كفرا، والعزم على الكفر في المستقبل كفر في الحال، وكذا التردد في أنه يكفر أم لا، فهو كفر في الحال، وكذا التعليق بأمر مستقبل، كقوله: إن هلك مالي أو ولدي تهودت، أو تنصرت، قال: والرضى بالكفر كفر، حتى لو سأله كافر يريد الاسلام أن يلقنه كلمة التوحيد، فلم يفعل، أو أشار عليه بأن لا يسلم، أو على مسلم بأن يرتد، فهو كافر بخلاف ما لو قال لمسلم: سلبه الله الايمان، أو لكافر: لا رزقه الله الايمان، فليس بكفر، لانه ليس رضى بالكفر، لكنه دعا عليه بتشديد الامر والعقوبة عليه. قلت: وذكر القاضي حسين في الفتاوى وجها عيفا، أن من قال لمسلم: سلبه الله الايمان، كفر. والله أعلم. ولو أكره مسلما على الكفر، صار المكره كافرا، والاكراه على الاسلام، والرضى به، والعزم عليه في المستقبل ليس بإسلام، ومن دخل دار الحرب، وشرب معهم الخمر، وأكل لحم الخنزير، لا يحكم بكفره، وارتكاب كبائر المحرمات ليس بكفر، ولا ينسلب به اسم الايمان، والفاسق إذا مات ولم يتب لا يخلد في النار. فرع في كتب أصحاب أبي حنيفة رحمه الله اعتناء تام بتفصيل الاقوال والافعال المقتضية للكفر، وأكثرهما مما يقتضي إطلاق أصحابنا الموافقة عليه، فنذكر ما يحضرنا مما في كتبهم. منها: إذا سخر باسم من أسماء الله تعالى، أو بأمره، أو بوعده أو وعيده،(7/285)
كفر، وكذا لو قال: لو أمرني الله تعالى بكذا لم أفعل، أو لو صارت القبلة في هذه الجهة ما صليت إليها، أو لو أعطاني الجنة ما دخلتها. قلت: مقتضى مذهبنا والجاري على القواعد أنه لا يكفر في قوله لو أعطاني الجنة ما دخلتها، وهو الصواب. والله أعلم. ولو قال لغيره: لا تترك الصلاة، فإن الله تعالى يؤاخذك، فقال: لو واخذني الله بها مع ما بي من المرض والشدة، ظلمني، أو قال المظلوم: هذا بتقدير الله تعالى، فقال الظالم: أنا أفعل بغير تقدير الله تعالى، كفر، ولو قال: لو شهد عندي الانبياء والملائكة بكذا ما صدقتهم، كفر، ولو قيل له: قلم أظفارك، فإنه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا أفعل وإن كان سنة، كفر. قلت: المختار أنه لا يكفر بهذا إلا أن يقصد استهزاء. والله أعلم. واختلفوا فيما لو قال: فلان في عيني كاليهودي، والنصراني في عين الله تعالى، أو بين يدي الله تعالى، فمنهم من قال: هو كفر، ومنهم من قال: إن أراد الجارحة، كفر، وإلا فلا، قالوا: ولو قال: إن الله تعالى جلس للانصاف، كفر، أو قام للانصاف، فهو كفر، واختلفوا فيما إذا قال الطالب ليمين خصمه، وقد أراد الخصم أن يحلف بالله تعالى: لا أريد الحلف بالله تعالى، إنما أريد الحلف بالطلاق والعتاق، والصحيح أنه لا يكفر، واختلفوا فيمن نادى رجلا اسمه عبد الله، وأدخل في آخره حرف الكاف الذي يدخل للتصغير بالعجمية، فقيل: يكفر، وقيل: إن تعمد التصغير كفر، وإن كان جاهلا لا يدري ما يقول، أو لم يكن له قصد، لا يكفر، واختلفوا فيمن قال: رؤيتي إياك كرؤية ملك الموت، وأكثرهم على أنه لا يكفر، قالوا: ولو قرأ القرءان على ضرب الدف أو القضيب، أو قيل له: تعلم الغيب، فقال: نعم، فهو كفر، واختلفوا فيمن خرج لسفر، فصاح العقعق، فرجع هل يكفر ؟ قلت: الصواب أنه لا يكفر في المسائل الثلاث. والله أعلم. ولو قال: لو كان فلان نبيا، آمنت به، كفر، وكذا لو قال: إن كان ما قاله الانبياء صدقا نجونا، أو قال: لا أدري أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - انسيا أم جنيا، أو قال: إنه جن، أو صغر عضوا من أعضائه على طريق الاهانة، واختلفوا فيما لو قال: كان(7/286)
طويل الظفر، واختلفوا فيمن صلى بغير وضوء متعمدا، أو مع ثوب نجس، أو إلى غير القبلة. قلت: مذهبنا ومذهب الجمهور، لا يكفر إن لم يستحله. والله أعلم. ولو تنازع رجلان، فقال أحدهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الآخر: لا حول لا تغني من جوع، كفر، ولو سمع أذان المؤذن فقال: إنه يكذب، أو قال وهو يتعاطى قدح الخمر، أو يقدم على الزنى: باسم الله تعالى، واستخفافا باسم الله تعالى، كفر، ولو قال: لا أخاف القيامة، كفر، واختلفوا فيما لو وضع متاعه في موضع وقال: سلمته إلى الله تعالى، فقال له رجل: سلمته إلى من لا يتبع السارق إذا سرق، ولو حضر جماعة، وجلس أحدهم على فكان رفيع تشبها بالمذكرين، فسألوه المسائل وهم يضحكون، ثم يضربونه بالمخراق، أو تشبه بالمعلمين، فأخذ خشبة، وجلس القوم حوله كالصبيان، وضحكوا واستهزؤوا، وقال: قصعة ثريد خير من العلم، كفر. قلت: الصواب أنه لا يكفر في مسألتي التشبه. والله أعلم. ولو دام مرضه واشتد فقال: إن شئت توفني مسلما، وإن شئت توفني كافرا، صار كافرا، وكذا لو ابتلي بمصائب، فقال: أخذت مالي، وأخذت ولدي، وكذا وكذا، وماذا تفعل أيضا، أو ماذا بقي ولم تفعله، كفر، ولو غضب على ولده أو غلامه، فضربه ضربا شديدا، فقال رجل: لست بمسلم، فقال: لا، متعمدا كفر، ولو قيل له: يا يهودي، يا مجوسي، فقال: لبيك، كفر، قلت: في هذا نظر إذا لم ينو شيئا. والله أعلم. ولو أسلم كافر، فأعطاه الناس أموالا، فقال مسلم: ليتني كنت كافرا فأسلم، فأعطى، قال بعض المشائخ: يكفر. قلت: في هذا نظر، لان جازم بالاسلام في الحال والاستقبال، وثبت في الاحاديث الصحيحة في قصة أسامة رضي الله عنه حين قتل من نطق بالشهادة،(7/287)
فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ قال: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل يومئذ، ويمكن الفرق بينهما. والله أعلم. ولو تمنى أن لا يحرم الله تعالى الخمر، أو لا يحرم المناكحة بين الاخ والاخت، لا يكفر، ولو تمنى أن لا يحرم الله تعالى الظلم أو الزنى، وقتل النفس بغير حق، كفر، والضابط أن ما كان حلالا في زمان فتمنى حله لا يكفر، ولو شد الزنار على وسطه، كفر، واختلفوا فيمن وضع قلنسوة المجوس على رأسه، والصحيح أنه يكفر، ولو شد على وسطه حبلا، فسئل عنه، فقال: هذا زنار، فالاكثرون على أنه يكفر، ولو شد على وسطه زنارا، ودخل دار الحرب للتجارة، كفر، وإن دخل لتخليص الاسارى، لم يكفر، قلت: الصواب أنه لا يكفر في مسألة التمني وما بعدها إذا لم تكن نيه. والله أعلم. ولو قال معلم الصبيان: اليهود خير من المسلمين بكثير، لانهم يقضون حقوق معلمي صبيانهم، كفروا، قالوا: ولو قال: النصرانية خير من المجوسية، كفر، ولو قال: المجوسية شر من النصرانية، لا يكفر. قلت: الصواب أنه لا يكفر بقوله: النصرانية خير من المجوسية إلا أن يريد أنها دين حق اليوم. والله أعلم. قالوا: ولو عطس السلطان، فقال له رجل: يرحمك الله، فقال آخر: لا تقل للسلطان هذا، كفر الآخر. قلت: الصواب أنه لا يكفر بمجرد هذا. والله أعلم.(7/288)
قالوا: ولو سقى فاسق ولده خمرا، فنثر أقرباؤه الدراهم والسكر، كفروا. قلت: الصواب أنهم. لا يكفرون. والله أعلم. قالوا: ولو قال كافر لمسلم: اعرض علي الاسلام، فقال: حتى أرى، أو اصبر إلى الغد، أو طلب عرض الاسلام من واعظ، فقال: اجلس إلى آخر المجلس، كفر، وقد حكينا نظيره عن المتولي، قالوا: ولو قال لعدوه: لو كان بينا لم أؤمن به، أو قال: لم يكن أبو بكر الصديق رضي الله عنه من الصحابة، كفر، قالوا: ولو قيل لرجل: ما الايمان، فقال: لا أدري، كفر، أو قال لزوجته: أنت أحب إلى من الله تعالى، كفر، وهذه الصور تتبعوا فيها الالفاظ الواقعة في كلام الناس وأجابوا فيها اتفاقا أو اختلافا بما ذكر، ومذهبنا يقتضي موافقتهم في بعضها، وفي بعضها يشترط وقوع اللفظ في معرض الاستهزاء. قلت: قد ذكر القاضي الامام الحافظ أو الفضل عياض رحمه الله في آخر كتابه الشفاء بتعريف حقوق نبينا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه جملة في الالفاظ المكفرة غير ما سبق، نقلها عن الائمة، أكثرهم مجمع عليه، وصرح بنقل الاجماع فيه. والله أعلم. فمنها: أن مريضا شفي ثم قال: لقيت في مرضي هذا ما لو قتلت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم استوجبه، فقال بعض العلماء: يكفر ويقتل، لانه يتضمن النسبة إلى الجور، وقال آخرون: لا يتحتم قتله ويستتاب ويعزر، وأنه لو قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أسود، أو توفي قبل أن يلتحي، أو قال: ليس هو بقرشي، فهو كفر، لان وصفه بغير صفته نفي له وتكذيب به، وأن من ادعى أن النبوة مكتسبة، أو أنه يبلغ بصفاء القلب إلى مرتبتها، أو ادعى أنه يوحى إليه وإن لم يدع النبوة، أو ادعى أنه يدخل الجنة ويأكل من ثمارها، ويعانق الحور، فهو كافر بالاجماع قطعا، وأن من(7/289)
دافع نص الكتاب أو السنة المقطوع بها المحمول على ظاهره، فهو كافر بالاجماع، وأن من لم يكفر من دان بغير الاسلام كالنصارى، أو شك في تكفيرهم، أو صحح مذهبهم، فهو كافر وإن أظهر مع ذلك الاسلام واعتقده، وكذا يقطع بتكفير كل قائل قولا يتوصل به إلى تضليل الامة، أو تكفير الصحابة، وكذا من فعل فعلا أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحا بالاسلام مع فعله، كالسجود للصليب، أو النار والمشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها، وكذا من أنكر مكة، أو البيت، أو المسجد الحرام، أو صفة الحج، وأنه ليس على هذه الهيئة المعروفة، أو قال: لا أدري أن هذه المسماة بمكة هي مكة أم غيرها، فكل هذا أو شبهه لا شك في تكفير قائله إن كان ممن يظن به علم ذلك، ومن طالت صحبته المسلمين، فإن كان قريب عهد بإسلام، أو بمخالطة المسلمين، عرفناه ذلك، ولا يعذر بعد العريف، وكذا من غير شيئا من القرآن، أو قال: ليس بمعجز، أو قال: ليس في خلق السماوات والارض دلالة على الله تعالى، أو أنكر الجنة أو النار، أو البعث أو الحساب، أو اعترف بذلك، ولكن قال: المراد بالجنة والنار والبعث والنشور، والثواب والعقاب غير معانيها، أو قال: الائمة أفضل من الانبياء.
الطرف الثاني : فيمن تصح ردته وشرطها التكليف
فلا تصح ردة صبي ولا مجنون، ومن ارتد ثم جن لا يقتل في جنونه، وكذا من أقر بالزنى ثم جن، لا يقام عليه الحد، لانه قد يرجع عن الاقرار بخلاف ما لو أقر بقصاص، أو حد قذف ثم جن، فإنه يستوفى في جنونه، لانه لا يسقط برجوعه، وبخلاف ما لو قامت بينة بزناه، ثم جن، قال البغوي: هذا كله على سبيل الاحتياط، فلو قتل في حال الجنون، أو أقيم عليه الحد، فمات لم يجب شئ، وتصح ردة السكران على المذهب كما سبق في طلاقه، فإن(7/290)
صححناها، فارتد في سكره، أو أقر بالردة، وجب القتل، لكن لا يقتل حتى يفيق فيعرض عليه السلام، وفي صحة استتابته في السكر وجهان حكاهما البغوي، أحدهما: نعم، لكن يستحب أن تؤخر إلى الافاقة، والثاني: المنع، وبه قطع ابن الصباغ، لان الشبهة لا تزول في ذلك الحال، ولو عاد إلى الاسلام في السكر، صح إسلامه، وارتفع حكم الردة، وسبق ذكر طريق أنه يصح تصرف السكران فيما عليه دون ماله، فعلى هذا لا يصح إسلامه وإن صحت ردته، وقيل: لا يصح قطعا، والمذهب الاول، فإن صححنا إسلامه، فقتله رجل، لزمه القصاص والضمان على المشهور، وحكي قول في إهداره، وإن قلنا: لا تصح ردة السكران، فقتل تعلق بقتله القصاص والضمان، وعن ابن القطان: تجب الدية دون القصاص للشبهة، والصحيح الاول، ولو ارتد صاحيا، ثم سكر فأسلم، حكى ابن كج القطع بأنه لا يكون إسلاما، والقياس جعله على الخلاف.
فصل المؤمن إذا أكره على أن يتكلم بكلمة الكفر فتكلم بها، لا يحكم بردته، فلا تبين زوجته، ولو مات ورثه ورثته المسلمون، وسبق في أول الجنايات أنه يباح له التكلم بكلمة الكفر بالاكراه، وأن الاصح أنه لا يجب، وأن الافضل أن يقبت ولا يتكلم بها، وهل تقبل الشهادة على الردة مطلقا، أم لا تقبل حتى يفصل لاختلاف الناس فيما يوجبها ؟ فيه قولان، أظهرهما: الاول، وعلى هذا لو شهد(7/291)
عدلان بردته فقال: كذبا، أو ما ارتددت، قبلت شهادتهما، ولا يغنيه التكذيب، بل يلزمه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلما، ولا ينفعه ذلك في بينونة زوجته، وكذا الحكم لو شرطنا التفصيل، ففصلا، وكذبهما، فلو قال: كنت مكرها فيما فعلته، نظر إن كانت قرائن الاحوال شهد له، بأن كان في أسر الكفار، أو كان محفوفا بجماعة منهم وهو مستشعر، صدق بيمينه، قال صاحب البيان وغيره: وكذا الحكم لو قامت بينة بإقراره بالبيع وغيره وكان مقيدا أو محبوسا، فقال: كنت مكرها، وإن لم تشهد القرائن بصدقه، بأن كان في دار الاسلام، لم يقبل قوله، وأجريت عليه أحكام المرتدين، وكذا لو كان في دار الحراب وهو مخلى آمن، ولو لم(7/292)
يقل الشاهدان: ارتد، بل قالا: تلفظ بكلمة الكفر، فقال: صدقا، ولكنني كنت مكرها، قال الشيخ أبو محمد وتابعوه عليه: يقبل قوله، لانه ليس فيه تكذيب الشاهد بخلاف ما أذا شهد بالردة، فإن الاكراه ينافي الردة ولا ينافي التلفظ بكلمتها، قال الشيخ: والجزم أن يجدد كلمة الاسلام، فلو قتل قبل التجديد، فهل يكون قتله مضمونا، لان الردة لم لم تثبت أم لا، لان لفظ الردة وجد والاصل الاختيار ؟ فيه قولان قال الامام: والقولان إذا لم يدع الاكراه، أو لم يحلف عليه، فأما إذا ادعاه وحلف عليه، فقد ثبت الاكراه بالحجة، فنقطع بأنه مضمون، وفيما ذكرناه دلالة بينة على أنهما لو شهدا بردة الاسير، ولم يدع إكراها، حكم بردته، ويؤيده ما حكي عن القفال، أنه لو ارتد أسير مع الكفار، ثم أحاط بهم المسلمون، فاطلع من الحصن وقال: أنا مسلم وإنما تشبهت بهم خوفا، قبل قوله وحكم بإسلامه، وإن لم يدع ذلك حتى مات، فالظاهر أنه ارتد طائعا، وإن مات أسيرا، وعن نص الشافعي رحمه الله أنهما لو شهدا بتلفظ رجل بالكفر وهو محبوس أو مقيد، لم يحكم بكفره، وإن لم يتعرض الشاهدان للاكراه، وفي التهذيب أن من دخل دار الحرب وكان يسجد للصنم، ويتكلم بالكفر، ثم قال: كنت مكرها، فإن فعله في مكان خال، لم يقبل قوله كما لو فعله في دار الاسلام، وإن فعله بين أيديهم، قبل قوله إن كان أسيرا، وإن كان تاجرا، فلا. فرع مات معروف بالاسلام عن ابنين مسلمين، فقال أحدهما: مات مسلما، وقال الآخر: كفر بعد إسلامه ومات كافرا، فإن بين سببه، فقال: سجد لصنم، أو تكلم بكلام كفر به، فلا إرث له، ويصرف نصيبه إلى بيت المال، وإن أطلق، فثلاثة أقوال، أحدها: يصرف إليه نصيبه ولا أثر لاقراره، لانه قد يتوهم ما ليس بكفر كفرا، والثاني: يجعل فيئا، والثالث وهو الاظهر: يستفصل، فإن ذكر ما هو كفر، كان فيئا، وإن ذكر ما ليس بكفر، صرف إليه، ولو قال: مات كافرا، لانه كان يشرب الخمر ويأكل الخنزير، فهل يرثه ؟ قولان، أظهرهما: نعم. فرع تلفظ أسير بكلمة كفر مكرها، لا يحكم بكفره، فإن مات هناك، مات مسلما وورثه ورثته المسلمون، فإن رجع إلى دار الاسلام، عرض عليه الدين لاحتمال أنه كان مختارا فيما أتى به، وهنا ثلاثة أشياء، أحدها: أطلق الجمهور(7/293)
العرض، وشرط له ابن كج أن لا يؤم الجماعات ولا يقبل على الطاعات بعد العود إلينا، فإن فعل ذلك فلا عرض. الثاني: سكت الجمهور عن كون هذا العرض مستحبا أم واجبا، وقال ابن كج: مستحب، لانه لو أكره على الكفر في دار الاسلام لا يعرض الاسلام عليه بعد زوال الاكراه بإتفاق الاصحاب. الثالث: إذا امتنع بعد العرض، فالمنقول أنه يحكم بكفره، ويستدل بامتناعه على أنه كان كافرا عند التلفظ، ومقتضى هذا أن الحكحم بكفره من يومئذ، قال الامام: وفي الحكم بكفره احتمال، ولو مات قبل العرض والتلفظ بالاسلام، فالصحيح أنه كما لو مات قبل أن يعود إلينا، وقيل: يموت كافرا وكان من حقه إذا جاء أن يتكلم بكلمة الاسلام. فرع ارتد الاسير مختارا ثم رأيناه يصلي صلاة المسلمين في دار الحرب، فالصحيح المنصوص أنه يحكم بإسلامه بخلاف ما لو صلى في دار الاسلام لا يحكم بإسلامه، لانها في دار الحرب لا تكون إلا عن اعتقاد، وفي دار الاسلام قد تكون للتقية، وقال الامام: قال العراقيون: هي إسلام، ثم استبعده وقال: الوجه في قياس المراوزة القطع بأنه ليس إسلاما، كما لو رأينا الكافر الاصلي يصلي في دار الحرب، وسوى صاحب البيان بين الاصلي والمرتد، فقال: إذا صلى الكافر الاصلي بدار الحرب، حكم بإسلامه، ولو صلى في دار الاسلام، لم يحكم به. قلت: هذا المنقول عن صاحب البيان هو قول القاضي أبي الطيب، وقد سبقت حكاية الرافعي له في صلاة الجماعة، وشذ المتولي، فحكاه هناك عن نص الشافعي رحمه الله، والصحيح الذي عليه الاصحاب أنه لا يكون إسلاما من الاصلي بخلاف المرتد، لان علقة الاسلام باقية في المرتد، فصلاته عود منه إلى ما كان، ثم سواء في كل ما ذكرنا الصلاة منفودا وإماما ومقتديا، وهذا إذا لم يسمع منه لشهد فيها، فإن سمعناه، فهو مسلم حيث ما كان، وأي كافر كان، وفيه وجه شاذ سبق في باب الاذان. والله أعلم.
الباب الثاني : في حكم الردة
أحكامها كثيرة متفرقة في الابواب، والمقصود هنا نفسه وولده وماله، أما نفسه، فمهدرة، فيجب قتله إن لم يتب، سواء انتقل إلى دين أهل(7/294)
كتاب أم لا، حرا كان أو عبدا، أو امرأة، فإن تاب وعاد إلى الاسلام، قبلت(7/295)
توبته وإسلامه، سواء كان مسلما أصليا، فارتد، أو كافرا أسلم ثم ارتد، وسواء كان الكفر الذي ارتد إليه كفرا ظاهرا، أو غيره، ككفر الباطنية، وسواء كان ظاهر الكفر، أو زنديقا يظهر الاسلام، ويبطن الكفر، وسواء تكررت منه الردة والاسلام، أم لا، فيقبل إسلام الزنديق ومن تكررت ردته وغيره، هذا هو الصحيح المنصوص في المختصر وبه قطع العراقيون، والوجه الثاني: لا يقبل إسلام الزنديق، قال الروياني في الحلية: والعمل على هذا، والثالث عن القفال الشاشي: أن المتناهين في الخبث، كدعاة الباطنية، لا تقبل توبتهم ورجوعهم إلى الاسلام ويقبل من عوامهم، والرابع عن الاستاذ أبي إسحق الاسفراييني: أنه إن أخذ ليقتل، فتاب، لم تقبل، وإن جاء تائبا ابتداء، وظهرت أمارات الصدق، قبلت، والخامس عن أبي إسحق المروزي: لا يقبل إسلام من تكررت ردته، وعلى الصحيح إذا تكررت ردته، وعزر. ويقتل المرتد بضرب الرقبة دون الاحراق وغيره، ويتولاه الامام أو من ولاه، فإن قتله غيره، عزر، ويستتاب المرتد قبل قتله، وهل الاستتابة واجبة أم مستحبة ؟ قولان، ويقال: وجهان، أظهرهما: واجبة، وعلى التقديرين في قدرها قولان، أحدهما: ثلاثة أيام، وأظهرهما: في الحال، فإن تاب وإلا قتل ولم يمهل، وقيل: لا يجب الامهال ثلاثا قطعا، وإنما الخلاف في استحبابه، ولا خلاف أنه لا يخلى في مدة الامهال، بل يحبس، ولا خلاف أنه لو قتل قبل الاستتابة، أو قبل مضي مدة الامهال، لم يجب بقتله شئ، وإن كان القاتل مسيئا بفعله. فرع إذا وجب قتل المرتد إما في الحال، وإما بعد الاستتابة، فقال: عرضت لي شبهة فأزيلوها، لاعود إلى ما كنت عليه، فهل نناظره لازالتها وجهان، أحدهما: نعم، لان الحجة مقدمة على السيف، والثاني: لا، لان الشبه لا تنحصر، فيورد بعضها بإثر بعض فتطول المدة، فحقه أن يسلم، ثم يستكشفها من العلماء، والاول أصح عند الغزالي، وحكى الروياني الثاني عن النص،(7/296)
واستبعد الخلاف، وعن أبي إسحق أنه لو قال: أنا جائع فأطعموني، ثم ناظروني، أو كان الامام مشغولا بما هو أهم منه، أخرناه، ولا يجوز استرقاق المرتد بحال، سواء فيه الرجل والمرأة. فصل أما ولد المرتد، فإن كان منفصلا، أو انعقد قبل الردة، فمسلم، حتى لو ارتدت حامل، لم يحكم بردة الولد، فإن بلغ وأعرب بالكفر، كان مرتدا بنفسه، وإن حدث الولد بعد الردة، فإن كان أحد أبويه مسلما، فهو مسلم بلا خلاف، وإن كانا مرتدين، فهل هو مسلم، أم مرتد، أم كافر أصلي ؟ فيه ثلاثة أقوال، أظهرها: مسلم. قلت: كذا صححه البغوي، فتابعه الرافعي، والصحيح أنه كافر، وبه قطع جميع العراقيين، نقل القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد أنه لا خلاف فيه في المذهب، وإنما الخلاف في أنه كافر أصلي أم مرتد، والاظهر: مرتد. والله أعلم.(7/297)
فإذا قلنا: إنه مسلم، لا يسترق بحال، وإن مات صغيرا ورثه قرابته المسلمون، ويجزئ عتقه عن الكفارة إن كان رقيقا، وإن بلغ وأعرب بالكفر، فمرتد، وإن قلنا: كافر أصلي، جاز استرقاقه، قال الامام: ويجوز عقد الجزية معه إذا بلغ وهو كالكافر الاصلي في كل معنى، والذي قطع به البغوي وغيره، وحكاه الروياني عن المجموع أنه لا يجوز عقد جزية له، لانه ليس كتابيا، وإن قلنا: إنه مرتد، لم يسترق بحال، ولا يقتل حتى يبلغ فيستتاب، فإن أصر، قتل، وأولاده أولاد المرتدين، حكمهم حكم أولاد المرتدين. قلت: قال البغوي: لو كان أحد الابوين مرتدا والآخر كافرا أصليا، فإن قلنا: إذا كانا مرتدين يكون الولد مسلما، كان هنا مسلما أيضا، وإن قلنا: يكون هناك مرتدا أو كافرا أصليا، كان هنا كافرا أصليا، يقر بالجزية إن كان الاصلي ممن يقربها، كما لو كان أحد أبويه مجوسيا والآخر وثنيا، وإن كان الاصلي كتابيا، كان الولد كتابيا. والله أعلم. فرع الذمي والمستأمن إذا نقض العهد، ولحق بدار الحرب، وترك ولده عندنا، لا يجوز استرقاقه، فإذا بلغ وقبل الجزية فذاك، وإلا فلا يجبر ويلحق بالمأمن، وفي وجه: يسترق ولده بلحوقه بدار الحرب، وفي وجه: إن هلك هناك، أو استرق، استرق ولده. فصل وأما ماله، فهل يزول ملكه عنه بنفس الردة ؟ فيه أقوال، أحدها: نعم لزوال عصمة الاسلام، وقياسا على النكاح، والثاني: لا، كالزاني المحصن، وأظهرها: موقوف، فإن مات مرتدا، بان زواله بالردة، وإن أسلم، بان أنه لم يزل، لان بطلان أعماله يتوقف على موته مرتدا، فكذا ملكه، ومنهم من قطع باستمرار ملكه، وجعل الخلاف في أنه هل يصير بالردة محجورا عليه في التصرف، والخلاف في زوال الملك يجري في ابتداء التملك إذا اصطاد، أو احتطب، فإن قلنا: يزول، قال الامام: ظاهر القياس أنه يثبت الملك لاهل الفئ فيما اصطاد واحتطب، كما يحصل ملك السيد فيما احتطب العبد، قال: وليكن شراؤه واتهابه، كشراء العبد واتهابه بغير إذن السيد، حتى يجئ الخلاف، والذي ذكره المتولي أنه(7/298)
يبقى على الاباحة كما إذا اصطاد المحرم لا يملكه، ويبقى الصيد على الاباحة، وإن قلنا: يبقى ملك المرتب فيما احتطبه، أو اصطاده ملكه كالحربي، وإن قلنا: موقوف، فموقوف، فإن عاد إلى الاسلام، بان أنه ملكه من يوم الاخذ، وإن مات مرتدا، قال المتولي: حكم بأن المأخوذ باق على الاباحة، وعلى قياس ما ذكره الامام يبين أنه لاهل الفئ، وعلى الاقوال كلها، تقضى من ماله ديونه التي لزمته قبل الردة، لانها لا تزيد على الموت، وقد تكون نفقة الزوجة من الدين اللازم قبل الردة، ولا تكون نفقة القريب منه لسقوطها بمضي الزمان، وقال الاصطخري: لا تقضى ديونه على قول زوال الملك، ويجعل المال كالتالف، والمذهب الاول، وأما في مدة الردة، فينفق عليه من ماله، وتكون نفقته كحاجة الميت إلى الكفن بعد زوال ملكه، ونقل ابن كج عن ابن الوكيل، أنه لا ينفق عليه على قول زوال الملك، بل ينفق عليه مدة الاستتابة من بيت المال، وهذا شاذ ضعيف، وهل تلزمه نفقة زوجاته الموقوف نكاحهن، ونفقة قريبة، وغرامة ما يتلفه من الردة على قول زوال الملك ؟ وجهان، قال ابن سلمة والاصطخري: لا، واختاره المتولي، إذ لا ملك له وأصحهما عند الجمهور: نعم، كما أن من حفر بئر عدوان، ومات، وحصل بها إتلاف، يؤخذ الضمان من تركته، وإن زال ملكه بالموت. فرع إذا قلنا بزوال ملكه، فأسلم، عاد ملكه بلا خلاف، لان إزالة ملكه عقوبة، فعاد بالتوبة. فرع إذا قلنا بزوال ملكه لا يصح تصرفه ببيع وشراء وإعتاق ووصية وغيرها، لانه لا مال له، وفي الشراء ما سبق عن الامام، وإن قلنا: يبقى ملكه منع من التصرف، نظرا لاهل الفئ، وهل يصير بنفس الردة محجورا عليه، أم لا بد من ضرب القاضي ؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما: الثاني، ومنهم من قطع به، وخص الخلاف بقولنا: ملكه موقوف، ثم على الوجهين، هل هو كحجر السفيه، لانه أشد من تضييع المال أم كحجر المفلس، لانه لصيانة حق غيره ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، فإن قلنا: لا بد من ضرب القاض، ولم يضرب نفذت تصرفاته، وإن قلنا: يحصل الحجر بلا ضرب أو بالضرب فضرب، فإن جعلناه كحجر السفه، لم ينفذ تصرفه في الحال في المال، وإذا أقر بدين، لم يقبل(7/299)
إقراره، وإن جعلناه كمفلس، فهل تبطل تصرفاته أم توقف ؟ قولان كما في المفلس، وإقراره بالدين وبالعين كما سبق في المفلس، وإن قلنا بالوقف، فكل تصرف يحتمل الوقف، كالعتق والتدبير والوصية، موقوف أيضا، وأما البيع والهبة والكتابة ونحوها، فهي على قولي وقف العقود، فعلى الجديد هي باطلة، وعلى القديم توقف، إن أسلم حكم بصحتها، وإلا فلا، ولا يصح نكاحه ولا إنكاحه، لسقوط ولايته، وحكى البغوي على قولنا: لا يزول ملكه وجها أنه يجوز تزويج أمته إذا لم يحجر الحاكم عليه، كسائر تصرفه المالي، قال: وهذا غير قوي، وقطع المتولي وغيره بهذا. فرع على الاقوال كلها لا يعتق بالردة مدبر المرتد، ولا أم ولده، فإن مات مرتدا، عتقت المستولدة، وفي المدبر كلام يأتي إن شاء الله تعالى. فرع سواء في جميع ما ذكرناه التحق المرتد بدار الحرب، أم كان في قبضة الامام، وعلى الاقوال يوضع مال مرتد عند عدل، وأمته عند امرأة ثقة، لانا وإن قلنا ببقاء ملكه، فقد تعلق به حق المسلمين، فيحتاط، ويؤجر عقاره ورقيقه وأم ولده ومدبره، ويؤدي مكاتبه النجوم إلى الحاكم، وإذا لحق بدار الحرب ورأى الحاكم الحظ في بيع الحيوان، فعل، وإذا ارتد وعليه دين مؤجل، فإن قلنا بزوال ملكه، حل الدين كما لو مات، وإن قلنا: لا يزول، لم يحل، وإن قلنا بالوقف، فعاد إلى الاسلام، بان أنه لم يحل، وإذا استولد جاريته، نفذ الاستيلاء إن أبقينا ملكه، وإن أزلناه فلا، فإن أسلم، فقولان، كما لو استولد المشتري الجارية المبيعة في زمن الخيار، وقلنا: الملك للبائع، فتم البيع. فصل إذا ارتد جماعة، وامتنعوا بحصن وغيره، وجب قتالهم، ويقدم على قتال غيرهم، لان كفرهم أغلظ، ولانهم أعرف بعورات المسلمين، ويتبع في القتال مدبرهم، ويذفف على جريحهم، ومن ظفرنا به، استتبناه، وهل عليهم ضمان ما أتلفوه من نفس ومال في القتال ؟ فيه خلاف سبق في قتال البغاة، وإذا أتلف المرتد في غير القتال، فعليه الضمان والقصاص، ويقدم القصاص على قتل الردة، فإن بادر الامام بقتله عن الردة، أو عفا المستحق، أو مات المرتد، أخذت الدية من ماله، ولو جنى خطأ ومات، أو قتل مرتدا، أخذت الدية من ماله عاجلا، ولو وطئت(7/300)
مرتدة بشبهة أو مكرهة، فإن قلنا: الردة لا تزيل الملك، فلها مهر المثل، كما لو وطئت زانية محصنة بشبهة بخلاف ما لو وطئت حربية بشبهة، فلا مهر، لان مالها غير مضمون، فكذا منفعة بضعها، ومال المرتدة مضمون، وإن قلنا: يزول ملكها، لم يجب، كما لو وطئ ميتة على ظن أنها حية بشبهة، وإن قلنا: الملك موقوف، فالمهر موقوف، ولو أكره مرتد على عمل، فالقول في أجرة مثله كما في المهر، ولو استأجره وسمى أجرة، بني على صحة عقوده، وحكم المسمى إن صححنا عقوده، وأجرة المثل إن لم نصححها حكم المهر، ولو زنى في ردته، أو شرب، فهل يكفي قتله، أم يحد ثم يقتل ؟ وجهان، أصحهما: الثاني.
فصل فيما تحصل به توبة المرتد وفي معناها إسلام الكافر الأصلي وقد وصف الشافعي رضي الله عنه توبته فقال: أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويبرأ من كل دين خالف الاسلام، وقال في موضع: إذا أتى بالشهادتين، صار مسلما، وليس هذا باختلاف قول عند جمهور الاصحاب كما ذكرنا في كتاب الظهار، بل يختلف الحال باختلاف الكفار وعقائدهم، قال البغوي: إن كان الكافر وثنيا أو ثنويا لا يقر بالوحدانية، فإذا قال: لا إله إلا الله، حكم بإسلامه، ثم يجبر على قبول جميع الاحكام، وإن كان مقرا بالوحدانية، منكرا نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، لم يحكم بإسلامه حتى يقول مع ذلك: محمد رسول الله، فإن كان يقول: الرسالة إلى العرب خاصة، لم يحكم بإسلامه حتى يقول: محمد رسول الله إلى جميع الخلق، أو يبرأ من كل دين خالف الاسلام، وإن كان كفره بجحود فرض أو استباحة محرم، لم يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين، ويرجع عما اعتقده، ويستحب أن يمتحن كل كافر أسلم بالايمان بالبعث، ولو قال كافر: أنا ولي محمد، لم يصح إسلامه كذا ولو قال: أنا مثلكم، أو مسلم أو آمنت، أو أسلمت، لم يصح إسلامه، ولو قال: أنا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو دينكم حق، حكم بإسلامه ولو أقر بركن من أركان الاسلام على خلاف عقيدته، كفرضية إحدى الصلوات، أو أقر بتحريم الخمر والخنزير، حكم بإسلامه، وما يصير به المسلم كافرا إذا جحده، يصير به الكافر(7/301)
مسلما إذا أقر به، ويجبر على قبول سائر الاحكام، فإن امتنع، قتل كالمرتد، ولو أقر يهودي برسالة عيسى - صلى الله عليه وسلم -، ففي قول يجبر على الاسلام، لان المسلم لو جحد رسالته، كفر، نقل هذا كله البغوي وهو طريقة، ذكرنا في كتاب الكفارات أن الامام نسبها إلى المحققين، والذي عليه الجمهور خلافها. فرع في المنهاج للامام الحليمي أنه لا خلاف أن الايمان ينعقد بغير القول المعروف، وهو كلمة لا إله إلا الله، حتى لو قال: لا إله غير الله، أو لا إله سوى الله، أو ما عدا الله، أو ما من إله إلا الله، أو لا إله إلا الرحمن، أو لا رحمن إلا الله، أو لا إله إلا البارئ، أو لا بارئ إلا الله، وان قوله: أحمد أو أبو القاسم رسول الله، كقوله: محمد رسول الله، وأنه لو قال كافر: آمنت بالله، نظر، إن لم يكن على دين قبل ذلك، صار مؤمنا بالله تعالى، وإن كان يشرك بالله تعالى غيره، لم يكن مؤمنا حتى يقول: آمنت بالله وحده وكفرت بما كنت أشرك به، وان قوله أسلمت لله، أو أسلمت وجهي لله، كقوله: آمنت بالله، وأنه لو قيل لكافر: أسلم لله، أو آمن بالله، فقال: أسلمت أو آمنت، يحتمل أن يجعل مؤمنا، وأنه لو قال: أؤمن بالله أو أسلم لله، فهو إيمان، كما أن قول القائل: أقسم بالله، يمين، ولا يحمل على الوعد إلا أن يريده، وأنه لو قال: الله ربي، أو الله خالقي، فإن لم يكن له دين قبل ذلك، فهو إيمان، وإن كان يقول بقدم شئ مع الله تعالى، لم يكن مؤمنا حتى يقر بأنه لا قديم إلا الله، وكذا الحكم لو قال: لا خالق إلا الله، وأنه لو قال اليهودي المشبه: لا إله إلا الله، لم يكن إسلاما حتى يتبرأ من التشبيه ويقر بأنه ليس كمثله شئ، فإن قال مع ذلك: محمد رسول الله، فإن كان يعلم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم -، جاء بنفي التشبيه، كان مؤمنا، وإلا فلا بد أن يتبرأ من التشبيه، وطرد هذا التفصيل فيما إذا قال من يزعم قدم أشياء مع الله: لا إله إلا الله محمد رسول الله، حتى إذا كان يعلم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - جاء ينفي ذلك، كان مؤمنا، وأن الثنوي إذا قال: لا إله إلا الله، لم يكن مؤمنا حتى يتبرأ من القول بقدم الظلمة والنور(7/302)
أن لا قديم إلا الله كان مؤمنا، وأن الوثني إذا قال: لا إله إلا الله، فإن كان يزعم أن الوثن شريك لله تعالى، صار مؤمنا، وإن كان يرى أن الله تعالى هو الخالق ويعظم الوثن لزعمه أنه يقربه إلى الله تعالى، لم يكن مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الوثن، وأنه لو قال البرهمي وهو الموحد الجاحد للرسل: محمد رسول الله، صار مؤمنا، ولو أقر برسالة نبي قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن مؤمنا، ويجئ فيه القول الذي حكاه البغوي في يهودي أقر بنبوة عيسى - صلى الله عليه وسلم -، وأن المعطل إذا قال: محمد رسول الله، فقد قيل يكون مؤمنا لانه أثبت المرسل وإن الكافر لو قال: لا إله إلا الذي آمن به المسلمون، صار مؤمنا. ولو قال: آمنت بالذي لا إله غيره، أو بمن لا إله غيره، لم يكن مؤمنا، لانه قد يريد الوثن، وأنه لو قال: آمنت بالله وبمحمد، كان مؤمنا بالله لاثباته الاله، ولا يكون مؤمنا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى يقول: بمحمد النبي، أو بمحمد رسول الله، وأن قوله: آمنت بمحمد النبي، إيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: آمنت بمحمد الرسول، ليس كذلك، لان النبي لا يكون إلا لله تعالى، والرسول قد يكون لغيره، وان الفلسفي إذا قال: أشهد أن الباري سبحانه وتعالى علة الموجودات أو مبدؤها أو سببها، لم يكن ذلك إيمانا حتى يقر أنه مخترع لما سواه ومحدثه بعد أن لم يكن، وأن الكافر إذا قال: لا إله إلا المحيي المميت، فإن لم يك من الطبائعيين، كان مؤمنا، وإن كان منهم، فلا حتى يقول: إلا الله، أو إلا الباري، أو اسما آخر لا تأويل لهم فيه، وأن الكافر إذا قال: لا إله إلا المالك، أو الرازق، لم يكن مؤمنا، لانه قد يريد السلطان الذي يملك أمر الجند ويرتب أرزاقهم، ولو قال: لا مالك إلا الله، أو لا رازق إلا الله، كان مؤمنا، وبمثله أجاب فيما لو قال: لا إله إلا الله العزيز، أو العظيم، أو الحكيم، أو الكريم، وبالعكوس، وانه لو قال: لا إله إلا الله الملك الذي في السماء، أو إلا ملك السماء، كان مؤمنا، قال الله تعالى: * (أأمنتم من في السماء) *. ولو قال: لا إله إلا ساكن السماء، لم يكن مؤمنا، وكذا لو قال: لا إله إلا الله ساكن السماء، لان السكون محال على الله تعالى، وأنه لو قال: آمنت بالله إن شاء، أو إن كان شاء بنا، لم يكن مؤمنا، وأنه لو قال اليهودي: أنا برئ من اليهودية، أو نصراني: أنا برئ من النصرانية، لم يكن مؤمنا، لانه ضد اليهودية غير منحصر في الاسلام، وكذا لو قال: برئ من كل ملة(7/303)
تخالف الاسلام، فليس مؤمنا، لانه لا ينفي التعطيل، لانه مخالف وليس بملة، فإن قال: من كل ما يخالف الاسلام من دين ورأي وهوى، كان مؤمنا، وأنه لو قال: الاسلام حق، لم يكن مؤمنا، لانه قد يقر بالحق ولا ينقاد له، وهذا يخالف ما حكينا عن البغوي في قوله: دينكم حق، وأنه لو قال لمعتقد ملة: أسلم، فقال: أسلمت، أو أنا مسلم، لم يكن مقرا بالاسلام، لانه قد يسمي دينه الذي هو عليه إسلاما، ولو قال في جوابه: أنا مسلم مثلكم، كان مقرا بالاسلام، ولو قيل لمعطل: أسلم، فقال: أنا مسلم، أو من المسلمين، كان مقرا بالاسلام، لانه لا دين له يسميه إسلاما، وقد يتوقف في هذا. وبالله التوفيق.(7/304)
كتاب حد الزنى
هو من المحرمات الكبائر، وموجب للحد، وفيه بابان
الأول : فيما يوجب الحد، ومعرفة الحد
وضابط الموجب أن إيلاج قدر الحشفة من الذكر في فرج محرم يشتهى طبعا لا شبهة فيه سبب لوجوب الحد، فإن كان الزاني محصنا، فحده الرجم ولا يجلد معه، وقال ابن المنذر من أصحابنا: يجلد، ثم يرجم، وإن كان غير محصن، فواجبه الجلد والتغريب، وسواء في هذين الرجل والمرأة، ويشترط في المحصن هنا ثلاث صفات.(7/305)
إحداها: التكليف، فلا حد على صبي ولا مجنون، لكن يؤدبان بما يزجرهما. الثانية: الحرية، فليس الرقيق والمكاتب وأم الولد ومن بعضه رقيق محصنين. الثالثة: الوطئ في نكاح صحيح، ويكفي تغييب الحشفة، ولا يشترط كونه ممن ينزل، ويحصل بوطئ في الحيض والاحرام، وعدة الشبهة، ولا يحصل بالوطئ بملك اليمين، وهل يحصل بالوطئ بشبهة أو في نكاح فاسد ؟ قولان، المشهور وبه قطع الجمهور: لا، وهل يحصل بوطئ زوجة قبل التكليف والحرية ؟ وجهان، أصحهما عند الجمهور، وهو ظاهر النص: لا، فلا يجب الرجم على من وطئ في نكاح صحيح وهو صبي أو مجنون أو رقيق، ثم زنى بعد كماله، وحكي وجه ثالث أنه يحصل بوطئ الصبي دون الرقيق، ووجه رابع عكسه، فإن شرطنا وقوعه في حال الكمال، فهل يشترط كون الزاني الآخر كاملا حينئذ ؟ فيه ثلاثة أقوال، أظهرها: لا، فلو كان أحدهما كاملا دون الآخر، صار الكامل محصنا، لانه حر مكلف وطئ في نكاح صحيح، والثاني: نعم، فلو كان أحدهما غير كامل، لم يصر الكامل محصنا، والثالث: إن كان نقص الناقص بالرق، صار الكامل محصنا، وإن كان بصغر أو جنون، فلا، وقال الامام: هذا الخلاف في صغيرة أو صغير لا يشتهيه الجنس الآخر، فإن كان مراهقا، حصل قطعا. فرع إذا زنى البكر بمجصنة، أو المحصن ببكر، رجم المحصن منهما، وجلد الآخر وغرب. فرع الرقيق يجلد خمسين، سواء فيه القن والمكاتب وأم الولد، ومن(7/306)
بعضه حر، وفيمن نصفه حر ونصفه رقيق وجه أنه يحد ثلاثة أرباع حد الحر، ووجه ثالث أنه إن كان بينه وبين سيده مهايأة ووافق نوبة نفسه فعليه حد الحر، وإلا فحد العبد، والصحيح الاول، وهل يغرب العبد نصف سنة أم سنة أم لا يغرب ؟ أقوال، أظهرها: الاول.
فصل في تغريب الحر وفيه مسائل: إحداها: تغرب المرأة كما يغرب الرجل، لكن هل تغرب وحدها ؟ وجهان، أصحهما: لا، هكذا أطلق مطلقون الوجهين، وخصهما الامام والغزالي بما إذا كان الطريق آمنا، فعلى هذا يشترط محرم أو زوج يسافر معها، وفي النسوة الثقات عند أمن الطريق وجهان، وربما اكتفى بعضهم بواحدة ثقة، وشرط بعضهم أن يكون معها زوج أو محرم، فإن قلنا بالاصح، فتطوع الزوج، أو محرم بالسفر، أو وجدت نسوة ثقات يسافرن فذاك، وإن لم يخرج المحرم ولا الزوج إلا بأجرة، أعطي أجرة، وهل هي في مالها أم في بيت المال ؟ وجهان كأجرة الجلاد، أصحهما: الاول، وإن امتنع من الخروج بأجرة، لم يجبر على الاصح كما في الحج، فعلى هذا قياس اشتراط المحرم أن يؤخر التغريب حتى يتيسر، وذكر الروياني أنها تغرب، ويحتاط الامام في ذلك، وإن قلنا بالاجبار وهو محكي عن ابن سريج فاجتمع محرمان أو محرم وزوج فأيهما يقدم ؟ لم يتعرض الاصحاب. قلت: يحتمل وجهين كنظائره، أحدهما: الاقراع، والثاني: يقدم باجتهاده من يراه، وهذا أرجح. والله أعلم. الثانية: يغرب الزاني إلى مسافة القصر، وقيل: يجوز دونها، وقيل: يكفي التغريب إلى موضع لو خرج المبكر إليه، لم يرجع بيومه، لاطلاق لفظ التغريب، والصحيح الاول، ولو رأى الامام التغريب إلى فوق مسافة القصر، فعل، وقال المتولي: إن كان على مسافة القصر موضع صالح لم يجز التغريب إلى ما فوقه، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور، غرب عمر رضي الله عنه إلى الشام، وعثمان رضي الله عنه إلى مصر، والبدوي يغرب عن حلته وقومه، ولا يمكن من الاقامة(7/307)
بينهم، ولو عين السلطان جهة لتغريبه، فطلب الزاني جهة غيرها، فهل يجاب أم يتعين ما عينه الامام ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، قال البغوي: لا يرسله الامام إرسالا بل يغربه إلى بلد معين، وإذا غرب إلى بلد معين، فهل يمنع من الانتقال إلى بلد آخر ؟ وجهان، أصحهما: لا، وبه قطع المتولي واختاره الامام. الثالثة: قال البغوي: لا يمكن المغرب من أن يحمل معه أهله وعشيرته، لانه لا يستوحش حينئذ، وله أن يحمل جارية يتسرى بها، وما يحتاج إليه للنفقة وقال المتولي: لو خرج معه عشيرته، لم يمنعوا. الرابعة: الغريب إذا زنى، يغرب من بلد الزنى تنكيلا وإبعادا عن موضع الفاحشة، لا يغرب إلى بلده ولا إلى بلد بينه وبين بلده دون مسافة القصر، ولو رجع هذا الغريب إلى بلده فهل يمنع ؟ وجهان، أصحهما: نعم، ثم هذا في غريب له وطن، فإن لم يكن، بأن هاجر حربي إلى دار الاسلام ولم يتوطن بلدا، قال المتولي: يتوقف الامام حتى يتوطن بلدا ثم يغربه، ولو زنى مسافر في طريقه، غرب إلى غير مقصده. الخامسة: إذا رجع المغرب إلى البلد الذي غرب منه، رد إلى الموضع الذي غرب إليه، وهل تستأنف المدة أم يبني ؟ وجهان، أصحهما: تستأنف، وهما راجعان إلى أنه هل يجوز تفريق سنة التغريب. السادسة: لا يعتقل في الموضع الذي غرب إليه، لكن يحفظ بالمراقبة والتوكيل به، فإن احتيج إلى الاعتقال خوفا من رجوعه، اعتقل. السابعة: لو زنى ثانيا في البلد المغرب فيه، غرب إلى موضع آخر، قال ابن كج: وتدخل بقية مدة الاول، لان الحدين من جنس فيتداخلان. الثامنة: لو أراد الحاكم تغريبه فخرج بنفسه، وغاب سنة، ثم عاد، قال ابن كج قال بعض الاصحاب: يكفيه ذلك، والصحيح خلافه، لان المقصود التنكيل، ولا يحصل إلا بتغريب الامام. التاسعة: قال ابن كج: مؤنة المغرب بقدر مؤنة الحضر في ماله، وما زاد في بيت المال، وهذا غريب.(7/308)
قلت: الصواب أن الجميع في ماله. والله أعلم. العاشرة: يجوز تقديم التغريب على المجلد. فرع ذكر الروياني أن الاصح أنه لا يلزم المغرب أن يقيم في بلد الغربة حتى يكون كالحبس له، فلا يمكن من الضرب في الارض، لانه كالنزهة، ومما يناسب التغريب النفي في قطع الطريق، وسيأتي إن شاء الله تعالى، وثبت في الحديث نفي المخنثين وهو تعزيز. فرع ليس من شرط الاحصان الاسلام، فإذا زنى ذمي مكلف حر وطئ في نكاح صحيح، رجم، ولو ارتد محصن، لم يبطل إحصانه، فلو زنى في الردة أو بعد الاسلام رجم.
فصل قولنا : إيلاج الفرج في الفرج، يدخل فيه اللواط، وهو من الفواحش الكبائر، فإن لاط بذكر، ففي عقوبة الفاعل قولان، أظهرهما: أن حده حد الزنى، فيرجم إن كان محصنا، ويجلد ويغرب إن لم يكن محصنا،(7/309)
والثاني: يقتل محصنا كان أو غيره، وفي كيفية قتله أوجه، أحدها: بالسيف كالمرتد، والثاني: يرجم تغليظا عليه، والثالث، يهدم عليه جدار، أو يرمى من شاهق حتى يموت أخذا من عذاب قوم لوط - صلى الله عليه وسلم -. قلت: أصحهما بالسيف. والله أعلم. وأما المفعول به، فإن كان صغيرا أو مجنونا أو مكرها، فلا حد عليه، ولا مهر، لان منفعة البضع غير متقومة، وإن كان مكلفا طائعا، فإن قلنا: إن الفاعل يقتل، قتل المفعول به بما يقتل الفاعل، وإن قلنا: حده حد الزنى، جلد المفعول به وغرب محصنا كان أو غيره، وإن وطئ امرأة أجنبية في دبرها، فطريقان، أصحهما: أنه كاللواط بذكر، فيجئ في الفاعل القولان، وتكون عقوبة المرأة الجلد والتغريب على الاصح، وقيل: هو زنى في حقها، فترجم المحصنة، وتجلد وتغرب غيرها، ولو لاط بعبده، فهو كاللواط بأجنبي، ولو وطئ زوجته أو أمته في دبرها، فالمذهب أن واجبه التعزيز، وقيل: في وجوب الحد قولان، كوطئ الاخت المملوكة. فرع المفاخذات ومقدمات الوطئ، وإتيان المرأة، لا حد فيها، ولو وجدنا رجلا وامرأة أجنبيين تحت لحاف، ولم يعرف غير ذلك لم نحدهما، ويجب تعزيز في هذه الصور، ولو وجدنا بامرأة خلية حبلا، أو ولدت وأنكرت الزنى، فلا حد. قلت: ولو لم تنكر، ولم تعترف، بل سكتت فلا حد، وإنما يجب الحد ببينة أو اعتراف. والله أعلم. والاستمناء حرام، وفيه التعزيز، ولو مكن امرأته أو جاريته من العبث بذكره، فأنزل، قال القاضي حسين في أول فتاويه: يكره، لانه في معنى العزل.
فصل أما قولنا : المشتهي طبعا، فيحترز عن صورتين إحداهما: إذا أولج في فرج ميتة، فلا حد في الاصح، الثانية إتيان البهيمة حرام، وفي واجبه أقوال، أظهرها: التعزيز، والثاني: القتل محصنا كان أو غيره، والثالث: حد الزنى، فيفرق بين المحصن وغيره، وقيل: واجبه واجب اللواط، وقيل: التعزيز(7/310)
قطعا، فإن قلنا: يقتل، ففي كيفيته الخلاف السابق في اللوط، وفي قتل البهيمة ثلاثة أوجه، أصحهما: تقتل المأكولة دون غيرها، وسواء أتاها في دبرها أو قبلها، وقيل: إن أتاها في دبرها، لم نقتلها، وهل يحل أكلها إذا كانت مأكولة فذبحت ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وقيل: يحل قطعا، فإن قلنا: لا يحل أكلها، أو كانت غير مأكولة، فهل يجب ضمانها إذا كانت لغير الفاعل ؟ وجهان. أصحهما: نعم، فعلى هذا هل الضمان على الفاعل أم في بيت المال، أصحهما: الاول كالوجهين في أجرة الجلاد، وإن قلنا: يحل أكلها، ففي التفاوت بين قيمتها حية ومذبوحة الوجهان، ولو مكنت امرأة قردا من نفسها، كان الحكم كما لو أتى الرجل بهيمة، حكاه البغوي وغيره، ولا يثبت اللواط وإتيان البهيمة إلا بأربعة عدول، وقيل: إن قلنا: الواجب التعزيز، كفى عدلان، وهو ضعيف مخالف للنص. فصل أما قولنا: لا شبهة فيه، فالشبهة ثلاثة أقسام في المحل والفاعل والجهة. أما الشبهة في المحل، فوطئ زوجته الحائض والصائمة والمحرمة، وأمته قبل الاستبراء، وجارية ولده، لا حد فيه، ولو وطئ أمته المحرمة عليه بمحرمية رضاع أو نسب أو مصاهرة، كأخته منهما وبنته وأمه من رضاع، وموطوءة أبيه وابنه، لم يجب الحد على الاظهر، ولو وطئ جارية له فيها شرك، أو أمته المزوجة، أو المعتدة من غيره، أو المجوسية والوثنية، أو أسلمت أمة ذمي فوطئها قبل أن تباع، فلا حد على المذهب، وقيل: فيه القولان، فإن قلنا: لا حد، ثبت النسب والمصاهرة، وإلا فلا، وقيل: يثبت النسب وتصير الجارية أم ولد بلا خلاف. وأما الشبهة في الفاعل، فمثل أن يجد امرأة في فراشه، فيطأها ظانا أنها زوجته أو أمته، فلا حد، وإذا ادعى أنه ظن ذلك، صدق بيمينه، نص عليه، وسواء كان ذلك ليلة الزفاف أو غيرها، ولو ظنها جارية له فيها شرك فكانت غيرها، وقلنا: لا يجب الحد بوطئ المشتركة، قال الامام فيه تردد، يجوز أن يقال: لا حد، لانه ظن ما يسقط الحد، ويجوز أن يقال: يحد، لانه علم التحريم، وإنما(7/311)
جهل وجوب الحد، وكان من حقه أن يمتنع. قلت: هذا الثاني هو الظاهر الجاري على القواعد في نظائره. والله أعلم. وأما الشبهة في الجهة، فقال الاصحاب: كل جهة صححها بعض العلماء، وأباح الوطئ بها، لا حد فيها على المذهب، وإن كان الواطئ يعتقد التحريم، وذلك كالوطئ في النكاح بلا ولي، كمذهب أبي حنيفة، وبلا شهود كمذهب مالك، ونكاح المتعة، وقيل: يجب في النكاح بلا ولي على من يعتقد تحريمه دون غيره، وقيل: يجب على من أعتقد الاباحة أيضا، كما نحد الحنفي على شرب النبيذ، ولو وطئ المرهونة بإذن الراهن، وجب الحد على الصحيح. فرع لو تزوج بنته أو غيرها من محارمه بنسب أو رضاع أو مصاهرة، أو من طلقها ثلاثا، أو من لاعنها، أو نكح من تحته أبع خامسة، أو نكح أختا على أخت، أو معتدة أو مرتدة، أو نكح ذات زوج، أو نكح كافر مسلمة ووطئ عالما بالحال، وجب الحد، لانه وطئ صادف محلا لا ملك له فيه ولا شبهة ملك، وهو مقطوع بتحريمه، فتعلق به الحد، وحكى ابن كج فيمن نكح أخته من رضاع، ووطئ وادعى جهل التحريم، قولين في تصدقيه، ولا خلاف أنه لا يقتل في الاخت من النسب، ولو نكح وثنية أو مجوسية، قال البغوي: وجب الحد، وقال الروياني في جمع الجوامع: لا حد في المجوسية للخلاف، ولو ادعى الجهل بكونها معتدة، أو مزوجة، حلف إن كان ما يدعيه ممكنا، ولا حد، نص عليه، وعن القاضي أبي حامد أنه نقل أن اليمين مستحبة، ولو قالت المرأة: علمت أني معتدة أو مزوجة، حدت، وإن لم يحد الواطئ، ولو استأجر امرأة، فزنى بها، لزمها الحد ولو أباحت له الوطئ لزمهما الحد، ولو أباح وطئ جاريته لغيره، فعلى ما ذكرنا في الرهن، ولو زنت خرساء بناطق، أو عكسه، أو زنى بامرأة له عليها قصاص، لزمهما الحد، ويقبل إقرار الاخرس، ولو زنى مكلف بمجنونة، أو مراهقة، أو نائمة، حد، ولو مكنت مكلفة مجنونا أو مراهقا، أو استدخلت ذكر نائم، لزمها الحد، ولو قال: زنيت بها، فأنكرت، لزمه حد الزنى وحد القذف، ولو زنى في دار الحرب، وجب عليه الحد، والمشهور أن للامام أن يقيمه هناك إن لم يحف فتنة، وفي قول: لا يقيمه هناك.(7/312)
فصل يشترط لوجوب الحد كون الفاعل مختارا مكلفا، فلو أكره رجل على الزنى، فزنى لم يجب الحد على الاصح، ولا حد على صبي ولا مجنون، ومن جهل تحريم الزنى لقرب عهده بالاسلام، أو لانه نشأ ببادية بعيدة عن المسلمين، لا حد عليه، ومن نشأ بين المسلمين وقال: لم أعلم التحريم، لم يقبل قوله، ولو علم التحريم، ولم يعلم تعلق الحد به، فقد جعله الامام على التردد الذي ذكره فيمن وطئ من يظنها مشتركة فكانت غيرها. قلت: الصحيح الجزم بوجوب الحد، وهو المعروف في المذهب، والجاري على القواعد. والله أعلم. فصل يشترط للحد ثبوت الزنى عند القاضي ببينة أو إقراره، ويستحب لمن ارتكب كبيرة توجب الحد الله تعالى أن يستر على نفسه، وهل يستحب للشهود ترك الشهادة في حدود الله تعالى ؟ وجهان، أصحهما: لا، لئلا تتعطل. قلت: الاصح أن الشاهد إن رأى المصلحة في الشهادة، شهد، وإن رآها في الستر، ستر. والله أعلم. وإذا ثبت الحد، لم يجز العفو عنه ولا الشفاعة فيه، وإذا قرأ على نفسه بزنى، ثم رجع عنه سقط الحد، وهل يستحب له الرجوع ؟ وجهان، أحدهما: نعم كالستر ابتداء، والثاني: لا، لان الهتك قد حصل. قلت: مقتضى الحديث الصحيح في قصة ماعز رضي الله عنه أنه يستحب فهو الراجح والله أعلم. ولو قال: زينت بفلانة، فهو مقر بالزنى قاذف لها، فإن أنكرت، أو قالت:(7/313)
كان تزوجني، لزمه وحد القذف، فإن رجع، سقط حد الزنى وحده، ولو قال: زنيت بها مكرهة، لم يجب حد القذف، ويجب مع حد الزنى المهر، ولا يسقط المهر بالرجوع، ولو رجع بعد ما أقيم بعض الحد، ترك الباقي، ولو قتله شخص بعد الرجوع، ففي وجوب القصاص وجهان نقلهما ابن كج، وقال: الاصح لا يجب، وبه قال أبو إسحق لاختلاف العلماء في سقوط الحد بالرجوع، ولو رجع بعد ما جلد بعض الحد، فأتم الامام الحد، فمات منه، والامام يعتقد سقوط الحد بالرجوع، فنقل ابن قطان في وجوب القصاص قولين، فإن قلنا: لا يجب، نصف الدية، أم يوزع على السياط ؟ قولان، وقال ابن كج: عندي لا قصاص، والرجوع كقوله: كذبت، أو رجعت عما أقررت به، أو ما زنيت، أو كنت فأخذت، أو لمست فظننته زنى، ولو شهدوا على إقراره بالزنى، فقال: ما أقررت، أو قال بعد حكم الحاكم بإقراره: ما أقررت، فالصحيح أنه لا يلتفت إلى قوله، لانه تكذيب للشهود والقاضي، وعن أبي إسحق والقاضي أبي الطيب: يقبل، لانه غير معترف في الحال، وإن قال: لا تقيموا علي الحد، أو هرب، أو امتنع من الاستسلام، فهل هو رجوع ؟ وجهان، أصحهما: لا، لكن يخلي في الحال ولا يتبع، فإن رجع فذاك، وإلا أقيم عليه حد، ولو أتبع الهارب، فرجم، فلا ضمان، لان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوجب عليهم في قضية ماعز رضي الله عنه شيئا، والرجوع عن الاقرار بشرب الخمر، كالرجوع عن الاقرار بالزنى، وفي الرجوع عن الاقرار بالسرقة وقطع الطريق خلاف يأتي في السرقة إن شاء الله تعالى. فرع لو تاب من ثبت زناه، فهل يسقط الحد عنه بالتوبة ؟ قولان، أظهرهما وهو الجديد: لا يسقط، لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى إسقاط الحدود والزواجر، ثم قيل: القولان فيمن تاب قبل الرفع إلى القاضي، فأما بعده، فلا يسقط قطعا، وقيل: هما في الحالين. فرع إذ ثبت زناه ببينة، لم يسقط الحد برجوع ولا بالتماس ترك الحد، ولا بالهرب ولا غيرها، هذا هو المذهب، وفيه خلاف حكاه الامام، ولو أقر بالزنى، ثم شهد عليه أربعة بالزنى، ثم رجع عن الاقرار، هل يحد ؟ وجهان، قال ابن القطان: نعم، وأبو إسحق: لا، إذ لا أثر للبينة مع الاقرار وقد بطل(7/314)
الاقرار. فرع الكلام في عدد الشهود لزنى ورجوع بعضهم أو كلهم مذكور في كتاب الشهادات، وهناك يذكر إن شاء الله تعالى كيفية الشهادة وأنه يشترط تفسير الزنى بخلاف القذف، فإنه لو قال: زنيت، كان قاذفا لحصول العار، وهل يشترط في الاقرار بالزنى التفسير كالشهادة أم لا كالقذف ؟ وجهان. قلت: الاشتراط أقوى، ويستأنس فيه بقصة ماعز رضي الله عنه. والله أعلم. وسواء شهدوا بالزنى في مجلس، أو مجالس متفرقة، ولو شهدوا ثم غابوا، أو ماتوا، فللحاكم أن يحكم بشهادتهم ويقيم الحد. وتقبل الشهادة بالزنى بعد تطاول الزمن، ولو شهد أربعة على امرأة بالزنى، وشهد أربع نسوة أنها عذراء، فلا حد للشبهة، ولو قذفها قاذف، لم يلزمه حد القذف لوجود الشهادة، واحتمال عود البكارة، وكذا لا يجب حد القذف على الشهود، ولو أقامت هي أربعة على أنه أكرهها على الزنى وطلبت المهر، وشهد أربع نسوة أنها عذراء، فلا حد عليه للشبهة، وعليه المهر، لانه يثبت مع الشبهة، ولا يجب عليها حد القذف لشهادة الشهود، ولو شهد اثنان أنه وطئها بشبهة، وأربع نسوة أنها عذراء، فلا حد عليه(7/315)
للشبهة ويجب المهر، ولو شهد أربعة عليها بالزنى، وشهد أربع نسوة أنها رتقاء، فليس عليها حد الزنى، ولا عليهم حد القذف لانهم رموا من لا يمكنه الجماع، ولو شهد أربعة بالزنى وعين كل واحد منهم زاوية من زاويا بيت، فلا حد على المشهود عليه، وفي وجوب حد القذف على الشهود خلاف يأتي إن شاء الله تعالى لانه لم يتم عددهم في زنية، ولو شهد اثنان أن فلانا أكره فلانة على الزنى، لم يثبت الزنى وهل يثبت المهر ؟ يبنى على أنه إذا شهد بالزنى أقل من أربعة هل عليهم حد القذف، إن قلنا: لا، وجب المهر، وإلا فلا، ولو شهد اثنان أنه زنى بها مكرهة، وآخر أنه زنى بها طائعة، لم يجب عليها حد الزنى، وهل يجب على الرجل ؟ يبنى على أن شاهدي الطواعية هل عليهما حد القذف للمرأة، قولان، إن قلنا: نعم، وهو الاظهر، فلا، الشاهدين فاسقان، وإن قلنا: لا، وجب على الاصح، لاتفاقهم على زناه، وكذلك يجب عليه المهر، ولا خلاف أنه لا يجب حد القذف على شاهدي الاكراه ولا يجب حد القذف للرجل.
الباب الثاني : في استيفاء الحد فيه طرفان :
الأول : في كيفيته، وفيه مسائل: إحداها: إقامة الحدود على الاحرار إلى الامام، أو من فوض إليه الامام، وإذا أمر باستيفائه، جاز للمفوض إليه، ولا يجب حضور الامام، سواء ثبت بالبينة أو الاقرار، ولا حضور الشهود إذا ثبت بالبينة، لكن يستحب حضورهم وابتداؤهم بالرجم، ويستحب أن يستوفى بحضرة جماعة أقلهم أربعة. الثانية: لا يقتل المحصن بالسيف، لان المقصود التمثيل به وتنكيله بالرجم فيرجم، وليس لما يرجم به تقدير، لا جنسا ولا عددا، فقد تصيب الاحجار مقاتله، فيموت سريعا، وقد تبطئ موته، ولا يرمى بصخرة تذفف، ولا يطول تعذيبه بالحصيات الخفيفة، بل يحيط الناس به فيرمونه من الجوانب بحجارة معتدلة ومدر ونحوها حتى يموت، فإن كان رجلا لم يحفر له عند الرجم سواء ثبت زناه بالبينة أم بالاقرار، وفي المرأة أوجه، أحدها: يستحب أن يحفر إلى صدرها ليكون أستر لها، والثاني: لا يستحب، بل هو إلى خيرة الامام، وأصحها: إن ثبت زناها بالبينة يستحب أن يحفر، وإن ثبت بالاقرار، فلا ليمكنها الهرب إن رجعت.(7/316)
الثالثة: الصحيح الذي قطع به الجمهور أن الرجم لا يؤخر للمرض، لان نفسه مستوفاة، فلا فرق بينه وبين الصحيح، وقيل: إن ثبت بالاقرار، أخر حتى يبرأ، لانه ربما رجع في أثناء الرمي فيعين ذلك على قتله، ومثل هذا الخلاف يعود في أنه هل يرجم في شدة الحر والبرد ؟ وإن كان الواجب الجلد، فإن كان المرض مما يرجى، زواله، أخر حتى يبرأ، وكذا المحدود والمقطوع في حد وغيره لا يقام عليه حد آخر حتى يبرأ، وفي وجه: لا يؤخر، بل يضرب في المرض بحسب ما يحتمله من ضرب بعثكال وغيره، ولو ضرب كما يحتمله، ثم برأ هل يقام عليه حد الاصحاء ؟ وجهان حكاهما ابن كج وليكونا مبنيين على أنه هل تؤخر إقامة الجلد أم تستوفى بحسب الامكان ؟ إن قلنا بالاول، فالذي جرى ليس بحد، فلا يسقط كما لو جلد المحصن لا يسقط الرجم، وإن قلنا بالثاني، لم يعد الحد، وإن كان المرض مما لا يرجى زواله، كالسل والزمانة، أو كان مخدجا وهو الضعيف الخلقة الذي لا يحتمل السياط، لم يؤخر إذ لا غاية تنتظر، ولا يضرب بالسياط، بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ، وهو الغصن ذو الفروع الخفيفة، ولا يتعين العثكال، بل له الضرب بالنعال وأطراف الثياب، كذا حكاه ابن الصباغ والروياني وغيرهما، فلو كان على الغصن مائة فرع، ضرب به دفعة واحدة، وإن كان عليه خمسون، ضرب به مرتين، وعلى هذا القياس، ولا يكفي الوضع عليه، بل لا بد مما يسمى ضربا، وينبغي أن تمسه الشماريخ، أو ينكبس بعضها على بعض لثقل الغصن، ويناله الالم، فإن لم تمسه، ولا انكبس بعضها على بعض، أو شك فيه، لم يسقط الحد، وفي النهاية وجه ضعيف أنه لا يشترط الايلام، ولا تفرق السياط على الايام، وإن احتمل التفريق، بل يقام عليه الممكن ويخلى سبيله، ولو كان لا يحتمل السياط المعتبرة في جلد الزنى، وأمكن ضربه بقضبان وسياط خفيفة فقد تردد فيه الامام وقال: ظاهر كلام الاصحاب أنه يضرب بالشماريخ، والذي أراه أنه يضرب بالاسواط، لانه أقرب إلى صور الحد، ولو برأ قبل أن يضرب بالشماريخ، أقيم عليه حد الآصحاء، وإن برأ بعد، لم يعد عليه، وفي إقامة الضرب بالشماريخ مقام الضربات والجلد بالسياط مزيد كلام نذكره في الايمان إن شاء الله تعالى. فرع يؤخر قطع السرقة إلى البرء، ولو سرق من لا يرجى زوال مرضه، قطع على الصحيح، لئلا يفوت الحد، ولو وجب حد القذف على مريض، قال ابن(7/317)
كج: يقال للمستحق: اصبر إلى البرء، أو اقتصر على الضرب بالعثكال، وفي التهذيب أنه يجلد بالسياط، سواء يرجى زوال مرضه أم لا، لان حقوق الآدمي مبنية على الضيق، وجلد الشرب كجلد الزنى. فرع الرابعة: لا يقام الجلد في حر ولا برد شديدين، بل يؤخر إلى اعتدال الوقت، وكذا القطع في السرقة بخلاف القصاص وحد القذف، وأما الرجم، فإن ثبت بالبينة، لم يؤخر، لانه مقتول، وكذا إن ثبت بالاقرار على الصحيح. فرع لو جلد الامام في مرض أو شدة حر، أو برد، فهلك المجلود بالسراية، فالنص أنه لا يضمن، ونص أنه لو ختن أقلف في شدة حر أو برد، فهلك، ضمن، فقيل في وجوب الضمان فيهما: قولان، وقيل: بظاهر النصيحة وهو الاصح، لان الجلد ثبت بالنص، والختان بالاجتهاد، فإن أوجبنا الضمان، فهل يضمن جميعه أم نصفه ؟ وجهان، وهل الضمان على عاقلة الامام أم في بيت المال ؟ قولان سبقا، قال الامام: إن لم نوجب الضمان فالتأخير مستحب قطعا، وإن أوجبناه فوجهان، أحدهما: أن التأخير واجب، وضمناه لتركه الواجب، والثاني: يجوز التعجيل ولكن بشرط سلامة العاقبة كما في التعزير، وفي عبارة الغزالي ما يشعر بأن الراجح استحباب التأخير، وفي المهذب وغيره الجزم بأنه لا يجوز التعجيل في شدة الحر والبرد، ويجوز أن يقال بوجوب التأخير مع الاختلاف في وجوب الضمان، كما يجب على آحاد الناس تفويض رجم الزاني المحصن إلى الامام مع الاختلاف في ضمانه لو بادر بقتله. قلت: المذهب وجوب التأخير مطلقا. والله أعلم. ولو عجل جلد المريض قبل برئه، فهلك، ففي ضمانه الخلاف في الجلد في الحر والبرد بلا فرق.(7/318)
الطرف الثاني : في بيان مستوفيه
فإن كان المحدود حرا، فالمستوفي الامام، أو من فوض إليه كما سبق، هذا هو المذهب والمنصوص وبه قطع الاصحاب، وحكي عن القفال رواية قول: إنه يجوز للآحاد استيفاؤه حسبة، كالامر بالمعروف، وليس بشئ. وإن كان مملوكا، فلسيده إقامة الحد عليه، وله تفويضه إلى غيره، ولا يحتاج إلى أذن الامام فيه، وسواء العبد والامة، وخرج ابن القاص قولا في العبد كأنه ألحقه بالاجبار على النكاح ولم يوافق عليه، بل قطع الاصحاب بأن له إقامته عليهما، ويجوز للامام أيضا إقامته على الرقيق، ومن بدر إليه منهما وقع الموقع، وهل الاولى للسيد أن يقيمه بنفسه ليكون أستر، أم الاولى تفويضه إلى الامام، ليخرج من خلاف أبي حنيفة في إلحاقه بالحر ؟ وجهان نقلهما الشيخ أبو خلف الطبري. قلت: أصحهما الاول لثبوت الحديث فيه، ولا يراعى الخروج من خلاف يخالف السنة. والله أعلم. ولو تنازع في إقامته الامام والسيد، فأيهما أولى ؟ فيه احتمالات للامام أظهرها: الامام لعموم ولايته، والثاني: السيد لغرض إصلاح ملكه، والثالث: إن كان جلدا فالسيد، وإن كان قتلا أو قطعا، فالامام، لان إعمال السلاح بصاحب الامر أليق، والعبد المشترك يقيم حده ملاكه، وتوزع السياط على قدر الملك، فإن حصل كسر، فوض المنكسر إلى أحدهم، وهل يغربه السيد إن قلنا بتغريب العبد ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لانه بعض الحد، والمدبر وأم الولد والمعلق عتقه، كالقن والمكاتب، كالحر على الصحيح، وعن ابن القطان، كالقن، ومن بعضه حر لا يحده إلا الامام، وهل إقامة السيد الحد بالولاية على ملكه، كولاية التزويج، أم تأديبا وإصلاحا، كمعالجته بالفصد والحجامة ؟ وجهان. فرع فيما يقيمه السيد على رقيقه من العقوبات، أما التعزير، فله ذلك في حقوق الله تعالى، كما يؤدبه لحق نفسه، وفيه وجه ضعيف، لان التعزير غير مضبوط، فيفتقر إلى اجتهاده، وأما الحدود، فله الجلد في الزنى والقذف والشرب، وفي الشرب وجه، لان للسيد في بضع أمته وعبده حقا، فإنه لا يتزوج إلا بإذنه بخلاف الشرب، وقياس هذا الفرق مجئ الوجه في جلد القذف، وهل له(7/319)
قطعه في السرقة والمحاربة، وقتله في الردة ؟ وجهان، الاصح المنصوص: نعم، لاطلاق الخبر، ومنهم من جزم بجواز القطع، وأجرى ابن الصباغ وجماعة هذا الخلاف في القطع والقتل قصاصا، وفي التهذيب أن الاصح أن القطع والقتل إلى الامام. فرع في أحوال السيد إن جمع شروط الولاية أقام الحد، وإن كان السيد امرأة، فهل تقيمه هي أم السلطان أم وليها ؟ فيه أوجه، أصحها الاول، وللفاسق والمكاتب والكافر إقامته على رقيقهم على الاصح بناء على أن سبيله سبيل الاصلاح، وفي كتاب ابن كج أن السيد لا يحد عبيد مكاتبه على المذهب، وإن قلنا: يحدهم المكاتب إذ لا تصرف له فيهم، وفيه أنه ليس لكافر أن يحد عبده المسلم بحال، وهل يقيم الاب والجد والوصي والقيم الحد على رقيق الطفل ؟ وجهان، وقيل: لا يجوز لغير الاب والجد وفيهما الوجهان، ويشبه أن يقال: إن قلنا: الحد إصلاح، فلهم قامته، وإن قلنا: ولاية، ففيه الخلاف، وهل يجوز كون السيد جاهلا ؟ وجهان بناء على أنه إصلاح أم ولاية ؟ ويشترط كونه عالما بقدر الحد وكيفيته. فرع العقوبة التي يقيمها السيد على عبده، يقيمها إذا أقر العبد عنده بموجبها، فلو شاهده السيد، فله إقامتها على الاصح، وله سماع البينة بذلك على الاصح، لانه يملك إقامة هذا الحد، فيسمع بينته كالامام، وعلى هذا ينظر تزكية الشهود، ويشترط كونه عالما بصفاتهم، وأحكام الحدود، وقيل: ليس له سماعها، وإنا يحده بعد ثبوته عند الامام. فرع قذف رقيق زوجته الرقيقة، هل يلاعن بينهما السيد كما يقيم الحد ؟ وجهان، ولو قذف العبد سيده، فله إقامة الحد عليه، ولو قذف السيد عبده، فله رفع الامر إلى القاضي ليعزره، ولو زنى ذمي، ثم نقض العهد واسترق، لم يسقط عنه الحد، ويقيمه الامام لا السيد، لانه لم يكن مملوكا يومئذ، ولو زنى عبد، فباعه سيده، فإقامة الحد إلى المشتري اعتبارا بحال الاستيفاء.(7/320)
فرع من قتل حدا بالرجم وغيره، غسل وكفن، وصلي عليه، ودفن في مقابر المسلمين.(7/321)
كتاب حد القذف
القذف من الكبائر، ويتعلق به الحد بالنص والاجماع. ويشترط لوجوب الحد على القاذف كونه مكلفا مختارا، فلا حد على صبي ومجنون ومكره، ويعزر الصبي والمجنون الذي له نوع تمييز، وسواء في هذا المسلم والذمي والمعاهد، فإن كان القاذف حرا، فحده ثمانون جلدة، وإن كان رقيقا، أو مكاتبا، أو مدبرا، أو أم ولد، أو بعضه حر فأربعون جلدة، ويشترط كون المقذوف محصنا، وقد سبق في كتاب اللعان بيان ما يحصل به إحصانه، ولا يحد الاب والجد بقذف الولد وولد الولد، وقال ابن المنذر: يحد. قلت: الام والجدات كالاب. والله أعلم. ومن ورث من أمه حد قذف على أبيه، سقط، ومن قذف شخصا بزنيتين، فالمذهب أن عليه حدا واحدا وقد سبق إيضاحه في اللعان، ولو قال لرجل: يا زانية، أو لامرأة: يا زاني، فقد سبق في اللعان أنه قذف، وكذا لو خاطب خنثى بأحد اللفظتين، ولو قال له: زنى فرجك وذكرك، فقذف صريح، ولو قال: زنى فرجك، أو قال: زنى ذكرك، قال صاحب البيان الذي يقتضيه المذهب أن فيه(7/322)
وجهين، أحدهما: قذف صريح، والثاني: كناية، كما لو أضاف الزنى إلى يد رجل أو امرأة، وصرائح القذف وكناياته سبقت في اللعان.
فصل قال الاصحاب : حد القذف وإن كان حق آدمي، ففيه مشابهة حدود الله تعالى في مسائل:، إحداها: لو قال له: اقذفني، فقذفه، ففي وجوب الحد وجهان الاصح: لا، وقول الاكثرين: لا يجب. الثانية: لو استوفى المقذوف حد القذف، لم يقع الموقع، كحد الزنى لو استوفاه أحد الرعية، وفي وجه ضعيف: يقع الموقع كما لو استقل المقتص بقتل الجاني. الثالثة: ينشطر بالرق كما سبق، وحقوق الآدمي لا تختلف، قالوا: لكن المغلب فيه حق الآدمي لمسائل منها: أنه لا يستوفى إلا بطلبه بالاتفاق، ويسقط بعفوه، ويورث عنه، ولو عفا عن الحد على مال، ففي صحته وجهان. قلت: الصحيح أنه لا يستحق المال. والله أعلم. فرع من التعريض في القذف أن يقول: ما أنا بابن اسكاف ولا خباز، ولو قال: يا قواد، فليس صريحا في قذف زوجة المخاطب، لكنه كنآية، ولو قال: يا مؤاجر، فليس بصريح في قذف المخاطب على الصحيح الذي قاله الجمهور، وقال ابن ابراهيم المروذي عن شيخه التيمي: هو صريح في قذفه بالتمكين(7/323)
من نفسه، لاعتياد الناس القذف به، وقيل: هو صريح من العامي فقط، ولو رماه بحجر، فقال: من رماني فأمه زانية، فإن كان يعرف الرامي، فقاذف، وإلا فلا.
فصل الرمي بالزنى لا في معرض الشهادة يوجب حد القذف، فأما في معرض الشهادة، فينظر إن تم العدد وثبتوا، أقيم حد الزنى على المرمي، ولا شئ عليهم، وإن لم يتم العدد، بأن شهد اثنان أو ثلاثة، فهل يلزمهم حد القذف ؟ قولان، أظهرهما: نعم، وهو نصه قديما وجديدا، لان عمر رضي الله عنه جلد الثلاثة الذين شهدوا، ولئلا تتخذ صورة الشهادة ذريعة إلى الوقيعة في أعراض الناس، ولو شهد على زنى امرأة زوجها مع ثلاثة، فالزوج قاذف، لان شهادته عليها بالزنى لا تقبل، وفي الثلاثة القولان، ولو شهد أربع نسوة أو ذميون، أو عبيد، أو فيهم امرأة، أو عبد، أو ذمي، فالمذهب أنهم قذفة، فيحدون، لانهم ليسوا من أهل الشهادة، فلم يقصدوا إلا العار، وقيل: فيهم القولان، وصور الامام المسألة فيما إذا كانوا في ظاهر الحال بصفة الشهود، ثم بانوا عبيدا أو كفارا، ومراده أن القاضي إذا علم حالهم لا يصغي إليهم فيكون قولهم قذفا محضا لا في معرض شهادة، ولو شهد أربعة فساق، أو فيهم فاسق، نظر إن كان فسقهم مقطوعا به، كالزنى والشرب، فقيل: فيهم القولان، وقيل: لا يحدون قطعا وهو الاصح عند القاضي أبي حامد لان نقص العدد متيقن، وفسقهم إنما يعرف بالظن، والحد يسقط بالشبهة، وإن كان فسقهم مجتهدا فيه، كشرب النبيذ، لم يحدوا قطعا، وفي معنى الفسق المجتهد فيه، ما إذا كان فيهم عدو للمشهود عليه، لان رد الشهادة بالعداوة مجتهد فيه، ولو حددنا العبيد الذين شهدوا، فعتقوا وأعادوا الشهادة، قبلت، ولو لم يتم العدد، فحددنا من شهد، ثم عاد من يتم به العدد فشهدوا، لم تقبل شهادتهم، كالفاسق ترد شهادته ثم يتوب ويعيدها، لا تقبل، وهذا الخلاف المذكور هو فيمن شهد في مجلس القاضي، أما من شهد في غير مجلسه، فقاذف بلا خلاف، وإن كان بلفظ الشهادة. فرع لو شهد أربعة بالشروط المعتبرة، ثم رجعوا، لزمهم حد القذف(7/324)
لانهم ألحقوا به العار سواء تعمدوا أو أخطؤوا، لانهم فرطوا في ترك التثبت، وقيل: في حدهم القولان، لانهم شهود، والمذهب الاول، ولو رجع بعضهم، فعلى الراجح الحد على المذهب، وقيل: بالقولين، وأما من أصر على الشهادة، فلا حد عليه، وقيل: بالقولين، والمذهب الاول، وسواء الرجوع بعد حكم القاضي بالشهادة وقبله، ولو شهد أكثر من أربعة، فرجع بعضهم، إن بقي أربعة فلا حد على الراجعين، وإلا فعلى الراجعين الحد.
فرع شهد واحد على إقراره بالزنى، ولم يتم العدد، فطريقان، أحدهما: في وجوب حد القذف عليه القولان، والمذهب: القطع بأن لا حد، لانه لا حد على من قال لغيره: أقررت بأنك زنيت، وإن ذكره في معرض القذف والتعيير.
فرع تقاذف شخصان، لا يتقاصان، لان التقاص إنما يكون عند اتفاق الجنس والصفة، وقد سبق معظم مسائل الكتاب في كتاب اللعان. وبالله التوفيق.(7/325)
كتاب السرقة
هي موجبة للقطع بالنص والاجماع، وفيه ثلاثة أبواب :
الأول : فيما يوجب القطع، وهو السرقة ولها ثلاثة أركان :
أحدها : المسروق، وله ستة شروط، أحدها: أن يكون نصابا، وهو ربع دينار من الذهب الخالص، فلا قطع فيما دونه، ويقطع بربع دينار قراضة بلا خلاف، ولو سرق دينارا(7/326)
مغشوشا، فإن بلغ خالصه ربعا، قطع، وإلا فلا، ولو سرق دراهم أو غيرها، قوم بالذهب، وحكي أن ابن بنت الشافعي رحمهما الله اختار مذهب داود، وهو أنه يجب القطع بسرقة القليل، ولا يعتبر نصاب. قلت: هذا غلط مخالف للاحاديث الصحيحة الصريحة في اعتبار ربع دينار. والله أعلم. والاعتبار بالذهب المضروب، فبه يقع التقويم، حتى لو سرق شيئا يساوي ربع مثقال من غير المضروب، كالسبيكة وحلي لا تبلغ ربعا مضروبا بالقيمة،(7/327)
فلا قطع على الاصح، وبه قال الاصطخري وأبو علي ابن أبي هريرة والطبري، وصححه الامام وغيره، وجزم به العبادي، ولو سرق خاتما وزنه دون ربع، وقيمته بالصنعة تبلغ ربعا، فلا قطع على الصحيح، والخلاف في المسألتين راجع إلى أن الاعتبار بالوزن أو بالقيمة، وأما التبر الذي إذا خلص نقص، فلا قطع في سرقة ربع منه، بل يشترط أن يخلص منه رحع، ولا سرق فلوسا ظنها دنانير، قطع إن بلغت قيمتها نصابا، وإلا فلا، ولو سرق دنانير ظنها فلوسا لا تبلغ قيمتها نصابا، قطع، ولو سرق ثوبا خسيسا وفي جيبه ربع دينار، أو ما تبلغ قيمته نصابا ولم يعلم بالحال، وجب القطع على الاصح، لانه أخرج نصابا من حرزه بقصد السرقة. فرع لو أخرج نصابا من حرز دفعتين فصاعدا، نظر إن تخلل اطلاع المالك وإعادته الحرز بإصلاح النقب أو إغلاق الباب، فالاخراج الثاني سرقة أخرى، فإن كان المخرج في كل دفعة دون النصاب، لم يجب القطع، وإن لم يتخلل الاطلاع والاعادة، ففيه أوجه، أصحها: يجب القطع، والثاني: لا، والثالث: إن عاد وسرق ثانيا بعد ما اشتهر خراب الحرز، وعلم به الناس أو المالك، فلا قطع، وإن عاد قبله، قطع، والرابع: إن عاد تلك الليلة، قطع، وإن عاد في ليلة أخرى، فلا، والخامس: إن لم يطل الفصل بين الاخراجين، قطع، وإن طال، فلا، والسادس: إن كان يخرج شيئا فشيئا، ويضعه خارج البيت أو خارج الباب، حتى تم نصابا ولم يفارق الحرز، قطع، وإن ذهب بالمسروق أولا إلى بيته ونحوه مسرعا وعاد ولو مع قرب الفصل، فلا قطع. فرع انثيال الحنطة ونحوها عند فتح أسفل وعائه أو نحوه، هل هو كإخراجه باليد ؟ وجهان، أحدهما: لا، لانه خرج بسبب لا مباشرة، والسبب ضعيف فلا يقطع به، وأصحهما: نعم، لانه بفعله هتك الحرز، فعلى هذا لو أخرج بيده أو انثال دفعة ما يساوي نصابا، قطع، وإن أخرجه شيئا فشيئا على التواصل، أو انثال كذلك، قطع على المذهب، وقيل: وجهان، ولو طر جيبه أو كمه، فسقطت الدراهم شيئا فشيئا فكانثيال الحبوب، ولو أخذ طرف منديل أو جذع، وأخرجه من الحرز جرا، قطع، لانه شئ واحد، ولو أخرج نصفه وترك النصف الآخر في الحرز(7/328)
لخوف أو غيره، فلا قطع وإن كان حصة المخرج أكثر من نصاب، لانه مال واحد، ولم يتم إخراجه. فرع لو جمع من البذر المبثوث في الارض ما بلغ نصابا، فإن لم تكن الارض محرزة، فلا قطع، وإن كانت فوجهان، أصحهما: يقطع، لان الارض تعد بقعة واحدة، والبذر المفرق فيها كأمتعة في زوايا بيت، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان إحراز الارض. فرع لو أخرج اثنان من حرز نصابا أو أكثر ولم يبلغ نصابين، فلا قطع عليهما وإن أخرجا ما يبلغ نصابين، قطعا جميعا، وإن انفرد كل واحد بإخراج، قطع من بلغ ما أخرجه نصابا دون من لم يبلغ ما أخرجه نصابا. فرع قال الامام: إذا كان المسروق عرضا تبلغ قيمته بالاجتهاد ربع دينار فقد يوجد للاصحاب أنه يجب الحد، والذي أرى الجزم به أنه لا يجب ما لم يقطع المقومون ببلوغها نصابا، وللمقومين قطع واجتهاد، والقطع من جماعة لا يزلون معتبر، ومن جماعة لا يبعد الزلل منهم فيه احتمالان، أحدهما: يكفي، كما تقبل الشهادة مع احتمال الغلط، والثاني: المنع، لان الشهادة تستند إلى معاينة، وقال الروياني في جمع الجوامع: لو شهد عدلان بسرقة، فقوم أحدهما المسروق نصابا، والآخر دونه، فلا قطع، وأما المالك فإن رضي بأقل القيمتين فذاك وله أن يحلف مع الذي شهد بالاكثر ويأخذه، ولو شهدا بأنه نصاب، وقومه آخران بدونه، فلا قطع، ويؤخذ في الغرم بالاقل، وقال أبو حنيفة بالاكثر. فرع القيمة تختلف بالبلاد والازمان، فيعتبر في كل مكان وزمان قيمة ذلك المكان والزمان. فرع ادعى السارق نقص قيمة المسروق عن النصاب، لم يقطع، فإن قامت بينة بأن قيمته نصاب، قطع. فرع نقصت قيمة المسروق في الحرز عن نصاب، بأن أكل بعضه، أو أحرقه، وأخرج دون نصاب، فلا قطع، وإن نقص بعد الاخراج، قطع، ولو شق الثوب في الحرز، أو ذبح الشاة في الحرز، ثم أخرجه، فعليه ضمان النقص، وإن(7/329)
كان المخرج نصابا، قطع، وإلا فلا. فرع سواء كان النصاب المسروق لواحد أو لجماعة، فيجب القطع إذا اتحد الحرز. الشرط الثاني: أن يكون مملوكا لغير السارق، فلا قطع على من سرق مال نفسه من يد غيره، كيد المرتهن والمستأجر والمستعير والمودع [ وعامل القراض والوكيل والشريك، فلو أخذ مع ماله نصابا آخر، لزمه القطع، ولو سرق ما اشتراه من يد البائع في زمن الخيار أو بعده، فلا قطع، وإن سرق معه مالا آخر، فإن كان قبل أداء الثمن، قطع، وإن كان بعده، فلا قطع على الاصح، كمن سرق من دار اشتراها، ولو وهب له شئ، فسرقه بعد القبول وقبل القبض، فالصحيح أنه لا قطع، بخلاف ما لو أوصى له بشئ فسرقه قبل موت الموصي، فإنه يقطع، وإن سرق بعد موت الموصي وقبل القبول، بني على أن الملك في الوصية بماذا يحصل ؟ إن قلنا: بالموت، لم يقطع، وإلا قطع، ولو أوصى بمال للفقراء، فسرقه فقير بعد موته، لم يقطع، كسرقة المال المشترك وإن سرقه غني، قطع. فرع لو طرأ الملك في المسروق قبل إخراجه من الحرز، بأن ورثه السارق، أو اشتراه، أو اتهبه وهو في الحرز، فلا قطع، وإن طرأ الملك بعد إخراجه من الحرز، لم يسقط القطع، لكن لو وقع ذلك قبل الرفع إلى القاضي لم يمكن استيفاء القطع بناء على أن استيفاء القطع يتوقف على دعوى المسروق منه ومطالبته بالمال كما سيأتي إن شاء الله تعالى. فرع إذا ادعى السارق أن ما أخذه على صورة السرقة ملكه، فقال: كان قد غصبه مني، أو من مورثي، أو كان وديعة لي عنده، أو عارية، أو كنت اشتريته منه، أو وهبه لي وأذن لي في قبضه، أو أذن لي في أخذه، لم يقبل قوله في المال، بل يصدق المأخوذ منه بيمينه في نفي الغصب والبيع والهبة، وبلا يمين في قوله: أذن لي في أخذ ماله، ويسقط القطع بدعوى الملك على الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور، وفيه وجه أو قول مخرج، ويجري الخلاف فيما لو ادعى أن(7/330)
المسروق منه عبده، وهو مجهول النسب، أو أن الحرز ملكه غصبه منه المسروق منه، وفيما إذا شهد عليه بزنى، فادعى أن المرأة زوجته، أو كانت أمة، فقال: باعنيها مالكها، ورأى الامام الاصح في حد الزنى أنه لا يسقط بهذه الدعوى بناء على المذهب فيما إذا قامت بينة أنه زنى بأمة فلان الغائب أنه يحد، ولا ينتظر حضور الغائب بخلاف مثله في السرقة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، ولا يجري فيمن قطع يد إنسان وادعى أنه أذن له في قطعها، بل يقتص منه بلا خلاف، لان القطع حق آدمي، فهو كالمال، ولو أقر المسروق منه أن المال كان ملك السارق، فلا قطع بلا خلاف، وإذا قلنا: بالمنصوص، فسرق شخصان، وادعيا أن المسروق ملكهما، لم يقطعا، وإن ادعاه أحدهما لنفسه أولهما وأنكره الآخر، واعترف بالسرقة، فلا قطع على المدعي، وفي المنكر وجهان، أصحهما: يقطع، ولو قال أحدهما: هذا ملك شريكي وأخذت معه بإذنه، وأنكر الشريك، فالذي نقله الاصحاب أنه كالصورة المتقدمة، لا قطع على من يدعي ملك الشريك، وفي الآخر الوجهان، وقال البغوي: ينبغي أن يقال: يقطع المنكر، وفي المدعى الوجهان، ولو سرق عبد وادعى أن المسروق ملك سيده، فإن صدقه السيد، فلا قطع، وكذا إن كذبه على الاصح. فرع قال الامام: يجري الخلاف في دعوى الملك إذا ظهرت صورة السرقة، فإن سرق من حرز هو بما فيه في يد رجل، ولم تقم بينة مفصلة، فقال السارق: هو ملكي، فعلى قولنا بسقوط القطع ببقاء النزاع بينهما في المال، فيصدق المأخوذ منه بيمينه، وإن قلنا: لا يسقط القطع بالدعوى، فإن حلف المسروق منه، ثبت القطع مع المال، ويجئ الخلاف في أن القطع يثبت باليمين المردودة، والاصح ثبوته كما سنذكره إن شاء الله تعالى، ويجري أيضا فيما لو قامت بينة مفصلة يثبت مثلها في السرقة، فقال السارق: كان أباحه، أو وهبه، أو باعه لي، واعتمد الشهود ظاهر الحال، أما إذا قال: لم يزل ملكي وكان غصبنيه، أو قال: ما سرقت أصلا، فهذا يناقض قول الشهود ويكذبهم، فهل يسقط به الحد(7/331)
تفريعا على أن الدعوى التي لا تكذبهم مسقطة ؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم، قال ابن كج: موضع الخلاف في أن القطع يسقط بدعوى السارق الملك ما إذا حلف المسروق منه على نفي الملك الذي يدعيه، أما لو نكل حلف وحلف السارق، فيستحق المال، ويسقط عنه القطع بلا خلاف، ولو نكل السارق أيضا، فيشبه أن يجئ فيه الخلاف. الشرط الثالث: أن يكون محترما، فلو سرق خمرا، أو كلبا، أو جلد ميتة غير مدبوغ، فلا قطع، سواء سرقه مسلم أم ذمي، لانه ليس بمال، فلو كان الاناء الذي فيه الخمر يساوي نصابا، قطع على الاصح المنصوص، وإن كان فيه بول، فالمذهب وجوب القطع، وطرد صاحب البيان فيه الوجهين، وطردهما فيما يستهان به، كقشور الرمان، وهو بعيد، بل الصواب القطع بالوجوب، ولو سرق آلات الملاهي، كالطنبور والمزمار، أو صنما، فإن كان لا يبلغ بعد الكسر والتغيير نصابا، فلا قطع، وإن بلغه، قطع على الاصح عند الاكثرين منهم العراقيون والروياني، لانه سرق نصابا من حرز، واختار الامام وأبو الفرج الزاز أنه لا قطع من الملاهي فأشبه الخمر، ولانه غير محرز، لان كل أحد مأمور بإفساد الآت الملاهي، ويجوز الهجوم على الدور لكسرها وإبطالها، ولانه لا يجوز إمساكها، فهي كالمغصوب يسرق من حرز الغاصب، ثم الوجهان فيما إذا قصد السرقة، أما إذا قصد بإخراجها أن يشهد تغييرها وإفسادها، فلا قطع بلا خلاف، ولو كسر ما أخذه في الحرز، ثم أخرجه وهو يبلغ نصابا، قطع على المذهب، ولو سرق آنية ذهب أو فضة، ففي المهذب والتهذيب إنه يقطع لانها تتخذ للزينة، والوجه ما قاله صاحب البيان أنه يبنى على اتخاذها، إن جوزناه قطع، وإلا فلا، كالملاهي، وكذا ذكره الامام، لكنه رأى نفي القطع بعيدا.(7/332)
الشرط الرابع: أن يكون الملك تاما قويا وفيه مسائل: إحداها: إذا سرق أحد الشريكين من حرز الآخر مالهما المشترك، فهل يقطع ؟ قولان، أظهرهما: لا، لان له في كل قدر جزءا وإن قل، فيصير شبهة، كوطئ المشتركة، فعلى هذا لو سرق ألف دينار له منه قدر دينار شائعا، لم يقطع، والثاني: نعم، إذ لا حق له في نصيب الشريك، فعلى هذا ثلاثة أوجه، قال الاكثرون: إن كان المال بينهما بالسوية، فسرق نصف دينار فصاعدا، فقد سرق من الشريك نصابا، وإن كان ثلثاه للسارق، فإذا سرق ثلاثة أرباع فقد سرق منه نصابا، والثاني: إنما يجعل سارقا لنصاب من الشريك إذا زاد المأخوذ على قدر حقه بنصاب، فلو كان بينهما مناصفة، فسرق نصف المال وزيادة ربع دينار، أو كان ثلثاه للسارق، فسرة ثلثيه وزيادة لا تبلغ ربع دينار، فلا قطع، والثالث: إن كان المشترك مما يجبر على قسمته، كالحبوب وسائر المثليات، فلا قطع حتى يزيد المأخوذ على قدر حصته بنصاب، وإن كان مما لا يجبر فيه، كالثياب، فإذا سرق نصف دينار إن اشتركا بالسوية أو ثلاثة أرباع دينار إن كان الثلثان للسارق، قطع. الثانية: إذا سرق من مال بيت المال، نظر إن سرق مما أفرز لطائفة مخصوصين وليس السارق منهم، قطع، قال الامام: وكذا الفئ المعد للمرتزقة تفريعا على أنه ملكهم، وإن سرق من غيره، فأوجه، أحدها وهو مقتضى إطلاق العراقيين: لا قطع، سواء كان غنيا أو فقيرا، وسواء سرق من الصدقات، أو مال المصالح، والثاني: يقطع، وأصحها: التفصيل، فإن كان السارق صاحب حق في المسروق، بأن سرق فقير من الصدقات، أو مال المصالح، فلا قطع، وإن لم يكن صاحب حق فيه، كالغني، فإن سرق من الصدقات، قطع، وإن سرق من المصالح، فلا قطع على الاصح، لانه قد يصرف ذلك إلى عمارة المساجد والرباطات والقناطير فينتفع بها الغني والفقير، أما إذا سرق ذمي مال المصالح، فالصحيح أنه يقطع، لانه مخصوص بالمسلمين، ولا ينظر إلى إنفاق الامام عليهم عند الحاجة، لانه إنما ينفق للضرورة، وبشرث الضمان، ولا ينظر إلى انتفاعه بالقناطر والرباطات، لانه إنما ينتفع تبعا، وفي وجه: لا قطع، واختاره البغوي وقال:(7/333)
ينبغي أن لا يكون إنفاق الامام عليه بشرط الضمان، قال: وهذا في مال المصالح، أما لو سرق من مال من مات ولم يخلف وارثا فعليه القطع، لانه إرث للمسلمين خاصة، ولو كفن مسلم من بيت المال، فسرق نباش كفنه، قطع إذا لم يبق لغير الميت فيه حق، كما لو كساه حيا. الثالثة: إذا سرق ستر الكعبة وهو محرز بالخياطة عليه، فالمذهب وجوب القطع وبه قطع الجمهور ونقل ابن كج فيه قولين، والمعروف الاول، وألحقوا باب المسجد وجذعه وتأزيره وسواريه، فأوجبوا القطع بسرقتها، قالوا: ولا قطع بسرقة ما يفرش في المسجد من حصير وغيره، ولا في القناديل المسرجة، لانها معدة لانتفاع الناس، والقناديل التي لا تسرج، ولا يقصد منها إلا الزينة كالابواب، هذه طريقة الجمهور، ورأى الامام تخريج وجه في الابواب والسقوف، لانها من أجزاء المسجد، والمسجد مشترك وذكر في الحصر والقناديل ونحوها ثلاثة أوجه، ثالثها: الفرق بين ما يقصد به الاستضاءة أو الزينة، وكل هذا في المسلم، أما الذمي إذا سرق الباب أو الحصير أو غيرهما، فيقطع بلا خلاف، وذكر الفوراني في سرقة بكرة اليد المسبلة أنه يقطع، وكذا حكاه البغوي قال: والوجه عندي أنها كحصير المسجد، لانها لمنفعة الناس. الرابعة: لو سرق مالا موقوفا، أو مستولدة وهي نائمة، أو مجنونة، وجب القطع على الاصح بخلاف المكاتب، لانه في يد نفسه، وكذا من بعضه حر، ولو سرق من غلة الارض الموقوفة أو ثمرة شجرة موقوفة، قطع بلا خلاف، فلو كان للسارق استحقاق، أو شبهة استحقاق، بأن وقف على جماعة، فسرقه أحدهم، أو سرق أبو بعض الموقوف عليهم، أو ابنه، أو وقف على الفقراء، فسرق فقير، فلا قطع بلا خلاف. فرع الصحيح وجوب الحد على من زنى بجارية بيت المال، وإن لم يجب القطع بسرقة مال. الشرط الخامس: أن لا يكون فيه شبهة استحقاق للسارق وفيه مسائل:(7/334)
احداها: سرق مستحق الدين مال المدين، نص أنه لا قطع، فقيل بإطلاقه، والاصح: التفصيل، فإن أخذه لا بقصد استيفاء الحق، أو بقصده، والمدين غير جاحد ولا مماطل، قطع، وإن قصده وهو جاحد أو مماطل، فلا قطع، ولا فرق بين أن يأخذ من جنس حقه، أو من غيره، وقيل: يختص بمن أخذ جنس حقه، والصحيح الاول، ولو أخذ زيادة على قدر حقه، فلا قطع على الصحيح، لانه إذا تمكن من الدخول والاخذ، لم يبق المال محرزا عنه، وقيل: إن بلغت الزيادة نصابا وهي مستقلة، قطع. الثانية: من يستحق النفقة بالبعضية على المسروق منه، لا يقطع بسرقة ماله، ويقطع بسرقة مال الاخ وسائر الاقارب، ولو سرق أحد الزوجين مال الآخر، إن لم يكن محرزا عنه، فلا قطع، وإلا فثلاثة أقوال، أظهرها: يقطع، والثاني: لا، والثالث: يقطع الزوج دون الزوجة، وقيل: يقطعان بلا خلاف، قال الاصحاب: ومن لا يقطع بسرقة مال شخص، لا يقطع عبده بسرقة مال ذلك الشخص، فلا يقطع العبد بسرقة مال أبي سيده وابنه، وفي قطع عبد أحد الزوجين بسرقته مال الآخر الخلاف، وفي وجه يقطع العبد وإن لم يقطع سيده، ورجحه الامام، والصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور هو الاول، لان يد العبد كيد السيد، ولو سرق مكاتب أحد الزوجين مال الآخر وقلنا: لا قطع على العبد فوجهان، كما لو سرق المكاتب مال سيده، ففيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى، وعن القاضي حسين أنا إذا لم نقطع أحد الزوجين بسرقة مال الآخر، ينبغي أن لا يقطع ولد أحدهما بسرقة مال الآخر، وغلط القاضي في ذلك، ولو كان لرجل زوجتان، سرقت إحداهما مال الاخرى، أو سرق مال زوجة أبيه، أو ابنه، فالمذهب وجوب الحد، ولا يقطع العبد بسرقة مال سيده بخلاف ما لو زنى بجاريته، والمدبر وأم الولد ومن بعضه حر في كل ذلك كالقن، وكذا المكاتب في الاصح، ولا خلاف أن السيد لا يقطع بما(7/335)
في يد مملوكه وإن قدرنا له ملكا، ولو سرق ممن بعضه مملوكه ما ملكه ببعضه الحر، قال القفال: لا يقطع، وقال الشيخ أبو علي: يقطع. الثالثة: لو أخذ المال على صورة السرقة على ظن أن المأخوذ ملكه، أو ملك أبيه، أو ابنه أن الحرز ملكه، فلا قطع على الاصح للشبهة. فرع في صور يتوهم أنها شبهة، وليست مؤثرة، فلا أثر لكون المسروق مباح الاصل، كالحطب والحشيش والصيد ومال المعدن، ولا لكونه معرضا للفساد، كالرطب والتين والرياحين والشواء والهريسة والجمد والشمع المشتعل، ولو سرق عينا فقطع، ثم سرقها من المالك الاول أو غيره، قطع ثانيا، ولا يشترط كون المسروق في يد المالك، بل السرق من يد المودع والمرتهن والوكيل وعامل القراض والمستعير والمستأجر، يوجب القطع، والخصم فيها الما - ك، وإذا قلنا: الماء لا يملك، فلا قطع بسرقته، وإن قلنا: يملك، قطع في الاصح، ووجه المنع أنه تافه، ويجري الوجهان في سرقة التراب، لانه لا تقصد سرقته لكثرته، ويجب القطع بسرقة المصحف وكتب التفسير والحديث والفقه، وكذا الشعر الذي يحل الانتفاع به، وما لا يحل الانتفاع به لا قطع فيه إلا أن يبلغ الجلد والقرطاس نصابا، ويجب القطع بسرقة قرون الحيوان. الشرط السادس: كونه محرزا، فلا قطع في سرقة ما ليس بمحرز، ويختلف الحرز باختلاف الاحوال والاموال، والتعويل في صيانة المال وإحرازه على شيئين، أحدهما: الملاحظة والمراقبة، والثاني: حصانة الموضع ووثاقته، فإن لم يكن للموضع حصانة، كالموضوع في صحراء، أو مسجد، أو شارع، اشترط مداومة اللحاظ، وإن كان له حصانة، وانضم إليها اللحاظ المعتاد، كفى، ولم تشترط مداومته، ويحكم في ذلك العرف، وتفضيله بمسائل: احداها: الاصطبل حرز الدواب مع نفاستها وكثرة قيمتها، وليس حرزا للثياب والنقود، والصفة في الدار وعرصتها حرزان للاواني وثياب البذلة دون الحلي(7/336)
والنقود، لان العادة فيها الاحراز في المخازن، وكذا الثياب النفيسة تحرز في الدور، وفي بيوت الحانات وفي الاسواق المنيعة، والمتبن حرز للتبن دون الاواني والفرش. واعلم أن ما كان حرزا لنوع كان حرزا لما دونه، وإن لم يكن حرزا لما فوقه. الثانية: إذا نام في صحراء، أو مسجد، أو شارع على ثوبه، أو توسد عيبته أو متاعه، أو اتكأ عليه، فسرق الثوب من تحته، أو العيبة، أو أخذ المنديل من رأسه، أو المداس من رجله، أو الخاتم من أصبعه، وجب القطع، لانه محرز به، ولو زال رأسه عما توسده، أو انقلب في النوم عن الثوب وخلاه، فلا قطع بسرقته، ولو رفع السارق النائم عن الثوب أولا، ثم أخذه، فلا قطع، ولو وضع متاعه أو ثوبه بقربه في الصحراء أو المسجد، فإن نام أو ولاه ظهره، أو ذهل عنه بشاغل، لم يكن محرزا، وإن كان متيقظا يلاحظه فتغفله السارق، وأخذ المال، قطع على الصحيح، وهل يشترط أن لا يكون في الموضع زحمة الطارقين ؟ وجهان، أحدهما: لا، وتكفي الملاحظة، لكن لا بد بسبب الزحمة من مزيد مراقبة وتحفظ، وأصحهما: نعم، وتخرجه الزحمة عن كونه محرزا، وأجري الوجهان في الخباز والبزاز وغيرهما إذا كثرت الزحمة على حانوته، قال الامام: ولو وضع المتاع في شارع، ولاحظه جمع، صار عدد اللاحظين في معارضة عدد الطارقين، كلاحظ في الصحراء في معارضة طارق، ويشترط كون الملاحظ بحيث يقدر على المنع لو(7/337)
اطلع على سارق إما بنفسه، وإما بالاستغاثة، فإن كان ضعيفا لا يبالي به السارق، والموضع بعيد عن الغوث، فليس بحرز، بل الشخص شائع مع ماله، وينبغي أن لا يفرق بين كون الصحراء مواتا أو غيره. واعلم أن الركن الاول في كونه محرزا الملاحظة، فلا تكفي حصانة الموضع على أصل الملاحظة، حتى إن الدار المتفردة في طرف البلد لا تكون حرزا وإن تناهت في الحصانة، وكذا القلعة المحكمة، لانه إذا لم يكن الموضع على أصل الملاحظة، حتى إن الدار المنفردة في طرف البلد لا تكون خطر، لكن لا يحتاج مع الحصانة إلى دوام الملاحظة بخلاف ما ذكرنا في الصحراء. فرع لو أدخل يده في جيب إنسان أو كمه، وأخذ المال، أو طر جيبه، أو كمه، وأخذ المال، قطع، لانه محرز به، وسواء ربطه من داخل الكم، أم من خارجه أم لم يربطه ؟ وإن أخذه من رأس منديل على رأس، قال البغوي: إن كان قد شده عليه، قطع، وإلا فلا. الثالثة: الدار إن كانت منفصلة عن العمارات، بأن كانت في بادية، أو في الطرق الخراب من البلد، أو في بستان، فليست بحرز إن لم يكن فيها أحد، سواء كان الباب مفتوحا أو مغلقا، فإن كان فيها صاحبها، أو حافظ آخر، نظر إن كان نائما والباب مفتوح، فليست حرزا، وإن كان مغلقا فوجهان، الذي أجاب به الشيخ أبو حامد ومن تابعه: أنه محرز، والذي يقتضيه إطلاق الامام والبغوي خلافه. قلت: الذي قاله أبو حامد أقوى، وجزم الرافعي في المحرر بأنه غير محرز. والله أعلم. وإن كان من فيها متيقظا، فالامتعة فيها محرزة، سواء كان الباب مفتوحا أو مغلقا، لكن لو كان ممن لا يبالي به وهو بعيد عن الغوث، فالحكم على ما ذكرناه في الملحوظ بعين الضعيف في الصحراء، وإن كانت الدار متصلة بدور أهله، نظر إن كان الباب مغلقا وفيها صاحبها، أو حافظ آخر، فهي حرز لما فيها ليلا ونهارا متيقظا كان الحافظ أو نائما، وإن كان الباب مفتوحا، فإن كان من فيها نائما لم يكن حرزا ليلا قطعا، ولا نهارا في الاصح، وقيل: حرز نهارا في زمن الامن من النهب وغيره،(7/338)
وإن كان من فيها متيقظا لكنه لا يتم الملاحظة بل يتردد في الدار، فتغفله إنسان فسرق، لم يقطع على الاصح المنصوص للتقصير بإهمال المراقبة مع فتح الباب، ولو كان يبالغ في الملاحظة بحيث يحصل الاحراز بمثله في الصحراء، فانتهز السارق فرصة، قطع بلا خلاف، ولو فتح صاحب الدار بابها، وأذن للناس في الدخول كشراء متاعه، كما يفعله من يخبز في داره فوجهان، لان الزحمة تشغل، فأما إذا لم يكن فيها أحد، فالمذهب وبه قطع البغوي: أنه إن كان الباب مغلقا، فهو حزر بالنهار في وقت الامن، وليس حرزا في وقت الخوف ولا في الليل، وإن كانت مفتوحا، لم يكن حرزا أصلا، ومن جعل الدار المنفصلة عن العمارات حرزا عند إغلاق الباب فأولى أن يجعل المتصلة بها عند الاغلاق حرزا، وإذا ادعى السارق أن صاحب الدار: نام، أو ضيع ما فيها وأعرض عن اللحاظ، فقال الغزالي: يسقط القطع بمجرد دعواه، كما في دعوى الملك، ويجئ فيه الوجه المذكور هناك. واعلم أن الامر في كل هذا مبني على العادة الغالبة في الاحراز، وعلى هذا الاصل، قال الاصحاب: النقد والجوهر والثياب لا تكون محرزة إلا بإغلاق الباب عليها، وأمتعة العطارين والبقالين والصيادلة إذا تركها على باب الحانوت ونام فيه، أو غاب عنه، فإنه ضم بعضها إلى بعض وربطها بحبل، أو علق عليها شبكة، أو وضع لوحين على باب الحانوت مخالفين، كفى ذلك إحرازا في النهار، لان الجيران والمارة ينظرونها، وإن تركها مفرقة ولم يفعل شيئا مما ذكرناه، لم تكن محرزة، وأما بالليل، فلا تكون محرزة إلا بحارس، قال الروياني. والبقل والفجل قد يضم بعضه إلى بعض، ويطرح عليه حصير، ويترك على باب الحانوت وهناك حارس ينام ساعة، ويدور ساعة، فيكون محرزا، وقد يزين العامي حانوته أيام العيد بالامتعة النفيسة، ويشق عليه رفعها ليلا، فيتركها، ويلقى عليها نطعا، وينصب حارسا، فتكون محرزة بخلاف سائر الايام، لان أهل السوق يعتادون ذلك، فيقوى بعضهم ببعض، والثياب على باب حانوت القصار والصباغ، كأمتعة العطارين، هذا فيما ينقل في العادة إلى داخل بناء ويغلق عليه باب، فأما الامتعة الثقيلة التي يشق نقلها،(7/339)
كالحطب، فهي محرزة بأن يشد بعضها إلى بعض، وكذلك الخزف والقدور تحرز بالشرائح التي تنصب على وجه الحانوت، وإن تركت متفرقة لم تكن محرزة، وفي وجه لا يكفي الشد، بل يشترط أن يكون عليها باب مغلق، أو يكون على سطح محوط، والاول أصح حيث جرت العادة به، وكذا الطعام في الغرائر في موضع البيع محرزا إذا شد بعضها إلى بعض بحيث لا يمكن أخذ شئ منه إلا بحل الرباط، أو فتق بعض الغرائر، نص عليه الشافعي رحمه الله، والحطب والقصيل على السطح المحوط محرزان، والاجذاع الثقال على أبواب المساكين محرزة، وقال البغوي: متاع البقال في الحانوت في الليل محرز في وقت الامن إذا كان الباب، مغلقا، وفي غير وقت الامن لا بد من حارس، ومتاع البياع والبزار، لا يكون محرزا إلا بالحارس، وإن الكدس في الصحراء والبذر المستتر بالتراب، والزرع والقطن، قصيلا كانا، أو اشتد الحرب وخرج الجوزق ليست محرزة إلا بحارس، وفي جمع الجوامع للروياني أن الزرع في المزارع محرز وإن لم يكن حارس، وفي تعليقه الشيخ إبراهيم المروزذي أن الزرع إذا كان قصيلا لا يحتاج إلى حارس لانه يحفظ مثله في العادة، وهذا يجري في البذر المستتر، ولو كانت هذه الاشياء في محوط فهي كالثمار في البساتين، والثمار على الاشجار إنك كانت في برية لا تكون محرزة إلا بحارس، وفي الكرم والبساتين المحوطة كذلك إن كانت بعيدة عن الطرق والمساكن، وإن كانت متصلة بها، والجيران يراقبونها في العادة، فهي محرزة، وإلا فيحتاج إلى حارس والاشجار في أفنية الدور محرزة، وفي البرية تحتاج إلى حارس، والحنطة في مطامير المفازة، والتبن في المتبن، والثلج في المثلجة، والجمد في المجمدة في الصحراء غير محرزة إلا بحارس، وباب الدار والحانوت والمغلاق والحلقة على الباب محرزة بالتركيب والتسمير، وكذا الآجر إذا سرق من صحن الدار، أو استخرجه من الجدار داخلا أو خارجا، ليلا أو نهارا، وجب القطع، والشرط في كونها محرزة أن تكون الدار بحيث تحرز ما فيها، ولو كان باب الدار مفتوحا، فدخل داخل، وقلع باب بيت وأخرجه، فعن أبي إسحق أنه لا قطع، كما لو أخذ متاعا منها، وقال الاكثرون: يقطع، والباب محرز بالتركيب كباب الدار، والقفل على الباب محرز كالباب والحلقة، وقال ابن سلمة: ليس(7/340)
بمحرز، لانه للاحراز به لا لاحرازه، والاول أصح. المسألة الرابعة: الخيام بربطها وتنضيد الامتعة فيها له تأثير في الاستغناء عن دوام اللحاظ المعتبر في الامتعة الموضوعة في الصحراء، لكنها ليست كالدور في الحصانة، لانها في نفسها قابلة للسرقة، فإذا ضرب في صحراء خيمة، وآوي إليها متاعا، فسرق منها، أو سرقت هي، نظر إن لم يشد أطنابها، ولم يرسل أذيالها، فهي وما فيها كالمتاع الموضوع في الصحراء، وإن شدها بالاوتاد وأرسل أذيالها، فإن لم يكن صاحبها فيها، فلا قطع، وقيل: الخيمة محرزة دون ما فيها، والصحيح الاول، وإن كان صاحبها في نفسها مستيقظا، أو نائما، أو نام بقربها، وجب القطع بسرقتها أو سرقة ما فيها لحصول الاحراز في العادة، قال الائمة: والشرط أن يكون هناك من يتقوى به، فأما إذا كان في مفازة بعيدة عن الغوث وهو ممن لا يبالي به، فليس بحرز، ولو ضرب خيمة بين العمارة، فهو كالمتاع الموضوع بين يديه في السوق، وهل يشترط إسبال باب الخيمة إذا كان من فيها نائما ؟ وجهان، أصحهما: لا، ولو شدها بالاوتاد ولم يرسل أذيالها وكان يمكن دخولها من كل وجه، فهي محرزة وما فيها كيس بمحرز، هكذا ذكروه، وقد يفهم منه أن الامتعة والاحمال إذا شد بعضها ببعض تكون محرزة بعض الاحراز، وإن لم يكن هناك خيمة، ولو أن السارق يجئ النائم في الخيمة، ثم سرق، فلا قطع، لانها لم تكن حرزا حين سرق. الخامسة: المواشي في الابنية المغلقة الابواب محرزة إن اتصلت بالعمارة، سواء كان صاحبها فيها أم لم يكن، للعادة، وإن كانت في برية، لم تكن محرزة إلا إذا كان صاحبها فيها مستقيظا، أو نائما، فإن كان الباب مفتوحا، اشترط كونه مستيقظا، ويكفي أن يكون المراح من حطب أو حشيش، وأما في غير الابنية فلها أحوال. احدها: أن تكون الابل ترعى في صحراء، فهي محرزة إذا كان معها حافظ يراها جميعا، ويبلغها صوته، فإن لم ير بعضها، لكونه في وهدة أو خلف جبل أو حائط، فذلك البعض غير محرز، ولو نام، أو تشاغل لم تكن محرزة، ولو لم يبلغ صوته بعضها ففي المهذب وغيره أن ذلك البعض غير محرز، وسكت آخرون عن اعتبار بلوغ الصوت اكتفاء بالنظر، لانه إذا قصد ما يراه أمكنه العدو إليه، وحكم(7/341)
الخيل والبغال والحمير وهي ترعى حكم الابل، وكذا الغنم إذا كان الراعي على نشز من الارض يراها جميعا فهي محرزة إذا بلغها صوته، وإن كانت متفرقة. الثاني: أن تكون سائرة، أما الابل فإن كانت مقطورة يسوقها سائق، فمحرزة إن انتهى نظره إليها، وإن كانت يقودها اشترط أن ينظر إليه كل ساعة، وينتهي نظره إليها إذا التفت، فإن كان لا يرى البعض لحائل جبل أو بناء، فذلك البعض غير محرز، وحكى ابن كج وجها أنه لا يشترط انتهاء النظر إلى آخرها، وليجئ هذا في سوقها، ولو ركب الحافظ أولها فهو كقائدها، ولو ركب غير الاول، فهو لما بين يديه كسائق، ولما خلفه كقائد، وحيث يشترط انتهاء نظره إليها ففي اشتراط بلوغ الصوت ما سبق، وقد يستغنى بنظر المارة عن نظره إذا كان يسيرها في سوق مثلا، أما إذا لم تكن مقطورة، بأن كانت تساق أو تقاد، فمنهم من أطلق أنها غير محرزة، لانها لا تسير هكذا غالبا، وبهذا قطع البغوي وقال صاحب الافصاح: المقطورة وهذه سواء، وبهذا أخذ الروياني، المعتبر أن تقرب منه، ويقع نظره عليها، ولا تعتبر صورة القطر، فإن اعتبرناه، فيشترط أن لا يزيد القطار الواحد على تسعة للعادة الغالبة، فإن زاد فهي كغير المقطورة، ومنهم من أطلق ذكر القطر ولم يقيد بعدد، والاصح توسط ذكره أبو الفرج السرخسي فقال: في الصحراء لا يتقيد بعدد، وفي العمران يعتبر ما جرت العادة بأن يجعل قطارا، وهو ما بين سبعة إلى عشرة، فإن زاد، لم تكن الزيادة محرزة، والخيل والبغال والحمير والغنم السائرة، كالابل السائرة إذا لم تكن مقطورة، ولم يشترطوا القطر فيها، لكنه معتاد في البغال، ويختلف عدد الغنم المحرزة بالواحد بالبلد والصحراء. الثالث: أن تكون الابل مناخة، فإن لم يكن معها أحد، فليس محرزة، وإن كان معها صاحبها، فإن كانت معقولة، لم يضر نومه ولا اشتغاله عنها، لان في حل المعقولة ما يوقظ النائم والمشتغل، وإن لم تكن معقولة اشترط أن ينظر إليها ويلاحظها. فرع الطعام على دابة محرزة محرز، فيقطع سارقه سواء من الوعاء، أو مع الوعاء، أو مع الدابة، ولو ساق بقرة وتبعها عجلها، فإنما يكون العجل محرزا إذا قرب منه بحيث يراه إذا التفت، وأن يلتفت كل ساعة كما سبق في قائد القطار،(7/342)
وعن المسعودي أن الغنم المرسلة في سكة تشرع إليها أبواب الدور لا تكون محرزة حتى تأوي إلى موضع، وليكن هذا فيما إذ كثرت، وتعذرت الملاحظة، ومن دخل مراحا، وحلب الغنم، أو جز صوفها وأخرج منه نصابا، قطع. السادسة: إذا نبش قبرا وسرق منه الكفن، فالمذهب وجوب القطع في الجملة، وبه قطع الجمهور وحكى ابن خيران وابن الوكيل قولا آخر أنه لا قطع فيه بحال، لانه موضوع للبلى لا للاحراز، ويتفرع على المذهب صور. إحداها: إن كان القبر في بيت محرز، قطع بسرقة الكفن منه، وكذا لو كانت المقبرة محفوفة بالعمارة يندر تخلف الطارقين عنها في زمن يتأتى فيه النبش، أو كان عليها حراس مرتبون، ولو كان القبر في مفازة وبقعة ضائعة، فوجهان، أحدهما: ليس بحرز، وبه قطع صاحب المهذب والغزالي وعزاه إلى جماهير الاصحاب، لان السارق يأخذ من غير خطر، والثاني واختاره القفال والقاضي، ورجحه العبادي: القبر حرز للكفن حيث كان، لان النفوس تهاب الموتى، ولو كان القبر في بيت محرز فسرق الكفن حافظ البيت، فعلى الوجه الاول لا قطع، وعلى الثاني: يجب، ولو كان القبر في مقابر البلاد الواقعة على طرف العمارة، فإن كان لها حارس، وجب القطع، وإلا فوجهان، أصحهما: يجب أيضا، لانه حرز في العادة. الثانية: لو وضع في القبر شئ سوى الكفن، قال الامام: إن كان القبر في بيت، تعلق القطع بسرقته، وإن كان في المقابر فوجهان، أصحهما وبه قطع الجمهور: لا قطع للعادة، بخلاف الكفن، لان الشرع قطع فيه النباش، وجعله محرزا لضرورة التكفين والدفن، وخص الامام الوجه الآخر بما إذا كان من جنس الكفن، كثوب وضع فيه، وكما لو كفن في زيادة على خمسة أثواب، ففي الزيادة على الخمسة التي تلي الميت الوجهان، وليس الوجه مختصا فقد حكاه الروياني فيما لو وضع في القبر مضربة، أو وسادة للميت، وعن بعضهم أنه أجراه فيما لو وضع معه دراهم أو دنانير، بل في الرقم للعبادي أن القفال أوجب القطع فيما لو دفن معه مال في برية، والتابوت الذي يدفن فيه كالاكفان الزائدة، والزيادة على ما استحب تطييب الميت به، كسائر الاموال، وعن الماسرجسي أنه يقطع بالقدر(7/343)
المتسحب كالكفن. الثالثة: إذا كفن من تركته، فلمن الكفن ؟ فيه أوجه، أصحها: للورثة، لكن يقدم الميت فيه كقضاء دينه وإن كان الملك للورثة، وعلى هذا لو سرقه بعض الورثة، أو ولد بعضهم، فلا قطع، والثاني: يبقى على ملك الميت لحاجته إليه وإن كان لا يثبت له الملك ابتداء، كما يبقى الدين عليه وإن لم يثبت عليه ابتداء، والثالث: أن الملك فيه لله عزوجل، فإن قلنا: الملك فيه للوارث، فهو الخصم في السرقة، وإن قلنا: للميت، فهل الخصم الوارث أم الحاكم ؟ وجهان، وإن قلنا: لله عزوجل، فالخصم الحاكم، هذا ما ذكره الاصحاب، وقال الامام: إن كان من يقول: الملك لله تعالى أو للميت، يقول: يتعين رده بعد ما أخذه النباش إلى الميت، ولا يجوز للوارث إبداله، فالتفريع والخلاف في أن الخصم من هو صحيح، لكن هذا قول عري عن التحصيل، والوجه عندي أن للوارث إبداله بعد انفصاله عن الميت، وحينئذ يجب الجزم بأنه الخصم لا غير، ولو أكل الميت سبع، أو ذهب به سيل، وبقي الكفن، فإن قلنا: إنه ملك الورثة، اقتسموه، وإن قلنا: ملك الميت، فالاصح أنه يجعل في بيت المال لمصالح المسلمين، والثاني: أنه للورثة، وإن قلنا: لله تعالى، جعل في بيت المال قطعا، هذا كله إذا كفن من تركته، فإن كفنه أجنبي، أو كفن من بيت المال، فلمن الملك فيه ؟ فيه طريقان: أحدهما: على الاوجه، والثاني: للاجنبي، أو على حكم بيت المال، ويكون كالعارية. قلت: هذا أصح. والله أعلم. والقول في أن الخصم في السرقة من هو، وفي أنه لو أكله سبع إلى من يرد الكفن ؟ مبني على الخلاف في الملك. فرع كفن سيد عبده، فهل الكفن ملك السيد أم لا يملكه أحد ؟ وجهان، أصحهما: الاول، ولو سرق الكفن وضاع، كفن ثانيا من التركة، فإن لم يكن، فهو كمن مات ولا تركة له. قلت: هكذا جزم صاحب التتمة بأنه يجب تكفينه ثانيا من التركة، وقال(7/344)
صاحب الحاوي: إذا كفن من ماله وقسمت التركة، ثم سرق الكفن، استحب للورثة تكفينه ثانيا، ولا يلزمهم ذلك، وهذا قوي. والله أعلم. وإنما يقطع النباش إذا أخرج الكفن من جميع القبر، أما إذا أخرجه من اللحد إلى فضاء القبر، وتركه هناك لخوف أو غيره، فلا يقطع، هكذا نص عليه الشافعي رحمه الله عنه، ويجوز أن يخرج على الخلاف في الاخراج من بيت إلى صحن الدار. فصل إذا كان الحرز ملكا للسارق، نظر إن كان في يد المسروق منه بإجارة، فسرق منه المؤجرة، قطع، لان المنافع مستحقة للمستأجر، وفي هذا الاستبدال إعلام بأن التصوير فيمن استحق بالاجارة إيواء المتاع دون من استأجر أرضا للزراعة فآوى إليها ماشية، وإن كان الحرز في يده بإعارة وسرق المعير منه مال المستعير، قطع على الاصح المنصوص، وقيل: لا، وقيل: إن دخل الحرز بنية الرجوع عن العارية فلا قطع، وإن دخل بنية السرقة قطع، ولو أعار عبدا لحفظ مال، أو رعي غنم، ثم سرق مما يحفظه عبده، فقيل: يقطع قطعا، وقيل: فيه الاوجه، ولو أعار قميصا، فلبسه المستعير، وطر المعير جيبه، وأخذ ما فيه، قطع ولو كان الحرز في يده بغصب، فسرق مالك الحرز منه، فلا قطع، لان دخوله جائز فليس محرزا عنه، وإن سرق منه أجنبي، لم يقطع على الاصح، ولو اشترى الحرز، وسرق منه قبل القبض مال البائع، فإن لم يكن أدى الثمن، قطع، وإلا فلا على الاصح، ولو غصب مالا، أو سرقة ووضعه في حرزه، فجاء مالك المال وسرق من ذلك الحرز مالا للغاصب، فلا قطع على الاصح، لان له دخول الحرز وهتكه لاخذ ماله، وخصص جماعة الوجهين بما إذا كان مال الغاصب متميزا لا عن ماله، سواء أخذه وحده أم مع مال نفسه، فأما إذا كان مخلوطا به بحيث لا يتميز أحدهما، فلا قطع قطعا، وهذا تفريع على أن المال المشترك لا يقطع به الشريك،(7/345)
ولو سرق أجنبي المال المغصوب أو المسروق، لم يقطع على الاصح. فصل سرق طعاما في عام القحط والمجاعة، فإن كان يوجد عزيزا بثمن غال، قطع، وإن كان لا يوجد ولا يقدر عليه، فلا قطع، وعلى هذا يحمل ما جاء عن عمر رضي الله عنه: لا قطع في عام المجاعة.
الركن الثاني : نفس السرقة، وهي أخذ المال على وجه الخفية، فلا قطع على من أخذ عيانا، كالمختلس والمنتهب، فالمختلس: هو من يعتمد الهرب، والمنتهب: الذي يعتمد القوة والغلبة، ولا يقطع المودع إذا جحد، وفيه ثلاثة أطراف: الاول في إبطال الحرز، وقد يكون بالنقب وفتح الباب، وقد يكون بتغييبه عن نظر الملاحظ، وفيه صور: الاولى: إذا نقب، ثم عاد وأخرج نصابا في ليلة أخرى، فإن علم صاحب الحرز بالنقب، أو كان ظاهرا يراه الطارقون، وبقي كذلك، فلا قطع، لانتهاك الحرز، وإلا فيقطع على الاصح، وبه قال ابن سريج وغيره، كما لو نقب وأخرج المال آخر، ولو نقب واحد، ودخل آخر الحرز وأخرج المال في الحال، أو بعده لم يقطع واحد منهما، ويضمن الاول الجدار. والثاني ما أخذه، وقيل: في وجوب القطع على الثاني قولان، والمذهب الاول، فلو كان في الدار حافظ قريب من النقيب، وهو يلاحظ المتاع فهو محرز به، فيقطع الآخذ. وإن كان الحافظ نائما، لم يقطع في الاصح كما سبق فيمن نام في الدار وبابها مفتوح.(7/346)
الثانية: تعاون شريكان على النقب، وأخرجا نصابين، بأن أخرج كل واحد نصابا، أو حملا متاعا يساوي نصابين، لزمهما القطع، وإن تعاونا على النقب، وانفرد أحدهما بالاخراج، فالقطع على المخرج خاصة، وحكى الامام في المخرج وجها شاذا جدا، ولو نقب واحد، ودخل مع آخر، وأخرجا المال، قطع الجامع بين النقب والاخراج دون الآخر، ولو اشتركا في النقب ولو يخرجا إلا نصابا، فقد سبق أنه لا قطع على واحد منهما، ولو أخرج أحدهما بعد الاشتراك في النقب ثلثا، والآخر سدسا، قطع صاحب الثلث دون الآخر، وفيما يحصل به الاشتراك في النقب وجهان، أحدهما: لا يحصل بأخذ آلة واحدة ويستعملاها معا، كما لا يحصل الاشتراك في قطع اليد إلا بأن يمرا حديدة واحدة، وأصحهما: تحصل الشركة وإن أخذ هذا لبنات وهذا لبنات. الثالثة: الشريكان في النقب، إذا دخل أحدهما ووضع المتاع قريبا من النقب، أو دخل أحد السارقين ووضعه قريبا من باب الحرز، وأدخل الآخر يده وأخذه، فالقطع على الثاني المخرج دون الاول، وكذا لو وقف أحدهما على طرف السطح، ونزل الآخر وجمع الثياب وربطها بحبل، فرفعها الواقف، فالقطع عليه لا على الاول، وعليهما الضمان، ولو وضع الداخل المتاع خارج الحرز أو الباب، وأخذه الآخر، فالقطع على المخرج دون الآخذ، ولو وضع المتاع على وسط النقب، فأخذه الآخر وأخرجه وهو يساوي نصابين فقولان، أحدهما: يقطعان، وأظهرهما: لا قطع على واحد منهما، ولو ناول الداخل الخارج في فم النقب، قال الروياني: لا يقطع واحد منهما، ذكره بعد حكايته القولين المذكورين، ويشبه أن يكون هذا تفريعا على الاظهر، وإلا فلا فرق، ولو نقب اثنان ودخلا، وأخذ أحدهما المال وشده على وسط الآخر، فخرج به الآخر، فالقطع على هذا الآخر دون الاول، ولو أن الآخر أخذ المال فأخرجه والمتاع في يده، قطع المحمول، وفي الحامل وجهان، أصحهما: لا يقطع، لانه ليس بجامل للمال، ولهذا لو حلف لا يحمل طبقا، فحمل رجلا حاملا طبقا، لا يحنث، ولو نقب زمن وأعمى، وأدخل الاعمى الزمن فأخذ المال، وحمله الاعمى وأخرجه، قطع الزمن، وفي الاعمى الوجهان، قال صاحب البيان: ولو أن الاعمى حمل الزمن وأدخله، فدل الزمن الاعمى على المال، وأخذه، وخرج به قطع الاعمى، ولا يقطع الزمن(7/347)
على الاصح، ولو نقب واحد ودخل، فوضع المتاع على وسط النقب، فأخذه آخر، أو دخل غير الناقب ووضعه في الوسط، فأخذه الناقب، فلا قطع على واحد منهما. فرع لا فرق في هتك الحرز بين النقب، وكسر الباب، وقلعه، وفتح المغلاق والقفل، وتسور الحائط، فيجب القطع بأخذ المال في جميع هذا الاحوال. الطرف الثاني في وجوه النقل وفيه مسائل: إحداها: رمى المال إلى خارج الحرز من النقب أو الباب، أو من فوق الجدار، لزمه القطع، سواء أخذه بعد الرمي، أو تركه فضاع أو أخذه غيره، وقيل: إن لم يأخذه، فلا قطع، فعلى هذا لو أخذه معينة، ففيه تردد للامام، والصحيح الاول، لو أدخل يده في النقب، أو أدخل فيه محجنا، وأخرج المتاع، قطع، ولو أرسل محجنا أو حبلا في رأسه كلاب من السطح، وأخرج به ثوبا، أو إناء ونحوه، قطع. الثانية: لو أتلف المال في الحرز بأكل أو إحراق، فلا قطع، ولو ابتلع في الحرز جوهرة أو دينارا فثلاثة أوجه، أصحها: أنها إن خرجت منه بعد ذلك، قطع، وإلا فلا، والثاني: لا يقطع مطلقا، والثالث: يقطع، ونقل الغزالي وجها رابعا أنه إن أخذها بعد الانفصال عنه، قطع، وإلا فلا، ولم أره لغيره، ولو أخذ الطيب، فتطيب به في الحرز، ثم خرج، فإن لم يمكن أن يجمع منه ما يبلغ نصابا، فلا قطع، وكذا إن أمكن على الاصح، لان استعماله يعد إهلاكا، كأكل الطعام. الثالثة: لو كان في الحرز ماء جار فوضع عليه حتى خرج، قطع على الصحيح، وإن كان راكدا، وحركه حتى خرج به، فهو كالجاري، وإن حركه غيره، فخرج، فالقطع على المحرك، وإن زاد الماء بانفجار أو مجئ سيل، فخرج به، لم يقطع على الاصح، ولو كان في بستان أترج والماء يدخل من أحد طرفيه ويخرج من الآخر، فجمع نارا ووقودا ووضعه على الماء حتى دخل وعلا الدخان، فأسقط الاترج في المال ء، وخرج من الطرف الآخر، فأخذه، أو رمى الاشجار(7/348)
بحجارة من خارج البستان حتى تناثرت الثمار في الماء، وخرجت من الجانب الآخر، لم يقطع على الصحيح، ولو كانت الريح تهب، فعرض المتاع حتى خرجت به، أو وضعه على طرف النقب، فطارت به الريح، قطع، ولا أثر لمعاونة الريح، كما أنها لا تمنع وجوب القصاص وحل الصيد والحالة هذه، ولو كانت الريح راكدة، فوضعه على طرف النقب، فهبت وأخرجته، فلا قطع على الاصح. الرابعة: لو وضع متاعا في حرز على ظهر دابة، وسيرها بسوق أو قود حتى خرجت، أو عقد اللؤلؤة على جناح طائر وطيره، قطع على المذهب، وبه قطع الاصحاب، وفي البيان وجه، ولو كانت الدابة في السير، فوضع المتاع عليها فخرجت به، فلا قطع فهو كما لو سيرها، ولو لم تكن سائرة ولا سيرها، بل كانت واقفة، فوضع المتاع عليها، فسارت وخرجت به، فلا قطع على الاصح، لان لها اختيارا في السير، وقيل: لا قطع بلا خلاف، وقيل: إن سارت في الحال، قطع، وإلا فوجهان، وقيل: إن وقفت، ثم سارت، فلا قطع، وإن سارت في الحال فوجهان، ولو أخرج شاة، فتبعها أخرى أو سخلتها، ولم تكن الاولى نصابا، ففيه هذا الخلاف، والمذهب أنه لا قطع في الصورتين، وفي دخول السخلة في ضمانه وجهان، ولو نقب الحرز، ثم أمر صبيا لا يميز بإخراج المال، فأخرجه فقال الجمهور: يجب القطع على الآمر قطعا، وقيل: على الخلاف في خروج البهيمة التي كانت واقفة، وإن كان مميزا وله اختيار صحيح ورؤية، فلا قطع، لانه ليس آلة له، والعبد الاعجمي كالصبي الذي لا يميز. الخامسة: لو سرق عبدا صغيرا لا يميز، قطع إن كان محرزا، وإنما يكون محرزا إذا كان في دار السيد، أو بفناء داره، فإن بعد عنها، ودخل سكة أخرى، فليس بمحرز، وسواء في المحرز بفناء الدار كان وحده، أو كان يلعب مع الصبيان، لانه لا يعد مضيعا، وسواء حملة نائما أو مستقيظا، أو دعاه فتبعه، لانه كالبهيمة يساق أو يقاد، ويجئ فيه الخلاف في تسيير البهيمة والمجنون والاعجمي الذي لا يميز كصغير لا يميز، وإن كان الصغير مميزا، فسرقه نائما أو سكران أو مضبوطا،(7/349)
فعلى ما ذكرناه في غير المميز، ولو دعاه وخدها فتبعه باختياره، فليس بسرقة، بل هو خيانة، لو أكرهه بالسيف حتى خرج من الحرز، قطع على الاصح، ولو حمل عبدا قويا قادرا على الامتناع، فلم يمتنع، فلا قطع، ولو حمله نائما أو سكران، قال الامام: الوجه عندي الجزم بثبوت يده عليه حتى لو تلف قبل التيقظ، ضمنه، لان المنقول لا يتوقف ثبوت اليد عليه على الاستيلاء والتمكن من المقاومة عند طلب الاسترداد، قال: وفي تحقيق السرقة نظر، لان مثل هذا العبد محرز بيده وقوته، هكذا ذكر المسألة الامام والغزالي في الوسيط على الترديد، وأطلق في الوجيز أنه لا قطع، قال الامام: ولو جلس حيث لا مستغاث يصاح به، وهو يلاحظ متاعه، فتغفله ضعيف، وأخذ المال، ولو شعر به صاحب المال لطرده، فهل نقول: لا قطع، كما لو أخذه قوي لا يبالي بصاحب المال، أم نقول: يختلف الحكم بحسب اختلاف الآخذين ؟ الظاهر عندنا أنه يختلف. السادسة: الحر لا يضمن باليد، فلا قطع بسرقته وإن كان طفلا، لانه ليس بمال، فلو كان مع الصبي مال، أو في عنقه قلادة تبلغ نصابا، فلا قطع أيضا على الاصح، لانه في يد الصبي ومحرز به فلم يخرجه من حرزه، هكذا أطلق الجمهور الوجهين، وصورهما الامام فيما لو كان الصبي نائما أو مربوطا عند الحمل، قال: ويجريان في أن من حمله على غير صورة السرقة هل تدخل الثياب التي عليه في(7/350)
ضمانه ؟ ولو حمل حرا مستقلا وأخرجه من الحرز وعليه ثيابه، أو معه مال آخر، قال الامام: تقدم عليه مسألة وهي أنه لو نام على بعير عليه أمتعة. فجاء سارق فأخذ بزمامه، وأخرجه عن القافلة، وجعله في مضيعة، وفيه أربعة أوجه، أحدها: يجب القطع، لانه أخرج نصابا من الحرز والمأمن إلى المضيعة، والثاني: لا قطع، لان البعير وما عليه محرز بالراكب ولم يخرجه من يده، والثالث: إن كان الراكب قويا لا يقاومه السارق لو انتبه فلا قطع، وإن كان ضعيفا لا يبالي به السارق، قطع ولا أثر ليد الضعيف، والربع وهو الاصح، ولم يذكر كثيرون سواه: إن كان الراكب حرا، فلا قطع، لان المتاع والبعير في يده، وإن كان عبدا، قطع، لان العبد في نفسه مسروق يتعلق به القطع، ثم بنى الامام على هذا الخلاف خلافا حكاه في أن المستقل إذا حمله حامل، هل يدخل ما عليه من الثياب تحت يد الحامل ؟ قال والقول بدخولها بعيد، وهو في الحر القوي أبعد منه في الضعيف وحيث لا تثبت يد الحامل على الثياب فلا سرقة، وأن ما مع الحر لا يدخل في يد الحامل، لان يد المحمول ثابتة على ما معه، ولهذا نقول: ما يوجد مع اللقيط يحكم بأنه في يده. فرع لو سرق حليا من عنق صبي، أو سرق ثيابه، قطع، وفي الموضع الذي يكون العبد الصغير محرزا، ولو سرق قلادة من عنق كلب، أو سرقها مع الكلب، قطع، وحرز الكلب كحرز الدواب. الطرف الثالث في المحل المنقول إليه: فلا قطع بنقل المتاع من بعض زوايا الحرز إلى بعضها، ولو نقل من بيت إلى صحن الدار، نظر إن كان باب البيت مغلقا وباب الدار مفتوحا، قطع، لانه أخرجه من حرزه، وجعله في محل الضياع، وإن كان باب البيت مفتوحا وباب الدار مغلقا، فلا قطع، وإن كان البابان مغلقين، فلا قطع على الاصح المنصوص، وقيل: يقطع، وقيل: إن كان الصحن حرزا، لم يقطع، وإلا فيقطع، وإن كان باب البيت والدار مفتوحين فالمال ضائع إذا لم يكن محرزا باللحاظ، فلا قطع، وهذه الصور الاربع ظاهرة التصوير إذا لم يوجد من السارق تصرف في باب الدار، بأن تسور(7/351)
الجدار ودخل، أما إذا فتح باب الدار المغلق، ثم أخرج المتاع من البيت إلى الصحن، فالحرز الذي يهتكه السارق في حكم الحرز الدائم بالنسبة إليه، فيكون كما لو نقل إلى الصحن وباب الدار مغلق، هذا ما رآه الامام أصح، فإن أغلق الباب بعد فتحه، فهو أظهر، وجميع ما ذكرنا في دار هي وبيوتها لواحد، فلو سكنها جماعة، وانفرد كل واحد بحجرة أو بيت وفي معناها الخانات والمدارس والرباط، فهو في حق من لا يسكن الخان كدار يختص بها واحد حتى إذا سرق من حجرها أو صحنها ما يحرزه الصحن، وأخرج من الخان، قطع، وإن أخرج من البيوت والحجر إلى صحن الخان فوجهان، أحدهما: يقطع بكل حال، لان الصحن ليس حرزا لصاحب البيت بل هو مشترك بين السكان، كالسكة المشتركة بين أهلها، وبهذا قطع صاحب المهذب، وجماعة، والثاني وبه قطع الغزالي والبغوي وغيرهما: أنه كالاخراج من بيوت الدار إلى صحنها، فيفرق بين أن يكون باب الخان مفتوحا أو مغلقا، ويقرب من هذا ما حكي عن الشيخ أبي محمد أنه إن كان نهارا، قطع، وإن كان ليلا، فلا، لان الباب يكون مغلقا، وأما إذا سرق أحد السكان، فإن سرق من العرصة، فلا قطع، لانها مشتركة وما فيها غير محرز عنهم، قال الامام: هذا إذا كان فتح الباب هينا على من يخرج منها، بأن كان موثقا بسلاسل ونحوها، أما إذا كان موثقا بالمغاليق وله مفتاح بيد حارس وكان يحتاج مخرج المتاع إلى معاناة وما يحتاج إليه من يحاول الدخول من خارج، ففيه تردد، وإن أخرجه من بعض البيوت إلى الصحن، وكان باب البيت مغلقا، والصحن في حق السكان كسكة منسدة بالاضافة إلى الدور، ولا فرق بين أن يكون باب الخان مفتوحا أو مغلقا، كما لو كان على السكة باب لا فرق بين أن يكون مغلقا أو مفتوحا. فرع سرق الضيف مال المضيف من موضع محرز عنه، قطع، وإن سرقه من غير محرز عنه، لم يقطع، ولو سرق جار من طرف حانوت جاره حيث يحرز بلحاظ الجيران، فلا قطع، لانه محرز به لا عنه.(7/352)
فرع دخل رجل الحمام مغتسلا، فسرق لم يقطع، فإن دخل سارقا وهناك حافظ الحمامي أو غيره، قطع، فإن كان نائما أو معرضا، أو لم يكن أحد، فلا قطع، قال البغوي وغيره: إنما يقطع بسرقة ثوب من دخل الحمام إذا استحفظ الحمامي فحفظه، فإن لم يستحفظه، فلا ضمان على الحمامي بترك الحفظ، ولا قطع على السارق، وإن استحفظه، فلم يحفظ، ضمن ولا قطع على السارق. فرع أذن صاحب الدكان للناس في دخوله للشراء، فمن دخل مشتريا وسرق، لم يقطع، ومن دخل سارقا، قطع، وإن لم يأذن في دخوله، قطع كل داخل.
الركن الثالث : السارق، وشرطه التكليف والاختيار والالتزام، فلا قطع على صبي ومجنون ومكره وحربي، وفي السكران الخلاف السابق في الطلاق وغيره، ويقطع المسلم والذمي بسرقة مال المسلم والذمي، وكذا يحد الذمي إذا زنى، ثم في التهذيب وغيره أنا إذا ألزمنا حاكمها الحكم بينهم أقام عليه الحد وقطعه، وإن لم يرض وإن لم يلزمه الحكم، لم يحده ولم يقطعه إلا برضاه، سواء من مسلم أو ذمي، وإن كان يجب الحكم بين المسلم والذمي بلا خلاف، لان القطع حق الله تعالى، لا حق المسروق منه، وأشار الامام إلى الجزم بأنه قطع إذا سرق مال مسلم ولا يتوقف على رضاه، وذكر أنه إذا سرق مال ذمي، لم يقطع حتى يترافعوا إلينا، ويجئ القولان في إجبار الممتنع إذا جاءنا الخصم، قال: ولو زنى بمسلمة، ففي كلام بعض الاصحاب أن الحد على القولين، قال الامام: هذا غلط، والصواب الجزم بإقامة الحد قهرا، وإن كان ذلك لله تعالى، لانا لو فوضنا الامر إلى رضاه، لجر ذلك فضيحة عظيمة، وغايتنا أن نحكم بنقض العهد، وإذا طلب تجديده، وجب التجديد، وكيف قدر الخلاف، فالمذهب أنه لا يشترط رضاه على الاطلاق، كما سبق في بابي الزنى والنكاح، وأما المعاهد ومن دخل بأمان، ففيه أقوال،(7/353)
أظهرها عند الاصحاب، وهو نصه في أكثر كتبه: لا يقطع، لانه لم يلتزم، فأشبه الحربي، والثاني: يقطع كالذمي، وكحد القذد والقصاص، والثالث وهو حسن: إن شرط عليه في العهد قطعه إن سرق، قطع، وإلا فلا، ومنهم من اكتفى على هذا القول بأن يشرط عليه أن لا يسرق، ومنهم من قطع بالتفصيل، ومنهم من قطع بنفي القطع، ولا خلاف أنه يسترد المسروق أو بدله إن تلف، ولو سرق مسلم مال معاهد، قال الامام: التفصيل فيه كالفتصيل في معاهد سرق مال مسلم، ولو زنى معاهد بمسلمة فطريقان، أحدهما: أن في حد الزنى الخلاف، كالقطع، والثاني: الجزم بأن لا حد، لانه محض حق الله تعالى لا يتعلق بخصومة آدمي وطلبه، وهذا موافق لنقل العراقيين، والبغوي، وفي انتقاض عهد المعاهد بالسرقة أوجه، ثالثها: إن شرط أن لا يسرق، انتقض، وإلا فلا. فرع سواء في وجوب القطع الرجل والمرأة والعبد الآبق وغيره.
الباب الثاني : فيما تثبت به السرقة تثبت بثلاث حجج، إحداها: اليمين المردودة، فإذا ادعى عليه سرقة توجب القطع، فأنكر وحلف، فلا شئ عليه، وإن نكل، ردت اليمين على المدعي، فإذا حلف، وجب المال والقطع، هكذا نقله الامام عن الاصحاب، وكذا ذكره الغزالي وإبراهيم المروذي، لان اليمين المردودة كالاقرار وكالبينة، وكلاهما يوجب القطع، والذي ذكره صاحبا الشامل والبيان وغيرهما أنه لا يثبت بها القطع، لانه حق الله تعالى، فأشبه ما لو قال: أكره أمتي على الزنى، فحلف المدعي بعد نكول المدعي عليه، يثبت المهر دون حد الزنى. قلت: صحح الرافعي في المحرر الاول. والله أعلم.(7/354)
الحجة الثانية: الاقرار، فإذا أقر بسرقة توجب القطع، أجري عليه حكمها، ولا يشترط تكرير الاقرار، فلو أقر ثم رجع، فالمذهب أنه لا يقبل في المال، وأنه يقبل في سقوط القطع، فلو رجع بعد قطع بعض اليد، سقط الباقي، فإن كان يرجى برؤه، فذاك وإلا فللمقطوع قطع الباقي لئلا يتأذى به، ولا يلزم الامام ذلك. ولو أقر اثنان بسرقة نصابين، ثم رجع أحدهما، سقط القطع دون الآخر، والرجوع عن الاقرار بقطع الطريق، كالرجوع عن الاقرار بالسرقة، ولو أقر بإكراه أمة على الزنى، ثم رجع، فالمذهب سقوط الحد دون المهر. فرع إذا أقر ابتداء من غير تقدم دعوى بأنه سرق من زيد الغائب سرقة توجب القطع، فهل يقطع في الحال، أم ينتظر حضور زيد ومطالبته ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، لانه ربما حضر، وأقر أنه كان أباحه المال، فيسقط الحد وإن كذبه السارق، والحد يسقط بالشبهة، فتأخيره أولى، ولو بإكراه جارية غائب على الزنى فوجهان، أصحهما: يحد للزنى ولا يؤخر، لانه لا يتوقف على طلبه، ولو حضر وقال: كنت أبحتها له، لم يسقط الحد، وقال ابن سريج: يؤخر لاحتمال أنه يقر بأنه وقف عليه تلك الجارية، قال الامام: وعلى الاول لو قال المالك: كنت بعتها، أو وهبتها، وأنكر المقر، ينبغي أن لا يسقط الحد، وعلى قياسه ينبغي أن لا يسقط الحد إذا أقر بوقف الجارية، وكذبه المقر. قلت: ليس الوقف كالبيع، فإنه يصح بلا قبول على المختار. والله أعلم. وإذا قلنا: لا يقطع حتى يحضر الغائب، فهل يحبس ؟ فيه أوجه، أحدها: نعم، كمن أقر بقصاص لغائب أو صبي، والثاني: إن قصرت المسافة وتوقع قدومه(7/355)
على قرب، حبس، وإلا فلا، والثالث: إن كانت العين تالفة، حبس للغرم، وإن كانت باقية، أخذت منه، ثم يفرق بين طول المسافة وقصرها، ولو أقر بغصب مال غائب، لم يحبس، لان الحكام لا مطالبة له بمال الغائب. فرع لو أقر عبد بسرقة موجبة للقطع، قطع وفي قبوله في المال أقوال، أظهرها: لا يقبل، والثاني: يقبل، والثالث: إن كان المال في يده، قبل، وإن تلف، فلا، والرابع: عكسه، هذا إذا كان المال في يده، أما إذا كان في يد السيد، أو أجنبي، فلا يقبل إقراره فيه بلا خلاف، ولو أقر بسرقة دون النصاب، لم يقبل بلا خلاف إلا أن يصدقه. سيده. فرع متى رفع إلى مجلس القضاء، واتهم بما يوجب عقوبة لله تعالى، فللقاضي أن يعرض له بالانكار، ويحمله عليه، فلو أقر بذلك ابتداء، أو بعد الدعوى، فهل يعرض له بالرجوع ؟ فيه أوجه، الصحيح الذي قطع به عامة الاصحاب: نعم، للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز رضي الله عنه بعد إقراره بالزنى: لعلك قبلت والثاني: لا، ونقله الامام عن الجمهور، وليس كما قال، والثالث: إن لم يكن عالما بجواز الرجوع، عرض له، وإلا فلا، فعلى الاول هل يستحب للقاضي التعريض ؟ وجهان، أحدهما: نعم، للحديث، وأصحهما: لا، لان النبي صلى الله عليه وسلم ترك التعريض في أكثر الاوقات. والتعريض في الزنى: لعلك فاخذت، أو لمست، أو قبلت. وفي شرب الخمر: لعلك لم تعلم أن ما شربته مسكر. وفي السرقة: لعلك غصبت، أو أخذت بإذن المالك، أو من غير حرز ونحوها، ولا يحمله القاضي على الرجوع تصريحا بأن يقول: ارجع عن الاقرار، أو اجحده، وإذا ثبت الحد بالبينة لا يحمله على الانكار، وأما حقوق الآدمي، فلا يعرض له بالرجوع عن الاقرار بها، حتى لا يعرض في السرقة بما يسقط الغرم،(7/356)
إنما يسعى في دفع القطع، وهل للحاكم أن يعرض للشهود بالتوقف في حدود الله تعالى ؟ وجهان. قلت: أصحهما: نعم إن رأى المصلحة في الستر، وإلا فلا. والله أعلم. فرع قال الامام: في الحديث من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله: هذا دليل على أنه لا يجب على من قارف موجب حد إظهاره للامام، قال: وكان شيخي يقطع به، وفيه احتمال إذا قلنا: الحد لا يسقط بالتوبة. قلت: الصواب: الجزم بأنه لا يجب الاظهار لقصة ماعز، وإنما لا يسقط الحد بالتوبة على قول في ظاهر الحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى، فالتوبة تسقط أثر المعصية. والله أعلم. الحجة الثالثة: الشهادة، فيثبت القطع بشهادة رجلين، ولا يثبت برجل وامرأتين، فلو شهد رجل وامرأتان بالسرقة، أو شاهد وحلف المدعي معه، ثبت المال ولا يثبت القطع كما لو علق الطلاق أو العتق على غصب أو سرقة، فشهد رجل وامرأتان على الغصب أو السرقة، ثبت المال دون الطلاق والعتق، وقيل: في ثبوت المال في السرقة قولان، والمذهب الاول، ولا تقبل في السرقة شهادة مطلقة لاختلاف المذاهب فيها، فيشترط بيان السارق بالاشارة إليه إن كان حاضرا، أو ذكر اسمه ونسبه بحيث يتميز إن كان غائبا، ويكفي عند حضوره أن يقول: سرق هذا، وحكى ابن كج وجها أنه يشترط أن يقول، هذا بعينه، وليس بشئ، ويشترط أن يبين المسروق والمسروق منه، وكون السرقة من حرز بتعيين الحرز أو صفته، وعن القاضي أبي الطيب وغيره، أن الشاهد يقول أيضا، ولا أعلم له فيه شبهة، قال صاحب الشامل: وليكن هذا تأكيدا، لان الاصل عدم الشبهة، ويشترط أن تتفق شهادة الشاهدين، فلو شهد أحدهما أنه سرق بكرة، والآخر أنه سرق عشية، أو أحدهما بسرقة كبش أبيض، والآخر بكبش أسود، فهما شهادتان على سرقتين(7/357)
مختلفتين، فلا قطع، وللمشهود له أن يحلف مع أحدهما، فيغرمه، ولو شهد اثنان أنه سرق كذا غدوة، وشهد آخران أنه سرق عشية، فالبينتان متعارضتان، فلا يحكم بواحدة منهما، وفي الصورة الاولى لا يقال: متعارضتان، لان الحجة لم تتم، فلو لم تتوارد الشهادتان على معين، بل قال بعضهم: سرق كبشا غداة، وقال بعضهم: سرق كبشا عشية، فإن كان الذي شهد واحدا وواحدا، فلا قطع، وللمشهود له أن يحلف مع أحدهما، ويأخذ الغرم، أو معهما ويأخذ غرم ما شهدا به جميعا، وإن شهد اثنان واثنان، وجب القطع، وغرم ما شهد به هذان وهذان، لكمال الحجتين، ولو شهد واحد بسرقة كبش، وآخر بسرقة كبشين، ثبت الواحد وتعلق به القطع إن بلغ نصابا، ولو شهد واحد بسرقة ثوب قيمته ربع دينار، وشهد آخر بسرقة ذلك الثوب، وقومه بثمن دينار، لم يقطع ويغرم ثمن دينار، وللمشهود له أن يحلف مع شاهد الربع ويستحقه، ولو شهد اثنان بسرقته وقالا: قيمته ربع، وشهد آخران بسرقته وقالا: قيمته ثمن، لم يقطع، وللمشهود له الثمن، ولو شهد أحدهما بسرقة ثوب أبيض قيمته ربع، والآخر بسرقة ثوب أسود قيمته ثمن، فلا قطع، ولا يثبت بهما شئ لاختلافهما، وله أن يحلف مع أحدهما، وإن شهد اثنان واثنان تمت الشهادتان، فيقطع ويغرم الربع والثمن معا. فرع كما يشترط التفصيل في الشهادة بالسرقة يشترط في الاقرار بها، فلا قطع على من أقر بالسرقة مطلقا، لانه قد يظن غير السرقة سرقة، واسم السرقة يقع على ما يقطع به وعلى غيره، وفي الشهادة على الزنى يشترط التفصيل، وكذا في الاقرار به على الاصح. فرع الشهادة بالسرقة إن ترتبت على دعوى المسروق منه أو وكيله، فذاك، وإنشهد الشهود على سبيل الحسبة، فهل تقبل شهادتهم ؟ وجهان، أصحهما: نعم، فعلى هذا إن كان المسروق منه غائبا، فالنص أنه لا يقطع حتى يحضر الغائب، ونص فيما لو شهد أربعة بالزنى بجارية غائب أنه يحد، ولا ينتظر حضور الغائب، فقيل: قولان فيهما، وقيل: ينتظر المالك في الصورتين، وغلطوا ناقل نص الزنى أو تأولوه، والمذهب تقرير النصين، والفرق أن حد الزنى لا يسقط بإباحة الوطئ، وحد السرقة يسقط بإباحة المال، فربما كان الغائب أباحه فانتظر اعترافه، ولان القطع متعلق حق الآدمي، فإنه شرع حفظا لماله، فاشترط حضوره،(7/358)
فإن قلنا: لا يقطع ولا يحد في الحال، فهل يحبس ؟ فيه الخلاف السابق فيمن أقر بسرقة مال غائب، أو بالزنى بجارية غائب، وأشار الامام إلى أن الظاهر عند الاصحاب أنه يحبس لما يتعلق به من حق الله تعالى، وإذا لم يقطع حتى حضر المالك، فإن لم يطلب المال، أو اعترف بما يسقط القطع، فلا قطع، وإن طلب ولم تظهر شبهة، فإن قلنا: شهادة الحسبة مقبولة، قطع، وهل تجب إعادة الشهادة لثبوت المال ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لان شهادة الحسبة لا تقبل في الاموال، والثاني: لا، ويثبت الغرم تبعا، وإن قلنا: غير مقبولة، فلا بد من إعادة البينة للمال، والاصح أنها لا تعاد للقطع. فرع سرق مال صبي أو مجنون، قال ابن كج: إن انتظرنا حضور الغائب واعتبرنا طلبه، انتظر بلوغه وإفاقته، وإلا قطعناه في الحال. فرع إذا قلنا: يسقط الحد بدعوى الملك، فهل يستفصله القاضي سعيا في سقوط الحد ؟ فيه تردد للامام. قلت: الاصح لا يستفصله، لانه إغراء له بادعاء الباطل. والله أعلم.
الباب الثالث : في الواجب على السارق وهو شيئان: أحدهما: رد المال إن كان باقيا، وضمانه إن تلف، سواء في ذلك الغني والفقير. الثاني: القطع، فتقطع من السارق والسارقة يده اليمنى، فإن سرق ثانيا، قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثا، قطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعا، قطعت رجله اليمنى، فإن سرق بعد ذلك، عزر، ونقل الامام عن القديم قولا، أنه(7/359)
يقتل للحديث، والمشهور التعزير، والحديث منسوخ أو مؤول على أنه قتله لاستحلاله، أو لسبب آخر، وتقطع اليد من الكوع، والرجل من المفصل بين الساق والقدم، ويمد العضو مدا عنيفا حتى ينخلع، ثم يقطع بحديدة ماضية، ويمكن المقطوع جالسا ويضبط لئلا يتحرك، ويحسم موضع القطع بأن يغمس في زيت أو دهن مغلي، لتنسد أفواه العروق وينقطع الدم، وهل هذا حق لله تعالى وتتمة للحد، أم هو حق للمقطوع ونظر له ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، فعلى الاول يتركه الامام، ويكون ثمن الدهن ومؤنة الحسم على الخلاف في مؤنة الجلاد، وإن قلنا بالاصح، فالمؤنة على المقطوع، ولو تركه السلطان، فلا شئ عليه، وحينئذ يستحب للسارق أن يحسم ولا يجب، لان في الحسم ألما شديدا وقد يهلك الضعيف، والمداواة بمثل هذا لا تجب بحال، وقيل: للامام إجباره والصحيح الاول، ويستحب للامام أن يأمر بالحسم عقب القطع، ولا يفعله إلا بإذن السارق إلا على قول من أجبره، والسنة أن تعلق اليد المقطوعة في عنقه، ثم الذي يوجد في كتب الجمهور أنها تعلق ساعة، وأطلقوا ولم يفوضوه إلى رأي الامام، وحكى الامام وجها أنها لا تعلق، ووجها تعلق ثلاثا ووجها الامر فيه إلى رأي الامام، وهذه الاوجه غريبة ضعيفة.(7/360)
فرع لو كان على يمينه أصبع زائدة، فوجهان، أحدهما: لا تقطع، بل تقطع رجله اليسرى، وأصحهما: تقطع ولا يبالى بالزيادة، لان المراد التنكيل بخلاف القصاص، فإن مقصوده المساواة، ولو كانت اليمين شلاء، فإن قال أهل الخبرة: إن قطعت لا ينقطع الدم، لم تقطع، ويكون كمن لا يمين له، وإن قالوا: ينقطع، قطعت واكتفي بها، ولو كانت ناقصة أربع أصابع، اكتفينا بها لحصول الايلام والتنكيل، وإن لم يبق إلا الكف، أو بعض الكف بلا أصابع، ففي الاكتفاء بذلك وجهان، أو قولان، أصحهما: الاكتفاء لما ذكرنا، وطرد القاضي أبو حامد الوجهين فيما لو كانت يمينه بلا إبهام. فرع من لا يمين له، تقطع رجله اليسرى كما ذكرنا، ولو سرق ويمينه سليمة، فسقطت بآفة أو جناية، سقط عنه القطع، وقيل: يعدل إلى الرجل، كما لو فات محل القصاص يعدل إلى بدله، وهو الدية، والصحيح الاول، لان القطع تعلق بها، ولو سرق مرارا ولم يقطع، اكتفي بقطع يمينه عن الجميع، كمن زنى، أو شرب مرات يلزمه حد واحد. فرع بدر أجنبي، فقطع يمين السارق بغير إذن الامام، لا قصاص عليه، لانها مستحقة القطع، فلو سرى إلى النفس، فلا ضمان، لانها متولدة من مستحق، لكن يعزر المبادر لافتئاته على الامام، هكذا أطلقوه، ويشبه أن يجعل وجوب القصاص على الخلاف في قتل الزاني المحصن ولو قطع يساره جان، أو قطعها الجلاد عمدا، وجب القصاص على القاطع، ولا يسقط عن السارق قطع اليمين، فلو قال القاطع: لم أعلم أنها يساره، حلف ولزمته الدية، ولو قال الجلاد للسارق: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها، فطريقان، قال القاضي أبو الطيب وآخرون: إن قال المخرج: ظننتها اليمين، أو أن اليسار تجزئ، سقط بها القطع على الاظهر، فإن قلنا: لا يسقط، فقال القاطع: علمت أنها اليسار، وأنها لا تجزئ، لزمه القصاص، وإن قال: ظننتها اليمين، أو أنها تجزئ، لزمه الدية، وقال الشيخ أبو حامد: يراجع القاطع أولا، فإن قال: علمتها اليسار وأنها لا تجزئ، لزمه القصاص وبقي القطع واجبا في اليمين، وإن قال: ظننتها اليمين، أو أن اليسار تجزئ، لزمه الدية، وفي سقوط قطع اليمين القولان، وكلام الامام(7/361)
وغيره يوافق هذا الطريق، إلا أن القصاص إنما يلزم القاطع، وإن علم الحال إذا لم يوجد من المخرج قصد بذل وإباحة، ولو سقطت يسار السارق بآفة بعد وجوب قطع اليمين، فقال أبو إسحاق: يسقط قطع اليمين في قول كما في مسألة غلط الجلاد، وغلطه الاصحاب وقالوا: لا يسقط. فرع لو كان لمعصمه كفان نقل الامام عن الاصحاب أنهما تقطعان، ولا يبالى بالزيادة، كالاصبع الزائدة، واختار هو أن يفصل، فإن تميزت الاصلية، وأمكن الاقتصار على قطعها، لم تقطع الزائدة، وإلا فتقطع، فلو أشكل الحال، قال الامام: فالذي رأيته للاصحاب أنهما يقطعان، ويوافقه ما في فتاوى القفال أن الكفين الباطشتين تقطعان جميعا، لانهما في حكم يد، ولهذا لا تجب فيهما ديتان، لكن في التهذيب أنه تقطع في السرقة إحداهما، فإن سرق ثانيا، قطعت الاخرى، ولا تقطعان بسرقة واحدة بخلاف الاصبع الزائدة، لانه لا يقع عليها اسم يد وهذا أحسن، قال: ولو كان يبطش بأحدهما، قطعت الباطشة دون الاخرى، وإن سرق ثانيا، قطعت رجله، فلو صارت الاخرى باطشة، فسرق ثانيا، قطعت هي لا الرجل، فإن سرق ثالثا، قطعت الرجل. قلت: الصحيح المنصوص أنه لا يقطع إلا إحداهما كما ذكره في التهذيب، وقد جزم به جماعة، منهم القاضي أبو الطيب وصاحب البحر والشيخ نصر المقدسي وغيرهم، ونقله القاضي والمقدسق عن نص الشافعي رحمه الله، وقد أوضحته في صفة الوضوء من شرح المهذب. والله أعلم.
فصل في مسائل منثورة
في فتاوى القفال، إذا كان ثوبه بين يديه في المسجد، فقال لرجل: احفظ ثوبي، فقال: نعم أحفظه، فرقد صاحب الثوب، وذهب الرجل، وترك الثوب، فسرق، لزمه الضمان، ولو سرقه المستحفظ فلا قطع عليه، ولو أغلق باب داره أو حانوته، وقال للحارس: انظر إليه أو احفظه، فأهمله الحارس، فسرق ما فيه، لم يضمن، لانه محرز في نفسه، ولم يدخل تحت يده، ولو سرقه الحارس، قطع، وفي فتاوى الغزالي: إذا تغفل السارق الحمامي وسرق الثياب، اعتبر في وجوب القطع أن يخرجها من الحمام، وأن الموضوع في الصحراء لا يكفي لوجوب القطع أخذه، ولا النقل بخطوة ونحوها، بل ضبط مثل ذلك أن(7/362)
يقال: إحراز مثله بالمعاينة، فإذا غيبه عن عينه بحيث لو تنبه له لم يره، بأن دفنه في تراب، أو واراه تحت ثوبه، أو حال بينهما جدار، فقد أخرجه من حرزه، وأنه لو علم قردا النزول إلى الدار، وإخراج المتاع، فنقب، وأرسل القرد وأخرج المتاع، ينبغي أن لا يقطع، لان للحيوان اختيارا بخلاف الاخذ بالمحجن، وفي فتاوى البغوي: لو وضع ميت على وجه الارض ونضدت الحجارة عليه، كان ذلك كالدفن، حتى يجب القطع بسرقة الكفن لا سيما إذا كان لا يمكنهم الحفر. قلت: ينبغي أن لا يقطع إلا إن تعذر الحفر، لانه ليس بدفن. والله أعلم وأنهم لو كانوا في بحر، فطرح الميت في الماء، فأخذ رجل كفنه، لم يقطع، لانه ظاهر، فهو كما لو وضع الميت على شفير القبر، فأخذ، ولو غيبه الماء، فغاص سارق، وأخذ الكفن، لم يقطع أيضا، لان طرحه لا يعد إحرازا، وقد يتوقف في هذا وبالله التوفيق.
باب قطاع الطرق
فيه أطراف :
الأول : في صفتهم، وتعتبر فيهم الشوكة، والبعد عن الغوث، وأن يكونوا مسلمين مكلفين، فالكفار ليس لهم حكم القطاع وإن أخافوا السبيل، وقيل:(7/363)
والمراهقون لا عقوبة عليهم، ويضمنون المال والنفس، كما لو أتلفوا في غير هذا الحال، وأما الشوكة، فقطاع الطريق طائفة يترصدون في المكامن للرفقة، فإذا رأوهم، برزوا قاصدين الاموال معتمدين في ذلك على قوة وقدرة يتغلبون بها، وفيهم شرعت العقوبات الغليظة التي سنصفها إن شاء الله تعالى، وأما الذين لا يعتمدون قوة، ولكن ينتهزون ويختلسون، ويولون معتمدين على ركض الخيل، أو العدو على الاقدام، كما يتعرض الواحد والنفر اليسير لاخذ القافلة فيسلبون شيئا، فليسوا بقطاع، وحكمهم في الضمان والقصاص حكم غيرهم، ولو خرج واحد أو شرذمة يسيرة، فقصدهم جماعة يغلبونهم بقوتهم، فهم قطاع وإن لم يكثر عددهم، لاعتمادهم على الشوكة والنجدة بالاضافة إلى الواحد والشرذمة، كذا نقله الامام عن طرق الاصحاب، ويقرب منه ما ذكره ابن كج أنه لو أقام خمسة أو عشرة في كهف، أو شاهق جبل، فإن مر بهم قوم لهم شوكة وعدة، لم يتعرضوا لهم، وإن مر قوم قليلو العدد، قصدوهم بالقتل وأخذ المال، فحكمهم حكم قطاع الطريق في حق الطائفة اليسيرة، وإن تعرضوا للاقوياء وأخذوا شيئا، فهم مختلسون، ورأى الامام أن يفصل القول في الرفقة اليسيرة والواحد، فيقال: إن كان خروجهم في مثل ذلك الطريق يعد تضييعا وتغريرا بالنفس والمال، فالمتعرضون لهم ليسوا بقطاع، وينزل خروجهم في هذه الحالة كترك المال في موضع لا يعد حرزا، وأقام الامام ما رآه وجها، ولو كانت الرفقة يتأتى منهم دفع القاصدين ومقاومتهم، فاستسلموا حتى قتلوا وأخذت أموالهم، فالقاصدون لهم ليسوا بقطاع، لان ما فعلوه لم يصدر عن شوكتهم، بل الرفقة ضيعوا، هكذا أطلقه الاصحاب، ويجوز أن يقال: ليست الشوكة مجرد العدد والعدة، بل تحتاج مع ذلك إلى اتفاق كلمة ومتبوع مطاع وعزيمة على القتال، والقاصدون للرفقة هكذا يكونون في الغالب، والرفقة لا تجتمع كلمتهم، ولا يضبطهم مطاع، ولا عزم لهم على القتال، وخلوهم عن هذه الامور يوقعهم في التخاذل لا عن قصد منهم، فينبغي أن لا يجعلوا مضيعين، ولا يخرج قاصدوهم عن كونهم قطاعا، ولو أن الرفقة قاتلوهم، ونالت كل طائفة من الاخرى، فهل هم قطاع ؟ فيه احتمالان للامام، أصحهما: نعم، وبه جزم الغزالي، وأما البعد عن الغوث، فإنما اشترط ليمكنهم الاستيلاء والقهر مجاهرة(7/364)
وذلك إنما يتحقق غالبا في المواضع البعيدة عن العمارة، ولو خرج جماعة في المصر، فحاربوا، أو أغار عسكر على بلدة أو قرية، أو خرج أهل أحد طرفي الجلد على الطرف الآخر وكان لا يلحق المقصودين غوث لو استغاثوا، فهم قطاع طريق، وإن كان يلحقهم غوث، فهم منتهبون ليسوا قطاعا، وامتناع لحاق الغوث لضعف السلطان أو لبعده وبعد أعوانه، وقد يغلب أهل الفساد في مثل هذه الحالة، فلا يقاومهم أهل العفة، وتتعذر عليهم الاستغاثة، ولو دخل جماعة بالليل دارا وكابروا، ومنعوا أصحاب الدار من الاستغاثة مع قوة السلطان وحضوره، فالاصح أنهم قطاع، وبه قطع القفال والبغوي، والثاني: أنهم سراق، والثالث: مختلسون. فرع لا يشترط في قطاع الطريق الذكورة، بل لو اجتمع نسوة لهن شوكة وقوة، فهن قاطعات طريق، ولا يشترط أيضا شهر السلاح، بل الخارجون بالعصي والحجارة قطاع، وذكر الامام أنه يكفي القهر وأخذ المال باللكز، والضرب بجمع الكف، وفي التهذيب نحوه، وكلام جماعة يقتضي أنه لا بد من آلة، ولا يشترط العدد، بل الواحد إذا كان له فضل قوة يغلب بها الجماعة، وتعرض للنفوس والاموال مجاهرا، فهو قاطع طريق.
الطرف الثاني : في عقوبتهم
فإذا علم الامام من رجل، أو من جماعة أنهم يترصدون للرفقة، ويخيفون السبيل، ولم يأخذوا بعد مالا، ولا قتلوا نفسا، طلبهم، وعزرهم بالحبس وغيره، قال ابن سريج: والحبس في هذه الحال في غير موضعهم أولى، لانه أحوط وأبلغ في الزجر والايحاش، وإن أخذ قاطع من المال قدر نصاب السرقة، قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، فإن عاد مرة أخرى، قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، وإنما يقطع من خلاف لئلا يفوت جنس المنفعة، وسواء كان النصاب لواحد أو لجماعة الرفقة كما سبق في السرقة، وإن كان المأخوذ دون نصاب، فلا قطع، وقال ابن خيران: فيه قولان، كالقولين في قتل قاطع الطريق، هل تعتبر فيه الكفاءة، لانه فارق السرقة في اشتراط الحرز فكذا في النصاب، والمذهب الاول، لقوله صلى الله عليه وسلم: القطع في ربع دينار فصاعدا وما ادعاه في الحرز ممنوع، بل الذي قاله الاصحاب: أنه لو كان المال ضائعا تسير به الدواب بلا حافظ، فلا قطع، ولو كانت الجمال مقطورة ولم تتعهد كما شرطنا فيها، لم يجب القطع، وإن قتل قاطع(7/365)
الطريق، قتل، وهو قتل متحتم ليس سبيله، سبيل القصاص، وإن جمع بين القتل وأخذ المال، قتل وصلب، ويعتبر في المال كونه نصابا، ويجئ فيه خلاف ابن خيران، هذا هو المذهب، وخرج ابن سلمة قولا: أنه تقطع يده ورجله ويقتل ويصلب، وحكى صاحب التقريب قولا: أنه إن قتل وأخذ نصابا، قطع وقتل، ولم يصلب، وإن قتل وأخذ دون نصاب، لم يقطع بل يقتل ويصلب، وفي كيفية القتل والصلب ذا اجتمعا قولان، أظهرهما: يقتل ثم يصلب، وعلى هذا كم يترك مصلوبا ؟ وجهان، أصحهما وهو نصه: ثلاثا، فإذا مضى الثلاث، وسال صليبه، وهو الودك، أنزل، وإلا فوجهان، أحدهما: لا ينزل بل يترك حتى يسيل صليبه، وأصحهما: ينشل، ويكفي ما حصل من النكال، ولو خيف التغير قبل الثلاث هل ينزل ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وبه قال الماسرجسي وغيره، والوجه الثاني من الاصل يترك مصلوبا حتى يسيل صديده ويتهرأ ولا ينزل بحال، والوجهان متفقان على أن يصلب على خشبة ونحوها، وهو الصحيح، وعن ابن أبي هريرة أنه يطرح على الارض حتى يسيل صديده، قال الامام وذكر الصيدلاني: أنه يترك حتى يتساقط، وفي القلب منه شئ، فإني لم أره لغيره، وإذا قلنا: ينتظر سيلان الصليب، لم نبال نتنه، ولفظ البغوي في حكاية وجه ابن أبي هريرة أنه يترك حتى يسيل صديده إلا أن يتأذى به الاحياء، وما ذكره الامام أقرب إلى سياق ذلك الوجه. والقول الثاني في كيفية القتل: أنه يصلب حيا، ثم يقتل، وعلى هذا كيف يقتل، أيترك بلا طعام وشراب حتى يموت، أم يجرح حتى يموت، أم يترك مصلوبا ثلاثا، ثم ينزل ويقتل، فيه أوجه، ويعرف بهذا أن الصلب على هذا القول يراد به صلب لا يموت منه، وتقدم في كتاب الجنائز حكم الصلاة عليه، وأن الخلاف السابق في إنزاله عن الخشبة بعد ثلاث وتركه جار تفريعا على القول الثاني، أما إذا لم يأخذ مالا ولا قتل، ولكن كثر جمع القاطعين، وكان ردءا لهم، وأرغب الرفقة عليه، كما لا حد في مقدمات الزنى، ولو أخذ بعضهم أقل من نصاب، فكذلك الحكم إذا شرطنا النصاب، ولا يكمل نصابه بما أخذه غيره، وفيما يعاقب به الردء وجهان، أصحهما: يعزره الامام باجتهاده بالحبس أو التغريب أو سائر وجوه التأديب، كسائر المعاصي، والثاني: يغربه بنفيه إلى حيث يرى، وليختر جهة يحف بها أهل النجدة من أصحاب الامام، وإذا عين صوبا، منعه العدول إلى غيره،(7/366)
وعلى هذا هل يعزر في البلد المنفي إليه بضرب وحبس وغيرهما، أم يكفي النفي ؟ وجهان. قلت: الاصح: أنه إلى رأي الامام وما اقتضته المصلحة. والله أعلم. فرع من اجتمع عليه قتل وصلب، فمات، فهل يجب صلبه ؟ وجهان، أحدهما: نعم، لان القتل والصلب مشروعان، تعذر أحدهما فوجب الآخر، والثاني: لا، وبه قال الشيخ أبو حامد، وينسب إلى النص، لانه تابع للقتل، فسقط بسقوط المتبوع.
الطرف الثالث : في حكم هذه العقوبة وهو أمران: الاول: السقوط بالتوبة، وقد سبق أن قاطع الطريق إذا هرب، يطلب ويقام ما يستوجبه من حد أو تعزير، فلو تاب قبل القدرة عليه، سقط ما يختص بقطع الطريق من العقوبات على المذهب، وقيل: قولان، وإن تاب بعد القدرة، لم يسقط على المذهب، وقيل: قولان، وهل تؤثر التوبة في إسقاط حد الزنى والسرقة والشرب في حق غير قاطع الطريق، وفي حقه قبل القدرة وبعدها ؟ فيه قولان سبقا، الاظهر: لا يسقط، صححه الامام والبغوي وغيرهما، وهو منسوب إلى الجديد لاطلاق آية الزنى، وقياسا على الكفارة، ورجح جماعة من العراقيين السقوط. قلت: رجح الرافعي في المحرر منع السقوط، وهو أقوى. والله أعلم. ثم ما يسقط بالتوبة في حق قاطع الطريق قبل القدرة يسقط بنفس التوبة، وأما توبته بعد القدرة، وتوبة الزاني والسارق فوجهان، أحدهما: كذلك، ويكون إظهار التوبة كإظهار الاسلام تحت السيف، والثاني: يشترط مع التوبة إصلاح العمل ليظهر صدقه فيها، ونسب الامام هذا الوجه إلى القاضي حسين، والاول إلى سائر الاصحاب، والذي ذكره جماعة من العراقيين والبغوي والروياني هو ما نسبه إلى القاضي، واحتجوا بظاهر القرآن، قال الله تعالى في قطاع الطريق: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * لم يذكر غير التوبة، وقال في الزنى: * (فإن تابا(7/367)
وأصلحا فأعرضوا عنهما) * وفي السرقة: * (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح) * قال الامام: معرفة إصلاح العمل بأن يمتحن سرا وعلنا، فإن بدا الصلاح، أسقطنا الحد عنه، وإلا حكمنا بأنه لم يسقط، قال الامام: وهذا مشكل، لانه لا سبيل إلى حقيقته، وإن خلي، فكيف يعرف صلاحه، ويشبه أن يقال تفريعا على هذا: إذا أظهر التوبة، امتنعنا من إقامة الحد، فإن لم يظهر ما يخالف الصلاح، فذاك، وإن ظهر، أقمنا عليه الحد، وقد ذكرنا في باب حد الزنى في موضع القولين في سقوط الحد بالتوبة طريقين، أحدهما: تخصيصهما بمن تاب قبل الرفع إلى القاضي، فإن تاب بعد الرفع، لم يسقط قطعا، والثاني: طردهما في الحالين، وقد يرجع هذا الخلاف إلى أن التوبة بمجردها تسقط الحد، أم يعتبر الاصلاح، إن اعتبرناه اشترط مضي زمن يظهر به الصدق، فلا تكفي التوبة بعد الرفع. فرع إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة، فإن كان قد قتل، سقط عنه انحتام القتل، فللولي أن يقتص، وله العفو هذا هو المذهب، وفيه وجه شاذ يسقط القصاص، فلا يبقى عليه شئ أصلا، وحكي وجه أنه يسقط بالتوبة القصاص وحد القذف، لانهما يسقطان بالشبهة، كحدود الله تعالى، ونقله ابن القطان في القذف قولا قديما، وليس بشئ، وإن كان قد قتل وأخذ المال، سقط الصلب، وانحتام القتل، وبقي القصاص، وضمان المال، وفي القصاص ما ذكرنا، وإن كان قد أخذ المال، سقط قطع الرجل، وكذا قطع اليد على المذهب. الامر الثاني في حكم قتله، فإذا قتل قاطع الطريق خطأ، بأن رمى شخصا فأصاب غيره، أو شبه عمد، لم يلزمه القتل، وتكون الدية على عاقلته، وإن قتل عمدا، فقد سبق أنه يتحتم قتله، واختلفوا في حكم قتله، فقالت طائفة وهو الاصح: هذا قتل فيه معنى القصاص ومعنى الحدود، لانه في مقابلة قتل ولكن لا يصح العفو عنه ويتعلق استيفاؤه بالسلطان، وما المغلب من المعنيين ؟ فيه قولان، وقال آخرون: هل يتمحض حقا لله تعالى أم فيه أيضا حق آدمي ؟ قولان، أظهرهما: الثاني، ويقال على هذا القول: أصل القتل في مقابلة القتل، والتحتم(7/368)
حق لله تعالى، ويتفرع على هذا الخلاف صور. منها: لو قتل قاطع الطريق من لا يكافئه، كابنه وعبد وذمي، فإن لم يراع معنى القصاص وحق الآدمي، قتلناه حدا ولم نبال بعدم الكفاءة، وإن راعيناه، لم نقتله به وأوجبنا الدية أو القيمة، ولو قتل عبد نفسه، فقال ابن أبي هريرة والقاضي حسين: هو على الخلاف، وقال أبو إسحق: لا يقتل قطعا، كما لا يقطع إذا أخذ مال نفسه، واختاره الصيدلاني. ومنها: لو مات، فإن راعينا القصاص أخذنا الدية من تركته، وإلا فلا شئ فيها. ومنها: لو قتل في قطع الطريق جماعة، فإن راعينا القصاص، قتل بواحد وللباقين الديات، فإن قتلهم مرتبا، قتل بالاول، ولو عفا ولي الاول، لم يسقط ذكره البغوي، وإن لم نراع القصاص، قتل بهم، ولا دية. ومنها: لو عفا الولي على مال إن راعينا القصاص، سقط القصاص ووجب المال، وقتل حدا كمرتد وجب عليه قصاص، وعفي عنه، وإن لم نراعه، فالعفو لغو. ومنها: لو تاب قبل القدرة، لم يسقط القصاص إن راعينا معناه ويسقط الحد، وإلا فلا شئ عليه. ومنها: لو قتل بمثقل، أو بقطع عضو، فإن راعينا القصاص، قتلناه بمثل ما قتل، وإلا فيقتل بالسيف، كالمرتد. ومنها: لو قتله شخص بغير إذن الامام إن راعينا القصاص، لزمه الدية لورثته ولا قصاص، لان قتله متحتم، ويجئ فيه وجه، وإن لم نراعه، فليس عليه إلا التعزير لافتئاته على الامام. فرع إذا جرح قاطع الطريق جرحا ساريا، فهو قاتل، وقد سبق حكمه، وإن جرح جرحا واقفا، نظر إن كان مما لا قصاص فيه كالجائفة، فواجبه المال ولا قتل، وإن كان مما فيه قصاص، كقطع يد ورجل، قوبلت بمثله، وهل يتحتم القصاص في الجراحة ؟ فيه أقوال، أظهرها: لا، كما لا كفارة، والثاني: نعم،(7/369)
والثالث: يتحتم في اليدين والرجلين دون الانف والاذن والعين وغيرها، قال ابن الصباغ: لو قطع يد رجل ثم قتله، فإن قلنا: الجراحة لا تتحتم، فهو كما لو قطعه في غير المحاربة ثم قتله فيها، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وإن قلنا: يتحتم، قطع ثم قتل. ولو قطع في المحاربة وأخذ المال، نظر إن قطع يمينه، فإن قلنا: لا يتحتم وعفا، أخذ دية اليد، وقطعنا يمين المحارب ورجله اليسرى حدا، وإن لم يعف، أو قلنا: يتحتم، قطعت يمينه بالقصاص وقطعت رجله حدا، كما لو قطع الطريق ولا يمين له، وإن قطع يساره، فإن قلنا: لا يتحتم وعفا، أخذ الدية، وقطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، وإن لم يعف، أو قلنا: بالتحتم، قطعت يساره، وتؤخر قطع اليمين والرجل اليسرى حتى تندمل اليسار، ولا يوالى بين عقوبتين.
فصل يوالى على قاطع الطريق بين قطع يده ورجله، لان قطعهما عقوبة واحدة، كالجلدات في الحد الواحد، وإن كان مقطوع اليمين، قطعت رجله اليسرى ولا تجعل اليد اليسرى بدلا عن اليمنى، فإن كان مفقود اليد اليمنى والرجل اليسرى، قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، ولو قطع يسار انسان وسرق، قطعت يساره قصاصا وأمهل إلى الاندمال ثم تقطع يمينه عن السرقة ولا يوالى، لانهما عقوبتان مختلفتان، وقدم القصاص، لان العقوبة التي هي حق آدمي آكد من التي هي حق الله تعالى، لانها تسقط بما لا تسقط به عقوبة الآدمي بخلاف الحقوق المالية، فإن فيها ثلاثة أقوال في أنه يقدم حق الله تعالى أم الآدمي، أم يستويان لاستوائهما في التأكد وعدم السقوط بالشبهة، ولو وجب قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى بقطع الطريق، وقطع اليد اليسرى بقصاص، قدم قطع اليسرى قصاصا، ثم يمهل إلى الاندمال، ثم يقطع العضوان لقطع الطريق، ولو استحقت يمينه بقصاص وقطع للطريق، فإن عفا مستحق القصاص، قطعت يمينه مع رجله اليسرى حدا، وإلا فيقدم القصاص، وتقطع الرجل اليسرى عن الحد، وتقطع عقيب القصاص، وقيل: يمهل بها إلى الاندمال، والاول أصح، ولو استحقت يده اليمنى ورجله اليسرى بقصاص وقطع طريق، نظر إن عفا مستحق القصاص، قطع العضوان عن الحد، وإن اقتص فيهما، سقط الحد لفوات محله الذي تعلق به، ولو قطع العضوين في قطع الطريق وأخذ المال، فإن قلنا: الجراحة في قطع الطريق لا(7/370)
تتحتم، فهو كما لو قطع العضوين في غير المحاربة وقطع أيضا الطريق، وإن قلنا: تتحتم، قطعناهما قصاصا، وسقط الحد، كذا ذكره الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وغيرهما، وسووا بين قطع العضوين قبل أخذ المال وبعده، قال صاحب المهذب: إن قلنا بالتحتم، فإن تقدم أخذ المال، واقتص في العضوين، سقط الحد، وإن تقدم قطع العضوين، ثم أخذ المال، لم يسقط بالقصاص حد قطع الطريق، بل تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى. فصل اجتمع عليه عقوبات آدميين، كحد قذف وقصاص عضو وقصاص نفس، فإن حضر المستحقون وطلبوا حقوقهم جميعا، جلد، ثم قطع، ثم قتل، ويبادر بالقتل بعد القطع، ولا يبادر بالقطع بعد الجلد إن كان مستحق القتل غائبا، لانه قد يهلك بالموالاة فيفوت قصاصه، وإن كان حاضرا وقال: عجلوا القطع وأنا أبادر بالقتل بعد القطع، فوجهان، أحدهما: يبادر، لان التأخير كان حقه وقد رضي بالتقديم. وأصحهما: المنع خوفا من هلاكه بالموالاة، ورأى الامام تخصيص الوجهين بمن خيف موته بالموالاة بحيث يتعذر قصاص النفس لانتهائه إلى حركة المذبوح، ورأى الجزم بالمبادرة إذا أمكن استيفاء القصاص بعد القطع، أما إذا لم يجتمعوا على الطلب، فإن أخر مستحق النفس حقه، جلد، فإذا برأ، قطع، وإن أخر مستحق الطرف حقه، جلد، ويتعذر القتل لحق مستحق الطرف، وعلى مستحق النفس الصبر حتى يستوفي مستحق الطرف حقه، قال الغزالي: ولو مكن مستحق النفس من القتل، وقيل لمستحق الطرف: بادر وإلا ضاع حقك لفوات محله، لم يكن بعيدا، ولو بادر مستحق النفس فقتله، كان مستوفيا حقه، ورجع مستحق الطرف إلى الدية، ولو أخر مستحق الجلد حقه، فقياس ما سبق أن يصبر الآخران، وإذا اجتمع عليه حدود قذف لجماعة، حد لكل واحد حدا، ولا يوالى بل يمهل بعد كل حد حتى يبرأ، هكذا ذكره البغوي وغيره، لكنه سبق في القصاص أنه يوالى بين قطع الاطراف قصاصا، وقياسه أن يوالى بين الحدود، وذكروا تفريعا على الاول الوجهين فيما لو وجب على عبد حدان لقذف شخصين، هل يوالى ؟ أصحهما عند البغوي: لا، لانهما حدان، والثاني: نعم، لانهما كحد حر، قال الروياني: هذا أقرب إلى المذهب، وأما ترتيب حدود القذف فينبغي أن يقال: إن قذفهم مرتبا، حد للاول فالاول، وإن قذفهم بكلمة وقلنا بالاظهر: إنه يتعدد الحد، أقرع.(7/371)
فرع اجتمع عليه حدود لله تعالى، بأن شرب وزنى وهو بكر، وسرق، ولزمه قتل بردة، قدم الاخف فالاخف، وتجب رعاية هذا الترتيب والامهال سعيا في إقامة الجميع، وأخفها حد الشرب، ثم يمهل حتى يبرأ، ثم يجلد للزنى، ويمهل، ثم يقطع، فإذا لم يبق إلا القتل، قتل ولم يمهل، وحكى أبو بكر الطوسي وجها: أنه إذا كان فيها قتل يوالى بلا إمهال، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور، ولو اجتمع معها أخذ مال في محاربة، قطعت يده ورجله بعد جلد الزنى، وهل يوالى بين قطع اليد والرجل أم يؤخر قطع الرجل حتى تندمل اليد ؟ وجهان، أحدهما: يؤخر لان اليد مقطوعة عن السرقة، والرجل عن المحاربة ولا يوالى بين حدين، وأصحهما وهو المنصوص: يوالى، لان اليد تقع عن المحاربة والسرقة، فصار كما لو انفردت المحاربة، ولو اجتمعت عقوبات لله تعالى ولآدمي، بأن انضم إلى هذه العقوبات حد قذف، قدم حد القذف على حد الزنى، نص عليه، واختلفوا لم قدم ؟ فقال أبو إسحق وجماعة: لانه حق آدمي، وقال ابن أبي هريرة: لانه أخف، والاول أصح عند الاصحاب، وفيما يقدم من حد الشرب والقذف وجهان بناء على المعنيين، ويجريان في حد الزنى وقصاص الطرف والامهال بعد كل عقوبة إلى الاندمال على ما ذكرنا، ولو كان الواجب بدل قتل الردة قتل قصاص، فالقول في الترتيب والامهال كذلك، ولو اجتمع الرجم للزنى وقتل قصاص، فهل يقتل رجما بإذن الولي ليتأدى الحقان، أم يسلم إلى الولي ليقتله قصاصا ؟ وجهان، أصحهما: الثاني. ولو كان الواجب قتل محاربة، فهل يجب التفريق بين الحدود المقامة قبل القتل ؟ وجهان، أحدهما: لا، لجنه متحتم القتل، فلا معنى للامهال بخلاف قتل الردة والقصاص، فإنه يتوقع الاسلام والعفو، وأصحهما: نعم، لانه قد يموت بالموالاة، فتفوت سائر الحدود، ولو اجتمع قتل محاربة مع قصاص في غير محاربة، نظر إن سبق قتل المحاربة، قتل حدا، ويعدل صاحب القصاص إلى الدية، وإن سبق قتل القصاص، خير الولي فيه، فإن عفا، قتل وصلب للمحاربة، وإن اقتص، عدل لقتل المحاربة إلى الدية، وهل يصلب ؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا مات المحارب قبل قتله، ولو سرق ثم قتل في المحاربة، فهل يقطع للسرقة ويقتل للمحاربة، أم يقتصر على القتل والصلب، ويندرج حد السرقة في حد المحاربة ؟ وجهان.(7/372)
فرع من زنى مرارا وهو بكر، حد لها حدا واحدا، وكذا لو سرق، أو شرب مرارا، وهل يقال: تجب حدود ثم تعود إلى حد واحدة أم لا يجب إلا حد، وتجعل الزنيات كالحركات في زنية واحدة ؟ ذكروا فيه احتمالين، ولو زنى أو شرب فأقيم عليه الحد، ثم زنى أو شرب، أقيم عليه حد آخر، فإن لم يبرأ من الاول، أمهل حتى يبرأ، ولو أقيم عليه بعض الحد فارتكب الجريمة ثانيا، دخل الباقي في الحد الثاني، وإذا زنى فجلد، ثم زنى قبل التغريب جلد ثانيا وكفاه تغريب واحد، ولو جلد خمسين، فزنى ثانيا، جلد مائة وغرب ودخل في المائة الخمسون الباقية، ولو زنى وهو بكر، ثم زنى قبل أن يحد وقد أحصن، فهل يكتفى بالرجم ويدخل فيه الجلد أم يجمع بينهما ؟ وجهان، أصحهما عند الامام والغزالي: الاول، وأصحهما عند البغوي وغيره: الثاني، لاختلاف العقوبتين، وعلى هذا فهل يجلد مائة ويغرب عاما ثم يرجم، أم يجلد ويرجم، ويدخل التغريب في الرجم ؟ وجهان، أصحهما: الثاني. ولو زنى عبد، فعتق قبل الحد، وزنى ثانيا، فإن كان بكرا، جلد مائة وغرب عاما، وإن كان محصنا، جلد خمسين، ثم رجم،(7/373)
هكذا أطلقه البغوي، ويشبه أن يكون على الخلاف فيمن زنى وهو بكر، ثم زنى وهو محصن. ولو زنى ذمي محصن، ثم نقض العهد واسترق، فزنى ثانيا، ففي دخول الجلد في الرجم الوجهان، قال البغوي: الاصح: المنع، فيجلد خمسين ثم يرجم، وإن قلنا: بتغريب العبد، ففي اندراج التغريب في الرجم الوجهان. فصل لا يثبت قطع الطريق إلا بشهادة رجلين ويشترط في الشهادة التفصيل وتعيين قاطع الطريق ومن قتله أو أخذ ماله، وتقاس صوره بما سبق في الشهادة على السرقة، ولو شهد اثنان من الرفقة، نظر إن لم يتعرضا لقصد المشهود عليه نفسا ومالا، قبلت شهادتهما، وليس على القاضي أن يبحث عنهما هل هما من الرفقة أم لا، فإن بحث، فلهما أن لا يجيبا، وإن لم يثبتا على الشهادة وإن قالا: قطع هذا وهؤلاء علينا الطريق، فأخذوا مالنا ومال رفقتنا، لم تقبل شهادتهما في حق أنفسهما ولا في حق غيرهما، وقيل: في حق غيرهما قولان، والمذهب الاول، لانهما صارا عدوين، قال الماسرجسي وغيره: لو شهد رجلان بوصية لهما فيها نصيب أو إشراف، لم تقبل في شئ، وإن قالا: نشهد بها سوى ما يتعلق بنا من المال والاشراف، قبلت شهادتهما. فصل يحسم موضع القطع من قاطع الطريق كما سبق في السارق، ويجوز أن تحسم اليد، ثم تقطع الرجل، وأن تقطعا جميعا، ثم تحسما، قال العبادي في الرقم: إن قلنا: إن قتل قاطع الطريق يراعى فيه معنى القصاص، لزمه الكفارة، وإن قلنا: حد محض، فلا كفارة.
باب حد شارب الخمر
شرب الخمر من كبائر المحرمات، قال الاصحاب: عصير العنب إذا اشتد(7/374)
وقذف بالزبد حرام بالاجماع، وسواء قليله وكثيره، ويفسق شاربه ويلزمه الحد، ومن استحله كفر، وعصير الرطب النئ، كعصير العنب النئ، كذا ذكره البغوي وطائفة، وحكاه الروياني عن بعضهم واستغربه، واختار كونه كسائر الاشربة، أما سائر الاشربة المسكرة، فهي في التحريم ووجوب الحد عندنا كعصير العنب، لكن لا يكفر مستحلها، لاختلاف العلماء فيها، وذكر الاصحاب خلافا في أن اسم الخمر هل يتناولها ؟ والاكثرون على المنع، وكل شراب حكمنا بتحريمه، فهو نجس، وبيعه باطل، وما لا يسكر من الأنبذة لا يحرم، لكن يكره شرب المنصف والخليطين للحديث الناهي عنهما، والمنصف: ما عمل من تمر ورطب، وشراب الخليطين ما عمل من بسر ورطب، وقيل: ما عمل من تمر وزبيب، وسبب النهي أن الاسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه، فيظن الشارب أنه ليس بمسكر ويكون مسكرا، وهذا كالنهي عن الانتباذ في الاوعية التي كانوا ينبذون فيها، كالدباء وهو القرع، والحنتم وهو جرار خضر، والنقير وهو جذع ينقر ويتخذ منه إناء، والمزفت وهو المطلي بالزفت وهو القار، ويقال له: المقير، لان هذه الاوعية يشتد فيها ولا يعلم به بخلاف الاسقية من الادم. قلت: والنهي عن هذه الاوعية منسوخ، ثبت نسخه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم. والله أعلم.(7/375)
وفي الباب طرفان :
الأول : في الشراب الموجب للحد، فكل ملتزم لتحريم المشروب شرب ما يسكر جنسه مختارا بلا ضرورة ولا عذر، لزمه الحد، فهذه خمسة قيود. الاول: الملتزم، فلا حد على صبي ومجنون وحربي، والمذهب أن الذمي لا يحد بالخمر، وأن الحنفي يحد بشرب النبيذ وإن كان لا يعتقد تحريمه، ويأتي في الشهادة إن شرب الحنفي النبيذ هل يفسق به وترد شهادته ؟ إن شاء الله تعالى. الثاني: قولنا: شرب ما يسكر جنسه يخرج بلفظ الشرب ما لو احتقن، أو استعط بالخمر، فلا حد، لان الحد للزجر، ولا حاجة فيه إلى الزجر، وقيل: يحد، وقيل: يحد في السعوط دون الحقنة، والاول أصح، ويتعلق بكون المشروب مسكرا في جنسه صور: منها: أنه يدخل فيه النبيذ ودردي الخمر والثخين منها إذا أكله بخبز، أو ثرد فيها وأكل الثريد، أو طبخ بها، وأكل المرق، فيحد بكل ذلك، ولا يحد بأكل اللحم المطبوخ بها، ولا بأكل خبز أو معجون عجن بها على الصحيح فيهما، وعلى هذا قال الامام: من شرب كوز ماء فيه قطرات خمر والماء غالب، لم يحد لاستهلاك الخمر. الثالث: كون الشارب مختارا، فلا حد على من أوجر قهرا، والمذهب أنه لا يحد من أكره حتى شرب، وذكر ابن كج فيه وجهين. الرابع: أن لا يكون مضطرا، فلو غص بلقمة، ولم يجد ما يسيغها غير الخمر، وجب عليه إساغتها بالخمر ولا حد، وحكى إبرهيم المروذي في تحريم الاساغة وجهين لعموم النهي، والمذهب الاول، وأما شربها للتداوي والعطش والجوع إذا لم يجد غيرها ففيه أوجه، أصحها والمنصوص وقول الاكثرين: لا يجوز لعموم النهي، ولان بعضها يدعو إلى بعض. والثاني: يجوز كما يجوز شرب(7/376)
البول والدم لذلك وكما يتداوى بالنجاسات، كلحم الحية والسرطان والمعجون فيه خمر. والثالث: يجوز للتداوي دون العطش والجوع، ورجحه الروياني. والرابع: عكسه، لان دفع العطش موثوق به في الحال، وهذا هو الصحيح عند الامام، ونقل اتفاق الاصحاب على تحريم التداوي، قال: وبلغنا عن آحاد من المتأخرين لبس بجوازه من غير تدوين في كتاب. والخامس: يجوز للعطش دون الجوع لانها تحرق كبد الجائع ثم الخلاف في التداوي مخصوص بالقليل الذي لا يسكر، ويشترط خبر طبيب مسلم، أو معرفة المتداوي إن عرف، ويشترط أن لا يجد ما يقوم مقامها، ويعتبر هذان الشرطان في تناول سائر الاعيان النجسة، ولو قال الطبيب: يتعجل بها الشفاء، فالاصح أنه كرجاء الشفاء، ثم قال القاضي حسين والغزالي: لا حد على المتداوي وإن حكمنا بالتحريم لشبهة الخلاف، وقال الامام: أطلق الائمة المعتبرون أقوالهم في طرقهم أن التداوي حرام موجب للحد، وإذا جوزنا الشرب للعطش، لزمه الشرب، كتناول الميتة للمضطر ولا حد، وإذا لم نجوزه، ففي الحد الخلاف كالتداوي. الخامس: أن لا يكون له عذر في الشرب، فلو شرب قريب عهد بالاسلام وادعى جهل التحريم، لم يحد، فلو قال: علمت التحريم وجهلت الحد، وجب الحد، ولو شرب خمرا وهو يظن أنه يشرب غير مسكر في جنسه، فلا حد وإن سكر منه لم يلزمه قضاء الصلوات، كالمغمى عليه، وإن علم أنه من جنس المسكر، وظن أن ذلك القدر لا يسكر، حد، ولزمه قضاء الصلوات الفائتة في السكر. فرع إنما يجب الحد إذا ثبت الشرب بإقراره أو شهادة رجلين، وفي تعليق(7/377)
الشيخ أبي حامد أنه يجب أيضا إذا علمنا شربه المسكر، بأن رأيناه شرب من شراب إناء شرب منه غيره فسكر، وليكن هذا مبنيا على أن القاضي يقضي بعلمه، ولا تعويل على النكهة وظهور الرائحة منها، ولا على مشاهدة سكره وتقيئه الخمر، لاحتمال غلط أو إكراه، ثم صيغة المقر والشاهد إن كانت مفصلة بأن قال: شربت الخمر، أو شربت ما شرب منه غيري، فسكر منه، وأنا به عالم مختار، وفصل الشاهد كذلك، فذاك، وإن قال: شربت الخمر، أو ما شربه غيري فشرب منه فسكر منه، واقتصر عليه، أو شهد اثنان أنه شرب الخمر من غير تعرض للعلم والاختيار، فوجهان، أحدهما: لا حد، لاحتمال الجهل والاكراه، كما لا بد من التفصيل في الزنى، وبهذا قال القاضي أبو حامد واختاره الامام، وأصحهما وأشهرهما وظاهر النص وبه قطع بعضهم: يجب الحد، لان إضافة الشرب إليه حاصلة، والاصل عدم الاكراه، والظاهر من حال الآكل والشارب العلم بما يشربه، وصار كالاقرار بالبيع والطلاق وغيرهما، والشهادة عليها لا يشترط فيها تعرض للاختيار والعلم بخلاف الزنى فإنه يطلق على مقدماته، وفي الحديث العينان تزنيان. فروع ما يزيل العقل من غير الاشربة، كالبنج، حرام لكن لا حد في تناوله، ولو احتيج في قطع اليد المتأكلة إلى زوال عقله هل يجوز ذلك ؟ يخرج على الخلاف في التداوي بالخمر. قلت: الاصح: الجواز، وقد سبق في مسائل طلاق السكران ومن زال عقله ما يقتضي الجزم به، ولو احتاج إلى دواء يزيل العقل لغرض صحيح جاز تناوله قطعا كما سبق هناك. والله أعلم. الند المعجون بالخمر نجس، قال ابن الصباغ: ولا يجوز بيعه، وكان ينبغي أن يجوز، كالثوب النجس، لامكان تطهيره بنقعه في الماء، ومن يتبخر به هل يتنجس ؟ فيه وجهان، كدخان النجاسة.(7/378)
الطرف الثاني : في الحد الواجب في الشرب وهو أربعون جلدة على الحر، وعشرون على الرقيق، واختار ابن المنذر أنه ثمانون، وهل يجوز أن يضرب بالأيدي والنعال وأطراف الثياب والسوط، أم يتعين ما عدا السوط، أم يتعين السوط ؟ فيه ثلاثة أوجه، الصحيح الاول، وهو جواز الجميع، ولو رأى الامام أن يبلغ به ثمانين أو ما بينها وبين الاربعين، جاز على الاصح، فعلى هذا هل الزيادة تعزير أم حد ؟ وجهان، أصحهما عند الجمهور: تعزير، لانها لو كانت حدا لم يجز تركها، وتركها جائز، فعلى هذا هو تعزيرات على أنواع من هذيان يصدر منه ونحوه، والثاني: أن الزيادة حد، لان التعزير لا يكون إلا على جناية مخففة، ثم كان ينبغي أن لا ينحصر في ثمانين وتجوز الزيادة عليها وهي غير جائزة بالاتفاق، وعلى هذا حد الشرب مخصوص بأن يتحتم بعضه، ويتعلق بعضه باجتهاد الامام.
فصل في كيفية الجلد في الزنى والقذف والشرب وهو بسوط معتدل الحجم بين القضيب والعصا، وبه تعتبر الخشبات، ولا يكون رطبا ولا شديد اليبوسة، خفيفا لا يؤلم، ويضرب ضربا بين ضربين، فلا يرفع الضارب يده فوق رأسه بحيث يبدو بياض إبطه، لانه يشتد ألمه، ولا يضع السوط عليه وضعا، فإنه لا يؤلم، ولكن يرفع ذراعه ليكسب السوط ثقلا، فإن كان المجلود رقيق الجلد يدمى بالضرب الخفيف، لم يبال به ويفرق السياط على الاعضاء، ويتقي الوجه والمقاتل، كثغرة النحر والفرج ونحوهما، وهل يجتنب الرأس ؟ وجهان، أصحهما عند الجمهور: لا، لانه مستور بالشعر بخلاف الوجه، ولا تشد يده بل تترك يداه ليتقي بهما، ولا يلقى على وجهه، ولا يمد، ولا يجرد عن الثياب بل يترك عليه قميص أو قميصان، ولا يترك عليه ما يمنع الالم من جبة محشوة وفروة، ويجلد الرجل قائما، والمرأة جالسة وتلف، أو تربط عليها ثيابها، ويتولى لف ثيابها امرأة، وأما الضرب، فليس من شأن النساء، فيتولاه رجل، ويوالي بين الضربات، ولا يجوز أن يفرق، فيضرب في كل يوم سوطا أو سوطين، لانه لا يحصل به إيلام وتنكيل وزجر، ولو جلد في الزنى في يوم خمسين متوالية، وفي يوم يليه خمسين كذلك، أجزأ، قال الامام في ضبط التفريق: إن كان بحيث لا يحصل من كل دفعة ألم له وقع، كسوط أو سوطين في كل يوم، لم يجز، وإن كان يؤلم ويؤثر بماله وقع، فإن(7/379)
لم يتخلل زمن يزول فيه الالم الاول، كفى وإن تخلل، لم يكف على الاصح. فرع لا يقام حد الشرب في السكر، بل يؤخر حتى يضيق. فرع لا تقام الحدود في المسجد ولا التعزير، فإن فعل، وقع الموقع، كالصلاة في أرض معصوبة.
باب التعزير
هو مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة، سواء كانت من مقدمات ما فيه حد، كمباشرة أجنبية بغير الوطئ، وسرقة ما لا قطع فيه، والسب والايذاء بغير(7/380)
قذف، أو لم يكن، كشهادة الزور والضرب بغير حق، والتزوير، وسائر المعاصي، وسواء تعلقت المعصية بحق الله تعالى أم بحق آدمي، ثم جنس التعزير من الحبس أو الضرب جلدا أو صفعا إلى رأي الامام، فيجتهد ويعمل ما يراه من الجمع بينهما والاقتصار على أحدهما، وله الاقتصار على التوبيخ باللسان على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى. قال الامام: قال الاصحاب: عليه أن يراعي الترتيب والتدريج، كما يراعيه دافع الصائل، فلا يرقى إلى مرتبة وهو يرى ما دونها مؤثرا كافيا، وأما قدر(7/381)
التعزير، فإن كان من غير جنس الحد، كالحبس، تعلق باجتهاد الامام، وإن رأى الجلد فيجب أن ينقص عن الحد، وفي ضبطه أوجه، أحدها: أنه يفرق بين المعاصي وتقاس كل معصية بما يناسبها من الجناية الموجبة للحد، فيعزر في الوطئ المحرم الذي لا يوجب حدا، وفي مقدمات الزنى دون حد الزنى، وفي الايذاء والسب بغير قذف دون حد القذف، وفي إدارة كأس الماء على الشرب تشبيها بشاربي الخمر دون حد الخمر، وفي مقدمات السرقة دون حد السرقة، وعلى هذا فتعزير الحر يعتبر بحده، والعبد بحده، والوجه الثاني: أن جميع المعاصي سواء ولا يزاد تعزير على عشر جلدات للحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد والثالث وهو الاصح عند الجمهور وظاهر النص: أنه تجوز الزيادة على عشرة بحيث ينقص عن أدنى حدود المعزر، فلا يزاد تعزير حر على تسع وثلاثين جلدة، ولا العبد على تسع عشرة، والحديث قال بعضهم: إنه منسوخ، واستدل بعمل الصحابة رضي الله عنهم بخلافه من غير إنكار، والرابع: يعتبر أدنى الحدود على الاطلاق، فلا يزاد حر ولا عبد على تسع عشرة، والخامس حكاه البغوي: الاعتبار بحد الحر، فيبلغ بالحر والعبد تسعا وثلاثين. فصل من الاصحاب من يخص لفظ التعزير بضرب الامام أو نائبه للتأديب في غير حد، ويسمي ضرب الزوج زوجته، والمعلم الصبي، والاب ولده تأديبا لا تعزيرا، ومنهم من يطلق التعزير على النوعين وهو الاشهر، فعلى هذا مستوفي التعزير الامام والزوج والاب والمعلم والسيد، أما الامام فيتولى بالولاية العامة إقامة العقوبات حدا وتعزيرا، والاب يؤدب الصغير تعليما وزجرا عن سئ الاخلاق، وكذا يؤدب المعتوه بما يضبطه، ويشبه أن تكون الام في زمن الصبي في كفالته كذلك كما(7/382)
ذكرنا في تعليم أحكام الطهارة والصلاة والامر بها والضرب عليها أن الامهات كالآباء، والمعلم يؤدب الصبي بإذن الولي ونيابة عنه، والزوج يعزر زوجته في النشوز وما يتعلق به، ولا يعزرها فيما يتعلق بحق الله تعالى، والسيد يعزر في حق نفسه وكذا في حق الله تعالى على الاصح، وإذا أفضى تعزير إلى هلاك، وجب الضمان على عاقلة المعزر، ويكون قتله شبه عمد، فإن كان الاسراف في الضرب ظاهرا وضربه بما يقصد به القتل غالبا، فهو عمد محض، وحكى الامام عن المحققين تفريعا على هذه القاعدة أن المعزر إذا علم أن التأديب لا يحصل إلا بالضرب المبرح، لم يكن له الضرب المبرح ولا غيره، أما المبرح، فلانه مهلك، وليس له الاهلاك، وأما غيره، فلا فائدة فيه. فصل الجناية المتعلقة بحق الله تعالى خاصة، يجتهد الامام في تعزيرها بما يراه من ضرب أو حبس، أو اقتصار على التوبيخ بالكلام، وإن رأى المصلحة في العفو، فله ذلك، وإن تعلقت الجناية بحق آدمي فهل يجب التعزير إذا طلب ؟ وجهان، أحدهما: يجب، وهو مقتضى كلام صاحب المهذب كالقصاص، والثاني: لا يجب، كالتعزير لحق الله تعالى، وهذا هو الذي أطلقه الشيخ أبو حامد وغيره، ومقتضى كلام البغوي ترجيحه، وقال الامام: قدر التعزير وما به التعزير إلى رأي الامام، ولا تكاد تظهر جنايته عند الامام إلا ويوبخه، ويغلظ له القول، فيؤول الخلاف إلى أنه هل يجوز الاقتصار على التوبيخ ؟ ولو عفد مستحق العقوبة عن القصاص أو الحد أو التعزير، فهل للامام التعزير ؟ فيه أوجه، أحدها: لا، لانه أسقطها، والثاني: نعم، لان فيه حقا لله تعالى ويحتاج إلى زجره وزجر غيره عن مثل ذلك، وأصحها: إن عفا عن الحد، فلا تعزير، وإن عفا عن بعزير، عزر، لان الحد مقدر لا نظر للامام فيه، فإذا سقط، لم يعدل إلى غيره، والتعزير يتعلق أصله بنظره، فلم يؤثر فيه إسقاط غيره وبالله التوفيق.(7/383)
كتاب ضمان إتلاف الإمام وحكم الصيال وإتلاف البهائم
فيه ثلاثة أبواب
الأول : في ضمان يلزم الولاة بتصرفاتهم وفيه طرفان،
الأول : في موجب الضمان، والثاني في محله. أما الاول فما يفضي إلى الهلاك من التصرفات المتعلقة بالولاة أنواع: أحدها: التعزير، فإذا مات منه المعزر، وجب ضمانه، لانه تبين بالهلاك أنه جاوز الحد المشروع، وحكي وجه أنه لا ضمان إذا عزر لحق الآدمي بناء على أنه واجب إذا طلب المستحق فصار كالحد، والصحيح الاول، ويجب الضمان أيضا في تعزير الزوج والمعلم إذا أفضى إلى الهلاك، سواء ضربه المعلم بإذن أبيه، أو دون إذنه، لكن لو كان مملوكا، فضربه بإذن سيده، قال البغوي: لا ضمان، لانه لو أذن في قتله، فقتله، لم يضمنه، ثم الضمان الواجب الدية على عاقلة الزوج والمعلم، وفي حق الامام هل هو على عاقلته أم في بيت المال ؟ فيه خلاف سبق ويعود أيضا إن شاء الله تعالى، لكن لو أسرف المعزر، وظهر منه قصد القتل، تعلق به القصاص والدية المغلظة في ماله.(7/384)
الثاني: الحد، والحدود في غير الشرب مقدرة بالنص، فمن مات منها، فالحق قتله، فلا ضمان، لكن لو أقيم الحد في حر أو برد مفرطين، ففي الضمان خلاف سبق والمذهب أنه لا ضمان أيضا، وأما حد الشرب، فإن ضرب بالنعال وأطراف الثياب فمات منها، ففي وجوب الضمان وجهان بناء على أنه هل يجوز أن يحد هكذا ؟ إن قلنا: نعم، وهو الصحيح فلا ضمان، كسائر الحدود، وإلا فيجب لانه عدل عن الجنس الواجب، ولو ضرب أربعون جلدة، فمات، ففي الضمان قولان، ويقال: وجهان، أحدهما: يضمن، لان تقديره بأربعين كان بالاجتهاد، والمشهور: لا ضمان، كسائر الحدود، لان الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على أن الشارب يضرب أربعين، وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر أربعين، فإن قلنا بالضمان، فهل يجب كل الضمان أم نصفه، أم يوزع على التفاوت بين ألم السياط، والضرب بالنعال، وأطراف الثياب ؟ فيه أوجه، أصحها الاول، وإن ضربه أحدا وأربعين، فهل يجب كل الضمان أم نصفه أم جزء من أحد وأربعين جزءا ؟ فيه أقوال، أظهرها: الثالث، وإن ضرب اثنين وأربعين وقلنا بالثالث، وجب جزءان من اثنين وأربعين، وعلى هذا القياس، حتى إذا ضرب ثمانين استوى القول الثاني والثالث، ووجب النصف، ولو جلد في القذف أحدا وثمانين، فمات، فهل يجب نصف الدية، أم جزء من أحد وثمانين جزءا منها ؟ فيه القولان، ثم إن كانت الزيادة من الجلاد ولم يأمره الامام إلا بالثمانين، فالضمان على اختلاف القولين على الجلاد، وإن أمر الامام بذلك، فالضمان متعلق بالامام، وكذا لو قال الامام: اضرب وأنا أعد، فغلط في العد، فزاد على الثمانين، ولو أمر الامام بثمانين في الشرب، فزاد الجلاد جلدة واحدة، ومات المجلود فأربعة أوجه، أصحها: توزع الدية أحد وثمانون جزءا، يسقط منها أربعون ويجب أربعون على الامام، وجزء على الجلاد، والثاني: يسقط ثلث الدية، ويجب على الامام ثلث، وعلى الجلاد ثلث، والثالث: يسقط نصفها، ويجب على الامام ربع، وعلى الجلاد ربع، والرابع: يسقط نصفها، ويوزع نصفها على أحد وأربعين جزءا: أربعون على الامام، وجزء على الجلاد. الثالث: الاستصلاح بقطع سلعة وبالختان وفيه مسائل: إحداها: في حكم قطع السلعة من العاقل المستقل بأمر نفسه، والسلعة بكسر(7/385)
السين وهي غدة تخرج بين اللحم والجلدة نحو الحمصة إلى الجوزة فما فوقها، وقد يخاف منها، وقد لا يخاف، لكن تشين، فإن لم يكن في قطعها خطر، وأراد المستقل قطعها لازالة الشين، فله قطعها بنفسه، ولغيره بإذنه، وإن كان في قطعها خطر، نظر إن لم يكن في قائها خطر، لم يجز القطع لازالة الشين، فإن كان في بقائها خوف أيضا، نظر إن كان الخطر في القطع أكثر، لم يجز القطع، وإن كان في الابقاء أكثر، جاز القطع على الصحيح، وقيل: لا، لانه فتح باب الروح بخلاف الابقاء، وإن تساوى الخطر، جاز القطع على الاصح، إذ لا معنى للمنع مما لا خطر فيه، وأما من عظمت آلامه ولم يطقها، فأراد أن يريح نفسه بمهلك مذفف، فيحرم ذلك، فلو وقع في نار علم أنه لا ينجو منها، وأمكنه أن يلقي نفسه في بحر، ورأى ذلك أهون عليه من الصبر على لفحات النار، فله ذلك على الاصح، وهو قول الشيخ أبي محمد، ولو تآكل بعض الاعضاء، فهو كسلعة يخاف منها، ولو قطع السلعة، أو العضو المتأكل من المستقل قاطع بغير إذنه، فمات، لزمه القصاص، سواء فيه الامام وغيره، لانه متعد. الثانية: المولى عليه لصغر أو جنون، يجوز لوليه الخاص وهو الاب والجد أن يقطع من السلعة واليد المتأكلة، وإن كان فيه خوف وخطر إذا كان الخطر في الترك أكثر، وليس للسلطان ذلك، لان القطع يحتاج إلى نظر دقيق، وفراغ تام، وشفقة كاملة، كما أن للاب والجد تزويج البكر الصغيرة دون السلطان، قال الامام: وقد ذكرنا عند استواء الطرفين في الخوف خلافا في أن المستقل هل له القطع من نفسه، والاصح والحالة هذه أنه لا يقطع من طفله، وأما ما لا خطر فيه ولا خوف غالبا، كالفصد والحجامة وقطع سلعة بلا خطر، فيجوز فعله للولي الخاص، وكذا للسلطان، وفي التهذيب وجه أن القطع المخطر لا يجوز للولي الخاص، وفي جمع الجوامع للروياني وجه أنه لا يجوز للسلطان الفصد والحجامة، والصحيح ما سبق، وليس للاجنبي المعالجة ولا القطع المخطر بحال، ولو فعل، فسرى ومات به، تعلق بفعله القصاص والضمان، وأما السلطان إذا فعل بالصبي ما منعناه،(7/386)
فسرى إلى نفسه، فعليه الدية مغلظة في ماله، لتعديه، وقيل: في كونه في بيت المال، أو على عاقلته القولان، كما لو أخطأ، لانه قصد الاصلاح، والمذهب الاول، وفي وجوب القصاص قولان، أظهرهما: لا يجب، لانه قصد الاصلاح، واستبعد الائمة وجوب القصاص، وقال صاحب الافصاح: القولان إذا كان للصبي أب أو جد، فإن لم يكونا فلا قود بلا خلاف، لانه لا بد له ممن يقوم بشأنه، وهذا راجع إلى أن للسلطان قطع السلعة، ولو قطع الاب والجد السلعة حيث لا يجوز، فمات، فلا قصاص للبعضية، وتجب الدية في ماله، وقيل: لا ضمان على الاب أصلا، لان ولايته أتم وإنما يقطعها للشفقة، وأما ما يجوز للاب والسلطان من فصد الصغير وحجامته وقطع سلعته للاب إذا أفضى إلى تلف، فلا ضمان فيه على الاصح، وبه قال الجماهير، لئلا يمتنع من ذلك، فيتضرر الصغير بخلاف التعزير. الثالثة: الختان واجب في حق الرجال والنساء، وقيل: سنة، وقيل: واجب في الرجل، سنة في المرأة، والصحيح المعروف هو الاول، وختان الرجل: قطع الجلدة التي تغطي الحشفة حتى تنكشف جميع الحشفة، ويقال لتلك الجلدة: القلفة، قال الامام: فلو بقي مقدار ينبسط على سطح الحشفة، وجب قطعه، حتى لا يبقى جلد متجاف، هذا هو الصحيح المعروف للاصحاب، وقال ابن كج: عندي يكفي قطع شئ من الحشفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها، وأما من المرأة، فتقطع من اللحمة التي في أعلق الفرج فوق مخرج البول، وتشبه تلك اللحمة عرف الديك، فإذا قطعت، بقي أصلها كالنواة، ويكفي أن يقطع ما يقع عليه الاسم، قال الاصحاب: وإنما يجب الختان بعد البلوغ، ويستحب أن يختن في السابع من ولادته إلا أن يكون ضعيفا لا يحتمله فيؤخر حتى يحتمله، قال الامام: ولو كان الرجل ضعيف الخلقة بحيث لو ختن خيف عليه، لم يجز أن يختن، بل ينتظر حتى يصير بحيث يغلب على الظن سلامته، وفي وجه في تعليق القاضي حسين، وهو مقتضى كلام البغوي: لا يجوز ختان الصغير حتى يبلغ عشر سنين.(7/387)
قلت: ولنا وجه في البيان وغيره أنه يجب على الولي ختان الصغير قبل بلوغه، لانه أرفق، فعليه النظر له، والصحيح أنه لا يجب حتى يبلغ، وهل يحسب يوم الولادة من السبعة المستحبة ؟ وجهان في المستظهري أصحهما: لا، وحكاه عن الاكثرين، وأما الخنثى، فلا يختن في صغره، فإذا بلغ فوجهان، أحدهما: يجب ختان فرجه ليتوصل إلى المستحق، وبهذا قطع في البيان وأصحهما: لا يجوز ختانه، لان الجرح لا يجوز بالشك، وبه قطع البغوي، فعلى الاول: إن أحسن الختان، ختن نفسه، وإلا اشترى جارية تختنه، فإن لم يمكن تولاه الرجال والنساء للضرورة، كالتطبيب، ولو كان لرجل ذكران، إن كانا عاملين، ختنا، وإن كان أحدهما، ختن وحده، وهل يعرف العمل بالجماع أو البول ؟ وجهان. والله أعلم. فرع مؤنة الختان في مال المختون، وفي وجه: يجب على الوالد إذا ختن صغيرا. فرع إذا بلغ غير مختون، أمره به الامام، فإن امتنع، أجبره، فإن ختن الممتنع، فمات، فلا ضمان، لانه مات من واجب، لكن لو وقع ختانه في حر أو برد شديدين، ففي الضمان خلاف سبق في الزنى، والمذهب وجوبه، وأجرى الامام هذا الخلاف فيما لو ختنه الاب في حر أو برد شديدين، وجعل الاب أولى بنفي الضمان، لان الاب هو الذي يتولى الختان غالبا، فهو في حقه كالحد في حق الامام، ومن ختن صبيا في سن لا يحتمله، فمات منه، لزمه القصاص، سواء الولي وغيره، لكن لا قصاص على الاب والجد للبعضية، وعليهما الدية، وإن كان في سن يحتمله، فمات، نظر إن ختنه أبوه أو جده، أو الامام إذا لم يكن له ولي غيره، فلا ضمان على الاصح، وإن ختنه أجنبي، فقال البغوي: يحتمل أن يبنى(7/388)
على ختن الامام في الحر الشديد، إن ضمناه، ضمن هنا، وإلا فلا، وقال السرخسي: يبنى على أن الجرح اليسير هل فيه قصاص ؟ وفيه وجهان، إن قلنا: نعم، فهو عمد، وإلا فشبه عمد، وإذا أوجبنا الضمان في الختان في حر شديد، فالواجب نصف الضمان على الاصح، وقيل: كله.
الطرف الثاني : في محل ضمان إتلاف الإمام فما تعدى به من التصرفات، وقصر فيه، أو أخطأ لا يتعلق بالحكم، بأن رمى صيدا، فقتل إنسانا، حكمه فيه حكم سائر الناس، فيجب في ماله، أو على عاقلته، وأما الضمان الواجب بخطئه في الاحكام وإقامة الحدود، فهل هو على عاقلته، أم في بيت المال ؟ قولان، أظهرهما: على عاقلته وقد سبقا في باب العاقلة، فإن قلنا: على العاقلة، فالكفارة في ماله، وإن قلنا: على بيت المال، فهل الكفارة في بيت المال أم في ماله ؟ وجهان، فلو ضرب الامام في الخمر ثمانين، ومات المجلود، ففي محل الضمان القولان ولو جلد حاملا جدا، فألقت جنينا ميتا، ففي محل الغرة القولان، إن جهل حملها، فإن علمه، فقيل: بالقولين، والمذهب أنها على عاقلته، لانه عدل عن الصواب عمدا، ولو انفصل حيا ومات، وجب كل الدية ومحلها على ما ذكرنا، ولو ماتت الحامل، فقد أطلق في الختصر أنه لا يضمنها، قال الشيخ أبو حامد وغيره: إن ماتت من الجلد وحده، بأن ماتت قبل الاجهاض، فلا ضمان وهو موضع النص، وذكر ابن الصباغ أن فيه والحالة هذه الخلاف فيما لو حده في حر مفرط، فمات، وإن ماتت من الاجهاض وحده، بأن أجهضت، ثم ماتت، وأحيل الموت على الاجهاض، وجب كمال ديتها، وإن قيل: ماتت بالحد والاجهاض جميعا، وجب نصف ديتها. فرع سنذكر في الشهادات إن شاء الله تعالى أن القاضي إذا حكم بشهادة اثنين، ثم بانا عبدين أو ذميين، نقض الحكم، وإن بانا فاسقين، نقضه على الاظهر، فلو أقام الحد بشهادة اثنين، ثم بانا ذميين أو عبدين أو امرأتين أو مراهقين أو فاسقين، ومات المحدود، فقد بان بطلان الحكم، فينظر إن قصر في البحث عن حالهما، فالضمان عليه لا يتعلق ببيت المال ولا بالعاقلة أيضا إن تعمد، قال الامام: وإنما يتردد في وجوب القصاص، والراجح الوجوب، لان الهجوم على القتل ممنوع منه بالاجماع، ويحتمل أن لا يجب بإسناده القتل إلى صورة البينة،(7/389)
وإن لم يقصر في البحث، بل بذل وسعه، جرى القولان في أن الضمان على عاقلته أم في بيت المال ثم إذا ضمنت العاملة أو بيت المال، فهل يثبت الرجوع على الشاهدين ؟ فيه أوجه، أحدها: نعم، لانهما غرا القاضي، وأصحمما: لا، لانهما يزعمان أنهما صادقان، ولم يوجد منهما تعد، وقد ينسب القاضي إلى تقصير في البحث، والثالث: يثبت الرجوع للعاقلة دون بيت المال، فإن أثبتنا الرجوع، طولب الذميان في الحال، وفي العبدين يتعلق بذمتهما على الاصح، وقيل: بالرقبة، وأما المراهقان، فإن قلنا: يتعلق برقبة العبدين نزلنا ما وجد منهما منزلة الاتلاف، وإلا فقول الصبي لا يصلح للالتزام، فلا رجوع، وإن بانا فأسقين، فإن قلنا: لا ينقض الحكم، فلا أثر له، وإن قلنا: ينقض، ففي الرجوع عليهما أوجه، أحدها: نعم كالعبدين، والثاني: لا، لان العبد مأمور بإظهار حاله بخلاف الفاسق، وأصحها: إن كان مجاهرا بالفسق، ثبت الرجوع، لان عليه أن يمتنع من الشهادة، ولان قبول شهادته مع مجاهرته يشعر بتعزيره، وإن كان مكاتما، فلا. فرع قتل الجلاد وضربه بأمر الامام كمباشرة الامام إذا لم يعلم ظلمه وخطأه، ويتعلق الضمان والقصاص بالامام دون الجلاد، لانه آلته، ولو ضمناه لم يتول الجلد أحد، وإن علم أن الامام ظالم أو مخطئ، ولم يكرهه الامام عليه فالقصاص والضمان على الجلاد دون الامام، لانه إذا علم الحال لزمه الامتناع ويجئ على قولنا: أمر الامام إكراه، أن يكون هذا كما لو أكرهه، وإن أكرهه، فالضمان عليهما، وإن اقتضى الحال القصاص، وجب على الامام، وفي الجلاد قولان، ولو أمره بضربه وقال: أنا ظالم في ضربه، فضربه الجلاد ومات، قال البغوي: إن قلنا: أمر السلطان ليس بإكراه، فالضمان على الجلاد، وإن قلنا: إكراه، فإن قلنا: لا ضمان على المكره، فالضمان على الامام، ولو قال: افعل إن شئت، فليس بإكراه قطعا، ولو قال: اضرب ما شئت، أو ما أحببت، لم تكن له الزيادة على الحد، فإن زاد، ضمن، ولو أمره بقتل في محل الاجتهاد، كقتل مسلم بذمي، وحر بعبد، والامام والجلاد يعتقدان أنه غير جائز، فقتله، قال البغوي القود عليهما إن جعلنا أمر السلطان إكراها، وأوجبنا القود على المكره والمكره جميعا، ولو اعتقد الجلاد منعه، والامام جوازه، أو ظن أن الامام اختار ذلك المذهب، ففي وجوب القصاص والضمان على الجلاد وجهان، أصحهما عند الاصحاب:(7/390)
الوجوب، وبه قطع ابن الصباغ والبغوي وغيرهما، لان واجبه الامتناع، فإن أكره فحكمه معروف، والثاني: لا اعتبار باعتقاد الامام ولو كان الامام لا يعتقد جواز قتل حر بعبد، فأمره به تاركا للبحث، وكان الجلاد يعتقد جوازه، فقتله عملا باعتقاده، فقد بني على الوجهين قتله، فإن اعتبرنا اعتقاد الامام، وجب القصاص، وإن اعتبرنا اعتقاد الجلاد، فلا، قال الامام: وهذا ضعيف هنا، لان الجلاد مختار عالم بحال والامام لم يفوض إليه، النظر والاجتهاد بل القتل فقط، فالجلاد كالمستقل.
فصل لا ضمان على الحجام إذا حجم أو فصد بإذن من يعتبر إذنه، فأفضى إلى تلف، وكذا لو قطع سلعة بالاذن للمعنى الذي ذكرناه في الجلاد بخلاف من قطع يدا صحيحة بإذن صاحبها، فمات منه، حيث توجب الدية على قول، لان الاذن هناك لا يبيح القتل، وهنا الفعل جائز لغرض صحيح، وأما إذا قطع بالاذن، ووقف القطع فلم يسر، فلا ضمان بلا خلاف. وبالله التوفيق.
الباب الثاني : في الصيال هو متضمن لمعرفة الصائل وهو المدفوع، والمصول عليه وهو المدفوع عنه، وكيفية الدفع وحكمه. أما الصائل، فكل قاصد من مسلم وذمي وعبد وحر وصبي ومجنون وبهيمة، يجوز دفعه فإن أبى الدفع على نفسه، فلا ضمان بقصاص ولا دية ولا كفارة ولا قيمة، ولو سقطت جرة من علو، واستوت على رأس إنسان وخاف منها ولم يمكنه دفعها إلا بإتلافها ففي الضمان وجهان، أصحهما: بجب لانه قصد لها بخلاف الآدمي والبهيمة، ولو حالت بهيمة بين جائع وطعامه في بيت، ولم يصله إلا بقتلها، ففي الضمان وجهان، ويمكن أن يجعل الاصح هنا نفي الضمان كما ذكرنا فيما لو عم الجراد المسالك فوطئه المحرم.(7/391)
أما المصول عليه، فيجوز الدفع عن النفس والطرف ومنفعته، والبضع ومقدماته، وعن المال وإن قل إذا كانت المذكورات معصومة، ويجوز لغير المصول عليه الدفع، وله دفع مسلم صال على ذمي، وأب صال على ابنه، وسيد صال على عبده، لانهم معصومون مظلومون، وحكى الامام قولا قديما أنه لا يجوز الدفع عن المال إذا لم يحصل الدفع إلا بقتل، أو قطع طرف، والمشهور الاول، وبه قطع الجماهير، وفي الحديث الصحيح: من قتل دون ماله فهو شهيد فله الدفع في كل هذه الصور، وإن أتى الدفع على الصائل، فلا ضمان فيه، ولو وجده ينال من جاريته ما دون الفرج، فله دفعه، وإن أتى على نفسه وللاجنبي دفعه كذلك حسبة، ويجوز أن يكون المدفوع عنه ملك القاصد، فمن رأى إنسانا يتلف مال نفسه، بأن يحرق كدسه، ويغرق متاعه، جاز له دفعه، وإن كان حيوانا بأن رآه يشدخ رأس حماره، وجب على الاجنبي دفعه على الاصح وبه قطع البغوي، لحرمة الحيوان، أما كيفية الدفع، فيجب على المصول عليه رعاية التدريج والدفع بالاهون فالاهون، فإن أمكنه الدفع بالكلام، أو الصياح، أو الاستغاثة بالناس، لم يكن له الضرب، وكذا لو اندفع شره، بأن وقع في ماء أو نار، أو انكسرت رجله، لم يضربه، وكذا لو حال بينهما جدار أو خندق أو نهر عظيم، فإن حال نهر صغير وغلب على ظنه أنه إن عبر النهر عليه، قال ابن الصباغ: فله رميه ومنعه العبور، أما إذا لم يندفع الصائل إلا بالضرب، فله الضرب، ويراعى فيه الترتيب، فإن أمكن باليد، لم يضربه بسوط، وإن أمكن بسوط، لم يجز بالعصا، ولو أمكن بقطع عضو، لم يجز إهلاكه، وإذا أمكن بدرجة، فدفعه بما فوقها، ضمن، وكذا لو هرب فتبعه وضربه، ضمن، ولو ضربه ضربة، فولى هاربا أو سقط، وبطل صياله فضربه أخرى، فالثانية مضمونة بالقصاص وغيره، فإن مات منهما، لم يجب قصاص النفس، ويجب نصف الدية، لانه هلك من مضمون وغيره، ولو عاد بعد الجرحين، فصال، فضربه ثالثة فمات منها، لزمه ثلث الدية، ومتى غلب على ظنه أن الذي أقبل عليه بالسيف يقصده، فله دفعه بما يمكنه، وإن لم يضربه المقبل، ولو كان الصائل(7/392)
يندفع بالسوط والعصا، ولم يجد المصول عليه إلا سيفا أو سكينا، فالصحيح أن له الضرب به، لانه لا يمكنه الدفع إلا به ولا يمكن نسبته إلى التقصير بترك استصحاب سوط، والمعتبر في حق كل شخص حاجته، ولذلك نقول: الحاذق الذي يحسن الدفع بأطراف السيف من غير جرح يضمن إن جرح، ومن لا يحسن، لا يضمن بالجرح، ولو قدر المصول عليه على الهرب، أو التحصن بموضع حصين، أو على الالتجاء إلى فئة هل يلزمه ذلك، أم له أن يثبت ويقاتل ؟ فيه اختلاف نص، وللاصحاب طريقان، أصحهما: على قولين، أظهرهما: يجب الهرب، لانه مأمور بتخليص نفسه بالاهون، والطريق الثاني: حمل نص الهرب على من تيقن النجاة بالهرب، والآخر على من لم يتيقن. فرع عض شخص يده، أو عضوا آخر، فليخلصه بأيسر الممكن، فإن أمكن رفع لحييه، وتخليص ما عضه، فعل، وإلا ضرب شدقه ليدعه، فإن لم يمكنه وسل يده، فسقطت أسنانه، فلا ضمان، وسواء كان العاض ظالما أو مظلوما، لان العض لا يجوز بحال، ومتى أمكنه التخلص بضرب فمه، لا يجوز العدول إلى غيره، فإن لم يمكنه إلا بعضو آخر، بأن يبعج بطنه، أو يفقأ عينه، أو يعصر خصييه، فله ذلك على الصحيح، وقيل: ليس له قصد عضو آخر.
فصل : أما حكم الدفع، فقد ذكرنا أنه جائز، وهل يجب أم يجوز الاستسلام وترك الدفع، ينظر إن قصد أخذ المال، أو إتلافه ولم يكن ذا روح، لم يجب الدفع، لان إباحة المال جائزة، وإن قصد أهله، وجب عليه الدفع بما أمكنه، لانه لا مجال فيه، وشرط البغوي للوجوب أن لا يخاف على نفسه، وإن قصد نفسه، نظر إن كان كافرا، وجب الدفع، وأشار الروياني إلى أنه لا يجب، بل يستحب وهو غلط، والصواب الاول، وبه قطع الاصحاب، وإن كان بهيمة،(7/393)
وجب، وإن كان مسلما فقولان، وقيل: وجهان، أظهرهما: لا يجب الدفع، بل له الاستسلام، والثاني: يجب، وعن القاضي حسين أنه إن أمكنه دفعه بغير قتله، وجب، وإلا فلا، والقائلون بجواز الاستسلام، منهم من يزيد ويصفه بالاستحباب، وهو ظاهر الاحاديث، وإن كان الصائل مجنونا، أو مراهقا، فقيل: لا يجوز الاستسلام قطعا، لانهما لا إثم عليهما، كالبهيمة، والمذهب طرد القولين لحرمة الآدمي، ورضى بالشهادة. وهل يجب الدفع عن الغير ؟ فيه ثلاث طرق، أصحها: أنه كالدفع عن نفسه، فيجب حيث يجب، ولا يجب حيث لا يجب، والثاني: القطع بالوجوب، لان له الايثار بحق نفسه دون غيره، والثالث ونسبه الامام إلى معظم الاصوليين: القطع بالمنع، لان شهر السلاح يحرك الفتن، وليس ذلك من شأن آحاد الناس، وإنما هو وظيفة الامام، وعلى هذا هل يحرم أم يجوز ؟ فيه خلاف عنهم، فإن أوجبنا، فذلك إذا لم يخف على نفسه، ثم قال الامام: الخلاف في أن آحاد الناس هل لهم شهر السلاح حسبة لا يختص بالصيال، بل من أقدم على محرم، من شرب خمر أو غيره، هل لآحاد الناس منعه بما يجرح ويأتي على النفس ؟ فيه وجهان، أحدهما: نعم نهيا عن المنكر، ومنعا من المعصية، والثاني: لا، خوفا من الفتن، ونسب الثاني إلى الاصوليين، والاول إلى الفقهاء، وهو الموجود للاصحاب في كتب المذهب، حتى قال الفوراني والبغوي والروياني وغيرهم: من علم خمرا في بيت رجل، أو طنبورا، وعلم شربه، أو ضربه، فله أن يهجم على صاحب البيت، ويريق الخمر، ويفصل الطنبور، ويمنع أهل الدار الشرب والضرب، فإن لم ينتهوا، فله قتالهم وإن أتى القتال عليهم، وهو مثاب على ذلك، وفي تعليق الشيخ إبرهيم المروذي أن من رآه مكبا على معصية من زنى أو شرب خمر، أو رآه يشدخ شاة أو عبدا، فله دفعه، وإن أتى الدفع عليه، فلا ضمان.(7/394)
فصل إذا وجد رجلا يزني بامرأته أو غيرها، لزمه منعه ودفعه، فإن هلك في الدفع، فلا شئ عليه، وإن اندفع بضرب غيره ثم قتله، لزمه القصاص إن لم يكن الزاني محصنا، فإن كان، فلا قصاص على الصحيح، وقد سبق في الجنايات، وإذا قال: قتلته لذلك، وأنكر وليه، فعلى القاتل البينة، وينظر إن ادعى أنه قصد امرأته، فدفعه فأتى الدفع على نفسه، ثبت ذلك بشاهدين، وإن ادعى أنه زنى بها وهو محصن، لم يثبت الزنى إلا بأربعة، فإن لم يكن بينة، حلف ولي القتيل على نفي العلم بما يقوله، ومكن من القصاص، ولو كان للقتيل وارثان، فحلف أحدهما، ونكل الآخر، حلف القاتل للآخر، وعليه نصف الدية للحالف، وإن كان أحدهما بالغا، والآخر صغيرا، وحلف البائع لم يقبض حتى يبلغ الصغير، فيحلف، أو يموت، فيحلف وارثه، وإن أخذ البالغ نصف الدية حكى الروياني أنه يؤخذ للصغير أيضا، فإذا بلغ، حلف، فإن نكل وحلف القاتل، رد عليه ما أخذ، ولو أقر الورثة أن مورثهم كان معها تحت ثوب يتحرك تحرك المجامع وأنزل، ولم يقروا بما يوجب الحد، لم يسقط القصاص، وإن أقروا بما يوجبه وقالوا: كان بكرا، فالقول قولهم، وعلى القاتل البينة بالحصان، ولو أخرج سارق المتاع من حرزه، ثم ألقاه وهرب، لم يكن له أن يتبعه فيضربه، فإن تبعه، فقطع يده التي وجب قطعها بالسرقة، فلا قصاص، لانها مستحقة الازالة، وكذا في قطع الطريق إذا قطع ما وجب قطعه منه لا قصاص، لكن يعزر لافتئاته، ويجئ في وجوب القصاص الخلاف السابق في الزاني المحصن، ولو وجب الجلد على زان، فجلده واحد من الناس، لم يقع حدا إلا بإذن الامام بخلاف القطع، وفي تعليق ابراهيم المروذي وجهان فيمن جلد رجلا ثمانين، وقال: كان قذفني، وأقام بينة به، هل يحسب ذلك عن الحد ؟ وبني على الوجهين أنه إن عاش هل يعاد الحد، وإن مات هل يجب القصاص على الضارب ؟. فصل إذا نظر إلى حرمة إنسان في داره من كوة، أو ثقب، أو شق باب، فنهاه صاحب الدار، فلم ينته، فرماه بحصاة ونحوها، فأصاب عينه فأعماه، أو أصاب قريبا من عينه فجرحه، فلا ضمان، وإن سرى إلى النفس لم يضمن، قال الشافعي رحمه الله: ولو ثبت المطلع، ولم يندفع بعد رميه بالشئ الخفيف، استغاث عليه صاحب الدار، فإن لم يكن في موضع غوث، قال: أحببت أن ينشده(7/395)
بالله تعالى، فإن لم يندفع، فله ضربه بالسلاح ويناله بما يردعه، فإن أتى على نفسه، فلا ضمان، ولو لم ينل منه صاحب الدار، عاقبه السلطان، وسواء كان وقوف الناظر في الشارع أو في سكة منسدة الاسفل، أو في ملك نفسه، إذ ليس للواقف في ملكه مد النظر إلى حرم الناس، وعن القاضي حسين وجه ضعيف أنه ليس له قصد عينه إذا وقف في الشارع، أو ملك نفسه، وإنما يقصده إذا وقف في ملك المنظور إليه وليس بشئ، ثم إنما يرمي عينه إذا قصد النظر والتطلع، أما إذا كان مخطئا، أو وقع بصره اتفاقا، وعلم صاحب الدار الحال، فلا يرميه، فلو رماه، وقال الناظر: لم أكن قاصدا، أو لم أطلع على شئ، فلا شئ على الرامي، لان الاطلاع حاصل، وقصده أمر باطن لا يطلع عليه، وهذا ذهاب إلى جواز الرمي من غير تحقق قصده، وفي كلام الامام ما يدل على أنه لا يرمي حتى يتبين الحال، وهو حسن. فرع هل يجوز رميه قبل إنذاره ؟ وجهان، أحدهما يحكى عن الشيخ أبي حامد والقاضي حسين: لا، بل ينذره ويزجره ويأمره بالانصراف، فإن أصر، رماه، جريا على قياس الدفع بالاهون، ولانه قد يكون له عذر، وأصحهما وبه قال الماسرجسي، والقاضي أبو الطيب، وجزم به الغزالي: يجوز رميه قبل الانذار، واستدل صاحب التقريب بجواز الرمي هنا قبل الانذار على أنه لا يجب تقديم الكلام في دفع كل صائل، وأنه يجوز للمصول عليه الابتداء بالفعل، قال الامام: مجال التردد في كلامه هو موعظة قد تفيد وقد لا تفيد، فأما ما يوثق بكونه دافعا من تخويف وزعقة مزعجة، فيجب قطعا، وهذا أحسن، وينبغي أن يقال: ما لا يوثق بكونه دافعا، ويخاف من الابتداء به مبادرة الصائل لا يجب الابتداء به قطعا. فرع ليكن الرمي بشئ خفيف تقصد العين بمثله، كبندقة وحصى خفيفة، أما إذا رشقه بنشاب، أو رماه بحجر ثقيل، فيتعلق به القصاص والدية، لكن لو لم يمكن قصد عينه، أو لم ينزجر، فيستغيث عليه ويدفعه بما أمكنه كما سبق، ولا يقصد رمي غير العين إذا أمكنه إصابتها، فإن لم يمكن، فرمى عضوا آخر، ففي التهذيب حكاية وجهين فيه، ونقل أنه لو أصاب موضعا بعيدا عن عينه بلا قصد، فلا يضمن على الاصح، والاشبه ما ذكره الروياني أنه إن رماه، فأصاب(7/396)
غير العين، فإن كان بعيدا لا يخطئ من العين إليه، ضمن، وإن كان قريبا يخطئ إليه، لم يضمن. فرع لو كان للناظر محرم في الدار، أو زوجة، أو متاع، لم يجز قصد عينه، لان له في النظر شبهة، وقيل: لا يكفي أن يكون له في الدار محرم، بل لا يمنع قصد عينه إلا إذا لم يكن في الدار إلا محارمه، والصحيح الاول، ولو كان الناظر محرما لحرم صاحب الدار، فلا يرمى إلا أن تكون متجردة، إذا ليس للمحرم النظر إلى ما بين السرة والركبة. فرع لو لم يكن في الدار حرم، بل كان فيها المالك وحده، فإن كان مكشوف العورة، فله الرمي ولا ضمان، وإلا فوجهان، أصحهما: لا يجوز رميه، والثاني: يجوز، لان من الاحوال ما يكره الاطلاع عليه، ولو كان الحرم في الدار مستترات بالثياب، أو في بيت، أو منعطف لا يمتد النظر إليهن، فهل يجوز قصد عينه ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لعموم الاحاديث، ولانه يريد سترهن عن الاعين وإن كن مستورات بثياب، ولان الحرم في الدار لا يدرى متى يسترن وينكشفن، فيحسم باب النظر. فرع لو كان باب الدار مفتوحا، فنظر منه، أو من كوة واسعة، أو ثلمة في الجدار، فإن كان مجتازا، لم يجز رميه، وإن وقف ونظر متعمدا، لم يجز رميه أيضا في الاصح، لتفريط صاحب الدار، ولو نظر من سطح نفسه، أو نظر المؤذن من المنارة، جاز رميه في الاصح، إذ لا تفريط من صاحب الدار، ولو وضع الاعمى عينه على ضق الباب، فرماه، ضمن، سواء علم عماه، أم لا، ولو نظرت المرأة أو المراهق، جاز رميهما على الاصح، ولو قعد في طريق مكشوف العورة، فنظر إليه ناظر، لم يجز له رميه، لانه الهاتك حرمته، قال ابن المرزبان: لو دخل مسجدا، وكشف عورته، وأغلق الباب أو لم يغلقه، فنظر إليه إنسان، لم يكن له رميه، لان الموضع لا يختص به، ولو كانت الدار ملكا للناظر، قال السرخسي: إن كان من فيها غاصبا، لم يكن له الرمي، وإن كان مستأجرا، فله ذلك، وفي المستعير وجهان. فرع لو انصرف الناظر قبل الرمي إليه، لم يجز أن يتبعه ويرميه، كالصائل إذا أدبر.(7/397)
فرع لو دخل دار رجل بغير إذنه، فله أمره بالخروج ودفعه، كما يدفعه عن سائر أمواله، والاصح أنه لا يدفعه قبل الانذار، كسائر أنواع الدفع، وبه قال الماسرجسي، ثم هل يتعين قصد رجله لكون الدخول بها كما يتعين قصد العين في النظر، أم لا يتعين، لانه دخل بجميع البدن ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، وهل يجوز قصد العين ؟ وجهان، قال أبو إسحق وأبو علي بن أبي هريرة والطبري: يجوز، لانه بأول الهجوم متطلع، ومنهم من منعه، والاصح: أن له دفعه بما يتيسر، ولا يتعين قصد عضو بعينه، ولا يمتنع قصد عضو. ودخول الخيمة في الصحراء، كالدار في البنيان، ولو أخذ المتاع وخرج، فله أن يتبعه ويقاتله إلى أن يطرح متاعه، ولو قتله وقال: قتلته، لانه كابر ولم يخرج، وأنكر الولي فهو المصدق، وعلى القاتل البينة، وإن قال: قتلته، لانه قصدني، فكذلك، وقد ذكر أنه يحتاج إلى بينة بأنه دخل داره مقبلا شاهرا سلاحه، ولا تكفي بينة بأنه دخل داره بسلاح من غير شهر. فرع لو وضع أذنه على شق الباب، أو وقف على الباب يتسمع، لم يجز رمي أذنه، إذ ليس السمع كالبصر في الاطلاع على العورات، وقال الامام: وفي بعض التعاليق عن شيخي وجه، ولا أثق بالمعلق.
فصل في مسائل من الصيال قال ابن كج: لو صال عليه فحل، وأمكنه الهرب، فلم يهرب وقتله دفعا، هل يلزمه الضمان ؟ يبنى على أنه هل يجب الهرب إذا صال عليه إنسان، إن قلنا: نعم، ضمن، وإلا فلا، وأبدى ترددا في حل أكل لحم البهيمة التي تلفت بالدفع، قال إبرهيم المروذي: إن لم يصب المذبح، لم تحل، وإن أصابه، فوجهان، لانه لم يقصد الذبح والاكل، ولو صال العبد المبيع على البائع، أو أجنبي قبل القبض، فقتله دفعا، انفسخ العقد، ولو صال على المشتري فقتله، ففي مصيره قابضا وجهان. ولو صال العبد المغصوب أو المستعار على مالكه، فقتله دفعا، لم يبرأ الغاصب والمستعير على الاصح، وفي(7/398)
البيان أنه لو قطع يد الصائل دفعا، فلما ولى تبعه فقتله، لزمه القصاص في النفس، ثم حكى عن بعض الاصحاب أن لورثة المصول عليه أن يرجعوا في تركة الصائل بنصف الدية، قال: والذي يقتضيه المذهب، أنهم لا يرجون بشئ، لان النفس لا تنقص بنقص اليد.
الباب الثالث : في ضمان ما تتلفه البهائم إذا اتلفت البهيمة، فإما أن لا يكون معها أحد من مالك وغيره، وإما أن يكون. الحال الاول: أن لا يكون أحد، وأتلفت زرعا أو غيره، نظر إن أتلفته بالنهار، فلا ضمان على صاحبها، وإن أتلفته بالليل، لزم صاحبها الضمان، للحديث الصحيح في ذلك، ولان العادة أن أصحاب الزروع والبساتين يحفظونها نهارا، ولا بد من إرسال المواشي للرعي، ثم العادة أنها لا تترك منتشرة ليلا، فإذا تركها ليلا، فقد قصر، فضمن، ولو جرت العادة في ناحية بالعكس، فكانوا يرسلون المواشي ليلا للرعي، ويحفظونها نهارا، وكانوا يحفظون الزرع ليلا، فوجهان، أصحهما: ينعكس الحكم، فيضمن ما أتلفته بالنهار دون الليل اتباعا لمعنى الخبر والعادة، والثاني: لا تأثير للعادة ويتعلق به فروع. الاول: المزارع في الصحراء والبساتين التي لا جدار لها، حكمها ما ذكرنا، أما إذا كان الزرع في محوط، وكان للبساتين باب يغلق، فتركه مفتوحا فوجهان، أحدهما: الحكم كذلك لاطلاق الحديث ولان العادة حفظ البهائم وربطها ليلا، فإرسالها تقصير، وأصحهما: لا ضمان وإن أتلفت بالليل، لان التقصير من صاحب الزرع بفتح الباب. الثاني: إنما يعتاد إرسال المواشي إذا كان هناك مراع بعيدة عن المزارع، وحينئذ إن فرض انتشارها إلى أطراف المزارع، لم يعد تقصيرا، فأما إذا كانت المراعي متوسطة للمزارع، أو كانت البهائم ترعى في حريم السواقي، فلا يعتاد إرسالها بلا راع، فإن أرسلها، فمقصر ضامن لما أفسدته وإن كان نهارا، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور.(7/399)
الثالث: لو ربط بهيمته، وأغلق بابه، واحتاط على العادة، ففتح الباب لص، أو انهدم الجدار، فخرجت ليلا، فلا ضمان، إذ لا تقصير، ولو قصر صاحب البهيمة، وحضر صاحب الزرع، فإن قدر على تنفيرها، فليفعل، فإن تهاون فهو المقصر المضيع لزرعه، فلا ضمان على الصحيح، وينبغي أن لا يبالغ التنفير والابعاد، بل يقتصر على قدر الحاجة، فإن زاد، فضاعت، قال إبرهيم المروذي: لزمه الضمان وتصير داخله في ضمانه بالتبعيد فيق قدر الحاجة، ولو أخرجها من زرعه وأدخلها في زرع غيره، فأفسدته، لزمه الضمان. فإن كانت محفوفة بمزارع الناس، ولم يمكن إخراجها إلا بإدخالها مزرعة غيره، لم يجز أن يقي مال نفسه بمال غيره، بل يصبر ويغرم صاحبها. الرابع: إذا أرسل دابة في البلد، فأتلفت شيئا، ضمن على الاصح، وجميع ما ذكرنا فيما إذا تعلق إرسال الدابة وضبطها باختياره، فإن انفلتت، لم يضمن ما أتلفته بحال، ولو ربط دابته في موات، أو ملك نفسه، وغاب عنها، لم يضمن ما تتلفه، وإن ربطها في الطريق على باب داره، أو في موضع آخر، لزمه الضمان، سواء كان الطريق ضيقا أو واسعا، لان الارتفاق في الطريق إنما يجوز بشرط سلامة العاقبة، كإشراع الجناح، وقيل: إن كان واسعا، فلا ضمان، والصحيح المنصوص هو الاول، ولم يتعرضوا للفرق بين ربطه بإذن الامام ودون إذنه. فرع إذا أرسل الحمام، أو غيرها من الطير، فكسرت شيئا، أو التقطت حبا، فلا ضمان، لان العادة إرسالها، ذكره ابن الصباغ. الحال الثاني: إذا كان مع البهيمة شخص، ضمن ما أتلفته من نفس ومال، سواء أتلفت ليلا أو نهارا، وسواء كان سائقها أو راكبها أو قائدها، وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو عضها أو ذنبها، لانها تحت يده وعليه تعهدها وحفظها، وسواء كان الذي مع البهيمة مالكها أو أجيره، أو مستأجرا أو مستعيرا أو غاصبا، لشمول اليد، وسواء البهيمة الواحدة والعدد، كالابل المقطورة، وحكى ابن كج وجها أنه إن كانت(7/400)
الماشية مما تساق، كالغنم، فساقها، لم يضمن، وإن كانت مما يقاد، فساقها، ضمن، والصحيح أنه يضمن في الحالين وبه قطع الجماهير، ولو كان معها قجئد وسائق، فالضمان عليهما نصفين، وفي الراكب مع السائق أو القائد وجهان، أحدهما: عليهما نصفين، والثاني: يخص الراكب بالضمان لقوة يده وتصرفه، ولو اجتمع راكب وسائق وقائد، فهل يختص الراكب بالضمان أم يجب عليهم أثلاثا ؟ وجهان، ولو كان يسير دابة، فنخسها إنسان، فرمحت وأتلفت شيئا، فالضمان على الناخس على الصحيح، وقيل: عليهما، ولو انفلتت الدابة من يد صاحبها وأتلفت شيئا، فلا ضمان عليه من يده، فلو أمسك على اللجام، وركبت رأسها فهل يضمن ما تتلفه ؟ قولان، وعن صاحب التلخيص طرد الخلاف، وإن لم يكن معها الراكب، كما إذا غلبت السفينتان الملاحين، قال الامام: والدابة النزقة التي لا تنضبط بالكبح، والترديد في معاطف اللجام، لا تركب في الاسواق، ومن ركبها، فهو مقصر ضامن لما تتلفه، وإذا راثت الدابة، أو بالت في سيرها في الطريق، فزلق به إنسان، وتلفت نفس أو مال، أو فسد شئ من رشاش الوحل بممشاها وقت الوحول والانداء، أو مما يثور من الغبار، وقد يضر ذلك بثياب البزازين والفواكه، فلا ضمان في كل ذلك، لان الطريق لا يخلو عنه، والمنع من الطرق لا سبيل إليه، لكن ينبغي أن يحترز مما لا يعتاد، كالركض المفرط في الوحل، والاجراء في مجتمع الوحول، فإن خالف، ضمن ما يحدث منه، وكذا لو ساق الابل في الاسواق غير مقطورة، لانه لا يمكن ضبطها حينئذ، وإذا بالت الدابة، أو راثت في الطريق وقد وقفها فيه، فأفضى المرور في موضع البول إلى تلف، فعلى الخلاف(7/401)
السابق فيما لو أتلفت الدابة الموقوفة هناك شيئا، والمذهب: أنه لا ضمان وقيل: يفرق بين طريق واسع وضيق، وعن ابن الوكيل وجه أنه يجوز أن تقف الدابة في الطريق مطلقا، كما يجوز أن يجريها، فإذا بالت أو راثت في وقوفها، وتلف به إنسان، فلا ضمان، ولو كان يركض دابته، فأصاب شئ من موضع السنابك عين إنسان، وأبطل ضوءها، فإن كان الموضع موضع ركض، فلا ضمان، وإلا فيضمن، ولو كان يسوق دابة عليها حطب، أو حمله عى ظهره، أو على عجلة، فاحتك ببناء وأسقطه، لزمه ضمانه، وإن دخل السوق به، وتلف منه مال أو نفس، ففي التهذيب وغيره أنه إن كان ذلك وقت الزحام، ضمن، وإن لم يكن زحام، وتمزق ثوبه بخشبة تعلقت به مثلا، فإن كان صاحب الثوب مستقبلا للدابة، فلا ضمان، لان التقصير منه إلا أن يكون أعمى، فعلى صاحب الدابة اعلامه، وإن كان يمشي قدام الدابة، لزم صاحبها الضمان إذا لم يعلمه، لانه مقصر في العادة، وإن كان من صاحب الثوب جذبه أيضا بأن تعلقت الخشبة بثوبه فجذبه وجذبتها الدابة، فعلى صاحبها نصف الضمان، ولو كان يمشي، فوقع مقدم مداسه على مؤخر مداس غيره وتمزق، لزمه نصف الضمان، لانه تمزق بفعله وفعل صاحبه، هكذا ذكره إبرهيم المروذي، وينبغي أن يقال: إن تمزق مؤخر مداس السابق، فالضمان على اللاحق، وإن تمزق مقدم مداس اللاحق، فلا ضمان على السابق، وجميع ما ذكرنا في وجوب الضمان على صاحب الدابة هو فيما إذا لم يوجد من صاحب المال تقصير، فإن وجد بأن عرضه للدابة، أو وضعه في الطريق، فلا ضمان على صاحب الدابة. فرع إذا كانت له هرة تأخذ الطيور، وتقلب القدور، فأتلفت شيئا فهل على صاحبها ضمان ؟ وجهان، أصحهما: نعم، سواء أتلفت ليلا أو نهارا، لان مثل هذه الهرة ينبغي أن تربط ويكف شرها، وكذا الحكم في كل حيوان تولع(7/402)
بالتعدي، والثاني: لا ضمان سواء أتلفت ليلا أو نهارا، لان العادة لا تربط، أما إذا لم يعهد منها ذلك فوجهان، أصحهما: لا ضمان، لان العادة حفظ الطعام عنها لا ربطها، والثاني: يفرق بين الليل والنهار كما سبق في البهيمة، وأطلق الامام في ضمان ما تتلفه الهرة أربعة أوجه، أحدها: يضمن، والثاني: لا، والثالث: يضمن ليلا لا نهارا، كالبهيمة، والرابع: عكسه، لان الاشياء تحفظ عنها ليلا، وإذا أخذت الهرة حمامة وهي حية، جاز فتل أذنها وضرب فمها لترسلها، وإذا قصدت الحمام، فأهلكت في الدفع، فلا ضمان، فلو صارت ضارية مفسدة فهل يجوز قتلها في حال سكونها ؟ وجهان، أصحهما وبه قال القفال: لا يجوز، لان ضراوتها عارضة والتحرز عنها سهل، وقال القاضي حسين: تلتحق بالفواسق الخمس، فيجوز قتلها، ولا يختص بحال ظهور الشر، قال الامام: وقد انتظم لي كلام الاصحاب أن الفواسق مقتولات لا يعصمها الاقتناء، ولا يجري الملك عليها، ولا أثر لليد والاختصاص فيها. فرع لو كان في داره كلب عقور، أو دابة رموح، فدخلها إنسان، فرمحته، أو عضه الكلب، فلا ضمان إن دخل بغير إذن صاحب الدار، أو بإذنه وأعلمه بحال الكلب والدابة، وإن لم يعلمه فقولان، كما لو وضع بين يديه طعاما مسموما، ومنهم من خص الخلاف بمن كان أعمى، أو في ظلمة، وقطع بنفي الضمان إذا كان بصيرا يرى. فرع لو ابتلعت البهيمة في مرورها جوهرة، ضمنها صاحبها إن كان معها، أو وجد منه تقصير، بأن طرح لؤلؤة غيره بين يدي دجاجة، وإلا فوجهان، أحدهما: يفرق بين الليل والنهار، كالزرع، والثاني: يضمن ليلا ونهارا، وإذا أوجبنا الضمان، فطلب صاحب الجوهرة ذبحها ورد الجوهرة، فقد سبق بيانه في الغصب.
فصل في مسائل منثورة من الباب وربما سبق بعضها فأعدناه، أو صح : في فتاوى البغوي أن الراعي كالمالك يضمن ما أتلفته الدابة في يده، ولو(7/403)
كان عنده دابة وديعة، فأرسلها فأتلفت، لزمه الضمان ليلا كان أو نهارا، لان عليه حفظها ليلا ونهارا، وفي هذا توقف، ويشبه أن يقال: عليه حفظها بحسب ما يحفظ الملاك، وأنه لو استأجر رجلا لحفظ دوابه، فأتلفت زرعا ليلا أو نهارا، فعلى الاجير الضمان، لان عليه حفظها في الوقتين، وذكر أنه رأى المسألة كذلك في طريقة العراق. قلت: ينبغي أن لا يضمن الاجير والمودع إذا أتلفت ليلا كان أو نهارا، لان على صاحب الزرع حفظه نهارا، وتفريط الاجير إنما يؤثر في أن مالك الدابة يضمنه. والله أعلم. وأنه لو دخلت دابة ملك رجل فأخرجها، ضمن، كما لو هبت الريح بثوب في حجره، فألقاه، ضمن، بل عليه ردها إلى المالك، فإن لم يجده سلمها إلى الحاكم إلا أن تكون مسيبة من جهة المالك، كالابل والبقر، وعلى هذا فالذي سبق أنه يخرجها من زرعه إلا إذا كان زرعه محفوفا بزرع الغير يحمل على ما إذا كانت مسيبة من جهة المالك، وأنها لو دخلت بهيمة أرضه، فتلف زرعه، دفعها كما يدفعها لو صالت، فإن نحاها عن الزرع، واندفع ضررها، لم يجز إخراجها عن الملك، لان شغلها المكان وإن كان فيه ضرر بحيث لا يبيح إضاعة مال غيره، ولو أن مالكها أدخلها في ملك صاحب الارض بغير إذنه، فأخرجها بعد غيبة مالكها، أو وضع إنسان متاعه في المفازة على دابة شخص بغير إذنه، وغاب، ألقاه صاحب الدابة، فيحتمل وجهين في الضمان وعدمه، وأنه لو كان يقطع شجرة في ملكه، فسقطت على رجل أحد النظارة، فانكسرت، فإن عرف القاطع أنها إذا سقطت تصيب الناظر، ولم يعرف الناظر ذلك، ولا أعلمه القاطع، ضمن القاطع، سواء دخل ملكه بإذنه أو بغير إذنه، وإن عرف الناظر ذلك، أو عرفاه جميعا، أو جهلاه، فلا ضمان، وأنه لو دخلت بقرة ملكه، فأخرجها من ثلمة، فهلكت، ضمن إن لم تكن الثلمة بحيث تخرج البقرة منها بسهولة، وأنه لو دخلت دابة ملكه، فرمحت صاحب الملك، فمات، فحكم الضمان كما لو أتلفت زرعه، يفرق بين الليل والنهار، وإذا أوجبنا الضمان، فالدية على العاقلة، كحفر البئر، وأنه لو ركب صبي(7/404)
أو بالغ دابة رجل دون إذنه، فغلبته الدابة وأتلفت شيئا، فعلى الراكب الضمان بخلاف ما لو ركب المالك، فغلبته، حيث لا يضمن في قول، لانه غير متعد، وأنه إذا أهاجت الرياح وأظلم النهار، فتفرقت غنم الراعي ووقعت في زرع، فأفسدته، فالراعي مغلوب، وفي وجوب الضمان عليه قولان، أظهرهما: لا ضمان، وكذا الحكم لو ند بعير من صاحبه، فأتلف شيئا، ولو نام وتفرقت الاغنام وأتلفت، ضمن لتقصيره، وأن الرجل لو كان على دابة، فسقطت ميتة وأهلكت شيئا، أو مات الراكب وسقط على شئ، لم يضمن، وكذا لو انتفخ ميت، وتكسر بسبب انتفاخه قارورة، بخلاف الطفل يسقط على قارورة، يضمن، لان للطفل فعلا بخلاف الميت، وأنه لو استقبل دابة فردها، فأتلفت في انصرافها شيئا، ضمنه الراد، ولو نخسها، فأسقطت الراكب، أو رمحت منه إنسانا، فأتلفته، فعلى الناخس الضمان، فإن نخس بإذن الراكب، تعلق الضمان بالراكب، ولو حل قيدا عن دابة، فخرجت وأتلفت شيئا، لا يضمن، كما لو أبطل الحرز فأخذ المال، وأنه لو سقطت دابة في وهدة، فنفر من سقطها بعير وهلك، لا يجب ضمانه على صاحب الدابة، وأنه إذا ابتاع بهيمة بثمن في ذمته، فأتلفت على المشتري مالا، ضمنه البائع، لانها في يده، كما لو أتلفت المستعارة شيئا على المعير، يضمنه المستعير، وأنه لو ألقى نخاعته في الحمام، فزلق بها حر أو عبد وانكسر، لزمه الضمان إن ألقاها على الممر وبالله التوفيق.(7/405)
كتاب السير
هي جمع سيرة، وهي الطريقة، والمقصود: الكلام في الجهاد وأحكامه وفيه ثلاثة أبواب :
الأول : في وجوب الجهاد، وبيان فروض الكفايات، وفيه أطراف
الأول : في مختصر يتعلق بابتداء الأمر بالجهاد وغيره، قال الشافعي والاصحاب رحمهم الله: لما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتبليغ والانذار بلا قتال، واتبعه قوم بعد قوم، وفرضت الصلاة بمكة، ثم فرض الصوم بعد الهجرة بسنتين، واختلفوا في أن الزكاة فرضت بعد الصوم أم قبله، ثم فرض الحج سنة ست، وقيل: سنة خمس، وكان القتال ممنوعا منه في أول الاسلام وأمروا بالصبر على أذى الكفار، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وجبت الهجرة على من قدر، فلما فتحت مكة، ارتفعت الهجرة منها إلى المدينة، ونفي وجوب الهجرة من دار الحرب على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، ثم أذن الله سبحانه وتعالى في القتال للمسلمين إذا ابتدأهم الكفار بقتال، ثم أباح القتال ابتداء، لكن في غير الاشهر الحرم، ثم أمر به من غير تقييد بشرط ولا زمان، ولم يعبد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنما قط قال صاحب(7/406)
البيان: كان متمسكا قبل النبوة بدين إبرهيم - صلى الله عليه وسلم -. قلت: تعرض الرافعي رحمه الله لهذه النبذ، ولم يذكر فيها ما يليق به ولا بهذا الكتاب، وأنا أشير إلى أصول مقاصدها بألفاظ وجيزة إن شاء الله تعالى، اتفقوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعبد صنما قط، والانبياء قبل النبوة معصومون من الكفر، واختلفوا في العصمة من المعاصي، وأما بعد النبوة فمعصومون من الكفر، ومن كل ما يخل بالتبليغ، وما يزري بالمروءة، ومن الكبائر، واختلفوا في الصغائر فجوزها الاكثرون، ومنعها المحققون وقطعوا بالعصمة منها، وتأولوا الظواهر الواردة فيها، واختلفوا في أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هل كان قبل النبوة يتعبد على دين نوح وإبرهيم أم موسى أم عيسى، أم يتعبد لا ملتزما دين واحد من المذكورين، والمختار أنه لا يجزم في ذلك بشئ، إذ ليس فيه دلالة على عقل ولا ثبت فيه نص ولا إجماع، واختلف أصحابنا في شرع من قبلنا، هل هو شرع لنا إذا لم يرد شرعنا بنسخ ذلك الحكم ؟ والاصح أنه ليس بشرع لنا، وقيل: بلى، وقيل: شرع إبرهيم فقط، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله أربعون سنة، وقيل: أربعون ويوم، فأقام في مكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة، وقيل: عشرا، وقيل: خمس عشرة، والصحيح الاول، ثم هاجر إلى المدينة، فأقام بها عشرا بالاجماع، ودخلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحى يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الاول، وتوفي - صلى الله عليه وسلم - ضحى يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الاول سنة إحدى عشرة من الهجرة(7/407)
ومنها ابتداء التاريخ، ودفن ليلة الاربعاء، وقيل: ليلة الثلاثاء، ومدة مرضه - صلى الله عليه وسلم - الذي توفي فيه اثنا عشر يوما، وقيل: أربعة عشر، وغسله علي والعباس والفضل وقثم وأسامة وشقران رضي الله عنهم، وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، وصلى عليه المسلمون أفرادا، بلا إمام، ودخل قبره علي(7/408)
والعباس والفضل وقثم وشقران، ودفن في اللحد وجعل فيه تسع لبنات، ودفن في الموضع الذي توفي فيه، وهو حجرة عائشة، ثم دفن عنده أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنهما، ولم يحج - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة إلا حجة الوداع سنة عشر، وسميت حجة الوداع لانه ودع الناس فيها - صلى الله عليه وسلم -، واعتمر - صلى الله عليه وسلم - أربع عمر، واختلفوا هل فرض الحج سنة ست أو خمس أو تسع، وأول ما وجب الانذار والدعاء إلى التوحيد، ثم فرض الله تعالى من قيام الليل ما ذكره في أول سورة المزمل، ثم نسخه بما في أواخرها، ثم نسخه بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الاسراء بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ليلة سبع وعشرين من رجب، وكان - صلى الله عليه وسلم - مأمورا بالصلاة إلى بيت المقدس مدة مقامه بمكة وبعد الهجرة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر، ثم أمره الله تعالى باستقبال الكعبة. ذكر بعض الامور المشهورة بعد الهجرة على ترتيب السنين: السنة الاولى: فيها بنى - صلى الله عليه وسلم - مسجده ومساكنه، وآخى بين المهاجرين والانصار، وشرع الاذان وأسلم عبد الله بن سلام. السنة الثانية: فيها حولت القبلة إلى الكعبة، قال محمد بن حبيب الهاشمي: حولت في الظهر يوم الثلاثاء نصف شعبان، كان - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه، فحانت صلاة الظهر في منازل بني سلمة، فصلى بهم ركعتين من الظهر في مسجد القبلتين إلى القدس، ثم أمر في الصلاة باستقبال الكعبة وهو راكع في الركعة الثانية، فاستدار واستدارت الصفوف خلفه - صلى الله عليه وسلم -، فأتم الصلاة، فسمي مسجد القبلتين، وفي شعبان منها فرض صوم رمضان، وفيها فرضت صدقة الفطر، وفيها كانت غزوة بدر في رمضان، وفي شوال منها تزوج عائشة، وفيها تزوج علي فاطمة.(7/409)
السنة الثالثة: فيها غزوات وأربع سرايا، منها غزوة أحد يوم السبت السابع من شوال، ثم غزوة بدر الصغرى في هلال ذي القعدة، وفيها غزوة بني النضير، وحرمت الخمر بعد غزوة أحد، وتزوج حفصة، وتزوج عثمان أم كلثوم، وولد الحسن بن علي. الرابعة: فيها غزوة الخندق وذكرها جماعة في الخامسة، والصحيح أنها في الرابعة، ويقال لها: الاحزاب أيضا، وكان حصار الاحزاب المدينة خمسة عشر يوما ثم هزمهم الله تعالى، وفيها قصرت الصلاة ونزل التيمم، وتزوج أم سلمة. الخامسة: فيها غزوة ذات الرقاع في أول المحرم وبها صلى صلاة الخوف، وهي أول صلوات الخوف، ثم غزوة دومة الجندل، وغزوة بني قريظة. السادسة: غزوة الحديبية وبيعة الرضوان، وغزوة بني المصطلق، وكسفت الشمس، ونزل الظهار. السابعة: فيها غزوة خيبر، وتزوج أم حبيبة وميمونة وصفية، وجاءته مارية وبغلته دلدل، وقدم جعفر وأصحابه من الحبشة، وأسلم أبو هريرة، وعمرة القضاء. الثامنة: فيها غزوة مؤتة، وذات السلاسل، وفتح مكة في رمضان، وولد إبرهيم، وتوفيت زينب، وغزوة حنين والطائف، وفيها غلاء السعر، فقالوا: سعر لنا. التاسعة: فيها غزا تبوك، وحج أبو بكر رضي الله عنه بالناس، وتوفيت أم كلثوم والنجاشي، وتتابعت الوفود، ودخل الناس في دين الله أفواجا. العاشرة: فيها حجة الوداع، ووفاة إبرهيم، وإسلام جرير، ونزل اليوم أكملت لكم دينكم وغزواته - صلى الله عليه وسلم - بنفسه خمسة وعشرون غزوة، وقيل: سبع وعشرون، وسراياه ست وخمسون، وقيل غير ذلك. والله أعلم.
الطرف الثاني : في وجوب الجهاد قد يكون فرض كفاية، وقد يتعين كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهل كان فرض كفاية في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أم فرض عين ؟ فيه وجهان، أصحهما: فرض كفاية لقوله تعالى * (لا يستوي القاعدون) * الآية(7/410)
وأما اليوم فهو ضربان، أحدهما: أن يكون الكفار مستقرين في بلدانهم، فهو فرض كفاية، فإن امتنع الجميع منه، أثموا، وهل يعمهم الاثم، أم يختص بالذين يدنوا إليه ؟ وجهان. قلت: الاصح أنه يأثم كل من لا عذر له كما سيأتي بيان الاعذار إن شاء الله تعالى. والله أعلم. وإن قام من فيه كفاية، سقط عن الباقين. وتحصل الكفاية بشيئين. أحدهما: أن يشحن الامام الثغور بجماعة يكافئون من بإزائهم من الكفار، وينبغي أن يحتاط بإحكام الحصون وحفر الخنادق ونحوهما، ويرتب في كل ناحية أميرا كافيا يقلده الجهاد وأمور المسلمين. الثاني: أن يدخل الامام دار الكفر غازيا بنفسه، أو بجيش يؤمر عليهم من يصلح لذلك، وأقله مرة واحدة في كل سنة، فإن زاد فهو أفضل، ويستحب أن يبدأ بقتال من يلي دار الاسلام من الكفار، فإن كان الخوف من الابعدين أكثر، بدأ بهم، ولا يجوز إخلاء سنة عن جهاد إلا لضرورة، بأن يكون في المسلمين ضعف وفي العدو كثرة، ويخاف من ابتدائهم الاستئصال، أو لعذر بأن يعز الزاد وعلف الدواب في الطريق، فيؤخر إلى زوال ذلك، أو ينتظر لحاق مدد، أو يتوقع إسلام قوم، فيستميلهم بترك القتال، هذا ما نصر عليه الشافعي، وجرى عليه الاصحاب رحمهم الله، وقال الامام: المختار عندي في هذا مسلك الاصوليين، فإنهم قالوا: الجهاد دعوة قهرية، فيجب إقامته بحسب الامكان حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم، ولا يختص بمرة في السنة، ولا يعطل إذا أمكنت الزيادة، وما ذكره الفقهاء حملوه على العادة الغالبة، وهي أن الاموال والعدد لا تتأتى لتجهيز الجنود في السنة أكثر من مرة، ثم إن تمكن الامام من بث الاجناد للجهاد في جميع الاطراف، فعل، وإلا فيبدأ بالاهم فالاهم، وينبغي له أن يرعى النصفة بالمناوبة بين الاجناد في الاغزاء، ويسقط الوجوب في هذا الضرب بأعذار. منها: الصغر والجنون والانوثة، وللامام أن يأذن للمراهقين والنساء في الخروج، وأن يستصحبهم لسقي الماء ومداواة المرضى ومعالجة الجرحى، ولا يأذن للمجانين بحال، ولا جهاد على الخنثى.(7/411)
ومنها: المرض، فلا جهاد على من به مرض يمنعه من القتال والركوب على دابة، ولا على من لا يمكنه القتال إلا بمشقة شديدة، ولا اعتبار بالصداع ووجع الضرس والحمى الخفيفة ونحوها. ومنها: العرج، فلا جهاد على من به عرج بين وإن قدر على الركوب ووجد دواب، وقيل: يلزمه الجهاد راكبا، والصحيح الاول، وسواء العرج في رجل أو رجليه، ولا اعتبار بعرج يسير لا يمنع المشي، ولا جهاد على أشل اليد، ولا من فقد معظم أصابعه بخلاف فاقد الاقل. ومنها: العمى، فلا جهاد على أعمى، ويجب على الاعور والاعشى وعلى ضعيف البصر إن كان يدرك الشخص، ويمكنه أن يتقي السلاح. ومنها: الفقر، فلا جهاد على من عجز عن سلاح وأسباب القتال، ويشترط أن يجد نفقة طريقه ذهابا ورجوعا، فإن لم يكن له أهل ولا عشيرة، ففي اشتراط نفقة الرجوع وجهان سبقا في الحج، فإن كان القتال على باب البلد، أو حواليه، سقط اشتراط نفقة الطريق، ويشترط وجدان راحلة إن كان سفره مسافة القصر، ويشترط كون جميع ذلك فاضلا عن نفقة من يلزمه نفقته، وسائر ما ذكرناه في الحج، وكل عذر يمنع وجوب الحج، يمنع وجوب الجهاد إلا أمن الطريق، فإنه شرط هناك ولا يشترط هنا، لان مبنى الغزو على ركوب المخاوف، هذا إن كان الخوف من طلائع الكفار، وكذا لو كان من متلصصي المسلمين على الصحيح، ولو بذل للفاقد ما يحتاج إليه، لم يلزمه قبوله، إلا أن يبذله الامام، فيلزمه أن يقبل ويجاهد، لان ما يعطيه الامام حقه، ولا يلزم الذمي الجهاد، والحاصل أن الجهاد لا يجب إلا على مسلم بالغ عاقل ذكر حر مستطيع، ولا جهاد على رقيق وإن أمره سيده، إذ ليس القتال من الاستخدام المستحق للسيد، ولا يلزمه الذب عن سيده عند خوفه على روحه إذا لم نوجب الدفع عن الغير، بل السيد في ذلك كالاجنبي، وللسيد استصحابه في سفر الجهاد وغيره ليخدمه ويسوس دوابه، والمدبر والمكاتب ومن بعضه حر لا جهاد عليهم(7/412)
فرع مما يمنع وجوب الجهاد الدين، فمن عليه دين حال لمسلم أو ذمي ليس له أن يخرج في سفر جهاد أو غيره إلا بإذنه، وله أن يمنعه السفر لتوجه المطالبة به، والحبس إن امتنع، وإن كان معسرا، فليس له منعه على الصحيح، إذ لا مطالبة في الحال، ولو استناب الموسر من يقضي دينه من مال حاضر، فله الخروج، وإن أمره بالقضاء من مال غائب، فلا، ومتى أذن صاحب الدين، فله الخروج، ويلتحق بأصحاب فرض الكفاية، وفيه احتمال للامام، وإن كان الدين مؤجلا، فله أن يخرج في سفر لا يغلب فيه الخطر على ما سبق في التفليس، وهل لصاحب الدين منعه من سفر الجهاد ؟ فيه خمسة أوجه، أصحها: لا، والثاني: نعم، إلا أن يقيم كفيلا بالدين، والثالث: له المنع إن لم يخلف وفاء، والرابع: له المنع إن لم يكن من المرتزقة، والخامس: له ذلك إن كان الدين يحل قبل رجوعه، وركوب البحر كسفر الجهاد على الاصح. فرع من أحد أبويه حي، يحرم عليه الجهاد إلا بإذنه، أو بإذنهما إن كانا حيين مسلمين، ولا يحتاج إلى إذن كافر، والاجداد والجدات كالوالدين، وقيل: لا يشترط إذن الجد مع وجود الاب، ولا الجدة مع وجود الام، والاول أصح، وليس للوالد منع الولد من حجة الاسلام على الصحيح، وله المنع من حج التطوع، وأما سفره لطلب العلم، فإن كان لطلب ما هو متعين، فله الخروج بغير إذنهما، وليس لهما المنع، وإن كان لطلب ما هو فرض كفاية، بأن خرج لطلب درجة الفتوى في الناحية مستقل بالفتوى، فليس لهما المنع على الاصح، فإن لم يكن هناك مستقل، ولكن خرج جماعة، فليس لهما على المذهب، لانه لم يوجد في الحال من يقوم بالمقصود، والخارجون، فلا يظفرون بالمقصود، وإن لم يخرج معه أحد، لم يحتج إلى إذن، ولا منع لهما قطعا، لانه يدفع الاثم عن نفسه، كالفرض المتعين(7/413)
عليه، وقيد بعضهم هذه الصورة بما إذا لم يمكنه التعلم في بلده، ويجوز أن لا يشترط ذلك، بل يكفي أن يتوقع في السفر زيادة فراغ أو إرشاد أستاذ أو غيرهما، كما لم يقيد الحكم في سفر التجارة بمن لم يتمكن منها ببلده، بل اكتفي بتوقع زيادة ربح، أو رواج، وأما سفر التجارة وغيره، فإن كان قصيرا، فلا منع منه بحال، وإن كان طويلا، نظر إن كان فيه خوف ظاهر، كركوب بحر أو بادية مخطرة، وجب الاستئذان على الصحيح، ولهما المنع، وإن كان الامن غالبا، فالاصح أنه لا منع ولا يلزمه الاستئذان، والولد الكافر في هذه الاسفار كالمسلم، بخلاف سفر الجهاد، فإنه متهم فيه، والرقيق كالحر على الصحيح لشمول معنى البر والشفقة. فرع من خرج للجهاد بإذن صاحب الدين أو الوالدين، ثم رجعوا عن الاذن، أو كان الابوان كافرين، فخرج ثم أسلما، ولم يأذنا، وعلم المجاهد(7/414)
الحال، فإن لم يشرع في القتال، ولم يحضر الوقعة لزمه الانصراف إلا أن يخاف على نفسه أو ماله أو يخاف انكسار قلوب المسلمين، فلا يلزمه، فإن لم يمكنه الانصراف للخوف، وأمكنه أن يقيم في قرية في الطريق حتى يرجع الجيش، لزمه أن يقيم، وأوهم في الوسيط خلافا في وجوب الاقامة هناك، وحكى ابن كج قولا أنه لا يلزمه الانصراف، والمشهور الاول، وإن علم بعد الشروع في القتال، فأربعة أوجه، أصحها: تجب المصابرة، ويحرم الانصراف، والثاني: يجب الانصراف، والثالث: يتخير بين الانصراف والمصابرة، والرابع: يجب الانصراف إن رجع صاحب الدين دون الابوين إن رجع، لعظم شأن الدين ومن شرط عليه الاستئذان، فخرج بلا إذن، لزمه الانصراف ما لم يشرع في القتال، لان سفره سفر معصية إلا أن يخاف على نفسه أو ماله، فإن شرع في القتال، فوجهان مرتبان، وهذه الصورة أولى بوجوب الانصراف، لان أول الخروج معصية، ولو خرج عبد بغير إذن سيده، لزمه الانصراف ما لم يحضر الوقعة، فإن حضر، فلا، قال الروياني: يستحب الرجوع. فرع لو مرض من خرج للجهاد أو عرج، أو فني زاده، أو هلكت دابته، فله أن ينصرف ما لم يحضر الوقعة، وكذا الحكم لو كان العذر حاصلا وقت الخروج، فإن حضر الوقعة، فهل يلزمه الثبات أم له الرجوع ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، قال الامام: والوجهان إذا لم يورث انصرافه فشلا في الجند، فإن أورثه، حرم الرجوع قطعا، وفي التهذيب في صورة موت الدابة يلزمه القتال راجلا إن أمكنه ذلك، وإلا فلا، وقيل: إذا انقطع عنه سلاحه، أو انكسر، لزمه القتال بالحجارة إن أمكنه. فرع حيث جوزنا الانصراف لرجوع الابوين أو صاحب الدين عن الاذن، أو لحدوث المرض ونحوه، فليس للسلطان حبسه، قال الشافعي رحمه الله: إلا أن يتفق ذلك لجماعة، ويخشى من انصرافهم خلل في المسلمين، ولو انصرف لذهاب نفقة، أو هلاك دابة، ثم قدر على النفقة والدابة في بلاد الكفار، لزمه الرجوع للجهاد، وإن كان فارق بلاد الكفر، لم يلزمه الرجوع، وعن نصه أن من خرج للجهاد، وبه عذر مرض وغيره، ثم زال عذره، وصار من أهل فرض الجهاد، لم يكن له الرجوع عن الغزو، وكذا لو حدث العذر، وزال قبل أن ينصرف.(7/415)
فرع من شرع في قتال ولا عذر له، لزمه المصابرة، وعبر الاصحاب عن هذا بأن الجهاد يصير متعينا على من هو من أهل فرض الكفاية بالشروع، ولو اشتغل شخص بالتعلم، وأنس الرشد فيه من نفسه، هل يحرم عليه قطعه ؟ وجهان، أحدهما: نعم، فيلزمه الاتمام، قاله القاضي حسين، وأصحهما: لا، لان الشروع لا يغير حكم المشروع فيه بخلاف بالجهاد، فإن رجوعه يؤدي إلى التخذيل، وهل يجب إتمام صلاة الجنازة إذا شرع فيها ؟ وجهان، قال القفال: لا، وقال الجمهور: نعم، وهو الاصح، قال الغزالي: الاصح أن العلم وسائر فروض الكفاية تتعين بالشروع. الضرب الثاني: الجهاد الذي هو فرض عين، فإذا وطئ الكفار بلدة للمسلمين، أو أطلوا عليها، ونزلوا بابها قاصدين، ولم يدخلوا، صار الجهاد فرض عين على التفصيل الذي نبينه إن شاء الله تعالى، وعن ابن أبي هريرة وغيره أنه يبقى فرض كفاية، والصحيح الاول، فيتعين على أهل تلك البلدة الدفع بما أمكنهم، وللدفع مرتبتان. إحداهما: أن يحتمل الحال اجتماعهم وتأهبهم واستعدادهم للحرب، فعلى كل واحد من الاغنياء والفقراء التأهب بما يقدر عليه، وإذا لم يمكنهم المقاومة إلا بموافقة العبيد، وجب على العبيد الموافقة، فينحل الحجر عن العبيد حتى لا يراجعوا السادات، وإن أمكنهم المقاومة من غير موافقة العبيد، فوجهان، أصحهما: أن الحكم كذلك، لتقوى القلوب، وتعظم الشوكة، وتشتد النكاية، والثاني: لا ينحل الحجر عنهم للاستغناء عنهم، والنسوة إن لم تكن فيهن قوة دفاع لا يحضرن، وإن كان فعلى ما ذكرنا في العبيد، ويجوز أن لا يحوج المزوجة إلى إذن الزوج، كما لا يحوج إلى إذن السيد، ولا يجب في هذا النوع استئذان الوالدين وصاحب الدين. المرتبة الثانية: أن يتغشاهم الكفار، ولا يتمكنوا من اجتماع وتأهب، فمن وقف عليه كافر، أو كفار، وعلم أنه يقتل إن أخذ، فعليه أن يتحرك، ويدفع عن نفسه بما أمكن، يستوي فيه الحر والعبد، والمرأة والاعمى، والاعرج، والمريض، ولا تكليف على الصبيان والمجانين، وإن كان يجوز أن يقتل ويؤسر،(7/416)
ولو امتنع لقتل، جاز أن يستسلم، فإن المكاوحة والحالة هذه استعجال القتل، والاسر يحتمل الخلاص، ولو علمت المرأة أنها لو استسلمت امتدت الايدي إليها، لزمها الدفع وإن كانت تقتل، لان من أكره على الزنى لا تحل له المطاوعة لدفع القتل، فإن كانت لا تقصد بالفاحشة في الحال وإنما يظن ذلك بعد السبي، فيحتمل أن يجوز لها الاستسلام في الحال، ثم تدفع حينئذ، ولو كان في أهل البقعة كثرة، خرج بعضهم وفيهم كفاية، ففي تحتم المساعدة على الآخرين وجهان، أصحهما: الوجوب، لان الواقعة عظيمة، وأما غير أهل تلك الناحية، فمن كان منهم على دون مسافة القصر، فهو كبعضهم، حتى إذا لم يكن في أهل البلدة كفاية، وجب على هؤلاء أن يطيروا إليهم، وإن كان فيهم كفاية، ففي وجوب المساعدة عليهم الوجهان، ومن كان على مسافة القصر، إن لم يكن في أهل البلدة والذين يلونهم كفاية، وجب عليهم أن يطيروا إليهم، فإن طار إليهم من تحصل به الكفاية، سقط الحرج عن الباقين، وهذا معنى قول البغوي: إذا دخل الكفار دار الاسلام، فالجهاد فرض عين على من قرب، وفرض كفاية فيحق من بعد، وعلى هذا فحكم أهل الاعذار على ما ذكرناه في الضرب الاول وفيه وجه، أنه يجب على جميعهم المساعدة والمسارعة وليكن هذا في الاقربين ممن هو على مسافة القصر، وإن كان في أهل البلدة والذين يلونهم كفاية، فالاصح أنه لا يجب على الذين فوق مسافة القصر المساعدة، لانه يؤدي إلى إيجاب على جميع الامة، وفي ذلك حرج من غير حاجة، والثاني: يجب على الاقربين فالاقربين بلا ضبط حتى يصل الخبر بأنهم قد دفعوا وأخرجوا، وليس لاهل البلدة، ثم الاقربين فالاقربين إذا قدروا على القتال أن يلبثوا إلى لحوق الآخرين، ولا يشترط وجود المركوب فيمن دون مسافة القصر، وفيمن على مسافة القصر فما فوقها وجهان، أصحهما: الاشتراط، كالحج، والثاني: لا، لشدة الخطب، ويشترط فيمن فوق مسافة القصر ودونها وجود الزاد على الاصح، إذ لا استقلال بغير زاد، ولا معنى لالزامهم الخروج مع العلم بأنهم سيهلكون، ولو نزل الكفار على خراب، أو جبل في دار الاسلام بعيد(7/417)
عن الاوطان والبلدان، ففي نزوله منزلة دخول البلدة وجهان أطلقهما الغزالي، والذي نقله الامام عن الاصحاب أنه ينزل منزلته، لانه من دار الاسلام، واختار هو المنع، لان الدار تشرف بسكن المسلمين، فإذا لم يكن مسكنا لاحد، فتكليف المسلمين التهاوي على المتالف بعيد. قلت: هذا الذي اختاره الامام ليس بشئ، وكيف يجوز تمكين الكفار من الاستيلاء على دار الاسلام مع إمكان الدفع. والله أعلم. فرع لو أسروا مسلما، أو مسلمين، فهل هو كدخول دار الاسلام ؟ وجهان، أحدهما: لا، لان إزعاج الجنود لواحد بعيد، وأصحهما: نعم، لان حرمته أعظم من حرمة الدار، فعلى هذا لا بد من رعاية النظر، فإن كانوا على قرب دار الاسلام، وتوقعنا استخلاص من أسروه لو طرنا إليهم، فعلنا، وإن توغلوا في بلاد الكفر ولا يمكن التسارع إليهم، وقد لا يتأتى خرقها بالجنود، اضطررنا إلى الانتظار، كما لو دخل منهم ملك عظيم الشوكة طرف بلاد الاسلام، لا يتسارع إليه آحاد الطوائف.
الطرف الثالث : في بيان فروض الكفاية
هي كثيرة مفرقة في أبوابها، كغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وكذا صلاة الجماعة والاذان والعيد إذا قلنا: إنهن فرض كفاية، وكذا التقاط المنبوذ وغير ذلك، وفروض الكفاية أمور كلية تتعلق بها مصالح دينية أو دنيوية لا ينتظم الامر إلا بحصولها، فيطلب الشارع تحصيلها، ولا يطلب تكليف واحد فواحد بها، بخلاف فرض العين، فإن كل واحد مكلف بتحصيله، وفروض الكفاية أقسام، منها ما يتعلق بأصل الدين، وهو إقامة الحجة العلمية، ومعناها أنه كما تجب إقامة الحجة القهرية بالسيف، يجب أن يكون في المسلمين من يقيم البراهين، ويظهر الحجج، ويدفع الشبهات، ويحل المشكلات، ومنها ما يتعلق بالفروع، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمراد منه : الأمر بواجبات الشرع، والنهي عن محرماته، فهو فرض كفاية، فإن نصب لذلك رجل، تعين عليه بحكم الولاية، وهو المحتسب، ولقد أحسن أقضى القضاة الماوردي ترتيب الامر بالمعروف وتقسيمه، فجعله ثلاثة أضرب:(7/418)
أحدها: ما يتعلق بحقوق الله تعالى، وهو نوعان، أحدهما: يؤمر به الجميع دون الافراد، كإقامة الجمعة حيث تجتمع شروطها، فإن كانوا عددا يرون انعقاد الجمعة بهم، والمحتسب لا يراه، فلا يأمرهم بما لا يجوزه، ولا ينهاهم عما يرونه فرضا عليهم، ويأمرهم بصلاة العيد، وهل هو واجب أم مستحب ؟ وجهان. قلت: الصحيح وجوب الامر، وإن قلنا: صلاة العيد سنة، لان الامر بالمعروف هو الامر بالطاعة، لا سيما ما كان شعارا ظاهرا. والله أعلم. النوع الثاني: يؤمر به الآحاد، مثل إن أخر بعض الناس الصلاة عن وقتها، فإن قال: نسيتها، حثه على المراقبة، ولا يعترض على من أخرها والوقت باق لاختلاف العلماء في فضل التأخير. الضرب الثاني: ما يتعلق بحق آدمي، وينقسم إلى عام، كالبلد إذا تعطل شربه، أو انهدم سوره، أو طرقه أبناء السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم، فإن كان في بيت المال مال، لم يؤمر الناس بذلك، وإن لم يكن، أمر أهل المكنة برعايتها. وإلى خاص، كمطل المدين الموسر، فالمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعداه صاحب الدين، وليس له الضرب والحبس. الثالث: الحقوق المشتركة، كأمر الاولياء بإنكاح الاكفاء، وإلزام النساء أحكام العدد، وأخذ السادة بحقوق الارقاء، وأصحاب البهائم بتعهدها، وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق، وذكر في المنكرات أن من يغير هيئة عبادة، كجهره في صلاة سرية وعكسه، وزيادة في الاذان، يمنعه وينكر عليه، ومن تصدى للتدريس، أو الوعظ وليس هو من أهله، ولا يؤمن اغترار الناس به في تأويل أو تحريف، أنكر عليه المحتسب، وشهر أمره لئلا يغتر به، وإذا رأى رجلا واقفا مع امرأة في شارع يطرقه الناس، لم ينكر عليه، وإن كان في طريق خال، فهو موضع ريبة، فينكر ويقول: وإن كانت محرما لك، فصنها عن مواقف الريب، ولا ينكر في حقوق الآدميين، كتعديه في جدار جاره إلا باستعداء صاحب الحق، وينكر على من يطيل(7/419)
الصلاة من أئمة المساجد المطروقة، وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم، وقصروا في النظر والخصومات، والسوقي الذي يختص بمعاملة النساء تختبر أمانته، فإن ظهرت منه خيانة، منع من معاملتهن، وهذا باب لا تتناهى صوره. قلت: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية بإجماع الامة، وهو من أعظم قواعد الاسلام، ولا يسقط عن المكلف لكونه يظن أنه لا يفيد، أو يعلم بالعادة أنه لا يؤثر كلامه، بل يجب عليه الامر والنهي، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وليس الواجب عليه أن يقبل منه، بل واجبه أن يقول كما قال الله تعالى: * (ما على الرسول إلا البلاغ) * قالوا: ومن أمثلته: أن يرى مكشوف بعض عورته في حمام ونحو ذلك، ولا يشترط في الآمر والناهي كونه ممتثلا ما يأمر به، مجتنبا ما ينهى عنه، بل عليه الامر والنهي في حق نفسه، وفي حق غيره، فإن أخل بأحدهما، لم يجز الاخلال بالآخر، ولا يختص الامر والنهي بأصحاب الولايات والمراتب، بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين وواجب عليهم، قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الاول كانوا يأمرون الولاة وينهونهم مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بذلك بغير ولاية، ويدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم(7/420)
يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه قال أصحابنا: وإنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف بحسب الاشياء، فإن كان من الواجبات الظاهرة، والمحرمات المشهورة، كالصلاة والصيام والزنى والخمر ونحوها، فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الاقوال والافعال، ومما يتعلق بالاجتهاد، لم يكن للعوام الابتداء بإنكاره، بل ذلك للعلماء، ويلتحق بهم من أعلمه العلماء بأن ذلك مجمع عليه، ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لان كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولا إثم على المخطئ، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف، فهو(7/421)
حسن محبوب، ويكون برفق، لان العلماء متفقون على استحباب الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة ثابتة، أو وقوع في خلاف آخر، وذكر الماوردي خلافا في أن من قلده السلطان الحسبة، هل له حمل الناس على مذهبه فيما اختلف العلماء فيه إذا كان المحتسب مجتهدا أم ليس له تغيير ما كان على مذهب غيره ؟ والاصح أنه ليس له تغييره لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصا، أو إجماعا، أو قياسا جليا. وأما صفة النهي عن المنكر ومراتبه، فضابطه قوله - صلى الله عليه وسلم -: فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فعليه أن يغير بكل وجه أمكنه، ولا يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد، ولا تكفي كراهة القلب لمن قدر على النهي باللسان، وقد سبق في كتاب الغصب صفة كسر الملاهي وجملة متعلقة بالمنكرات، وينبغي أن يرفق في التغيير بالجاهل وبالظالم الذي يخاف شره، فإن ذلك أدعى إلى قبول قوله، وإزالة المنكر، وإن قدر على من يستعين به ولم يمكنه الاستقلال، استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار(7/422)
سلاح وحرب، فإن عجز، رفع ذلك إلى صاحب الشوكة، وقد تقدم هذا في كتاب الصيال، فإن عجز عن كل ذلك، فعليه أن يكرهه بقلبه، قال أصحابنا وغيرهم: وليس للآمر والناهي البحث والتنقيب والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن رأى شيئا غيره، قال الماوردي: فإن غلب على ظن المحتسب أو غيره استسرار قوم بالمنكر بأمارة وآثار ظهرت، فذلك ضربان، أحدهما: أن يكون فيه انتهاك حرمة يفوت تداركها، بأن يخبره من يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، فيجوز التجسس والاقدام على الكشف والانكار، والثاني: ما قصر عن هذه الرتبة، فلا يجوز فيه الكشف والتجسس. واعلم أنه لا يسقط الامر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بأن يخاف منه على نفسه أو ماله، أو يخاف على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع. والله أعلم.
فصل ومن فروض الكفاية إحياء الكعبة بالحج في كل سنة، هكذا أطلقوه، وينبغي أن تكون العمرة كالحج، بل الاعتكاف والصلاة في المسجد الحرام، فإن التعظيم وإحياء البقعة يحصل بكل ذلك. قلت: لا يحصل مقصود الحج بما ذكر فإنه مشتمل على الوقوف والرمي والمبيت بمزدلفة ومنى، وإحياء تلك البقاع بالطاعات وغير ذلك. والله أعلم. ومنها: ما يتعلق بمصالح المعايش وانتظام أمور الناس، كدفع الضرر عن(7/423)
المسلمين، وإزالة فاقتهم، كستر العورة، وإطعام الجائعين، وإغاثة المستغيثين في النائبات، فكل ذلك فرض كفاية في حق أصحاب الثروة والقدرة إذا لم تف الصدقات الواجبة بسد حاجاتهم، ولم يكن في بيت المال ما يصرف إليها، فلو انسدت الضرورة، فهل يكفي ذلك أم تجب الزيادة إلى تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه النفقة ؟ حكى الامام فيه وجهين. قلت: قال الامام في كتابه الغياثي: يجب على الموسر المواساة بما زاد على كفاية سنة. وأما الحرف والصناعات وما به قوام المعايش، كالبيع والشراء والحراثة، وما لا بد منه حتى الحجامة والكنس، فالنفوس مجبولة على القيام بها، فلا تحتاج إلى حث عليها وترغيب فيها، لكن لو امتنع الخلق منها، أثموا وكانوا ساعين في إهلاك أنفسهم، فهي إذن من فروض الكفاية.
فصل ومن فروض الكفاية ما يتعلق بالدين، وبصلاح المعيشة، كتحمل الشهادة وأدائها، وإعانة القضاة على استيفاء الحقوق ونحو ذلك، وكتجهيز الموتى غسلا وتكفينا وصلاة ودفنا ونحو ذلك.
فصل من العلوم ما يتعين طلبه وتعلمه، ومنها فرض كفاية. فمن المتعين: ما يحتاج إليه لاقامة مفروضات الدين، كالوضوء والصلاة والصيام وغيرها، فإن من لا يعلم أركان الصلاة وشروطها لا يمكنه إقامتها، وإنما(7/424)
يتعين تعلم الاحكام الظاهرة دون الدقائق والمسائل التي لا تعم بها بلوى، وإن كان له مال زكوي، لزمه تعلم ظواهر أحكام الزكاة، قال الروياني: هذا إذا لم يكن له ساع يكفيه الامر. قلت: الراجح أنه لا يسقط عنه التعلم بالساعي، إذ قد يجب عليه ما لا يعلمه الساعي. والله أعلم. ومن يبيع ويشتري ويتجر يتعين عليه معرفة أحكام التجارات، وكذا ما يحتاج إليه صاحب كل حرفة يتعين عليه تعلمه، والمراد الاحكام الظاهرة الغالبة دون الفروع النادرة والمسائل الدقيقة. وأما فرض الكفاية، فالقيام بعلوم الشرع فرض كفاية ويدخل في ذلك: التفسير والحديث على ما سبق في الوصية، ومنها: أن ينتهي في معرفة الاحكام إلى حيث يصلح للفتوى والقضاء كما سنذكره في أدب القاضي إن شاء الله تعالى، وهناك يتبين أن المجتهد في الشرع مطلقا يفتي، وأن المتبحر في مذهب بعض الائمة المجتهدين يفتي أيضا على الصحيح، ولا يكفي أن يكون في الاقليم مفت واحد، لعسر مراجعته، واعتبر الاصحاب فيه مسافة القصر، وكأن المراد أن لا يزيد ما بين كل مفتيين على مسافة القصر، وأما العلوم العقلية، فمنها ما هو فرض كفاية، كالطب والحساب المحتاج إليه، وقسمة الوصايا والمواريث، قال الغزالي: ولا يستبعد عد الطب والحساب من فروض الكفاية، فإن الحرف والصناعات التي لا بد للناس منها في معايشهم، كالفلاحة فرض كفاية، فالطب والحساب أولى، وأما أصول العقائد، فالاعتقاد المستقيم مع التصميم على ما ورد به القرآن والسنة فرض عين، وأما العلم المسمى علم الكلام، فليس بفرض عين، ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يشتغلون به، قال الامام: ولو بقي الناس على ما كانوا عليه في صفوة الاسلام لما أوجبنا التشاغل به، وربما نهينا عنه، فأما اليوم وقد ثارت البدع، فلا سبيل إلى تركها تلتطم، ولا بد من إعداد ما يدعى به إلى المسلك الحق، وتزال به الشبه، فصار الاشتغال بأدلة العقول فرض كفاية، فأما من(7/425)
استراب في أصل من أصول الاعتقاد، فيلزمه السعي في إزاحته حتى تستقيم عقيدته. قلت: ولا يتعين تعلم كيفية الوضوء والصلاة وشبههما إلا بعد وجوب ذلك، فإن كان بحيث لو صبر إلى دخول الوقت لم يتمكن من إتمام تعلمها مع الفعل في الوقت، فهل يلزمه التعلم قبل الوقت ؟ تردد فيه الغزالي، والاصح: ما جزم به غيره أنه يلزمه، كما يلزم السعي إلى الجمعة قبل الوقت لمن بعد منزله، وإذا كان ما تعلق به الوجوب على الفور، كان تعلم كيفيته على الفور، وإن كان على التراخي، كالحج، فتعلم الكيفية على التراخي، وأما علم القلب [ وهو معرفة أمراض القلب ]، كالحسد والعجب والرياء وشبهها، فقد قال الغزالي: معرفة حدودها وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين وقال غيره: فيه تفصيل، ضمن زرق قلبا سليما من هذه الامراض المحرمة كفاه ذلك، ومن لم يسلم وتمكن من تطهير قلبه بغير تعلم العلم المذكور، وجب تطهره، وإن لم يتمكن إلا بتعلم، وحب، وقد سبق في كتاب الصلاة وجوب تعليم الصغار على أوليائهم، ومن فرض الكفاية، معرفة أصول الفقه والفقه، والنحو واللغة والتصريف، وأسماء الرواة، والجرح والتعديل، واختلاف العلماء واتفاقهم، وقد يكون من العلم مستحب، كالتبحر في أصول الادلة بالزيادة على القدر الذي يحصل به فرض الكفاية، وكتعلم العامي نوافل العبادات لغرض العمل، لا لما يقوم به المجتهدون من تمييز الفرض من النفل، فإن ذلك فرض كفاية في حقهم، قال صاحب الحاوي: وإنما يتوجه فرض الكفاية في العلم على من جمع أربعة شروط وهي: أن يكون مكلفا، وممن يتقلد القضاء، لا عبدا ولا امرأة، وأن يكون بليدا، وأن يقدر على الانقطاع إليه بأن تكون له كفاية، ويدخل الفاسق في الفرض ولا يسقط به، لانه لا تقبل فتواه للمستفتين، وفي دخول المرأة والعبد وجهان، لانهما أهل للفتوى دون القضاء. واعلم أن تعليم الطالبين، وإفتاء المستفتين فرض كفاية، فإن لم يكن من يصلح إلا واحدا وكان هناك جماعة، ولا يحصل الغرض إلا بكلهم، تعين عليهم، وإذا كان هناك غير المفتي، هل يأثم بالرد ؟ وجهان، أصحهما: لا، وينبغي أن(7/426)
يكون المعلم كذلك، ويستحب الرفق بالمتعلم والمستفتي، فهذه أنواع العلوم الشرعية، ووراءها أشياء تسمى علوما، منها: محرم ومكروه ومباح، فالمحرم، كالفلسفة والشعوذة والتنجيم والرمل وعلوم الطبائعيين، وكذا السحر على الصحيح، فكل ذلك محرم، وتتفاوت دركات تحريمه. والمكروه: كأشعار المولدين المشتملة على الغزل والبطالة. والمباح: كأشعار المولدين التي ليس فيها سخف، ولا شئ مما يكره، ولا ينشط إلى الشر أو يثبط عن الخير ولا يحث عليه، أو يستعان به عليه. والله أعلم. فرع إذا تعطل فرض كفاية، أثم كل من علم به، وقدر على القيام به، وكذا من لم يعلم، وكان قريبا من الموضع يليق به البحث والمراقبة، قال الامام: ويختلف هذا بكبر البلد وصغره، وقد يبلغ التعطل مبلغا ينتهي خبره إلى سائر البلاد، فيجب عليهم السعي في التدارك، وفي الصورة دليل على أنه لا يجوز الاعراض والاهمال، ويجب البحث والمراقبة على ما يليق الحال. فرع إذا قام بالفرض جمع لو قام به بعضهم يسقط الحرج عن الباقين، كانوا كلهم مؤدين للفرض، ولا مزية للبعض على البعض، وإذا صلى على الجنازة جمع، ثم آخرون، كانت صلاة الآخرين فرض كفاية كالاولين. قلت: للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين من حيث إنه أسقط الحرج عن نفسه وعن المسلمين، وقد قال إمام الحرمين في كتابه الغياثي: الذي أراه أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين، لانه لو ترك المتعين، اختص هو بالاثم، ولو فعله، اختص بسقوط الفرض، وفرض الكفاية لو تركه، أثم الجميع، وفرض الكفاية لو فعله، سقط الحرج عن الجميع، وفاعله ساع في صيانة الامة عن المأثم، ولا يشك في رجحان من حل محل المسلمين أجمعين في القيام بمهم من مهمات الدين. والله أعلم.
فصل في السلام فيه مسائل :
الأولى : ابتداء السلام سنة مؤكدة،(7/427)
فإن سلم على واحد، وجب عليه الرد، وإن سلم على جماعة، فالرد في حقهم فرض كفاية، فإن رد أحدهم، سقط الحرج عن الباقين، وإن رد الجميع، كانوا مؤدين للفرض، سواء ردوا معا أو متعاقبين، فإن امتنعوا كلهم، أثموا، ولو رد غير من سلم عليه، لم يسقط الفرض عمن سلم عليه، ويكون ابتداء السلام أيضا سنة على الكفاية، فإذا لقي جماعة آخرين، فسلم أحد هؤلاء على هؤلاء، كفى ذلك في إقامة أصل السنة. الثانية: لا بد من ابتداء السلام ورده من رفع الصوت بقدر ما يحصل به الاسماع، ويجب أن يكون الرد متصلا بالسلام الاتصال المشترط بين الايجاب والقبول في العقود، قال المتولي: لو ناداه من وراء حائط أو ستر، وقال: السلام عليك يا فلان، أو كتب كتابا وسلم عليه فيه، أو أرسل رسولا فقال: سلم على فلان، فبلغه الكتاب والرسالة، لزمه الرد، ولو سلم على أصم، أتى باللفظ لقدرته عليه، ويشير باليد ليحصل الافهام، فإن لم يضم الاشارة إلى اللفظ، لم يستحق الجواب، وكذا في جواب سلام الاصم، يجب الجمع بين اللفظ والاشارة، وسلام الاخرس بالاشارة معتد به، وكذا رده. الثالثة: صيغته، السلام عليكم، أو سلام عليكم، قال الامام: وكذا لو قال: عليكم السلام، وقال المتولي: عليكم السلام ليس بتسليم. قلت: الصحيح أنه تسليم يجب فيه الرد، كما قال الامام، وممن قال أيضا إنه تسليم أبو الحسن الواحدي من أصحابنا، ولكن يكره الابتداء به، نص على(7/428)
كراهته الغزالي في الاحياء ويدل عليه الحديث الصحيح في سنن أبي داود والترمذي عن أبي جري بضم الجيم تصغير جرو رضي الله عنه، قال: قلت: عليك السلام يا رسول الله، قال: لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى. والله أعلم. ويستحب مراعاة صيغة الجمع، وإن كان المسلم عليه واحدا خطابا ولملائكته، ولو قال: السلام عليك وترك صيغة الجمع، حصل أصل السنة، وصيغة الجواب، وعليكم السلام، أو وعليك السلام للواحد، فلو ترك حرف العطف فقال: عليكم السلام، قال الامام: يكفي ذلك، ويكون جوابا، والافضل أن يدخل الواو، وقال المتولي: ليس بجواب. قلت: الصحيح المنصوص وقول الاكثرين أنه جواب. والله أعلم. ولو قال المجيب: وعليكم، قال الامام: الرأي عندنا أنه لا يكون جوابا، فإنه ليس فيه تعرض للسلام، ومنهم من جعله جوابا للعطف. ولو قال: عليكم بغير واو، فليس بجواب قطعا، وكمال السلام أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله، وكمال الرد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. قلت: قد قال الماوردي وغيره: إن الافضل في الابتداء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وفيه حديث حسن، ولو قال المجيب: السلام عليكم، أو سلام عليكم، كان جوابا، والالف واللام أفضل. والله أعلم.(7/429)
ولو تلاقى رجلان فسلم كل واحد على صاحبه، وجب على كل واحد منهما جواب الآخر، ولا يحصل الجواب بالسلام، وإن ترتب السلامان، قاله المتولي. قلت: قد قاله أيضا شيخه القاضي حسين، لكن أنكره الشاشي فقال: هذا يصلح للجواب، فإن كان أحدهما بعد الآخر كان جوابا، وإن كانا دفعة، لم يكن جوابا، هذا كلام الشاشي، وتفصيله حسن وينبغي أن يجزم به. والله أعلم. الرابعة: لو سلم عليه جماعة، فقال: وعليكم السلام، وقصد الرد عليهم جميعا، جاز، وسقط الفرض في حق الجميع، كما لو صلى على جنائز صلاة واحدة. الخامسة: السنة أن يسلم الراكب على الماشي، والماشي على الجالس، والطائفة القليلة على الكثيرة، ولا يكره ابتداء الماشي والجالس. قلت: وكذا لا يكره ابتداء الكثيرين بالسلام على القليل، وإن كان خلاف السنة، والسنة أن يسلم الصغير على الكبير، ثم هذا الادب فيما إذا تلاقيا، أو تلاقوا في الطريق، فأما إذا ورد على قاعد، أو قعود، فإن الوارد يبدأ، سواء كان صغيرا أو كبيرا، قليلا أو كثيرا. والله أعلم. السادسة: يكره أن يخص طائفة من الجمع بالسلام. السابعة: لا يلزم الصبي جواب السلام، لانه ليس مكلفا، ولو سلم على جماعة فيهم صبي، لم يسقط الفرض عنهم بجوابه. قلت: هذا هو الاصح وبه قطع القاضي والمتولي، وقال الشاشي: يسقط، كما يصح أذانه للرجال ويتأدي به الشعار، وهذا كالخلاف في سقوط الفرض بصلاته(7/430)
على الميت. والله أعلم. ولو سلم صبي على بالغ، ففي وجوب الرد عليه وجهان بناء على صحة إسلامه. قلت: كذا ذكره القاضي والمتولي، والصحيح وجوب الرد، قال الشاشي: هذا البناء فاسد، وهو كما قال، واعلم أن السلام على الصبيان سنة. والله أعلم. الثامنة: سلام النساء على النساء، كسلام الرجال على الرجال، ولو سلم رجل على امرأة أو عكسه، فإن كان بينهما زوجية أو محرمية، جاز ووجب الرد، وإلا فلا يجب إلا أن تكون عجوزا خارجة عن مظنة الفتنة. قلت: وجاريته كزوجته، وقوله: جاز، ناقص، والصواب أنه سنة كسلام الرجل على الرجل، قاله أصحابنا، قال المتولي: ولو سلم على شابة، لم يجز لها الرد، ولو سلمت، كره له الرد عليها، ولو كان النساء جمعا، فسلم عليهن الرجل، جاز، للحديث الصحيح في ذلك. والله أعلم. التاسعة: في السلام بالعجمية ثلاثة أوجه، ثالثها: إن قدر على العربية، لم يجزئه. قلت: الصواب صحة سلامه بالعجمية إن كان المخاطب يفهمها، سواء قدر على العربية أم لا، ويجب الرد، لانه يسمى تحية وسلاما. والله أعلم. ومن لا يستقيم نطقه بالسلام، يسلم كيف أمكنه. العاشرة: في استحباب السلام على الفساق، ووجوب الرد على المجنون والسكران إذا سلما، وجهان، ولا يجوز ابتداء أهل الذمة بالسلام، فلو سلم(7/431)
على من لم يعرفه، فبان ذميا، استحب أن يسترد سلامه، بأن يقول: استرجعت سلامي، تحقيرا له، وله أن يحيي الذمي بغير السلام، بأن يقول: هداك الله، أو أنعم الله صباحك، ولو سلم عليه ذمي، لم يزد في الرد على قوله: وعليك. قلت: ما ذكره من استحباب استرداد السلام من الذمي، ذكره المتولي، ونقله عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقوله: أن يحيي الذمي بغير السلام، ذكره المتولي، وهذا إذا احتاج إليه لعذر، فأما من غير حاجة، فالاختيار أن لا يبتدئه بشئ من الاكرام أصلا، فإن ذلك بسط له وإيناس وملاطفة وإظهار ود، وقد قال الله تعالى: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) * وأما المبتدع، فالمختار أنه لا يبدأ بسلام إلا لعذر، أو خوفا من مفسدة، ولو مر على جماعة فيهم مسلمون، أو مسلم وكفار، فالسنة أن يسلم ويقصد المسلمين أو المسلم، ولو كتب كتابا إلى مشرك، وكتب فيه سلاما، فالسنة أن يكتب كما كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل: سلام على من اتبع الهدى. والله أعلم. الحادية عشرة: قال المتولي: ما يعتاده الناس من السلام عند القيام ومفارقة القوم دعاء وليس بتحية، فيستحب الجواب عنه، ولا يجب. قلت: هذا الذي قاله المتولي قاله شيخه القاضي حسين، وقد أنكره الشاشي، فقال: هذا فاسد لان السلام سنة عند الانصراف، كما هو سنة عند القدوم، واستدل بالحديث الصحيح في سنن أبي داود والترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الاولى بأحق من الآخرة قال الترمذي: حديث حسن. والله أعلم.(7/432)
الثانية عشرة: قال المتولي: يستحب لمن دخل دار نفسه أن يسلم على أهله، ولمن دخل مسجدا أو بيتا ليس فيه أحد أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قلت: يستحب أن يسمي الله تعالى قبل دخوله، ويدعو، ثم يسلم. والله أعلم. الثالثة عشرة: من سلم في حال لا يستحب فيها السلام، لم يستحق جوابا، فمن تلك الاحوال، أنه لا يسلم على من يقضي حاجته، ولا على من في الحمام، قال الشيخ أبو محمد والمتولي: لا يسلم على مشتغل بالاكل، ورأى الامام حمل ذلك على ما إذا كانت اللقمة في فمه وكان يمضي زمان في المضغ والابتلاع، ويعسر الجواب في الحال، أما إذا سلم بعد الابتلاع وقبل وضع لقمة أخرى، فلا يتوجه المنع، وأما المصلي، فأطلق الغزالي أنه لا يسلم عليه ولم يمنعه المتولي لكن قال إذا سلم عليه لم يرد عليه حتى يفرغ، ويجوز أن يجيب في الصلاة بالاشارة، نص عليه في القديم، وقيل: يجب، وقيل: يجب الرد باللفظ بعد الفراغ، والصحيح أنه لا يجب الرد مطلقا، فإن قال في الصلاة: عليكم السلام، بطلت، وإن قال: عليهم السلام، لم تبطل وقد سبق هذا في كتاب الصلاة، ولا منع من السلام على من هو في مساومة أو معاملة.(7/433)
قلت: ومن الاحوال التي لا يسلم فيها حالة الاذان والاقامة والخطبة على خلاف وتفصيل سبق فيها، وأما المشتغل بقراءة القرآن، فقال أبو الحسن الواحدي المفسر من أصحابنا: الاولى ترك السلام عليه، قال: فإن سلم، كفاه الرد بالاشارة، وإن رد باللفظ، استأنف الاستعاذة، ثم يقرأ، وفيما قاله نظر، والظاهر أنه يسلم عليه ويجب الرد باللفظ، وأما الملبي في الاحرام فيكره السلام عليه، فإن سلم، رد عليه لفظا، نص عليه، وقد سبق في الحج، ولو سلم في هذه المواضع التي لا يستحق فيها جوابا، هل يشرع الرد ؟ فيه تفصيل، أما المشتغل بالبول والجماع ونحوهما، فيكره له الرد كما سبق في باب الاستطابة، وأما الاكل ومن في الحمام، فيستحب له الرد، وأما المصلي، فيسن له الرد إشارة كما سبق. والله أعلم. الرابعة عشرة: التحية بالطلبقة وهي: أطال الله بقاك، وحني الظهر، وتقبيل اليد لا أصل له في الشرع، لكن لا يمنع الذمي من تعظيم المسلم بها، ولا يكره تقبيل اليد لزهد وعلم وكبر سن، وتسن المصافحة، ويكره للداخل أن يطمع في قيام القوم، ويستحب لهم أن يكرموه، ويسن تشميت العاطس وهو سنة على(7/434)
الكفاية كما سبق في ابتداء السلام، وإنما يسن إذا قال العاطس: الحمد لله، والتشميت أن يقول: يرحمك الله، أو يرحمك ربك، ويكرر التشميت إذا تكرر العطاس إلا أن يعلم أنه مزكوم، فيدعو له بالشفاء، ويسن للعاطس أن يجيب المشمت، فيقول: يهديكم الله، أو يغفر الله لكم، ولا يجب ذلك، وتسن عيادة المريض وزيارة القادم ومعانقته. قلت: قد اختصر الامام الرافعي الكلام في السلام وما يتعلق به، وقد جمعت فيه في كتاب الاذكار جملا نفيسة موضحة بدلائلها من الاحاديث الصحيحة مع آيات من القرآن العزيز، وضممت إليها مهمات متعلقة بما لا يستغني راغب في الخير عن معرفة مثلها، وقد خللت بعضها فيما سبق، وأنا أرمز إلى جملة من الباقي إن شاء الله تعالى، فمن ذلك، السنة أن يرفع صوته بالسلام رفعا يسمعه المسلم عليهم سماعا محققا، ولا يزيد رفعه على ذلك، وإذا شك في سماعهم، زاد في الرفع واستظهر، وإن سلم على أيقاظ عندهم نيام، خفض صوته بحيث يسمع الايقاظ ولا يوقظ النيام، ثبت ذلك في صحيح مسلم عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاشارة بالسلام باليد ونحوها بلا لفظ خلاف الاولى، فإن جمع بين الاشارة واللفظ، فحسن وعليه يحمل حديث الترمذي وهو حديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألوى بيده بالتسليم، ويستحب أن يرسل سلامه إلى من غاب عنه، ويلزم الرسول أن يبلغه، فإنه أمانة ويجب أداء الامانة، وقد سبق أنه يلزم المرسل إليه رد السلام على الفور، ويستحب أن يرد على المبلغ أيضا، فيقول: وعليه وعليك السلام ورحمه الله وبركاته، ولو سلم على إنسان، ثم لقيه على قرب، فالسنة أن يسلم عليه ثانيا وثالثا وأكثر، والسنة أن يبدأ بالسلام قبل كل كلام، والاحاديث الصحيحة وعمل الامة على وفق ذلك مشهور، وأما حديث السلام قبل الكلام فضعيف، ويستحب لكل واحد من المتلاقين أن(7/435)
يحرص على الابتداء بالسلام للحديث الحسن أولى الناس بالله تعالى من بدأهم بالسلام ولو مشى في سوق، أو شارع يطرق كثيرا، ونحوه مما يكثر فيه المتلاقون، قال صاحب الحاوي: إنما يسلم هنا على بعض الناس دون بعض، لانه لو سلم على الجميع، تعطل عن كل مهم، وخرج به عن العرف، قال: ولو دخل على جماعة قليلة يعمهم سلام، اقتصر على سلام واحد عليهم، وما زاد من تخصيص بعضهم، فهو أدب، ويكفي أن يرد أحدهم، فإن زادوا، فأفضل، فإن كانوا جميعا لا ينتشر فيهم سلام واحد، كالجامع والمجلس الحفل، فسنة السلام أن يبدأ به إذا شاهدهم، ويكون مؤديا سنة السلام في حق من سمعه، ويدخل في فرض الكفاية في الرد كل من سمعه، فإن جلس فيهم، سقط عنه سنة السلام في حق من لم يسمع، وإن أراد الجلوس فيمن بعدهم ممن لم يسمعه فوجهان، أحدهما: أن سنة السلام حصلت بالسلام على أولهم، لانه جمع واحد، فإن أعاد السلام عليهم، كان أدبا، والثاني: أنها باقية لم تحصل، قال: فعلى الاول يسقط فرض الرد عن الاولين برد واحد من الآخرين، وعلى الثاني لا يسقط، ولعل الثاني أصح، ولا يترك السلام لكونه يغلب على ظنه أن المسلم عليه لا يرد. قال المتولي: وأما التحية عند خروجه من الحمام بقول: طاب حمامك ونحوه، فلا أصل له، وهو كما قال، فلم يصح في هذا شئ، لكن لو قال لصاحبه حفظا لوده: أدام الله لك هذا النعيم، ونحو ذلك من الدعاء، فلا بأس به إن شاء الله تعالى، وإذا ابتدأ المار فقال: صبحك الله بخير، أو بالسعادة، أو قواك الله، أو لا أوحش الله منك، أو نحو ذلك من ألفاظ أهل العرف، لم يستحق جوابا، لكن لو دعا له قبالته كان حسنا إلا أن يريد تأديبه وتأديب غيره لتخلفه وإهماله السلام. وإذا قصد باب إنسان وهو مغلق، فالسنة أن يسلم، ثم يستأذن فيقول: السلام عليكم، أأدخل، فإن لم يجبه أحد، أعاد ذلك ثانيا وثالثا، فإن لم يجبه أحد،(7/436)
انصرف، وذكر صاحب الحاوي خلافا في تقديم السلام على الاستئذان وعكسه، واختار مذهبا ثالثا، فقال: إن وقعت عين المستأذن على صاحب البيت قبل دخوله، قدم السلام، وإن لم تقع عليه عينه، قدم الاستئذان، والصحيح المختار تقديم السلام، فقد صحت فيه أحاديث صريحة، وإذا استأذن بدق الباب ونحوه، فقيل: من أنت، فليقل: فلان ابن فلان، أو فلان الفلاني، أو المعروف بكذا وما أشبهه بحيث يحصل تعريف تام، ويكره أن يقتصر على قوله: أنا، أو الخادم، أو المحب، أو نحو ذلك مما لا يعرف به، والحديث الصحيح في ذلك مشهور، ولا بأس أن يصف نفسه بما يعرف به وإن تضمن تبجيلا له إذا لم يعرفه المخاطب إلا به، بأن يكني نفسه، أو يقول: القاضي فلان، أو الشيخ فلان أو نحوه. وأما قول الرافعي: إذا قال: أطال الله بقاءك إلى آخره، فيحتاج فيه إلى تتمات، فأما أطال الله بقاءك، فقد نص جماعة من السلف على كراهته، وأما حني الظهر فمكروه للحديث الصحيح في النهي عنه، ولا يغتر بكثرة من يفعله ممن ينسب إلى علم وصلاح. وأما القيام، فالذي نختاره أنه مستحب لمن فيه فضيلة ظاهرة من علم أو صلاح أو ولادة أو ولاية مصحوبة بصيانة، ويكون على جهة البر والاكرام لا للرياء والاعظام، وعلى هذا استمر عمل الجمهور من السلف والخلف، وقد جمعت جزءا في ذلك ضمنته أحاديث صحيحة وآثارا وأفعال السلف وأقوالهم الدالة لما ذكرته، وأجبت عما خالفها، وأما الداخل فيحرم عليه أن يحب قيامهم له، ففي الحديث(7/437)
الحسن من أحب أن يمثل له الناس قياما، فليتبوأ مقعده من النار وهذا ظاهر في التحريم، وقد روي بألفاظ أوضحتها مع معناه وما يتعلق به في جزء الترخيص في القيام، وأما قوله: لا يمنع الذمي من تعظيم المسلم بها، فلا نوافق عليه. وأما تقبيل اليد، فإن كان لزهد صاحب اليد وصلاحه، أو علمه أو شرفه وصيانته ونحوه من الامور الدينية، فمستحب، وإن كان لدنياه وثروته وشوكته ووجاهته ونحو ذلك، فمكروه شديد الكراهة، وقال المتولي: لا يجوز، وظاهره التحريم، وأما تقبيله خد ولده الصغير وبنته الصغيرة وسائر أطرافه على وجه الشفقة والرحمة واللطف ومحبة القرابة، فسنة، والاحاديث الصحيحة فيه كثيرة مشهورة، وكذا قبلة ولد صديقه وغيره من الاطفال الذين لا يشتهون على هذا الوجه، وأما التقبيل بشهوة فحرام بالاتفاق، وسواء في ذلك الوالد وغيره، بل النظر إليه بالشهوة حرام على الاجنبي والقريب بالاتفاق، ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح للتبرك. وسن تقبيل وجه صاحبه إذا قدم من سفر ونحوه، ومعانقته للحديث الصحيح فيهما، وأما المعانقة وتقبيل الوجه لغير القادم من سفر ونحوه، فمكروهان، صرح به البغوي وغيره للحديث الصحيح في النهي عنهما، وأما المصافحة، فسنة عند التلاقي، سواء فيه الحاضر والقادم من سفر، والاحاديث الصحيحة فيها كثيرة جدا، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر، فلا أصل(7/438)
لتخصيصه، لكن لا بأس به، فإنه من جملة المصافحة، وقد حث الشرع على المصافحة، وجعله الشيخ الامام أبو محمد ابن عبد السلام من البدع المباحة، ويستحب مع المصافحة البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة وغيرها. ويسن زيارة الصالحين والاخوان والجيران والاصدقاء والاقارب وإكرامهم وبرهم وصلتهم، وضبط ذلك يختلف باختلاف أحوالهم ومراتبهم وفراغهم، وينبغي أن تكون زيارته على وجه يرتضونه وفي وقت لا يكرهونه، ويستحب أن يطلب من أخيه الصالح أن يزوره، وأن يكثر زيارته إذا لم يشق، وأما العاطس، فيسن له أن يقول: الحمد لله، وإن كان في صلاة قاله وأسمع نفسه، ولو قال: الحمد لله على كل حال، كان أفضل، ففيه حديث صحيح، ويسن بمن جاءه العطاس، أن يضع يده أو ثوبه ونحوه على وجهه، ويخفض صوته وتشميته إلى ثلاث مرات، فإن زاد، دعا له بالشفاء، ولا يشمته حتى يسمع تحميده، وأقل التشميت وجوابه أن يسمعه، ولو قال لفظا آخر غير الحمد لله، لم يشمت، ففي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا عطس أحدكم فحمد الله تعالى، فشمتوه، فإن لم يحمد الله تعالى، فلا تشمتوه وهذا الحديث مما ينبغي حفظه وإشاعته، فإن كثيرا من الناس يتساهلون فيه، وإذا لم يحمد الله تعالى، يستحب لمن عنده أن يذكره الحمد، ولو سمع حمده بعض القوم، يشمته السامعون فقط، ولو عطس يهودي، فليقل: يهديكم الله، ولا يقل: يرحمكم الله، ففيه حديث صحيح، ولو تثاءب، فالسنة أن يرده(7/439)
ما استطاع، وأن يضع يده على فمه، ثبت ذلك في صحيح مسلم، وسواء كان في صلاة أو غيرها، ويستحب إجابة من ناداه، بلبيك، وأن يقول لمن ورد عليه: مرحبا، وأن يقول لمن أحسن إليه: جزاك الله خيرا، أو حفظك الله ونحوهما، ويسن لمن أحب أخا له في الله تعالى أن يخبره أنه يحبه، وهذا الباب واسع جدا، وفيما ذكرته مقنع، وقد أوضحت جميع ذلك بدلائله الصحيحة المتظاهرة في كتاب الاذكار وفيه ما لا يستغنى عن مثله من أشباهه، وإنما بسطت هذا الفصل على خلاف العادة، لانه أحكام وسنن تدعو الحاجة إليها، ويكثر العمل بها، فهي أولى من نوادر المسائل التي لا تقع في العادة، وأسأل الله الكريم التوفيق للخيرات. والله أعلم.
الباب الثاني : في كيفية الجهاد وما يتعلق به، فيه أطراف
الأول : في قتال الكفار، وفيه مسائل: إحداها: يكره الغزو بغير إذن الامام أو الامير المنصوب من جهته، ولا يحرم، وإذا بعث سرية، أمر عليهم أميرا، ويأمرهم بطاعته، ويوصيه بهم، ويسن أن يأخذ البيعة عليهم أن لا يفروا، وأن يبعث الطلائع، ويتجسس أخبار الكفار، ويستحب خروجهم يوم الخميس أول النهار، وأن يعقد الرايات، ويجعل كل فريق تحت راية، ويجعل لكل طائفة شعارا حتى لا يقتل بعضهم بعضا بياتا، وأن يدخل دار الحرب بتعيينه الحرب، لانه أحوط وأهيب، وأن يستنصر بالضعفاء، وأن يدعو عند التقاء الصفي، وأن يكبر من غير إسراف في رفع الصوت، وأن يحرض الناس على القتال وعلى الصبر والثبات. الثانية: لا يقاتل من لم تبلغه الدعوة حتى يدعوه إلى الاسلام، وأما من بلغتهم(7/440)
الدعوة، فيستحب أن يعرض عليهم الاسلام، ويدعوهم إليه، ويجوز بياتهم بغير دعاء، ثم الذين لا يقرون بالجزية، يقاتلون، وتسبى نساؤهم، وتغنم أموالهم حتى يسلموا، والذين تقبل منهم الجزية يقاتلون حتى يسلموا، أو يبذلوا الجزية. الثالثة: تجوز الاستعانة بأهل الذمة وبالمشركين في الغزو، ويشترط أن يعرف الامام حسن رأيهم في المسلمين، ويأمن خيانتهم، وشرط الامام والبغوي وآخرون شرطا ثالثا، وهو أن يكثر المسلمون بحيث لو خان المستعان بهم، وانضموا إلى الذين يغزوهم، لامكننا مقاومتهم جميعا، وفي كتب العراقيين وجماعة أنه يشترط أن يكون في المسلمين قلة، وتمس الحاجة إلى الاستعانة، وهذان الشرطان كالمتنافيين، لانهم إذا قلوا حتى احتاجوا لمقاومة فرقة إلى الاستعانة بالاخرى، فكيف يقاومونهما ؟ قلت: لا منافاة، فالمراد أن يكون المستعان بهم فرقة لا يكثر العدو بهم كثرة ظاهرة، وشرط صاحب الحاوي أن يخالفوا معتقد العدو، كاليهود مع النصارى، قال: وإذا خرجوا بشروطه، اجتهد الامير فيهم، فإن رأى المصلحة في تميزهم ليعلم نكايتهم، أفردهم في جانب الجيش بحيث يراه أصلح، وإن رآها في اختلاطهم بالجيش لئلا تقوى شوكتهم، فرقهم بين المسلمين. والله أعلم. ثم إن حضر الذمي بإذن الامام، استحق الرضخ، إلا أن يكون استأجره، فلا يستحق غير الاجرة، وإن نهاه عن الحضور، فحضر، فلا شئ له، وللامام تعزيزه إذا رآه، وإن لم ينهه، ولم يأذن له، لم يرضخ له على الاصح. الرابعة: يجوز الاستعانة بالعبد إذا أذن سيده، وأن يستصحب المراهقين إذا كان فيهم جلادة وغناء في القتال، وكذا لمصلحة سقي الماء، ومداواة الجرحى، ويستصحب النساء لمثل ذلك كما سبق، وفي جواز إحضار نساء أهل الذمة وصبيانهم قولان، أحدهما: نعم، كالمسلمين، والثاني: لا، إذا كان لا قتال فيهم ولا رأي ولا يتبرك بحضورهم.(7/441)
الخامسة: يمنع المخذل من الخروج في الجيش، فإن خرج، رده، فلو قاتل، لم يستحق شيئا، ولو قتل كافرا، لم يستحق سلبه، والمخذل من يخوف الناس، بأن يقول: عدونا كثير، وخيولنا ضعيفة، ولا طاقة لنا بهم، ونحو ذلك، وفي معناه المرجف والخائن، فالمرجف: من يكثر الاراجيف، بأن يقول: قتلت سرية كذا، أو لحقهم مدد للعدو من جهة كذا، أو لهم كمين في موضع كذا، والخائن: من يتجسس لهم، ويطلعهم على العورات بالمكاتبة والمراسلة، وحكى الروياني وجها، أنه يسهم للمخذل إذا لم ينهه الامام، ووجها أنه يرضخ له، والصحيح الذي قطع به الاصحاب، لا سهم ولا رضخ مطلقا. السادسة: لا يجوز أن يستأجر الامام ولا أحد الرعية مسلما للجهاد، لان إن لم يكن متعينا عليه، فمتى حضر الصف، تعين، ولا يجوز أخذ أجرة عن فرض العين، وعن الصيدلاني أنه يجوز للامام أن يستأجره، ويعطيه أجرة من سهم المصالح، والصحيح الاول، لكن الامام يرغب في الجهاد ببذل الاهبة والسلاح من بيت المال، أو من مال نفسه، فينال ثواب الاعانة، ويقع الجهاد عن المباشر، وكذا إذا بذل أهبته واحد من الرعية من ماله، قال الاصحاب: وما يدفع إلى المرتزقة من الفئ، وإلى المطوعة من الصدقات حقوقهم المرتبة، وليس أجرة، وجهادهم واقع عنهم، ولو أكره الامام جماعة على الخروج والجهاد، لم يستحقوا أجرة لما ذكرنا من وقوع الجهاد عنهم، وامتناع استئجارهم، هكذا أطلقوه، وقال البغوي: إن تعين عليهم الجهاد، فالحكم كذلك، وإلا فلهم الاجرة من حين أخرجهم إلى أن حضروا الوقعة، وأطلق مطلقون أنه لو عين الامام رجلا، وألزمه بغسل الميت ودفنه، لم يكن له أجرة، واستدرك الامام فقال: هذا إذا لم يكن للميت تركة، ولا في بيت المال اتساع، فإن كان له تركة، فمؤنة تجهيزه في تركته، وإلا ففي بيت المال إن اتسع، فيستحق المكره الاجرة، والتفصيلان حسنان، فليحمل عليهما الاطلاقان. وهل يجوز للامام استئجار عبيد المسلمين ؟ قال الامام: إن جوزنا استئجار الحر، فكذا العبد، وإلا فوجهان بناء على أنه لو وطئ الكفار دار المسلمين هل(7/442)
يتعين على العبيد الجهاد ؟ إن قلنا: نعم، فهم من أهل فرض الجهاد، فإذا وافوا الصف، وقع الجهاد عنهم، فيكون استئجارهم كالاحرار، وإلا فيجوز استئجارهم، وإن أخرج الامام العبيد قهرا، لزمت أجرتهم من يوم الاخراج إلى أن يعود كل عبد إلى يد سيده، هكذا أطلقه البغوي وغيره، وينبغي أن يبنى ذلك على الوجهين إن قلنا: إنهم من أهل فرض الجهاد، فكالاحرار، أما الذمي فللامام أن يستعمله للجهاد بمال يبذله له، وهل طريقه الاجارة أم الجعالة ؟ وجهان، أحدهما: الجعالة، لجهالة العمل، وأصحهما: الاجارة، وتحتمل جهالة العمل، لان ا لمقصود القتال، ولو كان جعالة لجاز للذمي الانصراف متى شاء، وهو بعيد، وعلى هذا وجهان، أحدهما: لا يجوز أن يبلغ بالاجرة سهم راجل، وكان حاصل هذا الوجه الحكم بالانفساخ والرد إلى أجرة المثل إن بان زيادة الاجرة على سهم، وإلا ففي الابتداء لا يعلم سهم الراجل من الغنيمة، والصحيح أنه لا حجر في قدر الاجرة، كسائر الاجارات، وهل لآحاد المسلمين استئجار الذمي للجهاد ؟ وجهان، أصحهما: المنع، لان الآحاد لا يتولون المصالح العامة، وقد يكون في حضوره مفسدة يعلمها الامام دون الآحاد. فرع لو أخرج الامام أهل الذمة، استحب أن يسمي لهم أجرة، فإن ذكر شيئا مجهولا، بأن قال: نرضيكم، أو نعطيكم ما تستعينون به، وجبت أجرة المثل، وإن أخرجهم وحملهم على الجهاد كرها، وجبت أجرة المثل، وإن خرجوا راضين، ولم يسم لهم شيئا، فهذا موضع الرضخ، وفي محله أقوال سبقت في قسم الغنيمة، وأما الاجرة الواجبة، مسماة كانت أو أجرة المثل، فهل تؤدى من خمس الخمس سهم المصالح من هذه الغنيمة أو غيرها، أم من أصل الغنيمة، أم من أربعة أخماسها ؟ أوجه، أصحها: الاول، وهو نصه في المختصر وقطع به جماعة. فرع لو أخرجهم قهرا، ثم خلى سبيلهم قبل وقوفهم في الصف، أو هربوا ولم يقفوا، لم يجب لهم إلا أجرة الذهاب، وإن تعطلت منافعهم في الرجوع، لانهم يتصرفون حينئذ كيف شاؤوا، ولو وقف المقهورون ولم يقاتلوا، فهل لهم أجرة مدة الوقوف ؟ وجهان، أصحهما: لا، فعلى هذا إن لم يكن عليهم حبس وقهر، فلا شئ لهم، وإلا ففيه الخلاف في أن منفعة الحر هل تضمن بالحبس والتعطيل دون الاستيفاء ؟ ولو استأجر الذمي فلم يقاتل، ففي استحقاقه الوجهان.(7/443)
السابعة: فيمن يمتنع قتله من الكفار في الحرب، فيكره للغازي قتل قريبه، فإن كان القريب محرما ازدادت الكراهة، فإن سمع أبا، أو قريبا آخر يذكر الله تعالى، أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - بسوء، لم يكره قتله، ويحرم قتل نساء الكفار وصبيانهم والمجانين والخناثى، فإن قاتلوا، جاز قتلهم، ولو أسر منهم مراهق، وشككنا في بلوغه، كشفت عانته، فإن كان أنبت، حكم ببلوغه، وإلا فهو صبي، وقد سبق في كتاب الحجر قولان في أن الانبات بلوغ أم دليل بلوغ، فإن قال المأسور: استعجلت الشعر بالدواء، فإن قلنا: هو بلوغ، لم يقبل قوله، بل يحكم ببلوغه، وإن قلنا: دليل البلوغ وهو الاظهر، فيصدق بيمينه، ويحكم بالصغر، هكذا نص عليه وبه أخذ الاصحاب وذكروا فيه إشكالين، أحدهما: أن اليمين تعمل في النفي وهذه لاثبات الاستعجال، وأجيب بأنا فعلناه لحقن الدم، وقد يخالف القياس لذلك، ولهذا قبلنا جزية المجوس دون نكاحهم، والثاني: كيف يحلف من يدعي الصبى، فقال بعض الاصحاب: اليمين احتياط أو استظهار لا واجبة، وقال الجمهور: لا بد منها، لان الدليل الظاهر موجود، فلا يترك بمجرد قوله، وقد سبق في الحجر أن المعتبر الشعر الخشن دون اللين، وأن في إلحاق شعر الابط والوجه الخشن بالعانة وجهين، ونبات الشارب كاللحية، ولا أثر لاخضراره. الثامنة: في جواز قتل الراهب، شيخا كان أو شابا، والاجير والمحترف المشغول بحرفته، والشيخ الضعيف والاعمى والزمن، ومقطوع اليد والرجل قولان، أظهرهما: الجواز. وقيل: يقتل الاجير والمحترف قطعا، فإن كان فيهم من له رأي يستعين الكفار برأيه وتدبير الحرب، قتل قطعا، ثم الذي يفهم من كلام الاصحاب أنه لا فرق بين أن يحضر ذو الرأي في صف القتال، أو لا يحضر في أنه يجوز قتله، ولا بين أن يقدر على الاخرق منهم في صف القتال، أو يدخل بعض بلادهم، فيجده هناك في أن في قتله القولين، وفي السوقة طريقان، المذهب: القطع بقتلهم، والثاني: على القولين، فإن جوزنا قتل هؤلاء، جاز استرقاقهم، وسبي نسائهم وصبيانهم، واغتنام أموالهم، وإلا فالمذهب أنهم يرقون بنفس الاسر كالنساء، وقيل: قولان، كأسير إذا أسلم قبل الاسترقاق، ففي قول: يتقين رقه، وفي قول: للامام أن يرقه وأن يمن عليه، أو يفاديه، وقيل: لا يجوز استرقاقهم، بل يتركون ولا يتعرض لهم، ويجوز سبي نسائهم وصبيانهم على الاصح، وقيل: لا يجوز،(7/444)
وقيل: يجوز سبي نسائهم دون صبيانهم، لانهم أبعاضهم، وأجرى بعضهم الخلاف في اغتنام الاموال، قال الامام: من منع اغتنام أموال السوقة، فقد قرب من خرق الاجماع، ولو ترهبت امرأة، ففي جواز سبيها وجهان بناء على قتل الراهب. فرع لا يجوز قتل رسول الكفار. التاسعة: يجوز للامام محاصرة الكفار في بلادهم، والحصون والقلاع، وتشديد الامر عليهم بالمنع من الدخول والخروج، وإن كان فيهم النساء والصبيان، واحتمل أن يصيبهم، ويجوز التحريق بإضرام النار ورمي النفط إليهم، والتغريق بإرسال الماء، ويبيتهم وهم غافلون، ولو تترسوا بالنساء والصبيان، نظر إن دعت(7/445)
ضرورة إلى الرمي والضرب، بأن كان ذلك في حال التحام القتال ولو تركوا لغلبوا المسلمين، جاز الرمي والضرب، وإن لم تكن ضرورة، بأن كانوا يدفعون بهم عن أنفسهم واحتمل الحال تركهم، فطريقان. أصحهما: على قولين، أحدهما: يجوز رميهم، كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة وإن كان يصيبهم، ولئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى تعطيل الجهاد، والثاني: المنع، وهذا أصح عند القفال، ومال إلى ترجيح الاول مائلون. والطريق الثاني: القطع بالجواز ورد المنع إلى الكراهة، وقيل: في الكراهة على هذا قولان، ولو تترسوا بهم في القلعة، فقيل: هذه الصورة أولى بالجواز، لئلا يتخذ ذلك حيلة إلى استبقاء القلاع لهم، وفي ذلك فساد عظيم، وقيل: قولان، وإن عجزنا عن القلعة إلا به. قلت: الراجح في الصورتين، الجواز. والله أعلم. ولو كان في البلدة أو القلعة مسلم، أو أسير، أو تاجر، أو مستأمن، أو طائفة من هؤلاء، فهل يجوز قصد أهلها بالنار والمنجنيق وما في معناهما ؟ فيه طرق، المذهب: أنه إن لم يكن ضرورة، كره ولا يحرم على الاظهر لئلا يعطلوا الجهاد بحبس مسلم فيهم، وإن كانت ضرورة، كخوف ضررهم، أو لم يحصل فتح القلعة إلا به، جاز قطعا، والطريق الثاني: لا اعتبار بالضرورة، بل إن كان ما يرمى به يهلك المسلم، لم يجز، وإلا فقولان، والثالث وبه أجاب صاحب الشامل: إن كان عدد المسلمين الذين فيهم مثل المشركين، لم يجز رميهم، وإن كان أقل، جاز، لان الغالب أنه لا يصيب المسلمين، والمذهب: الجواز، وإن علم أنه يصيب مسلما وهو نصه في المختصر لان حرمة من معنا أعظم حرمة ممن في أيديهم، فإن هلك منهم هالك، فقد رزق الشهادة، قاله أبو إسحاق، ولو رمى بشئ منها إلى القلعة، أو البلدة، فقتل مسلما، فإن لم يعلم أن فيها مسلما، لم يجب إلا الكفارة، وإن علم، وجبت الدية والكفارة، حكاه الروياني.(7/446)
فرع لو تترس الكفار بمسلمين من الاسارى وغيرهم، نظر إن لم تدع ضرورة إلى رميهم واحتمل الحال الاعراض عنهم، لم يجز رميهم، فإن رمى رام، فقتل مسلما قال البغوي: هو كما لو قتل مسلما في دار الحرب، إن علمه مسلما لزمه القصاص، وإن ظنه كافرا فلا قصاص وتجب الكفارة، وفي الدية قولان، وإن دعت ضرورة إلى رميهم، بأن تترسوا بهم في حال التحام القتال وكانوا بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا، وكثرت نكايتهم فوجهان، أحدهما: لا يجوز الرمي إذا لم يمكن ضرب الكفار إلا بضرب مسلم، لان غايته أن نخاف على أنفسنا، ودم المسلم لا يباح بالخوف بدليل صورة الاكراه، والثاني وهو الصحيح المنصوص، وبه قطع العراقيون: جواز الرمي على قصد قتال المشركين، ويتوقى المسلمين بحسب الامكان، لان مفسدة الاعراض أكثر من مفسدة الاقدام، ولا يبعد احتمال طائفة للدفع عن بيضة الاسلام ومراعاة للامور الكليات، فإن جوزنا الرمي، فرمى وقتل مسلما، فلا قصاص، فتجب الكفارة، وفي الدية طرق، أصحها وظاهر النص، وبه قال المزني وابن سلمة: إن علم أن المرمي مسلم، وجبت، وإلا فلا، والثاني قاله أبو إسحاق: إن قصده بعينه، وجبت، سواء علمه مسلما أم لا، وإلا فلا، والثالث: قولان مطلقا، والرابع قاله ابن الوكيل: إن علم أن هناك مسلما، وجبت، وإلا فقولان، وإن لم نجوز الرمي، فرمى وقتل، ففي وجوب القصاص طريقان، أحدهما قولان، كالمكره، والثاني: يجب قطعا، كالمضطر إذا قتل رجلا ليأكله، بخلاف المكره، فإنه ملجأ، ولان هناك من يحال عليه وهو المكره. ولو تترس الكفار بذمي أو مستأمن أو عبد، فالحكم في جواز الرمي والدية والكفارة كما ذكرنا، لكن حيث تجب دية، يجب في العبد قيمته، وفي التهذيب أنه لو تترس كافر بترس مسلم، أو ركب فرسه، فرماه مسلم فأتلفه، فإن كان في غير التحام، أو في التحام وأمكنه أن يتوقى الترس والفرس، ضمن، وإن لم يمكنه في الالتحام الدفع إلا بإصابته، فإن جعلناه كالمكره، لم يضمن، لان المكره في المال يكون طريقا في الضمان، وهنا لا ضمان على الحربي حتى يجعل المسلم طريقا، وإن جعلناه مختارا، لزمه الضمان. العاشرة: في حكم الهزيمة، إذا التقى الصفان، قد أطلق الغزالي أنه إن كان(7/447)
في انهزامه كسر المسلمين، لم يجز الانهزام بحال، وإلا ففيه التفصيل الآتي إن شاء الله تعالى، ولم يتعرض الجمهور لذلك بل قالوا: إذا التقى الصفان، فله حالان، أحدهما: أن لا يزيد عدد الكفار على ضعف عدد المسلمين بل كانوا مثلي المسلمين أو أقل، فتحرم الهزيمة والانصراف إلا متحرفا لقتال، أو متحيزا إلى فئة، فالمتحرف: من ينصرف ليكمن في موضع، ويهجم، أو يكون في مضيق، فينصرف ليتبعه العدو إلى متسع سهل للقتال، أو يرى المصلحة في التحول إلى مضيق، أو يتحول من مقابلة الشمس والريح إلى موضع يسهل عليه القتال. والمتحيز إلى فئة: من ينصرف على قصد أن يذهب إلى طائفة يستنجد بها في القتال، وسواء كانت تلك الطائفة قليلة أو كثيرة، قريبة أو بعيدة، وقيل: يشترط قربها، والصحيح الاول، وعلى هذا هل يلزمه تحقيق عزمه بالقتال مع الفئة المتحيز إليها ؟ وجهان، أصحهما: لا، لان العزم مرخص، فلا حجر عليه بعد ذلك، والجهاد لا يجب قضاؤه، وفي كلام الامام، أن التحيز إنما يجوز إذا استشعر المتحيز عجزا محوجا إلى الاستنجاد لضعف المسلمين، ولعل ما حكيناه عن الغزالي أخذه من هذا، ولم يشترط الاصحاب ما ذكراه وكأنهم رأوا ترك القتال والانهزام في الحال مجبورا بعزمه، وكل واحد من التحرف والتحيز يتضمن العزم على العود إلى القتال، والرخصة منوطة بعزمه، ولا يمكن مخادعة الله تعالى في العزم، هذا الذي ذكرناه من تحريم الهزيمة إلا لمتحرف أو متحيز هو في حال القدرة، أما من عجز بمرض ونحوه، أو لم يبق معه سلاح، فله الانصراف بكل حال، ويستحب أن يولي متحرفا أو متحيزا، فإن أمكنه الرمي بالاحجار، فهل تقوم مقام السلاح ؟ وجهان. قلت: أصحهما: تقوم. والله أعلم. ولو مات فرسه وهو لا يقدر على القتال راجلا، فله الانصراف، ومن غلب على ظنه أنه إن ثبت قتل، هل له الانصراف ؟ وجهان، الصحيح: المنع، ثم المتحيز إلى فئة بعيدة لا يشارك الجيش فيما يغنمونه بعد مفارقته، ولا يبطل حقه مما غنموه قبل مفارقته، هكذا نص عليه، وبمثله أجاب في المتحرف، ومنهم من أطلق بأن المتحرف يشارك، ولعله فيمن لم يبعد، ولم يغب، والنص فيما إذا تحرف، ثم انقطع عن القوم قبل أن يغنموا، وهل يشارك المتحيز إلى فئة قريبة فيما غنموه بعد(7/448)
مفارقته ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لبقاء نصرته والاستنجاد به، فهو كالسرية القريبة تشارك الجيش فيما غنمه. الحالة الثانية: إذا زاد عدد الكفار على مثلي المسلمين، جاز الانهزام، وهل يجوز انهزام مائة من أبطالنا من مائتين، وواحد من ضعفاء الكفار ؟ وجهان، أصحهما: لا، لانهم يقاومونهم لو ثبتوا، وإنما يراعى العدد عند تقارب الاوصاف، والثاني: نعم، لان اعتبار الاوصاف يعسر، فتعلق الحكم بالعدد، ويجري الوجهان في عكسه، وهو فرار مائة من ضعفائنا من مائة وتسعة وتسعين من ضعفائهم، فإن اعتبرنا العدد، لم يجز، وإن اعتبرنا المعنى، جاز، وإذا جاز الفرار، نظر إن غلب على ظنهم أنهم إن ثبتوا ظفروا، استحب الثبات، وإن غلب على ظنهم الهلاك، ففي وجوب الفرار وجهان، وقال الامام: إن كان في الثبات الهلاك المحض من غير نكاية، وجب الفرار قطعا، وإن كان فيه نكاية فوجهان. قلت: هذا الذي قاله الامام هو الحق، وأصح الوجهين، أنه لا يجب، لكن يستحب. والله أعلم. فرع لقي مسلم مشركين، إن طلباه، فله الفرار، وإن طلبهما ولم يطلباه، فهل له أن يولي بعد ذلك ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لان فرض الجهاد والثبات إنما هو في الجماعة، ولو ولى النساء، لم يأثمن، فلسن من أهل فرض الجهاد، نص عليه، كما لا إثم على صبي ومغلوب على عقله إذا وليا، ويأثم السكران، ولو قصد الكفار بلدا، فتحصن أهله إلى أن يجدوا قوة ومددا، لم يأثموا، إنما الاثم على من ولى بعد اللقاء. قلت: قال صاحبا " الحاوي " والبحر: تجوز الهزيمة من أكثر من المثلين، وإن كان المسلمون فرسانا والكفار رجالة، وتحرم الهزيمة من المثلين وإن كان المسلمون رجالة والكفار فرسانا، وهذا الذي قالاه فيه نظر، ويمكن تخريجه على الوجهين السابقين في أن الاعتبار بالمعنى أم بالعدد. والله أعلم.(7/449)
فصل المبارزة جائزة، ولو خرج كافر وطلبها، استحب الخروج إليه، وابتداء المبارزة، لا مستحب ولا مكروه، وقال ابن أبي هريرة: تكره، وأطلق ابن كج استحبابها، والصحيح الاول، وإنما تحسن المبارزة ممن جرب نفسه وعرف قوته وجرأته، فأما الضعيف الذي لا يثق بنفسه، فتكره له المبارزة ابتداء وإجابة، نص عليه، وفيه وجه: أنه يحرم، والصحيح الاول، ويستحب أن لا يبارز إلا بإذن الامير، فلو بارز بغير إذنه، جاز على الصحيح، وبه قطع الجمهور، لان التغرير بالنفس في الجهاد جائز، والثاني: يحرم، لان للامام نظرا في تعيين الابطال. فصل نقل رؤوس الكفار إلى بلاد الاسلام، فيه وجهان، أحدهما: لا يكره للارعاب، والثاني وهو الصحيح، وبه قطع العراقيون والروياني: يكره، ولم يتعرض الجمهور للفرق بين كافر فيه نكاية وغيره، وقال صاحب الحاوي: لا يكره، إن كان فيه نكاية، بل يستحب.
الطرف الثاني : في سبي الكفار واسترقاقهم، وفيه مسائل: إحداها: نساء الكفار وصبيانهم إذا وقعوا في الاسر، رقوا، وكان حكمهم حكم سائر أموال الغنيمة، فالخمس لاهل الخمس، والباقي للغانمين، والعبيد إذا وقعوا في الاسر، كانوا كسائر أموال الغنيمة، لا يتخير الامام فيهم، لان عبد الحربي مال له، واحتج له الشيخ أبو علي بأن عبد الحربي لو أسلم في دار الحرب، ولم يخرج، ولا قهر سيده، لا يزول ملك الحربي عنه، وإذا سباه المسلمون، كان عبدا مسلما، ولا يجوز المن عليه، ويسترق، ولولا أنه مال يخلى سبيله، كالحر، ولما جاز استرقاقه، هكذا ذكره ابن الحداد، وصرح بأنه ليس للامام قتل العبيد، ولا المن عليهم، وتابعه الاصحاب على هذا، وفي المهذب أنه لو رأى الامام قتله لشره وقوته، قتله وضمن قيمته للغانمين، وأما الرجال الاحرار الكاملون إذا أسروا، فالامام مخير بين أن يقتلهم صبرا بضرب الرقبة، لا بتحريق وتغريق، ولا يمثل(7/450)
بهم، أو يمن عليهم بتخلية سبيلهم، أو يفاديهم بالرجال، أو بالمال، أو يسترقهم، ويكون مال الفداء ورقابهم إذا استرقوا، كسائر أموال الغنيمة، وليس هذا التخيير للتشهي، بل يلزم الامام أن يجتهد ويفعل من هذه الامور الاربعة ما هو الحظ للمسلمين، فإن لم يظهر له وجه الصواب في الحال وتردد، حبسهم حتى يظهر، وسواء في الاسترقاق كان الاسير كتابيا أو وثنيا، وقال الاصطخري: يحرم استرقاق الوثني، لانه لا يقر بالجزية، والصحيح الاول، وسواء كان الكافر من العرب، أو غيرهم على الجديد المشهور، وفي القديم لا يجوز استرقاق العرب، وهل يجوز استرقاق بعض شخص ؟ وجهان، أصحهما: نعم، قال البغوي: فإن منعناه، فضرب الرق على بعضه، رق كله، وكان يجوز أن يقال: لا يرق شئ، وإذا اختار الفداء، جاز بالمال سلاحا كان أو غيره، ويجوز بأسارى المسلمين، فيرد مشركا بمسلم، أو مسلمين، أو مشركين بمسلم، ويجوز أن يفديهم بأسلحتنا التي في أيديهم، ولا يجوز أن يرد أسلحتهم التي في أيدينا بمال يبذلونه، كما لا يجوز أن يبيعهم السلاح، وفي جواز ردها بأسارى المسلمين وجهان. فرع لو قتل مسلم أو ذمي الاسير قبل أن يرى الامام رأيه فيه، عزر ولا قصاص ولا دية، لانه لا أمان له وهو حر إلى أن يسترق، ولذلك يجوز أن يخلى سبيله، والاموال لا ترد إليهم بعد الاغتنام، ولو وقع في الاسر صبي أو امرأة، فقيل: وجبت القيمة، لانه صار مالا بنفس الاسر، ثم إن سبي الصبي وحده، فهو محكوم بإسلامه تبعا للسابي، ففيه قيمة عبد مسلم، وإن كان قاتله عبدا، لزمه القصاص. فرع لو أسر بالغ له زوجة، لم ينفسخ عقد نكاحه بالاسر، فإن فاداه الامام، أو من عليه، استمرت الزوجية، وإن استرقه، ارتفع النكاح حينئذ، وإن أسر صبي له زوجة، انفسخ النكاح بنفس أسره. فرع لو أسر كافر ومعه زوجته وصبيانه، يخير الامام فيه دونهم. المسألة الثانية: إذا أسلم الاسير وهو رجل حر مكلف قبل أن يختار الامام فيه(7/451)
شيئا، عصم دمه، وهل يصير رقيقا بنفس الاسلام ؟ فيه طريقان، أصحهما: على قولين، أحدهما: نعم، لانه أسير محرم القتل فأشبه الصبي، وأظهرهما: لا يرق، بل للامام أن يسترقه، أو يمن، أو يفادي، والطريق الثاني: القطع بالتخيير، لانه كان ثابتا، فلا يزول، فإن اختار الفداء، فشرطه أن يكون له فيهم عز أو عشيرة يسلم بها ديته ونفسه، وسواء قلنا: يرق، أو يجوز إرقاقه، فأرقه، كان غنيمة، وكذا لو فاداه بمال، كان غنيمة، ولو أسلم قبل أسره والظفر به، عصم دمه وماله، سواء أسلم وهو محصور وقد قرب الفتح، أو أسلم في حال أمنه، وسواء أسلم في دار الحرب، أو الاسلام، ويعصم أيضا أولاده الصغار عن السبي، ويحكم بإسلامهم تبعا له، والحمل كالمنفصل، فلا يسترق تبعا لامه، وهل يعصم إسلام الجد ولد ابنه الصغير ؟ فيه أوجه، أصحها: نعم، والثاني: لا، والثالث: إن كان الابن ميتا، عصم، وإلا فلا، والمجنون من أولاده، كالصغير، فلو كان بلغ عاقلا، ثم جن، عصمه أيضا على الصحيح، ولو أسلمت المرأة قبل الظفر بها، عصمت نفسها ومالها وأولادها الصغار، وحكى الفوراني في الاولاد قولا، وهو شاذ مردود، وأما الاولاد البالغون العقلاء، فلا يعصمهم إسلام الاب لاستقلالهم بالاسلام، وهل يعصم إسلامه قبل الاسر زوجته عن الاسترقاق ؟ نص أنه يجوز استرقاقها، ونص أن المسلم لو أعتق كافرا، فالتحق بدار الحرب، لا يجوز استرقاقه، فقيل: فيهما قولان، أحدهما: لا تسترق زوجته ولا عتيقه لئلا يبطل حقه، كما لا يغنم ماله، والثاني: يسترقان لاستقلالهما، والمذهب تقرير النصين، لان الولاء لا يرتفع وإن تراضيا بخلاف النكاح، ويجري الخلاف في استرقاق حربية نكحها مسلم وهو في دار الحرب، فإن قلنا: لا يعصمها وكانت حاملا عند إسلامه، ففي جواز استرقاقها وجهان، أحدهما: المنع، لان الحمل محكوم بإسلامه، فلا تملك دونه كما لا تباع دونه، وأصحهما: نعم، لانها حربية، فأشبهت غيرها، وإذا استرقت، فإن كان قبل الدخول، انقطع النكاح في الحال، لانه زال ملكها عن نفسها، فملك الزوج أولى، ولانها صارت أمة كافرة، ولا يجوز إمساك أمة كافرة للنكاح، وقيل: يستمر النكاح وإن استرقت، حكاه صاحب التقريب والصحيح الاول، وإن كان بعد الدخول فوجهان، أصحهما: انقطاع النكاح، والثاني: يتوقف مدة العدة، فإن أعتقت، وأسلمت قبل انقضاء العدة، استمر النكاح، وكذا(7/452)
لو أعتقت ولم تسلم، لان إمساك الحرة الكتابية للنكاح جائز، فلو أسلمت ولم تعتق، فإن كان الزوج ممن يجوز له نكاح الامة، فله إمساكها، وإلا ففي جواز إمساكها وجهان، ولو أسلم بعد ما استرقت زوجته الحامل، حكم بإسلام الحمل، ولم يبطل رقه، ولو أسلمت حامل تحت حربي، لم تسترق هي ولا ولدها، لانهما مسلمان. فرع لو استأجر مسلم دار حربي في دار الحرب، ثم غنمها المسلمون، أو استأجر حربيا رقيقا، أو حرا، فاسترق، لم تنقطع الاجارة، بل يبقى للمستأجر استحقاق المنفعة، لان منافع الاموال مملوكة ملكا تاما مضمونة، كأعيان الاموال بخلاف منفعة البضع، فإنها تستباح، ولا تملك ملكا تاما، ولهذا لا تضمن باليد، وقيل: في انقطاع الاجارة خلاف كانقطاع النكاح. فرع يجوز سبي منكوحة الذمي إذا كانت حربية، وينقطع به نكاحه، وأما سبي عتيقه واسترقاقه فيبنى على استرقاق عتيق المسلم، إن جوزناه، فهنا أولى، وإلا فوجهان، أصحهما: يجوز، لان الذمي لو التحق بدار الحرب، استرق، فعتيقه أولى، ولو أعتق ذمي عبدا، ثم نقض السيد العهد وصار حربيا، فالصحيح أن ولاءه على عتيقه لا يبطل، حتى لو عتق كان ولاؤه باقيا عليه، ولمعتقه أيضا الولاء على عتيقه، ولو ملك عتيقه، كان لكل واحد منهما الولاء على الآخر، وفي وجه يبطل باسترقاقه ولاؤه على عتيقه، كما يبطل ملكه على عبده. فرع إذا سبي الزوجان معا، أو سبي أحدهما، انفسخ النكاح، صغيرين كانا أو كبيرين، واسترق الزوج، وسواء كان قبل الدخول أو بعده، لقول الله تعالى: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا توطأ حامل حتى تضع ولم يفرق، ولان الرق يزيل ملكها عن نفسها، فعصمة النكاح أولى(7/453)
بالزوال، وإن كان الزوجان رقيقين، فغنما، أو أحدهما، ففي انقطاع النكاح وجهان، سواء أسلما أم لا، أصحهما: لا ينقطع إذا لم يحدث رق، وإنما انتقل من شخص إلى شخص، فأشبه البيع وغيره، والثاني: ينقطع، لحدوث السبي، ولهذا لو سبيت مستولدة، صارت قنة، ومنهم من قطع بالاول. المسألة الثالثة: لو كان لمسلم على حربي دين، فاسترق، لم يسقط الدين، فلو كان الدين للسابي، ففي سقوطه الوجهان فيمن كان له دين على عبد غيره فملكه، وإذا لم يسقط، قضى من الغنيمة بعد استرقاقه ويقدم الدين على الغنيمة، كما يقدم على الوصية، وإن زال ملكه بالرق، كما أن الدين على المرتد يقضى من ماله، وإن أزلنا ملكه، ولان الرق كالموت والحجر، وكلاهما يعلق الدين بالمال، فإن غنم المال قبل استرقاقه، ملكه الغانمون، ولم يقض منه الدين، كما لو انتقل ملكه بوجه آخر، وإن غنم مع استرقاقه، فوجهان، أحدهما: يقدم الدين، كما يقدم في التركة، وأصحهما: تقدم الغنيمة، لتعلقها بالعين، كما يقدم حق المجني عليه على حق المرتهن، وليس من المعية أن يقع الاغتنام مع الاسر، لان المال يملك بنفس الاخذ، والرق لا يحصل بنفس الاسر في الرجال الكاملين، ولكن يظهر ذلك في النسوة، وفيما إذا وقع الاغتنام مع إرقاق الامام بعد الاسر، وإذا لم يوجد مال يقضي منه الدين، فهو في ذمته إلى أن يعتق، وهل يحل الدين المؤجل بالرق ؟ وجهان مرتبان على الخلاف في الحلول بالافلاس، وأولى بالحلول، لانه يشبه الموت من حيث إنه يزيل الملك، ويقطع النكاح، هذا إن كان الدين لمسلم، فإن كان لذمي، فمثله أجاب الامام، وقال: دين الذمي محترم، كعين ماله، وذكر البغوي فيه وجهين، وإن كان الحربي، واسترق المدين، فالمحكي عن القاضي حسين وهو الظاهر: سقوط الدين وفيه احتمال للامام، هذا إذا استرق من عليه الدين، أما إذا استرق من له الدين، فلا تبرأ ذمة المدين، بل هو كودائع الحربي المسبي، هذا لفظه في الوسيط ولم ينص والحالة هذه على حال من عليه الدين، وذكر الامام هذا(7/454)
الجواب فيما إذا استقرض مسلم من حربي، أو اشترى منه شيئا والتزم الثمن ثم استرق المستحق، قال: لا يسقط، وفي التهذيب أنه لو كان لحربي على حربي دين، واسترق من أحدهما، سقط لزوال ملكه، قال: ولو قهر المدين رب الدين، سقط، لان الدار دار حرب، حتى إذا قهر العبد سيده يصير حرا ويصير السيد عبدا له، ولو قهرت أمرأة زوجها، ملكته، وانفسخ النكاح، وقد يفهم من هذه الجملة أنه إن كان دين المسترق على مسلم، طولب به، كما يطالب بودائعه، لانه ملتزم، وإن كان على حربي، سقط، لان المستحق زال ملكه، والحربي غير ملتزم حتى يطالب، ولو اقترض من حربي، أو التزم بالشراء ثمنا، ثم أسلما، أو قبلا الجزية، أو الامان، فالاستحقاق مستمر، وكذا يبقى مهر الزوجة إذا أسلما إن لم يكن خمرا ونحوه، ولو سبق المستقرض إلى الاسلام أو الامان، فالنص أن الدين يستمر، كما لو أسلما، ونص أنه لو ماتت زوجة حربي، فجاءنا مسلما، أو مستأمنا، فجاء ورثتها يطلبون مهرها، لم يكن لهم شئ، وللاصحاب طريقان، أحدهما: فيهما قولان، أظهرهما: يبقى الاستحقاق، وعلى هذا تبتنى قواعد نكاح المشركات، والثاني: المنع، لانه يبعد أن يمكن الحربي من مطالبة مسلم أو ذمي، والطريق الثاني: القطع بالقول الاول، وحمل النص الثاني على من أصدقها خمرا، وقبضته في الكفر، ولو أتلف حربي مالا على حربي، أو غصبه، ثم أسلما، أو أسلم المتلف، فوجهان، أصحهما: لا يطالبه بالضمان، لانه لم يلتزم شيئا، والاسلام يجب ما قبله، والاتلاف ليس عقدا يستدام، ولان الحربي لو قهر حربيا على ماله ملكه، والاتلاف نوع من القهر، ولان إتلاف مال الحربي لا يزيد على إتلاف مال المسلم، وهو لا يوجب الضمان على الحربي، والثاني: يطالب، لانه لازم عندهم، فكأنهم تراضوا عليه، ويزيد على هذا ما نقل عن القاضي حسين أن الحربي لو جنى على مسلم، فاسترق، فأرش الجناية في ذمته، قال الامام: هذا إخلال من ناقل، أو هفوة من القاضي. المسألة الرابعة: إذا سبيت امرأة وولدها الصغير، لم يفرق بينهما في القسمة، بل يقومهما، فإن وافقت قيمتهما نصيب أحد الغانمين، جعلهما له، وإلا اشترك فيهما اثنان، أو باعهما، وجعل ثمنهما في المغنم، فإن فرق بينهما في القسمة، ففي صحتها قولان كما سبق في البيع، فإن صححنا، فعن صاحب(7/455)
الحاوي أن المتبايعين لا يقران على التفريق، بل يقال لهما: إن تراضيتما ببيع الآخر ليجتمعا في الملك، فذاك، وإلا فسخنا البيع، وقال ابن كج: يقال للبائع: يتطوع بتسليم الآخر، أو يفسخ البيع، فإن تطوع، فامتنع المشتري من القبول، فسخ البيع، ولو رضيت الام بالتفريق، لم يرتفع التحريم على الصحيح رعاية لحق الولد، وأم الام عند عدم الام كالام، فلو كان له أم وجدة، فبيع مع الام، فلا تحريم، وإن بيع مع الجدة، وقطع عن الام، حرم على الاظهر، والاب كالام على الاظهر أو الاصح، وفي الاجداد والجدات من جهة الاب أوجه، ثالثها: يجوز التفريق بينه وبين الاجداد دون الجدات، لانهن أصلح للتربية، ولا يحرم التفريق بينه وبين سائر المحارم، كالاخ والعم وغيرهما، على المذهب، وقيل: هم كالاب، ولو كان له أبوان، حرم التفريق بينه وبين الاب، ويجوز التفريق للضرورة، مثل أن تكون الام حرة، فيجوز بيع الولد، ولو كانت الام لواحد والولد لآخر، فلكل منهما بيع ملكه منفردا، وقد سبق في كتاب البيع أن التحريم هل ينتهي لسن التمييز أم يبقى إلى البلوغ ؟ قولان، أظهرهما: الاول.
الطرف الثالث : في إتلاف أموالهم إن احتاج المسلمون إلى إتلاف أموال الكفار، كتخريب بناء، وقطع شجر، ليكفوا عن القتال أو ليظفروا بهم، فلهم ذلك، وإن لم يحتاجوا، نظر إن لم يغلب على ظنهم حصول ذلك المال للمسلمين، جاز إتلافه مغايظة لهم وتشديدا عليهم، وإن غلب على الظن حصوله، كره الاتلاف، ولا يحرم على الاصح، هذا إذا دخل الامام دارهم مغيرا ولم يمكنه الاستقرار فيها، فأما إذا فتحها قهرا، فيحرم التخريب والقطع، لانها صارت غنيمة، وكذا لو فتحها صلحا على أن تكون لنا، أو لهم، ولو غنما أموالهم وانصرفنا، وخفنا الاسترداد، فإن كانت غير حيوان، جاز إتلافها، لئلا يأخذوها فيتقووا بها، وأما الحيوان، فإن قاتلونا عليه واحتجنا في القتال إلى عقره لدفعهم أو للظفر بهم، جاز، وإن غنمنا خيلهم وماشيتهم، ولحقونا وخفنا الاسترداد، أو ضعف بعضها، وتعذر سوقها، لم يجز عقرها وإتلافها، لكن تذبح للاكل، وإن خفنا أنهم يأخذون الخيل، ويقاتلوننا عليها، ويشتد الامر، جاز إتلافها، ولو لحقونا ومعنا نساؤهم وصبيانهم، وخفنا استردادهم، لم يجز قتلهم قطعا.(7/456)
فرع لو ظفرنا بكتب لهم مما يحل الانتفاع به، كطب وشعر ولغة وحساب وتواريخ، فلها حكم سائر الاموال، فتباع أو تقسم، وما حرم الانتفاع به، ككتب الكفر والهجو والفحش المحض، لم يترك بحاله بل إن كان في رق أو كاغد ثخين وأمكن غسله، غسل، ثم هو كسائر الاموال، فإن لم يمكن، أبطلت منفعته بتمزيق، ثم الممزق كسائر الاموال، وعن القاضي أبي الطيب أنها تمزق أو تحرق، وضعفوا الاحراق لما فيه من التضييع، لان للمزق قيمة وإن قلت، وكتب التوراة والانجيل مما يحرم الانتفاع به، لانهم بدلوا وغيروا، وإنما نقرها في أيديهم كما نقر الخمر. فرع إذا دخلنا دارهم غزاة، قتلنا الخنازير، وأرقنا الخمور، وتحمل ظروفها إلا أن لا تزيد قيمتها على مؤنة حملها، فنتلفها، وإن وقع كلب ينتفع به للاصطياد أو للماشية والزرع، فحكى الامام عن العراقيين أن للامام أن يسلمه إلى واحد من المسلمين، لعلمه بحاجته إليه، ولا يحسب عليه، واعترض بأن الكلب منتفع به، فليكن حق اليد فيه لجميعهم، كما أن من مات وله كلب لا يستبد به بعض الورثة، والموجود في كتب العراقيين أنه إن أراده بعض الغانمين، أو أهل الخمس ولم ينازعه غيره، سلم إليه، وإن تنازعوا، فإن وجدنا كلابا وامكنت القسمة عددا، قسم، وإلا أقرع بينهم، وهذا هو المذهب وقد سبق في الوصية أنه تعتبر قيمتها عند من يرى لها قيمة، وتعتبر منافعها فيمكن أن يقال به هنا.
الطرف الرابع : في الاغتنام قد سبق في كتاب قسم الغنيمة أن الغنيمة: المال المأخوذ من الكفار بالقهر وإيجاف خيل وركاب، والفئ: ما حصل منهم بلا قتال، وإذا دخل واحد أو شرذمة دار الحرب مستخفين، وأخذوا مالا على صورة السرقة، فوجهان، أحدهما وبه قطع الغزالي، وادعى الامام أنه المذهب المعروف: أنه ملك من أخذه خاصة، والاصح الموافق لكلام الجمهور: أنه غنيمة مخمسة، وقد قال الاصحاب: لو غزت طائفة بغير إذن الامام متلصصين وأخذت مالا، فهو غنيمة مخمسة، وفي التهذيب أن الواحد إذا دخل دار الحرب، وأخذ مال حربي بقتال، أخذ منه الخمس، والباقي له، وإن أخذه على جهة السوم، ثم جحده، أو هرب، فهو له، ولا يخمس، وهذه الصورة قريبة من السرقة، والمأخوذ على صورة اختلاس كالمأخوذ على صورة(7/457)
السرقة، وقال صاحب الحاوي: هو غنيمة، وعن أبي إسحق أنه فئ، لانه بغير إيجاف خيل، وليكن الوجه القائل باختصاص السارق والمختلس مخصوصا بما إذا دخل واحد أو نفر يسير دار الحرب، وأخذوا، فأما إذا أخذ بعض الجيش بسرقة أو اختلاس، فيشبه أن يكون غلولا، ويدل عليه أن الروياني نقل أن ما يهديه الكافر إلى الامام، أو إلى واحد من المسلمين والحرب قائمة، لا يملكه المهدى إليه بكل حال، وإذا لم يختص المهدى إليه بالهدية، فأولى أن لا يختص سارق بمسروق. فرع المال الضائع الذي يؤخذ في دارهم على هيئة اللقيطة، إن كان مما يعلم أنه للكفار، فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور: أنه غنيمة، لا يختص به الآخذ، وقال الامام والغزالي: هو لمن أخذه بناء على أن المسروق لمن أخذه، فإن أمكن كونه للمسلمين، بأن كان هناك مسلمون، أو أمكن أن يكون ضالة بعض الجيش، وجب تعريفه، ثم بعده يعود خلاف الجمهور والامام في أنه غنيمة أم للآخذ ؟ وأما صفة التعريف، فقال الشيخ أبو حامد: يعرفه يوما أو يومين، ويقرب منه قول الامام: يكفي بلوغ التعريف إلى الاجناد إذا لم يكن هناك مسلم سواهم، ولا ينظر إلى احتمال مرور التجار، وفي المهذب والتهذيب يعرفه سنة، ولفظ التهذيب: أنه لو وجد ضالة في دار الحرب لحربي، فهي غنيمة، فالخمس لاهله، والباقي له ولمن معه، ولو وجد ضالة لحربي في دار الاسلام، لم يختص هو بها، بل تكون فيئا، وكذا لو دخل صبي، أو امرأة منهم بلادنا، فأخذه رجل، يكون فيئا، وإن دخل منهم رجل، فأخذه مسلم، كان غنيمة، لان لاخذه مؤنة، وللامام الخيار فيه، فإن استرقه، كان الخمس لاهله، والباقي لمن أخذه بخلاف الضالة، لانها مال للكفار حصل في أيدينا بلا قتال. فرع المباحات التي لم يملكها أحد، كالحطب والحشيش والحجر والصيد البري والبحري، من أخذها، ملكها كدار الاسلام، قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر: إلا أن يكون مصنوعا أو صيدا مقرطا أو موسوما، فلا يكون لمن أخذه، يعني إلا أن يكون حجرا مصنوعا بنقر أو نقش، أو منحوتا، والمقرط: في أذنه قرط، ويروى مقرطق، وهو الذي جز صوفه، وجعل على هيئة القرطق، فهذه الاحوال آثار للملك والدار للكفار، فالظاهر أنها كانت لهم، فتكون غنيمة، فإن أمكن كونها لمسلم، فهي كسائر الضوال يجب تعريفها كما سبق.(7/458)
فصل للغنيمة أحكام، أحدها: يجوز التبسط بتناول أطعمتها، وبعلف الدواب قبل القسمة بلا عوض، فيحتاج إلى بيان جنس المأخوذ، والمنفعة المعتبرة، والاخذ ومكان الاخذ، أما جنسه، فهو القوت وما يصلح به القوت، واللحم والشحم وكل طعام يعتاد أكله على العموم، ولعلف الدواب التبن والشعير وما في معناهما، وذكر الامام فيما ليس بقوت، ولكن يؤكل غالبا، كالفواكه، وجهين، وقطع الجمهور بجواز التبسط في الجميع، وأما الفانيد والسكر والادوية التي تندر الحاجة إليها، ففيها أوجه، الصحيح وبه قال الجمهور: لا تباح لندور الحاجة، فإن احتاج إليها مريض منهم، أخذ قدر حاجته بقيمته، وينبغي أن يقال: يراجع أمير الجيش فيه، والثاني: تباح للحاجة بلا عوض، والثالث: أن ما لا يؤكل إلا تداويا، يحسب عليه، وما يكون للتداوي وغيره، لا يحسب عليه، وأما المنفعة المعتبرة، فمنفعة الاكل والشرب والعلف، وفي جواز أخذ الشحم والدهن لتوقيح الدواب، وهو مسحها بالمذاب، وهو المغلي ولجربها وجهان، أحدهما: الجواز، كعلفها، والاصح المنصوص: المنع، كالمداواة، وعلى الاول ينبغي أن يجوز الادهان بها، ولا يجوز إطعام البزاة والصقور منها بخلاف الدواب المحتاج إليها للركوب والحمل. ولا يجوز أخذ سائر الاموال ولا الانتفاع بها، كلبس ثوب وركوب دابة، فلو خالف، لزمته الاجرة، كما تلزمه القيمة إذا أتلف بعض الاعيان، فإن احتاج لة رد وغيره، قال الروياني: يستأذن الامام ويحسب عليه، ويجوز أن يأذن في لبسه بالاجرة مدة الحاجة، ثم يرده إلى المغنم، ولا يجوز استعمال السلاح إلا أن يضطر إليه في القتال، فإذا انقضت الحرب، رده إلى المغنم، ويجوز ذبح الحيوان المأكول للحمه، كتناول الاطعمة، وقيل: لا يجوز، لندور الحاجة إليه، والصحيح الاول، ثم قال الجماهير: لا فرق بين الغنم وسائر الحيوانات المأكولة، وأشار الامام إلى تخصيص الذبح بالغنم، وصرح به الغزالي، والصواب الاول. ثم ما يذبح يجب رد جلده إلى المغنم، إلا ما يؤكل مع اللحم، ويحرم على الذابح أن يتخذ من جلده سقاء أو حذاء أو شراكا، فإن فعل، وجب رد المصنوع كذلك ولا شئ له في الصنعة، بل إن نقص، لزمه الارش، وإن استعمله، لزمه الاجرة ومتى ذبح ما يجوز ذبحه، هل تلزمه قيمته لندور الحاجة ؟ وجهان، الصحيح:(7/459)
المنع، كالاطعمة، ودعوى الندور ممنوعة. أما الاخذ وقدر المأخوذ، فيجوز أخذ العلف والطعام لمن يحتاج إليه، فلو كان معه ما يغنيه عنهما، هل له الاخذ ؟ وجهان، أحدهما: لا، لاستغنائه، وأصحهما: نعم، لاطلاق الاحاديث، وكل من أخذ، فليأخذ كفايته، ولا بأس باختلاف قدر ما يأخذون بحسب الحاجة، قال البغوي: ولهم التزود لقطع مسافة بين أيديهم، ولو أكل فوق حاجته، لزمه قيمته، نص عليه، ولو كان معه دابتان فأكثر، فله أخذ علفهن، وفي وجه لا يأخذ إلا علف واحدة، كما لا يسهم إلا لفرس، والصحيح الاول، ولو أخذ غانم فوق حاجته، وضيف به غانما أو غانمين، جاز، وليس فيه إلا أنه تولى إصلاح الطعام لهم وليس له أن يضيف به غير الغانمين، فإن فعل، لزم الآكل الضمان، ويكون المضيف كمن قدم طعاما مغصوبا إلى ضيف فأكله، فينظر أعلم الحال أم جهله، والحكم ما سبق في كتاب الغصب، ولو أتلف بعض الغانمين من طعام الغنيمة شيئا، كان كإتلافه مالا آخر، فيلزمه رد القيمة إلى المغنم، لانه لم يستعمله في الوجه المسوغ شرعا، وما يأخذه لا يملكه بالاخذ، لكن أبيح له الاخذ، كالضيف، ذكره الامام. ولو لحق الجيش مدد بعد انقضاء القتال وحيازة المال، هل لهم التبسط في الاطعمة ؟ وجهان، أصحهما: المنع، وبه قطع البغوي، ووجه الجواز مظنة الحاجة وعزة الطعام هناك، ومن دخل من الغانمين دار الاسلام وقد فضل مما أخذه شئ، ففي وجوب رده إلى المغنم ثلاثة أقوال، أظهرها: يجب، لزوال الحاجة والمأخوذ متعلق حق الجميع، والثاني: لا، لاباحة الاخذ، والثالث: إن كان قليلا لا يبالى به، ككسر الخبز وبقية التبن في المخالي، لم يرد، وإلا فيرد، ومتى وجب الرد، فإن لم تقسم الغنيمة، رده إلى المغنم، وإن قسمت، رده إلى الامام، فإن أمكن قسمته كما قسمت الغنيمة، فعل، وإن لم يكن لنزارة ذلك القدر ولتفرق الغانمين، قال الصيدلاني: يجعل في سهم المصالح، أما مكان الاخذ والتبسط، فهو دار الحرب، فإذا انتهوا إلى عمران دار الاسلام، وتمكنوا من الشراء، أمسكوا، ولو خرجوا عن دار الحرب، ولم ينتهوا إلى عمران دار الاسلام فوجهان،(7/460)
أصحهما: جواز التبسط، لبقاء الحاجة، والثاني: المنع، لان مظنة الحاجة دار الحرب فنياط الحكم به وعكسه، ولو وجدوا سوقا في دار الحرب: وتمكنوا من الشراء، فقد طرد الغزالي فيه الوجهين لانعكاس الدليلين، وقطع الامام بالجواز وقال: لم أر أحدا منع التبسط بهذا السبب، ونزلوا دار الحرب في إباحة الطعام منزلة السفر في الرخص، فإنها وإن ثبتت لمشقة السفر، فالمرفه الذي لا كلفة عليه يشارك فيها، وذكر أنه لو كان لجماعة من الكفار معنا مهادنة، وكانوا لا يمتنعون من مبايعة من يطرقهم من المسلمين، فالظاهر وجوب الكف عن أطعمة المغنم في دارهم، لانها وإن لم تكن مضافة إلى دار الاسلام، فهي في قبضة الامام بمثابة دار الاسلام فيما نحن فيه للتمكن من الشراء منهم. فرع ليس للغانم أن يقرض ما أخذه من الطعام والعلف لغير الغانمين ولا أن يبيعه، فإن فعل، لزم الآخذ رده إلى المغنم، فلو أقرضه غانما آخر فوجهان، الصحيح عند الجمهور وهو المنصوص: أن للمقرض مطالبة المقترض بعينه أو بمثله من المغنم، لا من خالص ماله، لانه إذا أخذه صار أحق به، ولم تزل يده عنه إلا ببدل. والثاني وهو قول الشيخ أبي حامد، ورجحه الامام: أنه لا مطالبة، ولا يلزمه الرد، لان الآخذ من جملة المستحقين، وإذا حصل في يده، فكأنه أخذه بنفسه، والوجهان متفقان أنه ليس قرضا محققا، لان الآخذ لا يملك المأخوذ حتى يملكه لغيره، فعلى الاول: لو رد عليه من خالص ملكه، لم يأخذه المقرض، لان غير المملوك لا يقابل بالمملوك حتى إذا لم يكن في المغنم طعام آخر، سقطت المطالبة، وإذا رد من المغنم، الاول أحق به لحصوله في يده، وعلى هذا إذا دخلوا دار الاسلام، انقطعت حقوق الغانمين عن أطعمة المغنم، فيرد المستقرض على الامام، وإذا دخلوا دار الاسلام وقد بقي عين المستقرض في يد المقترض، بني على أن الباقي من طعام المغنم هل يجب رده إلى المغنم ؟ إن قلنا: نعم، رده إلى المغنم، وإلا، فإن جعلنا للقرض اعتبارا، رده إلى المقرض، وإلا لم يلزمه شئ. فرع لو باع غانم ما أخذه لغانم آخر، فهذا إبدال مباح بمباح، وهو كإبدال الضيفان لقمة بلقمة، وكل واحد منهما أولى بما صار إليه، ولو تبايعا صاعا(7/461)
بصاعين، لم يكن ذلك ربا، لانه ليس بمعاوضة محققة. فرع مقتضى ما تكرر أن المأخوذ مباح للغانم غير مملوك أنه لا يجوز له أن يأكل طعام نفسه، ويصرف المأخوذ إلى حاجة أخرى بدلا عن طعامه، كما لا يتصرف الضيف فيما قدم إليه إلا بالاكل. فرع قال الامام: لو قل الطعام، واستشعر الامير الازدحام والتنازع فيه، جعله تحت يده، وقسمه على المحتاجين على قدر حاجاتهم، وله أن يمنع من معه كفايته مزاحمة المحتاجين. الحكم الثاني: سقوط حق الغانمين بالاعراض وفيه مسائل: إحداها: يسقط حق الغانم بالاعراض عن الغنيمة، وتركها قبل القسمة، لان المقصود الاعظم من الجهاد إعلاء الدين، والذب عن الملة، والغنيمة تابعة، فمن أعرض عنها، فقد محض عمله للمقصود الاعظم، ولو قال أحدهم: وهبت نصيبي للغانمين، فإن أراد الاسقاط، سقط حقه، وإن أراد التمليك، فوجهان، أصحهما عند صاحب الشامل: الصحة، وبه قال أبو إسحق، وأقواهما: المنع وبه قال ابن أبي هريرة، وأما بعد القسمة فيستقر الملك، ولا يسقط بالاعراض، كسائر الاملاك، ولو أفرز الخمس، ولم يقسم الاخماس الاربعة فوجهان، ويقال: قولان، الاصح المنصوص: يصح الاعراض، لانه لم يتعين حقه، والثاني خرجه ابن سريج: لا يصح، لان حقهم تميز عن الجهات العامة، فصار كمال مشترك، ولو قال: اخترت الغنيمة، هل يمنع ذلك من صحة الاعراض وجهان، أشبههما: نعم، ولو أعرض جميع الغانمين فوجهان، أصحهما: يصح إعراضهم، فيصرف الجميع إلى مصرف الخمس، لان المعنى المصحح للاعراض يشمل للواحد والجمع، وأما أصحاب الخمس فغير ذوي القربى جهات عامة لا يتصور فيها(7/462)
إعراض، وفي صحة إعراض ذوي القربى وجهان، أحدهما: نعم، كالغانم، وأصحهما: لا، لانهم يستحقونه بلا عمل، فأشبه الارث، ولو كان من الغانمين محجور عليه بفلس، صح إعراضه، لان اختيار التملك كالاكتساب، فلا يلزمه، ولان الاعراض يمحض جهاده للآخرة، فلا يمنع منه، ولو أعرض محجور عليه بسفه، قال الامام: ففي صحة إعراضه تردد، ولعل الظاهر: المنع، فلو فك حجره قبل القسمة، صح إعراضه، ولا يصح إعراض صبي عن الرضخ، ولا إعراض وليه، فإن بلغ قبل القسمة، صح إعراضه، ولا يصح إعراض العبد عن رضخه، ويصح إعراض سيده، لانه حقه، ولا يصح إعراض مستحق السلب عنه على الاصح، لانه متعين كالوارث، وكنصيبه بعد القسمة. فرع من أعرض من الغانمين، قدر كأنه لم يحضر، وضم نصيبه إلى المغنم، وقيل: يضم إلى الخمس خاصة، والصحيح الاول، ولو مات غانم ولم يعرض، انتقل حقه إلى ورثته، فإن شاؤوا طلبوا، أو أعرضوا. المسألة الثانية: في وقت ملك الغانمين الغنيمة ثلاثة أوجه، أصحها: لا يملكون إلا بالقسمة، لكن لهم أن يتملكوا بين الحيازة والقسمة، لانهم لو ملكوا لم يصح إعراضهم، كمن احتطب، ولان للامام أن يخص كل طائفة بنوع من المال، ولو ملكوا، لم يصح إبطال حقهم عن نوع بغير رضاهم، والثاني: يملكون بالحيازة والاستيلاد التام، لان الاستيلاد على ما ليس بمعصوم من المال سبب للملك،. ولان ملك الكفار زال بالاستيلاد، ولو لم يملكوا، لزال الملك إلى غير مالك، لكنه ملك ضعيف يسقط بالاعراض، والثالث: موقوف، فإن سلمت الغنيمة حتى قسموها، بان أنهم ملكوا بالاستيلاد، وإلا فإن تلفت، أو أعرضوا، تبينا عدم الملك، فعلى هذا قال الامام: لا نقول بان بالقسمة أن حصة كل واحد بعينها، صارت ملكه بالاستيلاد، بل نقول: إذا اقتسموا، بان أنهم ملكوا الغنيمة ملكا مشاعا، ثم بالقسمة تميزت الحصص، وقيل: يتعين بالقسمة أن كل واحد ملك حصته على التعين، وهو ضعيف. واعلم أن في كلام الاصحاب تصريحا بأن(7/463)
الغانمين وإن لم يملكوا الغنيمة، فمن قال منهم: اخترت ملك نصيبي، ملكه، وقد ذكرنا هذا في كتاب الزكاة، فإذا الاعتبار باختيار التملك لا بالقسمة، وإنما تعتبر القسمة لتضمنها اختيار التملك. فرع ذكروا هنا وفي كتاب الزكاة أن للامام أن يقسم الغنيمة قسمة تحكم، فيخص بعضهم ببعض الانواع وببعض الاعيان، وحينئذ فقولنا: تملك بالقسمة، معناه في غالب الامر، وهو إذا رضي الغانم بالقسمة، أو قبل ما عينه له الامام، فأما إذا رد، فينبعي أن يصح رده، وذكر البغوي فيه خلافا، فقال: إذا أفرز الامام الخمس، وأفرز نصيب كل واحد منهم، أو أفرز لكل طائفة شيئا معلوما، فلا يملكونه قبل اختيار التملك على الاصح، حتى لو ترك بعضهم حقه، صرف إلى الباقين. فرع لو سرق بعض الغانمين من الغنيمة قبل إفراز الخمس، لم يقطع، حرا كان أو عبدا، لان له حقا في خمس الخمس وفي الاخماس الاربعة، وإن سرق بعد إفراز الخمس، نظر إن سرق منه، فلا قطع، وإن سرق من الاخماس قدر نصيبه أو أكثر ولم تبلغ الزيادة نصابا، فلا قطع، وكذا إن بلغته على الاصح، لان حقه متعلق بجميع الغنيمة لجواز إعراض الباقين، فيكون الجميع له، وعلى كل حال يسترد المسروق، وإن تلف، فبدله، ويجعل في المغنم، ولو غل من الغنيمة بعض الغانمين، عزر، وإن سرق غير الغانمين، نظر إن كان له في الغانمين ولد أو والد أو عبد، فهو كسرقة الغانم، وإلا فإن سرق قبل إفراز الخمس، فهو كسرقته مال بيت المال، لان فيه مالا لبيت المال، وإن سرق بعد إفراز الخمس، فإن سرق من الاخماس الاربعة، قطع، وإن سرق من الخمس قبل إخراج خمسه، أو سرق من خمس المصالح بعد إفرازه، فهو سرقة مال بيت المال، وإن سرق من أربعة أخماسه، لم يقطع إن كان من أهل استحقاقها، وإلا فيقطع على الاصح، ووجه المنع أنه يجوز أن يصير منهم. فرع لو وطئ أحد الغانمين جارية من الغنيمة قبل القسمة، فلا حد عليه، وفي قول قديم، يحد، والمشهور الاول، لان له شبهة، لكن يعزر إن كان عالما، وإن كان جاهلا لقرب عهده بالاسلام نهي عنه، ويعرف حكمه، وإذا لم يجب الحد، وجب المهر، ثم ينظر إن كان الغانمون محصورين يتيسر ضبطهم،(7/464)
ففي قدره وجهان، أحدهما: كل المهر، والصحيح المنصوص: أنه يغرم منه حصة الخمس وحصة غيره من الغانمين وتسقط حصته، وفي قول: إن وقعت الجارية في حصة الواطئ، فلا شئ عليه، وخرج الامام وجها أنها إن وقعت في حصته غيره، وجب له المهر، والمذهب ما سبق عن المنصوص، وإن كان الغانمون غير محصورين، ومعناه أن يعسر ضبطهم لكثرتهم، نظر إن أفرز الامام الخمس، وعين لكل طائفة شيئا، وكانت الجارية معينة لمخصوصين، فإن وطئ بعضهم بعد اختيارهم تملكها، فهذا وطئ جارية مشتركة، فيغرم من المهر قسط شركائه، وإن وطئ قبل اختيارهم التملك، فقيل: هو كما بعد الاختيار، والمذهب أنه كما لو كانوا محصورين في الاصل، إلا أنه لا يخمس المهر هنا، بل يوزع عليهم، فيسقط قسط الواطئ، ويلزمه قسط الباقين، وإن لم يفرز الامام، ولا عين شيئا، غرم الواطئ كل المهر، وضم إلى المغنم، وقسم بين الجميع، فيعود إلى الواطئ حصته، ولا يكلف الامام أن يضبطهم ويعرف حصته لما فيه من المشقة بخلاف ما لو كانوا محصورين وسهل الضبط، قال الامام: وليكن هذا الذي ذكره الاصحاب مخصوصا بما إذا طابت نفس الواطئ بغرم الجميع، فإن قال: أسقطوا حصتي، فلا بد من إجابته. قلت: ظاهر كلام الاصحاب خلاف قول الامام، ويحتمل أخذ هذا القدر منه وإن كان يستحقه للمصلحة العامة والمشقة الظاهرة، ولئلا يقدم بعض المستحقين في الاعطاء على بعض. والله أعلم. أما إذا أحبلها، فحكم الحد والمهر ما ذكرنا، ويزيد أمور. منها: الاستيلاد، فإن كان موسرا، ففي نفوذه في نصيبه طريقان، المذهب أنه لا ينفذ، وبه قطع العراقيون وكثير من غيرهم، فعلى هذا إن ملك الجارية بسهمه، أو بسبب آخر في وقت، ففي نفوذ الاستيلاد قولان يطردان في نظائره، الاظهر: النفوذ، وبه قطع البغوي، وقال صاحب الحاوي: إن كانوا محصورين، ولم يغنموا غير تلك الجارية، نفذ الاستيلاد في حصته قطعا بخلاف ما إذا كان في الغنيمة غيرها، فإنه يحتمل أن يجعل الامام الجارية لغيره، وإذا ثبت(7/465)
استيلاد نصيبه، سرى ليساره إلى الباقي، وهل تحصل السراية بنفس العلوق، أم بأداء قيمة نصيب الشريك ؟ قولان موضعهما كتاب العتق، قال الامام والغزالي: ويحصل اليسار بحصته من المغنم لغيرها، فإن لم تف حصته من غير تلك الجارية بالقيمة، سرى بقدر الحصة، وكان يمكن أن يخرج ذلك على أن الملك في الغنيمة هل يحصل قبل القسمة ؟ إن قلنا: لا، لم يكن موسرا يدل عليه أن الامام ذكر أن الحكم بغناه موقوف على أن لا يعرض ويستقر ملكه، فإن أعرض، تبينا أنه لم يكن غنيا، ولا تقول: حق السراية يلزمه أن يتملك، لان التملك كابتداء كسب، ومتى حكمنا بالاستيلاد في الحال، أو بعد وقوعه في حصته، لزمه القيمة، ثم هو في سقوط حصته، وأخذ الجميع بحسب انحصار القوم، وعدم انحصارهم على ما ذكرنا في المهر، وإن لم نحكم بالاستيلاد، فإن تأخرت القسمة حتى وضعت، جعلت في المغنم ودخلت في القسمة فإن دخلها نقص بالولادة لزمه الارش، وأما قبل الوضع، فهي حامل بحر وبيع الحامل بحر لا يصح على الاصح كما سبق في البيع، وإذا جعلنا القسمة بيعا، لم يكن ادخالها في القسمة فهل تقوم عليه وتؤخذ من قيمتها وتجعل في المغنم لانه بالاحبال حال بين الغانمين وبينها بيعا وقسمة أم تسلم إليه بحصته إن احتملتها أم يجوز ادخالها في القسمة للضرورة ؟ فيه خلاف أم إذا كان معسرا، فإن كانوا محصورين أو غير محصورين وأفرز الامام الجارية لطائفة ففي ثبوت الاستيلاد في حصته الخلاف المذكور في حصته المسر فإن أثبتنا فلا سراية وإن كانوا غير محصورين ولم يفرزها فلا استيلاد في الحال فإن وقعت في حصته، ثبت الاستيلاد حينئذ، وإن حصل له بعضها، ثبت في ذلك البعض. ومنها: الولد، وهو حر نسيب، وهل تلزمه قيمته ؟ يبنى على أن الجارية هل(7/466)
تقوم عليه ؟ إن قلنا: نعم، فلا، لانها ملكه حين الولادة، وإن قلنا: لا، فنعم، لانه منع رقه بوطئه، ثم حكم قيمة الولد حكم المهر، هذا إذا كان موسرا وثبت في حصته ولم يسر، فهل ينعقد الولد حرا كله أم قدر حصته حر والباقي رقيق ؟ قولان أو وجهان، أحدهما: كله حر، لان الشبهة تعم الجارية، وحرية الولد تثبت بالشبهة وإن لم يثبت الاستيلاد، ولهذا لو وطئ جارية غيره وهو يظنها أمته أو زوجته الحرة، انعقد الولد حرا وإن لم يثبت الاستيلاد، ووجه الثاني أنه تبع للاستيلاد وهو متبعض بخلاف الشبهة فإنها ناشئة من ظن لا يتبعض، فعلى هذا لو ملك باقي الجارية بعد ذلك بقي الرق فيه، لانها علقت في غير ملكه برقيق، وإن قلنا: جميعه حر، ففي ثبوت الاستيلاد في باقيها إذا ملكه قولان، لانه أولدها حرا في غير ملك، وهذا الخلاف في تبعيض حرية الولد يجري فيما إذا أولد أحد الشريكين المشتركة وهو معسر، فإن قلنا: جميعه حر، لزم المستولد قيمة حصة الشركاء من الولد، وهذا هو الاصح، وكذا قاله القاضي أبو الطيب والروياني وغيرهما، وسواء في ترجيح حرية جميعه استيلاد أحد الغانمين واستيلاد أحد الشريكين، وسئل القاضي حسين عمن أولد امرأة، نصفها حر، ونصفها رقيق بنكاح أو زنى، كيف حال الولد ؟ فقال: يمكن تخريجه على الوجهين في ولد المشتركة من الشريك المعسر، ثم استقر جوابه على أنه كالام حرية ورقا، قال الامام: وهذا هو الوجه، لانه لا سبب لحريته إلا حرية الام فيتقدر بها، ثم ما ذكرناه من ثبوت الاستيلاد في حصة المعسر، والخلاف في حال الولد موضعه ما إذا انحصر المستحقون، فإن لم ينحصروا، فقال البغوي: إن قلنا عند الانحصار: كل الولد حر، أخذ منه قيمته، وجعلت في المغنم، وقسم على الجميع، وإن قلنا: الحر بعضه، كان كله هنا رقيقا، ثم الامام يجتهد حتى تقع الام والولد في حصة الواطئ، فإن وقعا فيها، فهي أم ولد والولد حر، وإن وقع البعض، ثبت الاستيلاد بقدره، وعتق من الولد بقدر ما يملك، هذا كلام البغوي، ولك أن تقول: قد سبق أن للامام أن يقسم الغنيمة قسمة تحكم، ولا يشترط رضى الغانمين ولا الاقراع، وحينئذ فلا حاجة إلى سعي واجتهاد، بل ينبغي أن يقال: يوقعهما في حصته، أو يوقع بعضهما. وقوله: وعتق من الولد بقدر ما ملك ينبغي أن يجئ فيه الخلاف في أن الولد يعتق كله أو بالحصة، فلعله فرعه على وجه التبعيض أو أراد أن قدر الحصة(7/467)
يعتق قطعا وفي الباقي الخلاف، وجميع ما ذكرنا إذا كان الاستيلاد قبل القسمة واختيار التملك، وسواء كان قبل إفراز الخمس أم بعده، وقبل القسمة بين الغانمين إذا كانت الجارية من الاخماس الاربعة، فلو كان بعد القسمة وبعد اختيار التملك، فهو كوطئ جاريته أو جارية غيره أو مشتركة، ولا يخفى حكمه، ولو كان بعد القسمة وقبل اختيار التملك، فهو كما قبل القسمة، وفيه وجه أنهم إن كانوا محصورين، أو أفرزت الجارية لطائفة محصورين، فهو كما بعد القسمة واختيار التملك، وقد سبق نظيره، ولو وطئ أحدهم بعد إفراز الخمس جارية من الخمس، فكوطئ الاجنبي، ولو وطئ أجنبي جارية من الخمس، أو قبل إفراز الخمس، ففي وجوب الحد وجهان، أصحهما: يجب، كوطئ جارية بيت المال بخلاف ما لو سرق مال بيت المال، لانه يستحق فيه النفقة دون الاعفاف، والثاني: لا، لانه لمصالح المسلمين، وإن وطئ الاجنبي جارية من الاخماس الاربعة، حد إلا أن يكون له في الغانمين ولد. المسألة الثالثة: إذا أسر من يعتق على بعض الغانمين، ورق بنفس الاسر أو بإرقاقه، فالنص أنه لا يعتق قبل القسمة، واختيار التملك، ونص فيما لو استولد بعض الغانمين جارية من المغنم أنه يثبت الاستيلاد كما سبق، فقيل: فيهما قولان بناء على أن الغنيمة تملك بالحيازة أم لا ؟ إن قلنا: نعم، نفذ، أو غرم القيمة وجعلت في المغنم، وإلا فلا، وقيل: بتقرير النصين، لقوة الاستيلاد، ولهذا ينفذ استيلاد المجنون واستيلاء جارية ابنه دون الاعتاق، وسواء ثبت الخلاف أم لا، فالمذهب منع العتق في الحال، فإن وقع في نصيبه، واختار تملكه، أو وقع بعضه واختاره، عتق عليه ونظر إلى يساره وإعساره في تقويم الباقي، وقال صاحب الحاوي: إن انحصروا، أو لم يكن في الغنيمة غير قريبه، ملك حصته، وإن لم يختر التملك، وعلى هذا لا يقوم عليه الباقي، لانه دخل في ملكه بغير اختياره، ولو أعتق بعض الغانمين عبدا منها، ففي ثبوت العتق في الحال ما ذكرنا من عتق القريب، كذا نقله البغوي وغيره، وقال صاحب الحاوي: لا يعتق بحال بخلاف عتق القريب، فإنه يثبت بلا اختيار وهو أقوى مما يثبت باختيار، ولهذا يعتق على المحجور عليه قريبه إذا ملكه، ولو أعتق، لم ينفذ.(7/468)
فرع لو كان الغانمون طائفة يسيرة، ووقع في الغنيمة من يعتق عليهم جميعا، لم يتوقف العتق إلا على اختيارهم التملك، ويجئ وجه أنه لا حاجة إلى الاختيار، وإذا اختاروا جميعا، لم يفرض فيه تقديم بعض على بعض. فرع دخل مسلم دار الحرب منفردا، وأسر أباه، أو ابنه البالغ، لم يعتق منه شئ في الحال، لانه لا يصير رقيقا بنفس الاسر، فإن اختار الامام قتله أو المن أو الفداء، فذاك، وإن اختار تملكه، نظر إن لم يختر الآسر التملك، لم يعتق على الصحيح، وإن اختار، صار له أربعة أخماسه، فيعتق عليه، ويقوم الخمس لاهل الخمس إن كان موسرا، ولو أسر أمه، أو بنته البالغة، رقت بنفس الاسر، فإذا اختار الآسر التملك، كان الحكم ما ذكرنا، وألحق ابن الحداد الابن الصغير بالام، وهو هفوة عند الاصحاب، لان المسلم يتبعه ولده الصغير في الاسلام، فلا يتصور منه سبيه، ولو أسر أباه في القتال، زاد النظر في أن الاسير إذا رق هل يكون من السلب ؟ وفيه خلاف سبق في الغنائم. الحكم الثالث في حكم الارض: أرض الكفار وعقارهم تملك بالاستيلاد، كما تملك المنقولات، وأما مكة ففتحت صلحا، هذا مذهب الشافعي والاصحاب رحمهم الله، وقال صاحب الحاوي: عندي أن أسفلها دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه عنوة، وأعلاها فتح صلحا، والصحيح الاول، فدورها وعراصها المحياة مملوكة، كسائر البلاد، فيصح بيعها ولم يزل الناس يتبايعونها، وأما سواد العراق، فقال أبو إسحق: فتح صلحا، والصحيح المنصوص أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتحه عنوة، وقسمه بين الغانمين، ثم استطاب قلوبهم واسترده،(7/469)
واختلف الاصحاب فيما فعله بأرضه على وجهين، الصحيح الذي قاله الاكثرون، ونص عليه في كتاب الرهن، وفي سير الواقدي: أنه وقفها على المسلمين وآجره لاهله، والخراج المضروب عليه أجرة منجمة تؤدى كل سنة، والثاني وبه قال ابن سريج: أنه باعه لهم والخراج ثمن منجم، فعلى هذا يجوز رهنه وهبته وبيعه، وعلى الصحيح: لا يجوز ذلك، ويجوز لاهله إجارته بالاتفاق مدة معلومة، ولا تجوز إجارته مؤبدا على الاصح بخلاف إجارة عمر رضي الله عنه مؤبدا، فإنها احتملت لمصلحة كلية، ولا يجوز لغير سكانه أن يزعج ساكنا ويقول: أنا استغله وأعطي الخراج، لانه ملك بالارث المنفعة أو الرقبة، هذا حكم الارض التي تزرع وتغرس، فأما ما في حد السواد من المساكن والدور، فالمذهب جواز بيعها، لان أحدا لم يمنع شراءها، وهل يجوز لمن في يده الارض تناول ثمر أشجارها ؟ إن قلنا: الارض مبيعة، فكذا الشجر والثمر، وإن قلنا: مستأجرة، فوجهان، أحدهما: يجوز له تناولها للحاجة، ويحتمل ذلك كما يحتمل التأييد، وأصحهما: المنع، بل الامام يصرفها وأثمانها إلى مصالح المسلمين. وأما حد السواد، فأطلق جماعة أنه من عبادان إلى حديثة الموصل طولا، ومن عذيب القادسية إلى حلوان عرضا، وهو بالفراسخ مائة وستون فرسخا طولا، وثمانون عرضا، وفي هذا الاطلاق تساهل لما قد علم أن أرض البصرة كانت سبخة أحياها عثمان بن أبي العاصي وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما بعد فتح العراق، وهي داخلة في هذا الحد ولا بد من استثنائها، وقد أطلق البغوي أن البصرة لا تدخل في حكم السواد وإن كانت داخلة في حده، وقال صاحب الحاوي: حضرت الشيخ أبا حامد وهو يدرس في تحديد السواد فأدخل فيه البصرة ثم أقبل علي وقال: هكذا تقول ؟ قلت: لا إنما كانت مواتا أحياها المسلمون، فأقبل على أصحابه وقال: علقوا ما يقول، فإن أهل البصرة أعرف بها، ولكن في إطلاق استثناء البصرة تساهل أيضا، والصحيح ما أورده صاحب المهذب وغيره أن البصرة ليس لها حكم السواد(7/470)
إلا في موضع من شرقي دجلتها يسمى الفرات، وموضع من غربي دجلتها يسمى نهر الصراة. فرع ما يؤخذ من خراج هذه الارض يصرفه الامام في مصالح المسلمين الاهم فالاهم، ويجوز صرفه إلى الفقراء والاغنياء من أهل الفئ وغيرهم، وقدر الخراج في كل سنة على كل جريب شعير درهمان، وجريب الحنطة أربعة دراهم، وجريب الشجر وقصب السكر ستة، والنخل ثمانية، والكرم عشرة، وقيل: النخل عشرة، والزيتون اثنا عشر درهما. فرع لو رأى الامام اليوم أن يقف أرض الغنيمة كما فعل عمر رضي الله عنه، جاز إذا استطاب قلوب الغانمين في النزول عنها بعوض أو بغير عوض، فإن امتنع بعضهم، فهو أحق بماله، وكذا المنقولات والصبيان والنساء لا يجوز رد شئ منها إلى الكفار إلا بطيب أنفس الغانمين، لانهم ملكوها، قال الامام: وليس للامام أن يأخذ الارض قهرا وإن كان يعلم أنهم يتوانون بسببها في الجهاد، ولكن يقهرهم على الخروج إلى الجهاد بحسب الحاجة.
الباب الثالث : في ترك القتال والقتل بالأمان قد تقتضي المصلحة الامان لاستمالته إلى الاسلام، أو إراحة الجيش، أو ترتيب أمرهم، أو للحاجة إلى دخول الكفار، أو لمكيدة وغيرها، وينقسم إلى عام وهو ما تعلق بأهل اقليم أو بلد، وهو عقد الهدنة، ويختص بالامام وولاته، وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، وإلى خاص وهو ما تعلق بآحاد، ويصح من الولاة والآحاد، والباب معقود لهذا وفيه مسائل: إحداها: إنما يجوز لآحاد المسلمين أمان كافر، أو كفار محصورين، كعشرة ومائة، ولا يجوز أمان ناحية وبلدة، وفي البيان أنه يجوز أن يؤمن واحد أهل قلعة، ولا شك أن القرية الصغيرة في معناها، وعن الماسرجسي أنه لا يجوز أمان واحد لاهل قرية وإن قل عدد من فيها، والاول أصح، وضابطه أن لا ينسد به باب(7/471)
الجهاد في تلك الناحية، فإذا تأتى الجهاد بغير تعرض لمن أمن، نفذ الامان، لان الجهاد شعار الدين والدعوة القهرية، وهو من أعظم مكاسب المسلمين، ولا يجوز أن يظهر بأمان الآحاد انسداده أو نقصان يحس، قال الامام: ولو أمن مائة ألف من الكفار، فكل واحد لم يؤمن إلا واحدا، لكن إذا ظهر انسداد أو نقصان، فأمان الجميع مردود، ولك أن تقول: إن أمنوهم معا فرد الجميع ظاهر، وإن أمنوهم متعاقبين، فينبغي أن يصح أمان الاول فالاول إلى ظهور الخلل، على أن الروياني ذكر أنه لو أمن كل واحد واحدا، جاز، وإن كثروا حتى زادوا على عدد أهل البلدة. قلت: المختار أنه يصح أمان المتعاقبين إلى أن يظهر الخلل، وهو مطاد الامام. والله أعلم. وسواء كان الكافر المؤمن في دار الحرب، أو في حال القتال أو الهزيمة، أو عند مضيق، بل يصح الامان ما دام الكافر ممتنعا، فأما بعد الاسر، فلا يجوز للآحاد أمانه ولا المن عليه، ولو قال واحد من المسلمين: كنت أمنته قبل هذا، لم يقبل بخلاف ما لو أقر بأمان من يجوز أمانه في الحال، فإنه يصح، ولو قال جماعة: كنا أمناه، لم يقبل أيضا لانهم يشهدون على فعلهم، ولو قال واحد: كنت أمنته، وشهد به اثنان، قبلت شهادتهما.
فرع في جواز عقد المرأة استقلالا وجهان. الثانية : يصح الامان من كل مسلم مكلف مختار، فيصح أمان العبد المسلم وإن كان سيده كافرا، والمرأة والخنثى، والفقير والمفلس، والمحجور عليه بسفه، والمريض والشيخ الهرم، والفاسق وفي الفاسق وجه ضعيف، ولا يصح أمان كافر وصبي ومجنون ومكره، وفي الصبي المميز وجه كتدبيره. الثالثة: ينعقد الامان بكل لفظ يفيد الغرض، صريح أو كناية، فالصريح: أجرتك، أو أنت مجار، أو أمنتك، أو أنت آمن، أو في أماني، أو لا بأس عليك، أو لا خوف عليك، أو لا تخف، أو لا تفزع، أو قال بالعجمية: مترس، وقال(7/472)
صاحب الحاوي: لا تخف، لا تفزع. كناية. والكناية، كقوله: أنت على ما تحب، أو كن كيف شئت، وتنعقد بالكتابة والرسالة، سواء كان الرسول مسلما أو كافرا، وبالاشارة المفهمة من قادر على العبارة. وبناء الباب على التوسعة. فأما الكافر المؤمن فلا بد من علمه وبلوغ خبر الامان إليه، فإن لم يبلغه، فلا أمان، فلو بدر مسلم فقتله، جاز وإذا خاطبه بالامان، أو بلغه الخبر، فرده، بطل، وإن قبل، أو كان قد استجار من قبل، تم الامان، ولا يشترط قبوله لفظا، بل تكفي الاشارة والامارة المشعرة بالقبول، فإن كان في القتال، فينبغي أن يترك القتال، فلو سكت، فلم يقبل ولم يرد، قال الامام: فيه تردد، والظاهر: اشتراط قبوله، وبه قطع الغزالي، واكتفى البغوي بالسكوت، ولو قال الكافر: قبلت أمانك، ولست أؤمنك فخذ حذرك، قال الامام: هو رد للامان، لان الامان لا يثبت في أحد الطرفين دون الآخر، ويصح تعليق الامان بالاعذار، ولو أشار مسلم إلى كافر في القتال، فانحاز إلى صف المسلمين، وتفاهما الامان، فهو أمان، وإن قال الكافر: ظننت أنه يؤمنني، وقال المسلم: لم أرده، فالقول قول المسلم ولا أمان، ولكن لا يغتال، بل يلحق بمأمنه، وكذا لو دخل بأمان صبي أو مجنون أو مكره، وقال: ظننت صحته، أو ظننته بالغا، أو عاقلا، أو مختارا، ولو قال: علمت أنه لم يرد الامان، فقد دخل بلا أمان، وكذا لو قال: علمت أنه كان صبيا وأنه لا أمان للصبي، ولو مات المسلم المشير قبل البيان، فلا أمان ولا اغتيال.
فرع ما ذكرناه من اعتبار صيغة الأمان هو فيما إذا دخل الكافر بلادنا بلا سبب، فلو دخل رسولا، فقد سبق أن الرسول لا يتعرض له، ولو دخل ليسمع الذكر، وينقاد للحق إذا ظهر له، فكذلك، وقصد التجارة لا يفيد الامان، ولكن لو رأى الامام مصلحة في دخول التجار، فقال: من دخل تاجرا، فهو آمن، جاز، ومثل هذا الامان لا يصح من الآحاد، ولو قال: ظننت أن قصد التجارة يفيد الامان، فلا أثر لظنه ويغتال إذ لا مستند له، ولو سمع مسلما يقول: من دخل تاجرا، فهو آمن، فدخل وقال: ظننت صحته، فالاصح أنه لا يغتال. الرابعة: شرط الامان أن لا يزيد على أربعة أشهر، وفي قول: يجوز ما لم يبلغ سنة، فلو زاد على الجائز، بطل الزائد، ولا يبطل في الباقي على الاصح(7/473)
تخريجا من تفريق الصفقة، قال الروياني: وإذا أطلق حمل على أربعة أشهر، ويبلغ بعدها المأمن، ويشترط أن لا يتضرر به المسلمون، فلو أمن جاسوسا، أو طليعة لم ينعقد الامان، قال الامام: وينبغي أن لا يستحق تبليغ المأمن، لان دخول مثله خيانة، فحقه أن يغتال، ولو أمن آحادا على مدارج الغزاة، وعسر بسببه مسير العسكر واحتاجوا إلى نقل الزاد، فهو مردود للضرر، ولا يشترط لانعقاد الامان ظهور المصلحة، بل يكفي عدم المضرة. الخامسة: إذا انعقد الامان، صار المؤمن معصوما عن القتل والسبي، فلو قتل، قال الامام: الوجه عندنا أنه يضمن بما يضمن به الذمي، وهو لازم من جهة المسلمين، فليس للامام نبذه، فإن استشعر منه خيانة، نبذه، لان المهادنة تنبذ بذلك، فأمان الآحاد أولى وهو جائز من جهة الكافر ينبذه متى شاء، ولا يتعدى الامان إلى ما خلفه بدار الحرب من أهل ومال، وأما ما معه منهما، فإن تعرض له، اتبع الشرط، وإلا فلا أمان فيه على الاصح، لقصور اللفظ. السادسة: الاسير في أيدي الكفار إذا أمن بعضهم مكرها، لم يصح، وإن أمنه مختارا، لم يصح أيضا على الاصح، لانه مقهور في أيديهم، وقال الامام: إن أمن من هو في أسره، لم يصح، لانه كالمكره معه، وإن أمن غيره، ففيه الوجهان، فإن أبطلنا، فهل يصح ويلزم في حق الآمن ؟ وجهان، أصحهما: المنع.
فرع المسلم إن كان ضعيفا في دار الكفر لا يقدر على إظهار الدين، حرم عليه الاقامة هناك، وتجب عليه الهجرة إلى دار الاسلام، فإن لم يقدر على الهجرة، فهو معذور إلى أن يقدر، فإن فتح البلد قبل أن يهاجر، سقط عنه الهجرة، وإن كان يقدر على إظهار الدين، لكونه مطاعا في قومه، أو لان له هناك عشيرة يحمونه، ولم يخف فتنة في دينه، لم تجب الهجرة، لكن تستحب، لئلا يكثر(7/474)
سوادهم، أو يميل إليهم، أو يكيدوا له، وقيل: تجب الهجرة، حكاه الامام، والصحيح الاول. قلت: قال صاحب الحاوي: فإن كان يرجو ظهور الاسلام هناك بمقامه، فالافضل أن يقيم، قال: وإن قدر على الامتناع في دار الحرب والاعتزال، وجب عليه المقام بها، لان موضعه دار إسلام، فلو هاجر، لصار دار حرب، فيحرم ذلك، ثم إن قدر على قتال الكفار ودعائهم إلى الاسلام، لزمه، وإلا فلا. والله أعلم.
فرع الأسير المقهور متى قدر على الهرب، لزمه، ولو أطلقوا أسيرا بلا شرط، فله أن يغتالهم قتلا وسبيا وأخذا للمال، وإن أطلقوه على أنه في أمان منهم وهم في أمان منه، حرم عليه اغتيالهم، وإن أطلقوه على أنه في أمان منهم، ولم يستأمنوه، فالصحيح المنصوص أن الحكم كذلك، وعن ابن أبي هريرة: أن له اغتيالهم، ولو تبعه قوم بعد خروجه، فله قصدهم وقتلهم في الدفع بكل حال، ولو أطلقوه وشرطوا عليه أن لا يخرج من دارهم، لزمه الخروج وحرم الوفاء بالشرط، فإن حلفوه أن لا يخرج، فإن حلف مكرها، خرج ولا كفارة، لانه لم تنعقد يمينه، ولا طلاق عليه إن حلفوه بالطلاق، وإن حلف ابتداء بلا تحليف ليتوثقوا به ولا يتهموه بالخروج، نظر إن حلف بعدما أطلقوه، لزمه الكفارة بالخروج، وإن حلف وهو محبوس أن لا يخرج إذا أطلق، فالاصح أنه ليس يمين إكراه، قال البغوي: ولو قالوا: لا نطلقك حتى تحلف أن لا تخرج، فحلف، فأطلقوه، لم يلزمه كفارة بالخروج، ولو حلفوه بالطلاق، لم يقع، كما لو أخذ اللصوص رجلا وقالوا: لا نتركك حتى تحلف أنك لا تخبر بمكاننا، فحلف، ثم أخبر بمكانهم، لا يلزمه الكفارة، لانه يمين إكراه، وليكن هذا تفريعا على أن التخويف بالحبس إكراه. قلت: ليس هو كالتخويف بالحبس، فإنه يلزمه هنا الهجرة والتوصل إليها بما أمكنه. والله أعلم.(7/475)
وعلى الاحوال لا يغتالهم، لانهم أمنوه، ولو كان عندهم عين مال لمسلم، فأخذها عند خروجه ليردها على مالكها، جاز، فإن شرطوا الامان في ذلك المال، فهل يصير مضمونا عليه ؟ فيه طريقان، أحدهما: أنه على القولين فيما إذا أخذ المغصوب من الغاصب ليرده على مالكه، وعن القفال: القطع بالمنع، لانه لم يكن مضمونا على الحربي بخلاف المغصوب. ولو شرطوا عليه أن يعود إليهم بعد الخروج إلى دار الاسلام، حرم عليه العود، ولو شرطوا أن يعود، أو يبعث إلينم مالا فداء، فالعود حرام وأما المال، فإن شارطهم عليه مكرها، فهو لغو، وإن صالحهم مختارا، لم يجب بعثه، لانه التزام بغير حق، لكن يستحب، وفي قول: يجب، لئلا يمتنعوا من إطلاق الاسارى، وفي قول قديم: يجب بعث المال، أو العود إليهم، والمشهور الاول، وبه قطع الجمهور، قال صاحب البيان: والذي يقتضي المذهب أن المبعوث إليهم استحبابا أو وجوبا لا يملكونه، لانه مأخوذ بغير حق، ولو اشترى منهم الاسير شيئا ليبعث إليهم ثمنه، أو اقترض، فإن كان مختارا، لزمه الوفاء، وإن كان مكرها، فثلاث طرق، المذهب والمنصوص: أن العقد باطل، ويجب رد العين، كما لو أكره مسلم مسلما على الشراء، والثاني: الصحة ويلزم الثمن، لان المعاملة مع الكفار يتساهل فيها، والثالث: قولان، الجديد: البطلان، والقديم: أنه مخير بين رد العين ورد الثمن، ولو لم يجر لفظ بيع، بل قالوا: خذ هذا، وابعث كذا من المال، فقال: نعم، هو كالشراء مكرها، ولو أعطوه شيئا ليبيعه في دار الاسلام، ويبعث إليهم ثمنه، فهو وكيل يجب عليه ما على الوكيل.(7/476)
السابعة: إذا بارز مسلم كافرا بإذن الامام، أو بغير إذنه وقلنا بالاصح: إنه يجوز، وشرط المتبارزان أن لا يعين المسلمون المسلم، ولا الكفار الكافر إلى انقضاء القتال وجب الوفاء بالشرط، ولم يجز لمن في الصف الاعانة، ثم إن هرب أحدهما، أو قتل المسلم، جاز للمسلمين قصد الكافر، لان الامان كان إلى انقضاء القتال وقد انقضى، فإن شرط الامان إلى العود إلى الصف، وفى به، فإن ولى المسلم عنه، فتبعه ليقتله، أو ترك قتال المسلم وقصد الصف، فلهم قتله لنقضه الامان، ولو أثخن، جاز قتله أيضا لانقطاع القتال، وإذا قصد قتل المثخن، منع، وقيل: فإن شرط له التمكين منه، فهو شرط باطل، لما فيه من الضرر، وهل يفسد به أصل الامان ؟ وجهان، ولو خرج المشركون لاعانة المشرك، خرج المسلمون لاعانة المسلم، فإن كان الكافر استنجدهم، جاز قتله معهم، وكذا لو خرجوا بغير استنجاده فلم يمنعهم، وإن خرجوا بغير إذنه، ومنعهم، فلم يمتنعوا، جاز قتلهم ولم يجز التعرض له، هذا كله إذا شرطا الامان، فإن لم يشرط، ولكن اطردت عادة المتبارزين بالامان، فهو كالمشروط على الاصح، فإن لم يشرط، ولم تجر عادة، فللمسلمين قتله.
فرع لو أثخن المسلم الكافر، فهل يجوز قتله أم يترك ؟ وجهان، نقلهما ابن كج، وينبغي أن يقال: إن شرط الامان إلى انقضاء القتال، جاز قتله، وإن شرط أن لا يتعرض للمثخن، وجب الوفاء بالشرط. الثامنة: مسألة العلج، وهو الكافر الغليظ الشديد، سمي به لانه يدفع بقوته عن نفسه، ومنه سمي العلاج لدفعه الداء وصورتها أن يقول كافر للامام: أدلك على قلعة كذا على أن تعطيني منها جارية كذا، فيعاقده الامام، فيجوز وهي جعالة بجعل مجهول غير مملوك احتملت للحاجة، ولو قال الامام ابتداء: إن دللتني على هذه القلعة، فلك منها جارية كذا، فكذلك الحكم، وسواء كانت المعينة حرة أم أمة لان الحرة ترق بالاسر، ولو شرط العلج أو الامام جارية مبهمة، جاز على الصحيح، ويشترط كون الجعل مما يدل عليه العلج، فلو قال: أعطيك جارية مما عندي، أو ثلث مالي، لم يصح كونه مجهولا كسائر الجعالات، ولو قال مسلم: أدلك على أن تعطيني منها جارية كذا، أو ثلث ما فيها، فوجهان، أصحهما عند الامام:(7/477)
لا يجوز، لان فيه أنواع غرر، فلا تحتمل مع المسلم الملتزم للاحكام بخلاف الكافر، فإن الحاجة تدعو إليه، لانه أعرف بقلاعهم وطرقهم غالبا، والثاني: يجوز، وبه قال العراقيون للحاجة، فقد يكون المسلم أعرف وهو أنصح، ولان العقد متعلق بالكفار، قال الامام: والوجهان مفرعان على تجويز استئجار المسلم للجهاد، وإلا فلا تصح هذه المعاملة مع مسلم، ولا يستحق أجرة المثل، ثم إذا فتحنا القلعة بدلالة العلج، وظفرنا بالجارية، سلمناها إليه، ولا حق فيها لغيره، وإن دلنا، وفتحناها بغير دلالته، لم يستحقها على الاصح، وإن لم نفتحها، فإن علق الشرط بالفتح، فلا شئ له، وإلا فأوجه، أصحها: لا يستحق شيئا، والثاني: يستحق أجرة المثل، والثالث: يرضخ له، والرابع: إن كان القتال ممكنا والفتح متوقعا قريبا، استحق، وإن لم يتوقع إلا باحتمال نادر، فلا، أما إذا قاتلنا، فلم نظفر، فلا شئ له على المذهب، ولو تركناها، ثم عدنا، ففتحناها بدلالته، فله الجارية على الصحيح، وإن فتحناها بطريق آخر، فلا شئ له على الصحيح، ولو فتحها طائفة أخرى بالطريق الذي دلنا عليه، فلا شئ له عليهم، لانه لم يجر معهم شرط.
فرع إذا لم يكن في القلعة تلك الجارية، فلا شئ له، وكذا لو كانت وماتت قبل الشرط، وإن ماتت بعد الشرط، فالمذهب أنها إن ماتت بعد الظفر، وجب بدلها، لانها حصلت في يد الامام، فتلفت من ضمانه، وإن ماتت قبل الظفر، فلا شئ له، وقيل: قولان في الحالين، فإن قلنا: يجب البدل، فما البدل ؟ بناه الامام على مقدمة في جعل الجعالة، فقال: إذا جعل الجعل عينا، كثوب وعبد، وتمم العامل العمل والعين تالفة، فإن تلفت قبل إنشاء العمل، نظر إن علم العامل تلفها، فلا شئ له، لان المعاقدة كانت مقصورة على تلك العين، فإذا عمل عالما بتلفها، كان كالمتبرع، وإن جهل، فله أجرة المثل لعدم التبرع، وإن تلفت بعد العمل، نظر إن لم يطالبه العامل بتسليمها، فهل يرجع بقيمة العين أو أجرة المثل ؟ قولان بناء على أن الجعل المعين مضمون ضمان العقد، أم ضمان اليد ؟ وفيه قولان، كالصداق، قال الامام: ولا يبعد عندي القطع بأن الجعل يضمن ضمان العقد، لانه ركن في الجعالة وليس الصداق ركنا في النكاح، وإن تلف بعد المطالبة وامتناع الجاعل من التسليم، فإن قلنا بضمان اليد، فالحكم كما سبق، وإن قلنا:(7/478)
ضمان العقد، فقال القاضي حسين: التلف بعد الامتناع كإتلاف الجاعل، فيكون في قول: كتلفه بآفة فينفسخ العقد ويرجع العامل بأجرة المثل، وفي قول: كإتلاف الاجنبي، فيتخير العامل بين الفسخ والاجارة إذا عرفت المقدمة، فبدل الجارية حيث حكمنا به هو أجرة المثل إن قلنا بضمان العقد، وقيمتها إن قلنا بضمان اليد، هكذا قال الامام، ولكن الاظهر من قولي الصداق وجوب مهر المثل، والموجود لجمهور الاصحاب هنا قيمة الجارية، ثم محل الخلاف إذا كانت جارية معينة، فإن كانت مبهمة ومات كل من فيها من الجواري، وأوجبنا البدل، فيجوز أن يقال: يرجع بأجرة المثل قطعا، لتعذر تقويم المجهول، ويجوز أن يقال: تسلم إليه قيمة من تسلم إليه قبل الموت، ثم البدل الواجب هل يجب في مال المصالح أم في أصل الغنيمة ؟ فيه الخلاف المذكور في الرضخ.
فرع إذا شرط جارية مبهمة ولم يوجد إلا جارية، سلمت إليه، وإن وجد جوار، فللامام التعيين، ويجبر العلج على القبول، لان المشروط جارية وهذه جارية، كما أن للمسلم إليه أن يعين ما شاء بالصفة المشروطة، ويجبر المستحق على القبول، ولو شرط جارية معينة، فلم يجد فيها شيئا سوى تلك الجارية، فهل تسلم إليه ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وفاء بالشرط، والثاني: لا، لان سعينا حينئذ يكون للعلج خاصة، والخلاف فيما إذا لم يمكن أن يتملك القلعة، ويديم اليد عليها، لكونها محفوفة ببلاد الكفر، فإن أمكن، وجب الوفاء قطعا. فرع لو وجدنا الجارية مسلمة، نظر إن أسلمت قبل الظفر وهي حرة، لم يجز استرقاقها، وعن ابن سريج أن قولا أنها تسلم إلى العلج، لانه استحقها قبل الاسلام، والمذهب الاول، وإن أسلمت بعد الظفر، فإن كان الدليل مسلما، وصححنا هذه المعاقدة معه، أو كافرا وأسلم، سلمت إليه، وإلا فيبنى على شراء الكافر عبدا مسلما، إن جوزناه، سلمناها إليه، ثم يؤمر بإزالة الملك، وإن لم نجوزه، لم تسلم إليه، وإذا لم تسلم إليه بعد الاسلام، ففي وجوب بدلها طريقان، أحدهما: طرد الخلاف في الموت، لاشتراكهما في تعذر التسليم، والثاني: القطع بالوجوب، والمذهب وجوب البدل، وإن ثبت الخلاف وهو فيما إذا أسلمت بعد الظفر أظهر منه فيما إذا أسلمت قبله، لانها إذا أسلمت بعده تكون مملوكة.(7/479)
فرع جميع ما ذكرناه فيما إذا فتحت عنوة، فإن فتحت صلحا، نظر إن كانت الجارية المشروطة خارجة عن الامان، بأن كان الصلح على أمان صاحب القلعة وأهله ولم تكن الجارية من أهله، سلمت إلى العلج، وإن كانت داخلة في الامان، أعلمنا صاحب القلعة بشرطنا مع العلج وقلنا له: إن رضيت بتسليمها إليه، غرمنا لك قيمتها وأمضينا الصلح، وتكون القيمة من بيت المال، قاله البغوي، وفي الشامل أنها على الخلاف في الرضخ، وإن لم يرض، راجعنا العلج، فإن رضي بقيمتها أو بجارية أخرى، فذاك، وإلا قلنا لصاحب القلعة: إن لم تسلمها، فسخنا الصلح، ونبذنا عهدك، فإن امتنع، رددناه إلى القلعة، واستأنفنا القتال، هذا هو الصحيح، وبه قطع الجمهور، وعن أبي إسحق أن الصلح في الجارية فاسد، لانها مستحقة. فرع لو كان الامام نازلا بجنب قلعة وهو لا يعرفها فقال: من دلني على قلعة كذا، فله منها جارية، فقال له علج: هي هذه التي أنت عندها، قال ابن كج: المذهب أنه يستحق تلك الجارية إذا فتحت، كما لو قال: من جاءني بعبدي الآبق، فله كذا، فجاء به إنسان من البلد. المسألة التاسعة: إذا دخل كافر دار الاسلام بأمان أو ذمة، كان ما معه من المال والاولاد في أمان، فإن شرط الامان في المال والاهل، فهو تأكيد ولا أمان لما خلفه بدار الحرب، فيجوز اغتنام ماله وسبي أولاده هناك، وعن صاحب الحاوي أنه إن قال: لك الامان، ثبت الامان في ذريته وماله، وإن قال: لك الامان في نفسك، لم يثبت في الذرية والمال، وأطلق الجمهور قالوا: وقد يفترق المالك والمملوك في الدمان، ولهذا لو دخل مسلم دار الحرب بأمان، فبعث معه حربي مالا لشراء متاع، كان ماله في أمان حتى يرده، وإن لم يكن المالك في أمان، وكذا لو بعثه مع ذمي دخل دار الحرب بأمان، وفي قول: لا يكون مع الذمي في أمان، لان أمان الذمي باطل، والمشهور الاول، لان الحربي اعتقد صحته، فوجب رده إليه، ولو دخل حربي دارنا بأمان أو ذمة أو لرسالة فنقض العهد ولحق بدار الحرب، ومن أسباب النقض أن يعود ليتوطن هناك، فلا يسبى أولاده عندنا، وإن مات فأبلغوا، فإذا بلغوا وقبلوا الجزية، تركوا، وإلا(7/480)
بلغوا المأمن، وما خلفه عندنا من وديعة ودين من قرض أو غيره، فهو في أمان لا يتعرض له ما دام حيا، هذا هو الصحيح، وفيه وجه أنه ينتقض الامان في ماله لانتقاضه في نفسه، لانه يثبت في المال تبعا، ووجه ثالث: أنه إذا لم يتعرض للامان في ماله، حصل الامان فيه تبعا، فينتقض فيه تبعا، وإن ذكره في الامان لم ينتقض، قال الامام: فإذا قلنا بالصحيح، فللكافر أن يدخل دار الاسلام من غير تجديد أمان لتحصيل ذلك المال، والدخول له يؤمنه، كالدخول لرسالة وسماع كلام الله تعالى، ولكن ينبغي أن يعجل في تحصيل غرضه، ولا يعرج على غيره، وكذا لا يكرر العود لاخذ قطعة من المال في كل مرة، فإن خالف، تعرض للقتل والاسر، وهذا الذي ذكره الامام محكي عن ابن الحداد، وقال غيره: ليس له الدخول، وثبوت الامان في المال لا يوجب ثبوته في النفس، وإن قلنا: لا يبقى الامان في ماله كان فيئا، قال الامام: والخلاف في ماله المخلف بعد التحاقه بدار الحرب فأما إذا فارق المال ولم يلتحق بعد بدار الحرب، فالوجه الجزم ببقاء الامان، ويحتمل طرد الخلاف، وإذا نبذ المستأمن العهد، وجب تبليغه المأمن، ولا يتعرض لما معه بلا خلاف، هذا حكم ما تركه في حياته، فلو مات هناك أو قتل وقلنا بالصحيح، وهو بقاء الامان فيه في حياته، فقولان، أحدهما: يكون فيئا، وأظهرهما: أنه لوارثه، فإن لم يكن وارث، فهو فئ قطعا، ولو مات عندنا، فقيل بطرد القولين، والمذهب: القطع برده إلى وارثه، لانه مات والامان باق في نفسه، فكذا في ماله، وهناك انتقض في نفسه، فكذا في ماله، فإن كان وارثه حربيا، فعلى الخلاف في أن الذمي والحربي هل يتوارثان ؟ ولو خرج المستأمن إلى دار الحرب غير ناقض للعهد بل لرسالة أو تجارة ومات هناك، فهو كموته في دار الاسلام، ولو التحق بدار الحرب ناقضا للعهد، فسبي واسترق، بني على ما إذا مات، فإن قلنا: إذا مات يكون لوارثه، وقف، فإن عتق، فهو له، وإن مات رقيقا فقولان، أحدهما: يصرف إلى وارثه كما لو مات حرا، وأظهرهما: يكون فيئا، لان الرقيق لا يورث، وإن قلنا: إذا مات يكون فيئا، فهنا قولان، أحدهما: هذا، والثاني وبه قطع ابن الصباغ: يوقف لاحتمال أن يعتق ويعود بخلاف الموت، فإن عتق، سلم إليه، وإلا فهو فئ على الاصح، وقيل: للسيد، قال الامام: وإذا صرفناه إلى الورثة، احتمل أن يصرف إليهم إرثا، ولا يلزم الكفار، تفضيل شرعنا في منع التوريث من رقيق، ويحتمل أن(7/481)
لا يصرف إليهم إرثا، بل لانهم أخص به، وإذا قلنا بالتوريث، فهل يرثون إذا مات أم يستند استحقاق الورثة إلى ما قبل جريان الرق ؟ فيه احتمالان للامام، وإذا قلنا: الصرف إلى الورثة، فلهم دخول الاسلام لطلب ذلك المال بغير أمان، ويجئ فيه الوجه السابق في صاحب المال. فرع دخل مسلم دار الحرب بأمان، فاقترض منهم شيئا، أو سرق وعاد إلى دار الاسلام، لزمه رده، لانه ليس له التعرض له إذا دخل بأمان. العاشرة: إذا حاصرنا قلعة أو بلدة، فنزلوا على حكم الامام، جاز، وكذا لو نزلوا على حكم غيره، وشرطه كونه مسلما ذكرا حرا مكلفا عدلا، لانه ولاية حكم، كالقضاء، لكن يجوز أن يكون أعمى، لان المقصود هنا الرأي، فهو كالشهادة بالاستفاضة تصح من الاعمى، وأطلقوا أنه يشترط كونه عالما، وربما قالوا: فقيها، وربما قالوا: مجتهدا، قال الامام: ولا أظنهم شرطوا أوصاف الاجتهاد المعتبرة في المفتي، ولعلهم أرادوا التهدي إلى طلب الصلاح وما فيه النظر للمسلمين، ويكره أن يكون الحكم حسن الرأي في الكفار، ويجوز أن ينزلوا على حكم اثنين، أو على حكم من يختاره الامام، أو من يتفقون عليه مع الامام، ولا يجوز على حكم من يختارونه إلا إذا شرطوا الاوصاف المشروطة، ولو استنزلهم على أن يحكم فيهم بكتاب الله تعالى، كره ذلك، لان هذا الحكم ليس منصوصا في كتاب الله تعالى فيحصل منه اختلاف، هكذا ذكره الروياني، قال البغوي: ولو استنزلهم على أن ما يقضي الله تعالى فيهم ينفذه، لم يجز، لانهم لا يعرفون الحكم فيهم وإذا نزلوا على حكم اثنين، فليتفقا على الحكم، فإن اختلفا، لم ينفذ إلا أن تتفق الطائفتان على حكم، ولو مات أحد الحكمين، أو نزلوا على حكم واحد، فمات قبل الحكم، أو نزلوا على حكم من لا يجوز حكمه، ردوا إلى القلعة إلى أن يرضوا بحكم حاكم في الحال، ولا يجوز للحاكم أن يحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين من القتل والاسترقاق والمن والفداء، وحكى الروياني وجها، أنه لا يجوز الحكم بالمن على جميعهم، واستغربه، ولو حكم بما يخالف الشرع، كقتل النساء والصبيان، لم ينفذ، ولو حكم بقتل المقاتلة وسبي الذرية وأخذ الاموال، جاز. وتكون الاموال غنيمة، لانها مأخوذة بالقهر، وإن حكم باسترقاق من أسلم منهم، وقتل من أقام منهم(7/482)
على الكفر، أو باسترقاق من أسلم، ومن أقام على الكفر، جاز، وينفذ حكم الحاكم على الامام، فلا يجوز أن يزيد على حكمه في التشديد، ويجوز أن ينقص منه ويسامح، فإذا حكم بغير القتل، فليس له القتل، وإن حكم بالقتل، فله المن، وليس له الاسترقاق على الاصح، لانه ذل مؤبد، وإن حكم بالاسترقاق، فليس له المن إلا برضى الغانمين، لانه صار مالا لهم، وإن حكم بقبول الجزية، فهل يجبرون عليه ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لانه حكمه وقد التزموه، فإن قلنا: لا يجبرون، بلغوا المأمن، وإن قلنا: يجبرون، فامتنعوا، فهم كأهل الذمة إذا امتنعوا من بذل الجزية بعد قبولها، وسيأتي الخلاف فيه إن شاء الله تعالى، وطرد الوجهان فيما لو حكم بالمفاداة، ومن أسلم منهم قبل الحكم، حقن دمه وماله، ولم يجز استرقاقه بخلاف الاسير فإنه في قبضة الامام، ومن أسلم بعد الحكم بالقتل، امتنع قتله، فإن كان قد حكم بقتل الرجال وسبي النساء والذرية، لم يندفع بإسلام الرجال إلا قتلهم، وهل يجوز استرقاق المحكوم بقتله إذا أسلم ؟ نقل الروياني وغيره أنه لا يجوز، لانهم لم ينزلوا على هذا الشرط فيطلقهم، ولا يفاديهم بمال، ويجئ على تجويز استرقاقه لو لم يسلم أنه يجوز استرقاقه بعد الاسلام أيضا، ولو حكم بالارقاق، فأسلم المحكوم عليه قبل الارقاق جاز أرقاقه، على الاصح. فرع حاصرنا قلعة، فصالح زعيمها على أمان مائة شخص منهم، صح للحاجة، ويعين الزعيم مائة، فإن عد مائة وأغفل نفسه، جاز قتله.
فصل في مسائل منثورة تتعلق بكتاب السير إذا أسلم كافر وقد لزمه كفارة يمين أو ظهار أو قتل، ففي سقوطها عنه وجهان، نقلهما الشيخ أبو علي، أصحهما: المنع، كالدين، والثاني: نعم، لان الاسلام يجب ما قبله، قال الامام: هذا ضعيف هادم للقواعد. قلت: ولو وجب على ذمي حد زنى فأسلم، نقل ابن المنذر في الاشراف عن نص الشافعي رحمه الله أنه يسقط عنه الحد، وحكاه عن مالك أيضا، ورواية عن(7/483)
أبي حنيفة، وقال أبو ثور: لا يسقط. والله أعلم. ولو استولى الكفار على أموال المسلمين، لم يملكوها سواء أحرزوها بدار الحرب أم لا، وسواء العقار وغيره، وإذا أسلموا والمال في أيديهم، لزمهم رده إلى أصحابه، وإن غنمه طائفة من المسلمين، لزمهم رده إلى صاحبه، فإن ظهر الحال بعد القسمة، رده من وقع في سهمه، ويعوضه الامام من بيت المال، فإن لم يكن في بيت المال شئ، أعاد القسمة، ونص أنه لو أحرز مشرك جارية مسلم وأولدها، ثم ظفر المسلمون بهم، فالجارية والولد للمسلم، فإن أسلم الواطئ، أخذ مالكها منه المهر وقيمة الولد، قال ابن سريج: هذا محمول على ما إذا وطئ وأولد بعد إسلامه، فيلزمه المهر، والولد حر للشبهة، ولو أسرت مسلمة، فنكحها حربي، أو أصابها بلا نكاح، فأولدها، ثم ظفرنا بهم، لم يسترق أولادها، لانهم مسلمون بإسلامها، ويلحقون الناكح للشبهة، ونص أن جارية المسلم لو استولى عليها كفار، ثم عادت إلى مالكها، فلا استبراء عليه، لان ملكه لم يزل، لكن يستحب، ولو أسرنا قوما، فقالوا: نحن مسلمون أو أهل ذمة، صدقوا بأيمانهم إن وجدوا في دار الاسلام، وإن وجدوا في دار الحرب، لم يصدقوا، ولو دخل حربي دارنا بأمان،(7/484)
فاشترى عبدا مسلما، وخرج به إلى دار الحرب، فظفر به المسلمون، فإن قلنا: يصح الشراء، فهو غنيمة، وإلا فهو لبائعه، ويلزمه رد الثمن على المستأمن. فرع نص في حرملة، أنه لو أهدى مشرك إلى الامير، أو إلى الامام هدية والحرب قائمة، فهي غنيمة بخلاف ما لو أهدى قبل أن يرتحلوا عن دار الاسلام، فإنه للمهدى إليه. فرع فداء الامير الاسير مستحب، فلو قال مسلم لكافر: أطلق أسيرك ولك علي ألف، فأطلقه، لزمه الالف، ومتى فدى أسيرا بمال بغير سؤال الاسير، لم يرجع عليه به، ولو قال الاسير: افدني بكذا على أن ترجع علي، ففعل، رجع عليه، وكذا لو لم يشرط الرجوع على الاصح، ولو قال الاسير للكافر: أطلقني على كذا، ففعل، أو قال له كافر: افتد نفسك بكذا، ففعل، لزمه ما التزم، والمال الذي فدى الاسير به إذا استولى عليه المسلمون، هل يكون غنيمة أم يرد إلى الفادي ؟ وجهان: قلت: قد سبق عن صاحب البيان أن مقتضى المذهب أنه يرد وهو أصح. والله أعلم. فرع دخل مسلم دار الحرب، فوجد مسلمة أسروها، لزمه إخراجها إن أمكنه. فرع سبق أنه إذا اقتصر في الامان على قوله: أمنتك، هل يتعدى إلى ما معه من أهل ومال ؟ وجهان، وإن تعرض له، تعدى قطعا، وفي البحر تفصيل حسن، حكاه أو بعضه عن الحاوي وهو أنه إن أطلق الامان، دخل فيه ما يلبسه من ثياب، وما يستعمله في حرفته من آلات، وما ينفقه في مدة الامان للعرف الجاري بذلك، ومركوبه إن كان لا يستغني عنه، ولا يدخل غير ذلك، وإن بذل له الامان على نفسه وماله، فالمال أيضا في أمان إن كان حاضرا، سواء أمنه الامام أو غيره، وإن كان غائبا، لم يصح الامان فيه إلا من الامام أو نائبه بالولاية العامة،(7/485)
وكذلك الذراري يفرق فيهم بين الحاضرين والغائبين، قال: ولو قال: أمنتك في جميع بلاد الاسلام، كان آمنا في جميعها، سواء أمنه الامام أو غيره، وإن قال: أمنتك في بلد كذا، كان آمنا فيه، وفي الطريق إليه من دار الحرب لا غير، وإن أطلق، نظر إن أمنه الامام، كان آمنا في جميع بلاد الاسلام، وإن أمنه والي الاقليم، كان آمنا في محل ولايته، وإن أمنه أحد الرعية، اختص الامان بالموضع الذي يسكنه المؤمن، بلدة كانت أو قرية، وبالطريق إليه من دار الحرب، وإنما يكون آمنا في الطريق إذا اجتاز بقدر الحاجة، قال: وإذا كان الامان مقدرا بمدة، فإن كان مخصوصا ببلد، فله استيفاء المدة بالاقامة فيه، وله الامان بعدها إلى أن يرجع إلى مأمنه، وإن كان عاما في جميع البلاد، انقضى أمانه بمضي تلك المدة، ولا أمان له بعدها للعود، لان ما يتصل من بلاد الاسلام بدار الحرب من محل أمانه، فلا يحتاج إلى مدة الانتقال من موضع الامان وبالله التوفيق.(7/486)
كتاب عقد الجزية والهدنة
فيه بابان :
الأول : في الجزية، وفيه طرفان :
الأول : في أركانها وهي خمسة: الاول: نفس العقد، وكيفيته أن يقول الامام أو نائبه: أقررتكم، أو أذنت لكم في الاقامة في دار الاسلام على أن تبذلوا كذا، وتنقادوا لاحكام الاسلام.(7/487)
وهل يشترط التعرض لقدر الجزية ؟ وجهان، أحدهما: لا، ويجب الاقل، وأصحهما: نعم، كالثمن والاجرة. وهل يشترط التعرض لكفهم اللسان عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ودينه ؟ وجهان، أصحهما: لا، لانه داخل في الانقياد، ويشترط من الذمي لفظ، كقبلت، أو رضيت بذلك، ولو قال الذمي: قررني بكذا، فأجابه الامام، تم العقد، ولا يصح عقد الذمة مؤقتا على المذهب، لانه خلاف مقتضاه، ومن صحح، قاسه على الهدنة، ولو قال: أقركم ما شئت، أو أقركم ما أقركم الله، أو إلى أن يشاء الله، لم يصح على المذهب، وقيل: على الخلاف في المؤقت بمعلوم وعكسه، وجعل هذا أولى بالصحة، وهو خلاف ما قاله الاصحاب. ولو قال: أقركم ما شئتم، جاز، لان لهم نبذ العقد متى شاؤوا، فليس فيه إلا التصريح بمقتضاه، قال الاصحاب: ولو قال في الهدنة: هادنتكم ما شئتم، لم يصح، لانه يجعل الكفار محكمين على المسلمين. فرع إذا طلبت طائفة تقر بالجزية عقد الذمة، وجبت إجابتهم، وفي البيان وغيره وجه: أنها لا تجب إلا إذا رأى الامام فيها مصلحة كما في الهدنة، وهذا شاذ متروك، فلو خاف غائلتهم، وأن ذلك مكيدة منهم، لم يجبهم. فرع إذا عقدت الذمة مع إخلال بشرط، لم يلزم الوفاء، ولم تجب الجزية المسماة، لكن لا يغتالون، بل يبلغون المأمن، ولو بقي بعضهم على ذلك العقد عندنا سنة أو أكثر، وجب عليه لكل سنة دينار، ولو دخل حربي دارنا وبقي مدة، فاطلعنا عليه فوجهان، الصحيح الذي حكاه الامام عن الاصحاب: أنا لا نأخذ منه شيئا لما مضى بخلاف من سكن دارا غصبا، لان عماد الجزية القبول، وهذا حربي لم يلتزم شيئا، وخرج ابن القطان وجها آخر: أنه تؤخذ منه جزية ما مضى، وعلى الوجهين: لنا قتله واسترقاقه، وأخذ ماله، ويكون فيئا، ولو رأى الامام أن يمن عليه، ويترك أمواله وذريته له، جاز بخلاف سبايا الحرب وأموالها، لان الغانمين(7/488)
ملكوها، فاشترط استرضاؤهم، فإن كان الكافر كتابيا، وطلب عقد الذمة بالجزية، فهل يجيبه ونعصمه ؟ تقدم على هذا حكم الاسير إذا كان كتابيا، وطلب عقد الذمة بعد الاسر، وفي تحريم قتله حينئذ قولان، أظهرهما: التحريم، لان بذل الجزية يقتضي حقن الدم، كما لو بذلها قبل الاسر، فعلى هذا في استرقاقه وجهان، أحدهما: يحرم أيضا، ويجب تقريره بالجزية كما قبل الاسر، وأصحهما: لا يحرم، لان الاسلام أعظم من قبول الجزية، والاسلام بعد الاسر لا يمنع الاسترقاق، وماله مغنوم سواء قلنا: يحرم، أم لا. إذا عرفت هذا فبدل الداخل الذي أطلقنا عليه الجزية وجب قبولها على المذهب، وقيل: وجهان، كالاسير. فرع اطلعنا على كافر في دارنا، فقال: دخلت لسماع كلام الله تعالى، أو لرسالة، صدق ولا يتعرض له، سواء كان معه كتاب أم لا، وفيما إذا لم يكن معه احتمال للامام، ثم نقل ابن كج عن النص أنه مدعي الرسالة إن اتهم، حلف، وفي البحر أنه لا يلزم تحليفه، ويمكن الجمع بين الكلامين، ولو قال: دخلت بأمان مسلم، فهل يطالب ببينة لامكانها غالبا أم يصدق بلا بينة كدعوى الرسالة، لان الظاهر أنه لا يدخل بغير أمان ؟ فيه وجهان، أصحهما: الثاني، قال الروياني: وما اشتهر أن الرسول آمن هو في رسالة فيها مصلحة للمسلمين من هدنة وغيرها، فإن كان رسولا في وعيد وتهديد، فلا أمان له، ويتخير الامام فيه بين الخصال الاربع كأسير. قلت: ليس ما ادعاه الروياني بمقبول، والصواب أنه لا فرق، وهو آمن مطلقا. والله أعلم. الركن الثاني: العاقد، ولا يصح عقد الذمة إلا من الامام، أو من فوضه إليه، وفي كتاب ابن كج وجه: أنه يصح عقدها من آحاد الرعية، كالامان، وهذا شاذ متروك، لكن لو عقدها أحد الرعية، لم يغتل المعقود له، بل يلحقه بمأمنه، فإن أقام سنة فأكثر، فهل يلزمه لكل سنة دينار ؟ وجهان، أحدهما: نعم، كما لو فسد عقد الامام، وأصحهما: لا، لانه لغو. الركن الثالث: المعقود، له خمسة شروط.(7/489)
أحدها: العقل، فلا جزية على مجنون، لانها لحقن الدم، وهو محقون، وفي البيان وجه: أن عليه الجزية، كالمريض والهرم، وليس بشئ، فإن كان يجن ويفيق، نظر إن قل زمن جنونه، كساعة من شهر، أخذت منه الجزية، وإن كثر بأن يقطع يوما ويوما، أو يومين، فأوجه، أصحها: تلفق أيام الافاقة، فإذا تمت سنة، أخذت الجزية، والثاني: لا شئ عليه، كمن بعضه رقيق، والثالث: حكمه كالعاقل وما يطرأ ويزول كالاغماء، والرابع: يحكم بموجب الاغلب، فإن استوى الزمان، وجبت الجزية، والخامس: إن كان في آخر السنة عاقلا، أخذت الجزية وإلا فلا، أما إذا كان مفيقا، ثم جن بعد انتصاف السنة، فهو كموته في أثناء السنة، وإن كان مجنونا فأفاق في أثناء السنة افتتح سنة، وسنذكرهما إن شاء الله تعالى. ولو وقع في الاسر من يجن ويفيق، قال الامام: إن غلبنا حكم المجنون، رق ولا يقتل، وإن غلبنا حكم الافاقة، لم يرق بالاسر، والظاهر الحقن، ويتجه أن تعتبر حالة الاسر، وهذا هو الاصح عند الغزالي. الشرط الثاني: البلوغ، فلا جزية على صبي، وإذا بلغ ولد ذمي، فهو في أمان، فلا يغتال، بل يقال له: لا نقرك في دار الاسلام إلا بجزية، فإن لم يبذل الجزية، ألحقناه بمأمنه، وإن اختار بذلها، فهل يحتاج إلى استئناف عقد، أم يكفي عقد أبيه ؟ وجهان، أصحهما عند العراقيين وغيرهم: الاول، فإن اكتفينا بعقد أبيه، لزمه مثل جزية أبيه، فإن كانت أكثر من دينار وقال: لا أبذل الزيادة، فطريقان، أحدهما: هو كذمي عقد بأكثر من دينار، ثم امتنع من بذل الزيادة، وفيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى، والثاني: القطع بالقبول، لانه لم يعقد بنفسه حتى يجعل بالامتناع ناقضا للعهد، وإن قلنا: يستأنف معه عقد، رفق به الامام ليلتزم ما التزم أبوه، فإن امتنع من الزيادة، عقد له بالدينار، وسواء اكتفينا بعقد أبيه، أم(7/490)
احتجنا إلى الاستئناف، فلا فرق بين أن يكون الاب قد قال: التزمت هذا عن نفسي وفي حق ابني إذا بلغ، وبين أن لا يتعرض للابن، ولو بلغ الابن سفيها وبذل جزية أبيه وهي فوق دينار، فهل تؤخذ منه ؟ وجهان حكاهما البغوي، وليكونا بناء على أنه يكتفي بعقد أبيه أم يستأنف ؟ إن اكتفينا، أخذنا، وإلا فهو كسفيه جاء يطلب عقد الذمة، ولا شك أنه يجاب ولا يشترط إذن وليه، لان فيه مصلحة حقن الدم، لكن لو التزم أكثر من دينار، قال القاضي حسين: تلزمه الزيادة وإن لم يأذن الولي بناء على أن العهد لا يدخل تحت الولاية، حكاه الامام عنه، ولم يرتضه، وقال: الحقن ممكن بدينار، فينبغي أن يمتنع من بذل الزيادة، وذكر الروياني نحوه، وفي التهذيب الجزم بأنه لا تؤخذ الزيادة وإن أذن الولي، وقال الغزالي: يصح عقد السفيه بالزيادة لحقن الدم تشبيها بما إذا كان على السفيه قصاص، وصالح المستحق على أكثر من قدر الدية، لم يكن للولي منعه، وزاد فقال: للولي أن يعقد له بالزيادة، وليس للسفيه المنع، كما يشتري له الطعام بثمن غال صيانة لروحه، وفرق الامام بين هاتين المسألتين والجزية وقال: صيانة الروح لا تحصل في المسألتين إلا بالزيادة، وهنا بخلافه، والمذهب أنه لا يصح عقد السفيه والولي بالزيادة، وإذا اختار السفيه الالتحاق، واختار الولي عقد الذمة، فالمتبع اختيار السفيه، ذكره الروياني وصاحب البيان. الشرط الثالث: الحرية، فلا جزية على عبد ولا على سيده بسببه، ومن بعضه رقيق كالعبد، وقيل: يجب من الجزية بقسط حريته، والصحيح الاول، لانه غير مقتول بالكفر، كمن تمحض رقه، وإذا أعتق العبد، فإن كان من أولاد من لا يقر بالجزية، فليسلم، وإلا فليبلغ المأمن، وإن كان ممن يقر، فليسلم أو ليبذل الجزية، وإلا فليبلغ المأمن، سواء أعتقه مسلم أو ذمي، فإن أعتقه ذمي، فهل تؤخذ منه جزية سيده أم جزية عصبته، لانهم أخص به، أم يستأنف له عقد ؟ فيه أوجه.(7/491)
قلت: الاصح: الاستئناف. والله أعلم. الشرط الرابع: الذكورة، فلا جزية على امرأة وخنثى، فإن بانت ذكورته، فهل تؤخذ منه جزية السنين الماضية ؟ وجهان. قلت: ينبغي أن يكون الاصح الاخذ. والله أعلم. ولو جاءتنا امرأة حربية، فطلبت عقد الذمة بجزية، أو بعثت بذلك من دار الحرب، أعلمها الامام أنه لا جزية عليها، فإن رغبت مع ذلك في البذل، فهذه هبة لا تلزم إلا بالقبض، وإن طلبت الذمة بلا جزية، أجابها الامام، وشرط عليها التزام الاحكام. ولو حاصرنا قلعة، فأرادوا الصلح على أن يؤدوا الجزية عن النساء دون الرجال، لم يجابوا، فإن صولحوا عليه، فالصلح باطل، وإن لم يكن فيها إلا النساء فطلبن عقد الذمة بالجزية، فقولان نص عليهما في الام أحدهما: يعقد لهن، لانهن يحتجن إلى صيانة أنفسهن عن الرق، كما يحتاج الرجال للصيانة عن القتل، فعلى هذا يشترط عليهن أن تجرى عليهن أحكام الاسلام، ولا يسترققن، ولا يؤخذ منهن شئ، وإن أخذ الامام مالا، رده، لانهن دفعنه على اعتقاد أنه واجب، فإن دفعنه على علم، فهو هبة، والحكم على هذا القول كما ذكرنا في حربية بعثت من دار الحرب تطلب الذمة، والقول الثاني: لا تعقد لهن، ويتوصل الامام إلى الفتح بما أمكنه، وإن عقد لم يتعرض لهن حتى يرجعن إلى القلعة، فإذا فتحها، سباهن، لان الجزية تؤخذ لقطع الحرب، ولا حرب في النساء والصبيان،(7/492)
ولانهن قد قربن من مصيرهن غنيمة فلا يعرض عنهن بعد تحمل التعب والمؤنة، والقولان متفقان على أنه لا يقبل منهن جزية، ولا يوجد أحد إلزام، هذا ما نقله الاصحاب في جميع طرقهم، وشذ عنهم الامام فنقل في الخلاف وجهين وجعلهما في أنه هل يلزم قبول الجزية وترك إرقاقهن ؟ وضعف وجه اللزوم، وذكر الروياني الطريقة المشهورة، ثم حكى ما ذكره الامام عن بعض الخراسانيين، ولعله أراد به الامام، ثم قال: وهو غلط، ولو كان في القلعة رجل واحد، فبذل الجزية، جاز، وصارت النساء تبعا له في العصمة، هكذا أطلقه مطلقون، وخصه الامام والغزالي بما إذا كن من أهله، وهذا أحسن. فرع عقد الذمة يفيد الامان للكافر نفسا ومالا وعبيده من أمواله، قال الامام: وليس له أن يستتبع من النساء والصبيان والمجانين من شاء، لانه يخرج عن الضبط، ولكن لا بد من تعلق واتصال، فيستتبع من نسوة الاقارب وصبيانهم ومجانينهم من شاء، بأن يدرجهم في العقد شرطا، وسواء المحارم وغيرهم، فإن أطلق، لم يتبعوه. ومن له مصاهرة من النساء والصبيان والمجانين لهم حكم الاقارب على الاصح، وقيل: كالاجانب، وفي دخول الاولاد الصغار في العقد عند الاطلاق وجهان، أصحهما: الدخول اعتمادا على القرينة، والزوجات كالاولاد الصغار، وقيل: كنساء القرابة. فرع إذا بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، أو عتق العبد، زالت التبعية، ولزمتهم الجزية وابتداء الحول من حين حدثت هذه الاحوال، فإن اتفق ذلك في نصف حول أهلهم الذميين مثلا، فإذا تم حول أهلهم، ورغب هؤلاء في أن يؤدوا نصف الجزية، فذاك، وإلا فإن شاء الامام أخذ جزيتهم عند تمام حولهم، وإن شاء أخر حتى يتم حول ثان لاهلهم، فيأخذ منهم جزية سنة ونصف لئلا تختلف الاحوال. فرع لو دخلت حربية دارنا بغير تبعية ولا أمان ولا طلب أمان، جاز استرقاقها، وكذا الحكم في الصبي، كما يجوز قتل الكافر إذا دخل، كذلك قال الامام، وكل حكم بجزية في القتال بجزية فيمن يظفر به من غير ذمة ولا أمان. فرع عن نصه إذا صالحنا قوم على أن يؤدوا الجزية عن صبيانهم ومجانينهم(7/493)
ونسائهم سوى ما يؤدون عن أنفسهم، فإن شرطوا أن يؤدوا من مال أنفسهم، جاز، وكأنهم قبلوا جزية كثيرة، وإن شرطوه من مال الصبيان والمجانين، لم يجز أخذه. الشرط الخامس: كونه كتابيا، فالكفار ثلاثة أصناف. أحدها: أهل كتاب، ومنهم: اليهود والنصارى، فيقرون بالجزية، فلو زعم قوم أنهم متمسكون بصحف إبراهيم وزبور داود صلى الله عليهما وسلم، فهل يقرون بالجزية ؟ وجهان، أصحهما: نعم، ومنهم من قطع به، ولا تحل مناكحتهم وذبيحتهم على المذهب عملا بالاحتياط في المواضع الثلاثة، وقيل بطرد الخلاف في حل الذبيحة والمناكحة إلحاقا لكتبهم بكتاب اليهود، وحكي ذلك عن القاضي أبي الطيب وغيره، وإذا ألحقناهم باليهود، فإن تحققنا صدقهم، أو أسلم اثنان منهم، وشهدوا بذلك، فذاك، وعن صاحب الحاوي أن المعتبر قول جماعة تحصل الاستفاضة بقولهم، وإن شككنا في أمرهم، كالمجوس. الصنف الثاني: المجوس، فيقرون بالجزية، وهل كان لهم كتاب أم شبهة كتاب ؟ قولان سبقا في النكاح، أظهرهما: الاول وقطع به بعضهم. الثالث: من ليس له ولا شبهة، كعبدة الاوثان والملائكة والشمس، ومن في معناهم، فلا يقرون بالجزية، سواء فيهم العربي والعجمي. فرع اليهود والنصارى يقرون بالجزية، مهما دخل آباؤهم في اليهود أو التنصر قبل تبدل ذلك الدين، ولا فرق بين أولاد المبدلين وغيرهم، ولو دخل وثني(7/494)
في يهودية أو نصرانية بعد مبعث نبينا - صلى الله عليه وسلم -، لم يقروا، هم ولا أولادهم، لانهم تمسكوا بدين باطل، وقال المزني: يقرون، والتهود بعد بعثة عيسى - صلى الله عليه وسلم - كالتهود والتنصر بعد بعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - على الاصح، وقد ذكرناه في النكاح، وإن دخلوا فيه بعد التبديل وقبل النسخ، فطريقان، أحدهما: إن تمسك بما لم يحرف، قرر، وإن تمسك بمحرف، لم يقرر هو ولا أولاده، وهل في الاولاد قولان، وبهذا الطريق قال العراقيون والبغوي وآخرون، والثاني: يقرون بلا تفصيل ولا خلاف، وهذا الطريق يدير الحكم على الدخول قبل النسخ وبعده، وهو اختيار ابن كج، والقاضي أبي الطيب، والامام، والروياني، قال القاضي أبو الطيب: لا أحفظ الشرط المذكور للشافعي، إنما فرق في كتبه بين ما قبل نزول القرآن وما بعده، وهذا أصح، قال الامام: لانهم وإن بدلوا فمعلوم أنه بقي فيه ما لم يبدل، فلا تنحط عن شبهة كتاب المجوس، أو تغليبا لحقن الدم، ولو لم نعرف أدخلوا قبل النسخ أو بعده، أو قبل التبديل أو بعده، قررناهم بالجزية كالمجوس. فرع المذهب أن السامرة والصابئين إن خالفوا اليهود والنصارى في أصول دينهم فليسوا منهم، وإلا فمنهم، وهكذا نص عليه، وعليه يحمل النصان الآخران، وقيل: قولان مطلقا، وقيل: تؤخذ منهم الجزية قطعا، وهذا فيما إذا لم يكفرهم اليهود والنصارى، فإن كفروهم، لم يقروا قطعا، فإن أشكل أمرهم، ففي تقررهم احتمالان ذكرهما الامام، الاصح: الجواز. فرع لو أحاط الامام بقوم، فزعموا أنهم أهل كتاب، أو أن آباءهم تمسكوا بذلك الدين قبل التبديل، قررهم بالجزية، لانه لا يعرف الامر إلا من جهتهم، قال ابن الصباغ: ويشترط عليهم إن بان خلاف قولهم، نبذ عهدهم وقاتلهم، وإن ادعاه بعضهم دون بعض، عامل كل طائفة بمقتضى قولها، ولا يقبل قول بعضهم على بعض، فلو أسلم منهم اثنان، وظهرت عدالتهما، وشهدا بخلاف دعواهم، نبذ عهدهم، هذا لفظ جماعة وقال الامام: يتبين أنه لا ذمة لهم، وهل يغتالهم لتلبيسهم علينا أم يلحقهم بالمأمن ؟ فيه تردد، والظاهر: اغتيالهم لتدليسهم، وكذا لو أسلم من السامرة أو الصابئين اثنان، فشهدا بكفرهم. فرع من أحد أبويه كتابي والآخر وثني، فيه طرق، والمذهب: تقريره،(7/495)
سواء كان الكتابي الاب أو الام، وقيل: قولان، وقيل: لا يقرر، وقيل: يلحق بالاب، وقيل: بالام. فرع توثن نصراني وله أولاد صغار، فإن كانت أمهم نصرانية، استمر لهم حكم التنصر، فتقبل منهم الجزية بعد بلوغهم، وإن كانت وثنية، ففي تقريرهم بالجزية قولان، أظهرهما: نعم، لانه ثبت لهم علقة التنصر فلا تزول، وحقيقة القولين ترجع إلى أن توثنه هل يستتبع أولاده ؟ فإن أتبعناهم، لم يغتالوا، لانهم كانوا في أمان، ولم تؤخذ منهم جزية، وأما أبوهم، فيبنى حكمه على ما سبق في كتاب النكاح أنه هل يقنع منه بالعود إلى دينه أم لا يقنع إلا بالاسلام، فإن أباهما، فيقتل أم يلحق بالمأمن ؟ قولان الاظهر: الثاني. فرع الولد المنعقد من مرتدين، هل هو مسلم، أم مرتد، أم كافر أصلي ؟ فيه أقوال سبقت في الردة، فإن قلنا: مسلم، فبلغ وصرح بالكفر، فمرتد، وإن قلنا: أصلي، فالصحيح أنه لا يقر بجزية. فرع يهود خيبر كغيرهم في ضرب الجزية عليهم، وسئل ابن سريج رحمه الله عما يدعونه أن عليا رضي الله عنه كتب لهم كتابا بإسقاطها، فقال: لم ينقل ذلك أحد من المسلمين، وفي البحر أن ابن أبي هريرة أسقط الجزية عنهم، لان النبي - صلى الله عليه وسلم - ساقاهم، وجعلهم بذلك خولا، قال: وهذا شئ تفرد به، والمساقاة معاملة لا تقتضي إسقاط الجزية. فصل الزمن والشيخ الفاني، والاجير والراهب والاعمى تضرب عليهم الجزية كغيرهم على المذهب والمنصوص، لان الجزية كأجرة الدار، وقيل: إن قلنا: لا يقتلون، فلا جزية، كالنساء، وأما الفقير العاجز عن الكسب، فالمشهور المنصوص في عامة كتبه، أن عليه جزية، وفي قول: موسر، أخذناها منه، وإلا فهي في ذمته حتى يوسر، وكذا(7/496)
حكم الحول الثاني وما بعده، وفي وجه: لا يمهل ولا يقر في دارنا، بل يقال: إما أن تحصل الجزية بما أمكنك، وإما أن نبلغك المأمن، لانه قادر على رفع الجزية بالاسلام، وإذا قلنا: لا يجب، عقدنا له الذمة على شرط إجراء الاحكام عليه، وبذل الجزية عند القدرة، فإذا أيسر، فهو أول حوله، هكذا قاله الاصحاب، وأشار الامام إلى أن ابتداء الحول من وقت العقد. فرع الجاسوس الذي يخاف شره، لا يقر بالجزية. الركن الرابع: المكان القابل للتقرير بلاد الاسلام حجاز وغيره، فالحجاز مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها أي: قراها، قال الامام: قال الاصحاب: الطائف ووج، وهو واد بالطائف، وما يضاف إليهما منسوبة إلى مكة معدودة من أعمالها، وخيبر من مخاليف المدينة. ثم الحجاز ضربان: حرم مكة وغيره، أما غيره، فيمنع الكفار من الاقامة به، وفي منعهم من الاقامة في الطرق الممتدة في بلاد الحجاز وجهان حكاهما الامام، الصحيح وهو مقتضى إطلاق الجمهور: نعم، لانها من الحجاز، والثاني: لا، لانها ليست مجتمع الناس، ولا موضع إقامة، ولا يمنعون من ركوب بحر الحجاز، لانه ليس موضع إقامة، ويمنعون من الاقامة في سواحله في الجزائر المسكونة في البحر ومتى دخل كافر الحجاز بغير إذن الامام، أخرجه وعزره إن علم أنه ممنوع من دخوله، وإن استأذن في دخوله، أذن له إن كان في دخوله مصلحة للمسلمين، كرسالة أو عقد هدنة أو ذمة، أو حمل متاع يحتاج إليه المسلمون، وإن كان دخوله لتجارة ليس فيها كثير حاجة للمسلمين، لم يأذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارته شيئا، هكذا أطلقه جماعة، وحكوه عن النص، وفي التهذيب أنه يشرط عليه شيئا، وهو إلى رأي الامام، ولعله أراد أن قدر المشروط إلى رأي الامام، لا أصل الشرط فلا يخالف ما أطلقه غيره.(7/497)
قلت: هذا الاحتمال هو مراده من غير ترديد، وهو مقتضى عبارته. والله أعلم. ولا يمكن من دخل بالاذن أن يقيم أكثر من ثلاثة أيام، ويشرط عليه ذلك عند الدخول، ولا يحسب من الثلاثة يوم الدخول والخروج، ولو كان له ديون، حصلت بمعاملاته بعد الدخول، أو من وجه آخر ولم يمكن قبضها في الحال، أمر أن يوكل مسلما بقبضها، وأخرج هو، ولو كان ينتقل من قرية إلى أخرى ويقيم في كل واحدة ثلاثة أيام، لم يمنع وأما حرم مكة زاده الله شرفا، فيمنع الكافر من دخوله، ولو كان مجتازا، فإن جاء برسالة والامام في الحرم، بعث إليه من يسمعه، ثم يخبر الامام، أو خرج إليه الامام ويتعين عليه ذلك إذا قال الكافر: لا أؤدي الرسالة إلا مشافهة، وإن جاء كافر ليناظره ليسلم، خرج إليه من يناظره، وإن حمل ميرة، خرج إليه الراغبون في الشراء، وإن كان لذمي مال في الحرم، أو دين، وكل مسلما ليقبضه ويسلمه إليه، وإن بذل الكافر على الدخول مالا، لم يجبه إليه، فإن فعل، فالصلح فاسد، فإن دخل، أخرج وثبت العوض المسمى بخلاف الاجارة الفاسدة، فإنه إنما تثبت فيها أجرة المثل، لانه هنا استوفى المعوض وليس لمثله أجرة، وإن دخل ولم ينته إلى الموضع المشروط، وجبت الحصة من المسمى، ولو دخل كافر بغير إذن الامام، أخرج وعزر إن كان علم، فلو مات فيه، لم يدفن فيه، فإن دفن، نبش وأخرج، فإن تقطع، ترك، وفي البحر وجه أنه تجمع عظامه إن أمكن وتخرج، وبهذا قطع الامام، وبالاول قال الجمهور، ولو مرض فيه، لم يرض فيه، بل ينقل وإن خيف من النقل موته، ولو مرض كافر في الحجاز خارج الحرم، قال: إن أمكن نقله بلا مشقة عظيمة عليه، كلف الانتقال، فإن خيف عليه الموت، ترك حتى يبرأ، وإن لم يخف الموت، ولكن تناله مشقة عظيمة، فالاصح تكليفه الانتقال، وجواب جمهور الاصحاب أنه لا ينقل مطلقا، فلو مات في الحجاز وتعذر نقله، دفن فيه، ولفظ الامام أنا نواريه مواراة الجيف، وإن كان في طرف الحجاز، نقل لسهولته، وأطلق أكثرهم أنه يدفن فيه، وقالوا: إذا جاز تركه في الحجاز للمرض، فللموت أولى، وذكر البغوي تفصيلا جيدا وهو أنه إن أمكن نقله قبل أن يتغير، نقل ولم يدفن فيه، وإن خيف عليه التغير، دفن للضرورة، وإذا دفن حيث لا يؤذن فيه، هل ينبش ويخرج عند التمكن ؟ وجهان حكاهما الامام، والصحيح: المنع، وبه(7/498)
قطع الجمهور، فعلى هذا قال الامام: لا يبعد أن لا يرفع نعش قبره، وأما حرم المدينة فلا يلحق بحرم مكة فيما ذكرنا، لكن استحسن الروياني أن يخرج منه إذا لم يتعذر الاخراج ويدفن خارجه، أما غير الحجاز، فيجوز تقرير الكفار فيه بالجزية ولكل كافر دخوله بالامان، وإذا استأذن كافر في الدخول، لم يؤذن له إلا لحاجة، لانه لا يؤمن أن يجس، أو يطلع على عورة، ويتولد من اطلاعه فساد، أو يفتك بمسلم، ويؤذن له إذا كان في دخوله مصلحة للمسلمين، كرسالة وعقد ذمة أو هدنة، وإن كان يدخل لتجارة، فللامام أن يأذن له إذا رأى ذلك، ويأخذ من تجارته شيئا كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وإذا دخل لبعض هذه الاغراض فليكن مكثه بقدر الحاجة، وليس لكافر أن يدخل مساجد هذه البلاد بغير إذن، ولا يؤذن له في دخولها لاكل ولا نوم، لكن يؤذن لسماع القرآن أو الحديث والعلم، قال الروياني: وكذا لحاجته إلى مسلم، أو حاجة مسلم إليه، وإذا دخل بلا إذن إن كان جاهلا فمعذور ويعرف، وإن كان عالما، عزر، وقيل: لا يعزر إلا أن يشرط عليه أن لا يدخل بلا إذن، وجلوس القاضي في المسجد إذن للكافر في الدخول، وإذا كان له خصومة. وهل يفرق بين كونه جنبا وغيره ؟ وجهان سبقا في كتاب الصلاة، والصحيح الاشهر أنه يكفي إذن آحاد المسلمين في دخول كل المساجد، وقال الروياني: لا يكفي في الجامع إلا إذن السلطان، وفي مساجد القبائل والمحال وجهان، أحدهما: يشترط إذن من له أهلية الجهاد، وأصحهما: يكفي إذن من(7/499)
يصح أمانه، وإذا قدم وفد من الكفار، فالاولى أن ينزلهم الامام في دار مهيأة لذلك، أو في فضول مساكن المسلمين، فإن لم يتيسر، فله انزالهم في المسجد، ويجوز تعليمهم القرآن إذا رجي إسلامهم، ولا يجوز إذا خيف استخفافهم، وكذا القول في تعليم أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - والفقه والكلام، ولا يمنعون من الشعر والنحو، قال الروياني: ومنعه بعض الفقهاء، لئلا يتطاولوا به على مسلم لا يحسنه. قلت: قال أصحابنا: لا يمنع الكافر من سماع القرآن، ويمنع من مس المصحف، ولا يجوز تعليمه القرآن إن لم يرج إسلامه ويمنعه التعليم على الاصح، وإن رجي، جاز تعليمه على الاصح. والله أعلم. فرع من دخل منهم لتجارة أو رسالة لم يمكن من إظهار خمر ولا خنزير، ولا يأذن له الامام في حملها إلى دار الاسلام. الركن الخامس: المال المعقود عليه، وفيه مسائل: إحداها: أقل الجزية دينار لكل سنة، هذا هو المنصوص الموجود في كتب الاصحاب، وذكر الامام أن الاقل دينار، أو اثنا عشر درهما نقرة خالصة مسكوكة، يتخير الامام بينهما، ولا يلزم الامام أن يخيرهم بأقل الجزية، بل يستحب أن يماكس حتى يأخذ من الغني أربعة دنانير، ومن المتوسط دينارين، وقال الامام: موضع المماكسة ما إذا لم يعلم الكافر جواز الاقتصار على دينار، فإن علم، تطلب الزيادة استماحة، فإن امتنعوا من بذل ما زاد على دينار، وجب تقريرهم بالدينار سواء فيه الغني والفقير، ولو عقد بأكثر من دينار، ثم علم أن الزيادة غير لازمة، لزمه ما التزم، كمن اشترى شيئا أكثر من ثمن مثله، فإن امتنع من الزيادة، فوجهان، أحدهما: يقنع بالدينار، وأصحهما: أنه ناقض للعهد بذلك، كما لو امتنع من أداء أصل الجزية، وحينئذ هل يبلغ المأمن أم يقتل ؟ قولان سنذكرهما إن شاء الله تعالى، فإن بلغ المأمن وعاد، فطلب العقد بدينار، أجبناه، هكذا ذكره البغوي، وأطلق الامام أنه إذا قبل الزيادة، ثم نبذ العهد إلينا لا يغتال، وإذا طلب تجديد عقد بالدينار، لزم إجابته، ثم إن كان النبذ بعد مضي سنة، لزمه ما التزم، وإن كان في(7/500)
أثنائها، لزمه بقسطه تفريعا على المذهب فيما إذا مات الذمي في أثناء السنة. فرع نص أنه لو شرط على قوم أن على فقيرهم دينارا، ومتوسطهم دينارين، وغنيهم أربعة، جاز، والاعتبار في هذه الاحوال بوقت الاخذ لا بوقت العقد، ولا بما يطرأ، وإن قال بعضهم: أنا متوسط أو فقير، قبل قوله إلا أن تقوم بينة بخلافه. المسألة الثانية: لو مات الذمي، أو أسلم بعد مضي السنة، لم تسقط الجزية كسائر الديون، فتؤخذ من تركته ومنه إذا أسلم، ولو مضت سنون ولم يؤد الجزية، أخذت منه ولم تتداخل كالديون، ولو مات أو أسلم في أثناء السنة، فهل يجب قسط ما مضى كالاجرة أم لا يجب شئ كالزكاة ؟ قولان أظهرهما: الاول، وقيل: تجب قطعا، وقيل: عكسه، وقيل: لا تجب في الموت، وفي الاسلام القولان، فإن أوجبنا، فهل للامام أن يطالب في أثناء السنة بقسط ما مضى ؟ وجهان أصحهما: لا، ويقرب منه ما ذكره البغوي هل للامام أن يشترط تعجيلها ؟ وجهان، وجه الجواز إلحاقها بالاجرة، ومتى مات وعليه جزية، أخذت من تركته مقدمة على الوصية، كسائر الديون، فتؤخذ من تركته، ومنه إذا أسلم، فلو كان معها دين آدمي، فالمذهب والمنصوص أنه يسوى بينها وبينه، وقيل: فيه الاقوال الثلاثة في اجتماع دين الله تعالى ودين الآدمي هل يقدم ذا أم ذاك أم يستوي، وفي الوسيط طريقة حازمة بتقديم الجزية، وهو غلط. الثالثة: يستحب للامام إذا أمكنه أن يشرط على أهل الذمة إذا صولحوا في بلدانهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين، وشرط الضيافة يكون لجميع(7/501)
الطارقين، ولا يختص بأهل الفئ، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: في اختصاصهم وجهان، وهل الضيافة زيادة مقصودة في نفسها أم محسوبة من الجزية وجهان أصحهما وأشهرهما: أنها زيادة وراء أقل الجزية، فعلى هذا إن قبلوها، لزم الوفاء، وجرت مجرى الزيادة على دينار، وإن قلنا: إنها من الجزية فعلمنا في آخر السنة أن ما ضيفوا به لا ينقص عن دينار فذاك، وإن نقص، لزمهم تتميمه، وإذا شرطنا الضيافة، ثم رأى الامام نقلها إلى الدنانير، فليس له ذلك على الاصح إلا برضاهم، فإن ردت إلى الدنانير، فهل يبقى للمصالح العامة، أم يختص بأهل الفئ ؟ وجهان، أصحهما: الاختصاص، كالدنانير المضروبة، وتشترط الضيافة على الغني والمتوسط، وفي الفقير أوجه، أصحها: لا تشترط عليه، والثاني: بلى، والثالث: تشترط على المعتمل دون غيره ويتعرض الامام عند اشتراط الضيافة لامور منها: أن يبين عدد أيام الضيافة في الحول، كمائة يوم أو أقل أو أكثر، وفي البحر أنه لو لم يذكر عدد الايام في الحول وشرط ثلاثة أيام مثلا عند قدوم كل قوم، فوجهان، إن جعلناها جزية، لم يجز، وإلا فيجوز. ومنها: بيان عدد الضيفان من الفرسان والرجالة، وعن الحاوي أن التعرض لعدد الضيفان إنما يشترط إذا جعلنا الضيافة من الجزية، فإن جعلناها وراءها، جاز أن لا يبين العدد، ثم إن تساووا في الجزية، تساووا في الضيافة، وإن تفاوتوا، فاوت بينهم، فيجعل على الغني ضيافة عشرين مثلا، وعلى المتوسط عشرة، والفقير إن قلنا باشتراطها عليه خمسة، وفي وجه يسوي بينهم في الضيافة، وإن تفاوتوا في الجزية، ولو شرط عدد الضيفان على جميعهم، وقال: تضيفون في كل سنة ألف مسلم، قال الروياني: يكفي ذلك، ثم هم يوزعونها أو يتحمل بعضهم عن بعض.(7/502)
ومنها: بيان ذلك الطعام والادام وجنسهما، فيقول: لكل واحد كذا من الخبز، وكذا من السمن أو الزيت، ويتعرض لعلف الدواب من التبن أو الحشيش أو القت، ولا يحتاج إلى ذكر قدر العلف، وإن ذكر الشعير، بين قدره، وإطلاق العلف لا يقتضي الشعير، نص عليه. ومنها: منزل الضيفان من فضول منازلهم أو كنائسهم، أو بيوت الفقراء الذين لا يضيفون، وليكن الموضع بحيث يدفع الحر والبرد، ولا يخرجون أهل المنازل منها. ومنها: أن يبين مدة مقام الضيف، ولا يزيد على ثلاثة أيام، وقال ابن كج: يشترط على المتوسط ثلاثة أيام، والغني ستة، قال الامام: وإذا حصل التوافق على الزيادة، فلا منع، ولا يفرق بين الطبقات في جنس الطعام. فرع لو أراد الضيف أن يأخذ منهم ثمن الطعام، لم يلزمهم، ولو أراد أن يأخذ الطعام ويذهب به ولا يأكله، فله ذلك بخلاف طعام الوليمة، لان هذه معاوضة، وتلك مكرمة، ولا يطالبهم بطعام الايام الثلاثة في اليوم الاول ولو لم يأتوا بطعام اليوم، فهل للضيف المطالبة من الغد، إن جعلنا الضيافة محسوبة من الدينار، فله ذلك، وإلا فلا. ولا تلزمهم أجرة الطبيب والحمام وثمن الدواء، ولو تنازعوا في إنزال الضيف، فالخيار له، ولو تزاحم الضيفان على ذمي، فالخيار له، ولو قل عددهم، وكثر الضيفان، فالسابق أحق، فإن تساووا، أقرع، وليكن للضيفان عريف يرتب أمرهم. فصل تؤخذ الجزية على سبيل الصغار والاهانة، بأن يكون الذمي قائما، والمسلم الذي يأخذها جالسا، ويأمره بأن يخرج يده من جيبه، ويحني ظهره ويطأطئ رأسه، ويصب ما معه في كفة الميزان، ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمته: وهي مجتمع اللحم بين الماضغ والاذن من اللحي، وهذا معنى الصغار(7/503)
عند بعضهم، وهل هذه الهيئة واجبة أم مستحبة ؟ وجهان، أصحهما: مستحبة، ويبنى عليهما أنه هل يجوز أن يوكل الذمي مسلما بأداء الجزية، وأن يضمنها مسلم عن ذمي، وأن يحيل ذمي بها على مسلم، فإن أوجبنا إقامة الصغار عند أداء الجزية، لم يجز، وإن قلنا: المقصود تحصيل ذلك المال، ويحصل الصغار بالتزامه المال والاحكام كرها، جاز، والضمان أولى بالصحة، لانه لا يمنع مطالبة الذمي وإقامة الصغار عليه، ولو وكل ذمي ذميا بالاداء، قال الامام: الوجه طرد الخلاف، ولو وكل مسلما في عقد الذمة له، جاز، لان الصغار يرعى عند الاداء دون العقد. قلت: هذه الهيئة المذكورة أولا، لا نعلم لها على هذا الوجه أصلا معتمدا، وإنما ذكرها طائفة من أصحابنا الخراسانيين، وقال جمهور الاصحاب: تؤخذ الجزية برفق، كأخذ الديون، فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على من اخترعها، ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعل شيئا منها مع أخذهم الجزية، وقد قال الرافعي رحمه الله في أول كتاب الجزية: الاصح عند الاصحاب: تفسير الصغار بالتزام أحكام الاسلام وجريانها عليهم، وقالوا: أشد الصغار على المرء أن يحكم عليه بما لا يعتقده ويضطر إلى احتماله. والله أعلم. فصل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه طلب الجزية من نصارى العرب وهم: تنوخ وبهراء وبنو تغلب، وهم قبائل من العرب تنصروا لا يعلم متى تنصروا، وهم مقرون بالجزية، فقالوا: نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم، فخذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض، يعنون الزكاة، فقال عمر رضي الله عنه: هذا فرض المسلمين، فقالوا: زد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية، فراضاهم على أن تضعف عليهم الزكاة،(7/504)
قال الاصحاب: ولم يخالف عمر أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فصار كالاجماع، وعقد الذمة لهم مؤبدا، فليس لاحد نقض ما فعله، قالوا: وفيه إشكال من وجهين: أحدهما: أنه ربما كان فيهم من يقل ماله الزكوي، فيكون المأخوذ منه أقل من دينار، وربما قلت أموالهم الزكوية، فينقص المأخوذ عن دينار لكل رأس، الثاني: أنه وإن وفى المأخوذ بدينار لكل رأس، فربما كان فيهم من لا يملك مالا زكويا فيكون قد قرر بلا جزية، ولا يجوز ذلك، وإن بذل غيره أكثر من دينار، كما لو قال واحد: خذوا مني عشرة دنانير على أن لا جزية على تسعة معي، ولم ينقل أنه رضي الله عنه سأل عن هذه الامور، وأجيب عن الاول بأن فعله رضي الله عنه محمول على أن المأخوذ لا ينقص عن دينار لكل رأس، أو أنه شرط عليهم الاتمام إن نقص، وقيل: احتمل ذلك، لانه إن نقص في وقت فربما زاد في وقت فتجبر الزيادة النقص، وعن الثاني، بأن المأخوذ من أصحاب أموال الزكوية مأخوذ عنهم وعن الآخرين، ولبعضهم أن يلتزم عن نفسه وعن غيره، وغرضنا تحصيل دينار عن كل رأس، هذا ما ذكره ابن أبي هريرة والاكثرون، وقال أبو إسحق: لا يجوز، لان فيه تقرير بعضهم بلا مال،. وأجري الوجهان فيما لو التزم واحد عشر دنانير عنه وعن تسعة، إذا تقرر هذا، فلو طلب قوم من أهل الكتاب أن يؤدوا الجزية باسم الصدقة، ولا يؤدوها باسم الجزية، فللامام إجابتهم إذا رأى ذلك، ويسقط عنهم الاهانة واسم الجزية، ويأخذ ضعف الصدقة، وسواء في هذا العرب والعجم، وقيل: يختص الجواز بالعرب لشرفهم، والصحيح الاول، ويشترط عليهم بمال الزكاة وقدرها، ويكفي أن يقول الامام: جعلت عليكم ضعف الصدقة، أو صالحتكم على ضعف الصدقة، والمأخوذ جزية تصرف مصرف الفئ، ولا يؤخذ شئ من الاموال الصبيان والمجانين والنسوة وينظر في الحاصل هل يفي بدينار عن كل رأس ؟ فإن لم يف، زاد إلى ثلاثة أضعاف فأكثر، وهل يدخل الفقير في التوزيع ؟ فيه الخلاف السابق في أنه تؤخذ منه جزية أم لا، ولو كثروا وعسر عددهم لمعرفة الوفاء بالدينار، فهل يجوز الاخذ بغلبة الظن ؟ وجهان، أصحهما: لا، بل يشترط تحقق أخذ دينار عن كل رأس، ويجوز الاقتصار على قدر الصدقة وعلى نصفها إذا حصل الوفاء بالدينار،(7/505)
واستحب جماعة زيادة شئ على قدر الصدقة لاسقاط اسم الجزية، ولم يستبعد الامام المنع لما فيه من تشبيههم بالمسلمين في المأخوذ، وحط الصغار بلا غرض مالي، وإذا شرط ضعف الصدقة، وزاد على دينار، ثم سألوا إسقاط الزيادة وإعادة اسم الجزية، اجيبوا على الصحيح. فرع يأخذ من خمس من الابل شاتين، ومن عشر أربعا، ومن خمس وعشرين بنتي مخاض، ومن أربعين شاة شاتين، ومن ثلاثين بقرة تبيعتين، ومن عشرين دينارا دينارا، ومن مائتي درهم عشرة دراهم، ومما سقت السماء الخمس، ومما سقي بالنواضح العشر، ومن الركاز خمسين، وعلى هذا القياس، ومن مائتي بعير ثمان حقاق أو عشر بنات لبون، ولا يفرق فيؤخذ أربع حقاق وخمس بنات لبون، كما لا يفرق في الصدقة، ومن ستين بقرة أربعة أتبعة لا ثلاث مسنات، ومن ست وأربعين بعيرا حقتين فإن لم يجدهما فبنتي لبون مع الجيران، ومن ست وثلاثين بنتي لبون، فإن لم يجد فبنتي مخاض مع الجيران، وفي تضعيف الجبران وجهان، أحدهما: تضعف، فيؤخذ مع كل بنت مخاض شاتان، أو عشرون درهما، فإن لم نجد في مال صاحب الست والثلاثين بنت لبون وعندة حقاق، أخذنا حقتين ورددنا جبرانين ولا يضعف الجبران هنا قطعا، ويخرج الامام الجبران من الفئ كما يصرفه إذا أخذه إلى الفئ، وهل يؤخذ من بعض النصاب قسطه من واجب النصاب، كشاة من عشرين ونصف شاة من عشر ؟ فيه قولان، أظهرهما: لا، والثاني: نعم، رواه البويطي، فعلى هذا يؤخذ من مائة شاة ونصف شاة ثلاث شياه، ومن سبعة أبعرة ونصف ثلاث شياه، ومن خمس وثلاثين بقرة تبيع ومسنة، وأجرى الخلاف في الاوقاص، هل يحط عنهم أم يجب قسط المأخوذ في حقهم، وقيل: إن أدى الاخذ من الوقص إلى التشقيص مع التضعيف لم يؤخذ، وإلا فيؤخذ. فرع إذا ضرب الجزية على ما يحصل من أرضهم من ثمر وزرع باسم الصدقة، فباع أرضهم، صح بيعه، فإن بقي مع البائع ما بقي الحاصل منه بالمشروط عليه، فذاك، وإلا انقلبت الجزية إلى رقبة البائع، وأما المشتري، فإن كان مسلما، فلا شئ عليه فيما اشتراه، وإن كان ذميا، فإن كانت الجزية على رقبته، فكذلك، وإن كانت على حاصل أرضه، زاد الواجب بما اشتراه.(7/506)
فصل إذا استأذن حربي في دخول دار الاسلام، أذن له الامام إن كان يدخل لرسالة، أو حمل ميرة، أو متاع تشتد حاجة المسلمين إليه، قال الامام: ولا يجوز توظيف مال على رسول، ولا على مستجير لسماع كلام الله تعالى، لان لهما الدخول بلا إذن، وإن كان يدخل لتجارة لا تشتد الحاجة إليها، جاز للامام أن يأذن له ويشرط عليه عشر ما معه من مال التجارة، ولو دخل غير تاجر بأمان مسلم، لم يطالب بشئ، وقيل: إن دخل الحجاز، وجب دينار، لعظم حرمته، ولو رأى الامام أن يزيد المشروط على العشر، جاز على الاصح، ويجتهد فيه كما في زيادة الجزية على دينار، ولو رأى أن يحط الضريبة عن العشر، ويردها إلى نصف العشر فما دونه، فله ذلك، وله أن يشرط في نوع من تجارتهم نصف العشر، وفي غيره العشر، ولو رأى أن يأذن لهم بغير شئ، جاز على الاصح، وبه قطع الجمهور، لان الحاجة تدعو إليه لاتساع المكاسب وغيره، ثم إن كان المشروط أن يأخذ من تجارة الكافر، أخذ، سواء باع أم لا، وإن كان المشروط أن يأخذ من ثمن تجارته، لم يأخذ حتى يبيع، وأما الذمي، فله أن يتجر فيما سوى الحجاز من بلاد الاسلام، ولا يؤخذ من تجارته شئ، قال في البيان: إلا أن يشترط عليه مع الجزية شئ من تجارته، فلو أراد أن يدخل الحجاز، ويتجر فيه، فقد ذكر الغزالي في الوجيز خلافا في أنه هل يؤخذ منه شئ ؟ ولا وجود لهذا الخلاف في شئ من كتب الاصحاب، ولم يذكره الامام والغزالي في الوسيط بل الذي نقله الاصحاب أن الذمي في الحجاز كالحربي في سائر بلاد الاسلام، وما يؤخذ من الذمي لا يؤخذ في كل سنة إلا مرة، كالجزية، وكذا الحربي إذا أخذت منه الضريبة مرة لا تؤخذ ثانيا حتى يمضي إذا كان يطوف في بلاد الاسلام بأجر أو يكتب له وللذمي براءة حتى لا يطالب في بلد آخر قبل الحول، فإن رجع إلى دار الحرب، ثم عاد في الحول، فهل تؤخذ كل مرة أم لا تؤخذ إلا مرة ؟ وجهان، أصحهما: الثاني وهو ظاهر نصه، والامام بالخيار فيما يضربه بين استيفائه دفعة أو دفعات، ثم ما ذكرنا من أخذ المال من تجارة الحربي أو الذمي هو فيما إذا شرط الامام عليه، فأما إذا أذن لحربي في دار الاسلام، أو لذمي في دخول الحجاز بلا شرط، فوجهان، أحدهما: تؤخذ، حملا للمطلق على المعهود، وأصحهما: المنع، لانهم لم يلتزموا. فرع المرأة التابعة للزوج أو القريب في عقد الذمة إذا ترددت متجرة في(7/507)
الحجاز، أو في غير الحجاز، حكمها حكم الذمي. فصل إذا صالحنا طائفة من الكفار على أن تكون أرضهم لهم، ويؤدوا خراجا عن كل جريب في كل سنة كذا، جاز ويستمر ملكهم ويكون المأخوذ جزية تصرف مصرف الفئ، والتوكيل بإعطائه كالتوكيل بإعطاء الجزية، ويشترط أن يبلغ قدرا يخص كل واحد من أهل الجزية منه دينارا إذا وزع على رؤوسهم، ويلزمهم ذلك زرعوا أم لا، ولا يؤخذ من أرض صبي ولا مجنون ولا امرأة، ولهم بيع تلك الارض وهبتها وإجارتها، وإذا أجر بعضهم بعضها لمسلم بقي الخراج على المكري، ويلزم المستأجر الاجرة، وإن باع لمسلم، انتقل الواجب إلى رقبة البائع ولا خراج على المشتري، ولو أسلموا بعد الصلح، سقط الخراج، ويلزمهم أن يؤدوا عن المدات الذي يمنعوننا منه دون ما لا يمنعون منه، ولو أحيوا منه شيئا بعد الصلح، لم يلزمهم شئ لما أحيوا إلا إذا شرط عليهم أن يؤدوا عما يحيون، ولو صالحناهم على أن الارض لنا ويسكنونها ويؤدون عن كل جريب، فهو عقد إجازة، والمأخوذ أجرة، فتجب معها الجزية ولا يشترط أن تبلغ دينارا عن كل رأس، وتؤخذ من أرض النساء والصبيان والمجانين، ويجوز توكيل المسلم في أدائها، وليس لهم بيع تلك الارض ولا هبتها، ولهم إجارتها.
الطرف الثاني : في أحكام عقد الذمة
فإذا صح عقدها، لزمنا شئ، ولزمهم شئ، أما ما يلزمنا فأمران، أحدهما: الكف عنهم، بأن لا يتعرض لهم نفسا ومالا، ويضمنهما المتلف، ولا يتعرض لكنائسهم على تفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى، ولا تتلف خمورهم وخنازيرهم إلا إذا أظهروها، فمن أراق أو قتل من غير إظهار، عصى، ولكن لا ضمان، ولو باع ذمي لمسلم خمرا، أريقت على المسلم ولا ثمن للذمي،(7/508)
وإن غصبها من ذمي، وجب ردها على الصحيح، وعليه مؤنة الرد، قال البغوي: ولو كان لمسلم على ذمي دين، فقضاه، وجب القبول إذا لم يعلم أن المؤدى ثمن محرم، فإن علم، بأن باع الخمر بين يديه وأخذ ثمنها، فهل يجبر على قبوله ؟ وجهان، أصحهما: لا يجبر، وهو المنصوص، بل لا يجوز القبول، ولو كان لذمي على ذمي دين، ورهن به خمرا، لم يتعرض لهما، كما لو باعه الخمر، فإن وضعاها عند مسلم، لم يكن له إمساكها، ولو كان لمسلم على ذمي دين، فرهن به خمرا، لم يجز. الامر الثاني: يلزم الامام دفع من قصدهم من أهل الحرب إن كانوا في دار الاسلام، فإن كانوا مستوطنين دار الحرب وبذلوا الجزية، لم يجب الذب عنهم، وإن كانوا منفردين ببلدة في جوار الدار، وجب الذب على الاصح، هذا إذا جرى العقد مطلقا، فإن جرى بشرط أن يذب أهل الحرب، وجب الوفاء بالملتزم وفيه احتمال للامام، وإن جرى بشرط أن لا يذب عنهم، فإن كانوا مع المسلمين، أو في موضع إذا قصدهم أهل الحرب كان مرورهم على المسلمين، فسد الشرط، وكذا العقد على الصحيح، وإن كانوا منفردين ولا يمر أهل الحرب بهم، صح الشرط، وحكى الامام وجها أن شرط ترك الذب فاسد مطلقا، والصحيح الاول، وهل يكره ؟ فيه نصان حملوهما على حالين، فإن طلب الامام الشرط، كره، لان فيه إظهار ضعف المسلمين، وإن طلب أهل الذمة، فلا، ويجب دفع المسلمين وأهل الذمة عنهم، كما يجب دفع أهل الحرب، فإن لم يدفع عنهم حتى مضى حول، لم تجب جزيته، كما لا تجب الاجرة إذا لم يوجد التمكن من الانتفاع، ولو أغار أهل الحرب على أهل الذمة، وأخذوا أموالهم، ثم ظفر الامام بهم، فاسترجعها، لزمه ردها على أهل الذمة، فإن أتلفوا، فلا ضمان عليهم، كما لو أتلفوا مال المسلمين، ومن أغار من بيننا وبينه هدنة وأتلف أموال أهل الذمة، ضمن، فإن نقضوا العهد وامتنعوا، ثم أغاروا وأتلفوا لهم مالا أو نفسا، ففي الضمان قولان، كأهل البغي.
فصل وأما ما يلزمهم: فخمسة أمور. الاول: في الكنائس والبيع، فالبلاد التي في حكم المسلمين قسمان، أحدهما: ما أحدثه المسلمون، كبغداد والكوفة والبصرة، فلا يمكن أهل الذمة من إحداث بيعة وكنيسة وصومعة راهب فيها، ولو صالحهم على التمكن من إحداثها،(7/509)
فالعقد باطل، والذي يوجد في هذه البلاد من البيع والكنائس وبيوت النار لا ينقض لاحتمال أنها كانت في قرية أو برية فاتصل بها عمارة المسلمين، فإن عرف إحداث شئ بعد بناء المسلمين، نقض. الثاني: بلاد لم يحدثوها ودخلت تحت أيديهم، فإن أسلم أهلها، كالمدينة واليمن، فحكمها كالقسم الاول، وإلا فإما أن تفتح عنوة أو صلحا، الضرب الاول: ما فتح عنوة، فإن لم يكن فيها كنيسة، أو كانت وانهدمت، أو هدمها المسلمون وقت الفتح أو بعده، فلا يجوز لهم بناؤها، وهل يجوز تقريرهم على الكنيسة القائمة ؟ وجهان، أصحهما: لا، وبه قطع جماعة، الثاني: ما فتح صلحا وهو نوعان، أحدهما: فتح على أن رقبة الارض للمسلمين، وهم يسكنونها بخراج، فإن شرطوا إبقاء البيع والكنائس، جاز، وكأنهم صالحوا على أن الكنائس لهم وما سواها لنا، وإن صالحوا على إحداثها أيضا، جاز، ذكره الروياني وغيره، وإن أطلقوا، لم تبق الكنائس على الاصح، الثاني: ما فتح على أن البلد لهم يؤدون خراجه، فيقرون على الكنائس ولا يمنعون من إحداثها فيه على الاصح، لان الملك والدار لهم، ويمكنون فيها من إظهار الخمر والخنزير والصليب، وإظهار ما لهم من الاعياد، وضرب الناقوس، والجهر بالتوراة والانجيل، ولا شك في أنهم لا يمنعون من إيواء الجاسوس، وتبليغ الاخبار، وما يتضرر به المسلمون في ديارهم، وحيث قلنا: لا يجوز الاحداث، وجوزنا إبقاء الكنيسة، فلا منع من عمارتها إذا استرمت، وهل يجب إخفاء العمارة ؟ وجهان، أحدهما: نعم، لان إظهارها زينة تشبه الاستحداث، وأصحهما: لا، فيجوز تطيينها من داخل وخارج، ويجوز إعادة الجدار الساقط، وعلى الاول يمنعون من تطيين خارجها، وإذا أشرف الجدار على الخراب، فلا وجه إلا أن يبنوا جدارا داخل الكنيسة، وقد تمس الحاجة إلى جدار ثالث ورابع، فينتهي الامر إلى أنه لا يبقى من الكنيسة شئ، ويمكن أن يكتفي من يوجب الاخفاء بإسبال ستر تقع العمارة وراءه، أو بإيقاعها في الليل، وإذا انهدمت الكنيسة المبقاة، فلهم إعادتها على الاصح، ومنعها الاصطخري وابن أبي هريرة، فإن جوزنا، فليس لهم توسيع خطتها على الصحيح، ويمنعون من ضرب(7/510)
الناقوس في الكنيسة، كما يمنعون من إظهار الخمر، وقيل: لا يمنعون تبعا للكنيسة، وهذا الخلاف في كنيسة بلد صالحناهم على أن أرضه لنا، فإن صالحناهم على أن الارض لهم، فلا منع قطعا كما سبق، قال الامام: وأما ناقوس المجوس، فلست أرى فيه ما يوجب المنع، وإنما هو محوط وبيوت يجمع فيها المجوس جيفهم، وليس كالبيع والكنائس، فإنها تتعلق بالشعار. الامر الثاني: في البناء، فيمنعون من إطالته ورفعه على بناء جيرانهم من المسلمين، فإن فعلوا، هدم، هذا هو المذهب، وحكى ابن كج قولا آخر: أن لهم الرفع، فعلى المذهب الاعتبار ببناء جاره على الصحيح، وفي وجه: لا يطيل على بناء أحد من المسلمين في ذلك المصر، وسواء كان بناء الجار معتدلا أو في غاية القصر، وللامام احتمال فيما هو في غاية القصر، ثم المنع لحق الدين لا لمحض حق الجار، فيمنع ولو رضي الجار، وهذا المنع واجب، وقيل: مستحب، ويمنعون من المساواة على الاصح، ولو كان أهل الذمة في موضع منفرد، كطرف من البلد منقطع عن العمارة، فلا منع من رفع البناء على الصحيح، ولو ملك ذمي دارا رفيعة البناء، لم يكلف هدمها، فإن انهدمت، فأعادها، منع من الرفع، وفي المساواة الوجهان، ولو فتحت بلدة صلحا على أنها للمسلمين، لم(7/511)
تهدم أبنيتهم الرفيعة فيها ويمنعون من الاحداث، ذكره البغوي. الثالث: يمنعون من ركوب الخيل على الصحيح، لان فيه عزا، وحكى ابن كج أن لا منع، كما لا منع من ثياب نفيسة، واستثنى الشيخ أبو محمد البراذين،(7/512)
وفي البغال وجهان، أحدهما: المنع، وبه قال الفوراني والامام والغزالي، وأصحهما: لا منع، وبه قطع كثيرون، ولا منع من الحمر وإن كانت رفيعة القيمة، وإذا ركبوا، لم يركبوا السروج بل الاكف، ويركبون عرضا، وهو أن يجعل الراكب رجليه من جانب واحد وعن الشيخ أبي حامد أن لهم الركوب على استواء، ويحسن أن يتوسط، فيفرق بين أن يركب إلى مسافة قريبة فيمننع في البلد، أو إلى مسافة بعيدة، فيمنع في الحضر ويكون ركابهم من خشب لا حديد، وجوز ابن أبي هريرة الحديد، ويمنعون من تقلد السيوف وحمل السلاح، ومن لجم الذهب والفضة، وذكر ابن كج أن هذا كله في الذكور البالغين، فأما النساء والصغار، فلا يلزمون الصغار، كما لا جزية عليهم. فرع لا يترك لذمي صدر الطريق، بل يلجأ إلى أضيقه إذا كان المسلمون يطرقون، فإن خلت الطرق عن الزحمة، فلا حرج، وليكن الضيق بحيث لا يقع في وهدة، ولا يصدمه جدار، ولا يوقر، ولا يصدر في مجلس إذا كان فيه مسلمون، ولا يجوز لمسلم أن يوادهم، ولا أن يبدأ من لقيه منهم بسلام، وإن بدأ الذمي به، فلا يجيبه، ذكره البغوي. قلت: هذا الذي ذكره البغوي هو وجه حكاه الماوردي، والصحيح بل الصواب: أن يجاب بما ثبت في الاحاديث الصحيحة، وعليكم، وفي هذه المسألة كلام كثير وتفصيل أوضحته في كتاب السلام من كتاب الاذكار. والله أعلم. الرابع: يؤخذ أهل الذمة في دار الاسلام بالتميز في اللباس، بأن يلبسوا الغيار، وهو أن يخيطوا على ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونه لونها، وتكون الخياطة على الكتف دون الذيل، هكذا أطلق، ويشبه أن يقال: لا يختص بالكتف، والشرط الخياطة في موضع لا يعتاد، وإلقاء منديل ونحوه، كالخياطة، ثم الاولى باليهود العسلي، وهو الاصفر، وبالنصارى الازرق أو الاكهب، ويقال له: الرمادي، وبالمجوس الاسود أو الاحمر، ويؤخذون أيضا بشد الزنار، وهو خيط غليظ على أوساطهم خارج الثياب، وليس لهم إبداله بمنطقة ومنديل ونحوهما، وإن(7/513)
لبسوا قلانس، ميزت عن قلانس المسلمين بذؤابة، أو علم في رأسها، وإذا دخلوا حماما فيه مسلمون، أو تجردوا عن الثياب، فليكن عليهم جلاجل، أو في أعناقهم خواتيم حديد، أو رصاص لا ذهب وفضة، هكذا ذكره الجمهور، وقال في المهذب: يجعل في عنقه خاتم ليتميز في الحمام وفي الاحوال التي يتجرد فيها، وبين العبارتين تفاوت ظاهر، وإذا كان لهم شعر، أمروا بجز النواصي، ومنعوا من إرسال الضفائر، والجمع بين الغيار والزنار تأكيد ومبالغة في شهرهم، ويجوز أن يقتصر الامام على اشتراط أحدهما، وهل تؤخذ النساء بالغيار، وشد الزنار، والتميز في الحمام ؟ وجهان، أصحهما نعم، والثاني: لا، لندور خروجهن، فلا حاجة إلى التميز، فعلى الاصح قال الشيخ أبو حامد: يجعل الزنار فوق الازار، وفي التهذيب: وغيره تحته لئلا يصف بدنها، وأشار بعضهم إلى اشتراط ظهور شئ منه. قلت: هذا لا بد منه، وإلا فلا يحصل كبير فائدة. والله أعلم. والتميز في الحمام يبنى على أنه هل يجوز لهن دخوله مع المسلمات ؟ قال البغوي: والاصح منعه، وقد يفهم من هذا السياق أن للمسلمات دخوله بلا حجر، لكن نقل الروياني وغيره عن ابن أبي هريرة أنه قال: لا يجوز لهن دخوله إلا لضرورة. قلت: الاصح الاشهر أنه لا يحرم عليهن، لكن يكره إن لم يكن عذر، وبهذا قطع الامام أبو بكر السمعاني المروزي من أصحابنا، وقد أوضحت مسائل الحمام وما يتعلق به في آخر صفة الغسل من شرح المهذب. والله أعلم. وإذا خرجت ذمية بخف، فليكن أحد خفيها أسود والآخر أبيض أو أحمر، ولا يشترط التميز بكل هذه الوجوه، بل يكفي بعضها. فرع للذمي أن تعممم ويتطلس على الصحيح، ويلبس الديباج على الاصح، كرفيع القطن والكتان، وذكر الغزالي وجهين في أن أصل الغيار واجب أم مستحب ؟ والذي يوافق كلام الجمهور وإطلاقهم الوجوب. الخامس: الانقياد للحكم، فيلزم أهل الذمة الانقياد لحكمنا، هكذا أطلقه الاصحاب، وحكى الامام عن العراقيين أن المراد أنهم إذا فعلوا ما يعتقدون(7/514)
تحريمه، يجري عليهم حكم الله تعالى فيه، ولا يعتبر رضاهم، وذلك كالزنى والسرقة، فإنهما محرمان عندهم كشرعنا، وقد بينا حكمهما في البابين، وذكرنا الفرق بين أن يزني بمسلمة، ويسرق مال مسلم، أو يزنى بذمية، ويسرق مال ذمي، وأما ما يعتقدون حله، فقد سبق أن حد الشرب لا يقام على ذمي على الاصح وإن رضى بحكمنا، ولو نكح مجوسي محرما له، لم يتعرض له، فإن رفعوا إلينا ورضوا بحكمنا، حكمنا، وهل يجب الحكم ؟ فيه القولان المعروفان، ويلزمهم كف اللسان، والامتناع من إظهار المنكرات، كإسماع المسلمين شركهم، وقولهم ثالث ثلاثة، واعتقادهم في المسيح وعزير - صلى الله عليه وسلم -، وإظهار الخمر والخنزير والناقوس وأعيادهم وقراءتهم التوراة والانجيل، وإحداثهم الكنائس في بلادنا، وإطالتهم البناء، وتركهم مخالفة لما شرط، فإن أظهروا شيئا من هذه، منعوا وعزروا ولكن لا ينتقض به عهدهم، سواء شرط الامتناع منها في العقد أم لا، فإن شرط عليهم الانتقاض بهذه الاسباب، فقال الامام: يبنى ذلك على الخلاف في صحة عقد الذمة مؤقتا، إن صححناه، صح العقد، فينتقض إذ أظهروا، وإن لم نصححه، فسد العقد من أصله، والحكاية عن الاصحاب أنه لا ينتقض، بل يفسد الشرط، ويتأبد العقد، ويحمل ما جرى على تخويفهم، وينتقض عهدهم بقتالهم المسلمين، سواء شرط عليهم الامتناع منه أم لا، هذا إذا لم تكن شبهة، فلو أعانوا البغاة، وادعوا أنهم لم يعرفوا الحال، فقد سبق بيانه في قتال البغاة، ولو منعوا الجزية، أو امتنعوا من إجراء أحكام الاسلام عليهم، انتقض عهدهم، هكذا قاله الاصحاب، قال الامام: هذا إذا منع مع القدرة، فأما العاجز إذا استمهل فلا ينتقض عهده، قال: ولا يبعد أن يقال: تؤخذ الجزية من الموسر الممتنع قهرا، ولا يجعل الامتناع ناقضا كسائر الديون، ويخصص ما قاله الاصحاب بالمتغلب المقاتل، قال: وأما الامتناع من إجراء الاحكام، فإن امتنع هاربا، فلا أراه ناقضا، وإن امتنع راكبا إلى قوة وعدة، فينبغي أن يدعى إلى الانقياد، فإن نصب القتال، انتقض عهده بالقتال، ثم أسند الامام ما ذكره من الاحتمال إلى من تقدمه، فحكى عن القاضي حسين الانتقاض في القتال، ونقل ابن كج قولين في امتناعهم من إجراء الاحكام، وعن الحاوي أن الامتناع من البدل نقض العهد من الواحد والجماعة، والامتناع من الاداء مع الاستمرار على الالتزام نقض من الجماعة دون الواحد، لانه(7/515)
يسهل إجباره عليه، ولو زنى ذمي بمسلمة، أو أصابها باسم نكاح، أو تطلع على عورة المسلمين ونقلها إلى دار الحرب، أو فتن مسلما عن دينه، ودعاه إلى دينهم، ففي انتقاض عهده طرق، أصحها: أنه لم يجر ذكرها في العقد، لم ينتقض، وإلا فوجهان، ويقال: قولان، أصحهما: لا ينتقض قطعا، والثالث: إن شرط، انتقض، وإلا فوجهان، وهل المعتبر في الشرط الامتناع من هذه الافعال، أم انتقاض العهد إذا ارتكبها ؟ صرح الامام والغزالي بالثاني، وكثيرون بالاول، ولا يبعد أن يتوسط فيقال: إن شرط الانتقاض، فالاصح الانتقاض، وإلا، فالاصح خلافه، وألحق بالخصال الثلاث إيواء عيون الكفار، وأما قطع الطريق والقتل الموجب للقصاص، فالمذهب أنهما كالزنى بمسلمة، وقيل: كالقتال، ولا يلحق بالمنابذة التوثب على رفقة، أو شخص معين، وليجر الطريقان فيما لو قذف مسلما، وسواء قلنا: ينتقض العهد، أو لا ينتقض، فقد قال البغوي: يقام عليهم موجب ما فعلوه من حد أو تعزيز، ثم يجري على مقتضى الانتقاض كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وإذا قتل الذمي لقتله مسلما، أو لزنى وهو محصن، فهل يصير ماله فيئا تفريعا على الحكم بالانتقاض ؟ وجهان. قلت: أصحهما. وأما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسوء إذا جهروا به، وطعنهم في الاسلام ونفيهم القرآن، فالمذهب أنه كالزنى بمسلمة ونحوه، وقيل: ينتقض قطعا، كالقتال، وفي محل الخلاف طريقان، أحدهما: أنه فيما إذا ذكر الذمي سواء يعتقده ويتدين به، كتكذيب ونحوه، فأما ما لا يعتقده، ولا يتدين به، بأن طعن في نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو نسبه إلى الزنى، فليلتحق بالقتال، وينتقض العهد به قطعا سواء(7/516)
شرط عليه الكف عنه أم لا، وأصحهما: أن الخلاف فيما ذكر ما لا يتدين به، فأما ما يتدين به، فلا ينتقض بإظهاره قطعا، ومن هذا نفيهم القرآن. واعلم أن ذكرهم الله تعالى كذكرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الاولى، فيجري فيه الخلاف، صرح به الروياني وغيره، ولكنهم جعلوا إظهار الشرك، وقولهم ثالث ثلاثة، ومعتقدهم في المسيح وعزير، كإظهارهم الخمر، فلا ينتقض قطعا، مع أن جميع هذا يتضمن ذكر الله تعالى بالسوء، ولا يستقيم هذا إلا على الطريق الثاني، وهو أن السوء الذي يتدين به لا ينقض قطعا، ونقل صاحب الشامل وغيره عن أبي بكر الفارسي أنه قال: من شتم منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل حدا، لان النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ابن خطل والقينتين، وزيفوه وقالوا: إنهم كانوا مشركين لا أمان لهم. فرع حيث حكمنا بانتقاض العهد، هل يبلغهم المأمن ؟ قولان، أحدهما: نعم كمن دخل بأمان صبي، وأظهرهما: لا، بل يتخير الامام بين قتله واسترقاته، والمن والفداء، لانه كافر لا أمان له، والقولان في الانتقاض بغير قتال، فأما إذا نصبوا القتال، وصار حربا لنا في دارنا، فلا بد من دفعهم، والسعي في استئصالهم، ولو أسلم من انتقض عهده قبل أن يختار الامام شيئا، قال الاصحاب: لا يجوزر استرقاقه بخلاف الاسير، لانه لم يحصل في يد الامام بالقهر، فخف أمره، وهل يبطل أمان النساء والصبيان تبعا كما يثبت تبعا ؟ وجهان، أصحهما: لا، إذا لم توجد منهم خيانة ناقضة، فعلى هذا لا يجوز سبيهم، ويجوز تقريرهم في دارنا، فإن طلبوا الرجوع إلى دار الحرب، أجيب النساء دون الصبيان، إذ لا حكم لقولهم قبل البلوغ، فإن كان الطالب ممن يستحق الحضانة، أجيب إليه، وإلا فلا، ولو نبذ ذمي إلينا العهد، واختار اللحوق بدار الحرب، بلغناه المأمن على المذهب، وأجرى القاضي حسين فيه القولين، لانه كافر لا أمان له. فرع المسلم إذا ذكر الله تعالى بما يقتضي الكفر، أو كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو مرتد، فيدعى إلى الاسلام، فإن عاد وتاب، قبلت توبته، ولو كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمدا، فعن الشيخ أبي محمد أنه يكفر ويراق دمه، قال(7/517)
الامام: وهذه زلة، ولم أر ما قاله لاحد من الاصحاب، والصواب أنه يعزر، ولا يكفر، ولا يقتل، وما روي أن رجلا أتى قوما، وزعم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأكرموه، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بقتله، محمول على أن الرجل كان كافرا، ومن قذف النبي - صلى الله عليه وسلم - وصرح بنسبته إلى الزنى، فهو كافر باتفاق الاصحاب، فإن عاد إلى الاسلام فثلاثة أوجه، أحدها: قال الاستاذ أبو إسحق: لا شئ عليه، لانه مرتد أسلم، والثاني قال أبو بكر الفارسي يقتل حدا، لانه حد قذف، فلا يسقط بالتوبة، والثالث قال الصيدلاني: يجلد ثمانين جلدة، ثم في كلام الامام والغزالي أنا إذا قلنا: يقبت حد القذف، فعفا أحد بني أعمامه، فينبغي أن يسقط، أو يقول: هم لا ينحصرون، فهو كقذف ميت ليس له ورثة خاصون، ولا يبعد تخريج وجوب الحد على القولين في وجوب القصاص بقتل مثل هذا الشخص، وقد يقال: كل واحد من بني الاعمام غير وارث، بل الارث للاقرب، ولا يكاد يعرف الاقرب ممن في الدنيا، ويقع النظر في أن عفو بعض الورثة هل يؤثر ؟ ووراءه نظر آخر، وهو حد قذفه هل يورث ؟ فيجوز أن يقال: لا يورث، كما لا يورث المال، أما إذا لم يقذف صريحا، لكن عرض، فقال الامام: الذي أراه أنه كالسب الصريح في اقتضاء الكفر لما فيه من الاستهانة. قلت: هذا الذي قاله الامام متعين، وقد قاله آخرون، ولا نعلم فيه خلافا. والله أعلم. ولو قذف نبيا غير نبينا، فهو كقذف نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
فصل في مسائل تتعلق بالباب يؤخذ على أهل الذمة أن يخفوا دفن موتاهم، ولا يخرجوا جنائزهم ظاهرا، ولا يظهروا على موتاهم لطما ولا نوحا، ولا يسقوا المسلمين خمرا، ولا يطعموهم خنزيرا، وإذا شرط ذلك عليهم فعرض بعضهم خمرا على مسلم، فشربها اختيارا، حد المسلم وعزر الذمي، وكذا لو ابتدأ المسلم بطلبها فأجابه، لكن تعزيره هنا أخف، وأن لا يعلوا أصواتهم على(7/518)
المسلمين، وأن يعينوهم إذا استعانوا بهم فيما لا يتضررون به، وأن لا يستذلوا المسلمين في مهن الاعمال بأجرة ولا بتبرع، حكي أكثر هذا عن الحاوي أنهم لو انفردوا بقرية، هل يمنعون ركوب الخيل ؟ وجهان، أحدهما: لا كإظهار الخمر، والثاني: نعم، خوفا من أن يتقووا به على المسلمين، ولو بنى ذمي في دار الاسلام بناء لابناء السبيل،، مكن إن جعله للمسلمين وأهل الذمة، فإن خص أهل الذمة، فوجهان، ويكتب الامام بعد عقد الذمة أسماءهم وأديانهم وحلاهم، فيتعرض لسنه أهو شيخ أم شاب، ولكونه من سمرة وشقرة وغيرهما، ويصف وجهه ولحيته وجبهته وحاجبيه وعينيه وشفتيه وأنفه وأسنانه، وآثار وجهه إن ان فيه آثار، ويجعل على كل طائفة عريفا يضطبطهم لمعرفة من أسلم منهم، ومن مات، ومن بلغ، ومن قدم عليهم، وليحضرهم لاداء الجزية، والشكوى إليه ممن يتعدى عليهم من المسلمين، ومن يتعدى منهم، ويجوز أن يكون العريف للعرض الثاني ذميا، ولا يجوز للعرض الاول إلا مسلم وبالله التوفيق.
الباب الثاني : في عقد الذمة ويقال لها الموادعة، والمعاهدة، وهي جائزة بنصوص الكتاب والسنة والاجماع، فيه طرفان :
الأول : في شروطها وهي أربعة :
الأول : أن يتولاه الامام أو نائبه فيه، هذا في مهادنة الكفار مطلقا، أو أهل إقليم، كالهند والروم، ويجوز لوالي الاقليم المهادنة مع أهل قرية أو بلدة في إقليمه للمصلحة، وكأنه مأذون فيه بتفويض مصلحة الاقليم إليه. ولو عقد الهدنة واحد من الرعية، فدخل قوم ممن هادنهم دار الاسلام، لم(7/519)
يقروا، لكن يلحقون بمأمنهم، لانهم دخلوا على اعتقاد أمانه.
الثاني : أن يكون للمسلمين إليه حاجة وفيه مصلحة، بأن يكون في المسلمين ضعف لقلة عدد أو مال، أو بعد العدو، أو يطمع في إسلامهم لمخاطتهم المسلمين، أو في قبولهم الجزية، أو في أن يعينوه على قتال غيرهم، وإذا طلب الكفار الهدنة، فإن كان فيها ضرر على المسلمين فلا يخفى أنهم لا يجابون، وإلا فوجهان، أحدهما: تجب إجابتهم، والصحيح: لا تجب، بل يجتهد الامام ويفعل الاصلح، قال الامام: وما يتعلق باجتهاد الامام لا يعد واجبا، وإن كان يتعين عليه رعاية الاصح.
الثالث : أن يخلو عن الشروط الفاسدة، فإن عقدها على أن لا ينتزع أسرى المسلمين منهم، أو يرد إليهم المسلم الذي أسروه، وأفلت منهم، أو شرط ترك مال مسلم في أيديهم، فهذه شروط فاسدة، وكذا لو شرط أن يعقد لهم الذمة على أقل من دينار، أو على أن يقيموا بالحجاز، أو يدخلوا الحرم، أو يظهروا الخمور في دارنا، أو شرط أن يرد عليهم إذا جئن مسلمات، وكذا ولو عقد بشرط التزام مال، فإن دعت ضرورة إلى بذل مال، بأن كانوا يعذبون الاسرى في أيديهم ففديناهم، أو أحاطوا بنا وخفنا الاصطدام، فيجوز بذل المال، ودفع أعظم الضررين بأخفهما، وفي وجوب بذل المال عند الضرورة وجهان بناء على وجوب دفع الصائل. قلت: ليس هذا البناء بصحيح، فقد سبق أن الصائل إذا كان كافرا، وجب دفعه قطعا، ثم الخلاف هناك في وجوب الدفع بالقتال، وهنا بالمال، والاصح وجوب البذل هنا للضرورة. والله أعلم. ولا يملك الكفار ما يأخذونه، لانه مأخوذ بغير حق، قاله في المهذب وإذا(7/520)
جرى في المهادنة شرط فاسد، فسد به العقد على الصحيح، وبه قطع ابن الصباغ وغيره.
الرابع : أن يقتصر على المدة المشروعة، ثم لا يخلو إما لا يكون بالمسلمين ضعف، أو يكون، فإن لم يكن ورأى الامام المصلحة في الهدنة، هادن أربعة أشهر فأقل، ولا يجوز أكثر من سنة قطعا، ولا سنة على المذهب ولا ما بينهما وبين أشهر على الاظهر وإن كان بالمسلمين ضعف جازت الزيادة إلى عشر سنين بحسب الحاجة، ولا تجوز زيادة على العشر، لكن إن انقضت المدة والحاجة باقية، استؤنف العقد، وقيل: تجوز الزيادة على عشر بحسب الحاجة، وقيل: لا يجوز أكثر من سنة، وقيل: لا يجوز أكثر من أربعة أشهر، وهذه أوجه شاذة مردودة، فإذا قلنا لا تجوز الزيادة على عشر، فهادن مطلقا، فالعقد فاسد، وقيل: ينزل عند ضعف المسلمين على عشر، وعند القوة قولان، أحدهما: ينزل على سنة، والثاني: على أربعة أشهر، ويجوز أن لا يوقف الامام الهدنة، ويشرط انقضاءها متى شاء، لان النبي - صلى الله عليه وسلم - هادن يهود خيبر وقال: أقركم ما أقركم الله لكن لو اقتصر الامام على هذه اللفظة، أو قال: هادنتكم إلى أن يشاء الله فسد العقد، لان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما عند الله بالوحي بخلاف غيره، ولو قال: هادنتكم ما شاء فلان، وهو مسلم عدل ذو رأي، فإذا نقضها، انتقضت، ولو قال: ما شاء فلان منكم، لم يجز، لان الكافر لا يحكم على المسلمين. فرع إذا زاد قدر مدة الهدنة على الجائز، بأن زاد عند الضعف على عشر سنين، أو احتاج إلى أربع مثلا، فزاد، بطل العقد في الزائد، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة، وقيل: يصح فيه قطعا لعدم العوض ولانه يتسامح في معاقدة الكفار.(7/521)
فرع إذا طلب الكافر الامان ليسمع كلام الله تعالى، وجبت إجابته قطعا كما سبق، قال الامام: وهل يمهل لذلك أربعة أشهر أم يقال: إذا لم يفصل الامر بمجالس يحصل فيها البيان التام يقال له: الحق بمأمنك ؟ فيه تردد أخذته من فحوى كلام الاصحاب، والاصح: المنع.
الطرف الثاني : في أحكامها فمتى فسد العقد لزيادة المدة، أو لالتزام مال أو غيرهما، لا يمضى بل يجب نقضه، لكن لا يجوز اغتيالهم، بل يجب إنذارهم وإعلامهم، وإذا قوع صحيحا، وجب الوفاء بالكف عنهم إلى انقضاء المدة، أو صدور خيانة منهم تقتضي الانتقاض، وإذا مات الامام الذي عقدها، أو عزل، وجب على الامام الذي بعده امضاؤه، فإن رآه فاسدا، قال الروياني: إن كان فساده من طريق الاجتهاد، لم يفسخه، وإن ان بنص أو اجماع، فسخه، وينبغي للامام إذ هادن أن يكتب عقد الهدنة ويشهد عليه ليعمل به من بعده، ولا بأس أن يقول فيه: لكم ذمة الله تعالى وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذمتي، ومتى صرحوا بنقض العقد، أو قاتلوا المسلمين، أو آووا عينا عليهم، أو كاتبوا أهل الحرب، أو قتلوا مسلما، أو أخذوا مالا، أو سبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انتقض عهدهم، ولا يفتقر إلى أن يحكم الحاكم بنقضه، قال الامام: والمضرات التي اختلف في انتقاض عقد الذمة بها تنقض الهدنة بلا خلاف، لان الهدنة ضعيفة غير متأكدة ببذل الجزية، وإذا انتقض عهدهم، جاز قصد بلدهم وتبييتهم والاغارة عليهم إن علموا أن ما فعلوه ناقض، وكذا إن لم يعلموا على الاصح، وقيل: لا يقاتلون إلا بعد إنذارهم، وينبغي أن يقال: إذا لم يعلموا أنه خيانة لا ينتقض العهد إلا إذا كان المفعول مما لا يشك في مضادته للهدنة، كالقتال، ثم ما ذكرنا من قصدهم والاغارة عليهم هو إذا كانوا في بلادهم، فأما من دخل دارنا بأمان أو مهادنة، فلا يغتال وإن انتقض عهده، بل يبلغ المأمن، هذا إذا نقض جميعهم العهد، فإن نقضه بعضهم، نظر إن لم ينكر الآخرون على الناقضين بقول ولا فعل، بل ساكنوهم وسكتوا، انتقض عهدهم أيضا، وإن أنكر بقول أو فعل، بأن اعتزلوهم أو بعثوا إلى الامام بأنا مقيمون على العهد، لم ينتقض، هكذا أطلقه جماهير الاصحاب، ووراءه شيئان غريبان، أحدهما: قال الامام: لو بدت خيانة بعضهم وسكت الآخرون، كان للامام أن ينبذ إليهم، والثاني في كتاب ابن(7/522)
كج: أنه لو نقض السوقة العهد ولم يعلم الرئيس والاشراف بذلك ففي انتفاض العهد في حق السوقة وجهان، وجه المنع: أنه لا اعتبار بعقدهم فكذا بنقضهم، وأنه لو نقض الرئيس وامتنع الاتباع وأنكروا، ففي الانتقاض في حقهم قولان، وجه النقض: أنه لم يبق العقد في حق المتبوع، فكذا التابع، والصحيح ما سبق، وأذا انتقض في حق بعضهم، فإن تميزوا، فذاك، وإلا فلا يبيتهم الامام، ولا يغر عليهم إلا بعد الانذار، ويبعث إلى الذين لم ينقضوا ليتميزوا أو يسلموهم، فإن لم يفعلوا مع القدرة صاروا ناقضين أيضا، ومن أخذ منهم واعترف بأنه من الناقضين، أو قامت عليه بينة، لم يخف حكمه، وإلا فيصدق بيمينه أنه لم ينقض، وأما عقد الذمة فنقضه من البعض ليس نقضا من الباقين بحال. فرع إذا استشعر الامام ممن هادنه خيانة وظهرت أمارة تدل على خيانتهم، فقال الشيخ أبو حامد: ينتقض عهدهم، والصحيح المنصوص: أنه لا ينتقض، بل للامام أن ينبذ إليهم عهدهم، وحكي قول أنه لا ينبذه كما لا ينبذ عقد الذمة بالتهمة، وحكي وجه في نبذ الذمة بالتهمة، والمذهب الفرق، وإذا نبذه فلا بد من إنذارهم وإبلاغهم المأمن، لكن من عليه حق آدمي من مال أو حد قذف أو قصاص، يستوفى منه أولا، والمعتبر في إبلاغ الكافر المأمن أن يمنعه من المسلمين ومن أهل عهدهم، ويلحقه بدار الحرب، واكتفى ابن كج بإلحاقه بأول بلاد الكفر وقال: لا يلزم إلحاقه ببلده الذي يسكنه فوق ذلك إلا أن يكون بين أول بلاد الكفر وبلده الذي يسكنه بلد للمسلمين يحتاج إلى المرور عليه، وفي لبحر أنه لو كان له مأمنان، لزم الامام إلحاقه بمسكنه منهما، ولو كان يسكن بلدين، فالاختيار للامام، وفي هذا ما ينازع في الاكتفاء بأول بلاد الكفر، ولو لم تظهر أمارة يخاف بسببها منهم نبذ العهد، ولا اعتبار الوهم المحض، حكي ذلك عن نصه في الام. فرع إذا هادن الامام مدة لضعف وخوف اقتضاها، ثم زال الخوف وقوي المسلمون، وجب الوفاء بما جرى. فرع قال في الحاوي: يجب على الذين هادنهم الامام الكف عن قبيح القول والعمل في حق المسلمين، وبذل الجميل منهما، فلو كانوا يكرمون(7/523)
المسلمين، فصاروا يهينونهم، أو يضيفون النزيل ويصلونهم، فصاروا يقطعونهم، أو يعظمون كتاب الامام، فصاروا يستخفون به، أو نقصوا عما كانوا يخاطبون به، سألهم الامام عن سبب فعلهم، فإن اعتذروا بما يجوز قبول مثله، قبله، وإن لم يذكروا عذرا، أمرهم بالرجوع إلى عادتهم، فإن امتنعوا، أعلمهم بنقض الهدنة ونقضها. فصل إذا شرط رد المرأة إذا جاءتنا منهم مسلمة، لم يجز بحال، وشرط رد الرجل إذا هاجر مسلما جائز في الجملة، والفرق أنه لا يؤمن أن يصيبها زوجها الكافر، أو أن تزوج كافرا، ولانها عاجزة عن الهرب وأقرب إلى الافتتان، فإذا عقد الامام هدنة، فإما أن يشرط أن لا يرد من جاء مسلما، أو يطلق، أو يشرط الرد، أو شرط أن لا يرد، فلا رد ولا غرم، وكذا لو خص النساء، يمنع الرد، وإن أطلق فهل يغرم الامام مهر من جاءت مسلمة ؟ قولان، أظهرهما: لا، وقيل: إن كان قبل الدخول وجب الغرم قطعا، قال ابن الصباغ: هذا سهو من قائله، وإن شرط الرد، نظر إن أطلق فقال: بشرط أن نرد من جاءنا منهم، ففي وجوب الغرم القولان، وقد يقال: إن أوجبنا عند الاطلاق، فهنا أولى، وإلا فقولان، ولو صرح بشرط رد النساء، فهو فاسد، وفي فساد العقد به ما سبق، فإن لم يفسده، ففي الغرم الخلاف السابق بالترتيب، ويتفرع على وجوب الغرم مسائل: منها: المغروم، وهو المبذول من صداقها، وقال الماوردي: عندي أنه هو الاقل من مهر المثل والمبذول، والصحيح الاول، وبه قال الجمهور، ولو لم يدفع إليها شيئا، فلا شئ له، ولو لم يدفع إلا بعضه، لم يستحق إلا ذلك القدر، ولو كان أعطاها أكثر من المسمى، لم يستحق الزيادة، كما لا يستحق ما أطعمها وكساها وأنفقه في العرس، لانه متبرع به، ولانه ليس بدل البضع الذي حلنا بينه وبينه. ومنها: لا يثبت الغرم بمجرد قوله: أعطيتها صداقها، بل ينظر إن أنكرت النكاح، فهي المصدقة وعليه البينة، وإن صدقته وأنكرت القبض، ففي الشامل وغيره: أنها تصدق باليمين، وعليه البينة، وقال الروياني: لا يمين عليها، لان الصداق على غيرها، وقال الشيخ أبو حامد: يفحص الامام عن مهر مثلها، فقد يعرفه من تجار المسلمين الذين دخلوا دار الحرب، ومن الاسارى، ثم يحلف الرجل(7/524)
أنه أصدقها ذلك القدر وسلمه، ولو ادعى الدفع وصدقته، فقد نقل الامام عن العراقيين أن إقرارها كالبينة، وقالوا: تعسر إقامة البينة على ما يجري بين الكفار، ورأى الامام أن يعتمد قولها ولا يجعله حجة علينا. ومنها: محل الغرم سهم المصالح، وحكى ابن كج وجها أنه إن كان للمرأة مال، أخذ منها، والصحيح الاول، فإن هاجرت إلى بلد فيه الامام، غرم المهر، وإن هاجرت إلى بلد فيه نائبه، فكذلك، وهل المعتبر نائبه في عقد الهدنة، أم في بيت المال ؟ وجهان، وإن هاجرت إلى بلد ليس فيه الامام ولا نائبه، فعلى أهل البلد منعها حسبة ولا يغرمون المهر، قال ابن كج: وليس على الامام والحالة هذه رد المهر، كما لو جاء رجل إلى غير بلد الامام لا يلزمه أن يخلي بينه وبين من يطلبه، والاحسن ما حكاه البغوي وغيره: أنه إن قال عند المهادنة: من جاءني منكم مسلما رددته، لم يلزمه شئ، لانها ما جاءته، وإن قال: من جاء المسلمين، أو من جاءنا، وجب. ومنها: لو وهبته الصداق، أو أبرأته فعلى الخلاف في التشطر. ومنها: إذا جاءت مسلمة، ثم أسلم الزوج، نظر إن أسلم قبل انقضاء عدتها، فالنكاح مستمر، وليس لها طلب المهر، وإن أخذه قبل الاسلام، لزمه رده إذا زالت الحيلولة، وإن لم يسلم حتى انقضت عدتها، نظر إن أخذ المهر قبل الاسلام، لم يسترجع منه، وصار بالقبض كالمستهلك في الشرك، وإن لم يأخذه، فإن طالبت به قبل إسلامه، استقر له المهر لحصول الحيلولة بإسلامها، ومنعنا إياها منه، وعن أبي إسحق أنه(7/525)
لا مهر له، والصحيح الاول، وإن لم يطالب بها قبل إسلامه، فلا شئ له، لان الحيلولة حصلت بالبينونة باختلاف الدين، ولا مطالبة بالمهر بعد البينونة، فلو كانت الصورة بحالها، ولم يكن أعطاها المهر، فلما أسلم بعد انقضاء العدة أخذت المهر بسبب المسيس، فهل تغرم له ذلك ؟ فيه احتمالان للامام، وجعلهما الغزالي وجهين، أرجحهما: المنع، هذا إذا كان إسلامها بعد الدخول، فإن جاءت مسلمة قبل الدخول وأسلم الزوج بعدها، لم يكن له طلب المهر، لانه أسلم بعد البينونة. ومنها: لو جاء في طلبها غير زوجها، كأبيها وعشيرتها، لم يغرم شيئا، لان المعتبر طلب من كان له ملك البضع، أو طلب وكيله ورسوله، ولو جاءنا الزوج ولم يطلبها، لم يغرم أيضا، وينبغي أن يكون الطلب في العدة، فأما إذا بانت بانقضاء العدة، فلا أثر للطلب. ومنها: إذا دخلت كافرة، رددناها سواء طلبها زوجها أو محارمها، فإن أسلمت بعد دخولها، فهو كما لو جاءت مسلمة في أنا لا نردها وفي غرم المهر، وقيل: في الغرم وجهان، ولو ارتدت بعد الاسلام، وجاء الزوج يطلبها، نظر إن طلبها بعد قتلها، لم نغرم شيئا لحصول الحيلولة بالقتل، وإن طلبها قبل القتل، لم نردها لوجوب قتلها، وفي الغرم وجهان، أصحهما: يجب لحصول الحيلولة بالاسلام. ومنها: لو جاءتنا مسلمة، فجنت، أو جاءتنا مجنونة ثم أفاقت وأسلمت، فحكمها في الرد والغرم حكم العواقل، وإن جاءت مجنونة تصف الاسلام أو لا تصفه، وأخبر عنها أنها وصفته ولم نعلم، أو وصفته قبل الجنون أم فيه، أو لم نخبر عنها بشئ، لم ترد لاحتمال الاسلام قبل الجنون، ولا غرم لاحتمال أنها لم تسلم حينئذ، فلا نغرم بالشك، فإن أفاقت وأقرت بالاسلام، غرمنا، وإلا رددناها ولا غرم، ولو علمنا أنها لم تزل مجنونة، فينبغي أن ترد. ومنها: إذا جاءت صبية مميزة وهي تصف الاسلام لا نردها، لانا وإن لم نصحح إسلامها فنتوقعه، فيحتاط لحرمة الكلمة، وقيل: ترد، والصحيح الاول، ولا غرم في الحال على الاصح، وقيل: الاظهر كالمجنونة، فإن بلغت ووصفت الكفر، رددناها، وإن وصفت الاسلام غرمنا. ومنها: لو جاءت رقيقة منهم مسلمة، فلا ترد على سيدها ولا زوجها، ويحكم(7/526)
بعتقها إن فارقتهم ثم أسلمت، لانها إذا جاءت مراغمة لهم، ملكت نفسها بالقهر فتعتق، كعبد قهر سيده الحربي، فإنه يصير حرا، وهل يغرم لسيدها قيمتها من سهم المصالح إذا جاء يطلبها ؟ فيه طريقان، المذهب: أنه على القولين، والثاني: لا غرم قطعا، لان الحيلولة حصلت بالعتق والقهر قبل الاسلام، ومن قال بالمذهب، قال: المانع هو الاسلام، فإنها لو كانت حرة كافرة لم يمنع زوجها، ولو أسلمت، ثم فارقتهم، وهاجرت مسلمة، فقال البغوي: لا تصير حرة، لانهم في أماننا، وأموالهم محرمة علينا، فلا يزول الملك عنها بالهجرة بخلاف ما إذا هاجرت، ثم أسلمت، لان الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض، فملكت نفسها بالقهر، ولم يتعرض جماعة لهذا التفصيل، وأطلقوا الحكم بالعتق، ويجوز أن يؤخذ به، لان الهدنة جرت معنا لا معها، كما سنذكره إن شاء الله تعالى في الرجل إذا جاءنا مسلما ورددناه، أن له التعرض لهم، ثم قال الشيخ أبو إسحق: لا ترد إلى سيدها لاسلامها وشركه، ولكن نغرم له قيمتها، كما لو غصب منهم مال وتلف، واعترض صاحب البيان وقال: الذي يقتضيه المذهب أنا لا نغرم القيمة ويأمره بإزالة الملك عنها، كأمة كافر أسلمت، ونعود إلى هذا الكلام والتفصيل إن شاء الله تعالى، وإذا كانت الامة مزوجة، ففي غرم المهر القولان، فإن قلنا بغرامة المهر والقيمة، نظر إن حضر الزوج والسيد معا، أخذ كل واحد حقه، وإن جاء أحدهما فقط فثلاثة أوجه، أصحهما: نغرم حق الطالب، والثاني: لا نغرم شيئا، لان حق الرد مشترك ولم يتم الطلب، والثالث: نغرم للسيد إن انفرد بالطلب، ولا نغرم للزوج لان حق الرد في المزوجة للسيد آكد، ألا ترى أنه يسافر بها بخلاف الزوج، فإن كان زوج الامة عبدا، فلها خيار الفسخ إذا عتقت، فإن فسخت النكاح، لم نغرم المهر لان الحيلولة حصلت بالفسخ، وإن لم تفسخ وأوجبنا غرم المهر، فلا بد من حضور الزوج والسيد جميعا، وطلب الزوج المرأة والسيد المهر، فإن انفرد أحدهما، لم نغرم لان البضع غير مملوك للسيد، والمهر غير مملوك للعبد.(7/527)
ومنها: إنما نغرم إذا طلبها الزوج فمنعناها بسبب الاسلام، أما إذا مات قبل الطلب، فلا غرم، وكذا لو مات الزوج قبل أن يطلبها منا وإن كان قد دخل دار الاسلام، ولو مات أحدهما بعد الطلب والمنع، لم يسقط الغرم، فإن كان هو الميت، صرف المهر إلى ورثته، وإن قتلت قبل الطلب، فلا غرم، كما لو ماتت، وإن قتلت بعده، ثبت الغرم، ثم نقل الامام أنه يكون على القاتل، لانه المانع بالقتل، ورأى أن يفصل فيقال: إن قتلها على الاتصال بالطلب، فالحكم ما ذكروه، وإن تأخر القتل، فقد استقر الغرم علينا بالمنع، فلا أثر للقتل بعده، وفي الحالتين لا حق للزوج فيما على القاتل من قصاص ودية، لانه لا يرثها، ولو جرحها شخص قبل الطلب، ثم طلبها الزوج وقد انتهت إلى حركة المذبوحين، فهو كالطلب بعد الموت، وإن بقيت فيها حياة مستقرة، فهل الغرم على الجارح، أم في بيت المال لان المنع في الحياة ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، ولا يسقط الغرم، بأن يطلقها بعد طلبها، وأما قبله، فإن خالعها، أو طلقها طلاقا بائنا، فلا غرم، لانه ترك باختياره، قال الروياني: وكذا لو ملكها أن تطلق نفسها على الفور، وقد يلائم هذه القاعدة أن يقال: يشترط كون الطلب على الفور، وإن طلقها رجعيا، أو طلقها، فأسلمت وهي في عدة الرجعية، ثم جاء الزوج يطلبها، فالصحيح المنصوص أنا إنما نغرم له إذا راجعها لظهور قصد الامساك بالرجعة، وإن كانت رجعة الكافر المسلمة لا تصح، قال الامام: وخرج المحققون قولا أنه يستحق المهر بمجرد الطلب بلا رجعة، لانها فاسدة، فلا معنى لاشتراطها. فرع جميع ما ذكرناه هو في رد النساء الحرائر، أما الاماء والصبيان والمجانين، فلا يردون لضعفهم، ولا يجوز الصلح بشرط ردهم، ولا غرم في ترك ردهم، كما في غير ذوات الازواج، فإذا بلغ الصبي، وأفاق المجنون، فإن وصفا الاسلام، فذاك، وإن وصفا كفرا لا يقر أهله عليه، فإما أن يسلما، وإما أن يردا إلى مأمنهما، وإن وصفا كفرا يقر أهله، فإما أن يسلما وإما أن يقبلا الجزية، وإما أن يردا إلى مأمنهما. وأما الذكور البالغون العقلاء، فنقل الامام في رد العبد وجهين، الصحيح الذي ذكره الجمهور: لا يرد، لانه جاء مسلما مراغما لهم، والظاهر أنهم يسترقونه ويهينونه ولا عشيرة له تحميه، والثاني: يرد، والمنع في النساء لخوف الفاحشة، وهل يعتق العبد الذي جاء مسلما ؟ قال في الحاوي: إن غلبهم على(7/528)
نفسه ثم أسلم وهاجر، عتق، لان الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض، وإن أسلم، ثم غلبهم على نفسه وجاءنا، نظر إن فعل ذلك قبل أن هادناهم، فكذلك، لانه غلب في حال الاباحة، وإن فعله بعد الهدنة، لم يعتق، لان أموالهم محرمة حينئذ لا يملكها بالقهر، ثم لا يرد إلى السيد، وإن لم يعتق، ولا يمكن من استرقاقه، فإن أعتقه وإلا باعه الامام لمسلم، أو دفع قيمته من بيت المال، وأعتقه عن المسلمين كافة، وولاؤه لهم. وأما الحر، فإن لم تكن له عشيرة وغلب على الظن أنه يذل ويهان، ففي رده طريقان، الصحيح طرد الوجهين في رد العبد، والثاني: يرد قطعا لان الحرية في الجملة مظنة القدرة، فإن قلنا: يرد، قال الامام: لا يبعد أن يقال: على الامام أن يشرط عليهم أن لا يهينوا المسلم المردود، فإن أهانوه كانوا ناقضين للعهد، وإن كان للحر عشيرة وطلبته، رد كما رد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا جندل رضي الله عنه على سهيل بن عمرو، لان الظاهر أنهم يحمونه، وأما كون عشيرته تؤذيه بالتقييد ونحوه، فلا اعتبار به، فإنهم يفعلونه تأديبا في زعمهم، وإن طلبه عين عشيرته، لم يرد إلا إذا كان الطالب ممن يقدر المطلوب على قهره والافلات منه، وعلى هذا حمل رد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بصير رضي الله عنه، وإن لم يطلبه أحد، فلا رد كما لا غرم إذا لم يطلب أحد المرأة، قال الاصحاب: ومعنى الرد أنه لا منع من الرجوع، ويخلى بينه وبين من يطلبه، لا أنه يجبر على الرجوع، وهذا معنى رد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا جندل وأبا بصير رضي الله عنهما ولا يبعد تسمية التخلية ردا كما في رد الوديعة، ولو شرط الامام في الهدنة أن يبعث إليهم من جاءه مسلما، فمن الاصحاب من قال: يجب الوفاء بشرطه، ومقتضى هذا أن لا يعتبر الطلب، ونقل الروياني عن النص أنه يفسد العقد بهذا الشرط، وذكر أنهم لو طلبوا من جاء منهم وهو مقيم على كفره، مكناهم منه، وأنهم لو كانوا شرطوا أن يقوم برده عليهم، وفينا بالشرط، ولا يجب على المطلوب أن يرجع إليهم، ولذلك لم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي بصير رضي الله عنه امتناعه، فإن اختار الاقامة في دار الاسلام، لم يمنع، ويقول الامام للطالب: لا أمنعك منه إن قدرت عليه، ولا أعينك إن لم تقدر، وعن النص أنه يستحب أن يقول للمطلوب سرا: لا ترجع، وإن رجعت فاهرب إذا قدرت، وللمطلوب أن يقتل الطالب، ولنا أن نرشده إلى قتله تعريضا لا تصريحا، لان الامام إنما التزم بالهدنة أن يمتنع عنهم، ويمنع الذين يعادونهم وهم المسلمون(7/529)
يومئذ، فأما من أسلم بعد، فلم يشترط على نفسه، ولا تناوله شرط الامام، لانه ليس في قبضته، وفيه احتمال للامام أنه ليس له التعرض لمن عصم الامام دمه وماله، ولهذا من جاءنا مسلما ولم يطلب، يلزمه بعقد الهدنة ما لزمنا. فرع عن البحر: كافر تحته عشر نسوة أسلمن، وهاجرن، وجاء يطلبهن، يؤمر باختيار أربع، ويعطى مهورهن على قول غرامة المهر، والمستولدة إذا جاءت مسلمة كالامة والمكاتبة إن اقتضى الحال عتقها كذلك وتبطل الكتابة وإلا فهي على كتابتها، فإن أدت، عتقت وللسيد الولاء، وإن عجزت ورقت حسب ما أخذ من مال الكتابة بعد إسلامها من ضمانها ولا يحسب منه ما أخذ قبل الاسلام، فإن بلغ المحسوب عليه قدر القيمة، فقد استوفى حقه وعتقت، وولاؤها للمسلمين، وهل يرد عليها من بيت المال ؟ قولان بناء على أنا هل نغرم للسيد قيمة الامة، وإن كان المؤدى أكثر من القيمة، لم يسترجع الفاضل من سيدها، وإن كان أقل، فللسيد تمام القيمة، ويكون ذلك من بيت المال. فصل إذا عقد الهدنة بشرط أن يردوا من جاءهم منا مرتدا، ويسلموه إلينا، لزمهم الوفاء، فإن امتنعوا، كانوا ناقضين للعهد، فإن عقدت بشرط أن لا يردوا من جاءهم، ففي جوازه قولان، أظهرهما وأشهرهما: الجواز، والثاني: المنع، بل لا بد من استرداده لاقامة حكم المرتدين عليه، وقال الماوردي: الصحيح عندي صحة الشرط في الرجال دون النساء، لان الابضاع يحتاط لها، ويحرم على الكافر من المرتدة ما يحرم من المسلمة، وربما حاول تنزيل القولين على الصنفين، فإن أبطلنا الشرط وأوجبنا الرد، فالذي عليهم التمكين والتخلية دون التسليم، وكذا الحكم لو جرت المهادنة مطلقا من غير تعرض لرد المرتد، وحيث لا يلزمهم التمكين والتسليم، يلزمهم مهر من ارتد من نساء المسلمين، وقيمة من ارتد من رقيقهم، ولا يلزمهم غرم من ارتد من الرجال الاحرار، ولو عاد المرتدون إلينا، لم نرد المهور، ونرد القيم، لان الرقيق بدفع القيمة يصير ملكا لهم، والنساء لا يصرن زوجات، وحيث يجب التمكين دون التسليم تمكنوا، فلا غرم عليهم، سواء وصلنا إلى المطلوبين أم(7/530)
لا، وحيث يجب التسليم يطالبهم به عند الامكان، فإن فات التسليم بالموت، لزمهم الغرم، وإن هربوا، نظر إن هربوا قبل القدرة على التسليم، فلا غرم، وبعدها يجب الغرم، وإذا قلنا: لا تسترد المرتدة، غرم الامام لزوجها ما أنفق من صداقها، لانا بعقد الهدنة حلنا بينه وبينها، ولولاه، لقاتلناهم حتى يردوها، وإن قلنا: تسترد، فتعذر ذلك فقال الغزالي: نغرم له أيضا، ويشبه أن يكون الغرم لزوج المرتدة مفرعا على الغرم لزوج المسلمة المهاجرة، ولم أره مصرحا به، وقد يشعر كلام الغزالي بخلافه، ثم لو جاءتهم امرأة منا مرتدة، وهاجرت إلينا امرأة منهم مسلمة، وطلبها زوجها، فلا نغرم له المهر، بل نقول: هذه بهذه، ويجعل المهرين قصاصا، ويدفع الامام المهر إلى زوج المرتدة، ويكتب إلى زعيمهم ليدفع مهرها إلى زوج المهاجرة، هذا إن تساوى القدران، فإن كان مهر المهاجرة أكثر، صرفنا مقدار مهر المرتدة منه إلى زوجها والباقي إلى المهاجرة، وإن كان مهر المرتدة أكثر، صرفنا مقدار مهر المهاجرة إلى زوجها، والباقي إلى زوج المرتدة، وبهذه المقاصة فسر مفسرون قوله تعالى: * (وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا) *. فصل على الامام منع من يقصد أهل الهدنة من المسلمين والذميين، وليس عليه منع الحربيين، ولا منع بعضهم من بعض لان الهدنة لمجرد الكف لا للحفظ بخلاف الذمة. ولو أتلف مسلم أو ذمي على مهادن نفسا أو مالا، ضمنه، وإن قذفه عزر، وعليهم بإتلاف مال المسلم الضمان، وبقتله القصاص، وبالقذف الحد. ولو أغار أهل الحرب عليهم، ثم ظفر الامام بأهل الحرب، فاستنقذ منهم أموال أهل الهدنة، لزمه ردها إليهم، وفي إقامة حد السرقة، والزنى على المعاهد، وانتقاض عهده بالسرقة خلاف سبق في آخر الباب الأول من كتاب السرقة، وبالله التوفيق. كتاب الصيد والذبائح والضحايا والعقيقة والاطعمة. هذه الكتب تقدمت في آخر العبادات.(7/531)
كتاب السبق والرمي
وهو المناضلة، المسابقة والمناضلة جائزتان بل سنتان إذا قصد بهما التأهب للجهاد. قلت: يكره لمن علم الرمي تركه كراهة شديدة، ففي صحيح مسلم عن عقبة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من علم الرمي ثم تركه فليس منجا أو قد عصى. والله أعلم. ويجوز شرط المال في المسابقة والمناضلة، وفي الكتاب بابان، باب في السبق، وباب في الرمي، وقد تدخل مسائل أحدهما في الآخر لتقاربهما.
الباب الاول : في السبق وفيه طرفان
الأول : في شروطه، وهي عشرة. الاول: أن يكون المعقود عليه عدة للقتال، لان المقصود منه التأهب للقتال، ولهذا قال الصيمري: لا يجوز السبق والرمي من النساء، لانهن لسن أهلا للحرب، ثم الاصل في السبق الخيل والابل، لانها التي يقاتل عليها غالبا، وتصلح للكر والفر(7/532)
بصفة الكمال، وتجوز المسابقة على الفيل والبغل والحمار على المذهب، وقيل بالمنع فيها، وقيل بالمنع في البغل والحمار، وقيل في الجميع خلاف. وأما المناضلة فتجوز على السهام العربية والعجمية وهي النشاب، وعلى جميع أنواع القسي، حتى تجوز على الرمي بالمسلات والابر، وفي المزاريق والرانات ورمي الحجارة باليد وبالمقلاع والمنجنيق طريقان، أحدهما: الجواز، والثاني: وجهان، أصحهما: الجواز، ولا تجوز المسابقة بإشالة الحجر باليد على المذهب وبه قطع الاكثرون، وقيل: وجهان، وأما مراماة الاحجار، وهي أن يرمي كل واحد الحجر إلى صاحبه، فباطلة، وأما المسابقة على التردد بالسيوف والرماح، فقيل بمنعها، لانها لا تفارق صاحبها، وإلا يصح الجواز، لانها من أعظم عدد القتال، واستعمالها يحتاج إلى تعلم وتحذق، والمسابقة على الحمام وغيره من الطيور، وعلى الاقدام والسباحة في الماء والطيارات والزوارق والصراع، فجائزة بلا عوض، والاصح منها بالعوض، فإن جوزنا الصراع، ففي المشابكة باليد وجهان، ولا تجوز على مناطحة الشياه، ومهارشة الديكة لا بعوض ولا بغيره. فرع لا يجوز عقد المسابقة على ما لا ينتفع به في الحرب، كاللعب بالشطرنج والخاتم والصولجان، ورمي البندق والجلاهق، والوقوف على رجل واحدة، ومعرفة ما في اليد من شفع ووتر، وسائر أنواع اللعب، وأما المقل في الماء فقال الشيخ المروزي: إن جرت العادة بالاستعانة به في الحرب، فهو كالسباحة،(7/533)
وإلا فلا تجوز المسابقة عليه. قلت: لا تجوز المسابقة على البقر على المذهب، وقيل: وجهان، حكاه الدارمي قال: والذي تجوز المسابقة عليه من الخيل. قيل: ما يسهم له وهو الجذع أو الثني، وقيل: وإن كان صغيرا قال: ولا تجوز على الكلب. والله أعلم.
الشرط الثاني : الإعلام، فيشترط إعلام الموقف الذي يبدآن بالجري منه، والغاية التي يجريان إليها، ويشترط تساوي المتسابقين فيهما، ولو لم يعينا غاية وشرطا المال لاسبقهما حيث سبق، لم يجز، ولو عينا غاية وشرطا أن السبق إن اتفق في وسط الميدان لاحدهما كان فائزا، لم يجز على الاصح لانا لو اعتبرنا السبق في خلال الميدان لاعتبرناه بلا غاية معينة، ولو عينا غاية وقالا: إن اتفق السبق عندها فذاك، وإلا عدينا إلى غاية أخرى اتفقا عليها، جاز على الاصح لحصول الاعلام وكون كل واحدة من الغايتين معلومة. فرع يشترط كون المال معلوم الجنس والقدر.
الشرط الثالث : أن يشترط للسابق كل المال أو أكثره، فإذا تسابق اثنان، وبذل المال غيرهما، فإن شرطه للسابق منهما، فذاك، وإن شرطه للثاني، أو شرط له مثل الاول، لم يجز، وإن شرط للثاني أقل مما شرط جاز على الاصح، وإن تسابق ثلاثة، وشرط باذل المال المال للاول، جاز، وإن شرطه للثاني، أو شرط له أكثر من الاول، لم يجز على الاصح، وقيل: يجوز، لان ضبط الفرس في شدة عدوة ليقف في مقام الثاني يحتاج إلى حذق ومعرفة، وإن شرط له مثل ما شرط ل لاول، جاز على الاصح، لان كل واحد يجتهد هنا أن يكون أولا وثانيا، وإن شرط له دون ما شرط للاول، جاز على الصحيح، ويخرج من هذا الاختلاف في الثلاثة أربعة أوجه، أحدها: يجوز أن يشرط الجميع للثاني، والثاني: لا يجوز شرط شئ(7/534)
له، والثالث: يجوز له شرط بشرط تفضيل السابق، والاصح: يجوز أن يشرط له بحيث لا يفضل على السابق، وأما الفسكل بكسر الفاء والكاف وإسكان السين المهملة بينهما وهو الاخير، فلا يجوز أن يساوى بمن قبله، ويجوز أن يشرط له دون ما شرط لمن قبله على الاصح كما سبق في الاثنين، ويقاس بها ما إذا تسابق أكثر من ثلاثة حتى لو كانوا عشرة، وشرط لكل واحدة سوى الفسكل مثل المشروط لمن قبله، جاز على الاصح، والاحب أن يكون المشروط لكل واحد دون المشروط لمن قبله، وفي شرط شئ للفسكل الوجهان، ولو أهمل بعضهم، بأن شرط للاول عشرة، وللثالث تسعة، وللرابع ثمانية، فهل يجوز ؟ وجهان، أحدهما: لا، لان الرابع والثالث يفضلان من قبلهما، والثاني: نعم، ويقام الثالث مقام الثاني، والرابع مقام الثالث، وكأن الثاني لم يكن، وإذا بطل المشروط في حق بعضهم، ففي بطلانه في حق من بعده وجهان، وهذان الوجهان مع الوجهين في الاهمال مبنيان على أن من بطل السبق في حقه هل يستحق على الباذل أجرة المثل ؟ وفيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى، فإن قلنا: لا، بطل العقد في حق من بعده لئلا يفضل من سبقه، وإن قلنا: نعم، لم يبطل في حق من بعده ولا يضر كون المشروط له زائدا على أجرة المثل، لان الممتنع أن يفضل المسبوق السابق فيما يستحقانه بالعقد، وأجرة المثل غير مستحقة بالعقد. واعلم أن الصور المذكورة وضعوها فيما لو كان باذل المال غير المتسابقين، ويمكن فرضها أو فرض، بعضها فيما لو بذله أحدهما، بأن يتسابق اثنان، ويبذل أحدهما مالا على أنه إن سبق دفع إلى الآخر منه كذا، وإن سبقه الآخر أمسك لنفسه منه كذا. فرع قال: من سبق فله كذا فجاء المتسابقون معا فلا شئ لهم، ولو جاء اثنان فصاعدا معا، وتأخر الباقون فالمشروط للاولين بالسوية، ولو قال: من سبق، فله دينار، ومن جاء ثانيا، فله نصف دينار، فسبق واحد، ثم جاء ثلاثة معا، ثم الباقون، فللسابق دينار، وللثلاثة نصف، وإن سبق واحد، ثم جاء الباقون، فله دينار، ولهم نصف، وإن جاء الجميع معا، فلا شئ لهم، ولو قال: كل من سبق، فله دينار، فسبق ثلاثة، قال الداركي: لكل واحد منهم دينار.(7/535)
الشرط الرابع : أن يكون فيهم محلل، ومال المسابقة قد يخرجه المتسابقان، أو أحدهما أو غيرهما. الحالة الاولى: أن يخرجه غيرهما، فيجوز للامام أن يخرج المال من خاص نفسه ومن بيت المال، لما فيه من التحريض على تعلم الفروسية، وإعداد أسباب القتال، ويجوز للواحد من الرعية إخراجه من مال نفسه، لانه بذل مال في طاعة، ويثاب عليه إذا نوى، وسواء تسابق اثنان أو أكثر، ومن سبق، أخذ المال. الحالة الثانية: أن يخرجه أحدهما، ويشرطانه إن سبق أحرزه ولا شئ له على الآخر، وإن سبق الآخر، أخذه، فيجوز، ولو تسابق أكثر من اثنين، وأخرجه اثنان فصاعدا، وشرطوا أن من سبق من المخرجين لم يحرز إلا ما أخرجه، ومن سبق من غيرهم، أخذ ما أخرجه المخرجون، جاز أيضا. الثالثة: أن يخرجه المتسابقان، فيقول كل واحد: إن سبقتك، فلي عليك كذا، وإن سبقتني، فلك علي كذا، فهذا لا يجوز، لانه صورة قمار إلا أن يدخلا بينهما محللا وهو ثالث يشاركهما في المسابقة على أنه إن سبق أخذ ما شرطاه، وإن سبق، فلا شئ عليه، فيجوز لانه يخرج عن صورة القمار، ثم إن شرطا أن يختص المحلل بالاستحقاق، وإن سبق أحدهما كل واحد منهما لا يأخذ إلا ما أخرج، فهذا جائز بالاتفاق، وإن شرطا أن المحلل يأخذ السبقين وإن سبق أحدهما أحدهما، جاز على الصحيح المنصوص، ومنعه ابن خيران، فإذا قلنا بالمنصوص وكان المتسابقون مائة مثلا، وليس فيهم إلا محلل واحد، وشرط أن يأخذ جميع ما أخرجوه إن سبق ولا يغرم إن سبق، وكل واحد من المتسابقين إن سبق، غنم، وإن سبق، غرم، صح العقد والشرط، قال الامام: وهنا أصل آخر وهو أنهما إذا أطلقا شرط المال للسابق، فهل اللفظ للسابق المطلق، أم يتناول من سبق غيره وإن كان مسبوقا لغيره ؟ فيه وجهان، الصحيح: الاول، ويترتب على الاصلين الحكم في صور مجئ المتسابقين، فإذا تسابق اثنان ومحلل، نظر إن جاء المحلل ثم أحدهما ثم(7/536)
الفسكل، فللمحلل ما أخرجه الآتي بعده بلا خلاف، وفيما أخرجه الفسكل ثلاثة أوجه، أصحها: أنه للمحلل أيضا لانه السابق المطلق، والثاني: أنه له وللآتي بعده، لانهما سبقا الفسكل، والثالث: هو للآتي بعده وحده، ولو سبق المحلل ثم جاءا معا، فله السبقان بلا خلاف، ولو سبق المحلل مع أحدهما، فالذي سبق مع المحلل يحرز ما أخرجه وأما ما أخرجه الآخر، فهو له، وللمحلل على الصحيح المنصوص، وعند ابن خيران للمحلل خاصة، ولو سبق أحدهما، ثم جاء الثاني مع المحلل، أو جاء الثاني، ثم المحلل، أحرز السابق ما أخرجه وله أيضا ما أخرجه الآخر على المنصوص، وعند ابن خيران لا يأخذه، ولا شئ للمحلل على المذهبين، ولو سبق أحدهما، ثم جاء المحلل، ثم الآخر، أحرز السابق ما أخرجه الآخر، فإن قلنا بالمنصوص، ففيه أوجه، أصحها: أنه للسابق أيضا، والثاني: أنه له وللمحلل معا، لانهما سبقا الآخر، والثالث: أنه للمحلل وليس بشئ، وإن قلنا بقول ابن خيران، فهل هو للمحلل، أم يحرزه مخرجه، ولا يستحقه المحلل ولا السابق ؟ وجهان، ولو سبقا معا، ثم جاء المحلل، أو جاء الثلاثة معا، لم يأخذ واحد منهم من غيره شيئا، ويجوز أن يدخلا بينهما محللين وأكثر، فإذا تسابق اثنان ومحللان، فسبق أحد المحللين، ثم جاء أحد المتسابقين، ثم المحلل الثاني، ثم المتسابق الثاني، فما أخرجه المتسابق الاول، فللمحلل الاول، وأما ما أخرجه الآخر، فإن قلنا بالمنصوص، فهو للمحلل الاول أيضا على الصحيح، لانه السابق المطلق، وقيل: هو للمحللين والمتسابق الاول، لانهم جميعا سبقوا الثاني، وقياس الوجه الضعيف أنه للمحلل الثاني، وإن قلنا بقول ابن خيران، فهو للمحلل الاول، وقيل: للمحللين، ولو جاء أولا أحد المتسابقين، ثم أحد المحللين ثم المحلل الثاني، أحرز الاول ما أخرجه، وأما ما أخرجه الآخر، فإن قلنا بالمنصوص، فهو للمتسابق الاول على الصحيح، وقيل: له وللمحلل الاول، وعلى الوجه الضعيف: هو للمحلل الاول، وعلى قول ابن خيران: هو للمحلل الاول لا غير. الشرط الخامس: أن يكون سبق كل واحد منهما ممكنا، فإن كان فرس أحدهما، أو فرس المحلل ضعيفا يقطع بتخلفه، أو فارها يقطع بتقدمه، لم يجز، هكذا أطلق عامة الاصحاب، وقال الامام: إن أخرج أحدهما المال على أنه إن(7/537)
فاز، أحرز ما أخرجه، وإلا فهو لصاحبه، وكان صاحبه بحيث يقطع بأنه لا يسبق، فهذه مسابقة بلا مال، وإن كان يقطع بأنه يسبق، ففي صحة هذه المعاملة وجهان: أصحهما: الصحة، وحاصلها إخراج مال لمن يقطع بأنه يسبقه، فأشبه ما لو قال لرجل: ارم كذا، فإن أصبت منه كذا، فلك هذا المال، وإن أخرج كل واحد منهما مالا، وأدخلا محللا يعلم تخلفه قطعا، فلا فائدة في إدخاله، ويبقى العقد على صورة القمار، فيبطل، وإن تيقن سبقه، ففيه الوجهان، وإن أخرجا المال ولا محلل وأحدهما بحيث يقطع بسبقه، فالذي يسبق كالمحلل، لانه لا يستحق عليه شئ، وشرط المال من جهته لغو، وهذا التفصيل الذي ذكره الامام حسن، ولو كان سبق أحدهما ممكنا على الندور، ففي الاكتفاء به للصحة وجهان، أصحهما وأقربهما إلى كلام الاصحاب: المنع، ولا اعتبار بالاحتمال النادر، ويتعلق بما نحن فيه اختلاف المركوبين جنسا ونوعا، أما النوع فلا يضر، فتجوز المسابقة بين فرس عربي وعجمي، وعربي وتركي، وقال أبو إسحق: إذا تباعد نوعان، كالعتيق والهجين من الخيل، والنجيب والبختي من الابل، لم يجز، وينبغي أن يرجح هذا وإن كان الاول أشهر، لانه إذا تحقق التخلف فأي فرق بين أن يكون لضعف، أو لرداءة نوع. قلت: قول الاكثرين تجوز بين العتيق والهجين، والنجيب والبختي، محمول على ما إذا لم يقطع بسبق العتيق والنجيب كما ذكرناه، فقول أبي إسحق ضعيف إن لم يرد به هذا فإن أراده، ارتفع الخلاف. والله أعلم. وأما إذا اختلف الجنس، فإن كان كبعير وفرس، أو فرس وحمار فالاصح: المنع، وإن كان بغلا وحمارا وجوزنا المسابقة عليهما، فالاصح: الصحة، وبه أجاب ابن الصباغ.(7/538)
الشرط السادس: تعيين المركوبين، فإن أحضرت الافراس، وعقد على عينها، فذاك، وإن وصفت وعقد على الوصف، فهل تصح ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وبه قال العراقيون، قال الامام: هو الاوجه، كما قام الوصف في السلم والزنى مقام الاحضار، ونقل الامام عن العراقيين أنه إذا جرت المسابقة مطلقة، كان كجريان المناضلة مطلقة، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنها على ماذا تحمل، وإذا تعلق العقد بعين فرس، لم يجز إبداله، فإن هلك، انفسخ العقد، وإذا عقد على الوصف، ثم أحضر فرس، فينبغي إن لا ينفسخ العقد بهلاكه. الشرط السابع: أن يسبق على الدابتين، فلو شرطا إرسالهما ليجريا بأنفسهما، فالعقد باطل، لانها تنفر، ولا تقصد الغاية بخلاف الطيور إذا جوزنا المسابقة عليها، لان لها هداية إلى الغاية. الشرط الثامن: أن تكون المسافة بحيث يمكن للفرسين قطعها ولا ينقطعان، فإن كانت بحيث لا يصلان غايتها إلا بانقطاع وتعب، فالعقد باطل. الشرط التاسع: أن يكون المال المشروط معلوما، ويجوز أن يكون عينا ودينا، وبعضه عينا وبعضه دينا، وحالا ومؤجلا، فلو شرطا مالا مجهولا بأن قال: أعطيك ما شئت أو شئت، أو شرط دينارا أو ثوبا ولم يصف الثوب، أو دينارا إلا ثوبا، فالعقد باطل، وكذا لو شرطا دينارا إلا درهما إلا أن يريد قدر الدرهم وعرفا قيمة الدينار بالدراهم، ولو قال: إن سبقتني، فلك هذه العشرة وترد ثوبا، فالعقد باطل، لانه شرط عوض عن السابق، وهو خلاف مقتضاه، ولو تسابقا على عوض كان في الذمة، فوجهان بناء على جواز الاعتياض عنه، ولو أخرج المال غيرهما، جاز أن يشرط لاحدهما أكثر من الآخر، وإن أخرجاه جاز أن يخرج أحدهما أكثر، وقال الصيمري والماوردي: إذا أخرجاه وجب التساوي جنسا ونوعا وقدرا. الشرط العاشر: اجتناب الشروط المفسدة، فلو قال: إن سبقتني، فلك هذا الدينار ولا أرمي بعد هذا أو لا أناضلك إلى شهر، بطل العقد، نص عليه. ولو شرط على السابق أن يطعم السبق أصحابه، بطل العقد على الصحيح، وقال أبو إسحق: يصح، وقبوله الاطعام وعد إن شاء وفى به، وإن شاء لم يف. قلت: وفي التنبيه وجهان آخران، أحدهما: يفسد المسمى، ويجب(7/539)
عوض المثل، والثاني: يصح العقد ولا عوض. والله أعلم. فصل الاشياء التي ذكر الاصحاب اعتبار السبق بها ثلاثة: أحدها: الكتد بفتح التاء وكسرها، والفتح أشهر، وهو مجمع الكفين بين أصل العنق والظهر. الثاني: الاقدام وهي القوائم. الثالث: الهادي وهو العنق، ونقل الامام اختلاف وجه أو قول في أن الاعتبار بالهادي، أم بموضع الاقدام والكتد، ورأى الثاني أقيس، والذي يوجد لعامة الاصحاب في كتبهم أن الاعتبار في الابل بالكتد، وفي الخيل بالهادي، لان الابل ترفع أعناقها في العدو، فلا يمكن اعتباره، والخيل تمدها، قالوا: فإذا استوى الفرسان في خلقة العنق طولا وقصرا، فالذي تقدم بالعنق، أو بعضه هو السابق، وإن اختلفا فإن تقدم أقصرهما عنقا، فهو السابق، وإن تقدم الآخر، نظر إن تقدم بقدر زيادة الخلقة فما دونها، فليس بسابق، وإن تقدم الآخر، نظر إن تقدم بقدر زيادة الخلقة فما دونها، فليس بسابق، وإن تقدم بأكثر، فسابق، وحكيت أوجه أخر ضعيفة، أحدها: أن عند اختلاف خلقة العنق يعتبر في الخيل الكتد، حكي عن أبي إسحق ورجحه الروياني، والثاني: أن عند اختلاف الخلقة إذا سبق أطولهما عنقا ببعض عنقه، وكتدهما سواء، كان سابقا. والثالث: أنه إن كان في جنس الخيل ما يرفع الرأس عند العدو، اعتبر فيه الكتد كما في الابل. والرابع: أن التقدم بأيهما حصل، حصل السبق، وعلى هذا لو تقدم أحدهما بأحدهما، والآخر بالآخر فلا سبق. والخامس: حكاه ابن القطان: لا يعتبر هذا ولا ذاك، بل يعتبر عرف الناس وما يعدونه سبقا. والسادس: المعتبر تقدم الاذن. والسابع: المعتبر ما شرطاه من الكتد أو الهادي. قلت: هذا السابع ضعيف، لان المسألة فيما إذا أطلقا. والله أعلم. فهذا هو الكلام في الهادي والكتد، أما الكتد مع القدم، فقد قرن بينهم قارنون، وأقام أحدهما مقام الآخر آخرون، وأشار الفريقان إلى أنه لا فرق في الاعتبار بهما ولا خلاف، لانهما قريبان من التحاذي، لكن بينهما مع التفاوت تفاوت، ولا يبعد أن يجعل اعتبار القدم وراء اعتبار الكتد والهادي، وقال صاحب الحاوي: لو اعتبر السبق بالقدم، فأيهما تقدمت يداه، فهو السابق، لان السعي بهما والجري عليهما، لكن الشافعي رحمه الله اعتبر الهادي والكتد، وأما قول الغزالي: الاعتماد على القدم، فخلاف الجمهور، ثم قال الشيخ أبو محمد:(7/540)
الخلاف في أن السبق بماذا يعتبر ؟ مخصوص بآخر الميدان، فأما في أوله، فيعتبر التساوي في الاقدام قطعا.
فروع تتعلق بالسبق لو سبق أحدهما في وسط الميدان، والآخر في آخره، فالسابق الثاني. ولو عثر أحد الفرسين، أو ساخت قوائمه في الارض فتقدم الآخر، لم يكن سابقا، وكذا لو وقف بعد ما جرى لمرض ونحوه، فإن وقف بلا علة، فهو مسبوق، ولو وقف قبل أن يجري، فليس بمسبوق، سواء وقف لمرض أو لغيره، ولو تسابقا على أن من سبق منهما بأقدام معلمة على موضع كذا فله السبق جاز على الصحيح، والغاية في الحقيقة نهاية الاقدام من ذلك الموضع لكنه شرط في الاستحقاق تخلف الآخر عنها بالقدر المذكور. فرع ليجريا في وقت واحد، ويستحب أن تكون في الغاية قصبة مغروزة ليقطعها السابق، فيظهر لكل أحد بقدمه. الطرف الثاني في أحكامه: وفيه قاعدتان: إحداهما: هل عقد المسابقة لازم كالاجارة أم جائز كالجعالة ؟ قولان، أظهرهما: الاول، ثم قيل: القولان فيما إذا أخرجا العوض جميعا، أما إذا أخرجه أحدهما أو غيرهما، فجائز قطعا، والمذهب: طرد القولين في الحالين، قال الشيخ أبو محمد والائمة: القولان فيمن التزم المال، فأما من لم يلتزم شيئا، فجائز في حقه قطعا، وقد يكون العقد جائزا من جانب لازما من جانب، كالرهن والكتابة، وقيل بطردهما فيمن لم يلتزم لانه قد يقصد بمعاقدته تعلم الفروسية والرمي فيكون كالاجير، والمذهب يخصصهما بالملتزم، فإن قلنا بالجواز فلكل واحد ترك العمل قبل الشروع فيه، وكذا بعده إن لم يكن لاحدهما فضل على الآخر، وكذا إن كان على الاصح، لانه عقد جائز، وعلى هذا القول تجوز الزيادة والنقص في العمل، وفي المال بالتراضي، وإذا بذل أحدهما المال لا يشرط من صاحبه القبول على الصحيح، قال الامام: وأجرى الاصحاب هذين الوجهين في الجعالة المتعلقة بمعين، بأن يقول: إن أردت عبدي فلك كذا، وفي ضمان السبق قبل تمام العمل(7/541)
والرهن به الخلاف السابق في ضمان الجعل والرهن به قبل تمام العلم، وقيل: إن لم يصح الضمان، لم يصح الرهن وإلا فوجهان، لان الضمان أوسع بابا، ولذلك يجوز ضمان الدرك دون الرهن به، وأما إذا قلنا باللزوم، فليس لاحدهما فسخ العقد دون الآخر، فإن ظهر بالعوض المعين عيب، ثبت حق الفسخ، وليس لاحدهما أن يترك العمل إن كان مفضولا أو فاضلا وأمكن أن يدركه صاحبه ويسبقه، وإلا فله الترك، لانه ترك حق نفسه، ولا يجوز لهما الزيادة في العمل والمال ولا النقص منه إلا أن يفسخا العقد الاول، ويستأنفا عقدا، وإذا سبق أحدهما اشترط قبول الآخر بالقول، ولا يكلف المسبق البداءة بتسليم المال على المذهب بخلاف الاجرة، لان في المسابقة خطرا، فيبدأ بالعمل، ويجوز ضمان السبق والرهن به على هذا القول على المذهب، وقال القفال: قولان كضمان ما لم يجب، وجرى سبب وجوبه، فأما بعد الفراغ من العمل فيجوز ضمان السبق والرهن به على القولين، وإن كان السبق عينا، لزم المسبق تسلميها، فإن امتنع، أجبره الحاكم وحبسه عليه، ولو تلفت في يده بعد الفراغ من العمل، لزمه الضمان كالمبيع إذا تلف في يده قبل التسليم، ولو تلفت في يده قبل العمل، انفسخ العقد، ولو غاب لمرض ونحوه، فلم ينفسخ العقد، بل ينتظر زواله. فرع اشترى ثوبا وعقد المسابقة بعشرة، إن قلنا: المسابقة لازمة، فهو جمع بيع وإجارة في صفقة وفي صحته قولان، وإن قلنا: جائزة، لم يصح قطعا لانه جمع بين جعالة لا تلزم، وبيع يلزم في صفقة، وذلك ممتنع. القاعدة الثانية: إذا فسدت المسابقة، وركض المتسابقان، وسبق من لو صحت، استحق السبق، فالمذهب أنه يستحق أجرة المثل، وبه قطع الاكثرون كالاجارة والقراض الفاسدين، وقيل: لا يستحق شيئا، لانه لم يعمل لغيره شيئا، وفائدة عمله تعود إليه بخلاف الاجارة والجعالة الفاسدتين، وقيل: إن كان الفساد لخلل في العوض وأمكن تقويمه بأن كان مغصوبا، وجبت قيمته، وإذا قلنا بالمذهب، ففي كيفية اعتبار أجرة المثل وجهان، قال ابن سلمة: هي أجرة مثل الزمن الذي اشتغل بالرمي فيه، وأصحهما: قول أبي إسحق: يجب ما يتسابق بمثله في مثل تلك المسابقة غالبا.(7/542)
الباب الثاني : في الرمي
فيه طرفان :
الأول : في شروطه، وهي ستة، أحدها: المحلل، فمال المناضلة على نحو ما ذكرنا في المسابقة، وهو أن يخرجه غير المتناضلين، أو أحدهما أو كلاهما، وصورة القسم الاول أن يقول الامام أو أجنبي: ارميا عشرة، فمن أصاب منها كذا، فله كذا، وصورة القسم الثاني أن يقول أحدهما: نرمي كذا، فإن أصبت أنت منها كذا، فلك علي كذا، وإن أصبتها أنا، فلا شئ لاحدنا على صاحبه، وصورة الثالث: أن يشرط كل واحد المال على صاحبه إن أصاب، وهذا الثالث لا يجوز إلا بمحلل معهما كما سبق. وكما تجوز المناضلة بين اثنين تجوز بين حزبين كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وحينئذ، فكل حزب كشخص، فإن أخرج المال أحد الحزبين أو أجنبي، جاز، وإن أخرجاه اشترط محلل، إما واحد وإما حزب، ولو أخرجه الحزبان، وشرطوا لواحد من أحد الحزبين إن كان الفوز لحزبه، شاركهم في أخذ المال، وإن كان للحزب الآخر، فلا شئ على ذلك الواحد إنما يغرم أصحابه، أو اشتمل كل حزب على محلل على هذه الصورة، فثلاثة أوجه، أصحها: لا يجوز، لان المحلل من إذا فاز، استبد بالمال، وهذا يشارك أصحابه، والثاني: الصحة، والثالث: يصح في الصورة الثانية دون الاولى، ولو شرط كل حزب كل المال لمحللهم، بطل قطعا، لانه يكون فائزا لغيره. الشرط الثاني: اتحاد الجنس، فإن اختلف، كالسهام مع المزاريق، لم يصح على الاصح، ولو اختلفت أنواع القسي والسهام، جاز قطعا، كقسي عربية مع فارسية، ودورانية، وتنسب إلى دوران قبيلة من بني أسد، مع هندية، وكالنبل، وهو ما يرمى به عن القوس العربية، مع النشاب، وهو ما يرمى به عن الفارسية، ومن أنواع القسي: الحسبان، وهي قوس تجمع سهامها الصغار في قصبة، ويرمى بها، فتتفرق على الناس، ويعظم أثرها ونكايتها، وحكى صاحب التقريب وجها أنه لا تجوز المناضلة بالنبل مع النشاب، كالخيل والبغال، والصحيح الاول، لانا قدمنا أن اختلاف أنواع الابل والخيل لا يضر، فهذا أولى، ثم إن عينا في عقد المناضلة نوعا(7/543)
من الطرفين أو أحدهما، وفيا به ولا يجوز العدول عن المعين إلى ما هو أجود منه، بأن عينا القوس العربية، فلا يجوز العدول إلى الفارسية، ولو عدل إلى ما دونه، لم يجز أيضا على الاصح إلا برضى صاحبه، لانه ربما كان استعماله لاحدهما أكثر، ورميه به أجود، ولو عينا سهما أو قوسا، لم يتعين، وجاز إبداله بمثله من ذلك النوع، سواء حدث فيه خلل يمنع استعماله أم لا بخلاف الفرس، فلو شرط أن لا يبدل، فسد الشرط على الاصح، لان الرمي قد تعرض له أحوال خفية تحوجه إلى الابدال، وفي منعه من الابدال تضييق لا فائدة فيه، وقيل: يصح الشرط، فإن أفسدنا الشرط، فسد العقد على الاصح، ويجري الوجهان في كل ما لو طرح من أصله، لاستقل العقد بإطلاقه، فأما ما لا يستقل العقد بإطلاقه لو طرح، كإهمال ذكر الغاية في المسابقة، وصفة الاصابة في المناضلة، فإذا فسد، فسد العقد بلا خلاف، فإن صححنا هذا الشرط، لزم الوفاء به ما لم ينكسر المعين، ويتعذر استعماله، فإن انكسر جاز الابدال للضرورة، فإن شرط أن لا يبدل وإن انكسر، فسد العقد قطعا، ولو أطلقا المناضلة ولم يتعرضا لنوع، فثلاثة أوجه، الصحيح وقول الاكثرين: الصحة، لان الاعتماد على الرامي، والثاني: المنع، لاختلاف الاغراض وتفاوت الحذق في استعمالها، والثالث: إن غلب نوع في الموضع الذي يترامون فيه، صح ونزل عليه، وإلا فباطل، فإن قلنا: يصح، فتراضيا على نوع، فذاك، وإن تراضيا على نوع من جانب، ونوع آخر من الجانب الآخر، جاز أيضا على الاصح كما في الابتداء، ولو اختار أحدهما نوعا، وقال الآخر: بل يرمي بنوع آخر، وأصرا على المنازعة، فسخ العقد على الاصح، وقيل: ينفسخ. فرع قال الامام: اختلاف السهام وإن اتحد نوع القوس كاختلاف نوع الفرس، وبيانه أن الرمي بنبال الحسبان التي يقال لها: الناول إنما يكون بالقوس الفارسية، لكنها مع الآلة المتصلة بها كنوع آخر من القوس، وكذا القوس الجرخ مع قوس اليد، والجرخ والناول مختلفان. الشرط الثالث: أن تكون الاصابة المشروطة ممكنة لا ممتنعة ولا متيقنة، فإن شرط ما يتوقع إصابته، صح، وإن شرط ما هو ممتنع في العادة، بطل العقد، والامتناع قد يكون لشدة صغر الغرض أو بعد المسافة أو كثرة الاصابة المشروطة، كإصابة مائة أو عشرة متوالية، وفي العشرة وجه ضعيف، وإن شرط ما هو متيقن في(7/544)
العادة، كإصابة الحاذق واحدا من مائة، ففي صحة العقد وجهان، وجه المنع، أن هذا العقد ينبغي أن يكون فيه خطر ليتأنق الرامي في الاصابة. قلت: أصحهما. ولو شرط ما يمكن حصوله نادرا، فوجهان، ويقال: قولان، أحدهما: الصحة، للامكان وحصول الحذق، وأصحهما: الفساد، لبعد حصول المقصود، ويجري الخلاف في كل صورة تندر فيها الاصابة المشروطة، فمنها: التناضل إلى مسافة تندر فيها الاصابة، والتناضل في الليلة المظلمة وإن كان الغرض قد يتراءى لهما، ويقرب من هذا ما ذكره الاصحاب أن المتناضلين ينبغي أن يتقاربا في الحذق بحيث يحتمل أن يكون كل واحد فاضلا ومفضولا، فإن تفاوتا وكان أحدهما مصيبا في أكثر رميه، والآخر يخطئ في أكثره، فوجهان، ويتعلق بهذا الشرط أن المحلل بين المتناضلين ينبغي أن يكون بحيث يمكن فوزه وقصوره، فإن علم قصوره، فوجوده كعدمه، وإن علم فوزه فعلى الوجهين في إصابة واحد من مائة. الشرط الرابع: الاعلام، فيشترط في المناضلة العلم بأمور لاختلاف الغرض باختلافها، منها: المال المشروط على ما ذكرنا في المسابقة، ومنها: عدد الاصابة، كخمسة من عشرين، وليبينا صفة الاصابة من القرع، وهو الاصابة المجردة، والخرق، وهو أن يثقب الغرض، ولا يثبت فيه، والخسق وهو أن يثبت فيه، والخرم وهو أن يصيب طرف الغرض فيخرمه، والمرق وهو أن يثقبه، ويخرج من الجانب الآخر، ثم كتب كثير من الاصحاب منهم العراقيون مصرحة بأنه لا بد من ذكر ما يريدان من هذه الصفات سوى الخرم والمرق، فإنهم لم يشرطوا التعرض لهما، والاصح ما ذكره البغوي: أنه لا يشترط التعرض لشئ منها، كالخرم والمرق، وكإصابة أعلى الشن وأسفله، قال: وإذا أطلقا العقد حمل على القرع، لانه المتعارف، وأحسن من هذه العبارة أن يقال: حقيقة اللفظ ما يشترك فيه جميع ذلك، ومنها: إعلام المسافة التي يرميان فيها، وفي وجوبه قولان حكاهما الامام، أحدهما: نعم، لاختلاف الغرض بها، والثاني: لا، وينزل على العادة الغالبة للرماة هناك إن كانت، فإن لم تكن عادة وجب قطعا، وعلى هذا يحمل ما أطلقه(7/545)
الاكثرون من اشتراط الاعلام، وليرجح من القولين: التنزيل على العادة الغالبة، لان الشرط العلم بها، وذلك تارة يكون بالاعلام، وتارة بقرينة الحال، كنظائره، وبهذا قطع ابن كج، وفي المهذب والتهذيب أنه إذا كان هناك غرض معلوم المدى، حمل مطلق العقد عليه، ولو ذكرا غاية لا تبلغها السهام، بطل العقد، وإن كانت الاصابة فيها نادرة، ففيه الوجهان، أو القولان في الشروط النادرة، وقدر الاصحاب المسافة التي يقرب توقع الاصابة فيها بمائتين وخمسين ذراعا، وما تتعذر فيه بما فوق ثلاثمائة وخمسين، وما تندر فيه بما بينهما، وفي وجه لا تجوز الزيادة على مائتين، وهو شاذ، ولو تناضلا على أن يكون السبق لابعدهما رميا، ولم يقصدا غرضا، صح العقد على الاصح، لان الابعاد مقصود أيضا في مقاتلة القلاع ونحوها، وحصول الارعاب، وامتحان شدة الساعد، قال الامام: والذي أراه على هذا أنه يشترط استواء القوسين في الشدة، وتراعى خفة السهم ورزانته، لانهما تؤثران في القرب والبعد تأثيرا عظيما. ومنها: إعلام قدر الغرض طولا وعرضا، والكلام فيه على ما ذكرنا في المسافة. ومنها: ارتفاعه عن الارض وانخفاضه، وهل يشترط بيانه أم لا يشترط ؟ ويحمل على الوسط فيه مثل الخلاف السابق. واعلم أن الهدف هو التراب الذي يجتمع، أو الحائط الذي يبنى لينصب فيه الغرض، والغرض قد يكون من خشب أو قرطاس أو جلد، أو شن وهو الجلد البالي، وقيل: كل ما نصب في الهدف، فهو قرطاس، سواء كان من كاغد أو غيره، وما تعلق في الهواء، فهو الغرض والرقعة، عظم ونحوه، يجعل في وسط الغرض وقد يجعل في الشن نقش كالقمر قبل استكماله يقال لها: الدارة، وفي وسطها نقش يقال له: الخاتم، وينبغي أن يبينا موضع الاصابة أهو الهدف، أم الغرض المنصوب فيه، أم الدارة في الشن، أم الخاتم في الدارة ؟ وقد يقال له: الحلقة والرقعة، وفي الصحة مع اشتراط إصابته الخلاف في الشروط النادرة، وقد يجعل العرب بدل الهدف ترسا ويعلق فيه الشن. ومنها: عدد الارشاق وهو جمع رشق بالكسر، وهي النوبة من الرمي تجري بين المتراميين، سهما سهما أو خمسة خمسة، أو ما يتفقان عليه، ويجوز أن يتفقا على أن يرمي أحدهما جميع العدد، ثم الآخر كذلك، والاطلاق محمول على سهم سهم،(7/546)
والمحاطة أن يشترط طرح ما يشتركان فيه من الاصابات، ويفضل لاحدهما إصابات معلومة، فإذا شرطا عشرين رشقا وفضل خمس إصابات، فرميا عشرين، وأصاب أحدهما عشرة والآخر خمسة، فالاول ناضل، وإن أصاب كل واحد خمسة أو غيرها ولم يفضل لاحدهما خمسة، فلا ناضل، والمبادرة أن يشترط الاستحقاق لمن بدر إلى إصابة خمسة من عشرين مثلا مع استوائهما في العدد المرمي به، فإذا رميا عشرين وأصاب أحدهما خمسة، والآخر أربعة فالاول ناضل، فلو رمى احدهما عشرين وأصاب خمسة ورمى الآخر تسعة عشر، وأصاب أربعة، فالاول ليس بناضل الآن، فيرمي الآخر سهمه، فإن أصاب، فقد استويا، وإلا فالاول ناضل، وقولنا: مع استوائهما في العدد المرمي به احتراز من هذه الصورة، فإن الاول بدر، لكن لم يستويا بعد، وهل يشترط التعرض في العقد للمحاطة والمبادرة ؟ وجهان، أحدهما: نعم، ويفسد العقد إن تركاه لتفاوت الاغراض، وأصحهما: لا، فإن أطلقا، حمل على المبادرة، لانها الغالب من المناضلة، وهل يشترط ذكر الارشاق وبيان عددها في العقد ؟ فيه طريقان، المذهب وبه قطع عامة الاصحاب: يشترط ذلك في المحاطة والمبادرة، ليكون للعمل ضبط، والارشاق في المناضلة كالميدان في المسابقة. والثاني: فيه ثلاثة أوجه ذكرها الامام، وجعلها الغزالي أقوالا، أحدها: هذا، والثاني: لا يشترط، لان الرامي لا يجري على نسق واحد، وقد لا يستوفي الارشاق لحصول الفوز في خلالها كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وليكن التعويل على الاصابات، والثالث: يشترط في المحاطة لينفصل الامر، ويبين نهاية العقد، ولا يشترط في المبادرة لتعلق الاستحقاق بالبدار إلى العدد المشروط. فرع تناضلا على رمية واحدة، وشرطا المال للمصيب فيها، صح على الاصح، وقيل: لا، فقد يتفق في المرة الواحدة إصابة الاخرى دون الحاذق، فلا يظهر الحذق إلا برميات، ولو رمى أحد المتناضلين أكثر من النوبة المستحقة له، إما باتفاقهما وإما بغيره، لم تحسب الزيادة له إن أصاب، ولا عليه إن أخطأ، ولو عقدا على عدد كثير على أن يرميا كل يوم بكرة كذا وعشية كذا، جاز، ولا يتفرقان كل يوم حتى يستوفيا المشروط فيه إلا لعذر، كمرض وريح عاصفة ونحوه، ثم يرميان على ما مضى في ذلك اليوم أو بعده، ويجوز أن يشرطا الرمي جميع النهار، وحينئذ يفيان(7/547)
به ولا يدعان إلا في وقت الطهارة والصلاة والاكل ونحوها، وتقع هذه الاحوال مستثناة، كما في الاجارة، ولو أطلقا ولم يبينا وظيفة كل يوم، فكذلك الحكم، ولا يتركان الرمي إلا بالتراضي أو لعارض، كمرض وريح ومطر ونحوها، والحر ليس بعذر، وكذا الريح الخفيفة، وإذا غربت الشمس قبل فراغ وظيفة اليوم، لم يرميا بالليل للعادة إلا أن يشرط له وحينئذ يحتاجان إلى مشمعة ونحوها، وقد يكفي ضوء القمر كذا قاله الاصحاب. ومنها: أنه يشترط رميهما مرتبا، لانهما لو رميا معا، اشتبه المصيب بالمخطئ، فإن ذكرا في العقد من يبدأ بالرمي، اتبع الشرط، وإن أطلقا، فقولان، أظهرهما: بطلان العقد، والثاني: صحته، وكيف يمضي ؟ وجهان، ويقال: قولان، أحدهما: ينزل على عادة الرماة وهي تفويض الامر إلى المسبق بكسر الباء وهو مخرج السبق، فإن أخرجه أحدهما، فهو أولى، وإن أخرجه غيرهما، قدم من شاء، وإن أخرجاه، أقرع، والثاني: يقرع بكل حال، وقال القفال: القولان في الاصل مبنيان على أنا نتبع القياس أم عادة الرماة ؟ ويجري مثل هذين القولين في صور من السبق والرمي، وهما متعلقان بالخلاف في أن سبيل هذا العقد سبيل الاجارة أم الجعالة، إن قلنا بالاول، اتبعنا القياس، وإن قلنا بالثاني، اتبعنا العادات، وقيل: في المسألة طريقان آخرا، أحدهما: القطع بالفساد، والثاني: بالقرعة، ثم إذا شرط تقديم واحد، أو اعتمدنا القرعة فخرجت لواحد، فهل يقدم في كل رشق، أم في الرشق الاول فقط ؟ حكى الامام فيه وجهين قال: ولو صرحوا بتقديم من قدموه في كل رشق، أو أخرجا القرعة للتقديم في كل رشق، اتبع الشرط وما أخرجته القرعة، ولك أن تقول: إذا ابتدأ المقدم في النوبة الاولى، فينبغي أن يبتدئ الثاني في الثانية بلا قرعة، ثم يبتدئ الاولى في الثالثة، ثم الثاني وهذا لامرين، أحدهما: أنهم نقلوا عن نصه في الام أنه لو شرط كون الابتداء لاحدهما أبدا، لم يجز، لان المناضلة مبنية على التساوي، والثاني: أنه يستحب كون الرمي بين غرضين متقابلين يرمي المتناضلان، أو الجريان من عند أحدهما إلى الآخر، ثم يأتيان الثاني، ويلتقطان السهام، ويرميان إلى الاول، ثم نص الشافعي والاصحاب رحمهم الله أنه إذا بدأ أحدهما بالشرط، أو بالقرعة، أو بإخراج المال، ثم انتهيا إلى الغرض الثاني، بدأ الثاني في النوبة الثانية، وإن كان الغرض واحدا(7/548)
وحينئذ فيتصل رميه في النوبة الثانية برميه في النوبة الاولى. فرع إذا قلنا: يقرع للابتداء، هل يدخل المحلل في القرعة إذا أخرجا المال ؟ وجهان، وإذا ثبت الابتداء لواحد، فرمى الآخر قبله، لم يحسب له إن أصاب، ولا عليه إن أخطأ، ويرمي ثانيا عند انتهاء النوبة إليه. الشرط الخامس: تعيين الرماة فلا يصح العقد إلا على راميين معينين، أو رماة معينين، وتجوز المناضلة بين حزبين فصاعدا، ويكون كل حزب في الخطإ والاصابة كالشخص الواحد، ومنع ابن أبي هريرة جواز الحزبين لئلا يأخذ بعضهم برمي بعض، والصحيح الجواز، وليكن لكل حزب زعيم يعين أصحابه، فإذا تراضيا، توكل عنهم في العقد، ولا يجوز أن يكون زعيم الحزبين واحدا، كما لا يجوز أن يتوكل واحد في طرفي البيع، ولا يجوز أن يعقدا قبل تعيين الاعوان، وطريق التعيين الاختيار بالتراضي، فيختار زعيم واحدا ثم الزعيم الآخر في مقابلته واحدا، ثم الاول واحدا، ثم الثاني واحدا وهكذا حتى يستوعبوا، ولا يجوز أن يختار واحد جميع الحزب أولا لانه لا يؤمن أن يستوعب الحذاق، ولا يجوز أن يعينا الاعوان بالقرعة لانها قد تجمع الحذاق في جانب، فيفوق مقصود المناضلة، ولهذا لو قال أحد الزعيمين: أنا أختار الحذاق، وأعطي السبق أو الخرق، وآخذ السبق، لا يجوز، ولان القرعة لا مدخل لها في العقود، ولهذا لا تجوز المناضلة على تعين من خرجت القرعة عليهم، وقال الامام: لا بأس به، لان القرعة بعد تعديل الحصص والاقساط معهودة، والذي قطع به صاحبا المهذب والتهذيب وغيرهما: المنع، ونص في الام أنهما لو تناضلا على أن يختار كل واحد ثلاثة ولم يسمهم، لم يجز، وأنه يشترط كل واحد من يرمي معه بأن يكون حاضرا أو غائبا يعرفه، واحتج القاضي أبو الطيب بظاهره أنه تكفي معرفة الزعيمين، ولا يعتبر أن يعرف الاصحاب بعضهم بعضا، وابتداء أحد الحزبين بالرمي كابتداء أحد الشخصين ولا يجوز أن يشرطا أنه يتقدم من هذا الحزب فلان ويقابله من الحزب الآخر فلان ثم فلان، لان تدبير كل حزب إلى زعيمهم، وليس للآخر مشاركته فيه. فروع ثلاثة أحدها: حضرهم غريب، فاختاره أحد الزعيمين، وظنه يجيد الرمي، فبان خلافه، نظر إن لم يحسن الرمي أصلا، بطل العقد فيه، وسقط(7/549)
من الحزب الآخر واحد بإزائه، وهل يبطل العقد في الباقي ؟ فيه قولا تفريق الصفقة، وقيل: يبطل قطعا، فإن قلنا: لا يبطل، فللحزبين خيار الفسخ للتبعيض، فإن أجازوا، وتنازعوا في تعيين من يجعل في مقابلته، فسخ العقد لتعذر إمضائه، وإن بان أنه ضعيف الرمي أو قليل الاضابة، فلا فسخ لاصحابه، ولو بان فوق ما ظنوه، فلا فسخ للحزب الآخر هكذا أطلقوه، وينبغي أن يكون فيه الخلاف السابق في أنه هل يشترط كون المتناضلين متدانيين وقد يستدل بإلاقهم على أن الاصح: أنه لا بأس بهذا التفاوت، وذكر الشيخ أبو محمد أن من فوائد المسألة أن المجهول الذي لم يختبر يجوز إدخاله في رجال المناضلة، قال: وكان لا يبعد منعه للجهالة العظيمة، لكن نص الشافعي رحمه الله على جوازه، فلو تناضل غريبان لا يعرف واحد منهما صاحبه، حكم بصحة العقد، فإن بان أنهما أو أحدهما لا يحسن الرمي، بطل العقد، وإن بان أن أحدهما أخرق لا يقاوم الآخر، ففي تبين بطلان العقد الوجهان السابقان فيما لو عاقد فاضل أخرق. الفرع الثاني: يشترط استواء الحزبين في عدد الارشاق والاصابات، وأما عدد الحزبين والاحزاب فوجهان، أحدهما وبه قطع الامام والغرض: لا يشترط بل يجوز أن يكون أحد الحزبين ثلاثة والثاني أربعة، والارشاق مائة على كل حزب، وأن يرامي رجل رجلين أو ثلاثة، فيرمي هو ثلاثة وكل واحد منهم واحدا، والثاني وبه قطع صاحبا المهذب والتهذيب وغيرهما: يشترط، لان به يحصل الحذق، فعلى هذا يشترط كون عدد الارشاق تنقسم صحيحا على الاحزاب، فإن كانوا ثلاثة أحزاب، فليكن للارشاق ثلث صحيح، وإن كانوا أربعة، فربع صحيح. الثالث: من التزم السبق من الزعيمين، لزمه، ولا يلزم أصحابه إلا أن يلتزموا معه، أو يأذنوا له أن يلتزم عنهم، وحينئذ يوزع على عدد الرؤوس، وإذا فضل أحد الحزبين فهل يوزع المال على عدد رؤوسهم أم على عدد الاصابات ؟ وجهان، الصحيح: الاول، ومنهم من قطع به، فإن قلنا بالاصابات، فمن لم يصب، لا شئ له، هذا إذا أطلقوا العقد، فإن شرطوا أن يقتسموا على الاصابة، فالشرط متبع وفيه احتمال للامام. الشرط السادس: تعيين الموقف، وتساوي المتناضلين فيه، فلو شرط كون(7/550)
موقف أحدهما أقرب، لم يجز، ولو قدم أحدهما أحد قدميه عند الرمي، فلا بأس، وإذا وقف الرماة صفا، فالواقف في الوسط أقرب إلى الغرض، لكن هذا التفاوت محتمل بالاتفاق، ولم يشترط أحد تناوب الرماة على الموقف للمشقة في الانتقال، وقد نص في الام أن عادة الرماة أن الرامي الثاني قد يتقدم على الاول بخطوة أو خطوتين أو ثلاث، قال الاصحاب: إن لم تطرد هذه العادة، بل كانوا يفعلونها تارة دون تارة لم تعتبر وإلا فوجهان، فإن اعتبرت ولم تختلف العادة في عدد الاقدام روعي ذلك، وإن اختلفت، اعتبر الاقل. فرع تنافسوا في الوقوف في وسط الصف، قال الامام والغزالي: هو كالتنافس في الابتداء، والذي قطع به الجمهور: أن الاختيار لمن له الابتداء، فمن استحق الابتداء بشرط أو غيره يختار المكان، فيقف في مقابلته، أو تيامنا، أو متياسرا كيف شاء، وليحمل ما ذكره الامام عليه، وإذا وقف، وقف الآخر بجنبه يمينا أو شمالا، فإن لم يرض إلا بأن يقف عند الرمي في موقف الاول، فهل له أن يزيله عن موقفه ؟ وجهان، ولو رميا بين غرضين، فانتهيا إلى الغرض الثاني، فالثاني كالاول يقف حيث شاء، فإن كانوا ثلاثة، قال أبو إسحق: يقرع بين الآخرين عند الغرض الثاني، فمن خرجت له القرعة، وقف حيث شاء، ثم إذا عادوا إلى الغرض الاول بدأ الثالث بلا قرعة، ويقف حيث شاء، وحكي قول آخر أنهما حيث تنازعا في الموقف يحملان على عادة الرماة إن كان لهم في ذلك عادة مستمرة. فرع لو رضوا بعد العقد بتقدم واحد، نظر إن تقدم بقدر يسير، جاز، وإن كان أكثر، فلا، ولو تأخر واحد برضى الآخرين، لم يجز على الاصح، ولو اتفقوا على تقدم الجميع أو تأخرهم، أو تعيين عدد الارشاق بالزيادة والنقص، بني على أن المسابقة والمناضلة جائزتان، أم لازمتان. فرع لو قال أحدهما: ينصب الغرض بحيث يستقبل الشمس، وقال الآخر: بل يستدبرها، أجيب الثاني، لانه أصلح للرمي.
الطرف الثاني : في أحكام المناضلة وفيه فصلان: أحدهما: فيما يتعلق به استحقاق المال وفيه مسائل:(7/551)
إحداها: إذا شرط في العقد الاصابة أو القرع لم يشترط التأثير بالخدش والخرق ولا يضر، فيحسب ما أصاب وارتد بلا تأثير، وما أثر بخسق وغيره، ولو كان الشن باليا، فأصاب موضع الخرق منه حسب، ذكره البغوي، وقد يجئ فيه وجه، لانه لم يصب الغرض. ثم يحتاج إلى معرفة ما يصاب وما يصيب به، أما الاول فإن ذكر إصابة الغرض، حسب ما أصاب الجلد والجريد وهو الدائر على الشن، والعروة وهي السير أو الخيط المشدود به الشن على الجريد، فكل ذلك الغرض وفيما يعلق به الغرض قولان، أظهرهما وأشهرهما: أنه ليس من الغرض، فإن ذكر إصابة الشن، لم تحسب إصابة الجريد والعروة، وإن ذكرا إصابة الخاصرة وهي يمين الغرض أو يساره، لم تحسب إصابة غيرهما، وأما ما يصيب من السهم فالاعتبار بالنصل فلا تحسب الاصابة بفوق السهم وعرضه، لانها تدل على سوء الرمي، وتحسب هذه الرمية عليه من العدد، وقيل: إذا أصاب بالفوق لا تحسب عليه وهو شاذ، وإن كان الاستحقاق معلقا بإصابة مقيدة كالخسق وغيره، فالحكم فيما يصاب ويصاب به كما ذكرنا لا يختلف، ولو اصطدم السهم بجدار أو شجرة ونحو ذلك، ثم أصاب الغرض، أو اصطدم بالارض، ثم ازدلف وأصاب الغرض، حسب له على الاصح عند العراقيين والاكثرين، وقيل: لا يحسب، وقال أبو إسحق: إن أعانته الصدمة وزادته حدة، لم يحسب، وإلا فيحسب، وإن ازدلف ولم يصب الغرض، حسب عليه على الاصح. المسألة الثانية: إذا شرط الخسق، فأصاب السهم الغرض وثقبه، وتعلق النصل به وثبت، فهو خسق، ولا يضر سقوطه بعد ما ثبت كما لو نزعه غيره، وإن خدشه، ولم يثقبه فليس بخاسق وإن ثقبه ولم يثبت فقولان، ويقال: وجهان، اظهرهما: ليس بخاسق لما سبق في تفسير الخسق، ولو ثقب ومرق فهو خاسق على المذهب والمنصوص، وقيل: قولان، ولو أصاب السهم طرف الغرض فخرمه، وثبت هناك، فهل يحسب خاسقا ؟ قولان، أظهرهما: نعم، وفي موضع القولين طرق، أصحها: أنهما فيما إذا كان بعض جرم النصل خارجا، فإن كان كله داخلا، فهو خاسق قطعا، والثاني: أنه إن كان بعضه خارجا، فليس بخاسق قطعا، وإنما القولان إذا بقيت طفية أو جليدة تحيط بالنصل، والطفية الواحدة من الخوص، والثالث: أنه إن أبان من الطرف قطعة لو لم يبنها، لكان الغرض محيطا بالنصل،(7/552)
فهو خاسق قطعا، والقولان فيما إذا خرم الطرف لا على هذا الوجه، والراجع: أنه إن خرم الطرف، فليس بخاسق قطعا، وإنما القولان إذا خرم شيئا من الوسط، وثبت مكانه، وهذا أضعفها، وقال القفال: إن كان بين النصل والطرف، لكنه تشقق، فالخرم ليبوسة الشن ونحوها، فهو خاسق، ولو فرض ما ذكرنا من إصابة الطرف، والمشروط القرع أو الاصابة دون الخسق فطريقان، أحدهما: طرد القولين، ولو وقع السهم في ثقبة قديمة وثبت، فهل يحسب خاسقا ؟ وجهان، أحدهما: لا، لان النصل صادف الثقب فلم يخسق، وأصحهما: نعم، لان السهم في قوته ما يخرق لو أصاب موضعا صحيحا، ومقتضى هذا أن لا يجعل خاسقا إذا لم تعرف قوة السهم، ويوضحه أن الشافعي رحمه الله قال: لو أصاب موضع خرق في الغرض، وثبت في الهدف كان خاسقا، فقال الاصحاب: أراد إذا كان الهدف في قوة الغرض أو أصلب منه، بأن كان من خشب أو آجر أو طين يابى، فإن لم يكن بل كان ترابا، أو طينا لينا، لم يحسب له ولا عليه، لانه لا يدري هل كان يثبت لو أصاب موضعا صحيحا أم لا ؟ وفي الحاوي وجه أنه لا يحسب خاسقا وإن كان الهدف في قوة الغرض، أما إذا خدش النصل موضع الاصابة، وخرق بحيث يثبت فيه مثل هذا السهم، لكنه رجع لغلظ لقيه من حصاة أو نواة، فيحسب خاسفا على الاظهر، وبه قطع البغوي، وفي قول: لا يحسب له ولا عليه، ولو اختلفا فقال الرامي: خسق، لكن لم يثبت لغلظ لقيه، وأنكر الآخر، فإن كان فيه خروق ولم يعلم موضع الاصابة، فالقول قول الآخر، لان الاصل عدم الخسق والخدش، وكذا الحكم لو عين الرامي موضعا وقال: هذا الخرق حصل بسهمي، وأنكر صاحبه، ثم إن فتش الغرض، فلم يوجد فيه حصاة ولا ما في معناها، لم يحلف، وإن وجد فيه مانع، حلف، وإذا حلف، لم يحسب للرامي، وهل يحسب عليه ؟ وجهان، أصحهما: لا، وإن علم موضع الاصابة ولم يكن هناك مانع، أو كان ولم يؤثر السهم فيه بخدش وخرق، صدق بلا يمين، وحسبت الرمية على الرامي، وإن قلنا: الخرق بلا ثبوت خسق، حسب خاسقا بلا يمين، وإلا فلا يحسب له، ولا يحسب عليه أيضا على الاصح، ولو مرق سهم، وثبت في الهدف وعلى النصل قطعة من الغرض، فقال الرامي: هذه القطعة أبانها سهمي لقوته وذهب بها، فقال الآخر: بل كانت القطعة مبانة قبله، فتعلقت بالسهم، فالقول قول الآخر، نص عليه في الام لان الاصل(7/553)
عدم الخسق، قال الشيخ أبو حامد: هذا إذا لم نجعل الثبوت في الهدف كالثبوت في الغرض، فإن جعلناه، فلا معنى لهذا الاختلاف. المسألة الثالثة: إذا تناضلا مبادرة، وشرطا المال لمن سبق إلى إصابة عشرة من مائة مثلا، فسبق أحدهما إلى الاصابة المشروطة قبل كمال عدد الارشاق، بأن رمى كل واحد منهما خمسين، وأصاب أحدهما منها عشرة والآخر دونها، فالاول ناضل وقد استحق المال، وهل يلزمه إتمام العمل ؟ فيه طريقان، المذهب وبه قطع الجمهور: لا يلزم، لانه تم العمل الذي تعلق به الاستحقاق، فلا يلزمه عمل آخر، والثاني: فيه وجهان حكاهما الامام والغزالي، ثانيهما: يلزمه لينتفع صاحبه بمشاهدة رميه ويتعلم منه، ولو تناضلا محاطة وشرطا المال لمن خلص له عشرة من مائة، فرمى كل واحد خمسين، وأصاب أحدهما في خمسة عشر، والآخر في خمسة، فقد خلص للاول عشرة هل يستحق بها المال، أم يتوقف الاستحقاق على استكمال الارشاق ؟ وجهان، أحدهما: يستحق بها كالمبادرة، والثاني وهو الصحيح: لا يستحق، لان الاستحقاق منوط بخلوص عشرة من مائة، وقد يصيب الآخر فيما بقي ما يمنع خلوص عشرة للاول بخلاف المبادرة، فإن الاصابة بعدها لا ترفع ابتدار الاول إلى ذلك العدد، فإن قلنا بهذا، وجب إتمام الارشاق، وإن قلنا بالاول وأنه لا حط بعد خلوص العدد المشروط، فهل للآخر أن يكلفه إتمام العمل ؟ فيه الطريقان في المبادرة، ويجري الخلاف في كل صورة يتوقع الآخر منع الاول من خلوص المشروط أو نصله، كما إذا شرطا خلوص خمسة من عشرين، فرمى كل واحد خمسة عشر، وأصاب أحدهما عشرة والآخر ثلاثة، لانهما إذا استكملا الارشاق، فقد يصيب الآخر في الخمسة الباقية، ولا يصيب الاول في شئ منها، فلا يخلص له عشرة، فلو كانت الصورة بحالها، وأصاب الاول في عشرة من خمسة عشر، ولم يصب الآخر في شئ منها، فلا يرجو الآخر منع الاول من الخلوص، فيثبت له استحقاق المال في الحال قطعا، قال البغوي وغيره: ولا يلزمه إتمام الارشاق، ولا يشك أنه يجئ فيه الخلاف المذكور في المبادرة، ولو رمى أحدهما والشرط المبادرة في المثال المذكور خمسين، وأصاب عشرة، ورمى الآخر تسعة وأربعين، وأصاب تسعة، فالاول ليس بناضل، بل يرمي الآخر سهما آخر فإن إأصاب، فقد تساويا وإلا فقد ثبت الاستحقاق للاول، ولو أصاب الاول من خمسين(7/554)
عشرة، والآخر من تسعة وأربعين ثمانية، فالاول ناضل لان الآخر وإن أصاب في رميته الباقية لا يساوي الاول، ويظهر بالصورتين أن الاستحقاق لا يحصل بمجرد المبادرة إلى العدد المذكور بل يشترط مع الابتدار مساواتهما في عدد الارشاق، أو عجز الثاني من المساواة في الاصابة، وإن ساواه في عدد الارشاق، ولو خلص لاحدهما في المحاطة عشرة من خمسين، ورمى الآخر تسعة واربعين ولم يصب في شئ منها فله أن يرمي سهما آخر فلعله يصيب فيه، فيمنع خلوص عشر إصابات للاول. فرع إذا قال رجل لرام: ارم خمسة عني، وخمسة عن نفسك، فإن أصبت في خمستك، أو كان الصواب فيها أكثر، فلك كذا، أو قال: ارم عشرة، واحدة عنك وواحدة عني، فإن كانت إصابتك فيما رميت عنك أكثر، فلك كذا، لم يجز، نص عليه في الام لان المناضلة عقد، فلا يكون إلا بين نفسين كالبيع وغيره، ولانه قد يجتهد في حق نفسه دون صاحبه ولو قال: ارم عشرة فإن كان صوابك منها أكثر، فلك كذا، فظاهر ما نقله المزني: أنه لا يجوز، وأشار في تعليله بأنه يناضل نفسه، فوافقه طائفة من الاصحاب، وخالفه الجمهور وقالوا: هو جائز، وحكوه عن نصه في الام، وعللوه بأنه بذل المال على عوض معلوم، وله فيه غرض ظاهر، وهو تحريضه على الرمي ومشاهدة رميه، قالوا: وليس هو بنضال، بل هو جعالة، ثم من هؤلاء من غلط المزني في الحكم والتعليل، ومنهم من تأوله على ما لو قال: ارم كذا، فإن كان صوابك أكثر، فقد نضلتني، فهذا لا يجوز، لان النضال إنما يكون بين اثنين، فإن قلنا بالجواز، فرمى ستة وأصابها كلها، فقد ثبت استحقاقه، وللشارط أن يكلفه استكمال العشرة على المذهب، لانه علق الاستحقاق بعشرة إصابتها أكثر، ولو قال لمتراميين: ارميا عشرة، فمن أصاب منكما خمسة، فله كذا، جاز، ولو قال رجل لآخر: نرمي عشرة، فإن أصبت في خمستك، فلك كذا، وإن أصبت أنا، فلا شئ لي عليك، جاز أيضا، وإن قال: وإن أصبت في خمستي، فلي عليك كذا، لم يجز إلا بمحلل، ولو قال: أرم سهما، فإن أصبت، فلك كذا، وإن أخطأت، فعليك كذا، فهو قمار. فرع لو كانوا يتناضلون، فمر بهم رجل، فقال لمن انتهت النوبة إليه وهو يريد الرمي: ارم، فإن أصبت بهذا السهم، فلك دينار، نص الشافعي رحمه الله أنه(7/555)
إذا أصاب، استحق الدينار، وتكون تلك الاصابة محسوبة من معاملته التي هو فيها، قال الاصحاب: قياسا على هذا، لو كان يناضل رجلا والمشروط عشر قرعات، فشرط أن يناضل بها ثانيا ثم ثالثا إلى غير ضبط، وإذا فاز بها، كان ناضلا لهم جميعا، جاز، قال الامام: هذا دليل على انقطاع هذه المعاملة عن مضاهاة الاجارة، لانها لو كانت مثلها لما استحق بعمل واحد مالين عن جهتين، وسبب استحقاق المال فيها الشرط لا رجوع العمل إلى الشارط. المسألة الرابعة: اختلفوا في تفسير الحابي، فقيل: هو السهم الذي يقع بين يدي الغرض، ثم يزحف إليه فيصيبه من قولهم: حبا الصبي، وهو كالمزدلف إلا أن الحابي أضعف حركة منه، وقيل: هو الذي يصيب الهدف حوالي الغرض، وقيل: هو القريب من الهدف، كأن صاحبه يحابي، ولا يريد إصابة الهدف، ويروى هذا التفسير عن الربيع، ولم يجعل كثير من الاصحاب الحوابي صفة السهام، لكن قالوا: الرمي ثلاثة: المبادرة والمحاطة والحوابي، وهو أن يرميا على أن يسقط الاقرب والاسد الابعد، إذا ثبت هذا، فلو شرطوا احتساب القريب من الغرض، نظر إن ذكروا حد القرب من ذراع أو أقل أو أكثر، جاز وصار الحد المضبوط كالغرض، وصار الشن في وسطه كالدارة، وإن لم يذكروا حد القرب، فإن كان هناك للرماة عادة مطردة، حمل العقد عليها، كما تحمل الدراهم المطلقة على النقد الغالب، وإن لم تكن عادة مطردة فوجهان، أصحهما: بطلان العقد للجهالة، والثاني: الصحة، فعلى هذا وجهان، أحدهما: يحمل على أن الاقرب يسقط الابعد كيف كان، والثاني: يحمل على إسقاط البعيد أو الاقرب للابعد، أما إذا قالا: يرمي عشرين إرشقا على أن يسقط الاقرب الابعد، فمن فضل له خمسة، فهو ناضل، فهو صحيح والشرط متبع، وعن الحاوي ما يشير إلى خلافه، والمذهب الاول، لانه ضرب من الرمي معتاد للرماة، وهو ضرب من المحاطة، وحينئذ فإن تساوت السهام في القرب والبعد، فلا ناضل ولا منضول، وكذا لو تساوى سهمان في القرب، أحدهما لهذا والآخر للآخر، وكان باقي السهام أبعد، ومهما كان بين سهم أحدهما وبين الغرض قدر شبر، وبين سهم الآخر والغرض دون شبر، أسقط الثاني الاول، فإن رمى الاول بعد ذلك، فوقع أقرب، أسقط ما رماه الثاني، ولو وقع سهم أحدهما قريبا من الغرض، ورمى الآخر خمسة، فوقعت أبعد من ذلك السهم، ثم عاد(7/556)
الاول، فرمى سهما، فوقع أبعد من الخمسة، سقط هذا السهم بالخمسة، وسقطت الخمسة بالاول، ولو رمى أحدهما خمسة، فوقعت قريبة من الغرض وبعضها أقرب من بعض، ثم رمى الثاني خمسة، فوقعت أبعد من خمسة الاول، سقطت خمسة الثاني بخمسة الاول، ولا يسقط من خمسة الاول شئ وإن تفاوتت في القرب، لان قريب كل واحد يسقط بعيد الآخر، ولا يسقط بعد نفسه، هذا هو الصحيح المنصوص وبه قطع الجمهور، وقيل: يسقط بعيد نفسه، كما يسقط بعيد غيره، ولو وقع سهم أحدهما بقرب الغرض، وأصاب سهم الآخر الغرض، فالمنقول أن الثاني يسقط الاول كما يسقط الاقرب الابعد، ولك أن تقول: وإن كان الشرط أن الاسد أو الاصوب يسقط غيره، وأن الاقرب يسقط الابعد على معنى الاقرب إلى الصواب، فهذا صحيح، وإن كان الشرط الاول أن الاقرب إلى الغرض يسقط الابعد عنه، فينبغي أن يتساويا، ولو أصاب أحدهما الرقعة في وسط الغرض، والآخر الغرض خارج الرقعة، أو أصابا خارج الرقعة وأحدهما أقرب إليها، فقد حكى الشافعي رحمه الله عن بعض الرماة أن الذي أصاب الرقعة، أو كان أقرب إليها يسقط الآخر، قال: والقياس عندي أنهما سواء، وإنما يسقط القريب البعيد إذا كانا خارجين عن الشن، وفي هذا تأكيد لما استدركناه، وعد صاحب الحاوي المذهبين وجهين، ونقل الشافعي رحمه الله عن بعض الرماة أنه قال: القريب الذي يسقط البعيد هو الساقط، وهو السهم الذي يقع بين يدي الغرض، والعاضد، وهو الذي يقع في اليمين أو اليسار دون الخارج، وهو الذي يتجاوزه ويقع فوقه، قال الشافعي: والقياس أنه لا فرق لوقوع اسم القريب من الغرض، فالاعتبار بموضع ثبوت السهم واستقراره لا بحالة المرور، حتى لو قرب مروره من الغرض، ووقع بعيدا منه، لم يحتسب به إلا إذا شرط اعتبار حالة المرور، ولو شرطا أن ما أصاب القرطاس أسقط ما وقع حواليه، فقد حكى الامام والغزالي في صحته قولين حكياهما عن نقل العراقيين، ووجه المنع بأنه تعسر إصابة الوسط، وقد يصيبه الاخرق اتفاقا، وهذا النقل لا يكاد يوجد في كتب الاصحاب، والمفهوم من كلامهم القطع باتباع الشرط. الخامسة: النكبات: هي التي تطرأ عند الرمي وتهوشه، وذلك يعم شرط القرع والخسق وغيرهما، والاصل أن السهم متى وقع مباعدا تباعدا مفرطا إما مقصرا(7/557)
عن الغرض، وإما مجاوزا له، نظر إن كان ذلك لسوء الرمي، حسب على الرامي، ولا يرد إليه السهم ليرمي به، وإن كان لنكبة عرضت، أو خلل في آلة الرمي بغير تقصير من الرامي، فذلك السهم غير محسوب عليه، ويوضح هذا الاصل بصور، إحداها: إذا عرض في مرور السهم إنسان أو بهيمة فمنع السهم، أو القوس إن كان لتقصيره وسوء رميه حسب عليه، وإن الرمية عليه، فيعيدها، لانه معذور، ولو انقطع الوتر، أو انكسر السهم، أو القوس إن كان تقصيره وسوء رميه حسب عليه، وإن كان لضعف الآلة وغيره لا لتقصيره وإساءته، لم تحسب، كما لو حدث في يده علة أو ريح، وقيل: إن وقع السهم عند هذه العوارض قريبا من الغرض، حسب عليه، حكاه الامام عن أبي إسحق، وقيل إن وقع السهم مجاوزا للغرض، حسب عليه، لان المجاوزة تدل على أن العارض لم يؤثر، وإنما هو لاساءته، والاول هو الصحيح المنصوص، لان الخلل يؤثر تارة في التقصير، وتارة في الاسراف، فإن قلنا: تحسب عليه، فلو أصاب حسب له، وإن قلنا بالمنصوص: إنه لا يحسب عليه، فأصاب، حسب له على الاصح، لان الاصابة مع النكبة تدل على جودة الرمي، ثم في كتاب ابن كج أن الانقطاع والانكسار إنما يؤثر حدوثهما قبل خروجه من القوس، وأما بعده، فلا أثر له، وصور البغوي انكسار السهم فيها إذا كان بعد خروجه من القوس، وجعله عذرا، ولو انكسر السهم نصفين بلا تقصير، وأصاب أحد نصفيه الغرض إصابة شديدة، فثلاثة أوجه، أحدها: لا تحسب، والثاني: تحسب الاصابة بالنصف الاعلى، وهو الذي فيه الفوق دون الذي فيه النصل، والثالث وهو الصحيح، وبه قطع العراقيون والاكثرون وهو المنصوص: تحسب الاصابة بالنصف الذي فيه النصل دون الاعلى، ولو أصاب بالنصفين، لم تحسب إصابتين، وكذا لو رمى سهمين دفعة واحدة، ذكره ابن كج، ولو حاد السهم عن سنن الهدف، وخرج عن السماطين، حسب عليه لسوء رميه، ولو رمى إلى غير الجهة التي فيها الهدف، فهذا اشتغال بغير النضال الذي تعاقدا عليه، فلا يحسب عليه. الثانية: كان في الغرض سهم، فأصاب سهمه فوق ذلك السهم، نظر إن كان ذلك السهم تعلق به، وبعضه خارج، لم يحسب له، لانه لا يدري هل كان يبلغ الغرض لولا هذا السهم، ولا يحسب عليه أيضا، لانه عرض دون الغرض عارض،(7/558)
فإن شقه، وأصاب الغرض، حسب، وقد يجئ فيه الخلاف السابق في البهيمة، فإن كان ذلك السهم قد غرق فيه، حسب إصابة، وإن كان الشرط الخسق، لم يحسب له ولا عليه، لانه لا يدري هل كان بخسق أم لا ؟ وينبغي أن ينظر إلى ثبوته فيه، وتقاس صلابة ذلك السهم بصلابة الغرض كما سبق نظيره، ولو أغرق الرامي، وبالغ في المد حتى دخل النصل مقبض القوس، ووقع السهم عنده، فالنص إلحاقه بانكسار القوس وانقطاع الوتر ونحوهما، لان سوء الرمي أن يصيب غير ما قصده، ولم يوجد هذا هنا، وعن صاحب الحاوي أنه يحسب عليه، وقال ابن القطان: إن بلغ مدى الغرض، حسب عليه وإلا فلا. الثالثة: الريح اللينة لا تؤثر حتى لو رمى زائلا عن المسامتة، فردته الريح اللينة، أو رميا ضعيفا، فقوته، فأصاب، حسب له وإن صرفته عن السمت بعض الصرف، فأخطأ، حسب عليه، لان الجو لا يخلو عن الريح اللينة غالبا، ويضعف تأثيرها في السهم مع سرعة مروره، وقيل: يمنع الاحتساب له وعليه، وقيل: يمنع الاحتساب عليه، والصحيح الاول، ولو كانت الريح عاصفة، واقترنت بابتداء الرمي، فوجهان، أحدهما وهو ظاهر النص، وبه أجاب الامام والغزالي: لا يؤثر لان ابتداء الرمي والريح عاصفة تقصير، ولان للرماة حذقا في الرمي وقت هبوب الريح ليصيبوا، فإذا أخطأ، فقد ترك ذلك، وظهر سوء رميه، وأصحهما وهو قول ابن سلمة، وبه قطع العراقيون وغيرهم: لا يحسب له إن أصاب لقوة تأثيرها، ولهذا يجوز لكل واحد ترك الرمي إلى أن تركد بخلاف اللينة، ولو هجم هبوب العاصفة بعد خروج السهم من القوس، فمقتضى الترتيب أن يقال: إن قلنا: اقترانها مؤثر، فهبوبها أولى، وإلا فوجهان، أحدهما: أنها كالنكبات العارضة، والثاني: المنع، لان الجو لا يخلو عن الريح، ولو فتح هذا الباب، لتعلق به المخطئون، وطال النزاع، والمذهب: أنه إن أخطأ في الهجوم لا يحسب عليه، وإن أصاب، فهل يحسب له ؟ فيه الخلاف في السهم المزدلف، وقال الشيخ أبو إسحق: عندي أنه لا يحسب له قطعا، لانا لا نعلم أنه أصاب برميه، ولو هبت ريح نقلت الغرض إلى موضع آخر، فأصاب السهم الموضع المنتقل عنه، حسب له، إن كان الشرط الاصابة على الصحيح، وإن كان الخسق، نسبت صلابة الموضع بصلابة الغرض، ولو أصاب الغرض في الموضع المنتقل إليه، حسب عليه، لا له، ولو أزالت الريح(7/559)
الغرض حتى استقل السهم، فأصابه السهم، قال ابن كج: لا يحسب له. الفصل الثاني: في حكم المناضلة جوازا ولزوما وفي كونها لازمة أو جائزة قولان كما سبق في المسابقة، فإن قلنا: تلزم، انفسخت بموت أحدهما، كالاجير المعين، ولو مرض أحدهما، أو أصابه رمد ونحوه، لم ينفسخ العقد، بل يؤخر الرمي، وفي المسابقة يحصل الانفساخ بموت الفرس، لان التعويل عليه، ولا يحصل بموت الفارس، بل يقوم الوارث مقامه، وقيل: فيه احتمال، لان للفارس أثرا ظاهرا، وإلزام الوارث على المسابقة كالمستبعد، ولا يجوز لها إلحاق زيادة في عدد الارشاق ولا عدد الاصابات، وطريقهما إن أرادا ذلك أن يفسخا العقد، ويستأنفا عقدا، وليس للمناضل أن يترك النضال ويجلس، بل يلزم به كمن استؤجر لخياطة ونحوها، ويحبس على ذلك ويعزر، هذا إذا كان مفضولا أو كان له الفضل، ولكن توقع صاحبه أن يدركه، فيساويه أو يفضله، أما إذا لم يتوقع الادراك بأن شرطا إصابة خمسة من عشرين، فأصاب أحدهما خمسة، والآخر واحدا ولم يبق لكل واحد إلا رميتان، فلصاحب الخمسة أن يجلس: ويترك الباقي، هذا تفريع قول اللزوم، أما إذا قلنا بالجواز فتتفرع عليه مسألتان، إحداهما: تجوز الزيادة في عدد الارشاق والاصابات، وفي المال بالتراضي، وفي الجميع وجه ليس بشئ، وهل يستبد أحدهما بالزيادة ؟ ثلاثة أوجه، أصحها: نعم، لجواز العقد، فإن لم يرض صاحبه فليفسخ، والثاني: لا، إذ لا بد في العقد من القبول، والثالث: يجوز الالحاق للفاضل والمساوي دون المفضول لئلا يتخذ المفضول ذلك ذريعة إلى إبطال النضال، ومتى يصير مفضولا ؟ وجهان، أحدهما: متى زاد صاحبه بإصابة واحدة، وأصحهما: لا تكفي إصابة وإصابتان، بل لا يصير مفضولا إلا إذا قرب صاحبه من الفوز. واعلم أن الوجه المذكور في أنه لا يجوز إلحاق الزيادة والنقص بالتراضي، والوجه الآخر في أنه ليس لاحدهما الاستبداد يطردان في المسابقة وإن لم يذكرهما هناك، وفي الجعالة إذا زاد الجاعل في العمل كان متهما كالمفضول، ففي زيادته الخلاف، فإن لم تلحق الزيادة بها، فذاك، وإن ألحقناها وقد عمل العامل بعض العمل ولم يرض بالزيادة، فسخ العقد، قال الامام: والوجه أن تثبت له أجرة(7/560)
المثل، لان الترك بسبب الزيادة بخلاف ما إذا ترك في أثناء العمل بلا عذر، فإنه لا يستحق شيئا. المسألة الثانية: يجوز لكل منهما على هذا القول تأخير الرمي والاعراض عنه من غير فسخ، وكذا الفسخ إذا لم يكن المعرض مفضولا متهما، فإن كان، فهل له أن يجلس ويترك النضال ؟ وجهان كما ذكرنا في المسابقة، قال الامام: وفي جواز فسخه الخلاف المذكور في الزيادة، ويفضي الامر إذا فرقنا بين المفضول وغيره إلى أن الحكم بأن العقد جائز مطلقا مقصور على ما إذا لم يصر أحدهما مفضولا، فإن صار، لزم في حقه، وبقي الجواز في حق الآخر، وهذا الخلاف في نفوذ فسخ المفضول طرد في فسخ الجاعل الجعالة بعدما عمل العامل بعض العمل، وكانت حصة عمله من المسمى تزيد على أجرة المثل، ولو شرطا في العقد أن لكل واحد أن يجلس ويترك الرمي إن شاء، فسد العقد إن قلنا بلزومه، وكذا إن قلنا بجوازه وقلنا: ليس للمفضول الترك، وإن قلنا: له ذلك لم يضر شرطه، لانه مقتضى العقد. ولو شرطا أن المسبق إن جلس كان عليه السبق، فهو فاسد على القولين، لان السبق إنما يشرع في العمل، ولو تناضلا، ففضل أحدهما الآخر بإصابات، فقال المفضول: حط فضلك، ولك علي كذا، لم يجز على القولين، سواء جوزنا إلحاق الزيادة أم لا، لان حط الفضل لا يقابل بمال.
فصل في مسائل منثورة تتعلق بالمناضلة والمسابقة لو كان أحد الراميين إذا أصاب، أطال الكلام بالتبجح والافتخار وأضجر صاحبه، أو عنفه إذا أخطأ، منع منه، ولو كلم أحدهما رجل، قيل له: أجب جوابا وسطا، ولا تطول، ولا تحبس القوم، ولو تعلل بعدما رمى صاحبه بمسح القوس والوتر، وأخذ النبل بعد النبل والنظر فيه، قيل له: ارم، لا مستعجلا ولا متباطئا، ولو شرطا أن تحسب لاحدهما الاصابة الواحدة الاصابتين، أو يحط من إصاباته شئ، أو أنه إن أخطأ رد عليه سهم أو سهمان ليعيد رميهما، أو أن يكون في يد أحدهما من النبل أكثر مما في يد الآخر، لم يجز، لان هذه المعاملة مبينة على التساوي، ولا يجوز أن يشرط خاسق أحدهما خاسقين، ولو كان الشرط الحوابي، فشرطا أن يحسب الخاسق حابيين، جاز، نص عليه في الام لان الخاسق يختص بالاصابة والثبوت فجاز أن تجعل تلك الزيادة مقام حاب، وقيل: فيهما جميعا قولان، ولو تناضلا، فرميا(7/561)
بعض الارشاق ثم ملا، فقال أحدهما للآخر: ارم، فإن أصبت فقد نضلتني، أو قال: أرمي أنا فإن أصبت هذه الواحدة فقد نضلتك، لم يجز لان الناضل من ساوى صاحبه في عدد الارشاق وفضله في الاصابة، ولو تناضلا، أو تسابقا، وأخرج السبق أحدهما، فقال أجنبي: شاركني فيه، فإن غنمت أخذت معك ما أخرجته، وإن غرمت، غرمت معك، لم يجز، وكذا لو أخرجاه، وبينهما محلل، فقال أجنبي ذلك لاحدهما. ولو عقد المناضلة في الصحة، ودفع المال في مرض الموت، فهو من رأس المال إن جعلناها إجارة، وإن قلنا: جعالة، فوجهان، ولو ابتدأ العقد في المرض، فيحتمل أن يحسب من الثلث، ويحتمل أن يبنى على القولين ذكره في البحر. قلت: الاصح أو الصواب القطع بأنه من رأس المال في الصورتين، سواء قلنا إجارة أو جعالة، لانه ليس بتبرع ولا محاباة فيه، فإذا كان ما يصرفه في ملاذ شهواته من طعام وشراب ونكاح وغيره مما لا ضرورة له إليه، ولا ندبه الشرع إليه محسوبا من رأس المال، فالمسابقة التي ندب الشرع إليها، ويحتاج إلى تعلمها أولى، لكن هذا فيما إذا سابق بعوض المثل في العادة، فإن زاد، فالزيادة تبرع من الثلث. والله أعلم. وفي البحر أن الولي ليس له صرف مال الصبي في المسابقة والمناضلة ليتعلم، وأن السبق الذي يلتزمه المتناضلان يجوز أن يكون عندهما، ويجوز وضعه عند عدل يثقان به وهو أحوط وأبعد عن النزاع، وأنهما لو تنازعا فقال أحدهما: يترك السبق عندنا، وقال الآخر: بل عند عدل، فإن كان دينا، أجيب الاول، وإن كان عينا، فالثاني، وأنه لو قال أحدهما: نضعه عند زيد، وقال الآخر: عند عمرو، اختار الحاكم أمينا، وهل يتعين أحد الامينين المتنازع فيهما أم له أن يختار غيرهما ؟ وجهان وأنه لا أجرة للامين إلا إذا اطرد العرف بأجرة له فوجهان، وفيه: أن المحلل ينبغي أن يجري فرسه بين فرسي المتسابقين، فإن لم يتوسطهما، وأجرى بجنب أحدهما، جاز إن تراضيا به، وأنه لو رضي أحدهما بعدوله عن الوسط، ولم يرض الآخر، لزمه التوسط، وأنهما لو رضيا بترك توسطه وقال أحدهما: يكون عن اليمين، وقال الآخر: عن اليسار، لزم التوسط، وأنه لو تنازع المتسابقان في اليمين واليسار، أقرع، قال الشافعي رحمه الله في المختصر: لا بأس أن يصلي متنكبا(7/562)
للقوس والقرن إلا أن يتحركا عليه حركة تشغله، فأكرهه ويجزئه، والتنكب: التقلد، والقرن بفتح القاف والراء: هو الجعبة المشقوقة، ولا بد من طهارة ذلك، ولا يجلب على الفرس في السباق، وهو أن يصيح به القوم ليزيد عدوه، ولكن يركضان بتحريك اللجام والاستحثاث بالسوط، وإذا وقف المتناضلان في الموقف، فهل يحتاج من يرمي إلى استئذان صاحبه ؟ قال ابن كج عادة الرماة الاستئذان، حتى إن من رمى بلا استئذان لا يحسب ما رماه، أصاب أم أخطأ، ويجب اتباع عرفهم فيه، وقال ابن القطان: يحسب، ولا حاجة إلى الاستئذان. وبالله التوفيق.
تم الجزء السابع ويليه الجزء الثامن والاخير وأوله: (كتاب الأيمان)(7/563)
روضة الطالبين
محيى الدين النووي ج 8(8/)
روضة الطالبين للامام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي المتوفى سنة 676 ومعه المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي منتقى الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع للحافظ جلال الدين السيوطي تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ على محمد معوض الجزء الثامن دار الكتب العلمية بيروت - لبنان(8/1)
جميع الحقوق محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان يطلب من: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان صرب: 9424 / 11 تلكس: 41245 هائف: 366135 - 810073(8/2)
كتاب الأيمان
فيه ثلاثة أبواب :
الأول : في نفس اليمين وللأئمة عبارات في حقيقة اليمين، أجودها وأصوبها عن الانتقاض والاعتراض عبارة البغوي، قال: اليمين تحقيق الامر أو توكيده بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته. ويتعلق بالضبط مسائل إحداها: تنعقد اليمين على المستقبل والماضي، فإن حلف على ماض كاذبا وهو عالم، فهو اليمين الغموس، سميت غموسا، لانها تغمس صاحبها في الاثم أو في النار، وهي من الكبائر، وتتعلق بها الكفارة. فإن كان جاهلا، ففي وجوب الكفارة القولان: فيمن فعل المحلوف عليه ناسيا. الثانية: من سبق لسانه إلى لفظ اليمين بلا قصد، كقوله في حالة غضب أو لجاج أو عجلة أو صلة كلام: لا والله، وبلى والله، لا تنعقد يمينه، ولا يتعلق به(8/3)
كفارة. ولو كان يحلف على شئ، فسبق لسانه إلى غيره.، فكذلك. وهذا كله يسمى: لغو اليمين. وإذا حلف وقال: لم أقصد اليمين صدق، وفي الطلاق والعتاق والايلاء لا يصدق في الظاهر، لتعلق حق الغير به. قال الامام في الفرق: جرت العادة بإجراء ألفاظ اليمين بلا قصد بخلاف الطلاق والعتاق، فدعواه فيها تخالف الظاهر، فلا يقبل. قال: فلو اقترن باليمين ما يدل على القصد، لم يقبل قوله على خلاف الظاهر. الثالثة: إذا قال غيره: اسألك بالله، أو أقسم عليك بالله، أو أقسمت عليك بالله: لتفعلن كذا، فان قصد به الشفاعة، أو قصد عقد اليمين للمخاطب، فليس بيمين في حق واحد منهما وإن قصد عقد اليمين لنفسه، كان يمينا على الصحيح، كأنه قال: أسألك ثم حلف. وقال ابن أبي هريرة: ليس بيمين وهو ضعيف. ويستحب للمخاطب إبراره، فإن لم يفعل وحنث الحالف، لزمه الكفارة، وإن أطلق ولم يقصد شيئا يحمل على الشفاعة قلت: يسن إبرار المقسم، كما ذكر للحديث الصحيح فيه، وهذا إذا لم يكن في الابرار مفسدة، بأن تضمن ارتكاب محرم، أو مكروه. ويكره السؤال بوجه(8/4)
الله، ورد من سأل به، للحديث المعروف فيهما. والله أعلم. الرابع: يجوز تعقيب اليمين بالاستثناء وهو قوله: إن شاء الله تعالى، فإن عقب، لم يحنث بالفعل المحلوف عليه ولا كفارة، وهل نقول: انعقدت اليمين ؟ وجهان أحدهما: نعم، لكن المشيئة مجهولة فلا يحنث نقله الروياني، والثاني: لا، نقله البغوي. ويشترط أن يتلفظ بالاستثناء، وأن يقصد لفظه، ويصله باليمين، فلا يسكت بينهما إلا سكتة لطيفة لتذكر أو عي أو تنفس كما ذكرنا في الطلاق، وأن يقصد الاستثناء من أول اليمين، فلو قصده، في خلال اليمين، فوجهان سبقا في الطلاق، وممن صححه الداركى والقاضيان أبو الطيب والروياني، وممن منعه ابن القطان وابن المرزبان وابن كج. ولو قال: إن شاء الله، والله: لافعلن كذا، أو: لا أفعل كذا، صح الاستثناء، وكذا لو قدم الاستثناء، في الطلاق والعتاق، وكذا لو قال: لفلان علي إلا عشرة دراهم مائة درهم وفي هذه الصورة وجه ضعيف، وقال القاضي أبو الطيب: لو قال: إن شاء الله أنت طالق وعبدي حر، أو قال: 0 إن شاء الله أنت طالق عبدي حر، لم تطلق ولم يعتق، لان حرف العطف قد يحذف مع إرادة العطف. ومن هذا القبيل قولنا: التحيات المباركات الصلوات، وليكن هذا فيما إذا نوى صرف الاستثناء إليها جميعا، فإن أطلق فيشبه أن يجئ خلاف في أنه يختص بالجملة الاولى أم يعمهما ؟ ولو قال: أنت طالق وعبدي حر إن شاء الله فيجئ الخلاف في أنه يختص بالجملة الثانية أم يعمهما ؟(8/5)
. قلت: الصحيح التعميم في الصورتين. والله أعلم. ولو قال: عبدي حر إن شاء الله، أو امرأتي طالق، ونوى صرف الاستثناء إليهما، صح ذكره ابن كج. وكما يجوز أن يقدم الاستثناء ويؤخره، يجوز أن يوسطه. ولو قال: والله لافعلن كذا إن لم يشأ الله أو إلا أن يشاء الله، ففيه خلاف كما سبق في نظيره في الطلاق، والاصح عند ابن كج في قوله: إلا أن يشاء الله أنه لا يحنث. وقال إبرهيم المروزي إن قال: والله لافعلن إلا أن يشاء الله ولم يفعل، حنث، وإن قال: والله لافعلن كذا إلا أن يشاء الله، فلم يفعل، لم يحنث، وإن فعل حنث. فرع قال: والله لادخلن هذه الدار اليوم إلا أن يشاء زيد، وقصد إلا أن يشاء أن لا أدخلها، فقد عقد اليمين على الدخول، فإن دخلها في ذلك اليوم أو لم(8/6)
يدخل وشاء زيد أن لا يدخل، لم يحنث، وإن شاء أن يدخل فلم يدخل، حنث، وكذا لو لم يعرف مشيئة بأن جن، أو أغمي عليه حتى مضى اليوم، حنث هكذا نقله المزني عن النص، ولو قال: والله لا أدخل إلا أن يشاء زيد الدخول، فإن لم يدخل، لم يحنث، وإن دخل وقد شاء زيد دخوله قبل ذلك، لم يحنث أيضا، وإن كان شاء أن لا يدخل، حنث، ولا تغني مشيئة الدخول بعد ذلك، وإن لم يعرف مشيئته، فرواية الربيع عن الشافعي أنه لا يحنث، والروايتان مختلفتان والصورتان متشابهتان، وللاصحاب فيهما طريقان، أحدهما: القطع بالحنث، وحمل رواية الربيع على ما إذا لم يحصل اليأس من مشيئة، أو أنه رجع عنه ولم يعلم الربيع رجوعه. والثاني فيهما قولان: أظهرهما: يحنث، لان المانع من حنثه المشيئة وقد جعلناها، والثاني: لا، للشك. ولو قال: والله لادخلن إن شاء فلان، إن دخل، فاليمين معلقة بالمشيئة، فلا ينعقد قبلها ولا حكم للدخول قبلها، فإن شاء انعقدت، فان دخل بعده، بر، وإلا حنث. وينظر هل قيد الدخول بزمان أو أطلق ؟ وعند الاطلاق عمره وقت الدخول، فان مات قبله، حكمنا بالحنث قبل الموت، وإن شاء فلان أن لا يدخل أو لم يشأ شيئا، أو لم تعرف مشيئته، فلا حنث لان اليمين لم تنعقد، وكذا لو قال: والله لا أدخل إن شاء فلان أن لا أدخل، فلا تنعقد يمينه حتى يشاء فلان أن لا يدخل. الخامسة: الحلف بالمخلوق مكروه كالنبي والكعبة وجبريل والصحابة والآل. قال الشافعي رحمه الله: أخشى أن يكون الحلف بغير الله تعالى معصية. قال الاصحاب: أي حراما وإثما، فأشار إلى تردد فيه، قال الامام: والمذهب القطع بأنه ليس بحرام، بل مكروه. ثم من حلف بمخلوق لم تنعقد يمينه ولا كفارة في حنثه. قال الاصحاب: فلو اعتقد الحالف في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى كفر، وعلى هذا يحمل ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من حلف بغير الله تعالى فقد كفر، ولو سبق لسانه إليه بلا قصد لم يوصف بكراهة، بل هو لغو يمين وعلى هذا يحمل ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -(8/7)
قال: أفلح وأبيه إن صدق. السادسة: إذا قال إن فعلت كذا، فأنا يهودي، أو نصراني، أو برئ من الله تعالى، أو من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو من الاسلام، أو من الكعبة، أو مستحل الخمر أو الميتة، لم يكن يمينا ولا كفارة في الحنث به، ثم إن قصد بذلك تبعيد نفسه عنه لم يكفر، وإن قصد به الرضا بذلك وما في معناه إذا فعله، فهو كافر في الحال. قلت: قال الاصحاب: وإذا لم يكفر في الصورة الاولى، فليقل: لا إله إلا الله محمد رسول الله ويستغفر الله، ويستدل بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل لا إله إلا الله. ويستحب أيضا لكل من تكلم بقبح أن يستغفر الله. وتجب التوبة من كل كلام قبيح محرم، وستأتي صفة التوبة إن شاء الله تعالى في كتاب الشهادات. وقد ذكرت في آخر كتاب الاذكار جملا كثيرة من حكم الالفاظ القبيحة، واختلاف أحوالها وطرق الخروج منها. والله أعلم.(8/8)
السابعة: قال أهل اللسان: حروف القسم ثلاثة الباء والواو والتاء المثناة فوق، قالوا: والاصل الباء وهي من صلة الحلف، كأن القائل يقول: حلفت بالله، أو أقسمت بالله، أو آليت بالله، ثم لما كثر الاستعمال وفهم المقصود، حذف الفعل، ويلي الباء الواو، لان الباء تدخل على المضمر تقول: بك وبه لافعلن، كما تدخل في المظهر، والواو تختص بالمظهر فتأخرت، والتاء بعد الواو، لانها لا تدخل إلا على الله، فإذا قال بالله - بالباء الموحدة - لافعلن، فإن نوى اليمين، أو أطلق، فهي يمين لاشتهار الصبغة بالحلف لغة وشرعا. وحكى ابن كج خلافا فيما إذا أطلق، والمذهب أنه يمين، وبه قطع الاصحاب، وإن نوى غير ذلك اليمين بأن قال: أردت بالله وثقت، أو اعتصمت بالله أو أستعين أو أؤمن بالله ثم ابتدأت لافعلن، فالمذهب وبه قطع العراقيون والبغوي والروياني وغيرهم: أنه ليس بيمين، واستبعد الامام هذا وجعله زللا أو خللا من ناسخ. ونقل أنه لو نوى غير اليمين وادعى التورية لم يقيل فيما تعلق بحق ادمي، وهل يدين باطنا ؟ قبل: وجهان، وقال القاضي حسين: لا يدين قطعا، لان الكفارة تتعلق باللفظ المحرم الذي أظهر ما يخالفه، وأما قوله: والله، فالمذهب أنه كقوله: بالله على ما ذكرنا، وأشار بعضهم إلى القطع بأنه يمين بكل حال، ووجه المذهب أنه قد يريد به القائل والله المستعان ثم يبتدئ لافعلن، وليس في ذلك إلا لحن في الاعراب وسيأتي نظائره إن شاء الله تعالى. وأما إذا قال: تالله لافعلن بالمثناة فوق، فالمنصوص هنا وفي الايلاء أنه يمين، وعن نصه في القسامة أنه ليس(8/9)
بيمين، وللاصحاب فيه طرق، أحدها: العمل بظاهر النص. والثاني: فيهما قولان، والثالث وهو المذهب وبه قال ابن سلمة وأبو إسحق وابن الوكيل: القطع بأنه يمين. قالوا: ورواية النص في القسامة مصحفة إنما هي بالياء المثناة تحت، لان الشافعي رحمه الله علل، فقال: لانه دعاء وهذا إنما يليق بالمثناة تحت. ثم قيل أراد إذا قال يا الله على النداء أو قيل أراد يا لله بفتح اللام على الاستغاثة، وهذا أشبه وأقرب إلى التصحيف، وقيل: ليست مصحفه، بل هي محمولة على ما إذا قال له القاضي: قل: بالله، فقال: تالله، فلا يحسب ذلك، لان اليمين يكون على وفق التحليف، وكذا لو قال: قل: بالله فقال: بالرحمن، لا تحسب يمينه. وعكسه لو قال: قل: الطرف الثاني: في كيفية كفارة اليمين، وهي مختصة باشتمالها على تخيير في الابتداء، وترتيب في الانتهاء، فيتخير الحالف بين أن يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم، أو يعتق رقبة، فإن اختار الاطعام، أطعم كل واحد مدا، والقول في جنس الطعام، وكيفية إخراجه، ومن يصرف إليه، وامتناع إخراج القيمة، وصرف الامداد العشرة إلى بعض، وسائر المسائل على ما سبق في الكفارات، وإن اختار الكسوة، كساهم على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وإن اختار الاعتاق، فلتكن الرقبة بالصفات المذكورة في الكفارات. ولو أطعم بعض العشرة، وكسا بعضهم، لم يجزئه، كما لا يجوز أن يعتق نصف رقبة، ويطعم أو يكسو خمسة، ولو أطعم عشرة، وكسا عشرة، وأعتق رقبة، أو أطعم ثلاثين مسكينا، أو كساهم عن ثلاث كفارات ولم يعين، أجزأه عنهن، فإن عجز عن الخصال الثلاث صام ثلاثة أيام، والقول فيما يحصل به العجز ذكرناه في الكفارات، ومن له أن يأخذ سهم الفقراء أو قال: قل: تالله بالمثناة فوق، فقال: بالله الموحدة، قال القفال: يكون يمينا، لانه أبلغ وأكثر استعمالا، ولو قال: قل: بالله، فقال: والله، قال الامام: فيه تردد، لان الباء والواو لا تكادان تتفاوتان، ولا يمتنع المنع للمخالفة. وهذا المعنى يجئ في مسألة القفال، وهذ الخلاف إذا قال: تالله ولم يقصد اليمين ولا غيرها، فإن نوى غير اليمين، فليس بيمين بلا خلاف، صرح به العراقيون والروياني وغيرهم. قلت: قال الدارمي: لو قال يا الله بالمثناة تحت، أو فالله بالفاء، أو أآلله بالاستفهام ونوى اليمين، فيمين، وإلا فلا. والله أعلم. فرع: لو قال: والله لافعلن برفع الهاء أو نصبها، كان يمينا، واللحن لايمنع الانعقاد، وقال القفال: في الرفع لا يكون يمينا إلا بالنية. فرع: لو حذف حرف القسم، فقال: الله لافعلن كذا بجر الهاء أو نصبها أو رفعها ونوى اليمين، فهو يمين، وإن لم ينو، فليس بيمين في الرفع على المذهب، ولا في الناصب على الصحيح، ولا في الجر على الاصح، لان الرفع يحتمل الابتداء فيبعد الحنث، ويقرب في الجر الاستعارة بالصلة الجارة ويليه النصب بنزع الجار. فرع: لو قال: بله فشداللام كما كانت وحذف الالف بعدها، فهو غير ذاكر لاسم الله تعالى ولا حالف، لان البلة هي الرطوبة، فلو نوى بذلك اليمين، فقال الشيخ أبو محمد والامام الغزالي: وهو يمين ويحمل حذف الالف على اللحن، لان(8/10)
الكلمة تجري كذلك على ألسنة العوام أو الخواص. قلت: ينبغي أن لا يكون يمينا، لان اليمين لا يكون إلا باسم الله تعالى أو صفته، ولا يسلم أن هذا لحن، لان اللحن مخالفة صواب الاعراب، بل هذه كلمة أخرى (1) والله أعلم. الثامنة: في ضبط ما يحلف به، وفيه طريقان، إحداهما وهي أقصرهما: أن اليمين ينعقد إذا حلف بما مفهومه ذات الباري سبحانه وتعالى، أو صفة من صفاته، والثانية وهي أقرب إلى سياق " المختصر " (2): أنها لا تنعقد إلا حلف بالله، أو باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته، وأراد بالقسم الاول أن يذكر ما يفهم منه ذات الله تعالى ولا يحتمل غيره من غير أن يأتي باسم مفرد، أو مضاف من أسمائه الحسنى، وذلك كقوله: والذي أعبده، أو أسحد له، أو أصلي له، والذي فلق الحبة، أو نفسي بيده، أو مقلب القلوب فتنعقد يمينه، سواء أطلق أو نوى الله سبحانه وتعالى أو غيره، وإذا قال قصدت غيره، لم يقبل ظاهرا قطعا، وكذا لا يقبل أيضا فيما بينه وبين الله على الصحيح المعروف في المذهب (3)، وحكي فيه وجه ضعيف. وأما القسم الثاني وهو الحلف بالأسماء، فالاسماء ثلاثة أنواع :
أحدها : ما يختص بالله تعالى ولا يطلق في حق غيره، كالله والاله، والرحمن ورب العالمين، ومالك يوم الدين، وخالق الخلق، والحي الذي لا يموت، والاول الذي ليس قبله شئ، والواحد الذي ليس كمثله شئ، فحكم الحلف به حكم(8/11)
القسم الاول، وفي كتاب ابن كج: أنه ليس في الاسماء صريح في الحلف إلا بالله، وهذا غريب ضعيف.
النوع الثاني : ما يطلق في حق الله وفي حق غير الله تعالى، لكن الغالب استعماله في حق الله تعالى وأنه يقيد في حق غيره بضرب تقييد، كالجبار والحق والرب والمتكبر والقادر والقاهر، فإن حلف باسم منها ونوى الله تعالى أو أطلق فيمين، وإن نوى غير الله (تعالى) (1) فليس بيمين والخالق والرازق والرحيم من هذا النوع على الصحيح، وبه قطع الجمهور، وقيل من الاول. النوع الثالث : ما يطلق في حق الله تعالى وفي حق غيره ولا يغلب استعماله في أحد الطرفين كالحي والموجود والمؤمن والكريم والغني (2) وشبهها، فإن نوى به غير الله تعالى، أو أطلق فليس بيمين، وإن نوى الله تعالى، فوجهان: أحدهما يمين، وبع قطع صاحبا " المهذب " و " التهذيب "، وفي شرح الموفق به طاهر أن صاحب " التقريب " وأبا يعقوب قطعا به، ونقلاه عن شيوح الاصحاب، والثاني وهو الاصح وبه أجاب الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وسائر العراقيين والامام والغزالي: لا يكون يمينا، لان اليمين إنما تنعقد باسم معظم، والاسماء التي تطلق في حق الخالق والمخلوق إطلاقا واحدا ليس لها حرمة ولا عظمة. قلت: الاصح أنه يمين، وبه قطع الرافعي في " المحرر " و صاحب " التنبه " والجرجاني وغيرهما من العراقيين لانه اسم يطلق على الله وقد نواه، وقولهم: ليس له حرمة مردود. والله أعلم. والسميع والبصير أو العليم والحكيم من هذا النوع، لا من الثاني على الاصح، فقد عد البغوي العالم من هذا النوع. واعلم أن ابن كح نقل وجها أن الحلف بأي اسم كان من الاسماء التسعة والتسعين المذكورة في الحديث صريح، ولا فرق بين بعضها وبعض، وهذا غريب، وأما القسم الثالث: فالحلف بالصفات. فمتكلم في صور:(8/12)
منها: إذا قال: وحق الله (1) لافعلن كذا، فإن نوى به اليمين، فيمين، وإن نوى غيرها من العبادات وغيرها، فليس بيمين، وإن أطلق فوجهان، أحدهما: ليس بيمين، حكي عن المزني وأبي اسحاق، واختاره الامام والغزالي، والصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور أنه يمين، لانه غلب استعماله في اليمين، فتصير هذه القرينة صارفه للفظ إلى معنى استحقاق الالهية والعظمة وقال المتولي: ولو قال وحق الله بالرفع ونوى اليمين فيمين، وإن أطلق، فلا، وإن قاله بالنصب وأطلق فوجهان: والذي أجاب به البغوي المنع في النصب أيضا. ومنها: قوله وحرمة الله، وهو كقوله وحق الله، وقيل هو كقوله وعظمة الله، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ومنها: قوله وقدرة الله، وعلم الله، ومشيئة الله، وسمع الله، وبصر الله فهذه صفات قديمة، فإن نوى بها اليمين، أو أطلق انعقدت يمينه، وإن أراد بالعلم المعلوم، وبالقدرة المقد ورة قيل قوله، ولم يكن يمينا، لان للفاظ محتمل له، ولهذا يقال في الدعاء: اغفر علمك فينا، أي معلومك، ويقال: انظر إلى قدرة الله أي مقدورة، فيكون كقوله: ومعلوم الله، ومقدوره، وخلق الله، وذلك ليس بيمين، وبمثله أجاب الامام في: إحياء الله تعالى، وإن قال: وعظمة الله وكبرياء الله وعزته وجلاله وبقائه، فالحكم كما في العلم والقدرة، ولم يفرقوا بين الصفات المعنوية الزائدة على الذات وغيرها، هذا هو المذهب الذي قطع به الجمهور في هذه الصفات، وحكى الامام وجهان: ان الحلف بهذه الصفات كالحلف بالله. حتى لو قال أردت غير اليمين، لا يقبل ظاهرا، ووجها أنه إن أراد غير اليمين، يقبل في العلم والقدرة، للاحتمال المذكور، ولا يقبل في العظمة والجلال والكبرياء إذ لا يتخيل فيها مثل ذلك الاحتمال، وضعف هذا، وقال: قد يقال عاينت عظمة الله وكبرياءه، ويريد مثل ذلك، ومنها لو قال وكلام (2) الله، انعقدت يمينه، قال البغوي: وكذ لو قال: وكتاب الله وقرآن الله، قال ابراهيم المروذي: وكذا لو(8/13)
قال: والقرآن أو والمثبت (1) في المصحف، قال المتولي: وإن حلف بالمصحف نطر، إن قال: وحرمة ما هو مكتوب فيه، فهو يمين، وكذا لو قال: وحرمة هذا المصحف، لان احترامه لما هو مكتوب فيه، وك ذا أراد الرق والجلد لم يكن يمينا. قلت: لم يتعرض لما إذا قال: والمصحف، وأطلق، وهو يمين، صرح به بعض الاصحاب، وبه أفتى الامام أبو القاسم الدولعي (2) خطيب دمشق، من متأخري أصحابنا، قال: لانه إنما يقصد به الحلف بالقرآن المكتوب ومذهب أصحابنا وغيرهم من أهل السنة أن القرآن مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور، ولا يقصد الحالف نفس الورق والمداد، ويؤيده أن الشافعي رضي الله عنه، استحسن التحليف بالمصحف، واتفق الاصحاب عليه، ولو لم ينعقد اليمين، به عند الاطلاق لم يحلف (3) به. والله أعلم. وقو قال: والقرآن، وأراد غير اليمين لم يكن يمينا، فقد يراد بالقرآن الخطبة والصلاة. التاسعة: ذا قال: اقسم بالله، أو أقسمت بالله، أو أحلف بالله، أو حلفت بالله فله أحوال: أحدها: أن يقول أردت بالاول الوعد بالحلف، وبالثاني الاخبار عن ماض، فيقبل باطنا، وأما في الظاهر، فإن علم له يمين ماضية قبل قوله في ارادتها بأقسمت وحلفت بلا خلاف، وإلا فالنص أنه يقبل أيضا قوله في إرادة الوعد والاخبار، وقال في الايلاء: إذا قال: أقسمت بالله لا وطئتك، ثم قال، أردت يمينا ماضية لم يقبل، وللاصحاب فيها ثلاثة طرق، المذهب في أن في الايلاء وسائر الايمان(8/14)
قولين أظهرهما: القبو ل، لظهور الاحتمال، والثاني: المنع، لظهوره في الانشاء، والطريق الثاني: القطع بالمنع، وحمل ما ذكره هنا على القبول باطنا، والثالث: تقرير النصين، والفرق أن الايلاء متعلق حق المرأة، وحق الادمي مبني على المضايقة، وسائر الايمان واجبها الكفارة، وهي حق الله تعالى. الحال الثاني: أن يقول: أردت اليمين، فيكون يمينا قطعا. الحال الثالث: أن يطلق، فالمذهب عند الجمهور أنه يمين، وخالفهم الامام في الترجيح، وقيل: وجهان، وقيل: قولان، وقيل: أقسم صريح، بخلاف أقسمت، وهو ضعيف. قلت: لو قالت: آليت أو أؤلي، فهو كحلف أو أحلف، ذكره الدارمي، وهو ظاهر. والله أعلم. العاشرة: إذا قال أشهد بالله أو شهدت بالله، فإن نوى اليمين، فيمين، وإن أراد غير اليمين، فليس بيمين، وإن أطلق: فالمذهب أنه ليس بيمين، لتردد الصيغة، وعدم اطراد عرف شرغي أو لغوي، ونقل الامام هذا عن العراقيين، وبه قال ابن سلمة. فرع: لو قال أعزم بالله، أو عزمت بالله، لافعلن، فإن نوى غير اليمين، أو أطلق، فليس بيمين، وإن نوى اليمين فيمين. فرع (1): لو قال: أقسم أو أقسمت، أو أحلف أو حلف، أو اشهد أو شهدت، أو اعزم أو عزمت لافعلن كذا، ولم يقل بالله، لم يكن يمينا، وإن نوى اليمين، لانه لم يحلف باسم الله تعالى ولا بصفته. فرع: لو قال الملاعن في لعانه: أشهد بالله وكان كاذبا هل يلزمه الكفادة ؟ وجهان أصحهما: نعم، والخلاف شبيه بالخلاف في وجوب الكفارة على المؤلي إذا وطئ، قال الامام: والصورة مفروضة فيما إذا زعم أنه قصد اليمين أو أطلق، وجعلنا مطلقه يمينا، قال: ويمكن أن يجئ الخلاف وإن قصد غير اليمين، لان(8/15)
ألفاظ اللعان معروضة عليه في مجلس الحكم، ولا أثر للتورية في مجلس الحكم. الحادية عشرة: إذا قال: واين الله، أو وايمن الله لافعلن كذا، فإن نوى اليمين فيمين، وإن أطلق فليس بيمين، على الاصح، لانه وإن كان مشهورا في اللغة فلا يعرفه إلا خواص الناس، قال الاصحاب: ولو قال: لاها الله ولم ينو اليمين فليس بيمين، وإن كان مستعملا في اللغة، لعدم اشتهاره. قلت: وقوله: واين الله بكسر الميم وضمها والضم أشهر، ولاها الله بالمد والقصر، وإن نوى بن اليمين كان يمينا قطعا. والله أعلم. الثانية عشرة: إذا قال: علي عهد الله وميثاقه وذمته وأمانته وكفالته لافعلن كذا، فإن نوى اليمين فيمين، والمراد من عهد الله استحقاقه لايجاب ما أوجبه علينا، أو تعبدنا (2) به، وإن أراد غير اليمين، كالعبادات، فليس بيمين، وإن أطلق فوجهان، قال أبو إسحاق: يمين للعاة الغالبة، والاصح المنع، لتردد اللفظ، وقد فسرت الامانة في قول الله تعالى: (إنا عرضنا الامانة) (3) بالعبادات وإذا أراد اليمين بهذه الالفاظ، انعقدت يمين واحدة، والجمع بين الالفاظ تأكيد، كقوله: والله الرحمن الرحيم لا يتعلق بالحنث فيها إلا كفارة واحدة، ولك أن تقول: إن قصد بكل لفظ يمينا، فليكن، كما لو حلف على الفعل الواحد مرارا. قلت: هذا الذي استدركه الرافعي رحمه الله صحيح موافق للنقل، قال الدارمي قال ابن القطان: إذا نوى التكرار، ففي تكرار الكفارة القولان فيمن حلف على الفعل الواحد مرارا، وطرده في قوله: والله الرحمن الرحيم. والله أعلم. أما إذا قال: وعهد الله، وميثاق الله، وأمانة الله، فقال المتولي: إن نوى اليمين فيمين، وإن أطلق فلا.(8/16)
قلت: قد ذكر الرافعي نذر اللجاج والغضب في هذا الموضع، وقد قدمته في كتاب النذور. (والله أعلم) (1).
الباب الثاني : في كفارة اليمين (2) فيه ثلاثة أطراف :
الأول : في سبب الكفارة، وهي واجبة على من حنث، وفي سبب وجوبها وجهان: الصحيح عند الجمهور أنه اليمين والحنث جميعا (3) والثاني أنه اليمين فقط، ولكن الحنث شرط. فصل: يجوز التكفير قبل الحنث إن كفر بغير الصوم (4) ولم يكن الحنث معصية، ويستحب أن يؤخر التكفير عن الحنث، ليخرج من خلاف أبي حنيفة رحمه الله (5)، وإن كفر بالصوم فالصحيح المشهور أنه لا يجوز تقديمه على الحنث، وفيه وجه. وقول قديم أنه يجوز، وإن كان الحنث بمعصية بأن حلف لا يزني فهل يجزئه التكفير قبله ؟ وجهان: أصحهما عند الاكثرين نعم. ولو قال: أعتقت هذا العبد عن كفارة يميني إذا حنثت، عتق العبد عن الكفارة إذا حنث بخلاف ما لو قال: أعتقته عن الكفارة إذا حلفت، فإنه لا يجزئه عن الكفارة، لانه قدم التعليق على اليمين، وفي الصورة السابقة قدمه على الحنث فقط، ولو قال: إذا حنثت في يمني غذا، فهو حر عن كفارتي، فإن حنث غدا، عتق عن الكفارة، وإلا لم يعتق، لان المعلق عليه لم يوجد، ولو قال: أعتقته عن كفارة يميني إن حنثت، ثم بان أنه حنث، عتق عن الكفارة، وألا لم يعتق، ولو قال: أعتقته عن كفارة يميني إن حلفت وحنثت، فبان(8/17)
حالفا قال البغوي: ينبغي ألا يجزئه، لانه شاك في اليمين، وفي الصورة السابقة الشك في الحنث، والتكفير قبل الحنث جائز، وعلى قياسه لو قال: هو حر عن ظهاري إن ظاهرت، فبان أنه ظاهر، ينبغي أن لا يجوز. فرع: أعتق عبدا عن الكفارة قبل الحنث، ثم ارتد العبد، أو مات قبل الحنث، لم يجزئه عن الكفارة، كما لو عجل الزكاة، ثم ارتد المدفوع إليه قبل تمام الحول، وتغير الحال في التكفير قبل الحنث كهو في تعجيل الزكاة، قال البغوي: ويحتمل أن يجزئه إذا ارتد أو مات، كما لو ماتت الشاة المعجلة قبل الحول. فرع: يجوز تقديم كفارة القتل على الزهوق بعد حصول الجرح، وتقديم جزاء الصيد على الزهوق بعد جرح الصيد، هذا هو المذهب، وقيل: فيهما الخلاف، في تقديم الكفارة على الحنث المحرم، لان سراية فعله كفعله، وهو حرام، وهذا ليس بشئ، قال الامام: وقياسه أن يقال: لو حلف (1) لا يقتل زيدا فجرحه وكفر عن اليمين قبل حصول الزهوق، ففي الاجزاء الوجهان. قال: وهو بعيد، ثم هذا في التكفير بالاعتاق، وأما الصوم فلا يقدم على الصحيح كما سبق، ولا يجوز تقديم كفارة بالاعتاق، وأما الصوم فلا يقدم على الصحيح كما سبق، ولا يجوز تقديم كفارة القتل على الجرح بحال لا في الادمي ولا في الصيد، وفيه احتمال لابن سلمة، تنزيلا للعصمة منزلة أحد السببين، وحكى ابن كج وجها في جواز التقديم على جرح الصيد، ووجها إنه إن كان يقتله مختارا بلا ضرورة لم يجز، وإن اضطر الصيد إليه جاز، والمذهب الاول. فرع: التكفير عن الظهار بالمال بعد الظهار وقبل العود جائز على المذهب وقيل: فيه الخلاف في الحنث المحرم وليس بشئ لان العود ليس بحرام، ويتصور التكفير بين الظهار والعود، فيما إذا ظاهر من رجعية، ثم كفر ثم راجع أو طلق بائنا وكفر ثم نكحها، وقلنا: يعود الحنث فيما إذا ظاهر مؤقتا وصححنا، وكفر وصار عائدا بالوطء، وفيما إذا ظاهر وارتدت الزوجة عقبه، فهذا ليس بتكفير قبل العود، بل هو تكفير مع العود، لان اشتغاله بالاعتاق عود والحكم الاجزاء أيضا.(8/18)
فرع: لا يجوز تقديم كفارة الجماع في شهر رمضان، ولا في الحج والعمرة على الجماع، وقيل: يجوز لكفارة اليمين، والصحيح الاول، لان هذه الكفارة لا تنسب إلى الصوم والاحرام بل إلى الجماع، وتلك تنسب الى اليمين، وكذا لا يجوز تقديم فدية الحلق والتطيب واللبس عليها، فإن وجد سبب يجوز فعلها، بأن احتاج إلى الحقل أو التطيب لمرض أو اللبس لبرد جاز التقديم على الاصح. فرع: يجوز تعجيل المنذور إذا كان ماليا، بأن قال: إن شفى الله مريضي، أو رد غائبي، فلله علي أن أعتق أو أتصدق بكذا، فيجوز تقديم الاعتاق والتصدق على الشفاء ورجوع الغائب، وفي فتاوى القفال ما ينازع فيه. فرع: الحامل والمرضع إذا شرعتا في الصوم ثم أرادتا الافطار، فأخرجتا الفدية قبل الافطار جاز على الاصح، وعلى هذا ففي جواز تعجيل الفدية لسائر الايام وجهان: كتعجيل زكاة عامين.
فصل : تكره اليمين إلا إذا كانت في طاعة كالبيعة على الجهاد، ويستثنى أيضا الايمان الواقعة في الدعاوى، إذا كانت صادقة، فإنها لا تكره. قلت: وكذا لا يكره إذا دعت إليه حاجة كتوكيد كلام أو تعظيم أمره، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " فوالله لا يمل الله حتى تملوا " وفي الحديث الاخر، " والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " (1) وأشباهه في الصحيح كثيرة مشهورة. والله أعلم. ثم إن حلف على فعل واجب، أو ترك حرام، فيمينه طاعة، والاقامة عليها واجبة، والحنث معصية، وتجب به الكفارة، وإن حلف على ترك واجب، أو فعل حرام، فيمينه معصية، ويجب عليه أن يحنث ويكفر. وإن حلف على فعل نفل كصلاة تطوع، وصدقة تطوع، فالاقامة على ذلك طاعة، والمخالفة مكروهة، وإن حلف على ترك نفل، فاليمين مكروهة والاقامة عليها مكروهة، والسنة أن يحنث،(8/19)
وعد الشيخ أبو حامد وجماعة من هذا القبيل، ما. ذا حلف لا يأكل طيبا، ولا يلبس ناعما، وقالوا: اليمين عليه مكروهة، لقول الله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (1) واختار القاضي أبو الطيب أنها يمين طاعة، لما عرف من اختيار السلف خشونة العيش، وقال ابن الصباغ: يختلف ذلك باختلاف أحوال الناس، وقصودهم وفراغهم للعبادة، وإشغالهم بالضيق والسعة، وهذا أصوب، وإن حلف على مباح، لا يتعلق به مثل هذا الغرض، كدخول دار، وأكل طعام، ولبس ثوب، وتركها، فله أن يقيم على اليمين، وله أن يحنث، وهل الافضل الوفاء باليمين ؟ أم الحنث ؟ أم يتخير بينهما ولا ترجيح كما كان قبل اليمين ؟ فيه أوجه، أصحها: الاول، وبه قال أبو علي الطبري، واختاره الصيدلاني، وابن الصباغ، والغزالي وغيرهم، لقول الله تعالى: (ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها) (2) ولما فيه من تعظيم اسم الله تعالى، وقد حصل مما ذكرناه أن اليمين لا تغير حال المحلوف عليه عما كان، وجوبا وتحريما وندبا وكراهة واباحة.
الطرف الثاني : في كيفية كفارة اليمين، وهي مختصة باشتمالها على تخيير في الابتداء، وترتيب في الانتهاء فيتخير الحالف بين أن يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم، أو يعتق رقية، فإن اختار الاطعام، أطعم كل واحد مدا، والقول في جنس الطعام، وكيفية اخراجه، وم يصرف إليه، وامتناع اخراج القيمة، وصرف الامداد العشرة إلى بعض، وسائر المسائل على ما سبق في الكفارات، وإن اختار الكسوة، كساهم على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وإن اختار الاعتاق، فلتكن الرقبة بالصفات المذكورة في الكفارات. ولو أطعم بعض العشرة، وكسا بعضهم، ولم يجره، كما لا يجوز أن يعتق نصف رقبة، أو أطعم ثلاثين مسكينا، أو كساهم عن ثلاث كفارات ولم يعين، اجزاء فإن عجر من الخصال الثلاث صام ثلاثة أيام، والقول فيما يحصل به العجر ذكرناه في الكفارات، ومن له أن يأخذ سهم الفقراء أو(8/20)
المساكين من الزكوات، أو الكفارات، له أن يكفر بالصوم، لانه فقير في الاخذ، فكذا في الاعطاء، وقد يملك نصابا، ولا يفي دخله بخرجه، فيلزمه الزكاة وله أخذها والفرق بين البابين أنا لو أسقطنا الزكاة خلا النصاب عنها بلا بدل، وللتكفير بالمال بدل، وهو الصوم. وهل يجب التتابع في صوم الثلاثة ؟ قولان: أظهرهما: عند الاكثرين لا، قال الامام: وهو الجديد، فإن أوجبناه، فالفطر في اليوم الثاني أو الثالث بعذر المرض أو السفر على الخلاف في كفارة الظهار، والحيض هنا يقطع التتابع، لامكان الاحتراز عنه بخلاف الشهرين، وقيل: لا يقطعه كالشهرين، وقيل قولان: كالمرض، والمذهب الاول، فإن كانت لم تحض قط، فشرعت في الصوم، فابتدأها الحيض، فهو كالمرض. فرع تجب في الكسوة التمليك، والواجب ثوب قميص، أو سراويل، أو عمامة، أوجبة، أو قباء، أو مقنعة، أو إزار، أو رداء، أو طيلسان، لان الاسم يقع على كل هذا، وحكي قول: أنه يشترط ساتر العورة، بحيث تصح الصلاة فيه، فتختلف الحال بذكورة الآخذ وأنوثته، فيجزئ الازار إن أعطاه لرجل، ولا يجزئ إن أعطاه لامرأة، والمشهور الاول. قلت: ويجزئ المنديل، صرح به أصحابنا، والمراد به هذا المعروف الذي يحمل في اليد، وقد صرح الدارمي بأن كل واحد من المنديل والعمامة يجزئ. والله أعلم. وأما الثوب الصغير الذي يكفي لرضيع وصغير دون كبير، فإن أخذه الولي لصغير، جاز، لان صرف طعام الكفارة وكسوتها للصغار جائز كما في الزكاة، ويتولى الولي الاخذ، وإن أخذه كبير لنفسه، جاز على الاصح، وبه قال القاضي حسين، لانه لا يشترط أن يلبس الآخذ ما يأخذه، ولهذا يجوز أن يعطي الرجل كسوة المرأة، وعكسه، ولا يشترط المخيط، بل يجوز دفع الكرباس، ويستحب أن يكون جديدا، خاما كان أو مقصورا، فإن كان ملبوسا، نظر: إن تخرق أو ذهبت قوته لمقاربة الانمحاق، لم يجزئه، كالطعام المعيب، وإن لم ينته إلى ذلك الحد أجزأه، كالطعام العتيق، لا يجزئ المرقع إن رقع للتخرق والبلى، إن خيط في(8/21)
الابتداء مرقعا لزينة وغيرها أجزأه، ولو كساه ثوبا لطيفا، مهلهل النسج غير بال في جنسه، لكن مثله إذا لبس لا يدوم، إلا بقدر ما يدوم الثوب البالي، قال الامام: يظهر أنه لا يجزئ لضعف النفع فيه، وأما الجنس فيجزئ المتخذ من صوف وشعر وقطن وكتان وقز وابريسم، سواء كان المدفوع إليه رجلا لا يحل له لبسه، أو امرأة، وفي الرجل وجه تضعيف، وسواء في كل جنس، الجيد والردئ والمتوسط، وللقاضي حسين احتمال في اشتراط الكسوة الغالبة في البلد، كالطعام، وفي الدرع والمكعب وهو المداس والنعل والجوارب والخف والقلنسوة والتبان وهو سراويل قصيرة لا تبلغ الركبة، فوجهان: أصحهما: المنع لعدم اسم الكسوة، والثاني: الاجزاء، لاطلاق اسم اللبس، ومنهم من قطع بالمنع في الخف والنعل والجوارب، ولا تجزئ المنطقة والخاتم قطعا، وكذا التكة على المذهب، وفي جمع الجوامع للروياني: طرد الخلاف فيها، قال الصيدلاني: ويجزئ قميص اللبد في بلد جرت عادة غالب الناس أو نادرهم بلبسه. قلت: قال الدارمي: فإن دفع ما لا يعتاد لبسه كجلود ونحوها، لم يجزئه. والله أعلم.
الطرف الثالث : فيمن تلزمه الكفارة، وهو كل مكلف حنث في يمينه، سواء فيه الحر والعبد، والمسلم والكافر، فإن مات قبل إخراجها، أخرجت من تركته. فصل العبد يكفر عن اليمين وغيرها بالصوم، لانه لا يملك على الاظهر، وإن قلنا يملك بتمليك سيده، فإن أطلق التمليك، لم يملك إخراج الكفارة بغير إذن سيده، وإن ملكه الطعام أو الكسوة ليخرجه في الكفارة، أو ملكه مطلقا ثم أذن له في ذلك، كفر بالاطعام أو الكسوة. وقد ذكرنا ذلك في الكفارات، وذكرنا أنه لو ملكه عبدا ليعتقه عن الكفارة لم يقع عن الكفارة على المذهب، وبناه الامام على أنه لو ملكه عبدا، وأذن في إعتاقه متبرعا، فلمن الولاء فيه ؟ أقوال. أحدها: للسيد، لقصور العبد عن استحقاق حقوق الولاء من الارث والولاية. والثاني، يوقف. فإن عتق العبد، بان أن الولاء له، وإن مات رقيقا، فلسيده. والثالث: للعبد، فعلى هذا، إن أذن له في الاعتاق عن الكفارة، وقع عنها، وثبت له الولاء، وإن قلنا الولاء للسيد، وقع العتق له على الاصح، وكأن الملك انقلب إليه، وفي وجه وقول: يقع(8/22)
عن العبد، ويجزئه عن الكفارة، ويختص التعذر بالولاء، وإن قلنا بالتوقف في الولاء، فوجهان: قال القفال: تجزئ عن الكفارة، وقال الصيدلاني، والقاضي حسين: يتوقف في الوقوع عن الكفارة، تبعا للولاء، فإذا قلنا في هذه التفاريع، يقع العتق عن الكفارة فأذن السيد في الاعتاق في كفارة مرتبة، فهل له أن يكفر بالصوم لضعف ملكه ؟ فيه احتمالان للامام، لانه لا يعد موسرا، ولهذا ينفق على زوجته نفقة المعسر، وإن ملكه السيد أموالا عظيمة. ولو أعتق المكاتب عن كفارته بإذن سيده، وصححنا تبرعاته بإذن سيده، قال الصيدلاني: الذي ذكره الاصحاب أنه تبرأ ذمته عن الكفارة، وعندي أن الامر موقوف، فقد يعجز، فيرق، فيكون الولاء موقوفا، فيجب التوقف في الكفارة، ولو كفر السيد عن العبد باطعام، أو كسوة، أو إعتاق باذنه، فهو على الخلاف في أنه يملك بالتمليك بتفريعه، وإذا كفر بالصوم، فهل يستقبل به ؟ أم يحتاج إلى إذن السيد ؟ فيه خلاف وتفصيل، سبق في الكفارات. وحيث يحتاج، فللسيد منع الامة من الصوم، لانه يفوت الاستمتاع، والكفارة على التراخي، وله منع العبد عن الصوم إن كان يضعف به عن الخدمة، أو يناله ضرر، وإلا فلا منع على الاصح، وعلى هذا لا يمنعه من صوم التطوع، وصلاة التطوع، في مثل هذه الحالة في غير زمان الخدمة، كما لا يمنعه من الذكر، وقراءة القرآن، في تردداته، وحيث احتاج إلى الاذن، فصام بلا إذن، أجزأه، كما لو صلى الجمعة بلا إذن. ولو مات العبد، وعليه كفارة يمين، فللسيد أن يكفر عنه بالاطعام، وإن قلنا: لا يملك بالتمليك، لان التكفير عنه في الحياة يتضمن دخوله في ملكه، والتكفير بعد الموت لا يستدعي ذلك، ولانه ليس للميت ملك محقق، ولان الرق لا يبقى بعد الموت، فهو الحر سواء، هذا ما قطع به الاصحاب، وفيه احتمال للامام، فعلى الاول: لو أعتق عنه، لم يجزئه، على الاصح، لما ذكرنا من اشكال الولاء.
فصل في الحر يموت وعليه كفارة، فتخرج من تركته، سواء أوصى بها أم لا، وسبيلها سبيل الديون، وذكرنا في كتاب الوصية وجها: أنه إن أوصى بها،(8/23)
حسبت من الثلث، ووجها: أنها من الثلث، وإن لم يوص، والصحيح الاول، وإذا وفت التركة بحقوق الله تعالى وحقوق الآدمي، قضيت جميعا، وإن لم تف، وتعلق بعضها بالعين، وبعضها بالذمة، قدم التعلق بالعين، سواء اجتمع النوعان، أو انفرد أحدهما، وإن اجتمعا، وتعلق الجميع بالعين أو الذمة، فهل يقدم حق الله تعالى ؟ أم الآدمي ؟ أم يستويان ؟ فيه ثلاثة أقوال، سبقت في مواضع، أظهرها الاول، ولا تجري هذه الاقوال في المحجور عليه بفلس، إذا اجتمع النوعان، بل تقدم حقوق الآدمي، وتؤخر حقوق الله تعالى، ما دام حيا، وإن كانت الكفارة مرتبة أعتق عنه الوارث، وكذا لو أوصى الوصي ويكون الولاء للميت، فإن تعذر الاعتاق، أطعم من التركة، وإن كانت كفارة تنجيز، جاز الاطعام والكسوة من التركة، وكذا الاعتاق على الاصح، والواجب من الخصال أقلها قيمة، فإن لم تكن تركة فتبرع أجنبي بالاطعام أو الكسوة عنه من مال نفسه، جاز على الاصح، فإن تبرع بهما الوارث، جاز على الصحيح، وقيل: لا، لبعد العبادات عن النيابة، وإن تبرع الاجنبي بالاعتاق في كفارة التنجيز، لم يصح على المذهب، لعلتين، إحداهما: سهولة التكفير بغير اعتاق، ولا يعتق لما فيه من عسر إثبات الولاء، والثانية: فيه إضرار بأقارب الميت، لانهم يؤاخذون بجناية عتيقه، فإن كان المعتق وارثا، جاز على العلة الثانية دون الاولى، وفي الكفارة المرتبة للوارث أن يتبرع بالاعتاق، وكذا للاجنبي على الاصح، بناء على العلة الاولى، وفي صوم الولي والاجنبي خلاف، سبق في الصيام، وإذا أوصى بأن يعتق عنه في كفارة التنجيز وزادت قيمة العبد على قيمة الطعام والكسوة، فثلاثة أوجه أضعفها: يتعين الاعتاق، وتحسب قيمة العبد من رأس المال، والثاني: تحسب قيمة العبد من الثلث، لان براءة الذمة تحصل بلزومها، فعلى هذا إن وفى الثلث بقيمة عبد مجزئ، أعتق عنه، وإلا بطلت الوصية، وعدل إلى الاطعام والكسوة، وهذا الوجه أصح، وهو ظاهر النص. والثالث: تحسب قيمة أقلها قيمة من رأس المال، والزيادة إلى تمام قيمة العبد من الثلث، فإن وفى ثلث الباقي مضموما إلى الاقل المحسوب من رأس المال بقيمة عبد، أعتق عنه، وإلا بطلت الوصية، وعدل إلى الاطعام والكسوة. فرع من بعضه حر وبعضه رقيق، إن كان معسرا، كفر بالصوم، وإن كان موسرا فوجهان، وإن شئت قلت: قولان، منصوص ومخرج. الصحيح المنصوص(8/24)
لا يكفر بالصوم، بل يطعم ويكسو، والمذهب: أنه لا يكفر بالاعتاق لتضمنه الولاية والارث، وليس هو من أهلها، وقيل: في تكفيره بالعتق قولان، كاعتاق المكاتب باذن سيده عن كفارته، وهو ضعيف، وخرج المزني أنه يكفر بالصوم، وصوبه ابن سريج، وبالله التوفيق.
الباب الثالث : فيما يقع به الحنث الأصل المرجوع إليه في البر والحنث، اتباع مقتضى اللفظ الذي تعلقت به اليمين، وقد يتطرق إليه التقييد والتخصيص، بنية تقترن به، أو باصطلاح خاص، أو قرينة، والصور التي تدخل في الباب لا تتناهى، لكن تكلم الشافعي والاصحاب رحمهم الله في أنواع تغلب ويكثر استعمالها، ويقاس عليها غيرها، وفيه أنواع :
الأول : الدخول والمساكنة وفيه مسائل: إحداها: لو حلف لا يدخل الدار، حنث بالحصول في عرصة الدار، وأبنيتها من البيوت والغرف وغيرها، فإن صعد سطحها، بأن تسور جدارها، أو جاء من دار الجار لم يحنث، إن كان السطح غير محوط، ولا عليه سترة، فإن كان فوجهان، الاصح وظاهر النص: لا يحنث أيضا، كما لو حصل على الجدار، والثاني: إن كان التحويط من الجوانب الاربعة، حنث، وإن كان من جانب، فلا، وإن كان من الجانبين، أو ثلاثة، فوجهان مرتبان. هذا إذا لم يكن السطح مسقفا، فإن كان مسقفا كله أو بعضه حنث قطعا إذا كان يصعد إليه من الدار، لانه من أبنية الدار، ولو حلف ليخرجن من الدار، فهل يبر بصعود السطح، وجهان، أحدهما: لا، وبه قال الشيخ أبو محمد، لانه لا يعد خارجا حتى يفارق السطح، وأصحهما نعم، وبه قال القاضي حسين، لانه يصح أن يقال: ليس هو في الدار، وإذا لم يكن فيها كان خارجا ويؤيده: أن ابن الصباغ حكى عن الاصحاب، أنه: لو حلف لا يخرج من الدار، فصعد سطحها، حنث، ولا يخفى أنه ينظر في الخروج أيضا إلى كون السطح(8/25)
محوطا أو غيره، ولو حلف لا يدخل، فدخل الطاق المضروب خارج الباب لم يحنث، على الاصح، لانه لا يقال: دخل الدار، والثاني: يحنث، لانه من الدار، ولهذا يدخل في بيعها، فلو دخل الدهليز خلف الباب، أو بين البابين حنث، لانه من الدار، وحكى الفوراني نصا ان داخل الدهليز لا يحنث، وحملوه على الطاق خارج الباب، وأشار الامام إلى إثباته قولا في الدهليز، وقال: لا يبعد أن يقال: دخل الدهليز ولم يدخل الدار، وجعل المتولي الدرب المختص بالدار أمام البيت، إذا كان داخلا في حد الدار، ولم يكن فيأولها باب كالطاق، قال: فإن كان عليه باب، فهو من الدار مسقفا كان أو غيره. فرع حلف لا يدخل الدار، وهو فيها، لا يحنث بالمكث، وحكي قول، ووجه أنه يحنث، والمشهور الاول، وعليه نص في حرملة، ولو حلف لا يخرج وهو خارج، لا يحنث بترك الدخول، وكذا لو حلف لا يتزوج وهو متزوج، أو لا يتطهر وهو متطهر، أو لا يتوضأ وهو متوضئ، فاستدام النكاح والطهارة والوضوء لا يحنث. ولو حلف لا يلبس وهو لابس، فلم ينزع، أو لا يركب وهو راكب فلم ينذل، حنث بالاستدامة، لانه يسمى لبسا وركوبا، ولهذا يصلح أن يقال: لبست شهرا وركبت ليلة، ولا يصح أن يقال: دخلت شهرا أو تزوجت شهرا، وإنما يقال: سكنت أو أقمت شهرا ولو حنث باستدامة اللبس ثم حلف لا يلبس، فاستدام، لزمه كفارة أخرى، لان اليمين الاولى انحلت بالاستدامة الاولى، وهذه يمين أخرى، وقد(8/26)
حنث فيها، واستدامة القيام والقعود واستقبال القبلة قيام وقعود واستقبال، وهل استدامة التطيب بطيب ؟ وجهان: أصحهما: لا. ولهذا لو تطيب، ثم أحرم، واستدام، لا يلزمه الفدية، وذكر الوجهان: فيما لو حلف أن لا يطأ، وهو في خلال الوطئ، فلم ينزع، أو أن لا يصوم أو لا يصلي وهو شارع فيهما، فلم يترك، ويتصور ذلك في الصلاة إذا حلف ناسيا في الصلاة، فإن اليمين تنعقد، وإن حلف لا يغصب، لم يحنث باستدامة المغصوب في يده، ولو حلف لا يسافر وهو في السفر، فوقف، أو أخذ في العود في الحال، لم يحنث في العود، وكأن الصورة فيمن حلف على الامتناع عن ذلك السفر، وإلا فهو مسافر أيضا. فرع إذا حلف لا يدخل الدار، حنث بالحصول فيها، سواء دخلها من الباب أو من ثقب في الجدار، أو كان في الدار نهر خارج فطرح نفسه في الماء فحمله، أو سبح، أو ركب سفينة فدخلت السفينة الدار ونزل من السطح. وفي صورة السطح وجه ضعيف، وسواء دخلها راكبا أو ماشيا. ولو أدخل في الدار يده أو رأسه أو إحدى رجليه، لم يحنث، وكذا لو مد رجليه فأدخلهما الدار وهو قاعد خارجها، لم يحنث، وإنما يحنث إذا وضعهما في الدار واعتمد عليهما، أو حصل في الدار متعلقا بشئ. ولو حلف: لا يخرج، فأخرج يده أو رجله، أو رجليه وهو قاعد فيها، لم يحنث. ولو كان في الدار شجرة منشرة الاغصا، فتعلق ببعضها، فان حصل في محاذاة البنيان بحيث صارت محيطة به عالية عليه، حنث. وإن حصل في محاذاة سترة السطح، ففيه الوجهان. وإن كان اعلى من ذلك، لم يحنث. المسألة الثانية: حلف لا يدخل أو لا يسكن بيتا، فاسم البيت يقع على المبني من طين أو آجر ومدر وحجر، وعلى المتخذ من خشب وصوف ووبر وشعر وجلد وأنواع الخيام، فإن نوى نوعا منها، حمل عليه، وإن أطلق، حمل على أي بيت كان منها، إن كان الحالف بدويا، وإن كان قرويا فثلاثة أوجه. الاصح وظاهر النص: يحنث أيضا. والثاني: لا. والثالث: إن كانت قريته قريبة من البادية، حنث، وإلا فلا، ولا يحنث بدخول البيع، والكنائس، وبيوت الحمام، والغار في الجبل،(8/27)
والكعبة، والمساجد، على المذهب لانها ليست للايواء والسكن، ولا يقع عليها اسم البيت إلا بتقييد، وخرج ابن سريج الجميع على قولين، وحكى المتولي في الكعبة والمساجد وجها. ولو دخل دهليز دار، أو صحنها، أو صفتها، لم يحنث على الصحيح. وعن القاضي أبي الطيب الميل إلى الحنث، لان جميع الدار بيت بمعنى الايواء. قلت: ولا يحنث بدخول بيت الرحى على الصحيح، ذكره الغزالي وغيره. والله أعلم. الثالثة: حلف لا يسكن هذه الدار، ولا يقيم فيها، وهو عند الحلف فيها، فمكث ساعة بلا عذر، حنث، وإذا مكث، فسواء أخرج أهله ومتاعه أم لا، لانه حلف على سكنى نفسه، لا أهله ومتاعه. فلو خرج وترك فيها أهله ومتاعه، لم يحنث. ولو حلف: لا يسكن دارا، فانتقل إليها بنفسه، دون أهله وماله، حنث. ولو مكث لعذر، بأن أغلق عليه الباب، أو منع من الخروج، أو - خاف على نفسه أو ماله لو خرج، أو كان مريضا، أو زمنا لا يقدر على الخروج، ولم يجد من يخرجه، لم يحنث. وإن مرض، وعجز بعد الحلف، ففي الحنث الخلاف في حنث المكره. وقد تخرج سائر الصور على ذلك الخلاف. فإن وجد المريض من يخرجه، فينبغي أن يأمره باخراجه، فإن لم يفعل، حنث. وإن مكث الحالف مشتغلا بأسباب الخروج، بأن انتهض لجمع المتاع، ويأمر أهله بالخروج، ويلبس ثوب الخروج، لم يحنث على الاصح، لانه لا يعد ساكنا، كما لو خرج في الحال ثم عاد لنقل متاع، أو زيارة أو عيادة أو عمارة، فإن الاصحاب قالوا: لا يحنث، لانه فارقها، وبمجرد العود لا يصير ساكنا. ولو احتاج إلى أن يبيت فيها ليلة لحفظ متاع، ففيه احتمالان لابن كج. والاصح عنده أنه لا يحنث. ولو خرج في الحال ثم اجتاز بها، بأن دخل من باب، وخرج من آخر، فقال القاضي حسين: الصحيح أنه(8/28)
لا يحنث، وإن تردد فيها ساعة بلا غرض، حنث. وينبغي أن لا يحنث بالتردد، لانها لا تصير به مسكنا قال البغوي: ولو عاد مريضا مارا في خروجه، لم يحنث، وإن قعد عنده حنث، ولو خرج في الحال ثم دخل، أو كان خارجا حين حلف، ثم دخل لا يحنث بالدخول ما لم يمكث، فان مكث حنث، إلا أن يشتغل بحمل متاع كما في الابتداء. الرابعة: في الحلف على المساكنة. قال الشافعي رحمه الله: المساكنة: أن يكونا في بيت أو بيتين حجرتهما واحدة، ومدخلهما واحد. قال الشيخ أبو حامد: أراد بالحجرة: الصحن، فإن أقام كل واحد في دار، فلا مساكنة، سواء كانت الداران كبيرتين، أو صغيرتين، أو إحداهما كبيرة والاخرى صغيرة، كحجرة لطيفة بجنب دار، وسواء كانتا في درب نافذ أو غير نافذ. فإن سكنا في بيتين من خان كبير أو صغير، أو من دار كبيرة، فثلاثة أوجه. الاصح: لا مساكنة، سواء كان البيتان متلاصقين أو متفرقين، والثاني: بلى. والثالث: تثبت المساكنة في الدار دون الخان، لانها تعد مسكنا لواحد، والخان يبنى لسكني جماعة، ويشبه أن لا يشترط في الخان أن يكون على البيت باب وغلق، كالدور في الدرب، ويشترط في الدار الكبيرة أن يكون على كل بيت منها باب وغلق، فإن لم يكونا، أو سكنا في صفتين منها، أو في بيت وصفة، فهما متساكنان في العادة. ولو أقاما في بيتين من دار صغيرة، فهما متساكنان وإن كان لكل واحد باب وغلق، لمقاربتهما وكونهما في الاصل مسكنا واحدا بخلاف الخان الصغير، وهكذا فصل الاكثرون، ومنهم من أطلق وجهين في بيتي الدار، ولم يفرق بين الصغيرة والكبيرة، ورأى الاصح حصول المساكنة. وعلى هذا لو كان أحدهما في الدا، والآخر في حجرة منفردة المرافق وبابها في الدار، فلا مساكنة على الاصح، وبه قطع البغوي في حجرتين منفردتي المرافق في دار. والمرفق المستحم والمطبخ، والمرقى وغيرها، ولم يذكروا في الحجرة في الخان خلافا وإن كان المرقى في الخان. إذا تقرر هذا فقال: والله لا أساكن زيدا، فإما أن يقيد المساكنة ببعض(8/29)
المواضع لفظا، بأن يقول: في هذا البيت، أو هذه الدار، وإما أن لا يقيد. الحالة الاولى: أن يقيد، فيحنث بتساكنهما في ذلك الموضع، فان كانا فيه عند الحلف، ففارق أحدهما الآخر، لم يحنث، وإن مكثا فيه بلا عذر، حنث. فإن بني بينهما حائل من طين أو غيره، ولكل واحد من الجانبين مدخل، أو أحدثا مدخلا، فوجهان، أحدهما: لا يحنث لاشتغاله برفع المساكنة، ورجحه البغوي. وأصحهما عند الجمهور: يحنث لحصول المساكنة إلى تمام البناء بغير ضرورة. فإن خرج أحدهما في الحال فبني الجدار، ثم عاد، ليحنث الحالف. ولا يخفى أنه لا بأس والحالة هذه بالمساكنة في موضع آخر. الحالة الثانية: أن لا يقيدها لفظا، فينظر، إن نوى موضعا معينا من بيت أو دار أو درب أو محلة أو بلد، فالمذهب، والذي قطع به الجمهور أن اليمين محمولة على ما نوى. وقيل: إن كانا يسكنان بيتا من دار متحدة المرافق، ونوى أن لا يساكنه، حملت اليمين عليه، وإن لم يكن كذلك، ولا جر ذكر تلك المساكنة، كقول صاحبه: ساكني في هذا البيت، لم يقبل قوله، وتحمل اليمين على الدار وفي البلد وجه أن اللفظ لا ينزل عليه، لانه لا يسمى مساكنة. وقيل: يجئ هذا الوجه في المحلة. وإن لم ينو موضعا، وأطلق المساكنة، حيث بالمساكنة في أي موضع كان، وحكى المتولي قولا أنه إذا أطلق وكل واحد منهما في دار وحجرة منفردة، حملت اليمين على الاجتماع الحاصل، فإن كانا في درب، فلا بدمن مفارقة أحدهما الدرب، وإن كانا في محلة فلا بد من مفارقة أحدهما المحلة، والمشهور الاول، فعلى هذا لو كانا عند الحلف في بيتين من خان، فلا مساكنة، ولا حاجة إلى مفارقة أحدهما الآخر، وعلى القول الشاذ يشترط مفارقته. وإن كانا في بيت من الخان، فهل يكفي مفارقة أحدهما ذلك البيت، أم يشترط مفارقته الخان ؟ فيه هذا الخلاف. ثم سواء نوى موضعا معينا أو أطلق، فالقول في أن استدامة المساكنة مساكنة، وفي الحائل المبني بينهما على ما سبق في(8/30)
الحالة الاولى. والاعتبار بالانتقال بالبدن، دون الاهل والمال كما سبق.
النوع الثاني : ألفاظ الأكل والشرب، وفيه مسائل. الاولى: حلف، فقال: لا أشرب من ماء هذه الاداوة أو الجرة، حنث بما شرب من مائها من قليل أو كثير. ولو قال: لاشربن من مائها، بر بما شرب وإن قل. وإن قال: لا أشرب من ماء هذا النهر، أو لاشربن منه، فالحكم كالاداوة. ولو قال: لا أشرب من ماء هذه الاداوة أو الحب أو المصنع أو غيرها مما يمكن شرب جميعه ولو في مدة طويلة، لم يحنث إلا بشرب جميعه. ومتى بقي شئ منه، لم يحنث. قال في شرح مختصر الجويني: سوى البلل الذي يبقى في العادة. ولو قال: لاشربن ماء هذه الاداوة أو الحب، لم يبر إلا بشرب الجميع. ولو قال: لا أشرب ماء هذا النهر أو البحر أو البئر العظيمة، فهل يحنث بشرب بعضه ؟ وجهان: أحدهما: نعم، وبه قال ابن سريج، وابن أبي هريرة وأصحهما: لا، وبه قال أبو إسحق، وعامة الاصحاب، وصححه الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب والروياني كمسألة الاداوة. قال القاضي: وينبغي أن يقال: لا تنعقد يمينه كما لو حلف: لا يصعد السماء، لان الحنث فيه غير متصور. ولو حلف ليشربن ماء هذا النهر أو البحر، فوجهان: أحدهما: يبر بشرب بعضه وإن قل، وأصحهما: لا يبر ببعضه، وعلى هذا هل يلزمه الكفارة في الحال أم قبيل الموت ؟ وجهان، أصحهما: الاول، لان العجز متحقق في الحال، وإنما يحسن الانتظار فيما يتوقع حصوله. وقيل: لا تنعقد اليمين أصلا، لان البر غير متصور، ولو حلف: ليصعدن السماء، ففي انعقاد يمينه وجهان، الاصح: الانعقاد، وعلى هذا فيحكم بالحنث في الحال، أم قبل الموت ؟ فيه الوجهان. ولو قال: لاصعدن السماء غدا، وفرعنا على انعقاد اليمين، فهل يحنث وتجب الكفارة في الحال، أم بعد مجئ الغد ؟ فيه الوجهان. ويشبه أن يرجح هنا الثاني. وعلى هذا، فهل يحنث قبيل غروب الشمس من الغد، أم قبل ذلك ؟ فيه خلاف سيأتي في نظيره إن شاء الله تعالى. ولو حلف: لا يصعد السماء، فهل ينعقد يمينه ؟ وجهان، أحدهما: نعم، وإن لم يتصور الحنث، كما لو حلف أنه فعل كذا أمس، وهو(8/31)
صادق، وأصحهما: لا، بخلاف صورة الاستشهاد، لان الحلف هناك محتمل الكذب. فرع قال: لاشربن ماء هذه الاداوة، ولا ماء فيها، أو لاقتلن فلانا وهو ميت، فأربعة أوجه. أصحها: أنه يحنث وتجب الكفارة في الحال، والثاني: قبيل الموت، والثالث: لا تنعقد اليمين، والرابع: يحنث في القتل دون الشرب. ولو قال: لاقتلن فلانا وهو يظنه حيا وكان ميتا، ففي الكفارة خلاف بناء على يمين الناسي. فرع قال القاضي أبو الطيب: قال الاصحاب: لو قال: والله لا آكل خبز الكوفة، أو خبز بغداد، لم يحنث بأكل بعضه، إلا أن ينوي غير ذلك. فرع قال: لاشربن ماء هذه الاداوة. فانصب قبل أن يشرب، أو مات الحالف، نظر، إن كان بعد الامكان، حنث. وإن كان قبله، فقولان كالمكره. ولو قال: لاشربن منه، فصبه في حوض، ثم شرب منه من موضع يعلم أنه وصل إليه، بر، وإن حلف: لا يشرب منه، فصبه في حوض وشرب منه، حنث. وكذا لو حلف: لا يشرب من لبن هذه البقرة، فخلط بلبن غيرها، بخلاف ما لو حلف: لا يأكل هذه التمرة، فخلطها بصبرة، لا يحنث إلا بأكل جميع الصبرة، والفرق ظاهر. فرع حلف: لا يشرب ماء فراتا أو من ماء فرات، حمل على الماء العذب من أي موضع كان. وإن قال: من ماء الفرات، حمل على النهر المعروف. ولو قال: لا أشرب ماء الفرات، أو لا أشرب من ماء الفرات، فسواء أخذ الماء بيده، أو في إناء فشرب أو كرع فيه، حنث. ولو قال: لا أشرب من ماء نهر كذا، فشرب من ساقية تخرج منه، أو من بئر محفورة بقرب النهر، يعلم أن ماءها منه، حنث. ولو قال: لا أشرب من نهر كذا، ولم يذكر الماء، فشرب من ساقية بخرج منه، حنث على الاصح، كما لو أخذ الماء في إناء. ولو حلف: لا يشرب من هذه الجرة أو غيرها مما وعتاد الشرب منه، فجعل ماءه في كوز وشربه، لم يحنث.(8/32)
المسألة الثانية: قال: لا آكل هذين الرغيفين، أو لا ألبس هذين الثوبين، لم يحنث إلا بأكلهما أو لبسهما سواء لبسهما معا، أو لبس أحدهما ونزعه، ثم لبس الآخر. وكذا لو قال: لا أكلتهما أو لا لبستهما، لم يبر إلا بأكلهما ولبسهما. ولو قال: لا أكلم زيدا وعمرا، ولا آكل اللحم والعنب، لم يحنث إلا إذا أكلهما، أو كلمهما، إلا إذا نوى غير ذلك، لان الواو العاطفة تجعلهما كشئ واحد، فكأنه قال: لا آكلهما، ولو قال: لا أكلم زيدا ولا عمرا، ولا آكل اللحم ولا العنب، حنث بكل واحد منهما، وهما يمينان تنحل إحداهما بالحنث في الاخرى. فلو قال: لا أكلم أحدهما، أو قال: واحدا منهما، ولم يقصد واحدا منهما بعينه، فيحنث إذا كلم أحدهما، وتنحل اليمين، ولا يحنث بكلام الآخر. قال المتولي: وكذا في الاثبات إذا قال: لالبسن هذا الثوب الثوب، وهذا فهما يمينان، لوجود حرف العطف، ولكل واحد حكمها، وفي هذا توقف. ولو أوجب حرف العطف كونهما يمينين، لا كما لو قال: لا ألبسهما، لاوجب في قوله: لا أكلم زيدا وعمرا ولا آكل اللحم والعنب كونهما يمينين، لا كما لو قال: لا أكلم هذين ولا آكل هذين. فرع قال: لا آكل هذا الرغيف، لم يحنث بأكل بعضه. ولو قال: لآكلنه، لم يبر إلا بأكل جميعه. فلو بقي في الصورة الاولى ما يمكن التقاطه وأكله، لم يحنث، كما لو قال: لا آكل ما على هذا الطبق من التمر، فأكل ما عليه إلا تمرة، لا يحنث وإن جرت العادة بترك بعض الطعام للاحتشام من استيفائه أو لغير ذلك. وكذا لو قال: لآكلن هذه الرمانة، فترك حبة، لم يبر، وإن قال: لا آكلها، فترك حبة، لم يحنث. المسألة الثالثة: إذا حلف: لا يأكل الرأس أو الرؤوس، أو لا يشتريها، حمل على التي تميز عن الابدان وتباع مفردة، وهي رؤوس الابل والبقر والغنم. وفي رؤوس الابل وجه شاذ عن ابن سريج، فطرده ابن أبي هريرة في البقر والغنم. وقيل: إن كان في بلد لا تباع فيه إلا رؤوس الغنم، لم يحنث إلا بغيرها، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور، فإن أكل رأس طير، أو حوت، أو ظبي، أو صيد آخر، لم يحنث على المشهور. فإن كانت رؤوس الصيد والحيتان تباع مفردة(8/33)
في بلد، حنث بأكلها هناك. وهل يحنث بأكلها في غير ذلك البلد ؟ وجهان رجح الشيخ أبو حامد والروياني المنع، والاقوى الحنث، وهو أقرب إلى ظاهر النص. وهل يعتبر نفس البلد الذي يثبت فيه العرف، أم كون الحالف من أهله ؟ وجهان. هذا كله عند الاطلاق. وقال المتولي: فإن قصد أن لا يأكل ما يسمى رأسا، حنث برأس السمك والطير. وإن قصد نوعا خاصا، لم يحنث بغيره. فرع حلف: لا يأكل البيض، حمل على ما يزايل بايضه وهو حي، لانه المفهوم، فلا يحنث ببيض السمك والجراد، ويحنث ببيض الدجاج، والنعام، والاوز، والعصافير، وقيل: لا يحنث إلا ببيض الدجاج، وقيل: بالدجاج والاوز. وقال الامام: الطريقة المرضية أنه لا يحنث إلا بما يفرد بالاكل في العادة، دون بيض العصافير والحمام ونحوها، والمذهب الاول. ولا يحنث بأكل خصية الشاة، لانها لا تفهم عند الاطلاق. وإن خرجت البيضة وهي منعقدة من الدجاجة، فأكلها، حنث، وإن أخرجت بعد موتها، فأكلها، فوجهان. قلت: الاصح الحنث. والله أعلم. المسألة الرابعة: حلف لا يأكل الخبز، حنث بأي خبز كان، سواء فيه خبز البر، والشعير، والذرة، والباقلاء، والارز، والحمص، لان الجميع خبز، ولا يضر كونه غير معهود بلده، كما لو حلف: لا يلبس ثوبا، حنث بأي ثوب كان وإن لم يكن معهود بلده وذكر السرخسي وجها أنه لا يحنث بخبز الارز إلا في طبرستان، وبه قطع الغزالي، ونسبه إلى الصيدلاني، وهي نسبة باطلة، وغلط في النقل، بل الصواب الذي قطع به الاصحاب في جميع الطرق أنه يحنث به كل أحد، وقد صرح بذلك الصيدلاني أيضا. قال المتولي: ويحنث بخبز البلوط أيضا، ويحنث بأكل الاقراص والرغفان وخبز الملة والمشحم وغيره، وسواء أكله على هيئته أو جعله ثريدا. لكن لو صار في المرقة كالحسو، فتحساه، لم يحنث،(8/34)
وسواء ابتلعه بعد مضغ، أو ابتلعه على هيئته، فيحنث في الحالين، وإن مضغه ولم يبتلعه، لم يحنث، سواء أدرك طعمه أم لا. ولو أكل جوز نيقا، فوجهان حكاهما البغوي، أحدهما: يحنث، لانه لو نزع منه الحشو صار خبزا، والاصح: المنع. قلت: والرقاق والبقسماط والبسيسة.... والله أعلم. المسألة الخامسة: حلف: لا يأكل اللحم أو لا يشتريه، لم يحنث بشحم البطن وشحم العين. والاصح: أنه لا يحنث بشحم الظهر والجنب، وهو الابيض الذي لا يخالطه الاحمر، لانه لحم سمين. ولهذا يحمر عند الهزال. ولو حلف: لا يأكل الشحم، حنث بشحم البطن، ولا يحنث باللحم قطعا، ولا بشحم الظهر على الاصح. وعن الشيخ أبي زيد وجه ثالث: أنه إن كان الحالف عربيا، فشحم الظهر شحم في حقه، لانهم يعدونه شحما، وإن كان عجميا، فهو لحم في حقه. وفي شحم العين وجهان. ويدخل في اليمين على اللحم لحم النعم، والوحش، والطير المأكول كله. وفيما لا يؤكل كالميتة، والخنزير، والذئب، والحمار، وغيرها وجهان، رجح الشيخ أبو حامد والروياني المنع، والقفال وغيره الحنث. قلت: المنع أقوى. والله أعلم. ولا يحنث بأكل السمك على الصحيح. والصحيح أن الالية ليست بلحم(8/35)
ولا شحم. وقيل: لحم. وقيل: شحم، والسنام كالالية. ولو حلف على الالية، لم يحنث بالسنام، وكذا العكس. ولو حلف على الدسم، تناول شحم الظهر والبطن والالية والسنام والادهان كلها، والمذهب أنه لا يدخل في اللحم الامعاء والطحال والكرش والكبد والرئة، ولا يدخل المخ قطعا وقد يجئ فيه الخلاف، ولا يدخل القلب على الاصح، ويحنث بأكل لحم الرأس والخد واللسان والاكارع على المذهب، وقيل: وجهان. فرع حلف: لا يأكل لحم بقر، حنث بلحم الجاموس وبالبقر الاهلي والوحشي. وقيل: في الوحشي وجهان وهو ضعيف. ولو حلف لا يركب الحمار، فركب حمار الوحش، فوجهان بناء على أن الحمارين جنس في الربا أم جنسان وقد سبق في الربا وجهان في أن الجراد هل هو من جنس اللحوم ويمكن أن يخرج عليهما الحنث بأكله في يمين اللحم. قلت: الصواب الجزم بعدم الحنث، لعدم اطلاق الاسم لغة وعرفا. والله أعلم. فرع حلف: لا يأكل ميتة، لم يحنث بالمذكاة وإن حلها الموت للعرف. وهل يحنث بأكل السمك ؟ وجهان، أحدهما: نعم للحديث أحلت لنا ميتتان وأصحهما: لا، للعرف، كما لو حلف: لا يأكل دما، لا يحنث بالكبد والطحال. المسألة السادسة: حلف: لا يأكل الزبد، لا يحنث بأكل السمن. ولو حلف: لا يأكل السمن، لا يحنث بالزبد على الاصح، لاختلاف الاسم والصفة. ولو حلف على الزبد والسمن، لا يحنث باللبن، ويدخل في اللبن لبن الانعام(8/36)
والصيد والحليب والرائب والماست والشيراز والمخيض، وتوقف بعضهم في الشيراز. قال القاضي أبو الطيب: لا معنى لتوقفه، وفي المخيض وجه ضعيف، فإن أكل الزبد، فثلاثة أوجه، أصحها وبه قطع ابن الصباغ: إن كان اللبن ظاهرا فيه، حنث، وإن كان مستهلكا فلا. ولا يحنث بالسمن والجبن والمصل والاقط. وقال أبو علي ابن أبي هريرة، والطبري: يحنث بكل ما يستخرج من اللبن، والصحيح الاول. فرع حلف: لا يأكل السمن، لا يحنث بالادهان، ولو حلف على الدهن: لم يحنث بالسمن على الاصح. السابعة: حلف: لا يأكل الجوز، قال الغزالي: يحنث بالجوز الهندي، قال: ولو حلف لا يأكل التمر، لم يحنث بالهندي، لان الجوز الهندي قريب من الجوز المعروف طبعا وطعما، بخلاف التمر الهندي. وقطع البغوي بأنه لا يحنث بالهندي في الصورتين، وكذا لو حلف: لا يأكل البطيخ لا يحنث بالهندي. ولو حلف: لا يأكل الخيار، لا يحنث بهذا الذي يقال له: خيار شنبر. الثامنة: كما أن الاعيان أجناس مختلفة الاسماء والصفات، كذلك الافعال أجناس مختلفة، ولا يتناول بعضها بعضا، فالشرب ليس بأكل، وكذا العكس، فإذا(8/37)
حلف: لا يأكل، فشرب ماء أو غيره، أو حلف: لا يشرب، فأكل طعاما، لا يحنث. واللبن والخل وباقي المائعات إذا حلف لا يأكلها، فأكلها بخبز، حنث، أو شربها لم يحنث. وإن حلف: لا يشربها، فالحكم بالعكس. ولو حلف: لا يأكل سويقا، فاستفه، أو تناوله بملعقة أو باصبع مبلولة، حنث. ولو ماثه في الماء وشربه، لم يحنث. ولو حلف: لا يشرب السويق، فالحكم بالعكس. ولو كان السويق خاثرا، بحيث يؤخذ بالملاعق، فتحساه، ففيه خلاف، والاصح أنه ليس بشرب. ولو قال: لا أطعم أو لا أتناول، دخل في اليمين الاكل والشرب جميعا. فرع حلف: لا يأكل السكر، حنث بنفس السكر، دون ما يتخذ منه، إلا إذا نوى. وكذا الحكم في التمر والعسل. ثم إن ابتلع السكر بلا مضغ، فقد أكله، كما لو أكل الخبز على هيئته، وإن مضغه وازدرده ممضوغا، حنث أيضا، وإن وضعه في فمه فذاب ونزل، لم يحنث على الاصح، وبه قطع المتولي والبغوي، كما أنه لا يسمى أكلا للسكر. فرع حلف: لا يأكل العنب والرمان، لم يحنث بأكل عصيرهما وشربه. ولو امتصهما، ورمى الثفل، لم يحنث أيضا، لانه ليس آكلا. حلف: لا يأكل السمن، فأكله وهو جامد وحده، حنث، وإن شربه ذائبا، لم يحنث على الصحيح، وإن أكله بخبز وهو جامد أو ذائب، حنث على الصحيح، وخالف فيه الاصطخري. وإن جعله في عصيدة أو سويق، فالنص أنه يحنث ونص أنه لو حلف: لا يأكل خلا، فأكله سكباجا، لا يحنث، فقال الجمهور: ليس ذلك باختلاف، بل إن كان السمن ظاهرا في العصيدة والسويق يرى جرمه، حنث وهذا مراده بنص السمن، وكذا حكم الخل إذا كان ظاهرا بلونه، وطعمه، بأن أكل مرقة وهي حامضة وإن كان السمن أو الخل مستهلكا، لم يحنث. وهذا مراده بنص الخل. وصوروا ذلك فيما إذا أكل لحم السكباج أو ما فيه من سلق وغيره،(8/38)
ومنهم من أطلق وجهين أو قولين فيهما. فرع حلف: لا يأكل أو لا يشرب، لا يحنث بمجرد الذوق، ولو حلف: لا يذوق، فأكل أو شرب، حنث على الصحيح، لتضمنهما الذوق. وإن أدرك طعم الشئ بالمضغ والامساك في الفم، ثم مجه ولم ينزل إلى حلقه، فوجهان. أحدهما: لا يحنث، كما لا يفطر. وأصحهما: يحنث، لان الذوق إدراك الطعم. ولو حلف: لا يأكل ولا يشرب ولا يذوق، فأوجر في حلقه حتى صار في جوفه، لم يحنث. ولو قال: لا أطعم كذا فأوجره، حنث، لان معناه: لا جعلته لي طعاما. التاسعة: حلف لا يأكل الفاكهة، حنث بأكل العنب، والرمان، والرطب، والتفاح، والسفرجل، والكمثرى، والمشمش، والخوخ، والاجاص، والاترج، والنارنج، والليمون، والنبق، والموز، والتين، ولا يحنث بالقثاء والخيار والباذنجان والجزر، ويحنث بالبطيخ على الاصح، وبه قال ابن سريج، لان له نضجا وإدراكا، ويدخل في اسم الفاكهة الرطب واليابس، كالتمر والزبيب والتين اليابس، ومفلق الخوخ والمشمش، وهل يحنث بلب الفستق والبندق وغيرهما ؟ وجهان أصحهما: نعم، لانه يعد من يابس الفاكهة، كذا قاله الجمهور، وقالوا: لو حلف لا يأكل الثمار، حنث بالرطب دون اليابسات. وقال المتولي: لا يحنث باليابس في يمين الفاكهة أيضا. والصحيح: الاول. العاشرة: حلف: لا يأكل البيض، ثم حلف: ليأكلن ما في كم زيد، فإذا هو بيض، فجعله في الناطف وأكله كله، لا يحنث في واحدة من اليمينين، ولا بد من أكل جميعه. فرع يتعلق بهذا النوع: الرطب ليس بتمر، والعنب ليس بزبيب، وعصير(8/39)
العنب ليس بعنب، وعصير التمر ودبسه ليس س بتمر، والسمسم ليس بشيرج، وكذا العكوس. والرطب ليس ببسر ولا بلح. ولو حلف: لا يأكل الرطب، فأكل المنصف، نظر، إن أكل النصف الذي أرطب، حنث قطعا، وإن أكل الجميع، حنث على الصحيح، وخالف فيه الاصطخري، وأبو علي الطبري. وإن أكل النصف الذي لم يرطب، لم يحنث، ولو حلف: لا يأكل البسر، فأكل المنصف، ففيه هذا التفصيل، والحكم بالعكس. ولو حلف: لا يأكل بسرة ولا رطبة، فأكل منصفا، لم يحنث. ولو حلف: لا يأكل طعام، تناول اللفظ القوت والادام والفاكهة والحلواء. وفي الدواء وجهان. ولو حلف: لا يأكل قوتا، حنث بأكل ما يقتات من الحبوب، ويحنث بالتمر والزبيب واللحم إن كان ممن يقتاتها، وحلا فوجهان. ولو حلف: لا يأكل إداما، حنث بكل ما يؤتدم به، سواء كان مما يصطبغ به، كالخل والدبس والشيرج والزيت والسمن والمربى، أو لا يصطبغ به كاللحم والجبن والبقل والبصل والفجل والثمار، وكذا التمر والملح على الصحيح فيهما. واسم الماء يتناول العذب والملح، ومياه الابار والانهار، وكذا ماء البحر، وفيه احتمال للشيخ أبي حامد. فلو حلف: لا يشرب الماء، لم يحنث بأكل الجمد والثلج، ويحنث بشرب مائهما. ولو حلف: لا يأكل الجمد والثلج، لم يحنث بشرب مائهما. والثلج ليس بجمد، وكذا العكس. ولو حلف: لا يأكل مما طبخه زيد، فالاعتبار فيه بالايقاد إلى الادراك، أو وضع القدر في التنور بعد سجره، فان أوقد زيد تحته حتى أدرك، أو وضعها في التنور فأكل منه، حنث، سواء وجد نصب القدر وتقطيع اللحم، وصب الماء عليه، وجمع التوابل، وسجر التنور منه، أو من غيره. ولو أوقد، أو(8/40)
وضع في التنور مع غيره، لم يحنث، لانه لم ينفرد بالطبخ، وكذا لو أوقد هذا ساعة، وهذا ساعة. قال الامام: ولو جلس الحاذق بالطبخ قريبا، واستخدم صبيا في الايقاد، وقلل أو كثر ففيه تردد، إذ يضاف الطبخ هنا إلى الاستاذ. ولو قال: لا آكل ما خبزه فلان، فالاعتبار بالصاقه إلى التنور، لا بالعجن وسجر التنور وتقطيع الرغفان وبسطها. قلت: ولو حلف: لا يأكل ثريدا، لم يحنث بخبز غير مثرود في مرق. والله أعلم.
النوع الثالث : في العقود وفيه مسائل: إحداها: حلف: لا يأكل طعاما اشتراه زيد، أو من طعام اشتراه زيد، أو لا يلب ثوبا اشتراه زيد، لم يحنث بما ملكه بإرث أو هبة أو وصية، أو رجع إليه برد بعيب أو بإقالة وإن جعلنا الاقالة بيعا، لانه لا يسمى بيعا عند الاطلاق، وكذا لا يحنث بما خلص له بالقسمة وإن جعلناها بيعا. ويحنث بما ملكه بالتولية والاشراك والسلم، لانها بيوع، ولا يحنث بما ملكه بالصلح على الصحيح، وبه قطع الصيدلاني والبغوي والمتولي والروياني وغيرهم. ولو قال: لا أدخل دارا اشتراها زيد، لم يحنث بدار ملك بعضها بالشفعة. ولا يحنث بم اشتراه لزيد وكيله، ويحنث بما اشتراه زيد لغيره بوكالة أو ولاية. ولو اشتراه زيد ثم باعه، فأكله، حنث، لانه موصوف بأن زيدا اشتراه. وكذا لو باع بعضه وأكل من ذلك البعض ولو أكل طعاما اشتراه زيد وعمرو، لم يحنث على الصحيح. وقيل: يحنث، لانه(8/41)
ما من جزء إلا وقد ورد عليه شراء زيد، وهذا اختيار القاضي أبي الطيب. وقيل: إن أكل النصف فما دونه، لم يحنث، وإن أكل أكثر منه، حنث، لانا تتحقق أنه أكل مما اشتراه زيد، ثم لم يفرق الجمهور بين قوله: لا آكل من طعام اشتراه زيد، وقوله: طعاما اشتراه زيد. وخص البغوي الاوجه بما إذا قال: من طعام اشتراه زيد، وقطع بعدم الحنث فيما إذا قال: طعاما اشتراه زيد، قال: إلا أن يريد أن لا يأكل طعامه أو من طعامه، فيحنث بالمشترك. ولو اشترى زيد طعاما، وعمرو طعاما، وخلطا، فأكل الحالف من المختلط، فثلاثة أوجه. أحدها: لا يحنث وإن أكل الجميع، وبه قال ابن أبي هريرة، لانه لا يمكن الاشارة إلى شئ منه بأنه اشتراه زيد. والثاني، وهو قول الاصطخري، واختاره القاضي أبو الطيب: إن أكل أكثر من النصف، حنث، وإلا، فلا، وهو عند استواء القدرين. والثالث، وهو الاصح، وبه قال أبو إسحق: أنه إن أكل قليلا يمكن أن يكون مما اشتراه عمرو، كعشر حبات من الحنطة، وعشرين حبة، لم يحنث، وإن أكل قدرا صالحا، كالكف والكفين، حنث، لانا نتحقق أن فيه مما اشتراه زيد. فرع قال: لا أسكن دارا لزيد، فسكن دارا له فيها حصة قليلة، أو كثيرة، لا يحنث. نص عليه في الام. فرع في تعليقة ابرهيم المروذي: أنه لو حلف: لا يأكل طعام زيد، فأكل مشتركا بينه وبين غيره، حنث، وقد سبق عن البغوي ما يوافقه، قال: ولو حلف لا يلبس ثوب زيد، أو لا يركب دابته، فلبس أو ركب مشتركا، لم يحنث. المسألة الثانية: حلف لا يشتري أو لا يبيع، فوكل من باع واشترى له، أو لا يضرب عبده، فأمر من ضربه، أو حلف الامير أو القاضي: لا يضرب، فأمر الجلاد فضرب، لم يحنث، وذكر الربيع أن الحالف إن كان ممن لا يتولى البيع والشراء، أو الضرب بنفسه كالسلطان، أو كان الفعل المحلوف عليه لا يعتاد الحالف(8/42)
فعله، أو لا يجئ منه، كالبناء والتطيين، حنث إذا أمر به. فمنهم من جعل هذا قولا آخر، وأثبت قولين، والمذهب القطع بأنه لا يحنث، والامتناع من جعله قولا، ولو حلف: لا يزوج، أو لا يطلق، أو لا يعتق، فوكل وعقد الوكيل، فكالتوكيل في البيع. ولو فوض الطلاق إلى زوجته، فطلقت نفسها، لم يحنث على المذهب. وحكي قول أنه يحنث هنا وإن لم يحنث في التوكيل، لانه فوضه إلى من لا يملكه، وكأنه هو المطلق. فلو قال: إن فعلت كذا، أو إن شئت، فأنت طالق، ففعلت، أو شاءت، حنث، لان الموجود منها مجرد صفة، وهو المطلق. ولو حلف: لا يتزوج، أو لا ينكح، فوكل من قبل له نكاح امرأة، فهل يحنث ؟ وجهان حكاهما المتولي. أحدهما: لا، كالبيع، وبه قطع الصيدلاني، والغزالي. والثاني: نعم، لان الوكيل هنا سفير محض، ولهذا يجب تسمية الموكل، وبه قطع البغوي. ولو قبل لغيره نكاحا، فمقتضى الوجه الاول الحنث، ومقتضى الثاني المنع. ولو حلف: لا يبيع ولا يشتري، فتوكل لغيره فيهما، حنث على الاصح، وهو الذي أطلقه جماعة، وقيل: لا يحنث، وقيل: إن صرح بالاضافة إلى الموكل، لم يحنث، وإن نواه ولم يصرح، حنث. ولو قال: لا أكلم عبدا اشتراه زيد، لم يحنث بتكليم عبد اشتراه وكيله. ولو قال: لا أكلم امرأة تزوجها زيد، فكلم من تزوجها لزيد وكيله، ففيه الوجهان، فيما لو حلف: لا يتزوج، فتزوج وكيله له. ولو حلف: لا يكلم زوجة زيد، حنث بتكليم من تزوجها بنفسه أو بوكيله بلا خلاف. واعلم أن كل هذه الصور فيمن أطلق ولم ينو، فأما إن نوى أن لا يفعل ولا يفعل بإذنه، أو لا يفعل ولا يأمر به، فيحنث إذا أمر به ففعل، هكذا أطلقوه مع قولهم: إن اللفظ حقيقة لفعل نفسه، واستعماله في المعنى الآخر مجاز. وفي هذا استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز جميعا، وهو بعيد عند أهل الاصول، والاولى أن يؤخذ معنى مشترك بين الحقيقة والمجاز جميعا، فيقال: إذا نوى أن لا يسعى في(8/43)
تحقيق ذلك الفعل، حنث بمباشرته، وبالامر به، لشمول المعنى وإرادة هذا المعنى إرادة المجاز فقط. قلت: هذا الذي ذكره الرافعي حسن، والاول صحيح على مذهب الشافعي، وجمهور أصحابنا المتقدمين في جواز إرادة الحقيقة والمجاز بلفظ واحد. والله أعلم. فرع حلف: لا يحلق رأسه، فأمر غيره، فحلقه، فقيل: يحنث للعرف. وقيل: فيه الخلاف، كالبيع. ولو حلف: لا يبيع من زيد، فباع من وكيله، أو وكل من باع من زيد، لم يحنث. ولو حلف: لا يبيع لزيد مالا، فباع ماله بإذنه أو بإذن الحاكم بحجر، أو امتناع الحاكم، حنث. وإن باع بغير إذن، لم يحنث، لفساد البيع. فلو وكل زيد وكيلا في بيع ماله، وأذن له في التوكيل، فوكل الوكيل الحالف وهو لا يعلم، نص في الام أنه لا يحنث، وهو تفريع على أحد القولين في حنث الناسي. وقال المتولي: إن كان أذن لوكيله أن يوكل عنه، حنث، لانه باع لزيد يعني إذا علم، أو قلنا: يحنث الناسي، وإن كان أذن له في التوكيل عن نفسه، فباع، لم يحنث، لانه لم يبع لزيد، بل لوكيله وإن أطلق الاذن في التوكيل، فعلى الخلاف في أن من يوكله وكيل الموكل، أم وكيل الوكيل ؟ ولو قال: لا يبيع لي زيد مالا، فوكل الحالف رجلا في البيع، وأذن له في التوكيل، فوكل الوكيل زيدا، فباع، حنث الحالف، سواء علم زيد أم لم يعلم، لان اليمين منعقدة على نفي فعل زيد، وقد فعله زيد باختياره. المسألة الثالثة: حلف لا يبيع، فباع بيعا فاسدا، أو لا يهب، فوهب هبة فاسدة، لم يحنث، وتنزل ألفاظ العقود على الصحيح. هذا إذا أطلق اليمين، فإن أضاف العقد إلى مالا يقبله، بأن حلف: لا يبيع الخمر، أو المستولدة، أو مال زوجته، أو غيرها بغير إذن، ثم أتى بصورة البيع، فإن مقصوده أن لا يتلفظ بلفظ العقد مضافا إلى ما ذكره، حنث، وإن أطلق، لم يحنث، لان البيع هو السبب(8/44)
المملك، وذلك لا يتصور في الخمر، أو المستولدة، أو مال زوجته، أو غيرها بغير إذن، ثم أتى بصورة يحنث بصورة البيع، وهو وجه لغيره حكاه صاحب التقريب والصحيح الاول، وسيأتي خلاف إن شاء الله تعالى في أنه هل يتعين حمل لفظ العبادات كصوم وصلاة على الصحيح ؟ ولا خلاف أنه لو حلف أن لا يحج، يحنث بالفاسد، لانه منعقد يجب المضي فيه كالصحيح. ولو حلف لا يبيع بيعا فاسدا، لم يحنث بالبيع الفاسد، ذكره الصيدلاني والروياني. وقال الامام: الوجه عندنا أنه يحنث. الرابعة: إذا حلف لا يهب، حنث بكل تمليك في الحياة خال عن العوض، كالهبة والصدقة والرقبى والعمرى، لانها أنواع خاصة من الهبة، وقيل: لا يحنث بما سوى الهبة. وقيل: يحنث بالرقبى والعمرى دون الصدقة، حكاه المتولي، ووجهه بأن الهبة والصدقة تختلفان اسما ومقصودا وحكما. أما الاسم، فلان من تصدق على فقير لا يقال: وهب له، وأما ا المقصود، فلان الصدقة للتقرب إلى الله تعالى، والهبة لاكتساب المودة. وأما الحكم، فلان النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يأكل الصدقة، ويأكل الهبة والهدية. هذا في صدقة التطوع، أما إذا أدى الزكاة، أو صدقة الفطر، فلا يحنث، كما لو أدى دينا. وعن القفال ترديد جواب فيه، والمذهب الاول. ولا يحنث بالاعارة، إذ لا تمليك فيها، ولا بالوصية، لانها تمليك بعد الموت، والميت لا يحنث ولا بالضيافة. وقال ابن القطان: يحنث بالوصية. وفي الضيافة وجه حكاه المتولي بناء على أن الضيف يملك ما يأكله، والصحيح الاول في المسألتين. ولا يحنث بالوقف عليه إن قلنا: الملك فيه للواقف، أو لله تعالى، وهو المذهب، وإن قلنا للموقوف عليه، حنث. وقيل: فيه خلاف. ولو قال الحالف لرجل: وهبتك كذا فلم يقبل لم يحنث على الصحيح، لان العقد لم يتم قال ابن سريج: يحنث، لانه يقال: وهبه كذا، فلم يبل، وخرج على هذا الخلاف فيما إذا أعمره أو أرقبه، ولم نصحح العقدين. ولو تم الايجاب والقبول في الهبة، لكن لم تقبض، فوجهان، أصحهما عند المتولي: يحنث لان الهبة حصلت، والمتخلف الملك. وعند البغوي: لا يحنث، لان مقصود الهبة ليحصل.(8/45)
قلت: الاصح لا يحنث، وصححه آخرون غير البغوي، منهم الرافعي في المحرر. والله أعلم. فرع حلف: لا يتصدق، فتصدق فرضا أو نفلا، يحنث، لشمول الاسم، وسواء تصدق على فقير أو غني. وقال المتولي: لو دفع إلى ذمي لا يحنث، لانه لا قربة فيه، وهذا ممنوع، ويحنث بالاعتاق دون الاعارة والضيافة، وفي الهبة وجهان. أحدهما: يحنث بها كعكسه. وأصحهما، لا. والصدقة والهبة تتداخلان تداخل العموم والخصوص، فكل صدقة هبة، ولا ينعكس. ولو وقف، فقد أطلق المتولي أنه يحنث، وقال غيره: يبنى على الاقوال في ملك الوقف لمن هو ؟ إن قلنا: للواقف، لم يحنث. وإن قلنا: لله تعالى، حنث، وإن قلنا: للموقوف عليه، فوجهان، كالهبة. فرع حلف: لا يبر فلانا، دخل في اليمين جميع التبرعات من الهبة والهدية والاعارة والضيافة والوقف وصدقة التطوع، فيحنث بأيها وجد ولو كان المحلوف عليه عبده، فأعتقه، حنث، وكذا لو كان عليه دين، فأبرأه، ولا يحنث بأن يدفع إليه الزكاة. ولو حلف: لا يعتق عبدا فكاتبه، وعتق بالاداء، لم يحنث، ذكره ابن القطان. ولو حلف: لا يضمن لفلان مالا، فكفل بدن مديونه، لم يحنث . الخامسة: حلف: لا مال له، حنث بكل مال حتى ثياب بدنه، وداره التي يسكن فيها، وعبده الذي يخدمه، ولا يختص بنوع من المال إلا أن ينويه، ولو كان له دين حال على ملئ مقر، حنث، كالوديعة. قال المتولي: وخرج فيه وجه من قوله القديم: لا زكاة في الدين، والمذهب الاول، وإن كان مؤجلا أو على معسر، أو جاحد، حنث على الاصح، لانه ثابت في الذمة يصح الابراء منه. وقيل: في الجاحد وجه ثالث: إن كان له مغضوب بينة، حنث قطعا، وإلا، فلا. ولو كان له عبد آبق، أو مال ضالة، أو مفصوب، أو مسروق، وانقطع خبرها، ففي الحنث وجهان، لتعارض أصل بقائها، وعدم الحنث. ولو كان الغاصب حاضرا،(8/46)
والمالك قادر على الانتنزاع منه، أو على بيعه ممن يقدر على انتزاعه، حنث قطعا، ذكره المتولي. ولو كان له مدبر أو معلق عتقه بصفة أو مال أو وصى به، حنث، لانها باقية على ملكه، ولا يحنث بالمكاتب على الاصح. ويقال: الاظهر، وقيل: قطعا، ويحنث بأم الولد على الاصح، لان رقبتها له، وله منافعها، وأرش الجناية عليها. ولو كان يملك منفعة بوصية أو إجارة، لم يحنث على الصحيح، ولا يحنث بالموقوف إن قلنا: الملك فيه لله تعالى أو للواقف، وإن قلنا: له، فكالمستولدة. ولو كان قد جنى عليه خطأ أو عمدا، أو عفا على مال، حنث، وإن كانت الجناية عمدا، ولم يقتص ولم يعف، قال في البيان يحتمل أن يبنى على أن موجب العمد ماذا ؟ إن قلنا: القود، لم يحنث، وإن قلنا: القود أو المال، حنث، وقد يتوقف في هذا. قلت: الصواب الجزم بأن لا حنث. والله أعلم. وكون المال مرهونا لا يمنع الحنث، وكذا عدم استقرار الملك. وقال ابن القطان: لا يحنث بالاجرة المقبوضة إذا لم تنقض المدة، وغلطه ابن كج. فرع حلف لا ملك له، حنث بالآبق والمغصوب، وإن كان له زوجة، قال المتولي: يبنى على أن النكاح هل هو عقد تمليك، أو عقد حل ؟ فإن قلنا: تمليك، حنث. قلت: المختار أنه لا حنث إذا لم تكن نية، لانه لا يفهم منه الزوجة، وينبغي أن لا يحنث بالكلب والسرجين وغيرهما من النجاسات، ولا بالزيت النجس إذا لم نجز بيعه. ولو حلف: لا رقيق له، أو لا عبد له، أو لاأمة له، وله مكاتب، لم يحنث على المنصوص، وهو المذهب، ويحنث بمدبر قطعا. والله أعلم.
الرابع : في الاضافات والصفات، وفيه مسائل: إحداها: حلف لا يدخل دار زيد أو بيته، أو لا يلبس ثوبه، أو لا يركب(8/47)
دابته، قال الاصحاب: مطلق الاضافة إلى من يملك مقتضى ثبوت الملك، ولهذا لو قال: هذه الدار لزيد، كان إقرارا بملكه. فلو قال: أردت أنها مسكنه، لا يقبل، وقد تضاف الدار والبيت إلى الانسان بجهة أنها مسكنه، لكنه مجاز، ولهذا يصح نفي الاضافة مع إثبات السكنى، فيقال: هذه الدار ليست ملك زيد، لكنها مسكنه. إذا عرف هذا فلا يحنث الحالف بدخول دار يسكنها زيد بإجارة أو إعارة أو غصب، إلا أن يقول أردت المسكن، ويحنث بدخول دار يملكها وإن لم يسكنها، إلا أن يقول: أرد ت مسكنه. ولو حلف: لا يدخل مسكن فلان، حنث بدخول مسكنه المملوك والمستأجر. وفي المغصوب وجهان، لانه لا يملك سكناه. قلت: أصحهما: الحنث. والله أعلم. وفي دخول داره التي لا يسكنها أوجه، أصحهما: لا يحنث، والثالث: إن كان سكنه ولو يوما، حنث، وإلا، فلا، ولو أراد مسكنه المملوك، لم يحنث بغيره بحال. فرع حلف: لا يدخل دار زيد، وقد وقف زيد على غيره دارا، قال المتولي: إن قلنا: الوقف ملك للواقف، حنث بدخولها، وإلا فلا. وإن دخل دارا موقوفة على زيد، فإن قلنا: الوقف ملك للموقوف عليه، حنث، وإلا، فلا. ولو دخل دارا لمكاتب زيد، لم يحنث. فرع حلف: لا يدخل دار المكاتب، حنث بدخولها على الصحيح، لانه مالك نافذ التصرف. المسألة الثانية: حلف: لا يدخل دار زيد، فباعها زيد، ثم دخلها، لم يحنث، لانه لم يدخل دار زيد، وكذا لو قال: لاأكلم عبد فلان أو أجيره أو زوجته، فكلم بعد زوال ملكه عن العبد وانقطاع الاجارة والنكاح، أو قال: لا أكلم سيد هذا العبد، أو زوج هذه ا المرأة، فكلم بعد زوال الملك والنكاح، لم يحنث. فلو اشترى زيد بعد ما باعها دارا أخرى، قال الصيدلاني: إن قال: أردت الاولى بعينها، لم يحنث بدخول الثانية، وإن قال: أردت أي دار تكون في ملكه، حنث بالثانية دون الاولى، وإن قال: أردت أي دار جرى عليها ملكه، حنث بأيتها دخل.(8/48)
هذا كله إذا قال: دار زيد ولم يعين، فأما إذا قال: لا أدخل دار زيد هذه، فباعها زيد، ثم دخلها، فيحنث على الصحيح، لانه عقد اليمين على عين تلك الدار، ووصفها باضافة قد تزول، فغلب التعيين كما لو قال: لا أكلم زوجة زيد هذه، أو عبده هذا، فكلمهما بعد الطلاق والعتق، يحنث. ولو قال: لا آكل لحم هذه البقرة، وأشار إلى شاة، فإنه يحنث بأكل لحمها، فيجئ فيها الخلاف فيما لو قال: بعتك هذه البقرة وهي شاة، لان العقود يراعى فيه شروط وتعبدات لا يعتبر مثلها في الايمان. ولو حلف: لا يكلم زيدا هذا، فبدل اسمه، واشتهر بالاسم المبدل، ثم كلمه، حنث اعتبارا بالتعيين. الثالثة: حلف: لا يدخل هذه الدار من هذا الباب، فدخلها من موضع آخر عتيق أو محدث، وذلك الباب بحاله، لم يحنث، فلو قلع الباب، وحول إلى منفذ آخر من تلك الدار، فثلاثة أوجه، أصحها: تحمل اليمين على المنفذ الاول، لانه المحتاج إليه في الدخول، فإن دخل منه، حنث، وإن دخل من المنفذ المحول إليه، لم يحنث. والثاني: يحمل على الباب المتخذ من الخشب ونحوه، لان اللفظ له حقيقة، فيحنث بدخول المنفذ المحول إليه دون الاول. والثالث: يحمل عليهما لان الاشارة وقعت إليهما، فلا يحنث بدخول منفذ آخر، وإن نصب عليه ذلك الباب، ولا بدخول المنفذ الاول، هذا إذا أطلق. فإن قال: أردت بعض هذه المحامل، حمل عليه، وارتفع الخلاف، ولو قلع الباب، ولم يحول إلى موضع آخر، حنث بدخول ذلك المنفذ على الاصح ويعبر عن الخلاف بأن الاعتبار بالمنفذ، أم بالباب المنصوب عليه ؟ قال المتولي: بناء عليه لو قال: لا أدخل هذا الباب، وقلنا: تنعقد اليمين على الباب المنصوب. فنقل إلى دار أخرى، فدخلها منه، حنث، والمذهب أنه لا يحنث إلا أن يريد: لا أدخل منه حيث نصب. ولو قال: لا أدخل باب هذه الدار، ولا أدخل هذه الدار من بابها، ففتح باب جديد، فدخلها منه، حنث على الاصح. ولو قال: لاأدخلها من بابها، فتسلق ونزل من السطح، لم يحنث.(8/49)
الرابعة: حلف: لا يركب دابة عبد زيد، ولا يدخل داره، لا يحنث بالدابة والدار المجعولين باسم العبد، إلا أن يريد: فإن ملكه السيد دابة أو دارا، بني على أنه هل يملك ؟ إن قلنا: نعم، حنث، وإلا، فلا. هذا هو الصحيح، وقول الجمهور. وقال ابن كج: لا يحنث وإن قلنا: يملك لان ملكه ناقص، والسيد متمكن من إزالته، فكأنه بينه وبينه، وصار كمن حلف لا يركب دابة زيد وركب مشتركة بينه وبين غيره. ولو حلف: لا يركب دابة زيد، فركب دابة كها زيد لعبده، إن قلنا: لم يملك، لم يحنث، وإلا فيحنث. ولو حلف: لا يركب دابة العبد، فعتق وركب دابة يمكها، فقطع الغزالي بالحنث، وابن كج بالمنع إذا لم يكن له بينة، لانه إنما يركب دابة حر. وينبغي أن يقال: إن قال: لا أركب دابة هذا، حنث، وإن قال: دابة عبد، فلا، وإن قال: دابة هذا العبد، فليكن على خلاف يأتي إن شاء الله فيما لو حلف لا يكلم هذا العبد، فعتق، ثم كلمه. ولو قال: لا أركب سرج هذه الدابة، فركب السرج المعروف بها، حنث وإن كان على دابة أخرى، ويقرب من هذا ما إذا حلف على دار أو خان منسوب، فيحمل على التعريف، كخان أبي يعلى عندنا، وكدار العقيقي بدمشق. المسألة الخامسة: حلف: لا ألبس ثوبا من به فلان علي، أو ما من به علي، فلبس ثوبا وهبه له، أو أوصى له به، حنث. ولو لبس ما باعه اياه بمحاباة، لم يحنث، لان المنة في نقص الثمن لا بالثوب. وكذا لو باعه ثوبا ثم أبرأه من ثمنه، فلبسه، أو أبدل الموهوب، أو الموصى به بغيره، أو باعه واشترى بثمنه ثوبا فلبسه، لم يحنث، لان الايمان تبنى على الالفاظ، لا على القصود التي لا يحتملها اللفظ، ولهذا لو من عليه رجل، فحلف: لا يشرب له ماء من عطش، فشربه من غير عطش، أو أكل له طعاما، أو لبس له ثوبا، لا يحنث، لان اللفظ لا يحتمله، وإن كان يقصد في مثل هذا الوضع الامتناع من جميع هذا. السادسة: حلف: لا يلبس من غزل فلانة، أو ثوبا من غزلها، فلبس ثوبا خيط بغزلها، لم يحنث وإن لبس ثوبا سداه من غزلها، واللحمة من غيره، فإن(8/50)
كان قال: لا ألبس ثوبا من غزلها، لم يحنث. وإن قال: لا ألبس من غزلها، حنث، بخلاف الخيط، فإنه لا يوصف بأنه ملبوس. فرع يراعى مقتضى اللفظ في هاتين المسألتين ونظائرهما في تناول الماضي والمستقبل أو أحدهما، فإذا قال: لا ألبس ما من به علي، فإنما يحنث بلبس ما تقدمت المنة به بالهبة وغيرها، ولا يحنث بما يمن به فيما بعد. وإذا قال: لا ألبس ما غزلته فلانة، فإنما يحنث بما غزلته من قبل دون ما تغزله فيما بعد. ولو قال: لا ألبس ما يمن به، أو ما تغزله، حنث بما تحدث المنة به وغزله دون ما سبق. ولو قال: لا ألبس من غزلها، دخل فيه الماضي والمستقبل. السابعة: حلف: لا يلبس ثوبا، حنث بلبس القميص والرداء والسراويل والجبة والقباء ونحوها، وسواء المخيط وغيره، والقطن والكتان والصوف والابريسم، وسواء لبسه على الهيئة المعتادة أو بخلافها، بأن ارتدى أو اتزر بالقميص، أو تعمم بالسراويل، ولا يحنث بلبس الجلود وما يتخذ منها، ولا بلبس الحلي والقلنسوة، ولا بوضع الثوب على الرأس، ولا بأن يفرشه ويرقد عليه. ولو تدثر به، لم يحنث على الاصح، لانه لا يسمى لبسا، ولو قال: لا ألبس حليا، حنث بالسوار والخلخال والطوق والدملج، وخاتم الذهب والفضة،(8/51)
ولا يحنث بالمتخذ من شبه أو حديد، ويحنث بمخنقة اللؤلؤ والجواهر وإن لم يكن فيها ذهب، ولا يحنث بتقلد السيف المحلى. وفي المنطقة المحلاة وجهان، أصحهما: أنها من حلي الرجل، ويحنث بلبس الخرز والسبج إن كان الحالف من قوم يعتادون التحلي بهما، كأهل السواد. وفي غيرهم وجهان، كما لو حلف غير البدوي: لا يدخل بيتا، فدخل بيت شعر. ولو حلف: لا يلبس شيئا، حنث بلبس الثياب والحلي والقلنسوة والجلود وفي الدرع والخف والنعل والجوشن وجهان. أصحهما: يحنث، وقد يطرد الخلاف في الحلي والقلنسوة. ولو قال: لا ألبس قميصا، فارتدى أو اتزر بقميص، حنث على الاصح، ولو فتقه وقطعه وارتدى، أو اتزر به، لم يحنث، لفوات اسم القميص. ولو قال: لا ألبس هذا القميص، فارتدى به أو اتزر، أو قال: لا ألبس هذا الرداء، فاتزر به، أتعمم، حنث على الصحيح، لتعلق اليمين بعين القميص. ولو قال: لا ألبس هذا الثوب، وكان المحلوف عليه قميصا أو رداء، ففتقه واتخذ منه نوعا آخر، بأن جعل القميص رداء، أو الرداء جبة أو تككا، أو الخف نعلا، ثم لبس المتخذ، حنث على الاصح، إلا أن ينوي لا يلبسه ما دام على تلك الهيئة. فلو لم يذكر الثوب، بل قال: لا ألبس هذا القميص، أو هذا الرداء، ففتقه، واتخذ منه نوعا آخر ولبسه، ففيه الوجهان، لكن الاصح هنا: لا يحنث، كما سيأتي في نظائره إن شاء الله تعال. فإن قلنا: لا يحنث، فأعاد الهيئة الاولى، ففي الحنث الوجهان في الدار تعاد بعد الانهدام بذلك النقص. ولو كان قال في يمينه: لا ألبس هذا القميص، أو الثوب قميصا، أو هذا الثوب أو الرداء رداء، فإن تقمص بالقميص، أو ارتدى بالرداء، حنث، وإن اتزر بالقميص أو تعمم بالرداء، لم يحنث. وكذا لو اتخذ من القميص غير قميص، ومن الرداء غير رداء، ثم لبسهما، ولو قال: لا ألبسه وهو قميص، فارتدى به، أو تعمم أو اتزر، حنث، لانه لبس وهو قميص، وإن اتخذ منه غير القميص ولبسه، لم يحنث. فرع الوجهان فيمن قال: لا ألبس هذا القميص، فاتخذ منه غيره ولبسه،(8/52)
يجريان في صور. منها: لو أشار إلى صبرة حنطة، وقال: لا آكل هذه، حنث بأكلها على هيئتها، وبأكلها بعد الطحن والعجن والخبز والطبخ. ولو قال: لا آكل حنطة، لم يحنث بالخبز والعجين والدقيق والسويق، ويحنث بأكل الحنطة نيئة ومقلية ومطبوخة ومبلولة. ولو قال: لا آكل هذه الحنطة، حنث بأكلها نيئة فقط، ومطبوخة، وهل يحنث بأكل دقيقها وسويقها وعجينها وخبزها ؟ وجهان. أصحهما: لا، وبه قطع بعضهم، لزوال اسم الحنطة، فصار كما لو زرعها وأكل حشيشها. أو قال: لا آكل هذا البيض، فصار فرخا فأكله، فلو قال: لا آكل من هذه الحنطة، فكذلك الحكم، إلا أن هنا يحنث بأكل بعضها. وحكي وجه أنه إذا قال: من هذه الحنطة، حنث بأكل كل ما يتخذ منها. ولو قال: لا آكل هذا الدقيق، فأكل عجينه أو خبزه، أو هذا العجين، فأكل خبزه، فعلى الخلاف. ومنها: لو قال: لا آكل هذا الحيوان، فذبحه وأكله، حنث، لان الحيوان هكذا يؤكل، وهو كما لو حلف: لا يلبس هذا الغزل، فلبس ثوبا نسج منه، حنث. ولو قال: لا آكل لحم هذه السخلة أو الخروف، فصار كبشا فذبحه وأكله، فمن قال في مسألة الحنطة: يحنث، قال هنا: يحنث، ومن قال هناك: لا يحنث، قال هنا: وجهان، أصحهما: لا يحنث، ويجري الوجهان فيما لو قال: لا أكلم هذا الصبي، فكلمه بعد مصيره شابا، أو هذا الشاب فكلمه بعد مصيره شيخا. ومنها: لو قال: لا أكلم هذا وأشار إلى عبد فعتق، ثم كلمه، حنث، ولو قال: لا أكلم هذا العبد، فعتق، فهو كمسألة السخلة. ومنها: لو قال: لا آكل هذا الرطب، فصار تمرا، أو هذا البسر فصار رطبا، أو العنب فصار زبيبا، أو لا أشرب هذا العصير، فصار خمرا، أو هذا الخمر فصار خلا، أو لا آكل هذا التمر، فاتخذ منه عصيدة، ثم أكل أو شرب، ففيه هذا الخلاف، وذكر الصيدلاني أن الشافعي رحمه الله نص على عدم الحنث في مسألة الحنطة والتمر، وعلى الحنث في الصبي والسخلة. فقيل: قولان: وقيل: بتقرير النصين. والفرق من وجهين: أحدهما: أن مسألة الحنطة والتمر تبدل الاسم، وفي السخلة والصبي تبدل الصفة، وتبدل الصفة لا يسقط الحنث، والثاني: أن التبدل(8/53)
في الاول بمعالجة، بخلاف الثاني. فرع حلف: لا يلبس الخاتم، فجعله في غير الخنصر من أصابعه، فعن المزني في الجامع أنه لا يحنث، وتابعه البغوي، وقاسه على ما لو حلف: لا يلبس القلنسوة، فجعلها في رجله، والذي حكاه الروياني عن الاصحاب أنه يحنث. الثامنة: حلف: لا يخرج فلان إلا بإذنه، فأذن بحيث لم يسمح المأذون له، ولم يعلم وخرج، فطريقان: المذهب المنصوص والذي قطع به الجمهور: لا يحنث، لان الاذن والرضى قد حصل. وقيل وجهان، وقيل: قولان منصوص ومخرج: انه يحنث، وهو مخرج من مسألة عزل الوكيل. وعلى هذا الخلاف ما لو قال لزوجته: إن خرجت بغير إذني، فأنت طالق، فأذن وخرجت وهي جاهلة بالاذن، فينبغي أن يشهد على الاذن ليثبته عند التنازع. فإن لم تكن بينة، فهي المصدقة بيمينها في إنكار الاذن. وفي كتاب ابن كج أن الزوج هو المصدق، كما لو أنكر أصل التعليق. ثم قال الشافعي رحمه الله: الورع أن يحنث نفسه، وليس معناه أن يعدها مطلقة من غير أن يطلقها، لانا حكمنا بأنها زوجته، فكيف تنكح غيره ؟ بل إن كان علق الطلاق الثلاث، فالورع أن يطلقها ثلاثا، وإن كان المعلق طلقة رجعية، وأراد إمساكها، راجعها، وإلا، طلقها لتحل للازواج، فإن راجعها، ثم طلقها طلقتين، فالورع أن لا ينكحها إلا بعد زوج، وإذا نكحها بعد زوج، كانت عنده بطلقة، فإن طلقها، لم تحل إلا بزوج، لانه لم يقع عليها بالخروج شئ، وقد طلقها بعده ثلاثا، والزوج الثاني قبل استيفاء الثلاث لا أثر له. فرع حلف: لا يخرج فلان بغير إذنه، أو إلا بإذنه، فخرج بغير إذنه، حنث، وإن خرج بإذنه، لم يحنث. وعلى التقديرين تنحل اليمين حتى لو خرج بعد ذلك بإذن أو بغير إذن، لم يحنث. وكذا لو قال لزوجته: إن خرجت بغير إذني أو إلا بإذني فأنت طالق، إن خرجت بغير إذنه، طلقت، وإن خرجت بالاذن، لم تطلق، وتنحل اليمين على التقديرين. وكذا الحكم لو قال: إن خرجت حتى آذن لك، أو إلى أن آذن لك أو إلا أن آذن لك، فأنت طالق. وحكي قول أو وجه وهو(8/54)
اختيار المزني والقفال، أنه لا تنحل اليمين بخروجها بالاذن، كما لو قال: إن خرجت لابسة للحرير، فأنت طالق، فخرجت غير لابسة، لا تنحل اليمين، حتى لو خرجت بعده لابسة طلقت، والمذهب الاول، وهو المنصوص، لان اليمين تعلقت بخرجة واحدة، وهي الاولى. قال البغوي: ومقتضى هذا أنه لو قال: إن خرجت غير لابسة للحرير أو لابسة، فأنت طالق، فخرجت لابسة تنحل اليمين، وهذه يخالف قول الغزالي: لو قال إن خرجت بلا خف، فأنت طالق، فخرجت بخف، لا تنحل اليمين، وفرق بينه وبيمسألة الاذن بفرق ضعيف، فالوجه التسوية بين الصورتين، كما ذكره البغوي. ولو قال: كلما خرجت، أو كل وقت خرجت بغير إذني، فأنت طالق، فخرجت مرة بالاذن، لم تنحل اليمين، لانها صيغة تكرار. فلو قال: أذنت لك في الخروج كلما أرد ت، أغناه ذلك عن تجديد الاذن لكل خرجة. ولو قال: متى خرجت، أو متى ما، أو مهما، أو أي وقت، أو أي حين، فالحكم كما لو قال: إن خرجت، لان هذه الصيغ لا تقتضي التكرار. وفي الرقم للعبادي: إلحاق متى ما، ومهما بكلما وهو خلاف نصه في الام. ولو قال: إن خرجت أبدا إلا بإذني، فأنت طالق، لم يلزم التكرار أيضا، بل معناه في أي وقت خرجت، قريب أم بعيد وإذا علق الطلاق كما صورنا، ثم أذن لها في الخروج، ثم رجع عن الاذن، وخرجت بعده، نص في الام أنها لا تطلق، لان الاذن قد وجد، فزال حكم اليمين، والمنع بعده لا يفيد. ورأى أبو بكر الفارسي والمحققون تنزيل النص على ما إذا قال في التعليق: حتى آذن لك، لانه جعل إذنه غاية اليمين، وقد حصل الاذن، فأما إذا قال: بغير إذني أو إلا بإذني، فإذا رجع، ثم خرجت، فهذا خروج بغير إذن، وهو أول ما وجد بعد اليمين، فيقع الطلاق. ومنهم من قال: قوله: إلا بإذني محتمل أيضا للغاية، فيحمل عليها. ولو قال: إن خرجت بغير إذني لغير عيادة، فأنت طالق، فخرجت لعيادة، ثم عرضت حاجة فاشتغلت بها، لم تطلق. وإن خرجت لعيادة وغيرها. فالمذكور في الشامل منسوبا إلى نصه في الام أنه لا يحنث، وذكر البغوي أنه الاصح. ويشبه أن يقال: إن كان المقصود بقوله لغير عيادة ما هو بمعزل عنها، لم يحنث، وهذا هو السابق إلى الفهم منه، وإن كان المقصود ما يغايره في الحقيقة، فمجموع العيادة والحاجة الاخرى يغاير مجرد العيادة.(8/55)
قلت: الصواب الجزم بأنه لا يحنث. والله أعلم. وإن قال: إن خرجت إلا لعيادة، فينبغي أن يحنث، لانه يصدق أن يقال: لم تخرج للعيادة بل لها ولغيرها.
النوع الخامس : في الكلام وفيه مسائل: إحداها: إذا قال: والله لا أكلمك فتنح عني، أو قم أو اخرج، أو شتمه، أو زجره، حنث، سواء عقب هذا لليمين متصلا أم فصله، لانه كلمه. وقيل: لا يحنث إذا وصله، لان المقصود به تأكيد اليمين، والصحيح الاول. ولو كتب إليه كتابا أو أرسل رسولا، فقولان: الجديد: لا يحنث، ومنهم من قطع به، وقيل: القديم إنما هو إذا نوى بيمينه المكاتبة. وقيل: القولان في الغائب، فإن كان معه في المجلس، لم يحنث قطعا، والمذهب طردهما في كل الاحوال. ويجريان في الاشارة بالرأس والعين، ولا فرق على الجديد بين إشارة الاخرس والناطق، وإنما أقيمت إشارة الاخرس في المعاملات مقام النطق للضرورة. فرع هجران المسلم فوق ثلاثة أيام، فلو كاتبه أو راسله، فهل يزول الاثم ؟ نظر إن كانت مواصلتهما قبل الهجران بالمكاتبة أو المراسلة، ارتفع الاثم، وإلا فإن تعذر الكلام لغيبة أحدهما، فكذلك، وإلا، فوجهان بناء على القولين الجديد والقديم، حتى لو حلف أن يهاجره، فهل يحنث بالمكاتبة والمراسلة ؟ فيه هذا الخلاف. وأطلق ابن أبي هريرة أنه يرتفع الاثم بالمكاتبة والمراسلة، ثم لا يخفى أن المكاتبة إنما ترفع الاثم إذا خلت عن الايذاء والايحاش، وإلا، فهو كما(8/56)
لو كلمه بالشتم والايذاء، فإنه لا تزول به المهاجرة، بل هو زيادة وحشة، وتأكيد للمهاجرة، ولا وحنث بمثل هذه المكاتبة إذا حلف على المهاجرة. قلت: تحريم المهاجرة فوق ثلاثة أيام إنما هو فيما إذا كانت المهاجرة لحظوظ النفوس وتعنتات أهل الدنيا، فأما إذا كان المهجور مبتدعا أو مجاهرا بالظلم والفسوق، فلا تحرم مهاجرته أبدا، وكذا إذا كان في المهاجرة مصلحة دينية، فلا تحريم، وعلى هذا يحمل ما جرى للسلف من هذا النوع، والاصح أنه لا يزول التحريم بالمكاتبة والمراسلة، قال صاحب البيان: وينبغي أن تكون الاشارة والرمز كالمكاتبة كما قلنا في الحنث. والله أعلم. فرع حلف: لا يكلمه، ثم سلم عليه، حنث، لان السلام كلام، وأن يسلم على قوم هو فيهم، فإن قصده بالسلا حنث. قال في البيان ويجئ أن لا يحنث على قول من قال: إذا حلف لا يأكل السمن، فأكله مع غيره، لا يحنث وإن استثنى لفظا، لم يحنث، وإن استثناه بالنية، لم يحنث أيضا على المذهب. وإن أطلق، حنث على الاظهر. ولو سلم من صلاته، والمحلوف عليه من المأمومين، ففيه هذا التفصيل. ولو صلى الحالف خلف المحلوف عليه، فسبح لسهوه، أو فتح عليه القراءة، لم يحنث، ولو قرأ آية، فهم المحلوف عليه منها مقصوده، فإن قصد القراءة، لم يحنث، وإلا، فيحنث. المسألة الثانية: حلف: لا يتكلم حنث بترديد الشعر مع نفسه، لان الشعر كلام، ولا يحنث بالتسبيح والتهليل والتكبير والدعاء على الصحيح، لان اسم الكلام عند الاطلاق ينصرف إلى كلام الادميين في محاوراتهم. وقيل: يحنث، لانه يباح للجنب، فهو كسائر الكلام، ولا يحنث بقراءة القرآن.(8/57)
قلت: قال القفال في شرح التلخيص: لو قرأ التوراة الموجودة اليوم، لم يحنث، لانا نشك أن الذي قرأه مبدل أم لا. والله أعلم. الثالثة: حلف: ليثنين على الله أحسن الثناء، فطريق البر أيقول: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك زاد ابرهيم المروزي في آخره: فلك الحمد حتى ترضى فصور المتولي المسألة فيما لو قال: لاثنين على الله تعالى بأجل الثناء، أو أعظمه، وزاد في أول الذكر سبحانك ولو قال: لاحمدن الله بمجامع الحمد، وقال المتولي: بأجل التحاميد، فطريق البر أن يقول: الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده ولو قال: لاصلين على النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل الصلاة عليه، فطريق البر أن يقول: اللهم صل على الله محمد وعلى آل محمد كلما ذكره الذاكرون وكلما سها عن ذكره الغافلون. ذكره ابرهيم المروذي. قلت: أما الصورتان الاوليان، فذكرهما جماعة من متأخري الخراسانيين، وليس لهما دليل يعتمد. ومعنى يوافي نعمه أي: يلاقيها، فتحصل معه، ويكافئ مزيده بهمزة في آخره، أي: يساوي مزيد نعمه ومعناه: يقوم لشكر ما زاد من النعم والاحسان. وأما مسألة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد ذكرها عن ابرهيم المروزي وحده، وقد يستأنس لذلك بأن الشافعي رحمه الله كان يستعمل هذه العبارة، ولعله أول من استعملها، ولكن الصواب والذي ينبغي أن يجزم به أن أفضل ما يقال عقيب التشهد في الصلاة: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما(8/58)
صليت على إبرهيم إلى آخره، فقد ثبت في الصحيح أنهم قالوا يا رسول الله: كيف نصلي عليك، فقال: قولوا: اللهم صل على محمد إلى آخره. والله أعلم. فصل حلف: لا يصلي، فهل يحنث بالتحرم بالصلاة أم لا يحنث حتى يركع ؟ أم حتى يفرغ من الصلاة ؟ فيه أوجه: أصحها الاول. ولو أفسدها بعد الشروع، حنث على الاول، ولا يحنث على الثالث، ولا على الثاني إن لم يكن ركع، ولا يجئ الثاني إذا صلى على جنازة. ولو أحرم مع إخلاله ببعض الشروط، لم يحنث، لانه لم يصل لعدم انعقادها. ولو حلف: ما صليت وقد أتى بصورة صلاة فاسدة، لم يحنث ولو لم يجد ماء ولا ترابا، وصلى، حنث، لانها صلاة إلا أن يريد الصلاة المجزئة. ولو قال: لا أصلي صلاة، لا يحنث حتى يفرغ. قلت: وينبغي أن لا يحنث بسجود الشكر والتلاوة والطواف، ويحنث بالصلاة بالايماء، حيث يحكم بصحتها. والله أعلم. ولو حلف: لا يصوم، فهل يحنث بأن يصبح صائما، أو بأن ينوي صوم التطوع قبل الزوال، أم لا يحنث حتى يتم ؟ فيه الخلاف. وإذا قلنا: لا يحنث إ بالفراغ، فهل نتبين استناد الحنث إلى الاول فيه وجهان.
النوع السادس : في تأخير الحنث وتقديمه وفيه مسائل:(8/59)
إحداها: حلف: ليأكلن هذا الطعام غدا، فلا يخفى البر إن أكل غدا، والحنث إن أخره عن الغد مع الامكان. فلو تلف الطعام قبل الغد بنفسه، أو بإتلاف أجنبي، فقد فات البر بغير اختياره، فيخرج حنثه على قولي المكره، والاظهر أنه لا يحنث. ويقال: إنه المنصوص، فإن قلنا: يحنث، فهل يحنث في الحال الحصول اليأس، أم بعد مجئ الغد ؟ فيه قولان أو وجهان، فقطع ابن كج بالثاني. قال المتولي: وفائدة الخلاف أنه لو كان معسرا يكفر بالصوم، جاز أن ينوي صوم الغد عن كفارته إن قلنا: يحنث قبل الغد. قلت: ومن فوائده لو مات الحالف قبل مجئ الغد أو أعسر، وقلنا: يعتبر في الكفارة حال الوجوب. والله أعلم. فإن قلنا: لا يحنث قبل مجئ الغد، فهل يحنث إذا مضى من الغد زمن إمكان الاكل أم قبيل غروب الشمس ؟ وجهان. قال البغوي: أصحهما الاول ولو مات الحالف قبل مجئ الغد، فقيل: هو كتلف الطعام، فيكون على الخلاف، والمذهب القطع بأن لا حنث، وهو الذي يقتضي كلام ابن كج والبغوي وغيرهما، لانه لم يبلغ زمن البر والحنث. ولو مات بعد مجئ الغد وقبل امكان الاكل، فهو كتلف الطعام بعد مجئ الغد على ما سنذكره إن شاء الله تعالى من التفصيل، وقطع المتولي بأن لا حنث. أما إذا تلف الطعام أو بعضه بعد مجئ الغد، فينظر، إن كان قبل التمكن من الاكل، فهو كتلف الطعام قبل الغد، وفيه الخلاف. وإن تلف بعد التمكن، أو مات الحالف بعد التمكن، فالمذهب الحنث، لانه تمكن من البر، فصار كما لو قال: لآكلن هذا الطعام، وتمكن من أكله ولم يأكله حتى تلف، فإنه يحنث قطعا. فعلى(8/60)
هذا هل يحنث في الحال، أم قبل غروب الشمس ؟ فيه الوجهان. ولو أتلف الحالف الطعام قبل الغد بأكله أو بغيره، أو أتلف بعضه، حنث، وهل يحنث في الحال، أم بعد مجئ الغد ؟ فيه الخلاف، هما لو تلف. ولو قال: لآكلن هذا الطعام قبل غد، فتلف قبل الغد وبعد التمكن، حنث. وهل يكون حنثه في الحال، أم إذا جاء أول الغد ؟ وجهان حكاهما الصيدلاني. ولو قال: لآكلنه اليوم، فيقاس بما ذكرناه في الغد. الثانية: قال: والله لاقضين حقك، ومات قبل القضاء، نظر، إن تمكن من القضاء فلم يفعل، حنث. وإن مات قبل التمكن، فعلقولي الاكراه، كذا نقله البغوي والمروزي وغيرهما، وقطع المتولي بأنه لا يحنث ولو قال: لاقضين حقك غدا، ومات قبل مجئ الغد أو بعد مجيئه وقبل التمكن، فمن أثبت القولين إذا لم يقيد بالغد، أثبتهما هنا، ومن قطع بالمنع، قطع بالمنع هنا أيضا. ولو مات بعد التمكن جاء الطريقان المذكوران في مسألة الطعام وموت صاحب الحق: لا يقتضي الحنث، لا عند الاطلاق، ولا عند التقييد بالغد، لامكان القضاء بالدفع إلى الورثة. ولو قال: لاقضينك حقك غدا، فهو كقوله: لآكلن هذا الطعام غدا، فطريق البر والحنث ظاهر، وموت صاحب الحق هنا كتلف الطعام. فإن مات قبل مجئ الغد أو بعده وقبل التمكن من القضاء، فعلى قولي الاكراه، وإن مات بعد التمكن، ففيه الطريقان السابقان. فإن حنثناه، فهل يحنث في الحال أم بعد مجئ الغد ؟ فيه القولان. وموت الحالف والحالة هذه قبل مجئ الغد وبعده على ما ذكرنا في مسألة الطعام. فإن حنثناه، فلا يستبعد كون وقت الحنث دخل وهو ميت، لان السبب هو اليمين، وكانت في الحياة، وهو كما لو حفر بئرا متعديا، فتلف بها إنسان بعد موته، يجب الضمان والكفارة في ماله. وإن قضاه قبل مجئ الغد، فقد فوت البر، فيحنث إلا أن يريد أنه لا يؤخر القضاء عن الغد، وهو كإتلاف الطعام قبل الغد ولو أبرأه صاحب الحق في هذه الصور. فإن قلنا: الابراء يحتاج إلى القبول، فقبل، حنث لتفويته البر باختياره، إلا أن يريد باليمين: لا يمضي(8/61)
الغد، وحقه باق عليه. وإن لم يقبل، لم يحنث، لبقاء الحق عليه وإمكان قضائه. وإن قلنا: لا يحتاج الابراء إلى قبول، سقط الدين. وفي الحنث قولا الاكراه، لفوات البر بغير اختياره. والهبة في العين والصلح عن الدين، كالابراء إذا قلنا: إنه يحتاج إلى القبول. ولو قال: لاقضينك حقك غدا إلا أن تشاء أن أؤخره، فإن قضاه غدا، بر، سواء شاء صاحب الحق أم لا. وإن لم يقضه في الغد، فإن شاء صاحبه تأخيره قبل مضي الغد، لم يحنث، وإن لم يشأ، حنث. وكذا لو قال: إلا أن يشاء زيد أن أؤخره، إلا أنه إذا مات صاحب الحق قبل مجئ الغد، فالحنث على قولي الاكراه، وإن مات بعده وبعد التمكن، ففيه الطريقان. وإن مات زيد قبل الغد أو في أثنائه ولم يعلم مشيئته، لم يحنث في الحال، لامكان القضاء بعد موته، فإذا غربت الشمس ولم يقض، حنث حينئذ. ولو قال: لاقضينك ك حقك إلى الغد إلا أن تشاء تأخيره، فينبغي أن يقدم القضاء على طلوع الفجر من الغد، فإن لم يفعل ولم يشأ صاحب الحق تأخيره، حنث. فرع حلف: ليطلقن زوجته غدا، فطلقها اليوم، نظر إن لم يستوف الثلاث، فالبر ممكن، وإن استوفاه، فقد فوت البر، فيحنث، وكذا لو كان عليه صلاة عن نذر، فحلف ليصلينها غدا، فصلاها اليوم، حنث. الثالثة: قال: لاقضين حقك عند رأس الهلال، أو مع رأس الهلال، أو عند الاستهلال، أو مع رأس الشهر، فهذه الالفاظ تقع على أول جزء من الليلة الاولى من الشهر، ولفظتا عند ومع تقتضيان المقارنة. فإن قضاه قبل ذلك أو بعده، حنث، فينبغي أن يعد المال ويترصد ذلك الوقت فيقضيه فيه، وحكى الامام والغزالي وجها أن له فسخه في الليلة الاولى ويومها، لان اسم رأس الهلال والشهر يقع عليهما والصحيح الاول. وإذا أخذ في الكيل أو الوزن عند رؤية الهلال، وتأخر الفراغ لكثرة المال، لم يحنث، وبمثله أجيب فيما لو ابتدأ حينئذ بأسباب القضاء ومقدماته، كحمل الميزان. ولو أخر القضاء عن اليلة الاولى للشك في الهلال ، فبان كونها من الشهر، ففي الحنث قولا حنث الناسي والجاهل. ولو قال: لاقضين(8/62)
حقك أول الشهر، فهو كقوله: عند رأس الشهر. ولو قال: أول اليوم، فينبغي أن يشتغل بالقضاء عند طلوع الفجر. ولو قال: لاقضين حقك إلى رأس الشهر، أو إلى رمضان، فالاصح أنه يشترط تقديم القضاء على رأس الشهر، وعلى رمضان. وقيل: هو كقوله عند رأس الشهر. فرع لو قال: لاقضين حقك إلى حين، لم يختص ذلك بزمان مقدر، بل يقع على القليل والكثير، كما سبق في كتاب الطلاق، فيكون كقوله: لاقضين حقك، فمتى قضاه، بر، وإنما يحنث إذا مات قبل القضاء مع التمكن. ولو قال: إلى زمان أو دهر أو حقب، أو أحقاب، فكذلك، وجميع العمر مهلة له. ولو قال: لا أكلمك حينا أو دهرا أو زمانا أو حقبا، بر بأدنى زمان، ولو قال: أنت طالق بعد حين، طلقت إذا مضى لحظة. والفرق أن قوله: طالق بعد حين تعليق، فيتعلق بأول ما يسمى حينا. وقوله: لاقضين حقك، وعد، والوعد لا يختص بأول ما يقع عليه الاسم ولو قال: لاقضين حقك إلى مدة قريبة أو بعيدة، لم يتقدر أيضا، وهو كالحين. فلو قال: إلى أيام، فوجهان. قال القاضي أبو الطيب والصيدلاني والبغوي وغيرهم: يحمل على ثلاثة أيام إذا لم يكن نية. وقال آخرون، منهم المحاملي: هو كالحين، لانه يقع على القليل والكثير. يقال: أيام العدل، وأيام الفتنة، فلا يتقدر. قلت: الاول أصح، لانه المفهوم عند الاطلاق. وأما أيام الفتنة ونحوه، فتخرج بالقرينة. والله أعلم.
النوع السابع : في الخصومات ونحوها فيه مسائل: إحداها: حلف لا يرى منكرا إلا رفعه إلى القاضي، فله أحوال. إحداها : أن يعين القاضي فيقول: إلى القاضي فلان، فإذا رأى منكرا، لا يلزمه المبادرة بالدفع إليه، بل له مهلة مدة عمره وعمر القاضي، فمتى رفعه إليه، بر، ولا يشترط في الرفع أن يذهب إليه مع صاحب المنكر، بل يكفي أن يحضر وحده عند القاضي، ويخبره أو يكتب إليه بذلك، أو يرسل رسولا بذلك فيخبره، أو يكتب به كتابا (إليه)، فإن لم يرفعه إليه حتى مات أحدهما بعد التمكن، حنث، فإن لم يتمكن من الرفع لمرض أو حبس، أو جاء إلى باب القاضي فحجب، ففيه قولا حنث(8/63)
المكره. ولو بادر بالرفع، فمات القاضي قبل وصوله إليه فطريقان. قال الشيخ أبو حامد: فيه القولان، وقال أبو إسحق والقاضي أبو الطيب: لا يحنث قطعا وهو المذهب لانه لم يتمكن. ولو مات الحالف في صورة المبادرة قبل وصوله إلى القاضي، قال المتولي: لا كفارة بلا خلاف. فلو عزل ذلك القاضي، فإن كان نيته أن يرفع إليه وهو قاض، أو تلفظ به لم يبر بالرفع إليه وهو معزول، ولا يحنث. وإن كان تمكن، لانه ربما ولي ثانيا، واليمين على التراخي. فإن مات أحدهما قبل أن يولى، تبينا الحنث، وإن نوى غير ذلك القاضي، وذكر القضاء تعريفا له، بر بالرفع إليه وهو معزول. وإن أطلق، فهل يبر بالرفع إليه وهو معزول ؟ وجهان: أصحهما: نعم، كما لو قال: لا أدخل دار زيد هذه فباعها، فإنه يحنث به تغليبا للعين، فلا يحنث هنا تغليبا للعين. الثانية: أن يقول: إلا رفعته إلى قاض، فيبر بالرفع إلى أي قاض كان في ذلك البلد وغيره. الثالثة: يقول: إلا رفعته إلى القاضي، ولا يعين أحدا بلفظه ولا بنيته، فهل يختص بقاضي البلد ؟ وجهان أحدهما: لا، بل يبر بالرفع إلى أي قاض كان، والصحيح اختصاصه بقاضي البلتد حملا له على المعهود. وهل يتعين قاضي البلد في الحال، لانه المعهود، أم يقوم مقامه من ينصب بعده ؟ وجهان ويقال: قولان أصحهما: الثاني، حتى لو عزل الاول وولي غيره يبر بالرفع إلى الثاني دون الاول. فإذا قلنا: يتعين قاضي البلد في الحال، فالحكم كما ذكرنا في الحالة الاولى، وعلى هذا الوجه، هل الاعتبار بحال اليمين، أم بحال رؤية المنكر ؟ وجهان أصحهما: الاول. ولو كان في ا لبلد قاضيان، وجوزناه، فيرفع إلى من شاء منهما. ولو رأى المنكر بين يدي القاضي المرفوع إليه، قال في الوسيط: لا معنى للرفع إليه وهو يشاهده. وقال المتولي: إنما يحصل البر بأن يخبره به. ولو رأى المنكر بعد اطلاع القاضي عليه، فوجهان، أحدهما أنه فات البر بغير اختياره، فيكون على القولين، وأصحهما وبه أجاب البغوي: أنه يبر بالاخبار وصورة الرفع في الاحوال الثلاث. ولو لم ير الحالف منكرا حتى مات، فلا شئ عليه، وفي حال تعيين القاضي. ولو لم ير منكرا حتى مات القاضي، فكذلك لا شئ عليه. ولو رآه بعد(8/64)
عزله، فإن نوى الرفع إليه في حال القضاء، فلا شئ عليه. وإن قصد عينه، فليخبره. ولو حلف: لا يرفع منكرا إلى القاضي فلان، حنث بالرفع إليه وهو قاض. فلو رفع بعد العزل، عاد التفصيل المذكور. وإن قال: إلى القاضي، فهل يحمل على قاضي البلد حينئذ، أم يحنث بالرفع إلى من ينصب بعد عزله ؟ فيه الخلاف السابق. المسألة الثانية: حلف: لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه منه، ففي المسألة نظران، أحدهما: في حقيقة المفارقة، والقول فيها على ما سبق في افتراق المتبايعين عن المجلس، والرجوع إلى العادة. فإن فارق الحالف قبل الاستيفاء مختارا، حنث، وإن كان ناسيا أو مكرها، فعلى القولين في الناسي والمكره. ولو فارقه الغريم وفر منه، فقيل قولان كالمكره، والمذهب القطع بأنه لد يحنث سواء تمكن من التعلق به ومنعه أو من متابعته أم لا، بل لو كانت مفارقته بإذن الحالف، لم يحنث، لانه حلف على فعل نفسه، فلا يحنث بفعل الغريم. وقال ابن كج: يحنث إن أذن له. وقال الصيدلاني: يحنث إن أمكنه منعه فلم يفعل. وقال القاضى حسين: يحنث إن أمكنه متابعته، لانه بالمقام مفارق، والصحيح الاول: ولو كانا يتماشيان، فمشى الغريم، ووقف الحالف، فذكر الغزالي أنه لا يحنث، لان الفارقة حصلت بحركة الغرم، لا بسكون الحالف، والصحيح الذي أجاب به القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي أنه إذا مضى أحدهما في مشيه ووقف الآخر، حنث الحالف، لانه إن وقف الغريم، فقد فارقه الحالف بمشيه، وإن وقف الحالف فقد فارقه بالوقوف لان الحادث هو الوقوف، فنسب المفارقة إليه بخلاف ما إذا كانا ساكنين، فابتدأ الغريم بالمشي، لان الحادث هناك المشي، وحيث قلنا: لا حنث بمفارقة الغريم. فلو فارق الحالف مكانه بعد ذلك، لم يحنث. أما إذا قال: لا تفارقني حتى استوفي منك حقي أو حتى توفيني حقي، فاليمين منعقدة على فعل الغريم. فإن فارقه الغريم مختارا، حنث الحالف، سواء كانت مفارقته بإذنه أم دون إذنه. وقيل: إن فر منه، ففي حنثه القولان في المكره، والمذهب الاول، لان اليمين على فعله، وهو مختار في الفرار. فإن فارقه ناسيا أو مكرها، خرج الحنث على القولين. ونقل البغوي طريقا قاطعا بالحنث، وأن الاختيار إنما يعتبر في فعل الحالف، والمذهب الاول. ولو فر الحالف من الغريم، لم يحنث، ويجئ وجه(8/65)
أنه إن أمكن الغريم متابعته فلم يفعل، حنث. ولو قال: لا افترقت أنا وأنت حتى أستوفي، أو لا تفترق لا أنا ولا أنت حتى أستوفي فاليمين على فعل كل منهما، فأيهما فارق الآخر مختارا، حنث الحالف. فإن فارق ناسيا أو مكرها، ففيه الخلاف. ولو قال: لا افترقنا حتى أستوفي، أو لا نفترق، فوجهان: أحدهما: لا يحنث حتى يفارق كل واحد منهما الآخر. وأصحهما: يحنث بمفارقة أحدهما الآخر، لانه يقال: افترقا. فرع النظر الثاني في استيفاء الحق، فإذا قال: لا أفارقك حتى أستوفي حقي منك، ثم أبرأه وفارقه، حنث، لانه فو ت البر باختياره، وهل يحكم بالحنث بنفس الابراء، أم بعد المفارقة ؟ يجئ فيه الخلاف السابق في نظائره. ولو أفلس الغريم، فمنعه الحاكم من ملازمته ففارقه، ففيه قولا حنث المكره. وإن فارقه باختياره، حنث. وإن كان تركه واجبا كما لو قال: لا أصلي الفرض، حنث. ولو أحاله الغريم على رجل، أو أحال هو على الغريم غريما له عليه دين، ثم فارقه، فطريقان: أحدهما: البناء على أن الحوالة استيفاء أم اعتياض ؟ إن قلنا: استيفاء، لم يحنث، والمذهب القطع بالحنث بكل حال، لانه ليس استيفاء حقيقة وحيث جعلناها استيفاء، فمعناه أنها كالاستيفاء في الحكم، لكن لو نوى أنه لا يفارقه وعليه حق، لم يحنث. ولو أخذ عوضا عن حقه، وفارقه، حنث إلا أن ينوي ما ذكرنا، وسواء كانت قيمة العوض مثل حقه، أو أقل أو أكثر، لانه لم يستوف حقه، وإنما استوى بدله. وإن استوفى حقمن وكيل الغريم، أو من أجنبي تبرع به، وفارقه، حنث إن كان قال: حتى أستوفي حقي منك، ولا يحنث إن اقتصر على قوله: حتى أستوفي حقي. ولو استوفى ثم فارقه، ثم وجد ما إستوفاه ناقصا، لم يحنث إن كان من جنس حقه، فإن لم يكن من جنسه، بأن كان حقه الدراهم، فخرج(8/66)
المأخوذ نحاسا أو مغشوشا، فإن كان عالما بالحال، حنث، وإلا، فعلى قولي الناسي والجاهل. فرع حلف الغريم: ليقضين حقه قبل أن يفارقه، أو لا يفارقه حتى يقضي حقه، فالقول في مفارقته مختارا أو مكرها وفي الحوالة والمصالحة وغيرها على قياس ما سبق. ولو حلف: لا يعطيه حقه، فأعطاه مكرها أو ناسيا، فهو على الخلاف. ولو قال: لا يأخذ ولا يستوفي، فأخذ، حنث، سواء كان المعطي مكرها أو مختارا. فلو كان الآخذ مكرها، ففيه الخلاف. المسألة الثالثة: حلف على الضرب، تعلقت اليمين بما يسمى ضربا، ولا يكفي وضع اليد والسوط ورفعهما، ولا العض والقرص ونتف الشعر. وفي الوكز واللكز واللطم وجهان، أصحهما: أنه ضرب، ولا يشترط الايلام، ولهذا يقال: ضربه ولم يؤلمه، بخلاف الحد والتعزير، فإنه يعتبر فيهما الايلام، لان المقصود بهما الزجر، ولا يحصل إبإيلام، واليمين تتعلق بالاسم. وحكي وجه ضعيف أنه يشترط الايلام، وقد سبق فكتاب الطلاق. قلت: ولو ضرب ميتا، لم يحنث، ولو ضرب مغمى عليه أو مجنونا أو سكران، حنث، لانه محل للضرب بخلاف الميت ذكره المتولي. والله أعلم. فرع حلف: ليضربن عبده مائة خشبة، أو ليجلدنه مائة سوط، فإن شد مائة سوط وضربه بها، فقد وفى بموجب اللفظ، وإن ضربه بعثكال عليه مائة شمراخ ضربة واحدة، حصل البر إن تحقق أن الجميع أصاب بدنه. وفي المراد بإصابة الجميع وجهان، أصحهما: أنه لا يشترط أن يلاقي جميع القضبان بدنه أو ملبوسه، بل يكفي أن ينكبس بعضها على بعض، بحيث يناله ثقل الجميع، ولا يضر كون البعض حائلا بين بدنه وبين البعض، كالثياب وغيرها، مما لا يمنع(8/67)
تأثر البشرة بالضرب. والثاني: لا يكفي الانكبا س، بل يشترط ملاقاة الجميع بدنه أو ملبوسه، وإن تيقن أنه لم يصبه الجميع، لم يبر. وإن شك في ذلك، فالنص أنه لا يحنث. ونص أنه لو حلف: ليدخلن الدار اليوم إلا أن يشاء زيد، فلم يدخل، ومات زيد ولم يعلم هل شاء أم لا: أنه يحنث، فقيل بتقرير النصين، والفرق أن الضرب سبب ظاهر في الانكباس، وفي مسألة المشيئة لا أمارة لها، والاصل عدمها. وقيل: فيهما قولان. والمذهب: أنه لا يحنث هنا، ويحنث في مسألة المشيئة. قلت: هكذا صور الجمهور مسألة الخلاف فيما إذا شك، وذكر الدارمي وابن الصباغ والمتولي أنه إذا شك، حنث، وإنما لا يحنث على المنصوص إذا غلب على ظنه إصابة الجميع، وهذا حسن، لكن الاول أصح، لان بعد هذا الضرب شك في الحنث، والاصل عدمه قال أصحابنا: وإذا قلنا: لا يحنث، فالورع أن يحنث نفسه، فيكفر عن يمينه. والله أعلم. ولو حلف: ليضربنه مائة مرة فضربه مرة بالعثكال أو بالمائة المشدودة، لم يبر، لانه لم يضربه إلا مرة. ولو حلف: ليضربنه مائة ضربة، لم يبر أيضا على الاصح. ولو حلف: ليضربنه بالسوط، لم يبر بالعصا والشماريخ، لانه ليس بسوط. ولو قال: مائة سوط، فالصحيح أنه لا يبر بعثكال عليه مائة شمراخ، وإنما يبر بأن يجمع مائة سوط ويشدها ويضربه بها دفعة، أو خمسين ويضربه دفعتين، أو سوطين ويضربه بهما خمسين مرة، بشرط أن يعلم إصابة الجميع على ما سبق وقيل: يبر بالعثكال، كما في لفظ الخشبة. فصل في حنث الناسي والجاهل والمكره. فإذا وجد القول أو الفعل المحلوف عليه على وجه الاكراه أو النسيان أو الجهل، سواء كان الحلف بالله تعالى أو بالطلاق، فهل يحنث ؟ قولان، أظهرهما: لا يحنث. وممن صححه أبو حامد القاضي والشيخ وابن كج والروياني وغيرهم. وقال ابن سلمة: لا حنث قطعا. وقيل: الناسي أولى بالحنث من المكره. وقيل: عكسه. وقيل: الجاهل أولى(8/68)
بالحنث من الناسي. وقال القفال: يحنث في الطلاق دون اليمين، وهو ضعيف، فالمذهب ما سبق. فإذا قلنا: لا حنث، لمتنحل اليمين على الاصح. ولو حلف: لا يدخل الدار طائعا ولا مكرها ولا ناسيا، حنث مع الاكراه والنسيان. ولو حلف: لا يدخل فانقلب ب في نومه وحصل في الدار، لم يحنث، ولو حمل قهرا وأدخل، فقيل: قولان كالمكره والمذهب القطع بأنه لا يحنث، لان اليمين على دخوله، ولم يدخل، وإنما أدخل، ولهذا لا تنحل اليمين والحالة هذه بلا خلاف. ولو حمل بغير إذنه، لكن قدر على الامتناع، فلم يمتنع، لم يحنث على الصحيح، لانه لم يدخل بل أدخل. ولو حمل بأمره. حنث كما لو ركب دابة ودخل. واعلم أنه لا فرق في أصل المسألة بين أن يعلق على فعله أو فعل غيره، فإذا وجد بالاكراه أو النسيان، ففيه الخلاف، هذا هو المذهب، وفيه شئ سبق في مسألة الحلف على مفارقة الغريم. ومن صور الفعل جاهلا أن يدخل دارا لا يعرف أنها المحلوف عليها، أو حلف: لا يسلم على زيد، فسلم عليه في ظلمة ولا يعلم أنه زيد. فصل حلف: لا يسلم على زيد، فسلم على قوم هو فيهم، ولم يعلم أنه فيهم، ففي الحنث قولا حنث الناسي والجاهل، وإن علم أنه فيهم ونوى السلام عليه معهم، حنث، وفيه ما حكينا عن البيان فيما لو حلف لا يكلمه، فسلم على قوم هو فيهم وقصده، فأما إستثناه بلفظه فقال: السلام عليكم إلاعلى زيد، فلا يحنث. وإن استثناه بنيته، لم يحنث أيضا على المذهب. وإن أطلق، حنث على الاظهر. ولو حلف: لا يدخل على زيد، فدخل على قوم هو فيهم فاستثنا بقلبه، وقصد الدخول على غيره، حنث على المذهب. والفرق بينه وبين السلام، أن الدخول فعل لا يدخله الاستثناء، فلا ينتظم أن يقول: دخلت عليكم إلا على فلان، ويصح أن يقول: سلام عليكم إلا على فلان. ولو دخل بيتا فيه زيد، ولم يعلم أنه فيه، ففي حنثه قولا الجاهل والناسي. ولو كان في جماعة ولم يعلم به فأولى بعدم الحنث، وإن دخل لشغل، ولم يعلم أنه في البيت، فأولى بعدم(8/69)
الحنث لانضمام قصد الشغل إلى الجهل. قال الامام: نص الشافعي رحمه الله في هذه الصورة أنه لا يحنث، وخرج الربيع قولا، وجعله كالناسي. ولو علم أنه في البيت، وقصد الدخول لشغل، فقيل: يحنث قطعا. وقيل: هو كما لو دخل على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه ولو كان الحالف في بيت، فدخل عليه زيد، فإن خرج الحالف في الحال، لم يحنث، وإلا، فقيل: لا يحنث، وقيل: فيه خلاف بناء على أن استدامة الدخول هل هي دخول ؟ وأجاب ابن الصباغ عن هذا بأن الاستدامة إن جعلت دخولا كانا كالداخلين معا، فلا يكون أحدهما داخلا على الآخر. قلت: الذي قاله ابن الصباغ حسن، والمذهب أنه لا يحنث. قال القاضي أبو الطيب: ونص عليه في الام. والله أعلم. فصل في أصول تتعلق بالكتاب لا تنعقد يمين صبي، ولا مجنون ولا مكره وفي السكران الخلاف فطلاقه، وتنعقد يمين الكافر. ومن حلف: لا يدخل الدار، ثم قال: أردت شهرا أو يوما. فإن كانت اليمين بطلاق أو عتاق، لم تقبل في الحكم، ويدين، ويلحق بهما الايلاء، لتعلق حق الآدمي به. وإن كانت بالله تعالى، ولم يتعلق بها حق آدمي، قبل قوله ظاهرا وباطنا، لانه أمين في حقوق الله تعالى. ولو حلف: لا يكلم أحدا، ثم قال: أردت زيدا، أو من سوى زيد، أو لا يأكل طعاما، ونوى طعاما بعينه، تخصصت اليمين بما نوى، فلا يحنث بغيره. فرع قال الشيخ أبو زيد رحمه الله: لا أدري على ماذا بنى الشافعي رحمه الله مسائل الايمان، إن اتبع اللغة، فمن حلف لا يأكل الرؤوس ينبغي أن يحنث برؤوس الطير والسمك، وإن اتبع العرف، فأهل القرى لا يعدون الخيام بيوتا. وقد قال الشافعي: لا فرق بين القروي والبدوي. واعلم أن الشافعي تتبع مقتضى اللغة تارة، وذلك عند ظهورها وشمولها، وهو الاصل، وتارة يتبع العرف إذا استمر واطرد. فرع اللفظ الخاص في اليمين لا يعمم بالسبب والنية والعام، وقد يتخصص. مثال الاول، إذا من عليه رجل بما نال منه فقال: والله لا أشرب لك ماء من عطش، انعقدت اليمين على الماء من عطش خاصة. فلا يحنث بطعامه وثيابه،(8/70)
وإن نوى أنه لا ينتفع بشئ منه، وإن كانت المنازعة بينهما تقتضي ما نواه. وإنما تؤثر النية إذا احتمل اللفظ ما نوى بجهة يتجوز بها، وعند مالك رحمه الله يحنث بكل ما ينتفع به من ماله. قال الشيخ أبو حامد: وسبب الخلاف أن الاعتبار عندنا باللفظ، ويراعى عمومه وإن كان السبب خاصا، وخصوصه وإن كان السبب عاما، وعنده الاعتبار بالسبب دون اللفظ. وأما تخصيص العام فتارة يكون بالنية كما ذكرنا فيما إذا قال: والله لا أكلم أحدا ونوى زيدا. وتارة بعرف الاستعمال، كما في قوله: لا آكل الرؤوس، وتارة بعرف الشرع كما يحمل قوله: لا أصلي على الصلاة الشرعية. فرع يعتبر اللفظ بحقيقته، وقد يصرف إلى المجاز بالنية، كما لو قال: لا أدخل دار زيد، وقال: أردت ما يسكنه دون ما يملكه، فيقبل في اليمين بالله تعالى، ولا يقبل في الحكم إذا حلف بطلاق وعتاق ذكره ابن الصباغ وغيره، وتارة لكون المجاز متعارفا وكون الحقيقة بعيدة، ومثله القاضي حسين بما إذا حلف: لا يأكل من هذه الشجرة، تحمل اليمين على الاكل من ثمرها دون الورق والاغصان، وإن كانت الحقيقة متعارفة، مثل أن يقول: لا آكل من هذه الشاة، يحمل على لحمها، فلا يحنث بلبنها ولحم ولدها. فرع قال ابن كج: لو قال: والله لا دخلت الدار، والله لا دخلت الدار ونوى التأكيد، فهو يمين واحد، وإن نوى بالثاني يمينا أخرى، أو أطلق، فهل يلزمه بالحنث كفارة أم كفارتان ؟ وجهان. قلت: الاصح كفارة. والله أعلم. وإن قال: والله لا دخلت الدار، لادخلت الدار، لا دخلت الدار، فإن نوى التأكيد، فيمين واحدة، وكذا إن أطلق، أو نوى الاستئناف على المذهب. فرع قال الحليمي: اليمين المعقودة على المملو ك المضاف يعتمد المالك دون المملوك، والمعقودة على غير المملوك المضاف يعتمد المضاف دون المضاف إليه، فإذا حلف لا يكلم عبيد فلان ولا عبد له، ثم ملك عبيدا وكلمهم، حنث.(8/71)
ولو حلف لا يكلم، بنيه ولا ابن له، ثم ولد له بنون فكلمهم، لم يحنث، لانهم لم يكونوا موجودين وقت اليمين. فرع حلف: لا يكلم الناس، ذكر ابن الصباغ وغيره، أنه يحنث إذا كلم واحدا، كما إذا قال: لا آكل الخبز يحنث بما أكل منه. ولو حلف: لا يكلم ناسا حمل على ثلاثة. فرع في كتب أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله أن المعرفة لا تدخل تحت النكرة لمغايرتهما، فإذ قال: لا يدخل داري أحد، أو لا يلبس ثوبي أحد، دخل في اليمين غير الحالف، ولم يدخل الحالف، لانه صار معرفا بإضافة الدار أو القميص إليه، قالوا: لو عر ف نفسه بإضافة الفعل بأن قال: لا ألبس هذا القميص أحدا، أو عرف غيره بالاضافة إليه فقال: لا يدخل دار فلان أحد، أو لا يلبس قميصه أحد، لم يدخل المضاف إليه، لانه صار معرفا. وكذا لو قال: لا يقطع هذه اليد أحد، وأشار إلى يده، لم يدخل هو، وقد يتوقف في هذه الصورة الاخيرة، والسابق إلى الفهم في غيرها ما ذكروه، ويجوز أن تخرج الصورة الاولى على الخلاف في أن المخاطب هل يندرج تحت الخطاب. قلت: الوجه الجزم بكل ما ذكروه. والله أعلم. وفي كتبهم أن كلمة أو إذا دخلت بين نفيين، اقتضت انتفاءهما كما قال الله تعالى: * (فلا تطع منهم آثما أو كفورا) *، وإذا دخلت بين إثباتين، اقتضت ثبوت أحدهما، فإذا قال: لا أدخل هذه الدار أو هذه، فأيتهما دخلها، حنث، وإن قال: لادخلن هذه الدار اليوم أو هذه، بر بدخول إحداهما. ويشبه أن يقال: إذا دخلت بين نفيين، كفى للبر أن لا يدخل واحدة منهما، ولا يضر دخول الاخرى، كما أنها إذا دخلت بين إثباتين، كفى للبر أن يدخل إحداهما، ولا يضر أن لا يدخل الاخرى. ولو قال: لا أدخل هذه الدار أبدا، ولادخلن الدار الاخرى اليوم، فإن دخل الاخرى اليوم، بر، وإن لم يدخلها اليوم، ولم يدخل الاخرى، بر أيضا. وفي الاقناع(8/72)
للماوردي أنه لو قال 0 إن أكلت خبزا أو لحما يرجع إلى مراده منهما، فيتعلق اليمين به. فصل في مسائل منثورة. حلف: لا يدخل هذه وأشار إلى دار، فانهدمت، حنث بدخوله عرصتها. ولو قال: لاأدخل هذه الدار فانهدمت، نظر إن بقيت أصول الحيطان والرسوم، حنث، وإن صارت فضاء، فدخلها، لم يحنث على المذهب، وبه قطع الاكثرون، وجعله الامام على الوجهين فيمن قال: لا آكل هذه الحنطة، فأكل دقيقها. وكذا لو حلف: لا يدخل دارا أو بيتا، فدخل عرصة كانت دارا أو بيتا. ولو جعلت الدار مسجدا، أو بستانا أو حماما، لم يحنث بدخوله، ولو أعيدت الدار بغير الآلة الاولى، فدخلها، لم يحنث، وإن أعيدت بتلك الآلة فوجهان. قلت: أصحهما الحنث. والله أعلم. ولو حلف: لا يشم الريحان، حنث بشم الضيمران دون الورد والبنفسج والياسمن والنرجس والمرزنجوش والزعفران، ويمكن أن يقال: هذا فيما إذا ذكر الريحان معرفا، فأما إذا نكره، فقال: لا أشم ريحانا، فيحنث بها كلها. قلت: الظاهر من حيث الدليل، ومن مقتضى كلام الاصحاب أنه لا فرق، ولا يحنث مطلقا بما بعد الضيمران. والله أعلم. ولو حلف: لا يشم مشموما، حنث بشم جميع ذلك، ولا يحنث بشم المسك والكافور والعود والصندل. ولو حلف: لا يشم الورد والبنفسج، فشمهما بعد الجفاف، فوجهان ولا يحنث بشم دهنهما. ولو حلف: لا يستخدم زيدا، فخدمه من غير أن يطلب الحالف ذلك، لم يحنث، سواء فيه عبده وغيره. ولو حلف: لا يتسرى فثلاثة أوجه، الاصح المنصوص: أن التسري إنما يحصل بثلاثة أشياء:(8/73)
ستر الجارية عن أعين الناس والوطئ والانزال، والثاني: يكفي الستر والوطئ، والثالث: يكفي الوطئ. ولو حلف: لا يقرأ القرآن، فقرأ جنبا، حنث. وإن حلف: ليقرأن، فقرأه جنبا، بر، بخلاف ما لو نذر أن يقرأ فقرأ جنبا، لا يجزئه، لان المقصود من النذر التقرب، والمعصية لا يتقرب بها. ولو حلف: ليقرأن جنبا، بر بالقراءة جنبا، وإن عصى ولو نذر أن يقرأ جنبا، لغا نذره. فرع في فتاوى القفال أنه لو قال: لا أصلي على هذا المصلى، ففرش فوقه ثوبا وصلى عليه، فإن نوى أنه لا يباشره بقدميه وجبهته وثيابه، لم يحنث، وإلا فيحنث، كما لو قال: لا أصلي في هذا المسجد، فصلى على حصير فيه، وإن علق به الطلاق، ثم قال: أردت أني لا أباشره، دين، ولم يقبل في الحكم، وأنه لو حلف: لا يكلم زيدا شهرا، فولاه ظهره، ثم قال: يا زيد إفعل كذا، حنث، ولو أقبل على الجدار، وقال: يا جدار إفعل كذا، لم يحنث وإن كان غرضه إفهام زيد. وكذا لو أقبل على الجدار وتكلم ولم يقل: يا زيد ولا يا جدار، لم يحنث، وأنه لو حلف: لا يلبس ثوبا من غزلها، فرقع ثوبه برقعة كرباس من غزلها، حنث، وقال أبو عاصم العبادي: لا يحنث وتلك الرقعة تبع. قلت: قول أبي عاصم هو الصحيح، لانه لا يسمى لابسا ثوبا من غزلها. والله أعلم. ولو تعمم بعمامة، نسجت من غزلها، حنث إن حلف بالعربية، وإن حلف بالفارسية، فلا، وإن التحف بلحاف من غزلها، لم يحنث. قلت: يجئ فيه الخلاف السابق في التدثر. والله أعلم. وأنه لو حلف: لآ يفعل كذا، ففعله في حال جنونه، ففي الحنث قولان. فرع في المبتدأ في الفقه للقاضي الروياني أنه لو قال: لا أدخل حانوت فلان، فدخل الحانوت الذي يعمل فيه وهو ملك غيره، لم يحنث، نص(8/74)
عليه الشافعي رحمه الله، قال: والفتوى أنه يحنث، لانه لا يراد به إلا الذي يسكنه ويعمل فيه. ولو قيل له: كلم زيدا اليوم، فقال: والله لا كلمته، انعقدت اليمين على الابد إلا أن ينوي اليوم، فإن كان ذلك في طلاق وقال: أردت اليوم، لم يقبل في الحكم. قلت: الصواب قبوله في الحكم كما سبق في نظائره في كتاب الطلاق. والله أعلم. فرع في كتب أصحاب أبي حنيف رضي الله عنه أنه لو قال: وسلطان الله فهو بيمين إن أراد القدرة، وإن أراد المقدور، فلا، وبه نقول نحن. وأنه لو قال: ورحمة الله وغضبه، فليس بيمين، ويشبه أن يقال: إن أراد إرادة النعمة والعقوبة فيمين، وإن أراد الفعل، فلا. وأنه لو حلف: ليضربن زوجته حتى يغشى عليها أو تبول، حمل على الحقيقة. ولو قال: حتى أقتلها أو ترفع ميتة، حمل على أشد الضرب، ويظهر على أصلنا الحمل على الحقيقة أيضا. وأنه لو حلف: لا يدخل هذه الخيمة، فقلعت ونصبت في موضع آخر، فدخلها، حنث، ولو حلف: لا يجلس على هذه الاسطوانة أو الحائط، فأعيد بناؤهما بعد النقض، فجلس على المعاد، لم يحنث، وكذا لو حلف على مقص أو سيف أو سكين فكسر وأعيدت الصنعة، لم يحنث. وإن نزع مسمار المقص ونصاب السكين، وأعيد مسمار آخر، ونصاب آخر، حنث. ولو حلف: لا يقرأ في المصحف فجعل بين يديه، وقلبت أوراقه، فقرأ فيه، حنث، ولو حلف: لا يدخل هذا المسجد، فزيد فيه، فدخل الزيادة، حنث، ولو حلف: لا يكتب بهذا القلم، فكسره، ثم براه وكتب به، لم يحنث وبجميع هذه الاجوبة نقول إلا في مسألة القلم. قلت: في موافقتهم في مسألة زيادة المسجد، نظر، وينبغي أن لا يحنث بدخولها، لان اليمين لم يتناولها حالة الحلف. وأما قول الامام الرافعي: إنا(8/75)
نخالفهم في مسألة القلم، فليس كما قال، بل مذهبنا فيها كما ذكروه قال القاضي أبو الطيب في كتاب الصلح من تعليقه: ولو حلف لا يكتب بهذا القلم وهو مبري فكسره، ثم براه وكتب به، لم يحنث، وإن كانت الانبوبة واحدة، لان القلم اسم للمبري دون القصبة، وإنما تسمى القصبة قبل البري قلما مجازا، لانها ستصير قلما، قال: وكذا إذا قال: لا أقطع بهذا السكين، فأبطل حدها، وجعله في ظهرها، وقطع بها لم يحنث. قال: ولو حلف: لا يستند إلى هذا الحائط، فهدم، ثم بني واستند، إن بني بتلك الآلة، حنث، وإن أعيد بغيرها أو ببعضها، لم يحنث. والله أعلم. وأنه لو حلف: لا يأكل من كسب زيد، فكسبه ما يتملكه من المباحثات، العقود دون ما يرثه. ولو كسب شيئا ومات، فورثه الحالف وأكله، حنث، ولو انتقل إلى غيره بشراء أو وصية، لم يحنث. ولك أن لا تفرق، ويشترط لكسبه أن يكون باقيا في ملكه. وأن الحلواء كل حلو ليس من جنسه حامض، كالخبيص والعسل والسكر دون العنب والاجاص والرمان، والاشبه أن يشتر في إطلاق الحلو أن يكون معمولا، وأن يخرج منه العسل والسكر فالحلواء غير الحلو. قلت: هذا الذي اختاره الرافعي رحمه الله هو الصواب، وفي الحديث الصحيح: كان يحب الحلواء والعسل. والله أعلم. قال العبادي من أصحابنا في الرقم: لو حلف على الحلواء، دخل فيه المتخذ من الفانيذ والسكر والعسل والدبس والقند، وفي اللوزينج والجوزينج وجهان، وأن الشواء يقع على اللحم خاصة دون السمك المشوي، وأن الطبيخ يقع على اللحم يجعل في الماء ويطبخ، وعلى مرقتها وعن بعضهم أنه يقع على(8/76)
الشحم، ولو طبخ عدس أو أرز بودك فهو طبيخ، وإن طبخ بزيت أو سمن، فليس بطبيخ. قلت: الصواب أن الكل طبيخ. والله أعلم. وذكر العبادي في الرقم أنه لو حلف: لا يأكل المرق، فهو ما يطبخ باللحم أي لحم كان، وفيما يطبخ بالكرش والبطون والشحم وجهان. وإذا حلف: لا يأكل المطبوخ، حنث بما طبخ بالنار أو أغلي، ولا يحنث بالمشوي. والطباهجة مشوية، ويحتمل غيره، وذكروا أن الغداء: من طلوع الفجر إلى الزوال، والعشاء: من الزوال إلى نصف الليل، والسحور: ما بين نصف الليل وطلوع الفجر. ومقدار الغداء والعشاء أن يأكل أكثر من نصف شبعه. ولو حلف: ليأتينه غدوة، فهي ما بين طلوع الفجر إلى نصف النهار، والضحوة بعد طلوع الشمس من حين تزول كراهة الصلاة إلى نصف النهار، والصباح ما بعد طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى، وقد يتوقف في كون العشاء من الزوال، وفي مقدار الغداء والعشاء، وفي امتداد الغدوة إلى نصف النهار، وفي أن الضحوة من الساعة التي تحل فيها الصلاة. وأنه لو حلف: لا يكلمه، فنبهه من النوم، حنث، وإن لم ينتبه وهذا غير مقبول. ولو دق المحلوف عليه الباب، فقال: من هذا ؟ حنث، وينبغي أن يفرق بين علمه به وجهله، وأنه لو قال: لا أكلمه اليوم ولا غدا، لم تدخل الليلة المتخللة في اليمين، ولو قال: لا أكلمه اليوم وغدا، دخلت، والصواب التسوية. قلت: يعني في عدم الدخول وهذا إذا لم ينو مواصلة الهجران. والله أعلم. ولو قال: لا أكلمه يوما ولا يومين، فاليمين على يومين، فلو كلمه في الثالث، لم يحنث، وهكذا ذكره أبو الحسن العبادي من أصحابنا. ولو قال: يوما ويومين، فاليمين على ثلاثة، وأنه لو حلف: ليهدمن هذه الدار، فهدم سقوفها، بر، ويجوز أن يقال: يشترط أن لا يبقى ما يسمى دارا. ولو حلف: ليهدمن هذا الحائط اليوم، أو لينقضنه، اشترط هدمه، حتى لا يبقى منه ما يسمى حائطا. ولو حلف: ليكسرنه، لم يشترط ما يزيل اسم الحائط. فرع حلف: لا يزوره حيا ولا ميتا، فشيع جنازته، لم يحنث. وفي(8/77)
فتاوى الغزالي أنه لو حلف: لا يدخل داره صوفا، فأدخل داره كبشا عليه صوف، أو لا يدخلها بيضا، فأدخلها دجاجة، فباضت في الحال، لم يحنث. وأنه لو حلف: لا يقعد معه تحت سقف، فقعدا تحت أزج حنث، وأنه لو حلف: لا يفطر، فمطلق هذا ينصرف إلى الاكل والجماع ونحوهما، ولا يحنث بالردة والجنون والحيض ودخول الليل. وبالله التوفيق.(8/78)
كتاب القضاء
فيه ثلاثة أبواب :
الأول : في التولية والعزل وفيه طرفان :
الأول : في التولية، وفيه مسائل: الاولى: القضاء والامامة فرض كفاية بالاجماع، فإن قام به من يصلح،(8/79)
سقط الفرض عن الباقين، وإن امتنع الجميع، أثموا، وأجبر الامام أحدهم على القضاء، وقيل: لا يجبر، والصحيح: الاول، ثم من لا يصلح للقضاء تحرم توليته، ويحرم عليه التولي والطلب، وأما من يصلح، فله حالان، أحدهما: أن يتعين للقضاء، فيجب عليه القبول، ويلزمه أن يطلبه ويشهر نفسه عند الامام إن كان خاملا، ولا يعذر بأن يخاف ميل نفسه وخيانتها، بل يلزمه أن يقبل ويحترز، فإن امتنع، عصا، وهل يجبر ؟ وجهان الصحيح نعم، وبه قال الاكثرون، كما يجبر على القيام بسائر فروض الكفاية عند التعين، فإن قيل: امتناعه من هذا الواجب المتعين المتعلق بالمصالح العامة، ويشبه أن تكون كبيرة، فيفسق به، ويخرج عن الاهلية، فكيف يولى ويجبر، فالجواب أنه يمكن أن يقال: إنه يؤمر بالتوبة أولا، فإذا تاب، ولي. قلت: وينبغي أن يقال: لا يفسق، لانه لا يمتنع غالبا إلا متأولا، وهذا ليس بعاص قطعا، وإن كان مخطئا. والله أعلم. الحال الثاني: أن يكون هناك غيره ممن يصلح، فذلك الغير إما أن يكون أصلح، وأولى منه، وإما مثله، وإما دونه فإن كان أصلح منه، بني على أن الامامة العظمى هل تنعقد للمفضول مع وجود الفاضل، وفيه خلاف للمتكلمين والفقهاء، والاصح الانعقاد، لان تلك الزيادة خارجة عن شرط الامامة. وفي القضاء خلاف مرتب، وأولى بالانعقاد، فإن لم نجوز للمفضول القضاء حرمت توليته، وحرم عليه(8/80)
الطلب والقبول، وإن جوزناه، جاز القبول. وأما الطلب، فمكروه، وقيل: حرام، وإن كان الاصلح لا يتولى، فهو كالمعدوم، وأما إذا كان هناك مثله، فله القبول، ولا يلزمه على الاصح، فربما قام به غيره وأما الطلب، فإن كان خامل الذكر، ولو تولى، اشتهر وانتفع الناس بعلمه، استحب له الطلب على الصحيح، وقال القفال: لا يستحب. وإن كان مشهورا ينتفع الناس بعلمه، فإن لم يكن له كفاية ولو ولي، حصلت كفايته من بيت المال، قال الاكثرون: يستحب، وقيل: لا يستحب ولا يكره، وإن كان له كفاية، فالصحيح أن الطلب مكروه، وقيل: الاولى تركه، ثم كما يكره الطلب والحالة هذه يكره القبول، ولو ولي بلا طلب، وعلى هذا حمل امتناع السلف. وإن كان هناك من هو دونه، فإن لم نجوز تولية المفضول، فقد تعين عليه، وإن جوزناها، استحب له القبول. وفي الوجوب الوجهان، ويستحب له الطلب إذا وثق بنفسه، وهكذا حيث استحببنا الطلب والتولي أو أبحناهما، فذلك عند الوثوق، وغلبة الظن بقوة النفس، وأما عند الخوف، فيحترز.(8/81)
فرع التفصيل الذي ذكرنا فيما إذا لم يكن هناك قاض متول فإن كان، نظر، إن كان غير مستحق لجور أو جهل، فهو كما لو لم يكن، وإن كان مستحقا والطالب يروم عزله، فالطلب حرام، والطالب مجروح، ذكره الماوردي. قلت: وسواء كان فاضلا أو مفضولا إذا صححنا تولية المفضول. والله أعلم. فرع ما ذكرناه هو حكم الطلب بلا بذل، فلو بذل مالا ليتولى، فقد أطلق ابن القاص وآخرون أنه حرام وقضاؤه مردود، والصحيح تفصيل ذكره الروياني وهو أنه إن تعين عليه القضاء أو كان ممن يستحب له، فله بذل المال، ولكن الاخذ ظالم بالاخذ، وهذا كما إذا تعذر الامر بالمعروف إلا ببذل مال، وإن لم يتعين ولم يكن مستحبا، جاز له بذل المال ليتولى، ويجوز له البذل بعد التولية لئلا يعزل، والآخذ ظالم بالاخذ، وأما بذل المال لعزل قاض، فإن لم يكن بصفة القضاة، فمستحب لما فيه من تخليص الناس منه، ولكن أخذه حرام على الآخذ، وإن كان بصفتهم فحرام. فإن فعل، وعزل الاول، وولي الباذل، قال ابن القاص: توليته باطلة، والمعزول على قضائه، لان العزل بالرشوة حرام، وتولية المرشي والراشي حرام، وليكن هذا عند تمهد الاصول الشرعية، فأما عند الضرورات، وظهور فرع طرق الفتن، فلا بد من تنفيذ العزل والتولية جميعا، كتولية البغاة. الاصحاب متفقة على أن النظر في تعين الشخص للقضاء وعدم تعينه إلى البلد والناحية لا غير، ومقتضا أنه لا يجب على من يصلح للقضاء طلب القضاء ببلدة أخرى ليس بها صالح، ولا قبوله إذا ولي ويجوز أن يفرق بينه وبين القيام بسائر فروض الكفاية المحوجة إلى السفر، كالجهاد وتعلم العلم ونحوهما، فإن تلك يمكن القيام بها، والعود إلى الوطن، وعمل القضاء لا غاية له. المسألة الثانية: في صفات القاضي والمفتي وفيها فصلان: الاول: في صفات القاضي وله ثمانية شروط أحدها: الحرية، والثاني:(8/82)
الذكورة، والثالث: الاجتهاد، فلا يجوز تولية جاهل بالاحكام الشرعية وطرقها المحتاج إلى تقليد غيره فيها، وإنما يحصل أهلية الاجتهاد لمن علم أمورا أحدها كتاب الله تعالى، ولا يشترط العلم بجميعه، بل مما يتعلق بالاحكام، ولا يشترط حفظه عن ظهر القلب، ومن الاصحاب من ينازع ظاهر كلامه فيه. الثاني: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا جميعها، بل ما يتعلق منها بالاحكام، ويشترط أن يعرف منها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، ومن السنة المتواتر والآحاد، والمرسل والمتصل، وحال الرواة جرحا وتعديلا. الثالث: أقاويل علماء الصحابة ومن بعدهم رضي الله عنهم إجماعا واختلافا. الرابع: القياس فيعرف جليه وخفيه، وتمييز الصحيح من الفاسد. الخامس: لسان العرب لغة وإعرابا، لان الشرع ورد بالعربية وبهذه الجهة يعرف عموم اللفظ وخصوصه وإطلاقه وتقييده، وإجماله وبيانه. قال أصحابنا: ولا يشترط التبحر في هذه العلوم، بل يكفي معرفة جمل منها، وزاد الغزالي تخفيفات ذكرها في أصول الفقه منها: أنه لا حاجة إلى تتبع الاحاديث على تفرقها وانتشارها، بل يكفي أن يكون له أصل مصحح وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الاحكام كسنن أبي داود، ويكفي أن يعرف مواقع كل باب، فيراجعه إذا احتاج إلى العمل بذلك الباب. قلت: لا يصح التمثيل بسنن أبي داود فإنه لم يستوعب الصحيح من أحاديث الاحكام ولا معظمه، وذلك ظاهر، بل معرفته ضرورية لمن له أدنى اطلاع. وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود. وأما ما في كتابي الترمذي والنسائي وغيرهما من الكتب المعتمدة فكثرته وشهرته غنية عن التصريح بها. والله أعلم.(8/83)
ومنها: أنه لا يشترط ضبط جميع مواضع الاجماع والاختلاف، بل يكفي أن يعرف في المسألة التي يفتي فيها أن قوله لا يخالف الاجماع، بأن يعلم أنه وافق بعض المتقدمين، أو يغلب على ظنه أن المسألة لم يتكلم فيها الاولون بل تولدت في عصره، وعلى قياس معرفة الناسخ والمنسوخ. ومنها: أن كل حديث أجمع السلف على قبوله أو تواترت عدالة رواته فلا حاجة إلى البحث عن عدالة رواته، وما عدا ذلك ينبغي أن يكتفي في عدالة رواته بتعديل إمام مشهور عرفت صحة مذهبه في الجرح والتعديل. قلت: هذه المسألة مما أطبق جمهور الاصحاب عليه، وشذ من شرط في التعديل اثنين، وقوله: تواترت عدالة رواته يعني مع ضبطهم. ولو قال: أهلية رواته كان أولى ليشمل العدالة والضبط. وقوله: أجمع السلف على قبوله يعني على العمل به، ولا يكفي عملهم على وفقه، فقد يعملون على وفقه بغيره. والله أعلم. ومنها: أن اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الشرع، ويجوز أن يكون للعالم منصب الاجتهاد في باب دون باب، وعد الاصحاب من شروط الاجتهاد معرفة أصول الاعتقاد. قال الغزالي: وعندي أنه يكفي اعتقاد جازم، ولا يشترط معرفتها على طرق المتكلمين وبأدلتهم التي يحررونها. الشرط الرابع: البصر، فلا يصح تولية أعمى وفي جمع الجوامع للروياني وجه أنه يجوز، والصحيح الاول وبه قطع الجمهور، لانه لا يعرف الخصوم والشهود. الخامس: التكليف، فلا يصح تولية الصبي. السادس: العدالة فلا يصح تولية فاسق ولا كافر ولو على الكفار، قال الماوردي: وما جرت به عادة الولادة من نصب حاكم بين أهل الذمة، فهو تقليد(8/84)
رئاسة وزعامة لا تقليد حكم وقضاء، ولا يلزمهم حكمه بالزامه بل بالتزامهم. السابع: أن يكون ناطقا سميعا، فلا يجوز تقليد أخرس لا تعقل إشارته، وكذا إن عقلت على الصحيح، ولا أصم لا يسمع أصلا، فإن كان يسمع إذا صيح به، جاز تقليده. الثامن: الكفاية، فلا يصح قضاء مغفل اختل رأيه ونظره بكبر أو مرض ونحوهما. ولا يشترط أن يحسن الكتابة على الاصح. ويستحب أن يكون وافر العقل حليما متثبتا ذا فطنة وتيقظ، كامل الحواس والاعضاء، عالما بلغة الذين يقضي بينهم، بريئا من الشحناء والطمع، صدوق اللهجة، ذا رأي ووفاء، وسكينة ووقار، وأن لا يكون جبارا يهابه الخصوم، فلا يتمكنون من استيفاء الحجة، ولا ضعيفا يستخفون به، ويطمعون فيه، وأن يكون قرشيا، ورعاية العلم والتقى أولى من رعاية النسب. فرع إن عرف الامام أهليته ولاه، وإلا فيبحث عن حاله، فلو ولى من لم تجتمع فيه الشروط مع العلم بحاله، أثم المولي والمتولي ولم ينفذ قضاؤه، وإن أصاب، هذا هو الاصل في الباب. قال في الوسيط: لكن اجتماع هذه الشروط متعذر في عصرنا لخلو العصر عن المجتهد المستقل، فالوجه تنفيذ قضاء كل من ولاه سلطان ذو شوكة وإن كان جاهلا أو فاسقا لئلا تتعطل مصالح الناس، ويؤيده أنا ننفذ قضاء قاضي البغاة لمثل هذه الضرورة، وهذا حسن، لكن في بعض الشروح أن قاضي البغاة إذا كان منهم، وبغيهم لا يوجب فسقا كبغي أصحاب معاوية رضي الله عنه، جاز قضاؤه، وإن أوجب الفسق، كبغي أهل النهروان، لم يجز. قلت: هذا المنقول عن بعض الشروح مشهور، قد ذكره صاحب المهذب وغيره، ففي المهذب ان قاضي البغاة إن كان من يستبيح دم أهل العدل ومالهم،(8/85)
لم ينفذ حكمه، لان شرطه العدالة والاجتهاد، وهذا ليس بعدل ولا مجتهد، وقد جزم الرافعي في المحرر بما ذكره الغزالي، فقال: إن تعذر اجتماع هذه الشروط، فولى سلطان ذو شوكة فاسقا، أو مقلدا، نفذ قضاؤه للضرورة. والله أعلم. وذكر أن القاضي العادل إذا استقضاه أمير باغ، أجابه إليه، ونفذ قضاؤه، فقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن ذلك لمن استقضاه زياد، فقالت: إن لم يقض لهم خياركم قضى شراركم. فرع من لا تقبل شهادته من أهل البدع، لا يصح تقليده القضاء قال الماوردي: وكذا لا يجوز تقليد من لا يقول بالاجماع، أو لا يقول بأخبار الآحاد، وكذا حكم نفاة القياس الذين لا يقولون بالاجتهاد أصلا، بل يتبعون النصوص، فإن لم يجدوا، أخذوا بقول سلفهم، كالشيعة، فإن كانوا مجتهدين في فحوى الكلام، ويبنون الاحكام على عموم النصوص وإشاراتها، جاز تقليدهم على الاصح.(8/86)
الفصل الثاني في المفتي: ومتى لم يكن في الموضع إلا واحد يصلح للفتوى، تعين عليه أن يفتي، وإن كان هناك غيره، فهو من فروض الكفايات، ومع هذا فلا يحل التسارع إليه، فقد كانت الصحابة رضي الله عنهم مع مشاهدتهم الوحي يحيل بعضهم على بعض في الفتوى، ويحرزون عن استعمال الرأي والقياس ما أمكن. ثم نتكلم في ثلاث جمل إحداها في المفتي، فيشترط إسلامه وبلوغه وعدالته، فالفاسق لا تقبل فتواه، ويلزمه أن يعمل لنفسه باجتهاده، ويشترط في المفتي أيضا التيقظ، وقوة الضبط، فلا يقبل ممن تغلب عليه الغفلة والسهو، ويشترط فيه أهلية الاجتهاد، فلو عرف العامي مسألة أو مسائل بدليلها لم يكن له أن يفتي بها، ولا لغيره أن يقلد، ويأخذ بقوله فيها، وقيل: يجوز، وقيل: إن كان نقليا، جاز، وإن كان قياسيا، فلا، والصحيح الاول. والعالم الذي لم يبلغ غاية الاجتهاد كالعامي في أنه لا يجوز تقليده على الصحيح. وموت المجتهد هل يخرجه عن أن يقلد ويؤخذ بقوله ؟ وجهان الصحيح: أنه لا يخرج، بل يجوز تقليده كما يعمل بشهادة الشاهد بعد موته، ولانه لو بطل قوله بموته، لبطل الاجماع بموت المجمعين، ولصارت المسألة اجتهادية، ولان الناس اليوم كالمجمعين على أنه لا مجتهد اليوم، فلو منعنا تقليد الماضين، لتركنا الناس حيارى، وبنوا على هذين الوجهين أن من عرف مذهب مجتهد، وتبحر فيه، لكن لم يبلغ رتبة الاجتهاد، هل له أن يفتي ويأخذ بقول ذلك المجتهد ؟ فعلى الصحيح يجوز هكذا صوروا الفرع، ولك أن تقول: إذا كان المأخذ ما ذكرنا، فسواء المتبحر وغيره، بل العامي إذا عرف(8/87)
حكم تلك المسألة عند ذلك المجتهد فأخبر به، وأخذ غيره به تقليدا للميت وجب أن يجوز على الصحيح. قلت: هذا الاعتراض ضعيف أو باطل، لانه إذا لم يكن متبحرا ربما ظن ما ليس مذهبا له مذهبه، لقصور فهمه، وقلة اطلاعه على مظان المسألة، واختلاف نصوص ذلك المجتهد، والمتأخر منها، والراجح وغير ذلك، لاسيما مذهب الشافعي رحمه الله الذي لا يكاد يعرف ما يفتى به منه إلا أفراد، لكثرة انتشاره، واختلاف ناقليه في النقل والترجيح. فإن فرض هذا في مسائل صارت كالمعلومة علما قطعيا عن ذلك المذهب، كوجوب النية في الوضوء، والفاتحة في الصلاة، ووجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون، ووجوب تبييت النية في صوم الفرض، وصحة الاعتكاف بلا صوم، وعدم وجوب نفقة البائن الحامل، ووجوب القصاص في القتل بالمثقل وغير ذلك عند الشافعي رضي الله عنه، فهذا حسن محتمل. والله أعلم. وإذا جوزنا الفتوى إخبارا عن مذهب الميت، فإن علم من حاله أنه يفتي على مذهب إمام معين، كفى إطلاق الجواب، وإلا فلا بد من إضافته إلى صاحب المذهب. فرع ليس لمجتهد أن يقلد مجتهدا لا ليعمل به، ولا ليفتي به، ولا إذا كان قاضيا ليقضي به، سواء خاف الفوت لضيق وقت أم لا. وقال ابن سريج: له التقليد إذا ضاق الوقت ليعمل به، لا ليفتي، وقياسه أن لا يجوز للقضاء وأولى. وفي الشامل والتهذيب طرد قول ابن سريج في القضاء وصورة الضيف فيه: أن يتحاكم مسافران والقافلة ترتحل، ومن قال به، فقياسه طرده في الفتوى. فرع هل يلزم المجتهد تجديد الاجتهاد إذا وقعت الحادثة مرة أخرى، أو سئل عنها مرة أخرى، أم يعتمد اجتهاده الاول ؟ وجهان كما سبق في القبلة. قلت: أصحهما لزوم التجديد، وهذا إذا لم يكن ذاكرا لدليل الاولى، ولم يتجدد ما قد يوجب رجوعه، فإن كان ذاكرا، لم يلزمه قطعا، وإن تجدد ما يوجب الرجوع، لزمه قطعا. والله أعلم.(8/88)
فرع المنسوب إلى مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك ثلاثة أصناف. أحدها: العوام وتقليدهم الشافعي مثلا مفرع على تقليد الميت وقد سبق. والثاني: البالغون لرتبة الاجتهاد، وقد ذكرنا أن المجتهد لا يقلد مجتهدا وإنما ينسب هؤلاء إلى الشافعي، لانهم جروا على طريقته في الاجتهاد، واستعمال الادلة، وترتيب بعضها على بعض، ووافق اجتهادهم اجتهاده وإذا خالف أحيانا لم يبالوا بالمخالفة. والصنف الثالث: المتوسطون وهم الذين لم يبلغوا رتبة الاجتهاد في أصول الشرع، لكنهم وقفوا على أصول الامام في الابواب وتمكنوا من قياس ما لم يجدوه منصوصا له على ما نص عليه، وهؤلاء مقلدون له تفريعا على تقليد الميت، وهكذا من يأخذ بقولهم من العوام تقليدا له، والمعروف للاصحاب أنه لا يقلدهم في أنفسهم، لانهم مقلدون، وقد نجد ما يخالف هذا فإن أبا الفتح الهروي وهو من أصحاب الامام يقول في الاصول: مذهب عامة أصحابنا أن العامي لا مذهب له، فإن وجد مجتهدا قلده. وإن لم يجده، ووجد متبحرا في مذهب، فإنه يفتيه على مذهب نفسه، وإن كان العامي لا يعتقد مذهبه. وهذا تصريح بأنه يقلد المتبحر في نفسه. وإذا اختلف متبحران في نفسه، وإذا اختلف متبحران في مذهب لاختلافهما في قياس أصل مذهب إمامهما، ومن هذا يتولد وجوه الاصحاب، فنقول: أيهما يأخذ العامي ؟ فيه ما سنذكره في اختلاف المجتهدين إن شاء الله تعالى، وإذا نص صاحب المذهب على الحكم والعلة، ألحق بتلك العلة غير المنصوص بالمنصوص، وإن اقتصر على الحكم، فهل يستنبط المتبحر العلة ويعدي الحكم بها، قال محمد بن يحيى: لا، والاشبه بفعل الاصحاب جوازه، لانهم ينقلون الحكم، ثم يختلفون في علته، وكل منهم يطرد الحكم في فروع علته. فرع ذكر الشيخ أبو إسحاق أنه إذا نص الامام في واقعة على حكم، وفي أخرى شبهها على خلافه لا يجوز نقل قوله من إحداهما إلى الاخرى وتخريجهما على قولين، وأن ما يقتضيه قوله لا يجعل قولا له إلا إذا لم يحتمل، كقوله: ثبتت الشفعة في الشقص من الدار، فيقال: قوله: في الحانوت كذلك والمعروف في المذهب(8/89)
خلاف ما قاله، لكن الاولى أن يقال: إنه قياس أصله أو قياس قوله، ولا يقال: هو قوله. فرع للمفتي أن يشدد في الجواب بلفظ متأول عنده زجرا وتهديدا في مواضع الحاجة. قلت: المراد ما ذكره الصيمري وغيره قالوا: إذا رأى المفتي المصلحة أن يقول للعامي ما فيه تغليظ وهو لا يعتقد ظاهره، وله فيه تأويل، جاز زجرا، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن توبة القاتل، فقال: لا توبة له، وسأله آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الاول، فرأيت في عينيه إرادة القتل فمنعته، أما الثاني، فجاء مسكينا قد قتل، فلم أقنطه، قال الصيمري: وكذا إن سأله، فقال: إن قتلت عبدي، فهل علي قصاص، فواسع أن يقال: إن قتلته قتلناك، فعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من قتل عبده قتلناه ولان القتل له معان وهذا كله إذا لم يترتب على إطلاقه مفسدة. والله أعلم. الجملة الثانية في المستفتي، فيلزمه سؤال المفتي عند حدوث مسألته، وإنما يسأل من عرف علمه وعدالته، فإن لم يعرف العلم، بحث عنه بسؤال الناس، وإن لم يعرف العدالة، فقد ذكر الغزالي فيه احتمالين أحدهما: أن الحكم كذلك، وأشبههما الاكتفاء، لان الغالب من حال العلماء العدالة، بخلاف البحث عن العلم، فليس الغالب من الناس العلم، ثم ذكر احتمالين في أنه إذا وجب البحث، يفتقر إلى عدد التواتر، أم يكفي إخبار عدل أو عدلين ؟ أصحهما: الثاني. قلت: الاحتمالان فيما إذا لم تعرف العدالة، هما فيمن كان مستورا وهو الذي(8/90)
ظاهره العدالة ولم يختبر باطنه وهما وجهان ذكرهما غيره، أصحهما الاكتفاء، لان العدالة الباطنة يعسر معرفتها على غير القضاة، فيعسر على العوام تكليفهم بها، وهذا الخلاف كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين. أما الاحتمالان في اشتراط عدد التواتر، والاكتفاء بعدل، فهما محتملان، ولكن المنقول خلافهما، فالذي قاله الاصحاب أنه يجوز استفتاء من استفاضت أهليته، وقيل: لا يكفي الاستفاضة، ولا التواتر، بل إنما يعتمد قوله: أنا أهل للفتوى، لان الاستفاضة والشهرة بين العامة لا وثوق بها، فقد يكون أصلها التلبيس، وأما التواتر، فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس، والصحيح الاول، لان إقدامه عليها إخبار منه بأهليته، لان الصورة فيمن وثق بدينه.. ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته قال الشيخ أبو إسحاق وغيره: نقبل في أهليته خبر عدل واحد، وهذا محمول على من عنده معرفة يميز بها الملتبس من غيره، ولا يعتمد في ذلك خبر آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك. والله أعلم. فرع إذا وجد مفتيين فأكثر هل يلزمه أن يجتهد، فيسأل أعلمهم ؟ وجهان، قال ابن سريج: نعم، واختاره ابن كج والقفال، لانه يسهل عليه، وأصحهما عند الجمهور أنه يتخير، فيسأل من شاء، لان الاولين كانوا يسألون علماء الصحابة رضي الله عنهم مع تفاوتهم في العلم والفضل، ويعملون بقول من سألوه من غير إنكار، قال الغزالي: فإن اعتقد أن أحدهم أعلم، لم يجز أن يقلد غيره، وإن كان لا يلزمه البحث عن الاعلم إذا لم يعتقد اختصاص أحدهم بزيادة علم. قلت: هذا الذي قاله الغزالي قد قاله غيره أيضا وهو وإن كان ظاهرا، ففيه نظر لما ذكرنا من سؤال آحاد الصحابة رضي الله عنهم مع وجود أفاضلهم الذين فضلهم متواتر وقد يمنع هذا وعلى الجملة المختار ما ذكره الغزالي. فعلى هذا يلزمه تقليد أورع العالمين، وأعلم الورعين، فإن تعارضا قدم الاعلم على الاصح. والله أعلم. فرع وإذا استفتى وأجيب، فحدثت له تلك الحادثة ثانيا، فإن عرف استناد(8/91)
الجواب إلى نص أو اجماع، فلا حاجة إلى السؤال ثانيا، وكذا لو كان المقلد ميتا وجوزناه، وإن عرف استناده إلى الرأي والقياس أو شك والمقلد حي، فوجهان، أحدهما: لا يحتاج إلى السؤال ثانيا، لان الظاهر استمراره على جوابه، وأصحهما يلزمه السؤال ثانيا. فرع لو اختلف عليه جواب مفتيين، فإن أوجبنا البحث وتقليد الاعلم، اعتمده، وإلا فأوجه، أصحها: يتخير، ويأخذ بقول أيهما شاء، والثاني: بأخذ بأغلظ الجوابين، والثالث: بأخفهما، والرابع: بقول من يبني قوله على الاثر دون الرأي، والخامس: بقول من سأله أولا. قلت: وحكي وجه سادس أنه يسأل ثالثا، فيأخذ بفتوى من وافقه. وهذا الذي صححه من التخيير هو الذي صححه الجمهور، ونقله المحاملي في أول المجموع عن أكثر أصحابنا لان فرضه أن يقلد عالما وقد حصل. والله أعلم. ونقل الروياني وجهين في أن من سأل مفتيا ولم تسكن نفسه إلى فتواه هل يلزمه أن يسأل ثانيا وثالثا لتسكن نفسه، أم له الاقتصار على جواب الاول ؟ والقياس في وجه الثاني. الجملة الثالثة فيما يتعلق بهما، فيجوز للمستفتي أن يسأل بنفسه، ويجوز أن يكتفي برسول ثقة يبعثه وبالرقعة، ويكفي ترجمان واحد إذا لم يعرف لغته. قلت: له اعتماد خط المفتي إذا أخبره من يقبل خبره أنه خطه، أو كان يعرف خطه ولم يشك فيه. والله أعلم. ومن آداب المستفتي أن لا يسأل المفتي وهو قائم، أو مشغول بما يمنعه من تمام الفكر، وأن لا يقول إذا أجابه: هكذا قلت أنا، وأن لا يطالب بالدليل، فإن أراد معرفته، سأل عنه في وقت آخر. وإذا سأل في رقعة، فليكن كاتبها حاذقا، ليبين مواضع السؤال، وينقط مواضع الاشتباه، وليتأمل المفتي الرقعة كلمة كلمة، وليكن اعتناؤه بآخر الكلام أشد، لانه موضع السؤال، وليتثبت في الجواب وإن كانت المسألة واضحة، وأن يشاور من في مجلسه ممن يصلح لذلك إلا أن يكون فيها(8/92)
ما لا يحسن إظهاره. وله أن ينقط من الرقعة مواضع الاشكال، وأن يصلح ما فيها من خطأ ولحن فاحش، وإذا رأى في آخر بعض السطور بياضا، شغله بخطه، لئلا يلحق فيه بعد جوابه شئ، وليبين المفتي بخطه، وليكن قلمه بين قلمين. ولو كتب مع الجواب حجة من آية أو حديث فلا بأس، ولا يعتاد ذكر القياس، وطرق الاجتهاد. فإن تعلقت الفتوى بقاض، فحسن أن يومئ إلى الطريق للاجتهاد، وإذا رأى في الفتوى جواب من لا يصلح للفتوى، لم يفت معه. قال الصيمري: وله أن يضرب عليه بإذن صاحب الرقعة وبغير إذنه، ولا يحبسها إلا بإذنه، واستحبوا أن يكون السؤال بخط غير المفتي. فرع متى تغير اجتهاد المجتهد، دار المقلد معه، وعمل في المستقبل بقوله الثاني، ولا ينقض ما مضى، ولو نكح المجتهد امرأة، ثم خالعها ثلاثا، لانه رأى الخلع فسخا، ثم تغير اجتهاده قال الغزالي: يلزمه مفارقتها، وأبدى ترددا فيما لو فعل المقلد مثل ذلك، ثم تغير اجتهاد مقلده، قال: والصحيح أن الجواب كذلك، كما لو تغير اجتهاد المقلد في الصلاة، فإنه يتحول. ولو قال مجتهد للمقلد والصورة هذه: أخطأ بك من قلدته، فإن كان الذي قلده أعلم من الثاني، أو استويا، فلا أثر لقوله، وإن كان الثاني أعلم، فالقياس أنا إن أوجبنا تقليد الاعلم، فهو كما لو تغير اجتهاد مقلده، وإلا فلا أثر له. قلت: هذا الذي زعم الامام الرافعي رحمه الله أنه القياس ليس بشئ، بل الوجه الجزم بأنه لا يلزمه شئ، ولا أثر لقول الثاني، وهذا كله إذا كانت المسألة اجتهادية، وقد لخص الصيمري، والخطيب البغدادي وغيرهما من أصحابنا هذه المسألة بتفصيل حسن، فقالوا: إذا أفتى، ثم رجع، فإن علم المستفتي رجوعه ولم يكن عمل بالاول لم يجز له العمل به، وكذا إذا نكح بفتواه، أو استمر على نكاح بفتواه، ثم رجع، لزمه فراقها، كنظيره في القبلة. وإن كان عمل به قبل الرجوع، فإن كان مخالفا لدليل قاطع، لزم المستفتي نقض عمله، وإن كان في محل الاجتهاد، فلا، لان الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، ولا يعمل خلاف هذا لاصحابنا، وما ذكره صاحبا المستصفى والمحصول، فليس فيه تصريح بمخالفة هذا. قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله: وإن كان المفتي إنما يفتي على مذهب إمام معين، فرجع لكونه تيقن مخالفة نص إمامه، وجب نقضه، وإن كان اجتهاديا،(8/93)
لان نص إمامه في حقه كنص الشارع في حق المستقل، وأما إذا لم يعلم المستفتي برجوعه. فكأنه لم يرجع في حقه، ويلزم المفتي إعلامه برجوعه قبل العمل، وكذا بعده حيث يجب النقض، وإذا عمل بفتواه في إتلاف، ثم بإن أنه أخطأ، وخالف القاطع، فقال الاستاذ أبو إسحاق الاسفراييني: إن كان أهلا للفتوي، ضمن، وإلا، فلا، لان المستفتي مقصر، وهذا الذي قاله فيه نظر، وينبغي أن يخرج على قولي الغرور أو يقطع بعدم الضمان مطلقا إذا لم يوجد منه الاتلاف، ولا ألجأ إليه بإلزام. والله أعلم. فرع لا يشترط أن يكون للمجتهد مذهب مدون، وإذا دونت المذاهب، فهل يجوز للمقلد أن ينتقل من مذهب إلى مذهب ؟ إن قلنا: يلزمه الاجتهاد في طلب الاعلم، وغلب على ظنه أن الثاني أعلم ينبغي أن يجوز، بل يجب وإن خيرناه، فينبغي أن يجوز أيضا، كما لو قلد في القبلة هذا أياما، وهذا أياما. ولو قلد مجتهدا في مسائل، وآخر في مسائل أخرى، واستوى المجتهدان عنده أو خيرناه، فالذي يقتضيه فعل الاولين الجواز، وكما أن الاعمى إذا قلنا: لا يجتهد في الاواني والثياب له أن يقلد في الثياب واحدا، وفي الاواني آخر، لكن الاصوليون منعوا منه لمصلحة. وحكى الحناطي وغيره عن أبي إسحق فيما إذا اختار من كل مذهب ما هو أهون عليه أن يفسق به، وعن ابن أبي هريرة أنه لا يفسق، وبالله التوفيق. قلت: قد استقصى الامام الرافعي رحمه الله هذا الباب، فاستوعب وأجاد، وقد استوعبت أنا هذا الباب في أول شرح المهذب وجمعت فيه من مجموعات كلام الائمة ومتفرقاتها هذا المذكور هنا مع مثله أو أمثاله، وأنا أذكر منه هنا نبذا أشير إليها، ولا ألتزم ترتيبه. فيستحب للمعلم والمفتي الرفق بالمتعلم والمستفتي، ليتمكن من الفهم عنه، وقد استوعبت آداب العالم والمعلم في أول شرح المهذب وذكرت فيه ما لا ينبغي لطالب علم أن يخفى عليه شئ منه، قال الخطيب الحافظ أبو بكر البغدادي: ينبغي للامام أن يتفقد أحوال المفتين، فمن صلح لها، أقره، ومن لم يصلح،(8/94)
منعه، وأمره أن لا يعود، ويواعده على العود، وطريقه في ذلك أن يسأل العلماء المشهورين من أهل عصره عن حاله، ويعتمد خبرهم، وينبغي أن يكون المفتي مع شروطه السابقة متنزها عن خوارم المروءة، فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، حسن التصرف والاستنباط، وسواء الحر والعبد، والمرأة والاعمى والاخرس إذا كتب أو فهمت إشارته. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: وينبغي أن يكون المفتي كالراوي في أنه لا تؤثر فيه القرابة والعداوة، وجر النفع، ودفع الضر، لانه في حكم من يخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص، فكان كالراوي لا كالشاهد وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي. قال: ووجدت عن صاحب الحاوي إن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصا معينا، صار خصما معاندا، ترد فتواه على من عاداه، كما ترد شهادته. قال الصيمري: ويقبل فتاوى أهل الاهواء والخوارج، ومن لا يكفر ببدعته ولا بفسقه، وذكر الخطيب هذا ثم قال: وأما الشراة وهم بضم الشين المعجمة، والرافضة الذين يسبون السلف، ففتاويهم مردودة، وأقاويلهم ساقطة. ومن كان من أهل الفتوى وهو قاض، فهو كغيره، فلا يكره له الفتوى هذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور، وقيل: له أن يفتي في العبادات وغيرها، مما لا يتعلق بالاحكام، وفي الاحكام وجهان. وقال ابن المنذر: يكره فتواه في الاحكام دون غيرها، وهل يشترط في المفتي أن يعرف من الحساب ما يصح به المسائل الحسابية الفقهية ؟ وجهان، حكاهما الاستاذ أبو إسحق الاسفراييني، وصاحبه ويشترط في المفتي المنتسب إلى مذهب إمام كما سبق أن أبو منصور البغدادي يكون فقيه النفس، حافظا مذهب إمامه، ذا خبرة بقواعده، وأساليبه ونصوصه، وقد قطع إمام الحرمين وغيره بأن الاصولي الماهر المتصرف في الفقه لا يحل له الفتوى بمجرد ذلك، ولو وقعت له واقعة، لزمه أن يستفتي فيها، ويلتحق به المتصرف البحاث في الفقه من أئمة الخلاف، وفحول المناظرين، لانه ليس أهلا لادراك حكم الواقعة استقلالا، لقصور آلته، ولا من مذهب إمام لعدم حفظه له على الوجه المعتبر. وإذا استفتى(8/95)
العامي عما لم يقع، لم يجب جوابه ولا يجوز للمفتي أن يتساهل في فتواه، ومن عرف بذلك، لم يجز أن يستفتى، وتساهله قد يكون بأن لا يتثبت، ويسرع بالجواب قبل استيفاء الفكر والنظر، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه، فلا بأس بالاسراع، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من المسارعة، وقد يكون تساهله بأن تحمله أغراض فاسدة على تتبع الحيل المحرمة المكروهة، والتمسك بالشبهة طلبا للترخيص على من يروم نفعه، أو التغليظ على من يروم ضره، ومن فعل هذا، فلا وثوق به. وأما إذا صح قصده، فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها، ولا تجر إلى مفسدة، ليخلص بها المستفتي من وريطة يمين ونحوها، فذلك حسن، وعله يحمل ما جاء عن بعض السلف من هذا. وينبغي أن لا يفتي في كل حال تغير خلقه، وتشغل قلبه، وتمنعه التثبت والتأمل كحالة الغضب أو الجوع أو العطش والحزن والفرح الغالب، والنعاس، والملالة، والمرض المقلق، والحر المزعج، ومدافعة الاخبثين ونحو ذلك، ومتى أحس بشغل قلبه، وخروجه عن الاعتدال، لم يفت، فإن أفتى في شئ من هذه الاحوال وهو يعتقد أن ذلك لم يمنعه من إدراك الصواب، صحت فتواه، وإن كان مخاطرا. والاولى للمتصدي للفتوى أن يتبرع بذلك، ويجوز أن يأخذ عليه رزقا من بيت المال إلا إذا تعين عليه، وله كفاية، فالصحيح أنه لا يجوز. ثم إن كان له رزق لا يجوز له أخذ أجرة، وإن لم يكن له رزق، لم يجز له أخذ أجرة من أعيان المستفتين كالحاكم. واحتال الشيخ أبو حاتم القزويني في حيلة، فقال: يقول للمستفتي: يلزمني أن أفتيك قولا، ولا يلزمني أن أكتب لك، فإن استأجره على الكتابة، جاز، وهذا الذي ذكره وإن كان مكروها، فينبغي أن لا يأخذ من الاجرة إلا قدر أجرة كتابة ذلك القدر ولو لم يكن فتوى، لئلا يكون آخذا زيادة بسبب الافتاء. قال الصيمري والخطيب وغيرهما: ولو اجتمع أهل البلد على أن جعلوا له رزقا من أموالهم ليتفرغ لفتاويهم، جاز. وأما الهدية، فقال أبو المظفر السمعاني من أصحابنا: ويجوز له قبولها بخلاف الحاكم، لانه يلزمه حكمه قال الشيخ أبو عمرو: وينبغي أن يحرم قبولها إن كانت رشوة على أن يفتيه بما يريد، كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بالاعواض. قال(8/96)
الخطيب: وعلى الامام أن يفرض من بيت المال لمن نصب نفسه لتدريس العلم أو للفتوى في الاحكام ما يغنيه عن التكسب، ولا يجوز أن يفتي فيما يتعلق بالالفاظ كالايمان والاقرار والوصايا ونحوها، إلا إذا كان من أهل بلد اللافظ أو نازلا منزلتهم في الخبرة بمرادهم في العادة، وليس للمفتي والعامل على مذهب الامام الشافعي في المسألة ذات الوجهين أو القولين أن يفتي أو يعمل بما شاء منهما من غير نظر وهذا لا خلاف فيه، بل عليه في القولين أن يعمل بالمتأخر منهما إن علمه، وإلا فبالذي رجحه الشافعي، فإن لم يكن رجح أحدهما ولا علم السابق، لزمه البحث عن أرجحهما، فيعمل به، فإن كان أهلا للترجيح، اشتغل به متعرفا ذلك من نصوص الشافعي ومآخذه وقواعده، وإلا فلينقله عن الاصحاب الموصوفين بهذه الصفة، فإن لم يحصل له ترجيح بطريق، توقف. وأما الوجهان فيتعرف أرجحهما بما سبق إلا أنه لا اعتبار بالتأخر إلا إذا وقعا من شخص واحد، وإذا كان أحدهما منصوصا للشافعي، والآخر مخرجا، فالمنصوص هو الراجح المعمول به غالبا، كما إذا رجح الشافعي في أحد القولين، بل هذا أولى. ولو وجد من ليس أهلا لترجيح خلافا للاصحاب في الارجح من القولين أو الوجهين، فليعتمد ما صححه الاكثر، والاعلم والاورع، فإن تعارض أعلم وأورع، قدم الاعلم، فإن لم يبلغه عن أحد ترجيح، اعتبر صفات الناقلين للقولين، والقائلين للوجهين فما رواه البويطي والمزني والربيع المرادي مقدم عند أصحابنا على ما رواه الربيع الجيزي وحرملة، كذا نقله الخطابي من أصحابنا عن أصحابنا، إلا أنه لم يذكر البويطي، وزدته أنا لكونه أجل من الربيع، وأقدم من المزني، وأخص بالشافعي منه. قال الشيخ أبو عمرو: ويترجح أيضا ما وافق أكثر أئمة المذاهب. وحكى القاضي حسين فيما إذا كان للشافعي قولان، أحدهما كقول أبي حنيفة رضي الله عنه وجهين، قال الشيخ أبو حامد: المخالف لابي حنيفة رضي الله عنه أرجح، فلو لم يطلع الشافعي على معنى مخالف لما خالفه، والصحيح أن الموافق أولى، وبه قال القفال، وهذا إذا لم نجد مرجحا مما سبق. ولو تعارض جزم مصنفين، فهو كتعارض الوجهين، فيرجع إلى البحث كما سبق، ويرجح أيضا بالكثرة، فإذا جزم مصنفان بشئ، وجزم ثالث مساو لاحدهما بخلافهما، رجحناهما عليه. واعلم أن نقل أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي وقواعد مذهبه، ووجوه(8/97)
المتقدمين من أصحابنا أتقن وأثبت من نقل أصحابنا الخراسانيين غالبا إن لم يكن دائما وهذا مما يتعلق بما نحن فيه. ومما ينبغي أن يرجح به أحد القولين أن يكون الشافعي رحمه الله ذكره في بابه ومظنته، والآخر جاء مستطردا في باب آخر. واعلم أن هذا الكتاب الذي اختصرته وهذبته محصل لك جميع ما ذكرته ولا أقول هذا تبجحا بل نصيحة للمسلمين ومناصحة للدين، وهما واجبان علي وعلى سائر المكلفين. واعلم أنه يكره للمفتي أن يقتصر في جوابه على قوله: فيه قولان، أو وجهان، أو خلاف ونحو ذلك، فإن هذا ليس جوابا صحيحا للمستفتي، ولا يحصل به مقصوده، وهو بيان ما يعمل به لما ذكرنا، بل ينبغي أن يجزم بما هو الراجح، فإن لم يظهر له الراجح، انتظر ظهوره، أو امتنع من الافتاء في المسألة، كما فعله كثير من أصحابنا وغيرهم. واعلم أنه متى كان قولان قديم وجديد، فالعمل على الجديد إلا في نحو عشرين أو ثلاثين مسألة قد أوضحتها مفصلة في أول شرح المهذب مع ما يتعلق بها ويترتب بها، ويترتب عليها، وبالله التوفيق، وإذا كان في رقعة الاستفتاء مسائل، فحسن أن يرتب الجواب على ترتيب الاسئلة، وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق الجواب، فإنه خطأ بالاتفاق، وليس له أن يكتب الجواب على ما يعلمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الرقعة تعرض له، بل يذكر جواب ما في الرقعة فإن أراد الجواب على خلاف ما فيها، فليقل، وإن كان الامر كذا، فجوابه كذا، وإذا كتب الجواب، أعاد نظره فيه وتأمله، وإذا كان هو المبتدئ بالافتاء في الرقعة، قال الصيمري وغيره: فالعادة قديما وحديثا أن يكتب في الناحية اليسرى، لانه أمكن. قال الصيمري وغيره: ولو كتب وسط الرقعة، أو في حاشيتها، فلا عتب عليه، ولا يكتب فوق البسملة بحال. ويستحب عند إرادة الافتاء أن يستعيذ من الشيطان ويسمي الله تعالى(8/98)
ويحمده، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: رب اشرح لي صدري الآية، ويستحب أن يكتب في أول فتواه: الحمد لله، أو الله الموفق، أو حسبنا الله، أو حسبي الله ونحو ذلك، نقل ذلك الصيمري عن كثيرين، قال: وحذفه آخرون. قال: ولا يدع أن يختم جوابه بقوله: والله أعلم، أو وبالله التوفيق ونحوه. قال: ولا يقبح أن يقول: الجواب عندنا، أو الذي عندنا، أو الذي نذهب إليه كذا، لانه من أهله قال: وإذا كان السائل قد أغفل الدعاء للمجيب، أو الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الفتوى، ألحق المفتي ذلك بخطه فإن العادة جارية به، ويكتب بعد: والله أعلم، ونحوه: كتبه فلان، أو فلان بن فلان الفلاني، فينتسب إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلد أو غيرهما، ثم ينتسب إلى المذهب، فيقول الشافعي أو الحنفي ونحوهما، قال الصيمري: وإن كانت الفتوى تتعلق بالسلطان، دعا له، فقال: وعلى السلطان أو على ولي الامر وفقه الله، أو أصلحه، أو سدده، أو شد أزره، ولا يقول: أطال الله بقاءه، فإنه ليس من ألفاظ السلف. وقد نقل النحاس اتفاق العلماء على كراهية أطال الله بقاءك. وقد أوضحت هذه اللفظة وما يتعلق بها ويشبهها في آخر كتاب الاذكار. وينبغي أن يختصر جوابه، ويكون بحيث يفهم للعامة فهما جليا، قال الصيمري والخطيب وغيرهما: وإذا سئل عمن قال: أنا أصدق من محمد بن عبد الله، أو الصلاة لغو ونحو هذه العبارات، فلا يبادر بقوله: هذا حلال الدم، أو عليه القتل، بل يقول: إن ثبت هذا بإقراره، أو ببينة، استتابه السلطان، فإن تاب، قبلت توبته، وإلا فعل كذا وكذا وأشبع القول فيه، وإن سئل عن شئ يحتمل وجوها يكفر ببعضها دون بعض قال: يسأل القائل، فإن قال: أردت كذا، فالجواب كذا، وإن قال: أرددت كذا، فالجواب كذا. وإذا سئل عمن قتل أو قلع سنا أو عينا، احتاط في الجواب، فيذكر الشروط التي يجب باجتماعها القصاص، وإذا سئل عمن فعل ما يقتضي تعزيره، ذكر ما يعزر به، فيقول: ضربه السلطان ما بين كذا وكذا، ولا يزاد على كذا، وينبغي أن يلصق الجواب بآخر الاستفتاء، ولا يدع بينهما فرجة مخافة أن يزيد السائل شيئا يفسد الجواب. وإذا كان موضع الجواب ورقة ملصفة، كتب على(8/99)
موضع الالصاق، وإذا ضاق آخر الورقة عن الجواب، لم يكتبه في ورقة أخرى، بل في ظهر هذه أو حاشيتها وأيهما أولى ؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: هما سواء، والراجح أن حاشيتها أولى، وبه قطع الصيمري وغيره، وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو خصمه، ووجوه الميل معروفة. ومنها أن يكتب ما له دون ما عليه، وليس له أن يعلم أحدهما ما يدفع به حجة صاحبه، وإذا ظهر له أن الجواب خلاف غرض المستفتي، وأنه لا يرضى بكتابته في ورقته، اقتصر على مشافهته بالجواب، ويجب عليه عند اجتماع الرقاع أن يقدم الاسبق فالاسبق، كالقاضي وهذا فيما يجب فيه الافتاء، فإن تساووا وجهل السابق، أقرع والصحيح أنه يجوز تقديم المرأة، والمسافر الذي شد رحله، ويتضرر بتخلفه عن رفقته إلا إذا كثر المسافرون والنساء بحيث يتضرر غيرهم تضررا ظاهرا، فيقدم حينئذ بالسبق، ثم القرعة، ثم لا يقدم أحدا إلا في فتيا واحدة. قال الصيمري وغيره: إذا سئل عن ميراث، فالعادة أن لا يشترط في الورثة عدم الرق والكفر والقتل وغيرهما مما يمنع الارث، بل المطلق محمول على ذلك بخلاف ما إذا أطلق الاخوة والاخوات، ولا بد أن يقول في الجواب: من أبوين أو أب أو أم، وإذا سئل عن المنبرية وهي زوجة وأبوان وبنتان، لا يقول: للزوجة الثمن، ولا التسع، لانه لم يطلقه أحد من السلف، بل يقول: لها الثمن عائلا، وهو ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين سهما، أولها ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين، وإذا كان في المذكورين من لا يرث أفصح بسقوطه، فقال: وسقط فلان، فإن كان سقوطه في حال دون حال، قال: وسقط فلان في هذه الحالة ونحو ذلك، لئلا يتوهم أنه لا يرث بحال. قال: وينبغي أن يكون شديد الاحتراز في جواب المناسخات. قال الصميري وغيره: وحسن أن يقول: تقسم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دين أو وصية إن كانا. قالوا وإذا رأى في الرقعة فتوى غيره ممن هو أهل للافتاء، وخطه موافق لما عنده، كتب تحته الجواب صحيح، أو جوابي مثل هذا، أو بهذا أقول وله أن يكتب الجواب بعبارة أخصر من عبارة السابق.(8/100)
وإن كان فيها خط من ليس بأهل، قال الصيمري وغيره: لم يفت معه، لان ذلك تقرير للخطأ، بل يضرب عليه، وينهر المستفتي، ويعرفه قبح ما فعله، وأنه كان واجبا عليه البحث عن أهل الفتوى. وإن رأى فيها اسم من لا يعرفه، سأل عنه، فإن لم يعرفه، فله الامتناع خوفا مما قلناه. والاولى أن يأمر صاحبها بإبدالها، فإن أبى، أجابه شفاها، وإذا خاف فتنة من الضرب عليها، ولم تكن فتياه خطأ، امتنع من الافتاء معه. وهل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء، نظر إن كان منتسبا إلى مذهب، بني على وجهين، حكاهما القاضي حسين في أن العامي هل له مذهب أم لا ؟ أحدهما: لا، لان المذهب لعارف الادلة، فعلى هذا له أن يستفتي من شاء، وأصحهما عند القفال له مذهب، فلا تجوز مخالفته. وإن لم يكن منتسبا، بني على وجهين، حكاهما ابن برهان بفتح الباء من أصحابنا في أن العامي هل يلزمه التقيد بمذهب معين ؟ أحدهما: لا، فعلى هذا هل له أن يقلد من شاء أم يبحث عن أسد المذاهب، فيقلد أهله وجهان، كالبحث عن الاعلم. والثاني وبه قطع أبو الحسن إلكيا: يلزمه. وهو جار في كل من يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم، لئلا يتلقط رخص المذاهب بخلاف العصر الاول، ولم تكن مذاهب مدونة، فيتلقط رخصها. فعلى هذا يلزمه أن يختار مذهبا يقلده في كل شئ، وليس له التمذهب بمجرد التشهي، ولا بما وجد عليه أبده، هذا كلام الاصحاب. والذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي من شاء، أو من اتفق، لكن من غير تلقط للرخص. ولعل من منعه لم يثق بعدم تلقطه. وإذا استفتى وأفتاه المفتي، فقال أبو المظفر السمعاني: لا يلزمه العمل به إلا بإلزامه، قال: ويجوز أن يقال: يلزمه إذا أخذ في العمل به، وقيل: يلزمه إذا وقع في نفسه صحته، قال: وهذا أولى الاوجه، والمختار ما نقله الخطيب وغيره، أنه إذا لم يكن هناك مفت(8/101)
آخر، لزمه بمجرد فتواه، وإن لم تسكن نفسه، وإن كان هناك آخر لم يلزمه بمجرد إفتائه، إذ له أن يسأل غيره، وحينئذ فقد يخالفه، فيجئ فيه الخلاف السابق في اختلاف المفتيين، وينبغي للمستفتي أن يبدأ من المفتين بالاسن الاعلم وبالاولى فالاولى فإن أراد جمعهم في رقعة، وإن أراد إفرادهم في رقاع، بدأ بمن شاء، وتكون رقعة الاستفتاء واسعة، ويدعو في الورقة لمن يستفتيه، ويدفع الورقة إلى المفتي منشورة، ويأخذها منشورة، فيريحه من نشرها وطيها. وإذا لم يجد صاحب الواقعة مفتيا في بلده ولا غيره، ولا من ينقل حكمها، قال الشيخ أبو عمرو: هذه مسألة فترة الشريعة الاصولية وحكمها حكم ما قبل ورود الشرع، والصحيح في كل ذلك أن لا تكليف ولا حكم في حقه أصلا، فلا يؤاخذ إذا صاحب الواقعة شئ بصنعه. فهذا آخر النبذ التي يسر الله الكريم إلحاقها وهي وإن كانت طويلة بالنسبة إلى هذا المختصر فهي قصيرة بالنسبة إلى ما ذكرته في شرح المهذب، وموضع بسطها والزيادات والفروع هناك. وهذا الفصل مما يكثر الاحتياج إليه، فلهذا بسطناه أدنى بسط. والله أعلم. المسألة الثالثة: يستحب للامام أن يأذن للقاضي في الاستخلاف، فإن لم يأذن، فله حالان أحدهما: أن يطلق التولية، ولا ينهاه عن الاستخلاف، فإن أمكنه القيام بما تولاه، كقضاء بلدة صغيرة، فليس له الاستخلاف على الاصح، وإن لم يمكنه كقضاء بلدتين أو بلد كبير، فله الاستخلاف في القدر الزائد على ما يمكنه، وليس له الاستخلاف في الممكن على الاصح، والقياس فيما إذا أذن له أن يكون في القدر المستخلف فيه هذان الوجهان إلا أن يصرح بالاستخلاف في الجميع، وقطع ابن كج بالجواز في الكل عند مطلق الاذن. الحال الثاني: أن ينهاه عن الاستخلاف، فلا يجوز الاستخلاف، فإن كان ما فوضه إليه لا يمكنه القيام به، فقال القاضي أبو الطيب: هذا النهي كالعدم، والاقرب أحد أمرين إما بطلان التولية، وبه قال ابن القطان، وإما اقتصاره على الممكن، وترك الاستخلاف. قلت: هذا أرجحهما. والله أعلم.(8/102)
وجميع ما ذكرناه في الاستخلاف العام، أما في الامور الخاصة، كتحليف وسماع بينة، فقطع القفال بجوازه للضرورة، وقال غيره: هو على الخلاف، وهو مقتضى إطلاق الاكثرين. فروع أحدها: يشترط في الذي يستخلفه ما يشترط في القاضي، قال الشيخ أبو محمد وغيره: فإن فوض إليه أمرا خاصا، كفاه من العلم ما يحتاج إليه في ذلك الباب حتى إن نائب القاضي في القرى إذا كان المفوض إليه سماع البينة ونقلها دون الحكم، كفاه العلم بشروط سماع البينة ولا يشترط فيه رتبة الاجتهاد. الثاني: قال الروياني في التجربة: نص الشافعي رحمه الله في المبسوط يدل على أن الحاكم الشافعي لا يجوز أن يستخلف من يخالفه، والمعروف في المذهب خلافه، لان الحاكم يعمل باجتهاده حتى لو شرط على النائب أن يخالف اجتهاده، ويحكم باجتهاد المنيب لم يجز، وكذا إذا جوزنا تولية المقلد للضرورة، فاعتقاد المقلد في حقه كاجتهاد المجتهد، فلا يجوز أن يشرط عليه الحكم بخلاف اعتقاد مقلده، فلو خالف وشرط القاضي الحنفي على النائب الشافعي الحكم بمذهب أبي حنيفة قال في الوسيط: له الحكم في المسائل التي اتفق عليها الامامان دون المختلف فيها، وهذا حكم منه بصحة الاستخلاف، لكن قال الماوردي وصاحبا المهذب والتهذيب وغيرهم: لو قلد الامام رجلا القضاء على أن يقضي بمذهب عينه، بطل التقليد. ومقتضى هذا بطلان الاستخلاف هناك، وفي فتاوى القاضي حسين أن الامام الحنفي لو ولى شافعيا بشرط أن لا يقضي بشاهد ويمين، ولا على غائب، صحت التولية، ولغا الشرط، فيقضي بما أدى إليه اجتهاده، ومقتضى هذا أن لا يراعى الشرط هناك، قال الماوردي: ولو لم تجر صيغة الشرط، بل قال الامام: قلدتك القضاء، فاحكم بمذهب الشافعي، ولا تحكم بمذهب أبي حنيفة، صح التقليد، ولغا الامر والنهي، وفيه احتمال، قال: ولو قال: لا تحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد، جاز، وقد قصر عمله على باقي الحوادث، وحكى وجهين فيما لو قال: لا تقض فيهما بقصاص أنه(8/103)
يلغو أم يكون منعا له في الحكم في القصاص نفيا وإثباتا. الثالث: حيث منعنا الاستخلاف، فاستخلف فحكم الخليفة باطل، لكن لو تراضى خصمان بحكمه، كان كالمحكم وليس للقاضي إنفاذ حكمه، بل يستأنف الحكم بينهما، وإذا جوزنا الاستخلاف، فاستخلف من لا يصلح للقضاء، فحكمه باطل أيضا، ولا يجوز إنفاذه. المسألة الرابعة: إذا نصب الامام قاضيين في بلد واحد، نظر إن خص كل واحد بطرف منه، أو بزمان، أو جعل أحدهما قاضيا في الاموال، والآخر في الدماء والفروج، جاز، قال ابن كج: وكذا لو ولاهما على أن يحكم كل واحد منهما في الواقعة التي يرفعها المتخاصمان إليه، وإن عمم ولا يتهما مكانا وزمانا وحادثة، فإن شرط عليهما الاجتماع في الحكم، لم يجز، لان الخلاف يكثر في محل الاجتهاد، فتتعطل الحكومات، وإن أثبت لكل واحد الاستقلال فوجهان، أحدهما: لا يجوز كالامامة 8 العظمى، فعلى هذا إن ولاهما معا، بطلت توليتهما، وإن ولاهما متعاقبين، صحت تولية الاول دون الثاني، وأصحهما الجواز، الوكيلين والوصيين. فعلى هذا لو تنازع الخصمان في إجابة داعي القاضيين يجاب من سبق داعيه، فإن جاءا معا أقرع، وإن تنازعا في اختيار القاضيين، فقد أطلق الغزالي أنه يقرع، وقال الماوردي: القول قول الطالب دون المطلوب، فإن تساويا، حضرا عند أقرب القاضيين إليهما، فإن استويا في القرب فالاصح أنه يقرع، وقيل: يمنعان من التخاصم حتى يتفقا على أحدهما وإن أطلق نصب قاضيين، ولم يشرط اجتماعهما، ولا استقلالهما، قال صاحب التقريب: يحمل على إثبات الاستقلال تنزيلا للمطلق على ما يجوز، وقال غيره: التولية باطلة حتى يصرح بالاستقلال.(8/104)
قلت: قول صاحب التقريب أصح، وبه قطع الرافعي في المحرر. والله أعلم. الخامسة: هل يجوز أن يحكم الخصمان رجلا غير القاضي، وهل لحكمه بينهما اعتبار، قولان أظهرهما عند الجمهور نعم، وخالفهم الامام والغزالي، فرجحا المنع، وقيل القولان في الاموال فقط، فأما النكاح واللعان، والقصاص، وحد القذف وغيرها، فلا يجوز فيها التحكيم قطعا، والمذهب طرد القولين في الجميع، وبه قطع الاكثرون، ولا يجزئ في حدود الله تعالى على المذهب، إذ ليس لها طالب معين، وفي التهذيب وغيره ما يقضي ذهاب بعضهم إلى طرد الخلاف فيها وليس بشئ، وقيل القولان في التحكيم في حقوق الآدميين مخصوصان بما إذا لم يكن في البلد قاض، فإن كان لم يجز، وقيل: هما إذا كان قاض وإلا فيجوز قطعا والمذهب طردهما في الحالين، فإذا جوزنا التحكيم اشترط في المحكم صفات القاضي، ولا ينفذ حكمه إلا على من رضي بحكمه حتى لا تضرب دية الخطأ على العاقلة إذا لم يرضوا بحكمه، ولا يكفي رضى القاتل، وقيل: يكفي، والعاقلة تبع له، والصحيح الاول. قال السرخسي: الخلاف مخصوص بقولنا تجب الدية على الجاني، ثم تحملها العاقلة، فإن قلنا: تجب عليها ابتداء لم تضرب عليهم إلا برضاهم قطعا وهذا حسن. قال السرخسي: وإنما يشترط رضا المتحاكمين إذا لم يكن أحدهما القاضي نفسه، فإن كان، فهل يشترط رضا الآخر ؟ فيه اختلاف نص، والمذهب أنه لا يشترط، وليكن هذا مبنيا على جواز الاستخلاف إن جاز، فالمرجوع إليه نائب القاضي. قال: ويشترط على أحد الوجهين كون المتحاكمين بحيث يجوز للمحكم أن يحكم لكل واحد منهما، فإن كان أحدهما ابنه أو أباه، لم يجز. وليس للمحكم الحبس، بل غايته الاثبات والحكم وقيل: يحبس وهو شاذ وهل يلزم حكمهما بنفس الحكم كحكم القاضي أم لا يلزمه إلا بتراضيهما بعد الحكم ؟ فيه قولان، ويقال: وجهان، أظهرهما الاول،(8/105)
ومتى رجع أحدهما قبل الحكم، امتنع الحكم حتى لو أقام المدعي شاهدين، فقال المدعى عليه: عزلتك، لم يكن له أن يحكم. وقال الاصطخري: إن أحسن المدعى عليه بالحكم فرجع، ففي تمكينه من الرجوع وجهان خرجهما، والمذهب الاول، وإذا جوزنا التحكيم في غير الاموال، فخطب امرأة، وحكما رجلا في التزويج، كان له أن يزوج قال الروياني: وهذا هو الاصح، واختيار الاستاذين أبي إسحق الاسفراييني، وأبي طاهر الزيادي وغيرهما من المشايخ، وإنما يجوز فيه التحكيم إذا لم يكن لها ولي خاص من نسيب أو معتق، وشرط في بعض الشروح أن لا يكون هناك قاض، وحكى صاحب العدة القاضي أبو المكارم الطبري ابن أخت الروياني وجهين في اشتراطه. وليكن هذا مبنيا على الخلاف في أنه هل يفرق في التحكيم بين أن يكون في البلد قاض أم لا، وإذا رفع حكم المحكم إلى القاضي، لم ينقضه إلا بما ينقض قضاء غيره. المسألة السادسة في أحكام منثورة تتعلق بالتولية. يجب على الامام نصب القاضي في كل بلدة وناحية خالية عن قاض، فإن عرف حال من يوليه عدالة وعلما، فذاك، وإلا أحضره، وجمع بينه وبين العلماء ليعرف علمه، ويسأل عن سيرته جيرانه وخلطاءه، فلو ولى من لا يعرف حاله، لم تنعقد توليته، وإن علم بعد ذلك كونه بصفة القضاة، ويجوز ان يجعل الامام نصب القاضي إلى والي الاقليم وأمير البلدة، وإن لم يكن المجعول إليه صالحا للقضاء، لانه وكيل محض، وكذا لو فوض إلى واحد من المسلمين اختيار قاض، ثم ليس له أن يختار والده ولا ولده، كما لا يختار نفسه. ولو قال لاهل بلد: اختاروا رجلا منكم، وقلدوه القضاء، قال ابن كج: جاز على الاصح. ويشترط في التولية تعيين محل ولايتههن قرية، أو بلدة، أو ناحية، ويشترط تعيين المولى، فلو قال: وليت أحد هذين أو من رغب في القضاء ببلدة كذا من علمائها، لم يجز. ولو قال: فوضت القضاء إلى فلان وفلان، فهذا نصب قاضيين. وفي الاحكام السلطانية للقاضي الماوردي: إن تولية القضاء تنعقد بما تنعقد به الوكالة، وهو(8/106)
المشافهة باللفظ، والمراسلة، والمكاتبة عند الغيبة، ويجئ في المراسلة والمكاتبة خلاف كما سبق في الوكالة، وإن كان المذهب الصحة كما ذكره. وفيه أن صريح اللفظ: وليتك القضاء، واستخلفتك، واستنبتك، ولم يذكر التفويض بصيغة الامر، كقوله: اقض بين الناس، أو احكم ببلدة كذا، وهو ملحق بالصرائح، كما في الوكالة. وفيه أن الكنايات: اعتمدت عليك في القضاء، أو رددته إليك، أو اعتمدت، أو فوضت، أو وكلت، أو أسندت، وينبغي أن يقترن بها ما يلحقها بالصرائح ولا يكاد يتضح فرق بين: وليتك القضاء، وفوضته إليك. قلت: الفرق واضح فإن قوله: وليتك متعين لجعله قاضيا، وفوضت إليك محتمل أن يراد توكيله في نصب قاض. والله أعلم. وفيه أن عند المشافهة يشترط القبول على الفور، وفي المراسلة والمكاتبة لا يشترط الور، وقد سبق في الوكالة خلاف في اشتراط القبول، وأنه إذا اشترط، فالاصح أنه لا يعتبر الفور فليكن هكذا هنا. فرع يجوز تعميم التولية وتخصيصها، إما في الاشخاص بأن يوليه القضاء بين سكان محلة أو قبيلة، أو في خصومات شخصين معينين، أو ولاه القضاء بين من يأتيه في داره أو في مسجده من الخصوم، وإما في الحوادث بأن يوليه القضاء في الانكحة دون الاموال أو عكسه، أو في قدر معين من المال، وإما في طرف الحكم بأن يوليه القضاء بالاقرار دون البينة أو عكسه، وإما في الامكنة وهو ظاهر، وإما في الازمنة بأن يوليه سنة أو يوما معينا، أو يوما سماه من كل اسبوع. وحكى ابن كج وجها أنه إذا قال: وليتك سنة، بطلت التولية كما في الامامة، والمذهب الاول كالوكالة، ولو كان كالامامة، لما جاز باقي التخصيصات. ومن ولي القضاء مطلقا، استفاد سماع البينة والتحليف، وفصل الخصومات بحكم بات أو إصلاح عن تراض، واستيفاء الحقوق والحبس عند الحاجة والتعزير، وإقامة الحدود، وتزويج من ليس لها ولي حاضر، والولاية في مال الصغار والمجانين والسفهاء والنظر في(8/107)
الضوال وفي الوقف حفظا للاصول، وإيصالا للغلات إلى مصارفها بالفحص عن حال المتولي إذا كان لها متول، وبالقيام به إذا لم يكن. قال الماوردي: ويعم نظره في الوقوف العامة والخاصة، لان الخاصة ستنتهي إلى العموم والنظر في الوصايا وتعيين المصروف إليه إن كانت لجهة عامة بالقيام بها إن لم يكن وصي، وبالفحص عن حاله إن كان، والنظر في الطرق، والمنع من التعدي فيها بالابنية، وإشراع ما لا يجوز إشراعه قال القاضي أبو سعد الهروي: ونصب المفتين والمحتسبين وأخذ الزكوات. وفصل الماوردي أمر الزكوات، فقال: إذا أقام الامام لها ناظرا خرجت عن عموم ولاية القاضي، وإلا فوجهان، ويشبه أن يطرد هذا التفصيل، في المحتسبين، وكذا القول في إقامة صلاة الجمعة والعيد، ويقرب من هذه الامور نصب الائمة في المساجد، وليس للقاضي جباية الجزية والخراج بالتولية المطلقة على الاصح.
الطرف الثاني : في العزل والانعزال وفيه مسائل: الاولى: إذا جن، أو أغمي عليه، أو عمي، أو خرس، أو خرج عن أهلية الضبط والاجتهاد لغفله أو نسيان لم ينفذ حكمه، وكذا لو فسق على الاصح، فلو زالت هذه الاحوال، ففي عود ولايته من غير تولية مستأنفة وجهان سبقا في كتاب الوصايا، الاصح، لا يعود، وقطع السرخسي بعودها في صورة الاغماء. ولو أخبر(8/108)
الامام بموت القاضي أو فسقه، فولى قاضيا، ثم بان خلافه، لم يقدح في تولية الثاني. الثانية: في الحال الذي يجوز فيه عزله، فإن ظهر منه خلل، فللامام عزله، قال في الوسيط: ويكفي فيه غلبة الظن. وإن لم يظهر خلل، نظر إن لم يكن من يصلح للقضاء، لم يجز عزله، ولو عزله، لم ينعزل، وإن كان هناك صالح، نظر إن كان أفضل منه، جاز عزله وانعزل المفضول بالعزل، وإن كان مثله أو دونه، فإن كان في العزل به مصلحة من تسكين فتنة ونحوها، فللامام عزله به، وإن لم يكن فيه مصلحة، لم يجز، فلو عزله، نفذ على الاصح مراعاة لطاعة السلطان، ومتى كان العزل في محل النظر، واحتمل أن يكون فيه مصلحة، فلا اعتراض على الامام فيه، ويحكم بنفوذه وفي بعض الشروح أن تولية قاض بعد قاض هل هي عزل للاول ؟ وجهان، وليكونا مبنيين على أنه هل يجوز أن يكون في بلد قاضيان. فرع هل ينعزل القاضي قبل أن يبلغه خبر العزل ؟ قيل: قولان كالوكيل، والمذهب القطع بأنه لا ينعزل قبله، لعظم الضرر في نقض أقضيته، ثم الخلاف فيما إذا عزله لفظا، أو كتب إليه: أنت معزول، أو عزلتك، فأما إذا كتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا، فأنت معزول، فلا ينعزل قبل أن يصله الكتاب قطعا، وإن كتب إذا قرأت كتابي فأنت معزول، لم ينعزل قبل القراءة، ثم إن قرأ بنفسه انعزل، وكذا إن قرئ عليه على الاصح، لان الغرض إعلامه بصورة الحال. ولو كان القاضي أميا وجوزناه، فقرئ عليه، فالانعزال أولى.(8/109)
فرع للقاضي أن يعزل نفسه، كالوكيل وفي الاقناع للماوردي أنه إذا عزل نفسه لا ينعزل إلا بعلم من قلده. المسألة الثالثة: فيمن ينعزل بموت القاضي وانعزاله، فينعزل به كل مأذون له في شغل معين، كبيع على ميت أو غائب، وسماع شهادة في حادثة معينة، وأما من استخلفه في القضاء، ففيه ثلاثة أوجه، أحدها: ينعزل كالوكيل، والثاني: لا، للحاجة، وأصحها ينعزل إن لم يكن القاضي مأذونا له في الاستخلاف، لان الاستخلاف في هذا لحاجته، وقد زالت بزوال ولايته، وإن كان مأذونا له فيه لم ينعزل إن كان قال: استخلف عني فامتثل، وإن قال: استخلف عن نفسك، أو أطلق، انعزل، ولو نصبه الامام نائبا عن القاضي، قال السرخسي: لا ينعزل بموت القاضي وانعزاله، لانه مأذون له من جهة الامام، وفيه احتمال، ويتخرج على هذا الخلاف أن القاضي هل له عزل خليفته. فرع القوام على الايتام والاوقاف جعلهم الغزالي كالخلفاء، والمذهب الذي قطع به الاصحاب الجزم بأنهم لا ينعزلون بموت القاضي وانعزاله، لئلا تتعطل أبواب المصالح وهم كالمتولي من جهة الواقف.(8/110)
فرع القضاة والولاة لا ينعزلون بموت الامام الاعظم، وانعزاله لشدة الضرر في تعطيل الحوادث. المسألة الرابعة إذا قال القاضي بعد الانعزال: كنت حكمت لفلان بكذا لم يقبل إلا ببينة، وهل تقبل شهادته بذلك مع آخر ؟ وجهان قال الاصطخري: نعم، والصحيح باتفاق الاصحاب المنع، لانه يشهد على فعل نفسه، فعلى هذا لو شهد مع غيره أن حاكما جائز الحكم حكم بكذا، ولم يضف إلى نفسه، قبلت شهادته على الاصح، كما لو شهدت المرضعة برضاع محرم، ولم يذكر فعلها. ووجه المنع أنه قد يريد نفسه، فوجب البيان، ليزول اللبس، والوجهان مفرعان على أنه لو قامت البينة على حكم حاكم، قبلت ولا يشترط تعيينه، وهذا هو المذهب والمعروف، وأشار بعضهم إلى وجه آخر، فعلى هذا الوجه لا تقبل شهادة واحد منهما. ثم يجوز أن يقال: الوجهان فيما إذا لم يعلم القاضي أنه يشهد على فعل نفسه، فإن علم، فهو كما لو أضاف. ويجوز أن يقال: هما إذا علم، فإن لم يعلم قبل قطعا لجواز إرادة غيره. وعلى هذا الاحتمال لو شهد العزول أن حاكما حكم بكذا، وشهد معه آخر أن المعزول حكم به، وجب أن نقبل، لانا على هذا التقدير لا نعتني إلا بتصحيح الصيغة. قلت: الاحتمال الاول هو الصحيح. والله أعلم. ولو شهد المعزول أنه ملك فلان، أو أن فلانا أقر في مجلس حكمي بكذا، قبلت شهادته، لانه لم يشهد على فعله، وقول القاضي في غير محل ولايته: حكمت لفلان بكذا، كقول المعزول. وأما إذا قال قبل العزل: حكمت بكذا، فيقبل لقدرته على الانشاء في الحال وحتى لو قال على سبيل الحكم: نساء القرية(8/111)
طوالق من أزواجهن، قبل قوله، ولا حاجة إلى حجة. فرعان ذكرهما الهروي، أحدهما: قال القاضي المعزول: المال الذي في يد هذا الامين دفعته إليه أيام قضائي ليحفظه لزيد، وقال الامين: إنه لعمرو، وما قبضته منك، فالقول قول الامين، وإن وافقه على القبض منه، فالقول قول القاضي. والثاني: يجوز أن يكون الشاهدان بحكم القاضي هما اللذان شهدا عنده، وحكم بشهادتهما، لانهما يشهدان على فعل القاضي. قال الاستاذ أبو طاهر: وعلى هذا تفقهت، وأدركت القضاة. الخامسة: ليس على القاضي تتبع أحكام القاضي قبله، لان الظاهر منها السداد، وله التتبع على أحد الوجهين، واختاره الشيخ أبو حامد احتياطا. وإذا جاءه متظلم على القاضي المعزول، وطلب إحضاره، لم يسارع إلى إجابته، فقد يقصد ابتذاله، بل يسأله عما يريد منه، فإن ذكر أنه يدعي عليه عينا، أو دين معاملة، أو إتلاف أو غصب، أحضره، وفصل خصومتهما، كغيرهما. ولو قال: أخذ مني كذا(8/112)
على سبيل الرشوة المحرمة، أو أخذ مني مالا بشهادة عبدين أو غيرهما ممن لا تقبل شهادته، ودفعه إلى فلان، فكذلك الجواب، لان هذا الاخذ كالغصب، وأما فلان الذي ادعى الدفع إليه، فإن قال: أخذته بحكم المعزول لي، لم يقبل قوله، ولا قول المعزول له، بل يحتاج إلى بينة تشهد على حكم المعزول له أيام قضائه، وإن لم يكن بينة، انتزع منه المال، وإن اقتصر على أنه لي، ولم يتعرض الآخذ من المدعي لحكم المعزول، فالقول قوله بيمينه، ولو لم يتعرض المتظلم للآخذ، بل قال: حكم علي بشهادة عبدين ونحوهما، فقد حكى الغزالي وجها أن دعواه لا تسمع، ولا يصغى إليه وهذا الوجه خطأ لا نعرفه لاحد من الاصحاب، بل اتفق الاصحاب على أن دعواه مسموعة، وبينته محكوم بها، ولكن هل يحضر المعزول بمجرد دعواه وجهان: أصحهما: نعم كغيره، والثاني: لا يحضره إلا ببينة تقوم بما بدعيه، أو على إقرار المعزول بما يدعيه، لان الظاهر جريان أحكامه على الصواب، فيكفي هذا الظاهر حتى تقوم بينة بخلافه، وعلى هذا فليس المراد أن البينة تقام في غيبته، ويحكم بها لكن الغرض أن يكون إحضاره ثبت فيقيم المدعي شهودا يعرف القاضي بهم أن لدعواه أصلا وحقيقة، ثم إذا حضر المعزول ادعى المدعي، وشهد الشهود في وجهه، فإن أحضر بعد البينة أو من غير بينة، فأقر، طولب بمقتضاه، وإن أنكر صدق بيمينه على الاصح عند العراقيين والروياني كالمودع وسائر الامناء، وقيل: يصدق بلا يمين، وبه قال ابن القاص، والاصطخري، وصاحب التقريب والماوردي، وصححه الشيخ أبو عاصم، والبغوي. ولا فرق في ذلك(8/113)
بين أن يدعي عليه الحكم في مال أو دم حتى إذا ادعى عليه أنه قتل ظلما بالحكم جرى الخلاف في أن إحضاره هل يتوقف على بينة، وأنه إذا أنكر هل يحلف ؟ ولو ادعى على نائب المعزول في القضاء، فهو كالدعوى على المعزول، وأما أمناؤه الذين يجوز لهم أخذ الاجرة فلو حوسب بعضهم فبقي عليه شئ، فقال: أخذت هذا المال أجرة عملي، فصدقه المعزول، لم ينفعه تصديقه، بل يسترد منه ما يزيد على أجرة المثل، وهل يصدق بيمينه في أجرة المثل ؟ وجهان، أحدهما: لا، بل عليه البينة بجريان ذكر الاجرة. والثاني: نعم، لان الظاهر أنه لا يعمل مجانا. قال الامام: والخلاف مبني على أن من عمل لغيره ولم يسم أجرة، هل يستحقها ؟ فرع لو ادعى رجل على القاضي الباقي على قضائه، نظر إن ادعى ما لا يتعلق بالحكم، حكم بينهما خليفته أو قاض آخر، وإن ادعى ظلما في الحكم، وأراد تغريمه، لم يمكن، ولا يحلف القاضي ولا تغني إلا البينة، وكذا لو ادعى على الشاهد أنه شهد بالزور، وأراد تغريمه، لانهما أمينان شرعا. ولو فتح باب تحليفهما لتعطل القضاء، وأداء الشهادة، وكذا الحكم لو قال للقاضي: قد عزلت، فأنكر وعن الشيخ أبي حامد أن قياس المذهب التحليف في جميع هذا كسائر الامناء إذا ادعيت خيانتهم.(8/114)
الباب الثاني : في جامع آداب القضاء فيه أطراف
الأول : في آداب متفرقة وهي عشرة: الاول: أن يكتب الامام كتاب العهد لمن ولاه القضاء، ويذكر فيه ما يحتاج القاضي إلى القيام به، ويعظه فيه، فإن كان يبعثه إلى بلد آخر، نظر إن كان بعيدا لا ينتشر الخبر إليه، فليشهد شاهدين على التولية على الوجه الذي تضمنه الكتاب ويقرآنه، أو يقرؤه الامام عليهما، فإن قرأ غير الامام، فالاحوط أن ينظر الشاهدان فيه، ثم يخرج الشاهدان معه، فيخبران بالحال هناك، قال الاصحاب: وليس هذا على قواعد الشهادات، إذ ليس هناك قاض يؤدي عنده الشهادة. ولو أشهد ولم يكتب، كفى، فإن الاعتماد على الشهود وإن كان البلد قريبا ينتشر الخبر إليه ويستفيض، فإن أشهد شاهدين يخرجان معه كما ذكرنا، فذاك، وإلا ففي الاكتفاء بالاستفاضة وجهان، أحدهما: المنع، وبه قال أبو إسحق، لان العقود لا تثبت بالاستفاضة كالوكالة والاجارة، وأصحهما الاكتفاء، وبه قال الاصطخري: إذ لم ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن الخلفاء الاشهاد، ومن الاصحاب من أطلق الوجهين، ولم يفرق بين البلد البعيد والقريب، ويشبه أن لا يكون خلاف، ويكو التعويل على الاستفاضة، ولا يجوز اعتماد مجرد الكتابة بغير استفاضة، ولا إشهاد هذا هو المذهب والمفهوم من كلام الجمهور. وذكر الغزالي في اعتماده وجهين.(8/115)
الادب الثاني: إذا أراد الخروج إلى بلد قضائه، سأل عن حال من فيه العدول والعلماء، فإن لم يتيسر، سأل في الطريق حتى يدخل على علم بحال البلد، فإن لم يتيسر، سأل حين يدخل، ويستحب أن يدخل يوم الاثنين. قلت: قال الاصحاب: فإن تعسر يوم الاثنين فالخميس، وإلا فالسبت. والله أعلم. وأن يكون عليه عمامة سوداء، فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء، وأن ينزل في وسط البلد أو الناحية، لئلا يطول الطريق على بعضهم، وإذا دخل، فإن رأى أن يشتغل في الحال بقراءة العهد، فعل، وإن رأى أن ينزل منزله، ويأمر مناديا ينادي يوما فأكثر أو أقل على حسب صغر البلد أو كبره أن فلانا جاء قاضيا، وأنه يخرج يوم كذا لقراءة العهد، فمن أحب، فليحضر، فإذا اجتمعوا، قرأ عليهم العهد، وإن كان معه شهود، شهدوا ثم ينصرف إلى منزله، ويستحضر الناس، ويسألهم عن الشهود والمزكين سرا وعلانية. قال الاصحاب: ويتسلم ديوان الحكم وهو ما كان عند القاضي قبله من المحاضر والسجلات، وحجج الايتام والاوقاف، وحجج غيرهم المودعة في الديوان، لانها كانت في يد الاول بحكم الولاية، وقد انتقلت الولاية إليه، ثم إذا أراد النظر في الامور نظر أولا في المحبوسين هل يستحقونه أم لا ؟ ويأمر قبل أن يجلس للنظر فيهم من ينادي يوما فأكثر على حسب الحاجة أن القاضي ينظر في المحبوسين يوم كذا، فمن له محبوس، فليحضر، ويبعث إلى الحبس أمينا ليكتب اسم كل محبوس وما حبس به، ومن حبس له في رقعة. وذكر القاضي أبو الطيب أنه يبعث أمينين وهو أحوط. فإذا جلس في اليوم الموعود، وحضر الناس، صبت الرقاع بين يديه، فيأخذ رقعة وينظر في الاسم المثبت فيها، ويسأل عن خصمه فمن قال: أنا خصمه بعث معه ثقة إلى الحبس ليأخذ بيده ويحضره، وهكذا يحضر من المحبوسين من يعرف أن(8/116)
المجلس يحتمل النظر في أمرهم وفي أمالي السرخسي أنه يقرع بينهم للابتداء. وإذا اجتمع عنده المحبوس وخصمه، سأل المحبوس عن سبب حبسه، وجوابه يفرض على وجوه، منها أن يعترف أنه حبس بحق، فإن كان ما حبس به مالا، أمر بأدائه، فإن قال: أنا معسر، فعلى ما سبق في التفليس، فإن لم يؤد ولم يثبت إعساره، رد إلى الحبس، وإن أدى أو ثبت إعساره نودي عليه، فلعل له خصما آخر، فإن لم يحضر أحد خلي، وإن كان ما حبس به حدا، أقيم عليه، وخلي كما ذكرناه. ومنها أن يقول: شهدت على بينة، فحبسني القاضي ليبحث عن حال الشهود، ففي جواز الحبس بهذا السبب خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى، فإن قلنا: لا يحبس به، أطلقه، وإلا رده، وبحث عن حال الشهود، ومنها أن يقول: حبست بخمر أو كلب أتلفته على ذمي، وهذا القاضي لا يعتقد التغريم بذلك، فالاظهر أنه يمضيه، والثاني: يتوقف، ويسعى في اصطلاحهما على شئ. ومنها أن يقول: حبست ظلما، فإن كان الخصم معه، فعلى الخصم البينة، ويصدق المحبوس بيمينه، فإن ذكر خصما غائبا، فقيل: يطلق قطعا، والاصح أنه على وجهين، فإن قلنا: لا يطلق حبس، أو يؤخذ منه كفيل، ويكتب إلى خصمه في الحضور، فإن لم يفعل، أطلق حينئذ، وإن قال: لا خصم لي أصلا، أو قال: لا أدري فيم حبست، نودي عليه لطلب الخصم، فإن لم يحضر أحد، حلف وأطلق قال في الوسيط: وفي مدة المناداة لا يحبس، ولا يخلى بالكلية، بل يرتقب،(8/117)
وحيث أطلق الذي ادعى أنه مظلوم لا يطالب بكفيل على الاصح. فرع لو كان قد حبسه الاول تعزيرا قال الغزالي: أطلقه الثاني، ولم يتعرض الجمهور لهذا، فإن بانت جنايته عند الثاني، ورأى إدامة حبسه، فالقياس الجواز. فرع فإذا فرغ من المحبوسين، نظر في الاوصياء، فإذا حضر من ادعى أنه وصي، بحث الحاكم عن شيئين أحدهما أصل الوصاية، فإن أقام بينة أن القاضي المعزول نفذ وصايته، وأطلق تصرفه، قرره، ولم يعزله إلا أن يطرأ فسقه ونحوه وينعزل، فينزع المال منه، وإن شك في عدالته فوجهان، قال الاصطخري: يقر المال في يده، لان الظاهر الامانة، وقال أبو إسحق: ينتزعه حتى تثبت عدالته، وإن وجده ضعيفا، أو كان المال كثيرا لا يمكنه القيام بحفظه، والتصرف فيه، ضم إليه من يعينه، والثاني تصرفه في المال، فإن قال: فرقت ما أوصى به، نظر إن كانت الوصية لمعينين، لم يتعرض له، لانهم يطالبون إن لم يكن وصلهم، وإن كانت لجهة عامة، فإن كان عدلا أمضى تصرفه ولم يضمنه، وإن كان فاسقا، ضمنه لتعديه بالتفريق بغير ولاية صحيحة، ولو فرق الثلث الموصى به غير الوصي خوفا(8/118)
عليه من أن يضيع، نظر إن كانت الوصاية لمعينين، وقع الموقع، لان لهم أن يأخذوه بلا واسطة، وإلا فيضمن على الاصح. فرع ثم بعد الاوصياء ينظر في أمناء القاضي المنصوبين على الاطفال، وتفرقة الوصايا، فمن تغير حاله بفسق أو غيره، فعلى ما ذكرناه في الاوصياء ومن لم يتغير حاله، أقره، قال الروياني: وله أن يعزله ويولي غيره بخلاف الاوصياء، لان الامين يولى من جهة القاضي بخلاف الوصي. فرع ثم ينظر في الاوقاف العامة والمتولين لها، وفي اللقط والضوال، فما لا يجوز تملكه للملتقط، أو يجوز ولم يختر تملكه بعد الحول، حفظه على صاحبه، أو باعه، وحفظ ثمنه لمصلحة المالك، وله أن يحفظ هذه الاموال معزولة عن أمثالها في بيت المال، وله أن يخلطها بمثلها فإذا ظهر المالك، غرم له من بيت المال. فرع ليقدم من كل نوع من ذلك الاهم فالاهم، وإن عرضت حادثة وهو مشغول بهذه المهمات استخلف من ينظر في تلك الحالة أو فيما هو فيه. الادب الثالث: يرتب القاضي بعد المذكورات أمر الكتاب والمزكين والمترجمين، أما الكتاب فللحاجة إلى كتابة المحاضر والسجلات، والكتب الحكمية، لان القاضي لا يتفرغ لها غالبا. ويشترط في الكاتب أن يكون عارفا بما يكتبه من المحاضر وغيرها، وأن يكون مسلما عدلا. وفي المهذب وجه أن الاسلام والعدالة ليسا بشرط بل مستحبان، لان القاضي لا يمضي ما كتبه حتى يقف(8/119)
عليه، وليس بشئ. ويستحب أن يكون فقيها وافر العقل، عفيفا عن الاطماع، جيد الخط، ضابطا للحروف، وأن يجلسه القاضي بين يديه ليملي عليه، ويشاهد ما يكتبه. وأما المزكون فسيأتي فيهم فصل مفرد إن شاء الله تعالى. وأما المترجمون، فللحاجة إلى معرفة كلام من لا يعرف القاضي لغته من خصم أو شاهد، ويشترط في المترجم التكليف والحرية والعدالة، لانه ينقل إلى القاضي قولا لا يعرفه، فأشبه الشاهد والمزكي بخلاف الكاتب، ولهذه العلة شرطنا العدد فيه وفي المزكي. قال الاصحاب: فإن كان الحق مما يثبت برجل وامرأتين، قبلت الترجمة من رجلين أو من رجل وامرأتين، وانفرد الامام باشتراط رجلين، واختاره البغوي لنفسه. وأما النكاح والعتق وسائر ما لا يثبت إلا برجلين، فيشترط في ترجمته رجلان، وفي الزنا هل يكفي رجلان أم يشترط أربعة ؟ قولان كالشهادة على الاقرار بالزنا، وقيل: يكفي رجلان قطعا، ولو كان الشاهدان أعجميين فهل يكفي لهما مترجمان أم يشترط لكل مترجمان ؟ قولان كشهود الفرع، وبالاول قطع العبادي في الرقم، ويجوز أن يكون المترجم أعمى على الاصح، لانه يفسر اللفظ، ولا يحتاج إلى معاينة وإشارة بخلاف الشهادة، وإذا كان بالقاضي صمم، واحتاج إلى من يسمعه فثلاثة أوجه أصحها: يشترط العدد كالمترجم، والثاني: لا، لان المسمع لو غير أنكر عليه الخصم، والحاضرون بخلاف المترجم. والثالث: إن كان الخصمان أصمين، اشترط، لان غيرهما لا يعتني اعتناءهما، وإن كانا سميعين، فلا. فأما إسماع الخصم ما يقوله القاضي، وما يقوله الخصم، فحكى الروياني عن القفال، أنه لا يشترط فيه العدد، وإذا شرطنا العدد. اشترط لفظ الشهادة على الاصح، فيقول: أشهد أنه يقول كذا، ومن منع، قال: ليست بشهادة محققة، وإذا لم يشترط العدد، اشترطت الحرية على الاصح، كهلال رمضان، ولا يسلك به مسلك الروايات وليجري الخلاف في لفظ الشهادة والحرية مع بعده من المترجم، ويشبه أن يكون الاكتفاء بإسماع رجل(8/120)
وامرأتين في المال على ما ذكرنا في المترجم. فرع إذا لم يجد القاضي كفاية، فله أن يأخذ رزقا من بيت المال ليتفرغ للقضاء، وإن وجدها وتعين عليه، لم يجز أخذ شئ، وإلا فيجوز. ويستحب ترك الاخذ، ولا يجوز عقد الاجارة على القضاء، وفي فتاوي القاضي حسين وجه أنه يجوز، والمذهب الاول وبه قطع الجمهور، وينبغي للامام أن يجعل من بيت المال شيئا مع رزق القاضي لثمن ورق المحاضر والسجلات، ولاجرة الكاتب، فإن لم يكن في بيت المال شئ أو احتيج إليه لما هو أهم، فإن أتى المدعي بورقة تثبت فيها خصومته وشهادة الشهود، وبأجرة الكاتب، فذاك، وإلا فلا يجبر عليه، لكن يعلمه القاضي أنه إذا لم يثبت ما جرى، فقد تنسى شهادة الشهود وحكم نفسه، وليكن رزق القاضي بقدر كفايته وكفاية عياله على ما يليق بحالهم من النفقة والكسوة وغيرهما، وكذا الامام يأخذ لنفسه ما يليق به من الخيل والغلمان، الدار الواسعة، ولا يلزمه الاقتصار على ما اقتصر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، لانه قد بعد العهد بزمن النبوة التي كانت سبب النصر وإلقاء الرعب والهيبة في القلوب، فلو اقتصر الامام اليوم على ذلك، لم يطع، وتعطلت الامور. ولو رزق(8/121)
الامام القاضي من مال نفسه، أو رزقه أهل ولايته، أو واحد منهم فالذي خرجه صاحب التلخيص أنه لا يجوز له قبوله، وقد سبق في الاذان أنه يجوز أن يكون رزق المؤذن من مال الامام، أو أحد الرعية، ويجوز أن يفرق بأن ذلك لا يورث تهمة وميلا في المؤذن بخلاف القاضي، وكما يرزق الامام القاضي من بيت المال يرزق أيضا من يرجع مصلحة عمله إلى عامة المسلمين كالامير والمفتي والمحتسب، وإمام الصلاة والمؤذن، ومن يعلم الناس القرآن، ومن يقيم الحدود والقاسم، وكاتب الصكوك، فإن لم يكن في بيت المال شئ، لم يعين قاسما ولا كاتبا لئلا يغالي بالاجرة وألحق بهؤلاء المقوم، وفي المترجم وجهان، أصحهما: يرزق من بيت المال كهؤلاء، والثاني: لا، كالوكيل قاله ابن القاص، وأبو زيد، وعلى هذا فمؤنة ما يترجم به للمدعى عليه على المدعى عليه، والمسمع كالمترجم، ففي مؤنته الوجهان، وهما جاريان في المزكي، والقول في الشاهد يأتي في الشهادات إن شاء الله تعالى. الادب الرابع: يستحب أن يكون مجلس القضاء فسيحا بارزا نزها لا يؤذي فيه حر ولا برد وريح وغبار ودخان، فيجلس في الصيف حيث يليق به، وكذا في الشتاء وزمن الرياح، واستحب أبو عبيد بن حربويه وغيره من الاصحاب أن يكون موضع جلوسه مرتفعا كدكة ونحوها ليسهل عليه النظر إلى الناس، وعليهم المطالبة، وحسن أن يوطأ له الفراش، وموضع الوسادة، ليعرفه الداخل، ويكون أهيب عند الخصوم، وأرفق بالقاضي لئلا يمل، والمستحب أن يكون مستقبل القبلة، ولا يتكئ، ويستحب أن لا يتخذ المسجد مجلسا للقضاء، فإن اتخذ، كره على الاصح، لانه ينزه عن رفع الاصوات، وحضور الحيض، والكفار والمجانين(8/122)
وغيرهم ممن يحضرون مجلس القضاء، والثاني: لا يكره كما لا يكره الجلوس فيه لتعليم القرآن وسائر العلوم والافتاء، وإذا أثبتنا الكراهة، فهي في إقامة الحد أشد، وكراهة اتخاذه مجلسا للقضاة كراهة تنزيه، فإن ارتكبها لم يمكن الخصوم من الاجتماع فيه والمشاتمة ونحوها، بل يقعدون خارجه، وينصب من يدخل خصمين خصمين، ولو اتفقت قضية أو قضايا وقت حضوره في المسجد لصلاة أو غيرها، فلا بأس بفصلها، وإذا جلس للقضاء ولا زحمة، كره أن يتخذ حاجبا على الاصح، ولا كراهة فيه في أوقات حلوته على الصحيح. الادب الخامس: يكره أن يقضي في كل حال يتغير فيه خلقه، وكمال عقله لغضب أو جوع أو شبع مفرطين أو مرض مؤلم، وخوف مزعج، وحزن وفرح شديدين، وغلبة نعاس أو ملال أو مدافعة أحد الاخبثين، أو حضور طعام يتوق إليه، ثم قال الامام والبغوي وغيرهما: الكراهة فيما إذا لم يكن الغضب لله تعالى، وظاهر كلام آخرين أنه لا فرق، ولو قضى في هذه الحال، نفذ. فصل إذا أقر المدعى عليه أو نكل، فحلف المدعي، ثم يسأل المدعي القاضي أن يشهد على أنه أقر عنده أو نكل، وحلف المدعي، لزمه إجابته. ولو أقام بينة بما ادعاه، وسأل القاضي الاشهاد عليه، لزمه أيضا في الاصح، ولو حلف المدعى عليه، وإن سأله الاشهاد ليكون حجة له، فلا يطالبه مرة أخرى، لزمه إجابته، وسأله أحد المتداعيين أن يكتب له محضرا بما جرى ليحتج به إذا احتاج، نظر إن لم يكن عنده قرطاس من بيت المال، ولم يأت به الطالب، لم يلزمه(8/123)
إجابته وإن كان فهل يجب أم يستحب ؟ وجهان أصحهما: الاستحباب، لان الحق يثبت بالشهود لا بالكتاب، وإن طلب أن يحكم له بما ثبت، لزمه الحكم، فيقول: حكمت له به، أو أنفذت الحكم به، أو ألزمت خصمه الحق، وإذا حكم، فطلب الاشهاد على حكمه، لزمه الاشهاد، وإن طلب أن يكتب له به سجلا، فعلى التفصيل والخلاف المذكور في كتابة المحضر، ونقل ابن كج وجها ثالثا أنه يجب التسجيل في الدين المؤجل الوقوف وأموال المصالح، فلا يجب في الحال والحقوق الخاصة، وسواء أوجبنا الكتابة أم استحببناها، فيحتاج إلى بيان المكتوب، وأنه كيف يضبط ويحفظ، أما الاول، فالمكتوب محضر وسجل، أما المحضر، فصورته، بسم الله الرحمن الرحيم حضر القاضي فلان ابن فلان، وأحضر معه فلان ابن فلان، ويرفع في نسبهما ما يفيد التمييز، وهذا إذا عرفهما القاضي، ويستحب مع ذلك التعرض لحليتهما طولا وقصرا في القد، وسمرة وشقرة في الوجه، ويصف منهما الحاجب والعين والفم والانف. وإن لم يعرفهما، كتب: حضر رجل ذكر أنه فلان ابن فلان، وأحضر معه رجلا ذكر هذا المحضر أنه فلان ابن فلان ابن فلان، ولا بد والحالة هذه من التعرض لحليتهما، ثم يكتب: وادعى عليه كذا من عين أو دين بصفتهما، فأقر المدعى عليه بما ادعى، فإن أنكر، وأقام المدعي بينة كتب، فأحضر امدعي فلانا وفلانا شاهدين، وسأل القاضي استماع شهادتهما، فسمعها في مجلس حكمه، وثبت عنده عدالتهما، وسأله أن يكتب محضرا بما جرى، فأجابه إليه، وذلك في تاريخ كذا، ويثبت على رأس المحضر علامته من الحمدلة وغيرها، ويجوز أن يبهم الشاهدين فيكتب: وأحضر عدلين شهدا له بما ادعاه، ولو كان مع المدعي كتاب فيه خط الشاهدين، كتب تحت خطهما: شهد عندي بذلك، وأثبت علامته في رأس الكتاب، واكتفى به عن المحضر، جاز، وإن كتب المحضر، وضمنه ذلك الكتاب، جاز، وعلى هذا قياس محضر يذكر تحليف المدعى عليه أو المدعي بعد نكول المدعى عليه. وأما السجل، فصورته: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أشهد عليه فلان القاضي بموضع كذا في تاريخ كذا أنه ثبت عنده كذا، فأقر فلان لفلان، أو بشهادة فلان وفلان، وقد ثبتت عدالتهما عنده، أو بيمينه بعد نكول المدعى عليه، وأنه(8/124)
حكم بذلك لفلان على فلان، وأنفذه بسؤال المحكوم له. ويجوز أن يكتب: ثبت عنده ما في كتاب هذه نسخته، وينسخ الكتاب إلى آخره، ثم يكتب: وإنه حكم بذلك وكيفية التعرض لنسب المتداعيين وحليتهما على ما ذكرنا في المحضر. وفي تعليق الشيخ أبي حامد أن ابن خيران لم يجوز للقاضي التسجيل إذا لم يعرف المتداعيين، والصحيح الاول، وإذا كان المتداعيان، أو أحدهما امرأة، واحتاج إلى إثبات الحلية، فليكن النظر لذلك، كالتحمل للشهادة، وأما أنه كيف يضبط ويحفظ، فينبغي للقاضي أن يجعل المحاضر والسجلات نسختين يدفع إلى صاحب الحق إحداهما غير مختومة، وتحفظ الاخرى في ديوان القضاء مختومة، ويكتب على رأسها اسم الخصمين، ويضعها في خريطة أو قمطر، وهو السفط الذي يجمع فيه المحاضر والسجلات، ويكون بين يديه إلى آخر المجلس، فإذا أراد أن يقوم، ختمه بنفسه، أو ختمه أمين وهو ينظر، ثم أمر بحمله إلى موضعه، ثم يدعو به في اليوم الثاني وينظر في الختم، ويفكه بنفسه أو يفكه أمينه وهو ينظر ويضع فيه كتب اليوم الثاني كما ذكرنا، وهكذا يفعل حتى يمضي الاسبوع، فإن كثرت، جعلها إضبارة وكتب عليها: خصومات أسبوع كذا من شهر كذا من سنة كذا وسجلاته، ويعزلها. وإن لم يكتب، تركها حتى يمضي شهر، ثم بعزلها، فإذا مضت سنة، جمعها، وكتب عليها: كتب سنة كذا ليسهل الوقوف عليها عند الحاجة، ويجعلها في موضع لا يعلمه غيره، وإذا احتاج إلى شئ منها تولى أخذه بنفسه، ونظر أولا إلى ختمه وعلاماته. فرع قال الهروي: إن أوجبنا التسجيل على القاضي، لم يجز له أخذ الاجرة عليه، وإلا فيجوز. وأطلق بعضهم القول بالجواز، وهو موافق لمنع الوجوب، وهو الاصح، وكذا استئجار المفتي ليكتب الفتوى. الادب السادس: يستحب للقاضي المشاورة وإنما يشاور العلماء الامناء،(8/125)
ويستحب أن يجمع أصحاب المذاهب المختلفة ليذكر كل واحد دليله فيتأملها القاضي ويأخذ بأرجحها عنده، ثم الذين يشاورهم إن شاء أقعدهم عنده، وإن شاء أقعدهم ناحية، فإذا احتاج استدعاهم. قلت: الاول أولى. والله أعلم. ثم المشاورة تكون عند اختلاف وجوه النظر، وتعارض الآراء، فأما الحكم المعلوم بنص أو إجماع أو قياس جلي، فلا مشاورة فيه وإذا حضر المستشارون، فإنما يذكرون ما عندهم إذا سألهم ولا يبتدئون بالاعتراض والرد على حكمه إلا إذا كان حكما يجب نقضه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وذكر الغزالي أنهم يحضرون قبل خروجه، وهذا وإن كان لم يتعرض له الجمهور يوجه بأنهم بانتظاره أولى كما في الصلاة. الادب السابع: يكره للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه، بل يوكل من لا يعرفه الناس، فإن عرفوه بوكالته أبدله، فإن لم يجد من يوكله، عقد بنفسه للضرورة، فإن وقعت خصومة لمعاملة، أناب من يحكم بينه وبين خصمه خوفا من أن يميل إليه، ولا يختص هذا الحكم بالبيع والشراء، بل يعم الاجارة وسائر(8/126)
المعاملات، بل نص في الام أنه لا ينظر في نفقة عياله ولا أمر ضيعته، ويكل إلى غيره ليتفر قلبه. فصل يحرم على القاضي الرشوة، ثم إن كان له رزق في بيت المال، لم يجز أخذ عوض من الخصوم، فإن لم يكن، فقال الشيخ أبو حامد: لو قال للخصمين: لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقا، جاز، ومثله عن القاضي أبي الطيب وغيره، وهذا نحو ما نقل الهروي أن القاضي إذا لم يكن له رزق من بيت المال وهو محتاج، ولم يتعين عليه القضاء، فله أن يأخذ من الخصم أجرة مثل عمله، وإن تعين، قال أصحابنا: لا يجوز الاخذ وجوزه صاحب التقريب وأما باذل الرشوة، فإن بذلها ليحكم له بغير الحق، أو بترك الحكم بحق حرم عليه البذل، وإن كان ليصل إلى حقه، فلا يحرم كفداء الاسير.(8/127)
قلت: وأما المتوسط بين المرتشي والراشي، فله حكم موكله منهما، فإن وكلا، حرم عليه، لانه وكيل للآخذ وهو محرم عليه. والله أعلم. وأما الهدية فالاولى أن يسد بابها ولا يقبلها، ثم إن كان للمهدي خصومة في الحال، حرم قبول هديته في محل ولايته، وهديته في غير محل ولايته، كهدية من عادته أن يهدى له قبل الولاية لقرابة أو صداقة ولا يحرم قبولها على الصحيح، وحكى ابن الصباغ في تحريمها وجها وهو مقتضى إطلاق الماوردي، وإن لم يكن له عادة بالهدية قبل الولاية، فإن زاد المهدي على القدر المعهود، صارت هديته كهدية من لم يعهد منه الهدية، وحيث حكمنا بأن القبول ليس بحرام، فله الاخذ والتملك، والاولى أن يثبت عليها أو يضعها في بيت المال، وحيث قلنا بالتحريم، فقبلها، لم يملكها على الاصح، فعلى هذا لو أخذها، قيل: يضعها في بيت المال، والصحيح أنه يردها على مالكها، فإن لم يعرفه، جعلها في بيت المال. فرع قد ذكرنا أن الرشوة حرام مطلقا، والهدية جائزة في بعض الاحوال، فيطلب الفرق بين حقيقتيهما مع أن الباذل راض فيهما، والفرق من وجهين، أحدهما ذكره ابن كج: أن الرشوة هي التي يشرط على قابلها الحكم بغير الحق، أو الامتناع عن الحكم بحق، والهدية: هي العطية المطلقة. والثاني قال الغزالي في الاحياء: المال إما يبذل لغرض آجل فهو قربة وصدقة، وإما لعاجل، وهو إما مال، فهو هبة بشرط ثواب، أو لتوقع ثواب، وإما عمل، فإن كان عملا محرما، أو(8/128)
واجبا متعينا، فهو رشوة، وإن كان مباحا فإجارة أو جعالة، وإما للتقرب والتودد إلى المبذول له، فإن كان بمجرد نفسه، فهدية، وإن كان ليتوسل بجاهه إلى أغراض ومقاصد، فإن كان جاهه بالعلم أو النسب، فهو هدية، وإن كان بالقضاء والعمل، فهو رشوة. الادب الثامن: في تأديبه المسيئين عمن أساء الادب في مجلسه من الخصوم بأن صرح بتكذيب الشهود، أو ظهر منه مع خصمه لدد، أو مجاوزة حد، زجره ونهاه، فإن عاد، هدده وصاح عليه، فإن لم ينزجر، عزره بما يقتضيه اجتهاده من توبيخ وإغلاظ القول، أو ضرب وحبس، ولا يحبسه بمجرد ظهور اللدد، وعن الاصطخري أنه على قولين. وفي يتيمة اليتيمة أنه إنما يضربه بالدرة دون السياط إذ الضرب بالسياط من شأنه الحدود. وهذا الذي ادعاه غير مقبول، بل الضرب بالسياط جائز في غير الحدود، ألا ترى أن لفظ الشافعي رحمه الله في تعزير القاضي شاهد الزور حيث قال: عزره ولم يبلغ بالتعزير أربعين سوطا. ومثال اللدد أن تتوجه اليمين على الخصم، فيطلب يمينه، ثم يقطعها عليه، ويزعم أن له بينة، ثم يحضره ثانيا وثالثا، ويفعل كذلك، وكذا لو أحضر رجلا، وادعى عليه وقال: لي بينة وسأحضرها، ثم فعل ذلك ثانيا وثالثا إيذاء وتعنتا. ولو اجترأ خصم على القاضي وقال: أنت تجور أو تميل، أو ظالم، جاز أن يعزره وأن يعفو، والعفو أولى إن لم يحمل على ضعفه، والتعزير أولى إن حمل عليه. فرع شهادة الزور من أكبر الكبائر، ومن ثبت أنه شهد بزور، عزره القاضي بما يراه من توبيخ وضرب وحبس، وشهر حاله، وأمر بالنداء عليه في سوقه إن كان من أهل السوق، أو قبيلته إن كانت له قبيلة، أو مسجده تحذيرا للناس منه، وتأكيدا لامره، وإنما تثبت شهادة الزور بإقرار الشاهد إن تيقن القاضي، بأن شهد أن فلانا زنى بالكوفة يوم كذا، وقد رآه القاضي ذلك اليوم ببغداد. هكذا أطلقه الشافعي والاصحاب رحمهم الله تعالى، ولم يخرجوه على أن القاضي هل يحكم بعلمه، ولا يكفي قيام البينة بأنه شاهد زور، فقد تكون هذه بينة زور. الادب التاسع: لا ينفذ قضاء القاضي لنفسه، ولا لمملوكه القن وغير(8/129)
القن، ولا لشريكه فيما له فيه شرك، ولا لشريك مكاتبه فيما له فيه شرك، ولا يقضي لاحد من أصوله وإن علوا،. ولا فروعه وإن نزلوا، ولا لمملوك أحدهم، ولا لشريكه، فإن فعل، لم ينفذ على الصحيح. ولو أراد أن يقضي لهم بعلمه، لم ينفذ قطعا، وإن جوزنا قضاءه بعلمه للاجانب، ويجوز أن يقضي على أصوله وفروعه، كما يشهد عليهم وفصل البغوي الحكم للولد وعليه، فقال: له أن يحلف ابنه على نفي ما يدعى عليه، لانه قطع للخصومة لا حكم له، وله أن يسمع بينة المدعي على ابنه، ولا يسمع بينة الدفع من ابنه، وهل له أن يحكم بشهادة ابنه ؟ وجهان، لانه يتضمن تعديله، فإن عدله شاهدان، فالمتجه أنه يقضي،(8/131)
ولو تحاكم إليه أبوه وابنه، هل له الحكم لاحدهما ؟ وجهان في المهذب أصحهما: لا، وبه قطع البغوي. ومتى وقعت له خصومة، أو لاحد هؤلاء الذين يمنع حكمه لهم، قضى فيها الامام، أو قاضي بلدة أخرى، أو نائبه، وفي النائب وجه ضعيف. قلت: قال البغوي: وللقاضي أن يستخلف أباه أو ابنه، لانهما كنفسه. قال: ولو جعل الامام إلى رجل أن يختار قاضيا، لم يجز أن يختار والده ولا ولده، كما لا يختار نفسه، وسيأتي قريبا في مسائل التزكية أنه لا يصح تزكية ولد ولا والد على الصحيح. والله أعلم. فرع لا يقضي على عدوه على الصحيح، وبه قطع الجمهور، كالشهادة عليه، وجوزه الماوردي في كتابه الاحكام السلطانية لان أسباب الحكم ظاهرة بخلاف الشهادة. فرع تولى وصي اليتيم القضاء هل له أن يسمع البينة ويحكم له ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وبه قال القفال، ومنعه ابن الحداد. الادب العاشر: فيما ينقض من قضائه وقضاء غيره، وذلك يتعلق بقواعد، إحداها الاصول التي يقضي بها القاضي، ويفتي بها المفتي كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاجماع، والقياس، وقد يقتصر على الكتاب والسنة، ويقال: الاجماع يصدر عن أحدهما، والقياس يرد إلى إحدهما. وأما قول الواحد من الصحابة رضي الله عنهم. فإن لم ينتشر فيهم، فقولان: القديم أنه حجة، والجديد ليس بحجة، ثم قال أبو بكر الصيرفي والقفال القولان إذا لم يكن معه قياس، فإن كان معه قياس ولو ضعيف احتج به قطعا، ورجح على القياس القوي، وقال الاكثرون في الجميع القولان، فإن قلنا بالقديم، وجب الاخذ به، وترك القياس، وفي تخصيص العموم به وجهان، وإن قلنا بالجديد، فهو كقول آحاد المجتهدين، لكن لو تعارض قياسان أحدهما وافق قول صحابي، قال الغزالي: قد تميل نفس(8/132)
المجتهد إلى الموافق ويرجح عنده. قلت: قد صرح الشيخ أبو إسحق في اللمع وغيره من الاصحاب بالجزم بالاخذ بالموافق. والله أعلم. وإن انتشر قول الصحابي، فله ثلاثة أحوال، أحدها: أن يخالفه غيره، فعلى الجديد هو كاختلاف سائر المجتهدين، وعلى القديم هما حجتان تعارضتا، فإن اختص أحد الطرفين بكثرة عدد، أو بموافقة أحد الخلفاء الاربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ترجح، نص عليه في القديم في غير علي وألحق الجمهور بهم عليا، ومنهم من لم يلحقه، لان الثلاثة كانوا في دار الهجرة والصحابة متوافرون، وكانوا في حكمهم وفتواهم يتشاورون، وعلي رضي الله عنه انتقل إلى الكوفة، وتفرقت الصحابة. وإن لم يوجد واحد من الامرين في واحد من الصرفين، أو وجد في أحدهما أحدهما، وفي الآخر الآخر، فهما سواء. ولو كان في أحدهما أبو بكر أو عمر، وفي الآخر عثمان أو علي رضي الله عنهم، فهل يستويان، أم يرجح طرف الشيخين ؟ وجهان. ويشبه أن يجئ مثلهما في تعارض الشيخين، فيستويان في وجه، ويقدم طرف أبي بكر رضي الله عنه في وجه. الحال الثاني: أن يوافقه سائر الصحابة رضي الله عنهم، ويقولوا بما قاله، فهذا إجماع منهم على الحكم، ولا يشترط فيه انقراض عصر المجتمعين على الاصح، ولا يتمكن أحدهم من الرجوع، بل يكون قوله الاول مع قول سائر المجتمعين حجة عليهم، كما هو حجة على غيرهم. الحال الثالث: أن يسكتوا، فلا يصرحوا بموافقته ولا مخالفته فاختار الغزالي في المستصفى أنه ليس بحجة. والصحيح الذي عليه جماهير الاصحاب أنه حجة، لانهم لو خالفوه، لاعترضوا عليه، لكن هل هو إجماع أم حجة غير إجماع ؟ وجهان، قال الروياني: هذا إذا لم يظهر أمارات الرضى ممن سكت، فإن ظهرت فإجماع بلا خلاف، قالوا: والاصح هنا اشتراط انقراض العصر في كونه(8/133)
حجة أو إجماعا، وهل يفرق في كونه حجة وإجماعا بين أن يكون ذلك القول مجرد فتوى، أو حكما من إمام أو قاض ؟ فيه طرق قال ابن أبي هريرة: فإن كان فتوى، فحجة، وإن كان حكما، فلا، لان الاعتراض على الامام ليس من الادب، ولعل السكوت لذلك. وقال أبو إسحق عكسه، لان الحكم يصدر عن مشاورة ومراجعة، وقال الاكثرون: لا فرق، وكانوا يعترضون على الامام كغيره، فقد خالفوا أبا بكر رضي الله عنه في الحد، وعمر رضي الله عنه في المشركة. ومختصر هذا الاختلاف أوجه، الصحيح أنه حجة، والثاني حجة وإجماع، والثالث ليس بحجة، والرابع من المفتي حجة، ومن الحاكم لا، الخامس عكسه هذا إذا نقل السكوت، أما إذا لم ينقل قول ولا سكوت، فيجوز أن لا يلحق بهذا، ويجوز أن يستدل به على السكوت. قلت: المختار أن عدم النقل كنقل السكوت، لانه الاصل والظاهر. والله أعلم. القاعدة الثانية: اختلفت عبارات الاصحاب في تفسير القياس، والاقرب إلى كلام الشافعي رحمه الله أن القياس نوعان جلي وغيره، وأما الجلي، فهو الذي يعرف به موافقة الفرع للاصل بحيث ينتفي احتمال مفارقتهما، أو يبعد، وذلك كظهور التحاق الضرب بالتأفيف في قوله تعالى: * (فلا تقل لهما أف) * وما فوق الذرة بالذرة في قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة) * الآية، وما فوق النقير بالنقير في قوله تعالى: * (ولا يظلمون نقيرا) * ونظائره، فإن فروع هذه الاحكام أولى من الاصول، وبعض الاصحاب لا يسمي هذا قياسا، ويقول: هذه الالحاقات(8/134)
مفهومة من النص، ويقرب من هذا إلحاق العمياء بالعوراء في حديث النهي عن التضحية بالعوراء وسائر الميتات بالفأرة، وغير السمن بالسمن في حديث الفأرة تقع بالسمن إن كان مائعا فأريقوه، وإن كان جامدا فألقوها وما حولها والغائط بالبول في قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبولن أجدكم في الماء الدائم ومن الجلي ما ورد النص فيه على العلة كحديث إنما نهيتكم من أجل الدافة وكذا قوله تعالى: * (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * وأما غير الجلي فما لا يزيل احتمال المفارقة ولا يبعده كل البعد، فمنه ما العلة فيه مستنبطة، كقياس الارز على البر بعلة الطعم، وقال ابن القاص: هو من الجلي، والصحيح الاول، ومنه قياس الشبه، وهو أن يشبه الحادثة أصلين إما في الاوصاف بأن يشارك كل واحد من الاصلين في بعض المعاني والاوصاف الموجودة فيه، وإما في الاحكام كالعبد يشارك الحر في بعض الاحكام والمال في بعضها، فيلحق بما المشاركة فيه أكثر، وربما سمي قياس الشبه خفيا والذي قبله غير الجلي واضحا، وربما خص الجلي ببعض الاول، وهو ما كان الفرع فيه أولى بحكم الاصل. قلت: واختلف أصحابنا في صحة قياس الشبه، وأنه هل هو حجة. والله أعلم. القاعدة الثالثة: المسائل الفروعية الاجتهادية إذا اختلف المجتهدون فيها طريقان أشهرهما قولان، أظهرهما: المحق فيها واحد، والمجتهد مأمور بإصابته، والذاهب إلى غيره مخطئ، والثاني: أن كل مجتهد مصيب، والطريق الثاني القطع بالقول الاول، وبه قال أبو إسحق، والقاضي أبو الطيب، فإن قلنا: المصيب واحد، فالمخطئ مغدور غير آثم، بل مأجور، لقوله - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتهد الحاكم، فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد، فأخطأ، فله أجر وقال الشيخ أبو(8/135)
إسحق في اللمع قال ابن أبي هريرة: يأثم، والصواب الاول، وفيما يؤجر عليه وجهان عن أبي إسحق أحدهما - وهو ظاهر النص، واختيار المزني -: يؤجر على قصده الصواب، ولا يؤجر على الاجتهاد، لانه أفضى به إلى الخطأ، وكأنه لم يسلك الطريق المأمور به، والثاني يؤجر عليه، وعلى الاجتهاد جميعا. وإذا قلنا: كل مجتهد مصيب، فهل نقول: الحكم والحق في حق كل واحد من المجتهدين ما ظنه، أم الحق واحد، وهو أشبه مطلوب إلا أن كلا منهم مكلف بما ظنه لا بإصابة الاشبه ؟ وجهان، اختار الغزالي الاول، وبالثاني قطع أصحابنا العراقيون، وحكوه عن القاضي أبي حامد والداركي. فرع متى حكم القاضي بالاجتهاد، ثم بان له الخطأ في حكمه، فله حالان، أحدهما: إن تبين أنه خالف قطعيا كنص كتاب، أو سنة متواترة، أو إجماع، أو ظنا محكما بخبر الواحد، أو بالقياس الجلي، فيلزمه نقض حكمه. وهل يلزم القاضي تعريف الخصمين صورة الحال ليترافعا إليه، فينقض الحكم ؟ وجهان، قال ابن سريج: لا يلزمه إن علما أنه بان له الخطأ، فإن ترافعا إليه، نقض، وقال سائر الاصحاب: يلزمه وإن علما أنه بان له الخطأ، وهذا هو الصحيح، لانهما قد يتوهمان أنه لا ينقض وإن بان الخطأ. هذا في حقوق الآدميين، وأما ما يتعلق بحدود الله تعالى، فيبادر إلى تداركه إذا بان له الخطأ، وما لا يمكن تداركه سبق حكم ضمانه. الحال الثاني: إن تبين له بقياس خفي رآه أرجح مما حكم به، وأنه الصواب، فليحكم فيما يحدث بعد ذلك من أخوات الحادثة بما رآه ثانيا، ولا ينقض ما حكم به أولا، بل يمضيه، ثم ما نقض به قضاء نفسه نقض به قضاء غيره، وما لا، فلا. ولا فرق بينهما إلا أنه لا يتبع قضاء غيره، وإنما ينقضه إذا رفع إليه، وله تتبع قضاء نفسه لينقضه، ولو كان المنصوب للقضاء قبله لا يصلح للقضاء، نقض أحكامه كلها، وإن أصاب فيها، لانها صدرت ممن لا ينفذ حكمه، هذا هو القول الجملي فيما ينقض ولا ينقض. ثم تكلموا في صور، منها لو قضى قاض بصحة نكاح المفقود زوجها بعد مضي أربع سنين، ومدة العدة، فوجهان أشهرهما(8/136)
وظاهر النص، نقضه، لمخالفة القياس الجلي، لانه يجعل حيا في المال، فلا يقسم بين ورثته، فلا يجعل ميتا في النكاح. والثاني: لا ينقض كغيره من الاجتهاديات، قال الروياني: هذا هو الصحيح. وقرب من هذا الخلاف الخلاف في نقض حكم من قضى بحصول الفرقة في اللعان بأكثر الكلمات الخمس، أو بسقوط الحد عمن نكح أمه ووطئها، ومنها حكم الحنفي ببطلان خيار المجلس والعرايا بالتقييد الذي يجوزه، وفي ذكاة الجنين، ومنع القصاص في القتل بالمثقل، وصحة النكاح بلا ولي، أو بشهادة فاسقين، أو حكم غيره بصحة بيع أم الولد، وثبوت حرمة الرضاع بعد حولين، وصحة نكاح الشغار والمتعة، وقتل المسلم بالذمي، وبأنه لا قصاص بين الرجل والمرأة في الاطراف، وجريان التوارث بين المسلم والكافر، ورد الزوائد مع الاصل في الرد بالعيب على ما قاله ابن أبي ليلى، وفي نقض هذه الاحكام وجهان، قال الروياني: الاصح لا نقض، لانها اجتهادية، والادلة متقاربة، ومن نقض، قال: فيها نصوص وأقيسة جلية، وينقض قضاء من حكم بالاستحسان الفاسد. فرع ما ينقض من الاحكام لو كتب به إليه لا يخفى أنه لا يقبله ولا ينفذه، وأما ما لا ينقض ويرى غيره أصوب منه، فنقل ابن كج عن الشافعي رضي الله عنه أنه يعرض عنه، ولا ينفذه، لانه إعانة على ما يعتقده خطأ. وقال ابن القاص: لا أحب تنفيذه. وفي هذا إشعار بتجويز التنفيذ، وقد صرح السرخسي بنقل الخلاف، فقال: إذا رفع إليه حكم قاض قبله، فلم ير فيه ما يقتضي النقض، لكن أدى اجتهاده إلى غيره، فوجهان، أحدهما: يعرض عنه، وأصحهما: ينفذه، وعلى هذا العمل كما لوحكم بنفسه، ثم تغير اجتهاده تغيرا لا يقتضي النقض، وترافع خصماء الحادثة إليه فيها، فإنه يمضي حكمه الاول، وإن أدى اجتهاده إلى أن غيره أصوب منه. فرع إذا استقضي مقلد للضرورة، فحكم بمذهب غير مقلده، قال(8/137)
الغزالي في الاصول: إن قلنا: لا يجوز للمقلد تقليد من شاء بل عليه اتباع مقلده، نقض حكمه، وإن قلنا: له تقليد من شاء، لم ينقض. فصل حكم القاضي ضربان، أحدهما: مما ليس بإنشاء، وإنما هو تنفيذ لما قامت به حجة، فينفذ ظاهرا لا باطنا، فلو حكم بشهادة زور بظاهري العدالة، لم يحصل بحكمه الحل باطنا، سواء كان المحكوم به مالا أو نكاحا أو غيرهما، فإن كان نكاحا، لم يحل للمحكوم له الاستمتاع، ويلزمها الهرب والامتناع ما أمكنها، فإن أكرهت فلا إثم عليها، فإن وطئ، قال الشيخ أبو حامد: هو زان ويحد، وخالفه ابن الصباغ والروياني، لان أبا حنيفة رحمه الله يجعلها منكوحة بالحكم، وذلك شبهة للخلاف في الاباحة، وإن كان المحكوم به الطلاق، حل للمحكوم عليه وطؤها إن تمكن، لكن يكره، لانه يعرض نفسه للتهمة والحد ويبقى التوارث بينهما، ولا تبقى النفقة للحيلولة، ولو تزوجت لآخر، فالحل مستمر للاول، فإن وطئها الثاني جاهلا بالحال، فهو وطئ شبهة، ويحرم على الاول في العدة، وإن كان الثاني عالما، أو نكحها أحد الشاهدين ووطئ، فوجهان أحدهما يحد، ولا يحرم على الاول في العدة، والاشبه أنه وطئ شبهة لما سبق. الضرب الثاني: الانشاءات كالتفريق بين المتلاعنين، وفسخ النكاح بالعيب، والتسليط على الاخذ بالشفعة ونحو ذلك، فإن ترتبت على أصل كاذب، بأن فسخ بعيب قامت بشهادة زور، فهو كالضرب الاول، وإن ترتبت على أصل صادق، فإن لم تكن في محل اختلاف المجتهدين، نفذ ظاهرا وباطنا، وإن كان مختلفا فيه،(8/138)
نفذ ظاهرا، وفي الباطن أوجه، أصحها عند جماعة، منهم البغوي، والشيخ أبو عاصم: النفوذ مطلقا لتتفق الكلمة، ويتم الانتفاع، والثاني: المنع، وبه قال الاستاذ أبو إسحق، واختاره الغزالي. والثالث: إن اعتقده الخصم أيضا، نفذ باطنا، وإلا فلا، هذه الاوجه تشبه الاوجه في اقتداء الشافعي بالحنفي وعكسه، فإن منعنا النفوذ باطنا مطلقا، أو في حق من لا يعتقده لم يحل للشافعي الاخذ بحكم الحنفي بشفعة أو بالتوريث بالرحم إذا لم نقل به نحن، وعلى هذا هل يمنعه القاضي لاعتقاد المحكوم له أم لا، لاعتقاد نفسه ؟ وجهان أصحهما الثاني. ومن قال بالمنع، فقد يقول لا ينفذ القضاء في حقه لا ظاهرا ولا باطنا. فرع هل تقبل شهادته بما لا يعتقده كشافعي بشفعة الجوار ؟ وجهان في التهذيب. قلت: الاصح القبول. والله أعلم. فرع قال للقاضي رجلان: كانت بيننا خصومة في كذا، فحكم القاضي فلان بيننا بكذا، ونحن نريد أن تستأنف الحكم بيننا باجتهادك، ونرضى يحكمك، فهل يجيبهما أم يتعين إمضاء الحكم الاول، ولا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد ؟ وجهان، حكاهما ابن كج، الصحيح الثاني. فصل في آداب منثورة. يستحب أن يدعو أصدقاءه الامناء، ويلتمس منهم أن يطلعوه على عيوبه ليسعى في إزالتها، ويستحب أن يكون راكبا في مسيره إلى مجلس حكمه، وأن يسلم على الناس في طريقه، وعلى القوم إذا دخل، وأن يدعو إذا جلس، ويسأل الله تعالى التوفيق والتسديد، وأن يقوم على رأسه أمين ينادي هل من خصم ؟ ويرتب الناس، ويقدم الاول فالاول قال ابن المنذر: يستحب أن يكون حصينا لمكان النساء، ويجوز أن يعين للقضاء يوما أو يومين على حسب حاجة الناس ودعاويهم، وأن يعين وقتا من النهار، فإن حضر خصمان في غير الوقت المعين،(8/139)
سمع كلامهما إلا أن يكوفي صلاة، أو حمام، أو على طعام ونحوه، فيؤخره قدر ما يفرغ. ويستحب أن يكون للقاضي درة يؤدب بها إذا احتاج، ويتخذ سجنا للحاجة إليه في التعزير، واستيفاء الحق من المماطل. وهذه فروع تتعلق بالحبس قال ابن القاص: إذا استشعر القاضي من المحبوس الفرار من الحبس، فله نقله إلى حبس الجرائم، ولو دعا المحبوس زوجته أو أمته إلى فراشه فيه، لم يمنع إن كان في الحبس موضع خال، فإن امتنعت، أجبرت الامة، ولا تجبر الزوجة الحرة، لانه لا يصلح للسكنى، والزوجة الامة تجبر إن رضي سيدها. ولو قال مستحق الدين: أنا ألازمه بدلا عن الحبس، مكن، لانه أخف إلا أن يقول الغريم: تشق علي الطهارة والصلاة بسبب ملازمته، فاحبسني، فيحبس. وسبق الخلاف في أن الاب هل يحبس بدين ولده، وقياس حبسه أن يحبس المريض، والمخدرة، وابن السبيل منعا لهم من الظلم. وعن أبي عاصم العبادي أنهم لا يحبسون، بل يوكل بهم ليترددوا ويتمحلوا. قال: ولا يحبس أبو الطفل ولا الوكيل والقيم في دين لم يجب بمعاملتهم، ولا يحبس الصبي ولا المجنون، ولا المكاتب بالنجوم، ولا العبد الجاني، ولا سيده ليؤدي أو يبيع، بل يباع عليه إذا وجد راغب، وامتنع من البيع والفداء، ونقل الهروي وجهين في حبس كل غريم قدرنا على ماله، وتمكنا من بيعه. وأجرة السجان على المحبوس وأجرة(8/140)
الوكيل على من وكل به إذا لم يكن في بيت المال مال، وصرف إلى جهة أهم من هذه. قلت: وقد ألحقت في كتاب التفليس مسائل كثيرة تتعلق بالحبس. والله أعلم.
الطرف الثاني : في مستند قضائه، وفيه مسائل إحداها: يقضي بالحجة بلا شك، فلو لم يكن حجة، وعلم صدق المدعي، فهل يقضي بعلمه ؟ طريقان أحدهما: نعم قطعا، وأشهرهما قولان، أظهرهما عند الجمهور: نعم، لانه يقضي بشهادة شاهدين، وهو يفيد ظنا، فالقضاء بالعلم أولى، والجواب عما احتج به المانع من التهمة أن القاضي لو قال: ثبت عندي وصح لدي كذا، لزمه قبوله بلا خلاف، ولم يبحث عما ثبت به وصح، والتهمة قائمة، وسواء على القولين ما علمه في زمن ولايته ومكانها، وما علمه في غيرهما، فإن قلنا: لا يقضي بعلمه، فذلك إذا كان مستنده مجرد العلم، أما إذا شهد رجلان تعرف عدالتهما، فله أن يقضي ويغنيه علمه بها عن تزكيتهما، وفيه وجه ضعيف للتهمة. ولو أقر بالمدعى في مجلس قضائه. قضى، وذلك قضاء بإقرار لا بعلمه، وإن أقر عنده سرا، فعلى القولين، وقيل: يقضي قطعا. ولو شهد عنده واحد، فهل يغنيه علمه عن الشاهد الآخر على قول المنع ؟ وجهان. أصحهما: لا. وإذا قلنا: يقضي بعلمه، فذلك في المال قطعا وكذا في القصاص، وحد القذف على الاظهر، ولا يجوز في حدود الله تعالى على المذهب، وقيل: قولان، ولا يقضي بخلاف علمه بلا خلاف، بل إذا علم أن المدعي أبرأه عما ادعاه، وأقام به بينة، أو أن المدعي قبله(8/141)
حي، أو رآه قبله غير المدعى عليه، أو سمع مدعي الرق بعتقه، ومدعي النكاح يطلقها ثلاثا، وتحقق كذب الشهود، امتنع من القضاء قطعا. وكذا إذا علم فسق الشهود، ثم إن الاصحاب مثلوا القضاء بالعلم الذي هو محل القولين بما ادعى عليه مالا وقد رآه القاضي أقرضه ذلك، أو سمع المدعى عليه أقر بذلك، ومعلوم أن رؤية الاقراض، وسماع الاقرار لا يفيد اليقين بثبوت المحكوم به وقت القضاء، فيدل أنهم أرادوا بالعلم الظن المؤكد لا اليقين. الثانية: إذا رأى القاضي ورقة فيها ذكر حكمه لرجل، وطلب منه إمضاءه والعمل به، نظر إن تذكره أمضاه على المذهب، وبه قطع الجمهور، وفي أمالي أبي، الفرج الزاز إنه على القولين في القضاء بعلمه وإن لم يتذكره، لم يعتمده قطعا لامكان التزوير، وكذا الشاهد لا يشهد بمضمون خطه إذا لم يتذكر، فلو كان الكتاب محفوظا عنده، وبعد احتمال التزوير والتحريف، كالمحضر والسجل الذي يحتاط فيه القاضي على ما سبق، فالصحيح والمنصوص والذي عليه الجمهور أنه لا يقضي به أيضا ما لم يتذكر، لاحتمال التحريف، وكذا الشاهد في مثل هذه الحالة لا يشهد، وفيهما وجه حكاه الشيخ أبو محمد وغيره أنه يجوز إذا لم يتداخله ريبة. وفي جواز رواية الحديث اعتمادا على الخط المحفوظ عنده وجهان، أحدهما: المنع، ولا تكفيه رواية السماع بخطه أو خط ثقة، والصحيح الجواز، لعمل العلماء به(8/142)
سلفا وخلفا، وباب الرواية على التوسعة، ولو كتب إليه شيخ بالاجازة، وعرف خطه، جاز له أن يروي عنه تفريعا على اعتماد الخط، فيقول: أخبرني فلان كتابة، أو في كتابة، أو كتب إلي وهذا على تجويز الرواية بالاجازة وهو الصحيح، ومنعها القاضي حسين. قلت: وقد منعها أيضا الماوردي في الحاوي ونقل هو منعها عن الفقهاء، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله، ولكن أظهر قوليه، والمشهور من مذاهب السلف والخلف، والذي عليه العمل صحة الاجازة، وجواز الرواية بها، ووجوب العمل بها. ثم هي سبعة أنواع قد لخصتها بفروعها وأمثلتها وما يتعلق بها في الارشاد في مختصر علوم الحديث، وأنا أذكر منها هنا رموزا إلى مقاصدها تفريعا على الصحيح، وهو جوازها. الاول: إجازة معين لمعين، كأجزتك رواية صحيح البخاري، أو ما اشتملت عليه فهرستي وهذه أعلى أنواعها. الثاني: إجازة غير معين لمعين، كأجزتك مسموعاتي أو مروياتي والجمهور على أنه كالاول، فتصح الرواية به، ويجب العمل بها، وقيل بمنعه مع قبول الاول. الثالث: أن يجيز لغير معين بوصف العموم، كأجزت المسلمين، أو كل أحد أو من أدرك زماني ونحوه، فالاصح أيضا جوازها، وبه قطع القاضي أبو الطيب، وصاحبه الخطيب البغدادي وغيرهما من أصحابنا، وغيرهم من الحفاظ. ونقل الحافظ أبو بكر الحازمي المتأخر من أصحابنا أن الذين أدركهم من الحفاظ كانوا يميلون إلى جوازها. الرابع: إجازة مجهول أو لمجهول، كأجرتك كتاب السنن وهو يروي كتبا من السنن، أ أجزت لزيد بن محمد وهناك جماعة كذلك، فهذه باطلة. فإن أجاز لمسمين معينين لايعرف أعيانهم ولا أنسابهم ولا عددهم، صحت، كما لو سمعوا منه في مجلسه في مثل هذا الحال. الخامس: الاجازة لمعدوم، كأجزت لمن يولد لفلان أو لفلان، ومن يولد له، فالصحيح بطلانها، وبه قطع القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وجوزه الخطيب وغيره. والاجازة للطفل الذي لا يميز صحيحة على الصحيح، وبه قطع القاضي أبو الطيب، ونقله الخطيب عن شيوخه كافة.(8/143)
السادس: إجازة ما لم يسمعه المجيز، ولم يتحمله بوجه ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز، وهي باطلة قطعا. السابع: إجازة المجاز وهي صحيحة عند أصحابنا، وهو الصواب الذي قطع به الحفاظ الاعلام من أصحابنا وغيرهم، منهم الدارقطني وأبو نعيم الاصفهاني، والشيخ أبو الفتح نصر المقدسي وغيرهم من أصحابنا. وإذا كتب الاجازة، استحب أن يتلفظ بها، ولو اقتصر على الكتابة مع قصد الاجازة، صحت كالقراءة عليه مع سكوته. والله أعلم. فرع إذا رأى بخط أبيه أن لي على فلان كذا، أو أديت إلى فلان كذا، قال الاصحاب: فله أن يحلف على الاستحقاق والاداء اعتمادا على خط أبيه إذا وثق بخطه وأمانته. قال القفال: وضابط وثوقه أن يكون بحيث لو وجد في تلك التذكرة: لفلان علي كذا لا يجد من نفسه أن يحلف على نفي العلم به، بل يؤديه من التركة، وفرقوا بينه وبين القضاء والشهادة بأن خطرهما عظيم وعام، ولانهما يتعلقان به، ويمكن التذكر فيهما، وخط المورث لا يتوقع فيه يقين، فجاز اعتماد الظن فيه حتى لو وجد بخط نفسه أن لي على فلان كذا، أو أديت إلى فلان دينه، لم يجز الحلف حتى يتذكر قاله في الشامل. فرع قال الصيمري: ينبغي للشاهد أن يثبت حلية المقر إذا لم يعرفه بعد الشهادة، ليستعين بها على التذكر، ويقرب من هذا ذكر التاريخ، وموضع التحمل، ومن كان معه حينئذ، ونحو ذلك.(8/144)
الثالثة: شهد عنده عدلان أنك حكمت لزيد بكذا، وهو لا يذكره، لم يحكم بقولهما إلا أن يشهدا بالحق بعد تجديد دعوى، وعن ابن القاضي تخريج قول: إنه يمضي الحكم الاول بشهادتهما، والمذهب الاول، ولو شهد أنك تحملت الشهادة في واقعة كذا، ولم يتذكر، لم يجز أن يشهد، وهذا بخلاف رواية الحديث، فإن الراوي لو نسي، جاز له أن يقبل الرواية ممن سمعها منه على الصحيح، وفيها وجه حكاه ابن كج وعلى الصحيح الفرق ما سبق أن باب الرواية على التوسعة، ولهذا يقبل من العبد والمرأة، ومن الفرع مع وجود الاصل وغير ذلك وإذا لم يتذكر القاضي فحقه أن يتوقف، ولا يقول: لم أحكم. وهل للمدعي والحالة هذه تحليف الخصم أنه لا يعرف حكم القاضي ؟ قال صاحب التهذيب: يحتمل وجهين. ولو شهد الشاهدان على حكمه عند قاض آخر قبل شهادتهما، وأمضى حكم الاول إلا إذا قامت بينة بأن الاول أنكر حكمه، وكذبهما، فإن قامت بينة بأنه توقف، فوجهان، أوفقهما لكلام الاكثرين أنه يقبل شهادتهما، وقال الاودني وصاحب المهذب: لا تقبل، لان توقفه يورث تهمة وعلى هذا لو شهد عدلان أن شاهدي الاصل توقفا في الشهادة، لم يجز الحكم بشهادة الفروع. الرابعة: ادعى على القاضي أنك حكمت لي بكذا. قال الاصحاب: ليس له أن يرفعه إلى قاض آخر، ويحلفه كمالا يحلف الشاهد إذا أنكر الشهادة. وعن القاضي حسين أنا إن قلنا: اليمين المردودة كالاقرار، فله تحليفه ليحلف المدعي إن نكل هذا إذا ادعى عليه وهو قاض، فإن ادعى عليه بعد عزله، أو في غير محل ولايته(8/145)
عند قاض، فنقل الامام أنه يجو سماع البينة، ولا يقبل إقراره. ولا يحلف إن قلنا: اليمين المردودة كالاقرار، وإن قلنا: كالبينة، حلف، ولك أن تقول: سماع الدعوى على القاضي معزولا، كان أو غيره بأنه حكم ليس على قواعد الدعاوى الملزمة، وإنما يقصد بها التدرج إلى إلزام الخصم، فإن كان له بينة، فليقمها في وجه الخصم، وينبغي أن لا يسمع على القاضي بينة، ولا يطالب بيمين، كما لو ادعى على رجل أنك شاهدي.
الطرف الثالث : في التسوية وفيه مسائل: الاولى: ليسو القاضي بين الخصمين في دخولهما عليه، وفي القيام لهما، والنظر فيهما والاستماع، وطلاقة الوجه، وسائر أنواع الاكرام، فلا يخص أحدهما بشئ من ذلك، ويسوي في جواب سلامهما، فإن سلما، أجابهما معا، وإن سلم أحدهما، قال الاصحاب: يصبر حتى يسلم الآخر، فيجيبهما: وقد يتوقف في هذا إذا طال الفصل، وذكروا أنه لا بأس أن يقول للآخر: سلم، فإذا سلم، أجابهما، وكأنهم احتملوا هذا الفصل محافظة على التسوية، وحكى الامام أنهم جوزوا له ترك الجواب مطلقا واستبعده. ويسوي بينهما في المجلس، فيجلس أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله إن كانا شريفين، أو بين يديه وهو الاولى على الاطلاق، فلو كان أحدهما مسلما والآخر كافرا، فالصحيح - وبه قطع العراقيون - أنه يرفع المسلم في المجلس، والثاني يسوي. ويشبه أن يجري الوجهان في سائر وجوه الاكرام، ثم التسوية بين(8/146)
الخصمين في الامور المذكورة واجبة على الصحيح، وبه قطع الاكثرون، واقتصر ابن الصباغ على الاستحباب. الثانية: ليقبل عليهما بمجامع قلبه، وعليه السكينة، ولا يمازح أحدهما، ولا يضاحكه، ولا يشير إليه، ولا يساره، ولا ينهرهما، ولا يصيح عليهما إذا لم يفعلا ما يقتضي التأديب، ولا يتعنت الشهود بأن يقول: لم تشهدون ؟ وما هذه الشهادة ؟ ولا يلقن المدعي الدعوى بأن يقول: ادع عليه كذا، ولا المدعى عليه الاقرار والانكار، ولا يجري المسائل إلى النكول على اليمين، وكذا لا يلقن الشاهد الشهادة، ولا يجرئه إذا مال إلى التوقف، ولا يشككه ولا يمنعه إذا أراد الشهادة هذا في حقوق الآدميين، وأما في حدود الله تعالى، فالقاضي يرشد إلى الانكار على ما هو موضح في موضعه، وإذا كان يدعي دعوى غير محررة، قال الاصطخري: يجوز أن تبين له كيفية الدعوى الصحيحة، وقال غيره: لا يجوز، وتعريف الشاهد كيفية أداء الشهادة على هذين الوجهين قال في العدة: أصحهما الجواز، ولا بأس بالاستفسار بأن يدعي دراهم، فيقول: أهي صحاح أم مكسورة ؟ ويستحب إذا أراد الحكم أن يجلس المحكوم عليه، ويقول: قامت البينة عليك بكذا، ورأيت الحكم عليك ليكون أطيب لقلبه، وأبعد عن التهمة، ونص في الام أنه يندبهما إلى الصلح بعد ظهور وجه الحكم، ويؤخر الحكم اليوم واليومين إذا سألهما، فجعلاه في حل من التأخير، فإن لم يجتمعا على التحليل لم يؤخر. الثالثة: إذا جلسا بين يديه، فله أن يسكت حتى يتكلما، وله أن يقول: ليتكلم المدعي منكما، وأن يقول للمدعي إذا عرفه: تكلم، ولو خاطبهما بذلك الامين الواقف على رأسه، كان أولى، فإذا ادعى المدعي، طالب خصمه بالجواب، وقال: ما تقول ؟ وفيه وجه ضعيف أنه لا يطالبه بالجواب حتى يسأله(8/147)
المدعي، ثم ينظر في الجواب إن أقر بالمدعى، فللمدعي أن يطلب من القاضي الحكم عليه، وحينئذ يحكم، بأن يقول له: اخرج من حقه، أو كلفتك الخروج من حقه، أو ألزمتك وما أشبههما. وهل يثبت المدعى بمجرد الاقرار، أم يفتقر ثبوته إلى قضاء القاضي ؟ وجهان أحدهما: يفتقر كالثبوت بالبينة، وأصحهما لا، لان دلالة الاقرار على وجوب الحق جلية، والبينة تحتاج إلى نظر واجتهاد هكذا ذكرت المسألة، ولا يظهر الخلاف فيها، لانه إن كان الكلام في ثبوت المدعى به في نفسه، فمعلوم لانه لا يتوقف على الاقرار، فكيف على الحكم بعد الاقرار ؟ وإن كان المراد المطالبة والالزام، فلا خلاف أن للمدعي الطلب بعد الاقرار وللقاضي الالزام، وإن أنكر المدعى عليه، فللقاضي أن يسكت، وله أن يقال للمدعي: ألك بينة، وقيل: لا يقول ذلك، لانه كالتلقين والصحيح الاول، فإن قال المدعي: لي بينة، وأقامها، فذاك، وإن قال: لا أقيمها، وأريد يمينه، مكن منه، وإن قال: ليس لي بينة حاضرة فحلف القاضي المدعى عليه ثم جاء ببينة سمعت، وإن قال: لا بينة لي حاضرة، ولا غائبة، سمعت أيضا على الاصح، لانه ربما لم يعرف، أو نسي، ثم عرف أو تذكر، وقيل: لا يسمع للمناقضة إلا أن يذكر لكلامه تأويلا، ككنت ناسيا أو جاهلا. ولو قال: لا بينة لي، واقتصر عليه، فقال البغوي: هو كقوله لا بينة لي حاضرة، وقيل: كقوله لا حاضرة ولا غائبة، فيكون فيه الوجهان، ولو قال: شهودي عبيد أو فسقة، ثم أتى بعدول، قبلنا شهادتهم إن مضى زمان يمكن فيه العتق والاستبراء. فرع حكى الهروي وجهين في أن الحق يجب بفراغ المدعي من اليمين(8/148)
المردودة، أم لا بد من حكم الحاكم، أو أشار إلى بنائهما على أن اليمين المردودة كالبينة أم كالاقرار ؟. الرابعة: إذا ازدحم جماعة مدعين، فإن عرف السبق، قدم الاسبق فالاسبق، والاعتبار سبق المدعي دون المدعى عليه، وإن جاؤوا معا، أو جهل السبق، أقرع، فإن كثروا وعسر الاقراع، كتب أسماءهم في رقاع، وصبت بين يدي القاضي ليأخذها واحدة واحدة، ويسمع دعوى من خرج اسمه في كل مرة، ويستحب أن يرتب ثقة يكتب أسماءه يوم قضائه ليعرف ترتيبهم، ولو قدم الاسبق غيره على نفسه، جاز، والمفتي والمدرس يقدمان عند الازدحام أيضا بالسبق أو بالقرعة، ولو كان الذي يعلمه ليس من فروض الكفاية، فالاختيار إليه في تقديم من شاء. ولا يقدم القاضي مدعيا بشرف ولا غيره إلا في موضعين، أحدهما: إذا كان في المدعين مسافرون مستوفزون وقد شدوا الرحال، ليخرجوا ولو أخروا، لتخلفوا عن رفقتهم، فإن قلوا، قدموا على الصحيح، وإلا فلا، بل يعتبر السبق بالقرعة. والثاني لو كان في الحاضرين نسوة، ورأى القاضي تقديمهن لينصرفن، قدمهن على الصحيح بشرط أن لا يكثرن. وينبغي أن لا يفرق بين أن يكون المسافر والمرأة مدعيا، أو مدعى عليه. ثم تقديم المسافر والمرأة ليس بمستحق على الصحيح، بل هو رخصة لجواز الاخذ به، وهذا ظاهر نصه في المختصر ومنهم من يشعر كلامه بالاستحقاق. قلت: المختار أنه مستحب لا يقتصر به على الاباحة. والله أعلم. ثم لا يخفى أن المراد تقديم المسافر على المقيمين، والمرأة على الرجال، فأما المسافرون بعضهم مع بعض، وكذا النسوة، فالرجوع فيهم إلى السبق أو القرعة.(8/149)
فرع المقدم بالسبق أو القرعة لا يقدم إلا في دعوى واحدة، لئلا يطول على الباقين، فإن كان له دعوى أخرى، فليحضر في مجلس آخر، أو ينتظر فراغ القاضي من حكومات سائر الحاضرين، وحينئذ تسمع دعواه الثانية إن لم يضجر القاضي، ولا فرق بين أن تكون الدعوى الثانية والثالثة على الذي ادعى عليه الدعوى الاولى أو على غيره، وفيه وجه ضعيف أن الزيادة على الاولى مسموعة إذا اتحد المدعى عليه، وعلى هذا قال في الوسيط: تسمع إلى ثلاث دعاوى، ومنهم من أطلق، ولا خلاف أنه يسمع على المدعى عليه دعوى ثان وثالث، لان الدعوى للمدعي وقد تعدد، ونقل ابن كج هنا وجهين غريبين ضعيفين أحدهما: أن المقدم بدعوى لا تسمع منه الثانية إلا في مجلس آخر، وإن فرغ القاضي من دعاوي الحاضرين، وعليهم بعد ذلك ترفيهه. الثاني: لا يسمع على الواحد إلا دعوى شخص واحد. وأما المقدم بالسفر، فيحتمل أن لا يقدم إلا بدعوى، ويحتمل أن يقدم بجميع دعاويه، لان سبب تقديمه أن لا يتخلف عن رفقته، ويحتمل أن يقال: إذا عرف أن له دعاوى، فهو كالمقيمين، لان تقديمه بالجميع يضر غيره، وتقديمه بدعوى لا يحصل الغرض. قلت: الارجح أن دعاويه إن كانت قليلة، أو ضعيفة بحيث لا يضر بالباقين إضرارا بينا، قدم بجميعها، وإلا فيقدم بواحدة، لانها مأذون فيها، وقد يقنع بواحدة، ويؤخر الباقي إلى أن يخصه. والله أعلم. الخامسة: تنازع الخصمان، وزعم كل واحد أنه هو المدعي، نظر إن سبق أحدهما إلى الدعوى، لم يلتفت إلى قول الآخر: إني كنت المدعي، بل عليه أن يجيب ثم يدعي إن شاء. وإن لم يسبق وتنازعا، سأل العون، فمن أحضره العون فهو المدعى عليه، فيدعي الآخر عليه، وكذا لو قامت بينة لاحدهما أنه أحضر الآخر ليدعي عليه، وإن استوى الطرفان، أقرع، فمن خرجت قرعته ادعى، وقيل: يقدم القاضي أحدهما باجتهاده.(8/150)
السادسة: قد سبق في باب الوليمة الخلاف في أن الاجابة إليها واجبة أم مستحبة ؟ وذلك في غير القاضي. أما القاضي، فلا يحضر وليمة أحد الخصمين في حال خصومتهما ولا وليمتهما، لانه قد يزيد أحدهما في إكرامه، فيميل إليه قلبه، وأما وليمة غير الخصمين، فثلاثة أوجه، أحدها: تحرم عليه الاجابة إليها، والثاني: تجب إذا أوجبناها على غيره، والثالث وهو الصحيح: لا تحرم ولا تجب، بل تستحب بشرط التعميم، فإن كثرت وقطعته عن الحكم، تركها في حق الجميع، ولا يخص بعض الناس، لكن لو كان يخص بعض الناس قبل الولاية بإجابة وليمة، فنقل ابن كج عن نص الشافعي رحمه الله أنه لا بأس بالاستمرار، وتكره إجابته إلى دعوة اتخذت لاجل القاضي خاصة أو للاغنياء ودعي فيهم، ولا يكره إلى ما اتخذ للجيران وهو منهم، أو للعلماء ودعي فيهم. واعلم أن إجابة غير وليمة العرس من الدعوات مستحبة، وظاهر ما أطلقه الاصحاب ثبوت الاستحباب في حق القاضي أيضا، وإن كان الاستحباب في الوليمة آكد، ومنهم من خص الاستحباب بالوليمة، وبه قال ابن القاص. فرع لا يضيف القاضي أحد الخصمين دون الآخر ويجوز أن يضيفهما معا على الصحيح، ومنعه أبو إسحق، لانه قد يتوهم كل واحد أن المقصود بالضيافة صاحبه، وأنه تبع، وهذا يشكل بسائر وجوه التسوية. السابعة: له أن يشفع لاحدهما، وأن يؤدي المال عمن عليه، لانه ينفعهما. الثامنة: يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويزور القادمين، وإذا لم يمكنه الاستيعاب، فعل الممكن من كل نوع، ويخص به من عرفه، وقرب منه. قال القاضي أبو حامد: هو كإجابة الوليمة يعم الجميع أو يترك الجميع، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور، لان معظم المراد بهذه الانواع الثواب، ولا فرق في هذه الانواع بين المتخاصمين وغيرهما هكذا قاله الاكثرون. وفي أمالي أبي الفرج أنه لا يعود الخصم ولا يزوره إذا قدم، لكن يشهد جنازته.
الطرف الرابع : في البحث عن حال الشهود وتزكيتهم وفيه مسائل: الاولى: لا يجوز للقاضي أن يتخذ شهودا معينين لا يقبل شهادة غيرهم، لما فيه من التضييق على الناس.(8/151)
الثانية: إذا شهد عنده شهود، نظر إن عرف فسقهم، رد شهادتهم، ولم يحتج إلى بحث، وإن عرف عدالتهم، قبل شهادتهم، ولا حاجة إلى التعديل، وإن طلبه الخصم وفيه وجه سبق في القضاء بالعلم، وإن لم يعرف حالهم، لم يجز قبول شهادتهم، والحكم بها إلا بعد الاستزكاء والتعديل، سواء طعن الخصم فيهم، أو سكت ولو أقر الخصم بعدالتهما، ولكن قال: أخطأ في هذه الشهادة، فوجهان، أحدهما: يحكم بشهادتهما بلا بحث عنهما، لان البحث لحقه، وقد اعترف بعدالتهما، وأصحهما لا بد من البحث والتعديل لحق الله تعالى، ولهذا لا يجوز الحكم بشهادة فاسق وإن رضي الخصم، ولان الحكم بشهادته يتضمن تعديله، والتعديل لا يثبت بقول واحد. وإن صدقهما فيما شهدا به، قضى القاضي بإقراره بالحق، واستغنى عن البحث عن حالهما، وكذا لو شهد واحد فصدقه، ولو شهد معلوما العدالة، ثم أقر المشهود عليه بما شهدا به قبل حكم القاضي، فهل يستند الحكم إلى الاقرار دون الشهادة أم إليهما جميعا ؟ وجهان حكاهما الهروي، قال: والصحيح منهما الاول، والثاني حكاه الفوراني في المناظرة، وذكر الهروي أنه لو بعد الحكم بشهادتهما، فقد مضى الحكم مستندا إلى الشهادة، سواء وقع إقراره بعد تسليم المال إلى المشهود له أم قبله، وفيما قبل التسليم وجه ضعيف، وأنه لو قال الخصم للشاهد قبل أداء الشهادة ما تشهد به علي فأنت عدل صادق، لم يكن ذلك إقرارا، لكنه تعديل للشاهد إن كان من أهل التعديل.(8/152)
فرع إذا جهل القاضي إسلام الشاهد، لم يقنع بظاهر الدار، بل يبحث عنه، ويكفي فيه قول الشاهد. ولو جهل حريته بحث أيضا، ولا يكفي فيه قوله على الاصح، لانه لا يستقل بها بخلاف الاسلام، وحكى ابن كج وجها أن الاستزكاء لا يجب مطلقا إلا إذا طلبه الخصم وليس بشئ. فرع قال في العدة: إذا استفاض فسق الشاهد بين الناس، فلا حاجة إلى البحث والسؤال، ويجعل المستفيض كالمعلوم. الثالثة: ينبغي أن يكون للقاضي مزكون وأصحاب مسائل، فالمزكون هم المرجوع إليهم ليبينوا حال الشهود، وأصحاب المسائل هم الذين يبعثهم إلى المزكين، ليبحثوا ويسألوا، وربما فسر أصحاب المسائل في لفظ الشافعي بالمزكين، ثم المخبرون عن فسق الشهود وعدالتهم ضربان، أحدهما: من نصبه الحاكم للجرح والتعديل مطلقا أو في واقعة خاصة، فيسمع الشهادة عليهما، وما ثبت عنده أنهاه إلى القاضي. والثاني من يشهد بالعدالة أو الفسق، ثم من هؤلاء من يشهد أصالة، ومنهم من يشهد على شهادة غيره، والاول قد يعرف الحال فيشهد، وقد لا يعرف فيأمره القاضي بالبحث ليعرف فيشهد كما يوكل القاضي بالغريب الذي يدعي الافلاس من يبحث عنه ويخالطه، ليعرف إفلاسه فيشهد، وأما الثاني، فهو شاهد فرع، والقياس أنه لا يشهد إلا عند غيبة الاصل، أو تعذر حضوره، وكذا ذكره الهروي، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ينازع فيه. وإذا أراد الحاكم البحث عن حال الشهود، كتب اسم الشاهد، وكنيته إن اشتهر بها، وولاءه إن كان عليه ولاء، واسم أبيه وجده وحليته وحرفته وسوقه ومسجده، لئلا يشتبه بغيره، فإن كان مشهودا وحصل التمييز ببعض هذه الاوصاف، كفى، ويكتب أيضا اسم المشهود له، والمشهود عليه، فقد يكون بينهما ما يمنع شهادته له، أو عليه من قرابة أو عداوة. وفي قدر المال وجهان أحدهما: لا يكتبه، لانه العدالة لا تتجزأ، والصحيح المنصوص أنه يذكره، لانه قد يغلب على الظن صدق الشاهد في القليل دون الكثير، وأما دعوى الاول أن العدالة لا تتجزأ، فقد حكى أبو العباس الروياني في ذلك وجهين وبنى عليهما أنه لو عدل، وقد شهد بمال قليل، ثم شهد في الحال بمال كثير هل يحتاج إلى تجديد تزكية ويكتب إلى كل مزك كتابا، ويدفعه إلى صاحب مسألة، ويخفي كل كتاب عن غير من دفعه إليه وغير من بعثه إليه احتياطا، ثم إذا وقف القاضي على ما(8/153)
عند المزكين، فإن كان جرحا لم يظهره، وقال للمدعي: زدني في الشهود، وإن كان تعديلا، عمل بمقتضاه، ثم حكى الاصحاب والحالة هذه وجهين في أن الحكم بقول المزكين، أم بقول أصحاب المسائل ؟ قال أبو إسحق: بقول المزكين، لان أصحاب المسائل شهود على شهادة، فكيف تقبل مع حضور الاصل ؟ وإنما هم رسل وعلى هذا يجوزأن يكون صاحب المسألة واحدا، فإن عاد بالجرح، توقف القاضي، وإن عاد بالتعديل، دعا مزكيين ليشهدا عنده بعدالة الشاهد، ويشيرا إليه، ويأمن بذلك من الغلط من شخص إلى شخص. قال الاصطخري: إنما يحكم بقول أصحاب المسائل، ويبنى على ها ثبت عندهم بقول المزكين. قال ابن الصباغ: وهذا وإن كان شهادة على شهادة تقبل للحاجة، لان المزكي لا يكلف الحضور، وقول الاصطخري أصح عند الشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب وغيرهما. قالوا: وعلى هذا إنما يعتمد القاضي قول اثنين من أصحاب المسائل، فإن وصفاه بالفسق، فعلى ما سبق، وإن وصفاه بالعدالة أحضر الشاهدين ليشهدا بعدالته، ويشيرا إليه وإذا تأملت كلام الاصحاب، فقد تقول: ينبغي أن لا يكون في هذا خلاف محقق، بل إن ولي صاحب المسألة الجرح والتعديل، فحكم القاضي مبني على قوله، ولا يعتبر العدد، لانه حاكم، وإن أمره بالبحث، بحث ووقف على حال الشاهد، وشهد بما وقف عليه، فالحكم أيضا مبني على قوله، لكن يعتبر العدد، لانه شاهد، وإن أمره بمراجعة مزكيين، فصاعدا وبأن يعلمه بما عندهما، فهو رسول محض، والاعتماد على قولهما فليحضرا ويشهدا. وكذا لو شهد على فرع من نصب حاكما في شهادتهما، لان الشاهد الفرع لا يقبل مع حضور الاصل الجرح والتعديل اعتبر فيه صفات القضاة، ومن شهر بالعدالة أو الفسق، اشترط فيه صفات الشهود، ويشترط مع ذلك العلم بالعدالة والفسق وأسبابهما، وأن يكون المعدل خبيرا بباطن حال من يعدله لصحبة أو جوار أو معاملة ونحوها، قال في الوسيط: ويلزم القاضي أن يعرف أن المزكي خبير بباطن الشاهد في كل تزكية إلا إذا علم من عادته أنه لا يزكي إلا بعد الخبرة، ثم ظاهر لفظ الشافعي رحمه الله اعتبا التقادم في المعرفة الباطنة، لانه لا يمكن الاختبار(8/154)
في يوم أو يومين، ويشبه أن يقال: شدة الفحص والامعان تقوم مقام التقادم في المعرفة الباطنة. ويمكن الاختبار في مدة يسيرة، وليس ذكر التقادم على سبيل الاشتراط، بل لان الغالب أن المعرفة الباطنة لا تحصل إلا بذلك، ويوضح هذا ما ذكرنا أن القاضي يأمر بالبحث، ليعرف حال الشاهد فيزكيه، ولو اعتبرنا التقادم لطالت المدة، وتضرر المتداعيان بالتأخير الطويل. أما الجرح، فيعتمد فيه المعاينة أو السماع، فالمعاينة أن يراه يزني أن يشرب الخمر، والسماع بأن يسمعه يقذف، أو يقر على نفسه بزنا أو شرب خمر، فإن سمع من غيره، نظر إن بلغ المخبرون حد التواتر جاز الجرح لحصول العلم، وكذا إن لم يبلغ التواتر، لكن استفاض، جاز الجرح أيضا، صرح به ابن الصباغ والبغوي وغيرهما. ولا يجوز الجرح بناء على خبر عدد يسير، لكن يشهد على شهادتهم بشرط الشهادة على الشهادة، وذكر البغوي تفريعا على قول الاصطخري في أن الحكم بقول أصحاب المسائل أنه يجوز أن يعتمد فيه أصحاب المسائل خبر واحد من الجيران إذا وقع في نفوسهم صدقه، وهل يشترط ذكر سبب رؤية الجرح أو سماعه ؟ وجهان أحدهما: نعم، فيقول مثلا: رأيته يزني، وسمعته يقذف. وعلى هذا لقياس يقول في الاستفاضة: استفاض عندي. والثاني - هو المذكور في الشامل -: لا حاجة إليه، وليس للحاكم أن يقول: من أين عرفت حاله، وعلى أي شئ بنيت شهادتك ؟ كما في سائر الشهادات، وهذا أقيس ويحكى عن ابن أبي هريرة، والاول أشهر. ولا يجعل الجارح بذكر الزنى قاذفا للحاجة، كما لا يجعل الشاهد قاذفا، فإن لم يوافقه غيره، فليكن كما لو شهد ثلاثة بالزنى هل يجعلون قذفة ؟ فيه القولان. قلت: المختار أو الصواب أنه لا يجعل قاذفا، وإن لم يوافقه غيره، لانه معذور في شهادته بالجرح، فإنه مسؤول عنهما وهي في حقه فرض كفاية أو متعينة(8/155)
فهو معذور بخلاف شهود الزنى، فإنهم مندوبون إلى الستر، فهم مقصرون. والله أعلم. ولو أخبره بعدالته من يحصل بخبره الاستفاضة وهم من أهل الخبرة بباطن من يعدلون، لم يبعد أن يجوز له تعديله بذلك، وتقام خبرتهم مقام خبرته، كما أقيم في الجرح رؤيتهم مقام رؤيته. فرع وينبغي أن يكون المزكون وافري العقول لئلا يخدعوا وبرآء من الشحناء والعصبية في النسب والمذهب ويجتهد في إخفاء أمرهم لئلا يشهروا في الناس بالتزكية، وهل يشترط لفظ الشهادة من المزكي ؟ وجهان أصحهما: نعم فيقول: أشهد أنه عدل. فرع لا يجوز أن يزكي أحد الشاهدين الآخر، وفيه وجه ضعيف. وعن كتاب حرملة أنه لو شهد اثنان، وعدلهما آخران لا يعرفهما القاضي، وزكى الآخرين مزكيان للقاضي، جاز. ولو زكى ولده أو والده لم يقبل على الصحيح، وبه قطع العبادي وغيره. فرع لا تثبت العدالة بمجرد رقعة المزكي على الصحيح، لان الخط لا يعتمد في الشهادة كما سبق، وجوزه القاضي حسين للاعتماد على الرقعة، قال في الوسيط تفريعا على الاول: يكفي رسولان مع الرقعة، وأن الصحيح وجوب المشافهة وهذا ظاهر إن كان القاضي يحكم بشهادة المزكين، فأما إن ولي بعضهم الحكم بالعدالة والجرح، فليكن كتابه ككتاب القاضي إلى القاضي، وليكن الرسولان كالشاهدين على كتاب القاضي. فرع لا يقبل الجرح المطلق، بل لا بد من بيان سببه، ولا حاجة إلى بيان سبب التعديل، لان أسبابه غير منحصرة، وفيه وجه ضعيف حكاه في العدة، وليس بشئ والاصح أنه يكفي أن يقول: هو عدل. وقيل: ويشترط أن يقول: عدل علي ولي، وهو ظاهر نصه في الام والمختصر لكن تأوله الاولون أو جعلوه(8/156)
تأكيدا لا شرطا. ولا يحصل التعديل بقوله: لا أعلم منه إلا خيرا، أو لا أعلم منه ما ترد به الشهادة. المسألة الرابعة: إذا ارتاب القاضي بالشهود، أو توهم غلطهم لخفة عقل وجدها فيهم، فينبغي أن يفرقهم، ويسأل كل واحد منهم عن وقت تحمل الشهادة عاما وشهرا ويوما وغدوة أو عشية، ومكان محلة وسكة، ودار وصفة، ويسأل أتحمل وحده أم مع غيره وأنه كتب شهادته أم لا، وأنه كتب قبل فلان أم بعده، وكتبوا بحبر أم بمداد ونحو ذلك، ليستدل على صدقهم إن اتفقت كلمتهم، ويقف إن لم تتفق. وإذا أجابه أحدهم، لم يدعه يرجع إلى الباقين حتى يسألهم القاضي لئلا يخبرهم بجوابه ومتى اتفقوا على الجواب، أو لم يتعرضوا للتفصيل، ورأى أن يعظهم، ويحذرهم عقوبة شهادة الزور، فعل، فإن أصروا، وجب القضاء إذا وجد شروطه، ولا عبرة بما يبقى من ريبة، وإن لم يجد فيهم خفة ولا ريبة، فالصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا يفرقهم، لان فيه غضا منهم. وقال الروياني: يفرقهم، وقال البغوي: إن فرقهم، بمسألة الخصم، فلا بأس، ثم إن التفريق والاستفصال جعله الغزالي بعد التزكية، والصحيح الذي علله العراقيون وغيرهم أنه قبل الاستزكاء، فإن اطلع على عورة، استغنى عن الاستزكاء والبحث عن حالهم، وإن لم يطلع، فإن عرفهم بالعدالة، حكم، وإلا فحينئذ يستزكي، وهل هذا التفريق والاستفصال واجب أم مستحب ؟ فيه أوجه الصحيح الذي ذكره ابن كج والبغوي، وعامة الاصحاب وهو الموافق للفظ المختصر أنه مستحب والثاني واجب، قاله الامام والغزالي. قالا: ولو تركه وقضى مع الارتياب، لم ينفذ. والثالث: إن سأل الخصم وجب، وإلا فلا. الخامسة: تقدم بينة الجرح على بينة التعديل، لزيادة علم الجارح، فلو انعكس الامر بأن قال المعدل: قد عرفت السبب الذي ذكره الجارح، لكنه تاب منه، وحسنت حاله، قدمت بينة التعديل، لان مع المعدل هنا زيادة علم، كذا ذكره جماعة، منهم صاحب الشامل وقول الواحد لا يقبل في الجرح فضلا عن تقديمه.(8/157)
السادسة: عدل الشاهد، ثم شهد في واقعة أخرى، فإن لم يطل الزمان، حكم بشهادته، ولا يطلب تعديله ثانيا، وإن طال، فوجهان، أصحهما يطلب تعديله ثانيا، لان طول الزمان يغير الاحوال، ثم يجتهد الحاكم في طوله وقصره. السابعة: شهادات المسافرين والمجتازين من القوافل، كشهادة غيرهم في الحاجة إلى التعديل، فإن عدلهما مزكيان في البلد، أو عدل مزكيان اثنين من القافلة، ثم هما عدلا الشاهدين، قبلت شهادتهما وإلا فلا. الثامنة: سأل القاضي عن الشهود في غير محل ولايته، فعدلوا ثم عاد إلى محل ولايته، قال ابن القاص: له الحكم بشهادتهم إن جوزنا القضاء بالعلم، وخالفه أبو عاصم وآخرون، وقالوا: القياس منعه، كما لو سمع البينة خارج ولايته. التاسعة: عدل شاهد، والقاضي يتحقق فسقه بالتسامع، قال الامام: الذي يجب القطع به أنه يتوقف ولا يقضي. العاشرة: تقبل شهادة الحسبة على العدالة والفسق، لان البحث عن حال الشهود، ومنع الحكم بشهادة الفاسق حق لله تعالى.
الباب الثالث : في القضاء على الغائب هو جائز في الجملة، وحكى صاحب التقريب قولا عن رواية حرملة أنه(8/158)
لا يجوز إلا إذا كان للدعوى اتصال بحاضر، والمشهور الأول، وبه قطع الأصحاب، وفي الباب أطراف :
الأول : في الدعوى، ويشترط في الدعوى على الغائب ما يشترط فيها على الحاضر من بيان المدعى وقدره وصفته وقوله: إني مطالب بالمال. ولا يكفي الاقتصار على قوله: لي عليك كذا ويشترط أن يكون للمدعي بينة وإلا فلا فائدة، وأن يدعي جحوده، فإن قال: هو مقر لم تسمع بينته ولغت دعواه، وإن لم يتعرض لجحوده ولا إقراره، فهل تسمع بينته ؟ وجهان أصحهما: نعم لانه قد لا يعلم جحوده في غيبته، ويحتاج إلى الاثبات، فجعلت الغيبة كالسكوت. وفي فتاوي القفال أن هذا كله فيما إذا أراد إقامة البينة على ما يدعيه، ليكتب القاضي به إلى حاكم بلد الغائب، فأما إذا كان للغائب مال حاضر، وأراد إقامة البينة على دينه ليوفيه القاضي تسمع بينته ويوفيه، سواء قال: هو مقر، أو جاحد، وهل على القاضي لسماع(8/159)
الدعوى على الغائب أن ينصب مسخرا ينكر على الغائب وجهان أحدهما: نعم لتكون البينة على إنكار منكر، وأصحهما ما ذكره البغوي، لان الغائب قد يكون مقرا، فيكون إنكار المسخر كذبا. ومقتضى هذا التوجيه أن لا يجوز نصب المسخر، لكن الذي ذكره أبو الحسن العبادي وغيره أن القاضي مخير إن شاء نصب وإلا فلا.
الطرف الثاني : في التحليف، فيحلف القاضي المدعي على الغائب بعد قيام البينة وتعديلها أنه ما أبرأه من الدين الذي يدعيه، ولا من شئ منه، ولا اعتاض ولا استوفى، ولا أحال عليه هو، ولا أخذ من جهته، بل هو ثابت في ذمة المدعى عليه يلزمه أداؤه، ويجوز أن يقتصر، فيحلفه على ثبوت المال في ذمته، ووجوب تسليمه، وكذا يحلف مع البينة الوارث إذا كان المدعى عليه صبيا أو مجنونا أو ميتا ليس له وارث حاضر، فإن كان حلف بسؤال الوارث، وحكى أبو الحسين الطرسوسي من أصحابنا قولا أنه لا يحلف في الدعوى مع البينة وهو مذهب المزني، والمشهور الدول، لكن هذا التحليف واجب أم مستحب ؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما: الوجوب، ومنهم من قطع به. ومن قال بالاستحباب قال: لان تدارك التحليف باق، والوجوب في الميت والصبي والمجنون أولى لعجزهم عن التدارك، لكن الخلاف مطرد فيهم، حكاه أبو الحسن العبادي وجماعة، وبنى على هذا ما لو أقام قيم طفل بينة على قيم طفل، فإن أوجبنا التحليف، انتظرنا حتى يبلغ المدعى له، فيحلف، وإن قلنا بالاستحباب، قضى بها، ولا يشترط في اليمين هنا(8/160)
التعرض لصدق الشهود بخلاف اليمين مع الشاهد، لان البينة هنا كاملة وقيل: يشترط. إذا لم يدع بنفسه، بل ادعى وكيله على غائب لا يحلف، بل يعطى المال إن كان المدعى عليه هناك مال، ولو كان المدعى عليه حاضرا، وقال للمدعي بالوكالة بعد أقام البينة عليه: أبرأني موكلك الغائب، وأراد التأخير إلى أن يحضر الموكل، فيحلف، لم يمكن منه، بل عليه تسليم الحق، ثم يثبت الابراء من بعد إن كانت له حجة، وكذا لو ادعى ولي الصبي دينا للصبي، فقال المدعى عليه: إنه أتلف علي من جنس ما تدعيه قدر دينه لم ينفعه بل عليه أداء ما أثبته الولي، فإذا بلغ الصبي، حلفه. ولو قال المدعى عليه في مسألة التوكيل: أبرأني موكلك الغائب، فاحلف أنك لا تعلم ذلك، قال الشيخ أبو حامد: له تحليفه على نفي العلم ومن الاصحاب من يخالفه ولا يحلف الوكيل ولك أن تقول: مقتضى ما ذكره الشيخ أن يحلف القاضي وكيل المدعي على الغائب على نفي العلم بالابراء وسائر الاسباب المسقطة نيابة عن المدعى عليه فيما يتصور منه لو حضر كما ناب عنه في تحليف من يدعي لنفسه. فرع يجوز القضاء على الغائب بشاهد ويمين كالحاضر وهل يكفي يمين أم يشترط يمينان إحداهما لتكمل الحجة، والثاني لنفي المسقطات وجهان أصحهما الثاني. فرع تعلق برجل وقال: أنت وكيل فلان الغائب، ولي عليه كذا، وأدعي(8/161)
عليك وأقيم البينة في وجهك، فإن علم أنه وكيل، وأراد أن لا يخاصم، فليعزل نفسه، وإن لم يعلم، فينبغي أن يقول: لا أعلم أني وكيل ولا يقول: لست بوكيل فيكون. مكذبا لبينة قد تقوم بالوكالة، وهل للمدعي إقامة البينة على وكالة من تعلق به ؟ وجهان أحدهما: نعم ليستغني عن ضم اليمين إلى البينة، وليكون القضاء مجمعا عليه، وأصحهما: لا، لان الوكالة حق له، فكيف يقام بينة بها قبل دعواه.
الطرف الثالث : في كتاب القاضي إلى القاضي، فالقاضي بعد سماع الدعوى والبينة على الغائب قد يقتصر عليه، وينهي الامر إلى قاضي بلد الغائب ليحكم ويستوفي، وقد يحلفه كما سبق، ويحكم وعلى التقدير الثاني قد يكون للغائب مال حاضر يمكن أداء الحق منه فيؤدى، وقد لا يكون كذلك، فيسأل المدعي القاضي إنهاء الحكم إلى قاضي بلد الغائب، فيجيبه إليه. وللانهاء طريقان، أحدهما: أن يشهد على حكمه عدلين يخرجان إلى ذلك البلد، والاولى أن يكتب بذلك كتابا أولا، ثم يشهد، وصورة الكتاب: حضر فلان، وادعى على فلان الغائب المقيم ببلد كذا، وأقام عليه شاهدين وهما فلان وفلان، وقد عدلا عندي، وحلفت المدعي، وحكمت له بالمال، فسألني أن أكتب إليك في ذلك فأجبته، وأشهدت بذلك فلانا وفلانا. ولا يشترط تسمية الشاهدين على الحكم، ولا ذكر أصل الاشهاد، ولا تسمية شهود الحق، بل يكفي أن يكتب: شهد عندي عدول ويجوز أن لا يصفهم بالعدالة، ويكون الحكم بشهادتهم تعديلا لهم، ذكره في العدة، ويجوز أن لا يتعرض لاصل الشهادة، فيكتب: حكمت بكذا بحجة أوجبت الحكم، لانه قد يحكم بشاهد ويمين وقد يحكم بعلمه إذا جوزناه، وهذه حيلة يدفع بها القاضي قدح الحنفية إذا حكم بشاهد ويمين. وفي فحوى كلام الاصحاب وجه ضعيف مانع من إبهام الحجة، لما فيه من سد باب الطعن والقدح على الخصم.(8/162)
ويستحب للقاضي أن يختم الكتاب ويدفع إلى الشاهدين نسخة غير مختومة ليطالعاها، ويتذاكرا عند الحاجة، وأن يذكر في الكتاب نقش خاتمه الذي يختم به، وأن يثبت اسم نفسه، واسم المكتوب إليه في باطن الكتاب، وفي العنوان أيضا. وأما الاشهاد، فإن أشهدهما أنه حكم بكذا، ولا كتاب، شهدا به، وقبلت شهادتهما، وإن أنشأ الحكم بين أيديهما، فلهما أن يشهدا عليه وإن لم يشهدهما، وإن كتب، ثم أشهد، فينبغي أن يقرأ الكتاب أو يقرأ بين يديه عليهما ثم يقول لهما: إشهدا علي بما فيه، أو على حكمي المبين فيه، وفي الشامل أنه لو اقتصر بعد القراء على قوله: هذا كتابي إلى فلان، أجزأ، وحكى ابن كج وجها أنه يكفي مجرد القراءة عليهما، والاحوط أن ينظر الشاهدان وقت القراءة عليهما في الكتاب، فلو لم يقرأ الكتاب عليهما، ولم يعلما ما فيه، قال القاضي: أشهدكما على أن هذا كتابي أو ما فيه خطي، لم يكف، ولم يكن لهما أن يشهدا على حكمه، لان الشئ قد يكتب من غير قصد بحقيقة. ولو قال: أشهدكما على أن ما فيه حكمي، أو على أني قضيت بمضمونه، فوجهان، أصحهما: لا يكفي حتى يفصل ما حكم به، والثاني: يكفي لامكان معرفة التفصيل بالرجوع إليه، ويجري الخلاف فيما لو قال المقر: أشهدتك على ما في هذه القبالة وأنا عالم به، لكن الاصح عند الغزالي في الاقرار أنه يكفي، حتى إذا سلم القبالة إلى الشاهد، وحفظها الشاهد، وأمن التحريف، جاز له أن يشهد على إقراره، لانه يقر على نفسه، والاقرار بالمجهول صحيح، وقطع الصيمري بأنه لا يكفي في الاقرار أيضا حتى يقرأه ويحيط بما فيه، قال: وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله، ويشبه أن يكون الخلاف في أن الشاهد هل يشهد أنه أقر بمضمون القبالة مفصلا. فأما الشهادة على أنه أقر بما في هذا الكتاب مبهما، فينبغي أن يقبل بلا خلاف كسائر الاقارير المبهمة، ثم سواء شهد كذا أو كذا، فإنما يشهد إذا كان الكتاب محفوظا عنده، وأمن التصرف. فرع التعويل على شهادة الشهود والمقصود من الكتاب التذكر، ومن الختم الاحتياط، وإكرام المكتوب إليه، فلو ضاع الكتاب، أو امحى، أو انكسر الختم، وشهدا بمضمونه المضبوط عندهما، قبلت شهادتهما، وقضي بها، فلو شهدا بخلاف ما في الكتاب، عمل بشهادتهما، ولا يكفي الكتاب المجرد. وقال الاصطخري: إذا وثق المكتوب إليه بالخط والختم، كفى، والصحيح الاول.(8/163)
ويشترط إشهاد رجلين عدلين، فلا يقبل رجل وامرأتان، وقيل: يقبل إن تعلقت الحكومة بمال، وذكر ابن كج أنه لو كان الكتاب برؤية هلال رمضان، كفى شهادة واحد على قولنا: يثبت بواحد، وأنه لو كتب بالزنى وجوزنا كتاب القاضي إلى قاض في العقوبات هل يثبت برجلين أم يشترط أربعة ؟ وجهان بناء على القولين في الاقرار بالزنى. فرع إذا وصل كتاب القاضي وحامله إلى قاضي البلد الآخر، أحضر الخصم، فإن أقر بالمدعى، استوفاه، وإلا فيشهد الشاهدان أن هذا كتاب القاضي فلان وختمه، حكم فيه لفلان بكذا على هذا وقرأه علينا، وأشهدنا به، ولو لم يقولوا: أشهدنا به، جاز، ولا يكفي ذكرهما الكتاب والختم، بل لا بد من التعرض لحكمه. ثم في التهذيب والرقم أن القاضي إنما نقض الختم بعد شهادة الشهود وتعديلهم، وذكر الهروي أنه يفتح الكتاب أولا: ثم يشهدون ويوافق هذا قول كثير من الاصحاب أن الشهود يقرؤون الكتاب، ثم يشهدون ليقفوا على ما فيه، ويعلموا أنه لم يخرق، وليس هذا خلافا في الجواز، وكيف وقد عرف أن الختم من أصله لا اعتبار به، فكما تقبل الشهادة على ما لا ختم عليه تقبل على المفضوض ختمه، وسواء فضه القاضي أو غيره، وإنما هو في الادب والاحتياط. فرع يجوز أن يكتب إلى قاض معين، ويجوز أن يطلق فيكتب إلى كل من يصل إليه من القضاة، وإذا كان الكتاب إلى معين، فشهد شاهدا الحكم عند حاكم آخر قبل شهادتهما، وأمضاه، وإن لم يكتب: وإلى كل من يصل إليه من القضاة اعتمادا على الشهادة، وكذا لو مات الكاتب، وشهدا على حكمه عند المكتوب إليه أو مات المكتوب إليه، وشهدا عند من قام مقامه، قبل شهادتهما، وأمضى الحكم. والعزل والجنون والعمى والخرس كالموت. ولو كتب القاضي إلى خليفته، ثم مات القاضي، أو عزل، تعذر على الخليفة القبول والامضاء إن قلنا: ينعزل بانعزال الاصل، ولو ارتد القاضي الكاتب أو فسق، ثم وصل الكتاب إلى المكتوب إليه، فوجهان قطع ابن القاص، وصاحبا المهذب والتهذيب وآخرون بأن الكتاب إن كان بالحكم المبرم، أمضي، لان الفسق الحادث لا يؤثر في الحكم السابق، وإن كان بسماع الشهادة، لم يقبل ولم يحكم به، كما لو فسق الشاهد قبل الحكم، وأطلق ابن كج أنه لا يقبل كتابه إذا فسق، وهو مقتضى كلام الشيخ أبي حامد وابن(8/164)
الصباغ. فرع شهود الكتاب والحكم يشترط ظهور عدالتهم عند المكتوب إليه، وهل تثبت عدالتهم بتعديل الكاتب إياهم ؟ وجهان، قال القفال الشاشي: نعم للحاجة، والاصح المنع، لانه تعديل قبل أداء الشهادة، ولانه كتعديل المدعي شهوده، ولان الكتاب إنما يثبت بقولهم، فلو ثبت به عدالتهم لثبتت بقولهم، والشاهد لا يزكي نفسه. فرع ينبغي أن يثبت القاضي في الكتاب اسم المحكوم له، والمحكوم عليه، وكنيتهما، واسم أبويهما، وجديهما، وحليتهما، وصنعتهما، وقبيلتهما ليسهل التمييز، وإن كان مشهورا ظاهر الصيت، وحصل الاعلام ببعض ما ذكرنا، اكتفي به. وإذا أثبت الاوصاف كما ذكرنا، فحمل الكتاب إلى المكتوب إليه، وأحضر الحامل عنده من زعم محكوما عليه، نظر إن شهد شهود الكتاب والحكم على عينه، لان القاضي الكاتب حكم عليه، طولب بالحق، وإن لم يشهدوا على عينه، لكن شهدوا على موصوف بالصفات المذكورة في الكتاب، فأنكر المحضر أن ما في الكتاب اسمه ونسبه، فالقول قوله مع يمينه، وعلى المدعي البينة على أنه اسمه ونسبه، فإن لم تكن بينة، ونكل المحضر، حلف المدعي، وتوجه له الحكم. ولو قال: لا أحلف على أنه ليس اسمي ونسبي، ولكن أحلف على أنه لا يلزمني تسليم شئ إليه، فحكى الامام والغزالي عن الصيدلاني أنه يقبل منه اليمين هكذا، كما لو ادعى عليه قرض، فأنكر، وأراد أن يحلف على أنه لا يلزمه شئ، فإنه يقبل، واختارا أنه لا يقبل، وفرقا بأن مجرد الدعوى ليس بحجة، وهنا قامت بينة على المسمى بهذا الاسم، وذلك يوجب الحق عليه إن ثبت كونه المسمى، وإن قامت البينة بأنه اسمه ونسبه، فقال: نعم، لكن لست(8/165)
المحكوم عليه، فإن لم يوجد هناك من يشاركه في الاسم والصفات المذكورة، لزمه الحكم، لان الظاهر أنه المحكوم عليه، وإن وجد بأن عرفه القاضي، أو قامت عليه بينة، وأحضر المشارك، فإن اعترف بالحق، طولب به، وخلص الاول، وإن أنكر، بعث الحاكم إلى الكاتب بما وقع من الاشكال، ليحضر الشاهدين، ويطلب منهما مزيد صفة يتميز بها المشهود عليه، فإن ذكرا مزيدا، كتب إليه ثانيا، وإلا وقف الامر حتى تنكشف. ولو أقام المحضر بينة على موصوف بتلك الصفات كان هناك وقد مات، فإن مات بعد الحكم، فقد وقع الاشكال، وإن مات قبله، فإن لم يعاصره المحكوم له، فلا إشكال، وإن عاصره، حصل الاشكال على الاصح، هذا كله إذا أثبت القاضي اسم المحكوم عليه، ونسبه، وصفته كما سبق، أما إذا اقتصر على قوله: حكمت على محمد بن أحمد مثلا، فالحكم باطل، لان المحكوم عليه مبهم، ولم يتعين بإشارة، ولا وصف كامل بخلاف ما إذا استقصى الوصف، فظهر اشتراك على الندور، حتى لو اعترف رجل في بلد المكتوب إليه بأنه محمد بن أحمد وأنه المعني بالكتاب، لم يلزمه ذلك الحكم لبطلانه في نفسه إلا أن يقر بالحق، فيؤاخذ به هذا هو الصحيح، وهو الذي نقله الامام والغزالي وغيرهما، وذكر ابن القاص وأبو علي الطبري أنه إذا ورد الكتاب، أحضر القاضي المكتوب عليه، وقرأ عليه الكتاب، فإن أقر أنه المكتوب عليه، أخذه به، سواء كان رفع نسبه وذكر صفته أم لا، ولا شك أنه لو شهد الشهود كما ينبغي إلا أنه أبهم في الكتاب اسم المكتوب عليه يقبل الشهادة، ويعمل بمقتضاها، لما سبق أن الاعتبار بقول الشهود لا بالكتاب. فصل سبق أن لانهاء حكم القاضي إلى قاض آخر طريقين، أحدهما: المكاتبة وسبق. والطريق الثاني المشافهة، وتتصور من أوجه. أحدها: أن يجتمع القاضي الذي حكم، وقاضي بلد الغائب في غير البلدين، ويخبره بحكمه. والثاني: أن ينتقل الذي حكم إلى بلد الغائب، ويخبره، ففي الحالين لا يقبل(8/166)
قوله، ولا يمضي حكمه، لان إخباره في غير موضع ولايته، كإخبار القاضي بعد العزل. والثالث: أن يحضر قاضي بلد الغائب في بلد الذي حكم فيخبره، فإذا عاد إلى محل ولايته، فهل يمضيه، إن قلنا: يقضي بعلمه فنعم، وإلا فلا على الاصح، كما لو قال ذلك القاضي: سمعت البينة على فلان بكذا، فإنه لا يترتب الحكم عليه إذا عاد إلى محل ولايته. والرابع: أن يكونا في محل ولايتهما، بأن وقف كل واحد في طرف محل ولايته، وقال الحاكم: حكمت بكذا فيجب على الآخر إمضاؤه، لانه أبلغ من الشهادة والكتاب، وكذا لو كان في البلد قاضيان وجوزناه، فقال أحدهما للآخر: حكمت بكذا فإنه يمضيه، وكذا إذا قاله القاضي لنائبه في البلد وبالعكس. ولو خرج القاضي إلى قرية له فيها نائب، فأخبر أحدهما الآخر بحكمه أمضاه الآخر، لان القرية محل ولايتهما، ولو دخل النائب البلد، فقال للقاضي: حكمت بكذا لم يقبله، ولو قال له القاضي: حكمت بكذا، في إمضائه إياه، إذا عاد إلى قريته الخلاف في القضاء بالعلم. فرع إذا حكم القاضي بحق، وشافه به واليا غير قاض ليستوفيه، فله أن يستوفي في محل ولاية القاضي، وكذا خارجه على الصحيح. ولو كاتب القاضي واليا غير قاض، فإن كان صالحا للقضاء وقد فوض إليه الامام نظر القضاة وتولية من يراه، جازت مكاتبته، كما تجوز مكاتبة الامام الاعظم، نص عليه في المختصر وإن لم يكن صالحا، أو كان، ولم يفوض إليه، نظر القضاة، لم تجز مكاتبته، لان سماع البينة يختص بالقضاة. فصل ذكرنا في أول الطرف أن القاضي بعد سماع البينة قد يحكم، وينهيه إلى حاكم آخر، وقد يقتصر على السماع وينهيه، وفرغنا من القسم الاول، وأما(8/167)
الثاني فنقدم عليه مقدمة فيما يمتاز به أحد القسمين على الثاني وفي فروع تتعلق بالحكم. أعلم أن صيغ الحكم في قوله: حكمت على فلان لفلان بكذا، وألزمته لما سبق في الادب الخامس من الباب الثاني، فلو قال: ثبت عندي كذا بالبينة العادلة، أو صح، فهل هو حكم ؟ فيه وجهان أحدهما: نعم، لانه إخبار عن تحقيق الشئ جزما وأصحهما لا، لانه قد يراد به قبول الشهادة، واقتضاء البينة صحة الدعوى، فصار كقوله: سمعت البينة وقبلتها ولان الحكم هو الالزام، والثبوت ليس بإلزام. وأما ما يكتب على ظهور الكتب الحكمية وهو: صح ورود هذا الكتاب علي، فقبلته قبول مثله، وألزمت العمل بموجبه، فليس بحكم لاحتمال أن المراد تصحيح الكتاب، وإثبات الحجة، ولا يجوز الحكم على المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي على الاصح، وهل يصح أن يلزم القاضي الميت بموجب إقراره في حياته ؟ وجهان. ويشترط تعيين ما يحكم به، ومن يحكم له، لكن قد يبتلى القاضي بظالم يريد ما لا يجوز، ويحتاج إلى ملاينته، فرخص له دفعه بما يوهم أنه أسعفه بمراده. مثاله: أقام خارج بينة وداخل بينة، والقاضي يعلم فسق بينة الداخل، ولكنه يحتاج إلى ملاينته، وطلب الحكم بناء على ترجيح بينة الداخل، فيكتب: حكمت بما هو مقتضى الشرع في معارضة بينة فلان الداخل، وفلان الخارج، وقررت المحكوم به في يد المحكوم له، وسلطته عليه، ومكنته من التصرف ليه إذا ثبتت هذه المقدمة، فإذا لم يحكم القاضي، وأنهى ما جرى من الدعوى والبينة بالكتاب، سمي بذلك كتاب نقل الشهادة، وكتاب التثبيت، أي: تثبيت الحجة. وينص على الحجة، فيذكر أنه قامت عنده بينة أو شاهد ويمين، أو نكل المدعى عليه، وحلف المدعي، وإنما ينص على الحجة، ليعرف المكتوب إليه تلك الحجة، فقد لا يرى بعض ذلك الحجة، وهل يجوز أن يكتب بعلم نفسه ليقضي به المكتوب إليه ؟ قال في العدة: لا يجوز وإن جوزنا القضاء بالعلم، لانه ما لم يحكم به هو كالشاهد والشهادة لا تتأدى بالكتابة. وفي أمالي السرخسي جوازه، ويقضي به المكتوب إليه إذا جوزنا القضاء بالعلم. وإذا كتب بسماع البينة، فليسم الشاهدين، والاولى أن يبحث عن(8/168)
حالهما ويعدلهما، لان أهل بلدهما أعرف بهما، فإن لم يفعل، فعلى المكتوب إليه البحث والتعديل. إذا عدل، فهل يجوز أن يترك اسم الشاهدين ؟ قال الامام والغزالي: لا، والقياس الجواز، كما أنه إذا حكم، استغنى عن تسمية الشهود، وهذا هو المفهوم من كلام البغوي وغيره، وهل يأخذ المكتوب إليه بتعديل الكتاب أم له البحث وإعادة التعديل ؟ لفظ الغزالي يقتضي الثاني، والقياس الاول. قلت: هذا الذي جعله القياس هو الصواب. والله أعلم. ولا حاجة في هذا القسم إلى تحليف المدعي، والقول في إشهاد القاضي، وفي أداء الشهود الشهادة عند المكتوب إليه وفي دعوى الخصم إن كان هناك من يشاركه في الاسم على ما سبق في القسم الاول، وإذا عدل الكاتب شهود الحق، فجاء الخصم ببينته على جرحهم سمعت، ويقدم على التعديل، وإن استمهل البينة الجرح أمهل ثلاثة أيام هكذا ذكره الاصحاب على طبقاتهم، وكذا لو قال: أبرأتني، أو قضيت الحق واستمهل ليقيم البينة عليه. ولو قال: أمهلوني حتى أذهب إلى بلدهم وأجرحهم، فإني لا أتمكن من جرحهم إلا هناك، أو قال: لي بينة أخرى هناك دافعة، لم يمهل، بل يؤخذ الحق منه، فإذا أثبت جرحا أدفعا، استرد، وسواء في ذلك كتاب الحكم، وكتاب نقل الشهادة: وفي العدة أنه لو سأله المحكوم عليه إحلاف الخصم أنه لا عداوة بينه وبينهم وقد حضر الخصم عند المكتوب إليه أجابه إليه، ولو سأل إحلافه على عدالتهم، لم يجبه، وكفى تعديل الحاكم إياهم، وأنه لو ادعى قضاء الدين، وسأل إحلافه: أنه لم يستوفه، لم يحلف، لان الكاتب أحلفه. وذكر البغوي في مثله في دعوى الابراء أنه يحلفه: أنه لم يبرئه فحصل وجهان. فرع في مشافهة القاضي قاضيا بسماع البينة فإذا نادى قاض من طرف ولايته قاضيا من طرف ولايته: إني سمعت البينة بكذا، أو جوزنا قاضيين في بلد، فقال ذلك قاض لقاض، هل للمقول له الحكم بذلك ؟ قال الامام والغزالي: يبنى ذلك على أن سماع البينة وإنهاء الحال إلى قاض آخر هل هو نقل كشهادة الشهود كنقل الفروع شهادة الاصول، أم حكم بقيام البينة ؟ وفيه وجهان، فعلى الاول لا يجوز، كما لا يحكم بالفرع مع حضور الاصل. وعلى الثاني يجوز كما في الحكم المبرم، وهذا أرجح عند الامام والغزالي، والصحيح الاول، وبه قال عامة(8/169)
الاصحاب، وقالوا أيضا: كتاب السماع إنما يقبل إذا كانت المسافة بين الكاتب وبين الذي بلغه الكتاب بحيث يقبل في مثلها الشهادة على الشهادة، وهذا نصه في عيون المسائل ولو قال الحاكم لخليفته: اسمع دعوى فلان وبينته، ولا تحكم به حتى تعرفني، ففعل هل للحاكم أن يحكم به ؟ القياس أنه كإنهاء أحد القاضيين في البلد إلى الآخر، لامكان حضور الشهود عنده، لكن الاشبه هنا الجواز، وبه أجاب أبو العباس الروياني مع توقف فيه.
الطرف الرابع : في الحكم بالشئ الغائب على غائب. الغيبة والحضور إنما تتعاقبان الاعيان، فأما إذا كانت دعوى نكاح أو طلاق أو رجعة، أو إثبات وكالة، فلا يوصف المدعي بغيبة ولا حضور، وكذا إذا كان المدعى دينا. ومتى ادعى عينا، فإن كانت حاضرة مشارا إليها، سلمت إلى المدعي إذا تمت حجته، وإن كانت غائبة، فلها حالان الاولى أن تكون غائبة عن البلد، فهي إما عين يؤمن فيها الاشتباه والاختلاط، كالعقار وعبد وفرس معروفين، وإما غيرها، والقسم الاول يسمع القاضي البينة عليه، ويحكم ويكتب إلى قاضي بلد ذلك المال ليسلمه إلى المدعي، ويعتمد في العقار على ذكر البقعة والسكة والحدود، وينبغي أن يتعرض لحدوده الاربعة، ولا يجوز الاقتصار على حدين أو ثلاثة، ولا يجب التعرض للقيمة على الاصح، لحصول التمييز دونه. وأما القسم الثاني كغير المعروف من المعروف من العبيد والدواب وغيرها فهل يسمع البينة على عينها وهي غائبة ؟ قولان: أحدهما نعم، كما يسمع على الخصم الغائب اعتمادا على الحلية والصفة، ولانه يحتاج إليه كالعقار. والثاني: لا، لكثرة الاشتباه، وبهذا قال المزني، ورجحه طائفة، منهم أبو الفرج الزاز، والاول اختيار الكرابيسي، والاصطخري، وابن القاص، وأبي علي الطبري، وبه أفتى القفال. فإذا قلنا به، فهل يحكم للمدعي بما قامت به البينة ؟ قولان، أحدهما: نعم كالعقار، وأظهرهما: لا، لان الحكم مع خطر الاشتباه والجهالة بعيد. والحاصل ثلاثة أقوال، أظهرها: تسمع البينة فينبغي أن يبالغ البينة ولا يحكم، والثاني لا يسمع ولا يحكم، والثالث يسمع ويحكم، هذه طريقة الجمهور، وطردوها في جميع المنقولات التي لا تعرف، وقال الامام والغزالي: ما لا يؤمن فيه الاشتباه ضربان ما يمكن تمييزه بالصفات والحلي كالحيوان، وما لا يمكن لكثرة أمثاله كالكرباس، فالاول على الاقوال الثلاثة، وقطعا في الكرباس(8/170)
ونحوه بأنه لا ترتبط الدعوى والحكم بالعين، فإن قلنا: يسمع البينة، فينبغي أن يبالغ المدعي في الوصف بما يمكن الاستقصاء والتعرض للثبات. وبماذا يضبط بعد ذكر الجنس والنوع ؟ قولان حكاهما الهروي وغيره، أحدهما لتعرض الاوصاف المعتبرة في السلم، والثاني يتعرض للقيمة، وتكفي عن ذلك الصفات، قالوا: والاظهر أن الركن في تعريف ذوات الامثال ذكر الصفات وذكر القيمة مستحب في ذوات القيم، الركن القيمة، وذكر الصفات مستحب، ثم يكتب القاضي إلى قاضي بلد المال بما جرى عنده من مجرد قيام البينة، أو مع الحكم إن جوزنا الحكم المبرم، فإن أظهر الخصم هناك عبدا آخر بالاسم والصفات المذكورة في يده، أو في يد غيره، فقد صار القضاء مبهما، وانقطعت المطالبة في الحال، كما سبق في المحكوم عليه، وإن لم يأت بدافع، فإن كان الكتاب كتاب حكم، وجوزناه، حلف المدعي أن هذا المال هو الذي شهد به شهوده عند القاضي فلان، وتسلم إليه، ذكره ابن القاص في كتاب آداب القضاء، وإن كان كتاب سماع البينة، انتزع المكتوب إليه المال، وبعثه إلى الكاتب، ليشهد الشهود على عينه، وفي طريقه قولان، أظهرهما وأشهرهما، وبه قطع ابن الصباغ وغيره: يسلم إلى المدعي، ويؤخذ منه كفيل ببدنه. وقال أبو الحسن العبادي: يكفله قيمة المال، فإن ذهب إلى القاضي الكاتب، وشهد الشهود على عينه، وسلم به، كتب القاضي بذلك إبراء الكفيل وإلا فعلى المدعي الرد، ومؤنته، ويختم العين عند تسليمها إليه بختم لازم، فإن كان عبدا، جعل في عنقه القلادة، ويختم عليها، والمقصود من الختم أن لا يبدل المأخوذ بما لا يستريب الشهود في أنه له، وأخذ الكفيل واجب، والختم مستحب، وعلى هذا القول لو كان للمدعي جارية، فثلاثة أوجه، أحدها: أنها كالعبد، والثاني: لا تبعث أصلا، والثالث: تسلم إلى أمين في الرفقة لا إلى المدعي، وهذا حسن. قلت: هذا الثالث هو الصحيح أو الصواب. والله أعلم. ثك المفهوم من كلام الجمهور أن الشهود إذا شهدوا على عينه عند الكاتب، سلمه إلى المدعي، وقد تم الحكم له، ثم يكتب إبراء الكفيل على ما ذكرنا، وفي الفروق للشيخ أبي محمد أنه يختم على رقبته ختما ثانيا، ويكتب بأني حكمت به لفلان، ويسلمه إلى المكتوب له، ليرده إلى القاضي الثاني، فيقرأ الكتاب، ويطلق(8/171)
الكفيل، ويسلم العبد إلى المدعي. والقول الثاني أن القاضي بعد الانتزاع يبيعه للمدعي، ويقبض منه الثمن، ويضعه عند عدل، أو يكفله بالثمن، فإن سلم للمدعي بشهادة الشهود على عينه عند القاضي الكاتب، كتب برد الثمن، أو براءة الكفيل، وبان بطلان البيع، وإلا فالبيع صحيح، ويسلم الثمن إلى المدعى عليه، وهذا بيع يتولاه القاضي للمصلحة، كما يبيع الضوال، وحكى الفوراني بدل هذا القول أنه يسلم إليه المال، ويأخذ القيم ويدفعها إلى المدعى عليه للحيلولة بينه وبين ما يزعمه ملكا له، ثم يسترد هذه القيمة، سواء ثبت المال للمدعي أم لا. الحالة الثانية: أن تكون العين المدعاة غائبة عن مجلس الحكم دون البلد، فإن كان الخصم حاضرا أمر بإحضاره لتقوم البينة على عينها، ولا تسمع الشهادة على صفتها هذا هو الجواب في فتاوى القفال. ويشبه أن يجئ فيه وجه فيما إذا كان المدعى عليه في البلد، هل تسمع الشهادة عليه مع غيبته عن المجلس ؟ ثم إنما يؤمر بإحضار ما يمكن إحضاره بتيسر فأما ما لا يمكن، كالعقار، فيحده المدعي ويقيم البينة عليه بتلك الحدود، فإن قال الشهود: نعرف العقار بعينه، ونعرف الحدود، بعث القاضي من يسمع البينة على عينه، أو حضر بنفسه، فإن كان المشار إليه بالحدود المذكورة في الدعوى، حكم وإلا فلا، ولو كان العقار مشهورا لا يشتبه، فلا حاجة للتحديد، وأما ما يعسر إحضاره كشئ ثقيل، وما أثبت في الارض، أو ركب في الجدار، وأورث قلعة ضررا، فيصفه المدعي، ويحضر القاضي عنده، أو يبعث من يسمع الشهادة على عينه، وإن لم يمكن وصفه حضر القاضي عنده، أو بعث من يسمع الدعوى على عينه، وذكر الغزالي أن العبد المدعى لو كان يعرفه القاضي، حكم به دون الاحضار، وجعل هذه الصورة كالمستثناة عن صورة وجوب الاحضار. وهذا الذي قاله إن أراد به العبد المعروف بين الناس، فهو صحيح كما ذكرنا في العقار المعروف والعبد المشهور الغائب عن البلد، فأما إن اختص القاضي بمعرفته، فإن كان عالما بصدق المدعي، وحكم بعلمه تفريعا على جوازه، فهو قريب أيضا، وإن حكم بالبينة فالبينة تقوم على الصفة، فإذا لم يسمع البينة بالصفة، وجب أن يمتنع الحكم ومتى أوجبنا الاحضار،(8/172)
فذلك إذا اعترف المدعى عليه باشتمال يده على مثل تلك العين، وإن أنكر اشتمال يده على غير تلك الصفة، صدق بيمينه، فإن حلف، كان للمدعي أن يدعي عليه القيمة، لاحتمال أنها هلكت ذكره البغوي وغيره. وإن نكل وحلف المدعى، أو أقام بينة حين أنكر، كلف إحضارها وحبس، ولا يطلق إلا بالاحضار، أو بأن يدعي التلف، فتؤخذ منه القيمة، وتقبل منه دعوى التلف، وإن كانت خلاف قوله الاول للضرورة، وقيل: لا يطلق إلا بإحضار، أو بينة التلف، فإن لم يدر المدعي أن العين باقية ليطالب بها، أو تالفة ليطالب بقيمتها فادعى على التردد، وقال: غصب مني كذا، فإن كان باقيا، فعليه رده، وإن كان تالفا، فقيمته، فوجهان أحدهما: لا يسمع دعواه، لعدم الجزم، بل يدعي العين، ويحلف عليها، ثم ينشئ دعوى القيمة، ويحلف عليها، وأصحهما وعليه عمل القضاء: يسمع للحاجة فيه، وعلى هذا يحلف أنه لا يلزمه رد العين، ولا قيمتها، ويجري الوجهان فيما لو سلم ثوبا إلى دلال ليبيعه فطالبه به، فجحد، فلم يدر صاحب الثوب أباعه، فيطالبه بالثمن، أم تلف، فيطالبه بالقيمة، أم هو باق ليطالبه بالعين ؟ فعلى الاول يدعي العين في دعوى، والقيمة في أخرى، والثمن في أخرى، وعلى الثاني يدعي أن عليه رد الثوب أو ثمنه أو قيمته، ويحلف الخصم يمينا واحدة أنه لا يلزمه تسليم الثوب ولا ثمنه ولا قيمته، ولو شهدوا أنه غصب منه عبدا بصفة كذا، فمات العبد استحق بتلك الشهادة قيمته على تلك الصفة. وجميع ما ذكرنا فيما إذا كان الخصم حاضرا، فإن كان غائبا والمال في البلد، كما وصفنا أحضر مجلس الحكم أيضا، وأخذ ممن في يده ليشهد الشهود على عينه. فرع لو كان الخصم حاضرا، والمدعي ببلدة أخرى، فقياس ما سبق أنا إن قلنا: تسمع البينة بالمال الغائب، ويحكم به، فالقاضي يحكم عليه، وإن لم نجوز إلا السماع، فإذا سمع البينة، أمر بنقل المدعي إلى مجلسه، كما يفعله القاضي المكتوب إليه عند غيبة الخصم.(8/173)
فرع ذكرنا أن المدعي إن كان في البلد، كلف المدعى عليه إحضاره، وإن كان غائبا يبعثه القاضي المكتوب إليه على يد المدعى، ولا يكلف المدعى عليه الاحضار للمشقة، كما يكلف الحضور هناك ولا يكلفه هنا، قال البغوي: فحيث أمر المدعي هنا بالاحضار، فمؤنة الاحضار عليه إن ثبت أنه للمدعي، وإلا فعلى المدعى مؤنة الاحضار والرد جميعا، وحيث يبعثه القاضي المكتوب إليه إلى بلد الكاتب إن لم يثبت أنه للمدعي، فعليه رده إلى موضع بمؤناته، وتستقر عليه مؤنة الاحضار إن تحملها من عنده، وإن ثبت أنه للمدعي، فقياس ما ذكره البغوي أنه يرجع بمؤنة الاحضار على المدعي عليه. وفي أمالي السرخسي أن القاضي ينفق على النقل من بيت المال، فإن لم يكن في بيت المال شئ، اقترض، فإن ثبت المال للمدعى عليه، لزمه رد القرض بظهور تعديه، وإلا كلف المدعي رده لظهور تعنته، ثم قال العراقيون والبغوي وغيرهم: إذا نقل المدعي المال إلى بلد القاضي الكاتب، ولم يثبت كونه له، لزم المدعي مع مؤنة الرد أجرة المثل لمدة الحيلولة، ولم يتعرضوا لذلك في مدة تعطل المنفعة، وإذا أحضره المدعى عليه وهو في البلد، فاقتضى سكوتهم المسامحة وقد صرح بهذا الاقتضاء الغزالي، والفرق بين الحالين زيادة الضرر هناك.
الطرف الخامس : في المحكوم عليه، والاصل أن لا يسمع القاضي البينة، ولا يحكم إلا بحضرة المدعى عليه، لكن هذا الاصل قد يترك لاسباب. وتفصيلها أن يقال: إذا لم يكن الخصم في مجلس القاضي، فإما أن يكون في الخلد، وإما لا، فإن كان، نظر إن كان ظاهرا يتأتى إحضاره، فهل يجوز سماع البينة عليه والحكم من غير حضوره أم لا، أم يجوز سماعها دون الحكم ؟ فيه أوجه، الصحيح المنع منهما، وأجري الخلاف في الحاضر في مجلس الحكم هل يسمع البينة عليه، ويحكم بغير سؤاله ومراجعته، والمنع هنا أظهر وأولى. وإن تعذر إحضاره بتواريه أو بعذره، جاز سماع الدعوى والبينة والحكم عليه على الصحيح، ومنعه(8/174)
القاضي حسين، فإن قلنا بالصحيح، فهل يحلف المدعي، كما يحلف المدعي على غائب ؟ وجهان، وقطع صاحب العدة بأنه لا يحلف، لان الخصم قادر على الحضور وإن لم يكن في البلد، فإن غاب إلى مسافة بعيدة، جاز الحكم عليه، وإن كانت قريبة، فهو كالحاضر، وفي ضبط البعيدة وجهان، أحدهما: تقصر فيه الصلاة، والقريبة دونها، وأصحهما: أن القريبة ما يمكن المبكر الرجوع منها إلى مسكنه ليلا، فإن زادت، فبعيدة، ولو كان للمتمرد وكيل نصبه بنفسه، فهل يتوقف التحليف على طلبه ؟ جوابان لابي العباس الروياني: لان الاحتياط والحالة هذه من وظيفة الوكيل، وكذا لو كان للغائب وكيل. فصل من أتى القاضي مستعديا على خصم ليحضره، فلخصمه حالان. الاولى: أن يكون بالبلد وظاهرا يمكن إحضاره، فيجب إحضاره، وقال ابن سريج: يحضر ذوي المروءات في داره لا في مجلسه، والصحيح أنه لا فرق. ثم الاحضار قد يكون بختم من طين رطب أو غيره يدفعه إلى المدعي، ليعرضه على الخصم. وليكن مكتوبا عليه: أجب القاضي فلانا، وقد يكون بشخص من الاعوان المرتبين على باب القاضي، وتكون مؤنته على الطالب إن لم يكن لهم رزق من بيت المال، وإن بعث الختم، فلم يجب، بعث إليه العون، وإن ثبت عند القاضي امتناعه بلا عذر، أو ثبت سواد به بكسر الختم ونحوه، استعان على إحضاره بأعوان السلطان، فإذا حضر عزره بما يراه، وتكون مؤنة المحضر والحالة هذه على المطلوب، لامتناعه. وقيل: على المدعي، والصحيح الاول، فإن اختفى بعث من ينادي على باب داره أنه إن لم يحضر إلى ثلاث سمر باب داره، أو ختم عليه، فإن لم يحضر بعد الثلاث، وسأل المدعي التسمير أو الختم، أجابه إليه، وينبغي أن يتقرر عنده أن الدار داره، وإذا عرف له موضع قال ابن القاص: يبعث القاضي جماعة من النسوة والصبيان والخصيان يهجمون عليه على هذا الترتيب، ويفتشون.(8/175)
ومتى كان للمطلوب عذر مانع من الحضور، لم يكلف، بل يبعث إليه من يحكم بينه وبين خصمه، أو يأمره بنصب وكيل ليخاصم عنه، فإن وجب تحليفه، بعث إليه من يحلفه، والعذر كالمرض، أو حبس ظالم، أو الخوف منه وفي المرأة المخدرة خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى. الحالة الثانية: أن يكون خارج البلد، فينظر إن كان خارجا عن محل ولاية القاضي لم يكن له أن يحضره، وإن كان فيها، فإن كان له في ذلك الموضع نائب، لم يحضره، بل يسمع البينة ويكتب إليه، هذا هو الصحيح، وقيل: يلزم إحضاره إذا طلب الخصم، وقيل: يتخير بين الامرين، ذكره السرخسي في الامالي وإن لم يكن هناك، فثلاثة أوجه. أحدهما - وبه قطع العراقيون -: يحضره قربت المسافة أم بعدت، لكن له أن يبعث إلى بلد المطلوب من يحكم بينه وبين المستعدي، والثاني إن كان دون مسافة القصر أحضره، وإلا فلا، والثالث إن كان على مسافة العدوى، أحضره وإلا فلا، وهذا أصح عند الامام. وإذا قلنا: لا يحضره إذا كان هناك حاكم، فكذا لا يحضره إذا كان هناك من يتوسط ويصلح بينهما، بل يكتب إليه أن يتوسط ويصلح، فإن تعذر فحينئذ يحضره، وحيث قلنا: يحضر الخارج عن البلد، فذكر الامام والغزالي، وصاحب العدة أنه إنما يحضره إذا أقام المدعي بينة على ما يدعيه، فقد لا يكون له حجة فيتضرر الخصم بالاحضار، لكن قد لا يكون له حجة، ويقصد تحليفه لعله ينزجر فيقر، ولم يتعرض الجمهور لما ذكره، لكن قالوا: يبحث القاضي عن جهة دعواه، فقد يريد مطالبته بما لا يعتقده، كذمي أراد مطالبة مسلم بضمان خمر، بخلاف الحاضر في البلد لا يحتاج إلى البحث في إحضاره، لانه ليس في الحضور عليه مشقة شديدة ولا مؤنة. فرع لو استعدى على امرأة خارجة عن البلد هل يحضرها، وهل يشترط أمن الطريق ونسوة ثقات، وهل على القاضي أن يبعث إليها محرما لها لتحضر معه ؟ قال أبو العباس الروياني في كل ذلك وجهان الاصح أن يبعث إليها محرما أو نسوة ثقات.(8/176)
فصل إذا ثبت على غائب دين، وله مال حاضر، فعلى القاضي توفيته منه إذا طالب المدعي، وإذا وفى هل يطالب المدعي بكفيل ؟ وجهان، أحدهما: نعم فقد يكون للغائب دافع، وأصحهما: لا، لان الحكم قد تم، والاصل عدم الدافع. فصل ذكرنا أن القضاء على الغائب جائز، وذلك في غير العقوبات، وفي العقوبات ثلاثة أقوال المشهور ثالثها إن كانت لآدمي، كقصاص وحد قذف، جاز، وإن كانت حدا لله تعالى، كالزنا والشرب، وقطع الطريق فلا، فإن جوزنا، كتب إلى قاضي بلد المشهود عليه، ليأخذه بالعقوبة ثم لا فرق بين كتاب الحكم، وكتاب النقل عند الجمهور وقال الفوراني: الخلاف في كتاب النقل، فأما كتاب الحكم فيقبل قطعا في العقوبتين. فصل إذا سمع القاضي بينة، فعزل، ثم ولي ثانيا، لم يحكم بالسماع الاول لبطلانه بالعزل، بل تجب الاستعادة، ولو خرج عن محل ولايته، ثم عاد، فله الحكم بالسماع الاول على الصحيح لبقاء ولايته. ولو سمع الشهادة على غائب، فقدم قبل الحكم، لم تجب الاستعادة، لكن يخير ويمكن من الجرح، وإن قدم بعد الحكم، فهو على حجته في إقامة البينة بالاداء والابراء، وجرح الشهود، لكن يشترط أن يؤرخ الجارح فسقه بيوم الشهادة، لانه إذا أطلق احتمل حدوثه بعد الحكم وبلوغ الصبي بعد سماع البينة عليه، أو بعد الحكم كقدوم الغائب.(8/177)
فصل المرأة المخدرة هل تكلف حضور مجلس الحكم ؟ وجهان: أحدهما نعم قاله القفال كفيرها، فعلى هذا لو حضر القاضي غدارها، ليحكم بينها وبينن خصمها، أو بعث نائبا كان للخصم أن يمتنع من دخول دارها، ويطلب إخراجها، وأصحهما لا كالمريض، وسبيل القاضي في حقها كما سبق في المريض، فعلى هذا قال ابن الصباغ: إذا حضر دارها نائب القاضي، تكلمت من وراء الستر إن اعترف الخصم أنها خصمه، أو شهد اثنان من محارمها أنها هي التي ادعى عليها، وإلا تلففت بملحفة، وخرجت من الستر، ثم من لا تخرج أصلا إلا لضرورة فهي مخدرة، ومن لا تخرج إلا نادرا لعزاء، أو زيارة أو حمام مخدرة أيضا على الاصح. ويكفي أن لا تصير متبذلة بكثرة الخروج للحاجات المتكررة، كشراء الخبز والقطن، وبيع الغزل ونحوها، ثم إنما يتحتم حضور المخدرة على الوجه الاول للتحليف، وأما ما عداه، فيقنع فيه بالتوكيل من المخدرة وغيرها. فصل القاضي يزوج من لا ولي لها إذا كانت في محل ولايته، سواء كانت مستوطنة محل ولايته، أم غيرها، ولا يزوج خارجة عن محل ولايته، وإن رضيت. ولا يكفي حضور الخاطب، لان الولاية عليها لا تتعلق بذلك بخلاف ما لو حكم بحاضر على غائب، لان المدعي حاضر، والحكم يتعلق به، بخلاف مالو كان ليتيم غائب عن محل ولايته مال حاضر، فإنه يتصرف فيه، لان الولاية عليه ترتبط بماله، ثم تصرفه في مال اليتيم الغائب يكون بالحفظ والتعهد، وإذا أشرف على الهلاك أتى بما يقتضيه الحال بشرط الغبطة اللائقة، وهكذا يفعل في مال كل غائب أشرف على الهلاك، فإن كان حيوانا، وخيف هلاكه، باعه، وإن حصلت الصيانة بالاجارة اقتصر عليها. وهل له أن يتصرف في مال اليتيم الغائب للاستنماء، وأن ينصب قيما كذلك، وأن يتصرف للتجارة، وطلب الفائدة كتصرفه في أموال الحاضرين ؟ وجهان، لان نصب القيم يرتبط بالمال والمالك جميعا، فلو جاز النصب بحضور المال، جاز لقاضي بلد اليتيم بحضور المالك، وحينئذ يتمانع(8/178)
تصرفاهما. قال الغزالي: والاولى أن يلاحظ مكان اليتيم دون المال، وله نصب القيم للحفظ والصيانة بلا خلاف. وللقاضي إقراض مال الغائب ليحفظه بحفظه في الذمة، وذكره صاحب التلخيص وهو موافق لما سبق في الحجر في إقراض مال الصبي. وأما ما لا يتعين له مالك، وحصل اليأس من معرفته، فذكر بعضهم أن له أن يبيعه، ويصرف ثمنه إلى المصالح، وأن له حفظه. قلت: هذا المحكي عن بعضهم متعين، وقد قاله جماعة، ولا نعرف خلافه. والله أعلم. فصل في مسائل منثورة كتاب قاضي البغاة مقبول على المشهور، وعن القديم منعه، أطلق بعضهم أنه لا يجوز للقاضي أن يكتب كتابا في غير محل ولايته، والذي يستمر على أصل الشافعي رحمه الله ما ذكره ابن القاص أنه لا يحكم ولا يشهر في غير محل ولايته، وأما الكتاب، فلا بأس به. ولو حكم القاضي ببينة أقامها وكيل رجل في وجه وكيل آخر، فحضر المدعى عليه، وقال: كنت عزلت وكيلي قبل قيام البينة، لم ينفعه، لان القضاء على الغائب جائز. ولو حضر المدعي، وقال: كنت عزلت وكيلي، وقلنا بانعزال الوكيل قبل بلوغ الخبر، لم يصح الحكم، لان القضاء للغائب باطل، وإذا أراد شهود كتاب حكمي التخلف في الطريق في موضع فيه قاض وشهود، فصاحب الكتاب إما أن يشهد على كل واحد منهم شاهدين يحضران معه ويشهدان عند القاضي الذي يقصده، وإما أن يعرض الكتاب على قاضي البلد الذي بتخلفون فيه، ليشهدوا عنده به، فيضمنه، ويكتب به إلى القاضي الذي يقصده. وإن كان التخلف حيث لا قاض ولا شهود، قال البغوي: ليس لهم ذلك، بل عليهم الخروج إلى موضع فيه قاض وشهود، فإن طلبوا أجرة الخروج إليه، فليس لهم إلا نفقتهم، وكذا دوابهم بخلاف ما لو طلبوا أكثر من ذلك عند ابتداء الخروج من بلد القاضي الكاتب، حيث لا يكلفون الخروج،(8/179)
والقناعة به، لان هناك يتمكن من إشهاد غيرهم، وإذا ألزم المكتوب إليه الخصم بالحق، فطلب أن يكتب له كتابا بقبضه، فهل على القاضي إجابته ؟ وجهان، قال الاصطخري: نعم، لئلا يطالب مرة أخرى، وقال الجمهور: لا، لان الحاكم إنما يطالب بإلزام ما حكم به، وثبت عنده، ويكفي للاحتياط إشهاد المدعي على قبضه الحق. ولو طالبه بتسليم الكتاب الذي ثبت الحق به، لم يلزمه دفعه إليه، وكذا من له كتاب بدين، واستوفاه، أو بعقار فباعه، لا يلزمه دفعه إلى المستوفى منه، وإلى المشتري، لانه ملكه، ولانه قد يظهر استحقاق فيحتاج إليه، وبالله التوفيق.(8/180)
كتاب القسمة
قد يتولاها الشركاء بأنفسهم أو منصوب للقاضي أو لهم، ويشترط في منصوب القاضي الحرية والعدالة، والتكليف والذكورة، والعلم بالمساحة والحساب، وهل يشترط معرفته للتقويم ؟ وجهان، لأن في أنواع القسمة ما يحتاج إليه،(8/181)
ولا يشترط في منصوب الشركاء العدالة والحرية، لانه وكيل لهم، كذا أطلقوه. وينبغي أن يكون في توكيل العبد في القسمة الخلاف في توكيله في البيع. ولو حكم الشركاء رجلا ليقسم بينهم، فهو على القولين في التحكيم، فإن جوزناه، فهو كمنصوب القاضي، فإن كان في سهم المصالح مال يتفرع لمؤنة القاسمين، لزم الامام أن ينصب في كل بلد قاسما، فإن لم تحصل الكفاية بواحد، زاد بحسب الحاجة، وإلا فلان يعين قاسما لئلا يغالي في الاجرة، ولئلا يواطئه بعضهم، فيحيف، بل يدع الناس ليستأجروا من شاؤوا، وإذا لم تكن في القسمة تقويم، كفى قاسم على المذهب، وقيل قولان ثانيهما يشترط اثنان، وإن كان تقويم، اشترط اثنان، وللامام أن ينصب قاسما، لجعله حاكما في التقويم، ويعتمد في التقويم عدلين، وهل للقاضي أن يحكم بمعرفته في التقويم ؟ قولان، كقضائه بعلمه، وقيل: لا يجوز قطعا، لانه تخمين مجرد، ولو فوض الشركاء القسمة إلى واحد بالتراضي، جاز قطعا.
فرع القاسم المنصوب من جهة الإمام يدر رزقه من بيت المال على الصحيح، وبه قطع الجمهور. وقال أبو إسحق: لا يدر، وهذا ضعيف. وإذا لم يكف مؤنته من بيت المال، فأجرته على الشركاء، سواء طلب جميعهم القسمة أم بعضهم، وقال ابن القطان وغيره: على الطالب وحده، والصحيح الاول، ثم إن(8/182)
استأجر الشركاء قاسما، وسموا له أجرة، وأطلقوا، فتلك الاجرة توزع على قدر الحصص على المذهب، وقيل قولان ثانيهما على عدد الرؤوس، ويجري الطريقان فيما لو استأجروه استئجارا فاسدا، فقسم، أن أجرة المثل كيف توزع ؟ وفيما لو أمروا قاسما فقسم، ولم يذكروا أجرة، وقلنا: تجب أجرة المثل في مثل ذلك، وفيما لو أمر القاضي قاسما فقسم قسم إجبار. ولو استأجروا قاسما، وسمى كل واحد أجرة التزمها، فله على كل واحد ما التزم، هذا إذا أستأجروا جميعا بأن قالوا: استأجرناك لتقسم بيننا كذا بدينار على فلان، ودينارين على فلان مثلا أو وكلوا وكيلا عقد لهم كذلك، فلو استأجروا في عقود مترتبة، فعقد واحد لافراز نصيبه، ثم الثاني كذلك، ثم الثالث، فقد جوزه القاضي حسين، وأنكره الامام، وقال: هذا بناء على أنه يجوز استقلال بعض الشركاء باستئجار القاسم لافراز نصيبه، ولا سبيل إليه، لان إفراز نصيبه لا يمكن إلا بالتصرف في نصيب الآخرين ترددا وتقريرا ولا سبيل إليه إلا برضاهم، لكن يجوز انفراد أحدهم برضى الباقين فيكون أصلا ووكيلا ولا حاجة إلى عقد الباقين، وحينئذ إن فصل ما على كل واحد بالتراضي، فذاك، وإن أطلق، عاد الخلاف في كيفية التوزيع. فرع إذا كان أحد الشريكين طفلا، نظر إن كان في القسمة غبطة له، فعلى الولي طلب القسمة، وبدل حصته من الاجرة من مال الطفل وإلا فلا يطلبها، وإن طلبها الشريك الآخر وأجيب، فإن قلنا: الاجرة على الطالب خاصة، فذاك، وإن قلنا: على الجميع، فوجهان، أحدهما: على الطالب لئلا يجحف بالصبي بلا غبطة، وأصحهما تؤخذ حصة الصبي من ماله.
فصل للعين المشتركة حالان : الاولى أن يعظم ضرر قسمتها، فإن طلبها أحدهما، وامتنع الآخر، لم يجبر، وفي ضبط الضرر المانع ثلاثة أوجه سبقت في باب الشفعة، فلا يكسر جوهر نفيس، ولا يقطع ثوب رفيع، ولا يقسم زوجا خف،(8/183)
ومصراعا باب إن طلبه أحدهما، فلو تراضوا بقسمة ذلك، وطلبوها من القاضي، فإن بطلت المنفعة بالكلية، لم يجبهم ويمنعهم أن يقتسموا بأنفسهم، لانه سفه، وإن نقصت كسيف يكسر، لم يجبهم على الاصح، لكن لا يمنعهم أن يقتسموا بأنفسهم وما يبطل القسمة منفعته المقصودة منه، كطاحونة وحمام صغيرين إذا امتنع أحدهما لا يجبر الآخر على أصح الاوجه المشار إليها، فإن كانا كبيرين، وأمكن جعل الطاحونة طاحونتين، والحمام حمامين، أجبر الممتنع، فإن كان يحتاج إلى إحداث بئر أو مستوقد فوجهان، أحدهما: لا إجبار، لتعطل المنفعة إلى الاحداث، وأصحهما: يجبر ليسر التدارك. وإن تضرر أحدهما بالقسمة دون الآخر كدار بين اثنين، لاحدهما عشرها، وللآخر باقيها، ولو قسمت، لم يصلح العشر للسكن، ويصلح الباقي، فإن طلب القسمة صاحب العشر، لم يجبر الآخر على الاصح، وإن طلبها الآخر، أجبر صاحب العشر على الاصح، لان صاحب العشر متعنت في طلبه، والآخر معذور. وإن كان نصف الدار لواحد، ونصفها لخمسة، فطلب صاحب النصف إفراز نصيبه، أجيب إليه، والباقون إن اختاروا القسمة قسم، وإن كان العشر لا يصلح للسكن، لان في القسمة فائدة لبعض الشركاء، وإن استمروا على الشيوع، جاز فلو طلب أحدهم القسمة بعد ذلك، لم يجبر الباقون، لان هذه القسمة تضر الجميع، ولو طلب الخمسة أولا إفراز النصف، ليكون بينهم شائعا، أجيبوا إليه، كذا ذكره الروياني وغيره، وكذا لو كانت بين عشرة، فطلب خمسة القسمة، ليكون النصف بينهم يجابون. الحالة الثانية: أن لا يعظم ضرر القسمة، فقد لا ينقسم من غير رد من أحد(8/184)
الشريكين أو الشركاء، وقد ينقسم بلا رد باعتبار الاجزاء، وتسمى قسمة المتشابهات، أو باعتبار القيمة وتسمى قسمة التعديل، فهذه ثلاثة أنواع. الاول: قسمة المتشابهات، وإنما تجري في الحبوب والدراهم والادهان وسائر المثليات، وفي الدار المتفقة الابنية، والارض المتشابهة الاجزاء وما في معناها، فتعدل الانصباء في المكيل بالكيل، والموزون بالوزن، والارض المتساوية تجزأ أجزاء متساوية بعدد الانصباء إن تساوت، بأن كانت لثلاثة أثلاثا، فتجعل ثلاثة أجزاء متساوية، ثم تؤخذ ثلاث رقاع متساوية، ويكتب على كل رقعة اسم شريك أو جزء من الاجزاء ويميز بعضها عن بعض بحد أو جهة أو غيرها، وتدرج في بنادق متساوية وزنا وشكلا من طين مجفف أو شمع، وتجعل في حجر من لم يحضر الكتابة والادراج، فإن كان صبيا أو أعجميا كان أولى، ثم يؤمر بإخراج رقعة على الجزء الاول إن كتب في الرقاع أسماء الشركاء، فمن خرج اسمه، أخذه، ثم يؤمر بإخراج أخرى على الجزء الذي يلي الاول، فمن خرج اسمه أخذه، ويعين الباقي للثالث، وإن كتب في الرقاع أسماء الاجزاء أخرجت رقعة باسم زيد، ثم أخرى باسم عمرو، ويتعين الثالث للثالث، ويعين من يبتدئ به من الشركاء والاجزاء منوط بنظر القاسم، فيقف أولا على أي طرف شاء ويسمي أي شريك شاء، وإن كانت الانصباء مختلفة، بأن كان لزيد نصف، ولعمرو ثلد، وللثالث سدس، جزأ الارض على أقل السهام وهو السدس، فيجعلها ستة أجزاء، ثم نص الشافعي رحمه الله أنه يثبت اسم الشركاء في رقاع، وتخرج الرقاع على الاجزاء، وقال في العتق: يكتب على رقعتين: رق، وعلى رقعتين: حرية، وتخرج على أسماء العبيد، ولم يقل تكتب أسماء العبيد، وفيهما طريقان، أحدهما فيهما قولان، ففي قول يثبت اسم الشركاء والعبيد، وفي قول يثبت الاجزاء هنا، والرق والحرية هناك، والطريق الثاني وهو المذهب، وبه قطع الجمهور الفرق، ففي العتق يسلك ما شاء من الطريقين، وهنا لا يثبت الاجزاء على الرقاع، لانه لو أثبتها وأخرج الرقاع على الاسماء ربما خرج لصاحب السدس الجزء الثاني أو الخامس، فيفرق ملك من له النصف أو الثلث، وأيضا قال في المهذب: لو فعلنا ذلك ربما خرج السهم الرابع لصاحب النصف، فيقول:(8/185)
آخذه وسهمين قبله ويقول الآخران، بل خذه وسهمين بعده، فيفضي إلى النزاع، ثم هل هذا الخلاف في الجواز أم الاولوية ؟ وجهان، أرجحهما: الثاني وبه قال الامام والغزالي، وسنوضح إن شاء الله تعالى ما يحصل به الاحتراز عن تفريق الملك، وأما ما ذكره في المهذب فيجوز أن يقال: لا نبالي بقول الشركاء بل يتبع نظر القاسم كما في الجزء المبدوء به، واسم الشريك المبدوء به، فإن أثبت أسماء الشركاء فقيل: يثبت أسماءهم على ثلاث رقاع، ويأمر بإخراج رقعة على الجزء الاول، فإن خرج اسم صاحب السدس أخذه، وأخرجت رقعة على الجزء الثاني، فإن خرج اسم عمرو، أخذه مع الجزء الثالث، تعينت الثلاثة الباقية لزيد، وإن خرج اسم زيد، أخذ الثاني والثالث والرابع، وتعين الآخران لعمرو، فإن خرج اسم زيد أولا، أخذ الثلاثة الاولى، ثم يخرج رقعة، فإن خرج اسم عمرو، أخذ الرابع والخامس، ويعين السادس لصاحب السدس. وإن خرج اسم طاحب السدس، أخذ الرابع، وتعين الباقيان لعمرو، وإن خرج اسم عمرو أولا، لم يخف الحكم. وقيل: تثبت أسماؤهم في ست رقاع، اسم زيد في ثلاث، وعمرو في ثنتين، والثالث في رقعة، ويخرج على ما ذكرنا. وليس في هذا إلا أن اسم زيد يكون أسرع خروجا لكن سرعة الخروج لا توجب حيفا، لان السهام متساوية، فالوجه تجويز كل واحد من الطريقين. وإن أثبت الاجزاء في الرقاع، فلا بد من إثباتها في ست رقاع، وحينئذ فالتفريق المحذور لو لزم إنما يلزم إذا خرج أولا اسم صاحب السدس وهو مستغن عنه، بأن يبدأ باسم صاحب النصف، فإن خرج الاول باسمه، فله الاول والثاني والثالث، وإن خرج الثاني فكذلك، فيعطى معه ما قبله وما بعده، وإن خرج الثالث، ففي شرح مختصر الجويني أنه يتوقف فيه، ويخرج لصاحب الثلث، فإن خرج الاول أو الثاني، فله الاول والثاني، ولصاحب النصف الثالث والرابع والخامس. وإن خرج الخامس، فله الخامس والسادس، ثم أهمل باقي الاحتمالات، وكان يجوز أن يقال: إذا خرج لصاحب النصف الثالث، فهو له مع اللذين قبله، وإن خرج الرابع، فهو له مع اللذين قبله، ويتعين الاول لصاحب السدس، وإن خرج الخامس، فهو له مع اللذين قبله، ويتعين السادس لصاحب السدس، وإن خرج السادس، فهو له مع اللذين قبله. وإذا أخذ زيد حقه، ولم يتعين حق الآخرين، أخرج رقعة أخرى باسم أحدهما، فلا يقع تفريق ويمكن أن يبدأ(8/186)
بصاحب السدس، فإن خرج باسم الجزء الاول دفع إليه، ثم يخرج باسم أحد الجزئين، فلا يقع تفريق. وإن خرج له الثالث دفع إليه ويعين الاول والثاني لصاحب الثلث والثلاثة الآخرة لصاحب النصف. وإن خرج له الرابع، دفع إليه، وتعين الاخيران لصاحب الثلث، والثلاثة الاولى لصاحب النصف. ويمكن أن يبدأ بصاحب الثلث، فإن خرج له الاول أو الثاني، دفعا إليه، وإن خرج له الخامس أو السادس دفعا إليه، ثم يخرج باسم أحد الآخرين، وإن خرج الثالث، فله الثالث والثاني، ويتعين الاول لصاحب السدس، والثلاثة الاخيرة لصاحب النصف، وإن خرج الرابع، فله الرابع والخامس، وتعين السادس لصاحب السدس، والثلاثة الاول لصاحب النصف. فرع كيفية إدراج الرقاع وإخراجها على التفصيل المذكور لا يختص بقسمة المتشابهات، بل هي في قسمة التعديل إذا عدلت الاجزاء بالقيمة كذلك. فرع كما تجوز القسمة بالرقاع المدرجة في البنادق تجوز بالاقلام والعصي والحصى ونحوها. فرع إذا امتنع أحد الشركاء من نوع القسمة الذي نحن فيه، وهو قسمة المتشابهات، أجبر عليها، سواء كانت الانصباء متساوية، أم متفاوتة، وفي المتفاوتة وجه لابن أبي هريرة أنه لا إجبار، والصحيح الاول.
فصل إذا قسم قاسم القاضي بالإجبار، ثم ادعى أحد الشريكين غلطا أو حيفا، نظر إن لم يبين ما يزعم به الحيف أو الغلط، لم يلتفت إليه، وإن بينه، لم يمكن تحليف القاسم، كما لا يحلف القاضي أنه لم يظلم، والشاهد أنه لم يكذب، لكن إن قامت بينة، سمعت ونقضت القسمة. قال الشيخ أبو حامد وغيره: وطريقه أن يحضر قاسمين حاذقين لينظرا، ويمسحا، ويعرفا الحال، ويشهدا. وألحق أبو الفرج بقيام البينة ما إذا عرف أنه يستحق ألف ذراع. ومسحنا ما أخذه،(8/187)
فإذا هو سبعمئة ذراع، ولو لم تقم حجة، وأراد تحليف الشريك، مكن منه، فإن نكل وحلف المدعي، نقضت القسمة، ولو حلف بعض الشركاء، ونكل بعضهم، فحلف المدعي لنكول بعضهم، قال في الوسيط: تنقض القسمة في حق الناكلين دون الحالفين ولا يطالب الشريك بإقامة بينة أن القسمة الجارية عادلة، لان الظاهر الصواب. وحكى ابن أبي هريرة قولا أن على الشريك البينة بأنها عددلة، ولا بينة على مدعي الغلط. وقال أبو إسحق: إن قال مدعي الغلط: إن القاسم الذي قسم لا يحسن القسمة والمساحة والحساب، فالاصل ما يقوله: وعلى صاحبه البينة. وإن قال: سها، فعليه البينة، والمذهب الاول. ولو اعترف القاسم بالغلط أو الحيف، فإن صدقه الشركاء، انتقضت القسمة، وإلا فلا تنتقض وعليه رد الاجرة. قال البغوي: وهو كما لو قال القاضي: غلطت في الحكم، أو تعمدت الحيف، فإن صدقه المحكوم له، استرد المال، وإلا فلا، وعلى القاضي الغرم. أما إذا جرت القسمة بالتراضي بأن نصبا قاسما، أو اقتسما بأنفسهما، ثم ادعى أحدهما غلطا، فإن لم يعتبر الرضى بعد خروج القرعة، فالحكم كما لو ادعى الغلط في قسمة الاجبار، وإن اعتبرناه وتراضيا بعد خروج القرعة، فإن قلنا: القسمة إفراز، فالافراز لا يتحقق مع التفاوت، فتنقض القسمة إن قامت به بينة، ويحلف الخصم إن لم تقم، وإن قلنا: القسمة بيع، فوجهان أحدهما الجواب كذلك، فإنهما تراضيا لاعتقادهما أنها قسمة عدل، وأصحهما أنه لا فائدة لهذه الدعوى، ولا أجر للغلط، وإن تحقق، كما لا أثر للغبن في البيع والشراء، وبهذا قطع الجمهور. كأنهم اقتصروا على الجواب الاصح.
فصل إذا قسمت التركة بين الورثة ثم ظهر دين، فإن قلنا: القسمة إفراز، فهي صحيحة، ثم تباع الانصباء في الدين إن لم يوفوه، وإن قلنا: بيع، فقد سبق في كتاب الرهن وجهان في صحة بيع الوارث التركة قبل قضاء الدين، وأنه لو تصرف ولا دين في الظاهر، ثم ظهر. فالاصح صحة التصرف ففي القسمة هذان الوجهان، وفإن صححنا البيع، فالقسمة الجارية صحيحة، فإن وفوا الدين، استمرت صحتها، وإلا نقضت وبيعت التركة في الدين، وإن لم نصححه، فالقسمة باطلة، ولو جرت قسمة، ثم استحق بعض المقسوم، نظر إن استحق جزء شائع(8/188)
كالثلث، فمطلت القسمة في المستحق وفي الباقي طريقان، أصحهما قولان: أحدهما:. يبطل فيه، والثاني: يصح، ويثبت الخيار، وبهذا الطريق قال الاكثرون. وقال أبو إسحق: يبطل فيه قولا واحدا، لان مقصود القسمة تمييز الحقوق، وبالاستحقاق يصير المستحق شريك كل واحد، لان المستحق كان شريكا، وانفراد بعض الشركاء بالقسمة ممتنع، وإن استحق شئ معين، نظر إن اختص المستحق بنصيب أحدهما، أو كان المستحق من نصيب أحدهما أكثر، بطلت القسمة، وإن كان المستحقان من نصيبهما، سواء بقيت القسمة في الباقي على الصحيح، وقيل: تبطل بمعنى التفريق. ولو ظهرت وصية بعد قسمة التركة، فإن كانت مرسلة، فهو كظهور دين على التركة، وإن كانت بجزء شائع أو معين، فعلى ما ذكرناه في الاستحقاق، ثم ظهور الدين والاستحقاق، ودعوى الغلط لا تختص بقسمة المتشابهات، بل تعم أنواع القسمة. النوع الثاني: قسمة التعديل والمشترك الذي تعدل سهامه بالقيمة ينقسم إلى ما يعد شيئا واحدا، وإلى ما يعد شيئين فصاعدا، أما الاول، فكالارض تختلف أجزاؤها لاختلافها في قوة الانبات والقرب من الماء، وفي أن بعضها يسقى بالنهر، وبعضها بالناضح فيكون ثلثها لجودتها كثلثيها بالقيمة مثلا، فيجعل هذا سهما، وهذا سهما إن كانت بينهما نصفين. وإذا اختلفت الانصباء، كنصف وثلث وسدس، جعل ستة أسهم بالقيمة دون المساحة، وإذا طلب أحدهما هذه القسمة، فهل يجبر الممتنع ؟ قولان أظهرهما عند العراقيين وغيرهم نعم إلحاقا للتساوي في القيمة، بالتساوي في الاجزاء على هذا هل توزع أجرة القاسم بحسب الشركة في الاصل أم بحسب المأخوذ منها ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، لان العمل في الكثير أكثر، وكما يجري القولان فيما إذا اختلفت الصفات تجري فيما إذا كان الاختلاف لاختلاف الجنس، كالبستان الواحد بعضه نخل، وبعضه عنب، والدار المبني بعضها بالآجر، وبعضها بالخشب والطين، ويشبه أن يكون الخلاف مخصوصا بما إذا لم يمكن قسمة الجيد وحده، وقسمة الردئ وحده، فإن أمكن لم يجبر كما لو كانا(8/189)
شريكين في أرضين تمكن قسمة كل واحدة بالاجزاء، لا يجري الاجبار على التعديل. القسم الثاني: ما يعد شيئين فصاعدا وهو ضربان عقار وغيره، أما العقار، فإذا اشتركا في دارين أو حانوتين متساويتي القيمة وطلب أحدهما القسمة بأن يجعل لهذا دار ولهذا دار، أو حانوت وحانوت، لم يجبر الممتنع، سواء تجاور الحانوتان والداران، أم تباعدا، لشدة اختلاف الاغراض باختلاف المحال والابنية. ولو اشتركا في دكاكين صغار متلاصقة لا تحتمل آحادها القسمة، ويقال لها: العضايد، فطلب أحدهما أن يقسم أعيانا، فهل يجبر الممتنع ؟ وجهان: أحدهما كالمتفرقة وكالدور، وأصحهما: نعم للحاجة، وكالخان المشتمل على بيوت ومساكن، هكذا صور هذه المسألة الجمهور، وهو الصواب، وصورها صاحب المهذب فيما إذا احتملت كل واحدة منهما القسمة وحكى وجهين فيما إذا طلب أحدهما قسمتها أعيانا والآخر قسمة كل واحد منها. وأما الاقرحة، فإن كانت متفرقة، فهي كالدور. وإن كانت متجاورة، ففي الشامل أن أبا إسحق جعلها كالقراح الواحد المختلف الاجزاء، وأن غيره قال: إنما يكون كالقراح الواحد إذا اتحد الشرب والطريق، فإن تعدد، فهو كما لو تفرقت، قال: وهذا أشبه بكلام الشافعي رحمه الله. الضرب الثاني غير العقار إذا اشتركا في عبيد أو دواب، أو أشجار، أو ثياب ونحوها، فلها حالان أحدهما: أن يكون من نوع واحد، ويمكن التسوية بين الشريكين عددا وقيمة، كعبدين متساويي القيمة بين شريكين، وكثلاث دواب، أو أثواب متساوية القيمة بين ثلاثة، فالمذهب أنه يجبر على قسمتها أعيانا، لقلة اختلاف الاغراض فيها بخلاف الدور، وقال أبو علي بن خيران، وابن أبي هريرة:(8/190)
هي كالدور، وقيل: يخير في العبيد وفي غيرها الخلاف. وإن لم تمكن التسوية في العدد كثلاثة أعبد لرجلين بالسوية إلا أن أحدهم يساوي الآخرين في القيمة، فإن قلنا بالاجبار عند استواء القيمة، فهنا قولان، وهما كالقولين في الارض المختلفة الاجزاء، وإن كانت الشركة لا ترفع إلا عن بعض الاعيان، كعبدين بين اثنين قيمة أحدهما مائة، وقيمة الآخر مائتان، فطلب أحدهما القسمة ليختص من خرجت له قرعة الخسيس بالخسيس، ويكون له مع ذلك ربع النفيس، فإن قلنا: لا إجبار في الصورة السابقة، فهنا أولى وإلا فوجهان، أو قولان، الاصح لا إجبار، لان الشركة لا ترتفع بالكلية. الحال الثاني: أن يكون الاعيان أجناسا، كعبد وثوب، وحنطة وشعير، ودابة ونحوها، أو أنواعا كعبدين تركي وهندي، وثوبين إبريسم وكتان، فطلب أحدهما أن يقسم أجناسا وأنواعا لا يجبر الآخر وإنما يقسم كذلك بالتراضي. ولو اختلطت الانواع وتعذر التمييز كتمر جيد وردئ، فلا قسمة إلا بالتراضي هذا ما قطع به الجمهور، وطرد السرخسي الخلاف في الاجبار عند اختلاف النوع، وزاد الامام والغزالي فأجرياه عند اختلاف الجنس، وليس بشئ، والمذهب الاول. فرع إذا كان بينهما عرصة وثلثها بالمساحة نصف بالقيمة، لقربه من الماء فهي قسمة تعديل، وفيها الخلاف. وقال الغزالي: يجبر عليها قطعا ولا يبالي بهذا التفاوت، والمذهب الاول، وهو المعروف عن الاصحاب. فرع اللبنات إن تساوت قوالبها، فقسمتها قسمة المتشابهات، فيجبر قطعا، وإن اختلفت قوالبها، فقسمة تعديل، وفيها الخلاف. فرع دار بين اثنين، لها علو وسفل طلب أحدهما قسمتها علوا وسفلا، أجبر الآخر عند الامكان، وإن طلب أحدهما أن يجعل العلو لواحد، والسفل لآخر لا يجبر، هكذا أطلقه الاصحاب. ويجوز أن يقال: إن لم يمكن القسمة سفلا(8/191)
وعلوا، جعل السفل لاحدهما والعلو للآخر من جملة قسمة التعديل، ولو طلب أحدهما أن يقسم السفل، ويترك العلو مشاعا، لم يجبر الآخر، لانهما قد يقتسمان العلو بعده، فيقع ما فوق هذا لذاك. النوع الثالث: قسمة الرد، وصورتها أن يكون في أحد جانبي الارض بئر أو شجر، أو في الدار بيت لا يمكن قسمته، فيضبط قيمة ما اختص ذلك الجانب به، ويقسم الارض والدار على أن يرد من يأخذ ذلك الجانب بتلك القيمة، وهذه لا إجبار عليها قطعا وكذا لو كان بينهما عبدان قيمة أحدهما مائة، والآخر خمسمائة، واقتسما على أن يرد آخذ النفيس مائتين ليستويا وقيل في الاجبار قول مخرج حكاه السرخسي وهو غلط. ولو تراضيا بقسم الرد، جاز أن يتفقا على أن يأخذ أحدهما النفيس ويرد، ويجوز أن يحكما القرعة ليرد من خرج له النفيس.
فصل قسمة المتشابهات هل هي بيع أم إفراز حق ؟ قولان، قال البغوي وآخرون: الاظهر كونها بيعا، وقال الغزالي: الاظهر كونها إفرازا، قال صاحب العدة: وعليه الفتوى، وهذا يوافقه جواب الاصحاب في مسائل متفرقة تتفرع على القولين. قلت: أشار الرافعي في المحرر إلى اختيار الافراز، فإنه قال فيه قولان ذكر أن الفتوى على الافراز هذا كلامه، فالمختار ترجيح الافراز. والله أعلم.(8/192)
ثم قيل القولان فيما إذا جرت القسمة إجبارا، فإن جرت بالتراضي فبيع قطعا. وقيل القولان في الحالين، قال البغوي: والاصح الطريق الاول، ثم القول بأنها بيع لا يمكن إطلاقه في كل ما حصل لكل منهما، بل النصف الذي صار في يده، كان نصفه له، ونصفه لصاحبه، فالقسمة إفراز فيما كان لصاحبه على هذا القول. وأما قسمة التعديل، فالمذهب أنها بيع، وقيل فيه القولان، وقسمة الرد بيع، كذا قاله الجمهور، وقيل: بيع فيما يقابل المردود، وفيما سواه الخلاف في قسمة التعديل. فرع إذا قلنا: القسمة بيع، فاقتسما ربويا، وجب التقابض في المجلس، ولم تجز قسمة المكيل وزنا ولا العكس، ولا يجوز قسمة الرطب والعنب، وما أثرت فيه النار بتعقيد الاجزاء، وإن قلنا: إفراز جاز كل ذلك. وتجوز قسمة الحص والنورة كيلا ووزنا على القولين، ولا تقسم الثمار على رؤوس الشجر خرصا إن قلنا: القسمة بيع، كما لا تباع خرصا، وإن قلنا: إفراز، فإن كانت رطبا وعنبا، جاز، وإن كان غيرهما، فلا، لان الخرص لا يدخل غيرهما، وإن كان بينهما أرض مزروعة، فأرادا قسمة الارض وحدها، جاز، وإن طلبها أحدهما أجبر الآخر، ويجئ على قول: القسمة بيع وجه مذكور في البيع، وإن أرادا قسمة الارض وما فيها لم يجز إن اشتد الحب. أما إن جعلناها إفرازا، فلانه قسمة مجهول ومعلوم، وأما إن جعلناها بيعا فلانه بيع طعام وأرض بطعام وأرض، وكذا لو كان بذرا بعد، وإن كان قصيلا، جاز، لانه معلوم مشاهد. وإن أرادا قسمة ما فيها وحده، فكذا الحكم إن لم ينبت، أو اشتد الحب، لم يجز، وإن كان قصيلا، جاز. وإن طلب أحدهما قسمة الارض، وما فيها أو قسمة ما فيها وحده، وامتنع الآخر والحال حال جواز القسمة بالتراضي قال الشيخ أبو حامد وصاحبا المهذب والتهذيب: لا يجبر الممتنع، ولم يوجهوه بمقنع.(8/193)
فرع اقتسما، ثم تقابلا، إن قلنا: القسمة بيع، صحت الاقالة، وعاد الشيوع، وإلا فهي لاغية. فرع قسمة الملك عن الوقف إن قلنا: بيع، لا يجوز، وإن قلنا: إفراز، جازت، قال الروياني: وهو الاختيار. قلت: هذا الذي اختاره الروياني هو المختار، وهذا إذا لم يكن فيها رد، أو كان رد من أصحاب الوقف، فإن كان من صاحب الملك، لم يجز، لانه يأخذ بإزائه جزءا من الوقف، ذكره صاحب المهذب وغيره. والله أعلم. وأما قسمة الوقف بين الموقوف عليهم، فلا يجوز على القولين، لان فيها تغيير شرط الواقف، وقيل: يجوز على قول الافراز ليرغبوا في العمارة ولا يتواكلوا، وهذا الوجه حكاه ابن كج عن ابن القطان وحده، وخصصه بقولنا: الملك في الموقوف للموقوف عليه، قال: فلو انقرض البطن الاول، وصار الوقت للبطن الثاني، انتقضت القسمة.
فصل قسمة الإجبار لا يعتبر فيها التراضي عند إخراج القرعة ولا بعدها، وإذا تراضيا بقاسم يقسم بينهما، فهل يشترط الرضى بعد خروج القرعة أم يكفي الرضى الاول ؟ قولان، أظهرهما: الاشتراط، وإليه مال المعتبرون، وذكروا أنه المنصوص، وفي قسمة الرد يشترط الرضى بعد خروج القرعة كما في الابتداء وعن الاصطخري وجه أنه يلزم بخروج القرعة، والصحيح الاول. وإذا اشترطنا الرضى بعد خروجها، فصيغته أن يقولا: رضينا بهذه القسمة، أو بما أخرجت القرعة، أو بما جرى، ولا يشترط لفظ البيع، وإن قلنا: القسمة بيع، وقيل: إن قلنا بيع، اشترط لفظ البيع أو التمليك، وقيل: لا يكفي قولهما رضينا بهذا أو بما جرى، بل يشترط تلفظهما بالقسمة بأن يقولا: تقاسمنا أو رضينا بهذه القسمة ليؤدي معنى التمليك والتملك، والمذهب الاول، وحيث وجب الرضى، فلا بد منه في الابتداء، وإنما الخلاف في الرضى بعد خروج القرعة. فصل تقسم المنافع كما تقسم الاعيان، وطريق قسمتها المهايأة مياومة أو مشاهرة أو مسانهة، فإن كانت العين قابلة للقسمة، فلا إجبار على المهايأة(8/194)
بحال، وكذا لو طلب أحدهما أن يزرع هذا بعض الارض وذاك بعضها، أو يسكن هذا بعض الدار وذاك بعضها من غير أن يقسم الارض، وامتنع الآخر فلا اجبار، فإن لم تكن العين قابلة للقسمة، كالقناة والعبد والبهيمة والحمام، فإن اتفقا فيها على المهايأة، فذاك، ثم قد يتفقان على من يبدأ، وقيل: يتنازعان، فيقرع، وإن طلبها أحدهما، وامتنع الآخر، فوجهان أحدهما قاله ابن سريج : يجبر الممتنع، كما في قسمة الاعيان، ولئلا يعطل على شريكه مضارة، فعلى هذا يبدأ بالقرعة، وأصحهما: لا يجبر. ولو رضيا بالمهايأة، ثم رجع المبتدئ بالانتفاع قبل استيفاء نوبته، مكن، فإن مضت مدة لمثلها أجرة، غرم نصف أجرة المثل، وإن رجع بعد استيفاء نوبته، فإن قلنا: لا إجبار على المهايأة مكن، وغرم نصف الاجرة، وإن قلنا بالاجبار لم يمكن، بل يستوفي الاجرة مدته، وإن استوفى الاول نوبته، وامتنع الآخر من أن ينتفع، ويستوفي نوبته، فإن قلنا بالاجبار، فهو مضيع حق نفسه ولا أجرة له، وإن قلنا: لاإجبار، فله ذلك، وله نصف الاجرة على الاول، وكذا لو انهدمت الدار، أو مات العبد بعد نوبة الاول، فعليه نصف أجرة المثل، وإن قلنا: لا إجبار وأصرا على النزاع في المهايأة، فهل يبيع القاضي العين عليهما قطع للنزاع ؟ وجهان أصحهما لا، وعلى هذا هل يتركان حتى يصطلحا ولا يؤجر عليهما، أم يؤجر وتوزع الاجرة بينهما ؟ وجهان أصحهما: الثاني وهو الذي ذكره ابن كج و البغوي . ولو استأجر اثنان أرض ، وطلب أحدهما المهايأة، وامتنع الآخر فينبغي أن يعود الخلاف في الاجبار، وإن أراد قسمتها ففي فتاوى القاضي حسين أنها جائزة على قول ابن سريج. ثم إذا اقتسما، وحدث بنصيب أحدهما عيب، فله الفسخ. قال القاضي : وينبغي أن يقال: لشريكه الفسخ أيض. ولو طلب أحدهما هذه القسمة، وامتنع الآخر، حكي في إجباره وجهان. فرع إذا جرت المهايأة في عبد مشترك بين مالكين، أو فيمن بعضه حر بينه وبين مالك باقيه، فالاكساب العامة، والمؤن العامة، كالنفقة تدخل في المهايأة، وفي الاكساب النادرة، كما يقبله بهبة أو وصية، وفي المؤن النادرة، كأجرة الطبيب(8/195)
والحجام خلاف سبق في كتاب اللقطة ومواضع، والاظهر دخولها أيض. وينبغي أن ينظر في الكسوة إلى قدر النوبة حتى تبقى على الاشتراك إن جرت المهايأة مياومة.
فرع لا تجوز المهايأة في الحيوان اللبون ليحلب هذا يوم ، وهذا يوم ، ولا في الشجرة المثمرة، ليكون ثمرها لهذا عام ولهذا عام لما فيه من التفاوت الظاهر. قلت : طريقها والحالة هذه أن يبيح كل واحد نصيبه لصاحبه مدة. والله أعلم.
فصل جماعة في أيديهم دار أو أرض، طلبوا من القاضي قسمتها بينهم، فإن أقاموا بينة أنها ملكهم، أجابهم إلى القسمة، وإن لم يقيموها، فطريقان، أصحهما قولان، أحدهما: لا يجيبهم، فربما كانت في أيديهم بإجارة أو إعارة، فإذا قسمها ربما ادعوا ملكها محتجين بقسمة القاضي. والثاني: يجيبهم، لان اليد تدل على الملك، لكن يكتب أنه إنما قسم بينهم بدعواهم، لئلا يتمسكوا بقسمته. وحكى السرخسي وجه أنه لا يحتاج إلى هذا التقييد، والطريق الثاني القطع بالقول الاول، وبه قال ابن سلمة ، وإذا قلنا بالقولين، فأظهرهما عند الامام ، و ابن الصباغ ، و الغزالي : الثاني، وعند الشيخ أبي حامد وطبقته: الاول، ويدل عليه أن الشافعي رحمه الله لما ذكر القول الثاني، قال: ولا يعجبني هذا القول. قلت : المذهب أنه لا يجيبهم. والله أعلم.(8/196)
هذا في العقار، وأما المنقول، فالمذهب أنه كالعقار أيضا ، وقيل: يقسم قطعا بلا بينة، لان العقار يتأبد ضرره، فيخص بالاحتياط، ولهذا تثبت فيه الشفعة ولو طلب بعضهم القسمة، وامتنع الآخرون، واتفقوا جميعا على الملك، فهل يقسم القاضي ؟ فيه هذا الخلاف. وإذا شرطنا البينة، قبل رجل وامرأتان، قال ابن كج : ولا يقبل شاهد ويمين، لان اليمين إنما تشرع حيث يكون خصم ترد عليه لو حصل نكول، وقال ابن أبي هريرة : تقبل.
فصل في مسائل منثورة
إذا كانت القسمة بالإجبار والقاسم على ولايته، فقوله: قسمت مقبول، كقول الحاكم: حكمت وهو في ولايته، وإن لم يكن كذلك، لم يقبل قوله وهل تسمع شهادته لاحد الشريكين ؟ وجهان الاصح المنع، والثاني - وهو قول الاصطخري - تسمع إن لم يطلب أجرة. وإذا تقاسما، ثم تنازعا في بيت أو قطعة من الارض، فقال كل واحد: هذا من نصيبي ولا بينة تحالفا، ونقضت القسمة، قال الشيخ أبو حامد : فإن اختص أحدهما باليد فيما تنازعا فيه،(8/197)
فهو المصدق بيمينه، وإذا اطلع أحدهما على عيب بنصيبه، فله فسخ القسمة.
فرع الديون المشتركة في ذمم الناس أطلق مطلقون، منهم صاحب العدة أنه يمتنع قسمتها، وقال السرخسي : إن أذن أحد الشريكين للآخر في قبض ما على زيد على أن يختص به، فهل يختص إذا قبض ؟ قولان أظهرهما المنع، وإن تراضيا على أن يكون ما في ذمة زيد لهذا، وما في ذمة عمرو لهذا، فطريقان أحدهما على هذين القولين، والثاني وهو المذهب القطع بالمنع، لان القسمة إن جعلت بيعا فهذا بيع دين في ذمة بدين في ذمة أخرى، وإن جعلت إفرازا فإفراز ما في الذمة ممتنع لعدم قبضه، ولا يدخل الاجبار في قسمة الديون بحال، والقول في قسمة الجدار وعرضه ما سبق في كتاب الصلح. وبالله التوفيق.(8/198)
كتاب الشهادات
فيه ستة أبواب :
الأول : فيما يفيد أهلية الشهادة، ولها شروط، منها التكليف والحرية والاسلام، فلا تقبل شهادة صبي ولا مجنون، ولا من فيه رق، ولا كافر ما، سواء شهد على مسلم أو كافر. الشرط الرابع العدالة. فالمعاصي صغائر وكبائر، وقال الاستاذ أبو إسحق: ليس فيها صغيرة، والصحيح الاول، وفي حد الكبيرة أوجه أحدها: أنها المعصية الموجبة لحد، والثاني: أنها ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وهذا أكثر ما يوجد لهم، وهم إلى ترجيح الاول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر، والثالث ما قاله(8/199)
الامام في الارشاد وغيره: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة، فهي مبطلة للعدالة. والرابع قال أبو سعد الهروي: الكبيرة كل فعل نص الكتاب على تحريمه، أو وجب في جنسه حد من قتل أو غيره، وترك فريضة تجب على الفور، والكذب في الشهادة والرواية واليمين، هذا ما ذكروه على سبيل الضبط. وفصله جماعة، فعدوا من الكبائر القتل والزنى واللواط، وشرب قليل الخمر، والسرقة، والقذف، وشهادة الزور، وغصب المال، وشرط الهروي في المغصوب كونه نصابا، والفرار من الزحف، وأكل الربا ومال اليتيم، وعقوق الوالدين، والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمدا، وكتمان الشهادة بلا عذر. وأضاف إليها صاحب العدة الافطار في رمضان بلا عذر، واليمين الفاجرة، وقطع الرحم، والخيانة في كيل أو وزن، وتقديم الصلاة على وقتها، أو تأخيرها عنه بلا عذر، وضرب مسلم بلا حق، وسب الصحابة رضي الله عنهم، وأخذ الرشوة، والدياثة والقيادة من الرجل والمرأة، والسعاية عند السلطان، ومنع الزكاة، وترك الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر مع القدرة، ونسيان القرآن، وإحراق الحيوان، وامتناعها من زوجها بلا سبب، واليأس من رحمة الله والامن من مكر الله تعالى، ويقال: الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن. ومما عد من الكبائر الظهار، وأكل لحم الخنزير والميتة بلا عذر، وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال، كقطع الرحم، وترك الامر بالمعروف على إطلاقهما، ونسيان القرآن، وإحراق مطلق الحيوان. وقد أشار الغزالي في الاحياء إلى مثل هذا التوقف، وفي التهذيب وجه أن ترك صلاة واحدة ليس كبيرة، ولا ترد به شهادة حتى يعتاده.(8/200)
قلت: قد روى أبو داود والترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: عرضت علي ذنوب أمتي، فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أقرئها رجل، ثم نسيها لكن في إسناده ضعف، وتكلم فيه الترمذي. ومن الكبائر السحر ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعله من السبع الموبقات ونقل المحاملي في كتاب الحيض من مجموعة أن الشافعي رحمه الله تعالى قال: الوطئ في الحيض كبيرة، وفي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل النميمة كبيرة. والله أعلم. قال صاحب العدة: ومن الصغائر النظر إلى ما لا يجوز، والغيبة،(8/201)
والكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر، والاشراف على بيوت الناس، وهجرة المسلم فوق ثلاث، وكثرة الخصومات وإن كان محقا، والسكوت على الغيبة والنياحة والصياح وشق الجيب في المصيبة، والتبختر في المشي، والجلوس مع الفساق إيناسا لهم، والصلاة المنهي عنها في أوقات النهي، والبيع والشراء في المسجد، وإدخال الصبيان والمجانين والنجاسات إليه، وإمامة قوم يكرهونه لعيب فيه، والعبث في الصلاة، والضحك فيها، وتخطي رقاب الناس يوم الجمعة، والكلام والامام يخطب، والتغوط مستقبل القبلة، وفي طريق المسلمين، وكشف العورة في الحمام، ولك أن تقول: وكثرة خصومات المحق ينبغي أن لا تكون معصية إذا راعى حد الشرع. وتخطي الرقاب، فإنه معدود من المكروهات لا محرم وكذا الكلام والامام يخطب على الاظهر. قلت: المختار أن تخطي الرقاب حرام للاحاديث فيه، والصواب في الخصومات ما قاله الرافعي، وأن البيع والشراء في المسجد وإدخاله الصبيان إذا لم يغلب تنجيسهم إياه، والعبث في الصلاة من المكروهات مشهور في كتب الاصحاب، وفي كون الصلاة في وقت النهي مكروهة أو محرمة خلاف سبق. ومن الصغائر القبلة للصائم الذي يحرك الشهوة، والوصال في الصوم على الاصح، والاستمناء وكذا مباشرة الاجنبية بغير جماع، ووطئ الزوجة المظاهر منها قبل التكفير والرجعية، والخلوة بالاجنبية، ومسافرة المرأة بغير زوج ولا محرم، ولا نسوة ثقات، والنجش والاحتكار، والبيع على بيع أخيه، وكذا السوم والخطبة، وبيع الحاضر للبادي، وتلقي الركبان، والتصرية، وبيع المعيب من غير بيانه، واتخاذ الكلب الذي لا يحل اقتناؤه، وإمساك الخمر غير المحترمة، وبيع العبد المسلم لكافر، وكذا المصحف وسائر كتب العلم، واستعمال النجاسة في البدن بغير حاجة، وكشف العورة في الخلوة لغير حاجة على الاصح، وأشباه هذه. والله أعلم. إذا تقرر هذا فقال الاصحاب: يشترط في العدالة اجتناب الكبائر، فمن ارتكب كبيرة واحدة، فسق، وردت شهادته، وأما الصغائر، فلا يشترط اجتنابها(8/202)
بالكلية، لكن يشترط أن لا يصر عليها، فإن أصر كان الاصرار كارتكاب كبيرة، وهل الاصرار السالب للعدالة المداومة على نوع من الصغائر، أم الاكثار من الصغائر، سواء كان من نوع أو أنواع ؟ فيه وجهان، ويوافق الثاني قول الجمهور أن من غلبت طاعته معاصيه، كان عدلا، وعكسه فاسق، ولفظ الشافعي رحمه الله في المختصر يوافقه، فعلى هذا لا تضر المداومة على نوع من الصغائر إذا غلبت الطاعات، وعلى الاول يضر. فرع اللعب بالشطرنج مكروه، وقيل: مباح لا كراهة فيه، ومال الحليمي إلى تحريمه، واختاره الروياني، والصحيح الاول، فإن اقترن به قمار أو فحش أو إخراج صلاة عن وقتها عمدا، ردت شهادته بذلك المقارن وإنما يكون قمارا إذا شرط المال من الجانبين، فإن أخرج أحدهما ليبذله إن غلب، ويمسكه إن غلب، فليس بقمار، ولا ترد به شهادة، لكنه عقد مسابقة على غير آلة قتال، فلا يصح. ولو لم تخرج الصلاة عن الوقت عمدا، لكن شغله اللعب به حتى خرج وهو غافل، فإن لم يتكرر ذلك منه، لم ترد شهادته، وإن كثر منه فسق وردت شهادته بخلاف ما إذا تركها ناسيا مرارا، لانه هنا شغل نفسه بما فاتت به الصلاة هكذا ذكروه، وفيه إشكال لما فيه من تعصية الغافل اللاهي، ثم قياسه الطرد في شغل النفس بغيره من المباحات، وأشار الروياني إلى وجه أنه يفسق وإن لم يتكرر، وفي المهذب اشتراط التكرر في إخراجها عن الوقت وإن كان عالما وهو خلاف ما سبق أن إخراج الفريضة عن الوقت عمدا كبيرة، وأما اللعب بالنرد ففي وجه مكروه(8/203)
والصحيح تحريمه، فعلى هذا قال الشيخ أبو محمد: هو صغيرة، قال الامام: والصحيح أنه من الكبائر، قال في الام وأكره اللعب بالحزة والقرق، فالحزة: قطع خشب يحفر فيها حفر في ثلاثة أسطر يجعل فيها حصى صغار يلعب بها وقد تسمى الاربعة عشر، والقرق: أن يخط في الارض خط مربع، ويجعل في وسطه خطان كالصليب، ويجعل على رؤوس الخطوط حصى صغار يلعب بها. وهذه اللفظة رأيتها بخط الروياني بفتح القاف والراء، وضبطها بعضهم بكسر القاف وإسكان الراء، قال في الشامل اللعب بهما كالنرد وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنه كالشطرنج. فرع إتخاذ الحمام للفرخ والبيض، أو الانس، أو حمل الكتب جائز بلا كراهة، وأما اللعب بها بالتطيير والمسابقة، فقيل: لا يكره، والصحيح أنه مكروه، ولا ترد الشهادة بمجرده، فإن انضم إليه قمار ونحوه ردت. فرع غناء الانسان قد يقع بمجرد صوته، وقد يقع بآلة، أما القسم الاول فمكروه وسماعه مكروه، وليسا محرمين، فإن كان سماعه من أجنبية فأشد كراهة، وحكى القاضي أبو الطيب تحريمه وهذا هو الخلاف الذي سبق في أن صوتها هل(8/204)
هو عورة، فإن كان في السماع منها خوف فتنة، فحرام بلا خلاف، وكذا السماع من صبي يخاف منه الفتنة، وحكى أبو الفرج الزاز وجها أنه يحرم كثير السماع دون قليله، ووجه أنه يحرم مطلقا، والصحيح الاول، وهو المعروف للاصحاب. وأما الحداء، وسماعه، فمباحان، وأما تحسين الصوت بقراءة القرآن، فمسنون، وأما القراءة بالالحان، فقال في المختصر: لا بأس بها وعن رواية الربيع بن سليمان الجيزي أنها مكروهة، قال جمهور الاصحاب: ليست على قولين، بل المكروه أن يفرط في المد وفي إشباع الحركات حتى تتولد من الفتحة ألف، ومن الضم واو، ومن الكسرة ياء، أو يدغم في غير موضع الادغام، فإن لم ينته إلى هذا الحد، فلا كراهة، وفي أمالي السرخسي وجه أنه لا يكره وإن أفرط. قلت: الصحيح أنه إذا أفرط على الوجه المذكور، فهو حرام، صرح به صاحب الحاوي فقال: هو حرام يفسق به القارئ، ويأثم المستمع، لانه عدل به عن لهجة التقويم، وهذا مراد الشافعي بالكراهة. ويسن ترتيل القراءة وتدبرها، والبكاء عندها، وطلب القراءة من حسن الصوت، والجلوس في حلق القراءة ولا بأس بترديد الآية للتدبر، ولا باجتماع الجماعة في القراءة، ولا بإدارتها وهو أن يقرأ بعض الجماعة قطعة، ثم البعض قطعة بعدها، وقد أوضحت هذا كله وما يتعلق به من النفائس في آداب حملة القرآن. والله أعلم. القسم الثاني: أن يغني ببعض آلات الغناء مما هو من شعار شاربي الخمر وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والاوتار يحرم استعماله واستماعه وفي اليراع وجهان صحح البغوي التحريم والغزالي الجواز، وهو الاقرب، وليس المراد من اليراع كل قصب بل المزمار العراقي وما يضرب به الاوتار حرام بلا خلاف.(8/205)
قلت: الاصح أو الصحيح تحريم اليراع، وهو هذه الزمارة التي يقال لها الشبابة وقد صنف الامام أبو القاسم الدولعي كتابا في تحريم اليراع مشتملا على نفائس، وأطنب في دلائل تحريمه. والله أعلم. أما الدف، فضربه مباح في العرس والختان، وأما في غيرهما، فأطلق صاحب المهذب والبغوي وغيرهما تحريمه، وقال الامام والغزالي: حلال: وحيث أبحناه هو فيما إذا لم يكن فيه جلاجل، فإن كان، فالاصح حله أيضا. ولا يحرم ضرب الطبول إلا الكوبة، وهو طبل طويل متسع الطرفين ضيق الوسط، وهو الذي يعتاد ضربه المخنثون، والطبول التي تهيأ لملاعب الصبيان إن لم تلحق بالطبول الكبار، فهي كالدف، وليست كالكوبة بحال، والضرب بالصفاقتين حرام، كذا ذكره الشيخ أبو محمد وغيره، لانه من عادة المخنثين، وتوقف فيه الامام، لانه لم يرد فيه خبر بخلاف الكوبة. وفي تحريم الضرب بالقضيب على الوسائد وجهان، قطع العراقيون بأن مكروه لا حرام، والرقص ليس بحرام، قال الحليمي: لكن الرقص الذي فيه تثن وتكسر يشبه أفعال المخنثين حرام على الرجال والنساء. فرع إنشاء الشعر وإنشاده واستماعه جائز، فلو هجا الشاعر في شعره ولو بما هو صادق فيه ردت شهادته، وليس إثم حاكي الهجو كإثم منشئه، ويشبه أن يكون التعريض هجوا كالتصريح، وقال ابن كج: ليس التعريض هجوا، وترد شهادة الشاعر إذا كان يفحش ويشب بامرأة بعينها، أو يصف أعضاء باطنة، فإن(8/206)
شبب بجاريته أو زوجته، فوجهان، أحدهما: يجوز ولا ترد شهادته، وهذا القائل يقول: إذا لم تكن المرأة معينة، لا ترد شهادته لاحتمال أنه يريد من تحل له، والصحيح أن ترد شهادته إذا ذكر جاريته أو زوجته بما حقه الاخفاء، لسقوط مروءته. ولو كان يشبب بغلام، ويذكر أنه يعشقه، قال الروياني: يفسق وإن لم يعينه، لان النظر إلى الذكور بالشهوة حرام بكل حال. وفي التهذيب وغيره اعتبار التعيين في الغلام كالمرأة. وإن كان يمدح الناس ويطري، نظر إن أمكن حمله على ضرب مبالغة، جاز، وإن لم يكن حمله على المبالغة وكان كذبا محضا، فالصحيح الذي عليه الجمهور وهو ظاهر نصه أنه كسائر أنواع الكذب، فترد شهادته إن كثر منه، وقال القفال، والصيدلاني: لا يلحق بالكذب، لان الكاذب يوهم الكذب صدقا بخلاف الشاعر، فعلى هذا لا فرق بين قليله وكثيره، وهذا حسن بالغ، وينبغي أن يقال على قياسه: إن التشبيب بالنساء والغلمان بغير تعيين لا يخل بالعدالة وإن كثر منه، لان التشبيب صنعة، وغرض الشاعر تحسين الكلام لا تحقيق المذكور، وكذلك ينبغي أن يكون الحكم لو سمى امرأة لا يدري من هي. فرع ما حكمنا بإباحته في هذه الصورة قد يقتضي الاكثار منه رد الشهادة، لكونه خارما للمروءة فمن داوم على اللعب بالشطرنج والحمام، ردت شهادته وإن لم يقترن به ما يوجب التحريم، لما فيه من ترك المروءة، وكذا من داوم على الغناء أو سماعه وكان يأتي الناس ويأتونه، أو اتخذ جارية أو غلاما ليتغنيا للناس، وكذا المداومة على الرقص، وضرب الدف، وكذا إنشاد الشعر، واستنشاده إذا أكثر منه، فترك به مهماته، كان خارما للمروءة، ذكره الامام، قال: وكذا لو كان الشاعر يكتسب بشعره. والمرجع في المداومة والاكثار إلى العادة، ويختلف الامر فيه بعادات النواحي والبلاد، ويستقبح من شخص قدر لا يستقبح من غيره، وللامكنة فيه أيضا تأثير، فاللعب بالشطرنج في الخلوة مرارا لا يكون كاللعب به في سوق مرة على ملا من الناس، وهل يقال على هذا: لما استمرت العادة أن الشاعر يكتسب بشعره وعد صنعة الغناء حرفة ومكسبا، فالاشتغال به ممن يليق بحاله، لا يكون تركا للمروءة ؟ وكلام الاصحاب محمول على ما لا يليق به، وقد رأيت ما ذكرته في الشاعر يكتسب بشعره لابن القاص.(8/207)
فرع ما حكمنا بتحريمه في هذه المسائل، كالنرد وسماع الاوتار، ولبس الحرير، والجلوس عليه ونحوها، هل هو من الكبائر فترد الشهادة بمرة أم من الصغائر، فيعتبر المداومة والاكثار ؟ وجهان يميل كلام الامام إلى أولهما، والاصح الثاني، وهو المذكور في التهذيب وغيره، وزاد الامام، فقال: ينظر إلى عادة البلد والقطر، فحيث يستعظمون النرد وسماع الاوتار ترد الشهادة بمرة واحدة، لان الاقدام في مثل تلك الناحية لا يكون إلا من جسور منحل عن ربقة المروءة، فتسقط الثقة بقوله، وحيث لا يستعظمونه لا يكون مطلق الاقدام مشعرا بترك المبالاة، وسقوط المروءة، وحينئذ يقع النظر في أنه صغيرة أم كبيرة. فرع الخمر العينية لم يشبها ماء ولا طبخت بنار محرمة بالاجماع، ومن شربها عامدا عالما بحالها، حد وردت شهادته، سواء شرب قدرا يسكره أم لا، قال أصحابنا العراقيون: وكذا حكم بائعها ومشتريها في رد شهادتهما، ولا ترد الشهادة بإمساكها، لانه قد يجوز أن يقصد به التخلل أو التخليل، وأما المطبوخ من عصير العنب المختلف في تحريمه، وسائر الانبذة، فإن شرب منها القدر المسكر، حد وردت شهادته، وإن شرب قليلا وهو يعتقد إباحته كالحنفي، ففيه أوجه، الاصح المنصوص: يحد، ولا ترد شهادته، والثاني: ترد ويحد، والثالث: لا ترد ولا يحد، واحتج الاصحاب للاصح بأن الحد إلى الامام، فاعتبر اعتقاده، والشهادة تعتمد اعتقاد الشاهد، ولهذا لو غصب جارية ووطئها معتقدا أنه يزني بها، فبان أنها ملكه، فسق وردت شهادته، ولو وطئ جارية غيره يعتقدها جاريته، لم ترد شهادته، ولان الحد للزجر، والنبيذ يحتاج إلى زجر، ورد الشهادة لسقوط الثقة بقوله، ولا يوجد ذلك إذا لم يعتقد التحريم، وأما إذا شربه من يعتقد تحريمه، فالمذهب أنه يحد، وترد شهادته، وعن القفال أن من نكح بلا ولي ووطئ، لا ترد شهادته إن اعتقد الحل، وترد إن اعتقد التحريم، وعلى هذا قياس سائر المجتهدات، ولكن عن نص الشافعي رحمه الله أنه لا ترد شهادة مستحل نكاح المتعة والمفتي به والعامل به ونقل القاضي أبو الفياض مثله.(8/208)
قلت: قال ابن الصباغ: قال في الام إذا أخذ من النثار في الفرح لا ترد شهادته، لان من الناس من يحل ذلك، وأنا أكرهه. قال في الام: ومن ثبت أنه يحضر الدعوة بغير دعاء من غير ضرورة، ولا يستحل صاحب الطعا، وتكرر ذلك منه، ردت شهادته، لانه يأكل محرما إذا كانت الدعوة دعوة رجل من الرعية، وإن كانت دعوة سلطان، أو من يتشبه بالسلطان فهذا طعام عام، فلا تأثير به. قال ابن الصباغ: وإنما اشترط تكرر ذلك، لانه قد يكون له شبهة حتى يمنعه صاحب الطعام، فإذا تكرر، صار دناءة، وقلة مروءة. والله أعلم. الشرط الخامس: المروءة، وهي التوقي عن الادناس، فلا تقبل شهادة من لا مروءة له، فمن ترك المروءة لبس ما لا يليق بأمثاله بأن لبس الفقيه القباء والقلنسوة ويتردد فيهما في بلد لم تجر عادة الفقهاء بلبسهما فيه، أو لبس التاجر ثوب الجمال، أو تعمم الجمال وتطلس، وركب بغلة مثمنة، وطاف في السوق، واتخذ نفسه ضحكة، ومنه المشي في السوق مكشوف الرأس والبدن إذا لم يكن الشخص سوقيا ممن يليق به مثله، وكذا مد الرجل بين الناس، والاكل في السوق والشرب من سقاياتها إلا أن يكون الشخص سوقيا، أو شرب لغلبة عطش، ومنه أن يقبل امرأته أو جاريته بحضرة الناس، أو يحكي ما يجري بينهما في الخلوة، أو يكثر من الحكايات المضحكة، أو يخرج عن حسن العشرة مع الاهل والجيران والمعاملين، ويضايق في اليسير الذي لا يستقصى فيه، ومنه الاكثار على اللعب بالشطرنج والحمام والغناء على ما سبق، ومنه أن يتبذل الرجل المعتبر نفسه بنقل الماء والاطعمة إلى بيته إذا كان ذلك عن شح، فإن فعله استكانة، واقتداء بالسلف التاركين للتكلف، لم تقدح ذلك في المروءة، وكذا لو كان يلبس ما يجد ويأكل حيث يجد(8/209)
لتقلله وبراءته من التكلف المعتاد، وهذا يعرف بتناسب حال الشخص في الاعمال والاخلاق، وظهور مخايل الصدق فيما يبديه، وقد يؤثر فيه الزي واللبسة. وفي قبول شهادة أهل الحرف الدنيئة كحجام وكناس ودباغ وقيم حمام وحارس ونخال وإسكاف وقصاب ونحوهم وجهان، أصحهما: القبول، وفي الحائك الوجهان، وقيل: يقبل قطعا وقيل: يقبل من لا يحتاج إلى مباشرة نجاسة أو قذر كالحائك والنخال والحارس دون غيرهم، وفي الصباغ والصائغ طريقان، أحدهما: طرد الوجهين، والمذهب القبول قطعا، لكن من أكثر منهم، ومن سائر المحترفة كذبا وخلفا في الوعد، ردت شهادته، ولذلك قال الغزالي: الوجهان في أصحاب الحرف هما فيمن يليق به، وكان ذلك صنعة آبائه، فأما غيره، فتسقط مروءته بها، وهذا حسن، ومقتضاه أن يقال: الاسكاف والقصاب إذا اشتغلا بالكنس، بطلت مروءتهما بخلاف العكس. قلت: لم يتعرض الجمهور لهذا القيد، وينبغي أن لا يقيد بصنعة آبائه، بل ينظر هل يليق به هو أم لا. والله أعلم. ثم الذين يباشرون النجاسة إنما يجري فيهم الخلاف إذا حافظوا على الصلوات في أوقاتها، واتخذوا لها ثيابا طاهرة، وإلا فترد شهادتهم بالفسق. فرع من ترك السنن الراتبة، وتسبيحات الركوع والسجود أحيانا، لا ترد شهادته، ومن اعتاد تركها، ردت شهادته لتهاونه بالدين وإشعار هذا بقلة مبالاته بالمهمات، وحكى أبو الفرج في غير الوتر وركعتي الفجر وجهان أنه لا ترد شهادته باعتياد تركها. فرع نص أن مستحل الانبذة إن أدام المنادمة عليها، والحضور مع أهل السفه، ردت شهادته لطرحه المروءة، وتقبل شهادة الطوافين على الابواب، وسائر السؤال إلا أن يكثر الكذب في دعوى الحاجة وهو غير محتاج، أو يأخذ ما لا يحل له أخذه، فيفسق. ومقتضى الوجه الذاهب إلى رد شهادة أصحاب الحرف رد شهادته لدلالته على خسته.(8/210)
الشرط السادس الانفكاك عن التهمة، وللتهمة أسباب، الاول أن يجر بشهادته إلى نفسه نفعا، أو يدفع بها ضرا، فلا تقبل شهادة السيد لعبده المأذون له، ولا لمكاتبه بدين ولا عين، ولا شهادة الوارث لمورثه، ولا الغريم للميت، والمفلس المحجور عليه، وتقبل شهادته لغريمه الموسر، وكذا المعسر قبل الحجر عليه على الاصح، ولا تقبل شهادة الضامن للمضمون عنه بالاداء، ولا الابراء، ولا الوكيل لموكله فيما هو وكيل فيه، ولا الوصي والقيم في محل تصرفهما، ولا الشريك لشريكه فيما هو شريك فيه، بأن يقول: هذه الدار بيننا، ويجوز أن يشهد بالنصف لشريكه، ولا تقبل شهادته لشريكه ببيع الشقص، ولا للمشتري من شريكه، لانها تتضمن إثبات الشفعة لنفسه، فإن لم يكن فيه شفعة بأن كان مما لا ينقسم، قال الشيخ أبو حامد: تقبل، وكذا لو عفا عن الشفعة، ثم شهد، ولو شهد أن زيدا جرح مورثه، لم يقبل للتهمة. ولو شهد بمال آخر لمورثه المجروح، أو المريض إن يشهد بعد الاندمال، قبلت قطعا، وكذا قبله على الاصح. فرع ذكر القاضي أبو سعد الهروي في شرح أدب القضاء لابي عاصم العبادي رحمه الله أنه لا تقبل شهادة المودع للمودع إذا نازعه في الوديعة أجنبي، لانه يستديم اليد لنفسه، ويقبل للاجنبي، وكذا شهادة المرتهن لا يقبل للراهن، ويقبل للاجنبي، وإن شهادة الغاصب على المغصوب منه بالعين لاجنبي لا تقبل لفسقه، ولتهمته بدفع الضمان، ومؤنة لرد، فإن شهد بعد الرد، قبلت شهادته، وإن شهد بعد التلف، لم تقبل، لانه يدفع الضمان، وإن شهادة المشتري شراء فاسدا بعد القبض لا تقبل للاجنبي لما ذكرنا، وإن شهادة المشتري شراء صحيحا بعد الاقالة، والرد بالعيب، لا تقبل للبائع، لانه يستبقي لنفسه الغلات، وإن كان المدعي يدعي الملك من تاريخ متقدم على البيع. ولو شهد بعد الفسخ بخيار الشرط أو المجلس، فوجهان بناء على أنه يرفع العقد من أصله، وترجع الفوائد إلى البائع أم حينه(8/211)
ولا يرجع، وأنه لو كان لميت دين على شخص، فشهد أجنبيان لرجل بأنه أخو الميت، ثم شهد الغريمان لآخر بأنه ابنه، لم تقبل شهادة الغريمين، لانهما ينقلان ما عليهما للاخ إلى الآخر بخلاف ما لو تقدمت شهادة الغريمين، وأنه لا تقبل شهادة الوارثين على موت المورث، ولا شهادة الموصى لهما على الموصى، وتقبل شهادة الغريمين على موت من له الدين، لانهما لا ينتفعان بهذه الشهادة، ولا ينظر إلى نقل الحق من شخص إلى شخص، لان الوارث خليفة المورث، فكأنه هو، ولو شهد شهود بقتل الخطإ، فشهد اثنان من العاقلة بفسق شهود القتل، لم تقبل شهادتهما، لانهما يدفعان ضرر التحمل. ولو شهد اثنان على مفلس بدين، فشهد غرماؤه الآخرون بفسقهما، لم تقبل شهادتهم، لانهم يدفعون عنه ضرر المزاحمة. ولو شهد اثنان لاثنين بوصية من تركة، فشهد المشهود لهما للشاهدين بوصية للشاهدين، فوجهان، أحدهما: لا تقبل الاربعة، لتهمة المواطأة، بوصية للشاهدين، فوجهان، أحدهما لا تقبل الاربعة، لتهمة المواطأة، والصحيح قبول الشهادتين، لانفصال كل شهادة عن الاخرى، ولا يجر بشهادته نفعا، ولهذا قلنا: تقبل شهادة بعض القافلة لبعض في قطع الطريق إذا قال كل واحد منهم: أخذ مالي فلان، ولم يقل: أخذ مالنا. السبب الثاني: البعضية، فلا تقبل شهادة أصل ولا فرع. وروى ابن القاص قولا قديما أنها تقبل، واختاره المزني، وابن المنذر، والمشهور الاول، ولا تقبل لمكاتب ولده أو والده، وما دونهما. ولو شهد اثنان أن أباهما قذف ضرة أمهما أو طلقها أو خالعها، ففي قبول شهادتهما قولان، الجديد الاظهر: القبول. ولو ادعت الطلاق، فشهد لها ابناها، لم يقبل، ولو شهدا حسبة ابتداء، قبلت، وكذا في الرضاع، ولو شهد الاب مع ثلاثة على زوجة ابنه بالزنى، فإن سبق من الابن قذف، فطولب بالحد، فحاول إقامة البينة لدفعه، لم يقبل، وإن لم يقذف أو لم يطالب بالحد، وشهد الاب حسبة، قبلت شهادته. فرع في يد زيد عبد ادعى شخص أنه اشتراه من عمرو بعدما اشتراه عمرو من زيد صاحب اليد وقبضه، وطالبه بالتسليم فأنكر زيد جميع ذلك، فشهد ابناه للمدعي بما يقوله، فقولان حكاهما أبو سعد الهروي، أحدهما: لا يقبل لتضمنها إثبات الملك لابيهما، وأظهرهما القبول، لان المقصود بالشهادة في الحال المدعى وهو أجنبي.(8/212)
فرع تقبل شهادة الوالد على الولد، وعكسه، سواء شهد بمال أو عقوبة، وقيل: لا تقبل شهادته على الوالد بقصاص أو حد قذف، والصحيح الاول، ومن شهد لولد، أو والد وأجنبي، قبلت للاجنبي في الاصح أو الاظهر. فرع في حبس الوالدين بدين الولد أوجه، الاصح المنع قال الامام: وإليه صار معظم أئمتنا، والثالث: يحبس في نفقة ولده، ولا يحبس في ديونه، حكاه الامام، واختاره ابن القاص، وقد سبق الوجهان في كتاب التفليس. فرع تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر على الاظهر، وقيل قطعا، وفي قول لا، وفي قول شهادة الزوج لها دون عكسه. وتقبل شهادة أحدهما على الآخر إلا أنه لا يقبل شهادته عليها بزنى، لانه دعوى خيانتها فراشه. السبب الثالث: العداوة، فلا تقبل شهادة عدو على عدوه، والعداوة التي ترد بها الشهادة أن تبلغ حدا يتمنى زوال نعمته، ويفرح لمصيبته، ويحزن لمسرته، وذلك قد يكون من الجانبين، وقد يكون من أحدهما، فيخص برد شهادته على الآخر. وإن أفضت الشهادة إلى ارتكاب ما يفسق به، ردت شهادته على الاطلاق. ولو عادى من يريد أن يشهد عليه، وبالغ في خصومته، فلم يجبه، وسكت عنه، ثم شهد عليه، قبلت شهادته، لانا لو لم نقبلها لاتخذ الخصوم ذلك ذريعة إلى إسقاط الشهادة. هكذا حكاه الروياني عن القفال، وذكره جماعة، منهم البغوي في كتاب اللعان أن شهادة المقذوف على قاذفه قبل طلب الحد مقبولة، وبعده لا تقبل، لظهور العداوة، وأنه لو شهد بعد الطلب، ثم عفا وأعاد تلك الشهادة، لم تقبل كالفاسق إذا شهد، ثم تاب وأعاد تلك الشهاد، وأنه لو شهد قبل الطلب، ثم طلب قبل الحكم، لم يحكم بشهادته، كما لو فسق الشاهد قبل الحكم، لكن في تعليق الشيخ أبي حامد وغيره أن الشافعي رحمه الله صور العداوة الموجبة للرد فيما إذا قذف رجل رجلا، أو ادعى عليه أنه قطع الطريق عليه، وأخذ ماله، فيقال: يصيران عدوين، فلا تقبل شهادة أحدهما على الآخر، فاكتفى بالقذف دليلا على العداوة،(8/213)
ولم يتعرض لطلب الحد، قال الروياني: لعل القفال أراد غير صورة القذف، ثم على ما ذكره البغوي الحكم غير منوط بأن يطلب المقذوف الحد، بل بأن يظهر العداوة، ولا شك أنه لو شهد على رجل، فقذفه المشهود عليه، لم يمنع ذلك من الحكم بشهادته، نص عليه. فرع العداوات الدينية لا توجب رد الشهادة، بل يقبل للمسلم على الكافر والسني على المبتدع، وكذا من أبغض الفاسق لفسقه لا ترد شهادته عليه. ولو قال عالم ناقد: لا تسمعوا الحديث من فلان، فإنه مخلط، أو لا تستفتوه، فإنه لا يعرف الفتوى، لم ترد شهادته، لان هذا نصيحة للناس، نص عليه. فرع تقبل شهادة العدو لعدوه إذ لا تهمة. فرع العصبية أن يبغض الرجل لكونه من بني فلان، فإن انضم إليها دعاء الناس، وتآلفهم للاضرار به والوقيعة فيه، اقتضى رد شهادته عليه، ومجرد هذا لا يقتضيه، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه وعترته، فتقبل شهادته لهم، وشهادتهم له، وتقبل شهادته لصديقه وأخيه وإن كان يصله ويبره. فرع في شهادة المبتدع. جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة، لكن اشتهر عن الشافعي رضي الله عنه تكفير الذين ينفون علم الله تعالى بالمعدوم، ويقولون: ما يعلم الاشياء حتى يخلقها، ونقل العراقيون عنه تكفير الناهين للرؤية والقائلين بخلق القرآن، وتأوله الامام، فقال: ظني أنه ناظر بعضهم، فألزم الكفر في الحجاج، فقيل: إنه كفرهم. قلت: أما تكفير منكري العلم بالمعدوم أو بالجزئيات، فلا شك فيه، وأما من نفى الرؤية أو قال بخلق القرآن، فالمختار تأويله، وسننقل إن شاء الله تعالى عن نصه في الام ما يؤيده، وهذا التأويل الذي ذكره الامام حسن، وقد تأوله الامام الحافظ الفقيه الاصولي أبو بكر البيهقي رضي الله عنه وآخرون تأويلات متعارضة، على أنه ليس المراد بالكفر الاخراج من الملة، وتحتم الخلود في النار. وهكذا تأولوا ما جاء عن جماعة من السلف من إطلاق هذا اللفظ، واستدلوا بأنهم لم(8/214)
يلحقوهم بالكفار في الارث والانكحة، ووجوب قتلهم وقتالهم وغير ذلك. والله أعلم. ثم من كفر من أهل البدع لا تقبل شهادته، وأما من لا يكفره من أهل البدع والاهواء، فقد نص الشافعي رحمه الله في الام و المختصر على قبول شهادتهم إلا الخطابية وهم قوم يرون جواز شهادة أحدهم لصاحبه إذا سمعه يقول: لي على فلان كذا، فيصدقه بيمين أو غيرها، ويشهد له اعتمادا على أنه لا يكذب هذا نصه. وللاصحاب فيه ثلاث فرق: فرقة جرت على ظاهر نصه، وقبلت شهادة جميعهم، وهذه طريقة الجمهور، منهم ابن القاص، وابن أبي هريرة، والقضاة ابن كج، وأبو الطيب، والروياني، واستدلوا بأنهم مصيبون في زعمهم ولم يظهر منهم ما يسقط الثقة بقولهم، وقبل هؤلاء شهادة من سب الصحابة والسلف رضي الله عنهم، لانه تقدم عليه عن اعتقاد لاعن عداوة وعناد، قالوا: ولو شهد خطابي وذكر في شهادته ما يقطع احتمال الاعتماد على قول المدعي بأن قال: سمعت فلانا يقر بكذا لفلان، أو رأيته أقرضه، قبلت شهادته. وفرقة منهم الشيخ أبو حامد ومن تابعه حملوا النص على المخالفين في الفروع، وردوا شهادة أهل الاهواء كلهم، وقالوا: هم بالرد أولى من الفسقة. وفرقة ثالثة توسطوا، فردوا شهادة بعضهم دون بعض، فقال أبو إسحق: من أنكر إمامة أبي بكر رضي الله عنه، ردت شهادته لمخالفته الاجماع، ومن فضل عليا على أبي بكر رضي الله عنهما لم ترد شهادته، ورد الشيخ أبو محمد شهادة الذين يسبون الصحابة، ويقذفون عائشة رضي الله عنها، فإنها محصنة كما نطق به القرآن، وعلى هذا جرى الامام والغزالي والبغوي، وهو حسن. وفي الرقم أن شهادة الخوارج مردودة لتكفيرهم أهل القبلة. قلت: الصواب ما قالته الفرقة الاولى وهو قبول شهادة الجميع، فقد قال الشافعي رحمه الله في الام: ذهب الناس في تأويل القرآن والاحاديث إلى أمور تباينوا فيها تباينا شديدا، واستحل بعضهم من بعض ما تطول حكايته، وكان ذلك متقادما، منه ما كان في عهد السلف إلى اليوم، فلم نعلم أحدا من سلف الامة يقتدى به، ولا من بعدهم من التابعين رد شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله،(8/215)
ورآه استحل ما حرم الله تعالى عليه، فلا ترد شهادة أحد بشئ من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال المال والدم. هذا نصه بحروفه وفيه التصريح بما ذكرنا، وبيانما ذكرناه في تأويل تكفير القائل بخلق القرآن، ولكن قاذف عائشة رضي الله عنها كافر، فلا تقبل شهادته. ولنا وجه أن الخطابي لا تقبل شهادته وإن بين ما يقطع، لاحتمال اعتماده، وقول صاحبه. والله أعلم. السبب الرابع: الغفلة، وكثرة الغلط، ولا تقبل شهادة المغفل الذي لا يحفظ، ولا يضبط، فإن شهد مفسرا، وبين وقت التحمل ومكانه، فزالت الريبة عن شهادته، قبلت، ولا تقبل شهادة من كثر غلطه ونسيانه، وأما الغلط اليسير، فلا يقدح في الشهادة، لانه لا يسلم منه أحد قال الامام: ومعظم شهادات العوام يشوبها جهل وغرة، فيحوج إلى الاستفصال كما سبق في آداب القضاء. السبب الخامس: أن يدفع بالشهادة عن نفسه عار الكذب، فإن شهد فاسق، ورد القاضي شهادته، ثم تاب بشرط التوبة، فشهادته المستأنفة مقبولة بعد ذلك، ولو أعاد تلك الشهادة التي ردت، لم تقبل، وقال المزني: تقبل. ولو شهد كافر أو عبد أو صبي، فردت شهادته، ثم كمل فأعادها، قبلت، لعدم تهمتهم بدفع العار بخلاف الفاسق، فإن كان يخفي فسقه، والرد يظهره، فيسعى في دفع العار بإعادة الشهادة، فلو كان معلنا بفسقه حين شهد، ففي قبول شهادته المعادة بعد التوبة وجهان، أصحهما عند الاكثرين: لا يقبل أيضا، وإنما يجئ الوجهان إذا أصغى القاضي إلى شهادته مع ظهور فسقه، ثم ردها. وفي الاصغاء وجهان، أصحهما - وبه قال الشيخ أبو محمد، واستحسنه الامام -: لا يصغي، كشهادة العبد والصبي. ولو كان الكافر يستتر بكفره، وردت شهادته، ثم أسلم وأعادها، لم تقبل على الاصح، ولو ردت شهادته لعداوة، فزالت، وأعادها، لم تقبل على الاصح، ويجريان فيما لو شهد لمكاتبه بمال، أو لعبده بنكاح، فردت فأعادها بعد عتقهما، وأجاب ابن القاص هنا بالقبول، ويجريان فيما لو شهد اثنان من الشفعاء بعفو شفيع ثالث قبل عفوهما، فردت شهادتهما، ثم عفوا، وأعاداها، وفيما شهد اثنان لمورثهما بجراحة غير مندملة، فردت، ثم أعادها بعد الاندمال، ولو شهد فرعان(8/216)
على شهادة أصل، فردت شهادتهما لفسق الاصل، فقد صارت شهادة مردودة. فلو تاب، وشهد بنفسه، وأعاد الفرعان شهادتهما على شهادته، أو شهد على شهادته فرعان آخران، لم تقبل، ولو ردت شهادة الفرعين، لفسقهما، لم تتأثر به شهادة الاصل. السبب السادس: الحرص على الشهادة بالمبادرة: اعلم أن الحقوق ضربان: ضرب لا تجوز المبادرة إلى الشهادة عليه، وضرب يجوز، وتسمى الشهادة على هذا الثاني على وجه المبادرة شهادة حسبة، فحيث لا يجوز، فالمبادر متهم، فلا تقبل شهادته، والمبادرة أن يشهد من غير تقدم دعوى، فإن شهد بعد دعوى قبل أن يستشهد، ردت شهادته أيضا على الاصح للتهمة، وإذا رددناها، ففي مصيره مجروحا وجهان، الاصح لا، وبه قطع أبو عاصم، وظاهر هذا كون الخلاف في سقوط عدالته مطلقا، ويؤيده أن القاضي أبا سعد الهروي، قال: الوجهان مبنيان على أن المبادرة من الصغائر، أم من الكبائر، لكن منهم من يفهم كلامه اختصاص الخلاف برد تلك الشهادة وحدها إذا أعادها، فقد قال البغوي: وإذا قلنا: يصير مجروحا لا يشترط استبراء حاله حتى لو شهد في حادثة أخرى تقبل، فأشعر كلامه باختصار الخلاف. فرع تقبل شهادة من احتبى وجلس في زاوية محتبيا لتحمل الشهادة، ولا تحمل على الحرص، لان الحاجة قد تدعو إليه، وحكى الفوراني قولا قديما أنها لا تقبل، وهو شاذ، قال: وعلى المشهور يستحب أن يخبر الخصم أني شهدت عليك لئلا يبادر إلى تكذيبه، فيعزره القاضي. ولو قال رجلان لثالث: توسط بيننا لنتحاسب ونتصادق، فلا تشهد علينا بما يجري، فهذا شرط باطل، وعليه أن يشهد. الضرب الثاني: ما تقبل فيه شهادة الحسبة، وهو ما تمحض حقا لله تعالى، أو كان له فيه حق متأكد لا يتأثر برضى الآدمي، فمنه الطلاق، وأما الخلع، فأطلق(8/217)
البغوي المنع فيه، وقال الامام: يقبل في الفراق دون المال، قال: ولا أبعد ثبوته تبعا، ولا إثبات الفراق دون البينونة، ومنه العتق والاستيلاد دون التدبير، ويقبل في العتق بالتدبير، ولا يقبل في الكتابة، فإن أدى النجم الاخير، شهد بالعتق. وفي شراء القريب وجهان، أحدهما: تقبل شهادة الحسبة فيه لحق الله تعالى، وأصحهما لا، لانهم يشهدون بالملك. ومنه العفو عن القصاص، والصحيح قبولها فيه، ومنه الوصية والوقف إذا كانا لجهة عامة، فإن كان لجهة خاصة، فالاصح المنع، ونقله الامام عن الجمهور لتعلقه بحظوظ خاصة، ومنه تحريم الرضاع والنسب وفي النسب وجه، ومنه بقاء العدة وانقضاؤها، وتحريم المصاهرة، وكذا الزكوات والكفارات، والبلوغ والاسلام، والكفر والحدود التي هي حقوق لله تعالى، كالزنى، وقطع الطريق، وكذا السرقة على الصحيح، لكن الافضل في الحدود الستر. ومنه الاحصان والتعديل. وأما ما هو حق آدمي، كالقصاص، وحد القذف والبيوع، والاقارير، فلا تقبل فيه شهادة الحسبة، فإن لم يعلم صاحب الحق بالحق، أخبره الشاهد حتى يدعي ويستشهده فليشهد، وقيل: تقبل شهادة الحسبة في الدماء خاصة، وقيل: تقبل في الاموال أيضا، وقيل: تقبل إن لم يعلم المستحق بالحق، والصحيح المنع مطلقا. فرع ما قبلت فيه شهادة الحسبة هل يسمع فيه دعوى الحسبة ؟ وجهان: أحدهما لا، وبه قطع القفال في الفتاوى، لان الثبوت بالبينة وهي غنية عن الدعوى. وقال القاضي حسين: تسمع، لان البينة قد لا تساعد، وقد يراد استخراج الحق بإقرار المدعى عليه.(8/218)
فرع شهود الحسبة يجيئون إلى القاضي، ويقولون: نشهد على فلان بكذا، فأحضره لنشهد عليه، فإن ابتدؤوا، وقالوا: فلان زنى فهم قذفة، وفي الفتاوى: أنه لو جاء رجلان، وشهدا بأن فلانا أخو فلانة من الرضاع، لم يكف حتى يقولا: وهو يريد أن ينكحها، وأنه لو شهد اثنان بطلاق، وقضى القاضي بشهادتهما، ثم جاء آخران يشهدان بأخوة بين المتناكحين،، لم تقبل هذه الشهادة، إذ لا فائدة لها في الحال، ولا بكونهما قد يتناكحان بعد، وان الشهادة على أنه أعتق عبده إنما تسمع إذا كان المشهود عليه يسترقه، وهذه الصورة تفهمك أن شهادة الحسبة إنما تسمع عند الحاجة. ولو جاء عبدان لرجل، فقالا: إن سيدنا أعتق أحدنا، وقامت بينة بما يقولان، سمعت، وإن كانت الدعوى فاسدة، لان البينة على العتق مستغنية عن تقدم الدعوى. فصل شهادة الاخرس إن لم يعقل الاشارة مردودة، وكذا إن عقلها على الاصح عند الاكثرين، فعلى هذا يعتبر في الشاهد سوى الشروط الستة كونه ناطقا، وذكر الصيمري أنه لا تقبل شهادة محجور عليه بالسفه، فإن كان كذلك، زاد شرط ثامن. فصل في أمور لا تمنع الشهادة. وفيها خلاف لبعض العلماء. منها شهادة البدوي على القروي وعكسه مقبولة، وكذا شهادة المحدود في القذف وغيره بعد التوبة مقبولة في جنس ما حد وفي غيره، وتقبل شهادة ولد الزنى، ويجوز أن يكون قاضيا. فصل في التوبة. قد سبق أن من لا تقبل شهادته لمعصية تقبل إذا تاب، وظهر إعراضه عما كان عليه، قال الاصحاب: التوبة تنقسم إلى توبة بين العبد وبين الله تعالى، وهي التي يسقط بها الاثم، وإلى توبة في الظاهر، وهي تتعلق بها عود الشهادة والولايات، أما الاولى، فهي أن يندم على فعل، ويترك فعله في الحال،(8/219)
ويعزم أن لا يعود إليه، ثم إن كانت المعصية لا يتعلق بها حق مالي لله تعالى ولا للعباد، كقبلة الاجنبية ومباشرتها فيما دون الفرج، فلا شئ عليه سوى ذلك، وإن تعلق بها حق مالي، كمنع الزكاة، والغصب، والجنايات في أموال الناس، وجب مع ذلك تبرئة الذمة عنه، بأن يؤدي الزكاة، ويرد أموال الناس إن بقيت، ويغرم بدلها إن لم تبق، أو يستحل المستحق، فيبرئه ويجب أن يعلم المستحق إن لم يعلم به، وأن يوصله إليه إن كان غائبا إن كان غصبه منه هناك، فإن مات، سلمه إلى وارثه، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبره، دفعه إلى قاض ترضى سيرته وديانته، فإن تعذر، تصدق به على الفقراء بنية الغرامة له إن وجده، ذكره العبادي في الرقم والغزالي في غير كتبه الفقهية. وإن كان معسرا، نوى الغرامة إذا قدر، فإن مات قبل القدرة، فالمرجو من فضل الله تعالى المغفرة. قلت: ظواهر السنن الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة وإن مات معسرا عاجزا إذا كان عاصيا بالتزامها، فأما إذا استدان في مواضع يباح له الاستدانة، واستمر عجزه عن الوفاء حتى مات، أو أتلف شيئا خطأ، وعجز عن غرامته حتى مات، فالظاهر أن هذا لا مطالبة في حقه في الآخرة، إذ لا معصية منه، والمرجو أن الله تعالى يعوض صاحب الحق، وقد أشار إلى هذا إمام الحرمين في أول كتاب النكاح: وتباح الاستدانة لحاجة في غير معصية ولا سرف إذا كان يرجو الوفاء به جهة، أو سبب ظاهر. والله أعلم. وإن تعلق بالمعصية حق ليس بمالي، فإن كان حدا لله تعالى بأن زنى أو شرب، فإن لم يظهر عليه، فله أن يظهره، ويقر به ليقام عليه الحد، ويجوز أن يستر على نفسه وهو الافضل، فإن ظهر، فقد فات الستر، فيأتي الامام ليقيم عليه الحد، قال ابن الصباغ: إلا إذا تقادم عليه العهد، وقلنا: يسقط الحد. وإن كان حقا(8/220)
للعباد، كالقصاص وحد القذف، فيأتي المستحق، ويمكنه من الاستيفاء، فإن لم يعلم المستحق، وجب في القصاص أن يعلمه، فيقول: أنا الذي قتلت أباك، ولزمني القصاص، فإن شئت، فاقتص، وإن شئت فاعف. وفي حد القذف سبق في كتب اللعان خلاف في وجوب إعلامه، وقطع العبادي وغيره هنا بأنه يجب إعلامه، كالقصاص. وأما الغيبة إذا لم تبلغ المغتاب، فرأيت في فتاوى الحناطي أنه يكفيه الندم والاستغفار، وإن بلغته، أو طرد طارد قياس القصاص والقذف فيها، فالطريق أن يأتي المغتاب ويستحل منه، فإن تعذر لموته، أو تعسر لغيبته البعيدة، استغفر الله تعالى، ولا اعتبار بتحليل الورثة، هكذا ذكره الحناطي وغيره، قال العبادي: والحسد كالغيبة وهو أن يهوى زوال نعمة الغير، ويسر ببليته، فيأتي المحسود ويخبره بما أضمره ويستحله، ويسأل الله تعالى أن يزيل عنه هذه الخصلة، وفي وجوب الاخبار عن مجرد الاضمار بعيد. قلت: المختار بل الصواب أنه لا يجب إخبار المحسود، بل لا يستحب، ولو قيل: يكره لم يبعد. وهل يكفي الاستحلال من الغيبة المجهولة، أم يشترط معرفتها للعافي ؟ فيه وجهان سبقا في كتاب الصلح. والله أعلم. فرع لو قصر فيما عليه من دين ومظلمة، ومات المستحق، واستحقه وارث بعد وارث، ثم مات ولم يوفهم، فمن يستحق المطالبة به في الآخرة ؟ فيه أوجه أرجحها - وبه أفتى الحناطي - أنه صاحب الحق أولا، والثاني أنه آخر من مات من ورثته، أو ورثة ورثته وإن نزلوا، والثالث ذكره العبادي في الرقم: أنه يكتب الاجر لكل وارث مدة حياته، ثم بعده لمن بعده، ولو دفع إلى بعض الوارثين عند انتهاء الاستحقاق إليه، خرج عن مظلمة الجميع فيما سوف ومطل. وأما التوبة في الظاهر، فالمعاصي تنقسم إلى فعلية وقولية، أما الف علية، كالزنى والسرقة والشرب، فإظهار التوبة منها لا يكفي في قبول الشهادة، وعوالولاية، بل يختبر مدة يغلب على الظن فيها أنه قد أصلح عمله وسريرته، وأنه صادق في توبته، وفي تقدير هذه المدة أوجه الاكثرون أنها سنة، والثاني: ستة أشهر، ونسبوه إلى النص،(8/221)
والثالث: لا يتقدر بمدة إنما المعتبر حصول غلبة الظن بصدقه، ويختلف ذلك بالاشخاص، وأمارات الصدق، وهذا اختيار الامام والعباد والغزالي. وأما القولية، فمنها القذف، ويشترط في التوبة منه القول، كما أن التوبة من الردة بكلمتي الشهادة. قال الشافعي رحمه الله: التوبة منه إكذابه نفسه، فأخذ الاصطخري بظاهره، وشرط أن يقول: كذبت فيما قذفت، ولا أعود إلى مثله. وقال الجمهور: لا يكلف أن يقول: كذبت، فربما كان صادقا، فكيف نأمره بالكذب ؟ ولكن يقول: القذف باطل وإني نادم على ما فعلت، ولا أعود إليه، أو يقول: ما كنت محقا في قذفي، وقد تبت منه، ونحو ذلك. وسواء في هذا القذف على سبيل السب والايذاء، والقذف على صورة الشهادة إذا لم يتم عدد الشهود، إن قلنا بوجوب الحد على من شهد، فإن لم نوجب، فلا حاجة بالشاهد إلى التوبة. ويشبه أن يشترط في هذا الاكذاب كونه عند القاضي. ثم إذا تاب بالقول، فهل يستبرئ المدة المذكورة إذا كان عدلا قبل القذف ؟ ينظر إن كان القذف على صورة الشهادة لم يشترط على المذهب، وإن كان قذف سب وإيذاء، اشترط على المذهب. واعلم أن اشتراط التوبة بالقول في القذف مشكل، وإلحاقه بالردة ضعيف، فإن إشتراط كلمتي الشهادة مطرد في الردة القولية والفعلية، كإلقاء المصحف في القاذورات، ثم مقتضى ما ذكروه في القذف أن يشترط التوبة بالقول في سائر المعاصي القولية، كشهادة الزور والغيبة والنميمة وقد صرح صاحب المهذب بذلك في شهادة الزور، فقال: التوبة منها أن يقول: كذبت فيما فعلت ولا أعود إلى مثله. فروع لو قذف وأتى ببينة على زنى المقذوف، فوجهان، حكاهما الامام، أحدهما: لا تقبل شهادته، لانه ليس له أن يقذف، ثم يقيم البينة، بل كان ينبغي أن يجئ مجئ الشهود، والصحيح القبول، لان صدقه قد تحقق بالبينة، وكذا الحكم لو اعترف المقذوف، وكذا لو قذف زوجته ولاعن، وسواء في رد الشهادة، وكيفية التوبة قذف محصنا أو غيره حتى لو قذف عبد نفسه، ردت شهادته،(8/222)
ويكفي تحريم القذف سببا للرد، وشاهد الزور يستبرئ، كسائر الفسقة فإذا ظهر صلاحه، قبلت شهادته في غير تلك الواقعة، ومن غلط في شهادة لا يشترط استبراؤه، وتقبل شهادته في غير واقعة الغلط، ولا تقبل فيها. قلت: التوبة من أصول الاسلام المهمة، وقواعد الدين، وأول منازل السالكين، قال الله تعالى: * (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون) * فالتوبة من المعصية واجبة على الفور بالاتفاق، وقد تقدمت صفتها، وتصح التوبة من ذنب وإن كان ملابسا ذنبا آخر مصرا عليه، ولو تاب من ذنب، ثم فعله مرة أخرى، لم تبطل التوبة، بل هو مطالب بالذنب الثاني دون الاول. ولو تكررت التوبة، ومعاودة الذنب، صحت، هذا مذهب الحق في المسلمين خلافا للمعتزلة. قال إمام الحرمين في الارشاد: والقتل الموجب للقود تصح التوبة منه قبل تسليم القاتل نفسه ليقتص منه، فإذا ندم، صحت توبته في حق الله تعالى، وكان منعه القصاص من مستحقه معصية مجددة، ولا يقدح في التوبة، بل يقتضي توبة منها، ومن تاب عن معصية ثم ذكرها قال الامام القاضي أبو بكر بن الباقلاني رحمه الله: يجب عليه تجديد الندم عليها كلما ذكرها إذ لو لم يندم، لكان مستهينا بها، وذلك ينافي الندم. واختار إمام الحرمين أنه لا يجب، ولا يلزم من ذكرها بلا ندم الاستهانة، بل قد يذكر، ويعرض عنها. قال القاضي: وإذا لم يجدد التوبة كان ذلك معصية جديدة، والتوبة الاولى صحيحة، لان العبادة الماضية لا ينقضها شئ بعد فراغها، قال: فيجب تجديد توبة عن تلك المعصية، وتجب توبة من ترك التوبة إذا حكمنا بوجوبها. قال الامام: وإذا أسلم الكافر، فليس إسلامه توبة عن كفره، وإنما توبته ندمه على كفره، ولا يتصور أن يؤمن ولا يندم على كفره، بل تجب مقارنة الايمان للندم على الكفر، ثم وزر الكفر يسقط بالايمان، والندم على الكفر بالاجماع، هذا مقطوع، وما سواه من ضروب التوبة، فقبوله مظنون غير مقطوع به، وقد أجمعت الامة على أن الكافر إذا أسلم وتاب عن كفره، صحت توبته، وإن استدام معاصي(8/223)
أخر، هذا كلام الامام، وهذا الذي قاله ان القبول مظنون هو الصحيح. وقال جماعة من متكلمي أصحابنا: هو مقطوع. والله أعلم. فصل إذا حكم القاضي بشهادة اثنين، ثم بان له أنهما كانا عبدين، أو كافرين، أو صبيين، أو امرأتين، نقض حكمه، لانه تيقن الخطأ، كما لو حكم باجتهاده، فوجد النص خلافه، ولو بان ذلك لقاض آخر نقضه أيضا. فإن قيل: قد اختلف العلماء في شهادة العبد، فكيف نقض الحكم في محل الاختلاف والاجتهاد ؟ فالجواب أن الصورة مفروضة فيمن لا يعتقد الحكم بشهادة العبد وحكم بشهادة من ظنهما حرين، ولا اعتداد بمثل هذا الحكم، ولانه حكم يخالف القياس الجلي، لان العبد ناقص في الولايات، وسائر الاحكام، فكذا الشهادة. وإن بان أنه حكم بشهادة فاسقين، نقض حكمه على الاظهر، وقيل: قطعا. ولو شهد عدلان، ثم فسقا قبل أن نحكم بشهادتهما لم نحكم بها قطعا، لان الفسق يخفى غالبا، فربما كانا فاسقين عند الشهادة. ولو ارتدا قبل الحكم، لم يحكم على الصحيح، لانها توقع ريبة، وقيل: لا يؤثر حدوثها بعد شهادتهما. وقال الداركي: إن ارتد إلى كفر يستسر أهله به، فكالفسق، وإلا فلا يؤثر. ولو شهدا في حد أو مال، ثم ماتا أو جنا أو عميا، أو خرسا، لم يمنع حدوث هذه الاحوال الحكم بشهادتهما، لانها لا توهم ريبة فيما مضى. ويجوز وقوع التعديل بعد حدوثها. ولو فسق الشاهدان، أو ارتدا بعد الحكم بشهادتهما، وقبل الاستيفاء، فهو كرجوع الشاهدين بعد الحكم، وقبل الاستيفاء، وفيه خلاف وتفصيل سنذكره في بابه إن شاء الله تعالى، والمذهب أنه لا يؤثر في المال، بل يستوفى. فرع قال القاضي بعد الحكم بشهادة شاهدين: قد بان لي أنهما كانا فاسقين، ولم تظهر بينة بفسقهما، قال الغزالي في الفتاوي: إذا لم يتهم في(8/224)
قضائه بعلمه مكن من ذلك أيضا، قال: ولو قال: أكرهني السلطان على الحكم بقولهما، وكنت أعرف فسقهما، قبل قوله من غير بينة الاكراه، ولو بان بالبينة أن الشاهدين كانا والدين للمشهود له، أو ولدين، أو عدوين للمشهود عليه، نقض الحكم، وبالله التوفيق.
الباب الثاني : في العدد والذكورة قول الشاهد الواحد لا يكفي الحكم به إلا في هلال رمضان على الاظهر، وأما القضاء بشاهد ويمين وإن قلنا على وجه: إن القضاء بالشاهد، فليس فيه اكتفاء بشاهد، بل يشترط معه اليمين. ثم الشهادات ثلاثة أضرب، الاول: الشهادة على الزنى، فلا تثبت إلا بأربعة رجال، وتثبت الشهادة على الاقرار بالزنى برجلين على الاظهر، وفي قول: يشترط أربعة، ولا يثبت اللواط وإتيان البهيمة إلا بأربعة على المذهب، ويثبت القذف بشاهدين على المشهور، ونقل أبو عاصم قولا قريبا في اشتراط أربعة. فرع سبق في السرقة أنه يشترط في الشهادة على الزنى أن يذكروا التي زنى(8/225)
بها، وأن يذكروا الزنى مفسرا، فيقولون: رأينا أدخل ذكره، أو قدر الحشفة منه في فرج فلانة على سبيل الزنى. ولا يكفي إطلاقه الزنى، فقد يظنون المفاخذة زنى، وقد تكون الموطوءة جارية ابنه، أو مشتركة بينه وبين غيره بخلاف ما لو ادعت وطئ شبهة، وطلبت المهر، فإنه يكفي الشهادة على الوطئ، ولا يشترط قولهم: رأينا ذلك منه في ذلك منها، لان المقصود هناك المال، فلم يلزم هذا الاحتياط، وقد وقع في كلام الغزالي وغيره أن الشاهد يقول: رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة، وهذا التشبيه زيادة بيان، وليس بشرط، صرح به القاضي أبو سعد. فرع هل يجوز النظر إلى الفرج لتحمل شهادة الزنى أو ولادة، أو عيب باطن أم لا، وإنما يشهد عليه عند وقوع النظر إليه اتفاقا ؟ فيه أوجه سبقت في أول النكاح، الاصح المنصوص الجواز، والثاني: المنع، والثالث: المنع في الزنى دون غيره، والرابع عكسه. الضرب الثاني: ما ليس بمال، ولا يقصد منه مال، فإن كان عقوبة، لم تثبت إلا برجلين سواء فيه حق الله تعالى، كحد الشرب، وقطع الطريق، وقتل الردة، وحق العباد كالقصاص في النفس، أو الطرف، وحد القذف. والتعزير كالحد، ولا مدخل لشهادة النساء فيها. وإن كان غير عقوبة، فهو نوعان أحدهما: يطلع عليه الرجال غالبا، فلا يقبل فيه إلا رجلان، وذلك كالنكاح والرجعة، والطلاق والعتاق، والاسلام والردة، والبلوغ والايلاء، والظهار والاعسار، والموت، والخلع من جانب المرأة، والولاء وانقضاء العدة، وجرح الشهود وتعديلهم، والعفو عن القصاص والاحصان، والكفالة والشهادة برؤية هلال غير رمضان، والشهادة على الشهادة، والقضاء والولاية إن اشترطنا فيهما الشهادة، والتدبير والاستيلاد، وكذا الكتابة على الصحيح، وقيل: تثبت الكتابة برجل وامرأتين، ومنه الوكالة والوصاية(8/226)
وإن كانتا من المال، لانهما ولاية وسلطنة. ومنه القراض، وكذا الشركة على الاصح، وقيل: تثبت برجل وامرأتين. النوع الثاني: ما لا يطلع عليه الرجال، وتختص النساء بمعرفته غالبا، فيقبل فيه شهادتهن منفردات، وذلك كالولادة، والبكارة، والثيابة، والرتق، والقرن، والحيض، والرضاع، وعيب المرأة من برص وغيره تحت الازار، حرة كانت أو أمة، وكذا استهلال الولد على المشهور، فكل هذا النوع لا يقبل فيه إلا أربع نسوة أو رجلين، أو رجل وامرأتين، قال البغوي: والعيب في وجه الحرة وكفيها لا يثبت إلا برجلين، وفي وجه الامة وما يبدو منها في المهنة يثبت برجل وامرأتين، لان المقصود منه المال. قال: والجراحة على فرج المرأة لا يلحق بالعيب، لان جنس الجراحة مما يطلع عليه الرجل غالبا، هكذا قاله، لكن جنس العيب مما يطلع عليه الرجال غالبا، لكن لا يطلعون على العيب الخاص، وكذا هذه الجراحة. قلت: الصواب إلحاق الجراحة على فرجها بالعيوب تحت الثياب، وعجب من البغوي كونه ذكر خلاف هذا، وتعلق بمجرد الاسم. والله أعلم. الضرب الثالث: ما هو مال أو المقصود منه مال، كالاعيان والديون، والعقود المالية، فيثبت برجلين وبرجل وامرأتين، ولا يثبت بنسوة منفردات، فمن هذا الضرب البيع والاقالة، والاجارة، والرد بالعيب، والحوالة، والضمان، والصلح، والقرض والشفعة والمسابقة، وخيول المسابقة، والغصب، والايلاء، والوصية بمال، والمهر في النكاح، ووطئ الشبهة، والجنايات التي لا توجب إلا المال، كقتل الخطأ وقتل الصبي والمجنون، وقتل الحر العبد، والمسلم الذمي، والوالد الولد، والسرقة التي لا قطع فيها، وكذا حقوق الاموال، والعقود كالخيار، وشرط(8/227)
الرهن، والاجل وفي الاجل وجه، لانه ضرب سلطنة، ومنه قبض الاموال، منها نجوم الكتابة، وفي النجم الاخير وجه ضعيف أنه يشترط له رجلان، لتعلق العتق به، ومنه الرهن والابراء على الصحيح فيهما، ومنه طاعة الزوجة لاستحقاق النفقة، وقتل الكافر لاستحقاق السلب، وإدمان الصيد، لتملكه، وعجز المكاتب عن النجوم، ومنه الوقف، وفي ثبوته برجل وامرأتين ما سنذكره إن شاء الله تعالى في الباب الرابع في ثبوته بشاهد ويمين. ولو مات سيد المدبر، فادعى الوارث أنه كان رجع عن التدبير، وقلنا: يجوز الرجوع، ثبت برجل وامرأتين. ولو ادعى رق شخص، أو ادعى جارية في يد غيره أنها أم ولد، ثبت برجل وامرأتين، ولو توافق الزوجان على الطلاق، وقال الزوج: طلقتك على كذا، وقالت: بل مجانا، ثبتت دعواه برجل وامرأتين، وكذا لو فالعبده: أعتقتك بكذا، فقال: مجانا. ولو توافقا على النكاح، واختلفا في قدر المهر أو صفته، أو على الخلع، واختلفا في إ قدر العوض، أو صفته، ثبت برجل وامرأتين، وكذا لو توافق السيد والعبد على الكتابة، واختلفا في قدر النجوم أو صفتها، والاقرار بكل ما يثبت برجلين يثبت برجل وامرأتين، وفسخ العقود المالية يثبت برجل وامرأتين، وفسخ الطلاق لا يثبت إلا برجلين. فرع الخنثى المشكل كالمرأة في الشهادة. فرع لو شهد بالسرقة رجل وامرأتان ثبت المال، وإن لم يثبت القطع، وحكي قول أنه لا يثبت المال، كما لو شهد بقتل العمد رجل وامرأتان، فإنه لا يثبت الدية كما لا يثبت القصاص، والمشهور الاول. ولو شهد رجل وامرأتان على صداق(8/228)
في نكاح، ثبت الصداق، لانه المقصود. ولو علق طلاق امرأته، أو عتق عبده على الولادة، فشهد بالولادة أربع نسوة ثبتت الولادة دون الطلاق والعتق، وكذا لو علقهما على الغصب والاتلاف، فشهد بهما رجل وامرأتان ثبت الغصب والاتلاف، ولا يقع الطلاق والعتق كما سبق في كتاب الصوم أنا إذا أثبتنا هلال رمضان بعدل لا يحكم بوقوع الطلاق والعتق المعلقين برمضان، ولا بحلول الدين المؤجل به، هذا إذا تقدم التعليق، فلو ثبت الغصب أولا برجل وامرأتين، وحكم الحاكم به، ثم جرى التعليق، فقال لها: إن كنت غصبت، فأنت طالق، وقد ثبت غصبها برجل وامرأتين وقع الطلاق، هكذا قاله ابن سريج وجمهور الاصحاب، وقياسه أن يكون الحكم هكذا في التعليق برمضان، وحكى الامام عن حكاية شيخه وجها أنه لا يقع. فصل إذا ادعى على إنسان مالا، وشهد له به اثنان، نظر إن كان عينا وطلب المدعي الحيلولة بينهما وبين المدعى عليه إلى أن يزكى الشاهدان، أجيب إليه على الاصح، وقيل: لا يجاب، وقيل: يجاب إن كان المال مما يخاف تلفه أو تعيبه، وإن كان عقارا ونحوه، فلا، وإن كان المدعى دينا، لم يستوف قبل التزكية، وقيل: يستوفى ويوقف، حكاه ابن القطان، والصحيح الاول، فلو طلب المدعي أن يحجر على المدعى عليه، نقل الامام عن الجمهور أنه لا يجيبه، وعن القاضي حسين أنه إن كان يتهمه بحيلة حجر عليه، لئلا يضيع ماله بالتصرفات والاقارير، ولم يتعرض عامة الاصحاب للحجر، لكن قالوا: هل يحبس المدعى عليه إذا كان المدعى دينا، فيه وجهان، قال البغوي: أصحهما نعم، فإن قلنا: لا، فللمدعي ملازمته إلى أن يعطيه كفيلا وأجرة من يبعثه القاضي معهما للتكفيل على المدعى، وإن كان المدعى قصاصا، أو حد قذف، حبس المشهود عليه، لان الحق متعلق ببدنه، فيحتاط له. قلت: قال البغوي: سواء قذف زوجته أو أجنبيا. والله أعلم. ولا يحبس في حدود الله تعالى، وأما في دعوى النكاح، فتعدل المرأة عند(8/229)
امرأة ثقة، وتمنع من الانتشار والخروج، وفيه وجه ضعيف، فعلى هذا الوجه هل يؤخذ منها كفيل ؟ وجهان، قال القاضي أبو سعد: فإن كانت المرأة مزوجة، لم يمنع منها زوجها قبل التعديل، لانه ليس مدعى عليه، ولو شهد اثنان لعبد بأن سيده أعتقه، وطلب العبد الحيلولة قبل التزكية، أجله القاضي، وحال بينه وبين سيده، ويؤجره وينفق عليه، فما فضل فموقوف بينه وبين السيد، فإن لم يكن له كسب، أنفق عليه من بيت المال، ثم يرجع على سيده إن بان جرح الشهود واستمر الرق، وكذا الاعيان المنتزعة يؤجرها، وهل تتوقف الحيلولة على طلب العبد ؟ وجهان، الاصح: لا، بل إذا رأى الحاكم الحيلولة، فعلها، وفي الامة تتحتم الحيلولة احتياطا للبضع، وكذا لو ادعت المرأة الطلاق، وأقامت شاهدين، فرق الحاكم بينهما قبل التزكية، والوجهان في اشتراط طلب العبد للحيلولة جاريان في انتزاع العين المدعاة، ويقرب منها وجهان، حكاهما ابن كج في أن إجارة العبد هل تفتقر إلى طلب السيد أو العبد، أم يؤجره بغير طلبهما ؟ والثاني أقرب إلى ظاهر النص، هذا كله إذا أقام المدعي شاهدين، فلو أقام شاهدا، وطلب الانتزاع قبل أن يأتي بآخر هل يجاب ؟ قولان أظهرهما عند الجمهور: لا، لان الشاهد وحده ليس بحجة، وفي الشاهدين تمت الحجة، وهل يحبس المدعى عليه في القصاص والقذف بشاهد ؟ فيه القولان، ويجري فيه الخلاف في دعوى النكاح تعديلا، ثم تكفيلا إن لم يعدل، وفي دعوى العتق والطلاق هل يحال ؟ فيه القولان، ثم ذكر العراقيون والروياني أن الحيلولة والحبس قبل التعديل يتعينان إلى ظهور الامر للقاضي بالتزكية أو الجرح، ولا تقدر له مدة، والحيلولة والحبس بشاهد إذا قلنا به لا يزادان على ثلاثة أيام، وعن أبي إسحق أنه لا حيلولة ولا حبس إذا كان الشاهد الآخر غائبا لا يحضر إلا بعد ثلاثة أيام، وإنما محل القولين إذا كان قريبا، والمذهب ما سبق. فرع قال البغوي: إذا حال القاضي بين العبد وسيده، أو انتزع العين المدعاة بعد شهادة الشاهدين وقبل التزكية، لم ينفذ تصرف المتداعيين فيه، لكن لو(8/230)
أقر أحدهما بالموقوف لآخر أو أوصى به أو دبره أو أعتقه، انتظرنا ما يستقر عليه الامر آخرا، وحكى القاضي أبو سعد وجهين في نفوذ تصرفه، وصوره فيما إذا حجر القاضي على المشهود عليه في المشهود به، فإن أراد بالحجر الحيلولة، حصل الخلاف، وإن أراد التلفظ بالحجر أشعر ذلك باشتراط الحجر القولي في امتناع التصرف، قال: وإذا قامت البينة، وحصل التعديل، والقاضي ينظر في وجه الحكم، فينبغي أن يحجر عليه في مدة النظر، فإن حجر لم ينفذ تصرفه، قال البغوي: وقبل الحيلولة والانتزاع لا ينفذ تصرف المدعي، وينفذ تصرف المدعى عليه، إن قلنا: إن طلب المدعي شرط في الوقف، وإلا فوجهان. فرع الثمرة والغلة الحادثان بعد شهادة الشاهدين وقبل التعديل تكون للمدعي وبين شهادة الاول وشهادة الثاني لا يكون للمدعي إلا إذا أرخ الثاني ما شهد به بيوم الاول أولا أو بما قبله، فإن استخدم السيد العبد المدعي للعتق بين شهادة الاول والثاني على قولنا لا يحال بينهما وشهد الثاني هكذا لزمه أجرة المثل، وبالله التوفيق.
الباب الثالث : في مستند علم الشاهد، وحكم تحمل الشهادة وأدائها فيه ثلاثة أطراف.
الأول : فيما يحتاج إلى الإبصار، والاصل في الشهادة البناء على العلم واليقين، لكن من الحقوق ما لا يحصل اليقين فيه، فأقيم الظن المؤكد فيه مقام اليقين، وجوزت الشهادة بناء على ذلك الظن كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقد قسم الشافعي والاصحاب رحمهم الله المشهود به ثلاثة أقسام أحدها: ما يكفي فيه السماع، ولا يحتاج إلى الابصار، وموضع بيانه الطرف الثاني. الثاني: ما يكفي فيه الابصار وهو الافعال، كالزنى، والشرب، والغصب، والاتلاف، والولادة، والرضاع، والاصطياد، والاحياء، وكون المال في يد الشخص، فيشترط فيها الرؤية المتعلقة بها وبفاعلها، فلا يجوز بناء الشهادة فيها(8/231)
على السماع من الغير، وتقبل فيها شهادة الاصم. الثالث: ما يحتاج إلى السمع والبصر معا، كالاقوال، فلا بد من سماعها ومشاهدة قائلها، وذلك كالنكاح والطلاق، والبيع، وجميع العقود، والفسوخ، والاقرار بها، فلا يقبل فيها شهادة الاصم الذي لا يسمع شيئا، ولا تقبل شهادة الاعمى فيما يحتاج إلى الابصار، ولا يصح منه التحمل اعتمادا على الصوت، فإن الاصوات تتشابه ويتطرق إليها التخييل والتلبيس مع أنه لا ضرورة إلى شهادته للاستغناء بالبصراء بخلاف الوطئ، فإن له أن يطأ زوجته اعتمادا على صوتها بالاجماع للضرورة، ولان الوطئ يجوز بالظن، ولا تقبل شهادته على زوجته التي يطأها كما لا تقبل على الاجانب، لان الوطئ ضرورة، وقد سبق وجه أن العمى لا يقدح في القضاء وهو مع ضعفه جار في الشهادة، والصواب المنع، ويستثنى عن هذا صورة الضبطة، وهي أن يضع رجل فمه على أذنه ويد الاعمى على رأسه، فينظر إن سمعه يقر بطلاق أو عتق أو لرجل معروف الاسم، والنسب بمال، ويتعلق(8/232)
به الاعمى، ولا يزال يضبطه حتى يشهد بما سمع منه عند القاضي، فيقبل هذه الشهادة على الصحيح لحصول العلم، وقيل: لا يقبل سدا للباب مع عسر ذلك، وتقبل رواية الاعمى ما سمعه حال العمى على الصحيح، وبه قطع الجمهور إذا حصل الظن الغالب بضبطه، واختار الامام المنع، فأما ما سمعه قبل العمى، فتقبل روايته في العمى بلا خلاف، ولو تحمل شهادة تحتاج إلى البصر وهو بصير، ثم عمي، نظر إن تحمل على رجل معروف الاسم والنسب يقر لرجل بهذه الصفة، فله أن يشهد بعدما عمي، ويقبل لحصول العلم، وكذا لو عمي ويد المقر في يده، فشهد عليه لمعروف الاسم والنسب. وإن لم يكن كذلك، لم تقبل شهادته، ويجوز الاعتماد على ترجمة الاعمى على الاصح، ولو عمي القاضي بعد سماع البينة وتعديلها، ففي نفوذ قضائه في تلك الواقعة وجهان، أحدهما لا، لانعزاله بالعمى، كما لو انعزل بسبب آخر، وأصحهما: نعم إن لم يحتج إلى الاشارة، كما لو تحمل الشهادة وهو بصير، ثم عمي، وأما شهادة الاعمى فيما يثبت بالاستفاضة، فسيأتي في الطرف الثاني إن شاء الله تعالى. فصل إذا شاهد فعل إنسان، أو سمع قوله، فإن كان يعرفه بعينه واسمه ونسبه، شهد عليه عند حضوره بالاشارة إليه، وعند غيبته وموته باسمه ونسبه، فإن كان يعرفه باسمه واسم أبيه دون جده، قال الغزالي: يقتصر عليه في الشهادة، فإن عرفه القاضي بذلك، جاز، وكان يحتمل أن يقال: هذه شهادة على مجهول، فلا تصح كما سبق في القضاء على الغائب أن القاضي لو لم يكتب إلا أني حكمت على محمد بن أحمد، فالحكم باطل. وقد ذكر الشيخ أبو الفرج أنه إذا لم يعرف نسبه قدر ما يحتاج إلى رفعه لا يحل له أن يشهد إلا بما عرف، لكن الشهادة والحالة هذه لا تفيد، وقال الامام: لو لم يعرفه إلا باسمه لم يتعرض لاسم أبيه، لكن الشهادة على مجرد الاسم قد لا تنفع في الغيبة، وبالجملة لا يشهد بما لا معرفة له به. ولو سمع اثنين يشهدان أن فلانا وكل هذا الرجل في بيع داره، وأقر الوكيل بالبيع، شهد على إقراره بالبيع، ولم يشهد بالوكالة. وكتب القفال في مثله أنه يشهد على شاهدي الوكالة، وكأنهما أشهداه على شهادتهما، ولو حضر عقد نكاح زعم الموجب(8/233)
أنه ولي المخطوبة، أو وكيل وليها وهو لا يعرفه وليا ولا وكيلا، أو عرف الولاية أو الوكالة، ولم يعرف رضى المرأة وهي ممن يعتبر رضاها، لم يشهد على أنها زوجته، لكن يشهد أن فلانا أنكح فلانة فلانا، وقيل: فلان فإن لم يعرف المرأة بنسبها لم يشهد إلا أن فلانا قال: زوجت فلانة فلانا، وإن كان يعرف المشهود عليه بعينه دون اسمه ونسبه، شهد عليه حاضرا لا غائبا، فإن مات أحضر ليشاهد صورته، ويشهد على عينه، فإن دفن، لم ينبش، وقد تعذرت الشهادة عليه، هكذا قاله القاضي حسين، وتابعه الامام والغزالي، لكن استثنى الغزالي ما إذا اشتدت الحاجة إليه، ولم يطل العهد بحيث يتغير منظره وهذا احتمال ذكره الامام، ثم قال: والاظهر ما ذكره القاضي. وإن لم يعرف اسمه ونسبه، لم يكن له أن يعتمد قوله: إنه فلان ابن فلان، لكن لو تحمل الشهادة وهو لا يعرف اسمه ونسبه، ثم سمع الناس يقولون: إنه فلان ابن فلان، واستفاض ذلك، فله أن يشهد في غيبته على اسمه ونسبه، كما لو عرفهما عند التحمل. ولو قال له عدلان عند التحمل أو بعده: هو فلان ابن فلان، قال الشيخ أبو حامد: له أن يعتمدهما، ويشهد على اسمه ونسبه، وهذا مبني على جواز الشهادة على النسب من عدلين، وفيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى. فرع كما أن المشهود عليه تارة تقع الشهادة على عينه، وتارة على اسمه ونسبه، فكذلك المشهود له، فتارة يشهد أنه أقر لهذا، وتارة لفلان ابن فلان، وكذا عند غيبة المشهود له، وإذا شهد الشاهدان أن لهذا على فلان ابن فلان الفلاني كذا، فقال الخصم: لست فلان ابن فلان الفلاني، ففي فتاوى القفال أن على(8/234)
المدعي بينة أن اسمه فلان، ونسبه ما ذكراه، فإن لم يكن بينة حلفه، فإن نكل، حلف واستحق، وإن سلم ذلك الاسم والنسب، فادعى أن هناك من يشاركه فيهما، لم يقبل منه حتى يقيم البينة على ما يدعيه، فإن أقامها احتاج إلى اثبات زيادة يمتاز بها المدعى عليه على الآخر، وهذا كما سبق في كتاب القاضي إذا بلغ المكتوب إليه، وأحضر من زعم المدعي أنه المحكوم عليه، ولتكن الصورة فيما إذا ادعى أنه يستحق على هذا الحاضر كذا، واسمه ونسبه كذا، أو أنه يستحق على من اسمه ونسبه كذا وهو هذا الحاضر، وأقام البينة بالاستحقاق على فلان ابن فلان، فيستفيد بها مطالبة الحاضر إن اعترف أنه فلان ابن فلان، أو يقيم بينة أخرى على الامم و النسب إن أمكن، ثم يطالبه وإلا فكيف يدعي على فلان ابن فلان من غير أن يربط الدعوى بحاضر، وفي الفتاوى أيضا أنه لو أحضر رجلا عند القاضي، وقال: إن هذا أقر لفلان ابن فلان بكذا وأنا ذلك المقر له، فقال الرجل: نعم أقررت، لكن هنا أو بموضع آخر رجل آخر بهذا الاسم والنسب، وإنما أقررت له، لزمه إقامة البينة على ما يدعيه، فإذا أقامها، سئل ذلك الآخر، فإن صدقه، دفع المقر به إليه، ويحلف الاول على أنه لا شئ له عليه، وإن كذبه، فهو للمدعي، وإن قال: هناك رجل آخر بهذا الاسم والنسب وأنا أقررت لاحدهما، لا أعلم عينه، وأقام البينة برجل آخر سئل ذلك الآخر، فإن قال: لا شئ لي عليه، فينبغي أن يجب عليه التسليم إلى الاول كما لو كانت عنده وديعة، فقال: هي لاحدكما، ولا أدري أنها لايكما، فقال أحدهما: ليست لي، فإنها تكون للآخر، وإن صدقه الآخر، فهو كما في صورة الوديعة إذا قال كل واحد: هي لي، وقد حكينا في الوكالة فيما لو وكل رجلا بالخصومة بناء على اسم ونسب ذكره أنه لا بد من بينة على أنه وكيله فلان ابن فلان، أو على أن الذي وكله عند القاضي هو فلان ابن فلان وحكينا عن القاضي حسين أن هذه المسألة يكتفي القضاة فيها بالعدالة الظاهرة، ويتساهلون في البحث والاستزكاء. وعن القاضي أبي سعد الهروي أنه يكتفى فيها بمعرف واحد، وكل واحد من هذين الكلامين ينبغي أن يعود هنا حيث احتيج إلى إثبات كونه فلان ابن(8/235)
فلان. فصل المرأة المتنقبة لا يجوز الشهادة عليها اعتمادا على الصوت، كما لا يجوز أن يتحمل الاعمى اعتمادا على الصوت، وكذا البصير في الظلمة، أو من وراء حائل صفيق، والحائل الرقيق لا يمنع على الاصح. وإذا لم يجز التحمل بالصوت، فإن عرفها متنقبة باسمها ونسبها أو بعينها لا غير، جاز التحمل، ولا يضر النقاب، ويشهد عند الاداء بما يعلم، فإن لم يعرفها، فلتكشف عن وجهها ليراها الشاهد ويضبط حليتها وصورتها، ليتمكن من الشهادة عليها عند الحاجة إلى الاداء، وتكشف وجهها حينئذ. ولا يجوز التحمل بتعريف عدل أو عدلين انها فلانة بنت فلان، فإن قال عدلان يشهدان: هذه فلانة بنت فلان تقر بكذا، فهما شاهدا الاصل، والذي يسمع منهما شاهد فرع يشهد على شهادتهما عند اجتماع الشروط. ولو سمعه من عدل واحد، شهد على شهادته، والشهادة على الشهادة والحالة هذه تكون على الاسم والنسب دون العين، هذا ما ذكره أكثر المتكلمين في المسألة، وفي وجه ثان عن الشيخ أبي محمد أنه يكيفه لتحمل الشهادة عليها معرف واحد سلوكا به مسلك الاخبار، وبهذا قال جماعة من المتأخرين، منهم القاضي شريح الروياني، ووجه ثالث أنه يجوز التحمل إذا سمع من عدلين أنها فلانة بنت فلان، ويشهد على اسمها ونسبها عند الغيبة، وهذا ما سبق عن الشيخ أبي حامد بناء على أنه تجوز الشهادة على النسب بالسماع من عدلين، ووجه عن الاصطخري أنه إذا كان يعرف نسب امرأة، ولا يعرف عينها، فدخل دارها وفيها نسوة سواها، فقال لابنها الصغير: أيتهن أمك، أو لجاريتها أيتهن سيدتك، فأشارا إلى امرأة، فسمع إقرارها، جاز له أن يشهد أن فلانة بنت فلان أقرت بكذا، حكاه ابن كج عنه، ولم يجعل قول شاهدين على قول الاصطخري كإخبار الصغير والجارية، وادعى أن ذلك أشد وقعا في القلب وأثبت. ولك أن تقول: ينبغي أن لا يتوقف جواز التحمل على كشف الوجه لا على المعرف، لان من أقرت تحت نقاب، ورفعت إلى القاضي(8/236)
والمتحمل ملازمها أمكن الشهادة على عينها، وقد يحضر قوم يكتفى بإخبارهم في التسامع قبل أن تغيب المرأة إذا لم يشترط في التسامع طول المدة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فيخبرون عن اسمها ونسبها، فيتمكن من الشهادة على اسمها ونسبها، بل ينبغي أن يقال: لو شهد اثنان تحملا الشهادة على امرأة لا يعرفانها أن امرأة حضرت يوم كذا مجلس كذا، فأقرت لفلان جكذا، وشهد عدلان أن المرأة الحاضرة، يومئذ في ذلك المكان هي هذه، ثبت الحق بالتبيين، كما لو قامت بينة أن فلان ابن فلان الفلاني أقر بكذا وقامت أخرى على أن الحاضر هو فلان ابن فلان، ثبت الحق. وإذا اشتمل التحمل على هذه الفوائد، وجب أن يجوز مطلقا، ثم إن لم يحصل ما يفيد جواز التحمل على العين، أو على الاسم والنسب، أو لم ينضم إليه ما يتم به الاثبات، فذاك لشئ آخر. ويجوز النظر إلى وجهها، لتحمل الشهادة وسماع كلامها، وهذا عند الامن من الفتنة، فإن خاف فتنة، فقد سبق أنه يحرم النظر إلى وجهها بلا خلاف فيشبه أن يقال: لا ينظر الخائف للتحمل، لان في غيره غنية، فإن تعين عليه، نظر واحترز. فرع إذا قامت بينة على عين رجل أو امرأة بحق، وأراد المدعي أن يسجل له القاضي، فالتسجيل على العين ممتنع، لكن يجوز أن يسجل بالحلية، ولا(8/237)
سبيل إلى التسجيل بالاسم والنسب ما لم يثبتا، ولا يكفي فيهما قول المدعي، ولا إقرار من قامت عليه البينة، لان نسب الشخص لا يجبت بإقراره، فلو قامت بينة على نسبه على وجه الحسبة بني على أن شهادة الحسبة هل تقبل في النسب، إن قبلناها - وهو الصحيح - اثبت القاضي النسب، وسجل، وإن لم نقبلها وهو اختيار القاضي حسين، فقال: الطريق هنا أن ينصب القاضي من يدعي على فلان ابن فلان دينا، أو على فاطمة بنت زيد، أو يدعي على زيد، ويقول: هذه بنته، وتركته عندها، وينكر المدعي عليه النسب، فيقيم المدعي البينة عليه. قال: وتجوز هذه الحيلة للحاجة، واعترض الامام بأن الدعوى الباطلة كالعدم، فكيف يجوز بناء الشهادة عليها، وكيف يأمر القاضي بها. لكن الوجه أن يقال: وكلاء المجلس يتفطنون لمثل ذلك، فإذا نصبوا مدعيا لم يفحص القاضي، ولم يضيق، بل يسمع الدعوى والبينة للحاجة. ولو أمر المدعي الذي ثبت له الحق بالبينة أن ينقل الدعوى عن العين إلى الدعوى على بنت زيد لينكر، فيقيم البينة على النسب، كان أقرب من نصب مدع جديد، وأمره بدعوى باطلة. فرع عن فتاوى القفال: شهد الشهود على امرأة باسمها ونسبها، ولم يتعرضوا لمعرفة عينها، صحت شهادتهم فإن سألهم الحاكم هل تعرفون عينها ؟ فلهم أن يسكتوا، ولهم أن يقولوا: لا يلزمنا الجواب عن هذا.
الطرف الثاني : فيما تجوز الشهادة فيه بالتسامع وهو الاستفاضة، فمنه النسب، فيجوز أن يشهد بالتسامع أن هذا الرجل ابن فلان، أو هذه المرأة إذا عرفها بعينها بنت فلان، أو أنهما من قبيلة كذا، ويثبت النسب من الام بالتسامع أيضا على الاصح، وقيل قطعا كالاب، ووجه(8/238)
المنع إمكان رؤية الولادة. ثم ذكر الشافعي والاصحاب رحمهم الله في صفة التسامع أنه ينبغي أن يسمع الشاهد المشهود بنسبه، فينسب إلى ذلك الرجل أو القبيلة، والناس ينسبونه إليه، وهل يعتبر في ذلك التكرر، وامتداد مدة السماع، قال كثيرون: نعم، وبهذا أجاب الصيمري، وقال آخرون: لا بل لو سمع انتساب الشخص، وحضر جماعة لا يرتاب في صدقهم، فأخبروه بنسبه دفعة واحدة، جاز له الشهادة. ورأى ابن كج القطع بهذا، وبه أجاب البغوي في انتسابه بنفسه، فإن قلنا بالاول، فليست المدة مقدرة بسنة على الصحيح، ويعتبر مع انتساب الشخص ونسبة الناس أن لا يعارضهما ما يورث تهمة وريبة، فلو كان المنسوب إليه حيا وأنكر، لم تجز الشهادة، وإن كان مجنونا، جازت على الصحيح، كما لو كان ميتا، ولو طعن بعض الناس في ذلك النسب هل يمنع جواز الشهادة ؟ وجهان أصحهما: نعم لاختلال الظن. فرع يثبت الموت بالاستفاضة على المذهب، وبه قطع الاكثرون، وقيل: وجهان، وهل يثبت بها الولاء والعتق والوقف والزوجية ؟ وجهان، قال الاصطخري، وابن القاص، وأبو علي بن أبي هريرة، والطبري: نعم، ورجحه ابن الصباغ، وقال أبو إسحق: لا، وبه أفتى القفال، وصححه الامام، وأبو الحسن العبادي، والروياني، قالوا: ويستحب تجديد شهود كتب الوقف إذا خاف انقراض الاصول، قال في العدة: هذا ظاهر المذهب، لكن الفتوى الجواز للحاجة. قلت: الجواز أقوى وأصح وهو المختار. والله أعلم.(8/239)
فرع المعتبر في الاستفاضة أوجه، أصحها: أنه يشترط أن يسمعه من جمع كثير يقع العلم أو الظن القوي بخبرهم، ويؤمن تواطؤهم على الكذب، وهذا هو الذي رجحه الماوردي، وابن الصباغ، والغزالي وهو أشبه بكلام الشافعي رحمه الله، والثاني: يكفي عدلان، اختاره أبو حامد، وأبو حاتم، ومال إليه الامام، والثالث: يكفي خبر واحد إذا سكن القلب إليه، حكاه السرخسي(8/240)
وغيره، فعلى الاول ينبغي أن لا يشترط العدالة ولا الحرية والذكورة. فرع لو سمع رجلا يقول لآخر: هذا ابني وصدقه الآخر، أو قال: أنا ابن فلان، وصدقه فلان، قال كثير من الاصحاب: يجوز أن يشهد به على النسب، وكذا لو استلحق صبيا، أو بالغا وسكت، لان السكوت في النسب كالاقرار. وفي المهذب وجه أنه لا يشهد عند السكوت إلا إذا تكرر عنده الاقرار والسكوت، والذي أجاب به الامام والغزالي أنه لا تجوز الشهادة على النسب بذلك، بل يشهد والحالة هذه على الاقرار، وهذا قياس ظاهر. فصل الشهادة على الملك تنبني على ثلاثة أمور وهي اليد والتصرف والتسامح، فأما اليد فلا تفيد بمجردها جواز الشهادة على الملك، لكن إذا رأى الشئ في يده، جاز أن يشهد له باليد، وشرط البغوي لذلك أن يراه في يده مدة طويلة، وحكى الامام قولا أنه لا تجوز الشهادة بالملك بمجرد اليد، والمشهور الاول، وأما التصرف المجرد، فكاليد المجردة لا يفيد جواز الشهادة بالملك، فإن اجتمع يد وتصرف فإن قصرت المدة، فهو كاليد المجردة، وإن طالت، ففي جواز الشهادة له بالملك وجهان، أصحهما: الجواز، صححه البغوي، ونقله الامام عن اختيار الجمهور، وعن الشيخ أبي محمد القطع به، فلو انضم إلى اليد والتصرف الاستفاضة، ونسبة الناس الملك إليه، جازت الشهادة بالملك بلا(8/241)
خلاف، ونقل الروياني قولا انه لا تجوز الشهادة على الملك حتى يعرف سببه وهو شاذ ضعيف. وأما الاستفاضة وحدها، فهل تجوز الشهادة على الملك بها ؟ وجهان أقربهما إلى إطلاق الاكثرين الجواز، والظاهر أنه لا يجوز، وهو محكي عن نصه في حرملة، واختارها القاضي حسين، والامام الغزالي وهو الجواب في الرقم. واعلم أن جواز الشهادة بالملك بالاستفاضة مشهورة في المذهب، فلعل من لا يكتفي به يكتفي بانضمام أحد الامرين من اليد والتصرف إليه، أو يعتبرهما جميعا، لكن لا يعتبر طول المدة فيهما، وإذا انضما إلى الاستفاضة، وإلا فهما كافيان إذا طالت المدة على الاصح، ولا يبقى للاستفاضة أثر، ويشترط في جواز الشهادة بناء على اليد أو اليد والتصرف أن لا يعرف له منازعا فيه، ونقل ابن كج وجهين في أن منازعة من لا حجة معه هل تمنع ؟ فرع طول مدة اليد والتصرف يرجع فيه إلى العادة، وقيل: أقلها سنة، والصحيح الاول، وعن الشيخ أبي عاصم أنه إن زادت على عشرة، فطويلة، وفيما دونها وجهان، والقول في عدد المخبرين هنا، وامتداد المدة كما سبق في النسب، ونقل ابن كج وجهين في أنه هل يشترط أن يقع في قلب السامع صدق المخبرين. فرع ذكر ابن كج أنه تجوز الشهادة على اليد بالاستفاضة، وقد ينازع فيه، لامكان مشاهدة اليد. فرع لا يكفي أن يقول الشاهد: سمعت الناس يقولون: إنه لفلان، وكذا في النسب، وإن كانت الشهادة مبنية عليه، بل يشترط أن يقول: أشهد بأنه له،(8/242)
وبأنه ابنه، لان قد يعلم خلاف ما سمعه من الناس، لكن عن الشيخ أبي عاصم أنه لو شهد رجل بالملك، وآخر بأنه في يده مدة طويلة وتصرف فيه بلا منازع، تمت الشهادة. وقال الشارح لكلامه: هذا مصير منه إلى الاكتفاء بذكر السبب، والصحيح الاول. فرع سواء في الشهادة على الملك بالاستفاضة والتصرف العقار والثوب والعبد وغيرها إذا ميز الشهود به عن أمثاله. فرع التصرف المعتبر في الباب تصرف الملاك من السكنى، والدخول والخروج، والهدم والبناء، والبيع والفسخ بعده، والرهن، وفي مجرد الاجارة وجهان، لانها وإن تكررت قد تصدر ممن استأجر مدة طويلة ومن الموصى له بالمنفعة، وليجر هذا الخلاف في الرهن، لانه قد يصدر من مستعير، والاوفق لاطلاق الاصحاب الاكتفاء، لان الغالب صدورها من المالكين، ولا يكفي التصرف مدة واحدة، لانه لا يحصل ظنا. فرع لا يثبت الدين بالاستفاضة على الصحيح. فرع في قبول شهادة الاعمى فيما يشهد فيه بالاستفاضة وجهان، قال ابن(8/243)
سريج والجمهور: تقبل إلا أن شهادته إنما تقبل إذا لم يحتج إلى تعيين وإشارة بأن يكون الرجل معروفا باسمه ونسبه الادنى، ويحتاج إلى إثبات نسبه الاعلى وصور أيضا في النسب الادنى بأن يصف الشخص، فيقول: الرجل الذي اسمه كذا، وكنيته كذا، ومصلاه ومسكنه كذا، هو فلان ابن فلان، ثم يقيم المدعي بينة أخرى أنه الذي اسمه كذا، وكنيته كذا إلى آخر الصفات، وصورته في الملك أن يشهد الاعمى بدار معروفة أنها لفلان ابن فلان، ويمكن أن يقال: الوجه القائل بأن شهادته لا تقبل، مخصوص بما إذا سمع من عدد يمكن اتفاقهم على الكذب، فأما إذا حصل السماع من جمع كبير، فلا حاجة فيه إلى المشاهدة، ومعرفة حال المخبرين. فرع ما جازت الشهادة به اعتمادا على الاستفاضة، جاز الحلف عليه اعتمادا عليها بل أولى، لانه يجوز الحلف على خط الاب دون الشهادة.
الطرف الثالث : في تحمل الشهادة وأدائها
أما الاداء، فواجب في الجملة، والكتمان حرام، ويجب الاداء على متعين للشهادة، متحمل لها قصدا، دعي من دون مسافة العدوى، عدل، لا عذر له، فهذه خمسة قيود. الاول: التعيين، فإن لم يكن في الواقعة إلا شاهدان بأن لم يتحمل سواهما، أو مات الباقون، أو جنوا، أو فسقوا، أو غابوا، لزمهما الاداء، فلو شهد أحدهما، وامتنع الآخر، وقال للمدعي: احلف مع الشاهد، عصا، وكذا الشاهدان على رد الوديعة لو امتنعا، وقال للمودع: احلف على الرد، عصيا، لان من مقاصد الاشهاد التورع عن اليمين، ولو لم تكن في الواقعة إلا شاهد، فإن كان الحق يثبت بشاهد ويمين، لزمه الاداء، وإلا فلا على الصحيح، وحكى ابن كج وجها في لزومه، لانه ينفع في اندفاع بعض تهمة الكذب. وإن كان في الواقعة شهود، فالاداء عليهم فرض كفاية إذا فعله اثنان منهم، سقط عن الباقين، وإن طلب الاداء من اثنين، ففي وجوب الاجابة عليهما وجهان، وقال ابن القاص قولان، أصحهما: الوجوب، وليس(8/244)
موضع الخلاف ما إذا علمنا من حالهم رغبة أو إباء. القيد الثاني: كونه متحملا عن قصد، أما من سمع الشئ، أو وقع بصره عليه اتفاقا، فالاصح الموافق لاطلاق الجمهور أنه يلزمه الاداء أيضا، لانها أمانة وشهادة عنده، والثاني: لا، لعدم التزامه. القيد الثالث: أن يدعى لاداء الشهادة من مسافة قريبة، ومتى كان القاضي في البلد فالمسافة قريبة، وكذا لو دعي إلى مسافة يتمكن المبكر إليها من الرجوع إلى أهله في يومه، وإن دعي إلى مسافة القصر لم تجب الاجابة، وإن كان بينهما لم تجب أيضا على الاصح، وهذا كله تفريع على الصحيح، وهو أن الشاهد يلزمه الحضور إلى القاضي لاداء الشهادة وعن القاضي أبي حامد أنه ليس على الشاهد إلا أداء الشهادة إن اجتمع هو والقاضي. القيد الرابع: كون الشاهد عدلا، فإن كان فاسقا، ودعي لاداء الشهادة نظر إن كان فسقه مجمعا عليه، ظاهرا أو خفيا، حرم عليه أن يشهد، وإن كان مجتهدا فيه، كشرب النبيذ، لزمه أن يشهد، وإن كان القاضي يرى التفسيق به ورد الشهادة، لانه قد يتغير اجتهاده. وفي أمالي السرخسي وجه أنه لا يجب في الفسق المجتهد فيه إذا كان ظاهرا، وحكى ابن كج وجها أنه يجب مطلقا في الفسق(8/245)
الخفي، وفي الظاهر وجهان، والمذهب ما سبق، وحكى ابن كج وجهين في أنه هل للشاهد أن يشهد بما يعلم أن القاضي يرتب عليه ما لا يعتقده الشاهد، كالبيع الذي يترتب عليه شفعة الجوار، والشاهد لا يعتقدها. ولو كان أحد الشاهدين عدلا والآخر فاسقا فسقا مجمعا عليه، لم يلزم العدل الاداء إن كان الحق لا يثبت بشاهد ويمين. القيد الخامس: عدم العذر، كالمرض ونحوه، فالمريض الذي يشق عليه الحضور لا يكلف أن يحضر، بل إما أن يشهد على شهادته، وإما أن يبعث القاضي إليه، بأن يسمع شهادته، والمرأة المخدرة كالمريض، وفيها الخلاف السابق في الباب الثالث من أدب القضاء، وغير المخدرة يلزمها الحضور والاداء، وعلى الزوج أن يأذن لها فيه، وحكى الشيخ أبو الفرج وجهين في أنه هل يجب الحضور عند القاضي الجائر والمتعنت لاداء الشهادة، لانه لا يؤمن أن يرد شهادته جورا وتعنتا فيعير بذلك، فعلى هذا عدالة القاضي وجمعه الشروط المعتبرة شرط سادس. قلت: الراجح الوجوب. والله أعلم. وإذا اجتمعت شروط الوجوب لم يرهق القاضي إرهاقا، بل إن كان في صلاة أو حمام، أو على طعام، فله التأخير إلى أن يفرغ، ولا يمهل ثلاثة أيام على المشهور، قال ابن كج: ولو شهد ورد القاضي شهادته بعلة الفسق، ثم طلب المدعي أن يشهد له عند قاض آخر، لزمه الاجابة ولا يلزمه عند ذلك القاضي على الصحيح، قال ابن كج: ولو دعي لاداء الشهادة عند أمير أو وزير، قال ابن القطان: لا تلزمه الاجابة، وإنما يلزمه عند من له أهلية سماع البينة وهو القاضي، قال ابن كج: وعندي أنه يلزمه إذا علم أنه يصل به إلى الحق.(8/246)
قلت: قول ابن كج أصح. والله أعلم. فرع إذا امتنع الشاهد من أداء الشهادة بعد وجوبه حياء من المشهود عليه، قال القاضي حسين: يعصي، ولا يجوز للقاضي قبول شهادته في شئ أصلا حتى يتوب، ويوافق هذا ما قيل: إن المدعي لو قال للقاضي: عند فلان شهادة، وهو ممتنع من أدائها، فأحضره ليشهد، لم يجبه القاضي، لانه فاسق بالامتناع بزعمه، فلا ينتفع بشهادته. قلت: ينبغي أن يعمل هذا على ما إذا قال: هو ممتنع بلا عذر. والله أعلم.
فصل وأما تحمل الشهادة، ففرض كفاية في عقد النكاح، لتوقف الانعقاد عليه، فإن امتنع الجميع منه، أثموا. ولو طلب من اثنين التحمل، وهناك غيرهما، لم يتعينا بلا خلاف، وأما في التصرفات المالية والاقارير، فهل التحمل فرض كفاية أم مستحب ؟ وجهان الصحيح الاول، وبه قطع العراقيون للحاجة إليها، ومنهم من يقتضي كلامه طرد الخلاف في النكاح أيضا وليس بشئ وإذا قلنا بالافتراض، فذلك إذا حضر المحمل، أما إذا دعي للتحمل فقيل: تجب الاجابة أيضا، والاصح الذي(8/247)
قاله القاضي أبو حامد، والبغوي، وأبو الفرج، أنه لا يجب إلا أن يكون المحمل معذورا بمرض أو حبس، أو كانت امرأة مخدرة إذا أثبتنا للتخدير أثرا وكذا إذا دعاه القاضي ليشهده على أمر ثبت عنده لزمه الاجابة. فرع إن تطوع الشاهد بتحمل الشهادة وأدائها، فقد أحسن، وإن طمع في مال، فهو إما رزق من بيت المال، وإما من مال المشهود له، فأما الرزق من بيت المال، فقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ وآخرون أن الشاهد ليس له أخذ الرزق من بيت المال لتحمل الشهادة، وقيل: له ذلك، فإن قلنا بالاول، فرزقه الامام من ماله، أو واحد من الرعية، فالحكم كما ذكرنا في القاضي، وأما مال المشهود له، فليس للشاهد أخذ أجرة على أداء الشهادة، ووجهوه بأنه فرض عليه، فلا يستحق عليه عوضا، ولانه كلام يسير لا أجرة لمثله. وأما إتيان القاضي والحضور عنده، فإن كان معه في البلد فلا يأخذ شيئا، وإن كان نائبه من مسافة العدوى، فما فوقها، فله طلب نفقة المركوب. قال البغوي: وكذا نفقة الطريق، وحكى(8/248)
وجهين فيما لو أعطاه شيئا ليصرفه في نفقة الطريق، وأجرة المركوب هل له أن يصرفه إلى غرض آخر، ويمشي وهما كالوجهين فيما لو أعطى فقيرا شيئا وقال: اشتر لك به ثوبا، هل له أن يصرفه إلى غير الثوب، والاصح الجواز فيهما، فهذا ما قيل: إن الشاهد يأخذه من المشهود له ولم يتعرض أكثرهم لما سوى هذا، لكن في تعليق الشيخ أبي حامد أن الشاهد لو كان فقيرا يكسب قوته يوما يوما وكان في صرف الزمان إلى أداء الشهادة ما يشغله عن كسبه، لم يلزمه الاداء إلا إذا بذل له المشهود له قدر كسبه في ذلك الوقت، هذا حكم الاداء. فلو طلب الشاهد أجرة لتحمل الشهادة، فإن لم يتعين عليه، فله ذلك، وكذا إن تعين على الاصح، قال أبو الفرج: هذا إذا دعي ليتحمل، فأما إذا أتاه المحمل، فليس للتحمل والحالة هذه أجرة، وليس له أن يأخذ شيئا، ومقتضى قولنا: له طلب الاجرة إذا دعي للتحمل أن يطلب الاجرة إذا دعي للاداء، سواء كان القاضي معه في البلد أم لا، كما لا فرق في التحمل، وأن يكون النظر إلى الاجرة مطلقا لا إلى أجرة المركوب ونفقة الطريق خاصة، ثم هو يصرف المأخوذ إلى ما يشاء، ولا يمنع ذلك كون الاداء فرضا عليه كما ذكرنا في التحمل مع تعينه على الاصح. قلت: هذا الذي أورده الرافعي رحمه الله ضعيف مع أنه خلاف قول الاصحاب كما سبق، فإن فرض من يحتاج إلى الركوب في البلد، فهو محتمل، والوجوب ظاهر حينئذ. والله أعلم.(8/249)
فرع كتابة الصكوك هل هي فرض كفاية، أم مستحب ؟ وجهان أصحهما الاول، وبه قطع السرخسي، فإن قلنا: مستحبة أو فرض، ولم يتعين لها شخص، فله طلب الاجرة. وإن تعين، فكذلك على الاصح، هذا إذا لم يرزق الكاتب من بيت المال لكتابة الصكوك، فإن رزق لذلك، فلا أجرة.
فصل في آداب التحمل والأداء منقولة من مختصر الصيمري ينبغي للشاهد أن لا يتحمل، وبه ما يمنعه من الضبط، وتمام الفهم، كجوع وعطش، وهم وغضب، كما لا يقضي في هذه الاحوال، وإذا أتاه من لا تجوز الشهادة عليه، كصبي ومجنون، لم يلتفت إليه، وإن أتي بكتاب أنشئ على خلاف الاجماع، فكذلك، وتبين فساده، وإن أنشئ على مختلف فيه بين العلماء وهو لا يعتقده، فهل يعرض عنه أم يشهد ليؤدي ويحكم الحاكم باجتهاده ؟ وجهان سبقا، وإذا رأى كلمة مكروهة أو معادة، فلا بأس بالضرب عليها لا سيما إذا لم يسبقه بالشهادة أحد، وإن أغفل الكاتب ما لا بد منه، ألحق به، وإن رأى سطرا ناقصا شغله بخط أو خطين، وإذا قرأ الكتاب على المتبايعين مثلا، وقال: عرفتما ما فيه ؟ أشهد(8/250)
عليكما به ؟ فقالا: نعم أو أجل أو بلى، كفى للتحمل، ولا يكفي أن يقول المحمل: الامر إليك أو إن شئت، أو كما ترى، أو أستخير الله تعالى، وإذا سمع إقرارا بدين أو طلاق أو عتق، فله أن يشهد به، ولكن لا يقول ولا يكتب: أشهدني بذلك، ويكتب الشاهد في الكتاب الذي تحمل فيه اسمه واسم أبيه وجده، ويجوز أن يترك اسم الجد، وأن يتخطى إلى جد أعلى لشهرته به، ولا يكتب الكنية إلا أن يكون في الشهود من يشاركه في الاسم والنسب فيميز بالكنية، وقد يستحب الاستعانة بما يفيد التذكر كما ذكرناه في الباب الثاني من أدب القضاء، وإذا أشهده القاضي على شئ قد سجل به كتب الشهادة على إنفاذ القاضي ما فيه، أو حكم بما فيه، ولا يكتب الشهادة على إقراره يعني إذا حضر الانشاء، والاولى في كتابة الدين المؤجل أن يقرر صاحب الدين أولا بأن يقول: ما الذي لك على هذا ؟ فإن قال: كذا مؤجلا قرر المدين، لانه لو أقر المدين أولا قد ينكر صاحب الاجل، وفي السلم يقرر المسلم أولا خوفا من أن ينكره المسلم لو أقر أولا، ويطالبه بالمدفوع إليه. وإذا أتى القاضي شاهد لاداء شهادة أقعده عن يمينه، وإن كانت شهادته مثبتة في كتاب أخذه وتأمله، فإذا سأله المشهود له، استأذن القاضي، ليصغي إليه، ولو شهد قبل استئذان القاضي وسؤاله، صحت على الصحيح، لكن لو شهد قبل استئذانه، فقال القاضي: كنت ذاهلا لم أسمع، لم يعتد بها. والله المستعان.(8/251)
الباب الرابع : في الشاهد مع اليمين يجوز القضاء بشاهد ويمين في الجملة، فما ثبت برجل وامرأتين ثبت بشاهد ويمين إلا عيوب النساء وما في معناها، وما لا يثبت برجل وامرأتين لا يثبت بشاهد ويمين، ولا يقضى بشهادة امرأتين ويمين في الاموال قطعا، ولا فيما يثبت بشهادة النسوة منفردات على الاصح. ثم هل القضاء بالشاهد وحده، واليمين مؤكدة أم بها وحدها، وهو مؤكد، أم بهما ؟ أوجه، أصحها الثالث، فلو رجع الشاهد، فإن قلنا بالاول، غرم، أو بالثاني، فلا، أو بالثالث، غرم النصف، ثم يحلف المدعي بعد شهادة الشاهد وتعديله، وجوز ابن أبي هريرة تقديم اليمين على شهادته، كما يجوز تقديم المرأتين على الرجل، والصحيح الاول، ويجب أن يتعرض الحالف في اليمين لصدق الشاهد، فيقول: والله إن شاهدي لصادق، وإني مستحق لكذا، قال الامام: ولو أخر تصديق الشاهد، وقدم ذكر الاستحقاق، جاز، ولم أجد أحدا يضايق فيه. ولو فسق الشاهد بعد القضاء، لم ينقض الحكم، وإن فسق قبله، صار كأن لا شاهد، فيحلف المدعى عليه، فإن نكل، حلف المدعي، ولم يعتد بما مضى، ولو لم يحلف المدعي مع شاهده، وطلب يمين الخصم، فله ذلك، فإن حلف، سقطت الدعوى. قال ابن الصباغ: وليس له أن يحلف بعد ذلك مع شاهده بخلاف ما لو أقام بعد يمين المدعى عليه بينة، فيسمع، وإن نكل المدعى عليه، فأراد المدعي يمين الرد مكن منها على الاظهر، ويجري القولان فيما لو ادعى مالا ونكل المدعى عليه، ولم يحلف المدعي يمين الرد، ثم أقام شاهدا واحدا، وأراد أن يحلف معه، فإن قلنا: ليس له أن يحلف يمين الرد، فالمنقول أنه يحبس(8/252)
المدعى عليه حتى يحلف، أو يقر، لان يمينه حق المدعي، فلا يتمكن من إسقاطها، لكن التقصير منه حيث لم يحلف مع شاهده، فينبغي أن لا يحبس المدعى عليه. وقد ذكر ابن الصباغ نحو هذا. ولو أن المدعي بعد امتناعه من الحلف مع شاهده واستحلافه الخصم أراد أن يعود، فيحلف مع شاهده، نقل المحاملي أنه ليس له ذلك لان اليمين صارت في جانب صاحبه إلا أن يعود في مجلس آخر، ويستأنف الدعوى، ويقيم الشاهد، فحينئذ يحلف معه. فصل جارية وولدها في يد رجل يسترقهما، فقال آخر: هذه مستولدتي والولد مني علقت به في ملكي، فإن أقام بذلك شاهدين ثبت ما يدعيه، وإن أقام رجلا وامرأتين، أو رجلا وحلف معه، ثبت الاستيلاد، لان حكم المستولدة حكم المال، فيسلم إليه، وإذا مات، حكم بعتقها بإقراره، وهل يحكم له بالولد ؟ قولان، أظهرهما: لا، لانه لا يدعي ملكه، بل نسبه وحريته، وهما لا يثبتان بهذه الحجة، فيبقى الولد في يد صاحب اليد. وهل يثبت نسبه بإقرار المدعي، فيه ما ذكرنا في الاقرار واللقيط في استلحاق عبد غيره، والثاني: نعم تبعا لها، فينتزع من المدعى عليه، فيكون حرا نسبيا بإقرار المدعي. ولو كان في يد رجل شخص ادعى أنه رقيقه، فادعى آخر أنه كان له، وأنه أعتقه، وأقام شاهدا وحلف، أو رجلا وامرأتين، نص الشافعي أنه ينتزع منه، ويحكم بأنه عتق على المدعي بإقراره، فمن الاصحاب من قال: في قبول هذه البينة والانتزاع قولان، كالصورة السابقة، لانها(8/253)
شهادة بملك متقدم، والمذهب القطع بالعتق بالقبول والانتزاع، كما نص عليه، والفرق أن المدعي هنا يدعي ملكا، وحجته تصلح لاثباته، والعتق يترتب عليه بإقراره. ولو قال المدعي في صورة الاستيلاد لصاحب اليد: استولدتها أنا في ملكك، ثم اشتريتها مع الولد، فعتق الولد علي، وأقام عليه حجة ناقصة، فالعتق الآن مرتب على الملك الذي قامت به الحجة الناقصة، فيكون على الطريقين، كذا ذكره القفال. هذا كلام الاصحاب في جميع طرقهم في الصورتين، وانفرد الامام والغزالي فحكيا عن الاصحاب والمزني والنص أشياء منكرة محولة عن وجهها، وفي المختصر التصريح بخلافها، وكذا كتب الاصحاب. فصل ادعى ورثة ميت دينا أو عينا لمورثهم، فإنما يحكم على المدعى عليه إذا ثبت لهم ثلاثة أشياء: الموت والوراثة والمال، والاول والثاني لا مدخل فيهما للشاهد واليمين، بل لا يثبتان إلا بشاهدين أو إقرار المدعى عليه، وأما المال، فيدخله الشاهد واليمين، فإن حضر جميع الورثة وهم كاملون، وأقاموا شاهدا وحلفوا معه استحقوا، والمأخوذ تركة يقضى منها ديون الميت ووصاياه، وإن امتنع جميعهم وعلى الميت دين، فهل للغريم أن يحلف ؟ ذكرنا في التفليس فيه قولين، الجديد الاظهر المنع، ويجريان فيما لو كان أوصى لرجل، ولم يحلف الورثة، هل يحلف الموصى له ؟ فإن كانت الوصية بعين وادعاها في يد أجنبي فينبغي أن لا يكون فيه خلاف، ويقطع بالجواز، فإن حلف بعض الورثة دون بعض، أخذ الحالف نصيبه والنص أنه لا يشاركه فيه من لم يحلف، ونص في كتاب الصلح أنهما لو ادعيا دارا إرثا، فصدق المدعى عليه أحدهما في نصيبه شاركه المكذب، فخرج بعضهم من الصلح هنا قولا أن ما أخذه الحالف يشاركه فيه من لم يحلف، لان الارث يثبت على الشيوع، وقطع الجمهور بأن لا شركة هنا، كما نص والفرق من وجهين حكاهما الامام، أحدهما: أن صورة الصلح مصورة في عين، وأعيان التركة مشتركة بين الورثة، والمصدق معترف بأنه من التركة، والصورة هنا في دين، والدين إنما(8/254)
يتعين بالتعيين والقبض، فالذي أخذه الحالف يتعين لنصيبه بالقبض، فلم يشاركه الآخر فيه، فعلى هذا لو كانت صورة الصلح في دين، لم تثبت الشركة. ولو فرض شاهد ويمين بعض الورثة في عين، تثبت الشركة. والفرق الثاني وهو الذي ذكره الجمهور أن الثبوت هنا بشاهد ويمين، فلو أثبتنا الشركة لملكنا الناكل بيمين غيره وهناك ثبت بإقرار المدعى عليه، ثم ترتب عليه إقرار المصدق بأنه إرث، فعلى هذا لا فرق بين العين والدين، ولا في صورة إقرار المدعى عليه، وأشار في الوسيط إلى تخريج خلاف في مسألة الصلح بما نحن فيه، ولا يعرف هذا لغيره، وهل يقضى من نصيب الحالف جميع الدين أم بالحصة ؟ قال في الشامل يبنى على أن الغريم هل يحلف ؟ إن قلنا: نعم لم يلزمه إلا قضاء حصته، وإن قلنا: لا، بني على أن من يحلف من الورثة هل يشارك الحالف إن قلنا: نعم قضى الجميع، لانا أعطيناه حكم التركة وإلا فبالحصة. هذا حكم نصيب الحالف، أما من لم يحلف، فإن كان حاضرا كامل الحال، ونكل عن اليمين، ذكر الامام أن حقه يبطل بالنكول، ولو مات، لم يكن لوارثه أن يحلف. وفي كتاب ابن كج ما ينازع فيه. قال الامام: ولو أراد وارثه أن يقيم شاهدا آخر ليحلف معه، لم يكن له أيضا، لكن هل يضم هذا الشاهد إلى الشاهد الاول، ليحكم بالبينة ؟ فيه احتمالان جاريان فيما لو أقام مدع شاهدا في خصومة، ثم مات، فأقام وارثه شاهدا آخر، فيجوز أن يقال: له البناء عليه، ويجوز أن يقال: عليه تجديد الدعوى، وإقامة البينة، وأنه لو أقام الورثة شاهدا، وحلف معه بعضهم، ومات بعضهم قبل أن يحلف أو ينكل، كان لوارثه أن يحلف، لكن هل يحتاج إلى إعادة الدعوى والشاهد ؟ فيه التردد المذكور، والاصح أنه لا يحتاج. وإن كان الذي لم يحلف صبيا أو مجنونا أو غائبا، نص الشافعي رحمه الله في المجنون أنه يوقف نصيبه. واختلفوا في معناه، فقال أبو إسحق وعامة الاصحاب: المراد أنا نمتنع من الحكم في نصيبه، ويتوقف حتى يفيق، فيحلف أو ينكل، ولا يؤخذ نصيبه وقيل: أراد أنه يؤخذ نصيبه ويوقف، وهذا أحد قوليه أن(8/255)
الحيلولة هل تثبت بشاهد ؟ والصبي والغائب كالمجنون. وينبغي أن يكون الحاضر الذي لم يشرع في الخصومة، أو لم يشعر بالحال، كالمجنون في بقاء حقه بخلاف ما سبق في الناكل، فإن قلنا بالصحيح وهو أنه لا يؤخذ نصيب المعذورين، فإذا زال عذرهم حلفوا وأخذوا نصيبهم، ولا حاجة إلى إعادة الشهادة بخلاف ما لو كانت الدعوى لا عن جهة الارث، بأن قال: أوصى لي ولاخي الغائب أو الصبي أبوك بكذا، أو اشتريت مع أخي الغائب منك كذا، وأقام شاهدا، وحلف معه، فإنه إذا قدم الغائب، وبلغ الصبي يحتاجان إلى تجديد الدعوى وإعادة الشهادة أو شاهد آخر، ولا يؤخذ نصيبهما قبل ذلك، لان الدعوى في الميراث عن شخص واحد وهو الميت، وكذلك يقضى دينه من المأخوذ، وفي غير الميراث الدعوى وألحق الاشخاص، فليس لاحد أن يدعي ويقيم البينة عن غيره بغير إذن أو ولاية. ثم ما ذكرنا في الميراث أنه لا حاجة إلى إعادة الشهادة مفروض فيما إذا لم يتغير حال الشاهد، فإن تغير، فوجهان، أحدهما وبه قال القفال: لا يقدح وللصبي والمجنون والغائب إذا زال عذرهم أن يحلفوا، لانه قد اتصل الحكم بشهادته، فلا أثر للتغير، والثاني، وهو اختيار الشيخ أبي علي: لا يحلفون، لان الحكم اتصل بشهادته في حق الحالف فقط، ولهذا لو رجع الشاهد لم يكن لهم أن يحلفوا، ولو مات الغائب أو الصبي، فلوارثه أن يحلف ويأخذ حصته، فإن كان وارثه هو الحالف، لم تحسب يمينه الاولى، ولو ادعى شخص على ورثة رجل أن مورثكم أوصى لي ولاخي، أو ولاجنبي بكذا، وأقام شاهدا، وحلف معه، وأخذ نصيبه، لم يشاركه الآخر فيه بلا خلاف، ثم ذكر الشيخ أبو الفرج أن من يحلف من الورثة على دين أو عين للمورث يحلف على الجميع لا على حصته فقط، سواء حلف كلهم أو بعضهم، وكذا الغريم والموصى له إذا قلنا: يحلفان، وفي كلام غيره إشعار بخلافه، وجميع ما ذكرناه فيما إذا أقام بعض الورثة شاهدا واحدا، وحلف معه،(8/256)
فأما إذا أقام بعضهم شاهدين، فإنه يثبت المدعى كله، فإذا حضر الغائب من الورثة، أو بلغ صبيهم، أو عقل مجنونهم، أخذ نصيبه، ولا حاجة إلى تجديد الدعوى وإقامة البينة، وينتزع القاضي بعد تمام البينة نصيب الصبي والمجنون، دينا كان أو عينا، ثم يأمر بالتصرف فيه بالغبطة كيلا يضيع عين ماله، وأما نصيب الغائب، فإن كان عينا انتزعها، وكلام الاصحاب يقتضي أن هذا الانتزاع واجب وهو الظاهر، لكن سبق في باب الوديعة أن الغاصب لو حمل المغصوب إلى القاضي والمالك غائب، ففي وجوب قبوله وجهان، فيجوز أن يعود ذلك الخلاف هنا مع قيام البينة، وإن كان المدعى دينا، ففي انتزاع نصيب الغائب وجهان جاريان فيمن أقر لغائب بدين، وحمله إلى القاضي هل على القاضي أن يستوفيه، والاصح في الصورتين عدم الوجوب، وحكاه ابن كج في مسألتنا عن النص. واعلم أنه سبق في كتاب الشركة أن أحد الوارثين لا ينفرد بقبض شئ من التركة، ولو قبض شاركه الآخر فيه، وقالوا هنا: يأخذ الحاكم نصيبه، كأنهم جعلوا غيبة الشريك عذرا في تمكين الحاضر من الانفراد، ولو ادعى على رجل أن أباه أوصى له ولفلان بكذا، وأقام شاهدين وفلان غائب أو صبي، لم يؤخذ نصيب فلان بحال، وإذا حضر وبلغ فعليه إعادة الدعوى والبينة لما ذكرنا أن الدعوى في الارث لشخص واحد. فرع لو كان للوارث الغائب وكيل وقد أقام الحاضر البينة، قال أبو عاصم: يقبض الوكيل نصيب الغائب دون القاضي، فإن لم يكن، قبض القاضي، ويؤجر لئلا تفوت المنافع.
فصل هل يثبت الوقف بشاهد ويمين، إن قلنا: الملك فيه للواقف أو الموقوف عليه، فنعم، وإن قلنا: لله تعالى، فوجهان، أو قولان، أحدهما: لا، وبه قال المزني وأبو إسحق كالعتق، والثاني: نعم، وبه قال ابن سريج وابن سلمة، والعراقيون يميلون إلى ترجيح الاول، وينسبونه إلى عامة الاصحاب، لكن الثاني أقوى في المعنى وهو المنصوص، وصححه الامام والبغوي وغيرهما، وجزم(8/257)
به الغزالي. ولو ادعى ورثة ميت على رجل أنه غصب هذه الدار، وقالوا: كانت لابينا وقفها علينا وعلى فلان، تثبت دعوى الغصب بشاهد ويمين، ويثبت بهما أيضا الوقف إن أثبتناه بشاهد ويمين، وإلا فيثبت بإقرارهم. ولو مات عن بنين، فادعى ثلاثة منهم أن أباهم وقف عليهم هذه الدار، وأنكر سائر الورثة، فأقدموا شاهدا ليحلفوا معه تفريعا على ثبوت الوقف بشاهد ويمين، فلدعواهم صورتان إحداهما: أن يدعوا وقف ترتيب، فيقولوا: وقف علينا وبعدنا على أولادنا وعلى الفقراء، فلهم بعد إقامة البينة ثلاثة أحوال: أن يحلفوا جميعا، فيثبت الوقف، ولا حق لسائر الورثة في الدار، فإذا انقرض المدعون، أخذ البطن الثاني الدار وقفا، وهل يأخذونه بيمين أم بلا يمين ؟ وجهان، ويقال قولان، الاصح عند الجمهور: بلا يمين وهو ظاهر نصه في المختصر وإذا انتهى الاستحقاق إلى البطن الثالث والرابع عاد الخلاف، فإن قلنا: يأخذون بيمين مكان الحق بعد البنين الثلاثة للفقراء، نظر إن كانوا محصورين، كفقراء قرية ومحلة، فكذلك الجواب، وإن لم يكونوا محصورين فهل يبطل الوقف وتعود الدار إرثا، أم يصرف إليهم بلا يمين أم يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف بناء على تعذر مصرفه كالوقف المنقطع ؟ فيه ثلاثة أوجه. قلت: الاصح يأخذون بلا يمين وتسقط هنا لتعذرها ولا يبطل الوقف بعد صحته ووجود المصرف بخلاف المنقطع. والله أعلم. ولو مات أحد الحالفين، صرف نصيبه إلى الآخرين، فإن مات آخر، صرف الجميع إلى الثالث، لان استحقاق البطن الثاني إنما هو بعد انقراض الاولين، ثم أخذ الآخرين يكون بلا يمين على المذهب، وقيل: وجهان كالبطن الثاني. الحال الثاني: أن ينكلوا جميعا عن اليمين مع الشاهد، فالدار تركة يقضى منها الدين والوصية، ويقسم الباقي بين الورثة، ويكون حصة المدعين وقفا بإقرارهم، وحصة سائر الورثة طلقا لهم، فإذا مات المدعون، لم يصرف نصيبهم إلى أولادهم على سبيل الوقف إلا بيمين على الاصح، وقيل: يصرف إليهم وقفا بلا يمين، ولو أراد الاولاد أن يحلفوا ويأخذوا جميع الدار وقفا، فلهم ذلك على(8/258)
الاظهر، لانهم أصحاب حق، فإذا أبطل آباؤهم حقهم بالنكول، فلهم أن لا يبطلوا حقهم، ويجري القولان، سواء قلنا: لو لم يحلفوا لا يكون شئ منها وقفا، أم قلنا: حصة الاولين تبقى وقفا، وإن لم يحلفوا، وهل يجري القولان في حياة الاولين إذا نكلوا ؟ وجهان، أحدهما: نعم، لبطلان حقهم، وتعذر الصرف إليهم بنكولهم، كما لو ماتوا، وأصحهما: لا، لان استحقاق البطن الثاني شرطه انقراض الاول. الحال الثالث: أن يحلف بعضهم دون بعض، فإذا حلف واحد، ونكل اثنان، أخذ الحالف الثلث وقفا، وأما الباقي، فهو تركة تقضى منها الديون والوصايا، فما فضل، ففيه وجهان، قال في الشامل: يقسم بين جميع الورثة، فما خص البنين الثلاثة كان وقفا على الناكلين، لان الحالف معترف لهما بذلك، والاصح وبه قطع المحاملي والبغوي وغيرهما أنه يقسم بين المنكرين من الورثة واللذين نكلا دون الحالف، لانه مقر بانحصار حقه فيما أخذ، ثم حصة الناكلين تكون وقفا بإقرارهما، فإذا مات الناكلان والحالف حي، فنصيبهما للحالف على ما شرط الواقف بإقرارهما، وفي اشتراط يمينه الوجهان، فإذا مات الحالف، فالاستحقاق للبطن الثاني، وفي حلفهم الخلاف السابق، وإن كان الحالف ميتا عند موت الناكلين، فأراد أولادهما أن يحلفوا، فعلى القولين السابقين في أولاد الجميع إذا نكلوا، الاظهر لهم الحلف، وفي نصيب الحالف الميت قبلهما ثلاثة أوجه، أحدها: يصرف إلى الناكلين، فعلى هذا في حلفهما الخلاف، فإن قلنا: يحلفان، فنكلا سقط هذا الوجه، والثاني: يصرف إلى البطن الثاني، وهو الاصح عند الجمهور، وهو ظاهر إشارته في الام لانهما أبطلا حقهما بنكولهما، وصارا كالمعدومين. والثالث أنه وقف تعذر مصرفه، فعلى هذا هل يبطل أم يبقى، وإذا بقي فهل يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف أم كيف حاله ؟ فيه خلاف سبق في الوقف بتفريعه، والمذهب أنه يبقى وقفا، ويصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف،(8/259)
فعلى هذا إذا زال التعذر بموت الناكلين، صرف إلى البطن الثاني، ويجئ في حلف أقرب الناس إذا قلنا: يصرف إليهم الخلاف. فرع إذا تصادقت الورثة على أن الدار وقف أبيهم، ثبت الوقف، ولا حاجة إلى شاهد ويمين. فرع ادعوا على رجل دارا في يده أنه وقفها عليهم، أو على ورثة أن مورثهم وقفها عليهم وأقاموا شاهدا نظر: أحلفوا مع شاهدهم، أم نكلوا، أم حلف بعضهم، ونكل بعضهم، وتجئ الاحوال الثلاثة كما سبق، لكن حيث جعلنا كل المدعى أو بعضه تركة هناك ترك هنا في يد المدعى عليه. الصورة الثانية: أن يدعوا وقف تشريك، فيقول البنون الثلاثة في المثال المذكور: هو وقف علينا وعلى أولادنا وأولاد أولادنا ما تناسلنا، فإذا انقرضنا، فعلى الفقراء، فأقاموا بذلك شاهدا، وإن حلفوا معه أخذوا الدار وقفا، ثم إذا حدث لاحدهم ولد، فمقتضى الوقف شركته، فيوقف ربع الغلة إلى أن يبلغ، فيصرف إليه إن حلف، ولم يجعلوه على الخلاف في أن البطن الثاني هل يحتاجون إلى يمين إذا حلف البطن الاول، بل جزموا باحتياجه إلى اليمين بعد البلوغ إلا السرخسي، فحكى فيه وجها. ثم إن الربع الموقوف هل يوقف في يد البنين الثلاثة، أم ينتزع، ويجعله في يد أمين ؟ وجهان أصحهما: الثاني، فإن نكل بعد بلوغه صرف الموقوف إلى الثلاثة، وجعل كأنه لم يولد، هذا هو المنصوص، وبه قال الجمهور، وحكي وجه أو تخريج أن نصيب المولود وقف تعذر مصرفه، فيجئ الخلاف السابق، لان الثلاثة معترفون بأنه له، فكيف يأخذونه بامتناعه باليمين، ولو مات بعد البلوغ والنكول، لم(8/260)
يستحقها. فأما رقبة الوقف وغلتها بعد موت الولد، فمقتضى الشرط أن يستغرقها الثلاثة الحالفون، وليس عليهم تجديد يمين على المذهب، وكأن المولود لم يكن. ولو مات أحد الحالفين في صغر الولد وقف من يوم موته للولد ثلث الغلة، لان المستحقين صاروا ثلاثة فإن بلغ وحلف، أخذ الربع والثلث الموقوفين، وإن نكل صرف الربع إلى الابنين الباقيين وورثة الميت، وصرف الثلث إلى الباقين خاصة، ويعود فيه التخريج السابق. ولو بلغ الولد مجنونا أدمنا الوقف طمعا في إفاقته، فإن ولد له قبل أن يفيق وقف له الخمس، وللمولود الخمس من يوم ولادة الولد، فإن أفاق المجنون، وبلغ ولده وحلفا، أخذ المجنون الربع من يوم ولادته إلى يوم ولادة ولده، والخمس من يومئذ، وأخذ ولده الخمس من يومئذ. ولو مات المجنون في جنونه بعدما ولد ولد له، فالقلة الموقوفة لورثته إذا حلفوا، ويوقف لولده من يوم ثبوته ربع الغلة، هذا كله إذا حلف المدعون الثلاثة أولا، فإن نكلوا عن اليمين مع الشاهد، فلمن حدث بعدهم أيحلف بلا خلاف، لانه شريك الاولين بتلقي الوقف من الواقف لا محالة، وإن حلف بعضهم دون بعض، أخذ الحالف نصيبه، وبقي الباقي على ما كان. وبالله التوفيق.
الباب الخامس : في الشهادة على الشهادة هي مقبولة في غير العقوبات، كالاموال والانكحة والبيع، وسائر العقود، والفسوخ، والطلاق، والعتاق، والرضاع، والولادة، وعيوب النساء سواء حق الآدمي، وحق الله تعالى، كالزكاة ووقف المساجد، والجهات العامة. وأما العقوبات، فالمذهب القبول في القصاص، وحد القذف، والمنع في حدود الله تعالى. قال ابن القاص: والاحصان كالحد. ولو شهد اثنان على شهادة آخرين أن الحاكم حد فلانا، قبلت بلا خلاف، ذكره ابن الصباغ، لانه حق آدمي فإنه اسقاط حد عنه، ثم في الباب أربعة أطراف :
الأول : في تحملها وإنما يجوز التحمل إذا علم أن عند الاصل شهادة جازمة بحق ثابت، ولمعرفته أسباب، أحدها أن يسترعيه الاصل، فيقول: أنا شاهد(8/261)
بكذا، وأشهدتك على شهادتي، أو يقول: أشهدك أو أشهد على شهادتي بكذا، أو يقول: إذا استشهدت على شهادتي، فقد أذنت لك في أن تشهد، أما إذا سمع انسانا يقول: لفلان على فلان كذا، أو أشهد أن لفلان على فلان كذا، لا على صورة أداء الشهادة، فلا يجوز أن يشهد على شهادته، لان الناس قد يتساهلون في إطلاق ذلك على عدة ونحوها، وكذا لو قال: عندي شهادة بكذا فلو قال: عندي شهادة مجزومة أو شهادة أثبتها أو لا أتمارى فيها وما أشبه ذلك، فوجهان، أصحهما وأوفقهما لاطلاق الاكثرين: المنع أيضا. ويشترط تعرض الاصل للفظ الشهادة، فلو قال: أعلم، أو أخبر، أو أستيقن، لم يكف كما لو أتى الشاهد عند إقامة الشهادة بهذه الالفاظ، فإن القاضي لا يحكم بها، قال الامام: وأبعد بعض الاصحاب، فأقام اللفظ الذي لا تردد فيه مقام لفظ الشهادة، ولا يشترط أن يقول في الاسترعاء: أشهدك على شهادتي، وعن شهادتي، لكنه أتم، فقوله: أشهدك على شهادتي تحميل، وقوله: عن شهادتي إذن في الاداء كأنه قال: أدها عني، ولاذنه أثر، ولهذا لو قال بعد التحمل: لا تؤد عني امتنع عليه الاداء، وقيل: يشترط ذلك في الاسترعاء، حكاه ابن الصباغ، وإذا حصل الاسترعاء، لم يختص التحمل بمن استرعاه. السبب الثاني: أن يسمعه يشهد عند القاضي أن لفلان على فلان كذا، فله أن يشهد على شهادته وإن لم يسترعه، لانه لا يتصدى لاقامة الشهادة عند القاضي إلا تحقق الوجوب، وللقاضي أيضا أن يشهد على شهادته عند قا ض آخر، والشهادة عند المحكم كالشهادة عند القاضي سواء جوزنا التحكيم أم لا، وقال الاصطخري: إنما تجوز إذا جوزناه، والصحيح الاول، لانه لا يشهد عند المحكم إلا وهو جازم بثبوت المشهود به. السبب الثالث: أن يبين سبب الوجوب، فيقول: أشهد أن لفلان على فلان(8/262)
كذا من ثمن مبيع، أو قرض، أو أرش جناية، فتجوز الشهادة على شهادته، وإن لم يشهد عند القاضي، ولم يؤخذ منه استرعاء، لان الاسناد إلى السبب يقطع احتمال الوعد والتساهل، هذا ما يوجد لعامة الاصحاب، ونقل الشيخ أبو حاتم القزويني وجها أن الاسناد إلى السبب لا يكفي للتحمل، ووجها أن الشهادة عند القاضي لا تكفي أيضا، بل يشترط الاسترعاء، والصحيح ما سبق. فرع إذا قال: علي لفلان ألف، فوجهان، قال أبو إسحق: لا يجوز أن يشهد عليه بهذا القدر، بل يشتمع ذلك قرينة تشعر بالوجوب بأن يسنده إلى سبب، فيقول: من ثمن مبيع، أو يسترعيه، فيقول: فاشهد علي به، والثاني وهو الصحيح: أن مجرد الاقرار كاف للتحمل بخلاف الشهادة على الشهادة، لان الشهادة يعتبر فيها ما لا يعتبر في الاقرار، ولهذا يقبل إقرار الفاسق والمغفل والمجهول دون شهادتهم. فرع الفرع عند أداء الشهادة يبين جهة التحمل، فإن استرعاه الاصل، قال: أشهد أن فلانا شهد أن لفلاعلى فلان كذا، وأشهدني على شهادته، وإن لم يسترعه، بين أنه شهد عند القاضي أو أنه أسند المشهود به إلى سبب، قال الامام: وذلك لان الغالب على الناس الجهل بطريق التحمل، فإن كان ممن يعلم، ووثق به القاضي، جاز أن يكتفى بقوله: أشهد على شهادة فلان بكذا، ويستحب للقاضي أن يسأله بأي سبب ثبت هذا المال، وهل أخبرك به الأصل ؟ هذا إذا لم يبين السبب.
الطرف الثاني : في صفات شاهد الأصل وما يطرأ عليه
لا يصح تحمل الشهادة على شهادة فاسق، أو كافر، أو عبد، أو صبي، أو عدو، لانهم غير مقبولي(8/263)
الشهادة، فلو تحمل والاصل بصفات الشهود، ثم طرأ ما يمنع قبولها، أو الوصول إليها، نظر إن كان الطارئ موتا أو غيبة أو مرضا، لم يؤثر، وإن عرض فسق أو عداوة أو ردة، لم تقبل شهادة الفرع ما دامت هذه الاحوال بالاصل، فإن زالت هل يشهد الفرع بالتحمل الاول، أم يشترط تحمل جديد ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، قاله ابن سريج، وصححه الامام. ولو حدث الفسق، أو الردة بعد الشهادة، وقبل القضاء امتنع القضاء، ولو طرأ على الاصل جنون، فقيل: تبطل شهادة الفرع كالفسق، والصحيح الذي قاله الجمهور: لا أثر له، كالموت، لانه لا يوقع ريبة فيما مضى، ويجري الوجهان فيما لو عمي، وأولى بأن لا يؤثر، لانه لا يبطل أهلية الشهادة بالكلية. ولو أغمي عليه، قال الامام: إن كان غائبا لم يؤثر، وإن كان حاضرا، لم يشهد الفرع، بل ينتظر زواله، لانه قريب الزوال، ومقتضى هذا أن يكون الجواز كذلك في كل مرض يتوقع زواله، كتوقع زوال الاغماء. قلت: ليس كما قال الرافعي رحمه الله، بل الصواب أن المرض لا يلحق بالاغماء، وإن توقع زواله قريبا، لان المريض أهل للشهادة بخلاف المغمى عليه. والله أعلم. ولا أثر لحدوث شئ من هذه المعاني بعد القضاء، وكذا لو شهد الفرع في غيبة الاصل، ثحضر بعد القضاء، لم يؤثر، وإن حضر قبله، امتنع القضاء، لحصول القدرة على الاصل، وكذا لو كذب الاصل الفرع قبل القضاء، امتنع القضاء، والتكذيب بعده لا يؤثر. ولو قضى القاضي بالفرع، ثم قامت بينة بأن الاصل كذب الفرع قبل القضاء، فالقضاء منقوض ذكره الامام.(8/264)
فرع هذا الذي سبق حكم صفة الاصل، أما الفرع، فلو تحمل الشهادة، وهو عبد، أو صبي، أو فاسق، أو أخرس، صح تحمله، كتحمل الاصل في هذه الاحوال، ثم الاداء يكون بعد زوالها. فرع لا تقبل الشهادة على الشهادة إلامن الرجال، ولا مدخل للنساء فيها وإن كانت الاصول أو بعضهم نساء، وكانت الشهادة في ولادة أو رضاع أو مال، لان شهادة الفرع تثبت الاصل لا ما شهد به الاصل، ونفس الشهادة ليست بمال، ويطلع عليها الرجال. وحكى ابن كج وجها في الولادة وهو شاذ.
الطرف الثالث : في عدد شهود الفرع، فإن شهد اثنان على شهادة أصل، وآخران على شهادة الثاني، فقد تم النصاب، ولو شهد فرع على أصل، وفرع آخر على شهادة الاصل الثاني، لم يصح قطعا، ولو شهد فرعان على شهادة الاصلين معا، ففي قبوله قولان، أظهرهما: الجواز، وهو الذي رجحه العراقيون، والامام، والغزالي، والروياني، وصاحب العدة، وخالفهم البغوي، والسرخسي، فإن قلنا بالمنع، فأقام شاهدين على شهادة الاصلين معا، فله أن يحبسهما على أيهما، ويحلف معه، ولو شهد أربعة على شهادة الاصلين جاز على الصحيح، وجميع ما ذكرنا فيما إذا شهد الفروع على شهادة رجلين، فإن شهدوا على شهادة رجل وامرأتين، فعلى قول المنع في الاثنين يشترط ستة يشهد كل اثنين منهم على شهادة واحد، وعلى الاظهر يكفي اثنان للجميع، وعلى ما نقله ابن كج في قبول النساء على النساء في الولادة هل يكفي شهادة أربع على شهادة أربع، أم يشترط ست عشرة، ليشهد كل أربع على واحدة ؟ وجهان. ولو شهد على شهادة الفروع فروع، وشرطنا أن يشهد(8/265)
فرعان على كل أصل، وجب أن يشهد على شهادة كل فرع من الفروع الاربعة اثنان، فيجتمع ثمانية، ثم شهادتهم لا تثبت إلا بستة عشر، وعلى هذا القياس. وإذا أجرينا الشهادة على الشهادة في حدود الله تعالى، فهل تثبت الشهادة على شهود الزنى بأربعة، أم يكفي اثنان ؟ قولان كالقولين في الاقرار بالزنى، فإن اكتفينا باثنين، وجوزنا شهادة فرعين على شهادة الاصلين معا، كفى اثنان، وإن شرطنا لكل أصل اثنين، اشترط ثمانية، وإن شرطنا في الشهادة على الشهادة في الزنى أربعة، فإن جوزنا شهادة فرعين على الاصلين معا، كفى أربعة على الاصول الاربعة، وإن شرطنا أن يشهد على شهادة كل أصل فرعان، اشترطنا هنا ستة عشر كل أربعة على أصل.
الطرف الرابع : في أن شهادة الفروع متى تسمع.
وإنما تسمع إذا تعذر الوصول إلى شهادة الأصل، أو تعسر، وقيل: تقبل شهادة الفرع مع حضور الاصل، كالرواية، والصحيح الاول، لان باب الرواية واسع، ولهذا تقبل من المرأة والعبد، والشهادة على الشهادة وجوزت للضرورة، ولا ضرورة هنا. فمن وجوه التعذر الموت والعمى، ومن التعسر المرض، ولا يشترط أن لا يمكنه الحضور، وإنما المعتبر أن يناله بالحضور مشقة ظاهرة، ويلحق خوف الغريم وسائر ما تترك به الجمعة بالمرض، هكذا أطلق الامام والغزالي، وليكن ذلك في الاعذار الخاصة دون ما يعم الاصل والفرع، كالمطر والوحل الشديد، ولا يكلف القاضي أن يحضر عند شاهد الاصل، أو يبعث نائبه إليه لما فيه من الابتذال.(8/266)
ومنها: الغيبة إلى مسافة القصر، فإن كانت دون مسافة القصر، فمنهم من أطلق وجهين، منهم ابن القطان، والاصح أنه إن كانت المسافة بحيث لو خرج الاصل بكرة لاداء الشهادة، أمكنه الرجوع إلى أهله ليلا، لم تسمع شهادة الفرع، وتسمى هذه مسافة العدوى، وإن كانت بحيث لا يمكنه الرجوع فهو موضع الوجهين وأصحهما تسمع. فصل يجب على الفروع تسمية الاصول وتعريفهم، لانه لا بد من معرفة عدالتهم، ولا تعرف عدالتهم ما لم يعرفوا. ولو وصفوهم بالعدالة ولم يسموهم بأن قالوا: نشهد على شهادة عدلين أو عدول، لم يكف، لان القاضي قد يعرف جرحهم لو سموهم، ولانه ينسد باب الجرح على الخصم، ولا يشترط في شهادة الفرع تزكية شهود الاصل، بل لهم إطلاق الشهادة، ثم القاضي يبحث عن عدالتهم، وحكى البغوي وجها في اشتراطها، والصحيح الاول، وحكي وجه أنه يشترط أن يقول الفروع: أشهدنا على شهادته، وكان عدلا إلى اليوم أو إلى أن مات تفريعا على ما سبق أنه لو فسق الاصل، ثم تاب، لم يكن للفرع أن يشهد على شهادته إلا بإشهاد جديد، والصحيح عدم الاشتراط. فإن قلنا بالصحيح إنه لا يشترط في شهادة الفرع تزكية الاصل، فلو زكوهم وهم بصفات المزكين، فالمذهب - وبه قطع الجمهور - أنه تقبل تزكيتهم، وتثبت عدالتهم، والمعروف فيما لو شهد اثنان في واقعة، وزكى أحدهما الآخر أنه لا تثبت عدالة الثاني، فمنهم من جعلها على وجهين بالتخريج، والمذهب الفرق أن تزكية الفروع الاصول من تتمة شهادتهم، ولذلك شرط بعضهم التعرض لها، فقبلت وهناك قام الشاهد المزكى بأحد شطري الشهادة، فلا يصح قيامه بالثاني، ولا يشترط أن يتعرض الفروع في شهادتهم، لصدق الاصول، لانهم لا يعرفونه بخلاف ما إذا حلف المدعي مع شاهده حيث يتعرض لصدقه، لانه يعرفه، وبالله التوفيق.
الباب السادس : في الرجوع عن الشهادة رجوع الشهود عن الشهادة إما أن يقع قبل القضاء بشهادتهم، وإما بعده. الحالة الاولى قبله، فيمتنع من القضاء ثم إن اعترفوا بتعمد الكذب، فهم فسقة يستترون، وإن قالوا: غلطنا، لم يفسقوا، لكن لا تقبل تلك الشهادة إن(8/267)
أعادوها، وإن كانوا شهدوا بالزنى فرجعوا، واعترفوا بالتعمد، فسقوا وحدوا حد القذف، وإن قالوا: غلطنا، ففي حد القذف وجهان، أحدهما: المنع، لانهم معذورون، وأصحهما يجب لما فيه من التغيير، وكان حقهم أن يثبتوا، فعلى هذا ترد شهادتهم، وإن قلنا: لا حد، فلا ترد، وإن قال الشهود للقاضي بعد الشهادة: توقف في القضاء، وجب التوقف، فإن قالوا بعد ذلك: اقض، فنحن على شهادتنا، ففي جواز القضاء بشهادتهم وجهان، أصحهما: الجواز، فعلى هذا هل تجب إعادة الشهادة ؟ وجهان، أصحهما: لا، لانهم جزموا بها، والشك الطارئ زال. الحالة الثانية: إذا رجعوا بعد القضاء، فرجوعهم إما قبل الاستيفاء وإما بعد، فإن كان قبله، نظر إن كانت الشهادة في مال استوفي على الصحيح المنصوص، وإن كانت في قصاص، أو حد القذف، لم يستوف على المذهب، لانها عقوبة تسقط بالشبهة، والرجوع شبهة بخلاف المال، فإنه لا يتأثر بالشبهة، ووجه الجواز أن حقوق الآدميين مبنية على الضيق، وإن كانت في حدود الله تعالى لم تستوف، وقيل: كالقصاص. وإن كانت في شئ من العقود أمضي على الاصح، وقيل: النكاح كحد القذف، وحيث قلنا بالاستيفاء، بعد الرجوع، فاستوفى، فالحكم كما لو رجعوا بعد الاستيفاء، أما إذا رجعوا بعد الاستيفاء، فلا ينقض الحكم. ثم قد تكون الشهادة فيما يتعذر تداركه ورده، وقد تكون فيما لا يتعذر، فهما ضربان الاول المتعذر وهو نوعان، أحدهما: العقوبات، فإذا شهدوا بالقتل، فاقتص من المشهود عليه، ثم رجعوا، وقالوا: تعمدنا قتله، فعليهم القصاص، أو الدية المغلظة موزعة على عدد رؤوسهم، كما سبق في الجنايات، وكذا الحكم لو شهدوا بالردة فقتل، أو بزنى المحصن فرجم، أو على بكر، فجلد ومات منه، أو(8/268)
بسرقة أو قطع فقطع، أو بقذف أو شرب فجلد ومات منه، ثم رجعوا. ويحدون في شهادة الزنى وحد القذف أولا، ثم يقتلون، وهل يرجمون أو يقتلون بالسيف ؟ فيه احتمالان، ذكرهما أبو الحسن العبادي، والصحيح الاول. ثم هنا صور إحداها: لو رجع القاضي دون الشهود، وقال: تعمدت، لزمه القصاص، أو الدية المغلظة وبكمالها، ولو رجع القاضي والشهود جميعا، لزمهم القصاص، وإن قالوا: أخطأنا، أو عفا على مال، فالدية منصفة، عليهما نصفها، وعليه نصفها، هكذا نقله البغوي وغيره، وقياسه أن لا تجب كمال الدية عند رجوعه وحده، كما لو رجع بعض الشهود، ولو رجع ولي الدم وحده، لزمه القصاص، أو كمال الدية، ولو رجع مع الشهود، فوجهان أصحهما عند الامام أن القصاص أو كمال الدية على الولي، لأنه المباشر، وهم معه كالممسك مع القاتل، وأصحهما عند البغوي أنهم معه، كالشريك لتعاونهم على القتل، لا كالممسك، لانه جعلهم كالمحقين، فعلى هذا على الجميع القصاص أو الدية، نصفها على الولي، ونصفها على الشهود، ولو رجع القاضي معهم، فالدية مثلثة، ثلثها على القاضي، وثلث على الولي، وثلث على الشهود، وينبغي على هذا الوجه أن لا يجب كمال الدية على الولي إذا رجع وحده. قلت: لم يرجح الرافعي واحدا من الوجهين، بل حكى اختلاف الامام والبغوي في الصحيح، والاصح ما صححه الامام وقد سبق في أول كتاب الجنايات من هذا الكتاب القطع به، فهو الاصح نقلا ودليلا. والله أعلم.(8/269)
الثانية: يتعلق بالمزي الراجع قصاص وضمان ؟ فيه أوجه، أحدها: لا، لانه لم يتعرض للمشهود عليه، وإنما أثنى على الشاهد، والحكم يقع بالشاهد، فكان كالممسك مع القاتل، وأصحهما: نعم، لانه بالتزكية ألجأ القاضى إلى الحكم المفضي إلى القتل، والثالث يتعلق به الضمان دون القصاص، قال القفال: الخلاف فيما إذا قال المزكيان: علمنا كذب الشاهدين، فإن قالا: علمنا فسقهما، فلا شئ عليهما، لانهما قد يكونان صادقين مع الفسق، وطرد الامام الخلاف في الحالين. الثالثة: ما ذكرنا من وجوب القصاص على الشهود الراجعين هو فيما إذا قالوا: تعمدنا، فلو قالوا: أخطأنا، وكان الجاني أو الزاني غيره، فلا قصاص، وتجب الدية مخففة، وتكون في مالهم، لان إقرارهم لا يلزم العاقلة، فإن صدقهم العاقلة، فهي على العاقلة. قال الامام: وقد يرى القاضي والحالة هذه تعزيز الشهود لتركهم التحفيظ، ولو قال أحد شاهدي القتل: تعمدت ولا أدري أتعمد صاحبي أم لا، واقتصر على قوله: تعمدت وقال صاحبه: أخطأت، فلا قصاص على واحد منهما، لان شريك المخطئ لا قصاص عليه، وقسط المخطئ من الدية يكون مخففا، وقسط المتعمد يكون مغلظا ولو قال كل واحد: تعمدت، وأخطأ صاحبي، فوجهان، أحدهما: يجب القصاص لاعترافهما بالعمدية،(8/270)
وأصحهما: المنع، ولا خلاف أن الدية تجب عليهما مغلظة. ولو قال أحدهما: تعمدت وأخطأ صاحبي، أو قال: ولا أدري أتعمد صاحبي أم أخطأ، وصاحبه غائب أو ميت، فلا قصاص، ولو قال: تعمدت وتعمد صاحبي، وصاحبه غائب أو ميت، لزمه القصاص. ولو قال: تعمدت ولا أعلم حال صاحبي، وقال صاحبه مثله، أو اقتصر على قوله: تعمدت، لزمهما القصاص، ذكره البغوي وغيره. ولو قال أحدهما: تعمدت أنا وصاحبي، وقال الآخر: أخطأت أو أخطأنا معا، فلا قصاص على الثاني، ويلزم الاول على الاصح. ولو قال أحدهما: تعمدت وتعمد صاحبي، وقال صاحبه: تعمدت وأخطأ هو، وجب القصاص على الاول، ولا يجب على الثاني على الصحيح، لانه لم يعترف إلا بشركة مخطئ. ولو رجع أحد الشاهدين، وأصر الآخر، وقال الراجع: تعمدت، لزمه القصاص، وإن اقتصر على قوله: تعمدت، فلا. الرابعة: ما ذكرنا من وجوب القصاص على الشهود الراجعين فيما إذا قالوا: تعمدنا، وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا، فإن قالوا: تعمدنا، ولم نعلم أنه يقتل، فإن كانوا ممن لا يخفى عليه ذلك، وجب القصاص، ولا اعتبار بقولهم، كمن رمى سهما إلى رجل، واعترف بأنه قصده، ولكن قال: لم أعلم أنه يبلغه، وإن كانوا ممن يجوز خفاؤه عليهم لقرب عهدهم بالاسلام، فالذي قال الاصحاب: إنه شبه عمد لا يوجب قصاصا، ومال الامام إلى وجوبه، وحكى الروياني وجها شاذا مأخوذا، مما لو ضرب المريض ضربا يقتل المريض دون الصحيح، ولم يعلم مرضه، وأما الدية، فتجب في مال الشهود مؤجلة في ثلاث سنين إلا أن تصدقهم العاقلة، فيجب عليها، وقال القفال: حالة لتعمدهم، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور. فرع قال ابن القطان: لو رجع الشهود، وقال: أخطأنا، وادعو أن العاقلة تعرف أنهم أخطؤوا، وأن عليهم الدية، فأنكرت العاقلة العلم، فليس للشهود تحليفهم، وأنما يطالب العاقلة إذا قامت البينة، قال ابن كج: ويحتمل أن لهم تحليفهم، لانهم لو أقروا لغرموا. النوع الثاني: غير العقوبات، فمنه الابضاع فإذا شهدوا بطلاق بائن أو رضاع محرم، أو لعان أو فسخ بعيب، أو غيرها من جهات الفراق، وقضى القاضي(8/271)
بشهادتهما، ثم رجعا لم يرتفع الفراق، لكن يغرمان، سواء كان قبل الدخول أو بعده، فإن كان بعد الدخول، غرما مهر المثل على المشهور، وفي قول: المسمى، وإن كان قبله، فهل يغرمان مهر المثل أم نصفه ؟ فيه نصان، ونص فيما لو أفسدت امرأة نكاحه برضاع أنها تغرم نصف مهر المثل، وللاصحاب طرق، المذهب وجوب النصف في الرضاع، وجميع مهر المثل في الرجوع عن الشهادة، وفي قول نصفه، وفي قول نصف المسمى، وفي قول جميعه، وقيل: يجب جميع مهر المثل قطعا، وقيل: نصفه قطعا، وقيل: إن كان الزوج سلم إليها الصداق، غرم الشهود جميع مهر المثل، لانه لا يتمكن من استرداد شئ، وإلا فنصفه، ولو تزوجها مفوضة، وشهدا بالطلاق قبل الدخول والفرض، وقضى القاضي بالطلاق والمتعة، ثم رجعا فالخلاف في أنهما يغرمان مهر المثل أو نصفه، كما في غير التفويض، وفي قول قديم يغرمان المتعة التي غرمها الزوج ولو شهدا بطلاق رجعي، ثم رجعا، فلا غرم إذا لم يفوتا شيئا، فإن لم يراجع حتى انقضت العدة، التحق بالبائن، ووجب الغرم على الصحيح، وقيل: لا لتقصيره بترك الرجعة، وأطلق ابن كج في وجوب الغرم بالرجوع عن شهادة الطلاق الرجعي وجهين، فإن أوجبنا الغرم في الحال، فغرموا، ثم راجعها الزوج، فهل عليه رد ما أخذ، فيه احتمالان، ذكرهما أو الحسن العبادي. قلت: الصواب الجزم بالرد. والله أعلم. ولو شهد بطلاق، وقضى به، ثم رجعا، وقامت بينة أنه كان بينه وبين الزوجة رضاع محرم، أو شهدا بأنه طلقها اليوم، ورجعا، ثم قامت بينة أنه كان طلقها ثلاثا أمس، فلا شئ عليهما، إذ لم يفوتا، فإن غرما قبل البينة استرداد، ولو شهدا أنها زوجة فلان بألف، وحكم بشهادتهما القاضي، ثم رجعا، قال البغوي: لا غرم، وقال ابن الصباغ: إن كان بعد الدخول غرما ما نقص عن مهر المثل إن كان الالف دونه، قال وعلى هذا لو كان قبل الدخول، ثم دخل بها ينبغي أن يغرما ما نقص، وهذا هو الذي أطلقه ابن كج. ولو شهدا أنه طلقها بألف، ومهرها(8/272)
ألفان، فقال ابن الحداد، والبغوي: عليهما ألف وقد وصل إليه من المرأة ألف، وقال ابن كج: عليهما مهر المثل بعد الدخول، ونصفه قبله، كما لو يذكرا عوضا، وأما الالف، فهو محفوظ عند للمرأة، لانها لا تدعيه، وإن لم يكن قبضه، فهو في يدها. فرع ومن هذا النوع العتيق، فإذا شهدا بعتق عبد، وقضى به القاضي، ثم رجعا، غرما قيمة العبد، ولم يرد العتق، سواء كالمشهود بعتقه قنا أو مدبرا، أو مكاتبا أو أم ولد، أو معلقا عتقه بصفة، ولو شهدا بتدبير عبد، أو استيلاد جارية، ثم رجعا بعد القضاء، لم يغرما في الحال لان الملك لم يزل، فإذا مات، غرما(8/273)
بالرجوع السابق، وهكذا لو شهدا بتعليق عتق أو طلاق بصفة، ثم رجعا وفيهما وجه، لانهما لم يشهدا بما يزيل الملك ولو شهدا بكتابته، ثم رجعا، وأدى النجوم، وعتق ظاهرا، ففيم يغرمان ؟ وجهان، أحدهما: كل القيمة، والثاني: ما بين قيمته والنجوم. ولو شهدا أنه اعتقه على مال هو دون القيمة، فالمنقول أنه كما لو شهدا أنه طلقها بألف، ومهرها ألفان. فرع ومنه أنه إذا شهدا أنه وقف على مسجد أو جهة عامة، ثم رجعا بعد القضاء، غرما قيمته، ولا يرد الوقف، وكذا لو شهدا أنه جعل هذه الشاة أضحية. الضرب الثاني: ما لا يتعذر تداركه وهو الاموال أعيانها وديونها، فإذا شهدوا لرجل بمال، ثم رجعوا بعد دفع المال إليه، لم ينقض الحكم، ولم يرد المال إلى المدعي عليه، هذا هو الصحيح، وبه الجمهور، وحكى في العدة وجها أنه ينقض، ويرد المال وهو شاذ، وهل يغرمون ؟ قولان أظهرهما عند العراقيين والامام وغيرهم: نعم، وقيل: لا يغرمون قطعا، وقيل: يغرمون الدين دون العين، والمذهب الغرم مطلقا. فصل شهدوا على أحد الشريكين في عبد أنه أعتق حصته وهو موسر، فقضى القاضي بعتقه والسراية، ثم رجعوا، لزمهم قيمة نصف المشهود عليه وفي قيمة نصيب الشريك الخلاف في غرم المال شهدو قتل الخطإ إذا رجعوا بعد غرم العاقلة هل يغرمون ؟ فيه الخلاف. ولو حكم القاضي بشهادة شهود الفرع. ثم رجعوا غرموا، ولو رجع شهود الاصل، وقالوا: كذبنا، غرموا أيضا، ولو رجع الاصول والفروع، فالغرم على شهود الفرع، لانهم ينكرون إشهاد الاصول، ويقولون: كذبنا فيما قلنا، والحكم وقع بشهادتهم. وحيث وجب على الراجح عقوبة من قصاص أو حد قذف، دخل التعزيز فيها، وإذا لم تجب عقوبة، واعترف بالتعمد، عزر. فصل الرجوع المغرم إما أن يوجد والمحكوم بشهادتهم على الحد المعتبر في الباب، وإما أكثر عددا، فإن كانوا على الحد بأن حكم في العتق أو القتل(8/274)
بشهادة رجلين، ثم رجعا، لزمهما الغرم بالسوية، وإن رجع أحدهما، لزمه النصف، وكذا لو رجم في الزنى بشهادة أربعة، فرجعوا جميعا، فعليهم الدية أرباعا، وإن رجع بعضهم، فعليه حصته منها، وإن زادوا على الحد المعتبر بأن شهد القتل أو الحد ثلاثة، أو بالزنى خمسة، فإن رجع الجميع، فالغرم عليهم بالسوية، وإن رجع البعض، نظر، فإن ثبت على الشهادة الحد المعتبر بأن رجع من الثلاثة في القتل واحد، أو من الخمسة في الزنى واحد فلا غرم على الراجع على الاصح، وبه قال ابن سريج والاصطخري، وابن الحداد، والثاني: يغرم بحصته من العدد، قال المزني وأبو إسحق. ولا يجب القصاص والحالة هذه بلا خلاف، كذا قال البغوي، وفي الفروق للشيخ أبي محمد عن القفال أنه يلزمه القصاص إن اعترف بالتعمد، أما إذا لم يثبت من العدد المعتبر إلا بعضهم بأن رجع من الثلاثة أو الخمسة اثنان، فعلى الوجهين السابقين، فإن قلنا: لا غرم هناك وزع الغرم الثلاثة أو الخمسة اثنان، فعلى الوجهين السابقين، فإن قلنا: لا غرم هناك وزع الغرم هنا على العدد المعتبر، وحصة من نقص من العدد المعتبر توزع على من رجع بالسوية، ففي صور الثلاثة يكون نصف الغرم على الراجعين، وإن قلنا: يغرم هناك وزع هنا على جميع الشهود، فعلى الاثنين الراجعين من الثلاثة ثلثا الغرم، هذا كله إذا كان جميع الشهود ذكورا أو إناثا بأن كان رضاعا أو نحوه، فإن كانوا ذكورا وإناثا نظر إن لم يزيدوا على العدد المعتبر، كرجل وامرأتين، في رضاع أو مال، فإذا رجعوا، فعلى الرجل نصف الغرم، وعلى كل امرأة ربعه، وإن زادوا على العدد، فالمشهود به قسمان: أحدهما ما يثبت بالنسوة منفردات، كالرضاع، فإذا شهد به أربع نسوة ورجل، ورجعوا، فعليه ثلث الغرم، وعليهن ثلثاه، وإن رجع وحده، فلا شئ(8/275)
عليه على الاصح، لبقاء الحجة، وكذا لو رجع امرأتاه، وعلى الثاني عليه أو عليهما ثلث الغرم. ولو شهد رجل وعشر نسوة، ثم رجعوا، فعليه سدس الغرم، وعلى كل واحدة نصف سدسه، وإن رجع وحده أو مع ست، فما دونهن، فلا غرم على الاصح لبقاء الحجة، وعلى الثاني يجب على من رجع حصته، وإن رجع مع سبع، فعلى الاصح عليهم ربع الغرم، لبطلان ربع البينة، وإن رجع مع ثمان، فنصفه ومتسع ثلاثة أرباعه، ويكون على الذكر ضعف ما على المرأة، وعلى الثاني عليهم قدر حصتهم لو رجعوا جميعا، ولو رجع النسوة وحدهن. فعليهن نصف الغرم على الاصح، وخمسة أسداسه في الثاني. القسم الثاني: ما لا يثبت بالنسوة منفردات، كالمال إذا أوجبنا الغرم فيه بالرجوع، فشهد رجل وأربع نسوة ورجعوا، فهل على الرجنصف الغرم أم ثلثه ؟ وجهان أصحهما الاول، فإن قلنا به، فرجع النسوة، فعليها نصف الغرم، ولو رجعت امرأتان، فلا شئ عليهما على الاصح لبقاء الحجة، وعلى قول المزني وأبي إسحق، عليهما ربع الغرم. ولو شهد رجل وعشر نسوة، ورجعوا، فعليه نصف الغرم، وعليهن نصفه على الاصح، وعلى الثاني عليه سدسه، وعليهن الباقي ولو رجع وحده، فعليه النصف على الاصح، وعلى الآخر إنما عليه السدس، ولو رجعن دونه، فعليهن النصف في الاصح، وفي الآخر خسمة أسداس، وإذا علقنا نصف الغرم برجوع الرجل، فرجع معه ثمان نسوة، فعليه النصف، ولا شئ عليهن بناء على أنه لا يثبت بشهادتين إلا نصف الغرم، وقد بقي من النساء من يتم به ذلك، وعلى قول المزني، وأبي إسحق عليهن أربعة أخماس النصف، ولو رجع مع تسع نسوة، لزمه النصف، وعليهن الربع، لبقاء الحجة، وعلى قول المزني عليه نصف، وعليهن تسعة أعشار النصف الآخر، وإن رجع ثمان نسوة لا غير، فلا شئ عليهن، وعلى قوله عليهن أربعة أخماس النصف. فرع هل يتعلق الغرم بشهود الاحصان مع شهود الزنى، وبشهود الصفة مع شهود تعليق الطلاق والعتق ؟ وجهان، وقيل: قولان، أصحهما: لا، وقيل: إن(8/276)
شهدوا بالاحصان بعد شهادة الزنى غرموا، وإلا فلا، فإن غرمناهم، فقالوا: تعمدنا، لزمهم القصاص، كشهود الزنى. وفي كيفية توزيع الغرم عليهم وعلى شهود الزنى وجهان، أصحهما: اعتبار النصابين، فعلى شهود الاحصان ثلث الغرم، والآخرين ثلثاه، والثاني يوزع نصفين اعتبارا بالجنسين، كالقاضي مع الشهود، وإذا غرمنا شهود الصفة، غرموا النصف قطعا، فإذا شهد أربعة بالزنى، واثنان بالاحصان، ورجعوا كلهم بعد الرجم، فإن قلنا بالاصح: إن شهود الاحصان لا يغرمون، فالضمان على شهود الزنى، وإلا فعلى الجميع أثلاثا على الاصح، ومناصفة على الآخر، وإن رجع واحد من شهود الزنى، وواحد من شاهدي الاحصان، فإن لم نغرم شهود الاحصان، فعلى الرابع من شهود الزنى ربع الغرم، وإن غرمناهم، فإن نصفنا، فعليه ثمن الغرم، على الآخر ربع، وإن ثلثنا، فعلى كل واحد منهما سدسه، وإن رجع واحد من أحد الصنفين لا غير، ففيما عليه هذا الخلاف ولو شهدا أربعة بالزنى والاحصان جميعا، ثم رجع أحدهم، فإن لم نغرم شهود الاحصان، فعليه ربع الغرم، وإن غرمناهم، فقد بقي هنا من تقوم به بحجة الاحصان، فإن غرمنا الرابع مع ثبات من تقوم به الحجة، لزمه الربع أيضا، كما لو رجعوا كلهم، وإن لم نغرمه، فلا ضمان عليه بسبب الاحصان، وأما بسبب الزنى، فإن نصفنا، فعليه ثمن الغرم، وإن ثلثنا، فسدسه، وإن رجع ثلاثة وبقي واحدة، فقد بطل ثلاثة أرباع حجة الزنى، ونصف حجة الاحصان، فإن لم نغرم شهود الاحصان، لزمهم ثلاثة أرباع الغرم، وإن غرمناهم، فعلى كل واحد إن نصفنا للرجوع عن الزنى ثمن الغرم، وعن الاحصان نصف سدسه بتوزيع نصف غرم الاحصان عليهم، وإن ثلثنا، فعلى كل واحد للرجوع عن شهادة الزنى سدس الغرم توزيعا للثلثين على الاربعة، وعن الاحصان ثلث سدسه توزيعا لنصف غرم الاحصان على الراجعين، ولو شهد أربعة بالزنى، واثنان منهم بالاحصان، ثم رجعوا بعد الرجم، فإن لم نغرم شهود الاحصان في المسائل السابقة، فكذا هنا، وإن غرمناهم، فهل يغرم شاهد الاصل هنا زيادة ؟ وجهان، فإن قلنا: نعم عاد الخلاف، فإن نصفنا فعلى اللذين شهدا بالاحصان ثلاثة أرباع الغرم: النصف بشهادة الاحصان، والربع بالزنى، وعلى الآخرين الربع، وإن ثلثنا، فعلى شاهدي(8/277)
الاحصان ثلثان، وعلى الآخرين ثلث، وإن رجع واحد منهم، فإن لم نغرم شهود الاحصان، فعليه ربع الغرم، وإن غرمناهم، فإن كان الراجع من شاهدي الاحصان، فإن نصفناء، لزمه ثمن الغرم، وإن ثلثنا، فالسدس ولو شهد ثمانية بالزنى والاحصان، ثم رجع أحدهم فلا غرم على الاصح لبقاء الحجتين، وكذا لو رجع ثان وثالث ورابع، فإن رجع خامس، فقد بطلت حجة الزنى، ولم تبطل حجة الزنى، ولم تبطل حجة الاحصان، فإن لم نغرم شهود الاحصان، فعلى الخمسة ربع الغرم لبطلان ربع الحجة، وإن غرمناهم، فلا غرم هنا لشهادة الاحصان على الاصح، لبقاء حجته، ويغرم الراجعون ربع غرم الزنى وهو السدس إن ثلثنا، والثمن إن نصفنا، وإن رجع ستة، لزمه نصف غرم الزنى، وهو الثلث إن ثلثناه، والربع إن نصفناه، وإن رجع سبعة، بطلت الحجتان، ولا يخفى قياسه. شهد أربعة على رجل بأربعمائة، ثم رجع أحدهم عن مائة وآخر عن مائتين، وثالث عن ثلاثمائة، والرابع عن الجميع، فالبينة باقية بتمامها في مائتين، فالاصح أنه لا يجب غرمهما، ويجب عن الاربعة غرم المائة بالرجوع عنها باتفاقهم، وعلى الثاني والثالث والرابع ثلاثة أرباع المائة التي اختصوا بالرجوع عنها، والوجه الثاني على كل واحد حصته فيما رجع عنه، فعلى الاول ربع المائة، وعلى الثاني خمسون، وعلى الثالث خمسة وسبعون، وعلى الرابع مائة. فصل إذا حكم القاضي بشهادة اثنين، ثم بان كونهما كافرين، أو عبدين، أو صبيين، فقد سبق أنه ينقض حكمه، وكذا لو بانا فاسقين على الاظهر، قال الامام: ومعنى نقضه أنا نتبين الامر على خلاف ما ظنه وحكم به، فإن كان المشهود به طلاقا أو عتقا أو عقدا فقد بان أنه لا طلاق ولا عتق ولا عقد، فإن كانت المرأة ماتت، فقد ماتت وهي زوجته، وإن مات العبد مات وهو رقيق له، ويجب(8/278)
ضمانه، وإن كان المشهود به قتلا أو قطعا أو حدا استوفى وتعذر التدارك، فضمانه على عاقلة القاضي على الاظهر، وفي بيت المال على قول كما سبق في ضمان الولاة. وإنما تعلق الضمان بالقاضي، لتفريطه بترك البحث التام على حال الشهود، ولا ضمان على المشهود له، لانه يقول: استوفيت حقي، ولا على الشهود، لانهم ثابتون على شهادتهم زاعمون صدقهم بخلاف الراجعين. وإذا غرمت العاقلة أو بيت المال، فهل يثبت الرجوع على الشهود فيه خلاف وتفصيل سبق في باب ضمان الولاة، والذي قطع به العراقيون أنه لا ضمان عليهم، وقالوا: وكذا لا ضمان على المزكين، لان الحكم غير مبني على شهادتهم، قال القاضي أبو حامد: يرجع الغارم على المزكين، ويستقر عليهم الضمان بخلاف الشهود، لانه ثبت عند القاضي أن الامر على خلاف قول المزكين، ولم يثبت أنه خلاف قول الشهود وإلى هذا مال القاضيان أبو الطيب والروياني، ومفهوم ما ذكروه أنه يجوز تغريم المزكين، أولا، ثم لا رجوع لهم على القاضي، وأشار الامام إلى مثل ذلك في الشهود إذا قلنا بالرجوع عليهم، ولا فرق فيما ذكرناه من تعليق الضمان بالقاضي بين أن يكون الحكم في حد الله تعالى أو قصاص، وسواء في القصاص استوفاه المدعي أو القاضي بنفسه، أو فوض استيفاءه بإذن المدعي إلى شخص، وسبق في إذن القاضي عن الاصطخري أن المدعي إن استوفاه بنفسه، فالضمان عليه، أنه إنما يعلق الضمان بالقاضي إذا باشر الاستيفاء أو فوضه إلى غيره بإذن المدعي، وإن كان المحكوم به مالا، فإن كان باقيا عند المحكوم له انتزع، وإن كان تالفا، أخذ منه ضمانه، وقيل: إن تلف بآفة سماوية، فلا ضمان والصحيح الاول، وفرقوا بينه وبين الاتلاف حيث قلنا: لا غرم عليه فيه بأن الاتلاف إنما يضمن إذا وقع على وجه التعدي، وحكم القاضي أخرجه عن التعدي، وأما المال، فإذا حصل في يد إنسان بغير حق كان مضمونا، وإن لم يوجد منه تعد، فإن كان المحكوم له معسرا أو غائبا، فللمحكوم عليه مطالبة القاضي ليغرم له من بيت المال في قول ومن خالص ماله في قول، لانه ليس بدل نفس تتعلق بالعاقلة، ثم القاضي يرجع على المحكوم له إذا(8/279)
ظفر به موسرا، وهل له الرجوع على الشهود ؟ جعله الامام على الخلاف والتفصيل المشار إليهما في الاتلافات، ويجئ أن يقال على قياس ما سبق: إن المحكوم عليه يتخير في تغريم القاضي، وتغريم المحكوم له، وبالله التوفيق.(8/280)
كتاب الدعوى والبينات
فيه سبعة أبواب، لأن الدعوى تدور على خمسة أشياء : الدعوى وجوابها، واليمين، والبينة والنكول، فهذه خمسة، والسادسة في مسائل تتعلق بهذة الاصول، والسابع في دعوى النسب، وإلحاق القائف.
الأول : في الدعوى، وفيه مسائل :
إحداها : في أن المستحق متى يحتاج إلى المرافعة والدعوى، كالحق إذا كان عقوبة كالقصاص، وحد القذف، اشترط رفعه إلى القاضي، لعظم خطره، وإن(8/281)
كان مالا، فهو عين، أو دين، فإن كان عينا، فإن قدر على استردادها من غير تحريك فتنة، أشغل به، وإلا فلا بد من الرفع. وأما الدين، فإن كان من عليه مقرا غير ممتنع من الاداء طالبه ليؤدي، وليس له أن يأخذ شيئا من ماله، لان الخيار في تعيين المال المدفوع إلى من عليه، فإن خالف، وأخذ شيئا من ماله، لزمه رده، فإن تلف عنده، وجب ضمانه، فإن اتفقا، جاء خلاف التقاص. وإن لم يكن كذلك، فإما أن يمكن تحصيل منه بالقاضي، وإما أن لا يمكن، فإن لم يمكن بأن كان منكرا، ولا بينة لصاحب الحق، فله أن يأخذ جنس حقه من ماله إن ظفر به، ولا يأخد غير الجنس مع ظفره بالجنس، وفي التهذيب وجه أنه يجوز وهو ضعيف، فإن لم يجد إلا غير الجنس، جاز الاخذ على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: قولان، وإن أمكن تحصيل الحق بالقاضي بأن كان مقرا مماطلا، أو منكرا عليه وله بينة، أو كان يرجو إقراره لو حضر عند القاضي وعرض(8/282)
عليه اليمين، فهل يستقل بالاخذ أم يجب الرفع إلى القاضي ؟ وجهان، أصحهما جواز الاستقلال، قاله أبو إسحق، وابن أبي هريرة، وصححه القاضيان أبو الطيب والرمياني، للحديث الصحيح في قصة هند، ولان في المرافعة مشقة ومؤنة، وتضييع زمان. ومتى جاز للمستحق الاخذ، فلم يصل إلى المال إلا بكسر الباب، ونقب الجدار، جاز له ذلك، ولا يضمن ما فوته، كمن لم يقدر على دفع الصائل إلا بإتلاف ماله، فأتلفه لا يضمن، وقيل: يضمن وهو شاذ، ثم إن كان المأخوذ من جنس الحق فله تملكه، وإن كان من غير جنسه، لم يكن له(8/283)
التملك، وقيل: يتملك قدر حقه، ويستقل بالمعاوضة للضرورة، كما يستقل بالتعيين عند أخذه الجنس، والصحيح الاول، ثم هل يرفعه إلى القاضي ليبيعه، أم يستقل ببيعه ؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما عند الجمهور الاستقلال، هذا إن كان القاضي جاهلا بالحال، ولا بينة للاخذ، فإن كان القاضي عالما، فالمذهب أنه لا يبيعه إلا بإذنه، فإن أوجبنا الرفع إلى القاضي، فهل للقاضي أن يأذن له في بيعه، أو يفوضه إلى غيره ؟ وجهان، أصحهما: الاول، وفي طريقة عند الرفع وجهان، أحدهما: يبيعه القاضي بعد إقامة البينة على استحقاق المال، وهذا يبطل فائدة تجويز البيع عند العجز عن البينة. والثاني: يواطئ رجلا يقر له بالحق، ويمتنع من الاداء، ويقر له الاخذ بالمال حتى يبيعه القاضي، وهذا إرشاد إلى الكذب من الطرفين، ويضعف وجوب الرفع. ثم عند البيع إن كان الحق من جنس نقد البلد، بيع المأخوذ به، وإن لم يكن بأن ظفر بثوب والدين حنطة، بيع الثوب بنقد البلد، ثم يشتري به حنطة. وحكى الامام عن محققي الاصحاب أنه يجوز أن يشتري غير الحنطة بالثوب، ولا يوسط النقد بينهما، وهل يكون المأخوذ مضمونا على الاخذ حتى لو تلف قبل البيع، أو التملك بتلف من ضمانه أم لا ؟ وجهان، أصحهما: نعم وهو الذي ذكره الصيدلاني والامام، والغزالي، لانه أخذه لغرضه، كالمستام بل أولى، لان المالك لم يسلطه فعلى هذا ينبغي أن نبادر إلى(8/284)
البيع بحسب الامكان، فإن قصر، فنقصت قيمته، ضمن النقصان، ولو انخفضت القيمة، وارتفعت، وتلف، فهي مضمونة عليه بالاكثر، ولو اتفق رد العين، لم يضمن نقص القيمة كالغاصب، ولو باعه، وتملك ثمنه، ثم قضى المستحق دينه، ففيما علق عن الامام أنه يجب أن يرد إليه قيمة المأخوذ، كما إذا ظفر المالك بغير جنس المغصوب من مال الغاصب، فأخذه، وباعه، ثم رد الغاصب المغصوب، فإن على المالك أن يرد قيمة ما أخذه وباعه، وينبغي أن لا يرد شيئا ولا يعطي شيئا. فرع ليس له الانتفاع بالعين المأخوذة، فإن انتفع، لزمه أجرة المثل. فرع لا يأخذ أكثر من حقه إذا أمكنه الاقتصار عليه، فإن زاد، فالزيادة مضمونة عليه، فإن لم يمكنه بأن لم يظفر إلا بمتاع يزيد قيمته على قدر حقه، فإن قلنا: لو كان المأخوذ قدر حقه لا يكون مضمونا، فكذا الزيادة، وإن قلنا: يكون مضمونا لم يضمن الزيادة على الاصح، ثم إذا كان المأخوذ أكثر من حقه، فإن كان مما يتجزأ باع منه قدر حقه، وسعى في رد الباقي إليه بهبة ونحوها، وإن كان لا يتجزأ، فإن قدر على بيع البعض بما هو حقه، باعه وسعى في رد الباقي إليه، وإن لم يقدر باع الجميع، وأخذ من ثمنه قدر حقه، وحفظ الباقي إلى أن يرده.(8/285)
فرع حقه دراهم صحاح، فظفر بمكسرة، فله أخذها، وتملكها بحقه، ولو استحق مكسرة، فظفر بصحاح، فالمذهب جواز الاخذ، لاتحاد الجنس، وقيل: فيه الخلاف في إختلاف الجنس، لاختلاف الغرض، وإذا أخذها، فليس له تملكها، ولا يشتري بها مكسرة لا متفاضلا، لما فيه من الربا، ولا متساويا لانه يجحف بالمأخوذ منه، لكن يبيع صحاح الدراهم بدنانير، ويشتري بها دراهم مكسرة ويتملكها. فرع شخصان ثبت لكل واحمنهما على صاحبه مثل ماله عليه، ففي حصول التقاص أقوال مشهورة في كتاب الكتابة، فإن قلنا: لا يحصل التقاص، فجحد أحدهما الاخر، فهل للآخر جحده، ليحصل التقاص للضرورة ؟ وجهان، أصحهما: نعم. فرع كما يجوز الاخذ من مال الغريم الجاحد، أو المماطل يجوز الاخذ من مال غريم الغريم، بأن يكون لزيد على عمرو دين، ولعمرو على بكر مثله، يجوز لزيد أن يأخذ مال بكر بماله على عمر، ولا يمنع من ذلك رد عمرو، وإقرار بكر ولا جحود بكر استحقاق زيد على عمرو. فرع جحددينه، وله عليه صك بدين آخر قد قبضه، وشهود الصك لا يعلمون القبض، قا القاضي أبو سعد: له أن يدعي ذلك، ويقيم البينة، ويقبض بدينه الاخر، وفي فتاوى القفال أنه ليس له ذلك. قلت: الصحيح قول أبي سعد ولو حدثت من المأخوذ زيادة قبل تملكه حيث(8/286)
جوز أو قبل بيعه، فهي على ملك المأخوذ منه. والله أعلم.
المسألة الثانية : في حد المدعي والمدعى عليه، ويحتاج إلى معرفته، لان البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، لقوة جانبه، وفيه قولان مستنبطا من اختلاف قول الشافعي رحمة الله عليه في مسألة إسلام الزوجين التي سنذكرها الان إن شاء الله تعالى، أظهرها عند الجمهور أن المدعي من يدعي أمرا خفيا يخالف الظاهر، والمدعى عليه من يوافق قوله الظاهر، والثاني: المدعي من لو سكت خلي ولم يطالب بشئ، والمدعى عليه من لا يخلى ولا يكفيه السكوت، فإذا إدعى زيد دينا في ذمة عمرو، أو عينا في يده، فأنكر، فزيد هو الذي لو سكت ترك، وهو الذي يذكر خلاف الظاهر، لان الظاهر براءة ذمة عمرو، وفراغ يده من حق غيره، وعمرو هو الذي لا يترك، ويوافق قوله الظاهر، فزيد مدع بمقتضى القولين وعمرو مدعى عليه ولا يختلف موجبهما غالبا، وقد يختلف كما إذا أسلم زوجان قبل الدخول، فقال الزوج: أسلمنا معا، فالنكاح باق، وقالت: بل على التعاقب ولا نكاح، فإن قلنا: المدعي من لو سكت ترك، فالمرأة مدعية وهو مدعى عليه، لانه لا يترك لسكت، لانها تزعم انفساخ النكاح، فيحلف، ويستمر النكاح، وإن قلنا بالاظهر، فالزوج مدع، لان ما يزعمه خلاف الظاهر، وهي مدعى عليها، فتحلف، ويرتفع النكاح. ولو قال الزوج: أسلمت قبلي، فلي النكاح ولا مهر، وقالت: بل أسلمنا معا، وهما بحالهما، فقوله في الفراق يلزمه، وأما المهر، فالقول قوله على الاظهر، وعلى الثاني قولها، لانها لا تترك بالسكوت، لان الزوج يزعم سقوط المهر، فإذا سكتت ولا بينة، جعلت ناكلة، وحلف وسقط المهر. قال الاصحاب: والامناء الذين يصدقون في الرد بيمينهم مدعون، لانهم يزعمون الرد الذي هو خلاف الظاهر، لكن اكتفي منهم باليمين، ولانهم أثبتوا أيديهم، لغرض المالك، وقد ائتمنهم، فلا يحسن تكليفهم بنية الرد، وأما على(8/287)
القول الثاني، فهم مدعى عليهم، لان المالك هو الذي لو سكت ترك. قال الروياني وغيره: وقد يكون الشخص مدعيا ومدعى عليه في المنازعة الواحدة، كما في صورة التحالف، هذا كلام الاصحاب، وبالله التوفيق. فصل في حد الدعوى الصحيحة، وشرطها أن تكون معلومة ملزمة. الاول العلم بالمدعى به، فإن كان نقدا، إشترط ذكر جنسه ونوعه وقدره، قال ابن الصباغ: وإن اختلف الصحاح والمكسرة بين أنها صحاح أو مكسرة، ومطلق الدينار ينصرف إلى الدينار الشرعي، ولا حاجة إلى بيان وزنه، وإن كان غير نقد، نظر إن كان عينا وهي مما تضبط بالصفة، كالحبوب والحيوان والثياب، وصفها بصفات السلم، ولا يشترط ذكر القيمة في الاصح، وإن كانت تالفة، كفى الضبط بالصفات إن كانت مثلية، ولا يشترط ذكر القيمة، وإن كانت متقومة، إشترط ذكر القيمة، لانها الواجب عند التلف. وإن ادعى سيفا محلى، إشترط ذكر قيمته، ويقومه بالذهب إن كان محلى بالفضة، وبالفضة إن كان محلى بالذهب، فإن كان محلى بهما، قومه بأحدهما للضرورة، وفي الدراهم والدنانير المغشوشة يدعي مائة درهم من نقد كذا قيمتها كذا دينارا. أو دينارا من نقد كذا قيمته كذا درهما، هكذا ذكره الشيخ أبو حامد وغيره، وكأنه جواب على أن المغشوش متقوم، فإن جعلناه مثليا، فينبغي أن لا يشترط التعرض للقيمة، وفي العقار يتعرض للناحية والبلدة، والمحلة والسكة، وتبين الحدود، ويستثنى من اشتراط العلم صورا، إحداها: إنما يعتبر إذا طلب معينا، فأما من حضر ليعين، ويفرض له القاضي، كالمفوضة تطلب الفرض على قولنا: لا يجب المهر بالعقد، والواهب يطلب الثواب، فلا يتصور الاعلام.(8/288)
الثانية: قال: أدعي أن مورثك أوصى لي بثوب، أو بشئ تسمع الدعوى، لان الوصية تحتمل الجهالة، فكذا دعواها، وألحق ملحقون دعوى الاقرار بالمجهول بدعوى الوصية، ومنهم من ينازع كلامه فيه، ويصح دعوى الابراء عن المجهول إن صححنا الابراء عن المجهول. الثالثة: ادعى أن له طريقا في ملك غيره، وادعى حق إجراء الماء، قال القاضي أبو سعد: الاصح أنه لا يحتاج إلى إعلام قدر الطريق والمجرى، ويكفي لصحة الدعوى تحديد الارض التي يدعي فيها الطريق والمجرى، وكذا لا تصح الشهادة المرتبة عليها، وقال أبو علي الثقفي: يشترط إعلام قدر الطريق والمجرى، وقال: وكذا لو باع بيتا من دار، وسمى له طريقا، ولم يبين قدره لا يصح، قال القاضي: وعندي أنه لا يشترط هذا الاعلام في الدعوى، لكن يؤخذ على الشهود إعلام الطريق والمسيل بالذرعان، لان الشهادة أعلى شأنا، فإنها تستقل بقوة إيجاب الحكم بخلاف الدعوى، ولو أحضر المدعي ورقة، وحرر فيها دعواه، وقال: أدعي ما فيها، وأدعي ثوبا بالصفات المكتوبة فيها، ففي الاكتفاء به لصحة الدعوى وجهان. الشرط الثاني: كونها ملزمة، فلو قال: وهب لي كذا أو باع، لم تسمع دعواه(8/289)
حتى يقول: ويلزمه التسليم إلي، لانه قد يهب ويبيع، وينقضها قبل القبض هكذا نقله الروياني والغزالي وغيرهما، ويقرب منه ما ذكره القاضي أبو سعد أنه يقول في دعوى الدين: لي في ذمته كذا، وهو ممتنع من الاداء الواجب عليه، قال: وإنما يتعرض لوجوب الاداء، لان الدين المؤجل لا يجب اداؤه في الحال، وكان هذا إذا قصد بالدعوى تحصيل المدعى، ويجوز أن يكون المقصود بالدعوى دفع المنازعة، ولا يشترط التعرض لوجوب التسليم. قال ابن الصباغ: لو قال هذه الدار لي وهو يمنعنيها، صحت الدعوى، ولا يشترط أن يقول: هي في يده، لانه يجوز أن ينازعه، وإن لم تكن في يده، وإذا ادعى ولم يقل للقاضي: مره بالخروج عن حقي، أو سله جواب دعواي، فهل يطالبه القاضي ؟ وجهان، قال ابن الصباغ: الاصح نعم، للعلم بأنه الغرض من الحضور، وإنشاء الدعوى، قال القاضي أبو سعد: الاصح لا، لانه حقه، فلا يستوفى إلا باقتراحه كاليمين. قلت: الاول أقوى. والله أعلم فعلى هذا الثاني طلب الجواب شرط آخر في صحة الدعوى، وسواء شرطنا هذا الاقتراح، أم لم نشرطه، فاقترحه، فيمكن أن يقال: يغني ذلك عن قوله: ويلزمه التسليم إلي، وأن من شرطه بناه على أنه لا يشترط الاقتراح المذكور. فرع لا يشترط لصحة الدعوى أن يعرف بينهما مخالط أو معاملة، ولا فرق فيه بين طبقات الناس، فتصح دعوى دنئ على شريف، وقال الاصطخري: إن شهدت قرائن الحال بكذب المدعي، لم يلتفت إلى دعواه، مثل أن يدعي الدنئ استئجار الامير، أو الفقيه، لعلف الدواب، أو كنس بيته، ومثله دعوى المعروف(8/290)
بالتعنت، وجر ذوي الاقدار إلى القضاة، وتحليفهم ليفتدوا منه بشئ. فرع ادعى عليه مالا، وقام، وأقام شاهدين، شهدا على إقراره بشئ، أو قالا: نعلم أن له عليه مالا، ولا نعلم قدره، ففي سماع شهادتهما هكذا وجهان، حكاهما البغوي وغيره، أحدهما: نعم، ويرجع في التفسير إلى المشهود عليه، كما لو أقر بمبهم، وأصحهما: لا، ويجريان فيما لو شهدا بغصب عبد، أو ثوب، ولم يصفاه. فرع عن فتاوي القفال: ادعى دراهم مجهولة لا يسمع القاضي دعواه، ويقول له: بين الاقل الذي تتحققه، وإن ادعى ثوبا ولم يصفه أيضا، لم يصغ إليه، بل لو قال: هو كرباس، ولم يصف، أمره أن يأخذ بالاقل، وهذا فيه أرشاد وتلقين، ثم الاخذ بالاقل في قدر الدراهم مستقيم، لكن الاخذ بالأقل من صفة الثوب عينه لا وجه له
المسأله الثالثة : إذا قامت بينة على المدعى عليه، فطلب من القاضي تحليف المدعي على استحقاق ما ادعاه، لم يجبه، لانه تكليف حجة بعد قيام حجة، ولانه كطعن في الشهود، وإن ادعى إبراء أو قضاء في الدين، أو بيعا، أو هبة وإقباضا في العين، نظر إن ادعى حدوث شئ من ذلك بعد قيام البينة، حلف المدعي على نفي ما يقوله إن مضى زمان إمكانه، وإلا فلا يلتفت إلى قوله، وإن ادعى أنه جرى قبل شهادة الشهود، فإن لم يحكم القاضي بعد، حلف المدعي على نفيه، وإن حكم، لم يحلفه على الاصح، ولو قال المدعى عليه: الشهود فسقة، أو كذبة، والمدعي يعلم ذلك، فهل له تحليفه على أنه لا يعلم ؟ وجهان، وطردا في كل صورة ادعى ما لو أقربه الخصم لنفعه ولكن لم يكن المدعى عين حق له، بأن قال المدعى عليه: إنك أقررت لي بكذا، أو قال وقد توجهت عليه الدعوى: إن المدعي حلفني مرة، وأراد تحليفه، أو قذفه، فطلب الحد، فادعى زنى المقذوف، وأراد تحليفه،(8/291)
ويشبه أن يكون الاصح أن له التحليف، ويؤيده ما سبق من قول الاصحاب: إن دعوى الاقرار بالمجهول صحيحة، وإن جواب الاكثرين في مسألة القذف التحليف. وإن كان المقذوف ميتا، وأراد القاذف تحليف الوارث أنه لا يعلم زنى مورثه، حلف، وهذه الصورة محكية عن النص، لكن ذكر البغوي أن الاصح أنه لا يحلفه إذا ادعى فسق الشهود، أو كذبهم، وأما تحليف القاضي والشهود، فلا يجوز قطعا، لارتفاع منصبيهما.
المسألة الرابعة : قامت بينة على المدعى عليه، وادعى أن المدعي باعه العين المدعاة، أو باعها لبائعه، أو ادعى أنه أبرأه من الدين المدعى، فأنكر، فلا يخفى أن القول قول المدعي، وأن المدعى عليه مدع فيما ذكره يحتاج إلى بينة، فإن استمهل ليأتي بها أمهل ثلاثة أيام على الصحيح، وقيل: يوم فقط. ولو ادعى الابراء ولم يأت ببينة، وقال: حلفوه أنه لم يبرئني، حلفناه، ولا يكلف توفية الدين أولا، وعن القاضي وجه أنه يستوفى منه الدين أولا، ثم إن شاء حلفه، لانها دعوى جديدة، والصحيح الاول، وليس كما لو قال لوكيل المدعي: أبرأني موكلك حيث يستوفى الحق منه، ولا يؤخر إلى حضور الموكل وحلفه، لعظم الضرر في التأخير وهنا الحلف متيسر في الحال. ولو قال: إنه أبرأني من هذه الدعوى، فهل يحلف المدعي أنه لم يبرئه ؟ وجهان اختار القفال، والغزالي المنع، وادعى الروياني أن المذهب التحليف، لانه لو أقر أنه لا دعوى له عليه، برئ. فرع مدعي الدفع إن قال: قضيت أو أبرأني فذاك، وإن أطلق، وقال: لي بينة دافعة واستفسر، لانه قد يتوهم ما ليس بدافع دافعا إلا أن يعرف معرفته، وإن عين جهة، ولم يأت ببينة عليها، وادعى عند انقضاء مدة المهلة بلا جهة أخرى، واستمهل، فينبغي أن لا يجاب، وإن ادعى في المدة جهة أخرى وجب أن تسمع.(8/292)
الخامسة : الدعوى أنواع، منها دعوى الدم، ويشترط تفصيلها كما سبق في القسامة، وأما دعوى النكاح والبيع، وسائر العقود، فقال الشافعي رحمه الله: لو ادعى أنه نكح امرأة، لم يقبل منه حتى يقول: نكحتها بولي وشاهدي عدل، فمن الاصحاب من اكتفى في دعوى النكاح بالاطلاق، ولم يشترط التعرض لهذا التفصيل، كما يكتفى في دعوى استحقاق المال بالاطلاق، وحملوا النص على الاستحباب والتأكيد، وقال أبو على الطبري: إن ادعى ابتداء النكاح، وجب التفصيل، وإن ادعى دوامه، فلا، لان الشروط لا تعتبر في الدوام، أخذ عامة الاصحاب بظاهر النص، وأوجبوا التفصيل والتعرض للشروط ابتداء ودواما، لان الفروج يحتاط لها، كالدماء، والوطئ المستوفى لا يتدارك، كالدم. وأما الجواب عن المال، فإن كان المدعى نفس المال، فإنما اكتفى بالاطلاق، لان أسبابه لا تنحصر، فيشق ضبطها، وإن كان عقدا على مال، كبيع وإجارة وهبة، فثلاثة أوجه أحدها قاله ابن سريج: يشترط التفصيل، وذكر الشروط كالنكاح، والثاني: إن تعلق العقد بجارية، اشترط احتياطا للبضع، وإلا فلا، والثالث وهو اصحها، ونقله ابن كج عن النص: لا يشترط مطلقا، لان المقصود المال وهو اخف شانا، ولهذا لا يشترط فيها الاشهاد بخلاف النكاح. واما التعرض في دعوى النكاح، لعدم(8/293)
مانع النكاح، كالردة والعدة والرضاع، فلا يشترط على الصحيح، لان الاصل عدمها، ولكثرتها، فان شرطنا التفصيل في النكاح، فيقول: نكحتها بولي وشاهدين. ويشترط وصف الولي والشاهدين بالعدالة على الصحيح، وقياسه وجوب التعرض لسائر الصفات المعتبرة في الاولياء (1)، ولا يشترط تعيين الشاهدين والولي، والغرض ان يعرف ان النكاح لم يخل عن ولي وشاهدين، ويشترط التعرض لرضى المرأة إن كان رضاها شرطا، فإن كانت امة، اشترط التعرض للعجز عن الطول، ولخوف العنت على الاصح، وان شرطنا التفصيل في دعوى البيع، قالوا: يقول: تعاقدنا بثمن معلوم ونحن جائزا التصرف، وتفرقنا عن تراض، ويشترط في الشهادة على النكاح التفصيل ان قلنا باشتراطه في دعوى النكاح، وفي فتاوى القفال انه يشترط ان يقولوا بعد تفصيل النكاح: ولا نعلم انه فارقها، أو وهي اليوم زوجته، والاقرار بالنكاح يكفي فيه الاطلاق على المذهب، لانها لا تقر الا عن تحقق (2)، وقيل: في اشتراط التفصيل فيه الخلاف في الدعوى والشهادة، وهو ضعيف. ولو شهدوا على اقرارها، لم يشترط ان يقولوا: ولا نعلم انه فارقها، ولتكن الشهادة على البيع والاقرار ادا اوجبنا التفصيل في البيع على قياس ما ذكرنا في النكاح، ونقلوا في اشتراط تقييد النكاح والبيع المدعيين بالصحة وجهين، وبالاشتراط اجاب الغزالي في " الوجيز " وقال في " الوسيط ": الوجه القطع باشتراطه في النكاح، واشار الى ان الوجهين مفرعان على انه لا يشترط بفصيل الشرائط، وايراد الهروي يقتضي اطرادهما مع اشتراط التفصيل ليتضمن ذكر الصحة نفي المانع (3). واعلم أن دعوى النكاح تارة تكون على المرأة، وتارة على وليها المجبر، كما سبق في مسألة تزويج الوليين المرأة بشخص، وسبق هناك أن الائمة قالوا: لو ادعى كل واحد من الزوجين سبق نكاحه، وعلم المرأة به، بني على أن إقرارها به هل يقبل ؟ إن قلنا: لا، فلا تسمع دعواهما عليها، وإن قلنا: نعم وهو الاظهر(8/294)
سمعت، وهذا يقتضي كون سماع دعوى النكاح عليها أبدا فيه هذا الخلاف، فكأنهم لم يذكروه هنا إقتصارا على الاظهر.
المسألة السادسة : دعوى المرأة النكاح إن اقترن بها حق من حقوق النكاح، كصداق ونفقة، وقسم وميراث بعد موته، سمعت، وإن تمحضت دعوى الزوجية، سمعت أيضا على الاصح، فان سمعت، نظر، إن سكت المدعى عليه، وأصر على السكوت، أقامت البينة عليه، وإن أنكر، فهل يكون إنكاره طلاقا ؟ وجهان، أصحهما: لا، فإن قلنا: هو طلاق، سقط في ادعته، ولها أن تنكح زوجا غيره، ولو رجع عن الانكار، وقال: غلطت في الانكار، لم يقبل رجوعه، وإن قلنا: ليس إنكاره طلاقا، فإنكاره كسكوته، فيقيم البينة عليه، وإن رجع. قبلنا رجوعه، وسلمنا الزوجة إليه، وإن لم تكن بينة، وحلف الرجل، فلا شئ عليه، وله أن ينكح أختها وأربعا سواها، وليس لها أن تنكح زوجا غيره إذا لم نجعل الانكار طلاقا. وإن اندفع النكاح ظاهرا حتى يطلقها أو يموت. قال البغوي: أو يفسخ بإعساره، أو امتناعه إذا جعلنا الامتناع مع القدرة ممكنا من الفسخ وليكن هذا مفرعا على إن لها أن تفسخ بنفسها أما إذا أحوجناها إلى الرفع إلى القاضي، فما لم يظهر له النكاح كيف يفسخ أو يأذن في الفسخ، وينبغي أن يرفق الحاكم به حتى يقول: إن كنت نكحتها، فهي طالق، ليحل لها النكاح، وإن نكل الرجل، حلفت هي، واستحقت المهر والنفقة. فرع امرأة تحت رجل ادعى آخر أنها زوجته، فالصحيح أن هذه الدعوى عليها لا على الرجل، لان الحرة لا تدخل تحت اليد، فلو أقام كل واحد منهما بينة، لم يقدم بينة من هي تحته. بل هي كاثنين أقام كل واحد منهما بينة على نكاح خلية، فينظر إن كانتا مؤرختين بتاريخ واحد، أو مطلقتين، فقد تعارضتا ولا يجئ قولا القسمة والقرعة، وإن كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين، قدمت البينة التي سبق تاريخها بخلاف ما لو كان هذا التعارض في مال، فإن في الترجيح بالسبق(8/295)
قولين، لان الانتقال في الاموال غالب دون النكاح، ولو قامت بينة أحدهما على النكاح، وبينة الآخر على إقرارها بالنكاح، فبينة النكاح أولى، كما لو شهدت بينة واحد بأنه غصب منه كذا، وبينة الآخر بأنه أقر له به، ولو أقرت لاحدهما، فعلى ما ذكرنا إذا زوجها وليان لشخصين، وادعى كل واحد سبق نكاحه. فرع ادعت ذات ولد أنها منكوحته، وأن الولد منه، وسمعنا دعوى النكاح منها، فإن أنكر النكاح والنسب، فالقول قوله بيمينه، وإن قال: هذا ولدي من غيرها، أو هذا ولدي، لم يكن مقرا بالنكاح، وإن قال: هو ولدي منها، وجب المهر، وإن أقر بالنكاح، فعليه النفقة والمهر والكسوة، فإن قال: كان نكاح تفويض، فلها المطالبة بالفرض إن لم يجر دخول، وإن جرى، فقد وجب المهر بالدخول، فلا معنى لانكاره.
المسألة السابعة : ادعى رق بالغ، فقال البالغ: أنا حر الاصل، فالقول قوله، وعلى المدعي البينة، وسواء كان المدعي استخدمه قبل الانكار، وتسلط عليه، أم لا، وسواء جرى عليه البيع مرارا، وتداوله الايدي أم لا، فإن كان اشتراه من غيره، وحلف على نفي الرق، فهل يرجع المشتري على بائعه بالثمن ؟ فيه كلام سنذكره إن شاء الله تعالى في المسألة الرابعة من الباب الثاني. فإن قال البالغ لمن هو في يده: إنك أعتقتني أو أعتقني من باعني لك، طولب بالبينة، ولو ادعى رق صغير، فإن لم يكن في يده، لم يصدق إلا ببينة، وإن كان في يده، نظر إن استندت إلى النقاط، فكذلك على الاظهر، وفي قول: تقبل، ويحكم له بالرق، وإن لم يعرف استنادها إلى الالتقاط، صدق وحكم له، كما لو ادعى الملك في دابة أو ثوب في يده، فلو كان مميزا فأنكر، فالاصح أنه(8/296)
يحكم له برقه، ولا أثر لانكاره، والثاني: أنه كالبالغ، وإذا حكمنا له برقه في الصغير، فبلغ، وأنكر الرق، فالاصح استمرار الرق حتى تقوم بينة بخلافه، والثاني: يصدق منكر الرق إلا أن تقوم به بينة، ولا فرق في جريان الوجهين بين أن يدعي في الصغير ملكه ويستخدمه، ثم يبلغ وينكر، وبين أن يتجرد الاستخدام إلى البلوغ، ثم يدعي ملكه، وينكر المستخدم واليد على البالغ المسترق، وإن لم يغن عن البينة عند إنكاره، فهي غير ساقطة بالكلية، بل يجوز اعتمادها في الشراء إن سكت المسترق اكتفاء بأن الظاهر أن الحر لا يسترق، وقال الشيخ أبو محمد: لا يجوز شراؤه مع سكوته، كما لا يجوز مع إنكاره الرق، بل يسأل، فإن أقر، اشتري.
الثامنة : في سماع الدعوى بدين مؤجل أوجه، أصحها: لا، إذ لا يتعلق بها إلزام ومطالبة في الحال، والثاني: نعم، والثالث: تسمع إن كان له نية، ليستحل فيأمن غيبتها وموتها، وإلا فلا، أو في دعوى الامة الاستيلاد والرقيق التدبير، وتعليق العتق بالصفة طريقان أحدهما: تقبل، لانها حقوق ناجزة، والثاني: على الخلاف في الدين المؤجل الاستيلاد أولاهما بالقبول، وهذا المذكور في التدبير إذا لم نجوز الرجوع عنه بالقبول، فإن جوزناه، فإنكاره رجوع يبطل مقصود المدعي.(8/297)
قلت: المذهب سماع دعوى الاستيلاد والتدبير، وتعليق العتق. والله أعلم. فرع ادعي عليه دين مؤجل قبل المحل، فله أن يقول في الجواب: لا يلزمني دفع شئ إليك الآن، ويحلف عليه، وهل له أن يقول: لا شئ علي مطلقا، قال القفال: فيه وجهان بناء على أن الدين المؤجل هل يوصف قبل الحلول بالوجوب ؟ وفيه وجهان.(8/298)
التاسعة: سلم ثوبا أو غيره إلى دلال ليبيعه، فجحده، وشك في بقاء الثوب، فلا يدري أيطالب بالعين، أم بالقيمة، فقد سبق في أواخر باب القضاء على الغائب وجهان، أصحهما: له أن يدعي على الشك، فيقول: لي عنده كذا، فإن بقي، فعليه رده، وإلا فقيمته أو مثله، والثاني: يشترط في الدعوى الجزم، فيفرد لكل واحد من المطالبة دعوى برأسها، فإن قلنا بالاول، فأنكر المدعى عليه ولا بينة، حلف على نفي الجميع، وإن نكل، وردت اليمين على المدعي، فهل يحلف على التردد، كما لو ادعى على التردد، أم يشترط التعيين ؟ وجهان، وإن قلنا: يفرد لكل مطلب دعوى، فادعى ما رآه أقرب، ونكل الخصم، فنكوله يؤكد ظن المدعي بكذبه، فهل له أن يحلف اليمين المردودة بذلك ؟ وجهان، أصحهما: نعم استدلالا بنكوله على كذبه، كما يستدل بخط أبيه، وأجري الوجهان فيما إذا أنكر المودع التلف، وتأكد ظنه بنكول المودع هل يحلف اليمين المردودة، وفي فتاوى القفال، انه ادعى عليه ثوبا، فقال: كان في يدي وهلك، فأغرم لك القيمة، فقال المدعي للحاكم: قد أقر بالثوب، فحلفه أنه لا يلزمه تسليمه إلي، حلفه، فإن حلف، قنع منه بالقيمة، وإن نكل وحلف المدعي على بقاء الثوب طولب بالعين.
الباب الثاني : في جواب الدعوى
جواب المدعى عليه إقرار، أو إنكار، فإن سكت، وأصر على السكوت، جعل كالمنكر الناكل، فترد اليمين على المدعي، فهو كالانكار. والكلام في(8/299)
الاقرار وصيغته على ما سبق في كتاب الاقرار، وقول المدعى عليه: لي عن دعواك مخرج، ليس بإقرار، لاحتمال الخروج بالانكار، وكذا قوله: لفلان علي أكثر مما لك، ليس بإقرار للمخاطب بما دعاه، لاحتمال إرادة الاستهزاء. قال القاضي أبو سعد: وكذا لو قال: لك علي أكثر مما ادعيت، لم يكن إقرارا لاحتمال أن يريد. لك من الحق عندي ما يستحق له أكثر مما ادعيت، وكما لا يكون قوله: لفلان علي أكثر مما لك إقرار للمخاطب، لا يكون إقرارا لفلان أيضا، لاحتمال أن يريد بالحق الحرمة. فلو قال: لفلان علي مال أكثر مما ادعيت، فهذا إقرار لفلان، إلا أنه يقبل تفسيره بما دونه في القدر تنزيلا على كثرة التركة أو الرغبة، كما سبق في الاقرار. ولو قال: الحق أحق أن يؤدى، فليس بإقرار، لان المعنى حيث يكون حقا فأما أنا فبرئ.
فصل في مسائل الباب هي ست،
الأولى : ادعى عليه عشرة، فقال: لا يلزمني العشرة، فليس بجواب تام، بالتام أن يضيف إليه ولا شئ منها، أو ولا بعضها، وكذا يحلف إن حلف، لان مدعي العشرة مدع لكل جزء منها، فاشترط مطابقة الانكار واليمين دعواه، وقال القاضي حسين: لا يكلف في الانكار أن يقول: ولا شئ منها، وإنما يكلف ذلك في اليمين، والصحيح الاول، وإذا حلفه القاضي على أنه لا يلزمه العشرة، ولا شئ منها، فحلف على نفي العشرة، واقتصر عليه، لم تلزمه العشرة بتمامها، لكنه ناكل عما دون العشرة، فللمدعي أن يحلف على استحقاق ما دونها بقليل، ويأخذه، ولو نكل المدعى عليه عن مطلق اليمين، وأراد المدعي أن يحلف على بعض العشرة، قال البغوي: إن عرض القاضي عليه اليمين على العشرة وعلى كل جزء منها، فله أن يحلف على بعضها، وإن عرض عليه اليمين على العشرة وحدها، لم يكن له الحلف على بعضها، بل(8/300)
يستأنف الدعوى للبعض الذي يريد الحلف عليه، وحيث جوزنا للمدعي الحلف على بعض المدعى، فذلك إذا لم يسنده إلى عقد، فإن أسنده، بأن قالت المرأة: نكحني بخمسين وطالبته به، ونكل الزوج، لم يمكنها الحلف على أنه نكحها ببعض الخمسين، لانه يناقض ما ادعته أولا. وإذا ادعى أن الدار التي في يدك ملكي يلزمك تسليمها إلي، فإذا أنكر المدعى عليه، يحلف أنها ليست ملكا له، ولا شئ منها، ولو ادعى أنه باعه إياها، كفاه أن يحلف أنه لم يبعها.
الثانية : إذا ادعى مالا وأسنده إلى جهة بأن قال: أقرضتك كذا، وطالبه ببدله، أو قال: غصبت عبدي، فتلف عندك، فعليك كذا ضمانا، أو مزقت ثوبي، فعليك كذا أرشا، أو اشتريت منك كذا، وأقبضتك ثمنه، أو اشتريت مني كذا، فعليك ثمنه، وطالبه بالمدعى، فليس على المدعى عليه أن يتعرض في الجواب لتلك الجهة، بل يكفيه أن يقول: لا يستحق علي شيئا، ولا يلزمني تسليم شئ إليك، وكذا يكفيه في جواب طالب الشفعة: لا شفعة لك عندي، أو لا يلزمني تسليم هذا الشقص إليك، لان المدعي قد يكون صادقا في الاقراض والغصب وغيرهما، ويعرض ما يسقط الحق من أداء أو إبراء أو هبة، فلو نفى الاقراض ونحوه كان كاذبا، وإن اعترف به، وادعى المسقط طولب بالبينة، وقد يعجز عنها، فدعت الحاجة إلى قبول الجواب المطلق، ولو قالت المرأة: طلقتني، فقال: أنت زوجتي، كفاه وإذا اقتصر المدعى عليه على الجواب المطلق، وأفضى الامر إلى الحلف، حلف على ما أجاب، ولم يكلف التعرض لنفي الجهة المدعاة، ولو حلف على نفي الجهة المدعاة بعد الجواب المطلق، جاز، ذكره البغوي. ولو تعرض في الجواب للجهة، فقال: ما بايعتك، أو ما أقرضتني، أو ما مزقت، فالجواب صحيح، إن حلف على وفق الجواب، فذاك، وإن أراد أن يقتصر في الحلف على أنه لا يلزمه شئ، فهل يمكن، كما لو أجاب(8/301)
كذلك، أم لا ليطابق اليمين الانكار ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، وهو المنصوص. ولو كان في يده مرهون، أو مستأجر، وادعاه مالكه، كفاه أن يقول: لا يلزمني تسليمه، ولا يجب التعرض للملك، فإن أقام المدعي بينة بالملك نقل في الوسيط عن القاضي أنه يجب عليه تسليمه، واعترض عليه بأنه قد يصدق الشهود، ولا يجب التسليم لاجارة أو رهن، ولو اعترف بالملك، وادعى رهنا أو إجارة، وكذبه المدعي، فمن المصدق منهما ؟ وجهان سبقا في باب اختلاف المتراهنين،، فإن صدقه صاحب اليد فذاك، وإن صدق المالك - وهو الصحيح -، احتاج مدعي الرهن أو الاجارة إلى البينة، فإن لم توافقه بينة، وخاف جحود الراهن لو اعترف له بالملك، فما حيلته ؟ وجهان، قال القفال: حيلته تفصيل الجواب، فيقول: إن ادعيت ملكا مطلقا فلا يلزمني التسليم، وإن ادعيت مرهونا عندي، فاذكره لاجيب، وقال القاضي حسين: لا يقبل الجواب المردد، بل حيلته أن يجحد ملكه إن جحد صاحبه الدين والرهن، وعلى عكسه لو ادعى المرتهن، وخاف الراهن جحود الرهن لو اعترف بالدين، فعلى الوجه الاول يفصل، فيقول: إن ادعيت ألفا لي عندك به كذا رهنا فحتى أجيب، وإن ادعيت ألفا، فلا يلزمني. وعلى الثاني صارت العين مضمونة عليه بالجحود، فلمن عليه الدين أن يجحده، ويجعل هذا بذاك، ويشترط التساوي، والوجه الاول أصح، وبه قطع الفوراني،(8/302)
وذكر أن المدعى عليه يفصل الجواب أبدا، ولا يكون ذلك إقرارا بشئ مثل أن يدعي عليه ألفا، فيقول: إن ادعيت عن ثمن كذا فحتى أجيب، وإن ادعيت عن جهة أخرى، فلا يلزمنى. فرع ادعت على رجل ألفا صداقا يكفيه أن يقول: لا يلزمني تسليم شئ إليها، قيل للقفال: هل للقاضي أن يقول: هل هي زوجتك ؟ فقال: ما للقاضي ولهذا السؤال ؟ لكن لو سأل، فقال: نعم، قضى عليه بمهر المثل إلا أن يقيم البينة أنه نكحها بكذا، فلا يلزمه أكثر منه.
الثالثة : إذا ادعى عقارا أو منقولا على إنسان، وقال المدعى عليه: ليس هو لي، نظر، أيقتصر عليه، أم يضيفه إلى مجهول، أم إلى معلوم ؟ فإن اقتصر عليه، أو أضافه إلى مجهول بأن قال: هو لرجل لا أعرفه، أو أسميه، فثلاثة أوجه، أحدهما: يسلم المال إلى المدعي، إذ لا مزاحم له، والثاني: تنصرف الخصومة عنه، وينتزع الحاكم المال من يده، فإن أقام المدعي بينة على الاستحقاق، أخذه، وإلا حفظه إلى أن يظهر مالكه، وأصحهما: لا ينصرف، ولا ينتزع المال من يده، فعلى هذا إن أقر بعد ذلك لمعين، قبل، وانصرفت الخصومة إلى ذلك المعين، وإلا فيقيم المدعي البينة عليه أو يحلفه، وهل يمكن من أن يعود، فيدعيه لنفسه ؟ وجهان. ولو قال في الجواب: نصفه لي، ولا أدري لمن النصف الآخر، ففي النصف الآخر الاوجه الثلاثة، وأما إذا أضافه إلى معلوم، فالمضاف إليه ضربان، أحدهما: من تتعذر مخاصمته، وتحليفه بأن قال: هو وقف على الفقراء، أو على المسجد الفلاني، أو على ابني الطفل، أو هو ملك له، فالذي قطع به الغزالي، والشيخ أبو الفرج أن الخصومة تنصرف عنه، ولا سبيل إلى تحليف الولي ولا طفله، ولا تغني إلا البينة، قال أبو الفرج: وإذا قضى له القاضي بالبينة(8/303)
كتب صورة الحال في السجل، ليكون الطفل على حجته إذا بلغ، وقال البغوي: إذا قال: هو لابني الطفل، أو وقف عليه، لم تسقط الدعوى، فإن أقام بينة أخذه وإلا حلف المدعى عليه: انه لا يلزمه تسليمه إليه إذا كان هو قيم الطفل. قلت: اختار في المحرر قول البغوي. والله أعلم. الضرب الثاني: من لا تتعذر مخاصمته وتحليفه، كشخص معين، وهو نوعان، حاضر في البلد، وغائب، فالحاضر يراجع، فإن صدق المدعى عليه، انصرفت الخصومة إليه، وإن كذبه، فأربعة أوجه الثلاثة السابقة في الاقرار، ورابعه حكاه ابن الصباغ أنه يقال للمدعى عليه: ادعه لنفسك، فتكون الخصم، أو لمن يصدقك، فيكون هو الخصم، فإن امتنعت، جعلناك ناكلا وحلفنا المدعي. النوع الثاني: الغائب، فإذا أضاف المدعي إلى غائب، ففي انصراف الخصومة عنه أوجه، أصحها - وبه قال الاكثرون - ينصرف، والثاني: لا، والثالث: إن قال: ليس لي، وإنما هو لفلان، فلا، فإن قلنا: لا ينصرف، نظر إن لم يكن للمدعى بينة، فله تحليف المدعى عليه على أنه لا يلزمه تسليمه إليه، فإن نكل حلف المدعي، وأخذ المال من يخه، ثم إذا عاد الغائب، وصدق المقر، رد المال عليه بلا حجة، لان اليد له بإقرار صاحب اليد، ثم يستأنف المدعي الخصومة معه، وإن أقام المدعي بينة على الحاضر، أخذ المال من يده أيضا، وهل هو قضاء على الحاضر الذي تجري الخصومة معه، أم على الغائب، لان المال بمقتضى الاقرار له ؟ وجهان، أصحهما: الاول، ولا يحتاج المدعي مع البينة إلى اليمين، ويثبت القاضي في السجل أنه قضي له بالبينة بعد ما أقر المدعى عليه أنه لفلان الغائب، ليكون الغائب على حجته، وإذا عاد، وأقام البينة، قضى له لترجح جانبه باليد، وإن لم يقمها، أقر المال في يد المدعي، فإن التمس من القاضي أن يزيد في السجل أن الغائب قدم، ولم يأت ببينة، أجابه إليه، وإن قلنا: تنصرف الخصومة عنه، فإن لم يكن للمدعي بينة، وقف الامر إلى ان يحضر الغائب، وإن كانت له بينة، قضى له بالمال، وهل هو قضاء على الغائب، ويحتاج معه إلى اليمين، أم على الحاضر الذي تجري الخصومة معه، فلا يحتاج إليها ؟ وجهان، رجح العراقيون، والروياني الثاني، ولكن الاول أقوى، وأليق بالوجه المفرع عليه،(8/304)
واختاره الامام والغزالي، هذا كله إذا لم يقم المدعى عليه بينة أن المال للغائب، فإن أقامها، نظر إن ادعى أنه وكيل من جهة الغائب، وأدبت الوكالة فبينته على أن المال للغائب مسموعة مرجحة على بينة المدعي. وإن لم يثبت الوكالة، فذكر الامام والغزالي فيه ثلاثة أوجه، أصحها: لا تسمع بينته، وبه قال الشيخ أبو محمد، لانه ليس بمالك ولا نائب، فعلى هذا الحكم كما لو لم يقم بينة. والثاني: تسمع، والثالث: إن اقتصرت البينة على أنه لفلان الغائب، لم تسمع، وإن تعرضت مع ذلك لكونه في يد المدعى عليه بعارية، أو غيرها، سمعت، فإن لم يسمعها فادعى لنفسه حقا لازما، كرهن وإجارة، وتعرضت البينة لذلك، ففي السماع وجهان. وإذا سمعنا بينته لصرف اليمين عنه، حكم للمدعي ببينته، فإن رجع الغائب، وأعاد البينة، قدمت بينته، وإن سمعناها لعلقة الاجارة والرهن، فهل تقدم هذه البينة، أم بينة المدعي ؟ وجهان، أصحهما: تقديم بينة المدعي، ويكون فائدة بينته صرف اليمين عنه، هذا ما ذكره الامام، والغزالي، والذي يفتى به - وهو المفهوم من كلام الاصحاب - أن المدعي إذا أضاف المدعى عليه إلى الغائب خصومة معه، وأخرى مع الغائب، فإذا أقام البينة، انصرفت الخصومة عنه لا محالة، ولا يجئ فيه الوجهان المذكوران فيما لو اقتصر على الاقرار للغائب، وبنوا على انصراف الخصومة عنه أن المدعي لو أقام البينة والحالة هذه، فلا بد له من اليمين مع البينة، والقضاء قضاء على غائب بلا خلاف، وهي بالاضافة إلى الغائب غير مسموعة، فلا يحكم للغائب بالملك بالبينة التي أقامها الحاضر على أنه للغائب فإن تعرض الشهود مع ذلك لكونه في رهن الحاضر، وإجارته، فوجهان، أحدهما: تسمع هذه البينة للغائب أيضا، وترجح بينته على بينة المدعي، لقوتها باليد، وأصحهما: لا تسمع، فعلى هذا تعمل بينة المدعي. فرع متى حكمنا بانصراف الخصومة عن المدعى عليه بإقراره لحاضر أو لغائب أو مجهول على وجه، فهل للمدعي تحليفه ؟ قولان بناء على أنه لو أقر له بعد إقراره لغيره، هل يغرم القيمة، وفيه خلاف سبق في الاقرار، إن قلنا: نعم، حلفه، فلعله يقر فيغرم القيمة، وإن قلنا: لا، فإن قلنا: النكول ورد اليمين،(8/305)
كالاقرار، لم يحلفه، وإن قلنا: كالبينة حلفه، لانه قد ينكل، فيحلف المدعى، ويأخذ القيمة، وكأن العين تالفة. وهل يستر العين من المقر له وفاء بتنزيله منزلة البينة ؟ وإذا أوجبنا القيمة، وأخذها بإقرار المدعى عليه ثانيا، أو بيمين المدعي بعد نكوله، ثم سلمت له العين ببينة، أو يمينه بعد نكول المقر له، لزمه رد القيمة، لانه أخذها للحيلولة وقد زالت. فرع ادعى أن هذه الدار وقف علي، وقال من هي في يده: ملك لفلان، وصدقه المقر له، انتقلت الخصومة إليه، وليس له طلب القيمة من المقر، لانه يدعي الوقف، ولا يعتاض عنه، كذا قاله البغوي. وكان لا يبعد طلب القيمة، لا الوقف يضمن بالقيمة عند الاتلاف والحيلولة في الحال كالاتلاف. ولو رجع الغائب وكذب المدعى عليه في إقراره، فالحكم كما سبق فيمن أضاف إلى جاحد، فكذبه، ولو أقام المقر له الحاضر، أو الغائب بعد الرجوع بينة على الملك، لم يكن للمدعي تحليف المقر، ليغرمه، لان الملك استقر بالبينة، وخرج الاقرار عن تكون الحيلواة به.
المسألة الرابعة : اشترى ثوبا وعبدا من رجل، فادعاه آخر، أن تكون الحيلولة به نظر إن ساعده المشتري، وأقر له بما ادعاه، لم يكن له أن يرجع بالثمن على بائعة، وإن استحلف، فنكل، فحلف المدعي، وأخذ المال، قال الشيخ أبو علي: ليس له الرجوع بالثمن أيضا بلا خلاف، لتقصيره بالنكول وحلف المدعي بعد نكوله كإقراره ويجوز أن يفرض في هذا الخلاف بناء على أنه كالبينة. قلت: هذا ضعيف أو باطل، لان المذهب أنه إنما يكون كالبينة في حق المتنازعين دون غيرهما، وكذا نقل الشيخ أبو علي تحرير المذهب الاتفاق على عدم الرجوع. والله أعلم.(8/306)
وإن أثبت المدعي الاستحقاق بالبينة، وأخذ المال، نظر إن لم يصرح في منازعته للمدعى بأنه كان ملكا لبائعي، ولا بأنه ملكي بأن قامت البينة - وهو ساكت -، فله الرجوع بالثمن قطعا، وإن صرح بذلك، فوجهان، أحدهما: لا يرجع، لان المدعي ظالم باعترافه، وأصحهما الرجوع مهما قال ذلك على وجه الخصومة، أو اعتمد ظاهر اليد، ثم بان خلاف ذلك بالبينة، ويجري الوجهان فيما لو قال في الابتداء: بعني هذه الدار، فإنها ملكك، ثم قامت بينة بالاستحقاق، ولا يجريان فيما لو كان الموجود مجرد الشراء، وإن كان الشراء إقرارا للبائع بالملك، وفرقوا بأن ذلك إقرار تضمنه الشراء، فبطل ببطلان المبايعة والاقرار المستقل بخلافه ولو اشترى عبدا في الظاهر، فقال: أنا حر الاصل، فقد سبق أن القول قوله، وأن على المشتري البينة على رقه، أو على إقراره بالرق له، أو للذي باعه إياه، فإذا حلف حكم بحريته في الظاهر، ثم أطلق ابن الحداد أنه لا يرجع المشتري على البائع بالثمن، وفصل أكثرهم، فقالوا: إن لم يصرح في منازعته بأنه رقيق، رجع، وإن صرح، فعلى الوجهين. فروع من كلام القاضي أبي سعد الهروي: أقر المشتري للمدعي بالملك، ثم أراد إقامة البينة على أنه للمدعي، ليرجع بالثمن على البائع، لم يمكن، لانه يثبت الملك لغيره بلا وكالة ولا نيابة، كيف والمدعي لو أراد إقامة البينة - والحالة هذه - لم يلتفت إليه لاستغنائه عن البينة بالاقرار، وله تحليف البائع، لانه ربما أقر، فيرجع عليه، فإن نكل، فهل يحلف المشتري يمين الرد، إن قلنا: النكول واليمين كالاقرار، فنعم، وإن قلنا: كالبينة، فلا. ولو ادعى المسترق المبيع أنه حر الاصل، أو اعترف به المشتري، ثم أراد المشتري إقامة البينة أنه حر الاصل، مكن، لان الحرية حق الله تعالى، ولكل أحد إثباتها، وإذا ثبتت، ثبت الرجوع، ولا يكفي في الرجوع بينة بمطلق الحرية، لاحتمال أن المشتري هو الذي أعتقه. ولو أقام المشتري بعد ما أقر للمدعي بينة على إقرار البائع بأن المال للمدعي قبلت، وثبت الرجوع، لانه إذا بان إقرار البائع من قبل، لغا إقرار(8/307)
المشتري، ولو أقام مدعي الاستحقاق البينة، وأخذ العين، ثم قامت بينة بأن البائع كان اشتراها من هذا المدعي سمعت، يرد الحكم الاول، وتكون العين للمشتري بالمبايعة السابقة. فصل جارية في يد رجل ادعى رجل أنها له، فأنكر صاحب اليد، فأقام المدعي بينة، أو حلف بعد نكول المدعى عليه، وحكم له بها فأخذها، فوطئها، ثم قال: كذبت في دعواي ويميني، والجارية لمن كانت في يده، لزمه ردها ومهرها، وأرش نقصها إن نقصت، ولا يقبل قوله: إنها كانت زانية، لانها تنكر ما يقول. وإن أولدها، ثم كذب نفسه، لم يقبل قوله في إبطال حرية الولد والاستيلاد، لان إقراره لا يلزم غيره، ولكن عليه قيمة الولد والام مع المهر، وليس له وطؤها بعد ذلك إلا أن يشتريها منه، فإن مات، عتقت وولاؤها موقوف، فإن وافقته الجارية في الرجوع، لم يبطل الاستيلاد على الاصح، ولو أن صاحب اليد أنكر وحلف، فأولد الجارية، ثم عاد، وقال: كنت مبطلا في الانكار والجارية المدعي، فالكلام في المهر، وقيمة الولد، والجارية، والاستيلاد على ما سبق في طرف المدعي.
المسألة الخامسة : ما يقبل إقرار العبد فيه، كالحد، والقصاص، فالدعوى فيه يكون على العبد، والجواب بطلب منه، وما لا يقبل إقراره فيه وهو الارش، وضمان الاموال، فالدعوى فيه تتوجه على السيد، لان الرقبة التي تتعلق بها حق للسيد ولو وجهت الدعوى على العبد، فوجهان، أحدهما - وهو اختيار الامام والغزالي - المنع، لان إقراره به غير مقبول، فعلى هذا هل للمدعي تحليفه ؟ يبنى على أن الاروش المتعلقة بالرقبة هل تتعلق بالذمة أيضا ؟ وفيه قولان سيأتيان في كتاب العتق إن شاء الله تعالى، فإن قلنا: نعم، فلا طلبة في الحال، ولا إلزام، وإنما هو شئ يتوقع فيما بعد، كالدين المؤجل، ويجئ الخلاف السابق في سماع الدعوى بالدين المؤجل، فإن سمعناها، فله تحليف العبد، فإن نكل، وحلف المدعي(8/308)
اليمين المردودة، لم يكن له التعلق بالرقبة، لان اليمين المردودة وإن جعلت كالبينة، فلا تؤثر إلا في حق المتداعيين، والرقبة حق السيد. وقيل: له التعلق بالرقبة إن جعلناها كالبينة، والوجه الثاني وهو المقطوع به في التهذيب في باب مداينة العبيد: أن الدعوى مسموعة على العبد إن كان للمدعي بينة، وكذا إن لم تكن بينة، وقلنا: اليمين المردودة كالبينة، وإن قلنا: كالاقرار فلا، وفي كل واحد من الوجهين إشكال، والمتوجه أن يقال: تسمع الدعوى عليه لاثبات الارش في ذمته تفريعا على الاصلين المذكورين، ولا تسمع الدعوى، والبينة عليه لتعلقه بالرقبة.
المسألة السادسة : من ادعى على رجل عينا، أو دينا ولم يحلفه، وطلب كفيلا منه ليأتي بالبينة، لم يلزمه إعطاء كفيل، وإن اعتاد القضاة خلافه، هذا هو المعروف للاصحاب، وقال بعض المتأخرين: الامر فيه إلى رأي الحاكم، وإن أقام شاهدين، وطلب كفيلا إلى أن يعدلا، فالصحيح أنه يطالب به فإن امتنع، حبس لامتناعه لا لثبوت الحق، وقال القفال: لا يلزمه إعطاء الكفيل، لكن للحاكم أن يطالبه إذا رأى اجتهاده إليه، وخاف هربه، وقد سبق في الضمان قول إن كفالة البدن باطلة، وبالله التوفيق.
الباب الثالث : في اليمين فيه أطراف :
الأول : في نفس الحلف، وصيغ الايمان مستوفاة في موضعها، والمقصود الآن بيان فاعدتين إحداهما: أن للتغليظ مدخلا في الايمان المشروعة في الدعاوى مبالغة في الزجر وفيه مسائل: الاولى التغليظ يقع بوجوده، أحدها التغليظ اللفظي، وهو ضربان، أحدهما: التعديد، وهو مخصوص باللعان والقسامة، وواجب فيهما، الثاني: زيادة الاسماء والصفات، بأن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، أو والله الطالب الغالب، المدرك، المهلك، الذي يعلم السر وأخفى، وهذا الضرب مستحب، فلو اقتصر على: الله كفى، واستحب الشافعي رحمه الله أن يقرأ(8/309)
على الحالف * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * الآية وأن يحضر المصحف، ويوضع في حجر الحالف، وذكر بعضهم أنه يحلف قائما زيادة في التغليظ. والوجه الثاني: التغلظ بالمكان، والثالث: التغليظ بالزمان، وهما مفصلان في كتاب اللعان. وهل التغليظ بالمكان مستحب، أم واجب لا يعتد بالحلف في غيره قولان، أظهرهما: الاول، وقيل: مستحب قطعا، والتغليظ بالزمان مستحب، وقيل كالمكان، ورأى الامام طرد الخلاف في الضرب الثاني من التغليظ اللفظي، ومن وجوه التغليظ المذكورة في اللعان التغليظ بحضور جمع، ولم يذكروه هنا، ويشبه أن يقال: الايمان المتعلقة بإثبات حد، أو دفعه يكون التغليظ فيها بالجمع، كما هو في اللعان. قلت: الصواب القطع بأنه لا يعتبر هنا. والله أعلم. ثم التغليظ هيتوقف على طلب الخصم، أم يغلظ القاضي وإن لم يطلب الخصم ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، حكاه ابن كج، ويشبه أن يجريا، سواء قلنا بالاستحباب أو بالايجاب. المسألة الثانية: يجري التغليظ في دعوى الدم والنكاح، والطلاق والرجعة، والايلاء واللعان، والعتق والحد، والولاء والوكالة والوصاية، وكل ما ليس بمال، ويقصد منه المال حتى يجري في الولادة والرضاع، وعيوب النساء، وليس قبول شهادة النساء فيها منفردات لقلة خطرها، بل لان الرجال لا يطلعون عليها غالبا، وتوقف الامام في الوكالة، وأما الاموال فيجري التغليظ في كثيرها وهو نصاب الزكاة عشرون دينارا أو مائتا درهم، وأما قليلها وهو ما دون ذلك، فلا تغليظ فيه إلا(8/310)
أن يرى القاضي التغليظ لجرأة الحالف، فله التغليظ. وعن ابن القطان وجه غريب أن المال الواجب بجناية عمدا وخطأ يغلظ فيه وإن قل. الثالثة: ما جرى فيه التغليظ يستوي فيه يمين المدعى عليه، واليمين المردودة، واليمين مع الشاهد، وقد يقتضي الحال تغليظ اليمين من أحد الطرفين دون الآخر مثل ان ادعى عبد على سيده عتقا، أو كتابة فأنكر السيد، فإن بلغت قيمته نصابا، غلظ عليه، وإلا فلا، فإن نكل، غلظ على العبد بكل حال، والوقف من جانب المدعى عليه لا تغليظ فيه إلا إذا بلغ نصابا، وكذا من جانب المدعي إن أثبتناه بشاهد ويمين، وإن لم نثبته بهما، غلظ كالعتق، وفي وجه ما غلظ من طرف غلظ من الآخر، والصحيح الاول، وإذا ادعى الزوج الخلع على مال، وأنكرته حصلت البينونة بقوله، وتصدق الزوجة في إنكار الما بيمينها، وينظر في التغليظ إلى قلة المال وكثرته، فإن ردت اليمين، وحلف الزوج، فكذلك، لان مقصوده المال، وإن ادعت هي الخلع، وأنكر، غلظ عليه، لا مقصوده استدامة النكاح، وإن نكل، فحلفت غلظ، لان مقصودها الفراق. الرابعة: من به مرض أو زمانة، لا يغلظ عليه في المكان لعذره، وكذا الحائض، إذ لا يمكنها اللبث في المسجد، والمرأة المخدرة في إحضارها مجلس الحكم خلاف سبق، فإن أحضرت، فكالرجل في التغليظ، وإن قلنا: لا تحضر، بل يبعث القاضي من يحكم بينها وبين خصمها، فإن اقتضى الحال تحليفها، فهل يغلظ عليها بالمكان، وتكلف حضور الجامع أم لا ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وبه أجاب الشيخ أبو حامد، ومتابعوه والغزالي.(8/311)
فرع من توجهت عليه يمين مغلظة، وكان حلف بالطلاق أن لا يحلف يمينا مغلظة، فإن قلنا: التغليظ واجب، غلظ ويحنث، وإن امتنع، جعل ناكلا، وإن قلنا: مستحب، لم يغلظ. عليه إتلاف ثوب قيمته عشرة، فإن قال في الجواب: ما أتلفت، يحلف. القاعدة الثانية: يشترط كون اليمين مطابقة للانكار، فإن ادعى كذلك، وإن قال: لا يلزمني شئ، حلف كذلك، ويشترط وقوعها بعد تحليف القاضي، فلو حلف قبله، لم يعتد به، فلو قال الحاكم في تحليفه: قل: بالله، فقال: بالرحمن، لم يكن مجيبا، وكان نكولا. ولو قال: قل: بالله، فقال: والله، أو تالله، فهل هو نكول كالصورة الاولى أم لا، لانه حلف بالاسم الذي حلفه به ؟ وجهان، ويجريان فيهما لو غلظ عليه باللفظ، فامتنع، واقتصر على قوله: والله، وفيما لو أراد التغليظ بالزمان والمكان فامتنع، فقال القفال في امتناعه من التغليظ اللفظي: الاصح أنه ناكل، لانه ليس له رد اجتهاد القاضي، وقطع بعضهم بأنه ناكل في الامتناع من المكاني والزماني دون اللفظي.
الطرف الثاني : في كيفية الحلف، فإن حلف على فعل نفسه، حلف على البت، سواء كان يثبته أم ينفيه، لانه يعلم حال نفسه، وإن حلف على فعل غيره، فإن حلف على إثباته، حلف على البت، وإن حلف على نفيه، حلف انه لا يعلمه، وقد يختصر، فيقال: اليمين على البت إلا إذا حلف على نفي فعل غيره، فإذا ادعي عليه مال، فأنكر حلف على البت، وإن حلف على نفيه،(8/312)
حلف على البت، فإن ادعى إبراء أو قضاء، وأنكر المدعي، حلف على البت، ولو ادعى على وارث على رجل أن لمورثي عليك كذا، فقال المدعى عليه: أبرأني، أو قضيته، حلف المدعي على نفي العلم بإبراء المورث وقبضه، ولو كان في يده دار، فقال رجل: غصبها مني أبوك أو بائعك، فأنكر، حلف على نفي العلم لغصبه، ولو ادعى رجل وارث الميت دينا على الميت، لم يكف ذكر الدين ووصفه، بل يذكر مع ذلك موت من عليه، وأنه حصل في يده من التركة ما يفي بجميعه أو ببعضه، وأن يعلم دينه على مورثه، وهكذا كل ما يحلف المنكر فيه على العلم يشترط في الدعوى عليه التعرض للعلم، فيقول: غصب منمورثك كذا، وأنت تعلم أنه غصبه، ثم إذا تعرض لجميع ذلك، فإن أنكر الوارث الدين، حلف على نفي العلم، فإن نكل، حلف المدعي على البت، وإن أنكر موت من عليه، فهل يحلف على نفي العلم، أم على البت، لان الظاهر اطلاعه عليه، أم يفرق بين تعهده حاضرا، أم غائبا ؟ فيه أوجه، أصحها: الاول، وإن أنكر حصول التركة عنده، حلف على البت، وإن أنكر الدين، وحصول التركة معا وأراد أن يحلف على نفي التركة وحده، وأراد المدعي تحليفه على نفي التركة، ونفي العلم بالدين جميعا، حلف عليهما، لان له غرضا في إثبات الدين، فلعله يظفر بوديعة للميت أو دين فيأخذ منه حقه. ولو ادعى على رجل أن عبدك جنى علي بما يوجب كذا، وأنكر فهل يحلف على نفي العلم أم على البت ؟ وجهان، أصحهما: الثاني،(8/313)
لان عبده ماله، وفعله كفعله، ولذلك سمعت الدعوى عليه، ولو ادعى أن بهيمتك أتلفت لي زرعا أو غيره حيث يجب الضمان، فأنكر، حلف على البت، لانه لا ذمة لها، والمالك لا يضمن بفعل البهيمة، بل بتقصيره في حفظها وهو أمر يتعلق بالحالف، ولو نصب البائع وكيلا، ليقبض الثمن، ويسلم المبيع، فقال له المشتري: إن موكلك أذن في تسليم المبيع، وترك حق الجنس، وأنت تعلم، فهل يحلف على البت، أم على نفي العلم ؟ قولان اختيار أبي زيد البت، لانه يثبت لنفسه استحقاق اليد على المبيع. قلت: نفي العلم أقوى. والله أعلم. ولو طلب البائع تسليم المبيع، فادعى حدوث عجز عنه، وقال للمشتري: أنت عالم به، فأنكر، حلف على البت، لانه يستبقي بيمينه وجوب تسليم المبيع إليه، ولو مات عن ابن في الظاهر، فقال آخر: أنا أخوك والميراث بيننا، فأنكر، حلف على البت، لان الاخوة رابطة بينهما، فهو حالف في نفسه، هكذا ذكر الصورتين ابن القاص، ونازعه آخرون، وقالوا: يحلف على نفي العلم. قلت: نفي العلم هو الصحيح. والله أعلم. فرع ما حلف فيه على البت لا يشترط لجوازه اليقين، بل يجوز البت بناء على ظن مؤكد يحصل من خطه أو خط أبيه، أو نكول خصمه. فرع لو استحلفه القاضي على البت حيث يكون اليمين بنفي العلم، فقد مال عن العدل.(8/314)
فرع النظر في اليمين إلى نية القاضي المستحلف وعقيدته، وأما النية والتورية والتأويل على خلاف قصد القاضي لا يغني، ولا يدفع إثم اليمين الفاجرة، ولو استثنى، أو وصل باللفظ شرطا بقلبه ونيته أو بلسانه، ولم يسمعه الحاكم، فكذلك، وإن سمعه، عزره، وأعاد اليمين عليه، وإن وصله بكلام، لم يفهمه القاضي منعه منه، وأعاد اليمين عليه، فإن قال: كنت أذكر الله تعالى قيل له: ليس هذا وقته، وأما العقيدة، فإذا ادعى حنفي على شافعي شفعة الجار، والقاضي يرى إثباتها، وأنكر المدعى عليه، فليس له أن يحلف عملا باعتقاده، بل عليه اتباع القاضي، ويلزمه في الظاهر ما ألزمه القاضي، وهل يلزمه في الباطن ؟ وجهان، الصحيح باتفاقهم: نعم، والثاني: لا، وعن صاحب التقريب أن القضاء في المجتهد فيه ينفذ في حق المقلد ظاهرا وباطنا، ولا ينفذ في حق المجتهد باطنا، فلو حلفه المجتهد على حسب اجتهاده لم يأثم.(8/315)
قلت: هذا إذا حلفه القاضي أو نائبه، أما إذا حلف الانسان ابتداء، أو حلفه غير القاضي من قاهر، أو خصم، أو غيرهما، فالاعتبار بنية الحالف بلا خلاف، وينفعه التورية قطعا، سواء حلف بالله تعالى، أو بطلاق وعتاق وغيرهما صرح به الماوردي، ونقله ابن الصباغ عن الاصحاب ذكراه في كتاب الطلاق. والله أعلم.
الطرف الثالث : في الحالف، وهو كل من يتوجه عليدعوى صحيحة، وقيل: كل من توجهت عليه دعوى لو أقر لمطلوبها ألزم به، فإذا أنكر، حلف عليه، وقبل منه، ويستثنى عن هذا الضبط صور، فنذكرها مع ما يدخل فيه ويخرج منه، إحداها: يجزئ التحليف في النكاح والطلاق والرجعة والفيأة، وفي الايلاء، وفي العتق والاستيلاد، والولاء، والنسب، ولا تسمع دعوى في حدود الله تعالى، ولا يطلب الجواب، لانها ليست حقا للمدعي، فإن تعلق به حق آدمي، بأن قذفه، فطلب حد القذف، فقال القاذف: حلفوه انه لم يزن فالاصح أنه يحلف، كما سبق في المسألة الثالثة من الباب الاول، فإن حلف، أقيم على القاذف، وإن نكل، وحلف القاذف، سقط حد القذف، ولا يثبت بحلفه حد الزنى على المقذوف ولو ادعى سرقة ماله، سمعت دعواه للمال، وحلف المدعى عليه، فإن نكل، حلف المدعي، واستحق المال، ولا يقطع المدعى عليه، لان حدود الله تعالى لا تثبت باليمين المردودة، وإذا أقر بما يوجب حدا، وادعى شبهة بأن وطئ جارية أبيه، وقال: ظننتها تحل لي، وهو ممن يجوز أن يشتبه عليه مثله، حلف وسقط بحلفه الحد، ولزم المهر، وتسمع الدعوى. ويجري التحليف في القصاص وحد القذف، وكذا في الشتم، والضرب الموجبين للتعزير.(8/316)
الثانية: ادعى على القاضي أنه ظلمه في الحكم، أو على الشاهد أنه تعمد الكذب أو الغلط، أو ادعى عليه ما يسقط شهادته، لم يحلفا، لارتفاع منصبهما عن التحليف، وقد سبق هذا في الباب الاول، وفي أول أدب القضاء، ولو ادعى على المعزول أنه حكم أيام قضائه عليه ظلما، وأنكر، فقد سبق وجهان في أنه يحلف أم يصدق بلا يمين وهو الاصح، هذا في دعوى تتعلق بالحكم، وأما ما لا يتعلق بالحكم، كدعوى مال وغيره، فهو كسائر الناس في الخصومات الشرعية يحكم فيها بينه وبين المدعي خليفته، أو قاض آخر. الثالثة: الصبي إذا ادعى البلوغ بالاحتلام في وقت الامكان، صدق بلا يمين، كما سبق في الاقرار، ومن ادعى عليه بشئ، فقال: أنا صبي بعد وهو محتمل، لم يحلف، وتوقف الخصومة حتى يبلغ، وإن وقع في السبي من أنبت، وقال: استنبت الشعر بالعلاج، وأنا غير بالغ، بني على القولين السابقين في الحجر أن إنبات العانة نفس البلوغ أم علامته، إن قلنا بالاول، فلا حاصل لكلامه، وإن قلنا بالثاني وهو الاظهر فالمنصوص المعروف في المذهب أنه يحلف وهو مشكل من جهة أنه يدعي الصبي، وتحليف من يدعى الصبى لا وجه له، كما سبق في الاقرار، فقال ابن القطان والقفال: هذا التحليف احتياط واستظهار، ومقتضى كلام الجمهور أنه واجب، وصرح به الروياني، ونفى الخلاف فيه، واعتمدوا في تحليفه الانبات، وقالوا: كيف نتر ك الدليل الظاهر بزعم مجرد ؟ فإذا حلف، ألحق بالصبيان، وحقن دمه، وإن نكل، فالمنصوص أنه يقتل، والثاني: يخلى، والثالث: يحبس حتى يحلف أو يقر، والرابع: يحبس حتى يتحقق بلوغه، ثم يحلف على ما ادعاه من الاستعجال، فإن لم يحلف قتلناه. الرابعة: ادعى رجل دينا على ميت، أو أنه أوصى له بشئ، وللميت وصي في قضاء دينه، وتنفيذ وصاياه، فأنكر، فإن كان للمدعي بينة، حكم بها، وإن لم يكن وأراد تحليف الوصي على نفي العلم، لم يمكن، لان مقصود التحليف أن يقر، والوصي لا يقبل إقراره بالدين والوصية، فلا معنى لتحليفه، فلو كان وارثا،(8/317)
حلف بحق الوراثة وقيم القاضي كالوصي. فرع على إنسان حق لرجل، فطلبه به رجل، وزعم أنه وكيل المستحق، ولم يقم بينة، وأراد تحليفه على نفي العلم بالوكالة، لم يكن له، لانه لو اعترف بالوكالة، لم يلزمه تسليم الحق، هذا هو المذهب، وسبق في الوكالة وجه أنه يلزمه التسليم، وعلى هذا له تحليفه، وان له تحليفه، وإن لم يلزمه التسليم باعترافه إذا قلنا: اليمين المردودة كالبينة. فرع هل للوكيل بالخصومة إقامة بينة على وكالته من غير حضور الخصم ؟ وجهان، حكاهما الامام عن القاضي حسين اشتراطه، وغيره منعه، وقد سبق في الوكالة أن الامام حكى عن القاضي حسين أنه إذا كان الخصم غائبا، نصب الحاكم مسخرا عنه، كان المراد هنا إذا كان حاضرا في البلد، وهناك إذا كان غائبا، والاصح سماع البينة من غير حاجة إلى حضوره، ولا إلى نصب مسخر، ولو وكل بالخصومة في مجلس الحكم، استغنى عن حجة يقيمها إن كان الخصم حاضرا فإن لم يكن، فيبنى على أن القاضي هل يقضي بعلمه ؟
الطرف الرابع : فائدة اليمين وحكمها، وهو انقطاع الخصومة، والمطالبة في الحال، لا سقوط الحق وبراءة الذمة، فلو أقام المدعي بينة بعد حلف المدعى عليه، سمعت، وقضى بها، وكذا لو ردت اليمين على المدعي، فنكل، ثم أقام بينة، وهذا إذا لم يتعرض وقت التحليف للبينة، فإن كان قال حينئذ: لا بينة لي حاضرة ولا غائبة، فهذه الصورة ذكرناها في الطرف الثاني من الباب الثاني من أدب القضاء مضمومة، إلى ما لو اقتصر على قوله: لا بينة لي، وفيهما خلاف، والاصح السماع أيضا، وذكرنا هناك أنه لو قال: لا بينة لي حاضرة، ثم أقام بينة سمعت، فلعلها حضرت، وأنه لو قال: لي بينة ولا أقيمها، بل أردت يمينه، أجابه القاضي، وحلف المدعى عليه، هذا هو الاصح. وفي فتاوى القفال أنه لا يجيبه، بل يقول: أحضر البينة.(8/318)
فرع أقام المدعي بدعواه شهودا، ثم قال: كذب شهودي، أو شهدوا مبطلين، فلا شك في سقوط بينته، وامتناع الحكم، وفي بطلان دعواه وجهان، أحدهما: يبطل، كما لو كذب نفسه، فليس له أن يقيم بعد ذلك بينة أخرى، وأصحهما: لا، لاحتمال كونه محقا في دعواه والشهود مبطلين لشهادتهم بما لا يعلمون، وفي مثل هذا قال الله تعالى: * (والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) * وبني على الوجهين ما لو أقام المدعي شهودا، فزعم المدعى عليه أن المدعي أقر بأن شهوده كذبة، وأقام عليه شاهدا، وأراد أن يحلف معه هل يمكن، ويحكم بشاهده ويمينه، إن قلنا: هذا الاقرار لا يبطل أصل الدعوى، فلا، لان المقصود حينئذ الطعن في الشهود، وإخراج شهادتهم عن أن يحكم بها، وجرح الشهود، والطعن فيهم لا يثبت بشاهد ويمين، وإن كانت الشهادة بمال، وإن قلنا: يبطلها، مكن، لان المقصود حينئذ إسقاط الدعوى بالمال، فهو كادعاء الابراء بشاهد ويمين. فروع في فتاوى القفال وغيره: أقام شاهدين في حادثة، وكانا استباعا الدار منه، بطلت شهادتهما، ولو أقام شاهدين بأن هذه الدار ملكه، وأقام المشهود عليه شاهدين بأن شاهدي المدعي قالا: لا شهادة لنا في ذلك سألهما الحاكم متى قال ذلك شاهدي المدعي ؟ فإن قالا: قالاه أمس، أو من شهر، لم تندفع شهادتهما بذلك، لانهما قد لا يكونان شاهدين، ثم يصيران. وإن قالا: قالا حين تصديا لاقامة الشهادة، اندفعت شهادتهما. ولو أقام المشهود عليه بشاهدين(8/319)
أن المدعي، أقر بأن شاهديه شربا الخمر وقت كذا، فإن طالت المدة بينه وبين أداء الشهادة، لم يقتض ذلك رد الشهادة، وإن قصرت، ردت شهادتهما، وإن شهدا أنه أقر بأنهما شربا الخمر من غير تعيين وقت، سئل المدعي عن وقته، وحكم بما يقتضيه تعيينه، ولو أقام المدعي بينة، ثم قال للقاضي: لا تحكم بشئ حتى تحلفه، بطلت بينته، لانه كالمعترف بأنها مما لا يجوز الحكم بها. قلت: هذا مشكل، فقد يقصد تحليفه ليقيم البينة، ويظهر إقدامه على يمين فاجرة، أو غير ذلك من المقاصد التي لا تقتضي قدحا في البينة، فينبغي أن لا تبطل البينة. والله أعلم. فصل إذا طلب المدعي يمين المدعى عليه عند الحاكم، فقال للحاكم: قد حلفني مرة على هذا بطلبه، فليس له تحليفي، فإن حفظ القاضي ما قاله، لم يحلفه ومنع المدعي مما طلب، وإن لم يحفظه، حلفه، ولا ينفعه إقامة البينة عليه، لما سبق أن القاضي متى تذكر حكمه أمضاه، وإلا فلا يعتمد بينة، وعن ابن القاص جواز سماع البينة فيه، حكاه الهروي ومقتضاه الطرد في كل باب، وإن قال: حلفني عند قاض آخر وأطلق، وأراد تحليفه على ذلك، فوجهان، قال ابن القاص بالمنع، إذ لا يؤمن أن يدعي المدعي أنه حلفه على أنه ما حلفه، وهكذا فيدور الامر، ولا ينفصل، وأصحهما، وبه قطع البغوي وغيره يمكن منه، لانه محتمل غير مستبعد، ولا يسمع مثل ذلك من المدعي، لئلا يتسلسل، فعلى هذا إن كانت له(8/320)
بينة أقامها وتخلص عن الخصومة، وإن استمهل ليقيم، فقياس البينات الدوافع أن يمهل ثلاثة أيام، وعن القاضي حسين أنه لا يمهل أكثر من يوم، وإن لم يكن بينة، حلف المدعي أنه ما جلفه، ثم يطلب المال، فإن نكل، حلف المدعى عليه، وسقطت الدعوى. فلو أراد أن يحلف يمين الاصل لا يمين التحليف المردودة عليه، قال البغوي: ليس له ذلك إلا بعد استئناف الدعوى، لانها الآن في دعوى أخرى. ولو قال المدعي فجواب المدعى عليه: حلفني مرة على أني ما حلفته، وأراد تحليفه، لم يجب، لانه يؤدي إلى ما لا يتناهى، ولو ادعى مالا على رجل، فأنكر وحلف، ثم قال المدعي بعد أيام: حلفت يومئذ، لانك كنت معسرا لا يلزمك تسليم شئ إلي وقد أيسرت الآن فهل يسمع لامكانه، أم لا لئلا يتسلسل ؟ وجهان. قلت: الاصح أنه يسمع إلا إذا تكرر. والله أعلم. فرع إنما يحلف المدعى عليه إذا طلب المدعي يمينه، فإن لم يطلب، ولم يقلع عن المخاصمة، لم يحلفه القاضي، ولو حلف لم يعتد بتلك اليمين وقال القفال الشاشي: لا يتوقف التحليف على طلبه، والصحيح الاول، ولو امتنع من تحليفه بالدعوى السابقة، جاز، لانه لم يسقط حقه من اليمين، فإن قال: أبرأتك عن اليمين، سقط حقه من اليمين في هذه الدعوى، وله استئناف الدعوى(8/321)
وتحليفه.
الباب الرابع : في النكول إذا أنكر المدعى عليه، واستحلف، فنكل عن اليمين، لم يقض عليه بالنكول، بل ترد على المدعي، فإن حلف قضى له، فإن لم يعرف المدعى، تحول اليمين إليه بنكول المدعى عليه عرف القاضي، وبين أنه إن حلف استحق، وإنما يحصل النكول بأن يعرض القاضي اليمين عليه، فيمتنع، وفسر العرض بأن يقول: قل والله، والامتناع بأن يقول: لا أحلف، أو أنا ناكل، قال الامام: قوله: قل: والله ليس أمرا جازما، وإنما المراد بيان وقت اليمين المعتمد بها على المدعي، ولو قال: أتحلف بالله، وقال: لا، فليس بنكول، ولو بدر حين سمع هذه الكلمة وحلف، لم يعتد بيمينه، لانه استنجاز لا استحلاف. ولو قال له احلف، فقال: لا أحلف، قال البغوي: ليس بنكول، وقال الامام: نكول وهو أوضح، ولا فرق بين قوله: قل: بالله، وقوله: أحلف بالله، ولو استحلف، فلم يحلف، ولا تلفظ بأنه ناكل أو ممتنع، فسكوته نكول، كما أن السكوت عن الجواب في الابتداء يجعل كالانكار، ثم ذكر الامام وغيره أنه إن صرح بالنكول، لم يشترط حكم القاضي بأنه ناكل، وإن سكت حكم القاضي بأنه ناكل ليرتب عليه رد اليمين، وقول القاضي للمدعي: احلف نازل منزلة قوله: حكمت بأن المدعى عليه ناكل، وإنما يحكم بأنه ناكل بالسكوت إذا لم يظهر كون السكوت لدهشة وغباوة ونحوهما، ويستحب للقاضي أن يعرض اليمين على المدعى عليه ثلاث مرات، والاستحباب فيما إذا سكت أكثر منه فيما إذا صرح بالنكول، ولو تفرس فيه سلامة جانب، شرح له حكم النكول، وإن لم يشرح، وحكم بأنه ناكل، وقال المدعى عليه: لم أعرف النكول، ففي نفوذ الحكم احتمالان للامام أصحهما النفوذ. وكان من حقه أن يسأل ويعرف قبل أن ينكل، ولو أراد المدعى عليه بعد الامتناع أن يعود، فيحلف، نظر(8/322)
إن كان ذلك بعد أن حكم القاضي بأنه ناكل، أو قال للمدعي: احلف، لم يكن له الحلف، وإن أقبل عليه ليحلفه، ولم يقبل بعد ما حلف، فهل هو كما لو قال: احلف ؟ وجهان، وإن لم يجر شئ من ذلك، فله الحلف حتى لو هرب المدعى عليه قبل أن يحكم القاضي بأنه ناكل، وقبل أن يعرض اليمين على المدعي، لم يكن للمدعى أن يحلف اليمين المردودة، وكان للمدعى عليه أن يحلف إذا عاد، هكذا أطلق البغوي وغيره، ومقتضاه التسوية بين التصريح بالنكول، وبين السكوت حتى لا يمتنع من العود إلى اليمين في الحالين إلا بعد الحكم بالنكول، أو بعد عرض اليمين على المدعي، وفي التصريح احتمال، وحيث منعناه العود إلى الحلف، فذلك إذا لم يرض به المدعي، فإن رضي، فله العود إليه على الاصح، لان الحق لا يعدوهما، فلو رضي بأن يحلف المدعى عليه والحالة هذه، فلم يحلف، لم يكن للمدعي أن يعود إلى يمين، الرد، لانه أبطل حقه برضاه بيمين المدعى عليه. فرع نقل الروياني أن قول القاضي للمدعي: أتحلف أنت ؟ كقوله: احلف حتى لا يتمكن المدعى عليه من الحلف بعد ذلك، قال: وعندي فيه نظر. فصل المدعي إذا ردت اليمين عليه قد يحلف، وقد يمتنع، فإن حلف، استحق المدعى، وهل يمينه بعد نكول المدعى عليه كالبينة، أم كإقرار المدعى عليه ؟ فيه قولان، أظهرهما الثاني، ويتفرع عليهما مسائل كثيرة مذكورة في مواضعها. ومنها أن المدعى عليه لو أقام بينة بالاداء، أو الابراء بعد ما حلف المدعي، فإن قلنا: يمينه كالبينة، سمعت بينة المدعى عليه، وإن قلنا:(8/323)
كالاقرار، فلا، لكونه مكذبا للبينة بالاقرار، وهل يجب الحق بفراغ المدعي من اليمين المردودة، أم لا بد من حكم الحاكم بالحق ؟ وجهان، حكاهما الهروي، الارجح الاول، أما إذا امتنع المدعي من الحلف، فيسأله القاضي عن امتناعه، فإن لم يتعلل بشئ أو قال: لا أريد الحلف، فهذا نكول يسقط حقه من اليمين، وليس له مطالبة الخصم وملازمته، وهل يتمكن من استئناف الدعوى، وتحليفه في مجلس آخر، فإن نكل، حلف المدعي، أم لا يتمكن من ذلك، ولا ينفعه بعده إلا البينة ؟ وجهان، الذي ذكره العراقيون، والهروي، والروياني الاول، وبالثاني قال الامام والغزالي والبغوي، وهو أحسن وأصح، لئلا تتكرر دعواه في القضية الواحدة، وإن ذكر المدعي لامتناعه سببا، فقال: أريد أن آتي بالبينة أو أسأل الفقهاء، أو أنظر في الحساب، ترك ولم يبطل حقه من اليمين وهل تقدر مدة(8/324)
الامهال بثلاثة أيام ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لئلا تطول مدافعته، والثاني: لا تقدير، لان اليمين حقه، فله تأخيره إلى أن يشاء كالبينة. ولم يذكر الشافعي رحمه الله فيما إذا امتنع المدعى عليه من اليمين أنه يسأل عن سبب امتناظه، فقال ابن القاص: قياس ما ذكره في امتناع المدعي أن يسأل المدعى عليه عن سبب امتناعه أيضا، وامتنع عامة الاصحاب من هذا الالحاق فارقين بأن امتناع المدعي عليه أثبت للمدعي حق الحلف، والحكم بيمينه، فلا يؤخر حقه بالسؤال، وامتناع المدعي لا يثبت حقا لغيره، فلا يضر السؤال. ولو قال المدعى عليه حين استحلف: أمهلوني لانظر في الحساب، أو أسأل الفقهاء، فهل يمهل ثلاثة أيام، أم لا يمهل شيئا إلا برضى المدعي ؟ وجهان، أصحهما وأشهرهما الثاني، لانه مقهور محمول على الاقرار، أو اليمين بخلاف المدعي، فإنه مختار في طلب حقه وتأخيره، ولو استمهل المدعى عليه في ابتداء الجواب لينظر في الحساب، وذكر الهروي أنه ينظر إلى آخر المجلس إن شاء. ولو علل المدعي امتناعه بعذر كما ذكرنا، ثم عاد بعد مدة ليحلف، مكن منه، وإن لم يتذكر القاضي نكول خصمه، أثبته بالبينة، وكذا لو أثبت عند قاض آخر نكول خصمه له أن يحلف، وكذا لو نكل المدعى عليه في جواب وكيل المدعي، ثم حضر الموكل له أن يحلف، ولا يحتاج إلى استئناف دعوى، ولو أقام المدعي شاهدا ليحلف معه، فلم يحلف، فهو كما لو ارتدت اليمين، إليه، فلم يحلف، فإن علل امتناعه بعذر، عاد الوجهان في أنه على خيرته أبدا، أم لا يزاد على ثلاثة أيام ؟ وإن لم يعلل بشئ، أو صرح بالنكول، فقد ذكر الغزالي والبغوي أنه يبطل حقه من الحلف، وليس له العود إليه، واستمر العراقيون على ما ذكروه هناك، قال الاصحاب: لو امتنع من الحلف مع شاهده، واستحلف الخصم، انقلبت اليمين من جانبه إلى جانب صاحبه، فليس له أن يعود ويحلف إلا إذا استأنف الدعوى في مجلس آخر، وأقام الشاهد، فله أن يحلف معه، وعلى الاول لا ينفعه إلا بينة كاملة. فصل ما ذكرناه من أنه يرد اليمين على المدعي، ولا يقضى على المدعى(8/325)
عليه بالنكول هو الاصل المقرر في المذهب، لكن قد يتعذر رد اليمين، وحينئذ من الاصحاب من يقول بالقضاء بالنكول، وبيانه بصور، إحداها طولب صاحب المال بالزكاة، فقال: بادلت بالنصاب في أثناء الحول، أو دفعت الزكاة إلى ساع آخر، أو غلط الخارص في الخرص، أو أصاب الثمر جائحة، واتهمه الساعي، فيحلف على ما يدعيه إيجابا أو استحبابا على الخلاف السابق في كتاب الزكاة، فإن نكل، لم يطالب بشئ إن قلنا بالاستحباب، وإن قلنا بالايجاب، فإن انحصر المستحقون في البلد، وقلنا بامتناع النقل، ردت اليمين عليهم، وإلا فيتعذر الرد على الساعي والسلطان، وفيما يفعل أوجه، أحدها: لا يطالب بشئ إذا لم تقم عليه حجة، والثاني: يحبس حتى يقر، فيؤخذ منه، أو يحلف، فيترك، والثالث إن كان صاحب المال على صورة المدعي بأن قال: أديت في بلد آخر، أو إلى ساع آخر، أخذت منه الزكاة، وإن كان على صورة المدعى عليه بأن قال: ما تم حولي أو الذي في يدي لفلان المكاتب، لم يؤخذ منه. والرابع - وهو الاصح الاشهر - يؤخذ منه الزكاة، وكيف سبيله ؟ وجهان قال ابن القاص: هو حكم بالنكول، ورواه عن ابن سريج، وسببه الضرورة، وقال الجمهور: ليس حكما بالنكول، لكن مقتضى ملك النصاب، ومقتضى الحول الوجوب، فإذا لم يثبت دافع، أخذنا الزكاة. الثانية: إذا مات ذمي في أثناء السنة، فهل عليه قسط ما مضى، أم لا شئ عليه ؟ قولان سبقا، فلو غاب ذمي، ثم عاد مسلما، فقال: أسلمت قبل تمام السنة، فليس علي جزية، أو ليس تمامها، وقال عامل الجزية: بل أسلمت بعدها، فعليك تمام الجزية، حلف الذي أسلم استحبابا في وجه، وإيجابا في وجه، فإن قلنا بالايجاب فنكل، فهل يقضى عليه بالجزية، أم لا يطالب بشئ، أم يحبس ليقر، فيؤخذ منه، أو يحلف، فيترك ؟ فيه أوجه. قال الامام: وقيد ابن القاص بما إذا غاب، ثم عاد مسلما، وظاهر هذا أنه لو كان عندنا، وصادفناه مسلما بعد السنة، وادعى أنه أسلم قبل تمامها، وكتم إسلامه، لم يقبل قوله، لان(8/326)
الظاهر أن من أسلم بدار الاسلام لم يكتمه. الثالثة: ولد المرتزقة إذا ادعى البلوغ بالاحتلام، وطلب إثبات اسمه في الديوان، فوجهان، أحدهما: يصدقه بلا يمين، لانه إن كان كاذبا، فكيف نحلفه وهو صبي ؟ وإن كان صادقا، وجب تصديقه، وأصحهما: يحلف عند التهمة، فإن نكل، لم يثبت اسمه إلى أن يظهر بلوغه، ويقرب منه أن من شهد الوقعة من المراهقين إذا ادعى الاحتلام، وطلب سهم المقاتلة، أعطي إن حلف، وإلا فوجهان، أحدهما: يعطى، ثم قيل: هو إعطاء، لان احتلامه لا يعرف إلا منه، فصدق فيه، كما تصدق المرأة في الحيض، ويقع الطلاق المعلق عليه، وقيل: لان شهود الوقعة تقتضي استحقاقهم السهم، وأصحهما: لا يعطى، قال ابن القاص: وهو قضاء بالنكول، وقال غيره: إنما لم يعط، لان حجته في الاعطاء اليمين ولم توجد. الرابعة: مات من لا وارث له، فادعى القاضي، أو منصوبه دينا له على رجل وجده في تذكرته، فأنكر المدعى عليه، ونكل، فهل يقضى عليه بالنكول، ويؤخذ منه المال، أم يحبس حتى يقر، أو يحلف، أم يترك لكن يأثم إن كان معاندا ؟ فيه ثلاثة أوجه، ويجري فيما لو ادعى ولي صبي ميت على وارثه أنه أوصى بثلثه للفقراء، وأنكر الوارث، ونكل. ولو ادعى ولي صبي، أو مجنون دينا له على رجل، فأنكر، ونكل، ففي رد اليمين على الولي أوجه، أحدهما: ترد، لانه المستوفي، والثاني: لا، لان إثبات الحق لغير الحالف بعيد. والثالث: إن ادعى ثبوته بسبب باشره بنفسه، ردت، وإلا فلا، وأجري الخلاف فيما لو أقام(8/327)
شاهدا هل يحلف معه، وفيما لو ادعي على الولي دين في ذمة الصبي هل يحلف الولي إذا أنكر. والوصي والقيم في ذلك كالولي، ويجري في قيم المسجد والوقف إذا ادعى للمسجد أو للوقف، وأنكر المدعى عليه، ونكل. وتحليف الولي والصبي سبق لهما ذكر في آخر كتاب الصداق، ثم ميل الاكثرين إلى ترجيح المنع من الاوجه الثلاثة، ولا بأس بوجه التفصيل، وقد رجحه أبو الحسن العبادي، وبه أجاب السرخسي في الامالي، فإن منعنا رد اليمين إلى الولي والوصي، انتظرنا بلوغ الصبي، وإفاقة المجنون، وكتب القاضي المحضر بنكول المدعى عليه، وتصير اليمين موقوفة على البلوغ، والافاقة، ويعود في قيم المسجد والوقف الوجهان في أنه يقضى لا بالنكول، أم يحبس ليحلف أو يقر، والاصح في مسألة من لا وارث له أن يقضى بالنكول، بل يحبس ليحلف أو يقر، وإنما حكمنا فيما قبلها من الصور بالمال، لانه سبق أصل يقتضي الوجوب، ولم يظهر دافع. ولو ادعى قيم المحجور عليه، ونكل المدعى عليه، حلف المحجور عليه أنه يلزمه تسليم هذا المال، ولكن لا يقول إلي، وقيمه يقول في الدعوى: يلزمك تسليمه إلي. الخامسة: للقاذف أن يحلف المقذوف أنه لم يزن كما سبق، فإن نكل، فالصحيح الذي قطع به الجمهور أنه يرد اليمين على القاذف، فإن حلف، اندفع عنه حد القذف، وقيل: يسقط بنكوله حد القذف ولا يرد اليمين، حكاه الهروي.
الباب الخامس : في البينة أما صفة الشهود، فسبق بيانها في الشهادات، والمقصود هنا بيان حكم تعارض البينتين، وتعارضهما قد يقع في الاملاك، وقد يقع في غيرها، كالعقود، والموت، والوصية، ويشتمل الباب على أربعة أطراف :
الأول : في الأملاك، فإذا تعارضتا فيه، فإما أن يفقد أسباب الرجحان، وإما لا، القسم الاول أن يفقد، فإما أن يكون المدعى في يد ثالث، وإما في(8/328)
أيديهما، ولا يدخل في هذا القسم ما إذا كان في يد أحدهما، لان ذلك من أسباب الرجحان. الحالة الاولى: إذا ادعى اثنان عينا في يد ثالث، فلا يخفى أن المدعى عليه يحلف لكل واحد منهما يمينا إن ادعاها لنفسه، ولا بينة لواحد منهما، وأنه لو اختص أحدهما ببينة على ما يدعيه، قضي له، وإن أقام كل واحد بينة، تعارضتا، وفيهما قولان أظهرهما: يسقطان، فكأنه لابينة فيصار إلى التحليف، والثاني: يستعملان، فينتزع العين ممن هي في يده. ثم في كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال، أحدها: تقسم العين المدعاة بينهما، والثاني: توقف إلى تبين الامر أو يصطلحا، والثالث: يقرع، فيأخذها من خرجت قرعته، وهل يحتاج معها إلى يمين ؟ قولان، أحدهما لا، والقرعة مرجحة لبينته، والثاني نعم، والقرعة تجعل أحدهما أحق باليمين، فعلى هذا يحلف من خرجت قرعته أن شهوده شهدوا بالحق، ثم يقضي له، ثم قيل القولان في الاصل فيما إذا لم تتكاذب البينتان صريحا، فإن تكاذبتا، سقطتا قطعا، والاشهر طردهما(8/329)
في الحالين، وصريح التكاذب أن لا يمكن الجمع بتأويل، بأن شهدت إحداهما بقتله في وقت، والاخرى بجناية في ذلك الوقت، فإن أمكن الجمع بتأويل، فليس تكاذبا بأن شهدت هذه أنه ملك زيد، وهذه أنه ملك عمرو، فإنه يحتمل أن كل واحدة علمت سببا، كشراء ووصية، واستصحب حكمه، أو شهدت هذه بأنه أوصى به لزيد، وهذه أنه أوصى به لعمرو، فإنه يحتمل الايصاء مرتين، وقيل: القولان إذا لم يمكن الجمع، فإن أمكن قسم قطعا، وقيل: إن لم يمكن سقطتا قطعا وإلا استعملتا قطعا، كما في الوصية وقيل: يبقى قول التوقيف، وقيل: لا تجتمع الاقوال الثلاثة بل موضع القسمة إذا أمكن الجمع، والقرعة إذا لم يمكن، والمذهب ما سبق، فلو تنازعا في زوجية امرأة، أقام كل واحد بينة، وتعارضتا، فقول السقوط بحاله، ولا مجال للقسمة، ولا للقرعة على الاصح، ويجئ الوقف على الصحيح لو أقر صاحب اليد لاحدهما بعدما أقاما البينتين، إن قلنا بالسقوط، قبل إقراره، وحكم به، وإن قلنا بالاستعمال، فوجهان، أحدهما: يصير المقر له كصاحب يد، فترجح بينته، والثاني: لا، لان يده بعد البينة مستحقة الازالة، وإن أقر قبل تمام البينتين قبل إقراره قطعا، وصار المقر له صاحب يد. الحالة الثانية: أن تكون العين في يدهما وادعاها كل واحد، فإن أقامتا بينتين، فطريقان، أحدهما - وبه قال الفوراني والغزالي - يجئ القولان في السقوط والاستعمال، فإن أسقطنا، بقي المال في أيديهما كما كان، وإاستعملنا، فعلى قول القسمة يجعل بينهما، ولا يجئ الوقف، وفي القرعة وجهان، والثاني - وبه قال ابن الصباغ والبغوي - يجعل المال بينهما، لان بينة كل واحد ترجحت في النصف الذي في يده، والحاصل للفتوى من الطريقين بقاء المال في يدهما كما كان، ولو شهدت بينة كل واحد له بالنصف الذي في يد صاحبه، حكم القاضي لكل منهما بما في يد صاحبه، ويكون المال في يدهما أيضا، كما كان، لكن لا لجهة السقوط، ولا بالترجيح باليد، ثم قال الائمة: من أقام البينة أولا، وتعرض شهوده للكل، لم يضر وإن كان صاحب يد في النصف الذي في يده، وقلنا: بينة صاحب(8/330)
اليد لا تسمع ابتداء كما سيأتي الخلاف فيه إن شاء الله تعالى، لان هنا غير مستغن عن البينة للنصف الذي يدعيه، ثم إذا أقام الثاني البينة على الكل، سمعت، وترجحت بينته في النصف الذي في يده، فيحتاج الاول إلى إعادة البينة للنصف الذي في يده، وقال في الوسيط: لا يبعد أن يتساهل في الاعادة، وإن كان لاحدهما بينة دون الآخر، قضى له بالكل، سواء شهد شهوده بالكل، أم بالنصف الذي في يد صاحبه، وإن لم يكن لواحد منهما بينة، فكل واحد مدع في نصف، ومدعى عليه في نصف، فيحلف كل واحد على نفي ما يدعيه الآخر، ولا يتعرض واحد منهما في يمينه، لاثبات ما في يده، بل يقتصر على أنه لاحق لصاحبه فيما في يده، نص عليه وهو المذهب، ومنه خلاف سبق في باب التحالف في البيع، فإن حلفا، أو نكلا، ترك المال في يدهما كما كان، وإن حلف أحدهما دون الآخر، قضى للحالف بالكل، ثم إن حلف الذي بدأ القاضي بتحليفه، ونكل الآخر بعده، حلف الاول اليمين المردودة. وإن نكل الاول، ورغب الثاني في اليمين، فقد اجتمع عليه يمين النفي للنصف الذي ادعاه صاحبه، ويمين الاثبات للنصف الذي ادعاه هو، فهل يكفيه الآن يمين واحد يجمع فيها النفي والاثبات أم لا بد من يمين للنفي، وأخرى للاثبات ؟ وجهان، أصحهما: الاول، فيحلف أن الجميع له، ولا حق لصاحبه فيه، أو يقول: لا حق له في النصف الذي يدعيه، والنصف الآخر لي. فرع ادعى نصف دار، وادعى آخر كلها، وأقام كل واحد بينة، والدار في(8/331)
يد ثالث، تعارضتا في النصف، فإن قلنا بالسقوط، سقطتا في النصف الذي فيه التعارض، وأما النصف الآخر، ففيه طريقان، قال ابن سريج، وأبو إسحاق وغيرهما: فيه قولا تبعيض الشهادة، فإن بعضناها، سلم ذلك النصف لمدعي الكل، وإلا بطلت في ذلك النصف أيضا، وصار كما لو لم تكن بينة، والثاني - وبه قال الشيخ أبو حامد، وصححه الشيخ أبو علي -: يسلم إليه النصف قطعا، وإن قلنا بالاستعمال، سلم النصف لمدعي الكل، ويقسم النصف الآخر إن قلنا بالقسمة، وإن قلنا بالقرعة أو بالوقف، أقرع في النصف أو وقف، ولو تداعيا كذلك، والدار في يدهما، فالقول قول مدعي النصف في النصف الذي في يده، فإن أقام مدعي الكل بينة، قضي له الكل، وإن أقام كل واحد بينة بما يدعيه، بقيت الدار في يدهما كما كانت. ولو ادعى أحدهما بالكل، والآخر الثلث، فإن كان في يد ثالث، فعلى قول السقوط تسقطان في الثلث. وهل تبطل بينة الكل في الثلثين ؟ فيه الطريقان السابقان، وعلى الاستعمال تجري الاقوال الثلاثة، وإن كانت في يدهما، وأقام كل واحد بينة بما يدعي، فلمدعي الثلث، الثلث، والباقي لمدعي الكل. دار في يد رجل ادعى زيد نصفها، فصدقه، وعمرو نصفها، فكذبه صاحب اليد وزيد معا، ولم يدعه أحد منهما لنفسه، فالنصف الذي يدعيه المكذب هل يسلم إليه أم يوقف في يد صاحب اليد، أم ينتزعه ويحفظ إلى ظهور مالكه ؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الفوراني. قلت: أقواها الثالث. والله أعلم. فرع ادعى رجل دارا وآخر ثلثيها، وآخر نصفها، ورابع ثلثها، وهي في(8/332)
يد خامس، وأقام كل واحد من الاربعة بينة بدعواه فلا تعارض في الثلث الذي يختص مدعي الكل بدعواه، وفي الباقي يقع التعارض، فالسدس الزائد على النصف يتعارض فيه بينة مدعي الكل، ومدعي الثلثين، وفي السدس الزائد على الثلث يتعارض بينهما، وبين مدعي النصف، وفي الثلث الباقي تتعارض بينات الاربعة، فإن قلنا بالسقوط، سقطت البينات في الثلثين، وأما الثلث، ففيه الطريقان في تبعيض الشهادة، والمذهب أنه يسلم لمدعي الكل، وإن قلنا بالاستعمال، فإن قسمنا، فالسدس الزائد علي النصف بين مدعي الكل، ومدعي الثلثين بالسوية، والسدس الزائد على الثلث لهما، ولمدعي النصف أثلاثا، والثلث الباقي للاربعة أرباعا، فيجعل ستة وثلاثين سهما لحاجتنا إلى عدد ينقسم سدسه على اثنين وعلى ثلاثة، فيضرب اثنين في ستة، ثم في ثلاثة، فلمدعي الكل ثلثها وهو اثنا عشر، ونصف السدس الزائد على النصف هو ثلاثة، وثلث السدس الزائد وهو أثنان، وربع الثلث الباقي وهو ثلاثة، فالجملة عشرون وهي خمسة أتساع الدار، ولمدعي الثلثين ثلاثة من السدس الزائد على النصف، وسهمان من السدس الزائد على النصف، وسهمان من السدس الزائد على الثلث، وثلاثة من الثلث الباقي، فالجملة ثمانية هي تسعا الدار، ولمدعي النصف سهمان من السدس الزادد على الثلث، وثلاثة من الثلث الباقي، ولمدعي الثلث ثلاثة من الثلث الباقي، وإن قلنا بالقرعة، أقرع ثلاث مرات، مرة في السدس الزائد على النصف بين مدعي الكل، ومدعي الثلثين، وأخرى في السدس الزائد على الثلث بينهما، وبين مدعي الكل، ومدعي الثلثين، وأجري في السدس الزائد الثلث بينهما وبين مدعي النصف، وأجري في الثلث بين الاربعة. وإن قلنا بالوقف توقفنا، وإن كانت الدار في يد المتداعيين الاربعة، وأقام كل واحد بينة، جعلت بينهم أرباعا لان بينة كل واحد ترجح في الربع الذي في يده اليد، وإن لم يكن بينة، فالقول قول كل واحد في الربع الذي في يده، فإذا حلفوا كانت بينهم أرباعا أيضا. فرع دار في يد ثلاثة، ادعى أحدهم نصفها، وآخر ثلثها، وثالث سدسها، ولا بينة جعلت بينهم أثلاثا، نص عليه في المختصر واعترض عليه(8/333)
بأن مدعي السدس لا يدعي غيره، فكيف يعطى الثلث، فأجاب الاصحاب بأن صورة النص فيما إذا ادعى كل واحد منهم استحقاق اليد في جميعها إلا أن الاول يقول: النصف ملكي والنصف الآخر لفلان الغائب، وهو في يدي عارية أو وريعة، والآخران يقولان نحو ذلك، فكل واحد منهم صاحب اليد في الثلث، وتبقى الدار في أيديهم كما كانت، ثم جعل نصف الثلث الذي في يد مدعي السدس لذلك الغائب بحكم الاقرار، فأما إذا اقتصر كل واحد منهم على ان لي منها كذا، فلا يعطي لمدعي السدس إلا السدس، ولا يتحقق بينهم والحال هذه نزاع، ولو أقام كل واحد منهم بينة على ما يدعيه لنفسه، حكم المدعي الثلث بالثلث، لان له فيه بينة ويدا، ولمدعي السدس بالسدس لمثل ذلك، وفيما يحكم به لمدعي النصف وجهان، أحدهما بالنصف، لان له في الثلث يدا وبينة، وفي السدس الباقي بينة، والآخران لا يدعيانه، والثاني بالثلث ونصف السدس، والاول أصح، وبه أجاب ابن كج والقفال، ثم مدعي الثلث، ومدعي السدس لا يحتاجان إلى إقامة البينة في الابتداء، ولكن مدعي النصف يحتاج إلى إقامتها للسدس الزائد على ما في يده، ويتصور إقامة البينة من جهتهم فيما إذا أقام مدعي اننصف، ثم أقام الآخران على نحو ما ذكرنا في الفرع الاول، ويجوز أن يفرض من مدعي السدس أقامة البنية على أن السدس للغائب مع إقامة البنية على أن السدس له بناء على أن المدعى عليه إذا أقر بما في يده للغائب يجوز له إقامة البينة على أنه للغائب، وقد سبق بيانه. فرع دار في يد ثلاثة ادعى أحدهم كلها، وآخر نصفها، والثالث ثلثها، وأقام واحد من الاولين بينة بما ادعاه دون الثالث، فلمدعي الكل الثلث بالبينة وباليد، ولمدعي النصف كذلك، ثم لمدعي الكل أيضا نصف ما في يد الثالث ببينته السليمة عن المعارض، وفي النصف الآخر تتعارض بينته وبينة مدعي النصف، فإن قلنا بالسقوط، فالقول قول الثالث فهذا السدس، وفي بطلان البينتين فيما سوى هذا السدس الطريقان السابقان في تبعيض الشهادة، وإن قلنا بالاستعمال، لم الاقراع والتوقف، وإن قلنا بالقسم، قسم بينهما هذا السدس بالسوية، فيصير(8/334)
لمدعي الكل النصف ونصف السدس، ولمدعي النصف الباقي هكذا أورد المسألة الشيخ أبو علي وغيره. القسم الثاني: أن تتعارض البينتان، وهناك ما يرجح أحدهما، فيعمل بالراجحة، وللرجحان أسباب: أحدها أن تختص، إحداهما بزيادة قوة، وفيه صور إحداها: لو أقام أحدهما شاهدين، والآخر شاهدا، وحلف معه، فقولان، أحدهما: يتعادلان، وأظهرهما: يرجح الشاهدان، لانها حجة بالاجماع، وأبعد عن تهمته بالكذب في يمينه، فعلى هذا لكان مع صاحب الشاهد واليمين يد، فهل يرجح صاحب اليد، أم صاحب الشاهدين، أم يتعادلان ؟ أوجه، أصحها الاول، وحكى البغوي الاولين قولين. الثانية: لو زاد عد الشهود في أحد الجانبين، أو زاد ورعهم، فالمذهب أنه لا ترجيح، وقيل قولان، وفي الرواية يثبت الترجيح بذلك، وقيل: هي كالشهادة، والمذهب الفرق، لان الشهادة نصابا فيتبع ولا ضبط للرواية، فيعمل بأرجح الظنين. الثالثة: أقام أحدهما رجلا وامرأتين، والآخر رجلين، فلا يرجح الرجلان على المذهب، وقيل: قولان، السبب الثاني: اليد، فإذا ادعى عينا في يد غيره، وأقام بينة أنها ملكه وأقام من هي في يده بينة أنها ملكه، رجحت بينة من هي في يده على بينة الخارج، وهل يشترط في سماع بينة الداخل أن يبين سبب الملك(8/335)
من شراء أو إرث وغيرهما ؟ وجهان، أحدهما: نعم لانهما ربما اعتمدا ظاهر اليد، وأصحهما: لا، كبينة الخارج، فإنها تسمع مطلقة مع احتمال أنهم اعتمدوا يدا سابقة، ولا فرق في ترجيح بينة الداخل بين أن يبين الداخل والخارج سبب الملك أو يطلقا، ولا بين إسناد البينتين، وإطلاقهما إذا سمعنا بينة الداخل مطلقة. ولو تعرضنا للسبب، فلا فرق بين أن يتفق السببان، أو يختلفا، ولا بين أن يسند الملك إلى شخص، بأن يقول: كل واحد اشتريته من زيد، أو يسند إلى شخصين وفيما إذا أسند إلى شخص واحد أنهما يتساويان، لانهما اتفقا على أن اليد كانت لثالث، وكل واحد يدعي الانتقال منه. فرع متى تسمع بينة الداخل، لها أربعة أحوال، أحدها: أن يقيمها قبل أن يدعى عليه شئ، فالصحيح أنها لا تسمع، لان البينة إنما تقام على خصم، وقيل: تسمع لغرض التسجيل. الثاني: يقيمها بعد الدعوى عليه، وقبل أن يقيم المدعي بينة، فالاصح أنها لا تسمع أيضا، لان الاصل في جانبه اليمين، فلا يعدل عنها ما دامت كافية، وقال ابن سريج: تسمع بينته لدفع اليمين كالمودع تسمع بينته على الرد والتلف، وإن كفته اليمين. الثالث: يقيمها بعد أن أقام الخارج البينة، لكن قبل أن يعدلها، فوجهان، أحدهما: لا تسمع، لانه مستغن عنها بعد، وأصحهما تسمع، ويحكم بها، لان يده بعد البينة معرضة للزوال، فيحتاج إلى تأكيدها. الرابع: يقيمها بعد بينة المدعي وتعديلها، فقد أقامها في أوان إقامتها، فإن لم يقمها حتى قضى القاضي للمدعي، وسلم المال إليه، نظر إن لم(8/336)
يسند الملك إلى ما قبل إزالة اليد، فهو الآن مدع خارج، وإن أسنحه، واعتذر بغيبة الشهود ونحوها، فهل تسمح بينته، وهل تقدم باليد المزالة بالقضاء، ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وينقض القضاء الاول، لانها إنما أزيلت، لعدم الحجة، وقد ظهرت الحجة، فلو أقام البينة بعد الحكم للمدعي، وقبل التسليم إليه، سمعت بينته، وقدمت على الصحيح لبقاء اليد حسا. فرع هل يشترط أن يحلف الداخل مع بينته، ليقضى له ؟ وجهان، أو قولان، أصحهما: لا، كما لا يحلف الخارج مع بينته، وبنوا الخلاف على خلاف في أالقضاء للداخل باليد، أم بالبينة المرجحة باليد، إن قلنا باليد، حلف، وإلا فلا. فرع إذا أطلق الخارج دعوى الملك، وأقام بينة، وقال الداخل: هو ملكي اشتريته منك، وأقام به بينة، فالداخل أولى، لان مع بينته زيادة علم، وهو الانتقال، ولانه عند الاطلاق مقدم، فهنا أولى، ولو قال الخارج: هو ملكي ورثته من أبي، وقال الداخل: ملكي اشتريته من أبيك، فكذلك الحكم، ولو انعكست الصور، فقال الخارج: هو ملكي، اشتريته منك، وأقام بينة، وأقام الداخل بينة أنه ملكه، فالخارج أولى لزيادة علم بينته، ولو قال كل واحد لصاحبه: اشتريته منك، وأقام به بينة، وخفي التاريخ، فالداخل أولى، ثم في الصورة الاولى، وهي أن يطلق الخارج، ويقول الداخل: اشتريته منك لا تزال يد الداخل قبل إقامته(8/337)
البينة. وقال القاضي حسين: تزال، ويؤمر بالتسليم إلى المدعي، لاعترافه بأنه كان له، ثم يثبت ما يدعيه من الشراء، والصحيح الاول، لان البينة إذا كانت حاضرة، فالتأخير إلى إقامتها سهل، فلا معنى للانتزاع والرد، فلو زعم أن بينته غائبة لم يتوقف، بل يؤمر في الحال بالتسليم، ثم إن أثبت ما يدعيه، استرد، ويجري الخلاف فيما لو ادعى دينا، فقال المدعى عليه: أبرأني، وأراد إقامة البينة، لا يكلف توفية الدين على قول الاكثرين، وعلى قول القاضي يكلف، ثم إن أثبت ما يقول، استرد. فصل من أقر بعين لرجل، ثم ادعاها لا تسمع دعواه إلا أن تذكر تلقي الملك منه، ولو أخذت منه ببينة، ثم ادعاها هل يحتاج إلى ذكر التلقي ؟ وجهان، أحدهما: نعم، لانه صار مؤاخذا بالبينة، كما لو أقر، وأصحهما: لا، كالاجنبي، ولا خلاف أنه لو ادعى عليه أجنبي وأطلق، سمعت. فروع أكثرها عن ابن سريج رحمه الله. أقام الخارج بينة أن هذه العين ملكي غصبها مني الداخل، أو قال: أجرتها له، أو أودعها عنده، وأقام الداخل بينة أنها ملكه، فهل يقدم الخارج أم الداخل ؟ وجهان، الاصح: الخارج، وبه قال ابن سريج، وصححه العراقيون، وبه أجاب الهروي، وخالفهم البغوي، فصحح تقديم الداخل، فلو لم تكن بينة، ونكل الداخل عن اليمين، فحلف الخارج، وحكم له، ثم جاء الداخل ببينة، سمعت على الصحيح، كما لو أقامها بعد بينة الخارج، وقيل: لا تسمع بناء على أن اليمين المردودة كالاقرار، ولو تنازعا شاة مذبوحة في يد أحدهما رأسها وجلدها وسواقطها، وفي يد الآخر باقيها، وأقام كل(8/338)
واحد بينة أن الشاة له، قضي لكل واحد بما في يده، ولو كان في يد كل واحد شاة، فادعى كل واحد أن الشاتين له، وأقاما بينتين تعارضتا، فلكل واحد التي في يده، لاعتقاد بينته باليد. وإن أقام كل واحد بينة أن التي في يد الآخر ملكه قضي لكل واحد بما في يد الآخر. السبب الثالث: اشتمال أحدهما على زيادة تاريخ، فإذا أرختا، نظر إن اتفق تاريخهما، فلا ترجيح، وإن اختلف، بأن شهدت بينة زيد أنه ملكه منذ سنة، وبينة عمرو أنه ملكه منذ سنتين، فهل تتعارضان، أم يقدم أسبقهما تاريخا ؟ طريقان، المذهب التقديم، ويطرد الخلاف في بينتي شخصين تنازعا نكاح امرأة إذا اختلف تاريخهما، وفيما إذا تعارضتا مع اختلاف التاريخ لسبب الملك، بأن أقام أحدهما بينة أنه اشتراه من زيد منذ سنة، والآخر أنه اشتراه من عمرو منذ سنتين، فلو نسبا العقدين إلى شخص واحد، فأقام هذا بينة أنه اشتراه من زيد منذ سنة، وذاك بينة أنه اشتراه من زيد منذ سنتين، فالسابق أولى بلا خلاف، وطردوا الخلاف أيضا فيما إذا تنازعا أرضا مزروعة، فأقام أحدهما بينة أنها أرضه زرعها، والآخر أنها ملكه مطلقا، لان بينة الزرع تثبت الملك من وقت الزراعة. هكذا ذكره البغوي، وفيه تصريح بأن سبق التاريخ لا يشترط أن يكون بزمان معلوم حتى لو قامت بينة أنه ملكه منذ سنة، وبينة الآخر أنه ملكه من أكثر من سنة كان فيه الخلاف، فإن رجحنا بسبق التاريخ، حكمنا بها لصاحب السبق، وله الاجرة والزيادات الحادثة من يومئذ، وإن لم نرجح به، ففيه الخلاف السابق في أصل التعارض، وإن كانت إحداها(8/339)
مؤرخة، والاخرى مطلقة، فالمذهب أنهما سواء فتتعارضان، وقيل: تقدم المؤرخة. ولو تنازعا دابة، فأقام أحدهما بينة أنها ملكه، والآخر بينة أنها ملكه، وهو الذي نتجها، قال الاكثرون: هو على الخلاف في سبق التاريخ، وطردوه في كل بينتين أطلقت إحداهما الملك، ونصت الاخرى على سببه من إرث وشراء وغيره، وقيل: تقدم بينة النتاج قطعا، لانها تثبت ابتداء الملك له، والتي سبق تاريخها لا تثبت ابتداء ملكه، وهذا التوجيه يقتضي اطراد الطريقين فيما لو تنازعا ثمرة وحنطة، فشهدت إحداهما بأنهاحدثت من شجرته، أو بذرته، ولا يقتضي جريان القطع فيما لو تعرضت إحداهما للشراء وسائر الاسباب، لانها لا توجب ابتداء ملكه، ثم المسألة من أصلها مفروضة فيما إذا كان المدعى في يد ثالث، فلو كان في يد أحدهما، وقامت بينتان مختلفتا التاريخ، فإن كانت بينة الداخل أسبق تاريخا، قدمت قطعا، وإن كانت بينة الخارج أسبق، فإن لم نجعل سبق التاريخ مرجحا، قدم الداخل، وإن جعلناه مرجحا، فهل يقدم الداخل أم الخارج، أم يتساويان ؟ أوجه، أصحها: الاول. فصل ادعى دارا، أو عبدا، أو نحوه في يد رجل، فشهدت له بينة بالملك في الشهر الماضي، أو بالامس، ولم يتعرض للحال، نقل المزني والربيع أنها لا تسمع، ولا يحكم بها، ونقل البويطي أنها تسمع، ويحكم بها، وقال الجمهور: هما قولان، أظهرهما، المنع، والطريق الثاني القطع بالمنع، ويجري الخلاف فيما لو ادعى اليد، وشهدوا أنه كان في يده أمس، فإذا قلنا بالمنع، فينبغي للشاهد أن يشهد على الملك في الحال، أو يقول: كان ملكه ولم يزل، أو لا أعلم له مزيلا، ولا يجوز أن يشهد بالملك في الحال استصحابا لحكم ما عرفه من قبل، كشراء وإرث وغيرهما، وإن احتمل زواله، فلو صرح في شهادته أنه يعتمد(8/340)
الاستصحاب، فوجهان، قال الغزالي: قال الاصحاب: لا يقبل، كما لا تقبل شهادة الرضاع على امتصاص الثدي، وحركة الحلقوم. وقال القاضي حسين، تقبل، لانا نعلم أنه لا مستند له سواه، ولو قال: لا أدري أزال ملكه، أم لا، لم يقبل قطعا، لانها صيغة مرتاب بعيدة عن أداء الشهادة، ولو شهدت بينة بأنه أقر أمس للمدعي بالملك، قبلت الشهادة، واستديم حكم الاقرار، وإن لم يصرح الشاهد بالملك في الحال وقيل بطرد القولين، والمذهب الاول لئلا تبطل فائدة الاقارير. ولو قال المدعى عليه: كان ملكك أمس، فوجهان، أحدهما: لا يؤاخذ به، كما لو قامت بينة بأنه كان ملكه أمس، وأصحهما، وبه قطع ابن الصباغ: يؤاخذ، فينتزع، منه، كما لو شهدت البينة أنه أقر أمس، والفرق أن الاقرار لا يكون إلا عن تحقيق، والشاهد قد يتساهل ويخمن، فلو أسند الشهادة إلى تحقيق، بأن قال الشاهد: هو ملكه بالامس، اشتراه من المدعى عليه بالامس، أو أقر له به المدعى عليه بالامس، قبلت الشهادة، ولو قال: كان في يدك أمس، فهل يؤاخذ بإقراره ؟ وجهان، حكاهما ابن الصباغ. قلت: الاصح المنع. والله أعلم. فإذا عرفت ما يحتاج إليه الشاهد إلى التعرض له على قولنا: لا تسمع الشهادة على الملك السابق، فكذلك إذا قلنا: الشهادة على اليد السابقة لا تسمع، فينبغي أن يتعرض الشاهد لزيادة، فيقول: كان في يد المدعي، وأخذه المدعى عليه منه، أو غصبه، أو قهره عليه، أو بعث العبد في شغل، فأبق منه، فاعترضه هذا، وأخذه، فحينئذ تقبل الشهاد ويقضى بها للمدعي، ويجعل صاحب يد. فرع قد ذكرنا أن الشهود لو قالوا: ولا نعلم زوال ملكه، قبلت شهادتهم، ثم نقل ابن المنذر أن الشافعي رحمه الله قال: يحلف المدعي مع البينة، فإن ذكروا مع ذلك أنه غاصب، فلا حاجة إلى اليمين، قال الهروي: هذا غريب.(8/341)
فرع دار في يد رجل ادعاها آخران، وأقام أحدهما بينة أنها له، غصبها منه المدعى عليه، وأقام الآخر بينة أن من في يده أقر بها له، فلا منافاة بينهما، فثبت الملك والغصب بالبينة الاولى، ويلغو إقرار الغاصب لغير المغصوب منه. فصل بينة المدعي لا توجب ثبوت الملك له، ولكنها تظهره فيجب أن يكون الملك سابقا على إقامتها، لكن لا يشترط السبق بزمان طويل يكفي لصدق الشهود لحظة لطيفة، ولا يقدر ما لا ضرورة إليه، فلو أقام بينة بملك دابة أو شجرة، لم يستحق النتاج والثمرة الحاصلين قبل إقامة البينة، والثمرة الظاهرة عند إقامة البينة تبقى للمدعى عليه، وفي الحمل الموجود عند إقامتها وجهان، أصحهما: يستحقه المدعي تبعا للام، كما في العقود، والثاني: لا، لاحتمال كونه لغير مالك الام بوصية. ومقتضى هذا الاصل أن من اشترى شيئا، فادعاه مدع، وأخذه منه بحجة مطلقة لا يرجع على بائعه بالثمن، لاحتمال انتقال الملك من المشتري إلى المدعي، وتكون المبايعة صحيحة مصادفة محلها، لكن الذي أطبق عليه الاصحاب ثبوت الرجوع، بل لو باع المشتري أو وهب، وانتزع المال من المتهب أو المشتري منه، كان للمشتري الاول الرجوع أيضا، وسبب الحاجة إليه في عهدة العقود، ولان الاصل أن لا معاملة بين المشتري والمدعي، ولا انتقال منه، فيستدام الملك المشهود به إلى ما قبل الشراء، وعن القاضي حسين وجه أنه لا رجوع إذا كان دعوى المدعي ملكا سابقا وفاء بالاصل المذكور، وحمل ما أطلقه الاصحاب عليه، وحكى الهروي وجها أن قيام البينة يقتضي سبق الملك حتى يكون النتاج للمدعي.(8/342)
فرع المشتري من المشتري إذا استحق المال في يده، وانتزع منه، ولم يظفر ببائعه، هل له أن يطالب الاول بالثمن ؟ في فتاوى القاضي حسين: الاصح أنه لا يطالبه. فصل ادعى ملكا مطلقا، فشهد الشهود بالملك، وذكروا سببه، لم يضر، فلو أراد المدعي تقديم بينته بذكر السبب بناء على أن ذكر السبب مرجح، لم يكف للترجيح تعرضهم للسبب أولا، لوقوعه قبل الدعوى والاستشهاد، بل يدعى الملك وسببه، ثم يعيدون الشهادة، فحينئذ ترجح بينته، وقيل: لا حاجة إلى إعادة البينة، وتكفي الشهادة على ما هو المقصود واقعة بعد الدعوى والاستشهاد، ولو ادعى الملك، وذكر سببه، وشهدوا بالملك، ولم يذكروا السبب، قبلت شهادتهم، لانهم شهدوا بالمقصود، ولا تناقض، ولو ادعي الملك وسببه، وذكر الشهود سببا آخر، فالصحيح بطلان شهادتهم، للتناقض، وقيل: تقبل على أصل الملك، ويلغو السبب، ولو شهد شاهد بألف عن ثمن، وآخر بألف عن قرض، والدعوى مطلقة، فقد سبق في الاقرار أنه لا يثبت بشهادتهما شئ، وقياس الوجه الثاني على ضعفه ثبوت الالف. فرع في يده دار حكم له حاكم بملكها، فادعى خارج انتقال الملك منه إليه، وشهدوا بانتقاله إليه بسبب صحيح، ولم يبينوه، قال الهروي: وقعت هذه المسألة، فأفتى فيها فقهاء همدان بسماع الدعوى، والحكم بها للخارج، كما لو عينوا السبب، وكذا أفتى الماوردي، والقاضي أبو الطيب، قال: وميلي إلى أنها لا تسمع ما لم يبينوا، وهو طريقة القفال وغيره، لان أسباب الانتقال مختلف فيها بين العلماء، فصار كالشهادة بأن فلانا وارث لا يقبل ما لم يبين جهة الارث.
الطرف الثاني : في العقود، وفيه أربع مسائل:(8/343)
الاولى: إذا قال المكري: أكريتك هذا البيت شهر كذا بعشرة، فقال: اكتريت جميع الدار بالعشرة، فإن لم يكن بينة تحالفا، ثم يفسخ العقد أو ينفسخ على ما سبق في باب التحالف، وعلى المستأجر أجرة مثل ما سكن في الدار أو البيت، فلو أقام أحدهما بينة دون الآخر، قضي بالبينة، فإن أقاما بينتين، فقولان، وقيل: وجهان أحدهما خرجه ابن سريج، تقدم بينة المستأجر، لاشتمالهما على زيادة وهي اكترا جميع الدار، وأظهرهما، وهو المنصوص: يتعارضان، فيكون على قولي التعارض، وإن قلنا: بالسقوط، تحالفا، وإن قلنا: بالاستعمال، جازت القرعة على الصحيح، وفي اليمين معها الخلاف السابق. وقال ابن سلمة: لا يقرع، لان القرعة عند تساوي الجانبين، ولا تساوي، لان جانب المكري أقوى لملك الرقبة، وأما الوقف والقسمة، فلا يجبان هكذا أطبق عليه الاصحاب، وفيه إشكال، ونقل الماسرجسي قولا أنه تجئ القسمة في الملك، والوقف في الاجرة. ولو اختلفا والزيادة في جانب المكري، بأن قال: أكريتك بعشرين، قال: بل بعشرة، فقول التعارض بحاله، وعلى تخريج ابن سريج: بينة المكري راجحة للزيادة. ويطرد ما ذكره في اختلاف المتبايعين إذا كان في بينة أحدهما زيادة، ولو وجدت الزيادة في الجانبين بأن قال: أكريتك هذا البيت بعشرين، فقال: بل جميع الدار بعشرة، فلابن سريج رأيان، الصحيح منهما: الرجوع إلى التعارض، والثاني: الاخذ بالزيادة من الجانبين، فيجعل جميع مكري بعشرين، وهذا فاسد، لانه خلاف قول المتداعيين، والشهود، ثم قال العراقيون والروياني وغيرهم: هذا إذا كانت البينتان مطلقتين، أو إحداهما مطلقة، أو اتفق تاريخهما، فإن اختلف بأن شهدت إحداهما أن كذا مكري من سنة من أول رمضان، والاخرى من أول شوال، فقولان، أظهرهما وبه قطع العراقيون والروياني تقدم أسبقهما تاريخا، لان العقد السابق صحيح، ولا مخالفة، والثاني تقدم المتأخرة، لان العقد الثاني ناسخ، وربما تخللت إقالة، قال صاحب التقريب وغيره: موضع القولين إذا لم يتفقا على أنه لم يجر إلا عقد، فإن اتفقا عليه، تعارضتا. المسألة الثانية: في يده دار جاء رجلان ادعى كل واحد منهما أني اشتريتها من صاحب اليد بكذا، وسلمت الثمن، وطالبه بتسليم الدار، فإن أقر لأحدهما، سلمت الدار إليه، وهل يحلف الآخر ؟ قال الشيخ أبو الفرج: إن قلنا إتلاف البائع(8/344)
كآفة سماوية، فلا وإن قلنا: كإتلاف الاجنبي، وأثبتنا الخيار، فأجاز، وأراد أن يطلب من البائع قيمتها، بني التحليف على الخلاف في أنه لو أقر للثاني بعد الاقرار الاول هل يغرم فيحلف أم لا ؟ فلا وقد سبق نظائره، وللآخر أن يدعي الثمن فإنه كهلاك المبيع قبل القبض في زعمه، وإن أنكر ما ادعيا ولا بينة، حلف لكل واحد يمينا، وبقيت الدار في يده، وإن أقام أحدهما بينة، سلمت الدار إليه، وليس للآخر تلحيفه لتغريم العين، لانه لم يفوتها عليه، إنما أخذت بالبينة، وله دعوى الثمن، وإن أقاما بينتين،، نظر، إن كانتا مؤرختين بتاريخ مختلف، قدم أسبقهما تاريخا، وإن لم تكونا كذلك، فله حالان، الاولى أن يستمر صاحب اليد على التكذيب، فيتعارضان، فإن قلنا بالسقوط سقطتا، وحلف المدعى عليه لكل واحد منهما، كما لو لم يكن بينة، وهل لهما استرداد الثمن ؟ وجهان، أصحهما: نعم، هذا إذا لم تتعرض البينة لقبض المبيع، فإن تعرضت، فلا رجوع بالثمن، لان العقد استقر بالقبض، وليس على البائع عهدة ما يحدث بعده، وإن قلنا: بالاستعمال، فالاشهر أنه لا يجئ الوقف، والاصح مجيئه، فتنزع الدار من يده، والثمنان، ويوقف الجميع، وإن قلنا بالقرعة، فمن خرجت قرعته، سلمت إليه الدار بالثمن الذي سماه، واسترد الآخر الثمن الذي أداه، وإن قلنا بالقسمة، فلكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي سماه، ولهما خيار الفسخ، لانه لم يسلم جميع المعقود عليه، فإن فسخا استردا جميع الثمن المشهود به، وإن أجاز، استرد كل(8/345)
واحد نصف الثمن المشهود به بناء على الاظهر، وهو أن الاجازة بالقسط، ويجوز أن يجيز أحدهما، ويفسخ الآخر، ويسترد جميع الثمن. ثم إن سبقت الاجازة الفسخ، رجع المجيز بنصف الثمن، وليس له أن يأخذ النصف المردود، ويضمه إلى ما عنده، لانه حين أجاز، رضي بالنصف، وإن سبق الفسخ الاجازة، فهل للمجيز أخذ الجميع ؟ وجهان، أحدهما: لا، لانا نفرع على قول القسمة، فلا يأخذ إلا ما اقتضته، والمردود يعود إلى البائع، وأصحهما، وبه قطع العراقيون له ذلك، لان بينته قامت بالجمع، وقد زال المزاحم، ونقل الربيع قولا: ان البيعين مفسوخان، وروي باطلان، وهو معنى مفسوخان هنا، ويعمل بمقتضى قول المدعى عليه، وامتنع جماعة من جعله قولا، منهم من غلظه، ومنهم من قال: هو تخريج له. الحالة الثانية: أن يصدق صاحب اليد أحدهما، فعلى قول السقوط تسلم الدار للمصدق، وكأنه أقر له ولا بينة، وعلى قول الاستعمال وجهان، قال ابن سريج: يقدم المصدق، وكأنه نقل إليه يده، فصار معه يد وبينة، والاصح المنع لاتفاق البينتين على إسقاط يده، وانتزاع المال منه باتفاق الاقوال، واليد المزالة لا يرجح بها، فعلى هذا هو كما لو لم يصدق واحد منهما. ثم إن الاصحاب لم يفرقوا فيما إذا لم تكن البينتان مختلفتي التاريخ بين أن يكونا مطلقتين أو متحدتي التاريخ أو إحداهما مطلقة، والاخرى مؤرخة، بل صرحوا بالتسوية، إلا أن أبا الفرج الزاز استدرك، فقال: هذا إذا لم يقدم المؤرخة على المطلقة، فإن قدمناها قضينا لصاحبها ولا تجئ الاقوال. عن الشيخ أبي عاصم: لو تعرضت إحدى البينتين، لكون الدار ملك البائع وقت البيع، أو لكونها ملك المشتري الآن كانت مقدمة، وإن لم يذكرا تاريخا. ولو ذكرت إحداهما، نقد الثمن دون الاخرى كانت مقدمة، سواء كانت سابقة، أم(8/346)
مسبوقة، لان التعرض للنقد يوجب التسليم، والاخرى لا توجب لبقاء حق الحبس للبائع، فلا تكفي المطالبة بالتسليم. فرع في يده دار جاء اثنان يدعيانها، قال أحدهما: اشتريتها من زيد وهي ملكه وقال الآخر: اشتريتها من عمرو وهي ملكه، وأقام كل واحد بينة بما يقوله، فهما متعارضتان، فإن قلنا بالسقوط، فكأنه لا بينة، ويحلف صاحب اليد لكل واحد يمينا، وإن قلنا بالاستعمال ففي مجئ قول الوقف الخلاف السابق، ويجئ قولا القرعة والقسمة والتفريع كما سبق، وإلا أن على قول القسمة إذا اختار أحدهما فسخ العقد، والآخر إجازته لا يكون للمجيز أخذ النصف الآخر، سواء تقدم الفسخ أو الاجازة إذا ادعيا الشراء بين شخصين، لان المردود يعود إلى غير من يدعي المجيز الشراء منه، فكيف يأخذه، وحيث أثبتنا الخيار على قول القسمة، فذلك إذا لم تتعرض البينة لقبض المبيع، ولا اعترف به المدعي، وإلا فإذا جرى القبض، استقر العقد، وما يحدث بعده ليس على البائع عهدته، وإنما شرطنا في صورة الفرع أن يقول كل واحد: وهي ملكه، لان من ادعى مالا في يد شخص، وقال: اشتريته من فلان، لم تسمع دعواه حتى يقول: اشتريته منه وهو ملكه ويقوم مقامه أن يقول: وتسلمته منه، أو سلمه إلي، لان الظاهر أنه إنما يسلم ما يملكه، وفي دعوى الشراء من صاحب اليد لا يحتاج أن يقول وأنت تملكه، ويكتفى بأن اليد تدل على الملك، وكذا يشترط أن يقول الشاهد في الشهادة: اشتراه من فلان وهو يملكه، أو اشتراه وتسلمه منه، أو وسلمه إليه. قال الامام: ويجوز أن يقيم شهودا على أنه(8/347)
اشترى من فلان وآخرين أن فلانا كان يملكه إلى أن باعه، لكن هؤلاء شهدوا بالملك والمبيع جميعا، فكأن المراد إذا أقام شهودا بالشراء وقت كذا، وآخرين أنه كان يملكه إلى ذلك الوقت. فرع أقام أحد المدعيين بينة أنه اشترى الدار من فلان، وكان يملكها، وأقام الآخر بينة أنه اشتراها من مقيم البينة الاولى، حكم ببينة الثاني، ولا يحتاج أن يقول المقيم البينة: وأنت تملكها، كما لا يحتاج أن يقول لصاحب اليد، لان البينة تدل على الملك كما أن اليد تدل عليه. المسألة الثالثة: دار في يده جاء اثنان، قال كل منهما: بعتك هذه الدار، وكانت ملكي بكذا، فأد الثمن، فإن أقر لهما، طولب بالثمنين، وإن أقر لاحدهما، طولب بالثمن الذي سماه، وحلف للآخر، وإن أنكما ادعياه، ولا بينة حلف لهما يمينين، وإن أقام أحدهما بينة قضي له، وحلف للآخر، وإن أقاما بينتين، نظر إن أرختا تاريخين مختلفين، لزمه الثمنان، لامكان، الجميع، وإن اتحد تاريخهما بأن أرختا بطلوع الشمس، أو زوالها، تعارضتا، لامتناع كونه ملكا في وقت واحد لهذا وحده، ولذاك وحده، فعلى قول السقوط كأنه لا بينة، وعلى القرعة يقرع، فمن خرجت قرعته، قضي له بالثمن الذي شهدت به بينة، وللآخر تحليفه بلا خلاف، لانه لو اعترف به بعد ذلك لزمه، وعلى القسمة لكل واحد نصف الثمن الذي سماه، وكأن الدار لهما وباعاه بثمنين متفقين أو مختلفين، وفي مجئ الوقف الخلاف السابق، والمذهب مجيئه، وإن كانت البينتان مطلقتين أو إحداهما مطلقة، والاخرى مؤرخة، فوجهان، أصحهما أنهما كمختلفتي التاريخ، فيلزمه الثمنان لامكان الجمع، والثاني: أنهما كمتحدتي التاريخ، لان الاصل براءة ذمة المشتري، فلا يلزمه إلا اليقين، وبهذا قال القاضي أبو حامد، وابن القطان، فعلى(8/348)
هذا يعود خلاف التعارض وفيه طريق ثان وهو القطع بالوجه الاول، وقيل: إن شهدت البينتان على الاقباض مع البيع، وجب الثمنان قطعا، ولو شهدت البينتان على إقرار المدعى عليه بما ادعيا، فالصحيح أن الحكم كما لو قامتا على البيعين، فينظر أقامتا على الاقرار مطلقا، أم على الاقرار بالشراء من زيد في وقت، ومن عمرو كذلك، وقيل: يجب الثمنان، وإن كانت الشهادة على الاقرارين مطلقا، وما ذكرناه من أنهما إذا أرختا تاريخين مختلفين يلزمه الثمنان يشترط فيه أن يكون بينهما زمن يمكن فيه العقد الاول، ثم الانتقال من المشتري إلى البائع الثاني، ثم العقد الثاني، فإن عين الشهود زمنا لا يتأتى فيه ذلك، لم يجب الثمنان، قال الامام: ولو شهد اثنان أنه باع فلانا في ساعة كذا، وشهد آخران أنه كان ساكنا تلك الحالة، أو شهد اثنان أنه قبل فلانا ساعة كذا، وآخر أنه كان ساكنا تلك الحالة لا يتحرك ولا يعمل شيئا، ففي قبول الشهادة الثانية وجهان، لانها شهادة على النفي، وإنما تقبل شهادة النفي في المضايق، وأحوال الضرورات، فإن قبلناها، جاز التعارض. قلت: الاصح القبول، لان النفي المحصور، كالاثبات في إمكان الاحاطة به. والله أعلم. فرع قال الاكثرون: صورة المسألة أن يقول كل واحد: بعتك كذا وهو ملكي وهكذا لفظ الشافعي رحمه الله في المختصر وقال أبو الفياض: لا يشترط ذلك، وإذا قلنا: بالقسمة عند التعارض، فقسم الثمن بلا خيار لصاحب اليد، لانه حصل له تمام البيع، ولا غرض له في عين البائع، وقال ابن القطان: له الخيار،(8/349)
فقد يرضى بمعاملة واحد دون اثنين. المسألة الرابعة: عبد في يد رجل، ادعى أن سيده أعتقه، وادعى رجل أنه باعه إياه بكذا، وأنكر صاحب اليد ما ادعياه، ولا بينة حلف لهما يمينين، وإن أقر بالعتق، ثبت العتق، ولم يكن للمشتري تحليفه، وإن قلنا: إتلاف البائع كالآفة السماوية، لانه بالاقرار متلف قبل القبض، فينفسخ البيع، لكن لو ادعى تسليم الثمن، حلف له وإن أقر بالبيع، قضى به، وليس للعبد تحليفه، لانه لو اعترف به، لم يقبل، ولم يلزمه غرم، قال الروياني: وليس لنا موضع يقر لاحد المدعيين، ولا يحلف للآخر قولا واحدا إلا هذا، وإن أقام كل واحد بينة، نظر إن اختلف تاريخهما، قضى بأسبقهما، وإن اتحد تعارضتا، وفيهما القولان، فإن قلنا بالسقوط، فهو كما لو لم يكن، وإن قلنا بالاستعمال، ففي مجئ قول الوقف الخلاف السابق، وإن قلنا بالقرعة قضى لمن خرجت له، وإن قلنا بالقسمة، عتق نصف العبد، ونصفه لمدعي الشراء بنصف الثمن، وله الخيار، فإن فسخ، فالصحيح أنه يعتق النصف الآخر أيضا، لان البينة شهدت بإعتاقه الجميع، وإنما لم يحكم بموجبها لزحمة مدعي الشراء وقد زالت، وقيل: لا يعتق وإن أجاز، فإن كان المدعى عليه معسرا، لم يسر العتق، وإن كان موسرا، فقولان، أو وجهان، أحدهما لا يسري، لانه عتق قهرا، فأشبه ما لو ورث بعض قريبه، وأظهرهما يسري، لقيام البينة أنه أعتق باختياره، وقيل: لا يجري قول القسمة هنا تحرزا من تبغيض الحرية، وصرح المزني قولا أنه يقدم بينة العتق، لان العبد في يد نفسه، وبينة صاحب اليد مقدمة وضعف الاصحاب هذا، وامتنعوا من إثباته قولا قالوا: وإنما يكون في يد نفسه لو ثبتت حريته، ولو كانت البينتان مطلقتين أو(8/350)
إحداهما مطلقة، والاخرى مؤرخة، فهو كما لو اتحد تاريخهما، هذا هو المذهب، وقيل: لا يجري هنا قول السقوط، لان صدقهما ممكن، بأن باعه صاحب اليد لمدعي الشراء، ثم اشتراه منه، ثم أعتقه، وتصديق صاحب اليد بعد قيام البينتين لا يوجب الرجحان إلا عند ابن سريج كما سبق.
الطرف الثالث : في التداعي والتعارض في الموت والارث، وفيه مسائل: الاولى: مات رجل عن اثنين مسلم ونصراني، فقال كل منهما: مات على ديني فأرثه، فللاب حالان، الاولى أن يكون معروفا بالتنصر، فقال المسلم: أسلم ثم مات، وقال النصراني: مات على ما كان، فيصدق النصراني بيمينه، لان الاصل بقاؤه، فإن أقاما بينتين، نظر إن أطلقتا، فقالت إحداهما: مات مسلما، والاخرى مات نصرانيا، قدمت بينة المسلم، لان معها زيادة علم، وهو انتقاله من النصرانية، فقدمت الناقلة على المستصحبة، كما تقدم بينة الجرح على التعديل، وكما لو مات عن ابن وزوجة، فقال الابن: داره هذه ميراث، وقالت: أصدقنيها أو باعنيها، وأقاما بينتين، فبينتها أولى، وكما لو ادعى على مجهول أنك عبدي، وأقام به بينة، وأقام المدعى عليه بينة أنه كان ملكا لفلان، وأعتقه، تقدم بينة المدعى عليه، لعلمها بالانتقال من الرق إلى الحرية، وعلى هذا قياس المسائل، وإن قيدنا بأنه تكلم في آخر عمره كلمة، وأقام المسلم بينة أنها كانت كلمة الاسلام، وأقام الآخر بينة بأنها كانت النصرانية، تعارضتا، فعلى قول السقوط يسقطان، ويصير كأن لا بينة، فيصدق النصراني بيمينه، وإن قلنا بالاستعمال، فعلى الوقف يوقف، وعلى القرعة يقرع، فمن خرجت له، فله التركة، وعلى القسمة تقسم، فيجعل بينهما نصفين كغير الارث، وقال أبو إسحاق: لا تجئ القسمة، لانها تكون حتما بالخطأ يقينا، لانه لا يموت مسلما كافرا، وفي غير صورة الارث لا يتحقق الخطأ في القسمة، لاحتمال كون المدعى مشتركا بينهما، والصحيح الاول، وليست القسمة حكما بأنه مات مسلما كافرا، بل لان بينة كل واحد اقتضت كون جميع المال له، ومزاحمتها الاخرى، فعملنا بكل واحدة بحسب الامكان، قال العراقيون: وليس(8/351)
القسمة خطأ يقينا، لاحتمال أنه مات نصرانيا، فورثاه، ثم أسلم أحدهما. ولو قيدت بينة النصراني أن آخر كلامه النصرانية، فهو كتقييد البينتين. الحالة الثانية: أن لا يكون الا ب معروف الدين، فإن لم يكن بينة، نظر إن كان المال في يد غيرهما، فالقول قوله: وإن كان في يدهما، حلف كل واحد لصاحبه وجعل بينهما، وإن كان في يد أحدهما، فوجهان، أحدهما - وبه قال الشيخ أبو حامد والقاضي حسين وجماعته -: القول قوله بيمينه، والصحيح: أنه يجعل بينهما، ولا أثر لليد بعد اعترافه بأنه كان للميت. وإن أقاما بينتين، تعارضتا، سواء أطلقنا أو قيدنا. ويجئ في القسمة خلاف أبي إسحاق وقيل: تقدم بينة الاسلام، لان الظاهر من حال من هو في دار الاسلام. والمذهب الاول. ويصلي على هذا الميت، ويدفنه في مقابر المسلمين، ويقول: أصلي عليه إن كان مسلما. فرع يشترط في بينة النصراني أن يفسر كلمة التنصر بما يختص به النصارى، كقولهم: (ثالث ثلاثة) هل يجب في بينة الاسلام تفسير كلمته، لانهم قد يتوهمون ما ليس بإسلام إسلاما ؟ وجهان. وإذا قلنا بالقسمة، هل يحلف كل واحد من الاثنين للآخر ؟ وجهان، الاصح: لا. وإذا قلنا بالقسمة: فمات عن ابن وبنت، فقال ابن سلمة: يقسم مناصفة، وقال غيره: مثالثة، والصواب: أنهما كرجلين ادعى أحدهما جميع دار، والآخر نصفها، وأقاما بينتين، وقد سبق أن على قول القسمة للاول ثلاثة أرباعها، وللآخر ربعها. ثم الموت على كلمة الاسلام يوجب إرث الابن المسلم، لكن الموت على التنصر لا يوجب بمجرده إرث النصراني، لاحتمال أنى أسلم ثم تنصر، وكان التصوير فيما إذا تعرض الشهود(8/352)
لاستمراره على النصرانية حتى مات، أو اكتفوا باستصحاب ما عرف من دينه مضموما إلى الموت عليه، وإن لم يتعرض له الشهود. فرع مات عن زوجة وأخ مسلمين وأولاد كفرة، فقال المسلمان: مات مسلما، وقال الاولاد: مات كافرا، فإن كان أصل دينه الكفر، صدق الاولاد. وإن أقاموا بينتين، فإن أطلقنا، قدمت بينة المسلمين، وإن قيدنا، فعلى الخلاف في التعارض. ويعود خلاف أبي اسحاق في جريان القسمة، فإذا رجحنا طائفة، قسم المال بينهم، كما يقسم لو انفردوا. وإن جعلنا المال بين الطائفتين تفريعا على القسمة، فالنصف للزوجة وللاخ، والنصف للاولاد، وفيما تأخذ الزوجة من النصف وجهان، أحدهما: ربعه وكأنه جميع التركة، وبه قطع السرخسي. والثاني نصفه، ليكون لها ربع التركة، لان الاخ معترف به، والاولاد لا يحجبونها باتفاقهما، وبه قطع الامام. قلت: الاول أصح، لانها معترفة أيضا باستحقاق الاخ ثلاثة أرباع التركة. والله أعلم. المسألة الثانية: مات نصراني وله ابنان مسلم ونصراني، فقال المسلم: أسلمت بعد موت أبينا، فالميراث بيننا. وقال النصراني: قبله، فلا ترثه، فلهما ثلاثة أحوال، إحداها: أن يقتصر على هذا القدر ولا يتعرضا لتاريخ موت الاب، ولا لتاريخ إسلام المسلم. والثانية: أن يتفقا على وقت موت الاب كرمضان. وقال المسلم: أسلمت في شوال، وقال النصراني: بل أسلمت في شعبان، ففي الحالتين إن لم يكن بينة، فالقول قول المسلم، لان الاصل بقاؤه على دينه، يحلف ويشتركان في المال.(8/353)
وإن أقام أحدهما بينة قضى بها. ولن أقاما بينتين، قدمت بينة النصراني، لانها ناقلة من النصرانية إلى الاسلام في شعبان، والاخرى مستصحبة لدينه في شوال، فمع الاولى زيادة علم. الحالة الثالثة: أن يتفقا على تاريخ إسلام المسلم، فإن اتفقا على أنه أسلم في رمضان، ولكن ادعى المسلم أن الاب مات في شعبان. وقال النصراني: مات في شوال، صدق النصراني، لان الاصل بقاء الحياة. وإن أقاما بينتين، قدمت بينة المسلم، لانها تنقل من الحياة إلى الموت في شعبان، والاخرى تستصحب الحياة إلى شوال. وإن شهدت بينة النصراني في هذه الحالة الثالثة أنهم عاينوه حيا في شوال، أو شهدت بينة المسلم في الحالتين الاوليين بأنهم كانوا يسمعون منه كلمة التنصر في نصف شوال مثلا تعارضتا. فرع مات مسلم وله ابنان أسلم أحدهما قبل موت الاب بالاتفاق، وقال الآخر: أسلمت أيضا قبله. وقال المتفق على إسلامه: بل بعد موته، فعلى الاحوال الثلاث، فإن اقتصر على ذلك أو اتفقا على أن الاب مات في رمضان. وقال قديم الاسلام لحادث الاسلام: أسلمت في شوال. وقال الحادث: بل أسلمت في شعبان، صدق قديم الاسلام. وإن أقاما بينتين، قدمت بينة الحادث. وإن اتفقا أن الحادث أسلم في رمضان، وقال قديم الاسلام: مات الاب في شعبان. وقال الحادث: بل في شوال، فالمصدق الحادث، والمقدم بينة قديم الاسلام، وعلى هذا يقاس نظائر الصورة الاولى، وصورة الفرع بأن مات الاب حرا، وأحد ابنيه حرا بالاتفاق، واختلفا هل عتق الآخر قبل موته أم بعده. ولو اتفقا في صورة الفرع أن أحدهما لم يزل مسلما. وقال الآخر: لم أزل مسلما أيضا، ونازعه الاول، فقال: كنت نصرانيا، وإنما أسلمت بعد موت الاب، فالقول قوله انه لم يزل مسلما، لان ظاهر الدار يشهد له ولو قال كل واحد منهما: لم أزل مسلما، وكان صاحبي نصرانيا أسلم بعد موت الاب، فوجهان خرجهما القفال. أحدهما: لا شئ لهما، لان الاصل عدم الاستحقاق، وأصحهما: يحلفان، ويجعل المال بينهما، لان ظاهر اليد يشهد لكل واحد فيما يقوله في حق نفسه. فرع مات عن أبوين كافرين، وابنين مسلمين، فقال الابوان: مات(8/354)
كافرا، وقال الابنان: مات مسلما، قال ابن سريج: فيه قولان، اشبههما بقول العلماء: ان القول قول الابوين، لان الولد محكوم بكفره في الابتداء تبعا لهما، فيستصحب حتى يعلم خلافه. والثاني: يوقف المال حتى ينكشف الامر أو يصطلحا، والتبعية تزول بالبلوغ وحصول الاستقلال. وقيل: القول قول الابنين، لان ظاهر الدار الاسلام. قلت: الوقف أرجح دليلا، ولكن الاصح عند الاصحاب أن القول قول الابوين، وأنكروا على صاحب التنبيه ترجيحه قول الابنين، وهو ظاهر الفساد. والله أعلم. فرع له زوجة وابن ماتا، فاختلف الزوج وأخو المرأة، فقال الزوج: ماتت أولا، فورثتها أنا وابني، ثم مات الابن، فورثته. وقال الاخ: مات الابن أولا، فورثت منه أختي، ثم ماتت، فأرث منها، فإن لم يكن بينة، فالقول قول الاخ في مال أخته، وقول الزوج في مال ابنه. فإن حلفا أو نكلا، فهي من صور استبهام الموت، فلا يورث ميت من ميت، بل مال الابن لابيه، ومالها للزوج والاخ. وإن أقاما بينتين، تعارضتا، وجرت أقوال التعارض. هذا إذا لم يتفقا على وقت موت أحدهما، فإن اتفقا على وقت موت أحدهما، واختلفا في أن الآخر مات قبله أم بعده، صدق من قال: بعده، لان الاصل دوام الحياة. وإن أقاما بينتين، قدمت بينة من قال: قبله، لان معها زيادة علم. فرع مات عن زوجة وأولاد فقالوا لها: كنت أمة، فعتقت بعد موته، أو ذمية، فأسلمت بعد موته، فقالت: بل عتقت وأسلمت قبله، فهم المصدقون. وإن قالت: لم أزل حرة مسلمة، فهي المصدقة، لان الظاهر معها. وفي قول: تصدق في الحرية دون الاسلام. وخرج قول: أن الاولاد يصدقون، لان الاصل عدم وراثتها. المسألة الثالثة: سيد قال لعبده: إن قتلت، فأنت حر، وتنازع بعده العبد والوارث، وأقام العبد بينة أنه قتل، والوارث بينة أنه مات حتف أنفه، فقولان،(8/355)
أظهرهما: تقدم بينة العبد، ومنهم من قطع به، لان معها زيادة علم بالقتل. والثاني: يتعارضان، للمنافاة بينهما. فعلى هذا إن قلنا بالسقوط، فكأنه لا بينة، فيحلف الوارث، ويستمر الرق. وإن قلنا بالقسم عتق نصفه، أو بالقرعة وإن خرجت له، ورق إن خرجت للوارث، ولا يخفى الوقف. وإذا قدمنا بينة القتل، فلا قصاص، لان الوارث ينكره. وإن قال إن مت في رمضان فعبدي حر، وأقام العبد بينة أنه مات في رمضان، والوارث بينة أنه مات في شوال، فعلى القولين أحدهما: التعارض، وأظهرهما: تقدم بينة العبد، لزيادة العلم بحدوث الموت في رمضان. وقال المزني: تقدم بينة الوار ث، لان معها زيادة علم، وهي بقاء الحياة إلى شوال. ومن حقه أن يطرد في نظائره المسألة السابقة واللاحقة. ولو أقام الوارث البينة أنه مات في شعبان، فالقياس مجئ الخلاف وانعكاس القول الثاني وقول المزني. ولو حكم القاضي بشهادة شاهدي رمضان، ثم شهد آخر أنه مات في شوال، فهل ينقض الحكم، ويجعل كما لو شهدت البينتان معا ؟ خرجه ابن سريج على قولين، كما لو بان فسق الشهود بعد الحكم. فرع قال لسالم: إن مت في رمضان، فأنت حر، ولغانم: إن مت في شوال، فأنت حر، وأقام كل واحد بينة تقتضي حريته، فقولان، أحدهما: لا للتعارض، والثاني: تقدم بينة سالم، لان معها زيادة علم وهي حدوث الموت في رمضان. وقال المزني وابن سريج: تقدم بينة غانم. فإن قلنا: بالتعارض، فعلى السقوط يرق العبدان، وعلى القسمة يعتق من كل عبد نصفه، ولو قال لسالم: إن مت من مرضي فأنت حر، وقال لغانم: إن برئت منه، فأنت حر، وأقام سالم بينة بموته، وغانم بينة ببرئه، فهل تقدم بينة سالم أم غانم، أم يتعارضان ؟ أوجه، أصحهما:(8/356)
الثالث، فيكون على الخلاف السابق في التعارض. وقيل: إذا وجد التعارض في مثل هذا غلبت الحرية. قلت: معنى تغليبها أنه لا يحكم بسقوط البينتين. والله أعلم. فصل من ادعى وراثة شخص، وطلب تركته، أو شيئا منها، فليبين جهة الوراثة من بنوة أو أخوة وغيرهما. وذكر السرخسي أن المذهب أنه لا يكفي لطلب التركة ذكر الجهة، بل يذكر معها الوراثة، فيقول: أنا أخوه ووارثه، وإذا شهد عدلان من أهل الخبرة بباطن حال الميت أن هذا ابنه لا يعرف له وارثا سواه، دفعت إليه التركة. وإن شهدا لصاحب فرض دفع إليه فرضه، ولا يطالبان بضمين. وذكر الفوراني أنه يشترط هنا ثلاثة شهود، كما ذكره في شهادة الافلاس. والصحيح المعروف الاول. وإذا لم يكن الشهود من أهل الخبرة، أو كانوا من أهلها، ولم يقولوا: لا نعلم له وارثا سواه، فالمشهود له إما أن لا يكون له سهم مقدر، وإما أن يكون، القسم الاول أن لا يكون، فلا يعطى شيئا في الحال، بل يبحث القاضي عن حال الميت في البلاد التي سكنها أو طرقها، فيكتب إليها الاستكشاف، أو يأمر مينادي فيها: إن فلانا مات، فإن كان له وارث، فليأت القاضي، أو ليبعث إليه. فإذا بحث مدة يغلب على الظن في مثلها أنه لو كان له وارث هناك، لظهر ولم يظهر، دفع المال إلى المشهود له. وحكى السرخسي قولا أنه لا يدفع إليه، وقيل: إن كان ممن لا يحجب كالابن، دفع إليه، وإن كان يحجب كالاخ، فلا، والمذهب الاول. وإن دفع إليه، فهل يؤخذ منه ضمين ؟ قولان، أحدهما: يجب، وأظهرهما: لا يجب، لكن يستحب، وقيل: لا يجب قطعا، وقيل: إن كان يحجب، وجب، وإلا فلا وقيل: إن كان ثقة موسرا، لم يجب، وإلا فيجب. القسم الثاني: أن يكون له سهم مقدر، فإن كان ممن لا يحجب، دفع إليه أقل فرضه عائلا من غير بحث، فالزوجة تعطى ربع الثمن عائلا، لاحتمال أبوين وبنتين وأربع زوجات، والزوج يعطى الربع عائلا، لاحتمال أبوين وبنتين معه،(8/357)
والاب السدس عائلا على تقدير ابوين، وبنتين وزوج أو زوجة، وللام السدس عائلا على تقدير أختين لاب، وأختين لام، وزوج أو زوجة معها. ولو حضر مع الزوجة ابن، أعطيت ربع الثمن غير عائل، لان المسألة لا تعول إذا كان فيها ابن. ثم إذا بحث ولم يظهر غير المشهود له، أعطي تمام حقه، وفيه وجه أنه لا يعطى تمام حقه إلا أن تقوم بينة بخلاف الاخ، فإنه لو لم يعط شيئا، لصار محروما بالكلية، والصحيح الاول ولا يؤخذ ضمين للمتيقن، وفي أخذه الزيادة , الخلاف. وإن كان من يحجب، لم يعط شيئا قبل البحث، وبعد البحث يعطى على الصحيح، وفيه الوجه السابق فيمن له سهم مقدر وهو ممن يحجب. ولو قطع الشهود بأنه لا وارث له سواه، فقد أخطؤوا بالقطع في غير موضعه، ولا تبطل به شهادتهم. ولو قالوا: هذا ابنه، ولم يذكروا كونه وارثه، فقد أطلق البغوي أنه لا يحكم بشهادتهم، لانه قد يكون ابنا غير وارث، وجعل العراقيون هذه الصورة، كما لو لم يكن الشهود من أهل الخبرة الباطنة، أو كانوا ولم يقولوا: لا وارث سواه، وقالوا: ينزع المال من يد من هو في يده بهذه الشهادة، ويدفع المال إليه بعد البحث المذكور، ونقلوا عن ابن سريج فيما إذا شهدوا بأنه أخوه ولم يذكروا الوراثة، أنه لا يعطى شيئا بعد البحث، لان الابن لا يحجب غيره فقرابته مورثة والاخ يحجبه غيره فقراتته غير مورثة بمجردها. وذكر الامام في الابن ما ذكره العراقيون، وحكى في الاخ وجهين، فحصل فيهما وجهان. فرع لو قالوا: لا نعرف له في البلد وارثا سواه، لم يعط شيئا، ولا يصح الضمان المذكور حتى يدفع إليه المال.
الطرف الرابع : في العتق والوصية من الاصول الممهدة أن من أعتق في مرض موته عبدين. كل واحد منهما ثلث ماله على الترتيب، ولم تجز الورثة، ينحصر العتق في الاول، وإن أعتقهما معا، وأقرع، فإن علم سبق أحدهما، ولم يعلم عينه، فهل يقرع بينهما، أم يعتق من كل(8/358)
واحد نصفه ؟ قولان، أظهرهما: الثاني، ورجح جماعة الاول. ولو علم عين السابق، ثم جهلت، فقيل بطرد القولين، والمذهب القطع بأنه يعتق من كل عبد نصفه. ولو علق عتق عبدين بالموت، أو أوصى بعتقهما ومات، وكل واحد ثلث ماله، أقرع، سواء وقع التعليقان أو الوصيتان معا أو مرتبا. ولو قامت بينة أن المريض أعتق سالما وبينة أنه أعتق غانما، وكل واحد ثلث ماله، فإن أرختا تاريخا مختلفا، عتق من أعتقه أولا، وإن اتحد تاريخهما، أقرع وإن أطلقت إحداهما، ففي التهذيب أنه يقرع، لاحتمال الترتيب والمعية وقال جماعة منهم الامام والغزالي: احتمال الترتيب أقرب، وأغلب من احتمال المعية، والسابق منهما غير معلوم. وإذا كان كذلك، وتعارضتا، وأطلقتا، عرفنا أن أحد الصنفين سابق، ولم نعرفه بعينه، فيجئ القولان في أنه يقرع بينهما، أم يعتق مكل عبد نصفه ؟ ومن فروع القولين ما لو قامت البينتان كذلك، لكن أحد العبدين سدس المال، فإن قلنا بالقرعة، فخرجت للعبد الخسيس، عتق وعتق معه نصف الآخر ليكمل الثلث، وإن خرجت للنفيس، عتققحده، وإن قلنا هناك: يعتق من كل واحد نصفه، فهاهنا وجهان، الصحيح وبه قطع الاكثرون: يعتق من كل واحد ثلثاه، كما لو أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بسدسه، أعطى كل واحد ثلثي ما أوصى له به. والثاني: يعتق من النفيس ثلاثة أرباعه، ومن الخسيس نصفه، لانه إن سبق عتق النفيس، عتق كله، وإن سبق الخسيس، فنصف النفيس بعده حر، فأحد نصفيه حر على التقديرين والنزاع في النصف الثاني وهو قدر سدس المال، فيقسم بينهما، فيعتق من النفيس ربع آخر، ومن الخسيس نصفه. ولو قامت بينتان بتعليق عتق عبدين بالموت أو بالوصية بإعتاقهما، وكل واحد ثلث المال، ولم تجز الورثة أقرع بينهما، سواء أطلقت البينتان أو أرختا، لان المعلقين بالموت كالواقعين معا في(8/359)
المرض. هذا هو المذهب. وقيل: قولان أحدهما: يقرع، والثاني: يعتق من كل عبد نصفه. فصل لا فرق في شهود العتق والوصية بين أن يكونوا أجانب، أو من ورثة المشهود عليه. فلو شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق غانم، وهو ثلث ماله، وشهد وارثان أنه رجع عن تلك الوصية، وأوصى بعتق سالم وهو ثلث ماله أيضا، قبلت شهادتهما على الرجوع عن الوصية الاولى، وتثبت بها الوصية الثانية، لانهما أثبتا للرجوع بدلا يساويه، فارتفعت التهمة عنهما، ولا نظر إلى تبديل الولاء، لان الثاني قد لا يكون أهدى لجمع المال، وقد لا يورث بالولاء، ومجرد هذا الاحتمال لوردت به الشهادة، لما قبلت شهادة قريب لمن يرثه. هذا إذا كان الوارثان عدلين، فإن كانا فاسقين، لم يثبت الرجوع بقولهما، فيحكم بعتق غانم بشهادة الاجنبيين، ويعتق من سالم قدر ما يحتمله ثلث الباقي من المال بعد غانم، وهو الثلثان، وكأن غانما هلك أو غصب من التركة. فإن قال الوارثان: أوصى بعتق سالم، ولم يتعرضا للرجوع عن عتق غانم، فالحكم كما سبق فيما لو كانت البينتان أجانب، فالمذهب القرعة. وقيل: قولان، ثانيهما: يعتق من كل عبد نصفه. ولو كانت المسألة بحالها، لكن سالم سدس المال، فالوارثان متهمان برد العتق من الثلث إلى السدس، فلا تقبل شهادتهما في الرجوع في النصف الذي لم يثبتا له بدلا. وفي الباقي الخلاف في تبعيض الشهادة، فإن قلنا: لا تبعيض، وبه أجاب الشافعي رضي الله عنه في هذه المسألة ردت شهادتهما فيه أيضا، ويعتق العبدان، الاول بشهادة الاجانب، والثاني بإقرار الورثة، فإن لم يكونا جائزين، عتق منه قدر ما يستحقانه، فإن قلنا: تبعض، عتق نصف الاول، وكل الثاني. وحكي وجه أن الرجوع لا يتبعض، فإذا لم يثبت في البعض، لم يثبت في الباقي، فتبقى الشهادة بالوصية بعتق العبدين، فيقرع كما سبق، وهذا الخلاف إذا لم يكن في التركة وصية أخرى.(8/360)
فإن كان أوصى بثلث ماله لرجل، وقامت البينتان لغانم وسالم كما ذكرنا، قبلت شهادة الورثة بالرجوع عن وصية غانم، لان للورثة رد الزيادة على الثلث، فليس في الشهادة على الرجوع تهمة، فيجعل الثلث أثلاثا بين الموصى له بالثلث، وعتق سالم، فيعطى الموصى له ثلث الثلث، ويعتق من سالم ثلثاه، وهو ثلث الثلث، هكذا ذكروه، لكن برد الزيادة على الثلث لا يوجب حرمان بعض أصحاب الوصايا، بل يوزع عليهم الثلث. وقبول شهادة الثلث توجب إرقاق غانم وحرمانه، وهو محل تهمة، لتعلق الاغراض بأعيان العبيد. فإن كان الوارثان فاسقين، عتق غانم بشهادة الاجنبيين، وعتق سالم بإقرارهما. ولو كانت قيمة غانم سدس المال، وسالم ثلثه، قبل شهادتهما على الرجوع عن وصية غانم، وأعتق سالم. فإن كانا فاسقين، عتق الاول، وعتق من سالم بقدر ثلث الباقي من المال، وهو خمسة أسداس سالم، وكأن الاول تلف. ولو شهد أجنبيان أنه نجز عتق غانم في المرض ووارثان أنه نجز عتق سالم، وكل منهما ثلث المال، نظر، إن كذب الوارثان الاجنبيين وقالا: لم يعتق غانما، وإنما عتق سالما، عتق العبدان (فإن) لم يكونا جائزين، عتق من سالم قدر حصتهما، واستدرك بعض المتأخرين فقال: قياس ما سبق أن لا يعتق من سالم إلا قدر ما يحتمله ثلث الباقي من المال بعد عتق غانم، وكان غانما تلف، وهذا حسن. وإن لم يكذباهما، بل قالا: أعتق سالما، ولا يدرى هل أعتق غانما أم لا. فإن كان الوارثان عدلين، فالحكم كما سبق فيما لو كان شهود العبدين أجانب، وإن كانا فاسقين، عتق غانم بشهادة الشهود. وأما سالم، فقال الشيخ أبو حامد، وتابعه كثيرون: يعتق منه نصفه إذا قلنا: يعتق من كل واحد نصفه لو كانا عدلين. وقال ابن الصباغ: هذا سهو، وصوابه أن يعتق خمساه، وذكر توجيهه(8/361)
بطريق الجبر. ولو شهد أجنبيان لغانم، ووارثان لسالم كما ذكرنا، إلا أن سالما سدس المال، فإن كذب الوارثان الاجنبيين، عتقا جميعا، وإن لم يكذباهما، فإن كانا عدلين، فهو كما لو كان شهود العبدين أجانب، وقد سبق بيانه. وإن كانا فاسقين، فنقل البغوي أن الاول حر بشهادة الاجنبيين، ويقرع بينهما. فإن خرجت القرعة له، انحصر العتق فيه، وإن خرجت للثاني، عتق الاول بالشهادة، وعتق من الثاني ثلث ما بقي من المال بإقرار الوارثين، قال: وقياس هذا أن يقرع أيضا إذا كان كل عبد ثلث المال والوارثان فاسقان، وكأن هذا جواب على قول القرعة فيما إذا كان الشهود كلهم أجانب، وما نقلناه عن الشيخ أبي حامد وغيره على قول القسمة. فصل شهد اثنان أن فلانا الميت أوصى لزيد بالثلث، وآخران أنه أوصى لبكر بالثلث، فالثلث بينهما سواء، فإن قال الآخران: رجع عن زيد، وأوصى لبكر بالثلث، سلم له الثلث، ويستوي في شهادة الرجوع الوارث والاجنبي إذا جرى ذكر بدل. ولو شهد آخران أنه رجع عن وصية بكر أيضا، وأوصى بالثلث لعمرو، سلم الثلث له. ولو شهد إثنان أنه أوصى بالثلث لزيد، واثنان أنه أوصى لبكر، ثم شهد اثنان أنه رجع عن إحدى الوصيتين، فإن عينا المرجوع عنها، ثبت الرجوع، وكان الثلث كله للآخر. وقال ابن القطان: ليس للآخر الا السدس، وإنما يكون له الثلث إذا ثبت أن وصيته وقعت بعد الرجوع عن الوصية الاخرى. وإن لم يعينا المرجوع عنها، نص في المختصر أن الثلث بينهما. واختلف في وجهه، فقال الجمهور: إبهام الشهادة بالرجوع يمنع قبولها، كما لو شهد أنه أوصى لاحدهما، وقال القفال: تقبل الشهادة لان الوصية تحتمل الابهام، ويقسم الرجوع بينهما وكأنه رد وصية كل واحد إلى السدس، فتظهر فائدة الخلاف فيما لو شهدت بينة أنه أوصى لزيد بالسدس، وأخرى لعمرو بالسدس أيضا، وأخرى أنه رجع عن إحدى الوصيتين، فعلى قول الاكثرين: لا يقبل شهادة الرجوع المبهم، ويعطى كل واحد السدس الموصى به، وعلى قول القفال: تقبل وكأنه رجع عن نصف كل وصية، فيعطى كل واحد منهما نصف سدس.(8/362)
الباب السادس : في مسائل منثورة تتعلق بأدب القضاء والشهادات والدعاوي، لانها يتعلق بعضها ببعض يوم الجمعة كغيره في إحضار الخصم مجلس الحكم، لكن لا يحضر إذا صعد الخطيب المنبر حتى يفرغ من الصلاة، واليهودي يحضر يوم السبت، ويكسر عليه سبته. شهد اثنان أنه غصت كذا، أو سرقه غدوة، وآخران أنه غصبه، أو سرقه عشية، تعارضتا ولا يحكم بواحدة منهما، بخلاف ما لو شهد واحد هكذا، وآخر هكذا حيث يحلف مع أحدهما، ويأخذ الغرم، لان الواحد ليس بحجة فلا تعارض. شهد واحد على إتلاف ثوب قيمته ربع دينار، وآخر على إتلاف ذلك الثوب بعينه، وقال قيمته ثمن دينار، يثبت الاقل وللمدعي أن يحلف مع الآخر. ولو شهد بدل الواحد والواحد اثنان واثنان، ثبت الاقل أيضا وتعارضتا في الزيادة. ولو شهد اثنان أن وزن الذهب الذي أتلفه نصف دينار، وآخران أن وزنه دينار، ثبت الدينار، لان مع شاهديه زيادة علم، بخلاف الشهادة على القيمة، فإن مدركها الاجتهاد، وقد يقف شاهد القليل على عيب. ولو ادعى عبدا في يد رجل، وأقام بينة أنه ولد أمته، لم يقض له بها، فقد تلد قبل أن تملكها، فإن شهدت أنه ولد أمته ولدته في ملكه فنص أنه يقضى له بهذه البينة، وبه قطع الجمهور، وخرج ابن سريج قولا، لانها شهادة بملك سابق، والمذهب الدول، لان النماء تابع للاصل. ولو شهدوا أن هذه الشاة نتجت في ملكه، وهذه الثمرة حصلت في ملكه، فهو كقولهم: ولدته أمته في ملكه، ولا يكفي نتاج شاته، وثمر شجرته. ولو شهدوا أن هذا الغزل من غزله، أو الفرخ من بيضه، والدقيق من حنطته، أو الخبز من دقيقه، كفى، لان ذلك عين ماله تغيرت صفته، بخلاف ولد الجارية والشاة. ولو أقام بينة على رق شخص،(8/363)
وأقام المدعى عليه بينة أنه حر الاصل، فبينة المدعي أولى، لان معها زيادة علم وهو إثبات الرق. ولو ادعى دينا، وشهد به اثنان، لكن قال أحدهما متصلا بشهادته: إنه قضاه، أو أبرئ منه، فشهادته باطلة، للقضاء، وإن ذكره مفصولا عن الشهادة، فإن كان بعد الحكم لم يؤثر. وللمدعى عليه أن يحلف معه على القضاء والابراء وإن كان قبل الحكم، سئل: متى قضاه ؟ فإن قال: قبل أن شهدت،(8/364)
فكذلك الجواب عند ابن القاص. وذكر فيما إذا شهد على إقراره بالدين شاهدان، ثم عاد أحدهما، وقال: قضاه أو أبرأه بعد أن شهدت أن شهادته لا تبطل، بل يحكم بالدين ويؤخذ، إلا أن يحلف المدعى عليه مع شاهد القضاء والابراء. والفرق أن هناك شهد على نفس الحق، والقضاء والابراء ينافيانه، فبطلت الشهادة، وهنا شهد على الاقرار، والقضاء والابراء لا ينافيانه، فلا تبطل الشهادة. وحكي وجه أن شهادته على نفس الحق لا تبطل أيضا، والصحيح الاول، ويقرب من هذا الخلاف، الخلاف فيما لو ادعى ألفا، وشهد له شاهدان بألف مؤجل، لكن قال أحدهما: قضى منه خمسمائة، ففي وجه: لا تصح شهادتهما، إلا في خمسمائة، أن يحلف لباقي الالف مع الشاهد الآخر. وفي وجه: تصح شهادتهما على الالف، وللمدعى عليه أن يحلف مع شاهد القضاء. وفي وجه ثالث: لا يثبت بشهادتهما شئ، لانهما لم يتفقا على ما ادعاه، ويقرب منه قولان عن ابن سريج فيما لو شهد اثنان أن فلانا وكل فلانا، ثم قال أحدهما: عزله بعد أن شهدت، ففي قول: تبطل شهادته. وفي قول: تثبت شهادة الوكالة، فيعمل بها، والعزل لا يثبت بواحد. ادعى شريكان فأكثر حقا على رجل، فأنكر، يحلف لكل واحد يمينا، فإن رضي بيمين واحدة، ففي جوازه وجهان قلت: الاصح: المنع. والله أعلم. ولو شهد اثنان أنه أوصى بعتق غانم، وهثلث ماله، فحكم الحاكم بعتقه، ثم رجعا عن الشهادة، وشهد آخران أنه أوصى بسالم، وهو ثلث ماله، ولم يجز الورثة إلا الثلث، قال البغوي: يقرع بينهما، فان خرجت القرعة للاول، رق الثاني، ويغرم الراجعان قيمة الاول للورثة. وإن خرجت للثاني، عتق ورق الاول، ولا غرم على الراجعين، لانهما لم يتلقياه. قال: وعندي يعتق الثاني بلا قرعة،(8/365)
وعلى الراجعين قيمة الاول للورثة. ولو شهد رجل أنه وكله بكذا، وآخر أنه فوضه إليه، أو سلطه عليه، ثبتت الوكالة. ولو شهد أحدهما أنه قال: وكلتك بكذا، والآخر أنه أقر بوكالته، لم يثبت شئ، ولو شهد أحدهما أنه وكله بالبيع، والآخر أنه وكله بالبيع وقبض الثمن، ثبت البيع. ولو ادعى رجل على رجل أنه اشترى منه هذا العبد، ونقده الثمن وأعتقه، وأقام به بينة، وادعى آخر أنه اشتراه ونقد الثمن، وأقام به بينة، تعارضتا، وذكر العتلا يقتضي ترجيحا على الصحيح. وقيل: يرجح، لان العتق كالقبض، نص في الام أنلو ادعى دابة في يد غيره، وأقام بينة أنها له منذ عشر سنين، ونظر الحاكم في سنها، فإذا لها ثلاث سنين فقط، لم يقبل الشهادة، لانها كذب، وأن المسناة الحائلة بين نهر شخص، وأرض آخر، يجعل بينهما كالجدار الحائل. ولو ادعى مائة درهم على إنسان، فقال: قبضت خمسين، لم يكن مقرا بالمائة، وكذا لو قال: قضيت منها خمسين. ولو اختلف الزوجان في متاع البيت، فإن كان لاحدهما بينة، قضى بها، وإن لم يكن بينة، فما اختص أحدهما باليد عليه حسا أو حكما، بأن كان في ملكه، فالقول قوله فيه بيمينه، وما كان في يدهما حسا، أو في البيت الذي يسكنانه، فلكل واحد تحليف الآخر، فإن حلفا، جعل بينهما، وإن حلف أحدهما دون الآخر، قضي للحالف، وسواء دوام النكاح، أم بعد الفراق، وسواء اختلفا هما أو ورثتهما، أو أحدهما وورثة الآخر، وسواء ما يصلح للزوج كالسيف والمنطقة، أو للزوجة كالحلي والغزل، أولهما. ولو اختلف مالك الدار، وساكنها بالاجارة في متاع الدار، فالقول قول الساكن، فان تنازعا في رف فيها، نظر، إن كان مسمرا أو مثبتا، فالقول قول المالك، وإلا فهو بينهما، نص عليه. ولو تنازعا أرضا ولاحدهما فيها زرع أو بناء أو غراس، فهي في يده، أو دابة أو جارية حاملا، والحمل(8/366)
لاحدهما بالاتفاق، فهي في يده، أو دار لاحدهما فيها متاع، فهي في يده. فإن لم يكن المتاع إلا في بيت، لم يجعل في يده إلا ذلك البيت، هكذا ذكروه. ولو تنازعا عبدا، ولاحدهما عليه ثياب، لم يجعل صاحب يد في العبد، لان منفعة الثوب الملبوس تعود إلى العبد، لا إلى المدعي. ولو قال رجل: استأجرت هذه الدار من زيد سنة في أول رمضان، وقال آخر: استأجرتها منه سنة من أول شوال، وأقام كل واحد بينة، فقولان حكاهما الفوراني، المشهور، وبه قطع البغوي وغيره: تقدم بينة رمضان، لسبق تاريخها. والثاني: بينة شوال، لانها ناسخة، ويحتمل أنهما تقايلا، واستأجر الثاني في شوال، ويجئ هذا في بينتي البيع على ضعفه. قامت بينة أن هذا ابنه لا يعرف له وارثا سواه، وبينة أن هذا الآخر ابنه لا يعرف له وارثا سواه، ثبت نسبهما، فلعل كل بينة اطلعت على ما لم تطلع عليه الاخرى. فصل فيما جمع من فتاوى القفال وغيره. ان الضيعة إذا صارت معلومة بثلاثة حدود، جاز الاقتصار على ذكرها، وهذا خلاف ما سبق في باب القضاء على الغائب من إطلاق ابن القاص. قال القفال: لكن لو ذكر الشهود الحدود الاربعة وأخطؤوا في واحد، لم تصح شهادتهم، فترك الذكر خير من الخطأ، لانهم إذا أخطؤوا، لم يكن بتلك الحدود ضيعة في يد المدعى عليه، وإذا غلط المدعي، فقال المدعى عليه: لا. يلزمني تسليم دار بهذه الصفة، كان صادقا. وإذا حلف، كان بارا. وإن لم ينكر، وقال: لا أمنعه الدار التي يدعيها، سقطت دعوى المدعي، فإن ذهب إلى الدار التي في يده ليدخلها، فله أن يمنعه، ويقول: هي غير ما ادعيت، فأما إذا أصاب في الحدود، فقال: لا أمنعك منها، فليس له المنع إذا ذهب ليدخلها، فإن قال: ظننت أنه غلط في الحدود، لم يقبل، وإن قال: إنما(8/367)
قلت: لا أمنعك، لان الدار لم تكن في يدي يومئذ، وقد صارت في يدي وملكي، قبل منه، وله المنع إذا حلف. وفيه أن دعوى العبد على سيده أنه أذن له في التجارة لا تسمع إن لم يشتر، ولم يبع شيئا. وإن اشترى ثوبا، وجاء البائع يطلب الثمن من كسبه، فأنكر، السيد الاذن، فللبائع أن يحلفه على نفي الاذن، فإن حلف، فللعبد أن يحلفه مرة أخرى، ليسقط الثمن، عن ذمته. وإن باع العبد عينا للسيد، وقبض الثمن، وتلف في يده فطلب المشتري تلك العين فقال السيد: لم آذن له في البيع، حلف، فإن حلف، حكم ببطلان البيع، والعبد يحلفه لاسقاطه الثمن عن ذمته. وأنه لو ادعى ألفا، وأقام به شاهدا، وأراد أن يحلف معه، فأقام المدعى عليه شاهدا بأن المدعي أقر أنه لا حق عليه، فللمدعى عليه أن يحلف مع شاهده، فإذا حلف، سقطت دعوى المدعي، وأنه يجوز للمالك أن يدعي على الغائب وعلى الغاصب من الغاصب، فإن ادعى على الاول أنه يلزمه رد الثوب بصفة كذا، أو قيمته كذا، فليس على الغاصب أن يحلف أنه لا يلزمه، لانه إن قدر على الانتزاع، لزمه الانتزاع والرد، وإلا فعليه القيمة. وأنهم لو شهدوا أن هذه الدار اشتراها المدعي من فلان، وهو يملكها، ولم يقولوا: هي الآن ملك المدعي، ففي قبول شهادتهم قولان، كما لو شهدوا أنه كان ملكه أمس، والمفهوم من كلام الجمهور قبولها. وأنه لو ادعى قصاصا، فاقتص الحاكم برواية راو روى حديثا يوجب القصاص في الواقعة، ثم رجع الراوي، وقال: كذبت وتعمدت، لم يجب القصاص عليه، بخلاف الشهادة، لان الرواية لا تختص بالواقعة. وأنه لو غصب المرهون من يد المرتهن، قال الراهن في دعواه على الغاصب: لي ثوب كنت رهنته عند فلان، وغصبته منه، ويلزمه الرد إلي. ولو اقتصر على قوله: لي عنده ثوب صفته كذا، ويلزمه رده إلي، جاز ولا بعد في قوله: يلزمه رده إلي، لان يد المرتهن(8/368)
يد الراهن. ولهذا لو نازعه رجل في المرهون، كان القول قول الراهن، وإن كان في يد المرتهن، لان يده يده، وأن الغريب إذا دخل بلدا لا يجوز الشهادة بأنه حر الاصل، إنما تجوز الشهادة أن فلانا حر الاصل إذا عرف حال أبيه وأمه، وعرف النكاح بينهما، وتجوز الشهادة به، وإن لم يشاهد الولادة، كما تجوز الشهادة أنه ابن فلان، وأنه لو ادعى دارا في يد رجل، وأقام بينة أنه اشتراها منه، وأقام صاحب اليد بينة أنه وهبها له، ولم يتعرضا لتاريخ، تعارضتا. وتظهر فائدة اختلافهما إذا ظهرت مستحقة أو معيبة، وأراد الرد، واسترداد الثمن. وأنه ادعى دارا في يد شخص، وأقام بينة أنها ملكه، فادعاها آخر، وأقام بينة أنه اشتراها من رجل آخر يوم كذا، ولم يقولوا: إنه كان يملكها يومئذ، لكن أقام بينة أخرى أنه كان يملكها يومئذ، سمعتا، وصارتا كبينة، فيحصل التعارض بينهما وبين بينة المدعي الاول. وأنه إذا ادعى دارا وأقام بينة أنها ملكه، وتسلمها، فادعاها آخر بعد مدة يسيرة، أو طويلة، وأقام بينة أنه اشتراها من المدعى عليه الذي كانت في يده، وكان يملكها يومئذ، قضي بالدار لهذا الاخير، وكان كما لو أقام صاحب اليد البينة قبل الانتزاع منه، فإنه لو كان بيده دار، فادعى رجل أنه اشتراها من ثالث بعدما اشتراها الثالث من صاحب اليد، وأنكر صاحب اليد، فله أن يقيم بينة على البيعين، وله أن يقيم على هذا بينة، وعلى هذا بينة، ولا بأس بالتقديم والتأخير. وأن الشهود إذا أرادوا أداء الشهادة بشراء دار، تبدلت حدودها بعد الشراء قالوا: اشترى دار أمن وقت كذا، من فلان، وهو يملكها، وكان يومئذ ينتهي أحد حدودها إلى كذا، والباقي إلى كذا ثم المدعي يقيم بينة بكيفية التبدل. وأنه لو ادعى دارا في يد رجل، وأقام بينة أنها ملكه، فقال القاضي: عرفت هذه الدار ملكا لفلان، وقد مات، وانتقلت إلى وارثه، فأقم بينة على ملكك منه، فله ذلك، وتندفع بينته. وليكن هذا جوابا على أنه يقضي بعلمه. وأنه لو ادعى دارا في يد رجل، فقال المدعى عليه: ليست الدار في يدي، ولا أحول بينك وبينها، فقد أسقط الدعوى عن نفسه، فيذهب المدعي إلى الدار، فإن لم يدفعه أحد، فذاك، وإن دفع، ادعى على الدفع، فلو قال المدعي: إنه يكذب في قوله: ليست في يدي، ولا أحول، لم يلتفت إليه. وأنه لو باع دارا، فقامت بينة الحسبة أن أبا البائع وقفها، وهو يملكها على ابنه البائع، ثم(8/369)
على أولاده، ثم المساكين، نزعت من المشتري، ويرجع بالثمن على البائع، والغلة الحاصلة في حياة البائع تصرف إلى البائع إن كذب نفسه، وصدق الشهود، فإن أصر على إنكار الوقت، لم تصرف إليه، بل توقف، فإذا مات، صرفت إلى أقرب الناس إلى الواقف. ولو ادعى البائع أنه وقف لم تسمع بينته، والتقييد بالبينة يشعر بسماع دعواه، وتحليف خصمه. وقال العراقيون: تسمع بينته أيضا إذا لم يكن صرح بأنه ملكه، بل اقتصر على البيع. وقال الروياني: لو باع شيئا ثم قال بعد: وأنا لا أملكه، ثم ملكته بالارث من فلان، فإن قال حين باع: هو ملكي. لم تسمع دعواه، ولا بينته وإن لم يقل ذلك، بل اقتصر على قول: بعتك، سمعت دعواه، فإن لم يكن له بينة، حلف المشتري أنه باعه، وهو ملكه، قال: وقد نص عليه في الام وغلط من قال غيره، وكذا لو ادعى أن المبيع وقف عليه. فصل في فتاوى القاضي حسين رحمه الله أنه لو ادعى عليه عشرة، فقال: لا يلزمني تسليم هذا المال اليوم، لا يجعل مقرا، لان الاقرار لا يثبت بالمفهوم، وإن بينتي الملك والوقف تتعارضان كبينتي الملك. وأنه لو ماتت وخلفت زوجا وأخا وأختان، فادعى الزوج أن المتاع كله له، جعل نصفين أحدهما للزوج بحكم اليد، والثاني للميتة، ويحلف الزوج على النصف الذي يجعل له باليد، كما لو كانت حية، فادعت الكل، فإن كان الاخ غائبا والاخت حاضرة، حلف لها، فإذا حضر، حلف له، فإن أقامت الاخت بينة أن الكل لها ولاخيها، سمعت، وثبت حق الاخ. وأن من حبسه القاضي، لا يجوز إطلاقه إلا برضى خصمه، أو ثبوت إعدامه، فإن ثبت، أطلقه وإن لم يرض خصمه. وإذا أطلقه برضى الخصم، فأراد(8/370)
إقامة بينة بإعدامه، لم تسمع، لانه لا حبس عليه والحالة هذه، بخلاف ما إذا استحق حبسه. وأن حق إجراء الماء على سطحه، أو أرضه، أو طرح الثلج في ملكه، يجوز الشهادة به إذا رآه مدة طويلة بلا مانع، ولا يكفي قول الشهود: رأينا ذلك سنين وإن كان ذلك مستند شهادتهم. فصل سئل الشيخ أبو إسحق الشيرازي رحمه الله عن رجلين تنازعا دارا، فأقام أحدهما بينة أنها ملكه، وادعى الآخر أنها وقف عليه، ولم يقم بينة، فحكم القاضي لمدعي الملك، ثم ادعى آخر وقفها، فأقام مدعي الملك بينة على حكم القاضي له بالملك، وأقام مدعي الوقف بينة بالوقف، فرجح الحاكم بينة الملك ذهابا إلى أن الملك الذي حكم به تقدم على الوقف الذي لم يحكم به، ثم تنازع مدعي الملك، وآخر يدعي وقفيتها، فأقام مدعي الملك بينة لحكم الحاكم له بالملك، وتقديم جانبه، وأقام الآخر بينة بأن الوقف الذي يدعيه قضى بصحته قبل الحكم بالملك، وبترجيحه على الوقف، هل يرتد حكم الحاكم بذلك ؟ فقال: نعم يقدم الحكم بالوقف على الحكم بالملك وينقض الحكم بالوقف الحكم بالملك. وسئل عمن اشترى ضيعة، وبقيت في يده مدة، فخرجت وقفا وانتزعت، فقال: عليه أجرة المثل للمدة التي كانت في يده. وعن رجل وقف ملكا، وأقر أن حاكما حكم بصحته، ولم يسم الحاكم ولا عينه، ثم رجع عنه ورفع الامر إلى حاكم يرى جواز الرجوع، فهل له الحكم بنفوذ الرجوع ؟ قال: لا. فصل في فتاوى الغزالي أنه لو ادعى دارا في يد غيره، فقال المدعى عليه: اشتريتها من زيد فأقام المدعي على إقرار زيد له بها قبل البيع، فأقام المدعى(8/371)
عليه بينة على إقرار المدعي لزيد بها قبيل البيع، وجهل التاريخ، قررت الدار في يد المدعى عليه. وأنه إذا خرج المبيع مستحقا، فادعى المشتري على البائع وقال: سلمت إليه في مجلس العقد، فأنكر، وأراد إقامة البينة بأنه لم يقبض منه شيئا في مجلس العقد، لم تسمع هذه البينة، لانها تشهد بالنفي، وإنما تسمع البينة بالنفي في مواضع الحاجة، كالاعسار. وقد يقع التسليم في غفلة ولحظة يسيرة. وأنها إذا ادعت أنه نكحها وطلقها، وطلبت نصف المهر، أو أنها زوجة فلان الميت، وطلبت الارث، فمقصودهم المال، فيثبت برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين. فصل في فتاوى البغوي أنه لو ادعى نكاحها، فأقرت بأنها زوجته منذ سنة، ثم أقام آخر بينة أنها زوجته نكحها من شهر، حكم للمقر له، لانه ثبت بإقرارها النكاح الاول، فما لم يثبت الطلاق، لا حكم للنكاح الثاني. وأنه لو تحاكم رجل وامرأة بكر إلى فقيه ليزوجها به، وجوزنا التحكيم فيه، فقال المحكم: حكمتني لازوجك بهذا، فسكتت كان سكوتها إذنا، كما لو استأذنها الولي فسكتت. وأنه لو حضر عند القاضي رجل وامرأة، واستدعت تزويجها به، وقالت: كنت زوجة فلان فطلقني، أو مات عني، لا يزوجها ما لم يقم حجة بالطلاق أو الموت.(8/372)
فصل عن ابن القاص ان من أنكر الحلف بالطلقات الثلاث يحلف أنه ما قال لها: إن دخلت الدار، فأنت طالق ثلاثا، وهي بائن منه بثلاث. وقال الشيخ أبو زيد: يكفيه أنها لم تبن منه بثلاث. ووجه الاول أنه قد يحلف متأولا على مذهب الحجاج بن أرطاة وتابعيه أن الثلاث لا تقع مجموعة، أو على تصحيح الدور. ويجوز أن يقال: إن قال: لم تبن مني، حلف عليه، وإن قال: لم أحلف بطلاقها، حلف عليه. حكى الهروي عن العبادي أن من ادعى عليه وديعة، فقال: لا يلزمني دفع شئ إليه، لا يكون هذا جوابا، لان المودع لا دفع عليه، إنما يلزمه التخلية، والجواب الصحيح أن ينكر أصل الايداع، أو يقول: هلك في يدي، أو رددته، وهذا يخالف كلام الاصحاب، الا تراهم يقولون: من جحد الوديعة فقامت بينة بالايداع، فادعى تلفا أو ردا قبل الجحود، نظر، إن كانت صيغة جحده إنكار أصل الوديعة أم قال: لا يلزمني تسليم شئ إليك، فإما أن يقدر خلاف، أو يؤول ما أطلقوه. قلت: الذي قاله ابن القاص صحيح، وتأويل كلامهم متعين، وهو أنهم أرادوا إذا جرى منه هذا اللفظ، فحكمه كذا، لان القاضي يقنع منه بهذا الجواب مع طلب الخصم الجواب. والله أعلم. وأنه إذا أقام بينة بأنه أجير فلان لحفظ سفينته هذه بدينار، وأقام صاحب السفينة بينة أنه أجره إياها بدينار، تعارضتا، وأنه لو شهد عليه اثنان بالقتل في وقت معين، وآخران أنه لم يقتل في ذلك الوقت لانه كان معنا، ولم يغب عنا، تعارضتا، وقد سبق من نظائر هذا ما يخالفه. قلت: يعني أن البينة الثانية شهدت بالنفي، وقد سبق أن شهادة النفي لا تقبل إلا في مواضع الضرورة، كالاعسار. هذا مراد الرافعي هنا، وقد تقدم في الفصل السابق عن فتاوى الغزالي ما يوافقه، ولكنه ضعيف مردود، بل الصواب أن النفي إذا كان في محصور يحصل العلم به، قبلت الشهادة به، وقد سبق ذكري لهذه المسألة(8/373)
في الشهادات. والله أعلم. وأن من أراد أن يدعي، ويقيم البينة من غير أن يعترف للمدعى عليه باليد، فطريقه أن يقول: الموضع الفلاني ملكي، وهذا يمنعني منه تعديا، فمره يمكني منه. وأنه لو شهد شاهدان أن الكلب ولغ في هذا الاناء ولم يلغ في ذاك وآخران بضده، تعارضتا، فلو لم يقولوا: لم يلغ في ذلك فالانآن نجسان، وهذا شهادة على إثبات ونفي، ويمكن التعارض بلا نفي، بأن يعينا وقتا لا يمكن فيه إلا ولوغ واحد. قلت: هذه المسألة ذكرتها في كتاب الطهارة مستوفاة مختصرة، وفي هذا الذي ذكره العبادي فيها من إثبات التعارض تصريح بقبول شهادة النفي في المحصور كما سبق قريبا. والله أعلم.
الباب السابع : في دعوى النسب وإلحاق القائف مقصود الباب الكلام في القائف وشرطه. أما الاستلحاق وشروطه فسبق ذكره في كتاب الاقرار واللقيط. وفي الباب ثلاثة أركان: الاول: المستلحق، وقد سبق في كتاب اللقيط أن المذهب صحة استلحاق العبد والعتيق دون المرأة على الاصح، وسبق هناك جمل من أركانه. الركن الثاني: الملحق، وهو القائف، وليكن فيه صفات بعضها واجب قطعا، وبعضها مختلف فيه، فيشترط فيه أهلية الشهادة، فيكون مسلما بالغا عاقلا عدلا، والاصح اشتراط حريت وذكورته، وأنه يكفي واحد، ونص عليه. وقيل: يشترط اثنان. وأنه لا يشترط كونه من مدلج، بل يجوز من سائر العرب ومن العجم. قال ابن كج: ولا يجوز أن يكون أعمى، ولا أخرس، قال: ولو كان ابن أحد المتداعيين، فألحقه بغير أبيه، قبل، وإن ألحقه بأبيه، لم يقبل. ولو كان عدو أحدهما، فألحقه به، قبل. وإن ألحقه بالآخر، فلا، لانه كالشهادة على(8/374)
العدو. ولو كان القاضي قائفا، فهل يقضي بعلمه ؟ فيه الخلاف في القضاء بعلمه، ويشترط كونه مجربا. وكيفية التجربة: أن يعرض عليه ولد في نسوة ليس فيهن أمه، ثم في نسوة ليس فيهن أمه، ثم في نسوة ليس فيهن أمه، فإذا أصاب في الكل، صار مجربا، وقبل قوله بعد ذلك. وهل تختص التجربة بالام، أم يجوز أن يعرض عليه المولود مع أبيه في رجال ؟ وجهان، الاصح المنصوص: الثاني، وبه قطع العراقيون وغيرهم، لكن العرض مع الام أولى. وأما تكرار العرض ثلاثا، فقد جعله الشيخ أبو حامد وأصحابه شرطا. وقيل: يكفي مرة، وقال الامام: لا معنى لاعتبار الثلاث، بل المعتبر غلبة الظن، بأقواله عن خبرة لا عن اتفاق، وهذا قد يحصل بدون الثلاثة. وإذا حصلت التجربة، اعتمدنا إلحاقه، ولا تجدد التجربة لكل إلحاق. الركن الثالث: الولد الملحق، ويعرض على القائف في موضعين: أحدهما: أن يتنازع اثنان مولودا مجهولا من لقيط أن غيره، فيعرض على القائف كما سبق في اللقيط. والثاني: أن يشترك اثنان فأكثر في وطئ امرأة، فتأتي بولد لزمان يمكن كونه منهما، ويدعيه كل منهما فيعرض على القائف. ويتصور الاشتراك في الوطئ على الوجه المذكور من وجوه. منها: أن يطأها كل منهما بالشبهة بأن يجدها بفراشه، فيظنها زوجته أو أمته، فلو كانت في نكاح صحيح فوطئت بشبهة، فوجهان، قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: يلحق الولد بالزوج، لانها فراشه، والفراش أقوى من الشبهة، كما لو طلقها وانقضت عدتها، ونكحت، وولدت تلحق بالثاني وإن أمكن كونه من الاول، لانها فراش الثاني، والاصح على ما(8/375)
ذكره الروياني وغيره، وبه قطع الامام أنه يعرض على القائف، ويكون لمن ألحقه به، بخلاف صورة الاستشهاد لان العدة أمارة ظاهرة في البراءة عن الاول، وهنا بخلافه. ومنها: أن يطأ زوجته في نكاح صحيح، ثم طلقها، فيطأها آخر بشبهة، أو في نكاح فاسد، بأن ينكحها في العدة جاهلا بها. ومنها: أن يطأها اثنان في نكاحين فاسدين، وأن يطأ الشريكان المشتركة، وأن يطأ أمته ويبيعها، فيطأها المشتري، ولا يستبرئ واحد منهما. فإذا وطئ اثنان في بعض هذه الصور في طهر، فولدته لما بين أربع سنين وستة أشهر من الوطأين، وادعياه جميعا، عرض على القائف، فإن تخلل بين الوطأين حيضة، فهي أمارة ظاهرة في حصول البراءة عن الاول، فينقطع تعلقه، إلا أن يكون الاول زوجا في نكاح صحيح، والثاني واطئا بشبهة أنكاح فاسد، فلا ينقطع تعلق الاول، لان إمكان الوطئ مع فراش النكاح قائم مقام نفس الوطئ والامكان حاصل بعد الحيضة. وإن كان الاول زوجا في نكاح فاسد، ففي انقطاع تعلقه بتخلل الحيضة قولان، أظهرهما: الانقطاع، لان المرأة لا تصير فراشا في النكاح الفاسد إلا بحقيقة الوطئ، وسواء كان المتنازعان والواطئان مسلمين وحرين، أو مختلفي الحال. فصل لو استلحق صبيا في يده، أولا في يده، فبلغ وانتفى منه، هل يندفع نسبه ؟ فيه وجهان سبقا في الاقرار واللقيط. فإن استلحق بالغا فأنكر، فقد سبق أنه لا يلحقه، وإلحاق القائف والحالة هذه ليس بحجة. فلو سكت البالغ، فقد ذكر الغزالي أنه يلحقه القائف، وهذا لم أجده لغيره إذا لم يكن هناك إلا واحد عليه، لكن لو ادعاه اثنان في موضع الاشتباه، فسكت، عرض على القائف. فلو وافق أحدهما، لحقه، ولا يقبل قول القائف بخلافه. ولو ادعى اثنان صبيا مجهولا ففيه تفصيل سبق في اللقيط. فصل ادعى نسب مولود على فراش غيره بسبب وطئ شبهة، فإن قلنا: وطئ الشبهة لا أثر له إذا كانت المرأة فراشا لزوج، والولد ملحق بالزوج، لم تسمع دعواه. وإن قلنا: له أثر، لم يكف اتفاق الزوجين عليه، بل لا بد من البينة على الوطئ لان للولد حقا في النسب، واتفاقهما ليس حجة عليه، فإذا قامت البينة،(8/376)
عرض على القائف، فإن كان المدعي نسبه بالغا، واعترف بجريان وطئ الشبهة، وجب أن يكفي. وإذا استلحق مجهولا، وله زوجة، فأنكرت ولادته، فهل يلحقها باستلحاقه ؟ وجهان، الصحيح: لا، لجواز كونه من وطئ شبهة أو زوجة أخرى. ولو استلحق مجهولا، وله زوجة، فأنكرت ولادته، واستلحقته امرأة لها زوج، فأنكره، فهل أمه الاولى أم الثانية، أم يعرض على القائف فيلحقه بإحداهما ؟ فيه أوجه. ولو كانت الصورة بحالها، وأقام كل واحد بينة، فهل بينته أولى من بينتها أم يتعارضان، أم يعرض على القائف، فإن ألحقه بالرجل لحقه ولحق زوجته، وإن ألحقه بالمرأة لحقها دون زوجها ؟ فيه أربعة اوجه حكاها الصيدلاني عن ابن سريج. فصل إذا لم يجد قائفا، أو تحيرا، وألحقه بهما، أو نفاه عنهما، وقفناه حتى يبلغ، فإذا بلغ أمر بالانتساب إلى أحدهما بحسب الميل الذي يجده، فإن امتنع، حبس ليختار، وإذا اختار، كان اختياره كإلحاق القائف. وإن قال: لا أجد ميلا إلى أحدهما، بقي الامر موقوفا، ولا عبرة باختياره قبل البلوغ. وقيل: يخير المميز، وقد سبق هذا في اللقيط. ولو ألحقه القائف بأحدهما، ثم رجع وألحقه بالاخر، أو ألحقه بآخر قائف آخر، لم يقبل قوله على الصحيح. وقيل: إذا ألحقه قائف بهذا، وآخر بذاك، تعارضا، وصار كأن لا قائف. وأنه إذا رجع القائف، فإن كان بعد الحكم بقوله، لم يلتفت إليه. وإن رجع قبله قبل رجوعه، لكن لا يقبل قوله في حق الاخر لسقوط الثقة بقوله ومعرفته. فرع إذا ألحقه بهما، قال القفال: يستدل بذلك على أنه لا يعرف الصنعة، فلا يعتد بقوله بعده حتى يمضي زمان يمكن التعلم فيه فيمتحن حينئذ ثم يعتمد. فرع إذا كانا توأمين، فألحق القائف أحدهما بأحدهما، والاخر بالاخر، فهو كما لو ألحق الواحد بهما. فرع إذا انتسب المولود إلى أحدهما، ثبت نسبه منه، ولا يقبل رجوعه، وإن انتسب إليهما، لغا، وأمر بالانتساب إلى أحدهما ولو اختلف التوأمان في(8/377)
الانتساب، لم يعتبر قولهما، فإن رجع أحدهما إلى قول الاخر، قبل. فصل إذا وطئا في طهر، فأتت بولد يمكن كونه منهما، فادعاه أحدهما، وسكت الاخر، أو أنكر، فقولان: أحدهما: يختص بالمدعي، كمال في يد اثنين ادعاه أحدهما دون الاخر، يجعل له. وأظهرهما: يعرض على القائف، لان للولد حقا في النسب، فلا يسقط بالانكار، وإن أنكراه معا، عرض ولا تضييع لنسبه. فرع نفقة الولد إلى أن يعرض على القائف، وفي مدة التوقف إلى الانتساب، تكون عليهما، فإذا ألحق بأحدهما، رجع الاخر عليه بما أنفق، وهل تجب النفقة في حال الاجتنان ؟ يبنى على أن الحمل هل يعلم ؟ إن قلنا: يعلم، فنعم، وإلا، فلا. فإذا أوجبناها، فكان أحدهما زوجا طلق، والاخر وطئ بشبهة، فإن قلنا: النفقة للحامل، فهي على المطلق، وإن قلنا: للحمل، فعليهما حتى يظهر الامر. وإن أوصى للطفل في وقت التوقف، فليقبلاها جميعا. فرع إذا مات الولد قبل العرض، فإن تغير، فقد تعذر العرض، وإلا، فإن دفن، لم ينبش، وإلا، فوجهان، أصحهما: يعرض، لان الشبه لا يزول بالموت. والثاني: لا، لان القائف قد يبني على الحركة والكلام ونحوهما مما يبطل بالموت. ولو مات أحد المتداعيين، عرض أبوه أو أخوه أو عمه مع الولد، ذكره البغوي. فرع من الرعاة من يلتقط السخال في الظلمة، ويضعها فوعاء، فإذا أصبح، ألقى كل سخلة إلى أمها، ولا يخطئ لمعرفته. فقال الاصطخري: يعمل بقول هذا الراعي إذا تنازعا سخلة، والصحيح: المنع، وإنما تثبت القيافة في الادمي لشرفه وحفظ نفسه. فرع لو ألحقه قائف بأحدهما بالاشباه الظاهرة، وآخر بالاخر بالاشباه الخفية، كالخلق وتشاكل الاعضاء، فأيهما أولى ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، ولو(8/378)
ادعاه مسلم وذمي، وأقام أحدهما بينة، تبعه نسبا ودينا وإن ألحقه القائف بالذمي، تبعه نسبا لا دينا، ولا يجعل حضانته للذمي. ولو ادعاه حر وعبد، وألحقه القائف بالعبد، ثبت النسب، وكان حرا، لاحتمال أنه ولد من حرة. وبالله التوفيق.(8/379)
كتاب العتق
تظاهرت النصوص والاجماع على أنه قربة، ويصح من كل مالك مطلق لا يصادف إعتاقه متعلق حق لازم لغيره، فلا يصح إعتاق غير مالك إلا بوكالة أو ولاية، ولا إعتاق صبي ومجنون ومحجور عليه بسفه. وفي المحجور لفلس والراهن والعبد الجاني خلاف سبق في التفليس، والرهن والبيع والمريض مرض(8/380)
الموت يعتبر إعتاقه من الثلث، ولا يصح إعتاق الموقوف عليه الموقوف، ويصح إعتاق الذمي والحربي. وإذا أسلم عتيق الكافر، فولاؤه ثابت عليه. ويصح العتق بالصريح والكناية أما الصريح، فالتحرير والاعتاق صريحان، فإذا قال له: أنت حر، أو محرر، أو أحررتك، أو أنت عتيق، أو معتق، أو أعتقتك، عتق. وإن لم ينو، ولا أثر للخطأ في التذكير والتأنيث، بأن يقول للعبد: أنت حرة، أو للامة: أنت حر. وفك الرقبة صريح على الاصح. والكناية كقوله: لا ملك لي عليك، أو لا سبيل، أو لا سلطان، أو لا يد، أو لا أمر، أو لا خدمة، أو أزلت ملكي عنك، أو حرمتك، أو أنت سائبة، أو أنت لله. وصرائح الطلاق وكناياته كلها كنايات في العتق. وقوله: أنت علي كظهر أمي كناية على الاصح، لاقتضائه التحريم، كقوله: حرمتك. ولو قال: وهبتك نفسك، ونوى العتق، عتق. فإن نوى التمليك، فعلى ما سنذكره إن شاء الله تعالى في قوله: بعتك نفسك. ولو كانت أمته تسمى قبل جريان الرق عليها حرة، فقال لها: يا حرة، فإن لم يخطر له النداء باسمها القديم، عتقت، وإن قصد نداءها، لم تعتق على الاصح، وقيل: تعتق، لانه صريح. ولو كان اسمها في الحال حرة، أو اسم العبد حر أو عتيق، فإن قصد النداء، لم يعتق. وكذا إن أطلق على الاصح. وفي فتاوى الغزالي: أنه لو اجتاز بالمكاس، فخاف أن يطالبه بالمكس عن عبده، فقال: إنه حر لبس بعبد، وقصد الاخبار، لم يعتق فيما بينه وبين الله تعالى، وهو كاذب في خبره. ومقتضى هذا أنه لا يقبل ظاهرا وأنه لو قال: افرغ من هذا العمل قبل العشاء، وأنت حر،(8/381)
وقال: أردت: حر من العمل، دين، ولا يقبل ظاهرا. وأنه لو زاحمته امرأة في طريق، فقال: تأخري يا حرة، فبانت أمته، لم تعتق. ولو قال لعبد: يا مولاي، فكناية، ولو قال له: يا سيدي، فقال القاضي حسين والغزالي: هو لغو. قال الامام: الذي أراه أنه كناية. فرع قال لعبد غيره: أنت حر، فهذا إقرار بحريته، وهو باطل في الحال. فلو ملكه حكمنا بعتقه مؤاخذة له بإقراره. ولو قال لعبد الغير: قد أعتقتك، قال الغزالي: إن ذكره في معرض الانشاء، فلغو، أو في معرض الاقرار، فيؤاخذ به إن ملكه. وقال القاضي حسين: هو إقرار، لان قد يؤكد معنى المضي في الفعل الماضي. قال الامام: ومقتضى كلامه أن قوله: أعتقك بلا قد لا يكون إقرار وإن كانت الصيغة في الوضع للماضي، قال: وعندي لا فرق بينهما. والوجه أن يراجع ويحكم بموجب قوله، فإن لم يفسر، ترك، وينبغي أن لا فرق بين قوله: أنت حر، وقوله: أعتقتك. فرع يصح تعليق العتق بالصفات والاعتاق على عوض، قال: ولو قال: جعلت عتقك إليك، أو حررتك، ونوى تفويض العتق إليه، فأعتق نفسه في الحال، عتق. ولو قال: أعتقتك على كذا، فقبل في الحال، أو قال العبد: اعتقني على كذا، فأجابه، عتق، وعليه ما التزم. ولو قال: أعتقتك على كذا إلى(8/382)
شهر، فقبل، عتق في الحال، والعوض مؤجل. ولو أعتقه على خمر أو خنزير، عتق، وعليه قيمته، وكذا لو قال: أعتقتك على أن تخدمني ولم يبين مدة، أو تخدمني أبدا. ولو قال: على أن تخدمني شهرا. أو تعمل لي كذا، وبينه، فقبل، عتق، وعليه ما التزم. ولو خدمه نصف شهر ومات، فللسيد نصف قيمته في تركته. فروع أكثرها عن ابن سريج رحمه الله. إذا قال: أول من دخل الدار من عبيدي، أو أي عبد من عبيدي دخل أولا، فهو حر، فدخل اثنان معا، ثم ثالث، لم يعتق واحد منهم. أما الثالث، فظاهر، والاثنان لا يوصف واحد منهما بأنه أول. ولو كان اللفظ والحالة هذه: أول من يدخل وحده، عتق الثالث. ولو دخل واحد لا غير، فهل يعتق ؟ وجهان في تعليق الشيخ أبي حامد: أصحهما: نعم. ولو قال: آخر من يدخل الدار من عبيدي حر، فدخل بعضهم بعد بعض، لم يحكم بعتق واحد منهم إلى أن يمو ت السيد، فيبين الاخر. ولو قال لعبده: إن لم أحج(8/383)
العام فأنت حر، فمضى العام، واختلفا في أنه حج، فأقام العبد بينة أنه كان بالكوفة يوم النحر، عتق خلافا لابي حنيفة رحمه الله. ولو قال لعبديه: إذا جاء الغد، فأحدكما حر، فجاء الغد، عتق أحدهما، وعليه التعيين. فلو باع أحدهما أو أعتقه، أو مات قبل مجئ الغد، وجاء الغد والاخر في ملكه، لم يتعين العتق، لانه لا يملك حينئذ إعتاقهما، فلا يملك إعتاق أحدهما. ولو باعهما أو أحدهما، ثم اشترى من باع، وجاء الغد وهما ملكه، فعلى الخلاف في عود الحنث. ولو باع نصف أحدهما، وجاء الغد وفي ملكه نصفه الاخر، فإليه التعيين، فإن عين من نصفه له، وقع النظر في السراية. ولو قال: إذا جاء الغد وأحدكما في ملكي فهو حر فباع أحدهما ثم جاء الغد والاخر في ملكه، عتق. وإن باع أحدهما ونصف الاخر، وجاء الغد، لم يعتق النصف الباقي، لانه لم يبق كل واحد منهما في ملكه.
فصل في خصائص العتق التي ينفرد بها عن الطلاق، وهي خمس :
الأولى : السراية، فمن أعتق بعض مملوك، فإما أن يكون باقيه له أو لغيره. الحالة الاولى: أن يكون له، فيعتق كله كما في الطلاق، سواء الموسر والمعسر. ولو أضاف إلى عضو معين، كيد، ورجل، عتق كله، كالطلاق. وفي كيفية التكميل إذا أضاف العتق إلى الجزء الشائع وجهان: أحدهما يحصل في الجزء المسمى، ثم يسري إلى الباقي. والثاني: يقع على الجميع دفعة ويكون إعتاق البعض عبارة عن إعتاق الكل. وإن أضافه إلى جزء معين، فوجهان مرتبان، وأولى بحصوله دفعة، وقد سبق هذا الخلاف بتفاريعه في الطلاق. ولو أعتق أمته الحامل بمملوك له، عتق الحمل أيضا، لا بالسراية، فإن(8/384)
السراية في الاشقاص، لا في الاشخاص، بل بطريق التبع كما يتبعها في البيع، إلا أن البيع يبطل باستثنائه، والعتق لا يبطل لقوته. ولهذا لو استثنى عضوا في البيع، بطل، بخلاف العتق. ولو أعتق الحمل، عتق، ولم يعتق الام على الصحيح، لانها لا تتبعه. وقال الاستاذ أبو إسحق الاسفراييني: تعتق بعتقه. ولو كانت الام لواحد، والحمل لاخر، لم يعتق واحد منهما بعتق الاخر. ولو قال لامته: إذا ولدت فولدك حر، أو كل ولد تلدينه حر، فقد ذكرنا في الطلاق أنها إن كانت حاملا عند التعليق، عتق الولد، وإن كانت حائلا، عتق أيضا على الاصح، لانه وإن لم يملك الولد حينئذ، فقد ملك الاصل المفيد لملك الولد. ولو قال لامته الحامل: إن كان أول من تلدينه ذكرا فهو حر، وإن كانت أنثى فأنت حرة، فولدت ذكرا وأنثى، فإن ولدت الذكر أولا، عتق، ورقت الام والانثى، وإن ولدت الانثى أولا، عتقت الام والذكر أيضا، لكونه في بطن عتيقه، وترق الانثى، لان عتق الام طرأ بعد مفارقتها. وإن ولدتهما معا، فلا عتق، إذ لا أول فيهما. ولو لم يعلم هل ولدتهما معا أو مرتبا، فلا عتق، للشك. وإن علم سبق أحدهما، وأشكل، فالذكر حر بكل حال، والانثى رقيقة بكل حال، والام مشكوك فيها، فيؤمر السيد بالبيان، فإن مات قبل البيان، فالاصح أنها رقيقة، عملا بالاصل. وقال ابن الحداد: يقرع عليها بسهم رق وسهم عتق، قال الشيخ أبو علي: ما ذكره ابن الحداد غلط عند عامة الاصحاب، لانا شككنا في عتقها، والقرعة لا يثبت مشكوكا فيه، وإنما يستعمل في تعيين ما تيقنا أصله. قال الشيخ أبو علي: هذا كله إذا ولدت في صحة السيد، فلو ولدت في مرض موته، نظر، إن كان الثلث يفي بالجميع، لم يختلف الجواب، وإن لم يف بأن لم يكن له إلا هذه الامة وما ولدت، أقرع بين الام والغلام، فإن خرجت على الغلام، عتق وحده إن خرج من الثلث، وإن خرجت على الام، قومت حاملا بالغلام يوم ولدت الجارية إن ولدتها أو لا، ويعتق منها ومن الغلام قدر الثلث، فإن كانت قيمة الجارية مائة وقيمة الام حاملا بالغلام مائتين، فيعتق نصفها ونصف(8/385)
الغلام وهو مائة، ويبقى للورثة النصفان، وهو مائة، والجارية وهي مائة أخرى. الحالة الثانية: أن يكون الباقي لغيره، فيعتق نصيبه، فإن كان موسرا بقيمة باقية، لزمه قيمته للشريك، وعتق الباقي عليه وولاء جميع العبد له، وإن كان معسرا الباقي على ملك الشريك وإنما يثبت التقويم بأربعة شروط. أحدها: كون المعتق موسرا وليس معناه أن يعد غنيا، بل إذا كان له من المال ما يفي بقيمة نصيب شريكه، قوم عليه، وإن لم يملك غيره، ويصرف إلى هذه الجهة كل ما يباع في الدين، فيباع مسكنه وخادمه، وكل ما فضل عن قوت يوم، وقوت من تلزمه نفقته، ودست ثوب يلبسه، وسكنى يوم، والاعتبار في اليسار بحالة الاعتاق، فإن كان معسرا، ثم أيسر، فلا تقويم. ولو ملك قيمة الباقي، لكن عليه دين بقدره، قوم عليه على الاظهر، واختاره الاكثرون، لانه مالك لما في يده نافذ تصرفه. ولهذا لو اشترى به عبدا وأعتقه، نفذ. والثاني: لا يقوم، لانه غير موسر، بل لو أبرئ عن الدين، لم يقوم عليه أيضا، كالمعسر يوسر، فعلى الاول يضارب الشريك بقيمة نصيبه مع الغرماء، فإن أصابه بالمضاربة ما يفي بقيمة جميع نصيبه، فذاك، وإلا اقتصر على حصته، ويعتق جميع العبد إن قلنا: تحصل السراية بنفس الاعتاق، وإن قلنا: لا تحصل بنفس الاعتاق، ضارب الشريك بقيمة باقيه، إلى أن يعتق الجميع. ولو كان بين رجلين(8/386)
عبد قيمته عشرون، فقال رجل لاحدهما: أعتق نصيبك منه عني على هذه العشرة، وهو لا يملك غيرها، فأجابه، عتق نصيبه عن المستدعي، ولا سراية، لانه زال ملكه عن العشرة بما جرى، وإن قال: علي عشرة في ذمتي، فإن قلنا: الدين يمنع التقويم، لم يقوم، وإن قلنا: لا يمنع، فإن قلنا: السراية تحصل بنفس الاعتاق، عتق جميع العبد، ويقسم العشرة بين الشريكين بالسوية، وتبقى لكل واحد خمسة في ذمته، وإن قلنا: لا يحصل بنفس الاعتاق، عتق من نصيب الشريك بالسراية حصة الخمسة، وهو ربع العبد، ويبقى الباقي على الرق، وللشريك المستدعي منه خمسة في ذمته. ولو ملك نصفين من عبدين متساويي القيمة، فأعتق نصيبه منهما وهو موسر بنصف قيمة أحدهما، نظر إن أعتقهما معا، عتق نصيبه منهما، وسرى إلى نصف نصيب الشريك من كل منهما، فيعتق من كل منهما ثلاثة أرباعه، وهذا إذا حكمنا بالسراية في الحال. وقلنا: اليسار بقيمة بعض النصيب يقتضي السراية بالقسط، وإن أعتق مرتبا، سرى إلى جميع الاول. ثم إن قلنا: الدين يمنع السراية، فلا سراية في العبد الثاني، وإلا فيسري، وما في يده يصرف إلى الشريك، والباقي في(8/387)
ذمته. وإن كان الشقصان لشخصين، صرف إلى كل منهما نصفه. ولو ملك الشقصين، فأعتقهما معا ولا مال له غيرهما، فلا سراية، لانه معسر. وإن أعتقهما مرتبا، عتق كل الاول، لان في نصيبه في العبد الآخر وفاء بباقي الذي أعتق شقصه، ثم إذا أعتق نصيبه من الثاني نفذ العتق في نصيبه، ولا سراية، لانه معسر، وإنما نفذ إعتاقه نصيبه من الثاني، لان حق الشريك لا يتعين فيه، بل هو في الذمة. فرع أعتق شريك نصيبه في مرض موته، نظر، إن خرج جميع العبد من ثلث ماله، قوم عليه نصيب شريكه، وعتق، وإن لم يخرج منه إلا نصيبه، عتق نصيبه، ولا تقويم، وإن خرج نصيبه وبعض نصيب شريكه، قوم عليه ذلك القدر، ويجئ فيه خلاف نذكره إن شاء الله تعالى في يسار المعتق ببعض نصيب الشريك. وبالجملة المريض في الثلث كالصحيح في الكل، وفيما زاد على الثلث معسر. واحتج القاضي أبو الطيب وغيره باعتبار الثلث على أن التقويم يكون بعد موت المريض، لان الثلث يعتبر حالة الموت، حتى إذا لم يف الثلث بجميع العبد حال إعتاقه، ثم استفاد مالا، ووفى عند الموت، قوم جميعه. وفي التهذيب أنه لو ملك نصفين من عبدين متساويي القيمة، فأعتقهما في مرض الموت، نظر، إن خرجا من الثلث، عتقا، سواء أعتقهما معا أو مرتبا، وعليه قيمة نصيب شريكه، وإن لم يخرج من الثلث إلا نصيباه، فإن أعتقهما معا، عتق نصيباه، ولا سراية، وإن أعتقهما مرتبا، عتق كل الاول، ولم يعتق من الثاني شئ، لانه لزمه قيمة نصيب الشريك من الاول، وصار نصيبه من الثاني مستحق الصرف إليه، وإن خرج من الثلث نصيباه، ونصيب أحد الشريكين، فإن أعتقهما مرتبا، عتق جميع الاول، ولا يعتق من الثاني إلا نصيبه، وإن أعتقهما معا فوجهان. أحدهما وبه قال ابن الحداد: يعتق من كل واحد ثلاثة أرباعه: نصيباه، ونصف نصيب الشريك من كل واحد منهما. والثاني: يقرع، فمن خرجت قرعته، عتق كله، ولم يعتق من الآخر إلا نصيبه، لان القرعة مشروعة في العتق، ولا يصار إلى التشقيص مع إمكان التكميل. وإن لم يخرج من الثلث إلا أحد نصيبه، فإن أعتقهما معا، فوجهان،(8/388)
أحدهما: يعتق من كل واحد نصف نصيبه، وهو ربع كل عبد، وأصحهما: يقرع، فمن خرجت قرعته، عتق منه جميع نصيبه، ولا يعتق من الآخر شئ. ولو أعتق النصيبين ولا مال له غيرهما، قال الشيخ أبو علي: إن أعتقهما مرتبا، عتق ثلثا نصيبه من الاول، وهو ثلث جميع ماله، وهو ثلث ذلك العبد، ويبقى للورثة سدس ذلك العبد، ونصف العبد الآخر. وإن أعتقهما معا ومات، أقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، عتق منه ثلثا نصيبه، وهو ثلث ماله. فرع لو أوصى أحد الشريكين بإعتاق نصيبه بعد موته، فلا سراية وإن خرج كله من الثلث، لان المال ينتقل بالموت إلى الوارث، ويبقى الميت معسرا، بل لو كان كل العبد له فأوصى بإعتاق بعضه، فأعتق، لم يسر. وكذا لو دبر أحدهما نصيبه، فقال: إذا مت، فنصيبي منك حر، وإن قال في الوصية: أعتقوا نصيبي، وكملوا العتق كملناه، إن خرج من الثلث، وإن لم يخرج كله، نفذت الوصية في القدر الذي يخرج. وهنا فائدتان، إحداهما: قال القاضي أبو الطيب: عندي أنه إذا أوصى بالتكميل، لا يكمل إلا باختيار الشريك، لان التقويم إذا لم يكن مستحقا لا يصير مستحقا باختيار المعتق. ألا ترى أن المعتق لو كان معسرا، ثم أيسر، أو قال: قوموه علي حتى استقرض، لا يجبر الشريك، والجمهور أطلقوا، ووجهه الروياني بأنه متمكن من التصرف في الثلث. وإذا أوصى بالتكميل، فقد استبقى لنفسه قدر قيمة العبد من الثلث، فكان موسرا به. الثانية: ذكر الامام والغزالي أن لصورة الوصية بالتكميل أن يقول: اشتروا نصيب الشريك، فأعتقوه، فأما إذا قال: أعتقوه إعتاقا ساريا، فلا خير في هذه الوصية، لانه لا سراية بعد الموت، وإن أعتقنا نصيبه، فالذي أتى به وصية(8/389)
بمحال. ولو ملك نصفي عبدين، فأوصى بإعتاق نصيبه منهما بعد موته، أعتق عنه النصيبان، ولا سراية. ولو قال مع ذلك: وكملوا عتقهما، فإن خرجا من الثلث، كمن عتقهما، وإن خرج الباقي من أحدهما، فطريقان حكاهما البغوي. أحدهما: فيه الوجهان فيمن أعتق في مرض الموت النصيبين، ولم يخرج من الثلث إلا نصيباه مع الباقي من أحدهما، ففي وجه: يعتق من كل واحد ثلاثة أرباعه، وفي آخر: يقرع، فمن خرجت قرعته، أعتق كله، وأعتق من الآخر نصيبه لا غير. الثاني: القطع بالقرعة، لانه قصد التكميل هنا حيث أوصى به، فيراعى مقصوده بقدر الامكان. فرع لو كان الشريك موسرا ببعض قيمة النصيب، فوجهان، الاصح المنصوص في الام: أنه يسري إلى القدر الذي هو موسر به. والثاني: لا يسري، لانه لا يفيده الاستقلال في ثبوت أحكام الاحرار. ولو كان بن ثلاثة عبد، فأعتق اثنان نصيبهما، وأحدهما موسر، قوم نصيب الثالث عليه بلا خلاف. الشرط الثاني: أن يحصل عتق نصيبه باختيار، فلو ملك بعض من يعتق عليه بالقرابة، نظر، إن ملكه لا باختياره بأن ورثه، لم يسر، وإن ملكه باختيار، فإن كان بطريق يقصد به اجتلاب الملك كالشراء، وقبول الهدية والوصية، سرى، وإن كان بطريق لا يقصد به التملك غالبا، لكنه يتضمنه، فإن كانت عبدا، فاشترى شقصا ممن يعتق على سيده، ثم عجزه سيده فصار الشقص له، وعتق، لم يسر على الاصح، وبه قال ابن الحداد. وإن عجز المكاتب نفسه، لم يسر، لعدم اختيار سيده. ولو باع شقصا ممن يعتق على وارثه، بأن باع ابن أخيه بثوب ومات، وراثه أخوه، فوجد بالثوب عيبا، فرده، واسترد الشقص، وعتق عليه، ففي السراية وجهان لانه تسبب في تملكه، لكن مقصوده رد الثوب. قلت: الاصح هنا السراية. والله أعلم. ولو وجد مشتري الشقص به عيبا، فرده، فلا سراية، كالارث. ولو أوصى(8/390)
لزيد بشقص ممن يعتق على وارثه، بأن أوصى له ببعض جارية، له منها ابن، أو أوصى له ببعض ابن أخيه، ومات زيد قبل قبول الوصية، فقبلها ابنه أو أخوه، عتق عليه الشقص، ولا سراية على الاصح، لان بقبوله يدخل الشقص في ملك الوارث، ثم ينتقل إليه بالارث. فلو أوصى له بشقص ممن يعتق عليه، ولا يعتق على وارثه، بأن أوصى له بشقص من أمة، ووارثه أخوه من أبيه، فمات وقبل الوصبة أخوه، عتق ذلك الشقص على الميت، ويسري إن كان له تركة يفي ثلثها بقيمة الباقي، لان قبول وارثه كقبوله في الحياة. قال الامام: هكذا ذكره الاصحاب، وفيه وقفة، لان القبول حصل بغير اختياره. ولو باع عبدا لابنه ولاجنبي، صفقة واحدة، عتق نصيب الابن، وقوم عليه نصيب الشريك. الشرط الثالث: أن لا يتعلق بمحل السراية حق لازم، فلو أعتق نصيبه، ونصيب شريكه مرهون، سرى على الاصح، لان حق المرتهن ليس بأقوى من حق المالك، وتنتقل الوثيقة إلى القيمة. ولو كاتبا عبدا، ثم أعتقه أحدهما، فالصحيح أو المشهور أنه يسري، وهل يقوم في الحال أم بعد العجز عن أداء نصيب الشريك ؟ فيه خلاف نذكر تفاريعه إن شاء الله تعالى في الكتابة. ولو كان نصيب شريكه مدبرا، قوم أيضا على الاظهر، لان المدبر كالقن في البيع. فإن قلنا: لا يسري، فرجع عن التدبير، قال الاكثرون: لا يسري، كما لو أعتق وهو معسر، ثم أيسر. وقيل: يسري، لزوال المانع، فعلى هذا هل يحكم بالسراية عند ارتفاع التدبير، أم يتبين استنادها إلى وقت الاعتاق ؟ وجهان. ولو كان نصيب الشريك مستولدا، بأن استولدها وهو معسر، لم يسر على الاصح، لان السراية تتضمن النقل، وأم الولد لا يقبل النقل، وقيل: يسري، لان السراية كالاتلاف، وإتلاف أم الولد يوجب القيمة ولو استولدها أحدهما وهو معسر، ثم استولدها الثاني، ثم أعتقها أحدهما، ففي السراية الوجهان. الشرط الرابع: أن يوجه الاعتاق إلى ما يملكه ليعتق نصيبه، ثم يسري، وذلك بأن يقول: أعتقت نصيبي من هذا العبد، أو النصف الذي أملكه، فلو قال: أعتقت نصيب شريكي، أو نصيب شريكي من هذا العبد حر، فهو لغو، ولو(8/391)
أطلق فقال لعبد يملك نصفه: أعتقت نصفك، فهل يحمل على النصف الذي يملكه، أم على النصف شائعا ؟ وجهان. وعلى التقديرين يعتق جميع العبد إذا كان موسرا قال الامام: ولا يكاد يظهر لهذا الخلاف فائدة إلا في تعليق طلاق أو إعتاق. ولو باع نصف عبد يملك نصفه، فإن قال: بعت النصف الذي أملكه من هذا العبد، أو نصيبي منه وهما يعلمانه، صح. وإن أطلق وقال: بعت نصفه، فهل يحمل على ما يملكه، أم على النصف شائعا ؟ وجهان، فعلى الثاني يبطل في نصيب الشريك. وفي صحته في نصف نصيبه قولا تفريق الصفقة. ولو أقر بنصفه المشترك، ففيه هذان الوجهان. وقال أبو حنيفة: يحمل في البيع على ما يملكه، لان الظاهر أنه لا يبيع ما لا يملكه. وفي الاقرار على الاشاعة أنه إخبار، واستحسن الامام والغزالي هذا، وصحح البغوي الاشاعة فيهما. قلت: الراجح قول أبي حنيفة. والله أعلم. فرع قال كل واحد منهما: إن دخلت دار زيد فأنت حر، أو فنصيبي منك حر، فدخلها، عتق على كل واحد نصيبه، ولا يقوم، لان العتق حصل دفعة، وكذا لو قال أحدهما: إن كلمت زيدا فنصيبي منك حر، وقال الآخر: إن شتمته، فنصيبي منك حر فشتمه. وكذا لو وكلا رجلا في عتقه فأعتق كله دفعة، ولا أثر لوقوع التعليقين أو التوكيلين في وقتين، وإنما العبرة بوقت الوقوع، ولهذا لو قال لغير المدخول بها: إذا دخلت الدار فأنت طالق طلقة، ثم قال بعده: إن دخلتها فأنت طالق طلقتين، فدخلت، طلقت ثلاثا، كقوله: أنت طالق ثلاثا. ولو قال أحدهما: أنت حر قبل موتي بشهر، ونجز الآخر عتقه بعد تعليق الاول بيوم مثلا، فله أحوال، أحدهما: أن يموت المعلق لدون شهر من التعليق، فيعتق العبد كله على المنجز إن كان موسرا، لانه لا يمكن والحالة هذه أن يعتق بالتعليق لئلا يتقدم العتق على التعليق، وكذا الحكم لو مات بعد مضي شهر من أول شروعه في لفظ(8/392)
التعليق بلا زيادة، وما لم يمض شهر من تمام التعليق، لا يمكن أن يعتق بالتعليق. الثانية: أن يموت لاكثر من شهر بأيام، فيعتق جميعه على الثاني أيضا، لان العتق بالتعليق إنما يتقدم على الموت بشهر واعتاق المنجز متقدم على الشهر المتقدم على الموت، فيؤخذ قيمة نصيب المعلق من المنجز لورثة المعلق. هذا إن قلنا السراية تحصل بنفس الاعتاق، أو قلنا بالتبيين، وإن قلنا: تحصل بدفع القيمة، فإذا سبق وقت العتق بالتعليق، كان في نفوذ العتق عن المعلق خلاف، كما سنذكره في تفريع أقوال السراية إن شاء الله تعالى. الثالثة: إذا مات على رأس شهر من تمام صيغة التعليق، عتق جميع العبد على المعلق. الرابعة: إذا مات على تمام شهرين من تمام كلام المنجز، عتق على كل واحد نصيبه، ولا تقويم، لوقوع العتقين معا. فرع متى تثبت السراية إذ حكمنا بها ؟ ثلاثة أقوال، أظهرها: بنفس إعتاق الشريك، والثاني: بأداء قيمة نصيب الشريك. والثالث: موقوف، فإن رأى القيمة، تبينا حصول العتق باللفظ، وإن فات، تبينا أنه لم يعتق. ويتفرع على الاقوال مسائل. إحداها: إذا أولد أمة له نصفها، فإن كان موسرا، سرى الاستيلاد، وهل يسري بنفس العلوق أم بأداالقيمة، أم يتبين كأدائها السراية بنفس العلوق ؟ فيه الاقوال كالعتق. وعلى الاقوال تلزم المستولد نصف المهر لشريكه مع نصف قيمة الامة، ثم إن قلنا: يحصل الملك بأداء القيمة، وجب مع ذلك نصف قيمة الولد. وإن قلنا: يحصل بالعلوق، أو قلنا بالتبين، فهل يثبت بعد العتق أو قبله ؟ وجهان، إن قلنا: بعده، وجب أيضا نصف قيمة الولد، وإن قلنا: قبله، فلا، وبه أجاب البغوي. ولو وطئها الثاني قبل أداء القيمة، فإن أثبتنا السراية بنفس العلوق،(8/393)
فعلى الثاني كمال المهر للاول، وللثاني على الاول نصفه، فيقع المهر قصاصا. وإن قلنا: يحصل بأداء القيمة، لزمه نصف المهر، وله على الاول نصفه، فيتقاصان. وإن كان الذي أولد معسرا، ثبت الاستيلاد في نصفه، ونصف الآخر يبقى قنا. وهل يكون الولد كله حرا، أم تبعض حريته ؟ وجهان أو قولان سبقا في الغنائم. الثانية: عبد بين ثلاثة، لواحد نصفه، وللآخر ثلثه، وللآخر سدسه، فأعتق أحدهم نصيبه وهو موسر، يسري العتق إلى نصيب الشريكين، وإن كان موسرا ببعض قيمة الباقي وقلنا بالصحيح، قوم عليه بنسبة المقدور عليه من نصيب كل واحد منهما، فإذا كان موسرا بثبث الباقي، قوم عليه ثلث نصيب كل واحد منهما. ولو أعتق اثنان منهم نصيبهما معا، أو علقا بشرط واحد، أو وكلا من أعتق عنهما دفعة، فإن كان أحدهما فقط موسرا، قوم عليه نصيب الثالث. وإن كانا موسرين، قوم نصيب الثالث عليهما، وكيف يقوم ؟ فيه طريقان: أحدهما على قولين: أحدهما: القيمة عليها بالسوية، الثاني على قدر الملكين، كنظيره من الشفعة والطريق الثاني: القطع بأنها على عدد الرؤوس، لان الاخذ بالشفعة من مرافق الملك كالثمرة، وهنا سبيله سبيل ضمان المتلف، فيستوي القليل والكثير، كما لو مات من جراحاتها المختلفة، وهذا الطريق هو المذهب باتفاق فرق الاصحاب، إلا الامام، فرجح طريق القولين. الثالثة: إن قلنا: تحصل السراية باللفظ أو قلنا بالتبين، اعتبرت قيمة يوم الاعتاق، وإن قلنا: بالاداء، فهل يعتبر يوم الاعتاق أم الاداء، أم أكثر القيم من يوم(8/394)
الاعتاق إلى الاداء ؟ فيه أوجه. الصحيح عند الجمهور: الاول، ورجح الامام والغزالي الثاني، فإن اختلفا في قيمة العبد، فإن كان حاضرا والعهد قريب، راجعنا المقومين، وإن مات العبد، أو غاب، أو تقادم العهد، فأيهما يصدق بيمينه ؟ قولان. أظهرهما: المعتق، لانه غارم كالغاصب، ولو اختلفا في صنعة للعبد تزيد في قيمته، واتفقنا على قيمته لو لم تكن تلك الصنعة، فإن كان العبد حاضرا وهو يحسن الصنعة، ولم يمض بعد الاعتاق زمن يمكن تعلمه فيه، صدق الشريك، وإن مضى زمن يمكن التعلم فيه، أو مات العبد، أو غاب، فالمذهب أن المصدق المعتق. وقيل: فيه القولان، ولا يقبل قول العبد: إني أحسنها، أو لا أحسنها، بل يجرب. ولو اختلفا في عيب ينقص القيمة، نظر إن ادعى المعتق عيبا في أصل الخلقة، بأن قال: كان أكمه أو أخرس، وقال الشريك: بل بصيرا ناطقا، وقد غاب العبد أو مات، صدق المعتق بيمينه على المذهب. وقيل: في المصدق قولان، قال البغوي: الطريقان فيما إذا ادعى النقص في الاعضاء الظاهرة، أما إذا ادعاه في الباطنة، فقولان كالصورة الآتية، لتمكن الشريك من البينة على سلامة الظاهرة. وإن ادعى حدوث عيب بعد السلامة، بأن زعم ذهاب بصره أو سرقته، فالاظهر أن المصدق الشريك، لان الاصل عدمه، وخص بعضهم القولين فيما يشاهد ويطلع عليه، وقطع فيما لا يشاهد بتصديق الشريك لعسر إثباته ببينة. الرابعة: لو مات المعتق قبل أداء القيمة، أخذت من تركته. ولو أعسر بعد الاعتاق ومات معسرا، فإن أثبتنا الاعتاق بنفس اللفظ، فالقيمة في ذمته وإن قلنا بالقولين الآخرين، لم يعتق حصة الشريك. ولو مات العبد قبل أداء القيمة، فإن قلنا: السراية تحصل باللفظ، مات حرا موروثا، وأخذت من المعتق قيمة حصة الشريك، وإن قلنا بالتبيين، لزمته القيمة، فإذا أداها تبينا العتق، وإن قلنا: يحصل بالاداء، سقطت القيمة على الاصح، لان الميت لا يعتق. والثاني: تجب، لانه مال استحق في الحياة، فلا يسقط بالموت. قال الامام: وعلى هذا يجب على المعتق قيمة نصيب شريكه، ثم تبيين أن العتق حصل قبل موته. وفي التهذيب تفريعا على تأخر السراية أنه يموت نصفه رقيقا، ثم ذكر الوجهين في مطالبة الشريك(8/395)
له بقيمة نصيبه، وهذا ضعيف. الخامسة: لو أعتق الشريك نصيبه قبل أخذ القيمة، لم ينفذ إن قلنا بالسراية في الحال، وإن قلنا بأداء القيمة، فكذلك على الاصح عند الجمهور، لئلا يفوت حقا ثبت للاول، ونفذه ابن خيران والاصطخري وابن أبي هريرة، فعلى هذا في نفوذ البيع والهبة ونحوهما وجهان: الصحيح: المنع، فإن نفذنا البيع، فهل للاول أن ينقض البيع، ويبذل القيمة كالشفيع ؟ فيه احتمال للامام. السادسة: للشريك مطالبة المعتق بالقيمة على الاقوال كلها، أما على غير التأخر، فظاهر وأما على التأخير، فلانه محجور عليه في التصرف فيه، والحيلولة من أسباب الضمان. قال الامام: ويلزم على تنفيذ البيع ونحوه أن لا يملك مطالبته، وهو ضعيف. وإذا دفع المعتق القيمة، أجبر الشريك على قبولها إن وقفنا العتق على أدائها، وإذا لم ندفع، ولم يطالبه الشريك، فللعبد طلب الدفع من هذا، والقبض من ذاك، فإن امتنع، طالبهما الحاكم، لان العتق حق لله تعالى. ولو كان الشريك غائبا، دفع القيمة إلى وكيله، فإن لم يكن، جعله القاضي عند أمين، وله أن يقرها في يد المعتق إن كان ثقة. السابعة: إذا تعذرت القيمة بإفلاس أو هرب، فقال الشيخ أبو علي والصيدلاني والروياني: يبقى نصيب الشريك رقيقا، ويرتفع الحجر عنه، إذ لا وجه لتعطيل ملكه عليه بلا بدل، وفيه احتمال للامام أنه يثبت العتق، وجعله الغزالي وجها، فقال: الصحيح أن إعسار المعتق يدفع الحجر ولو عاد اليسار، قال الشيخ أبو علي: لا يعود التقويم، لان حق العتق ارتفع بتخلل الاعسار، وفيه احتمال للامام. الثامنة: إذا قلنا: لا سراية قبل أداء القيمة، فوطئها الشريك قبل الاداء،(8/396)
وجب نصف المهر لنصفها الحر. قال الامام: وليصور في وطئ محرم أو في مكرهة وفي النصف الآخر وجهان، أصحهما: لا يجب لانه ملكه، والثاني: يجب ويصرف إلى المعتق، لانه مستحق الانقلاب إليه. قال الامام: ويجوز أن يكون للجارية، وإن قلنا: تحصل السراية بنفس الاعتاق، وجب لها جميع المهر، ولا حد للاختلاف في ملكه. التاسعة: قال لشريكه: إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر، أو فجميع العبد حر، أو فنصيبي حربعد عتق نصيبك، فإذا أعتق المقول له نصيبه، نظر، إن كان معسرا، عتق على كل واحد نصيبه، وإن كان موسرا، عتق عليه نصيبه. ثم إن قلنا: السراية تحصل بنفس الاعتاق، سرى عليه، ولزمه قيمة نصيب شريكه، لان السراية قهرية تابعة لعتق نصيبه، لا مدفع لها، وموجب التعليق قابل للدفع بالبيع ونحوه. وإن قلنا بالتبين، فكذلك الحكم إذا أديت القيمة، وإن قلنا بالاداء، فنصيب المعلق عمن يعتق فيه وجهان. ولو قال: إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر مع عتق نصيبك، أو فحال عتق نصيبك، وقلنا: السراية بنفس الاعتاق، فوجهان. أحدهما: يعتق نصيب كل واحد عنه، ولا شئ على المعتق، وبهذا قال ابن القاص، وصاحب التقريب، واختاره القاضي أبو الطيب، وحكاه الروياني عن عامة الاصحاب، والثاني وبه قال القفال، واختاره الشيخ أبو علي: يعتق جميعه عن المقول له، ولا أثر لقوله: مع نصيبك، لان المعلق لا يهارن المعلق عليه، بل يتأخر عنه بلا شك. ولو قال: إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر قبل عتق نصيبك، فأعتق المقول له نصيبه، نظر، إن كانا معسرين أو المعلق معسرا، عتق نصيب المنجز، وعتق على المعلق نصيبه قبل ذلك لموجب التعليق، ولا سراية، وإن كان المعلق موسرا، وقلنا: السراية تحصل بنفس الاعتاق، فوجهان، من صحح الدور اللفظي، كابن الحداد يقول: لا ينفذ إعتاق المقول له في نصيبه، لانه لو نفذ، لعتق نصيب القائل قبله، ولو عتق لسرى، ولو سرى لبطل عتقه، فيلزم من نفوذه عدم نفوذه. وعلى هذا لو قال السيد لعبده: مهما أعتقتك فأنت حر قبله، لم(8/397)
يتمكن من اعتاقه كما سبق نظيره في الطلاق، ولو صد هذا التعليق من الجانبين، امتنع الاعتاق عليهما. ولو قال أحدهما للآخر: متى بعت نصيبك، فنصيبي حر قبله، لم ينفذ البيع، والمستبعدون لصحة الدور وانسداد باب الطلاق ونحوه أولى بالاستبعاد هنا لتضمنه الحجر على العين، ومن لا يصحح الدور - وهو الاصح - يقول: يعتق نصيب كل واحد منهما عنه، ولا شئ لاحدهما على الآخر كما لو قال: مع نصيبك. وإن قلنا: يحصل العتق بأداء القيمة، فإن نفذنا عتق الشريك قبل أداء القيمة، عتق نصيب المنجز عليه، ونصب المعلق على المعلق. وإن لم ننفذه قال الامام: تدور المسألة أيضا، وعلى هذه الصور جميعا لو أعتق المعلق نصيبه، عتق وتثبت السراية إذا وجد شرطها. العاشرة: إذا قال الشريك الموسر: أعتقت نصيبك، فعليك قيمة نصيبي، فأنكر، فإن كان للمدعي بينة قضي بها، ومتى يعتق حصة المدعي ؟ فيه الاقوال. وإن لم يكن بينة، صدق المنكر بيمينه، فإن حلف، رق نصيبه، وإن نكل، حلف المدعي اليمين المردودة، واستحق القيمة، والصحيح أنه لا يحكم بعتق نصيب المدعى عليه، لان الدعوى إنما توجهت عليه بسبب القيمة، وإلا فلا معنى للدعوى على إنسان بأنه أعتق عبده، وإنما هذا وظيفة العبد، لكن لو شهد آخر مع هذا المدعي، ثبت العتق بشهادة الحسبة. قال الامام: وأبعد بعض من لا خبرة له، فحكم بالعتق تبعا لدعوى القيمة، وهل يحكم بعتق نصيب المدعي إذا حلف المدعى عليه، أو نكل وحلف المدعي ؟ إن قلنا بتعجيل السراية، فنعم، لاعترافه بسراية إعتاق المدعى إليه إلى نصيبه، وإن قلنا بالتأخر، لم يعتق. وإذا عتق نصيبه، لم يسر إلى نصيب المنكر، وإن كان المدعي موسرا، لانه لم ينشئ العتق، فأشبه ما لو ادعى أحد الشريكين على رجل أنك اشتريت نصيبي وأعتقته، وأنكر المدعى عليه، يعتق نصيب المدعي ولا يسري. وإن قلنا: لا يعتق إلا بعد أداء القيمة، لم يعتق نصيب المدعي. ولو صدق المدعى عليه الشريك، فلا إشكال، وإن كان المدعى عليه معسرا، وأنكر، وحلف، لم يعتق شئ من العبد، فإن اشترى المدعي نصيبه بعد ذلك، عتق ما اشتراه، لاعترافه بحريته، ولا يسري(8/398)
إلى الباقي. ولو ادعى كل واحد من الشريكين الموسرين على صاحبه أنك أعتقت نصيبك، وطالب بالقيمة، وأنكر، صدق كل واحد بيمينه فيما أنكره، فإذا حلفا، فلا يطالب بالقيمة، ويحكم بعتق جميع العبد إن قلنا بتعجيل السراية، والولاء موقوف، لانه لا يدعيه أحد. وإن قلنا بتأخر السراية أو بالتبين، فالعبد رقيق، وإن كانا معسرين، وقال كل واحد للآخر: أعتقت نصيبك، لم يعتق منه شئ، فإن اشترى أحدهما نصيب الآخر، حكم بعتق ما اشتراه، ولا يسري، لانه لم ينشئ إعتاقا. وذكر البغوي أنه لو باع أحدهما لعمرو، والآخر لزيد، صح، ولا عتق. ولو باعاه لزيد، حكم بعتق نصفه، لانه متيقن، وهذا ليس بصحيح ولا يقين في واحد من النصفين، لجواز كونهما كاذبين. وإن كان أحدهما موسرا، والآخر معسرا، عتق نصيب المعسر على قول تعجيل السراية، وولاؤه موقوف، ولا يعتق نصيب الموسر، فإن اشتراه المعسر، عتق كله. ولو طار طائر، فقال أحدهما: إن كان غرابا، فنصيبي من هذا العبد حر، وقال الآخر: إن لم يكن غرابا، فنصيبي حر، ولم يبين الحال، فإن كانا معسرين، فلا عتق، فإن اشترى أحدهما نصيب الآخر، حكم بعتق أحد النصفين. ولو باعاه لثالث، حكم بعتق أحد النصفين أيضا، ولا رجوع على واحد منهما، لان كل واحد يزعم أن نصيبه مملوك، هذا هو الاصح، وبه قال القفال، وقطع به الغزالي، وحكى الشيخ أبو علي وجها أنه إن اشتراه عالما بالتعليقين، فلا رجوع له، وإن لم يعلم، ثم علم، فله الرد، كما لو اشترى عبدا، فبان أن نصفه حر، فعلى هذا يرد العبد، لان نصفه حر، والنصف الآخر معيب بسبب التشقيص. قال الشيخ أبو علي ولو اختلف النصيبان، لم يعتق إلا(8/399)
أقلهما. ولو تبادلا النصيبين، فإن لم يحنث واحد منهما صاحبه، بل اعترفا بالاشكال، لم يحكم على واحد منهما بعتق شئ، والحكم بعد المبادلة كالحكم قبلها. وان حنث كل واحد الآخر، حكم بعتق الجميع، لاعتراف كل واحد بعتق ما صار إليه، ويكون الولاء موقوفا. وإن حنث أحدهما صاحبه. ولم يحنثه الآخر، حكم بعتق ما صار للمحنث، وولاؤه موقوف، ولا يحكم بعتق نصيب الآخر. وإن كانا موسرين، فإن قلنا بتعجيل السراية، عتق العبد، لانا نتحقق حنث أحدهما، وإن لم نتمكن من التعيين، فيعتق نصيبه، ويسري إلى الثاني، والولاء موقوف، ولكل واحد منهما أن يدعي قيمة نصيبه على الآخر، ويحلفه على البت أنه لم يحنث. وإن قلنا: لا تحصل السراية إلا بأداء القيمة، لم يحكم بعتق شئ منه، والحكم كما في المعسرين، قال الشيخ أبو علي: فإن ادعى كل واحد على صاحبه أنه عتق نصيبه، وأراد طلب القيمة، حلفه، كما ذكرنا على قول تعجيل السراية. وإن كان أحدهما موسرا، والآخر معسرا، فإن قلنا بتعجيل السراية، عتق نصيب المعسر بكل حال، ولا يعتق نصيب الموسر للشك فبه. وإن أخرناها إلى أدا القيمة، لم يحكم بعتق شئ في الحال، وللمعسر أن يدعي التقويم على الموسر ويحلفه. فرع قال أحدهما: أعتقناه معا، وأنكر الآخر، فإن كانا موسرين، أو كان القائل موسرا، فقد أطلق ابن الحداد أنه يحلف المنكر، وتابعه جماعة. قال الشيخ: إنما يحلف عندي إذا قال للمقر: أنت أعتقت نصيبك وأنا لم أعتق وأراد طلب القيمة فيحلفه أنه لم يعتق معه ليأخذ القيمة، لان المقر أقر بما يوجب القيمة، وادعى ما يسقطها، وهو الموافق في الاعتاق، فيدفع يمينه المسقط، فأما إذا قال: لم تعتق نصيبك، ولا أنا أعتقته، فلا مطالبة بالقيمة، ولا يمين. وهل يحكم بإعتاق جميع العبد بإقرار الموسر ؟ إن أثبتنا السراية بنفس الاعتاق، فنعم، وإن أخرناها، لم يعتق نصيب المنكر، وإذا حلف المنكر في التصوير الاول أخذ القيمة من المقر، وحكم بعتق جميع العبد، وولاء نصيب المنكر موقوف. فلو مات العتيق، ولا وارث له سوى المقر أخذ نصف ماله بالولاء. وهل له أن يأخذ من(8/400)
النصف الآخر قدر نصف القيمة الذي غرمه للمنكر ؟ وجهان. أحدهما: نعم، لانه إن صدق، فالمنكر ظالم له، وهذا ماله بالولاء، وإن كذب، فهو مقر بإعتاق جميعه، فجميع المال له بالولاء، والثاني لاختلاف الجهة. قلت: الاول أصح. والله أعلم. وإن رجع المنكر عن إنكاره، وصدق المقر، رد ما أخذ منه. وإن رجع المقر، واعترف بأنه أعتقه كله، قبل، وكان جميع الولاء له، كما لو نفى نسبا يلحقه ثم استلحقه. فرع عبد بين ثلاثة، شهد اثنان منهم أن الثالث أعتق نصيبه، فإن كان الثالث معسرا، قبلت شهادتهما، وحكم بعتق نصيب الثالث، ورق الباقي. وإن كان موسرا، فالاصح وبه قال ابن الحداد ان شهادتهما باطلة، لانهما متهمان بإثبات القيمة، فلا يعتق نصيبه، ولا يلزمه لهما قيمة، ويعتق نصيبهما، لاعترافهما بالسراية إليه، وقيل: تقبل شهادتهما في عتق نصيبه دون القيمة، وهو ضعيف، والحكم بعتق نصيبهما مفرع على تعجيل السراية، فإن أخرناها، لم يعتق شئ من العبد، لكن لا ينفذ تصرفهما، لاعترافهما بأنه مستحق العتق على الثالث، هكذا حكاه الشيخ أبو علي عن بعض الاصحاب، وصححه، ويجوز أن يقال: قد سبق أن تعذر حصول القيمة بإعسار وغيره يرفع الحجر عن الشريك، والتعذر هنا حاصل. الحادية عشرة: إذا قلنا: السراية تحصل بنفس الاعتاق، فله حكم الاحرار في الارث والشهادة والحد والجناية وإن لم يؤد القيمة، وإن أخرناها إلى أداء القيمة، فله حكم الارقاء فيها حتى يؤدي، وإن توقفنا في هذه الاحكام. الثانية عشرة: لو أعتشركاء له في حبلى، وهو موسر، ولم يقوم عليه حتى ولدت، عتق معها ولدها، تفريعا على السراية في الحال، فأما إذا أخرناها إلى الاداء فنص أنه ينبغي أن لا يعتق الولد معها، لانه إنما يعتق بعتقها إذا كان حملا، فأما بعد الولادة فلا. قال القاضي أبو حامد: معناه أن نصيب الذي لم يعتق من الولد مملوك، فأما نصيب المعتق فيجب أن يعتق. وقال ابن الصباغ: عندي أنه أراد أن(8/401)
نصيب الذي لم يعتق من الولد، لا يعتق بدفع نصف قيمة الام وعتقها، وإلا فقد عتق من الولد نصيب المعتق وهو موسر، فوجب أن يسري. قلت: هذا الذي قاله ابن الصباغ ضعيف. والله أعلم. الثالثة عشرة: وكل شريكه في عتق نصيبه، فقال الوكيل للعبد: نصفك حر، فإن قال: أردت نصيبي، قوم عليه نصيب شريكه، وإن قال: أردت نصيب شريكي، قوم على الشريك نصيب الوكيل، وإن أطلق، فعلى أيهما يحمل ؟ وجهان حكاهما في الشامل. قلت: لعل الاصح حمله على نصيب الوكيل. والله أعلم. الرابعة عشرة: مريض له نصفا عبدين، قيمتهما سواء لا مال له غيرهما، فقال: أعتقت نصيبي من سالم وغانم، وقلنا: السراية تعجل، عتق ثلثا نصيبه من سالم، فقال الوكيل للعبد: نصفك حر، فإن قال: أردت نصيبي من سالم ومن غانم، وقلنا: السراية تعجل، عتق ثلثا نصيبه من سالم وهو ثلث ماله، ولا يعتق من الآخر شئ. ولو قال: نصيبي من هذين حر، عتق ثلثا نصيبه من أحدهما، فيقرع، ويعتق، فمن خرجت قرعته، عتق ثلثا نصيبه، وإن نصفاهما ثلث ماله فقال: أعتقت نصيبي من سالم ومن غانم، عتق سالم بالمباشرة والسراية، ولم يعتق من غانم شئ. ولو قال: نصيبي منهما حر، عتق النصفان، ولا سراية. الخامسة عشرة: أمة حامل من زوج اشتراها زوجها وابنها الحر معها وهما موسران، فالحكم كما ذكرنا لو أوصى مالكها بهما لهما وقبلا الوصية معا، وقد ذكرناه في الوصايا، ومختصره أن الامة تعتق على الابن، والحمل يعتق عليهما، ولا يقوم. السادسة عشرة: شهد رجلان أن زيدا أعتق نصيبه من المشترك وهو موسر، وحكم القاضي بشهادتهما، ثم رجعا، فشهادتهما تثبت عتق نصيبه، ويوجب عليه قيمة نصيب شريكه، فيغرمان قيمة نصيبه قطعا، لان شهود العتق يغرمون بالرجوع. وهل يغرمان له قيمة نصيب الشريك التي غرمها ؟ قولان، لان في تغريم شهود المال قولين سبقا. هذا إذا صدق الشريك الشهود، وأخذ القيمة، وعتق جميع العبد، اما(8/402)
بنفس الاعتاق، وإما بدفع القيمة، فأما إذا كذبهم، وقال: لم يعتق زيد نصيبه، فإن عجلنا السراية، عتق الجميع، ولا يلزمه للشريك شئ، وإن أخرناها، قال الشيخ أبو علي: يجبر على أخذ القيمة ليكمل العتق، ثم يلزمه ردها إن أصر على تكذيب الشهود، كما لو جاء المكاتب بالنجم الاخير، فقال السيد: هذا حرام غصبت من فلان، يجبر على أخذه، ثم يرده على من أقر له. ولو شهد اثنان على شريك أنه أعتق نصيبه، وآخران على الشريك الآخر أنه أعتق نصيبه، وهما موسران، فإن أرخت البينتان، عتق كله على الاول، إن عجلنا السراية، وعليه قيمة نصيب الآخر، وإن أخرناها إلى أداء القيمة، فعلى الخلاف السابق في أن إعتاق الثاني قبل أداء القيمة، هل ينفذ ؟ إن قلنا: لا وهو الاصح، أخذت قيمة نصيبه من الاول ليعتق، وإن لم يؤرخا، عتق العبد كله، ولا تقويم. فلو رجع الشاهدان على أحدهما، لم يغرما شيئا، لانا لا ندري أن العتق في النصف الذي شهدا به حصل بشهادتهما، أم بشهادة الآخرين بالسراية، فلا يوجب شيئا بالشك، وإن رجعوا جميعا، فقيل: الحكم كذلك، والاصح أنهم يغرمون قيمة العبد، لانه إذا لم يكن تاريخ، فالحكم بعتق العبد معلق بشهادة الاربعة، ويقدر كأن الاعتاقين وقعا معا، وبالله التوفيق.
الخصيصة الثانية : العتق بالقرابة، فمن ملك أباه، أو أمه، أو أحد أصوله من الاجداد والجدات من جهة الاب أو الام، أملك من أولاده، وأولاد أولاده وإن سفلوا، عتق عليه، سواء ملكه قهرا بالارث، أاختيارا بالشراء والهبة وغيرهما، ولا يعتق غير الاصول والفروع، كالاخوة والاعمام والاخوال وسائر الاقارب. وليس لولي الصبي والمجنون أن يشتري لهما من يعتق عليهما، فإن فعل، فالشراء باطل. ولو وهب للصبي قريبه، أو أوصى له به. نظر، إن كان الصبي معسرا، فلوليه قبوله، ويلزمه القبول على الاصح وظاهر النص، فإذا قبل، عتق على الصبي. وإن(8/403)
كان موسرا، نظر، إن كان القريب بحيث يجب تعففه في الحال، لم يجز للولي القبول، وإن كان بحيث لا يجب، فعلى ما ذكرنا في المعسر، وإذا لم يقبل الولي قبل الحاكم، فإن لم يفعل، فللصبي بعد بلوغه القبول، كذا ذكره الروياني، وليكن هذا في الوصية. ولو وهب له بعض القريب، أو أوصى له به، فإن كان الصبي معسرا، قبل الولي، وإن كان موسرا، زاد النظر في غرامة السراية، وفيه قولان. أظهرهما: لا يقبل، لانه لو قبل، لعتق على الصبي، وسرى، ولزمه قيمة الشريك، وفيه ضرر. والثاني: يقبل، ويعتق عليه، ولا يسري. وقيل: ليس له القبول قطعا، وإنما القولان في صحة القبول. فرع اشترى فمرض موته قريبه، فإما أن يشتريه بثمنه أو بمحاباة، وعلى التقدير الاول، قد يكون عليه دين، وقد لا، وقد سبق بيان كل ذلك في الوصية، وذكرنا أنه إذا لم يكن دين ولا وصية، اعتبر عتقه من الثلث، فإن خرج كله من ثلثه، عتق، وإلا، عتق قدر الثلث، وإن ملكه بإرث، عتق من رأس المال على الاصح حتى يعتق كله، وإن لم يكن مال آخر. وقيل: من الثلث حتى لا يعتق إلا ثلثه، إذا لم يملك شيئا آخر. ولو ملكه بهبة أو وصية، فإن قلنا: الارث من الثلث، فهنا أولى، وإلا فوجهان، والمسألة مبسوطة في الوصايا. فرع من قواعد كتاب السير أن الحربي إذا قهر حربيا، ملكه، قال الامام: ولم يشترط الاصحاب قصد الارقاق، بل اكتفوا بصورة القهر، وعندي لا بد من القصد، فإن القهر قد يكون للاستخدام، فلا يتميز قهر الارقاق إلا بالقصد، فإذا قهر عبد سيده الحربي، عتق العبد، وصار السيد رقيقا له. ولو قهر الزوج زوجته، واسترقها، ملكها، وجاز له بيعها، وكذا لو قهرت زوجها. ولو قهر حربي أباه أو ابنه، فهل له بيعه ؟ وجهان، أحدهما: لا، وبه قال ابن الحداد: لا يعتق عليه بالملك. والثاني: نعم، لان القهر دائم، وبهذا أفتى الشيخ أبو زيد، ويشبه أن يرجح الاول، ويتجه أن يقال: لا يملكه بالقهر، لاقتران سبب العتق بسبب الملك. ويخالف الشراء فإنا صححناه لكونه ذريعة إلى تخليصه من الرق.(8/404)
فرع قد سبق أنه لو اشترى بعض قريبه، عتق عليه، وسرى إلى الباقي، وفي معناه قبول الهبة والوصية. ولو ورث نصفه، لا يسري، وشراء الوكيل وقبوله الهبة والوصية كشرائه وقبوله لصدوره عن اختياره، وكذا قبول نائبه شرعا، حتى لو أوصى له ببعض ابنه، فمات، وقبل الاخ الوصية، عتق الشقص على الميت، وسرى إلى الباقي إن وفى به الثلث، وينزل قبول وارثه منزلة قبوله في حياته. ولو أوصى له ببعض من يعتق على وارثه، بأن أوصى له ببعض ابن أخيه، فمات، وقبل الاخ الوصية، عتق الشقص على الميت، وسرى إلى الباقي إن وفى به الثلث، وينزل قبول وارثه منزلة قبوله في حياته. ولو أوصى له ببعض من يعتق على وارثه، بأن أوصى له ببعض ابن أخيه، فمات، وقبل الاخ الوصية، عتق الشقص ولا سراية على الاصح، لان الملك حصل للميت أولا، ثم انتقل إلى الاخ إرثا، ويجري الخلاف في السراية حيث يملك بطريق اختيار يتضمن الملك، ولا يقصد به التملك، كما إذا باع ابن أخيه بثوب ومات، ووارثه الاخ، فرد الثوب بعيب، واسترد الشقص، عتق عليه. وفي السراية الخلاف. ولو وهب لعبد بعض من يعتق على سيده، فقبل، وقلنا: يصح قبوله بغير إذن سيده، عتق الموهوب على السيد، وسرى، لان قبول العبد كقبوله شرعا. قلت: هذا مشكل، وينبغي أن لا يسري، لانه دخل في ملكه قهرا كالارث. والله أعلم.(8/405)
فرع جرح عبد أباه، فاشتراه الاب، ثم مات بالجراحة. إن قلنا: تصح الوصية للقاتل، عتق من ثلثه، وإلا لم يعتق. وعلى هذا قال البغوي: ينبغي أن تجعل صحة الشراء على وجهين، كما لو اشتراه وعليه دين.
الخصيصة الثالثة : امتناع العتق بالمرض، سبق في كتاب الوصايا أن التبرعات في مرض الموت تحسب من الثلث، وأن العتق من التبرعات وقد يندفع لوقوعه في المرض، وإنما يعتبر الثلث بعد حط قدر الدين، فلو كان الدين مستغرقا، لم يعتق شئ منه، فإن أعتق عبد لا مال له سواه، لم يعتق إلا ثلثه، وإن مات هذا العبد بعد موت السيد، مات، وثلثه حر، وإن مات قبل موت السيد، فهل يموت كله رقيقا، أم كله حرا، أم ثلثه حرا وباقيه رقيقا ؟ فيه أوجه. أصحهما عند الصيدلاني: الاول، وبه أجاب الشيخ أبو زيد في مجلس الشيخ أبي بكر المحمودي، فرضيه وحمده عليه، لان ما يعتق ينبغي أن يحصل للورثة مثلاه، ولم يحصل لهم هنا شئ، وتظهر فائدة الخلاف في شيئين: أحدهما: لو وهب في المرض عبدا لا يملك غيره، وأقبضه، ومات العبد قبل السيد، فإن قلنا في مسألة العتق، يموت رقيقا مات هنا على ملك الواهب، ويلزمه مؤونة تجهيزه. وإن قلنا: يموت حرا، مات هنا على ملك الموهوب له، فعليه تجهيزه. وإن قلنا بالثالث، وزعت المؤونة عليهما. الثاني: إذا كان لهذا العبد ولد من معتقه، كان ولاء الولد لموالي أمه، فإن قلنا: يموت حرا، انجز الولاء إلى معتق الاب، وإن قلنا: يعتق ثلثه، أنجز ولاء ثلثه. ولو أعتق في مرضه عبدا، وله مال سواه، ومات العتيق قبل موت السيد، قال الامام: قال جماهير الاصحاب: لا يجب من الثلث، ويجعل كأنه لم يكن، لان(8/406)
الوصية إنلا تتحقق بالموت، فإذا لم تبق إلى الموت، لم يدخل في الحساب، قال: ويجئ على قولنا حكمه بعد الموت كحكمه لو عاش، أن يحسب من الثلث. ولو وهب عبدا، وأقبضه، وله مال آخر فتلف في يد المتهب قبل موت الواهب، فهو كما لو أعتقه، كما أن هبته ولا مال له سواه كإعتاقه ولا مال له سواه. ولو أتلفه المتهب، فهو كما لو كان باقيا، حتى إذا كان له مال آخر، يحسب الموهوب من الثلث، وإذا لم يخرج من الثلث، يغرم الموهوب للورثة ما زاد على الثلث، بخلاف ما إذا تلف، لان الهبة ليست مضمنة، والاتلاف مضمن على كل حال، وللامام احتمال في إلحاق التلف بالاتلاف وعكسه. فرع أعتق ثلاثة أعبد لا يملك غيرهم قيمتهم سواء، فمات أحدهم قبل موت السيد، فالذي نص عليه الشافعي رحمه الله، وأطبق عليه فرق الاصحاب: أن الميت يدخل في القرعة، قال الامام: وقياس ما ذكرنا في العبد الواحد أن يجعل الفائت كالمعدوم، ويجعل كأنه أعتق عبدين لا مال له سواهما، وجعل الغزالي هذا الاحتمال وجها، والتفريع على الاول، فإن خرجت القرعة على الميت، بان أنه مات حرا موروثا عنه، ورق الآخران، وإن خرج عليه سهم الرق، لم يحسب على الورثة، لانهم يريدون المال، ويحتسب به عن المعتق لانه يريد الثواب، وتعاد القرعة بين العبدين، كما لو لم يكن إلا عبدان، فأعتقهما، فمن خرج له سهم العتق، عتق ثلثاه، ورق ثلثه مع العبد الآخر. ولو خرج سهم العتق أولا على أحد الحيين، فكذلك يعتق ثلثاه. ولو مات أحدهم بعد موت السيد وقبل امتداد يد الوارث إلى التركة، فالحكم كما لو مات قبل موت السيد، ولفظ الصيدلاني يقتضي الاكتفاء بأن لا يكون الميت في يده لثبوت الحكم المذكور. وإن مات بعد امتداد يد الوارث إلى التركة، وقبل الاقراع، فوجهان. أصحهما: يحسب الميت على الوارث، حتى لو خرجت القرعة لاحد الحيين، عتق كله، لان الميت دخل في(8/407)
يده وضمانه. والثاني: أنه كما لو مات قبل ثبوت يده على التركة، لانه لم يتسلط على التصرف. ولو مات اثنان منهم قبل موت السيد، قال ابن أبي هريرة: يقرع بينهم، فإن خرج سهم العتق على أحد الميتين، صح عتق نصفه، وجعل للورثة مثلاه، وهو العبد الحي. وإن خرج سهم الرق عليه، أقرعنا بين الميت الآخر والحي، فإن خرج سهم الحرية على الميت الآخر، أعتقنا نصفه، وإن خرج سهم الرق عليه، لم يحسب على الورثة، وأعتقنا ثلث الحي. ولو قتل أحد العبيد قبل موت السيد أو بعده، دخل القتيل في القرعة قطعا، لان قيمته تقوم مقامه، فإن خرج سهم العتق لاحد الحيين، عتق كله، ولورثه الآخر قيمة القتيل، وإن خرج للقتيل، بان أنقتل حرا، وعلى قاتله الدية لورثته، وأما القصاص فعن بعض الاصحاب أنه لا يجب إن كان قاتله حرا، بخلاف ما إذا قال لعبده: إن جرحك أحد، فأنت حر قبله، فجرحه حر، ومات بالجراحة، وجب القصاص، لان الحرية متعينة فيه، وهنا التعيين بالقرعة. قال البغوي: يحتمل أن يكون في المسألتين وجهان، لانه قتل من اعتقد رقه كما لو قتل من عرفه رقيقا فبان عتيقا، ففي القصاص قولان.
الخصيصة الرابعة : القرعة، وفيها طرفان: أحدهما في محلها، وهو أن يعتق في مرض موته عبيدا دفعة، ويقصر عنهم ثلث ماله، ولا يجيز الورثة عتقهم، فيقرع بينهم لتجتمع الحرية في بعضهم، فيعتق، أو يقرب من العتق. وفي الضابط قيود، أحدها: وقوع الاعتاق في مرض الموت، فإذا انتفى عتقوا كلهم. الثاني: أن يعتقهم دفعة بأن يوكل بإعتاق كل واحد وكيلا، فيعتقوا معا، أو يقول: هؤلاء أحرار، أو يقول لهم: أعتقتكم، أو أنتم أحرار، فإن أعتقهم أولا قدم الاول فالاول، إلى تمام الثلث، كقوله: سالم حر، وغانم حر، وفائق حر، فلو قال: سالم وغانم وفائق أحرار: فهو محل القرعة. ولو قال: سالم وغانم وفائق حر، فعن القاضي أبي حامد أنه يراجع، فإن قال: أردت حرية كل واحد منهم،(8/408)
فهو كقوله: أنتم أحرار، وإن قال: أردت حرية الاخير، قبل، ولا قرعة، وإن قال: حرية غيره، لم يقبل. الثالث: أن يقصر عنهم ثلث ماله، ولم تجز الورثة، فإن وفى الثلث بهم، أو أجاالورثة، عتقوا جميعا. ولو أوصى بإعتاق عبيد، ولم يف الثلث بهم، ولم يجز الورثة، أقرع أيضا، وسواء أوصى بإعتاقهم دفعة، أو قال: أعتقوا فلانا، ثم قال: أعتقوا فلانا، لان وقت الاستحقاق واحد، وهو الموت، بخلاف ما إذا رتب الاعتاق المنجز إلا أن يقيد، فيقول: اعتقوا فلانا ثم فلانا ولو علق العتق بالموت، فقال: إذا مت فأنتم أحرار، أو أعتقتكم بعد موتي، أو رتب فقال: إذا مت، ففلان حر، أقرع أيضا. وفي الوصية والتعليق وجه: أنه لا قرعة، بل يعتق من كل واحد ثلثه، والصحيح الاول. ولو قال: أعتقت ثلث كل واحد منكم، أو أثلاث هؤلاء أحرار، فوجهان، أحدهما: لا يقرع، بل يعتق من كل واحد ثلثه لتصريحه بالتبعيض. وأصحهما: يقرع، وقد سبق في الوصايا أنه لو قال: أعتقت ثلثكم، أو ثلثكم حر، فهو كقوله: أعتقتكم أم كقوله أثلاث هؤلاء أحرار، فيه طريقان، وأنه لو أضاف إلى الموت فقال: ثلث كل واحد حر بعد موتي، أو أثلاث هؤلاء أحرار بعد موتي، عتق من كل واحد ثلثه، ولا قرعة على الصحيح. فرع يعتبر لمعرفة الثلث فيمن أعتقه منجزا في المرض قيمة يوم الاعتاق، وفيمن أوصى بعتقه قيمة يوم الموت أقل، فالزيادة حصلت في ملكهم وإن كانت يوم القبض أقل، فما نقص قبل ذلك، لم يدخل في يدهم، فلا يحسب عليهم، كالذي يغصب، أو يضيع من التركة قبل قبضهم، وإذا أنجز إعتاق عبد، وأوصى بإعتاق آخر، قومنا المنجز حال إعتاقه، والآخر حال الموت، وبقية التركة بأقل القيمتين، فإن بقي شئ من الثلث، عتقا، وإن خرج أحدهما، أعتقنا المنجز، فإن بقي شئ من الثلث، أعتقنا بقدره من الموصى بإعتاقه، وإن نقص الثلث، أعتقنا من المنجز بقدره. ولو أعتق في المرض عبدا مبهما، بأن قال أحد هؤلاء حر، أو أوصى بإعتاق واحد منهم، بأن قال: اعتقوا أحدهم، ففي جمع الجوامع للروياني أنه يكتب رقعة للعتق، وأخرى للوصية بإعتاق، ورقعتان(8/409)
للتركة، فمن خرج له العتق، فكأنه أعتقه بعينه، ومن خرج له الوصية، فكأنه أوصى بإعتاقه، ثم يكون الحكم كما سبق. وفي الشامل أنه يميز الثلث بالقرعة أولا، ثم يميز بين المنجز والآخر. فرع كل عبد من المنجز إعتاقهم عتق بالقرعة يحكم بعتقه من يوم الاعتاق لا من يوم القرعة، ويسلم له ما كسبه من وقت الاعتاق ولا يحسب من الثلث، سواء كسبه في حياة المعتق أم بعد موته، وكل من بقي رقيقا منهم فأكسابه قبل موت المعتق، تحسب على الوارث في الثلثين، وأكسابه بعد موته وقبل القرعة لا تحسب عليه، لحصولها على ملكه. فلو أعتق في مرضه ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم، قيمة كل واحد مائة، وكسب أحدهم مائة، وأقرعنا، فإن خرجت القرعة للكاسب، عتق وفاز بكسبه، ورق الآخران، وإن خرج لاحد الآخرين، عتق، ثم تعاد بين الكاسب والآخر، فإن خرجت للآخر، عتق ثلثه وبقي ثلثاه مع الكاسب، وكسبه للورثة، وإن خرجت للكاسب، وقع الدور، لانه يعتق بعضه، ويتوزع الكسب على ما عتق وعلى ما رق، ولا يحسب عليه حصة ما عتق، وتزيد التركة بحصة ما رق، وإذا زادت التركة، زاد ما عتق، وتزيد حصته، وإذا زادت حصته، نقصت حصة التركة. وطريق استخراجه بيناه في المسائل الدورية من الوصايا والحكم أنه يعتق منه ربعه، ويتبعه ربع كسبه، يبقى للورثة ثلاثة أرباعه، وثلاثة أرباع كسبه مع العبد الآخر، وجملتها ضعف ما عتق، ولو كسب أحدهم مائتين، وخرجت القرعة الثانية لغير الكاسب، عتق ثلثاه وبقي ثلثه، والكاسب وكسبه للورثة، وإن خرجت للكاسب، فقد عتق منه شئ، وتبعه من الكسب شيئان، لان كسبه مثلا قيمته، تبقى للورثة أربعة أعبد إلا ثلاثة أشياء تعدل ضعف ما عتق، وهو عبدان وشيئان فبعد الجبر أربعة أعبد، تعدل عبدين وخمسة أشياء، تسقط عبدين بعيدين، يبقى عبدان وشيئان في مقابلة خمسة أشياء، فالشئ خمس العبدين، وهو خمسا عبد، وذلك أربعون، فقد عتق(8/410)
مائة وأربعون، وبقي للورثة ثلاثة أخماسه ستون، وثلاثة أخماس كسبه مائة وعشرون والعبد الآخر، وجملتها مائتان وثمانون، وقد سبقت نظائر هذا في الوصايا. هذا كله في الاكساب الحاصلة في حياة المعتق، ولو كسب أحدهم في المثال المذكور مائة بعد موته، فإن خرجت القرعة للكاسب عتق وتبعه كسبه غير محسوب كما لو كسب في الحياة وإن خرجت لغير الكاسب، عتق، ورق الآخران، ولا تعاد القرعة للكسب، بل يفوز به الوارث لحصوله في ملكه، وكسب من أوصى بإعتاقه في حياة الموصى للموصي، تزيد به التركة والثلث، وكسبه بعد موته لا تزيد به التركة ولا الثلث بلا خلاف. وهل هو للورثة أم للعبد ؟ طريقان حكاهما ابن الصباغ أحدهما: قولان كالقولين في أن كسب الموصى به بعد موت الموصي وقبل القبول للورثة أو للموصى له ؟ والمذهب القطع بأنه للورثة. والفرق أنه استحق العتق بموت الموصي استحقاقا مستقرا، والوصية غير مستقرة، بل الموصى له بالخيار بين الرد والقبول، وإذا زادت قيمة من نجز إعتاقه، كانت الزيادة كالكسب، فمن خرجت له قرعة العتق، تبعته الزيادة غير محسوبة عليه، وكذا لو كان فيمن أعتقهم جارية، فولدت قبل موت المعتق، فالولد كالكسب، فإذا خرجت القرعة لها، تبعها الولد غير محسوب من الثلث، وإن خرجت لغير من زادت قيمته، أو التي ولدت، وقع للدور. ولو أعتق ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم، قيمة كل واحد مائة، فبلغت قيمة أحدهم مائتين، فهو كما لو كسب أحدهم مائة. ولو أعتق أمتين قيمة كل واحدة مائة، فولدت إحداهما ولدا قيمته مائة، فهو كما لو كسب أحدهم مائة، فإن خرجت القرعة للتي لم تلد، عتقت، ورقت الوالدة وولدها، وهما ضعف ما عتق، وإن خرجت للوالدة، عتق منها شئ، وتبعها من الولد مثله، يبقى مع الورثة ثلاثمائة إلا شيئين يعدل ضعف ما أعتقنا محسوبا، وهما شيئان، فبعد الجبر يعدل(8/411)
ثلاثمائة أربعة أشياء، فالشئ ثلاثة أرباع مائة، فعرفنا أنه عتق ثلاثة أرباعها، وتبعها ثلاثة أرباع الولد، يبقى للورثة ربعهما والجارية الاخرى، وجملته مائة وخمسون، ضعف ما عتق منها. ولو قال لامته الحامل في مرض موته: أنت حرة، أو ما في بطنك، فولدت لدون ستة أشهر من يوم الاعتاق، ولم يتفق تعيين، فيقرع، فإن خرجت للولد، عتق دون الام، وإن لم يف الثلث به، عتق منه قدر الثلث، وإن خرجت الام، عتقت، وتبعها الولد إن وفى بهما الثلث، وإلا، فيعتق منها شئ، ويتبعها من الولد شئ. وطريق استخراجه ما ذكرناه في الوصايا فيمن أعتق عبدا فكسب، وتقويم الولد بما يكون يوم الولادة، هذا كله إذا ولدت قبل موت المعتق، فإن ولدت بعده، نظر إن ولدت لاكثر من ستة أشهر من يوم الموت، فالولد ككسب حصل بعد موته، إن خرجت القرعة للام،، عتقت، وتبعها، وإن خرجت لغير الوالدة، عتقت، ولا تعاد القرعة للولد، لانه حدث على ملك الورثة، وإن ولدت لاقل من ستة أشهر، فهل تحسب على الوارث حتى تعاد القرعة ؟ قال البغوي: يبنى على أن الحمل هل يعرف ؟ إن قلنا: لا، فهو كالحادث بعد الموت، فلا تعاد، وإن قلنا: نعم، فكالحادث قبل الموت، فتعاد، وأطلق الصيدلاني وجهين في أنها لو ولدت بعد الموت، هل يحسب الولد على الورثة من الثلثين ؟ ولو نقصت قيمة من نجز، عتق بعضهم قبل موت المعتق، فإن كان النقص فيمن خرجت له قرعة العتق، حسب عليه، لانه محكوم بعتقه من يوم الاعتاق، وإن كان فيمن رق، لم يحسب على الورثة إذا لم يحصل لهم إلا الناقص. فلو أعتق عبدا لا مال له غيره، قيمته مائة، ورجع إلى خمسين، فقد ذكرنا طريق استخراجه في الوصايا. وحاصله أن يعتق منه الخمس. ولو أعتق ثلاثة أعبد، قيمة كل واحد مائة، فعادت قيمة أحدهم إلى خمسين، فإن خرجت القرعة للناقص، عتق وحده، لانه كانت قيمته يوم الاعتاق مائة، فينبغي أن يبقى للورثة ضعفها، وإن خرجت لاحد الآخرين، عتق منه خمسة أسداس، وهي ثلاثة وثمانون وثلث، يبقى للورثة سدسه والعبد الآخر والناقص. وجملة ذلك مائة وستة وستون وثلثان، ضعف ما عتق، لان المحسوب على الورثة الباقي بعد النقص، وهو مائتان وخمسون. ولو أعتق عبدين قيمة كل واحد مائة، ولا مال له سواهما، فعادت قيمة أحدهما إلى خمسين، فإن خرجت القرعة للآخر، عتق نصفه، وبقي للورثة نصفه مع العبد الناقص، وهما(8/412)
ضعف ما عتق، وإن خرجت للناقص، وقع الدور، لانا نحتاج إلى إعتاق بعضه معتبرا بيو الاعتاق، وإلى إبقاء ضعفه للورثة معتبرا بيوم الموت، وحاصله أنه يعتق ثلاثة أخماسه، يبقى خمساه مع الآخر للورثة. وإن حدث النقص بعد موت المعتق، وقبل الاقراع، فهل يحسب على الورثة ؟ قال البغوي: إن كان الوارث مقصور اليد عن التركة، لم يحسب عليه كما في حال الحياة، وإلا فوجهان، أصحهمأ: يحسب عليه. الطرف الثاني في كيفية القرعة والتجربة المترتبة عليها، وفيه فصلان: الاول: في كيفية القرعة، قد سبق في باب القسمة أن للقرعة طريقين، أحدهما: أن يكتب أسماء العبيد في رقاع، ثم يخرج على الرق والحرية. والثاني: أن يكتب في الرقاع الرق والحرية، ويخرج على أسماء العبيد، وذكرنا أن من الاصحاب من أثبت قولين في أنه يقرع بالطريق الاول أم الثاني، وأن في كون ذلك الخلاف في الجواز والاولوية خلافا، وأن الجمهور قالوا في العتق: يسلك ما شاء من الطريقين، ولفظه في المختصر يدل عليه، والطريق الاول أخصر. واستحب الشافعي رحمه الله على الطريقتين أن تكون الرقاع صغارا ليكون أخفى، وأن تكون متساوية، وأن تدرج في بنادق، وتجعل في حجر من لم يحضر هناك، كما بينا في القسمة، وأنه يغطى بثوب، ويدخل من يخرجها اليد من تحته. كل هذا ليكون أبعد من التهمة، ولا تتعين الرقاع، بل تجوز القرعة بأقلام متساوية، وبالنوى والبعر، وذكر الصيدلاني أنه لا يجوز أن يقرع بأشياء مختلفة، كدواة وقلم وحصاة، وقد يتوقف في هذا، لان المخرج إذا لم يعلم ما لكل واحد منهم لا يظهر حيفه، ولا يجوز الاعراض عن أصل القرعة، والتمييز بطريق آخر بأن يتفقوا على أنه إن طار غراب، ففلان حر، أو أن من وضع على صبي يده، فهو حر، أو أن يراجع شخص لا غرض له ونحو ذلك. قال الامام: فإن كنا نعتق عبدا، ونرق آخرين، ورأينا إثبات الرق والحرية، فقد قال الاصحاب: يثبت الرق في رقعتين، والحرية في رقعة على نسبة المطلوب في القلة والكثرة، فإن ما يكثر فهو أحرى بسبق اليد(8/413)
إليه. وفي كلامهم ما يدل على استحقاق ذلك، ومنهم من عده احتياطا، وقال: يكفي رقعة للرق وأخرى للحرية، ثم إذا أخرجنا رقعة باسم أحدهم، فخرجت للحرية، انفصل الامر، وان خرجت للرق، احتجنا إلى إخراجها. قال الامام: إذا أثبتنا الرق والحرية، فقال المخرج: أخرج على اسم هذا، ونازعه الآخرون، وقالوا: أخرج على اسمائنا، أو أثبتنا الاسماء، وقال المخرج: أخرج على الحرية، وقالوا: أخرج على الرق، أو تنازع الورثة والعبد، فقال الورثة: أخرج على الرق، وقال العبد: على الحرية، فهذا لم يتعرض له الاصحاب، وفيه احتمالان، إن أثبت الرق والحرية، أحدهما أنه يقرع بين العبيد أولا حتى يتعين من يعرض على الرق والحرية، فإذا تعين واحد، أخرجت رقعة على اسمه، والثاني: أن تثبت الحرية على رقعة، والرق على رقعتين، ويعطي المخرج كل عبد رقعة، وقد سبق في القسمة أن تعيين من يبدأ به من الشركاء والاجراء منوط بنظر القسام، فيمكن أن يناط هنا بنظر متولي الاقراع من قاض أو وصي، فيبدأ بمن شاء، ولا يلتفت إلى مضايقاتهم. واعلم أن إعطاء كل عبد رقعة، ليس من شرط الاقراع، بل يكفي الاخراج بأسمائهم وأعيانهم. الفصل الثاني: في كيفية تجزئة العبيد، وهي تقع بحسب الحاجة، فإن أعتق عبدين لا مال له سواهما، أقرع بإثبا ت اسميهما في رقعتين، وإخراج أحدهما على الرق أو الحرية، أو بإثبات الرق والحرية في رقعتين، والاخراج على اسمهما، ثم إن استوت قيمتهما، فمن خرج له سهم الحرية، عتق ثلثاه، ورق باقيه مع الآخر، وإن اختلفت قيمتهما كمائة ومائتين، فإن خرجت الحرية لصاحب المائة، عتق، ورق الآخر، وان خرجت للآخر عتق نصفه، ورق باقيه مع الآخر. وإن أعتق عبيدا لا مال له سواهم، فإن كانوا ثلاثة، واستوت قيمتهم، فإن شاء كتب أسماءهم وقال للمخرج: أخرج رقعة على الحرية، فمن خرج اسمه، عتق، أو قال: أخرج في الرق حتى يتعين في الآخر الحرية، والاخراج على الحرية أولى، لانه أقرب إلى فصل الامر. وإن شاء كتب على الرقاع الرق في رقعتين، والحرية في رقعة، وقال: أخرج على اسم سالم، أو أشار إلى عينه وقال: على اسم هذا، فإن خرج سهم الحرية، عتق ورق الآخران، وإن خرج سهم الرق، رق، وأمرنا بإخراج رقعة(8/414)
أخرى على اسم غانم، فإن خرج سهم الحرية، عتق، ورق الثالث، وإن خرج سهم الرق فبالعكس. وإن اختلفت قيمتهم كمائة ومائتين وثلاثمائة، فإما أن نكتب أسماءهم، فإن خرج اسم الاول، عتق وأخرج رقعة أخرى، فإن خرج اسم الثاني، عتق نصفه، وإن خرج اسم الثالث، عتق ثلثه، وإن خرج أولا اسم الثاني، عتق ورق الآخران، وإن خرج اسم الثالث، عتق ثلثاه، ورق باقيه والآخران، وإما أن نكتب الرق في رقعتين، والحرية في رقعة، ونخرج على أسمائهم وإن كانوا أكثر من ثلاثة، فإن أمكن تسوية الاجزاء عددا وقيمة، كستة أو تسعة أو اثني عشر، قيمتهم سواء جزأناهم ثلاثة أجزاء وصنعنا صنيعنا في الثلاثة المتساوين، وكذا الحكم في ستة، ثلاثة منهم قيمة كل واحد منهم مائة، وثلاثة قيمة كل واحد خمسون، فيضم إلى كل نفيس خسيسا، ونجعلهم ثلاثة أجزاء، وفي ستة اثنان منهم، قيمة كل واحد منهما ثلاثمائة، واثنان قيمة كل واحد مائتان، واثنان قيمة كل واحد مائة، فنجعل اللذين قيمتهما أربعمائة جزءا، ويضم إلى كل نفيس خسيسا، فيستوي الاجزاء عددا وقيمة. وإن لم يمكن التسوية بالعدد، وتيسرت بالقيمة، كخمسة قيمة أحدهم مائة، وقيمة اثنين مائة، وقيمة اثنين مائة، جزأناهم كذلك، وأقرعنا. وإن أمكن التسوية بالعدد دون القيمة، كستة، قيمة أحدهم مائة، وقيمة اثنين مائة، وقيمة ثلاثة مائة، فوجهان، الصحيح المنصوص: يجزؤون بالعدد، واثنين وثلاثة، ويقرع بينهم كما ذكرنا. والثاني: يجزؤون بالعدد، فيجعل اللذان قيمتهما مائة جزءا، والذي قيمته مائة مع واحد من الثلاثة الباقين جزءا، ويقرع بينهم فيعتق قدر الثلث على ما سبق. وإن لم يمكن التسوية بالعدد ولا بالقيمة، كثمانية، قيمتهم سواء، فقولان، أظهرهما: يجزؤون ثلاثة أجزاء، بحيث يقرب من التثليث، فيجعلون ثلاثة وثلاثة واثنين، ويقرع، فإن خرج سهم العتق على ثلاثة، رق غيرهم، وانحصر العتق فيهم، ثم يقرع بينهم بسهمي عتق وسهم رق، فلمن خرج له الرق، رق ثلثه، وعتق ثلثه مع الآخرين. وإن خرج سهم العتق أولا على الاثنين، عتقا، وتعاد القرعة بين الستة، ويجعل كل اثنين جزءا، فإذا خرج سهم العتق باسم اثنين، أعدنا القرعة بينهما، فمن خرج له سهم الحرية، عتق ثلثاه. هذا إذا كتبنا في الرقاع الرق والحرية، وإن كتبنا الاسماء، فإذا(8/415)
خرج سهم اثنين وعتقا لم تعد القرعة بين الستة، بل يخرج قرعة أخرى، ثم يقرع بين الثلاثة المسمين فيها، فمن خرج له سهم العتق، عتق ثلثاه، ولا يجوز على هذا القول أن نجزئهم أربعة واثنين واثنين، لبعد هذه التجزئة على التثليث. والقول الثاني: لا يراعى التثليث، بل يراعي ما هو أقرب إلى فصل الامر، فيجوز أن تكتب أسماؤهم في ثمان رقاع، ويخرج واحدة بعد واحدة إلى أن يتم الثلث، ويجوز أن يجعلوا أرباعا، ثم إن شئنا أثبتنا اسم كل اثنين في رقعة، فإذا خرجت واحدة على الحرية، عتقا، ثم يخرج رقعة أخرى، ويقرع بين الاثنين اللذين اسمهما فيها، فمن خرجت له القرعة، عتق ثلثه، وإن شئنا أثبتنا الرق والحرية، فأثبتنا العتق في واحدة، والرق في ثلاث، فإذا خرجت رقعة العتق لاثنين، عتقا، ويعيد القرعة بين الستة، فإذا خرجت لاثنين، أقرعنا بينهما كما سبق، ولا يبعد على هذا أن يجوز إثبات العتق في رقعتين، والرق في رقعتين، ويعتق الاثنان اللذان خرجت لهما رقعة العتق أولا، ويقرع بين اللذين خرج لهما رقعتي العتق الثانية، وإن كان العبيد سبعة، فعلى القول الاول يجزئهم ثلاثة واثنين واثنين، وعلى الثاني نجزئ كيف شئنا إلى أن يتم الثلث. وإن كانوا أربعة قيمتهم سواء فعلى الاول نجزئهم اثنين وواحدا، وواحدا فإن خرج سهم العتق لاحد الفردين، عتق، ثم يعيد القرعة بين الثلاثة، فمن خرج له سهم العتق، عتق ثلثه، وإن خرج للاثنين، أقرعنا بينهما، فمن خرج له سهم العتق، عتق كله، وثلث الآخر. وهذا على تقدير إثبات الرق والحرية في الرقاع، وعلى القول الثاني: يثبت اسم كل واحد في رقعة، ويخرج باسم الحرية، فمن خرج اسمه أولا، عتق، ومن خرج اسمه ثانيا، عتق ثلثه، وإن كانوا خمسة قيمتهم سواء، فعلى الاول يجزئهم اثنين واثنين وواحدا، وعلى الثاني لنا إثبات أسمائهم في خمس رقاع، ثم القول في الايجاب أم في الاستحباب والاحتياط ؟ فيه وجهان، وبالاول قال القاضي حسين، واختاره الامام، وبالثاني قال الصيدلاني، وهو مقتضى كلام الاكثرين. ولو أعتق عبدا من عبيد على الابهام، فقد يحتاج إلى تجزئتهم أربعة أجزاء وخمسة وأكثر، فيجزؤون بحسب الحاجة، وكذا لو كان على المعتق دين كما سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى.(8/416)
مسائل: الاولى: إذا أعتق في مرض موته عبيدا لا مال له غيرهم ومات وعليه دين، نظر، إن استغرقهم الدين، فهو مقدم، فيباعون فيه، وإن لم يستغرقهم، أقرع بين الدين والتركة ليصرف العتق عما يتعين للدين، فإن كان الدين قدر نصفهم، جعلنا حرين، وأقرعنا بينهما بسهم دين وسهم تركة، ثم إن شئنا كتبنا أسماء كل حر في رقعة، وأخرجنا رقعة الدين أو التركة. وإن شئنا كتبنا الدين في رقعة والتركة في رقعة، وأخرجنا إحداهما على أحد الحرين، وإن كان قدر الدين ثلثهم، جزأناهم ثلاثة أجزاء، وأقرعنا بينهم بسهم دين، وسهمي تركة، وإن كان قدر الرابع، جزأناهم أربعة أجزاء، وأقرعنا بسهم دين، وثلاثة أسهم تركة وهل يجوز أن يقرع للدين والعتق والتركة، بأن يقرع والحالة هذه بسهم دين وسهم عتق وسهمي تركة، أو يجزئهم إذا كان الدين قدر نصفهم ستة أجزاء، ويقرع بثلاثة أسهم للدين وسهم للعتق وسهمين للتركة ؟ فيه وجهان، الاصح المنصوص: لا، لانه لا يمكن تنفيذ العتق قبل قضاء الدين، ولو تلف المعين للدين قبل قضائه، انعكس الدين على الباقي من التركة، وكما لا يقسم شئ على الورثة قبل قضاء الدين، لا يعتق قبله. والثاني: يجوز، لان العمل فيه أخف فلا ينقص به حق ذي حق، وعلى هذا نقل الغزالي أنا نتوقف في تنفيذ العتق إلى أن يقضى الدين. وفي التهذيب ما يقتضي الحكم بالعتق في الحال. وإذا قلنا بالمنوص، فتعين بعضهم للدين يباع ويقضى منه الدين، ثم يقرع للعتق وحق الورثة. ولو قال الوارث: أقضي الدين من موضع آخر، وأنفذ العتق في الجميع، فهل ينفذ العتق ؟ وجهان، أحدهما: نعم، لان المنع من النفوذ الدين، فإذا سقط بالقضاء، نفذ، كما لو أسقط الورثة حقهم من ثلثي التركة وأجازوا عتق الجميع. والثاني: لا، لان تعلق الدين منع النفوذ لا ينقلب نافذا بسقوطه، كما لو أعتق الراهن وقلنا: لا ينفذ فقال: أنا أقضي الدين من موضع آخر لينفذ، فإنه لا ينفذ إلا أن يبتدئ إعتاقا، وبني الوجهان على أن تصرف الورثة في التركة قبل قضاء الدين هل ينفذ ؟ قلت: ينبغي أن يكون الاصح نفوذ العتق. والله أعلم.(8/417)
فرع لو أعتق من لا دين عليه عبيدا لا مال له غيرهم، ومات، وأعتقنا بعضهم بالقرعة، وأرققنا بعضهم، فظهر للميت مال مدفون، فإن كان بحيث يخرج جميعهم من الثلث، بأن كان المال مثلي قيمتهم، حكم بعتقهم جميعا، فندفع إليهم أكسابهم من يوم إعتقاقهم، ولا يرجع الوارث بما أنفق عليه، كمن نكح امرأة نكاحا فاسدا على ظن أنه صحيح، ثم فرق القاضي بينهما، لا يرجع بما أنفق. وإن خرج من الثلث بعض من أرققناهم، أعتقناهم بالقرعة، مثل أن أعتقنا واحدا من ثلاثة، ثم ظهر مال يخرج به آخر، يقرع بين اللذين أرققناهما، فمن خرج له سهم الحرية، عتق. ولو أعتقنا بعض العبيد، ولم يكن عليه دين ظاهر، ثم ظهر دين، فإن كان مستغرقا للتركة، فالعتق باطل، فإن قال الورثة: نحن نقضي الدين من موضع آخر، فعلى الوجهين السابقين. واستبعد الشيخ بناءهما على الخلاف في تصرف الورثة في التركة قبل الدين، وقال هناك الوارث ينشئ إعتاقا من عنده، ولا يمضي ما فعل الميت، وإنما الخلاف مبني على أن إجازة الوراث لما زاد على الثلث تنفيذ أم ابتداء عطية من الوراث ؟ فإن قلنا: تنفيذ، فله تنفيذ إعتاقه بقضاء الدين من موضع آخر، وإلا فينبغي أن يقضي الدين، ثم يبتدئ إعتاقا، وإن كان الدين الذي ظهر غير مستغرق، فهل يبطل القرعة من أصلها ؟ وجهان، ويقال: قولان. أحدهما: نعم، كما لو اقتسم شريكان، ثم ظهر ثالث، فعلى هذا يقرع الآن للدين والتركة ولا يبالى بوقوع سهم الدين على من وقعت له قرعة العتق أولا. وأظهرهما: لا، ولكن إن تبرع الوارث بأداء الدين، نفذ العتق، وإلا فيرد العتق بقدر الدين، فإن كان الدين نصف التركة، رددناه في نصف من أعتقنا، وإن كان ثلثها، رددنا ثلثهم، فإن كانت العبيد ستة، قيمتهم سواء، وأعتقنا اثنين بالقرعة، فظهر دين بقدر قيمة اثنين بعنا من الاربعة اثنين للدين كيف اتفق، ويقرع بين المعتقين القرعة أولا بسهم رق، وسهم عتق، فمن خرج له سهم الرق، رق ثلثاه، وعتق ثلثه مع الآخر. وإن ظهر الدين بقدر قيمة ثلاثة، أقرع بين اللذين كان خرج لهما الحرية، فمن خرج له الحرية عتق، ورق الآخر. المسألة الثانية: إذا قال لعبيده: أحدكم حر، أو اثنان حران، أو أعتقت أحدكم، فله حالان، أحدهما: أن ينوي معينا فيؤمر ببيانه، ويحبس عليه. فإن(8/418)
قال: أردت هذا، عتق، ولغيره أن يدعي عليه أنك أردتني، ويحلفه، وإن نكل السيد، حلف هو وعتق. ولو عين واحدا، وقال: أردت هذا، بل هذا، أعتقا جميعا، مؤاخذة له. ولو قتل واحدا منهم، لم يكن ذلك بيانا، بل يبقى الامر بالبيان. فلو قال: أردت المقتول، لزمه القصاص. ولو جرى ذلك في إماء، أو أمتين، ثم وطئ واحدة، لم يكن الوطئ بيانا، بل لو بين العتق فيها، تعلق به الحد والمهر لجهلها بأنها معتقة. ولو مات قبل البيان، قام وارثه مقامه على المذهب، لانه خليفته، وربما علمه. وقيل: قولان، فإن أقمناه، فبين أحدهم، عتق، ولغيره تحليفه على نفي العلم، فإن لم يكن وارث، أو قال الوارث: لا أعلم، فالصحيح أو المشهور أنه يقرع بينهم. وفي وجه أو قول: لا يقرع، بل يوقف. ولو قال المعتق: نسيت من أعتقته، أمر بالتذكر. قال الاصحاب: يحبس عليه، قال الامام: وفيه احتمال. وإن مات قبل التذكر، ففي بيان الوارث والقرعة الخلاف، وهكذا الحكم لو سمى واحدا وأعتقه ثم قال نسيته. الحال الثاني: أن لا ينوي معينا، فيؤمر بالتعيين، ويوقف عنهم، إلى أن يعين، ويلزمه الانفاق عليهم، فإذا عين أحدهم، عتق، وليس لغيره أن ينازع فيه إن وافق على أنه لم ينو معينا. وإذا قال: نويت هذا، عتق الاول، ولغا قوله للثاني، لان العتق حصل في الاول، بخلاف قوله: نويت هذا، بل هذا، لانه إخبار. ثم العتق في المبهم هل يحصل عند التعيين، أم يتبين حصوله من وقت اللفظ المبهم ؟ وجهان سبق نظيرهما في الطلاق، وخرج على الخلاف أنه لو مات أحدهم فعينه، فهل يصح ؟ إن قلنا: يحصل العتق عند التعيين، فلا، لان الميت لا يقبل العتق، فعلى هذا لو كان الابهام بين عبدين، فإذا بطل التعيين في الميت، تعين الثاني للعتق، ولا حاجة إلى لفظ. وإن قلنا الابهام، صح تعيينه. ولو جرى ذلك في أمتين أو إماء، فهل يكون الوطئ تعيينا لغير الموطوءة ؟ وجهان كما في الطلاق. قال ابن الصباغ: وكونه تعيينا هو قول أكثر الاصحاب. وإذا لم نجعله تعيينا، فعين العتق في الموطوءة، فلا حد. وبنى البغوي حكم المهر على أن العتق يحصل عند التعيين، أم باللفظ المبهم ؟ إن قلنا بالاول، لم يجب، وإلا، وجب. والوطئ فيما(8/419)
دون الفرج، والقبلة واللمسة بشهوة مرتب على الوطئ إن لم يكن تعيينا، فهذا أولى، وإلا فوجهان. والاستخدام مرتب على اللمس، والمذهب أنه ليس بتعيين، قال الامام: هذا يوجب طرد الخلاف في أن الاستخدام في زمن الخيار، هل يكون فسخا أو إجازة ؟ والعرض على البيع كالاستخدام. ولو باع بعضهم، أو وهبه وأقبضه أو أجره، قال البغوي: فيه الوجهان كالوطئ والاعتاق ليس بتعيين. ثم إن عين فيمن أعتقه، قبل، وإن عين في غيره، عتقا. وقتل السيد أحدهم ليس تعيينا، ثم إن عين في غير المقتول، لم يلزمه إلا الكفارة، وإن عين في المقتول، لم يجب القصاص، للشبهة. وأما المال، فإن قلنا: العتق يحصل عند التعيين، لم يجب، وإن قلنا: عند الابهام، لزمه الدية لورثته. وإن قتل أجنبي أحدهم، فلا قصاص إن كان القاتل حرا، ثم إن عين في غير المقتول، لزمه القيمة، وإن عين فيه وقلنا: العتق يحصل عند التعيين، فكذلك، كما لو نذر إعتاق عبد بعينه، فقتل. وإن قلنا: عند الابهام، لزمه الدية لورثة المقتول. ولو مات قبل التعيين، فهل للورثة التعيين ؟ قولان، ويقال: وجهان، أظهرها: نعم. المسألة الثالثة: قال لامته: أول ولد تلدينه حر، فولدت ميتا، ثم حيا، لم يعتق الحي، لان الصفة انحلت بولادة الميت، كما لو قال: أول عبد رأيته من عبيدي حر، فرأى أحدهم ميتا، انحلت اليمين، فإذا رأى بعده حيا لا يعتق، ووافق أبو حنيفة في هذا، وخالف الاول. قلت: إن كانت حاملا حال التعليق، صح قطعا، وكذا إن كانت حائلا في الاظهر والاصح، كما لو وصى بما ستحمل والثاني: لا، لانه تعليق قبل الملك. والله أعلم. الرابعة: قال لعبده: أنت ابني، ومثله يجوز أن يكون ابنا له، ثبت نسبه، وعتق إن كان صغيرا، أو بالغا وصدقه، وإن كذبه، عتق أيضا وإن لم يثبت النسب. وإن لم يمكن كونه ابنه، بأن كان أصغر منه على حد لا يتصور كونه ابنه، لغا قوله، ولم يعتق، لانه ذكر محالا. هذا في مجهول النسب، فإن كان معروف النسب من غيره، لم يلحقه، لكن يعتق على الاصح، لتضمنه الاقرار بحريته. ولو قال(8/420)
لزوجته: أنت بنتي قال الامام: الحكم في حصول الفراق وثبوت النسب كما في العتق. الخامسة: قال لعبديه: أعتقت أحدكما على ألف، أو أحدكما حر على ألف، لم يعتق واحد منهما ما لم يقبلا، فإن قبل كل واحد الالف، عتق أحدهما، ولزم السيد البيان، فإن مات قبله، ولم يقم الوار ث مقامه، أو لم يكن وارث، أقرع، فمن خرجت قرعته، قرعته، عتق بعوض. وفي ذلك العوض وجهان، أصحهما وبه قال ابن الحداد: قيمته. والثاني: المسمى، قاله أبو زيد، لان المقصود العتق، لا المعاوضة، فيحتمل إبهام العوض تبعا للعتق. ولو قال لامتيه: إحداكما حرة على ألف، فقبلتا، ثم وطئ إحداهما، فهل هو اختيار لملك الموطوءة ويتعين الاخرى للعتق، وجهان حكاهما الشيخ أبو علي. السادسة: جارية مشتركة، زوجها الشريكان بابن أحدهما فأتت منه بولد، يعتق نصفه على الجد، ولا يسري إلى النصف الآخر إذا لم يعتق عليه باختياره. السابعة: سبق في النكاح إن من نكح أمة غر بحريتها، فأولدها، انعقد الولد حرا، ويلزم المغرور قيمته لمالك الامة. هذا هو الصحيح، وحكى الشيخ أبو علي وجها أنه ينعقد رقيقا، ثم يعتق على المغرور، وله ولاؤه. وأنا إذا قلنا: ينعقد حرا فلا قيمة على المغرور، وهو غريب ضعيف. قال الشيخ وفي القلب من وجوب القيمة على المغرور شئ لانه لم يتلف شيئا على مالك، وإنما منع دخول شئ في ملكه، لكن ليس فيه خلاف يعتد به، وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على وجوب الضمان، فلا بد من متابعتهم. وإذا عرفت هذا، فلو نكح جارية ابنه مغرورا بحريتها، فأولدها، فهيلزمه قيمة الولد ؟ وجهان، أحدهما: لا، لانه إن انعقد حرا، فينبغي أن لا يلزمه شئ، وإن انعقد رقيقا، عتق على الجد بالقرابة،(8/421)