبر عن نفسه لصغر أو جنون وهو وليه فيظهر كما قال الأذرعي الجزم بأنه لا يتوقف على سؤال أحد
ولم يبين المصنف صيغة الحكم اللازم وصيغته قوله حكمت على فلان لفلان بكذا أو قضيت بكذا أو نفذت الحكم به أو ألزمت الخصم به أو نحو ذلك ك أمضيته أو أجزته بخلاف قوله ثبت عندي أو صح أو وضح لدي أو سمعت البينة أو قبلتها فإنه لم يكن حكما وكذا ما يكتب على ظهر الكتب الحكمية وهو الصحيح وورد هذا الكتاب علي فقبلته قبول مثله وألزمت العمل بموجبه
ولا بد في الحكم من تعيين ما يحكم به ومن يحكم له لكن قد يبتلى القاضي بظالم يريد ما لا يجوز ويحتاج إلى ملاينته فرخص في رفعه بما يخيل إليه أنه أسعفه بمراده مثاله أقام الخارج بينة والداخل بينة والقاضي يعلم بفسق بينة الداخل ولكنه يحتاج إلى ملاينته وطلب هو الحكم بناء على ترجيح بينته فيكتب حكمت بما هو مقتضى الشرع في معارضته بينة فلان الداخل وفلان الخارج وقررت المحكوم به في يد المحكوم له وسلطته عليه ومكنته من التصرف
ولما فرغ المصنف مما تجب فيه إجابة القاضي للمدعي شرع فيما يسن له فيه الإجابة وذكر ذلك في قوله ( أو ) سأل المدعي القاضي ( أن يكتب له ) في قرطاس أحضره من عنده أو من بيت المال ( محضرا بما جرى من غير حكم أو ) يكتب له ( سجلا بما حكم ) به ( استحب ) للقاضي ( إجابته ) في الأصح لأنه مذكور
( وقيل تجب ) كالإشهاد
وفرق الأول بأن الكتابة لا تثبت حقا بخلاف الإشهاد وسواء في ذلك الديون المؤجلة والوقوف وغيرهما
نعم إن تعلقت الحكومة بصبي أو مجنون له أو عليه وجب التسجيل على ما نقل عن الزبيلي و شريح الروياني وغيره
وكالمدعي في استحباب الإجابة المدعى عليه كما في الروضة كأصلها
تنبيه اعلم أن لألفاظ الحكم المتداولة في التسجيلات مراتب أدناها الثبوت المجرد وهو أنواع ثبوت اعتراف المتبايعين مثلا بجريان البيع وثبوت ما قامت به البينة من ذلك وثبوت نفس الجريان
وهذا كله ليس بحكم كما صححاه في باب القضاء على الغائب ونقله في البحر عن نص الأم وأكثر الأصحاب لأنه إنما يراد به صحة الدعوى وقبول الشهادة فهو بمثابة سمعت البينة وقبلتها ولا إلزام في ذلك والحكم إلزام
وأعلاها الثبوت من الحكم والحكم أنواع ستة الحكم بصحة البيع مثلا والحكم بموجبه والحكم بموجب ما ثبت عنده والحكم بموجب ما قامت به البينة عنده والحكم بموجب ما أشهد به على نفسه والحكم بثبوت ما شهدت به البينة وأدنى هذه الأنواع هذا السادس وهو الحكم بثبوت ما شهدت به البينة لأنه لا يزيد على أن يكون حكما بتعديل البينة وفائدته عدم احتياج حاكم آخر إلى النظر فيها وجواز النقل في البلد وأعلاها الحكم بالصحة أو بالموجب أعني الأولين
وأما هذان فلا يطلق القول بأن أحدهما أعلى من الآخر بل يختلف ذلك باختلاف الأشياء ففي شيء يكون الحكم بالصحة أعلى من الحكم بالموجب وفي شيء يكون الأمر بالعكس فإذا كانت مختلفة فيها وحكم بها من
____________________
(4/394)
يراها كان حكمه بها أعلى من حكمه بالموجب
مثاله بيع المدبر مختلف في صحته ف الشافعي يرى صحته و الحنفي يرى فساده فإذا حكم بصحته شافعي كان حكمه بها أعلى من حكمه بموجب البيع لأن حكمه في الأول حكم المختلف فيه قصدا وفي الثاني يكون حكمه بها ضمنا لأنه في الثاني إنما حكم قصدا بترتب أثر البيع عليه واستتبع هذا الحكم الحكم بالصحة لأن أثر الشيء إنما يترتب عليه إذا كان صحيحا
ومثل هذا تعليق طلاق المرأة على نكاحها ف الشافعي يرى بطلانه و المالكي يرى صحته فلو حكم بصحته مالكي صح واستتبع حكمه به الحكم بوقوع الطلاق إذا وجد السبب وهو النكاح بخلاف ما لو حكم بموجب التعليق المذكور فإنه يكون حكمه متوجها إلى وقوع الطلاق قصدا لا ضمنا فيكون لغوا لأن الوقوع لم يوجد فهو حكم بالشيء قبل وجوده فلا يمنع الشافعي أن يحكم بعد النكاح ببقاء العصمة وعدم وقوع الطلاق
وإذا كان الشيء متفقا على صحته والخلاف في غيرها كان الأمر بالعكس أي يكون الحكم بالموجب فيه أعلى من الحكم بالصحة مثاله التدبير متفق على صحته فإذا حكم الحنفي بصحته لا يكون حكمه مانعا للشافعي من الحكم بصحة بيعه بخلاف ما لو حكم الحنفي بموجب التدبير فإن حكمه بذلك يكون حكما ببطلان بيعه فهو مانع من حكم الشافعي بصحة بيعه بخلاف ما لو حكم الحنفي بموجب التدبير فإن حكمه بذلك يكون حكما ببطلان بيعه فهو مانع من حكم الشافعي بصحة بيعه
وهل يكون حكم الشافعي بموجب التدبير حكما بصحة بيعه حتى لا يحكم الحنفي بفساده الظاهر كما قال الأشموني لا لأن جواز بيعه ليس من موجب التدبير بل التدبير ليس مانعا منه ولا مقتضيا له
نعم جواز بيعه من موجبات الملك فلو حكم شافعي بموجب الملك أن يكون مانعا للحنفي من الحكم ببطلان بيعه لأن الشافعي حينئذ قد حكم بصحة البيع ضمنا
ومثل التدبير بيع الدار المتفق على صحته لو اختلف فيه إذا حكم الشافعي بصحته كان حكمه مانعا للحنفي من الحكم بشفعة الجوار وإن حكم بموجب البيع كان حكمه به مانعا للحنفي من ذلك
ولو حكم شافعي بصحة إجارة لا يكون حكمه مانعا للحنفي من الحكم بفسخها بموت أحد المتآجرين وإن حكم الشافعي فيها بالموجب فالظاهر خلافا لبعضهم أن حكمه يكون مانعا للحنفي من الحكم بالفسخ بعد الموت لأن حكم الشافعي بالموجب قد يتناول الحكم بانسحاب بقاء الإجارة ضمنا
فإن قيل حكم الشافعي ببقاء الإجارة بعد الموت حكم بالموت قبل وجوده فيكون باطلا كما مر في حكم المالكي بموجب التعليق
أجيب بأن الحكم ببقاء الإجارة حكم وقع ضمنا لأن موجب الإجارة لم ينحصر فيه وحكم المالكي بموجب التعليق وقع بوقوع الطلاق قصدا لانحصار موجب التعليق فيه وهم يغتفرون في الضمنيات ما لا يغتفرون في القصديات قال الأشموني هذا ما ظهر لي
وقد بان لك أن الحكم بالصحة يستلزم الحكم بالموجب وعكسه وهذا غالب لا دائم فقد يتجرد كل منهما عن الآخر مثال تجرد الصحة البيع بشرط الخيار فإنه صحيح ولم يترتب عليه أثره فيحكم فيه بالصحة ولا يحكم فيه بالموجب ومثال تجرد الموجب الخلع والكتابة على نحو خمر فإنهما فاسدان ويترتب عليهما أثرهما من البينونة والعتق ولزوم مهر المثل والقيمة فيحكم فيهما بالموجب دون الصحة وكذا الربا والسرقة ونحوهما يحكم فيه بالموجب دون الصحة
ويتوقف الحكم بموجب البيع مثلا كما أوضحته على ثبوت ملك المالك وحيازته وأهليته وصحة صيغته في مذهب الحاكم
وقال ابن قاسم أخذا من كلام ابن شهبة والفرق بين الحكم بالصحة والحكم بالموجب أن الحكم بالموجب يستدعي صحة الصيغة وأهلية التصرف والحكم بالصحة يستدعي ذلك وكون التصرف صادرا في محله وفائدته في الأثر المختلف فيه فلو وقف على نفسه وحكم بموجبه حاكم كان حكما منه بأن الواقف من أهل التصرف وصيغة وقفه على نفسه صحيحة حتى لا يحكم ببطلانها من يرى الإبطال وليس حكما بصحة وقفه لتوقفه على كونه مالكا لما وقفه حين وقفه ولم يثبت ذلك
ويسن للقاضي إذا أراد الحكم أن يعلم الخصم بأن الحكم موجبه عليه وله الحكم على ميت بإقراره حيا في أحد وجهين رجحه الأذرعي
( ويستحب ) للقاضي ( نسختان ) بما وقع بين الخصمين وإن لم يطالبا بذلك
( إحداهما ) تعطى ( له ) أي صاحب الحق غير مختومة لينظر فيها ويعرضها على الشهود لئلا ينسوا
( و ) النسخة ( الأخرى تحفظ في ديوان الحكم ) مختومة مكتوبا على رأسها اسم الخصمين ويضعها في حرز
____________________
(4/395)
له لا لأنه طريق للتذكر وإنما تعددت لأنها لو كانت واحدة ودفعها للمحكوم عليه لم يؤمن من ضياعها
وما يجتمع عند الحاكم يضم بعضه إلى بعض ويكتب عليه محاضر كذا في شهر كذا وإذا احتاج إليه تولى أخذه بنفسه ونظر أولا إلى ختمه وعلامته
تنبيه ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي الكتاب والسنة والإجماع والقياس وقد يقتصر على الكتاب والسنة ويقال الإجماع يصدر عن أحدهما والقياس يرد إلى أحدهما
وليس قول الصحابي إن لم ينتشر في الصحابة حجة لأنه غير معصوم عن الخطأ لكن يرجح به أحد القياسين على الآخر وإذا كان ليس بحجة فاختلاف الصحابة في شيء كاختلاف سائر المجتهدين
فإن انتشر قول الصحابي في الصحابة ووافقوه فإجماع حر في حقه فلا يجوز له مخالفة الإجماع فإن سكتوا فحجة إن انقرضوا وإلا فلا لاحتمال أن يخالفوه لأمر عرض لهم
قالا والحق مع أحد المجتهدين في الفروع قال صاحب الأنوار وفي الأصول
والآخر مخطىء مأجور لقصده
( وإذا ) تقرر ذلك ثم ( حكم ) قاض ( باجتهاده ) وهو من أهله وإن لم يطلب الخصم ( ثم بان ) حكمه ( خلاف نص الكتاب أو السنة ) المتواترة أو الآحاد ( أو ) خلاف ( الإجماع أو قياس جلي ) وهو ما قطع فيه بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع أو يبعد تأثيره كقياس الضرب على التأفيف للوالدين في قوله تعالى { فلا تقل لهما أف } وما فوق الذرة بها في قوله { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } وكذا ما قطع فيه بالمساواة وإن لم يكن أولى كقياس الأمة على العبد في السراية وغير السمن من المائعات عليه في حكم وقوع الفأرة
قال الرافعي وربما خص بعضهم اسم الجلي بما كان الفرع فيه أولى بحكم الأصل وسمى ما كان مساويا واضحا
( نقضه هو ) أي يلزمه لك وإن لم يرفع إليه كما صرح به الماوردي والإمام و الغزالي وغيرهم فيتتبع أحكامه لنقضها
( و ) نقضه ( غيره ) أيضا وإن لم يجز له تتبع أحكام غيره في أحد وجهين صححه الفارقي وعزاه الماوردي إلى جمهور البصريين
فأما النقض لمخالفة الإجماع فبالإجماع والباقي في معناه فقد قال صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد
وكان عمر رضي الله تعالى عنه يفاضل بين الأصابع في الدية لتفاوت منافعها حتى روى له الخبر في التسوية فنقض حكمه رواه الخطابي في المعالم
وقضى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه فيمن رد عبدا بعيب أنه يرد معه خراجه فأخبره عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان فرجع وقضى بأخذ الخراج من الذي أخذه رواه الشافعي في مسنده
ونقض علي رضي الله تعالى عنه قضاء شريح في ابني عم أحدهما أخ لأم بأن المال للأخ متمسكا بقوله تعالى { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } فقال له علي قال الله تعالى { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس }
قال الزركشي وفي معنى قول المصنف باجتهاده ما إذا كان مقلدا ولي للضرورة وحكم بخلاف نص إمامه مقلدا لوجه ضعيف فإنهم جعلوا نص إمامه بالنسبة إليه كنص الشارع بالنسبة إلى المجتهد كما قاله في الروضة في الكلام على الفتوى قال ويجب نقضه ولا شك في نقض ما صدر من مقلد غير متبحر بخلاف المعتمد عند أهل المذهب ولو حكم بغير مذهب من قلده لم ينقض بناء على أن للمقلد تقليد من شاء
تنبيه صيغة النقض نقضته و فسخته أو نحو ذلك ك أبطلته
ولو قال هذا باطل أو ليس بصحيح فوجهان وينبغي أن يكون نقضا
وفي تعبيرهم بنقض وانتقض مسامحة إذ المراد أن الحكم لم يصح من أصله نبه عليه ابن عبد السلام
وعلى القاضي إعلام الخصمين بصورة الحال قال الماوردي ويجب على القاضي أن يسجل بالنقض كما سجل بالحكم ليكون التسجيل الثاني مبطلا للأول كما صار الثاني ناقضا للحكم الأول فإن لم يكن قد سجل بالحكم لم يلزمه الإسجال بالنقض وإن كان الإسجال به أولى
وقوله ( لا ) إن بان خلاف قياس ( خفي ) تصريح بمفهوم جلي
وأراد بالخفى ما لا يزيل احتمال المفارقة ولا يبعد كقياس الأرز على البر في باب الربا بعلة الطعم فلا ينقض الحكم
____________________
(4/396)
المخالف له لأن الظنون المتعادلة لو نقض بعضها ببعض لما استمر حكم ولشق الأمر على الناس
ومشهور عن عمر رضي الله تعالى عنه حكم بحرمان الأخ الشقيق في المشركة ثم شرك بعد ذلك ولم ينقض قضاءه الأول وقال ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي
ولو قضى قاض بصحة نكاح المفقود زوجها بعد أربع سنين ومدة العدة وبنفي خيار المجلس وبنفي بيع العرايا وبمنع القصاص في القتل بمقتل وبصحة بيع أم الولد ونكاح الشغار ونكاح المتعة وحرمة الرضاع بعد حولين أو نحو ذلك كقتل مسلم بذمي وجريان التوارث بين المسلم والكافر نقض قضاؤه كالقضاء استحسان فاسد وذلك لمخالفة القياس الجلي في جعل المفقود ميتا مطلقا أو حيا كذلك في الأولى والحاكم المخالف جعله فيها ميتا في النكاح دون المال ولمخالفة القياس الجلي في عصمة النفوس في الرابعة ولظهور الأخبار في خلاف حكمه في البقية وبعدها عن التأويلات التي عنده
وهذا ما عليه الأكثر كما يعلم من كلام الرافعي هنا واقتصر في كتاب الأمهات الأولاد على نقله عن الروياني نفسه عن الأصحاب وصححه الروياني وكلام الروضة فيما عدا مسألة المفقود يميل إليه
والاستحسان الفاسد أن يستحسن شيء لأمر بهجس في النفس أو لعادة الناس من غير دليل أو على خلاف الدليل لأنه تحرم متابعته أما إذا استحسن الشيء لدليل يقوم عليه أو من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس فيجب متابعته ولا ينقض
ولو قضى بصحة النكاح بلا ولي أو بشهادة من لا تقبل شهادته كفاسق لم ينقض حكمه كمعظم المسائل المختلف فيها
تنبيه هذا كله في الصالح للقضاء أما من لم يصلح له فإن أحكامه تنقض وإن أصاب فيها لأنها صدرت ممن لا ينفذ حكمه
ويؤخذ من ذلك أنه لو ولاه ذو شوكة بحيث ينفذ حكمه مع الجهل أو نحوه أنه لا ينقض ما أصاب فيه وهو الظاهر كما جرى عليه ابن المقري
( والقضاء ) فيما باطن الأمر فيه بخلاف ظاهره ( ينفذ ظاهرا لا باطنا ) لأنا مأمورون باتباع الظاهر والله يتولى السرائر فلا يحل هذا الحكم حراما ولا عكسه
فلو حكم بشهادة شاهدين ظاهرهما العدالة لم يحصل بحكمه الحل باطنا سواء المال وغيره ولقوله صلى الله عليه وسلم إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار متفق عليه
فإذا كان المحكوم به نكاحا لم يحل للمحكوم له الاستمتاع بها وعليها الامتناع والهرب ما أمكنها فإن أكرهت فلا إثم عليها كما قالاه
وحمله الإسنوي على ما إذا ربطت وإلا فالوطء لا يباح بالإكراه
وأجيب بأن محله إذا لم يتقدمه حكم بخلاف ما هنا
وفي حده بالوطء وجهان أوجههما كما جزم به صاحب الأنوار و ابن المقري عدم الحد لأن أبا حنيفة يجعلها منكوحة بالحكم فيكون وطؤ موطأ في نكاح مختلف في صحته وذلك شبهة
وإذا تقرر أنه لا يجوز لها تمكينه وقصدها دفعته كالصائل على البضع وإن أتى على نفسه
فإن قيل فلعله ممن يرى الإباحة فكيف يسوغ دفعه وقتله أجيب بأن المسوغ للدفع والموجب له انتهاك الفرج المحرم بغير طريق شرعي وإن كان الطالب لا إثم عليه كما لو صال صبي أو مجنون على بضع امرأة فإنه لا يجوز لها دفعه بل يجب
وإن كان طلاقا حل له وطؤها باطنا إن تمكن منه لكنه يكره لأنه يعرض نفسه للتهمة ويبقى التوارث بينهما للنفقة للحيلولة
ولو نكحت آخر فوطئها جاهلا بالحال فشبهة وتحرم على الأول حتى تنقضي العدة أو عالما أو نكحها أحد الشاهدين ووطىء فكذا في الأشبه عند الشيخين
أما ما باطن الأمر فيه كظاهره بأن ترتب على أصل صادق فينفذ الحكم فيه باطنا أيضا قطعا إن كان في محل اتفاق المجتهدين وعلى الأصح عند البغوي وغيره إن كان في محل اختلافهم وإن كان لمن لا يعتقد لتتفق الكلمة ويتم الانتفاع فلو حكم حنفي لشافعي بشفاعة الجوار أو بالإرث بالرحم حل له الأخذ به اعتبارا بعقيدة الحاكم لأن ذلك مجتهد وفيه والاجتهاد إلى القاضي لا إلى غيره
ولو شهد شاهد بما يعتقده القاضي للشاهد كشافعي شهد عنه حنفي بشفعة الجوار قبلت شهادته لذلك قال الإسنوي ولشهادته بذلك حالان أحدهما أن يشهد بنفس الجوار وهو جائز
ثانيهما أن يشهد باستحقاق الأخذ بالشفعة
____________________
(4/397)
أو بشفعة الجوار وينبغي عدم جوازه لاعتقاده خلافه اه
وهذا لا يأتي مع تعليلهم المذكور
( ولا يقضي ) القاضي ( بخلاف علمه بالإجماع ) كما إذا شهد شاهد أن بزوجية بين اثنين وهو يعلم أن بينهما محرمية أو طلاقا بائنا فلا يقضي بالبينة في ذلك لأنه لو قضى به لكان قاطعا ببطلان حكمه والحكم بالباطل محرم
تنبيه اعترض على المصنف دعواه الإجماع بوجه حكاه الماوردي بأنه يحكم بالشهادة المخالفة لعلمه
وأجيب بأن لنا خلافا في أن الأوجه هل تقدح في الإجماع بناء على أن لازم المذهب هل هو مذهب أو لا والراجح أنه ليس بمذهب فلا تقدح
وتعبير المصنف مشعر بأنه لو قضى بشهادة شاهدين لا يعلم صدقهما ولا كذبهما يكون قاضيا بخلاف علمه فلا ينفذ قضاؤه وليس مرادا بل هو نافذ جزما فلو عبر ك الماوردي وغيره ب لا يقضي بما يعلم خلافه كان أولى
وقوله ولا يقضي بخلاف علمه يندرج فيه حكمه بخلاف عقيدته قال البلقيني وهذا يمكن أن يدعى فيه اتفاق العلماء لأن الحكم إنما يبرم من حاكم بما يعتقده
( والأظهر أنه يقضي بعلمه ) ولو علمه قبل ولايته أو في غير محل ولايته
وسواء أكان في الواقعة بينة أم لا لأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو الشاهدان أو شاهد ويمين فبالعلم أولى
وعلى هذا يقضي بعلمه في المال قطعا وكذا في القصاص وحده القذف في الأظهر
والثاني المنع لما فيه من التهمة
ورد بأنه لو قال ثبت عندي وصح لدي كذا قبل قطعا مع احتمال التهمة
وعلى الأول يكره كما أشار إليه الشافعي في الأم قال الربيع كان الشافعي يرى القضاء بالعلم ولا يبوح به مخافة قضاة السوء
قال الماوردي ولا بد أن يقول للمنكر قد علمت أن له تمليك ما ادعاه وحكمت عليك بعلمي فإن ترك أحد هذين لم ينفذ
وشرط الشيخ عز الدين في القواعد كون الحاكم ظاهر التقوى والورع
تنبيه شمل إطلاق المصنف جريان الخلاف في الجرح والتعديل وهي طريقة ضعيفة والمشهور القطع بأنه يقضي فيه بالعلم وقد جزم المصنف في الفصل الآتي ولا يقضي بعلمه جزما لأصله وفرعه وشريكه في المشترك وما المراد بالعلم الذي يقضي به اه
واليقين الذي لا يحتمل غيره أو غلبة الظن مطلقا والراجح الثاني كما يقتضيه كلام الرافعي فمتى تحقق الحاكم طريقا تسوغ الشهادة للشاهد جاز له الحكم بها كمشاهدة القرض والإبراء أو استصحاب حكمهما وكمشاهدة اليد والتصرف مدة طويلة بلا معارض وكخبرة باطن المعسر ومن لا وارث له ونحو ذلك
ولا يكتفي في ذلك بمجرد الظنون وما يقع في القلوب بلا أسباب لم يشهد الشرع باعتبارها
هذا كله فيما علمه بالمشاهدة أما ما علمه بالتواتر فهو أولى لأن المحذور ثم التهمة فإذا شاع الأمر زالت
واختار البلقيني التفصيل بين التواتر الظاهر لكل أحد كوجود بغداد فيقضي به قطعا وبين التواتر المختص فيتخرج على خلاف القضاء بالعلم
واستثنى البلقيني من القضاء بالعلم ما لو علم القاضي بالإبراء فذكره للمقر فقال أعرف صدور الإبراء منه ومع ذلك فدينه باق علي فإن القاضي يقضي على المقر بما أقر به وإن كان على خلاف ما علمه القاضي لأن الخصم قد أقر بما يدفع علم القاضي
قال ولم أر من تعرض لذلك وهو فقه واضح اه
ورد بأن هذا ليس بقضاء على خلاف العلم لأن إقرار الخصم المتأخر عن الإبراء قد يرفع حكم الإبراء فصار العمل به لا بالبينة ولا بالإقرار المتقدم
واستثني من محل الخلاف بالقضاء بالعلم صور أحدها ما لو أقر في مجلس قضائه بشيء فله أن يقضي به قطعا لكنه قضاء بالإقرار لا بالعلم
ثانيها لو علم الإمام استحقاق من طلب الزكاة جاز الدفع له
ثالثها لو عاين القاضي اللوث كان له اعتماده ولا يخرج على الخلاف في القضاء بالقضاء بالعلم
رابعها أن يقر عنده بالطلاق الثلاث ثم يدعي زوجيتها
خامسها أن يدعي أن فلانا قتل أباه وهو يعلم أنه قتله غيره
( إلا في حدود الله تعالى ) كالزنا والسرقة والمحاربة والشرب فلا يقضي بعلمه فيها لأنها تدرأ بالشبهات ويندب سترها والتعزيرات المتعلقة بحق الله تعالى كالحدود المتعلقة به تعالى كما قاله البلقيني
ويستثنى من ذلك ما إذا علم القاضي من مكلف أنه أسلم ثم أظهر الردة فقد أفتى البلقيني بأن القاضي يقضي عليه بالإسلام بعلمه ويرتب عليه أحكامه
واستثني أيضا ما إذا اعترف في مجلس الحكم بما يوجب الحد ولم يرجع عن إقراره فإنه يقضي
____________________
(4/398)
فيه بعلمه ولو اعترف سرا لقوله صلى الله عليه وسلم فإن اعترفت فارجمها ولم يقيده بأن يكون اعترافها بحضور الناس
وخرج بحدود الله تعالى وتعزيراته حقوقه المالية فيقضي فيها بعلمه كما صرح به الدارمي ولو قامت عنده بينة بخلاف علمه امتنع عليه الحكم بشيء منهما
تنبيه قال الأذرعي وإذا نفذنا أحكام القاضي الفاسق للضرورة كما مر فينبغي أن لا ينفذ قضاؤه بعلمه بلا خلاف إذ لا ضرورة إلى تنفيذ هذه الجزئية النادرة مع فسقه الظاهر وعدم قبول شهادته بذلك قطعا
( ولو رأى ) قاض أو شاهد ( ورقة فيها حكمه أو شهادته ) على إنسان بشيء ( أو شهد شاهدان أنك حكمت أو شهدت بهذا لم يعمل ) القاضي ( به ) أي بمضمون خطه ( ولم يشهد ) أي الشاهد بمضمون خطه ( حتى يتذكر ) كل منهما أنه حكم أو شهد به على التفصيل لإمكان التزوير وتشابه الخطوط في الحالة الأولى وأما الثانية فلأن القاعدة إذا أمكن اليقين لا يعتمد الظن ولا يكفي تذكر أصل القضية
تنبيه أفهم قوله لم يعمل به جواز العمل به لغيره وهو كذلك في الحالة الثانية فإذا شهد غيره عنه بأن فلانا حكم بكذا اعتمدوه
والفرق أن جهله بفعل نفسه لما كان بعيدا قدح في صدق الشهود وأفهم العمل به عند التذكر وهو ظاهر
( وفيهما ) أي العمل والشهادة ( وجه في ورقة مصونة ) من سجل ويحضر ( عندهما ) أي القاضي والشاهد أنه يجوز الاعتماد عليه إذا وثق بخطه ولم يداخله ريبة لبعد التحريف في مثل ذلك والأصح الأول لاحتماله
( وله ) أي الشخص ( الحلف على استحقاق حق ) له على غيره ( أو ) على ( أدائه ) لغيره ( اعتمادا على خط مورثه ) أن له على فلان كذا أو عليه له كذا ( إذا وثق بخطه وأمانته ) اعتضادا بالقرينة
واحتج ابن دقيق العيد لجواز اليمين على غلبة الظن بحلف عمر رضي الله تعالى عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن صياد هو الدجال ولم ينكر عليه وسيأتي في الدعاوى جواز الحلف على البت بظن مؤكد يعتمد خطه أو خط أبيه
وفرقوا بين ذلك وبين القضاء والشهادة بأنهما يتعلقان بغير القاضي والشاهد بخلاف الحلف فإنه يتعلق بنفس الحالف ويباح بغالب الظن
وضبط القفال الوثوق بخط الأب كما نقله الشيخان وأقراه بكونه بحيث لو وجد في التذكرة لفلان على كذا لم يجد من نفسه أن يحلف على نفي العلم به بل يؤديه من التركة
تنبيه قوله مورثه ليس بقيد بل خط مكاتبه الذي مات في أثناء الكتابة وخط مأذونه القن بعد موته وخط معامله في القراض وشريكه في التجارة كذلك عملا بالظن المؤكد وكذا الخط ليس بقيد بل الإخبار من عدل مثله نبه عليه الزركشي
( والصحيح جواز رواية الحديث بخط محفوظ عنده ) وإن لم يتذكره لعمل العلماء به سلفا وخلفا وسواء أكان بخطه أم بخط غيره
والثاني المنع كالشهادة
وفرق الأول بأنه قد يتساهل في الرواية بخلاف الشهادة لأنها تقبل من العبد والمرأة ومن الفرع مع حضور الأصل بخلاف الشهادة ولأن الراوي يقول حدثني فلان عن فلان أنه يروي كذا ولا يقول الشاهد حدثني فلان أنه يشهد بكذا
ويجوز للشخص أن يروي بإجازة أرسلها إليه المحدث بخطه إن عرف هو خطه اعتمادا على الخط فيقول أخبرني فلان كتابة أو في كتابة أو كتب إلي بكذا ويصح أن يروي عنه بقوله أجزتك مروياتي أو نحوها كمسموعاتي بل لو قال أجزت المسلمين أو من أدرك زماني أو نحو ذلك ككل أحد صح ولا يصح بقوله أجزت أحد هؤلاء الثلاثة مثلا مروياتي ونحوها أو أجزتك أحد هذه الكتب للجهل بالمجاز له في الأولى وبالمجاز في الثانية ولا بقوله أجزت من سيولد بمروياتي مثلا لعدم المجاز له
وتصح الإجازة لغير المميز وتكفي الرواية بكتابة ونية إجازة كما تكفي مع القراءة عليه مع سكوته وإذا كتب الإجازة استحب أن يتلفظ بها
____________________
(4/399)
فصل في التسوية بين الخصمين وما يتبعها ( ليسو ) القاضي حتما على الصحيح ( بين الخصمين في دخول عليه ) فلا يدخل أحدهما قبل الآخر بل يأذن لهما في الدخول
تنبيه الخصم بفتح الخاء وسكون الصاد يستوي فيه الواحد والجميع والمذكر والمؤنث ومن العرب من يثنيه ويجمعه ومشى المصنف على التثنية هنا وعلى الجميع في قوله بعد وإذا ازدحم خصوم
أما الخصم بكسر الصاد فهو الشديد الخصومة
( و ) في ( قيام لهما ) فيقوم لهما أو يترك
وكره ابن أبي الدم القيام لهما جميعا لأن أحدهما قد يكون شريفا والآخر وضيعا فإذا قام لهما علم الوضيع أن القيام لأجل خصمه فيزداد الشريف تيها والوضيع كسرا فترك القيام لهما أقرب إلى العدل قال فلو دخل الخصم ذو الهيئة فظن الحاكم أنه ليس بمحاكم فقام له فليقم لخصمه أو يعتذر بأنه قام للأول ولم يشعر بكونه خصما
قال الأذرعي وينبغي أن يقال إن كان لآخر ممن يقام له قام وإلا اعتذر
( واستماع ) لكلامهما ونذر إليهما
( و ) في ( طلاقة وجه ) لهما ( و ) في ( جواب سلام ) منهما إن سلما معا ولا يرد على أحدهما ويترك الآخر فإن سلم عليه أحدهما انتظر الآخر أو قال سلم ليجيبهما معا إذا سلم
قال الشيخان وقد يتوقف في هذا إذا طال الفصل وكأنهم احتملوا هذا الفصل لئلا يبطل معنى التسوية
فإن قيل ما ذكراه هنا لا يوافق ما جزما به في السير من أن ابتداء السلام سنة كفاية فإذا حضر جمع وسلم أحدهم كفى عن الباقيين
أجيب بأنهم ارتكبوا ذلك هنا حذرا من التخصيص وتوهم الميل
( و ) في ( مجلس ) لهما بأن يجلسهما بين يديه أو أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره والجلوس بين يديه أولى
ومثل ما ذكره سائر أنواع الإكرام فلا يخص أحدهما بشيء منهما وإن اختلفا بفضيلة وغيرها
ولا يرتفع الموكل على الوكيل والخصم لأن الدعوى متعلقة به أيضا بدليل تحليفه إذا وجبت يمين حكاه ابن الرفعة عن الزبيلي وأقره قال الأذرعي وغيره وهو حسن والبلوى به عامة وقد رأينا من يوكل فرارا من التسوية بينه وبين خصمه
وليقبل على الخصمين بقلبه وعليه السكينة بلا مزح ولا تشاور ولا نهر ولا صياح ما لم يتركا أدبا
ويندب أن يجلسا بين يديه ليتميزا وليكون استماعه إلى كل منهما أسهل
وإذا جلسا تقاربا إلا أن يكونا رجلا وامرأة غير محرم فيتباعدان
( والأصح ) وعبر في الروضة بالصحيح ( رفع مسلم عن ذمي فيه ) أي المجلس كأن يجلس المسلم أقرب إليه من الذمي لما روى البيهقي عن الشعبي قال خرج علي رضي الله تعالى عنه إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعا فعرفها علي فقال هذه درعي بيني وبينك قاضي المسلمين فيأتيا شريحا فلما رأى القاضي عليا قام من مجلسه وأجلسه وجلس شريح أمامه إلى جنب النصراني فقال له علي لو كان خصمي مسلما لجلست معه بين يديك ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تساووهم في المجالس اقض بيني وبينه يا شريح فقال شريح ما تقول يا أمير المؤمنين فقال هذه درعي ذهبت مني منذ زمان فقال شريح ما تقول يا نصراني فقال ما أكذب أمير المؤمنين الدرع درعي
فقال شريح لأمير المؤمنين هل من بينة فقال علي صدق شريح
فقال النصراني إني أشهد أن هذه أحكام الأنبياء
ثم أسلم النصراني فأعطاه علي الدرع وحمله على فرس عتيق قال الشعبي فقد رأيته يقاتل المشركين عليه
ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه
والثاني يسوى بينهما فيه ويشبه كما في الروضة كأصلها أن يجري ذلك في سائر وجوه الإكرام حتى في التقديم في الدعوى كما بحثه بعضهم وهو كما قال شيخنا ظاهر إذا قلت الخصوم المسلمون وإلا فالظاهر خلافه لكثرة ضرر المسلمين
تنبيه لم يبين المصنف أن الخلاف في الجواز أو الوجوب وصرح صاحب التمييز بالوجوب وهو قياس القاعدة الأغلبية أن ما كان ممنوعا منه إذا جاز وجب كقطع اليد في السرقة
وصرح سليم في المجرد بالجواز وعبارته التي نقلها ابن شهبة عنه فلا بأس أن يرفع المسلم
قال الإسنوي ولو كان أحدهما ذميا والآخر مرتدا فيتجه تخريجه على التكافؤ في القصاص والصحيح أن المرتد يقتل بالذمي دون عكسه
وتعجب البلقيني من هذا التخريج فإن
____________________
(4/400)
التكافؤ في القصاص ليس مما نحن فيه بسبيل ولو اعتبرناه لرفع الحر على العبد والوالد على الولد
( وإذا ) حضر الخصمان بين يديه و ( جلسا ) أو وقفا كما هو الغالب ( فله أن يسكت ) عنهما حتى يتكلما لأنهما حضرا ليتكلما
( و ) له ( أن يقول ) إن لم يعرف المدعي ( ليتكلم المدعي ) منكما لأنه ربما هاباه
وله إن عرفه أن يقول له تكلم كما في الروضة وأصلها
والأولى أن يقول ذلك القائم بين يديه فإن طال سكوتهما بغير سبب من هيبة وتحرير كلام ونحوهما قال ما خطبكما قال الماوردي فإن لم يدع واحد منهما أقيما من مكانهما
قال الماوردي والأولى بالخصم أن يستأذن القاضي في الكلام
( فإذا ادعى ) أحدهما دعوى صحيحة ( طالب خصمه بالجواب ) وإن لم يسأله المدعي لأن المقصود فصل الخصومة وبذلك تنفصل فيقول له ما تقول أو اخرج من دعواه إن كانت ممكنة فإن علم كذب المدعي مثل أن يدعي الذمي استئجار الأمير أو الكبير لعلف الدواب أو كنس بيته وكدعوى المعروف بالعيب وجر ذوي الأقدار لمجلس القضاة واستحلافهم ليفتدوا منه بشيء فكذلك خلافا للإصطخري في قوله لا يلتفت إليه
( فإن أقر ) بما ادعى عليه به حقيقة وحكما ( فذاك ) ظاهر في ثبوته بغير حكم بخلاف البينة لأن دلالة الإقرار ولو حكما على وجوب الحق جلية إذ الإنسان على نفسه بصير بخلاف البينة فإنها تحتاج إلى نظر واجتهاد
وللمدعي بعد الإقرار أن يطلب من القاضي الحكم عليه
( وإن أنكر ) الدعوى وهي مما لا يمين فيها في جانب المدعى ( فله ) أي القاضي ( أن يقول للمدعي ألك بينة ) وإن كان الحق مما يثبت بالشاهد واليمين قال له ألك بينة أو شاهد مع يمين فإن كان اليمين في جانب المدعي لكونه أمينا أو في قسامة قال له أتحلف ويقول للزوج المدعي على زوجته بالزنا أتلاعنها فلو عبر المصنف بالحجة بدل البينة كان أولى ليشمل جميع ذلك
( و ) للقاضي ( أن ) لا يستفهم المدعي عن البينة بأن ( يسكت ) تحرزا عن اعتقاد ميله إلى المدعي
نعم إن جهل المدعي أن له إقامة البينة فلا يسكت بل يجب إعلامه بأن له ذلك كما أفهمه كلام المهذب وغيره
وقال البلقيني إن علم علمه بذلك فالسكوت أولى وإن شك فالقول أولى وإن علم جهله به وجب إعلامه اه
وهو تفصيل حسن
( فإن قال ) المدعي ( لي بينة ) وأقامها فذاك ( وأريد تحليفه فله ذلك ) لأنه إن تورع عن اليمين وأقر سهل الأمر على المدعي واستغنى عن إقامة البينة وإن حلف أقام المدعي البينة وأظهر خيانته وكذبه فله في طلب تحليفه غرض ظاهر
واستثنى البلقيني ما إذا ادعى لغيره بطريق الولاية أو النظر أو الوكالة أو لنفسه ولكن كان محجورا عليه بسفه أو فلس أو مأذونا له في التجارة أو مكاتبا فليس له ذلك في شيء من هذه الصور لئلا يحلف ثم يرفعه لحاكم يرى منع البينة بعد الحلف فيضيع الحق
ورد بأن المطالبة متعلقة بالمدعي فلا يرفع غريمه إلا لمن يسمع البينة بعد الحلف بتقدير أن ما ينفصل أمره عند الأول
( أو ) قال ( لا بينة لي ) وأطلق أو زاد عليه لا بينة لي حاضرة ولا غائبة أو كل بينة أقيمها فهي باطلة أو كاذبة أو زور وحلفه ( ثم أحضرها قبلت في الأصح ) لأنه ربما لم يعرف بينة أو نسي ثم عرف أو تذكر
والثاني لا للمناقضة إلا أن يذكر لكلامه تأويلا ككنت ناسيا أو جاهلا ونسبه الماوردي و الروياني إلى الأكثرين
أما لو قال لا بينة لي حاضرة ثم أحضرها فإنها تقبل قطعا لعدم المناقضة
ولو قال شهودي فسقة أو عبيد فجاء بعدول وقد مضت مدة استبراء أو عتق أقبلت شهادتهم وإلا فلا
قال الأذرعي وهذا ظاهر فيما إذا اعترف أن هذه البينة هي التي نسب إليها ذلك أما لو أحضر بينة عن قرب فقال هذه بينة عادلة جهلتها أو نسيتها غير تلك ثم علمتها أو تذكرتها فيشبه أن تقبل لا سيما إذا كانت حرية المحضرين وعدالتهم مشهورة
تنبيه يندب للقاضي بعد ظهور وجه الحكم ندب الخصمين إلى صلح يرجى ويؤخر له الحكم يوما ويومين برضاهما بخلاف ما إذا لم يرضيا
( وإذا ازدحم ) في مجلس القاضي ( خصوم ) مدعون ( قدم ) حتما ( الأسبق )
____________________
(4/401)
فالأسبق منهم بمجلس الحكم إن جاءوا مترتبين وعرف السابق لأنه العدل كما لو بسبق موضع مباح والعبرة بسق المدعي دون المدعى عليه لأن الحق للمدعي
تنبيه قال البلقيني محل وجوب تقديم السابق إذا تعين على القاضي فصل الخصومات وإلا فله أن يقدم من شاء كما صرحوا به في العلم الذي لا يجب تعليمه
( فإن جهل ) الأسبق منهم ( أو جاءوا معا أقرع ) بينهم وقدم من خرجت قرعته إذ لا مرجح فإن آثر بعضهم بعضا جاز
هذا إذا أمكن الإقراع فإن كثروا أو عسر الإقراع كتب أسماءهم في رقاع وجعلها بين يديه ليأخذها واحدة واحدة ويقدم صاحبها هكذا قالاه وهذا نوع من الإقراع كما صرح به الروياني
وتسمع دعوى الأول فالأول حتما فإن كان فيهم مريض يتضرر بالصبر لتوبته فالأولى لغيره كما قال الروياني وغيره تقديمه فإن لم يفعل قدمه القاضي إن كان مطلوبا ولا يقدمه إن كان طالبا لأن المطلوب مجبور والطالب مجبر
تنبيه لا يقدم القاضي بعض المدعين على بعض إلا في صورتين أشار للأولى منهما بقوله ( ويقدم ) ندبا على المختار في زوائد الروضة ( مسافرون مستوفزون ) أي متهيئون للسفر خائفون من انقطاعهن إن تأخروا على مقيمين لئلا يتضرروا بالتخلف
وأشار للثانية بقوله ( و ) يقدم ( نسوة ) على رجال طلبا لسترهن ( وإن تأخروا ) أي المسافرون والنسوة في المجيء إلى القاضي وفيه تغليب المذكر على المؤنث وكذا في قوله ( ما لم يكثروا ) فإن كثروا بل أو ساووا كما في المهذب أو كان الجميع مسافرون أو نسوة فالتقديم بالسبق أو القرعة
تنبيه أفهم إطلاقه المسافرين والنسوة أنه لا فرق فيه بين كون كل منهما مدعيا أو مدعى عليه وهو ما بحثه في أصل الروضة وإن نازع فيه البلقيني وقال إنه مختص بالمدعين
والخناثى مع الرجال كالنسوة
ويقدم المسافر المرأة المقيمة كما صرح به في الأنوار
وإطلاق المصنف النساء يقتضي أنه لا فرق بين الشابة والعجوز وهو كذلك وإن قال الزركشي القياس إلحاق العجوز بالرجال لانتفاء المحذور
وأفهم اقتصاره على المسافرين والنسوة الحصر فيهما وليس مرادا بل المريض كما سبق كذلك
قال الزركشي وينبغي أن يلحق به من له مريض بلا متعهد وتقديم مسلم على كافر
والازدحام على المفتي والمدرس كالازدحام على القاضي إن كان العلم فرضا ولو على الكفاية وإلا فالخبرة إلى المفتي أو المدرس
( ولا يقدم سابق وقارع ) أي من خرجت قرعته ( إلا بدعوى ) واحدة وإن اتحد المدعى عليه لئلا يتضرر الباقون لأنه ربما استوعب المجلس بدعاويه فتسمع دعواه وينصرف ثم يحضر في مجلس آخر وينتظر فراغ دعوى الحاضرين ثم تسمع دعواه
الثانية إن بقي وقت ولم يضجر
تنبيه سكت المصنف عن حكم تقديم المسافر والنسوة والأرجح تقديمهم بدعاويهم إن كانت خفيفة لا تضر بالمقيمين في الأولى وبالرجال في الثانية فإن طالت قدم من ذكر بواحدة لأنها مأذون فيها وقد يقنع بواحدة ويؤخر الباقي إلى أن يحضر هذا ما رجحه في الروضة واعترضه الإسنوي بأن ما ذكره من التقديم بواحدة فقط ممنوع بل القياس على ما قاله أن يسمع في عدد لا يضر بالباقين كما لو لم يكن معه غيره أي من المسافرين أو النساء
قال الأذرعي وهذا لا يكاد ينضبط
وإذا قدمنا بواحدة فالمراد كما بحثه شيخنا التقديم بالدعوى وجوبها وفصل الحكم فيها
نعم إن تأخر الحكم لانتظار بينة أو تزكية أو نحوها سمع دعوى من بعده حتى يحضر هو ببينته فيشتغل حينئذ بإتمام خصومته ولا وجه لتعطيل الخصوم ذكره الأذرعي وغيره
تنبيه لو قال كل من الخصمين أنا المدعي فإن كان قد سبق أحدهما إلى الدعوى لم تقطع دعواه بل على الآخر أن يجيب ثم يدعي إن شاء وإلا ادعى من بعث منهما العون خلف الآخر وكذا من أقام بينة بأنه أحضر الآخر ليدعي عليه فإن استووا أقرع بينهم فمن خرجت قرعته ادعى
( ويحرم ) على القاضي اتخاذ شهود معينين
____________________
(4/402)
( لا يقبل غيرهم ) لما فيه من التضييق على الناس إذ قد يتحمل الشهادة غيرهم فإذا لم يقبل ضاع الحق وقد قال تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } فإن عين شهودا وقبل غيرهم لم يحرم ولم يكره كما قاله الماوردي
( وإذا شهد ) عند القاضي ( شهود فعرف ) فيهم ( عدالة أو فسقا عمل بعلمه ) فيهم فيقبل من عرف عدالته ولم يحتج إلى تعديل وإن طلبه الخصم ويرد من عرف فسقه ولا يحتاج إلى بحث
تنبيه محل هذا في العدالة في غير أصله وفرعه أما هما ففيهما وجهان أرجحهما كما قاله البلقيني عدم الجواز ما لم تقم عنده بينة بعدالتهما تفريعا على تصحيح الروضة أنه لا يقبل تزكيته لهما
( وإلا ) بأن لم يعرف القاضي في الشهود عدالة ولا فسقا ( وجب الاستزكاء ) أي طلب القاضي منهم التزكية وهي البحث عن حال الشهود سواء أطلبه الخصم أم لا طعن في الشهود أم لا اعترف بعدالتهم أم لا لأن الحكم يقع بشهادتهم فيجب البحث عن شرطها
نعم لو صدقهما الخصم فيما شهدوا به قضى بإقراره لا بالبينة
تنبيه لو جهل إسلام الشهود رجع فيه إلى قولهم بخلاف جهله بحريتهم فإنه لا بد من البينة
ولو شهد عليه شاهدان معروفان بالعدالة واعترف الخصم بما شهدا به قبل الحكم عليه فالحكم بالإقرار لا بالشهادة لأنه أقوى بخلاف ما لو أقر بعد الحكم فإن الحكم قد مضى مستندا إلى الشهادة هذا ما نقله في أصل الروضة عن الهروي وأقره
وتقدم في باب الزنا أن الأصح عند الماوردي اعتبار الأسبق من الإقرار والشهادة وتقدم ما فيه
وقول ابن شهبة والصحيح استناده إلى المجموع ممنوع
ثم بين صورة الاستزكاء بقوله ( بأن ) أي كأن ( يكتب ) القاضي ( ما يتميز به الشاهد والمشهود له و ) المشهود ( عليه ) من اسم وكنية إن اشتهر بها وولاء إن كان عليه ولاء واسم أبيه وجده وحليته وحرفته وسوقه ومسجده لئلا يشتبه بغيره وقد يكون بينهما وبين الشاهد ما يمنع الشهادة كبغضة أو عداوة فإن كان الشاهد مشهورا وحصل التمييز ببعض هذه الأوصاف اكتفي به
( وكذا قدر ) المشهود به من ( الدين ) وغيره ( على الصحيح ) لأنه قد يغلب على الظن صدق الشاهد في القليل دون الكثير
والثاني لا يكتبه لأن العدالة لا تختلف بقلة المال وكثرته ونقله الإمام عن معظم الأئمة وقال عن الأول ليس بسديد فكان الأولى التعبير بالأصح لا بالصحيح وأن يقول وكذا ما شهدوا به ليعلم الدين والعين والنكاح والقتل وغيرها وليستغنى عما قدرته في كلامه
( و ) أن ( يبعث به ) أي بما كتبه ( مزكيا ) هو نصب بإسقاط الخافض وصرح به في المحرر فقال إلى مزك
وفي الشرح والروضة ينبغي أن يكون للقاضي مكون وأصحاب مسائل فالمزكون الرجوع إليهم ليبينوا حال الشهود وأصحاب المسائل هم الذين يبعثهم القاضي إلى المزكين ليبحثوا ويسألوا وربما فسر أصحاب المسائل في لفظ الشافعي رضي الله عنه بالمزكين اه
قال في الروضة ويكتب لكل مزك كتابا ويدفعه إلى صاحب مسألة ويخفي كل كتاب عن غير من دفعه إليه وغير من يبعثه احتياطا لئلا يسعى المشهود له في التزكية والمشهود عليه في الجرح
( ثم ) إن عاد إليه الرسل بجرح من المزكين توقف عن الحكم وكتم الجرح وقال للمدعي زدني في الشهود أو عادوا إليه بتعديل لم يحكم بقولهم بل ( يشافهه ) أي القاضي ( المزكى ) المبعوث إليه ( بما عنده ) من حال الشهود من جرح أو تعديل لأن الحكم يقع بشهادته ويشير إلى المزكي ليأمن بذلك الغلط من شخص إلى آخر ولا يقتصر المزكى على الكتابة للقاضي مع أصحاب المسائل في الأصح
( وقيل تكفي كتابته ) له معهم من غير مشافهة وهذا ما اختاره القاضي حسين وأصحابه وعليه عمل القضاة الآن من اكتفائهم برؤية سجل العدالة
وليس المراد بالمزكى واحدا كما يشعر به كلامه بل اثنين فأكثر
____________________
(4/403)
تنبيه من نصب أرباب المسائل حاكما في الجرح والتعديل كفى أن ينهي إلى القاضي وحده ذلك فلا يعتبر العدد لأنه حاكم فالحكم مبني على قوله وكذا لو أمر القاضي صاحب المسألة بالبحث فبحث وشهد بما بحثه لكن يعتبر العدد لأنه شاهد
قال في أصل الروضة وإذا تأملت كلام الأصحاب فقد تقول ينبغي أن لا يكون فيه خلاف محقق بل إن ولي صاحب المسألة الجرح والتعديل فحكم القاضي مبني على قوله فلا يعتبر العدد لأنه حاكم وإن أمره بالبحث فبحث ووقف على حال الشاهد وشهد به فالحكم أيضا مبني على قوله لكن يعتبر العدد لأنه شاهد وإن أمره بمراجعة مزكين وإعلامه ما عندهما فهو رسول محض فليحضر أو يشهدا وكذا لو شهدا على شهادتهما لأن شاهد الفرع لا يقبل مع حضور الأصل اه
فقد رفع بذلك الخلاف في أن الحكم بقول المزكين أو بقول هؤلاء
والذي نقله عن الأكثرين أنه بقول هؤلاء وهو كما قال شيخنا المعتمد
واعتذر ابن الصباغ عن كونه شهادة على شهادة مع حضور الأصل بالحاجة لأن المزكين لا يكلفون الحضور
ويعتبر فيمن نصب حاكما في الجرح والتعديل صفات القضاة
( وشرطه ) أي المزكى الذي يشهد بالعدالة مثلا ( كشاهد ) أي كشرطه
وقضيته عدم شهادة الأب بتعديل الابن وعكسه وهو الأصح
( مع معرفة ) أسباب ( الجرح والتعديل ) لئلا يجرح العدل ويزكى الفاسق ( وخبرة باطن من يعدله لصحبة أو جوار ) بكسر الجيم أفصح من ضمها ( أو معاملة ) ونحوها فعن عمر رضي الله تعالى عنه أن اثنين شهدا عنده فقال لهما إني لا أعرفكما ولا يضركما أني لا أعرفكما ائتيا بمن يعرفكما فأتيا برجل فقال له عمر كيف تعرفهما قال بالصلاح والأمانة قال هل كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما ومدخلهما ومخرجهما قال لا قال هل عاملتهما بهذه الدراهم والدنانير التي يعرف بهما أمانات الرجال قال لا قال هل صاحبتهما في السفر الذي يسفر عن أخلاق الرجال قال لا قال فأنت لا تعرفهما ائتيا بمن يعرفكما والمعنى فيه أن أسباب الفسق خفية غالبا فلا بد من معرفة المزكى حال من يزكيه
ويشترط علم القاضي بأنه خبير بباطن الحال إلا إذا علم من عدالته أنه لا يزكى إلا بعد الخبرة فيعتمده
ولا يعتبر في خبرة الباطن التقادم في معرفته بل يكتفي بشدة الفحص ولو غريبا يصل المزكى بفحصه إلى كونه خبيرا بباطنه فحين يغلب على ظنه عدالته باستفاضة شهد بها
واحترز المصنف بقوله من يعدله عن الشاهد بالجرح فإنه لا يشترط فيه الخبرة الباطنة فإنه لا يقبل إلا مفسرا
وما ذكره من اعتبار شروط الشاهد محله في غير المنصوب أما من نصب حاكما في الجرح والتعديل فيعتبر فيه صفات القاضي كما مر
وقوله وخبرة ومجرور بالعطف على قوله مع معرفته وجوز ابن الفركاح رفعه بالعطف على خبرة قوله وشرطه خبرة
( والأصح اشتراط لفظ شهادة ) من المزكى فيقول أشهد أنه عدل أو غير عدل لكذا كسائر الشهادات
والثاني لا يشترط لفظها بل يكفي أعلم وأتحقق وهو شاذ
( و ) الأصح ( أنه يكفي ) مع لفظ الشهادة قول المزكى ( هو عدل ) لأنه أثبت العدالة التي اقتضاها ظاهر قوله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وهذا ما نص عليه في حرملة
( وقيل ) ونص عليه في الأم والمختصر ( يزيد ) على ذلك قوله ( علي ولي ) لأن قوله هو عدل لا يمنع أن يكون عدلا في شيء دون شيء فهذه الزيادة تزيل الاحتمال وعلى الأول تأكيد
ولو شهد عند القاضي جماعة وأشكل عليه عدالتهم فأخبر نائب القاضي أن اثنين منهم عدلان فإن عينهما حكم وإلا فلا
( ويجب ذكر سبب الجرح ) صريحا كقوله هو زان أو قاذف أو سارق أو نحو ذلك أو يقول ما يعتقده من البدعة المنكرة لأن أسباب الجرح مختلف فيها فلا بد من البيان ليفعل القاضي باجتهاده ويكفي ذكر بعض أسباب
وقيل إن كان الجارح عالما بالأسباب اكتفي بإطلاقه وإلا فلا
____________________
(4/404)
تنبيه محل الخلاف في غير المنصوب للجرح والتعديل أما هو فليس للحاكم سؤاله عن السبب كما نقله الزركشي عن المطلب عن ابن الصباغ
وإنما لم يحتج في التعديل إلى بيان سبب العدالة لأن أسبابها كثيرة غير منحصرة
ولا يجعل الجارح بذكر الزنا قاذفا وإن انفرد لأنه مسئول في حقه فرض كفاية أو عين بخلاف شهود الزنا إذا نقصوا عن الأربعة فإنهم قذفة لأنهم مندوبون إلى الستر فهم مقصرون
ولو قال الشاهد أنا مجروح قبل وإن لم يبين السبب كما قاله الهروي
وإنما يكون الجرح والتعديل عند القاضي أو من يعينه القاضي لذلك
( ويعتمد ) الجارح ( فيه ) أي الجرح ( المعاينة ) كأن رآه يزني أو السماع كما ذكره في المحرر كما إذا سمعه يقذف إنسانا أو يقر على نفسه بذلك ( أو الاستفاضة ) عنه بين الناس بما يجرحه أو التواتر كما فهم بالأولى وكذا شهادة عدلين مثلا بشرطه لحصول العلم أو الظن بذلك
وفي اشتراط ذكر ما يعتمده من معاينة ونحوها وجهان أحدهما وهو الأظهر نعم فعلى هذا لا بد أن يقول رأيته يزني أو سمعته يقذف أو نحو ذلك
وثانيهما وهو الأقيس لا
ذكره في الروضة وأصلها ويحكى هذا عن ابن أبي هريرة وهو الظاهر في سائر الشهادات
تنبيه إذا لم يقبل الجرح يفيد التوقف عن الاحتجاج بالمجروح إلى أن يبحث عن ذلك الجرح ذكره ابن الصلاح والمصنف في الرواية
قال ابن النقيب ولا فرق بين الرواية والشهادة فيما يظهر
( ويقدم ) الجرح أي بينته ( على ) بينة ( التعديل ) سواء أكانت بينة الجارح أكثر أم لا لزيادة علمها فإن بينة التعديل ثبت أمرها على ما ظهر من الأسباب الدالة على العدالة وخفي عليها ما اطلع عليه بينة الجارح من السبب التي جرحته به كما لو قامت بينة بالحق وبينة بالإبراء
( فإن قال المعدل ) بكسر الدال بخطه ( عرفت سبب الجرح وتاب منه وأصلح قدم ) قوله على قول الجارح لأن معه حينئذ زيادة علم بجريان التوبة وصلاح الحال بعد وجود السبب الذي اعتمده الجارح
تنبيه هذه المسألة إحدى مسألتين تقدم فيهما بينة التعديل على الجرح
والثانية لو جرح ببلد ثم انتقل لآخر فعدله اثنان قدم التعديل كما قاله صاحب البيان عن الأصحاب قال في الذخائر ولا يشترط اختلاف البلدين بل لو كانا في بلد واختلف الزمان فكذلك اه
وحاصل الأمر تقديم البينة التي معها زيادة علم من جرح أو تعديل
ولو عدل الشاهد في واقعة ثم شهد في أخرى وطال بينهما زمن استبعده القاضي باجتهاده طلب تعديله ثانيا لأن طول الزمن يغير الأحوال بخلاف ما إذا لم يطل
ولو عدل في مال قليل هل يعمل بذلك التعديل المذكور في شهادته بالمال الكثير بناء على أن العدالة لا تتجزأ أو لا بناء على أنها تتجزأ وجهان قال ابن أبي الدم المشهور من المذهب الأول فمن قبل في درهم قبل في الألف نقله عن الأذرعي وأقره
ولو عدل الشاهد عند القاضي في غير محل ولايته لم يعمل بشهادته إذا عاد إلى محل ولايته إذ ليس هذا قضاء بعلم بل ببينة فهو كما لو سمع البينة خارج ولايته
( والأصح أنه لا يكفي في التعديل قول ) الخصم ( المدعى عليه ) وهو عارف بالتعديل أهل للإقرار بالحق المدعى به ( هو ) أي الشاهد ( عدل وقد غلط ) على في شهادته بل لا بد من البحث والتعديل لأن الاستزكاء حق لله تعالى ولهذا لا يجوز الحكم بشهادة فاسق وإن رضي الخصم
تنبيه كلامه يقتضي أن مقابل الأصح الاكتفاء بذلك في التعديل ولا قائل به وإنما مقابله الاكتفاء به في الحكم على المدعى عليه بذلك لأن الحق له وقد اعترف بعدالته
قال البلقيني وقوله وقد غلط لا يحتاج إليه بل اعترافه بعدالته يقتضي جريان الوجهين وإن لم يقل غلط
خاتمة تقبل شهادة الحسبة في الجرح والتعديل كما سيأتي لأن البحث عن حال الشهود ومنع الحكم بشهادة الفاسق حق لله تعالى
ويسن للقاضي قبل التزكية أن يفرق شهودا أرباب تهم أو توهم غلطهم لخفة عقل وجدها فيهم ويسأل كلا منهم عن زمان محل الشهادة عاما وشهرا ويوما أو غدوة أو عشية وعمن كتب شهادته معه وأنه كتب
____________________
(4/405)
بحبر أو مداد ونحو ذلك ليستدل على صدقهم إن اتفقت كلمتهم وإلا فيقف عن الحكم
وإذا أجابه أحدهم لم يدعه يرجع إلى الباقين حتى يسألهم لئلا يخبرهم بجوابه فإن امتنعوا من التفصيل ورأى أن يعظهم ويحذرهم عقوبة شهادة الزور وعظهم وحذرهم
فإن أصروا على شهادتهم ولم يفصلوا وجب عليه القضاء إذا وجدت شروطه ولا عبرة بما يبقى من ريبة
وإنما استحب له ذلك قبل التزكية لا بعدها لأنه إن اطلع على عورة استغنى عن الاستزكاء والبحث عن حالهم وإن لم يرتب فيهم ولا توهم غلطهم فلا يفرقهم وإن طلب منه الخصم تفريقهم لأن فيه غضا منهم
انتهى
باب القضاء على الغائب عن البلد أو عن المجلس وتوارى أو تعزز مع ما يذكر معه
والدعوى على الغائب إما من صاحب الحق أو وكيله كما سيأتي
وبدأ المصنف بالأول فقال ( هو جائز ) بشرطه الآتي لعموم الأدلة ولقول عمر في خطبته من كان له على الأسيفع بالفاء المكسورة مال فليأتنا غدا فإنا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه وكان غائبا
ولقوله صلى الله عليه وسلم لهند خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف وهو قضاء منه على زوجها ولو كان فتوى لقال لك أن تأخذي أو لا بأس عليك أو نحوه ولم يقل خذي لأن المفتى لا يقطع فلما قطع كان حكما
كذا استدلوا به وقال المصنف في شرح مسلم لا يصح الاستدلال به لأن أبا سفيان كان حاضرا بمكة فإن الواقعة كانت بمكة لما حضرت هند المبايعة
وذكر الرافعي في النفقات ما يدل على أن ذلك كان استفتاء قال ابن شهبة وهو الذي يظهر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحلفها ولم يقدر المحكوم به لها ولم تجر دعوى على ما شرطوه اه
ويحتمل أن تكون الواقعة وقعت مرتين
وصح عن عمر رضي الله عنه أنه حكم في امرأة المفقود أنها تتربص أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا وقال ابن حزم صح عن عثمان القضاء على الغائب
ولا مخالف لهما من الصحابة ولأن البينة مسموعة بالاتفاق على الغائب فليجب الحكم بها كالبينة المسموعة على الحاضر الساكت
وأيضا فالحكم على الميت والصغير جائز وهما أعجز عن الدفع من الغائب ولأن في المنع منه إضاعة للحقوق التي ندب الحكام إلى حفظها فإنه لا يعجز الممتنع من الوفاء عن الغيبة
وألحق القاضي حسين بالغائب ما إذا أحضره المجلس فهرب قبل أن يسمع الحاكم البينة أو بعده وقبل الحكم فإنه يحكم عليه قطعا
وإنما يسمع الدعوى ويقضي بها على الغائب ( إن ) بين المدعي ما المدعي به وقدره ونوعه ووصفه وقال إني طالب بحقي و ( كان ) للمدعي ( بينة ) ولو شاهدا ويمينا فيما يقضي فيه بهما لأن الدعوى لقصد ثبوت الحق وطريقه محصورة في إقرار أو يمين مردودة أو بينة والأولان مفقودان عند غيبة المدعى عليه
تنبيه كلامه يوهم جواز الدعوى على الغائب وإن لم يكن عليه بينة وليس مرادا فكان الأولى أن يعتبر ذلك في صحة الدعوى كما قدرته في كلامه وإن نازع البلقيني في اشتراط البينة في صحة سماع الدعوى وقال الدعوى صحيحة بدونه ولكن لا يحكم القاضي إلا أن يستند قضاؤه إلى الحجة المعتبرة
ولو عبر المصنف بالحجة بدل البينة ليشمل علم القاضي بالواقعة إذا سوغنا الحكم لكان أولى
وقوله ( وادعى المدعي ) على الغائب ( جحوده ) أي الحق المدعى به شرط لصحة الدعوى وسماع البينة على الغائب
ولا يكلف البينة بالجحود بالاتفاق كما حكاه الإمام ثم استشكله بأنه إن كان يدعي جحوده في الحال فهو محال لأنه لا يعلم حاله وإن كان يدعي جحوده لما كان حاضرا فالقضاء في الحال لا يرتبط بجحود ماض اه
وقد يجاب بأن الأصل استمرار الجحود
تنبيه يقوم مقام الجحود ما في معناه كما لو اشترى عينا وخرجت مستحقة فادعى الثمن على البائع الغائب فلا
____________________
(4/406)
خلاف أنها تسمع وإن لم يذكر الجحود وإقدامه على البيع كاف في الدلالة على جحوده قاله الإمام و الغزالي
( فإن قال هو ) أي الغائب ( مقر ) وأنا أقيم البينة استظهارا لمخالفة أن يبكر لغت دعواه و ( لم تسمع بينته ) لتصريحه بالمنافي لسماعها لأنها لا تقام على مقر
تنبيه هذا إن أراد بإقامتها أن يكتب القاضي بذلك لحاكم بلد الغائب فلو كان للغائب مال حاضر وأقام البينة على دينه ليوفيه القاضي حقه سمعت وإن قال هو مقركما في الروضة وأصلها عن فتاوى القفال
وزاد البلقيني على هذه الصورة صورا أخر
أحدها لو قال هو مقر ولكنه ممتنع سمعت بينته وحكم بها
ثانيها إذا كانت بينته شاهدة بالإقرار فإنه يقول عند مطابقة دعواه بينته أقر فلان بكذا أولى به بينة قال فإن قيل لم لم يقل هو مقر الآن بخلاف صورة القفال قلنا قوله أقر يقتضي دوام الإقرار لأن الأصل بقاء الإقرار لكنه ضمني ويغتفر في الضمنى ما لا يغتفر في الاستقلال
ثالثها لو كان الغائب لا يقبل إقراره لسفه ونحوه فلا يمنع قوله هو مقر من سماع بينة المدعي وكذا المفلس يقر بدين معاملة بعد الحجر فإنه لا يقبل في حق الغرماء فلا يضر قول المدعي في غيبته إنه مقر لأن إقراره لا يؤثر وكذا لو قال هذه الدار لزيد بل لعمرو فادعاها عمرو في غيبته ليقيم بينته لا يضره قوله وهو مقر لأن إقراره غير مؤثر في العقد الذي وقعت به الدعوى
قال ويتصور نحو ذلك في الرهن والجناية ولم أر من تعرض لذلك
( وإن أطلق ) المدعي بأن لم يتعرض لجحود الغائب ولا لإقراره ( فالأصح أنها ) أي بينته ( تسمع ) لأنه قد لا يعلم جحوده في غيبته ويحتاج إلى إثبات حقه فيجعل غيبته كسكوته
والثاني لا تسمع لأن البينة إنما يحتاج إليها عند الجحود
( و ) الأصح ( أنه لا يلزم القاضي مسخر ) بفتح الخاء المعجمة ( ينكر على الغائب ) عند الدعوى عليه قال في أصل الروضة لأنه قد يكون مقرا فيكون إنكار المسخر كذبا قال ومقتضى هذا التوجيه أنه لا يجوز نصبه لكن الذي ذكره العبادي وغيره أن القاضي مخير بين النصب وعدمه انتهى
فقول ابن المقري إن نصبه مستحب قال شيخنا قد يتوقف فيه
والثاني يلزمه لتكون البينة على إنكار منكر
( ويجب ) على القاضي ( أن يحلفه ) أي المدعي يمين الاستظهار ( بعد ) إقامة ( البينة ) أي وتعديلها وقبل توفية الحق ( أن الحق ) الذي لي على الغائب ( ثابت في ذمته ) إلى الآن وأنه يجب تسليمه إلي كما في الروضة وأصلها احتياطا للمحكوم عليه لأنه لو حضر ربما ادعى ما يبرئه منه هذا أقل ما يكفي والأكمل على ما ذكره في أصل الروضة أنه ما أبرأه من الدين الذي يدعيه ولا من شيء منه ولا اعتاض ولا استوفى ولا أحال عليه هو ولا أحد من جهته بل هو ثابت في ذمة المدعى عليه يلزمه أداؤه
ثم قال ويجوز أن يقتصر فيحلفه على ثبوت المال في ذمته ووجوب تسليمه اه
وإنما اعتبر ذكر لزوم تسليمه لأنه قد يكون ثابتا في ذمته ولا يلزمه تسليمه لتأجيل ونحوه
( وقيل يستحب ) تحليفه لأنه يمكنه التدارك إن كان له دافع
تنبيه محل وجوب التحليف إذا لم يكن للغائب وكيل حاضر وإلا لم يحتج إلى ضم اليمين إلى البينة كما قاله ابن الرفعة
( ويجريان ) هذان الوجهان ( في دعوى على صبي أو مجنون ) أو ميت بلا وارث خاص والأصح الوجوب لعجزهم عن التدارك فإن كان للميت وارث خاص اعتبر في الحلف طلب الوارث لأن الحق له في التركة ومثله ما لو كان للصبي أو المجنون نائب خاص وبه صرح صاحب المهذب والتهذيب وغيرهما كما نقله الزركشي وأقره
تنبيه قد علم من ذلك أنه لا تنافي بين ما ذكر هنا وما ذكر في كتاب دعوى الدم والقسامة من أن شرط المدعى عليه أن يكون مكلفا ملتزما للأحكام فلا تصح الدعوى على صبي ومجنون لأن محل ذلك عند حضور وليهما فتكون الدعوى على الولي أما عند غيبته فالدعوى عليهما كالدعوى على الغائب فلا تسمع إلا أن يكون هناك بينة
____________________
(4/407)
ويحتاج معها إلى اليمين ولا يشترط في يمين الاستظهار التعرض لصدق الشهود بخلاف اليمين مع الشاهد لكمال الحجة هنا كما صرح به في أصل الروضة
وأفهم قول المصنف أن يحلفه بعد البينة أنه لا ينفذ الحكم عليه قبل التحليف وهو مقتضى كلام الأصحاب
وأفهم اقتصاره في الحال الصبي والمجنون بالغائب في الحلف أن المدعي على المتوارى أو المتعزز لا يحلف بعد البينة وسيأتي الكلام عليه في الفصل الآتي
فروع لو قدم الغائب أو كمل الناقض فهو على حجته من قادح في البينة أو معارضة بينته بالأداء أو الإبراء شرط ذلك في الحكم أم لا
ولو ادعى قيم لموليه شيئا وأقام بينة على قيم شخص آخر فمقتضى كلام الشيخين أنه يجب انتظار كمال المدعى له ليحلف ثم يحكم له وإن خالفهما السبكي وقال الوجه أنه يحكم له ولا ينتظر كماله لأنه قد يترتب على الانتظار ضياع الحق
ولا تسمع الدعوى والبينة على الغائب بإسقاط حق له لأن الدعوى بذلك والبينة لا تسمع إلا بعد المطالبة بالحق قال ابن الصلاح وطريقه في ذلك أن يدعي على إنسان أن رب الدين أحاله به فيعترف المدعى عليه بالدين لربه وبالحوالة ويدعي أنه برأه منه أو أقبضه فتسمع الدعوى بذلك والبينة وإن كان رب الدين حاضرا بالبلد
( ولو ادعى وكيل ) عن غائب بحق ( على غائب ) عن البلد وأقام البينة وقلنا كما سبق بوجوب التحليف بعدها ( فلا تحليف ) على الوكيل بل يحكم بالبينة ويعطي المال المدعى به وإن كان للمدعى عليه هناك مال لأن الوكيل لا يحلف يمين الاستظهار بحال لأن الشخص لا يستحق بيمين غيره ولو وقفنا الأمر إلى أن يحضر الموكل لأنجز الأمر إلى تعذر استيفاء الحقوق بالوكالة
وأفهم كلام الروض كأصله أنه لا يعطيه إن لم يكن هناك مال والمتجه كما قال التاج السبكي خلافه إن كان المال في محل عمله وقد يحمل قوله هناك على محل ولايته فيزول الإشكال
ثم أشار المصنف لمسألة مستأنفة ليست من هذا الباب ولا تعلق لها بما قبلها وإن أوهم كلامه خلافه فقال ( ولو حضر ) أي كان ( المدعى عليه ) حاضرا فادعى عليه وكيل شخص غائب بحق ( و ) أقام البينة عليه ثم ( قال لوكيل المدعي أبرأني موكلك ) الغائب عما ادعيته على ( أمر ) المدعى عليه ( بالتسليم ) للحق المدعى به للوكيل ولا يؤخر الحق إلى حضور الموكل الغائب لأنه يؤدي إلى تعذر استيفاء الحقوق بالوكلاء
ويمن ثبوت الإبراء بعد ذلك إن كان له حجة
وكذا لو ادعى قيم الصبي دينا للصبي فقال المدعى عليه إنه أتلف علي من جنس ما يدعيه ما هو قضاء لدينه لم ينفعه في تأخير قضاء ما أثبته القيم بل يقتضيه في الحال وإذا بلغ الصبي عاقلا حلفه على نفي ما ادعاه من الإتلاف
فإن قيل هذا يشكل على ما مر من أن مقتضى كلام الشيخين أنه يجب انتظار كمال المدعى له
أجيب بأن صورة المسألة هنا أن قيم الصبي ادعى دينا له على حاضر رشيد اعترف به ولكن ادعى وجود مسقط صدر من الصبي وهو إتلافه فلا يؤخر الاستيفاء لليمين المتوجهة على الصبي بعد بلوغه وما مر فيما إذا أقام قيم الطفل بينة وقلنا بوجوب التحليف فينظر لأن البينة على الطفل ومن في معناه من غائب ومجنون لا يعمل بها حتى يحلف مقيمها على المسقطات التي يتصور دعواها من الغائب ومن في معناه فلم تتم الحجة التي يعمل بها فإنه لا يعمل بالبينة وحدها بل لا بد من البينة واليمين
تنبيه لو سأل المدعى عليه تحليف الوكيل الذي ادعى عليه أنه لم يعلم أن موكله أبرأه من الحق أجيب إليه قاله الشيخ أبو حامد وغيره
فإن قيل هذا يخالف ما سبق من أن الوكيل لا يحلف
أجيب بأنه لا يلزم من تحليفه هنا تحليفه ثم لأن تحليفه هنا إنما جاء من جهة دعوى صحيحة يقتضي اعترافه بها سقوط مطالبته لخروجه باعترافه فيها عن الوكالة في الخصومة بخلاف يمين الاستظهار فإن حاصلها أن المال ثابت في ذمة الغائب أو الميت وهذا لا يتأتى من الوكيل وفي معنى الإبراء دعوى علمه بالوفاء ونحوه
فروع لو قال شخص لآخر أنت وكيل فلان الغائب ولي عليه كذا وادعى عليك وأقيم به بينة فأنكر الوكالة أو قال لا أعلم إني وكيل لم تقم عليه بينة بأنه وكيله لأن الوكالة حق له فكيف تقام بينة بها قبل دعواه
وإذا علم أنه
____________________
(4/408)
وكيل وأراد أن لا يخصم فليعزل نفسه وإن لم يعلم ذلك فينبغي أن يقول لا أعلم أني وكيل ولا يقول لست بوكيل فيكون مكذبا لبينة قد تقوم عليه بالوكالة
( وإذا ثبت ) عند حاكم ( مال على غائب ) وحكم به عليه ( وله مال ) حاضر وطلبه المدعى ( قضاء الحاكم منه ) لأنه حق وجب عليه وتعذر وفاؤه من جهة من عليه فقام الحاكم مقامه كما لو كان حاضرا فامتنع
تنبيه قضية كلامه أنه يقضيه ولا يطالب بكفيل وهو الأصح لأن الأصل عدم الدفع
( وإلا ) بأن لم يكن الغائب مال حاضر ( فإن سأل المدعي إنهاء الحال ) من سماع بينة أو شاهد ويمين بعد ثبوت عدالة الشاهد أو سأل إنهاء حكم ( إلى قاضي بلد الغائب أجابه ) لذلك إن علم مكان الغائب مسارعة إلى قضاء الحقوق ( فينهي ) إليه ( سماع بينة ليحكم بها ثم يستوفي المال ) ويكتب في صفة إنهائها سمعت بينة عادلة قامت عندي بأن لفلان على فلان كذا فأحكم بها
وهو مشروط ببعد المسافة كما سيأتي
( و ) ينهي إليه ( حكما ) إن حكم ( ليستوفي ) المال ويكتب في إنهاء الحكم قامت عندي بينة عادلة على فلان لفلان بكذا وحكمت له به فاستوفى حقه ولأن الحاجة قد تدعو لذلك فإن من له بينة في بلد وخصمه في بلد آخر لا يمكنه حملها إلى بلد الخصم ولا حمل الخصم إلى بلد البينة فيضيع الحق ولا يشترط في هذه الحالة بعد المسافة كما سيأتي
تنبيه اعلم أن لإنهاء الحال إلى قاضي بلد الغائب ثلاث درجات الأولى سماع البينة
والثانية قول الحاكم ثبت عندي وهي تستلزم الأولى بخلاف العكس
والثالثة الحكم بالحق وهو أرفع الدرجات وتستلزم ما قبلها وحينئذ فالذي يرتب عليه المكتوب إليه الحكم هو الثانية لا الأولى
قال ابن شهبة فإذا تعبير المصنف ليس بمحرر
وقوله إلى قاضي بلد الغائب يوهم أنه لا بد أن يكون المكتوب إليه معينا وليس مرادا بل يجوز أن يكتب إلى من يصل إليه من قضاة المسلمين فمن بلغه عمل به
ولو كتب لمعين فشهد الشاهدان عند غيره قبل شهادتهما وأمضاه اعتمادا على الشهادة
وقول المصنف سماع بينة ليحكم بها يوهم أنه لو سمع البينة ولم يعد لهم وفوض تعديلها إلى المكتوب إليه لا يجوز وليس مرادا ويوهم أنه لو ثبت الحق عنده بعلمه وكتب ليقضي له بموجب علمه على المدعى عليه أنه لا يجوز وبه صرح في العدة فقال لا يجوز وإن جوزنا القضاء بالعلم لأنه ما لم يحكم به هو كالشاهد والشهادة لا تتأدى بالكتابة
وفي أمالي السرخسي جوازه
ويقضي به المكتوب إليه إذا جوزنا القضاء بالعلم لأن إخباره عن علمه إخبار عن قيام الحجة فليكن كإخباره عن قيام البينة
قال الإسنوي وبما قاله في العدة جزم به صاحب البحر وجرى عليه ابن المقري وقال البلقيني الأصح المعتمد ما قاله السرخسي اه
وهذا هو مقتضى كلام أصل الروضة ولهذا قال شيخنا ما قاله المصنف يعني ابن المقري عكس ما اقتضاه كلام أصله ولعله سبق قلم
( والإنهاء أن يشهد عدلين بذلك ) أي بسماع البينة خاصة أو بالحكم باستيفاء الحق يؤديانه عند القاضي الآخر
ولو لم يشهدهما ولكن أنشأ الحكم بحضورهما فلهما أن يشهدا عليه وإن لم يشهدهما كما يعلم مما يأتي
( ويستحب ) مع الإشهاد ( كتاب به ) ولا يجب لأن الاعتماد على الشهادة وفائدة الكتاب ليذكر الشاهد الحال لأنه قد ينساه
( يذكر فيه ما يتميز به المحكوم عليه ) والمحكوم له من اسم كل منهما وكنيته وقبيلته وحليته وغير ذلك ليسهل التمييز ويذكر أسماء شهور الكتاب وتاريخه
تنبيه كان الأولى أن يقول ما يتميز به الغائب بدل المحكوم عليه ليتناول الثبوت المجرد عن الحكم
( ويختمه ) أي الكتاب ندبا حفظا للكتابة وإكراما للمكتوب إليه وختم الكتاب سنة متبعة كما قاله ابن بطال شارح البخاري روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان يرسل كتبه غير مختومة فامتنع بعضهم من قبولها إلا مختومة فاتخذ خاتما ونقش عليه محمد رسول الله
وإنما كانوا لا يقرؤون كتابا غير مختوم خوفا على كشف أسرارهم وإضاعة تدبيرهم
ويكون
____________________
(4/409)
الختم بعد قراءته على الشاهد بحضرته ويقول أشهدكما أني كتبت إلى فلان بما سمعتما ويضعان خطهما فيه
ولا يكفي أن يقول أشهد كما أن هذا خطي وأن ما فيه حكمي من غير قراءة
ويدفع للشاهدين نسخة أخرى بلا ختم ليطالعاها ويتذاكرا عند الحاجة
ومن صفة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم حضر عافانا الله وإياك فلان وادعى على فلان الغائب المقيم ببلدك بالشيء الفلاني وأقام عليه شاهدين هما فلان وفلان وقد عدلا عندي وحلفت المدعي وحكمت له بالمال فسألني أن أكتب إليك في ذلك فأجبته وأشهدت بالكتاب فلانا وفلانا
ويسن أن يكتب اسمه واسم المكتوب إليه في العنوان أيضا فإن لم يعلم بلد الغائب كتب الكتاب مطلقا إلى كل من يبلغه من قضاة المسلمين ثم من بلغه عمل به
ويشترط في شهود الكتاب والحكم ظهور عدالتهم عند القاضي المكتوب إليه ولا تثبت عدالتهم عنده بتعليل الكاتب إياهم في الأصح
وإذا حملا الكتاب إلى بلد الغائب أخرجاه إليه ليقف على ما فيه
( ويشهدان ) عند القاضي المكتوب إليه ( عليه ) أي على ما صدر من القاضي الكاتب من الحكم أو الثبوت المجرد عن الحكم ( إن أنكر ) الخصم المحصر للقاضي الحق المدعى به عليه
( ف ) إن اعترف به ألزمه القاضي توفيته و ( إن قال لست المسمى في ) هذا ( الكتاب ) أي المكتوب ( صدق بيمينه ) أنه ليس المسمى فيه لأنه أخبر بنفسه والأصل فراغ ذمته
ولا يكفي الحلف على نفي اللزوم كما في الشرح الصغير
نعم إن أجاب بلا يلزمني شيء وأراد الحلف عليه مكن
( وعلى المدعي بينة بأن هذا المكتوب اسمه ونسبه ) لأن الأصل عدم تسميته بهذا الاسم
وهذا إن لم يكن معروفا به وإلا فلا يفيد إنكاره وكذا إذا شهدوا على عينه أن القاضي الكاتب حكم عليه فيستوفى منه قال الزركشي وهذه البينة يكفي فيها العدالة الظاهر
ولا يبالغ في البحث والاستزكاء كما أشار إليه الرافعي في باب الشهادات
( فإن أقامها ) أي أقام المدعي البينة بأن المكتوب في الكتاب اسم المدعى عليه ونسبه ( فقال ) الغائب صحيح ما قامت به البينة لكن ( لست المحكوم عليه ) بهذا الحق ( لزمه الحكم ) بما قامت به البينة ولم يلتفت لقوله ( إن لم يكن هناك ) شخص آخر ( مشارك له في الاسم والصفات ) المذكورة لأن الظاهر أنه المحكوم عليه
( وإن كان ) هناك مشارك له فيما ذكر وقد مات بعد الحكم وقع الإشكال وإن مات قبله فإن لم يعاصره فلا إشكال وإن عاصره وكان حاضرا ( أحضر فإن اعترف ) المشارك له ( بالحق طولب ) به ( وترك الأول ) لبيان أن الغلط فيه
تنبيه هذا إذا صدقه المدعي وإلا فهي مسألة ما إذا كذب المقر له وقد سبقت في الإقرار كما قاله صاحب البيان
( وإلا ) بأن لم يعترف المشارك له بالحق ( بعث ) القاضي المكتوب إليه ( إلى ) القاضي ( الكاتب ليطلب من الشهود زيادة صفة تمييزه ) أي المشهود عليه ( ويكتبها ثانيا ) وينهيها لبلد الغائب فإن لم يجد زيادة على الصفات المكتوبة وقف الأمر حتى ينكشف بتمييز شهود الأصل بالإشارة إليه
تنبيه يعتبر مع المعاصرة إمكان المعاملة كما صرح به البندنيجي و الجرجاني وغيرهما
وقضية كلام المصنف الاقتصار على كتابة الصفة المميزة من غير حكم وهو كذلك وإن قال البلقيني لا بد من حكم مستأنف على الموصوف بالصفة الزائدة وإن لم يحتج لدعوى وحلف
( ولو حضر قاضي بلد الغائب ببلد الحاكم ) للمدعي الحاضر ( فشافهه بحكمه ) على الغائب ( ففي إفضائه ) أي تنفيذه ( إذا عاد إلى ) محل ( ولايته خلاف القضاء بعلمه ) وقد مر فيحكم
وخرج ببلد الحاكم ما لو اجتمعا في غير بلدهما وأخبره بحكمه فليس له إمضاؤه إذا عاد لمحل ولايته وبحكمه
____________________
(4/410)
ما لو شافهه بسماع البينة فقط فلا يقضي بها إذا عاد إلى محل ولايته جزما كما قاله الإمام و الغزالي
ولا يتخرج على القضاء بالعلم وهو قضية كلام الرافعي هنا والفرق أن قوله في محل ولايته حكمت بكذا يحصل للسامع به علم بالحكم لأنه صالح للإنشاء في تخريجه على القضاء بالعلم بخلاف سماع الشهادة فإن الإخبار به لا يحصل علما بوقوعه فتعين أن يسلك به مسلك الشهادة فاختص سماعها بمحل الولاية
( ولو ناداه ) وهما كائنان ( في طرفي ولايتهما ) أي قال قاضي بلد الحاضر وهو في طرف ولايته لقاضي بلد الغائب في طرف ولايته حكمت بكذا على فلان الذي ببلدك ( أمضاه ) أي نفذه لأنه أبلغ من الشهادة والكتابة في الاعتماد عليه
وكذا لو كان في البلد قاضيان وقال أحدهما للآخر إني حكمت بكذا فإنه يمضيه إذا أخبره به نائبه في البلد وعكسه
( وإن اقتصر ) القاضي الكاتب ( على سماع بينة ) بلا حكم ( كتب ) بها إلى بلد الغائب فيقول في كتابه له ( سمعت بينة على فلان ) ابن فلان ويصفه بما يميزه به بكذا وكذا ليتولى المكتوب إليه الحكم عليه
( ويسميها القاضي ) الكاتب حتما ويرفع في نسبها ( إن لم يعدلها ) ليبحث المكتوب إليه عن عدالتها وغيرها حتى يحكم بها ( وإلا ) بأن عدلها ( فالأصح جواز ترك التسمية ) للبينة ويأخذ القاضي المكتوب إليه اكتفاء بتعديل القاضي الكاتب لها من غير إعادة تعديلها كما قال الرافعي إنه القياس وصوبه المصنف كما يستغنى عن تسمية الشهود
والثاني المنع لأن الآخر إنما يقضي بقولهم
تنبيه لو أقام الخصم بينة بجرح الشهود قدمت على بينة التعديل وللمدعى عليه الاستمهال ثلاثة أيام ليقيم بينة الجرح وكذا لو قال أبرأني أو قضيت الحق واستمهل لقيام البينة فلو قال أمهلوني حتى أذهب إلى بلدهم وأجرحهم فإني لا أتمكن من جرحهم إلا هناك أو قال لي بينة هناك دافعة لم يمهل بل يؤخذ الحق منه فإن أثبت جرحا أو دفعا استرد
وجميع ما سبق حيث الحجة شاهدان فإذا كانت شاهدا ويمينا أو يمينا مردودة وجب بيانها فقد لا يكون ذلك حجة عند المنهي إليه
( والكتاب ) أو الإنهاء بدونه ( بالحكم يمضي مع قرب المسافة ) وبعدها كما في المحرر وغيره لفهمه بطريق الأولى
( و ) الكتاب ( بسماع البينة ) فقط ( لا يقبل على الصحيح إلا في مسافة قبول شهادة على شهادة ) وهي كما سيأتي ما فوق مسافة العدوى المعتبرة بأنها التي يرجع منها المبكر لموضعه ليلا لا المعتبرة بمسافة القصر على الصحيح
والثاني يقبل مع قرب المسافة أيضا
وفارق على الأول الإنهاء بالحكم لأن الحكم قد تم ولم يبق إلا الاستيفاء بخلاف سماع الحجة إذ يسهل اختصارها مع القرب والعبرة في المسافة بما بين القاضيين لا بما بين القاضي المنهي والغريم
فصل في بيان الدعوى بعين غائبة أو غيرها وسماع البينة والحكم بها إذا ( ادعى ) عند قاض ( عينا غائبة عن البلد ) سواء أكانت في محل ولايته أم لا ( يؤمن اشتباهها ) بغيرها ( كعقار وعبد وفرس معروفات ) بالشهرة
تنبيه لو عبر كالمحرر والروضة بمعروفين بتغليب العاقل على غيره كان أولى ولكنه غلب غير العاقل الأكثر على العاقل الأقل
وجواب الشرط المقدر قوله ( سمع ) القاضي ( ببينته وحكم بها وكتب ) بذلك ( إلى قاضي بلد المال ليسلمه ) أي المدعى به ( للمدعي ) بعد ثبوت ذلك عنده كما في نظيره من الدعوى على الغائب
ولا فرق في مسائل الفصل بين حضور المدعى عليه وغيبته وإنما أدخله المصنف في الباب نظرا لغيبة المحكوم به ولا بين كون المدعى به في محل ولاية القاضي أو خارجا عنها كما أن قضاءه ينفذ على الخارج عن محل ولايته إذا قامت البينة بنسبه وصفته
____________________
(4/411)
قال الإمام وعلى هذا قال العلماء بحقائق القضاء قاضي قرية ينفذ قضاؤه على بقاع الدنيا في دائرة الآفاق ويقضي على أهل الدنيا
( ويعتمد ) المدعي ( في ) دعوى ( العقار ) الذي لم يشتهر ( حدوده ) الأربعة ليتميز
تنبيه محل ذكر حدوده كلها إذا لم يعلم بأقل منها وإلا اكتفى بما يعلم به منها كما يؤخذ مما أفتى به القفال وغيره
ويجب ذكر البقعة والسكة وهل هو في أولها أو آخرها أو وسطها وغير ذلك مما يتميز به العقار
ولا يجب ذكر القيمة لحصول التمييز بدونها
هذا كله إذا توقف التعريف على الحدود فلو حصل التعريف باسم وضع لها لا يشاركها فيه غيرها كدار الندوة بمكة كفى كما جزم به الماوردي في الدعاوى
وإن ادعى أشجارا في بستان ذكر حدوده التي لا يتميز بدونها وعدد الأشجار ومحلها من البستان وما تتميز به عن غيرها والضابط التمييز
( أو ) كان المدعى به عينا غائبة عن البلد ( لا يؤمن ) اشتباهها كغير المعروف من العبيد والدواب وغيرها ( فالأظهر سماع البينة ) على صفتها مع غيبتها وهي غائبة اعتمادا على الصفات لأن الصفة تميزها عن غيرها والحاجة داعية إلى إقامة الحجة عليها كالعقار
والثاني المنع لأن الصفات تتشابه
( و ) على الأظهر ( يبالغ المدعي في ) استقصاء ( الوصف ) للمدعى به المثلي قدر ما يمكنه ( ويذكر القيمة ) في المتقوم وجوبا فيهما ويندب أن يذكر فيه المثلي وأن يبالغ في وصف المتقوم
تنبيه ما قررت به كلام المصنف هو ما في الروضة وأصلها هنا وما ذكره كالروضة وأصلها في الدعاوى من وجوب وصف العين بصفة السلم دون قيمتها مثلية كانت أو متقومة هو في عين حاضرة بالبلد يمكن إحضار مجلس الحكم
وبذلك اندفع قول بعضهم إن كلامهما هنا يخالف ما في الدعاوى وقال البلقيني مع اعتماده ما في الدعاوى كلام المتن في غير النقد أما هو فيعتبر فيه ذكر الجنس والنوع والصحة والتكسير
( و ) الأظهر ( أنه ) إذا سمع بينة الصفة ( لا يحكم بها ) لأن الحكم مع خطر الاشتباه والجهالة بعيد والحاجة تندفع بسماع البينة والمكاتبة بها
تنبيه هذا معطوف على الأظهر كما قدرته في كلامه أي إذا قلنا بسماع البينة ففي الحكم بها قولان أظهرهما لا يحكم بها لما مر والثاني يحكم ولا نظر إلى خطر الاشتباه
ثم فرع المصنف على الأظهر فقال ( بل يكتب إلى قاضي بلد المال بما شهدت ) تلك البينة ( به فيأخذه ) أي ينزع القاضي المكتوب إليه المدعى به من يد المدعى عليه إذا وجده بالصفة التي تضمنها الكتاب ( ويبعثه إلى ) القاضي ( الكاتب ليشهدوا ) أي الشهود أولا ( على عينه ) أي المدعى به ليحصل اليقين
تنبيه ظاهر كلامه كالمحرر تفريع هذه المسألة على عدم الحكم بسماع بينة الصفة لكن الذي في الروضة أنه يكتب بما جرى عنده من مجرد قيام البينة أو مع الحكم إن جوزناه في طريقه قولان
( والأظهر أنه ) أي المكتوب إليه ( يسلمه إلى المدعي ) بعد أن يحلفه كما قال الزركشي إن المال هو الذي شهد به شهوده عند القاضي
ويجب أن يكون التسليم ( بكفيل ببدنه ) أي المدعى احتياطا للمدعى عليه حتى إذا لم تعينه البينة طولب برده
وقيل لا يكفله ببدنه بل يكفله بقيمة المال
ويسن أن يختم على العين حين تسليمها بختم لازم لئلا تبدل بما يقع به اللبس على الشهود فإن كان رقيقا جعل في عنقه قلادة وختم عليها وأخذ الكفيل واجب
والختم مستحب والمقصود من الختم أن لا تبدل المأخوذة فإن كانت الدعوى بأمة تحرم خلوة المدعى بها بعثها مع أمين في الرفقة كما استحسنه الرافعي وقال في الروضة إنه الصحيح أو الصواب لتقوم البينة بعينها
تنبيه محل مما ذكره من البعث حيث لم يبد الخصم دافعا فإن أبداه بأن أظهر عينا أخرى مشاركة في الاسم والصفة المذكورة فكما مر في المحكوم عليه
( فإن ) ذهب الشهود إلى القاضي الكاتب و ( شهدوا ) عنده ( بعينه ) أي المدعى به حكم به للمدعي وسلمه إليه و ( كتب ) إلى قاضي بلد المال ( ببراءة الكفيل ) ولا يحتاج
____________________
(4/412)
إلى إرساله مرة ثانية
( وإلا ) بأن لم يشهدوا على عينه ( فعلى المدعي مؤنة الرد ) للمدعى به والإحضار له إلى مكانه لتعديه ولهذا كان مضمونا عليه كما حكاه ابن الرفعة عن البندنيجي
وعليه أيضا أجرته لمدة الحيلولة إن كانت له منفعة كما قاله العراقيون لأنه عطل منفعته على صاحبه بغير حق
( أو ) كان المدعى به عينا ( غائبة عن المجلس ) للحكم ( لا ) عن ( البلد أمر ) بضم أوله أي أمر القاضي الخصم أو من العين في يده ( بإحضار ما يمكن ) أي يسهل ( إحضاره ليشهدوا بعينه ) أي عليها لنيسر ذلك والفرق بينه وبين الغائب عن البلد بعد المسافة وكثرة المشقة
أما ما لا يمكن إحضاره كالعقار فيحده المدعي ويقيم البينة بتلك الحدود
فإن قال الشهود نعرف العقار بعينه لا نعرف الحدود بعث القاضي من يسمع البينة على عينه أو يحضر بنفسه فإن كان المشار إليه بالحدود المذكورة في الدعوى حكم وإلا فلا
هذا إذا لم يكن العقار مشهورا بالبلد وإلا لم يحتج إلى تحديده كما مر في العين الغائبة عن البلد
وأما ما يعسر إحضاره كالشيء الثقيل أو ما أثبت في الأرض أو ركز في الجدار وأورث قلعه ضررا فكالعقار فلو عبر المصنف بتيسر إحضاره دون الإمكان كان أولى ليشمل ما ذكر
ويستثنى من إطلاقه وجوب الإحضار ما لو كانت العين مشهودة للناس فإنه لم يحتج إلى إحضارها وكذا إذا عرفها القاضي وحكم بعلمه بناء على جواز حكمه بعلمه
تنبيه قضية قوله غائبة عن المجلس لا البلد أن الغائبة عن البلد لا يؤمر بإحضارها وإن قربت وليس مرادا بل الغائبة عن البلد بموضع يجب الأعداء إليه كالتي في البلد لاشتراك الحالين في إيجاب الحضور كما نبه على ذلك في المطلب
( ولا تسمع شهادة بصفة ) لعين غائبة عن مجلس الحكم وإن سمعت الدعوى بها لأنه إنما جاز السماع حال غيبتها عن البلد للحاجة وهي منتفية هنا كما لا تسمع في غيبة المدعى عليه عن المجلس لا البلد بل إن كان الخصم حاضرا أمر بإحضارها ليقيم البينة على عينها إن أقر باشتمال يده عليها وحيث امتنعت الشهادة بالوصف امتنع الحكم
تنبيه ما جزم به من عدم السماع بالصفة ذكره في الروضة ثم قال بعد ذلك ولو شهدوا أنه غصب عبدا بصفة كذا فمات العبد استحق بتلك الشهادة قيمته على تلك الصفة
وهذا ما عزاه الرافعي لصاحب العدة قال ابن شهبة وهو مخالف لكلامهما الأول
( وإذا وجب إحضار ) الشيء المدعى ولا بينة لدعيه ( فقال ) المدعى عليه ( ليس بيدي عين بهذه الصفة صدق بيمينه ) على حسب جوابه لأن الأصل عدم عين تحت يده بهذه الصفة
( ثم ) بعد حلفه يجوز ( للمدعي دعوى القيمة ) لاحتمال أنها هلكت
تنبيه ظاهر كلامه أنه يدعي القيمة مطلقا وليس مرادا بل إنما يدعي القيمة فيما إذا كانت متقومة فإن كانت مثلية ادعى المثل لأنه يضمن به
( فإن نكل ) المدعى عليه عن اليمين ( فحلف المدعي أو ) لم ينكل بل ( أقام ) المدعي ( بينة ) حين إنكاره بأن العين الموصوفة كانت بيده ( كلف الإحضار ) للمدعى به ليشهد الشهود على عينه كما سبق
( و ) إن امتنع ولم يبد عذرا ( حبس عليه ) أي الإحضار لأنه امتنع من حق واجب عليه
( ولا يطلق ) من الحبس ( إلا بإحضاره ) المدعى به لأنه عين ما حبس عليه
( أو دعوى تلف ) له فيصدق بيمينه وإن ناقض قوله الأول للضرورة لأنه قد يكون صادقا ولأنا لو لم نقبل قوله لخلد عليه الحبس
تنبيه هذا إذا أطلق دعوى التلف أو أسندها إلى جهة خفية كسرقة أما لو أسندها إلى سبب ظاهر فالوجه كما قاله الأذرعي تكليفه البينة على وجود السبب كما مر في الوديعة ثم يصدق في دعوى التلف به بيمينه ثم ما ذكره المصنف فيمن جزم بالدعوى
( و ) حينئذ ( لو شك المدعي ) على من غصب عينا منه أي تردد بأن تساوى عنده
____________________
(4/413)
الطرفان أو رجح أحدهما ( هل تلفت العين ) المدعى بها ( فيدعي قيمة ) عينها إن كانت متقومة أو مثلا إن كانت مثلية
( أم لا فيدعيها ) أي العين نفسها ( فقال ) في صفة دعواه ( غصب مني ) فلان ( كذا فإن بقي لزمه رده ) إلي ( وإلا فقيمته ) إن كان متقوما أو مثله إن كان مثليا يلزمه ( سمعت دعواه ) مع التردد للحاجة
ثم إن أقر بشيء فذاك وإن أنكر حلف أنه لا يلزمه رد العين ولا بد لها
فإن نكل فهل يحلف المدعي على التردد أو يشترط التعيين وجهان أوجههما كما قال شيخنا الأول
( وقيل لا ) تسمع دعواه على التردد ( بل يدعيها ) أي العين ( ويحلفه ) عليها ( ثم ) بعد حلفه ( يدعي القيمة ) أو المثل ويحلفه على ذلك ( ويجريان ) أي هذان الوجهان ( فيمن دفع ثوبا لدلال ليبيعه ) فطالبه به ( فجحده ) الدلال ( وشك ) الدافع ( هل باعه ) الدلال ( فيطلب ) منه الثمن ( أم أتلفه فقيمته ) يطلبها ( أم هو باق فيطلبه ) منه فعلى الأصح السابق يدعي على الدلال رد الثوب أو ثمنه إن باعه أو قيمه إن أتلفه ويحلف الخصم يمينا واحدة أنه لا يلزمه تسلم الثوب ولا ثمنه ولا قيمته
وعلى الثاني يدعي العين في دعوى والثمن في أخرى والقيمة في أخرى فإذا نكل المدعى عليه حلف ثلاثة أيمان فإن نكل حلف المدعي على التردد على الأوجه كما مر
قال البلقيني وقد يكون الدلال باعه ولم يسلمه ولم يقبض الثمن والدعوى المذكورة ليست جامعة لذلك والقاضي إنما يسمع الدعوى المترددة حيث اقتضت الإلزام على كل وجه فلو أتى ببقية الاحتمالات لم يسمعها الحاكم فإن فيها ما لا إلزام به قال ولم أر من تعرض لذلك
وإذا حضر الغائب عن المجلس ( حيث أوجبنا ) على المدعى عليه ( الإحضار ) للمدعى به فأحضره ( فثبت للمدعي استقرت مؤنته ) أي الإحضار ( على المدعى عليه ) لتعديه ( وإلا ) بأن لم يثبت للمدعى ( فهي ) أي مؤنة الإحضار ( ومؤنة الرد ) للمال إلى محله ( على المدعي ) لتعديه قال الزركشي ولا أجرة عليه لمدة الحيلولة بخلافه في الغائب عن البلد كما مر
تنبيه لو تلف المال في الطريق بانهدام دار ونحوه قال في المطلب لم يضمنه المدعي بلا خلاف
فصل في ضابط الغائب المحكوم عليه وبيان غيبته المشترطة في الحكم عليه وما يذكر معه ( الغائب الذي تسمع البينة ) عليه ( ويحكم عليه ) بموجبها ( من ) هو كائن ( بمسافة بعيدة وهي التي لا يرجع منها مبكر إلى موضعه ) لذي بكر منه ( ليلا ) بعد فراغ المحاكم كما بينه البلقيني لما في إيجاب الحضور عليه من المشقة الحاصلة بمفارقة الأهل والوطن في الليل
قال البلقيني وتعبير المصنف غير مستقيم لأن قوله منها يعود على المسافة البعيدة والمسافة البعيدة ليست التي لا يرجع منها بل التي لا يصل إليها ليلا من يخرج بكرة من موضعه إلى بلد الحاكم
قال بعضهم ولو قال مبكر منها لاستقام وهو مراده
تنبيه قوله ليلا يريد أوائل الليل وهو القدر الذي ينتهي به سفر الناس غالبا
( وقيل ) هي ( مسافة قصر ) لأن الشارع اعتبرها في مواضع فما دونها في حكم الحاضر
( ومن بقريبة ) وهي دون البعيدة بوجهيها حكمة ( كحاضر ) في البلد ( فلا تسمع بينته ) عليه ( و ) لا ( يحكم ) عليه ( بغير حضوره إلا لتواريه أو تعززه ) وعجز
____________________
(4/414)
القاضي حينئذ عن إحضاره بنفسه وبأعوان السلطان فتسمع البينة عليه حينئذ ويحكم عليه بغير حضوره وبغير نصب وكيل ينكر عنه لتعذر الوصول إليه كالغائب وإلا اتخذ الناس ذريعة إلى إبطال الحق
وهل يحلف له المدعي يمين الاستظهار كالغائب أو لا لقدرته على الحضور وجهان صحح منهما البلقيني الأول لأن هذا احتياط للقضاء فلا يمنع منه ذلك وجزم صاحب العدة و الماوردي و الروياني بالثاني وهو أوجه كما صححه الأذرعي وغيره
تنبيه هذا كله إذا كان الخصم الخارج عن البلد في محل ولاية القاضي فإن كان خارجا عنها فالبعد والقرب على حد سواء فيجوز أن تسمع الدعوى عليه ويحكم ويكاتب كما قاله الماوردي وغيره
( والأظهر ) وعبر في الروضة بالمشهور ( جواز القضاء على غائب في ) عقوبة لآدمي نحو ( قصاص وحد قذف ) لأنه حق آدمى فأشبه المال ( ومنعه في حد لله تعالى ) أو تعزير له لأن حق الله تعالى مبني على المسامحة والدرء لاستغنائه تعالى بخلاف حق الآدمي فإنه مبني على التضييق لاحتياجه
والثاني المنع مطلقا لأن ذلك يسعى في دفعه ولا يوسع بابه
والثالث الجواز مطلقا كالأموال وما اجتمع فيه حق لله تعالى ولآدمي
( ولو سمع ) قاض ( بينة على غائب فقدم ) أو على صبي فبلغ عاقلا أو على مجنون فأفاق ( قبل الحكم ) في الجميع ( لم يستعدها ) أو لا يجب عليه أن يستعيدها بخلاف شهود الأصل إذا حضروا بعد شهادة شهود الفرع وقبل الحكم لا قضى بشهادتهم لأنهم بدل ولا حكم للبدل مع وجود الأصل
( بل يخبره ) أي من ذكر بالحال ( ويمكنه ) بعد ذلك من ( جرح ) فيها وما يمنع شهادتها عليه كعداوة ويمهل لذلك ثلاثة أيام
وأما بعد الحكم فهو على حجته بالأداء والإبراء والجرح يوم الشهادة لأنه إذا أطلق الجرح احتمل حدوثه بعد الحكم كما قالاه ولا معنى لاشتراطه يوم الشهادة بل لو جرحها قبلها ولم تمض مدة الاستبراء فكذلك فإن مضت لم يؤثر الجرح كما صرح به الماوردي
قال الأذرعي والظاهر أنه لا عبرة ببلوغ الصبي سفيها لدوام الحجر عليه كما لو بلغ مجنونا
( ولو عزل ) قاض ( بعد سماع بينة ثم ولي وجبت الاستعادة ) قطعا ولا يحكم بالسماع الأول لبطلانه بالعزل
تنبيه لو خرج عن محل ولايته ثم عاد فله الحكم بالسماع الأول على الصحيح لبقاء ولايته
ثم استطرد المصنف لذكر ما لا يختص بهذا الباب فقال ( وإذا استعدي ) بالبناء للمفعول من أعدى يعدي أي يزيل العدوان وهو الظلم كأشكاه أزال شكواه
( على ) خصم صالح لسماع الدعوى والجواب عنها ( حاضر بالبلد ) أي طلب من القاضي إحضاره ولم يعلم القاضي كذبه كما قاله الماوردي وغيره سواء عرف أن بينهما معاملة أم لا
( أحضره ) وجوبا إقامة لشعار الأحكام ولزمه الحضور رعاية لمراتب الحكام
وقال ابن أبي الدم إذا استحضره القاضي وجب عليه الإجابة لا أن يوكل أو يقضي الحق إلى الطالب اه
وهذا ظاهر
وعن ابن سريج أنه يحضر ذوي المروءات في داره لا في مجلس الحكم والمذهب أنه لا فرق
ويستثنى من وجوب الإحضار من وقعت الإجارة على عينة وكان يتعطل بحضوره مجلس الحكم حق المستأجر ذكره السبكي في التفليس من شرحه على المهذب وأخذه من قول الغزالي بعدم حبس من وقعت الإجارة على عينه وقال لا يعترض باتفاق الأصحاب على إحضاره البرزة وإن كانت متزوجة أو حبسها لأن الإجارة لها أمد ينتظر وهو انقضاء المدة بخلاف النكاح
وفي الزوائد عن العدة أن المستعدى عليه إذا كان من أهل الصيانة والمروءة وتوهم الحاكم أن المستعدي يقصد ابتذاله وأذاه لا يحضره ولكن ينفذ إليه من يسمع الدعوى تنزيلا لسيانته منزلة المخدرة
وجزم به سليم في التقريب ويوم الجمعة كغيره في إحضار الخصم لكن لا يحضر إذا صعد الخطيب المنبر حتى تفرغ الصلاة بخلاف اليهودي يوم السبت فإنه يحضره ويكسر عليه سبته
قال الزركشي ويقاس عليه
____________________
(4/415)
النصراني في الأحد أما إذا ادعاه الخصم إلى حاكم من غير رفع فقال الإمام لا يلزمه الحضور بل الواجب أداء الحق إن كان عليه
وفي الحاوي والمهذب والبيان الحضور مطلقا لظاهر قوله تعالى { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله } الآية
وحمل ابن أبي الدم الأول على ما إذا قال لي عليك كذا فاحضر معي إلى الحاكم فلا يلزمه الحضور وإنما عليه وفاء الدين والثاني على ما إذا قال بيني وبينك محاكمة ولم يعلمه بها ليخرج عنها فيلزمه الحضور اه
وكلام الإمام أظهر
ويحضر القاضي الخصم المطلوب إحضاره لمجلس الحكم ( بدفع ختم ) أي مختوم ( طين رطب أو غيره ) للمدعي بعرضه على الخصم وليكن نقش الختم أجب القاضي فلانا وكان هذا أولا عادة قضاء السلف ثم هجر واعتاد الناس الآن الكتابة في الكاغد وهو أولى
( أو ) أحضره إن لم يجب بما مر ( بمرتب لذلك ) من الأعوان بباب القاضي يسمون في زماننا بالرسل صيانة للحقوق ومؤنة العون على الطالب إن لم يرزق من بيت المال
تنبيه ظاهر كلامه التخيير بينهما وليس مرادا ولذا قدرت في كلامه إن لم يجب بما مر ففي تعليق الشيخ أبي حامد أنه يرسل الختم أولا فإن لم يحضر بعث إليه العون
قال البلقيني وفيه مصلحة لأن الطالب قد يتضرر بأخذ أجرته منه أي فإن أجرة العون عليه إن لم يرزق من بيت المال كما مر
نعم ينبغي كما قال شيخنا أن يكون مؤنة من أحضره عند امتناعه الحضور يبعث الختم على المطلوب أخذا مما يأتي وفي الحاوي للقاضي أن يجمع بين ختم الطين والمرتب إن أدى اجتهاده من إليه من قوة الخصم وضعفه
( فإن امتنع ) المطلوب من الحضور ( بلا عذر ) أو سوء أدب بكسر الختم ونحوه ولو بقول العون الثقة ( أحضره ) وجوبا ( بأعوان السلطان ) وعليه حينئذ مؤنتهم لامتناعهم
( وعزره ) بما يراه ممن ضرب أو حبس أو غيره
وله العفو عن تعزيره إن رآه فإن اختفى نودي بإذن القاضي على باب داره أنه إن لم يحضر إلى ثلاثة أيام سمر بابه أو ختم عليه فإن لم يحضر بعد الثلاث وطلب الختم سمره أو ختمه إجابة إليه إن تقرر عنده أنها داره ولا يرفع المسمار ولا الختم إلا بعد فراغ الحكم
والظاهر كما قال الأذرعي أن محل التسمير أو الختم إذا كان لا يأويها غيره وإلا فلا سبيل إلى ذلك ولا إلى إخراج من فيها
فإن عرف موضعه بعث إليه النساء ثم الصبيان ثم الخصيان يهاجمون الدار ويفتشون عليه ثم يبعث معهم عدلين كما قاله ابن القاص وغيره فإذا دخلوا الدار وقف الرجال في الصحن وأخذ غيرهم في التفتيش
قالوا ولا هجوم في الحدود إلا في حد قاطع الطريق
قال الماوردي وإذا تعذر حضور بعد هذه الأحوال حكم القاضي بالبينة
وهل يجعل امتناعه كالنكول في رده اليمين الأشبه نعم لكن لا يحكم عليه بذلك إلا بعد إعادة النداء على بابه ثانيا بأنه يحكم عليه بالنكول فإذا امتنع من الحضور بعد النداء الثاني حكم بنكوله
وإن امتنع من الحضور لعذر كخوف ظالم أو حبسه أو مرض بعث إليه نائبه ليحكم بينه وبين خصمه أو وكل المعذور من يخاصم عنه ويبعث القاضي إليه من يحلفه إن وجب تحليفه
قال في المهمات ويظهر أن هذا في غير معروف النسب
أو لم يكن عليه بينة وإلا سمع الدعوى والبينة وحكم عليه لأن المرض كالغيبة في سماع شهادة الفرع فكذا في الحكم عليه قال وقد صرح بذلك البغوي
( أو ) كان الاستعداء على ( غائب في غير ) محل ( ولايته ) أي القاضي ( فليس له إحضاره ) لأنه لا ولاية له عليه ولو استحضره لم يلزمه إجابته بل يسمع الدعوى والبينة ثم إن شاء أنهى السماع وإن شاء حكم بعد تحليف المدعي على ما سبق وإن كانت في مسافة قريبة كما مر عن الماوردي
( أو ) على غائب ( فيها ) أي في محل ولايته ( وله هناك نائب لم يحضره ) القاضي لما في إحضاره من المشقة مع وجود الحاكم هناك ( بل يسمع بينة ) عليه بذلك ( ويكتب ) بسماعها ( إليها ) أي نائبه ليحكم بها لإمكان الفصل بهذا الطريق فلا يكلف الحضور
____________________
(4/416)
تنبيه ظاهر كلامه كالروضة وأصلها أنه لا فرق بين أن يكون على مسافة قريبة أو بعيدة وليس مرادا بل محل ذلك إذا كان فوق مسافة العدوى لما مر أن الكتاب بسماع البينة لا يقبل في مسافة العدوى
( أو لا نائب ) له هناك ( فالأصح يحضره من مسافة العدوى فقط ) لكن بعد تحير الدعوى وصحة سماعها
( وهي التي يرجع منها مبكر ) إلى موضعه ( ليلا ) سميت بذلك لأن القاضي يعدي لمن طلب خصما منها لإحضار خصمه أي يقويه أو يعينه
والثاني إن كان دون مسافة القصر أحضره وإلا فلا لأن ما دون مسافة القصر حكم الحاضر في مسائل كثيرة
والثالث يحضره وإن بعدت المسافة وهذا ما اقتضى كلام الروضة وأصلها ترجيحه وعليه العراقيون ورجحه ابن المقري لأن عمر رضي الله عنه استدعى المغيرة بن شعبة في قضية من البصرة إلى المدينة ولئلا يتخذ السفر طريقا لإبطال الحقوق ومع هذا فالأوجه ما في المتن وليس في قضية عمر رضي الله تعالى عنه أنه أحضره بغير اختياره ولما في ذلك من المشقة في إحضاره ويبعث القاضي إلى بلد المطلوب
تنبيه محل إحضاره إذا لم يكن هناك نائب وما لم يكن هناك من يتوسط ويصلح بينهما فإن كان لم يحضره بل يكتب إليه أن يتوسط ويصلح بينهما
واشترط ابن الرفعة و ابن يونس فيه أهلية القضاء ولم يشترطه الشيخان
وقال الشيخ عماد الدين الحسباني يتجه أن يقال إن كانت القضية مما تنفصل بصلح فيكفي وجود متوسط مطاع يصلح بينهما وإن كانت لا تنفصل بصلح فلا بد من صالح للقضاء في تلك الواقعة ليفوض إليه الفصل بينهما بصلح أو غيره اه
وهذا لا بأس به
وقول المصنف ليلا يتناول أول الليل ووسطه وآخره
قال في المهمات وليس كذلك بل الضابط أن يرجع قبل الليل كذا ذكره الأصحاب وكا هو في أصل الروضة في النكاح في سوالب الولاية اه
ثم استثنى المصنف في المعنى من قولهم لا تسمع البينة على حاضر قوله ( و ) الأصح ( أن المخدرة ) الحاضرة ( لا تحضر ) للدعوى بضم أوله وفتح ثالثه مضارع أحضر أي لا تكلف الحضور للدعوى عليها صرفا للمشقة عنها كالمريض لأنه صلى الله عليه وسلم قال اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فلم يطلبها لكونها مخدرة ورجم الغامدية ظاهرا لكونها برزة
كذا استدل به ونظر فيه
ولا تكلف أيضا الحضور للتحليف إن لم يكن في اليمين تغليظ بالمكان فإن كان أحضرت على الأصح في الروضة في الباب الثالث من الدعاوى بل توكل أو يبعث القاضي إليها نائبه فتجيب من وراء الستر إن اعترف الخصم أنها هي أو شهد اثنان من محارمها أنها هي وإلا تلفعت بنحو ملحفة وخرجت من الستر إلى مجلس الحكم وعند الحلف تحلف في مكانها
( وهي ) أي المخدرة ( من لا يكثر خروجها لحاجات ) متكررة كشراء خبز وأقط وبيع غزل ونحوها بأن لم تخرج أصلا إلا لضرورة أو لم تخرج إلا قليلا لحاجة كزيارة وحمام وعزاء
والوجه الثاني أنها تحضر كغيرها وبه جزم القفال في فتاويه وغير المخدرة وهي البرزة بفتح الباء الموحدة يحضرها القاضي لكن يبعث إليها محرما لها أو نسوة ثقات لتخرج معهم بشرط أمن الطريق كما جرى عليه ابن المقري وصاحب الأنوار
تنبيه لو كانت بزرة ثم لزمت التخدر قال القاضي الحسين في فتاويه حكمها حكم الفاسق يتوب فلا بد من مضي سنة في قول أو ستة أشهر في قول اه
وفرق الأذرعي بين المخدرة برفعة بعلها وغيرها قال ابن شهبة وهو المتجه قال وليس للتخدير أصل في الشرع اه
ولو اختلفا في التخدير ففي فتاوى القاضي أن عليها البينة
وقال الماوردي و الروياني إن كانت من قوم الأغلب من حال نسائهم التخدير صدقت بيمينها وإلا صدق بيمينه أي حيث لا بينة لهما وهذا أولى
خاتمة في مسائل منثورة مهمة للقاضي أن يشهد في محل ولايته على كتاب حكم كتبه في غير محل ولايته وليس له أن يشهد في غير محل ولايته على كتاب حكم كتبه في محل ولايته والحكم كالإشهاد بخلاف الكتابة
____________________
(4/417)
لا بأس بها وقول المحكوم عليه الموكل في الخصومة كنت عزلت وكيلي قبل قيام البينة لا يبطل الحكم لأن القضاء على الغائب جائز بخلاف المحكوم له إذا قال ذلك يبطل الحكم لأن القضاء للغائب باطل
وليس لمن تحمل شهادة بكتاب حكمي أرسله به القاضي الكاتب إلى قاضي بلد الغائب وخرج به أن يتخلف في الطريق عن القاضي المقصود إلا إن أشهد على شهادته بأن أشهد على نفسه شاهدين يحضران بالكتاب ويشهدان به عند القاضي المقصود أو شهد به عند قاض فيضمنه ويكتب به للقاضي المقصود فإن لم يجد قاضيا ولا شهودا وطلب أجرة لخروجه إلى القاضي المقصود لم يعط غير النفقة وكراء الدابة بخلاف سؤاله الأجرة قبل الخروج من بلد القاضي الكاتب فيعطاها وإن زادت على ما ذكر فإنه لا يكلف الخروج والقناعة بذلك لأن القاضي يتمكن من إشهاد غيره وهنا التحمل مضطر إليه
وإن استوفى المكتوب إليه الحق من الخصم وسأله الخصم الإشهاد على المدعي بذلك لزمه إجابته ولا يلزمه أن يكتب له كتابا لأن الحاكم إنما يطالب بإلزام ما حكم به وثبت عنده ولا أن يعطيه الكتاب الذي ثبت به الحق كما لا يلزم من استوفى من غريمه ماله عليه بحجة أو من باع غيره شيئا له به حجة أن يعطيه الحجة لأنها غالبا تكون ملكه ولأنه قد يظهر استحقاقه فيحتاج إليها
وللقاضي إقراض مال للغائب من ثقة ليحفظه في الذمة وله بيع حيوانه لخوف هلاكه ونحوه كغصبه وله إجارته إن أمن عليه لأن المنافع تفوت بمضي الوقت
وإذا باع شيئا للمصلحة أو أجره بأجرة مثله ثم قدم الغائب فليس له الفسخ كالصبي إذا بلغ ولأن ما فعله القاضي كان بنيابة شرعية
ومال من لا ترجى معرفته للقاضي بيعه وصرف ثمنه في المصالح وله حفظه قال الأذرعي والأحوط في هذه الأعصار صرفه في المصالح لا حفظه لأنه يعرضه للنهب ومد أيدي الظلمة إليه
باب القسمة بكسر القاف وهي تمييز بعض الأنصباء من بعض
والقسام الذي يقسم الأشياء بين الناس قال لبيد فارض بما قسم المليك فإنما قسم المعيشة بيننا قسامها ووجه ذكرها في خلال القضاء أن القاضي لا يستغني عن القسامة للحاجة إلى قسمة المشتركات بل القاسم كالحاكم فحسن الكلام في القسمة مع الأقضية
والأصل فيها قبل الإجماع قوله تعالى { وإذا حضر القسمة } الآية وخبر الشفعة فيما لم يقسم و كان صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم بين أربابها رواهما الشيخان
والحاجة داعية إليها لتميكن كل واحد من الشركاء من التصرف في ملكه على الكمال ويتخلص من سوء المشاركة واختلاف الأيدي
( قد يقسم ) المشترك ( الشركاء ) بأنفسهم لأن الحق لهم ( أو ) يقسمه ( منصوبهم أي وكيلهم ( أو منصوب الإمام ) أو هو نفسه أو المحكم لحصول المقصود بكل من ذلك
تنبيه لو وكل بعضهم واحدا منهم أن يقسم عليه قال في الاستقصاء إن وكله على أن يفرز لكل منهم نصيبه لم يجز لأن على الوكيل أن يحتاط لموكله وفي هذا لا يمكنه لأنه يحتاط لنفسه وإن وكله على أن يكون نصيب الوكيل والموكل جزءا واحدا جاز لأنه يحتاط لنفسه ولموكله وإن وكل جميع الشركاء أحدهم أن يقسم عنهم ويرى فيما يأخذه بالقسمة لكل واحد منهم رأيه لم يجز ولا يجوز حتى يوكل كل واحد منهم وكيلا عن نفسه على الانفراد
( وشرط منصوبه ) أي الإمام ( ذكر حر عدل ) لأنه يلزم كالحاكم من حيث أن الحاكم ينظر في الحجة ويجتهد ثم يلزم بالحكم كذلك القسام أيضا مساحة وتقديرا ثم يلزم بالإفراز لأن ذلك ولاية ومن لا يتصف بما ذكر ليس من أهل الولايات
تنبيه اعتبر في المحرر التكليف وحذفه المصنف لدخوله في العدالة كدخول الإسلام فيها
ولو قال بدل عدل
____________________
(4/418)
تقبل شهادته لاستفيد منه اشتراط السمع والبصر والنطق والضبط إذ لا بد فيه من ذلك
( يعلم المساحة ) بكسر الميم من مسح الأرض ذرعها
وعلم المساحة يغني عن قوله ( والحساب ) لاستدعائها له من غير عكس
وإنما شرط علمهما لأنهما آلة القسمة كما أن الفقه آلة القضاء واعتبر الماوردي وغيره مع ذلك أن يكون عفيفا عن الطمع واقتضاه كلام الأم
وهل يشترط فيه معرفة التقويم أو لا وجهان أوجههما الثاني كما جرى عليه ابن المقري وقال الإسنوي جزم باستحبابه القاضيان البندنيجي و أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم وحينئذ فإن لم يكن عارفا رجع إلى إخبار عدلين عند الحاجة إلى ذلك
واعتمد البلقيني الأول في قسمتي التعديل والرد دون قسمة الأجزاء
تنبيه أفهم قول المصنف منصوبه أنه لا يشترط ذلك في منصوب الشركاء وهو كذلك لأنه وكيل عنهم كما مر لكن يشترط فيه التكليف إلا أن يكون فيهم محجور عليه فتعتبر فيه العدالة أيضا ومحكمهم كمنصوب الإمام
( فإن كان فيها ) أي القسمة ( تقويم ) هو مصدر قوم السلعة قدر قيمتها ( وجب قاسمان ) لاشتراط العدد في المقوم لأن التقويم شهادة بالقيمة
( وإلا ) بأن لم يكن فيها تقويم ( فقاسم ) واحد في الأظهر
( وفي قول ) من طريق ( اثنان ) كالمقومين
ومأخذ الوجهين أنه حاكم أو شاهد والراجح الأول لأن قسمته تلزم بنفس قوله ولأنه يستوفي الحقوق لأهلها
ورجح البلقيني الثاني وقال لم نجد نصا صريحا يخالفه
تنبيه محل الخلاف في منصوب الإمام فلو فوض الشركاء القسمة إلى واحد غيرهم بالتراضي جاز قطعا كما في أصل الروضة وظاهر كلام المصنف أنه يكفي واحد وإن كان فيها خرص وهو الأصح وإن قال الإمام القياس أنه لا بد من اثنين كالتقويم لأن الخارص يجتهد ويعمل باجتهاده فكان كالحاكم والمقوم يخبر بقيمة الشيء فهو كالشاهد
ولا يحتاج القاسم إلى لفظ الشهادة وإن وجب تعدده لأنها تستند إلى عمل محسوس
( وللإمام جعل القاسم حاكما في التقويم ) بأن يفوض له سماع البينة فيه وأن يحكم به ( فيعمل فيه بعدلين ) أي بقولهما ( ويقسم ) بنفسه
وللقاضي الحكم في التقويم بعلمه كما هو الأصح في أصل الروضة وإن اقتضى كلام المصنف خلافه
( ويجعل الإمام رزق منصوبه ) إن لم يتبرع ( من بيت المال ) وجوبا إذا كان فيه سعة كما هو مقتضى كلام الرافعي ويكون من سهم المصالح لأنه من المصالح العامة وحكى الماوردي عن علي رضي الله عنه فعل ذلك ولا يزاد على أجرة مثله كما صرح به الدارمي
( فإن لم يكن ) في بيت المال شيء أو كان مصرف أهم من ذلك أو لم يف ( فأجرته على الشركاء ) إن طلب القسمة جميعهم أو بعضهم لأن العمل لهم وقيل هي على الطالب وحده وليس للإمام حينئذ نصب قاسم معين بل يدع الناس يستأجرون من شاءوا لئلا يغالي المعين في الأجرة أو يواطئه بعضهم فيحيف كذا في أصل الروضة فيحتمل أنه حرام كما قاله القاضي حسين وأنه مكروه كما قاله الفوراني والأول أوجه
( فإن استأجروه وسمى كل ) منهم ( قدرا لزمه ) سواء تساووا فيه أم تفاضلوا وسواء كان مساويا بالأجرة مثل حصته أم لا وليستأجروا بعقد واحد كأن يقولوا استأجرناك لتقسم بيننا كذا بدينار على فلان ودينارين على فلان أو يوكلوا من يعقد لهم كذلك
فلو انفرد كل منهم بعقد لإفراز نصيبه وترتبوا كما قالاه أو لم يترتبوا كما بحثه شيخنا صح إن رضي الباقون بل يصح أن يعقد أحدهم ويكون حينئذ أصيلا ووكيلا ولا حاجة حينئذ إلى عقد الباقين
فإن لم يرضوا لم يصح كما قاله ابن المقري وصاحب الأنوار وهو الظاهر لأن ذلك يقتضي التصرف في ملك غيره بغير إذنه
نعم لهم ذلك في قسمة الإجبار بأمر الحاكم وقيل يصح وإن لم يرض الباقون لأن كلا عقد لنفسه قال في الكفاية وبه جزم الماوردي وغيره وعليه نص الشافعي
( وإلا ) بأن سموا أجرة مطلقة في إجارة صحيحة أو فاسدة ( فالأجرة موزعة على ) قدر ( الحصص ) المأخوذة لأنها من مؤن الملك كنفقة المشترك
( وفي قول ) من طريق
____________________
(4/419)
حاكيه لقولين الأجرة موزعة ( على ) عدد ( الرؤوس ) لأن العمل في النصيب القليل كالعمل في الكثير
وهذه طريقة ذكرها المراوزة وطريقة العراقيين الجزم بالأول قال ابن الرفعة وهي أصح باتفاق الأصحاب وصححها في أصل الروضة إذ قد يكون له سهم من ألف سهم فلو ألزم نصف الأجرة لربما استوعب قيمة نصيبه وهذا مدفوع بالمنقول
واحترزنا بالمأخوذة عن الحصص الأصلية في قسمة التعديل فإن الأجرة ليست على قدرها بل على قدر المأخوذ قلة وكثرة لأن العمل في الكثير أكثر منه في القليل
هذا إن كانت الإجارة صحيحة وإلا فالموزع أجرة المثل
تنبيه تجب الأجرة في مال الصبي وإن لم يكن له في القسمة غبطة لأن الإجابة إليها واجبة والأجرة من المؤن التابعة لها
وعلى الولي طلب القسمة له حيث كان له فيها غبطة وإلا فلا يطلبها وإن طلبها الشريك أجيب وإن لم يكن للصبي فيها غبطة وكالصبي المجنون والمحجور عليه بسفه
ولو دعا الشركاء القاسم ولم يسموا له أجرة لم يستحق شيئا كما لو دفع شخص ثوبه لقصار ولم يسم له أجرة أو الحاكم فله أجرة المثل
ولو استأجر جماعة كاتبا لكتابة صك كانت الأجرة على قدر حصصهم كما جزم به الرافعي آخر الشفعة
( ثم ما ) أي المشترك الذي ( عظم الضرر في قسمته كجوهرة وثوب نفيسين وزوجي ) أي فردي ( خف ) ومصراعي باب ( إن طلب الشركاء كلهم قسمته لم يجبهم القاضي ) إليها جزما ويمنعهم منها إن بطلت منفعته بالكلية لأنه سفه
ونازع البلقيني في زوجي خف وقال لم أجد للرافعي شاهدا من نص الشافعي ولا سلفا في ذلك في الطريقين فإنه قد ينتفع بفردة الخف كأن يكون أقطع الرجل وبسط الكلام في ذلك
والأصحاب لا ينظرون إلى هذه الأشياء النادرة
( ولا يمنعهم إن قسموا بأنفسهم إن لم تبطل منفعته ) أي المقسوم بالكلية ( كسيف يكسر ) لإمكان الانتفاع مما صار إليه منه على حاله أو باتخاذه سكينا ونحو ذلك
ولا يجيبهم إلى ذلك على الأصح لما فيه من إضاعة المال
فإن قيل هذا مشكل لأنه إن لم يكن حراما لم يمتنع على القاضي ذلك وإن كان حراما فليس له التمكين منه
أجيب بأن إتلاف المال ممنوع منه ثم جوز لأحد الشريكين رخصة لسوء المشاركة
فإن قيل أيضا هذا مخالف لما ذكروه في البيع من أنه لا يصح بيع نصف معين من إناء وسيف ونحوهما وعللوه بأنه غير مقدور على تسليمه شرعا
أجيب بأن شرط بيع المعين أن لا يحصل هناك نقص بسبب تسليمه وهو لو باعه نصفا شائعا من ذلك جاز ثم لهم القسمة بعد ذلك لما مر فلا منافاة بين البابين
( وما يبطل ) بقسمته ( نفعه المقصود ) منه ( كحمام وطاحونة صغيرين ) طلب بعض الشركاء قسمة ما ذكر وامتنع بعضهم ( لإيجاب طالب قسمته ) جبرا ( في الأصح ) لما فيه من الضرر على الآخر وفي الحديث لا ضرر ولا ضرار في الإسلام رواه مالك وغيره
والثاني يجاب لأجل ضرر الشركة
تنبيه في لفظ صغيرين تغليب الأول المذكر فإن لفظ الحمام مذكر على الثاني المؤنث فإن الطاحونة وهي الرحى كما في الصحاح مؤنثة
( فإن أمكن جعله ) أي ما ذكر ( حمامين ) أو طاحونتين ( أجيب ) طالب قسمة ذلك وأجبر الممتنع وإن احتيج إلى إحداث بئر أو مستوقد وتيسر لانتفاء الضرر مع تيسر تدارك ما احتيج إليه من ذلك بأمر قريب
قال الأذرعي وإنما تيسر ذلك إذا كان ما يلي ذلك مملوكا له أو مواتا فلو كان ما يليه وقفا أو شارعا أو ملكا لمن لا يسمح ببيع شيء منه فلا وحينئذ يجزم بنفي الإجبار
ويعلم من هذا أن المراد بقوله المقصود أن ينتفع به من الوجه الذي كان ينتفع به قبلها ولو بإحداث مرافق
فإن قيل لو باع دارا لا ممر لها مع إمكان تحصيله ببيع أو إجارة لم يصح على الصحيح فهلا كانت القسمة كذلك أجيب بأن شرط المبيع أن يكون منتفعا به في الحال ولم
____________________
(4/420)
يمكن بخلاف القسمة
( ولو كان له ) مثلا ( عشر دار لا يصلح ) بمثناة تحتية أي العشر ( للسكنى والباقي لآخر ) يصلح لها ولو بضم ما يملكه بجواره ( فالأصح ) المنصوص ( إجبار صاحب العشر بطلب صاحبه ) لأن الطالب ينتفع بها وضرر صاحب العشر لا ينشأ من مجرد القسمة بل سببه قلة نصيبه
والثاني المنع لضرر شريكه
( دون عكسه ) وهو عدم إجبار صاحب الباقي بطلب صاحب العشر القسمة لأنه مضيع لماله متعنت
والثاني يجبر ليتميز ملكه
أما إذا صلح العشر ولو بالضم فيجبر بطلب صاحبه الآخر لعدم التعنت حينئذ
تنبيه لو كان نصف دار لخمسة ونصفها الآخر لواحد فطلب الآخر القسمة أجيب وحينئذ فلكل من الخمسة القسمة تبعا له وإن كان العشر الذي لكل منهم لا يصلح مسكنا له لأن في القسمة فائدة لبعض الشركاء
ولو بقي حق الخمسة مشاعا ثم طلب واحد منهم القسمة لم يجبر الباقون عليها لأنها تضر الجميع
وإن طلب أولا الخمسة نصيبهم مشاعا لو كانت الدار لعشرة فطلب خمسة منهم إفراز نصيبهم مشاعا أجيبوا لأنهم ينتفعون بنصيبهم كما كانوا ينتفعون به قبل القسمة ولم يعتبروا مطلق الانتفاع لعظم التفاوت بين أجناس المنافع
( وما لا يعظم ) في قسمته ( ضرر قسمته أنواع ) ثلاثة عند المراوزة قسمة أجزاء وقسمة تعديل وقسمة رد لأن المقسوم إما أن تتساوى الأنصباء فيه إلى إعطاء شيء غير المشترك من المتقاسمين أو لا الأول الرد والثاني التعديل ونوعان عند العراقيين قسمة رد وقسمة لا رد فيها وهذا هو ظاهر عبارة صاحب التنبيه
وقد بدأ المصنف الأول من الأقسام الثلاثة فقال ( أحدها ) القسمة ( بالأجزاء ) وتسمى قسمة المتشابهات وهي التي لا يحتاج فيها إلى رد شيء من بعضهم ولا إلى تقويم
( كمثلي ) من حب وغيره وتقدم حد المثلي في الغصب
قال الأذرعي وغيره وتشترط السلامة في الحبوب والنقود فإن الحب المعيب والنقد المغشوش معدودان من المتقومات
قال ابن شهبة وفيه نظر فقد ذكر الرافعي أنه إذا جوزنا المعاملة بالمغشوشة فهي مثلية والأصح جواز المعاملة بها اه
وهذا ظاهر
( و ) مثل ( دار متفقة الأبنية و ) مثل ( أرض مشتبهة الأجزاء ) وما في معناها والثياب الغليظة التي لا تنقص بالقطع ( فيجبر الممتنع ) عليها وإن كانت الأنصباء متفاوتة إذ لا ضرر عليها فيها ولينتفع الطالب بماله على الكمال ويتخلص من سوء المشاركة
تنبيه المراد باتفاق الأبنية في الدار كما قاله الإمام أن يكون في شرقي الدار صفة وبيت وكذلك في غربيها
( فتعدل السهام كيلا ) في المكيل ( ووزنا ) في الموزون ( وذرعا ) في المذروع كالأرض المتساوية أو عدا في المعدود
وقوله ( بعدد الأنصباء ) متعلق ب تعدل
هذا ( إن استوت ) تلك الأنصباء كما إذا كانت بين ثلاثة أثلاثا فتجعل ثلاثة أجزاء ثم يؤخذ ثلاث رقاع ( ويكتب ) مثلا هنا وفيما يأتي من بقية الأنواع ( في كل رقعة ) إما ( اسم شريك ) من الشركاء ( أو جزءا ) من الأجزاء ( مميزا ) عن البقية ( بحد أو جهة ) أو غير ذلك ( وتدرج ) الرقع ( في بنادق ) من نحو شمع أو طين ( مستوية ) وزنا وشكلا لئلا تسبق اليد لإخراج الكبيرة وفيه ترجيح لصاحبها
تنبيه ظاهر كلامه وجوب التسوية في البنادق وفيه تردد للجويني واختار الإمام أنه على الاحتياط لا الوجوب وجزم به الغزالي وهو الظاهر
ونقلا في باب العتق عن الصيدلاني أنه لا يجوز الإقراع بأشياء مختلفة كدواة وقلم وحصاة ثم قال وفيه وقفة إذ لا حيف في ذلك مع الجهل بالحال
وأيده الرافعي بكلام الشافعي والإمام وهذا هو الظاهر
( ثم يخرج ) ها أي الرقاع ( من لم يحضرها ) بعد أن تجعل في حجرة مثلا وفي الروضة وأصلها من لم يحضر الكتاب والأدراج فكان الأولى أن يقول هنا من لم يحضر هنالك كما عبر به في المحرر وصبي ونحوه كعجمي
____________________
(4/421)
أولى بذلك من غيره لأنه أبعد عن التهمة
( رقعة ) إما ( على الجزء الأول ) من تلك الأجزاء ( إن كتب الأسماء ) في الرقاع كزيد وبكر وخالد ( فيعطى من خرج اسمه ) في تلك الرقعة ويتعين حقه في ذلك ثم يخرج رقعة أخرى على الجزء الذي يليه فيعطى من خرج اسمه في الرقعة الثانية ويتعين الباقي للثالث إن كانوا ثلاثة
( أو ) يخرج من لم يحضرها رقعة ( على اسم زيد ) مثلا ( إن كتب الأجزاء ) في الرقاع أي أسماء الأجزاء فيخرج رقعة في المثال المذكور على اسم زيد ثم على اسم بكر ويتعين الجزء الثالث لخالد
وما ذكره لا يختص بقسمة الأجزاء بل يأتي في قسمة التعديل إذا عدلت الأجزاء بالقيمة
تنبيه الاعتبار في البداءة بواحد من الشركاء والأجزاء منوط بنظر القسام فيقف على أي طرف شاء ويسمي من شاء فإن المحكم في المستحق من الأجزاء القرعة فلا تهمة
( فإن اختلفت الأنصباء ) بين الشركاء ( كنصف وثلث سدس ) في أرض مثلا ( جزئت الأرض على أقل السهام ) وهو في هذا المثال السدس ( وقسمت ) أي الأرض ( كما سبق ) ومقتضى هذا أنه يخير بين كتبه أسماء الشركاء وكتبه الأجزاء لكن المصحح كتب أسماءهم دون كتبه الأجزاء
وهل ذلك واجب أو لا وجهان أصحهما الثاني
وبه يتبين سلوك كل من الطريقين وحينئذ فاقتضاء كلام المصنف صحيح
وإنما كان كتب الأسماء أولى لأنه لو كتب الأجزاء أو أخرج على الأسماء فربما خرج لصاحب السدس الجزء الثاني أو الخامس فيفرق ملك من له النصف أو الثلث
واحترز المصنف عن هذا بقوله ( ويحترز ) إذا كتب الأجزاء ( عن تفريق حصة واحد ) بأن لا يبدأ بصاحب السدس لأن التفريق إنما جاء من قبله بل بصاحب النصف فإن خرج له الأول أخذ الثلاثة ولاء وإن خرج له الثاني أخذه وما قبله وما بعده
قال الإسنوي وإعطاؤه ما قبله وما بعده تحكم فلم لا أعطي اثنان بعده ويتعين الأول لصاحب السدس والباقي لصاحب الثلث أو يقال لا يتعين هذا بل يتبع نظر القاسم اه
وهذا ظاهر
أو خرج له الثالث أخذه مع اللذين قبله ثم يخرج باسم الآخرين أو الرابع أخذه مع الذين قبله ويتعين الأول لصاحب السدس والأخيران لصاحب الثلث أو الخامس أخذه مع الذين قبله ويتعين السادس لصاحب السدس والأولان لصاحب الثلث
أو السادس أخذه مع الذين قبله
ثم بعد ذلك يخرج رقعة أخرى باسم أحد الآخرين ولا يخفى الحكم أو بصاحب الثلث فإن خرج له الأول أو الثاني أخذهما أو الخامس أو السادس فكذلك
ثم يخرج باسم أحد الآخرين فإن خرج له الثالث أخذه مع الثاني وتعين الأول لصاحب السدس والثلاثة الأخيرة لصاحب النصف
أو الرابع أخذه مع الخامس وتعين السادس لصاحب السدس والثلاثة الأول لصاحب النصف
هذا إذا كتب في ست رقاع ويجوز أن يقتصر على ست رقاع لكل واحد رقعة فيخرج رقعة على الجزء الأول فإن خرج الأول لصاحب السدس أخذه ثم إن خرج الثاني لصاحب الثلث أخذه وما يليه وتعين الباقي لصاحب النصف
وإن خرج الأول أولا لصاحب النصف أخذ الثلاثة الأول ثم إن خرج الرابع لصاحب الثلث أخذه والخامس وتعين الباقي لصاحب السدس
وإن خرج الرابع لصاحب السدس أخذه وتعين الباقي لصاحب الثلث وإن خرج الأول لصاحب الثلث لم يخف الحكم مما مر ولا يخرج السهام على الأسماء في هذا القسم بلا خلاف
قالا ولا فائدة في الطريقة الأولى زائدة على الطريقة الثانية إلا سرعة خروج اسم صاحب الأكثر وذلك لا يوجب حيفا لتساوي السهام لكن الطريقة الأولى هي المختارة لأن لصاحبي النصف والثلث مزية بكثرة الملك فكان لهما مزية بكثرة الرقاع
النوع ( الثاني ) القسمة ( بالتعديل ) بأن تعدل السهام بالقسمة وهو قسمان ما يعد فيه المقسوم شيئا واحدا وما يعد فيه شيئين فالأول ما أشار إليه بقوله ( كأرض تختلف قيمة أجزائها بحسب قوة إنبات وقرب ماء ) ونحو ذلك أو يختلف جنس ما فيها كبستان بعضه نخل وبعضه عنب ودار بعضها حجر
____________________
(4/422)
وبعضها لبن
فإذا كانت لاثنين نصفين وقيمة ثلثها في المثال الأول المشتمل على ما ذكر كقيمة ثلثيها الخالي عن ذلك جعل الثلث سهما والثلثان سهما وأقرع كما مر
ولو مثل المصنف بالبستان فهم منه ما مثل به بطريق الأولى
وإن اختلف الأنصباء كنصف وثلث وسدس جعلت ستة أسهم بالقيمة لا بالمساحة
( ويجبر الممتنع ) من الشركاء ( عليها في الأظهر ) إلحاقا للتساوي في القيمة بالتساوي في الإجزاء
والثاني المنع لاختلاف الأغراض والمنافع وعلى الأول أجرة القاسم بحسب المأخوذ كما مرت الإشارة إليه ولو أمكن قسمة الجيد وحده والرديء وحده لم يجبر على قسمة التعديل كأرضين يمكن قسمة كل منهما بالأجزاء
ثم أشار للقسم الثاني من قسمي التعديل وهو ما يعد فيه المقسوم شيئين فصاعدا بقوله ( ولو استوت قيمة دارين أو حانوتين ) مثلا لاثنين بالسوية ( فطلب ) كل من الشريكين ( جعل كل ) من الدارين أو الحانوتين ( لواحد ) بأن يجعل له دارا أو حانوتا ولشريكه كذلك ( فلا إجبار ) في ذلك سواء أتجاورا أم تباعدا لتفاوت الأغراض باختلاف المحال والأبنية
تنبيه يستثنى من الدارين ما إذا كانت الداران لهما بملك القرية المشتملة عليهما وشركتهما بالنصف وطلب أحدهما قسمة القرية واقتضت القسمة نصفين جعل كل دار نصيبا فإنه يجبر على ذلك وفي الحانوتين ما إذا اشتركا في دكاكين صغار متلاصقة لا تحتمل آحادها القسمة وتسمى العضائد فطلب أحدهما قسمة عيانها أجيب على الأصح في أصل الروضة وإن زالت الشركة بالقسمة وينزل ذلك منزلة الخان المشتمل على البيوت والمساكن
قال الجيلي ومحلهما إذا لم تنقص القيمة بالقسمة وإلا لم يجبر جزما
( أو ) استوت قيمة ( عبيد أو ثياب ) أو دواب أو أشجار أو غيرها من سائر العروض ( من نوع ) وأمكن التسوية ولو اختلف العدد ( أجبر ) الممتنع إن زالت الشركة بالقسمة كثلاثة أعبد بين اثنين قيمة أحدهم مائة والآخرين مائة وكثلاثة أعبد متساوية القيمة بين ثلاثة وذلك لعلة اختلاف الأغراض فيها
أما إذا بقيت الشركة في البعض كعبدين بين اثنين قيمة أحدهما نصف الآخر فطلب أحدهما القسمة ليختص من خرجت له قرعة الخسيس به ويبقى له ربع الآخر فإنه لا إجبار في ذلك على المذهب لأن الشركة لا ترتفع بالكلية
وهذه الصور استثناها من إطلاق كلام المصنف الزركشي والأولى عدم استثنائها فإن قول المصنف أو عبيد وثياب معطوف على دارين إذ تقديره أو استوت قيمة عبيد أو ثياب وحينئذ فلا استثناء
( أو ) من ( نوعين ) كعبدين تركي وهندي أو جنسين كما فهم بالأولى كعبد وثوب ( فلا ) إجبار في ذلك وإن اختلطا وتعذر التمييز كتمر جيد ورديء لتفاوت الأغراض بكل نوع وكل جنس وإنما يقسم مثل هذا بالتراضي
تنبيه يجبر الممتنع على قسمة علو وسفل من دار أمكن قسمتها لا على قسمة أحدهما فقط وعلى جعله لواحد والآخر لآخر واللبن بكسر الموحدة فإن استوت قوالبه فقسمته قسمة المتشابهات وإن اختلفت فالتعديل
النوع ( الثالث ) القسمة ( بالرد بأن ) يحتاج في القسمة إلى رد مال أجنبي كما اقتضاه كلام الرافعي كأن ( يكون في أحد الجانبين ) من أرض مشتركة ( بئر أو شجر لا يمكن قسمته ) وما في الجانب الآخر لا يعادل ذلك إلا بضم شيء إليه من خارج ( فيرد من يأخذه ) بالقسمة التي أخرجتها القرعة ( قسط قيمته ) أي ما ذكر من البئر أو الشجر مثاله قيمة كل جانب ألف وقيمة البئر أو الشجر ألف فاقتسما رد آخر ما في البئر أو الشجر خمسمائة
تنبيه تعبير المصنف أولى من تعبير المحرر والشرحين والروضة حيث قالوا إنه يضبط قيمة ما اختص به ذلك الطرف ثم يقسم الأرض على أن يرد من يأخذ ذلك الجانب تلك القيمة فإن ظاهر هذا التعبير أن يرد جميع تلك القيمة وليس مرادا وإنما يرد القسط
( ولا إجبار فيه ) أي نوع الرد لأن فيه تمليك ما لا شركة فيه فكان كغير المشترك
( وهو ) أي ما ذكر من قسمة الرد ( بيع ) على المشهور لوجود حقيقته وهو مقابلة المال بالمال وقيل
____________________
(4/423)
بيع في القدر المقابل بالمردود وفيما سواه الخلاف في قسمة التعديل
( وكذا التعديل ) بيع أيضا ( على المذهب ) لأن كل جزء مشترك بينهما وإنما دخلها الإجبار للحاجة كبيع الحاكم مال المديون جبرا
والطريق الثاني طرد القولين في قسمة الأجزاء
( وقسمة الأجزاء إفراز ) تبين إن ما خرج لكل من الشريكين مثلا هو الذي كان ملكه لا بيع ( في الأظهر ) لأنها لو كانت بيعا لما دخلها الإجبار ولما جاز الاعتماد فيها على القرعة
والثاني أنها بيع وصححه جمع من الأصحاب والروضة كأصلها في بابي الربا وزكاة المعشرات لأن ما من جزء من المال إلا وكان مشتركا بينهما فإذا اقتسما باع كل منهما ما كان له في حصة صاحبه بماله في حصته
تنبيه حيث قلنا القسمة ببيع ثبت فيها أحكامه من الخيارين والشفعة وغيرهما إلا أنه لا يفتقر إلى لفظ بيع أو تملك ويقوم الرضا مقامهما فيشترط في الربوي التقابض في المجلس وامتنعت في الرطب والعنب وما عقدت النار أجزاءه ونحو ذلك كما علم من باب الربا وإن قلنا إفراز جاز ذلك
ويقسم الرطب والعنب في الإفراز ولو كانت قسمتهما على الشجر خرصا لا غيرهما من سائر الثمار فلا يقسم على الشجر لأن الخرص لا يدخله وتقسم الأرض مزروعة وحدها ولو إجبارا سواء كان الزرع بعلا أم قصيلا أم حبا مشتدا لأنه في الأرض بمنزلة القماش في الدار بخلاف البناء والشجر لأن للزرع أمدا بخلافهما أو مع الزرع قصيلا بتراضي الشركاء لأن الزرع حينئذ معلوم مشاهد لا الزرع وحده ولا معها وهو بذر بعد أو بعد بدو صلاحه فلا يقسم وإن جعلناها إفرازا كما لو جعلناها بيعا لأنها في الأولى قسمة مجهول وفي الأخيرين على الأول قسمة مجهول ومعلوم وعلى الثاني بيع طعام وأرض بطعام وأرض
وتصح الإقالة في قسمة هي بيع لا إفراز وتصح القسمة في مملوك عن وقف إن قلنا هي إفراز لا إن قلنا هي بيع مطلقا أو إفراز وفيها رد من المالك لا تصح
أما في الأول فلامتناع بيع الوقف وأما في الثاني فلأن المالك يأخذ بإزاء ملكه جزءا من الوقف
فإن لم يكن فيها رد أو كان فيها رد من أرباب الوقف صحت ولغت على القولين قسمة وقف فقط بأن قسم بين أربابه لما فيه من تغيير شرط الواقف
قال البلقيني هذا إذا صدر الوقف من واحد على سبيل واحد فإن صدر من اثنين فقد جزم الماوردي بجواز القسمة كما تجوز قسمة الوقف مع الملك وذلك راجح من جهة المعنى وأفتيت به
قال شيخنا وكلامه متدافع فيما إذا صدر من واحد على سبيلين أو عكسه
والأقرب في الأول بمقتضى ما قاله الجواز وفي الثاني عدمه
( ويشترط في ) قسمة ( الرد الرضا ) في ابتداء القرعة جزما و ( بعد خروج القرعة ) على الصحيح في الروضة لأنها بيع والبيع لا يحصل بالقرعة فافتقر إلى التراضي بعد خروجها كقبله
وقيل يلزم بخروج القرعة ويلزم من خرج له الأكثر بدل ما يقابل الزائد كالقسمة المجبر عليها
وأجاب الأول بأن هذه القسمة اعتبر التراضي في ابتدائها بخلاف الإجبار
( ولو تراضيا ) أي الشريكان فأكثر ( بقسمة ما لا إجبار فيه اشترط الرضا بعد ) خروج ( القرعة في الأصح ) وصيغة الرضا ( رضينا بهذه القسمة ) أو بهذا ( أو بما أخرجته القرعة ) لأن الرضا أمر خفي فوجب أن يناط بأمر ظاهر يدل عليه
وأفهم كلامه الاكتفاء بذلك وأنه لا يشترط الإتيان بلفظ البيع أو التمليك وهو الأصح
تنبيه قال الشيخ برهان الدين الفزاري وتبعه في المهمات في كلام المصنف خلل من أوجه أحدها أن ما لا إجبار فيه هو قسمة الرد فقط
وقد ذكرها قبلها بلا فاصلة وجزم باشتراط الرضا فلزم التكرار مع جزمه أولا وحكاية الخلاف ثانيا
ثانيها أنه عبر بالأصح فاقتضى قوة الخلاف وفي الروضة عبر بالصحيح فاقتضى ضعف مقابله
ثالثها أنه عكس ما في المحرر فإنه لم يذكر فيه هذا الخلاف إلا في قسمة الإجبار فقال والقسمة التي يجبر عليها إذا جرت بالتراضي هل يعتبر تكرار الرضا بعد خروج القرعة فيها وجهان رجح منهما التكرار اه
وقال في التوشيح الذي يظهر أنه
____________________
(4/424)
أراد في المنهاج أن يكتب ما فيه إجبار فكتب ما لا إجبار فيه وأنا أرجو أن تكون عبارته ما الإجبار فيه بالألف واللام في الإجبار ثم سقطت الألف فقرئت ما لا إجبار فيه وبهذا يزول التكرار والتناقض والتعاكس اه
وقال الشارح اعترض قوله لا إجبار فيه بأن صوابه عكسه كما في المحرر القسمة التي يجبر عليها إذا جرت بالتراضي الخ ويجاب بأن المراد ما انتفى فيه الإجبار مما هو محله الذي هو قسمة التعديل والأجزاء وهو أصرح في المراد مما في المحرر اه
فقول الشارح وهو أي المراد لا عبارة المصنف وكونه أصرح لأنه مصرح فيه بالرضا وعدم الإجبار بخلاف عبارة المحرر وإن كان عدم الإجبار لازما لها لأن الصريح أصرح من اللازم
( ولو ثبت ببينة ) أو بإقرار الخصم وباليمين المردودة أو الشاهد ويمين ( غلط ) ولو غير فاحش ( أو ) ثبت ( حيف في قسمة إجبار نقضت ) تلك القسمة كما لو قامت ببينة على ظلم القاضي أو كذب الشهود
تنبيه لو عبر بدل البينة بالحجة لكان أعم ليشمل ما ذكر
( فإن لم تكن بينة ) ولا ثبت ذلك بغيرها مما مر ( وادعاه ) أي الغلط أو الحيف ( واحد ) من الشريكين فأكثر وبين قدر ما ادعاه ( فله تحليف شريكه ) لأن من ادعى على خصمه ما لو أقر به لنفعه فأنكر كان له تحليفه فإن حلف مضت على الصحة وإن نكل وحلف المدعي نقضت القسمة كما لو أقر سماع الدعوى على القاسم بذلك ولا يحلف كما لا يحلف الحاكم أنه لم يظلم فإن اعترف به القاسم وصدقوه نقضت القسمة فإن لم يصدقوه لم تنقض
ورد الأجرة كالقاضي يعترف بالغلط أو الحيف في الحكم أن صدقه المحكوم له رد المال المحكوم به إلى المحكوم عليه وإلا فلا وغرم القاضي للمحكوم عليه بدل ما حكم به
وقول القاسم في قسمة الإجبار حال ولايته قسمت كقول القاضي وهو في محل ولايته حكمت فيقبل وإلا لم يقبل بل لا تسمع شهادته لأحد الشريكين وإن لم يطلب أجرة إذا ذكر فعله
( ولو ادعاه ) أي الغلط أو الحيف ( في قسمة تراض ) بأن نصبا قاسما أو اقتسما بأنفسهما ورضيا بعد القسمة ( وقلنا هي ) أي قسمة التراضي ( بيع فالأصح أنه لا أثر للغلط ) وعلى هذا ( فلا فائدة لهذه الدعوى ) وإن تحقق الغبن لأنه رضي بترك الزيادة له فصار كما لو اشترى شيئا بغبن
والثاني لها أثر فتنقض لأنهما تراضيا لاعتقادهما أنها قسمة عدل فبان خلافه
تنبيه يستثنى من إطلاقه ما لو كان المقسوم ربويا وتحقق الغلط أو الحيف في كيل أو وزن فإن القسمة باطلة لا محالة للربا نبه عليه الأذرعي وغيره
( قلت ) كما قال الرافعي في الشرح ( وإن قلنا ) إن قسمة التراضي ( إفراز نقطت ) تلك القسمة بإدعاء الغلط فيها ( إن ثبت ) الغلط ببينة ( وإلا فيحلف شريكه والله أعلم ) وهذا الحكم يؤخذ من اقتصار المحرر على التفريع على الأصح فصرح به المصنف إيضاحا
( ولو استحق بعض المقسوم شائعا ) كالربع ( بطلت ) تلك القسمة ( فيه ) أي البعض المستحق ( وفي الباقي ) بعده ( خلاف تفريق الصفقة ) كما في الروضة ومقتضاه أن الأظهر الصحة وثبت الخيار
والثاني البطلان قال في المهمات وهذا ما صححه الأكثرون وهو المفتى به في المذهب وبسط ذلك
ومع هذا فالمعتمد ما اقتضاه كلام المصنف
( أو ) لم يستحق بعض المقسوم شائعا ( من النصيبين ) قدر ( معين ) حالة كونه ( سواء بقيت ) تلك القسمة في الباقي ( وإلا ) بأن كان المعين من أحد النصيبين أكثر من المعين من نصيب الآخر ( بطلت ) تلك القسمة لأن ما يبقى لكل واحد لا يكون قدر حقه بل يحتاج أحدهما إلى الرجوع على الآخر وتعود الإشاعة
____________________
(4/425)
تنبيه أراد ببطلانها ظاهرا وإلا فبالاستحقاق بان أن لا قسمة
واستثنى ابن عبد السلام ما لو وقع في الغنيمة عين لمسلم استولى الكفار عليها ولم يظهر أمرها إلا بعد القسمة بل يعوض من وقعت في نصيبه من خمس الخمس ولا تنقض القسمة ثم قال هذا إن كثر الجند فإن كانوا قليلا كعشرة فينبغي أن تنقض إذ لا عسر في إعادتها
خاتمة في مسائل منثورة مهمة تقسم المنافع بين الشريكين كما تقسم الأعيان مهايأة مياومة ومشاهرة ومسانهة وعلى أن يسكن أو يزرع هذا مكانا من المشترك وهذا مكانا آخر منه لكن لا إجبار في المنقسم وغيره من الأعيان التي طلبت قسمة منافعها فلا تقسم إلا بالتوافق لأن المهايأة تعجل حق أحدهما وتؤخر حق الآخر بخلاف قسمة الأعيان قال البلقيني وهذا في المنافع المملوكة بحق الملك في العين أما المملوكة بإجارة أو وصية فيجبر على قسمتها وإن لم تكن العين قابلة للقسمة إذ لا حق للشركة في العين فإن تراضيا بالمهايأة وتنازعا في البداءة بأحدهما أقرع بينهما ولكل منهما الرجوع عن المهايأة فإن رجع أحدهما عنها بعد استيفاء المدة أو بعضها لزم المستوفي للآخر نصف أجرة المثل لما استوفى كما إذا تلفت العين المستوفي أحدهما منفعتها فإن تنازعا في المهايأة وأصرا على ذلك أجرها القاضي عليهما ولا يبيعها عليهما لأنهما كاملان ولا حق لغيرهما فيها
ولا تجوز المهايأة في ثمر الشجر ليكون لهذا عاما ولهذا عاما ولا في لبن الشاة مثلا ليحلب هذا يوما وهذا يوما لأن ذلك ربوي مجهول وطريق من أراد ذلك أن يبيح كل منهما لصاحبه مدة واغتفر الجهل لضرورة الشركة مع تسامح الناس في ذلك
وليس للقاضي أن يجيب جماعة إلى قسمة شيء مشترك بينهم حتى يقيموا عنده بينة بملكهم سواء اتفقا على طلب القسمة أو تنازعوا فيه لأنه قد يكون في أيديهم بإجارة أو إعارة أو نحو ذلك فإذا قسمه بينهم فقد يدعون الملك محتجين بقسمة القاضي
ويقبل في إثبات الملك شاهد وامرأتان وكذا شاهد ويمين كما جزم به الدارمي واقتضاه كلام غيره وصوبه الزركشي وإن خالف فيه ابن المقري
ولا تصح قسمة الديون المشتركة في الذمم لأنها إما بيع دين بدين أو إفراز ما في الذمة وكلاهما ممتنع وإنما امتنع إفراز ما في الذمة لعدم قبضه وعلى هذا لو تراضيا على أن يكون ما في ذمة زيد لأحدهما وما في ذمة عمرو للآخر لم يختص أحد منهما بما قبضه
ولو تقاسم شريكان ثم تنازعا في بيت أو قطعة أرض وقال كل هذا من نصيبي ولا بينة تحالفا وفسخت القسمة وقال الشيخ أبو حامد يحلف ذو اليد ولمن أطلع على عيب في نصيبه أن ينفسخ
ولو تقاسما دارا وبابها في قسم أحدهما والآخر يستطرق إلى نصيبه من باب يفتحه إلى شارع فمنعه السلطان لم تنفسخ القسمة كما قاله ابن الأستاذ خلافا لابن الصلاح
ولا يقاسم الولي محجوره بنفسه ولو قلنا القسمة إفراز كما صرحوا به فيما إذا كان بين الصبي ووليه حنطة
كتاب الشهادات جمع شهادة مصدر شهد من الشهود بمعنى الحضور
قال الجوهري الشهادة خبر قاطع والشاهد حامل الشهادة ومؤديها لأنه مشاهد لما غاب عن غيره وقيل مأخوذ من الإعلام قال الله تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو }
أي أعلم وبين
والأصل فيه قبل الإجماع آيات لقوله تعالى { ولا تكتموا الشهادة } وقوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } وقوله تعالى { وأشهدوا إذا تبايعتم } 4 وهو أمر إرشاد لا وجوب
وأخبار كخبر الصحيحين ليس لك إلا شاهداك أو يمينه وخبره أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الشهادة فقال للسائل ترى الشمس قال نعم فقال على مثلها فاشهد أو دع رواه البيهقي والحاكم وصحح إسناده
وأما خبر أكرموا الشهود فإن الله تعالى يستخرج بهم الحقوق ويدفع بهم الظلم فضعيف كما قاله البيهقي وقال الذهبي في الميزان إنه حديث منكر
وأركانها خمسة شاهد ومشهود له ومشهود عليه ومشهود به وصيغة
وكلها تعلم مما يأتي مع ما يتعلق بها
فلا تقبل شهادة لكافر على مسلم ولا على كافر خلافا لأبي حنيفة في قبوله شهادة الكافر على الكافر ولأحمد في الوصية لقوله تعالى { وأشهدوا } وقد بدأ بالشرط الأول فقال
____________________
(4/426)
( شرط الشاهد ) أي شروطه ( مسلم ) ولو بالتبعي { ذوي عدل منكم } والكافر ليس بعدل وليس منا ولأنه أفسق الفساق ويكذب على الله تعالى فلا يؤمن الكذب منه على خلقه
( حر ) ولو بالدار فلا تقبل شهادة رقيق خلافا لأحمد ولو مبعضا أو مكاتبا لأن أداء الشهادة فيه معنى الولاية وهو مسلوب منها
( مكلف ) فلا تقبل شهادة مجنون بالإجماع ولا صبي لقوله تعالى { من رجالكم }
تنبيه كان الأولى أن يقول المصنف كما في المحرر والروضة وغيرها الإسلام والحرية والتكليف
( عدل ) فلا تقبل من فاسق لقوله تعالى { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا }
( ذو مروءة ) بالهمز بوزن سهولة وهي الاستقامة لأن من لا مروءة له لا حياء له ومن لا حياء له قال ما شاء لقوله صلى الله عليه وسلم إذا لم تستح فاصنع ما شئت وسيأتي تفسيرها
( غير متهم ) في شهادة لقوله تعالى { ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا } والريبة حاصلة بالتهم ولما روى الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تجوز شهادة ذي الظنة ولا ذي الحنة والظنة التهمة والحنة العداوة
تنبيه بقي على المصنف شروط لم يذكرها منها أن يكون ناطقا فلا تقبل شهادة الأخرس وإن فهمت إشارته
ومنها أن يكون يقظا كما قاله صاحب التنبيه و الجرجاني وغيرهما فلا تقبل شهادة مغفل
ومنها أن لا يكون محجورا عليه بسفه فلا تقبل شهادته كما نقله في أصل الروضة قبيل فصل التوبة عن الصيمري وجزم به الرافعي في كتاب الوصية
( وشرط ) تحقق ( العدالة ) وهي لغة التوسط و شرعا ( اجتناب الكبائر ) أي كل منها ( و ) اجتناب ( الإصرار على صغيرة ) من نوع أو أنواع
وفسر جماعة الكبيرة بأنها ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة
وقيل هي المعصية الموجبة للحد وذكر في أصل الروضة أنهم إلى ترجيح هذا أميل وأن الذي ذكرناه أولا هو الموافق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر اه
لأنهم عدوا الربا وأكل مال اليتيم وشهادة الزور ونحوها من الكبائر ولا حد فيها
وقال الإمام هي كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين اه
والمراد بها بقرينة التعاريف المذكورة غير الكبائر الاعتقادية التي هي البدع فإن الراجح قبول شهادة أهلها ما لم يكفرهم كما سيأتي بيانه
هذا ضبطها بالحد وأما بالعد فأشياء كثيرة قال ابن عباس هي إلى السبعين أقرب وقال سعيد بن جبير إنها إلى السبعمائة أقرب أي باعتبار أصناف أنواعها وما عدا ذلك من المعاصي فمن الصغائر ولا بأس بذكر شيء من النوعين فمن الأول تقديم الصلاة وتأخيرها عن أوقاتها بلا عذر ومنع الزكاة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ونسيان القرآن واليأس من رحمة الله وأمن مكر الله تعالى والقتل عمدا أو شبه عمد والفرار من الزحف وأكل الربا وأكل مال اليتيم والإفطار في رمضان من غير عذر وعقوق الوالدين والزنا واللواط وشهادة الزور وشرب الخمر وإن قل والسرقة والغصب وقيده جماعة بما يبلغ ربع مثقال كما يقطع به في السرقة وكتمان الشهادة بلا عذر وضرب المسلم بغير حق وقطع الرحم والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدا وسب الصحابة وأخذ الرشوة والنميمة وأما الغيبة فإن كانت في أهل العلم وحملة القرآن فهي كبيرة كما جرى عليه ابن المقري وإلا فصغيرة
ومن الصغائر النظر المحرم وكذب لا حد فيه ولا ضرر والإشراف على بيوت الناس وهجر المسلم فوق ثلاث وكثرة الخصومات إلا إن راعى حق الشرع فيها والضحك في الصلاة والنياحة وشق الجيب في المصيبة والتبختر في المشي والجلوس بين الفساق إيناسا لهم وإدخال مجانين وصبيان ونجاسة يغلب تنجيسهم واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب لغير حاجة
فبارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة من نوع أو أنواع تنتفي العدالة لا أن تغلب طاعاته معاصيه كما قاله الجمهور فلا تنتفي عدالته وإن اقتضت عبارة المصنف الانتفاء مطلقا
____________________
(4/427)
تنبيه عطف الإصرار على الكبائر من عطف الخاص على العام لأن الإصرار كبيرة على الأصح وقيل ليس بكبيرة كما أن الكبيرة لا تصير بالمواظبة كفرا
فائدة في البحر لو نوى العدل فعل كبيرة غدا كزنا لم يصر بذلك فاسقا بخلاف نية الكفر
( ويحرم اللعب ) بفتح اللام وكسر المهملة ( بالنرد على الصحيح ) لخبر من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله رواه أبو داود والحاكم على هذا صغيرة
( و ) الثاني يكره كما ( يكره بشطرنج ) وفرق الأول بأن الشطرنج وهو بكسر أوله وفتحه معجما ومهملا وضع لصحة الفكر والتدبير فهو يعين على تدبير الحروب والحساب والنرد موضوعه ما يخرجه الكعبان أي الحصى ونحوه كالأزلام
وأما اللعب بالطاب فأفتى السبكي بتحريمه لأن العمدة فيه على ما تخرجه الجرائد الأربع وقال غيره بالكراهة كالشطرنج
والأول هو الظاهر لقول الرافعي ويشبه أن يقال ما يعتمد فيه على إخراج الكعبين فكالنرد أو على الفكر فكالشطرنج
( فإن شرط فيه ) أي اللعب بالشطرنج ( مال من الجانبين ) على أن من غلب من اللاعبين فله على الآخر كذا ( فقمار ) فيحرم بالإجماع كما أشار إليه في الأم فترد به الشهادة
فإن شرط من جانب أحد اللاعبين فليس بقمار وهو مع ذلك حرام أيضا لكونه من باب تعاطي العقود الفاسدة ولا ترد به الشهادة لأنه خطأ بتأويله
وإن اقترن به فحش أو تأخير فريضة عن وقتها عمدا وكذا سهوا كلعب به وتكرر ذلك منه فحرام أيضا لما اقترن به ترد به الشهادة وكذا إذا لعب به مع معتقد التحريم كما رجحه السبكي وغيره
وأما الحزة وهي بفتح الحاء المهملة وبالزاي قطعة خشب يحفر فيها حفر في ثلاثة أسطر يجعل فيها حصى صغار ويلعب بها وتسمى المنقلة وقد تسمى الأربعة عشر
والفرق وهو بفتح القاف والراء ويقال بكسر القاف وإسكان الراء أن يخط في الأرض خط مربع ويجعل في وسطه خطان كالصليب ويجعل على رؤوس الخطوط حصى صغار تقلب بها ففيها وجهان أوجههما كما يقتضيه كلام الرافعي السابق الجواز وجرى ابن المقري على أنها كالنرد
ويجوز اللعب بالخاتم ويكره بالمراجيح وأطلق الشافعي رضي الله تعالى عنه كراهة اللعب بالحمام قال القاضي الحسين هذا حيث لم يسرق اللاعب طيور الناس فإن فعل حرم وبطلت شهادته
واتخاذ الحمام للفراخ والبيض والأنس بها وحمل البطائق على أجنحتها جائز بلا كراهة
ويحرم كما قال الحليمي التحريش بين الديوك والكلاب وترقيص القرود ونطاح الكباش والتفرج على هذه الأشياء المحرمة واللعب بالصور وجمع الناس عليها
( ويباح الحداء ) بل قال المصنف في مناسكه مندوب لأخبار صحيحة وردت به ولما فيه من تنشيط الإبل للسير وإيقاظ النائم
وهو بضم الحاء وبالمد بخطه وكذا في المحكم والصحاح ويجوز كسر الحاء ويقال فيه حدو أيضا وهو ما يقال خلف الإبل من رجز شعر وغيره ذكر في الإحياء عن أبي بكر الدينوري أنه كان في البادية فأضافه رجل فرأى عنده عبدا أسود مقيدا فسأله عنه فقال مولاه إنه ذو صوت طيب وكانت له عيس فحملها أحمالا ثقيلية وحدأها فقطعت مسيرة ثلاثة أيام في يوم فلما حطت أحمالها ماتت كلها
قال فشفعت فيه فشفعني ثم سألته أن يحدو لي فرفع صوته فسقطت لوجهي من طيب صوته حتى أشار إليه مولاه بالسكوت
( و ) يباح ( سماعه ) أيضا واستماعه لما روى النسائي في عمل اليوم والليلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن رواحة حرك بالقوم فاندفع يرتجزه
( ويكره الغناء ) وهو بالمد وقد يقصر وبكسر المعجمة رفع الصوت بالشعر لقوله تعالى { ومن الناس من يشتري لهو الحديث }
قال ابن مسعود هو والله الغناء رواه الحاكم ورواه البيهقي عن ابن عباس وجماعة من التابعين
هذا إذا كان ( بلا آلة ) من الملاهي المحرمة
( و ) يكره ( سماعه ) كذلك والمراد استماعه ولو عبر به كان أولى
أما مع الآلة فحرامان واستماعه بلا آلة من الأجنبية أشد كراهة فإن خيف من استماعه منها أو من أمرد فتنة فحرام قطعا
فائدة الغناء من الصوت ممدود ومن المال مقصور
____________________
(4/428)
تنبيه تحسين الصوت بالقراءة مسنون ولا بأس بالإدارة للقراءة بأن يقرأ بعض الجماعة قطعة ثم البعض قطعة بعدها ولا بأس بترديد الآية للتدبر ولا باجتماع الجماعة في القراءة ولا بقراءته بالألحان فإن أفرط في المد والإشباع حتى ولد حروفا من الحركات أو أسقط حروفا حرم ويفسق به القارىء ويأثم المستمع لأنه عدل به عن نهجه القويم كما نقله في الروضة عن الماوردي
ويسن ترتيل القراءة وتدبيرها والبكاء عندها واستماع شخص حسن الصوت والمدارسة وهي أن يقرأ على غيره ويقرأ غيره عليه وقد مرت الإشارة إلى بعض ذلك في باب الحدث
( ويحرم استعمال ) أو اتخاذ ( آلة من شعار الشربة ) جمع شارب وهم القوم المجتمعون على الشراب الحرام واستعمال الآلة هو الضرب بها ( كطنبور ) بضم الطاء ويقال الطنبار ( وعود وصنج ) وهو كما قال الجوهري صفر يضرب بعضها على بعض وتسمى الصفاقتين لأنهما من عادة المخنثين
( ومزمار عراقي ) بكسر الميم وهو ما يضرب به مع الأوتار
( و ) يحرم ( استماعها ) أي الآلة المذكورة لأنه يطرب ولقوله صلى الله عليه وسلم ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والمعازف قال الجوهري وغيره المعازف آلات اللهو ومن المعازف الرباب والجنك ( لا ) استعمال ( يراع ) وهو الشبابة سميت بذلك لخلو جوفها فلا تحرم ( في الأصح ) لأنه ينشط على السير في الأصح
( قلت الأصح تحريمه والله أعلم ) كما صححه البغوي وهو مقتضى كلام الجمهور وترجيح الأول تبع فيه الرافعي الغزالي ومال البلقيني وغيره إلى الأول لعدم ثبوت دليل معتبر بتحريمه وبحث جواز استماع المريض إذا شهد عدلان من أهل الطب بأن ذلك ينجع في مرضه
وحكى ابن عبد السلام خلافا للعلماء في السماع بالملاهي وبالدف والشبابة
وقال السبكي السماع على الصورة المعهودة منكر وضلالة وهو من أفعال الجهلة والشياطين ومن زعم أن ذلك قربة فقد كذب وافترى على الله ومن قال إنه يزيد في الذوق فهو جاهل أو شيطان ومن نسب السماع إلى رسول الله يؤدب أدبا شديدا ويدخل في زمرة الكاذبين عليه صلى الله عليه وسلم ومن كذب عليه متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وليس هذا طريقة أولياء الله تعالى وحزبه وأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بل طريقة أهل اللهو واللعب والباطل وينكر على هذا باللسان واليد والقلب
ومن قال من العلماء بإباحة السماع فذاك حيث لا يجتمع فيه دف وشبابة ولا رجال ونساء ولا من يحرم النظر إليه
( ويجوز دف ) بضم الدال أشهر من فتحها سمي بذلك لتدفيف الأصابع عليه ( لعرس ) لما في الترمذي وسنن ابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدف
( و ) يجوز ل ( ختان ) لما رواه ابن أبي شيبة عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا سمع صوت دف بعث فإن كان في النكاح أو الختان سكت وإن كان في غيرهما عمل بالدرة
( وكذا غيرهما ) أي العرس والختان مما هو سبب لإظهار السرور كولادة وعيد وقدوم غائب وشفاء مريض ( في الأصح ) لما روى الترمذي وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع المدينة من بعض مغازيه جاءته جارية سوداء فقالت يا رسول الله إني نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف فقال لها إن كنت نذرت فأوف بنذرك ولأنه قد يراد به إظهار السرور
قال البغوي في شرح السنة يستحب في العرس والوليمة ووقت العقد والزفاف
والثاني المنع لأثر عمر رضي الله تعالى عنه المار
واستثنى البلقيني من محل الخلاف ضرب الدف في أمر مهم من قدوم عالم أو سلطان أو نحو ذلك
( وإن كان فيه ) أي الدف ( جلاجل ) لإطلاق الخبر ومن ادعى أنها لم تكن بجلاجل فعليه الإثبات
تنبيه لم يبين المصنف المراد بالجلاجل وقال ابن أبي الدم المراد به الصنوج جمع صنج وهي الحلق التي تجعل داخل الدف والدوائر العراض التي تؤخذ من صفر وتوضع في خروق دائرة الدف
ولا فرق في الجواز بين الذكور
____________________
(4/429)
والإناث كما يقتضيه إطلاق الجمهور خلافا للحليمي في تخصيصه بالنساء
( ويحرم ضرب الكوبة وهي ) بضم كافها وسكون واوها ( طبل طويل ضيق الوسط ) واسع الطرفين لخبر إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة رواه أبو داود وابن حبان والمعنى فيه التشبيه بمن يعتاد ضربه وهم المخنثون
ويحرم استماعها أيضا لما مر في آلة الملاهي
تنبيه قضية كلامه إباحة ما عداها من الطبول من غير تفصيل كما قاله صاحب الذخائر قال الأذرعي لكن مرادهم ما عدا طبول اللهو كما صرح به غير واحد
وممن جزم بتحريم طبول اللهو العمران و ابن أبي عصرون وغيرهما قال في المهمات تفسير الكوبة بالطبل خلاف المشهور في كتب اللغة
قال الخطابي غلط من قال إنها الطبل بل هي النرد اه
لكن في المحكم الكوبة الطبل والنرد فجعلها مشتركة بينهما فلا يحسن التغليظ
( لا الرقص ) فلا يحرم لأنه مجرد حركات على استقامة أو اعوجاج ولا يكره كما صرح به الفوراني وغيره بل يباح لخبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم وقف لعائشة رضي الله تعالى عنها يسترها حتى تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون ويرفسون والرفس الرقص وكانت عائشة إذ ذاك صغيرة أو قبل أن تنزل آية الحجاب أو أنها كانت تنظر إلى لعبهم لا إلى أبدانهم
وقيل يكره وجرى عليه القفال
وفي الإحياء التفرقة بين أرباب الأحوال الذين يقومون بوجه فيجوز أي بلا كراهة ويكره لغيرهم
قال البلقيني ولا حاجة لاستثناء أصحاب الأحوال لأنه ليس باختيار فلا يوصف بإباحة ولا غيرها اه
وهذا ظاهر إذا كانوا موصوفين بهذه الصفة وإلا فنجد أكثر من يفعل ذلك ليس موصوفا بهذا ولذا قال ابن عبد السلام الرقص لا يتعاطاه إلا ناقص العقل ولا يصلح إلا للنساء
ثم استثنى المصنف من إباحته ما ذكره بقوله ( إلا أن يكون فيه تكسر كفعل المخنث ) وهو بكسر النون أفصح من فتحها وبالمثلثة من يتخلق بأخلاق النساء في حركة أو هيئة فيحرم على الرجال والنساء كما في أصل الروضة عن الحليمي وأقره فإن كان ذلك خلقة فلا إثم
ومما عمت به البلوى ما يفعل في وفاء النيل من رجل يزين بزينة امرأة ويسمونه عروسة البحر فهذا ملعون فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء فيجب على ولي الأمر وكل من كان له قدرة على إزالة ذلك منعه منه
( ويباح قول شعر ) أي إنشاؤه كما في المحرر وغيره ( وإنشاده ) واستماعه لأنه صلى الله عليه وسلم كان له شعراء يصغي إليهم منهم حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة رواه مسلم
وكان صلى الله عليه وسلم أهدر دم كعب بن زهير فورد إلى المدينة مستخفيا وقام إليه بعد صلاة الصبح ممتدحا فقال بانت سعاد إلى آخرها فرضي عليه وأعطاه بردة ابتاعها منه معاوية بعشرة آلاف درهم قال الدميري وهي التي مع الخلفاء إلى اليوم
وقال الأصمعي سمعت شعر الهذليين على محمد بن إدريس الشافعي رضي الله تعالى عنه
وروى الشافعي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشعر كلام حسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه
ثم استثنى المصنف صورا لا يباح فيها قول الشعر وإنشاده في قوله ( إلا أن يهجو ) ولو بما هو صادق فيه للإيذاء وعليه حمل الشافعي خبر مسلم لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلىء شعرا
تنبيه محل تحريم الهجاء إذا كان لمسلم فإن كان لكافر أي غير معصوم جاز كما صرح به الروياني وغيره لأنه صلى الله عليه وسلم أمر حسان بهجو الكفار بل صرح الشيخ أبو حامد بأنه مندوب
ومثله في جواز الهجو المبتدع كما ذكره الغزالي في الإحياء والفاسق المعلن كما قاله العمراني وبحثه الإسنوي
وظاهر كلامهم جواز هجو الكافر غير المحترم المعين وعليه فيفارق عدم جواز لعنه فإن اللعن الإبعاد من الخير ولا عنه لا يتحقق بعده منه فقد يختم له بخير بخلاف الهجو
( أو ) إلا أن ( يفحش ) بضم أوله وكسر المهملة بخطه بأن يجاوز الشاعر الحد في المدح والإطراء ولم يمكن حمله على المبالغة
روى الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما كان الفحش في شيء إلا شانه ولا كان الحياء في شيء إلا زانه
وقال ابن عبد السلام في القواعد لا تكاد
____________________
(4/430)
تجد مداحا إلا رذلا ولا هجاء إلا بذلا
( أو ) إلا أن ( يعرض ) وفي المحرر وغيره يشبب ( بامرأة معينة ) غير زوجته وأمته وهو ذكر صفاتها من طول وقصر وصدغ وغيرها فيحرم وترد به الشهادة لما فيه من الإيذاء
واحترز بالمعينة عن التشبيب بمبهمة فلا ترد شهادته بذلك كذا نص عليه ذكره البيهقي في سننه ثم استشهد بحديث كعب بن زهير وإنشاده قصيدته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولأن التشبيب صنعته وغرض الشاعر تحسين الكلام لا تخصيص المذكور
أما حليلته من زوجته أو أمته فلا يحرم التشبيب بها كما نص عليه في الأم خلافا لما بحثه الرافعي وهو قضية إطلاق المصنف ونقل في البحر عدم رد الشهادة عن الجمهور
ويشترط أن لا يكثر من ذلك وإلا ردت شهادته قاله الجرجاني
ولو شبب بزوجته أو أمته مما حقه الإخفاء ردت شهادته لسقوط مروءته وكذا لو وصف زوجته أو أمته بأعضائها الباطنة كما جرى عليه ابن المقري تبعا لأصله وإن نوزع في ذلك
وإذا شبب بغلام وذكر أنه يعشقه قال الروياني يفسق وإن لم يعينه واعتبر في التهذيب وغيره التعيين كالمرأة وهذا أولى وليس ذكر امرأة مجهولة كليلى تعيينا
( والمروءة ) للشخص وأحسن ما قيل في تفسيرها أنها ( تخلق ) للمرء ( بخلق أمثاله ) من أبناء عصره ممن يراعي مناهج الشرع وآدابه ( في زمانه ومكانه ) لأن الأمور العرفية قلما تنضبط بل تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والبلدان وهذا بخلاف العدالة فإنها لا تختلف باختلاف الأشخاص فإن الفسق يستوي فيه الشريف والوضيع بخلاف المروءة فإنها تختلف
وقيل المروءة التحرز عما يسخر منه ويضحك به وقيل هي أن يصون نفسه عن الأدناس ولا يشينها عند الناس وقيل غير ذلك
واعترض البلقيني على عبارة المصنف بأنه قد يكون خلق أمثاله خلق الحياء كالقرندلية مع فقد المروءة فيهم وقد أشرت إلى رد هذا بقولي يراعي مناهج الشرع وآدابه
( فالأكل ) والشرب ( في سوق ) لغير سوقي كما في الروضة تبعا للقاضي حسين وغيره ولغير من لم يغلبه جوع أو عطش
واستثنى البلقيني من الأكل في السوق من أكل داخل حانوت مستترا وفيه كما قال ابن شهبة نظر
( والمشي ) في السوق ( مكشوف الرأس ) أو البدن غير العورة ممن لا به يليق مثله ولغير محرم بنسك
أما العورة فكشفها حرام
( وقبلة زوجة أو أمة ) له ( بحضرة الناس ) أو وضع يده على موضع الاستمتاع منها من صدر ونحوه
والمراد جنسهم ولو واحدا فلو عبر بحضرة أجنبي كان أولى
قال البلقيني والمراد به بالناس الذين يستحي منهم في ذلك والتقبيل الذي يستحي من إظهاره فلو قبل زوجته بحضرة جواريه أو بحضرة زوجات له غيرها فإن ذلك لا يعد من ترك المروءة أما تقبيل الرأس ونحوه فلا يخل بالمروءة
وقرن في الروضة بالتقبيل أن يحكي ما يجرى بينهما في الخلوة مما يستحيا منه وكذا صرح في النكاح بكراهته لكن في شرح مسلم أنه حرام
وأما تقبيل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أمته التي وقعت في سهمه بحضرة الناس فقال الزركشي كأنه تقبيل استحسان لا تمتع أو فعله بيانا للجواز أو ظن أنه ليس ثم من ينظره أو على أن المرة الواحدة لا تضر على ما اقتضاه نص الشافعي
ومد الرجل عند الناس بلا ضرورة كقبلة أمته بحضرتهم قال الأذرعي ويشبه أن يكون محله إذا كان بحضرة من يحتشمه فلو كان بحضرة إخوانه أو نحوهم كتلامذته لم يكن ذلك تركا للمروءة
( وإكثار حكايات مضحكة ) بينهم بحيث يصير ذلك عادة له
وخرج بالإكثار ما لم يكثر أو كان ذلك طبعا لا تصنعا كما وقع لبعض الصحابة وفي الصحيح من تكلم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوي بها في النار سبعين خريفا
تنبيه تقييده الحكايات المضحكة بالإكثار يقتضي أن ما عداها لا يتقيد بالإكثار بل يسقط العدالة بالمرة الواحدة
قال ابن النقيب وفيه نظر
قال البلقيني الذي يعتمد في ذلك لا بد من تكرره تكرارا دالا على قلة المبالاة وقد قال الشافعي إذا كان الأغلب على الرجل أي الأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته
وحكى البيهقي في المعرفة عن ابن سريج أن العدل من لا يكون تاركا للمروءة في غالب العادة
قال البيهقي وهذا تلخيص ما قاله
____________________
(4/431)
الشافعي وهو يقتضي اعتبار الإكثار في الجميع
( وليس فقيه قباء ) بالمد سمي لذلك لاجتماع أطرافه ولبس جمال لبس القضاة ( وقلنسوة ) وهو بفتح القاف واللام وبضم القاف مع السين ما يلبس على الرأس
هذا ( حيث ) أي في بلد لا يعتاد للفقيه لبسها
وقيد في الروضة لبسهما للفقيه بأن يتردد فيهما فأشعر بأن لبسهما في البيت ليس كذلك
( وإكباب على لعب الشطرنج ) بحيث يشغله عن مهماته وإن لم يقترن به ما يحرمه ويرجع في قدر الإكباب للعادة أما القليل من لعب الشطرنج فلا يضر في الخلوة بخلاف قارعة الطريق فإنه هادم للمروءة
والإكباب على لعب الحمام كالإكباب على لعب الشطرنج
( أو ) على ( غناء أو سماعه ) أي استماعه ولو عبر به لكان أولى سواء اقترن بذلك ما يوجب التحريم أم لا
ومثل ما ذكر الإكباب على إنشاد الشعر واستنشاده حتى يترك مهماته وكذا اتخاذ جارية أو غلام للغناء للناس والكسب بالشعر
قال الرافعي بحثا والغناء قد لا يزري بمن يليق به فلا يكون تاركا للمروءة
( وإدامة ) أي إكثار ( رقص )
وقوله ( يسقطها ) أي المروءة في جميع هذه الصور كما مر التنبيه عليه خبر قوله فالأكل وما عطف عليه
( والأمر فيه ) أي مسقط المروءة ( يختلف بالأشخاص والأحوال والأماكن ) لأن المدار على العرف قد يستقبح من شخص دون آخر
وفي حال دون آخر وفي قطر دون آخر كما علم مما مر فحمل الماء والأطعمة أي إلى البيت شحا لا اقتداء بالسلف التاركين للتكلف حرم مروءة ممن لا يليق به بخلاف من يليق به ومن يفعله اقتداء بالسلف والتقشف في الأكل واللبس كذلك
تنبيه يرجع في قدر الإكثار للعادة وظاهر تقييدهم ما ذكر بالكثرة أنه لا يشترط فيما عداها لكن ظاهر نص الشافعي والعراقيين وغيرهم أن التقييد في الكل ذكره الزركشي ثم قال وينبغي التفصيل بين ما يعد لها خارما بالمرة الواحدة وغيره فالأكل من غير السوقي مرة في السوق ليس كالمشي فيه مكشوفا
( وحرفة دنيئة ) مباحة ( كحجامة وكنس ) لزبل ونحوه
( ودبغ ) ونحوها كقيم حمام وحارس وقصاب وإسكاف ونخال ( ممن لا تليق ) هذه الحرفة ( به )
وقوله ( تسقطها ) أي المروءة لإشعار ذلك بقلة مروءته خبر قوله وحرفة وما عطف عليه
تنبيه قوله دنيئة بالهمز من الدناءة وهي الساقطة وبتركه من الدنو بمعنى القريب
( فإن اعتادها ) مع محافظة مخامر النجاسة على الصلاة في أوقاتها في أثواب طاهرة ( وكانت حرفة أبيه فلا ) يسقطها ( في الأصح ) لأنه لا يتعير بذلك وهي حرفة مباحة من فروض الكفايات لاحتياج الناس إليها ولو ردت بها الشهادة لربما تركت فتعطل الناس
والثاني تسقطها لأن في اختياره لها مع اتساع طرق الكسب إشعارا بقلة المروءة
تنبيه هذا التقييد الذي ذكره نقله الرافعي عن الغزالي واستحسنه
وقال في زيادة الروضة لم يتعرض الجمهور لهذا القيد وينبغي أن لا يقيد بصنعة آبائه بل ينظر هل تليق به هو أم لا
ثم إنه هنا وافق المحرر ولم يعترض عليه والمعتمد التقييد عدم
واعترض جعلهم الحرفة الدنيئة مما يخرم المروءة مع قولهم إنها من فروض الكفايات
وأجيب بحمل ذلك على من اختارها لنفسه مع حصول الكفاية بغيره
أما الحرفة غير المباحة كالمنجم والعراف والكاهن والمصور فلا تقبل شهادتهم عندهم قال الصيمري لأن شعارهم التلبيس على العامة
ومن أكثر من أهل الصنائع الكذب وخلف الوعد ردت شهادته
قال الزركشي ومما عمت به البلوى التكسب بالشهادة مع أن شركة الأبدان باطلة وذلك قادح في العدالة لا سيما إذا منعنا أخذ الأجرة على التحمل أو كان يأخذ ولا يكتب فإن نفوس شركائه لا تطيب لذلك
قال بعض المتأخرين وأسلم طريق فيه أن يشتري ورقا مشتركا ويكتب ويقسم على قدر ما لكل واحد من ثمن ورقه فإن الشركة لا يشترط فيها التساوي في العمل
ومثل ذلك المقرئين والوعاظ
____________________
(4/432)
فروع المداومة على ترك السنن الراتبة ومستحبات الصلاة تقدح في الشهادة لتهاون مرتكبها بالدين وإشعاره بقلة مبالاته بالمهمات ومحل هذا كما قال الأذرعي في الحاضر أما من يديم السفر كالملاح والمكاري وبعض التجار فلا
ويقدح في الشهادة مداومة منادمته مستحل النبيذ والسفهاء وكذا كثرة شربه إياه معهم لإخلال ذلك بالمروءة ولا يقدح فيها السؤال للحاجة وإن طاف مكثره بالأبواب إن لم يقدر على كسب مباح يكفيه لحل المسألة حينئذ إلا أن أكثر الكذب في دعوى الحاجة أو أخذ ما لا يحل له أخذه فيقدح في شهادته
نعم إن كان المأخوذ في الثانية قليلا اعتبر التكرار كما مر نظيره
ولما قدم المصنف من شروط الشاهد كونه غير متهم بتهمة ترد شهادته بينها بقوله ( والتهمة ) بمثناة فوقية مضمومة بخطه في الشخص ( أن يجر إليه ) بشهادته ( نفعا أو يدفع عنه ) بها ( ضررا ) وبما تقرر اندفع ما قيل إن كلامه أشعر بعود ضمير إليه للشاهد فيصير التقدير أن يجر الشاهد إلى الشاهد وفيه قلاقة وأيضا فالنفع ينجر للمسمى لا للاسم فلو قال أن يجر إلى نفسه أو يدفع عنها كان أولى اه
ثم أشار المصنف لصور من جر النفع بما تضمنه قوله ( فترد شهادته لعبده ) سواء أكان مأذونا له كما في المحرر أو لا كما شمله إطلاقه لأن ما يشهد به فهو له
( ومكاتبه ) لأن له في ماله علقة لأنه بصدد العود إليه بعجز أو تعجيز
نعم لو شهد بشراء شقص لمشتريه وفيه شفعة لمكاتبه قبلت نبه عليه الزركشي
( وغريم له ميت ) وإن لم تستغرق تركته الديون
( أو عليه حجر فلس ) لأنه إذا أثبت للغريم شيئا أثبت لنفسه المطالبة به
وألحق الماوردي بذلك إذا كان زوجها معسرا بنفقتها شهدت له بدين وتقبل لغريمه الموسر وكذا المعسر قبل الحجر والموت تعلق الحق بذمته بخلافه بعد الحجر أو الموت لأنه يحكم بماله لغرمائه حال الشهادة
وخرج بحجر الفلس حجر السفه والمرض ونحوهما
نعم لو شهد غريم المرتد بمال لم تقبل شهادته لأن حاله أشد من المفلس وقريب من الميت
( و ) ترد شهادته أيضا ( بما هو ) ولي أو وصي أو ( وكيل فيه ) ولو بدون جعل لأنه يثبت لنفسه سلطنة التصرف في المشهود به
تنبيه يلحق بمن ذكر شهادة الوديع للمودع والمرتهن للراهن لاقتضائها دوام يدهما
وقد يفهم كلامه القبول فيما إذا عزل نفسه وشهد ولكن محله ما لم يخاصم فإن خاصم ثم عزل نفسه لم يقبل
وأفهم كلامه لغيره القطع بقبول شهادة الوكيل لموكله بما ليس وكيلا فيه ولكن حكى الماوردي فيه وجهين وأصحهما الصحة
ولو عبر بقوله فيما هو وكيل فيه كما فعله في المحرر وأصل الروضة كان أولى ليتناول من وكل في شيء بخصومة أو تعاطى عقدا فيه أو حفظه أو نحو ذلك فإنه لا تقبل شهادته لموكله في ذلك لأنه يجر لنفسه نفعا باستيفاء ماله في ذلك من التصرف
وإن لم يشهد بنفس ما وكل فيه
( و ) ترد شهادته ( ببراءة من ضمنه ) بأداء أو إبراء لأنه يدفع بها الغرم عن نفسه
تنبيه في معنى ذلك من ضمنه عبده أو مكاتبه أو غريمه الميت أو المحجور عليه بفلس ومن ضمنه أصله وفرعه
( و ) ترد شهادة وارث عند الشهادة ( بجراحة مورثه ) قبل اندمالها كما صرح به في المتن في باب القسامة لأنه لو مات كان الأرش له وليس مورثه أصله وفرعه فإن لم يكن وارثا له عند الشهادة لحجب مثلا قبلت ولا يضر زوال الحجب وارثه بعد الحكم
( ولو شهد لمورث له ) غير أصله وفرعه ( مريض ) مرض موت ( أو جريح بمال قبل الاندمال قبلت ) شهادته ( في الأصح )
والثاني قال لا كالجراحة للتهمة
وفرق الأول بأن الجراحة سبب للموت الناقل للحق إليه بخلاف المال وبعد الاندمال يقبل قطعا لانتفاء التهمة
نعم لو مات المورث قبل الحكم لم يحكم قاله الماوردي
ولما فرغ من الشهادة الجالبة للنفع شرع في الدافعة للضرر فقال ( وترد شهادة عاقلة بفسق شهود قتل ) يحملونه من خطأ أو شبه عمد بخلاف شهود إقرار بذلك أو شهود عمد
فإن قيل هذه المسألة تقدمت في باب دعوى الدم والقسامة فما فائدة ذكرها هنا أجيب بأنه أطلق هناك ما يجب تقييده في موضعين أحدهما رد جراحة المورث
____________________
(4/433)
وهو فيما قبل الاندمال ثانيهما رد العاقلة وهو فيما يتحملونه وقد ذكره هنا على الصواب وبأنه هناك ذكرها لإفادة الحكم وذكرها هنا للتمثيل
تنبيه لو شهدا لمورثهما فمات قبل الحكم لم يحكم لأنهما الآن شاهدان لأنفسهما قاله الماوردي
( و ) ترد شهادة ( غرماء مفلس ) حجر عليه ( بفسق شهود دين آخر ) ظهر عليه لأنهم يدفعون بها ضرر المزاحمة
تنبيه استثنى البلقيني من ذلك ما إذا كان للغريم الشاهد رهن بدينه ولا مال للمفلس غيره أو له مال ويقطع بأن الرهن يوفي الدين المرهون به فيقبل لفقد ضرر المزاحمة قال ولم أر من تعرض له والقواعد تقتضيه اه
وهذا مأخوذ من التعليل
ولا تقبل شهادة شخص بموت مورثه ومن أوصى له وتقبل شهادة المديون بموت المدين
( ولو شهدا ) أي شاهدان ( لاثنين بوصية ) من تركة ( فشهدا ) أي الاثنان ( للشاهدين ) لهما ( بوصية من تلك التركة قبلت الشهادتان في الأصح ) لانفصال كل عن شهادة الأخرى ولا تجر شهادته نفعا ولا تدفع عنه ضررا
والثاني المنع لاحتمال المواطأة
وأجاب الأول بأن الأصل عدمها
تنبيه تقبل شهادة بعض القافلة لبعض على قاطع الطريق بمثل ما شهد له به البعض الآخر إذا قال كل منهم أخذ مال فلان فإن قال أخذ مالنا لم تقبل
ولا تقبل شهادة خنثى بمال لو كان ذكرا لاستحق فيه كوقف الذكور
( و ) مما يمنع الشهادة البعضية وحينئذ ( لا تقبل لأصل ) للشاهد وإن علا ( ولا فرع ) له إن سفل كشهادته لنفسه لأنه جزء منه ففي الصحيح فاطمة مني وكذا لا تقبل لمكاتب أصله وفرعه ولا لمأذونهما
تنبيهان أحدهما قضية كلامه أنها لا تقبل شهادته لأحد أصليه أو فرعيه على الآخر وهو كذلك كما جزم به الغزالي ويؤيد منع الحكم بين أبيه وابنه وإن خالف ابن عبد السلام في ذلك معللا بأن الوازع الطبعي قد تعارض فظهر الصدق لضعف التهمة
ولا تقبل تزكية الوالد لولده ولا شهادته له بالرشد سواء أكان في حجره أم لا وإن أخذنا بإقراره برشد في حجره
ثانيهما محل عدم قبول إشهاد الأصل لفرعه وعكسه إذا لم يكن ضمنيا فإن كان صح ويتضح بصورتين إحداهما ما لو ادعى عليه نسب ولد فأنكر فشهد أبوه مع أجنبي على إقراره أنه ولده قبلت شهادة الأب كما في فتاوى القاضي الحسين وإن كان في ضمنه الشهادة لحفيده احتياطا لأمر النسب
ثانيتهما ما لو ادعى شخص شراء عبد في يد زيد من عمرو وبعد أن اشتراه عمرو من زيد صاحب اليد وقبضه وطالبه بالتسليم فأنكر زيد جميع ذلك فشهدا بناء للمدعي بما يقوله قبلت شهادتهما لأن المقصود بالشهادة في الحال المدعى وهو أجنبي عنهما
( وتقبل ) الشهادة ( عليهما ) أي أصله وفرعه سواء أكان في عقوبة أم لا لانتفاء التهمة ويستثنى من ذلك ما إذا كان بينه وبين أصله أو فرعه عداوة فإن شهادته لا تقبل له ولا عليه كما جزم به في الأنوار
( وكذا ) تقبل من فرعين ( على أبيهما بطلاق ضرة أمهما أو قذفها في الأظهر ) لضعف تهمة نفع أمهما بذلك لأنه متى أراد طلقها أو نكح عليها مع إمساكها
والثاني المنع فإنها تجر نفعا إلى الأم وهو انفرادها بالأب
تنبيه أفهم قوله على أبيهما أن محل الخلاف ما إذا شهدا حسبة أو بعد دعوى الضرة أما لو ادعى الأب الطلاق في زمن سابق لإسقاط نفقة ماضية ونحو ذلك أو ادعى أنها سألته الطلاق على مال فشهدا له فهنا لا تقبل الشهادة عليها لأنها شهادة للأب لا عليه ولكن تحصل الفرقة بقوله في دعواه الخلع كما مر في بابه
( وإذا شهد ) بحق ( لفرع ) أو أصل له ( وأجنبي ) كأن شهد برقيق لهما كقوله هو لأبي وفلان أو عكسه ( قبلت ) تلك الشهادة ( للأجنبي في الأظهر ) من قولي تفريق الصفقة
والثاني لا تفرق فلا تقبل له
( قلت ) ك الرافعي في الشرح ( وتقبل ) الشهادة ( لكل من الزوجين ) للآخر لأن الحاصل بينهما عقد يطرأ ويزول فلا يمنع قبول الشهادة كما لو شهد الأجير
____________________
(4/434)
للمستأجر وعكسه
تنبيه لا يصح الاحتجاج لذلك بحكمه صلى الله عليه وسلم ل عائشة على أهل الإفك كما احتج به بعضهم لأنه صلى الله عليه وسلم يحكم لنفسه ولفرعه
وقيل لا تقبل لأن كل واحد منهما وارث لا يحجب فأشبه الأب وهو قول الأئمة الثلاثة
واستثنى على الأول ما إذا شهد لزوجته بأن فلانا قذفها في أحد وجهين رجحه البلقيني
واحترز المصنف بقوله لهما عما لو شهد أحدهما على الآخر فإنها تقبل قطعا إذ لا تهمة لكن يستثنى شهادته عليها بزناها فلا تقبل عليها لأنه يدعي خيانتها فراشه
( و ) تقبل الشهادة ( لأخ ) من أخيه وكذا من بقية الحواشي وإن كانوا يصلونه ويبرونه
( وصديق ) من صديقه وهو من صدق ودادك بأن يهمه ما أهمك
قال ابن قاسم وقليل ذلك أي في زمانه ونادر في زماننا
( والله أعلم ) لضعف التهمة لأنهما لا يتهمان تهمة الأصل والفرع
أما شهادة كل ممن ذكر على الآخر فمقبولة جزما
( ولا تقبل ) شهادة ( من عدو ) على عدوه لحديث لا تقبل شهادة ذي غمر على أخيه رواه أبو داود وابن ماجة بإسناد حسن والغمر بكسر الغين المعجمة الغل وهو الحقد ولما في ذلك من التهمة
تنبيه المراد بالعداوة الدنيوية الظاهرة لأن الباطنة لا يطلع عليها إلا علام الغيوب
وفي معجم الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سيأتي قوم في آخر الزمان إخوان العلانية أعداء السريرة
قيل لنبي الله أيوب صلى الله عليه وسلم أي شيء كان أشد عليك مما مر بك قال شماتة الأعداء
وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منها فنسأل الله سبحانه وتعالى العافية من ذلك
( وهو ) أي العدو ( من يبغضه ) أي المشهود عليه ( بحيث يتمنى زوال نعمته ) سواء أطلبها لنفسه أم لغيره أم لا
( ويحزن بسروره ويفرح بمصيبته ) لشهادة العرف بذلك
وقد تكون العداوة من الجانبين وقد تكون من أحدهما فيختص برد شهادته على الآخر
ولو عادى من يستشهد عليه وبالغ في خصامه ولم يجبه ثم شهد عليه لم ترد شهادته لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى ردها ولو أفضت العداوة إلى الفسق ردت مطلقا
تنبيه هذا الضابط لخصه الرافعي من كلام الغزالي
قال البلقيني ذكر البغض ليس في المحرر ولا في الروضة وأصلها ولم يذكره أحد من الأصحاب ولا معنى لذكره هنا لأن العداوة غير البغضاء قال تعالى { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء } والفرق بينهما أن البغضاء بالقلب والعداوة بالفعل هي أغلظ فلا يفسر الأغلظ بالأخف
وقال الزركشي الأشبه في الضابط تحكيم العرف كما أشار إليه في المطلب فمن عده أهل العرف عدوا للمشهود عليه ردت شهادته عليه إذ لا ضابط له في الشرع ولا في اللغة
فرع حب الرجل لقومه ليس عصبية حتى ترد شهادته لهم بل تقبل مع أن العصبية وهي أن يبغض الرجل لكونه من بني فلان لا تقتضي الرد بمجردها
وإن أجمع جماعة على أعداء قومه ووقع معها فيهم ردت شهادته عليهم
( وتقبل له ) أي العدو إذا لم يكن أصله أو فرعه إذ لا تهمة والفضل ما شهدت به الأعداء
وتقبل تزكيته له أيضا لا تزكيته لشاهد شهد عليه كما بحثه ابن الرفعة
وخرج بالعدو أصل العدو وفرعه فتقبل شهادتهما إذ لا مانع بينهما وبين المشهود عليه
( وكذا ) تقبل ( عليه ) أي العدو ( في عداوة دين ككافر ) شهد عليه مسلم ( ومبتدع ) شهد عليه سني لأن العداوة الدينية لا توجب رد الشهادة
تنبيه لو قال العالم لجماعة لا تسمعوا الحديث من فلان فإنه يخلط أو لا تستفتوا منه فإنه لا يحسن الفتوى لم ترد شهادته لأن هذا نصح للناس نص عليه في الأم قال وليس هذا بعداوة ولا غيبة إن كان بقوله لمن يخاف أن يتبعه ويخطىء باتباعه
( وتقبل شهادة مبتدع لا تكفره ) ببدعته قال الزركشي ولا نفسقه بها
ولم يبين المصنف من لم يكفر ببدعته ومن يكفر بها وقد مر في باب الردة جملة من ذلك
ومن القسم الأول منكر صفات الله تعالى وخلقه أفعال
____________________
(4/435)
عباده وجواز رؤيته يوم القيامة لاعتقادهم أنهم مصيبون في ذلك لما قام عندهم وقد روى أبو داود بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فجعل الكل من أمته
ومن القسم الثاني منكرو حدوث العالم والبعث والحشر للأجسام وعلم الله تعالى بالمعدوم وبالجزئيات لإنكار بعض ما علم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به ضرورة فلا تقبل شهادتهم ولا شهادة من يدعو الناس إلى بدعته ولا خطابي لمثله وهم أصحاب أبي الخطاب الأسدي الكوفي كان يقول بإلهية جعفر الصادق ثم ادعى الإلهية لنفسه وهم يعتقدون أن الكذب كفر وأن من كان على مذهبهم لا يكذب فيصدقونه على ما يقول ويشهدون له بمجرد إخباره هذا إذا لم يذكروا في شهادتهم ما ينفي احتمال اعتمادهم على قول المشهود له فإن بينوا ما ينفي الاحتمال كأن قالوا سمعناه يقر له بكذا أو رأيناه يقرضه كذا قبلت في الأصح
تنبيه قضية إطلاقه أنه لا فرق بين سب الصحابة رضي الله عنهم وغيره وهو المرجح في زيادة الروضة قال بخلاف من قذف عائشة رضي الله تعالى عنها فإنه كافر أي لأنه كذب على الله تعالى
وقال السبكي في الحلبيات في تكفير من سب الشيخين وجهان لأصحابنا فإن لم نكفره فهو فاسق لا تقبل شهادته ومن سب بقية الصحابة فهو فاسق مردود الشهادة ولا يغلط فيقال شهادته مقبولة اه
فجعل ما رجحه في الروضة غلطا
قال الأذرعي وهو كما قال ونقل عن جمع التصريح به وأن الماوردي قال من سب الصحابة أو لعنهم أو كفرهم فهو فاسق مردود الشهادة
وقضية إطلاق الشيخين قبول شهادة أهل الأهواء غير الخطابية وأنه لا فرق بين من يستحل المال والدم وغيرهما ونقل في زيادة الروضة التصريح به عن نص الأم ونقلا في باب البغاة عن المعتبرين أنه لا تقبل شهادة أهل البغي ولا ينفذ قضاء قاضيهم إذا استحلوا دماءنا وأموالنا وقدمنا الفرق هناك فليراجع
فائدة قال ابن عبد السلام البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة قال والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة كالاشتغال بعلم النحو أو في قواعد التحريم فمحرمة كمذهب القدرية والمرجئة والمجسمة والرافضة
قال والرد على هؤلاء من البدع الواجبة أي لأن المبتدع من أحدث الشريعة ما لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم
أو في قواعد المندوب فمندوبة كبناء الربط والمدارس وكل إحسان لم يحدث في العصر الأول كصلاة التراويح
أو في قواعد المكروه فمكروه كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف
أو في قواعد المباح فمباحة كالمصافحة عقب الصبح والعصر والتوسع في المآكل والملابس
وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال المحدثات ضربان أحدهما ما خالف كتابا أو سنة أو إجماعا فهو بدعة وضلالة
والثاني ما أحدث من الخير فهو غير مذموم
و ( لا ) تقبل شهادة ( مغفل لا يضبط ) أصلا أو غالبا لعدم التوثق بقوله
أما من لا يضبط نادرا والأغلب فيه الحفظ والضبط فتقبل قطعا لأن أحدا لا يسلم من ذلك ومن تعادل غلطه وضبطه فالظاهر كما قال الأذرعي أنه كمن غلب غلطه
تنبيه محل الرد فيمن غلطه وضبطه سواء إذا لم تكن الشهادة مفسرة فإن فسرها وبين وقت التحمل ومكانه قبلت كما جرى عليه الشيخان
قال الإمام والاستفصال عند استشعار القاضي غفلة في الشهود حتم وكذا إن رابه أمر وإذا استفصلهم ولم يفصلوا بحث عن أحوالهم فإن تبين له أنهم غير مغفلين قضى بشهادتهم المطلقة قال ومعظم شهادة العوام يشوبها غرة وسهو وجهل وإن كانوا عدولا فيتعين الاستفصال كما ذكرنا وليس الاستفصال مقصودا في نفسه وإنما الغرض تبين تثبتهم في الشهادة
( و ) لا تقبل شهادة ( مبادر ) بشهادته قبل الدعوى جزما وكذا بعدها وقبل أن يستشهد على الأصح للتهمة ولخبر الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم يشهدون ولا يستشهدون فإن ذلك في مقام الذم لهم وأما خبر مسلم ألا أخبركم بخير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها فمحمول على ما تسمع فيه شهادة الحسبة
____________________
(4/436)
تنبيه تقبل شهادة من اختبأ وجلس في زاوية مختبأ لتحمل الشهادة لأن الحاجة قد تدعو إليه ويسن أن يخبر الخصم أني شهدت عليك لئلا يبادر إلى تكذيبه فيعذره القاضي
ولو قال رجلان مثلا لثالث توسط بيننا لنتحاسب ولا تشهد علينا بما جرى فهذا شرط باطل وعليه أن يشهد
قال ابن القاص وترك الدخول في ذلك أحب إليه ثم استثنى المصنف من عدم صحة شهادة المبادر ما ذكره بقوله ( وتقبل شهادة الحسبة ) من الاحتساب وهو طلب الأجر سواء أسبقها دعوى أم لا كانت في غيبة المشهود عليه أم لا وهي كغيرها من الشهادات في شروطها السابقة ( في حقوق الله تعالى ) المتمحضة كالصلاة والزكاة والصوم بأن يشهد بتركها
( وفيما له ) أي في الذي لله ( فيه حق مؤكد ) وهو ما لا يتأثر برضا الآدمي ( كطلاق ) بائن أو رجعي
وأما الخلع فنقلا عن البغوي المنع لأنه ينفك عن المال وعن الإمام أنها تسمع لثبوت الطلاق دون المال
قال في المهمات والراجح ما قاله الإمام اه
وهذا هو الظاهر وجرى عليه ابن المقرى في روضه لأن المال حق آدمي دون الفراق
( وعتق ) غير ضمني ولا فرق في العتق بين أن يكون منجزا أو معلقا عبدا أو أمة وقال أبو حنيفة تقبل في عتق الأمة دون العبد
أما الضمني كمن شهد لشخص بشراء قريبه فلا يصح في الأصح لأنها شهادة بالملك والعتق يترتب عليه
تنبيه المراد بالعتق أن يشهد بخصوصه فلو شهد بما يفضي إليه فالمنقول في الاستيلاد القبول وأما التدبير والتعليق بصفة والكتابة فلا يقبل فيها ففارقت الاستيلاد بأنه يفضي إلى العتق لا محالة بخلافها
وتصح شهادته بالعتق الحاصل بشراء القريب والتدبير وتعليق العتق والكتابة
( وعفو عن قصاص ) في نفس أو طرف لما فيه من سلامة النفس وهو حق الله تعالى أيضا
( وبقاء عدة وانقضائها ) لما يترتب على الأول من صيانة الفرج واستباحته من غير طريق شرعي ولما في الثاني من الصيانة بقصد التعفف بالنكاح ويلتحق بذلك تحريم الرضاع والمصاهرة
( وحد له ) تعالى كحد الزنا وقطع الطريق وكذا حد السرقة على الصحيح بأن يشهد بموجب ذلك والمستحب ستره إذا رأى المصلحة فيه
( وكذا النسب على الصحيح ) لأن في وصله حقا لله تعالى إذ الشرع أكد الأنساب ومنع قطعها فضاهى الطلاق والعتاق
والثاني لا لتعلق حق الآدمي فيه
تنبيه يلتحق بما ذكره المصنف الإحصان والتعديل والزكوات والكفارات والبلوغ والكفر والإسلام وتحريم المصاهرة والوصية والوقف إذا عمت جهتهما ولو أخرت الجهة العامة فيدخل نحو ما أفتى به البغوي من أنه لو وقف دارا على أولاده ثم الفقراء فاستولى عليها ورثته وتملكوها فشهد شاهدان حسبة قبل انقراض أولاده بوقفيتها قبلت شهادتهما لأن آخره وقف على الفقراء لا إن خصت جهتهما فلا تقبل فيها لتعلقهما بحظوظ خاصة
واحترز بحقوق الله تعالى عن حقوق الآدمي كالقصاص وحد القذف والبيوع والأقارير ونحوها لكن إذا لم يعلم صاحب الحق به أعلمه الشاهد به ليستشهده بعد الدعوى
وإنما تسمع شهادة الحسبة عند الحاجة إليها فلو شهد اثنان أن فلانا أعتق عبده أو أنه أخو فلانة من الرضاع لم يكف حتى يقولا إنه يسترقه أو أنه يريد نكاحها
وكيفية شهادة الحسبة أن الشهود يجيئون إلى القاضي ويقولون نحن نشهد على فلان بكذا فأحضره لنشهد عليه فإن ابتدأوا وقالوا فلان زنا فهم قذفة
وما تقبل فيه شهادة الحسبة هل تسمع فيه دعواها وجهان أوجههما كما جرى عليه ابن المقرى تبعا للإسنوي ونسبه الإمام للعراقيين لا تسمع لأنه لا حق للمدعى في المشهود به ومن له الحق لم يأذن في الطلب والإثبات بل أمر فيه بالإعراض والدفع ما أمكن
والوجه الثاني ورجحه البلقيني أنها تسمع ويجب حمله على غير حدود الله تعالى وكذا فصل بعض المتأخرين فقال إنها تسمع إلا في محض حدود الله تعالى
( ومتى حكم ) قاض ( بشاهدين فبانا ) عند أداء الشهادة أو عند الحكم بهما ( كافرين أو عبدين أو صبيين )
____________________
(4/437)
أو امرأتين أو خنثيين أو بان أحدهما كذلك ( نقضه هو وغيره ) لتيقن الخطأ فيه والمراد إظهار البطلان
قال في أصل الروضة فإن قيل قد اختلف العلماء في شهادة العبد فكيف نقض الحكم في محل الخلاف والاجتهاد فيه قلنا لأن الصورة مفروضة فيمن لا يعتقد الحكم بشهادة العبد وحكم بشهادة من ظنهما حرين فلا اعتداد بمثل هذا الحكم ولأنه حكم يخالف القياس الجلي لأن العبد ناقص في الولايات وسائر الأحكام فكذا في الشهادة
( وكذا فاسقان ) ظهر فسقهما عند القاضي ينقض الحكم بهما ( في الأظهر ) كما في المسائل المذكورة لأن النص والإجماع دلا على اعتبار العدالة
والثاني لا ينقض لأن قبولهما بالاجتهاد وقبول بينة فسقهما بالاجتهاد ولا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد
وعورض بأن الحكم بالاجتهاد ينقض بخبر الواحد العدل مع أن عدالته إنما تثبت بالاجتهاد
تنبيه قيد القاضي الحسين و البغوي النقض بما إذا كان الفسق ظاهرا غير مجتهد فيه فإن كان مجتهدا فيه كشرب النبيذ لم ينقض قطعا لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد
ولو شهد عدلان على فسقهما مطلقين ولم يسندا إلى حالة الحكم لم ينقض القضاء لاحتمال حدوثه بعد الحكم كما قاله صاحب الكافي واقتضاه كلام الرافعي في باب القضاء على الغائب
فرع لو شهد شاهدان 4 ثم فسقا أو ارتدا قبل الحكم لم يحكم بشهادتهما لأن ذلك يوقع ريبة فيما مضى ويشعر بخبث كامن ولأن الفسق يخفى غالبا فربما كان موجودا عند الشهادة
وإن عميا أو خرسا أو جنا أو ماتا حكم بشهادتهما لأن هذه الأمور لا توقع ريبة فيما مضى بل يجوز تعديلها بعد حدوث هذه الأمور ويحكم بشهادتهما
ولو فسقا أو ارتدا بعد الحكم بشهادتهما وقبل استيفاء المال استوفي كما لو رجعا عن شهادتهما كذلك
وخرج بالمال الحدود فلا تستوفى
ولو قال الحاكم بعد الحكم بان لي أنهما كانا فاسقين ولم تظهر بينة بفسقهما نقض حكمه إن جوزنا قضاءه بالعلم وهو الأصح ولم يتهم فيه
ولو قال أكرهت على الحكم بشهادتهما وأنا أعلم فسقهما قبل قوله من غير بينة على الإكراه ولو بانا والدين أو ولدين للمشهود له أو عدوين للمشهود له أو عدوين للمشهود عليه انتقض الحكم أيضا كما لو بانا فاسقين
ولو قال الحاكم كنت يوم الحكم فاسقا فالظاهر كما قال شيخنا أنه لا يلتفت إليه كما لو قال الشاهدان كنا عند عقد النكاح فاسقين
فإن قيل هلا كان هذا مثل قوله بان لي فسق الشاهدين أجيب بأنه أعرف بصفة نفسه منه بصفة غيره فتقصيره في حق نفسه أكثر
( ولو شهد كافر ) معلن بكفره أو مرتد كما قاله القفال ( أو عبد أو صبي ثم أعادها بعد كماله ) بإسلام أو عتق أو بلوغ ( قبلت شهادته ) لانتفاء التهمة لأن المتصف بذلك لا يعير برد شهادته
( أو ) شهد ( فاسق تاب ) من فسقه أو عدو تاب من عداوته أو من لا مروءة له ثم عادت مروءته أو سيد لمكاتبه ثم أعادها بعد العتق أو مخفي الكفر ثم أعادها بعد إسلامه ( فلا ) تقبل للتهمة لأن المتصف بذلك يعير برد شهادته
( وتقبل شهادته ) أي الفاسق ( في غيرها ) أي في غير تلك الشهادة التي شهد بها حال فسقه
وفي بعض نسخ المتن بغيرها
( بشرط اختباره بعد التوبة مدة يظن صدق توبته ) لأن التوبة من أعمال القلوب وهو متهم بإظهارها لتزويج شهادته وعود ولايته فاعتبر الشرع ذلك ليقوى ما ادعاه قال تعالى في حق القذفة { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } وقال تعالى { فإن تابا وأصلحا }
( وقدرها الأكثرون ) من الأصحاب ( بسنة ) لأن لمضيها المشتمل على الفصول الأربعة أثرا بينا في تهييج النفوس لما تشتهيه فإذا مضت على السلامة أشعر ذلك بحسن السريرة
وقد اعتبر الشارع السنة في العنة وفي مدة التغريب والزكاة والجزية
وهل السنة تحديد أو تقريب وجهان في الحاوي والبحر رجح البلقيني و الأذرعي ومن تبعهما الثاني وهو الظاهر وإن كان مقتضى كلام الجمهور الأول
واستثنى من اشتراط الاختيار صور منها مخفي الفسق إذا تاب وأقر وسلم نفسه للحد
____________________
(4/438)
لأنه لم يظهر التوبة عما كان مستورا عليه إلا عن صلاح قاله الماوردي الروياني
ومنها ما لو عصى الولي بالعضل ثم تاب زوج في الحال ولا يحتاج إلى استبراء كما حكاه الرافعي عن البغوي
ومنها شاهد الزنا إذا وجب عليه الحد لعدم تمام العدد فإنه لا يحتاج بعد التوبة إلى استبراء بل تقبل شهادته في الحال على المذهب في أصل الروضة
ومنها ناظر الوقف بشرط الواقف إذا فسق ثم تاب عادت ولايته من غير استبراء
ومنها الممتنع من القضاء إذا تعين عليه وقد مر ما فيه في باب القضاء
ومنها قاذف غير المحصن قال البلقيني لا يحتاج إلى استبراء لمفهوم قول الشافعي في الأم فأما من قذف محصنة فلا تقبل شهادته حتى يختبر
ومنها الصبي إذا فعل ما يقتضي فسق البالغ ثم تاب وبلغ تائبا قال البلقيني أيضا لم يعتبر فيه الاختبار كما يظهر من كلام الشافعي والأصحاب
ومنها ما لو حصل خلل في الأصل ثم زال احتاج الفرع إلى تحمل الشهادة ثانيا قال الزركشي ولم يذكروا هذه المدة
ومنها المرتد إذا أسلم وكان عدلا قبل الردة كما قاله الماوردي واقتضاه كلام غيره
فإن قيل هلا كان كالفاسق أجيب بأنه إذا أسلم فقد أتى بضد الكفر فلم يبق بعد ذلك احتمال وليس كذلك إذا زنا ثم تاب لأن التوبة ليست مضافة للمعصية بحيث تنفيها
وقيد الماوردي و الروياني إسلام المرتد بما إذا أسلم مرسلا فإن أسلم عند تقديم القتل اعتبر مضي المدة
تنبيه اقتصار المصنف ك الرافعي على الفسق يقتضي أنه إذا تاب عما يخرم المروءة لا يحتاج إلى استبراء وليس مرادا فقد صرح صاحب التنبيه بأنه يحتاج إلى الاستبراء
قال البلقيني وله وجه فإن خارم المروءة صار باعتياده سجية له فلا بد من اختبار حاله
وذكر في المطلب أنه يحتاج إلى الاستبراء في التوبة من العداوة سواء أكانت قذفا أم لا كالغيبة والنميمة وشهادة الزور
( ويشترط في توبة معصية قولية القول ) قياسا على التوبة من الردة بكلمتي الشهادة ( فيقول القاذف ) مثلا في التوبة من القذف ( قذفي ) فلانا ( باطل ) أو ما كنت محقا فيه ونحو ذلك ( وأنا نادم عليه ولا أعود إليه ) ليندفع عار القذف
ولا يكلف أن يقول كذبت فقد يكون صادقا فكيف يؤمر بالكذب فإن قيل قول المصنف قذفي باطل صريح في إكذاب نفسه وقد نقل عن الجمهور أنه لا يكذب نفسه فكان الأولى إتيانه بعبارة المحرر والجمهور وهي القذف باطل أي قذف الناس باطل
أجيب بحمل كلامه على تجويز نيابة المضاف إليه عن الألف واللام كقوله تعالى { قل الله أعبد مخلصا له ديني } أي الدين
وقضية إطلاقه أنه لا فرق بين القذف على سبيل الإيذاء أو على الشهادة إذا لم يتم عدد الشهود وهو كذلك كما في الشرح والروضة
قال الرافعي ويشبه أن يشترط في هذا الإكذاب جريانه بين يدي القاضي انتهى
وهو كما قال ابن شهبة ظاهر فيمن قذف بحضرة القاضي واتصل قذفه ببينة أو اعتراف وغير ظاهر فيما إذا لم يتصل بالقاضي أصلا بل في جواز إتيانه القاضي وإعلامه له بالقذف نظرا لما فيه من الإيذاء وإشاعة الفاحشة
( وكذا شهادة الزور ) يقول الشاهد فيها على وزان ما مر شهادتي باطلة وأنا نادم عليها ولا أعود إليها لأنه في معنى ما سبق
ولكن الذي في الروضة وأصلها عن المهذب أنه يقول كذبت فيما قلت ولا أعود إلى مثله وأقراه
( قلت ) ك الرافعي في الشرح ( و ) المعصية ( غير القولية ) كالسرقة والزنا والشرب ( يشترط ) في التوبة منها ( إقلاع ) عنها ( وندم ) عليها ( وعزم أن لا يعود ) لها ( ورد ظلامة آدمي ) من مال وغيره وقصاص وحد قذف ( إن تعلقت به
والله أعلم ) فيؤدي الزكاة لمستحقها ويرد المغصوب إن بقي وبدله إن تلف لمستحقه أو يستحق منه أو من ورائه ويعلمه إن لم يعلم فإن لم يوجد مستحق أو انقطع خبره سلمها إلى قاض أمين فإن تعذر تصدق بها ويؤدي الغرم أو يتركها عنده
والمعسر ينوي العزم إذا قدر فإن مات معسرا طولب في الآخرة إن عصي بالاستدانة كأن استدان لإعانة على معصية وإلا فإن استدان لحاجة
____________________
(4/439)